الموسوعة
الفقهية الكويتية جَبِيرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَبِيرَةُ لُغَةً: الْعِيدَانُ الَّتِي تُشَدُّ عَلَى الْعَظْمِ
لِتَجْبُرَهُ عَلَى اسْتِوَاءٍ.
وَجَمْعُهَا: جَبَائِرُ، وَهِيَ مِنْ جَبَرْتُ الْعَظْمَ جَبْرًا مِنْ
بَابِ قَتَل أَيْ: أَصْلَحْتُهُ، فَجَبَرَ هُوَ أَيْضًا، جَبْرًا
وَجُبُورًا أَيْ: صَلُحَ، فَيُسْتَعْمَل لاَزِمًا وَمُتَعَدِّيًا،
وَجَبَرْتُ الْيَدَ: وَضَعْتُ عَلَيْهَا الْجَبِيرَةَ، وَجَبَرَ الْعَظْمَ:
جَبَرَهُ، وَالْمُجَبِّرُ الَّذِي يَجْبُرُ الْعِظَامَ الْمَكْسُورَةَ (1)
.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ فَسَرُّوا
الْجَبِيرَةَ بِمَعْنًى أَعَمَّ فَقَالُوا: الْجَبِيرَةُ مَا يُدَاوِي
الْجُرْحَ سَوَاءٌ أَكَانَ أَعْوَادًا، أَمْ لَزْقَةً، أَمْ غَيْرَ ذَلِكَ
(2) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير والمعجم الوسيط مادة: (جبر) .
(2) ابن عابدين 1 / 185، ومنح الجليل 1 / 96، وأسنى المطالب 1 / 81،
والمغني 1 / 277.
(15/106)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - اللَّصُوقُ وَاللَّزُوقُ
2 - اللَّصُوقُ وَاللَّزُوقُ - بِفَتْحِ اللاَّمِ - مَا يُلْصَقُ عَلَى
الْجُرْحِ لِلدَّوَاءِ. قَال فِي الْمِصْبَاحِ: ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى
الْخِرْقَةِ وَنَحْوِهَا إِذَا شُدَّتْ عَلَى الْعُضْوِ لِلتَّدَاوِي (1) .
وَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: اللَّصُوقُ مَا كَانَ عَلَى جُرْحٍ مِنْ
قُطْنَةٍ أَوْ خِرْقَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، وَالْجَبِيرَةُ مَا كَانَتْ
عَلَى كَسْرٍ (2) .
ب - الْعِصَابَةُ:
3 - الْعِصَابَةُ (بِكَسْرِ الْعَيْنِ) اسْمُ مَا يُشَدُّ بِهِ مِنْ عَصَبَ
رَأْسَهُ عَصَبَهُ تَعْصِيبًا: شَدَّهُ، وَكُل مَا عُصِبَ بِهِ كَسْرٌ أَوْ
قَرْحٌ مِنْ خِرْقَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَهُوَ عِصَابٌ لَهُ، وَتَعَصَّبَ
بِالشَّيْءِ: تَقَنَّعَ بِهِ.
وَالْعَمَائِمُ يُقَال لَهَا الْعَصَائِبُ، وَالْعِصَابَةُ: الْعِمَامَةُ
(3)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهَا عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ.
وَبِذَلِكَ تَكُونُ الْعِصَابَةُ عِنْدَهُمْ أَعَمَّ مِنَ الْجَبِيرَةِ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: (لصق، لزق) .
(2) أسنى المطالب 1 / 81، ومغني المحتاج 1 / 94، والمجموع 2 / 324، تحقيق
المطيعي.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: (عصب) ، وابن عابدين 1 / 185، وشرح
منتهى الإرادات 1 / 57 - 58.
(15/107)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْعِصَابَةُ: مَا
يُرْبَطُ فَوْقَ الْجَبِيرَةِ (1) .
حُكْمُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمَسْحِ عَلَى
الْجَبَائِرِ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ نِيَابَةً عَنِ الْغَسْل أَوِ
الْمَسْحِ الأَْصْلِيِّ فِي الْوُضُوءِ أَوْ الْغُسْل أَوْ التَّيَمُّمِ،
عَلَى مَا يَأْتِي: وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: كُسِرَ زَنْدِي يَوْمَ أُحُدٍ فَسَقَطَ
اللِّوَاءُ مِنْ يَدِي فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: اجْعَلُوهَا فِي يَسَارِهِ فَإِنَّهُ صَاحِبُ لِوَائِي فِي
الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ مَا أَصْنَعُ
بِالْجَبَائِرِ؟ فَقَال: امْسَحْ عَلَيْهَا (2) .
وَرَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً أَصَابَهُ حَجَرٌ
فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَل أَصْحَابَهُ هَل
تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ قَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ
رُخْصَةً، وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَل فَمَاتَ، فَقَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ
اللَّهُ. أَلاَ سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ
الْعِيِّ السُّؤَال إِنَّمَا
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 29، والشرح الصغير 1 / 76 ط الحلبي ومنح الجليل 1 /
96.
(2) حديث: " اجعلوها في يساره فإنه صاحب لوائي. . . " أخرجه ابن ماجه (1 /
215 - ط عيسى الحلبي) مختصرا، والبيهقي (1 / 288 - ط دار المعرفة) . وضعفه
البوصيري في الزوائد (1 / 84 - ط دار العربية) .
(15/107)
كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ
وَيَعْصِبَ (1) وَلأَِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى الْمَسْحِ عَلَى
الْجَبَائِرِ؛ لأَِنَّ فِي نَزْعِهَا حَرَجًا وَضَرَرًا (2) .
وَالْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ وَاجِبٌ عِنْدَ إِرَادَةِ الطَّهَارَةِ،
وَذَلِكَ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ سَيَأْتِي بَيَانُهَا، وَالْوُجُوبُ هُنَا
بِمَعْنَى الإِْثْمِ بِالتَّرْكِ مَعَ فَسَادِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلاَةِ،
وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ،
وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ فَقَطْ مَعَ صِحَّةِ
وُضُوئِهِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى قَوْل الصَّاحِبَيْنِ (3) .
وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يَغْسِل الصَّحِيحَ وَيَتَيَمَّمُ وَلاَ
يَمْسَحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ.
وَفِي حُكْمِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ الْمَسْحُ عَلَى الْعِصَابَةِ
أَوْ اللَّصُوقِ، أَوْ مَا يُوضَعُ فِي الْجُرُوحِ مِنْ دَوَاءٍ يَمْنَعُ
وُصُول الْمَاءِ - كَدُهْنٍ أَوْ غَيْرِهِ -.
__________
(1) حديث: " قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما. . " أخرجه
أبو داود (1 / 239 - 240 - ط عزت عبيد الدعاس) والدارقطني (1 / 189 - 190 -
ط شركة الطباعة الفنية) والبيهقي (1 / 228 - ط دار المعرفة) من حديث جابر.
وضعفاه. وقال ابن حجر: رواه أبو داود بسند فيه ضعف. وفيه اختلاف على روايته
(سبل السلام 1 / 203 - ط دار الكتاب العربي) .
(2) بدائع الصنائع 1 / 13، والمهذب 1 / 44، والمجموع 2 / 323، والمغني 1 /
277 - 278.
(3) ابن عابدين 1 / 185 - 186، والبدائع 1 / 13 - 14، والدسوقي 1 / 163،
والمجموع 2 / 326، وكشاف القناع 1 / 120.
(15/108)
شُرُوطُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ:
5 - يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ مَا يَأْتِي:
أ - أَنْ يَكُونَ غَسْل الْعُضْوِ الْمُنْكَسِرِ أَوْ الْمَجْرُوحِ مِمَّا
يَضُرُّ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَسْحُ عَلَى عَيْنِ الْجِرَاحَةِ
مِمَّا يَضُرُّ بِهَا، أَوْ كَانَ يُخْشَى حُدُوثُ الضَّرَرِ بِنَزْعِ
الْجَبِيرَةِ.
ب - أَلاَّ يَكُونَ غَسْل الأَْعْضَاءِ الصَّحِيحَةِ يَضُرُّ
بِالأَْعْضَاءِ الْجَرِيحَةِ فَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِهَا فَفَرْضُهُ
التَّيَمُّمُ.
وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
ج - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَتِ الأَْعْضَاءُ
الصَّحِيحَةُ قَلِيلَةً جِدًّا كَيَدٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ،
فَفَرْضُهُ التَّيَمُّمُ إِذِ التَّافِهُ لاَ حُكْمَ لَهُ (1) .
د - اشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ وَهِيَ
رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنْ تَكُونَ الْجَبِيرَةُ مَوْضُوعَةً
عَلَى طَهَارَةٍ مَائِيَّةٍ لأَِنَّهُ حَائِلٌ يُمْسَحُ عَلَيْهِ فَكَانَ
مِنْ شَرْطِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ تَقَدُّمُ الطَّهَارَةِ كَسَائِرِ
الْمَمْسُوحَاتِ، فَإِنْ خَالَفَ وَوَضَعَهَا عَلَى غَيْرِ طُهْرٍ وَجَبَ
نَزْعُهَا، وَذَلِكَ إِنْ لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا بِنَزْعِهَا، فَإِنْ خَافَ
الضَّرَرَ لَمْ يَنْزِعْهَا وَيَصِحُّ مَسْحُهُ عَلَيْهَا، وَيَقْضِي
لِفَوَاتِ شَرْطِ وَضْعِهَا عَلَى طُهْرٍ (2) .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهِيَ مُقَابِل
الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (قَال عَنْهُ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ
__________
(1) المجموع 2 / 326.
(2) نهاية المحتاج 1 / 269.
(15/108)
شَاذٌّ) : لاَ يُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ
الطَّهَارَةِ عَلَى شَدِّ الْجَبِيرَةِ. قَال الْخَلاَّل: رَوَى حَرْبٌ
وَإِسْحَاقُ وَالْمَرْوَزِيُّ فِي ذَلِكَ سُهُولَةً عَنْ أَحْمَدَ،
وَاحْتَجَّ بِقَوْل ابْنِ عُمَرَ، لأَِنَّ هَذَا مِمَّا لاَ يَنْضَبِطُ
وَيَغْلُظُ عَلَى النَّاسِ جِدًّا فَلاَ بَأْسَ بِهِ؛ وَلأَِنَّ الْمَسْحَ
عَلَيْهَا جَازَ دَفْعًا لِمَشَقَّةِ نَزْعِهَا، وَنَزْعُهَا يَشُقُّ إِذَا
لَبِسَهَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ كَمَشَقَّتِهِ إِذَا لَبِسَهَا عَلَى
طَهَارَةٍ (1) .
كَيْفِيَّةُ تَطَهُّرِ وَاضِعِ الْجَبِيرَةِ:
6 - إِذَا أَرَادَ وَاضِعُ الْجَبِيرَةِ الطَّهَارَةَ فَلْيَفْعَل مَا
يَأْتِي:
1 - يَغْسِل الصَّحِيحَ مِنْ أَعْضَائِهِ.
2 - يَمْسَحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ.
وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ إِلاَّ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ
يَكْفِيهِ التَّيَمُّمُ وَلاَ يَمْسَحُ الْجَبِيرَةَ بِالْمَاءِ،
وَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ الْمَسْحِ.
وَيَجِبُ اسْتِيعَابُ الْجَبِيرَةِ بِالْمَسْحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمُقَابِلُهُ
أَنَّ مَسْحَ الأَْكْثَرِ كَافٍ لأَِنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْكُل ذَكَرَ
ذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ.
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي
__________
(1) البدائع 1 / 13، 51، والزيلعي 1 / 45، والدسوقي 1 / 164 - 165، والحطاب
1 / 361، والمجموع 1 / 325 - 326، والمغني 1 / 259 - 278 - 279، وكشاف
القناع 1 / 113 - 114.
(15/109)
الْمَجْمُوعِ أَنَّ فِيهِ وَجْهَيْنِ
مَشْهُورَيْنِ أَصَحُّهُمَا: عِنْدَ الأَْصْحَابِ يَجِبُ الاِسْتِيعَابُ
لأَِنَّهُ أُجِيزَ لِلضَّرُورَةِ فَيَجِبُ مَسْحُ الْجَمِيعِ، وَالْوَجْهُ
الثَّانِي: يُجْزِئُهُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الاِسْمُ، لأَِنَّهُ مَسْحٌ
عَلَى حَائِلٍ مُنْفَصِلٍ فَهُوَ كَمَسْحِ الْخُفِّ.
هَذَا إِذَا كَانَتِ الْجَبِيرَةُ مَوْضُوعَةً عَلَى قَدْرِ الْجِرَاحَةِ
فَقَطْ. فَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً عَنْ قَدْرِ الْجِرَاحَةِ فَعِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَمْسَحُ عَلَى الزَّائِدِ تَبَعًا إِنْ
كَانَ غَسْل مَا تَحْتَ الزَّائِدِ يَضُرُّ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَمْسَحُ مِنَ الْجَبِيرَةِ
عَلَى كُل مَا حَاذَى مَحَل الْحَاجَةِ وَلاَ يَجِبُ الْمَسْحُ عَلَى
الزَّائِدِ بَدَلاً عَمَّا تَحْتَهَا، وَيَكْفِي الْمَسْحُ عَلَى
الْجَبِيرَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَحَلٍّ يُغْسَل
ثَلاَثًا. قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَهُوَ الأَْصَحُّ، وَمُقَابِلُهُ: يُسَنُّ
تَكْرَارُ الْمَسْحِ لأَِنَّهُ بَدَلٌ عَنِ الْغَسْل، وَالْغَسْل يُسَنُّ
تَكْرَارُهُ فَكَذَا بَدَلُهُ، وَهَذَا إِذَا لَمْ تَكُنْ عَلَى الرَّأْسِ.
3 - زَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وُجُوبَ التَّيَمُّمِ مَعَ
الْغَسْل وَالْمَسْحِ. قَال النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا التَّيَمُّمُ مَعَ
غَسْل الصَّحِيحِ وَمَسْحِ الْجَبِيرَةِ بِالْمَاءِ فَفِيهِ طَرِيقَانِ
أَصَحُّهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا وَالَّتِي قَطَعَ الْجُمْهُورُ بِهَا أَنَّ
فِيهِ قَوْلَيْنِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وُجُوبُهُ وَهُوَ
نَصُّهُ فِي الأُْمِّ وَمُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ وَالْكَبِيرِ،
وَالثَّانِي: لاَ يَجِبُ وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْقَدِيمِ وَظَاهِرُ نَصِّهِ
فِي الْمُخْتَصَرِ وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ،
وَالْجُرْجَانِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، فِي الْحِلْيَةِ.
(15/109)
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي حَكَاهُ
الْخُرَاسَانِيُّونَ وَصَحَّحَهُ الْمُتَوَلِّي مِنْهُمْ، أَنَّهُ إِنْ
كَانَ مَا تَحْتَ الْجَبِيرَةِ عَلِيلاً لاَ يُمْكِنُ غَسْلُهُ لَوْ كَانَ
ظَاهِرًا وَجَبَ التَّيَمُّمُ كَالْجَرِيحِ، وَإِنْ أَمْكَنَ غَسْلُهُ لَمْ
يَجِبِ التَّيَمُّمُ كَلاَبِسِ الْخُفِّ، وَالْمَذْهَبُ الْوُجُوبُ، قَال
فِي الْمُهَذَّبِ: لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً
أَصَابَهُ حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَل
أَصْحَابَهُ هَل تَجِدُونَ رُخْصَةً لِي فِي التَّيَمُّمِ؟ قَالُوا: مَا
نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَل
فَمَاتَ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا
كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ (1) .
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ وُجُوبَ التَّيَمُّمِ مَعَ الْغَسْل وَالْمَسْحِ
فِي حَالَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: فِيمَا لَوْ وَضَعَ الْجَبِيرَةَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ
وَخَافَ مِنْ نَزْعِهَا عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ تَقَدُّمَ الطَّهَارَةِ
شَرْطُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ وَاضِعَ الْجَبِيرَةِ إِذَا جَاوَزَ بِهَا مَوْضِعَ
الْحَاجَةِ فَإِنَّهُ يَغْسِل الصَّحِيحَ وَيَمْسَحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ
وَيَتَيَمَّمُ لِمَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ. جَاءَ ذَلِكَ فِي
كَشَّافِ الْقِنَاعِ وَشَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ وَلَمْ يَذْكُرَا
فِيهِ خِلاَفًا. إِلاَّ أَنَّ ابْنَ قُدَامَةَ جَعَلَهُ احْتِمَالاً
فَقَال: وَيُحْتَمَل أَنْ يَتَيَمَّمَ مَعَ مَسْحِ الْجَبِيرَةِ فِيمَا
إِذَا تَجَاوَزَ بِهَا مَوْضِعَ الْحَاجَةِ؛ لأَِنَّ مَا
__________
(1) حديث " إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب ". تقدم تخريجه ف / 4.
(15/110)
عَلَى مَوْضِعِ الْحَاجَةِ يَقْتَضِي
الْمَسْحَ وَالزَّائِدَ يَقْتَضِي التَّيَمُّمَ.
4 - إِنْ كَانَتِ الْعِصَابَةُ بِالرَّأْسِ، فَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنَ
الرَّأْسِ قَدْرُ مَا يَكْفِي الْمَسْحَ عَلَيْهِ مَسَحَ عَلَيْهِ وَإِلاَّ
فَعَلَى الْعِصَابَةِ، وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَقُول بِأَنَّ الْفَرْضَ هُوَ
مَسْحُ بَعْضِ الرَّأْسِ، كَالْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَمَّا عِنْدَ مَنْ يَقُول بِأَنَّ الْفَرْضَ هُوَ
مَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ كَالْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّهُ يَمْسَحُ عَلَى
الْعِصَابَةِ وَعَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الرَّأْسِ، وَهَذَا فِي الْوُضُوءِ،
أَمَّا فِي الْغُسْل فَإِنَّهُ يَمْسَحُ عَلَى الْعِصَابَةِ، وَيَغْسِل مَا
بَقِيَ (1) .
مَا يَنْقُضُ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبِيرَةِ:
7 - يَنْتَقِضُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ بِمَا يَأْتِي:
أ - سُقُوطُهَا أَوْ نَزْعُهَا لِبُرْءِ الْكَسْرِ أَوْ الْجُرْحِ. وَعَلَى
ذَلِكَ إِنْ كَانَ مُحْدِثًا وَأَرَادَ الصَّلاَةَ تَوَضَّأَ وَغَسَل
مَوْضِعَ الْجَبِيرَةِ إِنْ كَانَتِ الْجِرَاحَةُ عَلَى أَعْضَاءِ
الْوُضُوءِ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا فَعِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَغْسِل مَوْضِعَ الْجَبِيرَةِ لاَ
غَيْرُ، لأَِنَّ حُكْمَ الْغَسْل وَهُوَ الطَّهَارَةُ فِي سَائِرِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 186 - 187، والزيعلي 1 / 45 - 53، والبدائع 1 / 14،
والدسوقي 1 / 162 - 165، ومنح الجليل 1 / 96 - 97، وجواهر الإكليل 1 / 30،
والمجموع 2 / 323 - 325 - 326، وأسنى المطالب 1 / 82، ونهاية المحتاج 1 /
265 - 266، وكشاف القناع 1 / 114 - 120، وشرح منتهى الإرادات 1 / 62،
والمغني 1 / 278 - 279.
(15/110)
الأَْعْضَاءِ قَائِمٌ لاِنْعِدَامِ مَا
يَرْفَعُهَا وَهُوَ الْحَدَثُ فَلاَ يَجِبُ غَسْلُهَا. وَعِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ يَغْسِل مَوْضِعَ الْجَبَائِرِ وَمَا بَعْدَهُ مُرَاعَاةً
لِلتَّرْتِيبِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَبْطُل وُضُوءُهُ.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْغُسْل إِنْ كَانَ مَسَحَ عَلَيْهَا فِي غُسْلٍ
يَعُمُّ الْبَدَنَ فَيَكْفِي بَعْدَ سُقُوطِهَا وَهُوَ غَيْرُ مُحْدِثٍ
غَسْل مَوْضِعِهَا فَقَطْ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى إِعَادَةِ غُسْلٍ وَلاَ
وُضُوءٍ؛ لأَِنَّ التَّرْتِيبَ وَالْمُوَالاَةَ سَاقِطَانِ فِي
الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى.
ب - سُقُوطُ الْجَبِيرَةِ لاَ عَنْ بُرْءٍ يُبْطِل الطَّهَارَةَ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ
يَجِبُ اسْتِئْنَافُ الْوُضُوءِ أَوْ اسْتِكْمَال الْغُسْل.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
يَنْتَقِضُ مَسْحُ الْجَبِيرَةِ فَقَطْ، فَإِذَا سَقَطَتْ لاَ عَنْ بُرْءٍ
أَعَادَهَا إِلَى مَوْضِعِهَا وَأَعَادَ مَسْحَهَا فَقَطْ، أَمَّا عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ فَلاَ يَنْتَقِضُ شَيْءٌ فَيُعِيدُ الْجَبِيرَةَ إِلَى
مَوْضِعِهَا وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْمَسْحِ. وَهَذَا كُلُّهُ
إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ. فَإِنْ كَانَ فِي الصَّلاَةِ
وَسَقَطَتِ الْجَبِيرَةُ عَنْ بُرْءٍ بَطَلَتِ الصَّلاَةُ بِاتِّفَاقٍ،
وَإِنْ سَقَطَتْ لاَ عَنْ بُرْءٍ بَطَلَتِ الصَّلاَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ،
وَمَضَى عَلَيْهَا، وَلاَ يَسْتَقْبِل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 187، والبدائع 1 / 14، والدسوقي 1 / 166، والمجموع 2 /
296 - 329 تحقيق المطيعي، ومغني المحتاج 1 / 95، والمغني 1 / 289، وشرح
منتهى الإرادات 1 / 64.
(15/111)
الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْحِ عَلَى
الْجَبِيرَةِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ:
8 - يُفَارِقُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ مِنْ
وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ تَوَسَّعَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذِكْرِ هَذِهِ
الْفُرُوقِ حَتَّى أَوْصَلَهَا ابْنُ عَابِدِينَ إِلَى سَبْعَةٍ
وَثَلاَثِينَ فَرْقًا. وَأَهَمُّ هَذِهِ الْفُرُوقِ مَا يَلِي:
أ - لاَ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ إِلاَّ عِنْدَ الضَّرَرِ
بِنَزْعِهَا، وَالْخُفُّ بِخِلاَفِ ذَلِكَ.
ب - الْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ مُؤَقَّتٌ بِالْبُرْءِ لاَ
بِالأَْيَّامِ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ مُؤَقَّتٌ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ
لِلْمُقِيمِ وَثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا لِلْمُسَافِرِ، وَهَذَا
عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ
يَتَّفِقُونَ مَعَ الْجُمْهُورِ فِي تَوْقِيتِ الْمَسْحِ عَلَى
الْجَبِيرَةِ بِالْبُرْءِ، وَلاَ تَوْقِيتَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ
عِنْدَهُمْ، وَإِنْ كَانَ يُنْدَبُ نَزْعُهُ كُل أُسْبُوعٍ.
ج - يُمْسَحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى (الْغُسْل)
لأَِنَّ الضَّرَرَ يَلْحَقُ بِنَزْعِهَا، أَمَّا الْخُفُّ فَيَجِبُ
نَزْعُهُ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى.
د - يُجْمَعُ فِي الْجَبِيرَةِ بَيْنَ مَسْحٍ عَلَى جَبِيرَةِ رِجْلٍ
وَغَسْل الأُْخْرَى، بِخِلاَفِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ.
هـ - يَجِبُ اسْتِيعَابُ الْجَبِيرَةِ بِالْمَسْحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَذَلِكَ بِخِلاَفِ الْخُفِّ.
و لاَ يُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ الطَّهَارَةِ عَلَى وَضْعِ الْجَبِيرَةِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، أَمَّا
الْخُفُّ
(15/111)
فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلُبْسِهِ أَنْ
يَكُونَ عَلَى طَهَارَةٍ.
ز - يَنْتَقِضُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ بِسُقُوطِهَا أَوْ نَزْعِهَا
عَنْ بُرْءٍ بِاتِّفَاقٍ، وَكَذَلِكَ سُقُوطُهَا لاَ عَنْ بُرْءٍ عِنْدَ
غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ. أَمَّا الْخُفُّ فَيَبْطُل الْمَسْحُ عَلَيْهِ
مُطْلَقًا عِنْدَ نَزْعِهِ خِلاَفًا لِمَا اخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ
مِنْ أَنَّهُ لاَ يَبْطُل بِالنَّزْعِ قِيَاسًا عَلَى عَدَمِ بُطْلاَنِ
الْوُضُوءِ بِإِزَالَةِ شَعْرِ الرَّأْسِ الْمَمْسُوحِ عَلَيْهِ.
ح - لَوْ كَانَ عَلَى عُضْوَيْهِ جَبِيرَتَانِ فَرَفَعَ إِحْدَاهُمَا لاَ
يَلْزَمُهُ رَفْعُ الأُْخْرَى، بِخِلاَفِ الْخُفَّيْنِ؛ لأَِنَّ
لُبْسَهُمَا جَمِيعًا شَرْطٌ بِخِلاَفِ الْجَبِيرَتَيْنِ.
ط - يُتْرَكُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ إِنْ ضَرَّ بِخِلاَفِ الْخُفِّ
(1) .
جَحْدٌ
انْظُرْ: إِنْكَارٌ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 186 - 187، والبدائع 1 / 14، وجواهر الإكليل 1 / 24 -
25 - 29 - 30، والدسوقي 1 / 163 - 164، ومغني المحتاج 1 / 94 - 95،
والمجموع 2 / 324 - 326 تحقيق المطيعي، والمغني 1 / 278 - 280.
(15/112)
الْجُحْفَةُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجُحْفَةُ مَوْضِعٌ عَلَى الطَّرِيقِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ،
وَكَانَ اسْمُهَا مَهْيَعَةَ، أَوْ مَهِيعَةَ، فَأَجْحَفَ السَّيْل
بِأَهْلِهَا فَسُمِّيَتْ جُحْفَةً، وَبِمَا أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بِهَا
الآْنَ إِلاَّ رُسُومٌ خَفِيَّةٌ لاَ يَكَادُ يَعْرِفُهَا إِلاَّ سُكَّانُ
الْبَوَادِي، فَلِذَا اخْتَارَ النَّاسُ الإِْحْرَامَ احْتِيَاطًا مِنَ
الْمَكَانِ الْمُسَمَّى بِرَابِغٍ الَّذِي عَلَى يَسَارِ الذَّاهِبِ إِلَى
مَكَّةَ وَقَبْل الْجُحْفَةِ بِنِصْفِ مَرْحَلَةٍ أَوْ قَرِيبٍ مِنْ
ذَلِكَ.
وَهِيَ مِيقَاتُ أَهْل الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ. وَهِيَ أَحَدُ
الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ الَّتِي لاَ يَجُوزُ تَجَاوُزُهَا لِقَاصِدِ
الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلاَّ مُحْرِمًا، وَقَدْ جُمِعَتْ فِي قَوْلِهِ:
عِرْقُ الْعِرَاقِ يَلَمْلَمُ الْيَمَنِ
وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ يُحْرِمُ الْمَدَنِي
لِلشَّامِ جُحْفَةٌ إِنْ مَرَرْتَ بِهَا
وَلأَِهْل نَجْدٍ قَرْنٌ فَاسْتَبِنِ (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوْطِنُ الْبَحْثِ:
2 - أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْجُحْفَةَ مِيقَاتُ
__________
(1) مختار الصحاح مادة: (جحف) ، وابن عابدين 2 / 153، ومواهب الجليل 3 /
30، 31، والقليوبي 2 / 93 ط دار إحياء الكتب العربية، وكشاف القناع 2 /
400، وعمدة القاري شرح صحيح البخاري 4 / 494، 5 / 157 - 158.
(15/112)
أَهْل الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ
وَمَنْ مَرَّ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا لِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: وَقَّتَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لأَِهْل الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ،
وَلأَِهْل الشَّامِ الْجُحْفَةَ وَلأَِهْل نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِل،
وَلأَِهْل الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، وَقَال: فَهُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى
عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ لِمَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوِ
الْعُمْرَةَ (1)
وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ الْكَلاَمَ حَوْل تَجَاوُزِهَا بِغَيْرِ
إِحْرَامٍ فِي كِتَابِ الْحَجِّ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْمَوَاقِيتِ (2)
.
جُحُودٌ
انْظُرْ: إِنْكَارٌ.
جِدَارٌ
انْظُرْ: حَائِطٌ
__________
(1) حديث ابن عباس: " وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا
الحليفة. . " الحديث. أخرجه البخاري (الفتح 3 / 388 - ط السلفية) .
(2) ابن عابدين 2 / 152، 153، 154، والاختيار لتعليل المختار ط دار المعرفة
1 / 141، 142، والقواعد الفقهية 135، 136، والقليوبي 2 / 92، 93، والمغني 3
/ 257، 258، وكشاف القناع 20 / 400 ط عالم الكتب.
(15/113)
جَدٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْجَدِّ لُغَةً أَبُو الأَْبِ وَأَبُو الأُْمِّ،
وَالْجَمْعُ أَجْدَادٌ وَجُدُودٌ
وَالْجَدَّةُ أُمُّ الأُْمِّ وَأُمُّ الأَْبِ، وَالْجَمْعُ جَدَّاتٌ (1)
وَالْجَدُّ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ أَبُو الأَْبِ وَأَبُو الأُْمِّ،
وَإِنْ عَلَوْا، فَإِنْ أُطْلِقَ انْصَرَفَ إِلَى أَبِي الأَْبِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجَدِّ:
يَتَعَلَّقُ بِالْجَدِّ أَحْكَامٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنْهَا:
وِلاَيَةُ الْجَدِّ فِي النِّكَاحِ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وِلاَيَةِ الْجَدِّ (أَبِي الأَْبِ) وَإِنْ
عَلاَ فِي النِّكَاحِ. فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَدَّ
كَالأَْبِ عِنْدَ عَدَمِ الأَْبِ، وَأَنَّهُ أَحَقُّ الأَْوْلِيَاءِ بَعْدَ
الأَْبِ فِي وِلاَيَةِ النِّكَاحِ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُجْبِرَ بِنْتَ
ابْنِهِ الْبِكْرَ سَوَاءٌ أَكَانَتْ بَالِغَةً أَمْ صَغِيرَةً.
__________
(1) لسان العرب مادة: (جدد) .
(15/113)
وَوَافَقَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذَا
الْحُكْمِ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّغِيرَةِ، وَالْمَجْنُونَةِ،
وَالْمَعْتُوهَةِ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا عِنْدَهُمْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجَدَّ لَيْسَ
كَالأَْبِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْبُرَ بِنْتَ ابْنِهِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ
صَغِيرَةً أَمْ كَبِيرَةً، بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا، عَاقِلَةً أَمْ
مَجْنُونَةً.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَنْزِلَتِهِ بَيْنَ سَائِرِ
الأَْوْلِيَاءِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَأْتِي فِي التَّرْتِيبِ بَعْدَ
الأَْخِ وَابْنِ الأَْخِ وَإِنْ نَزَل، وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ
يَأْتِي بَعْدَ الأَْبِ وَوَصِيِّهِ (1) .
أَمَّا الْجَدُّ لأُِمِّ وَهُوَ مَنْ أَدْلَى إِلَى الْمَرْأَةِ بِأُنْثَى
فَلاَ وِلاَيَةَ لَهُ فِي النِّكَاحِ.
إِرْثُ الْجَدِّ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَدَّ (أَبَا الأَْبِ) يَرِثُ
بِالْفَرْضِ وَيَرِثُ بِالتَّعْصِيبِ.
وَالْجَدُّ أَبُو الأَْبِ وَإِنْ عَلاَ لاَ يَحْجُبُهُ إِلاَّ ذَكَرٌ
مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ بِالإِْجْمَاعِ؛ لأَِنَّ مَنْ
أَدْلَى إِلَى الْمَيِّتِ بِشَخْصٍ لاَ يَرِثُ مَعَ وُجُودِهِ إِلاَّ
أَوْلاَدَ الأُْمِّ.
فَالْجَدُّ أَبُو الأَْبِ فِي الْمِيرَاثِ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الأَْبِ
عِنْدَ فَقْدِ الأَْبِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ إِلاَّ فِي أَرْبَعِ
مَسَائِل:
__________
(1) ابن عابدين 2 / 296، بداية المجتهد 2 / 8، والقوانين الفقهية ص 204
مغني المحتاج 3 / 149، وكشف المخدرات ص 356.
(15/114)
إِحْدَاهَا: زَوْجٌ وَأَبَوَانِ
وَالثَّانِيَةُ: زَوْجَةٌ وَأَبَوَانِ، لِلأُْمِّ ثُلُثُ الْبَاقِي
فِيهِمَا مَعَ الأَْبِ، وَيَكُونُ لَهَا ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَال فِيهِمَا
لَوْ كَانَ مَكَانَ الأَْبِ جَدٌّ.
وَالثَّالِثَةُ: الْجَدُّ مَعَ الإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ لِلأَْبَوَيْنِ
أَوْ لِلأَْبِ، فَإِنَّ الأَْبَ يَحْجُبُهُمْ بِاتِّفَاقٍ. وَفِي الْحُكْمِ
عِنْدَ وُجُودِ الْجَدِّ بَدَل الأَْبِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي
إِرْثٍ.
وَالرَّابِعَةُ: الْجَدُّ مَعَ الإِْخْوَةِ لأُِمٍّ، فَإِنَّ الأَْبَ
يَحْجُبُهُمْ إِجْمَاعًا، وَلاَ يَحْجُبُهُمْ الْجَدُّ خِلاَفًا لأَِبِي
حَنِيفَةَ (1) .
نَفَقَةُ الْجَدِّ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْجَدِّ وَاجِبَةٌ عَلَى
حَفِيدِهِ أَوْ حَفِيدَتِهِ بِشُرُوطِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْجَدُّ
مِنْ جِهَةِ الأَْبِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ
وَارِثًا أَمْ غَيْرَ وَارِثٍ، وَلَوِ اخْتَلَفَ دِينُهُمَا، بِأَنْ كَانَ
وَلَدُ الْوَلَدِ مُسْلِمًا وَالْجَدُّ كَافِرًا، أَوْ كَانَ الْجَدُّ
مُسْلِمًا وَوَلَدُ الْوَلَدِ كَافِرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (2) وَمِنَ الْمَعْرُوفِ
الْقِيَامُ بِكِفَايَتِهِمَا عِنْدَ حَاجَتِهِمَا.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 491، والقوانين الفقهية 389، ومغني المحتاج 3 /
10، والمغني لابن قدامة 6 / 214.
(2) سورة لقمان / 15.
(15/114)
وَلِحَدِيثِ: إِنَّ أَوْلاَدَكُمْ مِنْ
أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ، فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلاَدِكُمْ (1) .
وَالْجَدُّ مُلْحَقٌ بِالأَْبِ إِنْ لَمْ يَدْخُل فِي عُمُومِ لَفْظِ
الأَْبِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ نَفَقَةِ الْجَدِّ عَلَى
وَلَدِ الْوَلَدِ (2) .
كَمَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ وَلَدِ الْوَلَدِ وَإِنْ
سَفَل عَلَى الْجَدِّ وَإِنْ عَلاَ إِذَا فُقِدَ الأَْبُ بِشَرْطِهَا
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدٍ: خُذِي مَا
يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ (3) وَالأَْحْفَادُ مُلْحَقُونَ
بِالأَْوْلاَدِ إِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ إِطْلاَقُ النُّصُوصِ
الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ عَدَمَ وُجُوبِ نَفَقَةِ الْحَفِيدِ
عَلَى الْجَدِّ (4) .
وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِل تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي النَّفَقَةِ.
إِعْفَافُ الْجَدِّ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
__________
(1) حديث: " إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم ". أخرجه أبو
داود (3 / 801 - 802 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وابن ماجه (2 / 769 - ط
الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو، وإسناده حسن.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 678، ومغني المحتاج 3 / 446، والقوانين ص 228،
وجواهر الإكليل 1 / 407، وكشف المخدرات ص 424.
(3) حديث: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 507
- ط السلفية) ومسلم (3 / 1338 - ط الحلبي) من حديث عائشة
(4) حاشية ابن عابدين 2 / 671، والقوانين الفقهية ص 228، مغني المحتاج 3 /
446، وكشف المخدرات ص 424.
(15/115)
وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي
مَذْهَبِهِمْ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ وَلَدَ الْوَلَدِ إِعْفَافُ الْجَدِّ
وَإِنْ عَلاَ بِالنِّكَاحِ، لأَِنَّ هَذَا مِنْ وُجُوهِ حَاجَتِهِ
الْمُهِمَّةِ كَالنَّفَقَةِ؛ وَلِئَلاَّ يُعَرِّضَهُمْ لِلزِّنَا
الْمُفْضِي إِلَى الْهَلاَكِ، وَذَلِكَ لاَ يَلِيقُ بِحُرْمَةِ
الأُْبُوَّةِ، وَلَيْسَ مِنَ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ
بِهَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} .
كَمَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ زَوْجَةِ الْجَدِّ عَلَى
وَلَدِ الْوَلَدِ إِذَا كَانَتْ وَاحِدَةً.
أَمَّا إِذَا كَانَ عِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجَةٍ فَعَلَى الْحَفِيدِ
أَنْ يَدْفَعَ لَهُ نَفَقَةَ زَوْجَةٍ وَاحِدَةٍ، وَعَلَى الْجَدِّ أَنْ
يُوَزِّعَ هَذَا الْقَدْرَ عَلَى جَمِيعِ زَوْجَاتِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الْحَفِيدَ إِعْفَافُ
الْجَدِّ، كَمَا لاَ يَلْزَمُهُ عِنْدَهُمْ نَفَقَةُ زَوْجَةِ الْجَدِّ (1)
. وَلِزِيَادَةِ التَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (نَفَقَةٌ) .
حَضَانَةُ الْجَدِّ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَرْتِيبِ الْجَدِّ فِي الْحَضَانَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَرْتِيبَهُ فِي
اسْتِحْقَاقِ حَضَانَةِ الْحَفِيدِ يَأْتِي بَعْدَ الأَْبِ مُبَاشَرَةً،
لأَِنَّهُ كَالأَْبِ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ
كَذَلِكَ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ
بَعْدَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 672، وجواهر الإكليل 1 / 407، ومغني المحتاج 3 /
211، والإنصاف 9 / 404.
(15/115)
الأَْخِ الشَّقِيقِ، ثُمَّ يَأْتِي
بَعْدَهُ الأَْخُ لأُِمٍّ، ثُمَّ الأَْخُ لأَِبٍ (1) .
حُكْمُ دَفْعِ الزَّكَاةِ لِلْجَدِّ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْحَفِيدِ أَنْ يَدْفَعَ
زَكَاتَهُ إِلَى جَدِّهِ وَإِنْ عَلاَ.
كَمَا لاَ يَجُوزُ لِلْجَدِّ أَنْ يَدْفَعَ زَكَاتَهُ لِوَلَدِ وَلَدِهِ
وَإِنْ سَفَل، لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَنْتَفِعُ بِمَال الآْخَرِ،
فَيَكُونُ كَأَنَّهُ صَرَفَ إِلَى نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ؛ وَلأَِنَّ
نَفَقَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا تَجِبُ عَلَى الآْخَرِ، وَقَدْ يَرِثُ
أَحَدُهُمَا الآْخَرَ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ
يَدْفَعَ زَكَاتَهُ لِلآْخَرِ مَا لَمْ يَكُنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ
بِنَفَقَتِهِ (2) . وَلِزِيَادَةِ التَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ:
(نَفَقَةٌ وَحَضَانَةٌ) .
الْقِصَاصُ مِنَ الْجَدِّ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ مِنَ الْجَدِّ إِذَا
قَتَل حَفِيدَهُ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ مِنَ الْجَدِّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 638، وجواهر الإكليل 1 / 409، ومغني المحتاج 3 /
453، وكشف المخدرات ص 428.
(2) البدائع 2 / 49، ومواهب الجليل 2 / 343، وروضة الطالبين 2 / 310،
والمغني لابن قدامة 2 / 647.
(15/116)
وَإِنْ عَلاَ إِذَا قَتَل حَفِيدَهُ وَإِنْ
سَفَل، لِحَدِيثِ: لاَ يُقَادُ الأَْبُ مِنِ ابْنِهِ (1) وَلِرِعَايَةِ
حُرْمَتِهِ الأَْبَوِيَّةِ؛ وَلأَِنَّهُ كَانَ سَبَبًا فِي وُجُودِ
الْحَفِيدِ فَلاَ يَكُونُ الْحَفِيدُ سَبَبًا فِي عَدَمِهِ.
كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ الْحَفِيدُ الْقِصَاصَ مِنْ
جَدِّهِ وَإِنْ عَلاَ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ قِبَل الأَْبِ أَمْ مِنْ قِبَل
الأُْمِّ؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْوِلاَدِ فَاسْتَوَى فِيهِ
جَمِيعُ الأَْجْدَادِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَدَّ إِذَا قَتَل حَفِيدَهُ
عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ الْمَحْضِ، مِثْل أَنْ يَذْبَحَهُ أَوْ يَشُقَّ
بَطْنَهُ يُقْتَصُّ لَهُ مِنْهُ، لِعُمُومِ ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (2) .
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ الْمُنْذِرِ (3) .
سَرِقَةُ الْجَدِّ مِنْ مَال حَفِيدِهِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَطْعِ يَدِ الْجَدِّ إِذَا سَرَقَ مِنْ
مَال حَفِيدِهِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) حديث: " لا يقاد الأب من ابنه ". أخرجه البيهقي (8 / 38 - ط دائرة
المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ونقل ابن حجر في
التلخيص (4 / 16 - ط شركة الطباعة الفنية) عن البيهقي أنه صححه.
(2) سورة البقرة / 178.
(3) البدائع 7 / 235، والقوانين الفقهية ص 351، ومغني المحتاج 4 / 8، وكشف
المخدرات ص 437، والمغني لابن قدامة 7 / 666.
(15/116)
وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى عَدَمِ قَطْعِ
يَدِ الْجَدِّ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَال وَلَدِ الْوَلَدِ وَإِنْ سَفَل
دَرْءًا لِلشُّبْهَةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْتَ وَمَالُكَ لأَِبِيكَ (1) .
وَلِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الاِتِّحَادِ وَالاِشْتِرَاكِ؛ وَلأَِنَّ مَال
كُلٍّ مِنْهُمَا مُرْصَدٌ لِحَاجَةِ الآْخَرِ، وَلأَِنَّ لِلْجَدِّ أَنْ
يَدْخُل بَيْتَ وَلَدِ وَلَدِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ عَادَةً، فَاخْتَل مَعْنَى
الْحِرْزِ؛ وَلأَِنَّ الْقَطْعَ بِسَبَبِ السَّرِقَةِ فِعْلٌ يُفْضِي إِلَى
قَطْعِ الرَّحِمِ وَذَلِكَ حَرَامٌ، وَالْمُفْضِي إِلَى الْحَرَامِ
حَرَامٌ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْجَدَّ تُقْطَعُ يَدُهُ إِذَا سَرَقَ مِنْ
مَال حَفِيدِهِ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ (2) .
قَذْفُ الْجَدِّ حَفِيدَهُ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْجَدِّ إِذَا
قَذَفَ حَفِيدَهُ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ
وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِقَذْفِ حَفِيدِهِ وَإِنْ سَفَل؛ لأَِنَّ
الأُْبُوَّةَ مَعْنًى يُسْقِطُ الْقِصَاصَ فَمَنَعَتِ الْحَدَّ؛ وَلأَِنَّ
الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَلاَ يَجِبُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ عَلَى
جَدِّهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَقُل لَهُمَا
__________
(1) حديث: " أنت ومالك لأبيك ". أخرجه ابن ماجه (2 / 769 - ط الحلبي) من
حديث جابر بن عبد الله، وقال البوصيري: " إسناده صحيح ورجاله ثقات على شرط
البخاري ".
(2) البدائع 7 / 75، ومغني المحتاج 4 / 162، وكشف المخدرات ص 473،
والقوانين الفقهية ص 314، وجواهر الإكليل 2 / 290.
(15/117)
أُفٍّ} (1) وَالنَّهْيُ عَنِ التَّأْفِيفِ
نَصًّا نَهْيٌ عَنِ الضَّرْبِ دَلاَلَةً، فَلَوْ حُدَّ الْجَدُّ كَانَ
ضَرْبُهُ الْحَدَّ بِسَبَبِ حَفِيدِهِ؛ وَلأَِنَّ الْمُطَالَبَةَ
بِالْقَذْفِ لَيْسَتْ مِنَ الإِْحْسَانِ فِي شَيْءٍ فَكَانَتْ مَنْفِيَّةً
نَصًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (2) .
كَمَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ لاَ يَثْبُتُ لَهُ
حَدُّ قَذْفٍ عَلَى جَدِّهِ، فَلَوْ قَذَفَ الْجَدُّ أُمَّ وَلَدِ وَلَدِهِ
وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ فَمَاتَتْ قَبْل اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ لَمْ
يَكُنْ لِوَلَدِ وَلَدِهِ الْمُطَالَبَةُ بِالْحَدِّ؛ لأَِنَّ مَا مَنَعَ
ثُبُوتَهُ ابْتِدَاءً أَسْقَطَهُ طَارِئًا.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْجَدَّ يُحَدُّ إِذَا قَذَفَ وَلَدَ
وَلَدِهِ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ (3) .
شَهَادَةُ الْجَدِّ لِوَلَدِ وَلَدِهِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْجَدِّ لِحَفِيدِهِ
وَإِنْ سَفَل وَعَكْسَهُ لاَ تُقْبَل، لأَِنَّ بَيْنَهُمَا بَعْضِيَّةً
فَكَأَنَّهُ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي (4) .
وَلأَِنَّ شَهَادَةَ الْجَدِّ إِذَا تَضَمَّنَتْ مَعْنَى النَّفْعِ
وَالدَّفْعِ فَقَدْ صَارَ مُتَّهَمًا وَلاَ شَهَادَةَ لِمُتَّهَمٍ،
__________
(1) سورة الإسراء / 23.
(2) سورة البقرة / 83.
(3) البدائع 7 / 42، وحاشية ابن عابدين 1 / 168، والقوانين الفقهية 362،
وتحفة المحتاج 8 / 120، ومغني المحتاج 4 / 156، والمغني لابن قدامة 8 /
219.
(4) حديث: " فاطمة بضعة مني ". أخرجه البخاري (الفتح 7 / 105 - ط السلفية)
من حديث المسور بن مخرمة.
(15/117)
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلاَ خَائِنَةٍ، وَلاَ مَجْلُودٍ
حَدًّا وَلاَ مَجْلُودَةٍ، وَلاَ ذِي غَمْرٍ لأَِخِيهِ، وَلاَ الْقَانِعِ
أَهْل الْبَيْتِ لَهُمْ، وَلاَ ظَنِينٍ فِي وَلاَءٍ، وَلاَ قَرَابَةٍ (1)
وَالظَّنِينُ الْمُتَّهَمُ.
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا: لاَ يَجُوزُ
شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلاَ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا (2) .
وَذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ كَشُرَيْحٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ كُلٍّ مِنَ
الأَْصْل وَالْفَرْعِ لِلآْخَرِ مَقْبُولَةٌ؛ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ (3)
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (4) وقَوْله
تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (5) .
مَرْتَبَةُ الْجَدِّ فِي الصَّلاَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) حديث: لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حدا ولا. . . ". أخرجه
الترمذي (4 / 545 - ط الحلبي) من حديث عائشة، وقال الترمذي: " لا يصح عندي
من قبل إسناده ".
(2) حديث: " لا يجوز شهادة الولد لوالده، ولا المرأة لزوجها ". أخرجه
الخصاف في أدب القاضي كما في البناية للعيني (7 / 167 - ط دار الفكر) وفي
إسناده يزيد بن زياد الشامي وهو ضعيف كما في ترجمته من التهذيب لابن حجر
(11 / 328 - 329 - ط دائرة المعارف النظامية)
(3) البدائع 6 / 272، والقوانين الفقهية ص 313، ومغني المحتاج 4 / 434،
والمغني لابن قدامة 9 / 191، وكشف المخدرات ص 524.
(4) سورة الطلاق / 2.
(5) سورة البقرة / 282.
(15/118)
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَوْلَى
الأَْقَارِبِ مِنَ الرِّجَال فِي غَسْل الْمَيِّتِ وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ،
الأَْبُ ثُمَّ الْجَدُّ أَبُو الأَْبِ وَإِنْ عَلاَ، إِلاَّ أَنَّ
الْحَنَفِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلأَْبِ أَنْ يُقَدِّمَ
أَبَاهُ جَدَّ الْمَيِّتِ تَعْظِيمًا لَهُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَدَّ يَأْتِي بَعْدَ الأَْخِ
وَابْنِ الأَْخِ وَإِنْ نَزَل (2) .
__________
(1) البدائع 2 / 238، 1 / 318، وروضة الطالبين 2 / 121، والإنصاف 2 / 472،
والمغني لابن قدامة 2 / 482.
(2) القوانين الفقهية ص 204.
(15/118)
جَدَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَدَّةُ لُغَةً: أُمُّ الأُْمِّ وَأُمُّ الأَْبِ وَإِنْ عَلَتَا،
وَجَمْعُهَا جَدَّاتٌ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجَدَّةِ:
مِيرَاثُ الْجَدَّةِ:
2 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَوْرِيثِ جَدَّتَيْنِ: أُمِّ الأُْمِّ،
وَأُمِّ الأَْبِ، وَأُمَّهَاتِهِمَا وَإِنْ عَلَوْنَ بِمَحْضِ الإِْنَاثِ
أَيْ دُونَ تَخَلُّل ذَكَرٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي أُمِّ الْجَدِّ (أُمِّ
أَبِي الأَْبِ) فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَوْرِيثِهَا،
وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ كَعَلِيٍّ وَزَيْدٍ وَابْنِ
مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ، وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالأَْوْزَاعِيِّ
وَابْنِ سِيرِينَ وَالثَّوْرِيِّ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ تَوْرِيثِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ
سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَرَبِيعَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ.
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس، مادة: (جدد) .
(15/119)
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ
الْجَدَّةَ الَّتِي تُدْلِي إِلَى الْمَيِّتِ بِذَكَرٍ بَيْنَ أُمَّيْنِ
فَاسِدَةٌ، وَلاَ تَرِثُ؛ لأَِنَّهَا تُدْلِي بِأَبٍ غَيْرِ وَارِثٍ كَمَا
فِي حَالَةِ أُمِّ أَبِي الأُْمِّ (1) .
هَذَا وَعَدَمُ تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ غَيْرِ الصَّحِيحَةِ إِنَّمَا هُوَ
بِالْفَرْضِ. وَهِيَ تَرِثُ مِيرَاثَ الأَْرْحَامِ.
فَرْضُ الْجَدَّةِ وَالْجَدَّاتِ:
3 - أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لِلْجَدَّةِ السُّدُسَ إِذَا
لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ أُمٌّ. وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ قَبِيصَةُ بْنُ
ذُؤَيْبٍ قَال: جَاءَتِ الْجَدَّةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ تَطْلُبُ
مِيرَاثَهَا.
فَقَال: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، وَمَا أَعْلَمُ لَكِ فِي
سُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا.
وَلَكِنِ ارْجِعِي حَتَّى أَسْأَل النَّاسَ. فَقَال الْمُغِيرَةُ بْنُ
شُعْبَةَ: حَضَرْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَعْطَاهَا السُّدُسَ.
__________
(1) الاختيار شرح المختار للموصلي 5 / 104 ط مصطفى البابي الحلبي بمصر 27
سنة 1370 هـ، والمبسوط لشمس الدين السرخسي 29 / 167. مطبعة السعادة بمصر ط
ا، وتبيين الحقائق للزيلعي 6 / 231، دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت،
والزرقاني شرح مختصر خليل 8 / 208 دار الفكر ببيروت سنة 1398 هـ. ونهاية
المحتاج للرملي 6 / 19 المكتبة الإسلامية، وروضة الطالبين 6 / 11 ط المكتب
الإسلامي للطباعة والنشر، ومطالب أولي النهى 4 / 554 المكتب الإسلامي
للطباعة والنشر بدمشق، والمغني لابن قدامة المقدسي 6 / 206 مكتبة الرياض
الحديثة بالسعودية.
(15/119)
فَقَال: هَل مَعَكَ غَيْرُكَ؟ فَشَهِدَ
لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَأَمْضَاهُ لَهَا (1) .
وَهَذَا سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجَدَّةُ مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ أَمْ مِنْ
جِهَةِ الأَْبِ.
وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَعَهَا فَرْعٌ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ أَمْ لَمْ يَكُنْ.
وَسَوَاءٌ أَقَرُبَتِ الْجَدَّةُ أَمْ بَعُدَتْ مَا دَامَتْ وَارِثَةً.
وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ وَاحِدَةً أَمْ أَكْثَرَ، فَقَدْ أَجْمَعَ أَهْل
الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مِيرَاثَ الْجَدَّاتِ السُّدُسُ أَيْضًا وَإِنْ
كَثُرْنَ، وَذَلِكَ لِقَضَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْمِيرَاثِ بِالسُّدُسِ بَيْنَهُمَا. وَلِقَضَاءِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
بَيْنَ الْجَدَّتَيْنِ فَقَال عَنِ السُّدُسِ: إِنِ اجْتَمَعْتُمَا فَهُوَ
لَكُمَا، وَأَيَّتُكُمَا خَلَتْ بِهِ فَهُوَ لَهَا (2) .
__________
(1) حديث: " جاءت الجدة إلى أبي بكر. . . " أخرجه أبو داود 3 / 317 - تحقيق
عزت عبيد دعاس، وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (3 / 82 - ط شركة الطباعة
الفنية) : " إسناده صحيح لثقة رجاله، إلا أن صورته مرسل، فإن قبيصة لا يصح
له سماع من الصديق، ولا يمكن شهوده للقصة، قاله ابن عبد البر بمعناه ".
(2) المبسوط لشمس الدين السرخسي 29 / 167، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق
للزيلعي 6 / 231 - 232، والزرقاني شرح مختصر خليل 8 / 208، وكفاية الطالب
شرح الرسالة 2 / 308 ط مصطفى البابي الحلبي، ونهاية المحتاج للرملي 6 / 19
- 20، وروضة الطالبين 6 / 11، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع للشربيني 2 /
47 مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة 1359 هـ، ومطالب أولي النهى
4 / 554، والمغني لابن قدامة 6 / 206.
(15/120)
حَجْبُ الْجَدَّةِ:
4 - الْجَدَّاتُ قَدْ يَحْجُبُهُنَّ غَيْرُهُنَّ، وَقَدْ يَحْجُبُ
بَعْضُهُنَّ بَعْضًا فِي الْمِيرَاثِ. فَقَدْ أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ
عَلَى أَنَّ الأُْمَّ تَحْجُبُ كُل الْجَدَّاتِ سَوَاءٌ أَكُنَّ مِنْ
جِهَتِهَا أَوْ مِنْ جِهَةِ الأَْبِ؛ لأَِنَّ الْجَدَّاتِ يَرِثْنَ
بِالْوِلاَدِ، فَكَانَتِ الأُْمُّ أَوْلَى مِنْهُنَّ لِمُبَاشَرَتِهَا
الْوِلاَدَةَ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُل جَدَّةٍ قُرْبَى تَحْجُبُ الْبُعْدَى الَّتِي
مِنْ جِهَتِهَا مُطْلَقًا.
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْجَدَّةَ الْقُرْبَى مِنْ جِهَةِ
الأُْمِّ تُسْقِطُ الْبُعْدَى الَّتِي مِنْ جِهَةِ الأَْبِ. وَنَقَل ابْنُ
قُدَامَةَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ خِلاَفًا فِي ذَلِكَ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي إِسْقَاطِ الْجَدَّةِ الْقُرْبَى مِنْ جِهَةِ الأَْبِ
لِلْبُعْدَى الَّتِي مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا تَحْجُبُهَا لأَِنَّهَا أَقْرَبُ
مِنْهَا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهَا لاَ تَحْجُبُهَا وَالسُّدُسُ بَيْنَهُمَا
نِصْفَيْنِ.
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلاَنِ: أَظْهَرُهُمَا وَهِيَ الرِّوَايَةُ
الْمَنْصُوصَةُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا لاَ تَحْجُبُهَا، وَتَشْتَرِكَانِ
__________
(1) الاختيار شرح المختار للموصلي 5 / 104، والزرقاني شرح مختصر خليل 8 /
208، وكفاية الطالب شرح الرسالة 2 / 308، وروضة الطالبين للنووي 6 / 26 -
27، ومطالب أولي النهى 4 / 554، 566.
(15/120)
فِي السُّدُسِ؛ لأَِنَّ الأَْبَ نَفْسَهُ
لاَ يَحْجُبُهَا فَالْجَدَّةُ الْمُدْلِيَةُ بِهِ أَوْلَى.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَحْجُبُهَا لِقُرْبِهَا مِنَ الْمَيِّتِ (1) .
5 - وَاخْتَلَفُوا فِي حَجْبِ الْجَدَّةِ بِابْنِهَا، أَيْ بِأَبِي
الْمَيِّتِ أَوْ جَدِّهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي ظَاهِرِ
الْمَذْهَبِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، إِلَى
أَنَّهُ يَحْجُبُهَا، فَلاَ تَرِثُ مَعَ وُجُودِ الأَْبِ إِلاَّ جَدَّةً
وَاحِدَةً وَهِيَ الَّتِي مِنْ قِبَل الأُْمِّ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهَا
تُدْلِي بِهِ فَلاَ تَرِثُ مَعَهُ كَالْجَدِّ مَعَ الأَْبِ، وَأُمِّ
الأُْمِّ مَعَ الأُْمِّ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَهِيَ رِوَايَةٌ
لِلشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا تَرِثُ مَعَ ابْنِهَا (2) لِمَا رَوَاهُ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَوَّل جَدَّةٍ
أَطْعَمَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّدُسَ
أُمُّ أَبٍ مَعَ ابْنِهَا، وَابْنُهَا حَيٌّ. وَلأَِنَّ الْجَدَّاتِ
أُمَّهَاتٌ، فَيَرِثْنَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 6 / 453 المكتبة الإسلامية، ديار بكر بتركيا، وكفاية
الطالب شرح الرسالة 2 / 308، ونهاية المحتاج للرملي 6 / 16، وروضة الطالبين
6 / 27، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي 7 / 310 ط مطبعة
السنة المحمدية بالقاهرة. تصوير دار إحياء التراث العربي ببيروت سنة 1377
هـ، والمغني لابن قدامة 6 / 206.
(2) الاختيار شرح المختار للموصلي 5 / 95، والمبسوط لشمس الدين السرخسي 29
/ 169، والزرقاني شرح مختصر خليل 8 / 208، ونهاية المحتاج للرملي 6 / 16،
وروضة الطالبين 6 / 26، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي 7 /
311، والمغني لابن قدامة المقدسي 6 / 206.
(15/121)
مِيرَاثَ الأُْمِّ لاَ مِيرَاثَ الأَْبِ،
فَلاَ يُحْجَبْنَ بِهِ كَأُمَّهَاتِ الأُْمِّ (1) .
تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْجَدَّةِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ نِكَاحُ الْجَدَّاتِ
مُطْلَقًا سَوَاءٌ كُنَّ مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ أَوْ مِنْ جِهَةِ الأَْبِ
وَإِنْ عَلَوْنَ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ} (2) فَالأُْمَّهَاتُ كُل مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِنَّ
بِوِلاَدَةٍ سَوَاءٌ وَقَعَ عَلَيْهَا اسْمُ الأُْمِّ حَقِيقَةً أَوْ
مَجَازًا - أَيِ الَّتِي وَلَدَتْكَ أَوْ وَلَدَتْ مَنْ وَلَدَتْكَ -
وَإِنْ عَلَتْ وَارِثَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ وَارِثَةٍ (3) .
تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الزَّوْجَةِ وَجَدَّتِهَا:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الزَّوْجَةِ
وَجَدَّتِهَا، إِذِ الْجَدَّاتُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الأُْمَّهَاتِ فِي
الْحُرْمَةِ (4) . عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ أَيْضًا نِكَاحُ جَدَّةِ
الزَّوْجَةِ بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجَةِ أَوْ طَلاَقِهَا، كَمَا يَحْرُمُ
نِكَاحُ بِنْتِ بِنْتِ الزَّوْجَةِ الْمَدْخُول بِهَا بَعْدَ طَلاَقِ
__________
(1) حديث: عبد الله بن مسعود قال: أول جدة أطعمها رسول الله صلى الله عليه
وسلم: أخرجه الترمذي (4 / 421 - ط الحلبي) ، والبيهقي (6 / 226 - ط دائرة
المعارف العثمانية) وقال البيهقي: " محمد بن سالم - يعني الذي في إسناده -
غير محتج به ".
(2) سورة النساء / 23.
(3) الاختيار شرح المختار للموصلي 3 / 84، وكفاية الطالب شرح الرسالة
للعدوي 2 / 44، ونهاية المحتاج شرح المنهاج للرملي 6 / 266، ومطالب أولي
النهى 5 / 87 - 88.
(4) فتح القدير لابن الهمام 2 / 358 ط الأميرية ببولاق بمصر المحمدية سنة
1315 هـ، والمدونة للإمام مالك 2 / 276 مطبعة السعادة بمصر سنة 1323 هـ
تصوير دار صادر ببيروت، ونهاية المحتاج شرح المنهاج للرملي 6 / 266، ومطالب
أولي النهى 5 / 98.
(15/121)
الزَّوْجَةِ أَوْ مَوْتِهَا، أَمَّا إِذَا
كَانَتِ الزَّوْجَةُ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا وَفَارَقَهَا فَيَحِل لَهُ
الزَّوَاجُ بِبِنْتِ بِنْتِهَا.
تَشْبِيهُ الزَّوْجَةِ بِالْجَدَّةِ فِي الظِّهَارِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِظَهْرِ
جَدَّتِهِ فَهُوَ ظِهَارٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجَدَّةُ مِنْ جِهَةِ
الأُْمِّ أَمْ الأَْبِ؛ لأَِنَّ تَشْبِيهَ الزَّوْجَةِ بِظَهْرِ الأُْمِّ
أَوِ الْجَدَّةِ أَوْ مَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا عَلَى
التَّأْبِيدِ سَوَاءٌ (1) .
حَقُّ الْجَدَّةِ بِالْحَضَانَةِ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ
بِالْحَضَانَةِ بَعْدَ الأُْمِّ سَوَاءٌ مَاتَتْ أَوْ نَكَحَتْ
أَجْنَبِيًّا أُمَّهَاتُهَا الْمُدْلِيَاتُ بِإِنَاثٍ الْقُرْبَى
فَالْقُرْبَى - أَيْ جَدَّةُ الطِّفْل لأُِمِّهِ - وَإِنْ عَلَتْ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَنْتَقِل الْحَضَانَةُ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَضَانَةَ تَنْتَقِل بَعْدَ
الْجَدَّةِ لأُِمٍّ إِلَى الْجَدَّاتِ لأَِبٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى
الأَْخَوَاتِ ثُمَّ الْخَالاَتِ.
__________
(1) الاختيار شرح المختار للموصلي 3 / 161، والفواكه الدواني 2 / 79، دار
المعرفة للطباعة والنشر ببيروت، روضة الطالبين للنووي 8 / 264، والكافي
لابن قدامة المقدسي 2 / 880. الطبعة الأولى. المكتب الإسلامي بدمشق. وكشاف
القناع للبهوتي 5 / 368، نشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض.
(15/122)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ
الْحَضَانَةَ تَنْتَقِل إِلَى الْخَالاَتِ ثُمَّ الْجَدَّاتِ مِنْ جِهَةِ
الأَْبِ ثُمَّ الأَْخَوَاتِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ إِلَى تَقْدِيمِ الْجَدَّاتِ
لأَِبٍ عَلَى الأَْخَوَاتِ وَالْخَالاَتِ، وَفِي الْقَدِيمِ إِلَى
تَأْخِيرِهِنَّ عَنِ الأَْخَوَاتِ وَالْخَالاَتِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحَضَانَةَ تَنْتَقِل بَعْدَ أُمِّ
الأُْمِّ إِلَى الأَْبِ، ثُمَّ إِلَى أُمَّهَاتِهِ، ثُمَّ إِلَى
الأَْخَوَاتِ وَالْخَالاَتِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِتَقْدِيمِ أُمِّ الأُْمِّ بِمَا قَضَاهُ أَبُو بَكْرٍ
الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي عَاصِمٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. فَقَدْ طَلَّقَ عُمَرُ زَوْجَتَهُ
وَلَهُ مِنْهَا عَاصِمٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ، وَكَانَ لَهَا
أُمٌّ فَقَبَضَتْ عَاصِمًا عِنْدَهَا، فَخَاصَمَهَا عُمَرُ إِلَى أَبِي
بَكْرٍ فَقَضَى لِجَدَّتِهِ (أُمِّ أُمِّهِ) بِالْحَضَانَةِ وَقَال عُمَرُ:
سَمِعْتُ وَأَطَعْتُ (1) .
قَتْل الْجَدَّةِ بِحَفِيدِهَا:
10 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ - أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ عَلَى وَالِدٍ يَقْتُل وَلَدَهُ،
وَكَذَا الأُْمُّ وَالأَْجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ سَوَاءٌ أَكَانُوا مِنْ
جِهَةِ الأَْبِ أَمْ مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ، قَرُبُوا أَمْ بَعُدُوا.
__________
(1) الاختيار شرح المختار للموصلي 4 / 14، وفتح القدير لابن الهمام 3 /
315، والمدونة للإمام مالك 2 / 357، 361، وكفاية الطالب شرح الرسالة 2 /
104، وروضة الطالبين 9 / 101، 108 - 109، ونهاية المحتاج شرح المنهاج 7 /
214 - 216، والكافي لابن قدامة 2 / 1005، وكشاف القناع 5 / 496.
(15/122)
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُقَادُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ (1) وَالْجَدَّةُ
وَالِدَةٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى التَّفْصِيل فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ،
فَاتَّفَقُوا مَعَ الْجُمْهُورِ فِيمَا لَوْ حَذَفَهُ بِالسَّيْفِ. أَمَّا
إِنْ قَصَدَ قَتْل الاِبْنِ وَإِزْهَاقَ رُوحِهِ بِأَنْ أَضْجَعَهُ
فَذَبَحَهُ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَيَجْرِي مَجْرَاهُ الأَْجْدَادُ
وَالْجَدَّاتُ (2) .
اسْتِئْذَانُ الْجَدَّةِ فِي الْجِهَادِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ إِذْنَ لأَِحَدٍ مُطْلَقًا
فِي النَّفِيرِ الْعَامِّ، حَيْثُ يَتَعَيَّنُ الْجِهَادُ وَيَكُونُ فَرْضَ
عَيْنٍ وَلاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ الإِْذْنُ، كَالْحَجِّ الْوَاجِبِ،
وَبَقِيَّةِ الْفَرَائِضِ.
وَاتَّفَقُوا فِي غَيْرِ النَّفِيرِ الْعَامِّ أَنَّهُ لاَ يَخْرُجُ مَنْ
لَهُ وَالِدَانِ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا، وَلَوْ فَعَل يَحْرُمُ عَلَيْهِ
لأَِنَّ بِرَّهُمَا وَاجِبٌ.
__________
(1) حديث: " لا يقاد والد بولده " أخرجه الترمذي (تحفة الأحوذي 4 / 656 ط
السلفية) وابن ماجه (2 / 888 ط عيسى الحلبي) وأحمد والبيهقي (8 / 38 دار
المعرفة) وذكر الحافظ الزيلعي عن البيهقي أنه قال: وهذا إسناد صحيح (نصب
الراية 4 / 339) وقال عبد الحق: هذه الأحاديث كلها معلولة لا يصح منها شيء.
وقال الشافعي: حفظت عن عدد من أهل العلم لقيتهم أن لا يقتل الوالد بالولد
وبذلك أقول (التخليص الحبير 4 / 17) .
(2) فتح القدير لابن الهمام 8 / 259، روضة الطالبين للنووي 9 / 151،
والفروع لابن مفلح 5 / 643، الطبعة الثالثة سنة 1388 هـ عالم الكتب ببيروت.
أسهل المدارك شرح إرشاد السالك 3 / 118. الطبعة الثانية مطبعة عيسى البابي
الحلبي وشركاه بمصر. وحاشية الدسوقي 4 / 242 - 243 عيسى البابي الحلبي
وشركاه.
(15/123)
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ اسْتِئْذَانِ
الأَْجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ فِي حَال عَدَمِ وُجُودِ الْوَالِدَيْنِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ - إِلَى أَنَّ الأَْجْدَادَ وَالْجَدَّاتِ
كَالآْبَاءِ وَالأُْمَّهَاتِ فَيَحْرُمُ خُرُوجُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ
لِلْجِهَادِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِمْ إِلَى أَنَّهُ
يُسْتَحَبُّ اسْتِئْذَانُهُمَا لأَِنَّهُمَا لَيْسَا كَالأَْبَوَيْنِ،
فَإِنْ أَبَى الْجَدَّانِ فَلَهُ الْخُرُوجُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ إِذْنَ لِغَيْرِ الأَْبَوَيْنِ
مِنَ الأَْقَارِبِ حَتَّى الْجَدَّيْنِ لأَِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ
بِذَلِكَ وَلاَ هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ (1) .
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 3 / 241 - 242 ط 1 الأميرية ببولاق مصر سنة
1313، ومواهب الجليل شرح مختصر خليل 3 / 350 مكتبة النجاح. طرابلس - ليبيا،
والتاج والإكليل لمختصر خليل (في هامش المواهب) 3 / 350 مكتبة النجاح -
طرابلس - ليبيا، وروضة الطالبين 10 / 211، والكافي لابن قدامة 4 / 254 -
255 ط 2 المكتب الإسلامي سنة 1399 هـ بيروت.
(15/123)
جَدْعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَدْعُ فِي اللُّغَةِ الْقَطْعُ، وَقِيل هُوَ الْقَطْعُ الْبَائِنُ
فِي الأُْذُنِ، أَوِ الأَْنْفِ، أَوْ الْيَدِ، أَوْ الشَّفَةِ، أَوْ
نَحْوِهَا، يُقَال: جَدَعَهُ يَجْدَعُهُ فَهُوَ مَجْدُوعٌ، وَيُقَال
أَيْضًا جُدِعَ الرَّجُل أَيْ قُطِعَ أَنْفُهُ، فَهُوَ أَجْدَعُ بَيِّنُ
الْجَدَعِ، وَهِيَ جَدْعَاءُ وَقِيل: لاَ يُقَال: جَدَعَ " بِالْبِنَاءِ
لِلْفَاعِل "، وَلَكِنْ جُدِعَ " بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُول (1) ".
وَكَانَتْ نَاقَةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تُلَقَّبُ (الْجَدْعَاءُ) (2) وَلَيْسَ بِهَا مِنْ جَدَعٍ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِكَلِمَةِ الْجَدَعِ عَنْ هَذَا
الْمَعْنَى.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُثْلَةُ:
2 - الْمُثْلَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ اسْمُ مَصْدَرٍ، يُقَال: مَثَل بِهِ
__________
(1) لسان العرب المحيط، ومتن اللغة، والمصباح المنير، ومختار الصحاح مادة:
(جدع) .
(2) خبر كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقب (الجدعاء) . أخرجه
البخاري (الفتح 7 / 389 - ط السلفية) من حديث عائشة.
(15/124)
مَثْلاً وَمُثْلَةً وَمَثَّل بِهِ
تَمْثِيلاً وَذَلِكَ بِأَنْ يَقْطَعَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ، أَوْ يُسَوِّدَ
وَجْهَهُ.
وَمُثْلَةُ الشَّعْرِ: حَلْقُهُ مِنَ الْخُدُودِ، وَقِيل نَتْفُهُ أَوْ
تَغْيِيرُهُ بِالسَّوَادِ (1) ، وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ مَثَل بِالشَّعْرِ
فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَلاَقٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (2) .
فَالْمُثْلَةُ أَعَمُّ مِنَ الْجَدَعِ فِي الْمَعْنَى.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْجَدْعَاءَ لاَ تُجْزِئُ فِي
الأُْضْحِيَّةِ (3) .
وَفِي الْجِنَايَاتِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَطْعَ الأَْنْفِ،
وَالأُْذُنِ، وَالْيَدِ، وَالشَّفَةِ، إِنْ كَانَ عَمْدًا فَفِيهِ
الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَفِيهِ الدِّيَةُ. وَهِيَ تَخْتَلِفُ:
فَفِي الْيَدَيْنِ وَالأُْذُنَيْنِ، وَالشَّفَتَيْنِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ،
وَفِي الْوَاحِدِ مِنْهَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الأَْنْفِ دِيَةٌ
كَامِلَةٌ (4) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ فِي
__________
(1) المغرب للمطرزي ولسان العرب المحيط، ومتن اللغة، ومختار الصحاح،
والمصباح المنير مادة: " مثل ".
(2) حديث: " من مثل بالشعر فليس له عند الله خلاق يوم القيامة ". أورده
الهيثمي في مجمع الزوائد (8 / 121 ط القدسي) من حديث عبد الله بن عباس
وقال: " رواه الطبراني وفيه حجاج بن نصير، وقد ضعفه الجمهور، ووثقة ابن
حبان وقال: يخطئ، وبقية رجاله ثقات ".
(3) ابن عابدين 5 / 206، وشرح الزرقاني 3 / 34، 37، وروضة الطالبين 3 /
183، 195، 196، والمغني 8 / 623، 625، 626.
(4) ابن عابدين 5 / 353، 319، 370، والهداية 4 / 165، 167 ط مصطفى البابي
الحلبي، والاختيار 5 / 30 وما بعدها، و 36 وما بعدها ط دار المعرفة،
والقوانين الفقهية / 356، ونهاية المحتاج 7 / 309، 325، 326، 330 ط مصطفى
البابي، والمغني 7 / 711، 712، 723، و 8 / 1.
(15/124)
مُصْطَلَحَاتِ: " أُضْحِيَّةٌ، وَقِصَاصٌ،
وَدِيَةٌ، وَمُثْلَةٌ ".
التَّمْثِيل بِالأَْسْرَى وَالْمُحَارِبِينَ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَحْرِيمِ التَّمْثِيل
بِالأَْسْرَى، بَل يُكْتَفَى بِقَتْلِهِ الْمُعْتَادِ بِضَرْبِهِ
بِالسَّيْفِ، أَوْ طَعْنِهِ بِخِنْجَرٍ، أَوْ قَذِيفَةٍ أَوْ نَحْوِ
ذَلِكَ، وَلاَ يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ بِقَطْعِ بَعْضِ أَطْرَافِهِ وَجَدْعِ
أَنْفِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ النُّهْبَى وَالْمُثْلَةِ (1) ، وَقَال:
إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِْحْسَانَ عَلَى كُل شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ
فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ (2) .
وَلأَِنَّ ذَلِكَ تَعْذِيبٌ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ. وَقَال
الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلاَ خِلاَفَ فِي تَحْرِيمِ الْمُثْلَةِ.
وَأَمَّا الْمُثْلَةُ الْمَرْوِيَّةُ فِي حَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ فَهِيَ
مَنْسُوخَةٌ فَضْلاً عَنْ أَنَّهَا كَانَتْ قِصَاصًا وَمُعَامَلَةً
بِالْمِثْل.
وَهَذَا بَعْدَ الظَّفَرِ وَالنَّصْرِ، وَأَمَّا قَبْلَهُ أَيْ فِي
__________
(1) حديث: " نهى عن النهبى والمثلة ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 119 - ط
السلفية) من حديث عبد الله بن يزيد الأنصاري.
(2) حديث: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا. . . " أخرجه مسلم (3 /
1548 - ط الحلبي) من حديث شداد بن أوس.
(15/125)
أَثْنَاءِ الْمَعْرَكَةِ فَلاَ بَأْسَ
بِقَطْعِ الأَْطْرَافِ أَوِ الأَْعْضَاءِ، إِذَا وَقَعَ قِتَالاً
كَمُبَارِزٍ ضَرَبَهُ فَقَطَعَ أُذُنَهُ، ثُمَّ ضَرَبَهُ فَفَقَأَ
عَيْنَهُ، ثُمَّ ضَرَبَهُ فَقَطَعَ يَدَهُ وَأَنْفَهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ (1)
. قَال اللَّهُ تَعَالَى {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَْعْنَاقِ وَاضْرِبُوا
مِنْهُمْ كُل بَنَانٍ} (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ الْمُثْلَةِ لِمَصْلَحَةٍ عَلَى
سَبِيل الْمُعَامَلَةِ بِالْمِثْل أَوْ لِكَبْتِ الْعَدُوِّ (3) .
جَدْعَاءُ
انْظُرْ: جَدْعٌ
جَدَكَ
انْظُرْ: كَدَكِّ.
__________
(1) فتح القدير 4 / 290 ط بولاق، وابن عابدين 3 / 224 ط بولاق، والبدائع 7
/ 120، وجواهر الإكليل 1 / 254 ط دار المعرفة، وبداية المجتهد 1 / 395
مكتبة الكليات الأزهرية، والمهذب 2 / 237، وروضة الطالبين 5 / 56، والمغني
8 / 494، والفروع 6 / 218 ط عالم الكتب، ونيل الأوطار 7 / 249.
(2) سورة الأنفال / 12.
(3) فتح القدير 4 / 290، والمغني 8 / 494.
(15/125)
جَدَلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَدَل لُغَةً: مُقَابَلَةُ الْحُجَّةِ بِالْحُجَّةِ،
وَالْمُجَادَلَةُ: الْمُنَاظَرَةُ وَالْمُخَاصَمَةُ
وَلاَ يَخْرُجُ الْجَدَل اصْطِلاَحًا عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمُنَاظَرَةُ:
2 - الْمُنَاظَرَةُ هِيَ تَرْدَادُ الْكَلاَمِ بَيْنَ شَخْصَيْنِ يَقْصِدُ
كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَصْحِيحَ قَوْلِهِ وَإِبْطَال قَوْل صَاحِبِهِ مَعَ
رَغْبَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي ظُهُورِ الْحَقِّ.
الْمُنَاقَشَةُ:
3 - الْمُنَاقَشَةُ هِيَ مُرَاجَعَةُ الْكَلاَمِ بِقَصْدِ الْوُصُول إِلَى
الْحَقِّ غَالِبًا (2) . وَكُلُّهَا أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ إِلاَّ أَنَّ
الْمُنَاقَشَةَ أَخَصُّ غَالِبًا.
الْمِرَاءُ:
4 - الْمِرَاءُ وَالْمُمَارَاةُ: الْجِدَال، وَهُوَ مَصْدَرُ مَارَى
__________
(1) لسان العرب والنهاية لابن الأثير مادة: (جدل)
.
(2) لسان العرب.
(15/126)
يُمَارِي، أَيْ جَادَل، وَيُقَال أَيْضًا
مَارَيْتُهُ إِذَا طَعَنْتُ فِي قَوْلِهِ تَزْيِيفًا لِلْقَوْل،
وَتَصْغِيرًا لِلْقَائِلِ، قَال الْفَيُّومِيُّ: وَلاَ يَكُونُ الْمِرَاءُ
إِلاَّ اعْتِرَاضًا بِخِلاَفِ الْجِدَال فَإِنَّهُ يَكُونُ ابْتِدَاءً
وَاعْتِرَاضًا (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْجَدَل:
الْجَدَل قِسْمَانِ: مَمْدُوحٌ وَمَذْمُومٌ.
أ - الْجَدَل الْمَمْدُوحُ:
5 - يَكُونُ الْجَدَل مَمْدُوحًا شَرْعًا إِذَا قُصِدَ بِهِ تَأْيِيدُ
الْحَقِّ، أَوْ إِبْطَال الْبَاطِل، أَوْ أَفْضَى إِلَى ذَلِكَ بِطَرِيقٍ
صَحِيحٍ.
وَقَدْ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ إِذَا تَعَيَّنَ عَلَى شَخْصٍ مَا الدِّفَاعُ
عَنِ الْحَقِّ.
وَقَدْ يَكُونُ فَرْضَ كِفَايَةٍ بِأَنْ يَكُونَ فِي الأُْمَّةِ مَنْ
يُدَافِعُ عَنِ الْحَقِّ بِالأُْسْلُوبِ السَّلِيمِ، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ
قَوْله تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) وقَوْله
تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيل رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ
الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) .
وَالْمُجَادَلَةُ بِالْحَقِّ مِنْ سُنَنِ الأَْنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ الأُْمَمِ عِنْدَ الدَّعْوَةِ؛ لأَِنَّهُ
لَوْ
__________
(1) المصباح المنير ودليل الفالحين 3 / 80.
(2) سورة آل عمران / 104.
(3) سورة النحل / 125.
(15/126)
قَابَلَهُمُ الأَْنْبِيَاءُ بِغِلْظَةٍ
لَنَفَرَتْ طِبَاعُهُمْ وَانْصَرَفَتْ عُقُولُهُمْ عَنِ التَّدَبُّرِ لِمَا
قَالُوا، وَالتَّدَبُّرِ لِمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ، فَلَمْ
تَتَّضِحْ لَهُمُ الْمَحَجَّةُ وَلَمْ يُقِمْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ (1) .
ب - الْجَدَل الْمَذْمُومُ:
6 - الْجَدَل الْمَذْمُومُ هُوَ كُل جَدَلٍ بِالْبَاطِل، أَوْ يَسْتَهْدِفُ
الْبَاطِل، أَوْ يُفْضِي إِلَيْهِ، أَوْ كَانَ الْقَصْدُ مِنْهُ
التَّعَالِيَ عَلَى الْخَصْمِ وَالْغَلَبَةِ عَلَيْهِ، فَهَذَا مَمْنُوعٌ
شَرْعًا، وَيَتَأَكَّدُ تَحْرِيمُهُ إِذَا قَلَبَ الْبَاطِل حَقًّا، أَوِ
الْحَقَّ بَاطِلاً.
وَقَدْ يَكُونُ الْجَدَل مَكْرُوهًا إِذَا كَانَ الْقَصْدُ مِنْهُ
مُجَرَّدَ الظُّهُورِ وَالْغَلَبَةِ فِي الْخُصُومَةِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالنُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ الآْمِرَةُ بِالْجَدَل
مَحْمُولَةٌ عَلَى النَّوْعِ الأَْوَّل كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) . وَأَمَّا النُّصُوصُ
الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي ذَمَّتِ الْجَدَل فَمَحْمُولَةٌ عَلَى النَّوْعِ
الثَّانِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُجَادِل الَّذِينَ كَفَرُوا
بِالْبَاطِل لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} (3) وقَوْله تَعَالَى
__________
(1) استخراج الجدال من القرآن لناصح الدين ابن الحنبلي ص 52 - 53، والسيرة
النبوية لابن كثير 3 / 120، 202، 319، 320، والرد على المنطقيين ص 467 -
468، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2 / 120 - 123، ودرء تعارض
العقل والنقل 1 / 357.
(2) سورة النحل / 125.
(3) سورة الكهف / 56.
(15/127)
: {مَا يُجَادِل فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلاَدِ} (1) -
فَلاَ تَعَارُضَ بَيْنَ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي النَّهْيِ عَنِ
الْجَدَل، وَالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الأَْمْرِ بِهِ، لأَِنَّنَا
نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ الْجَدَل الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ غَيْرُ
الْجَدَل الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، فَتُحْمَل نُصُوصُ النَّهْيِ عَلَى
الْجِدَال بِالْبَاطِل وَنُصُوصُ الأَْمْرِ بِهِ عَلَى الْجِدَال
بِالْحَقِّ (2) .
أَهَمِّيَّةُ الْجِدَال بِالْحَقِّ:
7 - الْجِدَال بِالْحَقِّ لإِِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى أَهْل الإِْلْحَادِ
وَالْبِدَعِ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيل اللَّهِ كَمَا رُوِيَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: جَاهِدُوا
الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ (3)
وَإِنَّمَا يَكُونُ الْجِهَادُ بِاللِّسَانِ بِتِبْيَانِ الْحَقِّ
بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ لاَ بِالشَّغَبِ وَالْهَذَيَانِ وَالسَّبِّ
وَالشَّتْمِ، وَالْقُرْآنُ أَبْلَغُ فِي حُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ،
وَلِهَذَا أُمِرَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يُجَاهِدَ الْكُفَّارَ بِالْقُرْآنِ، قَال تَعَالَى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ
جِهَادًا كَبِيرًا} (4) .
__________
(1) سورة غافر / 4.
(2) جامع بيان العلم وفضله 2 / 113، والأحكام في أصول الأحكام لابن جزم 1 /
25.
(3) حديث: " جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم ". أخرجه أبو داود
(3 / 22 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (2 / 81 - ط دائرة المعارف
العثمانية) من حديث أنس بن مالك، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) سورة الفرقان / 52.
(15/127)
وَالْجِدَال بِالْحَقِّ مِنَ النَّصِيحَةِ
فِي الدِّينِ، وَفِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلُهُمْ لَهُ:
{يَا نُوحُ قَدْ جَادَلَتْنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} (1) فَكَانَ
جَوَابُهُ لَهُمْ قَوْلَهُ: {وَلاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ
أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} (2) .
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ فِي قِصَّةِ وَفْدِ نَصَارَى نَجْرَانَ وَمَا
اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ فَوَائِدَ مَا نَصُّهُ:
وَمِنْهَا: جَوَازُ مُجَادَلَةِ أَهْل الْكِتَابِ وَمُنَاظَرَتِهِمْ، بَل
اسْتِحْبَابُ ذَلِكَ، بَل وُجُوبُهُ إِذَا ظَهَرَتْ مَصْلَحَتُهُ مِنْ
إِسْلاَمِ مَنْ يُرْجَى إِسْلاَمُهُ مِنْهُمْ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ
عَلَيْهِمْ، وَلاَ يَهْرُبُ مِنْ مُجَادَلَتِهِمْ إِلاَّ عَاجِزٌ عَنْ
إِقَامَةِ الْحُجَّةِ، فَلْيُؤَدِّ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِهِ (أَيِ
الْقَادِرِينَ عَلَيْهِ) .
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {مَا يُجَادِل
فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (3) ، أَيْ مَا يُخَاصِمُ
فِي دَفْعِ آيَاتِ اللَّهِ وَتَكْذِيبِهَا إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا،
وَالْمُرَادُ: الْجِدَال بِالْبَاطِل، وَالْقَصْدُ إِلَى دَحْضِ الْحَقِّ،
فَأَمَّا الْجِدَال لاِسْتِيضَاحِ الْحَقِّ، وَرَفْعِ اللَّبْسِ،
وَتَمْيِيزِ الرَّاجِحِ مِنَ الْمَرْجُوحِ، وَدَفْعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ
الْمُبْطِلُونَ، فَهُوَ
__________
(1) سورة هود / 32.
(2) سورة هود / 34.
(3) سورة غافر / 4.
(15/128)
مِنْ أَعْظَمِ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ
الْمُتَقَرِّبُونَ (1) ، وَبِذَلِكَ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ عَلَى
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَقَال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ
تَكْتُمُونَهُ} (2) .
__________
(1) زاد المعاد 3 / 42، وفتح القدير للشوكاني 3 / 42.
(2) سورة آل عمران / 187.
(15/128)
جُذَامٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجُذَامُ: عِلَّةٌ تَتَآكَل مِنْهَا الأَْعْضَاءُ وَتَتَسَاقَطُ (1)
.
وَلاَ يَخْرُجُ الاِسْتِعْمَال الْفِقْهِيُّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (2)
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْقُهُسْتَانِيِّ أَنَّهُ دَاءٌ
يَتَشَقَّقُ بِهِ الْجِلْدُ وَيَنْتُنُ وَيَقْطَعُ اللَّحْمَ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْبَرَصُ:
2 - الْبَرَصُ: بَيَاضٌ فِي ظَاهِرِ الْجِلْدِ لِعِلَّةٍ، يُبَقِّعُ
الْجِلْدَ (4) .
__________
(1) المعجم الوسيط ولسان العرب والمغرب للمطرزي مادة: " جذم ".
(2) الفتاوى الهندية 3 / 68، ونهاية المحتاج 6 / 303 ط الحلبي.
(3) ابن عابدين 2 / 597.
(4) حاشية ابن عابدين 2 / 597، ونهاية المحتاج 6 / 303، والموسوعة الفقهية
مصطلح: (برص) ج 8 ص 76.
(15/129)
الْبَهَقُ:
3 - الْبَهَقُ: فِي اللُّغَةِ بَيَاضٌ دُونَ الْبَرَصِ يَعْتَرِي الْجَسَدَ
بِخِلاَفِ لَوْنِهِ
وَاصْطِلاَحًا تَغَيُّرٌ فِي لَوْنِ الْجِلْدِ، وَالشَّعْرُ النَّابِتُ
عَلَيْهِ أَسْوَدُ، بِخِلاَفِ النَّابِتِ عَلَى الْبَرَصِ فَإِنَّهُ
أَبْيَضُ (1) .
فَالْجُذَامُ وَالْبَرَصُ وَالْبُهَاقُ عِلَلٌ فِي الْجِلْدِ
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجُذَامِ:
التَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِسَبَبِ الْجُذَامِ:
4 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ثُبُوتَ
خِيَارِ الْفَسْخِ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا وَجَدَ
بِصَاحِبِهِ الْجُذَامَ، لأَِنَّهُ يُثِيرُ نَفْرَةً فِي النَّفْسِ
تَمْنَعُ قُرْبَانَهُ وَيُخْشَى تَعَدِّيهِ إِلَى النَّفْسِ وَالنَّسْل
فَيَمْنَعُ الاِسْتِمْتَاعَ.
وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لِثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلزَّوْجَيْنِ
بِعَيْبِ الْجُذَامِ كَوْنَهُ مُحَقَّقًا وَلَوْ قَل، أَمَّا الْجُذَامُ
الْمَشْكُوكُ فِيهِ فَلاَ يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ عِنْدَهُمْ (2) .
وَحَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ - مِنَ الشَّافِعِيَّةِ - عَنْ
__________
(1) المعجم الوسيط، والمصباح المنير، والمغرب مادة: " بهق "، وانظر
الزرقاني 3 / 236، وحاشية الدسوقي 2 / 277 ط دار الفكر.
(2) الفواكه الدواني 2 / 66، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 83، 85 نشر
دار المعرفة والشرح الصغير 2 / 469، وروضة الطالبين 7 / 176، والمغني لابن
قدامة 6 / 650 - 651 ط الرياض، وكشاف القناع 5 / 109.
(15/129)
شَيْخِهِ أَنَّ أَوَائِل الْجُذَامِ لاَ
تُثْبِتُ الْخِيَارَ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ إِذَا اسْتَحْكَمَ، وَأَنَّ
اسْتِحْكَامَ الْجُذَامِ إِنَّمَا يَحْصُل بِالتَّقَطُّعِ.
وَتَرَدَّدَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي هَذَا وَقَال: يَجُوزُ أَنْ
يُكْتَفَى بِاسْوِدَادِ الْعُضْوِ، وَحُكْمِ أَهْل الْمَعْرِفَةِ
بِاسْتِحْكَامِ الْعِلَّةِ (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ
مِنَ الزَّوْجَيْنِ خِيَارُ فَسْخِ النِّكَاحِ بِجُذَامِ الآْخَرِ،
وَبِهَذَا قَال عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَأَبُو زِيَادٍ وَأَبُو قِلاَبَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى
وَالأَْوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْخَطَّابِيُّ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لاَ خِيَارَ لِلزَّوْجِ بِعَيْبِ
الْجُذَامِ فِي الْمَرْأَةِ، وَلَهَا هِيَ الْخِيَارُ بِعَيْبِ الْجُذَامِ
فِي الزَّوْجِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا، كَمَا فِي الْجَبِّ
وَالْعُنَّةِ، بِخِلاَفِ جَانِبِ الزَّوْجِ لأَِنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ
دَفْعِ الضَّرَرِ بِالطَّلاَقِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: طَلاَقٌ، عَيْبٌ، فَسْخٌ، نِكَاحٌ) .
اخْتِلاَطُ الْمَجْذُومِ بِالنَّاسِ:
5 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
مَنْعِ
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 176.
(2) ابن عابدين 2 / 597، وفتح القدير 3 / 267، 268 ط الأميرية.
(15/130)
مَجْذُومٍ يُتَأَذَّى بِهِ مِنْ
مُخَالَطَةِ الأَْصِحَّاءِ وَالاِجْتِمَاعِ بِالنَّاسِ لِحَدِيثِ فِرَّ
مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَْسَدِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَحِل لِمَجْذُومٍ مُخَالَطَةُ صَحِيحٍ إِلاَّ
بِإِذْنِهِ. فَإِذَا أَذِنَ الصَّحِيحُ لِمَجْذُومٍ بِمُخَالَطَتِهِ جَازَ
لَهُ ذَلِكَ (2) . لِحَدِيثِ لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ (3) .
وَلَمْ نَرَ لِلْحَنَفِيَّةِ نَصًّا فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَإِذَا كَثُرَ عَدَدُ الْجَذْمَى فَقَال الأَْكْثَرُونَ: يُؤْمَرُونَ أَنْ
يَنْفَرِدُوا فِي مَوَاضِعَ عَنِ النَّاسِ: وَلاَ يُمْنَعُونَ مِنَ
التَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِهِمْ.
وَقِيل: لاَ يَلْزَمُ الاِنْفِرَادُ (4) .
وَلَوِ اسْتَضَرَّ أَهْل قَرْيَةٍ فِيهِمْ جَذْمَى بِمُخَالَطَتِهِمْ فِي
الْمَاءِ فَإِنْ قَدَرُوا عَلَى اسْتِنْبَاطِ مَاءٍ بِلاَ ضَرَرٍ أُمِرُوا
بِهِ وَإِلاَّ اسْتَنْبَطَهُ لَهُمُ الآْخَرُونَ، أَوْ أَقَامُوا مَنْ
يَسْتَقِي لَهُمْ وَإِلاَّ فَلاَ يُمْنَعُونَ (5) .
__________
(1) حديث: " فر من المجذوم فرارك من الأسد ". أخرجه البخاري (الفتح 10 /
158 ط السلفية) ، وأحمد (2 / 443 - ط الميمنية) من حديث أبي هريرة، واللفظ
لأحمد.
(2) الشرح الصغير 1 / 445، وحاشية الدسوقي 1 / 333 ط دار الفكر، ونهاية
المحتاج 2 / 155 ط الحلبي، ومطالب أولي النهى 1 / 699 نشر المكتب الإسلامي،
وكشاف القناع 1 / 497، 498 نشر مكتبة النصر الحدثية.
(3) حديث: " لا عدوى ولا طيرة " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 158 - ط
السلفية) . من حديث أبي هريرة.
(4) الأبي على صحيح مسلم 6 / 49، وصحيح مسلم بشرح النووي 14 / 228.
(5) صحيح مسلم بشرح النووي 14 / 228.
(15/130)
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الآْثَارُ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُخَالَطَةِ
الْمَجْذُومِ الأَْصِحَّاءَ، فَجَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِرَّ مِنَ
الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَْسَدِ (1) وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ
حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ الثَّقَفِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَال: كَانَ
فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ فَأَرْسَل إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ (2) .
وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كَلِّمِ الْمَجْذُومَ
وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَيْدُ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ (3) .
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُ فِي
الْقَصْعَةِ ثُمَّ قَال: كُل بِاسْمِ اللَّهِ ثِقَةً بِاللَّهِ
وَتَوَكُّلاً عَلَى اللَّهِ (4) .
