جَوَازُهُ بِحَاكِمٍ وَبِلاَ حَاكِمٍ:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الْخُلْعِ بِحَاكِمٍ
وَبِلاَ حَاكِمٍ، وَهُوَ قَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَدْ
رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ طَرِيقِ خَيْثَمَةَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ مَوْصُولاً " أَنَّ بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ أُتِيَ فِي
خُلْعٍ كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ فَلَمْ يُجِزْهُ فَقَال لَهُ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شِهَابٍ الْخَوْلاَنِيُّ: قَدْ أَتَى عُمَرُ فِي
خُلْعٍ فَأَجَازَهُ (1) وَلأَِنَّ الطَّلاَقَ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ
جَائِزٌ بِلاَ حَاكِمٍ فَكَذَلِكَ الْخُلْعُ.
وَذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ كَمَا ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي
الْفَتْحِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الْخُلْعِ دُونَ السُّلْطَانِ بِدَلِيل
قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}
(2) ، وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا
فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (3) .
قَال: فَجَعَل الْخَوْفَ لِغَيْرِ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يَقُل فَإِنْ
خَافَا.
وَقْتُ الْخُلْعِ:
14 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْخُلْعَ
جَائِزٌ فِي
__________
(1) فتح الباري 9 / 396 - 397 - ط الرياض، المبسوط 6 / 173 - ط
السعادة، الدسوقي 2 / 347 - ط الفكر، الكافي 3 / 144 - ط المكتب
الإسلامي، كشاف القناع 5 / 213 - ط النصر، المغني 7 / 52 - ط الرياض،
المهذب 2 / 72 - ط الحلبي، بدائع الصنائع 3 / 145 - ط الجمالية.
(2) سورة البقرة / 229.
(3) سورة النساء / 35.
(19/244)
الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ الَّذِي أَصَابَهَا
فِيهِ؛ لأَِنَّ الْمَنْعَ مِنَ الطَّلاَقِ فِي الْحَيْضِ لِلضَّرَرِ
الَّذِي يَلْحَقُهَا بِتَطْوِيل الْعِدَّةِ، وَالْخُلْعُ شُرِعَ
لِرَفْعِ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهَا بِسُوءِ الْعِشْرَةِ
وَالتَّقْصِيرِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ، وَالضَّرَرُ بِذَلِكَ أَعْظَمُ
مِنَ الضَّرَرِ بِتَطْوِيل الْعِدَّةِ، فَجَازَ دَفْعُ أَعْظَمِ
الضَّرَرَيْنِ بِأَخَفِّهِمَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَل النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخْتَلِعَةَ عَنْ حَالِهَا؛
وَلأَِنَّ ضَرَرَ تَطْوِيل الْعِدَّةِ عَلَيْهَا وَالْخُلْعُ يَحْصُل
بِسُؤَالِهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ رِضَاءً مِنْهَا بِهِ وَدَلِيلاً عَلَى
رُجْحَانِ مَصْلَحَتِهَا فِيهِ (1) .
أَرْكَانُهُ وَمَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي شُرُوطِهَا:
15 - لِلْخُلْعِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ خَمْسَةُ أَرْكَانٍ
وَهِيَ: الْمُوجِبُ - الْقَابِل - الْمُعَوَّضُ - الْعِوَضُ -
الصِّيغَةُ.
فَالْمُوجِبُ: الزَّوْجُ أَوْ وَلِيُّهُ، وَالْقَابِل: الْمُلْتَزِمُ
لِلْعِوَضِ، وَالْمُعَوَّضُ: الاِسْتِمْتَاعُ بِالزَّوْجَةِ،
وَالْعِوَضُ: الشَّيْءُ الْمُخَالَعُ بِهِ، وَالصِّيغَةُ، الإِْيجَابُ
وَالْقَبُول وَالأَْلْفَاظُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الْخُلْعُ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرُوا لَهُ رُكْنَيْنِ إِنْ كَانَ
بِعِوَضٍ وَهُمَا: الإِْيجَابُ وَالْقَبُول (2) ، لأَِنَّهُ عَقْدٌ
__________
(1) المهذب 2 / 72 - ط الحلبي، المغني 7 / 52 - ط الرياض، كشاف القناع
5 / 213 - ط النصر.
(2) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 517 - ط المعارف، مغني المحتاج 3
/ 263 - ط التراث، بجيرمي على الخطيب 3 / 412 - ط المعرفة، روضة
الطالبين 7 / 383 - 395 - ط المكتب الإسلامي، حاشية القليوبي 3 / 307 -
ط الحلبي، كشاف القناع 5 / 213 - 231 - ط النصر، بدائع الصنائع 3 / 145
- ط الجمالية.
(19/244)
عَلَى الطَّلاَقِ بِعِوَضٍ، فَلاَ تَقَعُ
الْفُرْقَةُ وَلاَ يَسْتَحِقُّ الْعِوَضَ بِدُونِ الْقَبُول، بِخِلاَفِ
الْخُلْعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِنَّهُ إِذَا قَال خَالَعْتُكِ وَلَمْ
يَذْكُرِ الْعِوَضَ وَنَوَى الطَّلاَقَ فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلاَقُ
عَلَيْهَا، سَوَاءٌ قَبِلَتْ أَوْ لَمْ تَقْبَل؛ لأَِنَّ ذَلِكَ
طَلاَقٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلاَ يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُول، وَقَدْ
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لِكُل رُكْنٍ مِنْ هَذِهِ الأَْرْكَانِ شُرُوطًا
وَأَحْكَامًا نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:
الرُّكْنُ الأَْوَّل: الْمُوجِبُ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُوجِبِ
أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّطْلِيقَ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ
فِي مُصْطَلَحِ: (طَلاَقٌ) .
فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يُجِيزُونَ
خُلْعَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ، أَوْ سَفَهٍ، أَوْ رِقٍّ
قِيَاسًا عَلَى الطَّلاَقِ، لأَِنَّهُمْ يَمْلِكُونَهُ، وَجَازَ عِنْدَ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 147 - ط الجمالية، الشرح الكبير 2 / 352 - ط
الفكر، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 526 - ط المعارف، جواهر
الإكليل 1 / 332 - ط المعرفة، روضة الطالبين 7 / 383 - ط المكتب
الإسلامي، بجيرمي على الخطيب 3 / 412 - ط المعرفة، أسنى المطالب 3 /
244 - ط المكتبة الإسلامية، حاشية القليوبي 7 / 307 - ط الحلبي، كشاف
القناع 5 / 213 - ط النصر، المبدع 7 / 222 - ط المكتب الإسلامي، المغني
6 / 86 - 87 - ط الرياض.
(19/245)
الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا خُلْعُ الصَّبِيِّ
الْمُمَيِّزِ فِي وَجْهٍ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ طَلاَقِهِ، وَذَكَرَ
الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمُخْتَلِعَ لاَ يَجُوزُ
لَهُ تَسْلِيمُ الْمَال إِلَى السَّفِيهِ بَل يُسَلِّمُهُ إِلَى
الْوَلِيِّ؛ لأَِنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الَّذِي يَقْبِضُ حُقُوقَهُ
وَأَمْوَالَهُ وَهَذَا مِنْ حُقُوقِهِ خِلاَفًا لِلْقَاضِي مِنَ
الْحَنَابِلَةِ حَيْثُ قَال: يَصِحُّ قَبْضُهُ لِعِوَضٍ لِصِحَّةِ
خُلْعِهِ فَيَصِحُّ قَبْضُهُ، كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ،
وَالأَْوْلَى كَمَا فِي الْمُغْنِي عَدَمُ جَوَازِ تَسْلِيمِ الْمَال
إِلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْحَجْرَ أَفَادَ مَنْعَهُ مِنَ
التَّصَرُّفِ (1) .
الرُّكْنُ الثَّانِي: الْقَابِل:
17 - يُشْتَرَطُ فِي قَابِل الْخُلْعِ مِنَ الزَّوْجَةِ أَوِ
الأَْجْنَبِيِّ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَال
صَحِيحَ الاِلْتِزَامِ. فَلَوْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ الصَّغِيرَةَ عَلَى
مَهْرِهَا فَقَبِلَتْ أَوْ قَالَتِ الصَّغِيرَةُ لِزَوْجِهَا
اخْلَعْنِي عَلَى مَهْرِي فَفَعَل وَقَعَ الطَّلاَقُ بِغَيْرِ بَدَلٍ،
كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ، وَإِنْ
كَانَ بَاذِل الْعِوَضِ غَيْرَ رَشِيدٍ رَدَّ الزَّوْجُ الْمَال
الْمَبْذُول وَبَانَتْ مِنْهُ، مَا لَمْ يُعَلِّقْ بِقَوْلِهِ: إِنْ
تَمَّ لِي هَذَا الْمَال فَأَنْتِ
__________
(1) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 526 - 527 - ط المعارف، جواهر
الإكليل 1 / 332 - ط المعرفة، روضة الطالبين 7 / 383 - ط المكتب
الإسلامي، حاشية القليوبي 3 / 307 - 308 ط الحلبي، أسنى المطالب 3 /
244 - 245 - ط المكتبة الإسلامية، بجيرمي على الخطيب 3 / 412 - ط
المعرفة، المغني 7 / 87 ط الرياض.
(19/245)
طَالِقٌ، أَوْ إِنْ صَحَّتْ بَرَاءَتُكِ
فَطَالِقٌ كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ، فَإِذَا رَدَّ الْوَلِيُّ
أَوِ الْحَاكِمُ الْمَال مِنَ الزَّوْجِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ
يَقَعْ طَلاَقٌ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا قَالَهُ لِرَشِيدَةٍ أَوْ
رَشِيدٍ، أَوْ قَالَهُ بَعْدَ صُدُورِ الطَّلاَقِ فَلاَ يَنْفَعُهُ.
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ خُلْعَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا لِصِغَرٍ
أَوْ سَفَهٍ، أَوْ جُنُونٍ لاَ يَصِحُّ حَتَّى لَوْ أَذِنَ فِيهِ
الْوَلِيُّ؛ لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَال وَلَيْسَتْ مِنْ
أَهْلِهِ، وَلاَ إِذْنَ لِلْوَلِيِّ فِي التَّبَرُّعَاتِ.
وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهَا لِفَلَسٍ فَيَصِحُّ مِنْهَا الْخُلْعُ
عَلَى مَالٍ فِي ذِمَّتِهَا كَمَا ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ؛ لأَِنَّ
لَهَا ذِمَّةً يَصِحُّ تَصَرُّفُهَا فِيهَا، وَلَيْسَ لَهُ
مُطَالَبَتُهَا حَال حَجْرِهَا، كَمَا لَوِ اسْتَدَانَتْ مِنْ
إِنْسَانٍ فِي ذِمَّتِهَا أَوْ بَاعَهَا شَيْئًا بِثَمَنٍ فِي
ذِمَّتِهَا، وَيَكُونُ مَا خَالَعَتْ عَلَيْهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا،
يُؤْخَذُ مِنْهَا إِذَا انْفَكَّ عَنْهَا الْحَجْرُ وَأَيْسَرَتْ.
أَمَّا لَوْ خَالَعَتْ بِمُعَيَّنٍ مِنْ مَالِهَا فَلاَ يَصِحُّ
لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ (1) .
__________
(1) فتح القدير 3 / 218 - ط الأميرية، بدائع الصنائع 3 / 147 - ط
الجمالية، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 519 - ط المعارف، الخرشي 4
/ 12 - ط بولاق، الشرح الكبير 2 / 347 - 348 - ط الفكر، روضة الطالبين
7 / 384 - 388 - ط المكتبة الإسلامية، حاشية القليوبي 3 / 308 - ط
الحلبي، أسنى المطالب 3 / 245 - 247 - ط المكتب الإسلامي، كشاف القناع
5 / 214 - 215 - ط النصر، المبدع 7 / 223 - 226 - ط المكتب الإسلامي.
(19/246)
الْخُلْعُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ أَوِ
الْمَرَضِ الْمَخُوفِ:
أ - مَرَضُ الزَّوْجَةِ:
18 - يَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ الْمَرِيضَةِ مَرَضًا مَخُوفًا أَنْ
تُخَالِعَ زَوْجَهَا فِي مَرَضِهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فِي
الْجُمْلَةِ، لأَِنَّهُ مُعَاوَضَةٌ كَالْبَيْعِ، وَإِنَّمَا
الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَأْخُذُهُ الزَّوْجُ فِي
مُقَابِل ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ رَاغِبَةً فِي
مُحَابَاتِهِ عَلَى حِسَابِ الْوَرَثَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ خُلْعَ الْمَرِيضَةِ يُعْتَبَرُ
مِنَ الثُّلُثِ لأَِنَّهُ تَبَرُّعٌ فَلَهُ الأَْقَل مِنْ إِرْثِهِ،
وَبَدَل الْخُلْعِ إِنْ خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ وَإِلاَّ فَالأَْقَل
مِنْ إِرْثِهِ، وَالثُّلُثُ إِنْ مَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ، أَمَّا لَوْ
مَاتَتْ بَعْدَهَا أَوْ قَبْل الدُّخُول فَلَهُ الْبَدَل إِنْ خَرَجَ
مِنَ الثُّلُثِ (1) .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْخُلْعَ إِنْ كَانَ بِمَهْرِ
الْمِثْل نَفَذَ دُونَ اعْتِبَارِ الثُّلُثِ، وَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ
فَالزِّيَادَةُ كَالْوَصِيَّةِ لِلزَّوْجِ، وَتُعْتَبَرُ الزِّيَادَةُ
الثُّلُثَ وَلاَ تَكُونُ كَالْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ لِخُرُوجِهِ (أَيِ
الزَّوْجِ) بِالْخُلْعِ عَنِ الإِْرْثِ، وَلَوِ اخْتَلَعَتْ بِجَمَلٍ
قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُونَ (دِرْهَمًا)
فَقَدْ حَابَتْ بِنِصْفِ الْجَمَل، فَيُنْظَرُ إِنْ خَرَجَتِ
الْمُحَابَاةُ مِنَ الثُّلُثِ، فَالْجَمَل كُلُّهُ لِلزَّوْجِ عِوَضًا
وَوَصِيَّةً.
__________
(1) الدر المختار 2 / 570 - ط الأميرية، بدائع الصنائع 3 / 149 - ط
الجمالية، البحر الرائق 4 / 81 - 82 - ط الأولى العلمية، الاختيار 3 /
160 - ط المعرفة.
(19/246)
وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَجْهًا
أَنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْجَمَل، وَبَيْنَ أَنْ
يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَيَرْجِعَ إِلَى مَهْرِ الْمِثْل؛ لأَِنَّهُ دَخَل
فِي الْعَقْدِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْجَمَل عِوَضًا. وَالصَّحِيحُ
الأَْوَّل، إِذْ لاَ نَقْصَ وَلاَ تَشْقِيصَ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ
مِنَ الثُّلُثِ بِأَنْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لَمْ
تَصِحَّ الْمُحَابَاةُ، وَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُمْسِكَ
نِصْفَ الْجَمَل وَهُوَ قَدْرُ مَهْرِ الْمِثْل وَيَرْضَى
بِالتَّشْقِيصِ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْمُسَمَّى وَيُضَارِبَ
الْغُرَمَاءَ بِمَهْرِ الْمِثْل، وَإِنْ كَانَ لَهَا وَصَايَا أُخَرُ،
فَإِنْ شَاءَ الزَّوْجُ أَخَذَ نِصْفَ الْجَمَل وَضَارَبَ أَصْحَابَ
الْوَصَايَا فِي النِّصْفِ الآْخَرِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْمُسَمَّى
وَتَقَدَّمَ بِمَهْرِ الْمِثْل عَلَى أَصْحَابِ الْوَصَايَا وَلاَ
حَقَّ لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ؛ لأَِنَّهَا كَانَتْ مِنْ ضِمْنِ
الْمُعَاوَضَةِ وَقَدِ ارْتَفَعَتْ بِالْفَسْخِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
دَيْنٌ، وَلاَ وَصِيَّةٌ، وَلاَ شَيْءَ لَهَا سِوَى ذَلِكَ الْجَمَل
فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَ ثُلُثَيِ الْجَمَل،
نِصْفُهُ بِمَهْرِ الْمِثْل، وَسُدُسُهُ بِالْوَصِيَّةِ، وَإِنْ شَاءَ
فَسَخَ، وَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ مَهْرُ الْمِثْل (1) .
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ لِلزَّوْجِ مَا خَالَعَتْهُ عَلَيْهِ
إِنْ كَانَ قَدْرَ مِيرَاثِهِ مِنْهَا فَمَا دُونَ، وَإِنْ كَانَ
بِزِيَادَةٍ فَلَهُ الأَْقَل مِنَ الْمُسَمَّى فِي الْخُلْعِ أَوْ
مِيرَاثُهُ مِنْهَا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ تُهْمَةَ فِيهِ بِخِلاَفِ
الأَْكْثَرِ مِنْهَا، فَإِنَّ
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 387 - ط المكتب الإسلامي، أسنى المطالب 3 / 247
- ط المكتب الإسلامي.
(19/247)
الْخُلْعَ إِنْ وَقَعَ بِأَكْثَرَ مِنَ
الْمِيرَاثِ تَطَرَّقَتْ إِلَيْهِ التُّهْمَةُ مِنْ قَصْدِ إِيصَالِهَا
إِلَيْهِ شَيْئًا مِنْ مَالِهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ عَلَى وَجْهٍ لَمْ
تَكُنْ قَادِرَةً عَلَيْهِ أَشْبَهَ مَا لَوْ أَوْصَتْ أَوْ أَقَرَّتْ
لَهُ، وَإِنْ وَقَعَ بِأَقَل مِنَ الْمِيرَاثِ فَالْبَاقِي هُوَ
أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْهُ فَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ، فَتَعَيَّنَ
اسْتِحْقَاقُهُ الأَْقَل مِنْهُمَا، وَإِنْ شُفِيَتْ مِنْ مَرَضِهَا
ذَاكَ الَّذِي خَالَعَتْهُ فِيهِ فَلَهُ جَمِيعُ مَا خَالَعَهَا بِهِ
كَمَا لَوْ خَالَعَهَا فِي الصِّحَّةِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَرَضِ
مَوْتِهَا (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ خُلْعُ الزَّوْجَةِ
الْمَرِيضَةِ مَرَضًا مَخُوفًا إِنْ كَانَ بَدَل الْخُلْعِ بِقَدْرِ
إِرْثِهِ أَوْ أَقَل لَوْ مَاتَتْ وَلاَ يَتَوَارَثَانِ قَالَهُ ابْنُ
الْقَاسِمِ. أَمَّا إِنْ زَادَ بِأَنْ كَانَ إِرْثُهُ مِنْهَا عَشَرَةً
وَخَالَعَتْهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ وَأَوْلَى لَوْ خَالَعَتْهُ بِجَمِيعِ
مَالِهَا فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ لإِِعَانَتِهِ لَهَا عَلَى الْحَرَامِ،
وَيَنْفُذُ الطَّلاَقُ وَلاَ تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا إِنْ كَانَ
الزَّوْجُ صَحِيحًا وَلَوْ مَاتَتْ فِي عِدَّتِهَا.
وَقَال مَالِكٌ: إِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ فِي مَرَضِهَا وَهُوَ صَحِيحٌ
بِجَمِيعِ مَالِهَا لَمْ يَجُزْ وَلاَ يَرِثُهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ
قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ لاَ يُخَالِفُهُ، كَمَا قَالَهُ أَكْثَرُ
الأَْشْيَاخِ، وَرَدَّ الزَّائِدَ عَلَى إِرْثِهِ مِنْهَا، وَاعْتُبِرَ
الزَّائِدُ عَلَى إِرْثِهِ يَوْمَ مَوْتِهَا لاَ يَوْمَ الْخُلْعِ،
وَحِينَئِذٍ فَيُوقَفُ جَمِيعُ الْمَال الْمُخَالَعِ بِهِ إِلَى يَوْمِ
الْمَوْتِ، فَإِنْ
__________
(1) المبدع 7 / 243 - المكتب الإسلامي، كشاف القناع 5 / 228 - ط النصر،
المغني 7 / 88 - 89 - ط الرياض.
(19/247)
كَانَ قَدْرَ إِرْثِهِ فَأَقَل، اسْتَقَل
بِهِ الزَّوْجُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ، رَدَّ مَا زَادَ عَلَى
إِرْثِهِ، فَإِنْ صَحَّتْ مِنْ مَرَضِهَا تَمَّ الْخُلْعُ وَأَخَذَ
جَمِيعَ مَا خَالَعَتْهُ بِهِ وَلَوْ أَتَى عَلَى جَمِيعِ مَالِهَا،
وَلاَ تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا عَلَى كُل حَالٍ (1) .
ب - مَرَضُ الزَّوْجِ:
19 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ خُلْعَ الزَّوْجِ
الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ جَائِزٌ وَنَافِذٌ بِالْمُسَمَّى، سَوَاءٌ
أَكَانَ بِمَهْرِ الْمِثْل أَمْ أَقَل مِنْهُ؛ لأَِنَّهُ لَوْ طَلَّقَ
بِغَيْرِ عِوَضٍ لَصَحَّ، فَلأََنْ يَصِحَّ بِعِوَضٍ أَوْلَى؛
وَلأَِنَّ الْوَرَثَةَ لاَ يَفُوتُهُمْ بِخَلْعِهِ شَيْءٌ، وَمِثْل
الْمَرِيضِ فِي هَذَا الْحُكْمِ مَنْ حَضَرَ صَفَّ الْقِتَال،
وَالْمَحْبُوسُ لِقَتْلٍ أَوْ قَطْعٍ كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ،
وَذَكَرُوا أَيْضًا أَنَّ الإِْقْدَامَ عَلَيْهِ لاَ يَجُوزُ لِمَا
فِيهِ مِنْ إِخْرَاجِ وَارِثٍ وَلاَ تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ
أَمَاتَ فِي الْعِدَّةِ أَمْ بَعْدَهَا خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ،
فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ زَوْجَتَهُ الْمُطَلَّقَةَ فِي الْمَرَضِ
تَرِثُهُ إِنْ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ الْمَخُوفِ الَّذِي خَالَعَهَا
فِيهِ، وَلَوْ خَرَجَتْ مِنَ الْعِدَّةِ وَتَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ وَلَوْ
أَزْوَاجًا، أَمَّا هُوَ فَلاَ يَرِثُهَا إِنْ مَاتَتْ فِي مَرَضِهِ
الْمَخُوفِ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ وَلَوْ كَانَتْ هِيَ مَرِيضَةً
أَيْضًا؛ لأَِنَّهُ الَّذِي أَسْقَطَ مَا كَانَ بِيَدِهِ، وَتَرِثُهُ
أَيْضًا إِذَا تَبَرَّعَ أَجْنَبِيٌّ بِخُلْعِهَا مِنْهُ فِي مَرَضِهِ
الَّذِي مَاتَ مِنْهُ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، كَمَا ذَكَرَ
الْحَنَفِيَّةُ؛
__________
(1) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 528 - 529 - ط المعارف.
(19/248)
لأَِنَّهَا لَمْ تَرْضَ بِهَذَا الطَّلاَقِ
فَيُعْتَبَرَ الزَّوْجُ فَارًّا، فَلَوْ أَوْصَى الزَّوْجُ لَهَا
بِمِثْل مِيرَاثِهَا أَوْ أَقَل صَحَّ كَمَا ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ؛
لأَِنَّهُ لاَ تُهْمَةَ فِي أَنَّهُ أَبَانَهَا لِيُعْطِيَهَا ذَلِكَ
فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْنِهَا لأََخَذَتْهُ بِمِيرَاثِهَا، وَإِنْ
أَوْصَى لَهَا بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ فَلِلْوَرَثَةِ مَنْعُهَا ذَلِكَ؛
لأَِنَّهُ اتُّهِمَ فِي أَنَّهُ قَصَدَ إِيصَال ذَلِكَ إِلَيْهَا؛
لأَِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى إِيصَالِهِ إِلَيْهَا وَهِيَ
فِي عِصْمَتِهِ، فَطَلَّقَهَا لِيُوصِل ذَلِكَ إِلَيْهَا فَمُنِعَ
مِنْهُ كَمَا لَوْ أَوْصَى لِوَارِثٍ (1) .
خُلْعُ الْوَلِيِّ:
20 - يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِوَلِيِّ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ
مِنْ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهُمَا، سَوَاءٌ
أَكَانَ الْوَلِيُّ أَبًا لِلزَّوْجِ أَمْ وَصِيًّا أَمْ حَاكِمًا أَمْ
مُقَامًا مِنْ جِهَتِهِ، إِذَا كَانَ الْخُلْعُ مِنْهُ لِمَصْلَحَةٍ،
وَلاَ يَجُوزُ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ عِنْدَ مَالِكٍ
وَابْنِ الْقَاسِمِ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِمَا بِلاَ عِوَضٍ، وَنَقَل
ابْنُ عَرَفَةَ عَنِ اللَّخْمِيِّ جَوَازَهُ لِمَصْلَحَةٍ، إِذْ قَدْ
يَكُونُ فِي بَقَاءِ الْعِصْمَةِ فَسَادٌ لأَِمْرٍ ظَهَرَ أَوْ حَدَثَ.
__________
(1) البحر الرائق 4 / 82 - ط الأولى العلمية، الشرح الكبير 2 / 352 -
353 - ط الفكر، جواهر الإكليل 1 / 332 - 333 - ط المعرفة، الشرح الصغير
2 / 527 - 528 - ط المعارف، روضة الطالبين 7 / 388 - ط المكتب
الإسلامي، أسنى المطالب 3 / 248 - ط المكتبة الإسلامية، كشاف القناع 5
/ 229 - ط النصر، المبدع 7 / 243 - 244 - ط المكتب الإسلامي، المغني 7
/ 89 - ط الرياض.
(19/248)
وَأَمَّا وَلِيُّ السَّفِيهِ فَلاَ
يُخَالِعُ عَنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ بِيَدِ
الزَّوْجِ الْمُكَلَّفِ وَلَوْ سَفِيهًا أَوْ عَبْدًا لاَ بِيَدِ
الأَْبِ، فَأَوْلَى غَيْرُهُ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ كَالْوَصِيِّ
وَالْحَاكِمِ (1) .
وَالْخُلْعُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَصِحُّ مِمَّنْ يَصِحُّ طَلاَقُهُ
بِالْمِلْكِ، أَوِ الْوَكَالَةِ، أَوِ الْوِلاَيَةِ كَالْحَاكِمِ فِي
الشِّقَاقِ (2) .
وَلاَ يَجُوزُ لِلأَْبِ أَنْ يَخْلَعَ زَوْجَةَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ
أَوْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَعَلَى الرِّوَايَةِ الأَْشْهَرِ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (3) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: الطَّلاَقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ (4) .
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أَيَّدَهَا الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ
وَرَجَّحَهَا صَاحِبُ الْمُبْدِعِ إِلَى أَنَّ الأَْبَ يَمْلِكُ
ذَلِكَ، لأَِنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا طَلَّقَ عَلَى
ابْنٍ لَهُ مَعْتُوهٍ؛ وَلأَِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُزَوِّجَهُ، فَصَحَّ
أَنْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا شَأْنُهُ
__________
(1) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 526 - 527 - ط المعارف، جواهر
الإكليل 1 / 332 - ط المعرفة، مواهب الجليل مع التاج والإكليل 4 / 26 -
ط النجاح.
(2) كشاف القناع 5 / 213 - ط النصر.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 568 - 569 - ط المصرية، المهذب 2 / 72 - ط
الحلبي، المبدع 7 / 223 - ط المكتب الإسلامي، المغني 7 / 88 - ط
الرياض.
(4) حديث: " الطلاق لمن أخذ بالساق ". أخرجه ابن ماجه (1 / 672 - ط
الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس، وضعف إسناده البوصيري.
(19/249)
كَالْحَاكِمِ يَفْسَخُ لِلإِْعْسَارِ
وَيُزَوِّجُ الصَّغِيرَ (1) .
وَأَمَّا خُلْعُ الأَْبِ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ فَقَدْ ذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ
إِلَى أَنَّ مَنْ خَلَعَ ابْنَتَهُ وَهِيَ صَغِيرَةٌ بِشَيْءٍ مِنْ
مَالِهَا لَمْ يَجُزْ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّهُ لاَ نَظَرَ لَهَا فِيهِ،
كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، إِذِ الْبُضْعُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ،
وَالْبَدَل مُتَقَوِّمٌ، بِخِلاَفِ النِّكَاحِ؛ لأَِنَّ الْبُضْعَ
مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ الدُّخُول، وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ خُلْعُ
الْمَرِيضَةِ مِنَ الثُّلُثِ، وَنِكَاحُ الْمَرِيضِ بِمَهْرِ الْمِثْل
مِنْ جَمِيعِ الْمَال.
وَلأَِنَّهُ بِذَلِكَ يَسْقُطُ حَقُّهَا مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ
وَالاِسْتِمْتَاعِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لاَ يَسْقُطُ الْمَهْرُ وَلاَ
يَسْتَحِقُّ مَالَهَا وَلِلزَّوْجِ مُرَاجَعَتُهَا إِنْ كَانَ ذَلِكَ
بَعْدَ الدُّخُول كَمَا فِي الْمُهَذَّبِ، وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي
وُقُوعِ الطَّلاَقِ أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ رِوَايَتَيْنِ مَنْشَؤُهُمَا
قَوْل مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي الْكِتَابِ لَمْ يَجُزْ، فَإِنَّهُ
يُحْتَمَل أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى الطَّلاَقِ وَأَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى
لُزُومِ الْمَال، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الطَّلاَقَ وَاقِعٌ، وَعَدَمُ
الْجَوَازِ مُنْصَرِفٌ إِلَى الْمَال، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُنْتَقَى
لأَِنَّ لِسَانَ الأَْبِ كَلِسَانِهَا.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ جَوَّزُوا خُلْعَ الْمُجْبِرِ كَأَبٍ
عَنِ الْمُجْبَرَةِ مِنْ مَالِهَا وَلَوْ بِجَمِيعِ مَهْرِهَا بِغَيْرِ
إِذْنِهَا، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُجْبِرِ كَوَصِيٍّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يُخَالِعَ
__________
(1) المغني 7 / 87 - 88 - ط الرياض، المبدع 7 / 223 - ط المكتب
الإسلامي.
(19/249)
عَمَّنْ تَحْتَ إِيصَائِهِ مِنْ مَالِهَا
بِغَيْرِ إِذْنِهَا، وَكَذَا بِإِذْنِهَا عَلَى الأَْرْجَحِ.
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُبْدِعِ
بِلَفْظِ قِيل: إِنَّهُ لَهُ ذَلِكَ إِذَا رَأَى الْحَظَّ فِيهِ
كَتَخْلِيصِهَا مِمَّنْ يُتْلِفُ مَالَهَا وَيُخَافُ مِنْهُ عَلَى
نَفْسِهَا وَعَقْلِهَا، وَالأَْبُ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ إِذَا
خَالَعُوا فِي حَقِّ الْمَجْنُونَةِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ
أَوْ صِغَرٍ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إِذَا خَالَعَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ
أَنَّهُ يَجُوزُ، صَرَّحَ بِهِ فِي الشَّرْحِ وَغَيْرِهِ؛ لأَِنَّهُ
يَجُوزُ مَعَ الأَْجْنَبِيِّ، فَمِنَ الْوَلِيِّ أَوْلَى (1) .
خُلْعُ الْفُضُولِيِّ:
21 - لِلْفُقَهَاءِ فِي خُلْعِ الْفُضُولِيِّ اتِّجَاهَانِ:
الأَْوَّل: جَوَازُهُ وَصِحَّتُهُ وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ لَكِنْ
بِقَيْدٍ وَهُوَ أَنْ يُضِيفَ الْبَدَل إِلَى نَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ
يُفِيدُ ضَمَانَهُ لَهُ أَوْ مِلْكَهُ إِيَّاهُ، مِثْل أَنْ يَقُول:
اخْلَعْهَا بِأَلْفٍ عَلَيَّ أَوْ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ أَوْ عَلَى
أَلْفَيْ هَذِهِ، فَإِنْ أَرْسَل الْخُلْعَ بِأَنْ قَال عَلَى أَلْفٍ
أَوْ عَلَى هَذَا الْجَمَل، فَإِنْ قَبِلَتْ لَزِمَهَا تَسْلِيمُهُ،
أَوْ قِيمَتُهُ إِنْ عَجَزَتْ، وَإِنْ أَضَافَهُ إِلَى غَيْرِهِ
كَجَمَل فُلاَنٍ اعْتُبِرَ قَبُول فُلاَنٍ.
__________
(1) فتح القدير مع العناية 3 / 218 - ط الأميرية، تبيين الحقائق 3 /
273 - 274 - ط بولاق، البناية 4 / 683 - 684 - ط الفكر، الخرشي 4 / 13
- ط بولاق، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 520 - ط المعارف، المهذب
2 / 72 - ط الحلبي، المبدع 7 / 223 - ط المكتب الإسلامي، الكافي 3 /
144 - ط المكتب الإسلامي، المغني 7 / 83 - 84 - ط الرياض.
(19/250)
وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ سَوَاءٌ قَصَدَ الْفُضُولِيُّ بِذَلِكَ جَلْبَ
مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءَ مَفْسَدَةِ أَوْ إِسْقَاطَ نَفَقَتِهَا عَنِ
الزَّوْجِ كَمَا فِي ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ
السَّلاَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَيَّدَ صِحَّتَهُ بِعَدَمِ قَصْدِ
الْفُضُولِيِّ إِسْقَاطَ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ عَنِ الزَّوْجِ فَإِنْ
قَصَدَ إِسْقَاطَهَا عَنْهُ فَقَدْ حُكِيَ فِيهِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
أ - يُرَدُّ الْعِوَضُ وَيَقَعُ الطَّلاَقُ بَائِنًا وَتَسْقُطُ
نَفَقَةُ الْعِدَّةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ وَاقْتَصَرَ
عَلَيْهِ الْبُرْزُلِيُّ.
ب - يُرَدُّ الْعِوَضُ وَيَقَعُ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا وَلاَ تَسْقُطُ
نَفَقَتُهَا وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ وَابْنُ عَرَفَةَ.
ج - يَقَعُ الطَّلاَقُ بَائِنًا وَلاَ تَسْقُطُ النَّفَقَةُ وَيَجْرِي
مِثْل هَذَا فِيمَنْ قَصَدَ دَفْعَ الْعِوَضِ لِيَتَزَوَّجَهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا إِلَى جَوَازِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ
الْخُلْعَ طَلاَقٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِلَفْظِ طَلاَقٍ أَمْ خُلْعٍ،
فَخُلْعُ الْفُضُولِيِّ عِنْدَهُمْ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْقَوْل
كَاخْتِلاَعِ الزَّوْجَةِ لَفْظًا وَحُكْمًا، وَذَكَرُوا أَنَّ
الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ ابْتِدَاءُ مُعَاوَضَةٍ فِيهَا
شَوْبُ تَعْلِيقٍ، وَمِنْ جَانِبِ الأَْجْنَبِيِّ ابْتِدَاءُ
مُعَاوَضَةٍ فِيهَا شَوْبُ جَعَالَةٍ، فَإِذَا قَال الزَّوْجُ
لِلْفُضُولِيِّ طَلَّقْتُ امْرَأَتِي عَلَى أَلْفٍ فِي ذِمَّتِكَ
فَقَبِل، أَوْ قَال الْفُضُولِيُّ لِلزَّوْجِ: طَلِّقِ امْرَأَتَكَ
عَلَى أَلْفٍ فِي ذِمَّتِي فَأَجَابَ، وَقَعَ الطَّلاَقُ بَائِنًا
بِالْمُسَمَّى، وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ قَبْل قَبُول الْفُضُولِيِّ
نَظَرًا لِشَوْبِ التَّعْلِيقِ، وَلِلْفُضُولِيِّ أَنْ يَرْجِعَ قَبْل
إِجَابَةِ الزَّوْجِ نَظَرًا لِشَوْبِ الْجَعَالَةِ.
(19/250)
وَخُلْعُ الْفُضُولِيِّ جَائِزٌ أَيْضًا
عِنْدَ أَكْثَرِ الْحَنَابِلَةِ وَلاَ تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى
قَبُول الْمَرْأَةِ فَيَكُونَ الْتِزَامُهُ لِلْمَال فِدَاءً لَهَا،
كَالْتِزَامِ الْمَال لِعِتْقِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ، وَقَدْ يَكُونُ
لَهُ فِي ذَلِكَ غَرَضٌ صَحِيحٌ، كَتَخْلِيصِهَا مِمَّنْ يُسِيءُ
عِشْرَتَهَا وَيَمْنَعُهَا حُقُوقَهَا.
الثَّانِي: عَدَمُ الصِّحَّةِ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ أَبُو ثَوْرٍ
وَمَنْ قَال مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنَّ الْخُلْعَ
فَسْخٌ، وَاسْتَدَل أَبُو ثَوْرٍ بِأَنَّهُ يَبْذُل عِوَضًا فِي
مُقَابَلَةِ مَا لاَ مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْفَسْخَ بِلاَ سَبَبٍ لاَ يَنْفَرِدُ بِهِ
الزَّوْجُ فَلاَ يَصِحُّ طَلَبُهُ مِنْهُ (1) .
التَّوْكِيل فِي الْخُلْعِ:
22 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ التَّوْكِيل فِي
الْخُلْعِ جَائِزٌ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ وَمِنْ
أَحَدِهِمَا مُنْفَرِدًا، وَالضَّابِطُ فِيهِ أَنَّ كُل مَنْ يَصِحُّ
أَنْ يَتَصَرَّفَ بِالْخُلْعِ لِنَفْسِهِ جَازَ تَوْكِيلُهُ
وَوَكَالَتُهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 569 - ط المصرية، تبيين الحقائق 2 / 274 - ط
بولاق، البحر الرائق 4 / 101 - ط الأولى العلمية، نتائج الأفكار 3 /
221 - ط الأميرية، شرح الزرقاني 4 / 64 - 65 - ط الفكر، الخرشي 4 / 12
- ط بولاق، جواهر الإكليل 1 / 330 - ط المعرفة، شرح المنهاج 3 / 321 -
ط الحلبي، أسنى المطالب 3 / 260 - 261 - ط المكتبة الإسلامية، روضة
الطالبين 7 / 427 - 430 - ط المكتب الإسلامي، نهاية المحتاج 6 / 409 -
412 - ط المكتبة الإسلامية، مغني المحتاج 3 / 276 - 277 - ط التراث،
والمبدع 7 / 223 - ط المكتب الإسلامي، والكافي 3 / 144 - ط المكتب
الإسلامي.
(19/251)
ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، مُسْلِمًا أَوْ
كَافِرًا، مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ رَشِيدًا، لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ
مِنْهُمْ يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ الْخُلْعَ، فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ
وَكِيلاً وَمُوَكِّلاً فِيهِ. وَجَاءَ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ تَوْكِيل الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ
عَنِ الْبَالِغِ الْعَاقِل بِالْخُلْعِ صَحِيحٌ، وَذَكَرَ
الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ وَكِيل الْمَرْأَةِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
سَفِيهًا حَتَّى وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ إِلاَّ إِذَا أَضَافَ
الْمَال إِلَيْهَا فَتَبِينُ وَيَلْزَمُهَا؛ لأَِنَّهُ لاَ ضَرَرَ
عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ.
وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا تَوْكِيل مَحْجُورٍ
عَلَيْهِ فِي قَبْضِ الْعِوَضِ فِي الْخُلْعِ فَإِنْ وَكَّلَهُ
وَقَبَضَ، فَفِي التَّتِمَّةِ أَنَّ الْمُخْتَلِعَ يَبْرَأُ
وَالْمُوَكِّل مُضَيِّعٌ لِمَالِهِ وَأَقَرَّهُ الشَّيْخَانِ.
وَالأَْصَحُّ: عِنْدَهُمْ أَيْضًا صِحَّةُ تَوْكِيلِهِ امْرَأَةً
لِخُلْعِ زَوْجَتِهِ أَوْ طَلاَقِهَا لأَِنَّ لِلْمَرْأَةِ تَطْلِيقَ
نَفْسِهَا بِقَوْلِهِ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ، وَذَلِكَ تَمْلِيكٌ
لِلطَّلاَقِ أَوْ تَوْكِيلٌ بِهِ.
وَالثَّانِي: لاَ يَصِحُّ لأَِنَّهَا لاَ تَسْتَقِل بِالطَّلاَقِ،
وَلَوْ وَكَّلَتِ الزَّوْجَةُ امْرَأَةً بِاخْتِلاَعِهَا جَازَ بِلاَ
خِلاَفٍ لاِسْتِقْلاَل الْمَرْأَةِ بِالاِخْتِلاَعِ.
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ سِوَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ
الْوَاحِدَ لاَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلاً فِي الْخُلْعِ مِنَ
الْجَانِبَيْنِ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْوَكِيل فِي
الْخُلْعِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ يَتَوَلَّى طَرَفًا مِنْهُ مَعَ أَحَدِ
الزَّوْجَيْنِ أَوْ وَكِيلِهِ، وَلاَ يَتَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ كَمَا
فِي الْبَيْعِ، وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَمُحَمَّدٌ
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ:
(19/251)
إِنَّهُ يَتَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ قِيَاسًا
عَلَى النِّكَاحِ؛ وَلأَِنَّ الْخُلْعَ يَكْفِي فِيهِ اللَّفْظُ مِنْ
أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ كَمَا لَوْ قَال: إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا
فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَعْطَتْهُ ذَلِكَ، يَقَعُ الطَّلاَقُ خُلْعًا.
وَالْوَكِيل فِي الْخُلْعِ لاَ يَنْعَزِل بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ (1) .
هَذَا وَيَكُونُ تَوْكِيل الْمَرْأَةِ فِي ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ:
اسْتِدْعَاءُ الْخُلْعِ - أَوِ الطَّلاَقِ - وَتَقْدِيرُ الْعِوَضِ
وَتَسْلِيمُهُ.
وَيَكُونُ تَوْكِيل الرَّجُل أَيْضًا فِي ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ: شَرْطُ
الْعِوَضِ - وَقَبْضُهُ - وَإِيقَاعُ الطَّلاَقِ أَوِ الْخُلْعِ.
وَالتَّوْكِيل جَائِزٌ مَعَ تَقْدِيرِ الْعِوَضِ وَمِنْ غَيْرِ
تَقْدِيرٍ؛ لأَِنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَصَحَّ ذَلِكَ كَالْبَيْعِ
وَالنِّكَاحِ إِلاَّ أَنَّ التَّقْدِيرَ مُسْتَحَبٌّ لأَِنَّهُ
أَسْلَمُ مِنَ الْغَرَرِ، وَأَسْهَل عَلَى الْوَكِيل لاِسْتِغْنَائِهِ
عَنِ الاِجْتِهَادِ (2) .
__________
(1) البحر الرائق 4 / 102 - ط الأولى العلمية، حاشية القليوبي 3 / 311
- 312 - ط الحلبي، كشاف القناع 5 / 230 - ط النصر.
(2) نتائج الأفكار 3 / 221 - ط الأميرية، تبيين الحقائق 2 / 275 - ط
بولاق، البحر الرائق 4 / 102 - ط الأولى العلمية، جواهر الإكليل 1 /
334 - ط المعرفة، الدسوقي 2 / 355 - ط الفكر، الشرح الصغير 2 / 303 - ط
المدني، المهذب 2 / 75 - ط الحلبي، روضة الطالبين 7 / 391 - ط المكتب
الإسلامي، حاشية القليوبي 3 / 311 - 312 - ط الحلبي، أسنى المطالب 3 /
249 - ط المكتبة الإسلامية، الكافي 3 / 156 - 157 - ط المكتب الإسلامي،
كشاف القناع 5 / 229 - 230 - ط النصر، المبدع 7 / 244 - 245 - ط المكتب
الإسلامي، الإنصاف 8 / 419 - 420 - ط التراث، المغني 7 / 90 - 93 - ط
الرياض.
(19/252)
وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ تَوْكِيل الزَّوْجِ
أَوِ الزَّوْجَةِ لاَ يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَدِّرَا الْعِوَضَ كَمِائَةٍ مَثَلاً.
وَالثَّانِي أَنْ يُطْلِقَا الْوَكَالَةَ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ،
كَأَنْ يُوَكِّلاَهُ فِي الْخُلْعِ فَقَطْ، وَيَنْبَغِي لِوَكِيل
الزَّوْجِ أَوْ وَكِيل الزَّوْجَةِ أَنْ يَفْعَل كُلٌّ مِنْهُمَا مَا
مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعُودَ بِالنَّفْعِ عَلَى مُوَكِّلِهِ، فَلاَ
يُنْقِصُ وَكِيل الزَّوْجِ عَمَّا قَدَّرَهُ لَهُ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ
أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ فَلْيَفْعَل وَكَذَا وَكِيل الزَّوْجَةِ،
فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَزِيدَ عَمَّا قَدَّرَتْهُ لَهُ، فَإِنِ
اسْتَطَاعَ أَنْ يَخْلَعَهَا بِأَقَل مِنْهُ فَلْيَفْعَل. وَيَنْبَغِي
لِوَكِيل الزَّوْجِ فِي حَالَةِ الإِْطْلاَقِ أَنْ لاَ يُخَالِعَ
بِأَقَل مِنْ مَهْرِ الْمِثْل بَل بِأَكْثَرَ، وَيَنْبَغِي لِوَكِيل
الزَّوْجَةِ أَيْضًا أَنْ لاَ يَخْلَعَهَا بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ
الْمِثْل فِي حَالَةِ الإِْطْلاَقِ.
عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ:
23 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ) إِلَى أَنَّ
عِدَّةَ الْمُخْتَلِعَةِ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ وَهُوَ قَوْل سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيَّبِ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ
يَسَارٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنِ،
وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ.
(19/252)
وَفِي قَوْلٍ عَنْ أَحْمَدَ: إِنَّ
عِدَّتَهَا حَيْضَةٌ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ
عَفَّانَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبَانَ بْنِ
عُثْمَانَ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ عِدَّتَهَا حَيْضَةٌ بِمَا رَوَاهُ
النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ
فَجَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّتَهَا
حَيْضَةً (1) .
وَبِأَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى بِهِ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ عِدَّتَهَا عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} (2) . وَلأَِنَّ الْخُلْعَ
فُرْقَةٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْحَيَاةِ بَعْدَ الدُّخُول
فَكَانَتِ الْعِدَّةُ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ كَغَيْرِ الْخُلْعِ (3) .
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمُعَوَّضُ وَهُوَ الْبُضْعُ:
24 - يُشْتَرَطُ فِيهِ كَمَا جَاءَ فِي الرَّوْضَةِ مِنْ كُتُبِ
الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلزَّوْجِ، فَأَمَّا
الْبَائِنُ بِخُلْعٍ وَغَيْرِهِ فَلاَ يَصِحُّ خُلْعُهَا، وَيُشْتَرَطُ
فِي الْخُلْعِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا أَنْ يُصَادِفَ
مَحَلًّا، فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ بَائِنًا وَقْتَ الْخُلْعِ،
فَإِنَّ الْخُلْعَ لاَ يَقَعُ؛
__________
(1) حديث ابن عباس " إن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه فجعل. . " تقدم
تخريجه (ف / 7) .
(2) سورة البقرة / 228.
(3) فتح القدير 3 / 269 - ط الأميرية، تبيين الحقائق 3 / 26 - ط بولاق،
الدسوقي مع الشرح الكبير 2 / 468 - ط الفكر، روضة الطالبين 8 / 365 - ط
المكتب الإسلامي، المغني 7 / 449 - 450 - ط الرياض، الإنصاف 9 / 279.
(19/253)
لأَِنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا،
وَتَسْتَرِدُّ الزَّوْجَةُ الْمَال الَّذِي دَفَعَتْهُ لِلزَّوْجِ،
وَيَسْقُطُ عَنْهَا مَا الْتَزَمَتْهُ مِنْ رَضَاعِ وَلَدِهَا، أَوْ
نَفَقَةِ حَمْلٍ، أَوْ إِسْقَاطِ حَضَانَتِهَا.
وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ
مَعَ الزَّوْجَةِ الَّتِي فِي عِصْمَةِ زَوْجِهَا، حَقِيقَةً، وَهِيَ
الَّتِي لَمْ تُفَارِقْ زَوْجَهَا بِطَلاَقٍ بَائِنٍ وَنَحْوِهِ،
كَاللِّعَانِ مَثَلاً، أَوْ حُكْمًا، وَهِيَ الَّتِي طَلَّقَهَا
زَوْجُهَا طَلاَقًا رَجْعِيًّا وَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا، فَإِنَّهَا
حِينَئِذٍ زَوْجَةٌ وَالنِّكَاحُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا
قَائِمٌ، وَتَسْرِي عَلَيْهَا كَافَّةُ الأَْحْكَامِ الْخَاصَّةِ
بِالزَّوْجَاتِ، وَلَوْ مَاتَ زَوْجُهَا قَبْل انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا
فَإِنَّهَا تَرِثُ مِنْهُ، وَلَوْ قَال الزَّوْجُ: كُل امْرَأَةٍ لِي
طَالِقٌ تَدْخُل هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ فِيهِ كَمَا ذَكَرَ
الْحَنَفِيَّةُ وَيَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلاَقُ، إِلاَّ أَنَّ
الْخِرَقِيَّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ ذَكَرَ أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ
مُحَرَّمَةٌ؛ لأَِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ يَدُل عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ
جَاءَ فِي الْمُغْنِي عَنْهُ (وَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَوَاحِدَةٌ طَلَّقَ
أَمْ ثَلاَثًا؟ فَهُوَ مُتَيَقِّنٌ لِلتَّحْرِيمِ شَاكٌّ فِي
التَّحْلِيل) وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلَى هَذَا،
وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ كَمَا قَال الْقَاضِي: إِنَّهَا
مُبَاحَةٌ.
وَأَمَّا مُخَالَعَةُ الزَّوْجِ لَهَا أَيِ الرَّجْعِيَّةِ فِي
أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ فَتَصِحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلاَ
تَسْتَرِدُّ الْمَال الَّذِي دَفَعَتْهُ لِلزَّوْجِ وَلَزِمَ الزَّوْجَ
أَنْ يُوقِعَ عَلَيْهَا طَلْقَةً أُخْرَى بَائِنَةً، وَتَصِحُّ أَيْضًا
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَظْهَرِ الأَْقْوَال، وَهُوَ أَيْضًا مَا
ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ سِوَى الْخِرَقِيِّ، لأَِنَّهَا
زَوْجَةٌ صَحَّ طَلاَقُهَا فَصَحَّ خُلْعُهَا كَمَا قَبْل الطَّلاَقِ.
(19/253)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ:
إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ مُخَالَعَتِهَا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى
الاِفْتِدَاءِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ ذَكَرَهُ
النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ بِلَفْظِ، قِيل: إِلَى أَنَّ
الرَّجْعِيَّةَ يَصِحُّ خُلْعُهَا بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ دُونَ
الثَّانِيَةِ لِتَحْصُل الْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى، هَذَا وَيَلْزَمُ
مِمَّا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ وُقُوعِ الطَّلاَقِ عَلَى
الرَّجْعِيَّةِ قَبْل انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا صِحَّةُ مُخَالَعَتِهَا
لأَِنَّ الْخُلْعَ عَلَى الْقَوْل الَّذِي عَلَيْهِ الْفَتْوَى
عِنْدَهُمْ طَلاَقٌ (1) .
الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْعِوَضُ:
25 - الْعِوَضُ مَا يَأْخُذُهُ الزَّوْجُ مِنْ زَوْجَتِهِ فِي مُقَابِل
خُلْعِهِ لَهَا، وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ أَنْ
يَصْلُحَ
__________
(1) العناية بهامش فتح القدير 3 / 172 - ط الأميرية، حاشية ابن عابدين
2 / 536 - 537 - ط بولاق، البناية في شرح الهداية 4 / 611 - 612 - ط
الفكر، البحر الرائق 4 / 60 - ط الأولى العلمية، تبيين الحقائق 2 / 256
- ط بولاق، الشرح الصغير 2 / 304 - ط المدني، الخرشي 4 / 21 - ط بولاق،
جواهر الإكليل 1 / 334 - ط المعرفة، الدسوقي 2 / 356 - ط الفكر، شرح
الزرقاني 4 / 75 - ط الفكر، روضة الطالبين 7 / 388 - ط المكتب
الإسلامي، أسنى المطالب 3 / 248 - ط المكتبة الإسلامية مغني المحتاج 3
/ 265 - ط التراث، نهاية المحتاج 6 / 390 - 391 - ط المكتبة الإسلامية،
حاشية القليوبي 3 / 309 - ط الحلبي، تحفة المحتاج 7 / 468 - ط
الميمنية، المغني 7 / 279 - ط الرياض، الكافي 3 / 228 - ط المكتب
الإسلامي، المبدع 7 / 393 - ط المكتب الإسلامي.
(19/254)
جَعْلُهُ صَدَاقًا، فَإِنَّ مَا جَازَ أَنْ
يَكُونَ مَهْرًا جَازَ أَنْ يَكُونَ بَدَل خُلْعٍ (1) .
وَالْعِوَضُ فِي الْخُلْعِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَالاً مُعَيَّنًا
أَوْ مَوْصُوفًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا لِلْمَرْأَةِ عَلَى
الزَّوْجِ تَفْتَدِي بِهِ نَفْسَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
مَنْفَعَةً وَذَلِكَ أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى إِرْضَاعِ وَلَدِهِ
مِنْهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً مُعَيَّنَةً، كَمَا
ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، أَوْ مُطَلَّقَةً كَمَا
ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ، فَإِنْ مَاتَتِ الْمُرْضِعَةُ، أَوِ
الصَّبِيُّ، أَوْ جَفَّ لَبَنُهَا قَبْل ذَلِكَ فَعَلَيْهَا أُجْرَةُ
الْمِثْل لِمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ؛ لأَِنَّهُ عِوَضٌ مُعَيَّنٌ
تَلِفَ قَبْل قَبْضِهِ فَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ، أَوْ مِثْلُهُ، كَمَا
لَوْ خَالَعَهَا عَلَى قَفِيزٍ فَهَلَكَ قَبْل قَبْضِهِ (2) .
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ فِي الْخُلْعِ إِخْرَاجُ
__________
(1) البناية في شرح الهداية 4 / 669 - 670 - ط الفكر، نتائج الأفكار 3
/ 207 - ط الأميرية، تبيين الحقائق 2 / 269 - ط بولاق، القوانين
الفقهية / 233 - ط العربي، الخرشي 4 / 13 - ط بولاق، الدسوقي 2 / 348 -
ط الفكر، أسهل المدارك 2 / 158 - ط الحلبي، روضة الطالبين 7 / 389 - ط
المكتب الإسلامي، الكافي 3 / 152، ط المكتب الإسلامي، المهذب 2 / 74 -
ط الحلبي، مغني المحتاج 3 / 265 - ط التراث، نهاية المحتاج 6 / 391 - ط
المكتبة الإسلامية، بجيرمي على الخطيب 3 / 414 - ط المعرفة، حاشية
القليوبي 3 / 309 - 310 - ط الحلبي، المبدع 7 / 229 - ط المكتب
الإسلامي، كشاف القناع 5 / 218 - ط النصر، الكافي 3 / 152 - ط المكتب
الإسلامي.
(2) الشرح الصغير 2 / 298 - ط المدني، الخرشي 4 / 22 - ط بولاق،
الدسوقي 2 / 357 - ط الفكر، روضة الطالبين 7 / 399 - ط المكتب
الإسلامي، الكافي 3 / 156 - ط المكتب الإسلامي، المغني 7 / 64 - 65 - ط
الرياض.
(19/254)
الْمَرْأَةِ مِنْ مَسْكَنِهَا الَّذِي
طَلُقَتْ فِيهِ لأَِنَّ سُكْنَاهَا فِيهِ إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ
حَقٌّ لِلَّهِ، لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ إِسْقَاطُهُ لاَ بِعِوَضٍ وَلاَ
بِغَيْرِهِ، وَبَانَتْ مِنْهُ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهَا لِلزَّوْجِ كَمَا
ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَتَحَمَّل
هِيَ أُجْرَةَ الْمَسْكَنِ مِنْ مَالِهَا زَمَنَ الْعِدَّةِ، فَإِنَّ
ذَلِكَ جَائِزٌ. وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
أَنَّ لِلْمَرْأَةِ السُّكْنَى وَلِلزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْل (1) .
26 - وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا أَنَّ الْعِوَضَ فِي الْخُلْعِ
إِنْ كَانَ مَعْلُومًا وَمُتَمَوَّلاً وَمَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ
فَإِنَّ الْخُلْعَ يُعْتَبَرُ صَحِيحًا.
أَمَّا إِذَا فَسَدَ الْعِوَضُ بِاخْتِلاَل شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ،
كَاخْتِلاَل شَرْطِ الْعِلْمِ، أَوِ الْمَالِيَّةِ، أَوِ الْقُدْرَةِ
عَلَى التَّسْلِيمِ، فَإِنَّ الْخُلْعَ يُعْتَبَرُ فَاسِدًا، وَفِيهِ
خِلاَفٌ، سَبَبُهُ تَرَدُّدُ الْعِوَضِ هَاهُنَا بَيْنَ الْعِوَضِ فِي
الْبُيُوعِ، أَوِ الأَْشْيَاءِ الْمَوْهُوبَةِ، أَوِ الْمُوصَى بِهَا
فَمَنْ شَبَّهَهُ بِالْبُيُوعِ اشْتَرَطَ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي
الْبُيُوعِ وَفِي أَعْوَاضِ الْبُيُوعِ. وَمَنْ شَبَّهَهُ بِالْهِبَاتِ
لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ ذَلِكَ (2) .
__________
(1) الخرشي 4 / 15 ط بولاق، الزرقاني 4 / 68 - ط الفكر، الدسوقي 2 /
350 - ط الفكر، مغني المحتاج 3 / 265 - ط التراث.
(2) بداية المجتهد 2 / 58 - ط التجارية.
(19/255)
وَتَتَلَخَّصُ أَحْكَامُهُ فِي
مَسْأَلَتَيْنِ:
الأُْولَى: الْخُلْعُ بِالْمَجْهُول وَبِالْمَعْدُومِ وَبِالْغَرَرِ
أَوْ بِمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ.
الْخُلْعُ بِالْمَجْهُول جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ
الْخُلْعَ عِنْدَهُمْ إِسْقَاطٌ يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ وَخُلُوُّهُ مِنَ
الْعِوَضِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُحُ،
فَيَجُوزُ بِالْمَجْهُول إِلَى الأَْجَل الْمَجْهُول الْمُسْتَدْرَكِ
الْجَهَالَةِ وَعَلَى هَذَا الأَْصْل يَجُوزُ اخْتِلاَعُهَا عَلَى
زِرَاعَةِ أَرْضِهَا، وَرُكُوبِ دَابَّتِهَا، وَخِدْمَتِهَا لَهُ عَلَى
وَجْهٍ لاَ يَلْزَمُ خَلْوَتُهُ بِهَا، أَوْ خِدْمَةُ الأَْجْنَبِيِّ؛
لأَِنَّ هَذِهِ تَجُوزُ مَهْرًا (1) .
وَيَجُوزُ الْخُلْعُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا بِالْمَجْهُول
وَالْغَرَرِ، فَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَهُمْ أَنْ تُخَالِعَ
زَوْجَهَا بِمَا فِي بَطْنِ نَاقَتِهَا، وَمِثْلُهُ الآْبِقُ،
وَالشَّارِدُ، وَالثَّمَرَةُ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهَا،
وَبِحَيَوَانٍ، وَعَرْضٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ، أَوْ بِأَجَلٍ مَجْهُولٍ،
وَلِلزَّوْجِ عَلَيْهَا الْوَسَطُ مِنْ جِنْسِ مَا وَقَعَتِ
الْمُخَالَعَةُ بِهِ، لاَ مِنْ وَسَطِ مَا يُخَالَعُ بِهِ النَّاسُ
وَلاَ يُرَاعَى فِي ذَلِكَ حَال الْمَرْأَةِ، وَإِذَا انْفَشَّ
الْحَمْل (2) الَّذِي وَقَعَ الْخُلْعُ عَلَيْهِ فَلاَ شَيْءَ
لِلزَّوْجِ؛ لأَِنَّهُ مُجَوِّزٌ لِذَلِكَ وَالطَّلاَقُ بَائِنٌ (3) .
__________
(1) فتح القدير 3 / 207 - ط الأميرية.
(2) يقال: انفشت القربة خرج ما فيها من هواء والعلة زالت.
(3) القوانين الفقهية / 233 - ط العربي، الخرشي 4 / 13 - ط بولاق،
الدسوقي 2 / 348 - ط الفكر، أسهل المدارك 2 / 158 - ط الحلبي، التاج
والإكليل 4 / 22، مواهب الجليل 4 / 22 - ط النجاح، المدونة 2 / 337 - ط
المصرية أو دار صادر.
(19/255)
وَيَصِحُّ الْخُلْعُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
أَيْضًا بِالْمَجْهُول فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَبِالْمَعْدُومِ
الَّذِي يُنْتَظَرُ وُجُودُهُ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ مَعْنًى يَجُوزُ
تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ الْعِوَضَ
الْمَجْهُول كَالْوَصِيَّةِ؛ وَلأَِنَّ الْخُلْعَ إِسْقَاطٌ لِحَقِّهِ
مِنَ الْبُضْعِ وَلَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ شَيْءٍ، وَالإِْسْقَاطُ
تَدْخُلُهُ الْمُسَامَحَةُ وَلِذَلِكَ جَازَ بِغَيْرِ عِوَضٍ عَلَى
رِوَايَةٍ (1) .
وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْخُلْعُ عَلَى مَا فِيهِ
غَرَرٌ كَالْمَجْهُول، وَهُوَ قَوْل أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ
فِي الْخُلْعِ بِالْمَجْهُول وَبِالْمَعْدُومِ الَّذِي يُنْتَظَرُ
وُجُودُهُ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْل أَحْمَدَ، وَجَزَمَ بِهِ أَبُو
مُحَمَّدٍ الْجَوْزِيُّ، وَمِثْلُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْخُلْعُ
عَلَى مُحَرَّمٍ، أَوْ عَلَى مَا لَمْ يَتِمَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ، أَوْ
عَلَى مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، لأَِنَّهُ عَقْدُ
مُعَاوَضَةٍ فَلاَ يَجُوزُ عَلَى مَا ذُكِرَ، كَالْبَيْعِ
وَالنِّكَاحِ، فَلَوْ خَالَعَ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ بَانَتْ بِمَهْرِ
الْمِثْل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ الْمُرَادُ عِنْدَ فَسَادِ
الْعِوَضِ (2) .
__________
(1) المبدع 7 / 233 - ط المكتب الإسلامي.
(2) المهذب 2 / 74 - ط الحلبي، مغني المحتاج 3 / 265 - ط التراث، 7 /
233 - ط المكتب الإسلامي، كشاف القناع 5 / 222 - ط النصر، الكافي 3 /
153 ط المكتب الإسلامي.
(19/256)
الرُّكْنُ الْخَامِسُ: الصِّيغَةُ:
27 - صِيغَةُ الْخُلْعِ هِيَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول.
أَمَّا الإِْيجَابُ وَالْقَبُول فَهُمَا رُكْنَا الْخُلْعِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَ بِعِوَضٍ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِمَا كَمَا
ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ إِنْ بَدَأَ الزَّوْجُ بِصِيغَةِ مُعَاوَضَةٍ،
كَقَوْلِهِ خَالَعْتُكِ عَلَى كَذَا الْقَبُول لَفْظًا مِمَّنْ
يَتَأَتَّى مِنْهُ النُّطْقُ، وَبِالإِْشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ مِنَ
الأَْخْرَسِ وَبِالْكِتَابَةِ مِنْهُمَا، وَأَنْ لاَ يَتَخَلَّل بَيْنَ
الإِْيجَابِ وَالْقَبُول كَلاَمٌ أَجْنَبِيٌّ كَثِيرٌ مِمَّنْ يُطْلَبُ
مِنْهُ الْجَوَابُ لإِِشْعَارِهِ بِالإِْعْرَاضِ بِخِلاَفِ الْيَسِيرِ
مُطْلَقًا، وَالْكَثِيرِ مِمَّنْ لَمْ يُطْلَبْ مِنْهُ الْجَوَابُ،
وَأَنْ يَكُونَ الْقَبُول عَلَى وَفْقِ الإِْيجَابِ، فَلَوِ اخْتَلَفَ
الإِْيجَابُ وَالْقَبُول كَطَلَّقْتُكِ بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ
بِأَلْفَيْنِ، وَعَكْسُهُ كَطَلَّقْتُكِ بِأَلْفَيْنِ فَقَبِلَتْ
بِأَلْفٍ، أَوْ طَلَّقْتُكِ ثَلاَثًا بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ وَاحِدَةً
بِثُلُثِ أَلْفٍ، فَلَغْوٌ فِي الْمَسَائِل الثَّلاَثِ لِلْمُخَالَفَةِ
كَمَا فِي الْبَيْعِ.
وَأَمَّا إِذَا ابْتَدَأَ الزَّوْجُ بِصِيغَةِ تَعْلِيقٍ فِي
الإِْثْبَاتِ، كَمَتَى أَوْ مَتَى مَا، أَوْ أَيْ حِينٍ، أَوْ زَمَانٍ،
أَوْ وَقْتٍ أَعْطَيْتنِي كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَلاَ يُشْتَرَطُ
فِيهِ الْقَبُول لَفْظًا؛ لأَِنَّ الصِّيغَةَ لاَ تَقْتَضِيهِ، وَلاَ
يُشْتَرَطُ الإِْعْطَاءُ فَوْرًا فِي الْمَجْلِسِ أَيْ مَجْلِسِ
التَّوَاجُبِ. بِخِلاَفِ مَا لَوِ ابْتَدَأَ (بِصِيغَةِ تَعْلِيقٍ فِي
النَّفْيِ، كَقَوْلِهِ مَتَى لَمْ تُعْطِنِي كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ،
فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ) وَمِثْل ذَلِكَ مَا لَوْ قَالَتْ
لَهُ: مَتَى طَلَّقْتَنِي فَلَكَ
(19/256)
عَلَيَّ أَلْفٌ، فَإِنَّ الْجَوَابَ
يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ التَّوَاجُبِ (1) .
تَعْلِيقُ الْخُلْعِ بِالشَّرْطِ:
28 - الْخُلْعُ إِنْ كَانَ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجَةِ بِأَنْ كَانَتْ
هِيَ الْبَادِئَةُ بِسُؤَال الطَّلاَقِ، فَإِنَّهُ لاَ يُقْبَل
التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ وَالإِْضَافَةِ إِلَى الْوَقْتِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِهَا
مُعَاوَضَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ فَإِنَّهُ يَقْبَل
التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالإِْضَافَةِ إِلَى الْوَقْتِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّ
الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِهِ يَمِينٌ، وَمِثْلُهُ الطَّلاَقُ عَلَى مَالٍ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَمْ يُجَوِّزُوا تَعْلِيقَ الْخُلْعِ
قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ (2) .
شَرْطُ الْخِيَارِ فِي الْخُلْعِ:
29 - يَصِحُّ لِلزَّوْجَةِ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي الْخُلْعِ لاَ
لِلزَّوْجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
لاَ يَصِحُّ لَهَا أَيْضًا؛ لأَِنَّ إِيجَابَ الزَّوْجِ
__________
(1) أسنى المطالب 3 / 250 - 251 - ط المكتبة الإسلامية، روضة الطالبين
7 / 395 - ط المكتب الإسلامي، مغني المحتاج 3 / 269 - 270 - ط التراث.
(2) تبيين الحقائق 2 / 272 - ط المعرفة، بدائع الصنائع 3 / 152 - ط
الجمالية، جواهر الإكليل 1 / 335 - ط المعرفة، روضة الطالبين 7 / 382 -
ط المكتب الإسلامي، كشاف القناع 5 / 217 - ط النصر.
(19/257)
يَمِينٌ وَلِهَذَا لاَ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ
عَنْهُ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ وَصَحَّتْ
إِضَافَتُهُ وَتَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ لِكَوْنِ الْمَوْجُودِ مِنْ
جَانِبِهِ طَلاَقًا وَقَبُولُهَا شَرْطُ الْيَمِينِ فَلاَ يَصِحُّ
خِيَارُ الشَّرْطِ فِيهِمَا؛ لأَِنَّ الْخِيَارَ لِلْفَسْخِ بَعْدَ
الاِنْعِقَادِ لاَ لِلْمَنْعِ مِنَ الاِنْعِقَادِ، وَالْيَمِينُ
وَشَرْطُهَا لاَ يَحْتَمِلاَنِ الْفَسْخَ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِهَا مُعَاوَضَةٌ
لِكَوْنِ الْمَوْجُودِ مِنْ جِهَتِهَا مَالاً، وَلِهَذَا يَصِحُّ
رُجُوعُهَا قَبْل الْقَبُول، وَلاَ تَصِحُّ إِضَافَتُهُ وَتَعْلِيقُهُ
بِالشَّرْطِ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ فَصَارَ
كَالْبَيْعِ، وَلاَ نُسَلِّمُ أَنَّهُ لِلْفَسْخِ بَعْدَ
الاِنْعِقَادِ، بَل هُوَ مَانِعٌ مِنَ الاِنْعِقَادِ فِي حَقِّ
الْحُكْمِ وَكَوْنُهُ شَرْطًا لِيَمِينِ الزَّوْجِ لاَ يَمْنَعُ أَنْ
يَكُونَ مُعَاوَضَةً فِي نَفْسِهِ (1) .
أَلْفَاظُ الْخُلْعِ:
30 - أَلْفَاظُ الْخُلْعِ سَبْعَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهِيَ:
خَالَعْتُكِ - بَايَنْتُكِ - بَارَأْتُكِ - فَارَقْتُكِ - طَلِّقِي
نَفْسَكِ عَلَى أَلْفٍ - وَالْبَيْعُ كَبِعْتُ نَفْسَكِ - وَالشِّرَاءُ
كَاشْتَرِي نَفْسَكِ.
وَلَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ وَهِيَ:
الْخُلْعُ
__________
(1) تبيين الحقائق 2 / 271 - 272 - ط بولاق، فتح القدير 3 / 213 - 214
- ط الأميرية، بدائع الصنائع 3 / 145 - ط الجمالية، حاشية ابن عابدين 2
/ 559 - ط بولاق، كشاف الأسرار للبزدوي 4 / 364 - 365 - ط العربي،
البحر الرائق 4 / 92 - ط الأولى العلمية.
(19/257)
وَالْفِدْيَةُ، وَالصُّلْحُ،
وَالْمُبَارَأَةُ وَكُلُّهَا تَئُول إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ
بَذْل الْمَرْأَةِ الْعِوَضَ عَلَى طَلاَقِهَا.
وَأَلْفَاظُ الْخُلْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
تَنْقَسِمُ إِلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ: فَالصَّرِيحُ الْمُتَّفَقُ
عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ لَفْظَانِ: لَفْظُ خُلْعٍ وَمَا يَشْتَقُّ مِنْهُ
لأَِنَّهُ ثَبَتَ لَهُ الْعُرْفُ. وَلَفْظُ الْمُفَادَاةِ وَمَا
يَشْتَقُّ مِنْهُ لِوُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ
لَفْظَ فَسْخٍ لأَِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ. وَهُوَ مِنْ كِنَايَاتِ
الْخُلْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمِنْ كِنَايَاتِهِ عِنْدَهُمْ
أَيْضًا بَيْعٌ.
وَلَفْظُ بَارَأْتُكِ، وَأَبْرَأْتُكِ، وَأَبَنْتُكِ، وَصَرِيحُ خُلْعٍ
وَكِنَايَتُهُ، كَصَرِيحِ طَلاَقٍ وَكِنَايَتِهِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَإِذَا طَلَبَتِ الْخُلْعَ
وَبَذَلَتِ الْعِوَضَ فَأَجَابَهَا بِصَرِيحِ الْخُلْعِ وَكِنَايَتِهِ،
صَحَّ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ؛ لأَِنَّ دَلاَلَةَ الْحَال مِنْ سُؤَال
الْخُلْعِ، وَبَذْل الْعِوَضِ صَارِفَةٌ إِلَيْهِ فَأَغْنَى عَنِ
النِّيَّةِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَلاَلَةَ حَالٍ فَأَتَى
بِصَرِيحِ الْخُلْعِ وَقَعَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، سَوَاءٌ قُلْنَا هُوَ
فَسْخٌ أَوْ طَلاَقٌ، وَلاَ يَقَعُ بِالْكِنَايَةِ إِلاَّ بِنِيَّةٍ
مِمَّنْ تَلَفَّظَ بِهِ مِنْهُمَا، كَكِنَايَاتِ الطَّلاَقِ مَعَ
صَرِيحِهِ (1) .
اخْتِلاَفُ الزَّوْجَيْنِ فِي الْخُلْعِ أَوْ فِي عِوَضِهِ:
31 - إِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ الْخُلْعَ، وَالزَّوْجَةُ تُنْكِرُهُ
بَانَتْ بِإِقْرَارِهِ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا دَعْوَى الْمَال فَتَبْقَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 559 - ط بولاق، بداية المجتهد 2 / 57 - ط
التجارية، حاشية الجمل على المنهج 4 / 302 - ط التراث، المغني 7 / 57 -
ط الرياض.
(19/258)
بِحَالِهَا كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ،
وَيَكُونُ الْقَوْل قَوْلَهَا فِيهَا؛ لأَِنَّهَا تُنْكِرُ، وَالْقَوْل
قَوْلُهَا بِيَمِينِهَا فِي نَفْيِ الْعِوَضِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا إِذَا ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ الْخُلْعَ، وَالزَّوْجُ يُنْكِرُهُ
فَإِنَّهُ لاَ يَقَعُ كَيْفَمَا كَانَ، كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ،
وَيُصَدَّقُ الزَّوْجُ بِيَمِينِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُهُ، وَالْقَوْل قَوْلُهُ وَلاَ
شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لأَِنَّهُ لاَ يَدَّعِيهِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ وَلَكِنْ يُفْهَمُ مِمَّا ذَكَرُوهُ فِيمَا لَوْ قَالَتِ
الزَّوْجَةُ: طَلَّقْتَنِي ثَلاَثًا بِعَشَرَةٍ فَقَال الزَّوْجُ: بَل
طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ بِعَشَرَةٍ، فَالْقَوْل قَوْل الزَّوْجِ بِلاَ
يَمِينٍ، وَوَقَعَتِ الْبَيْنُونَةُ؛ لأَِنَّ مَا زَادَ عَلَى مَا
قَالَهُ الزَّوْجُ هِيَ مُدَّعِيَةٌ لَهُ، وَكُل دَعْوَى لاَ تَثْبُتُ
إِلاَّ بِعَدْلَيْنِ فَلاَ يَمِينَ بِمُجَرَّدِهَا، وَالْمَنْقُول
عِنْدَهُمْ أَنَّ الْقَوْل قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ نَكَل حُبِسَ،
وَلاَ يُقَال تَحْلِفُ وَيَثْبُتُ مَا تَدَّعِيهِ، لأَِنَّ الطَّلاَقَ
لاَ يَثْبُتُ بِالنُّكُول مَعَ الْحَلِفِ وَتَبِينُ مِنْهُ فِي
اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْخُلْعِ، وَتَكُونُ رَجْعِيَّةً فِي غَيْرِهِ.
أَمَّا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى الْخُلْعِ، وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ
الْعِوَضِ، أَوْ جِنْسِهِ، أَوْ حُلُولِهِ، أَوْ تَأْجِيلِهِ، أَوْ
صِفَتِهِ فَالْقَوْل قَوْل الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا أَبُو بَكْرٍ نَصًّا
عَنْ أَحْمَدَ، وَالْقَوْل قَوْلُهَا أَيْضًا بِيَمِينِهَا عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْقَوْل قَوْلُهَا فِي أَصْلِهِ فَكَذَا فِي
صِفَتِهِ؛ وَلأَِنَّهَا مُنْكِرَةٌ لِلزِّيَادَةِ فِي الْقَدْرِ، أَوِ
الصِّفَةِ، فَكَانَ الْقَوْل
(19/258)
قَوْلَهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (1)
وَعَلَى الْقَوْل: إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ لاَ يُقَال يَتَحَالَفَانِ
كَالْمُتَبَايِعِينَ؛ لأَِنَّ التَّحَالُفَ فِي الْبَيْعِ يُحْتَاجُ
إِلَيْهِ لِفَسْخِ الْعَقْدِ، وَالْخُلْعُ فِي نَفْسِهِ فَسْخٌ فَلاَ
يُفْسَخُ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْقَوْل
قَوْل الزَّوْجِ؛ لأَِنَّ الْبُضْعَ يَخْرُجُ مِنْ مِلْكِهِ فَكَانَ
الْقَوْل قَوْلَهُ فِي عِوَضِهِ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ
الزَّوْجَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لأَِحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، أَوْ كَانَ
لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ وَتَعَارَضَتَا تَحَالَفَا
كَالْمُتَبَايِعِينَ فِي كَيْفِيَّةِ الْحَلِفِ وَمَنْ يَبْدَأُ بِهِ.
وَيَجِبُ بِبَيْنُونَتِهَا بِفَوَاتِ الْعِوَضِ مَهْرُ الْمِثْل وَإِنْ
كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَاهُ، لأَِنَّهُ الْمَرَدُّ، فَإِنْ كَانَ
لأَِحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ عُمِل بِهَا (2) .
__________
(1) حديث: " اليمين على المدعى عليه ". أخرجه بهذا اللفظ البيهقي (10 /
252 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس، وأشار إلى شذوذ
هذا اللفظ، ورواه بإسناد صحيح بلفظ: " البينة على المدعي، واليمين على
من أنكر ".
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 564 - ط بولاق، البحر الرائق 4 / 94 - ط
الأولى العلمية، جواهر الإكليل 1 / 336 - ط المعرفة، الشرح الكبير 2 /
360 - ط الفكر، الشرح الصغير 2 / 206 - ط المدني، الخرشي مع حاشية
العدوي عليه 4 / 26 - 27 ط بولاق، بجيرمي على الخطيب 3 / 415 - ط
المعرفة، الجمل على المنهج 4 / 318 - 319 - ط التراث، المهذب 2 / 77 -
78 - ط الحلبي، الكافي 3 / 158 - ط المكتب الإسلامي، كشاف القناع 5 /
230 - ط النصر، المبدع 7 / 246 - ط المكتب الإسلامي، المغني 7 / 93 - ط
الرياض.
(19/259)
خَلٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَل فِي اللُّغَةِ مَعْرُوفٌ، يُقَال: اخْتَل الشَّيْءُ إِذَا
تَغَيَّرَ وَاضْطَرَبَ، وَخَلَّل الْخَمْرَ أَيْ جَعَلَهَا خَلًّا (1)
. وَسُمِّيَ الْخَل بِذَلِكَ لأَِنَّهُ اخْتَل مِنْهُ طَعْمُ
الْحَلاَوَةِ إِلَى الْحُمُوضَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: نِعْمَ الأُْدْمُ
الْخَل (2) .
وَيُطْلَقُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَلَى نَفْسِ الْمَعْنَى.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخَمْرُ:
2 - الْخَمْرُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِكُل مُسْكِرٍ خَامَرَ الْعَقْل
أَيْ غَطَّاهُ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هِيَ عَصِيرُ الْعِنَبِ النِّيءُ إِذَا غَلَى
وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ.
وَيُقَال أَيْضًا لِكُل مَا خَامَرَ الْعَقْل وَسَتَرَهُ سَوَاءٌ
أَكَانَ مِنَ الْعِنَبِ أَمْ غَيْرِهِ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير ومتن اللغة مادة: (خلل) .
(2) ديث: " نعم الأدم الخل ". أخرجه
مسلم (3 / 1623 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(3) لسان العرب والمصباح والقاموس في المادة.
(19/259)
وَعَلَى ذَلِكَ فَهِيَ تَخْتَلِفُ عَنِ
الْخَل فِي الطَّعْمِ وَفِي أَنَّهَا مُسْكِرٌ (1) .
ب - النَّبِيذُ:
3 - النَّبِيذُ فِي اللُّغَةِ مِنَ النَّبْذِ بِمَعْنَى التَّرْكِ،
يُقَال: نَبَذْتُهُ نَبْذًا: أَلْقَيْتَهُ، وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ
مَا يُلْقَى مِنَ التَّمْرِ أَوِ الزَّبِيبِ وَنَحْوِهِمَا أَوِ
الْحُبُوبِ فِي الْمَاءِ لِيَكْسِبَهُ مِنْ طَعْمِهِ، وَالاِنْتِبَاذُ
اتِّخَاذُ النَّبِيذِ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَبِيذٌ) .
ج - الْخَلِيطَانِ:
4 - الْخَلِيطَانِ شَرَابٌ خُلِطَ عِنْدَ النَّبْذِ أَوِ الشُّرْبِ
مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ، أَوْ بُسْرٍ مَعَ رُطَبٍ، أَوْ
تَمْرٍ وَحِنْطَةٍ مَعَ شَعِيرٍ، أَوْ أَحَدِهِمَا مَعَ تِينٍ (3) .
وَهُنَاكَ أَشْرِبَةٌ أُخْرَى ذَاتُ صِلَةٍ بِالْخَل لَهَا أَسْمَاءٌ
مُخْتَلِفَةٌ، وَأَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ خَاصَّةٌ تَفْصِيلُهَا فِي
مُصْطَلَحِ: (أَشْرِبَةٌ) .
حُكْمُ الْخَل:
5 - الْخَل، مَالٌ مُتَقَوِّمٌ طَاهِرٌ يَحِل أَكْلُهُ
وَالْمُعَامَلَةُ بِهِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 288، والمدونة 6 / 261، ونهاية المحتاج 8 /
9، وكشاف القناع 6 / 116، والمغني 9 / 159.
(2) المعجم الوسيط والمصباح المنير مادة: (نبذ) والاختيار 4 / 100،
101، وبداية المجتهد 1 / 490 وروضة الطالبين 10 / 168، والمغني لابن
قدامة 8 / 317.
(3) تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 45، 46، وجواهر الإكليل 1 / 219،
والمغني 8 / 318 - 319.
(19/260)
وَالاِسْتِفَادَةُ مِنْهُ بِطُرُقٍ
مُخْتَلِفَةٍ كَسَائِرِ الأَْمْوَال الْمُتَقَوِّمَةِ. وَبِمَا أَنَّ
أَصْلَهُ وَأَصْل الْخَمْرِ وَسَائِرَ الأَْشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ
وَاحِدٌ غَالِبًا تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لأَِحْكَامِ الْخَل فِي
مَوَاضِعَ نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: تَخَلُّل الْخَمْرِ وَتَخْلِيلُهَا:
6 - إِذَا تَخَلَّلَتِ الْخَمْرُ بِنَفْسِهَا بِغَيْرِ عِلاَجٍ بِأَنْ
تَتَغَيَّرَ مِنَ الْخَمْرِيَّةِ إِلَى الْخَلِيَّةِ حَل ذَلِكَ
الْخَل، فَيَجُوزَ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ وَالْمُعَامَلَةُ بِهِ
بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: نِعْمَ الأُْدْمُ الْخَل (1) .
كَذَلِكَ إِذَا تَخَلَّلَتْ بِنَقْلِهَا مِنْ شَمْسٍ إِلَى ظِلٍّ
وَعَكْسُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (2) .
وَاخْتَلَفُوا فِي تَخْلِيلِهَا بِالْعِلاَجِ بِإِلْقَاءِ الْخَل، أَوِ
الْبَصَل، أَوِ الْمِلْحِ فِيهَا، أَوْ إِيقَادِ نَارٍ عِنْدَهَا
بِقَصْدِ التَّخْلِيل:
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ
مَالِكٍ: لاَ يَحِل تَخْلِيل الْخَمْرِ بِالْعِلاَجِ وَلاَ تَطْهُرُ
بِالتَّخْلِيل. لِحَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ: أَنَّهُ سَأَل رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا
خَمْرًا فَقَال: أَهْرِقْهَا، قَال: أَفَلاَ أَجْعَلُهَا خَلًّا؟ قَال:
لاَ (3) .
__________
(1) حديث: " نعم الأدم الخل ". تقدم تخريجه ف / 1.
(2) فتح القدير 8 / 166، 167، والزيلعي 6 / 48، 49، وبداية المجتهد 1 /
461، ومغني المحتاج 1 / 81، والروضة 4 / 72، وكشاف القناع 1 / 187.
(3) حديث أبي طلحة: " أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أيتام.
. " أخرجه أبو داود (4 / 82 - 83 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح.
(19/260)
وَلأَِنَّنَا أُمِرْنَا بِاجْتِنَابِ
الْخَمْرِ، وَفِي التَّخْلِيل اقْتِرَابٌ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ
التَّمَوُّل فَلاَ يَجُوزُ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
جَازَ تَخْلِيل الْخَمْرِ، وَحَل شُرْبُ ذَلِكَ الْخَل وَأَكْلُهُ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: نِعْمَ الأُْدْمُ الْخَل
مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ بَيْنَ التَّخْلِيل وَالتَّخَلُّل،
وَلأَِنَّ التَّخْلِيل يُزِيل الْوَصْفَ الْمُفْسِدَ، وَيَثْبُتُ
وَصْفُ الصَّلاَحِيَّةِ؛ لأَِنَّ فِيهِ مَصْلَحَةَ التَّدَاوِي،
وَالتَّغَذِّي وَمَصَالِحَ أُخْرَى، وَإِذَا زَال الْمُفْسِدُ
الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ حَلَّتْ، كَمَا إِذَا تَخَلَّلَتْ
بِنَفْسِهَا؛ وَلأَِنَّ التَّخْلِيل إِصْلاَحٌ فَجَازَ قِيَاسًا عَلَى
جَوَازِ دَبْغِ الْجِلْدِ (2) ، فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا دُبِغَ الإِْهَابُ فَقَدْ طَهُرَ (3)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَشْرِبَةٌ ج 5 27 - 29) (وَتَخْلِيلٌ
ج 11 54) .
ثَانِيًا: أَكْل وَشُرْبُ الْخَل:
7 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ أَكْل وَشُرْبِ
الْخَل، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الْعِنَبِ أَمْ غَيْرِهِ، كَمَا أَنَّهُ
لاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ أَكْل خَل الْخَمْرِ الَّتِي تَخَلَّلَتْ
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 461، وجواهر الإكليل 1 / 9، والمجموع 1 / 225،
والمغني 8 / 319، وكشاف القناع 1 / 187.
(2) فتح القدير 8 / 166، 167، والزيلعي 6 / 48، 49 وابن عابدين 1 /
209، والاختيار 4 / 101، 102، وجواهر الإكليل 1 / 9.
(3) حديث: " إذا دبغ الإهاب فقد طهر ". أخرجه مسلم (1 / 277 - ط
الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.
(19/261)
بِنَفْسِهَا بِغَيْرِ عِلاَجٍ، لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نِعْمَ الأُْدْمُ الْخَل (1) .
وَكَمَا حَل أَكْل الْخَل حَل أَكْل دُودِهِ مَعَ الْخَل حَيًّا أَوْ
مَيِّتًا، كَدُودِ الْفَاكِهَةِ مَعَهَا لِعُسْرِ تَمْيِيزِهِ عَنْهُ؛
لأَِنَّهُ كَجُزْئِهِ طَبْعًا وَطَعْمًا. أَمَّا أَكْلُهُ مُنْفَرِدًا
فَحَرَامٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ (2)
أَمَّا إِذَا خُلِّلَتِ الْخَمْرُ بِالْعِلاَجِ بِإِلْقَاءِ الْخَل
أَوِ الْمِلْحِ فِيهَا مَثَلاً، فَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي
تَخَلُّل الْخَمْرِ وَتَخْلِيلِهَا ف 6.
ثَالِثًا: الطَّهَارَةُ بِالْخَل:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ إِزَالَةِ الْحَدَثِ
الأَْصْغَرِ أَوِ الأَْكْبَرِ بِالْخَل وَمَاءِ الْوَرْدِ
وَالْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُعْتَصَرُ مِنْ
شَجَرٍ أَوْ ثَمَرٍ؛ لأَِنَّهُ يُشْتَرَطُ لِرَفْعِ الْحَدَثِ أَنْ
يَكُونَ بِمَاءٍ مُطْلَقٍ، وَالْخَل لاَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ
الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَمَاءُ الْوَرْدِ وَالْبِطِّيخِ وَنَحْوِهِمَا
لاَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَاءِ إِلاَّ بِالْقَيْدِ (3) .
__________
(1) الاختيار 4 / 101، 102، وجواهر الإكليل 1 / 9، 219، وأسنى المطالب
1 / 567، 568، ومطالب أولي النهى 5 / 250. وحديث: " نعم الأدم الخل ".
سبق تخريجه ف / 1.
(2) فتح القدير مع الهداية 1 / 57، وأسنى المطالب 1 / 567، والمجموع 1
/ 131، وكشاف القناع 6 / 204.
(3) فتح القدير 1 / 133، 177، وابن عابدين 1 / 23، والفتاوى الهندية 1
/ 21، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 34، والمجموع للنووي 1 / 95
- 97، والمغني 1 / 9.
(19/261)
كَذَلِكَ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ
إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ مِنَ الثَّوْبِ
وَالْبَدَنِ بِالْخَل، فَالطَّهَارَةُ مِنَ النَّجَاسَةِ لاَ تَحْصُل
عِنْدَهُمْ إِلاَّ بِمَا تَحْصُل بِهِ الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ،
لِدُخُولِهَا فِي عُمُومِ الطَّهَارَةِ، وَهَذَا قَوْل الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ، وَقَوْل مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَزُفَرَ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (1) ، {وَيُنَزِّل عَلَيْكُمْ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} (2) ، قَال النَّوَوِيُّ:
ذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى امْتِنَانًا فَلَوْ حَصَلَتِ
الطَّهَارَةُ بِغَيْرِهِ لَمْ يَحْصُل الاِمْتِنَانُ بِهِ (3) .
وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ إِحْدَاكُنَّ الدَّمُ مِنَ
الْحَيْضَةِ فَلْتَقْرُصْهُ، ثُمَّ لِتَنْضَحْهُ بِمَاءٍ ثُمَّ
لِتُصَلِّيَ فِيهِ (4) . وَلَمْ يُنْقَل عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَازُ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِغَيْرِ
الْمَاءِ، فَلَوْ جَازَ بِغَيْرِ الْمَاءِ لَبَيَّنَهُ مَرَّةً
فَأَكْثَرَ (5) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ
__________
(1) سورة الفرقان / 48.
(2) سورة الأنفال / 11.
(3) المجموع للنووي 1 / 95.
(4) حديث: " إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة. . " أخرجه البخاري
(الفتح 1 / 410 - ط السلفية) . ومسلم (1 / 240 - ط الحلبي) من حديث
أسماء بنت أبي بكر واللفظ للبخاري.
(5) المجموع للنووي 1 / 95، والمراجع السابقة.
(19/262)
الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ تَطْهِيرُ
النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ وَبِكُل مَائِعٍ طَاهِرٍ يُمْكِنُ
إِزَالَتُهَا بِهِ، كَالْخَل وَمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا
إِذَا عُصِرَ انْعَصَرَ بِخِلاَفِ الدُّهْنِ وَالزَّيْتِ وَاللَّبَنِ
وَالسَّمْنِ.
وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
قَالَتْ: مَا كَانَ لإِِحْدَانَا إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ تَحِيضُ فِيهِ،
فَإِذَا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ قَالَتْ بِرِيقِهَا فَقَصَعَتْهُ
بِظُفْرِهَا (1) وَبِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا جَاءَ
أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ، فَإِنْ رَأَى فِي
نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ، وَلْيُصَل فِيهِمَا (2)
. وَمَوْضِعُ الدَّلاَلَةِ أَنَّهَا طَهَارَةٌ بِغَيْرِ الْمَاءِ،
فَدَل عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ؛ وَلأَِنَّ الْخَل وَنَحْوَهُ مِنَ
الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ قَالِعٌ لِلنَّجَاسَةِ وَمُزِيلٌ لَهَا
كَالْمَاءِ فَيَأْخُذُ حُكْمَهُ (3) .
رَابِعًا: بَيْعُ الْخَل وَالْمُعَامَلَةُ بِهِ:
9 - الأَْصْل أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَكِيل أَوِ الْمَوْزُونِ
بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلاً وَلاَ نَسَاءً؛ لأَِنَّهُ يُعْتَبَرُ رِبًا،
__________
(1) حديث عائشة: " ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد. . " أخرجه البخاري
(الفتح 1 / 412 - ط السلفية) .
(2) حديث: " إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر. . " أخرجه أبو داود (1 /
427 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال النووي في المجموع (2 / 179 - ط
المنيرية) : " إسناده صحيح ".
(3) فتح القدير مع الهداية 1 / 133، والفتاوى الهندية 1 / 21، 43،
وأسنى المطالب 1 / 18، والمجموع للنووي 1 / 95 - 97، والمغني لابن
قدامة 1 / 9.
(19/262)
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالْفِضَّةُ
بِالْفِضَّةِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلاً
بِمِثْلٍ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالْمِلْحُ
بِالْمِلْحِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مِثْلاً
بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى، بِيعُوا
الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ، وَبِيعُوا
الْبُرَّ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ، وَبِيعُوا
الشَّعِيرَ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ (1) وَفِي
رِوَايَةٍ وَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْشْيَاءُ فَبِيعُوا كَيْفَ
شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ خَل الْعِنَبِ بِخَل الْعِنَبِ،
وَلاَ بَيْعُ خَل الزَّبِيبِ بِخَل الزَّبِيبِ، وَلاَ بَيْعُ خَل
التَّمْرِ بِخَل التَّمْرِ مُتَفَاضِلاً وَلاَ نَسَاءً، وَيَجُوزُ
مُتَمَاثِلاً يَدًا بِيَدٍ، وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ
لاِتِّحَادِ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ؛ لأَِنَّ الْخَل مِنَ الْمَكِيلاَتِ
(2) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ الْخُلُول مِنْ أَنْوَاعٍ
مُخْتَلِفَةٍ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ آخَرَ، كَخَل الْعِنَبِ بِخَل
التَّمْرِ مَثَلاً. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ
__________
(1) حديث: " الذهب بالذهب مثلاً بمثل. . " أخرجه مسلم (3 / 1211 - ط
الحلبي) والترمذي (3 / 541 - ط الحلبي) من حديث عبادة بن الصامت،
واللفظ للترمذي.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 185، وتبيين الحقائق للزيلعي 4 / 87، 94،
وجواهر الإكليل 2 / 18، 19، ومغني المحتاج 2 / 22، 23، 24، وكشاف
القناع 3 / 251 - 255، وروضة الطالبين 3 / 291، وحاشية الجمل 3 / 60،
61، والمغني 4 / 4، 25 - 27.
(19/263)
الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى
أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ نَوْعٍ مِنَ الْخَل بِنَوْعٍ آخَرَ مِنْهُ
مُتَفَاضِلاً كَاللُّحُومِ الْمُخْتَلِفَةِ؛ لأَِنَّ أُصُولَهَا
أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ حَتَّى لاَ يُضَمُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فِي
الزَّكَاةِ، وَأَسْمَاؤُهَا أَيْضًا مُخْتَلِفَةٌ بِاعْتِبَارِ
الإِْضَافَةِ كَدَقِيقِ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ، وَالْمَقْصُودُ أَيْضًا
مُخْتَلِفٌ، فَبَعْضُ النَّاسِ يَرْغَبُ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ،
وَقَدْ يَضُرُّهُ الْبَعْضُ وَيَنْفَعُهُ غَيْرُهُ، فَفُرُوعُ
الأَْجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ تُعْتَبَرُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً،
كَالدَّقِيقِ وَالْخُبْزِ وَالدُّهْنِ وَالْخَل؛ لأَِنَّ الْفُرُوعَ
تَتْبَعُ أُصُولَهَا. وَعَلَى ذَلِكَ فَخَل التَّمْرِ جِنْسٌ وَخَل
الْعِنَبِ جِنْسٌ آخَرُ يَجُوزُ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا مُتَفَاضِلاً
(1) .
إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ فَصَّلُوا فِي بَيْعِ الْخَل إِذَا
دَخَلَهُ الْمَاءُ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مِنْ هَذَا بَيْعَ خَل عِنَبٍ بِخَل
زَبِيبٍ، فَقَالُوا بِعَدَمِ جَوَازِهِ وَلَوْ مُتَمَاثِلاً؛
لاِنْفِرَادِ خَل الزَّبِيبِ بِالْمَاءِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: إِنَّ
جَمِيعَ الْخُلُول جِنْسٌ وَاحِدٌ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنَ الْعِنَبِ،
أَمْ مِنَ الزَّبِيبِ، أَوِ التَّمْرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ
لاَ يَتَعَدَّدُ جِنْسُ الأَْنْبِذَةِ عِنْدَهُمْ. حَتَّى إِنَّ
الأَْنْبِذَةَ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 185، والزيلعي 4 / 94، ومغني المحتاج 2 / 23، 24،
والروضة 3 / 291، ونهاية المحتاج 3 / 416، وحاشية الجمل 3 / 60، 61،
وكشاف القناع 3 / 255، والمغني 4 / 25.
(2) كشاف القناع 3 / 255.
(19/263)
وَالْخُلُول اعْتُبِرَتْ جِنْسًا وَاحِدًا
فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ التَّفَاضُل وَلاَ النَّسَاءُ فِي بَيْعِ
الْخُلُول وَلَوْ مِنْ أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
لأَِنَّهَا كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، كَمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا
بِالأَْنْبِذَةِ مُتَفَاضِلَةً فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ
لاِعْتِبَارِهِمْ الْخُلُول وَالأَْنْبِذَةَ جِنْسًا وَاحِدًا
لِتَقَارُبِ مَنْفَعَتِهَا (1) .
خَامِسًا: الضَّمَانُ فِي غَصْبِ الْخَل وَإِتْلاَفِهِ:
10 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى
مَنْ غَصَبَ أَوْ أَتْلَفَ خَل مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ؛ لأَِنَّهُ مَالٌ
مُتَقَوِّمٌ طَاهِرٌ يَجُوزُ أَكْلُهُ وَاقْتِنَاؤُهُ وَالْمُعَامَلَةُ
بِهِ كَمَا سَبَقَ (2) .
11 - وَلَوْ غَصَبَ خَمْرًا فَتَخَلَّلَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ يَجِبُ
رَدُّهُ عَلَيْهِ إِلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهَا صَارَتْ خَلًّا عَلَى مِلْكِ الْمَغْصُوبِ
مِنْهُ وَيَدُ الْمَالِكِ لَمْ تَزُل عَنْهَا بِالْغَصْبِ،
فَكَأَنَّهَا تَخَلَّلَتْ فِي يَدِ الْمَالِكِ (3) .
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 18، 19، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 49.
(2) ابن عابدين 5 / 114، ومغني المحتاج 2 / 285، والحطاب 5 / 280،
وكشاف القناع 4 / 78.
(3) حاشية ابن عابدين مع الدر المختار 5 / 134، وجواهر الإكليل على
مختصر خليل 2 / 149، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 447، ومغني
المحتاج 3 / 291، ومطالب أولي النهى 4 / 5.
(19/264)
وَكَذَلِكَ إِذَا خَلَّلَهَا الْغَاصِبُ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (وَهُمْ يَقُولُونَ بِجَوَازِ
التَّخْلِيل بِالْعِلاَجِ كَمَا سَبَقَ) ، لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ
قَيَّدُوا بِمَا إِذَا كَانَ التَّخْلِيل بِمَا لاَ قِيمَةَ لَهُ
كَإِلْقَاءِ حِنْطَةٍ وَمِلْحٍ يَسِيرٍ، أَوْ تَشْمِيسٍ. أَمَّا لَوْ
خَلَّلَهَا بِذِي قِيمَةٍ كَالْمِلْحِ الْكَثِيرِ وَالْخَل، فَالْخَل
مِلْكُ الْغَاصِبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لأَِنَّ الْمِلْحَ وَالْخَل
مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَالْخَمْرُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ، فَيَرْجِعُ جَانِبُ
الْغَاصِبِ فَيَكُونُ لَهُ بِلاَ شَيْءٍ، خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ حَيْثُ قَالاَ: يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ إِنْ شَاءَ،
وَيَرُدُّ قَدْرَ وَزْنِ الْمِلْحِ مِنَ الْخَل (1) .
وَالْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْخَل لِلْغَاصِبِ
مُطْلَقًا لِحُصُول الْمَالِيَّةِ عِنْدَهُ (2) .
ثُمَّ إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ فَصَّلُوا بَيْنَ خَمْرِ الْمُسْلِمِ
وَخَمْرِ الْكَافِرِ فَقَالُوا: إِذَا كَانَتِ الْخَمْرُ لِلْكَافِرِ
وَتَخَلَّلَتْ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَخْذِ الْخَل وَبَيْنَ تَرْكِهِ
وَأَخْذِ قِيمَتِهَا. وَإِذَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ
أَخْذُ الْخَل (3) .
12 - وَلَوْ غَصَبَ عَصِيرًا فَتَخَمَّرَ عِنْدَ الْغَاصِبِ، فَقَال
الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ عَلَى
الْغَاصِبِ الضَّمَانَ بِرَدِّ مِثْلِهِ؛ لأَِنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ
التَّالِفِ لِذَهَابِ مَالِيَّتِهِ بِتَخَمُّرِهِ وَانْقِلاَبِهِ إِلَى
مَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين مع الدر 5 / 134، وجواهر الإكليل 2 / 149.
(2) مغني المحتاج 2 / 290، 291.
(3) جواهر الإكليل 2 / 149، وحاشية الدسوقي 3 / 447.
(19/264)
لاَ يَجُوزُ تَمَلُّكُهُ (1) .
وَإِذَا تَخَلَّل عِنْدَ الْغَاصِبِ بَعْدَ التَّخَمُّرِ فَقَال
الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَرُدُّهُ
الْغَاصِبُ وَيَرُدُّ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْعَصِيرِ أَوْ نَقَصَ
مِنْهُ بِسَبَبِ غَلَيَانِهِ، لأَِنَّهُ نَقْصٌ حَصَل فِي يَدِ
الْغَاصِبِ فَيَضْمَنُهُ.
وَفِي الْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: يَلْزَمُهُ مِثْل
الْعَصِيرِ. لأَِنَّهُ بِالتَّخَمُّرِ كَالتَّالِفِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ تَخَلَّل الْعَصِيرُ الْمَغْصُوبُ
ابْتِدَاءً أَوْ بَعْدَ تَخَمُّرِهِ خُيِّرَ مَالِكُهُ بَيْنَ أَخْذِ
عَصِيرِ مِثْلِهِ وَبَيْنَ أَخْذِهِ خَلًّا (3) .
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 149، ومغني المحتاج 2 / 291، وكشاف القناع 4 /
110.
(2) مغني المحتاج 2 / 291، وكشاف القناع 4 / 110.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 447.
(19/265)
خَلْوَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَلْوَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ خَلاَ الْمَكَانُ وَالشَّيْءُ
يَخْلُو خُلُوًّا وَخَلاَءً، وَأَخْلَى الْمَكَانُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ
فِيهِ أَحَدٌ وَلاَ شَيْءَ فِيهِ، وَخَلاَ الرَّجُل وَأَخْلَى وَقَعَ
فِي مَكَان خَالٍ لاَ يُزَاحَمُ فِيهِ.
وَخَلاَ الرَّجُل بِصَاحِبِهِ وَإِلَيْهِ وَمَعَهُ خُلُوًّا وَخَلاَءً
وَخَلْوَةً: انْفَرَدَ بِهِ وَاجْتَمَعَ مَعَهُ فِي خَلْوَةٍ،
وَكَذَلِكَ خَلاَ بِزَوْجَتِهِ خَلْوَةً.
وَالْخَلْوَةُ: الاِسْمُ، وَالْخِلْوُ: الْمُنْفَرِدُ، وَامْرَأَةٌ
خَالِيَةٌ، وَنِسَاءٌ خَالِيَاتٌ: لاَ أَزْوَاجَ لَهُنَّ وَلاَ
أَوْلاَدَ، وَالتَّخَلِّي: التَّفَرُّغُ، يُقَال: تَخَلَّى
لِلْعِبَادَةِ، وَهُوَ تَفَعُّلٌ مِنَ الْخُلُوِّ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا الْمُصْطَلَحِ عَنْ
مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ (2) .
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، الكليات، المفردات للراغب.
(2) البدائع 2 / 293، الصاوي على الشرح الصغير 1 / 313 ط الحلبي،
المجموع 4 / 155 وما بعدها، شرح منتهى الإرادات 3 / 7، شرح صحيح مسلم
للنووي 2 / 198.
(19/265)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ.
أ - الاِنْفِرَادُ:
2 - الاِنْفِرَادُ مَصْدَرُ انْفَرَدَ، يُقَال: انْفَرَدَ الرَّجُل
بِنَفْسِهِ انْقَطَعَ وَتَنَحَّى، وَتَفَرَّدَ بِالشَّيْءِ انْفَرَدَ
بِهِ، وَفَرَّدَ الرَّجُل إِذَا تَفَقَّهَ وَاعْتَزَل النَّاسَ،
وَخَلاَ بِمُرَاعَاةِ الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْعِبَادَةِ. وَقَدْ
جَاءَ فِي الْخَبَرِ: طُوبَى لِلْمُفْرِّدِينَ (1) . وَاسْتَفْرَدَ
فُلاَنًا انْفَرَدَ بِهِ (2) .
ب - الْعُزْلَةُ:
3 - الْعُزْلَةُ اسْمُ مَصْدَرٍ، يُقَال عَزَلْتُ الشَّيْءَ عَنْ
غَيْرِهِ عَزْلاً نَحَّيْتَهُ عَنْهُ، وَمِنْهُ عَزَلْتُ النَّائِبَ
كَالْوَكِيل إِذَا أَخْرَجْتَهُ عَمَّا كَانَ لَهُ مِنَ الْحُكْمِ،
وَانْعَزَل عَنِ النَّاسِ، إِذَا تَنَحَّى عَنْهُمْ جَانِبًا،
وَفُلاَنٌ عَنِ الْحَقِّ بِمَعْزِلٍ، أَيْ مُجَانِبٌ لَهُ،
وَتَعَزَّلْتُ الْبَيْتَ وَاعْتَزَلْتُهُ، وَالاِعْتِزَال تَجَنُّبُ
الشَّيْءِ عِمَالَةً كَانَتْ أَوْ بَرَاءَةً، أَوْ غَيْرَهُمَا،
بِالْبَدَنِ كَانَ ذَلِكَ أَوْ بِالْقَلْبِ. وَتَعَازَل الْقَوْمُ
انْعَزَل بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَالْعُزْلَةُ: الاِنْعِزَال
نَفْسُهُ، يُقَال: الْعُزْلَةُ عِبَادَةٌ (3) .
__________
(1) حديث: " طوبى للمفردين ". أورده ابن الأثير في النهاية (3 / 425 -
ط الحلبي) دون عزوه لأحد، وقد ورد بلفظ: " سبق المفردون "، أخرجه مسلم
(4 / 2062 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) لسان العرب، المصباح المنير مادة: " فرد ".
(3) لسان العرب، المصباح المنير، المفردات للراغب مادة: " عزل ".
(19/266)
ج - السِّتْرُ:
4 - السِّتْرُ مَا يُسْتَرُ بِهِ، أَيْ يُغَطَّى بِهِ وَيُخْفَى،
وَجَمْعُهُ سُتُورٌ، وَالسُّتْرَةُ مِثْلُهُ، قَال ابْنُ فَارِسٍ:
السُّتْرَةُ مَا اسْتَتَرْتَ بِهِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَالسِّتَارَةُ
بِالْكَسْرِ، وَالسِّتَارُ بِحَذْفِ الْهَاءِ لُغَةً.
وَيُقَال لِمَا يَنْصِبُهُ الْمُصَلِّي قُدَّامَهُ عَلاَمَةً
لِمُصَلاَّهُ مِنْ عَصًا، وَتَسْنِيمِ تُرَابٍ، وَغَيْرِهِ، سُتْرَةً،
لأَِنَّهُ يَسْتُرُ الْمَارَّ مِنَ الْمُرُورِ أَيْ يَحْجُبُهُ.
وَالاِسْتِتَارُ: الاِخْتِفَاءُ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الْخَلْوَةُ بِمَعْنَى الاِنْفِرَادِ بِالنَّفْسِ فِي مَكَان
خَالٍ، الأَْصْل فِيهَا الْجَوَازُ، بَل قَدْ تَكُونُ مُسْتَحَبَّةً،
إِذَا كَانَتْ لِلذِّكْرِ وَالْعِبَادَةِ، وَلَقَدْ حُبِّبَ الْخَلاَءُ
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل
الْبَعْثَةِ، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ (2) ،
قَال النَّوَوِيُّ: الْخَلْوَةُ شَأْنُ الصَّالِحِينَ وَعِبَادِ
اللَّهِ الْعَارِفِينَ (3) .
وَالْخَلْوَةُ بِمَعْنَى الاِنْفِرَادِ بِالْغَيْرِ تَكُونُ مُبَاحَةً
بَيْنَ الرَّجُل وَالرَّجُل، وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةِ إِذَا
لَمْ يَحْدُثْ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ شَرْعًا، كَالْخَلْوَةِ لاِرْتِكَابِ
مَعْصِيَةٍ، وَكَذَلِكَ هِيَ مُبَاحَةٌ بَيْنَ الرَّجُل وَمَحَارِمِهِ
مِنَ النِّسَاءِ، وَبَيْنَ الرَّجُل وَزَوْجَتِهِ.
__________
(1) اللسان، المصباح المنير، مفردات الراغب مادة: " ستر ".
(2) حديث: " كان يخلو بغار حراء يتحنث فيه ". أخرجه البخاري (الفتح 1 /
23 - ط السلفية) من حديث عائشة.
(3) شرح صحيح مسلم 2 / 198.
(19/266)
وَمِنَ الْمُبَاحِ أَيْضًا الْخَلْوَةُ
بِمَعْنَى انْفِرَادِ رَجُلٍ بِامْرَأَةٍ فِي وُجُودِ النَّاسِ،
بِحَيْثُ لاَ تَحْتَجِبُ أَشْخَاصُهُمَا عَنْهُمْ، بَل بِحَيْثُ لاَ
يَسْمَعُونَ كَلاَمَهُمَا.
فَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ
الأَْنْصَارِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَخَلاَ بِهَا (1) وَعَنْوَنَ ابْنُ حَجَرٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ بِبَابِ
مَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ الرَّجُل بِالْمَرْأَةِ عِنْدَ النَّاسِ،
وَعَقَّبَ بِقَوْلِهِ: لاَ يَخْلُو بِهَا بِحَيْثُ تَحْتَجِبُ
أَشْخَاصُهُمَا عَنْهُمْ، بَل بِحَيْثُ لاَ يَسْمَعُونَ كَلاَمَهُمَا
إِذَا كَانَ بِمَا يُخَافِتُ بِهِ كَالشَّيْءِ الَّذِي تَسْتَحِي
الْمَرْأَةُ مِنْ ذِكْرِهِ بَيْنَ النَّاسِ (2) .
وَتَكُونُ الْخَلْوَةُ حَرَامًا كَالْخَلْوَةِ بِالأَْجْنَبِيَّةِ
عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
وَقَدْ تَكُونُ الْخَلْوَةُ بِالأَْجْنَبِيَّةِ وَاجِبَةً فِي حَال
الضَّرُورَةِ، كَمَنْ وَجَدَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً مُنْقَطِعَةً فِي
بَرِيَّةٍ، وَيَخَافُ عَلَيْهَا الْهَلاَكَ لَوْ تُرِكَتْ (3) .
الْخَلْوَةُ بِالأَْجْنَبِيَّةِ:
6 - الأَْجْنَبِيَّةُ: هِيَ مَنْ لَيْسَتْ زَوْجَةً وَلاَ مَحْرَمًا،
__________
(1) حديث: " جاءت امرأة من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم. . "
أخرجه البخاري (الفتح 9 / 333 - ط السلفية) من حديث أنس بن مالك.
(2) فتح الباري 9 / 333.
(3) البدائع 5 / 125، ابن عابدين 5 / 235، 236، الحطاب 3 / 410،
المجموع 4 / 157، تحقيق المطيعي، المغني 6 / 553، منتهى الإرادات 3 /
7.
(19/267)
وَالْمَحْرَمُ مَنْ يَحْرُمُ نِكَاحُهَا
عَلَى التَّأْبِيدِ، إِمَّا بِالْقَرَابَةِ، أَوِ الرَّضَاعَةِ، أَوِ
الْمُصَاهَرَةِ (1) ، وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل الْخَلْوَةُ بِهَا،
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ، قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ مَعَ ذِي
مَحْرَمٍ (2) .
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَلْوَةَ
بِالأَْجْنَبِيَّةِ مُحَرَّمَةٌ.
وَقَالُوا: لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لَيْسَتْ مِنْهُ
بِمَحْرَمٍ، وَلاَ زَوْجَةٍ، بَل أَجْنَبِيَّةٌ؛ لأَِنَّ الشَّيْطَانَ
يُوَسْوِسُ لَهُمَا فِي الْخَلْوَةِ بِفِعْل مَا لاَ يَحِل، قَال
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ
بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ (3) .
وَقَالُوا: إِنْ أَمَّ بِأَجْنَبِيَّةٍ وَخَلاَ بِهَا، حَرُمَ ذَلِكَ
عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْخَلْوَةُ بِالأَْجْنَبِيَّةِ حَرَامٌ إِلاَّ
لِمُلاَزَمَةِ مَدْيُونَةٍ هَرَبَتْ، وَدَخَلَتْ خَرِبَةً (4) .
__________
(1) البدائع 2 / 124.
(2) حديث: " لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم ". أخرجه البخاري
(الفتح 9 / 331 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عباس.
(3) حديث: " لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان ". أخرجه
الترمذي (4 / 466 - ط الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب، وقال: " حسن صحيح
".
(4) الأشباه والنظائر لابن نجيم / 288، والفواكه الدواني 2 / 409، 410،
والمجموع 4 / 155، ومطالب أولي النهى 5 / 18، وشرح منتهى الإرادات 3 /
7.
(19/267)
الْخَلْوَةُ بِالأَْجْنَبِيَّةِ مَعَ
وُجُودِ غَيْرِهَا مَعَهَا:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ خَلْوَةِ الرَّجُل
بِالأَْجْنَبِيَّةِ مَعَ وُجُودِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَكَذَا
خَلْوَةُ عَدَدٍ مِنَ الرِّجَال بِامْرَأَةٍ، فَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ
الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ، فَقَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: كَمَا يَحْرُمُ
عَلَى الرَّجُل أَنْ يَخْلُوَ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، كَذَلِكَ
يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْلُوَ بِنِسْوَةٍ، وَلَوْ خَلاَ رَجُلٌ
بِنِسْوَةٍ، وَهُوَ مَحْرَمُ إِحْدَاهُنَّ جَازَ، وَكَذَلِكَ إِذَا
خَلَتِ امْرَأَةٌ بِرِجَالٍ، وَأَحَدُهُمْ مَحْرَمٌ لَهَا جَازَ،
وَلَوْ خَلاَ عِشْرُونَ رَجُلاً بِعِشْرِينَ امْرَأَةً، وَإِحْدَاهُنَّ
مَحْرَمٌ لأَِحَدِهِمْ جَازَ، قَال: وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى
أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يُصَلِّيَ بِنِسَاءٍ
مُنْفَرِدَاتٍ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ إِحْدَاهُنَّ مَحْرَمًا لَهُ.
وَحَكَى صَاحِبُ الْعِدَّةِ عَنِ الْقَفَّال مِثْل الَّذِي ذَكَرَهُ
إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَحَكَى فِيهِ نَصَّ الشَّافِعِيِّ فِي
تَحْرِيمِ خَلْوَةِ الرَّجُل بِنِسْوَةٍ مُنْفَرِدًا بِهِنَّ.
وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْمَجْمُوعِ بَعْدَ إِيرَادِ الأَْقْوَال
السَّابِقَةِ أَنَّ الْمَشْهُورَ جَوَازُ خَلْوَةِ رَجُلٍ بِنِسْوَةٍ
لاَ مَحْرَمَ لَهُ فِيهِنَّ؛ لِعَدَمِ الْمَفْسَدَةِ غَالِبًا؛ لأَِنَّ
النِّسَاءَ يَسْتَحْيِينَ مِنْ بَعْضِهِنَّ بَعْضًا فِي ذَلِكَ (1) .
وَفِي حَاشِيَةِ الْجَمَل: يَجُوزُ خَلْوَةُ رَجُلٍ بِامْرَأَتَيْنِ
ثِقَتَيْنِ يَحْتَشِمُهُمَا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. أَمَّا خَلْوَةُ
رِجَالٍ بِامْرَأَةٍ، فَإِنْ حَالَتِ الْعَادَةُ دُونَ تَوَاطُئِهِمْ
عَلَى
__________
(1) المجموع 7 / 61، 62.
(19/268)
وُقُوعِ فَاحِشَةٍ بِهَا، كَانَتْ خَلْوَةً
جَائِزَةً، وَإِلاَّ فَلاَ (1) . وَفِي الْمَجْمُوعِ: إِنْ خَلاَ
رَجُلاَنِ أَوْ رِجَالٌ بِامْرَأَةٍ فَالْمَشْهُورُ تَحْرِيمُهُ؛
لأَِنَّهُ قَدْ يَقَعُ اتِّفَاقُ رِجَالٍ عَلَى فَاحِشَةٍ بِامْرَأَةٍ،
وَقِيل: إِنْ كَانُوا مِمَّنْ تَبْعُدُ مُوَاطَأَتُهُمْ عَلَى
الْفَاحِشَةِ جَازَ (2) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَتَنْتَفِي عِنْدَهُمْ حُرْمَةُ الْخَلْوَةِ
بِوُجُودِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ، وَهَذَا يُفِيدُ جَوَازَ الْخَلْوَةِ
بِأَكْثَرَ مِنَ امْرَأَةٍ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ، أَنَّ
الْخَلْوَةَ الْمُحَرَّمَةَ بِالأَْجْنَبِيَّةِ تَنْتَفِي بِالْحَائِل،
وَبِوُجُودِ مَحْرَمٍ لِلرَّجُل مَعَهُمَا، أَوِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ
قَادِرَةٍ (3) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تُكْرَهُ صَلاَةُ رَجُلٍ بَيْنَ نِسَاءٍ أَيْ
بَيْنَ صُفُوفِ النِّسَاءِ، وَكَذَا مُحَاذَاتُهُ لَهُنَّ بِأَنْ
تَكُونَ امْرَأَةٌ عَنْ يَمِينِهِ وَأُخْرَى عَنْ يَسَارِهِ، وَيُقَال
مِثْل ذَلِكَ فِي امْرَأَةٍ بَيْنَ رِجَالٍ، وَظَاهِرُهُ، وَإِنْ كُنَّ
مَحَارِمَ (4) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَحْرُمُ خَلْوَةُ الرَّجُل مَعَ عَدَدٍ مِنَ
النِّسَاءِ أَوِ الْعَكْسِ كَأَنْ يَخْلُوَ عَدَدٌ مِنَ الرِّجَال
بِامْرَأَةٍ (5) .
الْخَلْوَةُ بِالْمَخْطُوبَةِ:
8 - الْمَخْطُوبَةُ تُعْتَبَرُ أَجْنَبِيَّةً مِنْ خَاطِبِهَا،
فَتَحْرُمُ
__________
(1) حاشية الجمل 4 / 466.
(2) المجموع 4 / 156.
(3) ابن عابدين 5 / 236.
(4) بلغة السالك والشرح الصغير 1 / 158، 159.
(5) شرح منتهى الإرادات 3 / 7.
(19/268)
الْخَلْوَةُ بِهَا كَغَيْرِهَا مِنَ
الأَْجْنَبِيَّاتِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (1) .
الْخَلْوَةُ بِالأَْجْنَبِيَّةِ لِلْعِلاَجِ:
9 - تَحْرُمُ الْخَلْوَةُ بِأَجْنَبِيَّةٍ وَلَوْ لِضَرُورَةِ عِلاَجٍ
إِلاَّ مَعَ حُضُورِ مَحْرَمٍ لَهَا، أَوْ زَوْجٍ، أَوِ امْرَأَةٍ
ثِقَةٍ عَلَى الرَّاجِحِ؛ لأَِنَّ الْخَلْوَةَ بِهَا مَعَ وُجُودِ
هَؤُلاَءِ يَمْنَعُ وُقُوعَ الْمَحْظُورِ، وَهَذَا عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) . انْظُرْ
مُصْطَلَحَ: (ضَرُورَةٌ) .
إِجَابَةُ الْوَلِيمَةِ مَعَ الْخَلْوَةِ:
10 - تَجِبُ إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ، أَوْ تُسَنُّ،
إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى الإِْجَابَةِ خَلْوَةٌ مُحَرَّمَةٌ،
وَإِلاَّ حَرُمَتْ، كَمَا جَاءَ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ (3) .
(ر: وَلِيمَةٌ) .
الْخَلْوَةُ بِالأَْمْرَدِ:
11 - تَحْرُمُ الْخَلْوَةُ بِالأَْمْرَدِ إِنْ كَانَ صَبِيحًا،
__________
(1) ابن عابدين 5 / 237، البناية في شرح الهداية 3 / 442، شرح البهجة 4
/ 93، 94، الفواكه الدواني 2 / 410، مطالب أولي النهى 5 / 12.
(2) الفواكه الدواني 2 / 410، مغني المحتاج 3 / 133، مطالب أولي النهى
5 / 12.
(3) منح الجليل 2 / 167، 168، حاشية الجمل على المنهاج 4 / 272، مطالب
أولي النهى 5 / 234.
(19/269)
وَخِيفَتِ الْفِتْنَةُ، حَتَّى رَأَى
الشَّافِعِيَّةُ حُرْمَةَ خَلْوَةِ الأَْمْرَدِ بِالأَْمْرَدِ وَإِنْ
تَعَدَّدَ، أَوْ خَلْوَةِ الرَّجُل بِالأَْمْرَدِ وَإِنْ تَعَدَّدَ،
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ رِيبَةٌ فَلاَ تَحْرُمُ، كَشَارِعٍ
وَمَسْجِدٍ مَطْرُوقٍ. انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (أَمْرَدُ) (1) .
الْخَلْوَةُ بِالْمَحَارِمِ:
12 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ خَلْوَةُ الرَّجُل
بِالْمَحَارِمِ مِنَ النِّسَاءِ. وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ
يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، وَيَخْلُوَ بِهَا - يَعْنِي
بِمَحَارِمِهِ - إِذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ
يَشْتَهِيهَا أَوْ تَشْتَهِيهِ إِنْ سَافَرَ بِهَا أَوْ خَلاَ بِهَا،
أَوْ كَانَ أَكْبَرَ رَأْيِهِ ذَلِكَ أَوْ شَكَّ فَلاَ يُبَاحُ (2) .
