الموسوعة الفقهية الكويتية

خِيَارُ اخْتِلاَفِ الْمِقْدَارِ

انْظُرْ: بَيْعٌ

خِيَارُ الاِسْتِحْقَاقِ

انْظُرِ: اسْتِحْقَاقٌ
__________
(1) فتح القدير 5 / 168.
(2) فتح القدير 6 / 168 وذكر بعدئذ أثر هذا الفرق في اعتبار الفسخ في حق الكل أو في حق العاقدين خاصة. وسيأتي في محله المناسب.

(20/48)


خِيَارُ التَّأْخِيرِ

انْظُرْ: خِيَارُ النَّقْدِ، بَيْعٌ

خِيَارُ تَسَارُعِ الْفَسَادِ

انْظُرْ: خِيَارُ الشَّرْطِ

خِيَارُ التَّشْرِيكِ

انْظُرْ: بَيْعُ الأَْمَانَةِ

خِيَارُ التَّصْرِيَةِ

انْظُرْ: تَصْرِيَةٌ.

خِيَارُ تَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ

انْظُرْ: بَيْعٌ فَاسِدٌ، بَيْعٌ مَوْقُوفٌ

(20/49)


خِيَارُ التَّعْيِينِ

التَّعْرِيفُ:
1 - سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (خِيَارٍ) تَعْرِيفُ الْخِيَارِ، وَأَمَّا التَّعْيِينُ: فَهُوَ مَصْدَرٌ قِيَاسِيٌّ لِلْفِعْل الْمَزِيدِ (عَيَّنَ) يُقَال: عَيَّنْتُ الشَّيْءَ، وَعَيَّنْتُ عَلَيْهِ، وَاسْتِعْمَالُهُمَا وَاحِدٌ، فَمِنَ الأَْوَّل - وَهُوَ الأَْلْيَقُ بِهَذَا الْمَوْضُوعِ - مَا جَاءَ فِي الْمَعَاجِمِ مِنْ أَنَّ تَعْيِينَ الشَّيْءِ مَعْنَاهُ تَخْصِيصُهُ مِنَ الْجُمْلَةِ، كَمَا قَال الْجَوْهَرِيُّ. وَمِنَ الثَّانِي: عَيَّنْتُ عَلَى السَّارِقِ: خَصَصْتُهُ مِنْ بَيْنِ الْمُتَّهَمِينَ، مَأْخُوذٌ مِنْ (عَيْنِ) الشَّيْءِ، أَيْ نَفْسِهِ وَذَاتِهِ. (1)
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَقَدْ عَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ الْبَيْعَ الَّذِي فِيهِ خِيَارُ التَّعْيِينِ بِأَنَّهُ: شِرَاءُ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الثَّلاَثَةِ عَلَى أَنْ يُعَيِّنَ أَيًّا شَاءَ. أَمَّا تَعْرِيفُ الْخِيَارِ فَيُمْكِنُ اسْتِخْلاَصُ التَّعْرِيفِ التَّالِي لَهُ وَهُوَ: أَنَّهُ (حَقُّ الْعَاقِدِ فِي تَعْيِينِ أَحَدِ الأَْشْيَاءِ الَّتِي وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى أَحَدِهَا شَائِعًا، خِلاَل مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ) . وَصُورَتُهُ: أَنْ يَقُول الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي:
__________
(1) الصحاح، ولسان العرب، والمصباح المنير مادة: " عين ".

(20/49)


بِعْتُكَ أَحَدَ هَذِهِ الأَْثْوَابِ الثَّلاَثَةِ وَلَكَ الْخِيَارُ فِي أَيِّهَا شِئْتَ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ، سَوَاءٌ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ مِنَ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي. (1)
تَسْمِيَتُهُ:
2 - يُسَمَّى (خِيَارُ التَّعْيِينِ) بِاسْمٍ آخَرَ هُوَ (خِيَارُ التَّمْيِيزِ) وَقَدْ أَطْلَقَهُ عَلَيْهِ الطَّحَاوِيُّ فِي مُنَاسَبَةِ مُقَارَنَتِهِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ قَائِلاً عَنْهُ: وَخِيَارُ التَّمْيِيزِ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ. وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ يُعَبِّرُ عَنْهُ بِالتَّعْبِيرِ الْمُسْهَبِ دُونَ تَسْمِيَتِهِ. وَيُسَمِّي الْمَالِكِيَّةُ الْعَقْدَ الْمُشْتَمِل عَلَيْهِ: بَيْعَ الاِخْتِيَارِ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
خِيَارُ الشَّرْطِ:
3 - هُنَاكَ صُورَةٌ مِنْ خِيَارِ الشَّرْطِ يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا مِنْ صُوَرِ خِيَارِ التَّعْيِينِ، مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهُ فِي شَيْءٍ، وَهِيَ مَا إِذَا بَاعَهُ ثَلاَثَةَ أَثْوَابٍ عَلَى أَنَّ لَهُ خِيَارَ الشَّرْطِ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا لاَ فِي الْجَمِيعِ، فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عِبَارَةٌ عَنْ خِيَارِ شَرْطٍ فِي أَحَدِ أَفْرَادِ الْمَبِيعِ، يَتَّضِحُ ذَلِكَ مِنْ كَوْنِ الْمَقْصُودِ بِالْبَيْعِ فِي خِيَارِ التَّعْيِينِ
__________
(1) التعريفات للجرجاني ص46، الدرر لملا خسرو 2 / 151، الحطاب وبهامشه المواق 4 / 424، الدسوقي 3 / 105، وهو تعريف ابن عرفة في كتابه المشهور في الحدود (أي التعاريف) .
(2) فتح القدير 5 / 132 نقلاً عن الطحاوي، الدسوقي 3 / 105.

(20/50)


وَاحِدًا، وَهُنَا الْبَيْعُ مُنْصَبٌّ عَلَى الثَّلاَثَةِ، وَلَكِنْ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ الْمُتَعَدِّدِ خِيَارٌ لَمْ يُعَيَّنْ مَحَلُّهُ، وَهِيَ مِنَ الصُّوَرِ الْفَاسِدَةِ. (1)
وَهَذِهِ صُورَةٌ أُخْرَى مِنَ الاِخْتِيَارِ لاَ الْخِيَارِ، مَا لَوْ أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَعَلَيْهِ اخْتِيَارُ أَرْبَعَةٍ فَقَطْ.
وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْل الاِخْتِيَارِ فَإِنَّ " الْخِيَارَ " لاَ يَنْتَقِل إِلَى الْوَارِثِ. (2) وَهُوَ كَمَا يَبْدُو لَيْسَ خِيَارًا بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإِْمْضَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ قِيَامُ الْمُكَلَّفِ بِالاِخْتِيَارِ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَهُوَ يُشْبِهُ خِيَارَ التَّعْيِينِ لَكِنَّهُ ثَبَتَ حُكْمًا لاَ بِالشَّرْطِ، كَمَا أَنَّ الْوَاقِعَةَ الْمُوَلِّدَةَ لِلْخِيَارِ غَيْرُ عَقْدِيَّةٍ.

خِيَارُ التَّعْيِينِ فِي الثَّمَنِ:
4 - أَكْثَرُ مَا يُذْكَرُ لَهُ خِيَارُ التَّعْيِينِ مَا يَكُونُ فِي الْمَبِيعِ، وَلَكِنْ هُنَاكَ خِيَارٌ يَتَّصِل بِتَعْيِينِ الثَّمَنِ، لاَ يُكْتَفَى بِذِكْرِ الْخِيَارِ فِيهِ، وَهُوَ مَا إِذَا بَاعَ شَيْئًا إِلَى أَجَلَيْنِ، أَوْ بَاعَهُ إِلَى أَجَلٍ أَوْ حَالًّا، بِثَمَنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَتَرَكَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ. فَهُنَا ذَكَرَ ثَمَنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَتَرَكَ لَهُ الْخِيَارَ فِي أَحَدِهِمَا مَعَ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنْ حُلُولٍ أَوْ تَأْجِيلٍ.
وَهَذِهِ الصُّورَةُ مِنَ التَّعَاقُدِ مَشْهُورَةٌ فِي
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 52، شرح المجلة للأتاسي 2 / 260.
(2) المجموع 9 / 222.

(20/50)


الْمَذَاهِبِ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ إِذَا لَمْ يَفْتَرِقَا عَلَى التَّعْيِينِ فِي الْمَجْلِسِ. وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - ذَهَبَ إِلَى الْقَوْل بِمَشْرُوعِيَّةِ هَذَا الْخِيَارِ كُلٌّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ سَبَقَ شَيْءٌ مِنِ اهْتِمَامِهِمْ بِهِ، وَقَدْ عَقَدُوا لَهُ فَصْلاً مِنْ بَابِ خِيَارِ الشَّرْطِ، وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى ثُبُوتِ الْعَقْدِ عَلَى أَحَدِ أَشْيَاءَ لاَ بِعَيْنِهِ، وَتَعْرِيفُهُ وَصُورَتُهُ أَنَّهُ: " بَيْعٌ جَعَل فِيهِ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي التَّعْيِينَ لِمَا اشْتَرَاهُ، كَأَبِيعُكَ أَحَدَ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ عَلَى الْبَتِّ بِدِينَارٍ وَجَعَلْتُ لَكَ يَوْمًا (أَوْ يَوْمَيْنِ) تَخْتَارُ فِيهِ وَاحِدًا مِنْهُمَا " وَلَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لاَ صِلَةَ لَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الأَْخْذِ وَالرَّدِّ.
وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ لاَزِمٌ وَسَمَّوْهُ (بَيْعَ الاِخْتِيَارِ) تَمْيِيزًا لَهُ عَنِ الْبَيْعِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ الَّذِي يُسَمَّى أَحْيَانًا (بَيْعَ الْخِيَارِ) وَجَعَلُوا بَيْنَهُمَا تَقَابُلاً، لأَِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ خِيَارٌ فِي الْعَقْدِ " أَحَدُهَا لاَزِمٌ لَهُ، وَإِنَّمَا الْخِيَارُ فِي التَّعْيِينِ وَلاَ يَرُدُّ إِلاَّ أَحَدَهُمَا ". (1)
وَأَشَارَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ (الاِخْتِيَارَ) قَدْ يُجَامِعُ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الدردير 3 / 106.

(20/51)


الْخِيَارَ وَقَدْ يَنْفَرِدُ عَنْهُ فَيَكُونُ هُنَاكَ بَيْعُ خِيَارٍ فَقَطْ (وَهُوَ خِيَارُ الشَّرْطِ الْمَعْرُوفِ) ، وَبَيْعُ اخْتِيَارٍ فَقَطْ (وَهُوَ الْمُسَمَّى خِيَارُ التَّعْيِينِ) وَبَيْعُ خِيَارٍ وَاخْتِيَارٍ وَهُوَ " بَيْعٌ جَعَل فِيهِ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي الاِخْتِيَارَ فِي التَّعْيِينِ، وَبَعْدَهُ هُوَ فِيمَا يُعَيِّنُهُ بِالْخِيَارِ فِي الأَْخْذِ وَالرَّدِّ ". وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ انْتَبَهُوا إِلَى اسْتِبْعَادِ اخْتِيَارِ التَّعْيِينِ مِنْ صَعِيدِ (الْخِيَارِ) لاِشْتِرَاطِهِمْ تَوْقِيتَهُ، فِي حِينِ فَصَّل الْحَنَفِيَّةُ بِأَنْ جَعَلُوا اشْتِرَاطَ التَّوْقِيتِ قَاصِرًا عَلَى حَال تَجَرُّدِ خِيَارِ التَّعْيِينِ مِنْ خِيَارِ الشَّرْطِ. يُضَافُ لِذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي كُتُبِهِمُ الأُْولَى - غَالِبًا - مُلاَبِسًا لِخِيَارِ الشَّرْطِ مُقْتَرِنًا بِهِ، لِذَا لَمْ تَحْفِل عِبَارَاتُهُمْ بِالاِحْتِرَازِ مِنْهُ. (1)
وَذَكَرَ ابْنُ مُفْلِحٍ أَنَّهُ قَال بِهِ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ وَذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْمُفْرَدَاتِ - وَقَوْلُهُ مُخَالِفٌ لِجُمْهُورِهِمْ - وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الشَّرِيفِ وَأَبِي الْخَطَّابِ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِنَحْوِ بَيْعِ شَاةٍ مُبْهَمَةٍ فِي شِيَاهٍ إِنْ تَسَاوَتِ الْقِيمَةُ. (2)
هَؤُلاَءِ مُثْبِتُوهُ، وَأَمَّا نُفَاتُهُ فَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ - إِلاَّ
__________
(1) المبسوط 13 / 55، البدائع 5 / 157، فتح القدير 5 / 131، شرح الدردير على خليل 3 / 107، الدسوقي 3 / 105، الحطاب 4 / 423، وذكر صاحب بداية المجتهد أنه إن كان الثوبان من صنفين - وهما مما لا يجوز أن يسلم أحدهما من الآخر -، فإنه لا خلاف بين مالك والشافعي في أنه لا يجوز. وإن كانا من صنف واحد فيجوز عند مالك ولا يجوز عند أبي حنيفة والشافعي (2 / 128) .
(2) الدسوقي 3 / 105، وكشاف القناع 3 / 167 - 168، ومطالب أولي النهى 3 / 31، والفروع لابن مفلح 4 / 26.

(20/51)


فِي قَوْلٍ قَدِيمٍ حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي أَنَّهُ يَصِحُّ (فِي مِثْل الصُّورَةِ السَّابِقَةِ لَدَى أَبِي حَنِيفَةَ) . قَال النَّوَوِيُّ: وَهَذَا شَاذٌّ مَرْدُودٌ - وَالشَّافِعِيَّةُ حِينَ مَنَعُوهُ جَعَلُوهُ مِنْ مَسَائِل جَهَالَةِ عَيْنِ الْمَبِيعِ، وَنَصُّوا عَلَى بُطْلاَنِهِ، سَوَاءٌ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ مُتَعَدِّدٍ، أَوْ وَقَعَ عَلَى الْكُل إِلاَّ وَاحِدًا، وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ كَذَلِكَ، مَعَ تَنْصِيصِهِمْ عَلَى أَنَّهُ بَاطِلٌ وَلَوْ تَسَاوَتْ قِيمَةُ الأَْشْيَاءِ الْمُخْتَارِ مِنْهَا (1) وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ (صِلَتُهُ بِكِفَايَةِ تَعْيِينِ الْمَبِيعِ وَلاَ صِلَةَ لَهُ بِخِيَارِ التَّعْيِينِ) . وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا لِمَنْعِهِ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْبَيْعِ وَالثُّنْيَا، وَقَدْ نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الثُّنْيَا إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ. (2) وَلأَِنَّ ذَلِكَ غَرَرٌ وَيُفْضِي إِلَى التَّنَازُعِ.

دَلِيل مَشْرُوعِيَّةِ خِيَارِ التَّعْيِينِ:
6 - احْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ لِمَشْرُوعِيَّتِهِ بِالْقِيَاسِ عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ؛ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ فِيهِ الشَّرْعُ، وَهُوَ خِيَارُ الشَّرْطِ فَجَازَ إِلْحَاقًا بِهِ، لأَِنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ
__________
(1) المجموع شرح المهذب 9 / 312، شرح الروض 2 / 14، سواء تساوت القيم أم لا وسواء قال: ولك الخيار في التعيين أم لا. وعلل الرملي في حاشيته المنع بأنه للغرر، ولأن العقد لم يجد موردًا يتأثر به في الحال.
(2) حديث: " نهى عن الثنيا إلا أن تعلم ". أخرجه مسلم (3 / 1175 -. ط الحلبي) من حديث جابر، دون قوله: " إلا أن تعلم "،.، وأخرجه الترمذي (3 / 576 -. ط الحلبي) بلفظ: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والثنيا إلا أن تعلم " وقال: هذا حديث حسن صحيح.

(20/52)


شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إِلَى دَفْعِ الْغَبْنِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَيْعِ مُتَحَقِّقَةٌ، فَكَانَ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، وَبِالرَّغْمِ مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ ثَبَتَ اسْتِحْسَانًا عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ، وَالْمَقْصُودُ مَبْدَأُ الْقِيَاسِ عُمُومًا، أَمَّا دَلِيلُهُ فَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ، لأَِنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ نَفْسَهُ ثَبَتَ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ اللُّزُومُ. وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مَا فِيهِ مِنْ جَهَالَةٍ لاَ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ لاِسْتِقْلاَل الْمُشْتَرِي بِالتَّعْيِينِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ مُنَازِعٌ فِيمَا يَخْتَارُ (1) .

شَرَائِطُ قِيَامِ خِيَارِ التَّعْيِينِ:

أ - ذِكْرُ شَرْطِ التَّعْيِينِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ:
7 - لاَ بُدَّ مِنْ ذِكْرِ شَرْطِ التَّعْيِينِ فِي الإِْيجَابِ وَالْقَبُول بِنَحْوِ عِبَارَةِ: عَلَى أَنَّكَ بِالْخِيَارِ فِي أَيِّهِمَا شِئْتَ، أَوْ عَلَى أَنْ تَأْخُذَ أَيَّهَا شِئْتَ، لِيَكُونَ نَصًّا فِي خِيَارِ التَّعْيِينِ وَإِلاَّ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا لِلْجَهَالَةِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ ذِكْرُ (الْخِيَارِ) بَل يَكْفِي مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ كَقَوْلِهِ: عَلَى أَنْ تَحْتَفِظَ بِأَحَدِهَا وَتُعِيدَ الْبَاقِيَ. (2)
ب - أَنْ يَكُونَ مَحَل الْخِيَارِ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ:
8 - الْقِيَمِيُّ هُنَا مَا لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ، أَوْ مَا لاَ يُوجَدُ لَهُ مِثْلٌ فِي الأَْسْوَاقِ، أَوْ يُوجَدُ لَكِنْ مَعَ التَّفَاوُتِ
__________
(1) العناية شرح الهداية 5 / 130، وفتح القدير 5 / 131، والمغني4 / 99، والمجموع 9 / 313.
(2) شرح المجلة للأتاسي 2 / 261 نقلاً عن البحر الرائق.

(20/52)


الْمُعْتَدِّ بِهِ فِي الْقِيمَةِ، أَمَّا الْمِثْلِيَّاتُ الْمُخْتَلِفَةُ الْجِنْسِ فَقَدْ أُلْحِقَتْ بِالْقِيَمِيِّ، وَأَمَّا الْمِثْلِيُّ الْمُتَّفِقُ الْجِنْسِ فَلاَ يَصِحُّ. لأَِنَّ الْحَاجَةَ (الَّتِي شُرِعَ لأَِجْلِهَا) هِيَ فِي التَّفَاوُتِ. بِخِلاَفِ الْمِثْلِيَّاتِ فَإِنَّ اشْتِرَاطَهُ فِيهَا لاَ فَائِدَةَ فِيهِ، وَمِنْ قَبِيل الْعَبَثِ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَفَاوِتَةً فِيمَا بَيْنَهَا.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ مُتَّفِقًا أَوْ مُخْتَلِفًا، فِي حِينِ اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ مِنَ الْقَائِلِينَ بِهِ تَسَاوِيَ تِلْكَ الأَْشْيَاءِ فِي الْقِيمَةِ. (1)

ج - أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ الْخِيَارِ مَعْلُومَةً:
9 - هَذَا عَلَى مَا اعْتَمَدَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَذَكَرَ الزَّيْلَعِيُّ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِعَدَمِ الْجَدْوَى. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ يَجُوزُ زِيَادَتُهَا عَنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَأَطْلَقَ الصَّاحِبَانِ الْمُدَّةَ عَلَى أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً، وَرَجَّحَهُ الزَّيْلَعِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ فَرَّقَ الْبَابَرْتِيُّ وَالزَّيْلَعِيُّ بَيْنَ الأَْخْذِ بِرَأْيِ مَنِ اسْتَلْزَمَ لِخِيَارِ التَّعْيِينِ خِيَارَ الشَّرْطِ، فَلاَ بَأْسَ عَلَى هَذَا مِنْ عَدَمِ تَوْقِيتِهِ لإِِغْنَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ عَنْهُ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْل بِجَوَازِ أَنْ يَعْرَى عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّوْقِيتِ. (2)
__________
(1) فتح القدير 5 / 130، وشرح المجلة للأتاسي 2 / 260، والفروع 4 / 26 والمبسوط 3 / 56، والفتاوى الهندية 3 / 55 - 56 نقلاً عن المحيط، الحطاب 4 / 426، " فإن اختلفا يضمن حينئذ ضمان المبيع بيعًا فاسدًا ".
(2) تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 21، العناية شرح الهداية 5 / 131.

(20/53)


د - عَدَمُ زِيَادَةِ الأَْفْرَادِ الْمُخْتَارِ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلاَثَةٍ:
10 - فَلاَ يَجُوزُ - عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ - أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخِيَارُ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ، لاِنْدِفَاعِ الْحَاجَةِ بِذَلِكَ، لاِشْتِمَال الثَّلاَثَةِ عَلَى الْجَيِّدِ وَالْوَسَطِ وَالرَّدِيءِ. (وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ فِي وَاحِدٍ مِنِ اثْنَيْنِ بِطَرِيقِ الأَْوْلَى) قَالُوا: وَالزَّائِدُ يَقَعُ مُكَرَّرًا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، وَقَدْ شُرِعَ لِلْحَاجَةِ. (1)

هـ - الْعَدَدُ الْمُخْتَارُ مِنَ الْعَاقِدِ:
11 - هَل يُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يَزِيدَ الْعَدَدُ الْمُخْتَارُ مِنَ الْعَاقِدِ عَلَى وَاحِدٍ أَيْ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اخْتِيَارُهُ أَمْ لَهُ اخْتِيَارُ اثْنَيْنِ (مَثَلاً) ؟ لَمْ نَرَ لِلْحَنَفِيَّةِ فِيهِ نَصًّا، لَكِنَّ الصُّوَرَ الَّتِي ذَكَرُوهَا قَائِمَةٌ عَلَى اخْتِيَارٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَمَسَّكَ إِلاَّ بِوَاحِدٍ عَلَى مَا قَال الْحَطَّابُ (2) .

و اقْتِرَانُهُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ:
12 - هَذَا الْخِيَارُ وَثِيقُ الصِّلَةِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ، بَل هُوَ مُتَفَرِّعٌ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ مَشْرُوعِيَّتُهُ وَمُعْظَمُ أَحْكَامِهِ، كَالْمُدَّةِ وَالسُّقُوطِ، وَلِذَا يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي أَثْنَاءِ بَابِ خِيَارِ الشَّرْطِ. وَبِالرَّغْمِ مِنْ هَذَا هُوَ خِيَارٌ مُسْتَقِلٌّ، وَسَبَبُ ارْتِبَاطِهِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ إِمَّا غَلَبَةُ اشْتِرَاطِهِ مَعَهُ لِيَكُونَ الْعَقْدُ فِي أَصْلِهِ غَيْرَ
__________
(1) فتح القدير 5 / 130 والعناية أيضًا.
(2) الحطاب 4 / 424، و4 / 425 " أما اختيار ثلاثة فبعيد ".

(20/53)


لاَزِمٍ بِحَيْثُ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي رَدُّ الْجَمِيعِ، وَإِمَّا عَلَى الْقَوْل بِاشْتِرَاطِ اقْتِرَانِهِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ. وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِمُحَمَّدٍ. وَهُنَاكَ رَأْيٌ آخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ بَعْدَ تَرْجِيحِ اشْتِرَاطِهِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ (1) .

مَنْ يُشْتَرَطُ لَهُ الْخِيَارُ (صَاحِبُ الْخِيَارِ) :
13 - يُمْكِنُ اشْتِرَاطُ هَذَا الْخِيَارِ لأَِيٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ. فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي إِذَا كَانَ الْعَقْدُ عَلَى أَنَّهُ يَأْخُذُ أَيًّا شَاءَ مِنَ الأَْشْيَاءِ الْمُمَيَّزِ بَيْنَهَا بِالثَّمَنِ الْمُبَيَّنِ لَهُ. فَصَاحِبُ الْخِيَارِ هُنَا هُوَ الْمُشْتَرِي وَإِلَيْهِ التَّعْيِينُ، وَيَكُونُ لِلْبَائِعِ إِذَا ذَكَرَا فِي الْعَقْدِ أَنَّ الْبَائِعَ هُوَ الَّذِي يَخْتَارُ أَحَدَ الأَْشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَوْضُوعُ التَّعْيِينِ، فَالْبَائِعُ هُنَا صَاحِبُ الْخِيَارِ وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ بِالتَّعْيِينِ.
وَلاَ عِبْرَةَ بِصُدُورِ الاِشْتِرَاطِ مِنَ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي مَثَلاً بَل النَّظَرُ لِصِيغَتِهِ، فَلَوْ قَال الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ أَحَدَ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي أَيَّهمَا شِئْتَ بِالثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ لَهُ فَالْخِيَارُ هُنَا لِلْبَائِعِ، وَهُوَ الْمُسْتَفِيدُ بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ مُشْتَرِطَ الْخِيَارِ هُوَ الْمُشْتَرِي، فَلاَ أَثَرَ لِذَلِكَ، فَحُكْمُهُ كَمَا لَوْ صَدَرَ الاِشْتِرَاطُ بِاتِّفَاقِ الطَّرَفَيْنِ،
__________
(1) الهداية وفتح القدير والعناية 5 / 130 - 132، البدائع 5 / 157، و261، المبسوط 13 / 55، الحطاب 4 / 423، الخرشي 4 / 37، الدسوقي 3 / 105، المقدمات 2 / 563.

(20/54)


بَل هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُعْتَبَرٌ مِنْهُمَا، لِضَرُورَةِ اتِّفَاقِ الإِْرَادَتَيْنِ عَلَيْهِ، فَالْعِبْرَةُ إِذَنْ بِالْمُشْتَرَطِ لَهُ الْخِيَارُ لاَ فِي ذَاكِرِ الشَّرْطِ.
وَلاَ يَسُوغُ أَنْ يُشْتَرَطَ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي آنٍ وَاحِدٍ، لأَِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ الَّتِي تُحْدِثُ التَّنَازُعَ، وَقَدِ اغْتُفِرَتْ خِفَّةُ الْجَهَالَةِ بِسَبَبِ اسْتِبْدَادِ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ، أَمَّا لَوْ كَانَ الاِخْتِيَارُ لَهُمَا فَتَخْتَلِفُ رَغْبَتُهُمَا وَيَحْدُثُ التَّنَازُعُ. (1)
أَثَرُ خِيَارِ التَّعْيِينِ عَلَى الْعَقْدِ:

أَثَرُهُ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ:
14 - ذَكَرَ مُلاَّ خُسْرُو مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ حُكْمِ الْعَقْدِ، وَهُوَ انْتِقَال الْمِلْكِ نَظِيرَ خِيَارِ الشَّرْطِ، وَلَكِنَّ الشُّرُنْبُلاَلِيَّ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ ذَلِكَ فِي الْحَاشِيَةِ عَلَيْهِ، وَعَلَّل تِلْكَ الْمُخَالَفَةَ بِقَوْلِهِ: أَحَدُ مَا فِيهِ التَّعْيِينُ غَيْرُ مَمْنُوعِ الْحُكْمِ، غَايَتُهُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي بَيَانِ ذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْعَقْدِ خِيَارُ الشَّرْطِ، كَمَا فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَصَحَّحَهُ فَخْرُ الإِْسْلاَمِ (2) . وَهَذَا وَاضِحٌ لأَِنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ لاَ أَثَرَ لَهُ عَلَى
__________
(1) فتح القدير 5 / 130، شرح المجلة للأتاسي 2 / 260 - 261، جامع الفصولين 1 / 345، " يجوز في جانب البائع كما يجوز في جانب المشتري ".
(2) الدرر لملا خسرو وحاشية الشرنبلالي 2 / 151.

(20/54)


لُزُومِ الْعَقْدِ مَا دَامَ عَارِيًا عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ، لأَِنَّهُ حَقُّ اخْتِيَارٍ، وَلَيْسَ تَعْلِيقًا لِحُكْمِ الْعَقْدِ.
فَخِيَارُ التَّعْيِينِ يَجْعَل ثُبُوتَ الْمِلْكِ بِالْعَقْدِ مُتَعَلِّقًا بِأَحَدِ الأَْشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَحَل الْخِيَارِ دُونَ تَخْصِيصٍ بِأَحَدِهَا وَلاَ مُجَاوَزَةَ إِلَى غَيْرِهَا، وَلِذَلِكَ لَوْ قَبَضَ الأَْشْيَاءَ الْمُخْتَارَ مِنْهَا كَانَ أَحَدُهَا مَبِيعًا مَضْمُونًا وَالْبَاقِي أَمَانَةً فِي يَدِهِ. (1)
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ فِي شَأْنِ الإِْلْزَامِ بِالاِخْتِيَارِ وَالضَّمَانِ مَا يَلِي: إِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الاِخْتِيَارِ وَلَمْ يَخْتَرْ (وَكَانَ لَهُ اخْتِيَارُ التَّعْيِينِ مُجَرَّدًا عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ) يَلْزَمُهُ النِّصْفُ مِنْ كُلٍّ مِنَ الثَّوْبَيْنِ (مَثَلاً) ، لأَِنَّ ثَوْبًا قَدْ لَزِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ مَا هُوَ مِنْهُمَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا شَرِيكًا.
وَمِثْل ذَلِكَ مَا إِذَا ادَّعَى ضَيَاعَهُمَا أَوْ ضَيَاعَ أَحَدِهِمَا يَلْزَمُهُ النِّصْفُ مِنْ كُلٍّ مِنَ الثَّوْبَيْنِ سَوَاءٌ أَكَانَ الثَّوْبَانِ آنَئِذٍ بِيَدِ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَقَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى الضَّيَاعِ أَمْ لاَ، لأَِنَّ الْبَيْعَ عَلَى اللُّزُومِ وَقَدْ قَبَضَ الشَّيْئَيْنِ عَلَى وَجْهِ الإِْلْزَامِ، أَيْ إِلْزَامِ أَنَّ لَهُ وَاحِدًا مِنَ الاِثْنَيْنِ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ. وَلُزُومُ النِّصْفِ مِنْ كُلٍّ مِنَ الثَّوْبَيْنِ إِنَّمَا هُوَ بِكُل الثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ الْبَيْعُ بِهِ.
فَالْمَالِكِيَّةُ فِي حَال مُرُورِ مُدَّةِ التَّعْيِينِ وَالاِمْتِنَاعِ
__________
(1) البدائع 5 / 261، فتح القدير 5 / 132 وفيهما تفصيلات وفروع في مسألة الضمان عند الهلاك.

(20/55)


عَنْهُ لاَ يَرَوْنَ إِجْبَارَهُ عَلَى التَّعْيِينِ، بَل يُطَبِّقُونَ مُقْتَضَى شَرْطِ التَّعْيِينِ، وَإِرَادَتَهُ تَمَلُّكَ نِصْفِ مَحَل الْعَقْدِ أَوْ ثُلُثِهِ (1) .

تَبِعَةُ الْهَلاَكِ فِي خِيَارِ التَّعْيِينِ:
15 - إِذَا هَلَكَ أَحَدُ الأَْشْيَاءِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَهَا أَوْ تَعَيَّبَ لَزِمَ الْبَيْعُ فِيهِ بِثَمَنِهِ، وَتَعَيَّنَ الآْخَرُ لِلأَْمَانَةِ (حَتَّى إِذَا هَلَكَ الآْخَرُ بَعْدَ هَلاَكِ الأَْوَّل أَوْ تَعَيَّبَ لاَ يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ قِيمَتِهِ شَيْءٌ) وَهَذَا لأَِنَّ الْعَيْبَ مُمْتَنِعُ الرَّدِّ لاِعْتِبَارِ التَّعَيُّبِ اخْتِيَارًا ضَرُورَةً، (2) وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهَا قَبْل الْقَبْضِ لاَ يَبْطُل الْبَيْعُ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِثَمَنِهِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ. وَإِنْ هَلَكَ الْكُل قَبْل الْقَبْضِ بَطَل الْبَيْعُ.
وَلَوْ هَلَكَ الشَّيْئَانِ مَعًا بَعْدَ الْقَبْضِ لَزِمَ الْمُشْتَرِي نِصْفُ ثَمَنِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِشُيُوعِ الْبَيْعِ وَالأَْمَانَةِ، فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِكَوْنِهِ الْمَبِيعَ مِنَ الآْخَرِ. (3)
وَتَقَدَّمَ كَلاَمُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ.
__________
(1) الدسوقي على شرح الكبير 3 / 106 - 107، الخرشي 4 / 35، المقدمات 2 / 565.
(2) البدائع 5 / 260، العناية شرح الهداية 5 / 132 وناقش الإيراد بأنه ليس أقل من سوم الشراء وفيه تجب القيمة بأن ذاك مقبوض على جهة البيع وليس هذا كذلك.
(3) فتح القدير 5 / 132 - 133، وفيه تفصيلات كثيرة، البدائع 5 / 261 - 263.

(20/55)


تَوْقِيتُ خِيَارِ التَّعْيِينِ:
16 - يُشْتَرَطُ فِي الأَْرْجَحِ تَوْقِيتُ هَذَا الْخِيَارِ بِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ إِنْ لَمْ يَتَضَمَّنْ خِيَارَ الشَّرْطِ عَلَى الْقَوْل بِصِحَّةِ وُرُودِهِ بِدُونِهِ، أَمَّا إِنْ تَضَمَّنَ خِيَارَ الشَّرْطِ فَمُدَّةُ الْخِيَارِ صَالِحَةٌ لَهُمَا، وَفَائِدَةُ التَّوْقِيتِ أَنْ يُجْبَرَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ عَلَى التَّعْيِينِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الآْخَرِ إِذَا مَاطَل مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فِي التَّعْيِينِ. قَال ابْنُ قَاضِي سَمَاوَةَ: (وَخِيَارُ التَّعْيِينِ لَمْ يَجُزْ إِلاَّ مُؤَقَّتًا بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ خِيَارُ الشَّرْطِ) . (1)
وَقَدْ سَبَقَ فِي الشَّرَائِطِ بَيَانُ مَا يَتَّصِل بِمَعْلُومِيَّةِ الْمُدَّةِ، صِلَةُ هَذَا الْخِيَارِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ.

سُقُوطُ خِيَارِ التَّعْيِينِ:
17 - تَوَارَدَتْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ يَسْقُطُ بِمَا يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ (2) .
وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي مُصْطَلَحِ: (خِيَارُ الشَّرْطِ)

انْتِقَال خِيَارِ التَّعْيِينِ:
18 - خِيَارُ التَّعْيِينِ يَنْتَقِل بِالْمَوْتِ إِلَى وَارِثِ صَاحِبِ الْخِيَارِ فَيَقُومُ مَقَامَهُ فِي تَعْيِينِ مَا يَخْتَارُهُ مِنْ
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 21، فتح القدير 5 / 131، جامع الفصولين 1 / 245.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 56، نقلاً عن الفتاوى الظهيرية، شرح المجلة للأتاسي 2 / 261.

(20/56)


مَحَل الْخِيَارِ، وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ لِمُوَرِّثِهِ مَالاً ثَابِتًا ضِمْنَ الأَْشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَحَل الْخِيَارِ فَوَجَبَ عَلَى الْوَارِثِ أَنْ يُعَيِّنَ مَا يَخْتَارُهُ وَيَرُدَّ مَا لَيْسَ لَهُ إِلَى مَالِكِهِ.
وَيَكُونُ أَدَاءُ الثَّمَنِ مِنَ التَّرِكَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَدَّى حَال الْحَيَاةِ، ذَلِكَ أَنَّهُ انْتَقَل إِلَيْهِ مِلْكُ الْمُوَرِّثِ وَلَمْ يَكُنْ مُتَمَيِّزًا بَل مُخْتَلِطًا بِمِلْكِ غَيْرِهِ وَهُوَ الْبَائِعُ مَثَلاً، فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ لِتَعْيِينِ مِلْكِهِ وَإِفْرَازِهِ عَنْ مِلْكِ غَيْرِهِ. (1)
__________
(1) جامع الفصولين 1 / 245، الفتاوى الهندية 3 / 55، البدائع 5 / 262.

(20/56)


خِيَارُ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ

التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّفْقَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ الْمَرَّةِ مِنَ الصَّفْقِ وَهُوَ الضَّرْبُ بِالْيَدِ عَلَى يَدٍ أُخْرَى أَوْ عَلَى يَدِ آخَرَ عِنْدَ الْبَيْعِ أَوِ الْبَيْعَةِ. وَكَانَتْ الْعَرَبُ إِذَا وَجَبَ الْبَيْعُ ضَرَبَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ يَدَهُ عَلَى يَدِ صَاحِبِهِ، فَمِنْ هُنَا اسْتُعْمِلَتِ الصَّفْقَةُ بِمَعْنَى عَقْدِ الْبَيْعِ نَفْسِهِ، يُقَال: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي صَفْقَةِ يَمِينِكَ، وَمِنْهُ قَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ، أَيْ بَيْعٌ بَاتٌّ أَوْ بَيْعٌ بِخِيَارٍ. هَذَا عَنِ الصَّفْقَةِ، أَمَّا التَّفْرِيقُ فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى التَّفْسِيرِ اللُّغَوِيِّ لأَِنَّ مَعْنَاهُ - أَوْ مَعَانِيَهُ - كُلَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ مَفْهُومَةٌ وَيَهُمُّنَا مِنْهَا الْمَعْنَى النَّاشِئُ عَنْ إِضَافَةِ لَفْظِ (تَفْرِيقٍ) إِلَى (الصَّفْقَةِ) وَهُوَ مُتَّحِدٌ مَعَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ لِهَذَا الْمُرَكَّبِ الإِْضَافِيِّ. (1)
وَمَعْنَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي الاِصْطِلاَحِ أَنْ لاَ يَتَنَاوَل حُكْمُ الْعَقْدِ جَمِيعَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، أَوْ يَتَنَاوَلَهُ ثُمَّ يَنْحَسِرُ عَنْهُ. فَتَكُونُ الصَّفْقَةُ الْوَاحِدَةُ
__________
(1) المصباح المنير، والمغرب للمطرزي، والقاموس، والمعجم الوسيط، مادة " صفق ".

(20/57)


الْمُجْتَمِعَةُ قَدْ تَفَرَّقَتْ أَوْ تَبَعَّضَتْ أَوْ تَجَزَّأَتْ وَبِكُل هَذِهِ الْمُتَرَادِفَاتِ يُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ فَيُسَمُّونَهُ (تَفَرُّقَ الصَّفْقَةِ) أَوْ (تَبْعِيضَهَا) أَوْ (تَجَزُّؤَهَا) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - تَعَدُّدُ الصَّفْقَةِ:
2 - التَّفْرِيقُ لاَ يُتَصَوَّرُ إِلاَّ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَتَمْيِيزُ الصَّفْقَةِ عَنِ الصَّفْقَتَيْنِ يَسْتَبْهِمُ أَحْيَانًا لاَ سِيَّمَا فِي حَال الْجَمْعِ بَيْنَ سِلْعَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، إِذْ لَيْسَ التَّعْوِيل عَلَى الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، بَل عَلَى حَقِيقَةِ التَّعَدُّدِ بِالاِعْتِبَارِ الشَّرْعِيِّ، وَقَدِ اعْتَنَى الشَّافِعِيَّةُ بِبَيَانِ ضَابِطِ اتِّحَادِ الصَّفْقَةِ أَوْ تَعَدُّدِهَا (1)
فَالصَّفْقَةُ تَتَعَدَّدُ بِتَفْصِيل الثَّمَنِ عَلَى شَيْئَيْنِ بِيعَا مَعًا، عِنْدَ الإِْيجَابِ مِنَ الْمُبْتَدِئِ بِالْعَقْدِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَتَكَرَّرَ التَّفْصِيل فِي الْقَبُول، عَلَى الأَْصَحِّ، وَكَذَلِكَ تَتَعَدَّدُ الصَّفْقَةُ بِتَعَدُّدِ الْعَاقِدِ مُطْلَقًا، بَائِعًا كَانَ أَوْ مُشْتَرِيًا، وَمِثَال تَعَدُّدِهَا بِتَعَدُّدِ الْبَائِعِ قَوْل اثْنَيْنِ لِوَاحِدٍ: بِعْنَاكَ هَذَا بِكَذَا - وَالْمَبِيعُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا - فَقَبِل الْمُشْتَرِي فِيهِمَا، فَهُمَا صَفْقَتَانِ، وَلَهُ رَدُّ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِالْعَيْبِ مَثَلاً. وَمِثَال تَعَدُّدِهَا بِتَعَدُّدِ الْمُشْتَرِي أَنْ يَقُول لاِثْنَيْنِ: بِعْتُكُمَا هَذَا بِكَذَا. أَوْ يَقُول اثْنَانِ
__________
(1) الاتحاد في الشيء، الانفراد، والاتحاد في الشيئين: الاجتماع ليصيرا شيئًا واحدًا.

(20/57)


لِوَاحِدٍ: اشْتَرَيْنَا مِنْكَ هَذَا بِكَذَا (1) .
فَالتَّفْرِيقُ الْمُسْتَوْجِبُ خِيَارًا هُوَ مَا يَقَعُ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ أَيْ فِي صَفْقَةٍ لَمْ يَتَعَدَّدْ عَاقِدُهَا مِنْ بَائِعٍ أَوْ مُشْتَرٍ، وَلاَ فُصِّل فِيهَا الثَّمَنُ عَلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ الْمُتَعَدِّدِ.

ب - الْبَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ:
3 - الْمُرَادُ بِالْبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ: هُوَ جَمْعُ بَيْعَتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، وَتَسْمِيَةُ ذَلِكَ الْعَقْدِ بَيْعَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الثَّمَنِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صُورَتِهَا وَبَيَانُ أَحْكَامِهَا عَلَى أَقْوَالٍ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ) .

تَقْسِيمٌ وَأَحْكَامٌ مُوجَزَةٌ:
4 - تَعَرَّضَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ تَوَصُّلاً لِحَالَةِ هَلاَكِ بَعْضِ الْمَبِيعِ فَحَسْبُ، حِينَ عَدَّدُوا الْخِيَارَاتِ، فَلَمْ يُفْرِدُوهُ بِاسْمِ الْخِيَارِ بَل قَرَنُوا التَّفَرُّقَ بِتِلْكَ الْحَالَةِ. (2) ثُمَّ اسْتَعْرَضُوا أَحْكَامَ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ فِي رَدِّ الْمَعِيبِ بِاسْتِقْصَاءٍ دُونَ أَنْ يَجْعَلُوا مِنْهُ خِيَارًا، بَل رَأَوْهُ عَيْبًا يَلْزَمُ عَنْ رَدِّ بَعْضِ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ وَيَجِبُ حِمَايَةُ الْبَائِعِ مِنْ تَحَمُّلِهِ. (3)
__________
(1) تحفة المحتاج بحاشية الشرواني 4 / 330 - 331، ومغني المحتاج 2 / 42، والوجيز 2 / 140، والمجموع شرح المهذب 9 / 432.
(2) رد المحتار 4 / 46، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص208، والبحر الرائق 6 / 3.
(3) الفتاوى الهندية 3 / 83.

(20/58)


وَلَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ اخْتَلَفُوا بِحَالَةِ الاِسْتِحْقَاقِ وَتَنَاوَلُوا أَحْكَامَهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ.
وَقَدْ قَسَّمَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ تَعَدُّدَ الصَّفْقَةِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: فِي الاِبْتِدَاءِ، أَوْ فِي الدَّوَامِ، أَوْ فِي اخْتِلاَفِ الأَْحْكَامِ. وَالَّذِي فِي الاِبْتِدَاءِ كُلُّهُ ذُو سَبَبٍ شَرْعِيٍّ، وَعَكْسُهُ الَّذِي فِي الدَّوَامِ فَسَبَبُهُ حِسِّيٌّ. وَالتَّقْسِيمُ بِحَسَبِ السَّبَبِ أَلْيَقُ لِقِيَامِ الْخِيَارَاتِ بِطَرِيقَيْنِ، إِرَادِيٍّ وَحُكْمِيٍّ وَلِكَثْرَةٍ تَسْمِيَةِ الْخِيَارَاتِ بِأَسْبَابِهَا. أَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي دَعَوْهُ " الاِخْتِلاَفَ فِي الأَْحْكَامِ " وَمَثَّلُوا لَهُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ عَقْدَيْنِ: بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ، أَوْ إِجَارَةٍ وَسَلَمٍ، فَالْوَاقِعُ أَنَّهُ لَيْسَ قِسْمًا بِرَأْسِهِ بَل هُوَ تَقْسِيمٌ دَاخِلِيٌّ لِلتَّفْرِيقِ فِي الاِبْتِدَاءِ. وَلِذَا لَمْ يُبْرِزْهُ ابْنُ حَجَرٍ كَقِسْمٍ ثَالِثٍ بَل أَوْرَدَهُ بِصُورَةِ مَسَائِل، وَلَمْ يُدْرِكَ (الشَّرْوَانِيُّ) مُرَادَهُ فَنَبَّهَ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى أَنَّهُ ثَالِثُ الأَْقْسَامِ. (1)
ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ صُوَرًا ثَلاَثًا لِلصَّفْقَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى وَحْدَةِ مُشْتَمَلاَتِهَا وَتَعَدُّدِهَا وَلاَ صِلَةَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ بِالصُّورَةِ الأُْولَى، الَّتِي هِيَ بَيْعُ مَعْلُومٍ وَمَجْهُولٍ، أَمَّا الصُّورَتَانِ الأُْخْرَيَانِ فَهُمَا:
1 - بَيْعُ الْجَمِيعِ فِيمَا يَمْلِكُ بَعْضَهُ.
2 - بَيْعُ الْمُتَقَوِّمِ مَعَ غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ.
وَهَاتَانِ الصُّورَتَانِ أَحْكَامُهُمَا وَاحِدَةٌ مِنْ حَيْثُ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 42، تحفة المحتاج وحاشية الشرواني 4 / 330، المجموع 9 / 432.

(20/58)


ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي، وَلِذَا لُوحِظَ أَحْيَانًا جَمْعُهُمَا تَحْتَ عِنْوَانٍ وَاحِدٍ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَابِلَةِ، يُعَبَّرُ عَنْهُ أَحْيَانًا: (بِاشْتِمَال الصَّفْقَةِ عَلَى شَيْئَيْنِ مِمَّا لاَ يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا بِالإِْجْزَاءِ) .
وَالْمِثَالاَنِ الْمُهِمَّانِ هُمَا:
أ - بَيْعُ مِلْكِهِ وَمِلْكِ غَيْرِهِ.
ب - بَيْعُ خَلٍّ وَخَمْرٍ، وَنَحْوِهِمَا.
أَمَّا مَا لاَ يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَيْهِ فَهُوَ بَاطِلٌ أَوْ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، وَأَمَّا الْبَاقِي فَفِيهِ رِوَايَتَانِ لَدَى الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلاَنِ لِلشَّافِعِيِّ، وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ كَمْ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي مِنَ الثَّمَنِ إِنْ أَجَازَ الْعَقْدَ، أَصَحُّهُمَا حِصَّةُ الْمَمْلُوكِ فَقَطْ إِذَا وَزَّعَ الْقِيمَتَيْنِ وَأَثْبَتُوا لَهُ الْخِيَارَ إِنْ صَحَّحُوا الْعَقْدَ. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ بِالصِّحَّةِ فِي مِلْكِهِ، وَالتَّوَقُّفِ فِي الْبَاقِي عَلَى الإِْجَازَةِ. (1) قَال ابْنُ قُدَامَةَ: " وَالْقَوْل بِالْفَسَادِ فِي هَذَا الْقِسْمِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَظْهَرُ. وَالْحُكْمُ فِي الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ إِذَا جُمِعَتْ مَا يَجُوزُ وَمَا لاَ يَجُوزُ كَالْحُكْمِ فِي الْبَيْعِ، إِلاَّ أَنَّ الظَّاهِرَ فِيهَا الصِّحَّةُ، لأَِنَّهَا لَيْسَتْ عُقُودَ مُعَاوَضَةٍ، فَلاَ تُوجَدُ جَهَالَةُ الْعِوَضِ فِيهَا ". (2)
__________
(1) المغني 4 / 212، مطالب أولي النهى 3 / 45، منتهى الإرادات 1 / 347، المهذب والمجموع 9 / 425.
(2) المغني 4 / 213، المجموع 9 / 383 قال النووي " فإن قلنا: الواجب الثمن فلا خيار للبائع لأنه لا ضرر عليه، فإن قلنا بالقسط فوجهان أصحهما لا خيار له ".

(20/59)


ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْل بِالصِّحَّةِ، إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِالْحَال فَلاَ خِيَارَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإِْمْسَاكِ. وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ خِيَارٌ لأَِنَّهُ رَضِيَ بِزَوَال مِلْكِهِ عَمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِقِسْطِهِ.
وَجْهُ انْتِفَاءِ الْخِيَارِ فِي حَال الْعِلْمِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ دَخَل عَلَى بَصِيرَةٍ، أَمَّا فِي حَال الْجَهْل فَالسَّبَبُ لِلْخِيَارِ قَائِمٌ " لأَِنَّ الصَّفْقَةَ تَبَعَّضَتْ عَلَيْهِ " (1) .
ثُمَّ الْخِيَارُ بَيْنَ الرَّدِّ، أَوِ الإِْمْسَاكِ بِلاَ أَرْشٍ، إِلاَّ إِذَا كَانَ التَّفْرِيقُ يُنْقِصُ الْقِسْمَ الْبَاقِيَ مِنَ الصَّفْقَةِ بِأَنْ تَقِل قِيمَتُهُ بِالْبَيْعِ مُنْفَرِدًا كَمِصْرَاعَيْ بَابٍ وَزَوْجَيْ خُفٍّ. (2)
وَأَحْيَانًا أُخْرَى بِاشْتِمَال الصَّفْقَةِ عَلَى شَيْئَيْنِ مِمَّا يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا بِالأَْجْزَاءِ، كَدَابَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ، وَفِيهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا الصِّحَّةُ فِي مِلْكِهِ فَقَطْ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَالْفَسَادُ فِيمَا لاَ يَمْلِكُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي - وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيِّ - عَدَمُ الصِّحَّةِ فِيهِمَا. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالأَْوْلَى أَنَّهُ يَصِحُّ فِيمَا يَمْلِكُهُ. (3)
وَمُسْتَنَدُ فَسَادِ الصَّفْقَةِ كُلِّهَا: أَنَّهَا جَمَعَتْ
__________
(1) المغني 4 / 214، المجموع 9 / 430 ط2.
(2) منتهى الإرادات 1 / 347، ومطالب أولي النهى 3 / 45.
(3) المهذب للشيرازي والمجموع 9 / 425، والمغني 4 / 212، ومطالب أولي النهى 3 / 45.

(20/59)


حَلاَلاً وَحَرَامًا فَغَلَبَ التَّحْرِيمُ، لأَِنَّ الصَّفْقَةَ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُهَا فِي جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَطَلَتْ فِي الْكُل.
وَمُسْتَنَدُ الصِّحَّةِ فِي الْجُزْءِ: أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ حُكْمٌ لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا ثَبَتَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُهُ، وَلأَِنَّ جَائِزَ الْعَقْدِ عَلَيْهِ مِنْهُمَا قَدْ صَدَرَ فِيهِ الْبَيْعُ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ بِشَرْطِهِ فَصَحَّ، وَالْبَيْعُ سَبَبٌ اقْتَضَى الْحُكْمَ فِي مَحَلَّيْنِ وَامْتَنَعَ حُكْمُهُ فِي أَحَدِهِمَا فَيَصِحُّ فِي الآْخَرِ (1) .

مُوجِبُ خِيَارَاتِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ:
5 - يَنْحَصِرُ اسْتِعْمَال الْخِيَارِ فِي الإِْجَازَةِ وَالْفَسْخِ، فَيُنْظَرُ اخْتِيَارُهُ، فَإِنِ اخْتَارَ الْفَسْخَ فَلاَ إِشْكَال فِي اسْتِرْدَادِهِ الثَّمَنَ كُلَّهُ، أَمَّا إِذَا اخْتَارَ إِمْضَاءَ الْعَقْدِ فِي الْبَاقِي فَكَمْ يَدْفَعُ؟ هَل كُل الثَّمَنِ - وَفِيهِ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ - بِنَاءً عَلَى إِلْحَاقِ الطَّارِئِ بِالْمُقَارَنِ.
أَمْ يَلْزَمُهُ قِسْطُ الْبَاقِي مِنَ الثَّمَنِ - وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ - لأَِنَّ الْعِوَضَ هُنَا قَدْ قَابَل الْمَبِيعَيْنِ (أَوْ جُمْلَةَ الْمَبِيعِ الْوَاحِدِ) مُقَابَلَةً صَحِيحَةً حَال الْعَقْدِ وَانْقَسَمَ الْعِوَضُ عَلَيْهِمَا فَلاَ يَتَغَيَّرُ بِهَلاَكِ بَعْضِهِ أَوِ اسْتِحْقَاقِهِ. (2)
وَيَنْشَأُ تَفَرُّقُ الصَّفْقَةِ الْمُسْتَوْجِبُ خِيَارًا - فِي
__________
(1) المغني 4 / 212 - 213.
(2) المجموع شرح المهذب 9 / 386 - 387، المغني 4 / 331.

(20/60)


كَثِيرٍ مِنَ الأَْحْيَانِ - عَنْ خِيَارِ الْعَيْبِ، وَعِنْدَمَا يُؤْثِرُ الْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ. لَكِنَّ الشَّارِعَ يَمْنَعُ ذَلِكَ تَفَادِيًا لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ.
وَقَدْ فَصَّل الْكَاسَانِيُّ الْحَالاَتِ الَّتِي يَنْشَأُ عَنِ الرَّدِّ لِلْمَعِيبِ فِيهَا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ حُكْمَهَا جَمِيعَهَا الْمَنْعُ بِاسْتِثْنَاءِ حَالَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ مَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ أَشْيَاءَ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلاَّ زُفَرَ (1) . -

6 - وَلِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ صُوَرٌ مُخْتَلِفَةٌ، لَكِنَّ طَابَعَ الْخِيَارَاتِ يَبْرُزُ فِي صُورَتَيْنِ، هُمَا: صُورَةُ الاِسْتِحْقَاقِ الْجُزْئِيِّ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ (وَفِي حُكْمِهِ: انْفِسَاخُ الْعَقْدِ فِي أَحَدِ شَيْئَيْنِ قَبْل الْقَبْضِ) .
وَصُورَةُ الْهَلاَكِ الْجُزْئِيِّ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، (وَمِنْ صُوَرِهِ انْقِطَاعُ بَعْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ عِنْدَ مَحِل الأَْجَل) .

أَوَّلاً: خِيَارُ الاِسْتِحْقَاقِ الْجُزْئِيِّ:
7 - الاِسْتِحْقَاقُ (فِي عَقْدِ الْبَيْعِ) هُوَ ظُهُورُ كَوْنِ الْمَبِيعِ حَقًّا وَاجِبًا لِلْغَيْرِ، وَهُوَ اسْتِحْقَاقٌ كُلِّيٌّ أَوْ جُزْئِيٌّ.
فَالاِسْتِحْقَاقُ الْكُلِّيُّ (وَهُوَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْمَبِيعِ كُلِّهِ) يَجْعَل الْعَقْدَ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُسْتَحِقِّ،
__________
(1) البدائع 5 / 287، وبداية المجتهد 2 / 178 - 179.

(20/60)


وَلاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِظُهُورِ الاِسْتِحْقَاقِ وَلاَ بِالْقَضَاءِ بِهِ، بَل يَظَل مَوْقُوفًا إِلَى أَنْ يَرْجِعَ الْمُشْتَرِي عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ، بِحَيْثُ لَوْ أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ بَعْدَمَا قُضِيَ لَهُ، أَوْ بَعْدَمَا قَبَضَهُ قَبْل أَنْ يَرْجِعَ الْمُشْتَرِي عَلَى بَائِعِهِ يَصِحُّ، عَلَى مَا حَقَّقَهُ ابْنُ الْهُمَامِ (1) .
أَمَّا الاِسْتِحْقَاقُ الْجُزْئِيُّ فَهُوَ مَا يَقَعُ عَلَى بَعْضِ الْمَبِيعِ، سَوَاءٌ ظَهَرَ الاِسْتِحْقَاقُ بَعْدَ الْقَبْضِ، أَوْ قَبْلَهُ، أَوْ بَعْدَ قَبْضِ بَعْضِهِ، وَلاَ فَرْقَ فِي كَوْنِ الْمُسْتَحَقِّ هُوَ الْجُزْءُ الْمَقْبُوضُ أَوْ غَيْرُهُ.
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الاِسْتِحْقَاقَ الْجُزْئِيَّ إِمَّا أَنْ يَظْهَرَ قَبْل الْقَبْضِ، وَإِمَّا بَعْدَهُ: فَإِذَا اسْتُحِقَّ بَعْضُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْل الْقَبْضِ - وَالْمُرَادُ قَبْضُ الْكُل، فَلاَ عِبْرَةَ بِقَبْضِ بَعْضِ الْمَبِيعِ فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يُقْبَضْ - فَحُكْمُ ذَلِكَ الْبَعْضِ الْمُسْتَحَقِّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، فَإِذَا لَمْ يُجِزِ الْمُسْتَحِقُّ فَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ عَلَى الْبَائِعِ بِثَمَنِهِ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُل الْعَقْدُ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ، أَمَّا الْبَاقِي فَلِلْمُشْتَرِي فِيهِ الْخِيَارُ: إِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ. وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ، سَوَاءٌ كَانَ اسْتِحْقَاقُ مَا اسْتَحَقَّ يُوجِبُ الْعَيْبَ فِي الْبَاقِي أَوْ لاَ يُوجِبُ.
وَالْوَجْهُ فِي بُطْلاَنِ الْعَقْدِ فِي بَعْضِ السِّلْعَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ: التَّبَيُّنُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَمْ يَكُنْ مِلْكَ
__________
(1) أحكام الاستحقاق (الكلي) يرجع إلى فتح القدير والعناية 5 / 304، 305، ورد المحتار 5 / 190 - 208 (ط2 الحلبي) .

(20/61)


الْبَائِعِ، وَلَمَّا لَمْ تُوجَدَ الإِْجَازَةُ مِنَ الْمَالِكِ - وَتَلاَهُ اسْتِرْجَاعُ الْمُشْتَرِي لِلثَّمَنِ - انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ.
أَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ فِي الْبَاقِي فَلِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي قَبْل التَّمَامِ، وَتَمَامُ الصَّفْقَةِ بَعْدَ الرِّضَا بِالْقَبْضِ - وَهُوَ لَمْ يَحْصُل - فَكَانَ ظُهُورُ الاِسْتِحْقَاقِ قَبْل الْقَبْضِ مُفَرِّقًا لِلصَّفْقَةِ قَبْل تَمَامِهَا فَلَهُ خِيَارُ الرَّدِّ. (1)
وَإِذَا ظَهَرَ الاِسْتِحْقَاقُ الْجُزْئِيُّ بَعْدَ الْقَبْضِ، كَانَ حُكْمُ الْجُزْءِ الْمُسْتَحَقِّ مُمَاثِلاً لِمَا سَبَقَ، وَأَمَّا الْبَاقِي فَيَفْتَرِقُ حُكْمُهُ بِحَسَبِ كَوْنِ الْمَبِيعِ يَتَعَيَّبُ بِالاِسْتِحْقَاقِ أَوْ لاَ.
فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ، وَكَانَ شَيْئًا وَاحِدًا حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا، كَالدَّارِ وَالْكَرْمِ وَالثَّوْبِ وَنَحْوِهَا، أَوْ كَانَ شَيْئَيْنِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، كَمِصْرَاعَيِ الْبَابِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْبَعْضِ يَقْتَضِي الْخِيَارَ فِي الْبَاقِي، لأَِنَّ الاِسْتِحْقَاقَ أَوْجَبَ عَيْبًا فِي الْبَاقِي، هُوَ عَيْبُ الشَّرِكَةِ فِي الأَْعْيَانِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ شَيْئَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى كَالدَّارَيْنِ أَوْ الثَّوْبَيْنِ، أَوْ كَانَ مِنَ الْمَكِيلاَتِ أَوِ الْمَوْزُونَاتِ، كَصُبْرَةِ قَمْحٍ، أَوْ جُمْلَةِ وَزْنِيٍّ فَإِنَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 288، فتح القدير 5 / 176 - 177، رد المحتار 4 / 90، المبسوط 13 / 102، العناية شرح الهداية 5 / 176 - 177.

(20/61)


اسْتِحْقَاقَ الْبَعْضِ لاَ يُوجِبُ لِلْمُشْتَرِي خِيَارًا بَل يَلْزَمُهُ أَخْذُ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، لأَِنَّهُ لاَ ضَرَرَ فِي التَّبْعِيضِ. وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ لَهُ الرَّدَّ، دَفْعًا لِضَرَرِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ. (1)
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ صُورَتَهَا فِي قَوْلِهِ: " إِنْسَانٌ اشْتَرَى مِنْ آخَرَ أَرْضًا مُشْتَمِلَةً عَلَى نَخْلٍ، ثُمَّ تَقَايَلاَ، ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ بُطْلاَنَ الإِْقَالَةِ، وَحَكَمَ لَهُ الْحَاكِمُ الشَّرْعِيُّ بِذَلِكَ بِشَرْطِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ مِنَ الأَْرْضِ الْمَذْكُورَةِ مَغْرَسَ نَخْلَةٍ مِنَ النَّخْل الْمَذْكُورِ مَمْلُوكًا لِغَيْرِ الْبَائِعِ حِينَ الْبَيْعِ.
فَهَل يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي حِينَئِذٍ بِهَا، وَإِذَا قُلْتُمْ نَعَمْ، فَهَل يَمْنَعُ خِيَارَهُ بِمِلْكِ الْبَائِعِ الْمَغْرَسُ الْمَذْكُورُ وَإِعْطَائِهَا لَهُ، أَوْ إِعْطَاءِ مُسْتَحِقِّهَا إِيَّاهَا لِلْمُشْتَرِي، أَوْ لاَ؟ " وَذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَتَخَيَّرُ بِذَلِكَ، لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ.
وَلَوْ أَرَادَ مَالِكُ الْمَغْرَسِ (غَيْرُ الْبَائِعِ) هِبَتَهُ لِلْمُشْتَرِي لاَ يَسْقُطُ بِذَلِكَ خِيَارُهُ. وَهُوَ ظَاهِرٌ، أَمَّا الْخَفِيُّ فَهُوَ مَا إِذَا مَلَكَ الْبَائِعُ ذَلِكَ الْمَغْرَسَ، وَلَمَّا عُلِمَ ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي وَهَبَهُ لَهُ - أَوْ أَعْرَض عَنْهُ - فَهَذَا يَتَرَدَّدُ فِيهِ النَّظَرُ. وَعَلَى هَذَا دَلاَلاَتٌ مِنْ نُصُوصِ الْفُقَهَاءِ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 289، فتح القدير 5 / 176.
(2) الفتاوى الكبرى 2 / 242 - 246.

