الموسوعة
الفقهية الكويتية حُبْلَى
انْظُرْ: حَامِلٌ.
حَتْمٌ
انْظُرْ: حُكْمٌ.
__________
(1) حاشية الطحطاوي 3 / 64، وكشاف القناع 3 / 166، والمغني 4 / 230 - 231،
ونهاية المحتاج 3 / 448، والأم للشافعي 3 / 118، ومواهب الجليل 4 / 363.
(16/331)
حِجَابٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحِجَابُ فِي اللُّغَةِ: السَّتْرُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ يُقَال حَجَبَ
الشَّيْءَ يَحْجُبُهُ حَجْبًا وَحِجَابًا: أَيْ سَتَرَهُ، وَقَدِ احْتَجَبَ
وَتَحَجَّبَ إِذَا اكْتَنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ.
وَالْحِجَابُ اسْمُ مَا احْتُجِبَ بِهِ، وَكُل مَا حَال بَيْنَ شَيْئَيْنِ
فَهُوَ حِجَابٌ.
وَالْحِجَابُ كُل مَا يَسْتُرُ الْمَطْلُوبَ وَيَمْنَعُ مِنَ الْوُصُول
إِلَيْهِ كَالسِّتْرِ وَالْبَوَّابِ وَالْجِسْمِ وَالْعَجْزِ
وَالْمَعْصِيَةِ.
: وقَوْله تَعَالَى {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} (1) ،
مَعْنَاهُ: وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حَاجِزٌ فِي النِّحْلَةِ
وَالدِّينِ.
وَالأَْصْل فِي الْحِجَابِ أَنَّهُ جِسْمٌ حَائِلٌ بَيْنَ جَسَدَيْنِ.
وَقَدِ اسْتُعْمِل فِي الْمَعَانِي، فَقِيل: الْعَجْزُ
__________
(1) سورة فصلت / 5.
(17/5)
حِجَابٌ بَيْنَ الإِْنْسَانِ وَمُرَادِهِ،
وَالْمَعْصِيَةُ حِجَابٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ
اللُّغَوِيِّ الَّذِي هُوَ السَّتْرُ وَالْحَيْلُولَةُ (2) .
وَالْحَاجِبُ يَأْتِي بِمَعْنَى الْمَانِعِ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْعَظْمِ
الَّذِي فَوْقَ الْعَيْنِ بِلَحْمِهِ وَشَعْرِهِ. وَيُنْظَرُ مَا يَتَّصِل
بِهِمَا مِنْ أَحْكَامٍ فِي مُصْطَلَحِ: (حَاجِبٌ) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْخِمَارُ:
2 - الْخِمَارُ مِنَ الْخَمْرِ وَأَصْلُهُ السَّتْرُ، وَمِنْهُ قَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ (3)
وَكُل مَا يَسْتُرُ شَيْئًا فَهُوَ خِمَارُهُ.
لَكِنَّ الْخِمَارَ صَارَ فِي التَّعَارُفِ اسْمًا لِمَا تُغَطِّي بِهِ
الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلْخِمَارِ فِي بَعْضِ
الإِْطْلاَقَاتِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَيُعَرِّفُهُ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والكليات للكفوي والتعريفات للجرجاني.
(2) فتح القدير 6 / 463، ونشر دار إحياء التراث، وقليوبي 3 / 16، وروضة
الطالبين 8 / 54، وكشاف القناع 1 / 491 - 492، وشرح غريب المهذب لابن بطال
2 / 27.
(3) حديث: " خمروا آنيتكم ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 88 - ط السلفية) من
حديث جابر بن عبد الله.
(17/5)
بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ مَا
يَسْتُرُ الرَّأْسَ وَالصُّدْغَيْنِ أَوِ الْعُنُقَ (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحِجَابِ وَالْخِمَارِ أَنَّ الْحِجَابَ سَاتِرٌ
عَامٌّ لِجِسْمِ الْمَرْأَةِ، أَمَّا الْخِمَارُ فَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ
مَا تَسْتُرُ بِهِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا.
النِّقَابُ:
3 - النِّقَابُ - بِكَسْرِ النُّونِ - مَا تَنْتَقِبُ بِهِ الْمَرْأَةُ،
يُقَال انْتَقَبَتِ الْمَرْأَةُ وَتَنَقَّبَتْ غَطَّتْ وَجْهَهَا
بِالنِّقَابِ (2) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحِجَابِ وَالنِّقَابِ، أَنَّ الْحِجَابَ سَاتِرٌ
عَامٌّ، أَمَّا النِّقَابُ فَسَاتِرٌ لِوَجْهِ الْمَرْأَةِ فَقَطْ
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - لِلَفْظِ الْحِجَابِ إِطْلاَقَانِ:
أَحَدُهُمَا: اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحِسِّيَّاتِ، وَهُوَ الْجِسْمُ الَّذِي
يَحُول بَيْنَ شَيْئَيْنِ.
وَالثَّانِي: اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَعَانِي، وَهُوَ الأَْمْرُ
الْمَعْنَوِيُّ الَّذِي يَحُول دُونَ الْوُصُول إِلَى الْمَطْلُوبِ.
وَتَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُ فِي كُل ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ مَوَاضِعِهِ.
__________
(1) المصباح المنير والقاموس المحيط ولسان العرب، والمفردات للراغب وكفاية
الطالب الرباني 1 / 151، والمجموع 1 / 171.
(2) القاموس المحيط والمصباح المنير ولسان العرب.
(17/6)
أَوَّلاً: اسْتِعْمَالُهُ فِي
الْحِسِّيَّاتِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَلِي:
1 - الْحِجَابُ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَوْرَةِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ حَجْبِ عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ
وَالرَّجُل الْبَالِغَيْنِ بِسَتْرِهَا عَنْ نَظَرِ الْغَيْرِ الَّذِي لاَ
يَحِل لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا.
وَعَوْرَةُ الْمَرْأَةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْهَا حَجْبُهَا عَنْ
الأَْجْنَبِيِّ هِيَ فِي الْجُمْلَةِ جَمِيعُ جَسَدِهَا عَدَا الْوَجْهِ
وَالْكَفَّيْنِ، وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَحْرَمِ مِنَ الرِّجَال مَا
عَدَا الْوَجْهَ وَالرَّأْسَ وَالْعُنُقَ وَالذِّرَاعَ، قَال
الْحَنَفِيَّةُ: وَمَا عَدَا الصَّدْرَ وَالسَّاقَيْنِ، وَقَال
الشَّافِعِيَّةُ: مَا عَدَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ،
وَبِالنِّسْبَةِ لِمِثْلِهَا مِنَ النِّسَاءِ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ
وَالرُّكْبَةِ.
وَعَوْرَةُ الرَّجُل الَّتِي يَجِبُ حَجْبُهَا عَنِ الْغَيْرِ هِيَ مَا
بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ مَعَ الاِخْتِلاَفِ فِي حَجْبِ الْفَخِذِ.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (عَوْرَةٌ) .
وَالدَّلِيل عَلَى وُجُوبِ حَجْبِ الْعَوْرَةِ عَمَّنْ لاَ يَحِل لَهُ
النَّظَرُ إِلَيْهَا قَوْله تَعَالَى: {قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ
اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ
أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ
إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا (1) } . . . الآْيَةَ.
وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِسْمَاءِ: يَا
أَسْمَاءُ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا
__________
(1) سورة النور / 30.
(17/6)
بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ
يُرَى مِنْهَا إِلاَّ هَذَا وَهَذَا وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ
(1) .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَال:
عَوْرَةُ الرَّجُل مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ إِلَى رُكْبَتِهِ (2) وَوُجُوبُ
حَجْبِ الْعَوْرَةِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِمَا يَحُول بَيْنَ النَّاظِرِ
وَلَوْنِ الْبَشَرَةِ أَوْ حَجْمِ الأَْعْضَاءِ.
وَكَمَا يَجِبُ حَجْبُ الْعَوْرَةِ عَنْ نَظَرِ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ
يُسْتَحَبُّ - وَقِيل يَجِبُ - حَجْبُهَا فِي الْخَلْوَةِ حَيَاءً مِنَ
اللَّهِ تَعَالَى.
هَذَا مَعَ مُرَاعَاةِ أَنَّهُ لاَ حِجَابَ بَيْنَ الرَّجُل وَزَوْجَتِهِ.
فَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ
قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ: عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا
نَذَرُ؟ قَال: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا
مَلَكَتْ يَمِينُكَ، قَال: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ: إِذَا كَانَ
الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ؟
__________
(1) حديث: " يا أسماء: إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح. . . " أخرجه أبو
داود (4 / 358 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من طريق خالد بن دريك عن عائشة به.
وقال أبو داود: " هذا مرسل، خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها ".
(2) حديث: " عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته " أورده ابن حجر في التلخيص
(1 / 279 - ط شركة الطباعة الفنية) وعزاه إلى الحارث بن أبي أسامة في مسنده
من حديث أبي سعيد، ثم قال: " وفيه شيخ الحارث: داود بن المحبر، رواه عن
عباد بن كثير عن أبي عبد الله الشامي عن عطاء عنه، وهو سلسلة ضعفاء ".
(17/7)
قَال: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لاَ
يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلاَ يَرَيَنَّهَا، قَال: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ
إِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟ قَال: اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا
مِنْهُ مِنَ النَّاسِ (1) .
وَالصَّغِيرَةُ إِنْ كَانَتْ بِنْتَ سَبْعِ سِنِينَ إِلَى تِسْعٍ
فَعَوْرَتُهَا الَّتِي يَجِبُ حَجْبُهَا هِيَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ
وَالرُّكْبَةِ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَل مِنْ سَبْعِ سِنِينَ فَلاَ حُكْمَ
لِعَوْرَتِهَا، وَهَذَا كَمَا يَقُول الْحَنَابِلَةُ.
كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَحْتَجِبَ مِنَ الْمُرَاهِقِ
الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا فِي
الْجُمْلَةِ.
فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لاَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا فَلاَ
بَأْسَ مِنْ إِبْدَاءِ الزِّينَةِ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُل
لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ
وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ
لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ
أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ
بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ
مِنَ الرِّجَال أَوِ الطِّفْل الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ
النِّسَاءِ} (2) .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ وُجُوبِ حَجْبِ الْعَوْرَةِ إِبَاحَةُ
__________
(1) حديث: " احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك " أخرجه أبو داود (4
/ 304 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (5 / 99 - ط الحلبي) وحسنه الترمذي.
(2) سورة النور / 31.
(17/7)
كَشْفِهَا لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ
كَالتَّدَاوِي وَالْخِتَانِ وَالشَّهَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (1) .
فَعَنْ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيِّ قَال: كُنْتُ مِنْ سَبْيِ بَنِي قُرَيْظَةَ،
فَكَانُوا يَنْظُرُونَ، فَمَنْ أَنْبَتَ الشَّعْرَ قُتِل، وَمَنْ لَمْ
يُنْبِتْ لَمْ يُقْتَل، فَكُنْتُ فِيمَنْ لَمْ يُنْبِتْ (2) .
وَفِي كُل مَا سَبَقَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَوْرَةٌ) .
2 - الاِحْتِجَابُ أَثْنَاءَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ:
6 - يُسْتَحَبُّ لِقَاضِي الْحَاجَةِ فِي الْفَضَاءِ أَنْ يَسْتَتِرَ عَنْ
أَعْيَنِ النَّاسِ بِحَيْثُ لاَ يَرَى جِسْمَهُ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ
لِلْعَوْرَةِ فَيَجِبُ حَجْبُهَا، فَإِنْ وَجَدَ حَائِطًا أَوْ كَثِيبًا
أَوْ شَجَرَةً اسْتَتَرَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا أَبْعَدَ حَتَّى
لاَ يَرَاهُ أَحَدٌ (3) ، لِمَا رُوِيَ عَنْ
__________
(1) البدائع 5 / 118 إلى 124، وابن عابدين 1 / 271 - 272 و 5 / 235 - 238
وأشباه بن نجيم ص 323 وحاشية الدسوقي 1 / 213 - 214 - 215 وجواهر الإكليل 1
/ 41، ونهاية المحتاج 6 / 184 إلى 191 وقليوبي 1 / 177 ومغني المحتاج 3 /
128 - 131 والمهذب 2 / 35 والمغني 6 / 553 - 560 و 1 / 578، وشرح منتهى
الإرادات 3 / 4 - 7 والإنصاف 8 / 19 - 28.
(2) حديث: " عطية القرظي قال: كنت من سبي بني قريظة، فكانوا. . . . " أخرجه
أبو داود (4 / 561 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (3 / 145 - ط الحلبي)
وصححه.
(3) الدسوقي 1 / 106 والمهذب 1 / 33، والمغني 1 / 163 - 164.
(17/8)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ أَتَى الْغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ، فَإِنْ
لَمْ يَجِدْ إِلاَّ أَنْ يَجْمَعَ كَثِيبًا مِنَ الرَّمَل
فَلْيَسْتَدْبِرْهُ (1) وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَيُنْظَرُ تَفْصِيل
ذَلِكَ فِي (اسْتِنْجَاءٌ) .
3 - الْحِجَابُ الَّذِي يَمْنَعُ الاِقْتِدَاءَ بِالإِْمَامِ فِي
الصَّلاَةِ:
7 - مِنْ شَرَائِطِ الاِقْتِدَاءِ أَنْ لاَ يَحُول بَيْنَ الْمَأْمُومِ
وَالإِْمَامِ مَا يَمْنَعُ مُتَابَعَتَهُ. فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الإِْمَامِ
وَالْمَأْمُومِ جِدَارٌ لاَ بَابَ فِيهِ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا بَابٌ
مُغْلَقٌ يَحُول مِنَ الْمُتَابَعَةِ لَمْ يَصِحَّ الاِقْتِدَاءُ، لِقَوْل
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا لِنِسَاءٍ كُنَّ يُصَلِّينَ فِي
حُجْرَتِهَا: لاَ تُصَلِّينَ بِصَلاَةِ الإِْمَامِ فَإِنَّكُنَّ دُونَهُ
فِي حِجَابٍ (2) ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي (اقْتِدَاءٌ) .
4 - الطَّلاَقُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ:
8 - مَنْ خَاطَبَ زَوْجَتَهُ بِالطَّلاَقِ وَهُوَ يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً
بِأَنْ كَانَتْ فِي ظُلْمَةٍ، أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَقَعَ
الطَّلاَقُ، كَمَا جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ، لأَِنَّهُ أَتَى
بِاللَّفْظِ عَنْ قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ، وَعَدِمَ رِضَاهُ بِوُقُوعِهِ
__________
(1) حديث: " من أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد. . . . " أخرجه أبو داود (1
/ 33 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة، وأعله ابن حجر بجهالة أحد
رواته كما في التلخيص (1 / 103 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) لمهذب 1 / 107، ومغني المحتاج 1 / 251، وكشاف القناع 1 / 491 - 492
والبدائع 1 / 145.
(17/8)
لِظَنِّهِ أَنَّهُ لاَ يَقَعُ لاَ أَثَرَ
لَهُ لِخَطَأِ ظَنِّهِ، وَقَال النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: تُطْلَقُ
عِنْدَ الأَْصْحَابِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لإِِمَامِ الْحَرَمَيْنِ (1)
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (طَلاَقٌ) .
5 - احْتِجَابُ الْقَاضِي:
9 - لاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْتَجِبَ عَنِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ
عُذْرٍ إِلاَّ فِي أَوْقَاتِ اسْتِرَاحَتِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ
شَيْئًا فَاحْتَجَبَ دُونَ خَلَّتِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ وَفَاقَتِهِمُ
احْتَجَبَ اللَّهُ دُونَ خَلَّتِهِ وَفَاقَتِهِ وَحَاجَتِهِ وَفَقْرِهِ (2)
.
وَكَرِهَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنْ يَتَّخِذَ الْقَاضِي
حَاجِبًا، لأَِنَّ حَاجِبَهُ رُبَّمَا قَدَّمَ الْمُتَأَخِّرَ وَأَخَّرَ
الْمُتَقَدِّمَ، فَإِنْ دَعَتْ حَاجَةٌ إِلَى ذَلِكَ اتَّخَذَ أَمِينًا
بَعِيدًا مِنَ الطَّمَعِ.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَتَّخِذَ الْقَاضِي
حَاجِبًا لِمَنْعِ دُخُول مَنْ لاَ حَاجَةَ لَهُ وَتَأْخِيرِ مَنْ جَاءَ
بَعْدُ حَتَّى يَفْرُغَ السَّابِقُ مِنْ قَضِيَّتِهِ.
أَمَّا الأَْمِيرُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ حَاجِبًا،
لأَِنَّهُ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 288، والروضة 8 / 54.
(2) حديث: " من ولي أمر الناس شيئا فاحتجب دون. . . . " أخرجه أبو داود (3
/ 357 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (4 / 94 - ط دائرة المعارف
العثمانية) من حديث أبي مريم الأذري، واللفظ للحاكم، وقد صححه ووافقه
الذهبي.
(17/9)
يَنْظُرُ فِي جَمِيعِ الْمَصَالِحِ
فَتَدْعُوهُ الْحَاجَةُ إِلَى أَنْ يَجْعَل لِكُل مَصْلَحَةٍ وَقْتًا لاَ
يَدْخُل فِيهِ أَحَدٌ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (حَاجِبٌ)
6 - الشَّهَادَةُ بِالسَّمَاعِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ:
10 - مُدْرَكُ الْعِلْمِ الَّذِي تَقَعُ بِهِ الشَّهَادَةُ الرُّؤْيَةُ
وَالسَّمَاعُ، وَالرُّؤْيَةُ تَكُونُ فِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مِنَ
الأَْفْعَال كَالْجِنَايَةِ وَالْغَصْبِ وَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ
وَغَيْرِهَا مِمَّا يُدْرَكُ بِالْعَيْنِ، لأَِنَّهَا لاَ تُدْرَكُ إِلاَّ
بِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُقُودِ فَقَدِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَل لاَ بُدَّ مِنَ الرُّؤْيَةِ وَالسَّمَاعِ؟ أَمْ
يَكْفِي السَّمَاعُ فَقَطْ؟ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ يَكْفِي السَّمَاعُ إِذَا عُرِفَ الْقَائِل وَتُحُقِّقَ
أَنَّهُ كَلاَمُهُ جَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: لَوْ سَمِعَ مِنْ وَرَاءِ
حِجَابٍ كَثِيفٍ لاَ يَشِفُّ مِنْ وَرَائِهِ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ
يَشْهَدَ، وَلَوْ شَهِدَ وَفَسَّرَهُ لِلْقَاضِي بِأَنْ قَال: سَمِعْتُهُ
بَاعَ وَلَمْ أَرَ شَخْصَهُ حِينَ تَكَلَّمَ لاَ يَقْبَلُهُ، لأَِنَّ
النَّغْمَةَ تُشْبِهُ النَّغْمَةَ، إِلاَّ إِذَا أَحَاطَ بِعِلْمِ ذَلِكَ،
لأَِنَّ الْمُسَوِّغَ هُوَ الْعِلْمُ غَيْرَ أَنَّ رُؤْيَتَهُ مُتَكَلِّمًا
بِالْعَقْدِ طَرِيقُ الْعِلْمِ، فَإِذَا فُرِضَ تَحَقُّقُ طَرِيقٍ آخَرَ
جَازَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ دَخَل الْبَيْتَ فَرَآهُ فِيهِ وَعَلِمَ
أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ وَلاَ مَنْفَذَ غَيْرُ الْبَابِ،
وَهُوَ قَدْ جَلَسَ عَلَيْهِ وَسَمِعَ الإِْقْرَارَ أَوِ الْبَيْعَ،
فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ
__________
(1) الدسوقي 4 / 138، والمهذب 2 / 293 - 294، 295 ونهاية المحتاج 8 / 241،
وكشاف القناع 6 / 313 والمغني 9 / 46.
(17/9)
يَجُوزُ لَهُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِمَا
سَمِعَ، لأَِنَّهُ حَصَل بِهِ الْعِلْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ (1) .
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَلاَ بُدَّ مِنَ الرُّؤْيَةِ مَعَ
السَّمَاعِ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
كَمَا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ إِنْسَانٌ عَلَى مُنْتَقِبَةٍ
حَتَّى تَكْشِفَ عَنْ وَجْهِهَا لِيَشْهَدَ عَلَى عَيْنِهَا وَوَصْفِهَا
لِتَتَعَيَّنَ لأَِدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا وَذَلِكَ لاَ يَكُونُ مَعَ
الاِنْتِقَابِ (2) ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (شَهَادَةٌ) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل مَا تُقْبَل فِيهِ الشَّهَادَةُ بِالسَّمَاعِ فِي
مُصْطَلَحِ: (تَسَامُعٌ) .
ثَانِيًا: اسْتِعْمَال الْحِجَابِ فِي الْمَعَانِي:
11 - يُسْتَعْمَل لَفْظُ الْحِجَابِ مَجَازًا فِي الْمَعَانِي وَذَلِكَ
كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ وَقَال لَهُ:. . .
وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
اللَّهِ حِجَابٌ (3) .
قَال ابْنُ حَجَرٍ: قَوْلُهُ (حِجَابٌ) أَيْ لَيْسَ لَهَا
__________
(1) فتح القدير 6 / 462، ونشر إحياء التراث، والدسوقي 4 / 193 - 194، وابن
عابدين 4 / 373، والمغني 9 / 158 - 159.
(2) ابن عابدين 4 / 373، والدسوقي 4 / 194، ومغني المحتاج 4 / 446 - 447،
والمغني 9 / 159 - 160.
(3) حديث: " اتق دعوة المظلوم. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 357 - ط
السلفية) من حديث عبد الله بن عباس.
(17/10)
صَارِفٌ يَصْرِفُهَا وَلاَ مَانِعٌ
وَالْمُرَادُ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا، وَلَيْسَ
الْمُرَادُ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى حِجَابًا يَحْجُبُهُ عَنِ النَّاسِ،
وَقَال الطِّيبِيُّ: لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ تَعْلِيلٌ
لِلاِتِّقَاءِ وَتَمْثِيلٌ لِلدُّعَاءِ كَمَنْ يَقْصِدُ دَارَ السُّلْطَانِ
مُتَظَلِّمًا فَلاَ يُحْجَبُ (1) .
وَقَال الْحَافِظُ الْعَلاَئِيُّ: الْمُرَادُ بِالْحَاجِبِ وَالْحِجَابِ
نَفْيُ عَدَمِ إِجَابَةِ دُعَاءِ الْمَظْلُومِ ثُمَّ اسْتَعَارَ الْحِجَابَ
لِلرَّدِّ، فَكَانَ نَفْيُهُ دَلِيلاً عَلَى ثُبُوتِ الإِْجَابَةِ،
وَالتَّعْبِيرُ بِنَفْيِ الْحِجَابِ أَبْلَغُ مِنَ التَّعْبِيرِ
بِالْقَبُول، لأَِنَّ الْحِجَابَ مِنْ شَأْنِهِ الْمَنْعُ مِنَ الْوُصُول
إِلَى الْمَقْصُودِ فَاسْتُعِيرَ نَفْيُهُ لِعَدَمِ الْمَنْعِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا
مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ وَلاَ حِجَابٌ يَحْجُبُهُ.
2 - الْحَجْبُ فِي الْمِيرَاثِ:
12 - الْحَجْبُ فِي الْمِيرَاثِ مَعْنَاهُ شَرْعًا: مَنْعُ مَنْ قَامَ بِهِ
سَبَبُ الإِْرْثِ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ مِنْ أَوْفَرِ حَظَّيْهِ،
وَيُسَمَّى الأَْوَّل حَجْبَ حِرْمَانٍ، وَالثَّانِي حَجْبَ نُقْصَانٍ.
وَحَجْبُ الْحِرْمَانِ قِسْمَانِ، حَجْبٌ بِالْوَصْفِ وَيُسَمَّى مَنْعًا
كَالْقَتْل وَالرِّقِّ، وَيُمْكِنُ دُخُولُهُ
__________
(1) فتح الباري 3 / 357 - 359 - 360.
(17/10)
عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ. وَحَجْبٌ
بِالشَّخْصِ أَوِ الاِسْتِغْرَاقِ، كَالأَْخِ لأَِبَوَيْنِ أَوْ لأَِبٍ
يَحْجُبُهُ الأَْبُ وَالاِبْنُ وَابْنُ الاِبْنِ.
وَحَجْبُ النُّقْصَانِ كَحَجْبِ الْوَلَدِ الزَّوْجَ مِنَ النِّصْفِ إِلَى
الرُّبُعِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي (إِرْثٌ - حَاجِبٌ) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 11.
(17/11)
حِجَازٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحِجَازُ لُغَةً مِنَ الْحَجْزِ، وَهُوَ الْفَصْل بَيْنَ
الشَّيْئَيْنِ. قَال الأَْزْهَرِيُّ: الْحَجْزُ أَنْ يَحْجِزَ بَيْنَ
مُتَقَاتِلَيْنِ، وَالْحِجَازُ الاِسْمُ وَكَذَا الْحَاجِزُ، قَال اللَّهُ
تَعَالَى: {وَجَعَل بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} (1) أَيْ حِجَازًا
بَيْنَ مَاءٍ مِلْحٍ وَمَاءٍ عَذْبٍ لاَ يَخْتَلِطَانِ، وَذَلِكَ
الْحِجَازُ قُدْرَةُ اللَّهِ (2) .
وَيُقَال لِلْجِبَال أَيْضًا حِجَازٌ، أَيْ لأَِنَّهَا تَحْجِزُ بَيْنَ
أَرْضٍ وَأَرْضٍ.
وَالْحِجَازُ الْبَلَدُ الْمَعْرُوفُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ مِنَ الْحَجْزِ
الَّذِي هُوَ الْفَصْل بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، قِيل: لأَِنَّهُ فَصَل بَيْنَ
الْغَوْرِ (أَيْ تِهَامَةَ) وَالشَّامِ وَالْبَادِيَةِ.
وَقِيل: لأَِنَّهُ فَصَل بَيْنَ تِهَامَةَ وَنَجْدٍ. وَقَال
الأَْزْهَرِيُّ: سُمِّيَ حِجَازًا لأَِنَّ الْحِرَارَ حَجَزَتْ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ عَالِيَةِ نَجْدٍ (3) . وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ
اللُّغَوِيِّينَ فِي بَيَانِ مَا
__________
(1) سورة النمل / 61.
(2) لسان العرب (حجز) .
(3) لسان العرب أيضا (حجز) .
(17/11)
يَدْخُل تَحْتَ اسْمِ الْحِجَازِ وَبَيَانِ
حُدُودِهِ، فَقَال يَاقُوتٌ الْحَمَوِيُّ: الْحِجَازُ الْجَبَل
الْمُمْتَدُّ الَّذِي حَال بَيْنَ الْغَوْرِ، غَوْرِ تِهَامَةَ، وَنَجْدٍ،
ثُمَّ نَقَل عَنْ الأَْصْمَعِيِّ الْحِجَازُ مِنْ تُخُومِ صَنْعَاءَ مِنْ
الْعَبْلاَءِ وَتَبَالَةَ إِلَى تُخُومِ الشَّامِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْل
هِشَامٍ الْكَلْبِيِّ إِنَّ جَبَل السَّرَاةِ مِنْ قُعْرَةِ الْيَمَنِ
إِلَى أَطْرَافِ بَوَادِي الشَّامِ سَمَّتْهُ الْعَرَبُ حِجَازًا، فَصَارَ
مَا خَلْفَهُ إِلَى سَيْفِ الْبَحْرِ غَوْرَ تِهَامَةَ، وَمَا دُونَهُ فِي
شَرْقِيِّهِ إِلَى أَطْرَافِ الْعِرَاقِ وَالسَّمَاوَةِ نَجْدًا.
وَالْجَبَل نَفْسُهُ وَهُوَ سَرَاتُهُ وَمَا احْتُجِزَ بِهِ فِي
شَرْقِيِّهِ مِنَ الْجِبَال وَانْحَازَ إِلَى نَاحِيَةٍ فِيهِ هُوَ
الْحِجَازُ (1) .
وَأَمَّا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ وَخَاصَّةً عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ الَّذِينَ قَصَرُوا حُكْمَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ
الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ، فَبَيَانُ مُرَادِهِمْ بِالْحِجَازِ كَمَا
يَلِي:
قَال الشَّافِعِيُّ: وَالْحِجَازُ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ
وَمَخَالِيفُهَا كُلُّهَا. ثُمَّ قَال: " وَلاَ يَتَبَيَّنُ أَنْ
يُمْنَعُوا رُكُوبَ بَحْرِ الْحِجَازِ، وَيُمْنَعُونَ مِنَ الْمُقَامِ فِي
سَوَاحِلِهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ فِي بَحْرِ الْحِجَازِ جَزَائِرُ
وَجِبَالٌ تُسْكَنُ مُنِعُوا مِنْ سُكْنَاهَا لأَِنَّهَا مِنْ أَرْضِ
الْحِجَازِ ". اهـ (2) .
__________
(1) معجم البلدان - حجاز.
(2) الأم للشافعي 4 / 177، 178، القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية.
(17/12)
وَذُكِرَ فِي الْمِنْهَاجِ وَشَرْحِهِ مِنْ
مُدِنِ الْحِجَازِ وَقُرَاهُ: مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَالْيَمَامَةَ
وَقُرَاهَا كَالطَّائِفِ وَوَجٍّ وَجَدَّةَ وَالْيَنْبُعَ وَخَيْبَرَ،
(وَأَضَافَ عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ فَدَكًا) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْكَافِرَ يُمْنَعُ مِنْ الإِْقَامَةِ
بِجَزَائِرِ بَحْرِ الْحِجَازِ وَلَوْ كَانَتْ خَرَابًا، وَمِنَ
الإِْقَامَةِ فِي بَحْرٍ فِي الْحِجَازِ وَلَوْ فِي سَفِينَةٍ. وَفَسَّرَ
الْقَلْيُوبِيُّ الْيَمَامَةَ بِأَنَّهَا الْبَلَدُ الَّتِي كَانَ فِيهَا
مُسَيْلِمَةُ، وَاَلَّتِي سُمِّيَتْ بِاسْمِهَا زَرْقَاءُ الْيَمَامَةِ.
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْحِجَازَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَعِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ كَمَا يَأْتِي - يَشْمَل مَا هُوَ شَرْقِيُّ جِبَال
الْحِجَازِ حَتَّى الْيَمَامَةِ وَقُرَاهَا وَهِيَ مِنْطَقَةُ الرِّيَاضِ
الآْنَ (1) ، أَوْ مَا كَانَ يُسَمَّى قَدِيمًا الْعَرْضُ أَوِ الْعَارِضُ
(2) وَهِيَ بَعْضُ الْعُرُوضِ، جَاءَ فِي مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ:
الْعُرُوضُ الْيَمَامَةُ وَالْبَحْرَيْنُ وَمَا وَالاَهُمَا (3) .
وَلَيْسَتْ الْبَحْرَيْنُ وَقَاعِدَتُهَا هَجَرُ مِنَ الْحِجَازِ (4) .
وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ الْحَنَابِلَةُ: فَإِنَّهُمْ عِنْدَمَا تَعَرَّضُوا
لِمَا يُمْنَعُ الْكُفَّارُ مِنْ سُكْنَاهُ بَيَّنُوا أَنَّ الْمُرَادَ
بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ فِي الْحَدِيثِ (الْحِجَازُ) . جَاءَ فِي
الْمُغْنِي:
__________
(1) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 4 / 230.
(2) لسان العرب - عرض.
(3) معجم البلدان (الحجاز) .
(4) المسالك والممالك للإصطخري ص 19.
(17/12)
قَال أَحْمَدُ، فِي حَدِيثِ أَخْرِجُوا
الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ (1) : جَزِيرَةُ الْعَرَبِ
الْمَدِينَةُ وَمَا وَالاَهَا، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: يَعْنِي أَنَّ
الْمَمْنُوعَ مِنْ سُكْنَى الْكُفَّارِ الْمَدِينَةُ وَمَا وَالاَهَا
وَهُوَ مَكَّةُ وَالْيَمَامَةُ وَخَيْبَرُ وَالْيَنْبُعُ وَفَدَكُ
وَمَخَالِيفُهَا وَمَا وَالاَهَا. وَجَاءَ فِي كَلاَمِهِ مَا يَدُل عَلَى
أَنَّ تَيْمَاءَ وَفَيْدًا وَنَحْوَهُمَا لاَ يُمْنَعُ أَهْل الذِّمَّةِ
مِنْ سُكْنَاهَا وَكَذَلِكَ الْيَمَنُ وَنَجْرَانُ وَتَيْمَاءُ وَفَيْدٌ
مِنْ بِلاَدِ طَيِّئٍ (2) .
وَجَاءَ فِي مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى: يُمْنَعُ أَهْل الذِّمَّةِ مِنْ
الإِْقَامَةِ بِالْحِجَازِ، وَهُوَ مَا حَجَزَ بَيْنَ تِهَامَةَ وَنَجْدٍ.
وَالْحِجَازِ كَالْمَدِينَةِ وَالْيَمَامَةِ وَخَيْبَرَ وَالْيَنْبُعِ
وَفَدَكِ وَقُرَاهَا، وَفَدَكُ قَرْيَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ
يَوْمَانِ. وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَمِنْ الْحِجَازِ تَبُوكُ
وَنَحْوُهَا، وَمَا دُونَ الْمُنْحَنَى وَهُوَ عَقَبَةُ الصَّوَّانِ
يُعْتَبَرُ مِنْ الشَّامِ كَمَعَانٍ (3) .
الأَْحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحِجَازِ:
2 - الأَْحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ
وَمِنْهَا الْحِجَازُ تَرْجِعُ أَسَاسًا إِلَى أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ:
الأَْوَّل: أَنَّهَا لاَ يَسْكُنُهَا غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ.
__________
(1) حديث: " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب " أخرجه البخاري (الفتح 6 /
271 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1258 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.
(2) المغني لابن قدامة 8 / 530، وكشاف القناع 3 / 135 - 137.
(3) مطالب أولي النهى 2 / 615، والفروع 6 / 276.
(17/13)
وَالثَّانِي: أَنَّهَا لاَ يُدْفَنُ بِهَا
أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا لاَ يَبْقَى بِهَا دَارُ عِبَادَةٍ لِغَيْرِ
الْمُسْلِمِينَ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا زَكَوِيَّةٌ كُلُّهَا لاَ يُؤْخَذُ مِنْ أَرْضِهَا
خَرَاجٌ.
وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ وَأَدِلَّتُهُ وَتَفْصِيلُهُ وَالْخِلاَفُ فِيهِ
تَحْتَ عِنْوَانِ (أَرْضُ الْعَرَبِ) لَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا بَيَانُ
أَنَّ أَرْضَ الْعَرَبِ نَوْعَانِ:
الأَْوَّل: مَا اتَّفَقَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ
بِأَرْضِ الْعَرَبِ الْوَارِدَةِ أَحْكَامُهَا فِي الأَْحَادِيثِ،
فَتَنْطَبِقُ عَلَيْهِ الأَْحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ إِجْمَاعًا، وَهُوَ
أَرْضُ الْحِجَازِ.
وَالثَّانِي: مَا اخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ مُرَادٌ بِالأَْحَادِيثِ
الْوَارِدَةِ فِي شَأْنِ أَرْضِ الْعَرَبِ وَهُوَ مَا عَدَا أَرْضَ
الْحِجَازِ، كَالْبَحْرَيْنِ، وَالْيُمْنِ، وَمَا وَرَاءَ جِبَال طَيِّئٍ
إِلَى حُدُودِ الْعِرَاقِ. فَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَ
أَنَّهَا مُرَادَةٌ بِالأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ وَتَنْطَبِقُ عَلَيْهَا
أَحْكَامُهَا. وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يَرَوْنَ أَنَّهَا
غَيْرُ مُرَادَةٍ وَلاَ تَنْطَبِقُ عَلَيْهَا تِلْكَ الأَْحْكَامُ (1) .
وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحَ: (أَرْضُ الْعَرَبِ) .
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 267، فتح القدير ط بولاق 4 / 379
(17/13)
حِجَامَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحِجَامَةُ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْحَجْمِ أَيِ الْمَصِّ. يُقَال:
حَجَمَ الصَّبِيُّ ثَدْيَ أُمِّهِ إِذَا مَصَّهُ.
وَالْحَجَّامُ الْمَصَّاصُ، وَالْحِجَامَةُ صِنَاعَتُهُ وَالْمِحْجَمُ
يُطْلَقُ عَلَى الآْلَةِ الَّتِي يُجْمَعُ فِيهَا الدَّمُ وَعَلَى مِشْرَطِ
الْحَجَّامِ (1) فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: الشِّفَاءُ فِي ثَلاَثٍ شَرْبَةِ
عَسَلٍ وَشَرْطَةِ مِحْجَمٍ وَكَيَّةِ نَارٍ (2) .
وَالْحِجَامَةُ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ قُيِّدَتْ عِنْدَ الْبَعْضِ
بِإِخْرَاجِ الدَّمِ مِنَ الْقَفَا بِوَاسِطَةِ الْمَصِّ بَعْدَ الشَّرْطِ
بِالْحَجْمِ لاَ بِالْفَصْدِ (3) . وَذَكَرَ الزَّرْقَانِيُّ أَنَّ
الْحِجَامَةَ لاَ تَخْتَصُّ بِالْقَفَا بَل تَكُونُ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ
(4) . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْخَطَّابِيُّ.
__________
(1) لسان العرب مادة: (حجم) .
(2) حديث: " الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة. . . . . " أخرجه البخاري
(الفتح 10 / 136 - ط السلفية) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا.
(3) إكمال الإكمال 4 / 265.
(4) الزرقاني على الموطأ 2 / 187، وفتح الباري 12 / 244.
(17/14)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْفَصْدُ:
2 - فَصَدَ يَفْصِدُ فَصْدًا وَفِصَادًا: شَقَّ الْعِرْقَ لإِِخْرَاجِ
الدَّمِ. وَفَصَدَ النَّاقَةَ شَقَّ عِرْقَهَا لِيَسْتَخْرِجَ مِنْهُ
الدَّمَ فَيَشْرَبَهُ (1) .
فَالْفَصْدُ وَالْحِجَامَةُ يَجْتَمِعَانِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا
إِخْرَاجٌ لِلدَّمِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الْفَصْدَ شَقُّ الْعِرْقِ،
وَالْحِجَامَةُ مَصُّ الدَّمِ بَعْدَ الشَّرْطِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - التَّدَاوِي بِالْحِجَامَةِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ
عِدَّةُ أَحَادِيثَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْهَا قَوْلُهُ: خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ وَمِنْهَا
قَوْلُهُ: خَيْرُ الدَّوَاءِ الْحِجَامَةُ (2) .
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ: إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ
أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ،
أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ تُوَافِقُ الدَّاءَ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ
(3) .
__________
(1) لسان العرب وتاج العروس مادة: (فصد) .
(2) حديث: " خير ما تداويتم به الحجامة " وحديث: " خير الدواء الحجامة "
أخرجه أحمد (3 / 107 - ط الحلبي) أخرجه البخاري (الفتح 10 / 150 - ط
السلفية) بلفظ: " أن أمثل ما تداويتم به الحجامة ".
(3) الطب النبوي ص 55، الترغيب والترهيب 6 / 114 وما بعدها. وحديث: " إن
كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 /
139 - ط السلفية) من حديث جابر بن عبد الله.
(17/14)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ
بِالْحِجَامَةِ:
4 - اعْتَنَى الْفُقَهَاءُ بِبَيَانِ أَحْكَامِ الْحِجَامَةِ مِنْ حَيْثُ
تَأْثِيرُهَا عَلَى الطَّهَارَةِ، وَعَلَى الصَّوْمِ، وَعَلَى
الإِْحْرَامِ. وَمِنْ حَيْثُ الْقِيَامُ بِهَا، وَأَخْذِ الأَْجْرِ
عَلَيْهَا، وَالتَّدَاوِي بِهَا.
تَأْثِيرُ الْحِجَامَةِ عَلَى الطَّهَارَةِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ خُرُوجَ الدَّمِ بِالْحِجَامَةِ
نَاقِضٌ مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ. قَال السَّرَخْسِيُّ: الْحِجَامَةُ
تُوجِبُ الْوُضُوءَ وَغَسْل مَوْضِعِ الْمِحْجَمَةِ عِنْدَنَا، لأَِنَّ
الْوُضُوءَ وَاجِبٌ بِخُرُوجِ النَّجَسِ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَغْسِل
مَوْضِعَ الْمِحْجَمَةِ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ
لَمْ تُجْزِهِ الصَّلاَةُ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ أَجْزَأَتْهُ.
وَالْفَصْدُ مِثْل الْحِجَامَةِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ. فَإِذَا افْتُصِدَ
وَخَرَجَ مِنْهُ دَمٌ كَثِيرٌ، وَيُنْتَقَضُ أَيْضًا إِذَا مَصَّتْ
عَلَقَةٌ عُضْوًا وَأَخَذَتْ مِنَ الدَّمِ قَدْرًا يَسِيل مِنْهَا لَوْ
شُقَّتْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحِجَامَةَ
وَالْفَصْدَ وَمَصَّ الْعَلَقِ لاَ يُوجِبُ وَاحِدٌ مِنْهَا الْوُضُوءَ.
قَال الزَّرْقَانِيُّ: لاَ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِحِجَامَةٍ مِنْ حَاجِمٍ
وَمُحْتَجِمٍ وَفَصْدٍ. وَفِي الأُْمِّ " لاَ وُضُوءَ فِي قَيْءٍ وَلاَ
رُعَافٍ وَلاَ حِجَامَةٍ وَلاَ شَيْءٍ خَرَجَ مِنَ الْجَسَدِ وَأُخْرِجَ
مِنْهُ غَيْرَ الْفُرُوجِ الثَّلاَثَةِ الْقُبُل وَالدُّبُرِ وَالذَّكَرِ "
(1) .
__________
(1) المبسوط 1 / 83، رد المحتار 1 / 91 - 94، شرح الزرقاني على خليل 1 /
92، والأم 1 / 14.
(17/15)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَا
خَرَجَ مِنَ الدَّمِ مُوجِبٌ لِلْوُضُوءِ إِذَا كَانَ فَاحِشًا. وَفِي
حَدِّ الْفَاحِشِ عِنْدَهُمْ خِلاَفٌ: فَقِيل: الْفَاحِشُ مَا وَجَدَهُ
الإِْنْسَانُ فَاحِشًا كَثِيرًا. قَال ابْنُ عَقِيلٍ: إِنَّمَا يُعْتَبَرُ
مَا يَفْحُشُ فِي نُفُوسِ أَوْسَاطِ النَّاسِ لاَ الْمُتَبَذِّلِينَ وَلاَ
الْمُوَسْوَسِينَ. وَقِيل: هُوَ مِقْدَارُ الْكَفِّ. وَقِيل: عَشَرَةُ
أَصَابِعٍ (1) .
تَأْثِيرُ الْحِجَامَةِ عَلَى الصَّوْمِ:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحِجَامَةَ جَائِزَةٌ لِلصَّائِمِ
إِذَا كَانَتْ لاَ تُضْعِفُهُ، وَمَكْرُوهَةٌ إِذَا أَثَّرَتْ فِيهِ
وَأَضْعَفَتْهُ، يَقُول ابْنُ نُجَيْمٍ: الاِحْتِجَامُ غَيْرُ مَنَافٍ
لِلصَّوْمِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِلصَّائِمِ. إِذَا كَانَ يُضْعِفُهُ عَنِ
الصَّوْمِ، أَمَّا إِذَا كَانَ لاَ يُضْعِفُهُ فَلاَ بَأْسَ بِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُحْتَجِمَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ
ضَعِيفَ الْبَدَنِ لِمَرَضٍ أَوْ خِلْقَةٍ. وَفِي كُلٍّ إِمَّا أَنْ
يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الاِحْتِجَامَ لاَ يَضُرُّهُ، أَوْ يَشُكُّ
أَوْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إِنِ احْتَجَمَ لاَ يَقْوَى عَلَى
مُوَاصَلَةِ الصَّوْمِ.
فَمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لاَ يَتَضَرَّرُ بِالْحِجَامَةِ جَازَ
لَهُ أَنْ يَحْتَجِمَ. وَمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ سَيَعْجِزُ
عَنْ مُوَاصَلَةِ الصَّوْمِ إِذَا هُوَ احْتَجَمَ حَرُمَ عَلَيْهِ. إِلاَّ
إِذَا خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ هَلاَكًا أَوْ شَدِيدَ
__________
(1) المغني 1 / 184، نشر مكتبة الرياض الحديثة.
(17/15)
أَذًى بِتَرْكِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ
يَحْتَجِمَ وَيَقْضِيَ إِذَا أَفْطَرَ وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
وَمَنْ شَكَّ فِي تَأْثِيرِ الْحِجَامَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى
مُوَاصَلَةِ الصَّوْمِ فَإِنْ كَانَ قَوِيَّ الْبِنْيَةِ جَازَ لَهُ،
وَإِنْ كَانَ ضَعِيفَ الْبَدَنِ كُرِهَ لَهُ.
وَالْفِصَادَةُ مِثْل الْحِجَامَةِ فَتُكْرَهُ لِلْمَرِيضِ دُونَ
الصَّحِيحِ كَمَا فِي الإِْرْشَادِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُفْطِرُ الصَّائِمُ
بِالْفَصْدِ أَوِ الْحِجَامَةِ يَقُول الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: أَمَّا
الْفَصْدُ فَلاَ خِلاَفَ فِيهِ، وَأَمَّا الْحِجَامَةُ فَلأَِنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ (2) . وَهُوَ نَاسِخٌ
لِحَدِيثِ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحِجَامَةَ تُؤَثِّرُ فِي
الْحَاجِمِ وَالْمَحْجُومِ وَيُفْطِرُ كُلٌّ مِنْهُمَا. يَقُول ابْنُ
قُدَامَةَ: الْحِجَامَةُ يُفْطِرُ بِهَا الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ، وَبِهِ
قَال إِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ
خُزَيْمَةَ، وَهُوَ قَوْل عَطَاءٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ.
وَكَانَ الْحَسَنُ وَمَسْرُوقٌ وَابْنُ سِيرِينَ
__________
(1) البحر الرائق 2 / 294، وبدائع الصنائع 2 / 1045، وشرح الزرقاني على
خليل 1 / 92، ومواهب الجليل 2 / 416.
(2) حديث: " احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم " أخرجه البخاري
(الفتح 10 / 149 - ط السلفية) من حديث ابن عباس.
(3) حديث: " أفطر الحاجم والمحجوم " أخرجه أبو داود (2 / 770 - تحقيق عزت
عبيد دعاس) من حديث ثوبان. وذكر الزيلعي في نصب الراية (2 / 472 - ط المجلس
العلمي) أن الترمذي نقل عن البخاري تصحيحه.
(17/16)
لاَ يَرَوْنَ لِلصَّائِمِ أَنْ يَحْتَجِمَ.
وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يَحْتَجِمُونَ لَيْلاً فِي الصَّوْمِ
مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو مُوسَى وَأَنَسٌ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْطَرَ
الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ (2) .
تَأْثِيرُ الْحِجَامَةِ عَلَى الإِْحْرَامِ:
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحِجَامَةَ لاَ تُنَافِي
الإِْحْرَامَ. قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: وَمِمَّا لاَ يُكْرَهُ لَهُ أَيْضًا -
أَيْ لِلْمُحْرِمِ - الاِكْتِحَال بِغَيْرِ الْمُطَيَّبِ وَأَنْ يَخْتَتِنَ
وَيَفْتَصِدَ. وَيَقْلَعَ ضِرْسَهُ، وَيَجْبُرَ الْكَسْرَ، وَيَحْتَجِمَ ".
فَالْحِجَامَةُ إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا قَلْعُ الشَّعْرِ لاَ
تُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ، أَمَّا إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ قَلْعُ
شَعْرٍ، فَإِنْ حَلَقَ مَحَاجِمَهُ وَاحْتَجَمَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ.
وَلاَ يَضُرُّ تَعْصِيبُ مَكَانِ الْفَصْدِ: يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ:
(وَإِنْ لَزِمَ تَعْصِيبُ الْيَدِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ تَعْصِيبَ
غَيْرِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ إِنَّمَا يُكْرَهُ لَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ) (3)
.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحِجَامَةَ فِي الإِْحْرَامِ: إِنْ
كَانَتْ لِعُذْرٍ فَجَوَازُ الإِْقْدَامِ عَلَيْهَا ثَابِتٌ قَوْلاً
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 431، والمغني 3 / 103.
(2) حديث: " أفطر الحاجم والمحجوم " سبق تخريجه قريبا.
(3) البحر الرائق 2 / 350، وابن عابدين مع الدر المختار 2 / 164، 204، 305.
(17/16)
وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ عُذْرٍ
حَرُمَتْ إِنْ لَزِمَ قَلْعُ الشَّعْرِ. وَكُرِهَتْ إِنْ لَمْ يَلْزَمْ
مِنْهُ ذَلِكَ، لأَِنَّ الْحِجَامَةَ قَدْ تُضْعِفُهُ قَال مَالِكٌ: لاَ
يَحْتَجِمُ الْمُحْرِمُ إِلاَّ مِنْ ضَرُورَةٍ. عَلَّقَ عَلَيْهِ
الزَّرْقَانِيُّ أَيْ يُكْرَهُ لأَِنَّهُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى ضَعْفِهِ
كَمَا كُرِهَ صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِلْحَاجِّ مَعَ أَنَّ الصَّوْمَ
أَخَفُّ مِنَ الْحِجَامَةِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَوْقَ رَأْسِهِ (2)
، وَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ وَسَطَ رَأْسِهِ (3) ، وَفِي رِوَايَةٍ
عَلَّقَهَا الْبُخَارِيُّ احْتَجَمَ مِنْ شَقِيقَةٍ كَانَتْ بِهِ (4)
وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ وَثْءٍ (وَهُوَ رَضُّ الْعَظْمِ بِلاَ كَسْرٍ)
وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِلَحْيِ جَمَلٍ (5) وَلأَِبِي دَاوُدَ وَالْحَاكِمِ
وَالنَّسَائِيِّ عَنْ أَنَسٍ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ مِنْ وَجَعٍ كَانَ
بِهِ (6) وَلَفْظُ الْحَاكِمِ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمَيْنِ:
__________
(1) الزرقاني 2 / 87.
(2) حديث: " احتجم وهو محرم فوق رأسه " أخرجه مالك في الموطأ (1 / 349 - ط
الحلبي) من حديث سليمان بن يسار مرسلا.
(3) حديث: " احتجم وهو محرم وسط رأسه " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 152 - ط
السلفية) ومسلم (2 / 863 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن بحينة.
(4) حديث: " احتجم من شقيقة كانت به " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 153 - ط
السلفية) من حديث ابن عباس.
(5) قيل هو مكان بطريق مكة.
(6) حديث: " احتجم على ظهر القدم من وجع كان به " أخرجه النسائي (5 / 194 -
ط المكتبة التجارية) من حديث أنس بن مالك.
(17/17)
يَقُول الزَّرْقَانِيُّ: وَهَذَا يَدُل
عَلَى تَعَدُّدِهَا مِنْهُ فِي الإِْحْرَامِ. وَعَلَى الْحِجَامَةِ فِي
الرَّأْسِ وَغَيْرِهِ لِلْعُذْرِ. وَهُوَ إِجْمَاعٌ، وَلَوْ أَدَّتْ إِلَى
قَلْعِ الشَّعْرِ. لَكِنْ يَفْتَدِي إِذَا قَلَعَ الشَّعْرَ (1) .
وَأَمَّا الْفَصْدُ فَيَقُول الزَّرْقَانِيُّ: وَجَازَ فَصْدٌ لِحَاجَةٍ
وَإِلاَّ كُرِهَ إِنْ لَمْ يَعْصِبْهُ، فَإِنْ عَصَبَهُ وَلَوْ لِضَرُورَةٍ
افْتَدَى (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَال النَّوَوِيُّ: إِذَا أَرَادَ الْمُحْرِمُ
الْحِجَامَةَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَإِنْ تَضَمَّنَتْ قَطْعَ شَعْرٍ فَهِيَ
حَرَامٌ لِقَطْعِ الشَّعْرِ وَإِنْ لَمْ تَتَضَمَّنْهُ جَازَتْ. وَاسْتَدَل
بِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ بُحَيْنَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال: احْتَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
مُحْرِمٌ بِلَحْيِ جَمَلٍ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ (3) .
وَاسْتُدِل بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ الْفَصْدِ، وَبَطِّ
الْجُرْحِ، وَقَطْعِ الْعِرْقِ، وَقَلْعِ الضِّرْسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
وُجُوهِ التَّدَاوِي إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ارْتِكَابُ مَا نُهِيَ
عَنْهُ الْمُحْرِمُ مِنْ تَنَاوُل الطِّيبِ، وَقَطْعِ الشَّعْرِ، وَلاَ
فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ (4) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ الاِحْتِجَامِ لِلْمُحْرِمِ
__________
(1) الزرقاني على الموطأ 2 / 87.
(2) البيان 2 / 294، 297
(3) حديث: " عن ابن بحينة قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم
بلحي جمل في وسط رأسه " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 152 - ط السلفية) .
(4) مغني المحتاج 1 / 431، والروضة 2 / 357.
(17/17)
إِذَا لَمْ يَقْلَعْ شَعْرًا دُونَ
تَفْصِيلٍ، وَإِنِ اقْتَلَعَ شَعْرًا مِنْ رَأْسِهِ أَوْ مِنْ بَدَنِهِ
فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ حَرُمَ. وَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ جَازَ.
وَيَجِبُ عَلَى مَنِ اقْتَلَعَ شَعْرًا بِسَبَبِ الْحِجَامَةِ فِدْيَةٌ فِي
ثَلاَثِ شَعَرَاتٍ مُدٌّ عَنْ كُل وَاحِدَةٍ. وَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعَ
شَعَرَاتٍ فَأَكْثَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ صِيَامُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أَوْ
إِطْعَامُ ثَلاَثَةِ آصُعٍ أَوْ ذَبْحُ شَاةٍ (1) . وَالْفَصْدُ مِثْل
الْحِجَامَةِ فِي الأَْحْكَامِ.
امْتِهَانُ الْحِجَامَةِ وَأَخْذُ الأَْجْرِ عَلَيْهَا:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ) إِلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ
الْحِجَامَةِ حِرْفَةً وَأَخْذِ الأُْجْرَةِ عَلَيْهَا، وَاسْتَدَلُّوا
بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَال: احْتَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ (2) ، وَلَوْ عَلِمَهُ
حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ وَفِي لَفْظٍ لَوْ عَلِمَهُ خَبِيثًا لَمْ
يُعْطِهِ. وَلأَِنَّهَا مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ فَجَازَ الاِسْتِئْجَارُ
عَلَيْهَا كَالْبِنَاءِ وَالْخِيَاطَةِ، وَلأَِنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً
إِلَيْهَا وَلاَ نَجِدُ كُل أَحَدٍ مُتَبَرِّعًا بِهَا، فَجَازَ
الاِسْتِئْجَارُ عَلَيْهَا كَالرَّضَاعِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ نَسَبَهُ الْقَاضِي إِلَى
أَحْمَدَ قَال: لاَ يُبَاحُ أَجْرُ الْحَجَّامِ، فَإِذَا أُعْطِيَ
__________
(1) المغني 3 / 305، 492، 497.
(2) حديث: " عن ابن عباس قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام
أجره " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 147 - ط السلفية) ومسلم (4 / 1731 - ط
الحلبي) .
(17/18)
شَيْئًا مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَلاَ شَرْطٍ
فَلَهُ أَخْذُهُ، وَيَصْرِفُهُ فِي عَلَفِ دَوَابِّهِ وَمُؤْنَةِ
صِنَاعَتِهِ، وَلاَ يَحِل لَهُ أَكْلُهُ (1) ، وَاسْتَدَل لِهَذَا الْقَوْل
بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَسْبُ الْحَجَّامِ
خَبِيثٌ (2) .
ضَمَانُ الْحَجَّامِ:
9 - الْحَجَّامُ لاَ يَضْمَنُ إِذَا فَعَل مَا أُمِرَ بِهِ وَتَوَفَّرَ
شَرْطَانِ:
أ - أَنْ يَكُونَ قَدْ بَلَغَ مُسْتَوًى فِي حِذْقِ صِنَاعَتِهِ
يُمَكِّنُهُ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا بِنَجَاحٍ.
ب - أَنْ لاَ يَتَجَاوَزَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَل فِي مِثْلِهِ (3) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي تَدَاوٍ وَتَطْبِيبٍ.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 33، إكمال الإكمال 4 / 251، وشرح النووي 10 / 233،
والمغني 5 / 539 - 540، ونيل الأوطار 6 / 23.
(2) حديث: " كسب الحجام خبيث " أخرجه مسلم (3 / 1199 - ط الحلبي) من حديث
رافع بن خديج.
(3) المغني 5 / 538.
(17/18)
حَجَبَ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَجْبُ لُغَةً مَصْدَرُ حَجَبَ يُقَال: حَجَبَ الشَّيْءَ يَحْجُبُهُ
حَجْبًا إِذَا سَتَرَهُ، وَقَدِ احْتَجَبَ وَتَحَجَّبَ إِذَا اكْتَنَّ مِنْ
وَرَاءِ حِجَابٍ.
وَحَجَبَهُ مَنَعَهُ عَنِ الدُّخُول، وَكُل مَا حَال بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ
فَهُوَ حِجَابٌ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ
حِجَابٌ} (1) .
وَكُل شَيْءٍ مَنَعَ شَيْئًا فَقَدْ حَجَبَهُ، وَسُمِّيَ الْبَوَّابُ
حَاجِبًا لأَِنَّهُ يَمْنَعُ مَنْ أَرَادَ الدُّخُول.
وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل الْحَجْبُ فِي الْمِيرَاثِ وَهُوَ اصْطِلاَحًا:
مَنْعُ مَنْ قَامَ بِهِ سَبَبُ الإِْرْثِ مِنَ الإِْرْثِ بِالْكُلِّيَّةِ
وَيُسَمَّى حَجْبَ حِرْمَانٍ، أَوْ مِنْ أَوْفَرِ حَظَّيْهِ وَيُسَمَّى
حَجْبَ نُقْصَانٍ (2) .
وَقَدْ يُسْتَعْمَل فِي الْحَضَانَةِ وَالْوِلاَيَةِ بِمَعْنَى مَنْعِ
الشَّخْصِ مِنْ دُونِهِ مِنْ ذَلِكَ الْحَقِّ كَمَا يُقَال: الأُْمُّ
تَحْجُبُ كُل حَاضِنَةٍ سِوَاهَا، مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ بِمَحْرَمٍ مِنَ
الصَّغِيرِ، وَفِي الْوِلاَيَةِ يُقَال: إِنَّ الْوَلِيَّ
__________
(1) سورة فصلت / 5.
(2) لسان العرب وتحفة المحتاج 6 / 397، ومغني المحتاج 3 / 11، وكشف
المخدرات ص 334.
(17/19)
الأَْقْرَبَ يَحْجُبُ الْوَلِيَّ
الأَْبْعَدَ. وَتَفْصِيلُهُ فِي الْحَضَانَةِ وَالْوِلاَيَةِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمَنْعُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْمَنْعِ فِي اللُّغَةِ: الْحِرْمَانُ، وَفِي
الاِصْطِلاَحِ: هُوَ تَعْطِيل الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ،
كَامْتِنَاعِ الْمِيرَاثِ مَعَ وُجُودِ الْقَرَابَةِ الْمُوجِبَةِ لَهُ
بِسَبَبِ اخْتِلاَفِ الدِّينِ - مَثَلاً - وَالْمَنْعُ فِي الإِْرْثِ
أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل فِي الْحَجْبِ بِالْوَصْفِ، أَمَّا الْحَجْبُ
فَيُسْتَعْمَل فِي الْحَجْبِ بِالشَّخْصِ.
الْحَجْبُ فِي الْمِيرَاثِ:
3 - الْحَجْبُ مُطْلَقًا قِسْمَانِ:
حَجْبٌ بِوَصْفٍ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَانِعِ، وَحَجْبٌ
بِشَخْصٍ، وَهُوَ قِسْمَانِ: حَجْبُ حِرْمَانٍ، وَهُوَ أَنْ يُسْقِطَ
الْوَارِثُ غَيْرَهُ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَهُوَ لاَ يَدْخُل عَلَى سِتَّةٍ مِنَ الْوَرَثَةِ إِجْمَاعًا، وَهُمُ:
الأَْبَوَانِ وَالزَّوْجَانِ وَالاِبْنُ وَالْبِنْتُ وَضَابِطُهُ: كُل مَنْ
أَدْلَى بِنَفْسِهِ إِلَى الْمَيِّتِ إِلاَّ الْمُعْتَقَ.
وَالثَّانِي: حَجْبُ نُقْصَانٍ: وَهُوَ حَجْبٌ عَنْ نَصِيبٍ أَكْثَرَ إِلَى
نَصِيبٍ أَقَل. وَهُوَ لِخَمْسَةٍ مِنْ الْوَرَثَةِ: الزَّوْجَيْنِ،
وَالأُْمِّ، وَبِنْتِ الاِبْنِ، وَالأُْخْتِ لأَِبٍ، وَالإِْخْوَةِ
لأُِمٍّ.
وَلِلْحَجْبِ مُطْلَقًا قَوَاعِدُ يَقُومُ عَلَيْهَا، وَهِيَ:
(17/19)
الأُْولَى: أَنَّ مَنْ يُدْلِي إِلَى
الْمَيِّتِ بِوَارِثٍ يُحْجَبُ حَجْبَ حِرْمَانٍ عِنْدَ وُجُودِ ذَلِكَ
الْوَارِثِ إِلاَّ الإِْخْوَةَ لأُِمٍّ مَعَ وُجُودِ الأُْمِّ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ الأَْقْرَبَ يَحْجُبُ الأَْبْعَدَ إِذَا كَانَ
يَسْتَحِقُّ بِوَصْفِهِ وَنَوْعِهِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ الأَْقْوَى قَرَابَةً يَحْجُبُ الأَْضْعَفَ مِنْهُ.
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ إرْثٍ (ج 3 ص 45 فِقْرَةُ
45) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ.
وَفِي تَطْبِيقِ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ التَّفْصِيل التَّالِي:
فَابْنُ الاِبْنِ يَحْجُبُهُ الاِبْنُ أَوِ ابْنُ ابْنٍ أَقْرَبُ مِنْهُ
لإِِدْلاَئِهِ بِهِ إِنْ كَانَ أَبَاهُ، أَوْ لأَِنَّهُ عَصَبَةٌ أَقْرَبُ
مِنْهُ، وَيَحْجُبُهُ كَذَلِكَ أَبَوَانِ وَبِنْتَانِ لِلصُّلْبِ
بِاسْتِغْرَاقِهِمْ لِلتَّرِكَةِ (1) .
وَالْجَدُّ أَبُو الأَْبِ وَإِنْ عَلاَ لاَ يَحْجُبُهُ إِلاَّ الأَْبُ أَوْ
جَدٌّ أَقْرَبُ مِنْهُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ
تَطْبِيقًا لِقَاعِدَةِ أَنَّ مَنْ أَدْلَى بِشَخْصٍ لاَ يَرِثُ مَعَ
وُجُودِهِ إِلاَّ أَوْلاَدُ الأُْمِّ، وَالأَْخُ الشَّقِيقُ يَحْجُبُهُ
الأَْبُ وَالاِبْنُ وَابْنُ الاِبْنِ وَإِنْ سَفَل لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{يَسْتَفْتُونَكَ قُل اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ
هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ
يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} (2) وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ
مُجْمَعٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 496، والقوانين الفقهية ص 391، ومغني المحتاج 3 /
11، والمغني لابن قدامة 6 / 166.
(2) سورة النساء / 176.
(17/20)
4 - وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ
الإِْخْوَةُ الأَْشِقَّاءُ وَالإِْخْوَةُ لِلأَْبِ يُحْجَبُونَ بِالْجَدِّ
أَبِي الأَْبِ وَإِنْ عَلاَ: فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ
الْجَدَّ يَحْجُبُ الإِْخْوَةَ سَوَاءٌ أَكَانُوا أَشِقَّاءَ أَوْ لأَِبٍ
لِلآْيَةِ الْمَذْكُورَةِ حَيْثُ إِنَّ الْكَلاَلَةَ - سَوَاءٌ كَانَتِ
اسْمًا لِلْمَيِّتِ الَّذِي لاَ وَلَدَ وَلاَ وَالِدَ لَهُ حَسَبَ
اخْتِلاَفِ الْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِهَا - لاَ تَشْمَل الْجَدَّ
لأَِنَّهُ وَالِدٌ لِلْمَيِّتِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ
الصِّدِّيقُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
5 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى
أَنَّ الْجَدَّ لاَ يَحْجُبُ الأَْخَ الشَّقِيقَ أَوْ لأَِبٍ بَل يَرِثُ
مَعَهُ (1)
وَالأَْخُ لأَِبٍ يَحْجُبُهُ هَؤُلاَءِ وَالأَْخُ الشَّقِيقُ.
وَابْنُ الأَْخِ لأَِبَوَيْنِ، يَحْجُبُهُ سِتَّةٌ وَهُمُ الأَْبُ،
وَالْجَدُّ أَبُو الأَْبِ وَإِنْ عَلاَ، وَالاِبْنُ وَابْنُ الاِبْنِ
وَإِنْ سَفَل وَالأَْخُ لأَِبَوَيْنِ، وَالأَْخُ لأَِبٍ.
وَابْنُ الأَْخِ لأَِبٍ يَحْجُبُهُ سَبْعَةٌ وَهُمْ هَؤُلاَءِ السِّتَّةُ
وَابْنُ الأَْخِ لأَِبَوَيْنِ.
وَالْعَمُّ لأَِبَوَيْنِ يَحْجُبُهُ ثَمَانِيَةٌ وَهُمُ الأَْبُ وَالْجَدُّ
وَإِنْ عَلاَ وَالاِبْنُ وَابْنُ الاِبْنِ وَإِنْ سَفَل وَالأَْخُ
لأَِبَوَيْنِ وَالأَْخُ لأَِبٍ وَابْنُ الأَْخِ لأَِبَوَيْنِ وَابْنُ
الأَْخِ لأَِبٍ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 498، وتحفة المحتاج 6 / 398، ومغني المحتاج 3 /
11، والقوانين الفقهية ص 391، والمغني لابن قدامة 6 / 166.
(17/20)
وَالْعَمُّ لأَِبٍ يَحْجُبُهُ تِسْعَةٌ
وَهُمْ هَؤُلاَءِ الثَّمَانِيَةُ وَالْعَمُّ الشَّقِيقُ.