وَمِمَّا يَدْخُل فِي حُكْمِ الْخَلْوَةِ بِالْمَحَارِمِ الْخَلْوَةُ
بِالْمُطَلَّقَةِ طَلاَقًا رَجْعِيًّا، مَعَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ
فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْخَلْوَةِ رَجْعَةً أَمْ لاَ، عَلَى مَا
سَيَأْتِي بَيَانُهُ، أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ طَلاَقًا بَائِنًا فَهِيَ
كَالأَْجْنَبِيَّةِ فِي الْحُكْمِ.
الْخَلْوَةُ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهَا:
13 - لِلْخَلْوَةِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهَا عِنْدَ بَعْضِ
الْفُقَهَاءِ أَثَرٌ فِي تَقَرُّرِ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي
تَحْدِيدِ الْخَلْوَةِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ذَلِكَ
الأَْثَرُ.
__________
(1) الموسوعة الفقهية 3 / 252.
(2) الفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية 3 / 407.
(19/269)
الْخَلْوَةُ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا
أَثَرٌ:
14 - الْخَلْوَةُ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَثَرٌ هِيَ
الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ، أَوْ خَلْوَةُ
الاِهْتِدَاءِ كَمَا يُطْلِقُ عَلَيْهَا الْمَالِكِيَّةُ.
وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الَّتِي لاَ يَكُونُ مَعَهَا مَانِعٌ
مِنَ الْوَطْءِ، لاَ حَقِيقِيٌّ وَلاَ شَرْعِيٌّ وَلاَ طَبَعِيٌّ.
أَمَّا الْمَانِعُ الْحَقِيقِيُّ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا
مَرِيضًا مَرَضًا يَمْنَعُ الْجِمَاعَ، أَوْ صَغِيرًا لاَ يُجَامِعُ
مِثْلُهُ، أَوْ صَغِيرَةً لاَ يُجَامَعُ مِثْلُهَا، أَوْ كَانَتِ
الْمَرْأَةُ رَتْقَاءَ أَوْ قَرْنَاءَ، لأَِنَّ الرَّتْقَ وَالْقَرَنَ
يَمْنَعَانِ مِنَ الْوَطْءِ.
وَتَصِحُّ خَلْوَةُ الزَّوْجِ الْعِنِّينِ أَوِ الْخَصِيِّ؛ لأَِنَّ
الْعُنَّةَ وَالْخِصَاءَ لاَ يَمْنَعَانِ مِنَ الْوَطْءِ، فَكَانَتْ
خَلْوَتُهُمَا كَخَلْوَةِ غَيْرِهِمَا.
وَتَصِحُّ خَلْوَةُ الْمَجْبُوبِ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ لأَِنَّهُ
يُتَصَوَّرُ مِنْهُ السَّحْقُ وَالإِْيلاَدُ بِهَذَا الطَّرِيقِ،
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لاَ تَصِحُّ خَلْوَةُ الْمَجْبُوبِ
لأَِنَّ الْجَبَّ يَمْنَعُ مِنَ الْوَطْءِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ
الْخَلْوَةِ كَالْقَرَنِ وَالرَّتْقِ.
وَأَمَّا الْمَانِعُ الشَّرْعِيُّ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا
صَائِمًا صَوْمَ رَمَضَانَ أَوْ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ بِعُمْرَةٍ،
أَوْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ؛ لأَِنَّ كُل ذَلِكَ
مُحَرِّمٌ لِلْوَطْءِ، فَكَانَ مَانِعًا مِنَ الْوَطْءِ شَرْعًا،
وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ يَمْنَعَانِ مِنْهُ طَبْعًا أَيْضًا
لأَِنَّهُمَا أَذًى، وَالطَّبْعُ السَّلِيمُ يَنْفِرُ مِنَ اسْتِعْمَال
الأَْذَى.
(19/270)
وَأَمَّا فِي غَيْرِ صَوْمِ رَمَضَانَ
فَقَدْ ذَكَرَ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ صَوْمَ التَّطَوُّعِ
وَقَضَاءَ رَمَضَانَ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ لاَ تَمْنَعُ
صِحَّةَ الْخَلْوَةِ. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ
نَفْل الصَّوْمِ كَفَرْضِهِ، فَصَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ،
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الأَْخِيرَةِ أَنَّ صَوْمَ التَّطَوُّعِ
يُحَرِّمُ الْفِطْرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَصَارَ كَحَجِّ التَّطَوُّعِ
وَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ.
وَفِي رِوَايَةِ بِشْرٍ أَنَّ صَوْمَ غَيْرِ رَمَضَانَ مَضْمُونٌ
بِالْقَضَاءِ لاَ غَيْرُ فَلَمْ يَكُنْ قَوِيًّا فِي مَعْنَى الْمَنْعِ
بِخِلاَفِ صَوْمِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْقَضَاءُ
وَالْكَفَّارَةُ.
وَأَمَّا الْمَانِعُ الطَّبَعِيُّ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمَا
ثَالِثٌ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُجَامِعَ امْرَأَتَهُ
بِحَضْرَةِ ثَالِثٍ، وَيَسْتَحِي فَيَنْقَبِضُ عَنِ الْوَطْءِ
بِمَشْهَدٍ مِنْهُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الثَّالِثُ بَصِيرًا أَمْ
أَعْمَى، يَقْظَانَ أَمْ نَائِمًا، بَالِغًا أَمْ صَبِيًّا بَعْدُ،
إِنْ كَانَ عَاقِلاً، رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً، أَجْنَبِيَّةً أَوْ
مَنْكُوحَتَهُ؛ لأَِنَّ الأَْعْمَى إِنْ كَانَ لاَ يُبْصِرُ فَهُوَ
يُحِسُّ، وَالنَّائِمُ يَحْتَمِل أَنْ يَسْتَيْقِظَ سَاعَةً فَسَاعَةً،
فَيَنْقَبِضُ الإِْنْسَانُ عَنِ الْوَطْءِ، مَعَ حُضُورِهِ.
وَالصَّبِيُّ الْعَاقِل بِمَنْزِلَةِ الرَّجُل يَحْتَشِمُ الإِْنْسَانُ
مِنْهُ كَمَا يَحْتَشِمُ مِنَ الرَّجُل. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَاقِلاً
فَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْبَهَائِمِ، لاَ يَمْتَنِعُ الإِْنْسَانُ عَنِ
الْوَطْءِ لِمَكَانِهِ، وَلاَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَالإِْنْسَانُ
يَحْتَشِمُ مِنَ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ، وَيَسْتَحْيِي، وَكَذَا
لاَ يَحِل لَهَا النَّظَرُ إِلَيْهِمَا فَيَنْقَبِضَانِ لِمَكَانِهَا.
(19/270)
وَلاَ تَصِحُّ الْخَلْوَةُ فِي
الْمَسْجِدِ، وَالطَّرِيقِ، وَالصَّحْرَاءِ، وَعَلَى سَطْحٍ لاَ
حِجَابَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْمَسْجِدَ يَجْمَعُ النَّاسَ لِلصَّلاَةِ،
وَلاَ يُؤْمَنُ مِنَ الدُّخُول عَلَيْهِ سَاعَةً فَسَاعَةً، وَكَذَا
الْوَطْءُ فِي الْمَسْجِدِ حَرَامٌ، قَال عَزَّ وَجَل: {وَلاَ
تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (1) .
وَالطَّرِيقُ مَمَرُّ النَّاسِ لاَ تَخْلُو عَنْهُمْ عَادَةً، وَذَلِكَ
يُوجِبُ الاِنْقِبَاضَ فَيَمْنَعُ الْوَطْءَ، وَكَذَا الصَّحْرَاءُ
وَالسَّطْحُ مِنْ غَيْرِ حِجَابٍ، لأَِنَّ الإِْنْسَانَ يَنْقَبِضُ
عَنِ الْوَطْءِ فِي مِثْلِهِ لاِحْتِمَال أَنْ يَحْصُل هُنَاكَ
ثَالِثٌ، أَوْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ أَحَدٌ.
وَلَوْ خَلاَ بِهَا فِي حَجَلَةٍ أَوْ قُبَّةٍ فَأَرْخَى السِّتْرَ
عَلَيْهِ فَهِيَ خَلْوَةٌ صَحِيحَةٌ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى
الْبَيْتِ.
وَلاَ خَلْوَةَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ؛ لأَِنَّ الْوَطْءَ فِيهِ
حَرَامٌ فَكَانَ الْمَانِعُ الشَّرْعِيُّ قَائِمًا (2) .
15 - وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ، وَهِيَ
خَلْوَةُ الاِهْتِدَاءِ، مِنَ الْهُدُوءِ وَالسُّكُونِ؛ لأَِنَّ كُل
وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ سَكَنٌ لِلآْخَرِ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ،
وَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ بِإِرْخَاءِ السُّتُورِ، كَانَ
هُنَاكَ إِرْخَاءُ سُتُورٍ، أَوْ غَلْقُ بَابٍ، أَوْ غَيْرِهِ. وَمِنَ
الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ عِنْدَهُمْ أَيْضًا، خَلْوَةُ الزِّيَارَةِ،
أَيْ زِيَارَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلآْخَرِ. وَتَكُونُ بِخَلْوَةِ
__________
(1) سورة البقرة / 187.
(2) البدائع 2 / 292 - 293.
(19/271)
بَالِغٍ - وَلَوْ كَانَ مَرِيضًا - حَيْثُ
كَانَ مُطِيقًا، وَلَوْ كَانَتِ - الزَّوْجَةُ الَّتِي يَخْلُو بِهَا -
حَائِضًا، أَوْ نُفَسَاءَ، أَوْ صَائِمَةً، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ
مَجْبُوبٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، خِلاَفًا لِلْقَرَافِيِّ، وَأَنْ
تَكُونَ بِحَيْثُ يُمْكِنُ شَغْلُهَا بِالْوَطْءِ، فَلاَ يَكُونُ
مَعَهُمَا فِي الْخَلْوَةِ نِسَاءٌ مُتَّصِفَاتٌ بِالْعِفَّةِ
وَالْعَدَالَةِ، أَوْ وَاحِدَةٌ كَذَلِكَ، وَبِحَيْثُ لاَ تَقْصُرُ
مُدَّةُ الْخَلْوَةِ فَلاَ تَتَّسِعُ لِلْوَطْءِ، أَمَّا لَوْ كَانَ
مَعَهَا نِسَاءٌ مِنْ شِرَارِ النِّسَاءِ، فَالْخَلْوَةُ مِمَّا
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَثَرٌ؛ لأَِنَّهَا قَدْ تُمَكِّنُ مِنْ
نَفْسِهَا بِحَضْرَتِهِنَّ، دُونَ الْمُتَّصِفَاتِ بِالْعِفَّةِ
وَالْعَدَالَةِ فَإِنَّهُنَّ يَمْنَعْنَهَا (1) .
وَجَاءَ فِي بُلْغَةُ السَّالِكِ وَالشَّرْحِ الصَّغِيرِ: أَنَّ
الْخَلْوَةَ - سَوَاءٌ أَكَانَتْ خَلْوَةَ اهْتِدَاءٍ أَمْ خَلْوَةَ
زِيَارَةٍ - هِيَ اخْتِلاَءُ الْبَالِغِ غَيْرِ الْمَجْبُوبِ
بِمُطِيقَةٍ، خَلْوَةً يُمْكِنُ فِيهَا الْوَطْءُ عَادَةً، فَلاَ
تَكُونُ لَحْظَةً تَقْصُرُ عَنْ زَمَنِ الْوَطْءِ وَإِنْ تَصَادَقَا
عَلَى نَفْيِهِ (2) .
وَلاَ يَمْنَعُ مِنْ خَلْوَةِ الاِهْتِدَاءِ عِنْدَهُمْ وُجُودُ
مَانِعٍ شَرْعِيٍّ، كَحَيْضٍ، وَصَوْمٍ، وَإِحْرَامٍ؛ لأَِنَّ
الْعَادَةَ أَنَّ الرَّجُل إِذَا خَلاَ بِزَوْجَتِهِ أَوَّل خَلْوَةٍ
لاَ يُفَارِقُهَا قَبْل وُصُولِهِ إِلَيْهَا (3) .
16 - وَالْخَلْوَةُ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الأَْثَرُ السَّابِقُ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى:
{وَإِنْ
__________
(1) حاشية الدسوقي والشرح الكبير 2 / 468.
(2) بلغة السالك والشرح الصغير 1 / 497، 498.
(3) الشرح الصغير 1 / 413، 498، جواهر الإكليل 1 / 308.
(19/271)
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ} (1) الآْيَةَ وَالْمُرَادُ بِالْمَسِّ الْجِمَاعُ (2) .
17 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْخَلْوَةُ الَّتِي يَتَرَتَّبُ
عَلَيْهَا أَثَرٌ هِيَ الْخَلْوَةُ الَّتِي تَكُونُ بَعِيدًا عَنْ
مُمَيِّزٍ، وَبَالِغٍ مُطْلَقًا، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، ذَكَرًا
أَوْ أُنْثَى، أَعْمَى أَوْ بَصِيرًا، عَاقِلاً أَوْ مَجْنُونًا، مَعَ
عِلْمِهِ بِأَنَّهَا عِنْدَهُ، وَلَمْ تَمْنَعْهُ مِنَ الْوَطْءِ إِنْ
كَانَ الزَّوْجُ يَطَأُ مِثْلُهُ كَابْنِ عَشْرٍ فَأَكْثَرَ، وَكَانَتِ
الزَّوْجَةُ يُوطَأُ مِثْلُهَا كَبِنْتِ تِسْعٍ فَأَكْثَرَ، فَإِنْ
كَانَ أَحَدُهُمَا دُونَ ذَلِكَ لَمْ يَتَقَرَّرْ بِالْخَلْوَةِ
شَيْءٌ، وَلَمْ يُرَتَّبْ لَهَا أَثَرٌ.
وَلاَ يَمْنَعُ أَثَرُ الْخَلْوَةِ نَوْمَ الزَّوْجِ، وَلاَ كَوْنُهُ
أَعْمَى، وَلاَ وُجُودُ مَانِعٍ حِسِّيٍّ بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ
كَجَبٍّ وَرَتْقٍ، وَلاَ وُجُودُ مَانِعٍ شَرْعِيٍّ بِهِمَا، أَوْ
بِأَحَدِهِمَا كَحَيْضٍ وَإِحْرَامٍ وَصَوْمٍ وَاجِبٍ.
وَمُجَرَّدُ الْخَلْوَةِ عَلَى الْوَجْهِ السَّابِقِ يَتَرَتَّبُ
عَلَيْهَا آثَارُهَا، وَقَدْ قَال الْفَرَّاءُ فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} (3) أَنَّهُ قَال:
الإِْفْضَاءُ، الْخَلْوَةُ، دَخَل بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُل؛ لأَِنَّ
الإِْفْضَاءَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْفَضَاءِ، وَهُوَ الْخَالِي،
فَكَأَنَّهُ قَال: وَقَدْ خَلاَ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ (4) .
__________
(1) سورة البقرة / 237.
(2) مغني المحتاج 3 / 225.
(3) سورة النساء / 21.
(4) شرح منتهى الإرادات 3 / 76، 83، المغني 6 / 724.
(19/272)
آثَارُ الْخَلْوَةِ:
أَوَّلاً: أَثَرُهَا فِي الْمَهْرِ:
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مِمَّا يَتَأَكَّدُ
بِهِ الْمَهْرُ الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي اسْتَوْفَتْ
شَرَائِطَهَا. فَلَوْ خَلاَ الزَّوْجُ بِزَوْجَتِهِ خَلْوَةً صَحِيحَةً
ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُول بِهَا فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ
لِلْمَهْرِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُسَمَّى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي
النِّكَاحِ تَسْمِيَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ كَمَال مَهْرِ الْمِثْل
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَال زَوْجٍ مَكَانَ
زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ
شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَكَيْفَ
تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} (1) .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَال: مَنْ كَشَفَ خِمَارَ امْرَأَتِهِ وَنَظَرَ إِلَيْهَا
وَجَبَ الصَّدَاقُ، دَخَل بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُل (2) وَهَذَا نَصٌّ
فِي الْبَابِ.
وَرُوِيَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ قَال: قَضَى
الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ أَنَّهُ إِذَا أَرْخَى
السُّتُورَ وَأَغْلَقَ الْبَابَ فَلَهَا الصَّدَاقُ كَامِلاً،
وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، دَخَل بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُل، حَكَى
__________
(1) سورة النساء / 20، 21.
(2) حديث: " من كشف خمار امرأة ونظر إليها. . " أخرجه الدارقطني (3 /
307 - ط دار المحاسن) من حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مرسلاً، وفي
إسناده ضعف كذلك، فقد علقه عنه البيهقي في السنن (7 / 256 - ط دائرة
المعارف العثمانية) وقال: " وهذا منقطع، وبعض رواه غير محتج
(19/272)
الطَّحَاوِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ إِلَى أَنَّهُ لاَ اعْتِبَارَ
بِالْخَلْوَةِ فِي تَقَرُّرِ الْمَهْرِ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ
لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (1) وَالْمُرَادُ
بِالْمَسِّ الْجِمَاعُ (2) .
ثَانِيًا: أَثَرُهَا فِي الْعِدَّةِ:
19 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّهُ تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ بِالْخَلْوَةِ
الصَّحِيحَةِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ، فَلاَ
تَجِبُ فِي الْفَاسِدِ إِلاَّ بِالدُّخُول، أَمَّا فِي النِّكَاحِ
الصَّحِيحِ فَتَجِبُ بِالْخَلْوَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ
عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (3) وَلأَِنَّ وُجُوبَهَا
بِطَرِيقِ اسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى الاِسْتِبْرَاءِ
بَعْدَ الدُّخُول لاَ قَبْلَهُ، إِلاَّ أَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ
فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أُقِيمَتْ مُقَامَ الدُّخُول فِي وُجُوبِ
الْعِدَّةِ الَّتِي فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لأَِنَّ حَقَّ
اللَّهِ تَعَالَى يُحْتَاطُ فِي إِيجَابِهِ؛
__________
(1) سورة البقرة / 237.
(2) البدائع 2 / 294، الشرح الصغير 1 / 413 ط الحلبي، والزرقاني 3 /
10، ومغني المحتاج 3 / 225، المغني 6 / 724.
(3) سورة الأحزاب / 49.
(19/273)
وَلأَِنَّ التَّسْلِيمَ بِالْوَاجِبِ
بِالنِّكَاحِ قَدْ حَصَل بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ فَتَجِبُ بِهِ
الْعِدَّةُ كَمَا تَجِبُ بِالدُّخُول؛ لأَِنَّ الْخَلْوَةَ
الصَّحِيحَةَ إِنَّمَا أُقِيمَتْ مُقَامَ الدُّخُول فِي وُجُوبِ
الْعِدَّةِ مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِدُخُولٍ حَقِيقَةً لِكَوْنِهَا
سَبَبًا مُفْضِيًا إِلَيْهِ، فَأُقِيمَتْ مُقَامَهُ احْتِيَاطًا
إِقَامَةً لِلسَّبَبِ مُقَامَ الْمُسَبَّبِ فِيمَا يُحْتَاطُ فِيهِ.
وَوُجُوبُ الْعِدَّةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالْخَلْوَةِ
الصَّحِيحَةِ حَتَّى وَلَوْ نَفَى الزَّوْجَانِ الْوَطْءَ فِيهَا؛
لأَِنَّ الْعِدَّةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ تَسْقُطُ
بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى نَفْيِ الْوَطْءِ.
وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا وَرَدَ فِي
الْمُغْنِي أَنَّهُ لاَ فَرْقَ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ بَيْنَ أَنْ
يَخْلُوَ بِهَا مَعَ الْمَانِعِ مِنَ الْوَطْءِ أَوْ مَعَ عَدَمِهِ،
سَوَاءٌ كَانَ الْمَانِعُ حَقِيقِيًّا كَالْجَبِّ، وَالْعُنَّةِ،
وَالْفَتْقِ، وَالرَّتْقِ، أَوْ شَرْعِيًّا كَالصَّوْمِ،
وَالإِْحْرَامِ، وَالْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَالظِّهَارِ؛ لأَِنَّ
الْحُكْمَ عُلِّقَ هَاهُنَا عَلَى الْخَلْوَةِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ
الإِْصَابَةِ دُونَ حَقِيقَتِهَا.
وَفِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تَجِبُ الْعِدَّةُ
بِالْخَلْوَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْوَطْءِ (1) لِمَفْهُومِ قَوْله
تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ
الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ
فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (2)
__________
(1) البدائع 3 / 191، الزرقاني 4 / 199، مغني المحتاج 3 / 384، المغني
7 / 451.
(2) سورة الأحزاب / 49.
(19/273)
ثَالِثًا: أَثَرُ الْخَلْوَةِ فِي
الرَّجْعَةِ:
20 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخَلْوَةَ لَيْسَتْ
بِرَجْعَةٍ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَا يَدُل عَلَى الرَّجْعَةِ لاَ
قَوْلاً وَلاَ فِعْلاً (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الاِرْتِجَاعِ
عِلْمُ الدُّخُول وَعَدَمُ إِنْكَارِ الْوَطْءِ، فَإِنْ أَنْكَرَتْهُ
لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ، وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ اخْتَلَى بِهَا فِي
زِيَارَةٍ أَوْ خَلْوَةِ اهْتِدَاءٍ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالٍ.
الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ فِي خَلْوَةِ الزِّيَارَةِ، أَمَّا خَلْوَةُ
الاِهْتِدَاءِ فَلاَ عِبْرَةَ بِإِنْكَارِهَا وَتَصِحُّ الرَّجْعَةُ،
وَلاَ إِنْ أَقَرَّ بِهِ فَقَطْ فِي زِيَارَةٍ بِخِلاَفِ الْبِنَاءِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا إِنْ كَانَتِ الزَّائِرَةُ صُدِّقَ فِي
دَعْوَاهُ الْوَطْءَ فَتَصِحُّ الرَّجْعَةُ كَخَلْوَةِ الْبِنَاءِ،
وَقَال الصَّاوِيُّ تَعْلِيقًا عَلَى قَوْلِهِ (وَهُوَ أَحَدُ
أَقْوَالٍ) بِقَوْلِهِ: ذُكِرَ فِي الشَّامِل أَنَّ الْقَوْل بِعَدَمِ
التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْخَلْوَتَيْنِ هُوَ الْمَشْهُورُ (2) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: الْخَلْوَةُ كَالإِْصَابَةِ فِي إِثْبَاتِ
الرَّجْعَةِ لِلزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي خَلاَ بِهَا فِي
ظَاهِرِ قَوْل الْخِرَقِيِّ لِقَوْلِهِ: حُكْمُهَا حُكْمُ الدُّخُول
فِي جَمِيعِ أُمُورِهَا.
وَقَال أَبُو بَكْرٍ: لاَ رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا إِلاَّ أَنْ
يُصِيبَهَا (3) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (رَجْعَةٌ) .
__________
(1) الاختيار 3 / 147.
(2) الشرح الصغير 1 / 474.
(3) الشرح الصغير 1 / 474، المغني 7 / 290، 291.
(19/274)
رَابِعًا: أَثَرُ الْخَلْوَةِ فِي ثُبُوتِ
النَّسَبِ:
21 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ مِمَّا
يَتَرَتَّبُ عَلَى الْخَلْوَةِ وَلَوْ مِنَ الْمَجْبُوبِ، وَقَال ابْنُ
عَابِدِينَ رَاوِيًا عَنِ ابْنِ الشِّحْنَةِ فِي عَقْدِ الْفَرَائِدِ:
إِنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَبْل الدُّخُول لَوْ وَلَدَتْ لأَِقَل مِنْ
سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الطَّلاَقِ ثَبَتَ نَسَبُهُ لِلتَّيَقُّنِ
بِأَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ قَبْل الطَّلاَقِ، وَأَنَّ الطَّلاَقَ بَعْدَ
الدُّخُول، وَلَوْ وَلَدَتْهُ لأَِكْثَرَ لاَ يَثْبُتُ لِعَدَمِ
الْعِدَّةِ، وَلَوِ اخْتَلَى بِهَا فَطَلَّقَهَا يَثْبُتُ وَإِنْ
جَاءَتْ بِهِ لأَِكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، قَال: فَفِي هَذِهِ
الصُّورَةِ تَكُونُ الْخُصُوصِيَّةُ لِلْخَلْوَةِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ تَكُونُ فِرَاشًا
بِمُجَرَّدِ الْخَلْوَةِ بِهَا حَتَّى إِذَا وَلَدَتْ لِلإِْمْكَانِ
مِنَ الْخَلْوَةِ بِهَا لَحِقَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِالْوَطْءِ؛
لأَِنَّ مَقْصُودَ النِّكَاحِ الاِسْتِمْتَاعُ وَالْوَلَدُ، فَاكْتَفَى
فِيهِ بِالإِْمْكَانِ مِنَ الْخَلْوَةِ (2) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْخَلْوَةَ يَثْبُتُ بِهَا النَّسَبُ
(3) .
انْظُرْ: (نَسَبٌ) .
خَامِسًا: أَثَرُ الْخَلْوَةِ بِالنِّسْبَةِ لاِنْتِشَارِ الْحُرْمَةِ:
22 - مِنَ الآْثَارِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الْخَلْوَةِ
الصَّحِيحَةِ انْتِشَارُ الْحُرْمَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 341.
(2) شرح المنهاج للجلال المحلي 4 / 61.
(3) منتهى الإرادات 3 / 213.
(19/274)
أَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ تُفِيدُ
حُرْمَةَ نِكَاحِ الأُْخْتِ وَأَرْبَعٍ سِوَى الزَّوْجَةِ فِي
عِدَّتِهَا (1) .
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِتَحْرِيمِ بِنْتِ الزَّوْجَةِ فَقَدِ اخْتُلِفَ
فِيهِ، فَرَوَى ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ
أَنَّ الْخَلْوَةَ بِالزَّوْجِ لاَ تَقُومُ مَقَامَ الْوَطْءِ فِي
تَحْرِيمِ بِنْتِهَا. وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ فِي نَوَادِرِ أَبِي
يُوسُفَ: إِذَا خَلاَ بِهَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، أَوْ حَال
إِحْرَامِهِ لَمْ يَحِل لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَهَا، وَقَال
مُحَمَّدٌ: يَحِل، فَإِنَّ الزَّوْجَ لَمْ يُجْعَل وَاطِئًا، حَتَّى
كَانَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ.
ثُمَّ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْخِلاَفَ فِي
الْخَلْوَةِ الْفَاسِدَةِ، أَمَّا الصَّحِيحَةُ فَلاَ خِلاَفَ فِي
أَنَّهَا تُحَرِّمُ الْبِنْتَ (2) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: الدُّخُول بِالأُْمِّ يُحَرِّمُ الْبِنْتَ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ
نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} (3) .
وَهَذَا نَصٌّ وَالْمُرَادُ بِالدُّخُول فِي الآْيَةِ الْوَطْءُ كَنَّى
عَنْهُ بِالدُّخُول، فَإِنْ خَلاَ بِهَا وَلَمْ يَطَأْهَا لَمْ
تَحْرُمِ ابْنَتُهَا، لأَِنَّ الأُْمَّ غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا،
وَظَاهِرُ قَوْل الْخِرَقِيِّ تَحْرِيمُهَا لِقَوْلِهِ: فَإِنْ خَلاَ
بِهَا، وَقَال
__________
(1) ابن عابدين 2 / 341 نشر دار إحياء التراث.
(2) ابن عابدين 22 / 278، الطبعة السابقة، الفتاوى البزازية بهامش
الفتاوى الهندية 4 / 141.
(3) سورة النساء / 23.
(19/275)
لَمْ أَطَأْهَا، وَصَدَّقَتْهُ، لَمْ
يُلْتَفَتْ إِلَى قَوْلِهَا، وَكَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الدُّخُول (1) .
وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ خِلاَفًا فِي تَحْرِيمِ
الرَّبِيبَةِ فَقَال: وَأَمَّا تَحْرِيمُ الرَّبِيبَةِ فَعَنْ أَحْمَدَ
أَنَّهُ يَحْصُل بِالْخَلْوَةِ، وَقَال الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: لاَ
تَحْرُمُ، وَحَمَل الْقَاضِي كَلاَمَ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُ حَصَل
مَعَ الْخَلْوَةِ نَظَرٌ أَوْ مُبَاشَرَةٌ، فَيُخَرَّجُ كَلاَمُهُ
عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي أَنَّ ذَلِكَ يَحْرُمُ،
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ
تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} وَالدُّخُول
كِنَايَةٌ عَنِ الْوَطْءِ وَالنَّصُّ صَرِيحٌ فِي إِبَاحَتِهَا
بِدُونِهِ، فَلاَ يَجُوزُ خِلاَفُهُ (2) .
(ر: نِكَاحٌ - صِهْرٌ - مُحَرَّمَاتٌ) .
__________
(1) المغني 6 / 725.
(2) المغني 6 / 570.
(19/275)
خُلُوٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخُلُوُّ لُغَةً مَصْدَرُ خَلاَ، يُقَال خَلاَ الْمَكَانُ أَوِ
الإِْنَاءُ خُلُوًّا وَخَلاَءً إِذَا فَرَغَ مِمَّا بِهِ، وَخَلاَ
الْمَكَانُ مِنْ أَهْلِهِ وَعَنْ أَهْلِهِ، وَخَلاَ فُلاَنٌ مِنَ
الْعَيْبِ: بَرِئَ مِنْهُ. وَخَلاَ بِصَاحِبِهِ خَلْوًا، وَخَلْوَةً
وَخُلُوًّا وَخَلاَءً انْفَرَدَ بِهِ فِي خَلْوَةٍ، وَأَخْلَى لَهُ
الشَّيْءَ: فَرَغَ لَهُ عَنْهُ، وَأَخْلَى الْمَكَانَ وَالإِْنَاءَ
وَغَيْرَهُمَا: جَعَلَهُ خَالِيًا (1) .
وَالْخُلُوُّ فِي الاِصْطِلاَحِ يَكُونُ بِمَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: الْخُلُوُّ بِمَعْنَى الاِنْفِرَادِ يُقَال: خَلَوْتُ
بِنَفْسِي أَوْ خَلَوْتُ بِفُلاَنٍ وَالْخُلُوُّ أَيْضًا:
الاِنْفِرَادُ بِالزَّوْجَةِ، بِأَنْ يُغْلِقَ الرَّجُل الْبَابَ عَلَى
زَوْجَتِهِ وَيَنْفَرِدَ بِهَا. وَأَكْثَرُ مَا يُسَمَّى هَذَا
النَّوْعُ خَلْوَةً، وَلِذَا تُنْظَرُ أَحْكَامُهُ تَحْتَ عِنْوَانِ:
(خَلْوَةٌ) .
وَالثَّانِي: وَلَيْسَ مَعْرُوفًا فِي كُتُبِ اللُّغَةِ، وَلَكِنْ
يُوجَدُ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي كُتُبِ مُتَأَخِّرِي الْفُقَهَاءِ،
فَإِنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَهُ بِمَعْنَى الْمَنْفَعَةِ الَّتِي
يَمْلِكُهَا الْمُسْتَأْجِرُ لِعَقَارِ الْوَقْفِ مُقَابِل مَالٍ
يَدْفَعُهُ إِلَى
__________
(1) المعجم الوسيط.
(19/276)
النَّاظِرِ لِتَعْمِيرِ الْوَقْفِ إِذَا
لَمْ يُوجَدْ مَا يُعَمِّرُ بِهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ جُزْءٌ مِنْ
مَنْفَعَةِ الْوَقْفِ، مَعْلُومٌ بِالنِّسْبَةِ كَنِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ،
وَيُؤَدِّي الأُْجْرَةَ لِحَظِّ الْمُسْتَحِقِّينَ عَنِ الْجُزْءِ
الْبَاقِي مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَيَنْشَأُ ذَلِكَ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ
سَيَأْتِي بَيَانُ بَعْضِهَا.
وَعَرَّفَهُ الزُّرْقَانِيُّ بِتَعْرِيفٍ أَعَمَّ فَقَال: هُوَ اسْمٌ
لِمَا يَمْلِكُهُ دَافِعُ الدَّرَاهِمِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي
دَفَعَ فِي مُقَابَلَتِهَا الدَّرَاهِمَ (1) .
وَأُطْلِقَ الْخُلُوُّ أَيْضًا عَلَى حَقِّ مُسْتَأْجِرِ الأَْرْضِ
الأَْمِيرِيَّةِ فِي التَّمَسُّكِ بِهَا إِنْ كَانَ لَهُ فِيهَا أَثَرٌ
مِنْ غِرَاسٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ كَبْسٍ بِالتُّرَابِ عَلَى أَنْ
يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُقُوقِ لِبَيْتِ الْمَال، وَهَذَا
النَّوْعُ الثَّانِي سَمَّاهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ
خُلُوًّا، وَفِي أَكْثَرِ كَلاَمِ الشَّيْخِ عُلَيْشٍ قَال: هُوَ
مُلْحَقٌ بِالْخُلُوِّ، وَقَال فِي مَوْضِعٍ: يَكُونُ خُلُوًّا.
وَوَقَعَ فِي بَعْضِ كَلاَمِهِ إِطْلاَقُ الْخُلُوِّ عَلَى نَفْسِ
الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَنَحْوِهِمَا، الَّذِي يُقِيمُهُ مَنْ
بِيَدِهِ عَقَارُ وَقْفٍ أَوْ أَرْضٍ أَمِيرِيَّةٍ (2) .
وَفِي كَلاَمِ الدُّسُوقِيِّ مِثْل ذَلِكَ (3) . وَيَكُونُ الْخُلُوُّ
فِي الْعَقَارَاتِ الْمَمْلُوكَةِ أَيْضًا.
__________
(1) الزرقاني 6 / 127.
(2) ابن عابدين، وقانون العدل والإنصاف لقدري باشا (مادة 360، 361)
والفتاوى الهندية 5 / 61، ومرشد الحيران م598، والفتاوى الخيرية 2 /
198. وفتح العلي المالك 2 / 243، 245، 246، 247.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير في باب الغصب 3 / 432، 467.
(19/276)
وَلَعَل أَصْل اسْتِعْمَال لَفْظِ
الْخُلُوِّ بِهَذَا الاِصْطِلاَحِ أَنَّهُ أُطْلِقَ أَوَّلاً عَلَى
خُلُوِّ الْعَقَارِ أَيْ إِفْرَاغِهِ وَالتَّخَلِّي عَنْهُ لِغَيْرِ
مَنْ هُوَ بِيَدِهِ (1) . وَأُطْلِقَ عَلَى الْبَدَل النَّقْدِيِّ
الَّذِي يَأْخُذُهُ مَالِكُ هَذَا الْحَقِّ مُقَابِل التَّخَلِّي
عَنْهُ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ الْمُتَخَلَّى عَنْهَا
نَفْسِهَا. وَقَدْ وَقَعَ بِهَذِهِ الْمَعَانِي كُلِّهَا فِي كَلاَمِ
الشَّيْخِ عُلَيْشٍ (2) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْبُنَانِيِّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ
الزُّرْقَانِيِّ أَنَّ الْخُلُوَّ فِي الأَْوْقَافِ سَمَّاهُ شُيُوخُ
الْمَغَارِبَةِ فِي فَاسَ بِالْجِلْسَةِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَكْرُ:
2 - الْحَكْرُ بِفَتْحِ الْحَاءِ قَال فِي اللِّسَانِ هُوَ ادِّخَارُ
الطَّعَامِ لِلتَّرَبُّصِ. وَقَال ابْنُ سِيدَهْ: الاِحْتِكَارُ جَمْعُ
الطَّعَامِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُؤْكَل وَاحْتِبَاسُهُ انْتِظَارَ
وَقْتِ الْغَلاَءِ بِهِ (4) .
وَالاِحْتِكَارُ أَيْضًا، وَالاِسْتِحْكَارُ عَقْدُ إِجَارَةٍ يُقْصَدُ
بِهَا اسْتِبْقَاءُ الأَْرْضِ مُقَرَّرَةً لِلْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ
أَوْ أَحَدِهِمَا (5) .
__________
(1) الفتاوى الخيرية 1 / 180.
(2) انظر مثلاً: فتح العلي المالك 2 / 250.
(3) البناني على الزرقاني 6 / 128.
(4) لسان العرب.
(5) بن عابدين 55 / 20 نقلاً عن الفتاوى الخيرية. ومرشد الحيران لقدري
باشا (م590) ط بولاق 1308هـ.
(19/277)
أَمَّا الْحِكْرُ بِكَسْرِ الْحَاءِ فَلَمْ
نَجِدْهُ فِي مَعَاجِمِ اللُّغَةِ الْقَدِيمَةِ، وَفِي الْمُعْجَمِ
الْوَسِيطِ هُوَ الْعَقَارُ الْمَحْبُوسُ، وَيَرِدُ فِي كَلاَمِ
مُتَأَخِّرِي الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَى الأُْجْرَةِ الْمُقَرَّرَةِ عَلَى
عَقَارِ الْوَقْفِ وَنَحْوِهِ تُؤْخَذُ مِمَّنْ لَهُ فِيهِ بِنَاءٌ
أَوْ غِرَاسٌ، وَإِذَا انْتَقَل الْعَقَارُ مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ
انْتَقَل الْحِكْرُ مَعَهُ يُدْفَعُ لِحَظِّ مُسْتَحَقِّي الْوَقْفِ.
قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: مَنِ اسْتَوْلَى عَلَى الْخُلُوِّ يَكُونُ
عَلَيْهِ لِجِهَةِ الْوَقْفِ أُجْرَةٌ لِلَّذِي يَئُول إِلَيْهِ
الْوَقْفُ يُسَمَّى عِنْدَنَا بِمِصْرَ حِكْرًا لِئَلاَّ يَذْهَبَ
الْوَقْفُ بَاطِلاً، وَلاَ يَصِحُّ الاِحْتِكَارُ إِلاَّ إِذَا كَانَ
بِأُجْرَةِ الْمِثْل وَلاَ تَبْقَى عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ بَل تَزِيدُ
الأُْجْرَةُ وَتَنْقُصُ بِاخْتِلاَفِ الزَّمَانِ (1) .
ب - الْفَرَاغُ وَالإِْفْرَاغُ:
3 - يَظْهَرُ مِنَ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ
أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا التَّنَازُل عَنْ حَقٍّ مِنْ مِثْل وَظِيفَةٍ
لَهَا رَاتِبٌ مِنْ وَقْفٍ وَنَحْوِهِ (2) . أَوِ التَّنَازُل عَنِ
الْخُلُوِّ مِنْ مَالِكِهِ لِغَيْرِهِ بِعِوَضٍ، فَهُوَ بَيْعٌ
لِلْمَنْفَعَةِ الْمَذْكُورَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ خُصَّ بِاسْمِ
الإِْفْرَاغِ تَمْيِيزًا لَهُ عَنِ الْبَيْعِ الَّذِي يَنْصَرِفُ
عَنْهُ الإِْطْلاَقُ إِلَى بَيْعِ الرَّقَبَةِ، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا
سُمِّيَ فَرَاغًا لأَِنَّ مَالِكَهُ
__________
(1) فتح العلي المالك - فتاوى الشيخ عليش 2 / 243 القاهرة، مصطفى +
الحلبي 1378هـ، وقانون العدل والإنصاف (مادة 336) وابن عابدين 4 / 18.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 386، و4 / 14، 5 / 18.
(19/277)
لاَ يَمْلِكُ رَقَبَةَ الأَْرْضِ بَل
يَمْلِكُ حَقَّ التَّمَسُّكِ بِالْعَقَارِ أَوْ بَعْضِ الْمَنْفَعَةِ.
وَقَدْ وَقَعَ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي كَلاَمِ الشَّيْخِ عُلَيْشٍ (1)
.
وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ بِذَلِكَ أَنَّ الْفَرَاغَ الْخَلاَءُ،
وَالإِْفْرَاغُ الإِْخْلاَءُ، فَالْمُتَنَازِل يُفَرِّغُ الْمَحَل مِنْ
حَقِّهِ لِيَكُونَ الْحَقُّ لِغَيْرِهِ.
ج - الْجَدَكُ أَوِ الْكَدَكُ:
4 - 1 - أَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ عَلَى مَا يَضَعُهُ فِي الْحَانُوتِ
مُسْتَأْجِرٌ مِنَ الأَْعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ الْمُتَّصِلَةِ
بِمَبْنَى الْحَانُوتِ اتِّصَال قَرَارٍ، أَيْ " وُضِعَ لاَ لِيُفْصَل
" كَالْبِنَاءِ، وَسُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ فِي بَعْضِ الْفَتَاوَى
بِالسُّكْنَى (2) .
2 - وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُوضَعُ فِي الْحَانُوتِ مُتَّصِلاً لاَ
عَلَى سَبِيل الْقَرَارِ، وَذَلِكَ كَالرُّفُوفِ الَّتِي تُرَكَّبُ فِي
الْحَانُوتِ لِوَضْعِ عِدَّةِ الْحَلاَّقِ مَثَلاً فَإِنَّهَا
مُتَّصِلَةٌ لاَ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ.
3 - وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ الْمُقَابِلَةِ لِلدَّرَاهِمِ
الَّتِي يَدْفَعُهَا صَاحِبُهَا إِلَى الْمَالِكِ أَوْ نَاظِرِ
الْوَقْفِ لِتُسْتَعْمَل فِي مَرَمَّةِ الْوَقْفِ أَوْ بِنَاءِ
الأَْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ مَا يُرَمُّ بِهِ أَوْ
يُبْنَى، وَيَشْتَرِطُ دَافِعُهَا أَنْ تَكُونَ لَهُ حَقُّ الْقَرَارِ
فِي الْمَحَل الْمُسْتَأْجَرِ
__________
(1) فتح العلي المالك 2 / 250.
(2) حاشية الأشباه للحموي 1 / 136، والفتاوى الحامدية 2 / 199، 200.
(19/278)
وَجُزْءٌ مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ
الَّتِي سَبَقَ تَسْمِيَتُهَا بِالْخُلُوِّ.
4 - وَيُطْلَقُ عَلَى الأَْعْيَانِ الَّتِي تُوضَعُ لِلاِسْتِعْمَال
فِي الْحَانُوتِ دُونَ اتِّصَالٍ أَصْلاً كَالْبَكَارِجِ
وَالْفَنَاجِينِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَقَاهِي، وَالْفُوَطِ
بِالنِّسْبَةِ لِلْحَمَّامِ (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَدَكِ وَبَيْنَ الْخُلُوِّ، أَنَّ صَاحِبَ
الْخُلُوِّ يَمْلِكُ جُزْءًا مِنْ مَنْفَعَةِ الْوَقْفِ وَلاَ يَمْلِكُ
الأَْعْيَانَ الَّتِي أُقِيمَتْ فِي حَوَانِيتِ الْوَقْفِ بِمَال
الْمُسْتَأْجِرِ فَإِنَّهَا قَدْ أُقِيمَتْ فِيهِ عَلَى أَنَّهَا
وَقْفٌ، أَمَّا الْجَدَكُ فَهُوَ أَعْيَانٌ مَمْلُوكَةٌ لِمُسْتَأْجِرِ
الْحَانُوتِ (2) .
د - الْكِرْدَارُ:
5 - هُوَ مَا يُحْدِثُهُ الْمُزَارِعُ وَالْمُسْتَأْجِرُ فِي
الأَْرَاضِي الْمَوْقُوفَةِ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ غِرَاسٍ أَوْ كَبْسٍ
بِالتُّرَابِ بِإِذْنِ الْوَاقِفِ أَوِ النَّاظِرِ فَتَبْقَى فِي
يَدِهِ (3) وَالْمُرَادُ بِكَبْسِ التُّرَابِ مَا يَنْقُلُهُ مِنَ
التُّرَابِ إِلَى تِلْكَ الأَْرْضِ لإِِصْلاَحِهَا إِذَا أَتَى بِهِ
مِنْ خَارِجِهَا (4) فَالْكِرْدَارُ أَعْيَانٌ مَمْلُوكَةٌ
لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي الأَْرْضِ الزِّرَاعِيَّةِ.
هـ - الْمُرْصَدُ:
6 - هُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ رَجُلٌ عَقَارَ الْوَقْفِ مِنْ دَارٍ أَوْ
__________
(1) رد المحتار 4 / 17، والبكارج أباريق الشاي.
(2) مرشد الحيران م596، 597.
(3) الفتاوى الخيرية 11 / 180، والفتاوى الحامدية 2 / 199، نقلاً عن
المغرب والقاموس.
(4) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 199، ومرشد الحيران م596.
(19/278)
حَانُوتٍ مَثَلاً وَيَأْذَنَ لَهُ
الْمُتَوَلِّي بِعِمَارَتِهِ أَوْ مَرَمَّتِهِ الضَّرُورِيَّةِ مِنْ
مَالِهِ عِنْدَ عَدَمِ مَالٍ حَاصِلٍ فِي الْوَقْفِ، وَعَدَمِ مَنْ
يَسْتَأْجِرُهُ بِأُجْرَةٍ مُعَجَّلَةٍ يُمْكِنُ تَعْمِيرُهُ أَوْ
مَرَمَّتُهُ بِهَا، فَيُعَمِّرُهُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ مَالِهِ عَلَى
قَصْدِ الرُّجُوعِ بِذَلِكَ فِي مَال الْوَقْفِ عِنْدَ حُصُولِهِ أَوِ
اقْتِطَاعِهِ مِنَ الأَْجْرِ فِي كُل سَنَةٍ أَوْ شَهْرٍ مَثَلاً،
وَهَذِهِ الْعِمَارَةُ لَيْسَتْ مِلْكًا لِلْمُسْتَأْجِرِ بَل هِيَ
وَقْفٌ، فَلاَ تُبَاعُ وَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْمُسْتَأْجِرِ لِذَلِكَ
الدَّيْنِ؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ.
وَلَكِنْ إِذَا أَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ الْخُرُوجَ مِنَ الدُّكَّانِ
يَجُوزُ لَهُ قَبْضُ دَيْنِهِ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ الْجَدِيدِ
وَيَصِيرُ ذَلِكَ لَهُ كَمَا كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ السَّابِقِ (1) .
وَالْمُرْصَدُ هُوَ ذَلِكَ الدَّيْنُ الْمُسْتَقِرُّ عَلَى الْوَقْفِ
بِهَذِهِ الصِّفَةِ.
فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخُلُوِّ أَنَّ صَاحِبَ الْخُلُوِّ
يَكُونُ حَقُّهُ مِلْكًا فِي مَنْفَعَةِ الْوَقْفِ، وَصَاحِبُ
الْمُرْصَدِ يَكُونُ لَهُ دَيْنٌ مَعْلُومٌ عَلَى الْوَقْفِ (2) .
و مِشَدُّ الْمَسْكَةِ:
7 - مِشَدُّ الْمَسْكَةِ اصْطِلاَحٌ لِلْحَنَفِيَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ
يَقْصِدُونَ بِهِ اسْتِحْقَاقَ الزِّرَاعَةِ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ،
وَهُوَ مِنَ الْمَسْكَةِ لُغَةً وَهِيَ مَا يُتَمَسَّكُ بِهِ، قَال
ابْنُ عَابِدِينَ: فَكَأَنَّ الْمُسْلِمَ لِلأَْرْضِ (أَيِ الأَْرْضِ
الْمَمْلُوكَةِ لِبَيْتِ الْمَال غَالِبًا) الْمَأْذُونَ لَهُ مِنْ
صَاحِبِهَا
__________
(1) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 200.
(2) مرشد الحيران م599.
(19/279)
فِي الْحَرْثِ صَارَ لَهُ مَسْكَةٌ
يَتَمَسَّكُ بِهَا فِي الْحَرْثِ فِيهَا. قَال: وَحُكْمُهَا أَنَّهَا
لاَ تَقُومُ، فَلاَ تُمْلَكُ وَلاَ تُبَاعُ وَلاَ تُورَثُ (1) .
حَقِيقَةُ مِلْكِ الْخُلُوِّ عِنْدَ مَنْ قَال بِهِ:
8 - قَال الْعَدَوِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: اعْلَمْ أَنَّ الْخُلُوَّ
مِنْ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ لاَ مِنْ مِلْكِ الاِنْتِفَاعِ إِذْ مَالِكُ
الاِنْتِفَاعِ يَنْتَفِعُ بِنَفْسِهِ وَلاَ يُؤَجِّرُ وَلاَ يَهَبُ
وَلاَ يُعِيرُ. وَمَالِكُ الْمَنْفَعَةِ لَهُ تِلْكَ الثَّلاَثَةُ مَعَ
انْتِفَاعِهِ بِنَفْسِهِ. قَال: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَالِكَ
الاِنْتِفَاعِ يَقْصِدُ ذَاتَهُ مَعَ وَصْفِهِ، كَإِمَامٍ وَخَطِيبٍ
وَمُدَرِّسٍ وُقِفَ عَلَيْهِ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ، بِخِلاَفِ
مَالِكِ الْمَنْفَعَةِ. ثُمَّ إِنَّ مَنْ مَلَكَ الاِنْتِفَاعَ
وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَفِعَ غَيْرُهُ بِهِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ حَقُّهُ
مِنْهُ وَيَأْخُذُهُ الْغَيْرُ عَلَى أَنَّهُ أَهْلُهُ حَيْثُ كَانَ
مِنْ أَهْلِهِ، وَالْخُلُوُّ مِنْ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ فَلِذَلِكَ
يُورَثُ (2) .
وَصَرَّحَ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ كَذَلِكَ بِأَنَّ
الْخُلُوَّ الْمُشْتَرَى بِالْمَال يَكُونُ مِنْ بَابِ مِلْكِ
الْمَنْفَعَةِ (3) .
أَحْكَامُ الْخُلُوِّ:
9 - تَنْقَسِمُ الْعَقَارَاتُ مِنْ حَيْثُ اخْتِلاَفُ أَحْكَامِ
الْخُلُوِّ فِيهَا إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
__________
(1) تنقيح الفتاوى الحامدية 22 / 198، وقانون العدل والإنصاف في القضاء
على مشكلات الأوقاف لقدري باشا (مادة 330) .
(2) العدوي على الخرشي 77 / 79، وانظر مثل كلامه عند الزرقاني أول باب
العارية 6 / 127، 128.
(3) مطالب أولي النهى 4 / 370.
(19/279)
1 - عَقَارَاتُ الأَْوْقَافِ.
2 - الأَْرَاضِي الأَْمِيرِيَّةُ - أَرَاضِي بَيْتِ الْمَال -
3 - الْعَقَارَاتُ الْمَمْلُوكَةُ مِلْكًا خَاصًّا.
وَيُقَسَّمُ الْبَحْثُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ تَبَعًا لِذَلِكَ.
الْقِسْمُ الأَْوَّل - الْخُلُوُّ فِي عَقَارَاتِ الأَْوْقَافِ:
أَحْوَال نُشُوءِ الْخُلُوِّ فِي عَقَارَاتِ الأَْوْقَافِ: يَنْشَأُ
الْخُلُوُّ فِي عَقَارَاتِ الأَْوْقَافِ فِي أَحْوَالٍ مِنْهَا:
10 - الْحَالَةُ الأُْولَى: أَنْ يَنْشَأَ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ
الْوَاقِفِ أَوِ النَّاظِرِ وَبَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ.
وَهَذِهِ الْحَال لَمْ نَجِدْ فِي كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ تَعَرُّضًا
لَهَا، وَقَدْ قَال بِهَا مُتَأَخِّرُو الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ
مُتَأَخِّرِي الْحَنَابِلَةِ وَنَقَلَهَا عَنِ الْمَالِكِيَّةِ
مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ.
قَال الْعَدَوِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: اعْلَمْ أَنَّ الْخُلُوَّ
يُصَوَّرُ بِصُوَرٍ مِنْهَا:
11 - الصُّورَةُ الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ آيِلاً
لِلْخَرَابِ، فَيُؤَجِّرُهُ نَاظِرُ الْوَقْفِ لِمَنْ يُعَمِّرُهُ
بِحَيْثُ يَصِيرُ الْحَانُوتُ مَثَلاً يُكْرَى بِثَلاَثِينَ دِينَارًا
فِي السَّنَةِ، وَيُجْعَل عَلَيْهِ لِجِهَةِ الْوَصْفِ خَمْسَةَ
عَشَرَ، فَتَصِيرُ الْمَنْفَعَةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُكْتَرِي
وَبَيْنَ جِهَةِ الْوَقْفِ. وَمَا قَابَل الدَّرَاهِمَ الْمَصْرُوفَةَ
فِي التَّعْمِيرِ هُوَ الْخُلُوُّ. قَال: وَشَرْطُ جَوَازِهِ أَنْ لاَ
يُوجَدَ لِلْوَقْفِ رِيعٌ يُعَمَّرُ بِهِ الْوَقْفُ.
12 - الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ لِمَسْجِدٍ مَثَلاً
حَوَانِيتُ مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ، وَاحْتَاجَ الْمَسْجِدُ لِلتَّكْمِيل
(19/280)
أَوِ الْعِمَارَةِ، وَلاَ يَكُونُ الرِّيعُ
كَافِيًا لِلتَّكْمِيل أَوِ الْعِمَارَةِ، فَيَعْمِدُ النَّاظِرُ إِلَى
مُكْتَرِي الْحَوَانِيتِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ قَدْرًا مِنَ الْمَال
يُعَمِّرُ بِهِ الْمَسْجِدَ، وَيُنْقِصُ عَنْهُ مِنْ أُجْرَةِ
الْحَوَانِيتِ مُقَابِل ذَلِكَ، بِأَنْ تَكُونَ الأُْجْرَةُ فِي
الأَْصْل ثَلاَثِينَ دِينَارًا فِي كُل سَنَةٍ، فَيَجْعَلَهَا خَمْسَةَ
عَشَرَ فَقَطْ فِي كُل سَنَةٍ، وَتَكُونُ مَنْفَعَةُ الْحَوَانِيتِ
الْمَذْكُورَةُ شَرِكَةً بَيْنَ ذَلِكَ الْمُكْتَرِي وَبَيْنَ جِهَةِ
الْوَقْفِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا لِذَلِكَ الْمُكْتَرِي هُوَ
الْخُلُوُّ، وَالشَّرِكَةُ بِحَسَبِ مَا يَتَّفِقُ عَلَيْهِ صَاحِبُ
الْخُلُوِّ وَنَاظِرُ الْوَقْفِ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ.
13 - الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ أَرْضٌ مَوْقُوفَةٌ وَلَمْ
يَكُنْ هُنَاكَ رِيعٌ تُعَمَّرُ بِهِ وَتَعَطَّلَتْ بِالْكُلِّيَّةِ
عَلَى مَا ذَكَرَهُ الدَّرْدِيرُ فَيَسْتَأْجِرُهَا مِنَ النَّاظِرِ
وَيَبْنِي فِيهَا أَيْ لِلْوَقْفِ، دَارًا مَثَلاً عَلَى أَنَّ
عَلَيْهِ لِجِهَةِ الْوَقْفِ فِي كُل شَهْرٍ ثَلاَثِينَ دِرْهَمًا،
وَلَكِنَّ الدَّارَ بَعْدَ بِنَائِهَا تُكْرَى بِسِتِّينَ دِرْهَمًا.
فَالْمَنْفَعَةُ الَّتِي تُقَابِل الثَّلاَثِينَ الأُْخْرَى يُقَال
لَهَا الْخُلُوُّ (1) .
قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ فِي الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ: هَذَا الَّذِي
أَفْتَى بِهِ عُلَمَاؤُنَا وَوَقَعَ الْعَمَل بِهِ مِنْ غَيْرِ
نِزَاعٍ. قَال: وَيَجِبُ تَقْيِيدُ هَذَا بِمَا إِذَا بَيَّنَ
الْمِلْكِيَّةَ (أَيْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّهُ يَنْوِي
أَنَّهُ يَمْلِكُ مَا يُقَابِل الْبِنَاءَ أَوِ الْغَرْسَ وَهُوَ حَقُّ
الْخُلُوِّ وَأَنَّهُ لَمْ يَبْنِهِ
__________
(1) العدوي على الخرشي 77 / 79 بيروت، دار صادر، والشرح الكبير مع
الدسوقي 3 / 467.
(19/280)
مُتَبَرِّعًا بِهِ لِلْوَقْفِ) قَال:
أَمَّا إِنْ بَيَّنَ التَّحْبِيسَ، أَوْ لَمْ يُبَيِّنْ شَيْئًا
فَالْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ وَقْفٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، لاَ حَقَّ
فِيهِمَا لِوَرَثَةِ الْبَانِي وَالْغَارِسِ؛ لأَِنَّ الْمُحْبَسَ
عَلَيْهِ إِنَّمَا بَنَى لِلْوَقْفِ، وَمِلْكُهُ فَهُوَ مَحُوزٌ
بِحَوْزِ الأَْصْل.
وَهَذِهِ الصُّورَةُ هِيَ فِي حَال بِنَاءِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ
وَنَحْوِهِ أَوْ غَرْسِهِ فِي الأَْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ، أَمَّا لَوْ
بَنَى الأَْجْنَبِيُّ فِي الْوَقْفِ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَكُونُ
مِلْكًا، وَالْغَرْسُ كَالْبِنَاءِ، وَإِذَا كَانَ مِلْكًا فَلَهُ
نَقْضُهُ أَوْ قِيمَتُهُ مَنْقُوضًا إِنْ كَانَ فِي الْوَقْفِ مَا
يُدْفَعُ مِنْهُ ذَلِكَ، هَذَا إِنْ كَانَ مَا بَنَاهُ لاَ يَحْتَاجُ
إِلَيْهِ الْوَقْفُ، وَإِلاَّ فَيُوَفَّى ثَمَنُهُ مِنَ الْغَلَّةِ
قَطْعًا، بِمَنْزِلَةِ مَا إِذَا بَنَاهُ النَّاظِرُ (1) .
14 - الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُرِيدَ الْوَاقِفُ بِنَاءَ
مَحَلاَّتٍ لِلْوَقْفِ، فَيَأْتِيَ لَهُ أَشْخَاصٌ يَدْفَعُونَ لَهُ
دَرَاهِمَ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِكُل شَخْصٍ مَحَلٌّ مِنْ تِلْكَ
الْمَحَلاَّتِ يَسْكُنُهَا بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ يَدْفَعُهَا كُل
شَهْرٍ، فَكَأَنَّ الْوَاقِفَ بَاعَهُمْ حِصَّةً مِنْ تِلْكَ
الْمَحَلاَّتِ قَبْل التَّحْبِيسِ وَحُبِسَ الْبَاقِي، فَلَيْسَ
لِلْوَاقِفِ تَصَرُّفٌ فِي تِلْكَ الْمَحَلاَّتِ، لَكِنْ لَهُ
الأُْجْرَةُ الْمَعْلُومَةُ كُل شَهْرٍ أَوْ كُل سَنَةٍ، وَكَأَنَّ
دَافِعَ الدَّرَاهِمِ شَرِيكٌ لِلْوَاقِفِ بِتِلْكَ الْحِصَّةِ (2) .
__________
(1) فتح العلي المالك 22 / 243، 244، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير
3 / 423 أو باب العارية.
(2) فتح العلي المالك 2 / 249، 250.
(19/281)
وَقَال خَيْرُ الدِّينِ الرَّمْلِيُّ
الْحَنَفِيُّ فِي مِثْل هَذِهِ الصُّورَةِ الرَّابِعَةِ: " رُبَّمَا
بِفِعْلِهِ تَكْثُرُ الأَْوْقَافُ، وَمِمَّا بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ
الْمُلُوكِ عَمَّرَ مِثْل ذَلِكَ بِأَمْوَال التُّجَّارِ، وَلَمْ
يَصْرِفْ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ الدِّرْهَمَ وَالدِّينَارَ، بَل فَازَ
بِقُرْبَةِ الْوَقْفِ، وَفَازَ التُّجَّارُ بِالْمَنْفَعَةِ، وَكَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُحِبُّ مَا خَفَّفَ
عَلَى أُمَّتِهِ (1) وَالدِّينُ يُسْرٌ وَلاَ مَفْسَدَةَ فِي ذَلِكَ
فِي الدِّينِ " (2) . ا. هـ
15 - صُورَةٌ خَامِسَةٌ: تُضَافُ إِلَى الصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرَهَا
الْعَدَوِيُّ: وَهِيَ أَنْ يَشْتَرِيَ حَقَّ الْخُلُوِّ شِرَاءً مِنَ
النَّاظِرِ وَلَوْ لِمَصْلَحَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ
أَنْ يَكُونَ النَّفْعُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْوَقْفُ نَفْسُهُ،
فَظَاهِرُ كَلاَمِ الْعَدَوِيِّ نَفْسِهِ وَكَلاَمِ غَيْرِهِ عَدَمُ
صِحَّةِ ذَلِكَ فِي الْوَقْفِ كَمَا يَأْتِي فِي شُرُوطِ صِحَّةِ
الْخُلُوِّ. وَوَجْهُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ يَكُونُ كَبَيْعِ
جُزْءٍ مِنَ الْعَقَارِ الْمَوْقُوفِ، إِذْ أَنَّ قِيمَتَهُ إِذَا
كَانَ مُحَمَّلاً بِحَقِّ الْخُلُوِّ تَنْقُصُ عَنْ قِيمَتِهِ إِذَا
لَمْ يَكُنْ مُحَمَّلاً بِذَلِكَ الْحَقِّ، وَجَازَ فِي الصُّوَرِ
الأَْرْبَعِ السَّابِقَةِ لأَِنَّهُ يَكُونُ قَدْ نَقُصَ مِنَ
الْوَقْفِ لِيُعِيدَهُ فِيهِ مَعَ حَاجَةِ الْوَقْفِ إِلَى ذَلِكَ.
وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْحَنَابِلَةَ لَمَّا أَجَازُوا بَيْعَ الْوَقْفِ
إِذَا خَرِبَ وَتَعَطَّل، قَال الْبُهُوتِيُّ:
__________
(1) " كان يحب ما يخفف على أمته ". يستنبط ذلك من قوله صلى الله عليه
وسلم: " يسروا ولا تعسروا " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 524 - ط
السلفية) من حديث أنس بن مالك.
(2) الفتاوى الخيرية 1 / 180.
(19/281)
الْخُلُوَّاتُ الْمَشْهُورَةُ مُمْكِنٌ
تَخْرِيجُهَا عِنْدَنَا مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - أَيْ مَسْأَلَةِ
بَيْعِ الْوَقْفِ الْخَرِبِ - مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ
الْمَنْفَعَةِ مُفْرَدَةً عَنِ الْعَيْنِ كَعُلُوِّ بَيْتٍ يُبْنَى
عَلَيْهِ، إِذِ الْعِوَضُ فِيهَا مَبْذُولٌ فِي مُقَابَلَةِ جُزْءٍ
مِنَ الْمَنْفَعَةِ، فَإِذَا كَانَتْ أُجْرَةُ الدَّارِ عِشْرِينَ
مَثَلاً، وَدَفَعَ لِجِهَةِ الْوَقْفِ شَيْئًا مَعْلُومًا عَلَى أَنْ
يُؤْخَذَ مِنْهُ عَشَرَةٌ فَقَطْ فَقَدِ اشْتَرَى نِصْفَ الْمَنْفَعَةِ
وَبَقِيَ لِلْوَقْفِ نِصْفُهَا، فَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْحَالَةِ
الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا بَيْعُ الْوَقْفِ، بَل هَذَا أَوْلَى؛ لأَِنَّ
فِيهِ بَقَاءَ عَيْنِ الْوَقْفِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَنَقَل هَذَا صَاحِبُ مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى وَلَمْ يَعْتَرِضْ
عَلَيْهِ (1) .
وَوَاضِحٌ أَنَّ الْبُهُوتِيَّ لاَ يَرَى جَوَازَ إِنْشَاءِ الْخُلُوِّ
بِمَالٍ عَلَى الإِْطْلاَقِ، بَل حَيْثُ يَجُوزُ بَيْعُ الْوَقْفِ
لإِِصْلاَحِ بَاقِيهِ، وَحَاصِل شُرُوطِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُ بَعْضِ الْوَقْفِ لإِِصْلاَحِ بَاقِيهِ إِذَا
لَمْ تُمْكِنْ إِجَارَتُهُ وَأَنْ يَتَّحِدَ الْوَاقِفُ وَالْجِهَةُ
إِنْ كَانَا عَيْنَيْنِ فَتُبَاعُ إِحْدَاهُمَا لإِِصْلاَحِ
الأُْخْرَى، أَوْ كَانَ عَيْنًا وَاحِدَةً يُمْكِنُ بَيْعُ بَعْضِهَا
لإِِصْلاَحِ بَاقِيهَا (2) .
وَكَذَلِكَ صُورَةُ مَا لَوِ اسْتَقَرَّ فِي عَقَارِ الْوَقْفِ
الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ لاَ يُعْطِيهِ ذَلِكَ حَقَّ الْخُلُوِّ، وَلاَ
يَلْزَمُ
__________
(1) مطالب أولي النهى في مسألة بيع الوقف المتعطل 44 / 370 دمشق،
المكتب الإسلامي (د. ت) .
(2) مطالب أولي النهى 4 / 369.
(19/282)
النَّاظِرَ أَنْ يُؤَجِّرَهُ لَهُ بَل لَهُ
أَنْ يُخْرِجَهُ إِنْ شَاءَ مَتَى انْتَهَتْ إِجَارَتُهُ، لَكِنْ إِنْ
كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ بِنَاءٌ وَنَحْوُهُ مِمَّا يُسَمَّى الْجَدَكَ
أَوِ الْكِرْدَارَ فِي الأَْرْضِ فَإِذَا لَمْ يَدْفَعْ أُجْرَةَ
الْمِثْل يُؤْمَرُ بِرَفْعِهِ وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا بِإِذْنِ
الْوَاقِفِ أَوْ إِذْنِ أَحَدِ النُّظَّارِ (1) .
وَلَوْ تَلَقَّى الْمُسْتَأْجِرُ الْعَقَارَ عَنْ مُسْتَأْجِرٍ
قَبْلَهُ بِمَالٍ فَلاَ يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ حَقُّ الْخُلُوِّ. قَال
ابْنُ عَابِدِينَ: أَمَّا مَا يَتَمَسَّكُ بِهِ صَاحِبُ الْخُلُوِّ
مِنْ أَنَّهُ اشْتَرَى خُلُوَّهُ بِمَالٍ كَثِيرٍ وَأَنَّهُ بِهَذَا
الاِعْتِبَارِ (يَنْبَغِي أَنْ) تَصِيرَ أُجْرَةُ الْوَقْفِ شَيْئًا
قَلِيلاً، فَهُوَ تَمَسُّكٌ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ
صَاحِبُ الْخُلُوِّ الأَْوَّل لَمْ يَحْصُل مِنْهُ نَفْعٌ لِلْوَقْفِ،
فَيَكُونُ الدَّافِعُ هُوَ الْمُضَيِّعُ لِمَالِهِ، فَكَيْفَ يَحِل
لَهُ ظُلْمُ الْوَقْفِ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ أُجْرَةِ مِثْلِهِ
(2) .
الْحُكْمُ فِي لُزُومِ الْخُلُوِّ فِي الْحَال الأُْولَى بِصُوَرِهَا
الأَْرْبَعِ أَوْ عَدَمُ لُزُومِهِ:
16 - الْخُلُوُّ الَّذِي يَنْشَأُ لِلْمُسْتَأْجِرِ مُقَابِل مَالٍ
يَدْفَعُهُ إِلَى نَاظِرِ الْوَقْفِ اعْتَبَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ
نَوْعًا مِنْ بَيْعِ الْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ، وَالْحُقُوقُ
الْمُجَرَّدَةُ كَحَقِّ الشُّفْعَةِ وَالْوَظَائِفِ فِي الأَْوْقَافِ
مِنْ إِمَامَةٍ وَخَطَابَةٍ وَتَدْرِيسٍ فِي جَوَازِ النُّزُول عَنْهَا
بِمَالٍ قَوْلاَنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَبْنِيَّانِ عَلَى
اعْتِبَارِ الْعُرْفِ الْخَاصِّ أَوْ عَدَمِ اعْتِبَارِهِ. فَمَنْ قَال
بِعَدَمِ اعْتِبَارِهِ، وَعَلَيْهِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 16.
(2) ابن عابدين 4 / 16.
(19/282)
الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، قَال
لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ وَمِنْهَا الْخُلُوُّ.
قَال الشَّهِيدُ: لاَ نَأْخُذُ بِاسْتِحْسَانِ مَشَايِخِ بَلْخٍ بَل
نَأْخُذُ بِقَوْل أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ لأَِنَّ التَّعَامُل
فِي بَلَدٍ لاَ يَدُل عَلَى الْجَوَازِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى
الاِسْتِمْرَارِ مِنَ الصَّدْرِ الأَْوَّل، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلاً
عَلَى تَقْرِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِيَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ شَرْعًا مِنْهُ، فَإِذَا لَمْ
يَكُنْ كَذَلِكَ لاَ يَكُونُ فِعْلُهُمْ حُجَّةً إِلاَّ إِذَا كَانَ
مِنَ النَّاسِ كَافَّةً فِي الْبُلْدَانِ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ شَأْنُ الْخُلُوِّ. ا. هـ.
قَال الشُّرُنْبُلاَلِيُّ وَأَقَرَّهُ ابْنُ عَابِدِينَ: وَلأَِنَّهُ
يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ إِخْرَاجِ صَاحِبِ الْحَانُوتِ لِصَاحِبِ
الْخُلُوِّ حَجْرُ الْحُرِّ الْمُكَلَّفِ عَنْ مِلْكِهِ وَإِتْلاَفُ
مَالِهِ. وَفِي مَنْعِ النَّاظِرِ مِنْ إِخْرَاجِهِ تَفْوِيتُ نَفْعِ
الْوَقْفِ وَتَعْطِيل مَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ مِنْ إِقَامَةِ
شَعَائِرِ مَسْجِدٍ وَنَحْوِهِ (1) .
وَقَال الْحَصْكَفِيُّ: لَكِنْ أَفْتَى كَثِيرُونَ بِاعْتِبَارِ
الْعُرْفِ الْخَاصِّ، وَبِنَاءً عَلَيْهِ يُفْتَى بِجَوَازِ النُّزُول
عَنِ الْوَظَائِفِ بِمَالٍ، وَبِلُزُومِ خُلُوِّ الْحَوَانِيتِ،
فَيَصِيرُ الْخُلُوُّ فِي الْحَانُوتِ حَقًّا لَهُ، فَلَيْسَ لِرَبِّ
الْحَانُوتِ إِخْرَاجُهُ مِنْهَا وَلاَ إِجَارَتُهُ لِغَيْرِهِ، قَال:
وَقَدْ وَقَعَ فِي حَوَانِيتِ الْجَمَلُونِ فِي الْغُورِيَّةِ أَنَّ
السُّلْطَانَ الْغُورِيَّ لَمَّا بَنَاهَا أَسْكَنَهَا لِلتُّجَّارِ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 44 / 16، والأشباه والنظائر لابن
نجيم مع حاشية الحموي في شرح قاعدة (العادة محكمة) 1 / 136.
(19/283)
بِالْخُلُوِّ، وَجَعَل لِكُل حَانُوتٍ
قَدْرًا أَخَذَهُ مِنْهُمْ، وَكَتَبَ ذَلِكَ بِمَكْتُوبِ الْوَقْفِ.
وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي بِنَاءِ الْخِلاَفِ فِي ذَلِكَ عَلَى
الْقَوْلَيْنِ فِي الْعُرْفِ الْخَاصِّ.
وَقَدْ مَال الْحَمَوِيُّ إِلَى عَدَمِ إِثْبَاتِ الْخُلُوِّ وَعَدَمِ
صِحَّةِ بَيْعِهِ وَنَقَلَهُ عَنْ شَيْخِهِ وَأَنَّهُ أَلَّفَ فِي
ذَلِكَ رِسَالَةً سَمَّاهَا " مُفِيدَةُ الْحُسْنَى فِي مَنْعِ ظَنِّ
الْخُلُوِّ بِالسُّكْنَى " (1) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَمِمَّنْ أَفْتَى بِلُزُومِ الْخُلُوِّ
الَّذِي يَكُونُ مُقَابِل مَالٍ يَدْفَعُهُ لِلْمَالِكِ أَوْ
مُتَوَلِّي الْوَقْفِ الْعَلاَّمَةُ الْمُحَقِّقُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
الْعِمَادِيُّ قَال: فَلاَ يَمْلِكُ صَاحِبُ الْحَانُوتِ إِخْرَاجَهُ
مِنْهَا وَلاَ إِجَارَتَهَا لِغَيْرِهِ مَا لَمْ يَدْفَعْ لَهُ
الْمَبْلَغَ الْمَرْقُومَ، فَيُفْتَى بِجَوَازِ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ
قِيَاسًا عَلَى بَيْعِ الْوَفَاءِ الَّذِي تَعَارَفَهُ
الْمُتَأَخِّرُونَ (2) . ا. هـ
وَفِي الْفَتَاوَى الْخَيْرِيَّةِ لِلرَّمْلِيِّ الْحَنَفِيِّ مَا
يُفِيدُ أَنَّ الْخِلاَفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُعْتَبَرٌ -
يَعْنِي خِلاَفَ الَّذِي أَفْتَى بِهِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ
الشَّيْخُ نَاصِرٌ اللَّقَانِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ كَمَا يَأْتِي
بَيَانُهُ، قَال: فَيَقَعُ الْيَقِينُ بِارْتِفَاعِ الْخِلاَفِ
بِالْحُكْمِ (أَيْ حُكْمِ الْقَاضِي) حَيْثُ اسْتَوْفَى شَرَائِطَهُ
مِنْ مَالِكِيٍّ يَرَاهُ، أَوْ غَيْرِهِ، فَيَصِحُّ الْحُكْمُ
وَيَرْتَفِعُ الْخِلاَفُ،
__________
(1) ابن عابدين 4 / 14، 15، 16، والأشباه مع حاشيته 1 / 135، 139.
(2) ابن عابدين 4 / 17.
(19/283)
خُصُوصًا فِيمَا لِلنَّاسِ إِلَيْهِ
ضَرُورَةٌ وَلاَ سِيَّمَا فِي الْمُدُنِ الْمَشْهُورَةِ كَمِصْرَ
وَمَدِينَةِ الْمُلْكِ - يَعْنِي إِسْتَانْبُول - فَإِنَّهُمْ
يَتَعَاطَوْنَهُ وَلَهُمْ فِيهِ نَفْعٌ كُلِّيٌّ يَضُرُّ بِهِمْ
نَقْصُهُ وَإِعْدَامُهُ (1) . هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّ أَوَّل فُتْيَا مَنْقُولَةٍ عِنْدَهُمْ
هِيَ مَا أَفْتَى بِهِ الشَّيْخُ نَاصِرُ الدِّينِ اللَّقَانِيُّ فِي
إِنْشَاءِ الْخُلُوِّ وَتَمَلُّكِهِ وَجَرَيَانِ الإِْرْثِ فِيهِ،
وَنَصُّهَا مَا أَوْرَدَهُ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ كَمَا يَلِي: (سُئِل
الْعَلاَّمَةُ النَّاصِرُ اللَّقَانِيُّ) بِمَا نَصُّهُ: مَا تَقُول
السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ فِي خُلُوَّاتِ الْحَوَانِيتِ الَّتِي صَارَتْ عُرْفًا
بَيْنَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ وَغَيْرِهَا، وَبَذَلَتِ
النَّاسُ فِي ذَلِكَ مَالاً كَثِيرًا حَتَّى وَصَل الْحَانُوتُ فِي
بَعْضِ الأَْسْوَاقِ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ ذَهَبًا فَهَل إِذَا
مَاتَ شَخْصٌ وَلَهُ وَارِثٌ شَرْعِيٌّ يَسْتَحِقُّ خُلُوَّ حَانُوتِهِ
عَمَلاً بِمَا عَلَيْهِ النَّاسُ أَمْ لاَ، وَهَل إِذَا مَاتَ مَنْ لاَ
وَارِثَ لَهُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ بَيْتُ الْمَال أَمْ لاَ، وَهَل إِذَا
مَاتَ شَخْصٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يُخَلِّفْ مَا يَفِي بِدَيْنِهِ
يُوَفَّى ذَلِكَ مِنْ خُلُوِّ حَانُوتِهِ (2) ؟
أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.
فَأَجَابَ بِمَا نَصُّهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ:
نَعَمْ إِذَا مَاتَ شَخْصٌ وَلَهُ وَارِثٌ شَرْعِيٌّ يَسْتَحِقُّ
خُلُوَّ حَانُوتِهِ عَمَلاً بِمَا عَلَيْهِ النَّاسُ، وَإِذَا مَاتَ
مَنْ
__________
(1) الفتاوى الخيرية 1 / 180 ونقله عنها ابن عابدين 4 / 17.
(2) فتح العلي المالك 2 / 249، 250، والزرقاني على مختصر خليل 6 / 128.
(19/284)
لاَ وَارِثَ لَهُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ
بَيْتُ الْمَال، وَإِذَا مَاتَ شَخْصٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ
يُخَلِّفْ مَا يَفِي بِدَيْنِهِ فَإِنَّهُ يُوَفَّى مِنْ خُلُوِّ
حَانُوتِهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
كَتَبَهُ النَّاصِرُ اللَّقَانِيُّ الْمَالِكِيُّ حَامِدًا مُصَلِّيًا
مُسْلِمًا.
وَأَوْرَدَهَا الزُّرْقَانِيُّ وَنُقِل أَنَّ التَّعْوِيل فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ عَلَى هَذِهِ الْفُتْيَا.
وَقَال الْحَمَوِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ عَنْ
مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَالتَّعْوِيل فِيهَا عَلَى فَتْوَى
اللَّقَانِيِّ وَالْقَبُول الَّذِي حَظِيَتْ بِهِ وَجَرَى عَلَيْهِ
الْعَمَل (1) .
وَقَال الْغَرْقَاوِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ فَتْوَى
النَّاصِرِ اللَّقَانِيِّ مُخَرَّجَةٌ عَلَى النُّصُوصِ، وَقَدْ
أُجْمِعَ عَلَى الْعَمَل بِهَا وَاشْتَهَرَتْ فِي الْمَشَارِقِ
وَالْمَغَارِبِ وَانْحَطَّ الْعَمَل عَلَيْهَا وَوَافَقَهُ عَلَيْهَا
مَنْ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ كَأَخِيهِ الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ
مُحَمَّدٍ اللَّقَانِيِّ (2)
حَقُّ مَالِكِ الْخُلُوِّ فِي الاِسْتِمْرَارِ فِي الْعَقَارِ إِنْ
كَانَ
مُقَابِل مَالٍ (أَيْ فِي الْحَال الأُْولَى) :
17 - حَيْثُ جَرَى الْعُرْفُ عِنْدَ إِنْشَاءِ الْخُلُوِّ عَلَى
اسْتِمْرَارِ حَقِّ صَاحِبِهِ يُحْمَل عَلَيْهِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ،
قَال الْعَدَوِيُّ: جَرَى الْعُرْفُ عِنْدَنَا بِمِصْرَ أَنَّ
الأَْحْكَارَ مُسْتَمِرَّةٌ لِلأَْبَدِ، وَإِنْ عَيَّنَ فِيهَا وَقْتَ
__________
(1) الحموي على الأشباه والنظائر (ضمن الكلام على قاعدة: العادة محكمة)
1 / 137، 138.
(2) كلام الغرقاوي هو في رسالة في الخلو طبعتها وزارة الأوقاف للشئون
الإسلامية بالكويت.
(19/284)
الإِْجَارَةِ مُدَّةً، فَهُمْ لاَ
يَقْصِدُونَ خُصُوصَ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَالْعُرْفُ عِنْدَنَا
كَالشَّرْطِ، فَمَنِ احْتَكَرَ أَرْضًا مُدَّةً وَمَضَتْ فَلَهُ أَنْ
يَبْقَى وَلَيْسَ لِلْمُتَوَلِّي أَمْرَ الْوَقْفِ إِخْرَاجُهُ، نَعَمْ
إِنْ حَصَل مَا يَدُل عَلَى قَصْدِ الإِْخْرَاجِ بَعْدَ الْمُدَّةِ
وَأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى الأَْبَدِ فَإِنَّهُ يُعْمَل بِذَلِكَ. (1)
لَكِنْ قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ ضَرْبَ
الأَْجَل يَصِيرُ لاَ فَائِدَةَ فِيهِ، إِلاَّ أَنْ يُقَال: ضَرَبَهُ
فِي مُقَابَلَةِ الْمَقْبُوضِ وَمَعَهُ تَأْبِيدُ الْحَكْرِ، فَتَكُونُ
الدَّرَاهِمُ عُجِّلَتْ فِي نَظِيرِ شَيْئَيْنِ: الأَْجَل
الْمَضْرُوبِ، وَالتَّأْبِيدِ بِالْحَكْرِ، وَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ. (2)
وَإِنَّمَا تَصِحُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إِنْ كَانَتْ تِلْكَ
الْبَلَدُ قَدْ جَرَى فِيهَا ذَلِكَ الْعُرْفُ، فَيَقُومُ مَقَامَ
الشَّرْطِ، وَإِلاَّ فَلاَ، قَال الدُّسُوقِيُّ: يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ
شَيْءٍ مُؤَجَّرٍ مُدَّةً تَلِي مُدَّةَ الإِْجَارَةِ الأَْوْلَى
لِلْمُسْتَأْجِرِ نَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، مَا لَمْ يَجْرِ عُرْفٌ
بِعَدَمِ إِيجَارِهَا إِلاَّ لِلأَْوَّل، كَالأَْحْكَارِ بِمِصْرَ،
وَإِلاَّ عُمِل بِهِ؛ لأَِنَّ الْعُرْفَ كَالشَّرْطِ، وَصُورَةُ ذَلِكَ
إِذَا اسْتَأْجَرَ إِنْسَانٌ دَارًا مَوْقُوفَةً مُدَّةً مُعَيَّنَةً
وَأَذِنَ لَهُ النَّاظِرُ بِالْبِنَاءِ فِيهَا لِيَكُونَ لَهُ خُلُوًّا
وَجَعَل لَهُ حَكْرًا كُل سَنَةٍ لِجِهَةِ الْوَقْفِ فَلَيْسَ
لِلنَّاظِرِ أَنْ يُؤَاجِرَهَا لِغَيْرِ مُسْتَأْجِرِهَا مُدَّةَ
إِيجَارِ الأَْوَّل لِجَرَيَانِ الْعُرْفِ بِأَنَّهُ لاَ
يَسْتَأْجِرُهَا
__________
(1) العدوي على الخرشي 7 / 79.
(2) فتح العلي المالك 2 / 250 وما بعدها.
(19/285)
إِلاَّ الأَْوَّل، وَالْعُرْفُ
كَالشَّرْطِ، فَكَأَنَّهُ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي صُلْبِ
الْعَقْدِ. (1)
وَقَدْ بَيَّنَ الدُّسُوقِيُّ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ مَالِكِ الْخُلُوِّ
فِي اسْتِئْجَارِ عَقَارِ الْوَقْفِ لِمُدَّةٍ لاَحِقَةٍ لاَ يَصِحُّ
إِلاَّ إِنْ كَانَ يَدْفَعُ مِنَ الأَْجْرِ مِثْل مَا يَدْفَعُ
غَيْرُهُ وَإِلاَّ جَازَ إِيجَارُهَا لِلْغَيْرِ. (2) وَقَال مِثْل
ذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ قَال: وَهُوَ مُقَيَّدٌ أَيْضًا بِمَا
قُلْنَاهُ مِنْ أَنْ يَدْفَعَ أَجْرَ الْمِثْل، وَإِلاَّ كَانَتْ
سُكْنَاهُ بِمُقَابَلَةِ مَا دَفَعَهُ مِنَ الدَّرَاهِمِ عَيْنُ
الرِّبَا، كَمَا قَالُوا فِيمَنْ دَفَعَ لِلْمُقْرِضِ دَارًا
لِيَسْكُنَهَا إِلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ قَرْضَهُ: يَلْزَمُهُ أُجْرَةُ
مِثْل الدَّارِ. (3)
وَقَدْ بَيَّنَ الزُّرْقَانِيُّ أَنَّ الاِسْتِمْرَارَ فِي
الْمَأْجُورِ هُوَ الْفَائِدَةُ فِي الْخُلُوِّ إِذْ هُوَ الْفَرْقُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الإِْجَارَةِ الْمُعْتَادَةِ، قَال: "
الْمُسْتَأْجِرُ مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ فَمَا مَعْنَى الْخُلُوِّ وَمَا
فَائِدَتُهُ، إِلاَّ أَنْ يُقَال فِي فَائِدَتِهِ إِنَّهُ لَيْسَ
لِمَنْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَنْفَعَةِ الَّتِي اسْتَأْجَرَهَا
سَوَاءٌ كَانَ مَالِكًا أَوْ نَاظِرًا أَنْ يُخْرِجَهَا عَنْهُ، وَإِنْ
كَانَتِ الإِْجَارَةُ مُشَاهَرَةً، فَتَأَمَّلْهُ " (4)
وَفِي حَاشِيَةِ الْبُنَانِيِّ أَنَّ مُسْتَنَدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي
إِثْبَاتِ حَقِّ الاِسْتِمْرَارِ إِنَّمَا هُوَ الْمَصْلَحَةُ قَال:
وَقَعَتِ الْفَتْوَى مِنْ شُيُوخِ فَاسَ الْمُتَأَخِّرِينَ كَالشَّيْخِ
الْقَصَّارِ، وَابْنِ عَاشِرٍ، وَأَبِي زَيْدٍ الْفَاسِيِّ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 11.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 11.
(3) ابن عابدين 4 / 17.
(4) الزرقاني على خليل 6 / 128.
(19/285)
وَعَبْدِ الْقَادِرِ الْفَاسِيِّ،
وَأَضْرَابِهِمْ بِمِثْل فَتْوَى النَّاصِرِ اللَّقَانِيِّ وَأَخِيهِ
شَمْسِ الدِّينِ جَرَى الْعُرْفُ بِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ
الْمَصْلَحَةِ فَهِيَ عِنْدَهُمْ كِرَاءٌ عَلَى التَّبْقِيَةِ. (1)
مِقْدَارُ الأُْجْرَةِ (الْحَكْرِ) الَّتِي يَدْفَعُهَا صَاحِبُ
الْخُلُوِّ:
18 - لاَ يَخْفَى أَنَّ الْوَقْفَ إِنَّمَا يُؤَجَّرُ بِأَجْرِ
الْمِثْل وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ عَنْ أَجْرِ الْمِثْل إِلاَّ
بِالْقَدْرِ الَّذِي يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ عَادَةً،
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ
تُؤَجَّرُ دَارُ الْوَقْفِ أَوْ دُكَّانُهُ لأَِكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ،
وَأَرْضُ الْوَقْفِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلاَثِ سِنِينَ، وَفِي ذَلِكَ
خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مَبَاحِثِ الإِْجَارَةِ
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ زَادَتْ أُجْرَةُ الْمِثْل فِي أَثْنَاءِ
الْمُدَّةِ زِيَادَةً مُعْتَبَرَةً وَجَبَ فَسْخُ الْعَقْدِ
وَإِجَارَتُهُ بِأَجْرِ الْمِثْل مَا لَمْ يَقْبَل الْمُسْتَأْجِرُ
الزِّيَادَةَ. أَمَّا إِذَا انْتَهَتِ الْمُدَّةُ فَلِلنَّاظِرِ
إِجَارَتُهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ الأَْوَّل بِأَجْرِ الْمِثْل أَوْ
إِخْرَاجُهُ عَنْهُ وَإِجَارَتُهُ لِغَيْرِهِ بِأَجْرِ الْمِثْل. قَال
الرَّمْلِيُّ الْحَنَفِيُّ: وَهِيَ مَسْأَلَةٌ إِجْمَاعِيَّةٌ. (2)
(عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) ، وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي
الْمَكَانِ خُلُوٌّ صَحِيحٌ، أَوْ لَهُ فِيهِ حَقُّ الْقَرَارِ كَمَا
__________
(1) البناني على الزرقاني 6 / 128.
(2) الفتاوى الخيرية 1 / 173، وتنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 100، 101.
(19/286)
يَأْتِي فَلاَ يَمْلِكُ إِخْرَاجَهُ.
فَإِنْ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ حَقُّ الْخُلُوِّ بِمَالٍ دَفَعَهُ
لِلْوَاقِفِ أَوِ النَّاظِرِ لِمَصْلَحَةِ الْوَقْفِ طِبْقًا
لِلصُّوَرِ وَالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَقَدْ بَيَّنَ
الدُّسُوقِيُّ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ مَالِكِ الْخُلُوِّ الاِسْتِئْجَارَ
لِمُدَّةٍ لاَحِقَةٍ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ إِنْ كَانَ يَدْفَعُ مِنَ
الأَْجْرِ مِثْل مَا يَدْفَعُ غَيْرُهُ، وَإِلاَّ جَازَ إِيجَارُهُ
لِلْغَيْرِ. (1) وَالْمُرَادُ مِثْل إِيجَارِ الْمَكَانِ خَالِيًا عَنِ
الإِْضَافَةِ الَّتِي قَابَلَتِ الْمَال الْمَدْفُوعَ إِلَى
الْوَاقِفِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ لَمْ يَلْزَمْ صَاحِبَ
الْخُلُوِّ أُجْرَةُ الْمِثْل لِلْمُسْتَحِقِّينَ يَلْزَمُ ضَيَاعُ
حَقِّهِمْ. اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَا قَبَضَهُ الْمُتَوَلِّي
صَرَفَهُ فِي عِمَارَةِ الْوَقْفِ حَيْثُ تَعَيَّنَ ذَلِكَ طَرِيقًا
إِلَى عِمَارَتِهِ وَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ بِأُجْرَةِ
الْمِثْل مَعَ دَفْعِ ذَلِكَ الْمَبْلَغِ اللاَّزِمِ لِلْعِمَارَةِ.
وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ أَجْرِ الْمِثْل أَنْ نَنْظُرَ إِلَى مَا
دَفَعَهُ صَاحِبُ الْخُلُوِّ لِلْوَاقِفِ أَوِ الْمُتَوَلِّي عَلَى
الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَإِلَى مَا يُنْفِقُهُ فِي مَرَمَّةِ
الدُّكَّانِ وَنَحْوِهَا، فَإِذَا كَانَ النَّاسُ يَرْغَبُونَ فِي
دَفْعِ جَمِيعِ ذَلِكَ إِلَى صَاحِبِ الْخُلُوِّ وَمَعَ ذَلِكَ
يَسْتَأْجِرُونَ الدُّكَّانَ بِمِائَةٍ مَثَلاً فَالْمِائَةُ هِيَ
أُجْرَةُ الْمِثْل، وَلاَ يُنْظَرُ إِلَى مَا دَفَعَهُ هُوَ لِصَاحِبِ
الْخُلُوِّ السَّابِقِ مِنْ مَالٍ كَثِيرٍ طَمَعًا فِي أَنَّ أُجْرَةَ
هَذَا الدُّكَّانِ عَشَرَةُ مَثَلاً؛ لأَِنَّ مَا دَفَعَهُ مِنْ مَالٍ
كَثِيرٍ لَمْ يَرْجِعْ مِنْهُ نَفْعٌ لِلْوَقْفِ أَصْلاً بَل هُوَ
مَحْضُ ضَرَرٍ بِالْوَقْفِ حَيْثُ لَزِمَ مِنْهُ اسْتِئْجَارُ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 11.
(19/286)
الدُّكَّانِ بِدُونِ أُجْرَتِهَا بِغَبْنٍ
فَاحِشٍ. وَإِنَّمَا يُنْظَرُ إِلَى مَا يَعُودُ نَفْعُهُ لِلْوَقْفِ
فَقَطْ. (1)
الشُّرُوطُ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا مِلْكُ الْخُلُوِّ فِي عَقَارِ
الْوَقْفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
19 - قَال الأُْجْهُورِيُّ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْخُلُوِّ أَنْ
تَكُونَ الدَّرَاهِمُ الْمَدْفُوعَةُ (أَيْ مِنَ السَّاكِنِ الأَْوَّل)
عَائِدَةً عَلَى جِهَةِ الْوَقْفِ يَصْرِفُهَا فِي مَصَالِحِهِ.
قَال: فَمَا يُفْعَل الآْنَ مِنْ أَخْذِ النَّاظِرِ الدَّرَاهِمَ
مِمَّنْ يُرِيدُ الْخُلُوَّ، وَيَصْرِفُهَا فِي مَصَالِحِ نَفْسِهِ
وَيَجْعَل لِدَافِعِهَا خُلُوًّا فِي الْوَقْفِ فَهَذَا الْخُلُوُّ
غَيْرُ صَحِيحٍ وَيَرْجِعُ دَافِعُ الدَّرَاهِمِ بِهَا عَلَى
النَّاظِرِ.
قَال: وَمِنَ الشُّرُوطِ أَنْ لاَ يَكُونَ لِلْوَقْفِ رِيعٌ يُعَمَّرُ
مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ رِيعٌ يُعَمَّرُ بِهِ مِثْل أَوْقَافِ
الْمُلُوكِ الْكَثِيرَةِ فَيُصْرَفُ عَلَيْهَا مِنْهُ، وَلاَ يَصِحُّ
فِيهِ خُلُوٌّ، وَيَرْجِعُ دَافِعُ الدَّرَاهِمِ بِهَا عَلَى
النَّاظِرِ.
لأَِنَّهُ يُنْزَعُ مِنْهُ عَلَى شَرْطٍ لَمْ يَتِمَّ، لِظُهُورِ
عَدَمِ صِحَّةِ خُلُوِّهِ.
وَمِنْهَا ثُبُوتُ الصَّرْفِ فِي مَنَافِعِ الْوَقْفِ بِالْوَجْهِ
الشَّرْعِيِّ، فَلَوْ صَدَّقَهُ النَّاظِرُ عَلَى الصَّرْفِ مِنْ
غَيْرِ ثُبُوتٍ، وَلاَ ظُهُورِ عِمَارَةٍ إِنْ كَانَتْ هِيَ
الْمَنْفَعَةُ، لَمْ يُعْتَبَرْ لأَِنَّ النَّاظِرَ لاَ يُقْبَل
قَوْلُهُ فِي مَصْرِفِ الْوَقْفِ. (2)
__________
(1) ابن عابدين 4 / 17، وتنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 199.
(2) فتح العلي المالك 2 / 250، 251، وحاشية الأشباه والنظائر للحموي 1
/ 138 نقلاً عن الشيخ نور الدين على الأجهوري المالكي في شرحه على
مختصر خليل.
(19/287)
بَيْعُ صَاحِبِ الْخُلُوِّ خُلُوَّهُ
وَتَصَرُّفُهُ فِيهِ:
20 - إِذَا أَنْشَأَ الْمُسْتَأْجِرُ خُلُوَّهُ بِمَالٍ دَفَعَهُ إِلَى
نَاظِرِ الْوَقْفِ بِشُرُوطِهِ الْمُبَيَّنَةِ سَابِقًا صَارَ
الْخُلُوُّ مِلْكًا لَهُ، وَأَصْبَحَ مِنْ حَقِّهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ
بِالْبَيْعِ، وَالإِْجَارَةِ، وَالرَّهْنِ، وَالْهِبَةِ،
وَالْعَارِيَّةِ، وَالْوَصِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي
كَلاَمِ مَنْ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. (1)
وَوَاضِحٌ أَنَّهُ إِذَا بَاعَ صَاحِبُ الْخُلُوِّ خُلُوَّهُ بَعْدَ
أَنْ مَلَكَهُ بِالْوَجْهِ الصَّحِيحِ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ أَوْصَى بِهِ
فَلِمَنْ صَارَ إِلَيْهِ الْخُلُوُّ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا كَانَ
لِمَنْ قَبْلَهُ.
وَصَرَّحَ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ
الْخُلُوَّاتِ إِذَا اشْتُرِيَتْ بِالْمَال مِنَ الْمَالِكِ تَكُونُ
مَمْلُوكَةً لِمُشْتَرِيهَا مُشَاعًا لأَِنَّهُ يَكُونُ قَدِ اشْتَرَى
نِصْفَ الْمَنْفَعَةِ مَثَلاً وَعَلَى هَذَا لاَ تَصِحُّ إِجَارَةُ
الْخُلُوِّ وَيَصِحُّ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَوَفَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ.
(2)
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَلَمْ نَجِدِ التَّصْرِيحَ عِنْدَهُمْ
فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ بِجَوَازِ بَيْعِ الْخُلُوِّ لَكِنْ
صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِهِ قَاضٍ يَرَاهُ مِنْ
مَالِكِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ جَازَ. (3)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ أَخْرَجَ النَّاظِرُ الْمُسْتَأْجِرَ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 467 في أثناء كتاب الاستحقاق 3 /
433 في العارية، والزرقاني 7 / 75، والعدوي على الخرشي 7 / 79، وفتاوى
عليش 2 / 251.
(2) مطالب أولي النهى 4 / 370.
(3) ابن عابدين 4 / 17، نقلاً عن الفتاوى الخيرية.
(19/287)
مِنَ الْمَكَانِ أَوْ آجَرَهُ لِغَيْرِهِ
فَفِي فَتْوَى الْعِمَادِيِّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَدْفَعْ
لَهُ الْمَبْلَغَ الْمَرْقُومَ. (1)
شُفْعَةُ صَاحِبِ الْخُلُوِّ:
21 - مِنْ صُوَرِ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْعَدَوِيُّ أَنَّهُ إِذَا
اسْتَأْجَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ نَاظِرِ الْوَقْفِ أَرْضًا بِثَلاَثِينَ
دِينَارًا فِي كُل عَامٍ مَثَلاً وَبَنَوْا عَلَيْهَا دَارًا وَلَكِنَّ
الدَّارَ تُكْرَى بِسِتِّينَ، فَحَقُّهُمْ يُقَال لَهُ الْخُلُوُّ،
فَلَوْ بَاعَ أَحَدُهُمْ حِصَّتَهُ فِي الْبِنَاءِ فَلِشُرَكَائِهِ
الأَْخْذُ بِالشُّفْعَةِ. (2)
وَمِنْ صُوَرِهِ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ أَبُو السُّعُودِ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ
مِنْ أَنَّ مَنْ لَهُ خُلُوٌّ فِي أَرْضٍ مُحْتَكَرَةٍ وَكَانَ
خُلُوُّهُ عِبَارَةً عَنْ غِرَاسٍ أَوْ بِنَاءٍ فَإِنَّهُ يَجْرِي
فِيهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا اتَّصَل بِالأَْرْضِ
اتِّصَال قَرَارٍ الْتَحَقَ بِالْعَقَارِ. وَلَكِنْ قَال ابْنُ
عَابِدِينَ: هَذَا سَهْوٌ ظَاهِرٌ لِمُخَالَفَتِهِ الْمَنْصُوصَ فِي
كُتُبِ الْمَذْهَبِ (3) أَيْ مِنْ أَنَّ الْوَقْفَ لاَ شُفْعَةَ لَهُ
وَلاَ شُفْعَةَ فِيهِ. (4)
وَقْفُ الْخُلُوِّ:
22 - رَجَّحَ جُمْهُورُ مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ الْقَوْل بِأَنَّ
الْخُلُوَّ يَجُوزُ وَقْفُهُ، فَإِنَّ مَنْفَعَةَ الْعَقَارِ
الْمَوْقُوفِ بَعْضُهَا مَوْقُوفٌ وَبَعْضُهَا غَيْرُ مَوْقُوفٍ،
وَهَذَا
__________
(1) ابن عابدين 4 / 17.
(2) العدوي على الخرشي 7 / 79.
(3) رد المحتار 4 / 18.
(4) انظر مبحث الشفعة في الوقف في رد المحتار 5 / 142، وتنقيح الفتاوى
الحامدية 2 / 199.
(19/288)
الْبَعْضُ الثَّانِي هُوَ الْخُلُوُّ،
فَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْوَقْفُ. وَبِمِثْلِهِ قَال
الرَّحِيبَانِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ
خَرَّجَهُ مِنْ قَوْل أَحْمَدَ بِصِحَّةِ وَقْفِ الْمَاءِ إِنْ كَانُوا
قَدِ اعْتَادُوهُ. ثُمَّ قَال: وَهَذَا مَا ظَهَرَ لِي وَلَمْ أَجِدْهُ
مَسْطُورًا، لَكِنَّ الْقِيَاسَ لاَ يَأْبَاهُ وَلَيْسَ فِي
كَلاَمِهِمْ مَا يُخَالِفُهُ.
قَال الْعَدَوِيُّ: عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْخُلُوُّ لِكِتَابِيٍّ
فِي وَقْفِ مَسْجِدٍ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ وَقْفِهِ عَلَى كَنِيسَةٍ
مَثَلاً.
وَالرَّأْيُ الآْخَرُ لَدَى كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَصَرَّحَ بِهِ الشِّرْوَانِيُّ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّ الْخُلُوَّاتِ لاَ يَجُوزُ وَقْفُهَا؛
لأَِنَّهَا مَنْفَعَةُ وَقْفٍ، وَمَا تَعَلَّقَ الْوَقْفُ بِهِ لاَ
يُوقَفُ. (1)
وَقَدْ قَال بِذَلِكَ أَحْمَدُ السَّنْهُورِيُّ وَعَلِيٌّ
الأُْجْهُورِيُّ، قَال الأُْجْهُورِيُّ: مَحَل صِحَّةِ وَقْفِ
الْمَنْفَعَةِ إِنْ لَمْ تَكُنْ مَنْفَعَةَ حَبْسٍ، لِتَعَلُّقِ
الْحَبْسِ بِهَا، وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْحَبْسُ لاَ يُحْبَسُ، وَلَوْ
صَحَّ وَقْفُ مَنْفَعَةِ الْوَقْفِ لَصَحَّ وَقْفُ الْوَقْفِ،
وَاللاَّزِمُ بَاطِلٌ شَرْعًا وَعَقْلاً، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ
كُل ذَاتٍ وُقِفَتْ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ الْوَقْفُ بِمَنْفَعَتِهَا
وَأَنَّ ذَاتَهَا مَمْلُوكَةٌ لِلْوَاقِفِ. قَال: وَبِهَذَا تَعْلَمُ
بُطْلاَنَ تَحْبِيسِ الْخُلُوِّ. (2) وَوَافَقَ الأُْجْهُورِيُّ عَلَى
فُتْيَاهُ هَذِهِ
__________
(1) العدوي على الخرشي 7 / 79، والدسوقي على الشرح الكبير 4 / 76،
ومطالب أولي النهى 4 / 371.
(2) فتاوى عليش 2 / 251، والشبراملسي على نهاية المحتاج 5 / 357،
وحاشية الشرواني على التحفة 6 / 37.
(19/288)
الشَّيْخُ عَبْدُ الْبَاقِي، ثُمَّ لَمَّا
رُوجِعَ بِفَتْوَى اللَّقَانِيِّ بِجَوَازِ بَيْعِهَا وَإِرْثِهَا
أَفْتَى بِجَوَازِ وَقْفِهَا (1) قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: وَالْعَمَل
عَلَى الْفَتْوَى بِجَوَازِ وَقْفِ الْخُلُوِّ، وَبِهِ جَرَى الْعَمَل
فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ (2) وَلَمْ يُخَالِفِ الأُْجْهُورِيُّ
فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، كَالْبَيْعِ، وَالإِْجَارَةِ،
وَالإِْعَارَةِ وَالرَّهْنِ. (3)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ تَعَرُّضًا لِمَسْأَلَةِ
وَقْفِ مَنْفَعَةِ الْخُلُوِّ. وَلَكِنَّهُمْ يَتَعَرَّضُونَ
لِمَسْأَلَةِ وَقْفِ مَا بَنَاهُ الْمُسْتَأْجِرُ فِي الأَْرْضِ
الْمُحْتَكَرَةِ أَوْ غَرْسِهِ فِيهَا. مِمَّا هُوَ مَمْلُوكٌ
لِلْمُسْتَأْجِرِ.
وَالأَْصْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ وَقْفُ
الْبِنَاءِ بِدُونِ الأَْرْضِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الأَْرْضُ
مَمْلُوكَةً أَوْ مَوْقُوفَةً عَلَى جِهَةٍ أُخْرَى. قَال ابْنُ
عَابِدِينَ: أَفْتَى بِذَلِكَ الْعَلاَّمَةُ قَاسِمٌ، وَعَزَاهُ إِلَى
مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَإِلَى هِلاَلٍ وَالْخَصَّافِ، وَعَلَّلَهُ
بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ:
فَحَيْثُ تُعُورِفَ وَقْفُهُ جَازَ. وَقَال ابْنُ الشِّحْنَةِ: إِنَّ
النَّاسَ مُنْذُ زَمَنٍ قَدِيمٍ نَحْوِ مِائَتَيْ سَنَةٍ عَلَى
جَوَازِهِ، وَالأَْحْكَامُ بِهِ مِنَ الْقُضَاةِ الْعُلَمَاءِ
مُتَوَاتِرَةٌ، وَالْعُرْفُ جَارٍ بِهِ، فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ
يَتَوَقَّفَ فِيهِ ا. هـ. وَأَمَّا إِذَا
__________
(1) فتاوى عليش 2 / 253، وانظر شرح الزرقاني 7 / 75 أول باب الوقف فقد
قرر جواز وقف الخلو، وكذا محشيه البناني.
(2) فتاوى عليش 2 / 251.
(3) حاشية الدسوقي 3 / 443، 467.
(19/289)
وَقَفَهُ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي كَانَتِ
الْبُقْعَةُ وَقْفًا عَلَيْهَا جَازَ اتِّفَاقًا تَبَعًا لِلْبُقْعَةِ،
وَحَرَّرَ صَاحِبُ الْبَحْرِ الرَّائِقِ الْقَوْل الأَْوَّل
وَوَافَقَهُ ابْنُ عَابِدِينَ. قَال: لأَِنَّ شَرْطَ الْوَقْفِ
التَّأْبِيدُ، وَالأَْرْضُ إِذَا كَانَتْ مِلْكًا لِغَيْرِهِ
فَلِلْمَالِكِ اسْتِرْدَادُهَا وَأَمْرُهُ بِنَقْضِ الْبِنَاءِ،
وَكَذَا لَوْ كَانَتْ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ، فَإِنَّ لِوَرَثَتِهِ
بَعْدَهُ ذَلِكَ، فَلاَ يَكُونُ الْوَقْفُ مُؤَبَّدًا. قَال:
فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ
مُعَدَّةً لِلاِحْتِكَارِ؛ لأَِنَّ الْبِنَاءَ يَبْقَى فِيهَا كَمَا
إِذَا كَانَ وَقْفُ الْبِنَاءِ عَلَى جِهَةِ وَقْفِ الأَْرْضِ
فَإِنَّهُ لاَ مُطَالِبَ لِنَقْضِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا وَجْهُ
جَوَازِ وَقْفِهِ إِذَا كَانَ مُتَعَارَفًا. (1)
وَنَقَل صَاحِبُ الدُّرِّ أَنَّ ابْنَ نُجَيْمٍ سُئِل عَنِ الْبِنَاءِ
وَالْغِرَاسِ فِي الأَْرْضِ الْمُحْتَكَرَةِ، هَل يَجُوزُ بَيْعُهُ
وَوَقْفُهُ؟ فَأَجَابَ: نَعَمْ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَوَقْفُ
الشَّجَرِ كَوَقْفِ الْبِنَاءِ. أَمَّا مُجَرَّدُ الْكَبْسِ
بِالتُّرَابِ أَيْ وَنَحْوِهِ مِمَّا هُوَ مُسْتَهْلَكٌ كَالسَّمَادِ
فَلاَ يَصِحُّ وَقْفُهُ، وَنُقِل عَنِ الإِْسْعَافِ فِي أَحْكَامِ
الأَْوْقَافِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ وَقْفُ مَا بُنِيَ فِي الأَْرْضِ
الْمُسْتَأْجَرَةِ مَا لَمْ تَكُنْ مُتَقَرِّرَةً لِلاِحْتِكَارِ. (2)
وَمَا يُسَمَّى الْكَدَكَ أَوِ الْجَدَكَ فِي حَوَانِيتِ الْوَقْفِ
وَنَحْوِهَا مِنْ رُفُوفٍ مُرَكَّبَةٍ فِي الْحَانُوتِ عَلَى وَجْهِ
__________
(1) الدر المختار وابن عابدين 3 / 390، 391، وانظر البحر الرائق 5 /
220، ط أولى بالمطبعة العلمية.
(2) ابن عابدين 3 / 391.
(19/289)
الْقَرَارِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ
يَجُوزُ وَقْفُهُ لِعَدَمِ الْعُرْفِ الشَّائِعِ بِخِلاَفِ وَقْفِ
الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ. (1)
إِرْثُ الْخُلُوَّاتِ:
23 - الَّذِينَ قَالُوا مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ إِنَّ الْخُلُوَّ يُمْلَكُ وَيُبَاعُ وَيُرْهَنُ
ذَهَبُوا كَذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ يُورَثُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ
فُتْيَا اللَّقَانِيِّ فِي ذَلِكَ وَذَكَرَ مَنْ وَافَقُوهُ عَلَيْهَا.
(2) (ف 16) .
وَلاَ يَخْفَى أَنَّ الْخُلُوَّ فِي الأَْوْقَافِ عِنْدَ مَنْ أَفْتَى
بِأَنَّهُ يُمْلَكُ، يُورَثُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى.
تَكَالِيفُ الإِْصْلاَحَاتِ:
24 - عَلَى صَاحِبِ الْخُلُوِّ أَوْ أَصْحَابِهِ مَا يَقُومُونَ بِهِ
مِنَ الإِْصْلاَحَاتِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ
مِلْكِهِمْ فِيهِ، وَلَيْسَ عَلَى نَاظِرِ الْوَقْفِ مِنْهُ شَيْءٌ،
كَمَا لَوِ اشْتَرَكُوا فِي بِنَاءٍ فِي أَرْضِ وَقْفٍ اكْتَرَوْهُ
مِنْ نَاظِرِهِ لِذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى
النَّاظِرِ بِالنِّسْبَةِ، كَمَا لَوْ عَمَّرَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ
مَالِهِ حَانُوتَ الْوَقْفِ إِذَا تَخَرَّبَ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ
خُلُوًّا. (3)
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ أَحْوَال نُشُوءِ حَقِّ الْخُلُوِّ فِي
عَقَارَاتِ الأَْوْقَافِ:
25 - أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي عَقَارِ الْوَقْفِ حَقُّ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 391.
(2) فتح العلي المالك 2 / 249، 250، ومطالب أولي النهى 4 / 370،
والفتاوى المهدية 5 / 8.
(3) العدوي على الخرشي 7 / 79.
(19/290)
الْقَرَارِ بِسَبَبِ مَا يُنْشِئُهُ فِي
أَرْضِ الْوَقْفِ إِذَا أَنْشَأَهُ بِإِذْنِ النَّاظِرِ لأَِجْل أَنْ
يَكُونَ مِلْكًا لَهُ، وَخُلُوًّا يَنْتَفِعُ بِهِ، مِنْ بِنَاءٍ أَوْ
غِرَاسٍ أَوْ كَبْسٍ بِالتُّرَابِ وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ (الْكِرْدَارَ) أَوْ مَا يُنْشِئُهُ كَذَلِكَ فِي
مَبْنَى الْوَقْفِ، مِنْ بِنَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ مُتَّصِلٍ اتِّصَال
قَرَارٍ، وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ (الْجَدَكَ) قَال صَاحِبُ
الْفَتَاوَى الْخَيْرِيَّةِ: صَرَّحَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ لِصَاحِبِ
الْكِرْدَارِ حَقَّ الْقَرَارِ، فَتَبْقَى فِي يَدِهِ. وَنُقِل ذَلِكَ
عَنِ الْقُنْيَةِ وَالزَّاهِدِيِّ، قَال الزَّاهِدِيُّ: اسْتَأْجَرَ
أَرْضًا وَقْفًا وَغَرَسَ فِيهَا أَوْ بَنَى ثُمَّ مَضَتْ مُدَّةُ
الإِْجَارَةِ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَسْتَبْقِيَهَا بِأَجْرِ
الْمِثْل، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ، وَلَوْ أَبَى
الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ إِلاَّ الْقَلْعَ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ. ا.
هـ. (1)
لَكِنْ لَوْ كَانَ فِي الْبَقَاءِ ضَرَرٌ لَمْ يَجِبِ الاِسْتِبْقَاءُ
كَمَا لَوْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ وَارِثُهُ مُفَلِّسًا، أَوْ
سَيِّئَ الْمُعَامَلَةِ، أَوْ مُتَغَلِّبًا يُخْشَى مِنْهُ أَوْ نَحْوَ
ذَلِكَ (2) ، قَال الرَّمْلِيُّ: أَصْل ذَلِكَ فِي أَوْقَافِ
الْخَصَّافِ حَيْثُ قَال: " حَانُوتٌ أَصْلُهُ وَقْفٌ وَعِمَارَتُهُ
لِرَجُلٍ، وَهُوَ لاَ يَرْضَى أَنْ يَسْتَأْجِرَ الأَْرْضَ بِأَجْرِ
الْمِثْل "، قَالُوا: " إِنْ كَانَتِ الْعِمَارَةُ بِحَيْثُ لَوْ
رُفِعَتْ يَسْتَأْجِرُ الأَْصْل بِأَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَأْجِرُ
صَاحِبُ الْبِنَاءِ كُلِّفَ رَفْعَهُ وَيُؤَجِّرُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلاَ
يُتْرَكُ فِي
__________
(1) الفتاوى الخيرية 1 / 180، وابن عابدين 3 / 399.
(2) الفتاوى الخيرية 2 / 198، وابن عابدين 5 / 20.
(19/290)
يَدِهِ بِذَلِكَ الأَْجْرِ ". (1)
وَلاَ يَخْفَى أَنَّ الأَْصْل فِي الإِْجَارَةِ أَنَّهُ إِذَا
انْتَهَتِ الْمُدَّةُ فَالنَّاظِرُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُجَدِّدَ
عَقْدَ الإِْجَارَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ الأَْوَّل أَوْ لاَ يُجَدِّدَهُ
بَل تَنْتَهِي الإِْجَارَةُ، وَلَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ لِغَيْرِ
الْمُسْتَأْجِرِ الأَْوَّل. قَال الرَّمْلِيُّ: وَهِيَ مَسْأَلَةٌ
إِجْمَاعِيَّةٌ. لَكِنَّ اسْتِبْقَاءَ الأَْرْضِ الْوَقْفِيَّةِ
الْمُؤَجَّرَةِ عِنْدَ مَنْ أَفْتَى بِهِ إِنْ بَنَى عَلَيْهَا
مُسْتَأْجِرُهَا عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ وَجْهُهُ أَنَّهُ
أَوْلَوِيٌّ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ، لاَ سِيَّمَا
مَعَ مَا ابْتُلِيَ بِهِ النَّاسُ كَثِيرًا. (2)
وَيُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عِنْدَ كُل مَنْ أَفْتَى بِثُبُوتِ
هَذَا الْحَقِّ أَنْ لاَ تُجَدَّدَ الإِْجَارَةُ بِأَقَل مِنْ أُجْرَةِ
الْمِثْل مَنْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْوَقْفِ، كَمَا أَنَّ حَقَّ
الاِسْتِبْقَاءِ لِلْمُسْتَأْجِرِ إِنَّمَا ثَبَتَ لَهُ دَفْعًا
لِلضَّرَرِ عَنْهُ لَوْ طُولِبَ بِرَفْعِ جَدَكَةٍ أَوْ كِرْدَارَةٍ.
(3)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ يَجُوزُ إِيجَارُ الْوَقْفِ بِأُجْرَةِ
الْمِثْل، فَلَوْ زَادَ أَجْرُهُ عَلَى أَجْرِ الْمِثْل أَثْنَاءَ
الْمُدَّةِ زِيَادَةً فَاحِشَةً، فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ يَجِبُ
تَجْدِيدُ الْعَقْدِ بِالأُْجْرَةِ الزَّائِدَةِ، وَقَبُول
الْمُسْتَأْجِرِ الزِّيَادَةَ يَكْفِي عَنْ تَجْدِيدِ الْعَقْدِ.
__________
(1) الإسعاف في أحكام الأوقاف ص66، 67، والفتاوى الخيرية 1 / 180.
(2) الفتاوى الخيرية 1 / 173.
(3) الفتاوى الخيرية 1 / 173، والفتاوى الحامدية 2 / 115، 117.
(19/291)
وَالْمُرَادُ أَنْ تَزِيدَ أُجْرَةُ
الْوَقْفِ فِي نَفْسِهِ لِزِيَادَةِ الرَّغْبَةِ، لاَ زِيَادَةَ
مُتَعَنِّتٍ، وَلاَ بِمَا يَزِيدُ بِعِمَارَةِ الْمُسْتَأْجِرِ. فَإِنْ
قَبِل الْمُسْتَأْجِرُ بِالزِّيَادَةِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ؛
لأَِنَّهُ يَزُول الْمُسَوِّغُ لِلْفَسْخِ فَلاَ يَكُونُ لَهُ دَاعٍ.
فَإِنْ لَمْ يَقْبَل الْمُسْتَأْجِرُ الاِلْتِزَامَ بِالزِّيَادَةِ
فَلِلْمُتَوَلِّي فَسْخُ الإِْجَارَةِ، فَإِنِ امْتَنَعَ فَسَخَهَا
الْقَاضِي، وَيُؤَجِّرُهَا الْمُتَوَلِّي مِنْ غَيْرِهِ.
وَهَذَا إِنْ زَادَتْ أُجْرَةُ الْمِثْل فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ
الْعَقْدِ، فَبَعْدَ انْتِهَائِهَا أَوْلَى. (1)
هَذَا وَيُشْتَرَطُ لِثُبُوتِ حَقِّ الْقَرَارِ عِنْدَ مَنْ أَفْتَى
بِهِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مَا صَنَعَهُ الْمُسْتَأْجِرُ
مِنْ وَضْعِ غِرَاسِهِ، أَوْ بِنَائِهِ، أَوْ جَدَكَةٍ بِإِذْنِ
النَّاظِرِ لِيَكُونَ لِلْمُسْتَأْجِرِ مِلْكًا وَخُلُوًّا، فَإِنْ
وَضَعَهُ دُونَ إِذْنٍ فَلاَ عِبْرَةَ بِهِ، وَلاَ يَجِبُ تَجْدِيدُ
الإِْجَارَةِ لَهُ. (2)
أَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي مَحَل الإِْجَارَةِ
جَدَكٌ وَلاَ كِرْدَارٌ فَلاَ يَكُونُ لَهُ فِيهِ حَقُّ الْقَرَارِ
فَلاَ يَكُونُ أَحَقَّ بِالاِسْتِئْجَارِ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ
اسْتِئْجَارِهِ، سَوَاءٌ أَزَادَتْ أُجْرَةُ الْمِثْل أَمْ لاَ،
وَسَوَاءٌ قَبِل الزِّيَادَةَ أَمْ لاَ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَمَنْ
أَفْتَى بِأَنَّهُ إِنَّ قَبْل الزِّيَادَةِ الْعَارِضَةِ يَكُونُ
أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، فَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَا أَطْبَقَتْ عَلَيْهِ
كُتُبُ الْمَذْهَبِ مِنْ مُتُونٍ، وَشُرُوحٍ، وَحَوَاشٍ، وَفِيهِ
الْفَسَادُ وَضَيَاعُ الأَْوْقَافِ، حَيْثُ إِنَّ بَقَاءَ أَرْضِ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 399، والإسعاف ص63.
(2) الفتاوى الخيرية 1 / 180، والفتاوى المهدية 5 / 61.
(19/291)
الْوَقْفِ بِيَدِ مُسْتَأْجِرٍ وَاحِدٍ
الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ يُؤَدِّي بِهِ إِلَى دَعْوَى تَمَلُّكِهَا،
مَعَ أَنَّهُمْ مُنِعُوا مِنْ تَطْوِيل الإِْجَارَةِ فِي الْوَقْفِ
خَوْفًا مِنْ ذَلِكَ. ا. هـ (1) إِذِ الْمَشْهُورُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْوَقْفَ لاَ يُؤَجَّرُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ
لِلْبِنَاءِ، وَثَلاَثَ سِنِينَ لِلأَْرْضِ. (2)
وَلَوْ كَانَ لإِِنْسَانٍ حَقُّ الْقَرَارِ فِي عَقَارٍ وُقِفَ
بِسَبَبِ كِرْدَارَهِ، ثُمَّ زَال ذَلِكَ الْكِرْدَارُ زَال حَقُّهُ
فِي الْقَرَارِ. قَال الرَّمْلِيُّ: فِي أَرْضٍ فَنِيَتْ أَشْجَارُهَا،
وَذَهَبَ كِرْدَارُهَا وَيُرِيدُ مُحْتَكِرُهَا أَنْ تَسْتَمِرَّ
تَحْتَ يَدِهِ بِالْحَكْرِ السَّابِقِ وَهُوَ دُونَ أُجْرَةِ الْمِثْل:
قَال: لاَ يُحْكَمُ لَهُ بِذَلِكَ، بَل النَّاظِرُ يَتَصَرَّفُ بِمَا
فِيهِ الْحَظُّ لِجَانِبِ الْوَقْفِ مِنْ دَفْعِهَا بِطَرِيقِ
الْمُزَارَعَةِ، أَوْ إِجَارَتِهَا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ،
وَالْحَكْرُ لاَ يُوجِبُ لِلْمُسْتَحْكِرِ اسْتِبْقَاءَ الأَْرْضِ فِي
يَدِهِ أَبَدًا عَلَى مَا يُرِيدُ وَيَشْتَهِي. (3)
ثُمَّ قَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ هَذَا الْجَدَكَ الْمُتَّصِل
اتِّصَال قَرَارٍ الْمَوْضُوعَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبِينِ قَال فِيهِ
أَبُو السُّعُودِ: إِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خُلُوٌّ
وَاسْتَظْهَرَ أَنَّهُ كَالْخُلُوِّ، وَيُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِهِ
بِجَامِعِ الْعُرْفِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا. (4)
وَمِثْل ذَلِكَ فِي الْفَتَاوَى الْمَهْدِيَّةِ وَقَال: إِنَّ الْحَقَّ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 399.
(2) الإسعاف في أحكام الأوقاف ص64، والحامدية 2 / 125.
(3) الفتاوى الخيرية 1 / 161، والحامدية 2 / 131.
(4) ابن عابدين 4 / 17.