(20/62)


ثَانِيًا: خِيَارُ الْهَلاَكِ الْجُزْئِيِّ:
8 - فِي الْهَلاَكِ الْجُزْئِيِّ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، قَبْل الْقَبْضِ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الإِْمْضَاءِ وَالرَّدِّ، لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ.
وَهَذَا أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ حَالاَتِ الْهَلاَكِ الْمُتَنَوِّعَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى السَّبَبِ، ثُمَّ تَخْتَلِفُ كَيْفِيَّةُ الإِْمْضَاءِ (بَعْدَ اسْتِبْعَادِ حَالَةِ هَلاَكِهِ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ حَيْثُ يَسْتَوِي حُكْمُهَا وَحُكْمُ الْهَلاَكِ الْكُلِّيِّ مِنَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الإِْمْضَاءِ وَتَضْمِينِ الْمُتَعَدِّي أَوِ الْفَسْخِ وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الأَْجْنَبِيِّ وَالْبَائِعِ) وَالتَّفَاوُتُ فِي الْحُكْمِ ذُو حَالَتَيْنِ: الْهَلاَكُ بِفِعْل الْبَائِعِ، وَفِيهَا يَسْقُطُ مِنَ الثَّمَنِ قَدْرُ النَّقْصِ، سَوَاءٌ كَانَ نَقْصَ قَدْرٍ، أَوْ نُقْصَانَ وَصْفٍ. وَالْهَلاَكُ بِسَبَبٍ سَمَاوِيٍّ، أَوْ بِفِعْل الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ حَيْثُ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ ذَلِكَ. فَمَعَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ، يُطْرَحُ مِنَ الثَّمَنِ حِصَّةُ الْفَائِتِ إِنْ كَانَ النَّقْصُ فِي الْقَدْرِ. أَمَّا إِنْ كَانَ نُقْصَانَ وَصْفٍ فَلاَ يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ " وَالْمُرَادُ بِالْوَصْفِ مَا يَدْخُل تَحْتَ الْبَيْعِ بِلاَ ذِكْرٍ كَالأَْشْجَارِ وَالْبِنَاءِ فِي الأَْرْضِ، وَالأَْطْرَافِ فِي الْحَيَوَانِ، وَالْجَوْدَةِ فِي الْكَيْلِيِّ وَالْوَزْنِيِّ " (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَلِفَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً، قَبْل الْقَبْضِ، يُفْسَخُ الْعَقْدُ فِي التَّالِفِ بِلاَ خِلاَفٍ.
أَمَّا فِي الْبَاقِي فَلَهُمْ فِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ
__________
(1) رد المحتار 4 / 46، بدائع الصنائع 5 / 239.

(20/62)


عَلَى الْخِلاَفِ فِيمَنْ بَاعَ مِلْكَهُ وَمِلْكَ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ مَا يَحْدُثُ قَبْل الْقَبْضِ كَالْمَوْجُودِ فِي حَال الْعَقْدِ فِي إِبْطَال الْعَقْدِ، وَأَصَحُّهُمَا الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لاَ يَنْفَسِخُ لِعَدَمِ عِلَّتَيِ الْفَسَادِ هُنَاكَ.
فَإِذَا قِيل بِعَدَمِ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ فِي الْبَاقِي، لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ، وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ إِلاَّ قِسْطُ الْبَاقِي، لأَِنَّ الْعِوَضَ هُنَا قَابَل الْمَبِيعَيْنِ مُقَابَلَةً صَحِيحَةً حَال الْعَقْدِ وَانْقَسَمَ الْعِوَضُ عَلَيْهِمَا فَلاَ يَتَغَيَّرُ بِهَلاَكِ بَعْضِهِ.
هَذَا إِذَا كَانَ الْمَقْبُوضُ بَاقِيًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ ثُمَّ تَلِفَ الآْخَرُ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَفِي الاِنْفِسَاخِ فِي الْمَقْبُوضِ خِلاَفٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الصُّورَةِ السَّابِقَةِ، وَأَوْلَى بِعَدَمِ الاِنْفِسَاخِ لِتَلَفِهِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي. وَإِذَا قِيل بِعَدَمِ الاِنْفِسَاخِ، فَهَل لَهُ الْفَسْخُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا نَعَمْ، وَيَرُدُّ قِيمَتَهُ وَيَسْتَرِدُّ الثَّمَنَ إِنْ كَانَ سَلَّمَهُ، وَأَصَحُّهُمَا لاَ، بَل عَلَيْهِ حِصَّتُهُ مِنَ الثَّمَنِ.
وَقَدْ عَلَّل الشَّافِعِيَّةُ حَجْبَ الْخِيَارِ عَنِ الْبَائِعِ بِأَنَّهُ لَمْ يَلْحَقْهُ نَقْصٌ فِيمَا يَخُصُّ مِلْكَهُ.
وَمِمَّا لَهُ حُكْمُ تَلَفِ بَعْضِ الصَّفْقَةِ، مَا لَوْ انْقَطَعَ بَعْضُ الْمُسْلَمِ فِيهِ عِنْدَ الْمَحَل، وَكَانَ الْبَاقِي مَقْبُوضًا أَوْ غَيْرَ مَقْبُوضٍ، قَال النَّوَوِيُّ: " فَإِذَا قُلْنَا: لَوِ انْقَطَعَ الْجَمِيعُ لَمْ يَنْفَسِخِ الْعَقْدُ كَانَ

(20/63)


الْمُسْلِمُ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ فَسَخَ الْعَقْدَ فِي الْجَمِيعِ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهُ فِي الْجَمِيعِ. وَهَل لَهُ الْفَسْخُ فِي الْقَدْرِ الْمُنْقَطِعِ وَالإِْجَازَةُ فِي الْبَاقِي؟ فِيهِ قَوْلاَنِ (1) .

خِيَارُ التَّفْلِيسِ
انْظُرْ: إِفْلاَسٌ
خِيَارُ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ
انْظُرْ: بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ
خِيَارُ التَّوْلِيَةِ
انْظُرْ: تَوْلِيَةٌ
__________
(1) المجموع شرح المهذب 9 / 383، 386 - 387.

(20/63)


خِيَارُ الرُّؤْيَةِ

التَّعْرِيفُ:
1 - سَبَقَ تَعْرِيفُ الْخِيَارِ لُغَةً فِي مُصْطَلَحِ: " خِيَارٌ " بِوَجْهٍ عَامٍّ.
أَمَّا لَفْظُ (الرُّؤْيَةِ) مِنَ الْمُرَكَّبِ الإِْضَافِيِّ (خِيَارُ الرُّؤْيَةِ) فَهُوَ مَصْدَرٌ لِفِعْل رَأَى يَرَى وَمَعْنَاهُ لُغَةً: النَّظَرُ بِالْعَيْنِ وَبِالْقَلْبِ. (1)
أَمَّا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ اصْطِلاَحًا: فَهُوَ حَقٌّ يَثْبُتُ بِهِ لِلْمُتَمَلِّكِ الْفَسْخُ، أَوِ الإِْمْضَاءُ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَحَل الْعَقْدِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي عَقَدَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرَهُ، وَالإِْضَافَةُ فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ مِنْ إِضَافَةِ السَّبَبِ إِلَى الْمُسَبَّبِ أَيْ خِيَارٌ سَبَبُهُ الرُّؤْيَةُ (2) .
وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ يَثْبُتُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ نَظَرًا لِلْعَاقِدِ الَّذِي أَقْدَمَ عَلَى شِرَاءِ مَا لَمْ يَرَهُ، فَرُبَّمَا لاَ يَكُونُ مُوَافِقًا لَهُ، فَقَدْ أَبَاحَ لَهُ الشَّارِعُ مُمَارَسَةَ حَقِّ الْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِهِ أَوِ الاِسْتِمْرَارِ فِيهِ، وَهَكَذَا لاَ يَحْتَاجُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ إِلَى اشْتِرَاطٍ عِنْدَ جُمْهُورِ
__________
(1) المصباح المنير، والمغرب، والقاموس المحيط مادة: " رأى ".
(2) رد المحتار 4 / 22، فتح القدير 5 / 137، البحر الرائق 6 / 18.

(20/64)


الْقَائِلِينَ بِهِ، إِلاَّ الْمَالِكِيَّةَ فَهُوَ عِنْدَهُمْ خِيَارٌ إِرَادِيٌّ يُشْتَرَطُ فِي بَيْعِ الْغَائِبِ أَحْيَانًا تَصْحِيحًا لَهُ.
وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ - بِالرَّغْمِ مِنْ سَلْكِهِ فِي عِدَادِ خِيَارَاتِ الْجَهَالَةِ - هُوَ مِنَ الْخِيَارَاتِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا إِتَاحَةُ الْمَجَال لِلْعَاقِدِ لِيَتَرَوَّى وَيَنْظُرَ هَل الْمَبِيعُ صَالِحٌ لِحَاجَتِهِ أَمْ لاَ؟

خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالْمَذَاهِبُ فِيهِ:
2 - الْقَوْل بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ إِيجَابًا أَوْ نَفْيًا مُرْتَبِطٌ كُل الاِرْتِبَاطِ بِبَيْعِ الشَّيْءِ الْغَائِبِ صِحَّةً وَفَسَادًا.
وَمِنَ الضَّرُورِيِّ التَّعْجِيل بِبَيَانِ الْمُرَادِ بِالْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِمُ (الْعَيْنُ الْغَائِبَةُ) فَالْمُرَادُ خُصُوصُ غَيْبَتِهَا عَنِ الْبَصَرِ بِحَيْثُ لَمْ تَجْرِ رُؤْيَتُهَا عِنْدَ الْعَقْدِ. سَوَاءٌ أَكَانَتْ غَائِبَةً أَيْضًا عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ أَوْ حَاضِرَةً فِيهِ لَكِنَّهَا مَسْتُورَةٌ عَنْ عَيْنِ الْعَاقِدِ، فَهِيَ تُسَمَّى غَائِبَةً فِي كِلْتَا الْحَالَيْنِ، وَيَسْتَوِي فِي غِيَابِهَا عَنِ الْمَجْلِسِ أَنْ تَكُونَ فِي الْبَلَدِ نَفْسِهِ أَوْ فِي بَلَدٍ آخَرَ مِنْ حَيْثُ مَفْهُومُ الْغَيْبَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَ الْحُكْمُ أَحْيَانًا.
فَالْغَائِبُ هُنَا هُوَ غَيْرُ الْمَرْئِيِّ، إِمَّا لِعَدَمِ حُضُورِهِ، وَإِمَّا لاِنْتِفَاءِ رُؤْيَتِهِ بِالرَّغْمِ مِنْ حُضُورِهِ، فَلَيْسَ كُل حَاضِرٍ مَرْئِيًّا، فَقَدْ يَكُونُ حَاضِرًا غَيْرَ مَرْئِيٍّ (1) .
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 27، وتفريعات غير المالكية واستعمالاتهم تدل عليه أيضًا، والمحلى 8 / 341.

(20/64)


مَشْرُوعِيَّةُ بَيْعِ الْغَائِبِ:
3 - بَيْعُ الْغَائِبِ مَعَ الْوَصْفِ صَحِيحٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي الْجُمْلَةِ وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٌ) ف 43 وَ 44 (ج 9 23)
مَشْرُوعِيَّةُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
1 - إِثْبَاتُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، بِحُكْمِ الشَّرْعِ - دُونَ حَاجَةٍ إِلَى اتِّفَاقِ الإِْرَادَتَيْنِ عَلَيْهِ - وَتَمْكِينُ الْعَاقِدِ بِمُوجَبِهِ مِنَ الْفَسْخِ أَوِ الإِْمْضَاءِ عَلَى سَبِيل التَّرَوِّي، وَلَوْ كَانَ مَا اشْتَرَاهُ مُوَافِقًا لِمَا وُصِفَ لَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ. وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ.
2 - الْقَوْل بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ يَشْتَرِطُهُ الْمُشْتَرِي فِي بَيْعِ مَا لَمْ يَرَهُ لِيَصِحَّ عَقْدُهُ، وَهُوَ لاَ يَثْبُتُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ بَل هُوَ إِرَادِيٌّ مَحْضٌ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِدِ اشْتِرَاطُهُ فِي بَعْضِ صُوَرِ بَيْعِ الْغَائِبِ وَبِدُونِهِ يَفْسُدُ الْعَقْدُ، وَهَذَا تَحْقِيقُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ.
3 - نَفْيُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْقَوْل الْجَدِيدُ الْمُعْتَبَرُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ.

أَدِلَّةُ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُمْ:
5 - احْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ} (1) . وَهَذَا عَلَى عُمُومِهِ، فَيَشْمَل بَيْعَ
__________
(1) سورة البقرة / 275.

(20/65)


الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ، وَلاَ يَخْرُجُ مِنْهُ إِلاَّ بَيْعٌ مَنَعَهُ كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ أَوْ إِجْمَاعٌ.
وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذَا رَآهُ. (1)
وَقَدْ جَاءَ مِنْ رِوَايَةِ مَكْحُولٍ مُرْسَلاً بِلَفْظِهِ وَزِيَادَةِ: إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ. (2)
وَمِنَ الآْثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ الصَّحَابَةِ مَا أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ اشْتَرَى مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مَالاً، فَقِيل لِعُثْمَانَ: إِنَّكَ قَدْ غُبِنْتَ - وَكَانَ الْمَال بِالْكُوفَةِ لَمْ يَرَهُ عُثْمَانُ حِينَ مَلَكَهُ - فَقَال عُثْمَانُ: لِي الْخِيَارُ لأَِنِّي بِعْتُ مَا لَمْ أَرَ. فَقَال طَلْحَةُ: لِي الْخِيَارُ، لأَِنِّي اشْتَرَيْتُ مَا لَمْ أَرَ، فَحَكَّمَا بَيْنَهُمَا جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ فَقَضَى أَنَّ الْخِيَارَ لِطَلْحَةَ وَلاَ خِيَارَ لِعُثْمَانَ (3) .
__________
(1) حديث: " من اشترى شيئًا لم يره فهو بالخيار إذا رآه. . . " أخرجه الدارقطني (3 / 5 - ط دار المحاسن) من حديث أبي هريرة، قال الدارقطني: " هذا باطل لا يصح "، وذلك لراوٍ متهم بالوضع في سنده، وأعله ابن القطان بعلة أخرى، وهي جهالة الراوي عن ذاك المتهم، كذا في نصب الراية للزيلعي (4 / 9 - ط المجلس العلمي بالهند) .
(2) رواية مكحول، أخرجها الدارقطني (3 / 4 - ط دار المحاسن) وقال: " هذا مرسل، وأبو بكر بن أبي مريم (الراوي عن مكحول) ضعيف ".
(3) معاني الآثار، للطحاوي 4 / 10، وقد أورده استطرادًا في (تلقي الجلب) ولم يبوب لخيار الرؤية.، ونصب الراية 4 / 10، وقال: أخرجه الطحاوي، ثم البيهقي، وكذلك في فتح الباري 5 / 524، والمجموع 9 / 316.

(20/65)


وَاسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْمَعْقُول:
بِالْقِيَاسِ عَلَى النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ الزَّوْجَيْنِ بِالإِْجْمَاعِ، وَالْقِيَاسِ عَلَى بَيْعِ مَا لَهُ صَوَانِي كَالرُّمَّانِ وَالْجَوْزِ (1) .

دَلِيل الْمَانِعِينَ:
6 - وَدَلِيل مَنْ لَمْ يَقُل بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ أَنَّ بَيْعَ الْغَائِبِ أَصْلاً لاَ يَصِحُّ كَمَا سَبَقَ. وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ عِنْدَهُمْ هُوَ أَشْبَهُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ، لأَِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِدِ اشْتِرَاطُهُ لِيَصِحَّ بَيْعُ الْغَائِبِ.

سَبَبُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ:
7 - إِنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ هَذَا الْخِيَارِ هُوَ عَدَمُ الرُّؤْيَةِ، كَمَا يَدُل عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ، وَاسْمُهُ، وَتَعْرِيفُهُ، وَقَال آخَرُونَ: إِنَّ سَبَبَهُ هُوَ الرُّؤْيَةُ نَفْسُهَا، فَالإِْضَافَةُ إِلَى الرُّؤْيَةِ هِيَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى سَبَبِهِ (وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى شَرْطِهِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ) . (2) وَلاَ يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الاِخْتِلاَفِ كَبِيرُ فَائِدَةٍ.

الْمُرَادُ بِالرُّؤْيَةِ:
8 - الْمُرَادُ بِالرُّؤْيَةِ فِي هَذَا الْمَجَال: الْعِلْمُ بِالْمَقْصُودِ الأَْصْلِيِّ مِنْ مَحَل الْعَقْدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ
__________
(1) المجموع 9 / 331.
(2) فتح القدير 5 / 137.

(20/66)


يَحْصُل بِالرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ أَوْ بِأَيِّ حَاسَّةٍ مِنَ الْحَوَاسِّ، كَاللَّمْسِ، وَالْجَسِّ، أَوِ الذَّوْقِ، أَوِ الشَّمِّ، أَوِ السَّمْعِ. فَهُوَ فِي كُل شَيْءٍ بِحَسَبِهِ. (1)
وَفِي رُؤْيَةِ مَا سَبِيل الْعِلْمِ بِهِ الرُّؤْيَةُ لاَ يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ جَمِيعِهِ، بَل يَكْفِي رُؤْيَةُ مَا يَدُل عَلَى الْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَحَل شَيْئًا وَاحِدًا، أَوْ أَشْيَاءَ لاَ تَتَفَاوَتُ آحَادُهَا كَالْمِثْلِيَّاتِ.
فَفِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ يُعْتَبَرُ رُؤْيَةُ مَا يَدُل عَلَى الْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ (2) .

الرُّؤْيَةُ فِي الْمِثْلِيَّاتِ:
9 - الْمَحَل الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ إِمَّا مِثْلِيٌّ وَإِمَّا قِيَمِيٌّ، وَتَخْتَلِفُ الرُّؤْيَةُ الْمُعْتَبَرَةُ - أَوِ الاِطِّلاَعُ وَالْعِلْمُ - فِي أَحَدِهِمَا عَنِ الآْخَرِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمِثْلِيِّ هُنَا مَا كَانَ مُعَيَّنًا مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ، لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الأَْعْيَانِ، أَمَّا إِذَا كَانَ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ فَهُوَ دَيْنٌ وَلاَ يَجْرِي فِي الْعَقْدِ عَلَيْهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لأَِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالأَْعْيَانِ (3) .
__________
(1) رد المحتار 4 / 68 وإنما مثلوا له بالدفوف التي تنقر في الغزو حثا على الإقدام، ليكون المثل مما لا خلاف في إباحة التبايع فيه.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 62 الفصل الثاني فيما تكون رؤية بعضه كرؤية الكل في إبطال الخيار، وفتح القدير، والعناية شرح الهداية 5 / 142.
(3) المبسوط 13 / 72، والهداية، وفتح القدير، والعناية 5 / 142، والهندية 3 / 64، والبدائع للكاساني 5 / 294.

(20/66)


الرُّؤْيَةُ فِي الْقِيَمِيَّاتِ:
10 - الْقِيَمِيَّاتُ أَوِ الأَْشْيَاءُ غَيْرُ الْمِثْلِيَّةِ وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا: الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَفَاوِتَةُ، كَالدَّوَابِّ، وَالأَْرَاضِي، وَالثِّيَابِ الْمُتَفَاوِتَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لاَ بُدَّ فِيهَا مِنْ رُؤْيَةِ مَا يَدُل عَلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، أَوْ رُؤْيَةِ ذَلِكَ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنْهَا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الأَْشْيَاءِ الْمُتَفَاوِتَةِ، كَعِدَّةِ دَوَابٍّ مَثَلاً، لأَِنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ لاَ تُعَرِّفُ الْبَاقِيَ لِلتَّفَاوُتِ فِي آحَادِهِ (1) .

صُوَرٌ خَاصَّةٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ:
أ - الرُّؤْيَةُ مِنْ خَلْفِ زُجَاجٍ: لاَ تَكْفِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يُرَى مَا فِيهِ أَوْ مَا خَلْفَهُ دُونَ حَائِلٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَكْفِي، لأَِنَّ الزُّجَاجَ لاَ يُخْفِي صُورَةَ الْمَرْئِيِّ، وَرَوَى هِشَامٌ أَنَّ قَوْل مُحَمَّدٍ مُوَافِقٌ لِقَوْل أَبِي حَنِيفَةَ (2) .

ب - الرُّؤْيَةُ لِمَا هُوَ فِي الْمَاءِ: كَسَمَكٍ (يُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْ غَيْرِ اصْطِيَادٍ) قَال بَعْضُهُمْ: يَسْقُطُ خِيَارُهُ، لأَِنَّهُ رَأَى عَيْنَ الْمَبِيعِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ يَسْقُطُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لأَِنَّ الْمَبِيعَ لاَ يُرَى فِي الْمَاءِ عَلَى حَالِهِ بَل يُرَى أَكْبَرَ مِمَّا هُوَ، فَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ لاَ تُعَرِّفُ الْمَبِيعَ (3) .
__________
(1) فتح القدير والعناية 5 / 142 - 143.
(2) فتح القدير 5 / 144، والفتاوى الهندية 3 / 63 نقلاً عن الخلاصة.
(3) فتح القدير 5 / 144، والفتاوى الهندية 3 / 63 نقلاً عنه وعن السراج الوهاج.

(20/67)


ج - الرُّؤْيَةُ بِوَسَاطَةِ الْمِرْآةِ: قَالُوا: لاَ يَسْقُطُ خِيَارُهُ، لأَِنَّهُ مَا رَأَى عَيْنَهُ بَل مِثَالَهُ (1) .

د - الرُّؤْيَةُ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ رَقِيقٍ: تُعْتَبَرُ رُؤْيَةً، عَلَى مَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ (2) .

هـ - الرُّؤْيَةُ فِي ضَوْءٍ يَسْتُرُ لَوْنَ الشَّيْءِ: كَرُؤْيَةِ وَرَقٍ أَبْيَضَ أَوْ قُمَاشٍ، فِي ضَوْءٍ يَسْتُرُ مَعْرِفَةَ بَيَاضِهِ كَضَوْءِ النَّارِ، لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، لاَ تُعْتَبَرُ رُؤْيَةً مُسْقِطَةً لِقِيَامِ الْخِيَارِ (3) .

و الرُّؤْيَةُ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْعْمَى: لاَ يَثُورُ التَّسَاؤُل فِيهِ إِلاَّ فِيمَا سَبِيل مَعْرِفَتِهِ الرُّؤْيَةُ بِالْبَصَرِ، أَمَّا مَا يُعْرَفُ بِالذَّوْقِ، أَوِ الشَّمِّ، أَوِ الْجَسِّ، فَهُوَ فِي ذَلِكَ كَالْبَصِيرِ، أَمَّا مَا لاَ بُدَّ مِنْ رُؤْيَتِهِ كَالدَّارِ وَنَحْوِهَا وَالنَّمُوذَجِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ فَيُغْنِي عَنِ الرُّؤْيَةِ الْوَصْفُ بِأَبْلَغِ مَا يُمْكِنُ، فَإِذَا قَال: قَدْ رَضِيتُ، سَقَطَ خِيَارُهُ، لأَِنَّ الْوَصْفَ يُقَامُ مُقَامَ الرُّؤْيَةِ أَحْيَانًا، كَالسَّلَمِ، وَالْمَقْصُودُ رَفْعُ الْغَبْنِ عَنْهُ، وَذَلِكَ يَحْصُل بِالْوَصْفِ وَإِنْ كَانَ بِالرُّؤْيَةِ أَتَمَّ (4) .
__________
(1) فتح القدير 5 / 144، ورد المحتار 4 / 68 كلاهما عن التحفة:، وهو في الهندية 3 / 63 نقلاً عن السراج. وعلى هذا يجري الحكم في رؤية صورة الشيء الفوتوغرافية، لأنه أشبه شيء بالمرآة فضلاً عن احتمال التغير ما بين رؤية الصورة ورؤية الحقيقة.
(2) الهندية 3 / 63.
(3) نهاية المحتاج 3 / 416.
(4) فتح القدير 5 / 147، والمبسوط 13 / 77، والبدائع 5 / 298، والكلام عن الرؤية بالنسبة للأعمى شامل الرؤية التي توجد قبل الشراء، أو قبل القبض فتمنع قيام الخيار وهو في ذلك كالبصير، ومثل الأعمى فاقد شيء من الحواس الأخرى (البدائع 5 / 292) .

(20/67)


دُورُ الْعُرْفِ فِي تَحْدِيدِ الرُّؤْيَةِ الْجُزْئِيَّةِ الْكَافِيَةِ:
11 - تَنَاوَل الْفُقَهَاءُ بِالْبَيَانِ الْمُسْهَبِ بَعْضَ تِلْكَ الأَْشْيَاءِ الْقِيَمِيَّةِ (الْمُتَفَاوِتَةِ الآْحَادِ) وَخَاصَّةً مَا تَكْثُرُ الْحَاجَةُ إِلَى تَدَاوُلِهِ، فَذَكَرُوا مَا تَكْفِي رُؤْيَتُهُ مِنْ كُلٍّ مِنْهَا لاِعْتِبَارِ الْخِيَارِ حَاصِلاً عَقِبَ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ الْمُقْتَضِبَةِ، فَيُعْتَبَرُ حِينَئِذٍ الرِّضَا وَالْفَسْخُ بَعْدَهَا. وَالْخِلاَفُ فِي الرُّؤْيَةِ الْكَافِيَةِ الْمُثْبِتَةِ لِلْخِيَارِ قَدْ نَشَأَ بِنَاءً عَلَى الْعُرْفِ الْمَكَانِيِّ أَوِ الزَّمَانِيِّ، وَذَلِكَ يُتِيحُ الْمَجَال لِوَسْمِ جَمِيعِ مَا ذَكَرُوهُ بِهَذَا الْمِيسَمِ، أَيْ أَنَّهُ تَصْوِيرٌ لِلْعُرْفِ فِي مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ مُعَيَّنٍ، وَأَنَّهُ لاَ ضَيْرَ فِي الاِنْعِتَاقِ عَنْ تِلْكَ الْقُيُودِ إِذَا كَانَ الْعُرْفُ قَدْ تَغَيَّرَ، أَمَّا فِيمَا كَانَتِ الْعِلَّةُ فِي الاِجْتِزَاءِ بِرُؤْيَةِ بَعْضِهِ مُسْتَمَدَّةً مِنَ الْعَقْل أَوِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، فَذَلِكَ بَاقٍ لِبَقَاءِ عَوَامِل اعْتِبَارِهِ (1) .

شَرَائِطُ قِيَامِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ:

أ - كَوْنُ الْمَحَل الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَيْنًا:
12 - الْمُرَادُ بِالْعَيْنِ مَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ عَلَى عَيْنِهِ، لاَ عَلَى مِثْلِهِ، وَهُوَ مُقَابِل الدَّيْنِ (بِمَعْنَى مَا يُعَيَّنُ بِالْوَصْفِ وَيَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ) . قَال ابْنُ الْهُمَامِ: لاَ يُتَصَوَّرُ فِي النَّقْدِ وَسَائِرِ الدُّيُونِ خِيَارُ رُؤْيَةٍ،
__________
(1) انظر الهداية، وشرحها العناية 5 / 143، وفتح القدير 5 / 143، والفتاوى الهندية 3 / 62.

(20/68)


لأَِنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ عَلَى مِثْلِهَا لاَ عَلَى عَيْنِهَا. حَتَّى لَوْ بَاعَهُ هَذَا الدِّينَارُ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، لِصَاحِبِ الدِّينَارِ أَنْ يَدْفَعَ غَيْرَهُ، وَكَذَا لِصَاحِبِ الدَّرَاهِمِ. بِخِلاَفِ الأَْوَانِي وَالْحُلِيِّ.
وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مِمَّا لاَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِرَدِّهِ، لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ لِلْعَقْدِ لاَ يَتَعَيَّنُ لِلْفَسْخِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ، وَقِيَامُ الْعَقْدِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بِمِثْلِهِ، فَإِذَا قَبَضَ يَرُدُّهُ هَكَذَا إِلَى مَا لاَ نِهَايَةَ لَهُ، فَلَمْ يَكُنِ الرَّدُّ مُفِيدًا، لأَِنَّ الْعَقْدَ إِنَّمَا يَرِدُ عَلَى الْمَمْلُوكِ بِالْعَقْدِ، وَمَا لاَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ لاَ يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ فَلاَ يَرِدُ عَلَيْهِ الْفَسْخُ. (1)
وَكَذَلِكَ لاَ حَاجَةَ لِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فِي غَيْرِ الأَْعْيَانِ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَيْعِ تَحْقِيقُ الرِّضَا، وَرِضَاهُ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ مَوْكُولٌ بِالْوَصْفِ، فَإِذَا تَحَقَّقَ الْوَصْفُ حَصَل الرِّضَا وَانْتَفَى مَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْخِيَارِ. (2)
فَيُشْتَرَطُ لِثُبُوتِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ أَنْ يَكُونَ مَحَل الْعَقْدِ (الْمَبِيعُ مَثَلاً) مِنَ الأَْعْيَانِ (أَيِ الأَْمْوَال الْعَيْنِيَّةِ) وَهِيَ مَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَلاَ يَحِقُّ لِدَافِعِهَا تَبْدِيلُهَا. (3)
__________
(1) فتح القدير 5 / 367، 139، ورد المحتار 4 / 63، والعناية 5 / 140.
(2) فتح القدير 5 / 367.
(3) فتح القدير 5 / 367، البدائع 5 / 392.

(20/68)


وَمِثَال الأَْعْيَانِ: الأَْرَاضِي وَالدَّوَابُّ وَكُل مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ.
أَمَّا الْمِثْلِيَّاتُ فَبَعْضُهَا أَعْيَانٌ وَبَعْضُهَا دُيُونٌ، بِحَسَبِ تَعْيِينِ الْعَاقِدِ لَهَا، فَإِذَا عَقَدَ عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ مُعَيَّنٍ بِالإِْشَارَةِ أَوْ أَيَّةِ وَسِيلَةٍ تَجْعَل الْعَقْدَ يَنْصَبُّ عَلَيْهَا دُونَ أَمْثَالِهَا فَهِيَ حِينَئِذٍ عَيْنٌ، وَيَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، أَمَّا إِذَا قَال: بِعْتُكَ كَذَا مِنَ الْحِنْطَةِ، وَبَيَّنَ أَوْصَافَهَا، فَهِيَ قَدْ ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ وَلَمْ تَقَعْ عَلَى مُعَيَّنٍ، بِالرَّغْمِ مِنْ كَوْنِهَا عِنْدَهُ لَكِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْهَا لِلْعَقْدِ. وَعَلَى هَذَا قَال قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوِيهِ: " الْمَكِيل وَالْمَوْزُونُ إِذَا كَانَ عَيْنًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الأَْعْيَانِ، وَكَذَا التِّبْرُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالأَْوَانِي، وَلاَ يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِيمَا مُلِكَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ كَالسَّلَمِ (أَيِ الْمُسْلَمِ فِيهِ) ، وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا، وَالْمَكِيل وَالْمَوْزُونُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ". (1)
قَال ابْنُ الْهُمَامِ: وَمِنْهُ - أَيِ الأَْعْيَانِ - بَيْعُ إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الأَْثْمَانِ الْخَالِصَةِ. وَكَذَا رَأْسُ مَال السَّلَمِ إِذَا كَانَ عَيْنًا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِلْمُسْلَمِ إِلَيْهِ، أَمَّا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ فَقَدْ تَمَحَّضَتْ دُيُونًا فَهِيَ لاَ تَقْبَل التَّعْيِينَ. (2)
__________
(1) فتاوى قاضيخان، بهامش الهندية 2 / 187.
(2) فتح القدير 5 / 83، 139، ورد المحتار 4 / 22، 63. .

(20/69)


ب - كَوْنُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي عَقْدٍ يَقْبَل الْفَسْخَ: أَيْ يَنْفَسِخُ بِالرَّدِّ:
13 - وَذَلِكَ كَالْبَيْعِ، فَإِذَا رَدَّ الْمَبِيعَ انْفَسَخَ الْعَقْدُ، وَكَالإِْجَارَةِ - إِذَا رَدَّ الْعَيْنَ الْمَأْجُورَةَ - وَالصُّلْحِ عَنْ دَعْوَى الْمَال بِرَدِّ الْمَال الْمُصَالَحِ عَنْهُ، وَالْقِسْمَةِ بِرَدِّ النَّصِيبِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ تَنْفَسِخُ بِرَدِّ مَحَلِّهَا فَيَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، أَمَّا مِثْل الْمَهْرِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، أَوِ الْبَدَل فِي الْخُلْعِ، وَبَدَل الصُّلْحِ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّ تِلْكَ الْعُقُودَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَيْهَا لاَ تَنْفَسِخُ بِرَدِّ هَذِهِ الأَْمْوَال بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّهَا أَعْيَانٌ.
ذَلِكَ أَنَّ الرَّدَّ لَمَّا لَمْ يُوجِبِ الاِنْفِسَاخَ بَقِيَ الْعَقْدُ قَائِمًا، وَقِيَامُهُ يُوجِبُ الْمُطَالَبَةَ بِالْعَيْنِ لاَ بِمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الْقِيمَةِ. فَلَوْ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ أَبَدًا. إِذْ كُلَّمَا آلَتْ إِلَيْهِ عَيْنٌ بَدِيلَةٌ ثَبَتَ فِيهَا خِيَارُ رُؤْيَةٍ وَرَدٍّ وَهَكَذَا، فَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مِمَّا يَنْفَسِخُ بِالرَّدِّ لِيَكُونَ لِثُبُوتِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ فِيهِ جَدْوَى. (1)

ج - عَدَمُ الرُّؤْيَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ، أَوْ قَبْلَهُ، مَعَ عَدَمِ التَّغَيُّرِ:
14 - سَبَبُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ أَنَّ الرُّؤْيَةَ السَّابِقَةَ تَمْنَعُ ثُبُوتَ الْخِيَارِ إِذَا تَوَفَّرَ فِيهَا أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا: عَدَمُ التَّغَيُّرِ، فَبِالتَّغَيُّرِ يَصِيرُ شَيْئًا آخَرَ فَيَكُونُ مُشْتَرِيًا شَيْئًا لَمْ يَرَهُ.
__________
(1) فتح القدير 5 / 140، وعنه رد المحتار 4 / 63.

(20/69)


وَالأَْمْرُ الثَّانِي: لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا وَقْتَ الْعَقْدِ أَنَّ مَا يَعْقِدُ عَلَيْهِ هُوَ مَرْئِيُّهُ السَّابِقُ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ كَأَنْ رَأَى ثَوْبًا ثُمَّ اشْتَرَاهُ مَلْفُوفًا بِسَاتِرٍ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ أَنَّهُ ذَلِكَ الَّذِي رَآهُ فَلَهُ الْخِيَارُ. لِعَدَمِ مَا يُوجِبُ الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِالرِّضَا.
وَسَوَاءٌ فِي الرُّؤْيَةِ أَنْ تَكُونَ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كُلِّهِ، أَوْ لِنَمُوذَجٍ مِنْهُ، أَوِ الْجُزْءِ الدَّال عَلَى الْكُل.
وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ فِي الرُّؤْيَةِ السَّابِقَةِ أَنْ تَحْصُل مَعَ قَصْدِ الشِّرَاءِ حِينَئِذٍ، فَلَوْ رَآهُ لاَ لِقَصْدِ الشِّرَاءِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ عِنْدَ هَؤُلاَءِ.
وَهَذَا الْقَيْدُ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ وَجَامِعِ الْفُصُولَيْنِ مُصَدَّرًا بِلَفْظِ " قِيل " - وَهِيَ صِيغَةُ تَمْرِيضٍ - لَكِنَّ ابْنَ نُجَيْمٍ فِي الْبَحْرِ قَال عَقِبَهُ: " وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ، لأَِنَّهُ لاَ يُتَأَمَّل التَّأَمُّل الْمُفِيدَ " ثُمَّ قَال الْحَصْكَفِيُّ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: " وَلِقُوَّةِ مُدْرَكِهِ عَوَّلْنَا عَلَيْهِ " غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَرُقْ لِلْخَيْرِ الرَّمْلِيِّ وَالْمَقْدِسِيِّ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ، بِحُجَّةِ أَنَّهُ خِلاَفُ الظَّاهِرِ مِنَ الرِّوَايَةِ، وَأَنَّهُ مُنَافٍ لإِِطْلاَقَاتِهِمْ (1) .
وَاعْتِبَارُ عَدَمِ رُؤْيَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَرْطًا لِقِيَامِ الْخِيَارِ، هُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْكَاسَانِيُّ - وَهُوَ شَدِيدُ الْوُضُوحِ فِي ظَاهِرِهِ - لَكِنْ لِلْكَمَال بْنِ الْهُمَامِ عِبَارَةٌ
__________
(1) فتح القدير 4 / 544، ورد المحتار 4 / 69، البدائع 5 / 292.

(20/70)


تُوهِمُ خِلاَفَهُ وَهِيَ قَوْلُهُ فِي تَحْلِيل لَفْظِ: (خِيَارُ الرُّؤْيَةِ) : الإِْضَافَةُ مِنْ قَبِيل إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى شَرْطِهِ، لأَِنَّ الرُّؤْيَةَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ، وَعَدَمَ الرُّؤْيَةِ هُوَ السَّبَبُ لِثُبُوتِ الْخِيَارِ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ. فَهُوَ قَدِ اعْتَبَرَ الرُّؤْيَةَ شَرْطًا، وَعِنْدَ الْكَاسَانِيِّ الشَّرْطُ عَكْسُهُ: عَدَمُ الرُّؤْيَةِ. (1)

د - رُؤْيَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، أَوْ مَا هُوَ بِمَنْزِلَتِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ:
15 - أَشَارَ ابْنُ الْهُمَامِ إِلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ كَمَا رَأَيْنَا، وَمَنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي عِدَادِ الشُّرُوطِ اكْتَفَى بِالْبَيَانِ الصَّرِيحِ بِأَنَّ وَقْتَ ثُبُوتِهِ هُوَ وَقْتُ الرُّؤْيَةِ. (2) قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الرُّؤْيَةُ بَعْدَ الشِّرَاءِ شَرْطُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ (3) .

مَنْ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ:
16 - هُنَاكَ اتِّجَاهَاتٌ لِلْفُقَهَاءِ فِيمَنْ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ.
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: أَنَّهُ لِلْمُشْتَرِي فَقَطْ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِيمَا بَاعَهُ وَلَمْ يَرَهُ، كَمَنْ وَرِثَ شَيْئًا مِنَ الأَْعْيَانِ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ فَبَاعَهُ قَبْل رُؤْيَتِهِ،
__________
(1) فتح القدير 5 / 137، ورد المحتار 4 / 63، والبدائع 5 / 292.
(2) كالكاساني فقد قصر الشرائط على اثنتين: هما الأولى والثانية، ثم استغنى عن الثالثة بالتبويب لها بعنوان (بيان وقت ثبوت الخيار) البدائع 5 / 295.
(3) رد المحتار 4 / 63 و66، وفتح القدير 5 / 137.

(20/70)


وَهُوَ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهَذَا آخِرُ الْقَوْلَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، فَقَدْ كَانَ يَقُول أَوَّلاً بِثُبُوتِهِ لِلْبَائِعِ أَيْضًا ثُمَّ رَجَعَ وَقَال: الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ لاَزِمٌ، وَالْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَقَطْ. وَاسْتَدَلُّوا بِنَصِّ الْحَدِيثِ الْمُثْبِتِ لِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَقَالُوا: إِنَّ عَدَمَ الْخِيَارِ وَلُزُومَ الْعَقْدِ هُوَ الأَْصْل.
وَفِي بَيْعِ الْمُقَايَضَةِ يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِلطَّرَفَيْنِ، لأَِنَّ كِلَيْهِمَا يُعْتَبَرُ مُشْتَرِيًا. (1)
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِلْبَائِعِ أَيْضًا، وَهُوَ الْقَوْل الْمَرْجُوعُ عَنْهُ لأَِبِي حَنِيفَةَ، وَالْقَوْل الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ مَرْجُوحَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَذَلِكَ عَلَى افْتِرَاضِ الأَْخْذِ بِالْخِيَارِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَدْ صَحَّحُوا عَدَمَ الأَْخْذِ بِهِ (2) .

الْعُقُودُ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ:
17 - يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الشِّرَاءُ، لأَِنَّ الْخِيَارَ يَثْبُتُ فِيهِ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ دُونَ الْبَائِعِ وَالْعَقْدُ مِنْ وِجْهَتِهِ شِرَاءٌ.
أَمَّا فِي (عَقْدِ السَّلَمِ) فَإِذَا كَانَ رَأْسُ مَال السَّلَمِ عَيْنًا يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِيهِ لِلْمُسْلَمِ إِلَيْهِ.
وَلاَ يَثْبُتُ فِي رَأْسِ مَال السَّلَمِ إِنْ كَانَ دَيْنًا كَمَا
__________
(1) البدائع 5 / 292، المبسوط 13 / 71، الفتاوى الهندية 3 / 58، وفتح القدير 5 / 140.
(2) فتح القدير 5 / 140، والمجموع 9 / 322، والمغني 3 / 496 م2773.

(20/71)


لاَ يَثْبُتُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ بَتَاتًا، لأَِنَّ شَرْطَهُ الأَْسَاسِيَّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الدُّيُونِ.
وَلاَ مَدْخَل لِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فِي الصَّرْفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لأَِنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. (1)
وَيَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِي الاِسْتِصْنَاعِ لِلْمُسْتَصْنِعِ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ أَتَى بِهِ الصَّانِعُ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ، لأَِنَّهُ غَيْرُ لاَزِمٍ فِي حَقِّهِ وَلاَ يَثْبُتُ لِلصَّانِعِ إِذَا أَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعَ وَرَضِيَ بِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْخِيَارُ لَهُمَا، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لُزُومُهُ فِي حَقِّهِمَا. (2)
أَمَّا الصَّانِعُ فَلَيْسَ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَكَذَلِكَ فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ فِي إِجَارَةِ الأَْعْيَانِ، كَإِجَارَةِ دَارٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ سَيَّارَةٍ بِذَاتِهَا، إِذَا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ قَدْ عَقَدَ الإِْجَارَةَ دُونَ أَنْ يَرَى الْمَأْجُورَ.
وَفِي عَقْدِ الْقِسْمَةِ يَثْبُتُ فِي قِسْمَةِ غَيْرِ الْمِثْلِيَّاتِ، أَيْ فِي نَوْعَيْنِ فَقَطْ مِنَ الأَْنْوَاعِ الثَّلاَثَةِ لِلْمَال الْمَقْسُومِ، هُمَا قِسْمَةُ الأَْجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ جَزْمًا، وَقِسْمَةُ الْقِيَمِيَّاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْجِنْسِ كَالثِّيَابِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، أَوِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، أَمَّا فِي قِسْمَةِ الْمِثْلِيَّاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْجِنْسِ كَالْمَكِيلاَتِ
__________
(1) البدائع 5 / 209 - 210، والبحر الرائق 6 / 26 - 28، جامع الفصولين 1 / 334.
(2) فتح القدير 5 / 139 و 533، البدائع 5 / 210، 292، ورد المحتار 4 / 63، 93.

(20/71)


وَالْمَوْزُونَاتِ، فَلاَ يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِيهَا، لأَِنَّهَا مِمَّا لاَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.
وَهَذَا إِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُقْتَسِمِينَ لَمْ يَرَ نَصِيبَهُ عِنْدَ الْقِسْمَةِ.
وَفِي عَقْدِ الصُّلْحِ عَلَى مَا سَبَقَ.

وَقْتُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ:
18 - وَقْتُ ثُبُوتِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ هُوَ وَقْتُ الرُّؤْيَةِ، لاَ قَبْلَهَا. وَلِذَا لَوْ أَمْضَى الْعَقْدَ قَبْل رُؤْيَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَرَضِيَ بِهِ صَرِيحًا بِأَنْ قَال: أَجَزْتُ أَوْ رَضِيتُ أَوْ مَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى، ثُمَّ رَآهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ. لأَِنَّ النَّصَّ أَثْبَتَ الْخِيَارَ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ فَلَوْ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الإِْجَازَةِ قَبْلَهَا وَأَجَازَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْخِيَارُ بَعْدَهَا، وَهَذَا خِلاَفُ النَّصِّ، وَلأَِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَبْل الرُّؤْيَةِ مَجْهُول الْوَصْفِ.
وَالرِّضَا بِالشَّيْءِ قَبْل الْعِلْمِ بِهِ وَبِوُجُودِ سَبَبِهِ مُحَالٌ، فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ. (1)
وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ إِسْقَاطُ الْخِيَارِ قَبْل الرُّؤْيَةِ أَوِ التَّنَازُل عَنْهُ بِقَوْلِهِ: رَضِيتُ الْمَبِيعَ أَوْ أَمْضَيْتُ الْعَقْدَ، لأَِنَّهُ لاَ يَصِحُّ إِسْقَاطُ الْخِيَارِ قَبْل ثُبُوتِهِ بِالرُّؤْيَةِ، وَإِسْقَاطُ الشَّيْءِ فَرْعٌ لِثُبُوتِهِ، فَلاَ يُمْكِنُ الإِْسْقَاطُ قَبْل الثُّبُوتِ. فَلَوْ أَسْقَطَ الْمُشْتَرِي خِيَارَهُ قَبْل الرُّؤْيَةِ لَمْ يَسْقُطْ، وَظَل لَهُ
__________
(1) فتح القدير 5 / 139، البدائع 5 / 296، المعاملات الشرعية للشيخ أحمد إبراهيم ص110، ومختصر المعاملات الشرعية للشيخ علي الخفيف ص152.

(20/72)


حَقُّ مُمَارَسَتِهِ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ. قَال السَّرَخْسِيُّ: إِنَّ فِي الرِّضَا قَبْل الرُّؤْيَةِ هُنَا إِبْطَال حُكْمٍ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَهُوَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ الرُّؤْيَةِ (1) .

إِمْكَانُ الْفَسْخِ قَبْل الرُّؤْيَةِ:
19 - قَوْل الْحَنَفِيَّةِ بِإِمْكَانِ الْفَسْخِ قَبْل الرُّؤْيَةِ لَيْسَ بِنَاءً عَلَى الْخِيَارِ - لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ قَبْل الرُّؤْيَةِ - بَل لِمَا فِي الْعَقْدِ مِنْ صِفَةِ عَدَمِ اللُّزُومِ لِلْجَهَالَةِ الْمُصَاحِبَةِ لَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ، حَيْثُ اشْتَرَاهُ دُونَ أَنْ يَرَاهُ، فَهُوَ كَالْعُقُودِ الأُْخْرَى غَيْرِ اللاَّزِمَةِ، فَفَسْخُهُ مُمْكِنٌ لِهَذَا السَّبَبِ، ثُمَّ إِذَا رَآهُ ثَبَتَ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، فَكَانَ سَبَبًا آخَرَ لِلْفَسْخِ وَلاَ مَانِعَ مِنِ اجْتِمَاعِ الأَْسْبَابِ عَلَى مُسَبَّبٍ وَاحِدٍ.

أَمَدُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ:
20 - لِلْفُقَهَاءِ فِي بَيَانِ مَدَى الزَّمَنِ الصَّالِحِ لِلرِّضَا أَوِ الْفَسْخِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ اتِّجَاهَانِ:
الأَْوَّل: عَلَى التَّرَاخِي، فَلَيْسَ لِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ مَدًى مَحْدُودٌ، بَل هُوَ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِمُدَّةٍ.
فَهُوَ يَبْدَأُ بِالرُّؤْيَةِ وَيَبْقَى إِلَى أَنْ يُوجَدَ مَا يُبْطِلُهُ - وَلَوْ فِي جَمِيعِ الْعُمُرِ - وَلاَ يَتَوَقَّتُ بِإِمْكَانِ الْفَسْخِ.
وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ مِنْ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ،
__________
(1) فتح القدير والعناية 5 / 139، والمبسوط 13 / 71، والبدائع 5 / 297. ويلحظ أن ابن الهمام حقق وجود الخلاف في صحة الفسخ قبل الرؤية، وأنه لا رواية فيه عن الإمام، والخلاف عن مشايخ الحنفية.

(20/72)


وَهُوَ الأَْصَحُّ وَالْمُخْتَارُ كَمَا قَال ابْنُ الْهُمَامِ وَابْنُ نُجَيْمٍ وَغَيْرُهُمَا.
وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّصَّ مُطْلَقٌ، وَلأَِنَّ سَبَبَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ اخْتِلاَل الرِّضَا، وَالْحُكْمُ يَبْقَى مَا بَقِيَ سَبَبُهُ.
الثَّانِي: عَلَى الْفَوْرِ، فَهُوَ مُؤَقَّتٌ بِإِمْكَانِ الْفَسْخِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ رَآهُ وَتَمَكَّنَ مِنَ الْفَسْخِ وَلَمْ يَفْسَخْ سَقَطَ خِيَارُهُ بِذَلِكَ وَلَزِمَ الْعَقْدُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَصْرِيحٌ بِالرِّضَا أَوْ مُسْقِطٍ آخَرَ لِلْخِيَارِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ دَلاَلَةً عَلَى الرِّضَا. وَهَذَا قَوْلٌ لِبَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ (1) .

أَثَرُ الْخِيَارِ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ قَبْل الرُّؤْيَةِ:
21 - حُكْمُ الْعَقْدِ قَبْل الرُّؤْيَةِ حُكْمُ الْعَقْدِ الَّذِي لاَ خِيَارَ فِيهِ، وَهُوَ ثُبُوتُ الْحِل لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ لِلْحَال، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ لِلْحَال، لأَِنَّ رُكْنَ الْعَقْدِ فِي الْبَيْعِ، أَوِ الإِْجَارَةِ، أَوِ الْقِسْمَةِ، أَوِ الصُّلْحِ صَدَرَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِهِ.
وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَ الْعَقْدُ لَوْلاَ أَنَّهُ ثَبَتَ الْخِيَارُ (شَرْعًا) احْتِيَاطًا لِلْمُشْتَرِي، بِخِلاَفِ خِيَارِ الشَّرْطِ، لأَِنَّ الْخِيَارَ ثَمَّةَ ثَبَتَ بِإِرَادَةِ الْعَاقِدَيْنِ فَأَثَّرَ فِي رُكْنِ الْعَقْدِ بِالْمَنْعِ مِنَ الاِنْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ تَحْقِيقًا لِرَغْبَةِ الْعَاقِدِ فِي تَعْلِيقِ الْعَقْدِ. (2)
__________
(1) البدائع 5 / 295، والفتح 5 / 139، ورد المحتار 4 / 65، والهندية 3 / 58 منقولا عن البحر.
(2) البدائع 5 / 292.

(20/73)


هَذَا عَلَى الْقَوْل بِصِحَّةِ الْفَسْخِ قَبْل الرُّؤْيَةِ، فَالْعَقْدُ غَيْرُ لاَزِمٍ عِنْدَ هَؤُلاَءِ، أَمَّا مَنْ مَنَعَ الْفَسْخَ فَهُوَ يَرَى أَنَّ الْعَقْدَ بَاتٌّ، فَلاَ يَلْحَقُهُ فَسْخٌ وَلاَ إِجَازَةٌ إِلَى أَنْ تَحْصُل الرُّؤْيَةُ، وَقَدْ مَال ابْنُ الْهُمَامِ إِلَى هَذَا (1) .

أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى حُكْمِ الْعَقْدِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ:
22 - مُنْذُ قِيَامِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ (بِتَحَقُّقِ شَرْطِهِ، وَهُوَ الرُّؤْيَةُ) يَغْدُو الْعَقْدُ غَيْرَ لاَزِمٍ بِالاِتِّفَاقِ، وَلَكِنْ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَيُّ أَثَرٍ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ، فَلاَ يَمْنَعُ انْتِقَال الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ، لأَِنَّ سَبَبَ الْعَقْدِ قَدْ وُجِدَ خَالِيًا مِنْ تَعْلِيقٍ حُكْمِ الْعَقْدِ، فَيَظَل أَثَرُهُ كَامِلاً كَانْتِقَال الْمِلْكِ وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ خَالَفَ فِي هَذَا الْمَالِكِيَّةُ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمِلْكَ مَعَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ لاَ يَنْتَقِل لِعَدَمِ اسْتِقْرَارِ الْعَقْدِ بِاحْتِمَال الْفَسْخِ، وَالْمِلْكُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْعَقْدِ الْمُسْتَقَرِّ. وَلاَ يَخْفَى أَنَّ اسْتِقْرَارَ الْعَقْدِ لاَ يَعُوقُ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ عَنْهُ تَمَكُّنُ صَاحِبِ الْخِيَارِ مِنْ رَفْعِ الْعَقْدِ بِالْفَسْخِ (2) .

سُقُوطُ الْخِيَارِ:
23 - يَسْقُطُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ بِالأُْمُورِ التَّالِيَةِ، سَوَاءٌ حَصَلَتْ قَبْل الرُّؤْيَةِ أَوْ بَعْدَهَا:
أ - التَّصَرُّفَاتُ فِي الْمَبِيعِ بِمَا يُوجِبُ حَقًّا لِلْغَيْرِ، كَمَا
__________
(1) فتح القدير 5 / 139.
(2) فتح القدير 5 / 139، البدائع 5 / 292، المجموع 9 / 299، الخرشي 5 / 34.

(20/73)


لَوْ بَاعَ الشَّيْءَ الَّذِي اشْتَرَاهُ وَلَمْ يَرَهُ لِشَخْصٍ آخَرَ بَيْعًا لاَ خِيَارَ فِيهِ، أَوْ رَهَنَهُ، أَوْ آجَرَهُ، أَوْ وَهَبَهُ مَعَ التَّسْلِيمِ، لأَِنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لاَ تَكُونُ إِلاَّ مَعَ الْمِلْكِ، وَمِلْكُ صَاحِبِ الْخِيَارِ ثَابِتٌ فِيهَا، فَصَادَفَتِ الْمَحَل وَنَفَذَتْ، وَبَعْدَ نُفُوذِهَا لاَ تَقْبَل الْفَسْخَ وَالرَّفْعَ، فَبَطَل الْخِيَارُ ضَرُورَةً، كَمَا أَنَّ إِبْطَالَهَا فِيهِ ضَيَاعٌ لِحُقُوقِ الْغَيْرِ الَّتِي تَرَتَّبَتْ لَهُمْ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، فَفَسْخُ الْبَيْعِ أَوْلَى مِنْ إِبْطَال حُقُوقِهِمْ. (1)
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لاَ يُوجِبُ حَقًّا لِلْغَيْرِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ، أَوِ الْمُسَاوِمَةِ بِقَصْدِ الْعَرْضِ عَلَى الْبَيْعِ، أَوِ الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ، لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يَرْبُو عَلَى صَرِيحِ الرِّضَا، وَهُوَ لاَ يُبْطِلُهُ قَبْل الرُّؤْيَةِ. ثُمَّ إِنَّ التَّصَرُّفَ الَّذِي تَعَلَّقَ فِيهِ حَقُّ الْغَيْرِ لَوْ عَادَ إِلَى مِلْكِهِ بِرَدٍّ قَضَائِيٍّ، أَوْ بِفَكِّ الرَّهْنِ، أَوْ فَسْخِ الإِْجَارَةِ قَبْل الرُّؤْيَةِ ثُمَّ رَآهُ فَلَهُ الْخِيَارُ. (2)
ب - تَغَيُّرُ الْمَبِيعِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ:
حُصُول التَّغَيُّرِ إِمَّا بِطُرُوءِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا (الْمُنْفَصِلَةِ أَوِ الْمُتَّصِلَةِ، الْمُتَوَلِّدَةِ أَوْ غَيْرِهَا) عَلَى أَنْ تَكُونَ مَانِعَةً لِلرَّدِّ، وَإِمَّا بِالنَّقْصِ وَالتَّعَيُّبِ - فِي
__________
(1) البدائع 5 / 295، فتح القدير 5 / 141، 149، رد المحتار 4 / 72.
(2) فتح القدير 5 / 242.

(20/74)


قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ - وَالنَّقْصُ الْمُرَادُ هُنَا هُوَ مَا يَحْصُل بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ، أَوْ بِفِعْل الْبَائِعِ عَلَى التَّفْصِيل الْمَذْكُورِ فِي خِيَارَيِ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ، كَمَا ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ (1) .

ج - تَعَيُّبُ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي:
لأَِنَّهُ بِالتَّعَيُّبِ لاَ يُمْكِنُ إِرْجَاعُ الْمَبِيعِ إِلَى الْبَائِعِ كَمَا اسْتَلَمَهُ الْمُشْتَرِي، وَالْفَسْخُ يَكُونُ بِالْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمَبِيعُ عِنْدَ الْعَقْدِ وَقَدِ اسْتَلَمَهُ سَلِيمًا فَلاَ يَرُدُّهُ مَعِيبًا، وَلِذَا يَسْقُطُ الْخِيَارُ.
د - إِجَازَةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِيمَا اشْتَرَيَاهُ وَلَمْ يَرَيَاهُ دُونَ صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، حَذَرًا مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ، كَمَا مَرَّ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ.
هـ - الْمَوْتُ: وَاعْتِبَارُهُ مُسْقِطًا مَوْضِعُ خِلاَفٍ.
وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ (2) .

حُكْمُ صَرِيحِ الإِْسْقَاطِ فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ:
ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّ الأَْصْل أَنَّ كُل مَا يُبْطِل خِيَارَ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ يُبْطِل خِيَارَ الرُّؤْيَةِ، إِلاَّ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الإِْسْقَاطِ، وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ لاَ يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الإِْسْقَاطِ لاَ قَبْل
__________
(1) البدائع 5 / 296.
(2) فتح القدير 5 / 159، والعناية شرح الهداية 5 / 159، 160، والبدائع 5 / 296.

(20/74)


الرُّؤْيَةِ وَلاَ بَعْدَهَا، لأَِنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ ثَبَتَ شَرْعًا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَلاَ يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ، وَأَمَّا خِيَارُ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ فَقَدْ ثَبَتَا بِالاِشْتِرَاطِ حَقِيقَةً، أَوْ دَلاَلَةً، وَمَا ثَبَتَ حَقًّا لِلْعَبْدِ يَحْتَمِل السُّقُوطَ بِإِسْقَاطِهِ مَقْصُودًا، لأَِنَّ الإِْنْسَانَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مَقْصُودًا، اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا، فَأَمَّا مَا ثَبَتَ حَقًّا لِلَّهِ فَالْعَبْدُ لاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ إِسْقَاطًا مَقْصُودًا، لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مَقْصُودًا، لَكِنَّهُ يَحْتَمِل السُّقُوطَ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، بِأَنْ يَتَصَرَّفَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ سُقُوطَ حَقِّ الشَّرْعِ، فَيَسْقُطُ حَقُّ الشَّرْعِ فِي ضِمْنِ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ (1) .

انْتِهَاءُ الْخِيَارِ:
24 - يَنْتَهِي الْخِيَارُ بِإِجَازَةِ الْعَقْدِ إِجَازَةً قَوْلِيَّةً أَوْ فِعْلِيَّةً، وَالإِْجَازَةُ الْقَوْلِيَّةُ هِيَ الرِّضَا بِالْعَقْدِ، صَرَاحَةً أَوْ بِمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا. أَمَّا الإِْجَازَةُ الْفِعْلِيَّةُ فَتَكُونُ بِطَرِيقِ الدَّلاَلَةِ، بِأَنْ يُوجَدَ مِنَ الْمُشْتَرِي تَصَرُّفٌ يَدُل عَلَى الرِّضَا. أَمَّا الْفَسْخُ فَمِنْهُ اخْتِيَارِيٌّ، وَمِنْهُ ضَرُورِيٌّ دُونَ إِرَادَةِ الْعَاقِدِ.

انْتِهَاؤُهُ بِالإِْجَازَةِ:
الإِْجَازَةُ الصَّرِيحَةُ أَوْ بِمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا:
25 - تَتِمُّ الإِْجَازَةُ الصَّرِيحَةُ بِالتَّعْبِيرِ عَنِ الرِّضَا،
__________
(1) البدائع 5 / 282 و 297 لخيار العيب، و267 لخيار الشرط.

(20/75)


وَهُوَ بِكُل عِبَارَةٍ تُفِيدُ إِمْضَاءَ الْعَقْدِ، أَوِ اخْتِيَارَهُ، مِثْل: أَجَزْتُهُ، أَوْ رَضِيتُهُ، أَوِ اخْتَرْتُهُ. وَفِي مَعْنَى الرِّضَا الصَّرِيحِ مَا شَابَهَهُ وَجَرَى مَجْرَاهُ سَوَاءٌ أَعَلِمَ الْبَائِعُ بِالإِْجَازَةِ أَمْ لاَ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ اللُّزُومُ. (1)

الإِْجَازَةُ بِطَرِيقِ الدَّلاَلَةِ:
26 - هِيَ أَنْ يُوجَدَ مِنَ الْمُشْتَرِي تَصَرُّفٌ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ يَدُل عَلَى الرِّضَا، وَمِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَبْضُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ.
وَالتَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ بِأَنْ كَانَ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ، أَوْ أَرْضًا فَبَنَى عَلَيْهَا، لأَِنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ دَلِيل الرِّضَا، وَلَوْلاَ هَذَا التَّقْدِيرُ لَكَانَ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَهُوَ حَرَامٌ، فَجَعَل ذَلِكَ إِجَازَةً، صِيَانَةً لَهُ عَنِ ارْتِكَابِهِ. (2)

انْتِهَاءُ الْخِيَارِ بِالْفَسْخِ:
27 - الْفَسْخُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اخْتِيَارِيًّا، أَوْ ضَرُورِيًّا، كَمَا ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ، وَصُورَةُ الْفَسْخِ الاِخْتِيَارِيِّ (الَّذِي يَنْتَهِي بِهِ الْخِيَارُ تَبَعًا) هِيَ أَنْ يَقُول: فَسَخْتُ الْعَقْدَ، أَوْ نَقَضْتُهُ، أَوْ رَدَدْتُهُ، وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى.
وَأَمَّا الْفَسْخُ الضَّرُورِيُّ فَلَهُ صُورَةٌ وَاحِدَةٌ
__________
(1) البدائع 5 / 295، 296، والهداية وفتح القدير 5 / 145.
(2) فتح القدير 5 / 141، العناية 5 / 141، البدائع 5 / 296.

(20/75)


ذَكَرَهَا الْكَاسَانِيُّ، وَهِيَ أَنْ يَهْلَكَ الْمَبِيعُ قَبْل الْقَبْضِ، فَيَنْفَسِخَ الْعَقْدُ ضَرُورَةً، وَيَنْتَهِيَ مَعَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِذَهَابِ الْمَحَل (1) .

شَرَائِطُ الْفَسْخِ:

28 - يُشْتَرَطُ لِلْفَسْخِ مَا يَأْتِي:
أ - قِيَامُ الْخِيَارِ، لأَِنَّ الْخِيَارَ إِذَا سَقَطَ بِأَحَدِ الْمُسْقِطَاتِ لَزِمَ الْعَقْدُ، وَالْعَقْدُ اللاَّزِمُ لاَ يَحْتَمِل الْفَسْخَ.
ب - أَنْ لاَ يَتَضَمَّنَ الْفَسْخُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ، فَإِنْ رَدَّ بَعْضَ الْمَبِيعِ دُونَ بَعْضِهِ لَمْ يَصِحَّ.
وَكَذَا إِذَا رَدَّ الْبَعْضَ وَأَجَازَ الْبَيْعَ فِي الْبَعْضِ لَمْ يَجُزْ. سَوَاءٌ كَانَ قَبْل قَبْضِهِ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ أَوْ بَعْدَهُ، لأَِنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ، فَفِي بَقَاءِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ فِي الْبَعْضِ تَفْرِيقٌ لِلصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ قَبْل تَمَامِهَا وَهُوَ بَاطِلٌ. (2)
ج - عِلْمُ الْبَائِعِ بِالْفَسْخِ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَقَدْ تَوَسَّعَ الْكَاسَانِيُّ فِي دَلاَئِل هَذَا الْخِلاَفِ.