وَابْنُ الْعَمِّ الشَّقِيقِ يَحْجُبُهُ عَشَرَةٌ وَهُمُ الأَْبُ
وَالْجَدُّ أَبُو الأَْبِ وَإِنْ عَلاَ وَالاِبْنُ وَابْنُ الاِبْنِ وَإِنْ
سَفَل وَالأَْخُ الشَّقِيقُ وَالأَْخُ لأَِبٍ وَابْنُ الأَْخِ الشَّقِيقِ
وَابْنُ الأَْخِ لأَِبٍ وَالْعَمُّ الشَّقِيقُ وَالْعَمُّ لأَِبٍ.
وَابْنُ الْعَمِّ لأَِبٍ يَحْجُبُهُ هَؤُلاَءِ الْعَشَرَةُ، وَابْنُ
الْعَمِّ الشَّقِيقِ (1) .
وَهَذِهِ الْمَسَائِل مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
6 - وَبِنْتُ الاِبْنِ يَحْجُبُهَا الاِبْنُ لأَِنَّهُ أَبُوهَا أَوْ
عَمُّهَا وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَبِيهَا وَتَحْجُبُهَا بِنْتَانِ لأَِنَّ
الثُّلُثَيْنِ فَرْضُ الْبَنَاتِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ إِلاَّ إِذَا
كَانَ مَعَهَا ابْنُ ابْنٍ يُعَصِّبُهَا فَحِينَئِذٍ تَشْتَرِكُ مَعَهُ
فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ ثُلُثَيِ الْبِنْتَيْنِ {لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ
الأُْنْثَيَيْنِ} (2)
وَالأَْخَوَاتُ لأَِبَوَيْنِ أَوْ لأَِبٍ كَالإِْخْوَةِ لأَِبَوَيْنِ أَوْ
لأَِبٍ فِي الْحَجْبِ إِلاَّ أَنَّ الأَْخَ الشَّقِيقَ يَحْجُبُ
الأُْخُوَّةَ لأَِبٍ وَإِنْ كَثُرُوا.
وَالأُْخْتُ لأَِبٍ فَأَكْثَرُ يَحْجُبُهُنَّ أُخْتَانِ لأَِبَوَيْنِ،
لأَِنَّ الثُّلُثَيْنِ فَرْضُ الأَْخَوَاتِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَأَوْلاَدُ الأُْمِّ يَحْجُبُهُمْ أَرْبَعَةٌ وَهُمُ الأَْبُ وَالْجَدُّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 498، والقوانين الفقهية ص 391، وتحفة المحتاج 6 /
398، ومغني المحتاج 3 / 11، والمغني لابن قدامة 6 / 166، وكشف المخدرات ص
334.
(2) سورة النساء / 11.
(17/21)
أَبُو الأَْبِ وَإِنْ عَلاَ، وَالْوَلَدُ
لِلصُّلْبِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَوَلَدُ الاِبْنِ كُل ذَلِكَ
وَإِنْ سَفَل. وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ
أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا
أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (1) .
وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجَدَّةَ تُحْجَبُ
بِالأُْمِّ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ أَمْ مِنْ جِهَةِ
الأَْبِ لأَِنَّ الْجَدَّاتِ يَرِثْنَ بِالْوِلاَدَةِ فَالأُْمُّ أَوْلَى
لِمُبَاشَرَتِهَا الْوِلاَدَةَ، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْقُرْبَى
مِنْ كُل جِهَةٍ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لِقُرْبِهَا
إِلَى الْمَيِّتِ.
7 - وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَتَيْنِ مِنْ مَسَائِل حَجْبِ
الْجَدَّةِ:
أُولاَهُمَا: فِيمَنْ تَحْجُبُ الْجَدَّةَ الَّتِي مِنْ جِهَةِ الأَْبِ
غَيْرُ الأُْمِّ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ
الأَْبَ يَحْجُبُ الْجَدَّةَ الَّتِي مِنْ جِهَتِهِ لأَِنَّهَا تُدْلِي
بِهِ إِلَى الْمَيِّتِ وَمَنْ أَدْلَى بِشَخْصٍ لاَ يَرِثُ مَعَهُ إِلاَّ
أَوْلاَدُ الأُْمِّ كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الأَْبَ لاَ يَحْجُبُ هَذِهِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 499، والمغني لابن قدامة 6 / 166، 168، 170،
ومغني المحتاج 3 / 11، والقوانين الفقهية ص 391، والآية رقم 12 من سورة
النساء.
(17/21)
الْجَدَّةَ بَل تَرِثُ مَعَهُ،
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال: أَوَّل جَدَّةٍ أَطْعَمَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ السُّدُسَ أُمُّ أَبٍ مَعَ ابْنِهَا وَابْنُهَا حَيٌّ (1) .
وَلأَِنَّ الْجَدَّاتِ أُمَّهَاتٌ يَرِثْنَ مِيرَاثَ الأُْمِّ لاَ مِيرَاثَ
الأَْبِ فَلاَ يُحْجَبْنَ بِهِ كَأُمَّهَاتِ الأُْمِّ.
وَثَانِيَتُهُمَا: هَل الْقُرْبَى مِنْ الْجَدَّاتِ تَحْجُبُ الْبُعْدَى
مِنْ الْجِهَةِ الأُْخْرَى؟
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقُرْبَى مِنْ
جِهَةِ الأُْمِّ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ جِهَةِ الأَْبِ، وَأَنَّ
الْقُرْبَى مِنْ جِهَةِ الأَْبِ لاَ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ جِهَةِ
الأُْمِّ، لأَِنَّ الأَْبَ لاَ يَحْجُبُهَا فَالْجَدَّةُ الَّتِي تُدْلِي
بِهِ أَوْلَى أَنْ لاَ تَحْجُبَهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقُرْبَى مِنْ
أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ
كَذَلِكَ لِقُوَّةِ الْقَرَابَةِ (2) .
8 - وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ وَمَنْ سَبَقَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ
السَّلَفِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ لاَ يَرِثُ لِمَانِعٍ
فِيهِ كَالْقَتْل أَوْ الرِّقِّ لاَ يَحْجُبُ غَيْرَهُ لاَ حِرْمَانًا
وَلاَ نُقْصَانًا بَل وُجُودُهُ كَالْعَدَمِ.
وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ
__________
(1) حديث ابن مسعود: " أول جدة أطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم السدس.
. . " أخرجه الترمذي (4 / 421 - ط الحلبي) والبيهقي (6 / 226 - ط دائرة
المعارف العثمانية) ، وقال البيهقي عن أحد رواته: " محمد بن سالم غير محتج
به ".
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 499، القوانين الفقهية ص 392، ومغني المحتاج 3 /
12، والمغني لابن قدامة 6 / 211، وكشف المخدرات ص 334.
(17/22)
فَقَال: إِنَّ الْمَحْرُومَ مِنْ الإِْرْثِ
يَحْجُبُ غَيْرَهُ حِرْمَانًا وَنُقْصَانًا.
كَمَا اتَّفَقَ هَؤُلاَءِ عَلَى أَنَّ الْمَحْجُوبَ بِشَخْصٍ يَحْجُبُ
غَيْرَهُ حَجْبَ نُقْصَانٍ (1) .
وَأَجْمَعُوا كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَقَ يَحْجُبُهُ عَصَبَةُ
النَّسَبِ، لأَِنَّ النَّسَبَ أَقْوَى مِنَ الْوَلاَءِ.
أَمَّا مَا يَتَّصِل بِحَجْبِ النُّقْصَانِ فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى
مُصْطَلَحِ: (إِرْثٌ) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 498، والقوانين الفقهية ص 393، ومغني المحتاج 3 /
13، وكشف المخدرات ص 335.
(17/22)
حَجٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَجُّ: بِفَتْحِ الْحَاءِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، هُوَ لُغَةً
الْقَصْدُ، حَجَّ إِلَيْنَا فُلاَنٌ: أَيْ قَدِمَ، وَحَجَّهُ يَحُجُّهُ
حَجًّا: قَصَدَهُ. وَرَجُلٌ مَحْجُوجٌ، أَيْ مَقْصُودٌ. هَذَا هُوَ
الْمَشْهُورُ.
وَقَال جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْل اللُّغَةِ: الْحَجُّ: الْقَصْدُ لِمُعَظَّمٍ.
وَالْحِجُّ بِالْكَسْرِ: الاِسْمُ. وَالْحِجَّةُ: الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ،
وَهُوَ مِنَ الشَّوَاذِّ، لأَِنَّ الْقِيَاسَ بِالْفَتْحِ (1) .
تَعْرِيفُ الْحَجِّ اصْطِلاَحًا:
2 - الْحَجُّ فِي اصْطِلاَحِ الشَّرْعِ: هُوَ قَصْدُ مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ
(وَهُوَ الْبَيْتُ الْحَرَامُ وَعَرَفَةُ) فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ (وَهُوَ
أَشْهُرُ الْحَجِّ) لِلْقِيَامِ بِأَعْمَالٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ الْوُقُوفُ
بِعَرَفَةَ، وَالطَّوَافُ، وَالسَّعْيُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ،
بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ يَأْتِي بَيَانُهَا (2) .
__________
(1) تاج العروس في المادة.
(2) بتصرف يسير عن فتح القدير للكمال بن الهمام وزيادة السعي 2 / 120،
الاختيار 1 / 139، والشرح الكبير للدردير على مختصر خليل 2 / 2، ومغني
المحتاج 1 / 459، وشرح منتهى الإرادات 1 / 472، والتعريفات ص 82.
(17/23)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعُمْرَةُ:
3 - وَهِيَ قَصْدُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ لِلطَّوَافِ وَالسَّعْيِ
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَمْرَةٌ) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْحَجِّ:
4 - الْحَجُّ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُل مُكَلَّفٍ مُسْتَطِيعٍ فِي الْعُمُرِ
مَرَّةً، وَهُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ، ثَبَتَتْ
فَرْضِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ.
أ - أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ
فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (1) .
فَهَذِهِ الآْيَةُ نَصٌّ فِي إِثْبَاتِ الْفَرْضِيَّةِ، حَيْثُ عَبَّرَ
الْقُرْآنُ بِصِيغَةِ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} وَهِيَ صِيغَةُ إِلْزَامٍ
وَإِيجَابٍ، وَذَلِكَ دَلِيل الْفَرْضِيَّةِ، بَل إِنَّنَا نَجِدُ
الْقُرْآنَ يُؤَكِّدُ تِلْكَ الْفَرْضِيَّةَ تَأْكِيدًا قَوِيًّا فِي
قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ
الْعَالَمِينَ} فَإِنَّهُ جَعَل مُقَابِل الْفَرْضِ الْكُفْرَ، فَأَشْعَرَ
بِهَذَا السِّيَاقِ أَنَّ تَرْكَ الْحَجِّ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِ،
وَإِنَّمَا هُوَ شَأْنُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ.
ب - وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: بُنِيَ الإِْسْلاَمُ عَلَى
خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا
رَسُول اللَّهِ،
__________
(1) سورة آل عمران / 97.
(17/23)
وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ
الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَالْحَجِّ (1) .
وَقَدْ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ: بُنِيَ الإِْسْلاَمُ. . . فَدَل عَلَى أَنَّ
الْحَجَّ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ.
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: خَطَبَنَا رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ
اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا فَقَال رَجُلٌ: أَكُل عَامٍ يَا
رَسُول اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلاَثًا، فَقَال رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا
اسْتَطَعْتُمْ. . . (2) .
وَقَدْ وَرَدَتِ الأَْحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةً جِدًّا حَتَّى
بَلَغَتْ مَبْلِغَ التَّوَاتُرِ الَّذِي يُفِيدُ الْيَقِينَ وَالْعِلْمَ
الْقَطْعِيَّ الْيَقِينِيَّ الْجَازِمَ بِثُبُوتِ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ (3)
.
ج - وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَقَدْ أَجْمَعَتْ الأُْمَّةُ عَلَى وُجُوبِ
الْحَجِّ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً عَلَى الْمُسْتَطِيعِ، وَهُوَ مِنَ
الأُْمُورِ الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ يَكْفُرُ
جَاحِدُهُ (4) .
__________
(1) حديث: " بني الإسلام على خمس. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 49 - ط
السلفية) ، ومسلم (1 / 451 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج. . . ". أخرجه مسلم (2 /
975 - ط الحلبي) .
(3) انظر الترغيب والترهيب للمنذري 2 / 211 - 212، والمسلك المتقسط ص 20.
(4) المغني 3 / 217، ونهاية المحتاج 2 / 369، ولباب المناسك ص 16 - 17، مع
شرحه المسلك المتقسط في المنسك المتوسط لعلي القاري، شرح رسالة ابن أبي زيد
القيرواني ص 455.
(17/24)
وُجُوبُ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ أَوِ
التَّرَاخِي:
5 - اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْحَجِّ عِنْدَ تَحَقُّقِ الشُّرُوطِ هَل
هُوَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي؟ . ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ
فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمَالِكٌ فِي
الرَّاجِحِ عَنْهُ وَأَحْمَدُ (1) إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ،
فَمَنْ تَحَقَّقَ فَرْضُ الْحَجِّ عَلَيْهِ فِي عَامٍ فَأَخَّرَهُ يَكُونُ
آثِمًا، وَإِذَا أَدَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ أَدَاءً لاَ قَضَاءً،
وَارْتَفَعَ الإِْثْمُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالإِْمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى
أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى التَّرَاخِي، فَلاَ يَأْثَمُ الْمُسْتَطِيعُ
بِتَأْخِيرِهِ. وَالتَّأْخِيرُ إِنَّمَا يَجُوزُ بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى
الْفِعْل فِي الْمُسْتَقْبَل، فَلَوْ خَشِيَ الْعَجْزَ أَوْ خَشِيَ هَلاَكَ
مَالِهِ حَرُمَ التَّأْخِيرُ، أَمَّا التَّعْجِيل بِالْحَجِّ لِمَنْ وَجَبَ
عَلَيْهِ فَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَا لَمْ يَمُتْ، فَإِذَا
مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ عَاصِيًا مِنْ آخِرِ سَنَوَاتِ
الاِسْتِطَاعَةِ (2) .
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى الْوُجُوبِ الْفَوْرِيِّ بِالآْتِي:
أ - الْحَدِيثُ: مَنْ مَلَكَ زَادًا. وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ
__________
(1) المسلك المتقسط ص 44 وانظر الهداية وفتح القدير 2 / 123، وشرح الرسالة
لابن أبي الحسن 1 / 454، ومواهب الجليل وفيه تفصيل الخلاف في المذاهب 2 /
471 - 472، والشرح الكبير 2 / 2 - 3 وحاشية الدسوقي، ورجح الفورية بقوة حتى
قال " ينبغي للمصنف الاقتصار عليه ". والمغني 3 / 241، والفروع 3 / 242.
(2) الأم 2 / 117 - 118، وروض الطالب 1 / 456، ومغني المحتاج 1 / 460،
والمسلك المتقسط وفتح القدير الموضعين السابقين.
(17/24)
إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَلَمْ يَحُجَّ
فَلاَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا (1) .
ب - الْمَعْقُول: وَذَلِكَ أَنَّ الاِحْتِيَاطَ فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ
وَاجِبٌ، وَلَوْ أَخَّرَ الْحَجَّ عَنِ السَّنَةِ الأُْولَى فَقَدْ
يَمْتَدُّ بِهِ الْعُمُرُ وَقَدْ يَمُوتُ فَيَفُوتُ الْفَرْضُ، وَتَفْوِيتُ
الْفَرْضِ حَرَامٌ، فَيَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الْفَوْرِ احْتِيَاطًا.
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ بِمَا يَلِي:
أ - أَنَّ الأَْمْرَ بِالْحَجِّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (2) مُطْلَقٌ عَنْ تَعْيِينِ الْوَقْتِ،
فَيَصِحُّ أَدَاؤُهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ، فَلاَ يَثْبُتُ الإِْلْزَامُ
بِالْفَوْرِ، لأَِنَّ هَذَا تَقْيِيدٌ لِلنَّصِّ، وَلاَ يَجُوزُ
تَقْيِيدُهُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ، وَلاَ دَلِيل عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا بِنَاءٌ
عَلَى الْخِلاَفِ أَنَّ الأَْمْرَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ لِلتَّرَاخِي
(انْظُرْ مُصْطَلَحَ: أَمْرٌ) .
ب - (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحَ مَكَّةَ
عَامَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَحُجَّ إِلاَّ فِي السَّنَةِ
الْعَاشِرَةِ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِيَّةِ لَمْ يَتَخَلَّفْ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ فَرْضٍ عَلَيْهِ)
(3) .
__________
(1) (1) حديث: " من ملك زادا أو راحلة تبلغه إلى بيت الله. . . " أخرجه
الترمذي (3 / 167 - ط الحلبي) من حديث علي بن أبي طالب، وقال الترمذي: "
هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال، وهلال بن عبد
الله مجهول، والحارث يضعف في الحديث ".
(2) سورة آل عمران 97.
(3) الأم 2 / 118، وانظر حاشية القليوبي على شرح المنهاج 2 / 84، وبدائع
الصنائع للكاساني 2 / 119.
(17/25)
فَضْل الْحَجِّ:
6 - تَضَافَرَتِ النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ الْكَثِيرَةُ عَلَى
الإِْشَادَةِ بِفَضْل الْحَجِّ، وَعَظَمَةِ ثَوَابِهِ وَجَزِيل أَجْرِهِ
الْعَظِيمِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ
رِجَالاً وَعَلَى كُل ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُل فَجٍّ عَمِيقٍ
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ. . .} (1)
.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ
يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ (2) .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرُ أَنْ يُعْتِقَ
اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ
لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلاَئِكَةَ. . . (3) وَمَعْنَى
يَدْنُو: يَتَجَلَّى عَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ وَإِكْرَامِهِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: تَابِعُوا بَيْنَ
الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ
كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ
__________
(1) سورة الحج / 27 - 28.
(2) حديث: " من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجع. . . " أخرجه البخاري (الفتح
3 / 382 - ط السلفية) . ومسلم (2 / 983، 984 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه. . . " أخرجه مسلم (3 / 983 -
ط الحلبي) .
(17/25)
الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ،
وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ (1) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ، إِنْ دَعَوْهُ
أَجَابَهُمْ وَإِنِ اسْتَغْفَرُوهُ غَفَرَ لَهُمْ (2) .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ:
نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَل الْعَمَل أَفَلاَ نُجَاهِدُ؟ قَال: لاَ، لَكِنَّ
أَفْضَل الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ (3) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل: أَيُّ الأَْعْمَال أَفْضَل؟
فَقَال: إِيمَانٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيل ثُمَّ مَاذَا؟ قَال:
جِهَادٌ فِي سَبِيل اللَّهِ، قِيل: ثُمَّ مَاذَا؟ قَال: حَجٌّ مَبْرُورٌ
(4) .
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْحَجِّ:
7 - شُرِعَتِ الْعِبَادَاتُ لإِِظْهَارِ عُبُودِيَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ
__________
(1) حديث: " تابعوا بين الحج والعمرة. . . . " أخرجه الترمذي (3 / 166 - ط
الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح ".
(2) حديث: " الحجاج والعمار وفد الله. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 966 - ط
الحلبي) ، وقال البوصيري: " في إسناده صالح بن عبد الله، قال البخاري فيه:
منكر الحديث ". ولكن له شاهد من حديث ابن عمر، أخرجه ابن ماجه تلو حديث أبي
هريرة، يتقوى به.
(3) حديث عائشة: " نرى الجهاد أفضل الأعمال. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3
/ 381 - ط السلفية) والنسائي (5 / 114 - ط المكتبة التجارية) .
(4) حديث أبي هريرة: " سئل أي الأعمال أفضل؟ . . . . " أخرجه البخاري
(الفتح 3 / 381 - ط السلفية) ومسلم (1 / 88 - ط الحلبي) .
(17/26)
وَمَدَى امْتِثَالِهِ لأَِمْرِهِ، وَلَكِنْ
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ لَهَا
فَوَائِدُ تُدْرِكُهَا الْعُقُول الصَّحِيحَةُ وَأَظْهَرُ مَا يَكُونُ
ذَلِكَ فِي فَرِيضَةِ الْحَجِّ.
وَتَشْتَمِل هَذِهِ الْفَرِيضَةُ عَلَى حِكَمٍ جَلِيلَةٍ كَثِيرَةٍ
تَمْتَدُّ فِي ثَنَايَا حَيَاةِ الْمُؤْمِنَ الرُّوحِيَّةِ، وَمَصَالِحِ
الْمُسْلِمِينَ جَمِيعِهِمْ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، مِنْهَا:
أ - أَنَّ فِي الْحَجِّ إِظْهَارَ التَّذَلُّل لِلَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ
لأَِنَّ الْحَاجَّ يَرْفُضُ أَسْبَابَ التَّرَفِ وَالتَّزَيُّنِ،
وَيَلْبَسُ ثِيَابَ الإِْحْرَامِ مُظْهِرًا فَقْرَهُ لِرَبِّهِ،
وَيَتَجَرَّدُ عَنِ الدُّنْيَا وَشَوَاغِلِهَا الَّتِي تَصْرِفُهُ عَنِ
الْخُلُوصِ لِمَوْلاَهُ، فَيَتَعَرَّضُ بِذَلِكَ لِمَغْفِرَتِهِ
وَرُحْمَاهُ، ثُمَّ يَقِفُ فِي عَرَفَةَ ضَارِعًا لِرَبِّهِ حَامِدًا
شَاكِرًا نَعْمَاءَهُ وَفَضْلَهُ، وَمُسْتَغْفِرًا لِذُنُوبِهِ
وَعَثَرَاتِهِ، وَفِي الطَّوَافِ حَوْل الْكَعْبَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ
يَلُوذُ بِجَنَابِ رَبِّهِ وَيَلْجَأُ إِلَيْهِ مِنْ ذُنُوبِهِ، وَمِنْ
هَوَى نَفْسِهِ، وَوِسْوَاسِ الشَّيْطَانِ.
ب - أَنَّ أَدَاءَ فَرِيضَةِ الْحَجِّ يُؤَدِّي شُكْرَ نِعْمَةِ الْمَال،
وَسَلاَمَةِ الْبَدَنِ، وَهُمَا أَعْظَمُ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ
الإِْنْسَانُ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا، فَفِي الْحَجِّ شُكْرُ هَاتَيْنِ
النِّعْمَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ، حَيْثُ يُجْهِدُ الإِْنْسَانُ نَفْسَهُ
" وَيُنْفِقُ مَالَهُ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ
سُبْحَانَهُ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ شُكْرَ النَّعْمَاءِ وَاجِبٌ تُقَرِّرُهُ
بَدَاهَةُ الْعُقُول، وَتَفْرِضُهُ شَرِيعَةُ الدِّينِ.
ج - يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَقْطَارِ الأَْرْضِ فِي
(17/26)
مَرْكَزِ اتِّجَاهِ أَرْوَاحِهِمْ،
وَمَهْوَى أَفْئِدَتِهِمْ، فَيَتَعَرَّفُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ،
وَيَأْلَفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، هُنَاكَ حَيْثُ تَذُوبُ الْفَوَارِقُ
بَيْنَ النَّاسِ، فَوَارِقُ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، فَوَارِقُ الْجِنْسِ
وَاللَّوْنِ، فَوَارِقُ اللِّسَانِ وَاللُّغَةِ، تَتَّحِدُ كَلِمَةُ
الإِْنْسَانِ فِي أَعْظَمِ مُؤْتَمَرٍ بَشَرِيٍّ اجْتَمَعَتْ كَلِمَةُ
أَصْحَابِهِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَعَلَى التَّوَاصِي بِالْحَقِّ
وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، هَدَفُهُ الْعَظِيمُ رَبْطُ أَسْبَابِ
الْحَيَاةِ بِأَسْبَابِ السَّمَاءِ.
شُرُوطُ فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ:
8 - شُرُوطُ الْحَجِّ صِفَاتٌ يَجِبُ تَوَفُّرُهَا فِي الإِْنْسَانِ لِكَيْ
يَكُونَ مُطَالَبًا بِأَدَاءِ الْحَجِّ، مَفْرُوضًا عَلَيْهِ، فَمَنْ
فَقَدَ أَحَدَ هَذِهِ الشُّرُوطِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَلاَ
يَكُونُ مُطَالَبًا بِهِ، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ خَمْسَةٌ هِيَ:
الإِْسْلاَمُ، وَالْعَقْل، وَالْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ،
وَالاِسْتِطَاعَةُ، وَهِيَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، قَال
الإِْمَامُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: لاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا
كُلِّهِ اخْتِلاَفًا " (1) .
الشَّرْطُ الأَْوَّل: الإِْسْلاَمُ:
9 - أ - لَوْ حَجَّ الْكَافِرُ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ تَجِبُ
عَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ، لأَِنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ، بَل هُوَ مِنْ
أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرُبَاتِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْل
الْعِبَادَةِ.
__________
(1) المغني 3 / 218، وكذا ذكر الإجماع الرملي في نهاية المحتاج 2 / 375.
(17/27)
ب - وَلَوْ أَسْلَمَ وَهُوَ مُعْسِرٌ
بَعْدَ اسْتِطَاعَتِهِ فِي الْكُفْرِ، فَإِنَّهُ لاَ أَثَرَ لَهَا (1) .
ج - وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لاَ يُطَالَبُ
بِالْحَجِّ بِالنِّسْبَةِ لأَِحْكَامِ الدُّنْيَا، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ
لِلآْخِرَةِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ، هَل يُؤَاخَذُ بِتَرْكِهِ
أَوْ لاَ يُؤَاخَذُ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي الْمُصْطَلَحِ الأُْصُولِيِّ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: الْعَقْل:
10 - يُشْتَرَطُ لِفَرْضِيَّةِ الْحَجِّ الْعَقْل، لأَِنَّ الْعَقْل شَرْطٌ
لِلتَّكْلِيفِ وَالْمَجْنُونُ لَيْسَ مُكَلَّفًا بِفُرُوضِ الدِّينِ، بَل
لاَ تَصِحُّ مِنْهُ إِجْمَاعًا، لأَِنَّهُ لَيْسَ أَهْلاً لِلْعِبَادَةِ،
فَلَوْ حَجَّ الْمَجْنُونُ فَحَجُّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِذَا شُفِيَ مِنْ
مَرَضِهِ وَأَفَاقَ إِلَى رُشْدِهِ تَجِبُ عَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ
(2) .
رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ
الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى
يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ (3) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْبُلُوغُ:
11 - يُشْتَرَطُ الْبُلُوغُ، لأَِنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ
__________
(1) نهاية المحتاج الموضع السابق.
(2) المغني لابن قدامة 3 / 218، البدائع 2 / 120.
(3) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ. . . . " أخرجه أبو
داود (4 / 559 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (4 / 389 - ط دائرة المعارف
العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(17/27)
بِمُكَلَّفٍ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: رَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا لَهَا فَقَالَتْ: يَا
رَسُول اللَّهِ أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَال: نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ (1) .
فَلَوْ حَجَّ الصَّبِيُّ صَحَّ حَجُّهُ وَكَانَ تَطَوُّعًا، فَإِذَا بَلَغَ
الصَّبِيُّ وَجَبَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْفَرِيضَةِ، بِإِجْمَاعِ
الْعُلَمَاءِ، لأَِنَّهُ أَدَّى مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، فَلاَ يَكْفِيهِ
عَنِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ
قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا حَجَّ
الصَّبِيُّ فَهِيَ لَهُ حَجَّةٌ حَتَّى يَعْقِل، وَإِذَا عَقَل فَعَلَيْهِ
حَجَّةٌ أُخْرَى، وَإِذَا حَجَّ الأَْعْرَابِيُّ فَهِيَ لَهُ حَجَّةٌ،
فَإِذَا هَاجَرَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى (2) .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْحُرِّيَّةُ:
12 - الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، لأَِنَّهُ
مُسْتَغْرَقٌ فِي خِدْمَةِ سَيِّدِهِ، وَلأَِنَّ الاِسْتِطَاعَةَ شَرْطٌ
وَلاَ تَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِمِلْكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَالْعَبْدُ
لاَ يَتَمَلَّكُ شَيْئًا، فَلَوْ حَجَّ الْمَمْلُوكُ وَلَوْ بِإِذْنِ
سَيِّدِهِ صَحَّ حَجُّهُ وَكَانَ تَطَوُّعًا لاَ يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ،
وَيَأْثَمُ إِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ سَيِّدُهُ بِذَلِكَ. وَيَجِبُ
عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ عِنْدَمَا يُعْتَقُ،
لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.
__________
(1) حديث ابن عباس: " رفعت امرأة صبيا. . . ". أخرجه مسلم (2 / 974 - ط
الحلبي) .
(2) حديث: " إذا حج الصبي فهي له حجة. . . " أخرجه الحاكم في المستدرك (1 /
481 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(17/28)
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: الاِسْتِطَاعَةُ:
13 - لاَ يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى مَنْ لَمْ تَتَوَفَّرْ فِيهِ خِصَال
الاِسْتِطَاعَةِ لأَِنَّ الْقُرْآنَ خَصَّ الْخِطَابَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ
فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (1) .
وَخِصَال الاِسْتِطَاعَةِ الَّتِي تُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ
قِسْمَانِ: شُرُوطٌ عَامَّةٌ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ، وَشُرُوطٌ تَخُصُّ
النِّسَاءَ.
الْقِسْمُ الأَْوَّل: شُرُوطٌ عَامَّةٌ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ:
شُرُوطُ الاِسْتِطَاعَةِ الْعَامَّةِ أَرْبَعُ خِصَالٍ:
الْقُدْرَةُ عَلَى الزَّادِ وَآلَةِ الرُّكُوبِ، وَصِحَّةُ الْبَدَنِ،
وَأَمْنُ الطَّرِيقِ، وَإِمْكَانُ السَّيْرِ.
الْخَصْلَةُ الأُْولَى:
14 - تُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ الْقُدْرَةُ عَلَى الزَّادِ وَآلَةِ
الرُّكُوبِ، وَالنَّفَقَةِ ذَهَابًا وَإِيَابًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ
وَمِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ،
وَيَخْتَصُّ اشْتِرَاطُ الْقُدْرَةِ عَلَى آلَةِ الرُّكُوبِ بِمَنْ كَانَ
بَعِيدًا عَنْ مَكَّةَ.
قَال فِي " الْهِدَايَةِ ": وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُوبِ عَلَى أَهْل
مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا الرَّاحِلَةُ لأَِنَّهُ لاَ تَلْحَقُهُمْ
مَشَقَّةٌ زَائِدَةٌ فِي الأَْدَاءِ، فَأَشْبَهَ السَّعْيَ إِلَى
الْجُمُعَةِ " (2) .
__________
(1) سورة آل عمران / 97.
(2) الهداية مع فتح القدير 2 / 127.
(17/28)
وَالأَْظْهَرُ أَنَّ الَّذِي يَكُونُ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بَعِيدًا عَنْ مَكَّةَ هُوَ: مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
مَكَّةَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، أَمَّا مَا دُونَهُ فَلاَ، إِذَا
كَانَ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ " (1) يَعْنِي مَسَافَةَ الْقَصْرِ فِي
السَّفَرِ. وَتُقَدَّرُ بِ (81) كِيلُو مِتْرٍ تَقْرِيبًا.
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَهُوَ مَنْ كَانَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَرْحَلَتَانِ، وَهِيَ مَسَافَةُ الْقَصْرِ
عِنْدَهُمْ. وَتُقَدَّرُ عِنْدَهُمْ بِنَحْوِ الْمَسَافَةِ السَّابِقَةِ
(2) .
15 - وَقَدْ وَقَعَ الْخِلاَفُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي شَرْطِيَّةِ
الزَّادِ وَآلَةِ الرُّكُوبِ لِوُجُوبِ الْحَجِّ، وَكَانُوا يَرْكَبُونَ
الدَّوَابَّ. لِذَلِكَ عَبَّرُوا بِقَوْلِهِمُ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ "
وَهِيَ الْجَمَل الْمُعَدُّ لِلرُّكُوبِ لأَِنَّهُ الْمَعْرُوفُ فِي
زَمَانِهِمْ. وَهَذَا الْخِلاَفُ فِي أَمْرَيْنِ:
الأَْمْرُ الأَْوَّل: خَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ الْجُمْهُورَ فِي اشْتِرَاطِ
الْقُدْرَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَإِنْ كَانَتِ الْمَسَافَةُ بَعِيدَةً
فَقَالُوا: يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ إِذَا كَانَ صَحِيحَ الْبِنْيَةِ
يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ بِلاَ مَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ، وَهُوَ يَمْلِكُ
الزَّادَ.
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين: رد المحتار على الدر المختار 2 / 195.
(2) نهاية المحتاج للرملي 2 / 377، وحاشية الباجوري 1 / 526، والمغني لابن
قدامة 3 / 221.
(3) سورة آل عمران / 97.
(17/29)
وَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّ " مَنْ كَانَ
صَحِيحَ الْبَدَنِ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ وَلَهُ زَادٌ فَقَدِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً فَيَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ " (1) .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِمَا وَرَدَ مِنَ الأَْحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ
عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَسَّرَ
السَّبِيل بِاسْتِطَاعَةِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، مِثْل حَدِيثِ أَنَسٍ:
قِيل يَا رَسُول اللَّهِ مَا السَّبِيل؟ قَال: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ (2)
.
فَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الاِسْتِطَاعَةَ الْمَشْرُوطَةَ " بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ جَمِيعًا "
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَشْيِ لاَ تَكْفِي
لاِسْتِطَاعَةِ الْحَجِّ " (3) .
الأَْمْرُ الثَّانِي: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الزَّادِ وَوَسَائِل
الْمُوَاصَلَةِ هَل يُشْتَرَطُ مَلَكِيَّةُ الْمُكَلَّفِ لِمَا
يُحَصِّلُهَا بِهِ أَوْ لاَ يُشْتَرَطُ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ
مِلْكَ مَا يُحَصِّل بِهِ الزَّادَ وَوَسِيلَةَ النَّقْل (مَعَ مُلاَحَظَةِ
مَا ذَكَرْنَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ) شَرْطٌ لِتَحَقُّقِ
__________
(1) مختصر خليل والشرح الكبير 2 / 6، ومواهب الجليل 2 / 491، وشرح رسالة
ابن أبي زيد القيرواني لأبي الحسن المالكي 1 / 455، وانظر تفسير القرطبي 4
/ 146 - 149.
(2) حديث أنس: قيل: يا رسول الله، ما السبيل؟ أخرجه الحاكم (1 / 442 - ط
دائرة المعارف العثمانية) والبيهقي (4 / 330 - ط دائرة المعارف العثمانية)
، أعله البيهقي بالإرسال. ونقل ابن حجر في الفتح (3 / 379 - ط السلفية) عن
ابن المنذر أنه قال: " لا يثبت الحديث الذي فيه ذكر الزاد والراحلة ".
(3) بدائع الصنائع 2 / 122.
(17/29)
وُجُوبِ الْحَجِّ، وَفِي هَذَا يَقُول
ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِبَذْل غَيْرِهِ لَهُ، وَلاَ
يَصِيرُ مُسْتَطِيعًا بِذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَاذِل قَرِيبًا أَوْ
أَجْنَبِيًّا، وَسَوَاءٌ بَذَل لَهُ الرُّكُوبَ وَالزَّادَ، أَوْ بَذَل
لَهُ مَالاً " (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ
الْحَجُّ بِإِبَاحَةِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ إِذَا كَانَتِ الإِْبَاحَةُ
مِمَّنْ لاَ مِنَّةَ لَهُ عَلَى الْمُبَاحِ لَهُ، كَالْوَالِدِ إِذَا بَذَل
الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ لاِبْنِهِ (2) .
شُرُوطُ الزَّادِ وَآلَةِ الرُّكُوبِ:
16 - ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ شُرُوطًا فِي الزَّادِ وَآلَةِ الرُّكُوبِ
الْمَطْلُوبَيْنِ لاِسْتِطَاعَةِ الْحَجِّ، هِيَ تَفْسِيرٌ وَبَيَانٌ
لِهَذَا الشَّرْطِ، نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:
أ - أَنَّ الزَّادَ الَّذِي يُشْتَرَطُ مِلْكُهُ هُوَ مَا يَحْتَاجُ
إِلَيْهِ فِي ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ مِنْ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَكِسْوَةٍ
بِنَفَقَةٍ وَسَطٍ لاَ إِسْرَافَ فِيهَا وَلاَ تَقْتِيرَ، فَلَوْ كَانَ
يَسْتَطِيعُ زَادًا أَدْنَى مِنَ الْوَسَطِ الَّذِي اعْتَادَهُ لاَ
يُعْتَبَرُ مُسْتَطِيعًا لِلْحَجِّ، وَيَتَضَمَّنُ اشْتِرَاطُ الزَّادِ
أَيْضًا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ آلاَتٍ لِلطَّعَامِ وَالزَّادِ مِمَّا
لاَ يَسْتَغْنِي عَنْهُ (3) .
__________
(1) فتح القدير 2 / 21، ومختصر خليل والشرح الكبير 2 / 7 - 8، والتاج
والإكليل ومواهب الجليل 2 / 505، والمغني 3 / 220.
(2) نهاية المحتاج 2 / 176.
(3) فتح القدير 2 / 126، ونهاية المحتاج 2 / 375، والمغني 3 / 221 - 222.
(17/30)
وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ الْقُدْرَةَ
عَلَى الْوُصُول إِلَى مَكَّةَ، وَلَوْ بِلاَ زَادٍ وَرَاحِلَةٍ لِذِي
صَنْعَةٍ تَقُومُ بِهِ، وَلاَ تُزْرِي بِمِثْلِهِ، أَمَّا الإِْيَابُ فَلاَ
يُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَى نَفَقَتِهِ عِنْدَهُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ
أَنَّهُ إِنْ بَقِيَ هُنَاكَ ضَاعَ وَخَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ شَكًّا،
فَيُرَاعَى مَا يُبَلِّغُهُ وَيَرْجِعُ بِهِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ
لِمَكَّةَ، مِمَّا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعِيشَ بِهِ بِمَا لاَ يُزْرِي بِهِ
مِنَ الْحِرَفِ (1) .
ب - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الرَّاحِلَةِ أَنْ
تَكُونَ مِمَّا يَصْلُحُ لِمِثْلِهِ إِمَّا بِشِرَاءٍ أَوْ بِكِرَاءٍ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ " لاَ يُعْتَبَرُ إِلاَّ مَا يُوَصِّلُهُ فَقَطْ
"، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ فَادِحَةٌ فَيُخَفَّفُ عَنْهُ
بِمَا تَزُول بِهِ الْمَشَقَّةُ الْفَادِحَةُ (3) . وَهَذَا الْمَعْنَى
مَلْحُوظٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ فِيمَا يَصْلُحُ لِمِثْلِهِ إِذَا كَانَ
يَشُقُّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً فَيُخَفَّفُ عَنْهُ بِمَا
يُزِيلُهَا.
__________
(1) الشرح الكبير وحاشيته 2 / 8 ومواهب الجليل 2 / 510، وشرح الرسالة مع
حاشية العدوي 1 / 456.
(2) إن تقدم الحضارة ألغي استعمال الدواب في الأسفار وأحل مكانها السيارات
والطائرات والبواخر، وبناء على هذه القاعدة التي قرروها نقول: من ملك نفقة
وسيلة للسفر لا تناسبه لا يكون أيضا مستطيعا للحج حتى يتوفر لديه أجر وسيلة
سفر تناسب أمثاله، بناء على مذهب الجمهور (اللجنة)
(3) شرح الرسالة 1 / 456.
(17/30)
ج - إِنْ مَلَكَ الزَّادَ وَوَسِيلَةَ
النَّقْل يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلاً عَمَّا تَمَسُّ إِلَيْهِ
الْحَاجَةُ الأَْصْلِيَّةُ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ، عِنْدَ
الْجُمْهُورِ (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَاعْتَبَرُوا مَا يُوَصِّلُهُ فَقَطْ، إِلاَّ أَنْ
يَخْشَى الضَّيَاعَ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى
الْفَوْرِ عِنْدَهُمْ (2) .
وَفِي هَذَا تَفْصِيلٌ نُوَضِّحُهُ فِي الأُْمُورِ الَّتِي تَشْمَلُهَا
الْحَاجَةُ الأَْصْلِيَّةُ.
خِصَال الْحَاجَةِ الأَْصْلِيَّةِ:
17 - خِصَال الْحَاجَةِ الأَْصْلِيَّةِ ثَلاَثٌ:
أ - نَفَقَةُ عِيَالِهِ وَمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ مُدَّةَ ذَهَابِهِ
وَإِيَابِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ كَمَا
نُوَضِّحُ فِي الْخَصْلَةِ التَّالِيَةِ) ، لأَِنَّ النَّفَقَةَ حَقٌّ
لِلآْدَمِيِّينَ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الشَّرْعِ.
لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ
يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ (3) .
__________
(1) فتح القدير 2 / 126، والمسلك المتقسط ص 29، والمجموع 7 / 53 - 57،
ونهاية المحتاج 2 / 378، ومغني المحتاج 1 / 464 - 465، والمغني 3 / 222،
والفروع 3 / 230.
(2) شرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 456، والشرح الكبير 2 / 7، ومواهب
الجليل 2 / 500 - 502.
(3) حديث: " كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت " أخرجه أبو داود (2 / 321 -
تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 415 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه
ووافقه الذهبي.
(17/31)
ب - مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ هُوَ
وَأَهْلُهُ مِنْ مَسْكَنٍ، وَمِمَّا لاَ بُدَّ لِمِثْلِهِ كَالْخَادِمِ
وَأَثَاثِ الْبَيْتِ وَثِيَابِهِ بِقَدْرِ الاِعْتِدَال الْمُنَاسِبِ لَهُ
فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ
أَيْضًا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ:
يَبِيعُ فِي زَادِهِ دَارَهُ الَّتِي تُبَاعُ عَلَى الْمُفْلِسِ
وَغَيْرَهَا مِمَّا يُبَاعُ عَلَى الْمُفْلِسِ مِنْ مَاشِيَةٍ وَثِيَابٍ
وَلَوْ لِجُمُعَتِهِ إِنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهَا، وَخَادِمَهُ، وَكُتُبَ
الْعِلْمِ وَلَوْ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا.
وَإِنْ كَانَ يَتْرُكُ وَلَدَهُ وَزَوْجَتَهُ لاَ مَال لَهُمْ، فَلاَ
يُرَاعِي مَا يَؤُول إِلَيْهِ أَمْرُهُ وَأَمْرُ أَهْلِهِ وَأَوْلاَدِهِ
فِي الْمُسْتَقْبَل، وَإِنْ كَانَ يَصِيرُ فَقِيرًا لاَ يَمْلِكُ شَيْئًا،
أَوْ يَتْرُكُ أَوْلاَدَهُ وَنَحْوَهُمْ لِلصَّدَقَةِ، إِنْ لَمْ يَخْشَ
هَلاَكًا فِيمَا ذُكِرَ أَوْ شَدِيدَ أَذًى " (1) .
وَهَذَا لأَِنَّ الْحَجَّ عِنْدَهُمْ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ كَمَا
قَدَّمْنَا.
ج - قَضَاءُ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ، لأَِنَّ الدَّيْنَ مِنْ حُقُوقِ
الْعِبَادِ، وَهُوَ مِنْ حَوَائِجِهِ الأَْصْلِيَّةِ، فَهُوَ آكَدُ،
وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ لآِدَمِيٍّ أَوْ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى
كَزَكَاةٍ فِي ذِمَّتِهِ أَوْ كَفَّارَاتٍ وَنَحْوِهَا (2) .
__________
(1) شرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 456، وانظر المراجع المالكية الأخرى.
(2) انظر هذه المسائل في الهداية وشرحها فتح القدير 2 / 127، والبدائع 2 /
78 والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 7 وفيه: " لا يجب الحج استطاعة بدين
ولو من ولده إذا لم يرج الوفاء بأن لا يكون عنده ما يقضيه به ولا جهة له
يوفي منها، وإلا وجب عليه الحج به "، وحاشية الدسوقي ص 10 وفيها التصريح
بتقدم الصدقة الواجبة على الحج ولو كان واجبا. انظر شرح المنهاج 2 / 87،
وشرح الغزي 1 / 527، والفروع 3 / 230، والمغني 3 / 222.
(17/31)
فَإِذَا مَلَكَ الزَّادَ وَالْحَمُولَةَ
زَائِدًا عَمَّا تَقَدَّمَ - عَلَى التَّفْصِيل الْمَذْكُورِ - فَقَدْ
تَحَقَّقَ فِيهِ الشَّرْطُ، وَإِلاَّ بِأَنِ اخْتَل شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ
لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ (1) .
18 - وَيَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فُرُوعٌ نَذْكُرُ مِنْهَا:
أ - مَنْ كَانَ لَهُ مَسْكَنٌ وَاسِعٌ يَفْضُل عَنْ حَاجَتِهِ، بِحَيْثُ
لَوْ بَاعَ الْجُزْءَ الْفَاضِل عَنْ حَاجَتِهِ مِنَ الدَّارِ الْوَاسِعَةِ
لَوَفَّى ثَمَنُهُ لِلْحَجِّ يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَيْعُ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَلاَ يَجِبُ
عَلَيْهِ بَيْعُ الْجُزْءِ الْفَاضِل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
ب - كَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَسْكَنُهُ نَفِيسًا يَفُوقُ عَلَى مِثْلِهِ لَوْ
أَبْدَل دَارًا أَدْنَى لَوَفَّى تَكَالِيفَ الْحَجِّ يَجِبُ عَلَيْهِ
عِنْدَ الثَّلاَثَةِ، وَلاَ يَجِبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) .
ج - مَنْ مَلَكَ بِضَاعَةً لِتِجَارَتِهِ هَل يَلْزَمُهُ صَرْفُ مَال
تِجَارَتِهِ لِلْحَجِّ؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ
لِوُجُوبِ الْحَجِّ بَقَاءُ رَأْسِ مَالٍ لِحِرْفَتِهِ زَائِدًا عَلَى
نَفَقَةِ الْحَجِّ، وَرَأْسُ الْمَال يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) تنوير الأبصار 2 / 196، وشرح المنهاج للمحلى الصفحة السابقة، والمغني 3
/ 223 والمراجع المالكية السابقة.
(3) المراجع السابقة.
(17/32)
النَّاسِ، وَالْمُرَادُ مَا يُمْكِنُهُ
الاِكْتِسَابُ بِهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ لاَ
أَكْثَرُ، لأَِنَّهُ لاَ نِهَايَةَ لَهُ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ: الأَْصَحُّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ صَرْفُ
مَال تِجَارَتِهِ لِنَفَقَةِ الْحَجِّ وَلَوْ لَمْ يَبْقَ لَهُ رَأْسُ
مَالٍ لِتِجَارَتِهِ (2) . وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا سَبَقَ
نَقْل كَلاَمِهِمْ.
د - إِذَا مَلَكَ نُقُودًا لِشِرَاءِ دَارٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا وَجَبَ
عَلَيْهِ الْحَجُّ إِنْ حَصَلَتْ لَهُ النُّقُودُ وَقْتَ خُرُوجِ النَّاسِ
لِلْحَجِّ، وَإِنْ جَعَلَهَا فِي غَيْرِهِ أَثِمَ. أَمَّا قَبْل خُرُوجِ
النَّاسِ لِلْحَجِّ فَيَشْتَرِي بِالْمَال مَا شَاءَ، لأَِنَّهُ مَلَكَهُ
قَبْل الْوُجُوبِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ ابْنُ عَابِدِينَ (3) .
هـ - مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَلَيْسَ
عِنْدَهُ مِنَ الْمَال إِلاَّ مَا يَكْفِي لأَِحَدِهِمَا، فَفِيهَا
التَّفْصِيل الآْتِي:
1 - أَنْ يَكُونَ فِي حَالَةِ اعْتِدَال الشَّهْوَةِ، فَهَذَا يَجِبُ
عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْحَجِّ عَلَى الزَّوَاجِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، إِذَا
مَلَكَ النَّفَقَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، أَمَّا إِنْ مَلَكَهَا فِي
غَيْرِهَا فَلَهُ صَرْفُهَا حَيْثُ شَاءَ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ
__________
(1) رد المحتار 2 / 197، والمغني: المواضع السابق.
(2) شرح المنهاج بحاشيتي قليوبي وعميرة 2 / 87، وحاشية الباجوري على شرح
الغزي 1 / 527.
(3) حاشية رد المحتار على الدر المختار 2 / 197.
(17/32)
الْحَجُّ وَيَسْتَقِرُّ فِي ذِمَّتِهِ،
وَلَهُ صَرْفُ الْمَال إِلَى النِّكَاحِ وَهُوَ أَفْضَل.
2 - أَنْ يَكُونَ فِي حَالَةِ تَوَقَانِ نَفْسِهِ وَالْخَوْفِ مِنَ
الزِّنَى، فَهَذَا يَكُونُ الزَّوَاجُ فِي حَقِّهِ مُقَدَّمًا عَلَى
الْحَجِّ اتِّفَاقًا (1) .
وَ - قَال ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ: تَنْبِيهٌ: لَيْسَ مِنَ
الْحَوَائِجِ الأَْصْلِيَّةِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ الْمُحْدَثَةُ
لِرَسْمِ الْهَدِيَّةِ لِلأَْقَارِبِ وَالأَْصْحَابِ، فَلاَ يُعْذَرُ
بِتَرْكِ الْحَجِّ لِعَجْزِهِ عَنْ ذَلِكَ. . . " (2) .
وَهَذَا لاَ يُتَصَوَّرُ فِيهِ خِلاَفٌ بَعْدَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ
يَدُل عَلَى إِثْمِ مَنْ أَخَّرَ الْحَجَّ بِسَبَبِ هَذِهِ التَّقَالِيدِ
الْفَاسِدَةِ.
الْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ لِلاِسْتِطَاعَةِ: صِحَّةُ الْبَدَنِ:
19 - إِنَّ سَلاَمَةَ الْبَدَنِ مِنَ الأَْمْرَاضِ وَالْعَاهَاتِ الَّتِي
تَعُوقُ عَنْ الْحَجِّ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ.
فَلَوْ وُجِدَتْ سَائِرُ شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ فِي شَخْصٍ وَهُوَ
مَرِيضٌ زَمِنٌ أَوْ مُصَابٌ بِعَاهَةٍ دَائِمَةٍ، أَوْ مُقْعَدٌ أَوْ
شَيْخٌ كَبِيرٌ لاَ يَثْبُتُ عَلَى آلَةِ
__________
(1)) رد المحتار 2 / 197، والمجموع 7 / 55، وحاشية الدسوقي 2 / 7 والفروع 3
/ 231، وفي رد المحتار مزيد تفصيل فيما إذا تحقق الوقوع في الزنى أو خافه،
فإنه يقدم الزواج على الحج في الأول لا في الثاني. لكن ينتقد ذلك بما ذكروه
أن وجوب الفور ظني لا قطعي.
(2) ابن عابدين 2 / 194.
(17/33)
الرُّكُوبِ بِنَفْسِهِ فَلاَ يَجِبُ
عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ بِنَفْسِهِ فَرِيضَةً اتِّفَاقًا.
لَكِنِ اخْتَلَفُوا هَل صِحَّةُ الْبَدَنِ شَرْطٌ لأَِصْل الْوُجُوبِ، أَوْ
هِيَ شَرْطٌ لِلأَْدَاءِ بِالنَّفْسِ: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ صِحَّةَ
الْبَدَنِ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْوُجُوبِ، بَل هِيَ شَرْطٌ لِلِزُومِ
الأَْدَاءِ بِالنَّفْسِ، فَمَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ يَجِبُ عَلَيْهِ
الْحَجُّ، بِإِرْسَال مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ (1) .
وَقَال الإِْمَامَانِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: إِنَّهَا شَرْطٌ
لِلْوُجُوبِ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ لاَ يَجِبُ عَلَى فَاقِدِ صِحَّةِ
الْبَدَنِ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ وَلاَ بِإِنَابَةِ غَيْرِهِ، وَلاَ
الإِْيصَاءُ بِالْحَجِّ عَنْهُ فِي الْمَرَضِ (2) .
اسْتَدَل الأَْوَّلُونَ: بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَسَّرَ الاِسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَهَذَا لَهُ زَادٌ
وَرَاحِلَةٌ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ.
وَاسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ بِنَفْسِهِ
فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ.
20 - وَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِل، نَذْكُرُ مِنْهَا:
أ - مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْحَجِّ بِمُسَاعَدَةِ غَيْرِهِ
كَالأَْعْمَى، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ إِذَا تَيَسَّرَ لَهُ
مَنْ يُعِينُهُ، تَبَرُّعًا أَوْ بِأُجْرَةٍ، إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 385، وانظر الكافي لابن قدامة 1 / 214.
(2) فتح القدير 2 / 125، وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 456، ومختصر خليل
ومواهب الجليل 2 / 498 و 499 والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 6.
(17/33)
أُجْرَتِهِ، إِذَا كَانَتْ أُجْرَةُ
الْمِثْل، وَلاَ يَكْفِيهِ حَجُّ الْغَيْرِ عَنْهُ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ
يَمُوتَ.
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْحَجَّ بِنَفْسِهِ بِمُسَاعَدَةِ غَيْرِهِ وَجَبَ
عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِل غَيْرَهُ، لِيَحُجَّ عَنْهُ.
وَيَجِبُ عَلَى الْمَرِيضِ أَنْ يُوصِيَ بِالْحَجِّ عَنْهُ بَعْدَ
مَوْتِهِ.
هَذَا عَلَى مَذْهَبِ الصَّاحِبَيْنِ وَالْجُمْهُورِ.
أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ،
لأَِنَّ الْحَجَّ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ وَافَقُوا الْجُمْهُورَ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ، لَكِنْ عَلَى أَسَاسِ مَذْهَبِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ
الرُّكُوبِ السَّابِقَةِ (فِقْرَةُ 15) وَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْمَشْيَ
إِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ.
ب - إِذَا وُجِدَتْ شُرُوطُ الْحَجِّ مَعَ صِحَّةِ الْبَدَنِ فَتَأَخَّرَ
حَتَّى أُصِيبَ بِعَاهَةٍ تَمْنَعُهُ مِنَ الْحَجِّ وَلاَ يُرْجَى
زَوَالُهَا فَالْحَجُّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ
أَنْ يُرْسِل شَخْصًا يَحُجُّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. أَمَّا
إِذَا أُصِيبَ بِعَاهَةٍ يُرْجَى زَوَالُهَا فَلاَ تَجُوزُ الإِْنَابَةُ،
بَل يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ عِنْدَ زَوَالِهَا عَنْهُ (1) .
الْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمْنُ الطَّرِيقِ:
21 - أَمْنُ الطَّرِيقِ يَشْمَل الأَْمْنَ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَال،
وَذَلِكَ وَقْتَ خُرُوجِ النَّاسِ لِلْحَجِّ، لأَِنَّ الاِسْتِطَاعَةَ لاَ
تَثْبُتُ دُونَهُ.
__________
(1) المراجع السابقة.
(17/34)
وَوَقَعَ الْخِلاَفُ فِي أَمْنِ الطَّرِيقِ
كَمَا فِي صِحَّةِ الْبَدَنِ:
فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةُ أَبِي شُجَاعٍ
عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ شَرْطُ
الْوُجُوبِ. لأَِنَّ الاِسْتِطَاعَةَ لاَ تَتَحَقَّقُ بِدُونِ أَمْنِ
الطَّرِيقِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، وَهُوَ
الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَرَجَّحَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ أَمْنَ الطَّرِيقِ شَرْطٌ
لِلأَْدَاءِ بِالنَّفْسِ لاَ لأَِصْل الْوُجُوبِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِنَحْوِ أَدِلَّتِهِمْ فِي إِيجَابِ الْحَجِّ عَلَى مَنْ
فَقَدَ شَرْطَ صِحَّةِ الْبَدَنِ (1) .
وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ الأَْخِيرِ مَنْ اسْتَوْفَى شُرُوطَ الْحَجِّ
عِنْدَ خَوْفِ الطَّرِيقِ فَمَاتَ قَبْل أَمْنِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ
يُوصِيَ بِالْحَجِّ.
أَمَّا إِذَا مَاتَ بَعْدَ أَمْنِ الطَّرِيقِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ
الْوَصِيَّةُ بِالْحَجِّ عَنْهُ اتِّفَاقًا (2) .
الْخَصْلَةُ الرَّابِعَةُ: إِمْكَانُ السَّيْرِ:
22 - إِمْكَانُ السَّيْرِ أَنْ تَكْمُل شَرَائِطُ الْحَجِّ فِي
__________
(1) انظر الهداية وشرحها 2 / 126 و 127 وبدائع الصنائع 2 / 123 وشرح
المنهاج للمحلى 2 / 87 - 88، ومتن أبي شجاع بشرح الغزي وحاشية الباجوري 1 /
527 وانظر الشرح الكبير 2 / 6، ومواهب الجليل 2 / 491، وفيه تفاصيل كثيرة.
(2) فتح القدير الموضع السابق، ورد المحتار 2 / 197، والمغني 3 / 219.
(17/34)
الْمُكَلَّفِ وَالْوَقْتُ مُتَّسِعٌ
يُمْكِنُهُ الذَّهَابُ لِلْحَجِّ.
وَهَذَا شَرْطٌ لأَِصْل الْوُجُوبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَشَرْطٌ لِلأَْدَاءِ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَعَبَّرَ الْحَنَفِيَّةُ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ بِالْوَقْتِ. وَجَعَلَهُ
بَعْضُهُمْ شَرْطًا مُفْرَدًا مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْحَجِّ.
وَفَسَّرُوا هَذَا الشَّرْطَ بِأَنَّهُ أَشْهُرُ الْحَجِّ، أَوْ وَقْتُ
خُرُوجِ أَهْل بَلَدِهِ إِنْ كَانُوا يَخْرُجُونَ قَبْلَهَا، فَلاَ يَجِبُ
الْحَجُّ إِلاَّ عَلَى الْقَادِرِ فِيهَا، أَوْ فِي وَقْتِ خُرُوجِهِمْ.
وَفَسَّرَ غَيْرُهُمْ إِمْكَانَ السَّيْرِ بِوَقْتِ الْخُرُوجِ لِلْحَجِّ
(2) .
23 - وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ إِمْكَانَ السَّيْرِ شَرْطٌ
لِوُجُوبِ الْحَجِّ بِالآْتِي:
أ - أَنَّ إِمْكَانَ السَّيْرِ مِنْ لَوَاحِقِ الاِسْتِطَاعَةِ وَهِيَ
شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ (3) .
ب - أَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ دُخُول وَقْتِ الْوُجُوبِ، كَدُخُول وَقْتِ
الصَّلاَةِ، فَإِنَّهَا لاَ تَجِبُ قَبْل وَقْتِهَا، إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ
يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْبُلْدَانِ، فَيُعْتَبَرُ وَقْتُ الْوُجُوبِ فِي
حَقِّ كُل شَخْصٍ عِنْدَ خُرُوجِ
__________
(1) وفي مذهب الشافعية قولان ذكرهما المحلي في شرح المنهاج، والراجح ما
ذكرناه كما في المجموع 7 / 89 وحاشية الباجوري 1 / 528، وانظر فتح القدير 2
/ 120 ورد المحتار 2 / 200، ومواهب الجليل 2 / 491، وذكر ثلاثة أقوال صحح
منهما ما ذكرناه والمغني 3 / 218 - 219.
(2) رحمة الله السندي في لباب المناسك ص 33 مع شرحه المسلك المتقسط.
(3) مواهب الجليل 2 / 491.
(17/35)
أَهْل بَلَدِهِ، فَالتَّقْيِيدُ بِأَشْهُرِ
الْحَجِّ فِي الآْيَةِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِِلَى أَهْل أُمِّ
الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا، وَلِلإِْشْعَارِ بِأَنَّ الأَْفْضَل أَنْ لاَ
يَقَعَ الإِْحْرَامُ فِيمَا قَبْلَهَا عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدِ
الْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَنَّ الإِْحْرَامَ شَرْطٌ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ
مِنْ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الإِْحْرَامُ قَبْل الأَْشْهُرِ لِكَوْنِهِ
رُكْنًا (1) ".
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ إِمْكَانَ السَّيْرِ شَرْطٌ
لِلُزُومِ أَدَاءِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الأَْدَاءُ
دُونَ الْقَضَاءِ، كَالْمَرَضِ الْمَرْجُوِّ بُرْؤُهُ، وَعَدَمُ الزَّادِ
وَالرَّاحِلَةِ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْجَمِيعُ (2) .
الْقِسْمُ الثَّانِي: الشُّرُوطُ الْخَاصَّةُ بِالنِّسَاءِ:
24 - مَا يَخُصُّ النِّسَاءَ مِنْ شُرُوطِ الاِسْتِطَاعَةِ شَرْطَانِ لاَ
بُدَّ مِنْهُمَا لِكَيْ يَجِبَ الْحَجُّ عَلَى الْمَرْأَةِ يُضَافَانِ
إِلَى خِصَال شَرْطِ الاِسْتِطَاعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
هَذَانِ الشَّرْطَانِ هُمَا: الزَّوْجُ أَوِ الْمَحْرَمُ، وَعَدَمُ
الْعِدَّةِ.
أَوَّلاً - الزَّوْجُ أَوِ الْمَحْرَمُ الأَْمِينُ:
25 - يُشْتَرَطُ أَنْ يَصْحَبَ الْمَرْأَةَ فِي سَفَرِ الْحَجِّ زَوْجُهَا
أَوْ مَحْرَمٌ مِنْهَا، إِذَا كَانَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
مَكَّةَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، وَهِيَ مَسِيرَةُ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ،
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) .
__________
(1) المسلك المتقسط ص 34.
(2) الفروع 3 / 233.
(3) الهداية وفتح القدير 2 / 128، والكافي 1 / 519، والمغني 3 / 236 - 237.
(17/35)
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ
تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ ثَلاَثًا إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ (1) .
وَتَوَسَّعَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَسَوَّغُوا الاِسْتِبْدَال
بِالْمَحْرَمِ:
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا إِنْ وَجَدَتْ نِسْوَةً ثِقَاتٍ:
اثْنَتَيْنِ فَأَكْثَرَ تَأْمَنُ مَعَهُنَّ عَلَى نَفْسِهَا كَفَى ذَلِكَ
بَدَلاً عَنِ الْمَحْرَمِ أَوِ الزَّوْجِ بِالنِّسْبَةِ لِوُجُوبِ حَجَّةِ
الإِْسْلاَمِ عَلَى الْمَرْأَةِ. وَعِنْدَهُمُ " الأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ
يُشْتَرَطُ وُجُودُ مَحْرَمٍ لإِِحْدَاهُنَّ، لأَِنَّ الأَْطْمَاعَ
تَنْقَطِعُ بِجَمَاعَتِهِنَّ. فَإِنْ وَجَدَتِ امْرَأَةً وَاحِدَةً ثِقَةً
فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ، لَكِنْ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَحُجَّ
مَعَهَا حَجَّةَ الْفَرِيضَةِ أَوِ النَّذْرِ، بَل يَجُوزُ لَهَا أَنْ
تَخْرُجَ وَحْدَهَا لأَِدَاءِ الْفَرْضِ أَوِ النَّذْرِ إِذَا أَمِنَتْ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ تَوَسُّعًا فَقَالُوا: الْمَرْأَةُ إِذَا لَمْ
تَجِدِ الْمَحْرَمَ أَوِ الزَّوْجَ وَلَوْ بِأُجْرَةٍ تُسَافِرُ لِحَجِّ
الْفَرْضِ أَوِ النَّذْرِ مَعَ الرُّفْقَةِ الْمَأْمُونَةِ، بِشَرْطِ أَنْ
تَكُونَ الْمَرْأَةُ بِنَفْسِهَا هِيَ مَأْمُونَةً أَيْضًا.
وَالرُّفْقَةُ الْمَأْمُونَةُ جَمَاعَةٌ مَأْمُونَةٌ مِنَ النِّسَاءِ، أَوِ
الرِّجَال الصَّالِحِينَ. قَال الدُّسُوقِيُّ: وَأَكْثَرُ مَا نَقَلَهُ
أَصْحَابُنَا اشْتِرَاطُ النِّسَاءِ ".
أَمَّا حَجُّ النَّفْل فَلاَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ السَّفَرُ لَهُ إِلاَّ
__________
(1) حديث: " لا تسافر المرأة ثلاثا إلا ومعها ذو محرم " أخرجه البخاري
(الفتح 2 / 566 - ط السلفية) . ومسلم (2 / 975 - ط الحلبي) .
(17/36)
مَعَ الزَّوْجِ أَوِ الْمَحْرَمِ فَقَطِ
اتِّفَاقًا، وَلاَ يَجُوزُ لَهَا السَّفَرُ بِغَيْرِهِمَا، بَل تَأْثَمُ
بِهِ (1) .
نَوْعُ الاِشْتِرَاطِ لِلْمَحْرَمِ:
26 - اخْتَلَفُوا فِي الزَّوْجِ أَوِ الْمَحْرَمِ هَل هُوَ شَرْطُ وُجُوبٍ
أَوْ شَرْطٌ لِلُزُومِ الأَْدَاءِ بِالنَّفْسِ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ
رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْمَحْرَمَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ
الْحَجِّ، وَيَحُل مَحَلَّهُ عِنْدَ فَقْدِهِ الرُّفْقَةُ الْمَأْمُونَةُ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي
ذَكَرْنَاهُ.
وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الزَّوْجَ أَوِ الْمَحْرَمَ
شَرْطٌ لِلُزُومِ الأَْدَاءِ بِالنَّفْسِ (2) .
وَأَدِلَّةُ الْفَرِيقَيْنِ هِيَ مَا سَبَقَ الاِسْتِدْلاَل بِهِ فِي
صِحَّةِ الْبَدَنِ وَأَمْنِ الطَّرِيقِ (ف 19 وَ 21) .
الْمَحْرَمُ الْمَشْرُوطُ لِلسَّفَرِ
27 - الْمَحْرَمُ الأَْمِينُ الْمَشْرُوطُ فِي اسْتِطَاعَةِ الْمَرْأَةِ
لِلْحَجِّ هُوَ كُل رَجُلٍ مَأْمُونٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ يَحْرُمُ عَلَيْهِ
بِالتَّأْبِيدِ التَّزَوُّجُ مِنْهَا سَوَاءٌ كَانَ التَّحْرِيمُ
بِالْقَرَابَةِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 9 - 10 والعدوي 1 / 455، والمنهاج للنووي وشرحه 2 /
89، ومغني المحتاج 1 / 467، وحاشية القليوبي على شرح المنهاج الصفحة
السابقة.
(2) الشرح الكبير وحاشيته 2 / 9، وشرح الرسالة وحاشية العدوي وسائر المراجع
السابقة والهداية وشرحها 2 / 130، ولباب المناسك وشرحه ص 37 والفروع 3 /
234 - 236.
(17/36)
أَوِ الرَّضَاعَةِ أَوِ الصِّهْرِيَّةِ. .