__________
(1) حديث: " فر من المجذوم كما تفر من الأسد ". أخرجه البخاري (الفتح 10 /
158 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " إنا قد بايعناك فارجع ". أخرجه مسلم (4 / 1752 - ط الحلبي) من
حديث عمرو بن الشريد الثقفي.
(3) حديث: " كلم المجذوم وبينك وبينه قيد رمح أو رمحين ". قال ابن حجر في
الفتح (10 / 159 - ط السلفية) : " أخرجه أبو نعيم في الطيب بسنده واه ".
وهو من حديث عبد الله بن أبي أوفى.
(4) حديث: " كل باسم الله ثقة بالله وتوكلا على الله ". أخرجه الترمذي (4 /
266 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله، وقال: " هذا حديث غريب ". وأعله
ابن الجوزي في العلل (2 / 869 - ط دار الكتب العلمية) براوية المفضل بن
فضالة، وقال ابن عدي في الكامل (6 / 2404 - ط دار الفكر) : " لم أر له أنكر
من هذا ".
(15/131)
6 - وَقَدْ أَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنِ
الاِخْتِلاَفِ فِي تِلْكَ الآْثَارِ بِطُرُقٍ مِنْهَا:
التَّرْجِيحُ، وَقَدْ سَلَكَهُ فَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: سَلَكَ تَرْجِيحَ الأَْخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى نَفْيِ
الْعَدْوَى وَتَضْعِيفِ الأَْخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ.
وَالْفَرِيقُ الثَّانِي: سَلَكُوا فِي التَّرْجِيحِ عَكْسَ هَذَا
الْمَسْلَكِ، وَقَالُوا: إِنَّ الأَْخْبَارَ الدَّالَّةَ عَلَى
الاِجْتِنَابِ أَكْثَرُ مَخَارِجَ وَأَكْثَرُ طُرُقًا فَالْمَصِيرُ
إِلَيْهَا أَوْلَى.
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّ طَرِيقَ التَّرْجِيحِ لاَ يُصَارُ إِلَيْهَا
إِلاَّ مَعَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ. وَهُوَ مُمْكِنٌ فَهُوَ أَوْلَى.
7 - وَفِي طَرِيقِ الْجَمْعِ مَسَالِكُ أَهَمُّهَا:
1 - نَفْيُ الْعَدْوَى جُمْلَةً وَحَمْل الأَْمْرِ بِالْفِرَارِ مِنَ
الْمَجْذُومِ عَلَى رِعَايَةِ خَاطِرِ الْمَجْذُومِ؛ لأَِنَّهُ إِذَا رَأَى
الصَّحِيحَ الْبَدَنِ السَّلِيمَ مِنَ الآْفَةِ، تَعْظُمُ مُصِيبَتُهُ
وَتَزْدَادُ حَسْرَتُهُ.
2 - إِثْبَاتُ الْعَدْوَى فِي الْجُذَامِ وَنَحْوِهِ مَخْصُوصٌ مِنْ
عُمُومِ نَفْيِ الْعَدْوَى، فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: لاَ عَدْوَى أَيْ
إِلاَّ مِنَ الْجُذَامِ مَثَلاً.
بِهَذَا قَال الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ وَقَدْ حَكَى
ذَلِكَ ابْنُ بَطَّالٍ أَيْضًا.
3 - إِنَّ الأَْمْرَ بِالْفِرَارِ مِنَ الْمَجْذُومِ لَيْسَ مِنْ بَابِ
الْعَدْوَى فِي شَيْءٍ، بَل هُوَ لأَِمْرٍ طَبِيعِيٍّ وَهُوَ انْتِقَال
الدَّاءِ مِنْ جَسَدٍ لِجَسَدٍ بِوَاسِطَةِ الْمُلاَمَسَةِ
وَالْمُخَالَطَةِ وَشَمِّ الرَّائِحَةِ، وَلِذَلِكَ يَقَعُ فِي كَثِيرٍ
مِنَ
(15/131)
الأَْمْرَاضِ فِي الْعَادَةِ انْتِقَال
الدَّاءِ مِنَ الْمَرِيضِ إِلَى الصَّحِيحِ بِكَثْرَةِ الْمُخَالَطَةِ.
4 - إِنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الْعَدْوَى أَنَّ شَيْئًا لاَ يُعْدِي
بِطَبْعِهِ، نَفْيًا لِمَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَعْتَقِدُهُ أَنَّ
الأَْمْرَاضَ تُعْدِي بِطَبْعِهَا مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ إِلَى اللَّهِ
تَعَالَى، فَأَبْطَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اعْتِقَادَهُمْ ذَلِكَ، وَأَكَل مَعَ الْمَجْذُومِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ
أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُمْرِضُ وَيَشْفِي، وَنَهَاهُمْ عَنِ
الدُّنُوِّ مِنْهُ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ هَذَا مِنَ الأَْسْبَابِ
الَّتِي أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِأَنَّهَا تُفْضِي إِلَى
مُسَبَّبَاتِهَا، فَفِي نَهْيِهِ إِثْبَاتُ الأَْسْبَابِ، وَفِي فِعْلِهِ
إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا لاَ تَسْتَقِل، بَل اللَّهُ هُوَ الَّذِي إِنْ
شَاءَ سَلَبَهَا قُوَاهَا فَلاَ تُؤَثِّرُ شَيْئًا، وَإِنْ شَاءَ
أَبْقَاهَا فَأَثَّرَتْ. وَعَلَى هَذَا جَرَى أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ.
وَيُحْتَمَل أَيْضًا أَنْ يَكُونَ أَكْلُهُ مَعَ الْمَجْذُومِ أَنَّهُ
كَانَ بِهِ أَمْرٌ يَسِيرٌ لاَ يُعْدِي مِثْلُهُ فِي الْعَادَةِ، إِذْ
لَيْسَ الْجَذْمَى كُلُّهُمْ سَوَاءً وَلاَ تَحْصُل الْعَدْوَى مِنْ
جَمِيعِهِمْ.
5 - الْعَمَل بِنَفْيِ الْعَدْوَى أَصْلاً وَرَأْسًا وَحَمْل الأَْمْرِ
بِالْمُجَانَبَةِ عَلَى حَسْمِ الْمَادَّةِ، وَسَدِّ الذَّرِيعَةِ لِئَلاَّ
يَحْدُثَ لِلْمُخَالِطِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَيَظُنَّ أَنَّهُ بِسَبَبِ
الْمُخَالَطَةِ فَيُثْبِتَ الْعَدْوَى الَّتِي نَفَاهَا الشَّارِعُ (1) .
__________
(1) فتح الباري 10 / 158 - 161، وانظر عمدة القاري 21 / 247، وصحيح مسلم
بشرح النووي 14 / 228، والأبي على صحيح مسلم 6 / 48 - 49.
(15/132)
إِمَامَةُ الْمَجْذُومِ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ الصَّلاَةِ خَلْفَ الْمَجْذُومِ
(1) .
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ إِمَامَةَ مَنْ قَامَ بِهِ دَاءُ الْجُذَامِ،
إِلاَّ أَنْ يَشْتَدَّ جُذَامُهُ بِحَيْثُ يَضُرُّ بِالنَّاسِ فَيُنَحَّى
وُجُوبًا عَنِ الإِْمَامَةِ وَكَذَا عَنِ الْجَمَاعَةِ، فَإِنْ أَبَى
أُجْبِرَ عَلَى التَّنَحِّي (2) .
هَذَا وَلَمْ نَجِدْ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصًّا صَرِيحًا عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلاَّ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِمَنْعِ
مَجْذُومٍ يُتَأَذَّى بِهِ مِنْ حُضُورِ مَسْجِدٍ وَجَمَاعَةٍ (3) .
مُصَافَحَةُ الْمَجْذُومِ:
9 - تُكْرَهُ مُصَافَحَةُ وَتَقْبِيل وَمُعَانَقَةُ مَنْ بِهِ دَاءُ
الْجُذَامِ.
بِهَذَا قَال الشَّافِعِيَّةُ (4) .
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 166 ط دار الإيمان، وحاشية ابن
عابدين 1 / 378.
(2) الشرح الصغير 1 / 445، والدسوقي 1 / 133 ط دار الفكر.
(3) حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 2 / 276 ط دار صادر، ومطالب أولي
النهى 1 / 699.
(4) قليوبي وعميرة 3 / 213، وأسنى المطالب 3 / 114.
(15/132)
جَذَعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَذَعُ بِفَتْحَتَيْنِ: هُوَ مِنْ بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ مَا قَبْل
الثَّنِيِّ. قَال فِي الْقَامُوسِ: الْجَذَعُ اسْمٌ لَهُ فِي زَمَنٍ
وَلَيْسَ بِسِنٍّ تَنْبُتُ أَوْ تَسْقُطُ، وَالْجَمْعُ جُذْعَانٌ
وَجِذَاعٌ، وَالأُْنْثَى جَذَعَةٌ، وَالْجَمْعُ جَذَعَاتٌ. وَأَجْذَعَ
وَلَدُ الشَّاةِ أَيْ صَارَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَأَجْذَعَ وَلَدُ
الْبَقَرَةِ وَذِي الْحَافِرِ صَارَ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ،
وَأَجْذَعَ وَلَدُ النَّاقَةِ أَيْ صَارَ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ.
وَالْجَذْعَمَةُ: بِمَعْنَى الصَّغِيرِ، وَمِنْهُ قَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: " أَسْلَمَ وَاللَّهِ أَبُو بَكْرٍ وَأَنَا جَذْعَمَةٌ
وَأَصْلُهُ جَذَعَةٌ، وَالْمِيمُ زَائِدَةٌ (1) .
وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَاخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي الْجَذَعِ
عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - الْجَذَعُ مِنَ الإِْبِل:
2 - الْجَذَعُ مِنَ الإِْبِل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ،
وَالْحَنَابِلَةِ هُوَ مَا أَكْمَل أَرْبَعَ سِنِينَ، وَدَخَل فِي
__________
(1) مختار الصحاح مادة: (جذع) .
(15/133)
الْخَامِسَةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
هُوَ مَا كَانَ ابْنَ خَمْسِ سِنِينَ وَطَعَنَ فِي السَّادِسَةِ (1) .
ب - الْجَذَعُ مِنَ الْبَقَرِ:
3 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ
الْمَذْهَبِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّ
الْجَذَعَ مِنَ الْبَقَرِ هُوَ مَا اسْتَكْمَل سَنَةً وَطَعَنَ فِي
الثَّانِيَةِ.
وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ: الْجَذَعُ مَا كَانَ لَهُ سَنَتَانِ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْجَذَعَ مِنَ الْبَقَرِ
مَا لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ (2) .
ج - الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعِزِ:
4 - اخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي الْمُرَادِ بِالْجَذَعِ مِنَ
الضَّأْنِ، فَصَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ فَسَّرَهُ بِأَنَّ
الْجَذَعَ مِنَ الضَّأْنِ مَا لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَفِي شَرْحِ
الْمُنْتَقَى وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ: الْجَذَعُ مَا أَتَى
عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْحَوْل، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الأَْكْثَرِ:
فَفِي الْمُحِيطِ: مَا دَخَل فِي الشَّهْرِ الثَّامِنِ.
وَفِي الْخِزَانَةِ: مَا أَتَى عَلَيْهِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَشَيْءٌ.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 204، والاختيار لتعليل المختار 1 / 106، والقوانين
الفقهية / 193، وروضة الطالبين 2 / 152، وكشاف القناع 2 / 185، والمغني 8 /
623.
(2) ابن عابدين 5 / 204، والاختيار لتعليل المختار 1 / 107، والقوانين
الفقهية / 193، وروضة الطالبين 2 / 152، والمغني 8 / 623، وكشاف القناع 2 /
185.
(15/133)
وَذَكَرَ الزَّعْفَرَانِيُّ: أَنَّهُ ابْنُ
سَبْعَةِ أَشْهُرٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ ثَمَانِيَةٌ، أَوْ تِسْعَةٌ، وَمَا
دُونَهُ حَمَلٌ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْجَذَعَ مِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعِزِ هُوَ
ابْنُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَقِيل ثَمَانِيَةٌ، وَقِيل عَشْرَةٌ (2) .
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّ
الْجَذَعَ مَا دَخَل فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ آخَرَانِ:
الْوَجْهُ الأَْوَّل: الْجَذَعَةُ مَا لَهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِذَا بَلَغَ الضَّأْنُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَهُوَ
مِنْ شَابَّيْنِ فَهُوَ جَذَعٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ هَرِمَيْنِ فَلاَ
يُسَمَّى جَذَعًا حَتَّى يَبْلُغَ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ (3) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْجَذَعَ مِنَ الضَّأْنِ مَا لَهُ سِتَّةُ
أَشْهُرٍ، وَدَخَل فِي السَّابِعَةِ، وَقَال وَكِيعٌ: الْجَذَعُ مِنَ
الضَّأْنِ يَكُونُ ابْنَ سَبْعَةِ أَوْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الثَّنِيُّ:
5 - الثَّنِيُّ فِي اللُّغَةِ الَّذِي يُلْقِي ثَنِيَّتَهُ وَيَكُونُ
ذَلِكَ فِي الظِّلْفِ (الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ) وَالْحَافِرِ (الْخَيْل
وَالْبِغَال وَالْحَمِيرِ) فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ، وَفِي الْخُفِّ
(الإِْبِل) فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ (5) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 204 ط دار إحياء التراث العربي، والاختيار 1 / 108 ط
دار المعرفة.
(2) القوانين الفقهية / 193.
(3) روضة الطالبين 2 / 153.
(4) المغني 8 / 623.
(5) مختار الصحاح مادة: (ثني) .
(15/134)
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَاخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي الْمُرَادِ بِهِ (1) تَبَعًا لاِخْتِلاَفِ أَنْوَاعِ
الأَْنْعَامِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (ثَنِيٌّ) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ فِي
الأُْضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ إِلاَّ الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ وَالثَّنِيُّ
مِنْ غَيْرِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ اللَّيْثُ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو
ثَوْرٍ وَإِسْحَاقُ.
وَقَال ابْنُ عُمَرَ وَالزُّهْرِيُّ: لاَ يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنَ
الضَّأْنِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُجْزِئُ مِنْ غَيْرِ الضَّأْنِ، فَلاَ يُجْزِئُ
مِنْهُ كَالْحَمَل.
وَقَال عَطَاءٌ وَالأَْوْزَاعِيُّ: يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنْ جَمِيعِ
الأَْجْنَاسِ إِلاَّ الْمَعِزَ.
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنَ الْمَعِزِ
وَهُوَ شَاذٌّ (2) .
7 - وَأَمَّا فِي الزَّكَاةِ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنَ
الإِْبِل الْجَذَعَةُ فِي إِحْدَى وَسِتِّينَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ،
وَمِنَ الْبَقَرِ الْجَذَعُ أَوِ الْجَذَعَةُ فِي ثَلاَثِينَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 204، 2 / 19، والاختيار لتعليل المختار 1 / 108،
والقوانين الفقهية / 193، وروضة الطالبين 3 / 152، 2 / 193، والمغني 8 /
623 ط مكتبة الرياض الحدثية، وكشاف القناع 2 / 185.
(2) ابن عابدين 5 / 204، والاختيار 1 / 172، 173، والقوانين الفقهية / 193،
وروضة الطالبين 2 / 153، 154، 3 / 183، والمغني 3 / 552، 553.
(15/134)
إِلَى تِسْعٍ وَثَلاَثِينَ. وَاخْتَلَفُوا
فِي الْغَنَمِ. فَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ
رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ
وَلاَ يُجْزِئُ مِنَ الْمَعْزِ إِلاَّ الثَّنِيُّ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ
الْجَذَعُ فِي زَكَاةِ الشِّيَاهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُجْزِئُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الضَّأْنِ أَمْ
مِنَ الْمَعْزِ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي أَبْوَابِ: (الزَّكَاةُ،
وَالأُْضْحِيَّةُ، وَالْهَدْيُ) .
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 1 / 108، ومواهب الجليل 2 / 262، والقوانين
الفقهية / 112، 113، وروضة الطالبين 2 / 151، 152، 153، والمغني 2 / 575،
578، 605.
(15/135)
جِرَاحٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجِرَاحُ لُغَةً، جَمْعُ جُرْحٍ وَهُوَ مِنَ الْجَرْحِ - بِفَتْحِ
الْجِيمِ - وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ نَفَعَ. يُقَال: جَرَحَهُ يَجْرَحُهُ
جَرْحًا إِذَا أَثَّرَ فِيهِ بِالسِّلاَحِ
وَالْجُرْحُ - بِضَمِّ الْجِيمِ - الاِسْمُ، وَالْجَمْعُ جُرُوحٌ،
وَجِرَاحٌ، وَجَاءَ جَمْعُهُ عَلَى أَجْرَاحٍ، وَالْجِرَاحَةُ اسْمُ
الضَّرْبَةِ أَوِ الطَّعْنَةِ. وَيُقَال امْرَأَةٌ جَرِيحٌ وَرَجُلٌ
جَرِيحٌ، وَالاِسْتِجْرَاحُ: النُّقْصَانُ وَالْعَيْبُ وَالْفَسَادُ.
يُقَال اسْتَجْرَحَتِ الأَْحَادِيثُ أَيْ فَسَدَتْ وَجُرِّحَ رُوَاتُهَا،
وَيُقَال جَرَحَهُ بِلِسَانٍ جَرْحًا عَابَهُ وَتَنَقَّصَهُ، وَمِنْهُ
جَرَحَ الشَّاهِدَ إِذَا طَعَنَ فِيهِ وَرَدَّ قَوْلَهُ وَأَظْهَرَ فِيهِ
مَا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلْجِرَاحِ عَنْ مَعْنَاهَا
اللُّغَوِيِّ.
وَيُطْلِقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لَفْظَ الْجِرَاحِ عَلَى أَبْوَابِ
الْجِنَايَاتِ تَغْلِيبًا لأَِنَّهَا أَكْثَرُ طُرُقِ الزُّهُوقِ،
وَاسْتَعْمَل بَعْضُهُمْ لَفْظَ " الْجِنَايَاتِ " لأَِنَّهَا أَعَمُّ مِنَ
الْجِرَاحِ، فَهِيَ تَشْمَل الْقَتْل بِالسَّمِّ، أَوْ بِالْمُثَقَّل،
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: (جرح) .
(15/135)
أَوْ بِالْخَنْقِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ
مِنْ مَسَائِل الْقَتْل غَيْرِ الْجِرَاحِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الشِّجَاجُ:
2 - الشِّجَاجُ جَمْعُ شَجَّةٍ، وَهِيَ الْجُرْحُ يَكُونُ فِي الْوَجْهِ
وَالرَّأْسِ فِي الأَْصْل، وَلاَ يَكُونُ فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْجِسْمِ،
ثُمَّ اسْتُعْمِل فِي غَيْرِهَا مِنَ الأَْعْضَاءِ (2) .
وَاصْطِلاَحًا: يَسْتَعْمِل بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لَفْظَ " الشِّجَاجَ " فِي
جِرَاحِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ، وَأُطْلِقَ لَفْظُ " جِرَاحٍ " عَلَى مَا
كَانَ فِي غَيْرِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ.
وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَعْمَل الشِّجَاجَ وَالْجِرَاحَ اسْتِعْمَالاً
وَاحِدًا، فِي الْجِرَاحِ فِي جَمِيعِ الْجِسْمِ.
وَمَنْ فَرَّقَ فِي اسْتِعْمَال اللَّفْظِ اعْتَمَدَ عَلَى اللُّغَةِ لِمَا
ثَبَتَ مِنْ مُغَايَرَةِ الْعَرَبِ فِي الاِسْتِعْمَال بَيْنَهُمَا، كَمَا
اعْتَمَدَ عَلَى الْمَعْنَى، فَإِنَّ الأَْثَرَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى
شِجَاجِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ يَخْتَلِفُ عَنْ أَثَرِ الْجِرَاحِ فِي
سَائِرِ الْبَدَنِ.
وَذَلِكَ لِبَقَاءِ أَثَرِ الشِّجَاجِ غَالِبًا فَيَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ
الشَّيْنُ بِخِلاَفِ سَائِرِ الْبَدَنِ؛ لأَِنَّ الشَّيْنَ لاَ يَلْحَقُ
غَالِبًا إِلاَّ فِيمَا يَظْهَرُ كَالْوَجْهِ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 233.
(2) لسان العرب مادة: (شجج) .
(15/136)
وَالرَّأْسِ، أَمَّا سَائِرُ الْبَدَنِ
فَالْغَالِبُ فِيهِ أَنْ يُغَطَّى فَلاَ يَظْهَرُ فِيهِ الشَّيْنُ (1) .
وَقَال ابْنُ عَرَفَةَ - مِنَ الْمَالِكِيَّةِ - فِي بَيَانِ مُتَعَلَّقِ
الْجِنَايَةِ فِي غَيْرِ النَّفْسِ: إِنْ أَفَاتَتْ بَعْضَ الْجِسْمِ
فَقَطْعٌ، وَإِلاَّ فَإِنْ أَزَالَتْ اتِّصَال عَظْمٍ لَمْ يَبِنْ
فَكَسْرٌ، وَإِلاَّ فَإِنْ أَثَّرَتْ فِي الْجِسْمِ فَجَرْحٌ، وَإِلاَّ
فَإِتْلاَفُ مَنْفَعَةٍ (2) .
ب - الْفَصْدُ:
3 - الْفَصْدُ شَقُّ الْعِرْقِ وَقَطْعُهُ، يُقَال فَصَدَهُ يَفْصِدُهُ
فَصْدًا وَفِصَادًا فَهُوَ مَفْصُودٌ وَفَصِيدٌ. وَفَصْدُ النَّاقَةِ
عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ شَقُّ عِرْقِهَا لِيَسْتَخْرِجَ دَمَ
الْعِرْقِ فَيَشْرَبَهُ، وَسُمِّيَ " الْفَصِيدَ "
وَالْفَصْدُ أَخَصُّ مِنَ الْجِرَاحِ؛ لأَِنَّ الْفَصْدَ يَكُونُ فِي
الْعِرْقِ فَقَطْ، أَمَّا الْجِرَاحُ فَتَكُونُ فِي الْعِرْقِ وَغَيْرِهِ
(3) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - يَحْرُمُ إِحْدَاثُ جَرْحٍ فِي مَعْصُومِ الدَّمِ أَوْ مَالِهِ،
وَصَيْدِ الْحَرَمِ وَصَيْدِ الْبَرِّ عُمُومًا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْرِمِ
__________
(1) بدائع الصنائع 8 / 296 ط - الأولى - الجمالية مصر، والبحر الرائق 8 /
381 ط - الأولى - العالمية - مصر، وكشاف القناع 6 / 51 ط - الرياض مكتبة
النصر.
(2) الشرح الصغير 4 / 347.
(3) لسان العرب مادة: (فصد) .
(15/136)
بِغَيْرِ حَقٍّ كَالدِّفَاعِ عَنِ
النَّفْسِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْجِرَاحِ أَحْكَامٌ تَخْتَلِفُ
بِاخْتِلاَفِ مَوَاضِعِهَا.
تَطَهُّرُ الْجُرْحِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي
حَقِّ الْجَرِيحِ الَّذِي يَتَضَرَّرُ مِنْ غَسْل جِرَاحَتِهِ، أَنْ
يَمْسَحَ عَلَى عَيْنِ الْجِرَاحَةِ إِذَا كَانَ الْمَسْحُ عَلَيْهَا لاَ
يَضُرُّهُ، وَإِلاَّ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْجَبِيرَةِ.
وَخَوْفُ الضَّرَرِ الْمُجِيزُ لِلْمَسْحِ هُوَ الْخَوْفُ الْمُجِيزُ
لِلتَّيَمُّمِ (1) . عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي: (جَبِيرَةٌ) .
وَفِي الطَّهَارَةِ مِنَ الْجَنَابَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَوْ كَانَ
أَكْثَرُ الْبَدَنِ أَوْ نِصْفُهُ جَرِيحًا فَالْوَاجِبُ فِي حَقِّهِ
التَّيَمُّمُ، وَالْكَثْرَةُ تُعْتَبَرُ بِعَدَدِ الأَْعْضَاءِ، وَإِنْ
كَانَ أَكْثَرُهُ صَحِيحًا غَسَل الصَّحِيحَ وَمَسَحَ الْجَرِيحَ، وَإِنْ
ضَرَّهُ الْمَسْحُ تَرَكَهُ. وَلاَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْغَسْل
وَالتَّيَمُّمِ إِذْ لاَ نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ لأَِنَّهُ جَمْعٌ
بَيْنَ الْبَدَل وَالْمُبْدَل (2) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فِي حَال الْجُرْحِ، فَلَهُ عِنْدَهُمْ
حَالَتَانِ:
الأُْولَى: أَنْ لاَ يَتَضَرَّرُ مِنْ غَسْل الْجُزْءِ الصَّحِيحِ
الْمُحِيطِ بِالْجُرْحِ، فَالْوَاجِبُ فِي حَقِّهِ مَسْحُ الْجُرْحِ
وُجُوبًا إِذَا خَافَ الْهَلاَكَ أَوْ شِدَّةَ الضَّرَرِ، وَجَوَازًا إِنْ
خَافَ شِدَّةَ الأَْلَمِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَضَرَّرَ مِنْ غَسْل الصَّحِيحِ
__________
(1) حاشية الطحطاوي ص 72، وحاشية الدسوقي 1 / 162.
(2) حاشية الطحطاوي ص 68.
(15/137)
الْمُحِيطِ بِالْجُرْحِ، فَفَرْضُهُ
التَّيَمُّمُ سَوَاءٌ أَكَانَ الصَّحِيحُ هُوَ الأَْكْثَرَ أَوِ الأَْقَل.
كَمَا لَوْ عَمَّتِ الْجِرَاحَةُ جَمِيعَ جَسَدِهِ وَتَعَذَّرَ الْغَسْل
فَفَرْضُهُ التَّيَمُّمُ.
وَإِنْ تَكَلَّفَ الْجَرِيحُ وَغَسَل الْجُرْحَ أَوْ غَسَلَهُ مَعَ
الصَّحِيحِ الضَّارِّ غَسْلُهُ أَجْزَأَ؛ لإِِتْيَانِهِ بِالأَْصْل، وَإِنْ
تَعَذَّرَ وَشَقَّ مَسُّ الْجُرْحِ بِالْمَاءِ، وَالْجِرَاحَةُ وَاقِعَةٌ
فِي أَعْضَاءِ تَيَمُّمِهِ تَرَكَهَا بِلاَ غَسْلٍ وَلاَ مَسْحٍ؛
لِتَعَذُّرِ مَسِّهَا وَتَوَضَّأَ وُضُوءًا نَاقِصًا، بِأَنْ يَغْسِل أَوْ
يَمْسَحَ مَا عَدَاهَا مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَإِنْ كَانَتِ
الْجِرَاحُ فِي غَيْرِ أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ فَفِي الْمَسْأَلَةِ
أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
أَوَّلُهَا: يَتَيَمَّمُ لِيَأْتِيَ بِطَهَارَةٍ تُرَابِيَّةٍ كَامِلَةٍ.
بِخِلاَفِ مَا لَوْ تَوَضَّأَ كَانَتْ طَهَارَتُهُ نَاقِصَةً لِعَدَمِ
إِمْكَانِهِ غَسْل الْجُرْحِ.
ثَانِيهَا: يَغْسِل مَا صَحَّ وَيَسْقُطُ مَحَل الْجِرَاحِ لأَِنَّ
التَّيَمُّمَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ أَوْ عَدَمِ
الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ.
ثَالِثُهَا: يَتَيَمَّمُ إِنْ كَانَتِ الْجِرَاحَةُ أَكْثَرَ مِنَ
الصَّحِيحِ لأَِنَّ الأَْقَل تَابِعٌ لِلأَْكْثَرِ.
رَابِعُهَا: يَجْمَعُ بَيْنَ الْغَسْل وَالتَّيَمُّمِ فَيَغْسِل الصَّحِيحَ
وَيَتَيَمَّمُ لِلْجَرِيحِ، وَيُقَدِّمُ الْغَسْل (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ الْجَرِيحَ
الْمُحْدِثَ إِذَا أَرَادَ الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْل، وَخَافَ مِنِ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 202، وحاشية الدسوقي 1 / 162 - 166.
(15/137)
اسْتِعْمَال الْمَاءِ الْخَوْفَ
الْمُجَوِّزَ لِلتَّيَمُّمِ، بِأَنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ مِنْ غَسْل
الْجِرَاحَةِ أَوْ مَسْحِهَا، لَزِمَهُ غَسْل الصَّحِيحِ وَالتَّيَمُّمُ
عَنِ الْجَرِيحِ. وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي غُسْل الْجَنَابَةِ، فَإِنْ شَاءَ
غَسَل الصَّحِيحَ ثُمَّ تَيَمَّمَ عَنِ الْجَرِيحِ، وَإِنْ شَاءَ تَيَمَّمَ
ثُمَّ غَسَل إِذْ لاَ تَرْتِيبَ فِي طَهَارَتِهِ.
أَمَّا فِي الْوُضُوءِ فَالتَّرْتِيبُ وَاجِبٌ، فَلاَ يَنْتَقِل مِنْ
عُضْوٍ إِلَى آخَرَ حَتَّى يُكْمِل طَهَارَتَهُ، فَإِذَا كَانَتِ
الْجِرَاحَةُ فِي الْوَجْهِ مَثَلاً، وَجَبَ تَكْمِيل طَهَارَةِ الْوَجْهِ
أَوَّلاً، فَإِنْ شَاءَ غَسَل صَحِيحَهُ ثُمَّ تَيَمَّمَ عَنْ جَرِيحِهِ،
وَإِنْ شَاءَ تَيَمَّمَ ثُمَّ غَسَل، فَيُخَيَّرُ بِلاَ أَوْلَوِيَّةٍ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لأَِنَّهُ عُضْوٌ وَاحِدٌ لاَ يُرَاعَى فِيهِ
التَّرْتِيبُ. وَالأَْوْلَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَقْدِيمُ
التَّيَمُّمِ.
أَمَّا لَوْ غَسَل صَحِيحَ وَجْهِهِ ثُمَّ تَيَمَّمَ لِجَرِيحِهِ وَجَرِيحِ
يَدَيْهِ تَيَمُّمًا وَاحِدًا لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى
سُقُوطِ الْفَرْضِ عَنْ جُزْءٍ مِنَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ فِي حَالَةٍ
وَاحِدَةٍ فَيَفُوتُ التَّرْتِيبُ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَهُ الْمَسْحُ
بِالْمَاءِ عَلَى الْجُرْحِ وَجَبَ مَسْحُهُ لأَِنَّ الْغَسْل مَأْمُورٌ
بِهِ وَالْمَسْحُ بَعْضُهُ، فَوَجَبَ كَمَنْ عَجَزَ عَنِ الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ وَقَدَرَ عَلَى الإِْيمَاءِ. فَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ نَجِسًا
تَيَمَّمَ وَلَمْ يَمْسَحْ، فَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَعْفُوًّا
عَنْهَا أُلْغِيَتْ وَكَفَتْ نِيَّةُ رَفْعِ الْحَدَثِ، وَإِلاَّ
(15/138)
نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ وَالنَّجَاسَةِ (1)
.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (طَهَارَةٌ، وَتَيَمُّمٌ،
وَجَبِيرَةٌ، وَوُضُوءٌ) .
غَسْل الْمَيِّتِ الْجَرِيحِ:
6 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ
الْمَجْرُوحَ، وَالْمَجْدُورَ، وَذَا الْقُرُوحِ، وَمَنْ تَهَشَّمَ تَحْتَ
الْهَدْمِ وَشِبْهَهُمْ، إِنْ أَمْكَنَ تَغْسِيلُهُ غُسِّل، وَإِلاَّ صُبَّ
عَلَيْهِ الْمَاءُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ. فَإِنْ زَادَ أَمْرُهُ عَلَى ذَلِكَ
أَوْ خُشِيَ مِنْ صَبِّ الْمَاءِ تَزَلُّعُهُ (2) أَوْ تَقَطُّعُهُ
فَإِنَّهُ يُيَمَّمُ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْتَقَل إِلَى التَّيَمُّمِ
عِنْدَ تَعَذُّرِ الْغُسْل لِخَوْفِ تَهَرِّيهِ؛ لأَِنَّ التَّطْهِيرَ لاَ
يَتَعَلَّقُ بِإِزَالَةِ نَجَاسَةٍ فَوَجَبَ الاِنْتِقَال فِيهِ عِنْدَ
الْعَجْزِ عَنِ الْمَاءِ إِلَى التَّيَمُّمِ كَغُسْل الْجَنَابَةِ.
أَمَّا لَوْ كَانَ بِهِ قُرُوحٌ وَخِيفَ مِنْ غَسْلِهِ إِسْرَاعُ الْبِلَى
إِلَيْهِ بَعْدَ الدَّفْنِ وَجَبَ غُسْلُهُ لأَِنَّ الْجَمِيعَ صَائِرُونَ
إِلَى الْبِلَى (4) .
وَلَمْ يُوقَفْ عَلَى قَوْلٍ لِلْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (غُسْلٌ، وَمَوْتٌ) .
__________
(1) المجموع 2 / 288، 289، وكشاف القناع 1 / 165، 166.
(2) تشقق الجلد.
(3) الخرشي على خليل 2 / 116، والشرح الصغير 1 / 544، 545، وكشاف القناع 2
/ 102.
(4) المجموع 5 / 178.
(15/138)
حُكْمُ جَرِيحِ الْمَعْرَكَةِ:
7 - الأَْصْل أَنَّ الشَّهِيدَ - وَهُوَ مَنْ مَاتَ فِي الْمَعْرَكَةِ
بِقِتَال الْكُفَّارِ - لاَ يُغَسَّل، أَمَّا إِذَا جُرِحَ فِي
الْمَعْرَكَةِ وَرُفِعَ مِنَ الْمُعْتَرَكِ حَيًّا، فَأَكَل أَوْ شَرِبَ
أَوْ نَامَ أَوْ تَكَلَّمَ أَوْ طَال بَقَاؤُهُ عُرْفًا أَوْ تَدَاوَى،
أَوْ ارْتَفَقَ بِمَرَافِقِ الْحَيَاةِ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ،
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ
يُغَسَّل وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُ الشَّهَادَةُ بَل
هُوَ شَهِيدٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَدَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ
تَغْسِيلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ (1)
وَلأَِنَّ الاِرْتِفَاقَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنْ ذِي حَيَاةٍ
مُسْتَقِرَّةٍ، وَالأَْصْل وُجُوبُ الْغُسْل وَالصَّلاَةِ؛ وَلأَِنَّ
بِالاِرْتِفَاقِ خَفَّ أَثَرُ الظُّلْمِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شَهِيدِ
الْمَعْرَكَةِ الَّذِي يَمُوتُ فِي أَرْضِهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ
الْقِتَال بِجِرَاحَةٍ يُقْطَعُ بِمَوْتِهِ مِنْهَا، وَفِيهِ حَيَاةٌ
مُسْتَقِرَّةٌ فَغَيْرُ شَهِيدٍ فِي الأَْظْهَرِ (2) وَلَهُمْ فِي
__________
(1) حديث: " تغسيل النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ ". أورده صاحب
كشاف القناع 2 / 100 والذي ثبت عنه صلى الله عليه وسلم " أنه صلى على سعد
". كما أخرجه أحمد في مسنده (3 / 360 - ط الميمنية) ، ولم يرد عنه أنه غسله
وفي أي مصدر من مصادر الحديث التي اطلعنا
(2) فتح القدير 2 / 108، والخرشي على خليل 2 / 141، والمجموع 5 / 26،
ونهاية المحتاج 2 / 490، وكشاف القناع 2 / 100.
(15/139)
غَيْرِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحِ شَهِيدٍ.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (شَهِيدٌ، جَنَائِزُ، غُسْلٌ،
ارْتِثَاثٌ) .
حُكْمُ الْجُرُوحِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَسَائِرِ
الْبَدَنِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِرَاحِ
الْوَاقِعَةِ عَلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَعَلَى
خِلاَفٍ فِي التَّفْصِيل.
وَالأَْصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَْنْفَ بِالأَْنْفِ
وَالأُْذُنَ بِالأُْذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ
فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا
أَنْزَل اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (1) } وَقَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ عَمَّتِهِ
الرُّبَيِّعِ لَمَّا كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ وَطَلَبُوا الْعَفْوَ
فَأَبَوْا، وَعَرَضُوا الأَْرْشَ فَأَبَوْا، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ (2) .
وَقَسَّمَ الْفُقَهَاءُ أَنْوَاعَ الْجُرُوحِ حَسَبَ مَوْقِعِهَا
وَدَرَجَتِهَا وَأَثَرِهَا إِلَى أَقْسَامٍ، فَالَّذِي يَقَعُ فِي
الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ فَيُسَمَّى شِجَاجًا (3) ، وَيُنْظَرُ
__________
(1) سورة المائدة / 45.
(2) حديث: " كتاب الله: القصاص " أخرجه البخاري (الفتح 8 / 177 - ط
السلفية) من حديث أنس بن مالك.
(3) البناية 10 / 153، والدسوقي 4 / 251، والشرح الصغير 4 / 350، وروضة
الطالبين 9 / 179، 180، وكشاف القناع 5 / 558.
(15/139)
تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (شِجَاجٌ) .
9 - وَأَمَّا الْجِرَاحُ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ، فَالْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهَا إِذَا
أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا، بِأَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى حَدٍّ كَأَنْ تَنْتَهِيَ
إِلَى عَظْمٍ بِشَرْطِ أَلاَ تَكْسِرَهُ، أَوْ تَنْتَهِيَ إِلَى مَفْصِلٍ
كَالْكُوعِ وَالْمِرْفَقِ وَالْكَعْبِ.
وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَا لاَ قِصَاصَ فِيهِ مِنَ
الْجِرَاحِ إِذَا كَانَ عَلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ لاَ قِصَاصَ فِيهِ
إِذَا كَانَ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي جِرَاحِ سَائِرِ
الْبَدَنِ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِيهَا عَلَى
وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ. بَل تَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ بِشَرْطِ أَنْ
تَبْرَأَ وَيَبْقَى لَهَا أَثَرٌ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ
فَلاَ شَيْءَ فِيهَا فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (2)
.
10 - فَإِذَا صَارَ الأَْمْرُ إِلَى الدِّيَةِ لِعَدَمِ وُجُوبِ
الْقِصَاصِ، أَوْ لِلْعَفْوِ إِلَى الدِّيَةِ، وَكَانَتِ الْجُرُوحُ مِمَّا
فِيهِ أَرْشٌ، مُقَدَّرٌ شَرْعًا، فَدِيَةُ الْمُوضِحَةِ خَمْسَةُ
أَبْعِرَةٍ، وَالْهَاشِمَةِ عَشَرَةُ، وَالْمُنَقِّلَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ،
وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ
الدِّيَةِ (3) .
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 350، ونهاية المحتاج 4 / 269، وكشاف القناع 5 / 558،
وشرح منتهى الإرادات 6 / 63.
(2) بدائع الصنائع 7 / 320.
(3) البحر الرائق 8 / 381، ومغني المحتاج 4 / 58، وكشاف القناع 6 / 53، 54،
والشرح الصغير 4 / 382، 383.
(15/140)
جَرْحُ حَيَوَانٍ تَعَذَّرَ ذَبْحُهُ:
11 - إِذَا جَرَحَ الصَّائِدُ حَيَوَانًا مَأْكُولاً، تَعَذَّرَ ذَبْحُهُ
بِآلَةٍ مُحَدَّدَةٍ، أَوْ بِإِرْسَال جَارِحَةٍ، كَالْكَلْبِ، وَنَحْوِهِ،
فَمَاتَ فِي الْحَال، قَبْل التَّمَكُّنِ مِنْ ذَبْحِهِ حَل أَكْلُهُ،
لِخَبَرِ: مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُل،
لَيْسَ الظُّفْرَ، وَالسِّنَّ (1) وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْدٌ) أَوْ مُصْطَلَحِ: (جَارِحَةٌ) .
جَرْحُ الصَّيْدِ:
12 - لاَ يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لِصَيْدِ الْحَرَمِ الْبَرِّيِّ لِمُحْرِمٍ،
وَلاَ حَلاَلٍ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
فَتْحِ مَكَّةَ: إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ لاَ يُعْضَدُ
شَوْكُهُ وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ (3) كَمَا لاَ يَجُوزُ لِمُحْرِمٍ أَنْ
يَتَعَرَّضَ لِصَيْدٍ بَرِّيٍّ وَحْشِيٍّ مُطْلَقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ
حُرُمٌ (4) } فَإِذَا جُرِحَ صَيْدُ الْحَرَمِ، أَوْ جَرَحَ مُحْرِمٌ
صَيْدًا بَرِّيًّا، فَإِنْ أَزْمَنَهُ
__________
(1) حديث: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل، ليس الظفر والسن ". أخرجه
البخاري (الفتح 9 / 672 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1558 - ط الحلبي) من
حديث رافع بن خديج واللفظ لمسلم.
(2) روض الطالب (1 / 513 - 519، وكشاف القناع 2 / 438.
(3) حديث: " إن هذا البلد حرمه الله، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده " أخرجه
البخاري (الفتح 3 / 449 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عباس.
(4) سورة المائدة / 95.
(15/140)
لَزِمَهُ جَمِيعُ قِيمَتِهِ، لأَِنَّ
الإِْزْمَانَ كَالإِْتْلاَفِ. وَإِلاَّ لَزِمَهُ قِيمَةُ مَا نَقَصَ مِنْ
قِيمَةِ مِثْلِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْدٌ، وَإِحْرَامٌ) .
تَمَلُّكُ الصَّيْدِ بِالْجَرْحِ:
13 - يُمْلَكُ الصَّيْدُ بِالْجَرْحِ إِذَا أَبْطَل بِهِ عَدْوَهُ
وَطَيَرَانَهُ إِنْ كَانَ الصَّيْدُ مِمَّا يَمْتَنِعُ بِهِمَا، وَيَكْفِي
فِي الْجَرْحِ إِبْطَال شِدَّةِ عَدْوِهِ بِحَيْثُ يَسْهُل لَحَاقُهُ.
وَإِنْ جَرَحَهُ اثْنَانِ فَإِنْ تَعَاقَبَ جَرْحُهُمَا فَهُوَ لِمَنْ
أَزْمَنَهُ أَوْ ذَفَّفَهُ (أَجْهَزَ عَلَيْهِ) وَإِنْ أَثْخَنَهُ
الأَْوَّل، وَقَتَلَهُ الثَّانِي فَهُوَ لِلأَْوَّل، وَيَضْمَنُ الثَّانِي
لِلأَْوَّل قِيمَتَهُ؛ لأَِنَّهُ بِالرَّمْيِ أَتْلَفَ صَيْدًا مَمْلُوكًا.
وَإِنْ جَرَحَا مَعًا فَقَتَلاَهُ كَانَ الصَّيْدُ حَلاَلاً، وَمَلَكَاهُ
(1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْدٌ) .
جَرَادٌ
انْظُرْ: أَطْعِمَةٌ.
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 558، وفتح القدير 9 / 62 ط إحياء التراث بيروت، وكشاف
القناع 6 / 215.
(15/141)
جَرَبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَرَبُ فِي اللُّغَةِ بَثْرٌ يَعْلُو أَبْدَانَ النَّاسِ
وَالْحَيَوَانَاتِ يَتَآكَل مِنْهُ الْجِلْدُ، وَرُبَّمَا حَصَل مَعَهُ
هُزَالٌ إِذَا كَثُرَ وَمِنْ إِطْلاَقَاتِهِ أَيْضًا: الْعَيْبُ
وَالنَّقِيصَةُ، يُقَال بِهِ جَرَبٌ، أَيْ: عَيْبٌ وَنَقِيصَةٌ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِكَلِمَةِ الْجَرَبِ عَنْ
مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَرَبَ إِذَا كَانَ كَثِيرًا
بِأَنْ وَصَل إِلَى اللَّحْمِ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ الإِْجْزَاءَ فِي
الأُْضْحِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ يُفْسِدُ اللَّحْمَ وَيُعْتَبَرُ نَقْصًا؛
لأَِنَّ اللَّحْمَ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي الأُْضْحِيَّةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ قَلِيلاً بِأَنْ كَانَ فِي الْجِلْدِ
وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي اللَّحْمِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ اخْتَارَهُ
__________
(1) مختار الصحاح، ومتن اللغة، ولسان العرب المحيط مادة: (جرب) .
(15/141)
إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ،
إِلَى أَنَّهُ لاَ يَمْنَعُ الإِْجْزَاءَ فِي الأُْضْحِيَّةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ
إِلَى أَنَّ الْجَرَبَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ يَمْنَعُ الإِْجْزَاءَ فِي
الأُْضْحِيَّةِ (1) .
وَحُكْمُ الْهَدْيِ فِي السَّلاَمَةِ مِنَ الْجَرَبِ وَسَائِرِ الْعُيُوبِ
حُكْمُ الأُْضْحِيَّةِ (2) .
وَيُرَتِّبُ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْجَرَبِ أَحْكَامًا أُخْرَى مِنْهَا
جَوَازُ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِلْمُصَابِ بِهِ (3) ، لأَِنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ
وَالزُّبَيْرِ فِي لُبْسِهِ لِحَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا (4) . مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَرِيرٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 205 ط دار إحياء التراث العربي، والاختيار لتعليل
المختار 5 / 18 ط دار المعرفة، والقوانين الفقهية / 193 ط الدار العربية
للكتاب. ومواهب الجليل 3 / 241 ط دار الفكر، وروضة الطالبين 3 / 194 ط
المكتب الإسلامي وحاشية الجمل 5 / 253 ط دار إحياء التراث العربي. والمغني
8 / 624 ط مكتبة الرياض الحديثة.
(2) الاختيار لتعليل المختار 1 / 174، وابن عابدين 2 / 249، والقوانين
الفقهية / 144، ومواهب الجليل 3 / 242، والمغني 3 / 553، 554.
(3) ابن عابدين 5 / 226، والأشباه والنظائر لابن نجيم 2 / 110 ط دار
الطباعة العامرة، ونهاية المحتاج 2 / 377، والمنثور في القواعد للزركشي.
(4) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير
في لبسه لحكة كانت بهما " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 295 ط السلفية) ،
ومسلم (3 / 1636 ط عيسى الحلبي) من حديث أنس رضي الله عنه.
(15/142)
وَمِنْهَا اعْتِبَارُهُ عَيْبًا فِي
الدَّوَابِّ الْمَبِيعَةِ لَوْ كَانَ قَلِيلاً (1) وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ
فِي بَابِ الْخِيَارِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ خِيَارِ الْعَيْبِ.
وَمِنْهَا اعْتِبَارُهُ عَيْبًا فِي أَيٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ، وَيُنْظَرُ
فِي مُصْطَلَحِ: (عَيْبٌ) (وَنِكَاحٌ) .
جَرْبَاءُ
انْظُرْ: جَرَبٌ.
جُرْحٌ
انْظُرْ: جِرَاحٌ، تَزْكِيَةٌ، شَهَادَةٌ.
__________
(1) حاشية الجمل 3 / 131، والمغني 4 / 168.
(15/142)
جِرَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجِرَّةُ بِالْكَسْرِ مَا تُخْرِجُهُ الإِْبِل وَنَحْوُهَا مِنْ
ذَوَاتِ الْخُفِّ وَالظِّلْفِ مِنْ كُرُوشِهَا فَتَجْتَرُّهُ الْمَعِدَةُ
(1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ ذَلِكَ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ جِرَّةِ الْحَيَوَانِ هَل هِيَ
طَاهِرَةٌ أَمْ نَجِسَةٌ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا زُفَرَ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
الْمَذْهَبِ، إِلَى أَنَّهَا نَجِسَةٌ كَرَوْثِهِ، لأَِنَّهُ وَارَاهُ
جَوْفُهُ، كَالْمَاءِ إِذَا وَصَل إِلَى جَوْفِهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ
بَوْلِهِ، فَكَذَا الْجِرَّةُ يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الرَّوْثِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
فَلاَ يَتَأَتَّى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ لأَِنَّ أَرْوَاثَ مُبَاحِ الأَْكْل
__________
(1) تاج العروس والمصباح المنير. مادة: (جرر) .
(2) ابن عابدين 1 / 233 ط دار إحياء التراث العربي، والاختيار 1 / 33 ط دار
المعرفة، ونهاية المحتاج 1 / 240 ط مصطفى البابي.
(15/143)
طَاهِرَةٌ عِنْدَهُمْ، فَتَثْبُتُ
طَهَارَةُ الْجِرَّةِ بِالأَْوْلَى.
وَالْقَوْل بِطَهَارَةِ أَرْوَاثِ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ وَجِرَّتِهِ وَجْهٌ
لِلشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا اخْتَارَهُ الرُّويَانِيُّ وَأَبُو سَعِيدٍ
الإِْصْطَخْرِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَبِهِ قَال عَطَاءٌ،
وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (نَجَاسَةٌ، وَطَهَارَةٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 233، وبدائع الصنائع 1 / 80 - 81 ط دار الكتاب العربي،
والاختيار لتعليل المختار 1 / 32، 33، والأشباه والنظائر لابن نجيم / 202،
ومواهب الجليل 1 / 94، 95 ط دار الفكر، والقوانين الفقهية / 38، والمغني 2
/ 88 ط مكتبة الرياض.
(15/143)
جُرْمُوقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجُرْمُوقُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْمِيمِ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ وَهُوَ
شَيْءٌ يُلْبَسُ فَوْقَ الْخُفِّ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ، أَوْ حِفْظِهِ مِنَ
الطِّينِ وَغَيْرِهِ، وَيَكُونُ مِنَ الْجِلْدِ غَالِبًا، وَيُقَال لَهُ
الْمُوقُ أَيْضًا، وَالْجَمْعُ جَرَامِيقُ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ خُفٌّ فَوْقَ خُفٍّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
وَاسِعًا. وَقَدْ فَسَّرَهُ مَالِكٌ: بِأَنَّهُ جَوْرَبٌ مُجَلَّدٌ مِنْ
تَحْتِهِ وَمِنْ فَوْقِهِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخُفُّ:
2 - الْخُفُّ مَا يُلْبَسُ فِي الرِّجْل مِنْ جِلْدٍ رَقِيقٍ وَجَمْعُهُ
أَخْفَافٌ. وَالْمُرَادُ بِهِ فِي بَابِ الطَّهَارَةِ: هُوَ السَّاتِرُ
لِلْكَعْبَيْنِ فَأَكْثَرُ مِنْ جِلْدٍ وَنَحْوِهِ (3) .
__________
(1) مختار الصحاح والمصباح المنير مادة: (جرم) .
(2) ابن عابدين 1 / 179، ومواهب الجليل 1 / 318، وروضة الطالبين 1 / 127،
ونهاية المحتاج 1 / 205، والقليوبي 1 / 60، وكشاف القناع 1 / 111.
(3) مختار الصحاح مادة: (خفف) ، وابن عابدين 1 / 174 ط دار إحياء التراث
العربي.
(15/144)
ب - الْجَوْرَبُ، وَاللِّفَافَةُ:
3 - الْجَوْرَبُ مَا يُلْبَسُ فِي الرِّجْل تَحْتَ الْحِذَاءِ مِنْ غَيْرِ
الْجِلْدِ. وَاللِّفَافَةُ كَذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِمَخِيطٍ (1) .
فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخُفِّ وَالْجُرْمُوقِ وَالْجَوْرَبِ: أَنَّ الْخُفَّ
لاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنْ جِلْدٍ وَنَحْوِهِ، وَالْجُرْمُوقَ يَكُونُ مِنْ
جِلْدٍ وَغَيْرِهِ، وَالْجَوْرَبَ لاَ يَكُونُ مِنْ جِلْدٍ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوْطِنُ الْبَحْثِ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجُرْمُوقَيْنِ
إِذَا لُبِسَا وَحْدَهُمَا بِدُونِ خُفَّيْنِ يَجُوزُ الْمَسْحُ
عَلَيْهِمَا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا لُبِسَا فَوْقَ الْخُفَّيْنِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ لَدَى
الْمَالِكِيَّةِ وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى
أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ. لِمَا رُوِيَ عَنْ
بِلاَلٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يَخْرُجُ يَقْضِي حَاجَتَهُ فَآتِيهِ بِالْمَاءِ فَيَتَوَضَّأُ وَيَمْسَحُ
عَلَى عِمَامَتِهِ وَمُوقَيْهِ (2) . وَلأَِنَّ الْجُرْمُوقَ يُشَارِكُ
الْخُفَّ فِي إِمْكَانِ قَطْعِ السَّفَرِ بِهِ، فَيُشَارِكُهُ فِي جَوَازِ
الْمَسْحِ عَلَيْهِ، وَلِذَا شَارَكَهُ فِي حَالَةِ الاِنْفِرَادِ.
وَأَيْضًا الْجُرْمُوقُ فَوْقَ الْخُفِّ بِمَنْزِلَةِ خُفٍّ ذِي
__________
(1) لسان العرب.
(2) حديث بلال: " أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخرج. . . " أخرجه أبو
داود (1 / 106 - 107 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 170 ط دائرة
المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(15/144)
طَاقَيْنِ وَذَا يَجُوزُ، فَكَذَا ذَلِكَ؛
وَلأَِنَّ شِدَّةَ الْبَرْدِ قَدْ تُحْوِجُ إِلَى لُبْسِهِ، وَفِي نَزْعِهِ
عِنْدَ كُل وُضُوءٍ مَشَقَّةٌ.
وَقَال مَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ: إِنَّهُ لاَ يَمْسَحُ عَلَى
الْجُرْمُوقَيْنِ أَصْلاً. وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
فِيمَا إِذَا لَبِسَهُمَا فَوْقَ الْخُفَّيْنِ (1) .
وَفِي شُرُوطِ جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ خِلاَفٌ
وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْحٌ) وَمُصْطَلَحِ: (الْمَسْحُ
عَلَى الْخُفَّيْنِ) .
جَرِيمَةٌ
انْظُرْ: جِنَايَةٌ.
جُزَافٌ
انْظُرْ: بَيْعُ الْجُزَافِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 179، وبدائع الصنائع 1 / 10، والمواهب 1 / 318، 319،
وحاشية الدسوقي 1 / 141، وروضة الطالبين 1 / 127، ونهاية المحتاج 1 / 20،
206، وكشاف القناع 1 / 111.
(15/145)
جَزْمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَزْمُ فِي اللُّغَةِ: الْقَطْعُ، يُقَال جَزَمْتُ الشَّيْءَ
جَزْمًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ: قَطَعْتُهُ، وَجَزَمْتُ الْحَرْفَ فِي
الإِْعْرَابِ قَطَعْتُهُ عَنِ الْحَرَكَةِ وَأَسْكَنْتُهُ، وَأَفْعَل
ذَلِكَ جَزْمًا أَيْ حَتْمًا لاَ رُخْصَةَ فِيهِ، وَهُوَ كَمَا يُقَال
قَوْلاً وَاحِدًا، وَحُكْمٌ جَزْمٌ، وَقَضَاءٌ حَتْمٌ أَيْ لاَ يُنْقَضُ
وَلاَ يُرَدُّ، وَجَزَمْتُ النَّخْل صَرَمْتُهُ، وَجَزَمَ الْيَمِينَ
أَمْضَاهَا قَاطِعَةً لاَ رَجْعَةَ فِيهَا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَعِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ هُوَ: الاِقْتِضَاءُ الْمُلْزِمُ فِي خِطَابِ
اللَّهِ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَال الْمُكَلَّفِينَ، فَقَدْ عَرَّفُوا
الْحُكْمَ بِأَنَّهُ: خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَال
الْمُكَلَّفِينَ بِالاِقْتِضَاءِ. وَالاِقْتِضَاءُ الطَّلَبُ، فَيَتَنَاوَل
اقْتِضَاءَ الْوُجُودِ، وَاقْتِضَاءَ الْعَدَمِ، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ
الطَّلَبُ جَازِمًا: فَإِنْ كَانَ طَلَبَ الْفِعْل فَهُوَ الإِْيجَابُ.
__________
(1) الوسيط في اللغة ولسان العرب، وتاج العروس والمصباح المنير مادة: (جزم)
.
(15/145)
أَوْ طَلَبَ التَّرْكِ فَهُوَ
التَّحْرِيمُ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ جَازِمٍ، فَإِنْ تَرَجَّحَ جَانِبُ
الْوُجُودِ فَهُوَ النَّدْبُ، وَإِنْ تَرَجَّحَ جَانِبُ التَّرْكِ فَهُوَ
الْكَرَاهَةُ.
وَيُقَابِلُهُ: التَّخْيِيرُ.
وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ جَانِبَيِ الْفِعْل وَالتَّرْكِ مِنْ غَيْرِ
تَرْجِيحٍ لأَِحَدِهِمَا. وَالثَّابِتُ بِهِ الإِْبَاحَةُ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَزْمُ وَالْقَصْدُ وَالنِّيَّةُ:
2 - الْعَزْمُ هُوَ الْقَصْدُ الْمُؤَكَّدُ يُقَال: عَزَمْتُ عَلَى كَذَا
عَزْمًا وَعُزَمًا وَعَزِيمَةً إِذَا أَرَدْتُ فِعْلَهُ، وَصَمَّمْتُ
عَلَيْهِ (2) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْعَزْمُ
اسْمٌ لِلإِْرَادَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْفِعْل، فَإِذَا اقْتَرَنَ
بِالْفِعْل فَهُوَ الْقَصْدُ. وَإِنْ اقْتَرَنَ بِهِ مَعَ دُخُولِهِ تَحْتَ
الْمَنْوِيِّ عَلَيْهِ فَهُوَ النِّيَّةُ (3) .
ب - الْهَمُّ:
3 - الْهَمُّ هُوَ أَوَّل الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْل إِذَا أَرَدْتَهُ
وَلَمْ تَفْعَلْهُ
وَهُوَ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى فِعْل شَيْءٍ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ قَبْل أَنْ
يُفْعَل (4) .
__________
(1) إرشاد الفحول ص 6، وشرح البدخشي 1 / 32.
(2) مختار الصحاح والتعريفات للجرجاني مادة: (عزم) .
(3) التعريفات للجرجاني ص 194، وحاشية ابن عابدين 1 / 72.
(4) تعريفات الجرجاني ص 320، والمصباح المنير مادة: (همم) .
(15/146)
ج - التَّعْلِيقُ:
4 - التَّعْلِيقُ مَصْدَرُ عَلَّقَ بِالتَّشْدِيدِ تَعْلِيقًا يُقَال:
عَلَّقْتُ الشَّيْءَ عَلَى غَيْرِهِ أَيْ: جَعَلْتُهُ مُعَلَّقًا عَلَيْهِ،
يُوجَدُ بِوُجُودِهِ، وَيَنْعَدِمُ بِعَدَمِهِ، وَهُوَ مُقَابِل الْجَزْمِ؛
لأَِنَّ الْجَزْمَ قَطْعٌ فِي الْحَال، وَالتَّعْلِيقُ مُؤَخَّرٌ إِلَى
وُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ أَوْ عَدَمِ وُجُودِهِ.
د - التَّرَدُّدُ:
5 - التَّرَدُّدُ هُوَ: مَصْدَرُ تَرَدَّدَ فِي الأَْمْرِ تَرَدُّدًا أَيْ
لَمْ يَجْزِمْ بِهِ وَلَمْ يَقْطَعْ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْجَزْمِ بِاخْتِلاَفِ مَوَاضِعِهِ عَلَى التَّفْصِيل
الآْتِي:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْجَزْمُ بِالنِّيَّةِ؛
لأَِنَّهَا شَرْطٌ لاِنْعِقَادِ الْعِبَادَاتِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (2)
وَالنِّيَّةُ هِيَ: الإِْرَادَةُ الْجَازِمَةُ الْقَاطِعَةُ. وَلَيْسَتْ
مُطْلَقُ إِرَادَةٍ، فَيُخِل بِهَا كُل مَا يُنَافِي الْجَزْمَ، مِنْ
تَرَدُّدٍ أَوْ تَعْلِيقٍ، فَإِذَا عَلَّقَ نِيَّةَ الْعِبَادَةِ
بِالْمَشِيئَةِ، فَإِنْ قَصَدَ التَّعْلِيقَ أَوْ أَطْلَقَ بَطَلَتْ
لِمُنَافَاةِ ذَلِكَ لِجَزْمِ النِّيَّةِ. أَمَّا إِذَا قَصَدَ تَبَرُّكًا،
فَلاَ تَبْطُل. وَيَضُرُّ التَّعْلِيقُ بِغَيْرِ الْمَشِيئَةِ مُطْلَقًا
كَحُصُول شَيْءٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
__________
(1) لسان العرب، ومختار الصحاح مواد: (علق، وردد) .
(2) حديث: " إنما الأعمال بالنيات. . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 9 - ط
السلفية) ومسلم (3 / 1515 - ط الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب.
(15/146)
مُتَوَقَّعًا، وَكَذَا التَّرَدُّدُ فِي
النِّيَّةِ، فَلَوْ نَوَى لَيْلَةَ الثَّلاَثِينَ مِنْ شَعْبَانَ: صَوْمَ
غَدٍ إِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ، لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ
رَمَضَانَ، لِتَرَدُّدِ النِّيَّةِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (نِيَّةٌ) .
أَمَّا إِذَا حَدَثَ التَّرَدُّدُ فِي نِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنَ
الْعِبَادَةِ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ: فَقَدْ قَسَّمَ الشَّافِعِيَّةُ
الْعِبَادَةَ إِلَى أَقْسَامٍ أَرْبَعَةٍ:
أ - الإِْسْلاَمُ، وَالصَّلاَةُ:
7 - لَوْ نَوَى فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلاَةِ فِي
الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، أَوْ عَلَّقَ الْخُرُوجَ بِشَيْءٍ يُوجَدُ فِي
الصَّلاَةِ قَطْعًا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ فِي الْحَال، لأَِنَّهُ مَأْمُورٌ
بِجَزْمِ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ صَلاَتِهِ وَلَيْسَ هَذَا بِجَازِمٍ.
وَكَذَا لَوْ عَلَّقَ الْخُرُوجَ عَنَ الإِْسْلاَمِ بِشَيْءٍ وَالْعِيَاذُ
بِاللَّهِ، فَإِنَّهُ يَكْفُرُ (2) .
وَالْمُرَادُ بِالتَّرَدُّدِ: أَنْ يَطْرَأَ شَكٌّ فِي أَثْنَاءِ
الْعِبَادَةِ يُنَاقِضُ جَزْمَ النِّيَّةِ الَّتِي ابْتَدَأَ بِهَا
عِبَادَتَهُ. أَمَّا مَا يَجْرِي فِي الْفِكْرِ فَلاَ تَبْطُل بِهِ
الصَّلاَةُ، وَقَدْ يَقَعُ ذَلِكَ فِي الإِْيمَانِ بِاللَّهِ، فَلاَ
تَأْثِيرَ لَهُ، لِحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُِمَّتِي عَمَّا
وَسْوَسَتْ أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 277، وحاشية الدسوقي 1 / 94 - 514، ونهاية المحتاج 1 /
437، والمغني 1 / 466، وقليوبي 1 / 141، والجمل على شرح المنهج 1 / 333،
والمنثور في القواعد 292.
(2) المجموع 3 / 282 - 283، والمغني 1 / 466، والأشباه والنظائر ص 40،
وكشاف القناع 1 / 316.
(15/147)
أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَل بِهِ أَوْ
تَكَلَّمْ (1) .
ب - الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ:
8 - إِنْ نَوَى الْخُرُوجَ مِنَ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، أَوْ نَوَى
قَطْعَهُمَا لَمْ يَنْقَطِعَا بِلاَ خِلاَفٍ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَخْرُجُ
مِنْهُمَا بِالإِْفْسَادِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ.
وَالتَّفْصِيل فِي: (إِحْرَامٌ ف 128) .
ج - الصَّوْمُ، وَالاِعْتِكَافُ:
9 - إِذَا جَزَمَ فِي أَثْنَائِهِمَا بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنْهُمَا فَفِي
بُطْلاَنِهِمَا وَجْهَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالأَْصَحُّ مِنْهُمَا وَهُوَ
الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَبْطُلاَنِ، لأَِنَّ
الْوَاقِعَ يَسْتَحِيل رَفْعُهُ. وَالتَّفْصِيل فِي الْمَوْطِنِ
الأَْصْلِيِّ لَهُمَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ وَالصَّوْمَ
وَالاِعْتِكَافَ إِنْ كَانَ رَفْضُ النِّيَّةِ فِي الأَْثْنَاءِ بَطَلَتِ
الْعِبَادَةُ قَطْعًا، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ فِي
الصَّوْمِ. وَإِنْ كَانَ الرَّفْضُ بَعْدَ تَمَامِ الْعِبَادَةِ فَأَظْهَرُ
الْقَوْلَيْنِ الْمُرَجَّحَيْنِ وَأَقْوَاهُمَا أَنَّ الْعِبَادَةَ لاَ
تُرْفَضُ لأَِنَّ الْوَاقِعَ يَسْتَحِيل رَفْعُهُ.
د - الْوُضُوءُ:
10 - إِنْ نَوَى قَطْعَهُ فِي أَثْنَائِهِ لَمْ يَبْطُل مَا مَضَى مِنْهُ
عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ. أَمَّا عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ فَعَلَيْهِ الاِسْتِئْنَافُ إِذْ لَمْ يَصِحَّ مَا
فَعَلَهُ.
__________
(1) حديث: " إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما. . . ".
أخرجه البخاري (الفتح 11 / 549 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 116 - ط الحلبي)
من حديث أبي هريرة واللفظ للبخاري.
(15/147)
لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ لِمَا
بَقِيَ، وَإِنْ نَوَى قَطْعَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ لَمْ يَبْطُل
عَلَى الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا لَوْ نَوَى قَطْعَ
الصَّلاَةِ، وَالصَّوْمِ، وَالاِعْتِكَافِ وَالْحَجِّ بَعْدَ الْفَرَاغِ
مِنْهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ
فَلاَ يَشْتَرِطُونَ النِّيَّةَ فِي الْوُضُوءِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ رَفْضَ نِيَّةِ الْوُضُوءِ
وَالْغُسْل إِنْ كَانَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُمَا فَلاَ يَضُرُّ
الرَّفْضُ وَلاَ يُعْتَبَرُ مِنَ النَّوَاقِضِ.
وَإِنْ كَانَ رَفْضُ النِّيَّةِ فِي أَثْنَائِهِمَا فَالرَّاجِحُ
الْبُطْلاَنُ وَتَجِبُ الإِْعَادَةُ.
وَالتَّيَمُّمُ يَبْطُل بِالرَّفْضِ فِي الأَْثْنَاءِ وَبَعْدَهُ لأَِنَّهُ
طَهَارَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَاسْتَظْهَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كَالْوُضُوءِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مَبْحَثِ: (الْوُضُوءُ) .
صُوَرٌ مُسْتَثْنَاةٌ مِنِ اشْتِرَاطِ الْجَزْمِ فِي النِّيَّةِ
لاِنْعِقَادِ الْعِبَادَةِ:
11 - الأَْصْل فِي الْعِبَادَةِ: اشْتِرَاطُ جَزْمِ النِّيَّةِ وَعَدَمِ
التَّرَدُّدِ فِيهَا، أَوِ التَّعْلِيقِ فِي شَيْءٍ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَقَدِ اسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ صُوَرًا
تَنْعَقِدُ الْعِبَادَةُ فِيهَا مَعَ التَّرَدُّدِ فِي النِّيَّةِ، أَوْ
تَعْلِيقِهَا، وَأَوْرَدَ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ صُوَرِ التَّرَدُّدِ:
1 - إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَاءٌ وَمَاءُ وَرْدٍ فَتَوَضَّأَ بِكُلٍّ
مَرَّةً صَحَّ وُضُوءُهُ، وَيُغْتَفَرُ التَّرَدُّدُ فِي النِّيَّةِ
لِلضَّرُورَةِ.
__________
(1) المجموع 3 / 284، والمغني 1 / 113، والدسوقي 1 / 95 - 96، والشرح
الصغير 1 / 45 - ط الحلبي، ومنح الجليل 1 / 51.
(15/148)
2 - إِذَا تَيَقَّنَ أَنَّ عَلَيْهِ
صَلاَةً مِنَ الْخَمْسِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا صَلَّى الْخَمْسَ وَصَحَّتْ
صَلاَتُهُ (1) .
12 - وَمِنْ صُوَرِ التَّعْلِيقِ فِي الْعِبَادَاتِ:
فِي الطَّهَارَةِ: إِنْ شَكَّ فِي الْحَدَثِ فَنَوَى الْوُضُوءَ إِنْ كَانَ
مُحْدِثًا وَإِلاَّ فَتَجْدِيدٌ صَحَّ (2) .
وَفِي الصَّلاَةِ: شَكَّ فِي قَصْرِ إِمَامِهِ فَقَال: إِنْ قَصَرَ
قَصَرْتُ، وَإِلاَّ أَتْمَمْتُ، فَبَانَ قَاصِرًا قَصَرَ.
وَإِذَا كَانَتْ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ، وَشَكَّ فِي أَدَائِهَا فَقَال:
أُصَلِّي عَنْهَا إِنْ كَانَتْ وَإِلاَّ فَنَافِلَةٌ، فَبَانَتْ أَنَّهَا
عَلَيْهِ أَجْزَأَتْهُ.
وَإِذَا اخْتَلَطَ مُسْلِمُونَ بِكُفَّارٍ أَوْ شُهَدَاءُ بِغَيْرِهِمْ
صَلَّى عَلَى كُل وَاحِدٍ بِنِيَّةِ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ
مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ شَهِيدٍ.
وَفِي الزَّكَاةِ: إِذَا نَوَى زَكَاةَ مَالِهِ الْغَائِبِ إِنْ كَانَ
بَاقِيًا، وَإِلاَّ فَفِي الْحَاضِرِ، فَبَانَ بَاقِيًا أَجْزَأَهُ عَنْهُ،
أَوْ تَالِفًا أَجْزَأَهُ عَنِ الْحَاضِرِ. وَالتَّفْصِيل فِي مَوَاطِنِهَا
الأَْصْلِيَّةِ.
وَفِي الْحَجِّ، كَأَنْ يَقُول مُرِيدُ الإِْحْرَامِ: إِنْ كَانَ زَيْدٌ
مُحْرِمًا فَقَدْ أَحْرَمْتُ، فَإِنْ كَانَ زَيْدٌ مُحْرِمًا انْعَقَدَ
إِحْرَامُهُ.
وَكَذَا لَوْ أَحْرَمَ يَوْمَ الثَّلاَثِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَهُوَ شَاكٌّ
فَقَال: إِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ فَإِحْرَامِي:
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 42، والمنثور في القواعد 3 / 292.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 42، قليوبي 1 / 45.
(15/148)
عُمْرَةٌ، أَوْ مِنْ شَوَّالٍ فَحَجٌّ،
فَكَانَ شَوَّالاً كَانَ إِحْرَامُهُ صَحِيحًا (1) .
الْجَزْمُ بِالصِّيغَةِ فِي الْعُقُودِ:
13 - يَخْتَلِفُ الْجَزْمُ بِالصِّيغَةِ فِي الْعُقُودِ بِاخْتِلاَفِ
الْعَقْدِ، وَقَدْ قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْعُقُودَ إِلَى مَا يَلِي:
أ - مَا كَانَ التَّأْقِيتِ رُكْنًا فِيهِ كَالإِْجَارَةِ،
وَالْمُسَاقَاةِ، وَالْهُدْنَةِ، فَلاَ يَكُونُ إِلاَّ مُؤَقَّتًا.
ب - مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلاَ يُنَافِيهِ التَّأْقِيتِ، كَالْقِرَاضِ،
يُذْكَرُ فِيهِ مُدَّةٌ يُمْنَعُ بَعْدَهَا مِنَ الشِّرَاءِ، وَكَالإِْذْنِ
الْمُقَيَّدِ بِزَمَانٍ، كَالْوَكَالَةِ، وَنَحْوِهَا فَلاَ يَضُرُّهُ
التَّأْقِيتِ.
ج - مَا لاَ يَقْبَل التَّأْقِيتَ بِحَالٍ: كَالنِّكَاحِ، وَالْبَيْعِ،
وَالْوَقْفِ، فَيَجِبُ فِيهِ الْجَزْمُ بِالصِّيغَةِ وَعَدَمُ تَأْقِيتِهَا
(2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مَوَاطِنِهَا.
وَفِي تَعْلِيقِ صِيَغِ الْعُقُودِ بِشَرْطٍ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ:
(تَعْلِيقٌ، وَعَقْدٌ) .
جَزِيرَةُ الْعَرَبِ
انْظُرْ: أَرْضُ الْعَرَبِ.
__________
(1) المراجع السابقة، والمنثور في القواعد 3 / 292.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 282.
(15/149)
جِزْيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - قَال الْجَوْهَرِيُّ: الْجِزْيَةُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ،
وَالْجَمْعُ الْجِزَى (بِالْكَسْرِ) مِثْل لِحْيَةٍ وَلِحًى. وَهِيَ
عِبَارَةٌ عَنِ الْمَال الَّذِي يُعْقَدُ الذِّمَّةُ عَلَيْهِ
لِلْكِتَابِيِّ. وَهِيَ فِعْلَةٌ مِنَ الْجَزَاءِ كَأَنَّهَا جَزَتْ عَنْ
قَتْلِهِ. وَقَال ابْنُ مَنْظُورٍ: الْجِزْيَةُ أَيْضًا خَرَاجُ الأَْرْضِ
(1) . قَال اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ
وَهُمْ صَاغِرُونَ (2) } .
وَقَال النَّوَوِيُّ: الْجِزْيَةُ (بِكَسْرِ الْجِيمِ) جَمْعُهَا جِزًى
(بِالْكَسْرِ) أَيْضًا كَقِرْبَةٍ وَقِرَبٍ وَنَحْوِهِ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ
مِنَ الْجَزَاءِ كَأَنَّهَا جَزَاءُ إِسْكَانِنَا إِيَّاهُ فِي دَارِنَا،
وَعِصْمَتِنَا دَمَهُ وَمَالَهُ وَعِيَالَهُ. وَقِيل: هِيَ مُشْتَقَّةٌ
مِنْ جَزَى يَجْزِي إِذَا قَضَى. قَال اللَّهُ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمطلع على أبواب المقنع ص 140 ط المكتب
الإسلامي، وأساس البلاغة، وجامع البيان في تفسير القرآن 10 / 77 - دار
المعرفة ببيروت، وزاد المسير في علم التفسير 3 / 420 - المكتب الإسلامي
ببيروت - ط 1 / 1964.
(2) سورة التوبة / 29.
(15/149)
تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي
نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا (1) } أَيْ لاَ تَقْضِي (2) .
وَقَال الْخُوَارِزْمِيُّ: جَزَاءُ رُءُوسِ أَهْل الذِّمَّةِ جَمْعُ
جِزْيَةٍ وَهُوَ مُعَرَّبٌ: كَزَيْتٍ، وَهُوَ الْخَرَاجُ بِالْفَارِسِيَّةِ
(3) .
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ وُجْهَاتُ نَظَرِ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ
الْجِزْيَةِ اصْطِلاَحًا تَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي طَبِيعَتِهَا، وَفِي
حُكْمِ فَرْضِهَا عَلَى الْمَغْلُوبِينَ الَّذِينَ فُتِحَتْ أَرْضُهُمْ
عَنْوَةً (أَيْ قَهْرًا لاَ صُلْحًا) .
فَعَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا: " اسْمٌ لِمَا
يُؤْخَذُ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ فَهُوَ عَامٌّ يَشْمَل كُل جِزْيَةٍ
سَوَاءٌ أَكَانَ مُوجِبُهَا الْقَهْرَ وَالْغَلَبَةَ وَفَتْحَ الأَْرْضِ
عَنْوَةً، أَوْ عَقْدَ الذِّمَّةِ الَّذِي يَنْشَأُ بِالتَّرَاضِي ".
وَعَرَّفَهَا الْحِصْنِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهَا: " الْمَال
الْمَأْخُوذُ بِالتَّرَاضِي لإِِسْكَانِنَا إِيَّاهُمْ فِي دِيَارِنَا،
أَوْ لِحَقْنِ دِمَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، أَوْ
لِكَفِّنَا عَنْ قِتَالِهِمْ " وَعَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا: "
مَالٌ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ كُل عَامٍ بَدَلاً عَنْ
قَتْلِهِمْ وَإِقَامَتِهِمْ بِدَارِنَا ".
__________
(1) سورة البقرة / 48.
(2) تهذيب الأسماء واللغات 3 / 51 - دار الكتب العلمية ببيروت، وحاشية
القليوبي على شرح المنهاج 2 / 228 - مطبعة عيسى الحلبي بالقاهرة، والمغني 8
/ 495 - مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
(3) مفاتيح العلوم ص 39 - 40 نشر الطباعة المنيرية - مطبعة الشرق بالقاهرة،
روح المعاني 10 / 78 - دار إحياء التراث العربي ببيروت - مصور عن الطبعة
المنيرية.
(15/150)
قَال الْقَلْيُوبِيُّ: " تُطْلَقُ - أَيِ
الْجِزْيَةَ - عَلَى الْمَال وَعَلَى الْعَقْدِ وَعَلَيْهِمَا مَعًا (1) ".
هَذَا وَيُطْلِقُ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْجِزْيَةِ عِدَّةَ مُصْطَلَحَاتٍ
وَأَلْفَاظٍ مِنْهَا:
أ - خَرَاجُ الرَّأْسِ:
2 - قَال السَّرَخْسِيُّ: " إِذَا جَعَل الإِْمَامُ قَوْمًا مِنَ
الْكُفَّارِ أَهْل ذِمَّةٍ وَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَال،
وَعَلَى الأَْرَضِينَ بِقَدْرِ الاِحْتِمَال، أَمَّا خَرَاجُ الرُّءُوسِ
فَثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ
صَاغِرُونَ (2) } وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ
أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ (3) .
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ فِي أَحْكَامِ أَهْل الذِّمَّةِ:
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 244 - دار إحياء التراث العربي ببيروت، واللباب في
شرح الكتاب 4 / 143 - دار الحديث ببيروت، وعمدة القاري 15 / 77 - دار الفكر
ببيروت، وجواهر الإكليل شرح مختصر خليل 1 / 266 - دار إحياء الكتب العربية
بالقاهرة، وشرح منح الجليل 1 / 756 - مكتبة النجاح بليبيا وحاشية البجيرمي
على شرح المنهج 4 / 268 - المكتبة الإسلامية بتركيا، كفاية الأخيار 2 / 133
- دار المعرفة ببيروت، المبدع في شرح المقنع 3 / 404 - المكتب الإسلامي
ببيروت، وحاشية القليوبي 4 / 228، وكشاف القناع 3 / 117 - مطبعة النصر
الحديثة بالرياض، والمغني 8 / 495 ط الرياض.
(2) سورة التوبة / 29.
(3) حديث: " أخذ الجزية من مجوس هجر " أخرجه البخاري (4 / 117 ط على صبيح)
من حديث عبد الرحمن بن عوف.
(15/150)
الْجِزْيَةُ هِيَ الْخَرَاجُ الْمَضْرُوبُ
عَلَى رُءُوسِ الْكُفَّارِ إِذْلاَلاً وَصِغَارًا (1) ".
ب - الْجَالِيَةُ:
3 - الْجَالِيَةُ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْجَلاَءِ، فَيُقَال:
جَلَوْتُ عَنِ الْبَلَدِ جَلاَءً إِذَا خَرَجْتُ. وَتُطْلَقُ الْجَالِيَةُ
عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَمِنْهُ قِيل: لأَِهْل الذِّمَّةِ الَّذِينَ
أَجْلاَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ جَزِيرَةِ
الْعَرَبِ الْجَالِيَةَ، وَقَدْ لَزِمَهُمْ هَذَا الاِسْمُ أَيْنَمَا
حَلُّوا، ثُمَّ لَزِمَ كُل مَنْ لَزِمَتْهُ الْجِزْيَةُ مِنْ أَهْل
الْكِتَابِ بِكُل بَلَدٍ، وَإِنْ لَمْ يَجْلُوا عَنْ أَوْطَانِهِمْ. ثُمَّ
أُطْلِقَتْ " الْجَالِيَةُ " عَلَى الْجِزْيَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ
أَهْل الذِّمَّةِ، فَقِيل: اسْتُعْمِل فُلاَنٌ عَلَى الْجَالِيَةِ.
أَيْ عَلَى جِزْيَةِ أَهْل الذِّمَّةِ. وَجَمْعُ الْجَالِيَةِ الْجَوَالِي
(2) .
وَقَدْ عَرَّفَهَا الْقَلْقَشَنْدِيُّ بِأَنَّهَا: " مَا يُؤْخَذُ مِنْ
أَهْل الذِّمَّةِ عَنِ الْجِزْيَةِ الْمُقَرَّرَةِ عَلَى رِقَابِهِمْ فِي
كُل سَنَةٍ ".
وَقَدِ اسْتُخْدِمَ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ،
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 146 - مطبعة مصطفى الحلبي بالقاهرة ط 3،
والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 162 - مطبعة مصطفى الحلبي بالقاهرة،
والمبسوط 10 / 77 - دار المعرفة ببيروت، وأحكام أهل الذمة 1 / 22، دار
العلم للملايين ببيروت.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير.
(15/151)
وَفِي الإِْيصَالاَتِ الَّتِي كَانَتْ
تُعْطَى لأَِهْل الذِّمَّةِ بَعْدَ دَفْعِ الْجِزْيَةِ مُنْذُ عَصْرِ
الْمَمَالِيكِ.
قَال الْمَقْرِيزِيُّ: فَأَمَّا الْجِزْيَةُ فَتُعْرَفُ فِي زَمَنِنَا
بِالْجَوَالِي، فَإِنَّهَا تُسْتَخْرَجُ سَلَفًا وَتَعْجِيلاً فِي غُرَّةِ
السَّنَةِ، وَكَانَ يَتَحَصَّل مِنْهَا مَالٌ كَثِيرٌ فِيمَا مَضَى.
قَال الْقَاضِي الْفَاضِل فِي مُتَجَدِّدَاتِ الْحَوَادِثِ: الَّذِي
انْعَقَدَ عَلَيْهِ ارْتِفَاعُ الْجَوَالِي لِسَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ مِائَةُ أَلْفٍ وَثَلاَثُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَمَّا
فِي وَقْتِنَا هَذَا، فَإِنَّ الْجَوَالِيَ قَلَّتْ جِدًّا، لِكَثْرَةِ
إِظْهَارِ النَّصَارَى لِلإِْسْلاَمِ فِي الْحَوَادِثِ الَّتِي مَرَّتْ
بِهِمْ.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: تُسَمَّى - أَيْ الْجِزْيَةَ - جَالِيَةً (1) .
ج - مَال الْجَمَاجِمِ:
4 - الْجَمَاجِمُ جَمْعُ جُمْجُمَةٍ: وَهِيَ عَظْمُ الرَّأْسِ الْمُشْتَمِل
عَلَى الدِّمَاغِ، وَرُبَّمَا عُبِّرَ بِهَا عَنِ الإِْنْسَانِ، فَيُقَال:
خُذْ مِنْ كُل جُمْجُمَةٍ دِرْهَمًا، كَمَا يُقَال: خُذْ مِنْ كُل رَأْسٍ
دِرْهَمًا (2) .
وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى الْجِزْيَةِ مَال الْجَمَاجِمِ؛ لأَِنَّهَا تُفْرَضُ
عَلَى الرُّءُوسِ.
قَال ابْنُ سَعْدٍ فِي تَرْجَمَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
__________
(1) القلقشندي: صبح الأعشى 3 / 458 - نشر وزارة الثقافة والإرشاد القومي
بالقاهرة، والخطط 1 / 107، رد المحتار على الدر المختار 4 / 195 - دار
الفكر ببيروت.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير.
(15/151)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " هُوَ أَوَّل مَنْ
مَسَحَ السَّوَادَ وَأَرْضَ الْجَبَل، وَوَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَى
الأَْرَضِينَ، وَالْجِزْيَةَ عَلَى جَمَاجِمِ أَهْل الذِّمَّةِ فِيمَا
فُتِحَ مِنْ الْبُلْدَانِ (1) .
وَقَال الْخُوَارِزْمِيُّ: وَيُسَمَّى - أَيُّ خَرَاجُ الرَّأْسِ - فِي
بَعْضِ الْبُلْدَانِ مَال الْجَمَاجِمِ، وَهِيَ جَمْعُ جُمْجُمَةٍ، وَهِيَ
الرَّأْسُ (2) .
وَجَاءَ فِي خُطَطِ الْمَقْرِيزِيِّ عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ خَرَاجِ
مِصْرَ: " أَوَّل مَنْ جَبَى خَرَاجَ مِصْرَ فِي الإِْسْلاَمِ عَمْرُو بْنُ
الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَكَانَتْ جِبَايَتُهُ اثْنَيْ عَشَرَ
أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ بِفَرِيضَةِ دِينَارَيْنِ دِينَارَيْنِ مِنْ كُل
رَجُلٍ، ثُمَّ جَبَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ. . . أَرْبَعَةَ عَشَرَ
أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ. . وَهَذَا الَّذِي جَبَاهُ عَمْرٌو ثُمَّ عَبْدُ
اللَّهِ هُوَ مِنَ الْجَمَاجِمِ خَاصَّةً دُونَ الْخَرَاجِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ بِالْجِزْيَةِ:
أ - الْغَنِيمَةُ:
5 - الْغَنِيمَةُ: اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ عَلَى سَبِيل
الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ (4) .
وَيَدْخُل فِيهَا الأَْمْوَال وَالأَْسْرَى مِنْ أَهْل الْحَرْبِ إِذَا
اسْتُرِقُّوا
__________
(1) الطبقات الكبرى 3 / 282 - دار صادر ببيروت.
(2) مفاتيح العلوم ص 40.
(3) الخطط للمقريزي 1 / 98.
(4) بدائع الصنائع 9 / 4345 - مطبعة الإمام بالقاهرة.
(15/152)
فَالْغَنِيمَةُ مُبَايِنَةٌ لِلْجِزْيَةِ
لأَِنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَالْغَنِيمَةَ لاَ
تَكُونُ إِلاَّ فِي الْقِتَال.
ب - الْفَيْءُ:
6 - الْفَيْءُ: كُل مَا صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ قَبْل
الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجَفَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ أَوْ
رِجْلٍ (مُشَاةٍ) - أَيْ بِغَيْرِ قِتَالٍ - "
وَالْفَيْءُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا انْجَلَوْا عَنْهُ: أَيْ هَرَبُوا
عَنْهُ خَوْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ بَذَلُوهُ لِلْكَفِّ عَنْهُمْ.
وَالثَّانِي: مَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ: كَالْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ
الصُّلْحِيِّ وَالْعُشُورِ. فَبَيْنَ الْفَيْءِ وَالْجِزْيَةِ عُمُومٌ
وَخُصُوصٌ، فَالْفَيْءُ أَعَمُّ مِنَ الْجِزْيَةِ (1) .
ج - الْخَرَاجُ:
7 - الْخَرَاجُ هُوَ مَا يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ غَيْرِ الْعُشْرِيَّةِ
مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا إِلَى بَيْتِ الْمَال، وَوَجْهُ الصِّلَةِ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِزْيَةِ أَنَّهُمَا يَجِبَانِ عَلَى أَهْل
الذِّمَّةِ، وَيُصْرَفَانِ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ.
وَمِنَ الْفُرُوقِ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ عَلَى
الرُّءُوسِ، أَمَّا الْخَرَاجُ فَيُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ، وَالْجِزْيَةُ
تَسْقُطُ بِالإِْسْلاَمِ، أَمَّا الْخَرَاجُ فَلاَ يَسْقُطُ
بِالإِْسْلاَمِ، وَيَبْقَى مَعَ الإِْسْلاَمِ وَالْكُفْرِ (2) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 92، 93، وبداية المجتهد 1 / 402.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 142، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص
153.
(15/152)
د - الْعُشُورُ:
8 - الْعُشُورُ فِي الاِصْطِلاَحِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: عُشُورُ
الزَّكَاةِ وَهِيَ مَا يُؤْخَذُ فِي زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ عَلَى
مَا يُعْرَفُ فِي بَابِهِ، وَالثَّانِي: مَا يُفْرَضُ عَلَى الْكُفَّارِ
فِي أَمْوَالِهِمُ الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ إِذَا انْتَقَلُوا بِهَا
مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ
لِكَوْنِ الْمَأْخُوذِ عُشْرًا، أَوْ مُضَافًا إِلَى الْعُشْرِ: كَنِصْفِ
الْعُشْرِ.
وَوَجْهُ الصِّلَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجِزْيَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا
يَجِبُ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ وَأَهْل الْحَرْبِ الْمُسْتَأْمَنِينَ،
وَيُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعُشُورِ وَالْجِزْيَةِ أَنَّ الْجِزْيَةَ عَلَى
الرُّءُوسِ وَهِيَ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ لاَ يَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ
الشَّخْصِ، وَالْعُشْرُ عَلَى الْمَال.
تَارِيخُ تَشْرِيعِ الْجِزْيَةِ فِي الإِْسْلاَمِ:
9 - بَعْدَ أَنْ تَمَّ فَتْحُ مَكَّةَ فِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ
الثَّامِنَةِ لِلْهِجْرَةِ، وَدَخَل النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا
وَاسْتَقَرَّتِ الْجَزِيرَةُ الْعَرَبِيَّةُ عَلَى دِينِ اللَّهِ تَعَالَى
أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَسُولَهُ الْكَرِيمَ بِمُجَاهَدَةِ
أَهْل الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي قَوْله تَعَالَى:
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 183، والكافي لابن عبد البر في فقه أهل المدينة -
1 / 480، مكتبة الرياض الحديثة بالرياض - ط 2 - 1400 هـ. والمغني 8 / 516.
(15/153)
الآْخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ
صَاغِرُونَ (1) } وَلِهَذَا جَهَّزَ (2) رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقِتَال الرُّومِ وَدَعَا الْمُسْلِمِينَ إِلَى
ذَلِكَ، وَنَدَبَ الأَْعْرَابَ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ حَوْل الْمَدِينَةِ
الْمُنَوَّرَةِ إِلَى قِتَالِهِمْ، فَأَوْعَبُوا مَعَهُ وَاجْتَمَعَ مِنَ
الْمُقَاتِلَةِ نَحْوُ ثَلاَثِينَ أَلْفًا، وَتَخَلَّفَ بَعْضُ النَّاسِ
مِنْ أَهْل الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ
وَغَيْرِهِمْ. وَخَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِمَنْ مَعَهُ يُرِيدُ الشَّامَ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ،
فَبَلَغَ تَبُوكَ وَنَزَل بِهَا، وَأَقَامَ فِيهَا نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ
يَوْمًا، يُبَايِعُ الْقَبَائِل الْعَرَبِيَّةَ عَلَى الإِْسْلاَمِ،
وَيَعْقِدُ الْمُعَاهَدَاتِ مَعَ الْقَبَائِل الأُْخْرَى عَلَى الْجِزْيَةِ
إِلَى أَنْ تَمَّ خُضُوعُ تِلْكَ الْمِنْطَقَةِ لِحُكْمِ الإِْسْلاَمِ.
قَال الطَّبَرِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ آيَةِ الْجِزْيَةِ: " نَزَلَتْ عَلَى
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِهِ بِحَرْبِ
الرُّومِ، فَغَزَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَعْدَ نُزُولِهَا غَزْوَةَ تَبُوكَ ". ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا الْقَوْل
مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ (3) .
بِهَذِهِ الآْيَةِ تَمَّ تَشْرِيعُ الْجِزْيَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ
__________
(1) سورة التوبة / 29.
(2) حديث: " تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم. . . " أخرجه
ابن إسحاق (سيرة ابن هشام 4 / 159 ط مصطفى الحلبي) عن الزهري وغيره مرسلا.
وأصله في الصحيحين.
(3) جامع البيان في تفسير آي القرآن 10 / 77، والهداية إلى بلوغ النهاية في
علم معاني القرآن وتفسيره وأحكامه - مخطوطة الخزانة العامة بالرياض.
(15/153)
الْعُلَمَاءُ فِي وَقْتِ تَشْرِيعِهَا
تَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي وَقْتِ نُزُول الآْيَةِ.
فَذَهَبَ ابْنُ الْقَيِّمِ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْ
أَحَدٍ مِنَ الْكُفَّارِ إِلاَّ بَعْدَ نُزُول آيَةِ سُورَةِ بَرَاءَةٍ فِي
السَّنَةِ الثَّامِنَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ.
وَذَهَبَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ إِلَى أَنَّ آيَةَ الْجِزْيَةِ
نَزَلَتْ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ، حَيْثُ قَال عِنْدَ
تَفْسِيرِهِ لِلآْيَةِ: هَذِهِ الآْيَةُ الْكَرِيمَةُ أَوَّل الأَْمْرِ
بِقِتَال أَهْل الْكِتَابِ بَعْدَمَا تَمَهَّدَتْ أُمُورُ الْمُشْرِكِينَ
وَدَخَل النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا وَاسْتَقَامَتْ جَزِيرَةُ
الْعَرَبِ، أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِقِتَال أَهْل الْكِتَابَيْنِ،
وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ (1) .
هَذَا وَلَمْ يَأْخُذْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جِزْيَةً مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْكُفَّارِ قَبْل نُزُول آيَةِ الْجِزْيَةِ،
فَلَمَّا نَزَلَتْ أَخَذَهَا مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَمَجُوسِ هَجَرَ،
ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْ أَهْل أَيْلَةَ، وَأَذْرُحَ، وَأَهْل أَذْرِعَاتٍ
وَغَيْرِهَا مِنَ الْقَبَائِل النَّصْرَانِيَّةِ الَّتِي تَعِيشُ فِي
أَطْرَافِ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ (2) .
رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ - بِسَنَدِهِ - إِلَى ابْنِ شِهَابٍ
__________
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 2 / 88 - دار إحياء التراث العربي
ببيروت، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2 / 347 - دار المعرفة ببيروت.
(2) نجران (بفتح النون وسكون الجيم وفتح الراء) : بلدة ما بين مكة واليمن
على نحو سبع مراحل من مكة (تهذيب الأسماء واللغات للنووي 3 / 176) .
(15/154)
قَال: " أَوَّل مَنْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ
أَهْل نَجْرَانَ وَكَانُوا نَصَارَى (1) ".
وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ
الْجِزْيَةِ أَخَذَهَا - أَيْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مِنَ الْمَجُوسِ وَأَخَذَهَا مِنْ أَهْل الْكِتَابِ
وَأَخَذَهَا مِنَ النَّصَارَى (2) . وَيَقْصِدُ مَجُوسَ الْبَحْرَيْنِ (3)
أَوْ مَجُوسَ هَجَرَ (4) .
رَوَى الْبُخَارِيُّ - بِسَنَدِهِ - إِلَى الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ
قَال: إِنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ الأَْنْصَارِيَّ وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي
عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَة إِلَى
الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رَسُول اللَّهِ هُوَ صَالَحَ
أَهْل الْبَحْرَيْنِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ الْعَلاَءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ
(5) .
وَبَعْدَ أَنْ أَخَذَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَصَارَى
نَجْرَانَ
__________
(1) حديث: " أول من أعطى الجزية أهل نجران وكانوا نصارى " أخرجه أبو عبيد
في الأموال (41 ط دار الفكر) مرسلا.
(2) زاد المعاد 2 / 88.
(3) كان المراد بالبحرين في ذلك العهد ما بين عمان إلى البصرة (معجم
البلدان لياقوت 1 / 347، وتهذيب الأسماء 3 / 37، واللسان 1 / 66) .
(4) هجر (بفتح الهاء والجيم) : اسم بلد بالبحرين، وتعتبر هجر قاعدة
البحرين، وقيل: ناحية البحرين كلها هجر. (معجم البلدان 5 / 393) .