(19/292)
الْمَذْكُورَ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ إِذَا
بَنَى الْمُسْتَأْجِرُ فِعْلاً، أَوْ غَرَسَ فِعْلاً، فَلَوْ مَاتَ
قَبْل أَنْ يَبْنِيَ أَوْ يَغْرِسَ انْفَسَخَتِ الإِْجَارَةُ وَفَاتَ
الْوَرَثَةَ ذَلِكَ الْحَقُّ. (1)
بَيْعُ الْخُلُوِّ الثَّابِتِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُبَيَّنَةِ:
26 - إِذَا ثَبَتَ حَقُّ الْقَرَارِ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي أَرْضِ
الْوَقْفِ، أَوْ حَوَانِيتِهِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُبَيَّنَةِ سَابِقًا
وَوَضَعَ أَبْنِيَةً أَوْ جَدَكًا ثَابِتًا، أَوْ أَشْجَارًا فِي
أَرْضِ الْوَقْفِ، فَإِنَّ مَا يَضَعُهُ يَكُونُ مِلْكًا لَهُ عَلَى
وَجْهِ الْقَرَارِ، وَيَكُونُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ
الإِْجَارَةِ أَوْ بَعْدَهَا بَيْعُ مَا أَحْدَثَهُ مِنَ الأَْعْيَانِ
مِنْ غَيْرِهِ، وَيَنْتَقِل حَقُّ الْقَرَارِ لِلْمُشْتَرِي، وَيَكُونُ
عَلَى الْمُشْتَرِي مِثْل أَجْرِ الأَْرْضِ خَالِيَةً عَمَّا
أَحْدَثَهُ فِيهَا، وَكَذَا الْحَانُوتُ. (2)
أَمَّا الأَْرْضُ الْمَوْقُوفَةُ إِذَا اسْتَأْجَرَهَا عَلَى وَجْهٍ
لاَ يَثْبُتُ بِهِ حَقُّ الْقَرَارِ كَمَا تَقَدَّمَ، أَوْ كَانَ
اسْتِئْجَارُهَا عَلَى وَجْهٍ يَثْبُتُ بِهِ حَقُّ الْقَرَارِ لَكِنْ
لَمْ يَبْنِ فِعْلاً، أَوْ بَنَى شَيْئًا فَفَنِيَ وَزَال فَلاَ
يُبَاعُ ذَلِكَ الْحَقُّ فِيهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لأَِنَّهُ
مُجَرَّدٌ. وَقَدْ تَعَرَّضَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ
لِلْفَرَاغِ عَنْ ذَلِكَ مُقَابِل عِوَضٍ مَالِيٍّ لَيْسَ مِنْ قَبِيل
الْبَيْعِ بَل مِنْ قَبِيل التَّنَازُل عَنِ الْحَقِّ الْمُجَرَّدِ
بِمَالٍ. فَفِي تَنْقِيحِ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ
لاَ يَجُوزُ أَصْلاً، وَنُقِل فِي وَاقِعَةٍ: حَكَمَ بِصِحَّتِهِ قَاضٍ
حَنْبَلِيٌّ نَفَذَ لَوْ كَانَ
__________
(1) الفتاوى المهدية 5 / 23، 61.
(2) الفتاوى المهدية 5 / 61.
(19/292)
مُوَافِقًا لِمَذْهَبِ أَحْمَدَ، لَكِنْ
قَال إِنَّهُ لاَ يَنْفُذُ لأَِنَّ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
أَنَّهُ (لاَ يَصِحُّ الْفَرَاغُ فِي الأَْوْقَافِ الأَْهْلِيَّةِ،
وَأَوْقَافِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِهَا، سَوَاءٌ أَذِنَ فِي ذَلِكَ
النَّاظِرُ أَمْ لَمْ يَأْذَنْ، بَل لِلنَّاظِرِ إِيجَارُهَا وَصَرْفُ
أُجْرَتِهَا فِي جِهَاتِ الْوَقْفِ، وَلاَ يَصِحُّ الْفَرَاغُ إِلاَّ
فِي مَا فُتِحَ عَنْوَةً وَلَمْ يُقْسَمْ وَضُرِبَ عَلَيْهِ خَرَاجٌ
يُؤْخَذُ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ) . (1)
وَفِي الْفَتَاوَى الْخَيْرِيَّةِ: سُئِل فِي أَرْضِ وَقْفٍ دَفَعَهَا
النَّاظِرُ لِمُزَارِعٍ يَزْرَعُهَا بِالْحِصَّةِ هَل يَمْلِكُ
الْمُزَارِعُ دَفْعَهَا لِمُزَارِعٍ آخَرَ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ
لِنَفْسِهِ فِي مُقَابِلِهَا، أَمْ لاَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ. فَلاَ
يَصِحُّ بَيْعُهُ وَلاَ فَرَاغُهُ، وَيَرْجِعُ الْمُزَارِعُ الثَّانِي
عَلَى الأَْوَّل بِمَا دَفَعَهُ مِنْ مَالٍ؟
فَأَجَابَ: أَرْضُ الْوَقْفِ لاَ يَمْلِكُهَا الْمُزَارِعُ وَلاَ
تَصَرُّفَ لَهُ فِيهَا بِالْفَرَاغِ عَنْ مَنْفَعَتِهَا بِمَالٍ
يَدْفَعُهُ لَهُ مُزَارِعٌ آخَرُ لِيَزْرَعَهَا لِنَفْسِهِ؛ لأَِنَّ
انْتِفَاعَ الأَْوَّل بِهَا مُجَرَّدُ حَقٍّ، لاَ يَجُوزُ
الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ بِمَالٍ، فَإِذَا أَخَذَ مَالاً فِي مُقَابَلَةِ
الاِعْتِيَاضِ عَنْهُ يَسْتَرِدُّهُ مِنْهُ صَاحِبُهُ شَرْعًا.
وَالْوَقْفُ مُحَرَّمٌ بِحُرُمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. (2)
وَمِثْل ذَلِكَ فِي الْفَتَاوَى الْمَهْدِيَّةِ فِي أَرْضِ الْوَقْفِ.
وَنَقَلَهُ عَنِ ابْنِ عَابِدِينَ فِي رِسَالَتِهِ الْمُسَمَّاةِ
(تَحْرِيرُ الْعِبَارَةِ فِيمَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالإِْجَارَةِ) (3)
وَقَال:
__________
(1) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 204.
(2) الفتاوى الخيرية 1 / 136.
(3) الفتاوى المهدية 5 / 61.
(19/293)
لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ إِسْقَاطُ
حَقِّهِ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ فِي مُقَابَلَةِ
مَالٍ يَأْخُذُهُ، ثُمَّ يَسْتَأْجِرُ الْمُسْقَطَ لَهُ مِنَ
النَّاظِرِ إِذْ هَذَا مِنْ قَبِيل الْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ الَّتِي
لاَ يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنْهَا، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ.
ثُمَّ قَال: إِنَّ هَذَا لاَ يَمْنَعُ الْمُسْتَأْجِرَ أَنْ يُؤَجِّرَ
لِغَيْرِهِ إِلَى بَاقِي الْمُدَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا
حَقُّ الْقَرَارِ؛ لأَِنَّهُ مَالِكٌ لِلْمَنْفَعَةِ إِلَى نِهَايَةِ
مُدَّةِ الإِْجَارَةِ فَلَهُ بَيْعُهَا بِطَرِيقِ الإِْجَارَةِ. (1)
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَلَمْ نَجِدِ التَّصْرِيحَ مِنْهُمْ
بِحُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرَ أَنَّ الشَّيْخَ عُلَيْشًا
ذَكَرَ أَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنَ إِنْ آجَرَ الْوَقْفَ
وَأَذِنَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي الْبِنَاءِ فِيهِ ثُمَّ مَاتَ
الْمُؤَجِّرُ تَنْفَسِخُ الإِْجَارَةُ، وَالْبِنَاءُ مِلْكٌ لِلْبَانِي
فَلَهُ نَقْضُهُ أَوْ قِيمَتُهُ مَنْقُوضًا إِنْ كَانَ لِلْوَقْفِ
رِيعٌ يَدْفَعُ مِنْهُ ذَلِكَ، وَهَذَا إِنْ كَانَ الْوَقْفُ لاَ
يَحْتَاجُ لِمَا بَنَاهُ وَإِلاَّ فَيُوَفَّى لَهُ مِنَ الْغَلَّةِ
قَطْعًا. قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: أَفَادَ ذَلِكَ الشَّيْخُ
الْخَرَشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. (2)
وَلَمْ نَجِدْ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَا فِيهِ النَّصُّ
عَلَى ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ قَاعِدَةَ الإِْجَارَةِ تَقْتَضِي إِنْهَاءَ
حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ بِانْتِهَاءِ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ. قَال ابْنُ
رَجَبٍ: غِرَاسُ الْمُسْتَأْجِرِ وَبِنَاؤُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ
الْمُدَّةِ إِذَا لَمْ يُقْلِعْهُ الْمَالِكُ، فَلِلْمُؤَجِّرِ
تَمَلُّكُهُ بِالْقِيمَةِ وَيُجْبَرُ الْمَالِكُ عَلَى الْقَبُول،
وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ فَصْلُهُ
__________
(1) الفتاوى المهدية 5 / 61.
(2) فتاوى عليش 2 / 241، وانظر الخرشي 7 / 32.
(19/293)
بِدُونِ ضَرَرٍ يَلْحَقُ مَالِكَ الأَْصْل،
فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَمَلُّكُهُ قَهْرًا. (1) وَقَدْ
تَقَدَّمَ النَّقْل مِنْ صَاحِبِ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ أَنَّ
الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الْفَرَاغُ
مُقَابِل مَالٍ فِي الأَْوْقَافِ (2) .
الْقِسْمُ الثَّانِي:
الْخُلُوُّ فِي أَرَاضِي بَيْتِ الْمَال:
26 م - الأَْرَاضِي الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً وَأُبْقِيَتْ بِأَيْدِي
أَرْبَابِهَا مِنْ أَهْل الأَْرْضِ بِالْخَرَاجِ هِيَ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ مِلْكٌ لأَِهْلِهَا يَجْرِي فِيهَا الْبَيْعُ،
وَالشِّرَاءُ، وَالرَّهْنُ وَالْهِبَةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
أَمَّا أَرَاضِي بَيْتِ الْمَال وَهِيَ الَّتِي آلَتْ إِلَيْهِ
بِمَوْتِ أَرْبَابِهَا، أَوْ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَأَبْقَاهَا
الإِْمَامُ لِبَيْتِ الْمَال، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى (أَرْضَ
الْحَوْزِ) فَإِذَا دَفَعَهَا الإِْمَامُ إِلَى الرَّعِيَّةِ كَانَتْ
بِأَيْدِيهِمْ وَلَيْسَ لَهُمْ بَيْعُهَا، وَلاَ اسْتِبْدَالُهَا
إِلاَّ بِإِذْنِ الإِْمَامِ، وَلاَ تَكُونُ مِلْكًا لأَِحَدٍ إِلاَّ
بِتَمْلِيكِ السُّلْطَانِ لَهُ. (3) ثُمَّ إِنَّ مَنْ هِيَ تَحْتَ
يَدِهِ مِنَ الرَّعَايَا إِنْ تَسَلَّمَهَا بِوَجْهِ حَقٍّ فَهُوَ
أَوْلَى بِهَا مِنْ غَيْرِهِ مَا دَامَ يَدْفَعُ أَجْرَ الْمِثْل،
فَيَكُونُ لَهُ فِيهَا (مِشَدُّ مَسْكَةٍ) يَتَمَسَّكُ بِهَا مَا دَامَ
حَيًّا فِي الْحَرْثِ وَغَيْرِهِ، وَحُكْمُهَا أَنَّهَا لاَ تُقَوَّمُ،
وَلاَ تُمَلَّكُ، وَلاَ تُبَاعُ.
__________
(1) انظر القاعدة 77 من قواعد ابن رجب ص147.
(2) انظر القاعدة 77 من قواعد ابن رجب ص147.
(3) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 102، 201.
(19/294)
وَكَذَا إِنْ أَجْرَى فِيهَا كِرَابًا أَيْ
حَرْثًا، أَوْ كَرَى أَنْهَارَهَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ
يَكُنْ مَالاً وَلاَ بِمَعْنَى الْمَال، وَهُوَ مُجَرَّدُ الْفِلاَحَةِ
فَلَيْسَ ذَلِكَ مُتَقَوِّمًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ
بِمَعْنَى الْوَصْفِ فَلاَ يُبَاعُ وَلاَ يُورَثُ. وَقَال بَعْضُهُمْ:
يُبَاعُ حَتَّى يَزُول وُجُودُهُ مِنَ الأَْرْضِ فَتَرْجِعُ إِلَى
الأَْوَّل. أَمَّا إِنْ كَانَ لَهُ كِرْدَارٌ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ
أَشْجَارٍ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُورَثُ دُونَ الأَْرْضِ، وَلَمْ
يُسَمُّوهُ خُلُوًّا. وَإِنْ كَانَ الْمَالِكِيَّةُ سَمَّوْهُ خُلُوًّا
أَوْ أَلْحَقُوهُ بِالْخُلُوِّ كَمَا يَأْتِي، عَلَى أَنَّهُمْ
ذَكَرُوا أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مِشَدُّ مَسْكَةٍ - وَلَوْ لَمْ
يَكُنْ فِي الأَْرْضِ كِرْدَارٌ - فَلِصَاحِبِهَا تَفْوِيضُهَا
لِغَيْرِهِ وَتَكُونُ فِي يَدِ الْمُفَوَّضِ إِلَيْهِ عَارِيَّةً
وَالأَْوَّل أَحَقُّ بِهَا، وَلَهُ إِجَارَتُهَا، وَلَهُ أَيْضًا
الْفَرَاغُ عَنْهَا لِغَيْرِهِ بِمَالٍ، جَاءَ فِي الْوَلْوَالِجِيَّة:
عِمَارَةٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ بِيعَتْ فَإِنْ بِنَاءً أَوْ أَشْجَارًا
جَازَ، وَإِنْ كِرَابًا أَوْ كَرْيَ أَنْهَارٍ لَمْ يَجُزْ، قَالُوا:
وَمُفَادُهُ أَنَّ بَيْعَ الْمَسْكَةِ لاَ يَجُوزُ، وَكَذَا رَهْنُهَا،
وَلِذَا جَعَلُوهُ الآْنَ (فَرَاغًا) أَيْ كَالنُّزُول عَنِ
الْوَظَائِفِ بِمَالٍ. فَإِذَا فَرَغَ عَنْهَا لأَِحَدٍ لَمْ يَنْتَقِل
الْحَقُّ فِيهَا إِلاَّ إِذَا اقْتَرَنَ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ أَوْ
نَائِبِهِ. (1) عَلَى أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ مَالاً مُقَابِل الْفَرَاغِ
ثُمَّ لَمْ يَأْذَنِ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ بِنَقْلِهَا يَكُونُ
لِدَافِعِ الْمَال حَقُّ الرُّجُوعِ فِيهِ. (2)
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: فَإِنَّ الأَْرْضَ الصَّالِحَةَ
لِلزَّرْعِ، وَأَرْضَ الدُّورِ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً فِي الشَّامِ
__________
(1) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 129، 198، 199، 201.
(2) ابن عابدين 4 / 15.
(19/294)
وَمِصْرَ، وَالْعِرَاقِ، هِيَ وَقْفٌ
وُقِفَتْ بِمُجَرَّدِ فَتْحِهَا عَنْوَةً، وَيَقْطَعُهَا الإِْمَامُ
أَوْ يُكْرِيهَا لِمَنْ شَاءَ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَيَنْتَهِي
إِقْطَاعُهَا بِمَوْتِ الْمُقْطِعِ مَعَ بَقَائِهَا عَلَى
وَقْفِيَّتِهَا، فَلاَ تُبَاعُ، وَلاَ تُرْهَنُ وَلاَ تُورَثُ.
لَكِنْ قَدِ اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ فُقَهَاءِ
الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: قَدْ أَفْتَى بَعْضُ
الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهُ يُورَثُ، فَإِنَّهُمْ أَلْحَقُوهُ
بِالْخُلُوَّاتِ وَالْخَرَاجِ كَالْكِرَاءِ. قَال: وَإِنَّمَا يُلْحَقُ
بِهَا إِنْ حَصَل مِنْ وَاضِعِ الْيَدِ عَلَى الأَْرْضِ أَثَرٌ فِيهَا
كَإِصْلاَحٍ: بِإِزَالَةِ شَوْكِهَا، أَوْ حَرْثِهَا، أَوْ نَصْبِ
جِسْرٍ عَلَيْهَا، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُلْحَقُ بِالْبِنَاءِ
فِي الأَْوْقَافِ، فَيَكُونُ الأَْثَرُ الَّذِي عَمِلَهُ فِي الأَْرْضِ
خُلُوًّا يَنْتَفِعُ بِهِ وَيُمْلَكُ. فَكَأَنَّ الَّذِينَ أَفْتَوْا
بِذَلِكَ نَظَرُوا إِلَى أَنَّهُ لاَ يَسْلَمُ الأَْمْرُ مِنْ وُقُوعِ
شَيْءٍ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، أَوْ مِنْ دَفْعِ مَغَارِمَ
لِلْمُلْتَزِمِ (وَهُوَ الَّذِي يَتَقَبَّل الأَْرَاضِيَ مِنَ
السُّلْطَانِ مُقَابِل مَالٍ يَدْفَعُهُ لَهُ، وَيَأْخُذُ
الْمُلْتَزِمُ الْمَال مِنَ الْفَلاَّحِينَ لِتَمْكِينِهِمْ مِنَ
الأَْرْضِ) قَال: فَالَّذِي يَنْبَغِي فِي هَذِهِ الأَْزْمَانِ
الإِْفْتَاءُ بِالإِْرْثِ؛ وَلأَِنَّهُ أَدْفَعُ لِلنِّزَاعِ
وَالْفِتَنِ بَيْنَ الْفَلاَّحِينَ، وَلِلْمُلْتَزِمِ الْخَرَاجُ عَلَى
الأَْرْضِ لاَ أَكْثَرَ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ لَهُ عَزْل الْفَلاَحِ
عَنْ أَثَرٍ لَهُ فِي الأَْرْضِ. (1)
__________
(1) فتاوى الشيخ عليش 2 / 245، 246، 247.
(19/295)
الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ الدَّرْدِيرُ
إِلَى أَنَّ الْفَتْوَى السَّابِقَ بَيَانُهَا. مَكْذُوبَةٌ عَلَى مَنْ
نُسِبَتْ إِلَيْهِ. (1)
قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: مُرَاعَاةُ مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ تَقْتَضِي
عَدَمَ التَّوْرِيثِ فِيمَا فُتِحَ عَنْوَةً بَل يَفْعَل السُّلْطَانُ
أَوْ نَائِبُهُ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، وَلاَ تُورَثُ، بَل الْحَقُّ
لِمَنْ يُقَرِّرُهُ فِيهَا نَائِبُ السُّلْطَانِ لأَِنَّهَا
مُكْتَرَاةٌ، وَالْخَرَاجُ كِرَاؤُهَا وَلاَ حَقَّ لِلْمُكْتَرِي فِي
مِثْل هَذَا (2) ثُمَّ إِنَّهُ إِذَا تَنَازَل مَنْ هِيَ بِيَدِهِ
لِغَيْرِهِ مُقَابِل عِوَضٍ مَالِيٍّ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْخَرَاجُ
عَلَى الْمُسْقَطِ لَهُ، فَقَدْ أَفْتَى الشَّيْخُ عُلَيْشٌ بِجَوَازِ
ذَلِكَ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَا يَخْرُجُ
مِنْهَا. (3)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الأَْرْضُ الْمَذْكُورَةُ قُسِمَتْ عَلَى
الْغَانِمِينَ ثُمَّ طَلَبَهَا عُمَرُ مِنْهُمْ فَبَذَلُوهَا
فَوَقَفَهَا عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَآجَرَهَا لأَِهْلِهَا
إِجَارَةً مُؤَبَّدَةً بِالْخَرَاجِ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ
لِكَوْنِهَا وَقْفًا بَيْعُهَا وَرَهْنُهَا وَهِبَتُهَا، وَلَهُمْ
إِجَارَتُهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً لاَ مُؤَبَّدَةً. (4) وَهَذَا حُكْمُ
الأَْرْضِ نَفْسِهَا، أَمَّا الْبِنَاءُ وَالأَْشْجَارُ الَّتِي
يُحْدِثُهَا فِي الأَْرْضِ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ مِنَ الرَّعَايَا فَهُوَ
مِلْكٌ لَهُ، وَلَهُ أَنْ يَقِفَهُ كَمَا هُوَ
__________
(1) فتاوى الشيخ عليش 2 / 247، والشرح الكبير معه حاشية الدسوقي 2 /
189، وفيه أنها منسوبة إلى الشيخ الخرشي والشيخ عبد الباقي والشيخ يحيى
الشادي.
(2) فتاوى عليش 2 / 246.
(3) فتاوى عليش 2 / 248.
(4) شرح المنهج وحاشية الجمل 5 / 203 في كتاب الجهاد فصل في حكم الأسر.
(19/295)
الأَْصَحُّ فِيمَا يَبْنِيهِ فِي الأَْرْضِ
الْمُسْتَأْجَرَةِ، وَيُرْهَنُ وَيُبَاعُ. (1)
أَمَّا النُّزُول عَنِ الأَْرْضِ الْمَذْكُورَةِ مِمَّنْ هِيَ بِيَدِهِ
إِلَى غَيْرِهِ مُقَابِل عِوَضٍ مَالِيٍّ فَلَمْ نَجِدْ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ تَعَرُّضًا لَهُ.
وَلَكِنَّهُمْ فِي الْمُتَحَجِّرِ قَالُوا إِنَّ الأَْصَحَّ أَنَّهُ
لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ لِمَا تَحَجَّرَهُ لأَِنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ،
وَالْقَوْل الثَّانِي يَصِحُّ، وَكَأَنَّهُ يَبِيعُ حَقَّ
الاِخْتِصَاصِ. قَال الْمَحَلِّيُّ: كَذَا فِي الرَّوْضَةِ
وَأَصْلُهَا، وَفِي الْمُحَرَّرِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ هَذَا
الْحَقَّ. (2)
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَمَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يُسَمُّوا مِثْل
هَذَا الْحَقِّ خُلُوًّا فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ مَنَافِعَ الأَْرْضِ
الْخَرَاجِيَّةِ يَجُوزُ نَقْلُهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَمَنْ نَزَل عَنْ
أَرْضٍ خَرَاجِيَّةٍ بِيَدِهِ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّ الْمَتْرُوكَ لَهُ
أَحَقُّ بِهَا، فَيَجُوزُ نَقْلُهَا بِلاَ عِوَضٍ، وَأَجَازَ أَحْمَدُ
دَفْعَهَا عِوَضًا عَمَّا تَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجَةُ مِنَ الْمَهْرِ،
وَأَمَّا الْبَيْعُ فَقَدْ كَرِهَهُ أَحْمَدُ وَنَهَى عَنْهُ.
وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي بَيْعِ الْعِمَارَةِ الَّتِي فِيهَا لِئَلاَّ
تُتَّخَذَ طَرِيقًا إِلَى بَيْعِ رَقَبَةِ الأَْرْضِ الَّتِي لاَ
تُمْلَكُ، بَل هِيَ إِمَّا وَقْفٌ، وَإِمَّا فَيْءٌ.
وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَلَى أَنَّهُ يَبِيعُ آلاَتِ
عِمَارَتِهِ بِمَا تُسَاوِي أَيْ بِثَمَنِ الْمِثْل، وَكَرِهَ أَنْ
يَبِيعَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَنَقَل
عَنْهُ ابْنُ هَانِئٍ: يُقَوَّمُ دُكَّانُهُ وَمَا فِيهِ وَكُل شَيْءٍ
يُحْدِثُهُ فِيهِ
__________
(1) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 3 / 99 في باب الوقف.
(2) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 3 / 91.
(19/296)
فَيُعْطَى ذَلِكَ، وَلاَ أَرَى أَنْ
يَبِيعَ سُكْنَى دَارٍ وَلاَ دُكَّانٍ. (1) وَبَيَّنَ ابْنُ رَجَبٍ
أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَحْمَدَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ إِلَى بَيْعِ
الأَْرْضِ نَفْسِهَا بِدَعْوَى بَيْعِ مَا فِيهَا مِنَ الْعِمَارَةِ.
قَال: وَالأَْظْهَرُ أَنَّ أَحْمَدَ إِنَّمَا أَرَادَ النَّهْيَ عَنْ
أَخْذِ الْعِوَضِ عَنْ رَقَبَةِ الأَْرْضِ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ،
وَبِهَذَا قَال: هَذَا خِدَاعٌ. وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
بَيْعُ آلاَتِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا. وَنُقِل عَنِ ابْنِ
تَيْمِيَّةَ تَجْوِيزُ بَيْعِهَا فَتَنْتَقِل بِخَرَاجِهَا بِخِلاَفِ
بَيْعِ الْوَقْفِ عَلَى مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ يُبْطِل حَقَّ الْبَطْنِ
الثَّانِي. ا. هـ (2)
وَقَال فِي الإِْقْنَاعِ وَشَرْحِهِ: إِنْ آثَرَ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ
بِهَا أَحَدًا بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ صَارَ الثَّانِي أَحَقَّ بِهَا.
وَمَعْنَى الْبَيْعِ هُنَا بَذْلُهَا بِمَا عَلَيْهَا مِنْ خَرَاجٍ
إِنْ مَنَعْنَا بَيْعَهَا الْحَقِيقِيَّ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ،
لأَِنَّ عُمَرَ وَقَفَهَا وَالْوَقْفُ لاَ يُبَاعُ. (3)
كَيْفِيَّةُ تَوَارُثِ الْخُلُوِّ فِي أَرَاضِي بَيْتِ الْمَال:
27 - إِذَا مَاتَ مَنْ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنَ الأَْرَاضِي
__________
(1) مطالب أولي النهى 4 / 191 وقواعد ابن رجب القاعدة 87 ص200 وكشاف
القناع باب الأرضين المغنومة 3 / 99، وانظر، الاستخراج لأحكام الخراج
لابن رجب ص76، وما بعدها فقد أطال في ذلك وذكر عن أحمد روايات ونقل
فتيا للشيخ ابن تيمية وذكر تأويلات مختلفة لما رُوي عن أحمد بهذا
الصدد.
(2) الاستخراج لأحكام الخراج لابن رجب ص77، 78، والقواعد لابن رجب
أيضًا القاعدة 87 ص199، 200.
(3) كشاف القناع 3 / 99.
(19/296)
الأَْمِيرِيَّةِ فَإِنَّهَا عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ لاَ تُورَثُ عَنْهُ لأَِنَّ رَقَبَتَهَا لِبَيْتِ
الْمَال فَتَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَلاَ يَسْتَحِقُّ انْتِقَالُهَا إِلَى
وَرَثَتِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ إِلاَّ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ. وَهَذَا
بِخِلاَفِ مَا عَلَيْهَا مِنْ غِرَاسٍ أَوْ بِنَاءٍ فَإِنَّهُ يُورَثُ
طِبْقًا لِلْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ. (1) أَمَّا مِشَدُّ الْمَسْكَةِ
نَفْسُهُ فَإِنَّهُ لاَ يُورَثُ أَصْلاً لأَِنَّهُ حَقٌّ مُجَرَّدٌ.
لَكِنْ جَرَتْ فَتْوَى مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَنْتَقِل
إِلَى الأَْبْنَاءِ الذُّكُورِ انْتِقَالاً لاَ عَلَى سَبِيل
الْمِيرَاثِ، بَل بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يَكُونُونَ أَوْلَى بِهِ مِنْ
غَيْرِهِمْ، وَيَنْتَقِل مَجَّانًا. وَجَرَى الرَّسْمُ عَلَى ذَلِكَ
فِي الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ. (2)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالأَْرَاضِي الأَْمِيرِيَّةُ قَدْ تَقَدَّمَ
ذِكْرُ الْخِلاَفِ عِنْدَهُمْ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الْخُلُوِّ فِيهَا،
وَأَنَّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَنْ قَال: إِنَّهَا لاَ تُورَثُ
وَذَلِكَ مُقْتَضَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ بِأَنَّهَا وَقْفٌ، وَأَنَّ
السُّلْطَانَ أَحَقُّ بِتَوْجِيهِهَا مِمَّنْ هِيَ بِيَدِهِ، وَمِنْ
وَرَثَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: بِأَنَّهَا تُورَثُ، وَأَنَّ
الإِْرْثَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ لِرَقَبَتِهَا بَل لِمَنْفَعَتِهَا
مَا دَامَ يُؤَدِّي مَا عَلَيْهَا مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي هُوَ
كَالأُْجْرَةِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَئُول إِلَيْهِ الأَْرْضُ إِذَا مَاتَ مَنْ
هِيَ تَحْتَ يَدِهِ، فَالَّذِينَ قَالُوا بِعَدَمِ التَّوْرِيثِ
__________
(1) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 205.
(2) وجاءت الأوامر السلطانية في أواخر الدولة العثمانية فأعطت للنساء
حق وضع اليد بتفصيلات يرجع إليها في هذه الأوامر، ويجب طاعتها ما لم
تخالف الشرع على أن هذه الأوامر (الآن) أصبحت غير ذات موضوع (اللجنة) .
(19/297)
قَالُوا: السُّلْطَانُ أَحَقُّ
بِتَوْجِيهِهَا إِلَى مَنْ شَاءَ، لَكِنْ إِنْ كَانَتِ الْعَادَةُ قَدْ
جَرَتْ بِنَقْلِهَا إِلَى وَرَثَتِهِ جَمِيعًا، أَوْ لأَِوْلاَدِهِ
الذُّكُورِ دُونَ الإِْنَاثِ يَعْمَل بِذَلِكَ، قَال الدَّرْدِيرُ:
وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ فِي بَعْضِ قُرَى الصَّعِيدِ أَنْ يَخْتَصَّ
الذُّكُورُ بِالأَْرْضِ دُونَ الإِْنَاثِ، فَيَجِبُ إِجْرَاؤُهُمْ
عَلَى عَادَتِهِمْ عَلَى مَا يَظْهَرُ لأَِنَّ هَذِهِ الْعَادَةَ
وَالْعُرْفَ صَارَتْ كَالإِْذْنِ مِنَ السُّلْطَانِ فِي ذَلِكَ. (1)
أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ مَنْفَعَةَ الْخُلُوِّ فِيهَا تُورَثُ
قَالُوا: إِنَّهَا تُورَثُ طِبْقًا لِمَا تُوجِبُهُ أَحْكَامُ
التَّوْرِيثِ فَهِيَ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ مِنَ الزَّوْجِ أَوِ
الزَّوْجَةِ وَالأَْبَوَيْنِ وَالْعَصَبَاتِ وَالأَْوْلاَدِ الذُّكُورُ
مِنْهُمْ وَالإِْنَاثُ طِبْقًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَال
الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: الْحَقُّ فِيهَا يُورَثُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ
تَعَالَى وَلاَ وَجْهَ لِتَخْصِيصِ الذُّكُورِ لأَِنَّهَا خَصْلَةٌ
جَاهِلِيَّةٌ لاَ تَحِل فِي الإِْسْلاَمِ وَإِنِ اسْتَظْهَرَ ذَلِكَ
الدَّرْدِيرُ. (2) وَقَال أَيْضًا: تَوْرِيثُ الذُّكُورِ دُونَ
الإِْنَاثِ عُرْفٌ فَاسِدٌ لاَ يَجُوزُ الْعَمَل بِهِ. (3) وَفِي
الشَّرْحِ الْكَبِيرِ قَال الدَّرْدِيرُ: مُقْتَضَى الْمَذْهَبِ أَنَّ
لِلسُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ أَنْ يَمْنَعَ الْوَرَثَةَ مِنْ وَضْعِ
يَدِهِمْ عَلَيْهَا وَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا لِمَنْ شَاءَ. ثُمَّ قَال:
وَقَدْ يَظْهَرُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ
فَتْحِ بَابٍ يُؤَدِّي إِلَى الْهَرَجِ وَالْفَسَادِ، وَأَنَّ
لِمُوَرِّثِهِمْ نَوْعَ اسْتِحْقَاقٍ، وَأَيْضًا
__________
(1) الشرح الكبير على مختصر خليل 2 / 189.
(2) فتاوى عليش 2 / 246.
(3) فتاوى عليش 2 / 268.
(19/297)
الْعَادَةُ تُنَزَّل مَنْزِلَةَ حُكْمِ
السَّلاَطِينِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَنَّ كُل مَنْ بِيَدِهِ شَيْءٌ
فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ أَوْ لأَِوْلاَدِهِ الذُّكُورِ دُونَ الإِْنَاثِ
رِعَايَةً لِحَقِّ الْمَصْلَحَةِ. نَعَمْ إِذَا مَاتَ شَخْصٌ وَتَحْتَ
يَدِهِ أَرْضٌ يُؤَدِّي خَرَاجَهَا عَنْ غَيْرِ وَارِثٍ فَالأَْمْرُ
لِلسُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ، أَيْ يُقَرِّرُ فِي الأَْرْضِ مَنْ
يَشَاءُ، وَلاَ تُورَثُ عَنِ الْمَيِّتِ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: نَعَمْ وَارِثُهُ أَوْلَى وَأَحَقُّ بِهَا مِنْ
غَيْرِهِ. (1) وَلَمْ يَتَّضِحْ لَنَا قَوْل الشَّافِعِيَّةِ فِي
ذَلِكَ. أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَالْوَرَثَةُ أَحَقُّ
بِالتَّمَسُّكِ بِالأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ فَتَنْتَقِل إِلَيْهِمْ
بِوَفَاةِ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ، وَلَيْسَ لِلإِْمَامِ نَزْعُهَا
مِنْهُمْ مَا دَامُوا يُؤَدُّونَ الْخَرَاجَ.
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: مَنْ بِيَدِهِ أَرْضٌ خَرَاجِيَّةٌ فَهُوَ
أَحَقُّ بِهَا وَتَرِثُهَا وَرَثَتُهُ كَذَلِكَ فَيَمْلِكُونَ
مَنَافِعَهَا بِالْخَرَاجِ الَّذِي يَبْذُلُونَهُ. (2) وَظَاهِرُ هَذَا
أَنَّ تَوَارُثَ هَذَا الْحَقِّ يُسْتَحَقُّ طِبْقًا لأَِنْصِبَةِ
الْمِيرَاثِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ الْمَوْرُوثُ مَالاً.
وَقْفُ مَا يُنْشِئُهُ فِي أَرْضِ بَيْتِ الْمَال:
28 - نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْخَصَّافِ أَنَّهُ قَال: إِنَّ
وَقْفَ حَوَانِيتِ الأَْسْوَاقِ يَجُوزُ إِنْ كَانَتِ الأَْرْضُ
__________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي 2 / 189.
(2) مطالب أولي النهى 4 / 192، والقواعد لابن رجب القاعدة (87) ، ص
200، وكشاف القناع باب الأرضين المغنومة 3 / 99.
(19/298)
بِأَيْدِي الَّذِينَ بَنَوْهَا بِإِجَارَةٍ
لاَ يُخْرِجُهُمُ السُّلْطَانُ عَنْهَا مِنْ قِبَل أَنَّا رَأَيْنَاهَا
فِي أَيْدِي أَصْحَابِ الْبِنَاءِ تَوَارَثُوهَا وَتُقْسَمُ بَيْنَهُمْ
لاَ يَتَعَرَّضُ لَهُمُ السُّلْطَانُ فِيهَا وَلاَ يُزْعِجُهُمْ
مِنْهَا، وَإِنَّمَا لَهُ غَلَّةٌ يَأْخُذُهَا مِنْهُمْ وَتَدَاوَلَهَا
خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ، وَمَضَى عَلَيْهَا الدُّهُورُ وَهِيَ فِي
أَيْدِيهمْ يَتَبَايَعُونَهَا، وَيُؤَجِّرُونَهَا، وَتَجُوزُ فِي
وَصَايَاهُمْ، وَيَهْدِمُونَ بِنَاءَهَا، وَيُعِيدُونَهُ، وَيَبْنُونَ
غَيْرَهُ، فَكَذَلِكَ الْوَقْفُ جَائِزٌ. ا. هـ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَأَقَرَّهُ فِي الْفَتْحِ وَوَجْهُهُ بَقَاءُ
التَّأْبِيدِ. (1)
وَإِنْ كَانَ مَا جَعَلَهُ فِي الأَْرْضِ غِرَاسًا فَالْحُكْمُ فِي
وَقْفِهَا حُكْمُ الْبِنَاءِ. أَمَّا إِنْ كَانَ مَا عَمِلَهُ فِي
الأَْرْضِ مُجَرَّدَ كَبْسٍ بِالتُّرَابِ أَوِ السَّمَادِ فَلاَ
يَصِحُّ وَقْفُهُ. (2)
وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى كَلاَمٍ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
الْخُلُوُّ فِي الأَْمْلاَكِ الْخَاصَّةِ:
29 - فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْمِلْكِ فِي ثُبُوتِ
حَقِّ الْقَرَارِ فَأَثْبَتُوهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي عَقَارَاتِ
الأَْوْقَافِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَنَفَوْهُ
فِي الأَْمْلاَكِ الْخَاصَّةِ الْمُؤَجَّرَةِ، وَبَيَّنُوا أَنَّ
الْفَرْقَ فِي ذَلِكَ هُوَ أَنَّ الْمَالِكَ أَحَقُّ بِمِلْكِهِ إِذَا
انْتَهَى عَقْدُ الإِْجَارَةِ، ثُمَّ هُوَ قَدْ يَرْغَبُ فِي تَجْدِيدِ
إِيجَارِهِ لِلْمُسْتَأْجِرِ الأَْوَّل
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 3 / 391.
(2) رد المحتار 3 / 391.
(19/298)
بِنَفْسِ الأَْجْرِ، أَوْ أَقَل، أَوْ
أَكْثَرَ، وَقَدْ لاَ يَرْغَبُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ يُرِيدُ أَنْ
يَسْكُنَهُ بِنَفْسِهِ، أَوْ يَبِيعَهُ، أَوْ يُعَطِّلَهُ، بِخِلاَفِ
الْمَوْقُوفِ الْمُعَدِّ لِلإِْيجَارِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلنَّاظِرِ
إِلاَّ أَنْ يُؤَجِّرَهُ، فَإِيجَارُهُ مِنْ ذِي الْيَدِ بِأُجْرَةِ
مِثْلِهِ أَوْلَى مِنْ إِيجَارِهِ لأَِجْنَبِيٍّ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ
النَّظَرِ لِلْوَقْفِ وَلِذِي الْيَدِ. وَلِمَالِكِ الْحَانُوتِ أَنْ
يُكَلِّفَ الْمُسْتَأْجِرَ رَفْعَ جَدَكَةٍ وَإِفْرَاغَ الْمَحَل
لِمَالِكِهِ. (1) وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لاَ يَثْبُتَ حَقُّ
الْقَرَارِ فِي الأَْمْلاَكِ الْخَاصَّةِ حَتَّى عِنْدَ مَنْ سَمَّاهُ
فِي عَقَارَاتِ الْوَقْفِ خُلُوًّا؛ وَلأَِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ
إِخْرَاجِ صَاحِبِ الْحَانُوتِ لِصَاحِبِ الْخُلُوِّ حَجْرُ الْحُرِّ
الْمُكَلَّفِ عَنْ مِلْكِهِ وَإِتْلاَفُ مَالِهِ. (2) وَهِيَ
مَسْأَلَةٌ إِجْمَاعِيَّةٌ كَمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْفَتَاوَى
الْخَيْرِيَّةِ وَكَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَحْكَامِ الإِْجَارَةِ
(3) فَإِنْ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الإِْجَارَةِ فِي
الأَْرْضِ بِنَاءٌ أَوْ أَشْجَارٌ، أَوْ فِي الْحَانُوتِ بِنَاءٌ،
يَلْزَمُهُ رَفْعُهُ عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي
أَحْكَامِ الإِْجَارَةِ.
أَمَّا إِنْشَاءُ الْخُلُوِّ قَصْدًا بِتَعَاقُدٍ بَيْنَ
الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمَالِكِ مُقَابِل دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ
لِيُمَكِّنَهُ مِنْ وَضْعِ بِنَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ فِي الأَْرْضِ أَوِ
الْحَانُوتِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْخُلُوُّ، فَقَدْ
أَفْتَى بِصِحَّتِهِ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ. قَال ابْنُ
عَابِدِينَ: مِمَّنْ أَفْتَى
__________
(1) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 200.
(2) الدر المختار 4 / 16.
(3) الفتاوى الخيرية 1 / 173، والموسوعة الفقهية (الإجارة ف90، 92) .
(19/299)
بِلُزُومِ الْخُلُوِّ بِمُقَابَلَةِ
دَرَاهِمَ يَدْفَعُهَا إِلَى الْمَالِكِ الْعَلاَّمَةُ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ الْعِمَادِيُّ وَقَال: فَلاَ يَمْلِكُ صَاحِبُ الْحَانُوتِ
إِخْرَاجَهُ مِنْهَا وَلاَ إِجَارَتَهَا لِغَيْرِهِ فَيُفْتَى
بِجَوَازِ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ. (1)
وَسُئِل الْمَهْدِيُّ الْعَبَّاسِيُّ فِي رَجُلٍ لَهُ حَانُوتٌ
مُتَخَرِّبٌ اسْتَأْجَرَهُ مِنْهُ رَجُلٌ سَنَةً، وَأَذِنَ لَهُ
بِالْبِنَاءِ وَالْعِمَارَةِ فِيهِ لِيَكُونَ مَا عَمَّرَهُ وَبَنَاهُ
وَأَنْشَأَهُ خُلُوًّا لَهُ وَمِلْكًا مُسْتَحَقَّ الْبَقَاءِ
وَالْقَرَارِ، وَجَعَل عَلَيْهِ أُجْرَةً لِلأَْرْضِ مِقْدَارًا
مَعْلُومًا مِنَ الدَّرَاهِمِ مُسَانَهَةً (سَنَوِيًّا) فَهَل إِذَا
بَنَى وَعَمَّرَ وَأَنْشَأَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ ذَلِكَ
مِلْكًا لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَإِذَا مَاتَ الآْذِنُ يَكُونُ
لِوَرَثَتِهِ أُجْرَةُ الأَْرْضِ فَقَطْ؟ فَأَجَابَ: مَا بَنَاهُ
الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ مَالِهِ لِنَفْسِهِ بِإِذْنِ الْمَالِكِ فِي
حَيَاتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ مَمْلُوكٌ لِبَانِيهِ يُورَثُ
عَنْهُ إِذَا مَاتَ، وَعَلَيْهِ الأُْجْرَةُ الْمُقَرَّرَةُ عَلَى
الأَْرْضِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (2)
ثُمَّ قَرَّرَ أَنَّ الْخُلُوَّ فِي هَذِهِ الْحَال يَجُوزُ بَيْعُهُ
لأَِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ أَعْيَانٍ مَمْلُوكَةٍ لِصَاحِبِهَا
مُسْتَحَقٌّ قَرَارُهَا فِي الْمَحَل. (3)
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَقَدْ قَال الشَّيْخُ
عُلَيْشٌ: الْخُلُوُّ رُبَّمَا يُقَاسُ عَلَيْهِ الْجَدَكُ
الْمُتَعَارَفُ فِي حَوَانِيتِ مِصْرَ، فَإِنَّ الْخُلُوَّ إِذَا صَحَّ
فِي الْوَقْفِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 17.
(2) الفتاوى المهدية 5 / 26، ومثله في 5 / 43 وفي 5 / 44.
(3) الفتاوى المهدية 5 / 23، 49، 61.
(19/299)
فَفِي الْمِلْكِ أَوْلَى لأَِنَّ
الْمَالِكَ يَفْعَل فِي مِلْكِهِ مَا يَشَاءُ. لَكِنَّ بَعْضَ
الْجَدَكَاتِ بِنَاءٌ، أَوْ إِصْلاَحُ أَخْشَابٍ فِي الْحَانُوتِ
مَثَلاً بِإِذْنٍ، وَهَذَا قِيَاسُهُ عَلَى الْخُلُوِّ ظَاهِرٌ
خُصُوصًا وَقَدِ اسْتَنَدُوا فِي تَأْبِيدِ الْحَكْرِ لِلْعُرْفِ،
وَالْعُرْفُ حَاصِلٌ فِي الْجَدَكِ. وَالْبَعْضُ الآْخَرُ مِنَ
الْجَدَكَاتِ وَضْعُ أَشْيَاءَ مُسْتَقِلَّةٍ فِي الْمَحَل (أَيْ
مُنْفَصِلَةٍ) غَيْرِ مُسَمَّرَةٍ فِيهِ كَمَا يَقَعُ فِي
الْحَمَّامَاتِ، وَحَوَانِيتِ الْقَهْوَةِ بِمِصْرَ، فَهَذِهِ
بَعِيدَةٌ عَنِ الْخُلُوَّاتِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ لِلْمَالِكِ
إِخْرَاجَهَا. ا. هـ.
وَظَاهِرٌ أَنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: " إِنَّ الْخُلُوَّ إِذَا صَحَّ
فِي الْوَقْفِ فَفِي الْمِلْكِ أَوْلَى "، أَنْ يَتَعَاقَدَ الْمَالِكُ
وَمُسْتَأْجِرُ الْحَانُوتِ عَلَى إِنْشَاءِ الْخُلُوِّ وَتَأْبِيدِهِ
لاَ إِنْ حَصَل ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الإِْذْنِ وَيُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ
قَوْلِهِ (لأَِنَّ الْمَالِكَ يَفْعَل فِي مِلْكِهِ مَا يَشَاءُ) . (1)
وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الَّذِينَ أَجَازُوا بَيْعَ
الْمَنْفَعَةِ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ عَلَى مَا خَرَّجَهُ الْبُهُوتِيُّ
إِنْشَاءُ الْخُلُوِّ بِمَالٍ يُدْفَعُ إِلَى نَاظِرِ الْوَقْفِ
بِشُرُوطِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. (2)
أَخْذُ الْمُسْتَأْجِرِ بَدَل الْخُلُوِّ مِنْ مُسْتَأْجِرٍ لاَحِقٍ:
30 - يَدُورُ حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ
الأَْوَّل إِنْ كَانَ يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ إِلَى مُدَّةٍ
مُعَيَّنَةٍ بِإِجَارَةٍ صَحِيحَةٍ مَعَ الْمَالِكِ، أَوْ نَاظِرِ
الْوَقْفِ،
__________
(1) فتاوى الشيخ عليش 2 / 252.
(2) مطالب أولي النهى 4 / 370.
(19/300)
فَتَخَلَّى عَنِ الْحَانُوتِ أَثْنَاءَ
الْمُدَّةِ لِمُسْتَأْجِرٍ آخَرَ يَحِل مَحَلَّهُ وَأَخَذَ عَلَى
ذَلِكَ عِوَضًا مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ الَّذِي يَحِل مَحَلَّهُ جَازَ
ذَلِكَ، وَمِنْ شَرْطِ ذَلِكَ فِي حَوَانِيتِ الْوَقْفِ أَنْ تَكُونَ
الإِْجَارَةُ بِأَجْرِ الْمِثْل، قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ فِي
فَتَاوِيهِ: إِنَّ حَوَانِيتَ الأَْوْقَافِ بِمِصْرَ جَرَتْ عَادَةُ
سُكَّانِهَا أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمُ الْخُرُوجَ مِنَ
الدُّكَّانِ أَخَذَ مِنَ الآْخَرِ مَالاً عَلَى أَنْ يَنْتَفِعَ
بِالسُّكْنَى فِيهِ، وَيُسَمُّونَهُ خُلُوًّا وَجَدَكًا،
وَيَتَدَاوَلُونَ ذَلِكَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ يَعُودُ
عَلَى تِلْكَ الأَْوْقَافِ نَفْعٌ أَصْلاً غَيْرَ أُجْرَةِ
الْحَانُوتِ، بَل الْغَالِبُ أَنَّ أُجْرَةَ الْحَانُوتِ أَقَل مِنْ
أُجْرَةِ الْمِثْل بِسَبَبِ مَا دَفَعَهُ الآْخِذُ مِنْ مَالٍ. ثُمَّ
قَال: وَالَّذِي يَدُورُ عَلَيْهِ الْجَوَابُ فِي ذَلِكَ أَنَّ
السَّاكِنَ الَّذِي أَخَذَ الْخُلُوَّ إِنْ كَانَ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ
الْحَانُوتِ مُدَّةً فَأَسْكَنَهَا غَيْرَهُ وَأَخَذَ عَلَى ذَلِكَ
مَالاً فَإِنْ كَانَ الآْخِذُ بِيَدِهِ إِجَارَةٌ صَحِيحَةٌ مِنَ
النَّاظِرِ أَوِ الْوَكِيل بِشُرُوطِهَا بِأُجْرَةِ الْمِثْل فَهُوَ
سَائِغٌ لَهُ الأَْخْذُ عَلَى تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي
يَمْلِكُهَا، وَلاَ ضَرَرَ عَلَى الْوَقْفِ لِصُدُورِ الأُْجْرَةِ
مُوَافَقَةً لأُِجْرَةِ الْمِثْل. وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا
لِلْمَنْفَعَةِ بِإِجَارَةٍ صَحِيحَةٍ فَلاَ عِبْرَةَ بِخُلُوِّهِ
وَيُؤَجِّرُهُ النَّاظِرُ لِمَنْ يَشَاءُ بِأُجْرَةِ الْمِثْل.
وَيَرْجِعُ دَافِعُ الدَّرَاهِمِ عَلَى مَنْ دَفَعَهَا لَهُ. ا. هـ (1)
وَأَمَّا بَعْدَ انْتِهَاءِ مُدَّةِ عَقْدِ الإِْجَارَةِ فَالْمَالِكُ
__________
(1) فتاوى الشيخ عليش 2 / 250.
(19/300)
أَحَقُّ بِمِلْكِهِ كَمَا تَقَدَّمَ (ف 29)
مَا لَمْ يَكُنِ الْمُسْتَأْجِرُ قَدِ اتَّفَقَ مَعَهُ عَلَى إِنْشَاءِ
الْخُلُوِّ بِمَالٍ دَفَعَهُ إِلَيْهِ فَلَهُ بَيْعُ الْخُلُوِّ إِلَى
مُسْتَأْجِرٍ يَأْتِي بَعْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّل هَذَا
الْبَحْثِ؛ لأَِنَّ الْخُلُوَّ الصَّحِيحَ يَجُوزُ بَيْعُهُ إِنْ
تَمَّتْ شُرُوطُهُ عِنْدَ مَنْ أَخَذَ بِذَلِكَ.
خُلُوُّ عَقْدِ النِّكَاحِ عَنِ الْمَهْرِ:
31 - إِذَا عُقِدَ النِّكَاحُ بِلاَ تَسْمِيَةِ مَهْرٍ فَإِنَّهُ
يُسَمَّى (التَّفْوِيضَ فِي النِّكَاحِ) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ
(تَفْوِيضٌ) .
(19/301)
خَلِيطٌ
انْظُرْ: خُلْطَةٌ
خَلِيطَانِ
انْظُرْ: خُلْطَةٌ:
(19/301)
خِمَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخِمَارُ مِنَ الْخَمْرِ، وَأَصْلُهُ السَّتْرُ، يُقَال: خَمَرَ
الشَّيْءَ يَخْمُرُهُ خَمْرًا، وَأَخْمَرَهُ أَيْ سَتَرَهُ، وَكُل
مُغَطًّى مُخَمَّرٌ يُقَال: خَمَّرْتُ الإِْنَاءَ أَيْ غَطَّيْتُهُ،
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَال: خَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ (1)
وَفِي رِوَايَةٍ: خَمِّرُوا الآْنِيَةَ وَأَوْكِئُوا الأَْسْقِيَةَ (2)
وَكُل مَا يَسْتُرُ شَيْئًا فَهُوَ خِمَارُهُ. لَكِنَّ الْخِمَارَ
غَلَبَ فِي التَّعَارُفِ اسْمًا لِمَا تُغَطِّي بِهِ الْمَرْأَةُ
رَأْسَهَا، يُقَال: اخْتَمَرَتِ الْمَرْأَةُ وَتَخَمَّرَتْ: أَيْ
لَبِسَتِ الْخِمَارَ، وَجَمْعُ الْخِمَارِ خُمُرٌ، (3) قَال اللَّهُ
تَعَالَى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} . (4)
__________
(1) حديث: " خمروا آنيتكم ". أخرجه البخاري، (الفتح 10 / 88 - ط
السلفية) ، ومسلم (3 / 1595 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) حديث: " خمروا الآنية وأوكوا الأسقية ". أخرجه البخاري، (الفتح 6 /
355 - ط السلفية) من حديث جابر.
(3) المصباح المنير، والقاموس المحيط، ولسان العرب، والمفردات في غريب
القرآن (مادة خمر) ، والكليات 2 / 278.
(4) سورة النور / 31.
(20/5)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى
الاِصْطِلاَحِيُّ لِلْخِمَارِ فِي الْجُمْلَةِ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ السَّابِقِ، لأَِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يُعَرِّفُونَهُ
بِأَنَّهُ: مَا يَسْتُرُ الرَّأْسَ وَالصُّدْغَيْنِ أَوِ الْعُنُقَ (1)
.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحِجَابُ:
2 - الْحِجَابُ: السِّتْرُ، يُقَال: حَجَبَ الشَّيْءَ يَحْجُبُهُ
حَجْبًا وَحِجَابًا، وَحَجَبَهُ: سَتَرَهُ، وَامْرَأَةٌ مَحْجُوبَةٌ:
قَدْ سُتِرَتْ بِسِتْرٍ، وَحِجَابُ الْجَوْفِ: مَا يَحْجِبُ بَيْنَ
الْفُؤَادِ وَسَائِرِهِ، قَال الأَْزْهَرِيُّ: هِيَ جِلْدَةٌ بَيْنَ
الْفُؤَادِ وَسَائِرِ الْبَطْنِ.
وَالأَْصْل فِي الْحِجَابِ أَنَّهُ جِسْمٌ حَائِلٌ بَيْنَ جَسَدَيْنِ،
وَاسْتُعْمِل فِي الْمَعَانِي فَقِيل: الْعَجْزُ حِجَابٌ
وَالْمَعْصِيَةُ حِجَابٌ. (2)
فَالْحِجَابُ أَعَمُّ مِنَ الْخِمَارِ.
ب - الْقِنَاعُ:
3 - الْقِنَاعُ مَا تَتَقَنَّعُ بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ ثَوْبٍ تُغَطِّي
رَأْسَهَا وَمَحَاسِنَهَا. وَنَحْوُهُ الْمِقْنَعَةُ وَهِيَ مَا
تُقَنِّعُ بِهِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا. قَال صَاحِبُ الْقَامُوسِ:
الْقِنَاعُ أَوْسَعُ مِنْهَا.
__________
(1) حاشية الصعيدي على كفاية الطالب الرباني 1 / 137، المجموع 1 / 171.
(2) المصباح المنير، الكليات، لسان العرب مادة: " حجب "، والتعريفات
111.
(20/5)
وَيُطْلِقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْقِنَاعَ
عَلَى الثَّوْبِ يُلْقِيهِ الرَّجُل عَلَى كَتِفِهِ، وَيُغَطِّي بِهِ
رَأْسَهُ وَيَرُدُّ طَرَفَهُ عَلَى كَتِفِهِ الآْخَرِ. (1)
وَالْقِنَاعُ أَعَمُّ وَأَشْمَل فِي السَّتْرِ مِنَ الْخِمَارِ، أَوْ
هُوَ يُخَالِفُهُ بِإِطْلاَقِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.
ج - النِّقَابُ:
4 - النِّقَابُ مَا تَنْتَقِبُ بِهِ الْمَرْأَةُ، يُقَال: انْتَقَبَتِ
الْمَرْأَةُ وَتَنَقَّبَتْ: غَطَّتْ وَجْهَهَا بِالنِّقَابِ.
وَيُعَرِّفُ ابْنُ مَنْظُورٍ النِّقَابَ بِأَنَّهُ: الْقِنَاعُ عَلَى
مَارِنِ الأَْنْفِ، ثُمَّ يَقُول: وَالنِّقَابُ عَلَى وُجُوهٍ. قَال
الْفَرَّاءُ: إِذَا أَدْنَتِ الْمَرْأَةُ النِّقَابَ إِلَى عَيْنِهَا
فَتِلْكَ الْوَصْوَصَةُ، فَإِنْ أَنْزَلَتْهُ دُونَ ذَلِكَ إِلَى
الْمَحْجَرِ فَهُوَ النِّقَابُ، فَإِنْ كَانَ عَلَى طَرَفِ الأَْنْفِ
فَهُوَ اللِّفَامُ. قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: الْوَصْوَاصُ: الْبُرْقُعُ
الصَّغِيرُ. (2)
وَكُلٌّ مِنَ الْخِمَارِ وَالنِّقَابِ يُغَطَّى بِهِ جُزْءٌ مِنَ
الْجِسْمِ، الْخِمَارُ يُغَطَّى بِهِ الرَّأْسُ، وَالنِّقَابُ يُغَطَّى
بِهِ الْوَجْهُ.
د - الْبُرْقُعُ:
5 - الْبُرْقُعُ لُغَةً: مَا تَسْتُرُ بِهِ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا (3)
__________
(1) لسان العرب مادة (قنع) ، وجواهر الإكليل 1 / 52.
(2) القاموس المحيط، المصباح المنير، لسان العرب مادة: " نقب "، ومادة:
" وصوص ".
(3) المصباح المنير مادة: " برقع ".
(20/6)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ
بِالْخِمَارِ:
أَوَّلاً: ارْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ الْخِمَارَ عُمُومًا:
6 - ارْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الْخِمَارَ بِوَجْهٍ عَامٍّ
وَاجِبٌ شَرْعًا، لأَِنَّ شَعْرَ رَأْسِهَا عَوْرَةٌ بِاتِّفَاقٍ،
وَقَدْ أُمِرَتِ الْمَرْأَةُ بِضَرْبِ الْخِمَارِ عَلَى جَيْبِهَا فِي
قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}
(1) قَال الْقُرْطُبِيُّ: سَبَبُ هَذِهِ الآْيَةِ أَنَّ النِّسَاءَ
كُنَّ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِذَا غَطَّيْنَ رُءُوسَهُنَّ
بِالأَْخْمِرَةِ، وَهِيَ الْمَقَانِعُ سَدَلْنَهَا مِنْ وَرَاءِ
الظَّهْرِ فَيَبْقَى النَّحْرُ وَالْعُنُقُ وَالأُْذُنَانِ لاَ سِتْرَ
عَلَى ذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِلَيِّ الْخِمَارِ عَلَى
الْجُيُوبِ، وَهَيْئَةُ ذَلِكَ أَنْ تَضْرِبَ الْمَرْأَةُ بِخِمَارِهَا
عَلَى جَيْبِهَا لِتَسْتُرَ صَدْرَهَا. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّمَا يُضْرَبُ بِالْخِمَارِ الْكَثِيفِ الَّذِي
يَسْتُرُ (2)
ثَانِيًا - الْمَسْحُ عَلَى الْخِمَارِ فِي الْوُضُوءِ:
7 - مَسْحُ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ فَرْضٌ تَوَاتَرَتْ عَلَيْهِ
الأَْدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ.
وَالْفَرْضُ الَّذِي تَوَاتَرَتْ عَلَيْهِ الأَْدِلَّةُ هُوَ أَصْل
الْمَسْحِ، أَمَّا صِفَتُهُ وَمِقْدَارُ مَا يُمْسَحُ مِنَ الرَّأْسِ
فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرَانِ فِي مُصْطَلَحَيْ: (وُضُوءٌ)
(وَمَسْحٌ) .
وَمِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ كَذَلِكَ الْمَسْحُ عَلَى الْخِمَارِ: فَقَال
الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُجْزِئُ
__________
(1) سورة النور / 31.
(2) القرطبي 12 / 230.
(20/6)
فِي الْوُضُوءِ مَسْحُ الْمَرْأَةِ
خِمَارَهَا وَحْدَهُ دُونَ مَسْحِ رَأْسِهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ
الْخِمَارُ رَقِيقًا يَنْفُذُ مِنْهُ الْمَاءُ إِلَى شَعْرِهَا،
فَيَجُوزُ لِوُجُودِ الإِْصَابَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَدْخَلَتْ يَدَهَا تَحْتَ الْخِمَارِ
وَمَسَحَتْ بِرَأْسِهَا، وَقَالَتْ: بِهَذَا أَمَرَنِي رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (1) وَلأَِنَّهُ لاَ حَرَجَ فِي
نَزْعِهِ، وَالرُّخْصَةُ لِدَفْعِ الْحَرَجِ، وَلأَِنَّ قَوْله
تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (2) يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِ
مَسْحِ غَيْرِ الرَّأْسِ.
قَال نَافِعٌ: رَأَيْتُ صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ تَتَوَضَّأُ
وَتَنْزِعُ خِمَارَهَا ثُمَّ تَمْسَحُ بِرَأْسِهَا، قَال نَافِعٌ:
وَأَنَا يَوْمَئِذٍ صَغِيرٌ، قَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: بِهَذَا
نَأْخُذُ، لاَ نَمْسَحُ عَلَى خِمَارٍ وَلاَ عَلَى عِمَامَةٍ،
بَلَغَنَا أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ كَانَ فَتُرِكَ.
قَال النَّوَوِيُّ: قَال الشَّافِعِيُّ فِي الْبُوَيْطِيِّ: وَتُدْخِل
يَدَهَا تَحْتَ خِمَارِهَا حَتَّى يَقَعَ الْمَسْحُ عَلَى الشَّعْرِ،
فَلَوْ وَضَعَتْ يَدَهَا الْمُبْتَلَّةَ عَلَى خِمَارِهَا قَال
أَصْحَابُنَا: إِنْ لَمْ يَصِل الْبَلَل إِلَى الشَّعْرِ لَمْ
يُجْزِئْهَا، وَإِنْ وَصَل فَهِيَ كَالرَّجُل إِذَا وَضَعَ يَدَهُ
الْمُبْتَلَّةَ عَلَى رَأْسِهِ إِنْ أَمَرَّهَا عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ
وَإِلاَّ فَوَجْهَانِ، الصَّحِيحُ الإِْجْزَاءُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ مَسَحَ نَاصِيَتَهُ وَلَمْ
يَسْتَوْعِبِ الرَّأْسَ بِالْمَسْحِ أَنْ يُتِمَّ الْمَسْحَ عَلَى
__________
(1) حديث عائشة: " أنها دخلت يدها تحت الخمار. . . " أورده صاحب بدائع
الصنائع (1 / 5) ، ولم نعثر عليه فيما لدينا من مراجع السنن والآثار.