. وَنَحْوِ ذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي الزَّوْجِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ بِزِيَادَةِ شَرْطِ الإِْسْلاَمِ فِي الْمَحْرَمِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِذَلِكَ فِي حَقِيقَةِ الْمَحْرَمِ لَكِنْ لاَ
يُشْتَرَطُ فِي الْمَحْرَمِ الْبُلُوغُ بَل التَّمْيِيزُ وَالْكِفَايَةُ
(2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَكْفِي الْمَحْرَمُ الذَّكَرُ، وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ ثِقَةً فِيمَا يَظْهَرُ، لأَِنَّ الْوَازِعَ الطَّبِيعِيَّ أَقْوَى
مِنَ الشَّرْعِيِّ، إِذَا كَانَ لَهُ غَيْرَةٌ تَمْنَعُهُ أَنْ يَرْضَى
بِالزِّنَى (3) ".
فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْأَلَةِ:
28 - أ - يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَكُونَ
قَادِرَةً عَلَى نَفَقَةِ نَفْسِهَا وَنَفَقَةِ الْمَحْرَمِ إِنْ طَلَبَ
مِنْهَا النَّفَقَةَ، لأَِنَّهُ يَسْتَحِقُّهَا عَلَيْهَا عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ.
وَكَذَلِكَ عَبَّرَ بِالنَّفَقَةِ ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
وَعَبَّرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ مُفْلِحٍ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ بِالأُْجْرَةِ. وَالْمُرَادُ أُجْرَةُ الْمِثْل (4) .
__________
(1) المسلك المتقسط ص 37، والمغني 3 / 239، والفروع 3 / 239 - 240.
(2) مواهب الجليل 2 / 522 - 523 و 524 وفيها التصريح بما ذكرنا، والدسوقي 2
/ 9.
(3) نهاية المحتاج 2 / 382 وشرح المنهاج 2 / 89، ومغني المحتاج 1 / 467.
(4) المسلك المتقسط ص 38 والدر المختار مع حاشيته رد المحتار 2 / 199،
والمغني 3 / 240، وشرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 455، والشرح الكبير
وحاشيته 2 / 9، ومواهب الجليل 2 / 522 والفروع 3 / 240.
(17/37)
وَلَوْ امْتَنَعَ الْمَحْرَمُ عَنِ
الْخُرُوجِ إِلاَّ بِأُجْرَةٍ لَزِمَتْهَا إِنْ قَدَرَتْ عَلَيْهَا،
وَحَرُمَ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ مَعَ الرُّفْقَةِ الْمَأْمُونَةِ وَهَذَا
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَهِيَ مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ
فِي صُحْبَةِ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ أَوْ رُفْقَةٍ مَأْمُونَةٍ (1) .
ب - الزَّوْجُ إِذَا حَجَّ مَعَ امْرَأَتِهِ فَلَهَا عَلَيْهِ النَّفَقَةُ،
نَفَقَةُ الْحَضَرِ لاَ السَّفَرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا
أَجْرًا مُقَابِل الْخُرُوجِ مَعَهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ
ظَاهِرُ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُمْ خَصُّوا الْمَحْرَمَ بِأَخْذِ
الأُْجْرَةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لَهُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ إِذَا
كَانَتْ أُجْرَةَ الْمِثْل (2) .
ج - إِذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنَ
الذَّهَابِ مَعَهُ لِحَجِّ الْفَرْضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ
النَّفْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ الْحَجُّ إِلاَّ بِإِذْنِ
الزَّوْجِ فَرْضًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ " لأَِنَّ فِي ذَهَابِهَا تَفْوِيتَ
حَقِّ الزَّوْجِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ، لأَِنَّهُ فَرْضٌ بِغَيْرِ
وَقْتٍ إِلاَّ فِي الْعُمُرِ كُلِّهِ، " فَإِنْ خَافَتِ الْعَجْزَ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 9، ومغني المحتاج 1 / 467.
(2) المسلك المتقسط ص 39 وشرح الرسالة والشرح الكبير وحاشيته ومواهب الجليل
المواضع السابقة، ونهاية المحتاج 2 / 383، ومغني المحتاج 1 / 468، والفروع
والمغني الموضعين السابقين.
(3) الهداية وفتح القدير 2 / 130، والتاج والإكليل 2 / 221، والمغني 3 /
240.
(17/37)
الْبَدَنِيَّ بِقَوْل طَبِيبَيْنِ
عَدْلَيْنِ لَمْ يُشْتَرَطْ إِذْنُ الزَّوْجِ (1) ".
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ لاَ يُقَدَّمُ عَلَى
فَرَائِضِ الْعَيْنِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ، فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُ
زَوْجَتِهِ مِنْهُ، لأَِنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَيْهَا.
ثَانِيًا - عَدَمُ الْعِدَّةِ:
29 - يُشْتَرَطُ أَلاَ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلاَقٍ أَوْ
وَفَاةٍ مُدَّةَ إِمْكَانِ السَّيْرِ لِلْحَجِّ، وَهُوَ شَرْطٌ مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَفَاصِيل فِيهِ (2) .
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى الْمُعْتَدَّاتِ
عَنِ الْخُرُوجِ مِنْ بُيُوتِهِنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ
تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ
بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (3) ، وَالْحَجُّ يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ فِي وَقْتٍ
آخَرَ، فَلاَ تُلْزَمُ بِأَدَائِهِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ.
وَقَدْ عَمَّمَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ لِكُل مُعْتَدَّةٍ سَوَاءٌ
كَانَتْ عِدَّتُهَا مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ أَوْ رَجْعِيٍّ، أَوْ وَفَاةٍ،
أَوْ فَسْخِ نِكَاحٍ. وَنَحْوِ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (4) .
__________
(1) الأم للإمام الشافعي 2 / 117 ونهاية المحتاج 2 / 383، ومغني المحتاج 1
/ 536 وفي الأم تفضيل جيد.
(2) وإن لم يذكره بعضهم في شروط الحج، لكن ذكروا ما يدل عليه في أبواب
العدة، كما نبه الحطاب 2 / 526 أو في الإحصار، كما في مغني المحتاج 1 / 536
وغيره.
(3) سورة الطلاق / 1.
(4) المسلك المتقسط ص 39، وانظر مواهب الجليل 2 / 526، وفيه تعميم المعتدات
بالنسبة للطلاق والوفاء.
(17/38)
وَفَصَّل الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: لاَ
تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ إِلَى الْحَجِّ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَلَهَا أَنْ
تَخْرُجَ إِلَيْهِ فِي عِدَّةِ الطَّلاَقِ الْمَبْتُوتِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ
لُزُومَ الْبَيْتِ فِيهِ وَاجِبٌ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَقُدِّمَ عَلَى
الْحَجِّ لأَِنَّهُ يَفُوتُ، وَالطَّلاَقُ الْمَبْتُوتُ لاَ يَجِبُ فِيهِ
ذَلِكَ. وَأَمَّا عِدَّةُ الرَّجْعِيَّةِ فَالْمَرْأَةُ فِيهِ
بِمَنْزِلَتِهَا فِي طَلَبِ النِّكَاحِ، لأَِنَّهَا زَوْجَةٌ (1) .
وَنَحْوُ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ
لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ لِلْعِدَّةِ،
وَذَلِكَ لأَِنَّهُ يَحِقُّ لِلزَّوْجِ عِنْدَهُمْ مَنْعُهَا عَنْ حَجَّةِ
الْفَرْضِ فِي مَذْهَبِهِمْ (2) .
30 - ثُمَّ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي عَدَمِ الْعِدَّةِ: هَل هُوَ
شَرْطُ وُجُوبٍ أَوْ شَرْطُ أَدَاءٍ، وَالأَْظْهَرُ أَنَّهُ شَرْطٌ
لِلُزُومِ الأَْدَاءِ بِالنَّفْسِ (3) . أَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَهُوَ
شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ.
فُرُوعٌ:
31 - لَوْ خَالَفَتِ الْمَرْأَةُ وَخَرَجَتْ لِلْحَجِّ فِي الْعِدَّةِ
صَحَّ حَجُّهَا، وَكَانَتْ آثِمَةً.
ب - إِنْ خَرَجَتْ مِنْ بَلَدِهَا لِلْحَجِّ وَطَرَأَتْ عَلَيْهَا
الْعِدَّةُ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ طَلَّقَهَا
زَوْجُهَا طَلاَقًا رَجْعِيًّا تَبِعَتْ زَوْجَهَا، رَجَعَ
__________
(1) المغني 3 / 240 - 241
(2) المغني 3 / 240 - 241
(3) على ما ذهب إليه ابن أمير حاج، كما في المسلك المتقسط، وأقره ابن
عابدين في رد المحتار 2 / 200.
(17/38)
أَوْ مَضَى، لَمْ تُفَارِقْهُ،
وَالأَْفْضَل أَنْ يُرَاجِعَهَا. وَإِنْ كَانَ بَائِنًا أَوْ مَاتَ عَنْهَا
فَإِنْ كَانَ إِلَى مَنْزِلِهَا أَقَل مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ وَإِلَى
مَكَّةَ مُدَّةُ سَفَرٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَعُودَ إِلَى مَنْزِلِهَا،
وَإِنْ كَانَتْ إِلَى مَكَّةَ أَقَل مَضَتْ إِلَى مَكَّةَ، وَإِنْ كَانَتْ
إِلَى الْجَانِبَيْنِ أَقَل مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ فَهِيَ بِالْخِيَارِ
إِنْ شَاءَتْ مَضَتْ، وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ إِلَى مَنْزِلِهَا سَوَاءٌ
كَانَتْ فِي الْمِصْرِ أَوْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ
أَوْ لاَ، إِلاَّ أَنَّ الرُّجُوعَ أَوْلَى. وَإِنْ كَانَ مِنَ
الْجَانِبَيْنِ مُدَّةُ سَفَرٍ فَإِنْ كَانَتْ فِي الْمِصْرِ فَلَيْسَ
لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ بِلاَ خِلاَفٍ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ
فِي مَفَازَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ لاَ تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا
فَلَهَا أَنْ تَمْضِيَ إِلَى مَوْضِعِ الأَْمْنِ ثُمَّ لاَ تَخْرُجَ مِنْهُ
حَتَّى تَمْضِيَ عِدَّتُهَا (1) .
وَنَحْوُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: قَال فِي الْمُغْنِي: وَإِذَا خَرَجَتْ
لِلْحَجِّ فَتُوُفِّيَ زَوْجُهَا وَهِيَ قَرِيبَةٌ رَجَعَتْ لِتَعْتَدَّ
فِي مَنْزِلِهَا، وَإِنْ تَبَاعَدَتْ مَضَتْ فِي سَفَرِهَا (2) ".
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا خَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا لِحَجِّ
الْفَرِيضَةِ فَمَاتَ أَوْ طَلَّقَهَا فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَوْ
نَحْوِهَا أَنَّهَا تَرْجِعُ إِذَا وَجَدَتْ ثِقَةً ذَا مَحْرَمٍ، أَوْ
نَاسًا لاَ بَأْسَ بِهِمْ. وَإِنْ بَعُدَتْ أَوْ كَانَتْ أَحْرَمَتْ أَوْ
أَحْرَمَتْ بَعْدَ الطَّلاَقِ أَوِ الْمَوْتِ، وَسَوَاءٌ أَحْرَمَتْ
__________
(1) إرشاد الساري إلى مناسك الملا علي القاري ص 39 - 40.
(2) المغني 3 / 241.
(17/39)
بِفَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ أَوْ لَمْ تَجِدْ
رُفْقَةً تَرْجِعُ مَعَهُمْ فَإِنَّهَا تَمْضِي. . . " (1) .
وَفِي حَجِّ التَّطَوُّعِ: تَرْجِعُ لِتُتِمَّ عِدَّتَهَا فِي بَيْتِهَا
إِنْ عَلِمَتْ أَنَّهَا تَصِل قَبْل انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، إِنْ وَجَدَتْ
ذَا مَحْرَمٍ أَوْ رُفْقَةً مَأْمُونَةً. وَإِلاَّ تَمَادَتْ مَعَ
رُفْقَتِهَا. . . "
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ
كَقَوْلِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ إِذْنِ الزَّوْجِ فِي خُرُوجِ الزَّوْجَةِ
لِلْحَجِّ حَتَّى لَوْ طَرَأَتِ الْعِدَّةُ بَعْدَ الإِْحْرَامِ:
إِذَا خَرَجَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَهُ مَنْعُهَا وَتَحْلِيلُهَا، وَإِنْ
خَرَجَتْ بِإِذْنِهِ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا وَلاَ تَحْلِيلُهَا (2) .
شُرُوطُ صِحَّةِ الْحَجِّ:
شُرُوطُ صِحَّةِ الْحَجِّ أُمُورٌ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا صِحَّةُ الْحَجِّ
وَلَيْسَتْ دَاخِلَةً فِيهِ. فَلَوِ اخْتَل شَيْءٌ مِنْهَا كَانَ الْحَجُّ
بَاطِلاً، وَهِيَ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: الإِْسْلاَمُ:
32 - يُشْتَرَطُ الإِْسْلاَمُ لأَِنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ أَهْلاً
__________
(1) مواهب الجليل 2 / 526.
(2) نهاية المحتاج 2 / 478. وفي حال طروء العدة بعد الإحرام تفصيل ينظر في
مصطلح: (إحصار فقرة 19) .
(17/39)
لِلْعِبَادَةِ وَلاَ تَصِحُّ مِنْهُ، فَلاَ
يَصِحُّ حَجُّ الْكَافِرِ أَصَالَةً وَلاَ نِيَابَةً، فَإِنْ حَجَّ أَوْ
حُجَّ عَنْهُ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ (1)
.
الشَّرْطُ الثَّانِي: الْعَقْل:
33 - يُشْتَرَطُ الْعَقْل لأَِنَّ الْمَجْنُونَ لَيْسَ أَهْلاً
لِلْعِبَادَةِ أَيْضًا وَلاَ تَصِحُّ مِنْهُ. فَلَوْ حَجَّ الْمَجْنُونُ
فَحَجُّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِذَا أَفَاقَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حَجَّةُ
الإِْسْلاَمِ. لَكِنْ يَصِحُّ أَنْ يَحُجَّ عَنِ الْمَجْنُونِ وَلِيُّهُ
وَيَقَعُ نَفْلاً.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْمِيقَاتُ الزَّمَانِيُّ:
34 - ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْحَجِّ زَمَانًا لاَ يُؤَدَّى فِي
غَيْرِهِ، فِي قَوْله تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (2) .
قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَجَمَاهِيرُ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ: هِيَ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ
وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ " (3) .
وَوَقَعَ الْخِلاَفُ فِي نَهَارِ يَوْمِ النَّحْرِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ: هُوَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ:
آخِرُ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَيْلَةُ النَّحْرِ، وَلَيْسَ نَهَارُ يَوْمِ
النَّحْرِ مِنْهَا.
__________
(1) الفقيه المالكي خليل في مختصره، أوائل الحج.
(2) سورة البقرة / 197.
(3) انظر تخريجه في المستدرك 2 / 176، وقال: " صحيح على شرطهما " ووافقه
الذهبي وانظر تفسير الطبري 4 / 120 - 121 وابن كثير 1 / 236.
(17/40)
وَوَسَّعَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا:
آخِرُ أَشْهُرِ الْحَجِّ نِهَايَةُ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ.
وَامْتِدَادُ الْوَقْتِ بَعْدَ لَيْلَةِ النَّحْرِ إِلَى آخِرِ ذِي
الْحِجَّةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى
جَوَازِ التَّحَلُّل مِنَ الإِْحْرَامِ وَكَرَاهَةِ الْعُمْرَةِ فَقَطْ (1)
.
فَلَوْ فَعَل شَيْئًا مِنْ أَعْمَال الْحَجِّ خَارِجَ وَقْتِ الْحَجِّ لاَ
يُجْزِيهِ، فَلَوْ صَامَ الْمُتَمَتِّعُ أَوِ الْقَارِنُ ثَلاَثَةَ
أَيَّامٍ قَبْل أَشْهُرِ الْحَجِّ لاَ يَجُوزُ، وَكَذَا السَّعْيُ بَيْنَ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَقِبَ طَوَافِ الْقُدُومِ لاَ يَقَعُ عَنْ سَعْيِ
الْحَجِّ إِلاَّ فِيهَا.
نَعَمْ أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
الإِْحْرَامَ بِالْحَجِّ قَبْلَهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَهُمْ. (انْظُرْ
مُصْطَلَحَيْ إِحْرَامٌ فِقْرَةُ 34، وَأَشْهُرُ الْحَجِّ) .
وَلاَ يَصِحُّ الإِْحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْل وَقْتِهِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِهِ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ انْعَقَدَ
عُمْرَةً عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ (2) .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْمِيقَاتُ الْمَكَانِيُّ:
35 - هُنَاكَ أَمَاكِنُ وَقَّتَهَا الشَّارِعُ أَيْ حَدَّدَهَا (3)
__________
(1) المسلك المتقسط ص 41، وشرح الغزي بحاشية الباجوري 1 / 537، والمغني 3 /
295 وشرح الزرقاني على مختصر خليل 2 / 249، وانظر ما يأتي في طواف الإفاضة.
(2) انظر رد المحتار 2 / 206 و 207 وشرح المحلي 2 / 91، وحاشية العدوي 1 /
457
(3) التوقيت لغة: " أن يجعل للشيء وقت يختص به، ثم اتسع فيه فأطلق على
المكان. . . . " النهاية 4 / 238، والقاموس وشرحه تاج العروس مادة: (وقت) .
(17/40)
لأَِدَاءِ أَرْكَانِ الْحَجِّ، لاَ تَصِحُّ
فِي غَيْرِهَا. فَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، مَكَانُهُ أَرْضُ عَرَفَةَ.
وَالطَّوَافُ بِالْكَعْبَةِ، مَكَانُهُ حَوْل الْكَعْبَةِ.
وَالسَّعْيُ، مَكَانُهُ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.
وَنُفَصِّل تَوْقِيتَ الْمَكَانِ لِكُل مَنْسَكٍ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى (1) .
شُرُوطُ إِجْزَاءِ الْحَجِّ عَنِ الْفَرْضِ:
36 - شُرُوطُ إِجْزَاءِ الْحَجِّ عَنِ الْفَرْضِ ثَمَانِيَةٌ (2) وَهِيَ:
أ - الإِْسْلاَمُ: وَهُوَ شَرْطٌ لِوُقُوعِهِ عَنِ الْفَرْضِ وَالنَّفَل،
بَل لِصِحَّتِهِ مِنْ أَسَاسِهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.
ب - بَقَاؤُهُ عَلَى الإِْسْلاَمِ إِلَى الْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ ارْتِدَادٍ
عِيَاذًا بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ ارْتَدَّ عَنْ الإِْسْلاَمِ بَعْدَ
الْحَجِّ ثُمَّ تَابَ عَنْ رِدَّتِهِ وَأَسْلَمَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ
مِنْ جَدِيدٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ
أَحْمَدَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: لاَ تَجِبُ
عَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ مُجَدَّدًا بَعْدَ التَّوْبَةِ عَنِ
الرِّدَّةِ (3) .
__________
(1) أما مواقيت الإحرام المكانية وأحكامها فسبقت في بحث الإحرام (ف 39 -
52) .
(2) انظر حصرها وسياقها عند رحمة الله السندي في لباب المناسك ص 42 - 43،
لكنه جعلها تسعة شروط، وزاد على ما ذكرناه عدم الإفساد، ولم نجد مسوغا
لذكره.
(3) اللباب وشرحه ص 42 والفروع 3 / 206، وأحكام القرآن لابن العربي 1 /
147، وأحكام القرآن للرازي (الجصاص) 1 / 322.
(17/41)
اسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَمَنْ مَعَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ
عَمَلُكَ. .} (1) فَقَدْ جَعَلَتِ الآْيَةُ الرِّدَّةَ نَفْسَهَا
مُحْبِطَةً لِلْعَمَل.
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ
مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (2) .
فَقَدْ دَلَّتِ الآْيَةُ عَلَى أَنَّ إِحْبَاطَ الرِّدَّةِ لِلْعَمَل
مَشْرُوطٌ بِالْمَوْتِ كَافِرًا.
ج - الْعَقْل: فَإِنَّ الْمَجْنُونَ وَإِنْ صَحَّ إِحْرَامُ وَلِيِّهِ
عَنْهُ وَمُبَاشَرَتُهُ أَعْمَال الْحَجِّ عَنْهُ، فَإِنَّهُ يَقَعُ
نَفْلاً لاَ فَرْضًا.
نَعَمْ، لَوْ كَانَ حَال الإِْحْرَامِ مُفِيقًا يَعْقِل النِّيَّةَ
وَالتَّلْبِيَةَ وَأَتَى بِهِمَا، ثُمَّ أَوْقَفَهُ وَلِيُّهُ، وَبَاشَرَ
عَنْهُ سَائِرَ أُمُورِهِ صَحَّ حَجُّهُ فَرْضًا، إِلاَّ أَنَّهُ يَبْقَى
عَلَيْهِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ حَتَّى يُفِيقَ فَيُؤَدِّيَهُ بِنَفْسِهِ
(3) .
د - الْحُرِّيَّةُ: فَإِذَا حَجَّ الْعَبْدُ ثُمَّ عَتَقَ لاَ تَسْقُطُ
عَنْهُ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ فِيهَا. (فِقْرَةُ
12) .
هـ - الْبُلُوغُ: فَإِذَا حَجَّ الصَّبِيُّ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ
حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ فِيهِ (فِقْرَةُ 11 وَ 12)
.
__________
(1) سورة الزمر / 65.
(2) سورة البقرة / 217، وانظر بحث الآية في كتابي أحكام القرآن السابقين.
(3) لباب المناسك بشرحه الصفحة السابقة.
(17/41)
وَ - الأَْدَاءُ بِنَفْسِهِ إِنْ قَدَرَ
عَلَيْهِ: بِأَنْ يَكُونَ صَحِيحًا مُسْتَكْمِلاً شُرُوطَ وُجُوبِ أَدَاءِ
الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ إِذَا أَحَجَّ عَنْهُ غَيْرَهُ
صَحَّ الْحَجُّ وَوَقَعَ نَفْلاً، وَبَقِيَ الْفَرْضُ فِي ذِمَّتِهِ.
أَمَّا إِذَا اخْتَل شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الأَْدَاءِ بِنَفْسِهِ
فَأَحَجَّ عَنْهُ غَيْرَهُ صَحَّ وَسَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ، بِشَرْطِ
اسْتِمْرَارِ الْعُذْرِ إِلَى الْمَوْتِ.
ز - عَدَمُ نِيَّةِ النَّفْل: فَيَقَعُ الْحَجُّ عَنِ الْفَرْضِ بِنِيَّةِ
الْفَرْضِ فِي الإِْحْرَامِ، وَبِمُطْلَقِ نِيَّةِ الْحَجِّ.
أَمَّا إِذَا نَوَى الْحَجَّ نَفْلاً وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْفَرْضِ أَوْ
نَذْرٌ، فَإِنَّهُ يَقَعُ نَفْلاً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ. وَيَقَعُ عَنِ الْفَرْضِ أَوِ النَّذْرِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
يَدُل لِلأَْوَّلَيْنِ حَدِيثُ وَإِنَّمَا لِكُل امْرِئٍ مَا نَوَى (2) .
وَهَذَا نَوَى النَّفَل فَلاَ يَقَعُ عَنِ الْفَرْضِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ
لَهُ إِلاَّ مَا نَوَاهُ.
وَاسْتَدَل لِلآْخَرَيْنِ بِأَنَّهُ قَوْل ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ. وَأَنَّ
الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ غَيْرُ الْحَجِّ (3) .
ح - عَدَمُ النِّيَّةِ عَنِ الْغَيْرِ: وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ إِذَا
__________
(1) اللباب وشرحه ص 42 ورد المحتار 2 / 193 ومختصر خليل بشرحه 1 / 5،
ومواهب الجليل 2 / 487، ومغني المحتاج 1 / 462، والمغني 3 / 246، والفروع 3
/ 268.
(2) حديث: " وإنما لكل امرئ ما نوى " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 9 - ط
السلفية) ومسلم (3 / 1515 - ط الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب.
(3) الفروع 3 / 269 وهو تأويل مخالف لظاهر الحديث.
(17/42)
كَانَ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ قَدْ حَجَّ
عَنْ نَفْسِهِ قَبْل ذَلِكَ، فَإِنْ نَوَى عَنْ غَيْرِهِ وَقَعَ عَنْ
غَيْرِهِ اتِّفَاقًا.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ
وَنَوَى عَنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَنِ الْغَيْرِ مَعَ الْكَرَاهَةِ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَيَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
وَيَأْتِي مَزِيدُ تَفْصِيلٍ لِذَلِكَ فِي بَحْثِ الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ.
كَيْفِيَّاتُ الْحَجِّ:
37 - يُؤَدَّى الْحَجُّ عَلَى ثَلاَثِ كَيْفِيَّاتٍ، وَهِيَ:
أ - الإِْفْرَادُ: وَهُوَ أَنْ يُهِل الْحَاجُّ أَيْ يَنْوِيَ الْحَجَّ
فَقَطْ عِنْدَ إِحْرَامِهِ ثُمَّ يَأْتِي بِأَعْمَال الْحَجِّ وَحْدَهُ.
ب - الْقِرَانُ: وَهُوَ أَنْ يُهِل بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ جَمِيعًا،
فَيَأْتِيَ بِهِمَا فِي نُسُكٍ وَاحِدٍ.
وَقَال الْجُمْهُورُ: إِنَّهُمَا يَتَدَاخَلاَنِ، فَيَطُوفُ طَوَافًا
وَاحِدًا وَيَسْعَى سَعْيًا وَاحِدًا وَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ عَنِ الْحَجِّ
وَالْعُمْرَةِ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَطُوفُ الْقَارِنُ طَوَافَيْنِ
وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ، طَوَافٌ وَسَعْيٌ لِلْعُمْرَةِ، ثُمَّ طَوَافُ
الزِّيَارَةِ وَالسَّعْيُ لِلْحَجِّ. وَيَجِبُ عَلَى الْقَارِنِ أَنْ
يَنْحَرَ هَدْيًا بِالإِْجْمَاعِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قِرَانٌ) .
__________
(1) المسلك المتقسط ص 42 - 43 ومختصر خليل والشرح الكبير 2 / 18، وشرح
المنهاج 2 / 90 والمهذب والمجموع 7 / 98 - 100، والمغني 3 / 245 والفروع 3
/ 265.
(17/42)
ج - التَّمَتُّعُ: وَهُوَ أَنْ يُهِل
بِالْعُمْرَةِ فَقَطْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَيَأْتِيَ مَكَّةَ
فَيُؤَدِّيَ مَنَاسِكَ الْعُمْرَةِ، وَيَتَحَلَّل. وَيَمْكُثَ بِمَكَّةَ
حَلاَلاً، ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَيَأْتِيَ بِأَعْمَالِهِ. وَيَجِبُ
عَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَ هَدْيًا بِالإِْجْمَاعِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي
مُصْطَلَحِ: (تَمَتُّعٌ) .
مَشْرُوعِيَّةُ كَيْفِيَّاتِ الْحَجِّ:
38 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ كُل كَيْفِيَّاتِ
الْحَجِّ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا (1) .
وَيُسْتَدَل لِذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ:
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (2) ، وقَوْله تَعَالَى:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَقَوْلُهُ: {فَمَنْ
تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}
(3) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَل بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ
أَهَل بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَل بِالْحَجِّ. وَأَهَل
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ (4) .
فَأَمَّا مَنْ أَهَل بِالْحَجِّ،
__________
(1) مختصر المزني ج 8 من طبعة كتاب الأم ص 64، وانظر المجموع 7 / 140، وفيه
بعض تصحيفات.
(2) سورة آل عمران / 97.
(3) سورة البقرة / 196.
(4) أي في أول إحرامه، ثم قرن بعد ذلك، لما أمره الله به.
(17/43)
أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَلَمْ
يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ (1) .
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَقَدْ تَوَاتَرَ عَمَل الصَّحَابَةِ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ هَذِهِ الأَْوْجُهِ كَمَا نَصَّ
عَلَى ذَلِكَ الأَْئِمَّةُ، وَمِنْ ذَلِكَ:
1 - تَصْرِيحُ الإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ الَّذِي نَقَلْنَاهُ سَابِقًا،
وَقَوْلُهُ " ثُمَّ مَا لاَ أَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا "
2 - قَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَكُلُّهَا جَائِزَةٌ
بِالإِْجْمَاعِ "
3 - قَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ: وَقَدِ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ بَعْدَ
هَذَا - أَيْ بَعْدَ الْخِلاَفِ الَّذِي نُقِل عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ -
عَلَى جَوَازِ الإِْفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ مِنْ غَيْرِ
كَرَاهَةٍ "
4 - قَال الْخَطَّابِيُّ: لَمْ تَخْتَلِفِ الأُْمَّةُ فِي أَنَّ
الإِْفْرَادَ وَالْقِرَانَ، وَالتَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ
كُلُّهَا جَائِزَةٌ (2) ".
هَدْيُ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ:
38 - يَجِبُ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ
أَنْ يَذْبَحَ هَدْيًا (3) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ
__________
(1) حديث عائشة: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع.
. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 419 - ط السلفية) ومسلم (2 / 870 - 871 -
ط الحلبي) .
(2) المجموع 7 / 141، وشرح صحيح مسلم 8 / 169، ومعالم السنن شرح مختصر سنن
أبي داود 2 / 301، وانظر الإجماع في المغني 3 / 276.
(3) الهداية وفتح القدير 2 / 322، والرسالة وشرحها 1 / 508 - 509، والمغني
3 / 468، 469 و 541، والمجموع 8 / 332.
(17/43)
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} . وَتَفْصِيلُهُ فِي (هَدْيٌ، وَتَمَتُّعٌ،
وَقِرَانٌ) .
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ كَيْفِيَّاتِ أَدَاءِ الْحَجِّ:
39 - فَضَّل كُل كَيْفِيَّةٍ مِنْ كَيْفِيَّاتِ الْحَجِّ طَائِفَةٌ مِنَ
الْعُلَمَاءِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ اخْتِلاَفِ الرِّوَايَاتِ فِي حَجِّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاِسْتِنْبَاطَاتِ قُوَّةِ ذَلِكَ
التَّفْضِيل عِنْدَ كُل جَمَاعَةٍ:
أ - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْفْرَادَ
بِالْحَجِّ أَفْضَل، وَبِهِ قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ،
وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ،
وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ (1) .
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ:
1 - حَدِيثُ عَائِشَةَ السَّابِقُ، وَفِيهِ قَوْلُهَا: وَأَهَل رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ. وَغَيْرُهُ مِنْ
أَحَادِيثَ تُفِيدُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
مُفْرِدًا بِالْحَجِّ.
2 - أَنَّهُ أَشَقُّ عَمَلاً مِنَ الْقِرَانِ، وَلَيْسَ فِيهِ اسْتِبَاحَةُ
مَحْظُورٍ كَمَا فِي التَّمَتُّعِ، فَيَكُونُ أَكْثَرَ ثَوَابًا (2) .
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ فَضَّلُوا الإِْفْرَادَ، ثُمَّ الْقِرَانَ،
__________
(1) شرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 490، وشرح المنهاج 2 / 128، والمجموع 7
/ 140.
(2) شرح الرسالة وشرح المنهاج الصفحتين السابقتين.
(17/44)
ثُمَّ التَّمَتُّعَ، وَقَدَّمَ
الشَّافِعِيَّةُ التَّمَتُّعَ عَلَى الْقِرَانِ.
وَشَرْطُ تَفْضِيل الإِْفْرَادِ عَلَى غَيْرِهِ - عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ
الشَّافِعِيَّةُ - " أَنْ يَحُجَّ ثُمَّ يَعْتَمِرَ فِي سَنَتِهِ، فَإِنْ
أَخَّرَ الْعُمْرَةَ عَنْ سَنَةِ الْحَجِّ فَكُل وَاحِدٍ مِنَ التَّمَتُّعِ
وَالْقِرَانِ أَفْضَل مِنْهُ، بِلاَ خِلاَفٍ، لأَِنَّ تَأْخِيرَ
الْعُمْرَةِ عَنْ سَنَةِ الْحَجِّ مَكْرُوهٌ (1) ".
ب - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَفْضَلَهَا الْقِرَانُ، ثُمَّ
التَّمَتُّعُ، ثُمَّ الإِْفْرَادُ، وَهُوَ قَوْل سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ
وَالْمُزَنِيِّ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ. وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَبِي
إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ (2) .
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ:
1 - حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي الْعَقِيقِ يَقُول: أَتَانِي
اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي، فَقَال: صَل فِي هَذَا الْوَادِي
الْمُبَارَكِ، وَقُل: عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ (3) .
فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِإِدْخَال الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ
بَعْدَ أَنْ كَانَ مُفْرِدًا، وَلاَ يَأْمُرُهُ إِلاَّ بِالأَْفْضَل.
وَهَذَا يَجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي حَجِّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ مُتَعَيَّنٌ (4) .
__________
(1) المجموع 7 / 139.
(2) الهداية وفتح القدير 2 / 199 و 210، ورد المحتار 2 / 262، والمجموع 7 /
140.
(3) حديث: " أتاني الليلة آت من ربي. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 392 -
ط السلفية) .
(4) انظر رجحات القرآن في زاد المعاد لابن القيم وقد أطال فيها 1 / 187،
ونيل الأوطار للشوكاني 4 / 308 - 317.
(17/44)
2 - أَنَّهُ أَشَقُّ لِكَوْنِهِ أَدْوَمُ
إِحْرَامًا، وَأَسْرَعُ إِلَى الْعِبَادَةِ، وَلأَِنَّ فِيهِ جَمْعًا
بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فَيَكُونُ أَفْضَل.
ج - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَل،
فَالإِْفْرَادُ، فَالْقِرَانُ.
" وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ اخْتِيَارُ التَّمَتُّعِ: ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ
عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَائِشَةُ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ،
وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْقَاسِمُ، وَسَالِمٌ،
وَعِكْرِمَةُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ (1) ".
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ:
1 - قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ جَابِرٍ -:
لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ
الْهَدْيَ، وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ
هَدْيٌ فَلْيَحِل، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً (2) .
فَقَدْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّمَتُّعِ، وَتَمَنَّاهُ لِنَفْسِهِ، وَلاَ
يَأْمُرُ وَلاَ يَتَمَنَّى إِلاَّ الأَْفْضَل.
2 - أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ، يَجْتَمِعُ لَهُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِي
أَشْهُرِ الْحَجِّ، مَعَ كَمَالِهِمَا، وَكَمَال أَفْعَالِهِمَا، عَلَى
وَجْهِ الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ، مَعَ زِيَادَةِ نُسُكٍ، لَكَانَ ذَلِكَ
أَوْلَى.
__________
(1) المغني 3 / 276.
(2) حديث: " لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت. . . . " أخرجه مسلم (2 /
888 - ط الحلبي) .
(17/45)
صِفَةُ أَدَاءِ الْحَجِّ بِكَيْفِيَّاتِهِ
كُلِّهَا:
وَنَقْسِمُ أَعْمَال الْحَجِّ لِتَسْهِيل فَهْمِ أَدَائِهَا إِلَى
قِسْمَيْنِ:
أ - أَعْمَال الْحَجِّ حَتَّى قُدُومِ مَكَّةَ.
ب - أَعْمَال الْحَجِّ بَعْدَ قُدُومِ مَكَّةَ.
أَعْمَال الْحَجِّ حَتَّى قُدُومِ مَكَّةَ:
40 - مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَإِنَّهُ يَشْرَعُ بِالاِسْتِعْدَادِ
لِلإِْحْرَامِ (انْظُرْ مُصْطَلَحَ إِحْرَامٌ، وَخُصُوصًا ف 117) ،
وَيَنْوِي فِي إِحْرَامِهِ الْكَيْفِيَّةَ الَّتِي يُرِيدُ أَدَاءَ
الْحَجِّ عَلَيْهَا، فَإِنْ أَرَادَ الإِْفْرَادَ نَوَى الْحَجَّ، وَإِنْ
أَرَادَ الْقِرَانَ نَوَى الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَإِنْ أَرَادَ
التَّمَتُّعَ نَوَى الْعُمْرَةَ فَقَطْ.
فَإِذَا دَخَل مَكَّةَ بَادَرَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَتَوَجَّهَ
إِلَى الْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ بِغَايَةِ الْخُشُوعِ وَالإِْجْلاَل،
وَيَبْدَأُ بِالطَّوَافِ مِنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ، فَيَطُوفُ سَبْعَةَ
أَشْوَاطٍ، وَهَذَا الطَّوَافُ هُوَ طَوَافُ الْقُدُومِ لِلْمُفْرِدِ
بِالْحَجِّ، وَهُوَ طَوَافُ الْعُمْرَةِ لِمَنْ أَحْرَمَ مُتَمَتِّعًا
(انْظُرْ تَمَتُّعٌ) . أَمَّا إِنْ كَانَ قَارِنًا فَيَقَعُ عَنِ
الْقُدُومِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَنِ الْعُمْرَةِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ طَوَافًا آخَرَ لِلْقُدُومِ
عِنْدَهُمْ (انْظُرْ مُصْطَلَحَ قِرَانٌ) .
وَيَقْطَعُ الْمُتَمَتِّعُ التَّلْبِيَةَ بِشُرُوعِهِ بِالطَّوَافِ، وَلاَ
يَقْطَعُهَا الْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ حَتَّى يَشْرَعَ فِي الرَّمْيِ
يَوْمَ النَّحْرِ (انْظُرْ تَلْبِيَةٌ) .
وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ فِي ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ وَيُقَبِّلُهُ،
(17/45)
وَكُلَّمَا مَرَّ بِهِ، إِنْ تَيَسَّرَ
ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِيذَاءٍ لأَِحَدٍ، وَإِلاَّ لَمَسَهُ بِيَدِهِ أَوْ
بِشَيْءٍ يُمْسِكُهُ بِهَا وَقَبَّلَهُ، وَإِلاَّ أَشَارَ بِيَدَيْهِ،
وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ السَّعْيَ بَعْدَهُ فَيُسَنُّ لَهُ أَنْ يَضْطَبِعَ
فِي أَشْوَاطِ طَوَافِهِ هَذَا كُلِّهَا، وَيَرْمُل فِي الثَّلاَثَةِ
الأُْولَى. وَلْيُكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فِي طَوَافِهِ
كُلِّهِ، وَلاَ سِيَّمَا الْمَأْثُورُ (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: طَوَافٌ) .
وَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ عِنْدَ
مَقَامِ إِبْرَاهِيمِ إِنْ أَمْكَنَ، ثُمَّ إِنْ أَرَادَ السَّعْيَ
يَذْهَبُ إِلَى الصَّفَا وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ
أَشْوَاطٍ، مُرَاعِيًا أَحْكَامَ السَّعْيِ وَآدَابِهِ.
(انْظُرْ: سَعْيٌ) . وَهَذَا السَّعْيُ يَقَعُ عَنِ الْحَجِّ لِلْمُفْرِدِ،
وَعَنِ الْعُمْرَةِ لِلْمُتَمَتِّعِ، وَعَنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
لِلْقَارِنِ، عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ فِي الْقِرَانِ، أَمَّا
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَعَنِ الْعُمْرَةِ فَقَطْ لِلْقَارِنِ، وَعَلَيْهِ
سَعْيٌ آخَرُ لِلْحَجِّ عِنْدَهُمْ (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: قِرَانٌ) .
وَهُنَا يَحْلِقُ الْمُتَمَتِّعُ رَأْسَهُ بَعْدَ السَّعْيِ أَوْ
يُقَصِّرُهُ (انْظُرْ حَلْقٌ) ، وَقَدْ حَل مِنْ إِحْرَامِهِ. (انْظُرْ:
إِحْرَامٌ: ف 126) . أَمَّا الْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ فَهُمَا عَلَى
إِحْرَامِهِمَا إِلَى أَنْ يَتَحَلَّلاَ بِأَعْمَال يَوْمِ النَّحْرِ.
أَعْمَال الْحَجِّ بَعْدَ قُدُومِ مَكَّةَ:
41 - يَمْكُثُ الْحَاجُّ فِي مَكَّةَ بَعْدَ الْقُدُومِ وَمَا ذَكَرْنَا
فِيهِ - إِلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ لِيُؤَدِّيَ سَائِرَ الْمَنَاسِكِ
وَيُؤَدِّي أَعْمَال الْحَجِّ هَذِهِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ كَمَا يَلِي:
(17/46)
يَوْمُ التَّرْوِيَةِ:
42 - وَهُوَ يَوْمُ الثَّامِنِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَنْطَلِقُ فِيهِ
الْحُجَّاجُ إِلَى مِنًى، وَيُحْرِمُ الْمُتَمَتِّعُ بِالْحَجِّ، أَمَّا
الْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ فَهُمَا عَلَى إِحْرَامِهِمَا، وَيَبِيتُونَ
بِمِنًى اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ، وَيُصَلُّونَ فِيهَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ:
الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ. وَهَذَا
فَجْرُ يَوْمِ عَرَفَةَ.
يَوْمُ عَرَفَةَ:
43 - وَهُوَ يَوْمٌ عَظِيمٌ يُؤَدِّي فِيهِ الْحُجَّاجُ الْوُقُوفَ
بِعَرَفَةَ رُكْنَ الْحَجِّ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَى فَوَاتِهِ بُطْلاَنُ
الْحَجِّ، ثُمَّ الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ.
أ - الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ: وَفِيهِ يُسَنُّ أَنْ يَخْرُجَ الْحَاجُّ مِنْ
مِنًى إِلَى عَرَفَةَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا
مَوْقِفٌ إِلاَّ بَطْنَ عُرَنَةَ، وَيُسَنُّ أَلاَ يَدْخُل عَرَفَةَ إِلاَّ
بَعْدَ الزَّوَال، وَبَعْدَ أَنْ يَجْمَعَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ
تَقْدِيمًا، فَيَقِفَ بِعَرَفَةَ مُرَاعِيًا أَحْكَامَهُ وَسُنَنَهُ
وَآدَابَهُ، وَيَسْتَمِرَّ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَلاَ يُجَاوِزَ
عَرَفَةَ قَبْلَهُ، وَيَتَوَجَّهَ إِلَى اللَّهِ فِي وُقُوفِهِ خَاشِعًا
ضَارِعًا بِالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالْقُرْآنِ وَالتَّلْبِيَةِ. . .
حَتَّى يَدْفَعَ مِنْ عَرَفَةَ.
ب - الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ: إِذَا غَرَبَتْ شَمْسُ يَوْمِ عَرَفَةَ
يَسِيرُ الْحَاجُّ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، وَيَجْمَعُ بِهَا
الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ تَأْخِيرًا، وَيَبِيتُ فِيهَا، وَهُوَ وَاجِبٌ
عِنْدَ الْجُمْهُورِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، ثُمَّ يُصَلِّي
الْفَجْرَ وَيَقِفُ لِلدُّعَاءِ، وَالْوُقُوفُ بَعْدَ الْفَجْرِ
(17/46)
وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سُنَّةٌ
عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّهُ إِذَا
نَفَرَ لِعُذْرٍ كَزَحْمَةٍ قَبْل الْفَجْرِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَيَسْتَمِرُّ وَاقِفًا يَدْعُو وَيُهَلِّل وَيُلَبِّي حَتَّى يُسْفِرَ
جِدًّا، لِيَنْطَلِقَ إِلَى مِنًى.
وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَلْقُطَ الْجِمَارَ (الْحَصَيَاتِ الصِّغَارَ)
مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ، لِيَرْمِيَ بِهَا، وَعَدَدُهَا سَبْعُونَ،
لِلرَّمْيِ كُلِّهِ، وَإِلاَّ فَسَبْعَةٌ يَرْمِي بِهَا يَوْمَ النَّحْرِ.
يَوْمُ النَّحْرِ:
44 - يُسَنُّ أَنْ يَدْفَعَ الْحَاجُّ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى
يَوْمَ النَّحْرِ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ، لِيُؤَدِّيَ أَعْمَال
النَّحْرِ، وَهُوَ أَكْثَرُ أَيَّامِ الْحَجِّ عَمَلاً، وَيُكْثِرُ فِي
تَحَرُّكِهِ مِنَ الذِّكْرِ وَالتَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ.
وَأَعْمَال هَذَا الْيَوْمِ هِيَ:
أ - رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ: فَيَجِبُ عَلَى الْحَاجِّ فِي هَذَا
الْيَوْمِ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَحْدَهَا، وَتُسَمَّى الْجَمْرَةَ
الْكُبْرَى. يَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَيُكَبِّرُ مَعَ كُل حَصَاةٍ،
وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ ابْتِدَاءِ الرَّمْيِ.
ب - نَحْرُ الْهَدْيِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ،
سُنَّةٌ لِغَيْرِهِمَا.
ج - الْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ: وَالْحَلْقُ أَفْضَل لِلرِّجَال،
مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً شَدِيدَةً لِلنِّسَاءِ.
د - طَوَافُ الزِّيَارَةِ: وَيَأْتِي تَرْتِيبُهُ بَعْدَ الأَْعْمَال
السَّابِقَةِ، فَيُفِيضُ الْحَاجُّ أَيْ يَرْحَل إِلَى مَكَّةَ
(17/47)
لِيَطُوفَ الزِّيَارَةَ، وَهُوَ طَوَافُ
الرُّكْنِ فِي الْحَجِّ.
وَإِنْ كَانَ قَدَّمَ السَّعْيَ فَلاَ يَضْطَبِعُ وَلاَ يَرْمُل فِي هَذَا
الطَّوَافِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَبْقَ سَعْيٌ بَعْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يُقَدِّمِ
السَّعْيَ فَلْيَسْعَ بَعْدَ الطَّوَافِ، وَيَضْطَبِعْ وَيَرْمُل فِي
طَوَافِهِ، كَمَا هِيَ السُّنَّةُ فِي كُل طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ.
هـ - السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ: لِمَنْ لَمْ يُقَدِّمِ
السَّعْيَ مِنْ قَبْل.
و التَّحَلُّل: وَيَحْصُل بِأَدَاءِ الأَْعْمَال الَّتِي ذَكَرْنَاهَا،
وَهُوَ قِسْمَانِ:
التَّحَلُّل الأَْوَّل: أَوِ الأَْصْغَرُ: تَحِل بِهِ مَحْظُورَاتُ
الإِْحْرَامِ عَدَا النِّسَاءَ.
وَيَحْصُل بِالْحَلْقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِالرَّمْيِ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَبِفِعْل ثَلاَثَةٍ مِنْ أَعْمَال
يَوْمِ النَّحْرِ (اسْتُثْنِيَ مِنْهَا الذَّبْحُ حَيْثُ لاَ دَخْل لَهُ
فِي التَّحَلُّل) عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
التَّحَلُّل الثَّانِي: أَوِ الأَْكْبَرُ: تَحِل بِهِ كُل مَحْظُورَاتِ
الإِْحْرَامِ حَتَّى النِّسَاءُ.
وَيَحْصُل بِطَوَافِ الإِْفَاضَةِ فَقَطْ بِشَرْطِ الْحَلْقِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَبِالإِْفَاضَةِ مَعَ السَّعْيِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، وَبِاسْتِكْمَال الأَْعْمَال الأَْرْبَعَةِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ.
أَوَّل وَثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
45 - هُمَا ثَانِي وَثَالِثُ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَفِيهِمَا مَا يَلِي:
(17/47)
أ - الْمَبِيتُ بِمِنًى لَيْلَتَيْ
هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ: وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سُنَّةٌ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
ب - رَمْيُ الْجِمَارِ الثَّلاَثِ: يَرْمِيهَا عَلَى التَّرْتِيبِ:
الْجَمْرَةُ الأُْولَى أَوِ الصُّغْرَى وَهِيَ أَقْرَبُ الْجَمَرَاتِ إِلَى
مَسْجِدِ الْخَيْفِ بِمِنًى، ثُمَّ الْجَمْرَةُ الثَّانِيَةُ أَوِ
الْوُسْطَى، ثُمَّ الثَّالِثَةُ الْكُبْرَى جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ. يَرْمِي
كُل وَاحِدَةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَيَدْعُو بَيْنَ كُل جَمْرَتَيْنِ.
ج - النَّفْرُ الأَْوَّل: يَحِل لِلْحَاجِّ إِذَا رَمَى جِمَارَ الْيَوْمِ
الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يَرْحَل إِلَى مَكَّةَ،
وَيَسْقُطُ عَنْهُ رَمْيُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، إِذَا جَاوَزَ حُدُودَ
مِنًى قَبْل غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَبْل فَجْرِ
ثَالِثِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
د - التَّحْصِيبُ: وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَيَنْزِل
الْحَاجُّ بِالْمُحَصَّبِ (1) عِنْدَ وُصُولِهِ مَكَّةَ إِنْ تَيَسَّرَ
لَهُ لِيَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ وَيُصَلِّيَ.
ثَالِثُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
46 - هُوَ رَابِعُ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَفِيهِ:
أ - الرَّمْيُ: يَجِبُ رَمْيُ الْجِمَارِ الثَّلاَثِ فِي هَذَا الْيَوْمِ
عَلَى مَنْ تَأَخَّرَ، فَلَمْ يَنْفِرِ النَّفْرَ الأَْوَّل، وَيَنْتَهِي
وَقْتُهُ وَوَقْتُ الرَّمْيِ كُلِّهِ أَيْضًا قَضَاءً وَأَدَاءً بِغُرُوبِ
شَمْسِ هَذَا الْيَوْمِ اتِّفَاقًا. وَتَنْتَهِي بِغُرُوبِهِ مَنَاسِكُ
مِنًى.
__________
(1) يقع عند مدخل مكة بين الجبلين ومقبرة الحجون. ويقع الآن بين قصر الملك
وبين جبانة المعلى وقد شغل ببعض المباني.
(17/48)
ب - النَّفْرُ الثَّانِي: يَنْفِرُ أَيْ
يَرْحَل سَائِرُ الْحُجَّاجِ فِي هَذَا الْيَوْمِ إِلَى مَكَّةَ بَعْدَ
رَمْيِ الْجِمَارِ، وَلاَ يُشْرَعُ الْمُكْثُ بِمِنًى بَعْدَ ذَلِكَ.
ج - التَّحْصِيبُ: عِنْدَ وُصُول مَكَّةَ، كَمَا مَرَّ ذِكْرُهُ، فِي
النَّفْرِ الأَْوَّل.
د - الْمُكْثُ بِمَكَّةَ: تَنْتَهِي الْمَنَاسِكُ بِنِهَايَةِ أَعْمَال
مِنًى - عَدَا طَوَافَ الْوَدَاعِ - وَيَمْكُثُ الْحَاجُّ بِمَكَّةَ إِلَى
وَقْتِ سَفَرِهِ فِي عِبَادَةٍ، وَذِكْرٍ، وَطَوَافٍ، وَعَمَل خَيْرٍ.
وَيَأْتِي الْمُفْرِدُ بِالْعُمْرَةِ، فَإِنَّ وَقْتَهَا كُل أَيَّامِ
السَّنَةِ عَدَا يَوْمَ عَرَفَةَ وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ بَعْدَهُ
فَتُكْرَهُ فِيهَا كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (انْظُرْ
مُصْطَلَحَ: إِحْرَامٌ: ف 38) (وَعُمْرَةٌ) .
طَوَافُ الْوَدَاعِ:
46 م - إِذَا أَرَادَ الْحَاجُّ السَّفَرَ مِنْ مَكَّةَ يَجِبُ عَلَيْهِ
عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الْوَدَاعِ،
وَالْمَعْنَى الْمُلاَحَظُ فِي هَذَا الطَّوَافِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ
الْعَهْدِ بِالْبَيْتِ، وَلاَ رَمْل فِي هَذَا الطَّوَافِ وَلاَ
اضْطِبَاعَ، وَبَعْدَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، يَأْتِي
زَمْزَمَ وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا مُسْتَقْبِل الْبَيْتِ، وَيَتَشَبَّثُ
بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَيَسْتَلِمَ الْحَجَرَ الأَْسْوَدَ إِنْ
تَيَسَّرَ لَهُ مِنْ غَيْرِ إِيذَاءِ أَحَدٍ، ثُمَّ يَسِيرُ إِلَى بَابِ
الْحَرَمِ وَوَجْهُهُ تِلْقَاءَ الْبَابِ، دَاعِيًا بِالْقَبُول،
وَالْغُفْرَانِ، وَبِالْعَوْدِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَأَلاَّ يَكُونَ
ذَلِكَ آخِرَ الْعَهْدِ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ الْعَتِيقِ.
(17/48)
أَرْكَانُ الْحَجِّ:
47 - أَرْكَانُ الْحَجِّ فِيمَا اتَّجَهَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ
أَرْبَعَةٌ:
الإِْحْرَامُ. وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ. وَالطَّوَافُ وَهُوَ طَوَافُ
الزِّيَارَةِ. وَالسَّعْيُ. وَأَرْكَانُ الْحَجِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
رُكْنَانِ: الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ سِتٌّ: الأَْرْبَعُ الْمَذْكُورَةُ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ وَالْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ، وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَ
مُعْظَمِ الأَْرْكَانِ.
الرُّكْنُ الأَْوَّل: الإِْحْرَامُ:
48 - الإِْحْرَامُ فِي اللُّغَةِ: الدُّخُول فِي الْحُرْمَةِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الإِْحْرَامُ بِالْحَجِّ: نِيَّةُ الْحَجِّ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ. وَالنِّيَّةُ مَعَ التَّلْبِيَةِ وَهِيَ قَوْل: لَبَّيْكَ
اللَّهُمَّ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَالإِْحْرَامُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ،
وَشَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَهُوَ عِنْدَهُمْ
شَرْطٌ مِنْ وَجْهٍ رُكْنٌ مِنْ وَجْهٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٌ) .
الرُّكْنُ الثَّانِي: الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ:
49 - الْمُرَادُ مِنْ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ: وُجُودُ الْحَاجِّ فِي أَرْضِ
(عَرَفَةَ (1)) ، بِالشُّرُوطِ وَالأَْحْكَامِ الْمُقَرَّرَةِ.
__________
(1) انظر تعريف عرفة وحدودها في مصطلح (عرفة) .
(17/49)
وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ رُكْنٌ أَسَاسِيٌّ
مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، يَخْتَصُّ بِأَنَّهُ مَنْ فَاتَهُ فَقَدَ فَاتَهُ
الْحَجُّ.
وَقَدْ ثَبَتَتْ رُكْنِيَّةُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ بِالأَْدِلَّةِ
الْقَاطِعَةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ: أَمَّا
الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ
النَّاسُ} (1) . فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا نَزَلَتْ تَأْمُرُ بِالْوُقُوفِ
بِعَرَفَةَ (2) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَعِدَّةُ أَحَادِيثَ، أَشْهُرُهَا حَدِيثُ: الْحَجُّ
عَرَفَةَ (3) .
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَقَدْ صَرَّحَ بِهِ عَدَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ،
وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ
الْحَجِّ، وَأَنَّهُ مَنْ فَاتَهُ فَعَلَيْهِ حَجٌّ قَابِلٌ (4) ".
وَقْتُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ:
50 - يَبْدَأُ وَقْتُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مِنْ زَوَال الشَّمْسِ
__________
(1) سورة البقرة / 198.
(2) الحديث بتفصيله في البخاري في الحج (باب وقوف عرفة) وفي التفسير (الفتح
8 / 187 - ط السلفية) والترمذي 3 / 231 وأبو داود 2 / 187 والنسائي (باب
رفع اليدين بالدعاء بعرفة) 5 / 205 وابن ماجه رقم 3018 ونقل المفسرون
الإجماع على تفسير الآية بذلك انظر جامع البيان للطبري 4 / 190، وتفسير ابن
كثير 1 / 242.
(3) حديث: " الحج عرفة " أخرجه أبو داود (2 / 486 - تحقيق عزت عبيد دعاس)
والحاكم (1 / 464 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الرحمن بن يعمر
الديلي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) بداية المجتهد 1 / 335.
(17/49)
يَوْمَ عَرَفَةَ - وَهُوَ تَاسِعُ ذِي
الْحِجَّةِ - وَيَمْتَدُّ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ يَوْمَ عِيدِ
النَّحْرِ حَتَّى لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فِي غَيْرِ هَذَا الْوَقْتِ كَانَ
وُقُوفُهُ بَاطِلاً اتِّفَاقًا فِي الْجُمْلَةِ.
وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ آخِرَ وَقْتِ وُقُوفِ عَرَفَةَ هُوَ طُلُوعُ
الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ.
أَمَّا ابْتِدَاءُ وَقْتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَقَدْ وَقَعَ فِيهِ
اخْتِلاَفٌ:
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) عَلَى أَنَّ
أَوَّلَهُ زَوَال شَمْسِ يَوْمِ عَرَفَةَ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ: إِلَى أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ هُوَ اللَّيْل، فَمَنْ
لَمْ يَقِفْ جَزْءًا مِنَ اللَّيْل لَمْ يُجْزِئْ وُقُوفُهُ وَعَلَيْهِ
الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ، وَأَمَّا الْوُقُوفُ نَهَارًا فَوَاجِبٌ يَنْجَبِرُ
بِالدَّمِ بِتَرْكِهِ عَمْدًا بِغَيْرِ عُذْرٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: وَقْتُ الْوُقُوفِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ
عَرَفَةَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ "
الزَّمَنُ الَّذِي يَسْتَغْرِقُهُ الْوُقُوفُ:
أَمَّا الزَّمَنُ الَّذِي يَسْتَغْرِقُهُ الْوُقُوفُ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ:
51 - قَسَمَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ زَمَانَ الْوُقُوفِ إِلَى
قِسْمَيْنِ:
أ - زَمَانُ الرُّكْنِ: الَّذِي تَتَأَدَّى بِهِ فَرِيضَةُ الْوُقُوفِ
بِعَرَفَةَ: وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ فِي عَرَفَةَ خِلاَل الْمُدَّةِ الَّتِي
عَرَّفْنَاهَا عِنْدَ كُلٍّ، وَلَوْ زَمَانًا قَلِيلاً جِدًّا.
(17/50)
ب - زَمَانُ الْوَاجِبِ: وَهُوَ أَنْ
يَسْتَمِرَّ مَنْ وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَال إِلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ،
فَلاَ يُجَاوِزُ حَدَّ عَرَفَةَ إِلاَّ بَعْدَ الْغُرُوبِ، وَلَوْ
بِلَحْظَةٍ. وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِقَوْلِهِمْ: أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ
اللَّيْل وَالنَّهَارِ بِعَرَفَةَ. فَلَوْ فَارَقَ عَرَفَةَ قَبْل
الْغُرُوبِ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، أَمَّا إِذَا لَمْ
يَقِفْ بِعَرَفَةَ إِلاَّ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَزَمَانُ الرُّكْنِ عِنْدَهُمْ هُوَ الْوُقُوفُ
لَيْلاً، أَمَّا نَهَارًا فَوَاجِبٌ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْجَمْعَ
بَيْنَ اللَّيْل وَالنَّهَارِ بِعَرَفَةَ سُنَّةٌ لَيْسَ وَاجِبًا، لَكِنْ
يُسْتَحَبُّ لَهُ بِتَرْكِهِ الْفِدَاءُ اسْتِحْبَابًا، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ
وَقَفَ بِعَرَفَةَ مِنْ بَعْدِ الزَّوَال إِلَى فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ
أَجْزَأَهُ (1) .
الثَّالِثُ: طَوَافُ الزِّيَارَةِ:
52 - طَوَافُ الزِّيَارَةِ يُؤَدِّيهِ الْحَاجُّ بَعْدَ أَنْ يُفِيضَ مِنْ
عَرَفَةَ وَيَبِيتَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَيَأْتِي مِنًى يَوْمَ الْعِيدِ
__________
(1) انظر بحث الوقوف بعرفة في بدائع الصنائع 2 / 125 - 127 والهداية وفتح
القدير 2 / 167 والمسلك المتقسط ص 51 - 52 و 129 - 139 والشرح الكبير مع
حاشية الدسوقي ص 36 - 37 وشرح الزرقاني 2 / 269 وشرح الرسالة وحاشية العدوي
1 / 475 وشرح المنهاج 2 / 114 - 115 ونهاية المحتاج 2 / 422 - 423، ومغني
المحتاج 1 / 496 - 498، والمغني 3 / 414 - 416، والفروع 3 / 508 - 509.
(17/50)
فَيَرْمِي وَيَنْحَرُ وَيَحْلِقُ ثُمَّ
بَعْدَ ذَلِكَ يُفِيضُ إِلَى مَكَّةَ فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ سُمِّيَ
طَوَافَ الزِّيَارَةِ لأَِنَّ الْحَاجَّ يَأْتِي مِنْ مِنًى فَيَزُورُ
الْبَيْتَ وَلاَ يُقِيمُ بِمَكَّةَ، بَل يَرْجِعُ لِيَبِيتَ بِمِنًى.
وَيُسَمَّى أَيْضًا طَوَافَ الإِْفَاضَةِ، لأَِنَّ الْحَاجَّ يَفْعَلُهُ
عِنْدَ إِفَاضَتِهِ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ.
وَعَدَدُ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ سَبْعَةٌ، وَكُلُّهَا رُكْنٌ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الرُّكْنُ هُوَ أَكْثَرُ
السَّبْعَةِ، وَالْبَاقِي وَاجِبٌ يَنْجَبِرُ بِالدَّمِ.
وَيَجِبُ الْمَشْيُ فِي الطَّوَافِ عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهِ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ، وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَيُسَنُّ الرَّمَل وَالاِضْطِبَاعُ فِي الطَّوَافِ إِذَا كَانَ سَيَسْعَى
بَعْدَهُ وَإِلاَّ فَلاَ يُسَنُّ. وَيُصَلِّي بَعْدَ الطَّوَافِ
رَكْعَتَيْنِ وُجُوبًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَسُنَّةً عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (طَوَافٌ) .
رُكْنِيَّةُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ:
53 - ثَبَتَ فَرْضِيَّةُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَالإِْجْمَاعِ:
أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ} (1)
فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الآْيَةَ فِي طَوَافِ
الإِْفَاضَةِ، فَيَكُونُ فَرْضًا بِنَصِّ الْقُرْآنِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَدْ حَجَّتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ صَفِيَّةُ
__________
(1) سورة الحج / 30.
(17/51)
بِنْتُ حُيَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَاضَتْ، فَقَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟
قَالُوا: إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ. قَال: فَلاَ إذَنْ (1) .
فَدَل الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ فَرْضٌ لاَ بُدَّ
مِنْهُ، وَلَوْلاَ فَرْضِيَّتُهُ لَمْ يُمْنَعْ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ عَنِ
السَّفَرِ.
وَعَلَيْهِ الإِْجْمَاعُ (2) .
شُرُوطُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ:
54 - يُشْتَرَطُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ شُرُوطٌ خَاصَّةٌ بِهِ سِوَى
الشُّرُوطِ الْعَامَّةِ لِلطَّوَافِ وَهَذِهِ الشُّرُوطُ الْخَاصَّةُ هِيَ:
أ - أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالإِْحْرَامِ، لِتَوَقُّفِ احْتِسَابِ أَيِّ
عَمَلٍ مِنْ أَعْمَال الْحَجِّ عَلَى الإِْحْرَامِ.
ب - أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِوُقُوفِ عَرَفَةَ، فَلَوْ طَافَ
لِلإِْفَاضَةِ قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لاَ يَسْقُطُ بِهِ فَرْضُ
الطَّوَافِ، إِجْمَاعًا.
ج - النِّيَّةُ: بِأَنْ يَقْصِدَ أَصْل الطَّوَافِ. أَمَّا نِيَّةُ
التَّعْيِينِ فَلَيْسَتْ شَرْطًا فِي طَوَافِ الإِْفَاضَةِ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ)
لِدُخُولِهِ فِي نِيَّةِ الْحَجِّ.
__________
(1) حديث: " أحابستنا هي؟ . . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 586 - ط
السلفية) ومسلم (2 / 964 - ط الحلبي) .
(2) المغني 3 / 440، والبدائع 1 / 128.
(17/51)
لِذَلِكَ صَرَّحُوا بِشَرْطِيَّةِ عَدَمِ
صَرْفِهِ لِغَيْرِهِ، كَطَلَبِ غَرِيمٍ، أَوْ هَرَبٍ مِنْ ظَالِمٍ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَقَدِ اشْتَرَطُوا تَعْيِينَ الطَّوَافِ فِي
النِّيَّةِ (1) .
د - الْوَقْتُ: فَلاَ يَصِحُّ طَوَافُ الإِْفَاضَةِ قَبْل الْوَقْتِ
الْمُحَدَّدِ لَهُ شَرْعًا. وَهُوَ وَقْتٌ مُوَسَّعٌ يَبْتَدِئُ مِنْ
طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي يَوْمَ النَّحْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَوَّل وَقْتِ
طَوَافِ الإِْفَاضَةِ بَعْدَ مُنْتَصَفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ لِمَنْ وَقَفَ
بِعَرَفَةَ قَبْلَهُ.
اسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ: مَا قَبْل الْفَجْرِ
مِنَ اللَّيْل وَقْتُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَالطَّوَافُ مُرَتَّبٌ
عَلَيْهِ "، فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَتَقَدَّمَ وَيَشْغَل شَيْئًا مِنْ وَقْتِ
الْوُقُوفِ.
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ بِقِيَاسِ الطَّوَافِ عَلَى الرَّمْيِ،
لأَِنَّهُمَا مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّل، فَإِنَّهُ بِالرَّمْيِ
لِلْجِمَارِ وَالذَّبْحِ وَالْحَلْقِ يَحْصُل التَّحَلُّل الأَْوَّل،
وَبِالطَّوَافِ يَحْصُل التَّحَلُّل الأَْكْبَرُ (بِشَرْطِ السَّعْيِ) ،
__________
(1) وانظر مسألة نية الطواف في بدائع الصنائع 2 / 128 والمسلك المتقسط ص 98
و 99 والمهذب للشيرازي 8 / 16 والمجموع ص 18 - 21 والإيضاح ص 251 - 252
ونهاية المحتاج 2 / 409 و 414 و 416 ومغني المحتاج 1 / 487 و 492 والمغني 3
/ 441 - 443 والفروع وفيه أقوال تخريجات عليها 3 / 449 - 501.
(17/52)
فَكَمَا أَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ يَبْدَأُ
عِنْدَهُمْ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْل فَكَذَا وَقْتُ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ.
وَالأَْفْضَل عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَدَاؤُهُ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ
الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ.
55 - وَأَمَّا آخِرُ وَقْتِ طَوَافِ الْفَرْضِ فَلَيْسَ لآِخِرِهِ حَدٌّ
مُعَيَّنٌ لأَِدَائِهِ فَرْضًا، بَل جَمِيعُ الأَْيَّامِ وَاللَّيَالِي
وَقْتُهُ إِجْمَاعًا.
لَكِنَّ الإِْمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ أَوْجَبَ أَدَاءَهُ فِي أَيَّامِ
النَّحْرِ، فَلَوْ أَخَّرَهُ حَتَّى أَدَّاهُ بَعْدَهَا صَحَّ، وَوَجَبَ
عَلَيْهِ دَمٌ جَزَاءَ تَأْخِيرِهِ عَنْهَا. وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي
الْمَذْهَبِ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ
بِالتَّأْخِيرِ شَيْءٌ إِلاَّ بِخُرُوجِ ذِي الْحِجَّةِ، فَإِذَا خَرَجَ
لَزِمَهُ دَمٌ.
وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى
أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِالتَّأْخِيرِ أَبَدًا.
اسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الطَّوَافَ
عَلَى الذَّبْحِ فِي الْحَجِّ، فَقَال: {فَكُلُوا مِنْهَا} (1) ، ثُمَّ
قَال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2) ، فَكَانَ
وَقْتُهُمَا وَاحِدًا، فَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ الطَّوَافِ عَنْ أَيَّامِ
النَّحْرِ، وَيَنْجَبِرُ بِالدَّمِ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَظَرُوا إِلَى شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ
أَنَّهُ
__________
(1) سورة الحج / 29.
(2) سورة الحج / 30.
(17/52)
تُقَامُ فِيهِ أَعْمَال الْحَجِّ،
فَسَوَّوْا بَيْنَ كُل أَيَّامِهِ، وَجَعَلُوا التَّأْخِيرَ عَنْهُ
مُوجِبًا لِلْفِدَاءِ.
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، بِأَنَّ الأَْصْل عَدَمُ
التَّأْقِيتِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَا يُوجِبُ فِعْلَهُ فِي أَيَّامِ
النَّحْرِ، فَلاَ يَلْزَمُ الْحَاجَّ فِدْيَةٌ إِذَا أَخَّرَ طَوَافَ
الإِْفَاضَةِ إِلَى مَا بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ.
فَإِذَا تَأَخَّرَ طَوَافُ الإِْفَاضَةِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ أَوْ
شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ، فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ أَبَدًا، وَهُوَ مُحْرِمٌ
عَنِ النِّسَاءِ أَبَدًا إِلَى أَنْ يَعُودَ فَيَطُوفَ.
وَلاَ يَكْفِي الْفِدَاءُ عَنْ أَدَاءِ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ إِجْمَاعًا،
لأَِنَّهُ رُكْنٌ، وَأَرْكَانُ الْحَجِّ لاَ يُجْزِئُ عَنْهَا الْبَدَل،
وَلاَ يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، بَل يَجِبُ الإِْتْيَانُ بِهَا
بِعَيْنِهَا (1) .
الرَّابِعُ: السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ:
الْمُرَادُ بِالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَطْعُ الْمَسَافَةِ
بَيْنَهُمَا سَبْعَ مَرَّاتٍ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ طَافَ بِالْبَيْتِ.
حُكْمُ السَّعْيِ:
56 - ذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ إِلَى أَنَّ السَّعْيَ رُكْنٌ مِنْ
أَرْكَانِ الْحَجِّ لاَ يَصِحُّ بِدُونِهِ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ
__________
(1) انظر وقت طواف الإفاضة في الهداية 2 / 180، والمسلك المتقسط ص 155،
وحاشية ابن عابدين 2 / 250 و 251، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 2 / 281،
وحاشية العدوي 1 / 479، والشرح الكبير 2 / 47، والمهذب 1 / 230، ونهاية
المحتاج 2 / 429، ومغني المحتاج 1 / 503 - 504، والمغني 3 / 441 و 443
وانظر الفروع 3 / 516 و 520.
(17/53)
الْحَاجُّ خُطْوَةً مِنْهُ يُؤْمَرُ بِأَنْ
يَعُودَ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيَضَعَ قَدَمَهُ عَلَيْهِ، وَيَخْطُوَ
تِلْكَ الْخُطْوَةَ. وَهُوَ قَوْل عَائِشَةَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّعْيَ وَاجِبٌ فِي الْحَجِّ
وَلَيْسَ بِرُكْنٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ. وَرُكْنُ السَّعْيِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ،
حَتَّى لَوْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا لَمْ يَتَحَلَّل مِنْ إِحْرَامِهِ،
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّ رُكْنَ السَّعْيِ أَكْثَرُ أَشْوَاطِ
السَّعْيِ، وَالثَّلاَثَةُ الْبَاقِيَةُ لَيْسَتْ رُكْنًا، وَتَنْجَبِرُ
بِالْفِدَاءِ.
وَالْمَشْيُ لِلْقَادِرِ وَاجِبٌ فِي السَّعْيِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ، سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
وَاجِبَاتُ الْحَجِّ:
57 - الْوَاجِبُ فِي الْحَجِّ: هُوَ مَا يُطْلَبُ فِعْلُهُ وَيَحْرُمُ
تَرْكُهُ، لَكِنْ لاَ تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْحَجِّ عَلَيْهِ، وَيَأْثَمُ
تَارِكُهُ، إِلاَّ إِذَا تَرَكَهُ بِعُذْرٍ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا (2) ،
وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدَاءُ بِجَبْرِ النَّقْصِ.
وَوَاجِبَاتُ الْحَجِّ قِسْمَانِ:
__________
(1) انظر في السعي: فتح القدير 2 / 156 - 158، والمسلك المتقسط ص 115 -
121، وشرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 470 - 472، وشرح المنهاج 2 / ط 126 -
127، والمهذب والمجموع 8 / 71، والمغني 3 / 385 - 390 والفروع 3 / 504 -
506.
(2) المسلك المتقسط ص 51، والدر المختار بحاشيته 2 / 244، ويأتي مزيد تفصيل
لذلك في فصل الإخلال بأحكام الحج.
(17/53)
الْقِسْمُ الأَْوَّل: الْوَاجِبَاتُ
الأَْصْلِيَّةُ، الَّتِي لَيْسَتْ تَابِعَةً لِغَيْرِهَا.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْوَاجِبَاتُ التَّابِعَةُ لِغَيْرِهَا.
وَهِيَ أُمُورٌ يَجِبُ مُرَاعَاتُهَا فِي أَدَاءِ رُكْنٍ أَوْ وَاجِبٍ مِنْ
أَعْمَال الْحَجِّ.
أَوَّلاً: وَاجِبَاتُ الْحَجِّ الأَْصْلِيَّةُ:
الْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ:
58 - الْمُزْدَلِفَةُ تُسَمَّى " جَمْعًا " أَيْضًا، لاِجْتِمَاعِ النَّاسِ
بِهَا لَيْلَةَ النَّحْرِ. وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَبِيتَ
بِالْمُزْدَلِفَةِ وَاجِبٌ لَيْسَ بِرُكْنٍ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي
مِقْدَارِهِ وَوَقْتِهِ.
فَذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ إِلَى أَنَّ زَمَنَ الْوُقُوفِ
الْوَاجِبِ هُوَ الْمُكْثُ بِالْمُزْدَلِفَةِ مِنَ اللَّيْل، ثُمَّ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُ هَذَا الرَّأْيِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ النُّزُول بِالْمُزْدَلِفَةِ قَدْرَ
حَطِّ الرِّحَال فِي لَيْلَةِ النَّحْرِ وَاجِبٌ، وَالْمَبِيتُ بِهَا
سُنَّةٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ
الْوُجُودُ بِمُزْدَلِفَةَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْل، وَلَوْ سَاعَةً
لَطِيفَةً: أَيْ فَتْرَةً مَا مِنَ الزَّمَنِ وَلَوْ قَصِيرَةً.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ
يَوْمَ النَّحْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ، فَمَنْ حَصَّل بِمُزْدَلِفَةَ فِي
هَذَا الْوَقْتِ فَتْرَةً مِنَ الزَّمَنِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ،
سَوَاءٌ بَاتَ بِهَا أَوْ لاَ، وَمَنْ لَمْ يُحَصِّل بِهَا فِيهِ فَقَدْ
(17/54)
فَاتَهُ الْوُقُوفُ الْوَاجِبُ
بِالْمُزْدَلِفَةِ. وَعَلَيْهِ دَمٌ إِلاَّ إِنْ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ
كَزَحْمَةٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْحَاجَّ يَجْمَعُ فِي الْمُزْدَلِفَةِ بَيْنَ
صَلاَتَيْ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ جَمْعَ تَأْخِيرٍ، وَهَذَا الْجَمْعُ
سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
ثَانِيًا: رَمْيُ الْجِمَارِ:
59 - الرَّمْيُ لُغَةً: الْقَذْفُ.
وَالْجِمَارُ: الأَْحْجَارُ الصَّغِيرَةُ، جَمْعُ جَمْرَةٍ، وَهِيَ
الْحَصَاةُ.
وَرَمْيُ الْجِمَارِ وَاجِبٌ فِي الْحَجِّ، أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى
وُجُوبِهِ.
وَالرَّمْيُ الْوَاجِبُ لِكُل جَمْرَةٍ (أَيْ مَوْضِعُ الرَّمْيِ) هُوَ
سَبْعُ حَصَيَاتٍ بِالإِْجْمَاعِ أَيْضًا (2) .
تَوْقِيتُ الرَّمْيِ وَعَدَدُهُ:
60 - أَيَّامُ الرَّمْيِ أَرْبَعَةٌ: يَوْمُ النَّحْرِ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ، وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ وَتُسَمَّى " أَيَّامَ
التَّشْرِيقِ "
__________
(1) انظر أحكام الوقوف بالمزدلفة في: الهداية وفتح القدير 2 / 168 - 173
والمسلك المتقسط ص 143 - 148، ورد المحتار 2 / 241 - 245، وشرح الرسالة مع
حاشية العدوي 1 / 475 - 477، والشرح الكبير بحاشيته 2 / 44 - 45، وشرح
المنهاج 2 / 116، ونهاية المحتاج 2 / 424 - 426، ومغني المحتاج 1 / 498 و
499 - 500، والمغني 3 / 417 - 424، والفروع 3 / 510.
(2) بدائع الصنائع 2 / 139.
(17/54)
الرَّمْيُ يَوْمَ النَّحْرِ:
61 - وَاجِبُ الرَّمْيِ فِي هَذَا الْيَوْمِ هُوَ رَمْيُ جَمْرَةِ
الْعَقَبَةِ وَحْدَهَا فَقَطْ، يَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ.
وَوَقْتُ الرَّمْيِ هَذَا يَبْدَأُ مِنْ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. وَمِنْ مُنْتَصَفِ لَيْلَةِ
يَوْمِ النَّحْرِ لِمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَهُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَآخِرُ وَقْتِ الرَّمْيِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ إِلَى فَجْرِ الْيَوْمِ التَّالِي، وَعِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ إِلَى الْمَغْرِبِ. حَتَّى يَجِبُ الدَّمُ فِي
الْمَذْهَبَيْنِ بِتَأْخِيرِ رَمْيِ يَوْمٍ عَنِ الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ.
وَآخِرُ وَقْتِ الرَّمْيِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
يَمْتَدُّ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
الرَّمْيُ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل وَالثَّانِي مِنْ أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ:
62 - يَجِبُ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ رَمْيُ الْجِمَارِ الثَّلاَثِ
عَلَى التَّرْتِيبِ: أَوَّلاً الْجَمْرَةُ الصُّغْرَى، الَّتِي تَلِي
مَسْجِدَ الْخَيْفِ بِمِنًى، ثُمَّ الْوُسْطَى، بَعْدَهَا، ثُمَّ جَمْرَةُ
الْعَقَبَةِ، يَرْمِي كُل جَمْرَةٍ مِنْهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ.
وَيَبْدَأُ وَقْتُ الرَّمْيِ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ بَعْدَ الزَّوَال،
وَلاَ يَجُوزُ قَبْلَهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَهِيَ
الرِّوَايَةُ الظَّاهِرَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: " إِنْ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ أَنْ
يَتَعَجَّل فِي النَّفْرِ الأَْوَّل فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَرْمِيَ فِي
الْيَوْمِ الثَّالِثِ قَبْل الزَّوَال، وَإِنْ رَمَى بَعْدَهُ فَهُوَ
أَفْضَل، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ قَصْدِهِ لاَ
(17/55)
يَجُوزُ أَنْ يَرْمِيَ إِلاَّ بَعْدَ
الزَّوَال، وَذَلِكَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ، لأَِنَّهُ إِذَا نَفَرَ بَعْدَ
الزَّوَال لاَ يَصِل إِلَى مَكَّةَ إِلاَّ بِاللَّيْل، فَيُحْرِجُ فِي
تَحْصِيل مَوْضِعِ النُّزُول.
أَمَّا الْوَقْتُ الْمَسْنُونُ فَيَمْتَدُّ مِنْ زَوَال الشَّمْسِ إِلَى
غُرُوبِهَا.
وَأَمَّا نِهَايَةُ وَقْتِ الرَّمْيِ: فَقَيَّدَهُ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ فِي كُل يَوْمٍ بِيَوْمِهِ، كَمَا فِي يَوْمِ النَّحْرِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ آخِرَ الْوَقْتِ
بِغُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَهُوَ
آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
النَّفْرُ الأَْوَّل:
63 - إِذَا رَمَى الْحَاجُّ الْجِمَارَ ثَانِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ - أَيْ يَرْحَل - إِلَى مَكَّةَ، إِنْ أَحَبَّ
التَّعَجُّل فِي الاِنْصِرَافِ مِنْ مِنًى، وَيُسَمَّى هَذَا الْيَوْمُ
يَوْمَ النَّفْرِ الأَْوَّل، وَبِهِ يَسْقُطُ رَمْيُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ
مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ اتِّفَاقًا.
وَمَذْهَبُ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ: لَهُ أَنْ يَنْفِرَ قَبْل غُرُوبِ
الشَّمْسِ، وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: لَهُ أَنْ يَنْفِرَ مَا لَمْ
يَطْلُعِ الْفَجْرُ مِنَ الْيَوْمِ الرَّابِعِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ.
الرَّمْيُ ثَالِثَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
64 - يَجِبُ رَمْيُ الْجِمَارِ الثَّلاَثِ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَلَى مَنْ
تَأَخَّرَ وَلَمْ يَنْفِرْ مِنْ مِنًى " النَّفَرَ الأَْوَّل " وَوَقْتُهُ
عِنْدَ الْجُمْهُورِ بَعْدَ الزَّوَال، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ
(17/55)
أَنْ يُقَدِّمَ الرَّمْيَ فِي هَذَا
الْيَوْمِ قَبْل الزَّوَال بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الرَّمْيِ فِي هَذَا الْيَوْمِ
غُرُوبُ الشَّمْسِ، وَأَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ لِهَذَا الْيَوْمِ
وَلِقَضَاءِ مَا قَبْلَهُ يَنْتَهِي أَيْضًا بِغُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ
الرَّابِعِ، لِخُرُوجِ وَقْتِ الْمَنَاسِكِ بِغُرُوبِ شَمْسِهِ.
النَّفْرُ الثَّانِي:
65 - إِذَا رَمَى الْحَاجُّ الْجِمَارَ الثَّلاَثَ فِي الْيَوْمِ
الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهُوَ رَابِعُ أَيَّامِ النَّحْرِ
انْصَرَفَ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ، وَلاَ يُسَنُّ لَهُ أَنْ يُقِيمَ
بِمِنًى، بَعْدَ الرَّمْيِ، وَيُسَمَّى يَوْمَ النَّفْرِ الثَّانِي، وَبِهِ
تَنْتَهِي مَنَاسِكُ مِنًى (1) .
النِّيَابَةُ فِي الرَّمْيِ: (الرَّمْيُ عَنِ الْغَيْرِ) :
66 - الْمَعْذُورُ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الرَّمْيَ بِنَفْسِهِ
كَالْمَرِيضِ يَجِبُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَرْمِي عَنْهُ، وَيَنْبَغِي
أَنْ يَكُونَ النَّائِبُ قَدْ رَمَى عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
رَمَى عَنْ نَفْسِهِ فَلْيَرْمِ عَنْ نَفْسِهِ الرَّمْيَ كُلَّهُ
__________
(1) انظر بحث الرمي في الهداية وفتح القدير 2 / 176 و 184 - 185، والمسلك
المتقسط ص 157 - 168، وشرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 477 و 481 و 482،
والشرح الكبير وحاشيته 2 / 45 - 48، وشرح المنهاج 2 / 121 - 122، ونهاية
المحتاج 2 / 430 و 434 - 436، والمغني 3 / 429 - 430 و 452 - 455، والفروع
3 / 210 - 212 و 518 - 520، وانظر ما يأتي في الإخلال بأحكام الحج من تفصيل
جزاء ترك الرمي أو شيء منه.
(17/56)
لِيَوْمِهِ أَوَّلاً، ثُمَّ لِيَرْمِ
عَمَّنِ اسْتَنَابَهُ، وَيُجْزِئُ هَذَا الرَّمْيُ عَنِ الأَْصِيل عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. إِلاَّ أَنَّ
الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: لَوْ رَمَى حَصَاةً لِنَفْسِهِ وَأُخْرَى
لِلآْخَرِ جَازَ وَلَكُرِهَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الإِْنَابَةَ خَاصَّةٌ بِمَرِيضٍ لاَ
يُرْجَى شِفَاؤُهُ قَبْل انْتِهَاءِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَعِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ: إِنَّهُ يَرْمِي حَصَيَاتِ الْجَمْرَةِ عَنْ
نَفْسِهِ أَوَّلاً، ثُمَّ يَرْمِيهَا عَنْ نَائِبِهِ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ
مِنَ الرَّمْيِ. وَهُوَ مَخْلَصٌ حَسَنٌ لِمَنْ خَشِيَ خَطَرَ الزِّحَامِ.
وَمَنْ عَجَزَ عَنْ الاِسْتِنَابَةِ كَالصَّبِيِّ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ،
فَيَرْمِي عَنِ الصَّبِيِّ وَلِيُّهُ، وَعَنِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ
رِفَاقُهُ، وَلاَ فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَرْمِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فَائِدَةُ الاِسْتِنَابَةِ أَنْ يَسْقُطَ
الإِْثْمُ عَنْهُ إِنِ اسْتَنَابَ وَقْتَ الأَْدَاءِ.
" وَإِلاَّ فَالدَّمُ عَلَيْهِ اسْتَنَابَ أَمْ لاَ، وَإِنَّمَا وَجَبَ
عَلَيْهِ الدَّمُ دُونَ الصَّغِيرِ وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِ (1) لأَِنَّهُ
الْمُخَاطَبُ بِسَائِرِ الأَْرْكَانِ (2) "
__________
(1) كالمغمى عليه.
(2) المبسوط 4 / 69، والبدائع 2 / 132، وحاشية شلبي على شرح الكنز 2 / 34،
والمسلك المتسقط / 232 - 133، والفتاوى الهندية 1 / 221، والزرقاني المالكي
وحاشية البناني عليه 3 / 282، والمجموع 8 / 184 - 186 وشرح المنهاج مع
حاشية القليوبي 2 / 122 - 123، ونهاية المحتاج 2 / 435، ومغني المحتاج 1 /
508، والمغني في فقه الحنابلة 3 / 491.
(17/56)
الْحَلْقُ وَالتَّقْصِيرُ:
67 - اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ حَلْقَ شَعْرِ الرَّأْسِ
أَوْ تَقْصِيرِهِ وَاجِبٌ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَهُوَ الرَّاجِحُ فِي
الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ رُكْنٌ فِي الْحَجِّ. وَاخْتَلَفُوا فِي
الْقَدْرِ الْوَاجِبِ حَلْقُهُ أَوْ تَقْصِيرُهُ.
فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْوَاجِبُ حَلْقُ جَمِيعِ
الرَّأْسِ أَوْ تَقْصِيرُهُ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَكْفِي مِقْدَارُ
رُبُعِ الرَّأْسِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَكْفِي إِزَالَةُ ثَلاَثِ
شَعَرَاتٍ أَوْ تَقْصِيرُهَا.
68 - وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ أَوِ التَّقْصِيرَ لاَ
يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ وَلاَ مَكَانٍ، لَكِنَّ السُّنَّةَ فِعْلُهُ فِي
الْحَرَمِ أَيَّامَ النَّحْرِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْحَلْقَ يَخْتَصُّ بِأَيَّامِ
النَّحْرِ، وَبِمِنْطَقَةِ الْحَرَمِ، فَلَوْ أَخَل بِأَيٍّ مِنْ هَذَيْنِ
لَزِمَهُ الدَّمُ، وَيَحْصُل لَهُ التَّحَلُّل بِهَذَا الْحَلْقِ (1) .
رَابِعًا: الْمَبِيتُ بِمِنًى لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
69 - مِنًى: بِالْكَسْرِ وَالتَّنْوِينِ شُعَيْبٌ بَيْنَ جِبَالٍ، طُولُهُ
مِيلاَنِ وَعَرْضُهُ يَسِيرٌ (2) .
__________
(1) انظر بحث الحلق في الهداية وفتح القدير 2 / 178 - 179 و 252 - 253
والمسلك المتقسط ص 151 - 154، وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 478 - 479،
والشرح الكبير وحاشيته 2 / 460، والمغني 3 / 435 - 442، والفروع 3 / 513 -
516.
(2) انظر تفصيل حدود منى وتحقيق الخلاف فيها في مصطلح: (منى) .
(17/57)
وَالْمَبِيتُ بِهَا لَيَالِيَ أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ وَاجِبٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، يَلْزَمُ الدَّمُ
لِمَنْ تَرَكَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَبِيتَ بِهَا سُنَّةٌ،
وَالْقَدْرُ الْوَاجِبُ لِلْمَبِيتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ مُكْثُ
أَكْثَرِ اللَّيْل (1) .
خَامِسًا: طَوَافُ الْوَدَاعِ:
70 - طَوَافُ الْوَدَاعِ يُسَمَّى طَوَافَ الصَّدَرِ، وَطَوَافَ آخِرِ
الْعَهْدِ:
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ
وَاجِبٌ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ (2) .
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِهِ بِأَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أُمِرَ
النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إِلاَّ أَنَّهُ
خُفِّفَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ (3) .
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ، بِأَنَّهُ جَازَ
__________
(1) الهداية وشرحها 2 / 186، والمسلك المتقسط ص 22، 157، وشرح المنهاج 2 /
124، ومغني المحتاج 1 / 505 و 513، وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 480،
والشرح الكبير بحاشيته 2 / 48 - 49، والمغني 3 / 449، والفروع 3 / 518 -
519 و 527.
(2) لكنه عند الشافعية والمالكية واجب لا يختص بالحج بل هو لكل من فارق
مكة.
(3) حديث: " أمر الناس أن يكون. . . . " أخرجه البخاري 2 / 179، ومسلم 4 /
93.
(17/57)
لِلْحَائِضِ تَرْكُهُ دُونَ فِدَاءٍ،
وَلَوْ وَجَبَ لَمْ يَجُزْ لِلْحَائِضِ تَرْكُهُ (1) .
شُرُوطُ وُجُوبِهِ:
71 - أَنْ يَكُونَ الْحَاجُّ مِنْ أَهْل الآْفَاقِ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْمَكِّيِّ، لأَِنَّ الطَّوَافَ
وَجَبَ تَوْدِيعًا لِلْبَيْتِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لاَ يُوجَدُ فِي أَهْل
مَكَّةَ لأَِنَّهُمْ فِي وَطَنِهِمْ
وَأَلْحَقَ الْحَنَفِيَّةُ مَنْ كَانَ مِنْ مِنْطَقَةِ الْمَوَاقِيتِ،
لأَِنَّ حُكْمَهُمْ حُكْمُ أَهْل مَكَّةَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَسْقُطُ إِلاَّ عَمَّنْ كَانَ مَنْزِلُهُ فِي
الْحَرَمِ فَقَطْ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يُطْلَبُ طَوَافُ الْوَدَاعِ
فِي حَقِّ كُل مَنْ قَصَدَ السَّفَرَ مِنْ مَكَّةَ، وَلَوْ كَانَ مَكِّيًّا
إِذَا قَصَدَ سَفَرًا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ. وَوَصَفَهُ
الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ سَفَرٌ بَعِيدٌ كَالْجُحْفَةِ لاَ قَرِيبًا
كَالتَّنْعِيمِ إِذَا خَرَجَ لِلسَّفَرِ لاَ لِيُقِيمَ بِمَوْضِعٍ آخَرَ
أَوْ بِمَسْكَنِهِ، فَإِنْ خَرَجَ لِيُقِيمَ بِمَوْضِعٍ آخَرَ أَوْ
بِمَسْكَنِهِ طُلِبَ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي خَرَجَ
إِلَيْهِ قَرِيبًا.
72 - الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ: فَلاَ يَجِبُ عَلَى
الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، وَلاَ يُسَنُّ أَيْضًا حَتَّى إِنَّهُمَا لاَ
يَجِبُ عَلَيْهِمَا دَمٌ بِتَرْكِهِ، لِمَا سَبَقَ مِنْ
__________
(1) قارن بفتح القدير 2 / 188، قال في شرح الرسالة 1 / 482 " مستحب " وفي
آخر الكتاب قال: " سنة "، وانظر المغني 3 / 458، وقارن البدائع 2 / 42.
(17/58)
حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِلاَّ أَنَّهُ
خُفِّفَ عَنِ الْحَائِضِ وَكَذَا حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ صَفِيَّةَ
لَمَّا حَاضَتْ فَقَدْ سَافَرَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ دُونَ أَنْ تَطُوفَ لِلْوَدَاعِ.
فَأَمَّا الطَّهَارَةُ مِنَ الْجَنَابَةِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ
طَوَافِ الْوَدَاعِ، فَيَكُونُ وَاجِبًا عَلَى الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ،
لأَِنَّهُ يُمْكِنُهُمَا إِزَالَةُ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ فِي الْحَال
بِالْغُسْل أَوِ التَّيَمُّمِ.
وَإِذَا طَهُرَتِ الْحَائِضُ قَبْل أَنْ تُفَارِقَ بُنْيَانَ مَكَّةَ
يَلْزَمُهَا طَوَافُ الصَّدَرِ، وَإِنْ جَاوَزَتْ جُدْرَانَ مَكَّةَ ثُمَّ
طَهُرَتْ لَمْ يَلْزَمْهَا طَوَافُ الصَّدَرِ، اتِّفَاقًا بَيْنَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. لأَِنَّهَا حِينَ
خَرَجَتْ مِنَ الْعُمْرَانِ صَارَتْ مُسَافِرَةً، بِدَلِيل جَوَازِ
الْقَصْرِ، فَلاَ يَلْزَمُهَا الْعَوْدُ وَلاَ الدَّمُ (1) .
73 - أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَّى مَنَاسِكَ الْحَجِّ مُفْرِدًا أَوْ
مُتَمَتِّعًا أَوْ قَارِنًا. فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَمِرِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَحْدَهُمْ، وَلَوْ كَانَ آفَاقِيًّا، وَكَأَنَّهُمْ
نَظَرُوا إِلَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ خَتْمُ أَعْمَال الْحَجِّ، فَلاَ
يُطْلَبُ مِنَ الْمُعْتَمِرِ.
شُرُوطُ صِحَّتِهِ:
74 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ طَوَافِ الْوَدَاعِ مَا يَأْتِي:
أ - أَصْل نِيَّةِ الطَّوَافِ لاَ التَّعْيِينُ.
ب - أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ.
ج - الْوَقْتُ:
__________
(1) العناية 2 / 224، وانظر المبسوط 4 / 179.
(17/58)
وَوَقْتُ طَوَافِ الْوَدَاعِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ يَمْتَدُّ عَقِبَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ لَوْ تَأَخَّرَ
سَفَرُهُ، وَكُل طَوَافٍ يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ
يَقَعُ عَنْ طَوَافِ الصَّدَرِ.
أَمَّا السَّفَرُ فَوْرَ الطَّوَافِ فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِهِ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، حَتَّى لَوْ كَانَ لِلصَّدَرِ، ثُمَّ تَشَاغَل
بِمَكَّةَ بَعْدَهُ حَتَّى وَلَوْ أَقَامَ أَيَّامًا كَثِيرَةً، لاَ يَجِبُ
عَلَيْهِ طَوَافٌ آخَرُ، لأَِنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ
بِالْبَيْتِ نُسُكًا، لاَ إِقَامَةً، وَالطَّوَافُ آخِرُ مَنَاسِكِهِ
بِالْبَيْتِ، إِلاَّ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُؤَخِّرَ طَوَافَ
الصَّدَرِ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُسَافِرَ. فِيهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَقْتُهُ
بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَعَزْمِهِ عَلَى السَّفَرِ،
وَيُغْتَفَرُ لَهُ أَنْ يَشْتَغِل بَعْدَهُ بِأَسْبَابِ السَّفَرِ،
كَشِرَاءِ الزَّادِ، وَحَمْل الأَْمْتِعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلاَ
يُعِيدُهُ، لَكِنْ إِنْ مَكَثَ بَعْدَهُ مُشْتَغِلاً بِأَمْرٍ آخَرَ غَيْرِ
أَسْبَابِ السَّفَرِ كَشِرَاءِ مَتَاعٍ، أَوْ زِيَارَةِ صِدِّيقٍ، أَوْ
عِيَادَةِ مَرِيضٍ احْتَاجَ إِلَى إِعَادَةِ الطَّوَافِ.
وَاجِبَاتُ الْحَجِّ التَّابِعَةُ لِغَيْرِهَا:
75 - وَاجِبَاتُ الْحَجِّ التَّابِعَةُ لِغَيْرِهَا هِيَ أُمُورٌ يَجِبُ
أَدَاؤُهَا فِي ضِمْنِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، أَوْ ضِمْنِ
وَاجِبٍ أَصْلِيٍّ مِنْ وَاجِبَاتِهِ.
(17/59)
وَتَجِدُ دِرَاسَتَهَا فِي
الْمُصْطَلَحَاتِ الَّتِي تَخُصُّ أَرْكَانَ الْحَجِّ أَوْ وَاجِبَاتِهِ،
سِوَى تَرْتِيبِ أَعْمَال يَوْمِ النَّحْرِ، فَنَدْرُسُهُ هُنَا، وَنُشِيرُ
إِلَى مَا سِوَاهُ إِشَارَةً سَرِيعَةً.
أَوَّلاً: وَاجِبَاتُ الإِْحْرَامِ:
76 - أ - كَوْنُ الإِْحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ الْمَكَانِيِّ، لاَ
بَعْدَهُ (انْظُرْ إِحْرَامٌ ف 31 - 32)
ب - التَّلْبِيَةُ وَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَيُسَنُّ
قَرْنُهَا بِالإِْحْرَامِ، وَشَرْطٌ فِي الإِْحْرَامِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَسُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (انْظُرْ إِحْرَامٌ: ف 29)
.
ج - اجْتِنَابُ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ (انْظُرْ إِحْرَامٌ: ف 31 وَ 55
- 94) .
ثَانِيًا: وَاجِبَاتُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ:
77 - هِيَ امْتِدَادُ الْوُقُوفِ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ عَلَى
تَفْصِيل الْمَذَاهِبِ، سِوَى الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّهُ سُنَّةٌ
عِنْدَهُمْ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْوُقُوفُ بَعْدَ الْمَغْرِبِ هُوَ
الرُّكْنُ، وَقَبْلَهُ وَاجِبٌ.
ثَالِثًا: وَاجِبَاتُ الطَّوَافِ:
78 - أ - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْشْوَاطَ الثَّلاَثَ
الأَْخِيرَةَ مِنَ الطَّوَافِ وَاجِبَةٌ.
وَهِيَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ رُكْنٌ فِي الطَّوَافِ (ف 128) (وَانْظُرْ
مُصْطَلَحَ طَوَافٌ) .
ب - أَوْجَبَ الْحَنَفِيَّةُ الأُْمُورَ التَّالِيَةَ فِي الطَّوَافِ،
(17/59)
وَقَال الْجُمْهُورُ هِيَ مِنْ شُرُوطِ
صِحَّتِهِ. وَهَذِهِ الأُْمُورُ هِيَ:
1 - الطَّهَارَةُ مِنَ الأَْحْدَاثِ وَالأَْنْجَاسِ.
2 - سَتْرُ الْعَوْرَةِ.
3 - ابْتِدَاءُ الطَّوَافِ مِنَ الْحَجَرِ.
4 - التَّيَامُنُ، أَيْ كَوْنُ الطَّائِفِ عَنْ يَمِينِ الْبَيْتِ.
5 - دُخُول الْحِجْرِ (أَيِ الْحَطِيمِ) فِي ضِمْنِ الطَّوَافِ.
ج - أَوْجَبَ الْحَنَفِيَّةُ الأُْمُورَ التَّالِيَةَ فِي الطَّوَافِ
وَهِيَ سُنَّةٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ:
1 - الْمَشْيُ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ.
2 - رَكْعَتَا الطَّوَافِ.
3 - إِيقَاعُ طَوَافِ الرُّكْنِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ.
رَابِعًا: وَاجِبَاتُ السَّعْيِ:
79 - أ - الْمَشْيُ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَذَهَبَ
الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ.
ب - إِكْمَال أَشْوَاطِ السَّعْيِ إِلَى سَبْعَةٍ بَعْدَ الأَْرْبَعَةِ
الأُْولَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَكُلُّهَا رُكْنٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
خَامِسًا: وَاجِبُ الْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ:
80 - أَوْجَبَ الْحَنَفِيَّةُ جَمْعَ صَلاَتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
تَأْخِيرًا فِي الْمُزْدَلِفَةِ، وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
سَادِسًا: وَاجِبَاتُ الرَّمْيِ:
81 - يَجِبُ عَدَمُ تَأْخِيرِ رَمْيِ يَوْمٍ لِتَالِيهِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَإِلَى الْمَغْرِبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
(17/60)
سَابِعًا: وَاجِبَاتُ ذَبْحِ الْهَدْيِ:
82 - أ - أَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ.
ب - أَنْ يَكُونَ فِي الْحَرَمِ.
ثَامِنًا: وَاجِبَاتُ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ:
83 - أ - كَوْنُ الْحَلْقِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ.
ب - كَوْنُ الْحَلْقِ فِي الْحَرَمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَطْ.
تَاسِعًا: تَرْتِيبُ أَعْمَال يَوْمِ النَّحْرِ:
84 - يَفْعَل الْحَاجُّ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ ثَلاَثَةَ أَعْمَالٍ
عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ:
رَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ ذَبْحَ الْهَدْيِ إِنْ كَانَ قَارِنًا
أَوْ مُتَمَتِّعًا (ر: ف 5 - 7) ثُمَّ الْحَلْقَ أَوِ التَّقْصِيرَ.
ثُمَّ يَذْهَبُ إِلَى مَكَّةَ فَيَطُوفُ طَوَافَ الزِّيَارَةِ.
وَالأَْصْل فِي هَذَا التَّرْتِيبِ هُوَ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ
يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ بِمِنًى، فَدَعَا
بِذِبْحٍ فَذُبِحَ، ثُمَّ دَعَا بِالْحَلاَّقِ فَأَخَذَ بِشِقِّ رَأْسِهِ
الأَْيْمَنِ، فَجَعَل يَقْسِمُ بَيْنَ مَنْ يَلِيهِ الشَّعْرَةَ
وَالشَّعْرَتَيْنِ، ثُمَّ أَخَذَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الأَْيْسَرِ فَحَلَقَهُ
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ: ثُمَّ رَكِبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ (1) .
__________
(1) حديث أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة يوم النحر.
أخرجه مسلم (2 / 947 - ط الحلبي) .
(17/60)
حُكْمُ هَذَا التَّرْتِيبِ:
85 - مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ هَذَا التَّرْتِيبِ فَقَدِ
اخْتَلَفُوا فِيهِ:
وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الاِخْتِلاَفِ هُوَ وُرُودُ حَدِيثٍ آخَرَ يَدُل
عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ سُنَّةٌ، لاَ فِدَاءَ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ.
ذَلِكَ هُوَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ
فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَقَال رَجُلٌ: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْل
أَنْ أَذْبَحَ؟ قَال: اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ فَجَاءَ آخَرُ فَقَال: لَمْ
أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْل أَنْ أَرْمِيَ؟ قَال: ارْمِ وَلاَ حَرَجَ فَمَا
سُئِل يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلاَّ قَال: افْعَل
وَلاَ حَرَجَ (1) .
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ
إِلَى وُجُوبِ تَرْتِيبِ أَعْمَال يَوْمِ النَّحْرِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ،
أَخَذَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِهِ لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَ الأَْدِلَّةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالصَّاحِبَانِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى
أَنَّ التَّرْتِيبَ سُنَّةٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو الأَْخِيرِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَمَا سُئِل يَوْمئِذٍ. . يَدُل
بِعُمُومِهِ عَلَى سُنِّيَّةِ التَّرْتِيبِ.
أَمَّا الأَْوَّلُونَ فَاسْتَدَلُّوا بِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ
__________
(1) حديث عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة
الوداع. . . أخرجه البخاري (الفتح 3 / 569 - ط السلفية) ومسلم (2 / 948 - ط
الحلبي) .
(17/61)
يَدُل عَلَى الْوُجُوبِ، ثُمَّ ذَهَبُوا
مَذَاهِبَ فِي كَيْفِيَّةِ التَّرْتِيبِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ أَعْمَال مِنًى
حَسَبَ الْوَارِدِ، أَمَّا التَّرْتِيبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ طَوَافِ
الإِْفَاضَةِ فَسُنَّةٌ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا:
مُرَاعَاةُ اتِّبَاعِ فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَنَسٍ، وقَوْله تَعَالَى: {لِيَذْكُرُوا
اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ فَكُلُوا
مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ
وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1) .
وَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّهُ أَمَرَ بِقَضَاءِ التَّفَثِ وَهُوَ
الْحَلْقُ مُرَتَّبًا عَلَى الذَّبْحِ، فَدَل عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْوَاجِبُ فِي التَّرْتِيبِ: تَقْدِيمُ الرَّمْيِ
عَلَى الْحَلْقِ وَعَلَى طَوَافِ الإِْفَاضَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ
التَّرْتِيبِ لاَ يَجِبُ، بَل هُوَ سُنَّةٌ.
اسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ الرَّمْيِ عَلَى الْحَلْقِ بِأَنَّهُ
بِالإِْجْمَاعِ مَمْنُوعٌ مِنْ حَلْقِ شَعْرِهِ قَبْل التَّحَلُّل
الأَْوَّل، وَلاَ يَحْصُل التَّحَلُّل الأَْوَّل إِلاَّ بِرَمْيِ جَمْرَةِ
الْعَقَبَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ تَقْدِيمِ الذَّبْحِ عَلَى الْحَلْقِ
بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو السَّابِقِ، أَخْذًا بِالتَّقْدِيمِ
وَالتَّأْخِيرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي
__________
(1) سورة الحج / 29 - 30
(17/61)
الْحَدِيثِ، وَفَسَّرُوا فَمَا سُئِل عَنْ
شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ. . . بِأَنَّ الْمُرَادَ مِمَّا ذُكِرَ فِي
صَدْرِ الْحَدِيثِ لِتَقْدِيمِهِ وَتَأْخِيرِهِ.
وَأَخَذَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْوُجُوبِ عَنْهُ بِلَفْظِ "
لَمْ أَشْعُرْ " فَقَال: يَجِبُ التَّرْتِيبُ عَلَى الْعَالِمِ بِهِ
الذَّاكِرِ لَهُ، أَمَّا الْجَاهِل وَالنَّاسِي فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ،
وَقَيَّدُوا شَطْرَ الْحَدِيثِ الأَْخِيرِ " فَمَا سُئِل. . . " لِهَذَا
الْمَعْنَى، أَيْ قَال: لاَ حَرَجَ فِيمَا قُدِّمَ وَأُخِّرَ، مِنْ غَيْرِ
شُعُورٍ.
وَالْحَاصِل كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ خِلاَفًا بَيْنَهُمْ
فِي أَنَّ مُخَالَفَةَ التَّرْتِيبِ لاَ تُخْرِجُ هَذِهِ الأَْفْعَال عَنِ
الإِْجْزَاءِ، وَلاَ يَمْنَعُ وُقُوعَهَا مَوْقِعَهَا، وَإِنَّمَا
اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدَّمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا (1) ".
التَّحَلُّل مِنْ إِحْرَامِ الْحَجِّ:
86 - يَحْصُل التَّحَلُّل بِأَدَاءِ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَوَاجِبَاتُهُ
رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَالْحَلْقُ، وَالتَّحَلُّل مِنْ إِحْرَامِ
الْحَجِّ. وَهَذَا التَّحَلُّل قِسْمَانِ: التَّحَلُّل الأَْوَّل أَوِ
الأَْصْغَرُ، وَالتَّحَلُّل الثَّانِي أَوِ الأَْكْبَرُ، وَقَدْ سَبَقَ
التَّحَلُّل فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٌ)
(ف 122 - 125) .
__________
(1) المغني 3 / 448، وانظر مسألة ترتيب أعمال يوم النحر في الهداية، وفتح
القدير 2 / 177، وبدائع الصنائع 2 / 158 - 159، وشرح الرسالة بحاشية العدوي
1 / 479، والشرح الكبير 2 / 47 - 48، والمهذب مع المجموع 8 / 153 - 154 و
164، ونهاية المحتاج 2 / 429، والمغني 3 / 446 - 449، والفروع 3 / 515.
(17/62)
سُنَنُ الْحَجِّ وَمُسْتَحَبَّاتُهُ
وَمَمْنُوعَاتُهُ وَمُبَاحَاتُهُ
الأَْوَّل: سُنَنُ الْحَجِّ:
87 - السُّنَنُ فِي الْحَجِّ يُطْلَبُ فِعْلُهَا، وَيُثَابُ عَلَيْهَا،
لَكِنْ لاَ يَلْزَمُ بِتَرْكِهَا الْفِدَاءُ مِنْ دَمٍ أَوْ صَدَقَةٍ (1) .
أَوَّلاً: طَوَافُ الْقُدُومِ:
88 - وَيُسَمَّى طَوَافُ الْقَادِمِ، طَوَافَ الْوُرُودِ، وَطَوَافَ
الْوَارِدِ، وَطَوَافَ التَّحِيَّةِ لأَِنَّهُ شُرِعَ لِلْقَادِمِ
وَالْوَارِدِ مِنْ غَيْرِ مَكَّةَ لِتَحِيَّةِ الْبَيْتِ. وَيُسَمَّى
أَيْضًا طَوَافَ اللِّقَاءِ، وَأَوَّل عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ، وَطَوَافُ
الْقُدُومِ سُنَّةٌ لِلآْفَاقِيِّ الْقَادِمِ مِنْ خَارِجِ مَكَّةَ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، تَحِيَّةً لِلْبَيْتِ
الْعَتِيقِ، لِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ الْبَدْءُ بِهِ دُونَ تَأْخِيرٍ،
وَسَوَّى الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ دَاخِلِي مَكَّةَ الْمُحْرِمِ مِنْهُمْ
وَغَيْرِ الْمُحْرِمِ فِي سُنِّيَّةِ طَوَافِ الْقُدُومِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ، مَنْ تَرَكَهُ لَزِمَهُ
الدَّمُ.
وَوُجُوبُ طَوَافِ الْقُدُومِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى كُل مَنْ
أَحْرَمَ مِنَ الْحِل، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْل مَكَّةَ أَوْ
__________
(1) انظر المسلك المتقسط في المنسك المتوسط ص 51 - 52 وقد اعتمدنا عليه في
تتبع السنن الأصلية، بعد التثبت من استقرائه لها.
(2) وذلك بناء على مذهبهم في جواز دخول الحرم بغير إحرام لمن قصده لحاجة
غير النسك. انظر مصطلح (إحرام)
(17/62)
غَيْرِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ إِحْرَامُهُ
مِنَ الْحِل وَاجِبًا كَالآْفَاقِيِّ الْقَادِمِ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ،
أَمْ نَدْبًا كَالْمُقِيمِ بِمَكَّةَ الَّذِي مَعَهُ نَفَسٌ (مُتَّسَعٌ
مِنَ الْوَقْتِ) وَخَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ فَأَحْرَمَ مِنَ الْحِل،
وَسَوَاءٌ كَانَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا أَمْ قَارِنًا، وَكَذَا
الْمُحْرِمُ مِنَ الْحَرَمِ إِنْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْحْرَامُ مِنَ
الْحِل، بِأَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَلاَلاً مُخَالِفًا لِلنَّهْيِ.
وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى هَؤُلاَءِ مَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمْ مُرَاهِقًا،
وَهُوَ مَنْ ضَاقَ وَقْتُهُ حَتَّى خَشِيَ فَوَاتَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ
(1) .
وَالأَْصْل فِيهِ فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَمَا ثَبَتَ فِي أَوَّل حَدِيثِ جَابِرٍ قَوْلُهُ: حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا
الْبَيْتَ مَعَهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَل ثَلاَثًا وَمَشَى أَرْبَعًا
(2) .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ أَوَّل شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ
حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ
أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ. . . الْحَدِيثَ (3) .
فَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ بِذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ: خُذُوا
عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ (4) . وَقَال
__________
(1) انظر هذا التفصيل بتمامه في شرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 465.
(2) حديث جابر: " حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن. . . " أخرجه مسلم
(2 / 887 - ط الحلبي) .
(3) حديث عائشة: " أن أول شيء بدأ به حين قدم. . . " أخرجه البخاري (الفتح
3 / 477 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 907 - ط الحلبي) .
(4) حديث: " خذوا عني مناسككم " أخرجه مسلم (2 / 943 - ط الحلبي) النسائي
(5 / 270 - ط المكتبة التجارية) من حديث جابر بن عبد الله، واللفظ لأحمد.
(17/63)
الْجُمْهُورُ: إِنَّ الْقَرِينَةَ قَامَتْ
عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ التَّحِيَّةُ،
فَأَشْبَهَ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، فَيَكُونُ سُنَّةً.
مَتَى يَسْقُطُ طَوَافُ الْقُدُومِ:
89 - يَسْقُطُ طَوَافُ الْقُدُومِ عَمَّنْ يَلِي:
أ - الْمَكِّيُّ. وَمَنْ فِي حُكْمِهِ، وَهُوَ الآْفَاقِيُّ إِذَا أَحْرَمَ
مِنْ مَكَّةَ، وَشَرَطَ فِيهِ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ لاَ يَكُونَ وَجَبَ
عَلَيْهِ الإِْحْرَامُ مِنَ الْحِل، كَمَا سَبَقَ، وَوَسَّعَ
الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: يَسْقُطُ عَمَّنْ كَانَ مَنْزِلُهُ فِي
مِنْطَقَةِ الْمَوَاقِيتِ لأَِنَّ لَهَا حُكْمَ مَكَّةَ.
وَعِلَّةُ سُقُوطِ طَوَافِ الْقُدُومِ عَنْ هَؤُلاَءِ أَنَّهُ شُرِعَ
لِلْقُدُومِ، وَالْقُدُومُ فِي حَقِّهِمْ غَيْرُ مَوْجُودٍ.
ب - الْمُعْتَمِرُ وَالْمُتَمَتِّعُ وَلَوْ آفَاقِيًّا عِنْدَ
الْجُمْهُورِ، لِدُخُول طَوَافِ الْفَرْضِ عَلَيْهِ، وَهُوَ طَوَافُ
الْعُمْرَةِ، فَطَوَافُ الْقُدُومِ عِنْدَهُمْ خَاصٌّ بِمَنْ أَحْرَمَ
بِالْحَجِّ مُفْرِدًا، أَوْ قَارِنًا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ،
وَتَفَرَّدَ الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: يَطُوفُ الْمُتَمَتِّعُ لِلْقُدُومِ
قَبْل طَوَافِ الإِْفَاضَةِ، ثُمَّ يَطُوفُ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ.
ج - مَنْ قَصَدَ عَرَفَةَ رَأْسًا لِلْوُقُوفِ يَسْقُطُ عَنْهُ طَوَافُ
الْقُدُومِ، " لأَِنَّ مَحَلَّهُ الْمَسْنُونَ قَبْل وُقُوفِهِ "،
وَقَرَّرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنَ
الْحَرَمِ أَوْ أَحْرَمَ بِهِ مِنَ الْحِل وَلَكِنَّهُ مُرَاهِقٌ أَوْ
أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْحِل ثُمَّ أَرْدَفَ بِالْحَجِّ عَلَيْهَا
فِي الْحَرَمِ فَإِنَّهُ لاَ يُطَالَبُ بِطَوَافِ الْقُدُومِ وَإِذَا لَمْ
يُطَالَبْ بِطَوَافِ الْقُدُومِ فَإِنَّهُ يُؤَخِّرُ السَّعْيَ إِلَى
طَوَافِ الإِْفَاضَةِ،
(17/63)
لأَِنَّهُ سَيَأْتِي أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ
يَكُونَ السَّعْيُ عَقِبَ أَحَدِ طَوَافَيِ الْحَجِّ فَلَمَّا سَقَطَ
طَوَافُ الْقُدُومِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ عَقِبَ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ.
فُرُوعٌ:
89 م - الأَْوَّل: قَال فِي التَّوْضِيحِ: وَمَتَى يَكُونُ الْحَاجُّ
مُرَاهِقًا إِنْ قَدِمَ يَوْمَ عَرَفَةَ أَحْبَبْتُ تَأْخِيرَ طَوَافِهِ،
وَإِنْ قَدِمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَحْبَبْتُ تَعْجِيلَهُ وَلَهُ فِي
التَّأْخِيرِ سَعَةٌ وَفِي الْمُخْتَصَرِ عَنْ مَالِكٍ، إِنْ قَدِمَ يَوْمَ
عَرَفَةَ فَلْيُؤَخِّرْهُ إِنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ طَافَ وَسَعَى، وَإِنْ
قَدِمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَمَعَهُ أَهْلٌ فَلْيُؤَخِّرْ إِنْ شَاءَ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَهْلٌ فَلْيَطُفْ وَلْيَسْعَ. وَمَعْنَى ذَلِكَ
أَنَّ الاِشْتِغَال يَوْمَ عَرَفَةَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى عَرَفَةَ
أَوْلَى، وَأَمَّا يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَمَنْ كَانَ مَعَهُ أَهْلٌ كَانَ
فِي شُغْلٍ مِمَّا لاَ بُدَّ لِلْمُسَافِرِ بِالأَْهْل مِنْهُ. انْتَهَى.
وَقَال ابْنُ فَرْحُونَ: لأَِنَّهُ بِأَهْلِهِ فِي شُغُلٍ، وَحَال
الْمُنْفَرِدِ أَخَفُّ، وَقَال قَبْلَهُ: وَالْمُرَاهِقُ هُوَ الَّذِي
يَضِيقُ وَقْتُهُ عَنْ إِيقَاعِهِ طَوَافَ الْقُدُومِ وَالسَّعْيِ وَمَا
لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ أَحْوَالِهِ وَيَخْشَى فَوَاتَ الْحَجِّ إِنْ تَشَاغَل
بِذَلِكَ فَلَهُ تَأْخِيرُ الطَّوَافِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا قَالَهُ أَشْهَبُ
وَنَقَلَهُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُخْتَصَرِ انْتَهَى مِنْ مَنَاسِكِهِ.
الثَّانِي: حُكْمُ مَنْ أَحْرَمَ بِالْقِرَانِ مِنْ الْحِل حُكْمُ مَنْ
أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنَ الْحِل فِي وُجُوبِ طَوَافِ الْقُدُومِ عَلَيْهِ
وَتَعْجِيل السَّعْيِ بَعْدَهُ، فَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ وَهُوَ غَيْرُ
مُرَاهِقٍ فَعَلَيْهِ الدَّمُ، وَإِنْ كَانَ
(17/64)
مُرَاهِقًا فَلاَ دَمَ عَلَيْهِ قَالَهُ
فِي الْمُدَوَّنَةِ.
الثَّالِثُ: إِذَا أَرْدَفَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ فِي الْحِل
فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ أَحْرَمَ بِالْقِرَانِ مِنَ الْحِل فِي وُجُوبِ
طَوَافِ الْقُدُومِ وَالسَّعْيِ بَعْدَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُرَاهِقًا
وَهُوَ ظَاهِرٌ.
الرَّابِعُ: إِذَا أَحْرَمَ بِالْقِرَانِ مِنْ مَكَّةَ أَوْ بِالْعُمْرَةِ
مِنْ مَكَّةَ ثُمَّ أَرْدَفَ عَلَيْهَا حَجَّةً وَصَارَ قَارِنًا فَإِنَّهُ
يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ لِلْحِل عَلَى الْمَشْهُورِ، فَإِذَا دَخَل مِنَ
الْحِل لاَ يَطُوفُ وَلاَ يَسْعَى لأَِنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ.
قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَنَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلَهَا وَلِلْقِرَانِ الْحِل.
الْخَامِسُ: مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوْ بِالْقِرَانِ مِنْ الْحِل
وَمَضَى إِلَى عَرَفَاتٍ وَلَمْ يَدْخُل مَكَّةَ وَلَيْسَ بِمُرَاهِقٍ
فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَرَكَ طَوَافَ الْقُدُومِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ
الدَّمُ. قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَكَلاَمُ الْمُصَنِّفِ فِي
مَنَاسِكِهِ يُوهِمُ سُقُوطَ الدَّمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَسْقُطُ طَوَافُ الْقُدُومِ عَمَّنْ تَأَخَّرَ
عَنْهُ إِلَى الْوُقُوفِ، فَإِذَا قَدِمَ مَكَّةَ يَبْدَأُ طَوَافَ
الْقُدُومِ قَبْل طَوَافِ الزِّيَارَةِ.
د - قَرَّرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَسْقُطُ طَوَافُ الْقُدُومِ عَنْ
الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّاسِي، إِلاَّ أَنْ
يَزُول الْمَانِعُ وَيَتَّسِعَ الزَّمَنُ لِطَوَافِ الْقُدُومِ فَإِنَّهُ
حِينَئِذٍ يَجِبُ.
__________
(1) الحطاب 3 / 83.
(17/64)
وَقْتُ طَوَافِ الْقُدُومِ:
90 - يَبْدَأُ وَقْتُ طَوَافِ الْقُدُومِ حِينَ دُخُول مَكَّةَ،
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُبَادِرَ بِهِ قَبْل اسْتِئْجَارِ الْمَنْزِل وَنَحْوِ
ذَلِكَ، لأَِنَّهُ تَحِيَّةُ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَآخِرُ وَقْتِهِ
وُقُوفُهُ بِعَرَفَةَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لأَِنَّهُ بَعْدَ الْوُقُوفِ
مُطَالَبٌ بِطَوَافِ الْفَرْضِ، وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ (1) .
كَيْفِيَّةُ طَوَافِ الْقُدُومِ:
91 - كَيْفِيَّةُ طَوَافِ الْقُدُومِ كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ، إِلاَّ
أَنَّهُ لاَ اضْطِبَاعَ فِيهِ وَلاَ رَمَل، وَلاَ سَعْيَ لأَِجْلِهِ،
إِلاَّ إِذَا أَرَادَ تَقْدِيمَ سَعْيِ الْحَجِّ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ
يُسَنُّ لَهُ عِنْدَئِذٍ الاِضْطِبَاعُ وَالرَّمَل فِي الطَّوَافِ، لأَِنَّ
الرَّمَل وَالاِضْطِبَاعَ سُنَّةٌ فِي كُل طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ (2) .
ثَانِيًا: خُطَبُ الإِْمَامِ:
92 - وَهِيَ سُنَّةٌ فِي ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ، وَأَرْبَعَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ،
__________
(1) انظر مناقشة هامة لهذا الاتجاه في المغني 3 / 443.
(2) انظر في طواف القدوم مع الإحالات السابقة: الهداية وشروحها 2 / 155،
191، والبدائع 2 / 146 - 147، وشرح الرسالة 1 / 465، وشرح الزرقاني 2 /
265، والشرح الكبير 2 / 33 - 34، والمهذب 8 / 12، ونهاية المحتاج 2 / 404 -
405، والمغني 3 / 442 - 443، والكافي 1 / 608 - 609، والمقنع وشرحه ص 455،
ونيل الأوطار 5 / 38.
(17/65)
وَتُؤَدَّى الْخُطَبُ كُل وَاحِدَةٍ
خُطْبَةً وَاحِدَةً بَعْدَ صَلاَةِ الظُّهْرِ، إِلاَّ خُطْبَةَ يَوْمِ
عَرَفَةَ، فَإِنَّهَا خُطْبَتَانِ بَعْدَ الزَّوَال قَبْل الصَّلاَةِ.
وَيَفْتَتِحُ الْخُطْبَةَ بِالتَّلْبِيَةِ إِنْ كَانَ مُحْرِمًا،
وَبِالتَّكْبِيرِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا.
الْخُطْبَةُ الأُْولَى:
93 - تُسَنُّ هَذِهِ الْخُطْبَةُ فِي مَكَّةَ يَوْمَ السَّابِعِ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ قَبْل يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهَا أَنْ
يُعَلِّمَهُمُ الْمَنَاسِكَ (1) . عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ
قَبْل التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ خَطَبَ النَّاسَ فَأَخْبَرَهُمْ
بِمَنَاسِكِهِمْ (2) .
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
94 - وَتُسَنُّ هَذِهِ الْخُطْبَةُ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ، قَبْل
الصَّلاَةِ اتِّفَاقًا، كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ.
__________
(1) هذه الخطبة مندوبة في قول عند المالكية، لكن رجح في مواهب الجليل
سنيتها 3 / 117 وأنها خطبتان بعد الزوال، وقيل ضحى.
(2) حديث ابن عمر: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان قبل يوم
التروية. . . " أخرجه البيهقي (5 / 111 - ط دائرة المعارف العثمانية) وجود
إسناده النووي، المجموع (8 / 80، 88 - ط المنيرية) وانظر شرح المنهاج 2 /
112 - 113، والهداية 2 / 161، والمسلك المتقسط ص 125 مع إرشاد الساري
بذيله، والشرح الكبير 2 / 43، ورجح أنها خطبتان.
(17/65)
وَهَذِهِ الْخُطْبَةُ خُطْبَتَانِ يُفْصَل
بَيْنَهُمَا بِجَلْسَةٍ كَمَا فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، يُبَيِّنُ لَهُمْ
فِي أُولاَهُمَا مَا أَمَامَهُمْ مِنَ الْمَنَاسِكِ وَيُحَرِّضُهُمْ عَلَى
إِكْثَارِ الدُّعَاءِ وَالاِبْتِهَال، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مَا يُهِمُّهُمْ
مِنَ الأُْمُورِ الضَّرُورِيَّةِ لِشُؤُونِ دِينِهِمْ، وَاسْتِقَامَةِ
أَحْوَالِهِمْ (1) .
الْخُطْبَةُ الثَّالِثَةُ:
95 - الْخُطْبَةُ الثَّالِثَةُ تَكُونُ بِمِنًى فِي الْيَوْمِ الْحَادِيَ
عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا تَكُونُ بِمِنًى
يَوْمَ النَّحْرِ.
اسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَطَبَ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى (2) .
وَأَجَابَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْخُطْبَةِ
التَّعْلِيمُ وَإِجَابَةٌ عَنْ أَسْئِلَةٍ وُجِّهَتْ إِلَيْهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ اشْتِغَالٍ
بِأَعْمَالٍ كَثِيرَةٍ وَهِيَ الرَّمْيُ وَالذَّبْحُ وَالْحَلْقُ
وَالطَّوَافُ (3) .
__________
(1) الهداية وفتح القدير 2 / 163، والمسلك المتقسط الموضع السابق، والمهذب
8 / 88، وشرح المنهاج 2 / 113.
(2) حديث: " خطب يوم النحر بمنى " أخرجه أبو داود (2 / 489 - تحقيق عزت
عبيد دعاس) من حديث الهرماس بن زياد الباهلي، قال الشوكاني في نيل الأوطار
(3 / 306 - ط المطبعة العثمانية) " رجال إسناده ثقات ".
(3) نيل الأوطار 3 / 307، وانظر الهداية بشرحها 2 / 161، ومواهب الجليل 3 /
117، وشرح المنهاج 2 / 121، والمغني 3 / 445، والفروع 3 / 516.
(17/66)
الْخُطْبَةُ الرَّابِعَةُ:
96 - زَادَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ خُطْبَةً رَابِعَةً: هِيَ
بِمِنًى ثَانِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، يُعَلِّمُهُمْ فِيهَا جَوَازَ
النَّفْرِ فِيهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَيُوَدِّعُهُمْ (1) .
ثَالِثًا: الْمَبِيتُ بِمِنًى لَيْلَةَ يَوْمِ عَرَفَةَ:
97 - يُسَنُّ لِلْحَاجِّ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مِنًى يَوْمَ
التَّرْوِيَةِ، بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَيُصَلِّيَ بِمِنًى خَمْسَ
صَلَوَاتٍ هِيَ: الظُّهْرُ، وَالْعَصْرُ، وَالْمَغْرِبُ، وَالْعِشَاءُ،
وَالْفَجْرُ، وَذَلِكَ سُنَّةٌ بِاتِّفَاقِ الأَْئِمَّةِ (2) .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ
تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ، وَرَكِبَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى بِهِمُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ
وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلاً حَتَّى
طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ تُضْرَبُ لَهُ
بِنَمِرَةَ (3) .
__________
(1) شرح المنهاج الصفحة السابقة ونهاية المحتاج 2 / 433، والفروع 3 / 520.
(2) الهداية وفتح القدير 2 / 161 - 162، والمسلك المتقسط ص 51، 127 - 128
وشرح المنهاج الموضع السابق، والمغني 3 / 406، وشرح الحطاب 3 / 157 فقد نبه
على أنها من السنن، وإن عبر خليل عنها بالندب. وانظر شرح الرسالة بحاشيته 1
/ 472 - 473.
(3) حديث جابر: " فلما كان يوم التروية. . . " أخرجه مسلم (2 / 889 - 192 -
ط الحلبي) .
(17/66)
رَابِعًا: السَّيْرُ مِنْ مِنًى إِلَى
عَرَفَةَ:
98 - السَّيْرُ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ صَبَاحًا بَعْدَ طُلُوعِ شَمْسِ
يَوْمِ عَرَفَةَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَالأَْصْل فِيهِ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي
حَدِيثِ جَابِرٍ: ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلاً حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ (2)
وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ فَسَارَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . . فَأَجَازَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ
الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ. . (3)
خَامِسًا: الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ لَيْلَةَ النَّحْرِ:
99 - يُسَنُّ لِلْحَاجِّ أَنْ يَبِيتَ بِالْمُزْدَلِفَةِ لَيْلَةَ عِيدِ
النَّحْرِ، وَيَمْكُثَ بِهَا حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ، ثُمَّ يَقِفَ
لِلدُّعَاءِ وَيَمْكُثَ فِيهَا حَتَّى يُسْفِرَ جِدًّا، ثُمَّ يَدْفَعَ
إِلَى مِنًى فَهَذَا سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ،
مَنْدُوبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (4)
.
__________
(1) المسلك المتقسط ص 51، ومغني المحتاج 1 / 496، والشرح الكبير 2 / 43 مع
تنبيه الحطاب على سنيته 3 / 117، والمغني 3 / 407.
(2) أي طلعت الشمس والنبي صلى الله عليه وسلم بمنى، فسار إلى عرفة بعد
طلوعها.
(3) حديث جابر: " ثم مكث قليلا. . . " أخرجه مسلم (2 / 889 - ط الحلبي) .
(4) المسلك المتقسط ص 51 - 52، والمجموع 8 / 129، والشرح الكبير 2 / 44،
والمغني 3 / 423، أما التعبير بوجوب المبيت فالمراد به ما يصدق على الوقف
فتنبه.
(17/67)
إِنَّمَا الْوَاجِبُ الْوُقُوفُ الَّذِي
سَبَقَ ذِكْرُهُ وَذَلِكَ لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قَال جَابِرٌ: حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ
وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ
بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ وَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ
تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ
الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ. . . (1)
مُسْتَحَبَّاتُ الْحَجِّ:
100 - مُسْتَحَبَّاتُ الْحَجِّ يَحْصُل بِهَا الأَْجْرُ لَكِنْ دُونَ
أَجْرِ السُّنَّةِ، وَلاَ يَلْزَمُ تَارِكَهَا الإِْسَاءَةُ بِخِلاَفِ
السُّنَّةِ.
وَمُسْتَحَبَّاتُ الْحَجِّ كَثِيرَةٌ نَذْكُرُ طَائِفَةً هَامَةً مِنْهَا
فِيمَا يَلِي (2) :
أَوَّلاً: الْعَجُّ:
101 - وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ بِاعْتِدَالٍ، وَهُوَ
مُسْتَحَبٌّ لِلرِّجَال، عَمَلاً بِحَدِيثِ السَّائِل: أَيُّ الْحَجِّ
أَفْضَل؟ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَجُّ، وَالثَّجُّ
(3) .
__________
(1) حديث جابر: " حتى أتى المزدلفة فصلى بها. . . " أخرجه مسلم (2 / 891 -
ط الحلبي) .
(2) اعتمدنا في ذلك على سرد المسلك المتقسط ص 52 - 53، وننبه إلى أن
الشافعية يسوون المستحب بالسنة.
(3) حديث: " أفضل الحج: العج والثج " أخرجه الترمذي (3 / 180 - ط الحلبي)
من حديث أبي بكر الصديق، وأعله بالانقطاع ولكن له شاهد من حديث عبد الله بن
مسعود عند أبي يعلى في مجمع الزوائد للهيثمي (3 / 224 - ط القدسي) وقال:
(وفيه رجل ضعيف) .
(17/67)
ثَانِيًا: الثَّجُّ:
102 - وَهُوَ ذَبْحُ الْهَدْيِ تَطَوُّعًا
، لِمَا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَكْثَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ جِدًّا، حَتَّى بَلَغَ
مَجْمُوعُ هَدْيِهِ فِي حَجَّتِهِ مِائَةً مِنَ الإِْبِل (1) .
قَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ
لِمَنْ قَصَدَ مَكَّةَ بِحَجٍّ أَوْ عَمْرَةٍ أَنْ يُهْدِيَ هَدْيًا مِنَ
الأَْنْعَامِ، وَنَحْرُهُ هُنَاكَ، وَيُفَرِّقُهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ
الْمَوْجُودِينَ فِي الْحَرَمِ (2) "
ثَالِثًا: الْغُسْل لِدُخُول مَكَّةَ لِلآْفَاقِيِّ:
103 - وَذَلِكَ عِنْدَ ذِي طُوًى، كَمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ، أَوْ
غَيْرِهِ مِنْ مَدَاخِل مَكَّةَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ يَغْتَسِل لِدُخُول مَكَّةَ (3) ".
رَابِعًا: الْغُسْل لِلْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْل:
104 - صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، حَتَّى جَعَل
__________
(1) حديث: بلغ مجموع هديه في حجته مائة من الإبل. ورد ذلك في حديث جابر في
صحيح مسلم (2 / 889 - 892 - ط الحلبي) .
(2) المجموع 8 / 269، وانظر الهداية وشرحها 2 / 322 و 8 / 76 - 77، والمسلك
المتقسط ص 52، وصرح الحنابلة بأنه سنة، انظر مطالب أولي النهى شرح غاية
المنتهى 2 / 461.
(3) حديث: " كان يغتسل لدخول مكة " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 435 - ط
السلفية) ومسلم (2 / 919 - ط الحلبي) وانظر المسلك المتقسط ص 52، والشرح
الكبير 2 / 38، ومغني المحتاج 1 / 483، والمغني 3 / 368.