انْتِقَال خِيَارِ الرُّؤْيَةِ:
29 - خِيَارُ الرُّؤْيَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَنْتَقِل بِالْمَوْتِ،
__________
(1) البدائع 5 / 298، فتح القدير 5 / 141.
(2) البدائع 5 / 298، 299، فتح القدير 5 / 140، الفتاوى الهندية 3 / 60 نقلا عن البحر، المبسوط 13 / 74.

(20/76)


وَذَلِكَ مُنْسَجِمٌ مَعَ كَوْنِهِ عِنْدَهُمْ لِمُطْلَقِ التَّرَوِّي، لاَ لِتَحَاشِي الضَّرَرِ أَوِ الْخُلْفِ فِي الْوَصْفِ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَنْظُرَ الْمُشْتَرِي أَيَصْلُحُ لَهُ أَمْ لاَ، وَمَعَ اعْتِبَارِهِمْ إِيَّاهُ خِيَارًا حُكْمِيًّا مِنْ جِهَةِ الثُّبُوتِ فَقَدْ قَالُوا: إِنَّهُ مُرْتَبِطٌ بِالإِْرَادَةِ مِنْ حَيْثُ الاِسْتِعْمَال (1) .

خِيَارُ الرُّجُوعِ

انْظُرْ: بَيْعٌ
__________
(1) البدائع 5 / 296، وبالتوسيع أيضًا في خيار الشرط 5 / 268.

(20/76)


خِيَارُ الشَّرْطِ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْخِيَارُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ مَصْدَرٍ مِنَ الاِخْتِيَارِ، وَمَعْنَاهُ طَلَبُ خَيْرِ الأَْمْرَيْنِ، أَوِ الأُْمُورِ. (1)
أَمَّا (الشَّرْطُ) - بِسُكُونِ الرَّاءِ - فَمَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ: إِلْزَامُ الشَّيْءِ وَالْتِزَامُهُ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَالْجَمْعُ شُرُوطٌ، وَبِفَتْحِهَا: الْعَلاَمَةُ، وَالْجَمْعُ أَشْرَاطٌ، وَالاِشْتِرَاطُ: الْعَلاَمَةُ يَجْعَلُهَا النَّاسُ بَيْنَهُمْ. (2)
2 - أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَقَدْ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: " إِنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ صَارَ عَلَمًا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ عَلَى: مَا يَثْبُتُ (بِالاِشْتِرَاطِ) لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مِنَ الاِخْتِيَارِ بَيْنَ الإِْمْضَاءِ وَالْفَسْخِ. . . " (3)
وَقَدْ عَرَّفَهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (ابْنُ عَرَفَةَ) - بِمُلاَحَظَةِ
__________
(1) لسان العرب مادة: (خير) ، والمصباح أيضًا.
(2) معجم مقاييس اللغة 3 / 260، لسان العرب مادة: (شرط) .
(3) رد المحتار 4 / 47.

(20/77)


الْكَلاَمِ عَنْ (بَيْعِ الْخِيَارِ) - بِقَوْلِهِ: (بَيْعٌ وُقِفَ بَتُّهُ أَوَّلاً عَلَى إِمْضَاءٍ يُتَوَقَّعُ) . وَاحْتَرَزَ بِعِبَارَةِ وُقِفَ بَتُّهُ عَنْ بَيْعِ الْبَتِّ، وَهُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ خِيَارٌ.
كَمَا ذَكَرُوا أَنَّ قَيْدَ (أَوَّلاً) لإِِخْرَاجِ خِيَارِ الْعَيْبِ وَنَحْوِهِ (خِيَارَاتِ النَّقِيصَةِ) لأَِنَّ أَمْثَال هَذَا الْخِيَارِ لَمْ تَتَوَقَّفْ أَوَّلاً، بَل آل أَمْرُهَا إِلَى الْخِيَارِ، أَيْ لأَِنَّ التَّخْيِيرَ فِيهَا يَثْبُتُ فِيمَا بَعْدُ، حِينَ ظُهُورِ الْعَيْبِ. (1)
3 - وَلِخِيَارِ الشَّرْطِ أَسْمَاءٌ أُخْرَى دَعَاهُ بِهَا بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ، مِنْهَا:
أ - الْخِيَارُ الشَّرْطِيُّ (بِالْوَصْفِيَّةِ لاَ بِالإِْضَافَةِ) وَالسَّبَبُ فِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ ظَاهِرٌ، وَالْغَرَضُ مِنْ وَصْفِهِ بِالشَّرْطِيِّ تَمْيِيزُهُ عَنِ الْخِيَارِ (الْحُكْمِيِّ) الَّذِي يَثْبُتُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ دُونَ الْحَاجَةِ إِلَى اشْتِرَاطٍ، كَخِيَارِ الْعَيْبِ.
وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ مُتَدَاوَلَةٌ كَثِيرًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. (2)
ب - خِيَارُ التَّرَوِّي، لأَِنَّهُ شُرِعَ لِلتَّرَوِّي وَهُوَ النَّظَرُ وَالتَّفَكُّرُ فِي الأَْمْرِ وَالتَّبَصُّرُ فِيهِ قَبْل إِبْرَامِهِ.
وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ يَسْتَعْمِلُهَا الشَّافِعِيَّةُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ. (3)
ج - بَيْعُ الْخِيَارِ، وَهَذَا الاِسْمُ وَاقِعٌ عَلَى الْعَقْدِ
__________
(1) حدود ابن عرفة، شرح ابن سودة على تحفة ابن عاصم 1 / 35، وشرح الخرشي لمختصر خليل 4 / 19.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 91.
(3) نهاية المحتاج 4 / 3.

(20/77)


الَّذِي اقْتَرَنَ بِخِيَارِ الشَّرْطِ، وَيُعَبِّرُ بِهِ أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ كُلُّهُمْ وَبِخَاصَّةِ الْمَالِكِيَّةُ (1) .

مَشْرُوعِيَّتُهُ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى الأَْخْذِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَاعْتِبَارَهُ مَشْرُوعًا لاَ يُنَافِي الْعَقْدَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ.
فَأَمَّا السُّنَّةُ: فَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَال: أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَْنْصَارِ كَانَ بِلِسَانِهِ لَوْثَةٌ، وَكَانَ لاَ يَزَال يُغْبَنُ فِي الْبُيُوعِ، فَأَتَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَال: إِذَا بِعْتَ فَقُل: لاَ خِلاَبَةَ، مَرَّتَيْنِ
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ حِبَّانَ قَال: هُوَ جَدِّي مُنْقِذُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ رَجُلاً قَدْ أَصَابَتْهُ آمَّةٌ فِي رَأْسِهِ، فَكَسَرَتْ لِسَانَهُ وَنَازَعَتْهُ عَقْلَهُ، وَكَانَ لاَ يَدَعُ التِّجَارَةَ وَلاَ يَزَال يُغْبَنُ، فَأَتَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَال: إِذَا بِعْتَ فَقُل: لاَ خِلاَبَةَ، ثُمَّ أَنْتَ فِي كُل سِلْعَةٍ تَبْتَاعُهَا بِالْخِيَارِ ثَلاَثَ لَيَالٍ، فَإِنْ رَضِيتَ فَأَمْسِكْ، وَإِنْ سَخِطْتَ فَارْدُدْهَا عَلَى صَاحِبِهَا. وَقَدْ كَانَ عُمِّرَ طَوِيلاً، عَاشَ ثَلاَثِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ، وَكَانَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ فَشَا النَّاسُ وَكَثُرُوا، يَتَبَايَعُ
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 174.

(20/78)


الْبَيْعَ فِي السُّوقِ وَيَرْجِعُ بِهِ إِلَى أَهْلِهِ وَقَدْ غُبِنَ غَبْنًا قَبِيحًا، فَيَلُومُونَهُ وَيَقُولُونَ: لِمَ تَبْتَاعُ؟ فَيَقُول: أَنَا بِالْخِيَارِ إِنْ رَضِيتُ أَخَذْتُ، وَإِنْ سَخِطْتُ رَدَدْتُ، قَدْ كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَنِي بِالْخِيَارِ ثَلاَثًا، فَيَرُدُّ السِّلْعَةَ عَلَى صَاحِبِهَا مِنَ الْغَدِ وَبَعْدَ الْغَدِ فَيَقُول: وَاللَّهِ لاَ أَقْبَلُهَا، قَدْ أَخَذْتُ سِلْعَتِي وَأَعْطَيْتنِي دَرَاهِمَ، قَال يَقُول: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَعَلَنِي بِالْخِيَارِ ثَلاَثًا. فَكَانَ يَمُرُّ الرَّجُل مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُول لِلتَّاجِرِ: وَيْحَكَ إِنَّهُ قَدْ صَدَقَ، إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ جَعَلَهُ بِالْخِيَارِ ثَلاَثًا. (1)
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِإِحْدَى رِوَايَاتِ حَدِيثِ الْمُتَبَايِعَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا الَّتِي فِيهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ وَفِي رِوَايَةٍ: إِلاَّ صَفْقَةَ خِيَارٍ. (2) فَحَمَل هَؤُلاَءِ ذَلِكَ الاِسْتِثْنَاءَ عَلَى حَالَةِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ، وَقَالُوا فِي مَعْنَاهُ: هُوَ خِيَارُ كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الإِْقْدَامِ عَلَى الْعَقْدِ، أَوِ
__________
(1) حديث ابن عمر: " إذا بعت فقل لا خلابة. . . " أخرجه الدارقطني (3 / 56 - ط دار المحاسن) هكذا مطولا وإسناده حسن. وأخرج البخاري (الفتح 4 / 337 - ط السلفية) ذكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم لرجل أن يقول: لا خلابة.
(2) " المتبايعان بالخيار " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 328، ط السلفية) من حديث عبد الله بن عمر، وفي روايته: " إلا بيع الخيار "، ومسلم (3 / 1163 - ط. الحلبي) ، وأخرجه الترمذي (3 / 541 - ط. الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو، وفي روايته " إلا أن تكون صفقة خيار ".

(20/78)


الإِْحْجَامِ عَنْهُ قَبْل التَّفَرُّقِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَمْتَدَّ فَيَكُونَ لَهُ الْخِيَارُ أَطْوَل مِنْ تِلْكَ الْفَتْرَةِ إِذَا كَانَ الْبَيْعُ مُشْتَرَطًا فِيهِ خِيَارٌ. (1)
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَاسْتَدَل بِهِ لِخِيَارِ الشَّرْطِ كَثِيرُونَ، قَال النَّوَوِيُّ: " وَقَدْ نَقَلُوا فِيهِ الإِْجْمَاعَ " وَقَال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: " وَهُوَ جَائِزٌ بِالإِْجْمَاعِ ". لَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَوْضِعٍ ثَالِثٍ إِلَى أَنَّ صِحَّتَهُ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا هِيَ فِيمَا " إِذَا كَانَتْ مُدَّتُهُ مَعْلُومَةً "
وَقَال ابْنُ الْهُمَامِ: " وَشَرْطُ الْخِيَارِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ (2) ".

صِيغَةُ الْخِيَارِ:
5 - لاَ يَتَطَلَّبُ ثُبُوتُ الْخِيَارِ التَّعْبِيرَ بِصِيغَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَكَمَا يَحْصُل بِلَفْظِ اشْتِرَاطِ (الْخِيَارِ) يَحْصُل بِكُل لَفْظٍ يَدُل عَلَى ذَلِكَ الْمُرَادِ، مِثْل لَفْظِ (الرِّضَا) أَوِ (الْمَشِيئَةِ) بَل يَثْبُتُ وَلَوْ لَمْ يَتَضَمَّنُ الْكَلاَمُ لَفْظَ الْخِيَارِ أَوْ مَا هُوَ بِمَعْنَاهُ، فِيمَا إِذَا وَرَدَ عِنْدَ التَّعَاقُدِ أَوْ بَعْدَهُ مَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْخِيَارِ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ حَيْثُ جَاءَ فِيهَا: " إِذَا بَاعَ مِنْ آخَرَ ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، ثُمَّ إِنَّ الْبَائِعَ قَال لِلْمُشْتَرِي: لِي عَلَيْكَ الثَّوْبُ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 124، والدرر البهية للشوكاني وشرح صديق حسن خان 2 / 122.
(2) فتح القدير شرح الهداية 5 / 111، والمجموع شرح المهذب، للنووي 9 / 190، 225.

(20/79)


(وَقَبِل الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ) قَال مُحَمَّدٌ: هَذَا عِنْدَنَا خِيَارٌ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ ". وَذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ نَقْلاً عَنِ الْمِعْرَاجِ أَنَّهُ لَوْ قَال الْبَائِعُ: خُذْهُ وَانْظُرْ إِلَيْهِ الْيَوْمَ فَإِنْ رَضِيتَهُ أَخَذْتَهُ بِكَذَا، فَهُوَ خِيَارٌ. وَنُقِل عَنِ الذَّخِيرَةِ مِثْل هَذَا الاِعْتِبَارِ فِيمَا لَوْ قَال: هُوَ بَيْعٌ لَكَ إِنْ شِئْتَ الْيَوْمَ.
وَمِنْ ذَلِكَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي الثَّمَنِ، أَوِ الْمَبِيعِ بَدَلاً عَنِ اشْتِرَاطِهِ فِي الْعَقْدِ، فَيَكُونُ بِمَثَابَةِ اشْتِرَاطِهِ فِيهِ، فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَال الْمُشْتَرِي عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ فِي الثَّمَنِ أَوْ فِي الْمَبِيعِ. فَهُوَ كَقَوْلِهِ: عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ (فِي الْعَقْدِ) .
وَمِنْ ذَلِكَ: التَّوَاطُؤُ عَلَى أَلْفَاظٍ أَوْ تَعَابِيرَ بِأَنَّهَا يَتَوَلَّدُ عَنْهَا الْخِيَارُ، سَوَاءٌ كَانَ ارْتِبَاطُ هَذِهِ التَّعَابِيرِ بِنُشُوءِ الْخِيَارِ مُنْبَعِثًا عَنِ الاِسْتِعْمَال الشَّرْعِيِّ مُبَاشَرَةً أَوِ الْعُرْفِ. فَمِمَّا اعْتُبِرَ مِنَ الأَْلْفَاظِ الْمُتَوَاطَأِ عَلَى أَنَّهَا يُرَادُ بِهَا الْخِيَارُ، تَبَعًا لِلاِسْتِعْمَال الشَّرْعِيِّ، عِبَارَةُ " لاَ خِلاَبَةَ " شَرِيطَةَ عِلْمِ الْعَاقِدَيْنِ بِمَعْنَاهَا. (1)
قَال النَّوَوِيُّ: اشْتُهِرَ فِي الشَّرْعِ أَنَّ قَوْلَهُ: " لاَ خِلاَبَةَ " عِبَارَةٌ عَنِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِذَا أَطْلَقَ الْمُتَعَاقِدَانِ هَذِهِ اللَّفْظَةَ، وَهُمَا عَالِمَانِ بِمَعْنَاهَا كَانَ كَالتَّصْرِيحِ بِالاِشْتِرَاطِ، وَإِنْ كَانَا جَاهِلَيْنِ لَمْ يَثْبُتِ الْخِيَارُ قَطْعًا، فَإِنْ عَلِمَهُ الْبَائِعُ دُونَ الْمُشْتَرِي فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، حَكَاهُمَا
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 39، 40.

(20/79)


الْمُتَوَلِّي وَابْنُ الْقَطَّانِ وَآخَرُونَ (أَصَحُّهُمَا) لاَ يَثْبُتُ، (وَالْوَجْهُ الثَّانِي) يَثْبُتُ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ، بَل غَلَطٌ، لأَِنَّ مُعْظَمَ النَّاسِ لاَ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ وَالْمُشْتَرِي غَيْرُ عَارِفٍ بِهِ. (1)
وَمِنْ ذَلِكَ الْعَقْدُ مَعَ شَرْطِ الاِسْتِئْمَارِ خِلاَل وَقْتٍ مُحَدَّدٍ، كَمَا لَوْ قَال: بِعْتُكَ عَلَى أَنْ أَسْتَأْمِرَ فُلاَنًا، وَحَدَّدَ لِذَلِكَ وَقْتًا مَعْلُومًا، فَهُوَ خِيَارٌ صَحِيحٌ لَدَى الْحَنَابِلَةِ. وَقَالُوا: إِنَّ لَهُ الْفَسْخَ قَبْل أَنْ يَسْتَأْمِرَهُ " لأَِنَّا جَعَلْنَا ذَلِكَ كِنَايَةً عَنِ الْخِيَارِ " وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي جَوَازِ الْفَسْخِ قَبْل الاِسْتِئْمَارِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ قَبْل أَنْ يَسْتَأْمِرَهُ. (2)
هَذَا إِذَا ضُبِطَ شَرْطُ الاِسْتِئْمَارِ بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُضْبَطْ، فَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ فِي الأَْصَحِّ أَنَّهُ غَيْرُ سَائِغٍ. أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَحُكْمُهُ عِنْدَهُمْ حُكْمُ الْخِيَارِ الْمَجْهُول، لاَ يَصِحُّ عَلَى الرَّاجِحِ. (3)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَادَةَ تَقُومُ مَقَامَ التَّصْرِيحِ بِالْخِيَارِ. قَال الزَّرْقَانِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: " لَوْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِاشْتِرَاطِهِ (أَيْ خِيَارِ الشَّرْطِ) كَانَ خِيَارًا، لأَِنَّهَا - أَيِ الْعَادَةَ - كَالشَّرْطِ صَرَاحَةً "
فَإِذَا تَعَارَفَ النَّاسُ عَلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِي بَيْعِ
__________
(1) البحر الرائق 6 / 6، والمجموع شرح المهذب 9 / 192.
(2) المغني لابن قدامة 3 / 526، والشرح الكبير على المقنع 4 / 102، والمجموع شرح المهذب 9 / 210 و 212 - 213.
(3) المغني 5 / 526، والمجموع 9 / 213.

(20/80)


سِلْعَةٍ مِنَ السِّلَعِ ثَبَتَ الْخِيَارُ فِيهَا بِلاَ شَرْطٍ. (1)
وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الأَْخْرَسَ تَقُومُ إِشَارَتُهُ مَقَامَ الصِّيغَةِ، فَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ إِشَارَتُهُ أَوْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، قَامَ وَلِيُّهُ مِنْ أَبٍ أَوْ وَصِيٍّ أَوْ حَاكِمٍ مَقَامَهُ (2) .

شَرَائِطُ قِيَامِ الْخِيَارِ:
6 - لاَ يَقُومُ خِيَارُ الشَّرْطِ بِمُجَرَّدِ حُدُوثِ الاِشْتِرَاطِ فِي الْعَقْدِ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ وُجُودِ الشَّرَائِطِ الشَّرْعِيَّةِ لَهُ، فَإِذَا اكْتَمَلَتْ تِلْكَ الشَّرَائِطُ غَدَا خِيَارُ الشَّرْطِ قَائِمًا مَرْعِيَّ الاِعْتِبَارِ، وَإِذَا اخْتَل شَيْءٌ مِنْهَا اعْتُبِرَ الْعَقْدُ لاَزِمًا بِالرَّغْمِ مِنِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِي الْعَقْدِ. غَيْرَ أَنَّ تِلْكَ الشَّرَائِطَ لَيْسَتْ مَوْضِعَ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فَهِيَ مُتَفَاوِتَةُ الْعَدَدِ بَيْنَ مَذْهَبٍ وَآخَرَ، وَفِيمَا يَأْتِي بَيَانُهَا:

أَوَّلاً: شَرِيطَةُ الْمُقَارَنَةِ لِلْعَقْدِ:
7 - الْمُرَادُ مِنَ الْمُقَارَنَةِ لِلْعَقْدِ أَنْ يَحْصُل اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ مَعَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ أَوْ لاَحِقًا بِهِ، لاَ أَنْ يَسْبِقَ الاِشْتِرَاطُ الْعَقْدَ. فَلاَ يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ قَبْل إِجْرَاءِ الْعَقْدِ، إِذِ الْخِيَارُ كَالصِّفَةِ لِلْعَقْدِ فَلاَ يُذْكَرُ قَبْل الْمَوْصُوفِ. وَبَيَانُ الصُّورَةِ الْمُحْتَرَزِ مِنْهَا
__________
(1) حاشية العراقي على ابن سودة شرح منظومة الأحكام 1 / 35، والمدخل إلى الفقه الإسلامي للدكتور مصطفى شلبي 471.
(2) المغني 3 / 507.

(20/80)


مَا جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ (1) عَنِ الْعَتَّابِيَّةِ أَنَّهُ " لَوْ قَال: جَعَلْتُكَ بِالْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ الَّذِي نَعْقِدُهُ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ مُطْلَقًا لَمْ يَثْبُتِ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ".
وَيُعْتَبَرُ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَارَنَةِ لِلْعَقْدِ مَا لَوْ أُلْحِقَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ بِالْعَقْدِ بَعْدَئِذٍ، بِتَرَاضِي الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَذَلِكَ فِي حُكْمِ حُصُولِهِ فِي أَثْنَاءِ الْعَقْدِ أَوْ بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ عِنْدَ الْمُلْتَزَمَيْنِ بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ. (2)
ذَهَبَ إِلَى تِلْكَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُقَارَنَةِ وَاللَّحَاقِ الْحَنَفِيَّةُ. وَمِنْ مُسْتَنَدِهِمْ الْقِيَاسُ لِهَذَا عَلَى مَا فِي النِّكَاحِ مِنْ جَوَازِ الاِتِّفَاقِ بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَى مَا يَتَّصِل بِهِ، كَالزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ أَوِ الْحَطِّ مِنْهُ، وَدَلِيل هَذَا الْحُكْمِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} (3) . قَال ابْنُ الْهُمَامِ (4) : يَجُوزُ إِلْحَاقُ خِيَارِ الشَّرْطِ بِالْبَيْعِ، لَوْ قَال أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْبَيْعِ وَلَوْ بِأَيَّامٍ: جَعَلْتُكَ بِالْخِيَارِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ صَحَّ بِالإِْجْمَاعِ - أَيْ إِجْمَاعِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ - ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ إِلْحَاقَ الْخِيَارِ بَعْدَ الْعَقْدِ جَارٍ مَجْرَى إِدْخَالِهِ فِي الْعَقْدِ تَمَامًا مِنْ حَيْثُ نَوْعُ الْخِيَارِ الْمَشْرُوطِ وَمُدَّتُهُ وَبَقِيَّةُ أَحْكَامِهِ. (5)
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 40، والمجموع للنووي 9 / 194.
(2) رد المحتار 4 / 544، المادة 39 من مجلة الأحكام العدلية.
(3) سورة النساء / 24.
(4) فتح القدير 5 / 498.
(5) الفتاوى الهندية 3 / 39 نقلا عن المحيط، أيضًا.

(20/81)


وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَلْحَقُ خِيَارُ الشَّرْطِ بِالْعَقْدِ بَعْدَهُ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، أَوْ فِي مَجْلِسِهِ. وَاسْتَدَل ابْنُ قُدَامَةَ لِمَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ الْمَانِعِ مِنْ تَأَخُّرِ الْخِيَارِ عَنِ الْعَقْدِ بِأَنَّ الْعَقْدَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمَجْلِسِ أَصْبَحَ لاَزِمًا، فَلَمْ يَصِرْ جَائِزًا بِقَوْل الْمُتَعَاقِدَيْنِ. (1) وَذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ مِنْ أُصُول الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّ إِلْحَاقَ الزِّيَادَةِ (فِي الأُْجْرَةِ) وَالشُّرُوطِ بِالْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ لاَ يَصِحُّ.
وَبَيْن هَذَيْنِ الاِتِّجَاهَيْنِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ اشْتَرَكَ مَعَ الْمَذْهَبِ الأَْوَّل فِي النَّتِيجَةِ وَاخْتَلَفَ عَنْهُ فِي تَحْدِيدِ طَبِيعَةِ هَذَا التَّصَرُّفِ، فَقَدْ أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ إِلْحَاقَ الْخِيَارِ بِالْعَقْدِ بَعْدَ أَنْ وَقَعَ عَلَى النِّيَّاتِ، سَوَاءٌ كَانَ إِلْحَاقُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْ مِنْ كِلَيْهِمَا، فَيَصِحُّ الاِشْتِرَاطُ اللاَّحِقُ، وَيَلْزَمُ مَنِ الْتَزَمَهُ بَعْدَ صُدُورِ الْعَقْدِ خَالِيًا مِنْهُ، لَكِنَّهُ - وَهَذَا هُوَ الْفَارِقُ عَنِ الْمَذْهَبِ الأَْوَّل - بِمَثَابَةِ بَيْعٍ مُؤْتَنَفٍ، بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ الْمُشْتَرِي لَهَا مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ. . صَارَ فِيهِ الْمُشْتَرِي بَائِعًا. . كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ جَعَل الْبَائِعُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، بِنَاءً عَلَى الْمَذْهَبِ مِنْ أَنَّ اللاَّحِقَ لِلْعُقُودِ لَيْسَ كَالْوَاقِعِ فِيهَا، فَمَا أَصَابَ السِّلْعَةَ فِي أَيَّامِ الْخِيَارِ فَهُوَ مِنَ الْمُشْتَرِي.
وَأَشَارَ خَلِيلٌ وَشُرَّاحُهُ إِلَى أَنَّ الْقَوْل بِجَوَازِ إِلْحَاقِ الْخِيَارِ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ انْتِقَادِ الْبَائِعِ الثَّمَنَ، أَمَّا إِلْحَاقُهُ قَبْل انْتِقَادِهِ فَلاَ يُسَاوِيهِ فِي الْجَوَازِ لِمَا فِي الْحَالَةِ
__________
(1) المغني 3 / 494م 2771.

(20/81)


الثَّانِيَةِ مِنْ (فَسْخِ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ) وَأَصْل ابْنِ الْقَاسِمِ مَنْعُهُ.
وَقَدْ ذَكَرُوا فِي خِلاَل مُنَاقَشَةِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَجْهًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ " جَعْل الْخِيَارِ لأَِحَدِ الْعَاقِدَيْنِ لَيْسَ عَقْدًا حَقِيقَةً، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَطْيِيبُ نَفْسِ مَنْ جُعِل لَهُ الْخِيَارُ لاَ حَقِيقَةُ الْبَيْعِ ". قَال الْخَرَشِيُّ وَالدُّسُوقِيُّ: لَكِنَّ الْمُرَجَّحَ الأَْوَّل وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، أَيِ اقْتِصَارُ الْجَوَازِ عَلَى مَا لَوْ نَقَدَ الثَّمَنَ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا. (1)

ثَانِيًا: شَرِيطَةُ التَّوْقِيتِ أَوْ مَعْلُومِيَّةُ الْمُدَّةِ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ تَقْيِيدِ الْخِيَارِ بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ مَضْبُوطَةٍ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَلاَ يَصِحُّ اشْتِرَاطُ خِيَارٍ غَيْرِ مُؤَقَّتٍ أَصْلاً، وَهُوَ مِنَ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَسَيَأْتِي الْكَلاَمُ فِيهِ بِالتَّفْصِيل.
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَالأَْصْل فِيهِ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ لِلْحَال، فَكَانَ شَرْطًا مُغَيِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فِي الأَْصْل، وَهُوَ الْقِيَاسُ، إِلاَّ أَنَّا عَرَفْنَا جَوَازَهُ اسْتِحْسَانًا (بِخِلاَفِ الْقِيَاسِ) بِالنَّصِّ، فَبَقِيَ
__________
(1) الدسوقي 3 / 93، 94، 177، نقلا عن المدونة بالمعنى، ونص ما في المدونة: بمنزلة بيعك إياه الثمن من غيره (4 / 177) ، والخرشي على خليل 4 / 21.

(20/82)


مَا وَرَاءَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَلَى أَصْل الْقِيَاسِ (1) .
وَالْحِكْمَةُ فِي تَوْقِيتِ الْمُدَّةِ أَنْ لاَ يَكُونَ الْخِيَارُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى التَّنَازُعِ، وَهُوَ مِمَّا تَتَحَامَاهُ الشَّرِيعَةُ فِي أَحْكَامِهَا.
9 - وَلِلْمُدَّةِ الْجَائِزِ ذِكْرُهَا حَدَّانِ: حَدٌّ أَدْنَى، وَحَدٌّ أَقْصَى.
أَمَّا الْحَدُّ الأَْدْنَى فَلاَ تَوْقِيتَ لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ قَدْرٌ مَحْدُودٌ بِحَيْثُ لاَ يَقِل عَنْهُ فَيَجُوزُ مَهْمَا قَل، لأَِنَّ جَوَازَ الأَْكْثَرِ يَدُل بِالأَْوْلَوِيَّةِ عَلَى جَوَازِ الأَْقَل، وَمِنْ هُنَا نَصَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ " وَلَوْ لَحْظَةً ".
قَال الْكَاسَانِيُّ: (أَقَل مُدَّةِ الْخِيَارِ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ) . وَنَحْوُهُ نُصُوصُ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ يُعْرَفُ (2) .
وَأَمَّا الْحَدُّ الأَْقْصَى لِلْمُدَّةِ الْجَائِزَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْمَذَاهِبُ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا، يُمْكِنُ حَصْرُهُ فِي الاِتِّجَاهَاتِ الْفِقْهِيَّةِ التَّالِيَةِ: التَّفْوِيضُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ مُطْلَقًا - التَّفْوِيضُ لَهُمَا فِي حُدُودِ الْمُعْتَادِ - التَّحْدِيدُ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ.
__________
(1) جاء في المدونة: " أرأيت لو أني بعت - أو اشتريت - من رجل سلعة، فلقيته بعد يوم أو يومين، فجعلت له الخيار - أو لي الخيار - أيامًا، أيلزم هذا الخيار أم لا؟ قال: نعم، 4 / 177.
(2) بدائع الصنائع 5 / 213، والمجموع 9 / 190.

(20/82)


الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل - التَّفْوِيضُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ مُطْلَقًا:
10 - مُقْتَضَى هَذَا الاِتِّجَاهِ جَوَازُ اتِّفَاقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ عَلَى أَيِّ مُدَّةٍ مَهْمَا طَالَتْ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَبِي يُوسُفَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ، لَكِنَّهُ قَال: لاَ يُعْجِبُنِي الطَّوِيل. (1)
فَعِنْدَ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءِ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، لِمَا فِي النُّصُوصِ الْمُثْبِتَةِ لِلْخِيَارِ مِنَ الإِْطْلاَقِ وَعَدَمِ التَّفْصِيل، وَلأَِنَّ الْخِيَارَ حَقٌّ يَعْتَمِدُ الشَّرْطَ مِنَ الْعَاقِدِ فَرَجَعَ إِلَيْهِ فِي تَقْدِيرِهِ. أَوْ يُقَال: هُوَ مُدَّةٌ مُلْحَقَةٌ بِالْعَقْدِ فَتَقْدِيرُهَا إِلَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
وَهُنَاكَ صُورَةٌ نَادِرَةٌ تُشْبِهُ مَا سَبَقَ فِي الْحَدِّ الأَْدْنَى لِلْمُدَّةِ لَكِنَّهَا تَسْتَحِقُّ الإِْشَارَةَ إِلَيْهَا، لِمَا فِي بَحْثِهَا مِنْ تَقْيِيدِ الْخِيَارِ بِأَنْ لاَ يُنَافِيَ الْعَقْدَ وَيُفْقِدَهُ غَايَتَهُ. تِلْكَ الصُّورَةُ مَا لَوْ شَرَطَ الْمُتَعَاقِدَانِ مُدَّةً طَوِيلَةً خَارِجَةً عَنِ الْعَادَةِ " كَأَلْفِ سَنَةٍ، وَمِائَةِ سَنَةٍ " فَقَدِ اسْتَوْجَهَ صَاحِبُ غَايَةِ الْمُنْتَهَى أَنْ لاَ يَصِحَّ لإِِفْضَائِهِ - عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ وَنَحْوِهَا -
__________
(1) المجموع 9 / 190، واختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى ص16، الأصل للإمام محمد تحقيق شحاتة ص2 و 3، المبسوط 13 / 41، مختصر الطحاوي 75، البحر الرائق 1 / 5، الفتاوى الهندية 3 / 38، المقنع 2 / 35، المغني 3 / 498م 2779، مطالب أولي النهى 3 / 89، الفروع 4 / 83، منتهى الإرادات 1 / 357.

(20/83)


إِلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ، وَهَذَا الْمَنْعُ مُنَافٍ لِلْعَقْدِ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّارِعُ إِرْفَاقًا لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَقَدْ وَافَقَهُ الشَّارِحُ عَلَى ذَلِكَ. (1)

الاِتِّجَاهُ الثَّانِي - التَّفْوِيضُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي حُدُودِ الْمُعْتَادِ:
11 - وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَحْدَهُ. فَيَتَحَدَّدُ أَقْصَى مُدَّةِ الْخِيَارِ الْجَائِزَةِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، نَظَرًا لاِخْتِلاَفِ الْمَبِيعَاتِ، فَلِلْعَاقِدِ تَعْيِينُ الْمُدَّةِ الَّتِي يَشَاءُ عَلَى أَنْ لاَ يُجَاوِزَ الْحَدَّ الْمُعْتَادَ فِي كُل نَوْعٍ. (2)
قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَأَمَّا عُمْدَةُ أَصْحَابِ مَالِكٍ فَهُوَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْخِيَارِ هُوَ اخْتِبَارُ الْمَبِيعِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَحْدُودًا بِزَمَانِ إِمْكَانِ اخْتِبَارِ الْمَبِيعِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ كُل مَبِيعٍ. (3)
وَبِمَا أَنَّ لِهَذَا الاِتِّجَاهِ الْفِقْهِيِّ تَقْدِيرَاتٍ مُحَدَّدَةً بِحَسَبِ الْحَاجَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا فَقَدْ جَرَى تَصْنِيفُهَا لَدَى الْمَالِكِيَّةِ إِلَى زُمَرٍ:
__________
(1) مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى وحاشيته 3 / 89.
(2) الشرح الكبير على خليل وحاشية الدسوقي 3 / 95، والخرشي على خليل، وحاشية العدوي 4 / 19، والحطاب على خليل، 4 / 412، والقوانين الفقهية ص263، ولباب اللباب لابن راشد، وبداية المجتهد لابن رشد 2 / 209.
(3) بداية المجتهد 2 / 210.

(20/83)


الْعَقَارُ:
12 - وَأَقْصَى مُدَّتِهِ شَهْرٌ، وَمَا أُلْحِقَ بِهِ هُوَ سِتَّةُ أَيَّامٍ، فَأَقْصَى الْمُدَّةِ الَّتِي يَجُوزُ مَدُّ الْخِيَارِ إِلَيْهَا فِي الْعَقَارِ (36) يَوْمًا. وَهُنَاكَ الْيَوْمَانِ الْمُلْحَقَانِ بِزَمَنِ الْخِيَارِ وَهُمَا لِلتَّمْكِينِ مِنْ رَدِّ الْمَبِيعِ إِذَا كَانَ حِينَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ (الشَّهْرِ وَالأَْيَّامِ السِّتَّةِ) بِيَدِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ يُرِيدُ الْفَسْخَ، وَالْحُكْمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَلْزَمَ الْمَبِيعُ عَلَى مَنْ هُوَ بِيَدِهِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ دُونَ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لَهُ أَوْ لِلْعَاقِدِ الآْخَرِ. فَالْيَوْمَانِ الْمُلْحَقَانِ هُمَا لِهَذَا الْغَرَضِ (دَفْعِ اللُّزُومِ عَنِ الْمُشْتَرِي دُونَ إِرَادَتِهِ) . أَمَّا زَمَنُ الْخِيَارِ لِلْعَقَارِ فَهُوَ شَهْرٌ وَسِتَّةُ أَيَّامٍ.

الدَّوَابُّ:
13 - وَتَخْتَلِفُ الْمُدَّةُ فِيهَا بِحَسَبِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْخِيَارِ فِيهَا
، فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِمَعْرِفَةِ قُوَّتِهَا وَأَكْلِهَا وَسِعْرِهَا فَأَقْصَى مُدَّتِهِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ. وَإِنْ كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ مُتَضَمِّنًا أَنَّهَا لِلاِخْتِبَارِ فِي الْبَلَدِ نَفْسِهِ فَالْمُدَّةُ يَوْمٌ وَاحِدٌ وَشَبَهُهُ، أَمَّا إِنْ كَانَ خَارِجَهُ فَأَقْصَى الْمُدَّةِ بَرِيدٌ (1) عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَبَرِيدَانِ عِنْدَ أَشْهَبَ. وَقَدْ أُلْحِقَ بِالثَّلاَثَةِ الأَْيَّامِ يَوْمٌ وَاحِدٌ لِتَمْكِينِ الْمُشْتَرِي مِنْ رَدِّ الْمَبِيعِ، كَمَا سَلَفَ (2) .

بَقِيَّةُ الأَْشْيَاءِ:
14 - وَتَشْمَل: الثِّيَابَ، وَالْعُرُوضَ، وَالْمِثْلِيَّاتِ.
__________
(1) البريد: سير نصف يوم بالسير المعتاد.
(2) الدسوقي 3 / 92.

(20/84)


وَأَقْصَى الْمُدَّةِ لَهَا ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ وَيَلْحَقُ بِهَا يَوْمٌ. وَقَدْ أَطْلَقَ الْخَرَشِيُّ لَفْظَ (الْمِثْلِيَّاتِ) عَلَى كُل مَا عَدَا (الرَّقِيقِ وَالْعَقَارِ وَالدَّوَابِّ) وَبِالرَّغْمِ مِنْ شُمُول الْمِثْلِيَّاتِ لِلْخُضَرِ وَالْفَوَاكِهِ إِلاَّ أَنَّ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ حُكْمًا خَاصًّا بِهِمَا مِنْ حَيْثُ الْمُدَّةُ نَظَرًا لِطَبِيعَتِهِمَا الْخَاصَّةِ مِنْ تَسَارُعِ التَّلَفِ إِلَيْهِمَا، فَالْخُضَرُ وَالْفَوَاكِهُ بِخَاصَّةٍ أَمَدُ الْخِيَارِ فِيهِمَا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى الْمُدَّةُ الَّتِي لاَ تَتَغَيَّرُ فِيهَا. (1)

الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ - التَّحْدِيدُ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ:
15 - وَهَذَا التَّحْدِيدُ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا مَهْمَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، مَعَ الْمَنْعِ مِنْ مُجَاوَزَتِهَا. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبِهِ زُفَرَ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ. (2)
وَقَدِ احْتَجَّ لِهَذَا التَّحْدِيدِ بِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ السَّابِقِ ذِكْرُهُ لإِِثْبَاتِ الْخِيَارِ فِيهِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ. (3)
وَالْبَيَانُ الدَّقِيقُ لِمُسْتَنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَحْدِيدِ الثَّلاَثَةِ الأَْيَّامِ هُوَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُهُ أَبُو يُوسُفَ، فَقَدْ
__________
(1) الشرح الكبير على خليل وحاشية الدسوقي عليه 3 / 93 - 95، الخرشي على خليل بحاشية العدوي 4 / 19 - 21.
(2) البدائع 5 / 174، والبحر الرائق 6 / 6، ورد المحتار 4 / 568، والفتاوى الهندية 3 / 38، والمبسوط 13 / 41، وفتح القدير 5 / 111، والمجموع 9 / 190، ونهاية المحتاج 4 / 17.
(3) الحديث تقدم تخريجه ف4.

(20/84)


قَال فِي بَيَانِ مَذْهَبِ الإِْمَامِ: لاَ يَكُونُ الْخِيَارُ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، بَلَغَنَا عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُول: مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُحَفَّلَةً (1) فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ: إِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. (2) فَجَعَل أَبُو حَنِيفَةَ الْخِيَارَ كُلَّهُ عَلَى قَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُول: (الْخِيَارُ جَائِزٌ شَهْرًا كَانَ أَوْ سَنَةً وَبِهِ نَأْخُذُ (3)) . وَنَحْوُهُ مُسْتَنَدُ الشَّافِعِيِّ، كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَعْرِفَةِ السُّنَنِ قَال الشَّافِعِيُّ: الأَْصْل فِي الْبَيْعِ بِالْخِيَارِ أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا، وَلَكِنْ لَمَّا شَرَطَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُصَرَّاةِ خِيَارَ ثَلاَثٍ فِي الْبَيْعِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَل لَحِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ خِيَارَ ثَلاَثٍ فِيمَا ابْتَاعَ، انْتَهَيْنَا إِلَى مَا قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (4)
كَمَا احْتَجُّوا لَهُ مِنَ الْمَعْقُول بِأَنَّ الْخِيَارَ مُنَافٍ
__________
(1) المراد بالمحفلة، وهي المصراة وهي الشاة التي لم تحلب أيامًا، ليجتمع اللبن في ضرعها للبيع - مختار الصحاح.
(2) حديث: " من اشترى شاة محفلة. . . " أخرجه مسلم (3 / 1158 ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة، بلفظ: " من اشترى شاة مصراة، فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها، ورد معها صاعًا من تمر ".
(3) اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، لأبي يوسف 16، جامع الفصولين 1 / 329.
(4) نصب الراية 4 / 6 نقلا عن معرفة السنن للبيهقي، ولم يدع ابن حزم فرصة التنديد بأبي حنيفة لأنه احتج بحديث المصراة في التحديد بالثلاث ثم لم يأخذ بخيار التصرية (إحكام الأحكام 3 / 99) .

(20/85)


لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَقَدْ جَازَ لِلْحَاجَةِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْقَلِيل مِنْهُ، وَآخِرُ الْقِلَّةِ ثَلاَثٌ، وَاحْتَجَّ بِمِثْل ذَلِكَ النَّوَوِيُّ بَعْدَمَا أَشَارَ إِلَى حَدِيثِ حِبَّانَ (1) .

الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلاَثِ:
16 - إِذَا زَادَتْ مُدَّةُ خِيَارِ الشَّرْطَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا لَدَى هَذَا الْفَرِيقِ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْقَائِل بِالتَّحْدِيدِ بِهَا، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، وَبَاطِلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، ذَهَابًا مِنْهُ إِلَى أَنَّ إِسْقَاطَ الزِّيَادَةِ لاَ يُصَحِّحُ الْعَقْدَ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْمَجْلِسِ فَقَطْ، بَل فِي الْمَجْلِسِ أَيْضًا عَلَى الْمَشْهُورِ، لأَِنَّ الْمَجْلِسَ ثَبَتَ لِعَقْدٍ صَحِيحٍ، لاَ لِفَاسِدٍ، لِوُقُوعِهِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَثْبُتُ دَائِمًا.
غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَحْدَهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ إِسْقَاطَ شَرْطِ الْخِيَارِ الزَّائِدِ عَنِ الثَّلاَثِ - أَوْ إِسْقَاطَ الزِّيَادَةِ - يُصَحِّحُ الْعَقْدَ، وَلَوْ حَصَل ذَلِكَ الإِْسْقَاطُ بَعْدَ مُفَارَقَةِ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ مَا لَمْ تَمْضِ الأَْيَّامُ الثَّلاَثَةُ. وَخَالَفَهُ صَاحِبُهُ زُفَرُ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ إِسْقَاطَ الزَّائِدِ لاَ يُصَحِّحُ الْعَقْدَ لأَِنَّ
__________
(1) المجموع 9 / 190، وقد جاء في البدائع 5 / 174 مناقشة مبنية على خلاف أبي حنيفة وصاحبيه في جواز الزيادة على الثلاث اعتمد فيها على النص في الحديث على الثلاث.، كما أطال ابن الهمام في الفتح 5 0 في الاستدلال للتحديد بالثلاث بما مداره أن الخيار شرع مقيدًا بالثلاث يقصد حديث حبان وقد سبق ما فيه.

(20/85)


الْبَقَاءَ عَلَى حَسَبِ الثُّبُوتِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنَ الصُّوَرِ الْمُفْسِدَةِ: - اشْتِرَاطَ مُشَاوَرَةِ مَنْ لاَ يَعْلَمُ مَا عِنْدَهُ إِلاَّ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُدَّةِ بِأَمَدٍ، كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ الْخِيَارَ فِي الْعَقَارِ لِمُدَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مَعَ أَنَّ الْمُدَّةَ الْمُحَدَّدَةَ لِلْعَقَارِ أَقْصَاهَا ثَمَانِيَةٌ وَثَلاَثُونَ يَوْمًا.
- اشْتِرَاطَ مُدَّةٍ زَائِدَةٍ عَلَى مُدَّةِ تِلْكَ السِّلْعَةِ بِكَثِيرٍ، أَمَّا لَوْ بِزِيَادَةِ يَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ فَلاَ يَضُرُّ. (2)

الْخِيَارُ الْمُطْلَقُ:
17 - فِي الْخِيَارِ الْمُطْلَقِ عَنِ الْمُدَّةِ تَتَّجِهُ الْمَذَاهِبُ إِلَى أَرْبَعَةِ اتِّجَاهَاتٍ: بُطْلاَنِ الْعَقْدِ أَوْ فَسَادِهِ - بُطْلاَنِ الشَّرْطِ دُونَ الْعَقْدِ - صِحَّةِ الْعَقْدِ وَتَعْدِيل الشَّرْطِ - صِحَّةِ الْعَقْدِ وَبَقَاءِ الشَّرْطِ بِحَالِهِ.
أ - بُطْلاَنُ الْعَقْدِ أَوْ فَسَادُهُ، فَالْبُطْلاَنُ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى فَسَادِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا هُنَا بَيْنَ الْجَهَالَةِ الْمُتَفَاحِشَةِ أَوِ الْمُتَقَارِبَةِ كَالْحَصَادِ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 178، وفتح القدير 5 0 - 501، والمجموع شرح المهذب 9 / 190 و 194، الفتاوى الهندية 3 / 39، البدائع 5 / 300، والبحر الرائق 6 / 6، والمبسوط 13 / 63، المحيط البرهاني مخطوط (ورقة 765) .
(2) الشرح الكبير للدردير، وحاشية الدسوقي 3 / 94 - 95، والخرشي 4 / 21.

(20/86)


مَثَلاً، كَمَا ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْخِيَارِ الْمُفْسِدِ لَوْ أَبْطَل خِيَارَهُ، أَوْ بَيَّنَهُ، أَوْ سَقَطَ بِسَبَبٍ مَا وَلَزِمَ الْبَيْعُ فِي الأَْيَّامِ الثَّلاَثَةِ التَّالِيَةِ لِلْعَقْدِ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ (خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ الْمُشْتَرِطِ حُصُول ذَلِكَ قَبْل مُضِيِّ الأَْيَّامِ الثَّلاَثَةِ) انْقَلَبَ الْعَقْدُ صَحِيحًا عِنْدَ الْجَمِيعِ - بَل لَوْ بَعْدَ الثَّلاَثَةِ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ - لِحَذْفِ الْمُفْسِدِ قَبْل اتِّصَالِهِ بِالْعَقْدِ لأَِنَّهُمَا يُجِيزَانِ الزِّيَادَةَ عَنِ الثَّلاَثَةِ. (1)
ب - بُطْلاَنُ الشَّرْطِ دُونَ الْعَقْدِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ لأَِحْمَدَ وَمَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى
ج - صِحَّةُ الْعَقْدِ وَتَعْدِيل الشَّرْطِ، فَالْخِيَارُ الْمُطْلَقُ أَوِ الْمُؤَبَّدُ هُنَا يُخَوِّل الْقَاضِي تَحْدِيدَ الْمُدَّةِ الْمَأْلُوفَةِ فِي الْعَادَةِ لاِخْتِبَارِ مِثْل السِّلْعَةِ الَّتِي هِيَ مَحَل الْعَقْدِ؛ لأَِنَّ الْخِيَارَ مُقَيَّدٌ فِي الْعَادَةِ، فَإِذَا أَطْلَقَا حُمِل عَلَيْهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ (2) .
وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ الْعَاقِدَيْنِ إِنْ أَطْلَقَا الْخِيَارَ وَلَمْ يُوَقِّتَاهُ بِمُدَّةٍ تَوَجَّهَ أَنْ يَثْبُتَ ثَلاَثًا، لِخَبَرِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ (3) .
د - صِحَّةُ الْعَقْدِ وَبَقَاءُ الشَّرْطِ بِحَالِهِ: فَيَبْقَى الْخِيَارُ مُطْلَقًا أَبَدًا كَمَا نَشَأَ حَتَّى يَصْدُرَ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 174 و 178، والفتاوى الهندية 3 / 38 - 39، والمجموع 9 / 191، والمغني لابن قدامة 3 / 527، والمقنع 2 / 35.
(2) المقدمات 2 / 560.
(3) الاختيارات، لعلاء الدين البعلي ص74.

(20/86)


مَا يُسْقِطُهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ شُبْرُمَةَ، وَقَوْلٌ لأَِحْمَدَ (1) .

تَأْبِيدُ الْخِيَارِ:
18 - مِنَ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ: شَرْطُ خِيَارٍ مُؤَبَّدٍ فِي الْبَيْعِ بِأَنْ قَال (أَبَدًا) أَوْ (أَيَّامًا) (2) .

التَّوْقِيتُ بِوَقْتٍ مَجْهُولٍ:
19 - مِنَ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ: شَرْطُ خِيَارٍ مُؤَقَّتٍ بِوَقْتٍ مَجْهُولٍ سَوَاءٌ كَانَتْ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً، كَهُبُوبِ الرِّيَاحِ، وَمَجِيءِ الْمَطَرِ، وَقُدُومِ فُلاَنٍ، وَمَوْتِ فُلاَنٍ، وَوَضْعِ الْحَامِل وَنَحْوِهِ. أَوْ جَهَالَةً مُتَقَارِبَةً، كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ، وَقُدُومِ الْحَاجِّ. (3)

ثَالِثًا - شَرِيطَةُ الاِتِّصَال، وَالْمُوَالاَةِ
20 - الْمُرَادُ بِالاِتِّصَال أَنْ تَبْدَأَ مُدَّةُ الْخِيَارِ مِنْ فَوْرِ إِبْرَامِ الْعَقْدِ، أَيْ لاَ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَتَرَاخَى عَنْهُ، فَلَوْ شَرَطَ الْمُتَعَاقِدَانِ الْخِيَارَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مَثَلاً مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ، أَوْ تَبْدَأُ مِنَ الْغَدِ، أَوْ تَبْدَأُ مَتَى شَاءَ. . أَوْ
__________
(1) المغني 3 / 527، والمقنع 2 / 35.
(2) البدائع 5 / 174 و 157، والفتاوى الهندية 3 / 38، البحر الرائق 6 / 5.
(3) البدائع 5 / 174، الخرشي على خليل 4 / 21 وقال: يستمر العقد لو أسقط الشرط، الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 94، شرح الروض لزكريا الأنصاري 2، والبحر 6 / 5 نقلا عن التتارخانية.

(20/87)


شَرَطَا خِيَارَ الْغَدِ دُونَ الْيَوْمِ، فَسَدَ الْعَقْدُ لِمُنَافَاتِهِ لِمُقْتَضَاهُ، وَالْمُرَادُ بِالْمُقْتَضَى هُنَا: حُصُول آثَارِهِ مُبَاشَرَةً. هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، قَال النَّوَوِيُّ: (وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ مُتَّصِلَةً بِالْعَقْدِ. لاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ خِيَارًا مُتَرَاخِيًا عَنِ الْعَقْدِ) (1) لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ لاَ يُبْطِلُونَ هَذَا الْعَقْدَ لأَِنَّهُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ نَظَرًا لِذَهَابِهِمْ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْبُطْلاَنِ وَالْفَسَادِ، وَالْفَاسِدُ مِنَ الْعُقُودِ مُنْعَقِدٌ وَيَحْتَمِل بَعْضُهُ التَّصْحِيحَ، وَسَبِيل ذَلِكَ هُنَا اعْتِبَارُ الْمُدَّةِ الْفَاصِلَةِ بَيْنَ الْعَقْدِ وَبَيْنَ مَبْدَأِ الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ مَشْمُولَةً بِالشَّرْطِ، فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ اشْتِرَاطَ خِيَارِ أَيَّامٍ غَيْرِ مُتَّصِلَةٍ بِالْعَقْدِ، مِثْل مَا لَوْ كَانَ الْعَقْدُ فِي آخِرِ رَمَضَانَ وَاشْتَرَطَ خِيَارَ يَوْمَيْنِ بَعْدَ رَمَضَانَ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَهُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ (الْيَوْمُ الآْخِرُ مِنْ رَمَضَانَ وَالْيَوْمَانِ مِمَّا بَعْدَهُ) .
وَهَكَذَا يُحْمَل كَلاَمُهُ عَلَى إِرَادَةِ الْمُدَّةِ الْمُتَّصِلَةِ وَمَا بَعْدَهَا. أَمَّا إِذَا كَانَ الاِشْتِرَاطُ غَيْرَ قَابِلٍ لِلْحَمْل عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ عَقْدٌ فَاسِدٌ مُسْتَحِقٌّ لِلْفَسْخِ بِإِرَادَةِ كُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ وَبِإِرَادَةِ الْقَاضِي، وَمِثَالُهُ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - مَا لَوْ ذَكَرَ أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لَهُ فِي رَمَضَانَ، وَلَهُ كَذَا يَوْمًا مِمَّا بَعْدَهُ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ (2) .
__________
(1) المجموع للنووي 9 / 191، والبدائع 5 / 300، والمغني 3 / 502.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 39، (نقلا عن فتاوى قاضيخان 2 / 183) ، والبحر الرائق 6 / 5.

(20/87)


21 - وَيَتْبَعُ شَرِيطَةَ الاِتِّصَال شَرِيطَةٌ أُخْرَى يُمْكِنُ تَسْمِيَتُهَا " الْمُوَالاَةَ " لأَِنَّ الْمُرَادَ بِهَا: تَتَابُعُ أَجْزَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ. فَلَوْ شَرَطَا الْخِيَارَ لِمُدَّةِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ عَلَى أَنَّهُ يَوْمًا يَثْبُتُ وَيَوْمًا لاَ يَثْبُتُ فَفِيهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا - وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ -: الصِّحَّةُ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل، لإِِمْكَانِهِ، وَالْبُطْلاَنُ فِيمَا بَعْدَهُ، لأَِنَّ الْعَقْدَ إِذَا لَزِمَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَمْ يَعُدْ إِلَى عَدَمِ اللُّزُومِ.
وَالْوَجْهُ الآْخَرُ: (احْتِمَال) بُطْلاَنِ الشَّرْطِ كُلِّهِ، لأَِنَّهُ شَرْطٌ وَاحِدٌ تَنَاوَل الْخِيَارَ فِي أَيَّامٍ، فَإِذَا فَسَدَ فِي بَعْضِهِ فَسَدَ جَمِيعُهُ (1) .

رَابِعًا - تَعْيِينُ مُسْتَحِقِّ الْخِيَارِ:
22 - مُسْتَحِقُّ الْخِيَارِ أَوْ صَاحِبُ الْخِيَارِ: هُوَ ذَلِكَ الشَّخْصُ الَّذِي يَكُونُ إِلَيْهِ اسْتِعْمَال الْخِيَارِ وَمُمَارَسَتُهُ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ مُشْتَرِطَهُ أَوْ خُوِّل إِلَيْهِ مِنَ الْعَاقِدِ الآْخَرِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ طَرَفًا فِي الْعَقْدِ أَمْ كَانَ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ، وَلاَ يَصِحُّ تَطَرُّقُ الْجَهَالَةِ إِلَى مُسْتَحِقِّ الْخِيَارِ، فَلَوِ اتَّفَقَ الْعَاقِدَانِ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ لأَِحَدِهِمَا لاَ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يُبَيِّنَا هَل هُوَ الْبَائِعُ أَمِ الْمُشْتَرِي، أَوْ تَعَاقَدَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِشَخْصٍ مَا يُعَيِّنُهُ أَحَدُهُمَا فِيمَا بَعْدُ، أَوْ لِمَنْ يَشَاءُ أَحَدُهُمَا، فَهَذَا كُلُّهُ فِيهِ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ لِلنِّزَاعِ.
__________
(1) المغني 3 / 528.

(20/88)


وَلِذَا صَرَّحَ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّهُ لاَ يَصِحُّ، لأَِنَّهُ مَجْهُولٌ وَلأَِنَّهُ يُفْضِي إِلَى التَّنَازُعِ. لِذَا كَانَ لاَ بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ مُسْتَحِقِّ الْخِيَارِ تَعْيِينًا مُشَخَّصًا أَهُوَ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ تَعْيِينُهُ بِالذَّاتِ إِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا عَنِ الْعَقْدِ، وَعَدَمُ الاِكْتِفَاءِ بِذِكْرِ الصِّفَةِ (مَثَلاً) كَقَوْلِهِ: عَلَى أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لأَِحَدِ التُّجَّارِ أَوِ الْخُبَرَاءِ دُونَ تَحْدِيدٍ. وَقَال النَّوَوِيُّ: (لَوْ يُشْرَطُ الْخِيَارُ لأَِحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ فَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ قَوْلاَنِ، الأَْصَحُّ: الصِّحَّةُ) (1) .

مَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ:
23 - خِيَارُ الشَّرْطِ لاَ يَثْبُتُ فِي غَيْرِ الْعُقُودِ، وَالْعُقُودُ الَّتِي يُمْكِنُ فِيهَا وُقُوعُ خِيَارِ الشَّرْطِ هِيَ الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ الْقَابِلَةُ لِلْفَسْخِ، لأَِنَّ فَائِدَتَهُ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِيهَا فَقَطْ. أَمَّا الْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ فَهِيَ بِمَا تَتَّصِفُ بِهِ مِنْ طَبِيعَةِ عَدَمِ اللُّزُومِ لاَ فَائِدَةَ لاِشْتِرَاطِ خِيَارٍ فِيهَا. وَأَمَّا الْعُقُودُ الَّتِي لاَ تَقْبَل الْفَسْخَ فَيَتَعَذَّرُ قِيَامُ الْخِيَارِ فِيهَا، لأَِنَّهُ يُنَاقِضُ طَبِيعَتَهَا.
وَالْبَيْعُ هُوَ الْمَجَال الأَْسَاسِيُّ لِخِيَارِ الشَّرْطِ، وَجَرَيَانُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ اتِّفَاقِيٌّ، لأَِنَّهُ هُوَ الْعَقْدُ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ أَخْبَارُ مَشْرُوعِيَّتِهِ، وَالْبَيْعُ عَقْدٌ لاَزِمٌ قَابِلٌ لِلْفَسْخِ (بِطَرِيقِ الإِْقَالَةِ) فَهُوَ يَقْبَل
__________
(1) المغني 3 / 499 م 2780، والمجموع 9 / 207، وقال النووي: له شرط الخيار لأحدهما دون الآخر ففي صحة البيع قولان: الأصح: الصحة.

(20/88)


الْفَسْخَ بِخِيَارِ الشَّرْطِ. بَل يَدْخُل الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَمَا هُوَ نَصُّ الْهِدَايَةِ لِلْمَرْغِينَانِيِّ، كَمَا لاَ فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْبَيْعِ بَيْعَ مُسَاوَمَةٍ، أَوْ بَيْعَ أَمَانَةٍ كَالْمُرَابَحَةِ وَأَخَوَاتِهَا (1) .
أَمَّا الْمُسْتَثْنَيَاتُ مِنَ الْبَيْعِ فَهِيَ: السَّلَمُ، وَالصَّرْفُ، وَبَيْعُ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهَا بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ بِقَوْلِهِ: كُل بَيْعٍ قَبْضُ عِوَضِهِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ (2) . وَهِيَ عُقُودٌ يُبْطِلُهَا خِيَارُ الشَّرْطِ إِنْ لَمْ يَحْصُل إِسْقَاطُهُ فِي الْمَجْلِسِ قَبْل التَّفَرُّقِ (3) .
وَقَدْ نَبَّهَ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى أَنَّ اسْتِثْنَاءَ السَّلَمِ وَالصَّرْفِ مُخِلٌّ بِالضَّابِطِ، وَهُوَ ثُبُوتُهُ فِي الْعَقْدِ اللاَّزِمِ الْمُحْتَمَل الْفَسْخَ، فَهُمَا - أَيِ السَّلَمُ وَالصَّرْفُ - كَذَلِكَ (4) .
وَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِهِ فِي السَّلَمِ إِلَى أَجَلٍ قَصِيرٍ (5) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (سَلَمٌ) ، (صَرْفٌ) .
وَيَجْرِي خِيَارُ الشَّرْطِ فِي الإِْجَارَةِ مُطْلَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَيَّدُوا
__________
(1) الهداية 5 / 367 بهامش الفتح.
(2) المقنع وحواشيه 2 / 35.
(3) البدائع 5 / 201.
(4) حواشي ابن عابدين على البحر 6 / 4، البدائع 5 / 201، المبسوط 14 / 24، المقنع وحواشيه 2 / 35، المجموع 9 / 192، المغني 3 / 531.
(5) المدونة 10 / 21، والمواق 4 / 422، والمقدمات لابن رشد 2 / 190.

(20/89)


الْخِيَارَ بِالإِْجَارَةِ الَّتِي فِي الذِّمَّةِ، أَمَّا الإِْجَارَةُ الْمُعَيَّنَةُ فَيَدْخُلُهَا الْخِيَارُ إِذَا كَانَتْ لِمُدَّةٍ غَيْرِ تَالِيَةٍ لِلْعَقْدِ.
أَمَّا إِنْ كَانَتْ لِمُدَّةٍ تَبْدَأُ مِنْ فَوْرِ الْعَقْدِ فَلاَ يَصِحُّ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهَا، لأَِنَّهُ يُفْضِي إِلَى فَوَاتِ بَعْضِ الْمَنَافِعِ، أَوْ إِلَى اسْتِيفَائِهَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَكِلاَهُمَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَفِي وَجْهٍ لِلْحَنَابِلَةِ: تَجُوزُ فِي الْمُدَّةِ التَّالِيَةِ لِلْعَقْدِ أَيْضًا، فَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ بِقِيمَةِ الْمَنَافِعِ (1) .
وَالْحَوَالَةُ: اخْتُلِفَ فِي قَبُولِهَا خِيَارَ الشَّرْطِ عَلَى رَأْيَيْنِ:
الأَْوَّل: تَقْبَلُهُ، وَعَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ احْتِمَالٌ لِلْحَنَابِلَةِ - كَمَا ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ - فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي الْحَوَالَةِ لِكُلٍّ مِنَ الْمُحَال، وَالْمُحَال عَلَيْهِ - وَهُمَا اللَّذَانِ يَجِبُ رِضَاهُمَا فِي عَقْدِهَا - أَمَّا الْمُحِيل - وَرِضَاهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الأَْصَحِّ - فَلَيْسَ لَهُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ أَصَالَةً أَيْ بِاعْتِبَارِهِ طَرَفًا فِي الْعَقْدِ، أَمَّا إِنِ اشْتَرَطَ لَهُ كَمَا يَشْتَرِطُ الأَْجْنَبِيُّ مِنْ قِبَل أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، بِأَنِ اشْتَرَطَهُ لَهُ الْمُحَال أَوِ الْمُحَال عَلَيْهِ فَيَجُوزُ، وَلَكِنْ تُطَبَّقُ أَحْكَامُ الاِشْتِرَاطِ لأَِجْنَبِيٍّ، وَهِيَ ثُبُوتُهُ لَهُ عَلَى وَجْهِ النِّيَابَةِ فَيَكُونُ لَهُ وَلِلْمُشْتَرِطِ. وَعَلَّل ابْنُ قُدَامَةَ قَبُول الْحَوَالَةِ لِخِيَارِ الشَّرْطِ بِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ يُقْصَدُ بِهَا الْعِوَضُ.
الثَّانِي: عَدَمُ قَبُول الْحَوَالَةِ لِخِيَارِ الشَّرْطِ، وَهُوَ
__________
(1) البدائع 5 / 201، والمجموع 9 / 192، والمغني 3 / 531.