(2) سورة المائدة / 6.
(20/7)
الْعِمَامَةِ، وَقَالُوا: وَهَذَا حُكْمُ
مَا عَلَى رَأْسِ الْمَرْأَةِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فِي مَسْحِ الرَّأْسِ
عَلَى مِقْنَعَتِهَا رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: وَهِيَ
الْمُعْتَمَدَةُ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهَا الْحَجَّاوِيُّ يَجُوزُ،
لأَِنَّ أُمَّ سَلَمَةَ كَانَتْ تَمْسَحُ عَلَى خِمَارِهَا، ذَكَرَهُ
ابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ
وَالْخِمَارِ (2) وَلأَِنَّهُ مَلْبُوسٌ لِلرَّأْسِ مُعْتَادٌ يَشُقُّ
نَزْعُهُ فَأَشْبَهَ الْعِمَامَةَ.
وَالثَّانِيَةُ: لاَ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَحْمَدَ
سُئِل: كَيْفَ تَمْسَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى رَأْسِهَا؟ قَال: مِنْ
تَحْتِ الْخِمَارِ وَلاَ تَمْسَحُ عَلَى الْخِمَارِ، قَال: وَقَدْ
ذَكَرُوا أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ كَانَتْ تَمْسَحُ عَلَى خِمَارِهَا (3)
.
ثَالِثًا: لُبْسُ الْخِمَارِ فِي الصَّلاَةِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الصَّلاَةِ سَتْرَ
الْعَوْرَةِ، وَمِنَ الْعَوْرَةِ الَّتِي يُشْتَرَطُ سَتْرُهَا فِي
الصَّلاَةِ شَعْرُ الْمَرْأَةِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ
الْبَالِغَةِ أَنْ تُخَمِّرَ رَأْسَهَا فِي الصَّلاَةِ، أَيْ
تُغَطِّيَهُ بِخِمَارٍ كَثِيفٍ لاَ يَشِفُّ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَل
كَانَتْ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 5، فتح القدير 1 / 109، الزرقاني 1 / 130،
المجموع 1 / 407 - 409.
(2) حديث: " أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمسح على الخفين والخمار.
. . " أخرجه أحمد (6 / 12 - ط. الميمنية) من حديث بلال، وإسناده صحيح
وورد من فعله صلى الله عليه وسلم، أخرجه مسلم (1 / 231 - ط. الحلبي) .
(3) المغني 1 / 301، 305، كشاف القناع 1 / 112.
(20/7)
صَلاَتُهَا بَاطِلَةً، لِمَا رُوِيَ عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَقْبَل اللَّهُ صَلاَةَ
حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ (1) وَالْمُرَادُ بِالْحَائِضِ الْبَالِغَةُ،
لأَِنَّ الْحَائِضَ فِعْلاً أَثْنَاءَ حَيْضِهَا لاَ صَلاَةَ لَهَا،
لاَ بِخِمَارٍ وَلاَ بِغَيْرِهِ، فَكَانَ التَّعْبِيرُ بِلَفْظِ
الْحَائِضِ مَجَازًا عَنِ الْبَالِغَةِ لأَِنَّ الْحَيْضَ يَسْتَلْزِمُ
الْبُلُوغَ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ
الأَْحْكَامِ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ تَرَكَتِ الْحُرَّةُ الْبَالِغَةُ سَتْرَ
رُبُعِ رَأْسِهَا فَأَكْثَرَ قَدْرَ أَدَاءِ رُكْنٍ بِلاَ صُنْعِهَا
أَعَادَتْ.
وَفِي أَحْكَامِ الصِّغَارِ لِلأُْسْتُرُوشَنِيِّ: وَجَوَازُ صَلاَةِ
الصَّغِيرَةِ بِغَيْرِ قِنَاعٍ اسْتِحْسَانٌ، لأَِنَّهُ لاَ خِطَابَ
مَعَ الصِّبَا، وَالأَْحْسَنُ أَنْ تُصَلِّيَ بِقِنَاعٍ لأَِنَّهَا
إِنَّمَا تُؤْمَرُ بِالصَّلاَةِ لِلتَّعَوُّدِ فَتُؤْمَرُ عَلَى وَجْهٍ
يَجُوزُ أَدَاؤُهَا مَعَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ.
ثُمَّ قَال: الْمُرَاهِقَةُ (2) إِذَا صَلَّتْ بِغَيْرِ قِنَاعٍ لاَ
تُؤْمَرُ بِالإِْعَادَةِ اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ صَلَّتْ بِغَيْرِ
وُضُوءٍ تُؤْمَرُ بِذَلِكَ. (3)
__________
(1) حديث: " لا يقبل صلاة حائض إلا بخمار. . . " أخرجه أبو داود (1 /
421 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 251 - ط. دار المعارف
العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) المراهقة التي قد قاربت البلوغ ولم تبلغ بعد.
(3) رد المحتار 1 / 270 - 273، 276، فتح القدير 1 / 180.
(20/8)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ
لِلْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الصَّغِيرَةِ الْمَأْمُورَةِ بِالصَّلاَةِ
سَتْرٌ لِلصَّلاَةِ - وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ -
وَتُعِيدُ الصَّلاَةَ نَدْبًا إِنْ رَاهَقَتْ - أَيْ قَارَبَتِ
الْبُلُوغَ - وَتَرَكَتِ الْقِنَاعَ - أَيْ تَغْطِيَةَ الرَّأْسِ - فِي
الصَّلاَةِ. . . وَقَالُوا: يُكْرَهُ الْقِنَاعُ فِي الصَّلاَةِ
لِلرَّجُل إِذَا كَانَ بِصِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ هِيَ أَنْ يُلْقِيَ
ثَوْبًا عَلَى كَتِفِهِ وَيُغَطِّيَ بِهِ رَأْسَهُ وَيَرُدَّ طَرَفَهُ
عَلَى كَتِفِهِ الآْخَرِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِلرِّجَال لأَِنَّهُ مِنْ
زِيِّ النِّسَاءِ إِلاَّ مِنْ ضَرُورَةِ حَرٍّ، أَوْ بَرْدٍ، أَوْ
يَكُونُ شِعَارَ قَوْمٍ فَلاَ يُكْرَهُ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ تُقْبَل صَلاَةُ الصَّبِيَّةِ
الْمُمَيِّزَةِ إِلاَّ بِخِمَارٍ. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: غَيْرُ الْبَالِغَةِ لاَ يَلْزَمُهَا سَتْرُ
رَأْسِهَا فِي الصَّلاَةِ لِمَفْهُومِ حَدِيثِ عَائِشَةَ السَّابِقِ.
(3)
رَابِعًا - لُبْسُ الْخِمَارِ فِي الإِْحْرَامِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ
بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل تَغْطِيَةَ الرَّأْسِ، وَعَلَى أَنَّ
الْمَرْأَةَ الْحُرَّةَ لاَ تَكْشِفُ رَأْسَهَا فِي الإِْحْرَامِ -
كَمَا يَفْعَل الرَّجُل - لأَِنَّ رَأْسَهَا عَوْرَةٌ يَجِبُ
سَتْرُهَا، وَعَلَيْهَا أَنْ تُخَمِّرَ رَأْسَهَا بِمَا يَسْتُرُهُ
سَتْرًا كَامِلاً، وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ
قَوْلَهُ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى
__________
(1) كفاية الطالب 1 / 137، جواهر الإكليل 1 / 42، 52.
(2) المجموع 3 / 166.
(3) المغني 1 / 602 - 606، 2 / 471.
(20/8)
أَنَّ لِلْمُحْرِمَةِ لُبْسَ الْقُمُصِ
وَالدُّرُوعِ وَالسَّرَاوِيلاَتِ وَالْخُمُرِ وَالْخِفَافِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ
حَال إِحْرَامِهَا سَتْرُ وَجْهِهَا، أَوْ بَعْضِهِ بِمَا يُعَدُّ
سَاتِرًا، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ عَلَى الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ
الْمُحْرِمَةِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَنْ تَسْتُرَ مِنْ وَجْهِهَا مَا
لاَ يَتَأَتَّى سَتْرُ جَمِيعِ رَأْسِهَا إِلاَّ بِهِ، وَلاَ يَجُوزُ
لَهَا أَنْ تَكْشِفَ مِنْ رَأْسِهَا مَا لاَ يَتَأَتَّى كَشْفُ
وَجْهِهَا إِلاَّ بِهِ، لأَِنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى سَتْرِ الرَّأْسِ
بِكَمَالِهِ لِكَوْنِهِ عَوْرَةً أَوْلَى مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى
كَشْفِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي لاَ يَتَأَتَّى
تَمَامُ سَتْرِ الرَّأْسِ إِلاَّ بِهِ. (1)
خَامِسًا: الْخِمَارُ فِي كَفَنِ الْمَرْأَةِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَقَل الْكَفَنِ الضَّرُورِيِّ
الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مَا يُغَطِّي بَدَنَ الْمَيِّتِ رَجُلاً كَانَ
أَوِ امْرَأَةً إِلاَّ رَأْسَ الْمُحْرِمِ وَوَجْهَ الْمُحْرِمَةِ.
وَعَلَى أَنَّ الأَْفْضَل فِي الْكَفَنِ لِلْمَرْأَةِ خَمْسَةُ
أَثْوَابٍ: إِزَارٌ تَسْتُرُ بِهِ الْعَوْرَةَ، وَخِمَارٌ يُغَطَّى
بِهِ الرَّأْسُ، وَقَمِيصٌ، وَلِفَافَتَانِ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَكْثَرُ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل
الْعِلْمِ يَرَى أَنْ تُكَفَّنَ الْمَرْأَةُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ،
وَإِنَّمَا اسْتُحِبَّ ذَلِكَ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ تَزِيدُ فِي حَال
حَيَاتِهَا
__________
(1) رد المحتار 2 / 189، جواهر الإكليل 1 / 186، الجمل 2 / 505، المغني
3 / 328.
(20/9)
عَلَى الرَّجُل فِي السَّتْرِ لِزِيَادَةِ
عَوْرَتِهَا عَلَى عَوْرَتِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَدْ
رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ لَيْلَى بِنْتِ قَائِفٍ
الثَّقَفِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ
فِيمَنْ غَسَّل أُمَّ كُلْثُومٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا
بِنْتَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ
وَفَاتِهَا، فَكَانَ أَوَّل مَا أَعْطَانَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَقْوَ (1) ثُمَّ الدِّرْعَ (2) ، ثُمَّ
الْخِمَارَ، ثُمَّ الْمِلْحَفَةَ، ثُمَّ أُدْرِجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي
الثَّوْبِ الآْخَرِ. (3)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْجَارِيَةَ إِذَا لَمْ تَبْلُغْ لاَ
تُخَمَّرُ عِنْدَ تَكْفِينِهَا، جَاءَ فِي الْمُغْنِي: قَال
الْمَرْوَزِيُّ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فِي كَمْ تُكَفَّنُ
الْجَارِيَةُ إِذَا لَمْ تَبْلُغْ؟ قَال: فِي لِفَافَتَيْنِ، وَقَمِيصٍ
لاَ خِمَارَ فِيهِ، وَكَفَّنَ ابْنُ سِيرِينَ بِنْتًا لَهُ قَدْ
أَعْصَرَتْ (4) فِي قَمِيصٍ وَلِفَافَتَيْنِ، وَلأَِنَّ غَيْرَ
الْبَالِغِ لاَ يَلْزَمُهَا سَتْرُ رَأْسِهَا فِي الصَّلاَةِ.
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْحَدِّ الَّذِي
تَصِيرُ بِهِ فِي حُكْمِ الْمَرْأَةِ فِي التَّكْفِينِ وَيَكُونُ فِي
كَفَنِهَا الْخِمَارُ، فَرُوِيَ عَنْهُ، إِذَا بَلَغَتْ، وَهُوَ
ظَاهِرُ
__________
(1) في رواية الحقاء، أي الإزار.
(2) الدرع هو القميص، وفرق بعض الفقهاء بينهما بأن شق الدرع إلى الصدر
والقميص إلى المنكب (رد المحتار 1 / 278) .
(3) حديث ليلى بنت قائف: " كنت فيمن غسل أم كلثوم ". . . أخرجه أبو
داود (3 / 510 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وفي إسناده نوح بن حكيم الثقفي
وفيه جهالة كما في ترجمته في " التهذيب " لابن حجر (10 / 482 - ط. دار
المعارف العثمانية) .
(4) أعصرت أي قاربت المحيض.
(20/9)
كَلاَمِهِ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَقْبَل
اللَّهَ صَلاَةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ. (1) مَفْهُومُهُ أَنَّ
غَيْرَهَا لاَ تَحْتَاجُ إِلَى خِمَارٍ فِي صَلاَتِهَا فَكَذَلِكَ فِي
كَفَنِهَا.
وَرَوَى عَنْ أَحْمَدَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ: إِذَا كَانَتْ بِنْتَ
تِسْعِ سِنِينَ يُصْنَعُ بِهَا مَا يُصْنَعُ بِالْمَرْأَةِ، وَاحْتَجَّ
بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ
سِنِينَ (2) وَعَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: إِذَا
بَلَغَتِ الْجَارِيَةُ تِسْعًا فَهِيَ امْرَأَةٌ (3) .
وَفِي تَرْتِيبِ أَثْوَابِ الْكَفَنِ وَمَوْضِعِ الْخِمَارِ بَيْنَهَا
تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَكْفِينٌ) .
خَمْرٌ
انْظُرْ: أَشْرِبَةٌ
__________
(1) حديث: " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ". .، سبق تخريجه ف / 8.
(2) حديث عائشة رضي الله تعالى عنها:. . " أن النبي صلى الله عليه وسلم
دخل بها وهي بنت تسع سنين. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 190
نشر السلفية) ، ومسلم (2 / 1038 ط. الحلبي) بهذا المعنى.
(3) رد المحتار 1 / 578، جواهر الإكليل 1 / 110، قليوبي 1 / 328،
المغني 2 / 470 - 471.
(20/10)
خُمُسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخُمُسُ - بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ أَوْ ضَمِّهَا -
الْجُزْءُ مِنْ خَمْسَةِ أَجْزَاءٍ، وَالْخَمْسُ - بِفَتْحِ الْخَاءِ
وَسُكُونِ الْمِيمِ - أَخْذُ وَاحِدٍ مِنْ خَمْسَةٍ، يُقَال:
خَمَسْتُهُمْ أَخْمُسُهُمْ - بِضَمِّ الْمِيمِ فِي الْمُضَارِعِ - أَيْ
أَخَذْتُ خُمْسَ أَمْوَالِهِمْ، وَخَمَسْتُهُمْ أَخْمِسُهُمْ -
بِكَسْرِ الْمِيمِ فِي الْمُضَارِعِ - أَيْ كُنْتُ خَامِسَهُمْ أَوْ
كَمَّلْتُهُمْ خَمْسَةً بِنَفْسِي، وَيُقَال: خَمَّسْتُ الشَّيْءَ -
بِالتَّثْقِيل - أَيْ جَعَلْتُهُ خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ، وَيُقَال:
أَخَمَسَ الْقَوْمُ أَيْ صَارُوا خَمْسَةً (1) . وَالْخُمُسُ: خُمُسُ
الْغَنِيمَةِ أَوِ الْفَيْءِ، وَالتَّخْمِيسُ: إِخْرَاجُ الْخُمُسِ
مِنَ الْغَنِيمَةِ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمِرْبَاعُ:
2 - الْمِرْبَاعُ هُوَ الرُّبُعُ: قَال قُطْرُبٌ: الْمِرْبَاعُ
__________
(1) المصباح المنير، القاموس المحيط، ولسان العرب في المادة.
(2) قواعد الفقه للبركتي المجددي 254.
(20/10)
الرُّبُعُ، وَالْمِعْشَارُ الْعُشْرُ
وَلَمْ يُسْمَعْ فِي غَيْرِهِمَا، وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَبْل إِسْلاَمِهِ:
إِنَّكَ لَتَأْكُل الْمِرْبَاعَ وَهُوَ لاَ يَحِل لَكَ فِي دِينِكَ (1)
كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا غَزَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا
وَغَنِمُوا أَخَذَ الرَّئِيسُ رُبُعَ الْغَنِيمَةِ خَالِصًا دُونَ
أَصْحَابِهِ وَقَال الشَّاعِرُ:
لَك الْمِرْبَاعُ مِنْهَا وَالصَّفَايَا
وَحُكْمُكَ وَالنَّشِيطَةُ وَالْفُضُول (2)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ اخْتِلاَفُ الْقَدْرِ بَيْنَهُمَا.
ب - الصَّفِيُّ:
3 - الصَّفِيُّ: مَا كَانَ يَصْطَفِيهِ الرَّئِيسُ فِي الْحَرْبِ قَبْل
الإِْسْلاَمِ لِنَفْسِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ دُونَ أَصْحَابِهِ، وَمَا
لاَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقْسَمَ عَلَى الْجَيْشِ.
وَالصَّفِيُّ فِي الإِْسْلاَمِ شَيْءٌ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ قَبْل الْقِسْمَةِ كَسَيْفٍ
أَوْ فَرَسٍ أَوْ أَمَةٍ، وَقَدِ اصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَيْفَ مُنَبِّهِ بْنِ أَبِي الْحَجَّاجِ - وَهُوَ ذُو
الْفَقَارِ - يَوْمَ بَدْرٍ (3) ، وَاصْطَفَى
__________
(1) حديث: " إنك لتأكل المرباع وهو لا يحل لك في دينك ".، أخرجه أحمد
(4 / 257 - ط. اليمنية) من حديث عدي بن حاتم.
(2) المصباح المنير ولسان العرب مادة: " ربع ".
(3) حديث: " اصطفى صلى الله عليه وسلم سيف منبه بن أبي الحجاج - وهو. .
. " أخرجه الترمذي (4 / 130 - ط. الحلبي وابن ماجه (2 / 939 - ط.
الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس، وقال الترمذي: " حديث حسن ".
(20/11)
صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا.
(1) وَقَدِ انْقَطَعَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. (2)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخُمُسِ وَالصَّفِيِّ أَنَّ الْخُمُسَ الَّذِي
شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْغَنَائِمِ وَغَيْرِهَا لَهُ
مَصَارِفُ مُعَيَّنَةٌ، أَمَّا الصَّفِيُّ فَكَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلرَّئِيسِ فِي الْحَرْبِ قَبْل
الإِْسْلاَمِ.
ج - النَّشِيطَةُ:
4 - النَّشِيطَةُ مِنَ الْغَنِيمَةِ: مَا يُصِيبُهُ الْقَوْمُ قَبْل
أَنْ يَصِلُوا إِلَى الْحَيِّ الَّذِي يُرِيدُونَ الإِْغَارَةَ
عَلَيْهِ فَيَنْشُطُهُ الرَّئِيسُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
وَيَأْخُذُهُ قَبْل الْقِسْمَةِ. (3)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّشِيطَةِ وَالْخُمُسِ مِنَ الْغَنِيمَةِ أَنَّ
النَّشِيطَةَ كَانَ يَسْتَأْثِرُ بِهَا الرَّئِيسُ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ، أَمَّا الْخُمُسُ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى
مَصَارِفَهُ
د - الْفُضُول:
5 - الْفُضُول مِنَ الْغَنِيمَةِ: بَقَايَا تَبْقَى مِنْهَا لاَ
تَسْتَقِيمُ قِسْمَتُهَا عَلَى الْجَيْشِ لِقِلَّتِهَا وَكَثْرَةِ
الْجَيْشِ فَيَخْتَصُّ بِهَا رَئِيسُ الْجَيْشِ قَبْل
__________
(1) حديث: " اصطفى صفية بنت حيي. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 480 -
ط. السلفية) ، ومسلم (2 / 1044 - ط. الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(2) المصباح المنير، التعريفات 175، والمغني 6 / 409، وكشاف القناع 3 /
85.
(3) المفردات في غريب القرآن / 493، ومعجم مقاييس اللغة 5 / 426.
(20/11)
الإِْسْلاَمِ (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفُضُول مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالْخُمُسِ أَنَّ
الْفُضُول كَانَ يَخُصُّ بِهَا رَئِيسُ الْجَيْشِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
نَفْسَهُ وَيَسْتَأْثِرُ بِهَا دُونَ أَصْحَابِهِ، أَمَّا الْخُمُسُ
فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مَصَارِفَهُ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ تَخْمِيسِ الْغَنِيمَةِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول وَلِذِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل} (2)
وَاخْتَلَفُوا فِي تَخْمِيسِ الْفَيْءِ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
الأَْمْوَال الَّتِي تُخَمَّسُ:
أَوَّلاً: الْغَنِيمَةُ:
7 - وَهِيَ الْمَال الَّذِي يَأْخُذُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ
الْكُفَّارِ بِالْقُوَّةِ وَالْقَهْرِ بِإِيجَافِ الْخَيْل
وَالرِّكَابِ (3) .
وَلَمْ تَكُنِ الْغَنَائِمُ تَحِل لِمَنْ مَضَى مِنَ الأُْمَمِ، وَفِي
الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: أُعْطِيتُ خَمْسًا
لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي. . . وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ
(4) وَكَانَتِ الْغَنَائِمُ فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ لِرَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب مادة: " فضل ".
(2) سورة الأنفال / 41.
(3) رد المحتار 3 / 228، كفاية الطالب 2 / 7، قليوبي وعميرة 3 / 191،
المغني 6 / 403.
(4) حديث: " أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي. . . وأحلت لي الغنائم "،
أخرجه البخاري (الفتح 1 / 436 -. ط السلفية) البخاري (ومسلم 1 / 371 -.
ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(20/12)
: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَْنْفَال قُل
الأَْنْفَال لِلَّهِ وَالرَّسُول} (1) ثُمَّ صَارَ أَرْبَعَةُ
أَخْمَاسِهَا لِلْغَانِمِينَ، وَالْخُمُسُ لِغَيْرِهِمْ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ
لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول. . .} (2) فَأَضَافَ الْغَنِيمَةَ
إِلَيْهِمْ وَجَعَل الْخُمُسَ لِغَيْرِهِمْ فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ
سَائِرَهَا (الْبَقِيَّةَ) لَهُمْ، وقَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا
غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا} (3) فَأَحَلَّهَا اللَّهُ لَهُمْ. (4)
وَالْغَنِيمَةُ إِذَا كَانَتْ أَرْضًا فُتِحَتْ عَنْوَةً فَفِي
تَخْمِيسِهَا خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ يُنْظَرُ فِي: (تَخْمِيسٌ
وَغَنِيمَةٌ وَأَرْضٌ وَخَرَاجٌ) .
وَإِنْ كَانَتِ الْغَنِيمَةُ مِنَ الأَْمْوَال الْمَنْقُولَةِ وَجَبَ
تَخْمِيسُهَا وَقَسْمُ أَخْمَاسِهَا الأَْرْبَعَةِ عَلَى
الْغَانِمِينَ، وَصَرْفُ الْخُمُسِ فِي مَصَارِفِهِ.
وَيَبْدَأُ الإِْمَامُ أَوِ الأَْمِيرُ فِي قَسْمِ الْغَنِيمَةِ
بِالسَّلَبِ فَيُعْطِيهِ لِلْقَاتِل، ثُمَّ يُخْرِجُ الْمُؤَنَ
اللاَّزِمَةَ كَأُجْرَةِ حَمَّالٍ وَحَافِظٍ وَغَيْرِهِمَا، ثُمَّ
يَجْعَل الْبَاقِيَ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ مُتَسَاوِيَةٍ، خُمُسٌ لأَِهْل
الْخُمُسِ، وَالأَْرْبَعَةُ الأَْخْمَاسِ لِلْغَانِمِينَ. (5)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ قَسْمِ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ
عَلَى أَقْوَالٍ:
__________
(1) سورة الأنفال / 1.
(2) سورة الأنفال / 41.
(3) سورة الأنفال / 69.
(4) المغني 6 / 403.
(5) روضة الطالبين 6 / 376.
(20/12)
الْقَوْل الأَْوَّل:
8 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُقْسَمُ خُمُسُ
الْغَنِيمَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ
خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل} (1) وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ الْخُمُسَ عَلَى خَمْسَةٍ (2)
وَبِهَذَا قَال عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ
وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ (3) .
وَبَيَانُ هَذِهِ الأَْسْهُمِ كَالآْتِي:
1 - سَهْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: وَكَانَ هَذَا السَّهْمُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ يَضَعُهُ فِي مَصَارِفِهِ الَّتِي يَرَاهَا،
ثُمَّ صَارَ مِنْ بَعْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْرَفُ
فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلاَحِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، كَسَدِّ
الثُّغُورِ، وَشَحْنِهَا بِالْعُدَدِ، وَالْمُقَاتِلَةِ، وَكَعِمَارَةِ
الْمَسَاجِدِ، وَالْقَنَاطِرِ، وَالْحُصُونِ، وَأَرْزَاقِ الْقُضَاةِ،
وَالأَْئِمَّةِ، وَالْعُلَمَاءِ بِعُلُومٍ تَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ
الْمُسْلِمِينَ، لأَِنَّ بِالثُّغُورِ حِفْظَ الْمُسْلِمِينَ،
وَلِئَلاَّ يَتَعَطَّل مَنْ ذُكِرَ بِالاِكْتِسَابِ عَنِ الاِشْتِغَال
بِهَذِهِ الْعُلُومِ وَعَنْ تَنْفِيذِ الأَْحْكَامِ وَعَنِ
التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ، فَيُرْزَقُونَ مَا يَكْفِيهِمْ
لِيَتَفَرَّغُوا لِذَلِكَ. وَيُقَدَّمُ الأَْهَمُّ فَالأَْهَمُّ
وُجُوبًا.
__________
(1) سورة الأنفال / 41.
(2) المغني 6 / 401 - 407.
(20/13)
وَقَالُوا: إِنَّ سَهْمَ اللَّهِ تَعَالَى
وَالرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدٌ، لأَِنَّ
ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ بِقَوْلِهِ
{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} لاِفْتِتَاحِ الْكَلاَمِ بِاسْمِهِ
تَعَالَى تَبَرُّكًا بِهِ لاَ لإِِفْرَادِهِ سُبْحَانَهُ بِسَهْمٍ،
فَإِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى الدُّنْيَا وَالآْخِرَةَ. (1)
2 - سَهْمٌ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ ابْنَيْ عَبْدِ
مَنَافٍ: وَهُمُ الْمُرَادُ بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِذِي
الْقُرْبَى} دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي
نَوْفَلٍ وَإِنْ كَانَ الأَْرْبَعَةُ أَبْنَاءَ عَبْدِ مَنَافٍ،
لاِقْتِصَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْقَسْمِ عَلَى بَنِي الأَْوَّلَيْنِ مَعَ سُؤَال ابْنِ الآْخَرَيْنِ
لَهُ، رُوِيَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: لَمَّا قَسَمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى مِنْ خَيْبَرَ بَيْنَ بَنِي
هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَتَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ
عَفَّانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا:
يَا رَسُول اللَّهِ، أَمَّا بَنُو هَاشِمٍ فَلاَ نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ
لِمَكَانِكَ الَّذِي وَضَعَكَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُمْ، فَمَا بَال
إِخْوَانِنَا مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتُهُمْ وَتَرَكْتَنَا،
وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَقَال
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي
جَاهِلِيَّةٍ وَلاَ إِسْلاَمٍ، وَإِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو
الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. (2)
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 93، المغني 6 / 406.
(2) حديث جبير بن مطعم: " إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام ".،
أخرجه البخاري (الفتح 6 / 244 -. ط السلفية) دون قوله: " إنهم لم
يفارقوني في جاهلية ولا إسلام "، وأخرجه أحمد (4 / 81 -. ط الميمنية) ،
والنسائي (7 / 131 -. ط المكتبة التجارية) .
(20/13)
وَالْعِبْرَةُ فِي الاِسْتِحْقَاقِ مِنْ
هَذَا السَّهْمِ بِالاِنْتِسَابِ إِلَى الآْبَاءِ، أَيْ بِكَوْنِ
الأَْبِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَوْ بَنِي الْمُطَّلِبِ، أَمَّا مَنْ
كَانَتْ أُمُّهُ مِنْهُمْ وَأَبُوهُ مِنْ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ لاَ
يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمْ يَدْفَعْ إِلَى أَقَارِبِ أُمِّهِ وَهُمْ بَنُو
زُهْرَةَ شَيْئًا، وَإِنَّمَا دَفَعَ إِلَى أَقَارِبِ أَبِيهِ، وَلَمْ
يَدْفَعْ إِلَى بَنِي عَمَّاتِهِ وَهُمُ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ،
وَعَبْدُ اللَّهِ وَالْمُهَاجِرُ ابْنَا أَبِي أُمَيَّةَ، وَبَنُو
جَحْشٍ.
وَيَشْتَرِكُ فِي الاِسْتِحْقَاقِ مِنْ هَذَا السَّهْمِ الذُّكُورُ
وَالإِْنَاثُ، لأَِنَّ الْقَرَابَةَ تَشْمَلُهُمْ، وَلِحَدِيثِ
جُبَيْرٍ السَّابِقِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ الزُّبَيْرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ كَانَ يَأْخُذُ مَعَهُمْ أُمَّهُ صَفِيَّةَ عَمَّةَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي النَّسَائِيِّ أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْهَمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِصَفِيَّةَ،
وَكَانَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا يَدْفَعُ
لِلسَّيِّدَةِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا مِنْ هَذَا
السَّهْمِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ -
وَهِيَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ - أَنَّهُ يُقْسَمُ بَيْنَ ذَوِي
الْقُرْبَى لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، لأَِنَّهُ سَهْمٌ
اسْتُحِقَّ بِقَرَابَةِ الأَْبِ شَرْعًا فَفُضِّل فِيهِ الذَّكَرُ
عَلَى الأُْنْثَى كَالْمِيرَاثِ، وَيُفَارِقُ الْوَصِيَّةَ وَمِيرَاثَ
وَلَدِ الأُْمِّ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ اسْتُحِقَّتْ بِقَوْل
الْمُوصِي، وَمِيرَاثَ وَلَدِ الأُْمِّ اسْتُحِقَّ بِقَرَابَةِ
الأُْمِّ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ وَمَا نُقِل عَنِ
الْمُزَنِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ يُسَوَّى بَيْنَ
الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، لأَِنَّهُمْ أُعْطُوا بِاسْمِ الْقَرَابَةِ
وَالذَّكَرُ
(20/14)
وَالأُْنْثَى فِيهَا سَوَاءٌ، فَأَشْبَهَ
مَا لَوْ وَصَّى لِقَرَابَةِ فُلاَنٍ أَوْ وَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ
الْجَدَّ يَأْخُذُ مَعَ الأَْبِ، وَابْنَ الاِبْنِ يَأْخُذُ مِنَ
الاِبْنِ، وَهَذَا يَدُل عَلَى مُخَالَفَةِ الْمَوَارِيثِ، وَلأَِنَّهُ
سَهْمٌ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ لِجَمَاعَةٍ فَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ
وَالأُْنْثَى كَسَائِرِ سِهَامِهِ.
وَيَسْتَوِي فِي الاِسْتِحْقَاقِ - عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ -
الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ لاِسْتِوَائِهِمْ فِي الْقَرَابَةِ فَأَشْبَهَ
الْمِيرَاثَ.
وَغَنِيُّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَفَقِيرُهُمْ فِي
الاِسْتِحْقَاقِ مِنْ هَذَا السَّهْمِ سَوَاءٌ، لِعُمُومِ قَوْله
تَعَالَى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} وَلاَ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِغَيْرِ
دَلِيلٍ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يُعْطِي أَقَارِبَهُ كُلَّهُمْ وَفِيهِمُ الأَْغْنِيَاءُ
كَالْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ مِنْ أَغْنِيَاءِ
قُرَيْشٍ، وَلَمْ يُنْقَل تَخْصِيصُ الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ، وَرَوَى
أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَعْطَى الزُّبَيْرَ سَهْمًا، وَأُمَّهُ سَهْمًا، وَفَرَسَهُ
سَهْمَيْنِ (1)
وَإِنَّمَا أَعْطَى أُمَّهُ مِنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى وَقَدْ كَانَتْ
مُوسِرَةً وَلَهَا مَوَالٍ وَأَمْوَالٌ، وَلأَِنَّهُ مَالٌ مُسْتَحَقٌّ
بِالْقَرَابَةِ فَاسْتَوَى فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الزبير سهمًا وأمه
سهمًا. . . " أخرجه أحمد (1 / 166 -. ط الميمنية) ، ولمح ابن حجر إلى
الانقطاع في سنده، كذا في (تعجيل المنفعة ص335 - نشر دار الكتاب
العربي) . والأسهم المعطاة للزبير وفرسه هي من الغنيمة بصفته من
المجاهدين
(20/14)
كَالْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ
لِلأَْقَارِبِ، وَلأَِنَّ عُثْمَانَ وَجُبَيْرًا رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُمَا طَلَبَا حَقَّهُمَا مِنْهُ وَسَأَلاَ عَنْ عِلَّةِ
مَنْعِهِمَا وَمَنْعِ قَرَابَتِهِمَا وَهُمَا مُوسِرَانِ فَعَلَّلَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنُصْرَةِ بَنِي
الْمُطَّلِبِ دُونَهُمْ وَكَوْنِهِمْ مَعَ بَنِي هَاشِمٍ كَالشَّيْءِ
الْوَاحِدِ، وَلَوْ كَانَ الْيَسَارُ مَانِعًا وَالْفَقْرُ شَرْطًا
لَمْ يَطْلُبَا مَعَ عَدَمِهِ، وَلَعَلَّل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْعَهُمَا بِيَسَارِهِمَا وَانْتِفَاءِ
فَقْرِهِمَا.
وَقِيل: لاَ حَقَّ فِي هَذَا السَّهْمِ لِغَنِيٍّ قِيَاسًا عَلَى
بَقِيَّةِ السِّهَامِ. (1)
3 - سَهْمٌ لِلْيَتَامَى: وَهُمُ الَّذِينَ مَاتَ آبَاؤُهُمْ وَلَمْ
يَبْلُغُوا الْحُلُمَ، فَإِنْ بَلَغُوا الْحُلُمَ لَمْ يَكُونُوا
يَتَامَى لِحَدِيثِ: لاَ يُتْمَ بَعْدَ احْتِلاَمٍ. (2)
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ
الْحَنَابِلَةِ. أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لاِسْتِحْقَاقِ الْيَتِيمِ مِنْ
هَذَا السَّهْمِ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا، لأَِنَّ لَفْظَ الْيَتِيمِ
يُشْعِرُ بِالْحَاجَةِ، وَلأَِنَّ اغْتِنَاءَهُ بِمَال أَبِيهِ إِذَا
مَنَعَ اسْتِحْقَاقَهُ فَاغْتِنَاؤُهُ بِمَالِهِ أَوْلَى بِمَنْعِهِ.
وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ
ابْنُ قُدَامَةَ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ
لاِسْتِحْقَاقِ الْيَتِيمِ مِنْ هَذَا السَّهْمِ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 94، أسنى المطالب 3 / 88، المغني 6 / 411 - 413.
(2) حديث " لا يتم بعد احتلام. . . " أخرجه أبو داود (3 / 293 - 294 -
تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث علي بن أبي طالب وفي إسناده مقال، ولكنه
صحيح لطرقه، التلخيص لابن حجر (3 / 101 -. ط شركة الطباعة الفنية) .
(20/15)
لِشُمُول لَفْظِ الْيَتِيمِ لِلْغَنِيِّ
وَالْفَقِيرِ، وَلأَِنَّ عُمُومَ الآْيَةِ يَشْمَل الْغَنِيَّ
وَالْفَقِيرَ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ
لاِسْتِحْقَاقِ الْيَتِيمِ الإِْسْلاَمَ، فَلاَ يُعْطَى أَيْتَامُ
الْكُفَّارِ مِنْ هَذَا السَّهْمِ شَيْئًا، لأَِنَّهُ مَالٌ أُخِذَ
مِنَ الْكُفَّارِ فَلاَ يُرْجَعُ إِلَيْهِمْ، وَصَرَّحَ
الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَنْدَرِجُ فِي تَفْسِيرِ الْيَتِيمِ:
وَلَدُ الزِّنَى وَاللَّقِيطِ وَالْمَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ. (1)
4 - سَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ: وَهُمْ أَهْل الْحَاجَةِ، وَيَدْخُل
فِيهِمُ الْفُقَرَاءُ، فَالْمَسَاكِينُ وَالْفُقَرَاءُ فِي
الاِسْتِحْقَاقِ مِنْ هَذَا السَّهْمِ صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَفِي
الزَّكَاةِ صِنْفَانِ لأَِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ لَفْظَيْهِمَا بِوَاوِ
الْعَطْفِ فِي آيَةِ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ، وَفَرَّقَ فُقَهَاءُ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - فِي بَابِ الزَّكَاةِ - بَيْنَ
الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ فَقَالُوا: الْفَقِيرُ: مَنْ لاَ مَال لَهُ
وَلاَ كَسْبَ يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ، وَالْمِسْكِينُ: مَنْ
لَهُ مَالٌ أَوْ كَسْبٌ يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ وَلاَ
يَكْفِيهِ (2) .
5 - سَهْمٌ لاِبْنِ السَّبِيل: وَقَدِ اخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي تَعْرِيفِ ابْنِ السَّبِيل الَّذِي يَسْتَحِقُّ
مِنْ هَذَا السَّهْمِ وَمِنَ الزَّكَاةِ. وَانْظُرْ تَفْصِيل الْقَوْل
فِي ابْنِ السَّبِيل مُصْطَلَحَ: (زَكَاةٌ) .
وَاخْتَلَفَ الرَّأْيُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي
__________
(1) المحلي على المنهاج 3 / 189، مغني المحتاج 2 / 95، المغني 6 / 413،
وكشاف القناع 3 / 86.
(2) مغني المحتاج 3 / 95 - 106 - 108، المغني 6 / 413 - 421.
(20/15)
تَعْمِيمِ الْمُسْتَحِقِّينَ أَصْحَابِ
السِّهَامِ الأَْرْبَعَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ بِالْعَطَاءِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ أَوْ
نَائِبِهِ أَنْ يَعُمَّ الْمُسْتَحِقِّينَ مِنْ سِهَامِ ذِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل بِالْعَطَاءِ إِنْ
وَفَّى الْمَال، نَعَمْ يُجْعَل مَا فِي كُل إِقْلِيمٍ لِسَاكِنِيهِ،
فَإِنْ عَدِمَهُ بَعْضُ الأَْقَالِيمِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي
بَعْضِهَا شَيْءٌ، أَوْ لَمْ يَسْتَوْعِبْهُمْ بِأَنْ لَمْ يَفِ بِمَنْ
فِيهِ إِنْ وُزِّعَ عَلَيْهِمْ نُقِل إِلَيْهِمْ بِقَدْرِ مَا
يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَنْقُول إِلَيْهِمْ
وَغَيْرِهِمْ، وَلاَ يَجُوزُ الاِقْتِصَارُ عَلَى ثَلاَثَةٍ مِنْ كُل
صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ هَذِهِ السِّهَامِ الأَْرْبَعَةِ كَمَا يَقُول
بَعْضُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفَاضَل بَيْنَ الْيَتَامَى، وَبَيْنَ
الْمَسَاكِينِ، وَبَيْنَ أَبْنَاءِ السَّبِيل، لأَِنَّهُمْ
يَسْتَحِقُّونَ بِالْحَاجَةِ فَتُرَاعَى حَاجَتُهُمْ، بِخِلاَفِ ذَوِي
الْقُرْبَى فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ بِالْقَرَابَةِ، فَإِنْ كَانَ
الْحَاصِل يَسِيرًا لاَ يَسُدُّ مَسَدًّا بِالتَّوْزِيعِ قُدِّمَ
الأَْحْوَجُ فَالأَْحْوَجُ وَلاَ يُسْتَوْعَبُ، لِلضَّرُورَةِ،
وَتَصِيرُ الْحَاجَةُ مُرَجَّحَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعْتَبَرَةً فِي
الاِسْتِحْقَاقِ.
وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ: يُخَصُّ أَهْل كُل
نَاحِيَةٍ بِخُمُسِ مَغْزَاهَا، لِمَا يَلْحَقُ فِي نَقْلِهِ مِنَ
الْمَشَقَّةِ، وَلأَِنَّهُ يَتَعَذَّرُ تَعْمِيمُ أَصْحَابِ السِّهَامِ
بِهِ فَلَمْ يَجِبْ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالصَّحِيحُ - إِنْ شَاءَ
اللَّهُ - أَنَّهُ لاَ يَجِبُ التَّعْمِيمُ لأَِنَّهُ يَتَعَذَّرُ.
(20/16)
وَمَنْ فُقِدَ مِنْ هَذِهِ الأَْصْنَافِ
أُعْطِيَ الْبَاقُونَ نَصِيبَهُ. (1)
وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِيمَنِ اجْتَمَعَ فِيهِ
أَكْثَرُ مِنْ وَصْفٍ، أَوْ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الاِسْتِحْقَاقِ
مِنَ الْخُمُسِ:
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَنِ اجْتَمَعَ فِيهِ وَصْفَانِ أُخِذَ
بِأَحَدِهِمَا بِاخْتِيَارِهِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَزْوًا جَازَ
الأَْخْذُ بِهِمَا. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنِ اجْتَمَعَ فِي وَاحِدٍ أَسْبَابٌ
كَالْمِسْكِينِ إِذَا كَانَ يَتِيمًا وَابْنَ سَبِيلٍ، اسْتَحَقَّ
بِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لأَِنَّهَا أَسْبَابٌ لأَِحْكَامٍ، فَوَجَبَ
أَنْ نُثْبِتَ أَحْكَامَهَا كَمَا لَوِ انْفَرَدَتْ، فَلَوْ أَعْطَاهُ
لِيُتْمِهِ فَزَال فَقْرُهُ لَمْ يُعْطَ لِفَقْرِهِ شَيْئًا. (3)
الْقَوْل الثَّانِي:
9 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُقْسَمُ خُمُسُ الْغَنِيمَةِ ثَلاَثَةَ
أَسْهُمٍ: لِلْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ (وَيَشْمَلُونَ الْفُقَرَاءَ)
وَأَبْنَاءِ السَّبِيل.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول وَلِذِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل} (4)
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 95، القليوبي 3 / 189، المغني 6 / 12.
(2) القليوبي 3 / 189.
(3) المغني 6 / 414.
(4) سورة الأنفال / 41.
(20/16)
وَقَالُوا: إِنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ
تَعَالَى لِلتَّبَرُّكِ فِي افْتِتَاحِ الْكَلاَمِ إِذِ الدُّنْيَا
وَالآْخِرَةُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلأَِنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ
لَمْ يُفْرِدُوا هَذَا السَّهْمَ وَلَمْ يُنْقَل عَنْهُمْ، وَأَمَّا
سَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ
يَسْتَحِقُّهُ بِالرِّسَالَةِ كَمَا كَانَ يَسْتَحِقُّ الصَّفِيَّ مِنَ
الْمَغْنَمِ، فَسَقَطَا بِمَوْتِهِ جَمِيعًا، وَقَدْ قَال صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ لاَ يَحِل لِي مِمَّا أَفَاءَ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ قَدْرُ هَذِهِ إِلاَّ الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ
مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ. (1) وَكَذَلِكَ الأَْئِمَّةُ الْمَهْدِيُّونَ
لَمْ يُفْرِدُوهُ بَعْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَوْ
بَقِيَ بَعْدَهُ أَوِ اسْتَحَقَّهُ غَيْرُهُ لَصَرَفُوهُ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى فَإِنَّهُمْ كَانُوا
يَسْتَحِقُّونَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالنُّصْرَةِ وَبَعْدَهُ بِالْفَقْرِ، لِحَدِيثِ جُبَيْرِ
بْنِ مُطْعِمٍ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُ " الَّذِي سَبَقَ " وَهُوَ يَدُل عَلَى أَنَّ الاِسْتِحْقَاقَ
كَانَ بِالنُّصْرَةِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ قُرْبُ النُّصْرَةِ
لاَ قُرْبُ النَّسَبِ، وَلأَِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ
وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَسَمُوهُ عَلَى
ثَلاَثَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً.
وَقَالُوا: إِنَّمَا يُعْطَى مِنَ الْخُمُسِ مَنْ كَانَ مِنْ ذَوِي
الْقُرْبَى عَلَى صِفَةِ الأَْصْنَافِ الثَّلاَثَةِ لِقَوْلِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: يَا بَنِي هَاشِمٍ، إِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى كَرِهَ لَكُمْ أَوْسَاخَ النَّاسِ، وَعَوَّضَكُمْ عَنْهَا
__________
(1) حديث: " إنه لا يحل مما أفاء الله عليكم قدر هذه إلا. . . " أخرجه
النسائي (7 / 131 -. ط المكتبة التجارية) من حديث عبادة بن الصامت.
وإسناده حسن.
(20/17)
بِخُمُسِ الْخُمُسِ (1) وَالصَّدَقَةُ
إِنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، لأَِنَّهَا كَانَتْ
مُحَرَّمَةً عَلَى أَغْنِيَائِهِمْ وَأَغْنِيَاءِ غَيْرِهِمْ،
فَيَكُونُ خُمُسُ الْخُمُسِ لِمَنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ،
وَمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ
يُنْكِحُ مِنْهُ أَيِّمَهُمْ، وَيَقْضِي مِنْهُ غَارِمَهُمْ،
وَيَخْدِمُ مِنْهُ عَائِلَهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ
الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
وَقَالُوا: إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لاَ سَهْمَ لِلَّهِ تَعَالَى،
وَسَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَقَطَ،
وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى يَسْتَحِقُّونَهُ بِالْفَقْرِ، لَمْ يَبْقَ
إِلاَّ الأَْصْنَافُ الثَّلاَثَةُ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ وَابْنُ
السَّبِيل فَوَجَبَ أَنْ يُقْسَمَ عَلَيْهِمْ، وَيَدْخُل ذَوُو
الْقُرْبَى فِيهِمْ إِذَا كَانُوا بِصِفَتِهِمْ.
وَقَالُوا: يُشْتَرَطُ لاِسْتِحْقَاقِ الْيَتِيمِ أَنْ يَكُونَ
فَقِيرًا، لأَِنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الأَْصْنَافِ الثَّلاَثَةِ فِي
__________
(1) حديث: " يا بني هاشم، إن الله كره لكم أوساخ الناس ". قال الزيلعي
في نصب الراية 2 / 403 -. ط المجلس العلمي بالهند) : " غريب " يعني أنه
لا أصل له بهذا اللفظ، ثم ذكر لفظ مسلم وهو: " إن الصدقة لا تنبغي لآل
محمد، إنما هي أوساخ الناس " وهو فيه (2 / 753 -. ط الحلبي) من حديث
عبد المطلب بن ربيعة وأخرج الطبراني في الكبير (11 / 217 -. ط وزارة
الأوقاف العراقية) من حديث عبد الله بن عباس مرفوعًا: " لا يحل لكما
أهل البيت من الصدقات شيء ولا غسالة الأيدي إن لكن في خمس الخمس لما
يغنيكم أو يكفيكم ". وأورده الهيثمي في المجمع (3 / 91 -. ط القدسي)
وقال: (فيه حسين بن قيس الملقب بحنش، وفيه كلام كثير، وقد وثقه أبو
محصن)
(20/17)
الْخُمُسِ احْتِيَاجٌ بِيُتْمٍ، أَوْ
مَسْكَنَةٍ، أَوْ كَوْنِهِ ابْنَ سَبِيلٍ، فَلاَ يَجُوزُ الصَّرْفُ
لِغَنِيِّهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَصَارِفُ لاَ مُسْتَحِقُّونَ حَتَّى
إِنَّهُ لَوْ صُرِفَ إِلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَازَ (1) .
الْقَوْل الثَّالِثُ:
10 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَضَعُ الإِْمَامُ الْخُمُسَ إِنْ شَاءَ
فِي بَيْتِ الْمَال، أَوْ يَصْرِفُهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ
مِنْ شِرَاءِ سِلاَحٍ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ شَاءَ قَسَمَهُ فَيَدْفَعُهُ
لآِل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِغَيْرِهِمْ،
أَوْ يَجْعَل بَعْضَهُ فِيهِمْ وَبَقِيَّتَهُ فِي غَيْرِهِمْ.
فَالْخُمُسُ مَوْكُولٌ إِلَى نَظَرِ الإِْمَامِ وَاجْتِهَادِهِ،
فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، وَيُعْطِي الْقَرَابَةَ
بِاجْتِهَادِهِ وَيَصْرِفُ الْبَاقِيَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ،
وَبِهِ قَال الْخُلَفَاءُ الأَْرْبَعَةُ وَبِهِ عَمِلُوا، وَعَلَيْهِ
يَدُل قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لِي مِمَّا
أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلاَّ الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ
فِيكُمْ (2) فَإِنَّهُ لَمْ يَقْسِمْهُ أَخْمَاسًا وَلاَ أَثْلاَثًا،
وَإِنَّمَا ذُكِرَ فِي الآْيَةِ مَنْ ذُكِرَ عَلَى وَجْهِ التَّنْبِيهِ
عَلَيْهِمْ لأَِنَّهُمْ أَهَمُّ مَنْ يُدْفَعُ إِلَيْهِ، قَال
الزَّجَّاجُ مُحْتَجًّا لِمَالِكٍ: قَال اللَّهُ عَزَّ وَجَل:
{يَسْأَلُونَك مَاذَا يُنْفِقُونَ قُل مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ
فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَْقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
وَابْنِ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 236 - 237، فتح القدير 4 / 328، الاختيار 4 / 131 -
132.
(2) الحديث سبق تخريجه ف / 9.
(20/18)
السَّبِيل} (1) وَجَائِزٌ لِلرَّجُل
بِإِجْمَاعٍ أَنْ يُنْفِقَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الأَْصْنَافِ إِذَا رَأَى
ذَلِكَ.
وَذَكَرَ النَّسَائِيُّ عَنْ عَطَاءٍ قَال: خُمُسُ اللَّهِ وَخُمُسُ
رَسُولِهِ وَاحِدٌ، (2) كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَحْمِل مِنْهُ وَيُعْطِي مِنْهُ، وَيَضَعُهُ حَيْثُ شَاءَ،
وَيَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ (3) .
الْقَوْل الرَّابِعُ:
11 - قَالَتْ طَائِفَةٌ: يُقْسَمُ الْخُمُسُ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ:
سَهْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَسَهْمٌ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَهْمٌ لِذَوِي الْقُرْبَى، وَسَهْمٌ
لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لاِبْنِ السَّبِيل،
وَذَلِكَ لِظَاهِرِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ. . .} الآْيَةَ،
فَعَدَّ سِتَّةً، وَجَعَل تَعَالَى لِنَفْسِهِ سَهْمًا سَادِسًا وَهُوَ
مَرْدُودٌ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ أَهْل الْحَاجَةِ. (4)
الْقَوْل الْخَامِسُ:
12 - قَال أَبُو الْعَالِيَةِ: سَهْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَل هُوَ أَنَّ
الإِْمَامَ إِذَا عَزَل الْخُمُسَ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَيْهِ فَمَا
__________
(1) سورة البقرة / 215.
(2) الأثر عن عطاء: " خمس الله وخمس رسوله واحد ". أخرجه النسائي (7 /
132 - 133. ط المكتبة التجارية) .
(3) كفاية الطالب 2 / 7، تفسير القرطبي 8 / 11.
(4) المغني 6 / 46، تفسير القرطبي 8 / 10.
(20/18)
قَبَضَ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ جَعَلَهُ
لِلْكَعْبَةِ، ثُمَّ يَقْسِمُ بَقِيَّةَ السَّهْمِ عَلَى خَمْسَةٍ،
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَوْلُهُ: كَانَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْتَى بِالْغَنِيمَةِ
فَيَقْسِمُهَا عَلَى خَمْسَةٍ، تَكُونُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ لِمَنْ
شَهِدَهَا، ثُمَّ يَأْخُذُ الْخُمُسَ فَيَضْرِبُ بِيَدِهِ فِيهِ،
فَيَأْخُذُ مِنْهُ الَّذِي قَبَضَ كَفُّهُ فَيَجْعَلُهُ لِلْكَعْبَةِ،
وَهُوَ سَهْمُ اللَّهِ، ثُمَّ يَقْسِمُ مَا بَقِيَ عَلَى خَمْسَةِ
أَسْهُمٍ فَيَكُونُ سَهْمٌ لِلرَّسُول، وَسَهْمٌ لِذِي الْقُرْبَى،
وَسَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ وَسَهْمٌ لاِبْنِ
السَّبِيل، قَال: وَالَّذِي جَعَلَهُ لِلْكَعْبَةِ هُوَ السَّهْمُ
الَّذِي لِلَّهِ. (1)
ثَانِيًا: الْفَيْءُ:
13 - الْفَيْءُ مَصْدَرُ فَاءَ إِذَا رَجَعَ، قَال اللَّهُ تَعَالَى:
{حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (2) أَيْ تَرْجِعَ.
وَالْفَيْءُ فِي الاِصْطِلاَحِ: الْمَال - وَنَحْوُهُ مِمَّا
يُنْتَفَعُ بِهِ - الْحَاصِل لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْكُفَّارِ مِمَّا
هُوَ لَهُمْ بِلاَ قِتَالٍ وَلاَ إِيجَافِ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ. (3)
وَيَشْمَل الْفَيْءُ: مَا جَلاَ عَنْهُ الْكُفَّارُ،
__________
(1) المغني 6 / 406، الأموال لأبي عبيد 14، تفسير القرطبي 8 / 10.،
وقول أبي العالية: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالغنيمة
فيقسمها على. . . " أخرجه ابن جرير في تفسيره (13 / 550 - 551. ط
المعارف) .
(2) سورة الحجرات / 9.
(3) بدائع الصنائع 7 / 116، جواهر الإكليل 1 / 260، مغني المحتاج 3 /
92، المغني 6 / 403.
(20/19)
وَمَا أَخَذَهُ الْعَاشِرُ مِنْهُمْ،
وَالْجِزْيَةَ، وَالْخَرَاجَ، وَتَرِكَةَ ذِمِّيٍّ أَوْ نَحْوِهِ مَاتَ
بِلاَ وَارِثٍ، وَتَرِكَةَ مُرْتَدٍّ مَاتَ أَوْ قُتِل عَلَى
الرِّدَّةِ - عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الْمَذَاهِبِ - وَمَا أُخِذَ مِنْ
مَال تَغْلِبِيٍّ وَتَغْلِبِيَّةٍ، وَهَدِيَّةَ الْكُفَّارِ
لِلإِْمَامِ عَنْ بَعْضِهِمْ (1) . وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي
الْفَيْءِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ
الْقَاضِي مِنْ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الْفَيْءَ لاَ
يُخَمَّسُ، وَمَحَلُّهُ بَيْتُ مَال الْمُسْلِمِينَ وَيَصْرِفُهُ
الإِْمَامُ بِاجْتِهَادِهِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَسَدِّ
الثُّغُورِ وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ، وَكِفَايَةِ
الْعُلَمَاءِ وَالْمُتَعَلِّمِينَ وَالْقُضَاةِ وَالْعُمَّال، وَرِزْقِ
الْمُقَاتِلَةِ وَذَرَارِيِّهِمْ وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَبْدَأُ
بِآل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَدْبًا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ الْخِرَقِيُّ مِنْ
رِوَايَتَيْ أَحْمَدَ: يُخَمَّسُ الْفَيْءُ، وَخُمُسُهُ لأَِصْحَابِ
خُمُسِ الْغَنِيمَةِ - وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُمْ - وَالأَْخْمَاسُ
الأَْرْبَعَةُ لِلْمُرْتَزِقَةِ، وَهُمُ الأَْجْنَادُ الْمُرْصَدُونَ
لِلْجِهَادِ. . فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمَا ذَهَبَ
إِلَيْهِ الْخِرَقِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهَا تُصْرَفُ فِي
مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَلاَ يَخْتَصُّ بِهَا الْمُرْتَزِقَةُ (2) .
وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل يُنْظَرُ: (فَيْءٌ) .
__________
(1) الدرر المختار 3 / 280، الزرقاني 3 / 127، مغني المحتاج 3 / 93،
المغني 6 / 402.
(2) الدرر المختار 3 / 280، الزرقاني 3 / 127، المغني 6 / 404 - 414،
مغني المحتاج 3 / 95.
(20/19)
ثَالِثًا: السَّلَبُ:
14 - السَّلَبُ: ثِيَابُ الْقَتِيل - مِنَ الْكُفَّارِ - وَسِلاَحُهُ،
وَمَرْكُوبُهُ وَمَا عَلَيْهِ وَمَعَهُ مِنْ قُمَاشٍ، وَمَالٍ (عَلَى
تَفْصِيلٍ وَاخْتِلاَفٍ) .
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى أَنَّ السَّلَبَ - إِنِ اسْتَحَقَّهُ
الْقَاتِل - لاَ يُخَمَّسُ، لِمَا رَوَى عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ وَخَالِدُ
بْنُ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِل وَلَمْ
يُخَمِّسِ السَّلَبَ (1) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَل قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ
سَلَبُهُ (2) فَهُوَ بِعُمُومِهِ يَقْتَضِي أَنَّ السَّلَبَ كُلَّهُ
لِلْقَاتِل وَلَوْ خُمِّسَ لَمْ يَكُنْ كُلُّهُ لَهُ.
وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَهُوَ مَا حَكَاهُ
ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَمَكْحُولٍ -
أَنَّ السَّلَبَ يُخَمَّسُ فَيُدْفَعُ خُمُسُهُ لأَِهْل الْفَيْءِ،
وَالْبَاقِي لِلْقَاتِل، لِعُمُومِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى:
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ
خُمُسَهُ. . .}
__________
(1) حديث " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلب للقاتل. . . "
أخرجه أبو داود (3 / 165، تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وأورده ابن حجر في "
التلخيص " (3 / 105 -. ط شركة الطباعة الفنية) ، وقال: " وهو ثابت في
صحيح مسلم من حديث طويل فيه قصة لعوف بن مالك مع خالد بن الوليد ".
(2) حديث: " من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه "،. أخرجه البخاري
(الفتح 6 / 247 -. ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1371 -. ط الحلبي) من حديث
أبي قتادة.
(20/20)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا لَمْ
يُنَفَّل بِالسَّلَبِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ يُخَمَّسُ،
وَلاَ يَسْتَحِقُّهُ الْقَاتِل لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ لِلْمَرْءِ إِلاَّ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ
إِمَامِهِ (1) فَإِذَا جَعَل الإِْمَامُ السَّلَبَ لِلْقَاتِل
انْقَطَعَ حَقُّ الْبَاقِينَ عَنْهُ، وَلاَ يُخَمَّسُ السَّلَبُ إِلاَّ
أَنْ يَقُول: مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ بَعْدَ الْخُمُسِ،
فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ.
وَقَال إِسْحَاقُ: إِنِ اسْتَكْثَرَ الإِْمَامُ السَّلَبَ خَمَّسَهُ
وَذَلِكَ إِلَيْهِ، لِمَا رَوَى ابْنُ سِيرِينَ أَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ
مَالِكٍ بَارَزَ مَرْزُبَانَ الزَّارَةِ بِالْبَحْرَيْنِ فَطَعَنَهُ
فَدَقَّ صُلْبَهُ وَأَخَذَ سِوَارَيْهِ وَسَلَبَهُ، فَلَمَّا صَلَّى
عُمَرُ الظُّهْرَ أَتَى أَبَا طَلْحَةَ فِي دَارِهِ فَقَال: إِنَّا
كُنَّا لاَ نُخَمِّسُ السَّلَبَ، وَإِنَّ سَلَبَ الْبَرَاءِ قَدْ
بَلَغَ مَالاً وَأَنَا خَامِسُهُ، فَكَانَ أَوَّل سَلَبٍ خُمِّسَ فِي
الإِْسْلاَمِ سَلَبَ الْبَرَاءِ، رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي السُّنَنِ،
وَفِيهَا أَنَّ سَلَبَ الْبَرَاءِ بَلَغَ ثَلاَثِينَ أَلْفًا. (2)
رَابِعًا: الرِّكَازُ:
15 - الرِّكَازُ: الْمَدْفُونُ فِي الأَْرْضِ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ
رَكَزَ إِذَا أَخْفَى، يُقَال: رَكَزَ الرُّمْحَ إِذَا غَرَزَ
أَسْفَلَهُ فِي الأَْرْضِ، وَمِنْهُ الرِّكْزُ وَهُوَ الصَّوْتُ
الْخَفِيُّ
__________
(&# x661 ;) حديث: "
ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه "،. أورده الزيلعي في نصب الراية
(4 / 290 -. ط المجلس العلمي) ، وقال: " رواه الطبراني، وفيه ضعف، من
حديث معاذ ".
(2) الاختيار 4 / 133، جواهر الإكليل 1 / 261، مغني المحتاج 3 / 100 -
103، المغني 8 / 390 - 392.
(20/20)
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْ تَسْمَعُ
لَهُمْ رِكْزًا} (1) وَالْوَاجِبُ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ لِمَا
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:. وَفِي الرِّكَازِ
الْخُمُسُ (2) .