(17/68)
الشَّافِعِيَّةُ التَّيَمُّمَ بَدِيلاً
عَنْهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَاءِ
قَال النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِل بِالْمُزْدَلِفَةِ بَعْدَ
نِصْفِ اللَّيْل، لِلْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَلِلْعِيدِ،
وَلِمَا فِيهَا مِنَ الاِجْتِمَاعِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْمَاءِ تَيَمَّمَ
كَمَا سَبَقَ (1) ".
خَامِسًا: التَّعْجِيل بِطَوَافِ الإِْفَاضَةِ:
105 - وَذَلِكَ بِأَدَائِهِ يَوْمَ عِيدِ النَّحْرِ، اتِّبَاعًا لِفِعْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ
(2)
سَادِسًا: الإِْكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ وَالتَّلْبِيَةِ وَالأَْذْكَارِ
الْمُتَكَرِّرَةِ فِي الأَْحْوَال:
106 - كَالأَْدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ فِي الْمَنَاسِكِ، وَلاَ سِيَّمَا
وُقُوفُ عَرَفَةَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَهَذَا بِهِ رَوْحُ شَعَائِرِ
الْحَجِّ. كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّمَا جُعِل رَمْيُ الْجِمَارِ
وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لإِِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ (3)
.
__________
(1) المجموع 8 / 129، والمسلك المتقسط الموضع السابق، زاد الشافعية الغسل
للرمي في أيام التشريق، وجعلوا أغسال الحج سبعة انظر مغني المحتاج 1 / 478
- 479.
(2) حديث: " أدى طواف الإفاضة في يوم النحر. . . " أخرجه مسلم (2 / 892 - ط
الحلبي) ، وانظر المسلك المتقسط، الشرح الكبير 2 / 46، ومغني المحتاج 1 /
203، وعبر عنه بالأفضل، والمغني 3 / 440 - 441.
(3) حديث: " إنما جعل رمي الجمار والسعي. . . " أخرجه أبو داود (2 / 447 -
تحقيق عزت عبيد دعاس والترمذي (3 / 237 - ط الحلبي) من حديث عائشة، وذكر
الذهبي في الميزان (3 / 8 - ط الحلبي) تضعيف أحد رواته، ثم ذكر من مناكير
هذا الحديث.
(17/68)
سَابِعًا: التَّحْصِيبُ:
107 - وَهُوَ النُّزُول بِوَادِي الْمُحَصَّبِ، أَوِ الأَْبْطُحِ (1) فِي
النَّفْرِ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمَنَاسِكِ،
وَيَقَعُ الْمُحَصَّبُ عِنْدَ مَدْخَل مَكَّةَ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، إِلَى
الْمَقْبَرَةِ الْمُسَمَّاةِ بِالْحَجُونِ. وَقَدِ اتَّصَل بِنَاءُ مَكَّةَ
بِهِ فِي زَمَنِنَا بَل تَجَاوَزَهُ لِمَا وَرَاءَهُ.
وَالتَّحْصِيبُ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، سُنَّةٌ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، بِأَنْ يَنْزِل الْحَاجُّ فِيهِ فِي نَفْرِهِ مِنْ مِنًى
وَيُصَلِّي فِيهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ (2) .
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنَّمَا نَزَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَصَّبَ لِيَكُونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ،
وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ فَمَنْ شَاءَ نَزَلَهُ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَنْزِلْهُ
(3)
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ عَلَى السُّنِّيَّةِ بِحَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ
زَيْدٍ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ أَيْنَ تَنْزِل غَدًا فِي
حَجَّتِهِ. قَال: وَهَل تَرَكَ عَقِيلٌ لَنَا مِنْ دَارٍ ثُمَّ قَال:
نَحْنُ نَازِلُونَ بِخَيْفِ بَنِي
__________
(1) سمي محصبا لكثرة الحصباء فيه وهي الحصي الصغيرة، كذا سمي الأبطح من
البطحاء وهي الحصي الصغار، وكان مسيلا لوادي مكة تجرف السيسول الرمال
والحصي. ويقع الآن بين القصر الملكي وجبانة المعلى.
(2) شرح الرسالة 1 / 481، والشرح الكبير 2 / 52 - 53، والمهذب بشرحه 8 /
195 - 196، والمغني 3 / 457.
(3) حديث عائشة: " إنما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المحصب. . . "
أخرجه البخاري (الفتح 3 / 591 - ط السلفية) ومسلم (2 / 951 - ط الحلبي) .
(17/69)
كِنَانَةَ، حَيْثُ قَاسَمَتْ قُرَيْشٌ
عَلَى الْكُفْرِ (1)
وَحَيْثُ أَصْبَحَ الْمُحَصَّبُ الآْنَ ضِمْنَ الْبُنْيَانِ فَيَمْكُثُ
الْحَاجُّ فِيهِ مَا تَيَسَّرَ تَحْصِيلاً لِلسُّنَةِ قَدْرَ الإِْمْكَانَ
فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي يُثِيرُ تِلْكَ الذِّكْرَى مِنْ جِهَادِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مَمْنُوعَاتُ الْحَجِّ:
108 - مَمْنُوعَاتُ الْحَجِّ أَقْسَامٌ: مَكْرُوهَاتٌ، وَمُحَرَّمَاتٌ،
وَمُفْسِدَاتٌ.
أَمَّا الْمَكْرُوهَاتُ: فَهِيَ تَرْكُ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ،
وَهُوَ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَيَلْزَمُ فِيهِ
الإِْسَاءَةُ، وَلاَ يَجِبُ فِدَاءٌ.
وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ: فَيَدْخُل فِيهَا تَرْكُ الْوَاجِبَاتِ،
وَيُسَمِّيهِ الْحَنَفِيَّةُ: مَكْرُوهًا كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ. وَحُكْمُهُ
إِثْمُ مَنِ ارْتَكَبَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَلُزُومُ الْفِدَاءِ فِيهِ
اتِّفَاقًا عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
أَمَّا الْمُفْسِدَاتُ وَسَائِرُ مُحَرَّمَاتِ الْحَجِّ فَإِنَّهَا
مُتَعَلِّقَةٌ بِالإِْحْرَامِ لاَ تَخْتَصُّ بِالْحَجِّ (2) . (انْظُرْ فِي
الْمُصْطَلَحِ: إِحْرَامٌ ف 55 وَمَا بَعْدُ وَ 171 - 173) .
__________
(1) حديث: " وهل ترك عقيل لنا من دار. . " أخرجه مسلم (2 / 952 - ط الحلبي)
وأبو داود (2 / 514 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، واللفظ لأبي داود.
(2) كما أوضح ذلك رحمة الله السندي في لباب المناسك وعلي القاري في شرحه "
المسلك المتقسط " ص 53.
(17/69)
مُبَاحَاتُ الْحَجِّ:
109 - لَيْسَ لِلْحَجِّ مُبَاحَاتٌ خَاصَّةٌ بِهِ، سِوَى الْمُبَاحَاتِ
الَّتِي لاَ تُخِل بِمَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ (فَانْظُرْ فِي
الْمُصْطَلَحِ: إِحْرَامٌ: ف 99 - 107) .
أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بِالْحَجِّ:
110 - تَتَنَاوَل هَذِهِ الأَْحْكَامُ الْمَوْضُوعَاتِ التَّالِيَةَ:
حَجُّ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ.
حَجُّ الصَّبِيِّ.
حَجُّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ.
الْحَجُّ عَنِ الْغَيْرِ.
الأَْوَّل - حَجُّ الْمَرْأَةِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ:
111 - تَخْتَصُّ الْمَرْأَةُ دُونَ الرَّجُل بِعِدَّةِ أَحْكَامٍ فِي
الْحَجِّ، بَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالإِْحْرَامِ، فَيُنْظَرُ فِيهِ،
وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِمَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَسَبَقَتْ فِي
مَوَاضِعِهَا.
وَنُبَيِّنُ هُنَا أَحْكَامًا أُخْرَى هَامَةً، هِيَ أَحْكَامُ حَجِّ
الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، وَلَهُ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ نُبَيِّنُ
حُكْمَهَا فِيمَا يَلِي:
أ - أَنْ تُحْرِمَ الْمَرْأَةُ بِالْحَجِّ مُفْرِدَةً أَوْ قَارِنَةً،
ثُمَّ يَمْنَعَهَا الْحَيْضُ أَوِ النِّفَاسُ مِنْ أَدَاءِ الطَّوَافِ،
فَإِنَّهَا تَمْكُثُ حَتَّى تَقِفَ بِعَرَفَةَ وَتَأْتِيَ بِكَافَّةِ
أَعْمَال الْحَجِّ فِيمَا عَدَا الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ، فَإِذَا طَهُرَتْ
تَطُوفُ طَوَافًا وَاحِدًا وَتَسْعَى سَعْيًا وَاحِدًا إِنْ كَانَتْ
مُفْرِدَةً. وَتَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَتَسْعَى سَعْيًا لِلْحَجِّ
وَالْعُمْرَةِ إِنْ
(17/70)
كَانَتْ قَارِنَةً، حَسْبَمَا يَجِبُ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَطَوَافًا وَسَعْيًا وَاحِدًا لِلْقِرَانِ عِنْدَ
غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهَا طَوَافُ الْوَدَاعِ فِي
هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ اتِّفَاقًا (1) .
وَيَسْقُطُ عَنْهَا طَوَافُ الْقُدُومِ، أَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ
فَلأَِنَّهُ سُنَّةٌ فَاتَ وَقْتُهَا، وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
فَلِكَوْنِهِ عُذْرًا يَسْقُطُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا، إِلاَّ أَنْ
يَزُول الْمَانِعُ وَيَتَّسِعَ الزَّمَنُ لِطَوَافِ الْقُدُومِ، فَإِنَّهُ
حِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهَا (2) .
ب - أَنْ تُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ تَحِيضَ أَوْ تُنْفَسَ قَبْل
الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَلاَ يَتَّسِعُ الْوَقْتُ كَيْ تَطْهُرَ
وَتَعْتَمِرَ قَبْل الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ:
قَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: أَنَّ الْمَرْأَةَ تُحْرِمُ
بِالْحَجِّ أَيْ تَنْوِيهِ وَتُلَبِّي، وَتُؤَدِّي أَعْمَال الْحَجِّ كَمَا
ذَكَرْنَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُفْرِدَةِ، وَتُصْبِحُ بِهَذَا رَافِضَةً
لِلْعُمْرَةِ، أَيْ مُلْغِيَةً لَهَا، وَتُحْتَسَبُ لَهَا حَجَّةً فَقَطْ،
فَإِذَا أَرَادَتِ الْعُمْرَةَ تُهِل بِهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ
أَعْمَال الْحَجِّ (3) وَلَيْسَ لَهَا إِرْدَافُ الْحَجِّ عَلَى
الْعُمْرَةِ عِنْدَهُمْ (4) .
أَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالُوا: لاَ تُلْغِي الْعُمْرَةَ، بَل
تُحْرِمُ بِالْحَجِّ، وَتُصْبِحُ قَارِنَةً، فَتُحْتَسَبُ لَهَا
الْعُمْرَةُ، وَقَدْ كَفَى عَنْهَا طَوَافُ الْحَجِّ وَسَعْيُهُ تَبَعًا
__________
(1) المبسوط 4 / 179، وشرح الهداية 2 / 223 - 224.
(2) الشرح الكبير 2 / 34.
(3) المبسوط 4 / 35 و 36، وفتح القدير الموضع السابق.
(4) انظر مصطلح إحرام (ف 23 - 27) .
(17/70)
لِمَذْهَبِهِمْ فِي طَوَافِ الْقَارِنِ
وَسَعْيِهِ أَنَّهُمَا يُجْزِئَانِ عَنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ (انْظُرْ
مُصْطَلَحَ قِرَانٍ) .
وَعَلَيْهَا هَدْيُ الْقِرَانِ عِنْدَهُمْ، وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهَا طَوَافُ
الْوَدَاعِ اتِّفَاقًا.
ج - لَوْ حَاضَتْ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ بَعْدَ أَنْ مَضَتْ عَلَيْهَا
فَتْرَةٌ تَصْلُحُ لِلطَّوَافِ فَأَخَّرَتْ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ عَنْ
وَقْتِهِ بِسَبَبِ الْحَيْضِ وَجَبَ عَلَيْهَا دَمٌ بِهَذَا التَّأْخِيرِ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. أَمَّا إِذَا حَاضَتْ قَبْل يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ
بَعْدَهُ بِوَقْتٍ يَسِيرٍ لاَ يَكْفِي لِلإِْفَاضَةِ فَتَأَخَّرَ
طَوَافُهَا عَنْ وَقْتِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَلاَ جَزَاءَ عَلَيْهَا وَلاَ
إِثْمَ (1) .
وَلاَ يُتَصَوَّرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ذَلِكَ، لأَِنَّ وَقْتَ طَوَافِ
الإِْفَاضَةِ الْوَاجِبَ يَمْتَدُّ عِنْدَهُمْ لآِخِرِ ذِي الْحِجَّةِ،
وَلاَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لأَِنَّهُ لاَ وَقْتَ
يَلْزَمُ الْجَزَاءُ بِتَأْخِيرِهِ عَنْهُ عِنْدَهُمْ (2) .
د - إِنْ حَاضَتْ بَعْدَ الْوُقُوفِ وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ فَإِنَّهَا
تُتِمُّ أَعْمَال الْحَجِّ، ثُمَّ تَنْصَرِفُ، وَيَسْقُطُ عَنْهَا طَوَافُ
الْوَدَاعِ، إِنْ فَارَقَتْ مَكَّةَ قَبْل أَنْ تَطْهُرَ
__________
(1) المغني 3 / 481 - 484.
(2) وإذا خافت فوات الرفقة أو مواعيد السفر بانتظار الطهر فإنها تطوف طواف
الزيارة وهي حائض بعد أن تتحفض وتغتسل غسل نظافة وعليها بدنة عند أبي
حنيفة، وشاة عند أحمد، ولا شيء عليها عند ابن تيمية. والأخذ بهذا الرأي فيه
توسعة وإزالة حرج في الظروف الحالية (الفتاوى
(17/71)
اتِّفَاقًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَلاَ
يَجِبُ عَلَيْهَا الْفِدَاءُ بِتَرْكِهِ (1) .
حَجُّ الصَّبِيِّ:
112 - لاَ يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الصَّبِيِّ قَبْل الْبُلُوغِ إِجْمَاعًا،
لَكِنْ إِذَا فَعَلَهُ صَحَّ مِنْهُ، وَكَانَ نَفْلاً، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ
أُخْرَى إِذَا بَلَغَ إِجْمَاعًا.
وَتَتَفَاوَتُ كَيْفِيَّةُ إِحْرَامِ الصَّبِيِّ وَأَدَائِهِ الْمَنَاسِكَ
بِتَفَاوُتِ سِنِّهِ هَل هُوَ مُمَيِّزٌ أَوْ لاَ.
وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ مُفَصَّلاً فِي مُصْطَلَحِ إِحْرَامٍ
فَانْظُرْهُ (ف 131 - 136) وَيُلْحَقُ بِالصَّبِيِّ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ
الْمَجْنُونُ جُنُونًا مُطْبِقًا بِاتِّفَاقِهِمْ (2) .
حَجُّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمِ الْمَرِيضِ:
113 - إِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْل الإِْحْرَامِ أَحْرَمَ عَنْهُ
رُفْقَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ مَعَ
بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الأَْعْمَال فِي مُصْطَلَحِ إِحْرَامٍ (ف 138 - 142) ،
وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الإِْحْرَامِ فَهَذَا حَمْلُهُ
مُتَعَيَّنٌ عَلَى رُفَقَائِهِ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
1 - الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ: عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ بِالنِّسْبَةِ
لِرُكْنِ الْوُقُوفِ، وَلاَ سِيَّمَا فِي مَذْهَبِ
__________
(1) شروح الهداية 2 / 224، وانظر المبسوط 4 / 179، وانظر ما سبق طواف
الوداع (ف 174) .
(2) على تفاصيل في إفاقته وما يلزم فيها. انظر المسلك المتقسط ص 78،
والإيضاح ص 556، والشرح الكبير 2 / 3، والمغني 3 / 249.
(17/71)
الْمَالِكِيَّةِ، وَمِثْلُهُ النَّائِمُ
الْمَرِيضُ الَّذِي لَمْ يُفِقْ مُدَّةَ مُكْثِهِ حَتَّى دَفَعَ مَعَ
النَّاسِ (1) .
2 - يَحْمِل الْمُغْمَى عَلَيْهِ رِفَاقُهُ فِي الطَّوَافِ وَيَطُوفُونَ
بِهِ، وَيُجْزِئُ الطَّوَافُ الْوَاحِدُ عَنِ الْحَامِل وَالْمَحْمُول،
إِنْ نَوَاهُ الْحَامِل عَنْ نَفْسِهِ وَعَنِ الْمَحْمُول، وَإِنْ كَانَ
بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ.
أَمَّا الْمَرِيضُ النَّائِمُ فَإِنْ كَانَ الطَّوَافُ بِأَمْرِهِ
وَحَمَلُوهُ مِنْ فَوْرِهِ، أَيْ مِنْ سَاعَتِهِ عُرْفًا وَعَادَةً
يَجُوزُ، إِلاَّ بِأَنْ طَافُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَ
بِالطَّوَافِ بِهِ، أَوْ فَعَلُوهُ لَكِنْ لاَ مِنْ فَوْرِهِ فَلاَ
يُجْزِيهِ الطَّوَافُ.
هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) . أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ
غَيْرِهِمْ فَيُنْتَظَرُ بِهِ حَتَّى يُفِيقَ، وَيَسْتَوْفِيَ شُرُوطَ
الطَّوَافِ، الَّتِي مِنْهَا الطَّهَارَتَانِ (انْظُرْ طَوَافٌ) .
3 - وَيُمْكِنُ أَنْ يَسْعَى بِهِ بِاتِّفَاقِهِمْ، لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ
النِّيَّةِ وَالطَّهَارَتَيْنِ فِي السَّعْيِ.
4 - وَيَحْلِقُ لَهُ رِفَاقُهُ، لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهِ.
5 - وَيَرْمِي عَنْهُ رِفَاقُهُ، عَلَى التَّفْصِيل فِيهِ (انْظُرْ
مُصْطَلَحَ: رَمْيٌ)
6 - وَيَسْقُطُ عَنْهُ طَوَافُ الْوَدَاعِ إِذَا سَافَرَ بِهِ رُفْقَتُهُ،
وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ.
الْحَجُّ عَنِ الْغَيْرِ:
مَشْرُوعِيَّةُ الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ:
114 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) انظر مواهب الجليل 3 / 95.
(2) المسلك المتقسط ص 100 - 101.
(17/72)
وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ
الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ (1)
وَقَابِلِيَّتِهِ لِلنِّيَابَةِ، وَذَهَبَ مَالِكٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي
مَذْهَبِهِ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ لاَ يَقْبَل النِّيَابَةَ لاَ عَنِ
الْحَيِّ وَلاَ عَنِ الْمَيِّتِ، مَعْذُورًا أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ.
وَقَالُوا: إِنَّ الأَْفْضَل أَنْ يَتَطَوَّعَ عَنْهُ وَلِيُّهُ بِغَيْرِ
الْحَجِّ، كَأَنْ يُهْدِيَ أَوْ يَتَصَدَّقَ عَنْهُ، أَوْ يَدْعُوَ لَهُ،
أَوْ يُعْتِقَ (2) .
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَجِّ الإِْنْسَانِ عَنْ
غَيْرِهِ بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَبِالْعَقْل.
أَمَّا السُّنَّةُ: فَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَال: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ،
قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ: إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي
الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ
يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَهَل يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟
قَال: نَعَمْ (3) .
__________
(1) أي أن (أل) هنا بديل عن الإضافة، وأصل العبارة " عن غيره " فحذف المضاف
وعوضت (أل) عنه. وانظر للاستزادة في مسالة إدخال (أل) على غير وتعريفها
بالإضافة جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 1 / والكشاف للزمخشري 1 /
16 - 17 وغيرهما لمناسبة تفسير " غير المغضوب عليهم ".
(2) انظر فتح القدير 2 / 308، ومغني المحتاج 1 / 468 - 469، والمغني 3 /
227 - 228، ومواهب الجليل 2 / 543، وحاشية الدسوقي 1 / 18.
(3) حديث ابن عباس: جاءت امرأة من خثعم. أخرجه البخاري (الفتح 4 / 66 - ط
السلفية) مسلم (2 / 973 - ط الحلبي) .
(17/72)
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَنَّ
امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ
تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ
دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ . . اقْضُوا اللَّهَ، فَاَللَّهُ أَحَقُّ
بِالْوَفَاءِ (1) .
وَأَمَّا الْعَقْل، فَقَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: وَكَانَ مُقْتَضَى
الْقِيَاسِ أَنْ لاَ تَجْرِيَ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ، لِتَضَمُّنِهِ
الْمَشَقَّتَيْنِ الْبَدَنِيَّةَ وَالْمَالِيَّةَ، وَالأُْولَى لَمْ تَقُمْ
بِالآْمِرِ، لَكِنَّهُ تَعَالَى رَخَّصَ فِي إِسْقَاطِهِ بِتَحَمُّل
الْمَشَقَّةِ الأُْخْرَى، أَعْنِي إِخْرَاجَ الْمَال عِنْدَ الْعَجْزِ
الْمُسْتَمِرِّ إِلَى الْمَوْتِ، رَحْمَةً وَفَضْلاً، وَذَلِكَ بِأَنْ
يَدْفَعَ نَفَقَةَ الْحَجِّ إِلَى مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، بِخِلاَفِ حَال
الْقُدْرَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْذُرْهُ لأَِنَّ تَرْكَهُ لَيْسَ إِلاَّ
لِمُجَرَّدِ إِيثَارِ رَاحَةِ نَفْسِهِ عَلَى أَمْرِ رَبِّهِ، وَهُوَ
بِهَذَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ، لاَ التَّخْفِيفَ فِي طَرِيقِ
الإِْسْقَاطِ، وَإِنَّمَا شَرَطَ دَوَامَهُ (أَيِ الْعُذْرِ) إِلَى
الْمَوْتِ لأَِنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمُرِ (2) . . . "
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: هَذِهِ عِبَادَةٌ تَجِبُ بِإِفْسَادِهَا
الْكَفَّارَةُ، فَجَازَ أَنْ يَقُومَ غَيْرُ فِعْلِهِ فِيهَا مَقَامَ
فِعْلِهِ، كَالصَّوْمِ إِذَا عَجَزَ عَنْهُ افْتَدَى بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ
(3) ".
__________
(1) حديث ابن عباس: أن امرأة من جهينة. . . أخرجه البخاري (الفتح 4 / 64 -
ط السلفية) .
(2) فتح القدير 2 / 310.
(3) المغني 3 / 228.
(17/73)
وَأَخَذَ الْمَالِكِيَّةُ بِالأَْصْل،
وَهُوَ عَدَمُ جَرَيَانِ النِّيَابَةِ فِي الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ،
كَالصَّوْمِ (1) .
شُرُوطُ الْحَجِّ الْفَرْضِ عَنِ الْغَيْرِ:
أَوَّلاً - شُرُوطُ وُجُوبِ الإِْحْجَاجِ:
115 - يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ شُرُوطَ الأَْصِيل الْمَحْجُوجِ عَنْهُ لِحَجَّةِ
الْفَرْضِ.
يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الإِْحْجَاجِ عَنِ الْمُكَلَّفِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ
- خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ -: الْعَجْزُ عَنْ أَدَاءِ الْحَجِّ
الْوَاجِبِ عَلَيْهِ.
وَيَشْمَل ذَلِكَ مَا يَلِي:
أ - كُل مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْحَجِّ
بِنَفْسِهِ وَحَضَرَهُ الْمَوْتُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَصِيَّةُ
بِالإِْحْجَاجِ عَنْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. سَوَاءٌ حَجَّةُ
الإِْسْلاَمِ، أَوِ النَّذْرِ، أَوِ الْقَضَاءِ.
وَلَمْ يُوقِفِ الشَّافِعِيَّةُ وُجُوبَ الإِْحْجَاجِ عَنْهُ عَلَى
الْوَصِيَّةِ إِجْرَاءً لِلْحَجِّ مَجْرَى الدُّيُونِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَلاَ يُوجِبُونَ عَلَيْهِ الْوَصِيَّةَ، وَلاَ
يَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ بِأَدَاءِ الْغَيْرِ عَنْهُ - كَمَا هُوَ أَصْل
مَذْهَبِهِمُ الَّذِي عَرَفْنَاهُ - لَكِنْ إِذَا أَوْصَى نَفَذَتْ
وَصِيَّتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ لَمْ يُرْسَل مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ.
ب - مَنْ تَوَفَّرَتْ فِيهِ سَائِرُ شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ وَاخْتَل
شَيْءٌ مِنْ شُرُوطِ الأَْدَاءِ بِالنَّفْسِ، يَجِبُ
__________
(1) مواهب الجليل في الموضع السابق، وفيه توسع، والتاج والإكليل لمختصر
خليل 3 / 7.
(17/73)
عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ
يُوصِيَ بِالإِْحْجَاجِ عَنْهُ إِذَا لَمْ يُرْسِل مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ.
ج - مَنْ تَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطُ وُجُوبِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ فَلَمْ
يَحُجَّ حَتَّى عَجَزَ عَنْ الأَْدَاءِ بِنَفْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ
يَحُجَّ عَنْهُ فِي حَال حَيَاتِهِ، أَوْ يُوصِيَ بِالإِْحْجَاجِ عَنْهُ
بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَيَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ بِالْمَوْتِ، أَوْ بِالْحَبْسِ، وَالْمَنْعِ،
وَالْمَرَضِ الَّذِي لاَ يُرْجَى زَوَالُهُ كَالزَّمَانَةِ وَالْفَالِجِ،
وَالْعَمَى وَالْعَرَجِ، وَالْهَرَمِ الَّذِي لاَ يَقْدِرُ صَاحِبُهُ عَلَى
الاِسْتِمْسَاكِ، وَعَدَمِ أَمْنِ الطَّرِيقِ، وَعَدَمِ الْمَحْرَمِ
بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ، إِذَا اسْتَمَرَّتْ هَذِهِ الآْفَاتُ إِلَى
الْمَوْتِ (1) .
ثَانِيًا: شُرُوطُ النَّائِبِ عَنْ غَيْرِهِ فِي الْحَجِّ:
116 - اشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لإِِجْزَاءِ الْحَجِّ
الْفَرْضِ عَنِ الأَْصِيل أَنْ يَكُونَ النَّائِبُ قَدْ حَجَّ حَجَّةَ
الإِْسْلاَمِ عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلاً، وَإِلاَّ كَانَتِ الْحَجَّةُ عَنْ
نَفْسِهِ، وَلَمْ تُجْزِئْ عَنِ الأَْصِيل، وَهُوَ قَوْل الأَْوْزَاعِيِّ
وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهُوَيْهِ (2) .
وَاكْتَفَى الْحَنَفِيَّةُ بِأَهْلِيَّةِ الْمَأْمُورِ لِصِحَّةِ الْحَجِّ،
بِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا عَاقِلاً، فَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ
__________
(1) المسلك المتقسط ص 287، والإيضاح في مناسك الحج للنووي وحاشيته للهيثمي
ص 108 - 109، ومغني المحتاج 1 / 468 - 469، والمغني 3 / 227 - 228، والفروع
3 / 245، ومواهب الجليل 2 / 543.
(2) المجموع والمهذب 7 / 98، والإيضاح ص 119، والمغني 3 / 245، والفروع 3 /
265 - 266.
(17/74)
الْمَأْمُورُ لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ
حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ (وَهُوَ الْمُسَمَّى صَرُورَةً) ، (1) وَأَجَازُوا
حَجَّ الْعَبْدِ، وَالْمُرَاهِقِ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَتَصِحُّ هَذِهِ
الْحَجَّةُ الْبَدَلِيَّةُ وَتَبْرَأُ ذِمَّةُ الأَْصِيل، مَعَ
الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلآْمِرِ، وَالْكَرَاهَةِ
التَّحْرِيمِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَأْمُورِ إِنْ كَانَ تَحَقَّقَ
وُجُوبُ الْحَجِّ عَلَيْهِ. وَنَحْوُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي
الْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ يَصِحُّ عَلَى الْقَوْل بِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى
التَّرَاخِي عِنْدَهُمْ، أَمَّا عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى الْفَوْرِ
فَيَحْرُمُ الْحَجُّ عَنْهُ (2) .
اسْتَدَل الأَْوَّلُونَ: بِمَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلاً يَقُول: لَبَّيْكَ عَنْ
شُبْرُمَةَ. قَال: مَنْ شُبْرُمَةُ؟ قَال: أَخٌ لِي، أَوْ قَرِيبٌ لِي.
قَال: حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَال: لاَ. قَال: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ،
ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ (3) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِإِطْلاَقِ حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ
السَّابِقِ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهَا:
حُجِّي عَنْ أَبِيكِ
__________
(1) الصرورة: من لم يحج.
(2) المسلك المتقسط ص 299، وفيه مناقشة حول المراهق ص 300 - 301، وتنوير
الأبصار مع شرحه وحاشيته 2 / 331، ومواهب الجليل 3 / 5، والشرح الكبير 2 /
18 - 20.
(3) حديث ابن عباس: " حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة ". أخرجه أبو داود (2 /
403 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وابن ماجه (2 / 969 - ط الحلبي) وأعل بالإرسال
كما في التلخيص لابن حجر (2 / 221 - ط شركة الطباعة الفنية) ثم ذكر له
طريقا آخر قواه به.
(17/74)
مِنْ غَيْرِ اسْتِخْبَارِهَا عَنْ حَجِّهَا
لِنَفْسِهَا قَبْل ذَلِكَ، وَتَرْكُ الاِسْتِفْصَال يَتَنَزَّل مَنْزِلَةَ
عُمُومِ الْمَقَال.
ثَالِثًا: شُرُوطُ صِحَّةِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ عَنِِ الْغَيْرِ:
117 - أ - يُشْتَرَطُ أَنْ يَأْمُرَ الأَْصِيل بِالْحَجِّ عَنْهُ،
بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيِّ.
أَمَّا الْمَيِّتُ فَلاَ يَجُوزُ حَجُّ الْغَيْرِ عَنْهُ بِدُونِ
وَصِيَّتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ، إِذَا حَجَّ أَوْ أَحَجَّ عَنْ مُوَرِّثِهِ
بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّهُ يُجْزِيهِ، وَتَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ،
فَإِنَّهُ لَمْ يُفَصِّل فِي حَقِّ السَّائِل هَل أَوْصَى أَوْ لَمْ يُوصِ،
وَهُوَ وَارِثٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ: مَنْ مَاتَ
وَعَلَيْهِ حَجٌّ وَجَبَ الإِْحْجَاجُ عَنْهُ مِنْ جَمِيعِ تَرِكَتِهِ،
سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أَمْ لاَ، كَمَا تُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ سَوَاءٌ
أَوْصَى بِهَا أَمْ لاَ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرِكَةٌ اسْتُحِبَّ
لِوَارِثِهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ، فَإِنْ حَجَّ عَنْهُ بِنَفْسِهِ أَوْ
أَرْسَل مَنْ حَجَّ عَنْهُ سَقَطَ الْحَجُّ عَنِ الْمَيِّتِ، وَلَوْ حَجَّ
عَنْهُ أَجْنَبِيٌّ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْوَارِثُ،
__________
(1) المسلك المتقسط ص 288، والدر بشرحه وحاشيته 2 / 328، وشرح الكبير 2 /
18 - 19، وإجزاء تبرع الأجنبي بحجة الفرض عمن لم يوص، رواية مرجوحة عند
الحنفية. انظر رد المحتار 2 / 328، 34، 37.
(17/75)
كَمَا يُقْضَى دَيْنُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ
الْوَارِثِ (1) "
وَمَأْخَذُهُمْ تَشْبِيهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْحَجَّ بِالدَّيْنِ، فَأَجْرَوْا عَلَى قَضَاءِ الْحَجِّ أَحْكَامَ
الدُّيُونِ. فَإِذَا مَاتَ وَالْحَجُّ فِي ذِمَّتِهِ يَجِبُ الإِْحْجَاجُ
عَنْهُ مِنْ رَأْسِ الْمَال وَلَوْ لَمْ يُوصِ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى
وَفَاءِ الدُّيُونِ، عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ ضَاقَ مَالُهُ وَكَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ
يُحَاصُّ نَفَقَةُ الْحَجِّ مِنَ الدَّيْنِ، وَيُؤْخَذُ لِلْحَجِّ
حِصَّتُهُ فَيَحُجُّ بِهَا مِنْ حَيْثُ تَبْلُغُ (2) .
ب - أَنْ تَكُونَ نَفَقَةُ الْحَجِّ مِنْ مَال الآْمِرِ كُلُّهَا أَوْ
أَكْثَرُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، سِوَى دَمِ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ،
فَهُمَا عَلَى الْحَاجِّ عِنْدَهُمْ. لَكِنْ إِذَا تَبَرَّعَ الْوَارِثُ
بِالْحَجِّ عَنْ مُورَثِهِ تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ إِنْ لَمْ يَكُنْ
أَوْصَى بِالإِْحْجَاجِ عَنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ (3) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَدْ أَجَازُوا أَنْ
يَتَبَرَّعَ بِالْحَجِّ عَنْ غَيْرِ الْمَيِّتِ مُطْلَقًا، كَمَا يَجُوزُ
أَنْ يَتَبَرَّعَ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ (4) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالأَْمْرُ عِنْدَهُمْ فِي هَاتَيْنِ
الْمَسْأَلَتَيْنِ
__________
(1) شرح المنهاج بحاشيتي قليوبي وعميرة 2 / 90، والسياق منها، والإيضاح مع
حاشيته ص 209، والمجموع 7 / 78، والمغني لابن 3 / 241، والفروع 3 / 249.
(2) المغني 3 / 244، والفروع 3 / 251.
(3) رد المحتار 2 / 328، والتنوير وشروحه 2 / 338 - 339، وانظر المسلك
المتقسط ص 289 - 290.
(4) كما سبق إشارة لذلك في الشرط السابق، وانظر الفروع 3 / 250 وفيه قوله:
" تجوزا لنيابة بلا مال ".
(17/75)
تَابِعٌ لِلْوَصِيَّةِ، وَلِتَنْفِيذِهَا
بِعَقْدِ الإِْجَارَةِ، أَوْ لِتَبَرُّعِ النَّائِبِ، لاَ لإِِسْقَاطِ
الْفَرِيضَةِ عَنِ الْمَيِّتِ.
وَأَمَّا الْحَيُّ الْمَعْضُوبُ: إِذَا بُذِل لَهُ الْمَال أَوِ الطَّاعَةُ
فَلاَ يَلْزَمُهُ قَبُول ذَلِكَ لِلإِْحْجَاجِ عَنْ نَفْسِهِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ بَذَل لَهُ وَلَدُهُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ مَالاً
لِلأُْجْرَةِ لَمْ يَجِبْ قَبُولُهُ فِي الأَْصَحِّ. وَلَوْ وَجَدَ مَالاً
أَقَل مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل وَرَضِيَ بِهِ الأَْجِيرُ لَزِمَهُ
الاِسْتِئْجَارُ، لأَِنَّهُ مُسْتَطِيعٌ، وَالْمِنَّةُ فِيهِ لَيْسَتْ
كَالْمِنَّةِ فِي الْمَال.
وَلَوْ لَمْ يَجِدْ أُجْرَةً وَبَذَل لَهُ وَلَدُهُ الطَّاعَةَ بِأَنْ
يَذْهَبَ هُوَ بِنَفْسِهِ لِلْحَجِّ عَنْهُ وَجَبَ عَلَيْهِ قَبُولُهُ،
وَهُوَ الإِْذْنُ لَهُ فِي ذَلِكَ، لأَِنَّ الْمِنَّةَ فِي ذَلِكَ لَيْسَتْ
كَالْمِنَّةِ فِي الْمَال. لِحُصُول الاِسْتِطَاعَةِ، وَكَذَا
الأَْجْنَبِيُّ فِي الأَْصَحِّ.
وَيُشْتَرَطُ لِلُزُومِ قَبُول طَاعَتِهِمْ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ: أَنْ
يَثِقَ بِالْبَازِل، وَأَنْ لاَ يَكُونَ عَلَيْهِ حَجٌّ وَلَوْ نَذْرًا،
وَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُمْ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ، وَأَنْ لاَ
يَكُونَا مَعْضُوبَيْنِ (2) .
ج - يُشْتَرَطُ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ وَطَنِهِ إِنِ اتَّسَعَ ثُلُثُ
التَّرِكَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَّسِعْ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
__________
(1) لما هو مقرر عندهم في شرط الاستطاعة للزاد وآلة الركوب.
(2) مغني المحتاج 1 / 469 - 470.
(17/76)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
يُعْتَبَرُ اتِّسَاعُ جَمِيعِ مَال الْمَيِّتِ، لأَِنَّهُ دَيْنٌ وَاجِبٌ،
فَكَانَ مِنْ رَأْسِ الْمَال كَدَيْنِ الآْدَمِيِّ. لَكِنْ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ قَضَاؤُهُ عَنْهُ مِنَ الْمِيقَاتِ لأَِنَّ
الْحَجَّ يَجِبُ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْحَجُّ عَلَى
الْمَيِّتِ مِنْ بَلَدِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ مِنْهُ (1) ".
د - النِّيَّةُ: أَيْ نِيَّةُ الْحَاجِّ الْمَأْمُورِ أَدَاءَ الْحَجِّ
عَنِ الأَْصِيل.
بِأَنْ يَنْوِيَ بِقَلْبِهِ وَيَقُول بِلِسَانِهِ (وَالتَّلَفُّظُ أَفْضَل)
: أَحْرَمْتُ بِالْحَجِّ عَنْ فُلاَنٍ، وَلَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ عَنْ
فُلاَنٍ.
وَإِنِ اكْتَفَى بِنِيَّةِ الْقَلْبِ كَفَى ذَلِكَ، اتِّفَاقًا. وَلَوْ
نَسِيَ اسْمَهُ وَنَوَى أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ عَنِ الشَّخْصِ الْمَقْصُودِ
أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ يَصِحُّ، وَيَقَعُ الْحَجُّ عَنِ الأَْصِيل (2) .
هـ - أَنْ يَحُجَّ الْمَأْمُورُ بِنَفْسِهِ: نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ. فَلَوْ مَرِضَ الْمَأْمُورُ أَوْ
حُبِسَ فَدَفَعَ الْمَال إِلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَحْجُوجِ
عَنْهُ لاَ يَقَعُ الْحَجُّ عَنِ الْمَيِّتِ، وَالْحَاجُّ الأَْوَّل
وَالثَّانِي ضَامِنَانِ لِنَفَقَةِ الْحَجِّ، إِلاَّ إِذَا قَال الآْمِرُ
__________
(1) المسلك ص 291، والشرح الكبير 2 / 19، وشرح المنهاج 2 / 90، والمغني 3 /
241، والفروع 3 / 249، والمهذب 7 / 88، والمجموع 7 / 89.
(2) المسلك ص 292، ومواهب الجليل 3 / 7 وفيه التصريح بالاتفاق، والمجموع 7
/ 79.
(17/76)
بِالْحَجِّ: اصْنَعْ مَا شِئْتَ فَلَهُ،
حِينَئِذٍ أَنْ يَدْفَعَ الْمَال إِلَى غَيْرِهِ، وَيَقَعُ الْحَجُّ عَنِ
الآْمِرِ (1) .
و أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِ الشَّخْصِ الَّذِي يَحُجُّ
عَنْهُ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ. وَلَوْ أَمَرَهُ بِالإِْفْرَادِ فَقَرَنَ
عَنِ الآْمِرِ فَيَقَعُ ذَلِكَ عَنِ الآْمِرِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
وَالصَّاحِبَيْنِ اسْتِحْسَانًا، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَهُوَ
مُخَالِفٌ ضَامِنٌ مِنَ النَّفَقَاتِ وَلاَ يَقَعُ عَنِ الآْمِرِ. أَمَّا
إِذَا أَمَرَهُ بِالإِْفْرَادِ فَتَمَتَّعَ عَنِ الآْمِرِ لَمْ يَقَعْ
حَجُّهُ عَنْهُ وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ،
وَيَضْمَنُ اتِّفَاقًا عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ،
وَالشَّافِعِيَّةِ. وَسَوَّى الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الْقِرَانِ
وَالتَّمَتُّعِ إِذَا فُعِلاَ وَكَانَ الإِْفْرَادُ يُجْزِئُ إِنْ كَانَ
الشَّرْطُ مِنَ الْوَصِيِّ لاَ الأَْصِيل. وَصَحَّحَ الْحَنَابِلَةُ
الْحَجَّ عَنِ الأَْصِيل فِي كُل الْحَالاَتِ وَيَرْجِعُ عَلَى الأَْجِيرِ
بِفَرْقِ أُجْرَةِ الْمَسَافَةِ، أَوْ تَوْفِيرِ الْمِيقَاتِ (2) .
حَجُّ النَّفْل عَنِ الْغَيْرِ:
مَشْرُوعِيَّتُهُ:
118 - اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَجِّ النَّفْل عَنِ
الْغَيْرِ بِإِطْلاَقٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَحْمَدَ.
وَأَجَازَهُ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا مَعَ الْكَرَاهَةِ فِيهِ وَفِي
النِّيَابَةِ فِي الْحَجِّ الْمَنْذُورِ.
__________
(1) المسلك ص 293، والشرح الكبير 2 / 20، ومغني المحتاج 1 / 470 في إجازة
العين، وحاشية الإيضاح ص 121 - 122، والمجموع 7 / 203.
(2) المسلك المتقسط ص 292، والشرح الكبير 2 / 16، والمجموع 7 / 114 - 115،
والمغني 3 / 234 - 235.
(17/77)
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَفَصَّلُوا
وَقَالُوا: لاَ تَجُوزُ الاِسْتِنَابَةُ فِي حَجِّ النَّفْل عَنْ حَيٍّ
لَيْسَ بِمَعْضُوبٍ، وَلاَ عَنْ مَيِّتٍ لَمْ يُوصِ بِهِ.
أَمَّا الْمَيِّتُ الَّذِي أَوْصَى بِهِ وَالْحَيُّ الْمَعْضُوبُ إِذَا
اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، فَفِيهِ قَوْلاَنِ مَشْهُورَانِ
لِلشَّافِعِيَّةِ:
أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الأُْجْرَةَ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ عَدَمُ الْجَوَازِ، لأَِنَّهُ إِنَّمَا جَازَ
الاِسْتِنَابَةُ فِي الْفَرْضِ لِلضَّرُورَةِ، وَلاَ ضَرُورَةَ، فَلَمْ
تَجُزِ الاِسْتِنَابَةُ فِيهِ، كَالصَّحِيحِ، وَيَقَعُ عَنِ الأَْجِيرِ،
وَلاَ يَسْتَحِقُّ الأُْجْرَةَ.
وَيَدُل لِلْجُمْهُورِ عَلَى صِحَّةِ حَجِّ النَّفْل عَنِ الْغَيْرِ
الْمُسْتَطِيعِ بِنَفْسِهِ أَنَّهَا حَجَّةٌ لاَ تَلْزَمُهُ بِنَفْسِهِ،
فَجَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهَا كَالْمَعْضُوبِ.
وَلأَِنَّهُ يُتَوَسَّعُ فِي النَّفْل مَا لاَ يُتَوَسَّعُ فِي الْفَرْضِ،
فَإِذَا جَازَتِ النِّيَابَةُ فِي الْفَرْضِ فَلأََنْ تَجُوزَ فِي النَّفْل
أَوْلَى.
شُرُوطُهُ:
119 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ حَجِّ النَّفْل عَنِ الْغَيْرِ:
الإِْسْلاَمُ، وَالْعَقْل، وَالتَّمْيِيزُ، وَقَيَّدَهُ الْحَنَفِيَّةُ
بِالْمُرَاهِقِ، وَأَنْ يَكُونَ النَّائِبُ قَدْ حَجَّ الْفَرْضَ عَنْ
نَفْسِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ حَجٌّ آخَرُ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
(17/77)
كَمَا يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْحَاجِّ
النَّائِبِ الْحَجَّةَ عَنِ الأَْصِيل (1) .
الاِسْتِئْجَارُ عَلَى الْحَجِّ:
مَشْرُوعِيَّتُهُ:
120 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَهُوَ
الأَْشْهَرُ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِئْجَارُ
عَلَى الْحَجِّ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى الْجَوَازِ، وَبِهِ أَخَذَ الْمَالِكِيَّةُ،
مُرَاعَاةً لِخِلاَفِ الشَّافِعِيَّةِ فِي جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي حَجِّ
النَّفْل (3) .
فَلَوْ عُقِدَتِ الإِْجَارَةُ لِلْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ فَهِيَ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ بَاطِلَةٌ، لَكِنَّ الْحَجَّةَ عَنِ الأَْصِيل صَحِيحَةٌ،
عَلَى التَّحْقِيقِ فِي الْمَذْهَبِ، وَيُسَمُّونَ الأَْجِيرَ: مَأْمُورًا،
وَنَائِبًا، وَقَالُوا لَهُ نَفَقَةُ الْمِثْل فِي مَال الأَْصِيل،
لأَِنَّهُ حَبَسَ نَفْسَهُ لِمَنْفَعَةِ الأَْصِيل فَوَجَبَتْ نَفَقَتُهُ
فِي مَالِهِ (4) .
__________
(1) انظر بحث الحج النفل عن الغير في المسلك المتقسط ص 299، والمغني 3 /
230، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 18، والمهذب وشرحه المجموع 7 /
92 - 94.
(2) المسلك المتقسط ص 288، ورد المحتار 2 / 228 - 229، والمغني 3 / 231،
والفروع 3 / 252، 254.
(3) المجموع 7 / 102، ومغني المحتاج 1 / 470، والشرح الكبير 2 / 19.
(4) انظر تفصيل التحقيق والمناقشات حوله في المسلك المتقسط وإرشاد الساري
بذيله ص 288 - 289، ورد المحتار 2 / 329 - 330، وانظر فتح القدير 2 / 313.
(17/78)
الإِْخْلاَل بِأَرْكَانِ الْحَجِّ:
121 - لاَ يَتِمُّ الْحَجُّ إِنْ أُخِل بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ. ثُمَّ
إِنْ تُرِكَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَانِعٍ
قَاهِرٍ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
تَرْكُ رُكْنٍ مِنَ الْحَجِّ بِمَانِعٍ قَاهِرٍ: (الإِْحْصَارُ) :
122 - تَرْكُ رُكْنٍ أَوْ أَكْثَر مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ بِمَانِعٍ
قَاهِرٍ سَبَقَ بَحْثُهُ تَفْصِيلاً فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْصَارٌ) .
تَرْكُ رُكْنٍ مِنَ الْحَجِّ لاَ بِمَانِعٍ قَاهِرٍ:
أَوَّلاً: تَرْكُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ: (الْفَوَاتُ) :
123 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ
بِعَرَفَةَ بِأَنْ " طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ يَوْمَ النَّحْرِ وَلَمْ
يَقِفْ بِعَرَفَةَ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ. وَيُسَمَّى ذَلِكَ
(الْفَوَاتَ) ". ثُمَّ إِنْ أَرَادَ التَّحَلُّل مِنَ الإِْحْرَامِ
فَيَتَحَلَّل بِأَعْمَال الْعُمْرَةِ (1) .
عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (فَوَاتٌ) .
ثَانِيًا: تَرْكُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ:
124 - طَوَافُ الزِّيَارَةِ رُكْنٌ لاَ يَسْقُطُ بِتَرْكِهِ إِذَا فَاتَ
وَقْتُهُ، وَلاَ يَنْجَبِرُ بِشَيْءٍ، وَيَظَل الْحَاجُّ مُحْرِمًا
بِالنِّسْبَةِ لِلتَّحَلُّل الأَْكْبَرِ (مُصْطَلَحُ إِحْرَامٌ ف 124) ،
حَتَّى يُؤَدِّيَهُ.
__________
(1) الهداية وفتح القدير 2 / 303، وشرح المنهاج 2 / 151، وشرح الزرقاني 2 /
238، والمغني 3 / 528.
(17/78)
فَإِنْ تَرَكَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ أَوْ
تَرَكَ شَيْئًا مِنْ شُرُوطِهِ، أَوْ رُكْنًا، وَلَوْ شَوْطًا أَوْ أَقَل
مِنْ شَوْطٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَكَّةَ وَيُؤَدِّيَهُ.
وَإِذَا رَجَعَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِإِحْرَامِهِ الأَْوَّل، لاَ يَحْتَاجُ
إِلَى إِحْرَامٍ جَدِيدٍ، وَهُوَ مُحْرِمٌ عَنِ النِّسَاءِ إِلَى أَنْ
يَعُودَ وَيَطُوفَ، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَالْحَنَفِيَّةِ
مَعَهُمْ عَلَى وَجْهِ الإِْجْمَال.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُجَدِّدُ إِحْرَامَهُ لِيَطُوفَ فِي إِحْرَامٍ
صَحِيحٍ " أَيْ إِنَّهُ يَدْخُل مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ (1) .
أَمَّا تَفْصِيل مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ: فَفِيهِ فُرُوعٌ. اخْتُصُّوا
بِهَا بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي شُرُوطِ الطَّوَافِ وَرُكْنِهِ
وَوَاجِبَاتِهِ (انْظُرْ مُصْطَلَحَ طَوَافٍ) .
ثَالِثًا: تَرْكُ السَّعْيِ:
125 - السَّعْيُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ رُكْنٌ لاَ يَحِل الْحَاجُّ مِنَ
الإِْحْرَامِ بِدُونِهِ، فَمَنْ تَرَكَهُ عَادَ لأَِدَائِهِ لِزَامًا عَلَى
التَّفْصِيل السَّابِقِ فِي الرُّجُوعِ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ
بِالنِّسْبَةِ لِلْجُمْهُورِ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
فَإِنَّهُ يَحِل بِدُونِ سَعْيٍ، لأَِنَّ السَّعْيَ وَاجِبٌ عِنْدَهُمْ،
يَنْجَبِرُ بِالدَّمِ (ف 56) ، فَإِنْ أَرَادَ أَدَاءَهُ فَإِنَّهُ يَدْخُل
مَكَّةَ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ مُعْتَمِرًا، ثُمَّ يَأْتِي بِالسَّعْيِ،
وَإِنْ تَرَكَ ثَلاَثَةَ أَشْوَاطٍ فَأَقَل صَحَّ سَعْيُهُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهِ لِكُل شَوْطٍ صَدَقَةٌ نِصْفُ
__________
(1) كما وضحه في الفروع 3 / 525، والمغني 3 / 465.
(17/79)
صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ
أَوْ شَعِيرٍ. . (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: سَعْيٌ) .
الإِْخْلاَل بِوَاجِبَاتِ الْحَجِّ:
126 - يَجِبُ عَلَى مَنْ تَرَكَ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ
الْفِدَاءُ، وَهُوَ ذَبْحُ شَاةٍ، بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، جَبْرًا
لِلنَّقْصِ الْحَادِثِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ، إِلاَّ إِذَا تَرَكَهُ
لِعُذْرٍ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا.
وَمَا صَرَّحُوا بِالْعُذْرِ فِيهِ: تَرْكُ الْمَشْيِ فِي الطَّوَافِ أَوْ
فِي السَّعْيِ، لِمَرَضٍ أَوْ كِبَرِ سِنٍّ، عَلَى الْقَوْل بِوُجُوبِ
الْمَشْيِ فِيهِمَا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَعْذُورِ أَنْ يَطُوفَ أَوْ
يَسْعَى مَحْمُولاً، وَلاَ فِدَاءَ عَلَيْهِ.
وَثَمَّةَ مَسَائِل تَحْتَاجُ لإِِيضَاحٍ خَاصٍّ لِحُكْمِ تَرْكِهَا،
وَهِيَ:
أَوَّلاً: تَرْكُ الْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ:
127 - اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْوُقُوفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ
لِعُذْرٍ أَنَّهُ لاَ فِدَاءَ عَلَيْهِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِثُبُوتِ الْعُذْرِ فِي تَرْكِ الْوُقُوفِ
بِالْمُزْدَلِفَةِ، كَالْمَرَضِ، وَالضَّعْفِ الْجِسْمِيِّ كَمَا فِي
الشَّيْخِ الْفَانِي، وَكَذَا خَوْفُ الزِّحَامِ عَلَى الْمَرْأَةِ،
وَضَعَفَةِ الأَْهْل.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِالْعُذْرِ لِمَنِ انْتَهَى إِلَى عَرَفَاتٍ
لَيْلَةَ النَّحْرِ وَاشْتَغَل بِالْوُقُوفِ عَنِ الْمَبِيتِ
بِالْمُزْدَلِفَةِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الأَْصْحَابِ، وَلَوْ
أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى مَكَّةَ وَطَافَ الإِْفَاضَةَ بَعْدَ
(17/79)
نِصْفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ فَفَاتَهُ
الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِسَبَبِ الطَّوَافِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ،
لأَِنَّهُ اشْتَغَل بِرُكْنٍ فَأَشْبَهَ الْمُشْتَغِل بِالْوُقُوفِ، أَيْ:
إِلاَّ أَنْ يُمْكِنَهُ الْعَوْدُ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ قَبْل الْفَجْرِ
فَيَلْزَمُهُ الْعَوْدُ إِلَيْهَا. وَمِثْل هَذَا مَنْ بَادَرَتْ إِلَى
الطَّوَافِ خَوْفَ طُرُوءِ نَحْوِ حَيْضٍ.
وَجَمِيعُ أَعْذَارِ مِنًى تَأْتِي هُنَا (1) .
ثَانِيًا: تَرْكُ الْمَبِيتِ بِمِنًى لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ:
128 - وَالْجَزَاءُ فِيهِ وَاجِبٌ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ،
لِوُجُوبِ هَذَا الْمَبِيتِ عِنْدَهُمْ (ف 69) قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ
تَرَكَ الْمَبِيتَ بِهَا جُل لَيْلَةٍ فَدَمٌ، وَكَذَا لَيْلَةً كَامِلَةً
أَوْ أَكْثَرَ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَ التَّرْكُ لِضَرُورَةٍ. . . "
وَلَمْ يُسْقِطُوا الدَّمَ بِتَرْكِ الْمَبِيتِ إِلاَّ لِلرِّعَاءِ وَأَهْل
السِّقَايَةِ (2) (انْظُرْ مَبِيتٌ) .
وَأَوْجَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ فِي تَرْكِ الْمَبِيتِ
كُلِّهِ دَمًا وَاحِدًا، وَفِي تَرْكِ لَيْلَةٍ مُدًّا مِنَ الطَّعَامِ،
وَفِي تَرْكِ لَيْلَتَيْنِ مُدَّيْنِ، إِذَا بَاتَ لَيْلَةً وَاحِدَةً،
إِلاَّ
__________
(1) المسلك المتقسط ص 25 - 26، والدر المختار وحاشيته 2 / 244، والمجموع 8
/ 128 - 129، ومغني المحتاج 1 / 500 وحاشية ابن حجر على الإيضاح ص 402 -
403 خلافا لما قال القفال، فتنبه. وحاشية القليوبي على شرح المنهاج 2 /
116، وانظر نهاية المحتاج 2 / 424.
(2) شرح مختصر خليل 2 / 284، وانظر حاشية الصفتي 205، والعدوي 1 / 480.
(17/80)
إِذَا تَرَكَ الْمَبِيتَ لِعُذْرٍ فَلاَ
شَيْءَ عَلَيْهِ، كَأَهْل سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ، وَرِعَاءِ الإِْبِل
فَلَهُمْ تَرْكُ الْمَبِيتِ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ غَيْرِ دَمٍ،
وَمِثْلُهُمْ مَنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ، أَوْ ضَيَاعِ مَرِيضٍ
بِلاَ مُتَعَهِّدٍ، أَوْ مَوْتِ نَحْوِ قَرِيبٍ فِي غَيْبَتِهِ (1) .
ثَالِثًا: تَرْكُ الرَّمْيِ:
129 - مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجِبُ الدَّمُ
عَلَى مَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ كُلَّهُ أَوْ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ أَوْ
يَوْمَيْنِ أَوْ تَرَكَ ثَلاَثَ حَصَيَاتٍ مِنْ رَمْيِ أَيِّ جَمْرَةٍ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْحَصَاةِ يَجِبُ مُدٌّ وَاحِدٌ، وَفِي
الْحَصَاتَيْنِ ضِعْفُ ذَلِكَ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْحَصَاةِ أَوِ الْحَصَاتَيْنِ رِوَايَاتٌ.
قَال فِي الْمُغْنِي: الظَّاهِرُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ شَيْءَ
عَلَيْهِ فِي حَصَاةٍ وَلاَ حَصَاتَيْنِ (3) "
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الدَّمُ إِنْ تَرَكَ
الْحَاجُّ رَمْيَ الْجِمَارِ كُلِّهَا فِي الأَْيَّامِ الأَْرْبَعَةِ، أَوْ
تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ كَامِلٍ، وَيُلْحَقُ بِهِ تَرْكُ رَمْيِ أَكْثَرِ
حَصَيَاتِ يَوْمٍ أَيْضًا، لأَِنَّ لِلأَْكْثَرِ حُكْمَ الْكُل، فَيَلْزَمُ
فِيهِ الدَّمُ، أَمَّاِنْ تَرَكَ الأَْقَل مِنْ حَصَيَاتِ
__________
(1) شرح المنهاج 2 / 124، وانظر نهاية المحتاج 2 / 432 - 433.
(2) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 123 - 124، وانظر المجموع 8 / 178 -
186، ونهاية المحتاج 2 / 435 - 436.
(3) المغني 3 / 491، وفيه أكثر من رواية في المسالة كلها.
(17/80)
يَوْمٍ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ، لِكُل حَصَاةٍ
نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ (1) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: يَلْزَمُهُ دَمٌ فِي تَرْكِ حَصَاةٍ أَوْ فِي
تَرْكِ الْجَمِيعِ (2) .
تَرْكُ سُنَنِ الْحَجِّ:
130 - تَرْكُ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ لاَ يُوجِبُ إِثْمًا وَلاَ
جَزَاءً. لَكِنْ يَكُونُ تَارِكُهَا مُسِيئًا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ
الْحَنَفِيَّةُ، وَيَحْرِمُ نَفْسَهُ مِنَ الثَّوَابِ الَّذِي أَعَدَّهُ
اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ عَمِل بِالسُّنَنِ أَوِ الْمُسْتَحَبَّاتِ
وَالنَّوَافِل. (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: سُنَّةٌ) .
آدَابُ الْحَاجِّ:
آدَابُ الاِسْتِعْدَادِ لِلْحَجِّ:
131 - أ - يُسْتَحَبُّ أَنْ يُشَاوِرَ مَنْ يَثِقُ بِدِينِهِ وَخِبْرَتِهِ
فِي تَدْبِيرِ أُمُورِهِ، وَيَتَعَلَّمَ أَحْكَامَ الْحَجِّ
وَكَيْفِيَّتَهُ. قَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا فَرْضُ عَيْنٍ،
إِذْ لاَ تَصِحُّ الْعِبَادَةُ مِمَّنْ لاَ يَعْرِفُهَا، وَيُسْتَحَبُّ
أَنْ يَسْتَصْحِبَ مَعَهُ كِتَابًا وَاضِحًا فِي الْمَنَاسِكِ جَامِعًا
لِمَقَاصِدِهَا، وَأَنْ يُدِيمَ مُطَالَعَتَهُ وَيُكَرِّرَهَا فِي جَمِيعِ
طَرِيقِهِ لِتَصِيرَ مُحَقَّقَةً عِنْدَهُ. وَمَنْ أَخَل بِهَذَا خِفْنَا
عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ بِغَيْرِ حَجٍّ، لإِِخْلاَلِهِ بِشَرْطٍ مِنْ
شُرُوطِهِ أَوْ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَرُبَّمَا
قَلَّدَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بَعْضَ عَوَامِّ
__________
(1) المسلك المتقسط ص 240.
(2) شرح الزرقاني 2 / 282، وحاشية الصفتي ص 207.
(17/81)
مَكَّةَ وَتَوَهَّمَ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ
الْمَنَاسِكَ فَاغْتَرَّ بِهِمْ، وَذَلِكَ خَطَأٌ فَاحِشٌ (1) ".
ب - إِذَا عَزَمَ عَلَى الْحَجِّ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَسْتَخِيرَ
اللَّهَ تَعَالَى، لَكِنْ لَيْسَ لِلْحَجِّ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لاَ
اسْتِخَارَةَ فِي فِعْل الطَّاعَاتِ، لَكِنْ لِلأَْدَاءِ هَذَا الْعَامَ
إِنْ كَانَتِ الْحَجَّةُ نَافِلَةً، أَوْ مَعَ هَذِهِ الْقَافِلَةِ،
وَتَرِدُ الاِسْتِخَارَةُ عَلَى الْحَجِّ الْفَرْضِ هَذَا الْعَامَ لَكِنْ
عَلَى الْقَوْل بِتَرَاخِي وُجُوبِهِ (2) .
ج - إِذَا اسْتَقَرَّ عَزْمُهُ عَلَى الْحَجِّ بَدَأَ بِالتَّوْبَةِ مِنْ
جَمِيعِ الْمَعَاصِي وَالْمَكْرُوهَاتِ، وَيَخْرُجُ مِنْ مَظَالِمِ
الْخَلْقِ، وَيَقْضِي مَا أَمْكَنَهُ مِنْ دُيُونِهِ، وَيَرُدُّ
الْوَدَائِعَ، وَيَسْتَحِل كُل مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مُعَامَلَةٌ فِي
شَيْءٍ أَوْ مُصَاحَبَةٌ، وَيَكْتُبُ وَصِيَّتَهُ، وَيُشْهِدُ عَلَيْهَا،
وَيُوَكِّل مَنْ يَقْضِي عَنْهُ مَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ قَضَائِهِ،
وَيَتْرُكُ لأَِهْلِهِ وَمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ نَفَقَتَهُمْ إِلَى
حِينِ رُجُوعِهِ (3) .
وَلاَ يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ الإِْفْلاَتَ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ
بِعِبَادَاتِهِ، مَا لَمْ يُؤَدِّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا، قَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُل
شَيْءٍ إِلاَّ الدَّيْنُ (4) .
د - أَنْ يَجْتَهِدَ فِي إِرْضَاءِ وَالِدِيهِ، وَمَنْ يَتَوَجَّهُ
__________
(1) الإيضاح ص 37.
(2) المرجع السابق ص 19 بتصرف يسير.
(3) الإيضاح ص 23 - 24.
(4) حديث: " يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين ". أخرجه مسلم (3 / 1502 - ط
الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
(17/81)
عَلَيْهِ بِرُّهُ وَطَاعَتُهُ، وَإِنْ
كَانَتْ زَوْجَةً اسْتَرْضَتْ زَوْجَهَا وَأَقَارِبَهَا، وَيُسْتَحَبُّ
لِلزَّوْجِ أَنْ يَحُجَّ بِهَا، فَإِنْ مَنَعَهُ أَحَدُ وَالِدَيْهِ مِنْ
حَجِّ الإِْسْلاَمِ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى مَنْعِهِ، وَإِنْ مَنَعَهُ مِنْ
حَجِّ التَّطَوُّعِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الإِْحْرَامُ، فَإِنْ أَحْرَمَ
فَلِلْوَالِدِ تَحْلِيلُهُ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
خِلاَفًا لِلْجُمْهُورِ (1) .
هـ - لِيَحْرِصَ أَنْ تَكُونَ نَفَقَتُهُ كَثِيرَةً وَحَلاَلاً خَالِصَةً
مِنَ الشُّبْهَةِ، فَإِنْ خَالَفَ وَحَجَّ بِمَالٍ فِيهِ شُبْهَةٌ أَوْ
بِمَالٍ مَغْصُوبٍ صَحَّ حَجُّهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، لَكِنَّهُ عَاصٍ
وَلَيْسَ حَجًّا مَبْرُورًا، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ،
وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ
السَّلَفِ وَالْخَلْفِ، وَقَال أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لاَ يُجْزِيهِ
الْحَجُّ بِمَالٍ حَرَامٍ (2) . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى يَصِحُّ مَعَ
الْحُرْمَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
ذَكَرَ الرَّجُل يُطِيل السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ
إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ،
وَمُشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ،
__________
(1) الإيضاح ص 25 - 26، ورد المحتار 2 / 191، وفيه التصريح بالكراهة
التحريمية، والفروع 3 / 224، والمسألة فرع عن تقديم بر الوالدين على فعل
النوافل انظر مصطلح (بر) .
(2) كذا في المرجع السابق ص 30، وانظر رد المحتار 2 / 191، والشرح الكبير
وحاشيته 2 / 10، والفروع 1 / 335، وفيه قوله: " وحجه بغصب كصلاة " وانظر
الصلاة في المغني 1 / 588.
(17/82)
فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ (1) .
و الْحِرْصُ عَلَى صُحْبَةِ رَفِيقٍ مُوَافِقٍ صَالِحٍ يَعْرِفُ الْحَجَّ،
وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَصْحَبَ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ
فَلْيَتَمَسَّكْ بِهِ، فَإِنَّهُ يُعِينُهُ عَلَى مَبَارِّ الْحَجِّ
وَمَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ (2) .
آدَابُ السَّفَرِ لِلْحَجِّ:
132 - نُشِيرُ إِلَى نُبَذٍ هَامَةٍ مِنْهَا فِيمَا يَلِي:
أ - يُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَدِّعَ أَهْلَهُ وَجِيرَانَهُ وَأَصْدِقَاءَهُ،
وَيَقُول لِمَنْ يُوَدِّعُهُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: أَسْتَوْدِعُكَ
اللَّهَ الَّذِي لاَ تَضِيعُ وَدَائِعُهُ (3)
وَيُسَنُّ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَقُول لِلْمُسَافِرِ: أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ
دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ (4)
ب - أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ قَبْل الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ،
يَقْرَأُ فِي الأُْولَى سُورَةَ {قُل يَا أَيُّهَا
__________
(1) حديث: " أنه ذكر الرجل يطيل السفر. . . . ". أخرجه مسلم (2 / 703 - ط
الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) الإيضاح ص 38.
(3) حديث أبي هريرة قال لرجل: أودعك كما ودعني رسول الله صلى الله عليه
وسلم، أو كما ودع رسول الله صلى الله عليه وسلم: " استودعك الله الذي لا
تضيع ودائعه ". أخرجه أحمد (2 / 403 - ط الميمنية) وحسنه ابن حجر كما في
الفتوحات الربانية لابن علان (5 / 114 - ط المنيرية) .
(4) حديث: " استودع الله دينك، وأمانتك وخواتيم عملك ". أخرجه أبو داود (3
/ 76 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 442 - ط دائرة المعارف
العثمانية) من حديث عبد الله بن عمر، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(17/82)
الْكَافِرُونَ} وَفِي الثَّانِيَةِ {قُل
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) وَصَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَطُّ إِلاَّ رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى
السَّمَاءِ فَقَال: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِل أَوْ أُضَل،
أَوْ أَزِل أَوْ أُزَل، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَل أَوْ
يُجْهَل عَلَيَّ (2) .