(20/89)


مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ عَقْدَ الْحَوَالَةِ لَمْ يُبْنَ عَلَى الْمُغَابَنَةِ. وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى رَأْيٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (1) .
وَكَذَلِكَ الْقِسْمَةُ: اخْتَلَفَ الرَّأْيُ فِيهَا بِحَسَبِ النَّظَرِ إِلَيْهَا هَل هِيَ بَيْعٌ كَمَا قَال الْحَنَفِيَّةُ أَمْ هِيَ تَمْيِيزُ حُقُوقٍ كَمَا يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُفَادُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ. وَمَنْ أَثْبَتَ خِيَارَ الشَّرْطِ فِيهَا مِنَ الْحَنَابِلَةِ احْتَجَّ بِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لَمْ يُشْرَعْ خَاصًّا بِالْبَيْعِ، بَل هُوَ لِلتَّرَوِّي وَتَبَيُّنِ أَرْشَدِ الأَْمْرَيْنِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْقِسْمَةِ.
وَالْقِسْمَةُ أَنْوَاعٌ: قِسْمَةُ الأَْجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَهِيَ قِسْمَةُ تَرَاضٍ لاَ إِجْبَارَ فِيهَا - وَقِسْمَةُ الْجِنْسِ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ، وَهِيَ تَقْبَل الإِْجْبَارَ وَلاَ يَدْخُلُهَا خِيَارُ الشَّرْطِ - وَقِسْمَةُ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ، كَالْبَقَر وَالْغَنَمِ، أَوِ الثِّيَابُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهِيَ تَقْبَل الإِْجْبَارَ وَيَدْخُلُهَا خِيَارُ الشَّرْطِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُفْتَى بِهِ (2) .
وَالْكَفَالَةُ: يَدْخُلُهَا خِيَارُ الشَّرْطِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَلِلْكَفَالَةِ خِصِّيصَةٌ فِي بَابِ خِيَارِ الشَّرْطِ مِنْ حَيْثُ التَّوْقِيتُ إِذْ يَجُوزُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
__________
(1) البحر الرائق 4 / 272، ورد المحتار 4 / 48، والمهذب 1 / 338، والمغني 5 / 54، والمقنع وحواشيه 2 / 34.
(2) رد المحتار 5 / 167، وجامع الفصولين 1 / 243، وبلغة السالك 2 / 238، والمدونة 14 / 198، ومغني المحتاج 4 / 424، والقواعد لابن رجب 413.

(20/90)


خِلاَفًا لِمَذْهَبِهِ فِي اشْتِرَاطِ التَّحْدِيدِ بِالثَّلاَثِ، لأَِنَّ الْكَفَالَةَ عَقْدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ (1) .
وَالْوَقْفُ: يَجْرِي فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَقَدْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْوَاقِفَ إِذَا شَرَطَ فِي الْوَقْفِ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً جَازَ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ، وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، فَالْوَقْفُ بَاطِلٌ، وَشَرْطُ الْخِيَارِ فَاسِدٌ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي (وَقْفٌ) .

اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ:
24 - مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَصِحُّ اشْتِرَاطُهُ لأَِيِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِكِلَيْهِمَا (فَفِي الْبَيْعِ مَثَلاً: لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي) . وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَلاَ يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ، إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ شُبْرُمَةَ مِنْ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمُشْتَرِي، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَشْتَرِطَهُ لِنَفْسِهِ، (وَمُقْتَضَى هَذَا النَّقْل عَنْهُمَا أَنَّ مَجَال الْخِيَارِ عِنْدَهُمَا هُوَ عَقْدُ الْبَيْعِ فَقَطْ) وَعِنْدَ هَذَيْنِ إِذَا اشْتَرَطَهُ الْبَائِعُ فَسَدَ الْعَقْدُ (3) .
__________
(1) المبسوط 17 / 199، المجموع 9 / 177، كشاف القناع 3 / 203.
(2) رد المحتار 3 / 360، المغني 3 / 531، البحر الرائق 6 / 4، المجموع 9 / 177، وكشاف القناع 3 / 203، الأشباه بحاشية الحموي 1 / 328.
(3) المغني 3 / 524 ط4، فتح القدير 5 / 500، البحر الزخار، 3 / 348، وفتح القدير 5 / 500.

(20/90)


وَفِي اشْتِرَاطِهِ لِلْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا لاَ فَرْقَ أَنْ يَنْشَأَ الاِشْتِرَاطُ مِنَ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ أَوْ مِنْهُ لِلْعَاقِدِ الآْخَرِ، وَهُوَ أَمْرٌ يَحْصُل كَثِيرًا، إِذْ يَجْعَل الْبَائِعُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، كَمَا لَوْ قَال الْبَائِعُ: بِعْتُ لَكَ ذَا الشَّيْءَ عَلَى أَنَّكَ بِالْخِيَارِ، فَإِذَا صَدَرَ الْقَبُول مِنَ الْمُشْتَرِي كَانَ الْخِيَارُ لَهُ، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِمَنْ شُرِطَ لَهُ وَحْدَهُ دُونَ الْعَاقِدِ الْمُشْتَرِطِ، إِلاَّ إِذَا شَرَطَهُ لِنَفْسِهِ أَيْضًا وَرَضِيَ الآْخَرُ (1) .

اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِلأَْجْنَبِيِّ عَنِ الْعَقْدِ:
25 - يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لأَِجْنَبِيٍّ عَنِ الْعَقْدِ، سَوَاءٌ وَقَعَ الاِشْتِرَاطُ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الأَْجْنَبِيُّ الْمُشْتَرَطُ لَهُ الْخِيَارُ شَخْصًا وَاحِدًا مُعَيَّنًا مِنَ الْعَاقِدَيْنِ كِلَيْهِمَا أَوْ كَانَ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا شَخْصٌ غَيْرُ مَنِ اشْتَرَطَهُ الآْخَرُ، عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى نَصٍّ عَنْ غَيْرِهِمْ، لأَِنَّ دَلاَئِل الْجَوَازِ تَشْمَلُهُ.
وَأَصْل هَذَا الْحُكْمِ (صِحَّةُ الاِشْتِرَاطِ لأَِجْنَبِيٍّ) مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَجْعُول لَهُ الْخِيَارُ مِمَّنْ يَجُوزُ قَوْلُهُ - لاَ كَالطِّفْل غَيْرِ الْمُمَيِّزِ - وَإِلاَّ بَطَل الْخِيَارُ (2) .
__________
(1) رد المحتار 4 / 58.
(2) فتح القدير 5 / 516، والبدائع 5 / 174، والمجموع 9 / 196، وبداية المجتهد 2 / 212، 4 / 551، ومغني المحتاج 2 / 46، ونهاية المحتاج 4 / 5، وحاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 111.

(20/91)


وَمُسْتَنَدُ هَذَا الْحُكْمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الاِسْتِحْسَانُ، فَهُوَ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ، وَلِذَا خَالَفَ فِيهِ زُفَرُ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ الْخِيَارَ مِنْ مُوَاجِبِ الْعَقْدِ وَأَحْكَامِهِ، فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُ اشْتِرَاطُهُ لِغَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ بِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِالاِسْتِحْسَانِ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، لأَِنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً ظَاهِرَةً حِينَ يَكُونُ الْمُتَعَاقِدُ قَلِيل الْخِبْرَةِ بِالأَْشْيَاءِ يَخْشَى الْوُقُوعُ فِي الْغَبْنِ فَيَلْجَأُ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْصَرُ مِنْهُ وَيُفَوِّضُ إِلَيْهِ الْخِيَارَ. وَفَضْلاً عَنْ هَذَا أَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لِلأَْجْنَبِيِّ لَيْسَ أَصَالَةً بَل هُوَ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنِ الْعَاقِدِ الَّذِي جَعَلَهُ لَهُ - عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاءُ - فَيُقَدَّرُ الْخِيَارُ لِلْعَاقِدِ اقْتِضَاءً، ثُمَّ يَجْعَل الأَْجْنَبِيَّ نَائِبًا عَنْهُ، تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِ الْعَاقِدِ (1) .
فَإِذَا جَعَل الْخِيَارَ لأَِجْنَبِيٍّ، فَمَا هِيَ صِفَةُ هَذَا الْجُعْل؟ وَمَا أَثَرُهُ؟ لِلْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وِجْهَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِمَثَابَةِ تَوْكِيلٍ لِغَيْرِهِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ، فَالْخِيَارُ لِلْعَاقِدِ وَالأَْجْنَبِيِّ مَعًا. وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. بَل إِنَّ الْحَنَابِلَةَ جَعَلُوا الْخِيَارَ لَهُمَا أَيْضًا فِيمَا لَوْ قَصَرَ الْعَاقِدُ الْخِيَارَ عَلَى الأَْجْنَبِيِّ وَقَال: هُوَ
__________
(1) البدائع 5 / 174، وفتح القدير 5 / 516 - 517، ورد المحتار 4 / 58.

(20/91)


لَهُ دُونِي، وَذَهَبَ أَبُو يَعْلَى مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ حِينَئِذٍ لاَ يَصِحُّ (1) .
الْوِجْهَةُ الأُْخْرَى: أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلأَْجْنَبِيِّ وَحْدَهُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَالُوا: إِنَّ جَعْل الْخِيَارِ لِلأَْجْنَبِيِّ تَفْوِيضٌ - أَوْ تَحْكِيمٌ - لاَ تَوْكِيلٌ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ.

شَرْطُ الاِسْتِئْمَارِ (أَوِ الْمُؤَامَرَةِ) أَوِ الْمَشُورَةِ:
26 - مِمَّا يَتَّصِل بِمَعْرِفَةِ صَاحِبِ الْخِيَارِ قَضِيَّةُ اشْتِرَاطِ مَشُورَةِ فُلاَنٍ مِنَ النَّاسِ، أَوِ اسْتِئْمَارِهِ: أَيْ مَعْرِفَةُ أَمْرِهِ وَامْتِثَالُهُ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْمُسْتَأْمِرِ وَالْمُسْتَأْمَرِ الاِسْتِقْلاَل فِي الرَّدِّ وَالإِْمْضَاءِ (بِخِلاَفِ مَا لَوْ كَانَ عَلَى خِيَارِهِ وَرِضَاهُ، فَلاَ اسْتِقْلاَل لَهُ دُونَ مَنْ شَرَطَ لَهُ، وَهَذَا فِي الْمَشُورَةِ الْمُطْلَقَةِ، أَمَّا إِذَا قَال عَلَى مَشُورَتِهِ إِنْ شَاءَ أَمْضَى وَإِنْ شَاءَ رَدَّ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْخِيَارِ) (2) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ هَاهُنَا تَفْصِيلٌ بِحَسَبِ صِيغَةِ جَعْل الْخِيَارِ لِلأَْجْنَبِيِّ، فَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِلَفْظِ الْمَشُورَةِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِلَفْظِ الْخِيَارِ أَوِ الرِّضَا.
فَإِذَا قَال: عَلَى مَشُورَةِ فُلاَنٍ، فَإِنَّ لِلْعَاقِدِ -
__________
(1) البدائع 5 / 174، المجموع 9 / 196، والشرح الكبير 4 / 100، كشاف القناع 3 / 204، المقدمات 2 / 560.
(2) الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 98.

(20/92)


بَائِعًا كَانَ أَوْ مُشْتَرِيًا - أَنْ يَسْتَبِدَّ بِإِبْرَامِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ دُونَ أَنْ يَفْتَقِرَ ذَلِكَ إِلَى مَشُورَتِهِ. لأَِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ مِنَ الْمُشَاوِرَةِ الْمُوَافَقَةُ، وَمُشْتَرِطُ الْمَشُورَةِ اشْتَرَطَ مَا يُقَوِّي بِهِ نَظَرَهُ.
أَمَّا إِذَا قَال: عَلَى خِيَارِ فُلاَنٍ أَوْ رِضَاهُ، فَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ، وَالْمُعْتَمَدُ مِنْهَا أَنَّهُ تَفْوِيضٌ فَلَيْسَ لِلْعَاقِدِ - بَائِعًا كَانَ أَوْ مُشْتَرِيًا - أَنْ يَسْتَقِل بِإِبْرَامِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ، ذَلِكَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ - أَوِ الرِّضَا - لِلأَْجْنَبِيِّ عِنْدَهُمْ لَيْسَ تَوْكِيلاً بَل هُوَ تَفْوِيضٌ، حَيْثُ إِنَّهُ بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِغَيْرِهِ مُعْرِضٌ عَنْ نَظَرِ نَفْسِهِ، وَقَدْ أَلْحَقُوا بِلَفْظِ الْخِيَارِ أَوِ الرِّضَا لَفْظَ الْمَشُورَةِ - السَّابِقَ ذِكْرُهُ - إِذَا جَاءَ مُقَيَّدًا بِمَا يَدْنُو بِهِ إِلَى هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ مِثْل أَنْ يَقُول: عَلَى مَشُورَةِ فُلاَنٍ إِنْ شَاءَ أَمْضَى وَإِنْ شَاءَ رَدَّ، فَحُكْمُ هَذَا كَالْخِيَارِ وَالرِّضَا (1) . وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَلْحَقُ بِاللَّفْظَيْنِ مَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنْ أَلْفَاظٍ مُسْتَحْدَثَةٍ تُؤَدِّي الْمَعْنَى نَفْسَهُ كَالرَّغْبَةِ وَالرَّأْيِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي هَذَا اتِّجَاهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ حَتَّى يَقُول: اسْتَأْمَرْتُهُ فَأَمَرَنِي بِالْفَسْخِ، وَالاِتِّجَاهُ الآْخَرُ - وَعَلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ -: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ اسْتِئْمَارُهُ، وَأَنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْمُثْبِتُونَ قَدْ جَاءَ بِقَصْدِ الاِحْتِيَاطِ لِئَلاَّ يَكُونَ كَاذِبًا. وَنَحْوُهُ مَا ذَكَرَ
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 98، والخرشي 4 / 25.

(20/92)


ابْنُ حَزْمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ فَضَّل (إِنْ أَخَذْتُ) عَلَى (إِنْ رَضِيتُ) ، إِذْ قَدْ يَرْضَى، ثُمَّ يَدَّعِي أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ، وَقَدْ صَحَّحَ النَّوَوِيُّ الرَّأْيَ الأَْوَّل (1) . وَلاَ بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ مَنْ سَيُشَاوِرُهُ. أَمَّا لَوْ قَال: عَلَى أَنْ أُشَاوِرَ (كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا) ، لَمْ يَكْفِ. قَال الأَْذْرَعِيُّ: وَالظَّاهِرُ يَكْفِي، وَهُوَ فِي هَذَا شَارِطُ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ (2) .
وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْحَنَفِيَّةِ عَلَى نَصٍّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

النِّيَابَةُ فِي الْخِيَارِ:
27 - الْخِيَارُ يَثْبُتُ لِلْعَاقِدِ الْمُشْتَرِطِ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ مَهْمَا كَانَتْ صِفَةُ الْعَاقِدِ، فَسَوَاءٌ أَكَانَ مَالِكًا لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، أَمْ وَصِيًّا يَعْقِدُ لِمَصْلَحَةِ الْمُوصَى عَلَيْهِ، أَمْ وَلِيًّا لِمَصْلَحَةِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، أَمْ كَانَ يَعْقِدُ بِالْوَكَالَةِ.
ذَلِكَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ فِي حَال الْوِلاَيَةِ أَوِ الْوِصَايَةِ هُوَ مِنْ بَابِ النَّظَرِ وَالرِّعَايَةِ لِلصَّغِيرِ فَذَلِكَ لَهُمَا. وَأَمَّا فِي الْوَكَالَةِ، فَلأَِنَّ تَصَرُّفَهُ بِأَمْرِ الْمُوَكِّل وَقَدْ أَمَرَهُ بِالْعَقْدِ أَمْرًا مُطْلَقًا فَيَظَل عَلَى إِطْلاَقِهِ، فَيَشْمَل الْعَقْدَ بِخِيَارٍ أَوْ بِدُونِهِ.
وَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ أَوِ الشَّرِيكُ شَرِكَةَ عَنَانٍ أَوْ مُفَاوَضَةٍ، يَمْلِكُ شَرْطَ الْخِيَارِ فِي مُعَامَلاَتِ الشَّرِكَةِ بِمُقْتَضَى إِطْلاَقِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ.
__________
(1) المجموع 9 / 212، شرح الروض 2 / 52، المغني 3 / 526 ط4.
(2) شرح الروض 2 / 52.

(20/93)


وَهَذَا شَامِلٌ لِمَا لَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِلْعَاقِدِ الآْخَرِ الَّذِي يُشَاطِرُهُ التَّعَاقُدَ عَلَى مَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا بِصِحَّتِهِ فِي الْوَكَالَةِ - فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ - إِذَا اشْتَرَطَهُ الْوَكِيل لِنَفْسِهِ أَوْ لِمُوَكِّلِهِ، لأَِنَّهُ لاَ ضَرَرَ فِيهِ، كَمَا مَنَعُوا الْوَكِيل بِالْبَيْعِ أَنْ يَشْتَرِطَ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ، فَلَيْسَ لِلْوَكِيل بِالشِّرَاءِ أَنْ يَشْتَرِطَ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ، فَإِنْ فَعَل الْوَكِيل ذَلِكَ بَطَل الْعَقْدُ، وَهَذَا مَا لَمْ يَأْذَنَ الْمُوَكِّل فِي الصُّورَتَيْنِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَتَجَاوَزُ الْخِيَارُ مَنْ شُرِطَ لَهُ فَلاَ يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّل إِذَا اشْتَرَطَهُ الْوَكِيل لِنَفْسِهِ وَلاَ الْعَكْسُ - وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ - لأَِنَّ ثُبُوتَهُ بِالشَّرْطِ فَكَانَ لِمَنْ شَرَطَهُ خَاصَّةً. أَمَّا إِذَا أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّل فِي شَرْطِ الْخِيَارِ وَأَطْلَقَ، فَشَرْطُ الْوَكِيل كَذَلِكَ بِإِطْلاَقٍ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا أَنَّهُ لِلْوَكِيل، لأَِنَّ مُعْظَمَ أَحْكَامِ الْعَقْدِ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ وَحْدَهُ (2) وَلاَ يَلْزَمُ الْعَقْدُ بِرِضَا الْمُوَكِّل، لأَِنَّ الْخِيَارَ مَنُوطٌ بِرِضَا وَكِيلِهِ.
وَالْحَنَابِلَةُ كَالشَّافِعِيَّةِ فِي صِحَّةِ اشْتِرَاطِ الْوَكِيل الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ، لاَ لِلْعَاقِدِ الآْخَرِ مَعَ احْتِمَال الْجَوَازِ عِنْدَهُمْ فِيهَا بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُول: لِلْوَكِيل
__________
(1) البدائع 5 / 174.
(2) المجموع 9 / 194، ونهاية المحتاج 4 / 15، ومغني المحتاج 2 / 46.

(20/93)


التَّوْكِيل (1) .
ثُمَّ إِنَّ عَلَى الْوَكِيل أَنْ يَفْعَل مَا فِيهِ حَظُّ الْمُوَكِّل، لأَِنَّهُ مُؤْتَمَنٌ (2) .
وَكَمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِصَاحِبِهِ عَلَى وَجْهِ الاِنْفِرَادِ إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي أَوِ الْبَائِعُ وَاحِدًا، يَثْبُتُ لِلْمُتَعَدِّدِ أَيْضًا إِذَا كَانَ الطَّرَفُ الْمُتَعَاقِدُ مُتَعَدِّدًا، كَمَا لَوْ بَاعَ شَرِيكَانِ شَيْئًا، أَوْ بَاعَ الْمَالِكُ سِلْعَةً لاِثْنَيْنِ وَاشْتَرَطَا الْخِيَارَ لَهُمَا.

آثَارُ الْخِيَارِ:
أَوَّلاً: أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى حُكْمِ الْعَقْدِ:
28 - حُكْمُ الْخِيَارِ أَنَّهُ يَمْنَعُ ثُبُوتَ حُكْمِ الْعَقْدِ، فَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ الْمُعْتَادُ لِلْحَال فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، وَذَلِكَ مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حَقِّ الْعَاقِدِ الآْخَرِ أَيْضًا، وَقَال صَاحِبَاهُ: الْحُكْمُ نَافِذٌ فِي حَقِّ مَنْ لاَ خِيَارَ لَهُ، لأَِنَّهُ لاَ مَانِعَ بِالنِّسْبَةِ لَهُ - وَسَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ انْتِقَال الْمِلْكِ عَنْهُ - وَلِذَا قَال الْكَاسَانِيُّ: (هُوَ لِلْحَال مَوْقُوفٌ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لاَ يُعْرَفُ حُكْمُهُ لِلْحَال، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ) وَالْعِلَّةُ فِي الْقَوْل بِأَنَّهُ مَوْقُوفُ الْحُكْمِ أَنَّهُ لاَ يُدْرَى أَيَتَّصِل بِهِ الْفَسْخُ أَوِ الإِْجَازَةُ. ثُمَّ قَال بَعْدَئِذٍ: " فَيَتَوَقَّفُ فِي الْجَوَابِ لِلْحَال، وَهَذَا
__________
(1) المغني 3 / 523.
(2) شرح الروض 2 / 52.

(20/94)


تَفْسِيرُ التَّوَقُّفِ عِنْدَنَا، وَقَال فِي مَوْطِنٍ آخَرَ: شَرْطُ الْخِيَارِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ لِلْحَال ". (1)
وَتَبَيَّنَ مِنْ مَنْعِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى الْعَقْدِ حُكْمُهُ فِي الْحَال، فَلاَ يَخْرُجُ الْمَبِيعُ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَلاَ الثَّمَنُ مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي اتِّفَاقًا بَيْنَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، فَلاَ يَفْتَرِقُ هَذَا الْعَقْدُ عَنِ الْعَقْدِ الْبَاتِّ إِلاَّ مِنْ حَيْثُ تَعَرُّضُهُ لِلْفَسْخِ بِمُوجِبِ خِيَارِ الشَّرْطِ الَّذِي زَلْزَل حُكْمَ الْعَقْدِ وَجَعَلَهُ عُرْضَةً لِلْفَسْخِ. فَفِي حَال اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِلطَّرَفَيْنِ لاَ يَثْبُتُ حُكْمُ الْعَقْدِ أَصْلاً (2) .
وَإِلَى مِثْل ذَلِكَ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي صُورَةِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِلطَّرَفَيْنِ، حَيْثُ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، لاَ يُحْكَمُ بِانْتِقَالِهِ لِلْمُشْتَرِي، وَلاَ أَنَّهُ لِلْبَائِعِ خَالِصًا حَتَّى يَنْقَضِيَ الْخِيَارُ (3) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِلْكِيَّةُ مَحَل الْخِيَارِ بَاقِيَةٌ لِلْبَائِعِ، وَلَمْ تَنْتَقِل إِلَى الْمُشْتَرِي، فَحُكْمُ الْعَقْدِ الْمُشْتَمِل عَلَى خِيَارٍ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ نَفَاذِهِ أَيًّا كَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ (4) .
__________
(1) البدائع 5 / 264، 5 / 174.
(2) رد المحتار 4 / 53، تبيين الحقائق 4 / 16، البحر الرائق 6 / 3، الفتاوى الهندية نقلا عن قاضيخان 3 / 40، فتح القدير 5 / 367.
(3) المجموع 9 / 228.
(4) القوانين الفقهية 264، والدسوقي على الشرح الكبير 3 / 103، بداية المجتهد 2 / 175.

(20/94)


ثَانِيًا: أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى انْتِقَال الْمِلْكِ:
يَخْتَلِفُ أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى انْتِقَال الْمِلْكِ بَيْنَ كَوْنِ الْخِيَارِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ كَوْنِهِ لأَِحَدِهِمَا.

أ - كَوْنُ الْخِيَارِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ:
29 - إِذَا كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ ثَابِتًا لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَلاَ تَغْيِيرَ يَحْصُل فِي قَضِيَّةِ الْمِلْكِ لِلْبَدَلَيْنِ، فَمَحَل الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، وَالثَّمَنُ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا. ذَلِكَ مَوْقِفُ الْحَنَفِيَّةِ، يَقُول الْكَاسَانِيُّ: فَلاَ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فِي الْبَدَلَيْنِ جَمِيعًا، فَلاَ يَزُول الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَلاَ يَدْخُل فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَكَذَا الثَّمَنُ. . . لأَِنَّ الْمَانِعَ مِنَ الاِنْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ مَوْجُودٌ فِي الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ الْخِيَارُ (1) . وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَوْقِفُ الشَّافِعِيَّةِ بِمُلاَحَظَةِ اخْتِيَارِهِمْ وَصْفَ هَذِهِ الْحَالَةِ بِأَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ بِانْتِظَارِ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ لِعَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ ظَهَرَ عِنْدَهُ أَنَّ الْمِلْكَ مَا زَال لِلْبَائِعِ، وَإِنْ تَمَّ ظَهَرَ أَنَّ الْمِلْكَ انْتَقَل لِلْمُشْتَرِي مُنْذُ الْعَقْدِ (2) .
وَالْمَذَاهِبُ الأُْخْرَى لاَ تُفْرِدُ هَذِهِ الْحَالَةَ بِالْحُكْمِ، بَل يَنْصَبُّ نَظَرُهَا إِلَى خِيَارِ الْبَائِعِ، فَهُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْقَضِيَّةِ فِيمَا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُ وَلِلْمُشْتَرِي.
وَالرَّأْيُ الثَّانِي فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى النَّقِيضِ مِمَّا
__________
(1) البدائع 5 / 264 - 265.
(2) المجموع 9 / 230، نهاية المحتاج 4 / 20، مغني المحتاج 2 / 48.

(20/95)


سَبَقَ، فَالْمِلْكُ فِي الْعَقْدِ الْمُقْتَرِنِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ يَنْتَقِل إِلَى الْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ نَفْسِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا أَمْ لأَِحَدِهِمَا أَيًّا كَانَ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَدْ عَلَّلُوهُ بِأَنَّ الْعَقْدَ مَعَ الْخِيَارِ كَالْعَقْدِ الْمُطْلَقِ عَنْهُ (1) .

ب - كَوْنُ الْخِيَارِ لأَِحَدِهِمَا:
30 - تَخْتَلِفُ مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْدِيدِ الْمَالِكِ لِمَحَل الْخِيَارِ إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ دُونَ الآْخَرِ، وَتَنْحَصِرُ الآْرَاءُ فِي ثَلاَثَةٍ: بَقَاءُ الْمِلْكِ، انْتِقَالُهُ، التَّفْصِيل بِحَسَبِ صَاحِبِ الْخِيَارِ.
1 - ذَهَبَ الرَّأْيُ الأَْوَّل إِلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْمِلْكَ بَاقٍ لِصَاحِبِ الْمَحَل كَمَا كَانَ قَبْل حُصُول الْعَقْدِ وَهُوَ الْبَائِعُ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لأَِحَدِهِمَا. بِهَذَا قَال مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ اللَّيْثِ وَالأَْوْزَاعِيِّ. وَقَدْ عَبَّرَ الْمَالِكِيَّةُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ بَيْعَ الْخِيَارِ مُنْحَلٌّ لاَ مُنْعَقِدٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ لَمْ يَنْتَقِل، فَالإِْمْضَاءُ اللاَّحِقُ بَعْدَئِذٍ نَاقِلٌ لِلْمِلْكِ لاَ مُقَرِّرٌ (2) .
فَقَدِ اعْتَبَرَ هَؤُلاَءِ يَدَ الْمُشْتَرِي عَلَى مَحَل الْخِيَارِ يَدَ أَمَانَةٍ، وَأَنَّ الْبَائِعَ هُوَ الْمَالِكُ (وَالضَّامِنُ أَيْضًا) وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْعَقْدَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْخِيَارُ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 206.
(2) بداية المجتهد 2 / 211، الدردير على خليل بحاشية الدسوقي 3 / 103، الخرشي 4 / 30.

(20/95)


عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، فَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ، أَيْ هُوَ عَقْدٌ غَيْرُ نَافِذٍ فِي الْجُمْلَةِ: لَمْ يَنْتَقِل الْمِلْكُ عَنِ الْبَائِعِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَقَعْ قَبُولٌ مِنَ الْعَاقِدِ الآْخَرِ (الْمُشْتَرِي مَثَلاً) .
2 - الرَّأْيُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي، فَالإِْمْضَاءُ تَقْرِيرٌ لاَ نَقْلٌ (1) .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَيْضًا حَتَّى يَنْقَضِيَ الْخِيَارُ (2) .
3 - وَالرَّأْيُ الثَّالِثُ قَائِمٌ عَلَى التَّفْصِيل بِحَسَبِ صَاحِبِ الْخِيَارِ.
فَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَالْمِلْكُ بَاقٍ لَهُ، لأَِنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ مِنْهُ إِبْقَاءٌ عَلَى مِلْكِهِ فَلاَ يَنْتَقِل إِلَى الْمُشْتَرِي، وَلِهَذَا نَتَائِجُ عَدِيدَةٌ أَبْرَزُهَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ - بِالرَّغْمِ مِنَ الْعَقْدِ - لاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مَحَل الْخِيَارِ، كَمَا أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْبَائِعِ تَنْفُذُ، وَتُعْتَبَرُ فَسْخًا لِلْعَقْدِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَظْهَرِ الأَْقْوَال (3) . وَهَذَا الْقَوْل لِلشَّافِعِيَّةِ قَائِمٌ عَلَى التَّفْصِيل بَيْنَ كَوْنِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي - وَهُوَ الأَْظْهَرُ - وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ ثَلاَثَةٌ أُخْرَى (مُطَّرِدَةٌ فِي حَال كَوْنِ الْخِيَارِ
__________
(1) الخرشي 4 / 30.
(2) المغني 3 / 511، كشاف القناع 3 / 206، القواعد لابن رجب 377.
(3) البدائع 5 / 264، فتح القدير 5 / 504، البحر الرائق 6 / 9، وحاشية ابن عابدين 4 / 53، وشرح الروض 2 / 53، المجموع 9 / 230، نهاية المحتاج 4 / 20، مغني المحتاج 2 / 48.

(20/96)


لَهُمَا أَوْ لأَِحَدِهِمَا) أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَبِيعَ مِلْكٌ لِلْمُشْتَرِي وَالثَّمَنَ مِلْكٌ لِلْبَائِعِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَبِيعَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَلاَ يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي إِلاَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ، وَالثَّمَنُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ إِلَى تَمَامِ الْبَيْعِ لِلْحُكْمِ بِأَنَّ الْمَبِيعَ كَانَ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي مُنْذُ الْعَقْدِ، أَوْ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ (1) .
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَالْمِلْكُ زَائِلٌ عَنِ الْبَائِعِ عِنْدَ هَؤُلاَءِ، حَيْثُ لاَ مَانِعَ فِي حَقِّهِ، لأَِنَّ الْعَقْدَ لاَزِمٌ مِنْ جِهَةِ مَنْ لاَ خِيَارَ لَهُ وَهُوَ الْبَائِعُ. وَالتَّصَرُّفُ فِي مَحَل الْخِيَارِ مَقْصُورٌ عَلَى مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، لأَِنَّهُ شُرِعَ نَظَرًا لَهُ وَحْدَهُ، وَعَلَى هَذَا الْقَدْرِ اتَّفَقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَيُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمِلْكَ مُنْتَقِلٌ عَمَّنْ لاَ خِيَارَ لَهُ (2) .

ثَالِثًا: أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى ضَمَانِ الْمَحَل:
31 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَتَحَمَّل تَبِعَةَ هَلاَكِ مَحَل الْخِيَارِ عَلَى النَّحْوِ الآْتِي:
فَالْحَنَفِيَّةُ فَرَّقُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ عِدَّةِ صُوَرٍ:
__________
(1) المجموع 9 / 230.
(2) البحر الرائق 6 / 13، وتبيين الحقائق 4 / 16، وحاشية ابن عابدين 4 / 53، وشرح الروض 2 / 53، والمجموع 9 / 230، ونهاية المحتاج 4 / 20، ومغني المحتاج 2 / 48.

(20/96)


1 - إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ - وَبِالأَْوْلَى إِذَا كَانَ لَهُ وَلِلْمُشْتَرِي - وَهَلَكَ مَحَل الْخِيَارِ بِيَدِ الْبَائِعِ قَبْل الْقَبْضِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ بِالاِتِّفَاقِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ اتِّفَاقًا، وَلَمْ يَنْضَمَّ إِلَى الْخِيَارِ الْقَبْضُ لِيَكُونَ لَهُ أَثَرٌ فِي تَعْدِيل ارْتِبَاطِ تَبِعَةِ الْهَلاَكِ بِالْمِلْكِ، وَلاَ إِشْكَال عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي انْفِسَاخِ الْعَقْدِ، كَمَا هُوَ الْحَال فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ عَنِ الْخِيَارِ (1) .
2 - إِذَا هَلَكَ مَحَل الْخِيَارِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ فَالضَّمَانُ مِنْهُ، لأَِنَّهُ غَدَا بِانْقِضَاءِ الْخِيَارِ بَيْعًا مُطْلَقًا. وَالضَّمَانُ حِينَئِذٍ بِالثَّمَنِ لأَِنَّهُ هَلَكَ بَعْدَمَا أُبْرِمَ الْبَيْعُ، وَإِبْرَامُهُ إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ لِعَدَمِ فَسْخِ الْبَائِعِ فِي الْمُدَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَلأَِنَّ هَلاَكَهُ بِمَثَابَةِ الإِْجَازَةِ (2) .
3 - إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَقَدْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي مَحَل الْخِيَارِ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي خِلاَل مُدَّةِ الْخِيَارِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُشْتَرِي، لأَِنَّ الْبَيْعَ قَدِ انْفَسَخَ بِهَلاَكِ الْمَحَل إِذْ كَانَ مَوْقُوفًا، لأَِجْل خِيَارِ الْبَائِعِ، وَلاَ نَفَاذَ لِلْمَوْقُوفِ إِذَا هَلَكَ الْمَحَل، فَبَقِيَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مَقْبُوضًا عَلَى جِهَةِ الْعَقْدِ (أَيِ الْمُعَاوَضَةِ) ، لاَ عَلَى وَجْهِ الأَْمَانَةِ الْمَحْضَةِ كَالإِْيدَاعِ وَالإِْعَارَةِ، لأَِنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَرْضَ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي لَهُ إِلاَّ عَلَى جِهَةِ الْعَقْدِ. وَكَذَلِكَ
__________
(1) فتح القدير 5 / 504، والبدائع 5 / 272.
(2) فتح القدير 5 / 504.

(20/97)


الشَّافِعِيَّةُ، وَسَوَّوْا بَيْنَ هَذِهِ الْحَالَةِ وَبَيْنَ إِيدَاعِ الْمُشْتَرِي إِيَّاهُ بَعْدَ الْقَبْضِ عِنْدَ الْبَائِعِ.
أَمَّا كَيْفِيَّةُ ضَمَانِهِ فَهُوَ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِالْقِيمَةِ - إِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا (لأَِنَّ ضَمَانَهُ حِينَئِذٍ بِالْمِثْل) - وَالضَّمَانُ بِالْقِيمَةِ، لاَ بِالثَّمَنِ، هُوَ الشَّأْنُ فِيمَا قُبِضَ عَلَى جِهَةِ الْعَقْدِ، كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ (1) .
وَقَدْ جَعَل الْكَاسَانِيُّ ضَمَانَهُ أَوْلَى مِنْ ضَمَانِ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ.
4 - إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَقَدْ قَبَضَ مَحَل الْخِيَارِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ، فَالضَّمَانُ مِنْهُ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الضَّمَانَ هُنَا بِالثَّمَنِ.
وَبَيْنَ هَذِهِ الْحَالَةِ وَسَابِقَتِهَا فَرْقٌ مِنْ حَيْثُ كَيْفِيَّةُ الضَّمَانِ فَهُنَا الضَّمَانُ بِالثَّمَنِ، وَهُنَاكَ الضَّمَانُ بِالْقِيمَةِ، وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ إِلَى وَجْهِ الْفَرْقِ، وَتَابَعَهُ الشُّرَّاحُ مُفَصِّلِينَ الْوَجْهَ نَفْسَهُ، بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَهَلَكَ الْمَبِيعُ فَإِنَّهُ بِمَثَابَةِ تَعَيُّبٍ آل إِلَى تَلَفٍ، لأَِنَّ التَّلَفَ لاَ يَعْرَى عَنْ مُقَدِّمَةِ عَيْبٍ، فَبِدُخُول الْعَيْبِ عَلَى مَحَل الْخِيَارِ لاَ يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي (صَاحِبُ الْخِيَارِ) الرَّدَّ عَلَى الْبَائِعِ حَال قِيَامِ الْعَيْبِ، كَائِنًا مَا كَانَ الْعَيْبُ، فَإِذَا اتَّصَل بِهِ الْهَلاَكُ لَمْ يَبْقَ الرَّدُّ
__________
(1) المقبوض على سوم الشراء هو ما أخذه المشتري على قصد الابتياع للنظر والاختبار من غير إبرام البيع فهلك في يده ومن المقرر أن ضمانه هو فيما إذا كان القبض بعد تسمية الثمن، أما إذا لم يسم ثمنًا فلا ضمان في الصحيح (فتح القدير 4 / 504) ، العناية على الهداية بهامش فتح القدير 5 / 504.

(20/97)


سَائِغًا، فَيَهْلِكُ الْمَحَل بَعْدَ أَنِ انْبَرَمَ الْعَقْدُ بِمُقَدِّمَاتِ الْهَلاَكِ، وَبِلُزُومِ الْعَقْدِ يَجِبُ الثَّمَنُ لاَ الْقِيمَةُ.
أَمَّا فِي حَالَةِ كَوْنِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ وَتَلَفِ الْمَبِيعِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ، فَإِنَّ تَعَيُّبَ الْمَبِيعِ وَإِشْرَافَهُ عَلَى الْهَلاَكِ لاَ يَمْنَعُ الرَّدَّ حُكْمًا، لأَِنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ لَمْ يَسْقُطْ لأَِنَّهُ لَمْ يَعْجِزْ عَنِ التَّصَرُّفِ بِحُكْمِ الْخِيَارِ الَّذِي لَوْ رَضِيَ بِهِ يَتَمَكَّنُ مِنَ الاِسْتِرْدَادِ، فَإِذَا هَلَكَ عَلَى مِلْكِهِ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ ضَرُورَةً لِعَدَمِ الْمَحَل فَيَكُونُ ضَمَانُهُ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، أَيْ بِالْقِيمَةِ، لاَ بِالثَّمَنِ لِفُقْدَانِ الْعَقْدِ (1) .
32 - أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَالضَّمَانُ مُنْسَجِمٌ مَعَ الْمِلْكِ الَّذِي جَعَلُوهُ ثَابِتًا مُطْلَقًا لِلْبَائِعِ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ أَيْضًا إِلاَّ فِي اسْتِثْنَاءَاتٍ يَدْعُو إِلَيْهَا إِعْوَازُ الْمُشْتَرِي الدَّلِيل عَلَى حُسْنِ نِيَّتِهِ وَعَدَمِ تَفْرِيطِهِ، لأَِنَّ ضَمَانَ الْبَائِعِ لِلتَّلَفِ خَاصٌّ بِمَا لَوْ كَانَ تَلَفًا بِحَادِثٍ سَمَاوِيٍّ، أَوْ ضَيَاعٍ، وَيَتَمَثَّل الأَْصْل فِي صُورَتَيْنِ:
الأُْولَى: إِذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي مَحَل الْخِيَارِ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ، إِذْ هُوَ أَقْدَمُ مِلْكًا، فَلاَ يَنْتَقِل الضَّمَانُ عَنْهُ إِلاَّ بِتَمَامِ انْتِقَال مِلْكِهِ (2) .
وَذَلِكَ الأَْصْل ثَابِتٌ فِيمَا إِذَا كَانَ مَحَل الْخِيَارِ مِمَّا لاَ يُغَابُ عَلَيْهِ (أَيْ: مِمَّا لاَ يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ) ، حَيْثُ
__________
(1) الهداية وفتح القدير والعناية والكفاية 5 / 506.
(2) المواق على خليل نقلا عن ابن يونس 4 / 422.

(20/98)


لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُ الْمُشْتَرِي فِي دَعْوَاهُ التَّلَفَ دُونَ صُنْعِهِ.
الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ مَحَل الْخِيَارِ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ ثَبَتَ تَلَفُهُ أَوْ ضَيَاعُهُ بِبَيِّنَةٍ (لأَِنَّ هَلاَكَهُ ظَاهِرٌ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي قَبْضِهِ كَالرَّهْنِ وَالْعَارِيَّةِ) .
وَفِيمَا وَرَاءَ هَذَا الأَْصْل، أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى فِيمَا كَانَ مُحْتَرِزًا عَنْهُ بِقُيُودِ الصُّورَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ (صُورَةِ مَا لاَ يُغَابُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَثْبُتْ كَذِبُ الْمُشْتَرِي، وَصُورَةِ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ وَثَبَتَ أَنَّ التَّلَفَ لَيْسَ بِصُنْعِ الْمُشْتَرِي) يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُشْتَرِي (1) .
33 - أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ جَاءَ فِي شَرْحِ الرَّوْضِ أَنَّهُ لَوْ تَلِفَ الْمَبِيعُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ بَعْدَ الْقَبْضِ وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ، لأَِنَّهُ يَنْفَسِخُ بِذَلِكَ عِنْدَ بَقَاءِ يَدِهِ، فَعِنْدَ بَقَاءِ مِلْكِهِ أَوْلَى، وَلأَِنَّ نَقْل الْمِلْكِ بَعْدَ التَّلَفِ لاَ يُمْكِنُ، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مُودَعًا مَعَ الْبَائِعِ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ بِتَلَفِهِ لأَِنَّ يَدَهُ كَيَدِ الْمُشْتَرِي وَيَرُدُّ الْبَائِعُ عَلَيْهِ الثَّمَنَ وَلَهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى الْمُشْتَرِي الْقِيمَةُ فِي الْمُتَقَوِّمِ، وَالْمِثْل فِي الْمِثْلِيِّ وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ أَوْ لَهُمَا فَتَلِفَ الْمَبِيعُ بَعْدَ قَبْضِهِ لَمْ يَنْفَسِخَ الْبَيْعُ لِدُخُولِهِ فِي ضَمَانِهِ بِالْقَبْضِ وَلَمْ يَنْقَطِعَ الْخِيَارُ كَمَا لاَ يَمْتَنِعُ
__________
(1) المواق على خليل 4 / 422، والخرشي على خليل 4 / 30، والدسوقي 3 / 104.

(20/98)


التَّحَالُفُ بِتَلَفِ الْمَبِيعِ وَلَزِمَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إِنْ تَمَّ الْعَقْدُ، وَإِنْ فُسِخَ فَالْقِيمَةُ أَوِ الْمِثْل عَلَى الْمُشْتَرِي وَاسْتَرَدَّ الثَّمَنَ، وَلَوْ أَتْلَفَهُ مُتْلِفٌ وَلَوْ بَعْدَ قَبْضِهِ وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ انْفَسَخَ الْبَيْعُ كَمَا فِي صُورَةِ التَّلَفِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا أَوْ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ وَأَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ وَلَوْ قَبْل الْقَبْضِ لَمْ يَنْفَسِخْ، أَيِ الْبَيْعُ، لِقِيَامِ الْبَدَل اللاَّزِمِ لَهُ مِنْ قِيمَةِ أَوْ مِثْلٍ مَقَامَهُ وَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ لِلْمُشْتَرِي لِفَوَاتِ عَيْنِ الْمَبِيعِ وَالْخِيَارُ بِحَالِهِ وَإِنْ أَتْلَفَهُ الْمُشْتَرِي وَلَوْ قَبْل الْقَبْضِ، وَالْخِيَارُ لَهُ أَوْ لَهُمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، لأَِنَّهُ بِإِتْلاَفِهِ الْمَبِيعَ قَابِضٌ لَهُ أَوْ أَتْلَفَهُ الْبَائِعُ، وَلَوْ بَعْدَ الْقَبْضِ فَكَتَلَفِهِ بِآفَةٍ (1) .
34 - وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ جَعَلُوا الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي، وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ ضَمَانَ مَحَل الْخِيَارِ عَلَى الْمُشْتَرِي لأَِنَّهُ مِلْكُهُ، وَغَلَّتُهُ لَهُ فَكَانَ مِنْ ضَمَانِهِ كَمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ. وَمَئُونَتُهُ عَلَيْهِ (2) . وَهَذَا عَلَى إِطْلاَقِهِ (قَبْل الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ) إِذَا كَانَ مَحَل الْخِيَارِ مِنْ غَيْرِ الْمَكِيل أَوِ الْمَوْزُونِ وَنَحْوِهِمَا كَالْمَعْدُودِ وَالْمَذْرُوعِ، شَرِيطَةَ أَنْ لاَ يَكُونَ عَدَمُ الْقَبْضِ نَاشِئًا مِنْ مَنْعِ الْبَائِعِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ مَحَل الْخِيَارِ مِنَ الْمَكِيل أَوِ الْمَوْزُونِ وَنَحْوِهِمَا فَلاَ بُدَّ مِنَ الْقَبْضِ لِيَكُونَ ضَمَانُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَإِنْ كَانَ الْقَبْضُ لَمْ يَحْصُل فَالضَّمَانُ
__________
(1) شرح الروض 2 / 54.
(2) المغني لابن قدامة 3 / 153.

(20/99)


حِينَئِذٍ عَلَى الْبَائِعِ. وَلاَ يُعْتَبَرُ الْحُكْمُ فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ اسْتِثْنَاءً، بَل هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُول الْحَنَابِلَةِ مِنِ اعْتِبَارِهِمُ الْقَبْضَ ضَمِيمَةً لاَ بُدَّ مِنْهَا فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ لِيَنْتَقِل ضَمَانُهُ عَنِ الْبَائِعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَهُوَ حُكْمٌ يَتَّفِقُ فِيهِ الْبَيْعُ الْمُقَيَّدُ بِالْخِيَارِ، وَالْبَيْعُ الْمُطْلَقُ. وَعَلَّلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ، وَجَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَبْضِ فِي الْكَيْل وَالْمَوْزُونِ هُوَ اكْتِيَالُهُ أَوْ وَزْنُهُ، وَلَيْسَ مُجَرَّدَ التَّخْلِيَةِ كَمَا هُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَبِالاِكْتِيَال يُعْرَفُ هَل وَصَل إِلَى الْمُشْتَرِي حَقُّهُ كَامِلاً أَمْ نَقَصَ مِنْهُ أَوْ زَادَ عَنْهُ (1) .

أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى زِيَادَةِ الْمَبِيعِ وَغَلَّتِهِ وَنَفَقَتِهِ.
35 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الزَّوَائِدَ الَّتِي قَدْ تَطْرَأُ عَلَى الْمَبِيعِ إِلَى الأَْقْسَامِ التَّالِيَةِ:
1 - الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ، كَالسِّمَنِ فِي الْحَيَوَانِ وَزِيَادَةِ وَزْنِهِ، وَالْبُرْءِ مِنْ دَاءٍ كَانَ فِيهِ، وَالنُّضْجِ فِي الثَّمَرِ، وَالْحَمْل الَّذِي يَحْدُثُ زَمَنَ الْخِيَارِ (أَمَّا الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْعَقْدِ فَهُوَ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ، كَالأُْمِّ، فَيُقَابِلُهُ قِسْطٌ مِنَ الثَّمَنِ عَلَى مَا قَال الشَّافِعِيَّةُ) .
__________
(1) المغني 4 / 219 مع الشرح الكبير وفي المغني: وقبض كل شيء بحسبه، فإن كان مكيلا أو موزونًا بيع كيلا أو وزنًا فقبضه بكيله ووزنه (4 / 220) ، ونحوه في كشاف القناع 3 / 246.

(20/99)


2 - الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الأَْصْل، وَمِثَالُهَا: الصَّبْغُ وَالْخِيَاطَةُ، وَالْبِنَاءُ فِي الأَْرْضِ، وَالْغَرْسُ فِيهَا، وَلَتُّ السَّوِيقِ بِسَمْنٍ.
3 - الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنَ الأَْصْلِ، وَمِثَالُهَا: الْوَلَدُ، وَالثَّمَرُ، وَاللَّبَنُ، وَالْبَيْضُ، وَالصُّوفُ.
4 - الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الأَْصْل. وَمِثَالُهَا: غَلَّةُ الْمَأْجُورِ، وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَى عُضْوٍ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَالْعُقْرُ وَهُوَ مَا يُعْتَبَرُ مَهْرًا لِلْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ (1) .
هَذَا تَقْسِيمُ الْحَنَفِيَّةِ لِلزَّوَائِدِ، وَهُمْ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عِنَايَةً بِتَنْوِيعِهَا، نَظَرًا لِتَفَاوُتِ أَحْكَامِهَا عِنْدَهُمْ بِحَسَبِ تِلْكَ الأَْنْوَاعِ.
أَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَمَا بَيْنَ مُوَحِّدِ النَّظْرَةِ إِلَى الزِّيَادَةِ، أَوْ مُكْتَفٍ بِتَقْسِيمِ الزَّوَائِدِ إِلَى مُتَّصِلَةٍ أَوْ مُنْفَصِلَةٍ، وَإِدَارَةُ الْحُكْمِ عَلَى ذَلِكَ فَقَطْ.
وَإِنَّ لِلزَّوَائِدِ فِي مَحَل الْخِيَارِ أَحْكَامًا أَهَمُّهَا اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا: لِمَنْ يَكُونُ مِلْكُ الزَّوَائِدِ؟ وَالثَّانِي كَوْنُهَا تَمْنَعُ الرَّدَّ، أَيْ تَعْدَمُ الْخِيَارَ بِإِلْزَامِ صَاحِبِهِ بِالإِْجَازَةِ دُونَ الْفَسْخِ. ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْصْل فِي الزِّيَادَةِ أَنَّهَا تَمْنَعُ الرَّدَّ وَيَسْرِي امْتِنَاعُ الرَّدِّ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا سِوَى الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ اتِّفَاقًا، وَالزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ عَلَى خِلاَفٍ. فَحَيْثُ يَمْتَنِعُ الرَّدُّ يَنْبَرِمُ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 270، والفتاوى الهندية 3 / 48 نقلا عن السراج الوهاج والنهر الفائق وغيرهما.

(20/100)


الْعَقْدُ وَيَلْزَمُ، وَتَكُونُ الزَّوَائِدُ مُطْلَقًا لِلْمُشْتَرِي الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ مِلْكُ الأَْصْل. أَمَّا فِي الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ حَيْثُ لاَ يَمْتَنِعُ الرَّدُّ، وَفِي الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ حَيْثُ اخْتُلِفَ فِي امْتِنَاعِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَمْلِكُ تِلْكَ الزَّوَائِدَ عَلَى النَّحْوِ الآْتِي (1) .
الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ:
36 - إِذَا كَانَتْ زَوَائِدُ مَحَل الْخِيَارِ مِنْ نَوْعِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الأَْصْل، فَفِيهَا يَجْرِي الْخِلاَفُ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ. وَهَذَا الْخِلاَفُ لاَ مَجَال لَهُ إِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي إِمْضَاءَ الْعَقْدِ لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَمَلَّكُ الأَْصْل وَالزَّوَائِدَ اتِّفَاقًا، لأَِنَّهُ بِالإِْمْضَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ الزَّوَائِدَ كَسْبُ مِلْكِهِ فَكَانَتْ مِلْكًا لَهُ، أَمَّا إِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الْفَسْخَ وَإِعَادَةَ مَحَل الْخِيَارِ إِلَى الْبَائِعِ فَهَل يُعِيدُ مَعَهَا الزَّوَائِدَ أَمْ لاَ؟ قَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَرُدُّ الأَْصْل مَعَ الزَّوَائِدِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ كَانَ مَوْقُوفًا، فَإِذَا حَصَل الْفَسْخُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُل فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَالزِّيَادَةُ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَتُرَدُّ إِلَيْهِ مَعَ الأَْصْل. وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ: الْمَبِيعُ دَخَل فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَكَانَتِ الزَّوَائِدُ حَاصِلَةً عَلَى مِلْكِهِ، فَيَظْهَرُ أَثَرُ الْفَسْخِ فِي الأَْصْل لاَ فِي الزَّوَائِدِ
__________
(1) البحر الرائق 16 / 15 نقلا عن التتارخانية، ونقله عنها ابن عابدين أيضًا 4 / 54.

(20/100)


لأَِنَّهَا بَقِيَتْ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَيَأْخُذُهَا هُوَ (1) وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْخِلاَفِ الْكَبِيرِ السَّابِقِ.

الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ:
37 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ الْخِيَارَ يَسْقُطُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ. وَقَدْ عَرَفْنَا أَنَّهُ حَيْثُ يَمْتَنِعُ الرَّدُّ يَتَمَلَّكُ صَاحِبُ الْخِيَارِ الأَْصْل وَالزِّيَادَةَ، لأَِنَّهُ تَبَيَّنَ بِإِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَنَّهُ الْمَالِكُ لِمَحَل الْخِيَارِ فَيَمْلِكُ زَوَائِدَهُ مَهْمَا كَانَ وَصْفُهَا. وَعِنْدَ الإِْمَامِ مُحَمَّدٍ لاَ يَبْطُل الْخِيَارُ فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ بَيْنَ الإِْمْضَاءِ وَالْفَسْخِ، (2) .
وَيَكُونُ مَصِيرُ هَذِهِ الصُّورَةِ مُمَاثِلاً لِلصُّورَةِ السَّابِقَةِ (صُورَةِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ) حَيْثُ يَظَل صَاحِبُ الْخِيَارِ مُتَمَكِّنًا مِنَ اسْتِعْمَال خِيَارِهِ.

أَحْكَامُ الزَّوَائِدِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ:
لِلْمَالِكِيَّةِ مَنْحًى آخَرُ فِي شَأْنِ الزَّوَائِدِ، فَهُمْ لَمْ يَنْظُرُوا إِلَى الاِتِّصَال وَالاِنْفِصَال، كَمَا لَمْ يَعْتَبِرُوا التَّوَلُّدَ عَلَى إِطْلاَقِهِ، بَل خَصُّوا مَا يُعْتَبَرُ جُزْءًا بَاقِيًا مِنَ الْمَبِيعِ فَاعْتَبَرُوهُ لاَ يَنْفَصِل عَنْهُ فِي الْعَقْدِ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِالْوَلَدِ وَالصُّوفِ، فَالْوَلَدُ لأَِنَّهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 270، والفتاوى الهندية 3 / 48 نقلا عن السراج الوهاج، شرح المجلة للأتاسي 2 / 243، والبحر الرائق 6 / 26.
(2) البدائع 2 / 270، والفتاوى الهندية 3 / 48.

(20/101)


لَيْسَ بِغَلَّةٍ - وَمِثْلُهُ الصُّوفُ - تَمَّ أَمْ لاَ " لأَِنَّهُمَا كَجُزْءِ الْمَبِيعِ، أَيْ أَنَّ الْوَلَدَ كَالْجُزْءِ الْبَاقِي، بِخِلاَفِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ كَجُزْءٍ فَاتَ وَهُوَ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ " (1) يَكُونُ مَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي، وَمَا عَدَاهُ فَهُوَ لِلْبَائِعِ، لأَِنَّهُمْ قَائِلُونَ بِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الأَْصْل - زَمَنَ الْخِيَارِ - يَظَل لِلْبَائِعِ حَتَّى يَسْتَعْمِل صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ الزَّوَائِدُ كُلُّهَا - عَدَا الْوَلَدِ وَالصُّوفِ - لِلْبَائِعِ.
وَمِنْ ذَلِكَ:
1 - الْغَلَّةُ الْحَادِثَةُ زَمَنَ الْخِيَارِ مِنْ لَبَنٍ وَسَمْنٍ وَبَيْضٍ، لِلْبَائِعِ أَيْضًا.
2 - أَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَبِيعِ بِالْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَيْضًا (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَتْ زَوَائِدُ مُنْفَصِلَةٌ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، كَاللَّبَنِ وَالْبَيْضِ وَالثَّمَرِ، فَهِيَ لِمَنْ لَهُ الْمِلْكُ وَهُوَ مَنِ انْفَرَدَ بِالْخِيَارِ، فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ كَحُكْمِ الْبَيْعِ نَفْسِهِ، فَإِنْ فُسِخَ الْبَيْعُ فَهِيَ لِلْبَائِعِ وَإِلاَّ فَلِلْمُشْتَرِي. أَمَّا الزَّوَائِدُ الْمُتَّصِلَةُ فَتَابِعَةٌ لِلأَْصْل.
وَالْحَمْل الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْبَيْعِ كَالأَْصْل فِي أَنَّهُ
__________
(1) الدسوقي على الدردير 3 / 104، الخرشي 4 / 30.
(2) الدردير على خليل بحاشية الدسوقي 3 / 103 - 104، والمواق على خليل 4 / 422.

(20/101)


مَبِيعٌ لِمُقَابَلَتِهِ بِقِسْطٍ مِنَ الثَّمَنِ، كَمَا لَوْ بِيعَ مَعَهُ بَعْدَ الاِنْفِصَال لاَ كَالزَّوَائِدِ (1) . أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَالزَّوَائِدُ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا، وَيَشْتَمِل ذَلِكَ عَلَى الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ كَالْكَسْبِ وَالأُْجْرَةِ بَل لَوْ كَانَتْ نَمَاءً مُنْفَصِلاً مُتَوَلِّدًا مِنْ عَيْنِ الْمَبِيعِ كَالثَّمَرَةِ وَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْل الْقَبْضِ (وَفِي هَذِهِ الْحَال تُعْتَبَرُ الزَّوَائِدُ أَمَانَةً عِنْدَ الْبَائِعِ فَلاَ يَضْمَنُهَا لِلْمُشْتَرِي إِنْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَعَدٍّ وَلاَ تَفْرِيطٍ خِلاَفًا لِحُكْمِ الْمَبِيعِ نَفْسِهِ فَهُوَ مَضْمُونٌ قَبْل قَبْضِهِ) وَسَوَاءٌ تَمَخَّضَ الْخِيَارُ عَنْ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ.
وَقَدِ اسْتَدَل ابْنُ قُدَامَةَ لِلْمَذْهَبِ بِحَدِيثِ: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ (2) . وَهَذَا مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَاسْتَدَل لَهُ أَيْضًا بِانْتِقَال الْمِلْكِ إِلَى الْمُشْتَرِي، أَيْ فَهِيَ تَتْبَعُهُ فِي الاِنْتِقَال (3) .

رَابِعًا: أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلَيْنِ
38 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ تَسْلِيمُ الْبَدَلَيْنِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فِي حَال الإِْطْلاَقِ وَعَدَمِ
__________
(1) شرح الروض 2 / 53.
(2) حديث: " الخراج بالضمان "، أخرجه أبو داود (3 / 780 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عائشة، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير لابن حجر (3 / 22 - ط. شركة الطباعة الفنية) .
(3) كشاف القناع 3 / 207 - 208، والمغني لابن قدامة 4 / 37، والشرح الكبير على المقنع 4 / 71.

(20/102)


اشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ، فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ ابْتِدَاءً، وَلاَ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي تَسْلِيمُ الثَّمَنِ ابْتِدَاءً لاِحْتِمَال الْفَسْخِ مَا لَمْ تَمْضِ مُدَّةُ الْخِيَارِ، أَوْ يُسْقِطُ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ (1) .
أَمَّا التَّسْلِيمُ لِلثَّمَنِ أَوِ الْمَبِيعِ اخْتِيَارًا وَطَوَاعِيَةً فَلاَ مَانِعَ مِنْهُ عِنْدَهُمْ أَيْ لاَ يَبْطُل الْخِيَارُ (2) ، فَإِذَا بَادَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا إِلَى تَسْلِيمِ مَا بِيَدِهِ - فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ - فَهُوَ جَائِزٌ، لأَِيٍّ مِنْهُمَا كَانَ الْخِيَارُ، وَلاَ أَثَرَ لِلتَّسْلِيمِ عَلَى الْخِيَارِ فَنَقْدُ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ أَوْ دَفْعُ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي لاَ يُبْطِل الْخِيَارَ شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ تَسْلِيمُ الْبَائِعِ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهِ الاِخْتِبَارِ وَالنَّظَرِ فِي صُلُوحِهِ أَوْ عَدَمِهِ، أَمَّا إِنْ سَلَّمَهُ الْمَبِيعَ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ - وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ - فَإِنَّ خِيَارَهُ يَبْطُلُ، (3) .
وَإِذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمَا تَطَوُّعًا فَامْتَنَعَ الآْخَرُ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، فَأَبُو حَنِيفَةَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْبَرُ الآْخَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ أَيًّا كَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ وَلَهُ اسْتِرْدَادُهُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ إِجْبَارِ الآْخَرِ أَيْضًا وَهُمْ يَقُولُونَ: بِأَنَّ لِمَنْ سَلَّمَ
__________
(1) فتح القدير 5 / 499، والهندية 3 / 42، والبحر الرائق 6 / 15، والمغني 3 / 518.
(2) الدسوقي 3 / 94، 96، والمجموع 9 / 221 - 223، شرح الروض 2 / 54، والبحر الرائق 6 / 54، المجموع 9 / 223.
(3) فتاوى قاضيخان 2 / 179، والبحر الرائق 6 / 10، نقلا عن جامع الفصولين 1 / 244.

(20/102)


مُؤَمِّلاً التَّسْلِيمَ مِنْ صَاحِبِهِ فَلَمْ يَحْدُثْ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ (1) .