وَلِبَيَانِ الْوَاجِبِ فِي الرِّكَازِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ
الْمَعَادِنِ وَالْكُنُوزِ، وَالشُّرُوطِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا
الْوُجُوبُ مِنْ حَيْثُ طَبِيعَةُ الدَّفْنِ، وَصِفَتُهُ، وَمَوْضِعُهُ
وَمَصْرِفُ الْخُمُسِ، وَمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ. يُنْظَرُ: (زَكَاةٌ،
رِكَازٌ، مَعْدِنٌ، كَنْزٌ) .
__________
(1) سورة مريم / 98.
(2) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ". . . وفي الركاز
الخمس "، أخرجه البخاري (الفتح 3 / 364 -. ط السلفية) من حديث أبي
هريرة.
(20/21)
خُنْثَى
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخُنْثَى فِي اللُّغَةِ: الَّذِي لاَ يَخْلُصُ لِذَكَرٍ وَلاَ
أُنْثَى، أَوِ الَّذِي لَهُ مَا لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا مِنَ
الْخَنَثِ، وَهُوَ اللِّينُ وَالتَّكَسُّرُ، يُقَال: خَنَّثْتُ
الشَّيْءَ فَتَخَنَّثَ، أَيْ: عَطَّفْتُهُ فَتَعَطَّفَ، وَالاِسْمُ
الْخُنْثُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَنْ لَهُ آلَتَا الرِّجَال وَالنِّسَاءِ، أَوْ
مَنْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْهُمَا أَصْلاً، وَلَهُ ثُقْبٌ يَخْرُجُ
مِنْهُ الْبَوْل (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمُخَنَّثُ:
2 - الْمُخَنَّثُ بِفَتْحِ النُّونِ: هُوَ الَّذِي يُشْبِهُ
الْمَرْأَةَ فِي اللِّينِ وَالْكَلاَمِ وَالنَّظَرِ وَالْحَرَكَةِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهُوَ ضَرْبَانِ.
__________
(1) لسان العرب مادة: " خنث ".
(2) ابن عابدين 5 / 464، ونهاية المحتاج 6 / 31. ط مصطفى البابي
الحلبي، والمغني 6 / 253، 677. ط الرياض، العذب الفائض 2 / 53، حاشية
الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 489.
(20/21)
أَحَدُهُمَا: مَنْ خُلِقَ كَذَلِكَ،
فَهَذَا لاَ إِثْمَ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ خِلْقَةً، بَل يَتَشَبَّهُ
بِالنِّسَاءِ فِي حَرَكَاتِهِنَّ وَكَلاَمِهِنَّ (1) ، فَهَذَا هُوَ
الَّذِي جَاءَتِ الأَْحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِلَعْنِهِ.
فَالْمُخَنَّثُ لاَ خَفَاءَ فِي ذُكُورِيَّتِهِ بِخِلاَفِ الْخُنْثَى.
أَقْسَامُ الْخُنْثَى:
يَنْقَسِمُ الْخُنْثَى إِلَى مُشْكِلٍ وَغَيْرِ مُشْكِلٍ:
أ - الْخُنْثَى غَيْرُ الْمُشْكِل:
3 - مَنْ يَتَبَيَّنُ فِيهِ عَلاَمَاتُ الذُّكُورَةِ أَوِ
الأُْنُوثَةِ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ رَجُلٌ، أَوِ امْرَأَةٌ، فَهَذَا
لَيْسَ بِمُشْكِلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ فِيهِ خِلْقَةٌ زَائِدَةٌ،
أَوِ امْرَأَةٌ فِيهَا خِلْقَةٌ زَائِدَةٌ، وَحُكْمُهُ فِي إِرْثِهِ
وَسَائِرِ أَحْكَامِهِ حُكْمُ مَا ظَهَرَتْ عَلاَمَاتُهُ فِيهِ.
ب - الْخُنْثَى الْمُشْكِل:
4 - هُوَ مَنْ لاَ يَتَبَيَّنُ فِيهِ عَلاَمَاتُ الذُّكُورَةِ أَوِ
الأُْنُوثَةِ، وَلاَ يُعْلَمُ أَنَّهُ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ، أَوْ
تَعَارَضَتْ فِيهِ الْعَلاَمَاتُ
، فَتَحَصَّل مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُشْكِل نَوْعَانِ:
نَوْعٌ لَهُ آلَتَانِ، وَاسْتَوَتْ فِيهِ الْعَلاَمَاتُ، وَنَوْعٌ
لَيْسَ لَهُ وَاحِدَةٌ مِنَ الآْلَتَيْنِ وَإِنَّمَا لَهُ ثُقْبٌ. (2)
__________
(1) ابن عابدين 3 / 183، 184.
(2) ابن عابدين 5 / 464 - 465، وفتح القدير 8 / 504، 505. ط دار صادر،
ومواهب الجليل 6 / 424، الشرح الصغير 4 / 725، 726، 727، والأشباه
والنظائر للسيوطي / 241، 242، والمغني 6 / 253، 254، وروضة الطالبين 1
/ 78.
(20/22)
مَا يَتَحَدَّدُ بِهِ نَوْعُ الْخُنْثَى:
5 - يَتَبَيَّنُ أَمْرُ الْخُنْثَى قَبْل الْبُلُوغِ بِالْمَبَال،
وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى قَبْل
الْبُلُوغِ إِنْ بَال مِنَ الذَّكَرِ فَغُلاَمٌ، وَإِنْ بَال مِنَ
الْفَرْجِ فَأُنْثَى، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ الْمَوْلُودِ لَهُ قُبُلٌ وَذَكَرٌ، مِنْ أَيْنَ
يُورَثُ؟ قَال يُورَثُ مِنْ حَيْثُ يَبُول (1) وَرُوِيَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُتِيَ بِخُنْثَى مِنَ الأَْنْصَارِ، فَقَال:
وَرِّثُوهُ مِنْ أَوَّل مَا يَبُول مِنْهُ (2) . وَلأَِنَّ مَنْفَعَةَ
الآْلَةِ عِنْدَ الاِنْفِصَال مِنَ الأُْمِّ خُرُوجُ الْبَوْل، وَمَا
سِوَاهُ مِنَ الْمَنَافِعِ يَحْدُثُ بَعْدَهَا، وَإِنْ بَال مِنْهُمَا
جَمِيعًا فَالْحُكْمُ لِلأَْسْبَقِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ
وَمُعَاوِيَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ
وَسَائِرِ أَهْل الْعِلْمِ.
__________
(1) حديث: " سئل في المولود له قبل وذكر، من أين بورث؟ " أخرجه البيهقي
(6 / 261 -. ط دائرة المعارف العثمانية) من طريق الكلبي عن أبي صالح عن
ابن عباس وضعف إسناده.، وقال ابن حجر في التلخيص (1 / 128 -. ط شركة
الطباعة الفنية) : الكلبي هو محمد بن السائب: " متروك الحديث بل كذاب
".
(2) حديث: " ورثوه من أول ما يبول منه ". أورده المغني (6 / 253. ط
الرياض) ولم نعثر عليه فيما لدينا من كتب السنة.
(20/22)
وَإِنِ اسْتَوَيَا فَذَهَبَ
الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ إِلَى اعْتِبَارِ الْكَثْرَةِ، وَحُكِيَ هَذَا عَنِ
الأَْوْزَاعِيِّ، لأَِنَّ الْكَثْرَةَ مَزِيَّةٌ لإِِحْدَى
الْعَلاَمَتَيْنِ، فَيُعْتَبَرُ بِهَا كَالسَّبْقِ، فَإِنِ اسْتَوَيَا
فَهُوَ حِينَئِذٍ مُشْكِلٌ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ قَال:
لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْكَثْرَةِ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ كَيْلاً أَوْ
وَزْنًا، فَإِذَا بَال مَرَّتَيْنِ مِنَ الْفَرْجِ وَمَرَّةً مِنَ
الذَّكَرِ دَل عَلَى أَنَّهُ أُنْثَى، وَلَوْ كَانَ الَّذِي نَزَل مِنَ
الذَّكَرِ أَكْثَر كَيْلاً أَوْ وَزْنًا.
وَيَرَى بَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ عِبْرَةَ بِالْكَثْرَةِ،
لأَِنَّ الْكَثْرَةَ لَيْسَتْ بِدَلِيلٍ عَلَى الْقُوَّةِ، لأَِنَّ
ذَلِكَ لاِتِّسَاعِ الْمَخْرَجِ وَضِيقِهِ، لاَ لأَِنَّهُ هُوَ
الْعُضْوُ الأَْصْلِيُّ، وَلأَِنَّ نَفْسَ الْخُرُوجِ دَلِيلٌ
بِنَفْسِهِ، فَالْكَثِيرُ مِنْ جِنْسِهِ لاَ يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ
عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ كَالشَّاهِدَيْنِ وَالأَْرْبَعَةِ، وَقَدِ
اسْتَقْبَحَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَلِكَ فَقَال: وَهَل رَأَيْتَ قَاضِيًا
يَكِيل الْبَوْل بِالأَْوَاقِي؟
6 - وَأَمَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَيَتَبَيَّنُ أَمْرُهُ بِأَحَدِ
الأَْسْبَابِ الآْتِيَةِ:
إِنْ خَرَجَتْ لِحْيَتُهُ، أَوْ أَمْنَى بِالذَّكَرِ، أَوْ أَحْبَل
امْرَأَةً، أَوْ وَصَل إِلَيْهَا، فَرَجُلٌ، وَكَذَلِكَ ظُهُورُ
الشَّجَاعَةِ وَالْفُرُوسِيَّةِ، وَمُصَابَرَةِ الْعَدُوِّ دَلِيلٌ
عَلَى رُجُولِيَّتِهِ كَمَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ نَقْلاً عَنِ
الإِْسْنَوِيِّ.
وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ ثَدْيٌ وَنَزَل مِنْهُ لَبَنٌ أَوْ حَاضَ، أَوْ
أَمْكَنَ وَطْؤُهُ، فَامْرَأَةٌ، وَأَمَّا الْوِلاَدَةُ فَهِيَ تُفِيدُ
(20/23)
الْقَطْعَ بِأُنُوثَتِهِ، وَتُقَدَّمُ
عَلَى جَمِيعِ الْعَلاَمَاتِ الْمُعَارِضَةِ لَهَا.
وَأَمَّا الْمَيْل، فَإِنَّهُ يُسْتَدَل بِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ
الإِْمَارَاتِ السَّابِقَةِ، فَإِنْ مَال إِلَى الرِّجَال فَامْرَأَةٌ،
وَإِنْ مَال إِلَى النِّسَاءِ فَرَجُلٌ، وَإِنْ قَال أَمِيل
إِلَيْهِمَا مَيْلاً وَاحِدًا، أَوْ لاَ أَمِيل إِلَى وَاحِدٍ
مِنْهُمَا فَمُشْكِلٌ. (1)
قَال السُّيُوطِيُّ: وَحَيْثُ أُطْلِقَ الْخُنْثَى فِي الْفِقْهِ،
فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُشْكِل. (2)
أَحْكَامُ الْخُنْثَى الْمُشْكِل:
7 - الضَّابِطُ الْعَامُّ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْخُنْثَى الْمُشْكِل
أَنَّهُ يُؤْخَذُ فِيهِ بِالأَْحْوَطِ وَالأَْوْثَقِ فِي أُمُورِ
الدِّينِ وَلاَ يُحْكَمُ بِثُبُوتِ حُكْمٍ وَقَعَ الشَّكُّ فِي
ثُبُوتِهِ.
وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل بَعْضِ الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ
بِالْخُنْثَى.
عَوْرَتُهُ:
8 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ عَوْرَةَ الْخُنْثَى
كَعَوْرَةِ الْمَرْأَةِ حَتَّى شَعْرُهَا النَّازِل عَنِ الرَّأْسِ
خَلاَ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ، وَلاَ يَكْشِفُ الْخُنْثَى
لِلاِسْتِنْجَاءِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 464 - 465، وفتح القدير 8 / 504، 505 دار صادر
والشرح الصغير، والأشباه والنظائر للسيوطي / 241، 242، وروضة الطالبين
1 / 78، والمغني 6 / 253، 254.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي / 248. ط دار الكتب العلمية.
(20/23)
وَلاَ لِلْغُسْل عِنْدَ أَحَدٍ أَصْلاً،
لأَِنَّهَا إِنْ كَشَفَتْ عِنْدَ رَجُلٍ احْتَمَل أَنَّهَا أُنْثَى،
وَإِنْ كَشَفَتْ عِنْدَ أُنْثَى، احْتَمَل أَنَّهُ ذَكَرٌ. وَأَمَّا
ظَهْرُ الْكَفِّ فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهَا عَوْرَةٌ
عَلَى الْمَذْهَبِ، وَالْقَدَمَانِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَصَوْتُهَا
عَلَى الرَّاجِحِ، وَذِرَاعَاهَا عَلَى الْمَرْجُوحِ (1) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يَسْتَتِرُ سَتْرَ النِّسَاءِ فِي
الصَّلاَةِ وَالْحَجِّ بِالأَْحْوَطِ، فَيَلْبَسُ مَا تَلْبَسُ
الْمَرْأَةُ. (2)
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَالْخُنْثَى عِنْدَهُمْ كَالرَّجُل فِي
ذَلِكَ، لأَِنَّ سَتْرَ مَا زَادَ عَلَى عَوْرَةِ الرَّجُل مُحْتَمَلٌ،
فَلاَ يُوجَبُ عَلَيْهِ أَمْرٌ مُحْتَمَلٌ وَمُتَرَدِّدٌ. (3)
نَقْضُ وُضُوئِهِ بِلَمْسِ فَرْجِهِ:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى
عَدَمِ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ الْفَرْجِ مُطْلَقًا (4)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْوُضُوءَ يُنْقَضُ
بِلَمْسِ الْخُنْثَى فَرْجَهُ (5) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ فَرْجَيْهِ
جَمِيعًا. (6)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 105، 207، والأشباه والنظائر لابن نجيم / 384. ط
دار الفكر بدمشق، وروضة الطالبين 1 / 283، والأشباه والنظائر للسيوطي /
240.
(2) الحطاب 6 / 433.
(3) المغني 1 / 605.
(4) الاختيار 1 / 10، ومواهب الجليل 1 / 299، 6 / 433.
(5) مواهب الجليل 1 / 299، 6 / 433.
(6) الأشباه والنظائر للسيوطي / 243.
(20/24)
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ فَصَّلُوا
الْكَلاَمَ فِيهِ وَقَالُوا: إِنَّ الْخُنْثَى لَوْ لَمَسَ أَحَدَ
فَرْجَيْهِ لَمْ يُنْتَقَضْ وُضُوءُهُ، لأَِنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ
يَكُونَ الْمَلْمُوسُ خِلْقَةً زَائِدَةً، وَإِنْ لَمَسَهَا جَمِيعًا
فَعَلَى قَوْل عَدَمِ نَقْضِ وُضُوءِ الْمَرْأَةِ بِمَسِّ فَرْجِهَا
لاَ يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً مَسَّتْ
فَرْجَهَا، أَوْ خِلْقَةً زَائِدَةً، وَيُنْقَضُ عَلَى قَوْل نَقْضِ
وُضُوءِ الْمَرْأَةِ بِمَسِّ فَرْجِهَا، لأَِنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ
يَكُونَ أَحَدُهُمَا فَرْجًا. وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ
فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (حَدَثٌ) (وَوُضُوءٌ) (1) .
وُجُوبُ الْغُسْل عَلَى الْخُنْثَى:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ -
خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ - إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْغُسْل عَلَى
الْخُنْثَى بِإِيلاَجٍ بِلاَ إِنْزَالٍ لِعَدَمِ تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ
الأَْصْلِيَّةِ بِيَقِينٍ (2) .
أَذَانُهُ:
11 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ أَذَانُ
الْخُنْثَى وَأَنَّهُ لاَ يُعْتَدُّ بِهِ، لأَِنَّهُ لاَ يُعْلَمُ
كَوْنُهُ رَجُلاً. وَلأَِنَّهُ إِنْ كَانَ أُنْثَى خَرَجَ الأَْذَانُ
عَنْ كَوْنِهِ قُرْبَةً، وَلَمْ يَصِحَّ (3) .
__________
(1) المغني 1 / 182، 183.
(2) ابن عابدين 1 / 109، وحاشية الزرقاني 1 / 96، 97، وروضة الطالبين 1
/ 82، 83، والأشباه والنظائر للسيوطي / 243، والمغني 1 / 205.
(3) ابن عابدين 1 / 263، 264، وحاشية الدسوقي 1 / 195، والزرقاني 1 /
160، والقليوبي 1 / 129، وروضة الطالبين 1 / 202، وكشاف القناع 1 / 45،
والمغني 1 / 413، ونيل المآرب 1 / 114.
(20/24)
وُقُوفُهُ فِي الصَّفِّ فِي صَلاَةِ
الْجَمَاعَةِ:
12 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ
رِجَالٌ، وَصِبْيَانٌ، وَخَنَاثَى، وَنِسَاءٌ، فِي صَلاَةِ
الْجَمَاعَةِ، تَقَدَّمَ الرِّجَال، ثُمَّ الصِّبْيَانُ، ثُمَّ
الْخَنَاثَى، ثُمَّ النِّسَاءُ، وَلَوْ كَانَ مَعَ الإِْمَامِ خُنْثَى
وَحْدَهُ، فَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الإِْمَامَ يَقِفُهُ عَنْ
يَمِينِهِ، لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ رَجُلاً، فَقَدْ وَقَفَ فِي
مَوْقِفِهِ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهَا
بِوُقُوفِهَا مَعَ الإِْمَامِ، كَمَا لاَ تَبْطُل بِوُقُوفِهَا مَعَ
الرِّجَال.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مُحَاذَاتَهُ لِلرَّجُل
مُفْسِدَةٌ لِلصَّلاَةِ (1) .
إِمَامَتُهُ:
13 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْخُنْثَى لاَ
تَصِحُّ إِمَامَتُهُ لِرَجُلٍ وَلاَ لِمِثْلِهِ، لاِحْتِمَال
أُنُوثَتِهِ، وَذُكُورَةِ الْمُقْتَدِي، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَتَصِحُّ
إِمَامَةُ الْخُنْثَى لَهُنَّ مَعَ الْكَرَاهَةِ أَوْ بِدُونِهَا
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ
غَايَتَهُ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، وَإِمَامَتُهَا بِالنِّسَاءِ
صَحِيحَةٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّتِهَا: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 384، 385، ومواهب الجليل 6 / 433، والأشباه
والنظائر للسيوطي ص245، وكشاف القناع 1 / 488، 489، والمغني 1 / 218،
219، 2 / 199.
(20/25)
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مَا
عَدَا ابْنَ عَقِيلٍ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى إِذَا أَمَّ النِّسَاءَ
قَامَ أَمَامَهُنَّ لاَ وَسَطَهُنَّ، لاِحْتِمَال كَوْنِهِ رَجُلاً،
فَيُؤَدِّي وُقُوفُهُ وَسَطَهُنَّ إِلَى مُحَاذَاةِ الرَّجُل
لِلْمَرْأَةِ.
ثُمَّ يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْخُنْثَى لَوْ صَلَّى وَسَطَهُنَّ
فَسَدَتْ صَلاَتُهُ بِمُحَاذَاتِهِنَّ عَلَى تَقْدِيرِ ذُكُورَتِهِ،
وَتَفْسُدُ صَلاَتُهُنَّ عَلَى هَذَا الأَْسَاسِ، وَالشَّافِعِيَّةُ
عَلَى أَنَّ التَّقَدُّمَ عَلَيْهِنَّ مُسْتَحَبٌّ، وَمُخَالَفَتُهُ
لاَ تُبْطِل الصَّلاَةَ.
وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: يَقُومُ وَسَطَهُنَّ وَلاَ يَتَقَدَّمُهُنَّ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ
الْفَرْضِ وَالتَّرَاوِيحِ وَغَيْرِهَا.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ تَصِحُّ فِي التَّرَاوِيحِ إِذَا كَانَ
الْخُنْثَى قَارِئًا وَالرِّجَال أُمِّيُّونَ وَيَقِفُونَ خَلْفَهُ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يَتَأَتَّى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، لأَِنَّ
الذُّكُورَةَ شَرْطٌ عِنْدَهُمْ فِي صِحَّةِ الإِْمَامَةِ، فَلاَ
تَجُوزُ إِمَامَةُ الْخُنْثَى وَلَوْ لِمِثْلِهِ فِي نَفْلٍ، وَلَمْ
يُوجَدْ رَجُلٌ يُؤْتَمُّ بِهِ.
وَلأَِبِي حَفْصٍ الْبَرْمَكِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْخُنْثَى
لاَ تَصِحُّ صَلاَتُهُ فِي جَمَاعَةٍ، لأَِنَّهُ إِنْ قَامَ مَعَ
الرِّجَال احْتَمَل أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، وَإِنْ قَامَ مَعَ
النِّسَاءِ أَوْ وَحْدَهُ، أَوِ ائْتَمَّ بِامْرَأَةٍ احْتَمَل أَنْ
يَكُونَ رَجُلاً، وَإِنْ أَمَّ الرِّجَال احْتَمَل أَنْ يَكُونَ
امْرَأَةً، وَإِنْ أَمَّ النِّسَاءَ فَقَامَ وَسَطَهُنَّ احْتَمَل
أَنَّهُ رَجُلٌ، إِنْ قَامَ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ احْتَمَل أَنَّهُ
امْرَأَةٌ، وَيُحْتَمَل
(20/25)
أَنْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ فِي هَذِهِ
الصُّورَةِ، وَفِي صُورَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ فِي صَفِّ
الرِّجَال مَأْمُومًا، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا قَامَتْ فِي صَفِّ
الرِّجَال لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهَا وَلاَ صَلاَةُ مَنْ يَلِيهَا عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ (1) .
حَجُّهُ وَإِحْرَامُهُ:
14 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى
كَالأُْنْثَى فِي شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ، وَفِي لُبْسِ الْمَخِيطِ،
وَالْقُرْبِ مِنَ الْبَيْتِ، وَالرَّمَل فِي الطَّوَافِ،
وَالاِضْطِبَاعِ، وَالرَّمَل بَيْنَ الْمِيلَيْنِ فِي السَّعْيِ،
وَالْوُقُوفِ، وَالتَّقْدِيمِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ، وَلاَ يَحُجُّ إِلاَّ
مَعَ ذِي مَحْرَمٍ لاَ مَعَ جَمَاعَةِ رِجَالٍ فَقَطْ، وَلاَ مَعَ
نِسَاءٍ فَقَطْ، إِلاَّ أَنْ يَكُونُوا مِنْ مَحَارِمِهِ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْخُنْثَى إِذَا أَحْرَمَ لَمْ
يَلْزَمْهُ اجْتِنَابُ الْمَخِيطِ، فَلاَ فِدْيَةَ عَلَيْهِ إِنْ
غَطَّى رَأْسَهُ، لاِحْتِمَال كَوْنِهِ امْرَأَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ
غَطَّى وَجْهَهُ مِنْ غَيْرِ لُبْسٍ لِلْمَخِيطِ، لاِحْتِمَال كَوْنِهِ
رَجُلاً، فَإِنْ غَطَّى وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ مَعًا فَدَى، لأَِنَّهُ
إِنْ كَانَ أُنْثَى فَقَدْ غَطَّى وَجْهَهُ، وَإِنْ كَانَ رَجُلاً
فَقَدْ غَطَّى رَأْسَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَطَّى وَجْهَهُ وَلَبِسَ
الْمَخِيطَ،
__________
(1) ابن عابدين 1 / 380، والقوانين الفقهية / 68، والتاج والإكليل على
هامش مواهب الجليل 2 / 92، والدسوقي 1 / 326، وجواهر الإكليل 1 / 78. ط
مكة، والقليوبي 1 / 231، وروضة الطالبين 1 / 351، والأشباه والنظائر
للسيوطي / 243، والمغني 1 / 479، 2 / 199، 200، كشاف القناع 1 / 479.
(20/26)
لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ أُنْثَى
فَلِتَغْطِيَةِ وَجْهِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَلِلُبْسِهِ
الْمَخِيطَ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ عِلْمَ لِي فِي
لِبَاسِهِ، لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ ذَكَرًا يُكْرَهُ لَهُ لُبْسُ
الْمَخِيطِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى يُكْرَهُ لَهُ تَرْكُهُ (1) .
وَيُنْظَرُ: " حَجٌّ ".
النَّظَرُ وَالْخَلْوَةُ:
15 - صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ الْخُنْثَى لاَ يَخْلُو
بِهِ غَيْرُ مَحْرَمٍ مِنْ رَجُلٍ وَلاَ امْرَأَةٍ، وَلاَ يُسَافِرُ
بِغَيْرِ مَحْرَمٍ مِنَ الرِّجَال احْتِيَاطًا، وَتَوَقِّيًا عَنِ
احْتِمَال الْحَرَامِ، وَكَذَلِكَ لاَ يَتَكَشَّفُ الْخُنْثَى
الْمُرَاهِقُ لِلنِّسَاءِ، لاِحْتِمَال كَوْنِهِ رَجُلاً، وَلاَ
لِلرِّجَال لاِحْتِمَال كَوْنِهِ امْرَأَةً، وَالْمُرَادُ
بِالاِنْكِشَافِ هُوَ أَنْ يَكُونَ فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ، لاَ إِبْدَاءَ
مَوْضِعِ الْعَوْرَةِ، لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يَحِل لِغَيْرِ الأُْنْثَى
أَيْضًا.
وَقَال الْقَفَّال مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: بِالْجَوَازِ اسْتِصْحَابًا
لِحُكْمِ الصِّغَرِ، وَبِهِ قَطَعَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
__________
(1) فتح القدير 8 / 506. ط دار صادر، والأشباه والنظائر لابن نجيم /
384،. ط دار الفكر بدمشق، والخطاب 6 / 433، والأشباه والنظائر للسيوطي
/ 243، وأسنى المطالب 1 / 507، وحاشية الجمل 2 / 506، وكشاف القناع 2 /
421، 428، والمغني 3 / 331.
(2) الاختيار 3 / 39، وفتح القدير 8 / 507، 508، والأشباه والنظائر
لابن نجيم / 383، وابن عابدين 5 / 465، وأسنى المطالب 3 / 114، 4 /
169، وروضة الطالبين 7 / 29، والأشباه والنظائر للسيوطي / 244. ط دار
الهلال، وكشاف القناع 5 / 15.
(20/26)
نِكَاحُهُ:
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى إِنْ زَوَّجَهُ
أَبُوهُ رَجُلاً فَوَصَل إِلَيْهِ جَازَ، وَكَذَلِكَ إِنْ زَوَّجَهُ
امْرَأَةً فَوَصَل إِلَيْهَا، وَإِلاَّ أُجِّل كَالْعِنِّينِ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ
أَنَّهُ يَمْتَنِعُ النِّكَاحُ فِي حَقِّهِ مِنَ الْجِهَتَيْنِ، أَيْ
لاَ يَنْكِحُ وَلاَ يُنْكَحُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُنْذِرِ عَنِ
الشَّافِعِيِّ يَنْكِحُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، ثُمَّ لاَ يُنْقَل عَمَّا
اخْتَارَهُ، قَال الْعُقْبَانِيُّ: وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ: إِذَا
اخْتَارَ وَاحِدًا، وَفَعَلَهُ، أَمَّا مُجَرَّدُ الاِخْتِيَارِ دُونَ
فِعْلٍ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَهُ مِنِ اخْتِيَارِ الطَّرَفِ
الآْخَرِ. (2)
وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي نِكَاحِهِ: فَذَكَرَ الْخِرَقِيُّ:
أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ رَجُلٌ،
وَأَنَّهُ يَمِيل طَبْعُهُ إِلَى نِكَاحِ النِّسَاءِ، فَلَهُ
نِكَاحُهُنَّ، إِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ امْرَأَةٌ يَمِيل طَبْعُهَا إِلَى
الرِّجَال زُوِّجَ رَجُلاً، لأَِنَّهُ مَعْنًى لاَ يُتَوَصَّل إِلَيْهِ
إِلاَّ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ إِيجَابُ حَقٍّ عَلَى غَيْرِهِ،
فَيُقْبَل قَوْلُهُ فِيهِ، كَمَا يُقْبَل قَوْل الْمَرْأَةِ فِي
حَيْضَتِهَا وَعِدَّتِهَا، وَقَدْ يَعْرِفُ نَفْسَهُ بِمَيْل طَبْعِهِ
إِلَى أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ وَشَهْوَتِهِ لَهُ.
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم / 382، 383، ط دار الفكر.
(2) مواهب الجليل 6 / 432. ط دار الفكر، والقليوبي 3 / 244، ونهاية
المحتاج 6 / 311، والأشباه والنظائر للسيوطي / 245.
(20/27)
وَقَال أَبُو بَكْرٍ: لاَ يَجُوزُ أَنْ
يَتَزَوَّجَ حَتَّى يَبِينَ أَمْرُهُ. وَأَوْرَدَهُ نَصًّا عَنْ
أَحْمَدَ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ وُجُودُ مَا يُبِيحُ
لَهُ النِّكَاحَ، فَلَمْ يُبَحْ لَهُ كَمَا لَوِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ
أُخْتُهُ بِنِسْوَةٍ، وَلأَِنَّهُ قَدِ اشْتَبَهَ الْمُبَاحُ
بِالْمَحْظُورِ فِي حَقِّهِ فَحَرُمَ. (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي " نِكَاحٌ "
رَضَاعُهُ:
17 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِنْ
ثَابَ (اجْتَمَعَ) لِخُنْثَى لَبَنٌ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ التَّحْرِيمُ،
لأَِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ امْرَأَةً، فَلاَ يَثْبُتُ
التَّحْرِيمُ مَعَ الشَّكِّ. (2)
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ فِي لَبَنِ
الْخُنْثَى، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ كَمَا قَال بَعْضُ فُقَهَائِهِمْ:
إِنَّهُ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ قِيَاسًا عَلَى مَنْ تَيَقَّنَ
الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ، فَتَيَقُّنُ حُصُول لَبَنِهِ
بِجَوْفِ رَضِيعٍ كَتَيَقُّنِ الطَّهَارَةِ، وَالشَّكُّ فِي كَوْنِهِ
ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى كَالشَّكِّ فِي الْحَدَثِ. (3)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى
أَنَّهُ يُوقَفُ الأَْمْرُ حَتَّى يَنْكَشِفَ أَمْرُ الْخُنْثَى،
فَإِنْ بَانَ أُنْثَى حَرُمَ، وَإِلاَّ فَلاَ، وَلَكِنْ يَحْرُمُ
عَلَيْهِ نِكَاحُ مَنِ ارْتَضَعَ بِلَبَنِهِ (4) .
__________
(1) المغني 6 / 677، و 678، وكشاف القناع 5 / 90.
(2) ابن عابدين 2 / 410، وكشاف القناع 5 / 445، والمغني 7 / 545.
(3) حاشية الزرقاني 4 / 239.
(4) حاشية الجمل 4 / 475، وروضة الطالبين 9 / 3، والمغني 7 / 545.
(20/27)
إِقْرَارُ الْخُنْثَى:
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَقَرَّ عَلَى
نَفْسِهِ بِمَا يُقَلِّل مِيرَاثَهُ أَوْ دِيَتَهُ قُبِل مِنْهُ،
وَإِنِ ادَّعَى مَا يَزِيدُ ذَلِكَ لَمْ يُقْبَل لأَِنَّهُ مُتَّهَمٌ
فِيهِ فَلاَ يُقْبَل قَوْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ
عِبَادَاتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْبَل قَوْلُهُ
فِيهِ، لأَِنَّهُ حُكْمٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ
يُقْبَل قَوْلُهُ فِي سُقُوطِ الْمَهْرِ عَنْهُ (1) .
شَهَادَةُ الْخُنْثَى وَقَضَاؤُهُ:
19 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى
كَالأُْنْثَى فِي الشَّهَادَةِ، فَتُقْبَل شَهَادَتُهُ مَعَ رَجُلٍ
وَامْرَأَةٍ فِي غَيْرِ حَدٍّ وَقَوَدٍ، وَيُعَدُّ فِي شَهَادَتِهِ
امْرَأَةً. قَال ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَيُحْكَمُ فِيهِ
بِالأَْحْوَطِ، وَسُلُوكُ الأَْحْوَطِ فِي شَهَادَتِهِ أَنْ لاَ
تُقْبَل إِلاَّ فِي الأَْمْوَال وَيُعَدُّ فِي شَهَادَتِهِ امْرَأَةً.
(2)
وَأَمَّا قَضَاؤُهُ، فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ تَوْلِيَةُ الْخُنْثَى، وَلاَ
يَنْفُذُ، لأَِنَّهُ لاَ يُعْلَمُ كَوْنُهُ ذَكَرًا. (3)
__________
(1) فتح القدير 8 / 508. ط دار صادر، والأشباه والنظائر لابن نجيم /
322. ط مكتبة الهلال، والمغني 6 / 77، 678، و 4 / 461، 462.
(2) ابن عابدين 4 / 377، 356، والحطاب 6 / 432، وروضة الطالبين 11 /
255، والأشباه والنظائر للسيوطي / 243.
(3) الشرح الصغير 4 / 187، وروضة الطالبين 11 / 95، والأشباه والنظائر
للسيوطي / 243، والكافي 3 / 433،. ط المكتب الإسلامي بدمشق.
(20/28)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْخُنْثَى
كَالأُْنْثَى يَصِحُّ قَضَاؤُهُ فِي غَيْرِ حَدٍّ وَقَوَدٍ
بِالأَْوْلَى، وَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يَصِحَّ فِي الْحُدُودِ
وَالْقِصَاصِ لِشُبْهَةِ الأُْنُوثَةِ (1) .
الاِقْتِصَاصُ لِلْخُنْثَى، وَالاِقْتِصَاصُ مِنْهُ:
20 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُقْتَل كُل وَاحِدٍ
مِنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ بِالْخُنْثَى، وَيُقْتَل بِهِمَا،
لأَِنَّهُ لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الأَْطْرَافِ سَوَاءٌ قَطَعَهَا رَجُلٌ أَوِ
امْرَأَةٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ عَلَى قَاطِعِ يَدِ
الْخُنْثَى وَلَوْ عَمْدًا، وَلَوْ كَانَ الْقَاطِعُ امْرَأَةً، وَلاَ
تُقْطَعُ يَدُهُ إِذَا قَطَعَ يَدَ غَيْرِهِ عَمْدًا لاِحْتِمَال
عَدَمِ التَّكَافُؤِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ
دِيَةُ الْخُنْثَى:
21 - إِنْ كَانَ الْمَقْتُول خُنْثَى فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 356.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم / 383. ط دار الفكر، وابن عابدين 5 /
368، 369، ومواهب الجليل 6 / 433، وروضة الطالبين 9 / 156، 159،
والمغني 7 / 679، 680، 715.
(20/28)
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّ فِيهِ نِصْفَ دِيَةِ ذَكَرٍ وَنِصْفَ دِيَةِ أُنْثَى، لأَِنَّهُ
يَحْتَمِل الذُّكُورَةَ وَالأُْنُوثَةَ احْتِمَالاً وَاحِدًا، وَقَدْ
يُئِسَ مِنِ احْتِمَال انْكِشَافِ حَالِهِ، فَيَجِبُ التَّوَسُّطُ
بَيْنَهُمَا، وَالْعَمَل بِكِلاَ الاِحْتِمَالَيْنِ (1) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْوَاجِبَ دِيَةُ أُنْثَى، لأَِنَّهُ
الْيَقِينُ، فَلاَ يَجِبُ الزَّائِدُ بِالشَّكِّ (2) .
وَأَمَّا دِيَةُ جِرَاحِهِ وَأَطْرَافِهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا نِصْفُ ذَلِكَ مِنَ الرَّجُل.
وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ
لَدَى الْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ يُسَاوِي
الرَّجُل فِي الأَْطْرَافِ إِلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ، فَإِذَا زَادَ
عَلَى الثُّلُثِ صَارَتْ عَلَى النِّصْفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَى ثَلاَثَةِ أَرْبَاعِ دِيَةِ الذَّكَرِ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الدِّيَاتِ (3) .
وُجُوبُ الْعَقْل (الدِّيَةِ) عَلَى الْخُنْثَى:
22 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقْتَضَى
قَوَاعِدِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، بِأَنَّهُ لاَ تَدْخُل
الْخُنْثَى فِي الْعَاقِلَةِ، لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً،
ثُمَّ إِنْ بَانَ
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 433، والمغني، 8 / 62، 63.
(2) روضة الطالبين 9 / 159، 257، والأشباه والنظائر للسيوطي / 243،
والمغني 8 / 62.
(3) ابن عابدين 5 / 368، 369، والقوانين الفقهية / 345، وروضة الطالبين
9 / 257، والمغني 8 / 52، 63.
(20/29)
ذَكَرًا، فَالأَْصَحُّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَغْرَمَ حِصَّتَهُ الَّتِي أَدَّاهَا غَيْرُهُ
(1) .
دُخُولُهُ فِي الْقَسَامَةِ:
23 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّ
الْخُنْثَى لاَ يَدْخُل فِي الْقَسَامَةِ، لأَِنَّهُ لاَ يَدْخُل فِي
الْعَاقِلَةِ، وَلاَ يَثْبُتُ الْقَتْل بِشَهَادَتِهِ أَشْبَهَ
الْمَرْأَةَ. وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ فِي
الْقَتْل الْخَطَأِ وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّ
الْخُنْثَى يُقْسِمُ، لأَِنَّ سَبَبَ الْقَسَامَةِ وُجِدَ فِي حَقِّهِ،
وَهُوَ كَوْنُهُ مُسْتَحِقًّا لِلدَّمِ، وَلَمْ يَتَحَقَّقِ الْمَانِعُ
مِنْ يَمِينِهِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يَحْلِفُ الْخُنْثَى الأَْكْثَرَ،
وَيَأْخُذُ الأَْقَل لِلشَّكِّ، وَيُوقَفُ الْبَاقِي عَلَى الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ إِلَى الْبَيَانِ أَوِ الصُّلْحِ، وَلاَ تُعَادُ الْقِسْمَةُ
بَعْدَ الْبَيَانِ فَيُعْطَى الْبَاقِي لِمَنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَهُ
بِلاَ يَمِينٍ (2) .
حَدُّ قَاذِفِهِ:
24 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ
مِنْ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَنْ قَذَفَ الْخُنْثَى بِفِعْلٍ
يُحَدُّ بِهِ
__________
(1) الاختيار 5 / 61، وابن عابدين 5 / 410، 413، التاج والإكليل على
هامش مواهب الجليل 6 / 267، وجواهر الإكليل 2 / 271، وروضة الطالبين 9
/ 355، والقليوبي 4 / 157، وحاشية الجمل 5 / 62، والأشباه والنظائر
للسيوطي / 243، وكشاف القناع 6 / 60.
(2) الاختيار 3 / 40، والحطاب 6 / 273، والقليوبي 4 / 166، والمغني 8 /
81.
(20/29)
الْخُنْثَى يَجِبُ فِيهِ حَدُّ الْقَذْفِ،
فَإِذَا رَمَاهُ شَخْصٌ بِالزِّنَى بِفَرْجِهِ الذَّكَرِ، أَوْ فِي
فَرْجِهِ الَّذِي لِلنِّسَاءِ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ إِذَا
زَنَى بِأَحَدِهِمَا لاَ حَدَّ عَلَيْهِ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُحَدُّ قَاذِفُ
الْخُنْثَى، لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ رَجُلاً فَهُوَ كَالْمَجْبُوبِ،
وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَهِيَ كَالرَّتْقَاءِ، وَلاَ يُحَدُّ
قَاذِفُهُمَا، لأَِنَّ الْحَدَّ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ، وَهِيَ
مُنْتَفِيَةٌ عَنْهُمَا، وَلَكِنْ فِي ذَلِكَ التَّعْزِيرُ (2) .
خِتَانُهُ:
25 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ خِتَانِ الْخُنْثَى عَلَى
أَقْوَالٍ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى الصَّغِيرَ
الَّذِي لاَ يُشْتَهَى يَجُوزُ أَنْ يَخْتِنَهُ الرَّجُل أَوِ
الْمَرْأَةُ. (3)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَال بَعْضُ فُقَهَائِهِمْ: لاَ يُوجَدُ
نَصٌّ فِي ذَلِكَ، وَيَرَى ابْنُ نَاجِي كَمَا نَقَلَهُ الْخَطَّابُ:
أَنَّ الْخُنْثَى لاَ يُخْتَتَنُ تَطْبِيقًا لِقَاعِدَةِ: تَغْلِيبِ
الْحَظْرِ عَلَى الإِْبَاحَةِ. وَمَسَائِلُهُ تَدُل عَلَى ذَلِكَ. (4)
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 463، والخطاب 6 / 433، والكافي 3 / 216، وروضة
الطالبين 8 / 311، 317.
(2) البدائع 7 / 329، والأشباه والنظائر لابن نجيم / 383. ط دار الفكر.
(3) الاختيار 3 / 39، والبدائع 7 / 328، وفتح القدير 8 / 506، و 507. ط
دار صادر.
(4) الحطاب 3 / 259.
(20/30)
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْخُنْثَى
لاَ يُخْتَنُ فِي صِغَرِهِ، فَإِذَا بَلَغَ فَوَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَشْهُورُ يَجِبُ خِتَانُ فَرْجَيْهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الأَْصَحُّ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِنَّ
الْجَرْحَ لاَ يَجُوزُ بِالشَّكِّ، فَعَلَى الأَْوَّل، إِنْ أَحْسَنَ
الْخِتَانَ، خَتَنَ نَفْسَهُ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَوَلاَّهُ
الرِّجَال وَالنِّسَاءُ لِلضَّرُورَةِ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَخْتِنُ فَرْجَيِ الْخُنْثَى احْتِيَاطًا (2)
.
لُبْسُهُ الْفِضَّةَ وَالْحَرِيرَ:
26 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى
الْخُنْثَى فِي الْجُمْلَةِ لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى
يُكْرَهُ لَهُ لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالْحُلِيِّ، لأَِنَّهُ حَرَامٌ
عَلَى الرِّجَال دُونَ النِّسَاءِ وَحَالُهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ بَعْدُ،
فَيُؤْخَذُ بِالاِحْتِيَاطِ، فَإِنَّ اجْتِنَابَ الْحَرَامِ فَرْضٌ،
وَالإِْقْدَامَ عَلَى الْمُبَاحِ مُبَاحٌ، فَيُكْرَهُ حَذَرًا عَنِ
الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ (3) .
__________
(1) شرح المنهج على حاشية الجمل 5 / 174، وأسنى المطالب 4 / 164، 165،
روضة الطالبين 10 / 181، والأشباه والنظائر للسيوطي / 244.
(2) كشاف القناع 1 / 80.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم / 382،. ط دار الفكر، والاختيار 3 /
39، والعناية على هامش فتح القدير 8 / 507، والبدائع 7 / 329، وابن
عابدين 5 / 465، والأشباه والنظائر للسيوطي / 242، وروضة الطالبين 2 /
66، 67، وكشاف القناع 1 / 281، 2 / 238.
(20/30)
غُسْلُهُ وَتَكْفِينُهُ وَدَفْنُهُ:
27 - إِذَا مَاتَ الْخُنْثَى فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي غُسْلِهِ
عَلَى أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى إِنْ مَاتَ لَمْ
يُغَسِّلْهُ رَجُلٌ وَلاَ امْرَأَةٌ، لأَِنَّ غَسْل الرَّجُل
الْمَرْأَةَ، وَعَكْسَهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الشَّرْعِ، فَإِنَّ
النَّظَرَ إِلَى الْعَوْرَةِ حَرَامٌ، وَالْحُرْمَةُ لَمْ تَزُل
بِالْمَوْتِ فَيُيَمَّمُ بِالصَّعِيدِ، لِتَعَذُّرِ الْغُسْل،
وَيُيَمِّمُهُ بِخِرْقَةٍ إِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا، وَيَصْرِفُ
وَجْهَهُ عَنْ ذِرَاعَيْهِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ امْرَأَةً، وَبِغَيْرِ
خِرْقَةٍ إِنْ يَمَّمَهُ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ. (1)
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ الْقَوْل فِيهِ: فَقَالُوا: إِذَا مَاتَ
الْخُنْثَى وَلَيْسَ هُنَاكَ مَحْرَمٌ لَهُ مِنَ الرِّجَال أَوِ
النِّسَاءِ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ حَدًّا يُشْتَهَى
مِثْلُهُ جَازَ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ غَسْلُهُ، وَإِنْ كَانَ
كَبِيرًا فَوَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُيَمَّمُ وَيُدْفَنُ. وَالثَّانِي: يُغَسَّل، وَفِيمَنْ
يَغْسِلُهُ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا وَبِهِ قَال أَبُو زَيْدٍ: يَجُوزُ
لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا غَسْلُهُ لِلضَّرُورَةِ
وَاسْتِصْحَابًا بِحُكْمِ الصِّغَرِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ فِي حَقِّ
الرِّجَال كَالْمَرْأَةِ، وَفِي حَقِّ النِّسَاءِ كَالرَّجُل أَخْذًا
بِالأَْحْوَطِ (2) .
__________
(1) فتح القدير 8 / 506، 509. ط دار صادر، والبدائع 7 / 328، وابن
عابدين 5 / 466.
(2) أسنى المطالب 1 / 303، وروضة الطالبين 2 / 105، ونهاية المحتاج 2 /
451، والأشباه والنظائر للسيوطي / 245.
(20/31)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْخُنْثَى
إِذَا كَانَ لَهُ سَبْعُ سِنِينَ فَأَكْثَرُ يُيَمَّمُ بِحَائِلٍ مِنْ
خِرْقَةٍ وَنَحْوِهَا، وَالرَّجُل أَوْلَى بِتَيْمِيمِ الْخُنْثَى مِنَ
الْمَرْأَةِ. (1)
28 - وَيُكَفَّنُ الْخُنْثَى كَمَا تُكَفَّنُ الْجَارِيَةُ فِي
خَمْسَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ، لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ أُنْثَى فَقَدْ
أُقِيمَتِ السُّنَّةُ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَقَدْ زَادُوا عَلَى
الثَّلاَثِ، وَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ. فَإِنَّ لِلرَّجُل أَنْ يَلْبَسَ
فِي حَيَاتِهِ أَزْيَدَ عَلَى الثَّلاَثَةِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ
أُنْثَى كَانَ فِي الاِقْتِصَارِ عَلَى الثَّلاَثَةِ تَرْكُ
السُّنَّةِ.
وَإِذَا صُلِّيَ عَلَيْهِ، وَعَلَى رَجُلٍ، وَعَلَى امْرَأَةٍ، وُضِعَ
الْخُنْثَى بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ اعْتِبَارًا بِحَال
الْحَيَاةِ، لأَِنَّهُ يَقُومُ بَيْنَ صَفِّ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ
فِي الصَّلاَةِ.
وَلَوْ دُفِنَ مَعَ رَجُلٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ مِنْ عُذْرٍ جُعِل
الْخُنْثَى خَلْفَ الرَّجُل، لاِحْتِمَال أَنَّهُ امْرَأَةٌ، وَيُجْعَل
بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ مِنْ صَعِيدٍ فَيَصِيرُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ
قَبْرَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ امْرَأَةٍ قُدِّمَ الْخُنْثَى،
لاِحْتِمَال أَنَّهُ رَجُلٌ.
وَتُسْتَحَبُّ تَسْجِيَةُ قَبْرِهِ عِنْدَ دَفْنِهِ، لأَِنَّهُ إِنْ
كَانَ أُنْثَى أُقِيمَ الْوَاجِبُ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا
فَالتَّسْجِيَةُ لاَ تَضُرُّهُ (2) .
__________
(1) كشاف القناع 1 / 91.
(2) فتح القدير 8 / 508، 509، والأشباه والنظائر لابن نجيم / 382،. ط
دار الفكر، وابن عابدين 5 / 466، والبدائع 7 / 328، وكشاف القناع 2 /
106، 108.
(20/31)
إِرْثُهُ:
29 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ،
وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى يَرِثُ نِصْفَ مِيرَاثِ ذَكَرٍ، وَنِصْفَ
مِيرَاثِ أُنْثَى عَمَلاً بِالشَّبَهَيْنِ، وَهَذَا قَوْل ابْنِ
عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَهْل
الْمَدِينَةِ، وَمَكَّةَ، وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ.
وَوَرَّثَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَقَل النَّصِيبَيْنِ احْتِيَاطًا،
وَيُعْطِيهِ الشَّافِعِيَّةُ الْيَقِينَ، وَيُوقَفُ الْبَاقِي حَتَّى
يَتَبَيَّنَ الأَْمْرُ أَوْ يَصْطَلِحُوا، وَلَوْ مَاتَ الْخُنْثَى
قَبْل اتِّضَاحِهِ لَمْ يَبْقَ إِلاَّ الصُّلْحُ فِي الْقَدْرِ
الْمَوْقُوفِ (الْمَحْجُوزِ) ، وَبِهِ قَال أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ
وَابْنُ جَرِيرٍ (1) .
وَفِي كَيْفِيَّةِ إِرْثِهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى
مُصْطَلَحِ " إِرْثٌ "
__________
(1) الاختيار 5 / 115، وفتح القدير 8 / 509، وابن عابدين 5 / 466،
ومواهب الجليل 6 / 426، 427، ونهاية المحتاج 6 / 31، 32،. ط مصطفى
البابي الحلبي، والقليوبي 3 / 150، والمغني 6 / 254، ونيل المآرب 2 /
93.
(20/32)
خِنْزِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخِنْزِيرُ حَيَوَانٌ خَبِيثٌ. قَال الدَّمِيرِيُّ. الْخِنْزِيرُ
يَشْتَرِكُ بَيْنَ الْبَهِيمِيَّةِ وَالسَّبُعِيَّةِ، فَالَّذِي فِيهِ
مِنَ السَّبُعِ النَّابُ وَأَكْل الْجِيَفِ، وَالَّذِي فِيهِ مِنَ
الْبَهِيمِيَّةِ الظِّلْفُ وَأَكْل الْعُشْبِ وَالْعَلَفِ.
أَحْكَامُ الْخِنْزِيرِ:
2 - تَدُورُ أَحْكَامُ الْخِنْزِيرِ عَلَى اعْتِبَارَاتٍ:
الأَْوَّل: تَحْرِيمُ لَحْمِهِ وَسَائِرِ أَجْزَائِهِ.
الثَّانِي: اعْتِبَارُ نَجَاسَةِ عَيْنِهِ.
وَالثَّالِثُ: اعْتِبَارُ مَالِيَّتِهِ. وَتَرَتَّبَ عَلَى كُلٍّ مِنْ
هَذِهِ الاِعْتِبَارَاتِ أَوْ عَلَى جَمِيعِهَا جُمْلَةٌ مِنَ
الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
3 - أَمَّا الاِعْتِبَارُ الأَْوَّل فَقَدْ أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ
عَلَى حُرْمَةِ أَكْل لَحْمِ الْخِنْزِيرِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ.
لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُل لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ
إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ
مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ
رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِل
(20/32)
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ
غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . (1)
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى تَقْدِيمِ أَكْل الْكَلْبِ عَلَى
الْخِنْزِيرِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْل بَعْضِ
الْفُقَهَاءِ بِعَدَمِ تَحْرِيمِ أَكْل الْكَلْبِ.
كَمَا يُقَدَّمُ شَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَكُلْيَتُهُ وَكَبِدُهُ عَلَى
لَحْمِهِ، لأَِنَّ اللَّحْمَ يَحْرُمُ تَنَاوُلُهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ،
فَلاَ خِلاَفَ فِيهِ. وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ
مَيْتَةِ غَيْرِ الْخِنْزِيرِ عَلَى الْخِنْزِيرِ عِنْدَ
اجْتِمَاعِهِمَا، لأَِنَّ الْخِنْزِيرَ حَرَامٌ لِذَاتِهِ، وَحُرْمَةَ
الْمَيْتَةِ عَارِضَةٌ. (2)
4 - وَأَمَّا الاِعْتِبَارُ الثَّانِي: وَهُوَ اعْتِبَارُ نَجَاسَةِ
عَيْنِهِ:
فَقَدِ اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
عَلَى نَجَاسَةِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ، وَكَذَلِكَ نَجَاسَةُ جَمِيعِ
أَجْزَائِهِ وَمَا يَنْفَصِل عَنْهُ كَعَرَقِهِ وَلُعَابِهِ
وَمَنِيِّهِ (3) وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل لاَ أَجِدُ فِيمَا
أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ
يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ
فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ
اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ
__________
(1) سورة الأنعام / 145.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 196، حاشية الدسوقي 2 / 116، 117، مطالب أولي
النهى 6 / 321، المجموع 9 / 2، و 39.
(3) فتح القدير 1 / 82، بدائع الصنائع 1 / 63، شرح العناية على الهداية
1 / 82 بهامش فتح القدير، ونهاية المحتاج 1 / 19، وكشاف القناع 1 /
181.
(20/33)
رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) .
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ
رِجْسٌ} رَاجِعٌ إِلَى الْخِنْزِيرِ فَيَدُل عَلَى تَحْرِيمِ عَيْنِ
الْخِنْزِيرِ وَجَمِيعِ أَجْزَائِهِ.
وَذَلِكَ لأَِنَّ الضَّمِيرَ إِذَا صَلَحَ أَنْ يَعُودَ إِلَى
الْمُضَافِ وَهُوَ " اللَّحْمُ " وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ "
الْخِنْزِيرُ " جَازَ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِمَا.
وَعَوْدُهُ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَوْلَى فِي هَذَا الْمَقَامِ
لأَِنَّهُ مَقَامُ تَحْرِيمٍ، لأَِنَّهُ لَوْ عَادَ إِلَى الْمُضَافِ
وَهُوَ اللَّحْمُ لَمْ يَحْرُمْ غَيْرُهُ، وَإِنْ عَادَ إِلَى
الْمُضَافِ إِلَيْهِ حَرُمَ اللَّحْمُ وَجَمِيعُ أَجْزَاءُ
الْخِنْزِيرِ.
فَغَيْرُ اللَّحْمِ دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ يَحْرُمَ وَأَنْ لاَ يَحْرُمَ
فَيَحْرُمُ احْتِيَاطًا وَذَلِكَ بِإِرْجَاعِ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ
طَالَمَا أَنَّهُ صَالِحٌ لِذَلِكَ، وَيُقَوِّي إِرْجَاعَ الضَّمِيرِ
إِلَى " الْخِنْزِيرِ " أَنَّ تَحْرِيمَ لَحْمِهِ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ
تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْخِنْزِيرَ لَيْسَ مَحَلًّا
لِلتَّذْكِيَةِ فَيَنْجَسُ لَحْمُهُ بِالْمَوْتِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ حَال
الْحَيَاةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الأَْصْل فِي كُل حَيٍّ الطَّهَارَةُ،
وَالنَّجَاسَةُ عَارِضَةٌ، فَطَهَارَةُ عَيْنِهِ بِسَبَبِ الْحَيَاةِ،
وَكَذَلِكَ طَهَارَةُ عَرَقِهِ وَلُعَابِهِ وَدَمْعِهِ وَمُخَاطِهِ (2)
.
وَمِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحُكْمِ بِنَجَاسَةِ عَيْنِ
الْخِنْزِيرِ::
__________
(1) سورة الأنعام / 145.
(2) الشرح الصغير 1 / 43.
(20/33)
أَوَّلاً: دِبَاغُ جِلْدِ الْخِنْزِيرِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَطْهُرُ جِلْدُ
الْخِنْزِيرِ بِالدِّبَاغِ وَلاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ لأَِنَّهُ
نَجِسُ الْعَيْنِ، وَالدِّبَاغُ كَالْحَيَاةِ، فَكَمَا أَنَّ
الْحَيَاةَ لاَ تَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْهُ، فَكَذَا الدِّبَاغُ.
وَوَجَّهَ الْمَالِكِيَّةُ قَوْلَهُمْ بِعَدَمِ طَهَارَةِ جِلْدِ
الْخِنْزِيرِ بِالدِّبَاغِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلتَّذْكِيَةِ
إِجْمَاعًا فَلاَ تَعْمَل فِيهِ فَكَانَ مَيْتَةً فَلاَ يَطْهُرُ
بِالدِّبَاغِ وَلاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ.
وَيَتَّفِقُ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي
أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ مِنْ أَيِّ حَيَوَانٍ لاَ يَطْهُرُ
بِالدِّبَاغِ، وَلَكِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ الاِنْتِفَاعَ بِهِ بَعْدَ
الدِّبَاغِ فِي غَيْرِ الْمَائِعَاتِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي
الْمَائِعَاتِ كَذَلِكَ مَعَ الْيَابِسَاتِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
إِلاَّ الْخِنْزِيرَ فَلاَ تَتَنَاوَلُهُ الرُّخْصَةُ. (&#
x661 ;)
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ يَطْهُرُ
بِالدِّبَاغِ.
وَيُقَابِل الرِّوَايَةَ الْمَشْهُورَةَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا
شَهَرَهُ عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ الْفَرَسِ مِنْ أَنَّ جِلْدَ
الْخِنْزِيرِ كَجِلْدِ غَيْرِهِ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ فِي
الْيَابِسَاتِ وَالْمَاءِ إِذَا دُبِغَ سَوَاءٌ ذُكِّيَ أَمْ لاَ.
ثَانِيًا: سُؤْرُ الْخِنْزِيرِ:
6 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 136، 137، فتح القدير 1 / 81، بدائع الصنائع
1 / 74، حاشية الدسوقي 1 / 54، 55، مواهب الجليل 1 / 101، المجموع 1 /
217، كشاف القناع 1 / 54، 55، المغني 1 / 66.
(20/34)
نَجَاسَةِ سُؤْرِ الْخِنْزِيرِ لِكَوْنِهِ
نَجِسَ الْعَيْنِ، وَكَذَا لُعَابُهُ لأَِنَّهُ مُتَوَلِّدٌ عَنْهُ.
وَيَكُونُ تَطْهِيرُ الإِْنَاءِ إِذَا وَلَغَ فِيهِ بِأَنْ يُغْسَل
سَبْعًا إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ - لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -: إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ
فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَفِي رِوَايَةٍ: فَلْيُرِقْهُ ثُمَّ
لْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَفِي أُخْرَى: طُهُورُ إِنَاءِ
أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ
مَرَّاتٍ أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ.
(1) قَالُوا: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْكَلْبِ فَالْخِنْزِيرُ
أَوْلَى لأَِنَّهُ أَسْوَأُ حَالاً مِنَ الْكَلْبِ وَتَحْرِيمُهُ
أَشَدُّ، لأَِنَّ الْخِنْزِيرَ لاَ يُقْتَنَى بِحَالٍ، وَلأَِنَّهُ
مَنْدُوبٌ إِلَى قَتْلِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، وَلأَِنَّهُ مَنْصُوصٌ
عَلَى تَحْرِيمِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ
فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (2) فَثَبَتَ وُجُوبُ غَسْل مَا وَلَغَ فِيهِ
بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَكُونُ تَطْهِيرُ الإِْنَاءِ إِذَا وَلَغَ
فِيهِ خِنْزِيرٌ بِأَنْ يُغْسَل ثَلاَثًا. (3)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ نَجَاسَةِ سُؤْرِ الْخِنْزِيرِ
وَذَلِكَ لِطَهَارَةِ لُعَابِهِ عِنْدَهُمْ، وَقَدْ ثَبَتَ غَسْل
__________
(1) حديث: " إذا شرب الكلب في أناء أحدكم فليغسله سبع مرات ". أخرجه
مسلم (1 / 234 -. ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) سورة الأنعام / 145.
(3) فتح القدير 1 / 75، 76، البحر الرائق 1 / 134، مراقي الفلاح ص5،
والمجموع 1 / 173، نهاية المحتاج 1 / 236، وكشاف القناع 1 / 182.
(20/34)
الإِْنَاءِ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ
تَعَبُّدًا فَلاَ يَدْخُل فِيهِ الْخِنْزِيرُ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ
لِلْمَالِكِيَّةِ: يُنْدَبُ الْغَسْل (1) .
ثَالِثًا: حُكْمُ شَعْرِهِ:
7 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى نَجَاسَةِ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ فَلاَ
يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لأَِنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لِلْعَيْنِ
النَّجِسَةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَوْ خُرِزَ خُفٌّ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ
لَمْ يَطْهُرْ مَحَل الْخَرْزِ بِالْغَسْل أَوْ بِالتُّرَابِ لَكِنَّهُ
مَعْفُوٌّ عَنْهُ، فَيُصَلَّى فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالنَّوَافِل
لِعُمُومِ الْبَلْوَى. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجِبُ غَسْل مَا
خُرِزَ بِهِ رَطْبًا وَيُبَاحُ اسْتِعْمَال مُنْخُلٍ مِنَ الشَّعْرِ
النَّجِسِ فِي يَابِسٍ لِعَدَمِ تَعَدِّي نَجَاسَتِهِ، وَلاَ يَجُوزُ
اسْتِعْمَالُهُ فِي الرَّطْبِ لاِنْتِقَال النَّجَاسَةِ
بِالرُّطُوبَةِ.
وَأَبَاحَ الْحَنَفِيَّةُ اسْتِعْمَال شَعْرِهِ لِلْخَرَّازِينَ
لِلضَّرُورَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ فَإِذَا
قُصَّ بِمِقَصٍّ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ وَإِنْ وَقَعَ الْقَصُّ بَعْدَ
الْمَوْتِ، لأَِنَّ الشَّعْرَ مِمَّا لاَ تَحِلُّهُ الْحَيَاةُ، وَمَا
لاَ تَحِلُّهُ الْحَيَاةُ لاَ يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ، إِلاَّ أَنَّهُ
يُسْتَحَبُّ غَسْلُهُ لِلشَّكِّ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ. أَمَّا
إِذَا نُتِفَ فَلاَ يَكُونُ طَاهِرًا (2) .