(5) حديث: " كان رسول الله هو صالح أهل البحرين، وأمر عليهم العلاء الحضرمي
". أخرجه البخاري (4 / 117 ط عيسى صبيح) من حديث المسور بن مخرمة.
(15/154)
وَمَجُوسِ هَجَرَ أَخَذَهَا مِنْ بَعْضِ
الْقَبَائِل الْيَهُودِيَّةِ، وَالنَّصْرَانِيَّة فِي تَبُوكَ فِي
السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ فَأَخَذَهَا مِنْ أَهْل أَيْلَةَ (1)
حَيْثُ قَدِمَ يُوحَنَّا بْنُ رُؤْبَةَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَبُوكَ، وَصَالَحَهُ عَلَى كُل حَالِمٍ
بَالِغٍ بِأَرْضِهِ فِي السَّنَةِ دِينَارٌ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ قِرَى
مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا بِأَنْ
يُحْفَظُوا وَيُمْنَعُوا (2) . وَأَخَذَهَا مِنْ أَهْل أَذْرُحَ (3)
وَأَهْل الْجَرْبَاءِ (4) وَأَهْل تَبَالَةَ
__________
(1) أيلة (بفتح الهمزة وإسكان الياء) : بلدة معروفة على ساحل البحر آخر
الحجاز وأول الشام. وتعرف اليوم بالعقبة (معجم البلدان 1 / 292، وتهذيب
الأسماء للنووي 1 / 19) .
(2) حديث قدوم " يوحنة بن رؤبة على رسول الله في تبوك. . . " أخرجه ابن
إسحاق في السيرة (4 / 169 ط مصطفى الحلبي) وفي سنده انقطاع. وأخرجه ابن سعد
في الطبقات (1 / 290 ط دار بيروت) وفي سنده الواقدي وهو متكلم فيه. وانظر
فتوح البلدان ص 71 - دار الكتب العلمية ببيروت، والطبقات 1 / 290، الواقدي:
المغازي - عالم الكتب ببيروت 3 / 1031، والأموال لأبي عبيد ص 287، والأموال
لابن زنجويه 2 / 463.
(3) أذرح (بفتح الهمزة وسكون الذال وضم الراء) : اسم بلد من أطراف الشام من
نواحي البلقاء. (معجم البلدان 1 / 129) .
(4) الجرباء: قرية من قرى أذرح في أطراف الشام (معجم البلدان 2 / 118) .
(15/155)
وَجَرَشَ، وَأَهْل أَذْرِعَاتٍ (1) وَأَهْل
مَقْنَا (2) ، وَكَانَ أَهْلُهَا يَهُودًا، فَصَالَحَهُمْ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُبُعِ غُزُولِهِمْ وَثِمَارِهِمْ
وَمَا يَصْطَادُونَ عَلَى الْعَرُوكِ (3) .
وَأَخَذَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ
ذَلِكَ مِنْ أَهْل الْيَمَنِ، حَيْثُ أَرْسَل مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ
إِلَيْهِمْ. فَقَال مُعَاذٌ: " بَعَثَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُل
حَالِمٍ دِينَارًا (4) ".
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ كِتَابَ الرَّسُول إِلَى أَهْل الْيَمَنِ حَيْثُ
جَاءَ فِيهِ: مِنْ مُحَمَّدٍ إِلَى أَهْل الْيَمَنِ. . وَأَنَّهُ مَنْ
أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ فَإِنَّهُ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ، لَهُ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ،
__________
(1) أذرعات (بالفتح ثم السكون وكسر الراء) : بلد في أطراف الشام يجاور أرض
البلقاء وعمان. (معجم البلدان 1 / 130) .
(2) مقنا: قرية قرب أيلة. (معجم البلدان 5 / 187) .
(3) فتوح البلدان ص 71، والطبقات 1 / 290، والعروك: الخشب الذي يصطادون
عليه. وحديث: " فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ربع غزولهم
وثمارهم " أخرجه ابن سعد في الطبقات (1 / 290 ط دار بيروت) وفي سنده
الواقدي وهو متكلم فيه.
(4) حديث: " بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ
من كل حالم دينارا ". أخرجه أبو داود (2 / 234 ط عزت عبيد الدعاس) ،
والترمذي (3 / 11 ط مصطفى الحلبي) . وقال: حديث حسن. والنسائي (5 / 26 ط
دار البشائر) من حديث معاذ، والحاكم (1 / 398 ط دار الكتاب العربي) . وقال
صحيح على شرط الشيخين.
(15/155)
وَمَنْ كَانَ عَلَى يَهُودِيَّتِهِ أَوْ
نَصْرَانِيَّتِهِ فَإِنَّهُ لاَ يُفْتَنُ عَنْهَا وَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ
(1) .
الأَْدِلَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجِزْيَةِ:
10 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الْجِزْيَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَالإِْجْمَاعِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآْخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا
حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ
وَهُمْ صَاغِرُونَ (2) } .
فَالآْيَةُ تَدُل عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْل
الْكِتَابِ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالصِّفَاتِ
الْمَذْكُورَةِ فِيهَا. وَلِهَذَا شَرَعَ اللَّهُ مُجَاهَدَةَ
الْكَافِرِينَ، وَمُقَاتَلَتَهُمْ حَتَّى يَرْجِعُوا عَنْ تِلْكَ
الصِّفَاتِ، وَيَدْخُلُوا الدِّينَ الْحَقَّ، أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ
عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (3) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ سَبَقَ
بَعْضُهَا.
__________
(1) أبو عبيد: الأموال ص 31، ابن زنجويه: الأموال 1 / 128. وحديث: " من
محمد إلى أهل اليمن. . وأنه من أسلم من يهودي أو نصراني. . . ". أخرجه أبو
عبيد في كتاب الأموال (35 ط دار الفكر) مرسلا عن عروة بن الزبير.
(2) سورة التوبة / 29.
(3) تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - على هامش تفسير الطبري 10 / 66.
(15/156)
وَمِنْهَا مَا رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ
عَنْ بُرَيْدَةَ. كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي
خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
خَيْرًا. ثُمَّ قَال: اغْزُوَا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيل اللَّهِ.
قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ. اغْزُوَا وَلاَ تَغُلُّوا وَلاَ
تَغْدِرُوا وَلاَ تُمَثِّلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا. وَإِذَا لَقِيتَ
عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ أَوْ
خِلاَلٍ. فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَل مِنْهُمْ وَكُفَّ
عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِْسْلاَمِ. فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَل
مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّل عَنْ
دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ. وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ
فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى
الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا
فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي
عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ
يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ، إِلاَّ أَنْ
يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ
الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَل مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ
فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ (1) .
فَقَوْلُهُ: فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ يَدُل عَلَى
مَشْرُوعِيَّةِ الْجِزْيَةِ وَإِقْرَارِهَا.
__________
(1) حديث: " اغزوا باسم الله. في سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. . . "
أخرجه مسلم (3 / 1356 - 1358) ، وأبو داود (3 / 83 ط عزت عبيد الدعاس)
والترمذي (4 / 162 ط مصطفى الحلبي) من حديث بريدة.
(15/156)
11 - أَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ أَحَادِيثَ
تَدُل عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقْبَل مِنَ الْكُفَّارِ إِلاَّ الإِْسْلاَمُ
أَوِ السَّيْفُ: كَحَدِيثِ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى
يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي
نَفْسَهُ وَمَالَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ (1) .
فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي بِدَايَةِ
الإِْسْلاَمِ قَبْل نُزُول آيَةِ بَرَاءَةٍ، وَسُورَةُ بَرَاءَةٍ مِنْ
آخِرِ مَا نَزَل مِنَ الْقُرْآنِ، قَال أَبُو عُبَيْدٍ: " وَإِنَّمَا
تُوَجَّهُ هَذِهِ الأَْحَادِيثُ عَلَى أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا قَال ذَلِكَ فِي بَدْءِ الإِْسْلاَمِ، وَقَبْل
أَنْ تَنْزِل سُورَةُ بَرَاءَةٍ، وَيُؤْمَرَ فِيهَا بِقَبُول الْجِزْيَةِ
فِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ
صَاغِرُونَ (2) } ، وَإِنَّمَا نَزَل هَذَا فِي آخِرِ الإِْسْلاَمِ،
وَفِيهِ أَحَادِيثُ، مِنْهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: " كَانَتْ بَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ مَا نَزَل مِنَ
الْقُرْآنِ وَقَال مُجَاهِدٌ فِي آيَةِ الْجِزْيَةِ: نَزَلَتْ حِينَ أَمَرَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِغَزْوَةِ
تَبُوكَ وَقَال: سَمِعْتُ هُشَيْمًا يَقُول: كَانَتْ تَبُوكُ آخِرَ غَزَاةٍ
غَزَاهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) .
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ
__________
(1) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. . . " أخرجه
مسلم (1 / 51 - 52) ط عيسى الحلبي. من حديث عمر بن الخطاب.
(2) سورة التوبة / 29.
(3) الأموال لأبي عبيد ص 28، 29، الأموال لابن زنجويه 1 / 116.
(15/157)
أَخْذِهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ
أَخَذَهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَسَائِرُ
الْخُلَفَاءِ دُونَ إِنْكَارٍ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ
إِجْمَاعًا (1) .
الْحِكْمَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الْجِزْيَةِ:
1 - الْجِزْيَةُ عَلاَمَةُ خُضُوعٍ وَانْقِيَادٍ لِحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ:
12 - قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَل: {حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ (2) }
قِيل: مَعْنَاهُ عَنْ ذُلٍّ وَعَنِ اعْتِرَافٍ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ
أَيْدِيَهُمْ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، وَقِيل عَنْ يَدٍ: أَيْ عَنْ إِنْعَامٍ
عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّ قَبُول الْجِزْيَةِ وَتَرْكَ أَنْفُسِهِمْ
عَلَيْهِمْ نِعْمَةٌ عَلَيْهِمْ وَيَدٌ مِنَ الْمَعْرُوفِ جَزِيلَةٌ.
وَقِيل: عَنْ يَدٍ أَيْ عَنْ قَهْرٍ وَذُلٍّ وَاسْتِسْلاَمٍ كَمَا تَقُول:
الْيَدُ فِي هَذَا لِفُلاَنٍ أَيِ الأَْمْرُ النَّافِذُ لِفُلاَنٍ.
وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ الْبَزِّيِّ: عَنْ يَدٍ قَال: نَقْدًا عَنْ ظَهْرِ
يَدٍ لَيْسَ بِنَسِيئَةٍ
وَقَال أَبُو عُبَيْدَةَ: كُل مَنْ أَطَاعَ لِمَنْ قَهَرَهُ فَأَعْطَاهُ
عَنْ غَيْرِ طِيبَةِ نَفْسِهِ، فَقَدْ أَعْطَاهَا عَنْ يَدٍ (3) . . ".
__________
(1) المغني 8 / 495، والمبدع 3 / 405، وأحكام أهل الذمة 1 / 1، ومغني
المحتاج 4 / 242، - مطبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة 1958، وكفاية
الأخيار 2 / 133 - دار المعرفة ببيروت.
(2) سورة التوبة / 29.
(3) لسان العرب 3 / 1007، المفردات في غريب القرآن ص 551.
(15/157)
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ هَذِهِ
الْمَعَانِيَ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {عَنْ يَدٍ} ، فَقَال
النَّيْسَابُورِيُّ:
{عَنْ يَدٍ} إِنْ أُرِيدَ بِهَا يَدُ الْمُعْطِي فَالْمُرَادُ: عَنْ يَدٍ
مُؤَاتِيَةٍ غَيْرِ مُمْتَنِعَةٍ، يُقَال أَعْطَى بِيَدِهِ إِذَا انْقَادَ
وَأَصْحَبَ، أَوِ الْمُرَادُ حَتَّى يُعْطُوهَا عَنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ
نَقْدًا غَيْرَ نَسِيئَةٍ وَلاَ مَبْعُوثًا عَلَى يَدِ أَحَدٍ. وَإِنْ
أُرِيدَ بِهَا يَدُ الآْخِذِ فَمَعْنَاهُ حَتَّى يُعْطُوهَا عَنْ يَدٍ
قَاهِرَةٍ مُسْتَوْلِيَةٍ أَيْ بِسَبَبِهَا، أَوِ الْمُرَادُ عَنْ
إِنْعَامٍ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ قَبُول الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ بَدَلاً عَنْ
أَرْوَاحِهِمْ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَيْهِمْ (1) .
وَفَسَّرَ الشَّافِعِيُّ الصَّغَارَ بِإِجْرَاءِ حُكْمِ الإِْسْلاَمِ
عَلَيْهِمْ حَيْثُ قَال: سَمِعْتُ رِجَالاً مِنْ أَهْل الْعِلْمِ
يَقُولُونَ: الصَّغَارُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُ الإِْسْلاَمِ
وَمَا أَشْبَهَ مَا قَالُوا بِمَا قَالُوا، لاِمْتِنَاعِهِمْ مِنَ
الإِْسْلاَمِ. فَإِذَا جَرَى عَلَيْهِمْ حُكْمُهُ فَقَدْ أَصَغَرُوا بِمَا
يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ دَفْعُ
الْجِزْيَةِ مِنَ الْكَافِرِينَ وَالْخُضُوعُ لِسُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ
مُوجِبًا لِلصَّغَارِ (2) .
2 - الْجِزْيَةُ وَسِيلَةٌ لِهِدَايَةِ أَهْل الذِّمَّةِ:
13 - قَال الْقَرَافِيُّ: " إِنَّ قَاعِدَةَ الْجِزْيَةِ مِنْ بَابِ
الْتِزَامِ الْمَفْسَدَةِ الدُّنْيَا لِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الْعُلْيَا
وَتَوَقُّعِ الْمَصْلَحَةِ، وَذَلِكَ هُوَ شَأْنُ الْقَوَاعِدِ
الشَّرْعِيَّةِ،
__________
(1) تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان 10 / 66.
(2) تفسير القرآن العظيم 2 / 347، وزاد المسير 3 / 420، وأحكام القرآن
للشافعي 2 / 61.
(15/158)
بَيَانُهُ: أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا قُتِل
انْسَدَّ عَلَيْهِ بَابُ الإِْيمَانِ، وَبَابُ مَقَامِ سَعَادَةِ
الإِْيمَانِ، وَتَحَتَّمَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ وَالْخُلُودُ فِي النَّارِ،
وَغَضَبُ الدَّيَّانِ، فَشَرَعَ اللَّهُ الْجِزْيَةَ رَجَاءَ أَنْ يُسْلِمَ
فِي مُسْتَقْبَل الأَْزْمَانِ، لاَ سِيَّمَا بِاطِّلاَعِهِ عَلَى مَحَاسِنِ
الإِْسْلاَمِ (1) ".
وَتَظْهَرُ هَذِهِ الْحِكْمَةُ فِي تَشْرِيعِ الْجِزْيَةِ مِنْ
جَانِبَيْنِ:
الأَْوَّل: الصَّغَارُ الَّذِي يَلْحَقُ أَهْل الذِّمَّةِ عِنْدَ دَفْعِ
الْجِزْيَةِ.
وَقَال إِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: " فَكَمَا
يَقْتَرِنُ بِالزَّكَاةِ الْمَدْحُ وَالإِْعْظَامُ وَالدُّعَاءُ لَهُ،
فَيَقْتَرِنُ بِالْجِزْيَةِ الذُّل وَالذَّمُّ، وَمَتَى أُخِذَتْ عَلَى
هَذَا الْوَجْهِ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى أَنْ لاَ يَثْبُتُوا عَلَى الْكُفْرِ
لِمَا يَتَدَاخَلُهُمْ مِنَ الأَْنَفَةِ وَالْعَارِ، وَمَا كَانَ أَقْرَب
إِلَى الإِْقْلاَعِ عَنِ الْكُفْرِ فَهُوَ أَصْلَحُ فِي الْحِكْمَةِ
وَأَوْلَى بِوَضْعِ الشَّرْعِ (2) .
وَالثَّانِي: مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى دَفْعِ الْجِزْيَةِ مِنْ إِقَامَةٍ فِي
دَارِ الإِْسْلاَمِ وَاطِّلاَعٍ عَلَى مَحَاسِنِهِ.
وَقَال الْحَطَّابُ - فِي بَيَانِ الْحِكْمَةِ -: الْحِكْمَةُ فِي وَضْعِ
الْجِزْيَةِ أَنَّ الذُّل الَّذِي يَلْحَقُهُمْ يَحْمِلُهُمْ
__________
(1) الفروق للقرافي 3 / 23.
(2) أحكام القرآن لألكيا الهراس 4 / 43 - مطبعة حسان بالقاهرة ط 1، وشرح
الموطأ 3 / 138، ونهاية المحتاج 8 / 80، وحاشية البجيرمي 4 / 268، مغني
المحتاج 4 / 242، نيل الأوطار 8 / 65.
(15/158)
عَلَى الدُّخُول فِي الإِْسْلاَمِ مَعَ مَا
فِي مُخَالَطَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الاِطِّلاَعِ عَلَى مَحَاسِنِ
الإِْسْلاَمِ (1) .
3 - الْجِزْيَةُ وَسِيلَةٌ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ الاِسْتِئْصَال
وَالاِضْطِهَادِ:
14 - الْجِزْيَةُ نِعْمَةٌ عُظْمَى تُسْدَى لأَِهْل الذِّمَّةِ، فَهِيَ
تَعْصِمُ أَرْوَاحَهُمْ وَتَمْنَعُ عَنْهُمْ الاِضْطِهَادَ، وَقَدْ
أَدْرَكَ هَذِهِ النِّعْمَةَ أَهْل الذِّمَّةِ الأَْوَائِل، فَلَمَّا رَدَّ
أَبُو عُبَيْدَةَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْل حِمْصَ لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ
تَوْفِيرَ الْحِمَايَةِ لَهُمْ قَالُوا لِوُلاَتِهِ: " وَاللَّهِ
لَوِلاَيَتُكُمْ وَعَدْلُكُمْ، أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ مِنَ
الظُّلْمِ وَالْغَشْمِ فَقَدْ أَقَرَّ أَهْل حِمْصَ بِأَنَّ حُكْمَ
الْمُسْلِمِينَ مَعَ خِلاَفِهِمْ لَهُمْ فِي الدِّينِ، أَحَبُّ إِلَيْهِمْ
مِنْ حُكْمِ أَبْنَاءِ دِينِهِمْ، وَذَلِكَ لِمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ
ذَلِكَ الْحُكْمُ مِنْ ظُلْمٍ وَجَوْرٍ وَاضْطِهَادٍ وَعَدَمِ احْتِرَامٍ
لِلنَّفْسِ الإِْنْسَانِيَّةِ (2) .
فَإِذَا قَارَنَّا بَيْنَ الْجِزْيَةِ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ
صَغَارٍ، وَبَيْنَ تِلْكَ الأَْعْمَال الْوَحْشِيَّةِ الَّتِي يُمَارِسُهَا
أَهْل الْعَقَائِدِ مَعَ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي الْمُعْتَقَدِ،
تَكُونُ الْجِزْيَةُ نِعْمَةً مُسْدَاةً إِلَى أَهْل الذِّمَّةِ،
وَرَحْمَةً مُهْدَاةً إِلَيْهِمْ، وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ شُكْرَ اللَّهِ
تَعَالَى، وَالاِعْتِرَافَ بِالْجَمِيل لِلْمُسْلِمِينَ.
__________
(1) الحطاب 3 / 380، وشرح الموطأ 3 / 138.
(2) البلاذري: فتوح البلدان ص 143.
(15/159)
4 - الْجِزْيَةُ مَوْرِدٌ مَالِيٌّ
تَسْتَعِينُ بِهِ الدَّوْلَةُ
الإِْسْلاَمِيَّةُ فِي الإِْنْفَاقِ عَلَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ
وَالْحَاجَاتِ الأَْسَاسِيَّةِ لِلْمُجْتَمَعِ.
15 - تُعْتَبَرُ الْجِزْيَةُ مَوْرِدًا مَالِيًّا مِنْ مَوَارِدِ
الدَّوْلَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ، تُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى الْمَصَالِحِ
الْعَامَّةِ وَالْحَاجَاتِ الأَْسَاسِيَّةِ لِلْمُجْتَمَعِ: كَالدِّفَاعِ
عَنِ الْبِلاَدِ، وَتَوْفِيرِ الأَْمْنِ فِي الْمُجْتَمَعِ، وَتَحْقِيقِ
التَّكَافُل الاِجْتِمَاعِيِّ، وَالْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ: كَبِنَاءِ
الْمَدَارِسِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْجُسُورِ وَالطُّرُقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي بَيَانِ الْحِكْمَةِ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ
الْجِزْيَةِ: " فِي أَخْذِهَا مَعُونَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَرِزْقٌ حَلاَلٌ
سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ (1) ".
وَجَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: " بَل هِيَ نَوْعُ إِذْلاَلٍ لَهُمْ
وَمَعُونَةٌ لَنَا (2) ".
وَجِبَايَةُ الْمَال لَيْسَتْ هِيَ الْهَدَفُ الأَْسَاسِيُّ مِنْ تَشْرِيعِ
الْجِزْيَةِ، وَإِنَّمَا الْهَدَفُ الأَْسَاسِيُّ هُوَ تَحْقِيقُ خُضُوعِ
أَهْل الذِّمَّةِ إِلَى حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعَيْشُ بَيْنَ
ظَهْرَانَيْهِمْ لِيَطَّلِعُوا عَلَى مَحَاسِنِ الإِْسْلاَمِ وَعَدْل
الْمُسْلِمِينَ، فَتَكُونَ هَذِهِ الْمَحَاسِنُ بِمَثَابَةِ الأَْدِلَّةِ
الْمُقْنِعَةِ لَهُمْ عَلَى الإِْقْلاَعِ عَنِ الْكُفْرِ وَالدُّخُول فِي
الإِْسْلاَمِ، وَالَّذِي يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ
عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ دُخُولِهِ فِي
__________
(1) ابن العربي: أحكام القرآن - مطبعة عيسى الحلبي بالقاهرة 2 / 925.
(2) الشربيني الخطيب: مغني المحتاج 4 / 242.
(15/159)
الإِْسْلاَمِ، وَأَنَّ الْحُكُومَةَ
الإِْسْلاَمِيَّةَ لاَ تُقْدِمُ عَلَى فَرْضِ الْجِزْيَةِ عَلَى
الأَْفْرَادِ إِلاَّ بَعْدَ تَخْيِيرِهِمْ بَيْنَ الإِْسْلاَمِ
وَالْجِزْيَةِ، وَهِيَ تُفَضِّل دُخُول أَهْل الْبِلاَدِ الْمَفْتُوحَةِ
فِي الإِْسْلاَمِ وَإِعْفَاءَهُمْ مِنَ الْجِزْيَةِ عَلَى الْبَقَاءِ فِي
الْكُفْرِ وَدَفْعِ الْجِزْيَةِ؛ لأَِنَّهَا دَوْلَةُ هِدَايَةٍ لاَ
جِبَايَةٍ.
جَاءَ فِي تَارِيخِ الطَّبَرِيِّ عَنْ زِيَادِ بْنِ جُزْءٍ الزُّبَيْدِيِّ
قَال: " كَتَبَ عُمَرُ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. . فَاعْرِضْ عَلَى
صَاحِبِ الإِْسْكَنْدَرِيَّةِ أَنْ يُعْطِيَكَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَنْ
تُخَيِّرُوا مَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ سَبْيِهِمْ بَيْنَ الإِْسْلاَمِ
وَبَيْنَ دِينِ قَوْمِهِ، فَمَنِ اخْتَارَ مِنْهُمُ الإِْسْلاَمَ فَهُوَ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَهُ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ، وَمَنِ
اخْتَارَ دِينَ قَوْمِهِ وُضِعَ عَلَيْهِ مِنَ الْجِزْيَةِ مَا يُوضَعُ
عَلَى أَهْل دِينِهِ " ثُمَّ قَال: " فَجَمَعْنَا مَا فِي أَيْدِينَا مِنَ
السَّبَايَا وَاجْتَمَعَتِ النَّصَارَى، فَجَعَلْنَا نَأْتِي بِالرَّجُل
مِمَّنْ فِي أَيْدِينَا، ثُمَّ نُخَيِّرُهُ بَيْنَ الإِْسْلاَمِ وَبَيْنَ
النَّصْرَانِيَّةِ، فَإِذَا اخْتَارَ الإِْسْلاَمَ كَبَّرْنَا تَكْبِيرَةً
هِيَ أَشَدُّ مِنْ تَكْبِيرِنَا حِينَ نَفْتَحُ الْقَرْيَةَ، ثُمَّ
نَحُوزُهُ إِلَيْنَا. وَإِذَا اخْتَارَ النَّصْرَانِيَّةَ نَخَرَتِ
النَّصَارَى - أَيْ أَخْرَجُوا أَصْوَاتًا مِنْ أُنُوفِهِمْ - ثُمَّ
حَازُوهُ إِلَيْهِمْ وَوَضَعْنَا عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ، وَجَزِعْنَا مِنْ
ذَلِكَ جَزَعًا شَدِيدًا حَتَّى كَأَنَّهُ رَجُلٌ خَرَجَ مِنَّا
إِلَيْهِمْ. . فَكَانَ ذَلِكَ الدَّأْبُ حَتَّى فَرَغْنَا مِنْهُمْ (1) ".
__________
(1) الطبري: تاريخ الأمم والملوك - 4 / 227 - دار الفكر ببيروت 1399 هـ.
(15/160)
أَنْوَاعُ الْجِزْيَةِ:
قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْجِزْيَةَ - بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ - إِلَى
أَقْسَامٍ، فَقَسَّمُوهَا - بِاعْتِبَارِ رِضَا الْمَأْخُوذِ مِنْهُ
وَعَدَمِ رِضَاهُ - إِلَى صُلْحِيَّةٍ وَعَنْوِيَّةٍ.
وَقَسَّمُوهَا - بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهَا: هَل تَكُونُ عَلَى الرُّءُوسِ
أَوْ عَلَى الأَْمْوَال الَّتِي يَكْتَسِبُهَا الذِّمِّيُّ؟ إِلَى جِزْيَةِ
رُءُوسٍ وَجِزْيَةٍ عُشْرِيَّةٍ.
وَقَسَّمُوهَا - بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ إِلَى طَبَقَاتِ النَّاسِ
وَأَوْصَافِهِمْ وَعَدَمِ النَّظَرِ إِلَيْهَا - إِلَى جِزْيَةِ أَشْخَاصٍ،
وَجِزْيَةِ طَبَقَاتٍ أَوْ أَوْصَافٍ.
أَوَّلاً - الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ وَالْعَنْوِيَّةُ:
16 - صَرَّحَ بِهَذَا التَّقْسِيمِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ (1) ،
وَلاَ يَرِدُ هَذَا التَّقْسِيمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ،
لأَِنَّهُمْ يَرَوْنَ عَدَمَ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ عَلَى الْمَغْلُوبِينَ
بِدُونِ رِضَاهُمْ (2) .
فَالْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ: هِيَ الَّتِي تُوضَعُ عَلَى أَهْل
الذِّمَّةِ بِالتَّرَاضِي وَالصُّلْحِ (3) .
__________
(1) انظر: ابن رشد: بداية المجتهد 1 / 405، الزيلعي: تبيين الحقائق 3 /
276، وحاشية ابن عابدين 4 / 196، الميداني: اللباب 4 / 143، المرغيناني:
الهداية 2 / 159، ابن رشد: المقدمات 1 / 394، 395.
(2) الرملي: نهاية المحتاج 8 / 68، ابن قدامة: المغني 8 / 372.
(3) الزيلعي: تبيين الحقائق 3 / 276، ابن مودود: الاختيار 4 / 137.
(15/160)
وَعَرَّفَهَا الْعَدَوِيُّ بِأَنَّهَا: مَا
الْتَزَمَ كَافِرٌ قَبْل الاِسْتِعْلاَءِ عَلَيْهِ أَدَاءَهُ مُقَابِل
إِبْقَائِهِ فِي بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ (1) وَيُمَثَّل لِهَذَا النَّوْعِ
بِمَا وَقَعَ مِنْ صُلْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لأَِهْل نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ (2) ، وَكَذَا مَا وَقَعَ مِنْ
صُلْحِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لأَِهْل بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَأَمَّا الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ: فَهِيَ الَّتِي تُوضَعُ عَلَى أَهْل
الْبِلاَدِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً بِدُونِ رِضَاهُمْ، فَيَضَعُهَا
الإِْمَامُ عَلَى الْمَغْلُوبِينَ الَّذِينَ أَقَرَّهُمْ عَلَى أَرْضِهِمْ
(3) . وَقَدْ عَرَّفَهَا ابْنُ عَرَفَةَ بِأَنَّهَا: " مَا لَزِمَ
الْكَافِرَ مِنْ مَالٍ لأَِمْنِهِ بِاسْتِقْرَارِهِ تَحْتَ حُكْمِ
الإِْسْلاَمِ وَصَوْنِهِ، وَيُمَثَّل لِهَذَا النَّوْعِ بِمَا فَرَضَهُ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ فِي سَوَادِ الْعِرَاقِ
(4) .
الْفَرْقُ بَيْنَ الْجِزْيَةِ الصُّلْحِيَّةِ وَالْجِزْيَةِ
الْعَنْوِيَّةِ:
17 - تَفْتَرِقُ الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ عَنِ الْجِزْيَةِ
الْعَنْوِيَّةِ مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ وَهِيَ:
1 - الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ تُوضَعُ عَلَى أَهْل
__________
(1) حاشية العدوي على شرح الخرشي على مختصر خليل دار صادر ببيروت 3 / 143.
(2) حديث: " صلح النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران على ألفي حلة ".
أخرجه ابن سعد في الطبقات (1 / 288 ط دار بيروت) مرسلا.
(3) الزيلعي: المرجع السابق، ابن مودود: المرجع السابق.
(4) حاشية الدسوقي 2 / 201.
(15/161)
الصُّلْحِ مِنَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ
طَلَبُوا بِاخْتِيَارِهِمْ وَرِضَاهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُصَالَحَةَ
عَلَى الْجِزْيَةِ.
أَمَّا الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ فَهِيَ الَّتِي تُفْرَضُ عَلَى
الْمَغْلُوبِينَ بِدُونِ رِضَاهُمْ.
2 - الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ مُحَدَّدَةُ الْمِقْدَارِ عِنْدَ بَعْضِ
الْفُقَهَاءِ كَمَا سَنُبَيِّنُ فِي مِقْدَارِ الْجِزْيَةِ. أَمَّا
الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ فَلَيْسَ لَهَا حَدٌّ مُعَيَّنٌ وَإِنَّمَا
تَكُونُ بِحَسَبِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الاِتِّفَاقُ.
3 - الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ يُشْتَرَطُ لَهَا شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ
كَالْعَقْل وَالْبُلُوغِ وَالذُّكُورَةِ أَمَّا الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ
فَلاَ يُشْتَرَطُ لَهَا هَذِهِ الشُّرُوطُ، فَإِذَا صَالَحَ الإِْمَامُ
أَهْل بَلَدٍ عَلَى أَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ أَوْلاَدِهِمُ
الصِّغَارِ، وَعَنِ النِّسَاءِ جَازَ لِلإِْمَامِ أَخْذُهَا مِنْهُمْ.
4 - الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ تُضْرَبُ عَلَى الأَْشْخَاصِ وَلاَ
تُضْرَبُ عَلَى الأَْمْوَال، أَمَّا الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ فَيَجُوزُ
أَنْ تُضْرَبَ عَلَى الأَْمْوَال كَمَا تُضْرَبُ عَلَى الأَْشْخَاصِ،
فَيَجُوزُ ضَرْبُهَا عَلَى الْمَاشِيَةِ وَأَرْبَاحِ الْمِهَنِ الْحُرَّةِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ.
5 - الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ تُضْرَبُ عَلَى الأَْشْخَاصِ تَفْصِيلاً
وَلاَ تُضْرَبُ عَلَيْهِمْ إِجْمَالاً، أَمَّا الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ
فَيَجُوزُ ضَرْبُهَا عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ إِجْمَالاً وَتَفْصِيلاً،
فَيَجُوزُ ضَرْبُهَا عَلَى أَهْل بَلَدٍ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ
يَدْفَعُونَهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ كُل سَنَةٍ، كَالصُّلْحِ الَّذِي وَقَعَ
بَيْنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْل
نَجْرَانَ، فَقَدْ صَالَحَهُمْ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ فِي السَّنَةِ.
(15/161)
ثَانِيًا - جِزْيَةُ الرُّءُوسِ،
وَالْجِزْيَةُ عَلَى الأَْمْوَال:
قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْجِزْيَةَ - بِاعْتِبَارِ الْمَحَل الَّذِي تَجِبُ
فِيهِ - إِلَى جِزْيَةِ رُءُوسٍ وَجِزْيَةٍ عَلَى الأَْمْوَال.
18 - فَجِزْيَةُ الرُّءُوسِ تُوضَعُ عَلَى الأَْشْخَاصِ: كَدِينَارٍ عَلَى
كُل شَخْصٍ، وَمِنْ ذَلِكَ جِزْيَةُ أَهْل الْيَمَنِ، حَيْثُ وَضَعَ
الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كُل حَالِمٍ دِينَارًا
(1) .
وَالْجِزْيَةُ الْعُشْرِيَّةُ: مَا يُفْرَضُ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ فِي
أَمْوَالِهِمْ: كَالْعُشْرِ أَوْ نِصْفِ الْعُشْرِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا
وَقَعَ مِنْ صُلْحِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لأَِهْل " مَقْنَا (2) " عَلَى رُبُعِ عَرُوكِهِمْ (3) وَغُزُولِهِمْ
وَرُبُعِ ثِمَارِهِمْ (4) .
وَكَذَا مَا وَقَعَ مِنْ صُلْحِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِنَصَارَى
بَنِي تَغْلِبَ عَلَى نِصْفِ عُشْرِ أَمْوَالِهِمْ، أَوْ ضِعْفِ مَا يَجِبُ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ (5) .
__________
(1) حديث: " حيث وضع الرسول صلى الله عليه وسلم عل كل حالم. . . . " سبق
تخريجه ف / 9.
(2) حديث: " صلح الرسول صلى الله عليه وسلم أهل مقنا على. . . . " أخرجه
البلاذري في فتوح البلدان (ص 71 - ط دار الكتب العلمية) مرسلا عن عمر بن
عبد العزيز. وفي سنده كذلك الواقدي وهو متكلم فيه.
(3) العروك: جمع عرك. وهو ما يصطادون عليه من خشب.
(4) البلاذري: فتوح البلدان ص 71.
(5) أبو عبيد: الأموال ص 40، 41، ابن زنجويه: الأموال 1 / 130 - 132، ابن
رشد: بداية المجتهد 1 / 405.
(15/162)
فَالْجِزْيَةُ الْعُشْرِيَّةُ - بِهَذَا
الْوَصْفِ - تَدْخُل تَحْتَ الْجِزْيَةِ الصُّلْحِيَّةِ الَّتِي تَتِمُّ
بِالاِتِّفَاقِ بَيْنَ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ وَبَيْنَ أَهْل
الذِّمَّةِ، فَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ كَمَا
يَجُوزُ عَلَى أَشْخَاصِهِمْ. وَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا إِلَى
مُصْطَلَحِ: (عُشْرٌ) .
طَبِيعَةُ الْجِزْيَةِ:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِيقَةِ الْجِزْيَةِ، هَل هِيَ
عُقُوبَةٌ عَلَى الإِْصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ، أَمْ أَنَّهَا عِوَضٌ عَنْ
مُعَوَّضٍ، أَمْ أَنَّهَا صِلَةٌ مَالِيَّةٌ وَلَيْسَتْ عِوَضًا عَنْ
شَيْءٍ؟
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا
وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الإِْصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ، وَلِهَذَا لاَ
تُقْبَل مِنَ الذِّمِّيِّ إِذَا بَعَثَ بِهَا مَعَ شَخْصٍ آخَرَ، بَل
يُكَلَّفُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا بِنَفْسِهِ، فَيُعْطِي قَائِمًا
وَالْقَابِضُ مِنْهُ قَاعِدٌ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (2) } .
قَال ابْنُ عَبَّاسٍ - فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {عَنْ يَدٍ} - يَدْفَعُهَا
بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُسْتَنِيبٍ فِيهَا أَحَدًا (3) . فَلاَ بُدَّ
__________
(1) الهداية 2 / 161، فتح القدير 5 / 296، الاختيار 4 / 139، أحكام القرآن
للجصاص 3 / 101، المقدمات 1 / 394، أحكام القرآن لابن العربي 2 / 924.
(2) سورة التوبة / 29.
(3) الجامع لأحكام القرآن 8 / 115.
(15/162)
مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ وَهُوَ بِحَالَةِ
الذُّل وَالصَّغَارِ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى الإِْصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ.
وَلأَِنَّ الْجِزْيَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ
يُطْلَقَ عَلَى الثَّوَابِ بِسَبَبِ الطَّاعَةِ، وَإِمَّا أَنْ يُطْلَقَ
عَلَى الْعُقُوبَةِ بِسَبَبِ الْمَعْصِيَةِ. وَلاَ شَكَّ فِي انْتِفَاءِ
الأَْوَّل، لأَِنَّ الْكُفْرَ مَعْصِيَةٌ وَشَرٌّ، وَلَيْسَ طَاعَةً
فَيَتَعَيَّنُ الثَّانِي لِلْجَزَاءِ: وَهُوَ الْعُقُوبَةُ بِسَبَبِ
الْكُفْرِ (1) . قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَاسْتَدَل عُلَمَاؤُنَا عَلَى
أَنَّهَا عُقُوبَةٌ بِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِسَبَبِ الْكُفْرِ وَهُوَ
جِنَايَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُسَبِّبُهَا عُقُوبَةً، وَلِذَلِكَ
وَجَبَتْ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ وَهُمُ الْبَالِغُونَ
الْعُقَلاَءُ الْمُقَاتِلُونَ (2) .
وَلأَِنَّ الْوَاجِبَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ ابْتِدَاءً هُوَ الْقَتْل
عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، فَلَمَّا دُفِعَ عَنْهُمُ الْقَتْل
بِعَقْدِ الذِّمَّةِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الْجِزْيَةَ، صَارَتِ الْجِزْيَةُ
عُقُوبَةً بَدَل عُقُوبَةِ الْقَتْل.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى
أَهْل الذِّمَّةِ عِوَضًا عَنْ مُعَوَّضٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ
فِي الْمُعَوَّضِ الَّذِي تَجِبُ الْجِزْيَةُ بَدَلاً عَنْهُ.
فَقَال بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: الْجِزْيَةُ تَجِبُ عِوَضًا عَنِ
النُّصْرَةِ: وَيَقْصِدُونَ بِذَلِكَ نُصْرَةَ الْمُقَاتِلَةِ الَّذِينَ
يَقُومُونَ بِحِمَايَةِ دَارِ الإِْسْلاَمِ وَالدِّفَاعِ عَنْهَا.
__________
(1) فتح القدير 5 / 296.
(2) أحكام القرآن لابن العربي 2 / 924.
(15/163)
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ
النُّصْرَةَ تَجِبُ عَلَى جَمِيعِ رَعَايَا الدَّوْلَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ
وَمِنْهُمْ أَهْل الذِّمَّةِ.
فَالْمُسْلِمُونَ يَقُومُونَ بِنُصْرَةِ الْمُقَاتِلَةِ: إِمَّا
بِأَنْفُسِهِمْ، وَإِمَّا بِأَمْوَالِهِمْ، فَيَخْرُجُونَ مَعَهُمْ
لِلْجِهَادِ فِي سَبِيل اللَّهِ، وَيُنْفِقُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي
سَبِيل اللَّهِ، قَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَل
أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيل اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (1) } .
وَلَمَّا فَاتَتِ النُّصْرَةُ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ بِأَنْفُسِهِمْ
بِسَبَبِ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِمُ
النُّصْرَةُ بِالْمَال: وَهِيَ الْجِزْيَةُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ فُقَهَاءِ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: الْجِزْيَةُ تَجِبُ بَدَلاً عَنِ
الْعِصْمَةِ أَوْ حَقْنِ الدَّمِ، كَمَا تَجِبُ عِوَضًا عَنْ سُكْنَى دَارِ
الإِْسْلاَمِ وَالإِْقَامَةِ فِيهَا.
فَإِذَا كَانَتْ عِوَضًا عَنِ الْعِصْمَةِ وَحَقْنِ الدَّمِ تَكُونُ فِي
مَعْنَى بَدَل الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ.
وَإِذَا كَانَتْ عِوَضًا عَنِ السُّكْنَى فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ
وَالإِْقَامَةِ فِيهَا، تَكُونُ فِي مَعْنَى بَدَل الإِْجَارَةِ (2) .
__________
(1) سورة الصف / 10 - 11.
(2) الكمال بن الهمام 5 / 297، وحاشية الشلبي على تبيين الحقائق 3 / 276،
وروضة الطالبين 10 / 307، نهاية المحتاج 8 / 81، ومغني المحتاج 4 / 243،
وكفاية الأخيار 2 / 133، حاشية البجيرمي 4 / 269، المغني 8 / 495، وكشاف
القناع 3 / 117، والهداية 2 / 160، والبدائع 9 / 4332، والمقدمات 1 / 395.
(15/163)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى كَوْنِهَا بَدَلاً
عَنِ الْعِصْمَةِ أَوْ حَقْنِ الدَّمِ بِآيَةِ الْجِزْيَةِ
الْمُتَقَدِّمَةِ، فَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى دِمَاءَ الْكُفَّارِ
ثُمَّ حَقَنَهَا بِالْجِزْيَةِ، فَكَانَتِ الْجِزْيَةُ عِوَضًا عَنْ حَقْنِ
الدَّمِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى كَوْنِهَا عِوَضًا عَنْ سُكْنَى الدَّارِ بِأَنَّ
الْكُفَّارَ مَعَ الإِْصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَعَدَمِ الْخُضُوعِ
لأَِحْكَامِ الإِْسْلاَمِ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ لاَ يُقَرُّونَ فِي
دَارِنَا، وَلاَ يَصِيرُونَ مِنْ أَهْل تِلْكَ الدَّارِ إِلاَّ بِعَقْدِ
الذِّمَّةِ وَأَدَاءِ الْجِزْيَةِ. فَتَكُونُ الْجِزْيَةُ بِذَلِكَ بَدَلاً
عَنْ سُكْنَى دَارِ الإِْسْلاَمِ.
وَقَدْ رَدَّ ابْنُ الْقَيِّمِ هَذَا الْقَوْل مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ.
وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ صِلَةٌ
مَالِيَّةٌ تَجِبُ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ، وَلَيْسَتْ بَدَلاً عَنْ
شَيْءٍ، فَهِيَ لَيْسَتْ بَدَلاً عَنْ حَقْنِ الدَّمِ؛ لأَِنَّ قَتْل
الْكَافِرِ جَزَاءٌ مُسْتَحَقٌّ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلاَ يَجُوزُ
إِسْقَاطُهُ بِعِوَضٍ مَالِيٍّ أَصْلاً كَالْحُدُودِ، وَلِذَا لاَ تَجِبُ
عَلَى الْفَقِيرِ الْعَاجِزِ وَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَبْل الأَْدَاءِ.
وَهِيَ لَيْسَتْ بَدَلاً عَنْ سُكْنَى الدَّارِ؛ لأَِنَّ الذِّمِّيَّ
يَسْكُنُ مِلْكَ نَفْسِهِ (1) .
__________
(1) أحكام أهل الذمة 1 / 25، والمبسوط 10 / 80، أحكام القرآن 3 / 101،
وحاشية البجيرمي 4 / 269، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 213.
(15/164)
عَقْدُ الذِّمَّةِ:
20 - يَتَرَتَّبُ عَلَى عَقْدِ الذِّمَّةِ لُزُومُ الْجِزْيَةِ لأَِهْل
الذِّمَّةِ.
فَعَقْدُ الذِّمَّةِ هُوَ: الْتِزَامُ تَقْرِيرِ الْكُفَّارِ فِي دَارِنَا
وَحِمَايَتِنَا لَهُمْ، وَالذَّبِّ عَنْهُمْ بِشَرْطِ بَذْل الْجِزْيَةِ
(1) .
إِجَابَةُ الْكَافِرِ إِلَى عَقْدِ الذِّمَّةِ بِالْجِزْيَةِ:
21 - قَال النَّوَوِيُّ: إِذَا طَلَبَتْ طَائِفَةٌ عَقْدَ الذِّمَّةِ
وَكَانَتْ مِمَّنْ يَجُوزُ إِقْرَارُهُمْ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ
بِالْجِزْيَةِ وَجَبَتْ إِجَابَتُهُمْ مَا لَمْ تُخَفْ غَائِلَتُهُمْ، أَيْ
غَدْرُهُمْ بِتَمْكِينِهِمْ مِنَ الإِْقَامَةِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ،
فَلاَ يَجُوزُ عَقْدُهَا لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ عَلَيْنَا، وَهُوَ
مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا
الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآْخِرِ} .
{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (2) } فَجَعَل
إِعْطَاءَ الْجِزْيَةِ غَايَةً لِقِتَالِهِمْ فَمَتَى بَذَلُوهَا لَمْ
يَجُزْ قِتَالُهُمْ. وَبِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: فَادْعُهُمْ إِلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ فَإِنْ
__________
(1) الخراج ص 122، والفتاوى الهندية 2 / 224، والبدائع 9 / 4330، وحاشية
الدسوقي 2 / 200، والكافي 1 / 479، وكفاية الأخيار 2 / 133، ورحمة الأمة
للدمشقي 2 / 179، والميزان للشعراني 2 / 184، كشاف القناع 3 / 116،
والإفصاح لابن هبيرة 2 / 292، والمذهب الأحمد لابن الجوزي ص 209، أحكام أهل
الذمة 1 / 39.
(2) سورة التوبة / 29.
(15/164)
أَجَابُوكَ فَاقْبَل مِنْهُمْ وَكُفَّ
عَنْهُمْ (1) } .
وَفِي كِتَابِ (الْبَيَانِ) وَغَيْرِهِ لِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ أَنَّهَا
لاَ تَجِبُ إِلاَّ إِذَا رَأَى الإِْمَامُ فِيهَا مَصْلَحَةً كَمَا فِي
الْهُدْنَةِ (2) .
رُكْنَا عَقْدِ الذِّمَّةِ:
22 - وَرُكْنَا عَقْدِ الذِّمَّةِ: إِيجَابٌ وَقَبُولٌ: إِيجَابٌ مِنْ
أَهْل الذِّمَّةِ، وَصِيغَتُهُ إِمَّا لَفْظٌ صَرِيحٌ يَدُل عَلَيْهِ مِثْل
لَفْظِ الْعَهْدِ وَالْعَقْدِ عَلَى أُسُسٍ مُعَيَّنَةٍ، وَإِمَّا فِعْلٌ
يَدُل عَلَى قَبُول الْجِزْيَةِ، كَأَنْ يَدْخُل حَرْبِيٌّ دَارَ
الإِْسْلاَمِ بِأَمَانٍ وَيَمْكُثَ فِيهَا سَنَةً، فَيُطْلَبُ مِنْهُ
إِمَّا أَنْ يَخْرُجَ أَوْ يُصْبِحَ ذِمِّيًّا.
وَأَمَّا الْقَبُول فَيَكُونُ مِنْ إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مَنْ
يَنُوبُ عَنْهُ، وَلِذَا لَوْ قَبِل عَقْدَ الذِّمَّةِ مُسْلِمٌ بِغَيْرِ
إِذْنِ الإِْمَامِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ
عَقْدِ الأَْمَانِ لاَ عَقْدِ الذِّمَّةِ، فَيُمْنَعُ ذَلِكَ
الْمُسْتَأْمَنُ مِنَ الْقَتْل وَالأَْسْرِ (3) .
23 - وَيُشْتَرَطُ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ التَّأْبِيدُ: فَإِنْ وُقِّتَ
الصُّلْحُ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لأَِنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ بِالنِّسْبَةِ
__________
(1) حديث: " فادعهم إلى أداء الجزية فإن. . . . " سبق تخريجه بهذا المعنى ف
/ 10.
(2) الروضة 10 / 297، وكشاف القناع 3 / 116، والمغني 8 / 504.
(3) تبيين الحقائق 2 / 276، والقوانين الفقهية ص 175، حاشية الخرشي 3 /
143، وروضة الطالبين 10 / 297، وكشاف القناع 3 / 116، والمغني 8 / 505.
(15/165)
لِعِصْمَةِ الإِْنْسَانِ فِي مَالِهِ
وَنَفْسِهِ بَدِيلٌ عَنِ الإِْسْلاَمِ، وَالإِْسْلاَمُ مُؤَبَّدٌ، فَكَذَا
بَدِيلُهُ، وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ. وَهَذَا شَرْطٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1) .
وَعَقْدُ الذِّمَّةِ عَقْدٌ مُؤَبَّدٌ لاَ يَمْلِكُ الْمُسْلِمُونَ
نَقْضَهُ مَا دَامَ الطَّرَفُ الآْخَرُ مُلْتَزِمًا بِهِ، وَيَنْتَقِضُ
مِنْ قِبَل أَهْل الذِّمَّةِ بِأُمُورٍ اخْتُلِفَ فِيهَا، وَلاَ يَنْتَقِضُ
الْعَهْدُ بِغَيْرِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْتِزَامَ الْجِزْيَةِ بَاقٍ،
وَيَسْتَطِيعُ الْحَاكِمُ أَنْ يَجْبُرَهُ عَلَى أَدَائِهَا، وَأَمَّا
بَقِيَّةُ الْمُخَالَفَاتِ فَهِيَ مَعَاصٍ ارْتَكَبُوهَا، وَهِيَ دُونَ
الْكُفْرِ، وَقَدْ أَقْرَرْنَاهُمْ عَلَيْهِ، فَمَا دُونَهُ أَوْلَى (2) .
فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْعَقْدَ يَنْتَقِضُ
بِالاِمْتِنَاعِ عَنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، أَوْ بِالاِجْتِمَاعِ عَلَى
قِتَال الْمُسْلِمِينَ، أَوْ بِالاِمْتِنَاعِ عَنْ جَرَيَانِ أَحْكَامِ
الإِْسْلاَمِ عَلَيْهِمْ، أَوْ سَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَوْ قَتْل مُسْلِمٍ أَوِ الزِّنَا بِمُسْلِمَةٍ، أَوْ
بِإِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَإِطْلاَعِ أَهْل الْحَرْبِ
عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ
ارْتِكَابَ هَذِهِ الأُْمُورِ يُخَالِفُ مُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْعَقْدَ يَنْتَقِضُ بِقِتَالِهِمْ لَنَا
__________
(1) بدائع الصنائع 9 / 4330، وجواهر الإكليل 1 / 269، الزرقاني على مختصر
خليل 2 / 146، وروضة الطالبين 10 / 297، ومغني المحتاج 4 / 243، كشاف
القناع 3 / 116.
(2) بدائع الصنائع 9 / 4334، وفتح القدير 5 / 302 - 303، وتبيين الحقائق 3
/ 281 - 282.
(15/165)
أَوِ امْتِنَاعِهِمْ مِنْ إِعْطَاءِ
الْجِزْيَةِ، أَوْ مِنْ جَرَيَانِ حُكْمِ الإِْسْلاَمِ عَلَيْهِمْ.
أَمَّا لَوْ زَنَى الذِّمِّيُّ بِمُسْلِمَةٍ أَوْ دَل أَهْل الْحَرْبِ
عَلَى عَوْرَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ، أَوْ
طَعَنَ فِي الإِْسْلاَمِ أَوِ الْقُرْآنِ، أَوْ ذَكَرَ الرَّسُول صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسُوءٍ فَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
أَنَّهُ إِنْ شُرِطَ انْتِقَاضُ الْعَهْدِ بِهَا انْتَقَضَ وَإِلاَّ فَلاَ
يَنْتَقِضُ.
وَيَنْتَقِضُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَحَدِ أُمُورِ ثَلاَثَةٍ: وَهِيَ
أَنْ يُسْلِمَ الذِّمِّيُّ، أَوْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، أَوْ
يَغْلِبَ الذِّمِّيُّونَ عَلَى مَوْضِعٍ فَيُحَارِبُونَنَا (1) .
مَحَل الْجِزْيَةِ:
24 - الْجِزْيَةُ تُفْرَضُ عَلَى رُءُوسِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ
فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَلاَ تُؤْخَذُ مِنَ الْمُسْتَأْمَنِ الَّذِي
يَدْخُل دَارَ الإِْسْلاَمِ بِعَقْدِ أَمَانٍ مُؤَقَّتٍ لِقَضَاءِ غَرَضٍ
ثُمَّ يَرْجِعُ، قَال أَبُو يُوسُفَ: إِذَا أَطَال الْمُسْتَأْمَنُ
الْمُقَامَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ فَيُؤْمَرُ بِالْخُرُوجِ، فَإِنْ
أَقَامَ بَعْدَ ذَلِكَ حَوْلاً وُضِعَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ.
فَمَحَل الْجِزْيَةِ إِذَا هَمَّ الذِّمِّيُّونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ فِي
دَارِ الإِْسْلاَمِ إِقَامَةً دَائِمَةً أَوْ طَوِيلَةً، وَكَذَلِكَ
الْمُسْتَأْمَنُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ أَكْثَرَ
__________
(1) الكافي 1 / 483، جواهر الإكليل 1 / 268 - 269، والزرقاني على مختصر
خليل 2 / 146 - 147، والأحكام السلطانية ص 158، والمغني 8 / 524، ونهاية
المحتاج 8 / 98 - 99، وحاشية القليوبي 4 / 236.
(15/166)
مِنْ سَنَةٍ فَتُضْرَبُ عَلَيْهِمُ
الْجِزْيَةُ، وَيُشْتَرَطُ فِي الذِّمِّيِّ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ
الإِْقَامَةُ بِالْجِزْيَةِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ أَنْ يَكُونَ مِنَ
الطَّوَائِفِ الَّتِي يُسْمَحُ لَهَا بِالإِْقَامَةِ فِي دَارِ
الإِْسْلاَمِ، وَالَّتِي تُقْبَل مِنْهَا الْجِزْيَةُ (1) .
الطَّوَائِفُ الَّتِي تُقْبَل مِنْهَا الْجِزْيَةُ:
25 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَل مِنْ أَهْل
الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ
الأَْوْثَانِ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي أَوْصَافِ أَهْل الْكِتَابِ
وَالْمَجُوسِ الَّذِينَ تُقْبَل مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ.
أَهْل الْكِتَابِ:
26 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِأَهْل الْكِتَابِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ: كُل مَنْ يُؤْمِنُ
بِنَبِيٍّ وَيُقِرُّ بِكِتَابٍ، وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى، وَمَنْ آمَنَ بِزَبُورِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُمْ
يَعْتَقِدُونَ دِينًا سَمَاوِيًّا مُنَزَّلاً بِكِتَابٍ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ:
الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِجَمِيعِ فِرَقِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ دُونَ
غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لاَ يُؤْمِنُ إِلاَّ بِصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَزَبُورِ
دَاوُدَ.
__________
(1) الخراج ص 189، والاختيار 4 / 136، وحاشية الخرشي على مختصر خليل 3 /
144، ومنح الجليل 1 / 757، الأحكام السلطانية للماوردي ص 142، والأحكام
السلطانية لأبي يعلى ص 153.
(15/166)
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِل الْكِتَابُ عَلَى
طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ
لَغَافِلِينَ (1) } فَالطَّائِفَتَانِ اللَّتَانِ أُنْزِل عَلَيْهِمَا
الْكِتَابُ مِنْ قَبْلِنَا هُمَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، كَمَا قَال
ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ
الْمُفَسِّرِينَ. وَأَمَّا صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ وَدَاوُدَ فَقَدْ كَانَتْ
مَوَاعِظَ وَأَمْثَالاً لاَ أَحْكَامَ فِيهَا، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا
حُكْمُ الْكُتُبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَحْكَامٍ. قَال
الشِّهْرِسْتَانِيُّ: أَهْل الْكِتَابِ: الْخَارِجُونَ عَنِ الْمِلَّةِ
الْحَنِيفِيَّةِ، وَالشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ، مِمَّنْ يَقُول
بِشَرِيعَةٍ وَأَحْكَامٍ وَحُدُودٍ وَأَعْلاَمٍ. . . وَمَا كَانَ يَنْزِل
عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ
مَا كَانَ يُسَمَّى كِتَابًا، بَل صُحُفًا (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي: (يَهُودٌ) (وَنَصَارَى) .
أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ الْعَرَبِ:
27 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى قَبُول الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْل
الْكِتَابِ الْعَجَمِ، وَاخْتَلَفُوا فِي قَبُولِهَا مِنْ أَهْل الْكِتَابِ
الْعَرَبِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
__________
(1) سورة الأنعام / 156.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 198، والمنتقى 2 / 172، وروضة الطالبين 10 / 304،
والأحكام السلطانية للماوردي ص 143، والأحكام السلطانية للفراء ص 153، كشاف
القناع 3 / 117، والمحلى 7 / 562، وجامع البيان في تفسير القرآن 8 / 69،
والملل والنحل - دار المعرفة ببيروت - 1402 هـ - 1 / 208 - 210.
(15/167)
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى
قَبُول الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ الْعَرَبِ (1) . وَاسْتَدَلُّوا
لِذَلِكَ بِإِطْلاَقِ قَوْله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآْخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا
حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ
وَهُمْ صَاغِرُونَ (2) } .
وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَهَا مِنْ
أَهْل الْكِتَابِ الْعَرَبِ، فَقَدْ أَخَذَهَا مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ،
وَيَهُودِ الْيَمَنِ، وَأُكَيْدِرِ دَوْمَةِ الْجَنْدَل.
فَقَدْ رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ - بِسَنَدِهِ - عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَال: "
أَوَّل مَنْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ أَهْل نَجْرَانَ وَكَانُوا نَصَارَى (3) "
وَأَهْل نَجْرَانَ عَرَبٌ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ.
وَقَدْ كَتَبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
مُعَاذٍ - وَهُوَ بِالْيَمَنِ - أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُل حَالِمٍ دِينَارًا،
أَوْ عَدْلَهُ مِنَ الْمَعَافِرِ (4) ، وَلاَ يُفْتَنُ يَهُودِيٌّ عَنْ
يَهُودِيَّتِهِ (5) .
__________
(1) بدائع الصنائع 9 / 4329، والهداية 2 / 160، وحاشية ابن عابدين 4 / 198،
وبداية المجتهد 1 / 403، والمقدمات على هامش المدونة 1 / 400، وروضة
الطالبين 10 / 304، ومغني المحتاج 4 / 244، وكشاف القناع 3 / 117، والمبدع
3 / 404، والمحلى 7 / 562.
(2) سورة التوبة / 29.
(3) حديث: " أول من أعطى الجزية أهل. . . " سبق تخريجه ف / 9.
(4) حديث: " كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ. . . . " سبق
تخريجه ف / 9.
(5) حديث: " ولا يفتن يهودي عن يهوديته " سبق تخريجه ف / 9.
(15/167)
قَال أَبُو عُبَيْدٍ: فَقَدْ قَبِل رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْل
الْيَمَنِ وَهُمْ عَرَبٌ إِذْ كَانُوا أَهْل كِتَابٍ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِالإِْجْمَاعِ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: " إِنَّ أَبَا
بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَبِلاَ الْجِزْيَةَ مِنْ
نَصَارَى الْعَرَبِ وَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ. فَكَانَ ذَلِكَ
إِجْمَاعًا.
وَقَدْ ثَبَتَ بِالْقَطْعِ وَالْيَقِينِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ نَصَارَى
الْعَرَبِ وَيَهُودِهِمْ كَانُوا فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ فِي بِلاَدِ
الإِْسْلاَمِ، وَلاَ يَجُوزُ إِقْرَارُهُمْ فِيهَا بِغَيْرِ جِزْيَةٍ،
فَثَبَتَ يَقِينًا أَنَّهُمْ أَخَذُوا الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ (1) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لاَ تُقْبَل مِنْ
أَهْل الْكِتَابِ الْعَرَبِ.
وَقَدْ نَسَبَ الطَّبَرِيُّ هَذَا الْمَذْهَبَ إِلَى الْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ (2) .
الْمَجُوسُ:
28 - وَالْمَجُوسُ هُمْ عَبَدَةُ النَّارِ الْقَائِلُونَ أَنَّ لِلْعَالَمِ
أَصْلَيْنِ اثْنَيْنِ مُدَبِّرَيْنِ، يَقْتَسِمَانِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ،
وَالنَّفْعَ وَالضَّرَّ، وَالصَّلاَحَ وَالْفَسَادَ، أَحَدُهُمَا النُّورُ،
وَالآْخَرُ الظُّلْمَةُ. وَفِي الْفَارِسِيَّةِ " يَزْدَانَ " "
وَأَهْرَمَنَ (3) ".
__________
(1) الأموال ص 40، والسنن الكبرى 9 / 187، والتلخيص الحبير 4 / 142،
والمغني 8 / 499.
(2) المغني 8 / 499، ومعالم السنن 3 / 36، وروح المعاني 10 / 79، والسنن
الكبرى 9 / 188، واختلاف الفقهاء ص 203.
(3) الشهرستاني: الملل والنحل 1 / 232.
(15/168)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ
أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ،
وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَل
مِنَ الْمَجُوسِ سَوَاءٌ أَكَانُوا عَرَبًا أَمْ عَجَمًا (1) .
29 - وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَبِلَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ أَوِ الْبَحْرَيْنِ. رَوَى ابْنُ
زَنْجُوَيْهِ - بِسَنَدِهِ - إِلَى الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَال: كَتَبَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَجُوسِ هَجَرَ
يَدْعُوهُمْ إِلَى الإِْسْلاَمِ. فَمَنْ أَسْلَمَ قُبِل مِنْهُ، وَمَنْ
أَبَى ضُرِبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، وَأَنْ لاَ يُؤْكَل لَهُمْ
ذَبِيحَةٌ، وَلاَ تُنْكَحَ لَهُمُ امْرَأَةٌ (2) .
وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
__________
(1) بدائع الصنائع 9 / 4329، وتبيين الحقائق 3 / 277، والهداية 2 / 160،
ومجمع الأنهر 1 / 670، وحاشية ابن عابدين 4 / 198، والخراج ص 129، والمدونة
1 / 406، والمقدمات على هامش المدونة 1 / 400، والمنتقى 2 / 172، ونهاية
المحتاج 8 / 82، وحاشية قليوبي 4 / 229، ومغني المحتاج 4 / 244، وكشاف
القناع 3 / 117، والمبدع 3 / 405، والمغني 8 / 498، والمحلى 7 / 567.
(2) حديث: " كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مجوس هجر. . . . " أخرجه
عبد الرزاق في مصنفه (6 / 69 - 70 - ط المكتب الإسلامي) والبيهقي (9 / 192
- ط دار المعرفة) وابن زنجويه في كتاب الأموال (1 / 137 - ط مركز الملك
فيصل) من حديث الحسن بن محمد، قال محقق كتاب الأموال: والحديث من مراسيل
الحسن بن محمد بن علي وإسناده إليه صحيح. ا. هـ.
(15/168)
ذَكَرَ الْمَجُوسَ فَقَال: مَا أَدْرِي
كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ؟ فَقَال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ:
أَشْهَدُ أَنِّي لَسَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُول: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْل الْكِتَابِ. (1) } .
قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا مِنَ الْكَلاَمِ الْعَامِّ الَّذِي
أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ؛ لأَِنَّ الْمُرَادَ سُنَّةُ أَهْل الْكِتَابِ فِي
أَخْذِ الْجِزْيَةِ فَقَطْ، أَيْ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، كَمَا
تُؤْخَذُ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ، وَلاَ تُؤْكَل ذَبَائِحُهُمْ وَلاَ
تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ (2) .
وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ " أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ فَارِسٍ،
وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ الْبَرْبَرِ (3) .
وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ،
وَعَمِل بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَلاَ مُخَالِفٍ. وَقَدْ
__________
(1) حديث: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " أخرجه مالك في الموطأ (1 / 278 - ط
عيسى الحلبي) وابن أبي شيبة في مصنفه (12 / 243 - ط الدار السلفية)
والبيهقي (9 / 189 - ط دار المعرفة) من حديث عبد الرحمن بن عوف. ولكنه حديث
منقطع، لأنه من طريق محمد بن علي وهو لم يدرك عمر بن الخطاب.
(2) فتح الباري 7 / 70، والجامع لأحكام القرآن 8 / 111، ونيل الأوطار 8 /
64.
(3) الموطأ مع شرح الزرقاني 3 / 139، وأبو عبيد: الأموال ص 45. والبربر:
قوم من أهل المغرب كالأعراب في القسوة والغلظة، والجمع برابرة وهو معرب
(15/169)
نَقَل هَذَا الإِْجْمَاعَ أَكْثَرُ مِنْ
وَاحِدٍ: مِنْهُمُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ قُدَامَةَ (1) .
وَذَهَبَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ الْمَالِكِيُّ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لاَ
تُؤْخَذُ إِلاَّ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ: مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى،
وَلاَ تُقْبَل مِنَ الْمَجُوسِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ
لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (2) } الآْيَةَ.
فَإِنَّ مَفْهُومَهَا أَنَّ غَيْرَ أَهْل الْكِتَابِ مِنَ الْمَجُوسِ
وَغَيْرِهِمْ لاَ يُشَارِكُونَهُمْ فِي حُكْمِ الآْيَةِ (3) .
وَذَهَبَ ابْنُ وَهْبٍ الْمَالِكِيُّ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لاَ تُقْبَل
مِنَ الْمَجُوسِ الْعَرَبِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَرَبِ مَجُوسٌ إِلاَّ
وَجَمِيعُهُمْ أَسْلَمَ، فَمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ بِخِلاَفِ الإِْسْلاَمِ
فَهُوَ مُرْتَدٌّ.
وَقَدْ نُسِبَ هَذَا الْمَذْهَبُ أَيْضًا إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ (4)
.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (مَجُوسٌ) .
قَبُول الْجِزْيَةِ مِنَ الصَّابِئَةِ:
30 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الصَّابِئَةَ مِنْ أَهْل
__________
(1) المغني 8 / 498، والإجماع لابن المنذر ص 59.
(2) سورة التوبة / 29.
(3) أحكام القرآن لابن العربي 2 / 921، وشرح الترمذي 7 / 85، والقوانين
الفقهية ص 175.
(4) أحكام القرآن لابن العربي 2 / 921، وشرح سنن الترمذي 7 / 85، والجامع
لأحكام القرآن، 8 / 110، ومعالم السنن 3 / 36، والمغني 8 / 499، والطبري:
اختلاف الفقهاء ص 203.
(15/169)
الْكِتَابِ لأَِنَّهُمْ يَقْرَءُونَ
الزَّبُورَ، وَلاَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، وَلَكِنْ يُعَظِّمُونَهَا
كَتَعْظِيمِ الْمُسْلِمِينَ الْكَعْبَةَ فِي اسْتِقْبَالِهَا.
وَاسْتَدَل لِذَلِكَ بِقَوْل أَبِي الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعِ بْنِ
أَنَسٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَأَبِي الشَّعْثَاءِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ
وَالضَّحَّاكِ. فَتُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ كَمَا تُؤْخَذُ مِنْ أَهْل
الْكِتَابِ (1) .
وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا
أَهْل كِتَابٍ، لأَِنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، وَعَابِدُ
الْكَوَاكِبِ كَعَابِدِ الْوَثَنِ، فَتُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ إِذَا
كَانُوا مِنَ الْعَجَمِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ مُعْتَقِدُونَ
تَأْثِيرَ النُّجُومِ، وَأَنَّهَا فَعَّالَةٌ، فَلَيْسُوا أَهْل كِتَابٍ،
وَتُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، لأَِنَّهَا تُقْبَل مِنْ غَيْرِ أَهْل
الْكِتَابِ عِنْدَ مَالِكٍ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ يُنْظَرُ فِيهِمْ، فَإِنْ كَانُوا
يُوَافِقُونَ أَحَدَ أَهْل الْكِتَابَيْنِ فِي تَدَيُّنِهِمْ وَكِتَابِهِمْ
فَهُمْ مِنْهُمْ، وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي ذَلِكَ فَلَيْسُوا مِنْهُمْ،
فَتُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ إِذَا أَقَرَّ النَّصَارَى بِأَنَّهُمْ
مِنْهُمْ وَلَمْ يُكَفِّرُوهُمْ، فَإِنْ كَفَّرُوهُمْ لَمْ تُؤْخَذْ
مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 9 / 4330، وفتح القدير 5 / 291، وحاشية ابن عابدين 4 /
198، ومجمع الأنهر 1 / 670.
(2) الخراج ص 122، والمراجع السابقة.
(3) الجامع لأحكام القرآن 1 / 435.
(4) الأحكام السلطانية ص 143، وروضة الطالبين 10 / 305، والغاية القصوى في
دراية الفتوى - دار النصر للطباعة الإسلامية بالقاهرة 2 / 956، ومغني
المحتاج 4 / 244.
(15/170)
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى
أَنَّهُمْ مِنَ النَّصَارَى؛ لأَِنَّهُمْ يَدِينُونَ بِالإِْنْجِيل.
وَاسْتَدَل لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. فَتُؤْخَذُ
مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ كَالنَّصَارَى.
وَذَهَبَ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ إِلَى أَنَّهُمْ مِنَ الْيَهُودِ
لأَِنَّهُمْ يُسْبِتُونَ، وَاسْتَدَل لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ
أَنَّهُ قَال: هُمْ يُسْبِتُونَ. فَتُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ كَمَا
تُؤْخَذُ مِنَ الْيَهُودِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي: (صَابِئَةٌ) .
أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ:
31 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُول الْجِزْيَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ
فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لاَ تُقْبَل مِنَ الْمُشْرِكِينَ
مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ أَكَانُوا مِنَ الْعَرَبِ أَوْ مِنَ الْعَجَمِ،
وَلاَ يُقْبَل مِنْهُمْ إِلاَّ الإِْسْلاَمُ، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا
قُتِلُوا (2) . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
__________
(1) المغني 8 / 496، وكشاف القناع 3 / 117، والمبدع 3 / 404.
(2) روضة الطالبين 10 / 305، ومغني المحتاج 4 / 244، وكفاية الأخيار 2 /
133، والمبدع 3 / 405، وكشاف القناع 3 / 118، والمغني 8 / 500، والقوانين
الفقهية ص 175، والمحلى 7 / 563.
(15/170)
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ} . {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (1) } .
فَالآْيَةُ تَقْضِي بِجَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ
خَاصَّةً، وَلاَ دَلاَلَةَ لِلَّفْظِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (2) .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ - بِسَنَدِهِ - إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إلَهَ
إلاَّ اللَّهُ فَمَنْ قَال لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي
نَفْسَهُ وَمَالَهُ إلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ (3) .
فَالْحَدِيثُ عَامٌّ يَقْتَضِي عَدَمَ قَبُول الْجِزْيَةِ مِنْ جَمِيعِ
الْكُفَّارِ، وَلَمْ يُخَصِّصْ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ إلاَّ أَهْل
الْكِتَابِ وَالْمَجُوسَ فَمَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ يَبْقَى عَلَى
قَضِيَّةِ الْعُمُومِ، فَلاَ تُقْبَل الْجِزْيَةُ مِنْ عَبَدَةِ
الأَْوْثَانِ سَوَاءٌ أَكَانُوا عَرَبًا أَمْ عَجَمًا وَلأَِنَّ
الْمُشْرِكِينَ مِنْ عَبَدَةِ الأَْوْثَانِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ
مُقَدِّمَةٌ (سَابِقَةٌ) مِنَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَشَرِيعَةِ
الإِْسْلاَمِ، فَلاَ حُرْمَةَ لِمُعْتَقَدِهِمْ (4) .
__________
(1) سورة التوبة / 29.
(2) أحكام القرآن لألكيا الهراس 4 / 40.
(3) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس. . . . " سبق تخريجه ف / 11.
(4) الغاية القصوى 2 / 955، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 919.
(15/171)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَمَالِكٌ فِي
رِوَايَةٍ حَكَاهَا عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَخَذَ بِهَا هُوَ
وَأَشْهَبُ وَسَحْنُونٌ وَكَذَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ
حَكَاهَا عَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ ثَوَابٍ، ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ
تُقْبَل مِنَ الْمُشْرِكِينَ إلاَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (2) } فَهُوَ خَاصٌّ بِمُشْرِكِي الْعَرَبِ،
لأَِنَّهُ مُرَتَّبٌ عَلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ
الأَْشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ (3) .} وَهِيَ
الأَْشْهُرُ الأَْرْبَعَةُ الَّتِي كَانَ الْعَرَبُ يُحَرِّمُونَ الْقِتَال
فِيهَا.
وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْخُذِ
الْجِزْيَةَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ.
رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ عَبَدَةَ الأَْوْثَانِ عَلَى
الْجِزْيَةِ إلاَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْعَرَبِ (4) . وَقَال ابْنُ
جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: " أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَى أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْ عَبَدَةِ
الأَْوْثَانِ
__________
(1) بدائع الصنائع 9 / 4329، وتبيين الحقائق 3 / 277، وحاشية ابن عابدين 4
/ 198، ومجمع الأنهر 1 / 670، والمغني 8 / 500، والجامع لأحكام القرآن 8 /
110، والمنتقى 2 / 173.
(2) سورة التوبة / 5.
(3) سورة التوبة / 5.
(4) ابن التركماني: الجوهر النقي على السنن الكبرى 9 / 187.
(15/171)
مِنَ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَقْبَل مِنْهُمْ
إلاَّ الإِْسْلاَمَ أَوِ السَّيْفَ (1) } .
وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُول:
بِأَنَّ كُفْرَهُمْ قَدْ تَغَلَّظَ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَشَأَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَالْقُرْآنَ نَزَل
بِلُغَتِهِمْ، فَالْمُعْجِزَةُ فِي حَقِّهِمْ أَظْهَرُ، لأَِنَّهُمْ
كَانُوا أَعْرَفَ بِمَعَانِيهِ وَوُجُوهِ الْفَصَاحَةِ فِيهِ. وَكُل مَنْ
تَغَلَّظَ كُفْرُهُ لاَ يُقْبَل مِنْهُ إلاَّ الإِْسْلاَمُ، أَوِ السَّيْفُ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَْعْرَابِ
سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ
يُسْلِمُونَ (2) } أَيْ تُقَاتِلُونَهُمْ إلَى أَنْ يُسْلِمُوا (3) .
وَذَهَبَ مَالِكٌ فِي قَوْلٍ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
وَالأَْوْزَاعِيِّ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَل مِنْ جَمِيعِ
الْكُفَّارِ، وَمِنْهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَعَبَدَةُ الأَْوْثَانِ، سَوَاءٌ
أَكَانُوا مِنَ الْعَرَبِ، أَمْ مِنَ الْعَجَمِ، وَسَوَاءٌ أَكَانُوا
قُرَشِيِّينَ أَمْ غَيْرَ قُرَشِيِّينَ (4) . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ
بِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ
فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ. . . وَقَال: اغْزُوا
__________
(1) الأموال لأبي عبيد ص 43، واختلاف الفقهاء للطبري ص 200.
(2) سورة الفتح / 16.
(3) العناية على الهداية مع فتح القدير 5 / 292، ومجمع الزوائد 5 / 332،
والأموال ص 197.
(4) المدونة 1 / 406، والمنتقى 2 / 173، ومنح الجليل 1 / 757، والجامع
لأحكام القرآن 8 / 110، أحكام أهل الذمة 1 / 6.
(15/172)
بِاسْمِ اللَّهِ. وَإِذَا لَقِيتَ
عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ أَوْ
خِلاَلٍ. فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوك فَاقْبَل مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ
(1) وَذَكَرَ مِنْ هَذِهِ الْخِصَال الْجِزْيَةَ.
فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَدُوَّكَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ إمَّا أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِعَبَدَةِ الأَْوْثَانِ
وَنَحْوِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَهْل الْكِتَابِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا
فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الأَْوْثَانِ.
وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا يَحْصُل الْمَقْصُودُ وَهُوَ قَبُول الْجِزْيَةِ
مِنْ عَبَدَةِ الأَْوْثَانِ؛ لأَِنَّهُ لَوِ اخْتَصَّ بِغَيْرِ أَهْل
الْكِتَابِ مِنْ عَبَدَةِ الأَْوْثَانِ. فَالْحَدِيثُ يُفِيدُ قَبُول
الْجِزْيَةِ مِنْ عَبَدَةِ الأَْوْثَانِ، وَإِذَا كَانَ عَامًّا
فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَيْضًا قَبُول الْجِزْيَةِ مِنْ عَبَدَةِ
الأَْوْثَانِ وَأَهْل الْكِتَابِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِقَبُول الْجِزْيَةِ مِنْ عَبَدَةِ الأَْوْثَانِ
بِالْقِيَاسِ عَلَى أَهْل الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ. وَنُقِل عَنْ مَالِكٍ
أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَل مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ إلاَّ مُشْرِكِي
قُرَيْشٍ. وَقَدْ أَخَذَ بِهَذَا النَّقْل كُلٌّ مِنِ ابْنِ رُشْدٍ صَاحِبِ
الْمُقَدِّمَاتِ، وَابْنِ الْجَهْمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (2) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي تَعْلِيل عَدَمِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ
مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ: فَعَلَّلَهُ ابْنُ الْجَهْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ
إكْرَامٌ لَهُمْ، لِمَكَانِهِمْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
__________
(1) حديث: " اغزوا باسم الله. . . وإذا لقيت عدوك. . . . " سبق تخريجه ف /
10.
(2) مواهب الجليل 3 / 381، وبلغة السالك 1 / 366، وجواهر الإكليل 1 / 266،
والمقدمات على هامش المدونة 1 / 400، وبداية المجتهد 1 / 404.
(15/172)
وَعَلَّلَهُ الْقَرَوِيُّونَ بِأَنَّ
قُرَيْشًا أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ قَبْل تَشْرِيعِ الْجِزْيَةِ، فَلَمْ
يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ عَلَى الشِّرْكِ، فَمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ بَعْدَ
ذَلِكَ عَلَى الشِّرْكِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ، فَلاَ تُؤْخَذُ مِنْهُ
الْجِزْيَةُ (1) .
أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ:
32 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَل الْجِزْيَةُ مِنَ
الْمُرْتَدِّ عَنِ الإِْسْلاَمِ (2) .
الأَْمَاكِنُ الَّتِي يُقَرُّ الْكَافِرُونَ فِيهَا بِالْجِزْيَةِ
:
33 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ إقْرَارِ أَهْل الْكِتَابِ
وَالْمَجُوسِ بِالْجِزْيَةِ فِي أَيِّ مَكَانٍ مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ مَا
عَدَا جَزِيرَةَ الْعَرَبِ: وَهِيَ مِنْ أَقْصَى عَدَنِ أَبْيَنَ جَنُوبًا
إلَى أَطْرَافِ الشَّامِ شَمَالاً، وَمِنْ جُدَّةَ وَمَا وَالاَهَا مِنْ
سَاحِل الْبَحْرِ غَرْبًا إلَى رِيفِ الْعِرَاقِ شَرْقًا (3) . كَمَا
اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ إقْرَارِهِمْ فِي بِلاَدِ الْحِجَازِ
وَهِيَ: مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَمَخَالِيفُهَا (4) .
وَاخْتَلَفُوا فِي إِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ فِيمَا عَدَا بِلاَدِ
الْحِجَازِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ كَالْيَمَنِ وَغَيْرِهَا.
__________
(1) الكافي 1 / 479، ومواهب الجليل 3 / 381.
(2) العيني: عمدة القاري 14 / 264، والشوكاني: نيل الأوطار 7 / 219،
البهوتي: كشاف القناع 3 / 118، والشيرازي: المهذب مع المجموع 18 / 198.
(3) فتح القدير 5 / 301.
(4) تهذيب الأسماء واللغات 3 / 80.
(15/173)
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
إِلَى عَدَمِ جَوَازِ إِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ فِيمَا عَدَا بِلاَدَ
الْحِجَازِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ؛ لأَِنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنَ
السُّكْنَى فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ كُلِّهَا (1) .
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَال: أَوْصَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلاَثٍ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ
الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ،
وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ (2) . وَقَال يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ سَأَلْتُ
الْمُغِيرَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَقَال:
مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ، وَقَال يَعْقُوبُ:
وَالْعَرْجُ أَوَّل تِهَامَةَ.
فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ
مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ يَدُل عَلَى وُجُوبِ إِخْرَاجِ الْمُشْرِكِينَ
مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ كُلِّهَا. وَهُوَ عَامٌّ فِي كُل مُشْرِكٍ
سَوَاءٌ أَكَانَ وَثَنِيًّا، أَمْ يَهُودِيًّا، أَمْ نَصْرَانِيًّا، أَمْ
مَجُوسِيًّا.
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَال: كَانَ
مِنْ آخِرِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ
__________
(1) فتح القدير 5 / 301، حاشية ابن عابدين 4 / 203، الفتاوى الهندية 2 /
247، مواهب الجليل 3 / 381، منح الجليل 1 / 758، حاشية الخرشي 3 / 144،
بلغة السالك 1 / 367، الزرقاني على مختصر خليل 2 / 141.
(2) حديث: أوصى عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب " أخرجه
البخاري (فتح الباري 6 / 170 ط السلفية) ومسلم (3 / 1257 - 1258 ط عيسى
الحلبي) .
(15/173)
قَال: قَاتَل اللَّهُ الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، لاَ
يَبْقَيَنَّ دِينَانِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ} وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ
يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ قَال ابْنُ شِهَابٍ: فَفَحَصَ
عَنْ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى أَتَاهُ الثَّلْجُ
وَالْيَقِينُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: لاَ يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَأَجْلَى يَهُودَ
خَيْبَرَ (1) .
وَبِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ آخِرُ مَا عَهِدَ بِهِ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلاَّ يَنْزِل
بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ (2) .
وَبِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: لأَُخْرِجَنَّ
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، حَتَّى لاَ أَدَعَ
إلاَّ مُسْلِمًا (3) .
__________
(1) حديث: " قاتل الله اليهودي والنصارى اتخذوا. . . . " أخرجه مالك في
الموطأ (2 / 892 ط عيسى الحلبي) مرسلا. وأصله في الصحيحين بنحوه من حديث
عائشة.
(2) حديث: " كان آخر ما عهد به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينزل
بجزيرة العرب دينان ". رواه أحمد (6 / 275 ط الميمنية) وقال الهيثمي: (رواه
أحمد والطبراني في الأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح
بالسماع ومجمع الزوائد 5 / 325 ط القدسي) .
(3) حديث: " لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب ". أخرجه مسلم (3 /
1388 ط عيسى الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب.
(15/174)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
إِلَى إِقْرَارِ مَنْ تُقْبَل مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ عَلَى السُّكْنَى فِي
بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ فِيمَا عَدَا الْحِجَازَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ،
فَتَجُوزُ لَهُمْ سُكْنَى الْيَمَنِ وَغَيْرِهَا مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ
مِمَّا لاَ يَدْخُل فِي بِلاَدِ الْحِجَازِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْل أَبِي عُبَيْدَةَ: كَانَ آخِرُ مَا
تَكَلَّمَ بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَخْرِجُوا يَهُودَ أَهْل الْحِجَازِ، وَأَهْل نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ
الْعَرَبِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ شِرَارَ النَّاسِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا
قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ (2) .
قَالُوا: فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخْرِجُوا
يَهُودَ أَهْل الْحِجَازِ يَدُل عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِمَنْ تُقْبَل
مِنْهُ الْجِزْيَةُ سُكْنَى الْحِجَازِ وَالإِْقَامَةُ فِيهِ، كَمَا لاَ
يَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى الإِْقَامَةِ فِيهِ
بِجِزْيَةٍ، وَإِنْ فَعَل ذَلِكَ كَانَ الصُّلْحُ فَاسِدًا. وَالْمُرَادُ
بِالْحِجَازِ - كَمَا سَبَقَ - مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ
وَمَخَالِيفُهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَخْرِجُوا أَهْل نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ.
فَيُحْمَل عَلَى أَنَّ بِلاَدَهُمْ - وَهِيَ الْيَمَنُ - مِنْ جَزِيرَةِ
الْعَرَبِ، فَأَمَرَ
__________
(1) حاشية قليوبي 4 / 230، نهاية المحتاج 8 / 85، المغني 8 / 530، كشاف
القناع 3 / 234، أحكام أهل الذمة لابن القيم 1 / 179 - 185.
(2) حديث: " أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران. . . " أخرجه أحمد (1 / 195
ط الميمنية) وقال الهيثمي: رواه أحمد بأسانيد ورجال طريقين منها ثقات متصل
إسنادهما: (مجمع الزوائد 5 / 325 ط القدسي) .
(15/174)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْهَا؛ لأَِنَّهُمْ نَقَضُوا الْعَهْدَ
الَّذِي أَخَذَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ
قَدْ صَالَحَهُمْ عَلَى أَلاَ يُحْدِثُوا حَدَثًا، وَلاَ يَأْكُلُوا
الرِّبَا، فَأَكَلُوا الرِّبَا، وَنَقَضُوا الْعَهْدَ، فَأَمَرَ
بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لِهَذَا السَّبَبِ، لاَ لِكَوْنِ
جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لاَ تَصْلُحُ لِسُكْنَى أَهْل الذِّمَّةِ (1) .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ
الْحِجَازِ (2) .
وَلأَِنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ أَنَّهُ أَجْلَى
مَنْ كَانَ بِالْيَمَنِ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ، فَقَدْ أَجَلاَهُمْ عُمَرُ
مِنَ الْحِجَازِ وَأَقَرَّهُمْ بِالْيَمَنِ (3) .
شُرُوطُ مَنْ تُفْرَضُ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ:
34 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِفَرْضِ الْجِزْيَةِ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ
عِدَّةَ شُرُوطٍ مِنْهَا: الْبُلُوغُ، وَالْعَقْل، وَالذُّكُورَةُ،
وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْمَقْدِرَةُ الْمَالِيَّةُ، وَالسَّلاَمَةُ مِنَ
الْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ.
وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل الْقَوْل فِي هَذِهِ الشُّرُوطِ.
أَوَّلاً: الْبُلُوغُ:
35 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لاَ تُضْرَبُ
__________
(1) المهذب مع المجموع 8 / 267.
(2) السنن الكبرى للبيهقي 9 / 207.
(3) نهاية المحتاج 8 / 90.
(15/175)
عَلَى صِبْيَانِ أَهْل الذِّمَّةِ (1) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ خِلاَفًا فِي
هَذَا، وَبِهِ قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ
وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ، لاَ أَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ
خِلاَفَهُمْ (2) وَاسْتَدَلُّوا لِهَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا
الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (3) . . .} آيَةَ الْجِزْيَةِ.
فَالْمُقَاتَلَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْقِتَال تَسْتَدْعِي أَهْلِيَّةَ
الْقِتَال مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَلاَ تَجِبُ عَلَى مَنْ لَيْسَ أَهْلاً
لِلْقِتَال، وَالصِّبْيَانُ لَيْسُوا مِنْ أَهْل الْقِتَال فَلاَ تَجِبُ
الْجِزْيَةُ عَلَيْهِمْ (4)
وَبِحَدِيثِ مُعَاذٍ السَّابِقِ. حَيْثُ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُل حَالِمٍ دِينَارًا،
أَوْ عَدْلَهُ مِنَ الْمَعَافِرِ.
وَالْحَالِمُ: مَنْ بَلَغَ الْحُلُمَ بِالاِحْتِلاَمِ، أَوْ غَيْرِهِ
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 278، بدائع الصنائع 9 / 4330، الهداية 2 / 160،
الاختيار 4 / 38، الفتاوى الهندية 2 / 244، الجوهرة النيرة 2 / 351، حاشية
ابن عابدين 4 / 198، مجمع الأنهر 1 / 671، الخراج ص 122، المنتقى 2 / 176،
المقدمات لابن رشد 1 / 397، حاشية الخرشي 3 / 144، البداية لابن رشد 1 /
404، القوانين الفقهية ص 175، حاشية قليوبي 4 / 2289، الأم 4 / 279، رحمة
الأمة 2 / 182، المهذب مع المجموع 18 / 227، كشاف القناع 3 / 119، أحكام
أهل الذمة لابن القيم 1 / 42، المبدع 3 / 408، المحلى 7 / 566.
(2) المغني 8 / 507.
(3) سورة التوبة / 29.
(4) بدائع الصنائع 9 / 4330.
(15/175)
مِنْ عَلاَمَاتِ الْبُلُوغِ، فَمَفْهُومُ
الْحَدِيثِ يَدُل عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لاَ تَجِبُ عَلَى الصِّبْيَانِ.
وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى أُمَرَاءِ الأَْجْنَادِ
أَنْ يَضْرِبُوا الْجِزْيَةَ وَلاَ يَضْرِبُوهَا عَلَى النِّسَاءِ
وَالصِّبْيَانِ، وَلاَ يَضْرِبُوهَا إِلاَّ عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ
الْمُوسَى (1) .
قَال أَبُو عُبَيْدٍ: فِي مَعْنَى " مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى ":
يَعْنِي مَنْ أَنْبَتَ، وَقَال فِي وَجْهِ الاِسْتِدْلاَل بِهِ: هَذَا
الْحَدِيثُ هُوَ الأَْصْل فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، وَمَنْ لاَ
تَجِبُ عَلَيْهِ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَهَا عَلَى الذُّكُورِ
الْمُدْرِكِينَ دُونَ الإِْنَاثِ وَالأَْطْفَال، وَذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ
كَانَ عَلَيْهِمُ الْقَتْل لَوْ لَمْ يُؤَدُّوهَا، وَأَسْقَطَهَا عَمَّنْ
لاَ يَسْتَحِقُّ الْقَتْل وَهُمُ الذُّرِّيَّةُ (2) .
وَقَدْ مَضَتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنْ لاَ جِزْيَةَ عَلَى الصِّبْيَانِ،
وَعَمِل بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ (3) .
فَقَدْ صَالَحَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ أَهْل بُصْرَى عَلَى أَنْ
يُؤَدُّوا عَنْ كُل حَالِمٍ دِينَارًا وَجَرِيبَ حِنْطَةٍ، وَصَالَحَ أَبُو
عُبَيْدَةَ أَهْل أَنْطَاكِيَةَ عَلَى الْجِزْيَةِ أَوِ الْجَلاَءِ،
فَجَلاَ بَعْضُهُمْ وَأَقَامَ بَعْضُهُمْ، فَأَمَّنَهُمْ وَوَضَعَ عَلَى
كُل حَالِمٍ مِنْهُمْ دِينَارًا وَجَرِيبًا.
__________
(1) الأموال لأبي عبيد ص 51، الأموال لابن زنجويه 1 / 151، وقال المحقق
الدكتور شاكر فياض: إسناد ابن زنجويه صحيح رجاله ثقات.
(2) الأموال لأبي عبيد ص 51 - 53.
(3) الأموال لأبي عبيد ص 54.
(15/176)
وَوَضَعَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلَى
أَهْل مِصْرَ دِينَارَيْنِ دِينَارَيْنِ وَأَخْرَجَ النِّسَاءَ
وَالصِّبْيَانَ (1) وَلأَِنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ لِحَقْنِ الدَّمِ،
وَالصِّبْيَانُ دِمَاؤُهُمْ مَحْقُونَةٌ بِدُونِهَا (2) .
36 - وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ، فَهَل يَحْتَاجُ
إلَى اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ أَمْ يَكْفِي عَقْدُ أَبِيهِ
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي وَجْهٍ إلَى أَنَّهُ يَكْفِي
عَقْدُ أَبِيهِ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ الأَْوَّل يَتَنَاوَل الْبَالِغِينَ
وَمَنْ سَيَبْلُغُ مِنْ أَوْلاَدِهِمْ أَبَدًا، وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّتْ
سُنَّةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ
خُلَفَائِهِ فِي جَمِيعِ الأَْعْصَارِ، وَلَمْ يُفْرِدُوا كُل مَنْ بَلَغَ
بِعَقْدٍ جَدِيدٍ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَجْهِ الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ
الصَّبِيَّ إذَا بَلَغَ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْتِزَامِ الْعَقْدِ وَبَيْنَ
أَنْ يُرَدَّ إِلَى مَأْمَنِهِ، فَإِنِ اخْتَارَ الذِّمَّةَ عُقِدَتْ لَهُ،
وَإِنِ اخْتَارَ اللَّحَاقَ لِمَأْمَنِهِ أُجِيبَ إِلَيْهِ (4) .
وَإِذَا كَانَ الْبُلُوغُ فِي أَوَّل حَوْل قَوْمِهِ وَأَهْلِهِ أُخِذَتْ
مِنْهُ الْجِزْيَةُ فِي آخِرِهِ مَعَهُمْ، وَإِذَا كَانَتْ فِي أَثْنَائِهِ
أُخِذَ مِنْهُ فِي آخِرِهِ بِقِسْطِهِ.
__________
(1) فتوح البلدان ص 120، 154، 220.
(2) المغني 8 / 507.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 198، ومجمع الأنهر 1 / 671، وحاشية الدسوقي 2 /
201، والمقدمات لابن رشد 1 / 397، وحاشية الخرشي 3 / 144، والمغني 8 / 508،
وكشاف القناع 3 / 121، وأحكام أهل الذمة 1 / 45.
(4) روضة الطالبين 10 / 300، ومغني المحتاج 4 / 245.
(15/176)
ثَانِيًا: الْعَقْل:
37 - نَقَل ابْنُ هُبَيْرَةَ وَابْنُ قُدَامَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ
اتِّفَاقَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لاَ تُؤْخَذُ مِنْ
مَجَانِينِ أَهْل الذِّمَّةِ (1) .
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا إجْمَاعٌ، لَكِنَّ ابْنَ رُشْدٍ ذَكَرَ
خِلاَفًا فِي الْمَجْنُونِ، وَذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ نَقْلاً عَنِ
الْبَيَانِ وَجْهًا ضَعِيفًا لِلشَّافِعِيَّةِ لأَِنَّهُ كَالْمَرِيضِ
وَالْهَرِمِ. قَال النَّوَوِيُّ: وَلَيْسَ بِشَيْءٍ (2) .
ثَالِثًا: الذُّكُورَةُ:
38 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لاَ تُضْرَبُ عَلَى
نِسَاءِ أَهْل الذِّمَّةِ. لِمَا سَبَقَ مِنَ الأَْدِلَّةِ (3) .
__________
(1) البدائع 9 / 4330، وفتح القدير 5 / 293، والخراج مع شرحه الرتاج 2 /
105، وكتاب السير لمحمد بن الحسن ص 263، والفتاوى الهندية 2 / 244، ومجمع
الأنهر 1 / 671، والكافي 1 / 479، مختصر خليل ص 117، وحاشية الخرشي 3 /
144، بلغة السالك 1 / 367، وروضة الطالبين 10 / 299، وحاشية قليوبي 4 /
229، والغاية القصوى 2 / 956، والأحكام السلطانية للماوردي ص 144، ونهاية
المحتاج 8 / 84، وكفاية الأخيار 2 / 132، مغني المحتاج 4 / 245، والمغني 8
/ 507، وكشاف القناع 3 / 119، المبدع 3 / 408، والإنصاف 4 / 222، وأحكام
أهل الذمة لابن القيم 1 / 42، 47.
(2) الجامع لأحكام القرآن 8 / 112، بداية المجتهد 1 / 404، وروضة الطالبين
10 / 299.