سُقُوطُ الْخِيَارِ:
39 - يَسْقُطُ الْخِيَارُ قَبْل اسْتِعْمَالِهِ بِعَدَدٍ مِنَ الأَْسْبَابِ هِيَ: الْبُلُوغُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ الَّذِي عَقَدَ عَنْهُ وَلِيُّهُ أَوْ وَصِيُّهُ، وَالْجُنُونُ وَنَحْوُهُ، وَمَوْتُ صَاحِبِ الْخِيَارِ عَلَى خِلاَفٍ فِي هَذَا السَّبَبِ الأَْخِيرِ:

أ - بُلُوغُ الصَّبِيِّ مُسْتَحِقِّ الْخِيَارِ:
40 - يَرَى الإِْمَامُ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ دُخُول الصَّغِيرِ صَاحِبِ الْخِيَارِ فِي طَوْرِ الْبُلُوغِ، فِي مُدَّةِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْخِيَارَاتِ الْمُحَدَّدَةِ بِوَقْتٍ يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ لِلْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ سَعْيًا مِنْهُمَا لِمَصْلَحَةِ الصَّبِيِّ، وَيَلْزَمُ بِهِ الْعَقْدُ. أَمَّا الإِْمَامُ مُحَمَّدٌ، فَقَدْ جَزَمَ بِأَنَّ الْخِيَارَ لاَ يَسْقُطُ، ثُمَّ تَعَدَّدَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ فِي مَصِيرِ الْخِيَارِ بَعْدَئِذٍ هَل يَنْتَقِل إِلَى الصَّغِيرِ فِي الْمُدَّةِ أَوْ بِدُونِ تَحْدِيدِ مُدَّةٍ، أَوْ يَبْقَى لِلْوَصِيِّ أَوِ الْوَلِيِّ؟ (2)
وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ كَلاَمًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

ب - طُرُوءُ الْجُنُونِ وَنَحْوِهِ:
41 - قَدْ يَطْرَأُ الْجُنُونُ عَلَى الْعَاقِدِ صَاحِبِ
__________
(1) البحر الرائق 6 / 54 المراجع السابقة للحنفية، والفتاوى الهندية 3 / 42، وشرح الروض 2 / 54.
(2) البدائع 5 / 267 - 268، الفتاوى الهندية 3 / 54، قاضيخان 2 / 200.

(20/103)


الْخِيَارِ، وَمِثْلُهُ (مَا هُوَ فِي حُكْمِهِ مِنْ حَيْثُ ذَهَابُ الْعَقْل وَعَجْزُ الإِْنْسَانِ عَنْ إِظْهَارِ مَوْقِفِهِ، كَالإِْغْمَاءِ وَالنَّوْمِ أَوِ السَّكْتَةِ) فَإِذَا بَقِيَ ذَلِكَ حَتَّى اسْتَغْرَقَ وَقْتَ الْخِيَارِ مِنْ حَالَةِ تَوْقِيتِهِ سَقَطَ الْخِيَارُ. لَكِنَّ سُقُوطَهُ لَيْسَ لِكَوْنِ الْجُنُونِ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْخِيَارِ، بَل لاِنْقِضَاءِ الْمُدَّةِ دُونَ صُدُورِ فَسْخٍ مِنْهُ، فَالْجُنُونُ نَفْسُهُ لَيْسَ مُسْقِطًا بَل اسْتِغْرَاقُ الْوَقْتِ كُلِّهِ دُونَ فَسْخٍ، وَلِذَا لَوْ أَفَاقَ خِلاَل الْمُدَّةِ كَانَ عَلَى خِيَارِهِ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا فِي الأَْصَحِّ لَدَى الْحَنَفِيَّةِ. قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الإِْغْمَاءَ وَالْجُنُونَ لاَ يُسْقِطَانِ الْخِيَارَ وَإِنَّمَا الْمُسْقِطُ لَهُ مُضِيُّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ. وَاخْتُلِفَ فِي السُّكْرِ هَل هُوَ فِي حُكْمِ الْجُنُونِ أَمْ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا يَحْصُل مِنْهُ بِالْبَنْجِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْوَسَائِل الْمُسْتَخْدَمَةِ فِي الطِّبِّ، وَبَيْنَ السُّكْرِ بِالْمُحَرَّمِ. وَيُنْظَرُ فِي الْمُطَوَّلاَتِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ جُنَّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ وَعُلِمَ أَنَّهُ لاَ يَفِيقُ أَوْ يَفِيقُ بَعْدَ طُولٍ يَضُرُّ الصَّبْرُ إِلَيْهِ بِالآْخَرِ، نَظَرَ السُّلْطَانُ فِي الأَْصْلَحِ لَهُ، أَيْ لاَ يَسْقُطُ الْخِيَارُ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي انْتِقَال الْخِيَارِ (2) .

ج - تَغَيُّرُ مَحَل الْخِيَارِ:
42 - إِذَا كَانَ تَغَيُّرُ مَحَل الْخِيَارِ بِالْهَلاَكِ وَالتَّعَيُّبِ أَوِ النُّقْصَانِ، فَإِنَّ الْخِيَارَ يَسْقُطُ بِهَلاَكِ الْمَبِيعِ قَبْل
__________
(1) الهندية 3 / 43، البحر 6 / 50.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 103.

(20/103)


الْقَبْضِ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أُسْوَةً بِالْعَقْدِ الْبَاتِّ، فَهَذَا أَوْلَى، لأَِنَّهُ أَضْعَفُ مِنْهُ لِوُجُودِ شَرْطِ الْخِيَارِ. أَمَّا إِنْ كَانَ الْهَلاَكُ بَعْدَ الْقَبْضِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْمَذَاهِبُ، فَهُوَ مُسْقِطٌ لِلْخِيَارِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مُطْلَقًا (1) . وَهُوَ بِمَثَابَةِ الْفَسْخِ لِلْعَقْدِ وَسُقُوطِ الْخِيَارِ تَبَعًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) . أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَيَرْبِطُونَهُ بِمَسْأَلَةِ انْتِقَال الْمِلْكِ، فَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَفْتَرِقُ بَيْنَ كَوْنِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ أَوْ لَهُ وَلِلْمُشْتَرِي - فَالْمِلْكُ لِلْبَائِعِ - فَإِذَا هَلَكَ لَمْ تُمْكِنُ الْمُبَادَلَةُ عَلَيْهِ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَيَبْطُل الْخِيَارُ. أَمَّا إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَالْهَلاَكُ فِي عِدَادِ مُسْقِطَاتِ الْخِيَارِ الَّتِي يَلْزَمُ بِهَا الْعَقْدُ لأَِنَّهُ عَجْزٌ عَنِ التَّصَرُّفِ بِحُكْمِ الْخِيَارِ حِينَ أَشْرَفَتِ السِّلْعَةُ عَلَى الْهَلاَكِ. وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، لأَِنَّ الْمِلْكَ لِلْبَائِعِ وَتَعَذَّرَ نَقْلُهُ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لَهُمَا مَعًا، فَلاَ أَثَرَ لِلْهَلاَكِ عَلَى الْعَقْدِ أَوِ الْخِيَارِ إِنَّمَا تَتَأَثَّرُ تَصْفِيَةُ هَذَا الْعَقْدِ، فَإِنِ اخْتَارَ صَاحِبُ الْخِيَارِ الإِْمْضَاءَ فَالْوَاجِبُ هُوَ الثَّمَنُ وَإِنِ اخْتَارَ الْفَسْخَ فَالْوَاجِبُ رَدُّ الْمِثْل أَوِ الْقِيمَةِ بَدَلاً مِنَ الْمَبِيعِ (3) .
__________
(1) المغني 3 / 509، مطالب أولي النهى 3 / 99، كشاف القناع 3 / 209.
(2) الخرشي 4 / 31، الحطاب 4 / 423، الدسوقي 3 / 105.
(3) البدائع 5 / 269 و 272، فتح القدير 5 / 117، المبسوط 13 / 44، المجموع 9 / 219.

(20/104)


وَمِثْل الْهَلاَكِ النُّقْصَانُ بِالتَّعَيُّبِ بِمَا لاَ يَحْتَمِل الاِرْتِفَاعَ أَوْ لاَ يُرْجَى زَوَالُهُ مَهْمَا كَانَ قَدْرُهُ أَوْ فَاعِلُهُ، لإِِخْلاَل النُّقْصَانِ بِشَرْطِ رَدِّ الْمَبِيعِ كَمَا قُبِضَ. أَمَّا لَوْ كَانَ يُرْجَى زَوَالُهُ كَالْمَرَضِ فَالْخِيَارُ بَاقٍ وَلاَ يُرَدُّ حَتَّى يَبْرَأَ فِي الْمُدَّةِ فَإِنْ مَضَتْ وَلَمْ يَبْرَأْ لَزِمَ الْبَيْعُ.
43 - وَإِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ بِالزِّيَادَةِ: إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَلاَ خِلاَفَ أَنَّهَا لاَ أَثَرَ لَهَا فِي سُقُوطِ الْخِيَارِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَلاَ أَثَرَ لَهَا أَيْضًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَهْمَا كَانَ نَوْعُهَا وَكَذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ، أَوِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ، أَمَّا الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنَ الأَْصْل فَإِنَّهَا تُسْقِطُ الْخِيَارَ لِتَعَذُّرِ وُرُودِ الْفَسْخِ عَلَيْهَا، لأَِنَّهَا غَيْرُ مَبِيعٍ، فَالرَّدُّ بِدُونِهَا مُؤَدٍّ لِشُبْهَةِ الرِّبَا، وَإِنْ رَدَّهَا مَعَ الأَْصْل كَانَ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ (1) .

د - إِمْضَاءُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ
44 - إِذَا تَعَاقَدَ شَرِيكَانِ مَعَ آخَرَ عَلَى أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ فَأَجَازَ أَحَدُهُمَا دُونَ الآْخَرِ سَقَطَ الْخِيَارُ بِالنِّسْبَةِ لَهُمَا جَمِيعًا وَلَزِمَ الْعَقْدُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، بِحَيْثُ لاَ يَمْلِكُ الشَّرِيكُ الآْخَرُ الْفَسْخَ، أَمَّا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ فَالْخِيَارُ لاَ يَسْقُطُ
__________
(1) البدائع 5 / 264 و 286، وفتح القدير والعناية 5 / 160، كشاف القناع 2 / 51 ط1، الخرشي 5 / 120، مغني المحتاج 2 / 482.

(20/104)


عَمَّنْ لَمْ يُجِزِ الْعَقْدَ بَل يَبْقَى خِيَارُهُ عَلَى حَالِهِ (1) .
وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ كَلاَمًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

هـ - مَوْتُ صَاحِبِ الْخِيَارِ
45 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى سُقُوطِ الْخِيَارِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَمْ لِلْمُشْتَرِي، وَسَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ أَصِيلاً أَمْ نَائِبًا (وَكِيلاً، أَوْ وَصِيًّا، أَوْ وَلِيًّا) فَبِمَوْتِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ يَسْقُطُ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى بَقَاءِ الْخِيَارِ لِلْوَرَثَةِ، فَمَوْتُ صَاحِبِ الْخِيَارِ عِنْدَ هَؤُلاَءِ لَيْسَ مُسْقِطًا، بَل هُوَ نَاقِلٌ فَقَطْ.
أَمَّا وَفَاةُ مَنْ عَلَيْهِ الْخِيَارُ فَلاَ يَسْقُطُ بِهَا الْخِيَارُ، بَل يَبْقَى الْخِيَارُ لِصَاحِبِهِ وَيَكُونُ رَدُّهُ إِنْ شَاءَ الرَّدَّ فِي مُوَاجِهَةِ الْوَرَثَةِ، قَال السَّرَخْسِيُّ: وَأَجْمَعُوا (أَيِ الْحَنَفِيَّةُ) أَنَّهُ إِذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْخِيَارُ فَإِنَّ الْخِيَارَ بَاقٍ (2) .

انْتِهَاءُ الْخِيَارِ:
46 - يَنْتَهِي خِيَارُ الشَّرْطِ بِأَحَدِ سَبَبَيْنِ:
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 43، البحر 6 / 20.
(2) المبسوط 13 / 42، الشرح الصغير 2 / 144، مغني المحتاج 2 / 45.

(20/105)


الأَْوَّل: إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِإِجَازَتِهِ أَوْ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ دُونَ فَسْخٍ،
وَالثَّانِي: فَسْخُ الْعَقْدِ.

السَّبَبُ الأَْوَّل: إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِالإِْجَازَةِ أَوْ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ دُونَ فَسْخٍ:
47 - يَنْتَهِي الْخِيَارُ بِإِمْضَاءِ الْعَقْدِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ إِمَّا بِإِجَازَتِهِ، وَإِمَّا بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ.

إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِالإِْجَازَةِ:
48 - إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِالإِْجَازَةِ يُنْهِي الْخِيَارَ بِالاِتِّفَاقِ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي الْعَقْدِ اللُّزُومُ وَالاِمْتِنَاعُ يُعَارِضُ الْخِيَارَ وَقَدْ بَطَل بِالإِْجَازَةِ فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ (1) .

أَنْوَاعُ الإِْجَازَةِ:
49 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الإِْجَازَةَ إِلَى نَوْعَيْنِ: صَرِيحٍ أَوْ شِبْهِ الصَّرِيحِ، وَدَلاَلَةٍ.
فَالصَّرِيحُ، بِالنِّسْبَةِ لِلْبَائِعِ، أَنْ يَقُول: أَجَزْتُ الْعَقْدَ - أَوِ الْبَيْعَ مَثَلاً - أَوْ أَمْضَيْتُهُ أَوْ أَوْجَبْتُهُ، أَوْ أَلْزَمْتُهُ، أَوْ رَضِيتُهُ، أَوْ أَسْقَطْتُ الْخِيَارَ، أَوْ أَبْطَلْتُهُ. وَشِبْهُ الصَّرِيحِ مَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَعَلِمَ الْمُشْتَرِي الإِْجَازَةَ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ (2) . وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ صَاحِبَ الْخِيَارِ لَوْ
__________
(1) البدائع 5 / 267، الشرح الصغير 3 / 142، مغني المحتاج 2 / 49، كشاف القناع 3 / 207.
(2) البدائع 5 / 267، فتح القدير 5 / 120، الهندية 3 / 42.

(20/105)


قَال: هَوِيتُ أَخْذَهُ، أَوْ أَحْبَبْتُ، أَوْ أَعْجَبَنِي، أَوْ وَافَقَنِي لاَ يَبْطُل خِيَارُهُ (1) .
أَمَّا الدَّلاَلَةُ فَهِيَ أَنْ يَتَصَرَّفَ صَاحِبُ الْخِيَارِ فِي مَحَل الْخِيَارِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ، كَالْبَيْعِ، وَالْمُسَاوَمَةِ، وَالإِْجَارَةِ، وَالْهِبَةِ، وَالرَّهْنِ، سَلَّمَ أَوْ لَمْ يُسَلِّمْ. لأَِنَّ جَوَازَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ، فَالإِْقْدَامُ عَلَيْهَا يَكُونُ دَلِيل قَصْدِ التَّمَلُّكِ، أَوْ تَقَرُّرِ الْمِلْكِ - عَلَى اخْتِلاَفِ الأَْصْلَيْنِ - وَذَلِكَ دَلِيل الإِْمْضَاءِ (2) . هَذَا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَإِذَا كَانَ لِلْبَائِعِ فَالدَّلاَلَةُ عَلَى الإِْمْضَاءِ فِي حَقِّهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ قَبْضِهِ بِالْبَيْعِ أَوْ نَحْوِهِ، إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.
هَذَا وَلاَ يُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْمَحَل لِلإِْجَازَةِ، ذَلِكَ أَنَّهُ فِي الإِْجَازَةِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ، وَلَيْسَ الإِْنْشَاءِ، فَبِالإِْجَازَةِ يَظْهَرُ أَنَّ الْعَقْدَ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ انْعَقَدَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، وَالْمَحَل كَانَ قَابِلاً وَقْتَ الْعَقْدِ فَهَلاَكُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يَمْنَعُ الإِْجَازَةَ (3) .
كَمَا لاَ يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْعَاقِدِ الآْخَرِ بِالإِْجَازَةِ (4) . فَلَوْ أَجَازَ الْعَقْدَ فَإِنَّهُ لاَزِمٌ مُنْذُ
__________
(1) الهندية، نقلا عن البحر الرائق، (3 / 42) وهو في البحر (6 / 20) منقولا عن جامع الفصولين.
(2) البدائع 5 / 268.
(3) البدائع 5 / 264.
(4) الهداية وفتح القدير 5 / 120.

(20/106)


الإِْجَازَةِ سَوَاءٌ أَبْلَغَ الْعَاقِدُ الآْخَرَ ذَلِكَ أَمْ لاَ.
وَنَحْوُ هَذَا التَّقْسِيمِ جَاءَ فِي الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى (1) .

إِنْهَاءُ الْخِيَارِ بِعِوَضٍ:
50 - جَاءَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ صَاحِبَ الْخِيَارِ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ، أَوْ عَلَى عَرَضٍ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنْ يُسْقِطَ الْخِيَارَ وَيُمْضِيَ الْبَيْعَ جَازَ ذَلِكَ وَيَكُونُ زِيَادَةً فِي الثَّمَنِ. وَكَذَا لَوْ كَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ هُوَ الْمُشْتَرِي فَصَالَحَهُ الْبَائِعُ عَلَى أَنْ يُسْقِطَ الْخِيَارَ فَيَحُطَّ عَنْهُ مِنَ الثَّمَنِ كَذَا أَوْ يَزِيدَهُ هَذَا الْعَرَضَ بِعَيْنِهِ فِي الْبَيْعِ جَازَ ذَلِكَ أَيْضًا (2) .

ثَانِيًا - انْتِهَاءُ الْخِيَارِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ:
51 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ - فِي الْجُمْلَةِ - عَلَى أَنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ يَنْتَهِي بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ، ذَلِكَ لأَِنَّهُ خِيَارٌ مُؤَقَّتٌ بِمُدَّةٍ (سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِتَحْدِيدِ الْعَاقِدِ، أَمْ بِتَقْدِيرِ الشَّارِعِ فِي حَال الإِْطْلاَقِ) ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ الَّتِي وُقِّتَ بِهَا الْخِيَارُ فَمِنَ الْبَدَهِيِّ أَنْ يَنْتَهِيَ بِمُضِيِّهَا " لأَِنَّ الْمُؤَقَّتَ إِلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ ". (3) وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ مَنَعَ
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 142، مغني المحتاج 2 / 49، كشاف القناع 3 / 207.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 45.
(3) فتح القدير 5 / 268، البدائع 5 / 267، وحاشية القليوبي على شرح المنهج 2 / 195.

(20/106)


مِنْ لُزُومِ الْعَقْدِ تِلْكَ الْمُدَّةَ - وَالأَْصْل هُوَ اللُّزُومُ - فَبِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ يَثْبُتُ مُوجِبُ الْعَقْدِ، وَتَرْكُ صَاحِبِ الْخِيَارِ الْفَسْخَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ رِضًا مِنْهُ بِالْعَقْدِ.
عَلَى ذَلِكَ تَوَارَدَتْ نُصُوصُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، خِلاَفًا لِلْقَاضِي أَبِي يَعْلَى مِنْهُمْ (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ قَائِلُونَ بِأَنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ يُنْهِي الْخِيَارَ، غَيْرَ أَنَّ لَهُمُ اتِّجَاهًا خَاصًّا فِيمَا يُنْتَجُ عَنْ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَإِذَا كَانَ الْحَال عِنْدَ غَيْرِهِمُ اعْتِبَارَهُ إِمْضَاءً لِلْعَقْدِ مِنْ صَاحِبِ الْخِيَارِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ انْتِهَاءٌ لِلْخِيَارِ وَلَيْسَ إِمْضَاءً لِلْعَقْدِ إِلاَّ حَيْثُ تَنْقَضِي الْمُدَّةُ، وَالْمَبِيعُ بِيَدِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، فَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي (مَثَلاً) كَانَ تَرْكُ الْمَبِيعِ فِي يَدِهِ بِمَثَابَةِ الإِْمْضَاءِ وَلُزُومِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَانْقَضَى الأَْمَدُ - وَالْمَبِيعُ فِي يَدِهِ - فَذَلِكَ بِمَثَابَةِ الْفَسْخِ مِنَ الْبَائِعِ. هَذَا مِنْ حَيْثُ أَدَاؤُهُ إِلَى إِمْضَاءِ الْعَقْدِ. أَمَّا اعْتِبَارُ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَسْخًا أَوْ إِجَازَةً فَيُنْظَرُ إِلَى مَنْ يَنْقَضِي زَمَنُ الْخِيَارِ وَالْمَبِيعُ بِيَدِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبَ الْخِيَارِ أَمْ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ بِيَدِ الْبَائِعِ آنَئِذٍ فَهُوَ فَسْخٌ، وَإِنْ كَانَ بِيَدِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ إِمْضَاءٌ، قَال الدُّسُوقِيُّ: " يَلْزَمُ
__________
(1) المغني 3 / 592، والشرح الكبير على المقنع 4 / 69 - 71، ومطالب أولي النهى 3 / 94 - 96، وكشاف القناع 3 / 251 - 254.

(20/107)


الْمَبِيعُ بِالْخِيَارِ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ مِنْهُمَا كَانَ صَاحِبَ الْخِيَارِ أَوْ غَيْرَهُ بِانْقِضَاءِ زَمَنِ الْخِيَارِ وَمَا أُلْحِقَ بِهِ وَهُوَ الْيَوْمُ وَالْيَوْمَانِ. وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلاَتٌ تُنْظَرُ فِي كُتُبِهِمْ (1) .

السَّبَبُ الثَّانِي: انْتِهَاءُ الْخِيَارِ بِفَسْخِ الْعَقْدِ
52 - يَنْقَسِمُ الْفَسْخُ إِلَى صَرِيحٍ وَدَلاَلَةٍ، أَوْ بِنَظْرَةٍ أُخْرَى إِلَى فَسْخٍ قَوْلِيٍّ، وَفَسْخٍ فِعْلِيٍّ، فَالْفَسْخُ الْقَوْلِيُّ أَوِ الصَّرِيحُ يَقَعُ بِمِثْل قَوْلِهِ: فَسَخْتُ الْبَيْعَ، أَوِ اسْتَرْجَعْتُ الْمَبِيعَ، أَوْ رَدَدْتُهُ، أَوْ رَدَدْتُ الثَّمَنَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَكُل هَذَا فَسْخٌ صَرِيحٌ، وَمِنْهُ قَوْل الْبَائِعِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ: لاَ أَبِيعُ حَتَّى تَزِيدَ فِي الثَّمَنِ، مَعَ قَوْل الْمُشْتَرِي لاَ أَفْعَل، وَكَذَلِكَ مِنْهُ عَكْسُ هَذِهِ الصُّورَةِ بِأَنْ يَقُول الْمُشْتَرِي: لاَ أَشْتَرِي حَتَّى يُنْقِصَ عَنِّي مِنَ الثَّمَنِ، عَلَى قَوْل الْبَائِعِ لاَ أَفْعَل. وَكَذَا مِنْهُ طَلَبُ الْبَائِعِ حُلُول الثَّمَنِ الْمُؤَجَّل، وَطَلَبُ الْمُشْتَرِي تَأْجِيل الثَّمَنِ الْحَال فَكُل هَذَا فَسْخٌ (2) .
وَصُورَةُ الْفَسْخِ دَلاَلَةً - وَيُسَمَّى الْفَسْخَ الْفِعْلِيَّ - (أَوِ الْفَسْخَ بِالْفِعْل كَمَا سَمَّاهُ ابْنُ الْهُمَامِ) :
__________
(1) الخرشي على خليل 4 / 23، الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 95، الحطاب والمواق 4 / 416، الصاوي 2 / 125.
(2) البحر الرائق 6 / 20، المجموع 9 / 202، فتح القدير 5 / 122، الخرشي 5 / 120، كشاف القناع 2 / 51، شرح الروض 2 / 53.

(20/107)


أَنْ يَتَصَرَّفَ صَاحِبُ الْخِيَارِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي الْمَبِيعِ. هَذَا إِذَا كَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ هُوَ الْبَائِعُ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُشْتَرِي فَبِأَنْ يَتَصَرَّفَ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي الثَّمَنِ، شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ عَيْنًا. أَمَّا إِنْ كَانَ دَيْنًا فَلاَ يُتَصَوَّرُ الْفَسْخُ دَلاَلَةً فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَلِذَلِكَ أَغْفَلَهُ ابْنُ الْهُمَامِ مُقْتَصِرًا عَلَى تَصْوِيرِهِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، لأَِنَّهُ لَوْ تَصَرَّفَ الْبَائِعُ فِي الثَّمَنِ - وَهُوَ دَيْنٌ - يُحْمَل عَلَى أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ الْخَاصِّ لاَ فِي الثَّمَنِ " لأَِنَّ الأَْثْمَانَ لاَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ". (1)
وَالسَّبَبُ فِي الاِعْتِدَادِ بِالتَّصَرُّفِ كَالْمُلاَّكِ فِي إِسْقَاطِ الْخِيَارِ أَنَّ الْخِيَارَ إِذَا كَانَ لِلْبَائِعِ فَتَصَرُّفُهُ فِي الْمَبِيعِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ دَلِيل اسْتِبْقَاءِ مِلْكِهِ فِيهِ. إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَتَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي الثَّمَنِ إِذَا كَانَ عَيْنًا دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى اسْتِبْقَاءِ مِلْكِهِ فِيهِ. وَاسْتِبْقَاءُ مِلْكِ كُلٍّ مِنْهُمَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالْفَسْخِ، فَالإِْقْدَامُ عَلَى التَّصَرُّفِ الْمَذْكُورِ يَكُونُ فَسْخًا لِلْعَقْدِ دَلاَلَةً، قَال ابْنُ الْهُمَامِ، وَمِنْ قَبْلِهِ الْكَاسَانِيُّ: " وَالْحَاصِل أَنَّ مَا وُجِدَ مِنَ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ لَوْ وُجِدَ مِنْهُ فِي الثَّمَنِ لَكَانَ إِجَازَةً لِلْبَيْعِ: يَكُونُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ دَلاَلَةً ".
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 267، فتح القدير 5 / 121، والفتاوى الهندية 3 / 43، المجموع للنووي 5 / 201، الحطاب 4 / 419، وجامع الفصولين 1 / 244.

(20/108)


وَالْفَسْخُ دَلاَلَةً مُتَّفَقٌ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الآْخَرِ بِهِ، أَمَّا فِي الْفَسْخِ الصَّرِيحِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَفِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
ثُمَّ إِنَّ لِلْفَسْخِ دَلاَلَةً بَعْدَ هَذَا الضَّابِطِ تَفَارِيعَ مِنْهَا:
- أَكْل الْمَبِيعِ وَشُرْبُهُ وَلُبْسُهُ، يُسْقِطُ الْخِيَارَ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: إِذَا لَبِسَهُ مَرَّةً لاَ يَبْطُل خِيَارُهُ.
- النَّسْخُ مِنَ الْكِتَابِ، لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، لاَ يُسْقِطُ الْخِيَارَ، وَلَوْ دَرَسَ فِيهِ يَسْقُطُ.
- رُكُوبُ الدَّابَّةِ لِيَسْقِيَهَا، أَوْ يَرُدَّهَا، وَيَعْلِفَهَا، إِجَازَةٌ. وَقِيل: إِنْ كَانَ لاَ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِدُونِ الرُّكُوبِ لاَ يَكُونُ إِجَازَةً. وَأَطْلَقَ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّهُ لاَ يَبْطُل خِيَارُهُ فَقَال: وَرُكُوبُهَا لِيَسْقِيَهَا أَوْ يَرُدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ لاَ يُبْطِل خِيَارَهُ اسْتِحْسَانًا، فَجَعَلَهُ مِنَ الاِسْتِحْسَانِ.
- بَيْعُ مَحَل الْخِيَارِ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ هِبَتُهُ أَوْ رَهْنُهُ - مَعَ التَّسْلِيمِ - مُسْقِطٌ لِلْخِيَارِ، أَمَّا لَوْ وَهَبَهُ أَوْ رَهَنَهُ وَلَمْ يُسَلِّمْ لاَ يَنْفَسِخُ.
- إِيجَارُ مَحَل الْخِيَارِ فَسْخٌ وَلَوْ لَمْ يُسَلِّمْ، وَقِيل: لَيْسَ فَسْخًا مَا لَمْ يُسَلِّمْ.
- تَسْلِيمُ مَحَل الْخِيَارِ إِلَى الْمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَفَرَّقَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْفَضْل بَيْنَ التَّسْلِيمِ عَلَى وَجْهِ الاِخْتِيَارِ فَلاَ يُبْطِل خِيَارَهُ وَلاَ يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي،
__________
(1) البدائع 5 / 272، وفتح القدير 5 / 121، والفتاوى الهندية 3 / 43.

(20/108)


وَالتَّسْلِيمُ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ فَيَبْطُل خِيَارُهُ.
قَال الزَّيْلَعِيُّ: وَكَذَا كُل تَصَرُّفٍ لاَ يَحِل إِلاَّ فِي الْمِلْكِ، وَكَذَا كُل تَصَرُّفٍ لاَ يَنْفُذُ إِلاَّ فِي الْمِلْكِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ (1) .

شَرَائِطُ الْفَسْخِ:
53 - يُشْتَرَطُ لاِعْتِبَارِ الْفَسْخِ نَافِذًا الشَّرَائِطُ التَّالِيَةُ:
1 - قِيَامُ الْخِيَارِ، لأَِنَّ الْخِيَارَ إِذَا زَال، بِالسُّقُوطِ مَثَلاً، يَلْزَمُ الْعَقْدُ، فَلاَ أَثَرَ لِلْفَسْخِ حِينَئِذٍ.
2 - عِلْمُ الْعَاقِدِ الآْخَرِ بِالْفَسْخِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْمَرَاجِعِ الْفِقْهِيَّةِ بِعِبَارَةِ الْفَسْخِ بِحَضْرَةِ الْعَاقِدِ، وَعَكْسُهُ الْفَسْخُ فِي غَيْبَتِهِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْحَضْرَةِ، الْعِلْمُ لاَ الْحُضُورُ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَإِنْ جَرَى الْفَسْخُ مِنْ صَاحِبِ الْخِيَارِ دُونَ عِلْمِ الْعَاقِدِ الآْخَرِ فَالْفَسْخُ مَوْقُوفٌ: إِنْ عَلِمَ بِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ نَفَذَ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ حَتَّى مَضَتِ الْمُدَّةُ لَزِمَ الْعَقْدُ لِعَدَمِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ الْفَسْخِ. وَفِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ - حَيْثُ يُعْتَبَرُ مَوْقُوفًا - لَوْ عَادَ الْعَاقِدُ عَنْ فَسْخِهِ فَأَمْضَى الْعَقْدَ قَبْل عِلْمِ الآْخَرِ فَذَلِكَ مِنْهُ مُعْتَبَرٌ فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ وَيَبْطُل فَسْخُهُ السَّابِقُ.
أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ نُقِلَتْ عَنْهُ أَقْوَالٌ ثَلاَثَةٌ: الأَْوَّل مِثْل مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَدْ رَجَعَ
__________
(1) فتح القدير 5 / 121، والفتاوى الهندية 3 / 43، والبدائع 5 / 267، تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 19.

(20/109)


عَنْهُ، وَقَوْلٌ آخَرُ لَهُ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الآْخَرِ، وَقَوْلٌ ثَالِثٌ بِالنَّظَرِ إِلَى صَاحِبِ الْخِيَارِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْبَائِعُ فَلاَ يُشْتَرَطُ بَل يَقْتَصِرُ اشْتِرَاطُ الْعِلْمِ فِي خِيَارِ الْمُشْتَرِي لَكِنَّ الْقَوْل الْمَشْهُورَ عَنْهُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الآْخَرِ بِالْفَسْخِ وَرَجَّحَ ابْنُ الْهُمَامِ قَوْل أَبِي يُوسُفَ هَذَا، وَبَيَّنَ أَنَّ الْفَسْخَ بِالْقَوْل هُوَ الَّذِي وَقَعَ الْخِلاَفُ فِي جَوَازِهِ بِغَيْرِ عِلْمِ الآْخَرِ، وَأَمَّا الْفَسْخُ بِالْفِعْل فَيَجُوزُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ اتِّفَاقًا بَيْنَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَعَدَمُ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الآْخَرِ بِالْفَسْخِ هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالرِّوَايَاتُ السَّابِقَةُ لِبَعْضِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، عَلَى مَا ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْفَاسِخَ مِنْهَا مُسَلَّطٌ عَلَى الْفَسْخِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ الَّذِي لاَ خِيَارَ لَهُ فَلاَ يَتَوَقَّفُ فَسْخُهُ عَلَى عِلْمِهِ، فَهُوَ كَبَيْعِ الْوَكِيل مَعَ عَدَمِ عِلْمِ الْمُوَكِّل وَهُوَ جَائِزٌ، فَلاَ يُشْتَرَطُ الرِّضَا هُنَا وَلاَ هُنَاكَ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ، مِنْهَا: أَنَّ الْفَسْخَ كَالإِْجَازَةِ فِي هَذَا، لأَِنَّهُمَا شَقِيقَانِ كِلاَهُمَا لاِسْتِعْمَال الْخِيَارِ فَهُوَ - كَمَا قَال الْبَابَرْتِيُّ - قِيَاسٌ
__________
(1) البدائع 5 / 273، الفتاوى الهندية 3 / 43، فتح القدير 5 / 122، البحر الرائق 6 / 18.
(2) المجموع 9 / 200، والمغني 3 / 529، وكشاف القناع 3 / 51، والخرشي 5 / 120، اختلاف الفقهاء للطبري (جزء البيوع) ص45.

(20/109)


لأَِحَدِ شِطْرَيِ الْعَقْدِ عَلَى الآْخَرِ (1) .
3 - أَنْ لاَ يَنْشَأَ عَنِ الْفَسْخِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ، أَيْ أَنْ يَقَعَ الْفَسْخُ عَلَى جَمِيعِ الصَّفْقَةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْضِيَ الْعَقْدَ فِي بَعْضِ الصَّفْقَةِ وَيَفْسَخَ فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ، لأَِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ.
وَمِثْل ذَلِكَ يُقَال فِي الإِْجَازَةِ فِي الْبَعْضِ، فَيَنْشَأُ عَنْهُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فِي اللُّزُومِ وَهُوَ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا.
وَالْمَالِكِيَّةُ يُجْبِرُونَ الْعَاقِدَ عَلَى رَدِّ الْجَمِيعِ إِنْ أَجَازَ الْعَقْدَ فِي الْبَعْضِ وَرَدَّ الْبَعْضَ حَيْثُ لَمْ يَرْضَ الْعَاقِدُ الشَّرِكَةَ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَرَادَ الْفَسْخَ فِي أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنِ فِيهِمَا الْخِيَارُ فَالأَْصَحُّ لاَ يَجُوزُ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، أَمَّا لَوِ اشْتَرَى اثْنَانِ شَيْئًا مِنْ وَاحِدٍ صَفْقَةً وَاحِدَةً بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَلأَِحَدِهِمَا الْفَسْخُ فِي نَصِيبِهِ (2) .
الأَْدِلَّةُ: لِكُلٍّ مِنَ الْقَائِلِينَ بِاشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الآْخَرِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ أَدِلَّةٌ تَدُورُ بَيْنَ وُجُوهٍ مِنَ الْمَعْقُول وَالاِسْتِشْهَادِ بِالنَّظَائِرِ الْفِقْهِيَّةِ.
__________
(1) الشرح الكبير على المقنع 4 / 69، والمجموع 9 / 200، والخرشي 5 / 120، وفتح القدير 5 / 122.
(2) البدائع 5 / 264 و 273، وفيه تعليل جيد للمنع، وتصريح بجواز هذا التفريق في المثليات، الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 102، وتذكرة الفقهاء 1 / 522، والمجموع 9 / 193.

(20/110)


انْتِقَال خِيَارِ الشَّرْطِ:
أَوَّلاً - انْتِقَال الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ:
54 - ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَنْتَقِل إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِ الْمَوْرُوثِ، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَجْهًا بِإِرْثِ خِيَارِ الشَّرْطِ مُطْلَقًا.
وَقَدْ عَلَّل الْقَائِلُونَ بِانْتِقَال الْخِيَارِ لِلْوَارِثِ بِاعْتِبَارِ الْخِيَارِ مِنْ مُشْتَمِلاَتِ التَّرِكَةِ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لإِِصْلاَحِ الْمَال، كَالرَّهْنِ وَحَبْسِ الْمَبِيعِ عَلَى تَحْصِيل الثَّمَنِ. وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنَ السُّنَّةِ وَالْمَعْقُول. فَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَرَكَ مَالاً أَوْ حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ (1) ، وَخِيَارُ الشَّرْطِ حَقٌّ لِلْمَوْرُوثِ فَيَنْتَقِل إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِهِ كَمَا يَقْضِي الْحَدِيثُ.
ثُمَّ قَاسُوا خِيَارَ الشَّرْطِ عَلَى خِيَارَيِ الْعَيْبِ وَالتَّعْيِينِ الْمُتَّفَقِ عَلَى انْتِقَالِهِمَا لِلْوَارِثِ بِالْمَوْتِ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْ تِلْكَ الْخِيَارَاتِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ فَيَنْتَقِل إِلَى الْوَارِثِ بِمُجَرَّدِ انْتِقَالِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لاَ يُورَثُ، وَمِنْ عِبَارَاتِهِمْ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ قَوْل الزَّيْلَعِيِّ: الْخِيَارُ صِفَةٌ لِلْمَيِّتِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِلاَّ مَشِيئَةً وَإِرَادَةً فَلاَ يَنْتَقِل عَنْهُ كَسَائِرِ أَوْصَافِهِ.
__________
(1) حديث: " من ترك مالا أو حقا فلورثته " أورده العيني (البناية 6 / 283) عند مناقشته أدلة القائلين بانتقال الخيار ولم نعثر على تخريج للرواية المشتملة على كلمة (حقا) فيما لدينا من كتب السنن والآثار، وأما قوله: " من ترك مالا فلورثته " فأخرجه البخاري (12 / 9 - ط. السلفية) ، ومسلم (3 / 1237 - ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة.

(20/110)


وَاسْتَدَلُّوا لِمَذْهَبِهِمْ بِأَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ لاَ يَصِحُّ الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ فَلَمْ يُورَثْ، نَظِيرُ حَقِّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ قَبْل الْقَبْضِ إِذَا مَاتَ الْوَاهِبُ لَمْ يُورَثْ عَنْهُ. وَقَالُوا أَيْضًا: خِيَارُ الشَّرْطِ لَيْسَ وَصْفًا بِالْمَبِيعِ حَتَّى يُورَثَ بِإِرْثِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَشِيئَةٌ وَإِرَادَةٌ، فَهُوَ وَصْفٌ قَائِمٌ بِشَخْصِ مَنْ ثَبَتَ لَهُ فَلاَ يُورَثُ عَنْهُ، لأَِنَّ الإِْرْثَ يَجْرِي فِيمَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ، وَالْوَصْفُ الشَّخْصِيُّ لاَ يَقْبَل النَّقْل بِحَالٍ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَحْدَهُمْ إِلَى التَّفْصِيل بَيْنَ مُطَالَبَةِ الْمَيِّتِ بِالْخِيَارِ قَبْل مَوْتِهِ أَوْ عَدَمِ الْمُطَالَبَةِ، فَإِنْ مَاتَ صَاحِبُ الْخِيَارِ دُونَ أَنْ يُطَالِبَ بِحَقِّهِ فِي الْخِيَارِ، بَطَل الْخِيَارُ وَلَمْ يُورَثْ، أَمَّا إِنْ طَالَبَ بِذَلِكَ قَبْل مَوْتِهِ فَإِنَّهُ يُورَثُ عَنْهُ. فَالأَْصْل أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ غَيْرُ مَوْرُوثٍ إِلاَّ بِالْمُطَالَبَةِ مِنَ الْمُشْتَرِطِ (2) .
وَقَدْ صَوَّرَهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ نَقْلٌ، وَتَوْرِيثٌ مِنَ الْمُوَرِّثِ لِوَرَثَتِهِ بِإِرَادَاتِهِ، حَيْثُ جَاءَ فِي الْفَوَاكِهِ الْعَدِيدَةِ قَوْل الْفَقِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَهْلاَنَ - شَيْخِ الْمُؤَلِّفِ -: " إِذَا مَاتَ وَوَرِثَ خِيَارَهُ وَرَثَتُهُ، لِشَرْطِهِ لَهُمْ فَأَسْقَطَهُ أَحَدُ الْوَرَثَةِ سَقَطَ
__________
(1) المجموع 9 / 222، والدسوقي 3 / 102، والقواعد لابن رجب 316، الخرشي 4 / 29، وفتح القدير 5 / 125، والعناية 5 / 125.
(2) المغني 3 / 518، الفروع لابن مفلح مع تصحيح الفروع للمرداوي 4 / 91، ومنتهى الإرادات 1 / 359، وكشاف القناع 4 / 210 و 225، ومطالب أولي النهى 3 / 99.

(20/111)


خِيَارُ الْجَمِيعِ ". (1) وَقَدْ جَاءَتْ تِلْكَ الْعِبَارَةُ إِيضَاحًا وَتَقْيِيدًا لِعِبَارَةِ أَحَدِ الْكُتُبِ الَّتِي جَاءَتْ مُوهِمَةً أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يُورَثُ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ الأَْمْرُ كَذَلِكَ بَل يُشْتَرَطُ لِذَلِكَ مُطَالَبَةُ الْمُوَرِّثِ بِحَقِّ الْخِيَارِ.
وَأَمَّا ابْنُ قُدَامَةَ فَقَال: الْمَذْهَبُ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَيِّتِ مِنْهُمَا يَبْطُل بِمَوْتِهِ، وَيَبْقَى خِيَارُ الآْخَرِ بِحَالِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ قَدْ طَالَبَ بِالْفَسْخِ قَبْل مَوْتِهِ فِيهِ فَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ (2) .

ثَانِيًا: انْتِقَال الْخِيَارِ بِالْجُنُونِ وَحَالاَتِ الْغَيْبُوبَةِ:
55 - سَبَقَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ الْجُنُونَ يُسْقِطُ الْخِيَارَ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي فِقْرَةِ 41
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلاَ فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا طَرَأَ الْجُنُونُ - أَوِ الإِْغْمَاءُ - عَلَى صَاحِبِ الْخِيَارِ لَمْ يَنْقَطِعْ خِيَارُهُ، بَل يَقُومُ وَلِيُّهُ أَوِ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فَيَفْعَل مَا فِيهِ الأَْحَظُّ مِنَ الْفَسْخِ وَالإِْجَازَةِ وَكَذَلِكَ إِذَا أَصَابَهُ خَرَسٌ - وَلَمْ تَكُنْ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ أَوْ كِتَابَةٌ - نَصَّبَ الْحَاكِمُ نَائِبًا عَنْهُ (3) .
وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَابِلَةِ كَلاَمًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْجُنُونِ وَالإِْغْمَاءِ:
__________
(1) الفواكه العديدة، للمنقور 1 / 237.
(2) المقنع لابن قدامة، وحاشيته 2 / 41، والمغني 3 / 494 م 2769، 3 / 503 م 2789، والقواعد لابن رجب 316.
(3) المجموع 9 / 225.

(20/111)


أ - فَفِي الْجُنُونِ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لاَ يَفِيقُ، أَوْ يَفِيقُ بَعْدَ وَقْتٍ طَوِيلٍ يَضُرُّ الاِنْتِظَارُ إِلَيْهِ بِالْعَاقِدِ الآْخَرِ، يَنْظُرُ السُّلْطَانُ أَوْ نُوَّابُهُ فِي الأَْصْلَحِ لَهُ مِنْ إِمْضَاءٍ أَوْ رَدٍّ، وَلَوْ لَمْ يَنْظُرِ السُّلْطَانُ حَتَّى مَضَى جُزْءٌ مِنَ الْمُدَّةِ فَزَال الْجُنُونُ يُحْتَسَبُ مَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَلَوْ لَمْ يُنْظَرْ حَتَّى أَفَاقَ بَعْدَ أَمَدِ الْخِيَارِ لاَ يُسْتَأْنَفُ لَهُ أَجَلٌ عَلَى الظَّاهِرِ، وَالْمَبِيعُ لاَزِمٌ لِمَنْ هُوَ بِيَدِهِ. وَمِثْل الْمَجْنُونِ - فِي الْحُكْمِ - الْمَفْقُودُ، عَلَى الرَّاجِحِ، وَقِيل: هُوَ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.
ب - وَفِي الإِْغْمَاءِ يُنْتَظَرُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ لِكَيْ يَفِيقَ وَيَخْتَارَ لِنَفْسِهِ، إِلاَّ إِذَا مَضَى زَمَنُ الْخِيَارِ وَطَال إِغْمَاؤُهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ بِمَا يَحْصُل بِهِ الضَّرَرُ لِلآْخَرِ فَيُفْسَخُ. وَلاَ يَنْظُرُ لَهُ السُّلْطَانُ.
فَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ حَتَّى أَفَاقَ بَعْدَ أَيَّامِ الْخِيَارِ اسْتُؤْنِفَ لَهُ الأَْجَل، وَهَذَا الْحُكْمُ خِلاَفُ مَا مَرَّ فِي الْمَجْنُونِ (1) .
هَذَا وَقَدْ يَزُول الطَّارِئُ الَّذِي نُقِل الْخِيَارُ بِسَبَبِهِ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَى غَيْرِهِ، كَالْجُنُونِ النَّاقِل لِلْخِيَارِ إِلَى السُّلْطَانِ، لَوْ أَفَاقَ بَعْدَهُ لاَ عِبْرَةَ بِمَا يَخْتَارُهُ بَل الْمُعْتَبَرُ بِمَا نَظَرَهُ السُّلْطَانُ.
هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَخَالَفَهُمْ فِيهِ الشَّافِعِيَّةُ، فَفِي هَذِهِ الْحَال: لَوْ أَفَاقَ الْعَاقِدُ وَادَّعَى أَنَّ الْغِبْطَةَ خِلاَفُ مَا فَعَلَهُ الْقَيِّمُ عَنْهُ يَنْظُرُ
__________
(1) الدسوقي 3 / 103، الخرشي 4 / 29.

(20/112)


الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ وَجَدَ الأَْمْرَ كَمَا يَقُول الْمُفِيقُ مَكَّنَهُ مِنَ الْفَسْخِ وَالإِْجَازَةِ وَنَقَضَ فِعْل الْقَيِّمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا ادَّعَاهُ الْمُفِيقُ ظَاهِرًا، فَالْقَوْل قَوْل الْقَيِّمِ مَعَ يَمِينِهِ، لأَِنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا فَعَلَهُ إِلاَّ أَنْ يُقِيمَ الْمُفِيقُ بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ (1) .
__________
(1) الدسوقي 3 / 103، والمجموع 9 / 225 - 226.

(20/112)


خِيَارُ الْعَيْبِ

التَّعْرِيفُ:
1 - (خِيَارُ الْعَيْبِ) (1) مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ مِنَ الْكَلِمَتَيْنِ (خِيَارٌ) (وَعَيْبٌ) . أَمَّا كَلِمَةُ " خِيَارٌ " فَقَدْ سَبَقَ عِنْدَ تَعْرِيفِ الْخِيَارِ بِوَجْهٍ عَامٍّ بَيَانُ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ وَالاِصْطِلاَحِيِّ أَيْضًا.
أَمَّا كَلِمَةُ عَيْبٍ، فَهِيَ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ الْفِعْل عَابَ، يُقَال: عَابَ الْمَتَاعَ يَعِيبُ عَيْبًا: أَيْ صَارَ ذَا عَيْبٍ، وَجَمْعُهُ عُيُوبٌ وَأَعْيَابٌ. قَال الْفَيُّومِيُّ: اسْتُعْمِل الْعَيْبُ اسْمًا وَجُمِعَ عَلَى عُيُوبٍ. وَالْمَعِيبُ مَكَانُ الْعَيْبِ وَزَمَانُهُ (2) .
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَلِلْفُقَهَاءِ تَعَارِيفُ مُتَعَدِّدَةٌ لِلْعَيْبِ، مِنْهَا: مَا عَرَّفَهُ بِهِ ابْنُ نُجَيْمٍ وَابْنُ الْهُمَامِ بِأَنَّهُ: مَا يَخْلُو عَنْهُ أَصْل الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ مِمَّا يُعَدُّ بِهِ نَاقِصًا (3) . وَعَرَّفَهُ ابْنُ رُشْدٍ بِأَنَّهُ: مَا نَقَصَ عَنِ
__________
(1) هذه التسمية خاصة بالجمهور، ويسمى عند المالكية خيار النقيصة في الغالب.
(2) القاموس المحيط، وتاج العروس، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، ولسان العرب، 2 / 124 - 125، كلها مادة: (عيب) .
(3) حدود الفقه لابن نجيم، من مجموعة رسائله المطبوعة عقب الأشباه 1 / 327، فتح القدير 5 / 151

(20/113)


الْخِلْقَةِ الطَّبِيعِيَّةِ أَوْ عَنِ الْخَلْقِ الشَّرْعِيِّ نُقْصَانًا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ (1) .
وَعَرَّفَهُ الْغَزَالِيُّ بِأَنَّهُ: كُل وَصْفٍ مَذْمُومٍ اقْتَضَى الْعُرْفُ سَلاَمَةَ الْمَبِيعِ عَنْهُ غَالِبًا (2) .

مَشْرُوعِيَّةُ خِيَارِ الْعَيْبِ:
2 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ: فَمِنَ الْكِتَابِ: اسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3) وَالْوَجْهُ فِي الاِسْتِدْلاَل أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ مُنَافٍ لِلرِّضَا الْمَشْرُوطِ فِي الْعُقُودِ، فَالْعَقْدُ الْمُلْتَبِسُ بِالْعَيْبِ تِجَارَةٌ عَنْ غَيْرِ تَرَاضٍ (4) .
فَالآْيَةُ تَدُل عَلَى أَنَّ الْعَاقِدَ لاَ يَلْزَمُهُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْمَعِيبُ، بَل لَهُ رَدُّهُ وَالاِعْتِرَاضُ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ طَرِيقَةِ الرَّدِّ وَالإِْصْلاَحِ لِذَلِكَ الْخَلَل فِي تَكَافُؤِ الْمُبَادَلَةِ (5) .
وَمِنَ السُّنَّةِ: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَجُلاً ابْتَاعَ غُلاَمًا، فَاسْتَغَلَّهُ، ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ بِالْعَيْبِ، فَقَال الْبَائِعُ: غَلَّةُ عَبْدِي، فَقَال
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 173.
(2) الوجيز 2 / 142.
(3) سورة النساء / 29.
(4) الإيضاح للشماخي 3 / 131.
(5) بداية المجتهد 2 / 173.

(20/113)


النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَلَّةُ بِالضَّمَانِ وَفِي رِوَايَةٍ: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ (1) . وَاسْتَدَل الْكَاسَانِيُّ بِحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ خِيَارِ الْعَيْبِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْخِيَارِ فِي الْمُصَرَّاةِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا عَدَمُ حُصُول الْمَبِيعِ السَّلِيمِ، لأَِنَّهُ بَذَل الثَّمَنَ لِيُسَلَّمَ لَهُ مَبِيعٌ سَلِيمٌ وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ ذَلِكَ (3) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِثْبَاتُ النَّبِيِّ الْخِيَارَ بِالتَّصْرِيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى ثُبُوتِهِ بِالْعَيْبِ (4) .

وُجُوبُ الإِْعْلاَمِ بِالْعَيْبِ، وَأَدِلَّتُهُ:
3 - وُجُوبُهُ عَلَى الْعَاقِدِ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ عَلَى الْبَائِعِ إِعْلاَمَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ الَّذِي فِي مَبِيعِهِ، وَذَلِكَ فِيمَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارٌ، أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسَبِّبًا لِلْخِيَارِ فَتَرْكُ التَّعَرُّضِ لَهُ لَيْسَ مِنَ التَّدْلِيسِ الْمُحَرَّمِ كَمَا قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَقَدْ صَرَّحَ هَؤُلاَءِ بِأَنَّ
__________
(1) حديث عائشة: أخرجه أحمد (6 / 80 ط. الميمنية) ، وأخرج اللفظ الثاني أبو داود (3 / 780 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير (3 / 22 - ط. شركة الطباعة الفنية.
(2) بدائع الصنائع 5 / 274، وحديث المصراة أخرجه مسلم (3 / 1158 - ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة، ونصه: " من اشترى شاة مصراة، فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها وإن شاء ردها، ورده معها صاعًا من تمر ".
(3) تكملة المجموع للتقي السبكي 12 / 116 - 117.
(4) المغني 4 / 109 م 2999.

(20/114)


الإِْعْلاَمَ بِالْعَيْبِ مَطْلُوبٌ عَلَى سَبِيل الْوُجُوبِ، فَإِذَا لَمْ يُبَيِّنْهُ فَهُوَ آثِمٌ عَاصٍ، وَلاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ - عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ وَالسُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُمَا - (1) وَجَعَلَهُ ابْنُ رُشْدٍ الْجَدُّ مِنْ أَكْل الْمَال بِالْبَاطِل وَتَحْرِيمُهُ مَعْرُوفٌ (2) .
وَدَل عَلَى هَذَا عِدَّةُ أَحَادِيثَ، مِنْهَا:
حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَلاَ يَحِل لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا وَفِيهِ عَيْبٌ إِلاَّ بَيَّنَهُ لَهُ (3) .
وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَْسْقَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لأَِحَدٍ يَبِيعُ شَيْئًا إِلاَّ يُبَيِّنُ مَا فِيهِ، وَلاَ يَحِل لِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلاَّ بَيَّنَهُ (4) .
وَهُنَاكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى تَشْهَدُ لِلْمَعْنَى السَّابِقِ
__________
(1) رد المحتار 5 / 47، المغني 4 / 109 م 2998، تكملة المجموع 12 / 110، 112.
(2) المقدمات ص / 569، الدسوقي 3 / 119، معالم القربة في الحسبة لابن الأخوة 113، 135، 153، الدرر البهية للشوكاني 2 / 119، كفاية الطالب 2 / 121.
(3) حديث عقبة بن عامر: " المسلم أخو المسلم " أخرجه ابن ماجه (2 / 755 - ط. الحلبي) ، والحاكم (2 / 8 - ط. دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) حديث واثلة: " لا يحل لأحد يبيع شيئًا إلا يبين ما فيه " أخرجه أحمد (3 / 491 - ط. الميمنية) ، وقال الشوكاني: " في إسناده أبو جعفر الرازي وأبو سباع، والأول مختلف فيه، والثاني قيل إنه مجهول "، كذا في نيل الأوطار (5 / 239 - ط. الحلبي) .

(20/114)


لِوُرُودِهَا بِتَحْرِيمِ الْغِشِّ، وَكِتْمَانُ الْعَيْبِ غِشٌّ - كَمَا صَرَّحَ السُّبْكِيُّ - وَذَلِكَ كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَهُوَ وَارِدٌ فِي قِصَّةٍ هِيَ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَل يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً، فَقَال: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَال: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُول اللَّهِ يَعْنِي الْمَطَرَ قَال: أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي (1) . وَهَذَا الْحَدِيثُ يُشِيرُ إِلَى الإِْعْلاَمِ بِالْعَيْبِ بِالْفِعْل الْمُجْزِئِ عَنْ صَرِيحِ الْقَوْل:
وَهَل يَظَل الإِْثْمُ لَوْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ بَعْدَ ظُهُورِهِ، ذَلِكَ مَا جَزَمَ بِهِ الشَّوْكَانِيُّ فِي الدُّرَرِ الْبَهِيَّةِ قَائِلاً: (إِنْ رَضِيَهُ فَقَدْ أَثِمَ الْبَائِعُ، وَصَحَّ الْبَيْعُ) (2) .

حُكْمُ الْبَيْعِ مَعَ الْكِتْمَانِ:
4 - الْبَيْعُ دُونَ بَيَانِ الْعَيْبِ الْمُسَبِّبِ لِلْخِيَارِ صَحِيحٌ مَعَ الْمَعْصِيَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ الْمُثْبِتِ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ، وَالتَّصْرِيَةُ عَيْبٌ، وَهَاهُنَا التَّدْلِيسُ لِلْعَيْبِ وَكِتْمَانُهُ لاَ يُبْطِل الْبَيْعَ، لأَِنَّ النَّهْيَ لِمَعْنًى فِي الْعَقْدِ، فَلاَ
__________
(1) حديث: " من غشنا فليس منا. . . " وحديث: " من غش فليس مني. . . " أخرجهما مسلم (1 / 99 - ط. الحلبي) .
(2) الدرر البهية للشوكاني بشرح صديق حسن خان (2 / 119) .

(20/115)


يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ كَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِمَعْنًى فِيهِ، أَوْ لاِسْتِلْزَامِهِ أَمْرًا مَمْنُوعًا، أَمَّا هُنَا فَالْعَقْدُ لَيْسَ مَنْهِيًّا عَنْهُ أَصْلاً (لاَ لِمَعْنًى فِيهِ وَلاَ لاِسْتِلْزَامِهِ مَمْنُوعًا) بَل قَدْ تَحَقَّقَ بِكِتْمَانِ الْعَيْبِ مَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَهُوَ الْغِشُّ، وَتِلْكَ أَدْنَى مَرَاتِبِ النَّهْيِ الثَّلاَثِ فَلاَ إِثْمَ فِي الْعَقْدِ، بَل الإِْثْمُ فِي الْكِتْمَانِ، لأَِنَّ النَّهْيَ عَنِ الْكِتْمَانِ لاَ عَنِ الْعَقْدِ (1) .
وَمِمَّا هُوَ صَرِيحٌ فِي الْبَابِ مِنْ فِعْل الصَّحَابَةِ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اشْتَرَى إِبِلاً هِيمًا (2) ، فَلَمَّا أُخْبِرَ بِعَيْبِهَا رَضِيَهَا وَأَمْضَى الْعَقْدَ (3) .

وُجُوبُهُ عَلَى غَيْرِ الْعَاقِدِ:
5 - وُجُوبُ الإِْعْلاَمِ بِالْعَيْبِ لاَ يَقْتَصِرُ عَلَى الْبَائِعِ، بَل يَمْتَدُّ إِلَى كُل مَنْ عَلِمَ بِالْعَيْبِ لِحَدِيثِ وَاثِلَةَ - وَالْقِصَّةِ الْمَرْوِيَّةِ بِأَنَّهُ فَعَل ذَلِكَ حِينَ كَتَمَ الْبَائِعُ الْعَيْبَ - (4) وَالأَْحَادِيثِ الأُْخْرَى الْعَدِيدَةِ فِي وُجُوبِ النُّصْحِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى هَذَا
__________
(1) تكملة المجموع 12 / 112 - 114، المغني 3 / 355 - 356، 4 / 109 م 2998، الدرر البهية للشوكاني 2 / 129.
(2) مصابة بداء كالحمى، يجعلها تعطش فلا تروى، المصباح المنير.
(3) أثر ابن عمر أخرجه البخاري (الفتح 4 / 321 - ط. السلفية) .
(4) حديث واثلة تقدم هامش4 ف3.

(20/115)


مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ، وَالنَّوَوِيُّ، وَقَال السُّبْكِيُّ: وَذَلِكَ مِمَّا لاَ أَظُنُّ فِيهِ خِلاَفًا.
وَيَتَأَكَّدُ الْوُجُوبُ حَيْثُ يَنْفَرِدُ الأَْجْنَبِيُّ بِعِلْمِ الْعَيْبِ دُونَ الْبَائِعِ نَفْسِهِ، أَمَّا إِنْ كَانَا يَعْلَمَانِهِ فَالْوُجُوبُ حَيْثُ يَعْلَمُ، أَوْ يَظُنُّ، أَوْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يُعْلِمْهُ بِهِ، أَمَّا إِنْ عَلِمَ قِيَامَ الْبَائِعِ بِذَلِكَ - أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَقُومُ بِذَلِكَ لِتَدَيُّنِهِ - فَهُنَاكَ احْتِمَالاَنِ
أَحَدُهُمَا: عَدَمُ الْوُجُوبِ خَشْيَةَ إِيغَارِ صَدْرِ الْبَائِعِ لِتَوَهُّمِهِ سُوءَ الظَّنِّ بِهِ، وَالاِحْتِمَال الثَّانِي: وُجُوبُ الاِسْتِفْسَارِ مِنَ الْمُشْتَرِي هَل أَعْلَمَهُ الْبَائِعُ بِالْعَيْبِ.
وَوَقْتُ الإِْعْلاَمِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَالأَْجْنَبِيِّ قَبْل الْبَيْعِ، لِيَكُفَّ عَنِ الشِّرَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الأَْجْنَبِيُّ حَاضِرًا، أَوْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ فَبَعْدَهُ، لِيَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ (1) .

حِكْمَةُ تَشْرِيعِ خِيَارِ الْعَيْبِ:
الْحِكْمَةُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ خِيَارِ الْعَيْبِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ الْعَاقِدِ (الْمُشْتَرِي) لأَِنَّهُ رَضِيَ بِالْمُبَادَلَةِ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ يَقْتَضِي سَلاَمَةَ الْمَبِيعِ عَنِ الْعَيْبِ، وَوَصْفُ السَّلاَمَةِ يَفُوتُ بِوُجُودِ الْعَيْبِ، فَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَتَخَيَّرُ، لأَِنَّ الرِّضَا دَاخِلٌ فِي حَقِيقَةِ
__________
(1) تكملة المجموع 12 / 122.

(20/116)


الْبَيْعِ، وَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَنْتَفِي الرِّضَا، فَيَتَضَرَّرُ بِلُزُومِ مَا لاَ يَرْضَى بِهِ (1) .

شَرَائِطُ خِيَارِ الْعَيْبِ:
6 - يَثْبُتُ خِيَارُ الْعَيْبِ لِلْمُشْتَرِي بِشَرَائِطَ ثَلاَثٍ:
1 - ظُهُورُ عَيْبٍ مُعْتَبَرٍ.
2 - أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ بِالْعَيْبِ عِنْدَ الْعَقْدِ.
3 - أَنْ لاَ يَكُونَ الْبَائِعُ قَدِ اشْتَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْعَيْبِ.

(الشَّرِيطَةُ الأُْولَى) ظُهُورُ عَيْبٍ مُعْتَبَرٍ:
7 - الْمُرَادُ بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ بُرُوزُ الْعَيْبِ وَانْكِشَافُهُ بَعْدَمَا كَانَ خَفِيًّا عَنِ الْمُشْتَرِي، فَلاَ حُكْمَ لِلْعَيْبِ قَبْل ظُهُورِهِ، لأَِنَّ الْمُفْتَرَضَ أَنَّهُ خَفِيٌّ وَمَجْهُولٌ لِلْمُشْتَرِي فَكَأَنَّ الْمَبِيعَ كَانَ سَالِمًا - فِي نَظَرِهِ - حَتَّى وَجَدَ فِيهِ عَيْبًا.
وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِ مُعْتَبَرًا أَنْ يَكُونَ عَيْبًا بِالْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِقْهًا - لاَ مُطْلَقَ الْعَيْبِ لُغَةً - وَأَنَّ ذَلِكَ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِأَنْ يَتَحَقَّقَ فِيهِ أَمْرَانِ هُمَا:
1 - كَوْنُ الْعَيْبِ مُؤَثِّرًا فِي نَقْصِ الْقِيمَةِ أَوْ فَوَاتِ غَرَضٍ صَحِيحٍ.
2 - كَوْنُ الأَْصْل فِي جِنْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ السَّلاَمَةُ مِنَ الْعَيْبِ.
__________
(1) البدائع 5 / 274، والفتاوى الهندية 3 / 66 نقلا عن السراج الوهاج، العناية شرح الهداية للبابرتي 5 / 151 - 152.