__________
(1) الخرشي 1 / 119، والشرح الصغير 1 / 86.
(2) بدائع الصنائع 1 / 63، حاشية الدسوقي 1 / 49، وأسنى المطالب 1 /
21، وكشاف القناع 1 / 56.
(20/35)
رَابِعًا: حُكْمُ التَّدَاوِي
بِأَجْزَائِهِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّدَاوِي
بِالنَّجِسِ وَالْمُحَرَّمِ (فِي الْجُمْلَةِ) وَهُوَ شَامِلٌ
لِلْخِنْزِيرِ.
وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ " تَدَاوِي " (1) .
خَامِسًا: تَحَوُّل عَيْنِ الْخِنْزِيرِ:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ
أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ يَطْهُرُ بِاسْتِحَالَتِهِ
إِلَى عَيْنٍ أُخْرَى، فَإِذَا اسْتَحَالَتْ عَيْنُ الْخِنْزِيرِ إِلَى
مِلْحٍ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
إِلَى أَنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ لاَ يَطْهُرُ بِالاِسْتِحَالَةِ،
وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الْخَمْرَ وَجِلْدَ الْمَيْتَةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَحَوُّلٌ ف 3 - 5) .
الاِعْتِبَارُ الثَّالِثُ: اعْتِبَارُ مَالِيَّةِ الْخِنْزِيرِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْخِنْزِيرِ
مَالاً مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ. وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَال
هُوَ مَا يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا فِي غَيْرِ
الضَّرُورَاتِ، وَالْخِنْزِيرُ لاَ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ
لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ وَلِنَهْيِ الشَّارِعِ عَنْ بَيْعِهِ كَمَا
يَأْتِي.
وَيَظْهَرُ أَثَرُ عَدَمِ اعْتِبَارِ الْخِنْزِيرِ مَالاً فِي الآْتِي:
أَوَّلاً: عَدَمُ صِحَّةِ بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ:
أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ بَيْعِ الْخِنْزِيرِ
__________
(1) الموسوعة 11 / 118.
(20/35)
وَشِرَائِهِ، وَلِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ
الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ، فَقِيل: يَا
رَسُول اللَّهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى
بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا
النَّاسُ، فَقَال: لاَ، هُوَ حَرَامٌ، ثُمَّ قَال رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: قَاتَل اللَّهُ
الْيَهُودَ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ ثُمَّ
بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ (1) وَلأَِنَّ مِنْ شَرْطِ الْمَعْقُودِ
عَلَيْهِ - سَوَاءٌ أَكَانَ ثَمَنًا أَمْ مُثَمَّنًا - أَنْ يَكُونَ
طَاهِرًا وَأَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ شَرْعًا ".
وَالأَْصْل فِي حِل مَا يُبَاعُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ لأَِنَّ
بَيْعَ غَيْرِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ شَرْعًا لاَ يَتَحَقَّقُ بِهِ
الرِّضَا، فَيَكُونُ مِنْ أَكْل الْمَال بِالْبَاطِل، وَهُوَ مَنْهِيٌّ
عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ
تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} . (2)
وَالْخِنْزِيرُ إِنْ كَانَ فِيهِ بَعْضُ الْمَنَافِعِ إِلاَّ أَنَّهَا
مُحَرَّمَةٌ شَرْعًا، وَالْمَعْدُومُ شَرْعًا كَالْمَعْدُومِ حِسًّا.
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فِي حُكْمِ بَيْعِ الْخِنْزِيرِ فَهُوَ
عِنْدَهُمْ بَاطِلٌ إِذَا بِيعَ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ،
وَفَاسِدٌ
__________
(1) حديث: " إن الله تعالى ورسوله حرم بيع الخمر والميتة. . . " أخرجه
البخاري (الفتح 4 / 424 -. ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1207 -. ط الحلبي)
.
(2) سورة النساء / 29.
(20/36)
إِذَا بِيعَ بِعَيْنٍ، عَلَى قَوْلِهِمْ
بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْبُطْلاَنِ وَالْفَسَادِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ بَيْعِهِ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَبَيْنَ
بَيْعِهِ بِعَيْنٍ، أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِإِهَانَةِ الْخِنْزِيرِ
وَتَرْكِ إِعْزَازِهِ وَفِي شِرَائِهِ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ
إِعْزَازٌ لَهُ، لأَِنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ فِي الْعَقْدِ
لِكَوْنِهَا وَسِيلَةً لِلتَّمَلُّكِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ
الْخِنْزِيرُ، وَلِذَا كَانَ بَيْعُهُ بِهِمَا بَاطِلاً وَيَسْقُطُ
التَّقَوُّمُ.
أَمَّا إِذَا بِيعَ بِعَيْنٍ كَالثِّيَابِ، فَقَدْ وُجِدَتْ حَقِيقَةُ
الْبَيْعِ لأَِنَّهُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، وَالْخِنْزِيرُ
يُعْتَبَرُ مَالاً فِي بَعْضِ الأَْحْوَال كَمَا هُوَ عِنْدَ أَهْل
الْكِتَابِ، إِلاَّ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُعْتَبَرُ كُلٌّ
مِنْهُمَا ثَمَنًا وَمَبِيعًا. وَرُجِّحَ اعْتِبَارُ الثَّوْبِ
مَبِيعًا تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِ الْعُقَلاَءِ الَّذِي يَقْضِي بِأَنْ
يَكُونَ الإِْعْزَازُ لِلثَّوْبِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ لاَ
الْخِنْزِيرُ. فَتَكُونُ تَسْمِيَةُ الْخِنْزِيرِ فِي الْعَقْدِ
مُعْتَبَرَةً فِي تَمَلُّكِ الثَّوْبِ لاَ فِي نَفْسِ الْخِنْزِيرِ،
فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ لِفَسَادِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى وَتَجِبُ
قِيمَةُ الثَّوْبِ دُونَ الْخِنْزِيرِ (1) .
إِقْرَارُ أَهْل الذِّمَّةِ عَلَى اقْتِنَاءِ الْخِنْزِيرِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَهْل الذِّمَّةِ يُقَرُّونَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 3، البحر الرائق 5 / 270، 277، 279، فتح
القدير 5 / 186، 187، 188، والشرح الصغير 3 / 22، 4 / 724، مواهب
الجليل 4 / 258، 263، وروضة الطالبين 3 / 348، حاشية القليوبي وعميرة 2
/ 158، والمجموع 9 / 230، وكشاف القناع 3 / 152.
(20/36)
عَلَى مَا عِنْدَهُمْ مِنْ خَنَازِيرَ
إِلاَّ أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ إِظْهَارِهَا، وَيُمْنَعُونَ مِنْ
إِطْعَامِهَا مُسْلِمًا، فَإِذَا أَظْهَرُوهَا أُتْلِفَتْ وَلاَ
ضَمَانَ.
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ تَمْكِينِهِمْ مِنْ إِظْهَارِهَا
بِأَنْ يَكُونُوا بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا انْفَرَدُوا
بِمَحَلَّةٍ مِنَ الْبَلَدِ، أَمَّا إِذَا انْفَرَدُوا بِبَلَدٍ بِأَنْ
لَمْ يُخَالِطْهُمْ مُسْلِمٌ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُمْ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى إِجْبَارِ الزَّوْجَةِ الْكِتَابِيَّةِ
عَلَى تَرْكِ أَكْل الْخِنْزِيرِ، لأَِنَّهُ مُنَفِّرٌ مِنْ كَمَال
التَّمَتُّعِ، وَخَالَفَهُمْ فِي هَذَا الْمَالِكِيَّةُ فَلَيْسَ
لِلزَّوْجِ عِنْدَهُمْ مَنْعُهَا مِنْهُ (2) .
سَرِقَةُ الْخِنْزِيرِ أَوْ إِتْلاَفُهُ:
12 - (أ) اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ قَطْعَ وَلاَ
ضَمَانَ عَلَى مَنْ سَرَقَ أَوْ أَتْلَفَ خِنْزِيرَ الْمُسْلِمِ
لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُحْتَرَمٍ، وَلاَ مُتَقَوِّمٍ، لِعَدَمِ جَوَازِ
تَمَلُّكِهِ وَبَيْعِهِ وَاقْتِنَائِهِ. (3)
(ب) وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ
أَتْلَفَ خِنْزِيرَ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ وَيَلْزَمُهُ
رَدُّهُ إِذَا سَرَقَهُ.
__________
(1) فتح القدير 5 / 300، ونهاية المحتاج 8 / 93، الشرقاوي على التحرير
2 / 413، 414، والجمل 5 / 226، 3 / 481، الزرقاني على خليل 3 / 146،
التاج والإكليل للمواق 45 / 385، كشاف القناع 3 / 127.
(2) الشرح الصغير 2 / 420، ونهاية المحتاج 6 / 287.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 193، البحر الرائق 5 / 55، نهاية المحتاج 7 /
421، حاشية الدسوقي 4 / 336، الشرح الصغير 4 / 474، كشاف القناع 6 /
131.
(20/37)
وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتْرُكُوهُمْ وَمَا يَدِينُونَ (1) وَهُمْ
يَدِينُونَ بِمَالِيَّةِ الْخِنْزِيرِ وَهُوَ مِنْ أَنْفَسِ
الأَْمْوَال عِنْدَهُمْ لأَِنَّهُ كَالشَّاةِ عِنْدَنَا. وَقَال صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا قَبِلُوهَا يَعْنِي الْجِزْيَةَ
أَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى
الْمُسْلِمِينَ (2) وَلِلْمُسْلِمِينَ التَّضْمِينُ بِإِتْلاَفِ مَا
يَعْتَقِدُونَهُ مَالاً فَكَذَا يَكُونُ الذِّمِّيُّ، بِخِلاَفِ
الْمُسْلِمِ لأَِنَّهُ لَيْسَ مَالاً فِي حَقِّهِ أَصْلاً. (3)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا غَصَبَ
مُسْلِمٌ لأَِهْل الذِّمَّةِ خِنْزِيرًا رُدَّ إِلَيْهِمْ لِعُمُومِ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى الْيَدِ مَا
أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ (4) فَإِذَا أَتْلَفَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ
لأَِنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ كَسَائِرِ
__________
(1) حديث: " اتركوهم وما يدينون ". أورده صاحب فتح القدير (8 / 285 -
نشر دار إحياء التراث العربي) ولم يعزه إلى أحد، ولم نهتد إليه في
المصادر الحديثية الموجودة بين أيدينا.
(2) حديث: " إذا قبلوها - يعني الجزية - فأعلمهم أنه لهم ما للمسلمين
وعليهم ما على المسلمين ".، أورده الزيلعي في نصب الراية (3 / 55 -. ط
المجلس العلمي) ، وقال: لم أعرف الحديث الذي أشار إليه المصنف، وقال
ابن حجر في الدراية (2 / 162. ط الفجالة) " لم أجده هكذا ".
(3) الاختيار 3 / 65، فتح القدير 8 / 285، 286، والشرح الصغير 4 / 474.
(4) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤديه. . . " أخرجه أبو داود (3 /
822 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث الحسن عن سمرة، وقال ابن حجر في
التلخيص (3 / 53 -. ط شركة الطباعة الفنية) : (الحسن مختلف في سماعه من
سمرة) .
(20/37)
النَّجَاسَاتِ فَلَيْسَ لَهُ عِوَضٌ
شَرْعِيٌّ، سَوَاءٌ أَظْهَرُوهُ أَوْ لَمْ يُظْهِرُوهُ. إِلاَّ أَنَّهُ
يَأْثَمُ إِذَا أَتْلَفَهُ فِي حَال عَدَمِ إِظْهَارِهِمْ لَهُ (1) .
13 - الْخِنْزِيرُ الْبَحْرِيُّ: سُئِل مَالِكٌ عَنْهُ فَقَال أَنْتُمْ
تُسَمُّونَهُ خِنْزِيرًا يَعْنِي أَنَّ الْعَرَبَ لاَ تُسَمِّيهِ
بِذَلِكَ لأَِنَّهَا لاَ تَعْرِفُ فِي الْبَحْرِ خِنْزِيرًا
وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ الدُّلْفِينُ. قَال الرَّبِيعُ سُئِل
الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ خِنْزِيرِ الْمَاءِ فَقَال:
يُؤْكَل وَرَوَى أَنَّهُ لَمَّا دَخَل الْعِرَاقَ قَال فِيهِ حَرَّمَهُ
أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحَلَّهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَرَوَى هَذَا
الْقَوْل عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي أَيُّوبَ
الأَْنْصَارِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ
وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ، وَامْتَنَعَ
مَالِكٌ أَنْ يَقُول فِيهِ شَيْئًا وَأَبْقَاهُ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى
جِهَةِ الْوَرَعِ وَحَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ ابْنِ خَيْرَانَ
أَنَّ أَكَّارًا صَادَ لَهُ خِنْزِيرَ مَاءٍ وَحَمَلَهُ إِلَيْهِ
فَأَكَلَهُ، وَقَال كَانَ طَعْمُهُ مُوَافِقًا لِطَعْمِ الْحُوتِ
سَوَاءً، وَقَال ابْنُ وَهْبٍ سَأَلْتُ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ عَنْهُ
فَقَال إِنْ سَمَّاهُ النَّاسُ خِنْزِيرًا لَمْ يُؤْكَل لأَِنَّ
اللَّهَ حَرَّمَ الْخِنْزِيرَ (2) .
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 218، نهاية المحتاج 5 / 165، 166، وكشاف القناع 4
/ 78.
(2) حياة الحيوان للدميري 1 / 307.
(20/38)
خَنِقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَنِقُ بِكَسْرِ النُّونِ وَالْخَنْقُ (بِسُكُونِهَا) مَصْدَرُ
خَنَقَ يَخْنُقُ إِذَا عَصَرَ حَلْقَهُ حَتَّى يَمُوتَ، وَالتَّخْنِيقُ
مَصْدَرُ خَنَّقَ وَمِنْهُ الْخِنَاقُ، وَالْخِنَاقُ الْحَبْل الَّذِي
يُخْنَقُ بِهِ. (1)
وَيُسْتَعْمَل فِي الاِصْطِلاَحِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي نَفْسِ
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، بِأَيِّ وَسِيلَةٍ كَانَ الْخَنْقُ بِحَبْلٍ
أَوْ غَيْرِهِ، كَأَنْ جَعَل فِي عُنُقِهِ حَبْلاً ثُمَّ عَلَّقَهُ فِي
شَيْءٍ عَنِ الأَْرْضِ، أَوْ خَنَقَهُ بِيَدَيْهِ أَوْ سَدَّ فَمَهُ
وَأَنْفَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً - فِي الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ الَّذِي مِنْ
شَأْنِهِ أَنْ يُذْبَحَ فَإِنَّهُ لاَ يَحِل بِالْخَنْقِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ
الْخِنْزِيرِ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب في المادة.
(2) ابن عابدين 5 / 349، ومطالب أولي النهى 6 / 9، القرطبي 6 / 48.
(20/38)
وَمَا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ
وَالْمُنْخَنِقَةُ} (1)
كَذَلِكَ يَحْرُمُ الأَْكْل مِنَ الصَّيْدِ الَّذِي مَاتَ بِالْخِنَاقِ
بِحَبْلٍ مَنْصُوبٍ لَهُ، أَوِ الَّذِي خَنَقَهُ الْكَلْبُ
الْمُعَلَّمُ مِنْ غَيْرِ جَرْحٍ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى:
{وَالْمُنْخَنِقَةُ} (2)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْدٌ، ذَبَائِحُ) .
ثَانِيًا - فِي الْقَتْل:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْقَتْل بِالْخَنْقِ قَتْل عَمْدٍ يُوجِبُ
الْقَوَدَ، فَيُقْتَل بِهِ الْجَانِي قِصَاصًا، لأَِنَّ الْعَمْدَ
قَصْدُ الْفِعْل الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْقَتْل بِمَا يُتْلِفُ غَالِبًا
جَارِحًا أَوْ لاَ، كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ،
وَهَذَا يَشْمَل التَّخْنِيقَ وَالتَّغْرِيقَ، كَمَا يَشْمَل
الإِْلْقَاءَ مِنْ شَاهِقٍ، وَالْقَتْل بِمُثَقَّلٍ، وَلأَِنَّ قَصْدَ
الْعُدْوَانِ يَكْفِي لِيَكُونَ الْقَتْل عَمْدًا مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، سَوَاءٌ أَقَصَدَ الْجَانِي قَتْل
الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَمْ قَصَدَ مُجَرَّدَ ضَرْبِهِ وَتَعْذِيبِهِ
فَمَاتَ. (3)
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ قِصَاصَ فِي الْقَتْل بِالْخَنْقِ
__________
(1) سورة المائدة / 3.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 186، وتفسير القرطبي 6 / 48، وأسنى المطالب 1
/ 555، والمغني 8 / 545.
(3) ابن عابدين 3 / 215، 339، والاختيار 5 / 29، وحاشية الدسوقي على
الشرح الكبير 4 / 242، وحاشية الجمل 5 / 5، والمغني 7 / 640، ومغني
المحتاج 4 / 6.
(20/39)
وَالتَّغْرِيقِ وَالْقَتْل بِالْمُثَقَّل،
لأَِنَّهُ لَيْسَ عَمْدًا، بَل شِبْهَ عَمْدٍ، وَقَال: الْعَمْدُ مَا
تَعَمَّدَ قَتْلَهُ بِالْحَدِيدِ كَالسَّيْفِ وَالسِّكِّينِ
وَالرُّمْحِ وَالْخِنْجَرِ وَالنُّشَّابَةِ وَالإِْبْرَةِ
وَالإِْشْفَى. (1) وَنَحْوِهَا مِمَّا يُفَرِّقُ أَجْزَاءَ الْبَدَنِ.
وَذَلِكَ لأَِنَّ الْعَمْدَ هُوَ الْقَصْدُ وَهُوَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لاَ
يُوقَفُ عَلَيْهِ إِلاَّ بِدَلِيلِهِ مِنِ اسْتِعْمَال آلَةٍ مُعَدَّةٍ
لِلْقَتْل، فَلاَ قَوَدَ فِي الْقَتْل بِالْخَنْقِ، لأَِنَّهُ لَمْ
يَقْصِدْ ضَرْبَهُ بِآلَةٍ جَارِحَةٍ مُعَدَّةٍ لِلْقَتْل. (2)
هَذَا إِذَا لَمْ يَتَكَرَّرِ الْقَتْل بِالْخَنْقِ، أَمَّا إِذَا
اعْتَادَ الْخَنْقَ وَتَكَرَّرَ مِنْهُ وَلَوْ مَرَّتَيْنِ قُتِل بِهِ
بِلاَ خِلاَفٍ، إِلاَّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَال: مَنْ خَنَقَ
أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ قُتِل سِيَاسَةً (3) لِسَعْيِهِ فِي الأَْرْضِ
بِالْفَسَادِ (4) .
4 - هَذَا، وَإِذَا حُكِمَ فِي الْخَنْقِ بِالْقِصَاصِ
فَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى
أَنَّ الْجَانِيَ (الْخَانِقَ) لاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ إِلاَّ
بِالسَّيْفِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ
قَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ (5) وَلأَِنَّ الْقَصْدَ
__________
(1) اِلإشفى مخرز الإسكافي.
(2) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 5 / 339، 349، والاختيار 5 / 29.
(3) السياسة في الأصل استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في
الدنيا والآخرة. وفي باب الزجر والتأديب عرفها بعضهم بأنها تغليظ جناية
لها حكم شرعي حسمًا لمادة الفساد، والظاهر أن السياسة والتعزير
مترادفان.، (ابن عابدين 3 / 147، 148) .
(4) ابن عابدين 3 / 215، 5 / 349.
(5) حديث: " لا قود إلا بالسيف ". أخرجه ابن ماجه (2 / 889 -. ط
الحلبي) من حديث النعمان بن بشير، ومن حديث أبي بكرة، وأورده ابن حجر
في التلخيص (4 / 19 - شركة الطباعة الفنية) ، ونقل عن عبد الحق
الأشبيلي أنه قال: " طرقه كلها ضعيفة " وعن البيهقي أنه قال: " لم يثبت
له إسناد ".
(20/39)
مِنَ الْقَوَدِ إِتْلاَفُ جُمْلَتِهِ
وَقَدْ أَمْكَنَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ فَلاَ يَجُوزُ تَعْذِيبُهُ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ إِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ لِلْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَاتِل يُقْتَل
بِمِثْل مَا قَتَل إِلاَّ فِي حَالاَتٍ خَاصَّةٍ تُذْكَرُ فِي
مُصْطَلَحِ (قِصَاصٌ) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ
فَعَاقِبُوا بِمِثْل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (2) وَعَلَى ذَلِكَ
فَيُخْنَقُ الْخَانِقُ حَتَّى يَمُوتَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ إِذَا اخْتَارَ مُسْتَحِقُّ الْقَوَدِ
السَّيْفَ فَيُمَكَّنُ مِنْهُ، لأَِنَّهُ أَخَفُّ مِنْ غَيْرِهِ
غَالِبًا، وَلأَِنَّهُ الأَْصْل فِي الْقِصَاصِ. (3) وَتَفْصِيلُهُ فِي
مُصْطَلَحَيْ: (جِنَايَةٌ، وَقِصَاصٌ) .
ثَالِثًا - فِي الأَْيْمَانِ:
5 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ مَنْ حَلَفَ لاَ
يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ فَخَنَقَهَا أَوْ مَدَّ شَعْرَهَا أَوْ عَضَّهَا
حَنِثَ، لأَِنَّ الضَّرْبَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ فَيَدْخُل فِيهِ
الْخَنْقُ. (4)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ وَضْعُ السَّوْطِ عَلَيْهِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 346، ومطالب أولي النهى 6 / 52.
(2) سورة النحل / 126.
(3) جواهر الإكليل 2 / 265، والقليوبي 4 / 124.
(4) الاختيار للموصلي 4 / 72، والمغني لابن قدامة 8 / 726.
(20/40)
وَالْعَضُّ، وَالْخَنْقُ، أَوْ نَتْفُ
الشَّعْرِ ضَرْبًا، لاِنْتِفَاءِ تَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ عُرْفًا، فَلاَ
يَحْنَثُ إِنْ عَضَّهَا أَوْ خَنَقَهَا أَوْ نَتَفَ شَعْرَهَا (1) .
(ر: أَيْمَانٌ) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ حُكْمَ الْخَنْقِ فِي مَبَاحِثِ الصَّيْدِ
وَالذَّبَائِحِ، وَفِي الْجِنَايَاتِ وَالْقِصَاصِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ،
وَفِي بَابِ الْيَمِينِ.
__________
(1) المهذب 2 / 137، 138، ونهاية المحتاج 8 / 199.
(20/40)
خَوَارِجُ
انْظُرْ: فِرَقٌ
خَوْفٌ
انْظُرْ: صَلاَةُ الْخَوْفِ
(20/41)
خِيَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخِيَارُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ مَصْدَرٍ مِنَ (الاِخْتِيَارِ)
وَهُوَ الاِصْطِفَاءُ وَالاِنْتِقَاءُ، وَالْفِعْل مِنْهُمَا
(اخْتَارَ) . وَقَوْل الْقَائِل: أَنْتَ بِالْخِيَارِ، مَعْنَاهُ:
اخْتَرْ مَا شِئْتَ. وَخَيَّرَهُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مَعْنَاهُ:
فَوَّضَ إِلَيْهِ اخْتِيَارَ أَحَدِهِمَا. (1)
وَالْخِيَارُ فِي الاِصْطِلاَحِ لَهُ تَعَارِيفُ كَثِيرَةٌ إِلاَّ
أَنَّهَا فِي الْغَالِبِ تَنَاوَلَتْ هَذَا اللَّفْظَ مَقْرُونًا
بِلَفْظٍ آخَرَ لأَِنْوَاعِ الْخِيَارَاتِ دُونَ أَنْ يُقْصَدَ
بِالتَّعْرِيفِ (الْخِيَارُ) عُمُومًا، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ
اسْتِخْلاَصُ تَعْرِيفٍ لِلْخِيَارِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مِنْ خِلاَل
تَعَارِيفِ أَنْوَاعِ الْخِيَارِ بِأَنْ يُقَال: هُوَ حَقُّ الْعَاقِدِ
فِي فَسْخِ الْعَقْدِ أَوْ إِمْضَائِهِ، لِظُهُورِ مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ
أَوْ بِمُقْتَضَى اتِّفَاقٍ عَقَدِيٍّ.
__________
(1) مقاييس اللغة لابن فارس مادة: " خير " (وموقعها في ترتيبه الخاص ص2
/ 232) ، وأساس البلاغة للزمخشري، والنهاية لابن الأثير، وتهذيب
الأسماء واللغات للنووي، والمصباح المنير، والقاموس، وتاج العروس،
ولسان العرب، ومعجم متن اللغة، والمعجم الوسيط (كلهن مادة خير) ،
والكليات لأبي البقاء ص214.
(20/41)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - عَدَمُ اللُّزُومِ:
2 - اللُّزُومُ: مَعْنَاهُ عَدَمُ إِمْكَانِ رُجُوعِ الْعَاقِدِ عَنِ
الْعَقْدِ بِإِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ، وَيُسَمَّى الْعَقْدُ
الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ (الْعَقْدَ اللاَّزِمَ) بِمَعْنَى أَنَّ
الْعَاقِدَ لاَ يَحِقُّ لَهُ فَسْخُ الْعَقْدِ إِلاَّ بِرِضَا
الْعَاقِدِ الآْخَرِ، فَكَمَا لاَ يُعْقَدُ الْعَقْدُ إِلاَّ
بِالتَّرَاضِي لاَ يُفْسَخُ إِلاَّ بِالتَّرَاضِي (وَذَلِكَ
بِالإِْقَالَةِ) وَمِنْ هَذَا يَتَّضِحُ تَعْرِيفُ عَدَمِ اللُّزُومِ
فَهُوَ: إِمْكَانُ رُجُوعِ الْعَاقِدِ عَنِ الْعَقْدِ وَنَقْضِهِ
بِإِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ دُونَ الْحَاجَةِ إِلَى التَّرَاضِي
عَلَى ذَلِكَ النَّقْضِ.
فَهَذَا اللُّزُومُ قَدْ يَتَخَلَّفُ فِي بَعْضِ الْعُقُودِ
فَيَسْتَطِيعُ كُلٌّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا أَنْ
يَتَحَلَّل مِنْ رَابِطَةِ الْعَقْدِ وَيَفْسَخَهُ بِمُجَرَّدِ
إِرَادَتِهِ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى رِضَا الآْخَرِ. وَتَخَلُّفُ
اللُّزُومِ هُنَا مَبْعَثُهُ أَنَّ طَبِيعَةَ الْعَقْدِ وَغَايَتَهُ
تَقْتَضِي عَدَمَ اللُّزُومِ، وَالْعَقْدُ عِنْدَئِذٍ (عَقْدٌ غَيْرُ
لاَزِمٍ) إِذْ يَكُونُ عَدَمُ اللُّزُومِ صِفَةً مَلْحُوظَةً فِي
نَوْعِ الْعَقْدِ.
وَمِنَ السَّهْل تَبَيُّنُ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّخْيِيرِ وَبَيْنَ
طَبِيعَةِ عَدَمِ اللُّزُومِ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ،
فَالتَّخْيِيرُ حَالَةٌ طَارِئَةٌ عَلَى الْعَقْدِ حَيْثُ إِنَّ
الأَْصْل فِي الْعَقْدِ اللُّزُومُ، فَالْعَقْدُ الْمُقْتَرِنُ
بِخِيَارٍ هُوَ قَيْدٌ أَوِ اسْتِثْنَاءٌ عَلَى ذَلِكَ الْمَبْدَأِ،
ثُمَّ هُوَ فِي جَمِيعِ الْخِيَارَاتِ لَيْسَ مِمَّا تَقْتَضِيهِ
طَبِيعَةُ الْعُقُودِ، بَل هُوَ مِمَّا اعْتُبِرَ قَيْدًا عَلَى تِلْكَ
الطَّبِيعَةِ لأَِصَالَةِ
(20/42)
اللُّزُومِ. أَمَّا فِي الْعُقُودِ غَيْرِ
اللاَّزِمَةِ بِأَنْوَاعِهَا فَإِنَّهُ جُزْءٌ مِنْ طَبِيعَتِهَا
تَقْتَضِيهِ غَايَاتُهَا وَلاَ يَنْفَصِل عَنْهَا إِلاَّ لِسَبَبٍ
خَاصٍّ فِيمَا لُزُومُهُ لَيْسَ أَصْلاً.
وَالْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ تَحْتَمِل الْفَسْخَ فَقَطْ أَمَّا
الإِْجَازَةُ فَلاَ مَجَال لَهَا، لأَِنَّ الإِْقْدَامَ عَلَى
الْعَقْدِ وَالاِسْتِمْرَارَ فِيهِ يُغْنِي عَنْهَا، فِي حِينِ أَنَّ
الْخِيَارَاتِ تَحْتَمِل الأَْمْرَيْنِ.
وَهُنَاكَ فَارِقٌ آخَرُ بَيْنَ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ
وَبَيْنَ الْخِيَارَاتِ يَقُومُ عَلَى مُلاَحَظَةِ نَتِيجَةِ
(الْفَسْخِ) الَّذِي هُوَ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ، فَحُكْمُ الْفَسْخِ فِي
الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ مُخْتَلِفٌ عَنْهُ فِي الْخِيَارَاتِ،
حَيْثُ يَكُونُ فِي الصُّورَةِ الأُْولَى مُقْتَصِرًا (لَيْسَ لَهُ
تَأْثِيرٌ رَجْعِيٌّ) لاَ يَمَسُّ التَّصَرُّفَاتِ السَّابِقَةَ.
أَمَّا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ (الْخِيَارَاتُ) فَالْفَسْخُ
مُسْتَنَدٌ (لَهُ انْعِطَافٌ وَتَأْثِيرٌ رَجْعِيٌّ) يَنْسَحِبُ فِيهِ
الاِنْفِسَاخُ عَلَى الْمَاضِي فَيَجْعَل الْعَقْدَ كَأَنَّهُ لَمْ
يَنْعَقِدْ مِنْ أَصْلِهِ.
ب - الْفَسْخُ لِلْفَسَادِ:
3 - الْعَقْدُ الْفَاسِدُ. يُشْبِهُ الْخِيَارَ فِي فِكْرَةِ عَدَمِ
اللُّزُومِ وَفِي احْتِمَالِهِ الْفَسْخَ، يَقُول الْكَاسَانِيُّ: "
حُكْمُ الْبَيْعِ نَوْعَانِ، نَوْعٌ يَرْتَفِعُ بِالْفَسْخِ، وَهُوَ
الَّذِي يَقُومُ بِرَفْعِهِ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ، وَهُوَ حُكْمُ كُل
بَيْعٍ لاَزِمٍ كَالْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ أَحَدُ الْخِيَارَاتِ
الأَْرْبَعَةِ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ " (1) كَمَا أَنَّهُ يَتَأَخَّرُ
أَثَرُهُ فَلاَ
__________
(1) البدائع 5 / 306، ونحوه في 5 / 300 - 301.
(20/42)
يَثْبُتُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، لَكِنَّهُ
مُفْتَرِقٌ عَنْ حَالَةِ التَّخْيِيرِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ نَوْعٍ
خَاصٍّ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَقْدِ، فَالْفَاسِدُ مِنْ بَابِ الصِّحَّةِ،
أَمَّا التَّخْيِيرُ فَهُوَ مِنْ بَابِ اللُّزُومِ، ثُمَّ لِهَذَا
أَثَرُهُ فِي افْتِرَاقِ الأَْحْكَامِ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْخِيَارَ
(عَدَا خِيَارَ الرُّؤْيَةِ) يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الإِْسْقَاطِ، أَمَّا
حَقُّ الْفَسْخِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَلاَ يَبْطُل بِصَرِيحِ
الإِْبْطَال وَالإِْسْقَاطِ.
وَهُنَاكَ بَعْضُ الْعِبَارَاتِ الْفِقْهِيَّةِ تُوَضِّحُ
التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْخِيَارِ وَالْفَسْخِ مِنْهَا تَصْرِيحُ بَعْضِ
الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ الْخِيَارَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقٌّ لأَِحَدٍ
مُعَيَّنٍ (1) . وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْفَسْخَ
لِلْفَسَادِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الشَّرْعِ.
ج - الْفَسْخُ لِلتَّوَقُّفِ:
4 - التَّفْرِقَةُ بَيْنَ التَّخْيِيرِ وَالتَّوَقُّفِ تَكُونُ فِي
الْمَنْشَأِ وَالأَْحْكَامِ وَالاِنْتِهَاءِ. (2)
فَالْخِيَارُ يَنْشَأُ لِتَعَيُّبِ الإِْرَادَةِ (وَذَلِكَ فِي
الْخِيَارِ الْحُكْمِيِّ غَالِبًا) أَوْ لاِتِّجَاهِ إِرَادَةِ
الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِمَنْعِ لُزُومِ الْعَقْدِ (وَذَلِكَ فِي
الْخِيَارَاتِ الإِْرَادِيَّةِ) وَكِلاَهُمَا مَرْحَلَةٌ بَعْدَ
انْعِقَادِ الْعَقْدِ وَصُلُوحِهِ لِسَرَيَانِ آثَارِهِ (النَّفَاذُ) .
أَمَّا الْمَوْقُوفُ فَهُوَ يَنْشَأُ لِنَقْصِ الأَْهْلِيَّةِ فِي
الْعَاقِدِ، أَوْ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ. فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا
مَجَالٌ مُغَايِرٌ لِلآْخَرِ، لَيْسَ مُغَايَرَةَ
__________
(1) اللباب للقفصي ص13 - 137.
(2) البحر الرائق لابن نجيم 6 / 70.
(20/43)
اخْتِلاَفٍ فِي السَّبَبِ فَقَطْ، بَل مَعَ
التَّدَاعِي وَالتَّجَانُسِ بَيْنَ أَسْبَابِ كُلٍّ مِنْهُمَا
وَمُنَافَرَتِهَا مَا لِلآْخَرِ.
أَمَّا مِنْ حَيْثُ الطَّبِيعَةُ وَالأَْحْكَامُ فَإِنَّ الْعَقْدَ
الْمَوْقُوفَ تَكُونُ آثَارُهُ مُعَلَّقَةً بِسَبَبِ الْمَانِعِ
الشَّرْعِيِّ مِنْ نَفَاذِهَا، وَهَذَا بِالرَّغْمِ مِنِ انْعِقَادِهِ
وَصِحَّتِهِ لأَِنَّ ذَلِكَ الْمَانِعَ مَنَعَ تَمَامَ الْعِلَّةِ.
أَمَّا الْخِيَارُ فَإِنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ قَدْ نَفَذَ وَتَرَتَّبَتْ
آثَارُهُ وَلَكِنِ امْتَنَعَ ثُبُوتُهَا بِسَبَبِ الْخِيَارِ،
فَأَحْيَانًا يَمْتَنِعُ ابْتِدَاءُ الْحُكْمِ بَعْدَ انْعِقَادِ
الْعِلَّةِ، وَذَلِكَ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، وَأَحْيَانًا يَمْتَنِعُ
تَمَامُ الْحُكْمِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ،
وَأَحْيَانًا يَمْتَنِعُ لُزُومُ الْعَقْدِ بَعْدَ أَنْ سَرَتْ
آثَارُهُ، كَخِيَارِ الْعَيْبِ (1) .
وَفِي الاِنْقِضَاءِ نَجِدُ أَنَّ الْمَوْقُوفَ لَمَّا كَانَ غَيْرَ
تَامِّ الْعِلَّةِ لَمْ تَتِمَّ الصَّفْقَةُ، فَيَكْفِي فِي نَقْضِهِ
مَحْضُ إِرَادَةِ مَنْ لَهُ النَّقْضُ، وَهُوَ لِهَذَا الضَّعْفِ فِيهِ
لاَ يَرِدُ فِيهِ إِسْقَاطُ الْخِيَارِ، وَلاَ يَنْتَقِل
بِالْمِيرَاثِ، بَل يَبْطُل الْعَقْدُ بِمَوْتِ مَنْ لَهُ حَقُّ
إِجَازَتِهِ، فِي حِينِ يَجُوزُ إِسْقَاطُ الْخِيَارِ - فِي
الْجُمْلَةِ - وَيَنْتَقِل بِالْمِيرَاثِ وَخَاصَّةً مَا كَانَ مِنْهُ
مُتَّصِلاً بِالْعَيْنِ عَلَى اخْتِلاَفٍ فِي الْمَذَاهِبِ،
وَيَنْقَضِي الْخِيَارُ بِإِرَادَةِ مَنْ هُوَ لَهُ دُونَ حَاجَةٍ
إِلَى التَّرَاضِي أَوِ التَّقَاضِي إِلاَّ حَيْثُ تَتِمُّ الصَّفْقَةُ
بِحُصُول الْقَبْضِ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ.
__________
(1) فتح القدير 5 / 110.
(20/43)
د - الْفَسْخُ فِي الإِْقَالَةِ:
5 - تُشْبِهُ الإِْقَالَةُ الْخِيَارَ مِنْ حَيْثُ تَأْدِيَتُهُمَا -
فِي حَالٍ مَا - إِلَى فَسْخِ الْعَقْدِ، وَتُشْبِهُهُ أَيْضًا مِنْ
جِهَةِ أَنَّهُمَا لاَ يَدْخُلاَنِ إِلاَّ عُقُودَ الْمُعَاوَضَاتِ
الْمَالِيَّةِ اللاَّزِمَةِ الْقَابِلَةِ لِلْفَسْخِ.
وَلَكِنَّ الإِْقَالَةَ تُخَالِفُ الْخِيَارَ فِي أَنَّ مَنْ لَهُ
الْخِيَارُ يُمْكِنُهُ فَسْخُ الْعَقْدِ بِمَحْضِ إِرَادَتِهِ دُونَ
تَوَقُّفٍ عَلَى رِضَا صَاحِبِهِ، بِخِلاَفِ الإِْقَالَةِ فَلاَ بُدَّ
مِنِ الْتِقَاءِ الإِْرَادَتَيْنِ عَلَى فَسْخِ الْعَقْدِ. كَمَا أَنَّ
هُنَاكَ فَرْقًا آخَرَ هُوَ أَنَّ الْخِيَارَ يَجْعَل الْعَقْدَ غَيْرَ
لاَزِمٍ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ لَهُ. وَأَمَّا الإِْقَالَةُ فَلاَ
تَكُونُ إِلاَّ حَيْثُ يَكُونُ الْعَقْدُ لاَزِمًا لِلطَّرَفَيْنِ (1)
.
تَقْسِيمَاتُ الْخِيَارِ
أَوَّلاً - التَّقْسِيمُ بِحَسَبِ طَبِيعَةِ الْخِيَارِ:
6 - يَنْقَسِمُ الْخِيَارُ بِحَسَبِ طَبِيعَتِهِ إِلَى حُكْمِيٍّ
وَإِرَادِيٍّ.
فَالْحُكْمِيُّ مَا ثَبَتَ بِمُجَرَّدِ حُكْمِ الشَّارِعِ فَيَنْشَأُ
الْخِيَارُ عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ الشَّرْعِيِّ وَتَحَقُّقِ
الشَّرَائِطِ الْمَطْلُوبَةِ، فَهَذِهِ الْخِيَارَاتُ لاَ تَتَوَقَّفُ
عَلَى اتِّفَاقٍ أَوِ اشْتِرَاطٍ لِقِيَامِهَا، بَل تَنْشَأُ
لِمُجَرَّدِ وُقُوعِ سَبَبِهَا الَّذِي رُبِطَ قِيَامُهَا بِهِ.
وَمِثَالُهُ: خِيَارُ الْعَيْبِ.
__________
(1) در الصكوك: ص268.
(20/44)
أَمَّا الإِْرَادِيُّ فَهُوَ الَّذِي
يَنْشَأُ عَنْ إِرَادَةِ الْعَاقِدِ. (1)
وَالْخِيَارَاتُ الْحُكْمِيَّةُ تَسْتَغْرِقُ مُعْظَمَ الْخِيَارَاتِ،
بَل هِيَ كُلُّهَا مَا عَدَا الْخِيَارَاتِ الإِْرَادِيَّةَ
الثَّلاَثَةَ: خِيَارَ الشَّرْطِ، خِيَارَ النَّقْدِ، خِيَارَ
التَّعْيِينِ.
فَمَا وَرَاءَ هَذِهِ الْخِيَارَاتِ فَإِنَّهُ حُكْمِيُّ الْمَنْشَأِ
أَثْبَتَهُ الشَّارِعُ رِعَايَةً لِمَصْلَحَةِ الْعَاقِدِ الْمُحْتَاجِ
إِلَيْهِ دُونَ أَنْ يَسْعَى الإِْنْسَانُ لِلْحُصُول عَلَيْهِ.
ثَانِيًا - التَّقْسِيمُ بِحَسَبِ غَايَةِ الْخِيَارِ:
7 - يَقُومُ هَذَا التَّقْسِيمُ لِلْخِيَارَاتِ عَلَى النَّظَرِ
إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْغَايَةُ، هَل هِيَ التَّرَوِّي وَجَلْبُ
الْمَصْلَحَةِ لِلْعَاقِدِ، أَوْ تَكْمِلَةُ النَّقْصِ وَدَرْءُ
الضَّرَرِ عَنْهُ؟ .
يَقُول الْغَزَالِيُّ: يَنْقَسِمُ الْخِيَارُ إِلَى خِيَارِ
التَّرَوِّي. وَإِلَى خِيَارِ النَّقِيصَةِ.
وَخِيَارُ التَّرَوِّي: مَا لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى فَوَاتِ وَصْفٍ،
وَلَهُ سَبَبَانِ. أَحَدُهُمَا: الْمَجْلِسُ. وَالثَّانِي: الشَّرْطُ.
وَأَمَّا خِيَارُ النَّقِيصَةِ، وَهُوَ: مَا يَثْبُتُ بِفَوَاتِ أَمْرٍ
مَظْنُونٍ نَشَأَ الظَّنُّ فِيهِ مِنِ الْتِزَامٍ شَرْعِيٍّ، أَوْ
قَضَاءٍ عُرْفِيٍّ، أَوْ تَغْرِيرٍ فِعْلِيٍّ (2) . ثُمَّ فَرَّعَ
الْغَزَالِيُّ مِنْ خِيَارِ النَّقِيصَةِ عِدَّةَ خِيَارَاتٍ.
__________
(1) البدائع 5 / 292 - 297.
(2) الوجيز 1 / 141 - 142.
(20/44)
وَنَحْوُهُ لِلْمَالِكِيَّةِ (1) فَقَدْ
جَرَى خَلِيلٌ عَلَى الْبَدْءِ بِخِيَارِ التَّرَوِّي ثُمَّ أَتْبَعَهُ
بِخِيَارِ النَّقِيصَةِ. (2)
ثَالِثًا - التَّقْسِيمُ بِحَسَبِ مَوْضُوعِ الْخِيَارِ:
8 - أ - خِيَارَاتُ التَّرَوِّي.
1 - خِيَارُ الْمَجْلِسِ.
2 - خِيَارُ الرُّجُوعِ.
3 - خِيَارُ الْقَبُول.
4 - خِيَارُ الشَّرْطِ.
9 - ب - خِيَارَاتُ النَّقِيصَةِ:
1 - خِيَارُ الْعَيْبِ.
2 - خِيَارُ الاِسْتِحْقَاقِ.
3 - خِيَارُ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ.
4 - خِيَارُ الْهَلاَكِ الْجُزْئِيِّ.
10 - ج - خِيَارَاتُ الْجَهَالَةِ:
1 - خِيَارُ الرُّؤْيَةِ:
2 - خِيَارُ الْكَمِّيَّةِ.
3 - خِيَارُ كَشْفِ الْحَال.
4 - خِيَارُ التَّعْيِينِ.
__________
(1) الدردير وحاشية الدسوقي 1 / 118.
(2) وسماها بعض المصنفين: خيار نقص، وخيار شهوة، فخيار النقص يراد به
خيارات توقي النقيصة، أما خيار الشهوة فالمراد به خيارات التروي (مغني
المحتاج 2 / 40) .
(20/45)
11 - د - خِيَارَاتُ التَّغْرِيرِ:
1 - خِيَارُ التَّدْلِيسِ الْفِعْلِيِّ (بِالتَّصْرِيَةِ وَنَحْوِهَا)
وَالتَّغْرِيرِ الْقَوْلِيِّ.
2 - خِيَارُ النَّجْشِ.
3 - خِيَارُ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ.
12 - هـ خِيَارَاتُ الْغَبْنِ:
1 - خِيَارُ الْمُسْتَرْسِل.
2 - خِيَارُ غَبْنِ الْقَاصِرِ وَشِبْهِهِ.
13 - و - خِيَارَاتُ الأَْمَانَةِ:
1 - خِيَارُ الْمُرَابَحَةِ.
2 - خِيَارُ التَّوْلِيَةِ.
3 - خِيَارُ التَّشْرِيكِ.
4 - خِيَارُ الْمُوَاضَعَةِ.
14 - ز - خِيَارَاتُ الْخُلْفِ:
1 - خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ.
2 - خِيَارُ فَوَاتِ الشَّرْطِ.
3 - خِيَارُ اخْتِلاَفِ الْمِقْدَارِ.
15 - ح - خِيَارَاتُ اخْتِلاَل التَّنْفِيذِ:
1 - خِيَارُ التَّأْخِيرِ.
16 - ك - خِيَارَاتُ امْتِنَاعِ التَّسْلِيمِ:
1 - خِيَارُ النَّقْدِ.
2 - خِيَارُ تَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ.
(20/45)
3 - خِيَارُ تَسَارُعِ الْفَسَادِ.
4 - خِيَارُ التَّفْلِيسِ.
حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الْخِيَارِ:
17 - الْغَرَضُ فِي الْخِيَارَاتِ الْحُكْمِيَّةِ: بِالرَّغْمِ مِنْ
تَعَدُّدِ أَسْبَابِهَا هُوَ تَلاَفِي النَّقْصِ الْحَاصِل بَعْدَ
تَخَلُّفٍ شَرِيطَةَ لُزُومِ الْعَقْدِ. وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ
تَحَقَّقَتْ شَرَائِطُ الاِنْعِقَادِ وَالصِّحَّةِ وَالنَّفَاذِ، أَيْ
أَنَّ الْخِيَارَاتِ الْحُكْمِيَّةَ لِتَخْفِيفِ مَغَبَّةِ الإِْخْلاَل
بِالْعَقْدِ فِي الْبِدَايَةِ لِعَدَمِ الْمَعْلُومِيَّةِ التَّامَّةِ،
أَوْ لِدُخُول اللَّبْسِ وَالْغَبْنِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى
الإِْضْرَارِ بِالْعَاقِدِ، أَوْ فِي النِّهَايَةِ كَاخْتِلاَل
التَّنْفِيذِ.
فَالْغَايَةُ مِنَ الْخِيَارَاتِ الْحُكْمِيَّةِ تَمْحِيصُ
الإِْرَادَتَيْنِ وَتَنْقِيَةُ عُنْصُرِ التَّرَاضِي مِنَ الشَّوَائِبِ
تَوَصُّلاً إِلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْعَاقِدِ. وَمِنْ هُنَا
قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْخِيَارَاتِ إِلَى شَطْرَيْنِ: خِيَارَاتِ
التَّرَوِّي، وَخِيَارَاتِ النَّقِيصَةِ، وَمُرَادُهُمْ بِخِيَارَاتِ
النَّقِيصَةِ الْخِيَارَاتُ الَّتِي تَهْدِفُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ
الْعَاقِدِ فِي حِينِ تَهْدِفُ خِيَارَاتُ التَّرَوِّي إِلَى جَلْبِ
النَّفْعِ لَهُ.
أَمَّا الْغَرَضُ مِنَ الْخِيَارَاتِ الإِْرَادِيَّةِ فَإِنَّهُ
يَخْتَلِفُ عَنِ الْغَرَضِ مِنَ الْخِيَارِ فِي صَعِيدِ الْخِيَارَاتِ
الْحُكْمِيَّةِ. فَفِي الْخِيَارَاتِ الإِْرَادِيَّةِ يَكَادُ
الْبَاعِثُ عَلَيْهَا يَكُونُ أَمْرًا وَاحِدًا هُوَ مَا دَعَاهُ
الْفُقَهَاءُ بِالتَّرَوِّي، أَيِ التَّأَمُّل فِي صُلُوحِ الشَّيْءِ
لَهُ وَسَدِّ
(20/46)
حَاجَتِهِ فِي الشِّرَاءِ، وَذَلِكَ
لِلتَّرْفِيهِ عَنِ الْمُتَعَاقِدِ لِتَحْصِيل مَصْلَحَةٍ يَحْرِصُ
عَلَيْهَا. وَالتَّرَوِّي سَبِيلُهُ أَمْرَانِ: (الْمَشُورَةُ)
لِلْوُصُول إِلَى الرَّأْيِ الْحَمِيدِ، أَوِ الاِخْتِبَارُ وَهُوَ
تَبَيُّنُ خَبَرِ الشَّيْءِ بِالتَّجْرِبَةِ أَوِ الاِطِّلاَعِ
التَّامِّ عَلَى كُنْهِهِ، قَال ابْنُ رُشْدٍ: " وَالْخِيَارُ يَكُونُ
لِوَجْهَيْنِ: لِمَشُورَةٍ وَاخْتِبَارِ الْمَبِيعِ، أَوْ لأَِحَدِ
الْوَجْهَيْنِ (1) . وَيَقُول بَعْدَئِذٍ: الْعِلَّةُ فِي إِجَازَةِ
الْبَيْعِ عَلَى الْخِيَارِ وَحَاجَةِ النَّاسِ إِلَى الْمَشُورَةِ
فِيهِ، أَوِ الاِخْتِيَارِ (2) ".
عَلَى أَنَّ تَعَدُّدَ الْغَرَضِ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَقْصِدَ
الْمَشُورَةَ وَالاِخْتِبَارَ مَعًا " وَهَذَا كُلُّهُ فِي
الْمُشْتَرِي، أَمَّا الْبَائِعُ فَلاَ يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ إِلاَّ
كَوْنُ الْغَرَضِ الْمَشُورَةَ، لأَِنَّ الْمُبَادَلَةَ مِنْهُ
تَهْدِفُ إِلَى الثَّمَنِ، وَالثَّمَنُ لاَ مَجَال لاِخْتِبَارِهِ
غَالِبًا، إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُرَاجِعَ الْبَائِعُ مَنْ يَثِقُ
بِهِ فِي كَوْنِ الثَّمَنِ مُتَكَافِئًا مَعَ الْمَبِيعِ فَلاَ غَبْنَ
وَلاَ وَكْسَ.
وَالتَّرَوِّي - كَمَا يَقُول الْحَطَّابُ - لاَ يَخْتَصُّ
بِالْمَبِيعِ فَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا فِي الثَّمَنِ، أَوْ فِي أَصْل
الْعَقْدِ. (3)
وَثَمَرَةُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُجْبَرُ الْبَائِعُ
عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنَ الْخِيَارِ
الاِخْتِبَارَ، فَإِذَا بَيَّنَ الْغَرَضَ مِنَ الْخِيَارِ عُومِل
حَسْبَ بَيَانِهِ، أَمَّا إِنْ سَكَتَ عَنِ الْبَيَانِ، فَقَدْ قَرَّرَ
__________
(1) المقدمات 2 / 557.
(2) المقدمات 2 / 559.
(3) الحطاب على خليل 4 / 414.
(20/46)
ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ ذِكْرِ
الْغَرَضِ يُحْمَل عَلَى أَنَّ غَرَضَهُ الْمَشُورَةُ فَهِيَ
مُفْتَرَضَةٌ دَائِمًا، إِلاَّ إِذَا صَرَّحَ بِأَنَّ غَرَضَهُ
الاِخْتِبَارُ وَاشْتَرَطَ قَبْضَ السِّلْعَةِ. وَنَصُّ كَلاَمِ ابْنِ
رُشْدٍ فِي هَذَا: (1) " اشْتَرَطَ الْمُشْتَرِي الْخِيَارَ. وَلَمْ
يُبَيِّنْ أَنَّهُ إِنَّمَا يَشْتَرِطُ الْخِيَارَ لِلاِخْتِبَارِ،
وَأَرَادَ قَبْضَ السِّلْعَةِ لِيَخْتَبِرَهَا، وَأَبَى الْبَائِعُ
مِنْ دَفْعِهَا إِلَيْهِ وَقَال: إِنَّمَا لَكَ الْمَشُورَةُ إِذَا
لَمْ تَشْتَرِطْ قَبْضَ السِّلْعَةِ فِي أَمَدِ الْخِيَارِ
لِلاِخْتِبَارِ، فَالْقَوْل قَوْل الْبَائِعِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ
دَفْعُهَا إِلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ". بَل
ذَكَرَ أَنَّهُ لَيْسَتْ مِنَ الْقَرِينَةِ الْحَالِيَّةِ فِي
الْمُشْتَرِي طُول مُدَّةِ الْخِيَارِ إِذْ يُحْتَمَل أَنَّهُ فَسْخٌ
فِي الأَْجَل لِلْمَشُورَةِ الدَّقِيقَةِ.
وَهُنَاكَ ثَمَرَةٌ عَمَلِيَّةٌ أُخْرَى لِتَحْدِيدِ الْغَرَضِ مِنَ
الْخِيَارِ (دُونَ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ اقْتِصَارِهِ عَلَى الْمَشُورَةِ
أَوِ الاِخْتِبَارِ، أَوِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا) تِلْكَ هِيَ أَنَّ
أَمَدَ الْخِيَارِ - وَهُوَ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ مَلْحُوظٌ فِيهِ
الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ - شَدِيدُ الاِرْتِبَاطِ بِالْغَرَضِ مِنَ
الْخِيَارِ فَإِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ فِي إِجَازَةِ الْمَبِيعِ عَلَى
الْخِيَارِ حَاجَةَ النَّاسِ إِلَى الْمَشُورَةِ فِيهِ، أَوِ
الاِخْتِبَارِ، فَحَدُّهُ قَدْرُ مَا يُخْتَبَرُ فِيهِ الْمَبِيعُ،
وَيُرْتَأَى فِيهِ وَيُسْتَشَارُ، عَلَى اخْتِلاَفِ أَجْنَاسِهِ
وَإِسْرَاعِ التَّغَيُّرِ إِلَيْهِ وَإِبْطَائِهِ عَنْهُ. . فَأَمَدُ
الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ إِنَّمَا هُوَ بِقَدْرِ مَا يُحْتَاجُ
إِلَيْهِ فِي الاِخْتِبَارِ وَالاِرْتِيَاءِ مَعَ
__________
(1) المقدمات لابن رشد 5 / 558.
(20/47)
مُرَاعَاةِ إِسْرَاعِ التَّغَيُّرِ إِلَى
الْمَبِيعِ وَإِبْطَائِهِ عَنْهُ خِلاَفًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَبِي
حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي قَوْلِهِمَا: إِنَّهُ لاَ يَجُوزُ
الْخِيَارُ فِي شَيْءٍ مِنَ الأَْشْيَاءِ فَوْقَ ثَلاَثٍ. (1)
الْخِيَارُ سَالِبٌ لِلُّزُومِ:
18 - إِنَّ سَلْبَ الْخِيَارَاتِ لُزُومُ الْعَقْدِ مِنْ بَدَائِهِ
الْفِقْهَ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ الْمُصَنِّفِينَ
الَّذِينَ قَسَّمُوا الْعَقْدَ إِلَى لاَزِمٍ وَجَائِزٍ عَبَّرُوا عَنْ
ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: لاَزِمٌ، وَمُخَيَّرٌ، أَوْ لاَزِمٌ وَفِيهِ
خِيَارٌ (2) .
وَمُفَادُ سَلْبِ الْخِيَارِ لُزُومُ الْعَقْدِ أَنْ يُجْعَل الْعَقْدُ
الْمُشْتَمِل عَلَى خِيَارٍ مُسْتَوِيًا فِي الصِّفَةِ مَعَ الْعُقُودِ
غَيْرِ اللاَّزِمَةِ كَالْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ وَمَعَ هَذَا لاَ
يَعْسُرُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا، لأَِنَّ عَدَمَ اللُّزُومِ فِي
تِلْكَ الْعُقُودِ نَاشِئٌ عَنْ طَبِيعَتِهَا الْخَاصَّةِ، أَمَّا فِي
الْخِيَارَاتِ فَعَدَمُ اللُّزُومِ طَارِئٌ بِسَبَبِهَا.
وَهُنَاكَ عِبَارَاتٌ فِقْهِيَّةٌ تَدُل عَلَى التَّفَاوُتِ فِي
مَنْزِلَةِ الْخِيَارَاتِ مِنْ حَيْثُ سَلْبُ اللُّزُومِ نَظَرًا إِلَى
أَثَرِ الْخِيَارِ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ، وَالْمُرَادُ بِالْعِلَّةِ
هُنَا الْعَقْدُ الَّذِي لاَ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الْحُكْمُ فِي
الأَْصْل، كَالْبَيْعِ هُوَ عِلَّةٌ لِحُكْمِهِ مِنْ لُزُومِ تَعَاكُسِ
الْمِلْكَيْنِ فِي الْبَدَلَيْنِ، وَفِي الْبَيْعِ بِخِيَارٍ قَدْ
تَخَلَّفَ عَنِ الْعِلَّةِ (أَيِ الْبَيْعُ) مُقْتَضَاهَا الَّذِي هُوَ
حُكْمُ الْبَيْعِ.
وَبِمَا أَنَّ الْمَوَانِعَ مُتَفَاوِتَةٌ فِي قُوَّةِ الْمَنْعِ،
فَمِنْهَا
__________
(1) ابن رشد: المقدمات 2 / 559 - 560.
(2) البدائع 5 / 228.
(20/47)
مَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ مِنَ
الْبِدَايَةِ فَلاَ يَدَعُهَا تَمْضِي لإِِحْدَاثِ الأَْثَرِ،
وَمِنْهَا مَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْعِلَّةِ، أَيْ نَفَاذَ الْعَقْدِ،
بِتَخَلُّفِ إِحْدَى شَرِيطَتَيِ النَّفَاذِ (الْمِلْكِ أَوِ
الْوِلاَيَةِ، وَانْتِفَاءِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ فِي
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ) ثُمَّ يَأْتِي دَوْرُ الْخِيَارَاتِ فِي
الْمَنْعِ وَهُوَ مَنْعٌ مُسَلَّطٌ عَلَى (الْحُكْمِ) لاَ (الْعِلَّةِ)
فَهِيَ قَدْ كُتِبَ لَهَا الاِنْعِقَادُ وَالنَّفَاذُ كَسَهْمٍ
تَوَفَّرَتْ وَسَائِل تَسْدِيدِهِ ثُمَّ انْطَلَقَ دُونَ أَنْ
يَحْجِزَهُ شَيْءٌ عَنْ بُلُوغِ الْهَدَفِ " فَخِيَارُ الشَّرْطِ
يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ بَعْدَ انْعِقَادِ (وَنَفَاذِ)
الْعِلَّةِ " إِذْ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ حُكْمِ الْبَيْعِ وَهُوَ خُرُوجُ
الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَشَبَّهَهُ ابْنُ الْهُمَامِ
بِاسْتِتَارِ الْمَرْمِيِّ إِلَيْهِ بِتُرْسٍ يَمْنَعُ مِنْ إِصَابَةِ
الْغَرَضِ مِنْهُ. (1) وَيَلِيهِ فِي قُوَّةِ الْمَنْعِ خِيَارُ
الرُّؤْيَةِ، لأَِنَّهُ يَمْنَعُ تَمَامَ الْحُكْمِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ
(وَهُوَ غَيْرُ تَمَامِ الْعِلَّةِ) وَأَخِيرًا خِيَارُ الْعَيْبِ
يَمْنَعُ لُزُومَ الْحُكْمِ.
وَفَضْلاً عَنِ التَّفَاوُتِ فِي أَثَرِ الْخِيَارِ عَلَى الْعَقْدِ
اللاَّزِمِ لِسَلْبِ لُزُومِهِ يُلْحَظُ فَارِقٌ، فِي نَظَرِ
الْحَنَفِيَّةِ، بَيْنَ خِيَارِ الْعَيْبِ وَبَيْنَ خِيَارَيِ
الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ فِي وَضْعِهِمَا الشَّرْعِيِّ مِنْ حَيْثُ
سَلْبُ اللُّزُومِ بَيْنَ أَنْ يَتَّصِفَ بِالأَْصَالَةِ أَوِ
الْخُلْفِيَّةِ، لِهَذَا الْفَرْقِ فِي الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ
الْفَسْخِ فِي حَقِّ الْكُل أَوْ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ
فَحَسْبُ.
فَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ، لَمَّا أَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ
__________
(1) فتح القدير 5 / 110.
(20/48)
فِيهِمَا " ثَبَتَ أَصْلاً لأَِنَّهُمَا يَسْلُبَانِ اللُّزُومَ فِي
أَصْل الْعَقْدِ، فَكَانَ بِالْفَسْخِ مُسْتَوْفِيًا حَقًّا لَهُ،
وَوِلاَيَةُ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ تَثْبُتُ عَلَى سَبِيل الْعُمُومِ،
وَلِذَا لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ " (1)
أَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الْقَبْضِ
وَعَدَمِهِ لِمَا أَنَّ " حَقَّ الْفَسْخِ بِالْعَيْبِ مَا ثَبَتَ
(بِاعْتِبَارِهِ) أَصْلاً. لأَِنَّ الصَّفْقَةَ تَمَّتْ بِالْقَبْضِ
بَل (ثَبَتَ) بِغَيْرِهِ، وَهُوَ اسْتِدْرَاكُ حَقِّهِ فِي صِفَةِ
السَّلاَمَةِ " (2)