ج - يُسْتَحَبُّ الإِْكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ فِي جَمِيعِ سَفَرِهِ،
وَعَلَى آدَابِ السَّفَرِ وَأَحْكَامِهِ وَالتَّقَيُّدُ بِرُخَصِهِ مِنْ
غَيْرِ تَجَاوُزٍ لَهَا (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: سَفَرٌ)
آدَابُ أَدَاءِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ:
133 - أ - التَّحَلِّي بِمَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ، وَالتَّذَرُّعُ
بِالصَّبْرِ الْجَمِيل، لِمَا يُعَانِيهِ الإِْنْسَانُ مِنْ مَشَقَّاتِ
السَّفَرِ، وَالزِّحَامِ، وَالاِحْتِكَاكِ بِالنَّاسِ.
ب - اسْتِدَامَةُ حُضُورِ الْقَلْبِ وَالْخُشُوعِ، وَالإِْكْثَارِ مِنَ
الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَتِلاَوَةِ الْقُرْآنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ،
وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى أَذْكَارِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ.
ج - الْحِرْصُ عَلَى أَدَاءِ أَحْكَامِ الْحَجِّ كَامِلَةً وَعَدَمِ
تَضْيِيعِ شَيْءٍ مِنَ السُّنَنِ، فَضْلاً عَنِ التَّفْرِيطِ بِوَاجِبٍ،
إِلاَّ فِي مَوَاضِعِ الْعُذْرِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي بُيِّنَتْ فِي
مُنَاسِبَاتِهَا (3) .
__________
(1) الإيضاح ص 44.
(2) حديث أم سلمة قالت: " ما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته قط إلا
رفع طرفه إلى السماء فقال. . . . ": أخرجه أبو داود (5 / 327 - تحقيق عزت
عبيد دعاس) وأعله ابن حجر بالانقطاع في سنده كما في الفتوحات الربانية (1 /
331 - ط المنيرية) .
(3) الإيضاح ص 211.
(17/83)
آدَابُ الْعَوْدِ مِنَ الْحَجِّ:
134 - مِنْ آدَابِ الْعَوْدِ مِنَ الْحَجِّ مَا يَلِي:
أ - أَنْ يُرَاعِيَ آدَابَ السَّفَرِ وَأَحْكَامَهُ الْعَامَّةَ
لِلذَّهَابِ وَالإِْيَابِ، وَالْخَاصَّةَ بِالإِْيَابِ، مِثْل إِخْبَارِ
أَهْلِهِ إِذَا دَنَا مِنْ بَلَدِهِ، وَأَلاَّ يَطْرُقَهُمْ لَيْلاً،
وَأَنْ يَبْدَأَ بِصَلاَةِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ إِذَا وَصَل
مَنْزِلَهُ، وَأَنْ يَقُول إِذَا دَخَل بَيْتَهُ: تَوْبًا تَوْبًا،
لِرَبِّنَا أَوْبًا، لاَ يُغَادِرُ حَوْبًا " (1) (انْظُرْ مُصْطَلَحَ:
سَفَرٌ) .
ب - يُسْتَحَبُّ لِمَنْ يُسَلِّمُ عَلَى الْحَاجِّ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ
الْحَاجِّ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ، كَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ
لِلْحَاجِّ أَيْضًا وَيَقُول: قَبِل اللَّهُ حَجَّكَ وَغَفَرَ ذَنْبَكَ،
وَأَخْلَفَ نَفَقَتَكَ (2) .
وَيَدْعُو الْحَاجُّ لِزُوَّارِهِ بِالْمَغْفِرَةِ، فَإِنَّهُ مَرْجُوُّ
الإِْجَابَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ
اغْفِرْ لِلْحَاجِّ وَلِمَنْ. اسْتَغْفَرَ لَهُ الْحَاجُّ (3) .
__________
(1) حديث: " أن يقول إذا دخل بيته: توبا توبا ". أخرجه ابن السني في عمل
اليوم والليلة (ص 142 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن
عباس، وحسنه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية (5 / 172 - ط المنيرية) .
(2) حديث: ويقول " قبل الله حجك، وغفر ذنبك ". أخرجه ابن السني (ص 143 - ط
دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عمر، وقد ضعف إسناده ابن حجر
كما في الفتوحات الربانية (5 / 176 - المنيرية) .
(3) حديث: " اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج " أخرجه الحاكم (1 /
441 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة وأعل إسناده ابن حجر
كما في الفتوحات الربانية (5 / 177 - المنيرية) .
(17/83)
ج - قَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ:
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ رُجُوعِهِ خَيْرًا مِمَّا كَانَ، فَهَذَا
مِنْ عَلاَمَاتِ قَبُول الْحَجِّ، وَأَنْ يَكُونَ خَيْرُهُ آخِذًا فِي
ازْدِيَادٍ (1) .
حُجَّةٌ
انْظُرْ: إِثْبَاتٌ.
__________
(1) الإيضاح ص 564 - 565، وانظر فيه فصل آداب العود من سفر الحج، فقد توسع
في تفصيلها.
(17/84)
حَجْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَجْرُ لُغَةً الْمَنْعُ. يُقَال: حَجَرَ عَلَيْهِ حَجْرًا مَنَعَهُ
مِنَ التَّصَرُّفِ فَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ (1) . وَمِنْهُ سُمِّيَ
الْحَطِيمُ حَجَرًا لأَِنَّهُ مُنِعَ مِنْ أَنْ يَدْخُل فِي بِنَاءِ
الْكَعْبَةِ. وَقِيل: الْحَطِيمُ جِدَارُ الْحَجَرِ، وَالْحَجَرُ مَا
حَوَاهُ الْجُدُرُ. وَسُمِّيَ الْعَقْل حِجْرًا لأَِنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ
الْقَبَائِحِ، قَال تَعَالَى: {هَل فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} (2)
أَيْ لِذِي عَقْلٍ (3) .
وَأَمَّا تَعْرِيفُهُ فِي الاِصْطِلاَحِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ
عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ:
فَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ الْمَنْعُ مِنَ
التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَنْعُ قَدْ شُرِعَ
لِمَصْلَحَةِ الْغَيْرِ كَالْحَجْرِ عَلَى الْمُفْلِسِ لِلْغُرَمَاءِ
وَعَلَى الرَّاهِنِ فِي الْمَرْهُونِ لِمَصْلَحَةِ الْمُرْتَهِنِ، وَعَلَى
الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ فِي ثُلُثَيْ مَالِهِ
__________
(1) الفقهاء يحذفون الصلة تخفيفا لكثرة الاستعمال، ويقولون: محجور، وهو
سائغ. المصباح.
(2) سورة الفجر / 5
(3) القاموس المحيط ولسان العرب والمصباح المنير، وتبيين الحقائق 5 / 190.
(17/84)
وَغَيْرِهَا، أَمْ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ
الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ كَالْحَجْرِ عَلَى الْمَجْنُونِ، وَالصَّغِيرِ،
وَالسَّفِيهِ (1) .
وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ مَنْعٌ مِنْ نَفَاذِ تَصَرُّفٍ
قَوْلِيٍّ - لاَ فِعْلِيٍّ -
فَإِنَّ عَقْدَ الْمَحْجُورِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا فَلاَ يَنْفُذُ إِلاَّ
بِإِجَازَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي الإِْجَازَةِ.
وَإِنَّمَا كَانَ الْحَجْرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ
الْقَوْلِيَّةِ لأَِنَّ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ هِيَ الَّتِي يُتَصَوَّرُ
الْحَجْرُ فِيهَا بِالْمَنْعِ مِنْ نَفَاذِهَا. أَمَّا التَّصَرُّفُ
الْفِعْلِيُّ فَلاَ يُتَصَوَّرُ الْحَجْرُ فِيهِ، لأَِنَّ الْفِعْل بَعْدَ
وُقُوعِهِ لاَ يُمْكِنُ رَدُّهُ، فَلاَ يُتَصَوَّرُ الْحَجْرُ عَنْهُ (2) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ مَا مُفَادُهُ:
الْحَجْرُ عَلَى مَرَاتِبَ: أَقْوَى، وَهُوَ الْمَنْعُ عَنْ أَصْل
التَّصَرُّفِ بِعَدَمِ انْعِقَادِهِ (الْبُطْلاَنُ) كَتَصَرُّفِ
الْمَجْنُونِ. وَمُتَوَسِّطٌ، وَهُوَ الْمَنْعُ عَنْ وَصْفِهِ وَهُوَ
النَّفَاذُ كَتَصَرُّفِ الْمُمَيِّزِ. وَضَعِيفٌ، وَهُوَ الْمَنْعُ عَنْ
وَصْفِ وَصْفِهِ، وَهُوَ كَوْنُ النَّفَاذِ حَالًّا مِثْل تَأْخِيرِ
نَفَاذِ الإِْقْرَارِ مِنَ لْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِلإِْفْلاَسِ إِلَى مَا
بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَقَدْ أَدْخَل فِي التَّعْرِيفِ الْمَنْعَ عَنِ
الْفِعْل، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ، فَإِنَّهُ إِنْ
جُعِل الْحَجْرُ هُوَ الْمَنْعَ مِنْ ثُبُوتِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 165، وأسنى المطالب 2 / 205، والمغني 4 / 505، وكشاف
القناع 3 / 416.
(2) ابن عابدين 5 / 89، وتبيين الحقائق 5 / 190، وتكملة البحر 8 / 88.
(17/85)
حُكْمِ التَّصَرُّفِ، فَمَا وَجْهُ
تَقْيِيدِهِ بِالْقَوْلِيِّ وَنَفْيِ الْفِعْلِيِّ مَعَ أَنَّ لِكُلٍّ
حُكْمًا؟ وَأَمَّا مَا عَلَّل بِهِ (صَاحِبُ الدُّرِّ) مِنْ قَوْلِهِ:
لأَِنَّ الْفِعْل بَعْدَ وُقُوعِهِ لاَ يُمْكِنُ رَدُّهُ، نَقُول:
الْكَلاَمُ فِي مَنْعِ حُكْمِهِ لاَ مَنْعِ ذَاتِهِ، وَمِثْلُهُ: الْقَوْل،
لاَ يُمْكِنُ رَدُّهُ بِذَاتِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ بَل رَدُّ حُكْمِهِ (1) .
وَعَرَّفَ الْمَالِكِيَّةُ الْحَجْرَ بِأَنَّهُ صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ
مَنْعَ مَوْصُوفِهَا مِنْ نُفُوذِ تَصَرُّفِهِ فِيمَا زَادَ عَلَى
قُوَّتِهِ، أَوْ مِنْ نُفُوذِ تَبَرُّعِهِ بِزَائِدٍ عَلَى ثُلُثِ مَالِهِ.
فَدَخَل بِالثَّانِي حَجْرُ الْمَرِيضِ وَالزَّوْجَةِ، وَدَخَل بِالأَْوَّل
حَجْرُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ وَالْمُفْلِسِ وَالرَّقِيقِ
فَيُمْنَعُونَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الزَّائِدِ عَلَى الْقُوتِ وَلَوْ
كَانَ التَّصَرُّفُ غَيْرَ تَبَرُّعٍ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَأَمَّا
الزَّوْجَةُ وَالْمَرِيضُ فَلاَ يُمْنَعَانِ مِنَ التَّصَرُّفِ إِذَا كَانَ
غَيْرَ تَبَرُّعٍ أَوْ كَانَ تَبَرُّعًا وَكَانَ بِثُلُثِ مَالِهِمَا،
وَأَمَّا تَبَرُّعُهُمَا بِزَائِدٍ عَلَى الثُّلُثِ فَيُمْنَعَانِ مِنْهُ
(2) .
مَشْرُوعِيَّةُ الْحَجْرِ:
2 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الْحَجْرِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. أَمَّا
الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تُؤْتُوا
__________
(1) ابن عابدين 5 / 89، وتبيين الحقائق 5 / 190، وتكملة البحر 8 / 88.
(2) الدسوقي 3 / 292، وحاشية الصاوي على الشرح الصغير 3 / 381 ط دار
المعارف.
(17/85)
السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَل
اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا
لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا (1) }
وَقَوْلُهُ: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ
فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ
(2) } .
وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ
ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِل هُوَ فَلْيُمْلِل وَلِيُّهُ
بِالْعَدْل (3) } .
فَسَّرَ الشَّافِعِيُّ السَّفِيهَ بِالْمُبَذِّرِ، وَالضَّعِيفَ
بِالصَّبِيِّ وَالْكَبِيرِ الْمُخْتَل، وَاَلَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ
يُمِل بِالْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ
هَؤُلاَءِ يَنُوبُ عَنْهُمْ أَوْلِيَاؤُهُمْ فَدَل عَلَى ثُبُوتِ الْحَجْرِ
عَلَيْهِمْ (4) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَالَهُ وَبَاعَهُ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَيْهِ (5)
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ
أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) سورة النساء / 5.
(2) سورة النساء / 6.
(3) سورة البقرة / 282.
(4) مغني المحتاج 2 / 165.
(5) حديث كعب بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ. . .
أخرجه الدارقطني (4 / 231 - ط دار المحاسن) ، وصوب عبد الحق الأشبيلي:
إرساله، كذا في التلخيص لابن حجر (3 / 37 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(17/86)
حَجَرَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِسَبَبِ تَبْذِيرِهِ
حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الْحَجْرِ:
3 - قَرَّرَ الشَّارِعُ الْحَجْرَ عَلَى مَنْ يُصَابُ بِخَلَلٍ فِي
عَقْلِهِ كَجُنُونٍ وَعَتَهٍ حَتَّى تَكُونَ الأَْمْوَال مَصُونَةً مِنَ
الأَْيْدِي الَّتِي تَسْلُبُ أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِل وَالْغِشِّ
وَالتَّدْلِيسِ. وَتَكُونَ مَصُونَةً أَيْضًا مِنْ سُوءِ تَصَرُّفِ
الْمَالِكِ.
وَقَرَّرَ الْحَجْرَ أَيْضًا عَلَى مَنْ يَسْتَرْسِلُونَ فِي غَلْوَاءِ
الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ وَالْخَلاَعَةِ وَيُبَدِّدُونَ أَمْوَالَهُمْ ذَاتَ
الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَال صَوْنًا لأَِمْوَالِهِمْ، وَحِرْصًا عَلَى
أَرْزَاقِ أَوْلاَدِهِمْ، وَمَنْ يَعُولُونَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ وَبَعْدَ
مَمَاتِهِمْ.
كَمَا شَمِل الْحَجْرُ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِلإِْفْتَاءِ وَهُوَ جَاهِلٌ لاَ
يَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فَيَضِل وَيُضِل وَتُصْبِحُ
فِتْنَةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَرَاءِ فُتْيَاهُ، وَكَذَا يُحْجَرُ
عَلَى الطَّبِيبِ الْجَاهِل الَّذِي يُدَاوِي الأُْمَّةَ وَهُوَ لاَ
يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ فَنِّ الطِّبِّ، فَتَرُوحُ أَرْوَاحٌ طَاهِرَةٌ
بَيْنَ يَدَيْهِ لِجَهْلِهِ، وَيَنْتِجُ مِنْ ذَلِكَ بَلاَءٌ عَظِيمٌ
وَخَطْبٌ جَسِيمٌ. وَكَذَا يُحْجَرُ عَلَى الْمُكَارِي الْمُفْلِسِ،
لأَِنَّهُ يُتْلِفُ أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِل (1) .
__________
(1) حكمة التشريع وفلسفته للجرجاوي 257.
(17/86)
أَسْبَابُ الْحَجْرِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصِّغَرَ وَالْجُنُونَ وَالرِّقَّ
أَسْبَابٌ لِلْحَجْرِ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ السَّفَهَ وَالْمَرَضَ الْمُتَّصِل
بِالْمَوْتِ أَسْبَابٌ لِلْحَجْرِ أَيْضًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَجْرِ عَلَى الزَّوْجَةِ - فِيمَا زَادَ عَلَى
الثُّلُثِ - وَفِي الْحَجْرِ عَلَى الْمُرْتَدِّ لِمُصْلِحَةِ
الْمُسْلِمِينَ، وَفِي غَيْرِهِمَا عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِيمَا بَعْدُ
(1) .
تَقْسِيمُ الْحَجْرِ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ:
5 - يَنْقَسِمُ الْحَجْرُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أ - قِسْمٍ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ (غَالِبًا) ،
وَذَلِكَ كَحَجْرِ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ وَالسَّفِيهِ وَالْمُبَذِّرِ
وَغَيْرِهِمْ - عَلَى مَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ - فَالْحَجْرُ فِي هَذَا
الْقِسْمِ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ هَؤُلاَءِ حِفْظًا لأَِمْوَالِهِمْ مِنَ
الضَّيَاعِ.
ب - قِسْمٌ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ الْغَيْرِ (غَالِبًا) ، وَذَلِكَ كَحَجْرِ
الْمَدِينِ الْمُفْلِسِ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ (الدَّائِنِينَ) ، وَحَجْرِ
الرَّاهِنِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ،
وَكَحَجْرِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ فِيمَا زَادَ
عَلَى ثُلُثِ التَّرِكَةِ حَيْثُ لاَ دَيْنَ، وَحَجْرِ الرَّقِيقِ لِحَقِّ
سَيِّدِهِ (2) .
__________
(1) البحر الرائق 8 / 88، والشرح الصغير 3 / 381، وما بعدها ط دار المعارف
بمصر ومغني المحتاج 2 / 165 وشرح منتهى الإرادات 2 / 273 - 274.
(2) المصادر السابقة.
(17/87)
أَوَّلاً - الْحَجْرُ عَلَى الصَّغِيرِ:
6 - يَبْدَأُ الصِّغَرُ مِنْ حِينِ الْوِلاَدَةِ إِلَى مَرْحَلَةِ
الْبُلُوغِ، وَلِمَعْرِفَةِ مَتَى يَتِمُّ الْبُلُوغُ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ:
(بُلُوغٌ) .
وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ الَّذِي لَمْ
يَبْلُغِ الْحُلُمَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ حَتَّى يَبْلُغَ
ثُمَّ يَسْتَمِرَّ الْحَجْرُ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَرْشُدَ.
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا
النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ (1) } وَذَلِكَ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ لِقُصُورِ
إِدْرَاكِهِ.
وَيَنْتَهِي الْحَجْرُ بِبُلُوغِهِ رَشِيدًا عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} أَيْ:
أَبْصَرْتُمْ وَعَلِمْتُمْ مِنْهُمْ حِفْظًا لأَِمْوَالِهِمْ وَصَلاَحِهِمْ
فِي تَدْبِيرِهِمْ. وَلاَ يَنْتَهِي الْحَجْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّبِيِّ
وَلاَ يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَالُهُ قَبْل وُجُودِ الأَْمْرَيْنِ الْبُلُوغِ
وَالرُّشْدِ وَلَوْ صَارَ شَيْخًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لأَِبِي
حَنِيفَةَ كَمَا سَيَأْتِي.
أ - الْبُلُوغُ: الْبُلُوغُ انْتِهَاءُ فَتْرَةِ الصِّغَرِ وَالدُّخُول فِي
حَدِّ الْكِبَرِ وَلَهُ أَمَارَاتٌ طَبِيعِيَّةٌ إِنْ تَحَقَّقَتْ حُكِمَ
بِهِ وَإِلاَّ فَيُرْجَعُ لِلسِّنِّ عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ يُنْظَرُ
فِي مُصْطَلَحِ: (بُلُوغٌ) .
__________
(1) سورة النساء / 6.
(17/87)
ب - الرُّشْدُ:
الرُّشْدُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) هُوَ الصَّلاَحُ
فِي الْمَال فَقَطْ. وَهَذَا قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ لِلآْيَةِ
السَّابِقَةِ.
وَمَنْ كَانَ مُصْلِحًا لِمَالِهِ فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ رُشْدٌ، وَلأَِنَّ
الْعَدَالَةَ لاَ تُعْتَبَرُ فِي الرُّشْدِ فِي الدَّوَامِ. فَلاَ
تُعْتَبَرُ فِي الاِبْتِدَاءِ كَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَلأَِنَّ هَذَا
مُصْلِحٌ لِمَالِهِ فَأَشْبَهَ الْعَدْل، يُحَقِّقُهُ: أَنَّ الْحَجْرَ
عَلَيْهِ إِنَّمَا كَانَ لِحِفْظِ مَالِهِ عَلَيْهِ، فَالْمُؤَثِّرُ فِيهِ
مَا أَثَّرَ فِي تَضْيِيعِ الْمَال أَوْ حِفْظِهِ.
وَلَوْ كَانَ الرُّشْدُ صَلاَحَ الدِّينِ فَالْحَجْرُ عَلَى الْكَافِرِ
أَوْلَى مِنَ الْحَجْرِ عَلَى الْفَاسِقِ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ الْفَاسِقُ يُنْفِقُ أَمْوَالَهُ فِي الْمَعَاصِي
كَشِرَاءِ الْخَمْرِ وَآلاَتِ اللَّهْوِ أَوْ يَتَوَصَّل بِهِ إِلَى
الْفَسَادِ فَهُوَ غَيْرُ رَشِيدٍ لِتَبْذِيرِهِ لِمَالِهِ وَتَضْيِيعِهِ
إِيَّاهُ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ عَلَى الْخِلاَفِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ
فِسْقُهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ كَالْكَذِبِ وَمَنْعِ الزَّكَاةِ وَإِضَاعَةِ
الصَّلاَةِ مَعَ حِفْظِهِ لِمَالِهِ دُفِعَ مَالُهُ إِلَيْهِ، لأَِنَّ
الْمَقْصُودَ بِالْحَجْرِ حِفْظُ الْمَال، وَمَالُهُ مَحْفُوظٌ بِدُونِ
الْحَجْرِ، وَلِذَلِكَ لَوْ طَرَأَ الْفِسْقُ عَلَيْهِ بَعْدَ دَفْعِ
مَالِهِ إِلَيْهِ لَمْ يُنْزَعْ (1) .
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الرُّشْدَ الصَّلاَحُ فِي
الدِّينِ وَالْمَال جَمِيعًا.
__________
(1) المغني 4 / 516 - 517 والقوانين الفقهية ص 211.
(17/88)
وَالآْيَةُ عِنْدَهُمْ عَامَّةٌ لأَِنَّ
كَلِمَةَ " رُشْدًا " نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَتَعُمُّ الْمَال
وَالدِّينَ، فَالرَّشِيدُ هُوَ مَنْ لاَ يَفْعَل مُحَرَّمًا يُبْطِل
الْعَدَالَةَ، وَلاَ يُبَذِّرُ بِأَنْ يُضَيِّعَ الْمَال بِاحْتِمَال
غَبْنٍ فَاحِشٍ فِي الْمُعَامَلَةِ، أَوْ رَمْيِهِ فِي بَحْرٍ، أَوْ
إِنْفَاقِهِ فِي مُحَرَّمٍ (1) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيل " رُشْدًا "
فِي الآْيَةِ فَقَال الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: صَلاَحًا فِي
الْعَقْل وَالدِّينِ. وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَالثَّوْرِيُّ:
صَلاَحًا فِي الْعَقْل وَحِفْظُ الْمَال. قَال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ
وَالشَّعْبِيُّ: إِنَّ الرَّجُل لَيَأْخُذُ بِلِحْيَتِهِ وَمَا بَلَغَ
رُشْدَهُ. فَلاَ يُدْفَعُ إِلَى الْيَتِيمِ مَالُهُ وَلَوْ صَارَ شَيْخًا
حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ رُشْدُهُ.
وَهَكَذَا قَال الضَّحَّاكُ: لاَ يُعْطَى الْيَتِيمُ وَإِنْ بَلَغَ مِائَةَ
سَنَةٍ حَتَّى يُعْلَمَ مِنْهُ إِصْلاَحُ مَالِهِ.
وَقَال مُجَاهِدٌ: رُشْدًا " يَعْنِي فِي الْعَقْل خَاصَّةً.
وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الرُّشْدَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ
الْبُلُوغِ، وَعَلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَرْشُدْ بَعْدَ بُلُوغِ الْحُلُمِ
وَإِنْ شَاخَ لاَ يَزُول الْحَجْرُ عَنْهُ (2) .
أَثَرُ الْحَجْرِ عَلَى تَصَرُّفَاتِ الصَّغِيرِ:
7 - سَبَقَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ رَشِيدًا مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، إِلاَّ
أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُمَيِّزِ وَغَيْرِ
الْمُمَيِّزِ فِي
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 168.
(2) تفسير القرطبي 5 / 37 ط وزارة التربية والتعليم.
(17/88)
حُكْمِ تَصَرُّفَاتِهِ، هَل تَقَعُ
صَحِيحَةً غَيْرَ نَافِذَةٍ أَمْ تَقَعُ فَاسِدَةً؟
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ طَلاَقُ الصَّبِيِّ وَلاَ
إِقْرَارُهُ وَلاَ عِتْقُهُ وَلَوْ كَانَ مُمَيِّزًا، وَإِذَا عَقَدَ
الصَّبِيُّ عَقْدًا فِيهِ نَفْعٌ مَحْضٌ صَحَّ الْعَقْدُ كَقَبُول
الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ.
وَكَذَا إِذَا آجَرَ نَفْسَهُ وَمَضَى عَلَى ذَلِكَ الْعَمَل وَجَبَتِ
الأُْجْرَةُ اسْتِحْسَانًا.
وَإِذَا عَقَدَ الصَّبِيُّ عَقْدًا يَدُورُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ
وَكَانَ يَعْقِلُهُ (أَيْ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَيْعَ سَالِبٌ لِلْمِلْكِ
وَالشِّرَاءَ جَالِبٌ لَهُ) ، فَإِنْ أَجَازَهُ الْوَلِيُّ صَحَّ، وَإِذَا
رَدَّهُ بَطَل الْعَقْدُ. هَذَا إِذَا لَمْ يَتَضَمَّنِ الْعَقْدُ غَبْنًا
فَاحِشًا وَإِلاَّ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ أَجَازَهُ الْوَلِيُّ، وَأَمَّا
إِذَا كَانَ لاَ يَعْقِلُهُ فَقَدْ بَطَل الْعَقْدُ.
وَإِذَا أَتْلَفَ الصَّبِيُّ - سَوَاءٌ عَقَل أَمْ لاَ - شَيْئًا
مُتَقَوِّمًا مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ ضَمِنَهُ، إِذْ لاَ حَجْرَ فِي
التَّصَرُّفِ الْفِعْلِيِّ، وَتَضْمِينُهُ مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ
وَهُوَ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّكْلِيفِ فَيَضْمَنُ الصَّبِيُّ مَا
أَتْلَفَهُ مِنَ الْمَال لِلْحَال، وَإِذَا قَتَل فَالدِّيَةُ عَلَى
عَاقِلَتِهِ إِلاَّ فِي مَسَائِل لاَ يَضْمَنُ فِيهَا لأَِنَّهُ مُسَلَّطٌ
مِنْ قِبَل الْمَالِكِ: كَمَا إِذَا أَتْلَفَ مَا اقْتَرَضَهُ، وَمَا
أُودِعَ عِنْدَهُ بِلاَ إِذْنِ وَلِيِّهِ، وَكَذَا إِذَا أَتْلَفَ مَا
أُعِيرَ لَهُ وَمَا بِيعَ مِنْهُ بِلاَ إِذْنٍ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 90 - 92.
(17/89)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ
الصَّبِيَّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ رَشِيدًا، وَزِيدَ فِي
الأُْنْثَى دُخُول الزَّوْجِ بِهَا، وَشَهَادَةُ الْعُدُول عَلَى صَلاَحِ
حَالِهَا.
وَلَوْ تَصَرَّفَ الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ بِمُعَاوَضَةٍ بِلاَ إِذْنِ
وَلِيِّهِ كَبَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَهِبَةِ الثَّوَابِ (الْهِبَةُ بِعِوَضٍ)
فَلِلْوَلِيِّ رَدُّ هَذَا التَّصَرُّفِ، فَإِنْ كَانَ التَّصَرُّفُ
بِغَيْرِ مُعَاوَضَةٍ تَعَيَّنَ عَلَى الْوَلِيِّ رَدُّهُ كَإِقْرَارٍ
بِدَيْنٍ.
وَلِلصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ رَدُّ تَصَرُّفِ نَفْسِهِ قَبْل رُشْدِهِ إِنْ
رَشَدَ حَيْثُ تَرَكَهُ وَلِيُّهُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِتَصَرُّفِهِ أَوْ
لِسَهْوِهِ أَوْ لِلإِْعْرَاضِ عَنْ ذَلِكَ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ أَوْ لَمْ
يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ.
وَلَوْ حَنِثَ بَعْدَ رُشْدِهِ كَمَا لَوْ حَلَفَ حَال صِغَرِهِ: أَنَّهُ
إِنْ فَعَل كَذَا فَزَوْجَتُهُ طَالِقٌ أَوْ عَبْدُهُ حُرٌّ، فَفَعَلَهُ
بَعْدَ رُشْدِهِ فَلَهُ رَدُّهُ فَلاَ يَلْزَمُهُ طَلاَقٌ وَلاَ عِتْقٌ،
وَلَهُ إِمْضَاؤُهُ. وَلاَ يُحْجَرُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالسَّفِيهِ فِيمَا
يَتَعَلَّقُ بِضَرُورَةِ الْعَيْشِ كَدِرْهَمٍ مَثَلاً، وَلاَ يُرَدُّ
فِعْلُهُ فِيهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ لاَ يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِيهِ.
وَيَضْمَنُ الصَّبِيُّ مُمَيِّزًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ مَا
أَفْسَدَ مِنْ مَال غَيْرِهِ فِي الذِّمَّةِ، فَتُؤْخَذُ قِيمَةُ مَا
أَفْسَدَهُ مِنْ مَالِهِ الْحَاضِرِ إِنْ كَانَ، وَإِلاَّ أُتْبِعَ بِهَا
فِي ذِمَّتِهِ إِلَى وُجُودِ مَالٍ، هَذَا إِذَا لَمْ يُؤْتَمَنِ
الصَّبِيُّ عَلَى مَا أَتْلَفَهُ، فَإِنِ اؤْتُمِنَ عَلَيْهِ فَلاَ ضَمَانَ
عَلَيْهِ لأَِنَّ مَنِ ائْتَمَنَهُ قَدْ سَلَّطَهُ عَلَى إِتْلاَفِهِ،
وَلأَِنَّهُ لَوْ ضَمِنَ الْمَحْجُورُ لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الْحَجْرِ.
وَاسْتَثْنَى ابْنُ عَرَفَةَ: الصَّغِيرَ الَّذِي لَمْ يَزِدْ عَنْ شَهْرٍ
فَلاَ ضَمَانَ
(17/89)
عَلَيْهِ لأَِنَّهُ كَالْعَجْمَاءِ.
وَتَصِحُّ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ إِذَا لَمْ يَخْلِطْ فِيهَا،
فَإِنْ خَلَطَ بِأَنْ تَنَاقَضَ فِيهَا أَوْ أَوْصَى بِغَيْرِ قُرْبَةٍ
لَمْ تَصِحَّ.
وَإِنَّ الزَّوْجَةَ الْحُرَّةَ الرَّشِيدَةَ يُحْجَرُ عَلَيْهَا
لِزَوْجِهَا فِي تَصَرُّفٍ زَائِدٍ عَلَى ثُلُثِ مَالِهَا وَتَبَرُّعُهَا
مَاضٍ حَتَّى يُرَدَّ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّبِيَّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ إِلَى
الْبُلُوغِ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، وَسَوَاءٌ أَكَانَ
مُمَيِّزًا أَمْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ.
وَالصِّبَا يَسْلُبُ الْوِلاَيَةَ وَالْعِبَارَةُ فِي الْمُعَامَلَةِ
كَالْبَيْعِ، وَفِي الدَّيْنِ كَالإِْسْلاَمِ، إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ مِنْ
عِبَادَةٍ مِنْ مُمَيِّزٍ، لَكِنَّهُ يُثَابُ عَلَى الْفَرِيضَةِ أَقَل
مِنْ ثَوَابِ الْبَالِغِ عَلَى النَّافِلَةِ، وَلَعَل وَجْهَهُ عَدَمُ
خِطَابِهِ بِهَا، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لاَ ثَوَابَ أَصْلاً لِعَدَمِ
خِطَابِهِ بِالْعِبَادَةِ، لَكِنَّهُ أُثِيبَ تَرْغِيبًا لَهُ فِي
الْعِبَادَةِ، فَلاَ يَتْرُكُهَا بَعْدَ بُلُوغِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَاسْتُثْنِيَ كَذَلِكَ مِنَ الْمُمَيِّزِ الإِْذْنُ فِي دُخُول الدَّارِ،
وَاسْتُثْنِيَ أَيْضًا إِيصَال هَدِيَّةٍ مِنْ مُمَيِّزٍ مَأْمُونٍ أَيْ
لَمْ يُجَرَّبْ عَلَيْهِ كَذِبٌ.
وَلِلصَّبِيِّ تَمَلُّكُ الْمُبَاحَاتِ وَإِزَالَةُ الْمُنْكَرَاتِ
وَيُثَابُ عَلَيْهَا كَالْمُكَلَّفِ، وَيَجُوزُ تَوْكِيلُهُ فِي تَفْرِقَةِ
الزَّكَاةِ إِذَا عُيِّنَ لَهُ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ (1) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 166، والروضة 4 / 177، وحاشية الجمل 3 / 336، وشرح
البهجة 3 / 122، 125.
(17/90)
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ قَال فِي
الْمُغْنِي (1) : وَالْحُكْمُ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَالْحُكْمِ
فِي السَّفِيهِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا فِيمَا أَتْلَفَاهُ
مِنْ مَال غَيْرِهِمَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَوْ غَصَبَاهُ فَتَلِفَ فِي
أَيْدِيهِمَا، وَانْتِفَاءُ الضَّمَانِ عَنْهُمَا فِيمَا حَصَل فِي
أَيْدِيهِمَا بِاخْتِيَارِ صَاحِبِهِ وَتَسْلِيطِهِ كَالثَّمَنِ
وَالْمَبِيعِ وَالْقَرْضِ وَالاِسْتِدَانَةِ، وَأَمَّا الْوَدِيعَةُ
وَالْعَارِيَّةُ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِمَا فِيمَا تَلِفَ
بِتَفْرِيطِهِمَا، وَإِنْ أَتْلَفَاهُ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ.
مَتَى يُدْفَعُ الْمَال إِلَى الصَّغِيرِ:
8 - إِذَا بَلَغَ الصَّغِيرُ رَشِيدًا أَوْ بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ ثُمَّ
رَشَدَ دُفِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ وَفُكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ
فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ
(2) } وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُتْمَ بَعْدَ
احْتِلاَمٍ (3) . وَلاَ يُحْتَاجُ فِي هَذَا إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، لأَِنَّ
الْحَجْرَ عَلَيْهِ ثَبَتَ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ فَيَزُول مِنْ غَيْرِ
حُكْمٍ وَبِهِ قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي الْمَذْهَبِ - وَالْحَنَابِلَةُ) .
وَمُقَابِل الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ فَكَّ الْحَجْرِ
__________
(1) المغني 4 / 521.
(2) سورة النساء / 9.
(3) حديث: " لا يتم بعد احتلام " أخرجه أبو داود (3 / 293 - 294 - تحقيق
عزت عبيد دعاس) من حديث علي بن أبي طالب، وفي إسناده مقال، ولكنه صحيح
لطرقه. التلخيص لابن حجر (3 / 101 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(17/90)
يَفْتَقِرُ إِلَى الْحَاكِمِ، لأَِنَّ
الرُّشْدَ يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الصَّغِيرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا أَوْ
أُنْثَى:
فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَهُوَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ حَيًّا فَإِنَّهُ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ
عَنْهُ بِبُلُوغِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ سَفَهٌ أَوْ يَحْجُرْهُ
أَبُوهُ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ قَدْ مَاتَ وَعَلَيْهِ وَصِيٌّ فَلاَ
يَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ إِلاَّ بِالتَّرْشِيدِ. فَإِنْ كَانَ
الْوَصِيُّ مِنَ الأَْبِ (وَهُوَ الْوَصِيُّ الْمُخْتَارُ) فَلَهُ أَنْ
يُرَشِّدَهُ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْقَاضِي، وَإِنْ كَانَ الْوَصِيُّ
مُقَدَّمًا مِنْ قَاضٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرْشِيدُهُ إِلاَّ بِإِذْنِ
الْقَاضِي.
وَقَال الدَّرْدِيرُ: إِنَّ الْحَجْرَ عَلَى الصَّبِيِّ بِالنِّسْبَةِ
لِمَالِهِ يَكُونُ لِبُلُوغِهِ مَعَ صَيْرُورَتِهِ حَافِظًا لِمَالِهِ
بَعْدَهُ فَقَطْ إِنْ كَانَ ذَا أَبٍ أَوْ مَعَ فَكِّ الْوَصِيِّ
وَالْمُقَدَّمُ (الْوَصِيُّ الْمُعَيَّنُ مِنَ الْقَاضِي) إِنْ كَانَ ذَا
وَصِيٍّ أَوْ مُقَدَّمٍ فَذُو الأَْبِ بِمُجَرَّدِ صَيْرُورَتِهِ حَافِظًا
لِلْمَال بَعْدَ بُلُوغِهِ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ
يَفُكَّهُ أَبُوهُ عَنْهُ، قَال ابْن عَاشِرٍ: يُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا
إِذَا حَجَرَ الأَْبُ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ
عِنْوَانُ الْبُلُوغِ، فَإِنَّهُ لاَ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ وَإِنْ
كَانَ
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 195 وبداية المجتهد 2 / 277، ومغني المحتاج 2 / 166،
170، والمغني 4 / 457.
(17/91)
حَافِظًا لِلْمَال إِلاَّ لِفَكِّ الأَْبِ.
وَأَمَّا فَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْوَصِيِّ
فَيَحْتَاجُ بِأَنْ يَقُول لِلْعُدُول: اشْهَدُوا أَنِّي فَكَكْتُ
الْحَجْرَ عَنْ فُلاَنٍ وَأَطْلَقْتُ لَهُ التَّصَرُّفَ لِمَا قَامَ
عِنْدِي مِنْ رُشْدِهِ وَحُسْنِ تَصَرُّفِهِ، فَتَصَرُّفُهُ بَعْدَ
الْفَكِّ لاَزِمٌ لاَ يُرَدُّ. وَلاَ يَحْتَاجُ لإِِذْنِ الْحَاكِمِ فِي
الْفَكِّ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَبْلُغَ وَلاَ يَكُونَ لَهُ أَبٌ وَلاَ وَصِيٌّ، وَهُوَ
الْمُهْمَل، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الرُّشْدِ إِلاَّ إِنْ تَبَيَّنَ
سَفَهُهُ.
وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى فَهِيَ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهَا: إِنْ كَانَتْ ذَاتَ أَبٍ فَإِنَّهَا إِذَا بَلَغَتْ تَبْقَى فِي
حِجْرِهِ حَتَّى تَتَزَوَّجَ وَيَدْخُل بِهَا زَوْجُهَا وَتَبْقَى مُدَّةً
بَعْدَ الدُّخُول.
وَاخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِ تِلْكَ الْمُدَّةِ مِنْ عَامٍ إِلَى سَبْعَةِ
أَعْوَامٍ.
وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا حُسْنُ تَصَرُّفِهَا فِي الْمَال وَشَهَادَةُ
الْعُدُول بِذَلِكَ.
الثَّانِي: إِنْ كَانَتْ ذَاتَ وَصِيٍّ أَوْ مُقَدَّمٍ لاَ يَنْفَكُّ
الْحَجْرُ عَنْهَا إِلاَّ بِهَذِهِ الأَْرْبَعَةِ (وَهِيَ بُلُوغُهَا،
وَالدُّخُول بِهَا، وَبَقَاؤُهَا مُدَّةً بَعْدَ الدُّخُول، وَثُبُوتُ
حُسْنِ التَّصَرُّفِ بِشَهَادَةِ الْعُدُول) وَفَكَّ الْوَصِيُّ أَوِ
الْمُقَدَّمُ. فَإِنْ لَمْ يَفُكَّا الْحَجْرَ عَنْهَا بِتَرْشِيدِهَا
كَانَ تَصَرُّفُهَا مَرْدُودًا وَلَوْ
(17/91)
عَنَسَتْ أَوْ دَخَل بِهَا الزَّوْجُ
وَطَالَتْ إِقَامَتُهَا عِنْدَهُ (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الصَّبِيَّ إِنْ بَلَغَ غَيْرَ
رَشِيدٍ لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسًا
وَعِشْرِينَ سَنَةً وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ قَبْلَهُ (أَيْ قَبْل بُلُوغِهِ
هَذِهِ السِّنَّ مَعَ إِينَاسِ الرُّشْدِ) وَيُدْفَعُ إِلَيْهِ مَالُهُ
مَتَى بَلَغَ الْمُدَّةَ وَلَوْ كَانَ مُفْسِدًا. لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ
بِالطَّيِّبِ} وَالْمُرَادُ بِالْيَتِيمِ هُنَا مَنْ بَلَغَ، وَسُمِّيَ فِي
الآْيَةِ يَتِيمًا لِقُرْبِهِ مِنَ الْبُلُوغِ، وَلأَِنَّهُ فِي أَوَّل
أَحْوَال الْبُلُوغِ قَدْ لاَ يُفَارِقُهُ السَّفَهُ بِاعْتِبَارِ أَثَرِ
الصِّبَا فَقَدَّرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً،
لأَِنَّهُ حَال كَمَال لُبِّهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: يَنْتَهِي
لُبُّ الرَّجُل إِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَقَال أَهْل
الطَّبَائِعِ (الأَْطِبَّاءُ) : مَنْ بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً
فَقَدْ بَلَغَ رُشْدَهُ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ سِنًّا
يُتَصَوَّرُ أَنْ يَصِيرَ فِيهَا جَدًّا، لأَِنَّ أَدْنَى مُدَّةٍ يَبْلُغُ
فِيهَا الْغُلاَمُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، فَيُولَدُ لَهُ وَلَدٌ
لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ الْوَلَدُ يَبْلُغُ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ
سَنَةً، فَيُولَدُ لَهُ وَلَدٌ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَقَدْ صَارَ بِذَلِكَ
جَدًّا، حَتَّى لَوْ بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ مُبَذِّرًا لَمْ يُمْنَعْ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 296 وما بعدها، والشرح الصغير بحاشية الصاوي 3 / 382
- 383 ط دار المعارف بمصر، والقوانين الفقهية ص 211 ط دار القلم.
(17/92)
مِنْهُ مَالُهُ، لأَِنَّ هَذَا لَيْسَ
بِأَثَرِ الصِّبَا فَلاَ يُعْتَبَرُ فِي مَنْعِ الْمَال، وَلأَِنَّ مَنْعَ
الْمَال عَنْهُ عَلَى سَبِيل التَّأْدِيبِ عُقُوبَةٌ عَلَيْهِ،
وَالاِشْتِغَال بِالتَّأْدِيبِ عِنْدَ رَجَاءِ التَّأَدُّبِ، فَإِذَا
بَلَغَ هَذِهِ السِّنَّ فَقَدِ انْقَطَعَ رَجَاءُ التَّأَدُّبِ فَلاَ
مَعْنَى لِمَنْعِ الْمَال بَعْدَهُ (1) .
الْحَجْرُ عَلَى الْمَجْنُونِ:
9 - الْجُنُونُ هُوَ اخْتِلاَل الْعَقْل بِحَيْثُ يَمْنَعُ جَرَيَانَ
الأَْفْعَال وَالأَْقْوَال عَلَى نَهْجِهِ إِلاَّ نَادِرًا (2) .
وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْبِقًا أَوْ مُتَقَطِّعًا (3) .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْحَجْرِ عَلَى الْمَجْنُونِ
سَوَاءٌ أَكَانَ الْجُنُونُ أَصْلِيًّا أَمْ طَارِئًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ
قَوِيًّا أَمْ ضَعِيفًا، وَالْقَوِيُّ: الْمُطْبِقُ، وَالضَّعِيفُ:
غَيْرُهُ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجُنُونَ مِنْ عَوَارِضِ
الأَْهْلِيَّةِ فَهُوَ يُزِيل أَهْلِيَّةَ الأَْدَاءِ إِنْ كَانَ
مُطْبِقًا، فَلاَ تَتَرَتَّبُ عَلَى تَصَرُّفَاتِهِ آثَارُهَا
الشَّرْعِيَّةُ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْجُنُونُ مُتَقَطِّعًا فَإِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 94، وتبيين الحقائق 5 / 195، وأحكام القرآن للجصاص 2 /
49، والشرح الصغير 3 / 393، ومغني المحتاج 2 / 170، والمغني 4 / 518.
(2) التعريفات للجرجاني.
(3) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 3 / 381.
(17/92)
التَّكْلِيفَ فِي حَال الإِْفَاقَةِ وَلاَ
يَنْفِي أَصْل الْوُجُوبِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ كَمَا يَلِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَصَرُّفُ الْمَجْنُونِ
الْمَغْلُوبِ بِحَالٍ.
قَال الْحَصْكَفِيُّ: وَأَمَّا الَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَحُكْمُهُ
كَمُمَيِّزٍ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَمِثْلُهُ فِي الْمِنَحِ وَالدُّرَرِ وَغَايَةِ
الْبَيَانِ وَكَذَا الْمِعْرَاجُ حَيْثُ فَسَّرَ الْمَغْلُوبَ بِاَلَّذِي
لاَ يَعْقِل أَصْلاً. ثُمَّ قَال: وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنِ الْمَجْنُونِ
الَّذِي يَعْقِل الْبَيْعَ وَيَقْصِدُهُ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ كَتَصَرُّفِ
الصَّبِيِّ الْعَاقِل وَهَذَا هُوَ الْمَعْتُوهُ.
وَجَعَلَهُ الزَّيْلَعِيُّ فِي حَال إِفَاقَتِهِ كَالْعَاقِل،
وَالْمُتَبَادِرُ مِنْهُ أَنَّهُ الْعَاقِل الْبَالِغُ.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ ابْنُ عَابِدِينَ حَيْثُ قَال: إِنَّهُ
كَانَ يَنْبَغِي لِلشَّارِحِ (الْحَصْكَفِيِّ صَاحِبِ الدُّرِّ) أَنْ
يَقُول: فَحُكْمُهُ كَعَاقِلٍ أَيْ: فِي حَال إِفَاقَتِهِ كَمَا قَالَهُ
الزَّيْلَعِيُّ لِيَظْهَرَ لِلتَّقْيِيدِ بِالْمَغْلُوبِ فَائِدَةٌ،
فَإِنَّهُ حَيْثُ كَانَ غَيْرُ الْمَغْلُوبِ كَمُمَيِّزٍ لاَ يَصِحُّ
طَلاَقُهُ وَلاَ إِعْتَاقُهُ كَالْمَغْلُوبِ.
وَإِذَا أَتْلَفَ الْمَجْنُونُ شَيْئًا مُقَوَّمًا مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ
ضَمِنَهُ إِذْ لاَ حَجْرَ فِي التَّصَرُّفِ الْفِعْلِيِّ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 90 - 91، والشرح الصغير 3 / 381، والقوانين الفقهية ص
325، ومغني المحتاج 2 / 165 - 166، وكشاف القناع 3 / 417 - 442.
(2) ابن عابدين 5 / 90 - 91.
(17/93)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ
الْمَجْنُونَ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ إِلاَّ إِذَا
أَتْلَفَ شَيْئًا فَفِي مَالِهِ، وَالدِّيَةُ إِنْ بَلَغَتِ الثُّلُثَ
فَأَكْثَرَ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ كَالْمَال (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ بِالْجُنُونِ تَنْسَلِبُ
الْوِلاَيَاتُ الثَّابِتَةُ بِالشَّرْعِ كَوِلاَيَةِ النِّكَاحِ، أَوِ
التَّفْوِيضِ كَالإِْيصَاءِ وَالْقَضَاءِ لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَل أَمْرَ
نَفْسِهِ فَأَمْرُ غَيْرِهِ أَوْلَى.
وَلاَ تُعْتَبَرُ عِبَارَةُ الْمَجْنُونِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ لَهُ أَمْ
عَلَيْهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا كَالإِْسْلاَمِ وَالْمُعَامَلاَتِ
لِعَدَمِ قَصْدِهِ.
وَأَمَّا أَفْعَالُهُ فَمِنْهَا مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ كَإِحْبَالِهِ
وَإِتْلاَفِهِ مَال غَيْرِهِ وَتَقْرِيرِ الْمَهْرِ بِوَطْئِهِ،
وَتَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى إِرْضَاعِهِ وَالْتِقَاطِهِ وَاحْتِطَابِهِ
وَاصْطِيَادِهِ، وَعَمْدُهُ عَمْدٌ عَلَى الصَّحِيحِ أَيْ: حَيْثُ كَانَ
لَهُ نَوْعُ تَمْيِيزٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ
كَالصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ (2) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ سَبَقَ كَلاَمُهُمْ عَلَى الْمَجْنُونِ فِي
الْكَلاَمِ عَلَى الصَّبِيِّ.
وَيَرْتَفِعُ حَجْرُ الْمَجْنُونِ بِالإِْفَاقَةِ مِنَ الْجُنُونِ مِنْ
غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى فَكٍّ فَتُعْتَبَرُ أَقْوَالُهُ وَتَنْفُذُ
تَصَرُّفَاتُهُ (ر: جُنُونٌ) .
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 381، 388، وانظر الموسوعة الفقهية 1 / 255 مصطلح:
(إتلاف) .
(2) مغني المحتاج 2 / 165 - 166.
(17/93)
الْحَجْرُ عَلَى الْمَعْتُوهِ:
10 - اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَفْسِيرِ الْمَعْتُوهِ، وَأَحْسَنُ مَا
قِيل فِيهِ: هُوَ مَنْ كَانَ قَلِيل الْفَهْمِ مُخْتَلِطَ الْكَلاَمِ
فَاسِدَ التَّدْبِيرِ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَضْرِبُ وَلاَ يَشْتِمُ كَمَا
يَفْعَل الْمَجْنُونُ.
وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ تَفْسِيرًا لِلْعَتَهِ فِي
الاِصْطِلاَحِ.
وَالْمَعْتُوهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ وَفِي رَفْعِ
التَّكْلِيفِ عَنْهُ كَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ الْعَاقِل.
أَمَّا إِذَا أَفَاقَ فَإِنَّهُ كَالْبَالِغِ الْعَاقِل فِي تِلْكَ
الْحَالَةِ (1) .
وَلَمْ نَجِدْ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ تَعَرُّضًا لِحُكْمِ
تَصَرُّفَاتِ الْمَعْتُوهِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَتَهٌ) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَجْنُونَ إِذَا كَانَ لَهُ
أَدْنَى تَمْيِيزٍ فَهُوَ كَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فِي التَّصَرُّفَاتِ
الْمَالِيَّةِ.
وَذَهَبَ السُّبْكِيُّ وَالأَْذْرَعِيُّ إِلَى أَنَّ مَنْ زَال عَقْلُهُ
فَمَجْنُونٌ وَإِلاَّ فَهُوَ مُكَلَّفٌ (2) .
وَلَمْ نَجِدْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَعَرُّضًا
لِلْمَسْأَلَةِ.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 90 - 91، 110، وتبيين الحقائق مع حاشية الشلبي 5 / 191.
(2) حاشية الجمل 3 / 335، وشرح الروض 4 / 345.
(17/94)
الْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ:
أ - السَّفَهُ:
11 - السَّفَهُ لُغَةً: هُوَ نَقْصٌ فِي الْعَقْل، وَأَصْلُهُ الْخِفَّةُ،
وَسَفِهَ الْحَقَّ جَهِلَهُ، وَسَفَّهْتُهُ تَسْفِيهًا: نَسَبْتُهُ إِلَى
السَّفَهِ، أَوْ قُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ سَفِيهٌ.
وَهُوَ سَفِيهٌ، وَالأُْنْثَى سَفِيهَةٌ، وَالْجَمْعُ سُفَهَاءُ (1) .
وَأَمَّا اصْطِلاَحًا فَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي
تَعْرِيفِهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّفَهَ هُوَ تَبْذِيرُ الْمَال
وَتَضْيِيعُهُ عَلَى خِلاَفِ مُقْتَضَى الشَّرْعِ أَوِ الْعَقْل،
كَالتَّبْذِيرِ وَالإِْسْرَافِ فِي النَّفَقَةِ، وَأَنْ يَتَصَرَّفَ
تَصَرُّفَاتٍ لاَ لِغَرَضٍ، أَوْ لِغَرَضٍ لاَ يَعُدُّهُ الْعُقَلاَءُ مِنْ
أَهْل الدِّيَانَةِ غَرَضًا، كَدَفْعِ الْمَال إِلَى الْمُغَنِّينَ
وَاللَّعَّابِينَ وَشِرَاءِ الْحَمَامِ الطَّيَّارِ بِثَمَنٍ غَالٍ،
وَالْغَبْنِ فِي التِّجَارَاتِ مِنْ غَيْرِ مَحْمَدَةٍ (أَوْ غَرَضٍ
صَحِيحٍ) .
وَأَصْل الْمُسَامَحَاتِ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَالْبِرِّ وَالإِْحْسَانِ
مَشْرُوعٌ إِلاَّ أَنَّ الإِْسْرَافَ حَرَامٌ كَالإِْسْرَافِ فِي
الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَلِذَا كَانَ مِنَ السَّفَهِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ تَبْذِيرُ الْمَال وَتَضْيِيعُهُ وَلَوْ فِي الْخَيْرِ
كَأَنْ يَصْرِفَهُ كُلَّهُ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) .
__________
(1) المصباح المنير مادة: (سفه) .
(2) ابن عابدين 5 / 92.
(17/94)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ
السَّفَهَ هُوَ التَّبْذِيرُ (أَيْ: صَرْفُ الْمَال فِي غَيْرِ مَا يُرَادُ
لَهُ شَرْعًا) بِصَرْفِ الْمَال فِي مَعْصِيَةٍ كَخَمْرٍ وَقِمَارٍ، أَوْ
بِصَرْفِهِ فِي مُعَامَلَةٍ مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ
(خَارِجٍ عَنْ الْعَادَةِ) بِلاَ مَصْلَحَةٍ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بِأَنْ
يَكُونَ ذَلِكَ شَأْنُهُ مِنْ غَيْرِ مُبَالاَةٍ، أَوْ صَرْفُهُ فِي
شَهَوَاتٍ نَفْسَانِيَّةٍ عَلَى خِلاَفِ عَادَةِ مِثْلِهِ فِي مَأْكَلِهِ
وَمُشْرَبِهِ وَمَلْبُوسِهِ وَمَرْكُوبِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
أَوْ بِإِتْلاَفِهِ هَدَرًا كَأَنْ يَطْرَحَهُ عَلَى الأَْرْضِ أَوْ
يَرْمِيَهُ فِي بَحْرٍ أَوْ مِرْحَاضٍ، كَمَا يَقَعُ لِكَثِيرٍ مِنَ
السُّفَهَاءِ يَطْرَحُونَ الأَْطْعِمَةَ وَالأَْشْرِبَةَ فِيمَا ذُكِرَ
وَلاَ يَتَصَدَّقُونَ بِهَا (1) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبَ الْمَاوَرْدِيُّ إِلَى
التَّفْرِقَةِ بَيْنَ التَّبْذِيرِ وَالسَّرَفِ، فَقَال: التَّبْذِيرُ:
الْجَهْل بِمَوَاقِعِ الْحُقُوقِ، وَالسَّرَفُ: الْجَهْل بِمَقَادِيرِ
الْحُقُوقِ. وَكَلاَمُ الْغَزَالِيِّ يَقْتَضِي تَرَادُفَهُمَا.
وَعَلَى كُل حَالٍ فَإِنَّ السَّفِيهَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ الَّذِي
يُضَيِّعُ مَالَهُ بِاحْتِمَال غَبْنٍ فَاحِشٍ فِي الْمُعَامَلَةِ
وَنَحْوِهَا إِذَا كَانَ جَاهِلاً بِهَا - أَمَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا
بِالْمُعَامَلَةِ فَأَعْطَى أَكْثَر مِنْ ثَمَنِهَا فَإِنَّ الزَّائِدَ
صَدَقَةٌ خَفِيَّةٌ مَحْمُودَةٌ، أَيْ إِنْ كَانَ التَّعَامُل مَعَ
مُحْتَاجٍ وَإِلاَّ فَهِبَةٌ.
وَمِنَ السَّفَهِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَرْمِيَ مَالَهُ وَإِنْ كَانَ
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 393.
(17/95)
قَلِيلاً فِي بَحْرٍ أَوْ نَارٍ أَوْ
نَحْوِ ذَلِكَ أَوْ يُنْفِقَ أَمْوَالَهُ فِي مُحَرَّمٍ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ صَرْفَ الْمَال فِي الصَّدَقَةِ
وَوُجُوهِ الْخَيْرِ، وَالْمَطَاعِمِ وَالْمُلاَبِسِ الَّتِي لاَ تَلِيقُ
بِحَالِهِ لَيْسَ بِتَبْذِيرٍ. أَمَّا فِي الأُْولَى وَهُوَ الصَّرْفُ فِي
الصَّدَقَةِ وَوُجُوهِ الْخَيْرِ فَلأَِنَّ لَهُ فِي الصَّرْفِ فِي
الْخَيْرِ عِوَضًا، وَهُوَ الثَّوَابُ، فَإِنَّهُ لاَ سَرَفَ فِي الْخَيْرِ
كَمَا لاَ خَيْرَ فِي السَّرَفِ. وَحَقِيقَةُ السَّرَفِ: مَا لاَ يُكْسِبُ
حَمْدًا فِي الْعَاجِل وَلاَ أَجْرًا فِي الآْجِل.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ فِي هَذَا النَّوْعِ أَنَّهُ يَكُونُ مُبَذِّرًا
إِنْ بَلَغَ مُفْرِطًا فِي الإِْنْفَاقِ. فَإِنْ عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ
الْبُلُوغِ مُقْتَصِدًا فَلاَ. وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ وَهُوَ الصَّرْفُ
فِي الْمَطَاعِمِ وَالْمُلاَبِسِ فَلأَِنَّ الْمَال يُتَّخَذُ لِيُنْتَفَعَ
بِهِ وَيُلْتَذَّ بِهِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ فِي هَذَا النَّوْعِ يَكُونُ
تَبْذِيرًا عَادَةً (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السَّفِيهَ هُوَ الْمُضَيِّعُ
لِمَالِهِ الْمُبَذِّرُ لَهُ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الأَْمْصَارِ مِنْ أَهْل
الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ يَرَوْنَ الْحَجْرَ عَلَى كُل
مُضَيِّعٍ لِمَالِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا (2) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 168 - 169.
(2) المغني 4 / 506، 517، وما بعدها، وكشاف القناع 3 / 443.
(17/95)
ب - حُكْمُ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ إِذَا فُكَّ
عَنْهُ الْحَجْرُ لِرُشْدِهِ وَبُلُوغِهِ وَدُفِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ ثُمَّ
عَادَ إِلَى السَّفَهِ أُعِيدَ عَلَيْهِ الْحَجْرُ، وَبِهَذَا قَال
الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو
عُبَيْدٍ.
وَاسْتَدَلُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ
أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَل اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ
فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا} . وقَوْله
تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ (1) } .
فَقَدْ نَهَانَا اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ مَا دَامَ
سَفِيهًا، وَأَمَرَنَا بِالدَّفْعِ إِنْ وُجِدَ مِنْهُ الرُّشْدُ، إِذْ لاَ
يَجُوزُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ قَبْل وُجُودِهِ، وَلأَِنَّ مَنْعَ مَالِهِ
لِعِلَّةِ السَّفَهِ فَيَبْقَى الْمَنْعُ مَا بَقِيَتِ الْعِلَّةُ،
صَغِيرًا كَانَ السَّفِيهُ أَوْ كَبِيرًا.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خُذُوا
عَلَى يَدِ سُفَهَائِكُمْ (2)
وَأَوْرَدَ ابْنُ قُدَامَةَ مَا رَوَاهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ
__________
(1) سورة النساء / 5، 6.
(2) حديث: " خذوا على يد سفهائكم " أخرجه الطبراني في الكبير من حديث
النعمان بن بشير كما في الجامع الصغير للسيوطي (3 / 435 - بشرحه الفيض - ط
المكتبة التجارية) ورمز السيوطي إليه بالضعف.
(17/96)
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ ابْتَاعَ
بَيْعًا، فَقَال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لآَتِيَنَّ عُثْمَانَ
لِيَحْجُرَ عَلَيْكَ، فَأَتَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الزُّبَيْرَ،
فَقَال: قَدِ ابْتَعْتُ بَيْعًا وَإِنَّ عَلِيًّا يُرِيدُ أَنْ يَأْتِيَ
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ فَيَسْأَلَهُ الْحَجْرَ عَلَيَّ. فَقَال
الزُّبَيْرُ: أَنَا شَرِيكُكَ فِي الْبَيْعِ.
فَأَتَى عَلِيٌّ عُثْمَانَ، فَقَال: إِنَّ ابْنَ جَعْفَرٍ قَدِ ابْتَاعَ
بَيْعَ كَذَا فَاحْجُرْ عَلَيْهِ. فَقَال الزُّبَيْرُ: أَنَا شَرِيكُهُ فِي
الْبَيْعِ، فَقَال عُثْمَانُ: كَيْفَ أَحْجُرُ عَلَى رَجُلٍ شَرِيكُهُ
الزُّبَيْرُ؟
ثُمَّ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذِهِ قِصَّةٌ يَشْتَهِرُ مِثْلُهَا وَلَمْ
يُخَالِفْهَا أَحَدٌ فِي عَصْرِهِمْ فَتَكُونُ إِجْمَاعًا حِينَئِذٍ،
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِأَنَّ هَذَا سَفِيهٌ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ كَمَا
لَوْ بَلَغَ سَفِيهًا فَإِنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي اقْتَضَتِ الْحَجْرَ
عَلَيْهِ إِذَا بَلَغَ سَفِيهًا سَفَهُهُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ، وَلأَِنَّ
السَّفَهَ لَوْ قَارَنَ الْبُلُوغَ مَنَعَ دَفْعَ مَالِهِ إِلَيْهِ،
فَإِذَا حَدَثَ أَوْجَبَ انْتِزَاعَ الْمَال كَالْجُنُونِ، وَفِي الْحَجْرِ
عَلَيْهِ صِيَانَةٌ لِمَالِهِ وَوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُبْتَدَأُ
الْحَجْرُ عَلَى بَالِغٍ عَاقِلٍ بِسَبَبِ السَّفَهِ لِمَا سَبَقَ (1) .
الْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِالْحَجْرِ عَلَى
السَّفِيهِ إِلَى أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ حُكْمٍ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 92.
(17/96)
حَاكِمٍ، كَمَا أَنَّ فَكَّ الْحَجْرِ
عَنْهُ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ حُكْمِ حَاكِمٍ أَيْضًا، لأَِنَّ الْحَجْرَ
إِذَا كَانَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لاَ يَزُول إِلاَّ بِهِ، وَلأَِنَّ
الرُّشْدَ يَحْتَاجُ إِلَى تَأَمُّلٍ وَاجْتِهَادٍ فِي مَعْرِفَتِهِ
وَزَوَال تَبْذِيرِهِ فَكَانَ كَابْتِدَاءِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ الْقَاسِمِ
مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ السَّفِيهَ لاَ يَحْتَاجُ فِي الْحَجْرِ
عَلَيْهِ إِلَى قَضَاءِ الْقَاضِي لأَِنَّ فَسَادَهُ فِي مَالِهِ
يَحْجُرُهُ وَصَلاَحُهُ فِيهِ يُطْلِقُهُ. وَإِنَّ عِلَّةَ الْحَجْرِ
عَلَيْهِ السَّفَهُ وَقَدْ تَحَقَّقَ فِي الْحَال، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
مُوجِبُهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، كَالصِّبَا وَالْجُنُونِ.
وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلاَفِ فِيمَا لَوْ بَاعَ السَّفِيهُ قَبْل
قَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَلاَ
يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ (1) .
تَصَرُّفَاتُ السَّفِيهِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَ السَّفِيهِ فِي مَالِهِ
حُكْمُهُ حُكْمُ تَصَرُّفِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَاخْتَلَفُوا فِي
التَّصَرُّفَاتِ غَيْرِ الْمَالِيَّةِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مُصْطَلَحِ (سَفَهٌ، وَوِلاَيَةٌ) .
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 195، والشرح الصغير 3 / 388 - 389، وأسنى المطالب 2
/ 208، والمغني 4 / 519 - 520.
(2) ابن عابدين 5 / 93، والشرح الصغير 3 / 384 وما بعدها، والقوانين
الفقهية 211، ومغني المحتاج 2 / 171، وشرح منتهى الإرادات 2 / 294.
(17/97)
الْحَجْرُ عَلَى ذِي الْغَفْلَةِ:
15 - ذُو الْغَفْلَةِ هُوَ مَنْ يُغْبَنُ فِي الْبُيُوعِ لِسَلاَمَةِ
قَلْبِهِ وَلاَ يَهْتَدِي إِلَى التَّصَرُّفَاتِ الرَّابِحَةِ.
وَيَخْتَلِفُ عَنِ السَّفِيهِ بِأَنَّ السَّفِيهَ مُفْسِدٌ لِمَالِهِ
وَمُتَابِعٌ لِهَوَاهُ، أَمَّا ذُو الْغَفْلَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ
بِمُفْسِدٍ لِمَالِهِ وَلاَ يَقْصِدُ الْفَسَادَ.
وَلَمْ نَجِدْ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ صَرَّحَ بِأَنَّ ذَا الْغَفْلَةِ
يُحْجَرُ عَلَيْهِ سِوَى الصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ
أَدْرَجَ الْجُمْهُورُ هَذَا الْوَصْفَ فِي السَّفَهِ وَالتَّبْذِيرِ.
فَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ
الْحَجْرَ يَثْبُتُ عَلَى ذِي الْغَفْلَةِ كَالسَّفِيهِ أَيْ: مِنْ حِينِ
قَضَاءِ الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمِنْ حِينِ ظُهُورِ أَمَارَاتِ
الْغَفْلَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعَلَى هَذَا فَيَزُول الْحَجْرُ عَنْهُ
بِقَضَاءِ الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَبِزَوَال الْغَفْلَةِ عِنْدَ
مُحَمَّدٍ،
وَقَدْ شُرِعَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ صِيَانَةً لِمَالِهِ وَنَظَرًا لَهُ،
فَقَدْ طَلَبَ أَهْل حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ، فَأَقَرَّهُمُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ
يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْحَجْرُ مَشْرُوعًا عَلَى ذِي
الْغَفْلَةِ لأََنْكَرَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ طَلَبَهُمْ. وَذَلِكَ فِيمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ
رَجُلاً عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يَبْتَاعُ وَفِي عُقْدَتِهِ ضَعْفٌ، فَأَتَى أَهْلُهُ نَبِيَّ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ
اللَّهِ: احْجُرْ عَلَى فُلاَنٍ، فَإِنَّهُ يَبْتَاعُ وَفِي عُقْدَتِهِ
ضَعْفٌ، فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَاهُ
عَنِ الْبَيْعِ، فَقَال: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي لاَ أَصْبِرُ عَنِ
الْبَيْعِ، فَقَال
(17/97)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِنْ كُنْت غَيْرَ تَارِكٍ الْبَيْعَ فَقُل: هَاءَ وَهَاءَ وَلاَ
خِلاَبَةَ (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُحْجَرُ عَلَى الْغَافِل
بِسَبَبِ غَفْلَتِهِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ
يُجِبْهُمْ إِلَى طَلَبِهِمْ وَإِنَّمَا قَال لَهُ: قُل: لاَ خِلاَبَةَ
وَلِيَ الْخِيَارُ. وَلَوْ كَانَ الْحَجْرُ مَشْرُوعًا لأََجَابَهُمْ
إِلَيْهِ (2) .
الْحَجْرُ عَلَى الْمَدِينِ الْمُفْلِسِ:
16 - سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ إِفْلاَسٍ الْكَلاَمُ عَنِ الْحَجْرِ عَلَى
الْمَدِينِ الْمُفْلِسِ وَلَوْ كَانَ غَائِبًا - فِي الْجُمْلَةِ - مَا
يُغْنِي عَنْ إِِعَادَتِهِ هُنَا، ابْتِدَاءً مِنَ الْفِقْرَةِ (7) وَمَا
بَعْدَهَا (3) . وَالْحَجْرُ عَلَى الْمَدِينِ هُوَ حَجْرٌ لَهُ عَنِ
التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِ دُونَ ذِمَّتِهِ. انْظُرْ مُصْطَلَحَ
(إِفْلاَسٌ) (وَغَيْبَةٌ) .
الْحَجْرُ عَلَى الْفَاسِقِ:
17 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّ
الْفَاسِقَ إِذَا لَمْ يَكُنْ سَفِيهًا مُبَذِّرًا لِمَالِهِ لاَ يُحْجَرُ
عَلَيْهِ، لأَِنَّ مُجَرَّدَ الْفِسْقِ فَقَطْ لاَ يُوجِبُ الْحَجْرَ،
__________
(1) حديث أنس بن مالك. . . أخرجه أبو داود (3 / 767 - تحقيق عزت عبيد دعاس)
والترمذي (3 / 543 - ط الحلبي) وقال: " حسن صحيح ".
(2) تبيين الحقائق 5 / 194، 198 - 199، وابن عابدين 6 / 148 ط الحلبي
والشرح الصغير 3 / 393، ومغني المحتاج 2 / 168، والمغني 4 / 516 وما بعدها.
(3) الموسوعة الفقهية 5 / 302 وما بعدها.
(17/98)
لأَِنَّ الأَْوَّلِينَ لَمْ يَحْجُرُوا
عَلَى الْفَسَقَةِ، وَلأَِنَّ الْفِسْقَ لاَ يَتَحَقَّقُ بِهِ إِتْلاَفُ
الْمَال وَلاَ عَدَمُ إِتْلاَفِهِ (أَيْ لاَ تَلاَزُمَ بَيْنَ الْفِسْقِ
وَإِتْلاَفِ الْمَال) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّ الْفَاسِقَ
يُحْجَرُ عَلَيْهِ كَالاِسْتِدَامَةِ بِأَنْ بَلَغَ فَاسِقًا.
وَالْفَاسِقُ مَنْ يَفْعَل مُحَرَّمًا يُبْطِل الْعَدَالَةَ مِنْ كَبِيرَةٍ
أَوْ إِصْرَارٍ عَلَى صَغِيرَةٍ، وَلَمْ تَغْلِبْ طَاعَاتُهُ عَلَى
مَعَاصِيهِ، وَاحْتُرِزَ بِالْمُحَرَّمِ عَمَّا يَمْنَعُ قَبُول
الشَّهَادَةِ لإِِخْلاَلِهِ بِالْمُرُوءَةِ، كَالأَْكْل فِي السُّوقِ،
فَإِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ الرُّشْدَ لأَِنَّ الإِْخْلاَل بِالْمُرُوءَةِ
الْمُخْتَلَفِ فِيهِ لَيْسَ بِحَرَامٍ عَلَى الْمَشْهُورِ (1) .
الْحَجْرُ عَلَى تَبَرُّعَاتِ الزَّوْجَةِ:
18 - الْمَرْأَةُ لَهَا ذِمَّةٌ مَالِيَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَلَهَا أَنْ
تَتَبَرَّعَ مِنْ مَالِهَا مَتَى شَاءَتْ مَا دَامَتْ رَشِيدَةً عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (2) } وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي فَكِّ
الْحَجْرِ عَنْهُمْ (ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا) وَإِطْلاَقِهِمْ فِي
التَّصَرُّفِ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيّكُنَّ وَأَنَّهُنَّ
تَصَدَّقْنَ فَقَبِل صَدَقَتَهُنَّ وَلَمْ يَسْأَل وَلَمْ يَسْتَفْصِل،
وَأَتَتْهُ زَيْنَبُ
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 198، والقوانين الفقهية ص 211، ومغني المحتاج 2 /
168 والمغني 4 / 516 - 517.
(2) سورة النساء / 6.
(17/98)
امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَامْرَأَةٌ
أُخْرَى اسْمُهَا زَيْنَبُ فَسَأَلَتْهُ عَنِ الصَّدَقَةِ هَل يَجْزِيهِنَّ
أَنْ يَتَصَدَّقْنَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ وَأَيْتَامٍ لَهُنَّ؟ فَقَال:
نَعَمْ (1) وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُنَّ هَذَا الشَّرْطَ، وَلأَِنَّ مَنْ
وَجَبَ دَفْعُ مَالِهِ إِلَيْهِ لِرُشْدٍ جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ
مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ كَالْغُلاَمِ، وَلأَِنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْل
التَّصَرُّفِ وَلاَ حَقَّ لِزَوْجِهَا فِي مَالِهَا فَلَمْ يَمْلِكِ
الْحَجْرَ عَلَيْهَا فِي التَّصَرُّفِ بِجَمِيعِهِ كَأُخْتِهَا (2) .
19 - وَذَهَبَ مَالِكٌ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - إِلَى أَنَّهُ
يُحْجَرُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الرَّشِيدَةِ لِصَالِحِ زَوْجِهَا
فِي تَبَرُّعٍ زَادَ عَلَى ثُلُثِ مَالِهَا إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا
الْبَالِغِ الرَّشِيدِ أَوْ وَلِيِّهِ إذَا كَانَ سَفِيهًا.
فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي امْرَأَةٍ حَلَفَتْ أَنْ تُعْتِقَ
جَارِيَةً لَيْسَ لَهَا غَيْرُهَا فَحَنِثَتْ وَلَهَا زَوْجٌ فَرَدَّ
ذَلِكَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا. أَنَّهُ قَال: لَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا
وَلَيْسَ لَهَا عِتْقٌ لِمَا رُوِيَ: أَنَّ امْرَأَةَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ
أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُلِيٍّ لَهَا
فَقَالَتْ: إِنِّي تَصَدَّقْتُ بِهَذَا، فَقَال لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ عَطِيَّةٌ حَتَّى
يَأْذَنَ زَوْجُهَا. فَهَل اسْتَأْذَنْتِ كَعْبًا؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ.
فَبَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كَعْبٍ
فَقَال:
__________
(1) حديث: " تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن " أخرجه البخاري (الفتح 3 /
328 - ط السلفية) ومسلم (2 / 694 - ط الحلبي) من حديث زينب امرأة عبد الله
بن مسعود.
(2) المغني 4 / 514.
(17/99)
هَل أَذِنْتَ لَهَا أَنْ تَتَصَدَّقَ
بِحُلِيِّهَا؟ قَال: نَعَمْ. فَقَبِلَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَجُوزُ
لاِمْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا (2) وَلأَِنَّ حَقَّ
الزَّوْجِ مُتَعَلِّقٌ بِمَالِهَا. فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَِرْبَعٍ: لِمَالِهَا،
وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا (3) وَالْعَادَةُ أَنَّ
الزَّوْجَ يَزِيدُ فِي مَهْرِهَا مِنْ أَجْل مَالِهَا وَيَتَبَسَّطُ فِيهِ
وَيَنْتَفِعُ بِهِ. فَإِذَا أُعْسِرَ بِالنَّفَقَةِ أَنْظَرَتْهُ، فَجَرَى
ذَلِكَ مَجْرَى حُقُوقِ الْوَرَثَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَال الْمَرِيضِ،
وَلأَِنَّ الْغَرَضَ مِنْ مَالِهَا التَّجَمُّل لِلزَّوْجِ.
وَالرَّجْعِيَّةُ كَالزَّوْجَةِ لأَِنَّ حَقَّ الزَّوْجِ بَاقٍ فِيمَنْ
طُلِّقَتْ طَلاَقًا رَجْعِيًّا.
وَلاَ يُحْجَرُ عَلَى الْمَرْأَةِ لأَِبِيهَا وَنَحْوِهِ، إِذِ الْحَجْرُ
عَلَيْهَا لِلزَّوْجِ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِ. وَلاَ يُحْجَرُ عَلَى
الْمَرْأَةِ إِذَا كَانَ إِعْطَاؤُهَا الْمَال عَنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا
__________
(1) حديث " أن امراة كعب بن مالك. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 798 - ط
الحلبي) والطحاوي في شرح المعاني (4 / 351 - ط مطبعة الأنوار المحمدية)
وقال البوصيري: " إسناده يحيى، وهو غير معروف في أولاد كعب، فالإسناد لا
يثبت " وقال الطحاوي (4 / 353) " حديث شاذ لا يثبت ".
(2) حديث: " لا يجوز لامرأة عطية إلا بأذن زوجها " أخرجه أبو داود (3 / 816
- تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده حسن.
(3) حديث: " تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها وجمالها، ولدينها " أخرجه
البخاري (الفتح 9 / 132 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1086 - ط الحلبي) من حديث
أبي هريرة.
(17/99)
مِنْ نَفَقَةِ أَبَوَيْهَا، كَمَا لَوْ
تَبَرَّعَتْ بِالثُّلُثِ فَأَقَل. قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَفِي جَوَازِ
إِقْرَاضِهَا مَالاً زَائِدًا عَنِ الثُّلُثِ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا
قَوْلاَنِ:
وَجْهُ الْقَوْل بِالْجَوَازِ أَنَّهَا تَأْخُذُ عِوَضَهُ وَهُوَ رَدُّ
السَّلَفِ، فَكَانَ كَبَيْعِهَا. وَوَجْهُ الْقَوْل بِالْمَنْعِ أَنَّ
الْقَرْضَ يُشْبِهُ الْهِبَةَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مِنْ قَبِيل
الْمَعْرُوفِ، وَلأَِنَّهَا تَخْرُجُ لِمُطَالَبَتِهَا بِمَا أَقْرَضَتْهُ،
وَهُوَ ضَرَرٌ عَلَى الزَّوْجِ.
وَأَمَّا دَفْعُهَا الْمَال قِرَاضًا لِعَامِلٍ فَلَيْسَ فِيهِ
الْقَوْلاَنِ لأَِنَّهُ مِنَ التِّجَارَةِ.
هَذَا وَإِنَّ تَبَرُّعَهَا بِزَائِدٍ عَلَى ثُلُثِهَا جَائِزٌ حَتَّى
يَرُدَّ الزَّوْجُ جَمِيعَهُ أَوْ مَا شَاءَ مِنْهُ عَلَى الْمَشْهُورِ
مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقِيل: مَرْدُودٌ حَتَّى يُجِيزَهُ الزَّوْجُ.
وَلِلزَّوْجِ رَدُّ الْجَمِيعِ إِنْ تَبَرَّعَتْ بِزَائِدٍ عَنِ الثُّلُثِ،
وَلَوْ كَانَ الزَّائِدُ يَسِيرًا، مُعَامَلَةً لَهَا بِنَقِيضِ قَصْدِهَا،
أَوْ لأَِنَّهَا كَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ حَلاَلٍ وَحَرَامٍ.
وَلِلزَّوْجِ إِمْضَاءُ الْجَمِيعِ، وَلَهُ رَدُّ الزَّائِدِ فَقَطْ.
وَإِذَا تَبَرَّعَتِ الزَّوْجَةُ بِثُلُثِ مَالِهَا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ
تَتَبَرَّعَ مَرَّةً أُخْرَى بِثُلُثٍ آخَرَ، إِلاَّ أَنْ يَبْعُدَ مَا
بَيْنَهُمَا بِعَامٍ عَلَى قَوْل ابْنِ سَهْلٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، قِيل:
وَهُوَ الرَّاجِحُ، أَوْ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ عَلَى قَوْل أَصْبَغَ،
وَنَحْوُهُ لاِبْنِ عَرَفَةَ (1) .
__________
(1) الزرقاني 5 / 306 - 307، والمغني 4 / 513 - 514.
(17/100)
الْحَجْرُ عَلَى الْمَرِيضِ مَرَضَ
الْمَوْتِ:
20 - مَرَضُ الْمَوْتِ هُوَ الْمَرَضُ الَّذِي يُخَافُ فِيهِ الْمَوْتُ فِي
الأَْكْثَرِ الَّذِي يُعْجِزُ الْمَرِيضَ عَنْ رُؤْيَةِ مَصَالِحِهِ
الْخَارِجَةِ عَنْ دَارِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الذُّكُورِ، وَيُعْجِزُهُ عَنْ
رُؤْيَةِ الْمَصَالِحِ الدَّاخِلَةِ فِي دَارِهِ إِنْ كَانَ مِنَ
الإِْنَاثِ، وَيَمُوتُ عَلَى تِلْكَ الْحَال قَبْل مُرُورِ سَنَةٍ صَاحِبَ
فِرَاشٍ كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ (1) .
وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ الْمَرَضُ الْمَخُوفُ، وَهُوَ
الَّذِي حَكَمَ الطِّبُّ بِكَثْرَةِ الْمَوْتِ بِهِ أَيْ بِسَبَبِهِ أَوْ
مِنْهُ وَلَوْ لَمْ يَغْلِبْ، فَالْمَدَارُ عَلَى كَثْرَةِ الْمَوْتِ مِنْ
ذَلِكَ الْمَرَضِ بِحَيْثُ يَكُونُ الْمَوْتُ مِنْهُ شَهِيرًا لاَ
يُتَعَجَّبُ مِنْهُ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَوْتِ مِنْهُ
غَلَبَةُ الْمَوْتِ بِهِ (2) .
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ
تُحْجَرُ عَلَيْهِ تَبَرُّعَاتُهُ فِيمَا زَادَ عَنْ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ
لِحَقِّ وَرَثَتِهِ وَذَلِكَ حَيْثُ لاَ دَيْنَ، وَإِذَا تَبَرَّعَ بِمَا
زَادَ عَنِ الثُّلُثِ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ إِذَا مَاتَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ
يُمْنَعُ مِمَّا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ مِنَ الأَْكْل وَالشُّرْبِ
وَالْكِسْوَةِ وَالتَّدَاوِي.
وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِالْمَرِيضِ مَرَضَ
الْمَوْتِ مَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ كَالْمُقَاتِل فِي الصَّفِّ
وَالْمَحْبُوسِ لِلْقَتْل وَنَحْوِهِمَا (3) .
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية م 1595، وابن عابدين 5 / 423.
(2) الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 306.
(3) ابن عابدين 5 / 93، 423، والقوانين الفقهية ص 212، والدسوقي 3 / 306،
ومغني المحتاج 2 / 165، وكشاف القناع 3 / 416.
(17/100)
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ:
(مَرَضٌ، مَوْتٌ، وَصِيَّةٌ) .
الْحَجْرُ عَلَى الرَّاهِنِ:
21 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الرَّاهِنَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ
التَّصَرُّفُ فِي الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ بَعْدَ لُزُومِ الرَّهْنِ
ضَمَانًا لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (رَهْنٌ) .
الْحَجْرُ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ:
22 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى فَرْضِ الْحَجْرِ عَلَى ثَلاَثَةٍ
وَهُمُ: الْمُفْتِي الْمَاجِنُ، وَالطَّبِيبُ الْجَاهِل، وَالْمُكَارِي
الْمُفْلِسُ.
أ - الْمُفْتِي الْمَاجِنُ: هُوَ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْحِيَل
الْبَاطِلَةَ، كَتَعْلِيمِ الزَّوْجَةِ الرِّدَّةَ لِتَبِينَ مِنْ
زَوْجِهَا، أَوْ تَعْلِيمِ الْحِيَل بِقَصْدِ إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ،
وَمِثْلُهُ الَّذِي يُفْتِي عَنْ جَهْلٍ.
ب - الطَّبِيبُ الْجَاهِل: هُوَ الَّذِي يَسْقِي الْمَرْضَى دَوَاءً
مُهْلِكًا، وَإِذَا قَوِيَ عَلَيْهِمُ الْمَرَضُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى
إِزَالَةِ ضَرَرِهِ. ج - الْمُكَارِي الْمُفْلِسُ: هُوَ الَّذِي يُكْرِي
إِبِلاً وَلَيْسَ لَهُ إِبِلٌ وَلاَ مَالٌ لِيَشْتَرِيَهَا بِهِ، وَإِذَا
جَاءَ أَوَانُ الْخُرُوجِ يُخْفِي نَفْسَهُ.
(17/101)
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَجْرِ عَلَى
هَؤُلاَءِ الثَّلاَثَةِ حَقِيقَةُ الْحَجْرِ وَهُوَ الْمَنْعُ الشَّرْعِيُّ
الَّذِي يَمْنَعُ نُفُوذَ التَّصَرُّفِ، لأَِنَّ الْمُفْتِيَ لَوْ أَفْتَى
بَعْدَ الْحَجْرِ وَأَصَابَ جَازَ، وَكَذَا الطَّبِيبُ لَوْ بَاعَ
الأَْدْوِيَةَ نَفَذَ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْمَنْعُ الْحِسِّيُّ،
لأَِنَّ الأَْوَّل مُفْسِدٌ لِلأَْدْيَانِ، وَالثَّانِيَ مُفْسِدٌ
لَلأَْبَدَانِ، وَالثَّالِثَ مُفْسِدٌ لِلأَْمْوَال. فَمَنْعُ هَؤُلاَءِ
الْمُفْسِدِينَ دَفْعُ ضَرَرٍ لاَحِقٍ بِالْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَهُوَ
مِنَ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ (1) .
الْحَجْرُ عَلَى الْمُرْتَدِّ:
23 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ
يُحْجَرُ عَلَيْهِ لِحَقِّ الْمُسْلِمِينَ، لأَِنَّ تَرِكَتَهُ فَيْءٌ
فَيُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ لِئَلاَّ يُفَوِّتَهُ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّةٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 93.
(2) مغني المحتاج 2 / 165، وشرح منتهى الإرادات 2 / 274، والدسوقي 3 / 292.
(17/101)
حِجْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحِجْرُ بِالْكَسْرِ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا:
حِضْنُ الإِْنْسَانِ، وَهُوَ مَا دُونَ إِبْطِهِ إِلَى الْكَشْحِ، أَوِ
الصَّدْرُ وَالْعَضُدَانِ وَمَا بَيْنَهُمَا، أَوْ مَا بَيْنَ يَدَيِ
الإِْنْسَانِ مِنْ ثَوْبِهِ. وَيُقَال لِمَنْ فِي حِمَايَتِهِ شَخْصٌ
إِنَّهُ فِي حِجْرِهِ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا: أَيْ كَنَفِهِ.
وَمِنْهَا: الْعَقْل وَفِي هَذَا قَوْله تَعَالَى: {هَل فِي ذَلِكَ قَسَمٌ
لِذِي حِجْرٍ (1) }
وَمِنْهَا: الْحَرَامُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: حِكَايَةً عَنِ
الْمُشْرِكِينَ: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَ
يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ (2) } .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الْقِسْمُ الْخَارِجُ عَنْ جِدَارِ الْكَعْبَةِ،
وَهُوَ مَحُوطٌ مُدَوَّرٌ عَلَى صُورَةِ نِصْفِ دَائِرَةٍ وَيُسَمَّى
(حِجْرَ إِسْمَاعِيل) قَال ابْنُ إِسْحَاقَ: جَعَل إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ الْحِجْرَ إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ عَرِيشًا مِنْ أَرَاكٍ
تَقْتَحِمُهُ الْعَنْزُ، وَكَانَ زَرْبًا لِغَنَمِ إِسْمَاعِيل. وَيُسَمَّى
الْحَطِيمَ
__________
(1) سورة الحجر / 5.
(2) سورة الأنعام / 138.
(17/102)
وَقِيل: الْحَطِيمُ هُوَ جِدَارُ
الْحِجْرِ، وَقِيل مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَزَمْزَمَ وَالْمَقَامِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ سِتَّةَ أَذْرُعٍ نَبَوِيَّةٍ مِنَ
الْحِجْرِ مِنَ الْبَيْتِ. وَيَدُل لِذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ
وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَائِشَةُ لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ
حَدِيثُو عَهْدٍ بِشِرْكٍ لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ فَأَلْزَقْتُهَا
بِالأَْرْضِ وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا
غَرْبِيًّا، وَزِدْتُ فِيهَا سِتَّةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ فَإِنَّ
قُرَيْشًا اقْتَصَرَتْهَا حِينَ بَنَتِ الْكَعْبَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ
فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكِ مِنْ بَعْدِي أَنْ يَبْنُوهُ، فَهَلُمِّي
لأُِرِيَكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ فَأَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ
أَذْرُعٍ. وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ عَطَاءٍ فَذَكَرَ شَيْئًا مِنْ حَرِيقِ
الْكَعْبَةِ وَعِمَارَةِ بْنِ الزُّبَيْرِ لَهَا ثُمَّ قَال: إِنِّي
سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُول: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ
وَلَيْسَ عِنْدِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَقْوَى عَلَى بِنَائِهِ لَكُنْتُ
أَدْخَلْتُ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ (2) . قَال عَطَاءٌ:
وَزَادَ فِيهِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ حَتَّى أَبْدَى أَسَاسَهَا
وَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّاسُ فَبَنَى عَلَيْهِ الْبِنَاءَ انْتَهَى (3) .
__________
(1) المصباح: مادة (حجر) ، وشرح الزرقاني 2 / 263.
(2) حديث: " يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك. . . . " أخرجه البخاري
(الفتح 3 / 439 - ط السلفية) . ومسلم (2 / 969 - 970 - ط الحلبي) .
(3) شفاء الغرام للفاسي 2 / 211، وروضة الطالبين 3 / 80، وبدائع الصنائع 2
/ 131، والمغني 3 / 382، ومطالب أولي النهى 1 / 375، وشرح الزرقاني 2 /
263.
(17/102)
وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ جَمِيعِهِ مِنَ
الْبَيْتِ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ جَمِيعَ الْحِجْرِ مِنَ الْبَيْتِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحِجْرِ
فَقَال: هُوَ مِنَ الْبَيْتِ (2) . وَعَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
قَالَتْ: كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَدْخُل الْبَيْتَ فَأُصَلِّيَ فِيهِ،
فَأَخَذَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِيِّ،
فَأَدْخَلَنِي فِي الْحِجْرِ فَقَال: صَلِّي فِي الْحِجْرِ إِذَا أَرَدْتِ
دُخُول الْبَيْتِ، فَإِنَّمَا هُوَ قِطْعَةٌ مِنَ الْبَيْتِ، فَإِنَّ
قَوْمَكِ اقْتَصَرُوا حِينَ بَنَوْا الْكَعْبَةَ فَأَخْرَجُوهُ مِنَ
الْبَيْتِ (3) .
اسْتِقْبَال الْحِجْرِ فِي الصَّلاَةِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ اسْتِقْبَال الْحِجْرِ فِي
الصَّلاَةِ: فَقَال الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
يَجُوزُ اسْتِقْبَال الْحِجْرِ فِي الصَّلاَةِ إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي
خَارِجَ الْحِجْرِ سَوَاءٌ، أَكَانَتِ الصَّلاَةُ فَرْضًا أَمْ نَفْلاً:
لِحَدِيثِ: الْحِجْرُ مِنَ الْبَيْتِ (4) .
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) حديث: " هو من البيت " أخرجه البخاري ومسلم ضمن الحديث المتقدم.
(3) حديث: " صلى في الحجر. . . . " أخرجه أبو داود (2 / 526 - تحقيق عزت
عبيد دعاس) والترمذي (3 / 216 - ط الحلبي) وقال: " حسن صحيح ".
(4) حديث: " الحجر من البيت " سبق تخريجه (ف 2) .
(17/103)
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي فِي
دَاخِلِهِ فَلاَ يَصِحُّ الْفَرْضُ، كَصَلاَتِهِ فِي دَاخِل الْبَيْتِ (1)
.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ: لاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ
بِاسْتِقْبَال الْحِجْرِ، فَرْضًا كَانَتْ أَمْ نَفْلاً، لأَِنَّ كَوْنَهُ
مِنَ الْبَيْتِ مَظْنُونٌ لِثُبُوتِهِ بِخَبَرِ الآْحَادِ، وَوُجُوبُ
التَّوَجُّهِ إِلَى الْبَيْتِ ثَبَتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله
تَعَالَى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (2) }
وَلاَ يَجُوزُ تَرْكُ الْعَمَل بِنَصِّ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ (3)
. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عِيَاضٌ وَالْقَرَافِيُّ وَابْنُ جَمَاعَةَ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي (طَوَافٌ، وَاسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ) .
الطَّوَافُ مِنْ دَاخِل الْحِجْرِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الطَّوَافُ
مِنْ دَاخِل الْحِجْرِ، وَاشْتَرَطُوا لِصِحَّةِ الطَّوَافِ أَنْ يَكُونَ
مِنْ خَارِجِ الْحِجْرِ.
وَقَال مَنْ يَرَى أَنَّ جَمِيعَ الْحِجْرِ مِنَ الْبَيْتِ أَنَّ مَنْ
طَافَ دَاخِل الْحِجْرِ لَمْ يَطُفْ جَمِيعَ الْبَيْتِ،
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 228، وشرح الزرقاني 1 / 191، ومطالب أولي النهى 1 /
375.
(2) سورة البقرة / 144.
(3) بدائع الصنائع 2 / 131، ابن عابدين 1 / 286، والمجموع 3 / 193،
والإقناع لحل ألفاظ أبي شجاع 1 / 101.
(4) شرح الزرقاني 2 / 191.
(17/103)
وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِقَوْل الْحَقِّ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (1) } .
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنِ الْحِجْرِ، فَقَال: هُوَ مِنَ الْبَيْتِ (2) .
وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طَافَ خَارِجَ
الْحِجْرِ (3) ، وَقَدْ قَال: لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ (4)
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ طَوَافُهُ خَارِجَ
السِّتَّةِ الأَْذْرُعِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْبَيْتِ. وَعِنْدَ هَؤُلاَءِ
لاَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ خَارِجَ جَمِيعِهِ وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ
الشَّافِعِيَّةِ (5) . (ر: طَوَافٌ) .
__________
(1) سورة الحج / 29.
(2) حديث: " هو من البيت " سبق تخريجه (ف 2) .
(3) حديث: " طاف خارج الحجر " ورد من حديث عبد الله بن عباس قال: الحجر من
البيت، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت من ورائه. قال الله
تعالى: (وليطوفوا بالبيت العتيق) . أخرجه الحاكم (1 / 460 - ط دائرة
المعارف العثمانية) . وصححه.
(4) حديث: " ولتأخذوا عني مناسككم " أخرجه مسلم (2 / 943 - ط الحلبي) .
(5) روضة الطالبين 3 / 80، والمغني 3 / 382 - 383، وبدائع الصنائع 2 / 131،
وشرح الزرقاني 2 / 263.
(17/104)
الْحَجَرُ الأَْسْوَدُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَجَرُ الأَْسْوَدُ كُتْلَةٌ مِنَ الْحَجَرِ ضَارِبٌ إِلَى
السَّوَادِ شِبْهُ بَيْضَاوِيٍّ فِي شَكْلِهِ، يَقَعُ فِي أَصْل بِنَاءِ
الْكَعْبَةِ فِي الرُّكْنِ الْجَنُوبِيِّ الشَّرْقِيِّ مِنْهَا،
يَسْتَلِمُهُ الطَّائِفُونَ عِنْدَ طَوَافِهِمْ (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ اسْتِلاَمُ الْحَجَرِ
الأَْسْوَدِ بِالْيَدِ وَتَقْبِيلُهُ لِلطَّائِفِ لِمَنْ يَقْدِرُ، لِمَا
رُوِيَ «أَنَّ رَجُلاً سَأَل ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ
اسْتِلاَمِ الْحَجَرِ فَقَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ (2) .» وَلِمَا رَوَى ابْنُ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَبَّل عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
الْحَجَرَ ثُمَّ قَال: أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ حَجَرٌ
وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ (3) . وَرُوِيَ أَنَّ
__________
(1) المعجم الوسيط، وتاج العروس، وكشاف اصطلاحات الفنون مادة: (حجر) .
(2) حديث ابن عمر: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله "
أخرجه البخاري (الفتح 3 / 475 - ط السلفية) .
(3) حديث عمر: " أم والله لقد علمت أنك حجر. . . " أخرجه مسلم 2 / 925 - ط
الحلبي.
(17/104)
أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَسْتَلِمُونَ الْحَجَرَ ثُمَّ يُقَبِّلُونَهُ،
فَيُلْتَزَمُ فِعْلُهُمْ، لأَِنَّهُ مِمَّا لاَ يَكُونُ بِالرَّأْيِ (1) .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَفْتَحَ الاِسْتِلاَمُ بِالتَّكْبِيرِ، لِمَا
رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: طَافَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ كُلَّمَا
أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ كَانَ عِنْدَهُ وَكَبَّرَ (2) .
وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ التَّكْبِيرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تُرْفَعُ الأَْيْدِي فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ وَذَكَرَ
مِنْ جُمْلَتِهَا الْحَجَرَ (3) ،، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَأَمَّا
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَلاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ التَّكْبِيرِ (4) .
وَيُسْتَحَبُّ اسْتِلاَمُ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ فِي كُل طَوَافٍ، لأَِنَّ
ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَال: {
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 146 - ط دار الكتاب العربي، وجواهر الإكليل 1 / 178
- ط دار المعرفة. بيروت، وروضة الطالبين 3 / 85 - ط المكتب الإسلامي،
والمغني 3 / 380 - ط الرياض.
(2) حديث ابن عباس: " طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعير كلما.
. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 476 - ط السلفية) .
(3) حديث: " ترفع الأيدي في سبعة مواطن. . . " أخرجه البزار (كشف الأستار 1
/ 251 - ط الرسالة) من حديث عبد الله بن عباس وابن عمر، وقال الهيثمي: "
فيه ابن أبي ليلى، وهو سيء الحفظ " مجمع الزوائد (2 / 103 - ط المقدسي) .
(4) حاشية ابن عابدين 2 / 166 - ط بولاق، ومواهب الجليل 3 / 108 - ط دار
الفكر بيروت، والمجموع 8 / 29 - ط المكتبة السلفية، وتحفة المحتاج 4 / 85 -
ط المكتبة الإسلامية، وكتاب الفروع 3 / 489 - ط عالم الكتب.
(17/105)
كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَدَعُ أَنْ يَسْتَلِمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ
وَالْحَجَرَ فِي كُل طَوْفَةٍ (1) قَال نَافِعٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ
يَفْعَلُهُ. وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَقْبِيل الْحَجَرِ اسْتَلَمَهُ
بِيَدِهِ وَقَبَّل يَدَهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ الاِسْتِلاَمَ بِالْيَدِ يَكُونُ
بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ الاِسْتِلاَمِ بِالْفَمِ.
لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَلَمَهُ وَقَبَّل يَدَهُ (2)
وَفَعَلَهُ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَتَبِعَهُمْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ الاِسْتِلاَمَ
بِالْيَدِ كَالاِسْتِلاَمِ بِالْفَمِ. ثُمَّ إِنْ عَجَزَ عَنِ
الاِسْتِلاَمِ يَمَسُّ الْحَجَرَ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ كَالْعَصَا مَثَلاً
ثُمَّ يُقَبِّلُهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْل، قَال: رَأَيْتُ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ
وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ وَيُقَبِّل الْمِحْجَنَ (3) .
وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ بِيَدِهِ، أَوْ
يَمَسَّهُ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُهُ مِنْ بُعْدٍ وَيُشِيرُ
إِلَيْهِ بِبَاطِنِ كَفِّهِ كَأَنَّهُ
__________
(1) حديث: " كان لا يدع أن يستلم الركن اليماني. . . " أخرجه أبو داود (2 /
440 - 441 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 456 - ط دائرة المعارف
العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) حديث ابن عمر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الحجر وقبل يده. .
. " أخرجه مسلم (2 / 924 - ط الحلبي) .
(3) حديث أبي الطفيل: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف. . . "
أخرجه مسلم (2 / 927 - ط الحلبي) .
(17/105)
وَاضِعُهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ يُقَبِّلُهُ
وَيُهَلِّل وَيُكَبِّرُ (1) ، لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَال: طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعِيرٍ كُلَّمَا أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ
إِلَيْهِ وَكَبَّرَ (2) .
وَيُسَنُّ أَنْ يُقَبِّل الْحَجَرَ مِنْ غَيْرِ صَوْتٍ يَظْهَرُ
لِلْقِبْلَةِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَقْبَل الْحَجَرَ ثُمَّ وَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ
يَبْكِي طَوِيلاً، ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ
يَبْكِي، فَقَال: يَا عُمَرُ هَاهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ (3) .
قَال الْحَطَّابُ: وَفِي الصَّوْتِ قَوْلاَنِ: قَال الشَّيْخُ زَرُّوقٌ فِي
شَرْحِ الإِْرْشَادِ: وَفِي كَرَاهَةِ التَّصْوِيتِ بِالتَّقْبِيل
قَوْلاَنِ: وَرَجَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ الْجَوَازَ، وَذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ
أَنَّ الشَّيْخَ الْمُحِبَّ الطَّبَرِيِّ جَاءَهُ مُسْتَفْتٍ يَسْأَلُهُ
عَنْ تَقْبِيل الْحَجَرِ أَبِصَوْتٍ أَوْ دُونَهُ؟ فَذَكَرَ لَهُ
التَّقْبِيل مِنْ غَيْرِ تَصْوِيتٍ (4) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 166، وفتح القدير 2 / 148 - ط بولاق، وتبيين
الحقائق 2 / 15، ومواهب الجليل 3 / 108، والدسوقي 2 / 40 - ط دار الفكر،
ومغني المحتاج 1 / 487، والمجموع 8 / 29 - ط المكتبة السلفية، وكشاف القناع
2 / 478 - ط عالم الكتب، والمغني 3 / 380.
(2) حديث ابن عباس: " طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير. . . " تقدم
تخريجه ف / 2.
(3) حديث: " يا عمر هاهنا تسكب العبرات. . . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 982 -
ط الحلبي) ، وقال البوصيري: " في إسناده محمد بن عون الخراساني، ضعفه ابن
معين وأبو حاتم وغيرهما ".
(4) فتح القدير 2 / 148، والتاج والإكليل على هامش مواهب الجليل 3 / 108،
ومغني المحتاج 1 / 487 - ط مصطفى الحلبي، وكشاف القناع 2 / 487.
(17/106)
وَلاَ يُسْتَحَبُّ لِلنِّسَاءِ اسْتِلاَمُ
الْحَجَرِ وَلاَ تَقْبِيلُهُ إِلاَّ عِنْدَ خُلُوِّ الْمَطَافِ فِي
اللَّيْل أَوْ غَيْرِهِ (1) .
الْبُدَاءَةُ فِي الطَّوَافِ مِنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ:
3 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ
الْبُدَاءَةُ فِي الطَّوَافِ مِنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ لِيُحْسَبَ
الشَّوْطُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ افْتَتَحَ الطَّوَافَ مِنْ يَمِينِ الْحَجَرِ لاَ مِنْ يَسَارِهِ
(2) ، وَذَلِكَ تَعْلِيمٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَنَاسِكَ الْحَجِّ، وَقَدْ قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: خُذُوا
عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ (3) فَتَجِبُ الْبُدَاءَةُ بِمَا بَدَأَ بِهِ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوِ افْتُتِحَ الطَّوَافُ
مِنْ غَيْرِ الْحَجَرِ لَمْ يُعْتَدَّ بِذَلِكَ الشَّوْطِ إِلاَّ أَنْ
يَصِيرَ إِلَى الْحَجَرِ فَيَبْتَدِئَ مِنْهُ الطَّوَافَ (4) .
__________
(1) شرح زروق على هامش الرسالة (رسالة ابن أبي زيد القيرواني) 1 / 352،
ومغني المحتاج 1 / 487، وروضة الطالبين 3 / 85.
(2) حديث: " افتتح الطواف من يمين الحجر لا من يساره " أخرجه مسلم (2 / 893
- ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(3) حديث: " خذوا عني مناسككم " أخرجه مسلم (2 / 943 - ط الحلبي) والنسائي
(5 / 270 - ط المكتبة التجارية) من حديث جابر بن عبد الله، واللفظ للنسائي.
(4) بدائع الصنائع 2 / 130، وشرح الزرقاني 2 / 262 - ط دار الفكر، وأسهل
المدارك 1 / 461 - ط عيسى الحلبي، والمجموع 8 / 29، وروضة الطالبين 3 / 89،
وكشاف القناع 2 / 478 - 491.
(17/106)
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَمَالِكٍ أَنَّ الْبُدَاءَةَ فِي الطَّوَافِ مِنَ
الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ سُنَّةٌ، وَلَوْ بَدَأَ الطَّوَافَ مِنْ مَكَانٍ
غَيْرِ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ بِدُونِ عُذْرٍ أَجْزَأَهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (1) }
مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الاِبْتِدَاءِ بِالْحَجَرِ الأَْسْوَدِ (2) .
اسْتِلاَمُ الْحَجَرِ وَتَقْبِيلُهُ فِي الزِّحَامِ:
4 - إِذَا كَانَ فِي الطَّوَافِ زِحَامٌ وَخَشِيَ الطَّائِفُ إِيذَاءَ
النَّاسِ فَالأَْوْلَى أَنْ يَتْرُكَ تَقْبِيل الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ
وَاسْتِلاَمَهُ، لأَِنَّ اسْتِلاَمَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ سُنَّةٌ
وَتَرْكَ إِيذَاءِ النَّاسِ وَاجِبٌ فَلاَ يُهْمَل الْوَاجِبُ لأَِجْل
السُّنَّةِ (3) ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهُ: يَا عُمَرُ
إِنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ لاَ تُزَاحِمْ عَلَى الْحَجَرِ فَتُؤْذِيَ
الضَّعِيفَ، إِنْ وَجَدْتَ خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ، وَإِلاَّ
فَاسْتَقْبِلْهُ وَهَلِّل وَكَبِّرْ (4) .
__________
(1) سورة الحج / 29.
(2) بدائع الصنائع 2 / 130، وحاشية البناني على هامش شرح الزرقاني 2 / 262.
(3) ابن عابدين 2 / 166، وتبيين الحقائق 2 / 15، ومواهب الجليل 3 / 108،
والدسوقي 2 / 40، ومغني المحتاج 1 / 487، والمجموع 8 / 29، وكشاف القناع 2
/ 478، والمغني 3 / 380.
(4) حديث: " يا عمر، إنك رجل قوي. . . . " أخرجه أحمد (1 / 28 - ط
الميمنية) وأورده الهيثمي في المجمع (3 / 241 - ط القدسي) وقال: " رواه
أحمد، وفيه راو لم يسم ".
(17/107)
السُّجُودُ عَلَى الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ:
5 - حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ
عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ بَعْدَ
تَقْبِيل الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ السُّجُودُ عَلَيْهِ بِالْجَبْهَةِ، وَقَدْ
أَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا "
أَنَّهُ كَانَ يُقَبِّل الْحَجَرَ الأَْسْوَدَ وَيَسْجُدُ عَلَيْهِ.
وَكَرِهَ مَالِكٌ السُّجُودَ وَتَمْرِيغَ الْوَجْهِ عَلَيْهِ، وَنَقَل
الْكَاسَانِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بِدْعَةٌ، وَنَقَل ابْنُ الْهُمَامِ
عَنْ قِوَامِ الدِّينِ الْكَاكِيِّ قَال: وَعِنْدَنَا الأَْوْلَى أَنْ لاَ
يَسْجُدَ لِعَدَمِ الرِّوَايَةِ مِنَ الْمَشَاهِيرِ (1) .
الدُّعَاءُ عِنْدَ اسْتِلاَمِ الْحَجَرِ:
6 - ذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُول
الطَّائِفُ عِنْدَ اسْتِلاَمِ الْحَجَرِ، أَوِ اسْتِقْبَالِهِ بِوَجْهِهِ
إِذَا شَقَّ عَلَيْهِ اسْتِلاَمُهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ إِيمَانًا بِكَ، وَتَصْدِيقًا
بِكِتَابِكَ، وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ وَكَبَّرَ ثُمَّ قَال:
اللَّهُمَّ وَفَاءً بِعَهْدِكَ وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 146، وفتح القدير 2 / 148، والدسوقي 2 / 40، والحطاب
3 / 108، والأم 2 / 145 - ط بولاق، ونيل الأوطار 5 / 40 - 44 - ط العثمانية
المصرية.
(2) حديث جابر: " اللهم وفاء بعهدك وتصديقا بكتابك " قال ابن حجر في
التلخيص (2 / 247 - ط شركة الطباعة الفنية) " خرجه ابن عساكر من طريق ابن
ناجية بسند له ضعيف ".
(17/107)
وَزَادَ ابْنُ الْهُمَامِ: لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ إِلَيْكَ بَسَطْتُ يَدَيَّ،
وَفِيمَا عِنْدَكَ عَظُمَتْ رَغْبَتِي فَاقْبَل دَعْوَتِي وَأَقِلْنِي
عَثْرَتِي، وَارْحَمْ تَضَرُّعِي، وَجُدْ لِي بِمَغْفِرَتِكَ، وَأَعِذْنِي
مِنْ مُضِلاَّتِ الْفِتَنِ. وَذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ فِي الْبَدَائِعِ:
وَلَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَصْحَابِنَا فِيهِ دُعَاءٌ بِعَيْنِهِ، لأَِنَّ
الدَّعَوَاتِ لاَ تُحْصَى (1) .
حِدَادٌ
انْظُرْ: إِحْدَاد.
__________
(1) فتح القدير 2 / 148، وبدائع الصنائع 2 / 146، وأسهل المدارك 1 / 460،
ومواهب الجليل 3 / 112، وكتاب الكافي 1 / 366، والمجموع 8 / 29، وكشاف
القناع 2 / 478.
(17/108)
حَدَثٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَدَثُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْحُدُوثِ: وَهُوَ الْوُقُوعُ
وَالتَّجَدُّدُ وَكَوْنُ الشَّيْءِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَمِنْهُ
يُقَال: حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ إِذَا تَجَدَّدَ وَكَانَ مَعْدُومًا قَبْل
ذَلِكَ. وَالْحَدَثُ اسْمٌ مِنْ أَحْدَثَ الإِْنْسَانُ إِحْدَاثًا:
بِمَعْنَى الْحَالَةِ النَّاقِضَةِ لِلْوُضُوءِ. وَيَأْتِي بِمَعْنَى
الأَْمْرِ الْحَادِثِ الْمُنْكَرِ الَّذِي لَيْسَ بِمُعْتَادٍ وَلاَ
مَعْرُوفٍ، وَمِنْهُ مُحْدَثَاتُ الأُْمُورِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ أُمُورٌ:
أ - الْوَصْفُ الشَّرْعِيُّ (أَوِ الْحُكْمِيُّ) الَّذِي يَحِل فِي
الأَْعْضَاءِ وَيُزِيل الطَّهَارَةَ وَيَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلاَةِ
وَنَحْوِهَا، وَهَذَا الْوَصْفُ يَكُونُ قَائِمًا بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ
فَقَطْ فِي الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ، وَبِجَمِيعِ الْبَدَنِ فِي الْحَدَثِ
الأَْكْبَرِ، وَهُوَ الْغَالِبُ فِي إِطْلاَقِهِمْ. كَمَا سَيَأْتِي
تَفْصِيلُهُ.
وَقَدْ وَرَدَ هَذَا التَّعْرِيفُ فِي كُتُبِ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ
الأَْرْبَعَةِ بِاخْتِلاَفٍ بَسِيطٍ فِي الْعِبَارَةِ (2) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير في المادة.
(2) ابن عابدين 1 / 57، 58، وحاشية الدسوقي 1 / 32، 114، وجواهر الإكليل 1
/ 5، ونهاية المحتاج 1 / 51، 52، 95، والمنثور في القواعد 2 / 41، وكشاف
القناع 1 / 28، 29.
(17/108)
ب - الأَْسْبَابُ الَّتِي تُوجِبُ
الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْل، وَلِهَذَا نَجِدُ الْحَنَفِيَّةَ يُعَرِّفُونَهُ
بِأَنَّهُ: خُرُوجُ النَّجَسِ مِنَ الآْدَمِيِّ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ
السَّبِيلَيْنِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِمَا مُعْتَادًا كَانَ أَمْ غَيْرَ
مُعْتَادٍ (1) .
وَالْمَالِكِيَّةُ يُعَرِّفُونَهُ بِأَنَّهُ الْخَارِجُ الْمُعْتَادُ مِنَ
الْمُخْرَجِ الْمُعْتَادِ فِي حَال الصِّحَّةِ (2) ، وَالْحَنَابِلَةُ
يُعَرِّفُونَهُ بِمَا أَوْجَبَ وُضُوءًا أَوْ غُسْلاً (3) ، كَمَا وَضَعَ
بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بَابًا لِلأَْحْدَاثِ ذَكَرُوا فِيهَا أَسْبَابَ
نَقْضِ الْوُضُوءِ (4) .
ج - وَيُطْلَقُ الْحَدَثُ عَلَى الْمَنْعِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى
الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ (5)
د - وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ إِطْلاَقَهُ عَلَى خُرُوجِ الْمَاءِ فِي
الْمُعْتَادِ كَمَا قَال الدُّسُوقِيُّ (6) .
وَالْمُرَادُ هُنَا مِنْ هَذِهِ الإِْطْلاَقَاتِ هُوَ الأَْوَّل، أَمَّا
الْمَنْعُ فَإِنَّهُ حُكْمُ الْحَدَثِ، وَهُوَ الْحُرْمَةُ وَلَيْسَ نَفْسَ
__________
(1) البدائع 1 / 24.
(2) الدسوقي 1 / 32، 114.
(3) كشاف القناع 1 / 28.
(4) ابن عابدين 1 / 58، ومغني المحتاج 1 / 17، والمنثور 2 / 41.
(5) مغني المحتاج 1 / 17، وأسنى المطالب شرح روض الطالب 1 / 33، 34، ابن
عابدين 1 / 58، والحطاب 1 / 44.
(6) الدسوقي 1 / 38.
(17/109)
الْحَدَثِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ
الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الطَّهَارَةُ:
2 - الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ النَّزَاهَةُ وَالنَّظَافَةُ وَالْخُلُوصُ
مِنَ الأَْدْنَاسِ حِسِّيَّةً كَانَتْ كَالأَْنْجَاسِ، أَمْ مَعْنَوِيَّةً
كَالْعُيُوبِ مِنَ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَنَحْوِهِمَا.
وَفِي الشَّرْعِ رَفْعُ مَا يَمْنَعُ الصَّلاَةَ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ
حَدَثٍ أَوْ نَجَاسَةٍ بِالْمَاءِ أَوْ رَفْعُ حُكْمِهِ بِالتُّرَابِ.
فَالطَّهَارَةُ ضِدُّ الْحَدَثِ (ر: طَهَارَةٌ) .
ب - الْخَبَثُ:
3 - الْخَبَثُ بِفَتْحَتَيْنِ النَّجَسُ، وَإِذَا ذُكِرَ مَعَ الْحَدَثِ
يُرَادُ مِنْهُ النَّجَاسَةُ الْحَقِيقِيَّةُ أَيِ الْعَيْنُ
الْمُسْتَقْذِرَةُ شَرْعًا، وَمِنْ هُنَا عَرَّفُوا الطَّهَارَةَ
بِأَنَّهَا النَّظَافَةُ مِنْ حَدَثٍ أَوْ خَبَثٍ.
وَالْخُبْثُ بِسُكُونِ الْبَاءِ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ خَبُثَ الشَّيْءُ
خُبْثًا ضِدُّ طَابَ، يُقَال: شَيْءٌ خَبِيثٌ أَيْ نَجِسٌ أَوْ كَرِيهُ
الطَّعْمِ، وَالْخُبْثُ كَذَلِكَ الشَّرُّ
__________
(1) نفس المراجع، الحطاب 1 / 44.
(17/109)
وَالْوَصْفُ مِنْهُ الْخُبْثُ وَجَمْعُهُ
الْخُبُثُ (1) ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ (2) أَيْ
ذُكْرَانِ الشَّيَاطِينِ وَإِنَاثِهِمْ، وَاسْتُعْمِل فِي كُل حَرَامٍ
ج - النَّجَسُ:
4 - النَّجَسُ بِفَتْحَتَيْنِ مَصْدَرُ نَجُسَ الشَّيْءُ نَجَسًا، ثُمَّ
اسْتُعْمِل اسْمًا لِكُل مُسْتَقْذَرٍ، وَالنَّجِسُ بِكَسْرِ الْجِيمِ
ضِدُّ الطَّاهِرِ، وَالنَّجَاسَةُ ضِدُّ الطَّهَارَةِ، فَالنَّجَسُ لُغَةً
يَعُمُّ الْحَقِيقِيَّ وَالْحُكْمِيَّ، وَعُرْفًا يَخْتَصُّ بِالأَْوَّل
كَالْخُبْثِ. وَإِذَا أَحْدَثَ الإِْنْسَانُ وَنُقِضَ وُضُوءُهُ يُقَال
لَهُ: مُحْدِثٌ، وَلاَ يُقَال لَهُ نَجِسٌ فِي عُرْفِ الشَّارِعِ. أَمَّا
الْخُبْثُ فَيَخُصُّ النَّجَاسَةَ الْحَقِيقِيَّةَ كَمَا أَنَّ الْحَدَثَ
يَخُصُّ الْحُكْمِيَّةَ، وَالطَّهَارَةُ ارْتِفَاعُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
(3) .
أَقْسَامُ الْحَدَثِ:
5 - سَبَقَ فِي تَعْرِيفِ الْحَدَثِ أَنَّهُ بِالإِْطْلاَقِ الأَْوَّل
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير في المادة، وابن عابدين 1 / 57، والحطاب 1
/ 45، وجواهر الإكليل 1 / 5، والمغني 1 / 168.
(2) كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: " اللهم إني أعوذ بك
من الخبث والخبائث ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 242 - ط السلفية) ومسلم (1
/ 283 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(3) ابن عابدين 1 / 205، والمصباح المنير، ومغني المحتاج 1 / 17، والحطاب 1
/ 45، وكشاف القناع 1 / 28.
(17/110)
وَصْفٌ يَحِل بِالأَْعْضَاءِ وَيَمْنَعُ
مِنْ صِحَّةِ الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا. فَهَذَا الْوَصْفُ إِنْ كَانَ
قَائِمًا فِي جَمِيعِ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ وَأَوْجَبَ غُسْلاً يُسَمَّى
حَدَثًا أَكْبَرَ، وَإِذَا كَانَ قَائِمًا بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَقَطْ
وَأَوْجَبَ غَسْل تِلْكَ الأَْعْضَاءِ فَقَطْ يُسَمَّى حَدَثًا أَصْغَرَ
(1) .
وَالْحَدَثُ بِالإِْطْلاَقِ الثَّانِي أَيِ الأَْسْبَابُ الَّتِي تُوجِبُ
الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْل كَذَلِكَ نَوْعَانِ: حَدَثٌ حَقِيقِيٌّ، وَحَدَثٌ
حُكْمِيٌّ.
وَالْحَدَثُ الْحُكْمِيُّ: فَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوجَدَ
أَمْرٌ يَكُونُ سَبَبًا لِخُرُوجِ النَّجَسِ الْحَقِيقِيِّ غَالِبًا
فَيُقَامُ السَّبَبُ مَكَانَ الْمُسَبَّبِ احْتِيَاطًا، وَالثَّانِي: أَنْ
لاَ يُوجَدَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَكِنَّهُ جُعِل حَدَثًا شَرْعًا
تَعَبُّدًا مَحْضًا. وَهَذَا التَّقْسِيمُ صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ
وَتَدُل عَلَيْهِ تَعْلِيلاَتُ غَيْرِهِمْ.
أَسْبَابُ الْحَدَثِ:
أَوَّلاً - خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ:
6 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِخُرُوجِ النَّجَسِ مِنَ
الآْدَمِيِّ الْحَيِّ مِنَ السَّبِيلَيْنِ (الدُّبُرِ وَالذَّكَرِ أَوْ
فَرْجِ الْمَرْأَةِ) مُعْتَادًا كَانَ كَالْبَوْل وَالْغَائِطِ
وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَدَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، أَمْ
غَيْرَ مُعْتَادٍ كَدَمِ الاِسْتِحَاضَةِ (2) . أَوْ مِنْ غَيْرِ
السَّبِيلَيْنِ
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 52، وكشاف القناع 1 / 28، 134.
(2) البدائع للكاساني 1 / 24، والاختيار 1 / 9، 10.
(17/110)
كَالْجُرْحِ وَالْقُرْحِ وَالأَْنْفِ
وَالْفَمِ سَوَاءٌ كَانَ الْخَارِجُ دَمًا أَوْ قَيْحًا أَوْ قَيْئًا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِالْخَارِجِ الْمُعْتَادِ
مِنَ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ، لاَ حَصًى وَدُودٍ وَلَوْ بِبِلَّةٍ،
وَهَذَا يَشْمَل الْبَوْل وَالْغَائِطَ وَالْمَذْيَ وَالْمَنِيَّ
وَالْوَدْيَ وَالرِّيحَ، سَوَاءٌ أَكَانَ خُرُوجُهُ فِي حَال الصِّحَّةِ
بِاخْتِيَارٍ، أَمْ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ، كَسَلَسٍ فَارَقَ أَكْثَرَ
الزَّمَنِ، أَيِ ارْتَفَعَ عَنِ الشَّخْصِ، زَمَانًا يَزِيدُ عَلَى
النِّصْفِ. فَإِنْ لاَزَمَهُ كُل الزَّمَنِ أَوْ أَكْثَرَهُ أَوْ نِصْفَهُ
فَلاَ نَقْضَ، وَيَشْمَل الْحَدَثُ عِنْدَهُمُ الْخَارِجَ مِنْ ثُقْبَةٍ
تَحْتَ الْمَعِدَةِ إِنِ انْسَدَّ السَّبِيلاَنِ (1) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْخَارِجُ غَيْرُ الْمُعْتَادِ، وَالدُّودُ، وَالْحَصَى،
وَالدَّمُ، وَالْقَيْحُ، وَالْقَيْءُ وَنَحْوُهَا لاَ يُعْتَبَرُ حَدَثًا
وَلَوْ كَانَ مِنَ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِخُرُوجِ شَيْءٍ مِنْ
قُبُلِهِ أَوْ دُبُرِهِ عَيْنًا كَانَ أَوْ رِيحًا، طَاهِرًا أَوْ نَجِسًا،
جَافًّا أَوْ رَطْبًا، مُعْتَادًا كَبَوْلٍ أَوْ نَادِرًا كَدَمٍ، قَلِيلاً
أَوْ كَثِيرًا، طَوْعًا أَوْ كَرْهًا. إِلاَّ الْمَنِيَّ فَلَيْسَ
خُرُوجُهُ نَاقِضًا قَالُوا: لأَِنَّهُ أَوْجَبَ أَعْظَم الأَْمْرَيْنِ
وَهُوَ الْغُسْل فَلاَ يُوجِبُ أَدْوَنَهُمَا وَهُوَ الْوُضُوءُ
بِعُمُومِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا انْسَدَّ مَخْرَجُهُ وَانْفَتَحَ تَحْتَ
مَعِدَتِهِ فَخَرَجَ الْمُعْتَادُ (3) .
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 19، 20، والحطاب 1 / 290 - 293.
(2) نفس المراجع.
(3) مغني المحتاج 1 / 32، 33.
(17/111)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: النَّاقِضُ
لِلْوُضُوءِ هُوَ الْخَارِجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ قَلِيلاً كَانَ أَوْ
كَثِيرًا، نَادِرًا كَانَ كَالدُّودِ وَالدَّمِ وَالْحَصَى، أَوْ
مُعْتَادًا كَالْبَوْل وَالْغَائِطِ وَالْوَدْيِ وَالْمَذْيِ وَالرِّيحِ،
طَاهِرًا أَوْ نَجِسًا، وَكَذَلِكَ خُرُوجُ النَّجَاسَاتِ مِنْ بَقِيَّةِ
الْبَدَنِ، فَإِنْ كَانَتْ غَائِطًا أَوْ بَوْلاً نَقَضَ وَلَوْ قَلِيلاً
مِنْ تَحْتِ الْمَعِدَةِ أَوْ فَوْقِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ السَّبِيلاَنِ
مَفْتُوحَيْنِ أَمْ مَسْدُودَيْنِ. وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَاتُ
الْخَارِجَةُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ غَيْرَ الْغَائِطِ وَالْبَوْل
كَالْقَيْءِ وَالدَّمِ وَالْقَيْحِ، وَدُونَ الْجِرَاحِ لَمْ يَنْقُضْ
إِلاَّ كَثِيرُهَا (1) .
وَمِمَّا سَبَقَ يَظْهَرُ أَنَّ أَسْبَابَ الْحَدَثِ الْحَقِيقِيِّ
بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ:
أَسْبَابُ الْحَدَثِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ الْمُعْتَادَ مِنَ
السَّبِيلَيْنِ كَالْبَوْل وَالْغَائِطِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ
وَالْوَدْيِ وَالرِّيحِ، وَأَيْضًا دَمُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ يُعْتَبَرُ
حَدَثًا حَقِيقِيًّا قَلِيلاً كَانَ الْخَارِجُ أَوْ كَثِيرًا (2) ،
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ
مِنَ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 122، 124.
(2) البدائع 1 / 24، وابن عابدين 1 / 90، 91، وجواهر الإكليل 1 / 19، 20،
ومغني المحتاج 1 / 32، 33، والمغني 1 / 168، 169، وكشاف القناع 1 / 22 -
124.
(17/111)
الْغَائِطِ} فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ
الْحَدَثِ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ وَنَحْوِهِمَا. وَلِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا
فَأَشْكَل عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لاَ، فَلاَ يَخْرُجَنَّ
مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا (1) .
وَهَذِهِ الأَْسْبَابُ بَعْضُهَا حَدَثٌ أَكْبَرُ فَيُوجِبُ الْغُسْل
كَخُرُوجِ الْمَنِيِّ، وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَبَعْضُهَا حَدَثٌ
أَصْغَرُ يُوجِبُ الْوُضُوءَ فَقَطْ كَالْبَوْل وَالْغَائِطِ وَالْمَذْيِ
وَالْوَدْيِ وَالرِّيحِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.
الأَْسْبَابُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا:
أ - مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ نَادِرًا:
8 - مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ نَادِرًا كَالدُّودِ وَالْحَصَى
وَالشَّعْرِ وَقِطْعَةِ اللَّحْمِ وَنَحْوِهَا تُعْتَبَرُ أَحْدَاثًا
تَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَبْدِ
الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ، لأَِنَّهَا
خَارِجَةٌ مِنَ السَّبِيلَيْنِ فَأَشْبَهَتِ الْمَذْيَ، وَلأَِنَّهَا لاَ
تَخْلُو عَنْ بِلَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِهَا (2) ، وَقَدْ أَمَرَ
__________
(1) حديث: " إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا. . . " أخرجه مسلم (1 / 276 - ط
الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) المراجع السابقة، والدسوقي 1 / 115.
(17/112)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْمُسْتَحَاضَةَ بِالْوُضُوءِ لِكُل صَلاَةٍ، وَدَمُهَا خَارِجٌ
غَيْرُ مُعْتَادٍ (1) . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ
عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْخَارِجَ غَيْرَ الْمُعْتَادِ مِنَ
السَّبِيلَيْنِ كَحَصًى تَوَلَّدَ بِالْبَطْنِ وَدُودٍ لاَ يُعْتَبَرُ
حَدَثًا وَلَوْ بِبِلَّةٍ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ غَيْرِ مُتَفَاحِشٍ
بِحَيْثُ يُنْسَبُ الْخُرُوجُ لِلْحَصَى وَالدُّودِ لاَ لِلْبَوْل
وَالْغَائِطِ. وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لاَ وُضُوءَ
عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ تَخْرُجَ الدُّودَةُ وَالْحَصَى غَيْرَ نَقِيَّةٍ (2)
.
9 - وَاخْتَلَفُوا فِي الرِّيحِ الْخَارِجَةِ مِنَ الذَّكَرِ أَوْ قُبُل
الْمَرْأَةِ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ تُعْتَبَرُ حَدَثًا، وَلاَ يُنْتَقَضُ بِهَا
الْوُضُوءُ، لأَِنَّهَا اخْتِلاَجٌ وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ رِيحًا
مُنْبَعِثَةً عَنْ مَحَل النَّجَاسَةِ، وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُفْضَاةِ،
فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْمُفْضَاةِ فَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ
يُنْدَبُ لَهَا الْوُضُوءُ، وَقِيل: يَجِبُ، وَقِيل: لَوْ مُنْتِنَةً،
لأَِنَّ نَتَنَهَا دَلِيل خُرُوجِهَا مِنَ الدُّبُرِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:
إِنَّ الْخَارِجَةَ مِنَ الذَّكَرِ أَوْ قُبُل الْمَرْأَةِ
__________
(1) حديث: " أمر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة " أخرجه البخاري (الفتح 1 /
332 - ط السلفية) من حديث عائشة.
(2) جواهر الإكليل 1 / 19، 20، والدسوقي 1 / 115.
(3) ابن عابدين 1 / 92، والبدائع 1 / 25، وجواهر الإكليل 1 / 19، 20،
والمغني 1 / 169.
(17/112)
حَدَثٌ يُوجِبُ الْوُضُوءَ (1) ،
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ وُضُوءَ إِلاَّ مِنْ
صَوْتٍ أَوْ رِيحٍ (2) .
ب - مَا يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ:
10 - الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ نَجِسًا لاَ
يُعْتَبَرُ حَدَثًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا
كَانَ نَجِسًا، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مَا يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ
السَّبِيلَيْنِ مِنَ النَّجَاسَةِ حَدَثٌ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِشَرْطِ
أَنْ يَكُونَ سَائِلاً جَاوَزَ إِلَى مَحَلٍّ يُطْلَبُ تَطْهِيرُهُ وَلَوْ
نَدْبًا، كَدَمٍ وَقَيْحٍ وَصَدِيدٍ عَنْ رَأْسِ جُرْحٍ، وَكَقَيْءٍ مَلأََ
الْفَمَ مِنْ مُرَّةٍ أَوْ عَلَقٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ مَاءٍ، لاَ بَلْغَمٍ،
وَإِنْ قَاءَ دَمًا أَوْ قَيْحًا نَقَضَ وَإِنْ لَمْ يَمْلأَِ الْفَمَ
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ،
وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا إِلاَّ
الْغَائِطَ وَالْبَوْل فَلاَ تُشْتَرَطُ فِيهِمَا الْكَثْرَةُ عِنْدَهُمْ.
وَالْقَوْل بِأَنَّ النَّجِسَ الْخَارِجَ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ
حَدَثٌ هُوَ قَوْل كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
مِنْهُمُ: ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 32، والمغني 1 / 169.
(2) حديث: " لا وضوء إلا من صوت أو ريح " أخرجه الترمذي (1 / 109 - ط
الحلبي) من حديث أبي هريرة، ونقل ابن حجر في التلخيص (1 / 117 - ط شركة
الطباعة الفنية) عن البيهقي أنه قال: هذا حديث ثابت قد اتفق الشيخان على
إخراج معناه من حديث عبد الله بن زيد.
(17/113)
وَابْنُ عُمَرَ، وَسَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَالثَّوْرِيُّ
وَإِسْحَاقُ (1) .
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي الأَْحَادِيثِ، مِنْهَا: قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوُضُوءُ مِنْ كُل دَمٍ سَائِلٍ (2)
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ
رُعَافٌ أَوْ قَلْسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ، فَلْيَتَوَضَّأْ ثُمَّ
لْيَبْنِ عَلَى صَلاَتِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لاَ يَتَكَلَّمُ (3) وَلأَِنَّ
الدَّمَ وَنَحْوَهُ نَجَاسَةٌ خَارِجَةٌ مِنَ الْبَدَنِ فَأَشْبَهَ
الْخَارِجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ (4) .
وَوَجْهُ مَا اشْتَرَطَهُ الْحَنَابِلَةُ مِنَ الْكَثْرَةِ فِي غَيْرِ
الْغَائِطِ وَالْبَوْل أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَال فِي الدَّمِ: إِذَا كَانَ
فَاحِشًا فَعَلَيْهِ الإِْعَادَةُ، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَصَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ دَمٌ فَصَلَّى وَلَمْ
يَتَوَضَّأْ (5) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 93، 94، الاختيار 1 / 10، ومراقي الفلاح 1 / 46، 49،
وكشاف القناع 1 / 124، والمغني لابن قدامة 1 / 185.
(2) حديث: " الوضوء من كل دم سائل " أخرجه الدارقطني (1 / 157 - ط دار
المحاسن) من حديث تميم الداري وأعله الدارقطني بانقطاع في سنده، وبجهالة
راويين فيه.
(3) حديث: " من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي، فلينصرف، فليتوضأ ثم ليبن
على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم ". أخرجه ابن ماجه (1 / 385 - 386 - ط
الحلبي) من حديث عائشة، وقال البوصيري: " في إسناده إسماعيل بن عياش، وقد
روى عن الحجازيين وروايته عنهم ضعيفة ".
(4) البدائع 1 / 24، 25، والاختيار 1 / 9 - 11، والمغني 1 / 185 وما بعدها.
(5) المغني 1 / 185.