(3) بدائع الصنائع 9 / 4330، وتبيين الحقائق 3 / 278، والاختيار 4 / 138،
والهداية 2 / 160، وحاشية ابن عابدين 4 / 198، والخراج لأبي يوسف ص 122
والقوانين الفقهية ص 175، والمنتقى 2 / 176، وروضة الطالبين 10 / 302،
ومغني المحتاج 4 / 245 ورحمة الأمة 2 / 182، والميزان 2 / 189، وأحكام أهل
الذمة لابن القيم 1 / 42، وكشاف القناع 3 / 119، والإفصاح 2 / 294، الخراج
لابن آدم ص 67.
(15/177)
رَابِعًا: الْحُرِّيَّةُ:
39 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لاَ تُؤْخَذُ مِنْ
عَبِيدِ أَهْل الذِّمَّةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ مَمْلُوكًا
لِمُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ. وَقَدْ نَقَل هَذَا الاِتِّفَاقَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ، وَابْنُ هُبَيْرَةَ وَابْنُ قُدَامَةَ وَابْنُ رُشْدٍ.
لأَِنَّ الْجِزْيَةَ شُرِعَتْ بَدَلاً عَنِ الْقَتْل فِي حَقِّهِمْ، وَعَنِ
النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا، وَالْعَبْدُ مَحْقُونُ الدَّمِ بِدُونِ دَفْعِ
الْجِزْيَةِ. وَالْعَبْدُ أَيْضًا لاَ تَلْزَمُهُ النُّصْرَةُ؛ لأَِنَّهُ
عَاجِزٌ عَنْهَا، فَإِذَا امْتَنَعَ الأَْصْل فِي حَقِّهِ امْتَنَعَ
الْبَدَل، فَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ (1) .
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ
مَمْلُوكًا لِسَيِّدٍ كَافِرٍ تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ سَيِّدِهِ
الْكَافِرِ، وَاسْتَدَل لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 278، الهداية 2 / 164، وفتح القدير 5 / 294،
والاختيار 4 / 138، والمقدمات 1 / 397، وحاشية الخرشي 3 / 144، ومنح الجليل
1 / 757، وبلغة السالك 1 / 367، وحاشية الدسوقي 2 / 201، والمهذب مع
المجموع 18 / 232، وحاشية قليوبي 4 / 229، وكفاية الأخيار 2 / 133، والمغني
8 / 510، وكشاف القناع 3 / 120، والأحكام السلطانية للفراء ص 154، وأحكام
أهل الذمة لابن القيم 1 / 55، الإفصاح لابن هبيرة 2 / 294، ورحمة الأمة
للدمشقي 2 / 182، والميزان للشعراني 2 / 184، والإجماع لابن المنذر ص 59.
(15/177)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: " لاَ
تَشْتَرُوا رَقِيقَ أَهْل الذِّمَّةِ، وَلاَ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ؛
لأَِنَّهُمْ أَهْل خَرَاجٍ يَبِيعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلاَ يُقِرَّنَّ
أَحَدُكُمْ بِالصَّغَارِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ (1) .
قَال أَحْمَدُ: أَرَادَ أَنْ يُوَفِّرَ الْجِزْيَةَ؛ لأَِنَّ الْمُسْلِمَ
إِذَا اشْتَرَاهُ سَقَطَ عَنْهُ أَدَاءُ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ،
وَالذِّمِّيُّ يُؤَدِّي عَنْهُ وَعَنْ مَمْلُوكِهِ خَرَاجَ جَمَاجِمِهِمْ
(2) .
وَلأَِنَّ الْعَبْدَ ذَكَرٌ مُكَلَّفٌ قَوِيٌّ مُكْتَسِبٌ، فَوَجَبَتْ
عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ كَالْحُرِّ (3) .
خَامِسًا: الْمَقْدِرَةُ الْمَالِيَّةُ:
40 - اشْتَرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِوُجُوبِ الْجِزْيَةِ عَلَى أَهْل
الذِّمَّةِ الْمَقْدِرَةُ الْمَالِيَّةُ، فَلاَ تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ
الْعَاجِزِ عَنِ الْعَمَل.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ عَلَى
الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِل (4) : وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى الْعَمَل.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْفَقِيرِ غَيْرِ الْمُعْتَمِل.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ غَيْرِ مَشْهُورٍ لَهُ إِلَى
أَنَّ الْجِزْيَةَ لاَ تُوضَعُ عَلَى الْفَقِيرِ غَيْرِ الْمُعْتَمِل،
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي 9 / 194، عبد الرزاق: المصنف 6 / 46.
(2) الإجماع لابن المنذر ص 59، والمغني 8 / 510، أحكام أهل الذمة لابن
القيم 1 / 56، وكتاب الروايتين والوجهين - 2 / 382، مكتبة المعارف بالرياض
ط 1 - 1405 هـ.
(3) المغني 8 / 510.
(4) المعتمل: المتكسب.
(15/178)
نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا (1) } وَجْهُ
الاِسْتِدْلاَل مِنَ الآْيَةِ أَنَّ الْفَقِيرَ الْعَاجِزَ عَنِ الْكَسْبِ
لَيْسَ فِي وُسْعِهِ أَنْ يَدْفَعَ الْجِزْيَةَ، وَمَتَى كَانَ الأَْمْرُ
كَذَلِكَ فَلاَ يُكَلَّفُ بِهَا. وَقَدْ وَضَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
الْجِزْيَةَ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَال عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً
وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ
دِرْهَمًا، وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُكْتَسِبِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا (2)
.
فَقَدْ فَرَضَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى طَبَقَاتٍ ثَلاَثٍ
أَدْنَاهَا الْفَقِيرُ الْمُعْتَمِل، فَدَل بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ
الْجِزْيَةَ لاَ تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ غَيْرِ الْمُعْتَمِل. وَقَدْ
كَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ،
وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَهُوَ إِجْمَاعٌ (3) .
وَقَالُوا: إِنَّ الْجِزْيَةَ مَالٌ يَجِبُ بِحُلُول الْحَوْل، فَلاَ
يَلْزَمُ الْفَقِيرَ الْعَاجِزَ عَنِ الْكَسْبِ كَالزَّكَاةِ وَالدِّيَةِ
(4) .
__________
(1) سورة البقرة / 286.
(2) السنن الكبرى 9 / 196.
(3) تبيين الحقائق 3 / 278، الهداية 2 / 160، فتح القدير 5 / 294، الاختيار
4 / 138، الفتاوى الهندية 2 / 244، حاشية ابن عابدين 4 / 197، مجمع الأنهر
1 / 672، الخراج لأبي يوسف ص 122، القوانين الفقهية ص 175، الكافي 1 / 479،
حاشية الخرشي 3 / 145، منح الجليل 1 / 757، بلغة السالك 1 / 367، المغني 8
/ 509، المبدع 3 / 409، الإنصاف 4 / 224، كشاف القناع 3 / 121، مغني ذوي
الأفهام عن الكتب الكثيرة في الأحكام ص 104، أحكام أهل الذمة 1 / 48، مغني
المحتاج 4 / 246.
(4) المغني 8 / 509، والمبسوط 10 / 79، وفتح القدير 5 / 294.
(15/178)
وَأَنَّ الْعَاجِزَ عَنِ الأَْدَاءِ
مَعْذُورٌ شَرْعًا فِيمَا هُوَ حَقُّ الْعِبَادِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةُ إِلَى مَيْسَرَةٍ (1) } فَفِي
الْجِزْيَةِ أَوْلَى.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ
عَلَى الْفَقِيرِ غَيْرِ الْمُعْتَمِل، كَمَا تُوضَعُ عَلَى الْفَقِيرِ
الْمُعْتَمِل، إِلاَّ أَنَّ غَيْرَ الْمُعْتَمِل تَكُونُ دَيْنًا فِي
ذِمَّتِهِ حَتَّى يُوسِرَ، فَإِذَا أَيْسَرَ طُولِبَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ
جِزْيَةٍ. وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (2) } وَعُمُومِ حَدِيثِ مُعَاذٍ
السَّابِقِ: أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُل حَالِمٍ دِينَارًا (3) .
وَلأَِنَّ الْجِزْيَةَ بَدَلٌ عَنِ الْقَتْل، وَالسُّكْنَى فِي دَارِ
الإِْسْلاَمِ، فَلَمْ يُفَارِقِ الْمَعْذُورُ فِيهَا غَيْرَهُ، فَتُؤْخَذُ
مِنَ الْفَقِيرِ كَمَا تُؤْخَذُ مِنَ الْغَنِيِّ (4) .
سَادِسًا: أَلاَ يَكُونَ مِنَ الرُّهْبَانِ الْمُنْقَطِعِينَ لِلْعِبَادَةِ
فِي الصَّوَامِعِ:
41 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرُّهْبَانَ الْمُخَالِطِينَ
لِلنَّاسِ، وَالْمُشَارِكِينَ لَهُمْ فِي الرَّأْيِ وَالْمَشُورَةِ
__________
(1) سورة البقرة / 280.
(2) سورة التوبة / 29.
(3) حديث: " بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ
من كل حالم دينارا ". سبق تخريجه ف / 9.
(4) روضة الطالبين 10 / 307، المهذب مع المجموع 18 / 232، الأحكام
السلطانية ص 145، مغني المحتاج 4 / 246، نهاية المحتاج 8 / 85، رحمة الأمة
2 / 180، الميزان للشعراني 2 / 185.
(15/179)
وَالْمَكَايِدِ الْحَرْبِيَّةِ
وَالْفِكْرِيَّةِ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، وَهُمْ أَوْلَى بِهَا
مِنْ عَوَامِّهِمْ، فَإِنَّهُمْ رُءُوسُ الْكُفْرِ، وَهُمْ بِمَنْزِلَةِ
عُلَمَائِهِمْ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الرُّهْبَانِ الَّذِينَ
انْقَطَعُوا لِلْعِبَادَةِ فِي الصَّوَامِعِ، وَلَمْ يُخَالِطُوا النَّاسَ
فِي مَعَايِشِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ.
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ، وَمَالِكٌ،
وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إِلَى
أَنَّ الْجِزْيَةَ لاَ تُفْرَضُ عَلَيْهِمْ. وَسَوَاءٌ كَانُوا قَادِرِينَ
عَلَى الْعَمَل أَمْ غَيْرَ قَادِرِينَ؛ لأَِنَّ الرُّهْبَانَ لاَ
يُقْتَلُونَ وَلاَ يُتَعَرَّضُ لَهُمْ، لِمَا جَاءَ فِي وَصِيَّةِ أَبِي
بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ حِينَ وَجَّهَهُ إِلَى
الشَّامِ: " لاَ تَقْتُل صَبِيًّا وَلاَ امْرَأَةً وَسَتَمُرُّونَ عَلَى
أَقْوَامٍ فِي الصَّوَامِعِ احْتَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا، فَدَعْهُمْ
حَتَّى يُمِيتَهُمُ اللَّهُ عَلَى ضَلاَلَتِهِمْ، وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامًا
فَحَصُوا عَنْ أَوْسَاطِ رُءُوسِهِمْ فَاضْرِبْ مَا فَحَصُوا عَنْهُ
بِالسَّيْفِ.
فَإِذَا كَانَ الرَّاهِبُ لاَ يُقْتَل فَهُوَ مَحْقُونُ الدَّمِ بِدُونِ
عَقْدِ الذِّمَّةِ، وَالْجِزْيَةُ إِنَّمَا وَجَبَتْ لِحَقْنِ الدَّمِ،
فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ، كَمَا لاَ تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ؛
وَلأَِنَّ الرَّاهِبَ مِنْ جُمْلَةِ الْفُقَرَاءِ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا
تُرِكَ لَهُ مِنَ الْمَال الْيَسِيرُ (1) .
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 278، البدائع 9 / 4331، فتح القدير 5 / 295، حاشية
ابن عابدين 4 / 199، اللباب 4 / 145، مجمع الأنهر 1 / 672، بداية المجتهد 1
/ 404، حاشية الدسوقي 2 / 201، الكافي لابن عبد البر 1 / 479، المنتقى 2 /
176، مواهب الجليل 3 / 381، حاشية الخرشي 3 / 142، مغني المحتاج 4 / 264،
المغني 8 / 510، كشاف القناع 3 / 120، المبدع 3 / 410، الاختيارات جمع
البعلي ص 319.
(15/179)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ
نَقَلَهَا عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ
وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ عَلَى
الرُّهْبَانِ إِذَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْعَمَل. قَال أَبُو
يُوسُفَ: " الْمُتَرَهِّبُونَ الَّذِينَ فِي الدِّيَارَاتِ إِذَا كَانَ
لَهُمْ يَسَارٌ أُخِذَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانُوا إِنَّمَا هُمْ مَسَاكِينُ
يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِمْ أَهْل الْيَسَارِ مِنْهُمْ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ،
وَكَذَلِكَ أَهْل الصَّوَامِعِ إِنْ كَانَ لَهُمْ غِنًى وَيَسَارٌ، وَإِنْ
كَانُوا قَدْ صَيَّرُوا مَا كَانَ لَهُمْ لِمَنْ يُنْفِقُهُ عَلَى
الدِّيَارَاتِ وَمَنْ فِيهَا مِنَ الْمُتَرَهِّبِينَ وَالْقُوَّامِ
أُخِذَتِ الْجِزْيَةُ مِنْهُمْ ".
وَقَدِ اسْتَدَل مَنْ قَيَّدَ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنَ الرُّهْبَانِ
بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْعَمَل بِأَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل - أَنَّ الْمُعْتَمِل إِذَا تَرَكَ الْعَمَل تُؤْخَذُ مِنْهُ
الْجِزْيَةُ، فَكَذَلِكَ الرَّاهِبُ الْقَادِرُ عَلَى الْعَمَل.
وَالثَّانِي: أَنَّ الأَْرْضَ الْخَرَاجِيَّةَ الصَّالِحَةَ لِلزِّرَاعَةِ
لاَ يَسْقُطُ عَنْهَا الْخَرَاجُ بِتَعْطِيل الْمَالِكِ لَهَا عَنِ
الزِّرَاعَةِ، فَكَذَلِكَ الرَّاهِبُ الْقَادِرُ عَلَى الْعَمَل لاَ
تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ إِذَا تَرَكَ الْعَمَل.
هَذَا بِالإِْضَافَةِ إِلَى الأَْدِلَّةِ الَّتِي اسْتَدَل بِهَا
(15/180)
أَصْحَابُ الْمَذْهَبِ الأَْوَّل عَلَى
عَدَمِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الرَّاهِبِ، فَقَدِ اسْتَدَل بِهَا
أَصْحَابُ هَذَا الْمَذْهَبِ، وَحَمَلُوهَا عَلَى الرَّاهِبِ غَيْرِ
الْمُعْتَمِل الَّذِي يَعِيشُ عَلَى صَدَقَاتِ الْمُوسِرِينَ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْل الْمَعْمُول بِهِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى
الرُّهْبَانِ الَّذِينَ يَنْقَطِعُونَ لِلْعِبَادَةِ فِي الأَْدْيِرَةِ
وَالصَّوَامِعِ، سَوَاءٌ أَكَانُوا مُوسِرِينَ أَوْ غَيْرَ مُوسِرِينَ،
قَادِرِينَ عَلَى الْعَمَل أَمْ غَيْرَ قَادِرِينَ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (2) } فَهُوَ يَشْمَل
الرُّهْبَانَ الْقَادِرِينَ عَلَى الْعَمَل وَغَيْرَ الْقَادِرِينَ،
الْمُوسِرِينَ وَغَيْرَ الْمُوسِرِينَ. وَبِعُمُومِ الأَْحَادِيثِ
الْقَاضِيَةِ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ كُل بَالِغٍ كَحَدِيثِ مُعَاذٍ
السَّابِقِ: أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُل حَالِمٍ دِينَارًا. وَحَدِيثِ
عُمَرَ السَّابِقِ: وَلاَ يَضْرِبُوهَا إِلاَّ عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ
الْمُوسَى، وَبِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ: " أَنَّهُ فَرَضَ عَلَى رُهْبَانِ الدِّيَارَاتِ عَلَى
كُل رَاهِبٍ دِينَارَيْنِ ".
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 278، الهداية 2 / 161، فتح القدير 5 / 294 - 295،
بدائع الصنائع 9 / 4331، الخراج لأبي يوسف ص 122، الرتاج المرصد على خزانة
كتاب الخراج - 2 / 99 - 101، الإرشاد ببغداد - 1975 م، والجوهرة النيرة 2 /
351، الاختيار 4 / 138.
(2) سورة التوبة / 29.
(15/180)
وَأَمَّا الْمَعْقُول فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ، وَالرَّاهِبُ
غَيْرُ مَحْقُونِ الدَّمِ، فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ لِحَقْنِ
الدَّمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى دَارِ الإِْسْلاَمِ،
وَالرَّاهِبُ كَغَيْرِهِ فِي الاِنْتِفَاعِ بِالدَّارِ، فَلاَ تَسْقُطُ
عَنْهُ الْجِزْيَةُ (1) .
سَابِعًا: السَّلاَمَةُ مِنَ الْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ:
42 - إِذَا أُصِيبَ الْمُطَالَبُ بِالْجِزْيَةِ بِعَاهَةٍ مُزْمِنَةٍ،
كَالْمَرَضِ، أَوِ الْعَمَى، أَوِ الْكِبَرِ الْمُقْعِدِ عَنِ الْعَمَل
وَالْقِتَال، فَهَل تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ أَمْ لاَ؟
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ،
وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: أَنَّ الْجِزْيَةَ لاَ تُؤْخَذُ
مِنْ هَؤُلاَءِ وَلَوْ كَانُوا مُوسِرِينَ. وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ
بِالْيَوْمِ الآْخِرِ (2) } .
فَفَحْوَى الآْيَةِ يَدُل عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِمَّنْ كَانَ
مِنْهُمْ مِنْ أَهْل الْقِتَال؛ لاِسْتِحَالَةِ الْخِطَابِ بِالأَْمْرِ
بِقِتَال مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْقِتَال، إِذِ الْقِتَال
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 307، نهاية المحتاج 8 / 85، الأم 4 / 286، المهذب
مع المجموع 18 / 232، مغني المحتاج 4 / 246، نهاية المحتاج 8 / 85،
والأموال لأبي عبيد ص 58، والأموال لابن زنجويه 1 / 163.
(2) سورة التوبة / 29.
(15/181)
لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَيْنَ اثْنَيْنِ
وَمَنْ يُمْكِنُهُ أَدَاؤُهُ مِنَ الْمُحْتَرِفِينَ، وَلِذَلِكَ لاَ
تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل الْقِتَال:
كَالأَْعْمَى وَالزَّمِنِ وَالْمَفْلُوجِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ
الْفَانِي: سَوَاءٌ أَكَانَ مُوسِرًا أَمْ غَيْرَ مُوسِرٍ؛ وَلأَِنَّ
الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِمَّنْ أُبِيحَ قَتْلُهُ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ،
وَهَؤُلاَءِ لاَ يُقْتَلُونَ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ
الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنَ الزَّمْنَى وَالْعُمْيَانِ وَالشُّيُوخِ
الْكِبَارِ إِذَا كَانَ لَهُمْ مَالٌ (2) . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ
بِأَنَّ هَؤُلاَءِ الْمُصَابِينَ بِالْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ أَهْلٌ
لِلْقِتَال، إِذْ إِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ إِذَا كَانُوا ذَوِي رَأْيٍ فِي
الْحَرْبِ وَالْقِتَال، فَتَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ، كَمَا تَجِبُ
عَلَى غَيْرِهِمْ.
وَلأَِنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِل، وَوُجُودُ
الْمَال عِنْدَ هَؤُلاَءِ الْمُصَابِينَ أَكْثَرُ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى
الْعَمَل، فَتَجِبُ عَلَيْهِمِ الْجِزْيَةُ إِذَا كَانُوا
__________
(1) البدائع 9 / 4331، فتح القدير 5 / 293، حاشية ابن عابدين 4 / 201، مجمع
الأنهر 1 / 671، الاختيار 4 / 138، أحكام أهل الذمة لابن القيم 1 / 49،
كشاف القناع 3 / 120، الإنصاف 4 / 222، مغني المحتاج 4 / 246، وأحكام
القرآن للجصاص 3 / 96.
(2) الكافي لابن عبد البر 1 / 479، حاشية الزرقاني على مختصر خليل 2 / 141،
الشرح الكبير على هامش حاشية الدسوقي 2 / 201، منح الجليل 1 / 757، بلغة
السالك 1 / 367، الخراج لأبي يوسف ص 123، الهداية 2 / 160، فتح القدير 5 /
293، الاختيار 4 / 138.
(15/181)
مُوسِرِينَ، وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِمْ إِذَا
كَانُوا مُعْسِرِينَ (1) .
وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ مَا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ
الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَهْل الْحِيرَةِ: " وَجَعَلْتُ لَهُمْ
أَيُّمَا شَيْخٍ ضَعُفَ عَنِ الْعَمَل، أَوْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ مِنَ
الآْفَاتِ، أَوْ كَانَ غَنِيًّا فَافْتَقَرَ وَصَارَ أَهْل دَيْنِهِ
يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ طُرِحَتْ جِزْيَتُهُ، وَعِيل مِنْ بَيْتِ مَال
الْمُسْلِمِينَ وَعِيَالُهُ مَا أَقَامَ بِدَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ
الإِْسْلاَمِ، فَإِنْ خَرَجُوا إِلَى غَيْرِ دَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ
الإِْسْلاَمِ فَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ النَّفَقَةُ عَلَى عِيَالِهِمْ
(2) .
وَمَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنَ الْمُصَابِينَ
بِالْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مُوسِرِينَ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (3) } فَهُوَ يَشْمَل الزَّمْنَى
وَالْعُمْيَانَ وَالشُّيُوخَ الْكِبَارَ.
وَبِعُمُومِ الأَْحَادِيثِ الْقَاضِيَةِ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ كُل
حَالِمٍ، كَحَدِيثِ مُعَاذٍ السَّابِقِ. الَّذِي أَمَرَهُ فِيهِ أَنْ
يَأْخُذَ مِنْ كُل حَالِمٍ دِينَارًا، وَحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
السَّابِقِ: وَلاَ يَضْرِبُوهَا إِلاَّ عَلَى مَنْ
__________
(1) الاختيار 4 / 138، الأموال لابن زنجويه 1 / 163 - 164.
(2) الخراج لأبي يوسف 144، والأموال لأبي عبيد 1 / 46 ط حجازي.
(3) سورة التوبة / 29.
(15/182)
جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى، وَاسْتَدَلُّوا
مِنَ الْمَعْقُول بِأَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ،
وَهَؤُلاَءِ كَغَيْرِهِمْ فِي الاِنْتِفَاعِ بِحَقْنِ الدَّمِ، فَلاَ
تَسْقُطُ عَنْهُمُ الْجِزْيَةُ بِتِلْكَ الإِْصَابَاتِ، وَأَنَّ
الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَهَؤُلاَءِ
كَغَيْرِهِمْ فِي الاِنْتِفَاعِ بِالدَّارِ، فَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُمُ
الْجِزْيَةُ، كَمَا أَنَّ الأُْجْرَةَ لاَ تَسْقُطُ عَنْ أَصْحَابِ
الأَْعْذَارِ (1) .
ضَبْطُ أَسْمَاءِ أَهْل الذِّمَّةِ وَصِفَاتِهِمْ فِي دِيوَانٍ:
43 - يَسْتَوْفِي الْعَامِل الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ وَفْقَ
دِيوَانٍ يَشْتَمِل عَلَى أَسْمَائِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ
وَمَا يَجِبُ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ. قَال الشِّيرَازِيُّ فِي
الْمُهَذَّبِ: " وَيُثْبِتُ الإِْمَامُ عَدَدَ أَهْل الذِّمَّةِ
وَأَسْمَاءَهُمْ، وَيُحَلِّيهِمْ بِالصِّفَاتِ الَّتِي لاَ تَتَغَيَّرُ
بِالأَْيَّامِ فَيَقُول: طَوِيلٌ، أَوْ قَصِيرٌ، أَوْ رَبْعَةٌ،
وَأَبْيَضُ، أَوْ أَسْوَدُ، أَوْ أَسْمَرُ، أَوْ أَشْقَرُ، وَأَدْعَجُ
الْعَيْنَيْنِ، أَوْ مَقْرُونُ الْحَاجِبَيْنِ، أَوْ أَقْنَى الأَْنْفِ.
وَيَكْتُبُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَيَجْعَل عَلَى كُل
طَائِفَةٍ عَرِيفًا، لِيَجْمَعَهُمْ عِنْدَ أَخْذِ الْجِزْيَةِ، وَيَكْتُبُ
مَنْ يَدْخُل مَعَهُمْ فِي الْجِزْيَةِ بِالْبُلُوغِ، وَمَنْ يَخْرُجُ
مِنْهُمْ بِالْمَوْتِ. (2)
__________
(1) الأم 4 / 279، روضة الطالبين 10 / 307، المهذب مع المجموع 18 / 232،
نهاية المحتاج 8 / 85، مغني المحتاج 4 / 246.
(2) المهذب مع المجموع 18 / 136، كشاف القناع 3 / 125.
(15/182)
مِقْدَارُ الْجِزْيَةِ:
44 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ الْجِزْيَةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
جِزْيَةٌ تُوضَعُ بِالتَّرَاضِي وَالصُّلْحِ، وَجِزْيَةٌ يَبْتَدِئُ
الإِْمَامُ وَضْعَهَا عَلَى الْكُفَّارِ إِذَا فَتَحَ بِلاَدَهُمْ
عَنْوَةً.
فَالضَّرْبُ الأَْوَّل: الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ
مُعَيَّنٌ بَل تَتَقَدَّرُ بِحَسَبِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الاِتِّفَاقُ
بَيْنَ الإِْمَامِ وَأَهْل الذِّمَّةِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ مَقَادِيرِ الْجِزْيَةِ
الصُّلْحِيَّةِ مِنْ مَجْمُوعَةٍ إِلَى مَجْمُوعَةٍ أُخْرَى.
فَقَدْ صَالَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْل
نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ، النِّصْفُ فِي صَفَرٍ، وَالْبَقِيَّةُ
فِي رَجَبٍ يُؤَدُّونَهَا إِلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَهْل الْيَمَنِ مِنْ كُل حَالِمٍ
دِينَارًا، وَعَدْلَهُ مِنَ الْمَعَافِرِ.
وَصَالَحَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى أَنْ
يُؤَدُّوا ضِعْفَ زَكَاةِ الْمُسْلِمِينَ. رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ
عُبَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ التَّغْلِبِيِّ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ - أَنَّ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا صَالَحَهُمْ - يَعْنِي نَصَارَى بَنِي
تَغْلِبَ - عَلَى تَضْعِيفِ الصَّدَقَةِ قَالُوا: نَحْنُ عَرَبٌ لاَ
نُؤَدِّي مَا يُؤَدِّي الْعَجَمُ،
__________
(1) فتح القدير 5 / 288، تبيين الحقائق 3 / 276، الهداية 2 / 159، الاختيار
4 / 137، بدائع الصنائع 9 / 4331.
(15/183)
وَلَكِنْ خُذْ مِنَّا كَمَا يَأْخُذُ
بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ - يَعْنُونَ الصَّدَقَةَ - فَقَال عُمَرُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: لاَ، هَذِهِ فَرْضُ الْمُسْلِمِينَ. قَالُوا: فَزِدْ مَا
شِئْتَ بِهَذَا الاِسْمِ، لاَ بِاسْمِ الْجِزْيَةِ، فَفَعَل فَتَرَاضَى
هُوَ وَهُمْ عَلَى أَنْ تُضَعَّفَ عَلَيْهِمِ الصَّدَقَةُ. وَفِي بَعْضِ
طُرُقِهِ: " سَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ (1) ".
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ وَهِيَ مُقَدَّرَةُ
الأَْقَل وَالأَْكْثَرِ، فَيَضَعُ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً
وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ،
وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِل اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا. وَاسْتَدَلُّوا
لِذَلِكَ بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَضَعَ فِي الْجِزْيَةِ عَلَى
رُءُوسِ الرِّجَال عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا،
وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى
الْفَقِيرِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا (2) .
قَال الْحَنَفِيَّةُ: " وَنَصْبُ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لاَ يَكُونُ،
فَعَرَفْنَا أَنَّ عُمَرَ اعْتَمَدَ السَّمَاعَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذْنَا بِهِ " (3) وَقَدْ فَعَل عُمَرُ
ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقِيَاسِ الْجِزْيَةِ عَلَى خَرَاجِ الأَْرْضِ،
__________
(1) نصب الراية 2 / 363، السنن الكبرى 9 / 216، الخراج لأبي يوسف ص 120،
والأموال لأبي عبيد ص 40، والأموال لابن زنجويه 1 / 131.
(2) نصب الراية 3 / 447، الأموال لأبي عبيد ص 56، الأموال لابن زنجويه 1 /
160، والسنن الكبرى 9 / 196.
(3) المبسوط 10 / 78، البدائع 9 / 4332.
(15/183)
فَقَدْ جَعَل الْخَرَاجَ عَلَى مِقْدَارِ
الطَّاقَةِ، وَاخْتَلَفَ بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ الأَْرْضِ وَطَاقَتِهَا
الإِْنْتَاجِيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجِزْيَةُ عَلَى قَدْرِ
الطَّاقَةِ وَالإِْمْكَانِ، فَتَخْتَلِفُ بِحَسَبِ طَاقَةِ الشَّخْصِ
وَإِمْكَانَاتِهِ الْمَالِيَّةِ.
وَبِأَنَّ الْجِزْيَةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ عِوَضًا عَنِ النُّصْرَةِ
لِلْمُسْلِمِينَ، وَالنُّصْرَةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَتَفَاوَتُ،
فَالْفَقِيرُ يَنْصُرُ دَارَ الإِْسْلاَمِ رَاجِلاً، وَمُتَوَسِّطُ الْحَال
يَنْصُرُهَا رَاجِلاً وَرَاكِبًا، وَالْمُوسِرُ يَنْصُرُهَا بِالرُّكُوبِ
بِنَفْسِهِ وَإِرْكَابِ غَيْرِهِ. فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجِزْيَةُ عَلَى
قَدْرِ طَاقَةِ الشَّخْصِ وَإِمْكَانَاتِهِ الْمَالِيَّةِ. (1)
45 - وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُرَادِ بِالْغَنِيِّ
وَالْمُتَوَسِّطِ وَالْفَقِيرِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ: مَنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا تَجِبُ
فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ
فَهُوَ فَقِيرٌ. وَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَهُوَ مِنَ
الأَْوَاسِطِ. وَمَنْ مَلَكَ أَرْبَعَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا،
فَهُوَ مِنَ الأَْغْنِيَاءِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا
قَالاَ: أَرْبَعَةُ آلاَفٍ فَمَا دُونَهَا نَفَقَةٌ، وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ
كَنْزٌ.
وَالثَّانِي: مَا قَالَهُ الْكَرْخِيُّ: مَنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا
فَهُوَ فَقِيرٌ، وَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إِلَى أَقَل مِنْ
__________
(1) العناية على الهداية 5 / 290، أحكام القرآن للجصاص 3 / 97، فتح القدير
5 / 290.
(15/184)
عَشَرَةِ آلاَفٍ فَهُوَ مِنَ الأَْوْسَاطِ،
وَمَنْ مَلَكَ زِيَادَةً عَلَى عَشَرَةِ آلاَفٍ فَهُوَ مِنَ
الأَْغْنِيَاءِ.
وَالثَّالِثُ: مَا قَالَهُ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ: مَنْ كَانَ يَمْلِكُ
قُوتَهُ وَقُوتَ عِيَالِهِ وَزِيَادَةً فَهُوَ مُوسِرٌ، وَإِنْ مَلَكَ
بِلاَ فَضْلٍ فَهُوَ الْوَسَطُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَدْرُ
الْكِفَايَةِ فَهُوَ الْفَقِيرُ الْمُعْتَمِل أَوِ الْمُكْتَسِبُ.
وَالرَّابِعُ: مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ: "
الْمُوسِرُ ": مِثْل الصَّيْرَفِيِّ، وَالْبَزَّازِ، وَصَاحِبِ
الضَّيْعَةِ، وَالتَّاجِرِ، وَالْمُعَالِجِ، وَالطَّبِيبِ، وَكُل مَنْ
كَانَ مِنْهُمْ بِيَدِهِ صِنَاعَةٌ وَتِجَارَةٌ يَحْتَرِفُ بِهَا
فَيُؤْخَذُ مِنْ أَهْل كُل صِنَاعَةٍ وَتِجَارَةٍ عَلَى قَدْرِ
صِنَاعَتِهِمْ وَتِجَارَتِهِمْ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا مِنَ
الْمُوسِرِ، وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا مِنَ الْوَسَطِ، مَنِ
احْتَمَلَتْ صِنَاعَتُهُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ أُخِذَ مِنْهُ ذَلِكَ،
وَمَنِ احْتَمَلَتْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا أُخِذَ ذَلِكَ
مِنْهُ، وَاثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا عَلَى الْعَامِل بِيَدِهِ: مِثْل
الْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ وَالإِْسْكَافِ وَالْخَرَّازِ وَمَنْ
أَشْبَهَهُمْ. (1)
وَالْخَامِسُ: مَا قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ: إِنَّهُ يُنْظَرُ
إِلَى عَادَةِ كُل بَلَدٍ فِي ذَلِكَ، فَصَاحِبُ خَمْسِينَ أَلْفًا
بِبَلْخٍ يُعَدُّ مِنَ الْمُكْثِرِينَ، وَفِي الْبَصْرَةِ لاَ يُعَدُّ
مُكْثِرًا. فَهُوَ يُعْتَبَرُ فِي كُل بَلْدَةٍ عُرْفُهَا، فَمَنْ عَدَّهُ
النَّاسُ فِي بَلَدِهِمْ فَقِيرًا، أَوْ وَسَطًا، أَوْ غَنِيًّا فَهُوَ
كَذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، قَال
__________
(1) بدائع الصنائع 9 / 4332، فتح القدير 5 / 219، الخراج لأبي يوسف ص 123 -
124.
(15/184)
الْمَوْصِلِيُّ: " وَالْمُخْتَارُ أَنْ
يُنْظَرَ فِي كُل بَلَدٍ إِلَى حَال أَهْلِهِ، وَمَا يَعْتَبِرُونَهُ فِي
ذَلِكَ، فَإِنَّ عَادَةَ الْبِلاَدِ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ ". (1)
46 - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ ضَرْبَانِ:
صُلْحِيَّةٌ، وَعَنْوِيَّةٌ:
فَالضَّرْبُ الأَْوَّل: الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ: وَهِيَ الَّتِي
عُقِدَتْ مَعَ الَّذِينَ مَنَعُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
وَبِلاَدَهُمْ مِنْ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ
بِالْقِتَال، وَهِيَ تَتَقَدَّرُ بِحَسَبِ مَا يَتَّفِقُ عَلَيْهِ
الطَّرَفَانِ. وَلاَ حَدَّ لأَِقَلِّهَا وَلاَ أَكْثَرِهَا عِنْدَ بَعْضِ
الْمَالِكِيَّةِ، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ الصُّلْحِيَّ إِنْ
بَذَل الْقَدْرَ الَّذِي عَلَى الْعَنْوِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُ الإِْمَامَ
أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ، وَيَحْرُمُ عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يُقَاتِلَهُ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةِ الْحَنَفِيَّةِ السَّابِقَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ: وَهِيَ الَّتِي
تُفْرَضُ عَلَى أَهْل الْبِلاَدِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً، وَتُقَدَّرُ
بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ عَلَى أَهْل الذَّهَبِ، وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا
عَلَى أَهْل الْفِضَّةِ، بِلاَ زِيَادَةٍ وَلاَ نُقْصَانٍ. وَنَحْوُ هَذَا
رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فِيهَا أَنَّهَا عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةٌ
وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَعَلَى الْوَسَطِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ،
وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَا عَشَرَ، وَهَذِهِ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ،
وَيُرْجَعُ إِلَى الْعُرْفِ مِنَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ.
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رَوَى الإِْمَامُ مَالِكٌ عَنْ
__________
(1) فتح القدير 5 / 291، الاختيار 4 / 137، وحاشية ابن عابدين 4 / 197.
(15/185)
نَافِعٍ عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ
أَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْل الذَّهَبِ أَرْبَعَةَ
دَنَانِيرَ، وَعَلَى أَهْل الْوَرِقِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَمَعَ ذَلِكَ
أَرْزَاقُ الْمُسْلِمِينَ، وَضِيَافَةُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ. قَال
الْبَاجِيُّ الْمُرَادُ بِأَرْزَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَقْوَاتُ مَنْ
عِنْدَهُمْ مِنْ أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُرَادُ بِالضِّيَافَةِ
ضِيَافَةُ الْمُجْتَازِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ.
وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدَّرَهَا بِهَذَا الْمِقْدَارِ وَذَلِكَ لِمَا
رَآهُ مِنَ الاِجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ وَاحْتِمَال
أَحْوَال أَهْل الْجِزْيَةِ. (1) وَأَمَّا أَرْزَاقُ الْمُسْلِمِينَ
وَالضِّيَافَةُ، فَقَدْ قَال مَالِكٌ: " أَرَى أَنْ تُوضَعَ عَنْهُمُ
الْيَوْمَ الضِّيَافَةُ وَالأَْرْزَاقُ، لِمَا حَدَثَ عَلَيْهِمْ مِنَ
الْجَوْرِ "، وَذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَنَقَل الدُّسُوقِيُّ عَنِ
الْبَاجِيِّ وَأَقَرَّهُ أَنَّهُ إِنِ انْتَفَى الظُّلْمُ فَلاَ تَسْقُطُ.
(2)
47 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةُ يَعْقُوبَ بْنِ بُخْتَانَ
عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ أَقَل الْجِزْيَةِ دِينَارٌ ذَهَبِيٌّ خَالِصٌ،
وَلاَ حَدَّ لأَِكْثَرِهَا، فَلاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ التَّرَاضِي مَعَ
أَهْل الذِّمَّةِ عَلَى أَقَل مِنْ دِينَارٍ فِي حَالَةِ الْقُوَّةِ،
وَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الدِّينَارِ، بَل تُسْتَحَبُّ الْمُمَاكَسَةُ
فِي الزِّيَادَةِ: بِأَنْ يَطْلُبَ مِنْهُمْ
__________
(1) القوانين الفقهية ص 175، بداية المجتهد 1 / 404، المقدمات لابن رشد 1 /
395، حاشية الخرشي 3 / 145، بلغة السالك 1 / 367، حاشية الدسوقي 2 / 201،
الموطأ مع تنوير الحوالك 1 / 264، والمنتقى 2 / 173.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 202، بلغة السالك 1 / 367.
(15/185)
أَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ إِنْ ظَنَّ
إِجَابَتَهُمْ إِلَيْهَا، أَمَّا إِذَا عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُمْ لاَ
يُجِيبُونَهُ إِلَى تِلْكَ الزِّيَادَةِ، فَلاَ مَعْنَى لِلْمُمَاكَسَةِ.
وَفِي حَالَةِ الضَّعْفِ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ التَّرَاضِي مَعَ أَهْل
الذِّمَّةِ عَلَى أَقَل مِنَ الدِّينَارِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ السَّابِقِ: أَمَرَهُ أَنْ
يَأْخُذَ مِنْ كُل حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مِنَ الْمَعَافِرِ.
فَالْحَدِيثُ يَدُل عَلَى تَقْدِيرِ الْجِزْيَةِ بِالدِّينَارِ مِنَ
الذَّهَبِ عَلَى كُل حَالِمٍ، وَظَاهِرُ إِطْلاَقِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ
غَنِيًّا أَمْ مُتَوَسِّطًا أَمْ فَقِيرًا.
وَقَدْ أَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْل
" أَيْلَةَ "، حَيْثُ قَدِمَ يُوحَنَّا بْنُ رُؤْبَةَ عَلَى رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَبُوكَ، وَصَالَحَهُ عَلَى كُل
حَالِمٍ بِأَرْضِهِ فِي السَّنَةِ دِينَارًا، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ قِرَى
مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ أَخَذَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
أَهْل نَجْرَانَ أَلْفَيْ حُلَّةٍ نِصْفُهَا فِي صَفَرٍ وَالْبَقِيَّةُ فِي
رَجَبٍ.
قَال الشَّافِعِيُّ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْل الْعِلْمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
وَمِنْ أَهْل الذِّمَّةِ مِنْ أَهْل نَجْرَانَ يَذْكُرُ أَنَّ قِيمَةَ مَا
أُخِذَ مِنْ كُل وَاحِدٍ دِينَارٌ. (1)
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي
الْحُوَيْرِثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ
عَلَى نَصْرَانِيٍّ
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 311، الغاية القصوى 2 / 957، حاشية قليوبي 4 / 233،
نهاية المحتاج 8 / 87 - 88، مغني المحتاج 4 / 248، الأحكام السلطانية ص
144، المهذب مع المجموع 18 / 212، حاشية البجيرمي 4 / 272، سبل السلام 4 /
69، الأم 4 / 179.
(15/186)
بِمَكَّةَ، يُقَال لَهُ مَوْهَبٌ دِينَارًا
كُل سَنَةٍ وَاسْتَدَلُّوا لِجَوَازِ عَقْدِهَا مَعَ أَهْل الذِّمَّةِ
عَلَى أَقَل مِنْ دِينَارٍ فِي حَالَةِ الضَّعْفِ بِأَنَّ مِنَ
الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ شَرْعًا: " أَنَّ تَصَرُّفَ الإِْمَامِ عَلَى
الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ " فَإِذَا كَانَ فِي عَقْدِ
الذِّمَّةِ عَلَى أَقَل مِنْ دِينَارٍ مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ وَجَبَ
الْمَصِيرُ إِلَيْهِ (1) .
48 - وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ - نَقَلَهَا عَنْهُ
الأَْثْرَمُ -: أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي الْجِزْيَةِ إِلَى الإِْمَامِ،
فَلَهُ أَنْ يُزِيدَ وَيُنْقِصَ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ أَهْل الذِّمَّةِ،
وَعَلَى مَا يَرَاهُ. وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ كَمَا قَال الْمِرْدَاوِيُّ
فِي الإِْنْصَافِ، وَقَال الْخَلاَّل: الْعَمَل فِي قَوْل أَبِي عَبْدِ
اللَّهِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ بِأَنَّهُ لاَ بَأْسَ لِلإِْمَامِ
أَنْ يَزِيدَ فِي ذَلِكَ وَيُنْقِصَ عَلَى مَا رَوَاهُ أَصْحَابُهُ عَنْهُ
فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ، فَاسْتَقَرَّ قَوْلُهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَهَذَا قَوْل الثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ
صَاغِرُونَ} (2) . فَلَفْظُ الْجِزْيَةِ فِي الآْيَةِ مُطْلَقٌ غَيْرُ
مُقَيَّدٍ بِقَلِيلٍ
__________
(1) الأم 4 / 179، السنن الكبرى 9 / 195، الخراج لابن آدم ص 73، المنثور في
القواعد 1 / 309. وحديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب على نصراني
بمكة يقال. . . ". أخرجه البيهقي (9 / 195 ط دار المعرفة) من طريق أبي
الحويرث معاوية بن عبد الرحمن وهو صدوق سيء الحفظ (التقريب ص 351 ط دار
الرشيد) وقد أرسله.
(2) سورة التوبة / 29.
(15/186)
أَوْ كَثِيرٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْقَى
عَلَى إِطْلاَقِهِ، غَيْرَ أَنَّ الإِْمَامَ لَمَّا كَانَ وَلِيَّ أَمْرِ
الْمُسْلِمِينَ جَازَ لَهُ أَنْ يَعْقِدَ مَعَ أَهْل الذِّمَّةِ عَقْدًا
عَلَى الْجِزْيَةِ بِمَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ؛ لأَِنَّ
تَصَرُّفَ الإِْمَامِ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ.
وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَرَ مُعَاذًا
أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُل حَالِمٍ دِينَارًا وَصَالَحَ أَهْل نَجْرَانَ عَلَى
أَلْفَيْ حُلَّةٍ، النِّصْفُ فِي صَفَرٍ وَالْبَاقِي فِي رَجَبٍ.
وَجَعَل عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْجِزْيَةَ عَلَى ثَلاَثِ طَبَقَاتٍ
عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى
الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْفَقِيرِ
اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَصَالَحَ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى ضِعْفِ مَا
عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الزَّكَاةِ.
فَهَذَا الاِخْتِلاَفُ يَدُل عَلَى أَنَّهَا إِلَى رَأْيِ الإِْمَامِ،
لَوْلاَ ذَلِكَ لَكَانَتْ عَلَى قَدْرٍ وَاحِدٍ فِي جَمِيعِ هَذِهِ
الْمَوَاضِعِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَخْتَلِفَ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَى
الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ قُلْتُ
لِمُجَاهِدٍ: مَا شَأْنُ أَهْل الشَّامِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ،
وَأَهْل الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ؟ قَال: جُعِل ذَلِكَ مِنْ أَجَل
الْيَسَارِ. (1)
وَلأَِنَّ الْمَال الْمَأْخُوذَ عَلَى الأَْمَانِ ضَرْبَانِ: هُدْنَةٌ
وَجِزْيَةٌ، فَلَمَّا كَانَ الْمَأْخُوذُ هُدْنَةً إِلَى اجْتِهَادِ
الْحَاكِمِ، فَكَذَلِكَ الْمَأْخُوذُ جِزْيَةً.
__________
(1) صحيح البخاري 4 / 62.
(15/187)
وَلأَِنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ، فَلَمْ
تَتَقَدَّرْ بِمِقْدَارٍ وَاحِدٍ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ كَالأُْجْرَةِ
(1) .
اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ:
وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ:
49 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لاَ تُؤْخَذُ مِنَ
الذِّمِّيِّ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ وَلاَ تَتَكَرَّرُ.
وَالسَّنَةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا هِيَ السَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ؛
لأَِنَّهَا هِيَ الْمُرَادَةُ شَرْعًا عِنْدَ الإِْطْلاَقِ، أَمَّا إِذَا
عَيَّنَ الإِْمَامُ كَوْنَهَا شَمْسِيَّةً أَوْ قَمَرِيَّةً فَيَجِبُ
اتِّبَاعُ مَا عَيَّنَهُ.
وَقْتُ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ:
50 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ الاِلْتِزَامِ
بِالْجِزْيَةِ عَقِبَ عَقْدِ الذِّمَّةِ مُبَاشَرَةً، إِلاَّ أَنَّ
الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: تَجِبُ بِالْعَقْدِ وُجُوبًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ
وَتَسْتَقِرُّ بِانْقِضَاءِ الزَّمَنِ كَالأُْجْرَةِ، فَكَلَّمَا مَضَتْ
مُدَّةٌ مِنَ الْحَوْل اسْتَقَرَّ قِسْطُهَا مِنْ جِزْيَةِ الْحَوْل،
حَتَّى تَسْتَقِرَّ جِزْيَةُ الْحَوْل كُلِّهِ بِانْقِضَائِهِ؛ لأَِنَّ
الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ مَنْفَعَةِ حَقْنِ الدَّمِ، فَتَجِبُ بِالْعَقْدِ
وُجُوبًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ، وَتَسْتَقِرُّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ شَيْئًا
فَشَيْئًا كَالأُْجْرَةِ (2) .
__________
(1) المغني 8 / 502، كشاف القناع 3 / 121، أحكام أهل الذمة لابن القيم 1 /
27، المبدع 3 / 411، المذهب الأحمد ص 210، الإنصاف 4 / 227، كتاب الرواتين
والوجهين 2 / 382، الأموال لأبي عبيد ص 57.
(2) البدائع 9 / 4330، القوانين الفقهية ص 175، جواهر الإكليل 1 / 266،
نهاية المحتاج 8 / 87، المغني 8 / 500.
(15/187)
51 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ
وُجُوبِ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ الأَْدَاءِ آخِرُ الْحَوْل
(1) . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا وَقَعَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجِزْيَةِ، فَقَدْ ضَرَبَهَا عَلَى أَهْل
الذِّمَّةِ وَالْمَجُوسِ بَعْدَ نُزُول آيَةِ الْجِزْيَةِ، وَلَمْ
يُطَالِبْهُمْ بِأَدَائِهَا فِي الْحَال، بَل كَانَ يَبْعَثُ رُسُلَهُ
وَسُعَاتَهُ فِي آخِرِ الْحَوْل لِجِبَايَتِهَا.
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الأَْنْصَارِيِّ أَنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ
بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ صَالَحَ أَهْل
الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ الْعَلاَءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ (2) .
وَتَدُل سِيرَةُ الْخُلَفَاءِ وَالأُْمَرَاءِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَبْعَثُونَ
الْجُبَاةَ فِي آخِرِ الْعَامِ لِجِبَايَةِ
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 405، المقدمات لابن رشد 1 / 397، المنتقى 2 / 176،
حاشية الخرشي 3 / 145، منح الجليل 1 / 758، المهذب مع المجموع 18 / 218،
رحمة الأمة 2 / 181، الميزان 2 / 185، الإفصاح 2 / 294، المغني 8 / 504،
المبدع 3 / 410، المذهب الأحمد ص 210، أحكام أهل الذمة لابن القيم 1 / 39،
كشاف القناع 3 / 121، الإنصاف 4 / 229.
(2) حديث: " بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين. . . . " أخرجه البخاري
(6 / 257 - 258 ط السلفية) من حديث عمر بن عوف.
(15/188)
الْجِزْيَةِ. فَبَعَثَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَبَا هُرَيْرَةَ إِلَى الْبَحْرَيْنِ،
فَقَدِمَ بِمَالٍ كَثِيرٍ (1) .
وَلأَِنَّ الْجِزْيَةَ حَقٌّ مَالِيٌّ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْحَوْل،
فَوَجَبَ بِآخِرِهِ كَالزَّكَاةِ.
وَلأَِنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ جَزَاءً عَلَى تَأْمِينِهِمْ
وَإِقْرَارِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، فَلاَ تَجُوزُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا
إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَتَحَقَّقَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي طُول السَّنَةِ.
وَلأَِنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى الدَّارِ فَوَجَبَ أَنْ
تُؤْخَذَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ الأَْدَاءِ فِي أَوَّل
السَّنَةِ، فَتَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا كَالصَّلاَةِ، وَلِلإِْمَامِ
الْمُطَالَبَةُ بِهَا بَعْدَ عَقْدِ الذِّمَّةِ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (4) .
فَجَعَل إِعْطَاءَ الْجِزْيَةِ غَايَةً لِرَفْعِ الْقِتَال عَنْهُمْ؛
لأَِنَّ غَايَةَ هَذَا حَقِيقَةُ اللَّفْظِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ
ظَاهِرِهِ، أَلاَ تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى
يَطْهُرْنَ} (5) وَقَدْ حَظَرَ إِبَاحَةَ قُرْبِهِنَّ إِلاَّ بَعْدَ
وُجُودِ
__________
(1) الأموال لأبي عبيد 381، الأموال لابن زنجويه 2 / 505 وإسناد ابن زنجويه
صحيح.
(2) المغني 8 / 504، المنتقى 2 / 176، المقدمات 1 / 397، المهذب مع المجموع
18 / 219.
(3) فتح القدير 5 / 298، البدائع 9 / 4331، الفتاوى الهندية 2 / 244، حاشية
ابن عابدين 4 / 196، مجمع الأنهر 1 / 672، والاختيار 4 / 137.
(4) سورة التوبة / 29.
(5) سورة البقرة / 222.
(15/188)
طُهْرِهِنَّ، وَكَذَلِكَ الْمَفْهُومُ مِنْ
قَوْل الْقَائِل لاَ تُعْطِ زَيْدًا حَتَّى يَدْخُل الدَّارَ، مَنْعُ
الإِْعْطَاءِ إِلاَّ بَعْدَ دُخُولِهِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الآْيَةَ
مُوجِبَةٌ لِقِتَال أَهْل الْكِتَابِ مُزِيلَةٌ ذَلِكَ عَنْهُمْ
بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ
بِعَقْدِ الذِّمَّةِ (1) .
وَلِقَوْل النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ: أَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسُول
رَبِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى
تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ (2) فَوَقْتُ
وُجُوبِ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ عَقِبَ الْعَقْدِ مُبَاشَرَةً.
وَلأَِنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ بَدَلاً عَنِ الْقَتْل فِي حَقِّهِمْ،
فَتَجِبُ فِي الْحَال كَالْوَاجِبِ بِالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ.
وَلأَِنَّ الْمُعَوَّضَ قَدْ سُلِّمَ لَهُمْ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَقَّ
الْعِوَضُ عَلَيْهِمْ كَالثَّمَنِ. وَلأَِنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ بَدَلاً
مِنَ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا، وَهِيَ لاَ تَتَحَقَّقُ فِي الْمَاضِي،
وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي الْمُسْتَقْبَل؛ لأَِنَّ نُصْرَةَ الْمَاضِي
يُسْتَغْنَى عَنْهَا بِانْقِضَائِهِ. فَإِذَا تَعَذَّرَ إِيجَابُ
الْجِزْيَةِ بَعْدَ الْحَوْل تَجِبُ فِي أَوَّلِهِ. (3)
تَعْجِيل الْجِزْيَةِ:
52 - الْمَقْصُودُ بِتَعْجِيل الْجِزْيَةِ: اسْتِيفَاؤُهَا مِمَّنْ
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3 / 100.
(2) سبق تخريج الحديث. فقرة / 10.
(3) الاختيار 4 / 137، فتح القدير 5 / 298، العناية على الهداية على هامش
فتح القدير 5 / 298.
(15/189)
وَجَبَتْ عَلَيْهِ قَبْل وَقْتِ وُجُوبِهَا
بِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، فَهَل يَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ
يَسْتَعْجِل أَخْذَ الْجِزْيَةِ أَوْ يَسْتَسْلِفَهَا؟
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ فِي وَجْهٍ، إِلَى جَوَازِ تَعْجِيلِهَا لِسَنَةٍ أَوْ
سَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ بِرِضَا أَهْل الذِّمَّةِ، وَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ
تَعْجِيلِهَا وَذَلِكَ لأَِنَّهَا كَالْخَرَاجِ، وَلأَِنَّهَا عِوَضٌ عَنْ
حَقْنِ دِمَائِهِمْ فَأَشْبَهَتِ الأُْجْرَةَ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ إِلَى عَدَمِ
جَوَازِ اشْتِرَاطِ تَعْجِيلِهَا، وَيَجُوزُ تَعْجِيلُهَا بِرِضَا أَهْل
الذِّمَّةِ. وَاسْتَدَلُّوا بِقِيَاسِ الْجِزْيَةِ عَلَى الزَّكَاةِ، فَلاَ
يَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَسْتَسْلِفَ الزَّكَاةَ إِلاَّ بِرِضَا رَبِّ
الْمَال، بَل الْجِزْيَةُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ، لأَِنَّهَا تَتَعَرَّضُ
لِلسُّقُوطِ قَبْل الْحَوْل وَبَعْدَهُ، فَتَسْقُطُ بِالإِْسْلاَمِ
وَالْمَوْتِ أَثْنَاءَ السَّنَةِ وَتَتَدَاخَل بِالاِجْتِمَاعِ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ (1) .
تَأْخِيرُ الْجِزْيَةِ:
53 - إِذَا تَأَخَّرَ الذِّمِّيُّ عَنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ فِي وَقْتِهَا
الْمُحَدَّدِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
مُعْسِرًا.
__________
(1) الاختيار 4 / 139، مواهب الجليل 3 / 382، روضة الطالبين 10 / 313،
المبدع 3 / 412، الإنصاف 4 / 229، أحكام أهل الذمة لابن القيم 1 / 99.
(15/189)
فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا وَمَطَل بِهَا جَازَ
لِلإِْمَامِ أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَى ذَلِكَ بِالْحَبْسِ وَغَيْرِهِ.
قَال الْقُرْطُبِيُّ: أَمَّا عُقُوبَتُهُمْ إِذَا امْتَنَعُوا مِنْ
أَدَائِهَا مَعَ التَّمَكُّنِ فَجَائِزٌ، فَأَمَّا مَعَ تَبَيُّنِ
عَجْزِهِمْ فَلاَ تَحِل عُقُوبَتُهُمْ؛ لأَِنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ
الْجِزْيَةِ سَقَطَتْ عَنْهُ (1) .
مَنْ لَهُ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ:
54 - الْجِزْيَةُ مِنَ الأَْمْوَال الْعَامَّةِ الَّتِي يَتَوَلَّى
أَمْرَهَا الأَْئِمَّةُ وَالسَّلاَطِينُ، فَالشَّرْعُ هُوَ الَّذِي قَدَّرَ
الْجِزْيَةَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقِيل: يُقَدِّرُهَا الإِْمَامُ.
وَالإِْمَامُ يَعْقِدُ الذِّمَّةَ وَيُطَالِبُ بِالْجِزْيَةِ وَيَصْرِفُهَا
فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ بِاجْتِهَادِهِ، وَذَلِكَ
لأَِنَّ الإِْمَامَ الْعَدْل وَكِيلٌ عَنِ الأُْمَّةِ فِي اسْتِيفَاءِ
حُقُوقِهَا مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَفِي تَدْبِيرِ شُئُونِهَا. قَال
الْقُرْطُبِيُّ: " الأَْمْوَال الَّتِي لِلأَْئِمَّةِ وَالْوُلاَةِ فِيهَا
مَدْخَلٌ ثَلاَثَةُ أَضْرُبٍ: الأَْوَّل: مَا أُخِذَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
عَلَى طَرِيقِ التَّطْهِيرِ لَهُمْ كَالصَّدَقَاتِ وَالزَّكَوَاتِ.
وَالثَّانِي: الْغَنَائِمُ وَمَا يَحْصُل فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ
أَمْوَال الْكَافِرِينَ بِالْحَرْبِ وَالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ.
وَالثَّالِثُ: الْفَيْءُ، وَهُوَ مَا رَجَعَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَال
الْكُفَّارِ عَفْوًا صَفْوًا
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 8 / 115، المذهب الأحمد ص 211، الاختيارات
الفقهية لابن تيمية جمع البعلي ص 319، الإنصاف 4 / 252.
(15/190)
مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ وَلاَ إِيجَافٍ
كَالصُّلْحِ وَالْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَالْعُشُورِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ
أَهْل الذِّمَّةِ (1) .
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَحَقُّ اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ لِلإِْمَامِ،
فَيُطَالِبُ بِهَا وَيَجِبُ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ الدَّفْعُ إِلَيْهِ.
وَالإِْمَامُ الْمُطَالِبُ بِالْجِزْيَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَادِلاً،
أَوْ جَائِرًا ظَالِمًا، أَوْ بَاغِيًا، أَوْ خَارِجًا عَلَى إِمَامِ
الْعَدْل، أَوْ مُحَارِبًا وَقَاطِعًا لِلطَّرِيقِ.
1 - حُكْمُ دَفْعِ الْجِزْيَةِ إِلَى أَئِمَّةِ الْعَدْل:
54 م - الإِْمَامُ الْعَادِل: هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُسْلِمُونَ
لِلإِْمَامَةِ وَبَايَعُوهُ، وَقَامَ بِتَدْبِيرِ شُئُونِ الأُْمَّةِ
وَفْقَ شَرْعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل.
فَإِذَا طَلَبَ مِنْ ذَوِي الأَْمْوَال مَالاً لاَ يَطْلُبُهُ إِلاَّ
بِحَقٍّ، وَإِذَا قَسَمَ أَمْوَالاً عَامَّةً قَسَمَهَا وَفْقَ شَرْعِ
اللَّهِ وَحَسَبَ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ كَمَا قَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أُعْطِيكُمْ وَلاَ
أَمْنَعُكُمْ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ (2) وَقَال
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "
إِنِّي أَنْزَلْتُ نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ مِنْ هَذَا الْمَال بِمَنْزِلَةِ
وَالِي الْيَتِيمِ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَال: {وَمَنْ
كَانَ
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 18 / 14.
(2) حديث: " ما أعطيكم ولا أمنعكم وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت ". أخرجه
البخاري (فتح الباري 6 / 217 - ط السلفية) .
(15/190)
غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ
فَقِيرًا فَلْيَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ} (1) وَاللَّهِ مَا أَرَى أَرْضًا
يُؤْخَذُ مِنْهَا شَاةٌ فِي كُل يَوْمٍ إِلاَّ اسْتَسْرَعَ خَرَابُهَا.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ إِذَا طَلَبَ الإِْمَامُ الْعَادِل الْجِزْيَةَ
مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ، وَلاَ
يَجُوزُ لأَِحَدٍ تَفْرِقَةُ خَرَاجِ رَأْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَإِذَا أَدَّى
شَخْصٌ الْجِزْيَةَ إِلَى مُسْتَحِقِّ الْفَيْءِ بِنَفْسِهِ فَلِلإِْمَامِ
أَخْذُهَا مِنْهُ ثَانِيَةً؛ لأَِنَّ حَقَّ الأَْخْذِ لَهُ. (2)
2 - حُكْمُ دَفْعِ الْجِزْيَةِ إِلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ:
55 - الإِْمَامُ الْجَائِرُ: هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِتَدْبِيرِ شُئُونِ
الأُْمَّةِ وَفْقَ هَوَاهُ، فَيَقَعُ مِنْهُ الْجَوْرُ وَالظُّلْمُ عَلَى
النَّاسِ
وَإِذَا طَلَبَ الإِْمَامُ الْجَائِرُ الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ
وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهَا إِلَيْهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
وَإِذَا أَدَّى الذِّمِّيُّ الْجِزْيَةَ إِلَى الإِْمَامِ الْجَائِرِ
سَقَطَتْ عَنْهُ وَلاَ يُطَالَبُ بِهَا مَرَّةً ثَانِيَةً مِنْ قِبَل
الإِْمَامِ الْعَادِل.
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا سَلاَطِينُ زَمَانِنَا الَّذِينَ أَخَذُوا
الصَّدَقَاتِ وَالْعُشُورَ وَالْخَرَاجَ لاَ يَضَعُونَهَا
__________
(1) سورة النساء / 6.
(2) الخراج لأبي يوسف ص 36، والاختيار 4 / 145، الجامع لأحكام القرآن 18 /
14، الأحكام السلطانية للماوردي ص 16، الأحكام السلطانية للفراء ص 28.
(15/191)
مَوَاضِعَهَا، فَهَل تَسْقُطُ هَذِهِ
الْحُقُوقُ عَنْ أَرْبَابِهَا؟
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ
الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَإِنْ كَانُوا لاَ
يَضَعُونَهَا فِي أَهْلِهَا، لأَِنَّ حَقَّ الأَْخْذِ لَهُمْ فَيَسْقُطُ
عَنْهُ بِأَخْذِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا
فَالْوَبَال عَلَيْهِمْ.
قَال الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَعِيدٍ: إِنَّ الْخَرَاجَ يَسْقُطُ،
وَلاَ تَسْقُطُ الصَّدَقَاتُ لأَِنَّ الْخَرَاجَ يُصْرَفُ إِلَى
الْمُقَاتِلَةِ، وَهُمْ يَصْرِفُونَ إِلَى الْمُقَاتِلَةِ وَيُقَاتِلُونَ
الْعَدُوَّ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ الْعَدُوُّ فَإِنَّهُمْ
يُقَاتِلُونَ وَيَذُبُّونَ عَنْ حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا
الزَّكَوَاتُ وَالصَّدَقَاتُ فَإِنَّهُمْ لاَ يَضَعُونَهَا فِي أَهْلِهَا.
(1)
وَاسْتَدَلُّوا لِوُجُوبِ طَاعَةِ الإِْمَامِ الْجَائِرِ فِي طَلَبِ
الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ بِمَا يَلِي:
أ - مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَال: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيل تَسُوسُهُمُ الأَْنْبِيَاءُ، كُلَّمَا
هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي.
وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ وَيَكْثُرُونَ. قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَقَال:
أَوْفُوا بِبَيْعَةِ الأَْوَّل فَالأَْوَّل، ثُمَّ أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ،
فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 884، مواهب الجليل 2 / 364، مغني المحتاج 4 / 132.
(2) حديث: " كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء. . . " أخرجه البخاري (6 /
495 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1471 - ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(15/191)
قَال الشَّوْكَانِيُّ: فِي بَيَانِ مَعْنَى
" أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ " - أَيِ ادْفَعُوا إِلَى الأُْمَرَاءِ حَقَّهُمُ
الَّذِي لَهُمُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَقَبْضُهُ، سَوَاءٌ كَانَ يَخْتَصُّ
بِهِمْ أَوْ يَعُمُّ، وَذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ كَالزَّكَاةِ،
وَفِي الأَْنْفُسِ كَالْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ. (1)
ب - وَمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهَا
سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا قَالُوا: يَا رَسُول
اللَّهِ كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟ قَال: تُؤَدُّونَ
الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ (2) .
ج - وَمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ أُمِّرَ
عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ، أَسْوَدُ، يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ
فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا (3) .
3 - دَفْعُ الْجِزْيَةِ إِلَى الْبُغَاةِ:
56 - الْبُغَاةُ: هُمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى التَّأْوِيل
وَيَخْرُجُونَ عَلَى الإِْمَامِ، أَوْ يَمْتَنِعُونَ عَنِ الدُّخُول فِي
طَاعَتِهِ، أَوْ يَمْنَعُونَ حَقًّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ كَالزَّكَاةِ
وَشِبْهِهَا، فَيُدْعَوْنَ إِلَى الرُّجُوعِ لِلْحَقِّ (4) .
__________
(1) نيل الأوطار 7 / 194.
(2) حديث: أنها ستكون بعدي أثره وأمور تنكرونها. قالوا: يا رسول الله كيف
تأمر من أدرك. . . " أخرجه مسلم (3 / 1472 - ط عيسى الحلبي) من حديث عبد
الله بن عمر.
(3) حديث: " إن أمر عليكم عبد مجدع، أسود، يقودكم. . . " أخرجه مسلم (3 /
1468 - ط عيسى الحلبي) .
(4) القوانين الفقهية ص 393.
(15/192)
فَإِذَا غَلَبَ أَهْل الْبَغْيِ عَلَى
بَلَدٍ وَنَصَبُوا إِمَامًا، فَجَبَى الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ،
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى
سُقُوطِ الْجِزْيَةِ عَنْ أَهْل الذِّمَّةِ بِدَفْعِهَا إِلَى الْبُغَاةِ،
وَلَكِنْ يَأْخُذُ مِنْهُمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ
مِنْ ذَلِكَ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ:
بِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْل
الْبَصْرَةِ لَمْ يُطَالِبْهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا جُبِيَ مِنْهُمْ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلأَِنَّ حَقَّ الإِْمَامِ فِي الْجِبَايَةِ
مَرْهُونٌ بِالْحِمَايَةِ، وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ عِنْدَ تَغَلُّبِ
الْبُغَاةِ عَلَى بَلْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ. (2)
وَلأَِنَّ فِي تَرْكِ احْتِسَابِهَا ضَرَرًا عَظِيمًا وَمَشَقَّةً
كَبِيرَةً، فَإِنَّ الْبُغَاةَ قَدْ يَغْلِبُونَ عَلَى الْبِلاَدِ
السِّنِينَ الْكَثِيرَةَ وَتَتَجَمَّعُ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ مَبَالِغُ
طَائِلَةٌ لاَ يُطِيقُونَهَا. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ
يَجِبُ عَلَى مَنْ دَفَعَ الْجِزْيَةَ إِلَى الْبُغَاةِ الإِْعَادَةُ،
لأَِنَّهُ أَعْطَاهَا إِلَى مَنْ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ صَحِيحَةٌ فَأَشْبَهَ
مَا لَوْ أَخَذَهَا آحَادُ الرَّعِيَّةِ غَصْبًا. (3)
__________
(1) البدائع 9 / 4402، كتاب السير ص 229، القوانين الفقهية ص 394، الأم 4 /
220، مغني المحتاج 4 / 133 الأحكام السلطانية للفراء ص 55، الإنصاف 10 /
318.
(2) حاشية القليوبي 4 / 234.
(3) المدونة 1 / 244، مواهب الجليل 2 / 364، الفروق 4 / 171.
(15/192)
4 - حُكْمُ دَفْعِ الْجِزْيَةِ إِلَى
الْمُحَارِبِينَ " قُطَّاعِ الطُّرُقِ ":
57 - الْمُحَارِبُونَ: هُمُ الَّذِينَ يَعْرِضُونَ لِلنَّاسِ بِالسِّلاَحِ
فَيَغْصِبُونَ الْمَال مُجَاهَرَةً أَوْ يَقْتُلُونَ أَوْ يُخِيفُونَ
الطَّرِيقَ
فَإِذَا أَخَذَ الْمُحَارِبُونَ الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ لَمْ
يَقَعْ ذَلِكَ مَوْقِعَهُ، وَلَمْ تَسْقُطِ الْجِزْيَةُ عَنْهُمْ
بِأَدَائِهَا إِلَى الْمُحَارِبِينَ؛ لأَِنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُمْ
كَالْمَأْخُوذِ غَصْبًا (1) .
طُرُقُ اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ:
58 - إِذَا كَانَ الإِْمَامُ هُوَ صَاحِبَ الْحَقِّ فِي اسْتِيفَاءِ
الْجِزْيَةِ، فَلاَ يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّهُ سَيُبَاشِرُ جَمِيعَ
الأَْعْمَال الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَيْثُ تَقْدِيرُهَا
وَتَدْوِينُهَا وَجَمْعُهَا وَصَرْفُهَا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَصْعُبُ عَلَيْهِ
وَلاَ يَسْتَطِيعُهُ، بَل يَعْنِي تَوْلِيَةَ مَنْ يَجْمَعُهَا
وَالإِْشْرَافَ عَلَيْهَا وَمُتَابَعَةَ مَنْ يَقُومُ بِاسْتِيفَائِهَا
وَصَرْفِهَا. وَمِنْ طُرُقِ الاِسْتِيفَاءِ الَّتِي كَانَتْ مُتَّبَعَةً
فِي ذَلِكَ، الْعِمَالَةُ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَالْقَبَالَةُ
(التَّضْمِينُ) .
الطَّرِيقَةُ الأُْولَى:
الْعِمَالَةُ عَلَى الْجِزْيَةِ:
59 - الْعِمَالَةُ عَلَى الْجِزْيَةِ وِلاَيَةٌ مِنَ الْوِلاَيَاتِ
الشَّرْعِيَّةِ الصَّادِرَةِ عَنِ الإِْمَامِ يَتِمُّ بِمُقْتَضَاهَا
اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ وَقَبْضُهَا.
__________
(1) المبدع 9 / 144، الأحكام السلطانية للماوردي ص 63، الأحكام السلطانية
للفراء ص 58.
(15/193)
وَعَامِل الْجِزْيَةِ وَكِيلٌ عَنِ
الإِْمَامِ فِي اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ وَقَبْضِهَا، وَجِبَايَتُهُ
لِلْجِزْيَةِ مُحَدَّدَةٌ بِمَا رَسَمَهُ لَهُ الإِْمَامُ، وَلِعَامِل
الْجِزْيَةِ شُرُوطٌ أَهَمُّهَا: الإِْسْلاَمُ وَالْحُرِّيَّةُ،
وَالأَْمَانَةُ، وَالْكِفَايَةُ، وَالْعِلْمُ وَالْفِقْهُ.
وَلِلتَّفْصِيل تُنْظَرُ الشُّرُوطُ الْمَطْلُوبَةُ فِي: (جِبَايَةٌ) .
مَا يُرَاعِيهِ الْعَامِل فِي جِبَايَةِ الْجِزْيَةِ:
الرِّفْقُ بِأَهْل الذِّمَّةِ:
60 - لِلْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اتِّجَاهَانِ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِعَامِل الْجِزْيَةِ أَنْ يَكُونَ رَفِيقًا
بِأَهْل الذِّمَّةِ عِنْدَ اسْتِيفَائِهِ لِلْجِزْيَةِ: بِأَنْ يَأْخُذَهَا
مِنْهُمْ بِتَلَطُّفٍ دُونَ تَعْذِيبٍ أَوْ ضَرْبٍ، وَأَنْ يُؤَخِّرَهُمْ
إِلَى غَلاَّتِهِمْ، وَأَنْ يُقَسِّطَهَا عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يَقْبَل
مِنْهُمُ الْقِيمَةَ بَدَلاً مِنَ الْعَيْنِ. وَالصَّغَارُ فِي قَوْله
تَعَالَى {وَهُمْ صَاغِرُونَ} مَعْنَاهُ عِنْدَهُمُ الْتِزَامُ أَحْكَامِ
الإِْسْلاَمِ. (1)
وَالاِتِّجَاهُ الآْخَرُ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
وَهُوَ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُسْتَوْفَى مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ بِإِهَانَةٍ
وَإِذْلاَلٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ
وَهُمْ صَاغِرُونَ} . (2)
__________
(1) الأم 4 / 127، والأموال ص 59، وابن زنجويه في الأموال 1 / 164، والخراج
ص 125.
(2) انظر: الاختيار 4 / 139، حاشية ابن عابدين 4 / 201، المنتقى 2 / 17،
حاشية الخرشي 3 / 145، روضة الطالبين 10 / 315، مغني المحتاج 4 / 249،
كفاية الأخيار 2 / 135، كشاف القناع 3 / 123، المبدع 3 / 412، الإنصاف 4 /
229، نهاية الرتبة في طلب الحسبة ص 107، معالم القربى ص 99، منح الجليل 1 /
759، جامع البيان 10 / 77 - 78، زاد المسير 3 / 421.
(15/193)
الأَْمْوَال الَّتِي تُسْتَوْفَى مِنْهَا
الْجِزْيَةُ:
61 - لاَ يَتَعَيَّنُ فِي اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ ذَهَبٌ وَلاَ فِضَّةٌ
وَلاَ نَوْعٌ بِعَيْنِهِ، بَل يَجُوزُ أَخْذُهَا مِمَّا تَيَسَّرَ مِنْ
أَمْوَال أَهْل الذِّمَّةِ: كَالسِّلاَحِ وَالثِّيَابِ وَالْحُبُوبِ
وَالْعُرُوضِ فِيمَا عَدَا ثَمَنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (1) وَاسْتَدَلُّوا
لِذَلِكَ بِمَا يَلِي:
1 - حَدِيثُ مُعَاذٍ السَّابِقِ: أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُل حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ
عَدْلَهُ مِنَ الْمَعَافِرِ (2) فَهُوَ يَدُل عَلَى جَوَازِ أَخْذِ
الْقِيمَةِ فِي الْجِزْيَةِ مِنَ الثِّيَابِ الْمَصْنُوعَةِ بِالْيَمَنِ
وَالْمَنْسُوبَةِ إِلَى قَبِيلَةِ مَعَافِرَ. قَال أَبُو عُبَيْدٍ: " أَلاَ
تَرَاهُ قَدْ أَخَذَ مِنْهُمُ الثِّيَابَ مَكَانَ الدَّنَانِيرِ؟
وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهَذَا كُلِّهِ الرِّفْقُ بِأَهْل الذِّمَّةِ، وَأَنْ
لاَ يُبَاعَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَتَاعِهِمْ شَيْءٌ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِمَّا
سَهُل عَلَيْهِمْ بِالْقِيمَةِ. أَلاَ تَسْمَعُ
__________
(1) انظر: الخراج لأبي يوسف ص 122، الرتاج للرحبي 2 / 98، المنتقى للباجي 2
/ 175، ونهاية المحتاج للرملي 8 / 87، والمغني لابن قدامة 8 / 504، زاد
المعاد لابن القيم 2 / 90، أحكام أهل الذمة لابن القيم 1 / 29، وكشاف
القناع للبهوتي 3 / 122، والمبدع لابن مفلح 3 / 411.
(2) الحديث سبق تخريجه.
(15/194)
إِلَى قَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْ عَدْلَهُ مِنَ الْمَعَافِرِ فَقَدْ بَيَّنَ لَكَ
ذِكْرُ الْعَدْل أَنَّهُ الْقِيمَةُ ". (1)
2 - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْل
نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ، النِّصْفُ فِي صَفَرٍ وَالْبَاقِي فِي
رَجَبٍ. (2)
3 - مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ
النَّعَمَ فِي الْجِزْيَةِ (3) .
4 - مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ
مِنْ كُل ذِي صَنْعَةٍ مِنْ مَتَاعِهِ: مِنْ صَاحِبِ الإِْبَرِ إِبَرًا،
وَمِنْ صَاحِبِ الْمَسَانِّ مَسَانًّا، وَمِنْ صَاحِبِ الْحِبَال حِبَالاً.
قَال أَبُو عُبَيْدٍ: " وَإِنَّمَا يُوَجَّهُ هَذَا مِنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ
كَانَ يَأْخُذُ مِنْهُمْ هَذِهِ الأَْمْتِعَةَ بِقِيمَتِهَا مِنَ
الدَّرَاهِمِ الَّتِي عَلَيْهِمْ مِنْ جِزْيَةِ رُءُوسِهِمْ وَلاَ
يَحْمِلُهُمْ عَلَى بَيْعِهَا ثُمَّ يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنَ الثَّمَنِ،
إِرَادَةَ الرِّفْقِ بِهِمْ وَالتَّخْفِيفَ عَلَيْهِمْ. (4)
اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ:
62 - اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ مِنْ أَعْيَانِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لاَ
يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لأَِنَّهُمَا لَيْسَا بِمَالٍ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَمَالٌ غَيْرُ مُتَقَوَّمٍ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، فَلاَ يَجُوزُ أَخْذُهَا فِي الْجِزْيَةِ.
__________
(1) الأموال لأبي عبيد ص 63.
(2) حديث: صالح أهل نجران. . . " أخرجه ابن زنجويه في كتاب الأموال (2 /
449 - ط مركز الملك فيصل) . مرسلا وضعفه المحقق للإرسال، ولأن في سنده عبيد
الله بن أبي حميد وهو متروك (التقريب ص 370 - ط دار الرشيد) .
(3) الأموال لأبي عبيد ص 63.
(4) المرجع السابق ص 62 - 63.
(15/194)
وَأَمَّا اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ مِنْ
ثَمَنِ مَا بَاعُوهُ مِنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ
ثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ إِذَا تَوَلَّى الذِّمِّيُّ بَيْعَهَا.
(1)
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا يَلِي:
1 - مَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ - بِسَنَدِهِ - عَنْ سُوَيْدٌ بْنِ غَفَلَةَ
قَال: " بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ نَاسًا يَأْخُذُونَ
الْجِزْيَةَ مِنَ الْخَنَازِيرِ، وَقَامَ بِلاَلٌ فَقَال: إِنَّهُمْ
لَيَفْعَلُونَ، فَقَال عُمَرُ: لاَ تَفْعَلُوا: وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ بِلاَلاً قَال لِعُمَرِ بْنَ الْخَطَّابِ: إِنَّ
عُمَّالَكَ يَأْخُذُونَ الْخَمْرَ وَالْخَنَازِيرَ فِي الْخَرَاجِ، فَقَال:
لاَ تَأْخُذُوا مِنْهُمْ، وَلَكِنْ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا، وَخُذُوا
أَنْتُمْ مِنَ الثَّمَنِ.
قَال أَبُو عُبَيْدٍ: " يُرِيدُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَأْخُذُونَ
مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مِنْ جِزْيَةِ رُءُوسِهِمْ
وَخَرَاجِ أَرْضِهِمْ بِقِيمَتِهَا ثُمَّ يَتَوَلَّى الْمُسْلِمُونَ
بَيْعَهَا، فَهَذَا الَّذِي أَنْكَرَهُ بِلاَلٌ، وَنَهَى عَنْهُ عُمَرُ،
ثُمَّ رَخَّصَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْ أَثْمَانِهَا إِذَا
كَانَ أَهْل الذِّمَّةِ هُمُ الْمُتَوَلِّينَ لِبَيْعِهَا؛
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص 122، وكتاب السير لمحمد بن الحسن ص 263، أحكام أهل
الذمة لابن القيم 1 / 61، والمغني 8 / 521.
(15/195)
لأَِنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ
مِنْ أَمْوَال أَهْل الذِّمَّةِ وَلاَ تَكُونُ مَالاً لِلْمُسْلِمِينَ ".
(1)
2 - وَلأَِنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي
نُقِرُّهُمْ عَلَى اقْتِنَائِهَا، وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا، فَجَازَ أَخْذُ
أَثْمَانِهَا مِنْهُمْ كَثِيَابِهِمْ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى
عَدَمِ جَوَازِ اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ
وَالْخِنْزِيرِ (3) . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا يَلِي:
1 - رَوَى الْبَيْهَقِيُّ - بِسَنَدِهِ - إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ اللَّهَ جَل
ثَنَاؤُهُ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَثَمَنَهَا وَحَرَّمَ الْمَيْتَةَ
وَثَمَنَهَا، وَحَرَّمَ الْخِنْزِيرَ وَثَمَنَهُ (4) .
2 - وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: " إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْل
شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ (5) .
__________
(1) الأموال لأبي عبيد ص 70.
(2) المغني 8 / 521.
(3) مغني المحتاج 4 / 253.
(4) حديث: " إن الله جل ثناؤه حرم الخمر وثمنها. . . " أخرجه أبو داود (3 /
756 - ط عزت عبيد الدعاس) والبيهقي (6 / 12 - ط دار المعرفة) . والدارقطني
(3 / 7 - ط دار المحاسن) من حديث أبي هريرة. وحسن إسناده الأرناؤوط (جامع
الأصول 1 / 450 - ط مكتبة دار البيان) . وله شواهد ذكرها الهيثمي في مجموع
الزوائد (87 - 88 - ط دار الكتاب العربي) .
(5) حديث: " إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه " أخرجه أحمد
(1 / 236 - ط دار المعارف) من حديث ابن عباس وصحح إسناده أحمد شاكر.
(15/195)
3 - وَلأَِنَّ ثَمَنَ هَذِهِ
الْمُحَرَّمَاتِ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ فِي اعْتِقَادِنَا فَحَرُمَ عَلَيْنَا
أَخْذُ الثَّمَنِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِهِ كَالْمَسْرُوقِ وَالْمَغْصُوبِ.
(1)
تَأْخِيرُهُمْ إِلَى غَلاَّتِهِمْ:
63 - مِمَّا يُرَاعَى فِي اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ تَأْخِيرُ مَنْ فُرِضَتْ
عَلَيْهِمْ إِلَى غَلاَّتِهِمْ، أَيْ حَتَّى تَنْضَجَ الثِّمَارُ،
وَتُحْصَدَ الزُّرُوعُ فَيَتَمَكَّنُوا مِنْ بَيْعِهَا وَأَدَاءِ
الْجِزْيَةِ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ - بِسَنَدِهِ -
إِلَى سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَال: " قَدِمَ سَعِيدُ بْنُ عَامِرِ
بْنِ حُذَيْمٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَلَمَّا أَتَاهُ عَلاَهُ
بِالدِّرَّةِ، فَقَال سَعِيدٌ: سَبَقَ سَيْلُكَ مَطَرَكَ، إِنْ تُعَاقِبْ
نَصْبِرْ، وَإِنْ تَعْفُ نَشْكُرْ، وَإِنْ تَسْتَعْتِبْ نَعْتِبْ، فَقَال:
مَا عَلَى الْمُسْلِمِ إِلاَّ هَذَا، مَا لَكَ تُبْطِئُ فِي الْخَرَاجِ؟
قَال: أَمَرْتَنَا أَلاَ نَزِيدَ الْفَلاَّحِينَ عَلَى أَرْبَعَةِ
دَنَانِيرَ فَلَسْنَا نَزِيدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّنَا
نُؤَخِّرُهُمْ إِلَى غَلاَّتِهِمْ. فَقَال عُمَرُ: لاَ عَزَلْتُكَ مَا
حَيِيتُ.
قَال أَبُو عُبَيْدٍ: " وَإِنَّمَا وَجْهُ التَّأْخِيرِ إِلَى الْغَلَّةِ
الرِّفْقُ بِهِمْ، وَلَمْ نَسْمَعْ فِي اسْتِيدَاءِ (2) الْخَرَاجِ
وَالْجِزْيَةِ وَقْتًا مِنَ الزَّمَانِ يُجْتَبَى فِيهِ غَيْرَ هَذَا (3) .
__________
(1) مغني المتحاج 4 / 253.
(2) أي: استيفائه.
(3) الأموال لأبي عبيد ص 61، الأموال لابن زنجويه 1 / 167، وترى اللجنة أن
ظاهر كلام الفقهاء إن الجزية تؤخذ في مواعيدها لكن يجوز تأخير المعسر إلى
اليسار كما تقدم.
(15/196)
اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ عَلَى أَقْسَاطٍ:
64 - وَمِمَّا يُرَاعَى فِي اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
أَخْذُهَا مِنْهُمْ عَلَى أَقْسَاطٍ، فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى
أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ شَهْرِيًّا مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ
وَالتَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ.
قَال الْمَرْغِينَانِيُّ: " يَأْخُذُ فِي كُل شَهْرٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ
- أَيْ عَلَى الْغَنِيِّ - لأَِجْل التَّسْهِيل عَلَيْهِ ".
وَقَال الزَّيْلَعِيُّ: " يُوضَعُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِل فِي مِثْل
هَذِهِ الْحَالَةِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي كُل شَهْرٍ
دِرْهَمٌ، ثُمَّ قَال: نُقِل ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ
وَالصَّحَابَةُ مُتَوَاتِرُونَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ
فَصَارَ إِجْمَاعًا.
وَظَاهِرُ كَلاَمِ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ
دَفْعَةً وَاحِدَةً كُل عَامٍ (1) .
كِتَابَةُ عَامِل الْجِزْيَةِ بَرَاءَةً لِلذِّمِّيِّ:
65 - إِذَا اسْتُوْفِيَتِ الْجِزْيَةُ كُتِبَ لِلذِّمِّيِّ بَرَاءَةٌ،
لِتَكُونَ حُجَّةً لَهُ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهَا (2) .
التَّعَفُّفُ عَنْ أَخْذِ مَا لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ:
66 - يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَامِل الْجِزْيَةِ عَفِيفَ
__________
(1) الهداية 4 / 143، وتبيين الحقائق 3 / 236، والمهذب 2 / 252.
(2) المهذب مع المجموع 18 / 236، وكشاف القناع 3 / 126، المبدع 3 / 415،
اختلاف الفقهاء للطبري ص 232، وتاريخ الأمم والملوك للطبري 4 / 18، الخراج
لأبي يوسف ص 127.
(15/196)
النَّفْسِ، فَلاَ يَقْبَل هَدِيَّةً مِنْ
أَهْل الذِّمَّةِ وَلاَ رِشْوَةً لِحَدِيثِ: لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ (1) .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: اسْتَعْمَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً مِنَ الأَْزْدِ يُقَال لَهُ ابْنُ
اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَال: هَذَا لَكُمْ
وَهَذَا أُهْدِيَ إِلَيَّ، فَقَال: فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ
أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ؟ وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مِنْهُ شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ
رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ
يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ. اللَّهُمَّ هَل بَلَغْتُ
ثَلاَثًا (2) .
فَهُوَ يَدُل عَلَى أَنَّ الْهَدَايَا الَّتِي يُقَدِّمُهَا أَهْل
الْجِزْيَةِ لِلْعُمَّال حَرَامٌ وَلاَ يَجُوزُ لَهُمْ قَبُولُهَا. قَال
الْخَطَّابِيُّ: " فِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّ هَدَايَا الْعُمَّال سُحْتٌ
وَأَنَّهُ لَيْسَ سَبِيلُهَا سَبِيل سَائِرِ الْهَدَايَا الْمُبَاحَاتِ،
وَإِنَّمَا يُهْدَى إِلَيْهِ لِلْمُحَابَاةِ وَلِيُخَفِّفَ عَنِ الْمُهْدِي
__________
(1) حديث: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي " أخرجه أبو
داود (4 / 10 - ط عزت عبيد دعاس) . والترمذي (3 / 614 ط مصطفى الحلبي)
وقال: حديث حسن صحيح.
(2) حديث: " فهلا جلس في بيت أبيه. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 /
220 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1463 - ط عيسى الحلبي) من حديث أبي حميد
الساعدي.
(15/197)
وَيُسَوِّغَ لَهُ بَعْضَ الْوَاجِبِ
عَلَيْهِ وَهُوَ خِيَانَةٌ مِنْهُ وَبَخْسٌ لِلْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ
اسْتِيفَاؤُهُ لأَِهْلِهِ ". (1) وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (هَدِيَّةٌ
وَرِشْوَةٌ) .
الرِّقَابَةُ عَلَى عُمَّال الْجِزْيَةِ:
67 - عَلَى الإِْمَامِ مُشَارَفَةُ الأُْمُورِ وَتَصَفُّحُ الأَْحْوَال،
وَمِنْ مُقْتَضَيَاتِ هَذَا الْوَاجِبِ: الرِّقَابَةُ الْفَعَّالَةُ عَلَى
عُمَّال الْجِزْيَةِ، وَضَرُورَةُ مَنْحِهِمْ رَوَاتِبَ تَكْفِيهِمْ.
قَال أَبُو يُوسُفَ فِي نَصِيحَتِهِ الَّتِي كَتَبَهَا لِهَارُونَ
الرَّشِيدِ: " أَرَى أَنْ تَبْعَثَ قَوْمًا مِنْ أَهْل الصَّلاَحِ
وَالْعَفَافِ مِمَّنْ يُوثَقُ بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ، يَسْأَلُونَ عَنْ
سِيرَةِ الْعُمَّال، وَمَا عَمِلُوا بِهِ فِي الْبِلاَدِ، وَكَيْفَ جَبَوُا
الْخَرَاجَ؟ عَلَى مَا أُمِرُوا بِهِ وَعَلَى مَا وَظَّفَ عَلَى أَهْل
الْخَرَاجِ وَاسْتَقَرَّ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَكَ وَصَحَّ،
أَخَذُوا بِمَا اسْتَفْضَلُوا مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الأَْخْذِ، حَتَّى
يُؤَدُّوهُ بَعْدَ الْعُقُوبَةِ الْمُوجِعَةِ وَالنَّكَال، حَتَّى لاَ
يَتَعَدَّوْا مَا أُمِرُوا بِهِ وَمَا عُهِدَ إِلَيْهِمْ فِيهِ، فَإِنَّ
كُل مَا عَمِل بِهِ وَالِي الْخَرَاجِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْعَسْفِ
فَإِنَّمَا يُحْمَل عَلَى أَنَّهُ قَدْ أُمِرَ بِهِ، وَقَدْ أُمِرَ
بِغَيْرِهِ، وَإِنْ أَحْلَلْتَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمُ الْعُقُوبَةَ
الْمُوجِعَةَ انْتَهَى غَيْرُهُ وَاتَّقَى وَخَافَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَل
هَذَا بِهِمْ تَعَدَّوْا عَلَى أَهْل الْخَرَاجِ وَاجْتَرَءُوا عَلَى
ظُلْمِهِمْ وَتَعَسُّفِهِمْ وَأَخْذِهِمْ بِمَا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ،
__________
(1) معالم السنن للخطأبي 3 / 8.
(15/197)
وَإِذَا صَحَّ عِنْدَكَ مِنَ الْعَامِل
وَالْوَالِي تَعَدٍّ بِظُلْمٍ وَعَسْفٍ وَخِيَانَةٍ لَكَ فِي رَعِيَّتِكَ
وَاحْتِجَازِ شَيْءٍ مِنَ الْفَيْءِ أَوْ خُبْثِ طُعْمَتِهِ أَوْ سُوءِ
سِيرَتِهِ، فَحَرَامٌ عَلَيْكَ اسْتِعْمَالُهُ وَالاِسْتِعَانَةُ بِهِ،
وَأَنْ تُقَلِّدَهُ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ رَعِيَّتِكَ أَوْ تُشْرِكَهُ فِي
شَيْءٍ مِنْ أَمْرِكَ، بَل عَاقِبْهُ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَرْدَعُ
غَيْرَهُ مِنْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِمِثْل مَا تَعَرَّضَ لَهُ، وَإِيَّاكَ
وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا مُجَابَةٌ ".
وَلاِجْتِنَابِ وُقُوعِ عُمَّال الْجِزْيَةِ فِي الرِّشْوَةِ وَأَكْل
أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِل، يَصْرِفُ الإِْمَامُ لَهُمْ أُجُورًا
(رَوَاتِبَ) مُجْزِيَةً تَفِي بِحَاجَاتِهِمْ، وَتَكْفِي نَفَقَاتِهِمْ.
وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ
الْخَرَاجِ حَيْثُ قَال: " حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ قَال
حَدَّثَنَا أَشْيَاخُنَا أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ قَال
لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَنَّسْتَ أَصْحَابَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال عُمَرُ: يَا
أَبَا عُبَيْدَةَ إِذَا لَمْ أَسْتَعِنْ بِأَهْل الدِّينِ عَلَى سَلاَمَةِ
دِينِي فَبِمَنْ أَسْتَعِينُ؟ أَمَّا إِنْ فَعَلْتَ فَأَغْنِهِمْ
بِالْعِمَالَةِ عَنِ الْخِيَانَةِ يَعْنِي إِذَا اسْتَعْمَلَتْهُمْ عَلَى
شَيْءٍ فَأَجْزِل لَهُمْ فِي الْعَطَاءِ وَالرِّزْقِ لاَ يَحْتَاجُونَ. (1)
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص 111، 113، وانظر أيضا مصطلح (جباية) .
(15/198)
الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ لاِسْتِيفَاءِ
الْجِزْيَةِ (1) :
68 - الْقَبَالَةُ (أَوِ التَّقْبِيل) وَتُسَمَّى التَّضْمِينَ أَوِ
الاِلْتِزَامَ:
هِيَ فِي اللُّغَةِ - بِالْفَتْحِ الْكَفَالَةُ، وَهِيَ فِي الأَْصْل
مَصْدَرُ قَبَل بِفَتْحِ الْبَاءِ إِذَا كَفَل وَقَبُل بِضَمِّهَا إِذَا
صَارَ قَبِيلاً أَيْ كَفِيلاً. (2)
قَال الزَّمَخْشَرِيُّ: كُل مَنْ يَقْبَل بِشَيْءٍ مُقَاطَعَةً وَكُتِبَ
عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابٌ، فَالْكِتَابُ الَّذِي يُكْتَبُ هُوَ
الْقَبَالَةُ بِالْفَتْحِ وَالْعَمَل قِبَالَةٌ بِالْكَسْرِ؛ لأَِنَّهُ
صِنَاعَةٌ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يَدْفَعَ السُّلْطَانُ أَوْ
نَائِبُهُ صَقْعًا أَوْ بَلْدَةً أَوْ قَرْيَةً إِلَى رَجُلٍ مُدَّةَ
سَنَةٍ مُقَاطَعَةً بِمَالٍ يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ عَنْ خَرَاجِ أَرْضِهَا،
وَجِزْيَةِ رُءُوسِ أَهْلِهَا إِنْ كَانُوا أَهْل ذِمَّةٍ، فَيَقْبَل
ذَلِكَ، وَيَكْتُبُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا.
وَقَدْ يَقَعُ فِي جِبَايَةِ الْجِزْيَةِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ ظُلْمٌ
لأَِهْل الذِّمَّةِ أَوْ غَبْنٌ لِبَيْتِ الْمَال، وَلِذَلِكَ مَال بَعْضُ
الْفُقَهَاءِ إِلَى مَنْعِهَا، قَال أَبُو يُوسُفَ " فَإِنْ قَال صَاحِبُ
الْقَرْيَةِ أَنَا أُصَالِحُكُمْ عَنْهُمْ وَأُعْطِيكُمْ ذَلِكَ لَمْ
يُجِيبُوهُ إِلَى مَا سَأَل لأَِنَّ ذَهَابَ الْجِزْيَةِ مِنْ هَذَا
أَكْثَرُ لَعَل صَاحِبَ الْقَرْيَةِ يُصَالِحُهُمْ عَلَى خَمْسِمِائَةِ
دِرْهَمٍ وَفِيهَا مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ مَنْ إِذَا أُخِذَتْ مِنْهُمُ
الْجِزْيَةُ بَلَغَتْ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ ". (3)
__________
(1) الطريقة الأولى تقدمت في (ف / 59) .