(20/116)


الأَْمْرُ الأَْوَّل - نَقْصُ الْقِيمَةِ، أَوْ فَوَاتُ غَرَضٍ صَحِيحٍ:
8 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الضَّابِطَ لِلْعَيْبِ: هُوَ كُل مَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الْقِيمَةِ عِنْدَ أَهْل الْخِبْرَةِ سَوَاءٌ نَقَّصَ الْعَيْنَ أَمْ لَمْ يُنَقِّصْهَا (1) .
وَقَدْ يُعَبِّرُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ - وَغَيْرُهُمْ - بِالثَّمَنِ بَدَل الْقِيمَةِ، وَهِيَ الْمُرَادَةُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَمَّا كَانَ الثَّمَنُ فِي الْغَالِبِ مُسَاوِيًا لِلْقِيمَةِ عَبَّرُوا بِهِ عَنْهَا.
وَالْعَيْبُ الْفَاحِشُ فِي الْمَهْرِ كُل مَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْجَيِّدِ إِلَى الْوَسَطِ، وَمِنَ الْوَسَطِ إِلَى الرَّدِيءِ.
وَإِنَّمَا لاَ يُرَدُّ الْمَهْرُ بِيَسِيرِ الْعَيْبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَيْلِيًّا أَوْ وَزْنِيًّا، وَأَمَّا الْكَيْلِيُّ وَالْوَزْنِيُّ فَيُرَدُّ بِيَسِيرِهِ أَيْضًا (2) .
قَال فِي " مُخْتَارِ الْفَتَاوَى ": وَالْحَدُّ الْفَاصِل فِيهِ: كُل عَيْبٍ يَدْخُل تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، بِأَنْ يُقَوِّمَهُ مُقَوِّمٌ صَحِيحًا بِأَلْفٍ، وَمَعَ الْعَيْبِ بِأَقَل، وَيُقَوِّمَهُ مُقَوِّمٌ آخَرُ مَعَ هَذَا الْعَيْبِ بِأَلْفٍ فَهُوَ يَسِيرٌ، وَمَا لاَ
__________
(1) رد المحتار 4 / 74، فتح القدير 5 / 151، العناية 5 / 153، البدائع 5 / 274، وذكر أنه يستوي في الحكم أن يكون النقصان الناشئ عن العيب فاحشًا أو يسيرًا، ويقارن هذا بتفرقة المالكية بين العيب الكثير، والمتوسط، واليسير، وستأتي.، مغني المحتاج 2 / 51، فتح القدير 6 / 11.
(2) جامع الفصولين (1 / 250) نقلا عن عدة المتقين للنسفي، والفتاوى الهندية (3 / 66) نقلاً عن شرح الطحاوي والبحر الرائق.

(20/117)


يَدْخُل تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ بِأَنِ اتَّفَقَ الْمُقَوِّمُونَ فِي تَقْوِيمِهِ صَحِيحًا بِأَلْفٍ، وَاتَّفَقُوا فِي تَقْوِيمِهِ مَعَ هَذَا بِأَقَل فَهُوَ فَاحِشٌ (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ لاَ يَدْخُل فِي الزَّوَاجِ، وَقَال مُحَمَّدٌ: لِلْمَرْأَةِ حَقُّ الْفَسْخِ بِعُيُوبٍ ثَلاَثَةٍ: الْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ، لأَِنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تُطِيقُ الْمُقَامَ مَعَ زَوْجٍ فِيهِ أَحَدُهَا، وَجَاءَ فِي الزَّيْلَعِيِّ وَالْبَدَائِعِ أَنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الأَْشْيَاءِ عَلَى سَبِيل التَّمْثِيل، وَأَنَّ كُل عَيْبٍ تَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَرْأَةُ تَسْتَحِقُّ بِهِ فَسْخَ الْعَقْدِ. وَذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ إِلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ بِسَبَبِ الْعَيْبِ، وَلَكِنْ بِعُيُوبٍ تُخِل بِمَقْصِدِ الزَّوَاجِ كَالْعُيُوبِ الثَّلاَثَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: " نِكَاحٌ ".
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الْمُنْقِصُ لِلْقِيمَةِ أَوِ الْعَيْنِ نُقْصَانًا يَفُوتُ بِهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ فِي أَمْثَال الْمَبِيعِ عَدَمَهُ. وَقَدِ اشْتَمَل هَذَا الضَّابِطُ عَلَى الْعُنْصُرَيْنِ الْمُقَوِّمَيْنِ لَهُ فِي حِينِ خَلاَ مِنْهُ تَعْرِيفُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَال السُّبْكِيُّ: إِنَّ هَذَا الضَّابِطَ يُرَجَّحُ عَنْ ضَوَابِطَ كَثِيرَةٍ أُحِيل فِيهَا عَلَى الْعُرْفِ دُونَ ضَبْطِ الْعَيْبِ، وَمُجَرَّدُ الإِْحَالَةِ عَلَى الْعُرْفِ قَدْ يَقَعُ مِنْهَا فِي بَعْضِ الأَْوْقَاتِ إِلْبَاسٌ (2) . وَأَنَّ اشْتِرَاطَ فَوَاتِ
__________
(1) الفتاوى الهندية (1 / 66) متبوعًا بعبارة " وهذا هو المختار للفتوى ".
(2) تكملة المجموع 12 / 340.

(20/117)


غَرَضٍ صَحِيحٍ هُوَ لِلاِحْتِرَازِ عَنِ النَّقْصِ الْيَسِيرِ فِي فَخِذِ شَاةٍ أَوْ سَاقِهَا بِشَكْلٍ لاَ يُورِثُ شَيْئًا، وَلاَ يَفُوتُ بِهِ غَرَضُ صِحَّةِ الأُْضْحِيَّةِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ قُطِعَ مِنْ أُذُنِهَا مَا يَمْنَعُ التَّضْحِيَةَ بِهَا.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ نَقْصَ الْعَيْنِ وَحْدَهُ كَافٍ وَلَوْ لَمْ تَنْقُصْ بِهِ الْقِيمَةُ، بَل زَادَتْ، وَبِالْمُقَابِل إِنَّ مِنَ الْعَيْبِ نَقْصَ الْقِيمَةِ (أَوِ الْمَالِيَّةِ بِعِبَارَةِ ابْنِ قُدَامَةَ) عَادَةً فِي عُرْفِ التُّجَّارِ وَإِنْ لَمْ تَنْقُصْ عَيْنُهُ، عَلَى أَنْ تَكُونَ تِلْكَ نَقِيصَةً يَقْتَضِي الْعُرْفُ سَلاَمَةَ الْمَبِيعِ عَنْهَا غَالِبًا، لأَِنَّ الْمَبِيعَ إِنَّمَا صَارَ مَحَلًّا لِلْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ فَمَا يُوجِبُ نَقْصًا فِيهَا يَكُونُ عَيْبًا (1) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مِمَّا يُعَدُّ عَيْبًا، الْبَيْتُ الَّذِي قُتِل فِيهِ إِنْسَانٌ وَأَصْبَحَ يُوحِشُ سَاكِنِيهِ وَتَنْفِرُ نُفُوسُهُمْ عَنْهُ، وَيَأْبَى الْعِيَال وَالأَْوْلاَدُ سُكْنَاهُ وَتَتَرَاءَى لَهُمْ بِسَبَبِ تِلْكَ الْوَحْشَةِ خَيَالاَتٌ شَيْطَانِيَّةٌ مُفْزِعَةٌ مُقْلِقَةٌ. وَقَدْ جَعَلُوهُ مِمَّا يَنْفِرُ النَّاسُ عَنْهُ، وَتَقِل الرَّغْبَةُ فِيهِ، فَيُبْخَسُ ثَمَنُهُ، فَهُوَ مِنْ تَطْبِيقَاتِ نَقْصِ الْقِيمَةِ (2) .

الأَْمْرُ الثَّانِي - كَوْنُ الأَْصْل سَلاَمَةَ أَمْثَال الْمَبِيعِ. مِنَ الْعَيْبِ:
9 - الْمُرَادُ أَنَّ السَّلاَمَةَ مِنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ الْعَارِضِ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 215، والمغني 4 / 115 م 3010.
(2) المعيار للونشريسي، طبعة حجرية بالمغرب 5 / 180، والخرشي 5 / 127.

(20/118)


هِيَ الأَْصْل فِي نَوْعِ الْمَبِيعِ وَأَمْثَالِهِ، أَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمَأْلُوفِ وُجُودُهُ فِي أَمْثَالِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُعَدُّ عَيْبًا مُعْتَبَرًا. وَقَدِ اخْتَلَفَتْ تَعَابِيرُ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الأَْمْرِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ. وَقَدِ اسْتَدْرَكَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى ضَابِطِ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ قَائِلاً: وَقَوَاعِدُنَا لاَ تَأْبَاهُ (1) . وَضَرَبُوا لِذَلِكَ مَثَلاً بِوُجُودِ الثُّفْل فِي الزَّيْتِ بِالْحَدِّ الْمُعْتَادِ، فَمِنْ تَعَابِيرِ الْفُقَهَاءِ فِي اعْتِمَادِ هَذَا الأَْمْرِ، لِيَكُونَ الْعَيْبُ مُعْتَبَرًا، التَّعْبِيرُ بِكَوْنِ الْغَالِبِ فِي جِنْسِ الْمَبِيعِ عَدَمُهُ، أَوِ اقْتِضَاءُ الْعُرْفِ سَلاَمَةَ الْمَبِيعِ عَنْهُ غَالِبًا، أَوْ مَا خَالَفَ الْخِلْقَةَ الأَْصْلِيَّةَ، أَوْ أَصْل الْخِلْقَةِ، أَوِ الْخُرُوجُ عَنِ الْمَجْرَى الطَّبِيعِيِّ، أَوْ مَا نَقَصَ عَنِ الْخِلْقَةِ الأَْصْلِيَّةِ أَوِ الْخَلْقِ الشَّرْعِيِّ (كَمَا يَقُول ابْنُ رُشْدٍ) ، أَوْ مَا خَالَفَ الْمُعْتَادَ، أَوْ مَا تَخْلُو عَنْهُ أَصْل الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ (2) .

الرُّجُوعُ لِلْعُرْفِ فِي تَحَقُّقِ ضَابِطِ الْعَيْبِ
10 - تَوَارَدَتْ نُصُوصُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي كَوْنِ الْعَيْبِ مُؤَثِّرًا (أَيْ مُؤَدِّيًا إِلَى نُقْصَانِ الْقِيمَةِ، وَكَوْنِ الأَْصْل فِي جِنْسِ الْمَبِيعِ عَدَمَهُ)
__________
(1) رد المحتار 4 / 71.
(2) بداية المجتهد 2 / 174، مغني المحتاج 2 / 51، الوجيز 2 / 142، المكاسب 267 نقلا عن قواعد الحلي، تذكرة الفقهاء 1 / 540، فتح القدير 5 / 151، شرح المجلة لعلي حيدر (ترجمة الحسيني) 284، وشرح المجلة للمحاسني 1 / 267 " ما تقتضي النظرة السليمة أن يكون خاليًا منه ".

(20/118)


إِلَى أَهْل الْخِبْرَةِ بِذَلِكَ. قَال ابْنُ الْهُمَامِ: وَهُمُ التُّجَّارُ، أَوْ أَرْبَابُ الصَّنَائِعِ إِنْ كَانَ الشَّيْءُ مِنَ الْمَصْنُوعَاتِ، وَقَال الْكَاسَانِيُّ: التَّعْوِيل فِي الْبَابِ عَلَى عُرْفِ التُّجَّارِ، فَمَا نَقَّصَ الثَّمَنَ (أَيِ الْقِيمَةَ) فِي عُرْفِهِمْ فَهُوَ عَيْبٌ يُوجِبُ الْخِيَارَ (1) .
وَقَال الْحَطَّابُ: التَّعْوِيل فِي اعْتِبَارِ الشَّيْءِ عَيْبًا أَوْ عَدَمَهُ هُوَ عَلَى عُرْفِ التُّجَّارِ. . وَإِنْ كَانَ عَامَّةُ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ التُّجَّارِ يَرَوْنَهُ، أَوْ لاَ يَرَوْنَهُ (2) . وَلاَ شَكَّ أَنَّ ذِكْرَ التُّجَّارِ لَيْسَ تَخْصِيصًا، بَل الْمُرَادُ أَهْل الْخِبْرَةِ فِي كُل شَيْءٍ بِحَسَبِهِ.
وَهَل يُشْتَرَطُ إِجْمَاعُ أَهْل الْخِبْرَةِ عَلَى الْحُكْمِ بِكَوْنِ الشَّيْءِ عَيْبًا؟ هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ التُّجَّارُ فَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ عَيْبٌ، وَقَال بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِعَيْبٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ، إِذْ لَمْ يَكُنْ عَيْبًا بَيِّنًا عِنْدَ الْكُل.
وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يُطْلَبُ هَذَا الإِْجْمَاعُ بَل التَّعَدُّدُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ عَلَى مَا نَقَل السُّبْكِيُّ عَنْ صَاحِبَيِ التَّهْذِيبِ وَالْعُدَّةِ، وَالاِكْتِفَاءُ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ، وَعَنْ صَاحِبِ التَّتِمَّةِ لاَ بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ. ثُمَّ قَال: لَوِ اخْتَلَفَا هَل هُوَ عَيْبٌ وَلَيْسَ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 274، الهداية وفتح القدير 5 / 153، والفتاوى الهندية 3 / 67، والمغني 4 / 137، والمبسوط للسرخسي 13 / 106، وقال: " وفي كل شيء إنما يرجع إلى أهل تلك الصنعة ".، والمجموع 12 / 344.
(2) الحطاب على خليل 4 / 436.

(20/119)


هُنَاكَ مَنْ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فَالْقَوْل قَوْل الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ (1) .

شَرَائِطُ تَأْثِيرِ الْعَيْبِ:

1 - أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ فِي مَحَل الْعَقْدِ نَفْسِهِ:
11 - فَفِي الْبَيْعِ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ، وَهَذَا طَبِيعِيٌّ، فَالْعُيُوبُ فِي غَيْرِ الْمَبِيعِ لاَ أَثَرَ لَهَا كَالْعُيُوبِ فِي شَخْصِ الْعَاقِدِ الآْخَرِ، أَوِ الْعَيْبِ فِي الرَّهْنِ الْمُقَدَّمِ، أَوِ الْكَفِيل وَنَحْوِهِ. . وَضَرَبَ لَهُ ابْنُ عَابِدِينَ مَثَلاً بِمَا إِذَا بَاعَ حَقَّ الْكَدَكِ (مِنْ حُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ فِي الْعَقَارِ) فِي حَانُوتٍ لِغَيْرِهِ فَأَخْبَرَ الْمُشْتَرِي أَنَّ أُجْرَةَ الْحَانُوتِ كَذَا فَظَهَرَ أَنَّهَا أَكْثَرُ، فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ بِهَذَا السَّبَبِ، لأَِنَّ هَذَا لَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْمَبِيعِ (2) .

2 - أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ قَدِيمًا:
12 - وَالْمُرَادُ بِالْقَدِيمِ مَا قَارَنَ الْعَقْدَ أَوْ حَدَثَ قَبْل الْقَبْضِ. فَالْمُقَارِنُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَدَلِيل مَا وُجِدَ قَبْل الْقَبْضِ، أَنَّ الْمَبِيعَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ فَكَذَا جُزْؤُهُ وَصِفَتُهُ (3) .
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَيْبُ قَدِيمًا بَل حَدَثَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ فَلاَ يَثْبُتُ الْخِيَارُ، لأَِنَّهُ لِفَوَاتِ صِفَةِ
__________
(1) تكملة المجموع 12 / 343 - 344.
(2) رد المحتار 4 / 72.
(3) شرح الروض 2 / 60، بداية المجتهد لابن رشد 2 / 176.

(20/119)


السَّلاَمَةِ الْمَشْرُوطَةِ دَلاَلَةً فِي الْعَقْدِ، وَقَدْ حَصَل الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ سَلِيمًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، إِذِ الْعَيْبُ لَمْ يَحْدُثْ إِلاَّ بَعْدَ التَّسْلِيمِ.
قَال الْمَرْغِينَانِيُّ: الْعَيْبُ قَدْ يَحْدُثُ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْل التَّسْلِيمِ وَهُوَ يُوجِبُ الرَّدَّ (1) .
وَقَدْ خَالَفَ فِي هَذَا الْمَالِكِيَّةُ فَأَخَذُوا بِقَضِيَّةِ الْعُهْدَةِ: وَهِيَ عُهْدَتَانِ، الأُْولَى فِي عُيُوبِ الرَّقِيقِ وَيَقُولُونَ فِيهَا بِعُهْدَةِ الثَّلاَثِ، وَالثَّانِيَةُ فِي عُيُوبِ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ، وَيَقُولُونَ فِيهَا بِعُهْدَةِ السُّنَّةِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (عُهْدَةٌ) . (2)
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ عَقْدُ الإِْجَارَةِ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهَا تُفْسَخُ بِعَيْبٍ حَادِثٍ وَذَلِكَ لأَِنَّهَا عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَهِيَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَوُجُودُ الْعَيْبِ يَحُول دُونَ الاِنْتِفَاعِ فَيُعْتَبَرُ وَلَوْ كَانَ حَادِثًا (3) .

3 - أَنْ لاَ يَكُونَ الْعَيْبُ بِفِعْل الْمُشْتَرِي قَبْل الْقَبْضِ:
13 - يُعْتَبَرُ فِي مَنْزِلَةِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَ
__________
(1) الهدية وفتح القدير 5 / 171، والبدائع 5 / 275، والفتاوى الهندية 3 / 66، والمقدمات ص580، وتحفة المحتاج بحاشية الشرواني 4 / 140، والشرح الكبير على المقنع 4 / 90.
(2) بداية المجتهد 2 / 144.
(3) رد المحتار نقلا عن جامع الفصولين 4 / 71، وترتيب الأشباه 263.

(20/120)


الْمُشْتَرِي مَا لَوْ كَانَ الْعَيْبُ قَدِيمًا (حَصَل قَبْل الْقَبْضِ) وَلَكِنَّهُ وُجِدَ بِفِعْلٍ وَقَعَ عَلَى الْمَبِيعِ مِنَ الْمُشْتَرِي قَبْل أَنْ يَقْبِضَهُ. وَهَذَا الْقَيْدُ كَالاِسْتِثْنَاءِ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَيَدُل عَلَيْهِ جُمْلَةٌ مِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيَّةُ - وَقَوَاعِدُ غَيْرِهِمْ لاَ تَأْبَاهُ - وَقَدْ صَرَّحَ الشِّيرَازِيُّ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَفْقِدُ الْعَيْبُ أَثَرَهُ (1) .

4 - أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ بَاقِيًا بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَمُسْتَمِرًّا حَتَّى الرَّدِّ:
14 - وَالْمُرَادُ مِنْ بَقَائِهِ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ التَّسْلِيمِ، إِمَّا بِأَنْ يَظَل مَوْجُودًا فِي مَحَل الْعَقْدِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَإِمَّا بِأَنْ يَخْفَى عِنْدَ التَّسْلِيمِ ثُمَّ يَظْهَرَ ثَانِيَةً فَلاَ يُكْتَفَى بِثُبُوتِ قِدَمِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَظُهُورِهِ قَبْل الْعَقْدِ عِنْدَهُ فَقَطْ، كَمَا لاَ يُكْتَفَى بِظُهُورِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ ثُمَّ خَفَائِهِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَعُودَ لِلظُّهُورِ ثَانِيَةً عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَيَسْتَمِرَّ بَاقِيًا إِلَى حِينِ الرَّدِّ.
فَفِي شَرِيطَةِ الْبَقَاءِ - أَوِ الْمُعَاوَدَةِ - احْتِرَازٌ عَنِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ إِذَا ظَهَرَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ التَّسْلِيمِ، وَعَزَمَ عَلَى الرَّدِّ، ثُمَّ زَال الْعَيْبُ قَبْل الرَّدِّ (2) . لأَِنَّ الرَّدَّ إِنَّمَا هُوَ لِلْعَيْبِ - فَهُوَ سَبَبُهُ - وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَضْحَى سَلِيمًا فَلاَ قِيَامَ لِلْخِيَارِ مَعَ
__________
(1) المجموع شرح المهذب 12 / 126، وحاشية الشرواني على التحفة 4 / 140.
(2) الهندية 3 / 69 نقلا عن السراج الوهاج.

(20/120)


سَلاَمَتِهِ. هَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ صَرَّحَ الْكَاسَانِيُّ بِأَنَّ الْعَيْبَ الثَّابِتَ عِنْدَ الْبَائِعِ مُحْتَمِل الزَّوَال قَابِل الاِرْتِفَاعِ، فَلاَ يَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ بِالاِحْتِمَال، فَلاَ بُدَّ فِي صِفَةِ الْعَيْبِ مِنْ ثُبُوتِهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي لِيُعْلَمَ أَنَّهَا قَائِمَةٌ. وَذَكَرَ الشِّرْوَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْعَيْبَ الْمُعْتَبَرَ هُوَ مَا قَارَنَ الْعَقْدَ، أَوْ حَدَثَ قَبْل الْقَبْضِ، وَقَدْ بَقِيَ إِلَى الْفَسْخِ (1) .

5 - أَنْ لاَ تُمْكِنَ إِزَالَةُ الْعَيْبِ بِلاَ مَشَقَّةٍ:
15 - أَمَّا لَوْ أَمْكَنَ ذَلِكَ فَلاَ يَقُومُ حَقُّ الْخِيَارِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى الْقُمَاشِ طَابَعُ الْمَصْنَعِ مَثَلاً، وَكَانَ مِمَّا لاَ يَضُرُّهُ الْغَسْل، أَوْ يُمْكِنُ جَعْلُهُ مِنْ جِهَةِ الْبِطَانَةِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ بِالثَّوْبِ نَجَاسَةٌ وَهُوَ مِمَّا لاَ يَفْسُدُ بِالْغَسْل وَلاَ يُنْتَقَصُ، لِلتَّمَكُّنِ مِنْ غَسْلِهِ (2) .
وَكَثِيرًا مَا يُهَوِّنُ الْبَائِعُ مِنْ شَأْنِ الْعَيْبِ وَأَنَّهُ سَهْل الإِْزَالَةِ، أَوْ لاَ يُكَلِّفُ إِلاَّ قَلِيلاً لإِِصْلاَحِهِ ثُمَّ يَظْهَرُ الْعَكْسُ فَمَا مَصِيرُ خِيَارِ الْعَيْبِ بَعْدَ الرِّضَا مِنَ الْمُشْتَرِي؟ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى ثُبُوتِ خِيَارِ الرَّدِّ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَئِذٍ مَا لَمْ يَحْدُثْ لَدَيْهِ عَيْبٌ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ الرَّدِّ وَالأَْرْشِ، جَاءَ فِي نَوَازِل
__________
(1) الشرواني على تحفة المحتاج لابن حجر 4 / 140، الفتاوى الهندية 3 / 69، البدائع 5 / 276، فتح القدير 5 / 153 - 154.
(2) رد المحتار 4 / 72، وفتح القدير 6 / 2.

(20/121)


الْوَنْشَرِيسِيِّ أَنَّهُ سُئِل عَمَّنْ اشْتَرَى دَابَّةً وَبِهَا جُرْحُ رُمْحٍ، فَرَضِيَ بَعْدَمَا قَال الْبَائِعُ لَهُ هُوَ جُرْحٌ لاَ يَضُرُّهَا،، فَتَغَيَّبَ هَذَا الْمُشْتَرِي نَحْوًا مِنْ سَنَةٍ ثُمَّ ظَهَرَ الْجُرْحُ فَادِحًا.
(فَأَجَابَ) إِنْ لَمْ يَحْدُثْ بِهَا عِنْدَهُ عَيْبٌ مُفْسِدٌ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّهَا أَوْ يَتَمَاسَكَ وَلاَ شَيْءَ لَهُ مِنْ قِيمَةِ الْعَيْبِ، فَإِنْ حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَيْبٌ بَعْدُ، فَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَقِيمَةَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا وَأَخَذَ قِيمَةَ الْعَيْبِ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالدَّاءِ (1) .

طُرُقُ إِثْبَاتِ الْعَيْبِ (2) :
16 - إِثْبَاتُ الْعَيْبِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْعَيْبِ مِنْ حَيْثُ دَرَجَةُ الظُّهُورِ. وَالْعَيْبُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:
1 - عَيْبٌ ظَاهِرٌ مُشَاهَدٌ.
2 - عَيْبٌ بَاطِنٌ خَفِيٌّ، لاَ يَعْرِفُهُ إِلاَّ أَهْل الْخِبْرَةِ.
3 - عَيْبٌ لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلاَّ النِّسَاءُ.
4 - عَيْبٌ لاَ يُعْرَفُ بِالْمُشَاهَدَةِ الْمُجَرَّدَةِ بَل يَحْتَاجُ إِلَى التَّجْرِبَةِ وَالاِمْتِحَانِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ.
1 - الْعَيْبُ الْمُشَاهَدُ: لاَ حَاجَةَ لِتَكْلِيفِ
__________
(1) المعيار للونشريسي (طبعة حجرية بالمغرب) 5 / 178.
(2) رد المحتار 4 / 92، والبدائع 5 / 279، مع الإحالة إلى مواطن لهذا الموضوع، كالفتاوى الهندية 3 / 86 - 94، جامع الفصولين 2 / 250، فتح القدير 5 / 176، تذكرة الفقهاء 7 / 524، كشاف القناع 3 / 173، الشرح الكبير على المقنع 4 / 100، الحرشي 5 / 149، مغني المحتاج 2 / 61، المبسوط 13 / 111.

(20/121)


الْمُشْتَرِي إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى وُجُودِ الْعَيْبِ عِنْدَهُ؛ لِكَوْنِهِ ثَابِتًا بِالْعِيَانِ وَالْمُشَاهَدَةِ، وَلِلْمُشْتَرِي حَقُّ خُصُومَةِ الْبَائِعِ بِسَبَبِ هَذَا الْعَيْبِ، وَلِلْقَاضِي حِينَئِذٍ النَّظَرُ فِي الأَْمْرِ.
فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ لاَ يَحْدُثُ مِثْلُهُ عَادَةً فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، كَالأُْصْبُعِ الزَّائِدَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ يُرَدُّ عَلَى الْبَائِعِ، وَلاَ يُكَلَّفُ الْمُشْتَرِي بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ثُبُوتِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ لِتَيَقُّنِ ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ، إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ الْبَائِعُ الرِّضَا بِهِ وَالإِْبْرَاءَ عَنْهُ، فَتُطْلَبُ الْبَيِّنَةُ مِنْهُ.
فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ قُضِيَ بِذَلِكَ، وَإِلاَّ اسْتُحْلِفَ الْمُشْتَرِي عَلَى دَعْوَاهُ، فَإِنْ نَكَل (أَحْجَمَ عَنِ الْيَمِينِ) لَمْ يُرَدَّ الْمَبِيعُ الْمَعِيبُ عَلَى الْبَائِعِ، وَإِنْ حَلَفَ رُدَّ عَلَى الْبَائِعِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْعَيْبُ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ مِثْلُهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يُسْتَحْلَفُ بِاللَّهِ عَلَى الْبَتَاتِ، أَيْ بِشَكْلٍ بَاتٍّ قَاطِعٍ جَازِمٍ، لاَ عَلَى مُجَرَّدِ نَفْيِ الْعِلْمِ: " لَقَدْ بِعْتُهُ وَسَلَّمْتُهُ، وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ، لاَ عِنْدَ الْبَيْعِ وَلاَ عِنْدَ التَّسْلِيمِ ". (1)
2 - الْعَيْبُ إِذَا كَانَ بَاطِنًا خَفِيًّا لاَ يَعْرِفُهُ إِلاَّ الْمُخْتَصُّونَ كَالأَْطِبَّاءِ وَالْبَيَاطِرَةِ مِثْل وَجَعِ الْكَبِدِ وَالطِّحَال وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِمُمَارَسَةِ حَقِّ الْخُصُومَةِ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ عَدْلٍ مِنْ أَهْل الْخِبْرَةِ.
__________
(1) رد المحتار 4 / 92، ومختصر الطحاوي ص80.

(20/122)


3 - الْعَيْبُ الَّذِي لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلاَّ النِّسَاءُ: يَرْجِعُ الْقَاضِي فِيهِ إِلَى قَوْل النِّسَاءِ بَعْدَ أَنْ يَرَيْنَ الْعَيْبَ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِيهِنَّ، بَل يَكْفِي قَوْل امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ عَدْلٍ، وَالثِّنْتَانِ أَحْوَطُ، لأَِنَّ قَوْل الْمَرْأَةِ فِيمَا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَال حُجَّةٌ فِي الشَّرْعِ، كَشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ فِي النَّسَبِ.
فَإِذَا شَهِدَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى الْعَيْبِ، فَهُنَاكَ رِوَايَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ عَنْ كُل وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَصِّلُهَا أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ أَوِ الثِّنْتَيْنِ يَثْبُتُ بِهَا الْعَيْبُ الَّذِي لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَال فِي حَقِّ تَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ، لاَ فِي حَقِّ الرَّدِّ.
4 - الْعَيْبُ الَّذِي لَيْسَ بِمُشَاهَدٍ عِنْدَ الْخُصُومَةِ وَلاَ يُعْرَفُ إِلاَّ بِالتَّجْرِبَةِ: كَالإِْبَاقِ: فَلاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ (1) .
وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْمُشْتَرِي إِثْبَاتَ الْعَيْبِ عِنْدَهُ، هَل يَسْتَحْلِفُ الْقَاضِي الْبَائِعَ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لاَ؟
قَال الصَّاحِبَانِ: يَسْتَحْلِفُ. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَسْتَحْلِفُ.
وَكَيْفِيَّةُ اسْتِحْلاَفِ الْبَائِعِ: هِيَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْعِلْمِ، لاَ عَلَى الْبَتَاتِ أَيِ الْجَزْمِ وَالْقَطْعِ فَيَقُول: بِاللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْعَيْبَ مَوْجُودٌ فِي هَذَا الشَّيْءِ الآْنَ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ: هُوَ أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى غَيْرِ فِعْلِهِ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِ فِعْلِهِ، يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ، لأَِنَّهُ لاَ عِلْمَ لَهُ بِمَا
__________
(1) تكملة المجموع 1 / 116.

(20/122)


لَيْسَ بِفِعْلِهِ، أَمَّا مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْل نَفْسِهِ فَيَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ (أَيْ بِصِيغَةِ الْبَتِّ وَالْجَزْمِ) ، فَإِنْ نَكَل - أَيِ الْبَائِعُ - عَنِ الْيَمِينِ، ثَبَتَ الْعَيْبُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ، وَإِنْ حَلَفَ بُرِّئَ (1) .

(الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ) الْجَهْل بِالْعَيْبِ:
17 - فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ بِالْعَيْبِ، قَال السُّبْكِيُّ: " عِنْدَ الْعِلْمِ لاَ خِيَارَ ". (2)
وَسَوَاءٌ فِي الْعِلْمِ الْمُحْتَرَزِ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْعَقْدِ، أَوْ بَعْدَهُ عِنْدَ الْقَبْضِ، فَلَوِ اشْتَرَى شَيْئًا وَهُوَ عَالِمٌ بِعَيْبِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، أَوِ اشْتَرَاهُ جَاهِلاً بِعَيْبِهِ ثُمَّ عَلِمَ بِهِ عِنْدَ الْقَبْضِ فَقَبَضَهُ عَالِمًا بِعَيْبِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْخِيَارِ، لأَِنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى الشِّرَاءِ مَعَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ رِضًا بِهِ دَلاَلَةً، وَكَذَلِكَ عِلْمُهُ عِنْدَ الْقَبْضِ؛ لأَِنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَبْضِ، فَكَانَ الْعِلْمُ عِنْدَهُ كَالْعِلْمِ عِنْدَ الْعَقْدِ، فَكَانَ عَلَيْهِ لِبَقَاءِ حَقِّهِ فِي الْخِيَارِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ الْقَبْضِ عِنْدَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَل كَانَ رَاضِيًا بِهِ. قَال ابْنُ الْهُمَامِ: (الْعِلْمُ بِالْعَيْبِ عِنْدَ الْبَيْعِ أَوِ الْقَبْضِ مُسْقِطٌ لِلرَّدِّ وَالأَْرْشِ) (3) .
__________
(1) تكملة المجموع 12 / 116.
(2) المرجع نفسه.
(3) البدائع 5 / 276، الهندية 3 / 67، فتح القدير 5 / 81 و 153، ونص ما في الهداية 5 / 153: " والمراد عيب كان = عند البائع لم يره المشتري عند البيع ولا عند القبض، لأن ذلك رضا به ".

(20/123)


18 - وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ إِنَّمَا هُوَ لِلْعُيُوبِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي لاَ تُدْرَكُ بِالنَّظَرِ، أَمَّا لَوْ كَانَ الْعَيْبُ بَارِزًا لاَ يَخْفَى عِنْدَ الرُّؤْيَةِ غَالِبًا فَيُعْتَبَرُ الْمُتَعَاقِدُ عَالِمًا بِهِ. وَمِثْلُهُ مَا لَوْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى مَزِيدِ تَأَمُّلٍ فَدَل الْبَائِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى مَوْضِعِ الْعَيْبِ أَوْ صِفَتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَحُول دُونَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُتَعَاقِدِ الآْخَرِ الَّذِي تَعَامَى عَنْ إِبْصَارِ الْعَيْبِ الْوَاضِحِ. كَمَا لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ لَمْ أَرَهُ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ الْعَيْبُ لاَ يُعَايَنُ، فَهُوَ عَلَى الأَْصْل مِنْ قِيَامِ الْخِيَارِ بِشَرَائِطِهِ (1) .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ كَانَ الْعَيْبُ خَفِيًّا، لَكِنَّ الْمُتَعَاقِدَ صَرَّحَ بِهِ وَذَكَرَهُ عَلَى سَبِيل اشْتِرَاطِ أَنَّهُ مَوْجُودٌ ظَاهِرٌ. كَمَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ ثَوْرًا بَاعَهُ عَلَى شَرْطِ أَنَّهُ يَرْقُدُ فِي الْمِحْرَاثِ أَوْ يَعْصِي فِي الطَّاحُونِ، أَوْ بَاعَ فَرَسًا عَلَى شَرْطِ أَنَّهَا جَمُوحٌ، ثُمَّ تَبَيَّنَ كَذَلِكَ، فَالْبَائِعُ بَرِيءٌ.
وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى خِبْرَةٍ خَاصَّةٍ، وَمَثَّلُوا لِذَلِكَ بِمَا إِذَا أَقْبَضَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ، وَقَال لِلْبَائِعِ اسْتَنْقِذْهُ فَإِنَّ فِيهِ زَيْفًا، فَقَال: رَضِيتُ بِزَيْفِهِ فَطَلَعَ فِيهِ زَيْفٌ، ذَكَرَ ابْنُ حَجَرِ الْهَيْتَمِيُّ: أَنَّ بَعْضَهُمْ أَفْتَى بِأَنَّهُ لاَ رَدَّ لَهُ بِهِ، وَلَمْ يَرْتَضِهِ قَائِلاً: وَوَجْهُ رَدِّهِ أَنَّ الزَّيْفَ
__________
(1) تحفة المحتاج شرح المنهاج لابن حجر الهيثمي 4 / 151.

(20/123)


لاَ يُعْرَفُ قَدْرُهُ فِي الدِّرْهَمِ بِمُجَرَّدِ مُشَاهَدَتِهِ فَلَمْ يُؤَثِّرَ الرِّضَا بِهِ. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الإِْعْلاَمَ بِالْعَيْبِ - الَّذِي يَنْتَفِي بِهِ الْخِيَارُ - هُوَ الإِْعْلاَمُ الْمُفِيدُ، وَهُنَا لَمْ يَسْتَفِدْ إِلاَّ وُجُودَ زَيْفٍ فِي الثَّمَنِ، أَمَّا كَمْ هُوَ؟ فَلَمْ يُحَدِّدْ (1) .
19 - وَقَدْ تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ إِلَى صُورَةٍ رُبَّمَا كَانَتْ نَادِرَةً فِي السَّابِقِ، إِلاَّ أَنَّهَا أَصْبَحَتِ الآْنَ مُحْتَمِلَةَ الْوُقُوعِ كَثِيرًا لِتَنَوُّعِ خَصَائِصِ الأَْشْيَاءِ وَخَفَاءِ عِلَلِهَا، بِحَيْثُ يَرَى الْمَرْءُ الأَْمْرَ الَّذِي يُلاَبِسُهُ الْعَيْبُ وَلَكِنَّهُ يَظُنُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَيْبٍ، أَوْ يَعْلَمُهُ عَيْبًا وَلَكِنْ يَحْسِبُهُ لاَ يُنْقِصُ الْقِيمَةَ وَهُوَ بِخِلاَفِ ذَلِكَ. فَإِذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِالأَْمْرِ الْمُعْتَبَرِ عَيْبًا دُونَ أَنْ يَدْرِيَ أَنَّهُ عَيْبٌ وَقَبَضَهُ، ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ الْقَبْضِ أَنَّهُ عَيْبٌ، فَالْحُكْمُ هُنَا أَنْ يُنْظَرَ: إِنْ كَانَ عَيْبًا بَيِّنًا لاَ يَخْفَى عَلَى النَّاسِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ، وَإِنْ كَانَ يَخْفَى وَلاَ يَعْرِفُهُ إِلاَّ ذَوُو الْخِبْرَةِ أَوِ الْمُخْتَصُّونَ بِتِلْكَ الأَْشْيَاءِ فَلَهُ الرَّدُّ.

(الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ) عَدَمُ الْبَرَاءَةِ:
20 - يُشْتَرَطُ لِقِيَامِ الْخِيَارِ أَنْ لاَ يَكُونَ الْبَائِعُ قَدِ اشْتَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْعَيْبِ أَوِ الْعُيُوبِ الَّتِي فِي الْمَبِيعِ. وَلِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ تَفَاصِيل وَافِيَةٌ، بَل اقْتِرَانُهَا بِالْبَيْعِ يَجْعَل مِنْهُ نَوْعًا خَاصًّا مِنْ أَنْوَاعِ الْبُيُوعِ يُدْعَى بَيْعَ الْبَرَاءَةِ (2) .
__________
(1) الشرواني على تحفة المحتاج 4 / 151 - 152.
(2) قال السبكي: هذا الفصل باب مستقل، بوب عليه المزني والأصحاب بباب بيع البراءة وكثير من الأصحاب = أدرجوه في هذا الباب (أي خيار العيب) لأنه من مسائله (12 / 398) ، وشرح المنهج للقاضي زكريا 3 / 132 - 133، وهو صنيع ابن رشد 2 / 184، وقد جعل بيع البراءة قسيمًا للبيع المطلق.

(20/124)


مَسَائِل الْبَرَاءَةِ:
21 - حُكْمُهَا وَمَجَالُهَا: اشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعَيْبِ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَيْبُ مَعْلُومًا لِلْمُشْتَرِطِ أَمْ مَجْهُولاً لَهُ، وَمَهْمَا كَانَ مَحَل الْعَقْدِ، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْحَيَوَانِ وَحْدَهُ (1) . لأَِنَّ الْحَيَوَانَ قَلَّمَا يَنْفَكُّ عَنْ عَيْبٍ خَفِيٍّ أَوْ ظَاهِرٍ فَيَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى شَرْطِ الْبَرَاءَةِ لِيَثِقَ بِلُزُومِ الْبَيْعِ فِيمَا لاَ يَعْلَمُهُ مِنَ الْخَفِيِّ دُونَ مَا يَعْلَمُهُ (2) .
وَالأَْصْل فِي اعْتِبَارِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعَيْبِ أَثَرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ بَاعَ غُلاَمًا لَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَبَاعَهُ بِالْبَرَاءَةِ، فَقَال الَّذِي ابْتَاعَهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: بِالْغُلاَمِ دَاءٌ لَمْ تُسَمِّهِ لِي. فَاخْتَصَمَا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَقَال الرَّجُل: بَاعَنِي عَبْدًا وَبِهِ دَاءٌ لَمْ يُسَمِّهِ. وَقَال عَبْدُ اللَّهِ: بِعْتُهُ بِالْبَرَاءَةِ. فَقَضَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ: لَقَدْ بَاعَهُ الْعَبْدَ وَمَا بِهِ دَاءٌ يَعْلَمُهُ. فَأَبَى عَبْدُ اللَّهِ أَنْ
__________
(1) قال ابن جزي: وقيل يجوز في كل مبيع (القوانين الفقهية 256) ، الدسوقي 3 / 119.
(2) في المقدمات لابن رشد 580 التصريح بأن البراءة لا تفيد إلا في عيب لم يعلمه البائع، أما إن كان علمه فدلس به فلا.

(20/124)


يَحْلِفَ، وَارْتَجَعَ الْعَبْدَ، فَصَحَّ عِنْدَهُ، فَبَاعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ (1) .

تَلْخِيصُ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي اشْتِرَاطِ الْبَرَاءَةِ:
22 - الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: أَنْ يُبَرَّأَ مِنْ كُل عَيْبٍ، عَلِمَهُ الْبَائِعُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَزَيْدٍ.
الثَّانِي: لاَ يُبَرَّأُ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْعُيُوبِ حَتَّى يُسَمِّيَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَيْبُ مِمَّا يُعَايَنُ أَمْ لاَ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ.
الثَّالِثُ: لاَ يُبَرَّأُ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْعُيُوبِ حَتَّى يَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِوَضْعِ الْيَدِ، إِمَّا الْمُعَايَنَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ فِيمَا يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ، وَإِمَّا حَقِيقَةُ وَضْعِ الْيَدِ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّقْل عَنْ شُرَيْحٍ وَعَطَاءٍ وَرِوَايَةٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَمَذْهَبِ إِسْحَاقَ.
الرَّابِعُ: لاَ يُبَرَّأُ إِلاَّ مِنَ الْعَيْبِ الْبَاطِنِ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فِي الْحَيَوَانِ خَاصَّةً، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْمُوَطَّأِ وَالْقَوْل الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
الْخَامِسُ: أَنَّ الْبَرَاءَةَ إِنَّمَا هِيَ فِي بَيْعِ
__________
(1) أثر عبد الله بن عمر حين باع غلامًا له. أخرجه مالك في الموطأ (2 / 613 - ط. الحلبي) ،، وعند البيهقي في السنن (5 / 328 - ط. دائرة المعارف العثمانية) ،، وأورده القاضي زكريا الأنصاري في شرح الروض 2 / 63، وقال في الشامل: إن المشتري زيد بن ثابت.

(20/125)


السُّلْطَانِ لِلْمَغْنَمِ، أَوْ عَلَى مُفْلِسٍ، أَوْ فِي دُيُونِ الْمَيِّتِ، كَمَا قَال بَعْضُهُمْ.
السَّادِسُ: بُطْلاَنُ الْبَيْعِ أَصْلاً وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ (1) .

أَقْسَامُ وَأَحْكَامُ الْبَرَاءَةِ:
23 - تَنْقَسِمُ الْبَرَاءَةُ أَوَّلاً إِلَى نَوْعَيْنِ: خَاصَّةٍ، مِنْ عَيْبٍ مُعَيَّنٍ مُسَمًّى، وَعَامَّةٍ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ - أَوْ مِنْ كُل عَيْبٍ - وَلاَ أَثَرَ لِهَذَا التَّقْسِيمِ فِي الْحُكْمِ غَيْرُ أَثَرِ الشُّمُول لِكُل عَيْبٍ أَوِ الاِخْتِصَاصِ بِالْعَيْبِ الْمُسَمَّى. عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ مَنَعَ الْعَامَّةَ لأَِنَّهَا تَشْمَل الْعَيْبَ الَّذِي يَحْدُثُ قَبْل التَّسْلِيمِ وَلَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ، فِي حِينِ أَجَازَهَا الآْخَرُونَ وَحَمَلُوهَا عَلَى مَا يَرَوْنَهُ جَائِزًا: دُخُول الْحَادِثِ أَوْ عَدَمُهُ.
24 - لَكِنَّ لِلْبَرَاءَةِ تَقْسِيمًا آخَرَ ذَا أَثَرٍ كَبِيرٍ (2) ، وَهُوَ أَنَّهَا: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً بِالْعَيْبِ الْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَإِمَّا أَنْ تَصْدُرَ مُضَافَةً إِلَى الْعَيْبِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْل الْقَبْضِ مَعَ الْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَإِمَّا أَنْ تَرِدَ مُطْلَقَةً لاَ مُقَيَّدَةً وَلاَ مُضَافَةً.
أ - فَإِذَا كَانَ اشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ فِي صُورَةِ الْقَيْدِ بِالْعَيْبِ - أَوِ الْعُيُوبِ - الْمَوْجُودَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ يُسْتَفَادُ مِنْ عِبَارَةِ: " عَلَى أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ
__________
(1) تكملة المجموع 12 / 399 - 400 و 406 - 407.
(2) البدائع 5 / 277، فتح القدير 5 / 183.

(20/125)


ذكُل عَيْبٍ بِهِ "، أَوْ " مِنْ عَيْبِ كَذَا بِهِ "، فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الْبَرَاءَةَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ وَنَحْوِهَا لاَ تَتَنَاوَل إِلاَّ مَا كَانَ قَائِمًا وَقْتَ الْعَقْدِ، دُونَ مَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ إِلَى حِينِ التَّسَلُّمِ. وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ صُدُورِ الْبَرَاءَةِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ أَوِ الْخُصُوصِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ اللَّفْظَ الْمُقَيَّدَ بِوَصْفٍ لاَ يَتَنَاوَل غَيْرَ الْمَوْصُوفِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ.
ب - إِذَا كَانَ اشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ فِيهِ إِضَافَةٌ لِلْمُسْتَقْبَل، بِأَنْ كَانَتْ صَرِيحَةً بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْعَيْبِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْل الْقَبْضِ فَلاَ يَصِحُّ هَذَا الاِشْتِرَاطُ، وَالْعَقْدُ مَعَهُ فَاسِدٌ، أَمَّا عَدَمُ صِحَّةِ الشَّرْطِ فَلأَِنَّ الإِْبْرَاءَ لاَ يَحْتَمِل الإِْضَافَةَ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ (وَلاَ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ) فَهُوَ - وَإِنْ كَانَ إِسْقَاطًا - فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَلِهَذَا لاَ يَحْتَمِل الاِرْتِدَادَ بِالرَّدِّ. وَأَمَّا فَسَادُ الْعَقْدِ، فَلأَِنَّهُ بَيْعٌ أُدْخِل فِيهِ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَيَفْسُدُ. وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ شَامِلٌ لِمَا لَوْ نَصَّ عَلَى الْعَيْبِ الْكَائِنِ وَالْحَادِثِ، أَوْ أَفْرَدَ الْحَادِثَ بِالذِّكْرِ، وَالأَْخِيرُ أَوْلَى بِالْفَسَادِ.
ج - إِذَا كَانَ اشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ بِصُورَةِ الإِْطْلاَقِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْمُرَادِ أَهُوَ الْبَرَاءَةُ مِنَ الْعَيْبِ الْمَوْجُودِ أَمْ مِنْهُ وَمِنَ الْحَادِثِ (وَيَسْتَوِي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا أَنْ تَجِيءَ عَامَّةً: عَلَى أَنِّي بَرِيءٌ مِنَ الْعُيُوبِ، أَوْ مِنْ كُل عَيْبٍ، أَوْ خَاصَّةً: مِنْ عَيْبِ كَذَا - وَسَمَّاهُ -) فَلأَِئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ رَأْيَانِ فِي الْمُرَادِ بِهَا:
أَحَدُهَا: شُمُول الْبَرَاءَةِ لِمَا هُوَ قَائِمٌ عِنْدَ

(20/126)


الْعَقْدِ، وَمَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ إِلَى الْقَبْضِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا (1) .
وَالرَّأْيُ الثَّانِي: اقْتِصَارُ الْبَرَاءَةِ عَلَى الْعُيُوبِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ، وَهُوَ قَوْلٌ لأَِبِي يُوسُفَ أَيْضًا (2) .

الْعُقُودُ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الْعَيْبِ (3) .
25 - ذَكَرَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ يَثْبُتُ فِي الْعُقُودِ التَّالِيَةِ: الْبَيْعِ أَوِ الشِّرَاءِ، وَالإِْجَارَةِ، وَالْقِسْمَةِ، وَالصُّلْحِ عَنِ الْمَال، وَبَدَل الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَفِي الْمَهْرِ، وَبَدَل الْخُلْعِ (4) .
1 - أَمَّا ذِكْرُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَعًا فَلِمُرَاعَاةِ ظُهُورِ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ، فَيُذْكَرُ ثُبُوتُهُ فِي الشِّرَاءِ إِذَا لُوحِظَ كَوْنُ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ، وَإِذَا لُوحِظَ كَوْنُ الْعَيْبِ فِي الثَّمَنِ ذُكِرَ ثُبُوتُهُ فِي الْبَيْعِ، لَكِنَّهُمْ يُصَوِّرُونَهُ غَالِبًا فِي الشِّرَاءِ، وَأَنَّ الْعَيْبَ فِي الْمَبِيعِ لأَِنَّ الْغَالِبَ فِي الثَّمَنِ الاِنْضِبَاطُ فَيَقِل ظُهُورُ
__________
(1) البدائع 5 / 277، ونهاية المحتاج 4 / 38، والشربيني 2 / 53، وشرح المنهج 3 / 132، وتكملة المجموع 12 / 414 - 415.
(2) البدائع 5 / 277، وفتح القدير 5 / 183، ونقله عن الشافعي - وقد عرفنا من كتبهم خلافه -، والمبسوط 13 / 94، والدسوقي 3 / 119 نقلا عن ابن عرفة.
(3) من مراجعة بداية المجتهد 2 / 199، المبسوط 15 / 102.
(4) رد المحتار 4 / 71، نقلا عن جامع الفصولين، وهو فيه 1 / 250 بتطويل.

(20/126)


الْعَيْبِ فِيهِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْبَيْعِ (أَوِ الشِّرَاءِ) الصَّحِيحُ لاَ الْفَاسِدُ، لِوُجُوبِ فَسْخِهِ بِدُونِ الْخِيَارِ (1) .
وَيَشْمَل الْبَيْعُ عَقْدَ الصَّرْفِ، لأَِنَّ السَّلاَمَةَ عَنِ الْعَيْبِ مَطْلُوبَةٌ عَادَةً فِيهِ، سَوَاءٌ - أَكَانَ بَدَل الصَّرْفِ مِنَ الأَْثْمَانِ كَالتِّبْرِ وَالنُّقْرَةِ، أَمِ الدُّيُونِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ، إِلاَّ أَنَّ بَدَل الصَّرْفِ إِذَا كَانَ عَيْنًا فَرَدُّهُ بِالْعَيْبِ يَفْسَخُ الْعَقْدَ سَوَاءٌ رَدَّهُ فِي الْمَجْلِسِ أَمْ بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا نَقَدَ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا بِأَنْ وَجَدَ الدَّرَاهِمَ الْمَقْبُوضَةَ زُيُوفًا فَرَدَّهَا فِي الْمَجْلِسِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالرَّدِّ، حَتَّى لَوِ اسْتَبْدَل مَكَانَهُ مَضَى الصَّرْفُ، وَإِنْ رَدَّهَا بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ بَطَل الصَّرْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.
2 - الإِْجَارَةُ: وَلَوْ حَدَثَ الْعَيْبُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ، بِخِلاَفِ الْبَيْعِ، أَيْ يَثْبُتُ فِيهَا الْخِيَارُ سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَيْبُ قَدِيمًا أَمْ حَادِثًا. كَمَا أَنَّهُ يَنْفَرِدُ صَاحِبُ الْخِيَارِ بِالرَّدِّ فِيهَا قَبْل الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ. وَفِي الْبَيْعِ يَنْفَرِدُ قَبْلَهُ فَقَطْ (2) .
3 - الْقِسْمَةُ: فَإِذَا وَجَدَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ فِي نَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ عَيْبًا قَدِيمًا. كَانَ لَهُ الْخِيَارُ (3) .
__________
(1) رد المحتار 4 / 63 نقلاً عن البحر، لكن في جامع الفصولين عكسه 1 / 245.
(2) جامع الفصولين 1 / 250 نقلاً عن الزيادات، ورد المحتار 4 / 63.
(3) رد المحتار 4 / 63، جامع الفصولين 1 / 250.

(20/127)


4 - الصُّلْحُ عَنِ الْمَال.
5 - الْمَهْرُ.
6 - بَدَل الْخُلْعِ.
7 - بَدَل الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ.
وَهِيَ تُفَارِقُ مَا سَبَقَ مِنْ مَجَال خِيَارِ الْعَيْبِ، بِأَنَّ الرَّدَّ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ بِفَاحِشِ الْعَيْبِ لاَ بِيَسِيرِهِ.
26 - وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ الْعَقْدَ بِالنِّسْبَةِ لِكَوْنِهِ مَجَالاً لِخِيَارِ الْعَيْبِ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ:
1 - مَا هُوَ مَجَالٌ لَهُ بِلاَ خِلاَفٍ، وَهُوَ الْعُقُودُ الْمَقْصُودُ بِهَا الْمُعَاوَضَةُ.
2 - مَا لَيْسَ مَجَالاً لَهُ بِلاَ خِلاَفٍ، وَهُوَ الْعُقُودُ الَّتِي لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهَا الْمُعَاوَضَةَ. وَذَلِكَ مِثْل الْهِبَةِ لِغَيْرِ الْعِوَضِ، وَالصَّدَقَةِ.
3 - مَا فِيهِ خِلاَفٌ، وَالأَْظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ مَجَالاً لَهُ، وَهُوَ الْعُقُودُ الَّتِي جَمَعَتْ قَصْدَ الْمُكَارَمَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ مِثْل الْهِبَةِ بِقَصْدِ الْعِوَضِ (1) . وَهَذَا الضَّابِطُ لِمَجَال خِيَارِ الْعَيْبِ تَشْهَدُ لَهُ تَفْرِيعَاتُ الْمَذَاهِبِ وَلَمْ نَجِدْ تَعْدَادًا لِلْعُقُودِ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ.

تَوْقِيتُ خِيَارِ الْعَيْبِ:
27 - فِيهِ ثَلاَثَةُ آرَاءٍ:

الرَّأْيُ الأَْوَّل - أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ:
فَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ لِلْفَسْخِ وَإِلاَّ سَقَطَ. وَمُرَادُهُمْ
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 174.

(20/127)


مِنَ الْفَوْرِيَّةِ: الزَّمَنُ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ الْفَسْخُ بِحَسَبِ الْعَادَةِ. فَلَوْ عَلِمَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ وَلَمْ يَفْسَخْ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ وَلاَ يَرْجِعُ بِأَرْشِ الْعَيْبِ (1) . وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنْ تَعَدُّدِ الرِّوَايَةِ فِيهِ. وَهُوَ رَأْيٌ لَدَى الْحَنَفِيَّةِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْحَاوِي وَمُفَادُهُ: أَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ الْمَعِيبَ بَعْدَ الاِطِّلاَعِ عَلَى الْعَيْبِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الرَّدِّ كَانَ رِضًا. وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ عَنْ هَذَا الرَّأْيِ: إِنَّهُ غَرِيبٌ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي (2) .
وَالْمُرَادُ مِنَ الْمُبَادَرَةِ الَّتِي يَسْقُطُ الْخِيَارُ بِتَرْكِهَا، أَنْ يُبَادِرَ عَلَى الْعَادَةِ.
وَلَوْ قَال: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ الرَّدَّ عَلَى الْفَوْرِ يُقْبَل قَوْلُهُ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ.
وَحَيْثُ بَطَل حَقُّ الرَّدِّ بِالتَّقْصِيرِ يَبْطُل حَقُّ الأَْرْشِ أَيْضًا وَلاَ بُدَّ مِنْ يَمِينِهِ (3)
قَال الْقَاضِي زَكَرِيَّا: هَذَا فِي بَيْعِ الأَْعْيَانِ،
__________
(1) شرح الروضة 2 / 61 و 66، تكملة المجموع 12 / 134، فتح القدير 5 / 178.
(2) فتح القدير 5 / 178، رد المحتار 4 / 90، المغني 4 / 109م 3000، كشاف القناع 3 / 218 ونقل عن الاختيارات: ويجبر المشتري على الرد أو أخذ الأرش لتضرر البائع بالتأخير.
(3) تكملة المجموع 12 / 137 - 139، وذكر أن محل الكلام في المبادرة وما يكون تقصيرًا وما لا، محله كتاب الشفعة، ومغني المحتاج 2 / 56، وشرح المنهج بحاشية الجمل 3 / 141.

(20/128)


بِخِلاَفِ مَا فِي الذِّمَّةِ فَهُوَ عَلَى التَّرَاخِي لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُهُ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا إِلاَّ بِالرِّضَا - وَلَوْ قَبَضَهُ - لأَِنَّهُ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ لاَ يَجِبُ الْفَوْرُ فِي طَلَبِ الأَْرْشِ (1) .
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ بِدَلِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الأَْصْل فِي الْبَيْعِ اللُّزُومُ ثُمَّ ثَبَتَ خِيَارُ الْعَيْبِ بِالإِْجْمَاعِ وَغَيْرِهِ، وَالْقَدْرُ الْمُحَقَّقُ مِنَ الإِْجْمَاعِ ثُبُوتُهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَالزَّائِدُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَدُل عَلَيْهِ إِجْمَاعٌ وَلاَ نَصٌّ، فَيَكُونُ عَلَى مُقْتَضَى اللُّزُومِ تَقْلِيلاً لِمُخَالَفَةِ الدَّلِيل مَا أَمْكَنَ، وَلأَِنَّ الضَّرَرَ الْمَشْرُوعَ لأَِجْل الْخِيَارِ يَنْدَفِعُ بِالْمُبَادَرَةِ، فَالتَّأْخِيرُ تَقْصِيرٌ، فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ اللُّزُومِ.
وَالدَّلِيل الثَّانِي: الْقِيَاسُ عَلَى حَقِّ الشُّفْعَةِ لِوُرُودِ النَّصِّ فِيهَا وَكِلاَهُمَا خِيَارٌ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ لاَ لِلتَّرَوِّي، بَل لِدَفْعِ الضَّرَرِ (2) .

الرَّأْيُ الثَّانِي - أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي:
28 - فَلاَ يَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ - عَلَى الْمُعْتَمَدِ - مَا يَدُل عَلَى الرِّضَا.
وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ - عَلَى الْمُعْتَمَدِ - وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُصَحَّحَةِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَصَنِيعُ أَبِي الْخَطَّابِ مِنْهُمْ أَنَّهُ هُوَ الْمَذْهَبُ دُونَ أَنْ يُشِيرَ إِلَى تَعَدُّدِ الرِّوَايَةِ فِيهِ.
__________
(1) شرح المنهج بحاشية الجمل 3 / 139، نهاية المحتاج 4 / 47 - 49.
(2) تكملة المجموع 12 / 135 - 136.

(20/128)


وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي بِأَنَّهُ خِيَارٌ لِدَفْعِ ضَرَرٍ مُتَحَقَّقٍ، فَكَانَ عَلَى التَّرَاخِي، كَالْقِصَاصِ. وَلَمْ يُسَلِّمُوا بِدَلاَلَةِ الإِْمْسَاكِ عَلَى الرِّضَا بِهِ.

الرَّأْيُ الثَّالِثُ: تَوْقِيتُهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ:
29 - وَيَفْتَرِقُ الْحُكْمُ بِالرَّدِّ فَإِنْ حَصَل فِي يَوْمٍ فَأَقَل لَمْ يَحْتَجْ لِرَدِّهِ إِلَى الْيَمِينِ، بِعَدَمِ حُصُول رِضَاهُ، وَإِنْ تَأَخَّرَ إِلَى يَوْمَيْنِ رَدَّهُ مَعَ الْيَمِينِ بِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ.
وَمُسْتَنَدُهُمْ كَالْمُسْتَنَدِ السَّابِقِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ جَعَلُوا مِنِ انْقِضَاءِ الْيَوْمِ أَوِ الْيَوْمَيْنِ بِلاَ رَدٍّ دَلِيلاً عَلَى الرِّضَا (1) .

أَثَرُ خِيَارِ الْعَيْبِ عَلَى حُكْمِ الْعَقْدِ:
30 - إِنَّ وُجُودَ خِيَارِ الْعَيْبِ فِي الْعَقْدِ لاَ أَثَرَ لَهُ عَلَى حُكْمِ الْعَقْدِ الَّذِي هُوَ انْتِقَال الْمِلْكِ، فَمِلْكُ الْمَبِيعِ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي حَالاً، وَمِلْكُ الثَّمَنِ يَنْتَقِل إِلَى الْبَائِعِ فِي الْحَال، لأَِنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ مُطْلَقٌ عَنِ الشَّرْطِ. وَالثَّابِتُ بِدَلاَلَةِ النَّصِّ شَرْطُ السَّلاَمَةِ لاَ شَرْطُ السَّبَبِ (كَمَا فِي خِيَارِ الشَّرْطِ) وَلاَ شَرْطُ الْحُكْمِ (كَمَا فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ) وَأَثَرُ شَرْطِ السَّلاَمَةِ يَقْتَصِرُ عَلَى مَنْعِ لُزُومِ الْعَقْدِ وَلاَ سُلْطَانَ لَهُ عَلَى مَنْعِ أَصْل حُكْمِ الْعَقْدِ (2) .
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 121، الخرشي 5 / 142، والحطاب 4 / 443.
(2) البدائع 5 / 273 - 274.

(20/129)


صِفَةُ الْعَقْدِ مَعَ خِيَارِ الْعَيْبِ:
31 - الْمِلْكُ مَعَ خِيَارِ الْعَيْبِ غَيْرُ لاَزِمٍ، لأَِنَّ السَّلاَمَةَ شَرْطٌ فِي الْعَقْدِ دَلاَلَةً، فَمَا لَمْ يُسَلَّمِ الْمَبِيعُ، لاَ يَلْزَمُ الْبَيْعُ فَلاَ يَلْزَمُ حُكْمُهُ. وَقَدِ اسْتَدَل الْكَاسَانِيُّ (1) لِكَوْنِ السَّلاَمَةِ مَشْرُوطَةً فِي الْعَقْدِ دَلاَلَةً بِأَنَّهَا فِي الْبَيْعِ مَطْلُوبَةُ الْمُشْتَرِي عَادَةً إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، لأَِنَّ غَرَضَهُ الاِنْتِفَاعُ بِالْمَبِيعِ، وَلاَ يَتَكَامَل انْتِفَاعُهُ إِلاَّ بِقَيْدِ السَّلاَمَةِ، وَلأَِنَّهُ لَمْ يَدْفَعْ جَمِيعَ الثَّمَنِ إِلاَّ لِيُسَلَّمَ لَهُ جَمِيعُ الْمَبِيعِ، فَكَانَتِ السَّلاَمَةُ مَشْرُوطَةً فِي الْعَقْدِ دَلاَلَةً (فَكَانَتْ كَالْمَشْرُوطَةِ نَصًّا) فَإِذَا فَاتَتِ الْمُسَاوَاةُ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ.