(17/113)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَهُوَ قَوْل رَبِيعَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ: الْخَارِجُ
مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ لاَ يُعْتَبَرُ حَدَثًا، لِمَا رَوَى أَبُو
دَاوُدُ عَنْ جَابِرٍ قَال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ - فَأَصَابَ
رَجُلٌ امْرَأَةَ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَحَلَفَ أَنْ لاَ
أَنْتَهِيَ حَتَّى أُهْرِيقَ دَمًا فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، فَخَرَجَ
يَتْبَعُ أَثَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَل
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلاً، فَقَال: مَنْ
رَجُلٌ يَكْلَؤُنَا (1) ؟ فَانْتَدَبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
وَرَجُلٌ مِنَ الأَْنْصَارِ، فَقَال: كُونَا بِفَمِ الشِّعْبِ قَال:
فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلاَنِ إِلَى فَمِ الشِّعْبِ اضْطَجَعَ
الْمُهَاجِرِيُّ وَقَامَ الأَْنْصَارِيُّ يُصَلِّي، وَأَتَى الرَّجُل،
فَلَمَّا رَأَى شَخْصَهُ عَرَفَ أَنَّهُ رَبِيئَةٌ (2) لِلْقَوْمِ،
فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَوَضَعَهُ فِيهِ، فَنَزَعَهُ حَتَّى رَمَاهُ
بِثَلاَثَةِ أَسْهُمٍ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ، ثُمَّ انْتَبَهَ صَاحِبُهُ،
فَلَمَّا عَرَفَ أَنَّهُمْ قَدْ نَذِرُوا (3) بِهِ هَرَبَ، وَلَمَّا رَأَى
الْمُهَاجِرِيُّ مَا بِالأَْنْصَارِيِّ مِنَ الدَّمِ: قَال: سُبْحَانَ
اللَّهِ، أَلاَ أَنْبَهْتنِي أَوَّل مَا رَمَى؟ قَال: كُنْتُ فِي سُورَةٍ
أَقْرَؤُهَا، فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ أَقْطَعَهَا (4) .
__________
(1) يكلؤنا أي يحرسنا.
(2) ربيئة القوم هو الرقيب الذي يشرف على المرقب ينظر العدو من أي جهة يأتي
فينذر أصحابه.
(3) أي شعروا وعلوا بمكانه.
(4) حديث جابر: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه أبو
داود (1 / 136 - 137 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وصححه ابن حبان (2 / 212 - ط
دار الكتب العلمية) .
(17/114)
وَلِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: قَاءَ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ (1) .
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ مَا
خَرَجَ مِنْ ثُقْبَةٍ تَحْتَ الْمَعِدَةِ إِنِ انْسَدَّ مَخْرَجُهُ،
وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَنْسَدَّ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
فَيُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ (2) .
ثَانِيًا - الْحَدَثُ الْحُكْمِيُّ:
11 - الْحَدَثُ الْحُكْمِيُّ هُوَ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِخُرُوجِ الْحَدَثِ
الْحَقِيقِيِّ غَالِبًا فَيُقَامُ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ
احْتِيَاطًا. فَيَأْخُذُ حُكْمَ الْحَدَثِ الْحَقِيقِيِّ شَرْعًا،
وَيَدْخُل فِي هَذَا النَّوْعِ:
- زَوَال الْعَقْل أَوِ التَّمْيِيزُ وَذَلِكَ بِالنَّوْمِ أَوِ السُّكْرِ
أَوِ الإِْغْمَاءِ أَوِ الْجُنُونِ أَوْ نَحْوِهَا. وَهَذِهِ الأَْسْبَابُ
مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْمَذَاهِبِ فِي الْجُمْلَةِ (3) . وَاسْتَدَل
الْفُقَهَاءُ لِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِالنَّوْمِ بِحَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ
عَسَّالٍ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفَرًا أَنْ لاَ نَنْزِعَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ
وَلَيَالِيَهُنَّ إِلاَّ مِنْ جَنَابَةٍ، لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ
وَنَوْمٍ (4) .
__________
(1) حديث: " قاء فلم يتوضأ. . . . " قال العيني: " هذا الحديث غريب لا ذكر
له في كتب الحديث " البناية في شرح الهداية (1 / 198 - ط دار الفكر) .
(2) مغني المحتاج 1 / 32 - 33، والحطاب 1 / 293.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 95، 96، وجواهر الإكليل 1 / 20، ومغني المحتاج 1
/ 33، 34، وكشاف القناع 1 / 125.
(4) حديث صفوان بن عسال: " كان يأمرنا إذا كنا سفراء " أخرجه الترمذي (1 /
159 - ط الحلبي) ثم نقل عن البخاري أنه حسنه.
(17/114)
وَبِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ فَمَنْ نَامَ
فَلْيَتَوَضَّأْ (1) .
وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ النَّوْمِ النَّاقِضِ
لِلْوُضُوءِ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: النَّوْمُ النَّاقِضُ هُوَ مَا كَانَ مُضْطَجِعًا
أَوْ مُتَّكِئًا أَوْ مُسْتَنِدًا إِلَى شَيْءٍ لَوْ أُزِيل مِنْهُ
لَسَقَطَ، لأَِنَّ الاِضْطِجَاعَ سَبَبٌ لاِسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِل فَلاَ
يَعْرَى عَنْ خُرُوجِ شَيْءٍ عَادَةً، وَالثَّابِتُ عَادَةً
كَالْمُتَيَقَّنِ. وَالاِتِّكَاءُ يُزِيل مُسْكَةَ الْيَقِظَةِ، لِزَوَال
الْمَقْعَدَةِ عَنِ الأَْرْضِ. بِخِلاَفِ النَّوْمِ حَالَةَ الْقِيَامِ
وَالْقُعُودِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا،
لأَِنَّ بَعْضَ الاِسْتِمْسَاكِ بَاقٍ، إِذْ لَوْ زَال لَسَقَطَ، فَلَمْ
يَتِمَّ الاِسْتِرْخَاءُ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ النَّاقِضَ هُوَ النَّوْمُ الثَّقِيل
بِأَنْ لَمْ يَشْعُرْ بِالصَّوْتِ الْمُرْتَفِعِ، بِقُرْبِهِ، أَوْ
بِسُقُوطِ شَيْءٍ مِنْ يَدِهِ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ، طَال النَّوْمُ أَوْ
قَصُرَ. وَلاَ يُنْقَضُ بِالْخَفِيفِ وَلَوْ طَال، وَيُنْدَبُ الْوُضُوءُ
إِنْ طَال النَّوْمُ الْخَفِيفُ (3) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الصَّحِيحُ مِنْهَا
__________
(1) حديث: " العين وكاء السه، فمن نام فليتوضأ " أخرجه ابن ماجه (1 / 161 -
ط الحلبي) من حديث علي بن أبي طالب، وحسنه النووي في المجموع (2 / 13 - ط
المنيرية) .
(2) فتح القدير مع الهداية 1 / 42، 43.
(3) جواهر الإكليل 1 / 20، والذخيرة 1 / 224، والمنتقى 1 / 49، والدسوقي 1
/ 118، 119.
(17/115)
أَنَّ مَنْ نَامَ مُمَكِّنًا مَقْعَدَتَهُ
مِنَ الأَْرْضِ أَوْ نَحْوِهَا لَمْ يُنْقَضْ وُضُوءُهُ، وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ مُمَكِّنًا يُنْتَقَضُ عَلَى أَيَّةِ هَيْئَةٍ كَانَ فِي الصَّلاَةِ
وَغَيْرِهَا لِحَدِيثِ أَنَسٍ قَال: كَانَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ فَيَنَامُونَ،
أَحْسَبُهُ قَال: قُعُودًا حَتَّى تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ ثُمَّ يُصَلُّونَ
وَلاَ يَتَوَضَّئُونَ (1) . وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
لَيْسَ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا وُضُوءٌ حَتَّى يَضَعَ
جَنْبَهُ إِلَى الأَْرْضِ (2) وَيُنْدَبُ الْوُضُوءُ عِنْدَهُمْ إِلاَّ
مَعَ التَّمْكِينِ خُرُوجًا مِنَ الْخِلاَفِ (3) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَسَمُوا النَّوْمَ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
الأَْوَّل: نَوْمُ الْمُضْطَجِعِ فَيُنْقَضُ بِهِ الْوُضُوءُ قَلِيلاً
كَانَ أَوْ كَثِيرًا أَخْذًا لِعُمُومِ الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ.
الثَّانِي: نَوْمُ الْقَاعِدِ، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا نُقِضَ بِنَاءً عَلَى
الْحَدِيثَيْنِ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَمْ يُنْقَضْ لِحَدِيثِ أَنَسٍ
الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ. الثَّالِثُ:
__________
(1) حديث: " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء
فينامون - أحسبه قال: قعودا - حتى تخفق رءوسهم ثم يصلون ولا يتوضئون "
أخرجه الشافعي في مسنده (1 / 34 - ترتيب السندي - ط مطبعة السعادة) ، وأصله
في صحيح مسلم (1 / 248 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " ليس على من نام قائما أو قاعدا وضوء حتى يضع جنبه إلى الأرض ".
أخرجه ابن عدي في الكامل (6 / 2459 - ط دار الفكر) في ترجمة مهدي بن هلال،
وقال ابن حجر في التلخيص (1 / 120 - ط شركة الطباعة الفنية) " وهو متهم
بوضع الحديث ".
(3) مغني المحتاج 1 / 34، وقليوبي 1 / 32، والمجموع 2 / 12، 13.
(17/115)
مَا عَدَا هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ،
وَهُوَ نَوْمُ الْقَائِمِ وَالرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ
أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْحَالاَتِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: يُنْقَضُ
مُطْلَقًا لِلْعُمُومِ فِي الْحَدِيثَيْنِ، وَالثَّانِيَةُ: لاَ يُنْقَضُ،
إِلاَّ إِذَا كَثُرَ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْجُدُ وَيَنَامُ ثُمَّ يَقُومُ
فَيُصَلِّي فَقُلْتُ لَهُ: صَلَّيْتَ وَلَمْ تَتَوَضَّأْ، وَقَدْ نِمْتَ،
فَقَال إِنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا فَإِنَّهُ إِذَا
اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ (1) .
وَالْعِبْرَةُ فِي تَحْدِيدِ الْكَثِيرِ وَالْيَسِيرِ فِي الصَّحِيحِ
عِنْدَهُمُ الْعُرْفُ (2) .
أَمَّا السُّكْرُ وَالْجُنُونُ وَالإِْغْمَاءُ فَدَلِيل نَقْضِ الْوُضُوءِ
بِهَا أَنَّهَا أَبْلَغُ فِي إِزَالَةِ الْمُسْكَةِ مِنَ النَّوْمِ،
لأَِنَّ النَّائِمَ يَسْتَيْقِظُ بِالاِنْتِبَاهِ، بِخِلاَفِ الْمَجْنُونِ
وَالسَّكْرَانِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.
وَلِتَعْرِيفِ هَذِهِ الأُْمُورِ وَمَعْرِفَةِ حُكْمِهَا وَأَثَرِهَا عَلَى
الْوُضُوءِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحَاتِهَا.
الْمُبَاشَرَةُ الْفَاحِشَةُ دُونَ الْجِمَاعِ:
12 - وَتَفْسِيرُهَا، كَمَا قَال الْكَاسَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ
يُبَاشِرَ الرَّجُل الْمَرْأَةَ بِشَهْوَةٍ وَيَنْتَشِرَ لَهَا وَلَيْسَ
__________
(1) حديث: " إنما الوضوء على من نام. . . . " أخرجه أبو داود (1 / 139
تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (1 / 111 ط مصطفى الحلبي) من حديث ابن عباس.
وضعف أبو داود والترمذي الحديث وتبعهم أحمد شاكر على ذلك في تحقيقه
للترمذي.
(2) المغني لابن قدامة 1 / 173 - 175.
(17/116)
بَيْنَهُمَا ثَوْبٌ وَلَمْ يَرَ بَلَلاً
(1) .
وَقَال فِي الدُّرِّ: أَنْ تَكُونَ بِتَمَاسِّ الْفَرْجَيْنِ وَلَوْ بَيْنَ
الْمَرْأَتَيْنِ أَوِ الرَّجُلَيْنِ مَعَ الاِنْتِشَارِ وَلَوْ بِلاَ
بَلَلٍ (2) . فَهَذِهِ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ
- إِلاَّ مُحَمَّدًا مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ
قَال: بَيْنَمَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْمَسْجِدِ، وَنَحْنُ قُعُودٌ مَعَهُ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَال: يَا
رَسُول اللَّهِ: إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَسَكَتَ
عَنْهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَعَادَ
فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ: إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ،
فَسَكَتَ عَنْهُ. وَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ. فَلَمَّا انْصَرَفَ نَبِيُّ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال أَبُو أُمَامَةَ:
فَاتَّبَعَ الرَّجُل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حِينَ انْصَرَفَ وَاتَّبَعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْظُرُ مَا يَرُدُّ عَلَى الرَّجُل فَلَحِقَ الرَّجُل رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ:
إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ. قَال أَبُو أُمَامَةَ: فَقَال
لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ حِينَ
خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِكَ أَلَيْسَ قَدْ تَوَضَّأْتَ فَأَحْسَنْتَ
الْوُضُوءَ؟ قَال: بَلَى يَا رَسُول اللَّهِ. قَال: ثُمَّ شَهِدْتَ
الصَّلاَةَ مَعَنَا فَقَال: نَعَمْ يَا رَسُول اللَّهِ. قَال: فَقَال لَهُ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ
غَفَرَ لَكَ حَدَّكَ، أَوْ قَال ذَنْبَكَ (3) .
__________
(1) البدائع للكاساني 1 / 30.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 99.
(3) حديث أبي أمامة قال: " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد
ونحن قعود معه. . . " أخرجه مسلم (4 / 2117 - 2118 - ط الحلبي) .
(17/116)
وَلأَِنَّ الْمُبَاشَرَةَ عَلَى الصِّفَةِ
الَّتِي ذَكَرْنَا لاَ تَخْلُو عَنْ خُرُوجِ الْمَذْيِ عَادَةً إِلاَّ
أَنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ جَفَّ بِحَرَارَةِ الْبَدَنِ فَلَمْ يَقِفْ
عَلَيْهِ أَوْ غَفَل عَنْ نَفْسِهِ لِغَلَبَةِ الشَّبَقِ فَكَانَتْ سَبَبًا
مُفْضِيًا إِلَى الْخُرُوجِ، وَهُوَ الْمُتَحَقِّقُ فِي مَقَامِ وُجُوبِ
الاِحْتِيَاطِ (1) .
الْتِقَاءُ بَشَرَتَيْ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ:
13 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ لَمْسَ بَشَرَتَيِ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ
حَدَثٌ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ تَخْتَلِفُ
عِبَارَاتُهُمْ فِي الشُّرُوطِ وَالتَّفْصِيل.
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الَّذِي يَنْقُضُ الْوُضُوءَ هُوَ اللَّمْسُ
بِعُضْوٍ أَصْلِيٍّ أَوْ زَائِدٍ يَلْتَذُّ صَاحِبُهُ بِهِ عَادَةً، وَلَوْ
لِظُفْرٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ سِنٍّ، وَلَوْ بِحَائِلٍ خَفِيفٍ يُحِسُّ
اللاَّمِسُ فَوْقَهُ بِطَرَاوَةِ الْجَسَدِ، إِنْ قَصَدَ اللَّذَّةَ أَوْ
وَجَدَهَا بِدُونِ الْقَصْدِ، قَالُوا: وَمِمَّنْ يُلْتَذُّ بِهِ عَادَةً
الأَْمْرَدُ وَاَلَّذِي لَمْ تَتِمَّ لِحْيَتُهُ، فَلاَ نَقْضَ بِلَمْسِ
جَسَدِ أَوْ فَرْجِ صَغِيرَةٍ لاَ تُشْتَهَى عَادَةً، وَلَوْ قَصَدَ.
اللَّذَّةَ أَوْ وَجَدَهَا، كَمَا لاَ تُنْقَضُ بِلَمْسِ مَحْرَمٍ بِغَيْرِ
لَذَّةٍ، أَمَّا الْقُبْلَةُ بِفَمٍ فَنَاقِضَةٌ وَلاَ تُشْتَرَطُ فِيهَا
اللَّذَّةُ وَلاَ وُجُودُهَا (2) .
__________
(1) البدائع 1 / 30، وابن عابدين 1 / 99، والبناية على الهداية 1 / 201،
وجواهر الإكليل 1 / 20، ومغني المحتاج 1 / 34، وكشاف القناع 1 / 128، 129.
(2) جواهر الإكليل 1 / 20، وحاشية الدسوقي 1 / 115، وما بعدها.
(17/117)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ لَمْسُ
بَشَرَتَيِ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى اللَّذَيْنِ بَلَغَا حَدًّا يُشْتَهَى،
وَلَوْ لَمْ يَكُونَا بَالِغَيْنِ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ
يَكُونَ بِشَهْوَةٍ أَوْ إِكْرَاهٍ أَوْ نِسْيَانٍ، أَوْ يَكُونَ الذَّكَرُ
مَمْسُوحًا أَوْ خَصِيًّا أَوْ عِنِّينًا، أَوِ الْمَرْأَةُ عَجُوزًا
شَوْهَاءَ، أَوِ الْعُضْوُ زَائِدًا أَوْ أَصْلِيًّا سَلِيمًا أَوْ أَشَل
أَوْ أَحَدُهُمَا مَيِّتًا. وَالْمُرَادُ بِالْبَشَرَةِ ظَاهِرُ الْجِلْدِ.
وَفِي مَعْنَاهَا اللَّحْمُ، كَلَحْمِ الأَْسْنَانِ وَاللِّسَانِ
وَاللِّثَةِ وَبَاطِنِ الْعَيْنِ، فَخَرَجَ مَا إِذَا كَانَ عَلَى
الْبَشَرَةِ حَائِلٌ وَلَوْ رَقِيقًا. وَالْمَلْمُوسُ فِي كُل هَذَا
كَاللاَّمِسِ فِي نَقْضِ وُضُوئِهِ فِي الأَْظْهَرِ.
وَلاَ يُنْقَضُ بِلَمْسِ الْمَحْرَمِ فِي الأَْظْهَرِ، وَلاَ صَغِيرَةٍ،
وَشَعْرٍ، وَسِنٍّ، وَظُفْرٍ فِي الأَْصَحِّ، كَمَا لاَ يُنْقَضُ بِلَمْسِ
الرَّجُل الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ وَالْخُنْثَى مَعَ الْخُنْثَى
أَوْ مَعَ الرَّجُل أَوِ الْمَرْأَةِ وَلَوْ بِشَهْوَةٍ، لاِنْتِفَاءِ
مَظِنَّتِهَا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَسُّ بَشَرَةِ الذَّكَرِ بَشَرَةَ أُنْثَى أَوْ
عَكْسُهُ لِشَهْوَةٍ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ غَيْرِ طِفْلَةٍ وَطِفْلٍ وَلَوْ
كَانَ اللَّمْسُ بِزَائِدٍ أَوْ لِزَائِدٍ أَوْ شَلَلٍ، وَلَوْ كَانَ
الْمَلْمُوسُ مَيِّتًا أَوْ عَجُوزًا أَوْ مَحْرَمًا أَوْ صَغِيرَةً
تُشْتَهَى، وَلاَ يُنْقَضُ وُضُوءُ الْمَلْمُوسِ بَدَنُهُ وَلَوْ وُجِدَ
مِنْهُ شَهْوَةٌ، وَلاَ بِلَمْسِ شَعْرٍ وَظُفْرٍ وَسِنٍّ وَعُضْوٍ
مَقْطُوعٍ وَأَمْرَدَ مَسَّهُ رَجُلٌ وَلاَ مَسِّ خُنْثَى
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 34، 35، وحاشية القليوبي 1 / 32، 33.
(17/117)
مُشْكِلٍ، وَلاَ بِمَسِّهِ رَجُلاً أَوِ
امْرَأَةً، وَلاَ بِمَسِّ الرَّجُل رَجُلاً، وَلاَ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ
وَلَوْ بِشَهْوَةٍ فِيهِمْ (1) .
هَذَا، وَيَسْتَدِل الْجُمْهُورُ فِي اعْتِبَارِهِمُ اللَّمْسَ مِنَ
الأَْحْدَاثِ بِمَا وَرَدَ فِي الآْيَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى. {أَوْ جَاءَ
أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمِ النِّسَاءَ (2) } أَيْ
لَمَسْتُمْ كَمَا قُرِئَ بِهِ، فَعَطَفَ اللَّمْسَ عَلَى الْمَجِيءِ مِنَ
الْغَائِطِ وَرَتَّبَ عَلَيْهِمَا الأَْمْرَ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ فَقْدِ
الْمَاءِ، فَدَل عَلَى أَنَّهُ حَدَثٌ كَالْمَجِيءِ مِنَ الْغَائِطِ.
وَلَيْسَ مَعْنَاهُ (أَوْ جَامَعْتُمْ) لأَِنَّهُ خِلاَفُ الظَّاهِرِ، إِذْ
اللَّمْسُ لاَ يَخْتَصُّ بِالْجِمَاعِ. قَال تَعَالَى: {فَلَمَسُوهُ
بِأَيْدِيهِمْ (3) } وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَلَّكَ
لَمَسْتَ (4) .
أَمَّا مَا اشْتَرَطَهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ قَصْدِ اللَّذَّةِ أَوْ
وُجُودِهَا وَالْحَنَابِلَةُ مِنْ أَنْ يَكُونَ اللَّمْسُ بِالشَّهْوَةِ
فَلِلْجَمْعِ بَيْنَ الآْيَةِ وَبَيْنَ الأَْخْبَارِ الَّتِي تَدُل عَلَى
عَدَمِ النَّقْضِ بِمُجَرَّدِ الاِلْتِقَاءِ كَمَا سَيَأْتِي (5) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ يَعْتَبِرُونَ مَسَّ الْمَرْأَةِ مِنَ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 128، 129.
(2) سورة النساء / 43.
(3) سورة الأنعام / 7.
(4) حديث: " لعلك لمست. . . " أخرجه أحمد (1 / 238 - ط الميمنية) من حديث
عبد الله بن عباس.
(5) جواهر الإكليل 1 / 20، ومغني المحتاج 1 / 34، 35، وكشاف القناع 1 /
128، 129.
(17/118)
الأَْحْدَاثِ مُطْلَقًا، لِحَدِيثِ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِجْلاَيَ فِي
قِبْلَتِهِ فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْتُ رِجْلِي فَإِذَا قَامَ
بَسَطْتُهُمَا (1) . وَعَنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَبَّل بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ
(2) .
مَسُّ فَرْجِ الآْدَمِيِّ:
14 - ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَسَّ فَرْجِ الآْدَمِيِّ حَدَثٌ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ
فِي الْجُمْلَةِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي الشُّرُوطِ
وَالتَّفْصِيل:
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مُطْلَقُ مَسِّ ذَكَرِ
الْمَاسِّ الْبَالِغِ الْمُتَّصِل وَلَوْ كَانَ خُنْثَى مُشْكِلاً بِبَطْنٍ
أَوْ جَنْبٍ لِكَفٍّ أَوْ إِصْبَعٍ وَلَوْ كَانَتِ الإِْصْبَعُ زَائِدَةً
وَبِهَا إِحْسَاسٌ. وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَمُّدُ أَوِ
الاِلْتِذَاذُ. أَمَّا مَسُّ ذَكَرِ غَيْرِهِ فَيَجْرِي عَلَى حُكْمِ
اللَّمْسِ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِالْقَصْدِ أَوْ وُجْدَانِ اللَّذَّةِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: النَّاقِضُ مَسُّ قُبُل الآْدَمِيِّ
__________
(1) حديث عائشة: كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. . أخرجه
البخاري (الفتح 1 / 588 - ط السلفية) .
(2) البناية على الهداية 1 / 243، 244 وحديث: " قبل بعض نسائه ثم خرج إلى
الصلاة ولم يتوضأ " أخرجه الترمذي (1 / 133 - ط الحلبي) ، وصححه ابن عبد
البر كما في نصب الراية (1 / 38 - ط المجلس العلمي) .
(3) جواهر الإكليل 1 / 20، 21.
(17/118)
ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى مِنْ نَفْسِهِ
أَوْ غَيْرِهِ مُتَّصِلاً أَوْ مُنْفَصِلاً بِبَطْنِ الْكَفِّ مِنْ غَيْرِ
حَائِلٍ. وَكَذَا (فِي الْجَدِيدِ) حَلْقَةُ دُبُرِهِ وَلَوْ فَرْجَ
الْمَيِّتِ وَالصَّغِيرِ وَمَحَل الْجَبِّ وَالذَّكَرَ الأَْشَل
وَبِالْيَدِ الشَّلاَّءِ عَلَى الأَْصَحِّ، لاَ بِرَأْسِ الأَْصَابِعِ
وَمَا بَيْنَهُمَا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي تَجْعَل مَسَّهُ حَدَثًا:
النَّاقِضُ مَسُّ ذَكَرِ الآْدَمِيِّ إِلَى أُصُول الأُْنْثَيَيْنِ
مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَاسُّ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، صَغِيرًا أَوْ
كَبِيرًا بِشَهْوَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، لاَ
مَسُّ مُنْقَطِعٍ وَلاَ مَحَل الْقَطْعِ، وَيَكُونُ الْمَسُّ بِبَطْنِ
الْكَفِّ أَوْ بِظَهْرِهِ أَوْ بِحَرْفِهِ غَيْرِ ظُفْرٍ، مِنْ غَيْرِ
حَائِلٍ، وَلَوْ بِزَائِدٍ (2) .
كَمَا يَنْقُضُ مَسُّ حَلْقَةِ دُبُرٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَسُّ
امْرَأَةٍ فَرْجَهَا الَّذِي بَيْنَ شَفْرَيْهَا أَوْ فَرْجَ امْرَأَةٍ
أُخْرَى، وَمَسُّ رَجُلٍ فَرْجَهَا وَمَسُّهَا ذَكَرَهُ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ
شَهْوَةٍ (3) .
وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّ مَسَّ الْفَرْجِ حَدَثٌ مَا رَوَاهُ بُسْرُ بْنُ
صَفْوَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ
مَسَّ ذَكَرَهُ فَلاَ يُصَل حَتَّى يَتَوَضَّأَ (4) وَمَا رُوِيَ عَنْهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 35، 36.
(2) كشاف القناع 1 / 127، 128 والمغني 1 / 178.
(3) كشاف القناع 1 / 128.
(4) حديث: " من مس ذكره فلا يصل حتى يتوضأ " أخرجه الإمام مالك (1 / 42 - ط
الحلبي) ، والترمذي (1 / 126 - ط الحلبي) واللفظ للترمذي، وصححه البخاري
وأحمد وغيرهما كما في التلخيص لابن حجر (1 / 122 - ط شركة الطباعة الفنية)
.
(17/119)
أَنَّهُ قَال: مَنْ أَفْضَى بِيَدِهِ إِلَى
ذَكَرِهِ لَيْسَ دُونَهُ سِتْرٌ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ (1) وَقَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَسَّتْ فَرْجَهَا
فَلْتَتَوَضَّأْ (2) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
أَنَّ مَسَّ الْفَرْجِ لاَ يُعْتَبَرُ مِنَ الأَْحْدَاثِ فَلاَ يَنْقُضُ
الْوُضُوءَ، لِحَدِيثِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِل عَنِ الرَّجُل يَمَسُّ
ذَكَرَهُ فِي الصَّلاَةِ فَقَال: هَل هُوَ إِلاَّ بَضْعَةٌ مِنْكَ (3) .
قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَغْسِل يَدَهُ نَدْبًا لِحَدِيثِ مَنْ مَسَّ
ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ أَيْ لِيَغْسِل يَدَهُ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَل هُوَ إِلاَّ بَضْعَةٌ
مِنْكَ حِينَ سُئِل عَنِ الرَّجُل يَمَسُّ ذَكَرَهُ بَعْدَمَا يَتَوَضَّأُ
وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّلاَةِ (4) .
__________
(1) حديث: " من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء "
أخرجه أحمد (2 / 333 - ط الميمنية) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " أيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ " أخرجه أحمد (2 / 223 - ط
الميمنية) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
(3) حديث: " هل هو إلا بضعة منك " أخرجه أبو داود (1 / 127 - تحقيق عزت
عبيد دعاس) وصححه الفلاس، وقال الطحاوي: " إسناده مستقيم " كذا في التلخيص
لابن حجر (1 / 125 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(4) ابن عابدين 1 / 99، والبناية على الهداية 1 / 243، والمغني لابن قدامة
1 / 178، 179.
(17/119)
الْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلاَةِ:
15 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ - لاَ يَعْتَبِرُونَ الْقَهْقَهَةَ مِنَ الأَْحْدَاثِ
مُطْلَقًا، فَلاَ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِهَا أَصْلاً وَلاَ يَجْعَلُونَ
فِيهَا وُضُوءًا، لأَِنَّهَا لاَ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ خَارِجَ الصَّلاَةِ
فَلاَ تَنْقُضُهُ دَاخِلَهَا، وَلأَِنَّهَا لَيْسَتْ خَارِجًا نَجِسًا، بَل
هِيَ صَوْتٌ كَالْكَلاَمِ وَالْبُكَاءِ (1) .
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْحْدَاثِ الَّتِي تَنْقُضُ الْوُضُوءَ
الْقَهْقَهَةَ فِي الصَّلاَةِ إِذَا حَدَثَتْ مِنْ مُصَلٍّ بَالِغٍ
يَقْظَانَ فِي صَلاَةٍ كَامِلَةٍ ذَاتِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ
مُتَوَضِّئًا أَمْ مُتَيَمِّمًا أَمْ مُغْتَسِلاً فِي الصَّحِيحِ،
وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْقَهْقَهَةُ عَمْدًا أَمْ سَهْوًا، لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ ضَحِكَ فِي الصَّلاَةِ قَهْقَهَةً
فَلْيُعِدِ الْوُضُوءَ وَالصَّلاَةَ مَعًا (2) .
وَالْقَهْقَهَةُ مَا يَكُونُ مَسْمُوعًا لِجِيرَانِهِ، وَالضَّحِكُ مَا
يَسْمَعُهُ هُوَ دُونَ جِيرَانِهِ، وَالتَّبَسُّمُ مَا لاَ صَوْتَ فِيهِ
وَلَوْ بَدَتْ أَسْنَانُهُ. قَالُوا: الْقَهْقَهَةُ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ
وَتُبْطِل الصَّلاَةَ مَعًا، وَالضَّحِكُ يُبْطِل الصَّلاَةَ خَاصَّةً،
وَالتَّبَسُّمُ لاَ يُبْطِل شَيْئًا.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَبْطُل وُضُوءُ صَبِيٍّ وَنَائِمٍ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 21، وبداية المجتهد 1 / 39، والمغني 1 / 177.
(2) حديث: " من ضحك في الصلاة قهقهة فليعد الوضوء والصلاة معا " أخرجه ابن
عدي في الكامل (3 / 1027 - ط دار الفكر) وابن الجوزي في العلل المتناهية (1
/ 368 - ط دار نشر الكتب الإسلامية) من حديث عبد الله بن عمر، وقال ابن
الجوزي: " هذا حديث لا يصح ".
(17/120)
بِالْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلاَةِ عَلَى
الأَْصَحِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا لاَ يُنْقَضُ وُضُوءُ مَنْ
قَهْقَهَ خَارِجَ الصَّلاَةِ، أَوْ مَنْ كَانَ فِي صَلاَةٍ غَيْرِ
كَامِلَةٍ، كَصَلاَةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلاَوَةِ (1) .
ثُمَّ قِيل: إِنَّ الْقَهْقَهَةَ مِنَ الأَْحْدَاثِ عِنْدَهُمْ، وَقِيل:
لاَ بَل وَجَبَ الْوُضُوءُ بِهَا عُقُوبَةً وَزَجْرًا، لأَِنَّ
الْمَقْصُودَ بِالصَّلاَةِ إِظْهَارُ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ
وَالتَّعْظِيمِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْقَهْقَهَةُ تُنَافِي ذَلِكَ
فَنَاسَبَ انْتِقَاضَ وُضُوئِهِ زَجْرًا لَهُ.
وَالرَّاجِحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ حَدَثًا وَإِلاَّ لاَسْتَوَى فِيهَا
جَمِيعُ الأَْحْوَال مَعَ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِأَنْ تَكُونَ فِي
الصَّلاَةِ الْكَامِلَةِ مِنْ مُصَلٍّ بَالِغٍ (2) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَرَجَّحَ فِي الْبَحْرِ الْقَوْل الثَّانِيَ
لِمُوَافَقَتِهِ الْقِيَاسَ، لأَِنَّهَا لَيْسَتْ خَارِجًا نَجِسًا بَل
هِيَ صَوْتٌ كَالْكَلاَمِ وَالْبُكَاءِ، وَلِمُوَافَقَتِهِ لِلأَْحَادِيثِ
الْمَرْوِيَّةِ فِيهَا، إِذْ لَيْسَ فِيهَا إِلاَّ الأَْمْرُ بِإِعَادَةِ
الْوُضُوءِ وَالصَّلاَةِ وَلاَ يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُهَا حَدَثًا.
16 - وَفَائِدَةُ الْخِلاَفِ فِي الْقَوْلَيْنِ تَظْهَرُ فِي جَوَازِ مَسِّ
الْمُصْحَفِ وَكِتَابَةِ الْقُرْآنِ، فَمَنْ جَعَلَهَا حَدَثًا مَنَعَ
كَسَائِرِ الأَْحْدَاثِ، وَمَنْ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ عُقُوبَةً وَزَجْرًا
جَوَّزَ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين مع الدر المختار 1 / 97، 98، ومراقي الفلاح ص 50، 51،
والبناية على الهداية 1 / 226، 227، 233.
(2) المراجع السابقة.
(3) المراجع السابقة.
(17/120)
أَكْل لَحْمِ الْجَزُورِ:
17 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَكْل لَحْمِ الْجَزُورِ
لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ كَأَكْل سَائِرِ الأَْطْعِمَةِ لِمَا رَوَى ابْنُ
عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ وَلَيْسَ مِمَّا يَدْخُل (1) وَلِمَا رَوَى
جَابِرٌ قَال: كَانَ آخِرُ الأَْمْرَيْنِ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ
(2) وَلأَِنَّهُ مَأْكُولٌ أَشْبَهَ سَائِرَ الْمَأْكُولاَتِ فِي عَدَمِ
النَّقْضِ، وَالأَْمْرُ بِالْوُضُوءِ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى
الاِسْتِحْبَابِ أَوِ الْوُضُوءِ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ غَسْل الْيَدَيْنِ
(3) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ - بِأَنْ
أَكْل لَحْمِ الإِْبِل يَنْقُضُ الْوُضُوءَ عَلَى كُل حَالٍ نِيئًا
وَمَطْبُوخًا، عَالِمًا كَانَ الآْكِل أَوْ جَاهِلاً (4) . لِقَوْلِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الإِْبِل
وَلاَ تَتَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ (5) .
__________
(1) حديث: " الوضوء مما يخرج وليس مما يدخل. . . " أخرجه الدارقطني (1 /
151 - ط دار المحاسن) وقال ابن حجر: " فيه الفضل بن المختار وهو ضعيف جدا "
التلخيص (1 / 118 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حديث: " كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء
مما مسته النار " أخرجه أبو داود (1 / 133 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه
ابن خزيمة (1 / 128 - ط المكتب الإسلامي) .
(3) بداية المجتهد 1 / 40، وجواهر الإكليل 1 / 21، والمغني 1 / 189.
(4) كشاف القناع 1 / 130، والمغني 1 / 187 - 190.
(5) حديث: " توضئوا من لحوم الإبل ولا تتوضئوا من لحوم الغنم " أخرجه أبو
داود (1 / 28 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث البراء بن عازب أنه قال: سئل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل فقال: " توضئوا منها
" وسئل عن لحوم الغنم فقال: " لا توضئوا وأخرجه كذلك ابن خزيمة (1 / 22 - ط
المكتب الإسلامي) وقال: " لم نر خلافا بين علماء أهل الحديث أن هذا الخبر
صحيح من جهة النقل لعدالة ناقليه ".
(17/121)
وَقَالُوا: إِنَّ وُجُوبَ الْوُضُوءِ مِنْ
أَكْل لَحْمِ الْجَزُورِ تَعَبُّدِيٌّ لاَ يُعْقَل مَعْنَاهُ فَلاَ
يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ، فَلاَ يَجِبُ الْوُضُوءُ بِشُرْبِ لَبَنِهَا،
وَمَرَقِ لَحْمِهَا، وَأَكْل كَبِدِهَا وَطِحَالِهَا وَسَنَامِهَا
وَجِلْدِهَا وَكَرِشِهَا وَنَحْوِهِ (1) .
غُسْل الْمَيِّتِ:
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ:
إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ بِتَغْسِيل الْمَيِّتِ، لأَِنَّ
الْوُجُوبَ يَكُونُ مِنَ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي هَذَا نَصٌّ
فَبَقِيَ عَلَى الأَْصْل. وَلأَِنَّهُ غَسْل آدَمِيٍّ فَأَشْبَهَ غَسْل
الْحَيِّ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى
الاِسْتِحْبَابِ (2) .
وَيَرَى أَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَنْ غَسَّل الْمَيِّتَ أَوْ
بَعْضَهُ وَلَوْ فِي قَمِيصٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ سَوَاءٌ أَكَانَ
الْمَغْسُول صَغِيرًا أَمْ كَبِيرًا، ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، مُسْلِمًا أَمْ
كَافِرًا. لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ
__________
(1) نفس المراجع.
(2) بداية المجتهد 1 / 140، والمغني 1 / 191، 192، وكشاف القناع 1 / 129،
130، والإنصاف 1 / 215.
(17/121)
وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَنَّهُمَا كَانَا يَأْمُرَانِ غَاسِل. الْمَيِّتِ بِالْوُضُوءِ، وَلأَِنَّ
الْغَالِبَ فِيهِ أَنَّهُ لاَ يَسْلَمُ أَنْ تَقَعَ يَدُهُ عَلَى فَرْجِ
الْمَيِّتِ فَتُقَامُ مَظِنَّةُ ذَلِكَ مَقَامَ حَقِيقَتِهِ كَمَا أُقِيمَ
النَّوْمُ مَقَامَ الْحَدَثِ (1) .
الرِّدَّةُ:
19 - الرِّدَّةُ - وَهِيَ الإِْتْيَانُ بِمَا يُخْرِجُ مِنَ الإِْسْلاَمِ
بَعْدَ تَقَرُّرِهِ - حَدَثٌ حُكْمِيٌّ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
فَالْمُرْتَدُّ إِذَا عَادَ إِلَى الإِْسْلاَمِ وَرَجَعَ إِلَى دِينِ
الْحَقِّ فَلَيْسَ لَهُ الصَّلاَةُ حَتَّى يَتَوَضَّأَ وَإِنْ كَانَ
مُتَوَضِّئًا قَبْل رِدَّتِهِ وَلَمْ يُنْقَضْ وُضُوءُهُ بِأَسْبَابٍ
أُخْرَى. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (2) }
وَالطَّهَارَةُ عَمَلٌ.
وَنُقِل عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ اسْتِحْبَابُ
الْوُضُوءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَلَمْ يَعُدَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الرِّدَّةَ مِنْ
أَسْبَابِ الْحَدَثِ فَلاَ يُنْقَضُ الْوُضُوءُ بِهَا عِنْدَهُمْ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ
وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا
__________
(1) نفس المراجع.
(2) سورة الزمر / 65.
(17/122)
وَالآْخِرَةِ (1) } فَشَرَطَ الْمَوْتَ
بَعْدَ الرِّدَّةِ لِحُبُوطِ الْعَمَل - كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّةٌ)
الشَّكُّ فِي الْحَدَثِ (3) :
20 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الشَّكَّ لاَ الْوُضُوءُ. فَلَوْ أَيْقَنَ
بِالطَّهَارَةِ (أَيْ عَلِمَ سَبْقَهَا) وَشَكَّ فِي عُرُوضِ الْحَدَثِ
بَعْدَهَا فَهُوَ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَمَنْ أَيْقَنَ بِالْحَدَثِ وَشَكَّ
فِي الطَّهَارَةِ فَهُوَ عَلَى الْحَدَثِ، لأَِنَّ الْيَقِينَ لاَ يَزُول
بِالشَّكِّ، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ
شَيْئًا فَأَشْكَل عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَمْ يَخْرُجْ
فَلاَ يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ
رِيحًا (4) .
وَلَوْ تَيَقَّنَهُمَا وَلَمْ يَعْلَمِ الآْخِرَ مِنْهُمَا، مِثْل مَنْ
تَيَقَّنَ
__________
(1) سورة البقرة / 217.
(2) جواهر الإكليل 1 / 21، والحطاب 1 / 299، 300، ونهاية المحتاج 1 / 15،
والقوانين الفقهية ص (22) ، والمغني 1 / 176، 177.
(3) الشك هو التردد باستواء أو رجحان. وقيل: هو ما استوى طرفاه، وهو الوقوف
بين الشيئين لا يميل القلب إلى أحدهما فإذا ترجح أحدهما ولم يطرح الآخر فهو
ظن، وإذا طرحه الآخر فهو غالب الظن، وهو بمنزلة اليقين (القليوبي 1 / 37،
والتعريفات للجرجاني) .
(4) حديث: " إذا وجد أحدكم في بطنه. . . " تقدم تخريجه (ف 7) .
(17/122)
أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ
مُتَطَهِّرًا مَرَّةً وَمُحْدِثًا أُخْرَى وَلاَ يَعْلَمُ أَيَّهُمَا كَانَ
لاَحِقًا يَأْخُذُ بِضِدِّ مَا قَبْلَهُمَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ
الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَكَرَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ،
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِِنْ كَانَ قَبْلَهُمَا مُحْدِثًا فَهُوَ الآْنَ
مُتَطَهِّرٌ لأَِنَّهُ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي تَأَخُّرِ
الْحَدَثِ عَنْهَا وَالأَْصْل عَدَمُ تَأَخُّرِهِ، وَإِِنْ كَانَ
قَبْلَهُمَا مُتَطَهِّرًا فَهُوَ الآْنَ مُحْدِثٌ، لأَِنَّهُ تَيَقَّنَ
الْحَدَثَ وَشَكَّ فِي تَأَخُّرِ الطَّهَارَةِ عَنْهُ، وَالأَْصْل عَدَمُ
تَأَخُّرِهَا، فَإِِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا قَبْلَهُمَا لَزِمَهُ الْوُضُوءُ
لِتَعَارُضِ الاِحْتِمَالَيْنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ (1) .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يَنْظُرُ إِِلَى مَا
قَبْلَهُمَا وَيَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ (2) .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ تَيَقَّنَهُمَا وَشَكَّ
فِي السَّابِقِ فَهُوَ مُتَطَهِّرٌ (3) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِشَكٍّ فِي
حَدَثٍ بَعْدَ طُهْرٍ عُلِمَ، فَإِِنْ أَيْقَنَ بِالْوُضُوءِ ثُمَّ شَكَّ
فَلَمْ يَدْرِ أَأَحْدَثَ بَعْدَ الْوُضُوءِ أَمْ لاَ فَلْيُعِدْ وُضُوءَهُ
إِِلاَّ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مُسْتَنْكَحًا (4) . قَال الْحَطَّابُ:
هَذَا إِِذَا شَكَّ قَبْل الصَّلاَةِ، أَمَّا إِِذَا
__________
(1) ابن عابدين 1 / 102، والبدائع 1 / 33، وحاشية القليوبي 1 / 37، 38،
والمغني 1 / 196، 197، ومغني المحتاج 1 / 39.
(2) القليوبي 1 / 38.
(3) ابن عابدين 1 / 102.
(4) الشك المستنكح هو الذي يأتي كل يوم ولو مرة (جواهر الإكليل 1 / 21) .
(17/123)
صَلَّى ثُمَّ شَكَّ هَل أَحْدَث أَمْ لاَ
فَفِيهِ قَوْلاَنِ.
وَذَكَرَ فِي التَّاجِ وَالإِِْكْلِيل أَنَّ مَنْ شَكَّ أَثْنَاءَ
صَلاَتِهِ هَل هُوَ عَلَى وُضُوءٍ أَمْ لاَ فَتَمَادَى عَلَى صَلاَتِهِ
وَهُوَ عَلَى شَكِّهِ ذَلِكَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلاَتِهِ اسْتَيْقَنَ
أَنَّهُ عَلَى وُضُوئِهِ فَإِِنَّ صَلاَتَهُ مُجْزِئَةٌ، لأَِنَّهُ دَخَل
فِي الصَّلاَةِ بِطَهَارَةٍ مُتَيَقَّنَةٍ، فَلاَ يُؤَثِّرُ فِيهَا
الشَّكُّ الطَّارِئُ. أَمَّا إِِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الشَّكُّ فِي
طَهَارَتِهِ قَبْل دُخُولِهِ فِي الصَّلاَةِ فَوَجَبَ أَلاَ يَدْخُل فِي
الصَّلاَةِ إِِلاَّ عَلَى طَهَارَةٍ مُتَيَقَّنَةٍ.
وَيُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا بِشَكٍّ فِي السَّابِقِ مِنَ
الْوُضُوءِ وَالْحَدَثِ سَوَاءٌ كَانَا مُحَقَّقَيْنِ أَوْ مَظْنُونَيْنِ
أَوْ مَشْكُوكَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا مُحَقَّقًا أَوْ مَظْنُونًا
وَالآْخَرُ مَشْكُوكًا أَوْ أَحَدُهُمَا مُحَقَّقًا وَالآْخَرُ مَظْنُونًا
(1) .
وَقَال فِي الْبَدَائِعِ: لَوْ شَكَّ فِي بَعْضِ وُضُوئِهِ - وَهُوَ أَوَّل
مَا شَكَّ - غَسَل الْمَوْضِعَ الَّذِي شَكَّ فِيهِ لأَِنَّهُ عَلَى
يَقِينٍ مِنَ الْحَدَثِ فِيهِ، وَإِِنْ صَارَ الشَّكُّ فِي مِثْلِهِ
عَادَةً لَهُ بِأَنْ يَعْرِضَ لَهُ كَثِيرًا لَمْ يَلْتَفِتْ إِِلَيْهِ،
لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ الْوَسْوَسَةِ فَيَجِبُ قَطْعُهَا (2) . لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِِنَّ الشَّيْطَانَ
يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَنْفُخُ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ فَيَقُول أَحْدَثْتَ
أَحْدَثْتَ
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب مع التاج والإكليل 1 / 300، وجواهر الإكليل 1 /
21.
(2) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني 1 / 33، 101.
(17/123)
فَلاَ يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا
أَوْ يَجِدَ رِيحًا (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (شَكٌّ) (وَوَسْوَسَةٌ) .
حُكْمُ الْحَدَثِ:
21 - الْحَدَثُ إِِمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ فَيُوجِبُ الْغُسْل، أَوْ
أَصْغَرَ فَيُوجِبُ الْوُضُوءَ فَقَطْ، أَمَّا أَحْكَامُ الْحَدَثِ
الأَْكْبَرِ وَأَسْبَابُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ
فَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا وَمُصْطَلَحِ: (غُسْلٌ) .
وَفِيمَا يَأْتِي أَحْكَامُ الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ:
أَوَّلاً: مَا لاَ يَجُوزُ بِالْحَدَثِ الأَْصْغَرِ:
أ - الصَّلاَةُ:
22 - يَحْرُمُ بِالْمُحْدِثِ (حَيْثُ لاَ عُذْرَ) الصَّلاَةُ
بِأَنْوَاعِهَا بِالإِِْجْمَاعِ لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: لاَ يَقْبَل
اللَّهُ صَلاَةَ أَحَدِكُمْ إِِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ (2)
وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ
__________
(1) حديث: " إن الشيطان يأتي أحدكم فينفخ بين إليتيه " أخرجه البيهقي في
الخلافيات عن الشافعي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره،
بغير إسناد دون قوله: " فيقول: أحدثت أحدثت "، كذا قال ابن حجر في التلخيص
(1 / 128 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حديث: " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " أخرجه البخاري
(الفتح 12 / 329 - ط السلفية) ومسلم (1 / 204 - ط الحلبي) من حديث أبي
هريرة، واللفظ للبخاري.
(17/124)
لاَ وُضُوءَ لَهُ (1) وَقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُقْبَل صَلاَةٌ بِغَيْرِ طَهُورٍ (2)
وَهُوَ يَعُمُّ الْفَرْضَ وَالنَّفَل، وَمِنْهَا صَلاَةُ الْجِنَازَةِ
بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَفِي مَعْنَى الصَّلاَةِ سَجْدَتَا التِّلاَوَةِ وَالشُّكْرِ وَخُطْبَةُ
الْجُمُعَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ
وَابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ جَوَازُ الصَّلاَةِ عَلَى الْجَنَائِزِ
بِغَيْرِ وُضُوءٍ وَلاَ تَيَمُّمٍ (3) . وَإِِذَا كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ
كَمَنْ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلاَهُ وَبِوَجْهِهِ جِرَاحَةٌ - كَمَا
ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ أَوْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلاَ تُرَابًا مَعَ ضِيقِ
الْوَقْتِ كَمَا قَال الشَّافِعِيَّةُ - صَلَّى وُجُوبًا بِغَيْرِ
طَهَارَةٍ (4) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (فَقْدُ الطَّهُورَيْنِ) هَذَا
إِِذَا كَانَ مُحْدِثًا قَبْل دُخُولِهِ فِي الصَّلاَةِ.
23 - أَمَّا إِِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الْحَدَثُ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ،
فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَرَوْنَ بُطْلاَنَ الصَّلاَةِ،
__________
(1) حديث: " لا صلاة لمن لا وضوء له " أخرجه أبو داود (1 / 75 - تحقيق عزت
عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة. وفي إسناده ضعف، ولكن له شواهد ذكرها ابن
حجر في التلخيص (1 / 72 - 75 - ط شركة الطباعة الفنية) وقال: " مجموع
الأحاديث يحدث منها قوة تدل على أن له أصلا ".
(2) حديث: " لا تقبل صلاة بغير طهور " أخرجه مسلم (1 / 204 - ط الحلبي) من
حديث عبد الله بن عمر.
(3) بدائع الصنائع 1 / 33، 34، وجواهر الإكليل على متن خليل 1 / 21، ومغني
المحتاج 1 / 36، وكشاف القناع 1 / 134، والمغني 1 / 143 - 151.
(4) ابن عابدين 1 / 512، ومغني المحتاج 1 / 36.
(17/124)
غَلَبَةً كَانَ الْحَدَثُ أَوْ نِسْيَانًا،
سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُصَلِّي فَذًّا أَمْ مَأْمُومًا أَمْ إِِمَامًا،
لَكِنْ لاَ يَسْرِي بُطْلاَنُ صَلاَةِ الإِِْمَامِ عَلَى صَلاَةِ
الْمَأْمُومِينَ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُونَ الاِسْتِخْلاَفَ كَمَا سَيَأْتِي
فِي الْفِقْرَةِ التَّالِيَةِ. وَعَلَى ذَلِكَ فَمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ
فِي الصَّلاَةِ تَبْطُل صَلاَتُهُ وَيَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُهَا، لِمَا
رَوَى عَلِيُّ بْنُ طَلْقٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِِذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ
فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيُعِدِ الصَّلاَةَ (1) وَلأَِنَّهُ
فَقَدَ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ الصَّلاَةِ فِي أَثْنَائِهَا عَلَى وَجْهٍ لاَ
يَعُودُ إِِلاَّ بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ وَعَمَلٍ كَثِيرٍ فَفَسَدَتْ
صَلاَتُهُ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِِنْ سَبَقَ الْمُصَلِّيَ حَدَثٌ تَوَضَّأَ
وَبَنَى لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ أَصَابَهُ
قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلْسٌ أَوْ مَذْيٌ، فَلْيَنْصَرِفْ،
فَلْيَتَوَضَّأْ ثُمَّ لْيَبْنِ عَلَى صَلاَتِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لاَ
يَتَكَلَّمُ (2) لأَِنَّ الْبَلْوَى فِيمَا سَبَقَ فَلاَ يُلْحَقُ بِهِ مَا
يَتَعَمَّدُهُ. وَالاِسْتِئْنَافُ أَفْضَل تَحَرُّزًا عَنْ شُبْهَةِ
الْخِلاَفِ.
__________
(1) حديث: " إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف فليتوضأ وليعد الصلاة " أخرجه
أبو داود (1 / 141 - 142 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وأعله ابن القطان بجهالة
راو فيه، كذا في التلخيص لابن حجر (1 / 274 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حديث: " من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي، فلينصرف، فليتوضأ ثم ليبن
على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم ". تقديم تخريجه (ف 10) .
(17/125)
وَقَدْ فَصَّل الْكَاسَانِيُّ ذَلِكَ
فَقَال: إِِذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ ثُمَّ تَكَلَّمَ أَوْ أَحْدَثَ
مُتَعَمِّدًا أَوْ ضَحِكَ أَوْ قَهْقَهَ أَوْ أَكَل أَوْ شَرِبَ أَوْ
نَحْوَ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْفْعَال
مُنَافِيَةٌ لِلصَّلاَةِ فِي الأَْصْل فَلاَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ
الْمُنَافِي إِِلاَّ لِضَرُورَةٍ وَلاَ ضَرُورَةَ، وَكَذَا إِِذَا جُنَّ
أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ أَجْنَبَ لأَِنَّهُ لاَ يَكْثُرُ وُقُوعُهُ
فَكَانَ لِلْبِنَاءِ مِنْهُ بُدٌّ وَكَذَا لَوْ أَدَّى رُكْنًا مِنْ
أَرْكَانِ الصَّلاَةِ مَعَ الْحَدَثِ أَوْ مَكَثَ بِقَدْرِ مَا يَتَمَكَّنُ
فِيهِ مِنْ أَدَاءِ رُكْنٍ لأَِنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ لَيْسَ مِنْ أَعْمَال
الصَّلاَةِ وَلَهُ مِنْهُ بُدٌّ، وَكَذَا لَوِ اسْتَقَى مِنَ الْبِئْرِ
وَهُوَ لاَ يَحْتَاجُ إِِلَيْهِ وَلَوْ مَشَى إِِلَى الْوُضُوءِ
فَاغْتَرَفَ الْمَاءَ مِنَ الإِِْنَاءِ أَوِ اسْتَقَى مِنَ الْبِئْرِ
وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِِلَيْهِ فَتَوَضَّأَ جَازَ لَهُ الْبِنَاءُ لأَِنَّ
الْوُضُوءَ أَمْرٌ لاَ بُدَّ لِلْبِنَاءِ مِنْهُ وَالْمَشْيُ
وَالاِغْتِرَافُ وَالاِسْتِقَاءُ عِنْدَ الْحَاجَةِ مِنْ ضَرُورَاتِ
الْوُضُوءِ، وَلَوِ افْتَتَحَ الصَّلاَةَ بِالْوُضُوءِ ثُمَّ سَبَقَهُ
الْحَدَثُ فَلَمْ يَجِدْ مَاءً تَيَمَّمَ وَبَنَى لأَِنَّ ابْتِدَاءَ
الصَّلاَةِ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ جَائِزٌ فَالْبِنَاءُ
أَوْلَى، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْبِنَاءِ قَال الْكَاسَانِيُّ:
الْمُصَلِّي لاَ يَخْلُو إِِمَّا إِِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ مُقْتَدِيًا
أَوْ إِِمَامًا.
فَإِِنَّ كَانَ مُنْفَرِدًا فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ
إِِنْ شَاءَ أَتَمَّ صَلاَتَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَوَضَّأَ فِيهِ
وَإِِنْ شَاءَ عَادَ إِِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي افْتَتَحَ الصَّلاَةَ
فِيهِ، لأَِنَّهُ إِِذَا أَتَمَّ الصَّلاَةَ حَيْثُ هُوَ فَقَدْ سَلِمَتْ
صَلاَتُهُ عَنِ الْمَشْيِ لَكِنَّهُ صَلَّى صَلاَةً وَاحِدَةً فِي
مَكَانَيْنِ، وَإِِنْ عَادَ إِِلَى مُصَلاَّهُ فَقَدْ أَدَّى جَمِيعَ
(17/125)
الصَّلاَةِ فِي مَكَان وَاحِدٍ لَكِنْ مَعَ
زِيَادَةِ مَشْيٍ فَاسْتَوَى الْوَجْهَانِ فَيُخَيَّرُ، وَإِِنْ كَانَ
مُقْتَدِيًا فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ فَإِِنْ لَمْ يَفْرُغْ مِنَ
الصَّلاَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ لأَِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي
بَعْدُ وَلَوْ لَمْ يَعُدْ وَأَتَمَّ بَقِيَّةَ صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ لاَ
يُجْزِيهِ. ثُمَّ إِِذَا عَادَ يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِل أَوَّلاً
بِقَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ فِي حَال تَشَاغُلِهِ بِالْوُضُوءِ، لأَِنَّهُ
لاَحِقٌ فَكَأَنَّهُ خَلْفَ الإِِْمَامِ فَيَقُومُ مِقْدَارَ قِيَامِ
الإِِْمَامِ مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةٍ، وَمِقْدَارَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ،
وَلاَ يَضُرُّهُ إِِنْ زَادَ أَوْ نَقَصَ، وَلَوْ تَابَعَ إِِمَامَهُ
أَوَّلاً ثُمَّ اشْتَغَل بِقَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ بَعْدَ تَسْلِيمِ
الإِِْمَامِ جَازَتْ صَلاَتُهُ خِلاَفًا لِزُفَرَ، وَإِِنْ كَانَ إِِمَامًا
يَسْتَخْلِفُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي عَلَى صَلاَتِهِ، وَالأَْمْرُ
فِي مَوْضِعِ الْبِنَاءِ وَكَيْفِيَّتِهِ عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ فِي
الْمُقْتَدِي، لأَِنَّهُ بِالاِسْتِخْلاَفِ تَحَوَّلَتِ الإِِْمَامَةُ
إِِلَى الثَّانِي وَصَارَ هُوَ كَوَاحِدٍ مِنَ الْمُقْتَدِينَ بِهِ (1) .
اسْتِخْلاَفُ الإِِْمَامِ فِي حَالَةِ الْحَدَثِ:
24 - لِلإِِْمَامِ إِِذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ
يُتِمُّ بِهِمُ الصَّلاَةَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا طُعِنَ أَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ فَقَدَّمَهُ فَأَتَمَّ بِهِمْ
__________
(1) البدائع للكاساني 1 / 220، 224، وانظر حاشية ابن عابدين 1 / 403، فتح
القدير 1 / 268، والفتاوى الهندية 1 / 95.
(17/126)
الصَّلاَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرِ
الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ فَكَانَ
إِِجْمَاعًا، وَمِثْلُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَا لَوْ تَعَمَّدَ
الْحَدَثَ أَوْ أَبْطَل الصَّلاَةَ (1) .
وَفِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ
الثَّانِيَةُ لِلْحَنَابِلَةِ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِخْلاَفُ قَال
الشَّافِعِيَّةُ: لأَِنَّهَا صَلاَةٌ وَاحِدَةٌ فَلاَ تَصِحُّ
بِإِِمَامَيْنِ مَعًا، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لأَِنَّهُ فَقَدَ شَرْطَ
صِحَّةِ الصَّلاَةِ فَتَبْطُل صَلاَةُ الْمَأْمُومِينَ بِبُطْلاَنِ
صَلاَتِهِ كَمَا لَوْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ (2) .
وَلِجَوَازِ الاِسْتِخْلاَفِ شُرُوطٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ
(اسْتِخْلاَفٌ) .
ب - الطَّوَافُ:
25 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الطَّوَافِ
لِلْمُحْدِثِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الطَّوَافُ فَرْضًا أَمْ وَاجِبًا أَمْ
نَفْلاً، فِي نُسُكٍ أَمْ فِي غَيْرِهِ، وَيَعْتَبِرُونَ الطَّهَارَةَ
شَرْطًا لِصِحَّةِ الطَّوَافِ، لأَِنَّهُ فِي حُكْمِ الصَّلاَةِ لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطَّوَافُ حَوْل الْبَيْتِ مِثْل
الصَّلاَةِ، إِِلاَّ أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ
فِيهِ فَلاَ يَتَكَلَّمَنَّ إِِلاَّ بِخَيْرٍ (3) . وَالْحَنَفِيَّةُ فِي
الصَّحِيحِ
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 1 / 145، وجواهر الإكليل 1 / 64، ونهاية المحتاج
2 / 336، 337، والمغني 2 / 202.
(2) نهاية المحتاج 2 / 336، 337، والمغني 2 / 203 وما بعدها.
(3) حديث: " الطواف حول البيت مثل الصلاة، ألا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم
فلا يتكلمن إلا بخير " أخرجه الترمذي (3 / 284 - ط الحلبي) من حديث عبد
الله ابن عباس، وصحح ابن حجر بعض طرقه كما في التلخيص (1 / 130 - ط شركة
الطباعة الفنية) .
(17/126)
عِنْدَهُمْ عَدُّوا الطَّهَارَةَ فِي
الطَّوَافِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّهَا مِنَ السُّنَنِ (1) .
قَال فِي الْبَدَائِعِ: فَإِِنْ طَافَ مُحْدِثًا جَازَ مَعَ النُّقْصَانِ،
لأَِنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ شَبِيهٌ بِالصَّلاَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ
لَيْسَ بِصَلاَةٍ حَقِيقَةً، فَلِكَوْنِهِ طَوَافًا حَقِيقَةً يُحْكَمُ
بِالْجَوَازِ، وَلِكَوْنِهِ شَبِيهًا بِالصَّلاَةِ يُحْكَمُ بِالْكَرَاهَةِ
(2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (طَوَافٌ) .
ج - مَسُّ الْمُصْحَفِ:
26 - لاَ يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ مَسُّ الْمُصْحَفِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ
عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ
يَمَسُّهُ إِِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (3) } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ: لاَ تَمَسَّ الْقُرْآنَ إِِلاَّ وَأَنْتَ طَاهِرٌ (4)
وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ تِلاَوَتِهِ لِمَنْ كَانَ مُحْدِثًا
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني 1 / 34، وحاشية ابن عابدين 1 / 60، 2 / 149،
وجواهر الإكليل 1 / 21، 173، ومغني المحتاج 1 / 36، والمغني 3 / 377، وكشاف
القناع 1 / 135.
(2) البدائع 1 / 34.
(3) سورة الواقعة / 79.
(4) حديث: " قال لحكيم بن حزام: لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر " أخرجه
الحاكم (3 / 485 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث حكيم بن حزام، وحسن
الحازمي إسناده كما في التلخيص لابن حجر (1 / 131 - ط شركة الطباعة الفنية)
.
(17/127)
حَدَثًا أَصْغَر بِغَيْرِ لَمْسٍ.
وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مِنَ الْمَنْعِ مَسَّهُ فِي حَالاَتٍ خَاصَّةٍ
كَمَا إِِذَا كَانَ بِحَائِلٍ أَوْ عُودٍ طَاهِرَيْنِ أَوْ فِي وِعَائِهِ
وَعِلاَقَتِهِ، أَوْ لِمُعَلِّمٍ وَمُتَعَلِّمٍ لِغَرَضِ التَّعْلِيمِ،
أَوْ كَانَ حَمْلُهُ فِي حَال الْحَدَثِ غَيْرَ مَقْصُودٍ، كَأَنْ كَانَ
فِي صُنْدُوقٍ ضِمْنَ الأَْمْتِعَةِ، وَيَكُونُ الْقَصْدُ حَمْل
الأَْمْتِعَةِ وَفِي دَاخِلِهَا قُرْآنٌ.
وَلِتَفْصِيل كُل هَذِهِ الْمَسَائِل مَعَ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ رَاجِعْ
مُصْطَلَحَ (مُصْحَفٌ) .
27 - وَيَجُوزُ مَسُّ وَحَمْل كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَرَسَائِل فِيهَا
قُرْآنٌ فِي حَالَةِ الْحَدَثِ إِِذَا كَانَ التَّفْسِيرُ أَكْثَرَ مِنَ
الْقُرْآنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (1) . أَمَّا إِِذَا كَانَ
الْقُرْآنُ أَكْثَرَ أَوْ مُسَاوِيًا لِلتَّفْسِيرِ أَوْ يَكُونُ
الْقُرْآنُ مَكْتُوبًا عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَفِي مَسِّهِ
لِلْمُحْدِثِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (مُصْحَفٌ) .
28 - هَذَا وَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ يَحْرُمُ
عَلَى الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ (الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ
وَالنُّفَسَاءُ) بِطَرِيقِ الأَْوْلَى، لأَِنَّ الْحَدَثَ الأَْكْبَرَ
أَغْلَظُ مِنَ الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 33، 34، وابن عابدين 1 / 116، وجواهر الإكليل 1 /
21، ومغني المحتاج 1 / 37، وكشاف القناع 1 / 135.
(17/127)
وَزِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَى
الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ مَا يَأْتِي:
1 - تِلاَوَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِقَصْدِ التِّلاَوَةِ. (ر:
تِلاَوَةٌ) .
2 - الاِعْتِكَافُ: كَمَا فُصِّل فِي مُصْطَلَحِ (اعْتِكَافٌ) .
3 - الْمُكْثُ فِي الْمَسْجِدِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. أَمَّا دُخُول
الْمَسْجِدِ عُبُورًا أَوْ مُجْتَازًا، فَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَمَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِِلاَّ
لِضَرُورَةٍ (1) .
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِِنَّ الْمَسْجِدَ لاَ
يَحِل لِجُنُبٍ وَلاَ لِحَائِضٍ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْجِدٌ) .
وَيَحْرُمُ بِالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ عِلاَوَةً عَلَى ذَلِكَ الصِّيَامُ.
(ر: حَيْضٌ، وَنِفَاسٌ) .
ثَانِيًا - مَا يُرْفَعُ بِهِ الْحَدَثُ:
29 - يُرْفَعُ الْحَدَثُ الأَْكْبَرُ بِالْغُسْل، وَالأَْصْغَرُ بِالْغُسْل
وَبِالْوُضُوءِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُمَا فِي
مُصْطَلَحَيْ: (غُسْلٌ، وَوُضُوءٌ) .
أَمَّا التَّيَمُّمُ فَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الْغُسْل وَالْوُضُوءِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 115، 116، وجواهر الإكليل 1 / 23، وحاشية
القليوبي 1 / 64، 65، والمغني لابن قدامة 1 / 144، 145.
(2) حديث: " إن المسجد لا يحل لجنب ولا لحائض " أخرجه ابن ماجه (1 / 212 -
ط الحلبي) من حديث أم سلمة، وقال البوصيري: " إسناده ضعيف ".
(17/128)
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ
بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ لاَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ لَكِنَّهُ يُبَاحُ
لِلْمُتَيَمِّمِ الصَّلاَةُ بِهِ وَنَحْوُهَا لِلضَّرُورَةِ مَعَ قِيَامِ
الْحَدَثِ حَقِيقَةً (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِِنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مُطْلَقٌ لِلْوُضُوءِ
وَالْغُسْل، فَيَرْفَعُ الْحَدَثَ إِِلَى وَقْتِ وُجُودِ الْمَاءِ،
فَيَجُوزُ بِهِ مَا يَجُوزُ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْل مُطْلَقًا (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَيَمُّمٌ) .
__________
(1) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 154، ومغني المحتاج 1 / 97، 105،
وكشاف القناع 1 / 161، 199.
(2) تبيين الحقائق للزيلعي 1 / 42، وبدائع الصنائع 1 / 54.
(17/128)
|