(2) ابن الأثير النهاية في غريب الحديث 4 / 10.
(3) الرتاج 2 / 3 - 4، والخراج ص 124.
(15/198)
مُسْقِطَاتُ الْجِزْيَةِ:
69 - تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ بِالإِْسْلاَمِ، أَوِ الْمَوْتِ، أَوِ
التَّدَاخُل، أَوِ الْعَجْزِ الْمَالِيِّ، أَوْ عَجْزِ الدَّوْلَةِ عَنْ
تَوْفِيرِ الْحِمَايَةِ لأَِهْل الذِّمَّةِ، أَوِ الإِْصَابَةِ
بِالْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ، أَوِ اشْتِرَاكِ الذِّمِّيِّينَ فِي
الْقِتَال، وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الأُْمُورِ خِلاَفٌ يَتَبَيَّنُ بِمَا
يَلِي:
الأَْوَّل: الإِْسْلاَمُ:
70 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَمَّنْ
دَخَل فِي الإِْسْلاَمِ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ، فَلاَ يُطَالَبُ بِهَا
فِيمَا يُسْتَقْبَل مِنَ الزَّمَانِ (1) . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا
يَلِي:
1 - رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: قَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ
جِزْيَةٌ (2) .
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 278، بدائع الصنائع 9 / 4332، والخراج لأبي يوسف ص
122، والقوانين الفقهية ص 176، وبداية المجتهد 1 / 405، حاشية الدسوقي 2 /
202، والكافي لابن عبد البر 1 / 479، وروضة الطالبين 10 / 312، ومغني
المحتاج 4 / 249، ورحمة الأمة للدمشقي 2 / 181، وأحكام أهل الذمة لابن
القيم 1 / 57، وكشاف القناع 3 / 122، والمذهب الأحمد لابن الجوزي ص 210،
والمبدع 3 / 412.
(2) حديث: " ليس على المسلم جزية " أخرجه أبو داود (3 / 438 - ط عزت عبيد
الدعاس) والترمذي (3 / 18 - ط مصطفى الحلبي) من حديث ابن عباس. ونقل
الزيلعي عن ابن القطان أنه أعله بقابوس (نصب الراية 3 / 453 - ط المجلس
العلمي) .
(15/199)
2 - الإِْجْمَاعُ: قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ:
" أَجْمَعُوا - يَعْنِي الْفُقَهَاءَ - عَلَى أَنْ لاَ جِزْيَةَ عَلَى
مُسْلِمٍ ". (1)
3 - وَلأَِنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ وَسِيلَةً إِلَى الإِْسْلاَمِ فَلاَ
تَبْقَى بَعْدَهُ.
4 - وَلأَِنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ أَوْ
بَدَلاً عَنِ النُّصْرَةِ، فَلاَ تُقَامُ الْعُقُوبَةُ بَعْدَ الدُّخُول
فِي الإِْسْلاَمِ.
وَلاَ يُطَالَبُ بِالْجِزْيَةِ بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَ قَادِرًا عَلَى
النُّصْرَةِ بِالدُّخُول فِي الإِْسْلاَمِ. (2)
هَذَا الاِتِّجَاهُ الْفِقْهِيُّ هُوَ السَّائِدُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ،
وَلَكِنَّ بَعْضَ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ لَمْ يَلْتَزِمُوا بِهِ،
فَقَدْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْجِزْيَةَ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْل
الذِّمَّةِ وَيَعْتَبِرُونَهَا بِمَنْزِلَةِ الضَّرِيبَةِ عَلَى
الْعَبِيدِ.
وَنَقَل أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ
كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ بِالْعِرَاقِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاعِيًا وَلَمْ يَبْعَثْهُ جَابِيًا، فَإِذَا
أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَارْفَعِ الْجِزْيَةَ عَمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْل
الذِّمَّةِ (3) .
حُكْمُ أَخْذِ الْجِزْيَةِ عَمَّا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ بَعْدَ
دُخُول الذِّمِّيِّ فِي الإِْسْلاَمِ:
71 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ
__________
(1) الإجماع لابن المنذر ص 59.
(2) البدائع 9 / 4332.
(3) أحكام القرآن للجصاص 3 / 102.
(15/199)
الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى
أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ،
سَوَاءٌ أَسْلَمَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْل أَوْ بَعْدَهُ، وَلَوِ
اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ جِزْيَةُ سِنِينَ. (1)
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا يَلِي:
1 - قَوْله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَلاَ بِالْيَوْمِ الآْخِرِ} (2)
تَدُل هَذِهِ الآْيَةُ عَلَى سُقُوطِ الْجِزْيَةِ عَمَّنْ أَسْلَمَ؛
لأَِنَّ الأَْمْرَ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِمَّنْ يَجِبُ قِتَالُهُ عَلَى
الْكُفْرِ إِنْ لَمْ يُؤَدِّهَا، وَمَتَى أَسْلَمَ لَمْ يَجِبْ قِتَالُهُ،
فَلاَ جِزْيَةَ عَلَيْهِ.
2 - قَوْله تَعَالَى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ
لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ
الأَْوَّلِينَ} (3)
فَالآْيَةُ تَدُل عَلَى أَنَّ الإِْسْلاَمَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ،
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 278، والهداية 2 / 161، وفتح القدير 5 / 295، وبدائع
الصنائع 9 / 4332، وحاشية ابن عابدين 4 / 200، ومجمع الأنهر 1 / 672،
والاختيار 4 / 138، وبداية المجتهد 1 / 405، والقوانين الفقهية ص 176،
وحاشية الدسوقي 2 / 202، والكافي لابن عبد البر 1 / 479، والمقدمات على
هامش المدونة لابن رشد 1 / 400، والمنتقى للباجي 2 / 175، والمبدع 3 / 412،
وأحكام أهل الذمة لابن القيم 1 / 57، وكشاف القناع 3 / 122، والإنصاف 4 /
228، والمذهب الأحمد ص 210.
(2) سورة التوبة / 29.
(3) سورة الأنفال / 38.
(15/200)
وَأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ لاَ
يُطَالَبُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ مِنْ صَلاَةٍ أَوْ زَكَاةٍ، وَكَذَا لاَ
يُطَالَبُ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ جِزْيَةٍ قَبْل إِسْلاَمِهِ (1) .
قَال مَالِكٌ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ أَشْهَبَ
عَنْهُ: " الصَّوَابُ عِنْدِي أَنْ يُوضَعَ عَمَّنْ أَسْلَمَ الْجِزْيَةُ
حِينَ يُسْلِمُ، وَلَوْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنَ السَّنَةِ إِلاَّ يَوْمٌ
وَاحِدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا. .
.} يَعْنِي مَا قَدْ مَضَى قَبْل الإِْسْلاَمِ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ
شَيْءٍ ". (2)
3 - وَيُرْوَى فِي ذَلِكَ بَعْضُ الآْثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ. (3)
4 - وَاسْتَدَلُّوا بِالْمَعْقُول مِنْ وَجْهَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ وَسِيلَةً إِلَى الإِْسْلاَمِ،
فَلاَ تَبْقَى بَعْدَ الإِْسْلاَمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْجِزْيَةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى
الْكُفْرِ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ جِزْيَةً: أَيْ جَزَاءَ الإِْقَامَةِ عَلَى
الْكُفْرِ، فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِالإِْسْلاَمِ. (4)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ
__________
(1) الإكليل في استنباط التنزيل للسيوطي ص 114.
(2) اختلاف الفقهاء للطبري ص 201.
(3) أحكام القرآن للجصاص 3 / 101، والأموال لأبي عبيد ص 66 - 68، والأموال
لابن زنجويه 1 / 173، والموطأ بشرح السيوطي 1 / 265.
(4) بدائع الصنائع 9 / 4332، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 101، وفتح القدير 5
/ 296، والاختيار 4 / 138، والمنتقى 2 / 176.
(15/200)
وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لاَ تَسْقُطُ عَنِ الذِّمِّيِّ
إِذَا أَسْلَمَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحَوْل، أَمَّا إِذَا أَسْلَمَ فِي
أَثْنَاءِ الْحَوْل، فَتَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ وَلاَ يُطَالَبُ
بِقِسْطِ مَا مَضَى مِنَ السَّنَةِ وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ: وَهُوَ
أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ بِقِسْطِ مَا مَضَى مِنَ السَّنَةِ كَالأُْجْرَةِ
(1) .
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا يَلِي:
1 - أَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ، وَقَدْ وَصَل إِلَى
الذِّمِّيِّ الْمُعَوَّضُ وَهُوَ حَقْنُ الدَّمِ، فَصَارَ الْعِوَضُ وَهُوَ
الْجِزْيَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، فَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ بِالإِْسْلاَمِ
كَسَائِرِ الدُّيُونِ.
2 - أَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى الدَّارِ، وَقَدِ اسْتَوْفَى
الذِّمِّيُّ مَنَافِعَ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، فَلاَ تَسْقُطُ
الأُْجْرَةُ بِإِسْلاَمِ الذِّمِّيِّ.
3 - وَلأَِنَّ الْجِزْيَةَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَجِبُ بِالْعَقْدِ
وُجُوبًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ، وَتَسْتَقِرُّ بِانْقِضَاءِ الزَّمَنِ
كَالأُْجْرَةِ، فَكُلَّمَا مَضَتْ مُدَّةٌ مِنَ الْحَوْل اسْتَقَرَّ
قِسْطُهَا مِنْ جِزْيَةِ الْحَوْل. (2)
__________
(1) حاشية قليوبي 4 / 232، والأم 4 / 286، والمهذب مع المجموع 18 / 219،
رحمة الأمة 2 / 181، ونهاية المحتاج 8 / 88، ومغني المحتاج 4 / 249،
والأحكام السلطانية للماوردي ص 145، والخراج لأبي يوسف ص 122، وأحكام
القرآن للجصاص 3 / 100، واختلاف الفقهاء للطبري ص 212.
(2) العناية شرح الهداية على هامش فتح القدير 5 / 295، ونهاية المحتاج
للرملي 8 / 87.
(15/201)
الثَّانِي: الْمَوْتُ:
72 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِ الْجِزْيَةِ بِالْمَوْتِ،
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ
تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَحَصَل الْمَوْتُ فِي أَثْنَاءِ
الْحَوْل أَمْ بَعْدَ انْتِهَائِهِ (1) . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ:
بِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ، فَتَسْقُطُ
بِالْمَوْتِ كَالْحُدُودِ.
وَلأَِنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ وَسِيلَةً إِلَى الإِْسْلاَمِ، وَهَذَا
الْمَعْنَى لاَ يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْمَوْتِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لاَ
تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ إِذَا حَصَل بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحَوْل. بَل
تُؤْخَذُ مِنَ التَّرِكَةِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ. أَمَّا إِذَا حَصَل فِي
أَثْنَاءِ الْحَوْل، فَلاَ تَسْقُطُ بِهِ أَيْضًا فِي الْقَوْل
الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَتُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ
بِقِسْطِ مَا مَضَى مِنَ الْحَوْل. وَتَسْقُطُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ آخَرَ لأَِنَّهَا لاَ تَجِبُ وَلاَ تُؤْخَذُ
قَبْل كَمَال حَوْلِهَا (3) وَاسْتَدَلُّوا لِعَدَمِ سُقُوطِهَا
بِالْمَوْتِ بِالأَْدِلَّةِ الآْتِيَةِ:
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 278، والهداية 2 / 161، وفتح القدير 5 / 295،
والبدائع 9 / 4332، والخراج لأبي يوسف ص 123، وحاشية الدسوقي 2 / 202،
والمنتقى للباجي 2 / 176، ومنح الجليل 1 / 759.
(2) البدائع للكاساني 9 / 4332، والاختيار 4 / 138، والمنتقى للباجي 2 /
176.
(3) روضة الطالبين 10 / 312، والأحكام السلطانية للماوردي ص 145، ومغني
المحتاج 4 / 249، وحاشية القليوبي 4 / 232، ورحمة الأمة 2 / 181، والميزان
للشعراني 2 / 185، والمغني 8 / 11، والمبدع 3 / 412، وكشاف القناع 3 / 123،
والإنصاف 4 / 228، والمذهب الأحمد لابن الجوزي ص 210.
(15/201)
1 - مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنَادَةَ - كَاتِبِ حَيَّانَ بْنِ سُرَيْجٍ -
وَكَانَ حَيَّانُ بَعَثَهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَتَبَ
يَسْتَفْتِيهِ أَيَجْعَل جِزْيَةَ مَوْتَى الْقِبْطِ عَلَى أَحْيَائِهِمْ؟
فَسَأَل عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ عِرَاكَ بْنَ مَالِكٍ - وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ
يَسْمَعُ - فَقَال: مَا سَمِعْتُ لَهُمْ بِعَقْدٍ وَلاَ عَهْدٍ، إِنَّمَا
أُخِذُوا عَنْوَةً بِمَنْزِلَةِ الْعَبِيدِ، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى
حَيَّانَ بْنِ سُرَيْجٍ يَأْمُرَهُ: أَنْ يَجْعَل جِزْيَةَ الأَْمْوَاتِ
عَلَى الأَْحْيَاءِ.
2 - وَلأَِنَّهَا اسْتَقَرَّتْ فِي ذِمَّتِهِ بَدَلاً عَنِ الْعِصْمَةِ
وَالسُّكْنَى، فَلَمْ تَسْقُطْ بِمَوْتِهِ كَسَائِرِ دُيُونِ
الآْدَمِيِّينَ (1) .
الثَّالِثُ: اجْتِمَاعُ جِزْيَةِ سَنَتَيْنِ فَأَكْثَرَ:
73 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَدَاخُل الْجِزَى:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدَمِ
التَّدَاخُل وَتَجِبُ الْجِزَى كُلُّهَا (2) . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ:
__________
(1) الأموال لأبي عبيد ص 68 - 69، الأموال لابن زنجويه 1 / 178، أحكام أهل
الذمة لابن القيم 1 / 60.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 202، والمنتقى للباجي 2 / 176، ومنح الجليل 1 / 759،
وروضة الطالبين 10 / 312، ورحمة الأمة للدمشقي 2 / 181، وأحكام القرآن
لإليكا الهراسي 4 / 49، والمغني 8 / 512، وأحكام أهل الذمة لابن القيم 1 /
61، والمبدع 3 / 412، وكشاف القناع 3 / 122، والخراج لأبي يوسف ص 123،
والسير لمحمد بن الحسن ص 263.
(15/202)
بِأَنَّ الْجِزْيَةَ حَقٌّ مَالِيٌّ يَجِبُ
فِي آخِرِ كُل حَوْلٍ، فَلَمْ تَتَدَاخَل كَالزَّكَاةِ وَالدِّيَةِ
وَغَيْرِهِمَا.
وَلأَِنَّ الْمُدَّةَ لاَ تَأْثِيرَ لَهَا فِي إِسْقَاطِ الْوَاجِبِ
كَخَرَاجِ الأَْرْضِ (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَضَتْ عَلَى الْجِزْيَةِ
سَنَةٌ وَدَخَلَتْ ثَانِيَةٌ فَإِنَّ الْجِزَى تَتَدَاخَل، فَتَسْقُطُ
جِزَى السَّنَوَاتِ الْمَاضِيَةِ وَيُطَالَبُ بِجِزْيَةِ السَّنَةِ
الْحَالِيَّةِ (2) . وَاسْتَدَل لِذَلِكَ:
بِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ، وَالْعُقُوبَاتُ
إِذَا تَرَاكَمَتْ تَدَاخَلَتْ خَاصَّةً إِذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ
كَالْحُدُودِ. أَلاَ تَرَى أَنَّ مَنْ زَنَى مِرَارًا ثُمَّ رُفِعَ
أَمْرُهُ إِلَى الإِْمَامِ لَمْ يَسْتَوْفِ مِنْهُ إِلاَّ حَدًّا وَاحِدًا
بِجَمِيعِ الأَْفْعَال.
وَلأَِنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ بَدَلاً عَنْ حَقْنِ الدَّمِ فِي
الْمُسْتَقْبَل، فَإِذَا صَارَ دَمُهُ مَحْقُونًا فِي السَّنَةِ
الْمَاضِيَةِ، فَلاَ تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ لأَِجْلِهَا، لاِنْعِدَامِ
الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ، كَمَا إِذَا أَسْلَمَ أَوْ مَاتَ تَسْقُطُ عَنْهُ
الْجِزْيَةُ، لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى الْحَقْنِ بِالْجِزْيَةِ؛
وَلأَِنَّ الْجِزْيَةَ مَا وَجَبَتْ إِلاَّ لِرَجَاءِ الإِْسْلاَمِ،
وَإِذَا
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 312، والمغني 8 / 512، وكشاف القناع 3 / 122،
وأحكام أهل الذمة لابن القيم 1 / 61.
(2) الهداية 2 / 161، وفتح القدير 5 / 297، والبدائع 9 / 433، وحاشية ابن
عابدين 4 / 200، وتبيين الحقائق 3 / 279.
(15/202)
لَمْ يُوجَدْ حَتَّى دَخَلَتْ سَنَةٌ
أُخْرَى انْقَطَعَ الرَّجَاءُ فِيمَا مَضَى، وَبَقِيَ الرَّجَاءُ فِي
الْمُسْتَقْبَل فَيُؤْخَذُ لِلسَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ (1) .
الرَّابِعُ: طُرُوءُ الإِْعْسَارِ:
74 - الإِْعْسَارُ: ضِيقُ الْحَال مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْمَال (2) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ
تَسْقُطُ عَنِ الذِّمِّيِّ بِالإِْعْسَارِ الطَّارِئِ سَوَاءٌ أَطَرَأَ
عَلَيْهِ الإِْعْسَارُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْل أَمْ بَعْدَ انْتِهَائِهِ.
وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَعْسَرَ أَكْثَرَ الْحَوْل؛ لأَِنَّ
الإِْعْسَارَ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ ابْتِدَاءً. (3)
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْجِزْيَةَ لاَ تَسْقُطُ عَنِ
الذِّمِّيِّ بِالإِْعْسَارِ الطَّارِئِ لأَِنَّهُمْ لاَ يَعْتَبِرُونَ
الإِْعْسَارَ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ ابْتِدَاءً (4) . وَإِذَا
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 279، والبدائع 9 / 4333، والاختيار 4 / 139.
(2) الجامع لأحكام القرآن 3 / 373.
(3) بدائع الصنائع 9 / 4331، وتبيين الحقائق 3 / 278، والخراج لأبي يوسف ص
122، وحاشية الخرشي 3 / 145، بلغة السالك 1 / 367 - 368، ومنح الجليل 1 /
758، وحاشية الدسوقي 2 / 202.
(4) الأحكام السلطانية للماوردي ص 145، وروضة الطالبين 10 / 308، ونهاية
المحتاج 8 / 88، والأم 4 / 279، ومغني المحتاج 4 / 246، وحاشية القليوبي 4
/ 232، والمحلى 7 / 566.
(15/203)
كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلاَ تَسْقُطُ
الْجِزْيَةُ عَنْهُ، وَتُعْتَبَرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَيُمْهَل إِلَى
وَقْتِ يَسَارٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ الأَْدَاءِ. أَخْذًا بِعُمُومِ
قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}
(1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَنِ
الذِّمِّيِّ بِالإِْعْسَارِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْل لأَِنَّ الْجِزْيَةَ
لاَ تَجِبُ، وَلاَ تُؤْخَذُ قَبْل كَمَال الْحَوْل، أَمَّا إِذَا كَانَ
الإِْعْسَارُ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحَوْل، فَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُ
الْجِزْيَةُ، وَتُصْبِحُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَيُنْظَرُ وَيُمْهَل
إِلَى وَقْتِ يَسَارٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ الأَْدَاءِ. (2)
الْخَامِسُ: التَّرَهُّبُ وَالاِنْعِزَال عَنِ النَّاسِ:
75 - إِذَا تَرَهَّبَ الذِّمِّيُّ بَعْدَ عَقْدِ الذِّمَّةِ، فَانْعَزَل
عَنِ النَّاسِ وَانْقَطَعَ لِلْعِبَادَةِ فِي الأَْدْيِرَةِ
وَالصَّوَامِعِ، فَهَل تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى
أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ بِالتَّرَهُّبِ، لأَِنَّهُ مَانِعٌ مِنْ
وُجُوبِ الْجِزْيَةِ ابْتِدَاءً فَأَشْبَهَ الْعَجْزَ وَالْجُنُونَ،
فَتَسْقُطُ عَنْهُ مُطْلَقًا وَلَوْ مُتَجَمِّدَةً عَنْ سِنِينَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالأَْخَوَانِ (مُطَرِّفٌ وَابْنُ
الْمَاجِشُونِ) مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لاَ تَسْقُطُ
بِالتَّرَهُّبِ الطَّارِئِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ مَانِعًا مِنْ
وُجُوبِ الْجِزْيَةِ ابْتِدَاءً، فَلاَ يُعْتَبَرُ عُذْرًا لإِِسْقَاطِ
__________
(1) سورة البقرة / 280.
(2) كشاف القناع 3 / 122.
(15/203)
الْجِزْيَةِ عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ.
وَعَلَّلَهُ الأَْخَوَانِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهُ قَدْ يَتَّخِذُهُ
وَسِيلَةً لِلتَّهَرُّبِ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، فَلاَ تَسْقُطُ
الْجِزْيَةُ بِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّرَهُّبَ الطَّارِئَ لاَ يُسْقِطُ
الْجِزْيَةَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحَوْل، وَتُصْبِحُ دَيْنًا فِي
ذِمَّتِهِ. أَمَّا إِذَا تَرَهَّبَ أَثْنَاءَ الْحَوْل فَتَسْقُطُ عَنْهُ
الْجِزْيَةُ؛ لأَِنَّهَا لاَ تَجِبُ وَلاَ تُؤْخَذُ قَبْل كَمَال الْحَوْل.
وَقَالُوا: الْمُرَادُ بِالرَّاهِبِ الَّذِي تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ،
هُوَ مَنْ لاَ يَبْقَى بِيَدِهِ مَالٌ إِلاَّ بُلْغَتَهُ فَقَطْ وَيُؤْخَذُ
مِمَّا بِيَدِهِ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا الرُّهْبَانُ الَّذِينَ
يُخَالِطُونَ النَّاسَ وَيَتَّخِذُونَ الْمَتَاجِرَ وَالْمَزَارِعَ
فَحُكْمُهُمْ كَسَائِرِ النَّصَارَى تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ
اتِّفَاقًا (1) .
السَّادِسُ: الْجُنُونُ:
76 - إِذَا أُصِيبَ الذِّمِّيُّ - بَعْدَ الاِلْتِزَامِ بِالْجِزْيَةِ -
بِالْجُنُونِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ
إِلَى سُقُوطِهَا بِالْجُنُونِ الطَّارِئِ إِذَا اسْتَمَرَّ أَكْثَرَ
الْعَامِ، لأَِنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْجِزْيَةِ ابْتِدَاءً - كَمَا
بَيَّنَّا فِي شُرُوطِ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ -
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 278، والاختيار 3 / 142، وحاشية الدسوقي 2 / 202،
وحاشية الخرشي 3 / 144، ومنح الجليل 1 / 759، والجامع لأحكام القرآن 8 /
112، وروضة الطالبين 10 / 307، ومغني المحتاج 4 / 346، وكشاف القناع 3 /
122.
(15/204)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي
الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْجُنُونَ الطَّارِئَ إِنْ كَانَ
يَسِيرًا كَسَاعَةٍ مِنْ شَهْرٍ أَوْ يَوْمٍ مِنْ سَنَةٍ فَلاَ تَسْقُطُ.
وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا كَيَوْمٍ إِفَاقَةً وَيَوْمٍ جُنُونًا فَإِنَّ
الإِْفَاقَةَ تُلَفَّقُ فَإِذَا بَلَغَتْ سَنَةً وَجَبَتِ الْجِزْيَةُ.
أَمَّا الْجِزْيَةُ الْمُسْتَقِرَّةُ فِي الذِّمَّةِ فَلاَ تَسْقُطُ
بِالْجُنُونِ طِبْقًا لِمَذْهَبِهِمْ فِي عَدَمِ تَدَاخُل الْجِزْيَةِ
كَمَا سَبَقَ فِي (ف 73) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ
الْجُنُونَ الطَّارِئَ لاَ يُسْقِطُ الْجِزْيَةَ إِذَا كَانَ بَعْدَ
انْتِهَاءِ الْحَوْل. أَمَّا إِذَا طَرَأَ الْجُنُونُ فِي أَثْنَاءِ
الْحَوْل فَتَسْقُطُ الْجِزْيَةُ؛ لأَِنَّهَا لاَ تَجِبُ وَلاَ تُؤْخَذُ
قَبْل كَمَال الْحَوْل. (1)
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الرَّابِعُ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا
تَسْقُطُ وَلاَ تَجِبُ.
السَّابِعُ: الْعَمَى وَالزَّمَانَةُ وَالشَّيْخُوخَةُ:
77 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي
اشْتِرَاطِ السَّلاَمَةِ مِنَ الْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ الَّتِي سَبَقَ
الْكَلاَمُ عَنْهَا فِي شُرُوطِ الْجِزْيَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ بِهَذِهِ
الْعَاهَاتِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَا أُصِيبَ بِهِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْل
أَمْ بَعْدَ انْتِهَائِهِ، وَاشْتَرَطُوا أَنْ تَكُونَ
__________
(1) فتح القدير 5 / 295، وحاشية الخرشي 3 / 144، ومنح الجليل 1 / 759، وشرح
المحلي على المنهاج 4 / 229، وكشاف القناع 3 / 122.
(15/204)
إِصَابَتُهُ بِإِحْدَى تِلْكَ الْعَاهَاتِ
أَكْثَرَ السَّنَةِ، وَهُوَ مُقَابِل الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
مُطْلَقًا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ
الْجِزْيَةَ لاَ تَسْقُطُ عَنِ الذِّمِّيِّ الَّذِي أُصِيبَ بِإِحْدَى
تِلْكَ الْعَاهَاتِ إِلاَّ إِذَا كَانَ فَقِيرًا غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى
أَدَاءِ الْجِزْيَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لاَ تَسْقُطُ عَنِ
الذِّمِّيِّ الَّذِي أُصِيبَ بِإِحْدَى تِلْكَ الْعَاهَاتِ؛ لأَِنَّهَا لاَ
تُعْتَبَرُ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ ابْتِدَاءً.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا لاَ تَسْقُطُ عَنِ الذِّمِّيِّ
بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْل، أَمَّا إِذَا أُصِيبَ بِإِحْدَى الْعَاهَاتِ
السَّابِقَةِ أَثْنَاءَ الْحَوْل، فَتَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ،
لأَِنَّهَا لاَ تَجِبُ إِلاَّ بِكَمَال الْحَوْل. (1)
الثَّامِنُ: عَدَمُ حِمَايَةِ أَهْل الذِّمَّةِ:
78 - عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مُقَابِل الْجِزْيَةِ تَوْفِيرُ
الْحِمَايَةِ لأَِهْل الذِّمَّةِ، وَالذَّبُّ عَنْهُمْ، وَمَنْعُ مَنْ
يَقْصِدُهُمْ بِالاِعْتِدَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ،
وَاسْتِنْقَاذُ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ، وَاسْتِرْجَاعُ مَا أُخِذَ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ سَوَاءٌ أَكَانُوا يَعِيشُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَمْ
كَانُوا مُنْفَرِدِينَ فِي بَلَدٍ لَهُمْ. فَإِنْ لَمْ تَتَمَكَّنِ
الدَّوْلَةُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 200، والاختيار 4 / 138، شرح المحلي 4 / 230،
والشرح الكبير على هامش حاشية الدسوقي 2 / 201، ومنح الجليل 1 / 757،
الخراج لأبي يوسف ص 123، والأحكام السلطانية للماوردي ص 145، وكشاف القناع
3 / 122.
(15/205)
الإِْسْلاَمِيَّةُ مِنْ حِمَايَتِهِمْ
وَالدَّفْعِ عَنْهُمْ حَتَّى مَضَى الْحَوْل، فَهَل يُطَالَبُونَ
بِالْجِزْيَةِ أَمْ تَسْقُطُ عَنْهُمْ؟
صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَنْ أَهْل
الذِّمَّةِ إِذَا لَمْ تَتَمَكَّنِ الدَّوْلَةُ مِنْ حِمَايَةِ
الذِّمِّيِّينَ لأَِنَّهُمْ بَذَلُوا الْجِزْيَةَ، لِحِفْظِهِمْ وَحِفْظِ
أَمْوَالِهِمْ، فَإِنْ لَمْ تَدْفَعِ الدَّوْلَةُ عَنْهُمْ، لَمْ تَجِبِ
الْجِزْيَةُ عَلَيْهِمْ؛ لأَِنَّ الْجِزْيَةَ لِلْحِفْظِ وَذَلِكَ لَمْ
يُوجَدْ، فَلَمْ يَجِبْ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ، كَمَا لاَ تَجِبُ
الأُْجْرَةُ إِذَا لَمْ يُوجَدِ التَّمْكِينُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ.
وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ تَصْرِيحًا بِالسُّقُوطِ إِذَا
لَمْ تَحْصُل الْحِمَايَةُ مَعَ قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ الْحِمَايَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ
أَنَّهُ عِنْدَمَا أَعْلَمَهُ نُوَّابُهُ عَلَى مُدُنِ الشَّامِ
بِتَجَمُّعِ الرُّومِ لِمُقَاتَلَةِ الْمُسْلِمِينَ كَتَبَ إِلَيْهِمْ أَنْ
رُدُّوا الْجِزْيَةَ عَلَى مَنْ أَخَذْتُمُوهَا مِنْهُ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ
يَقُولُوا لَهُمْ: إِنَّمَا رَدَدْنَا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، لأَِنَّهُ
قَدْ بَلَغَنَا مَا جُمِعَ لَنَا مِنَ الْجُمُوعِ، وَأَنَّكُمِ
اشْتَرَطْتُمْ عَلَيْنَا أَنْ نَمْنَعَكُمْ، وَإِنَّا لاَ نَقْدِرُ عَلَى
ذَلِكَ، وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْكُمْ مَا أَخَذْنَا مِنْكُمْ، وَنَحْنُ
لَكُمْ عَلَى الشُّرُوطِ مَا كَتَبْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ
نَصَرَنَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ (1) .
__________
(1) البدائع 9 / 4402، والقوانين الفقهية ص 176، والفروق للقرافي 3 / 14 -
15، والمهذب للشيرازي 18 / 251، وبشرح المجموع الطبعة المصرية، مطالب أولي
النهى 2 / 602، 603، والكافي لابن قدامة 3 / 364.
(15/205)
وَقَال الْبَلاَذِرِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو
حَفْصٍ الدِّمَشْقِيُّ قَال: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
قَال: " بَلَغَنِي أَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ هِرَقْل لِلْمُسْلِمِينَ
الْجُمُوعَ، وَبَلَغَ الْمُسْلِمِينَ إِقْبَالُهُمْ إِلَيْهِمْ لِوَقْعَةِ
الْيَرْمُوكِ رَدُّوا عَلَى أَهْل حِمْصَ مَا كَانُوا أَخَذُوا مِنْهُمْ
مِنَ الْخَرَاجِ. وَقَالُوا: قَدْ شُغِلْنَا عَنْ نُصْرَتِكُمْ وَالدَّفْعِ
عَنْكُمْ، فَأَنْتُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ، فَقَال أَهْل حِمْصَ:
لَوَلاَيَتُكُمْ وَعَدْلُكُمْ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ مِنَ
الظُّلْمِ وَالْغَشْمِ. وَلَنَدْفَعَنَّ جُنْدَ هِرَقْل عَنِ الْمَدِينَةِ
مَعَ عَامِلِكُمْ، وَنَهَضَ الْيَهُودُ فَقَالُوا: وَالتَّوْرَاةِ لاَ
يَدْخُل عَامِل هِرَقْل مَدِينَةَ حِمْصَ إِلاَّ أَنْ نُغْلَبَ وَنَجْهَدَ
فَأَغْلَقُوا الأَْبْوَابَ وَحَرَسُوهَا ". وَكَذَلِكَ فَعَل أَهْل
الْمُدُنِ الَّتِي صُولِحَتْ مِنَ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ. وَقَالُوا:
إِنْ ظَهَرَ الرُّومُ وَأَتْبَاعُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ صِرْنَا إِلَى
مَا كُنَّا عَلَيْهِ، وَإِلاَّ فَإِنَّا عَلَى أَمْرِنَا مَا بَقِيَ
لِلْمُسْلِمِينَ عَدَدٌ، فَلَمَّا هَزَمَ اللَّهُ الْكَفَرَةَ وَأَظْهَرَ
الْمُسْلِمِينَ فَتَحُوا مُدُنَهُمْ وَأَخْرَجُوا الْمُقَلِّسِينَ،
فَلَعِبُوا وَأَدَّوُا الْخَرَاجَ. (1)
وَجَاءَ فِي كِتَابِ صُلْحِ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ مَعَ أَهْل تَفْلِيسَ:
(2)
__________
(1) فتوح البلدان ص 143، قال في النهاية المقلسون: هم الذين يلعبون بين يدي
الأمير إذا وصل البلد، والواحد: مقلس. (النهاية في غريب الحديث والأثر لابن
الأثير 4 / 100) ط. دار الفكر ببيروت.
(2) تفليس (بفتح التاء وسكون الفاء) : بلد بأرمينية الأولى. (معجم البلدان
لياقوت 2 / 35 - 36) .
(15/206)
". . . وَإِنْ عَرَضَ لِلْمُسْلِمِينَ
شُغْلٌ عَنْكُمْ فَقَهَرَكُمْ عَدُوُّكُمْ فَغَيْرُ مَأْخُوذِينَ بِذَلِكَ
(1) .
هَذِهِ السَّوَابِقُ التَّارِيخِيَّةُ حَدَثَتْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ
رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَعَلِمُوا بِهَا وَسَكَتُوا عَنْهَا،
فَيُعْتَبَرُ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا.
وَقَدْ نَقَل الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ حَيْثُ قَال فِي
مَرَاتِبِ الإِْجْمَاعِ: " إِنَّ مَنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ، وَجَاءَ أَهْل
الْحَرْبِ إِلَى بِلاَدِنَا يَقْصِدُونَهُ وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَخْرُجَ
لِقِتَالِهِمْ بِالْكُرَاعِ وَالسِّلاَحِ، وَنَمُوتُ دُونَ ذَلِكَ، صَوْنًا
لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ تَسْلِيمَهُ دُونَ ذَلِكَ إِهْمَالٌ
لِعَقْدِ الذِّمَّةِ " وَحُكِيَ فِي ذَلِكَ إِجْمَاعُ الأُْمَّةِ. (2)
التَّاسِعُ: اشْتِرَاكُ الذِّمِّيِّينَ فِي الْقِتَال مَعَ
الْمُسْلِمِينَ:
79 - صَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ الْجِزْيَةَ لاَ تَسْقُطُ عَنِ
الذِّمِّيِّينَ بِالاِشْتِرَاكِ فِي الْقِتَال مَعَ الْمُسْلِمِينَ.
قَال الشَّلَبِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ كَنْزِ الدَّقَائِقِ: "
أَلاَ تَرَى أَنَّ الإِْمَامَ لَوِ اسْتَعَانَ بِأَهْل الذِّمَّةِ سَنَةً،
فَقَاتَلُوا مَعَهُ لاَ تَسْقُطُ عَنْهُمْ جِزْيَةُ تِلْكَ السَّنَةِ؛
لأَِنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ، وَلَيْسَ
لِلإِْمَامِ ذَلِكَ، وَهَذَا لأَِنَّ الشَّرْعَ جَعَل
__________
(1) فتوح البلدان للبلاذري ص 283 - 284.
(2) الفروق 3 / 14.
(15/206)
طَرِيقَ النُّصْرَةِ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ
الْمَال دُونَ النَّفْسِ.
وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ الاِسْتِعَانَةَ بِأَهْل الذِّمَّةِ فِي
الْقِتَال.
فَقَال الْبَاجِيُّ فِي الْمُنْتَقَى: " الْجِهَادُ أَنْ يُقَاتَل النَّاسُ
حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَالْمُشْرِكُ لاَ يُقَاتِل
لِذَلِكَ؛ وَلأَِنَّهُ مِمَّنْ يَلْزَمُ أَنْ يُقَاتَل عَنْهُ وَتُمْنَعُ
الاِسْتِعَانَةُ بِهِ فِي الْحَرْبِ وَإِنِ اسْتُعِينَ بِهِ فِي
الأَْعْمَال وَالصَّنَائِعِ وَالْخِدْمَةِ. (1)
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:
" إِنَّا لاَ نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ (2) .
وَانْظُرْ بَحْثَ: (جِهَادٌ) - الاِسْتِعَانَةُ بِالْكُفَّارِ.
مَصَارِفُ الْجِزْيَةِ:
80 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُصْرَفُ فِي
مَصَارِفِ الْفَيْءِ، حَتَّى رَأَى كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ اسْمَ الْفَيْءِ
شَامِلٌ لِلْجِزْيَةِ. وَيُصْرَفُ الْفَيْءُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ
الْعَامَّةِ وَمَرَافِقِ الدَّوْلَةِ الْهَامَّةِ: كَأَرْزَاقِ
الْمُجَاهِدِينَ وَذَرَارِيِّهِمْ وَسَدِّ الثُّغُورِ، وَبِنَاءِ
الْجُسُورِ، وَالْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ، وَإِصْلاَحِ الأَْنْهَارِ
الَّتِي لاَ مَالِكَ لَهَا، وَرَوَاتِبِ الْمُوَظِّفِينَ مِنَ الْقُضَاةِ
__________
(1) حاشية الشلبي على شرح كنز الدقائق مع تبيين الحقائق 3 / 278، الأم 4 /
279، وكشاف القناع 3 / 125، والمنتقى 3 / 179.
(2) حديث: " إنا لا نستعين بمشرك " أخرجه أبو داود (3 / 172 - ط عزت عبيد
الدعاس) وابن ماجه (2 / 945 - ط عيسى الحلبي) ، من حديث عائشة. وأصله في
مسلم (3 / 1449 - 1450 - ط عيسى الحلبي) من حديثها كذلك.
(15/207)
وَالْمُدَرِّسِينَ وَالْعُلَمَاءِ
وَالْمُفْتِينَ وَالْعُمَّال وَغَيْرِ ذَلِكَ (1) .
وَفِي تَقْدِيرِ ذَلِكَ وَمَا يُرَاعَى فِيهِ يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ:
(بَيْتُ الْمَال، وَفَيْءٌ) .
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 283، والخراج لأبي يوسف ص 124، وبدائع الصنائع 2 /
959، وحاشية ابن عابدين 4 / 217، الهداية 2 / 164، والاختيار 4 / 141،
ومجمع الأنهر 1 / 677، وبداية المجتهد 1 / 407، الأم 4 / 140، والأحكام
السلطانية للماوردي ص 144 وروضة الطالبين 6 / 354، ورحمة الأمة للدمشقي 2 /
179، وكفاية الأخيار للحصني 2 / 32.
(15/207)
جِعَالَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجُعْل بِالضَّمِّ الأَْجْرُ، يُقَال: جَعَلْتُ لَهُ جُعْلاً،
وَالْجِعَالَةُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَبَعْضُهُمْ يَحْكِي التَّثْلِيثَ اسْمٌ
لِمَا يُجْعَل لِلإِْنْسَانِ عَلَى فِعْل شَيْءٍ.
وَالْجَعِيلَةُ مِثَال كَرِيمَةٍ، لُغَةٌ فِي الْجُعْل. (1)
وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنْ يَجْعَل الرَّجُل لِلرَّجُل أَجْرًا
مَعْلُومًا، وَلاَ يَنْقُدُهُ إِيَّاهُ عَلَى أَنْ يَعْمَل لَهُ فِي زَمَنٍ
مَعْلُومٍ أَوْ مَجْهُولٍ، مِمَّا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْجَاعِل، عَلَى
أَنَّهُ إِنْ أَكْمَل الْعَمَل كَانَ لَهُ الْجُعْل، وَإِنْ لَمْ يُتِمُّهُ
فَلاَ شَيْءَ لَهُ، مِمَّا لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلْجَاعِل إِلاَّ بَعْدَ
تَمَامِهِ.
وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهَا الْتِزَامُ عِوَضٍ مَعْلُومٍ
عَلَى عَمَلٍ مُعَيَّنٍ مَعْلُومٍ، أَوْ مَجْهُولٍ يَعْسُرُ ضَبْطُهُ.
وَعَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهَا تَسْمِيَةُ مَالٍ مَعْلُومٍ
لِمَنْ يَعْمَل لِلْجَاعِل عَمَلاً مُبَاحًا وَلَوْ كَانَ مَجْهُولاً أَوْ
لِمَنْ يَعْمَل لَهُ مُدَّةً وَلَوْ كَانَتْ مَجْهُولَةً (2) .
__________
(1) القاموس المحيط والمصباح المنير مادة: " جعل ".
(2) حاشية البجيرمي على شرح الخطيب 3 / 170، الخرشي 7 / 69، وكشاف القناع،
وشرح المنتهى 2 / 417، 442، 443.
(15/208)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِْجَارَةُ:
2 - الإِْجَارَةُ: لُغَةً مَصْدَرُ آجَرَ وَهِيَ الْكِرَاءُ وَاصْطِلاَحًا
تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ وَالْفَرْقُ
بَيْنَهُمَا أَنَّ الْجِعَالَةَ قَدْ تَكُونُ عَلَى مَجْهُولٍ، بِخِلاَفِ
الإِْجَارَةِ.
حُكْمُ الْجِعَالَةِ، وَدَلِيل شَرْعِيَّتِهَا:
3 - عَقْدُ الْجِعَالَةِ مُبَاحٌ شَرْعًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ
يَقُولُونَ: إِنَّهَا جَائِزَةٌ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ، اتِّفَاقًا،
وَالْقِيَاسُ عَدَمُ جَوَازِهَا بَل عَدَمُ صِحَّتِهَا لِلْغَرَرِ الَّذِي
يَتَضَمَّنُهُ عَقْدُهَا، وَإِنَّمَا خَرَجَتْ عَنْ ذَلِكَ إِلَى
الْجَوَازِ لِلأَْدِلَّةِ التَّالِيَةِ:
فِي الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْمَعْقُول. فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْله
تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْل بَعِيرٍ} (1) وَكَانَ حِمْل
الْبَعِيرِ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ وَهُوَ الْوَسْقُ وَهُوَ سِتُّونَ
صَاعًا، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا إِذَا قُصَّ عَلَيْنَا مِنْ
غَيْرِ نَكِيرٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ، وَمَنْ خَالَفَ فِي هَذِهِ
الْقَاعِدَةِ جَعَلَهُ اسْتِئْنَاسًا.
وَمِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ رُقْيَةِ الصَّحَابِيِّ، (2) وَهُوَ مَا رُوِيَ
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ أُنَاسًا مِنْ
أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَوْا
حَيًّا
__________
(1) سورة يوسف / 72.
(2) الرقية: كلام يستشفى به من العارض.
(15/208)
مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَلَمْ
يُقْرُوهُمْ (1) ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ
أُولَئِكَ الْقَوْمِ فَقَالُوا: هَل فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ؟ فَقَالُوا: لَمْ
تُقْرُونَا، فَلاَ نَفْعَل إِلاَّ أَنْ تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً،
فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعَ شَاءٍ، فَجَعَل رَجُلٌ يَقْرَأُ بِأُمِّ
الْقُرْآنِ وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ وَيَتْفُل فَبَرِئَ الرَّجُل فَأَتَوْهُمْ
بِالشَّاءِ، فَقَالُوا: لاَ نَأْخُذُهَا حَتَّى نَسْأَل رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوا الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَضَحِكَ وَقَال: مَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا
رُقْيَةٌ؟ خُذُوهَا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ (2) . وَفِي
رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَال: إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ
عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ (3) . وَمِنَ السُّنَّةِ أَيْضًا مَا
رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَال يَوْمَ حُنَيْنٍ: مَنْ قَتَل قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ
سَلَبُهُ. (4)
وَمِنَ الْمَعْقُول أَنَّ حَاجَةَ النَّاسِ قَدْ تَدْعُو إِلَيْهَا لِرَدِّ
مَالٍ ضَائِعٍ، أَوْ عَمَلٍ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْجَاعِل وَلاَ يَجِدُ
مَنْ يَتَطَوَّعُ بِهِ، وَلاَ تَصِحُّ الإِْجَارَةُ عَلَيْهِ
__________
(1) لم يقروهم: لم يضيفوهم.
(2) حديث: " ما أدراك أنها رقية ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 198 - ط
السلفية) ، ومسلم (4 / 1727 - ط الحلبي) عن أبي سعيد الخدري.
(3) حديث: " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله ". أخرجه البخاري (الفتح
10 / 199 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عباس.
(4) حديث: " من قتل قتيلا له عليه بينه فله سلبه ". أخرجه البخاري (الفتح 8
/ 35 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1371 - ط الحلبي) من حديث أبي قتادة
الأنصاري.
(15/209)
لِجَهَالَتِهِ، فَجَازَتْ شَرْعًا
لِلْحَاجَةِ إِلَيْهَا كَالْمُضَارَبَةِ (ر: مُضَارَبَةٌ) . (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: بِعَدَمِ جَوَازِهَا فِي غَيْرِ جُعْل الْعَبْدِ
الآْبِقِ، وَدَلِيل الْمَنْعِ عِنْدَهُمْ مَا فِي الْجِعَالَةِ مِنْ
تَعْلِيقِ التَّمَلُّكِ عَلَى الْخَطَرِ (أَيِ التَّرَدُّدِ بَيْنَ
الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ) كَمَا أَنَّ الْجِعَالَةَ الَّتِي لَمْ تُوَجَّهْ
إِلَى مُعَيَّنٍ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا مَنْ يَقْبَل الْعَقْدَ فَانْتَفَى
الْعَقْدُ. (2)
وَالْجِعَالَةُ تَخْتَلِفُ عَنِ الإِْجَارَةِ - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْمُجِيزَةِ لَهَا - فِي بَعْضِ
الأَْحْكَامِ وَهِيَ كَمَا يَلِي:
الأَْوَّل: صِحَّةُ الْجِعَالَةِ عَلَى عَمَلٍ مَجْهُولٍ يَعْسُرُ ضَبْطُهُ
وَتَعْيِينُهُ كَرَدِّ مَالٍ ضَائِعٍ.
الثَّانِي: صِحَّةُ الْجِعَالَةِ مَعَ عَامِلٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ.
الثَّالِثُ: كَوْنُ الْعَامِل لاَ يَسْتَحِقُّ الْجُعْل إِلاَّ بَعْدَ
تَمَامِ الْعَمَل.
الرَّابِعُ: لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْجِعَالَةِ تَلَفُّظُ الْعَامِل
بِالْقَبُول.
__________
(1) المهذب 1 / 411، والبجيرمي على الخطيب 3 / 171، والبجيرمي على المنهج 3
/ 217، والعدوي على شرح أبي الحسن 2 / 162، ومنح الجليل 4 / 3، والمقدمات 2
/ 308، 309، والمغني 6 / 350، والمحلى 8 / 204 - 210 مسألة 1327.
(2) ابن عابدين 5 / 58 و 258، والزيلعي 6 / 226، والمبسوط 11 / 17،
والبدائع 6 / 203.
(15/209)
الْخَامِسُ: جَهَالَةُ الْعِوَضِ فِي
الْجِعَالَةِ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال.
السَّادِسُ: يُشْتَرَطُ فِي الْجِعَالَةِ عَدَمُ التَّأْقِيتِ لِمُدَّةِ
الْعَمَل.
السَّابِعُ: الْجِعَالَةُ عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ.
الثَّامِنُ: سُقُوطُ كُل الْعِوَضِ بِفَسْخِ الْعَامِل قَبْل تَمَامِ
الْعَمَل الْمُجَاعَل عَلَيْهِ.
وَزَادَ ابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْجِعَالَةَ
تَتَمَيَّزُ أَيْضًا عَنِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْمُزَارَعَةِ
بِأَنَّ الْعِوَضَ فِيهَا غَيْرُ نَاشِئٍ عَنْ مَحَل الْعَمَل.
وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ يَصِحُّ فِي الْجِعَالَةِ الْجَمْعُ
بَيْنَ تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ وَالْعَمَل، بِخِلاَفِ الإِْجَارَةِ.
أَرْكَانُ الْجِعَالَةِ:
أَرْكَانُ الْجِعَالَةِ أَرْبَعَةٌ: (الأَْوَّل) الصِّيغَةُ (الثَّانِي)
الْمُتَعَاقِدَانِ، (الثَّالِثُ) الْعَمَل، (الرَّابِعُ) الْجُعْل.
صِيغَةُ الْجِعَالَةِ:
4 - الصِّيغَةُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْجِعَالَةِ هِيَ كُل لَفْظٍ
دَالٍّ عَلَى الإِْذْنِ فِي الْعَمَل بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ، مَقْصُودِ
وَمُلْتَزَمٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ الإِْذْنُ عَامًّا لِكُل مَنْ سَمِعَهُ أَوْ
عَلِمَ بِهِ، مِثْل أَنْ يَقُول الْجَاعِل: مَنْ رَدَّ ضَالَّتِي أَوْ
ضَالَّةَ فُلاَنٍ فَلَهُ كَذَا، أَمْ كَانَ الإِْذْنُ خَاصًّا بِشَخْصٍ
مُعَيَّنٍ مِثْل أَنْ يَقُول لَهُ: إِنْ رَدَدْتَ ضَالَّتِي فَلَكَ كَذَا؛
لأَِنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَحْتَاجُ إِلَى صِيغَةٍ تَدُل عَلَى
الْمَطْلُوبِ وَقَدْرِ
(15/210)
الْمَبْذُول عِوَضًا كَالإِْجَارَةِ،
وَالأَْخْرَسُ تَكْفِي إِشَارَتُهُ الْمُفْهِمَةُ لِذَلِكَ. وَأَمَّا
النَّاطِقُ إِذَا كَتَبَ ذَلِكَ وَنَوَاهُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ وَلاَ
يُشْتَرَطُ فِي الصِّيغَةِ قَبُول الْعَامِل لَفْظًا وَإِنْ عَيَّنَهُ؛
لِمَا فِيهِ مِنَ التَّضْيِيقِ فِي مَحَل الْحَاجَةِ بَل يَكْفِي الْعَمَل
مِنْهُ، وَكَذَا لاَ يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْعَامِل وَقْتَ إِيجَابِ
الْجَاعِل وَإِعْلاَنِهِ.
وَلاَ تُشْتَرَطُ أَيْضًا الْمُطَابَقَةُ بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول،
فَلَوْ قَال الْجَاعِل: إِنْ رَدَدْتَ ضَالَّتِي فَلَكَ دِينَارٌ، فَقَال
الْعَامِل: أَرُدُّهَا بِنِصْفِ دِينَارٍ، فَالرَّاجِحُ الْقَطْعُ
بِاسْتِحْقَاقِهِ لِلدِّينَارِ، لأَِنَّ الْقَبُول لاَ أَثَرَ لَهُ فِي
الْجِعَالَةِ، قَال هَذَا الْجُوَيْنِيُّ، وَذَكَرَ الْقَمُولِيُّ
نَحْوَهُ.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يَسْتَثْنُونَ مِنْ ذَلِكَ حَالَتَيْنِ لاَ
يُشْتَرَطُ فِيهِمَا صُدُورُ مَا يَدُل عَلَى الإِْذْنِ وَالاِلْتِزَامِ
مِنَ الْمَالِكِ أَوِ الْجَاعِل.
الأُْولَى: رَدُّ الْعَبْدِ الآْبِقِ إِنْ كَانَ الرَّادُّ لَهُ غَيْرَ
الإِْمَامِ.
الثَّانِيَةُ: تَخْلِيصُ الشَّخْصِ مَتَاعَ غَيْرِهِ مِنْ مَكَانٍ يَظُنُّ
هَلاَكَهُ، أَوْ تَلَفَهُ عَلَى مَالِكِهِ فِي تَرْكِهِ فِيهِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُشْتَرَطُ إِيقَاعُ الْعَقْدِ مِنَ
الْجَانِبَيْنِ فِي حَالَةِ مَا إِذَا أَتَى بِالضَّالَّةِ أَوِ الآْبِقِ
مَنِ اعْتَادَ طَلَبَ الضَّوَال وَالإِْبَاقِ وَرَدَّهَا إِلَى
أَصْحَابِهَا
(15/210)
بِعِوَضٍ فَيَسْتَحِقُّ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ
مِنْ صَاحِبِهَا الْتِزَامٌ. (1)
رَدُّ الْعَامِل الْمُعَيَّنِ لِلْجِعَالَةِ:
5 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْعَامِل الْمُعَيَّنَ لَوْ رَفَضَ
قَبُول عَقْدِ الْجِعَالَةِ وَرَدَّهُ مِنْ أَصْلِهِ فَقَال: لاَ أَرُدُّ
الضَّالَّةَ مَثَلاً أَوْ رَدَدْتُ الْجِعَالَةَ، أَوْ لاَ أَقْبَلُهَا،
ثُمَّ عَمِل، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا إِلاَّ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، وَهُوَ
صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا تَبْطُل بِرَفْضِ الْعَامِل وَرَدِّهِ لَهَا.
وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلاَمِ الْجُوَيْنِيِّ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ،
وَالْقَمُولِيِّ السَّابِقِ: أَنَّهَا لاَ تَبْطُل بِذَلِكَ، وَحَمَل
بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلَهُمَا هَذَا عَلَى مَا لَوْ قَبِل الْعَامِل
الْجِعَالَةَ وَرَفَضَ الْعِوَضَ وَحْدَهُ كَقَوْلِهِ: أَرُدُّ الضَّالَّةَ
بِلاَ شَيْءٍ. (2)
وَلَمْ يُعْثَرْ لِغَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ مِنَ الْمَذَاهِبِ عَلَى شَيْءٍ
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
عَقْدُ الْجِعَالَةِ قَبْل تَمَامِ الْعَمَل هَل هُوَ لاَزِمٌ
6 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ
__________
(1) الأنوار بحاشية الكمثري عليه 1 / 417، 418، وتحفة المحتاج 2 / 366،
367، ونهاية المحتاج 4 / 341، 343، ومغني المحتاج 2 / 430، وأسنى المطالب 2
/ 439، وحاشية البجيرمي على الخطيب 3 / 171، وحاشية الصاوي على الشرح
الصغير 3 / 256، 257، وحاشية العدوي على شرح أبي الحسن 2 / 162، وكشاف
القناع وبهامشه شرح المنتهى 2 / 419، 446، والمحرر 1 / 372.
(2) نهاية المحتاج، وحاشية الشبرامسلي 4 / 343.
(15/211)
الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْجِعَالَةَ
عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَبْل شُرُوعِ
الْعَامِل فِي الْعَمَل فَيَجُوزُ لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ
الرُّجُوعُ فِيهِ بِدُونِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ أَيُّ أَثَرٍ؛
لأَِنَّهَا مِنْ جِهَةِ الْجَاعِل تَعْلِيقُ اسْتِحْقَاقِ الْعَامِل
لِلْجُعْل بِشَرْطٍ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْعَامِل فَلأَِنَّ الْعَمَل
فِيهَا مَجْهُولٌ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لاَ يَتَّصِفُ عَقْدُهُ
بِاللُّزُومِ.
وَيُقَابِل هَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: بِأَنَّهَا عَقْدٌ
لاَزِمٌ لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ - وَلَوْ قَبْل الشُّرُوعِ
كَالإِْجَارَةِ، وَقِيل عِنْدَهُمْ أَيْضًا: إِنَّهَا عَقْدٌ لاَزِمٌ
لِلْجَاعِل فَقَطْ بِمُجَرَّدِ إِيجَابِهِ أَوْ إِعْلاَنِهِ دُونَ
الْعَامِل، وَأَمَّا بَعْدَ شُرُوعِ الْعَامِل فِي الْعَمَل الْمُجَاعَل
عَلَيْهِ وَقَبْل تَمَامِهِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
الْعَقْدُ غَيْرُ لاَزِمٍ أَيْضًا لِكُلٍّ مِنْهُمَا، كَمَا قَبْل
الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل.
وَهَذَا قَوْل الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ لِلْعَامِل، أَمَّا
الْجَاعِل فَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهَا تَلْزَمُهُ فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ عَلَى الرَّاجِحِ، فَلاَ يَكُونُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَنْ
تَعَاقُدِهِ هَذَا حَتَّى لاَ يَبْطُل عَلَى الْعَامِل عَمَلُهُ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ حَتَّى وَلَوْ
كَانَ الْعَمَل الَّذِي حَصَل بِهِ الشُّرُوعُ قَلِيلاً لاَ قِيمَةَ لَهُ.
(1)
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 442، ونهاية المحتاج 4 / 348، والخرشي 7 / 70، 76،
وحاشية الصاوي على الشرح الصغير 2 / 257، والمقدمات 2 / 307، وكشاف القناع
2 / 419.
(15/211)
الْمُتَعَاقِدَانِ:
مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُلْتَزِمِ بِالْجُعْل:
7 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ فِي الْمُلْتَزِمِ
بِالْجُعْل أَنْ يَكُونَ صَحِيحَ التَّصَرُّفِ فِيمَا يَجْعَلُهُ عِوَضًا،
وَأَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا فَلاَ يَصِحُّ الْعَقْدُ بِالْتِزَامِ صَبِيٍّ،
أَوْ مَجْنُونٍ، أَوْ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، أَوْ مُكْرَهٍ.
وَبِمِثْل هَذَا قَال الْمَالِكِيَّةُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ
هَذِهِ شَرَائِطُ لُزُومِ الْعَقْدِ لِمُلْتَزِمِ الْجُعْل، وَأَمَّا أَصْل
صِحَّةِ الْعَقْدِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِهِ مُمَيِّزًا فَقَطْ.
مَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَامِل:
8 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِي الْعَامِل الْمُعَيَّنِ
أَهْلِيَّتُهُ لِلْعَمَل بِأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ، فَلاَ يَصِحُّ
الْعَقْدُ مِنْ عَاجِزٍ عَنِ الْعَمَل، كَصَغِيرٍ، وَضَعِيفٍ لاَ يَقْدِرُ
عَلَيْهِ، لأَِنَّ مَنْفَعَتَهُ مَعْدُومَةٌ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَامِل
غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَيَكْفِي عِلْمُهُ بِإِعْلاَنِ الْجَاعِل، وَلاَ
يُشْتَرَطُ قُدْرَتُهُ عَلَى الْعَمَل أَصْلاً، وَيَكْفِي أَنْ يَأْذَنَ
أَوْ يُوَكِّل مَنْ يَعْمَل. وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي الْعَامِل بِنَوْعَيْهِ
مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ بُلُوغٌ وَلاَ عَقْلٌ، وَلاَ رُشْدٌ
وَلاَ حُرِّيَّةٌ، وَلاَ إِذْنُ وَلِيٍّ أَوْ سَيِّدٍ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ
مِنْ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ لَهُ نَوْعُ تَمْيِيزٍ وَمَحْجُورٍ عَلَيْهِ
بِسَفَهٍ، وَعَبْدٍ عَلَى الرَّاجِحِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: كُل مَا كَانَ شَرْطًا فِي الْجَاعِل كَانَ
شَرْطًا فِي الْعَامِل بِزِيَادَةِ الْعَمَل عَلَيْهِ (1) وَلَمْ نَعْثُرْ
لِلْحَنَابِلَةِ عَلَى شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 340، وحاشية البجيرمي على الخطيب 3 / 172، وتحفة
المحتاج 2 / 366، وشرح المحلي بحاشيتي قليوبي وعميرة 3 / 130، والروض
المربع 1 / 233، وكشاف القناع 2 / 217، والخرشي 7 / 70، وحاشية الصاوي على
الشرح الصغير 2 / 256، والحطاب والتاج والإكليل 5 / 452.
(15/212)
النِّيَابَةُ فِي عَقْدِ الْجِعَالَةِ:
9 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَانَ الْعَاقِدُ - الْمُلْتَزِمُ
بِالْجُعْل - وَكِيلاً أَوْ وَلِيًّا صَحَّ الْعَقْدُ، وَيَجِبُ الْجُعْل
فِي مَال الْمُوَكِّل وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ بِشَرِيطَةِ أَنْ يَكُونَ
التَّعَاقُدُ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ بِأَنْ يَكُونَ الْجُعْل قَدْرَ
أُجْرَةِ مِثْل ذَلِكَ الْعَمَل أَوْ أَقَل، أَمَّا إِذَا زَادَ عَنْ
أُجْرَةِ الْمِثْل، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ فَاسِدًا، وَتَجِبُ أُجْرَةُ
الْمِثْل فِي مَال الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ الْعَامِل
مُعَيَّنًا فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ غَيْرَهُ فِي الْعَمَل
عَلَى الرَّاجِحِ، إِلاَّ إِنْ كَانَ الْعَمَل لاَ يَلِيقُ بِهِ، أَوْ لَمْ
يَكُنْ يُحْسِنُهُ، أَوْ عَجَزَ عَنْهُ، وَعَلِمَ الْجَاعِل بِذَلِكَ
وَقْتَ التَّعَاقُدِ، أَمَّا إِنْ طَرَأَ لَهُ طَارِئٌ يُعْجِزُهُ عَنِ
الْعَمَل كَمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ وَنَحْوِهِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ
يُوَكِّل غَيْرَهُ فِي الْعَمَل.
وَأَمَّا الْعَامِل غَيْرُ الْمُعَيَّنِ مِمَّنْ سَمِعَ الإِْعْلاَنَ
الْعَامَّ بِالْجِعَالَةِ، فَيَجُوزُ لَهُ تَوْكِيل غَيْرِهِ فِي الْعَمَل
وَيَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا، وَلَمْ نَعْثُرْ لِغَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ
عَلَى شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَ
الْعَاقِدُ الْمُلْتَزِمُ بِالْجُعْل - فُضُولِيًّا (1) فَإِنَّهُ يَصِحُّ
__________
(1) الفضولي لغة: هو المشتغل بما لا يعنيه، نسبة إلى الفضول جمع فضل أي
الزيادة، واصطلاحا: من يتصرف في حق غيره بغير إذن شرعي.
(15/212)
الْتِزَامُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَجِبُ
الْجُعْل فِي مَالِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لأَِنَّهُ الْتَزَمَهُ. (1)
مَحَل الْعَقْدِ وَشَرَائِطُهُ:
أَنْوَاعُهُ:
10 - الأَْعْمَال الْمُتَعَاقَدُ عَلَيْهَا فِي عَقْدِ الْجِعَالَةِ - مِنْ
حَيْثُ الْمُرَادُ مِنْهَا نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يُرَادُ بِالتَّعَاقُدِ عَلَيْهِ اسْتِحْدَاثُ نَتِيجَةٍ
جَدِيدَةٍ، كَتَعْلِيمِ عِلْمٍ أَوْ حِرْفَةٍ أَوْ إِخْبَارٍ فِيهِ غَرَضٌ،
أَوْ حَجٍّ، أَوْ خِيَاطَةٍ، أَوْ دَلاَلَةٍ، أَوْ رُقْيَةِ مَرِيضٍ
بِدُعَاءٍ جَائِزٍ أَوْ تَمْرِيضِهِ أَوْ مُدَاوَاتِهِ حَتَّى الشِّفَاءِ
أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: مَا يُرَادُ بِالتَّعَاقُدِ عَلَيْهِ رَدُّهُ وَإِعَادَتُهُ
لِنَاشِدِهِ، كَرَدِّ مَالٍ ضَائِعٍ أَوْ ضَالَّةٍ، أَوْ آبِقٍ وَنَحْوِهِ.
أَمَّا مِنْ حَيْثُ مَا يَصِحُّ التَّعَاقُدُ عَلَيْهِ جِعَالَةً وَمَا لاَ
يَصِحُّ، فَقَال الشَّافِعِيَّةُ:
11 - أ - يَصِحُّ عَقْدُ الْجِعَالَةِ عَلَى كُل عَمَلٍ مَجْهُولٍ
يَتَعَذَّرُ ضَبْطُهُ وَوَصْفُهُ بِحَيْثُ لاَ تَصِحُّ الإِْجَارَةُ
عَلَيْهِ، كَرَدِّ ضَالَّةٍ مَثَلاً، لأَِنَّ الْجَهَالَةَ إِذَا
احْتُمِلَتْ فِي الْمُضَارَبَةِ تَوَصُّلاً إِلَى الرِّبْحِ الزَّائِدِ
__________
(1) تحفة المحتاج 2 / 366، 367، 394، وأسنى المطالب وحاشية الرملي عليه 2 /
439، 442، ونهاية المحتاج 4 / 342، 343، والخرشي 7 / 76، وكشاف القناع 2 /
418.
(15/213)
مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَاحْتِمَالُهَا
فِي الْجِعَالَةِ تَوَصُّلاً إِلَى أَصْل الْمَال اضْطِرَارًا أَوْلَى،
فَإِنْ كَانَ لاَ يَتَعَذَّرُ ضَبْطُهُ فَلاَ بُدَّ مِنْ ضَبْطِهِ
وَوَصْفِهِ، إِذْ لاَ حَاجَةَ لاِحْتِمَال جَهَالَتِهِ، فَفِي بِنَاءِ
حَائِطٍ مَثَلاً يَذْكُرُ مَوْضِعَهُ وَطُولَهُ وَعَرْضَهُ وَارْتِفَاعَهُ
وَمَا يُبْنَى بِهِ.
12 - ب - وَكَذَلِكَ يَصِحُّ عَقْدُ الْجِعَالَةِ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ
تَصِحُّ الإِْجَارَةُ عَلَيْهِ - كَقَوْل الْجَاعِل: " مَنْ رَدَّ
ضَالَّتِي مِنْ مَوْضِعِ كَذَا " أَوْ خِيَاطَةٍ مَوْصُوفَةٍ - عَلَى
الرَّاجِحِ لأَِنَّهَا إِذَا جَازَتْ. مَعَ جَهَالَةِ الْعَمَل فَمَعَ
مَعْلُومِيَّتِهِ أَوْلَى. وَبِمِثْل هَذَا كُلِّهِ قَال الْحَنَابِلَةُ،
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ: يَرَوْنَ عَدَمَ صِحَّةِ الْجِعَالَةِ
مُطْلَقًا عَلَى مُدَاوَاةِ الْمَرِيضِ حَتَّى الشِّفَاءِ لأَِنَّهُ
مَجْهُولٌ لاَ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْعَمَل الْمُجَاعَل عَلَيْهِ أَنْوَاعٌ:
13 - أ - فَبَعْضُهُ تَصِحُّ فِيهِ الْجِعَالَةُ وَالإِْجَارَةُ وَهُوَ
كَثِيرٌ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولاً، وَذَلِكَ كَأَنْ
يَتَعَاقَدَا عَلَى بَيْعِ سِلَعٍ قَلِيلَةٍ وَشِرَاءِ السِّلَعِ
الْقَلِيلَةِ وَالْكَثِيرَةِ، وَاقْتِضَاءِ الدُّيُونِ، وَحَفْرِ الْبِئْرِ
فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ لِلْعَامَّةِ؛ لأَِنَّهُمَا إِنْ تَعَاقَدَا عَلَى
مِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الأَْذْرُعِ كَانَ إِجَارَةً، وَإِنْ تَعَاقَدَا
عَلَى ظُهُورِ الْمَاءِ فِي الْبِئْرِ كَانَ جِعَالَةً.
14 - ب - وَبَعْضُهُ تَصِحُّ فِيهِ الْجِعَالَةُ دُونَ الإِْجَارَةِ،
وَذَلِكَ كَأَنْ يَتَعَاقَدَا عَلَى الإِْتْيَانِ بِالْبَعِيرِ الشَّارِدِ،
أَوِ الْعَبْدِ الآْبِقِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ كُل مَا يَكُونُ الْعَمَل
فِيهِ مَجْهُولاً، فَتُشْتَرَطُ الْجَهَالَةُ بِالْعَمَل هُنَا تَحْصِيلاً
لِمَصْلَحَةِ الْعَقْدِ؛ لأَِنَّ مَعْلُومِيَّتَهُ
(15/213)
لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لأَِحَدِهِمَا
تُوجِبُ الْغَرَرَ فِيهِ، كَأَنْ لاَ يَجِدَ الْبَعِيرَ الشَّارِدَ مَثَلاً
فِي الْمَكَانِ الْمَعْلُومِ الْمُتَعَاقَدِ عَلَى الإِْتْيَانِ بِهِ
مِنْهُ فَيَذْهَبُ عَمَلُهُ مَجَّانًا وَتَضِيعُ مَصْلَحَةُ الْعَقْدِ.
15 - ج - وَبَعْضُهُ تَصِحُّ فِيهِ الإِْجَارَةُ دُونَ الْجِعَالَةِ وَهُوَ
كَثِيرٌ أَيْضًا، كَأَنْ يَتَعَاقَدَا عَلَى عَمَلٍ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ
لِلْجَاعِل كَحَفْرِ بِئْرٍ مَثَلاً، وَكَذَا التَّعَاقُدُ عَلَى خِيَاطَةِ
ثَوْبٍ أَوْ خِدْمَةِ شَهْرٍ، أَوْ بَيْعِ سِلَعٍ كَثِيرَةٍ، وَمَا
أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَبْقَى لِلْجَاعِل فِيهِ مَنْفَعَةٌ إِنْ لَمْ
يُتِمَّ الْعَامِل الْعَمَل.
16 - أَمَّا مُشَارَطَةُ الطَّبِيبِ عَلَى الشِّفَاءِ مِنَ الْمَرَضِ،
وَالْمُعَلِّمِ عَلَى حِفْظِ الْقُرْآنِ مَثَلاً، وَكِرَاءُ السُّفُنِ،
فَقَال ابْنُ الْحَاجِبِ: إِنَّهَا تَصِحُّ إِجَارَةً وَتَصِحُّ جِعَالَةً،
وَزَادَ عَلَيْهَا ابْنُ شَاسٍ الْمُغَارَسَةَ، وَقَال ابْنُ عَبْدِ
السَّلاَمِ: إِنَّ هَذِهِ الْفُرُوعَ كُلَّهَا مِنَ الإِْجَارَةِ فَقَطْ
عَلَى الرَّاجِحِ فِي الْمَذْهَبِ، وَنَصَّ سَحْنُونٌ عَلَى أَنَّ الأَْصْل
فِي مُدَاوَاةِ الْمَرِيضِ الْجِعَالَةُ. (1)
__________
(1) تحفة المحتاج 2 / 367، 368، ونهاية المحتاج 4 / 339، ومغني المحتاج 2 /
492، 430، والأنوار 1 / 418، وحاشية العدوي على شرح أبي الحسن 2 / 163،
وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 4 / 63، 66، والخرشي وحاشية
العدوي عليه 7 / 70 - 74، والفروق 4 / 12، 13، والمقدمات 2 / 309، 310،
والمغني 6 / 351، 354، وكشاف القناع 2 / 417، 419.
(15/214)
الْمَشَقَّةُ فِي الْعَمَل:
17 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ فِي الْعَمَل
الْمُتَعَاقَدِ عَلَيْهِ فِي عَقْدِ الْجِعَالَةِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا
فِيهِ تَعَبٌ وَمَشَقَّةٌ أَوْ مُؤْنَةٌ، كَرَدِّ آبِقٍ، أَوْ ضَالَّةٍ،
أَوْ دَلاَلَةٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ مَنْ بِيَدِهِ الشَّيْءُ، أَوْ
إِخْبَارٍ عَنْ شَيْءٍ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَعَبٌ، وَأَنْ يَكُونَ
الْمُخْبِرُ صَادِقًا فِي إِخْبَارِهِ، وَأَنْ يَكُونَ لِلْمُسْتَخْبِرِ
غَرَضٌ فِي الْمُخْبَرِ بِهِ.
وَقَيَّدَ الأَْذْرَعِيُّ هَذَا: بِمَا إِذَا كَانَتِ الْمَشَقَّةُ
حَادِثَةً بَعْدَ عَقْدِ الْجِعَالَةِ، فَإِنْ كَانَتْ قَبْلَهُ فَلاَ
عِبْرَةَ بِهَا لأَِنَّهَا مَحْضُ تَبَرُّعٍ حِينَئِذٍ.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ، بَل اتَّفَقُوا عَلَى
جَوَازِ الْجِعَالَةِ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ، وَاخْتَلَفُوا فِي
غَيْرِهِ، قَال الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَغَيْرُهُ: إِنَّهَا تَجُوزُ
فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ دُونَ غَيْرِهِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّهَا تَجُوزُ
فِي كُل مَا لاَ يَكُونُ لِلْجَاعِل فِيهِ مَنْفَعَةٌ إِلاَّ بِتَمَامِهِ
سَوَاءٌ أَكَانَ يَسِيرًا أَمْ غَيْرَ يَسِيرٍ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. (1)
كَوْنُ الْعَمَل مُبَاحًا غَيْرَ وَاجِبٍ عَلَى الْعَامِل:
18 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِي الْعَمَل أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا
غَيْرَ وَاجِبٍ عَلَى الْعَامِل أَدَاؤُهُ فَلاَ يَصِحُّ
__________
(1) تحفة المحتاج 2 / 367، والأنوار 1 / 418، وأسنى المطالب 2 / 441،
ونهاية المحتاج 4 / 344، والمقدمات 2 / 308، 309، وحاشية العدوي على شرح
أبي الحسن 2 / 162، وكشاف القناع 2 / 417.
(15/214)
عَقْدُ الْجِعَالَةِ عَلَى عَمَلٍ غَيْرِ
مُبَاحٍ كَغِنَاءٍ، وَرَقْصٍ، وَعَمَل خَمْرٍ، وَنَحْوِهِ كَمَا لاَ
يَصِحُّ الْعَقْدُ أَيْضًا إِذَا كَانَ الْعَمَل الْمَطْلُوبُ أَدَاؤُهُ
بِالْعَقْدِ وَاجِبًا عَلَى الْعَامِل وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَشَقَّةٌ،
نَحْوُ: رَدُّ الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ الْعَيْنَ الْمَغْصُوبَةَ
وَالْمَسْرُوقَةَ لِصَاحِبِهَا بَعْدَ أَنْ سَمِعَ إِعْلاَنَهُ الْجُعْل
عَلَى ذَلِكَ لأَِنَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ شَرْعًا لاَ يُمْكِنُ أَنْ
يُقَابَل بِعِوَضٍ.
وَلاَ يَشْمَل هَذَا مَا يَجِبُ عَلَى الْعَامِل بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ،
كَتَخْلِيصٍ مِنْ نَحْوِ: حَبْسٍ وَقَضَاءِ حَاجَةٍ وَدَفْعِ ظَالِمٍ،
فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ
فِيهِ مَشَقَّةٌ تُقَابَل بِأُجْرَةٍ.
وَكَذَلِكَ لاَ يَشْمَل هَذَا مَا لَوْ رَدَّ الشَّيْءَ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ
أَمَانَةً نَحْوُ: أَنْ يَرُدَّ شَخْصٌ دَابَّةً دَخَلَتْ دَارِهِ
لِصَاحِبِهَا بَعْدَ أَنَّ جَاعَل عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ
الْعِوَضَ بِالرَّدِّ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ التَّخْلِيَةُ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَاحِبِهَا، أَمَّا رَدُّهَا فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ.
وَبِمِثْل هَذَا الشَّرْطِ أَيْضًا قَال الْمَالِكِيَّةُ.
وَبِهِ أَيْضًا قَال الْحَنَابِلَةُ إِلاَّ أَنَّهُمْ قَسَمُوا الْعَمَل
الْوَاجِبَ عَلَى الْعَامِل إِلَى قِسْمَيْنِ:
(الأَْوَّل) مَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَلاَ يَنْتَفِعُ بِهِ سِوَاهُ
كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ، فَهَذَا لاَ تَصِحُّ الْجِعَالَةُ عَلَيْهِ.
(الثَّانِي) مَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ كَالأَْذَانِ
وَنَحْوِهِ مِنْ حَجٍّ، وَتَعْلِيمِ عِلْمٍ، وَقُرْآنٍ، وَقَضَاءٍ
وَإِفْتَاءٍ، فَهَذَا تَصِحُّ الْجِعَالَةُ عَلَيْهِ عَلَى الرَّاجِحِ.
(15/215)
وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا: مَا
إِذَا كَانَ الْعَمَل رَدَّ آبِقٍ، فَإِنَّ الرَّادَّ لَهُ يَسْتَحِقُّ
الْجُعْل وَلَوْ كَانَ الرَّدُّ وَاجِبًا عَلَيْهِ سِوَى الإِْمَامِ كَمَا
سَيَأْتِي. (1)
تَأْقِيتُ الْعَمَل:
19 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ
الْجِعَالَةِ عَدَمُ تَأْقِيتِ الْعَمَل بِوَقْتٍ مُحَدَّدٍ، فَلَوْ قَال
الْجَاعِل مَثَلاً: مَنْ رَدَّ ضَالَّتِي إِلَى نِهَايَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ
فَلَهُ دِينَارٌ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ؛ لأَِنَّ تَقْدِيرَ الْمُدَّةِ
يُخِل بِمَقْصُودِ الْعَقْدِ فَقَدْ لاَ يَجِدُ الْعَامِل الضَّالَّةَ
خِلاَل الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ فَيَضِيعُ سَعْيُهُ وَلاَ يَحْصُل
الْغَرَضُ، وَسَوَاءٌ أَضَافَ إِلَى كَلاَمِهِ هَذَا مِنْ مَحَل كَذَا أَمْ
لاَ؛ لأَِنَّهُ قَدْ لاَ يَجِدُهُ فِيهِ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: إِنَّ تَأْقِيتِ الْعَمَل يُفْسِدُ
الْعَقْدَ فِي حَالَةِ مَا إِذَا لَمْ يَشْتَرِطِ الْعَامِل أَنَّ لَهُ
أَنْ يَتْرُكَ الْعَمَل مَتَى شَاءَ، وَيَكُونُ لَهُ مِنَ الْعِوَضِ
بِحِسَابِ مَا عَمِل، لأَِنَّ الْعَامِل دَخَل فِي الْعَقْدِ عَلَى أَنْ
يُتِمَّ الْعَمَل، وَإِنْ كَانَ لَهُ التَّرْكُ مَتَى شَاءَ
__________
(1) نهاية المحتاج وحاشية الشبرامسلي عليه 4 / 344، وتحفة المحتاج 2 / 367،
وحاشية البجيرمي على الخطيب 3 / 173، وحاشية البجيرمي على المنهج 3 / 218،
219، وحاشية القليوبي على شرح المحلي 3 / 131، والمقدمات 2 / 310، وحاشية
العدوي على شرح أبي الحسن 2 / 163، وحاشية العدوي على الخرشي 7 / 74، وكشاف
القناع وشرح المنتهى 2 / 418، 419، 446.
(15/215)
لِعَدَمِ لُزُومِ الْعَقْدِ - فَحِينَئِذٍ
يَكُونُ غَرَرُهُ قَوِيًّا.
أَمَّا إِنْ شَرَطَ الْعَامِل ذَلِكَ، أَوِ اشْتُرِطَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ
يَجُوزُ تَأْقِيتُ الْعَمَل فِي الْعَقْدِ حِينَئِذٍ، وَيَكُونُ صَحِيحًا
لأَِنَّ الْعَامِل دَخَل فِي الْعَقْدِ ابْتِدَاءً عَلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ
فَغَرَرُهُ حِينَئِذٍ خَفِيفٌ.
وَكَذَلِكَ يَجُوزُ تَأْقِيتُ الْعَمَل وَيَصِحُّ الْعَقْدُ إِذَا جَعَل
لِلْعَامِل الْجُعْل بِتَمَامِ الزَّمَنِ الْمُحَدَّدِ فِي الْعَقْدِ
سَوَاءٌ أَتَمَّ الْعَمَل أَمْ لاَ، إِلاَّ أَنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ قَدْ
خَرَجَ حِينَئِذٍ مِنَ الْجِعَالَةِ إِلَى الإِْجَارَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ عَقْدُ الْجِعَالَةِ وَإِنْ كَانَ الْعَمَل
فِيهَا مُؤَقَّتًا بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، لأَِنَّ الْمُدَّةَ إِذَا
جَازَتْ فِي هَذَا الْعَقْدِ مَجْهُولَةٌ فَمَعَ تَقْدِيرِهَا،
وَمَعْلُومِيَّتُهَا أَوْلَى (1) .
تَضَمُّنُ الْعَمَل نَفْعًا لِلْجَاعِل:
20 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لِلْجَاعِل فِي الْعَمَل الْمُجَاعَل عَلَيْهِ
غَرَضٌ وَمَنْفَعَةٌ تَعُودُ عَلَيْهِ بِتَحَقُّقِهِ، فَلَوْ قَال: مَنْ
أَخْبَرَنِي بِكَذَا فَلَهُ دِينَارٌ، صَحَّ الْعَقْدُ بِالشَّرَائِطِ
السَّابِقَةِ.
وَلَوْ جَاعَل شَخْصٌ شَخْصًا آخَرَ عَلَى أَنْ
__________
(1) الأنوار 1 / 418، وأسنى المطالب 2 / 441، وحاشية الدسوقي على الشرح
الكبير للدردير 4 / 66، والخرشي وحاشية العدوي عليه 7 / 74، والمقدمات 2 /
305، 307، وشرح المنتهى بهامش كشاف القناع 2 / 443.
(15/216)
يَصْعَدَ هَذَا الْجَبَل، وَيَنْزِل مِنْهُ
مَثَلاً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْجَاعِل فِيهِ مَنْفَعَةٌ بِإِتْيَانِ
حَاجَةٍ مِنْهُ لاَ يَصِحُّ الْعَقْدُ.
كَمَا يُشْتَرَطُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْعَمَل لاَ
مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلْجَاعِل إِلاَّ بِتَمَامِهِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَل فِي الْجِعَالَةِ
لِلْجَاعِل، فَلَوْ قَال شَخْصٌ: مَنْ رَكِبَ دَابَّتِي مَثَلاً فَلَهُ
كَذَا لاَ يَصِحُّ الْعَقْدُ؛ لِئَلاَّ يَجْتَمِعَ لِلْعَامِل الأَْمْرَانِ
النَّفْعُ وَالْعِوَضُ. وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُنَادِيَ
غَيْرُ رَبِّ الضَّالَّةِ: مَنْ رَدَّ ضَالَّةَ فُلاَنٍ فَلَهُ كَذَا
فَيَصِحُّ الْعَقْدُ، فَإِنْ رُدَّتْ يَكُونُ الْعِوَضُ عَلَى الْمُنَادِي
لأَِنَّهُ ضَمِنَهَا (1) .
الْجُعْل وَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ:
مَعْلُومِيَّتُهُ:
21 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ
لِصِحَّةِ عَقْدِ الْجِعَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْجُعْل مَالاً مَعْلُومًا
جِنْسًا وَقَدْرًا؛ لأَِنَّ جَهَالَةَ الْعِوَضِ تُفَوِّتُ الْمَقْصُودَ
مِنْ عَقْدِ الْجِعَالَةِ، إِذْ لاَ يَكَادُ أَحَدٌ يَرْغَبُ فِي الْعَمَل
مَعَ جَهْلِهِ بِالْجُعْل، هَذَا فَضْلاً عَنْ أَنَّهُ لاَ حَاجَةَ
لِجَهَالَتِهِ فِي الْعَقْدِ، بِخِلاَفِ الْعَمَل وَالْعَامِل حَيْثُ
تُغْتَفَرُ جَهَالَتُهُمَا لِلْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ.
وَمَعْلُومِيَّةُ الْجُعْل تَحْصُل بِمُشَاهَدَتِهِ أَوْ وَصْفِهِ
__________
(1) شرح المنتهى 2 / 470 ط السنة المحمدية.
(15/216)
إِنْ كَانَ عَيْنًا، وَبِوَصْفِهِ إِنْ
كَانَ دَيْنًا. إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: لَوْ كَانَ الْجُعْل
عَيْنًا مُعَيَّنَةً - ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً مَضْرُوبًا عَلَيْهَا -
فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ جُعْلاً، وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ
صَحِيحًا، فَلِلْجَاعِل الاِنْتِفَاعُ بِهَا، وَيَغْرَمُ مِثْلَهَا إِذَا
أَتَمَّ الْعَامِل الْعَمَل، وَإِنْ كَانَ الْجُعْل مِثْلِيًّا، أَوْ
مَوْزُونًا لاَ يُخْشَى تَغَيُّرُهُ خِلاَل فَتْرَةِ الْعَمَل الْمُجَاعَل
عَلَيْهِ، أَوْ ثَوْبًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَالْجُعْل، فَإِنْ
كَانَ يُخْشَى تَغَيُّرُهُ، أَوْ كَانَ حَيَوَانًا، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ
أَنْ يَكُونَ جُعْلاً، وَالْعَقْدُ فَاسِدٌ عَلَى الرَّاجِحِ؛ لأَِنَّ
الأَْصْل فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ الْفَسَادُ.
مَا لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْمَعْلُومِيَّةُ:
22 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَثْنَى مِنِ اشْتِرَاطِ الْمَعْلُومِيَّةِ
فِي الْجُعْل حَالَتَانِ:
الأُْولَى: مَا لَوْ جَعَل الإِْمَامُ أَوْ قَائِدُ الْجَيْشِ لِمَنْ يَدُل
عَلَى فَتْحِ قَلْعَةٍ لِلْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ جُعْلاً مِنْهَا
كَفَرَسٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ مَعَ جَهَالَةِ الْعِوَضِ
لِلْحَاجَةِ إِلَى مِثْل ذَلِكَ وَقْتَ الْحَرْبِ.
الثَّانِيَةُ: مَا لَوْ قَال شَخْصٌ لآِخَرَ: حُجَّ عَنِّي بِنَفَقَتِكَ،
فَإِنَّهُ يَجُوزُ مَعَ جَهَالَةِ النَّفَقَةِ، وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ:
هِيَ جِعَالَةٌ فَاسِدَةٌ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُحْتَمَل أَنْ تَجُوزَ الْجِعَالَةُ مَعَ
جَهَالَةِ الْجُعْل إِذَا كَانَتِ الْجَهَالَةُ لاَ تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ،
نَحْوُ أَنْ يَقُول الْجَاعِل: مَنْ رَدَّ ضَالَّتِي فَلَهُ ثُلُثُهَا،
أَوْ قَال الْقَائِدُ لِلْجَيْشِ فِي الْغَزْوِ: مَنْ جَاءَ بِعَشَرَةِ
(15/217)
رُءُوسٍ فَلَهُ رَأْسٌ، أَوْ جَعَل جُعْلاً
لِمَنْ يَدُلُّهُ عَلَى قَلْعَةٍ أَوْ طَرِيقٍ سَهْلٍ مَثَلاً، وَكَانَ
الْجُعْل مِنْ مَال الأَْعْدَاءِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولاً
كَفَرَسٍ يُعَيِّنُهَا الْعَامِل.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدِ اسْتَثْنَوْا حَالاَتٍ أُخْرَى:
الأُْولَى: أَنْ يُجَاعِل غَيْرَهُ عَلَى أَنْ يَغْرِسَ لَهُ أُصُولاً
حَتَّى تَبْلُغَ حَدًّا مُعَيَّنًا فَتَكُونُ هِيَ (أَيِ الزِّيَادَةُ)
وَالأَْصْل بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يُجَاعِلَهُ عَلَى تَحْصِيل الدَّيْنِ بِجُزْءٍ (أَيْ
مَعْلُومٍ كَثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ مِمَّا يُحَصِّلُهُ) ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ
عَلَى الأَْظْهَرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَرْوِيُّ عَنْ
مَالِكٍ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يُجَاعِلَهُ عَلَى حَصَادِ الزَّرْعِ، أَوْ جَذِّ
النَّخْل عَلَى جُزْءٍ مِنْهُ يُسَمِّيهِ، فَإِنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي
جَوَازِ الْمُجَاعَلَةِ فِيهِ عَلَى هَذَا؛ لأَِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ
وَاحِدًا مِنْهُمَا. (1)
اشْتِرَاطُ كَوْنِ الْجُعْل حَلاَلاً، وَمَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ:
23 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ
فِي الْجُعْل أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا، مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ،
مَمْلُوكًا لِلْجَاعِل، فَمَا كَانَ مِنْهُ نَجِسًا، أَوْ
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 345، وحاشية البجيرمي على الخطيب 3 / 173، وأسنى
المطالب 2 / 441، ومغني المحتاج 2 / 431، وحاشيتي قليوبي وعميرة على شرح
المحلي 3 / 131، والخرشي وحاشية العدوي عليه 7 / 76، والمقدمات 2 / 305،
والحطاب والتاج والإكليل بهامشه 5 / 452، والمغني 6 / 351.
(15/217)
غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ
لأَِيِّ سَبَبٍ كَانَ، أَوْ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لِلْجَاعِل يُفْسِدُ
الْعَقْدَ. (1)
تَعْجِيل الْجُعْل قَبْل تَمَامِ الْعَمَل:
24 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ
الْجِعَالَةِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ تَعْجِيل الْجُعْل، فَلَوْ شَرَطَ
تَعْجِيلَهُ قَبْل الْعَمَل فَسَدَ الْعَقْدُ بِهَذَا الشَّرْطِ، فَإِنْ
سَلَّمَهُ الْجَاعِل لِلْعَامِل بِلاَ شَرْطٍ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ
يَتَصَرَّفَ فِيهِ قَبْل الْفَرَاغِ مِنَ الْعَمَل عَلَى الرَّاجِحِ؛
لأَِنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّهُ وَلاَ يَمْلِكُهُ إِلاَّ بَعْدَ تَمَامِ
الْعَمَل.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَسَوَاءٌ أَحَصَل نَقْدٌ وَتَسْلِيمٌ لِلْجُعْل
بِالْفِعْل أَمْ لاَ، وَذَلِكَ لِدَوَرَانِ الْجُعْل بَيْنَ الْمُعَاوَضَةِ
- إِنْ وَجَدَ الْعَامِل الضَّالَّةَ مَثَلاً وَأَوْصَلَهَا إِلَى
الْجَاعِل - وَبَيْنَ الْقَرْضِ إِنْ لَمْ يُوصِلْهَا لَهُ بِأَنْ لَمْ
يَجِدْهَا أَصْلاً، أَوْ وَجَدَهَا وَأَفْلَتَتْ مِنْهُ فِي الطَّرِيقِ،
وَالدَّوَرَانُ بَيْنَهُمَا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا؛ لأَِنَّهُ قَرْضٌ
جَرَّ نَفْعًا احْتِمَالاً، وَأَمَّا النَّقْدُ وَالتَّسْلِيمُ لِلْجُعْل
تَطَوُّعًا بِغَيْرِ شَرْطٍ فَيَجُوزُ، وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، إِذْ لاَ
مَحْذُورَ فِيهِ. (2)
__________
(1) حاشية البجيرمي على شرح الطلاب 3 / 219، ونهاية المحتاج 4 / 345،
وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 4 / 63، والمغني 6 / 35.
(2) حاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب 3 / 218، وتحفة المحتاج 2 / 366،
والخرشي 7 / 73، وحاشية العدوي على شرح أبي الحسن 2 / 163، وحاشية الصاوي
على الشرح الصغير 2 / 256.
(15/218)
آثَارُ عَقْدِ الْجِعَالَةِ:
لُزُومُ عَقْدِ الْجِعَالَةِ بَعْدَ تَمَامِ الْعَمَل:
25 - اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالْجِعَالَةِ عَلَى أَنَّ عَقْدَ
الْجِعَالَةِ بَعْدَ تَمَامِ الْعَمَل يُصْبِحُ لاَزِمًا لأَِنَّهُ لاَ
أَثَرَ يَتَرَتَّبُ عَلَى رُجُوعِ الْجَاعِل عَنِ الْعَقْدِ، أَوْ تَرْكِ
الْعَامِل الْعَمَل حِينَئِذٍ؛ لأَِنَّ الْجُعْل قَدْ لَزِمَ وَاسْتَقَرَّ
عَلَى الْجَاعِل. (1)
صِفَةُ يَدِ الْعَامِل عَلَى مَال الْجَاعِل:
26 - اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالْجِعَالَةِ عَلَى أَنَّ يَدَ الْعَامِل
عَلَى مَا وَقَعَ فِي يَدِهِ مِنْ مَال الْجَاعِل إِلَى أَنْ يَرُدَّهُ -
إِذَا كَانَتِ الْجِعَالَةُ عَلَى رَدِّهِ - يَدَ أَمَانَةٍ لاَ ضَمَانٍ،
فَإِنْ رَفَعَ يَدَهُ عَنْهُ وَخَلاَّهُ رَغْمًا عَنْهُ، أَوْ بِلاَ
تَقْصِيرٍ وَتَفْرِيطٍ، كَأَنْ تَرَكَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَتَلِفَ أَوْ
هَرَبَ لَمْ يَضْمَنْهُ. أَمَّا إِنْ رَفَعَ يَدَهُ عَنْهُ وَخَلاَّهُ
بِتَفْرِيطٍ أَوْ تَقْصِيرٍ فِي حِفْظِهِ، كَأَنْ تَرَكَهُ فِي مَكَانٍ
يَضِيعُ فِيهِ غَالِبًا أَوْ يَتْلَفُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ، وَيُعْتَبَرُ
مِنَ التَّفْرِيطِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ أَنْ يَسْتَعْمِل الْعَامِل
الْمَال فِي عَمَلٍ خَاصٍّ بِهِ كَرُكُوبِ الدَّابَّةِ مَثَلاً، فَإِنْ
رَكِبَهَا ضَمِنَهَا إِنْ هَلَكَتْ. (2)
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 348، وأسنى المطالب 2 / 442، والخرشي 7 / 76، وحاشية
الصاوي على الشرح الصغير 2 / 257، والمغني 6 / 351، وكشاف القناع 2 / 417.
(2) نهاية المحتاج 4 / 350، وأسنى المطالب وحاشية الرملي عليه 2 / 442،
وحاشية البجيرمي على الخطيب 3 / 175، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 /
63، وحاشية العدوي على الخرشي 7 / 71، وكشاف القناع 2 / 420.
(15/218)
النَّفَقَةُ عَلَى الْمَال وَهُوَ فِي يَدِ
الْعَامِل:
27 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الْعَامِل خِلاَل
فَتْرَةِ وُجُودِ الْمَال الْمُجَاعَل عَلَيْهِ وَلَوِ اسْتَغْرَقَتِ
الْجُعْل كُلَّهُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْعَامِل مُعْتَادًا طَلَبَ
الضَّوَال وَرَدَّهَا لأَِصْحَابِهَا بِعِوَضٍ، سَوَاءٌ أَوَجَبَ لَهُ
جُعْل الْمِثْل أَمِ الْجُعْل الْمُسَمَّى، وَلَكِنْ يُمْكِنُهُ إِذَا
كَانَ الْمَال فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ، وَنَفَقَتُهُ تَسْتَغْرِقُ الْجُعْل
أَنْ يَرْفَعَ الأَْمْرَ إِلَى قَاضِي هَذَا الْبَلَدِ لِيَبِيعَ الْمَال
وَيَحْكُمَ لَهُ بِجُعْلِهِ، أَمَّا إِنْ جَاءَ بِهِ فَلَيْسَ لَهُ غَيْرُ
الْجُعْل الَّذِي جُعِل لَهُ، أَوْ جُعِل مِثْلُهُ، أَمَّا إِنْ كَانَ
الْعَامِل لَيْسَ مِنْ عَادَتِهِ طَلَبُ الضَّوَال وَالإِْبَاقِ، وَلَمْ
يَحْدُثِ الْتِزَامٌ بِالْجُعْل مِنَ الْمَالِكِ، أَوْ كَانَ وَلَمْ
يَعْلَمْ بِهِ هَذَا الْعَامِل، فَإِنَّهُ تَجِبُ لَهُ النَّفَقَةُ فَقَطْ
وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْمَالِكِ.