- 32 - وَلِلْفُقَهَاءِ اتِّجَاهَاتٌ ثَلاَثَةٌ فِي تَحْدِيدِ مَا يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ قِيَامِ خِيَارِ الْعَيْبِ:
1 - التَّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ هُمَا الرَّدُّ، أَوِ الإِْمْسَاكُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ. وَبِعِبَارَةٍ أَوْضَحَ هِيَ: التَّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ اثْنَيْنِ: أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَيَرُدَّ الْمَبِيعَ الْمَعِيبَ وَيَسْتَرِدَّ الثَّمَنَ، أَوْ أَنْ يُمْضِيَ الْعَقْدَ وَيُمْسِكَ الْمَعِيبَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ دُونَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِالأَْرْشِ (نُقْصَانِ الْمَعِيبِ) فَعَلَى هَذَا الاِتِّجَاهِ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُمْسِكَ الْمَعِيبَ وَيَأْخُذَ الأَْرْشَ وَهُوَ نُقْصَانُ الْمَعِيبِ، إِلاَّ فِي حَال تَعَذُّرِ الرَّدِّ بِأَحَدِ الْمَوَانِعِ الَّتِي سَتَأْتِي، فَحِينَئِذٍ لَهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 274، المبسوط 15 / 10.

(20/129)


الإِْمْسَاكُ مَعَ الأَْرْشِ لَكِنَّهُ عَلَى سَبِيل الْخُلْفِ عَنِ الرَّدِّ وَلاَ يَثْبُتُ أَصَالَةً.
وَهَذَا الاِتِّجَاهُ هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. قَال الشِّيرَازِيُّ لأَِنَّهُ لَمْ يَرْضَ إِلاَّ بِمَبِيعٍ سَلِيمٍ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى إِمْسَاكِ مَعِيبٍ بِبَعْضِ الثَّمَنِ. وَقَال الْكَاسَانِيُّ: لَوْ قَال الْمُشْتَرِي: أَنَا أُمْسِكُ الْمَعِيبَ وَآخُذُ النُّقْصَانَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لأَِنَّ قَوْلَهُ: أُمْسِكُ الْمَعِيبَ دَلاَلَةُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ. وَقَال بَعْدَئِذٍ: لأَِنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ بِالنُّقْصَانِ كَالْخُلْفِ عَنِ الرَّدِّ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الأَْصْل تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إِلَى الْخُلْفِ (1) .
2 - التَّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ اثْنَيْنِ أَيْضًا، لَكِنَّهُمَا هُنَا: الرَّدُّ - كَمَا سَبَقَ - أَوِ الإِْمْسَاكُ مَعَ الأَْرْشِ وَلَوْ لَمْ يَتَعَذَّرِ الرَّدُّ وَسَوَاءٌ رَضِيَ الْبَائِعُ بِدَفْعِ الأَْرْشِ أَوْ سَخِطَ بِهِ. فَفِي هَذَا الاِتِّجَاهِ الْفِقْهِيِّ لاَ مَكَانَ لِلإِْمْسَاكِ بِدُونِ أَرْشٍ بَل هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ.
وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ -
وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مَا إِذَا كَانَ الإِْمْسَاكُ مَعَ الأَْرْشِ يُؤَدِّي إِلَى الرِّبَا، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الرَّدِّ أَوِ الإِْمْسَاكِ مَجَّانًا، وَمِثَالُهُ: شِرَاءُ حُلِيٍّ
__________
(1) المبسوط 13 / 103، البدائع 5 / 288 و 289، فتح القدير 5 / 152، البحر الرائق 6 / 39، الفتاوى الهندية 3 / 66، نهاية المحتاج 4 / 24، المهذب للشيرازي وتكملة المجموع 12 / 165.

(20/130)


فِضَّةٍ بِزِنَتِهِ دَرَاهِمَ فِضَّةً، وَشِرَاءُ قَفِيزٍ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا، إِذَا اشْتَرَاهُ بِمِثْلِهِ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَعِيبًا، وَذَلِكَ لأَِنَّ أَخْذَ الأَْرْشِ يُؤَدِّي إِلَى رِبَا الْفَضْل، أَوْ إِلَى مَسْأَلَةِ (مُدِّ عَجْوَةٍ) (1) .
وَسَبَبُ الْخِلاَفِ النَّظَرُ إِلَى نَقْصِ الْعَيْبِ، هَل هُوَ نَقْصُ أَصْلٍ أَوْ نَقْصُ وَصْفٍ؟ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الْعَيْبِ الْكَثِيرِ) هُوَ نَقْصُ وَصْفٍ وَلِذَا يُخَيَّرُ بَيْنَ الرَّدِّ وَالإِْمْسَاكِ بِدُونِ شَيْءٍ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ هُوَ نَقْصُ أَصْلٍ، وَلِذَا يُخَيَّرُ بَيْنَ الرَّدِّ وَالإِْمْسَاكِ مَعَ الرُّجُوعِ بِالنُّقْصَانِ (2) .
3 - التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْعَيْبِ الْكَثِيرِ، وَالْعَيْبِ الْيَسِيرِ - وَيُسَمُّونَهُ غَالِبًا: الْقَلِيل الْمُتَوَسِّطَ - (بَعْدَ إِخْرَاجِ الْعَيْبِ الْقَلِيل جِدًّا الَّذِي لاَ يَنْفَكُّ عَنْهُ الْمَبِيعُ لأَِنَّهُ لاَ حُكْمَ لَهُ كَمَا قَال ابْنُ رُشْدٍ الْجَدُّ) .
فَفِي الْعَيْبِ الْكَثِيرِ - وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ حَدِّهِ، وَأَنَّ الرَّاجِحَ فِي تَقْدِيرِهِ عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ: عَشَرَةٌ فِي الْمِائَةِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ: الثُّلُثُ - لاَ يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (أَصْحَابِ الاِتِّجَاهِ الأَْوَّل) يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الرَّدِّ وَالإِْمْسَاكِ مَجَّانًا، بِلاَ أَرْشٍ، وَهَذَا الْحُكْمُ فِي الْعَيْبِ الْكَثِيرِ سَمَّاهُ ابْنُ جُزَيٍّ: (عَيْبَ رَدٍّ) .
__________
(1) المغني 4 / 109 و 111م 2999 و 3004، ومطالب أولي النهى 3 / 112، كشاف القناع 3 / 218، ومنتهى الإرادات 1 / 362.
(2) الإيضاح للشماخي 3 / 442.

(20/130)


أَمَّا فِي الْعَيْبِ الْمُتَوَسِّطِ فَالْمَشْهُورُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الأُْصُول (الْعَقَارَاتِ مِنْ دُورٍ وَنَحْوِهَا) وَبَيْنَ الْعُرُوضِ (وَهِيَ مَا عَدَا الْعَقَارِ) :
فَفِي الْعَقَارَاتِ لاَ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي الرَّدُّ بِهَذَا الْعَيْبِ الْمُتَوَسِّطِ بَل لَهُ الرُّجُوعُ بِالأَْرْشِ.
أَمَّا فِي الْعُرُوضِ، فَظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا الرَّدُّ سَوَاءٌ كَانَ الْعَيْبُ مُتَوَسِّطًا أَوْ كَثِيرًا. وَقِيل: إِنَّ الْعُرُوضَ كَالأُْصُول لاَ يَجِبُ الرَّدُّ فِي الْعَيْبِ الْمُتَوَسِّطِ وَإِنَّمَا فِيهِ الرُّجُوعُ بِالْقِيمَةِ (1) .
وَذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ الْجَدُّ أَنَّ شَيْخَهُ الْفَقِيهَ أَبَا بَكْرِ بْنَ رِزْقٍ كَانَ يَحْمِل ظَاهِرَ الرِّوَايَاتِ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْعُرُوضِ وَالأُْصُول فِي أَنَّ حُكْمَهَا الرُّجُوعُ بِالْقِيمَةِ إِذَا كَانَ الْعَيْبُ مُتَوَسِّطًا، وَأَشَارَ ابْنُ رُشْدٍ إِلَى أَنَّ لِتَأْوِيلِهِ هَذَا مَا يُؤَيِّدُهُ مِنْ رِوَايَةِ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الثِّيَابِ (2) . وَلَعَلَّهُ اسْتِنَادًا لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ كَانَ بَعْضُ شُيُوخِ ابْنِ يُونُسَ يَرَوْنَ أَنَّ الثِّيَابَ فِي ذَلِكَ كَالدُّورِ.

الرَّدُّ وَشَرَائِطُهُ
33 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْفَسْخِ أَوِ الرَّدِّ مَا يَلِي:
1 - قِيَامُ الْخِيَارِ، وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ يَقْتَضِيهَا أَنَّ
__________
(1) المقدمات 570، بداية المجتهد 2 / 178.
(2) المقدمات 570، الحطاب والمواق 4 / 435، والخرشي بحاشية العدوي 4 / 42، والدسوقي على شرح الدردير لخليل 3 / 114.

(20/131)


الْفَسْخَ فِي الْخِيَارِ إِنَّمَا هُوَ لأَِنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ لاَزِمٍ، فَإِذَا سَقَطَ الْخِيَارُ لَزِمَ الْعَقْدُ، وَالْعَقْدُ اللاَّزِمُ لاَ يَحْتَمِل الْفَسْخَ (1) .
2 - أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ مَقْبُوضًا:
وَالْمُرَادُ أَنْ لاَ يَلْحَقَ بِالْمَبِيعِ عَيْبٌ زَائِدٌ عَنِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ، فَكَمَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ غَيْرَ مَعِيبٍ بِعَيْبٍ زَائِدٍ كَعَيْبِ الشَّرِكَةِ النَّاشِئِ عَنْ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ، أَوِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ (2) .
3 - أَنْ لاَ يَتَضَمَّنَ الْفَسْخُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ قَبْل التَّمَامِ:
وَهُوَ مَا قَبْل قَبْضِ الْمَبِيعِ كُلِّهِ، لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّفْرِيقِ مِنْ عُيُوبٍ، أَحَدُهَا عَيْبُ الشَّرِكَةِ كَمَا سَيَأْتِي. قَال الْكَاسَانِيُّ: وَهَذَا الْمَنْعُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَرْضَ الْبَائِعُ، إِذْ لَوْ رَضِيَ لَجَازَ، لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ ضَرَرٌ مَرْضِيٌّ مِنْ جِهَتِهِ لاَ يَجِبُ دَفْعُهُ عَنْهُ (3) وَفِي هَذَا يَقُول ابْنُ حَجَرٍ:
__________
(1) البدائع 5 / 273 و 286 و 298، الفتاوى الهندية 3 / 81 - 82، رد المحتار 4 / 93، الخرشي 4 / 46، وغيره من شروح خليل.
(2) البدائع 5 / 283 و 284 مستخلصًا من توجيه قول أبي حنيفة في منع أحد المشترين لشيء واحد من رد نصيبه على البائع.
(3) البدائع 5 / 287، فتح القدير 5 / 175، الفتاوى الهندية 3 / 76 و 81 و 82 و83، وفيه تفصيلات دقيقة لما يعتبر صفقة واحدة يمتنع تفريقها وما ليس كذلك.

(20/131)


إِذَا اتَّحَدَ الْمَبِيعُ صَفْقَةً لاَ يَرُدُّ الْمُشْتَرِي بَعْضَهُ بِعَيْبٍ قَهْرًا، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْبَعْضُ الآْخَرُ لِلْبَائِعِ فَحِينَئِذٍ يَرُدُّ عَلَيْهِ الْبَعْضَ قَهْرًا، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ مِنَ الْقَاضِي وَمَنْ تَبِعَهُ، لأَِنَّ الْعِلَّةَ الصَّحِيحَةَ فِي امْتِنَاعِ رَدِّ الْبَعْضِ إِنَّمَا هِيَ الضَّرَرُ النَّاشِئُ مِنْ تَبْعِيضِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ. . وَالتَّعْلِيل بِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ وَتَفْرِيقِهَا بِمُجَرَّدِهِ لاَ يَصْلُحُ لِلتَّعْلِيل، وَإِنَّمَا وَجْهُ الْعِلَّةِ مَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ غَالِبًا فَآلَتِ الْعِلَّتَانِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ انْتِفَاءُ الضَّرَرِ) (1) .
34 - وَتَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْل قَبْضِ الْمَبِيعِ كُلِّهِ لاَ يَجُوزُ مَهْمَا كَانَ الْمَبِيعُ، سَوَاءٌ كَانَ شَيْئًا وَاحِدًا كَالثَّوْبِ، وَالدَّارِ، أَوِ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ فِي وِعَاءٍ أَوْ أَوْعِيَةٍ، أَوْ كَانَ شَيْئَيْنِ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا كَالثَّوْبَيْنِ وَالدَّارَيْنِ، أَمْ شَيْئَيْنِ حَقِيقَةً شَيْئًا وَاحِدًا تَقْدِيرًا كَمِصْرَاعَيْ بَابٍ. وَدَلِيل عَدَمِ جَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ قَبْل تَمَامِهَا مَا يَلْحَقُ بِالْبَائِعِ مِنْ ضَرَرٍ يَجِبُ دَفْعُهُ مَا أَمْكَنَ، وَالضَّرَرُ هُوَ إِلْزَامُ الْبَائِعِ بِالشَّرِكَةِ، وَالشَّرِكَةُ فِي الأَْعْيَانِ عَيْبٌ. هَذَا فِي تَفْرِيقِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ أَشْيَاءَ فَفِيهِ ضَرَرٌ آخَرُ وَهُوَ لُزُومُ الْبَيْعِ فِي الْجَيِّدِ بِثَمَنِ الرَّدِيءِ لأَِنَّ ضَمَّ الرَّدِيءِ إِلَى الْجَيِّدِ وَالْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي الصَّفْقَةِ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ تَرْوِيجًا لِلرَّدِيءِ بِوَسَاطَةِ الْجَيِّدِ.
وَأَمَّا اعْتِبَارُ قَبْضِ الْبَعْضِ بِمَثَابَةِ عَدَمِ الْقَبْضِ
__________
(1) الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيتمي 2 / 422 - 423.

(20/132)


فَلأَِنَّ الصَّفْقَةَ لاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِقَبْضِ جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ - وَسَوَاءٌ وُجِدَ الْعَيْبُ فِي الْمَقْبُوضِ أَوْ فِي غَيْرِهِ - وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْعَيْبُ فِي الْمَقْبُوضِ فَلَهُ رَدُّهُ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ (1) .
وَفِي تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ يَفْصِل الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ بَقَاءِ السَّالِمِ (غَيْرِ الْمَعِيبِ) وَفَوَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ فَائِتًا فَلَهُ رَدُّ الْمَعِيبِ مُطْلَقًا وَأَخْذُ حِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، لأَِنَّهُ لَوْ رَدَّ الْجَمِيعَ هُنَا رَدَّ قِيمَةَ الْهَالِكِ عَيْنًا وَرَجَعَ فِي عَيْنٍ وَهُوَ الثَّمَنُ لِلْعَيْنِ وَقِيمَةُ الْعَرْضِ الَّذِي قَدْ فَاتَ عِنْدَ الْبَائِعِ، وَرَدُّ الْعَيْنِ وَالرُّجُوعُ فِيهَا لاَ فَائِدَةَ فِيهِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ بَاقِيًا فَلَهُ رَدُّ الْبَعْضِ بِحِصَّتِهِ بِشَرِيطَتَيْنِ:
1 - أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَعِيبُ هُوَ الأَْكْثَرُ مِنَ النِّصْفِ وَلَوْ بِيَسِيرٍ، فَلَيْسَ لَهُ رَدُّهُ بِحِصَّتِهِ، بَل إِمَّا أَنْ يَتَمَاسَكَ بِالْجَمِيعِ أَوْ يَرُدَّ الْجَمِيعَ، أَوْ يَتَمَاسَكَ بِالْبَعْضِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ.
2 - أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَعِيبُ وَجْهَ الصَّفْقَةِ فَلَيْسَ لِلْمُبْتَاعِ إِلاَّ رَدُّ الْجَمِيعِ أَوِ الرِّضَا بِالْجَمِيعِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ أَحَدَ مُزْدَوَجَيْنِ (2) .
__________
(1) البدائع 5 / 287، فتح القدير 5 / 175.
(2) الخرشي 4 / 57 - 58، الدسوقي 3 / 134 - 135، المواق 4 / 459، الحطاب 4 / 459 - 460، وفيه نقلاً عن التوضيح: ولهذا كان الصحيح فيمن استهلك إحدى مزدوجين وجوب قيمتهما.

(20/132)


وَلَمْ يُصَوِّرَ الْمَالِكِيَّةُ التَّفَرُّقَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ لاِعْتِبَارِهِمْ ذَلِكَ مِنَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ (الْمُتَوَسِّطِ) وَحُكْمُهُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الإِْمْسَاكِ وَأَخْذِ أَرْشِ الْقَدِيمِ، أَوِ الرَّدِّ وَدَفْعِ أَرْشِ الْحَادِثِ مَا لَمْ يَقْبَلْهُ الْبَائِعُ بِالْحَادِثِ (1) .
35 - وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ تَفَرُّقَ الصَّفْقَةِ مَانِعٌ مِنَ الرَّدِّ قَطْعًا إِذَا كَانَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَفِي الشَّيْئَيْنِ مِمَّا يُنْقِصُهُمَا التَّفْرِيقُ، أَوْ مِمَّا لاَ يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، دَفْعًا لِضَرَرِ الْبَائِعِ. أَمَّا إِذَا كَانَا شَيْئَيْنِ مِمَّا لاَ يَنْقُصُ بِالتَّفْرِيقِ وَمَا كَانَ فِي وِعَاءَيْنِ فَهُوَ كَشَيْئَيْنِ عِنْدَهُمْ وَوَجَدَهُمَا مَبِيعَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ رَدُّ أَحَدِهِمَا عَلَى الصَّحِيحِ. قَال الْمِرْدَاوِيُّ: وَهُوَ الصَّوَابُ. فَإِنْ وَجَدَ بِأَحَدِهَا عَيْبًا فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ رَدُّ الْمَعِيبِ فَقَطْ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُخْتَارَةِ مِنْ ثَلاَثِ رِوَايَاتٍ (2) .
وَكَذَلِكَ قَال الشَّافِعِيَّةُ لاَ يَرُدُّ الْمُشْتَرِي بَعْضَ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ، وَإِنْ زَال الْبَاقِي عَنْ مِلْكِهِ وَانْتَقَل لِلْبَائِعِ، عَلَى مَا جَزَمَ بِهِ الْمُتَوَلِّي وَالسُّبْكِيُّ وَالْبَغَوِيُّ، لأَِنَّهُ وَقْتَ الرَّدِّ لَمْ يَرُدَّ كَمَا تَمَلَّكَ. وَقَال الْقَاضِي حُسَيْنُ: إِنَّ لَهُ الرَّدَّ إِذْ لَيْسَ فِيهِ تَبْعِيضٌ عَلَى الْبَائِعِ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ كَانَا شَيْئَيْنِ تَتَّصِل مَنْفَعَةُ أَحَدِهِمَا بِالآْخِرِ. أَمَّا الشَّيْئَانِ مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ -
__________
(1) الدسوقي 3 / 126، وبقية شروح خليل.
(2) المغني 4 / 121م 3017 و 3018، والفروع وتصحيحه 4 / 111 - 112، وكشاف القناع 3 / 225 - 226.

(20/133)


سَوَاءٌ كَانَا مَعِيبَيْنِ أَوْ ظَهَرَ الْعَيْبُ بِأَحَدِهِمَا - فَلَيْسَ لَهُ رَدُّ أَحَدِهِمَا بَل يَرُدُّهُمَا. وَيُفَرِّقُ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ تَعَدُّدِ الصَّفْقَةِ وَتَفَرُّدِهَا.
فَإِنْ تَعَدَّدَتِ الصَّفْقَةُ (وَذَلِكَ بِتَعَدُّدِ الْبَائِعِ أَوْ تَعَدُّدِ الْمُشْتَرِي، أَوْ تَفْصِيل الثَّمَنِ) فَلَهُ رَدُّ أَحَدِهِمَا فِي الأَْظْهَرِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَحْصُل تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ. أَمَّا إِنْ تَفَرَّدَتْ (بِعَدَمِ تَوَافُرِ شَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ تَعَدُّدِهَا) فَلَيْسَ لَهُ رَدُّ الْبَعْضِ (1) .

تَفَرُّقُ الصَّفْقَةِ بِتَعَدُّدِ الْعَاقِدِ:
36 - تَفَرُّقُ الصَّفْقَةِ لاَ تَنْحَصِرُ صُوَرُهُ فِي مَحَل الْعَقْدِ، بَل قَدْ يَنْشَأُ عَنْ تَعَدُّدِ الْعَاقِدِ. كَمَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي رَجُلَيْنِ اشْتَرَيَا شَيْئًا وَاحِدًا وَاطَّلَعَا عَلَى عَيْبٍ بِالْمَبِيعِ، فَإِنَّهُ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ دُونَ صَاحِبِهِ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَنْفَرِدُ.
وَحُجَّةُ الصَّاحِبَيْنِ أَنَّهُ رَدَّ الْمُشْتَرِي كَمَا اشْتَرَاهُ، فَالرَّدُّ صَالِحٌ فِي النِّصْفِ لأَِنَّهُ مُشْتَرٍ نِصْفَهُ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الرَّدَّ لَمْ يُوجَدْ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ مَقْبُوضًا لأَِنَّهُ قَبَضَهُ غَيْرَ مَعِيبٍ بِعَيْبٍ زَائِدٍ - وَهُوَ هُنَا عَيْبُ الشَّرِكَةِ - فَلاَ يَصِحُّ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْبَائِعِ (2) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 60، ونهاية المحتاج 4 / 25، وتكملة المجموع 12 / 155، وشرح المنهج للقاضي زكريا بحاشية الجمل 3 / 149.
(2) البدائع 5 / 283 - 284.

(20/133)


وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ قُدَامَةَ مَذْهَبَ الْحَنَابِلَةِ وَمُوَافَقَتَهُ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ فَقَال: لَوِ اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ شَيْئًا فَوَجَدَهُ مَعِيبًا فَلَهُ رَدُّهُ عَلَيْهِمَا فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا رَدَّ عَلَى الْحَاضِرِ حِصَّتَهُ بِقِسْطِهَا مِنَ الثَّمَنِ وَيَبْقَى نَصِيبُ الْغَائِبِ فِي يَدِهِ حَتَّى يَقْدَمَ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا بَاعَ الْعَيْنَ كُلَّهَا بِوَكَالَةِ الآْخَرِ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَاضِرُ الْوَكِيل أَمِ الْمُوَكِّل نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى قَرِيبٍ مِنْ هَذَا، فَإِنْ أَرَادَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا وَإِمْسَاكَ نَصِيبِ الآْخَرِ جَازَ لأَِنَّهُ يَرُدُّ عَلَى الْبَائِعِ جَمِيعَ مَا بَاعَهُ، وَلاَ يَحْصُل بِرَدِّهِ تَشْقِيصٌ، لأَِنَّ الْمَبِيعَ كَانَ مُشَقَّصًا فِي الْبَيْعِ (1) .

4 - عِلْمُ الْعَاقِدِ الآْخَرِ بِالْفَسْخِ:
37 - فَلَوْ فَسَخَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ، وَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْ فَسْخِهِ وَكَانَ ذَلِكَ الْفَسْخُ مَوْقُوفًا.
إِنْ عَلِمَ بِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ نَفَذَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى مَضَتِ الْمُدَّةُ كَانَ ذَلِكَ إِجَازَةً لِلْعَقْدِ.
وَيُعَبِّرُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَنْ شَرِيطَةِ الْعِلْمِ هَذِهِ بِقَوْلِهِمْ: أَنْ يُجِيزَ - أَوْ يَفْسَخَ - فِي حَضْرَةِ صَاحِبِهِ، وَهُمْ مُجْمِعُونَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْحَضْرَةِ الْعِلْمُ وَلَيْسَ الْحُضُورَ.
وَاشْتِرَاطُ الْعِلْمِ لِلْفَسْخِ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ. سَوَاءٌ أَكَانَ الرَّدُّ قَبْل الْقَبْضِ أَمْ بَعْدَهُ.
وَلَيْسَ الْعِلْمُ بِمُشْتَرَطٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
__________
(1) المغني 4 / 145.

(20/134)


فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى رِضَا الْبَائِعِ وَحُضُورِهِ (وَلاَ حُكْمِ حَاكِمٍ قَبْل الْقَبْضِ وَلاَ بَعْدَهُ) (1) . وَلَمْ نَجِدْ لِلْمَالِكِيَّةِ كَلاَمًا فِي هَذَا، وَالْحَنَفِيَّةُ لاَ يَشْتَرِطُونَ لِلرَّدِّ قَبْل الْقَبْضِ الْقَضَاءَ أَوِ التَّرَاضِي، أَمَّا إِذَا كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا لأَِنَّهُ قَبْل الْقَبْضِ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لاَ اعْتِبَارَ عِنْدَ رَفْعِ الْعَقْدِ لِحُضُورِ مَنْ لاَ يُعْتَبَرُ رِضَاهُ فِيهِ.
وَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَهُوَ رَفْعٌ لِعَقْدٍ مُسْتَحَقٍّ لَهُ بِالْعَيْبِ، فَلاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ رِضَا الْبَائِعِ نَظِيرَ مَا قَبْل الْقَبْضِ (2) .

كَيْفِيَّةُ الرَّدِّ:
38 - الرَّدُّ إِمَّا أَنْ يَتِمَّ بِمَحْضِ إِرَادَةِ صَاحِبِ الْخِيَارِ، وَإِمَّا أَنْ يُشْتَرَطَ لِحُصُولِهِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - وُجُودُ التَّرَاضِي بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ أَوِ التَّرَافُعُ لِلْقَضَاءِ. وَذَلِكَ يَتْبَعُ حَال الصَّفْقَةِ مِنْ حَيْثُ التَّمَامُ وَعَدَمُهُ. وَتَمَامُهَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْقَبْضِ، فَإِذَا لَمْ تَتِمَّ الصَّفْقَةُ لاَ يُشْتَرَطُ التَّرَاضِي أَوِ التَّقَاضِي. قَال الْكَاسَانِيُّ: لأَِنَّ الصَّفْقَةَ قَبْل الْقَبْضِ لَيْسَتْ تَامَّةً بَل تَمَامُهَا بِالْقَبْضِ فَكَانَ
__________
(1) البدائع 5 / 273، 286 في خيار الشرط، فتح القدير 5 / 122، الفتاوى الهندية 3 / 81 نقلاً عن الذخيرة، المغني 4 / 119م 3013، كشاف القناع 3 / 424، تكملة المجموع 12 / 157.
(2) الحطاب 4 / 159 - 160، الدسوقي 3 / 118، وما بعدها.

(20/134)


بِمَنْزِلَةِ الْقَبُول كَأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِهِ (1) .
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الصَّفْقَةُ قَدْ تَمَّتْ، فَالرَّدُّ لاَ يَكُونُ مُجَرَّدَ نَقْضٍ وَانْفِسَاخٍ تَكْفِي فِيهِ إِرَادَةُ صَاحِبِ الْخِيَارِ، بَل هُوَ فَسْخٌ لِصَفْقَةٍ تَمَّتْ فَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّرَاضِي أَوِ التَّقَاضِي، وَيُعَلِّل الْكَاسَانِيُّ ذَلِكَ بِأَنَّ الصَّفْقَةَ قَدْ تَمَّتْ بِالْقَبْضِ فَلاَ تَحْتَمِل الاِنْفِسَاخَ بِنَفْسِ الرَّدِّ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةِ الْقَضَاءِ أَوِ الرِّضَا. وَبِعِبَارَةِ السَّرَخْسِيِّ: " الْفَسْخُ بَعْدَ تَمَامِ الصَّفْقَةِ نَظِيرُ الإِْقَالَةِ، وَهِيَ لاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِاتِّفَاقِ الْعَاقِدَيْنِ " (2) وَلاَ فَرْقَ فِي الرَّدِّ بَيْنَ وُقُوعِهِ قَبْل الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُ نَوْعُ فَسْخٍ فَلاَ تُفْتَقَرُ صِحَّتُهُ إِلَى الْقَضَاءِ وَلاَ لِلرِّضَا، كَالْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ (بِالإِْجْمَاعِ) وَكَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ قَبْل الْقَبْضِ فَكَذَا بَعْدَهُ. وَلأَِنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ عِنْدَهُمْ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ، فَلَمْ يَتَفَاوَتِ الرَّدُّ (3) .

صِيغَةُ الْفَسْخِ وَإِجْرَاءَاتُهُ:
39 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - كَمَا ذَكَرْنَا - إِلَى أَنَّ الْفَسْخَ قَبْل الْقَبْضِ يَحْصُل بِالإِْرَادَةِ الْمُنْفَرِدَةِ وَالْمُرَادُ قَوْل
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 281، الفتاوى الهندية 3 / 66، فتح القدير 5 / 168.
(2) المبسوط للسرخسي 13 / 103، وكرر التشبيه بالإقالة في شرح السير الكبير 2 / 294، " الرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء يكون بمنزلة الإقالة فيه ".
(3) المهذب 1 / 284، الشرح الكبير على المقنع 4 / 86، تكملة المجموع للسبكي 12 / 157.

(20/135)


الْمُشْتَرِي رَدَدْتُ أَوْ فَسَخْتُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ. أَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَلاَ بُدَّ مِنَ الاِتِّفَاقِ بِأَنْ يَفْسَخَ صَاحِبُ الْخِيَارِ وَيَقْبَل الْعَاقِدُ الآْخَرُ أَوْ يَتَقَاضَيَانِ. قَال الْكَاسَانِيُّ (1) : (لأَِنَّ الْفَسْخَ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ الْعَقْدِ لأَِنَّهُ يَرْفَعُ الْعَقْدَ، ثُمَّ الْعَقْدُ لاَ يَنْعَقِدُ بِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَلاَ يَنْفَسِخُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ رِضَا الآْخَرِ. أَمَّا قَبْل الْقَبْضِ فَالصَّفْقَةُ لَمْ تَتِمَّ، فَكَانَ مِنَ السَّهْل الرَّدُّ لأَِنَّهُ كَالاِمْتِنَاعِ مِنَ الْقَبْضِ، وَهُوَ تَصَرُّفُ دَفْعٍ وَامْتِنَاعٍ وَذَلِكَ خَالِصُ حَقِّهِ) .
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَالْفَسْخُ يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي مَهْمَا كَانَتِ الْكَيْفِيَّةُ: فِي حُضُورِ الْبَائِعِ أَوْ غَيْبَتِهِ، بِرِضَاهُ أَوْ عَدَمِهِ، وَلاَ يَفْتَقِرُ إِلَى الْحَاكِمِ (2) وَلَكِنْ نَظَرًا لِذَهَابِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ يَثْبُتُ عَلَى الْفَوْرِ، لاَ التَّرَاخِي، وَأَنَّهُ تَجِبُ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الْفَسْخِ وَإِلاَّ سَقَطَ، فَقَدِ احْتِيجَ إِلَى الْقِيَامِ بِبَعْضِ الإِْجْرَاءَاتِ دُونَ أَنْ تَخْتَصَّ صُورَةٌ مِنْهَا بِالْوُجُوبِ، بَل يُجْزِئُ عَنْهَا مَا يُؤَدِّي الْمُرَادَ وَهُوَ إِثْبَاتُ مُبَادَرَتِهِ لِلْفَسْخِ.
وَخُلاَصَةُ هَذِهِ الإِْجْرَاءَاتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْخَصْمِ وَالْحَاكِمِ بِالْبَلَدِ وَجَبَ الذَّهَابُ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَإِنْ أَخَّرَ سَقَطَ حَقُّهُ وَإِنْ فَسَخَ، وَلَكِنْ هُنَاكَ صُورَةٌ بَدِيلَةٌ عَنِ الذَّهَابِ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 281.
(2) تكملة المجموع 12 / 157.

(20/135)


إِلَى الْبَائِعِ أَوِ الْحَاكِمِ، وَهِيَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الْفَسْخِ فَلاَ يَسْقُطُ حَقُّهُ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الذَّهَابُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلاَّ لِلتَّسْلِيمِ وَفَصْل الْخُصُومَةِ، عَلَى مَا حَقَّقَهُ السُّبْكِيُّ خِلاَفًا لِمَا تُوهِمُهُ بَعْضُ عِبَارَاتِ الْمُتُونِ (1) .

طَبِيعَةُ الرَّدِّ، وَآثَارُهَا فِي تَعَاقُبِ الْبَيْعِ
40 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الرَّدُّ بِالتَّرَاضِي بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَهُوَ فَسْخٌ فِي حَقِّهِمَا بَيْعٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، وَذَلِكَ فِي الرَّدِّ بَعْدَ الْقَبْضِ (أَمَّا قَبْل الْقَبْضِ فَهُوَ رَدٌّ بِإِرَادَةٍ مُنْفَرِدَةٍ) وَإِذَا كَانَ الرَّدُّ بِالْقَضَاءِ كَانَ فَسْخًا فِي حَقِّهِمَا وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمَا. أَمَّا عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ فَالْفَسْخُ رَفْعٌ لِلْعَقْدِ مِنْ أَصْلِهِ مُطْلَقًا (2) .
وَيَظْهَرُ أَثَرُ هَذِهِ الطَّبِيعَةِ فِي حَال تَعَاقُبِ بَيْعَيْنِ عَلَى الْمَعِيبِ بِعَيْبٍ قَدِيمٍ، حَيْثُ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَبُول الرَّدِّ مِنَ الْبَائِعِ الثَّانِي حَصَل بِالتَّرَاضِي أَوْ بِالْقَضَاءِ، فَإِنْ تَمَّ بِالْقَضَاءِ بِإِقَامَةِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 57، وشرح المنهج بحاشية الجمل 3 / 143، تكملة المجموع 12 / 139 - 150، وأسهب كثيرًا في بيان الوجوه والتأويلات حتى تعذر استخلاص المذهب مما ذكره إلا عن طريق الكتب المؤلفة بعده والمعتمدة على ما فيه، ولم يتعرض الحنابلة لذلك كله؛ لأن الخيار عندهم على التراخي.
(2) الهندية 3 / 66، نقلاً عن السراج الوهاج، تكملة المجموع 12 / 157، فتح القدير 5 / 165.

(20/136)


الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّ الْعَيْبَ كَانَ عِنْدَهُ بَعْدَمَا أَنْكَرَ الْعَيْبَ. أَوْ بِنُكُولِهِ عَنِ الْيَمِينِ عَلَى الْعَيْبِ، أَوْ بِإِقْرَارِهِ بِالْعَيْبِ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ، وَالْمَقْصُودُ صُدُورُ إِقْرَارٍ مِنْهُ ثُمَّ إِنْكَارُهُ، فَيُقِيمُ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ الإِْقْرَارِ (أَمَّا الإِْقْرَارُ الْمُبْتَدَأُ فَلاَ حَاجَةَ مَعَهُ إِلَى الْقَضَاءِ أَصْلاً) فَفِي هَذِهِ الْحَال لِلْبَائِعِ الثَّانِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ الأَْوَّل فَيُخَاصِمَهُ وَيَفْعَل الإِْجْرَاءَاتِ الْوَاجِبَةَ لِرَدِّهِ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ قَبُول الْمُشْتَرِي الأَْوَّل لِلرَّدِّ بِغَيْرِ الْقَضَاءِ بَل بِرِضَاهُ فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ عَلَى بَائِعِهِ، لأَِنَّ الرَّدَّ بِالتَّرَاضِي بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ - أَوْ كَمَا يُعَبِّرُونَ: فِي حَقِّ الثَّالِثِ - وَالْبَائِعُ الأَْوَّل هُنَا غَيْرُ الْمُشْتَرِي الأَْوَّل وَالْمُشْتَرِي الثَّانِي، كَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الأَْوَّل اشْتَرَاهُ مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، وَفِي هَذِهِ الْحَال لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ الأَْوَّل.
وَلأَِنَّهُ إِذَا قَبِلَهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَقَدْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ فَلاَ يَرُدُّهُ عَلَى بَائِعِهِ الأَْوَّل، وَلاَ يُقَال: إِنَّهُمَا بِالتَّرَاضِي عَلَى الرَّدِّ فَعَلاَ عَيْنَ مَا يَفْعَلُهُ الْقَاضِي، لأَِنَّ الْحُكْمَ الأَْصْلِيَّ فِي هَذَا هُوَ الْمُطَالَبَةُ بِالسَّلاَمَةِ مِنَ الْعَيْبِ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَى الرَّدِّ لِلْعَجْزِ، فَإِذَا نَقَلاَهُ إِلَى الرَّدِّ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، أَلاَ يُرَى أَنَّ الرَّدَّ إِذَا امْتَنَعَ وَجَبَ الرُّجُوعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ (1) .
41 - هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا كَانَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ مِنَ
__________
(1) فتح القدير 5 / 167 - 168.

(20/136)


الْمُشْتَرِي الثَّانِي بَعْدَ قَبْضِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ قَبْل قَبْضِهِ فَلِلْمُشْتَرِي الأَْوَّل أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ الأَْوَّل سَوَاءٌ كَانَ بِقَضَاءٍ أَمْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ - كَمَا لَوْ بَاعَ الْمُشْتَرِي الأَْوَّل لِلْمُشْتَرِي الثَّانِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ - أَوْ بَيْعًا فِيهِ خِيَارُ رُؤْيَةٍ فَإِنَّهُ إِذَا فَسَخَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِحُكْمِ الْخِيَارِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي الأَْوَّل أَنْ يَرُدَّهُ مُطْلَقًا. قَال فِي الإِْيضَاحِ: (الْفِقْهُ فِيهِ أَنَّهُ قَبْل الْقَبْضِ لَهُ الاِمْتِنَاعُ مِنَ الْقَبْضِ عِنْدَ الاِطِّلاَعِ عَلَى الْعَيْبِ، فَكَانَ هَذَا تَصَرُّفُ دَفْعٍ وَامْتِنَاعٍ مِنَ الْقَبْضِ، وَوِلاَيَةُ الدَّفْعِ عَامَّةٌ فَظَهَرَ أَثَرُهُ فِي حَقِّ الْكُل وَلِهَذَا لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ) (1) .
وَتَعَرَّضَ ابْنُ قُدَامَةَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَذَكَرَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ الأَْوَّل إِنْ عَادَ الْمَعِيبُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُشْتَرِي (الثَّانِي) فَأَرَادَ رَدَّهُ بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ حِينَ بَاعَهُ عَالِمًا بِالْعَيْبِ، أَوْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يَدُل عَلَى رِضَاهُ فَلَيْسَ لَهُ رَدُّهُ، لأَِنَّ تَصَرُّفَهُ رِضًا بِالْعَيْبِ. وَإِلاَّ كَانَ لَهُ رَدُّهُ. . سَوَاءٌ رَجَعَ إِلَى الْمُشْتَرِي الأَْوَّل بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ أَوْ بِإِقَالَةٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ شِرَاءٍ ثَانٍ، أَوْ مِيرَاثٍ (2) .

الإِْمْسَاكُ مَعَ الأَْرْشِ (أَوِ الرُّجُوعُ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ) (3)
42 - هُنَاكَ أُمُورٌ تَطْرَأُ عَلَى الْمَبِيعِ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ
__________
(1) فتح القدير 5 / 168.
(2) المغني 4 / 248.
(3) الأرش: هو في اللغة دية الجراحات، وأصله من الفساد، يقال: أرّشت الحرب والنار إذا أوريتهما، والتأريش بين القوم: الإفساد بينهم، ولما كان نقصان الأعيان فسادًا فيها سمي نقصان الثمن: الأرش. وهو في الشرع عبارة عن الشيء المقدر الذي يحصل به الجبر عن الفائت والمغرب للمطرزي، والقاموس، تكملة المجموع للسبكي 12 / 167) .

(20/137)


نُقْصَانٍ أَوْ تَصَرُّفٍ تَمْنَعُ رَدَّ الْمَبِيعِ، وَحِينَئِذٍ يَنْتَقِل حَقُّ الْمُشْتَرِي مِنَ الرَّدِّ إِلَى الرُّجُوعِ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ، عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ فِي هَذَا الْمُوجِبِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمُوجِبُ بَدِيلاً عَنِ الْخِيَارِ بَيْنَ الرَّدِّ وَالإِْمْسَاكِ (الَّذِي هُوَ الأَْصْل) أَمْكَنَ تَسْمِيَتُهُ (الْمُوجِبَ الْخَلَفِيَّ) وَكَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ لاَ يَجْتَمِعُ الْخَلَفُ وَالأَْصْل بَل يَتَعَاقَبَانِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ الأَْصْل يُصَارُ إِلَى مَا هُوَ خَلَفٌ لَهُ.
هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَقَدْ عَرَّفَ غَيْرُهُمْ هَذَا الْمُوجِبَ مَعَ اخْتِلاَفِ الْمَجَال، فَالْمَالِكِيَّةُ حِينَ جَعَلُوا الْعُيُوبَ أَنْوَاعًا ثَلاَثَةً: الْعَيْبُ الْيَسِيرُ (لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ) ، وَعَيْبُ الرَّدِّ (وَهُوَ الْفَاحِشُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ الرَّدِّ وَالإِْمْسَاكِ بِلاَ أَرْشٍ) ، وَعَيْبُ الْقِيمَةِ، أَرَادُوا بِهَذَا الأَْخِيرِ الْعَيْبَ الْمُتَوَسِّطَ الَّذِي يُنْقِصُ مِنَ الثَّمَنِ، وَمُوجِبُ عَيْبِ الْقِيمَةِ أَنْ يَحُطَّ عَنِ الْمُشْتَرِي مِنَ الثَّمَنِ بِقَدْرِ نَقْصِ الْعَيْبِ، فَمِثْل هَذَا النَّوْعِ نُقْصَانُ الثَّمَنِ هُوَ مُوجِبُهُ الأَْصْلِيُّ.
كَمَا أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يُثْبِتُونَ الْخِيَرَةَ لِلْمُشْتَرِي بَيْنَ الإِْمْسَاكِ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ أَوِ الرَّدِّ وَلَوْ لَمْ يَتَعَذَّرَ

(20/137)


الرَّدُّ (1) . فَهَذَا هُوَ الْمُوجِبُ الأَْصْلِيُّ لِلْخِيَارِ عِنْدَهُمْ، أَمَّا الْمُوجِبُ الْخَلَفِيُّ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ بِسَبَبِ عَيْبٍ حَادِثٍ فَهُوَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الرَّدِّ وَإِعْطَاءِ أَرْشِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ وَبَيْنَ الإِْمْسَاكِ وَأَخْذِ أَرْشِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ. وَهُوَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا.
طَرِيقَةُ مَعْرِفَةِ الأَْرْشِ (2) :
43 - هِيَ أَنْ يُقَوَّمَ الْمَبِيعُ بِلاَ عَيْبٍ، ثُمَّ يُقَوَّمُ مَعَ الْعَيْبِ وَيُنْظَرُ إِلَى التَّفَاوُتِ وَتُؤْخَذُ نِسْبَتُهُ إِلَى الْقِيمَةِ هَل هُوَ عُشْرٌ أَوْ ثُمُنٌ أَوْ رُبْعٌ. . إِلَخْ. فَإِنْ كَانَ التَّفَاوُتُ عُشْرَ الْقِيمَةِ رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِعُشْرِ الثَّمَنِ (3) . وَهَكَذَا (4) .
قَال صَاحِبُ الأَْشْبَاهِ: وَلَمْ يَذْكُرْ قَاضِي خَانْ
__________
(1) القوانين الفقهية 258، وذكر أن هذا التقسيم في غير الحيوان، وأما فيه فيرد بكل ما يحط من القيمة. المغني 4 / 111م 3003، كشاف القناع 3 / 224، الفروع 4 / 106 بداية المجتهد 2 / 177، المقدمات 570، الخرشي 4 / 42، الحطاب والمواق 4 / 434، الدسوقي 3 / 114.
(2) للأرش مباحث مفصلة في تكملة المجموع للسبكي 12 / 265 - 294 و 12 / 303 - 309.
(3) لما كانت الأثمان قديمًا هي الذهب والفضة وما شابهها، فقد تعرض بعض الفقهاء إلى أن الأرش هل يؤخذ من (عين الثمن) أو يدفعه البائع من حيث شاء؟ وللحنابلة فيه احتمالان، وصحح ابن نصر الله الاحتمال الثاني بترك الأمر للبائع، قال في تصحيح الفروع: وهو ظاهر كلام
(4) فتح القدير 6 / 12، الفتاوى الهندية 3 / 83، المغني 4 / 111، تكملة المجموع 12 / 265، وترتيب الأشباه والنظائر 262.

(20/138)


وَلاَ الزَّيْلَعِيُّ وَلاَ ابْنُ الْهُمَامِ هَل الْقِيمَةُ (الَّتِي يُنْسَبُ إِلَيْهَا النُّقْصَانُ) يَوْمَ الْعَقْدِ أَوِ الْقَبْضِ؟ وَيَنْبَغِي اعْتِبَارُهَا يَوْمَ الْعَقْدِ.
وَفِي الْمُغْنِي أَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ قَال: يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ فِي الثَّمَنِ يَوْمَ اشْتَرَاهُ قَال أَحْمَدُ: هَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ. وَقَال فِي شَرْحِ الرَّوْضِ " هُوَ أَقَل قِيمَتَيْ وَقْتِ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ " (1) .

مَوَانِعُ الرَّدِّ:
44 - تَنْقَسِمُ مَوَانِعِ الرَّدِّ إِلَى مَانِعٍ طَبِيعِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ أَوْ عَقْدِيٍّ.

أَوَّلاً - الْمَانِعُ الطَّبِيعِيُّ:
45 - ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّ هَلاَكَ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ يَمْنَعُ الرَّدَّ، لِفَوَاتِ مَحَل الرَّدِّ، وَلاَ يَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِشَيْءٍ مِنَ الثَّمَنِ، لأَِنَّهُ يَحْمِل تَبِعَةَ الْهَلاَكِ قَبْل الْقَبْضِ. أَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَقَدْ أَفَادَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ أَنَّ مَوْتَ مَحَل الرَّدِّ بِيَدِ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ الرَّدَّ وَيَجْعَل مُوجِبَ الْخِيَارِ الرُّجُوعُ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ هَلاَكَ الْمَبِيعِ بِسَبَبٍ سَمَاوِيٍّ
__________
(1) ترتيب الأشباه والنظائر 262، المغني 4 / 112، شرح الروض 2 / 63، وتكملة المجموع 12 / 272.

(20/138)


يَمْتَنِعُ مَعَهُ الْمُوجِبُ الأَْصْلِيُّ الَّذِي هُوَ الرَّدُّ لِيَحِل مَحَلَّهُ الْمُوجِبُ الْخَلَفِيُّ (نُقْصَانُ الثَّمَنِ) .
وَيَسْتَوِي فِي الْهَلاَكِ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبٍ سَمَاوِيٍّ أَوْ بِاسْتِهْلاَكِ الْمُشْتَرِي لَهُ عَلَى سَبِيل الاِسْتِعْمَال وَالاِنْتِفَاعِ الْمَشْرُوعِ، لاَ الإِْتْلاَفِ، وَذَلِكَ بِأَكْل الطَّعَامِ أَوْ لُبْسِ الثَّوْبِ حَتَّى يَتَخَرَّقَ، وَفِي هَذَا النَّوْعِ خِلاَفٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَاعْتِبَارُهُ فِي مَوَانِعِ الرَّدِّ دُونَ الأَْرْشِ هُوَ مَذْهَبُ الصَّاحِبَيْنِ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ صَنَعَ بِالْمَبِيعِ مَا يُقْصَدُ بِشِرَائِهِ وَيُعْتَادُ فِعْلُهُ فِيهِ مِنَ الأَْكْل وَاللُّبْسِ حَتَّى انْتَهَى الْمِلْكُ بِهِ. وَلأَِبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِفِعْلٍ مَضْمُونٍ مِنْهُ لَوْ وُجِدَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، وَقَدِ انْتَفَى الضَّمَانُ لِمِلْكِهِ فَكَانَ كَالْمُسْتَفِيدِ بِهِ عِوَضًا. وَإِنِ اقْتَصَرَ الاِسْتِهْلاَكُ عَلَى بَعْضِهِ، فَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ فِي الأَْكْل وَفِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ يَرُدُّ مَا بَقِيَ وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ مَا أَكَل (1) .
وَمِثْل الْهَلاَكِ فِي امْتِنَاعِ الرَّدِّ: انْتِهَاءُ الْمِلْكِ عَنِ الشَّيْءِ بِالْمَوْتِ، لأَِنَّهُ يَنْتَهِي بِهِ الْمِلْكُ لاَ بِفِعْل الْمُشْتَرِي، فَيَمْتَنِعُ الرَّدُّ حُكْمًا وَيَبْقَى لَهُ الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ.
وَقَدْ سَوَّى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ هَلاَكِ
__________
(1) البدائع 5 / 283، فتح القدير 5 / 161 - 163، رد المحتار 4 / 82 - 83، تبيين الحقائق 4 / 35، مغني المحتاج 2 / 54، الخرشي 5 / 138، كشاف القناع 2 / 63.

(20/139)


الْمَعِيبِ بِالْعَيْبِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَهُمَا، فَوَافَقُوهُمْ فِي الرُّجُوعِ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ فِي الْهَلاَكِ بِغَيْرِ الْعَيْبِ الْمُدَلَّسِ، أَمَّا فِيهِ فَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ (1) . أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَالتَّفْرِقَةُ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ بِحَسَبِ الْهَلاَكِ بِالْعَيْبِ أَوْ غَيْرِهِ بَل بِحَسَبِ وُقُوعِ التَّدْلِيسِ وَعَدَمِهِ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ سَيِّئَ النِّيَّةِ وَدَلَّسَ الْعَيْبَ ثُمَّ هَلَكَ الْمَبِيعُ بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ فَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يُدَلِّسَ الْبَائِعُ فَرُجُوعُهُ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ فَقَطْ. وَيَرْبِطُ الْمَالِكِيَّةُ مِقْدَارَ الْجَزَاءِ بِأَثَرِ الْعَمَل، فَلاَ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْعَيْبُ الْمُدَلَّسُ هُوَ الَّذِي أَوْدَى بِالْمَبِيعِ (2) . وَيُسَمِّي الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِالْفَوْتِ وَيُقَسِّمُونَهُ إِلَى فَوْتٍ حِسِّيٍّ، وَفَوْتٍ حُكْمِيٍّ (3) .

ثَانِيًا - الْمَانِعُ الشَّرْعِيُّ:
46 - هَذَا الْمَانِعُ عِبَارَةٌ عَنْ حُصُول زِيَادَةٍ فِي الْمَبِيعِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنْ تَكُونَ زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً (بَعْدَ الْقَبْضِ) أَوْ مُتَّصِلَةً غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ (مُطْلَقًا، قَبْل الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ) فَظُهُورُ الزِّيَادَةِ
__________
(1) البحر الرائق 6 / 39، فتح القدير 5 / 161، مغني المحتاج 2 / 54، المهذب 1 / 291، نهاية المحتاج 4 / 24.
(2) المغني 4 / 135، كشاف القناع 3 / 180 " سواء تعيّب المبيع عند المشتري أو تلف بفعل الله كالمرض، أو بفعل المشتري مما هو مأذون شرعًا ".
(3) الخرشي 4 / 48، الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 124.

(20/139)


بَعْدَمَا ظَهَرَ عَيْبٌ فِي الْمَبِيعِ يَمْتَنِعُ بِهِ الرَّدُّ وَلَوْ قَبِل الْبَائِعُ، لأَِنَّ الْمَنْعَ لِحَقِّ الشَّرْعِ. وَفِيمَا يَأْتِي تَفْصِيل هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ الْمَانِعَتَيْنِ مِنَ الرَّدِّ وَالنَّاقِلَتَيْنِ الْمُوجِبَ إِلَى الأَْرْشِ.
أَوَّلاً - الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ (مُطْلَقًا: قَبْل الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ) كَالصَّبْغِ وَالْخِيَاطَةِ فِي الثَّوْبِ، وَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ فِي الأَْرْضِ، لأَِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ تَابِعَةً، بَل هِيَ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا فَتَعَذَّرَ مَعَهَا رَدُّ الْمَبِيعِ، إِذْ لاَ يُمْكِنُ رَدُّهُ بِدُونِ الزِّيَادَةِ لِتَعَذُّرِ الْفَصْل، وَلاَ يُمْكِنُ رَدُّهُ مَعَ الزِّيَادَةِ، لأَِنَّهَا لَيْسَتْ تَابِعَةً فِي الْعَقْدِ فَلاَ تَكُونُ تَابِعَةً فِي الْفَسْخِ (إِلاَّ إِنْ تَرَاضَيَا عَلَى الْفَسْخِ فَهُوَ إِقَالَةٌ وَكَبَيْعٍ جَدِيدٍ) وَلَوْ قَال الْبَائِعُ: أَنَا أَقْبَلُهُ كَذَلِكَ، وَرَضِيَ الْمُشْتَرِي لاَ يَجُوزُ أَيْضًا، لأَِنَّ الْمَنْعَ لِحَقِّ الشَّرْعِ لاِسْتِلْزَامِهِ الرِّبَا.
ثَانِيًا - الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ، بَعْدَ الْقَبْضِ خَاصَّةً، كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ. وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ أَيْضًا لأَِنَّ الزِّيَادَةَ مَبِيعَةٌ تَبَعًا لِثُبُوتِ حُكْمِ الأَْصْل وَحَصَلَتْ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ رَدَّهَا مَعَ الأَْصْل كَانَتْ لِلْبَائِعِ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَإِنِ اسْتَبْقَاهَا وَرَدَّ الأَْصْل فَإِنَّهَا تَبْقَى فِي يَدِهِ بِلاَ ثَمَنٍ، وَهَذَا مِنْ صُوَرِ الرِّبَا.
وَخَالَفَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَعَدَّهَا كَالْكَسْبِ، لإِِمْكَانِ الْفَصْل عَنِ الأَْصْل بِدُونِهَا،

(20/140)


وَالزِّيَادَةُ لِلْمُشْتَرِي، فَهِيَ لاَ تَمْنَعُ الرَّدَّ (1) .
47 - أَمَّا صُوَرُ الزِّيَادَةِ الأُْخْرَى فَلاَ تَمْنَعُ الرَّدَّ، وَلِذَا لاَ رُجُوعَ مَعَهَا بِالأَْرْشِ، وَهِيَ:
1 - الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ، كَالْكِبَرِ وَالسِّمَنِ، وَمِنْهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْجَنِينُ قَبْل الْوَضْعِ وَالثَّمَرَةُ قَبْل التَّأْبِيرِ. وَهِيَ لاَ تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِرَدِّهَا مَعَ الأَْصْل وَإِنْ أَبَى الْمُشْتَرِي الرَّدَّ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِالأَْرْشِ خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ.
وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ الزِّيَادَةَ تَمَحَّضَتْ تَابِعَةً لِلأَْصْل بِتَوَلُّدِهَا مِنْهُ مَعَ عَدَمِ انْفِصَالِهَا فَكَأَنَّ الْفَسْخَ لَمْ يَرِدْ عَلَى زِيَادَةٍ أَصْلاً - كَمَا قَال ابْنُ الْهُمَامِ - أَوْ كَمَا قَال الْكَاسَانِيُّ: كَانَتِ الزِّيَادَةُ مَبِيعَةً تَبَعًا، وَمَا كَانَ تَبَعًا فِي الْعَقْدِ يَكُونُ تَبَعًا فِي الْفَسْخِ. وَلاَ فَرْقَ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ بَيْنَ أَنْ تَحْدُثَ قَبْل الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ (2) .
__________
(1) البدائع 5 / 285 - 286، فتح القدير 160 - 161، رد المحتار 4 / 80 - 81، الفتاوى الهندية 3 / 77، تكملة المجموع 12 / 254.
(2) البدائع 5 / 284، فتح القدير 5 / 161، المغني 4 / 130. وقد جاء حكم هذه الصورة عند ابن الهمام موهمًا العكس، حيث قال: " وهي تمنع الرد لتعذر الفسخ عليها؛ لأن العقد لم يرد عليها، ولا يمكن التبعية للانفصال " ثم قال بعد: " فيكون المشتري بالخيار قبل القبض إن شاء ردهما جميعًا، وإن شاء رضي بهما بجميع الثمن ". والفتح 5 / 161 تفصيلات بشأن وجود عيب بالزيادة وحدها، وفروع أخرى تنظر هناك.

(20/140)


2 - الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ: قَبْل الْقَبْضِ كَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ وَالثَّمَرِ فِي بَيْعِ الشَّجَرِ وَهِيَ لاَ تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ، لَكِنْ لاَ يُرَدُّ الأَْصْل وَحْدَهُ، بَل إِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي رَدَّهُمَا جَمِيعًا وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُرَدُّ الأَْصْل دُونَ الزِّيَادَةِ، فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي.
3 - الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ، كَالْغَلَّةِ وَالْكَسْبِ، وَهِيَ لاَ تَمْنَعُ مِنَ الرَّدِّ وَهُوَ الْحُكْمُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَيُفْسَخُ الْعَقْدُ فِي الأَْصْل دُونَ الزِّيَادَةِ وَيُسَلَّمُ الْكَسْبُ لِلْمُشْتَرِي لأَِنَّهُ حَصَل فِي ضَمَانِهِ، وَدَلِيل ذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ قَوْل الْبَائِعِ: إِنَّهُ اسْتَغَل غُلاَمَهُ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ (1) وَلأَِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ وَإِنَّمَا هِيَ مَمْلُوكَةٌ بِمِلْكِ الأَْصْل، فَبِالرَّدِّ يُفْسَخُ الْعَقْدُ فِي الأَْصْل وَتَبْقَى الزِّيَادَةُ مَمْلُوكَةً لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ ثَمَنٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (لَكِنَّهَا لاَ تَطِيبُ لَهُ، لأَِنَّهَا وَإِنْ حَدَثَتْ عَلَى مِلْكِهِ هِيَ رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ، وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ: الزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ وَلاَ تَطِيبُ لَهُ) هَذَا إِذَا اخْتَارَ الرَّدَّ، أَمَّا إِنْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ وَاخْتَارَ الْبَيْعَ فَالزِّيَادَةُ لاَ تَطِيبُ لَهُ بِلاَ خِلاَفٍ لأَِنَّهَا رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلأَِنَّهَا زِيَادَةٌ لاَ يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فِي الْعَقْدِ وَهُوَ رِبًا، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْكَسْبُ لِلْمُشْتَرِي بِمُقَابَلَةِ ضَمَانِهِ، دُونَ فَرْقٍ بَيْنَ مَا يَقْبَل الْقَبْضَ أَوْ بَعْدَهُ.
__________
(1) حديث: " الخراج بالضمان ". تقدم تخريجه ف / 2.

(20/141)


48 - هَذَا إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ قَائِمَةً فَإِنْ هَلَكَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَمْ يَتَغَيَّرَ الْحُكْمُ، وَإِنْ هَلَكَتْ بِفِعْل الْمُشْتَرِي فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْقَبُول وَرَدِّ جَمِيعِ الثَّمَنِ وَبَيْنَ الرَّفْضِ وَرَدِّ النُّقْصَانِ، وَإِنْ هَلَكَتْ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ امْتَنَعَ الرَّدُّ (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ قَال الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ إِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ:
1 - زِيَادَةٌ لِحَوَالَةِ الأَْسْوَاقِ.
2 - وَزِيَادَةٌ فِي حَالَةِ الْبَيْعِ وَكِلاَهُمَا لاَ يُعْتَبَرُ وَلاَ يُوجِبُ لِلْمُبْتَاعِ خِيَارًا. صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْعُيُوبِ مِنَ الْمُدَوَّنَةِ فَقَال فِي أَوَّلِهِ وَلاَ يُفِيتُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ حَوَالَةَ الأَْسْوَاقِ.
3 - وَزِيَادَةٌ فِي عَيْنِ الْمَبِيعِ بِنَمَاءٍ حَادِثٍ فِيهِ كَالدَّابَّةِ تَسْمَنُ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ مُضَافٍ إِلَيْهِ كَالْوَلَدِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ.
4 - وَزِيَادَةٌ مُضَافَةٌ لِلْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ مِثْل أَنْ يَشْتَرِيَ النَّخْل وَلاَ ثَمَرَ فِيهِ فَتُثْمِرَ عِنْدَهُ ثُمَّ يَجِدَ عَيْبًا، فَهَذَا لاَ اخْتِلاَفَ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يُوجِبُ لَهُ خِيَارًا، وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ النَّخْل وَثَمَرَتَهَا مَا لَمْ يَطِبْ وَيَرْجِعَ بِالْعِلاَجِ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَوْ يُمْسِكَ وَلاَ شَيْءَ لَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَقَوْلُهُ مَا لَمْ يَطِبْ أَيْ مَا لَمْ تُزْهُ.
5 - وَزِيَادَةٌ أَحْدَثَهَا الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ مِنْ صَنْعَةٍ
__________
(1) البدائع 5 / 284 - 285، المغني 4 / 130 تكملة المجموع 12 / 254.

(20/141)


مُضَافَةٍ إِلَيْهِ كَالصَّبْغِ وَالْخِيَاطَةِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِمَّا لاَ يَنْفَصِل عَنْهُ إِلاَّ بِفَسَادٍ، فَلاَ اخْتِلاَفَ أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ لَهُ الْخِيَارَ بَيْنَ أَنْ يَتَمَسَّكَ وَيَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ أَوْ يَرُدَّ وَيَكُونَ شَرِيكًا لَهُ، وَنَحْوُهُ لِلْبَاجِيِّ. فِي الْمُنْتَقَى وَذَكَرَ الْبَاجِيُّ خَمْسَةَ الأَْوْجُهِ.
49 - قَال الْحَطَّابُ: وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّقْوِيمِ فَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ غَازِيٍّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إِذَا حَدَثَتْ زِيَادَةٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَحْدُثْ عِنْدَهُ عَيْبٌ فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ، فَإِنِ اخْتَارَ الإِْمْسَاكَ فَيُقَوَّمُ الْمَبِيعُ تَقْوِيمَيْنِ، يُقَوَّمُ سَالِمًا، ثُمَّ مَعِيبًا، وَيَأْخُذُ مِنَ الثَّمَنِ بِنِسْبَةِ ذَلِكَ، وَإِنِ اخْتَارَ الرَّدَّ قُوِّمَ تَقْوِيمَيْنِ أَيْضًا فَيُقَوَّمُ بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ غَيْرَ مَصْبُوغٍ ثُمَّ يُقَوَّمُ مَصْبُوغًا، فَمَا زَادَتْ قِيمَتُهُ مَصْبُوغًا عَلَى قِيمَتِهِ غَيْرَ مَصْبُوغٍ نُسِبَ إِلَى قِيمَتِهِ مَصْبُوغًا وَكَانَ الْمُشْتَرِي شَرِيكًا فِي الثَّوْبِ بِنِسْبَتِهِ، كَمَا إِذَا قُوِّمَ غَيْرَ مَصْبُوغٍ بِثَمَانِينَ، وَقُوِّمَ مَصْبُوغًا بِتِسْعِينَ، فَيَنْسِبُ الْعَشَرَةَ الزَّائِدَةَ إِلَى تِسْعِينَ فَتَكُونُ تِسْعًا فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي شَرِيكًا فِي الثَّوْبِ بِالتِّسْعِ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ مَصْبُوغًا وَغَيْرَ مَصْبُوغٍ يَوْمَ الْبَيْعِ عِنْدَ ابْنِ يُونُسَ، وَيَوْمَ الْحُكْمِ عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ، وَأَمَّا إِذَا حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَيْبٌ وَزِيَادَةٌ فَإِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الإِْمْسَاكَ قُوِّمَ الْمَبِيعُ تَقْوِيمَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنِ اخْتَارَ الرَّدَّ فَقَال ابْنُ الْحَاجِبِ: لاَ بُدَّ مِنْ أَرْبَعِ تَقْوِيمَاتٍ، يُقَوَّمُ سَالِمًا ثُمَّ بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ، ثُمَّ بِالْحَادِثِ، ثُمَّ بِالزِّيَادَةِ، وَقَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: لاَ حَاجَةَ إِلَى تَقْوِيمِهِ سَالِمًا وَلاَ إِلَى

(20/142)


تَقْوِيمِهِ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ وَإِنَّمَا يُقَوَّمُ بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ ثُمَّ بِالزِّيَادَةِ فَيُشَارِكُ فِي الْمَبِيعِ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ (1) .