وَقَال ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لاَ شَيْءَ لَهُ مِنْ نَفَقَةٍ وَلاَ جُعْلٍ.
28 - وَالْمُرَادُ بِالنَّفَقَةِ الَّتِي يَرْجِعُ بِهَا الْعَامِل عَلَى
الْمَالِكِ عِنْدَ اللَّقَانِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: مَا أَنْفَقَهُ
الْعَامِل عَلَى الضَّالَّةِ أَوِ الآْبِقِ مَثَلاً مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ
وَلِبَاسٍ احْتَاجَ لَهُ فِي خِلاَل فَتْرَةِ رَدِّهِ. أَمَّا مَا
أَنْفَقَهُ الْعَامِل عَلَى نَفْسِهِ وَدَابَّتِهِ مَثَلاً فِي خِلاَل
فَتْرَةِ تَحْصِيلِهِ، وَرَدِّهِ فَهَذِهِ عَلَى الْعَامِل لاَ يَرْجِعُ
بِهَا عَلَى الْمَالِكِ.
وَخَالَفَهُ الأَُجْهُورِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَال: إِنَّ
(15/219)
النَّفَقَةَ الْمُرَادَةَ هُنَا، هِيَ مَا
أَنْفَقَهُ الْعَامِل عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الضَّالَّةِ مَثَلاً مِنْ
أُجْرَةِ مَرْكَبٍ أَوْ دَابَّةٍ اضْطُرَّ لَهَا، بِحَيْثُ لَمْ يَكُنِ
الْحَامِل عَلَى صَرْفِ هَذِهِ الأَْمْوَال إِلاَّ تَحْصِيلَهَا وَرَدَّهَا
لِمَالِكِهَا.
وَأَمَّا مَا أَنْفَقَهُ عَلَيْهَا مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَنَحْوِهِمَا
فَعَلَى الْمَالِكِ عَلَى كُل حَالٍ، يَرْجِعُ بِهِ الْعَامِل عَلَيْهِ،
سَوَاءٌ أَكَانَ لِلْعَامِل الْجُعْل الْمُسَمَّى أَمْ جُعْل الْمِثْل أَمْ
نَفَقَةُ التَّحْصِيل وَالْبَحْثِ، وَأَمَّا مَا شَأْنُهُ أَنْ يُنْفِقَهُ
الْعَامِل عَلَى نَفْسِهِ فِي الْحَضَرِ كَالأَْكْل وَالشُّرْبِ فَلاَ
يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمَالِكِ. وَمَا قَالَهُ اللَّقَانِيُّ هُوَ
الرَّاجِحُ.
29 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْمَال يَحْتَاجُ إِلَى نَفَقَةٍ
لِصِيَانَتِهِ وَبَقَائِهِ وَرَدِّهِ فَنَفَقَتُهُ - مِنْ حِينِ وَضْعِ
يَدِ الْعَامِل عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَرُدَّهُ - عَلَى مَالِكِهِ لاَ عَلَى
الْعَامِل، فَإِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ الْعَامِل خِلاَل هَذِهِ الْفَتْرَةِ
بِدُونِ إِذْنِ الْمَالِكِ، أَوِ الْقَاضِي، أَوْ بِدُونِ أَنْ يُشْهِدَ
عَلَى ذَلِكَ شُهُودًا، بِأَنْ كَانَ فِي مَكَانٍ لاَ يُوجَدُ فِيهِ قَاضٍ
أَوْ لِتَعَذُّرِ الإِْشْهَادِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا
بِإِنْفَاقِهِ هَذَا، وَلاَ يَكُونُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِمَا
أَنْفَقَهُ عَلَى مَالِكِ الْمَال وَلَوْ قَصَدَ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ،
أَمَّا إِنْ تَحَقَّقَ مِنَ الْعَامِل أَحَدُ هَذِهِ الأُْمُورِ فَلَهُ
أَنْ يَرْجِعَ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الْمَالِكِ وَيُقْضَى لَهُ بِهَا.
وَلَوْ تَعَذَّرَ عَلَى الْعَامِل رَدُّ الضَّالَّةِ أَوِ الآْبِقِ إِلاَّ
بِبَيْعِ بَعْضِهِ وَالإِْنْفَاقِ عَلَيْهِ مِنْ ثَمَنِهِ، لَمْ يَجُزْ
لَهُ ذَلِكَ.
وَبِوُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الْمَالِكِ أَيْضًا قَال
(15/219)
الْحَنَابِلَةُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ
خَالَفُوا الشَّافِعِيَّةَ فِي أَنَّ لِلْعَامِل أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى
الْمَالِكِ إِنْ كَانَ حَيًّا، أَوْ يَأْخُذَهَا مِنْ تَرِكَتِهِ إِنْ
كَانَ قَدْ مَاتَ وَلَوْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُ فِي الإِْنْقَاقِ مَعَ
الْقُدْرَةِ عَلَى الاِسْتِئْذَانِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَامِل يَسْتَحِقُّ
جُعْلاً أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَال بِيَدِ الْعَامِل وَسَلَّمَهُ
لِلْمَالِكِ أَمْ لاَ، حَتَّى لَوْ هَرَبَتِ الضَّالَّةُ مَثَلاً مِنْهُ،
أَوْ مَاتَتْ فِي الطَّرِيقِ فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمَالِكِ بِمَا
أَنْفَقَ عَلَيْهَا قَبْل هَرَبِهَا أَوْ مَوْتِهَا؛ لأَِنَّ الإِْنْفَاقَ
مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا لِحُرْمَةِ النَّفْسِ، وَحَثًّا عَلَى صِيَانَةِ
الضَّالَّةِ لِمَالِكِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَنْفَقَ الْعَامِل عَلَى
الضَّالَّةِ بِإِذْنِ مَالِكِهَا.
وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يَنْوِ الْعَامِل التَّبَرُّعَ بِالنَّفَقَةِ،
فَإِنْ كَانَ نَاوِيًا التَّبَرُّعَ بِهَا فَلاَ يَرْجِعُ عَلَى الْمَالِكِ
بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلاَ يَجُوزُ لِلْعَامِل اسْتِخْدَامُ الضَّالَّةِ أَوِ
الآْبِقِ بِنَفَقَتِهِ كَالْمَرْهُونِ (1) .
حَبْسُ الْمَال الْمَرْدُودِ عَنِ الْجَاعِل لاِسْتِيفَاءِ النَّفَقَةِ:
30 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ مِنْ حَقِّ الْعَامِل أَنْ يَحْبِسَ
الْمَال الْمُتَعَاقَدَ عَلَى رَدِّهِ عَنِ الْجَاعِل لاِسْتِيفَاءِ مَا
أَنْفَقَهُ عَلَيْهِ حَتَّى وَلَوْ كَانَ الإِْنْفَاقُ عَلَيْهِ بِإِذْنِ
الْجَاعِل، أَوِ الْمَالِكِ، أَوِ الْقَاضِي، أَوْ
__________
(1) أسنى المطالب وحاشية الرملي عليه 2 / 442، 443، وحاشية البجيرمي على
منهج الطلاب 3 / 222، وحاشية البجيرمي على الخطيب 3 / 176، ومنح الجليل 4 /
11، والخرشي العدوي عليه 7 / 75، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير
4 / 67، وكشاف القناع وشرح المنتهى بهامشه 2 / 420، 447.
(15/220)
بِالإِْشْهَادِ، أَوْ لِتَعَذُّرِ
الإِْذْنِ مِنْهُمْ، (1) وَلَمْ نَعْثُرْ لِغَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى
شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. أَمَّا الْحَبْسُ عَنِ الْجَاعِل
لاِسْتِيفَاءِ الْجُعْل فَسَيَأْتِي.
اسْتِحْقَاقُ الْجُعْل وَشَرَائِطُهُ:
الإِْذْنُ فِي الْعَمَل بِجُعْلٍ:
31 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَسْتَحِقُّ الْعَامِل الْجُعْل إِلاَّ
إِذَا كَانَ هُنَاكَ إِذْنٌ بِالْعَمَل مُشْتَمِلٌ عَلَى جُعْلٍ يُقَابِل
ذَلِكَ الْعَمَل، فَإِنْ أَذِنَ الْجَاعِل لِلْعَامِل وَشَرَطَ لَهُ
الْجُعْل اسْتَحَقَّ الْعَامِل الْجُعْل الْمُسَمَّى لأَِنَّهُ اسْتَهْلَكَ
مَنْفَعَةً بِعِوَضٍ فَاسْتَحَقَّ الْعِوَضَ كَالأَْجِيرِ، أَمَّا إِذَا
عَمِل الْعَامِل عَمَلاً مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ، كَأَنْ وَجَدَ آبِقًا أَوْ
ضَالَّةً فَرَدَّهَا إِلَى صَاحِبِهَا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْجُعْل، وَإِنْ
كَانَ مَعْرُوفًا بِرَدِّ الإِْبَاقِ أَوِ الضَّوَال بِعِوَضٍ؛ لِعَدَمِ
الاِلْتِزَامِ لَهُ بِشَيْءٍ فَوَقَعَ عَمَلُهُ تَبَرُّعًا.
وَبِمِثْل هَذَا قَال الْحَنَابِلَةُ إِلاَّ فِي حَالَتَيْنِ:
الأُْولَى مِنْهُمَا - مَا إِذَا كَانَ الْمَرْدُودُ عَبْدًا آبِقًا،
وَكَانَ الْمُرَادُ لَهُ غَيْرَ السُّلْطَانِ وَمَنْ يُنِيبُهُ، فَإِنَّ
الْعَامِل فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَسْتَحِقُّ مَا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ
جُعْلاً لِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِذْنٌ وَلاَ جُعْلٌ وَهُوَ
أَيْضًا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي رَدِّ الآْبِقِ كَمَا سَيَأْتِي
__________
(1) نفس المراجع السابقة للشافعية.
(15/220)
وَيَسْتَحِقُّهُ الْعَامِل سَوَاءٌ أَكَانَ
مَعْرُوفًا بِرَدِّ الإِْبَاقِ بِعِوَضٍ أَمْ لَمْ يَكُنْ. وَسَوَاءٌ
أَكَانَ الرَّدُّ وَاجِبًا عَلَيْهِ - كَزَوْجٍ لِلْعَبْدِ أَوْ ذِي رَحِمٍ
يَعُولُهُ الْمَالِكُ - أَمْ لاَ، وَذَلِكَ لِلْحَثِّ عَلَى حِفْظِهِ
وَصِيَانَتِهِ عَمَّا يَخَافُ مِنْهُ مِنْ لَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ،
وَالسَّعْيِ فِي الأَْرْضِ بِالْفَسَادِ، بِخِلاَفِ غَيْرِهِ مِنَ
الْحَيَوَانَاتِ وَالأَْمْوَال، أَمَّا إِنْ رَدَّهُ السُّلْطَانُ أَوْ
مَنْ يُنِيبُهُ فَلاَ شَيْءَ لَهُ فِي رَدِّهِ؛ لأَِنَّهُ مُنَصَّبٌ
لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَيَأْخُذُ رِزْقًا مِنْ بَيْتِ الْمَال
لِلْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا.
وَالثَّانِيَةُ - مَا إِذَا كَانَ الْعَمَل فِيهِ إِنْقَاذُ وَتَخْلِيصُ
مَال الْغَيْرِ مِمَّا يَظُنُّ هَلاَكَهُ لَوْ تُرِكَ، فَإِنَّ لِلْعَامِل
فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ وَلَوْ بِدُونِ إِذْنٍ وَلاَ
جُعْلٍ مِنَ الْمَالِكِ، وَذَلِكَ لِلْحَثِّ وَالتَّرْغِيبِ فِي إِنْقَاذِ
الأَْمْوَال مِنَ الْهَلاَكِ (1) .
32 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْعَامِل مَعْرُوفًا بِطَلَبِ
الضَّوَال وَغَيْرِهَا مِنَ الأَْمْوَال الضَّائِعَةِ، وَرَدِّهَا بِعِوَضٍ
فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ جُعْل مِثْلِهِ، وَلاَ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا - كَمَا
هُوَ الْحُكْمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ سَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبُ
الضَّالَّةِ يَتَوَلَّى الإِْتْيَانَ بِهَا بِنَفْسِهِ أَوْ بِخَدَمِهِ
أَمْ لاَ. . . وَلِصَاحِبِ الضَّالَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ
يَتْرُكَهَا لِلْعَامِل عِوَضًا عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ جُعْل الْمِثْل،
سَوَاءٌ أَكَانَتْ قِيمَتُهَا تُسَاوِي جُعْل الْمِثْل أَمْ أَقَل أَمْ
أَكْثَرَ، وَلَيْسَ مِنْ حَقِّ الْعَامِل أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَى هَذَا،
وَيَتَمَسَّكَ بِجُعْل الْمِثْل، وَإِنْ
__________
(1) كشاف القناع 4 / 206 ط بيروت.
(15/221)
لَمْ يَكُنِ الْعَامِل مَعْرُوفًا بِذَلِكَ
فَلاَ جُعْل لَهُ، وَلَهُ النَّفَقَةُ عَلَى التَّفْصِيل الَّذِي سَبَقَ
ذِكْرُهُ (ف 27 - 28) .
الإِْذْنُ فِي الْعَمَل بِدُونِ جُعْلٍ:
33 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ عَمِل شَخْصٌ بِإِذْنِ شَخْصٍ آخَرَ أَوْ
إِعْلاَنِهِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْرُطَ فِيهِ جُعْلاً لَهُ فَلاَ
شَيْءَ لَهُ وَإِنْ أَتَمَّ الْعَمَل؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ لَهُ
عِوَضًا عَلَى عَمَلِهِ.
وَبِمِثْل هَذَا قَال الْمَالِكِيَّةُ - إِنْ لَمْ يَكُنِ الْعَامِل
مُعْتَادًا وَمَعْرُوفًا بِأَدَاءِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الأَْعْمَال
بِعِوَضٍ عَلَى التَّفْصِيل الْمَذْكُورِ فِي الْفِقْرَةِ السَّابِقَةِ
وَبِمِثْلِهِ أَيْضًا قَال الْحَنَابِلَةُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْعَامِل
مُعَدًّا لأَِخْذِ الأُْجْرَةِ، فَإِنْ كَانَ مُعَدًّا لِذَلِكَ
كَالْمَلاَّحِ وَالْخَيَّاطِ، وَالدَّلاَّل، وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يَرْصُدُ
نَفْسَهُ لِلتَّكَسُّبِ بِالْعَمَل، وَأَذِنَ لَهُ صَاحِبُ الْمَال فِي
الْعَمَل، فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْل، لِدَلاَلَةِ الْعُرْفِ عَلَى ذَلِكَ،
كَمَا يُسْتَثْنَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ أَيْضًا:
الْحَالَتَانِ الْمُفَصَّلَتَانِ فِيمَا سَبَقَ (ف / 31) .
سَمَاعُ الإِْذْنِ بِالْعَمَل وَالْعِلْمُ بِهِ:
34 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لاِسْتِحْقَاقِ الْعَامِل الْجُعْل
أَنْ يَسْمَعَ إِذْنَ الْجَاعِل فِي ذَلِكَ أَوْ يَعْلَمَ بِهِ، فَلَوْ
رَدَّ الضَّالَّةَ مَثَلاً مَنْ سَمِعَ الإِْذْنَ قَبْل الْعَمَل
اسْتَحَقَّ الْجُعْل الْمُسَمَّى عَلَى الْجَاعِل؛ لأَِنَّهُ الْمُلْتَزِمُ
لَهُ، سَوَاءٌ سَمِعَهُ مُبَاشَرَةً أَوْ بِوَاسِطَةِ
(15/221)
إِفَادَتِهِ الْعِلْمَ بِذَلِكَ، وَهَذَا
إِذَا لَمْ يُخَصِّصِ الْجَاعِل إِذْنَهُ بِالسَّامِعِينَ لَهُ فَقَطْ،
فَإِنْ خَصَّصَهُ بِذَلِكَ بِأَنْ قَال: مَنْ رَدَّ ضَالَّتِي مِنْ
سَامِعِي نِدَائِي هَذَا فَلَهُ كَذَا، فَرَدَّهَا مَنْ عَلِمَ بِإِذْنِهِ
وَلَمْ يَسْمَعْهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، وَإِنْ عَمِل
طَامِعًا فِي الْجُعْل، وَكَذَلِكَ لاَ شَيْءَ لِلْعَامِل لَوْ عَمِل
بَعْدَ الإِْذْنِ لَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَامِل
مُخَصَّصًا أَوْ قَاصِدًا الْعِوَضَ أَوْ غَيْرَهُمَا، فَلَوْ قَال
الْجَاعِل: مَنْ رَدَّهَا فَلَهُ كَذَا، أَوْ إِنْ رَدَّهَا خَالِدٌ فَلَهُ
كَذَا فَرَدَّهَا مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الإِْذْنُ الْعَامُّ، أَوْ رَدَّهَا
خَالِدٌ بِدُونِ أَنْ يَبْلُغَهُ ذَلِكَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ وَاحِدٌ
مِنْهُمَا شَيْئًا مِنَ الْجُعْل وَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ مِثْل هَذَا
الْعَمَل لاَ يَضِيعُ هَدَرًا، لأَِنَّهُ مُتَطَوِّعٌ بِالرَّدِّ مِنْ
غَيْرِ عِوَضٍ.
وَإِنْ عَلِمَ الْعَامِل بِالإِْذْنِ وَالْجُعْل فِي أَثْنَاءِ الْعَمَل
فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنَ الْجُعْل بِنِسْبَةِ مَا أَتَمَّهُ مِنَ
الْعَمَل بَعْدَ الْعِلْمِ بِالإِْذْنِ، وَلاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا عَنِ
الْعَمَل الْحَاصِل قَبْل عِلْمِهِ لأَِنَّهُ لاَ اعْتِبَارَ لِلْعَمَل
الْحَادِثِ قَبْل الإِْذْنِ فَيَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِهِ، وَبِمِثْل هَذَا
قَال الْحَنَابِلَةُ فِيمَا عَدَا الْحَالَتَيْنِ السَّابِقَ ذِكْرُهُمَا
(ف / 31) .
وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا فِيمَنْ لَمْ يَسْمَعْ إِذْنَ الْجَاعِل
لاَ مُبَاشَرَةً وَلاَ بِوَاسِطَةٍ فَقَالُوا: يَسْتَحِقُّ جُعْل الْمِثْل
عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ فِي اسْتِحْقَاقِهِ لَهُ إِذَا لَمْ يَأْذَنْ
لَهُ صَاحِبُ الْمَال أَصْلاً (ف / 32) .
إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا هُنَا فِي حَقِّ صَاحِبِ الضَّالَّةِ
(15/222)
مَثَلاً فِي تَرْكِهَا لِلْعَامِل، فَقَال
الأَُجْهُورِيُّ: لِصَاحِبِهَا أَنْ يَتْرُكَهَا لِلْعَامِل هُنَا أَيْضًا
عِوَضًا عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ جُعْل الْمِثْل، وَقَال الرَّمَاصِيُّ:
لَيْسَ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَتْرُكَهَا لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ،
وَإِنَّمَا لِلْعَامِل هُنَا جُعْل مِثْلِهِ، إِنْ كَانَ مَعْرُوفًا
بِأَدَاءِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الأَْعْمَال بِعِوَضٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
مَعْرُوفًا بِذَلِكَ فَلَهُ النَّفَقَةُ. (1)
تَحْصِيصُ الإِْذْنِ وَالْجُعْل بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ:
35 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَوْ قَال الْجَاعِل إِنْ
رَدَّ زَيْدٌ دَابَّتِي الضَّالَّةَ فَلَهُ كَذَا، فَإِنَّهُ لاَ
يَسْتَحِقُّ الْجُعْل أَحَدٌ غَيْرُهُ، فَلَوْ رَدَّهَا عَمْرٌو مَثَلاً
لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِأَدَاءِ مِثْل هَذَا
الْعَمَل بِعِوَضٍ لأَِنَّ الْجَاعِل لَمْ يَلْتَزِمْ لَهُ عِوَضًا
فَوَقَعَ عَمَلُهُ تَبَرُّعًا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَسْتَحِقُّ عَمْرٌو جُعْل الْمِثْل إِنْ كَانَ
مَعْرُوفًا بِأَدَاءِ مِثْل هَذَا الْعَمَل بِعِوَضٍ، وَإِلاَّ فَلَهُ
النَّفَقَةُ عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ ذِكْرُهُ (2) . (ف 28 وَ 29) .
__________
(1) المهذب 1 / 411، وأسنى المطالب 2 / 439، 440، وتحفة المحتاج 2 / 366،
والأنوار 1 / 418، ونهاية المحتاج 4 / 341، 344، والخرشي 7 / 74 - 75،
وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 4 / 66، 67، وحاشية الصاوي على
الشرح الصغير 2 / 257، وكشاف القناع وشرح المنتهى 2 / 417، 419، 443، 446.
(2) نهاية المحتاج 4 / 341، وأسنى المطالب 2 / 439، 440، وكشاف القناع 2 /
417، والمغني 6 / 352، وشرائع الإسلام 2 / 117، وللمالكية المراجع المذكورة
بالفقرتين المنوه عنهما.
(15/222)
تَخْصِيصُ الإِْذْنِ وَالْجُعْل بِمَكَانٍ
مُعَيَّنٍ:
36 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَوْ قَال الْجَاعِل مَنْ
رَدَّ ضَالَّتِي مِنْ بَغْدَادَ مَثَلاً فَلَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ
يُنْظَرُ: فَإِنْ رَدَّهَا الْعَامِل مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ فِعْلاً،
لَكِنْ مِنْ أَبْعَدَ مِنَ الْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ فِي الْعَقْدِ فَلاَ
زِيَادَةَ لَهُ عَلَى الْجُعْل الْمُسَمَّى، لِتَبَرُّعِهِ بِالْمَسَافَةِ
الزَّائِدَةِ، وَلَوْ رَدَّهَا مِنْ أَقْرَبَ مِنْهُ فَلَهُ مَا
يُقَابِلُهُ مِنَ الْجُعْل إِنْ تَسَاوَتِ الطَّرِيقُ سُهُولَةً
وَصُعُوبَةً، لأَِنَّ كُل الْجُعْل فِي مُقَابَلَةِ كُل الْعَمَل،
فَبَعْضُهُ فِي مُقَابَلَةِ الْبَعْضِ فَإِنْ تَفَاوَتَتِ الطَّرِيقُ
سُهُولَةً وَصُعُوبَةً بِأَنْ كَانَ النِّصْفُ الَّذِي أَتَى بِهِ مَثَلاً
لَهُ مِنَ الأُْجْرَةِ ضِعْفَ النِّصْفِ الآْخَرِ عُمِل بِذَلِكَ فِي
الْجُعْل فَيَسْتَحِقُّ ثُلُثَيِ الْجُعْل.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ: إِذَا رَدَّهَا مِنْ مَسَافَةٍ
مِثْل مَسَافَةِ بَغْدَادَ وَلَوْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَإِنَّهُ
يَسْتَحِقُّ الْجُعْل الْمُسَمَّى - عَشْرَةَ دَنَانِيرَ - لأَِنَّ
التَّنْصِيصَ عَلَى الْمَكَانِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الإِْرْشَادُ إِلَى
مَوْضِعٍ أَوْ مَظِنَّةٍ وَنَحْوِهِ، لاَ أَنَّ الرَّدَّ مِنْهُ شَرْطٌ فِي
أَصْل الاِسْتِحْقَاقِ، إِذْ لَوْ أُرِيدَ حَقِيقَةُ ذَلِكَ لَكَانَ إِذَا
رَدَّهَا مِنْ أَقْرَبَ مِنْهُ لاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، لأَِنَّهُ لَمْ
يَرُدَّ مِنْهُ.
وَقِيل: لاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مُطْلَقًا، لأَِنَّ الْجَاعِل لَمْ
يَأْذَنْ لَهُ فِي الرَّدِّ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ الأُْخْرَى، وَبِمِثْل
هَذَا الْقَوْل الْمَرْجُوحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَال الْحَنَابِلَةُ.
37 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لاِسْتِحْقَاقِ الْجُعْل
(15/223)
فِي الدَّابَّةِ الضَّالَّةِ، وَنَحْوِهَا
مِنْ الأَْمْوَال الضَّائِعَةِ أَنْ لاَ يَكُونَ الْمُتَعَاقِدَانِ أَوْ
أَحَدُهُمَا عَالِمًا بِمَكَانِهَا؛ لأَِنَّ مَنْ عَلِمَ مَكَانَهَا غَارَ
وَخَادَعَ لِصَاحِبِهِ وَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ، فَإِنْ
عَلِمَ الْجَاعِل مَكَانَهَا وَجَهِلَهُ الْعَامِل، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ
الْجَاعِل الأَْكْثَرُ مِنَ الْجُعْل الْمُسَمَّى، وَأُجْرَةِ الْمِثْل
لِلْعَامِل، وَإِنْ عَلِمَ الْعَامِل فَقَطْ فَالرَّاجِحُ أَنَّهُ لاَ
شَيْءَ لَهُ، وَيَكُونُ آثِمًا ضَامِنًا لِلضَّالَّةِ إِنْ تَلِفَتْ؛
لأَِنَّ الإِْتْيَانَ بِهَا لِصَاحِبِهَا صَارَ وَاجِبًا عَلَيْهِ حَيْثُ
عَلِمَ مَكَانَهَا دُونَ صَاحِبِهَا.
وَإِنْ عَلِمَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَكَانَهَا فَالرَّاجِحُ أَنْ يَكُونَ
لِلْعَامِل جُعْل مِثْلِهِ، نَظَرًا لِسَبْقِ الْجَاعِل بِالنِّدَاءِ
وَهُوَ الإِْيجَابُ (1) .
الدَّلاَلَةُ عَلَى الْمَال الضَّائِعِ، وَالإِْخْبَارُ عَنْهُ:
38 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ جَعَل شَخْصٌ لِمَنْ
دَلَّهُ عَلَى مَالِهِ الضَّائِعِ جُعْلاً، فَدَلَّهُ عَلَيْهِ مَنْ لَيْسَ
الْمَال فِي يَدِهِ اسْتَحَقَّ الْجُعْل، لأَِنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ
تَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ بِالْبَحْثِ عَنْهُ، ثُمَّ دَلاَلَةُ الْجَاعِل
عَلَيْهِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْبَحْثُ الْمُتْعِبُ حَادِثًا
بَعْدَ إِعْلاَنِ الْجَاعِل لاَ قَبْلَهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ عِبْرَةَ
بِالْعَمَل الْحَادِثِ قَبْلَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْجُعْل. وَكَذَلِكَ
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 345، ومغني المحتاج 2 / 431، وحاشية الصاوي على
الشرح الصغير 2 / 257، والخرشي وحاشية العدوي 7 / 70، 71، وحاشية العدوي
على شرح أبي الحسن 2 / 163، والمغني 2 / 353، وكشاف القناع 2 / 418.
(15/223)
لاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مَنْ كَانَ
الْمَال الضَّائِعُ فِي يَدِهِ، وَدَل صَاحِبَهُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ
وَاجِبٌ عَلَيْهِ شَرْعًا فَلاَ يَأْخُذُ عَلَيْهِ عِوَضًا، وَصَرَّحَ
الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ جَعَل جُعْلاً لِمَنْ أَخْبَرَهُ بِأَمْرٍ
مِنَ الأُْمُورِ كَدَوَاءٍ يَنْفَعُهُ مَثَلاً فَأَخْبَرَهُ شَخْصٌ بِهِ
فَإِنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا؛ لأَِنَّ مِثْل هَذَا لاَ يَحْتَاجُ
إِلَى عَمَلٍ، أَمَّا إِنْ تَعِبَ الْمُخْبِرُ وَصَدَقَ فِي إِخْبَارِهِ،
وَكَانَ لِلْجَاعِل الْمُسْتَخْبِرُ غَرَضٌ وَمَنْفَعَةٌ فِي الأَْمْرِ
الْمَطْلُوبِ الإِْخْبَارُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْجُعْل.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يَعْلَمَ الدَّال أَوِ
الْمُخْبِرُ مَكَانَ الْمَال الضَّائِعِ، أَوِ الأَْمْرِ الْمَطْلُوبِ
الإِْخْبَارُ عَنْهُ قَبْل إِعْلاَنِ الْجَاعِل أَوْ تَعَاقُدِهِ مَعَهُ
فَيَسْتَحِقُّ الْجُعْل إِنْ عَلِمَ ذَلِكَ بَعْدَ التَّعَاقُدِ، سَوَاءٌ
أَكَانَ هُنَاكَ تَعَبٌ أَوْ مَشَقَّةٌ فِي سَبِيل عِلْمِهِ بِذَلِكَ أَمْ
لاَ، كَأَنْ عَلِمَ بِهِ بِطَرِيقِ الْمُصَادَفَةِ، وَلاَ يَسْتَحِقُّ
شَيْئًا إِنْ عَلِمَ قَبْل التَّعَاقُدِ (1) .
الْفَرَاغُ مِنَ الْعَمَل وَالتَّسْلِيمُ لِلْجَاعِل:
39 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِالْجِعَالَةِ عَلَى أَنَّهُ
يُشْتَرَطُ لاِسْتِحْقَاقِ الْعَامِل الْجُعْل الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ
أَنْ يُتِمَّ الْعَمَل الْمُجَاعَل عَلَيْهِ، وَيَفْرُغَ مِنْهُ
وَيُسَلِّمَهُ لِلْجَاعِل فَلاَ يَسْتَحِقُّ الْعَامِل شَيْئًا إِنْ لَمْ
يَتَحَقَّقْ مِنْهُ ذَلِكَ، فَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ الآْبِقُ أَوِ
الدَّابَّةُ
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 440، 441، ونهاية المحتاج 4 / 344، والحطاب 5 / 455،
ومنح الجليل 4 / 10، وحاشية العدوي على الخرشي 7 / 71، وكشاف القناع 2 /
417.
(15/224)
الضَّالَّةُ، أَوْ تَلِفَ الْمَال
الْمَرْدُودُ، أَوْ غُصِبَ مِنْ يَدِ الْعَامِل فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ
وَلَوْ بِقُرْبِ دَارِ الْجَاعِل، أَوْ تَرَكَهُ الْعَامِل فَرَجَعَ
لِلْجَاعِل بِنَفْسِهِ، أَوْ هَرَبَ الْمَرْدُودُ وَلَوْ مِنْ دَارِ
الْجَاعِل قَبْل تَسْلِيمِهِ لَهُ، فَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِل فِي كُل هَذَا،
لِتَعَلُّقِ اسْتِحْقَاقِهِ لِلْجُعْل بِالرَّدِّ، وَتَسْلِيمِ
الْمَرْدُودِ لِلْجَاعِل، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ ذَلِكَ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: إِنْ أَفْلَتَ الْحَيَوَانُ
الْمَرْدُودُ مِنْ يَدِ الْعَامِل وَهَرَبَ قَبْل تَسْلِيمِهِ لِلْجَاعِل،
فَإِنْ جَاءَ بِهِ - مِنْ غَيْرِ تَعَاقُدِ - عَامِلٍ آخَرَ مِنْ عَادَتِهِ
رَدُّ الضَّوَال وَالإِْبَاقِ بِعِوَضٍ، فَلاَ شَيْءَ لِلأَْوَّل وَكُل
الْجُعْل لِلثَّانِي إِنْ جَاءَ بِهِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ عَنِ الْجَاعِل،
أَوْ مِنْ مَكَانِهِ الَّذِي وَجَدَهُ فِيهِ الْعَامِل الأَْوَّل، أَمَّا
إِنْ جَاءَ بِهِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ مِنَ الْجَاعِل، أَوْ قَبْل أَنْ
يَصِل إِلَى مَكَانِ الأَْوَّل، فَلِكُلٍّ مِنَ الْعَامِلَيْنِ - الأَْوَّل
وَالثَّانِي - بِنِسْبَةِ عَمَلِهِ مِنَ الْجُعْل مَنْظُورًا فِي ذَلِكَ
لِسُهُولَةِ الطَّرِيقِ وَصُعُوبَتِهَا لاَ لِمُجَرَّدِ الْمَسَافَةِ؛
لأَِنَّ الثَّانِيَ انْتَفَعَ بِعَمَل الأَْوَّل حِينَئِذٍ.
40 - وَكَمَا لاَ يَسْتَحِقُّ الْعَامِل شَيْئًا إِنْ لَمْ يَقَعْ عَمَلُهُ
مُسَلَّمًا لِلْجَاعِل، فَكَذَلِكَ لاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا - عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ - إِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ عَلَى الْمَحَل،
أَوْ لَمْ يُمْكِنِ الإِْتْمَامُ عَلَيْهِ، وَلَهُمْ فِي هَذَا تَفْصِيلٌ
طَوِيلٌ - يُرَاجَعُ فِي مُطَوَّلاَتِهِمْ - حَاصِلُهُ أَنَّهُ إِنْ تَلِفَ
مَعْمُول الْعَامِل قَبْل تَمَامِ عَمَلِهِ، فَإِنْ وَقَعَ مُسَلَّمًا
لِلْجَاعِل بِأَنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ، أَوْ فِي
(15/224)
مِلْكِهِ، وَظَهَرَ أَثَرُهُ عَلَى
الْمَحَل وَأَمْكَنَ الإِْتْمَامُ عَلَيْهِ، كَخِيَاطَةِ بَعْضِ ثَوْبٍ،
أَوْ بِنَاءِ بَعْضِ حَائِطٍ، أَوْ تَعْلِيمِ بَعْضِ مَا جُوعِل عَلَيْهِ،
فَإِنَّ الْعَامِل يَسْتَحِقُّ حِصَّةَ مَا عَمِل مِنَ الْجُعْل
الْمُسَمَّى.
وَإِنْ لَمْ يَقَعِ الْعَمَل مُسَلَّمًا لِلْجَاعِل بِمَا مَرَّ، أَوْ لَمْ
يَظْهَرْ أَثَرُهُ عَلَى الْمَحَل كَإِنَاءٍ انْكَسَرَ، أَوْ لَمْ يُمْكِنِ
الإِْتْمَامُ عَلَيْهِ كَثَوْبٍ احْتَرَقَ بَعْدَ خِيَاطَةِ بَعْضِهِ أَوْ
حَائِطٍ انْهَدَمَ بَعْدَ بِنَاءِ بَعْضِهِ، وَلَوْ بِلاَ تَفْرِيطٍ مِنَ
الْعَامِل، أَوْ مُتَعَلِّمٍ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ تَعَلُّمِهِ، فَلاَ
شَيْءَ لِلْعَامِل فِي كُل ذَلِكَ.
41 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُسْتَثْنَى مِنْ عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ
الْعَامِل الْجُعْل إِلاَّ بِإِتْمَامِهِ الْعَمَل ثَلاَثُ صُوَرٍ:
الأُْولَى - مَا إِذَا حَصَل الاِنْتِفَاعُ بِالْعَمَل السَّابِقِ -
الَّذِي لَمْ يُتِمُّهُ الْعَامِل بِأَنِ اسْتَأْجَرَ الْجَاعِل عَامِلاً
آخَرَ عَلَى إِتْمَامِهِ، أَوْ جَاعَلَهُ عَلَيْهِ، أَوْ أَتَمَّهُ
بِنَفْسِهِ، أَوْ خَدَمَهُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلْعَامِل الأَْوَّل عَلَى
عَمَلِهِ - حِينَئِذٍ - بِنِسْبَةِ مَا أَخَذَ الثَّانِي، سَوَاءٌ أَعَمِل
الثَّانِي قَدْرَ عَمَل الأَْوَّل أَوْ أَقَل مِنْهُ، أَوْ أَكْثَرَ،
وَذَلِكَ مِثْل أَنْ يَجْعَل لِلأَْوَّل خَمْسَةَ دَنَانِيرَ عَلَى أَنْ
يَحْمِل لَهُ بَضَائِعَ مَثَلاً إِلَى مَكَانٍ مَعْلُومٍ فَحَمَلَهَا
نِصْفَ الطَّرِيقِ وَتَرَكَهَا، فَجَعَل الْجَاعِل لِعَامِلٍ غَيْرِهِ
عَشَرَةَ دَنَانِيرَ عَلَى إِيصَالِهَا لِلْمَكَانِ الْمَعْلُومِ، فَإِنَّ
الأَْوَّل يَأْخُذُ عَشَرَةً أَيْضًا؛ لأَِنَّهُ الَّذِي يَنُوبُ عَمَلُهُ
بِالنِّسْبَةِ لِعَمَل الثَّانِي؛ لأَِنَّ
(15/225)
الثَّانِيَ لَمَّا جُوعِل مِنْ نِصْفِ
الطَّرِيقِ بِعَشَرَةٍ عُلِمَ أَنَّ أُجْرَةَ الطَّرِيقِ كُلَّهَا
عِشْرُونَ.
وَلَوْ أَوْصَلَهَا الْجَاعِل بِنَفْسِهِ أَوْ بِخَدَمِهِ، فَإِنَّهُ
يُعْطِي لِلْعَامِل الأَْوَّل بِنِسْبَةِ مَا لَوِ اسْتَأْجَرَ أَوْ جَاعَل
عَلَيْهَا صَاحِبَهَا. وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ: لِلْعَامِل فِي كُل ذَلِكَ
أُجْرَةُ مِثْل عَمَلِهِ، وَرَجَّحَهُ صَاحِبُ الشَّرْحِ الصَّغِيرِ؛
لأَِنَّ صَاحِبَ الْبَضَائِعِ قَدْ يَخَافُ عَلَيْهَا فِي هَذَا
الْمَكَانِ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَتْ غَالِيَةً، وَشَأْنُ الشَّيْءِ
الْغَالِي إِذَا كَانَ فِي مَكَانٍ مَخُوفٍ يَغْلِبُ ضَيَاعُهُ أَوْ
هَلاَكُهُ فِيهِ أَنْ يُسْتَأْجَرَ عَلَى نَقْلِهِ مِنْهُ بِالأُْجْرَةِ
الزَّائِدَةِ عَنِ الْمِثْل، فَلاَ يُقَاسُ عَلَى الاِسْتِئْجَارِ
الأَْوَّل.
الثَّانِيَةُ - إِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّيْءَ الْمُجَاعَل عَلَيْهِ -
حَيَوَانًا كَانَ أَوْ غَيْرَ حَيَوَانٍ - مَمْلُوكٌ لِغَيْرِ مَنْ جَاعَل
عَلَيْهِ وَقُضِيَ لَهُ بِهِ، وَأَخَذَهُ مِنْ يَدِ الْعَامِل، فَإِنَّ
الْجُعْل يَلْزَمُ الْجَاعِل حِينَئِذٍ وَإِنْ لَمْ يَتَسَلَّمِ
الْمُجَاعَل عَلَيْهِ مِنَ الْعَامِل؛ لأَِنَّهُ وَرَّطَهُ فِي الْعَمَل
وَلَوْلاَ ظُهُورُ مِلْكِيَّتِهِ الْمُسْتَحَقَّةِ لِقَبْضِ الْعَامِل
الْجُعْل، وَلاَ يَرْجِعُ الْجَاعِل بِالْجُعْل عَلَى الْمُسْتَحِقِّ
عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَكُل هَذَا إِنْ تَبَيَّنَ
أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ وَمَمْلُوكٌ لِغَيْرِ الْجَاعِل بَعْدَ وُصُول
الْعَامِل الْبَلَدَ وَقَبْل قَبْضِ الْجَاعِل لَهُ، أَمَّا لَوِ
اسْتُحِقَّ مِنَ الْعَامِل وَهُوَ فِي الطَّرِيقِ قَبْل وُصُولِهِ بَلَدَ
الْجَاعِل، فَلاَ جُعْل لَهُ عَلَى الرَّاجِحِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الاِسْتِحْقَاقِ وَبَيْنَ الْمَوْتِ وَغَيْرِهِ مِمَّا
ذُكِرَ قَبْل ذَلِكَ (ف / 39) أَنَّ الاِسْتِحْقَاقَ وَهُوَ
(15/225)
ظُهُورُ مِلْكِيَّتِهِ لِغَيْرِ الْجَاعِل
يَكُونُ نَاشِئًا عَنِ اعْتِدَاءٍ مِنَ الْجَاعِل غَالِبًا، فَتَغَيَّرَ
حُكْمُهُ لأَِجْل هَذَا.
الثَّالِثَةُ - إِذَا حَدَثَ لِلشَّيْءِ الْمُجَاعَل عَلَى تَحْصِيلَةِ
حَادِثٌ أَدَّى إِلَى نُقْصَانِ قِيمَتِهِ بِحَيْثُ صَارَ لاَ يُسَاوِي
الْجُعْل الْمُسَمَّى، أَوْ جُعْل الْمِثْل، فَلِلْعَامِل جُعْلُهُ
كَامِلاً، وَلاَ يُنْظَرُ لِهَذَا النُّقْصَانِ، وَسَوَاءٌ أَحَدَثَ ذَلِكَ
قَبْل أَنْ يَعْثُرَ عَلَيْهِ الْعَامِل، أَمْ بَعْدَ أَنْ عَثَرَ عَلَيْهِ
وَقَبْل أَنْ يُسَلِّمَهُ لِلْجَاعِل.
تَعَذُّرُ التَّسْلِيمِ لِلْجَاعِل:
42 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا أَتَى الْعَامِل
بِالْمُتَعَاقَدِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجِدِ الْجَاعِل وَلاَ مَنْ يَنُوبُ
عَنْهُ فِي تَسَلُّمِهِ سَلَّمَهُ لِلْحَاكِمِ، وَاسْتَحَقَّ الْجُعْل
وَيَدْفَعُهُ الْحَاكِمُ لَهُ مِنْ مَال الْجَاعِل الْمُلْتَزِمِ بِهِ إِنْ
كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلاَّ بَقِيَ الْجُعْل دَيْنًا فِي ذِمَّةِ
الْجَاعِل، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَاكِمٌ لِهَذَا الْمَكَانِ
أَشْهَدَ عَلَى رَدِّهِ لَهُ، وَيَسْتَحِقُّ الْجُعْل حَتَّى لَوْ مَاتَ
الْمَرْدُودُ، أَوْ هَرَبَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَجْرِي هَذَا الْحُكْمُ فِي
تَلَفِ سَائِرِ مَحَال الأَْعْمَال (1) .
__________
(1) المهذب 1 / 411، وتحفة المحتاج 2 / 370، وحاشية البجيرمي على الخطيب 3
/ 175، 176، والأنوار 1 / 419، ونهاية المحتاج 4 / 349، 350، وحاشية
القليوبي على شرح المحلي 3 / 133، والخرشي وحاشية العدوي عليه 7 / 72 - 75،
وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 4 / 64 - 67، وحاشية العدوي على
شرح أبي الحسن 2 / 163، والحطاب والتاج والإكليل 5 / 453 - 455، وكشاف
القناع وشرح المنتهى بهامشه 2 / 420 - 446، 447، والمغني 6 / 253.
(15/226)
مُشَارَكَةُ الْعَامِل فِي الْعَمَل
وَأَثَرُهَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْجُعْل:
43 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ الْتَزَمَ الْجَاعِل جُعْلاً لِشَخْصٍ
مُعَيَّنٍ فَشَارَكَهُ غَيْرُهُ فِي الْعَمَل فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
أ - فَإِنْ قَصَدَ الْمُشَارِكُ إِعَانَةَ الْعَامِل الْمُعَيَّنِ
مَجَّانًا، أَوْ بِعِوَضٍ مِنَ الْعَامِل فَلاَ شَيْءَ لِلْمُعَاوِنِ مِنَ
الْجُعْل الْمُسَمَّى، وَكُلُّهُ لِلْعَامِل الَّذِي عَيَّنَهُ الْجَاعِل؛
لأَِنَّ رَدَّ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ بِقَصْدِ الإِْعَانَةِ لِلْمُعَيَّنِ
وَاقِعٌ عَنْهُ وَقَصْدُ الْجَاعِل الرَّدَّ مِمَّنِ الْتَزَمَ لَهُ
بِأَيِّ وَجْهٍ أَمْكَنَ فَلاَ يُحْمَل تَعَاقُدُهُ عَلَى قَصْرِ الْعَمَل
عَلَى الْمُخَاطَبِ وَحْدَهُ، وَبِمِثْل هَذَا قَال الْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ.
ب - وَإِنْ قَصَدَ الْمُشَارِكُ الْعَمَل لِلْجَاعِل، أَوِ الْعَمَل
لِنَفْسِهِ، أَوْ قَصَدَ نَفْسَهُ وَالْجَاعِل مَعًا، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ
شَيْئًا، فَلِلْعَامِل الْمُعَيَّنِ نِصْفُ الْجُعْل؛ لأَِنَّهُ فِي
الصُّوَرِ الأَْرْبَعِ عَمِل نِصْفَ الْعَمَل، وَلَمْ يَرْجِعْ لَهُ مِنْ
عَمَل الْمُشَارِكِ شَيْءٌ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْهُ أَصْلاً فِي
وَاحِدَةٍ مِنْهَا.
ج - وَإِنْ قَصَدَ الْمُشَارِكُ الْعَمَل لِنَفْسِهِ وَلِلْعَامِل
الْمُعَيَّنِ، أَوْ قَصَدَ الْعَمَل لِلْعَامِل وَالْجَاعِل مَعًا،
فَلِلْعَامِل الْمُعَيَّنِ ثَلاَثَةُ أَرْبَاعِ الْجُعْل الْمُسَمَّى؛
لأَِنَّهُ عَمِل النِّصْفَ وَرَجَعَ لَهُ نِصْفُ عَمَل الْمُشَارِكِ؛
لأَِنَّهُ قَصَدَهُ فِي الصُّورَتَيْنِ.
د - وَإِنْ قَصَدَ الْمُشَارِكُ الْعَمَل لِلْجَمِيعِ - أَيِ الْجَاعِل،
وَالْعَامِل، وَنَفْسِهِ - فَلِلْعَامِل ثُلُثَا
(15/226)
الْجُعْل؛ لأَِنَّهُ عَمِل النِّصْفَ،
وَرَجَعَ لَهُ مِنَ الْمُشَارِكِ ثُلُثُ عَمَلِهِ، وَذَلِكَ سُدُسٌ يُضَمُّ
إِلَى نِصْفِ الْعَامِل.
هـ - وَلَوْ أَعَانَ الْعَامِل اثْنَانِ وَلَمْ يَقْصِدَاهُ فَلَهُ ثُلُثُ
الْجُعْل، أَوْ ثَلاَثَةٌ فَلَهُ الرُّبُعُ، وَإِنْ قَصَدَ الْعَمَل لَهُ
أَحَدُ الاِثْنَيْنِ، وَقَصَدَ الآْخَرُ الْجَاعِل فَلَهُ ثُلُثَاهُ
وَهَكَذَا.
وَلاَ شَيْءَ لِلْمُشَارِكِ بِأَيِّ حَالٍ فِي كُل مَا ذُكِرَ، لاَ مِنَ
الْجُعْل وَلاَ مِنَ الْعَامِل؛ لأَِنَّ الْجَاعِل لَمْ يَلْتَزِمْ لَهُ
شَيْئًا، وَبِمِثْل هَذَا قَال الْحَنَابِلَةُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَشْتَرِكَانِ فِي الأَْكْثَرِ مِنَ الْجُعْل
الْمُسَمَّى وَجُعْل الْمِثْل.
44 - أَمَّا إِذَا أَذِنَ الْجَاعِل لاِثْنَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ فَأَكْثَرَ،
أَوْ عَمَّمَ إِذْنَهُ وَإِعْلاَنَهُ لِكُل مَنْ يَعْمَل فَاشْتَرَكَ
اثْنَانِ فَأَكْثَرُ فِي الْعَمَل مُنْذُ بِدَايَتِهِ وَتَسْلِيمِهِ
لِلْجَاعِل تَامًّا، فَإِنَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي الْجُعْل الْمُسَمَّى،
وَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ - وَإِنْ تَفَاوَتَ عَمَل كُلٍّ مِنْهُمْ؛ لأَِنَّهُ لاَ
يُمْكِنُ ضَبْطُ الْعَمَل حَتَّى يُوَزَّعَ عَلَيْهِ الْجُعْل
بِالنِّسْبَةِ.
وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الأَْعْمَال الَّتِي يُمْكِنُ
وُقُوعُهَا مِنْهُمْ مُجْتَمِعِينَ كَرَدِّ ضَالَّةٍ مَثَلاً، أَمَّا
الأَْعْمَال الَّتِي يُمْكِنُ وُقُوعُ جَمِيعِهَا مِنْ كُل وَاحِدٍ
مِنْهُمْ، مِثْل أَنْ يَقُول الْقَائِدُ: مَنْ دَخَل هَذَا الْحِصْنَ
فَلَهُ دِينَارٌ، فَدَخَلَهُ جَمْعٌ مِنَ الْمُحَارِبِينَ اسْتَحَقَّ كُل
وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِينَارًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
(15/227)
وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ
يُسَمَّى دَاخِلاً هُنَا.
إِذَا أَتَمَّ الْعَمَل وَاحِدٌ مِنَ الاِثْنَيْنِ الْمُعَيَّنَيْنِ
اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْجُعْل الْمُسَمَّى - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ - لأَِنَّ الْجَاعِل لَمْ يَلْتَزِمْ لَهُ سِوَاهُ.
وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى شَيْءٍ فِي هَذَا.
45 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ شَرَطَ الْجَاعِل
لِوَاحِدٍ مِنْ ثَلاَثَةٍ جُعْلاً مَجْهُولاً، كَثَوْبٍ مَثَلاً، وَشَرَطَ
لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الآْخَرِينَ دِينَارًا عَلَى رَدِّ ضَالَّةٍ مَثَلاً،
فَرَدُّوهَا جَمِيعًا مَعًا، فَلِلأَْوَّل ثُلُثُ أُجْرَةِ الْمِثْل،
وَلِكُل وَاحِدٍ مِنَ الآْخَرَيْنِ ثُلُثُ الدِّينَارِ الْمُسَمَّى لَهُ.
وَإِنْ قَال لِكُل وَاحِدٍ مِنْ ثَلاَثَةٍ رُدَّهَا وَلَكَ دِينَارٌ
فَرَدَّهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَلَهُ مَا شَرَطَ لَهُ كَامِلاً - وَهُوَ
الدِّينَارُ - وَإِنْ رَدَّهَا اثْنَانِ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُ مَا
شَرَطَ لَهُ، وَإِنْ رَدَّهَا الثَّلاَثَةُ فَلِكُلٍّ ثُلُثُ مَا شَرَطَ
لَهُ وَهَكَذَا - وَبِمِثْل هَذَا قَال الْمَالِكِيَّةُ. وَإِنْ شَرَطَ
لِوَاحِدٍ عَلَى رَدِّهَا دِينَارًا، وَشَرَطَ لآِخَرَ عَلَى رَدِّهَا
دِينَارَيْنِ، فَاشْتَرَكَا فِي رَدِّهَا إِلَيْهِ، اسْتَحَقَّ كُل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا نِصْفَ الْجُعْل الْمُشْتَرَطِ لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنِ نَافِعٍ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ وَرَجَّحَهُ مِنْهُمُ التُّونُسِيُّ وَاللَّخْمِيُّ.
46 - وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي
الدِّينَارَيْنِ فَيَقْتَسِمَانِهِمَا بِنِسْبَةِ مَا سَمَّاهُ الْجَاعِل
لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إِذْ هُوَ غَايَةُ مَا يَلْزَمُ صَاحِبَ
الضَّالَّةِ، فَيَأْخُذُ الأَْوَّل ثُلُثَ الدِّينَارَيْنِ، وَيَأْخُذُ
الآْخَرُ ثُلُثَيْهِمَا.
(15/227)
وَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا: أَنَّهُ
لاَ فَرْقَ بَيْنَ النَّقْدِ وَالْعُرُوضِ (1) ، فَلَوْ جَعَل الْجَاعِل
لأَِحَدِهِمَا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ عَلَى رَدِّهَا وَلِلآْخَرِ عَرَضًا
فَاشْتَرَكَا فِي رَدِّهَا إِلَيْهِ، فَالرَّاجِحُ أَنْ يُقَوَّمَ
الْعَرْضُ، فَإِنْ سَاوَى خَمْسَةَ دَنَانِيرَ فَلِصَاحِبِ الْعَشَرَةِ
ثُلُثَاهَا، وَيُخَيَّرُ صَاحِبُ الْعَرَضِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ ثُلُثَ
الْعَشَرَةِ، أَوْ مَا يُقَابِل ذَلِكَ مِنَ الْعَرَضِ الَّذِي جُعِل لَهُ،
وَيَجْرِي هَذَا أَيْضًا فِيمَا إِذَا جَعَل الْجَاعِل لِكُلٍّ مِنْهُمَا
عَرَضًا سَوَاءٌ اخْتَلَفَتْ قِيمَتُهُمَا أَمِ اتَّفَقَتْ.
47 - وَإِذَا اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي رَدِّهَا وَكَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ
شَرَطَ لَهُ الْجَاعِل جُعْلاً، وَوَجَبَ لِلآْخَرِ جُعْلٌ مِثْلُهُ؛
لاِعْتِيَادِهِ طَلَبَ الضَّوَال، وَلَنْ يَسْمَعَ بِمُعَاقَدَةِ
الْجَاعِل، فَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ
فِي الأَْكْثَرِ مِنَ الْجُعْل الْمُشْتَرَطِ فِي الْعَقْدِ وَجُعْل
الْمِثْل إِذَا اخْتَلَفَا قَدْرًا (2) .
__________
(1) العروض بضم العين والراء جمع عرض بسكون الراء، المتاع، وكل شيء متمول
سوى النقدين. وأما العرض بفتح الراء فيشمل المتاع والنقدين فكل عرض عرض لا
عكس (لسان العرب) .
(2) تحفة المحتاج 2 / 368، 369، وحاشية البجيرمي على شرح المنهج 3 / 220،
ونهاية المحتاج 4 / 346، 347، ومغني المحتاج 2 / 432، والمهذب 1 / 412،
وأسنى المطالب 2 / 441، 442، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 4 /
67، والخرشي وحاشية العدوي عليه 7 / 75، 76، والمغني 6 / 252، وكشاف القناع
2 / 418.
(15/228)
اسْتِحْقَاقُ الْجُعْل فِي تَعَاقُدِ
الْفُضُولِيِّ، وَالنَّائِبِ:
48 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَوِ
الْتَزَمَ فُضُولِيٌّ - لَيْسَ مِنْ عَادَتِهِ - الاِسْتِهْزَاءُ
وَالْخَلاَعَةُ وَتَوَافَرَتْ فِيهِ شَرَائِطُ الْمُلْتَزِمِ بِالْجُعْل
الْمَذْكُورَةُ فِيمَا سَبَقَ جُعْلاً مُعَيَّنًا لِمَنْ يَعْثُرُ عَلَى
مَال غَيْرِهِ الضَّائِعِ، أَوْ يَعْمَل لِغَيْرِهِ عَمَلاً تَصِحُّ
الْجِعَالَةُ عَلَيْهِ، كَأَنْ قَال: مَنْ رَدَّ ضَالَّةَ فُلاَنٍ أَوْ
آبِقَهُ فَلَهُ كَذَا، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْجُعْل بِقَوْلِهِ هَذَا،
وَيَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ مَنْ سَمِعَ إِعْلاَنَهُ هَذَا وَأَتَمَّ
الْعَمَل.
وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْجُعْل بِقَوْلِهِ هَذَا وَإِنْ لَمْ
يَأْتِ فِيهِ بِكَلِمَةِ " عَلَيَّ " نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْمُتَبَادَرَ
وَالْمَفْهُومَ مِنْهُ ذَلِكَ.
وَالْتِزَامُ الْفُضُولِيِّ الْجُعْل فِي هَذَا الْعَقْدِ لَيْسَ
كَالْتِزَامِهِ الثَّمَنَ فِي شِرَاءِ غَيْرِهِ، أَوِ الْتِزَامِهِ
الْعِوَضَ عَلَى هِبَةِ غَيْرِهِ، لأَِنَّهُمَا عِوَضَا تَمْلِيكٍ فَلاَ
يُتَصَوَّرُ وُجُوبُهُمَا عَلَى غَيْرِ مَنْ حَصَل لَهُ الْمِلْكُ،
وَالْجُعْل لَيْسَ عِوَضَ تَمْلِيكٍ.
وَهَذَا بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ الْمُلْتَزِمُ بِالْجُعْل وَلِيًّا
عَلَى صَاحِبِ الْعَمَل أَوْ وَكِيلَهُ.
فَإِنْ كَانَ وَلِيَّهُ أَوْ وَكِيلَهُ وَالْتَزَمَ ذَلِكَ عَنْ
مَحْجُورِهِ - الْمُوَلَّى عَلَيْهِ - أَوْ مُوَكِّلِهِ عَلَى وَجْهِ
الْمَصْلَحَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا سَبَقَ، فَإِنَّ الْعَامِل
يَسْتَحِقُّ الْجُعْل فِي مَال الْمَالِكِ أَوْ صَاحِبِ الْعَمَل
بِمُقْتَضَى الْتِزَامِ وَلِيِّهِ أَوْ وَكِيلِهِ.
49 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ أَخْبَرَ شَخْصٌ عَنِ الْتِزَامِ
الْمَالِكِ جُعْلاً عَلَى رَدِّ مَالِهِ الضَّائِعِ مَثَلاً بِأَنْ
(15/228)
قَال: قَال زَيْدٌ: مَنْ رَدَّ ضَالَّتِي
فَلَهُ كَذَا، فَإِنْ كَذَّبَهُ زَيْدٌ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعَامِل
الرَّادُّ لَهَا شَيْئًا عَلَى " الْمُخْبِرِ " لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ
وَلاَ عَلَى " زَيْدٍ " لِتَكْذِيبِهِ لَهُ فِي ذَلِكَ - وَبِمِثْل ذَلِكَ
قَال الْحَنَابِلَةُ - وَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْمُخْبِرِ عَلَى " زَيْدٍ
" بِأَنَّ قَوْلَهُ صَحِيحٌ؛ لأَِنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي تَرْوِيجِ قَوْلِهِ.
وَأَمَّا إِذَا صَدَّقَهُ فَيَسْتَحِقُّ الْعَامِل عَلَى " زَيْدٍ "
الْجُعْل الَّذِي سَمَّاهُ الْمُخْبِرُ فِي إِخْبَارِهِ عَنْهُ إِنْ كَانَ
الْمُخْبِرُ ثِقَةً أَوْ وَقَعَ فِي قَلْبِ الْعَامِل صِدْقُهُ - وَلَوْ
كَانَ كَافِرًا أَوْ صَبِيًّا - لِتَرَجُّحِ طَمَاعِيَةِ الْعَامِل
بِوُثُوقِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ غَيْرَ ثِقَةٍ فَلاَ يَسْتَحِقُّ الْعَامِل
عَلَيْهِ شَيْئًا، وَكَذَا لاَ يَسْتَحِقُّ عَلَى " زَيْدٍ " أَيْضًا مَعَ
أَنَّهُ صَدَّقَ الْمُخْبِرَ فِي إِخْبَارِهِ لِضَعْفِ طَمَاعِيَةِ
الْعَامِل بِخَبَرِ غَيْرِ الثِّقَةِ، وَصَارَ كَمَا لَوْ رَدَّ
الضَّالَّةَ غَيْرَ عَالِمٍ بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَالْتِزَامِهِ (1) .
وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
تَغْيِيرُ الْجَاعِل الْجُعْل بِالزِّيَادَةِ أَوِ النَّقْصِ أَوِ
التَّبْدِيل وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ:
50 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْجَاعِل أَنْ يُغَيِّرَ فِي
__________
(1) تحفة المحتاج 2 / 366، 367، وأسنى المطالب وحاشية الرملي عليه 2 / 439،
وحاشية البجيرمي على الخطيب 3 / 172، 173، ومغني المحتاج 2 / 429، 430،
وحاشية البجيرمي على شرح المنهج 3 / 219، ونهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي
عليه 4 / 442، 443، والخرشي وحاشية العدوي عليه 7 / 76، وكشاف القناع 2 /
418.
(15/229)
الْجُعْل الَّذِي شَرَطَهُ لِلْعَامِل -
مُعَيَّنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ - بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ، أَوْ
بِتَغْيِيرِ جِنْسِهِ قَبْل فَرَاغِ الْعَامِل مِنَ الْعَمَل، سَوَاءٌ
أَكَانَ قَبْل شُرُوعِهِ فِي الْعَمَل أَمْ بَعْدَهُ، وَذَلِكَ مِثْل أَنْ
يَقُول: مَنْ رَدَّ ضَالَّتِي فَلَهُ عَشَرَةٌ، ثُمَّ يَقُول بَعْدَ
ذَلِكَ: مَنْ رَدَّهَا فَلَهُ خَمْسَةٌ، أَوْ عَكْسُهُ.
أَوْ يَقُول: مَنْ رَدَّ ضَالَّتِي فَلَهُ دِينَارٌ، ثُمَّ يَقُول بَعْدَ
ذَلِكَ: مَنْ رَدَّهَا فَلَهُ دِرْهَمٌ أَوْ عَكْسُهُ. فَإِنْ عَلِمَ
الْعَامِل بِذَلِكَ وَلَوْ بِوَاسِطَةٍ قَبْل الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل
اعْتُبِرَ الإِْعْلاَنُ الأَْخِيرُ، وَيَسْتَحِقُّ الْعَامِل الْجُعْل
الَّذِي اشْتُرِطَ فِيهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ أَقَل مِنَ الأَْوَّل أَمْ
أَكْثَرَ مِنْهُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ جِنْسِهِ أَمْ لاَ - وَبِمِثْل
هَذَا قَال الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الرَّاجِحِ.
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْعَامِل بِالإِْعْلاَنِ الأَْخِيرِ قَبْل
الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل، وَعَمِل جَاهِلاً بِذَلِكَ حَتَّى أَتَمَّ
الْعَمَل، فَإِنَّهُ يَجِبُ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْل لِجَمِيعِ الْعَمَل
عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَإِنْ كَانَ الإِْعْلاَنُ الأَْخِيرُ - بِزِيَادَةِ الْجُعْل أَوْ
نُقْصَانِهِ - بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل وَقَبْل الْفَرَاغِ مِنْهُ،
وَأَتَمَّ الْعَامِل الْعَمَل بَعْدَ أَنْ عَلِمَ بِهِ، وَقَدْ عَلِمَ
بِالإِْعْلاَنِ الأَْوَّل أَيْضًا، فَإِنَّهُ يَجِبُ لَهُ أَيْضًا - عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ - أُجْرَةُ الْمِثْل لِجَمِيعِ الْعَمَل، لأَِنَّ
الإِْعْلاَنَ الأَْخِيرَ فَسْخٌ لِلأَْوَّل، وَالْفَسْخُ مِنَ الْجَاعِل
أَثْنَاءَ الْعَمَل يَقْتَضِي الرُّجُوعَ إِلَى أُجْرَةِ الْمِثْل كَمَا
سَيَأْتِي.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَكُونُ لَهُ الْجُعْل الْمُسَمَّى
(15/229)
وَالْمَشْرُوطُ فِي الْعَقْدِ كَامِلاً؛
لأَِنَّ عَقْدَ الْجِعَالَةِ لاَزِمٌ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل لاَ
يَجُوزُ لِلْجَاعِل تَغْيِيرُهُ أَوِ الرُّجُوعُ عَنْهُ.
وَلَمْ نَعْثُرْ لِغَيْرِهِمْ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
51 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ اشْتَرَكَ عَامِلاَنِ فِي الْعَمَل مِنِ
ابْتِدَائِهِ إِلَى تَمَامِهِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا يَعْمَل بِمُوجَبِ
الْجُعْل الْمُسَمَّى فِي الإِْعْلاَنِ الأَْوَّل، وَكَانَ الثَّانِي
يَعْمَل بِمُوجَبِ الْجُعْل الْمُسَمَّى الَّذِي عَلِمَ بِهِ فِي
الإِْعْلاَنِ الثَّانِي، فَالأَْوَّل يَسْتَحِقُّ نِصْفَ أُجْرَةِ الْمِثْل
لِجَمِيعِ الْعَمَل، وَأَمَّا الثَّانِي فَيَسْتَحِقُّ نِصْفَ الْجُعْل
الْمُسَمَّى فِي الإِْعْلاَنِ الثَّانِي عَلَى الْقَوْل الرَّاجِحِ فِي
الْمَذْهَبِ.
وَلَمْ نَعْثُرْ لِغَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى شَيْءٍ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ.
زِيَادَةُ الْجَاعِل فِي الْعَمَل أَوْ نَقْصُهُ:
52 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ زَادَ الْجَاعِل فِي الْعَمَل بَعْدَ
التَّعَاقُدِ أَوِ الإِْعْلاَنِ نَحْوُ أَنْ يَقُول: مَنْ بَنَى لِي
بَيْتًا طُولُهُ عَشَرَةٌ، وَعَرْضُهُ عَشَرَةٌ، فَلَهُ كَذَا، ثُمَّ قَال
بَعْدَ ذَلِكَ طُولُهُ عِشْرُونَ، وَعَرْضُهُ عِشْرُونَ، وَلَمْ يَرْضَ
الْعَامِل بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَفَسَخَ الْعَقْدَ لِذَلِكَ فَلَهُ
أُجْرَةُ الْمِثْل لِمَا عَمِلَهُ، مَعَ أَنَّ الْفَسْخَ حَصَل مِنْهُ؛
لأَِنَّ الْجَاعِل هُوَ الَّذِي أَلْجَأَهُ إِلَى ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ
الْحُكْمُ لَوْ نَقَصَ الْجَاعِل مِنَ الْعَمَل لأَِنَّ النَّقْصَ فَسْخٌ
مِنَ الْجَاعِل.
(15/230)
وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ يَجْرِي عَلَيْهِ
التَّفْصِيل الْمَذْكُورُ فِي الْفِقْرَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ.
وَهَذَا كُلُّهُ فِي التَّصَرُّفِ بِالتَّغْيِيرِ فِيهِمَا قَبْل
الْفَرَاغِ مِنَ الْعَمَل. أَمَّا التَّصَرُّفُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ
فَلاَ أَثَرَ لَهُ، وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لأَِنَّ الْجُعْل
قَدْ لَزِمَ الْجَاعِل وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ بِتَمَامِ الْعَمَل (1) .
وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ كَمَا سَبَقَ (ف 25) .
مَا يَسْتَحِقُّهُ الْعَامِل عِنْدَ تَلَفِ الْجُعْل الْمُعَيَّنِ:
53 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَانَ الْجُعْل الْمَشْرُوطُ فِي
الْعَقْدِ عَيْنًا مُعَيَّنَةً كَثَوْبٍ أَوْ حَيَوَانٍ مُعَيَّنٍ،
فَتَلِفَ بِيَدِ الْجَاعِل قَبْل الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل، وَعَلِمَ
بِهَذَا الْعَامِل، فَلاَ شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ أَتَمَّ الْعَمَل
وَسَلَّمَهُ لِلْجَاعِل.
وَإِنْ جَهِلَهُ الْعَامِل أَوْ تَلِفَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل،
فَلِلْعَامِل أُجْرَةُ الْمِثْل، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَكُونُ
لِلْعَامِل مِثْلُهُ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا
فَلَهُ قِيمَتُهُ، إِذَا أَتَمَّ الْعَمَل الْمُجَاعَل عَلَيْهِ (2) .
وَلَمْ نَعْثُرْ لِغَيْرِهِمْ عَلَى شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 348، 349، ومغني المحتاج 2 / 433، 434، وتحفة
المحتاج 2 / 370، وأسنى المطالب 2 / 443، وحاشية البجيرمي على الخطيب 3 /
174، 175، وكشاف القناع 2 / 419.
(2) حاشية الرملي على أسنى المطالب 2 / 441، وكشاف القناع 2 / 418.
(15/230)
حَبْسُ الْمُتَعَاقَدِ عَلَيْهِ
لاِسْتِيفَاءِ الْجُعْل:
54 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا رَدَّ الْعَامِل الشَّيْءَ
الْمُتَعَاقَدَ عَلَى رَدِّهِ مِنْ ضَالَّةٍ، أَوْ عَبْدٍ آبِقٍ، أَوْ
نَحْوِهِمَا مِنَ الأَْعْمَال فَلَيْسَ لَهُ حَبْسُهُ - أَيْ مَنْعُهُ -
عَنِ الْجَاعِل لاِسْتِيفَاءِ الْجُعْل؛ لأَِنَّ الْعَامِل إِنَّمَا
يَسْتَحِقُّ الْجُعْل بِتَسْلِيمِ الْمُتَعَاقَدِ عَلَى رَدِّهِ
لِلْجَاعِل، فَلاَ يَكُونُ لَهُ حَبْسُهُ قَبْل الاِسْتِحْقَاقِ.
وَبِمِثْل هَذَا قَال الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا، وَزَادُوا عَلَى ذَلِكَ:
بِأَنَّ الْعَامِل إِنْ حَبَسَ الْمَرْدُودَ عَنِ الْجَاعِل فَتَلِفَ
بَعْدَ الْحَبْسِ ضَمِنَهُ (1) .
قَدْرُ الْجُعْل الْمُسْتَحَقِّ شَرْطًا وَشَرْعًا:
55 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ مَتَى اسْتَكْمَلَتِ
الْجِعَالَةُ شَرَائِطَهَا، فَقَدْرُ الْجُعْل الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ
الْعَامِل هُوَ الْقَدْرُ الْمَشْرُوطُ لَهُ فِي الْعَقْدِ لاَ غَيْرُ،
سَوَاءٌ أَكَانَ أَقَل أَمْ أَكْثَرَ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ أَيْضًا
رَدُّ الْعَبْدِ الآْبِقِ وَغَيْرُهُ مِنَ الأَْعْمَال (ر. ف / 31) .
وَبِمِثْل ذَلِكَ قَال الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا فِي غَيْرِ رَدِّ الْعَبْدِ
الآْبِقِ، وَكَذَا فِي رَدِّهِ أَيْضًا إِنْ كَانَ الْجُعْل الْمَشْرُوطُ
فِي الْعَقْدِ أَكْثَرَ مِمَّا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ فِي ذَلِكَ، وَكَذَا
إِنْ كَانَ الْمَشْرُوطُ فِي رَدِّهِ أَقَل مِمَّا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ فِي
قَوْلٍ مَرْجُوحٍ عِنْدَهُمْ.
56 - وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ اسْتِحْقَاقَ
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 443، وكشاف القناع 2 / 418.
(15/231)
الْعَامِل الْجُعْل فِي رَدِّ الآْبِقِ لاَ
يَحْتَاجُ إِلَى اشْتِرَاطٍ سَابِقٍ مِنَ الْجَاعِل، بَل يَكُونُ لَهُ
الْجُعْل بِالشَّرْعِ عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ
الْمَشْرُوطُ أَقَل مِمَّا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ تُلْغَى التَّسْمِيَةُ،
وَلِلرَّادِّ مَا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ؛ لأَِنَّ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ
الشَّرْعُ شَيْئًا مُقَدَّرًا مِنَ الْمَال عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ،
فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ كَامِلاً بِوُجُودِ سَبَبِهِ. وَالْوَجْهُ الآْخَرُ
أَنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ إِلاَّ الْمُسَمَّى، وَقَدْ قَدَّمَهُ صَاحِبُ
الْفُرُوعِ قَال فِي التَّنْقِيحِ وَشَرْحِ الْمُنْتَهَى: وَهُوَ ظَاهِرُ
كَلاَمِ غَيْرِهِ، وَأَطْلَقَ الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُنْتَهَى.
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي الْجُعْل الْمُقَدَّرِ شَرْعًا
عِنْدَهُمْ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إِنْ رَدَّهُ مِنَ الْمِصْرِ
(أَيِ الْبَلَدِ نَفْسِهِ) فَلَهُ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ،
وَإِنْ رَدَّهُ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
(إِحْدَاهُمَا) يَلْزَمُهُ دِينَارٌ، أَوِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا عَلَى
الرَّاجِحِ، لِمَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَل فِي جُعْل
الآْبِقِ إِذَا جَاءَ بِهِ خَارِجًا مِنَ الْحَرَمِ دِينَارًا (1) .
(وَالثَّانِيَةُ) - يَلْزَمُهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، لِقَوْل عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قِيل لَهُ
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في جعل الآبق إذا جاء به
خارجا من الحرم دينارا ". أورده ابن قدامة في المغني (6 / 97 - ط مكتبة
القاهرة) ولم يعزه إلى أحد ثم قال: " هذا مرسل، وفيه مقال ".
(15/231)
إِنَّ فُلاَنًا قَدْ أَتَى بِإِبَاقٍ مِنَ
الْقَوْمِ فَقَال الْحَاضِرُونَ: لَقَدْ أَصَابَ أَجْرًا، فَقَال ابْنُ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجُعْلاً، إِنْ شَاءَ مِنْ كُل رَأْسٍ
أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا. وَلاَ فَرْقَ أَنْ يَزِيدَ الْجُعْل الْمُقَدَّرُ
عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ أَوْ لاَ يَزِيدُ، لِعُمُومِ الدَّلِيل،
وَقِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ كَانَ الْجَاعِل قَدِ اشْتَرَطَهُ لَهُ. كَمَا
لاَ فَرْقَ أَيْضًا بَيْنَ كَوْنِ مَنْ رَدَّهُ مَعْرُوفًا بِرَدِّ
الإِْبَاقِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الرَّادُّ زَوْجًا
لِلرَّقِيقِ الآْبِقِ، أَوْ ذَا رَحِمٍ يَعُولُهُ الْمَالِكُ أَمْ لاَ (1)
. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِبَاقٌ) .
مَا يَسْتَحِقُّهُ الْعَامِل فِي حَالَةِ فَسَادِ الْجُعْل:
57 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: يَكُونُ لِلْعَامِل الْجَاهِل - بِأَنَّ
الْجُعْل الْفَاسِدَ لاَ شَيْءَ فِيهِ - أُجْرَةُ مِثْلِهِ، وَهَذَا إِذَا
كَانَ الْجُعْل الْفَاسِدُ مِمَّا يُقْصَدُ وَيُرْغَبُ فِيهِ فِي
الْجُمْلَةِ كَمَا لَوْ قَال الْجَاعِل: مَنْ رَدَّ ضَالَّتِي فَلَهُ
ثَوْبٌ، أَوْ دَابَّةٌ، أَوْ أُرْضِيهِ، أَوْ أُعْطِيهِ خَمْرًا أَوْ
خِنْزِيرًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِرَادِّهَا أُجْرَةُ مِثْلِهِ، وَإِنْ
كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا لِجَهَالَةِ الْجُعْل، أَوْ عَدَمِ مَالِيَّتِهِ،
أَوْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَكَذَا يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ
الْمِثْل عَلَى الرَّاجِحِ لَوْ قَال الْجَاعِل: مَنْ رَدَّهَا فَلَهُ
نِصْفُهَا مَثَلاً، وَقِيل: يَسْتَحِقُّ الْعَامِل النِّصْفَ الْمَشْرُوطَ
لَهُ إِنْ كَانَتِ الضَّالَّةُ مَعْلُومَةً.
وَيُرَاعَى فِي تَقْدِيرِ أُجْرَةِ الْمِثْل الزَّمَانُ الَّذِي
__________
(1) كشاف القناع 4 / 203.
(15/232)
حَصَل فِيهِ كُل الْعَمَل، لاَ الزَّمَانُ
الَّذِي حَصَل فِيهِ التَّسْلِيمُ فَقَطْ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْجُعْل الْمَشْرُوطُ فِي الْعَقْدِ لاَ يُقْصَدُ
التَّعَاقُدُ عَلَيْهِ، وَلاَ يُرْغَبُ فِيهِ عَادَةً كَالدَّمِ
وَالتُّرَابِ، فَإِنَّهُ لاَ شَيْءَ لِلْعَامِل وَإِنْ جَهِل أَنَّهُ لاَ
شَيْءَ فِيهِ؛ لأَِنَّ الْجَاعِل لَمْ يُطْمِعْهُ فِي شَيْءٍ عِوَضًا عَنْ
عَمَلِهِ.
وَبِمِثْل هَذَا قَال الْحَنَابِلَةُ فِي غَيْرِ رَدِّ الْعَبْدِ الآْبِقِ
عَلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ.
58 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَكُونُ لِلْعَامِل جُعْل مِثْلِهِ - عَلَى
الرَّاجِحِ - إِنْ أَتَمَّ الْعَمَل الْمُتَعَاقَدَ عَلَيْهِ، وَلاَ شَيْءَ
لَهُ إِنْ لَمْ يُتِمُّهُ؛ لأَِنَّ الْجُعْل أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ،
فَيُرَدُّ الْفَاسِدُ مِنْهُ إِلَى صَحِيحِهِ، إِلاَّ أَنْ تَقَعَ
الْجِعَالَةُ الْفَاسِدَةُ بِجُعْلٍ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَتَمَّ الْعَمَل
أَمْ لَمْ يُتِمُّهُ، كَأَنْ يَقُول الْجَاعِل: إِنْ أَتَيْتَنِي
بِضَالَّتِي فَلَكَ كَذَا، وَإِنْ لَمْ تَأْتِ بِهَا فَلَكَ كَذَا،
فَلِلْعَامِل فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ، أَتَى بِهَا، أَوْ
لَمْ يَأْتِ بِهَا؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ قَدْ خَرَجَ
عَنْ حَقِيقَةِ الْجِعَالَةِ الَّتِي يُشْتَرَطُ الْجُعْل فِيهَا بِتَمَامِ
الْعَمَل، وَمَتَى خَرَجَ عَنْ حَقِيقَتِهِ كَانَ فِيهِ أُجْرَةُ الْمِثْل.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ جُعْل الْمِثْل وَأُجْرَةِ الْمِثْل، أَنَّ أُجْرَةَ
الْمِثْل يَسْتَحِقُّهَا الْعَامِل سَوَاءٌ أَتَمَّ الْعَمَل أَمْ لاَ.
(15/232)
أَمَّا جُعْل الْمِثْل فَلاَ يَسْتَحِقُّهُ
الْعَامِل إِلاَّ إِذَا أَتَمَّ الْعَمَل، فَقَبْلَهُ لاَ شَيْءَ لَهُ (1)
.
اخْتِلاَفُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَتَنَازُعُهُمَا:
أ - فِي سَمَاعِ الإِْذْنِ بِالْعَمَل أَوِ الْعِلْمِ بِهِ:
59 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنِ اخْتَلَفَ الْجَاعِل وَالْعَامِل فِي
بُلُوغِ الإِْعْلاَنِ بِطَلَبِ الْعَمَل لِلْعَامِل أَوْ سَمَاعِهِ لَهُ،
بِأَنِ ادَّعَى الْعَامِل: أَنَّهُ سَمِعَ الْجَاعِل يَقُول: مَنْ رَدَّ
ضَالَّتِي فَلَهُ كَذَا، وَقَال الْجَاعِل: بَل أَتَيْتَ بِهَا دُونَ أَنْ
تَسْمَعَ شَيْئًا، فَالْقَوْل قَوْل الْعَامِل بِيَمِينِهِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْقَوْل قَوْل الْجَاعِل بِلاَ يَمِينٍ، ثُمَّ
يُنْظَرُ فِي الْعَامِل، فَإِنْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ طَلَبُ الضَّوَال
وَرَدُّهَا بِعِوَضٍ فَلَهُ جُعْل مِثْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ
عَادَتِهِ ذَلِكَ، فَلاَ شَيْءَ لَهُ سِوَى النَّفَقَةِ فَقَطْ.
ب - اشْتِرَاطُ الْجُعْل فِي الْعَقْدِ:
60 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنِ اخْتَلَفَا فِي
اشْتِرَاطِ الْجُعْل وَتَسْمِيَتِهِ فِي الْعَقْدِ، فَقَال الْعَامِل
لِلْجَاعِل: شَرَطْتَ لِي جُعْلاً، وَأَنْكَرَ الْجَاعِل
__________
(1) تحفة المحتاج 2 / 368، وحاشية البجيرمي على المنهج 3 / 219، وأسنى
المطالب 2 / 441، ومغني المحتاج 431، ونهاية المحتاج 4 / 345، ومنح الجليل
4 / 10، وحاشية الصاوي على الشرح الصغير 2 / 257، 258، والخرشي وحاشية
العدوي عليه 7 / 76، وكشاف القناع 3 / 419.
(15/233)
الْتِزَامَهُ لَهُ، فَالْقَوْل قَوْل
الْجَاعِل بِيَمِينِهِ، لأَِنَّ الأَْصْل بَرَاءَتُهُ وَعَدَمُ
الاِشْتِرَاطِ، وَعَلَى الْعَامِل الْبَيِّنَةُ إِنْ أَرَادَ أَنْ يُثْبِتَ
ذَلِكَ.
ج - فِي وُقُوعِ الْعَمَل مِنَ الْعَامِل:
61 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنِ اخْتَلَفَا فِي وُقُوعِ
الْعَمَل مِنَ الْعَامِل كَرَدِّ ضَالَّةٍ مَثَلاً، فَقَال: الْعَامِل:
أَنَا رَدَدْتُهَا، وَقَال الْجَاعِل: بَل رَدَّهَا غَيْرُكَ، أَوِ
اخْتَلَفَا فِي سَعْيِ الْعَامِل لِتَحْصِيل الضَّالَّةِ، فَقَال الْجَاعِل
لِلْعَامِل: لَمْ تَسْعَ فِي تَحْصِيلِهَا وَرَدِّهَا بَل رَجَعَتْ
بِنَفْسِهَا، فَالْقَوْل قَوْل الْجَاعِل بِيَمِينِهِ فِي الصُّورَتَيْنِ.
وَكَذَا الْقَوْل لِلْجَاعِل بِيَمِينِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنِ
اخْتَلَفَ الْعَامِل وَالْعَبْدُ الآْبِقُ الْمَرْدُودُ، فَقَال الْعَامِل:
أَنَا رَدَدْتُهُ، وَقَال الْعَبْدُ: جِئْتُ بِنَفْسِي، وَصَدَّقَهُ
مَوْلاَهُ.
د - فِي قَدْرِ الْجُعْل، وَجِنْسِهِ وَصِفَتِهِ:
62 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:
إِنِ اخْتَلَفَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعَمَل وَتَسْلِيمِهِ لِلْجَاعِل
فِي قَدْرِ الْجُعْل الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ، هَل هُوَ دِينَارٌ، أَوْ
دِينَارَانِ، أَوْ فِي قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْعَامِل مِنْهُ كُلِّهِ
أَوْ بَعْضِهِ، أَوْ فِي جِنْسِهِ أَوْ صِفَتِهِ هَل هُوَ دَرَاهِمُ، أَوْ
دَنَانِيرُ، أَوْ عُرُوضٌ؟
فَالْحُكْمُ فِي كُل هَذَا أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ - أَيْ يَحْلِفُ
كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى نَفْيِ قَوْل صَاحِبِهِ وَإِثْبَاتِ
(15/233)
قَوْلِهِ، لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا
مُدَّعٍ وَمُدَّعًى عَلَيْهِ، فَيَنْفِي مَا يُنْكِرُهُ وَيُثْبِتُ مَا
يَدَّعِيهِ وَيَحْلِفُ الْجَاعِل أَوَّلاً عَلَى الرَّاجِحِ، وَيُفْسَخُ
الْعَقْدُ بِالتَّحَالُفِ، وَيَجِبُ لِلْعَامِل أُجْرَةُ الْمِثْل.
وَكَذَلِكَ يَتَحَالَفَانِ وَيَجِبُ لِلْعَامِل أُجْرَةُ الْمِثْل إِنِ
اخْتَلَفَا بَعْدَ شُرُوعِ الْعَامِل فِي الْعَمَل، وَقَبْل الْفَرَاغِ
مِنْهُ، وَكَانَ يَجِبُ لَهُ بِنِسْبَةِ مَا عَمِلَهُ مِنَ الْجُعْل
الْمَشْرُوطِ، أَمَّا إِنِ اخْتَلَفَا قَبْل الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل فَلاَ
تَحَالُفَ؛ لأَِنَّ الْعَامِل لاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا كَمَا سَيَأْتِي.
وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْقَوْل قَوْل الْجَاعِل
بِيَمِينِهِ؛ لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الْقَدْرِ الزَّائِدِ الْمُخْتَلَفِ
فِيهِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ لَمْ يَدَّعِ أَحَدُهُمَا مَا شَأْنُهُ أَنْ
يَكُونَ جُعْلاً مُنَاسِبًا لِذَلِكَ الْعَمَل، فَإِنَّهُمَا
يَتَحَالَفَانِ، وَيَجِبُ لِلْعَامِل جُعْل مِثْلِهِ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ
لَهُ جُعْل مِثْلِهِ إِنِ امْتَنَعَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ حَلِفِ
الْيَمِينِ، أَمَّا إِنِ امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ، فَيَقْضِي
الْقَاضِي لِمَنْ حَلَفَ بِمَا يَدَّعِيهِ.
وَأَمَّا إِنِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا فَقَطْ، مَا شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ
جُعْلاً مُنَاسِبًا، فَالْقَوْل قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ. وَإِنِ ادَّعَى
كُلٌّ مِنْهُمَا مَا شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ جُعْلاً مُنَاسِبًا لِلْعَمَل،
فَالرَّاجِحُ أَنَّ الْقَوْل لِمَنْ كَانَ الْمَال الْمَرْدُودُ فِي
حَوْزِهِ وَتَحْتَ يَدِهِ مِنْهُمَا، وَقِيل: الْقَوْل قَوْل الْجَاعِل؛
لأَِنَّهُ الْغَارِمُ وَالدَّافِعُ لِلْجُعْل. فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَال
فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، بِأَنْ كَانَ فِي يَدِ أَمِينٍ،
(15/234)
فَالرَّاجِحُ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ
وَيَجِبُ لِلْعَامِل جُعْل مِثْلِهِ كَمَا فِي الصُّورَةِ الأُْولَى.
هـ - فِي قَدْرِ الْعَمَل الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ:
63 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْعَمَل
الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ وَالَّذِي يَجِبُ عَلَى الْعَامِل إِنْجَازُهُ
كُلُّهُ حَتَّى يَسْتَحِقَّ كُل الْجُعْل الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ،
نَحْوُ أَنْ يَقُول الْجَاعِل: شَرَطْتُ مِائَةَ دِينَارٍ عَلَى رَدِّ
ضَالَّتَيْنِ مَثَلاً، وَيَقُول الْعَامِل: بَل عَلَى رَدِّ هَذِهِ الَّتِي
جِئْتُكَ بِهَا فَقَطْ، فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ أَيْضًا كَمَا سَبَقَ،
وَيَجِبُ لِلْعَامِل أُجْرَةُ الْمِثْل.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمَسَافَةِ بِأَنْ
قَال الْجَاعِل: جَعَلْتُ ذَلِكَ لِمَنْ رَدَّ الضَّالَّةَ مِنْ عَشَرَةِ
أَمْيَالٍ، وَقَال الْعَامِل: بَل مِنْ سِتَّةٍ فَقَطْ، فَالْقَوْل قَوْل
الْجَاعِل لأَِنَّهُ مُنْكِرٌ، وَالأَْصْل بَرَاءَتُهُ مِمَّا لَمْ
يَعْتَرِفْ بِهِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ اخْتَلَفَا فِي الْعِلْمِ بِمَكَانِ الْمَال
الضَّائِعِ، فَالْقَوْل قَوْل مَنِ ادَّعَى عَدَمَ الْعِلْمِ مِنَ
الْجَاعِل أَوِ الْعَامِل، لأَِنَّ الأَْصْل فِي الْعُقُودِ الصِّحَّةُ،
وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى اشْتِرَاطِهِمْ لاِسْتِحْقَاقِ الْعَامِل الْجُعْل
فِي رَدِّ الْمَال الضَّائِعِ: أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ
جَاعِلاً مَكَانَهُ عَلَى مَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ.
و فِي نَوْعِ الْعَمَل وَعَيْنِ الْمَرْدُودِ:
64 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنِ اخْتَلَفَا فِي عَيْنِ
(15/234)
الضَّالَّةِ الْمَرْدُودَةِ مَثَلاً،
فَقَال الْجَاعِل: شَرَطْتُ الْجُعْل فِي رَدِّ غَيْرِهَا، وَقَال
الْعَامِل: بَل شَرَطْتُهُ فِي رَدِّهَا، فَالْقَوْل قَوْل الْجَاعِل،
لأَِنَّ الْعَامِل يَدَّعِي عَلَيْهِ شَرْطَ الْجُعْل فِي هَذَا الْعَقْدِ،
وَالْجَاعِل يُنْكِرُهُ، وَالأَْصْل عَدَمُ الشَّرْطِ فَكَانَ الْقَوْل
فِيهِ قَوْلَهُ.
اخْتِلاَفُ الْعَامِل وَالْمُشَارِكِ لَهُ:
65 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنِ اخْتَلَفَ الْعَامِل وَالْمُشَارِكُ لَهُ
فِي الْعَمَل، فَقَال الْعَامِل لِلْمُشَارِكِ: لَقَدْ قَصَدْتُ أَنْ
تُعَاوِنَنِي بِعَمَلِكَ مَعِي، فَيَكُونُ كُل الْجُعْل لِي، وَقَال
الْمُشَارِكُ: بَل قَصَدْتُ أَنْ أَعْمَل لِنَفْسِي وَيَكُونُ لِي نَصِيبِي
مِنَ الْجُعْل، فَالْقَوْل قَوْل الْعَامِل إِنْ صَدَّقَهُ الْجَاعِل،
وَيَكُونُ لَهُ كُل الْجُعْل، فَإِنْ كَذَّبَهُ حَلَفَ الْجَاعِل،
وَلَزِمَهُ نِصْفُ الْجُعْل لِلْعَامِل، وَلاَ شَيْءَ لِلْمُشَارِكِ
بِحَالٍ عَلَى مَا سَبَقَ (1) .
وَلَمْ نَعْثُرْ لِغَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى شَيْءٍ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ.
__________
(1) حاشية البجيرمي على شرح المنهج 3 / 222، وأسنى المطالب وحاشية الرملي
عليه 2 / 441، 443، وتحفة المحتاج 2 / 370، والأنوار 1 / 419، والمهذب 1 /
412، ومغني المحتاج 2 / 95، 434، وحاشية القليوبي على شرح المحلي للمنهاج 3
/ 134، والخرشي وحاشية العدوي عليه 7 / 71، 74، 75، وحاشية الدسوقي على
الشرح الكبير للدردير 4 / 66، 67، والمغني 6 / 354، 355، وكشاف القناع 2 /
419.
(15/235)
انْحِلاَل عَقْدِ الْجِعَالَةِ:
أَوَّلاً - فَسْخُهُ وَأَسْبَابُهُ:
66 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ لِكُلٍّ مِنَ
الْجَاعِل وَالْعَامِل أَنْ يَفْسَخَ عَقْدَ الْجِعَالَةِ قَبْل شُرُوعِ
الْعَامِل فِي الْعَمَل، وَكَذَا بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي الْعَمَل قَبْل
تَمَامِهِ؛ لأَِنَّهَا عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ قَبْل تَمَامِ الْعَمَل عَلَى
مَا سَبَقَ.
وَصُورَةُ الْفَسْخِ مِنَ الْجَاعِل أَنْ يَقُول: فَسَخْتُ الْعَقْدَ، أَوْ
رَدَدْتُهُ، أَوْ أَبْطَلْتُهُ، أَوْ رَجَعْتُ فِيهِ، أَوْ أَبْطَلْتُ
إِعْلاَنِي، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَصُورَتُهُ مِنَ الْعَامِل أَنْ يَقُول: فَسَخْتُ الْعَقْدَ، أَوْ
رَدَدْتُهُ، أَوْ أَبْطَلْتُهُ، وَالْمُرَادُ بِفَسْخِ الْعَامِل رَدُّ
الْعَقْدِ، لِمَا سَبَقَ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ قَبُولُهُ لَفْظًا،
فَيُؤَوَّل الْفَسْخُ فِي حَقِّهِ إِلَى هَذَا.
وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الْفَسْخُ قَبْل الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل مِنَ
الْعَامِل الْمُعَيَّنِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُعَيَّنِ فَلاَ يُتَصَوَّرُ
الْفَسْخُ مِنْهُ إِلاَّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل؛ لأَِنَّهُ إِذَا
قَال الْجَاعِل: مَنْ رَدَّ ضَالَّتِي فَلَهُ كَذَا فَهُوَ تَعْلِيقٌ لاَ
يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِالْعَمَل، فَلَوْ قَال شَخْصٌ رَدًّا عَلَى ذَلِكَ
قَبْل أَنْ يَعْمَل شَيْئًا: فَسَخْتُ الْجِعَالَةَ، لَغَا قَوْلُهُ، إِذْ
لاَ عَقْدَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يُفْسَخَ.
وَأَمَّا بَعْدَ تَمَامِ الْعَمَل فَلاَ أَثَرَ لِلْفَسْخِ حِينَئِذٍ؛
لأَِنَّ الْجُعْل قَدْ لَزِمَ الْجَاعِل، وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ فَلاَ
يُرْفَعُ.
وَبِمِثْلِهِ أَيْضًا قَال الْمَالِكِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَامِل
سَوَاءٌ قَبْل شُرُوعِهِ فِي الْعَمَل أَمْ بَعْدَهُ، وَالْجَاعِل
(15/235)
قَبْل شُرُوعِ الْعَامِل فِي الْعَمَل
عَلَى الرَّاجِحِ.
وَأَمَّا بَعْدَ شُرُوعِ الْعَامِل فِي الْعَمَل فَلَيْسَ لِلْجَاعِل أَنْ
يَفْسَخَ عَقْدَ الْجِعَالَةِ - عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - حَتَّى وَلَوْ
كَانَ الْعَمَل الَّذِي شَرَعَ فِيهِ الْعَامِل قَلِيلاً لاَ أَهَمِّيَّةَ
وَلاَ قِيمَةَ لَهُ، لأَِنَّ الْعَقْدَ لاَزِمٌ بِالنِّسْبَةِ لَهُ بَعْدَ
الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل عَلَى مَا سَبَقَ (1) .
ثَانِيًا - انْفِسَاخُهُ وَأَسْبَابُهُ:
67 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: تَنْفَسِخُ الْجِعَالَةُ بِمَوْتِ أَحَدِ
الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَجُنُونِهِ جُنُونًا مُطْبِقًا وَإِغْمَائِهِ.
وَالرَّاجِحُ أَنَّ الاِنْفِسَاخَ بِالْجُنُونِ يَخْتَصُّ بِالْعَامِل
الْمُعَيَّنِ، لِعَدَمِ ارْتِبَاطِ الْعَقْدِ بِالْعَامِل غَيْرِ
الْمُعَيَّنِ الَّذِي عَلِمَ بِإِعْلاَنِ الْجَاعِل، فَلَوْ طَرَأَ
لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ جُنُونٌ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَكَانَ الْعَامِل
غَيْرَ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ أَتَمَّ الْعَمَل، وَسَلَّمَهُ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ
مِنْ جُنُونِهِ أَوْ قَبْلَهَا اسْتَحَقَّ الْجُعْل الْمُسَمَّى فِي
الْعَقْدِ، إِذْ لاَ مَعْنَى لاِنْفِسَاخِ الْعَقْدِ بِحَنُونِهِ مَعَ
عَدَمِ ارْتِبَاطِهِ وَاخْتِصَاصِهِ بِهِ.
وَالرَّاجِحُ مِنَ الأَْقْوَال عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهَا لاَ
تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إِلاَّ قَبْل شُرُوعِ
__________
(1) تحفة المحتاج 2 / 369، 370، وحاشية البجيرمي على الخطيب 3 / 172، وأسنى
المطالب 2 / 443، ومغني المحتاج 2 / 433، وحاشية القليوبي على شرح المحلي
للمنهاج 3 / 133، والحطاب والتاج والإكليل 5 / 455، والمقدمات 2 / 307،
308، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 4 / 68، وكشاف القناع 2 /
419.
(15/236)
الْعَامِل فِي الْعَمَل، أَمَّا بَعْدَ
شُرُوعِهِ فِي الْعَمَل فَلاَ تَنْفَسِخُ بِهِ، وَيَلْزَمُ الْعَقْدُ
وَرَثَةَ كُلٍّ مِنَ الْجَاعِل وَالْعَامِل، فَلاَ يَكُونُ لِوَرَثَةِ
الْجَاعِل أَنْ يَمْنَعُوا الْعَامِل مِنَ الْعَمَل، وَلاَ يَكُونُ
لِلْجَاعِل - إِنْ مَاتَ الْعَامِل - أَنْ يَمْنَعَ وَرَثَتَهُ مِنَ
الْعَمَل إِنْ كَانُوا أُمَنَاءَ.
وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْحَنَابِلَةِ عَلَى شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
ثَالِثًا - النَّتَائِجُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى فَسْخِ عَقْدِ
الْجِعَالَةِ:
قَبْل الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل:
68 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ شَيْءَ لِلْعَامِل الْمُعَيَّنِ الَّذِي
سَبَقَ قَبُولُهُ لِعَقْدِ الْجِعَالَةِ إِنْ فَسَخَ الْعَقْدَ قَبْل
شُرُوعِهِ فِي الْعَمَل، لأَِنَّهُ لَمْ يَعْمَل شَيْئًا وَكَذَلِكَ لاَ
شَيْءَ لَهُ إِنْ فَسَخَ الْجَاعِل الْعَقْدَ، وَعَلِمَ بِفَسْخِهِ
الْعَامِل الْمُعَيَّنُ قَبْل الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل، أَوْ أَعْلَنَ
الْجَاعِل فَسْخَ الْعَقْدِ وَأَشَاعَهُ قَبْل الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل
إِذَا كَانَ الْعَامِل غَيْرَ مُعَيَّنٍ.
وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْجِعَالَةِ عَدَا مَا
سَبَقَ ذِكْرُهُ لِلْحَنَابِلَةِ فِي رَدِّ الْعَبْدِ الآْبِقِ،
وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِيمَنِ اعْتَادَ أَدَاءَ مِثْل ذَلِكَ الْعَمَل
بِعِوَضٍ.
بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل:
69 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ فَسَخَ الْعَامِل -
مُعَيَّنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ - عَقْدَ الْجِعَالَةِ بَعْدَ
(15/236)
شُرُوعِهِ فِي الْعَمَل فَلاَ شَيْءَ لَهُ؛
لأَِنَّ الْجُعْل إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ لِلْعَامِل بِتَمَامِ الْعَمَل،
وَقَدْ فَوَّتَهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَلَمْ يَحْصُل لِلْجَاعِل مَا أَرَادَهُ
مِنَ الْعَقْدِ، وَسَوَاءٌ أَوَقَعَ الْبَعْضُ الَّذِي عَمِلَهُ مُسَلَّمًا
لِلْجَاعِل كَبَعْضِ حَائِطٍ بَنَاهُ الْعَامِل - أَمْ لَمْ يَقَعْ
مُسَلَّمًا لَهُ كَتَفْتِيشِ الْعَامِل عَلَى الْمَال الضَّائِعِ
الْمُتَعَاقَدِ عَلَى رَدِّهِ.
وَبِمِثْلِهِ أَيْضًا قَال الْمَالِكِيَّةُ، فِيمَا عَدَا مَا سَبَقَ
ذِكْرُهُ. مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الْجِعَالَةِ عِنْدَهُمْ فِي كُل عَمَلٍ
يَكُونُ لِلْجَاعِل فِيهِ مَنْفَعَةٌ قَبْل تَمَامِهِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: مَا لَوْ زَادَ
الْجَاعِل فِي الْعَمَل وَلَمْ يَرْضَ الْعَامِل بِالزِّيَادَةِ فَفَسَخَ
لِذَلِكَ، فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْل عَلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ.
70 - أَمَّا إِنْ فَسَخَ الْجَاعِل الْعَقْدَ بَعْدَ شُرُوعِ الْعَامِل فِي
الْعَمَل الْمُتَعَاقَدِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ - لِلْعَامِل
فِيمَا عَمِل - أُجْرَةُ الْمِثْل عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ
الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّ عَدَمَ لُزُومِ عَقْدِ
الْجِعَالَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلْجَاعِل حَقُّ فَسْخِهِ، وَإِذَا
فُسِخَ لَمْ يَجِبِ الْمُسَمَّى كَسَائِرِ الْفُسُوخِ، إِلاَّ أَنَّ عَمَل
الْعَامِل وَقَعَ مُقَوَّمًا فَلاَ يَضِيعُ عَلَيْهِ بِفَسْخِ غَيْرِهِ،
فَيَرْجِعُ إِلَى بَدَلِهِ وَهُوَ أُجْرَةُ الْمِثْل، وَلاَ يَجُوزُ
لِلْعَامِل أَنْ يُطَالِبَ بِنِسْبَةِ مَا عَمِل مِنَ الْجُعْل الْمُسَمَّى
فِي الْعَقْدِ؛ لاِرْتِفَاعِ الْعَقْدِ بِالْفَسْخِ؛ وَلأَِنَّهُ إِنَّمَا
يَسْتَحِقُّ الْجُعْل الْمُسَمَّى بِالْفَرَاغِ مِنَ الْعَمَل فَكَذَا
بَعْضُهُ.
(15/237)
وَلاَ فَرْقَ فِي وُجُوبِ أُجْرَةِ
الْمِثْل بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَا صَدَرَ مِنَ الْعَامِل لاَ يَحْصُل بِهِ
مَقْصُودُ الْجَاعِل أَصْلاً كَرَدِّ الضَّالَّةِ إِلَى بَعْضِ الطَّرِيقِ
أَوْ يَحْصُل بِهِ بَعْضُ مَقْصُودِهِ، كَمَا لَوْ قَال الْجَاعِل: إِنْ
عَلَّمْتَ ابْنِي الْقُرْآنَ فَلَكَ كَذَا، فَعَلَّمَهُ بَعْضَهُ ثُمَّ
مَنَعَهُ الْجَاعِل مِنْ تَعْلِيمِهِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَيْسَ لِلْجَاعِل أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ بَعْدَ
الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل، فَإِنْ فَسَخَهُ فَلاَ أَثَرَ لِفَسْخِهِ؛
لأَِنَّ الْعَقْدَ لاَزِمٌ بِالنِّسْبَةِ لَهُ حِينَئِذٍ، فَيَسْتَحِقُّ
الْعَامِل - مُعَيَّنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ - الْجُعْل
الْمُسَمَّى بِشَرِيطَةِ أَنْ يُتِمَّ الْعَمَل.
وَلَوْ فَسَخَ الْعَقْدَ الْعَامِل وَالْجَاعِل مَعًا فَالرَّاجِحُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، عَدَمُ اسْتِحْقَاقِ الْعَامِل لِشَيْءٍ مِنَ الأُْجْرَةِ
أَوِ الْجُعْل الْمُسَمَّى لاِجْتِمَاعِ الْمُقْتَضِي لِلاِسْتِحْقَاقِ
وَهُوَ فَسْخُ الْجَاعِل، وَالْمَانِعِ مِنْهُ وَهُوَ فَسْخُ الْعَامِل،
فَيَرْجِعُ الْمَانِعُ (1) .
وَلَمْ نَعْثُرْ لِغَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى شَيْءٍ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ الأَْخِيرَةِ.
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى فَسْخِ الْعَقْدِ بِعِتْقِ الْعَبْدِ الآْبِقِ:
71 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَعْتَقَ الْجَاعِل عَبْدَهُ
__________
(1) تحفة المحتاج 2 / 369، 370، وأسنى المطالب 2 / 442، ونهاية المحتاج 4 /
348، 349، ومغني المحتاج 2 / 433، وحاشية القليوبي على شرح المحلي للمنهاج
3 / 133، والخرشي 7 / 76، وحاشية الصاوي على الشرح الصغير 2 / 257،
والمقدمات 2 / 307، وكشاف القناع 2 / 419.
(15/237)
الآْبِقَ قَبْل رَدِّ الْعَامِل لَهُ،
فَالرَّاجِحُ أَنَّ لِلْعَامِل أُجْرَةَ الْمِثْل تَنْزِيلاً لإِِعْتَاقِهِ
مَنْزِلَةَ فَسْخِهِ.
وَقَال ابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ أَعْتَقَهُ
سَيِّدُهُ قَبْل أَنْ يَعْثُرَ عَلَيْهِ الْعَامِل، فَلاَ شَيْءَ لَهُ إِنْ
عَثَرَ عَلَيْهِ وَرَدَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَعَلِمَ بِعِتْقِهِ
أَمْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ. أَمَّا إِنْ أَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ بَعْدَ أَنْ
عَثَرَ عَلَيْهِ الْعَامِل فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلْعَامِل الْجُعْل
الْمَشْرُوطُ فِي الْعَقْدِ إِنْ كَانَ، أَوْ جُعْل مِثْلِهِ إِنْ لَمْ
يَكُنْ هُنَاكَ اشْتِرَاطٌ وَكَانَ الْعَامِل مُعْتَادًا لِذَلِكَ الْعَمَل
بِعِوَضٍ. فَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ أَوِ الْجَاعِل فَقِيرًا فَالْجُعْل فِي
رَقَبَةِ الْعَبْدِ؛ لأَِنَّهُ بِعُثُورِهِ عَلَيْهِ وَجَبَ لَهُ الْجُعْل.
وَالرَّاجِحُ أَنَّ هِبَةَ الْعَبْدِ الآْبِقِ كَعِتْقِهِ فِي الْحُكْمِ
الْمَذْكُورِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَسْتَحِقُّ الْعَامِل فِي هَذِهِ الْحَالَةِ
النَّفَقَةَ الَّتِي أَنْفَقَهَا عَلَى الآْبِقِ فَقَطْ؛ لأَِنَّ
الْعَتِيقَ لاَ يُسَمَّى آبِقًا.
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى انْفِسَاخِ عَقْدِ الْجِعَالَةِ:
72 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ مَاتَ الْجَاعِل بَعْدَ شُرُوعِ الْعَامِل
فِي الْعَمَل، فَإِنْ مَضَى الْعَامِل فِي الْعَمَل وَأَتَمَّهُ
وَسَلَّمَهُ إِلَى وَرَثَةِ الْجَاعِل، وَجَبَ لَهُ بِنِسْبَةِ مَا
عَمِلَهُ فِي حَيَاةِ الْجَاعِل مِنَ الْجُعْل الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ،
وَلاَ شَيْءَ لَهُ فِيمَا عَمِلَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْجَاعِل؛ لِعَدَمِ
الْتِزَامِ الْوَرَثَةِ لَهُ بِشَيْءٍ
(15/238)
وَسَوَاءٌ أَعَلِمَ الْعَامِل بِمَوْتِ
الْجَاعِل أَمْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ. وَإِنْ مَاتَ الْعَامِل الْمُعَيَّنُ
فَأَتَمَّ وَارِثُهُ الْعَمَل الْمُتَعَاقَدَ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِلْجَاعِل اسْتَحَقَّ بِنِسْبَةِ مَا عَمِلَهُ مُورِّثُهُ قَبْل مَوْتِهِ
مِنَ الْجُعْل الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ أَيْضًا، أَمَّا إِنْ كَانَ
الْعَامِل الْمَيِّتُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَأَتَمَّ وَارِثُهُ أَوْ غَيْرُهُ
الْعَمَل فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْجُعْل الْمَشْرُوطِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الاِنْفِسَاخِ بِالْمَوْتِ حَيْثُ يَجِبُ لِلْعَامِل
مَا ذُكِرَ، وَبَيْنَ الْفَسْخِ حَيْثُ يَجِبُ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْل،
أَنَّ الْجَاعِل فِي الْمَوْتِ لَمْ يَتَسَبَّبْ فِي إِسْقَاطِ الْجُعْل
الْمَشْرُوطِ، وَالْعَامِل تَمَّمَ الْعَمَل بَعْدَ الاِنْفِسَاخِ وَلَمْ
يَمْنَعْهُ الْجَاعِل مِنْهُ بِخِلاَفِ الْفَسْخِ، وَلأَِنَّ الْفَسْخَ
أَقْوَى مِنَ الاِنْفِسَاخِ، لأَِنَّهُ كَإِعْدَامٍ لِلْعَقْدِ مَعَ مَا
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ آثَارٍ فَيُرْجَعُ لِبَدَلِهِ وَهُوَ أُجْرَةُ
الْمِثْل، أَمَّا الاِنْفِسَاخُ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ
صَارَ الْعَقْدُ كَأَنَّهُ لَمْ يُرْفَعْ، فَوَجَبَتْ نِسْبَةُ الْعَمَل
مِنَ الْجُعْل.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَسْتَحِقُّ الْعَامِل فِي حَالَةِ مَا إِذَا
مَاتَ الْجَاعِل، وَكَذَا وَارِثُ الْعَامِل فِي حَالَةِ مَوْتِ الْعَامِل
كُل الْجُعْل الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ عَلَى الرَّاجِحِ مِنَ
الأَْقْوَال إِنْ أَتَمَّ الْعَمَل وَسَلَّمَهُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ مَاتَ الْجَاعِل قَبْل تَسَلُّمِهِ الْعَبْدَ
الآْبِقَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلْعَامِل جُعْلُهُ الْمُقَدَّرُ شَرْعًا
يَأْخُذُهُ مِنْ تَرِكَةِ سَيِّدِهِ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ وَالدُّيُونِ،
وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْتُ سَيِّدِ الْعَبْدِ سَبَبًا
(15/238)
فِي عِتْقِهِ، فَإِنْ كَانَ كَمَا فِي
الْمُدَبَّرِ (1) ، وَأُمِّ الْوَلَدِ (2) فَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِل؛
لأَِنَّ الْعَمَل لَمْ يَتِمَّ، إِذِ الْعَتِيقُ لاَ يُسَمَّى آبِقًا.
وَكَذَلِكَ لاَ شَيْءَ لَهُ فِي غَيْرِ الْعَبْدِ الآْبِقِ مِنَ
الأَْمْوَال الْمَرْدُودَةِ إِنْ مَاتَ الْجَاعِل قَبْل تَسَلُّمِهَا،
وَتَكُونُ لَهُ النَّفَقَةُ فَقَطْ يَأْخُذُهَا مِنْ تَرِكَتِهِ فِي
الصُّورَتَيْنِ عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ (3) .
حُكْمُ عَمَل الْعَامِل بَعْدَ الْفَسْخِ:
73 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ عَمِل الْعَامِل بَعْدَ
فَسْخِ الْجَاعِل لِلْعَقْدِ عَالِمًا بِهِ فَلاَ شَيْءَ لَهُ، وَكَذَلِكَ
إِنْ كَانَ جَاهِلاً بِهِ عَلَى الرَّاجِحِ، وَلاَ يُنَافِي هَذَا مَا
سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْعَامِل أُجْرَةَ الْمِثْل، إِنْ
غَيَّرَ الْجَاعِل الْعَقْدَ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ؛ لأَِنَّ الَّذِي
مَعَنَا فِيمَا إِذَا فَسَخَ الْجَاعِل بِلاَ بَدَلٍ بِخِلاَفِ مَا سَبَقَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَسْتَحِقُّ الْعَامِل الْجُعْل
__________
(1) المدبر: هو العبد الذي تعلقت حريته بموت سيده ولتفصيل أحكامه (ر:
تدبير) .
(2) أم الولد: هي الأمة إذا ولدت من سيدها فتعتق بموته، ولتفصيل أحكامها
(ر: استيلاد) .
(3) أسنى المطالب 2 / 442، 443، وحاشية البجيرمي على المنهج 3 / 221،
وحاشية القليوبي على شرح المحلي للمنهاج 3 / 433، والحطاب 5 / 452، والخرشي
وحاشية العدوي عليه 7 / 73، والمقدمات 2 / 308، وكشاف القناع وشرح المنتهى
بهامشه 2 / 420، 447.
(15/239)
الْمُسَمَّى إِنْ أَتَمَّ الْعَمَل،
سَوَاءٌ أَكَانَ عَالِمًا بِالْفَسْخِ أَمْ لاَ، وَلاَ عِبْرَةَ بِفَسْخِ
الْجَاعِل مَا دَامَ قَدْ حَدَثَ بَعْدَ شُرُوعِ الْعَامِل فِي الْعَمَل
(1) .
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 348، ومغني المحتاج 2 / 434، وأسنى المطالب 2 / 443،
والمقدمات 2 / 307، والخرشي 7 / 76، وكشاف لقناع 2 / 419.
(15/239)
جِعْرَانَةُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجِعْرَانَةُ بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ عَلَى
الأَْفْصَحِ. (قَال فِي الْقَامُوسِ: وَقَدْ تُكْسَرُ الْعَيْنُ
وَتُشَدَّدُ الرَّاءُ وَقَال الشَّافِعِيُّ: التَّشْدِيدُ خَطَأٌ) .
مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، سُمِّيَتْ بِاسْمِ امْرَأَةٍ
كَانَتْ تَسْكُنُهَا، وَكَانَتْ تُلَقَّبُ بِالْجِعْرَانَةِ. وَهِيَ
تَبْعُدُ عَنْ مَكَّةَ سِتَّةَ فَرَاسِخَ (أَيْ 18 مِيلاً) وَتَبْعُدُ عَنْ
حُدُودِ الْحَرَمِ تِسْعَةَ أَمْيَالٍ، وَهِيَ خَارِجَةٌ مِنْ حُدُودِ
الْحَرَمِ (1) .
وَالْفُقَهَاءُ يَتَكَلَّمُونَ عَنْهَا كَمِيقَاتٍ مِنْ مَوَاقِيتِ
الْعُمْرَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ بِالْحَرَمِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّنْعِيمُ:
2 - التَّنْعِيمُ فِي اللُّغَةِ مِنْ نَعَّمَهُ اللَّهُ تَنْعِيمًا، أَيْ
جَعَلَهُ ذَا رَفَاهِيَةٍ، وَبِلَفْظِ الْمَصْدَرِ وَهُوَ التَّنْعِيمُ:
__________
(1) المصباح المنير، ومتن اللغة، والقاموس، ولسان العرب المحيط، والمغرب
للمطرزي مادة: " جعر "، والقليوبي 2 / 95، وكشاف القناع 2 / 519، وشفاء
الغرام 1 / 291.
(15/240)
مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ
الْمُكَرَّمَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ، وَفِيهِ مَسْجِدُ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَِنَّهُ عَنْ
يَمِينِهِ جَبَلٌ يُقَال لَهُ: نُعَيْمٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ جَبَلٌ يُقَال
لَهُ نَاعِمٌ، وَمَحَلُّهُ فِي وَادٍ يُقَال لَهُ نُعْمَانُ. وَهُوَ
أَقْرَبُ أَطْرَافِ الْحِل إِلَى مَكَّةَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ
أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ، وَقِيل ثَلاَثَةٌ (1) .
فَالتَّنْعِيمُ أَيْضًا مِنْ مَوَاقِيتِ الْعُمْرَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ
بِالْحَرَمِ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى مَكَّةَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ.
ب - الْحُدَيْبِيَةُ:
3 - الْحُدَيْبِيَةُ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ بِئْرٌ قُرْبَ مَكَّةَ عَلَى
طَرِيقِ جُدَّةَ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْمَوْضِعِ، وَهِيَ أَبْعَدُ
أَطْرَافِ الْحَرَمِ عَنِ الْبَيْتِ، نَقَل الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ
الْوَاقِدِيِّ: أَنَّهَا عَلَى تِسْعَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَسْجِدِ
وَالْحُدَيْبِيَةُ أَيْضًا مِنْ مَوَاقِيتِ الْعُمْرَةِ إِلاَّ أَنَّهَا
أَبْعَدُ مِنَ التَّنْعِيمِ وَمِنَ الْجِعْرَانَةِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمِيقَاتَ الْوَاجِبَ فِي
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح، والمغرب للمطرزي، ومتن اللغة، ولسان
العرب المحيط مادة: " نعم "، والقليوبي 2 / 95 ط دار إحياء الكتب العربية،
وحاشية الجمل 2 / 398 ط إحياء التراث العربي.
(2) المصباح المنير، ولسان العرب، والمغرب للمطرزي، ومتن اللغة مادة: " حدب
"، والقليوبي 2 / 95، وحاشية الجمل 2 / 398.
(15/240)
الْعُمْرَةِ لِمَنْ فِي الْحَرَمِ أَنْ
يَخْرُجَ إِلَى الْحِل وَلَوْ خُطْوَةً مِنْ أَيِّ جَانِبٍ شَاءَ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي الأَْفْضَل: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ
وَهُوَ قَوْل صَاحِبِ " التَّنْبِيهِ " مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ
التَّنْعِيمَ أَفْضَل مِنَ الْجِعْرَانَةِ وَالْحُدَيْبِيَةِ (2) .
لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ أَخَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنْ
يَعْتَمِرَ بِهَا مِنَ التَّنْعِيمِ (3) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ أَفْضَل
الْبِقَاعِ مِنْ أَطْرَافِ الْحِل لإِِحْرَامِ الْعُمْرَةِ،
الْجِعْرَانَةُ، ثُمَّ التَّنْعِيمُ، ثُمَّ الْحُدَيْبِيَةُ (4) .
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار ط دار المعرفة 1 / 142، وبدائع الصنائع 1 /
167 ط دار الكتاب العربي، والقوانين الفقهية / 135، والقليوبي 2 / 95،
وروضة الطالبين 3 / 44، وكشاف القناع 2 / 519، والمغني 3 / 258، 259.
(2) الاختيار لتعليل المختار 1 / 142، وبدائع الصنائع 1 / 167، وروضة
الطالبين 3 / 43، 44، وكشاف القناع 2 / 519، 401.
(3) حديث: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عبد الرحمن أخا عائشة رضي
الله عنهما أن يعتمر بها من التنعيم ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 606
ط السلفية) ، ومسلم (2 / 870 ط عيسى الحلبي) .
(4) حاشية الدسوقي 2 / 22 ط دار الفكر، ومواهب الجليل 3 / 28، والقليوبي 2
/ 95، وحاشية الجمل 2 / 398، وروضة الطالبين ط المكتب الإسلام 3 / 43، 44،
وكشاف القناع 2 / 401 ط عالم الكتب.
(15/241)
وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ
فَيَقُولُونَ: إِنَّ الْجِعْرَانَةَ وَالتَّنْعِيمَ مُتَسَاوِيَانِ، وَلاَ
أَفْضَلِيَّةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الآْخَرِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ " إِحْرَامٌ ".
جُعْلٌ
انْظُرْ: جِعَالَةٌ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 22، والقوانين الفقهية / 135.
(15/241)
جَلْدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَلْدُ بِفَتْحِ الْجِيمِ فِي اللُّغَةِ: الضَّرْبُ بِالسَّوْطِ
وَهُوَ مَصْدَرُ جَلَدَهُ يَجْلِدُهُ
يُقَال: رَجُلٌ مَجْلُودٌ وَجَلِيدٌ فِي حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ أَوْ
غَيْرِهِمَا، وَامْرَأَةٌ مَجْلُودَةٌ وَجَلِيدٌ وَجَلِيدَةٌ (وَيُطْلَقُ
الْجَلْدُ مَجَازًا عَلَى الإِْكْرَاهِ عَلَى الشَّيْءِ فَيُقَال: جَلَدَهُ
عَلَى الأَْمْرِ: أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ) (1)
وَالْجَلْدُ فِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الضَّرْبُ:
2 - الضَّرْبُ أَعَمُّ مِنَ الْجَلْدِ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ بِالسَّوْطِ
وَبِغَيْرِهِ.
ب - الرَّجْمُ:
3 - الرَّجْمُ هُوَ الضَّرْبُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى الْمَوْتِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْجَلْدِ بِاخْتِلاَفِ السَّبَبِ،
__________
(1) تاج العروس، مادة: " جلد ".
(15/242)
فَيَحْرُمُ جَلْدُ إِنْسَانٍ ظُلْمًا، أَيْ
فِي غَيْرِ حَقٍّ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي.
جَلْدُ مَنِ ارْتَكَبَ مَا يُوجِبُ الْعِقَابَ بِالْجَلْدِ، وَاجِبٌ عَلَى
الإِْمَامِ، إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ عِنْدَهُ: كَالزَّانِي
الْبِكْرِ، وَالتَّأْدِيبُ بِالْجَلْدِ جَائِزٌ لِلإِْمَامِ وَنَائِبِهِ
إِذَا رَأَى فِيهِ مَصْلَحَةً.
ثُبُوتُ الْجَلْدِ:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجَلْدَ حَدًّا يَجِبُ
عَلَى مَنِ ارْتَكَبَ إِحْدَى جَرَائِمَ ثَلاَثٍ وَهِيَ: الزِّنَا
وَالْقَذْفُ وَشُرْبُ الْمُسْكِرِ.
وَقَدْ ثَبَتَ الْجَلْدُ فِي الأُْولَيَيْنِ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ،
قَال تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وَقَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ {وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (1) .
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ
أَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلاَّ قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى:
فَقَال الْخَصْمُ الآْخَرُ - وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ - نَعَمْ فَاقْضِ
بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَائْذَنْ لِي، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُل، قَال: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى
هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ عَلَى ابْنِي
الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ
أَهْل الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي: أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ
__________
(1) سورة النور / 2 - 4.
(15/242)
وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ
هَذَا الرَّجْمَ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأََقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا
بِكِتَابِ اللَّهِ: الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ، وَعَلَى ابْنِكَ
جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. . إِلَخْ (1) وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا: قَالَتْ: لَمَّا نَزَل عُذْرِي قَامَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ ذَلِكَ
وَتَلاَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا نَزَل، أَمَرَ بِرَجُلَيْنِ وَامْرَأَةٍ
فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ (2) .
أَمَّا حَدُّ شُرْبِ الْمُسْكِرِ فَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ: فَعَنْ
أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجَلَدَهُ
بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ قَال: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ.
فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ فَقَال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عَوْفٍ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ (3) .
الْجَلْدُ فِي حَدِّ الزِّنَا:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ حَدَّ الْحُرِّ
الْمُكَلَّفِ الزَّانِي الْبِكْرِ - وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُجَامِعْ فِي
نِكَاحٍ
__________
(1) حديث: " والذي نفسي بيده لأقضين بينكما. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 5
/ 323 - 324 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1325 - ط الحلبي) .
(2) حديث عائشة: " لما نزل عذري. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 336 - ط
الحلبي) . وقال: " حديث حسن غريب ".
(3) حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر. . . ".
أخرجه مسلم (3 / 1331 - ط الحلبي) والبيهقي في الخلافيات كما في فتح الباري
(12 / 64 - ط السلفية) واللفظ للبيهقي.
(15/243)
صَحِيحٍ - مِائَةُ جَلْدَةٍ ذَكَرًا كَانَ
أَوْ أُنْثَى، سَوَاءٌ أَزَنَى - بِبِكْرٍ أَمْ ثَيِّبٍ. لِلآْيَةِ
السَّابِقَةِ.
وَحَدَّ غَيْرِ الْحُرِّ: نِصْفُ ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُحْصَنًا أَمْ
غَيْرَ مُحْصَنٍ (1) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ
فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (2) .
وَالْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ: الْحَرَائِرُ، وَحَدُّ الْحُرَّةِ إِمَّا
الرَّجْمُ أَوِ الْجَلْدُ، وَالرَّجْمُ لاَ يَتَنَصَّفُ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ
حَدَّ غَيْرِ الْحُرَّةِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرَّةِ الْبِكْرِ: وَهُوَ
خَمْسُونَ جَلْدَةً، وَقِيسَ عَلَيْهَا الذَّكَرُ غَيْرُ الْحُرِّ؛ لأَِنَّ
الأُْنُوثَةَ وَصْفٌ أَلْغَاهُ الشَّارِعُ فِي الْحُدُودِ، وَنَحْوِهَا،
فَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى (3) .
وَاخْتَلَفُوا فِي جَلْدِ الْمُحْصَنِ مَعَ الرَّجْمِ - وَهُوَ الْبَالِغُ
الْحُرُّ الَّذِي جَامَعَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ - فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى
أَنَّهُ لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ فِي حَدِّهِ (4) .
وَقَالُوا: إِنَّ الآْيَةَ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (5) عَامَّةٌ؛ لأَِنَّ الأَْلِفَ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 146، روض الطالب 4 / 129، وشرح الزرقاني 8 / 83، فتح
القدير 4 / 134، وكشاف القناع 6 / 91.
(2) سورة النساء / 25.
(3) المصادر السابقة.
(4) رد المحتار على الدر المختار 3 / 147، روض الطالب 4 / 128، وكشاف
القناع 6 / 90، وشرح الزرقاني 8 / 82، ونهاية المحتاج 7 / 426.
(5) سورة النور / 2.
(15/243)
وَاللاَّمَ فِيهَا لِلْجِنْسِ، فَتَشْمَل
الْمُحْصَنَ، وَغَيْرَ الْمُحْصَنِ، إِلاَّ أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ
أَخْرَجَتِ الْمُحْصَنَ (1) .
قَال الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ الآْيَةِ: " يَقُول اللَّهُ تَعَالَى:
حَدُّ الزَّانِيَةِ وَالزَّانِي الْبَالِغِ الْحُرِّ الْبِكْرِ: مِائَةُ
جَلْدَةٍ.
وَرَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَامِدِيَّةَ،
وَمَاعِزًا، وَالْيَهُودِيَّيْنِ (2) ، وَلَمْ يَجْلِدْهُمْ، وَلَوْ
جَلَدَهُمْ مَعَ الرَّجْمِ مَعَ كَثْرَةِ مَنْ حَضَرَ عَذَابَهُمَا مِنْ
طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ لَنُقِل إِلَيْنَا، وَيَبْعُدُ أَلاَّ يَرْوِيَهُ
أَحَدٌ مِمَّنْ حَضَرَ. فَعَدَمُ إِثْبَاتِهِ فِي رِوَايَةٍ مِنَ
الرِّوَايَاتِ مَعَ تَنَوُّعِهَا وَاخْتِلاَفِ أَلْفَاظِهَا: دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّهُ لَمْ يَقَعِ الْجَلْدُ.
وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ: الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ
وَالرَّجْمُ (3) بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ، بِأَحَادِيثِ الْغَامِدِيَّةِ،
وَمَاعِزٍ، وَالْيَهُودِيَّيْنِ.
__________
(1) حاشية الجمل على تفسير الجلالين في تفسير سورة النور.
(2) حديث رجم الغامدية أخرجه مسلم (3 / 1322 - ط الحلبي) وحديث رجم ماعز.
أخرجه البخاري (الفتح 12 / 135 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1316 - ط الحلبي)
. وحديث: " رجم اليهوديين. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 166 - ط
السلفية) ومسلم (3 / 1326 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " الثيب بالثيب جلد مائة والرجم ". أخرجه مسلم (3 / 1316 - ط
الحلبي) من حديث عبادة بن الصامت.
(15/244)
وَنُقِل عَنِ الشَّافِعِيِّ: دَلَّتِ
السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْجَلْدَ ثَابِتٌ عَلَى الْبِكْرِ، سَاقِطٌ عَنِ
الثَّيِّبِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَال: إِذَا اجْتَمَعَ
حَدَّانِ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِمَا الْقَتْل، أَحَاطَ الْقَتْل بِذَلِكَ
(1) .
7 - وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَاعِدَةٌ فِقْهِيَّةٌ تَقُول: إِنَّ مَا أَوْجَبَ
أَعْظَمَ الأَْمْرَيْنِ بِخُصُوصِهِ لاَ يُوجِبُ أَهْوَنَهُمَا
بِعُمُومِهِ. فَزِنَا الْمُحْصَنِ أَوْجَبَ أَعْظَمَ الأَْمْرَيْنِ -
وَهُوَ الرَّجْمُ - بِخُصُوصِ كَوْنِهِ " زِنَا مُحْصَنٍ " فَلاَ يُوجِبُ
أَهْوَنَهُمَا - وَهُوَ الْجَلْدُ - بِعُمُومِ كَوْنِهِ زِنًا (2) .
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْهُ إِلَى أَنَّ
الزَّانِيَ الْمُحْصَنَ يُجْلَدُ قَبْل الرَّجْمِ، ثُمَّ يُرْجَمُ، وَهُوَ
قَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأُبَيِّ بْنِ
كَعْبٍ، وَبِهِ قَال: الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (3) وَهَذَا عَامٌّ:
يَشْمَل الْمُحْصَنَ وَغَيْرَ الْمُحْصَنِ، ثُمَّ جَاءَتِ السُّنَّةُ
بِالرَّجْمِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ، وَالتَّغْرِيبِ فِي حَقِّ الْبِكْرِ،
فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ عَلِيٌّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ جَلَدْتُهَا
__________
(1) سبل السلام 4 / 4 - 6 والمغني 8 / 160.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 149، دار الكتب العلمية بيروت.
(3) سورة النور / 2.
(15/244)
بِكِتَابِ اللَّهِ، وَرَجَمْتُهَا
بِسُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ الثَّيِّبُ
بِالثَّيِّبِ، جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ (1) . وَهَذَا الْحَدِيثُ
الصَّرِيحُ الثَّابِتُ لاَ يُتْرَكُ إِلاَّ بِمِثْلِهِ. وَالأَْحَادِيثُ
الْبَاقِيَةُ لَيْسَتْ صَرِيحَةً، فَإِنَّهُ ذُكِرَ فِيهَا الرَّجْمُ
وَلَمْ يُذْكَرِ الْجَلْدُ، فَلاَ يُعَارَضُ بِهِ الصَّرِيحُ بِدَلِيل
أَنَّ التَّغْرِيبَ يَجِبُ لِذِكْرِهِ فِي الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ
بِمَذْكُورٍ فِي الآْيَةِ؛ وَلأَِنَّهُ زَانٍ فَيُجْلَدُ؛ وَلأَِنَّهُ قَدْ
شُرِعَ فِي حَقِّ الْبِكْرِ عُقُوبَتَانِ: الْجَلْدُ وَالتَّغْرِيبُ،
فَيُشْرَعُ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ أَيْضًا عُقُوبَتَانِ: الْجَلْدُ
وَالرَّجْمُ فَيَكُونُ الْجَلْدُ مَكَانَ التَّغْرِيبِ (2) . وَالتَّفْصِيل
فِي مُصْطَلَحِ: (زِنًا) .
الْجَلْدُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ:
8 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُكَلَّفَ الْحُرَّ
إِذَا قَذَفَ مُحْصَنًا أَوْ مُحْصَنَةً، فَحَدُّهُ ثَمَانُونَ جَلْدَةً،
وَأَنَّ حَدَّ الْعَبْدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ (3) . لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (4) . وقَوْله
تَعَالَى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ
الْعَذَابِ} (5) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: " قَذْفٌ ".
__________
(1) حديث: " الثيب بالثيب. . . . " تقدم تخرجه ف (6) .
(2) المغني 8 / 160 - 161، وسبل السلام 4 / 4 - 6.
(3) ابن عابدين 3 / 167، شرح الزرقاني 8 / 88، وروضة الطالبين 1 / 106،
والمغني 8 / 217 - 218.
(4) سورة النور / 4.
(5) سورة النساء / 25.
(15/245)
الْجَلْدُ فِي حَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ:
9 - حَدُّ شَارِبِ الْخَمْرِ الْجَلْدُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. لِخَبَرِ
مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: جَلَدَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَال (1) .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الْجَلَدَاتِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ،
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا ثَمَانُونَ جَلْدَةً
فِي الْحُرِّ، وَفِي غَيْرِهِ أَرْبَعُونَ. قَالُوا: وَأَجْمَعَ
الصَّحَابَةُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ وَبَرَةَ
الْكَلْبِيِّ قَال: أَرْسَلَنِي خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَتَيْتُهُ وَمَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعَلِيٌّ
وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُمْ مَعَهُ
مُتَّكِئُونَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقُلْتُ: إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ
أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلاَمَ، وَيَقُول:
إِنَّ النَّاسَ قَدِ انْهَمَكُوا فِي الْخَمْرِ وَتَحَاقَرُوا الْعُقُوبَةَ
فِيهِ فَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، هُمْ هَؤُلاَءِ عِنْدَكَ،
فَسَأَلَهُمْ، فَقَال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَرَاهُ إِذَا سَكِرَ
هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَعَلَى الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ، قَال.
فَقَال: عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَبْلِغْ صَاحِبَكَ مَا قَال، قَال:
فَجَلَدَ خَالِدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثَمَانِينَ، وَجَلَدَ عُمَرُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثَمَانِينَ. قَال: وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ إِذَا أُتِيَ بِالرَّجُل الضَّعِيفِ الَّذِي كَانَتْ مِنْهُ
الزَّلَّةُ ضَرَبَهُ أَرْبَعِينَ
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال "
أخرجه مسلم (3 / 1331 - ط الحلبي) ، من حديث أنس بن مالك.
(15/245)
قَال: وَجَلَدَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَيْضًا ثَمَانِينَ وَأَرْبَعِينَ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ أَرْبَعُونَ جَلْدَةً فِي
الْحُرِّ، وَعِشْرُونَ فِي غَيْرِهِ. لِمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ.
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَضْرِبُ فِي
الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَال أَرْبَعِينَ (2) . وَلَوْ رَأَى
الإِْمَامُ بُلُوغَهُ فِي الْحُرِّ ثَمَانِينَ جَازَ فِي الأَْصَحِّ،
وَالزِّيَادَةُ تَعْزِيرَاتٌ، وَقِيل: حَدٌّ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: جَلَدَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ أَبُو
بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ (3) ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا
أَيْ جَلْدُ أَرْبَعِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ. وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ
أَحْمَدَ (4) .
الْجَلْدُ فِي التَّعْزِيرِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلإِْمَامِ، وَنَائِبِهِ
__________
(1) أثر ابن وبرة الكلبي قال: " أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر. . . "
أخرجه البيهقي (8 / 320 - ط دائرة المعارف العثمانية) . وقال ابن حجر في
التلخيص (4 / 75 - ط شركة الطباعة الفنية) " وفي صحته نظر، لما ثبت في
الصحيحين عن أنس. . . " ثم ذكر حديث أنس السابق.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضرب في الخمر بالنعال
والجريد أربعين ". أخرجه مسلم (3 / 1331 - ط الحلبي) من حديث أنس.
(3) حديث: " جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين. . . . " الحديث أخرجه
مسلم (3 / 1332 - ط الحلبي) .
(4) الجمل 5 / 160، وروضة الطالبين 10 / 170، ومغني المحتاج 4 / 189،
والمغني 8 / 307.
(15/246)
التَّعْزِيرَ بِالْجَلْدِ إِذَا رَأَى فِي
ذَلِكَ مَصْلَحَةً (1) .
وَالتَّعْزِيرُ: كُل عُقُوبَةٍ لَيْسَ لَهَا فِي الشَّرْعِ حَدٌّ
مُقَدَّرٌ، فَيُتْرَكُ لِلإِْمَامِ تَحْدِيدُ نَوْعِهَا وَتَقْدِيرُ
عَدَدِهَا. فَلِلإِْمَامِ أَنْ يُعَزِّرَ بِالْحَبْسِ، أَوْ بِالْجَلْدِ
أَوْ غَيْرِهِمَا، لِخَبَرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال فِي سَرِقَةِ تَمْرٍ دُونَ نِصَابٍ: غُرْمُ مِثْلِهِ وَجَلَدَاتُ
نَكَالٍ (2) .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا: هَل لِجَلَدَاتِ التَّعْزِيرِ حَدٌّ أَدْنَى لاَ
يَنْزِل عَنْهُ الإِْمَامُ فِي اجْتِهَادِهِ، وَحَدٌّ أَعْلَى لاَ
يَتَجَاوَزُهُ؟
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ أَدْنَى (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ أَقَل التَّعْزِيرِ بِالْجَلْدِ: ثَلاَثُ جَلَدَاتٍ.
نَقَل ذَلِكَ صَاحِبُ رَدِّ الْمُحْتَارِ عَنِ الْقُدُورِيِّ، وَضَعَّفَهُ
ابْنُ عَابِدِينَ: وَاخْتَارَ أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِعَدَدٍ (4) .
وَأَمَّا الْحَدُّ الأَْعْلَى: فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو
حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ: إِلَى
__________
(1) ابن عابدين 3 / 177، ونهاية المحتاج 8 / 19 - 22، والمغني 8 / 324،
والزرقاني 8 / 115.
(2) حديث: " غرم مثله وجلدات نكال " ورد في نهاية المحتاج (8 / 19 طبعة
مصطفى البابي الحلبي) ولم يوجد فيما بين أيدينا من كتب السنة.
(3) المغني 8 / 324، والزرقاني 8 / 115، ونهاية المحتاج 8 / 22.
(4) حاشية ابن عابدين 3 / 177 - 178.
(15/246)
أَنَّهُ لاَ يَبْلُغُ بِهِ أَقَل حَدٍّ
مَشْرُوعٍ، مَعَ اخْتِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ التَّفَاصِيل.
وَقَال أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: لاَ يَزِيدُ جَلْدُ
التَّعْزِيرِ عَنْ عَشْرِ جَلَدَاتٍ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ لاَ يَزِيدُ
عَنْ تِسْعٍ وَثَلاَثِينَ فِي تَعْزِيرِ الْعَبْدِ، وَخَمْسٍ وَسَبْعِينَ
فِي الْحُرِّ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ أَنْ تَزِيدَ عَنْ مِائَةِ جَلْدَةٍ (1) .
وَالتَّفْصِيل وَالأَْدِلَّةُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَعْزِيرٌ) .
كَيْفِيَّةُ الْجَلْدِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُجْلَدُ الصَّحِيحُ الْقَوِيُّ
فِي الْحُدُودِ، بِسَوْطٍ مُعْتَدِلٍ، لَيْسَ رَطْبًا، وَلاَ شَدِيدَ
الْيُبُوسَةِ، وَلاَ خَفِيفًا لاَ يُؤْلِمُ، وَلاَ غَلِيظًا يَجْرَحُ.
وَلاَ يَرْفَعُ الضَّارِبُ يَدَهُ فَوْقَ رَأْسِهِ بِحَيْثُ يَبْدُو
بَيَاضُ إِبِطِهِ، وَيَتَّقِي الْمَقَاتِل، وَيُفَرِّقُ الْجَلَدَاتِ عَلَى
بَدَنِهِ (2) .
الأَْعْضَاءُ الَّتِي لاَ تُجْلَدُ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُضْرَبُ عَلَى الْوَجْهِ
وَالْمَذَاكِيرِ وَالْمَقَاتِل، لِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَال: إِذَا
__________
(1) المصادر السابقة، والزرقاني 8 / 116.
(2) ابن عابدين 3 / 147 - 178، والزرقاني 8 / 114، وروضة الطالبين 10 /
172، والمغني 8 / 313 - 315.
(15/247)
ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبِ
الْوَجْهَ (1) . وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال
لِلْجَلاَّدِ: " أَعْطِ كُل عُضْوٍ حَقَّهُ وَاتَّقِ الْوَجْهَ
وَالْمَذَاكِيرَ.
ثُمَّ إِنَّ الْوَجْهَ أَشْرَفُ أَعْضَاءِ الإِْنْسَانِ وَمَعْدِنُ
جَمَالِهِ فَلاَ بُدَّ مِنْ تَجَنُّبِهِ خَوْفًا مِنْ تَجْرِيحِهِ
وَتَقْبِيحِهِ.
وَأَمَّا عَدَمُ ضَرْبِ الْمَقَاتِل فَلأَِنَّ فِي ضَرْبِهَا خَطَرًا؛
وَلأَِنَّهَا مَوَاضِعُ يُسْرِعُ الْقَتْل إِلَى صَاحِبِهَا بِالضَّرْبِ
عَلَيْهَا، وَالْقَصْدُ مِنَ الْحَدِّ الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ لاَ الْقَتْل
(2) .
وَقَدْ أَلْحَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الرَّأْسَ بِالْوَجْهِ
بِالْمَعْنَى، وَاعْتَبَرُوهُ مِنَ الْمُسْتَثْنَيَاتِ فِي الضَّرْبِ،
لأَِنَّهُ مَجْمَعُ الْحَوَاسِّ الْبَاطِنَةِ، وَبِعَدَمِ ضَرْبِهِ جَزَمَ
بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ كَالْبُوطِيِّ وَالْمَاوَرْدِيِّ.
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ
الرَّأْسَ لاَ يُسْتَثْنَى مِنَ الضَّرْبِ؛ لأَِنَّهُ مُعَظَّمٌ (أَيْ
يُحْوَى بِالْعَظْمِ) وَمَسْتُورٌ بِالشَّعْرِ فَلاَ يُخَافُ تَشْوِيهُهُ،
بِخِلاَفِ الْوَجْهِ، لِمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ أَبَا
بَكْرٍ أُتِيَ بِرَجُلٍ انْتَفَى مِنْ أَبِيهِ فَقَال لِلْجَلاَّدِ: "
اضْرِبِ الرَّأْسَ فَإِنَّ فِيهِ شَيْطَانًا (3) .
__________
(1) حديث: " إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه ". أخرجه أحمد (2 / 244 - ط
الميمنية) من حديث أبي هريرة. وهو في البخاري (الفتح 5 / 182 - ط السلفية)
بلفظ: " إذا قاتل ".
(2) فتح القدير 4 / 126 - 127، وتبين الحقائق 3 / 198، والدسوقي 4 / 354،
ومغني المحتاج 4 / 190، والمغني 8 / 317، وعون المعبود 12 / 200.
(3) فتح القدير 4 / 127، والدسوقي 4 / 354، ومغني المحتاج 4 / 190، ونهاية
المحتاج 8 / 15، وروضة الطالبين 10 / 172، والمغني 8 / 317.
(15/247)
وَلاَ شَكَّ أَنَّ هَذَا (أَيْ مَنْعَ
ضَرْبِ الْوَجْهِ) لَيْسَ مُرَادًا عَلَى الإِْطْلاَقِ لأَِنَّا نَقْطَعُ
أَنَّهُ فِي حَال قِيَامِ الْحَرْبِ مَعَ الْكُفَّارِ لَوْ تَوَجَّهَ
لأَِحَدٍ ضَرْبُ وَجْهِ مَنْ يُبَارِزُهُ وَهُوَ فِي مُقَابَلَتِهِ حَال
الْحَمَلَةِ لاَ يَكُفُّ عَنْهُ، إِذْ قَدْ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ
ذَلِكَ وَيَقْتُلُهُ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ إِلاَّ مَنْ يُضْرَبُ صَبْرًا
فِي حَدٍّ (1) .
وَقَال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ
بِاتِّقَاءِ الْبَطْنِ وَالصَّدْرِ أَيْضًا (2) .
وَلاَ يُلْقَى الْمَجْلُودُ عَلَى وَجْهِهِ، وَلاَ يُمَدُّ، وَلاَ
يُجَرَّدُ عَنِ الثِّيَابِ، وَلاَ يُتْرَكُ عَلَيْهِ مَا يَمْنَعُ
الأَْلَمَ مِنْ جُبَّةٍ مَحْشُوَّةٍ وَفَرْوَةٍ، وَيُجْلَدُ الرَّجُل
قَائِمًا، وَالْمَرْأَةُ جَالِسَةً عِنْدَ الأَْئِمَّةِ: أَبِي حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُجَرَّدُ مِنَ الثِّيَابِ، وَيُجْلَدُ قَاعِدًا
(4) .
تَأْخِيرُ الْجَلْدِ لِعُذْرٍ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُؤَخَّرُ الْجَلْدُ، لِلْبَرْدِ
وَالْحَرِّ الشَّدِيدَيْنِ وَلِلْحَمْل، وَالْمَرَضِ الَّذِي يُرْجَى
__________
(1) فتح القدير 4 / 127.
(2) فتح القدير 4 / 127، والإقناع 4 / 246.
(3) ابن عابدين 3 / 147، والزرقاني 8 / 114، والروضة 10 / 172، والمغني 8 /
313 - 315.
(4) الزرقاني 8 / 114.
(15/248)
بُرْؤُهُ، حَتَّى يَعْتَدِل الْجَوُّ،
وَيَبْرَأَ الْمَرِيضُ، وَتَضَعَ الْحَامِل وَيَنْقَطِعَ نِفَاسُهَا.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَرَضُ مِمَّا لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ أَوْ كَانَ
الْمَجْلُودُ ضَعِيفًا بِالْخِلْقَةِ لاَ يَحْتَمِل السِّيَاطَ فَإِنَّهُ
يُضْرَبُ بِعِثْكَالٍ كَمَا تَقَدَّمَ (1) .
وَانْظُرْ بَحْثَ: (حَامِلٌ) .
الْقِصَاصُ جَلْدًا:
14 - اخْتُلِفَ فِي الْقِصَاصِ فِي اللَّطْمَةِ إِنْ لَمْ تُحْدِثْ جُرْحًا
أَوْ شَقًّا، أَوْ لَمْ تُذْهِبْ مَنْفَعَةَ عُضْوٍ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ
الاِنْضِبَاطِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (قِصَاصٌ) .
أَمَّا إِنْ أَحْدَثَتْ جُرْحًا أَوْ شَقًّا أَوْ ذَهَبَ بِهَا مَنْفَعَةُ
عُضْوٍ فَفِيهَا قِصَاصٌ (2) .
أَمَّا الضَّرْبُ بِالسَّوْطِ فَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ
فِيهِ الْقِصَاصَ (3) .
وَيُفْهَمُ مِنْ عِبَارَاتِ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ عَدَمُ وُجُوبِ
الْقِصَاصِ فِيهِ إِلاَّ إِنْ أَحْدَثَ جِرَاحَةً، وَنَحْوَهَا.
فَقَدْ جَاءَ فِي رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ الْجِنَايَاتُ فِيمَا
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 133 - 134، والمغني 8 / 172 - 173، ابن عابدين 3 /
148، والزرقاني 8 / 84.
(2) الزرقاني 8 / 15 - 17، بدائع الصنائع 7 / 299، ابن عابدين 5 / 374،
روضة الطالبين 9 / 178 - 187، كشاف القناع 5 / 548.
(3) الزرقاني 8 / 15.
(15/248)
دُونَ النَّفْسِ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
جُرْحٌ يَشُقُّ، وَقَطْعٌ يُبِينُ، وَإِزَالَةُ مَنْفَعَةٍ. وَيَقْرُبُ
مِنْهُ مَا فِي الْبَدَائِعِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي " قِصَاصٌ ".
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 179، أسنى المطالب 4 / 23، والبدائع 7 / 296.
(15/249)
جِلْدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجِلْدُ فِي اللُّغَةِ: ظَاهِرُ الْبَشَرَةِ، قَال الأَْزْهَرِيُّ:
الْجِلْدُ غِشَاءُ جَسَدِ الْحَيَوَانِ، وَالْجَمْعُ جُلُودٌ، قَال اللَّهُ
تَعَالَى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا
غَيْرَهَا} (1) . وَقَدْ يُجْمَعُ عَلَى أَجْلاَدٍ. وَيُطْلَقُ عَلَى
الْجِلْدِ أَيْضًا (الْمَسْكُ)
وَسُمِّيَ الْجِلْدُ جِلْدًا لأَِنَّهُ أَصْلَبُ مِنَ اللَّحْمِ، مِنَ
الْجَلَدِ وَهُوَ صَلاَبَةُ الْبَدَنِ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأَْدِيمُ:
2 - الأَْدِيمُ: الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ، أَوِ الْجِلْدُ مَا كَانَ، أَوْ
أَحْمَرُهُ.
وَالأَْدَمَةُ: بَاطِنُ الْجِلْدَةِ الَّتِي تَلِي اللَّحْمَ
__________
(1) سورة النساء / 56.
(2) المصباح المنير، والقاموس المحيط، وتاج العروس في المادة، والمفردات في
غريب القرآن ص 95 - 96، والفروق في اللغة ص 78.
(15/249)
وَالْبَشَرَةُ ظَاهِرُهَا، أَوِ
الأَْدَمَةُ ظَاهِرُ الْجِلْدَةِ الَّذِي عَلَيْهِ الشَّعْرُ وَالْبَشَرَةُ
بَاطِنُهَا، وَمَا ظَهَرَ مِنْ جِلْدَةِ الرَّأْسِ (1) .
وَيُطْلِقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لَفْظَ الأَْدِيمِ عَلَى الْجِلْدِ،
وَبَعْضُهُمْ يُطْلِقُهُ عَلَى الْمَدْبُوغِ مِنَ الْجِلْدِ (2) ،
وَبِالإِْطْلاَقِ الأَْوَّل يَكُونُ الأَْدِيمُ مُرَادِفًا لِلْجِلْدِ.
وَبِالإِْطْلاَقِ الثَّانِي يَكُونُ غَيْرَ مُرَادِفٍ.
ب - الإِْهَابُ:
3 - الإِْهَابُ: الْجِلْدُ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْوَحْشِ، أَوْ
هُوَ مَا لَمْ يُدْبَغْ وَفِي الْحَدِيثِ: أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ
طَهُرَ (3) وَالْجَمْعُ فِي الْقَلِيل آهِبَةٌ وَفِي الْكَثِيرِ أُهُبٌ،
وَرُبَّمَا اسْتُعِيرَ لِجِلْدِ الإِْنْسَانِ، قَال أَبُو مَنْصُورٍ
الأَْزْهَرِيُّ: جَعَلَتِ الْعَرَبُ جِلْدَ الإِْنْسَانِ إِهَابًا،
وَأَنْشَدَ قَوْل عَنْتَرَةَ:
فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الأَْصَمِّ إِهَابَهُ
.
وَعَنْ عَائِشَةَ فِي وَصْفِ أَبِيهَا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا
__________
(1) تاج العروس، والمصباح المنير مادة: (أدم) .
(2) نهاية المحتاج (حاشية الشبراملسي) 1 / 232، وفتح القدير 1 / 64.
(3) حديث: " أيما إهاب دبغ فقد طهر ". أخرجه أحمد (3 / 274 / 1895 ط دار
المعارف) وصححه أحمد شاكر. وأخرجه الترمذي (4 / 221 ط مصطفى الحلبي) وقال:
حسن صحيح، وهو من حديث ابن عباس.
(15/250)
: حَقَنَ الدِّمَاءَ فِي أُهُبِهَا، أَيْ
أَبْقَى دِمَاءَ النَّاسِ فِي أَجْسَادِهَا (1) .
وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الإِْهَابِ عَلَى الْجِلْدِ قَبْل
دِبَاغِهِ، فَإِذَا دُبِغَ لَمْ يُسَمَّ إِهَابًا (2) .
ج - فَرْوَةٌ:
4 - الْفَرْوَةُ: الْجِلْدُ الَّذِي عَلَيْهِ شَعْرٌ أَوْ صُوفٌ،
وَجِلْدَةُ الرَّأْسِ بِمَا عَلَيْهَا مِنَ الشَّعْرِ.
وَجَمْعُ الْفَرْوَةِ: فِرَاءٌ.
وَالْجِلْدُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَبَرٌ أَوْ صُوفٌ لَمْ يُسَمَّ
فَرْوَةً بَل يُسَمَّى جِلْدًا (3) .
وَالْفَرْوَةُ أَخَصُّ مِنَ الْجِلْدِ.
د - الْمَسْكُ:
5 - الْمَسْكُ الْجِلْدُ، وَخَصَّ بِهِ بَعْضُهُمْ جِلْدَ السَّخْلَةِ،
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا كَانَ عَلَى فِرَاشِي
إِلاَّ مَسْكُ كَبْشٍ أَيْ جِلْدُهُ، وَالْمَسْكَةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ
الْجِلْدِ (4) .
فَالْمَسْكُ إِنْ خُصَّ بِهِ جِلْدُ السَّخْلَةِ أَخَصُّ مِنَ الْجِلْدِ،
وَإِلاَّ فَهُوَ مُرَادِفٌ لَهُ.
__________
(1) تاج العروس والمصباح المنير مادة: (أهب) والمجموع للنووي 1 / 220.
(2) رد المحتار على الدر المختار 1 / 135، وبدائع الصنائع 1 / 85، والمجموع
1 / 219.
(3) القاموس المحيط، ولسان العرب مادة: (فرو) والكليات 3 / 359.
(4) القاموس ولسان العرب مادة: (مسك) .
(15/250)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
تَخْتَلِفُ الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجِلْدِ
بِاخْتِلاَفِ الْمَوَاطِنِ:
أَوَّلاً: مَسُّ جِلْدِ الْمُصْحَفِ:
6 - اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى
الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ، أَوْ أَصْغَرَ مَسُّ الْمُصْحَفِ، وَمِنْهُ
جِلْدُهُ الْمُتَّصِل بِهِ لأَِنَّهُ يَشْمَلُهُ اسْمُ الْمُصْحَفِ
وَيَدْخُل فِي بَيْعِهِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ
حَدَثًا أَكْبَرَ مَسُّ جِلْدِ الْمُصْحَفِ وَمَوْضِعِ الْبَيَاضِ مِنْهُ،
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الْقِيَاسِ، وَالْمَنْعُ
أَقْرَبُ إِلَى التَّعْظِيمِ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل الْقَوْل فِي مَسِّ الْمُصْحَفِ وَالْخِلاَفِ فِيهِ
فِي مُصْطَلَحِ: (مُصْحَفٌ) .
ثَانِيًا: تَعَلُّقُ الْجِلْدِ الْمَنْزُوعِ بِمَحَل الطَّهَارَةِ:
7 - اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ: إِنْ كُشِطَ جِلْدٌ
وَتَقَلَّعَ مِنَ الذِّرَاعِ، وَتَعَلَّقَ بِهِ أَوْ بِالْمِرْفَقِ
وَتَدَلَّى مِنْ أَحَدِهِمَا، وَجَبَ غَسْل ظَاهِرِ هَذَا الْجِلْدِ
وَبَاطِنِهِ، وَغَسْل مَا ظَهَرَ بَعْدَ الْكَشْطِ، وَالتَّقَلُّعِ مِنَ
الذِّرَاعِ عِنْدَ الْوُضُوءِ لأَِنَّهُ مِنْ مَحَل الْفَرْضِ، وَإِنْ
كُشِطَ الْجِلْدُ مِنَ الذِّرَاعِ وَبَلَغَ تَقَلُّعُهُ إِلَى الْعَضُدِ،
ثُمَّ تَدَلَّى مِنْهُ فَلاَ يَجِبُ غَسْلُهُ؛ لأَِنَّهُ صَارَ فِي غَيْرِ
مَحَل الْفَرْضِ، وَهُوَ الْعَضُدُ، وَإِنْ تَقَلَّعَ مِنَ الْعَضُدِ
(15/251)
وَتَدَلَّى مِنْهُ فَلاَ يَجِبُ غَسْلُهُ؛
لأَِنَّهُ تَدَلَّى مِنْ غَيْرِ مَحَل الْفَرْضِ، وَإِنْ تَقَلَّعَ مِنَ
الْعَضُدِ وَبَلَغَ التَّقَلُّعُ إِلَى الذِّرَاعِ، ثُمَّ تَدَلَّى مِنْهُ
لَزِمَهُ غَسْلُهُ لأَِنَّهُ صَارَ مِنَ الذِّرَاعِ، وَإِنْ تَقَلَّعَ مِنْ
أَحَدِهِمَا وَالْتَحَمَ بِالآْخَرِ لَزِمَهُ غَسْل مَا حَاذَى مِنْهُ
مَحَل الْفَرْضِ، لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْجِلْدِ الَّذِي عَلَى
الذِّرَاعِ إِلَى الْعَضُدِ، فَإِنْ كَانَ مُتَجَافِيًا عَنْ ذِرَاعِهِ
لَزِمَ غَسْل مَا تَحْتِهِ مِنْ مَحَل الْفَرْضِ فِي الْوُضُوءِ (1) .
ثَالِثًا - طَهَارَةُ الْجِلْدِ بِالذَّكَاةِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ جِلْدَ الْحَيَوَانِ الَّذِي
يُؤْكَل لَحْمُهُ يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ جِلْدٌ
طَاهِرٌ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ مَأْكُولٍ، فَجَازَ الاِنْتِفَاعُ بِهِ
بَعْدَ الذَّكَاةِ كَاللَّحْمِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَثَرِ الذَّكَاةِ فِي تَطْهِيرِ جِلْدِ مَا لاَ يُؤْكَل
لَحْمُهُ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ
وَجُمْلَةُ الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ، إِلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ الَّذِي لاَ
يُؤْكَل لَحْمُهُ لاَ تَعْمَل الذَّكَاةُ فِيهِ، وَلاَ تُؤَثِّرُ فِي
طَهَارَةِ جِلْدِهِ، بَل يَكُونُ نَجِسًا بِهَذِهِ الذَّكَاةِ كَمَا
يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، لأَِنَّ هَذِهِ الذَّكَاةَ لاَ تُطَهِّرُ اللَّحْمَ
وَلاَ تُبِيحُ أَكْلَهُ، كَذَبْحِ الْمَجُوسِ، وَكُل ذَبْحٍ غَيْرِ
مَشْرُوعٍ، فَلاَ يَطْهُرُ بِهَا الْجِلْدُ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ
__________
(1) الدر المختار 1 / 69 - 70 وحاشية الشلبي على تبيين الحقائق 1 / 3،
والخرشي 1 / 123، والمجموع 1 / 389، ومطالب أولي النهى 1 / 116.
(15/251)
الأَْصْلِيَّ بِالذَّبْحِ أَكْل اللَّحْمِ،
فَإِذَا لَمْ يُبِحْهُ هَذَا الذَّبْحُ فَلأََنْ لاَ يُبِيحَ طَهَارَةَ
الْجِلْدِ أَوْلَى.
وَفَرَّقَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بَيْنَ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِ
أَكْلِهِ كَالْخِنْزِيرِ، وَالْمُخْتَلَفِ فِي تَحْرِيمِ أَكْلِهِ
كَالْحِمَارِ، وَالْمَكْرُوهِ أَكْلُهُ كَالسَّبُعِ، قَالُوا: إِنَّ
الْمُخْتَلَفَ فِي تَحْرِيمِ أَكْلِهِ يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالذَّكَاةِ
لَكِنْ لاَ يُؤْكَل، وَأَمَّا مَكْرُوهُ الأَْكْل فَإِنْ ذُكِّيَ لأَِكْل
لَحْمِهِ طَهُرَ جِلْدُهُ تَبَعًا لَهُ، وَإِنْ ذُكِّيَ لأَِخْذِ الْجِلْدِ
فَقَطْ طَهُرَ وَلَمْ يُؤْكَل اللَّحْمُ لأَِنَّهُ مَيْتَةٌ لِعَدَمِ
نِيَّةِ ذَكَاتِهِ بِنَاءً عَلَى تَبَعُّضِ النِّيَّةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ،
وَعَلَى عَدَمِ تَبَعُّضِهَا يُؤْكَل.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ - عِنْدَهُمْ -
بِالدِّبَاغِ يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ إِلاَّ الْخِنْزِيرَ،
لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَال: دِبَاغُ الأَْدِيمِ ذَكَاتُهُ (1) . أَلْحَقَ الذَّكَاةَ
بِالدِّبَاغِ، ثُمَّ الْجِلْدُ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ كَذَا بِالذَّكَاةِ
لأَِنَّ الذَّكَاةَ تُشَارِكُ الدِّبَاغَ فِي إِزَالَةِ الدِّمَاءِ
السَّائِلَةِ وَالرُّطُوبَةِ النَّجِسَةِ فَتُشَارِكُهُ فِي إِفَادَةِ
الطَّهَارَةِ (2) .
__________
(1) حديث: " دباغ الأديم ذكاته " أخرجه أحمد (3 / 476 ط المكتب الإسلامي)
واللفظ له. وأخرجه أبو داود (4 / 368 ط عزت عبيد الدعاس) والحاكم (4 / 141
ط دار الكتاب العربي) وقال حديث صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي وهو من حديث
سلمة بن المحبق.
(2) رد المحتار على الدر المختار 1 / 137، وبدائع الصنائع 1 / 86، وفتح
القدير 8 / 421، وشرح الزرقاني 1 / 23، والمجموع 1 / 245، 246، والمغني 1 /
71، ومطالب أولي النهى 1 / 59.
(15/252)
رَابِعًا - ذَبْحُ الْحَيَوَانِ الَّذِي
لاَ يُؤْكَل لأَِخْذِ جِلْدِهِ:
9 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
ذَبْحُ الْحَيَوَانِ الَّذِي لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ لأَِخْذِ جِلْدِهِ، قَال
النَّوَوِيُّ: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا
الْحِمَارُ الزَّمِنُ وَالْبَغْل الْمُكَسَّرُ وَغَيْرُهُمَا، وَقَال أَبُو
حَنِيفَةَ: يَجُوزُ ذَبْحُهُ لِجِلْدِهِ وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ
أَصَحُّهُمَا عَنْهُ جَوَازُهُ وَالثَّانِيَةُ تُحَرِّمُهُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَجُوزُ ذَبْحُ الْحَيَوَانِ غَيْرِ
الْمَأْكُول لأَِجْل جِلْدِهِ، قَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ
تَيْمِيَّةَ: وَلَوْ كَانَ فِي النَّزْعِ (1) .
خَامِسًا - تَطْهِيرُ الْجِلْدِ بِالدِّبَاغِ:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ جِلْدَ
الْمَيْتَةِ - بِصِفَةٍ عَامَّةٍ - يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ لِلأَْحَادِيثِ
الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ:
هَلاَّ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ،
قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّهَا مَيْتَةٌ، قَال: إِنَّمَا حَرُمَ
أَكْلُهَا (2) .
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) حديث: " هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به "، قالوا: يا رسول الله
إنها ميتة، قال: " إنما حرم أكلها " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 658 ط
السلفية) ، ومسلم (1 / 276 ط عيسى الحلبي) من حديث ابن عباس.
(15/252)
وَقَالُوا: إِنَّهُ جِلْدٌ طَاهِرٌ
طَرَأَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ فَجَازَ أَنْ يُطَهَّرَ كَجِلْدِ
الْمُذَكَّاةِ إِذَا تَنَجَّسَ؛ لأَِنَّ نَجَاسَةَ الْمَيْتَةِ لِمَا
فِيهَا مِنَ الرُّطُوبَاتِ وَالدِّمَاءِ السَّائِلَةِ، وَأَنَّهَا تَزُول
بِالدِّبَاغِ فَتَطْهُرُ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ إِذَا غُسِل، وَلأَِنَّ
الدِّبَاغَ يَحْفَظُ الصِّحَّةَ عَلَى الْجِلْدِ، وَيُصْلِحُهُ
لِلاِنْتِفَاعِ بِهِ كَالْحَيَاةِ، ثُمَّ الْحَيَاةُ تَدْفَعُ النَّجَاسَةَ
عَنِ الْجِلْدِ فَكَذَلِكَ الدِّبَاغُ. ثُمَّ قَال الْحَنَفِيَّةُ: كُل
إِهَابٍ دُبِغَ وَهُوَ يَحْتَمِل الدِّبَاغَةَ طَهُرَ، وَمَا لاَ
يَحْتَمِلُهَا لاَ يَطْهُرُ، إِلاَّ أَنَّ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ لاَ
يَطْهُرُ؛ لأَِنَّ الْخِنْزِيرَ نَجِسُ الْعَيْنِ بِمَعْنَى أَنَّ ذَاتَهُ
بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ نَجِسَةٌ حَيًّا وَمَيِّتًا فَلَيْسَتْ نَجَاسَتُهُ
لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّمِ كَنَجَاسَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ،
فَلِذَا لَمْ يَقْبَل التَّطْهِيرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إِلاَّ فِي
رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ذَكَرَهَا فِي كِتَابِ " مُنْيَةِ
الْمُصَلِّي ".
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: كُل الْجُلُودِ النَّجِسَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ
تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ إِلاَّ الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ وَالْمُتَوَلِّدَ
مِنْ أَحَدِهِمَا، فَلاَ يَطْهُرُ جِلْدُهُمَا بِالدِّبَاغِ، لأَِنَّ
الدِّبَاغَ كَالْحَيَاةِ، ثُمَّ الْحَيَاةُ لاَ تَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنِ
الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فَكَذَلِكَ الدِّبَاغُ، وَلاَ يَزِيدُ الدِّبَاغُ
عَلَى الْحَيَاةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الدِّبَاغُ تَطْهِيرٌ لِلْجُلُودِ، وَلاَ يُحْتَاجُ
بَعْدَهُ إِلَى تَطْهِيرٍ بِالْمَاءِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ - لاَ يَطْهُرُ
الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ حَتَّى يُغْسَل بِالْمَاءِ؛ لأَِنَّ مَا يُدْبَغُ
بِهِ تَنَجَّسَ بِمُلاَقَاةِ الْجِلْدِ، فَإِذَا زَالَتْ نَجَاسَةُ
الْجِلْدِ
(15/253)
بَقِيَتْ نَجَاسَةُ مَا يُدْفَعُ بِهِ،
فَوَجَبَ أَنْ يُغْسَل حَتَّى يَطْهُرَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ - فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ -
وَالْحَنَابِلَةُ - فِي الْمَشْهُورِ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ إِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ - إِلَى أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ نَجِسٌ
وَلَوْ دُبِغَ، وَلاَ يُفِيدُ دَبْغُهُ طَهَارَتَهُ، وَلَكِنْ يَجُوزُ
اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ الْمَائِعَاتِ.
وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ،
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ جِلْدُ مَا كَانَ
طَاهِرًا فِي حَال الْحَيَاةِ.
وَفِي بَقِيَّةِ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ فِي طَهَارَةِ الْجِلْدِ
بِالدِّبَاغِ تَفْصِيلٌ أَوْرَدَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ (1) .
وَفِي الدِّبَاغِ، وَمَا يُدْبَغُ بِهِ، وَالْحَاجَةِ إِلَى فِعْلٍ
لِلدَّبْغِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. . تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ:
(دِبَاغَةٌ) .
سَادِسًا - الاِسْتِنْجَاءُ بِالْجِلْدِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الاِسْتِنْجَاءُ
بِيَابِسٍ (جَامِدٍ) طَاهِرٍ مُنَقٍّ (قَالِعٍ لِلنَّجَاسَةِ) غَيْرِ
مُؤْذٍ وَلاَ مُحَرَّمٍ، فَلاَ يَجُوزُ الاِسْتِنْجَاءُ بِمُبْتَلٍّ، أَوْ
نَجِسٍ، أَوْ أَمْلَسَ، أَوْ مُحَدَّدٍ، أَوْ مُحَرَّمٍ لِكَوْنِهِ
مَطْعُومًا أَوْ حَقًّا لِلْغَيْرِ أَوْ لِشَرَفِهِ.
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 1 / 136، وبدائع الصنائع 1 / 85، والخرشي
1 / 89، والمجموع 1 / 214 - 221 - 225، والمغني 1 / 66.
(15/253)
وَلَهُمْ فِي الاِسْتِنْجَاءِ بِالْجِلْدِ
غَيْرِ الْمَأْكُول تَفْصِيلٌ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ - كَمَا وَرَدَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ -
يَجُوزُ الاِسْتِنْجَاءُ بِنَحْوِ حَجَرٍ مُنَقٍّ كَالْمَدَرِ وَالتُّرَابِ
وَالْعُودِ وَالْخِرْقَةِ وَالْجِلْدِ وَمَا أَشْبَهَهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجِلْدَ الْمُذَكَّى الَّذِي
تُحِلُّهُ الذَّكَاةُ يَطْهُرُ بِهَا، وَلَكِنَّهُ لاَ يَجُوزُ
الاِسْتِنْجَاءُ بِهِ لأَِنَّهُ مَطْعُومٌ. أَمَّا غَيْرُ الْمُذَكَّى
فَإِنَّهُ لاَ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ وَلِذَلِكَ لاَ يَجُوزُ
الاِسْتِنْجَاءُ بِهِ أَيْضًا لِنَجَاسَتِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الطَّاهِرُ مِنَ الْجِلْدِ ضَرْبَانِ:
الأَْوَّل: جِلْدُ الْمَأْكُول الْمُذَكَّى وَلَوْ غَيْرَ مَدْبُوغٍ،
وَالْمَدْبُوغُ مِنْ غَيْرِ الْمَأْكُول، أَمَّا غَيْرُ الْمَدْبُوغِ فَفِي
جَوَازِ الاِسْتِنْجَاءِ بِهِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ كَالثِّيَابِ وَسَائِرِ الأَْعْيَانِ وَإِنْ كَانَ
فِيهِ حُرْمَةٌ، فَلَيْسَتْ هِيَ بِحَيْثُ تَمْنَعُ الاِسْتِعْمَال فِي
سَائِرِ النَّجَاسَاتِ فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ النَّجَاسَةِ.
وَأَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، لأَِمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ فِيهِ
دُسُومَةً تَمْنَعُ التَّنْشِيفَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَأْكُولٌ حَيْثُ يُؤْكَل الْجِلْدُ التَّابِعُ
لِلرُّءُوسِ وَالأَْكَارِعِ تَبَعًا لَهَا، فَصَارَ كَسَائِرِ
الْمَطْعُومَاتِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: لاَ يَجُوزُ بِلاَ خِلاَفٍ، وَإِلَيْهِ مَال
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَكَثِيرُونَ، وَحَمَلُوا مَا نُقِل مِنْ
تَجْوِيزِ الاِسْتِنْجَاءِ عَلَى مَا بَعْدَ الدِّبَاغِ.
(15/254)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ
الْمَدْبُوغُ، وَفِيهِ قَوْلاَنِ: أَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ لأَِنَّ
الدِّبَاغَ يُزِيل مَا فِيهِ مِنَ الدُّسُومَةِ، وَيَقْلِبُهُ عَنْ طَبْعِ
اللُّحُومِ إِلَى طَبْعِ الثِّيَابِ.
وَالثَّانِي: لاَ يَجُوزُ لأَِنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يُؤْكَل وَيَجُوزُ
أَكْلُهُ إِذَا دُبِغَ وَإِنْ كَانَ جِلْدَ مَيْتَةٍ عَلَى اخْتِلاَفٍ
فِيهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: يَجُوزُ بِلاَ خِلاَفٍ، وَمَا نُقِل مِنَ الْمَنْعِ
مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْل الدِّبَاغِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الدَّبْغَ
لاَ يُطَهِّرُ جِلْدَ الْمَيْتَةِ بَل يَظَل نَجِسًا، فَلاَ يَجُوزُ
الاِسْتِنْجَاءُ بِهِ، وَجِلْدُ الْحَيَوَانِ الْمُذَكَّى يَحْرُمُ
الاِسْتِنْجَاءُ بِهِ لأَِنَّ لَهُ حُرْمَةَ الطَّعَامِ (1) .
سَابِعًا - طَهَارَةُ الشَّعْرِ عَلَى الْجِلْدِ:
12 - الشَّعْرُ عَلَى جِلْدِ الْحَيِّ الطَّاهِرِ حَال حَيَاتِهِ طَاهِرٌ
بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَالشَّعْرُ عَلَى جِلْدِ الإِْنْسَانِ الْمَيِّتِ طَاهِرٌ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي
مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالشَّعْرُ مِنْ مَيْتَةِ غَيْرِ الإِْنْسَانِ فِيهِ خِلاَفٌ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِيمَا
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 48، وجواهر الإكليل 1 / 8 - 19، وفتح العزيز شرح
الوجيز 1 / 499 - 501، وحاشية الشرقاوي 1 / 127، ومطالب أولي النهى 1 / 77.
(15/254)
رَجَّحَهُ الْخِرَقِيُّ وَابْنُ قُدَامَةَ
- إِلَى أَنَّ شَعْرَ الْحَيَوَانِ (الطَّاهِرِ حَال حَيَاتِهِ) لاَ
يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ لأَِنَّ الْمَعْهُودَ فِيهِ قَبْل الْمَوْتِ
الطَّهَارَةُ فَكَذَا بَعْدَهُ؛ وَلأَِنَّ الْمَوْتَ لاَ يُحِلُّهُ إِذْ
لَيْسَ فِيهِ حَيَاةٌ فَلَمْ يَنْجُسْ بِالْمَوْتِ وَالدَّلِيل عَلَى
أَنَّهُ لاَ حَيَاةَ فِيهِ أَنَّهُ لاَ يَحُسُّ وَلاَ يَتَأَلَّمُ، وَلاَ
يَحُسُّ الْحَيَوَانُ فِي حَيَاتِهِ وَلاَ يَتَأَلَّمُ بِقَطْعِ الشَّعْرِ
أَوْ قَصِّهِ، وَلَوْ كَانَتْ فِي الشَّعْرِ حَيَاةٌ لَتَأَلَّمَ
الْحَيَوَانُ بِقَصِّهِ أَوْ قَطْعِهِ كَمَا يَتَأَلَّمُ بِقَطْعِ عُضْوٍ
مِنْ أَعْضَائِهِ أَوْ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الصَّحِيحِ - إِلَى أَنَّ شَعْرَ مَيْتَةِ
الْحَيَوَانِ الطَّاهِرِ حَال حَيَاتِهِ غَيْرَ الآْدَمِيِّ يَنْجُسُ
بِالْمَوْتِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمِ
الْمَيْتَةُ} (1) وَهُوَ عَامٌّ لِلشَّعْرِ وَغَيْرِهِ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الشَّعْرَ لاَ يَطْهُرُ بِدِبَاغِ الْجِلْدِ
الَّذِي عَلَيْهِ الشَّعْرُ (2) .
وَفِي الْمَوْضُوعِ عِنْدَهُمُ اخْتِلاَفٌ فِي الأَْقْوَال وَخِلاَفٌ
بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبِ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ:
(شَعْرٌ) .
ثَامِنًا - أَكْل الْجِلْدِ:
13 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ الْمَأْكُول
__________
(1) سورة المائدة / 3.
(2) رد المحتار على الدر المختار 1 / 137، والخرشي 1 / 90، والمجموع 1 /
220 - 231 - 234 - 236 - 238، والمغني 1 / 79 - 80.
(15/255)
الْمُذَكَّى، يُؤْكَل جِلْدُهُ قَبْل
الدَّبْغِ مَا لَمْ يَغْلُظْ وَيَخْشُنْ وَيَصِرْ جِنْسًا آخَرَ غَيْرَ
اللَّحْمِ؛ لأَِنَّ الذَّكَاةَ تُحِل لَحْمَهُ وَجِلْدَهُ وَسَائِرَ مَا
يَجُوزُ أَكْلُهُ مِنْهُ.
أَمَّا الْحَيَوَانُ الْمَأْكُول الَّذِي مَاتَ أَوْ ذُكِّيَ ذَكَاةً
غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ، فَإِنَّ جِلْدَهُ قَبْل دَبْغِهِ لاَ يُؤْكَل، لِقَوْل
اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمِ الْمَيْتَةُ} (1) وَلِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا حَرُمَ مِنَ
الْمَيْتَةِ لَحْمُهَا (2) وَالْجِلْدُ جُزْءٌ مِنَ الْمَيْتَةِ فَحَرُمَ
أَكْلُهُ كَسَائِرِ أَجْزَائِهَا.
هَذَا عَنِ الْحُكْمِ قَبْل الدِّبَاغِ، أَمَّا بَعْدَهُ: فَقَدْ ذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَدِيمِ الْمُفْتَى بِهِ إِلَى تَحْرِيمِ
أَكْل جِلْدِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ لِلآْيَةِ وَالْحَدِيثِ
السَّابِقَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ حَيَوَانٍ مَأْكُولٍ أَمْ غَيْرَ
مَأْكُولٍ (3) .
تَاسِعًا - لُبْسُ الْجِلْدِ وَاسْتِعْمَالُهُ:
14 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ لُبْسِ جِلْدِ الْحَيَوَانِ تَبَعًا لِلْحُكْمِ
بِطَهَارَتِهِ عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ
__________
(1) سورة البقرة / 173.
(2) حديث: " إنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الميتة لحمها "
أخرجه الدارقطني (1 / 47 - 48 ط شركة الطباعة الفنية) من حديث ابن عباس
وضعفه. والبيهقي (1 / 23 ط دار المعرفة) وأصل الحديث في الصحيحين.
(3) رد المحتار على الدر المختار 1 / 136، وجواهر الإكليل 1 / 10، والمجموع
1 / 229 - 230، والشرقاوي 2 / 58، وحاشية الجمل 5 / 307، والمغني 1 / 70.
(15/255)
ف 10) إِلاَّ أَنَّ مَنْ قَال بِنَجَاسَةِ
شَيْءٍ مِنْهُ فَصَّل فِي حُكْمِ اللُّبْسِ وَالاِسْتِعْمَال.
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ اسْتِعْمَال جِلْدِ الْمَيْتَةِ فِي
الْيَابِسِ دُونَ الرَّطْبِ قَبْل الدَّبْغِ، صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ
وَغَيْرُهُ، وَنَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ عَنِ الأَْصْحَابِ، أَمَّا لُبْسُهُ
فَلاَ يَجُوزُ.
وَأَمَّا بَعْدَ الدِّبَاغِ: فَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِيهِ: قَال
الْحَنَفِيَّةُ: جِلْدُ الْمَيْتَةِ - عَدَا الْخِنْزِيرَ - يَطْهُرُ
بِالدِّبَاغِ، وَيَجُوزُ لُبْسُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ وَالاِنْتِفَاعُ بِهِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ رِوَايَةٌ
لِلْحَنَابِلَةِ: جِلْدُ الْمَيْتَةِ بَعْدَ دَبْغِهِ يَجُوزُ
اسْتِعْمَالُهُ فِي الْيَابِسَاتِ لِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا (1) .
وَلأَِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمَّا فَتَحُوا فَارِسَ
انْتَفَعُوا بِسُرُوجِهِمْ وَأَسْلِحَتِهِمْ، وَذَبَائِحِهِمْ مَيْتَةً،
وَلأَِنَّهُ انْتِفَاعٌ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ أَشْبَهَ الاِصْطِيَادَ
بِالْكَلْبِ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ جَوَازَ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمَاءِ وَحْدَهُ
مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَلاَ
الصَّلاَةُ فِيهِ وَلاَ عَلَيْهِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي لُبْسِ وَاسْتِعْمَال جُلُودِ الثَّعَالِبِ
وَالسِّبَاعِ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ -
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لُبْسُ جُلُودِ السِّبَاعِ
أَوِ
__________
(1) حديث: " حديث ميمونة " سبق تخريجه ف / 10.
(15/256)
الرُّكُوبُ عَلَيْهَا، أَوِ الاِنْتِفَاعُ
بِهَا لِحَدِيثِ أَبِي الْمَلِيحِ عَامِرِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَبِيهِ
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ
جُلُودِ السِّبَاعِ (1) .
وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
قَال لِمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَل
تَعْلَمُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى
عَنْ لُبْسِ جُلُودِ السِّبَاعِ وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا؟ قَال: نَعَمْ (2)
.
وَكَذَلِكَ حُكْمُ جُلُودِ الثَّعَالِبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ
تَصِحُّ الصَّلاَةُ فِيهَا عَلَى الأَْصَحِّ لِعَدَمِ طَهَارَةِ الشَّعْرِ
الَّذِي عَلَى تِلْكَ الْجُلُودِ بِالدِّبَاغِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ تُبْنَيَانِ عَلَى الْحُكْمِ عَلَى
حِلِّهَا، فَإِنْ قِيل بِتَحْرِيمِهَا فَحُكْمُ جُلُودِهَا حُكْمُ جُلُودِ
بَقِيَّةِ السِّبَاعِ، وَكَذَلِكَ السَّنَانِيرُ الْبَرِّيَّةُ، فَأَمَّا
الأَْهْلِيَّةُ فَمُحَرَّمَةٌ، وَهَل تَطْهُرُ جُلُودُهَا بِالدِّبَاغِ؟
يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.
وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَال:
__________
(1) حديث: " نهى عن جلود السباع " أخرجه أبو داود (4 / 374 - 375 ط عزت
عبيد الدعاس) والنسائي (7 / 176 ط دار البشائر الإسلامية) والترمذي (4 /
241 ط مصطفى الحلبي) وصححه. من حديث أبي المليح، والحاكم (1 / 144 ط دار
الكتاب العربي) ووافقه الذهبي.
(2) أثر " أنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله نهى عن لبس جلود السباع. . . "
أخرجه أبو داود (4 / 372 - 373 ط عزت عبيد الدعاس) والنسائي 7 / 176 - 177
ط دار البشائر الإسلامية) من حديث معاوية بن أبي سفيان، وسنده جيد ويشهد له
حديث أبي المليح الذي سبق تخريجه.
(15/256)
لاَ بَأْسَ بِالْفَرْوِ مِنَ السِّبَاعِ
كُلِّهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَيْتَةِ الْمَدْبُوغَةِ
وَالْمُذَكَّاةِ، وَقَال: ذَكَاتُهَا دِبَاغُهَا، وَفِيهَا: وَلاَ بَأْسَ
بِجُلُودِ النُّمُورِ وَالسِّبَاعِ كُلِّهَا إِذَا دُبِغَتْ أَنْ يُجْعَل
مِنْهَا مُصَلًّى.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَجُوزُ الصَّلاَةُ عَلَى جُلُودِ السِّبَاعِ
إِذَا ذُكِّيَتْ، وَكُل مَا ذُكِّيَ الْحُكْمُ فِيهِ كَذَلِكَ عَلَى
الْمَشْهُورِ (1) .
عَاشِرًا - نَزْعُ الْمَلاَبِسِ الْجِلْدِيَّةِ لِلشَّهِيدِ:
15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنِ الشَّهِيدِ عِنْدَ دَفْنِهِ الْجِلْدُ، وَالسِّلاَحُ
وَالْفَرْوُ، وَالْحَشْوُ، وَالْخُفُّ، وَالْمِنْطَقَةُ،
وَالْقَلَنْسُوَةُ، وَكُل مَا لاَ يُعْتَادُ لُبْسُهُ غَالِبًا، لِمَا
رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ
بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمُ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ وَأَنْ
يُدْفَنُوا فِي ثِيَابِهِمْ بِدِمَائِهِمْ (2) .
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 5 / 224، والفتاوى الهندية 5 / 333،
وكفاية الطالب الرباني 1 / 442، وشرح الزرقاني 1 / 23، والخرشي 1 / 90،
والمجموع 1 / 228 - 239 - 240، والمغني 1 / 68 - 69.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم
الحديد. . . " أخرجه أبو داود (3 / 497 - 498 ط عزت عبيد الدعاس) وابن ماجه
(1 / 485 ط عيسى الحلبي) وأحمد (1 / 247 ط المكتب الإسلامي) والبيهقي (4 /
14 ط دار المعرفة) من حديث ابن عباس قال المنذري: " في إسناده علي بن عاصم
الواسطي، وقد تكلم فيه جماعة. وعطاء بن السائب، وفيه مقال " (مختصر سنن أبي
داود 4 / 294 ط دار المعرفة) .
(15/257)
وَذَلِكَ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحِ: (شَهِيدٌ) .
حَادِيَ عَشَرَ: بَيْعُ جِلْدِ الأُْضْحِيَّةِ:
16 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّهُ يَحْرُمُ بَيْعُ جِلْدِ الأُْضْحِيَّةِ، كَمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُ
لَحْمِهَا أَوْ أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ:
وَلاَ تَبِيعُوا لُحُومَ الْهَدْيِ وَالأَْضَاحِيِّ فَكُلُوا وَتَصَدَّقُوا
وَاسْتَمْتِعُوا بِجُلُودِهَا (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ بَيْعِ جِلْدِ الأُْضْحِيَّةِ (2) ،
عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (أُضْحِيَّةٌ) .
ثَانِيَ عَشَرَ: السَّلَمُ فِي الْجِلْدِ:
17 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السَّلَمَ فِي
الْجِلْدِ جَائِزٌ؛ لأَِنَّ التَّفَاوُتَ فِيهِ مَعْلُومٌ (أَيْ
مُنْضَبِطٌ) فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ السَّلَمِ فِيهِ.
__________
(1) حديث: " ولا تبيعوا لحوم الهدي والأضاحي فكلوا وتصدقوا. . . " أخرجه
أحمد (4 / 15 ط المكتب الإسلامي) من حديث جابر عن قتادة بن النعمان. وله
شاهد عند مسلم (3 / 1562 ط عيسى الحلبي) وغيره من حديث جابر وأبي سعيد
الخدري.
(2) المبسوط 12 / 14، والفتاوى الهندية 5 / 301، وجواهر الإكليل 1 / 223،
وحاشية الجمل 5 / 260، ومطالب أولي النهى 2 / 475.
(15/257)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ خَيْرَ فِي
السَّلَمِ فِي جُلُودِ الإِْبِل وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ؛ لأَِنَّ
الْجُلُودَ لاَ تُوزَنُ عَادَةً وَلَكِنَّهَا تُبَاعُ عَدَدًا، وَهِيَ
عَدَدِيَّةٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِيهَا الصَّغِيرُ وَفِيهَا الْكَبِيرُ فَلاَ
يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى السَّلَمِ فِي
الْحَيَوَانِ. وَالسَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ عِنْدَنَا لاَ يَجُوزُ،
فَكَذَلِكَ فِي أَبْعَاضِ الْحَيَوَانِ، وَلِهَذَا لاَ يَجُوزُ السَّلَمُ
فِي الأَْكَارِعِ وَالرُّءُوسِ، وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي
الأُْدُمِ وَالْوَرَقِ لأَِنَّهُ مَجْهُولٌ فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ،
إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ مِنَ الأُْدُمِ ضَرْبًا مَعْلُومَ الطُّول
وَالْعَرْضِ وَالْجَوْدَةِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ
كَالثِّيَابِ، وَكَذَلِكَ الأُْدُمُ إِذَا كَانَ يُبَاعُ وَزْنًا،
فَإِنَّهُ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ بِذِكْرِ الْوَزْنِ إِذَا كَانَ عَلَى
وَجْهٍ لاَ تُمْكِنُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا فِي التَّسْلِيمِ
وَالتَّسَلُّمِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْجِلْدِ لاِخْتِلاَفِ
أَجْزَائِهِ فِي الرِّقَّةِ وَالْغِلَظِ، نَعَمْ يَصِحُّ السَّلَمُ فِي
قِطَعٍ مِنْهُ مَدْبُوغَةٍ وَزْنًا (1) .
ثَالِثَ عَشَرَ: الإِْجَارَةُ عَلَى سَلْخِ حَيَوَانٍ بِجِلْدِهِ:
18 - لاَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ سَلاَّخٍ لِسَلْخِ حَيَوَانٍ بِجِلْدِ
ذَلِكَ الْحَيَوَانِ؛ لأَِنَّ الإِْجَارَةَ تَفْسُدُ بِجَهَالَةِ
الْمُسَمَّى كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَهُنَا تَفْسُدُ الإِْجَارَةُ
بِالْغَرَرِ لأَِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيَتَقَطَّعُ الْجِلْدُ حَال سَلْخِهِ
أَمْ يَنْفَصِل سَلِيمًا، وَهَل يَكُونُ ثَخِينًا أَمْ رَقِيقًا؛
وَلأَِنَّهُ
__________
(1) المبسوط للسرخسي 12 / 131، وجواهر الإكليل 2 / 73، حاشية الجمل 3 /
242، المغني 4 / 310.
(15/258)
لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي
الْبَيْعِ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الإِْجَارَةِ، فَإِنْ
سَلَخَ عَلَى ذَلِكَ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ (1) .
رَابِعَ عَشَرَ: ضَمَانُ الْجِلْدِ:
19 - لِلْفُقَهَاءِ فِي ضَمَانِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْل دَبْغِهِ
وَبَعْدَ دَبْغِهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ، بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى
ضَمَانِ جِلْدِ الْحَيَوَانِ الْمُذَكَّى.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَحْرُمُ الاِنْتِفَاعُ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْل
الدِّبَاغِ وَالْحُرْمَةُ لاَ تَسْتَلْزِمُ زَوَال الْمِلْكِ، وَعَنْ أَبِي
يُوسُفَ: لَوْ جَزَّ صُوفَ شَاةٍ مَيِّتَةٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ
بِهِ، وَلَوْ وَجَدَهُ صَاحِبُ الشَّاةِ فِي يَدِهِ كَانَ لَهُ أَنْ
يَأْخُذَهُ مِنْهُ، وَلَوْ دَبَغَ جِلْدَهَا كَانَ لِصَاحِبِهَا أَنْ
يَأْخُذَهُ بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا زَادَ فِي الدِّبَاغِ (2) .
وَقَالُوا: لَوْ غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَدَبَغَهُ بِمَا لَهُ قِيمَةٌ
كَالْقَرَظِ وَالْعَفْصِ فَلِصَاحِبِ الْجِلْدِ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَيَرُدَّ
عَلَى الْغَاصِبِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ، وَإِنِ اسْتَهْلَكَ
الْغَاصِبُ الْجِلْدَ لَمْ يَضْمَنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَضْمَنُهُ
مَدْبُوغًا وَيُعْطِي مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ، وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِ
__________
(1) الدر المختار 5 / 30، وجواهر الإكليل 2 / 185، ونهاية المحتاج 5 / 266،
ومطالب أولي النهى 3 / 594.
(2) ورد هذا النقل عن أبي يوسف في فتح القدير 4 / 426 وأورده كذلك صاحب
الفتاوى الهندية 5 / 346 ومعه نقل آخر مخالف ثم قال: يجوز أن يقاس كل منهما
على الآخر فيصير فيهما روايتان.
(15/258)
الْغَاصِبِ لَمْ يَضْمَنْهُ
بِإِجْمَاعِهِمْ.
وَلَوْ دَبَغَ الْغَاصِبُ الْجِلْدَ بِمَا لاَ قِيمَةَ لَهُ كَالتُّرَابِ
وَالشَّمْسِ فَهُوَ لِمَالِكِهِ بِلاَ شَيْءٍ، وَلَوِ اسْتَهْلَكَهُ
الْغَاصِبُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ مَدْبُوغًا، وَقِيل طَاهِرًا غَيْرَ
مَدْبُوغٍ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ
دُبِغَ أَمْ لَمْ يُدْبَغْ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ الَّذِي نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ
وَغَيْرُهُ - لَوْ أَخَذَ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَدَبَغَهُ طَهُرَ وَإِنْ كَانَ
مَالِكُهُ رَفَعَ يَدَهُ عَنْهُ ثُمَّ أَخَذَهُ الدَّابِغُ فَهُوَ
لِلدَّابِغِ، وَإِنْ كَانَ غَصَبَهُ فَهُوَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ؛
لأَِنَّهُ فَرْعُ مِلْكِهِ، فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ضَمِنَهُ،
وَلَوْ أَعْرَضَ الْمَالِكُ عَنْهُ وَهُوَ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِإِعْرَاضِهِ
مَلَكَهُ آخِذُهُ، وَإِذَا لَمْ يُعْرِضْ عَنْهُ لَزِمَ الْغَاصِبَ
رَدُّهُ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى
الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ (1) لأَِنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِهِ،
وَلَوْ أَتْلَفَ جِلْدًا لَمْ يُدْبَغْ، فَادَّعَى مَالِكُهُ تَذْكِيَتَهُ
وَالْمُتْلِفُ عَدَمَهَا، صُدِّقَ الْمُتْلِفُ بِيَمِينِهِ لأَِنَّ
الأَْصْل عَدَمُ التَّذْكِيَةِ.
__________
(1) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤديه " أخرجه أبو داود (3 / 822 ط عزت
عبيد الدعاس) والترمذي (3 / 556 ط مصطفى الحلبي) ، وابن ماجه (2 / 802 ط
عيسى الحلبي) واللفظ له من حديث سمرة بن جندب، وقد رواه عنه الحسن. قال ابن
حجر: " والحسن مختلف في سماعه من سمرة " تلخيص الحبير 3 / 53 ط شركة
الطباعة الفنية. ومثله قال العجلوني في كشف الخفاء (2 / 90 ط مؤسسة
الرسالة) .
(15/259)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَلْزَمُ رَدُّ
جِلْدِ مَيْتَةٍ غُصِبَ لأَِنَّهُ لاَ يَطْهُرُ بِدَبْغٍ عَلَى الصَّحِيحِ
مِنَ الْمَذْهَبِ، وَيَتَّجِهُ بِاحْتِمَالٍ قَوِيٍّ أَنَّهُ يَلْزَمُ
رَدُّهُ أَيْ جِلْدُ الْمَيْتَةِ الَّذِي دُبِغَ إِنْ كَانَ بَاقِيًا
لِمَنْ يَرَى طَهَارَتَهُ (1) .
خَامِسَ عَشَرَ: الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ الْجِلْدِ: 20 - جِلْدُ الْحَيَوَانِ
الْمَأْكُول الْمُذَكَّى، مَالٌ طَاهِرُ يُقْطَعُ سَارِقُهُ إِذَا بَلَغَتْ
قِيمَتُهُ مَا يُقْطَعُ فِيهِ مَعَ تَوَفُّرِ بَقِيَّةِ الشُّرُوطِ
لإِِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ، وَبِهَذَا قَال الْفُقَهَاءُ.
أَمَّا جِلْدُ الْمَيْتَةِ قَبْل دَبْغِهِ فَلاَ قَطْعَ فِي سَرِقَتِهِ
بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَجِلْدُ الْمَيْتَةِ بَعْدَ دَبْغِهِ يُقْطَعُ فِي سَرِقَتِهِ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِشُرُوطِ الْقَطْعِ، لَكِنَّ عِبَارَةَ
الْمَالِكِيَّةِ فِي الْقِيمَةِ الَّتِي يُقْطَعُ فِيهَا: جِلْدُ مَيْتَةِ
الْمَأْكُول أَوْ غَيْرِهِ يُقْطَعُ سَارِقُهُ بَعْدَ الدَّبْغِ إِنْ زَادَ
دَبْغُهُ عَلَى قِيمَةِ أَصْلِهِ نِصَابًا، بِأَنْ يُقَال مَا قِيمَتُهُ
غَيْرَ مَدْبُوغٍ أَنْ لَوْ كَانَ يُبَاعُ لِلاِنْتِفَاعِ بِهِ فَإِذَا
قِيل: دِرْهَمَانِ فَيُقَال: وَمَا قِيمَتُهُ مَدْبُوغًا فَإِذَا قِيل:
خَمْسَةٌ قُطِعَ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ بَعْدَ دَبْغِهِ نِصَابًا لَمْ
يُقْطَعْ سَارِقُهُ كَمَا لَوْ سَرَقَهُ غَيْرَ مَدْبُوغٍ.
__________
(1) فتح القدير 4 / 426، 7 / 400 - 404، والفتاوى الهندية 5 / 346،
والزرقاني 6 / 143، والمجموع 1 / 225، ونهاية المحتاج 5 / 179، وأسنى
المطالب 1 / 559، ومطالب أولي النهى 4 / 6.
(15/259)
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَوْ
سَرَقَ جُلُودَ السِّبَاعِ الْمَدْبُوغَةَ وَقِيمَتُهَا مِائَةٌ لاَ
يُقْطَعُ، وَلَوْ جُعِلَتْ مُصَلاَّةً أَوْ بِسَاطًا قُطِعَ لأَِنَّهَا
خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ جُلُودَ السِّبَاعِ لِتَغَيُّرِ اسْمِهَا
وَمَعْنَاهَا (1) .
جِلْسَةٌ
انْظُرْ: جُلُوسٌ.
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 4 / 108، والزرقاني 8 / 95، وقليوبي وعميرة 4
/ 187، والمغني 8 / 244.
(15/260)
جَلاَّلَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَلاَّلَةُ: الدَّابَّةُ الَّتِي تَتْبَعُ النَّجَاسَاتِ وَتَأْكُل
الْجِلَّةَ، وَهِيَ الْبَعْرَةُ وَالْعَذِرَةُ. وَأَصْلُهُ مِنْ جَل
فُلاَنٌ الْبَعْرَ جَلًّا الْتَقَطَهُ فَهُوَ جَالٌّ، وَجَلاَّلٌ
مُبَالَغَةٌ وَمِنْهُ الْجَلاَّلَةُ (1) .
وَالْمُرَادُ بِالْجَلاَّلَةِ عَلَى مَا نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ: كُل
دَابَّةٍ عُلِفَتْ بِنَجِسٍ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ الْعَذِرَةِ، كَالسَّخْلَةِ
الَّتِي ارْتَضَعَتْ بِلَبَنِ نَحْوِ كَلْبَةٍ أَوْ أَتَانٍ. (2)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَكْل لَحْمِ الْجَلاَّلَةِ
- وَهِيَ الدَّابَّةُ الَّتِي تَأْكُل الْعَذِرَةَ أَوْ غَيْرَهَا مِنَ
النَّجَاسَاتِ - وَشُرْبَ لَبَنِهَا وَأَكْل بَيْضِهَا مَكْرُوهٌ، إِذَا
ظَهَرَ تَغَيُّرُ لَحْمِهَا بِالرَّائِحَةِ، وَالنَّتْنُ فِي عَرَقِهَا (3)
.
__________
(1) متن اللغة، لسان العرب مادة: (جلل) .
(2) قليوبي 4 / 261.
(3) المغني 8 / 593، وقليوبي 4 / 261، وروض الطالب 1 / 568، وابن عابدين 1
/ 149.
(15/260)
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: يَحْرُمُ لَحْمُهَا، وَلَبَنُهَا (1) .
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمَا: قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنِ الإِْبِل الْجَلاَّلَةِ أَنْ يُؤْكَل لَحْمُهَا، وَلاَ يُشْرَبُ
لَبَنُهَا وَلاَ يُحْمَل عَلَيْهَا إِلاَّ الأَْدَمُ، وَلاَ يُذَكِّيهَا
النَّاسُ حَتَّى تُعْلَفَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً (2) .
أَمَّا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهَا تَغَيُّرٌ بِرِيحٍ، أَوْ نَتْنٍ، فَلاَ
كَرَاهَةَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ لاَ تَأْكُل إِلاَّ
النَّجَاسَةَ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ أَكْل لَحْمِهَا وَشُرْبُ لَبَنِهَا إِذَا
كَانَ أَكْثَرُ عَلَفِهَا النَّجَاسَةَ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهَا
نَتْنٌ أَوْ تَغَيُّرٌ، وَنَقَل صَاحِبُ الْمُغْنِي عَنِ اللَّيْثِ
قَوْلَهُ: " إِنَّمَا كَانُوا يَكْرَهُونَ الْجَلاَّلَةَ الَّتِي لاَ
طَعَامَ لَهَا إِلاَّ الرَّجِيعُ (الرَّوْثُ وَالْعَذِرَةُ) وَمَا
أَشْبَهَهُ (4) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لَحْمَ الْجَلاَّلَةِ لاَ كَرَاهَةَ
فِيهِ وَإِنْ تَغَيَّرَ مِنْ ذَلِكَ (5) .
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) حديث: نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإبل الجلالة. . . ". أخرجه
الدارقطني (4 / 283 - ط دار المحاسن) ، والبيهقي (9 / 333 - ط دار المعرفة)
. من حديث عبد الله بن عمرو. قال ابن حجر: أخرجه البيهقي بسند فيه نظر.
(فتح الباري 9 / 648 - ط السلفية) .
(3) أسنى المطالب 1 / 568.
(4) المغني 8 / 593.
(5) شرح الزرقاني 3 / 26.
(15/261)
زَوَال الْكَرَاهَةِ بِالْحَبْسِ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِحُرْمَةِ
أَكْل لَحْمِ الْجَلاَّلَةِ، أَوْ كَرَاهَتِهِ فِي أَنَّ الْحُرْمَةَ أَوِ
الْكَرَاهَةَ تَزُول بِالْحَبْسِ عَلَى الْعَلَفِ الطَّاهِرِ (1) .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ الْحَبْسِ: فَقَال الشَّافِعِيَّةُ:
يَحْبِسُ النَّاقَةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَالْبَقَرَةَ ثَلاَثِينَ،
وَالشَّاةَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَالدَّجَاجَةَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: تُحْبَسُ الدَّجَاجَةُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ،
وَالشَّاةُ أَرْبَعَةً، وَالنَّاقَةُ وَالْبَقَرَةُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ (3)
.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ فِي ذَلِكَ: إِحْدَاهُمَا: تُحْبَسُ
الْجَلاَّلَةُ ثَلاَثًا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ طَيْرًا أَوْ بَهِيمَةً،
وَقَالُوا: إِنَّ مَا طَهَّرَ حَيَوَانًا فِي مُدَّةِ حَبْسِهِ وَعَلَفِهِ
طَهَّرَ الآْخَرَ؛ وَلأَِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَحْبِسُهَا ثَلاَثًا
إِذَا أَرَادَ أَكْلَهَا.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ تُحْبَسُ الْبَدَنَةُ، وَالْبَقَرَةُ
أَرْبَعِينَ يَوْمًا (4) .
وَنَقَل صَاحِبُ الْمُغْنِي عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّهُ رَخَّصَ
فِي لُحُومِهَا، وَأَلْبَانِهَا، لأَِنَّ الْحَيَوَانَ لاَ يَتَنَجَّسُ
بِأَكْل النَّجَاسَاتِ بِدَلِيل أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ، لاَ يُحْكَمُ
بِتَنْجِيسِ أَعْضَائِهِ، وَالْكَافِرَ الَّذِي يَأْكُل الْخِنْزِيرَ
وَالْمُحَرَّمَاتِ لَمْ يَقُل أَحَدٌ بِنَجَاسَةِ ظَاهِرِهِ، وَلَوْ نَجُسَ
بِذَلِكَ لَمَا طَهُرَ
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) قليوبي 4 / 261.
(3) ابن عابدين 1 / 149.
(4) المغني 8 / 594.
(15/261)
بِالإِْسْلاَمِ وَالاِغْتِسَال. وَلَوْ
نَجُسَتِ الْجَلاَّلَةُ لَمَا طَهُرَتْ بِالْحَبْسِ (1) .
رُكُوبُ الْجَلاَّلَةِ:
4 - يُكْرَهُ رُكُوبُ الْجَلاَّلَةِ بِلاَ حَائِلٍ، لِحَدِيثِ ابْنِ
عُمَرَ: قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنِ الْجَلاَّلَةِ فِي الإِْبِل أَنْ يُرْكَبَ عَلَيْهَا أَوْ يُشْرَبَ
مِنْ أَلْبَانِهَا (2) . وَلأَِنَّهَا رُبَّمَا عَرِقَتْ فَتَلَوَّثَ
بِعَرَقِهَا (3) .
سُؤْرُ الْجَلاَّلَةِ:
5 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهِيَةِ شُرْبِ سُؤْرِ الْجَلاَّلَةِ (4)
.
التَّضْحِيَةُ بِالْجَلاَّلَةِ:
6 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّ الْجَلاَّلَةَ لاَ تُجْزِئُ فِي
الأُْضْحِيَّةِ: إِذَا كَانَتْ لاَ تَأْكُل غَيْرَ النَّجَاسَةِ (5) .
__________
(1) المغني 8 / 593
(2) حديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة في الإبل أن يركب
عليها أو يشرب من ألبانها ". أخرجه أبو داود (4 / 149 - ط عزت عبيد الدعاس)
. من حديث ابن عمر. وأخرجه البيهقي (9 / 333 - ط دار المعرفة) . من حديث
أبي هريرة وابن عمر. قال ابن حجر (إسناده حسن) (فتح الباري 9 / 648 - ط
السلفية) .
(3) المغني 8 / 594، وأسنى المطالب 1 / 568، وابن عابدين 1 / 149.
(4) ابن عابدين 1 / 149.
(5) ابن عابدين 5 / 207.
(15/262)
جُلُوسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجُلُوسُ فِي اللُّغَةِ مِنْ جَلَسَ، يَجْلِسُ بِالْكَسْرِ جُلُوسًا،
وَالْمَجْلِسُ بِكَسْرِ اللاَّمِ مَوْضِعُ الْجُلُوسِ، وَبِفَتْحِهَا
الْمَصْدَرُ. وَالْجَلْسَةُ بِالْفَتْحِ لِلْمَرَّةِ، وَبِالْكَسْرِ
لِلْهَيْئَةِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الْجَالِسُ كَجِلْسَةِ
الاِسْتِرَاحَةِ وَالتَّشَهُّدِ، وَجِلْسَةِ الْفَصْل بَيْنَ
السَّجْدَتَيْنِ؛ لأَِنَّهَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْجُلُوسِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِكَلِمَةِ (جُلُوسٌ) عَنْ هَذَا
الْمَعْنَى.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقُعُودُ:
2 - الْقُعُودُ مَصْدَرُ قَعَدَ يَقْعُدُ، وَالْقَعْدَةُ بِالْفَتْحِ
لِلْمَرَّةِ، وَبِالْكَسْرِ لِلْهَيْئَةِ نَحْوُ: قَعَدَ قِعْدَةَ
الْمُصَلِّي (2) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجُلُوسِ وَالْقُعُودِ: أَنَّ الْجُلُوسَ قَدْ
يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْقُعُودُ، كَمَا يُقَال: جَلَسَ مُتَرَبِّعًا
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح مادة: (جلس) .
(2) المصباح المنير مادة: (قعد) .
(15/262)
وَقَعَدَ مُتَرَبِّعًا، وَقَدْ يُفَارِقُ
الْجُلُوسُ الْقُعُودَ، وَمِنْهُ: جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا، أَيْ: حَصَل
وَتَمَكَّنَ، إِذْ لاَ يُسَمَّى هَذَا قُعُودًا.
وَيُقَال أَيْضًا: جَلَسَ مُتَّكِئًا، وَلاَ يُقَال: قَعَدَ مُتَّكِئًا
بِمَعْنَى الاِعْتِمَادِ عَلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ.
وَعَلَى هَذَا فَالْجُلُوسُ أَعَمُّ مِنَ الْقُعُودِ.
وَقِيل: الْجُلُوسُ هُوَ الاِنْتِقَال مِنْ سُفْلٍ إِلَى عُلْوٍ،
وَالْقُعُودُ عَكْسُهُ، فَعَلَى الأَْوَّل يُقَال لِمَنْ هُوَ نَائِمٌ أَوْ
سَاجِدٌ: اجْلِسْ ".
وَعَلَى الثَّانِي يُقَال لِمَنْ هُوَ قَائِمٌ " اقْعُدْ (1) ".
ب - الاِحْتِبَاءُ:
3 - الاِحْتِبَاءُ فِي اللُّغَةِ، قُعُودُ الشَّخْصِ عَلَى مَقْعَدَتِهِ،
وَضَمُّ فَخِذَيْهِ إِلَى بَطْنِهِ، وَاشْتِمَالُهُمَا مَعَ ظَهْرِهِ
بِثَوْبٍ أَوْ نَحْوِهِ أَوْ بِالْيَدَيْنِ (2) . وَلاَ يَخْرُجُ
اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فَالاِحْتِبَاءُ نَوْعٌ
مِنَ الْجُلُوسِ (3) .
ج - الاِفْتِرَاشُ:
4 - لِلاِفْتِرَاشِ فِي اللُّغَةِ مَعْنَيَانِ:
الْمَعْنَى الأَْوَّل: الْبَسْطُ، كَمَا يُقَال: افْتَرَشَ ذِرَاعَيْهِ
إِذَا بَسَطَهُمَا عَلَى الأَْرْضِ، كَالْفِرَاشِ لَهُ.
__________
(1) المرجع السابق.
(2) لسان العرب، وتاج العروس، والنهاية لابن الأثير مادة: (حبو) .
(3) الموسوعة الفقهية. مصطلح (احتباء) .
(15/263)
وَالثَّانِي: الْجُلُوسُ عَلَى مَا
فَرَشَهُ، وَمِنْهُ: افْتِرَاشُ الْبِسَاطِ. وَافْتِرَاشُ الْمَرْأَةِ:
اتِّخَاذُهَا زَوْجَةً (1) .
وَالْفُقَهَاءُ يُطْلِقُونَ الاِفْتِرَاشَ عَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ
وَهُوَ أَيْضًا عِنْدَهُمْ هَيْئَةٌ مِنَ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ،
وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّتِهِ (2) . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي كِتَابِ
الصَّلاَةِ.
د - التَّوَرُّكُ:
5 - التَّوَرُّكُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَرِكِ، وَهُوَ مَا فَوْقَ الْفَخِذِ،
يُقَال: نَامَ مُتَوَرِّكًا أَيْ مُعْتَمِدًا عَلَى أَحَدِ وَرِكَيْهِ
وَاخْتُلِفَ فِي التَّوَرُّكِ فِي التَّشَهُّدِ فَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ
بِأَنَّهُ وَضْعُ الْوَرِكِ عَلَى الرِّجْل الْيُمْنَى وَفَسَّرَهُ
آخَرُونَ بِأَنَّهُ نَصْبُ الرِّجْل الْيُمْنَى وَوَرِكُهُ بِالأَْرْضِ
وَإِخْرَاجُ رِجْلِهِ الْيُسْرَى مِنْ جِهَةِ يَمِينِهِ (3) .
فَالتَّوَرُّكُ عَلَى هَذَا هَيْئَةٌ مِنْ هَيْئَاتِ الْجُلُوسِ فَهُوَ
أَخَصُّ مِنَ الْجُلُوسِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ " تَوَرُّكٌ ".
__________
(1) المصباح المنير، والمغرب للمطرزي، والقاموس المحيط مادة: (فرش) .
(2) الموسوعة الفقهية مصلح (افتراش) ، وابن عابدين 1 / 321، 341، ونهاية
المحتاج 1 / 520، 521، والمغني 1 / 523.
(3) لسان العرب المحيط مادة: (ورك) ، والمغرب مادة: (ورك) ، ونهاية المحتاج
1 / 500، والمغني 1 / 539.
(15/263)
أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِالْجُلُوسِ:
أَدَاءُ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ جَالِسًا:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ
الْمُؤَذِّنُ جَالِسًا إِلاَّ لِعُذْرٍ، أَوْ إِذَا كَانَ يُؤَذِّنُ
لِنَفْسِهِ كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، لأَِمْرِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلاَلاً بِالْقِيَامِ بِقَوْلِهِ: قُمْ
فَنَادِ بِالصَّلاَةِ (1) .
وَكَانَ مُؤَذِّنُو رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُؤَذِّنُونَ قِيَامًا، (2) وَلأَِنَّ الْقِيَامَ أَبْلَغُ فِي
الإِْعْلاَمِ، كَمَا أَنَّ الأَْذَانَ وَالإِْقَامَةَ قَاعِدًا خِلاَفُ
الْمُتَوَارَثِ.
وَقَال ابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ أَذَّنَ قَاعِدًا بَطَل،
وَكَذَلِكَ قَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إِلَى عَدَمِ إِجْزَاءِ
أَذَانِ الْقَاعِدِ، وَحَكَى أَبُو الْبَقَاءِ: أَنَّهُ يُعِيدُ إِنْ
أَذَّنَ قَاعِدًا.
وَأَمَّا صَاحِبُ الْعُذْرِ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ جَالِسًا، قَال
الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَبْدِيُّ: رَأَيْتُ أَبَا زَيْدٍ صَاحِبَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ رِجْلُهُ
أُصِيبَتْ فِي سَبِيل اللَّهِ يُؤَذِّنُ قَاعِدًا (3) .
__________
(1) حديث: " يا بلال، قم فناد بالصلاة ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 77 - ط
السلفية) .
(2) حديث: " كان مؤذنو رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذنون قياما " يدل
على هذا حديث: " يا بلال قم، فناد بالصلاة " وقد سبق تخريجه
(3) الاختيار 1 / 44، ابن عابدين 1 / 263 ط - دار إحياء التراث العربي،
وحاشية الدسوقي 1 / 196، والقوانين الفقهية / 53، ونهاية المحتاج 1 / 410 ط
مصطفى البابي الحلبي، والإنصاف 1 / 415، والمغني 1 / 424. وأثر أبي زيد،
روى الحسن بن محمد العبدي قال: دخلت على أبي يزيد الأنصاري، فأذن وأقام وهو
جالس قال: وتقدم رجل فصلى بنا، وكان أعرج أصيب رجله في سبيل الله تعالى.
أخرجه البيهقي (1 / 392 - ط دائرة المعارف العثمانية) .
(15/264)
جُلُوسُ الْمُؤَذِّنِ بَيْنَ الأَْذَانِ
وَالإِْقَامَةِ:
7 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْمُؤَذِّنِ
الْفَصْل بَيْنَ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالصَّلاَةِ
الْمَنْدُوبَةِ، فَإِنْ لَمْ يُصَل، أَوْ لَمْ يَكُنِ الْوَقْتُ وَقْتَ
جَوَازٍ يَفْصِل بَيْنَهُمَا بِجَلْسَةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِيمَا سِوَى
الْمَغْرِبِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ:
الْفَصْل فِي الْمَغْرِبِ لاَ يَكُونُ بِجَلْسَةٍ بَل بِسَكْتَةٍ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُفْصَل بَيْنَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ
وَإِقَامَتِهِ لِصَلاَةٍ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ يَجْلِسُ جَلْسَةً خَفِيفَةً مِقْدَارَ الْجَلْسَةِ بَيْنَ
الْخُطْبَتَيْنِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: جُلُوسُ الْمُؤَذِّنِ بَيْنَ
الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ فِي الْمَغْرِبِ مِنَ السُّنَّةِ (1) .
وَالْخِلاَفُ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ فِي الأَْفْضَلِيَّةِ،
فَلَوْ جَلَسَ لاَ يُكْرَهُ عِنْدَهُ أَيْضًا.
وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يُفْصَل فِي الْمَغْرِبِ
بِرَكْعَتَيْنِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَفِي قَوْلٍ:
__________
(1) حديث: " جلوس المؤذن بين الآذان والإقامة في المغرب من السنة " لم نجده
بلفظ (جلوس المؤذن. . .) وقد رواه بلفظ (جلوس الإمام. . .) الديلمي في مسند
الفردوس (2 / 175 - ط دار الكتاب العربي) وقال المناوي: " فيه هشيم بن
بشير، أورده الذهبي في الضعفاء " فيض القدير (3 / 350 - ط المكتبة
التجارية) .
(15/264)
يُفْصَل بَيْنَهُمَا بِسَكْتَةٍ لَطِيفَةٍ
أَوْ نَحْوِهَا كَقُعُودٍ لَطِيفٍ؛ لِضِيقِ وَقْتِهَا (1) .
الْجُلُوسُ قَبْل تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ:
8 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُكْرَهُ الْجُلُوسُ
قَبْل تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، لِمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ قَال: قَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا دَخَل أَحَدُكُمُ
الْمَسْجِدَ فَلاَ يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ (2) ،
وَاخْتَلَفُوا فِي فَوَاتِهَا بِالْجُلُوسِ، فَإِذَا جَلَسَ قَبْل
الصَّلاَةِ يُسَنُّ لَهُ أَنْ يَقُومَ فَيُصَلِّيَ، لِحَدِيثِ سُلَيْكٍ
الْغَطَفَانِيِّ وَنَصُّهُ: " عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَال:
جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَرَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَجَلَسَ فَقَال لَهُ: يَا
سُلَيْكُ، قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا. ثُمَّ قَال:
إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ
فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا (3) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا تَفُوتُ بِهِ فَلاَ
__________
(1) فتح القدير 1 / 215 ط دار إحياء التراث العربي، وابن عابدين 1 / 261،
والاختيار 1 / 42، 44 ط دار المعرفة، وحاشية الدسوقي 1 / 314 ط دار الفكر،
وأسنى المطالب 1 / 103 ط المكتبة الإسلامية، وكشاف القناع 1 / 243.
(2) حديث أبي قتادة: " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين ".
أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 527 ط السلفية) ، مسلم (1 / 495 ط عيسى
الحلبي) .
(3) حديث: " جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم.
. . . . " أخرجه مسلم (2 / 597 - ط الحلبي) .
(15/265)
يَفْعَلُهَا بَعْدَهُ (1) . وَتَمَامُهُ
فِي مُصْطَلَحِ: (تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ) .
الْجُلُوسُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ فِي الصَّلاَةِ:
9 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجُلُوسَ بَدَلٌ عَنِ
الْقِيَامِ فِي صَلاَةِ الْفَرِيضَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ،
فَمَنْ لاَ يُطِيقُ الْقِيَامَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا (2) ، لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ:
صَل قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ
فَعَلَى جَنْبٍ (3) .
وَفِي بَيَانِ الْعَجْزِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةُ
الْمَرِيضِ) .
10 - وَأَمَّا أَدَاءُ صَلاَةِ النَّفْل جَالِسًا فَقَال ابْنُ قُدَامَةَ:
لاَ نَعْلَمُ خِلاَفًا فِي إِبَاحَةِ التَّطَوُّعِ جَالِسًا، وَلَكِنَّهُ
خِلاَفُ الأَْوْلَى، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَل، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا
فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ (4) . وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ صَلاَةُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 456، وحاشية الدسوقي 1 / 313، وروضة الطالبين 1 / 332،
333، والمغني 2 / 135.
(2) ابن عابدين 1 / 299، 468، 475، وحاشية الدسوقي 1 / 235، 236، وجواهر
الإكليل 1 / 55، 57، ونهاية المحتاج 2 / 465، وروضة الطالبين 2 / 26، 1 /
232، والمغني 2 / 143، 144.
(3) حديث عمران بن الحصين: " صل قائما ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 587 - ط
السلفية) .
(4) حديث: " من صلى قائما فهو أفضل، ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم "
أخرجه البخاري (الفتح 2 / 586 - ط السلفية) من حديث عمران بن حصين.
(15/265)
الرَّجُل قَاعِدًا نِصْفُ الصَّلاَةِ (1) .
وَلأَِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ طُول الْقِيَامِ،
فَلَوْ وَجَبَ فِي التَّطَوُّعِ لَتُرِكَ أَكْثَرُهُ، فَسَامَحَ الشَّارِعُ
فِي تَرْكِ الْقِيَامِ فِيهِ تَرْغِيبًا فِي تَكْثِيرِهِ، كَمَا سَامَحَ
فِي فِعْلِهِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ (2) .
وَأَمَّا السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ فَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ
الْجُلُوسَ فِيهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ مَكْرُوهٌ (3) .
الْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ:
11 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّهُ رُكْنٌ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا
قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ
رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ جَالِسًا (4) .
وَقَال أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِفَرْضِيَّتِهِ.
وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ،
وَرُوِيَ وُجُوبُهُ. يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ:
__________
(1) حديث: " صلاة الرجل قاعدا نصف الصلاة " أخرجه مسلم (1 / 507 - ط
الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو.
(2) ابن عابدين 1 / 468، وجواهر الإكليل 1 / 50، 57، وروضة الطالبين 1 /
232، والمغني 2 / 142.
(3) ابن عابدين 1 / 475، وجواهر الإكليل 1 / 55، 57.
(4) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد
حتى يستوي جالسا ". أخرجه مسلم (1 / 357 - 358 - ط الحلبي) .
(15/266)
وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلأَْدِلَّةِ،
وَعَلَيْهِ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ
الْمُتَأَخِّرِينَ. وَصِفَةُ الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ الاِفْتِرَاشُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ التَّوَرُّكُ كَجُلُوسِ التَّشَهُّدِ، وَلاَ
خِلاَفَ فِي وَضْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى الْفَخِذَيْنِ عِنْدَ الْجَمِيعِ؛
لأَِنَّهُ مِنْ تَمَامِ صِفَةِ الْجُلُوسِ (1) .
وَفِي التَّعْدِيل فِي الْجِلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ فِي
الذِّكْرِ الْمَسْنُونِ فِيهَا وَقَدْرِهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ
إِلَى مُصْطَلَحِ: (تَعْدِيلٌ) (وَدُعَاءٌ) .
جِلْسَةُ الاِسْتِرَاحَةِ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ
لَدَى الشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ لَدَى
الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا قَامَ مِنَ السَّجْدَةِ
الثَّانِيَةِ لاَ يَجْلِسُ جِلْسَةَ الاِسْتِرَاحَةِ، وَيُكْرَهُ فِعْلُهَا
تَنْزِيهًا لِمَنْ لَيْسَ بِهِ عُذْرٌ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ
وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ
وَإِسْحَاقُ، قَال التِّرْمِذِيُّ: وَعَلَيْهِ الْعَمَل
__________
(1) ابن عابدين 1 / 312، 321، 340، والقوانين الفقهية / 69، وجواهر الإكليل
1 / 49، 53 وما بعدها، وحاشية الدسوقي 1 / 249، وروضة الطالبين 2 / 318،
ونهاية المحتاج 1 / 517، والمنثور في القواعد للزركشي 2 / 10، 11، والإنصاف
2 / 70، 71، والمغني 1 / 523.
(15/266)
عِنْدَ أَهْل الْعِلْمِ، وَقَال أَبُو
الزِّنَادِ: تِلْكَ السُّنَّةُ (1) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَهُوَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ عَنْ
أَحْمَدَ اخْتَارَهَا الْخَلاَّل أَنَّهُ يُسَنُّ بَعْدَ السَّجْدَةِ
الثَّانِيَةِ جِلْسَةٌ لِلاِسْتِرَاحَةِ فِي كُل رَكْعَةٍ تَقُومُ عَنْهَا،
لِمَا رَوَى مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْلِسُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ
قَبْل أَنْ يَنْهَضَ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى (2) .
وَصِفَةُ الْجُلُوسِ هُنَا كَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ قَدْرًا
وَهَيْئَةً، وَيُكْرَهُ تَطْوِيلُهُ، وَهَذَا يُخَالِفُ قَوْل
الرَّافِعِيِّ: " أَنَّهَا خَفِيفَةٌ " وَقَوْل النَّوَوِيِّ فِي
مَجْمُوعِهِ " أَنَّهَا خَفِيفَةٌ جِدًّا ".
ثُمَّ قَطَعَ الرَّافِعِيُّ: بِأَنَّهَا لِلْفَصْل بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ،
وَحَكَى النَّوَوِيُّ وَجْهًا أَنَّهَا: مِنَ الثَّانِيَةِ، وَهُنَاكَ
وَجْهٌ ثَالِثٌ أَبْدَاهُ صَاحِبُ الذَّخَائِرِ وَهُوَ: أَنَّهَا مِنَ
الرَّكْعَةِ الأُْولَى (3) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 340، والقوانين الفقهية / 68، ونهاية المحتاج 1 / 518،
ورحمة الأمة في اختلاف الأئمة / 35، والمنثور في القواعد 2 / 10، 11،
والأذكار / 56 ط دار الكتاب العربي، والمغني 1 / 530، والإنصاف 2 / 71، 72،
73.
(2) حديث مالك بن الحويرث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس إذا رفع
رأسه من السجود قبل أن ينهض في الركعة الأولى "، أخرجه البخاري (الفتح 2 /
163 - ط السلفية) .
(3) نهاية المحتاج 1 / 518، والأذكار / 56، والمنثور في القواعد للزركشي 2
/ 10، 11، والمغني 1 / 529، 530، والإنصاف 2 / 71 وما بعدها
(15/267)
وَمِنْ خَصَائِصِ جِلْسَةِ الاِسْتِرَاحَةِ
عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهَا - أَنَّهَا لاَ يَدْعُو فِيهَا بِشَيْءٍ (1) .
الْجُلُوسُ فِي التَّشَهُّدِ:
13 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالطَّحَاوِيُّ
وَالْكَرْخِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
إِلَى أَنَّ الْجُلُوسَ فِي التَّشَهُّدِ الأَْوَّل سُنَّةٌ، لأَِنَّهُ
يَسْقُطُ بِالسَّهْوِ فَأَشْبَهَ السُّنَنَ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ وَاجِبٌ حَتَّى يَجِبَ بِتَرْكِهِ سَاهِيًا سُجُودُ
السَّهْوِ، وَلاَ يَجِبُ إِلاَّ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ (2) .
وَأَمَّا فِي التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ
الْجُلُوسَ فِيهِ فَرْضٌ، وَقَدْرُهُ بِقَدْرِ قِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ
إِلَى " عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ "، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ، أَوْ
قَضَيْتَ هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلاَتُكَ (3) عَلَّقَ التَّمَامَ
بِالْقَعْدَةِ (4) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْجُلُوسَ لِلتَّشَهُّدَيْنِ سُنَّةٌ،
__________
(1) المنثور في القواعد للزركشي 2 / 10، 11.
(2) ابن عابدين 1 / 301، والاختيار 1 / 53، 54، والقوانين الفقهية / 69،
وجواهر الإكليل 1 / 48، وحاشية الدسوقي 1 / 249، ونهاية المحتاج 1 / 520،
521، والمغني 1 / 532، 533، 539.
(3) حديث ابن مسعود في وصف التشهد: " فإذا فعلت ذلك أو. . . ". أخرجه
الطحاوي في شرح المعاني (1 / 162 - ط المصطفائي - باكستان) وأصله في أبي
داود (1 / 593 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(4) الاختيار لتعليل المختار 1 / 54، وابن عابدين 1 / 301.
(15/267)
قَال ابْنُ جُزَيٍّ: وَفِي الْمَذْهَبِ
أَنَّ الْجُلُوسَ الأَْخِيرَ وَاجِبٌ، وَالأَْصَحُّ أَنَّ الْوَاجِبَ
مِنْهُ مِقْدَارُ السَّلاَمِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجُلُوسَ فِي
الْقَعْدَةِ الأَْخِيرَةِ رُكْنٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عُمَرُ وَابْنُهُ
وَأَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالْحَسَنُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُنَّةٌ (2) .
وَأَمَّا هَيْئَةُ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ فَالاِفْتِرَاشُ لِلرَّجُل،
وَالتَّوَرُّكُ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سَوَاءٌ أَكَانَ فِي
الْقَعْدَةِ الأُْولَى أَمِ الأَْخِيرَةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هَيْئَةُ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ
التَّوَرُّكُ. وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ
لِلْقُعُودِ هَيْئَةٌ لِلإِْجْزَاءِ، فَكَيْفَمَا قَعَدَ فِي جَلَسَاتِهِ
أَجْزَأَهُ، لَكِنَّ السُّنَّةَ فِي جُلُوسِ آخِرِ الصَّلاَةِ التَّوَرُّكُ
وَفِي أَثْنَائِهَا الاِفْتِرَاشُ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ هَيْئَةَ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ
الأَْوَّل بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل هِيَ الاِفْتِرَاشُ، وَفِي الثَّانِي
التَّوَرُّكُ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي أَنْ تَجْلِسَ
مُتَرَبِّعَةً، لأَِنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَأْمُرُ
النِّسَاءَ أَنْ يَتَرَبَّعْنَ فِي الصَّلاَةِ، أَوْ أَنْ تَسْدُل
رِجْلَيْهَا فَتَجْعَلَهُمَا فِي جَانِبِ يَمِينِهَا، وَالْمَنْصُوصُ
__________
(1) القوانين الفقهية لابن جزي / 69، وجواهر الإكليل 1 / 48، وحاشية
الدسوقي 1 / 249.
(2) نهاية المحتاج 1 / 520، 521، والمغني 1 / 532، 533، 539، والإنصاف 2 /
113.
(15/268)
عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ السَّدْل أَفْضَل،
لأَِنَّهُ غَالِبُ فِعْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَلأَِنَّهُ
أَشْبَهَ بِجِلْسَةِ الرَّجُل (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ يُسَنُّ التَّوَرُّكُ فِي كُل تَشَهُّدٍ يُسَلَّمُ
فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَانِيًا، كَتَشَهُّدِ الصُّبْحِ وَالْجُمُعَةِ،
لأَِنَّهُ تَشَهُّدٌ يُسَنُّ تَطْوِيلُهُ فَسُنَّ فِيهِ التَّوَرُّكُ
كَالثَّانِي.
وَلاَ يَتَوَرَّكُ الرَّجُل عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلاَّ فِي التَّشَهُّدِ
الأَْخِيرِ مِنْ صَلاَةٍ فِيهَا تَشَهُّدَانِ. وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ
بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: فِي كُل
رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ، وَكَانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى،
وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى (2) ، وَلأَِنَّ التَّشَهُّدَ الثَّانِيَ
إِنَّمَا تَوَرَّكَ فِيهِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ التَّشَهُّدَيْنِ، وَمَا
لَيْسَ فِيهِ إِلاَّ تَشَهُّدٌ وَاحِدٌ لاَ اشْتِبَاهَ فِيهِ، فَلاَ
حَاجَةَ إِلَى الْفَرْقِ (3) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 321، 341، والقوانين الفقهية / 69، وجواهر الإكليل 1 /
51، وحاشية الدسوقي 1 / 249، ونهاية المحتاج 1 / 520، 521، وروضة الطالبين
1 / 261، والمغني 1 / 532، 539، وكشاف القناع 1 / 363، 364، والإنصاف 2 /
75، 89، 113 وما بعدها.
(2) حديث: " في كل ركعتين: التحية، وكان يفرش رجله اليسرى. . . ". أخرجه
مسلم (1 / 358 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
(3) نهاية المحتاج 1 / 520 وما بعدها، وروضة الطالبين 1 / 261، والمغني 1 /
540.
(15/268)
الْجُلُوسُ بَيْنَ كُل تَرْوِيحَتَيْنِ فِي
قِيَامِ رَمَضَانَ:
14 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يُخَيَّرُ بَيْنَ كُل
تَرْوِيحَتَيْنِ بَيْنَ الْجُلُوسِ ذَاكِرًا أَوْ سَاكِتًا، وَبَيْنَ
صَلاَتِهِ نَافِلَةً مُنْفَرِدًا، وَهَذَا الْجُلُوسُ سُنَّةٌ كَمَا
يُفِيدُهُ كَلاَمُ الْكَنْزِ، وَمُسْتَحَبٌّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي
الْهِدَايَةِ وَالزَّيْلَعِيُّ (1) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ كَلاَمِ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَرِيحَ
بَعْدَ كُل أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ بِجَلْسَةٍ
يَسِيرَةٍ، قَال الْحَنَابِلَةُ: وَهُوَ فِعْل السَّلَفِ، وَلاَ بَأْسَ
بِتَرْكِهِ، وَلاَ يَدْعُو الإِْمَامُ فِي الْجُلُوسِ عَلَى الصَّحِيحِ
مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (2) .
الْجُلُوسُ قَبْل الْخُطْبَتَيْنِ وَبَعْدَ الصُّعُودِ إِلَى الْمِنْبَرِ:
15 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْخَطِيبَ يَجْلِسُ إِذَا
صَعِدَ الْمِنْبَرَ فِي الْجُمُعَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي خُطْبَةِ
الْعِيدَيْنِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ
يَجْلِسُ؛ لأَِنَّ الْجُلُوسَ لاِنْتِظَارِ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ مِنَ
الأَْذَانِ فِي الْجُمُعَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي الْعِيدَيْنِ،
فَلاَ حَاجَةَ إِلَى الْجُلُوسِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 474، وفتح القدير 1 / 406 ط دار إحياء التراث العربي.
(2) نهاية المحتاج 2 / 125، والإنصاف 2 / 181، وشرح منح الجليل 1 / 206 ط
مكتبة النجاح، وأسهل المدارك 1 / 301، وكفاية الطالب 2 / 321.
(15/269)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ
الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجْلِسُ إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ
لِيَسْتَرِيحَ؛ وَلأَِنَّهُ أَهْدَى لِمَا يُرِيدُ أَنْ يَفْتَتِحَهُ،
وَفِيهِ زِيَادَةُ وَقَارٍ (1) .
حُكْمُ الْجُلُوسِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ وَمِقْدَارُهُ:
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَجُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ،
وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْجُلُوسَ
بَيْنَ خُطْبَتَيِ الْجُمُعَةِ، وَالْعِيدَيْنِ سُنَّةٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ قَال: رَأَيْتُ عَلِيًّا يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ
فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى فَرَغَ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْجُلُوسَ
بَيْنَهُمَا بِطُمَأْنِينَةٍ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْخُطْبَةِ، لِخَبَرِ
الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُبُ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ خُطْبَتَيْنِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا (2) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 56، ومواهب الجليل 2 / 172، وروضة الطالبين 2 / 73،
والإنصاف 2 / 429، 430، وكشاف القناع 2 / 55، والمغني 2 / 386.
(2) حديث: " كان يخطب يوم الجمعة خطبتين " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 406 -
ط السلفية) ومسلم (2 / 589 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر. وانظر فتح
القدير 2 / 29، 46، 47، وابن عابدين 1 / 544، 561، والاختيار 1 / 82، 83،
87، ومواهب الجليل 2 / 165، 171، 172، وشرح الزرقاني 2 / 60، ونهاية
المحتاج 2 / 312، 318، وروضة الطالبين 2 / 27، 31، 73، والإنصاف 2 / 397.
(15/269)
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ
صِفَةَ هَذِهِ الْجِلْسَةِ أَنْ تَكُونَ خَفِيفَةً، وَأَمَّا مِقْدَارُهَا
فَقَدْ قِيل: مِقْدَارُ قِرَاءَةِ ثَلاَثِ آيَاتٍ، وَقَال جَمَاعَةٌ مِنَ
الْفُقَهَاءِ: بِقَدْرِ سُورَةِ الإِْخْلاَصِ، وَقِيل: مِقْدَارُ
الْجَلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ لأَِنَّهُ فَصْلٌ بَيْنَ
مُشْتَبِهَتَيْنِ (1) .
الْخُطْبَةُ جَالِسًا:
17 - مَنْ خَطَبَ جَالِسًا: فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ، لأَِنَّ الصَّلاَةَ تَصِحُّ مِنَ
الْقَاعِدِ الْعَاجِزِ عَنِ الْقِيَامِ فَالْخُطْبَةُ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ
الْحُكْمُ إِنْ كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ فِي خُطْبَتَيِ الْعِيدِ دُونَ
الْجُمُعَةِ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ،
وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لأَِنَّ خُطْبَةَ الْعِيدِ
لَيْسَتْ وَاجِبَةً فَأَشْبَهَتْ صَلاَةَ النَّافِلَةِ، وَلِمَا رُوِيَ
أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَسَنَّ كَانَ يَخْطُبُ
جَالِسًا، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَيُفْصَل بَيْنَهُمَا بِسَكْتَةٍ (2)
.
الْجُلُوسُ عَلَى الْحَرِيرِ:
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْجُلُوسِ عَلَى الْحَرِيرِ:
__________
(1) فتح القدير 2 / 29، والاختيار 1 / 82، 83، وابن عابدين 1 / 544، ومواهب
الجليل 2 / 172، وروضة الطالبين 2 / 32، والإنصاف 2 / 397، وكشاف القناع 2
/ 36.
(2) فتح القدير 2 / 29، والاختيار 1 / 82، وروضة الطالبين 2 / 27، 73،
ونهاية المحتاج 2 / 306، والإنصاف 2 / 397، وكشاف القناع 2 / 36، والمغني 2
/ 303، 387.
(15/270)
فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - وَقِيل: أَبُو يُوسُفَ
أَيْضًا مَعَ مُحَمَّدٍ - أَنَّهُ حَرَامٌ (1) ، لِمَا رَوَاهُ حُذَيْفَةُ
قَال: نَهَانَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَأَنْ يُجْلَسَ عَلَيْهِ (2) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى جَوَازِهِ، لِمَا رُوِيَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ عَلَى
مِرْفَقَةِ حَرِيرٍ (3) ، وَكَانَ عَلَى بِسَاطِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا مِرْفَقَةُ حَرِيرٍ. وَأَيْضًا رُوِيَ أَنَّ أَنَسًا
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حَضَرَ وَلِيمَةً فَجَلَسَ عَلَى وِسَادَةِ
حَرِيرٍ؛ وَلأَِنَّ الْجُلُوسَ عَلَى الْحَرِيرِ اسْتِخْفَافٌ وَلَيْسَ
بِتَعْظِيمٍ، فَجَرَى مَجْرَى الْجُلُوسِ عَلَى بِسَاطٍ فِيهِ تَصَاوِيرُ
(4) .
وَهَذَا فِي الْخَالِصِ مِنْهُ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ
يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَرِيرٌ) .
الْجُلُوسُ لِلأَْكْل وَالشُّرْبِ:
19 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُنْدَبُ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 226، والقوانين الفقهية / 442، وأسنى المطالب 1 / 275،
وكشاف القناع 5 / 171.
(2) حديث: " نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير. . . "
أخرجه البخاري (الفتح 10 / 291 - ط السلفية) .
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على مرفقة حرير " قال العيني:
" هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أصلا، ولا ذكره أحد من أرباب
النقل لا بسند صحيح ولا بسند ضعيف " البناية في شرح الهداية (9 / 218 - ط
دار الفكر) .
(4) ابن عابدين 5 / 226.
(15/270)
الْجُلُوسُ لِلأَْكْل وَالشُّرْبِ وَأَنَّ
الشُّرْبَ قَائِمًا بِلاَ عُذْرٍ خِلاَفُ الأَْوْلَى عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ (1) .
وَأَمَّا هَيْئَةُ الْجُلُوسِ لِلأَْكْل فَقَدْ صَرَّحَ فُقَهَاءُ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ أَحْسَنَ الْجَلَسَاتِ لِلأَْكْل
الإِْقْعَاءُ عَلَى الْوَرِكَيْنِ وَنَصْبُ الرُّكْبَتَيْنِ، ثُمَّ
الْجِثِيُّ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ وَظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ، ثُمَّ نَصْبُ
الرِّجْل الْيُمْنَى، وَالْجُلُوسُ عَلَى الْيُسْرَى (2) .
وَالْمَنْدُوبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يُقِيمَ رُكْبَتَهُ الْيُمْنَى
أَوْ مَعَ الْيُسْرَى، أَوْ أَنْ يَجْلِسَ كَالصَّلاَةِ، وَجَثَا رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً عَلَى رُكْبَتِهِ (3) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَاسْتَحْسَنُوا أَثْنَاءَ الأَْكْل الْجُلُوسَ
عَلَى الرِّجْل الْيُسْرَى، وَنَصْبَ الْيُمْنَى أَوِ التَّرَبُّعَ.
وَيُسْتَحَبُّ لِلضَّيْفِ أَنْ لاَ يُطِيل الْجُلُوسَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ
بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الأَْكْل، بَل يَسْتَأْذِنُ رَبَّ الْمَنْزِل
وَيَنْصَرِفَ (4) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا}
(5) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَكْلٌ) .
جُلُوسُ مَنْ يَتْبَعُ الْجِنَازَةَ قَبْل وَضْعِهَا:
20 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ
لِمُتَّبِعِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 216، والقوانين الفقهية / 442، ومغني المحتاج 3 / 250 ط
مصطفى البابي الحلبي سنة 1985، وروضة الطالبين 7 / 340، وكشاف القناع 5 /
177.
(2) ابن عابدين 5 / 482 و 5 / 216، ودليل الفالحين 3 / 233.
(3) الشرح الصغير 4 / 756.
(4) كشاف القناع 5 / 174، 177.
(5) سورة الأحزاب / 53.
(15/271)
الْجِنَازَةِ الْجُلُوسُ قَبْل وَضْعِهَا،
وَلاَ بَأْسَ بِالْجُلُوسِ بَعْدَ الْوَضْعِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ
بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لاَ
يَجْلِسُ حَتَّى يُوضَعَ الْمَيِّتُ فِي اللَّحْدِ، فَكَانَ قَائِمًا مَعَ
أَصْحَابِهِ عَلَى رَأْسِ قَبْرٍ، فَقَال يَهُودِيٌّ: هَكَذَا نَصْنَعُ
بِمَوْتَانَا، فَجَلَسَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَال
لأَِصْحَابِهِ: خَالِفُوهُمْ (1) . أَيْ فِي الْقِيَامِ.
ثُمَّ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْكَرَاهَةَ هُنَا تَحْرِيمِيَّةٌ
لِلنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ (2) ، فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
مَرْفُوعًا: إِذَا اتَّبَعْتُمُ الْجِنَازَةَ فَلاَ تَجْلِسُوا حَتَّى
تُوضَعَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: حَتَّى تُوضَعَ بِالأَْرْضِ (3)
.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ بَأْسَ بِالْجُلُوسِ عِنْدَ الْقَبْرِ قَبْل
أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ عَنِ الأَْعْنَاقِ (4) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَامَ مُنْتَظِرًا،
وَإِنْ شَاءَ جَلَسَ (5) .
الْجُلُوسُ لِلتَّعْزِيَةِ:
21 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى
أَنَّهُ
__________
(1) حديث: " عن عبادة بن الصامت أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يجلس. . .
". أخرجه الترمذي (3 / 331 - ط الحلبي) وقال: " هذا حديث غريب، وبشر بن
رافع ليس بالقوي في الحديث ".
(2) ابن عابدين 1 / 598، وكشاف القناع 2 / 129.
(3) حديث: " إذا اتبعتم جنازة فلا تجلسوا حتى توضع " أخرجه البخاري (فتح
الباري 2 / 178 ط السلفية) ومسلم (2 / 660 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد.
(4) جواهر الإكليل 1 / 112، ومواهب الجليل 2 / 227.
(5) روضة الطالبين 2 / 115.
(15/271)
يُرَخَّصُ الْجُلُوسُ فِي الْمُصِيبَةِ
ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لِلرِّجَال فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ، أَمَّا فِيهِ
فَيُكْرَهُ، وَلاَ تَجْلِسُ النِّسَاءُ قَطْعًا.
وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ: لاَ بَأْسَ بِهِ لأَِهْل الْمَيِّتِ فِي الْبَيْتِ
أَوِ الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ يَأْتُونَهُمْ وَيُعَزُّونَهُمْ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ يَجُوزُ أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُل لِلتَّعْزِيَةِ (1)
. لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا
قَالَتْ: لَمَّا قُتِل زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمْ، جَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرَفُ
فِيهِ الْحُزْنُ (2) .
وَقَال مُتَأَخِّرُو فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: يُكْرَهُ لَهُ الْجُلُوسُ
فِي بَيْتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ إِلَيْهِ مَنْ يُعَزِّي، بَل إِذَا فَرَغَ،
وَرَجَعَ النَّاسُ مِنَ الدَّفْنِ فَلْيَتَفَرَّقُوا، وَيَشْتَغِل النَّاسُ
بِأُمُورِهِمْ، وَصَاحِبُ الْبَيْتِ بِأَمْرِهِ (3) .
وَإِلَى الْكَرَاهَةِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي
الْمَذْهَبِ، وَالْكَرَاهَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَنْزِيهِيَّةٌ إِنْ
لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مُحْدَثٌ آخَرُ.
وَنُقِل عَنْ أَحْمَدَ: الرُّخْصَةُ لأَِهْل الْمَيِّتِ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 604، ومواهب الجليل 2 / 230.
(2) حديث عائشة: " لما قتل زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب. . . . ".
أخرجه البخاري (الفتح 3 / 166 - ط السلفية) .
(3) ابن عابدين 1 / 604.
(4) روضة الطالبين 2 / 144، والأذكار / 136، والإنصاف 2 / 565.
(15/272)
أَمَّا الْجُلُوسُ عَلَى بَابِ دَارِ
الْمَيِّتِ: فَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ لأَِنَّهُ
عَمَل أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِجَوَازِهِ حَيْثُ قَالُوا: لاَ بَأْسَ
بِالْجُلُوسِ بِقُرْبِ دَارِ الْمَيِّتِ لِيَتَّبِعَ الْجِنَازَةَ، أَوْ
يَخْرُجُ وَلِيُّهُ فَيُعَزِّيهُ، لأَِنَّهُ فَعَلَهُ السَّلَفُ (2) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (تَعْزِيَةٌ) .
الْجُلُوسُ عَلَى الْقُبُورِ:
22 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجُلُوسَ عَلَى
الْقُبُورِ إِذَا كَانَ لِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ فَلاَ يَجُوزُ قَوْلاً
وَاحِدًا. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ، وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ الْجُلُوسُ عَلَى الْقُبُورِ،
لِمَا رَوَى أَبُو مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلاَ
تُصَلُّوا إِلَيْهَا (3) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأََنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى
جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ
أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 604
(2) الإنصاف 2 / 565
(3) حديث: " لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها ". أخرجه مسلم (2 / 668
- ط الحلبي) .
(4) ابن عابدين 1 / 604، وروضة الطالبين 2 / 139، وكشاف القناع 2 / 140،
والمغني 2 / 565 وحديث: " لأن يجلس أحدكم على جمرة. . . . " أخرجه مسلم (2
/ 667 - ط الحلبي) .
(15/272)
قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ:
وَإِنْ أَرَادَ الْجُلُوسَ أَثْنَاءَ زِيَارَةِ الْقُبُورِ يَجْلِسُ
بَعِيدًا أَوْ قَرِيبًا بِحَسَبِ مَرْتَبَتِهِ فِي حَال حَيَاتِهِ (1) .
وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيَّةِ: يَنْبَغِي لِلزَّائِرِ أَنْ يَدْنُوَ مِنَ
الْقَبْرِ بِقَدْرِ مَا كَانَ يَدْنُو مِنْ صَاحِبِهِ فِي الْحَيَاةِ لَوْ
زَارَهُ.
وَيَرَى الطَّحَاوِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَنَسَبَ الْقَوْل إِلَى أَبِي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ جَوَازَ الْجُلُوسِ عَلَى
الْقَبْرِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا، لِمَا
رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْقَبْرَ،
وَيَجْلِسُ عَلَيْهِ (2) .
قَال الطَّحَاوِيُّ: وَتَنْتَفِي الْكَرَاهَةُ مُطْلَقًا إِذَا كَانَ
الْجُلُوسُ لِلْقِرَاءَةِ (3) .
الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ لِلْقَضَاءِ:
23 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ
الْمَذْهَبِ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ جُلُوسِ الْقَاضِي فِي
الْمَسْجِدِ لِلْحُكْمِ، وَالْجَامِعُ أَوْلَى؛ لأَِنَّهُ أَشْهَرُ،
وَيَخْتَارُ مَسْجِدًا فِي وَسَطِ الْبَلَدِ؛ لِئَلاَّ يَبْعُدَ عَلَى
قَاصِدِيهِ.
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 605.
(2) مواهب الجليل 2 / 252، وجواهر الإكليل 1 / 171 ط دار المعرفة، وابن
عابدين 1 / 606.
(3) ابن عابدين 1 / 606، 607.
(15/273)
يَفْصِل بَيْنَ الْخُصُومِ فِي
الْمَسْجِدِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
قَال: إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ وَلِلْحُكْمِ (1)
وَلِئَلاَّ يَشْتَبِهَ عَلَى الْغُرَبَاءِ مَكَانُهُ. وَكَذَا الْخُلَفَاءُ
الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ، وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
لَهُ دَكَّةٌ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا جَلَسَ لِلْقَضَاءِ فِي
الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُ يَجْلِسُ بِغَيْرِ يَوْمِ عِيدِ فِطْرٍ أَوْ
أَضْحَى، وَيُكْرَهُ جُلُوسُهُ يَوْمَ عِيدٍ؛ لأَِنَّهُ يَوْمُ فَرَحٍ
وَسُرُورٍ، وَمُصَافَاةٍ لاَ يَوْمُ مُخَاصَمَةٍ. وَبِغَيْرِ يَوْمِ
قُدُومِ الْحَاجِّ وَخُرُوجِهِ؛ لاِشْتِغَال النَّاسِ فِيهِ بِتَهْنِئَةِ
الْقَادِمِينَ، أَوْ وَدَاعِ الْخَارِجِينَ، وَبِغَيْرِ يَوْمِ
التَّرْوِيَةِ وَيَوْمِ عَرَفَةَ. وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَجْلِسُ بِرِحَابِ الْمَسْجِدِ
الْخَارِجَةِ عَنْهُ وَاسْتَحْسَنَ صَاحِبُ جَوَاهِرِ الإِْكْلِيل هَذَا،
مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جَنِّبُوا
مَسَاجِدَكُمْ رَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ (2) .
__________
(1) حديث: " إنما بنيت المساجد لذكر الله وللحكم " قال الزيلعي في نصب
الراية (4 / 70 - ط دائرة المعارف العثمانية) : " غريب بهذا اللفظ، وأخرجه
مسلم، ليس فيه الحكم " انتهى. وبدون هذه الزيادة هو في صحيح مسلم (1 / 237
- ط الحلبي) من حديث أنس.
(2) ابن عابدين 4 / 310، والاختيار 2 / 85، وجواهر الإكليل 2 / 223، 224،
والمغني 9 / 44، 45، 46 وحديث: " جنبوا مساجدكم. . . . " أخرجه ابن ماجه (1
/ 247 - ط الحلبي) من حديث واثلة بن الأسقع مطولا، وقال البوصيري: " إسناده
ضعيف ".
(15/273)
وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ
يَجْلِسَ الْقَاضِي فِي دَارٍ لاَ فِي مَسْجِدٍ، فَيُكْرَهُ عِنْدَهُمُ
اتِّخَاذُهُ مَجْلِسًا لِلْحُكْمِ فِي الأَْصَحِّ، صَوْنًا لَهُ عَنِ
ارْتِفَاعِ الأَْصْوَاتِ، وَاللَّغَطِ الْوَاقِعَيْنِ بِمَجْلِسِ
الْقَضَاءِ عَادَةً؛ وَلأَِنَّ الْقَضَاءَ قَدْ يَحْضُرُهُ مُشْرِكٌ وَهُوَ
نَجِسٌ بِالنَّصِّ (1) .
وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لِجُلُوسِ الْقَاضِي آدَابًا كَثِيرَةً مِنْهَا:
- أَنْ يَكُونَ مَجْلِسُهُ فَسِيحًا، وَاسِعًا لِئَلاَّ يَتَأَذَّى
بِضِيقِهِ الْحَاضِرُونَ.
- وَأَنْ يَكُونَ بَارِزًا، ظَاهِرًا، لِيَعْرِفَ الْقَاضِي مَنْ يَرَاهُ.
- وَأَنْ يَكُونَ مَصُونًا مِنْ أَذَى حَرٍّ وَبَرْدٍ وَرِيحٍ وَغُبَارٍ
وَدُخَانٍ، لاَئِقًا بِالْوَقْتِ مِنْ صَيْفٍ وَشِتَاءٍ.
- وَأَنْ يُبْسَطَ لَهُ شَيْءٌ، وَلاَ يَجْلِسَ عَلَى التُّرَابِ وَلاَ
عَلَى الْحَصِيرِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُ بِهَيْبَتِهِ مِنْ أَعْيَنِ
الْخُصُومِ (2) .
وَفِي الْجُلُوسِ بَيْنَ يَدَيِ الْقَاضِي، وَالْعَدْل بَيْنَ الْخَصْمِ
فِي مَجْلِسِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (قَضَاءٌ) .
حَدُّ الْمَرْأَةِ وَهِيَ جَالِسَةٌ:
24 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ - وَالْمَالِكِيَّةُ
__________
(1) القليوبي 4 / 302، وابن عابدين 4 / 310.
(2) المراجع السابقة، والمغني 9 / 80، 81، 82.
(15/274)
وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّ الْمَرْأَةَ تُضْرَبُ فِي جَمِيعِ الْحُدُودِ الَّتِي فِيهَا
الضَّرْبُ جَالِسَةً، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُ أَنَّهُ قَال: تُضْرَبُ الْمَرْأَةُ جَالِسَةً، وَالرَّجُل
قَائِمًا؛ وَلأَِنَّ الْمَرْأَةَ عَوْرَةٌ، وَجُلُوسُهَا أَسْتَرُ لَهَا.
وَيَرَى أَبُو يُوسُفَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى أَنَّهَا تُحَدُّ قَائِمَةً،
كَمَا تُلاَعِنُ.
وَأَمَّا الرَّجُل فَلَمْ يَقُل بِضَرْبِهِ جَالِسًا فِي الْحُدُودِ إِلاَّ
الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
لَمْ يَأْمُرْ بِالْقِيَامِ، وَلأَِنَّهُ مَجْلُودٌ فِي حَدٍّ، فَأَشْبَهَ
الْمَرْأَةَ (1) .
الْجُلُوسُ لِلتَّبَوُّل:
25 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْجُلُوسُ
أَثْنَاءَ التَّبَوُّل لِئَلاَّ يَتَرَشَّشَ عَلَيْهِ، قَال ابْنُ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مِنَ الْجَفَاءِ أَنْ تَبُول وَأَنْتَ
قَائِمٌ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: مَنْ حَدَّثَكُمْ
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبُول
قَائِمًا فَلاَ تُصَدِّقُوهُ، مَا كَانَ يَبُول إِلاَّ قَاعِدًا (2) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 147، وجواهر الإكليل 2 / 294، والقليوبي 4 / 204،
والمغني 8 / 313 - 315، 316.
(2) حديث: " من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبول قائما فلا
تصدقوه. . . . " أخرجه النسائي (1 / 26 ط دار البشائر الإسلامية) والترمذي
(1 / 17 ط مصطفى الحلبي) ، وابن ماجه (1 / 112 ط عيسى الحلبي) من حديث
عائشة، وقال الترمذي (حديث عائشة أحسن شيء في الباب وأصح) . أخرجه الحاكم
(1 / 181 ط دار الكتاب العربي) بنحوه منها وقال: (حديث صحيح على شرط
الشيخين) ووافقه الذهبي.
(15/274)
وَقَال التِّرْمِذِيُّ: هَذَا أَصَحُّ
شَيْءٍ فِي الْبَابِ، وَقَال النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَقَدْ
رُوِيَ فِي النَّهْيِ أَحَادِيثُ لاَ تَثْبُتُ، وَلَكِنْ حَدِيثُ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ثَابِتٌ، فَلِذَا قَال الْعُلَمَاءُ يُكْرَهُ
إِلاَّ لِعُذْرٍ. وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ لاَ تَحْرِيمٍ (1) .
وَقَدْ رُوِيَتِ الرُّخْصَةُ فِي ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ
عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَسَهْل بْنِ سَعْدٍ، وَأَنَسٍ وَأَبِي
هُرَيْرَةَ وَعُرْوَةَ.
وَرَوَى حُذَيْفَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَال قَائِمًا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ
(2) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءُ
الْحَاجَةِ) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 229، 230، وحاشية الدسوقي 1 / 104، 105، وجواهر الإكليل
1 / 17، والقوانين الفقهية / 41، والقليوبي 1 / 38، وروضة الطالبين 1 / 66،
والمغني 1 / 164.
(2) حديث حذيفة " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائما "
أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 328 ط السلفية) . ومسلم (1 / 229 ط عيسى
الحلبي) .
(15/275)
جِمَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجِمَارُ بِالْكَسْرِ وَالْجَمَرَاتُ جَمْعُ الْجَمْرَةِ، وَمِنْ
مَعَانِي الْجَمْرَةِ فِي اللُّغَةِ الْحَصَاةُ، فَالْجِمَارُ الأَْحْجَارُ
الصِّغَارُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ تُطْلَقُ الْجِمَارُ عَلَى مَعَانٍ:
أ - جَمَرَاتُ الْمَنَاسِكِ الثَّلاَثُ الأُْولَى وَالْوُسْطَى وَجَمْرَةُ
الْعَقَبَةِ.
وَالْجَمَرَاتُ هِيَ: الْمَوَاضِعُ الَّتِي تُرْمَى بِالْحَصَيَاتِ، وَهِيَ
بِمِنًى، وَالأُْولَى مِنْهَا هِيَ الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ،
وَالْوُسْطَى الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ
وَالأَْخِيرَةُ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ.
وَهِيَ أَقْرَبُ الثَّلاَثِ إِلَى مَكَّةَ. قَال صَاحِبُ مِرْآةِ
الْحَرَمَيْنِ: وَهِيَ - أَيْ فِي زَمَنِهِ حَائِطٌ مِنَ الْحَجَرِ
ارْتِفَاعُهُ نَحْوُ ثَلاَثَةِ أَمْتَارٍ فِي عَرْضِ نَحْوِ مِتْرَيْنِ
أُقِيمَ عَلَى قِطْعَةٍ مِنْ صَخْرَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَنِ الأَْرْضِ
بِنَحْوِ مِتْرٍ وَنِصْفٍ وَمِنْ أَسْفَل هَذَا الْحَائِطِ حَوْضٌ مِنَ
الْبِنَاءِ تَسْقُطُ إِلَيْهِ حِجَارَةُ الرَّجْمِ (2) .
وَوَرَدَ فِي شِفَاءِ الْغَرَامِ نَقْلاً عَنِ الأَْزْرَقِيِّ: وَمِنْ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: (جمر) .
(2) مرآة الحرمين 1 / 328.
(15/275)
جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَهِيَ أَوَّل
الْجِمَارِ مِمَّا يَلِي مَكَّةَ إِلَى الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى
أَرْبَعُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَسَبْعَةٌ وَثَمَانُونَ ذِرَاعًا وَاثْنَا عَشَرَ
أُصْبُعًا، وَمِنَ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى إِلَى الْجَمْرَةِ الثَّالِثَةِ
وَهِيَ الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ مِنًى ثَلاَثُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَخَمْسَةُ
أَذْرُعٍ، وَمِنَ الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ مِنًى إِلَى أَوْسَطِ بَابِ
مَسْجِدِ الْخَيْفِ أَلْفُ ذِرَاعِ وَثَلاَثُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَوَاحِدٌ
وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا (1) .
وَقَال فِي مِرْآةِ الْحَرَمَيْنِ: الْمَسَافَةُ الَّتِي بَيْنَ جَمْرَةِ
الْعَقَبَةِ وَالْجَمْرَةِ الْوُسْطَى 116. 77 مِتْرًا، وَالَّتِي بَيْنَ
الْجَمْرَةِ الأُْولَى وَالْوُسْطَى 156. 40 مِتْرًا.
قَال الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: وَلَيْسَ لِلْمَرْمَى حَدٌّ مَعْلُومٌ
غَيْرَ أَنَّ كُل جَمْرَةٍ عَلَيْهَا عَلَمٌ، وَهُوَ عَمُودٌ مُعَلَّقٌ
هُنَاكَ فَيُرْمَى تَحْتَهُ وَحَوْلَهُ وَلاَ يُبْعَدُ عَنْهُ احْتِيَاطًا،
وَحَّدَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِثَلاَثَةِ أَذْرُعٍ مِنْ سَائِرِ
الْجَوَانِبِ إِلاَّ فِي جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَلَيْسَ لَهَا إِلاَّ
وَجْهٌ وَاحِدٌ لأَِنَّهَا تَحْتَ جَبَلٍ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ رَمْيِ الْجِمَارِ التَّعَبُّدُ لِلَّهِ تَعَالَى
وَحْدَهُ بِمَا لاَ حَظَّ لِلنَّفْسِ فِيهِ (2) قَال أَبُو حَامِدٍ
الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَيَانِ أَسْرَارِ الْحَجِّ
مِنَ الإِْحْيَاءِ: وَأَمَّا رَمْيُ الْجِمَارِ فَلْيَقْصِدْ بِهِ
الاِنْقِيَادَ لِلأَْمْرِ إِظْهَارًا لِلرِّقِّ وَالْعُبُودِيَّةِ،
وَانْتِهَاضًا لِمُجَرَّدِ الاِمْتِثَال مِنْ غَيْرِ حَظٍّ لِلنَّفْسِ
وَالْعَقْل فِي ذَلِكَ.
ثُمَّ لْيَقْصِدْ بِهِ التَّشَبُّهَ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
حَيْثُ عَرَضَ لَهُ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ
الْمَوْضِعِ
__________
(1) شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1 / 294.
(2) مرآة الحرمين 1 / 48، 138.
(15/276)
لِيُدْخِل عَلَى حَجِّهِ شُبْهَةً أَوْ
يَفْتِنَهُ بِمَعْصِيَةٍ، أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَل أَنْ يَرْمِيَهُ
بِالْحِجَارَةِ طَرْدًا لَهُ وَقَطْعًا لأَِمَلِهِ (1) .
وَرَدَ فِي بَعْضِ الأَْحَادِيثِ أَنَّ إِبْلِيسَ عَرَضَ لَهُ هُنَالِكَ
أَيْ وَسْوَسَ لَهُ لِيَشْغَلَهُ عَنْ أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ فَكَانَ
يَرْمِيهِ كُل مَرَّةٍ فَيَخْنَسَ ثُمَّ يَعُودَ (2) . وَرَوَى
الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
لَمَّا أَتَى خَلِيل اللَّهِ الْمَنَاسِكَ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ
جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي
الأَْرْضِ ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الثَّانِيَةِ فَرَمَاهُ
بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي الأَْرْضِ ثُمَّ ذَكَرَ الْجَمْرَةَ
الثَّالِثَةَ كَذَلِكَ (3) .
وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ: لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ جَاءَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ
السَّلَامُ فَقَال لَهُ طُفْ بِهِ سَبْعًا، ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ
أَنَّهُ لَمَّا دَخَل مِنًى وَهَبَطَ مِنَ الْعَقَبَةِ تَمَثَّل لَهُ
إِبْلِيسُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَقَال لَهُ جِبْرِيل: كَبِّرْ
وَارْمِهِ سَبْعَ حَصَيَاتٍ، فَرَمَاهُ فَغَابَ عَنْهُ، ثُمَّ بَرَزَ
__________
(1) إحياء علوم الدين 1 / 277.
(2) حديث: " إن إبليس عرض له هنالك أي وسوس له. . . ". أخرجه أحمد (1 / 283
- 284 / 2795 - ط دار المعارف. وصحح إسناده أحمد شاكر) .
(3) حديث: " لما أتى خليل الله المناسك عرض له الشيطان عند. . . ". أخرجه
البيهقي (5 / 153 - 154 - ط دار المعرفة) والحاكم (1 / 466 - ط دار الكتاب
العربي) . وقال: حديث صحيح على شرط البخاري. وذهب الذهبي إلى أنه على شرط
مسلم.
(15/276)
لَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى،
فَقَال لَهُ جِبْرِيل: كَبِّرْ وَارْمِهِ، فَرَمَاهُ إِبْرَاهِيمُ سَبْعَ
حَصَيَاتٍ، ثُمَّ بَرَزَ لَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ السُّفْلَى، فَقَال لَهُ
جِبْرِيل: كَبِّرْ وَارْمِهِ، فَرَمَاهُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ مِثْل حَصَى
الْخَذْفِ، فَغَابَ عَنْهُ إِبْلِيسُ (1) .
ب - الْحَصَيَاتُ الَّتِي يُرْمَى بِهَا فِي مِنًى، وَتُسَمَّى
الْحَصَيَاتُ السَّبْعُ جَمْرَةً أَيْضًا، تَسْمِيَةً لِلْكُل بِاسْمِ
الْبَعْضِ (2) .
ج - الأَْحْجَارُ الصَّغِيرَةُ الَّتِي يُسْتَنْجَى بِهَا، وَمِنْهُ
حَدِيثُ: إِذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُوتِرْ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً - الْجِمَارُ بِمَعْنَى الْحَصَيَاتِ الَّتِي يُرْمَى بِهَا:
2 - رَمْيُ الْجِمَارِ وَاجِبٌ فِي الْحَجِّ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ،
وَيَجِبُ فِي تَرْكِهِ دَمٌ (4) .
وَعَدَدُ الْجِمَارِ سَبْعُونَ: سَبْعَةٌ لِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ
يَوْمَ النَّحْرِ وَالْبَاقِي لِثَلاَثَةِ أَيَّامِ مِنًى كُل يَوْمٍ
ثَلاَثُ جَمَرَاتٍ بِإِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَذَلِكَ لِمَنْ لَمْ
يَتَعَجَّل،
__________
(1) مرآة الحرمين 1 / 137.
(2) الدسوقي 2 / 50، المقنع ص 198.
(3) حديث: " إذا استجمر أحدكم فليوتر. . . ". أخرجه مسلم (1 / 212 - ط عيسى
الحلبي) .
(4) الاختيار 1 / 163، والجمل 2 / 475، 479، وكشاف القناع 2 / 510.
(15/277)
أَمَّا لِلْمُتَعَجِّل فَتِسْعَةٌ
وَأَرْبَعُونَ (1) . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجٌّ، وَرَمْيُ
الْجِمَارِ) .
صِفَةُ جِمَارِ الرَّمْيِ:
3 - يُشْتَرَطُ فِي الْجِمَارِ أَنْ تَكُونَ مِنْ حَجَرٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ) ، فَلاَ يَجُوزُ بِذَهَبٍ، وَفِضَّةٍ، وَحَدِيدٍ،
وَرَصَاصٍ، وَخَشَبٍ، وَطِينٍ، وَبَذْرٍ، وَتُرَابٍ، وَلُؤْلُؤٍ،
وَإِثْمِدٍ، وَجِصٍّ عِنْدَهُمْ (2) ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى بِالْحَصَى وَأَمَرَ بِالرَّمْيِ بِمِثْل حَصَى
الْخَذْفِ، فَلاَ يَتَنَاوَل غَيْرَهُ (3) .
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ تَكُونَ الْجِمَارُ مِنْ كُل أَنْوَاعِ
الْحَجَرِ (4) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ
الْجِمَارُ مِنْ كُل مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الأَْرْضِ، كَالْحَجَرِ
وَالْمَدَرِ وَالطِّينِ، وَكُل مَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ.
وَلاَ يَجُوزُ بِخَشَبٍ وَعَنْبَرٍ وَلُؤْلُؤٍ وَجَوَاهِرَ لأَِنَّهَا
لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الأَْرْضِ.
__________
(1) الاختيار 1 / 154، 155، ابن عابدين 2 / 181، والدسوقي 2 / 50،
والقليوبي 2 / 117، وكشاف القناع 2 / 499، 509.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 50، وحاشية الجمل 2 / 473، وكشاف القناع 2 / 501،
والمغني 3 / 426.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بالحصى وأمر بالرمي بمثل حصى
الخذف. . . ". أخرجه مسلم (2 / 931 - 932 - ط عيسى الحلبي) .
(4) حاشية الجمل 2 / 473 وما بعدها، والقليوبي 2 / 141.
(15/277)
وَاشْتَرَطَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فِي
الْجِمَارِ أَنْ يَكُونَ رَمْيُهَا بِاسْتِهَانَةٍ، فَلاَ يَجُوزُ
عِنْدَهُمْ بِالْفَيْرُوزَجِ وَالْيَاقُوتِ مَعَ أَنَّهُمَا مِنْ جِنْسِ
الأَْرْضِ لِعَدَمِ حُصُول الاِسْتِهَانَةِ بِهِمَا (1) .
وَيُجْزِئُ مَعَ الْكَرَاهَةِ الرَّمْيُ بِالْجِمَارِ الْمُتَنَجِّسَةِ،
فَإِنْ غَسَلَهَا زَالَتِ النَّجَاسَةُ، وَلاَ يُسْتَحَبُّ غَسْلُهَا
إِلاَّ إِذَا كَانَتْ مُتَنَجِّسَةً بِيَقِينٍ (2) .
حَجْمُ الْجِمَارِ:
4 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْجَمْرَةَ تَكُونُ مِقْدَارَ الْبَاقِلاَّ،
أَيْ قَدْرَ الْفُولَةِ، وَقِيل: قَدْرَ الْحِمَّصَةِ، أَوِ النَّوَاةِ،
أَوِ الأُْنْمُلَةِ.
وَهَذَا بَيَانُ الْمَنْدُوبِ، وَيَجُوزُ الرَّمْيُ بِالأَْكْبَرِ مَعَ
الْكَرَاهَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تَكُونُ حَصَى الْجِمَارِ أَكْبَرَ مِنَ الْحِمَّصِ
وَدُونَ الْبُنْدُقِ، كَحَصَى الْخَذْفِ، فَلاَ يُجْزِئُ صَغِيرٌ جِدًّا
وَلاَ كَبِيرٌ. وَالأَْصْل فِيهِ حَدِيثُ مُسْلِمٍ: عَلَيْكُمْ بِحَصَى
الْخَذْفِ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 180
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 181، والشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي 2 /
50، وكشاف القناع 2 / 499، والمغني 3 / 426.
(3) ابن عابدين 2 / 179، والدسوقي 2 / 50، وحاشية الجمل 2 / 474، وكشاف
القناع 2 / 499. وحديث: " عليكم بحصى الخذف " سبق تخريجه ف / 3.
(15/278)
مَكَانُ الْتِقَاطِ الْجِمَارِ:
5 - يُسْتَحَبُّ الْتِقَاطُ الْجِمَارِ السَّبْعَةِ لِرَمْيِ جَمْرَةِ
الْعَقَبَةِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ، أَوْ مِنَ الطَّرِيقِ، وَمَا عَدَا
السَّبْعَةَ لَيْسَ لَهُ مَكَانٌ مَخْصُوصٌ. وَقِيل: يُؤْخَذُ سَبْعُونَ
حَصَاةً مِنْ مُزْدَلِفَةَ.
وَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ أَخْذِهَا مِنْ حَيْثُ كَانَ، لَكِنَّهُ
يُكْرَهُ أَخْذُهَا مِنْ عِنْدِ الْجَمْرَةِ، وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ
بِأَنَّهُ إِنْ رَمَى بِحَجَرٍ أَخَذَهُ مِنَ الْمَرْمَى لَمْ يَجْزِهِ.
وَيُكْرَهُ كَذَلِكَ الْتِقَاطُهَا مِنْ مَكَانٍ نَجِسٍ، أَوْ أَنْ تَكُونَ
مُتَنَجِّسَةً. وَيُكْرَهُ أَيْضًا أَنْ يَلْتَقِطَ حَجَرًا فَيَكْسِرَهُ
سَبْعِينَ حَجَرًا صَغِيرًا (1) .
كَيْفِيَّةُ رَمْيِ الْجِمَارِ:
6 - يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي سَبْعًا بِسَبْعِ
حَصَيَاتٍ، فَلَوْ رَمَاهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً كَانَتْ عَنْ وَاحِدَةٍ.
وَيُكَبِّرُ مَعَ كُل حَصَاةٍ. فَإِذَا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي مِنْ
أَيَّامِ النَّحْرِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلاَثَ بَعْدَ الزَّوَال
يَبْتَدِئُ بِالْجَمْرَةِ الأُْولَى الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ،
وَكَذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ إِنْ أَقَامَ. وَإِنْ
نَفَرَ إِلَى مَكَّةَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ سَقَطَ عَنْهُ رَمْيُ
الْيَوْمِ الرَّابِعِ (2) . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ:
__________
(1) ابن عابدين 2 / 181، وحاشية الدسوقي 2 / 50، وحاشية القليوبي 2 / 117،
وكشاف القناع 2 / 498، والمغني 3 / 326.
(2) الاختيار 2 / 152 - 155، والدسوقي 2 / 50، والجمل 2 / 472، 474، وكشاف
القناع 2 / 500، والمغني 3 / 426، 450.
(15/278)
حَجٌّ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ)
وَيُشْتَرَطُ حُصُول الْجِمَارِ فِي الْمَرْمَى عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) وَإِنْ
لَمْ يَبْقَ فِيهِ. وَلاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَوْ
وَقَعَتْ عَلَى ظَهْرِ رَجُلٍ أَوْ جَمَلٍ إِنْ وَقَعَتْ بِنَفْسِهَا
بِقُرْبِ الْجَمْرَةِ أَجْزَأَ، وَإِلاَّ لَمْ يُجْزِئْ (1) .
وَقْتُ رَمْيِ الْجِمَارِ:
7 - الْوَقْتُ الْمَسْمُوحُ لِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ مِنْ طُلُوعِ
شَمْسِ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى زَوَالِهَا.
أَمَّا الْجِمَارُ فِي الأَْيَّامِ الثَّلاَثِ الأُْخْرَى فَوَقْتُهَا
بَعْدَ الزَّوَال (2) .
وَفِي شُرُوطِ رَمْيِ الْجِمَارِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَأْخِيرِهَا
أَوْ تَرْكِهَا، بَعْضِهَا أَوْ كُلِّهَا تَفْصِيلٌ فِي الْمَذَاهِبِ
يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجٌّ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ) .
ثَانِيًا - الْجِمَارُ الَّتِي يُسْتَنْجَى بِهَا:
8 - وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ (3)
__________
(1) ابن عابدين 2 / 179، الدسوقي 2 / 50، والجمل 2 / 473، كشاف القناع 2 /
500.
(2) ابن عابدين 2 / 181، والاختيار 2 / 155، والدسوقي 2 / 52، والجمل 2 /
468، 474، وكشاف القناع 2 / 508.
(3) حديث: " من استجمر فليوتر " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 262 - ط
السلفية) . ومسلم (1 / 212 - ط عيسى الحلبي) .
(15/279)
وَمَعْنَى الاِسْتِجْمَارِ اسْتِعْمَال
الْحِجَارَةِ وَنَحْوِهَا فِي إِزَالَةِ مَا عَلَى السَّبِيلَيْنِ مِنَ
النَّجَاسَةِ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الاِسْتِجْمَارَ كَمَا يَكُونُ بِالْحِجَارَةِ
يَكُونُ بِكُل جَامِدٍ يَحْصُل بِهِ الإِْنْقَاءُ وَالتَّنْظِيفُ، كَمَدَرٍ
وَخِرْقَةٍ وَنَحْوِهِمَا. وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الاِسْتِنْجَاءَ
بِالْمَاءِ أَفْضَل (1) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا (2) .
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِجْمَارٌ) .
جِمَاعٌ
انْظُرْ: وَطْءٌ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 130، والدسوقي 1 / 110.
(2) ابن عابدين 1 / 224 - 226، والبحر الرائق 1 / 254، والدسوقي 1 / 111،
والخرشي 1 / 148، ونهاية المحتاج 1 / 129، والمجموع 2 / 100، وكشاف القناع
1 / 55، المغني 1 / 159.
(15/279)
جَمَاعَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَمَاعَةُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْجَمْعِ: وَالْجَمْعُ تَأْلِيفُ
الْمُتَفَرِّقِ وَضَمُّ الشَّيْءِ بِتَقْرِيبِ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ،
يُقَال: جَمَعْتُهُ فَاجْتَمَعَ (1) . وَالْجَمَاعَةُ عَدَدٌ مِنَ النَّاسِ
يَجْمَعُهُمْ غَرَضٌ وَاحِدٌ. وَقَدِ اسْتَعْمَلُوهَا فِي غَيْرِ النَّاسِ
حَتَّى قَالُوا: جَمَاعَةُ الشَّجَرِ وَجَمَاعَةُ النَّبَاتِ، وَبِهَذَا
الْمَعْنَى تُطْلَقُ عَلَى عَدَدِ كُل شَيْءٍ وَكَثْرَتِهِ.
وَالْجَمَاعَةُ، وَالْجَمِيعُ، وَالْمَجْمَعَةُ، وَالْمَجْمَعُ كَالْجَمْعِ
(2) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ تُطْلَقُ الْجَمَاعَةُ عَلَى عَدَدٍ مِنَ
النَّاسِ. يَقُول الْكَاسَانِيُّ: " الْجَمَاعَةُ مَأْخُوذٌ مِنْ مَعْنَى
الاِجْتِمَاعِ، وَأَقَل مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الاِجْتِمَاعُ اثْنَانِ "
وَيَقُول: " أَقَل الْجَمَاعَةِ اثْنَانِ إِمَامٌ وَمَأْمُومٌ (3) ".
وَتُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى فِعْل الصَّلاَةِ مُجْتَمِعِينَ كَمَا
__________
(1) تاج العروس مادة: (جمع) .
(2) المعجم الوسيط ومتن اللغة مادة: (جمع) .
(3) البدائع 1 / 156.
(15/280)
يَقُولُونَ: " الْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ
مُؤَكَّدَةٌ، أَيْ فِعْل الصَّلاَةِ جَمْعًا بِإِمَامٍ وَمَأْمُومٍ (1) ".
قَدْ يُرَادُ مِنَ الْجَمَاعَةِ الاِتِّحَادُ وَعَدَمُ الْفُرْقَةِ، كَمَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ (2)
.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ بِاخْتِلاَفِ مَوَاضِعِهَا كَمَا يَلِي:
صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ:
2 - صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَل مِنْ صَلاَةِ الْفَذِّ اتِّفَاقًا لِمَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُل صَلاَةَ الْفَذِّ
بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً (3) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ فِي
__________
(1) الاختيار 1 / 57، والشرح الكبير للدردير 1 / 319، وجواهر الإكليل 1 /
76، والقليوبي 1 / 220.
(2) حديث: " الجماعة رحمة والفرقة عذاب " أخرجه أحمد في المسند وابنه في "
زوائده " (4 / 278، 375 ط المكتب الإسلامي، وابن أبي عاصم في السنة (1 / 93
ط المكتب الإسلامي) من حديث النعمان بن بشير. قال المنذري: إسناده لا بأس
به. الترغيب والترهيب 2 / 11 ط عيسى الحلبي) .
(3) حديث: " صلاة الجماعة تفضل صلاة
الفذ بسبع وعشرين درجة " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 131 ط السلفية)
ومسلم (1 / 450 ط عيسى الحلبي) من حديث ابن عمر ولفظه للبخاري.
(15/280)
صِحَّةِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ، وَهِيَ
فَرْضٌ عَلَى الرِّجَال الْقَادِرِينَ عَلَيْهَا بِشُرُوطٍ تُفَصَّل فِي
مَوْضِعِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي شَرْطِيَّتِهَا لِصِحَّةِ صَلاَةِ
الْعِيدَيْنِ. أَمَّا فِي سَائِرِ الْفُرُوضِ، فَالْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ
مُؤَكَّدَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَكَمَ بِأَفْضَلِيَّةِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ عَنْ صَلاَةِ الْفَذِّ،
وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى اللَّذَيْنِ قَالاَ: صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا
وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لأََنْكَرَ عَلَيْهِمَا.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
إِنَّهَا وَاجِبَةٌ، فَيَأْثَمُ تَارِكُهَا بِلاَ عُذْرٍ وَيُعَزَّرُ
وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ. وَقِيل: إِنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ فِي الْبَلَدِ
بِحَيْثُ يَظْهَرُ الشِّعَارُ فِي الْقَرْيَةِ فَيُقَاتَل أَهْلُهَا إِذَا
تَرَكُوهَا (1) .
وَيَسْتَدِلُّونَ لِلْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ
فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ
مَعَكَ} (2) فَأَمَرَ بِالْجَمَاعَةِ حَال الْخَوْفِ فَفِي غَيْرِهِ
أَوْلَى، وَبِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ
بِالصَّلاَةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ
أَنْطَلِقَ بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لاَ
يَشْهَدُونَ الصَّلاَةَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 371، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 388، وحاشية الدسوقي
1 / 319، 396، وحاشية القليوبي 1 / 321، ومغني المحتاج 1 / 310، وكشاف
القناع 1 / 454، والمغني لابن قدامة 2 / 176، والإنصاف 2 / 422.
(2) سورة النساء / 102.
(15/281)
فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ
بِالنَّارِ (1) أَمَّا النِّسَاءُ فَفِي أَدَائِهِنَّ لِلصَّلاَةِ
جَمَاعَةً تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ) .
وَهِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الصَّحِيحِ مِنَ
الْمَذْهَبِ (2) .
أَقَل الْجَمَاعَةِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ صَلاَةَ الْجَمَاعَةِ تَنْعَقِدُ
بِاثْنَيْنِ: إِمَامٍ وَمَأْمُومٍ. وَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ
وَالْعِيدَيْنِ. لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا: اثْنَانِ فَمَا
فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ (3) .
وَيَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لاِنْعِقَادِ الْجَمَاعَةِ فِي
الْفُرُوضِ أَنْ يَكُونَ الإِْمَامُ وَالْمَأْمُومُ كِلاَهُمَا بَالِغَيْنِ
وَلَوْ كَانَ الْمَأْمُومُ امْرَأَةً، فَلاَ تَنْعَقِدُ بِصَبِيٍّ فِي
فَرْضٍ لأَِنَّ صَلاَتَهُمَا فَرْضٌ، وَصَلاَةُ الصَّبِيِّ نَفْلٌ. أَمَّا
فِي النَّوَافِل فَتَنْعَقِدُ الْجَمَاعَةُ بِصَبِيَّيْنِ، أَوْ بَالِغٍ
وَصَبِيٍّ اتِّفَاقًا.
__________
(1) حديث: " لقد هممت بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا يصلي بالناس ثم أنطلق. . .
" أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 125 ط السلفية) ومسلم (1 / 251 - 452 ط
عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة واللفظ لمسلم.
(2) القليوبي 1 / 221، ومغني المحتاج 1 / 310.
(3) حديث: " اثنان فما فوقهما جماعة ". أخرجه ابن ماجه (1 / 312 ط عيسى
الحلبي) والبيهقي (3 / 69 ط دار المعرفة) من حديث أبي موسى الأشعري. ضعفه
البوصيري في الزوائد (1 / 119 ط دار العربية) وابن حجر في التلخيص الحبير
(3 / 81 ط شركة الطباعة الفنية) .
(15/281)
وَظَاهِرُ كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ
رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِصَغِيرٍ فِي
الْفَرْضِ أَيْضًا إِذَا كَانَ الإِْمَامُ بَالِغًا (1) . وَتَفْصِيلُهُ
فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ) .
وَهُنَاكَ شُرُوطٌ لاِنْعِقَادِ الْجَمَاعَةِ فِي الْجُمُعَةِ
وَالْعِيدَيْنِ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحَيْهِمَا.
قَتْل الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا
قَتَلُوا وَاحِدًا اقْتُصَّ مِنْهُمْ جَمِيعًا. قَالُوا: لأَِنَّ زُهُوقَ
الرُّوحِ لاَ يَتَجَزَّأُ، وَاشْتِرَاكَ الْجَمَاعَةِ فِيمَا لاَ
يَتَجَزَّأُ يُوجِبُ التَّكَامُل فِي حَقِّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ،
فَيُضَافُ إِلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ. قَالُوا: وَلإِِجْمَاعِ
الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً بِمَدِينَةِ
صَنْعَاءَ غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَتَرَكَ عِنْدَهَا ابْنًا لَهُ مِنْ
غَيْرِهَا، فَاتَّخَذَتْ لِنَفْسِهَا خَلِيلاً، فَاجْتَمَعَ عَلَى قَتْل
الْغُلاَمِ خَلِيل الْمَرْأَةِ، وَرَجُلٌ آخَرُ، وَالْمَرْأَةُ
وَخَادِمُهَا، فَقَطَعُوهُ أَعْضَاءً، وَأَلْقَوْا بِهِ فِي بِئْرٍ ثُمَّ
ظَهَرَ الْحَادِثُ وَفَشَا بَيْنَ النَّاسِ، فَأَخَذَ أَمِيرُ الْيَمَنِ
خَلِيل الْمَرْأَةِ فَاعْتَرَفَ، ثُمَّ اعْتَرَفَ الْبَاقُونَ، فَكَتَبَ
إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنِ اقْتُلْهُمْ
وَقَال: (وَاللَّهِ لَوْ تَمَالأََ عَلَيْهِ أَهْل صَنْعَاءَ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 156، والدسوقي 1 / 321، ومغني المحتاج 1 / 230،
والجمل على شرح المنهج 2 / 96، وحاشية القليوبي، وكشاف القناع 1 / 453،
454.
(15/282)
لَقَتَلْتهمْ جَمِيعًا) (1) .
وَكَذَلِكَ قَتَل عَلِيٌّ ثَلاَثَةً بِوَاحِدٍ، وَقَتَل الْمُغِيرَةُ
سَبْعَةً بِوَاحِدٍ، وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِمْ.
قَالُوا: وَلأَِنَّ الْقَتْل بِطَرِيقِ التَّغَالُبِ غَالِبٌ، وَالْقِصَاصُ
شُرِعَ لِحِكْمَةِ الزَّجْرِ، فَيُجْعَل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ
كَالْمُنْفَرِدِ فَيَجْرِي الْقِصَاصُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا تَحْقِيقًا
لِمَعْنَى الإِْحْيَاءِ، وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَلَزِمَ سَدُّ بَابِ الْقِصَاصِ
وَفَتْحُ بَابِ التَّفَانِي، إِذْ لاَ يُوجَدُ الْقَتْل مِنْ وَاحِدٍ
غَالِبًا.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ،
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاصٌ) (وَتَوَاطُؤٌ) .
الْقِصَاصُ مِنَ الْوَاحِدِ بِقَتْل الْجَمَاعَةِ:
5 - إِذَا قَتَل وَاحِدٌ جَمَاعَةً، قُتِل قِصَاصًا بِاتِّفَاقِ
الْفُقَهَاءِ (3) . وَفِي وُجُوبِ شَيْءٍ مِنَ الْمَال مَعَ ذَلِكَ خِلاَفٌ
وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (قِصَاصٌ) .
__________
(1) الأثر: " والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا " أخرجه البخاري
(فتح الباري 12 / 227 ط السلفية) ومالك في الموطأ (2 / 871 ط عيسى الحلبي)
واللفظ له.
(2) الزيلعي 6 / 114، 115، ومواهب الجليل مع التاج والإكليل 6 / 241، 242،
وأسنى المطالب 4 / 17، والمغني لابن قدامة 7 / 671، 672.
(3) ابن عابدين 5 / 358، ومواهب الجليل 6 / 241، 242، وأسنى المطالب 4 /
36، والمغني 7 / 672.
(15/282)
لُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ:
6 - وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ (1) .
قَال فِي الْفَتْحِ: اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الأَْمْرِ، فَقَال قَوْمٌ: هُوَ
لِلْوُجُوبِ، وَالْجَمَاعَةُ السَّوَادُ الأَْعْظَمُ، وَقَال قَوْمٌ:
الْجَمَاعَةُ الصَّحَابَةُ، وَقَال بَعْضُهُمْ: الْجَمَاعَةُ أَهْل
الْعِلْمِ، قَال الطَّبَرِيُّ: وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ
الْخَبَرِ لُزُومُ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ فِي طَاعَةِ مَنِ اجْتَمَعُوا
عَلَى تَأْيِيدِهِ، فَمَنْ نَكَثَ عَنْ بَيْعَتِهِ خَرَجَ عَنِ
الْجَمَاعَةِ (2) .
7 - وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيَّةِ: " نَتْبَعُ أَهْل السُّنَّةِ
وَالْجَمَاعَةِ "، وَالسُّنَّةُ طَرِيقَةُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْجَمَاعَةُ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ: هُمُ
الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (3) . . .
قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّ هَذِهِ الأُْمَّةَ
سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهَا فِي النَّارِ
إِلاَّ وَاحِدَةً وَهِيَ الْجَمَاعَةُ (4) ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالُوا: مَنْ
هِيَ يَا رَسُول
__________
(1) حديث: " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " أخرجه البخاري (فتح الباري 13 /
35 ط السلفية) ومسلم (3 / 1476 ط عيسى الحلبي) من حديث حذيفة بن اليمان.
(2) فتح الباري 13 / 37.
(3) العقيدة الطحاوية وشرحها ص 238.
(4) حديث: " إن هذه الأمة ستفترق على ثلاث. . . " أخرجه أبو داود (5 / 4 ط
عزت عبيد دعاس) والترمذي (5 / 25 ط مصطفى الحلبي) من حديث أبي هريرة. وقال
الترمذي: حديث حسن صحيح ومن حديث معاوية أخرجه أبو داود (5 / 5 ط عزت عبيد
الدعاس) والحاكم (1 / 128 ط دار الكتاب العربي) وقال: هذه أسانيد تقام بها
الحجة في تصحيح الحديث، ووافقه الذهبي.
(15/283)
اللَّهِ؟ قَال: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي (1) .
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحَاتِ: (إِمَامَةٌ كُبْرَى،
بَغْيٌ، بَيْعَةٌ) . |