ثَالِثًا - الْمَانِعُ الْعَقَدِيُّ: (الْعَيْبُ الْحَادِثُ)
50 - الْعَقْدُ الْمُبْرَمُ بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ يَقُومُ عَلَى الاِلْتِزَامِ بِمَا أَلْزَمَ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا نَفْسَهُ مِنْ مَبِيعٍ وَثَمَنٍ، بِمُوجَبِ الْعَقْدِ، وَلِذَا كَانَ حَقُّ الرَّدِّ لِلْمَعِيبِ مُقَيَّدًا بِأَنْ لاَ يَقَعَ مَا يُخِل بِالاِلْتِزَامَاتِ الْمُوَزَّعَةِ فِي الْعَقْدِ، فَإِذَا تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ حَادِثٍ، سَوَاءٌ كَانَ بِفِعْل الْمُشْتَرِي أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْل الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ ذَا حَيَاةٍ، فَإِنَّ الرَّدَّ لِلْمَعِيبِ - وَهُوَ الْمُوجِبُ الأَْصْلِيُّ - يَمْتَنِعُ، وَيَنْتَقِل إِلَى الْمُوجِبِ الْخَلَفِيِّ وَهُوَ الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ لأَِنَّ شَرْطَ الرَّدِّ أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ عِنْدَ الرَّدِّ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا عِنْدَ الْقَبْضِ وَلَمْ يُوجَدْ لِخُرُوجِهِ مَعِيبًا بِعَيْبٍ وَاحِدٍ فَقَطْ، وَلأَِنَّ فِي الرَّدِّ إِضْرَارًا بِالْبَائِعِ وَهُوَ إِخْلاَلٌ بِطَبِيعَةِ الْعَقْدِ، لأَِنَّ الْمَبِيعَ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ سَالِمًا مِنَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ فَلَوْ أُلْزِمَ بِهِ مَعِيبًا تَضَرَّرَ، لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ يَضْمَنُ الْعَيْبَ الْقَدِيمَ لاَ يَضْمَنُ الْحَادِثَ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَالْمَبِيعُ بِيَدِ الْمُشْتَرِي فَانْعَدَمَ شَرْطُ الرَّدِّ، وَبِمَا أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمُشْتَرِي لِمُقَابَلَةِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ الَّذِي صَارَ مُسْتَحِقًّا لَهُ
__________
(1) الحطاب 4 / 447، المقدمات لابن رشد 2 / 571 - 574 الطبعة الأولى.

(20/142)


بِالْعَقْدِ فَقَدْ تَعَيَّنَ الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ وَرَدِّ حِصَّةِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ بِالثَّمَنِ
وَلَمْ يَجْعَل الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ لِلْمُشْتَرِي حَقَّ الرَّدِّ لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ هُوَ السَّبَبُ بِالْعَجْزِ عَنِ الرَّدِّ بِمَا بَاشَرَهُ فِي الْبَيْعِ - أَوْ بِمَا حَصَل فِيهِ عَلَى ضَمَانِهِ - وَفِي إِلْزَامِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ إِضْرَارٌ بِالْبَائِعِ لاَ لِفِعْلٍ بَاشَرَهُ (وَتَقْصِيرُهُ بِعَدَمِ بَيَانِ الْعَيْبِ لاَ يَمْنَعُ عِصْمَةَ مَالِهِ) فَكَانَ الأَْنْظَرُ لِلطَّرَفَيْنِ هُوَ دَفْعَ الأَْرْشِ لِلْعَيْبِ الْقَدِيمِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لِلْحَنَابِلَةِ - يُخَيَّرُ بَيْنَ الإِْمْسَاكِ وَأَخْذِ أَرْشِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ وَبَيْنَ الرَّدِّ مَعَ أَرْشِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ مَا لَمْ يَقْبَلْهُ الْبَائِعُ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَيْبٌ سَقَطَ الرَّدُّ قَهْرًا ثُمَّ إِنْ رَضِيَ بِهِ الْبَائِعُ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي أَوْ قَنَعَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْبَائِعُ مَعِيبًا ضَمَّ الْمُشْتَرِي أَرْشَ الْحَادِثِ إِلَى الْمَبِيعِ وَرَدَّ، أَوْ غَرِمَ أَرْشَ الْقَدِيمِ وَلاَ يَرُدُّ. فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى أَحَدِ الأَْمْرَيْنِ فَذَاكَ وَإِلاَّ فَالأَْصَحُّ إِجَابَةُ مَنْ طَلَبَ الإِْمْسَاكَ. وَيَجِبُ أَنْ يُعْلِمَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ عَلَى الْفَوْرِ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ لِيَخْتَارَ، فَإِنْ أَخَّرَ إِعْلاَمَهُ بِلاَ عُذْرٍ فَلاَ رَدَّ وَلاَ أَرْشَ.
أَمَّا الثَّانِيَةُ فَهِيَ أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الرَّدِّ مَعَ أَرْشِ
__________
(1) البدائع 5 / 283، والعناية 5 / 160، وفتح القدير 5 / 159 - 160، المغني 4 / 113 م 3006، الفتاوى الهندية 2 / 255.

(20/143)


الْعَيْبِ الْحَادِثِ وَبَيْنَ الإِْمْسَاكِ وَأَخْذِ أَرْشِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ (1) .

سُقُوطُ الْخِيَارِ وَانْتِهَاؤُهُ:
51 - خِيَارُ الْعَيْبِ يَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْعَقْدِ أَيْ فَسْخِهِ، فَيَكُونُ الْخِيَارُ مُنْتَهِيًا تَبَعًا لَهُ، لَكِنَّ ذَلِكَ يَسْتَتْبِعُ آثَارَهُ أَحْيَانًا فِيمَا إِذَا عَادَ الْمَبِيعُ الْمَعِيبُ إِلَى الْبَائِعِ وَفِيهِ عَيْبٌ حَادِثٌ لَدَى الْمُشْتَرِي. كَمَا يَنْتَهِي خِيَارُ الْعَيْبِ بِاخْتِيَارِ إِمْسَاكِ الْبَيْعِ الْمَعِيبِ وَأَخْذِ أَرْشِ الْعَيْبِ، وَهَذَا الاِخْتِيَارُ إِمَّا أَنْ يَقَعَ صَرَاحَةً بِالْقَوْل الْمُعَبِّرِ عَنِ الرِّضَا، وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ بِالتَّصَرُّفِ الدَّال عَلَى الرِّضَا، (أَمَّا غَيْرُ الدَّال عَلَى الرِّضَا فَيُسْقِطُ الرَّدَّ دُونَ الأَْرْشِ) .
وَقَدْ يَنْتَهِي الْخِيَارُ بِزَوَال الْعَيْبِ قُبَيْل اسْتِعْمَال حَقِّ الرَّدِّ، وَفِي بَعْضِ صُوَرِ الْوِلاَيَةِ عَنِ الصَّغِيرِ وَغَيْرِهِ، أَوِ الْوَكَالَةِ، يَتَعَيَّنُ التَّنَازُل عَنِ الْخِيَارِ لِكَوْنِ الإِْمْسَاكِ لِلْعَقْدِ أَكْثَرَ حَظْوَةً وَفَائِدَةً، وَنَظَرُ الْوِلاَيَةِ وَالنِّيَابَةِ عَنِ الْغَيْرِ مَبْنِيٌّ عَلَى الأَْصْلَحِ.
وَلاَ يَخْفَى أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأَْسْبَابِ الْمُسْقِطَةِ إِرَادِيٌّ يَصْدُرُ مِنَ الْعَاقِدِ، وَبَعْضُهَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَرْعًا أَوْ يَقَعُ دُونَ إِرَادَتِهِ، وَلِهَذَا تَفَرَّقَتِ الْمُسْقِطَاتُ، لاِجْتِذَابِ هَذِهِ الْعَوَامِل لَهَا إِلَى:
1 - زَوَال الْعَيْبِ قَبْل الرَّدِّ.
__________
(1) الهداية وفتح القدير والعناية 5 / 159 - 160، والمغني 4 / 131، مغني المحتاج 2 / 58 - 59، شرح الروض 2 / 68، الدسوقي 3 / 126.

(20/143)


2 - إِسْقَاطُ الْخِيَارِ بِصَرِيحِ الإِْسْقَاطِ وَالإِْبْرَاءِ عَنْهُ، أَوِ التَّنَازُل بِمُقَابِلٍ.
3 - وُجُوبُ تَرْكِ الرَّدِّ رِعَايَةً لِلْمَصْلَحَةِ، بِحُكْمِ الشَّرْعِ.
4 - الرِّضَا بِالْعَيْبِ صَرَاحَةً.
5 - التَّصَرُّفَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الرِّضَا.

أَوَّلاً: زَوَال الْعَيْبِ قَبْل الرَّدِّ.
52 - يَسْقُطُ خِيَارُ الْعَيْبِ - الرَّدُّ وَالأَْرْشُ - إِذَا زَال الْعَيْبُ قَبْل الرَّدِّ، لأَِنَّ الشَّرِيطَةَ الأُْولَى لِقِيَامِ الْخِيَارِ قَدْ تَخَلَّفَتْ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ أَنْ يَزُول بِنَفْسِهِ أَوْ بِإِزَالَةِ الْبَائِعِ، عَلَى أَنْ يَتِمَّ ذَلِكَ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ وَمِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ بِالْمُشْتَرِي. . وَلِهَذَا الزَّوَال بَعْضُ الصُّوَرِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي تَعَرَّضَ لَهَا ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتَاوَاهُ، مِنْهَا:
تَدَارُكُ الْعَيْبِ بِزَمَنٍ يَسِيرٍ يَمْنَعُ الْخِيَارَ، وَذَلِكَ فِيمَا لَوْ بِيعَتْ أَرْضٌ وَفِي الْمَبِيعِ بَذْرٌ تَعَهَّدَ الْبَائِعُ بِتَرْكِهِ أَوْ بِالْفَرَاغِ مِنْهُ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ، لاَ يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي، كَمَا لَوِ اشْتَرَى دَارًا ثُمَّ رَأَى خَلَلاً بِسَقْفِهَا أَوْ بَالُوعَةً. . يَلْزَمُ الْقَبُول، وَلاَ نَظَرَ لِلْمِنَّةِ اللاَّحِقَةِ بِهِ. وَنَحْوُهُ شِرَاءُ أَرْضٍ فِيهَا دَفِينٌ مِنْ حَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ. . لاَ تُدْخَل، وَتَرْكُهَا غَيْرُ مُضِرٍّ وَقَلْعُهَا مُضِرٌّ يُسْقِطُ الْخِيَارَ، لِكَوْنِ النَّقْل يُنْقِصُ قِيمَتَهَا أَوْ يَحْتَاجُ لِمُدَّةٍ لَهَا أُجْرَةٌ (وَلاَ نَظَرَ لِمَا فِي التَّرْكِ مِنَ الْمِنَّةِ لأَِنَّهُ ضِمْنَ عَقْدٍ) وَهَذَا التَّرْكُ إِعْرَاضٌ لاَ تَمْلِيكٌ، فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِيهِ، فَإِذَا رَجَعَ عَادَ

(20/144)


خِيَارُ الْمُشْتَرِي، فَلَوْ وَهَبَهَا لَهُ بِشُرُوطِهِ لَزِمَهُ الْقَبُول وَسَقَطَ خِيَارُهُ وَلاَ رُجُوعَ لِلْبَائِعِ (1) .
زَوَال الْعَيْبِ بِالتَّرْكِ مِنْ غَيْرِ لُحُوقِ مِنَّةٍ: فِيمَا لَوْ أَنْعَل الْمُشْتَرِي الدَّابَّةَ ثُمَّ بَانَ عَيْبُهَا، فَلَوْ نَزَعَ النَّعْل تَعَيَّبَتْ وَامْتَنَعَ الرَّدُّ، وَإِنْ تَرَكَهُ فَلَهُ الرَّدُّ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ الاِمْتِنَاعُ عَنِ الْقَبُول.
وَجْهُ عَدَمِ الْمِنَّةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَا يَقَعُ فِي ضِمْنِ عَقْدٍ يَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ تَوْفِيرِ غَرَضٍ لِبَاذِلِهِ فَلَمْ تُوجَدْ فِيهِ حَقِيقَةُ الْمِنَّةِ، لاَ سِيَّمَا وَقَدِ انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ إِجْبَارُ الشَّرْعِ لَهُ عَلَى الْقَبُول فَهُوَ كَارِهٌ لَهُ، وَالْكَارِهُ لِلشَّيْءِ لاَ يُتَوَهَّمُ لُحُوقُ مِنَّةٍ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ (2) .

ثَانِيًا - وُجُوبُ تَرْكِ الرَّدِّ رِعَايَةً لِلْمَصْلَحَةِ:
53 - وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ فِي إِمْسَاكِ الْمَعِيبِ وَالْعَاقِدُ مُقَيَّدُ التَّصَرُّفِ: وَذَلِكَ مَا إِذَا كَانَ فِي الْعَقْدِ غِبْطَةٌ، أَيْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ، وَلِهَذَا صُوَرٌ:
أ - لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُفْلِسًا، لأَِنَّ فِي الرَّدِّ وَالْحَالَةُ هَذِهِ تَفْوِيتَ الْفَرْقِ عَلَى الْغُرَمَاءِ.
ب - لَوْ كَانَ وَلِيًّا يَشْتَرِي لِمُوَلِّيهِ فِي حَالٍ يَصِحُّ فِيهَا شِرَاؤُهُ لَهُ، كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُ سَلِيمًا ثُمَّ تَعَيَّبَ قَبْل الْقَبْضِ. لأَِنَّ الرَّدَّ تَصَرُّفٌ ضَارٌّ بِحَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فَلاَ يَصِحُّ.
__________
(1) الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيتمي 2 / 244.
(2) الفتاوى الكبرى لابن حجر 2 / 243.

(20/144)


ج - أَوْ كَانَ عَامِل قِرَاضٍ وَلَمْ يُصَرِّحَ الْمَالِكُ بِطَلَبِ الرَّدِّ، لِلْعِلَّةِ نَفْسِهَا (1) .

ثَالِثًا - إِسْقَاطُ الْخِيَارِ بِصَرِيحِ الإِْسْقَاطِ، وَالإِْبْرَاءِ عَنْهُ
54 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ إِسْقَاطَ الْمُشْتَرِي خِيَارَ الْعَيْبِ إِسْقَاطٌ سَائِغٌ، لأَِنَّ الْخِيَارَ حَقٌّ خَالِصٌ لِلْمُشْتَرِي فَلَهُ النُّزُول عَنْهُ. وَهُوَ فِي هَذَا يُخَالِفُ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ الَّذِي لاَ يَصِحُّ إِنْهَاؤُهُ بِصَرِيحِ الإِْسْقَاطِ لأَِنَّهُ خِيَارٌ حُكْمِيٌّ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ بَل يَسْقُطُ تَبَعًا وَضِمْنًا.
هَذَا عَنْ إِسْقَاطِ خِيَارِ الرَّدِّ، وَأَمَّا حَقُّ الرُّجُوعِ بِالأَْرْشِ (نُقْصَانِ الثَّمَنِ) فَكَذَلِكَ الأَْمْرُ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ صَرِيحُ الإِْبْطَال، لأَِنَّهُ حَقُّهُ كَخِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ لِثُبُوتِهِ بِالشَّرْطِ (وَهِيَ السَّلاَمَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي الْعَقْدِ دَلاَلَةً) وَالإِْنْسَانُ بِسَبِيلٍ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّهِ مَقْصُودًا اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا (2) .
وَمِثْل الإِْسْقَاطِ فِي الْحُكْمِ الإِْبْرَاءُ، بِأَنْ يُبَرِّئَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ مِنَ الْعَيْبِ، لأَِنَّ (الإِْبْرَاءَ) فِي حَقِيقَتِهِ إِسْقَاطٌ، وَلِلْمُشْتَرِي هُنَا وِلاَيَةُ الإِْسْقَاطِ لأَِنَّ الْخِيَارَ حَقُّهُ وَالْمَحَل قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ (3) .
هَذَا وَلاَ يَسْقُطُ الْخِيَارُ بِعِوَضٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
__________
(1) تحفة المحتاج بحاشية الشرواني 4 / 140.
(2) بدائع الصنائع 5 / 282.
(3) البدائع 5 / 282.

(20/145)


فَقَدْ سُئِل ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ عَنْ بَذْل عِوَضٍ لِتَرْكِ رَدِّ الْعَيْبِ، هَل يَجُوزُ كَعِوَضِ الْخُلْعِ؟ فَأَجَابَ: " لاَ يَجُوزُ بَذْل الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَةِ تَرْكِ خِيَارِ الْعَيْبِ، لاَ مِنَ الأَْجْنَبِيِّ وَلاَ مِنَ الْبَائِعِ، لأَِنَّهُ خِيَارُ فَسْخٍ فَأَشْبَهَ خِيَارَ التَّرَوِّي فِي كَوْنِهِ غَيْرَ مُتَقَوِّمٍ " (1) . وَهَذَا غَيْرُ الأَْرْشِ لأَِنَّهُ لَيْسَ عِوَضًا لِتَرْكِ الْخِيَارِ أَصْلاً، بَل هُوَ تَقْوِيمٌ لِنُقْصَانِ الثَّمَنِ اعْتِرَافًا بِالْخِيَارِ وَعَمَلاً بِمَضْمُونِهِ.

رَابِعًا - الرِّضَا بِالْعَيْبِ صَرَاحَةً:
55 - رِضَا الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ إِذَا عَبَّرَ عَنْهُ بِصُورَةٍ صَرِيحَةٍ، كَلَفْظِ: رَضِيتُ بِالْعَيْبِ، أَسْقَطْتُ خِيَارَ الْعَيْبِ، أَجَزْتُ الْعَقْدَ، أَمْضَيْتُهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ الْمُفِيدَةِ لِلرِّضَا، فَإِنَّ الْخِيَارَ يَسْقُطُ أَصْلاً أَيْ يَنْتَهِي حَقُّ الرَّدِّ وَالأَْرْشِ مَعًا.
ذَلِكَ لأَِنَّ حَقَّ الرَّدِّ إِنَّمَا هُوَ لِفَوَاتِ السَّلاَمَةِ الْمَشْرُوطَةِ دَلاَلَةً فِي الْعَقْدِ، وَإِذَا رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ فَقَدْ دَل عَلَى أَنَّهُ نَزَل عَنْ هَذَا الشَّرْطِ، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْهُ ابْتِدَاءً وَأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطِ السَّلاَمَةَ دَلاَلَةً، وَقَدْ ثَبَتَ الْخِيَارُ نَظَرًا لَهُ فَإِذَا لَمْ يَنْظُرْ لِنَفْسِهِ وَرَضِيَ بِالضَّرَرِ فَذَاكَ لَهُ.
وَكَذَلِكَ الْحَال إِذَا تَنَاوَل الرِّضَا بِالْعَيْبِ حَقَّ الرُّجُوعِ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ، كَمَا لَوِ انْتَقَصَ الْمَبِيعُ فِي
__________
(1) الفتاوى الكبرى لابن حجر 2 / 136 - 137.

(20/145)


يَدِ الْمُشْتَرِي وَامْتَنَعَ الرَّدُّ بِسَبَبِ النُّقْصَانِ وَوَجَبَ الأَْرْشُ، لَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ حِينَئِذٍ أَظْهَرَ رِضَاهُ بِالْعَيْبِ فَإِنَّ الْخِيَارَ يَسْقُطُ جُمْلَةً.

خَامِسًا: التَّصَرُّفَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الرِّضَا:
56 - الرِّضَا بِالْعَيْبِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالدَّلاَلَةِ وَمَجَالُهَا الأَْفْعَال (أَوِ التَّصَرُّفَاتُ) وَذَلِكَ بِأَنْ يُوجَدَ مِنَ الْمُشْتَرِي (بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ) تَصَرُّفٌ فِي الْمَبِيعِ يَدُل عَلَى الرِّضَا بِالْعَيْبِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: " كُل تَصَرُّفٍ يُوجَدُ مِنَ الْمُشْتَرِي فِي الْمُشْتَرَى بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ يَدُل عَلَى الرِّضَا بِالْعَيْبِ يُسْقِطُ الْخِيَارَ " (1)
وَالتَّصَرُّفَاتُ بِالنِّسْبَةِ لِهَذَا الْمُسْقِطِ يُمْكِنُ تَصْنِيفُهَا إِلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ:

1 - تَصَرُّفَاتِ اسْتِعْمَالٍ لِلْمَبِيعِ وَاسْتِغْلاَلٍ لَهُ وَانْتِفَاعٍ مِنْهُ:
57 - وَذَلِكَ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ دُونَ انْتِقَاصٍ لِعَيْنِهِ أَوْ إِتْلاَفٍ لَهُ، كَلُبْسِ الثَّوْبِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ (لِغَيْرِ الرَّدِّ، أَوِ السَّقْيِ، أَوْ شِرَاءِ الْعَلَفِ) وَسَقْيِ الأَْرْضِ أَوْ زَرْعِهَا أَوْ حَصَادِهَا، أَوْ عَرْضِ الْمَبِيعِ عَلَى الْبَيْعِ أَوِ الإِْجَارَةِ، أَوْ مُدَاوَاتِهِ وَاسْتِخْدَامِهِ وَلَوْ مَرَّةً. فَإِذَا تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ فَهُوَ دَلاَلَةٌ عَلَى الرِّضَا، وَهُوَ
__________
(1) البدائع 5 / 282.

(20/146)


دَلِيلٌ قَصْدُهُ الاِسْتِبْقَاءُ. وَدَلِيل الشَّيْءِ فِي الأُْمُورِ الْبَاطِنَةِ - كَالرِّضَا - يَقُومُ مَقَامَهَا (1) .

2 - تَصَرُّفَاتُ إِتْلاَفٍ لِلْمَبِيعِ:
58 - وَالْمُرَادُ مَا كَانَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الاِسْتِعْمَال، كَالتَّمْزِيقِ لِلثَّوْبِ، وَقَتْل الدَّابَّةِ، فَمِثْل هَذَا التَّصَرُّفِ لِغَيْرِ مَصْلَحَتِهِ، وَيَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ (2) .

3 - تَصَرُّفَاتُ إِخْرَاجٍ عَنْ مِلْكِهِ:
59 - إِذَا أَخْرَجَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ عَنْ مِلْكِهِ بِأَنْ عَقَدَ عَلَيْهِ عَقْدًا مِنْ عُقُودِ التَّمْلِيكِ كَالْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ (مَعَ التَّسْلِيمِ) أَوِ الصُّلْحِ، ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ قَدِيمٍ فِيهِ، سَقَطَ خِيَارُهُ لِتَعَذُّرِ رَدِّ الْمَبِيعِ إِلَى الْبَائِعِ، فَفِي هَذِهِ الْحَال لاَ سَبِيل إِلَى فَسْخِ الْبَيْعِ بَيْنَ الْمُشْتَرِي الأَْوَّل وَبَيْنَ بَائِعِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِالْمَبِيعِ، لأَِنَّهُ بِالْبَيْعِ صَارَ حَابِسًا لَهُ فَكَانَ مُفَوِّتًا لِلرَّدِّ، وَلَمَّا كَانَ امْتِنَاعُ الرَّدِّ هُنَا بِسَبَبِ الْمُشْتَرِي فَلاَ رُجُوعَ لَهُ بِالنُّقْصَانِ أَيْضًا لأَِنَّ مِنْ شَرَائِطِهِ أَنْ لاَ يَكُونَ امْتِنَاعُ الرَّدِّ بِسَبَبِ الْمُشْتَرِي. وَالإِْقْدَامُ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ دَلِيل الرِّضَا بِالْعَيْبِ وَسُقُوطِ الْخِيَارِ مِنْ أَسَاسِهِ.
__________
(1) فتح القدير والعناية 5 / 177 - 178، والبدائع 5 / 282، ورد المحتار 5 / 90 - 91.
(2) شرح مختصر الطحاوي لقاضيخان، نقلاً عن حاشية الشلبي على الزيلعي 4 / 36.

(20/146)


وَلَكِنْ لَوْ فُسِخَ التَّصَرُّفُ وَرُدَّ إِلَيْهِ الْبَيْعُ بِخِيَارِ شَرْطٍ أَوْ رُؤْيَةٍ (مَثَلاً) فَإِنْ كَانَ قَبْل الْقَبْضِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ سَوَاءٌ كَانَ الرَّدُّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِالتَّرَاضِي (بِالإِْجْمَاعِ) وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَإِنْ كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ (بِلاَ خِلاَفٍ) ، وَإِنْ كَانَ قَبُول الْبَائِعِ لَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ (1) .
60 - هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ - الَّذِي عَلَيْهِ التَّبْوِيبُ وَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْحَنَابِلَةُ - وَقَدِ اخْتَلَفَتْ آرَاءُ غَيْرِهِمْ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ إِنْ كَانَتْ بِعِوَضٍ فَهِيَ مُسْقِطَةٌ لِلْخِيَارِ: لِلرَّدِّ وَالأَْرْشِ مَعًا، وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَهُ نُقْصَانُ الثَّمَنِ. وَمُسْتَنَدُهُمْ فِكْرَةُ اسْتِفَادَةِ عِوَضٍ يُسْتَدْرَكُ بِهِ الْعَيْبُ الْفَائِتُ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ تَصَرُّفٍ يَحْصُل بِهِ الْيَأْسُ مِنْ عَوْدِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، كَالْوَقْفِ، فَهُوَ مَانِعٌ لِلرَّدِّ، وَبَيْنَ تَصَرُّفٍ يُرْجَى مَعَهُ الْعَوْدُ لِمِلْكِهِ، كَالْبَيْعِ فَهُوَ مُسْقِطٌ لِلْخِيَارِ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى إِطْلاَقِ الْحُكْمِ فِي التَّصَرُّفَاتِ كُلِّهَا - إِذَا تَصَرَّفَ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْعَيْبِ - فَإِنَّهُ مَانِعٌ لِلرَّدِّ وَنَاقِلٌ إِلَى الْمُوجَبِ
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 35 و 37، فتح القدير 5 / 160، البدائع 5 / 282 و 289 " لو باعه المشتري أو وهبه ثم علم بالعيب لم يرجع بالنقصان؛ لأن امتناع الرد ها هنا من قبل المشتري؛ لأنه بالبيع صار ممسكًا عن الرد؛ لأن المشتري قام مقامه فصار مبطلاً للرد الذي هو الحق فلا يرجع بشيء. وذكر من التصرفات المسقطة للخيار إع

(20/147)


الْخَلَفِيِّ (نُقْصَانِ الثَّمَنِ) لِتَصَرُّفِهِ فِي مِلْكِهِ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْعَيْبِ فَلَمْ يَكُنْ فِي تَصَرُّفِهِ دَلاَلَةٌ عَلَى الرِّضَا بِالْعَيْبِ، فَيَقْتَصِرُ أَثَرُهُ عَلَى مَنْعِ الرَّدِّ (1) .

إِثْبَاتُ خِيَارِ الْعَيْبِ:
61 - ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّهُ إِذَا اتَّفَقَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي عَلَى حَالَةٍ مِنْ أَحْوَال خِيَارِ الْعَيْبِ وَجَبَ الْحُكْمُ الْخَاصُّ بِتِلْكَ الْحَال. فَإِنْ أَنْكَرَ الْبَائِعُ دَعْوَى الْعَيْبِ الْمَوْجُودِ فَإِمَّا أَنْ يُنْكِرَ وُجُودَ الْعَيْبِ، أَوْ يُنْكِرَ قِدَمَهُ.
فَفِي إِنْكَارِ الْعَيْبِ إِمَّا أَنْ يَسْتَوِيَ فِي إِدْرَاكِهِ جَمِيعُ النَّاسِ وَحِينَئِذٍ يَكْفِي شَاهِدَانِ عَدْلاَنِ مِنْ أَيِّ النَّاسِ كَانُوا، وَإِمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِعِلْمِهِ أَهْل صِنَاعَةٍ مَا، فَلاَ بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ أَهْل تِلْكَ الصِّنَاعَةِ، وَفِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ خِلاَفٌ فِيمَا يَكْفِي مِنْ ذَلِكَ:
قِيل: لاَ بُدَّ مِنْ عَدْلَيْنِ. وَقِيل: لاَ يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ الْعَدَالَةُ وَلاَ الْعَدَدُ وَلاَ الإِْسْلاَمُ.
وَكَذَلِكَ الْحَال إِنِ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ مُؤَثِّرًا فِي الْقِيمَةِ، وَفِي قِدَمِهِ أَوْ حُدُوثِهِ، ثُمَّ لَمْ يَتَحَدَّثْ عَنْ أَجْوِبَةِ ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِانْصِيَاعِ أَحْوَالِهَا لأُِصُول الإِْثْبَاتِ الْمَعْرُوفَةِ (2) .
__________
(1) فتح القدير 5 / 159 - 162، والبدائع 5 / 289، وشرح التحفة بحاشية الشرواني 4 / 362، والمقدمات لابن رشد 248، والخرشي 5 / 130، المغني لابن قدامة 4 / 123 - 125م 3032 - 3027.
(2) بداية المجتهد 2 / 183.

(20/147)


إِثْبَاتُ الْعَيْبِ، وَالاِخْتِلاَفُ فِيهِ:
62 - الدَّعْوَى فِي الْعَيْبِ وَالْخُصُومَةِ فِيهِ إِمَّا أَنْ تَحْتَاجَ إِلَى الْبَرْهَنَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَعْتَوِرَهَا النِّزَاعُ مِنَ الْخَصْمِ، وَيَقَعُ الاِخْتِلاَفُ بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ فِي مَسَائِل الْعَيْبِ بِأَنْوَاعِهَا مِنْ قِدَمٍ وَحُدُوثٍ، وَهَل الرَّدُّ لِعَيْنِ الْمَرْدُودِ أَوْ غَيْرِهِ. . إِلَخْ.
وَفِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلاَتٌ فِي تَنَازُعِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي الْعَيْبِ أَوْ فِي سَبَبِ الرَّدِّ بِهِ مُعْظَمُهَا تَخْضَعُ لِطَرَائِقِ الإِْثْبَاتِ الْعَامَّةِ بَعْدَ شَيْءٍ مِنَ التَّصَوُّرِ لِلْمُدَّعِي الْمُنْكِرِ.
كَمَا تَعَرَّضَ الْحَنَابِلَةُ لِلاِخْتِلاَفِ فِي قِدَمِ الْعَيْبِ وَحُدُوثِهِ، بِمَا لاَ يَخْرُجُ عَنْ طُرُقِ الإِْثْبَاتِ الْعَامَّةِ، لَكِنَّهُمْ ذَكَرُوا مَا يَخْتَصُّ بِمَوْضُوعِنَا أَنَّهُ فِي الْعَيْبِ الَّذِي لاَ يُحْتَمَل فِيهِ إِلاَّ قَوْل أَحَدِهِمَا، وَادَّعَى الْمُشْتَرِي كَوْنَهُ قَدِيمًا، كَالْجُرْحِ الطَّرِيِّ، فَالْقَوْل قَوْل مَنْ يَدَّعِي ذَلِكَ بِغَيْرِ يَمِينٍ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (قَضَاءٌ، وَدَعْوَى) .

انْتِقَال خِيَارِ الْعَيْبِ:
63 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ يَنْتَقِل إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِ مُسْتَحِقِّ الْخِيَارِ.
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 132 - 133، وغيره من شروح خليل، شرح الروض 2 / 71 - 73، نهاية المحتاج 4 / 92 ط 2، حاشية البجيرمي على شرح المنهج 2 / 262، والإقناع 2 / 101، والمغني 2 / 125 - 126 م 3028.

(20/148)


خِيَارُ الْغَبْنِ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْغَبْنُ فِي اللُّغَةِ: النَّقْصُ، فِعْلُهُ: غَبَنَ - مِنْ بَابِ ضَرَبَ - يُقَال غَبَنَهُ فَانْغَبَنَ، وَغُبِنَ (بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُول) فَهُوَ مَغْبُونٌ أَيْ مَنْقُوصٌ مِنَ الثَّمَنِ أَوْ غَيْرِهِ.
وَغَبَنَهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ غَبْنًا، وَغَبِينَةً (وَهِيَ اسْمُ الْمَصْدَرِ) أَيْ غَلَبَهُ، وَفِي الْقَامُوسِ: غَبَنَهُ فِي الْبَيْعِ: خَدَعَهُ (1) .
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلْغَبْنِ مُسْتَمَدٌّ مِنَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ نَفْسِهِ فَهُوَ - كَمَا يَقُول ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ -: " النَّقْصُ فِي الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ " وَمِثْلُهُ النَّقْصُ فِي الْبَدَل فِي بَاقِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ. وَمَعْنَى النَّقْصِ هُنَا إِذَا كَانَ الْمَغْبُونُ هُوَ الْمُشْتَرِي أَنْ لاَ يُقَابَل جُزْءٌ مِنَ الثَّمَنِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَبِيعِ لِزِيَادَةِ الثَّمَنِ عَنْ أَكْثَرِ تَقْوِيمٍ لِلْمَبِيعِ مِنْ أَهْل الْخِبْرَةِ.
__________
(1) المصباح المنير، والمغرب، ومقاييس اللغة، ورد المحتار 1 / 159.

(20/148)


أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَغْبُونُ هُوَ الْبَائِعُ فَالنَّقْصُ فِي الثَّمَنِ حَقِيقِيٌّ (1) .

الْخِيَارَاتُ الْمُرْتَبِطَةُ بِالْغَبْنِ:
2 - لِلْغَبْنِ تَأْثِيرٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاطِنِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَحْيَانًا يُنَاطُ بِهِ الْحُكْمُ صَرَاحَةً، وَأَحْيَانًا يُنَاطُ بِسَبَبٍ مَادِّيٍّ أَشَدَّ مِنْهُ وُضُوحًا، وَيَكُونُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ الْوَحِيدُ، أَوْ أَحَدُ الْمُؤَثِّرَاتِ.
فَمِنَ الْمَوَاطِنِ الَّتِي يُؤَثِّرُ فِيهَا: الْمُبَادَلاَتُ الرِّبَوِيَّةُ بَيْنَ الأَْجْنَاسِ الْمُتَّحِدَةِ، وَالاِحْتِكَارُ، وَأَنْوَاعٌ مِنَ الْبُيُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، كَالنَّجْشِ، وَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ، وَبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَالْمُصَرَّاةِ وَنَحْوِهَا مِنْ صُوَرِ التَّغْرِيرِ الْفِعْلِيِّ، وَالْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ غَيْرِهِ (أَيْ دُخُول أَجْنَبِيٍّ بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ لِلاِسْتِئْثَارِ بِالْبَيْعِ أَوِ الشِّرَاءِ) . وَبَيْعِ الْمُسْتَرْسِل، وَبُيُوعِ الأَْمَانَةِ، وَحَالَةِ التَّغْرِيرِ الْقَوْلِيِّ الْمُقْتَرِنِ بِالْغَبْنِ، لِذَا كَانَ مِنَ الضَّرُورِيِّ اسْتِخْلاَصُ أَحْكَامٍ عَامَّةٍ فِي الْغَبْنِ الَّذِي تَنْشَأُ بِسَبَبِهِ بِضْعَةُ خِيَارَاتٍ تَخْتَلِفُ الْمَذَاهِبُ تُجَاهَهَا بَيْنَ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ.
وَقَدِ اتَّخَذَ ابْنُ قُدَامَةَ (2) مِنَ الْغَبْنِ مَدَارًا لِثَلاَثَةِ خِيَارَاتٍ هِيَ:
1 - تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، إِذَا اشْتَرَى مِنْهُمْ - أَوْ بَاعَهُمْ - بِغَبْنٍ.
__________
(1) البحر الرائق 7 / 169.
(2) المغني 3 / 522 ط 4 م 2777.

(20/149)


2 - بَيْعُ النَّجْشِ، بِالزِّيَادَةِ فِي السِّلْعَةِ مِمَّنْ يَعْمَل لِمَصْلَحَةِ الْبَائِعِ دُونَ إِرَادَةِ الشِّرَاءِ لِيَقَعَ الْمُشْتَرِي فِي غَبْنٍ.
3 - الْمُسْتَرْسِل (1) : وَلاَ رَيْبَ فِي أَنَّ خِيَارَ الْمُسْتَرْسِل مِنْ صَمِيمِ خِيَارَاتِ الْغَبْنِ، لأَِنَّهُ لاَ تَغْرِيرَ يُوَجَّهُ إِلَيْهِ، إِنَّمَا هِيَ خِيَانَةٌ طَارِئَةٌ مِنَ الْبَائِعِ بَعْدَمَا رَكَنَ إِلَيْهِ الْمُشْتَرِي فَتَرَكَ الْمُسَاوَمَةَ فِي الثَّمَنِ، وَلاَذَ بِالْبَائِعِ لِيُجِيرَهُ مِنَ الْغَبْنِ فَأَوْقَعَهُ فِيهِ، فَهُوَ خِيَارُ غَبْنٍ حَقًّا.
وَتَلْخِيصُ مَوَاقِفِ الْمَذَاهِبِ مِنَ الْغَبْنِ وَاسْتِلْزَامُهُ الْخِيَارَ أَوْ عَدَمَهُ هُوَ بِالصُّورَةِ التَّالِيَةِ:
الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَرَوْنَ لِلْمَغْبُونِ خِيَارًا إِلاَّ إِذَا كَانَ مُغَرَّرًا بِهِ عَلَى الرَّاجِحِ، أَوْ كَانَ غَبْنًا لِلْقَاصِرِ.
الْمَالِكِيَّةُ: يَقُولُونَ (فِي رَأْيٍ) بِالْخِيَارِ لِلْمَغْبُونِ مُطْلَقًا، أَوْ إِذَا كَانَ مُسْتَرْسِلاً لِبَائِعِهِ.
الشَّافِعِيَّةُ: يَقُولُونَ (فِي رَأْيٍ) بِالْخِيَارِ
الْحَنَابِلَةُ: يَقْتَصِرُونَ عَلَى إِثْبَاتِ الْخِيَارِ لِمَنْ كَانَ مُسْتَرْسِلاً وَغُبِنَ.

ضَابِطُ الْغَبْنِ الْمُعْتَبَرِ، وَشَرْطُهُ:
3 - الْغَبْنُ الَّذِي يُرَدُّ بِهِ شَرْعًا هُوَ الْغَبْنُ
__________
(1) المسترسل هو الجاهل بقيمة السلعة ولا يحسن المبايعة. قال الإمام أحمد: المسترسل هو الذي لا يماكس، فكأنه استرسل إلى البائع فأخذ ما أعطاه من غير مماسكة ولا معرفة بغبنه. المغني 3 / 584.

(20/149)


الْفَاحِشُ، وَالإِْطْلاَقُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ كُلَّمَا ذُكِرَ فِي مَجَال الرَّدِّ.
وَالْمُرَادُ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الرَّاجِحِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي قَوْلٍ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي تَقْدِيرِ الْغَبْنِ عَلَى عَادَةِ التُّجَّارِ. وَإِنِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فَإِنَّهَا كُلَّهَا تُؤَدِّي إِلَى هَذَا الْمَعْنَى.
وَإِنَّمَا كَانَتِ الْعِبْرَةُ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، لأَِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُرْجَعُ إِلَيْهِمْ فِي الْعُيُوبِ وَنَحْوِهَا مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي تَقْتَضِي الْخِبْرَةَ فِي الْمُعَامَلاَتِ (1) .
وَالْقَوْل الثَّانِي لِكُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْغَبْنِ الثُّلُثُ، وَالْقَوْل الثَّالِثُ لِلْمَالِكِيَّةِ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ (2) .

شَرْطُ خِيَارِ الْغَبْنِ:
4 - يُشْتَرَطُ لِقِيَامِ خِيَارِ الْغَبْنِ أَنْ يَكُونَ الْمَغْبُونُ جَاهِلاً بِوُقُوعِهِ فِي الْغَبْنِ عِنْدَ التَّعَاقُدِ. وَفِي تِلْكَ الْحَال وَرَدَ حَدِيثُ حِبَّانَ (3) . الَّذِي احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِالْخِيَارِ (وَفِيهِ أَنَّهُ هُنَاكَ اشْتِرَاطُ عَدَمِ الْخِلاَبَةِ أَوِ الْغَبْنِ) أَمَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْغَبْنِ
__________
(1) رد المحتار 4 / 159، البحر الرائق 7 / 169، جامع الفصولين 2 / 31، الفتاوى الخيرية 1 / 220، شرح المجلة لعلي حيدر عند المادة / 165، والبدائع 6 / 30.
(2) الحطاب شرح خليل 4 / 472.
(3) حديث حبان بن منقذ، تقدم في بحث (خيار) وتقدم تخريجه.

(20/150)


وَأَقْدَمَ عَلَى التَّعَاقُدِ فَلاَ خِيَارَ لَهُ، لأَِنَّهُ أُتِيَ مِنْ قِبَل نَفْسِهِ فَكَأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ رَاضِيًا (1) .

مُوجِبُ الْخِيَارِ:
5 - إِذَا تَحَقَّقَ أَنَّ الْمَغْبُونَ مُسْتَرْسِلٌ، وَكَانَ الْغَبْنُ خَارِجًا عَنِ الْمُعْتَادِ فَلِلْمَغْبُونِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإِْمْضَاءِ مَجَّانًا، فَهَذَا هُوَ الْمُوجِبُ لَيْسَ غَيْرُ، أَيْ إِنْ أَمْسَكَ الْمَغْبُونُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالأَْرْشِ، وَهُوَ هُنَا مِقْدَارُ الْغَبْنِ (2) .

مُسْقِطَاتُهُ:
6 - يَسْقُطُ خِيَارُ الْغَبْنِ (مَعَ التَّغْرِيرِ) عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْمَجَلَّةُ الْعَدْلِيَّةُ - بِمَا يَلِي:
1 - هَلاَكُ الْمَبِيعِ، أَوِ اسْتِهْلاَكُهُ، أَوْ تَغَيُّرُهُ، أَوْ تَعَيُّبُهُ: وَفِي حُكْمِ الاِسْتِهْلاَكِ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ بِشَيْءٍ مُقَابَلَةً لِنُقْصَانِ ثَمَنِ الْمَبِيعِ.
2 - السُّكُوتُ وَالتَّصَرُّفُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْغَبْنِ: فَإِذَا تَصَرَّفَ الْمَغْبُونُ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْغَبْنِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ بِأَنْ عَرَضَ الْمَبِيعَ لِلْبَيْعِ مَثَلاً، سَقَطَ حَقُّ الْفَسْخِ.
3 - مَوْتُ الْمَغْبُونِ: فَلاَ تَنْتَقِل دَعْوَى (التَّغْرِيرِ مَعَ
__________
(1) البحر الزخار 3 / 354، المكاسب 235 - 236.
(2) المغني 4 / 102، دليل الطالب ص 110.

(20/150)


الْغَبْنِ) إِلَى الْوَارِثِ، أَمَّا مَوْتُ الْغَابِنِ فَلاَ يَمْنَعُ (1) .

خِيَارُ غَبْنِ الْمُسَاوَمَةِ:
7 - لاَ يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ خِيَارَ الْغَبْنِ فِي الْمُسَاوَمَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ، وَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ قَدِ اقْتَصَرُوا عَلَى خِيَارِ الْغَبْنِ لِلْمُسْتَرْسِل (كَمَا سَيَأْتِي) وَلاَ بُدَّ مِنْ إِفْرَادِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِالذِّكْرِ لِتَحْقِيقِ مَذْهَبِهِمْ فِي خِيَارِ الْغَبْنِ.

خِيَارُ الْغَبْنِ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ:
8 - اخْتَلَفَ النَّقْل عَنِ الْمَالِكِيَّةِ فِي كُتُبِ الْخِلاَفِ فِي شَأْنِ خِيَارِ الْغَبْنِ الْمُجَرَّدِ وَالرَّاجِحُ نَفْيُهُمْ لَهُ، وَالَّذِي رَجَّحَهُ شُرَّاحُ خَلِيلٍ هُوَ أَنَّ الْغَبْنَ لِغَيْرِ الْمُسْتَرْسِل لاَ خِيَارَ فِيهِ مَهْمَا كَانَ فَاحِشًا (2) .
وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ لِلْمَذْهَبِ الْمَشْهُورِ (لُزُومِ الْعَقْدِ مَعَ الْغَبْنِ الْمُجَرَّدِ) بِحَدِيثِ شِرَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَل جَابِرٍ، فَقَدْ قَال لَهُ مُسَاوِمًا: أَتَبِيعُهُ بِدِرْهَمٍ؟ فَقَال: لاَ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ بَاعَ بِخَمْسِ أَوَاقٍ عَلَى أَنَّ لَهُ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ (3) .
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية (المستمدة من المذهب الحنفي) المواد 358 - 360.
(2) الحطاب 4 / 470 - 472.
(3) حديث جابر: أخرجه البخاري (الفتح 5 / 314 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1223 - ط الحلبي) ، وأحمد (3 / 376 - الميمنية) .

(20/151)


فَالثَّمَنُ الأَْوَّل بِالنِّسْبَةِ لِلأَْخِيرِ غَبْنٌ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ خِيَارٌ لَمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .

حُكْمُ الْغَبْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
9 - فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ خِلاَفٌ حَوْل الْغَبْنِ الْمُجَرَّدِ فِي بَيْعِ الْمُسَاوَمَةِ إِذَا تَجَرَّدَ عَنِ التَّغْرِيرِ عَلَى ثَلاَثِ رِوَايَاتٍ:
1 - لاَ يَرُدُّ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ مُطْلَقًا (صَاحَبَهُ تَغْرِيرٌ أَوْ لاَ) .
2 - ثُبُوتُ حَقِّ الرَّدِّ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ مُطْلَقًا (بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ التَّغْرِيرِ) .
3 - ثُبُوتُ الرَّدِّ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ إِنْ صَاحَبَهُ تَغْرِيرٌ، أَيْ لاَ يَكُونُ الْخِيَارُ لِلْمَغْبُونِ مُطْلَقًا، بَل لِلْمَغْبُونِ الْمَغْرُورِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ (2) .

خِيَارُ غَبْنِ الْمُسْتَرْسِل
تَعْرِيفُ الْمُسْتَرْسِل:
10 - عَرَّفَ الْمَالِكِيَّةُ الْمُسْتَرْسِل بِأَنَّهُ: الْمُسْتَسْلِمُ لِبَائِعِهِ (3) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَهُوَ عِنْدَهُمْ: الْجَاهِل بِقِيمَةِ السِّلْعَةِ، وَلاَ يُحْسِنُ الْمُبَايَعَةَ. وَيُلْحَظُ هُنَا أَنَّ
__________
(1) الحطاب 4 / 469.
(2) رد المحتار 4 / 159 - 161، تحبير التحرير في إبطال القضاء بالفسخ بالغبن الفاحش بلا تغرير، وهي في مجموعة رسائله 2 / 68 - 82.
(3) الحطاب 4 / 471.

(20/151)


الْمُعَوَّل عَلَى الْوَصْفِ الأَْخِيرِ وَهُوَ عَدَمُ الْخِبْرَةِ بِالْمُبَايَعَةِ، أَمَّا جَهْل قِيمَةِ السِّلْعَةِ فَيَقَعُ فِيهِ كُل مَغْبُونٍ، إِذْ لَوْ عَرَفَ الْقِيمَةَ لَمَا رَضِيَ بِالْغَبْنِ إِلاَّ مُضْطَرًّا، أَوْ بَاذِلاً لِقَاءَ رَغْبَةٍ شَدِيدَةٍ فِي السِّلْعَةِ، وَسَبْقُ الْعِلْمِ بِالْغَبْنِ مُسْقِطٌ لِلْخِيَارِ.
وَلِلْحَنَابِلَةِ تَعْرِيفٌ آخَرُ لِلْمُسْتَرْسِل مِنْ كَلاَمِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ بِأَنَّهُ: الَّذِي لاَ يُحْسِنُ أَنْ يُمَاكِسَ، وَبِلَفْظٍ آخَرَ: الَّذِي لاَ يُمَاكِسُ، وَالْفَارِقُ أَنَّ الأَْوَّل قَلِيل الْخِبْرَةِ بِالْمُجَادَلَةِ فِي الْمُبَايَعَةِ لِلْوُصُول إِلَى ثَمَنِ الْمِثْل دُونَ غَبْنٍ، أَمَّا الأَْخِيرُ فَهُوَ الَّذِي لاَ يَسْلُكُ طَرِيقَ الْمُمَاكَسَةِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ إِتْقَانِهِ لَهَا أَوْ جَهْلِهِ بِهَا. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَأَمَّا الْعَالِمُ بِذَلِكَ وَالَّذِي لَوْ تَوَقَّفَ لَعَرَفَ، إِذَا اسْتَعْجَل فِي الْحِل فَغُبِنَ، فَلاَ خِيَارَ لَهُ (1) .

خِيَارُ غَبْنِ الْمُسْتَرْسِل (عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ) :
11 - صَرَّحَ خَلِيلٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهُ لاَ يَرُدُّ بِالْغَبْنِ وَلَوْ خَالَفَ الْعَادَةَ. وَأَفَادَ شُرَّاحُهُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَأَنَّ هُنَاكَ قَوْلاً بِأَنَّهُ يَرُدُّ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْغَبْنُ يَسِيرًا فَالاِتِّفَاقُ عَلَى لُزُومِ الْعَقْدِ مَعَهُ وَعَدَمِ الرَّدِّ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ أَنَّ حُكْمَ الْغَبْنِ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْبَيْعِ، فَفِي بَيْعِ الْمُكَايَسَةِ (الْمُسَاوَمَةِ) لاَ قِيَامَ بِالْغَبْنِ (قَال) : " وَلاَ أَعْرِفُ فِي
__________
(1) المغني م2777، 3 / 398، والفروع 4 / 97.

(20/152)


الْمَذْهَبِ فِي ذَلِكَ نَصَّ خِلاَفٍ " وَبَعْدَ أَنْ رَدَّ عَلَى مَنْ وَهِمَ فِي حَمْل مَسْأَلَةِ سَمَاعِ أَشْهَبَ عَلَى الْخِلاَفِ، عَادَ فَأَشَارَ إِلَى حِكَايَةِ بَعْضِ الْبَغْدَادِيِّينَ وُجُوبَ الرَّدِّ بِالْغَبْنِ إِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ. وَجَعَلَهُ مَوْضِعَ تَأَمُّلٍ، وَأَمَّا بَيْعُ الاِسْتِنَامَةِ وَالاِسْتِرْسَال. . فَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَائِزٌ. . وَالْقِيَامُ بِالْغَبْنِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ إِذَا كَانَ عَلَى الاِسْتِرْسَال وَالاِسْتِنَامَةِ وَاجِبٌ بِإِجْمَاعٍ، لِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَبْنُ الْمُسْتَرْسِل ظُلْمٌ (1) . هَذَا مَا اسْتَدَل بِهِ ابْنُ رُشْدٍ (2) .

خِيَارُ الْمُسْتَرْسِل (عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) :
12 - الْحَنَابِلَةُ يُثْبِتُونَ خِيَارَ الْغَبْنِ لِلْمُسْتَرْسِل فَقَطْ، عَلَى الرَّاجِحِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهِيَ مِنَ الْمَسَائِل الَّتِي اخْتَارَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ مِنْ مَسَائِل
__________
(1) حديث: " غبن المسترسل ظلم ". أخرجه الطبراني في الكبير (8 / 149 - ط وزارة الأوقاف العراقية) من حديث أبي أمامة بلفظ: " غبن المسترسل حرام ". وأورده الهيثمي في " مجمع الزوائد " (4 / 76 - ط القدسي) وقال: " فيه موسى بن عمير الأعمى، وهو ضعيف ".
(2) لقد أورد الحطاب عبارته وأشار إلى أن المفهوم المخالف لهذا الاستدلال دليل للحالة الأخرى فقال: وما لم يكن فيه ظلم فهو حق لا يجب القيام به (4 / 470) ، المقدمات 2 / 601 - 602، الخرشي 4 / 62، الدسوقي 3 / 140، وقال الحطاب: إذا كان من أهل المعرفة بقيمة ما اشتراه، وإنما وقع في الغبن غلطًا يعتقد أنه غير غالط فلا رد له، أما إذا علم بالقيمة فزاد عليها فهو كالواهب، أو فعل ذلك لغرض فلا مقال له. (الحطاب 4 / 471) .

(20/152)


الْخِلاَفِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، لأَِنَّ الْغَبْنَ لَحِقَهُ لِجَهْلِهِ. بِالْمَبِيعِ، خِلاَفًا لِغَيْرِ الْمُسْتَرْسِل فَقَدْ دَخَل عَلَى بَصِيرَةٍ فَهُوَ كَالْعَالِمِ بِالْعَيْبِ، وَهُوَ مَقِيسٌ عَلَى النَّجْشِ وَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ، وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ ذَكَرَهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى (بِصِيغَةِ: قِيل) مُقْتَضَاهَا أَنَّ الْغَبْنَ لاَزِمٌ لِلْمُسْتَرْسِل أَيْضًا، لأَِنَّ نُقْصَانَ قِيمَةِ السِّلْعَةِ مَعَ سَلاَمَتِهَا لاَ يَمْنَعُ لُزُومَ الْعَقْدِ، كَبَيْعِ غَيْرِ الْمُسْتَرْسِل، وَكَالْغَبْنِ الْيَسِيرِ (1) .

خِيَارُ غَبْنِ الْقَاصِرِ (وَشَبَهِهِ) :
13 - أَثْبَتَ هَذَا الْخِيَارَ الْمَالِكِيَّةُ فِي حَال غَبْنِ الْوَصِيِّ عَنِ الْقَاصِرِ أَوِ الْوَكِيل عَمَّنْ وَكَّلَهُ دَرْءًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْقَاصِرِ وَالْمُوَكِّل، وَبَعْضُ الْمَذَاهِبِ لَجَأَتْ إِلَى إِبْطَال الْعَقْدِ الْمُشْتَمِل عَلَى غَبْنِهِمَا (2) .
فَإِذَا كَانَ الْبَائِعُ - أَوِ الْمُشْتَرِي - بِالْغَبْنِ وَكِيلاً أَوْ وَصِيًّا. فَيَرُدُّ مَا صَدَرَ مِنْهُمَا مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ (أَيْ يَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ) .
وَخِيَارُ غَبْنِ الْقَاصِرِ يَثْبُتُ فِي عَقْدِ الشِّرَاءِ اتِّفَاقًا بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ، فَأَجَازُوا الْبَيْعَ بِالْغَبْنِ لِلصَّبِيِّ أَوْ لِلْمُتَصَرِّفِ عَنِ الْغَيْرِ، لأَِنَّ الْبَيْعَ إِزَالَةُ مِلْكٍ، فَلاَ يَتَحَقَّقُ الْغَبْنُ
__________
(1) المغني 3 / 498 م 2777، الاختيارات، للعلاء البعلي ص 74.
(2) نصت مجلة الأحكام العدلية (المستمدة من المذهب الحنفي) في المادة 356 على أنه استثناء من عدم التخيير في الغبن المجرد عن التغرير " إذا وجد الغبن (وحده) في مال اليتيم لا يصح البيع. ومال الوقف وبيت المال حكمه حكم اليتيم ". وقال الشراح: إنه يكون باطلاً.

(20/153)


فِيهِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قِيل: الْبَيْعُ مُرْتَخَصٌ وَغَالٍ. فَإِذَا بَاعَ الْقَاصِرُ بِغَبْنٍ لاَ خِيَارَ لَهُ عِنْدَ هَؤُلاَءِ (1) .

مُوجِبُ خِيَارِ غَبْنِ الْقَاصِرِ:
14 - هَل لِلْقَائِمِ فِي الْغَبْنِ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْوَصِيِّ وَالْوَكِيل نَقْضُ الْبَيْعِ أَوِ الْمُطَالَبَةُ بِتَكْمِيل الثَّمَنِ؟ وَكَيْفَ لَوْ تَصَرَّفَ الْمُبْتَاعُ فِي ذَلِكَ بِبَيْعٍ؟
أَفَاضَ الْحَطَّابُ فِي الْمَسْأَلَةِ نَاقِلاً عَنِ ابْنِ رُشْدٍ فِي فَتْوَى لَهُ ثُمَّ قَال: وَالرَّاجِحُ مِنَ الأَْقْوَال أَنَّ لِلْقَائِمِ بِالْغَبْنِ نَقْضُ الْبَيْعِ فِي قِيَامِ السِّلْعَةِ، وَأَمَّا فِي فَوَاتِهَا فَلاَ نَقْضَ، وَأَنَّ الْقِيَامَ بِالْغَبْنِ يَفُوتُ بِالْبَيْعِ (أَيْ فَيُلْجَأُ إِلَى تَكْمِيل الثَّمَنِ) ، أَمَّا مَعَ إِمْكَانِ الرَّدِّ فَهُوَ الْمُوجِبُ (2) .

مُسْقِطَاتُ خِيَارِ غَبْنِ الْقَاصِرِ:
15 - ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ هَذَا الْخِيَارَ يَسْقُطُ بِمَا يَلِي:
1 - التَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ.
2 - التَّلَفُ، أَوْ مَا يُسَمِّيهِ الْمَالِكِيَّةُ (فَوَاتَ الْمَبِيعِ) قَال الْحَطَّابُ: فَإِنْ فَاتَ الْمَبِيعُ رَجَعَ الْمُوَكِّل وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمَا وَقَعَ الْغَبْنُ وَالْمُحَابَاةُ بِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُشْتَرِي رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ - وَهُوَ الْوَكِيل وَالْوَصِيُّ - بِذَلِكَ.
__________
(1) الحطاب 4 / 472، الدسوقي 3 / 140.
(2) الحطاب 4 / 473.

(20/153)


وَإِنِ اشْتَرَيَا بِغَبْنٍ، وَفَاتَ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي، رَجَعَ الْمُوَكِّل وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا وَقَعَتِ الْمُحَابَاةُ وَالْغَبْنُ بِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الرُّجُوعُ عَلَى الْبَائِعِ رَجَعَا عَلَى الْمُشْتَرِي وَهُوَ الْوَكِيل أَوِ الْوَصِيُّ. صَرَّحَ بِهِ ابْنُ عَتَّابٍ وَغَيْرُهُ.
وَلاَ يَتَقَيَّدُ الرُّجُوعُ هُنَا بِالثُّلُثِ، فَيَرْجِعُ بِكُل مَا نَقَصَ عَنِ الْقِيمَةِ نَقْصًا بَيِّنًا، أَوْ زَادَ عَلَيْهَا زِيَادَةً بَيِّنَةً وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الثُّلُثُ. وَهُوَ الصَّوَابُ عَلَى مَا قَال ابْنُ عَرَفَةَ، وَهُوَ مُقْتَضَى الرِّوَايَاتِ فِي الْمُدَوَّنَةِ (1) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 140، الحطاب 4 / 472 - 473.

(20/154)


خِيَارُ فَوَاتِ الشَّرْطِ

التَّعْرِيفُ:
1 - سَبَقَ تَعْرِيفُ الْخِيَارِ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا فِي مُصْطَلَحِ (خِيَارٌ) وَكَذَلِكَ سَبَقَ تَعْرِيفُ الشَّرْطِ فِي مُصْطَلَحِ (خِيَارُ الشَّرْطِ) وَفَوَاتُ الشَّرْطِ: هُوَ عَدَمُ تَحْقِيقِ الْغَرَضِ مِنْهُ، وَخِيَارُ فَوَاتِ الشَّرْطِ: هُوَ خِيَارٌ يَثْبُتُ بِفَوَاتِ الْفِعْل الْمَشْرُوطِ مِنَ الْعَاقِدِ فَوْقَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - لِهَذَا الْخِيَارِ صِلَةٌ بِأَنْوَاعِ الْخِيَارَاتِ الأُْخْرَى مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا جَمِيعًا تَسْلُبُ لُزُومَ الْعَقْدِ مَعَ انْفِرَادِ كُل خِيَارٍ بِالإِْضَافَةِ الْمُثْبِتَةِ لَهُ، كَالْعَيْبِ أَوِ الرُّؤْيَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيُنْظَرُ مَا يَتَّصِل بِكُل خِيَارٍ فِي مُصْطَلَحِهِ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِخِيَارِ فَوَاتِ الشَّرْطِ:
3 - مِنَ الْمَبَادِئِ الْمُقَرَّرَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْعَاقِدَ إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الْوَفَاءِ بِشَرْطٍ الْتَزَمَ بِهِ لِلْعَاقِدِ الآْخَرِ فِي الْعَقْدِ - وَكَانَ شَرْطًا صَحِيحًا - فَإِنَّ الأَْصْل أَنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 171، شرح منتهى الإرادات 2 / 160 - 161.

(20/154)


يَتَوَصَّل الْمُشْتَرِطُ إِلَى تَنْفِيذِهِ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْقَضَاءِ لِيُوَفِّيَ الْمُتَخَلِّفَ عَنِ الشَّرْطِ جَبْرًا. وَهَذَا فِي شَرْطٍ يُمْكِنُ الإِْجْبَارُ عَلَيْهِ، بِخِلاَفِ مَا لاَ يُمْكِنُ إِجْبَارُ الْمُمْتَنِعِ عَلَى فِعْلِهِ. كَالْتِزَامِهِ بِأَنْ يُقَدِّمَ رَهْنًا بِالثَّمَنِ. فَهَاهُنَا يُثْبِتُونَ خِيَارَ فَوَاتِ الشَّرْطِ وَإِنْ كَانُوا لاَ يُسَمُّونَهُ بِذَلِكَ، بَل يُعَبِّرُونَ بِأَنَّ لَهُ حَقَّ فَسْخِ الْعَقْدِ، يَقُول الْكَاسَانِيُّ: يُقَال لَهُ: إِمَّا أَنْ تَدْفَعَ الرَّهْنَ - أَوْ قِيمَتَهُ - أَوْ تُؤَدِّيَ الثَّمَنَ (عَاجِلاً) أَوْ يَفْسَخَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ. . وَلَوِ امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ وَالْغَرَضِ.
ثُمَّ نَصَّ عَلَى أَنَّ مِنْهُ الْبَيْعَ بِشَرْطِ إِعْطَاءِ الْكَفِيل، وَلَمْ يُجْعَل مِنْهُ شَرْطُ الْحَوَالَةِ وَالضَّمَانِ (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ أَخَذُوا بِمَبْدَأِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ يُقْرِضَهُ، أَوِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِشَرْطِ أَنْ يَخِيطَهُ الْبَائِعُ، أَوْ زَرْعًا بِشَرْطِ أَنْ يَحْصُدَهُ الْبَائِعُ. لَكِنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مِنَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ صُوَرًا حَكَمُوا بِصِحَّتِهَا، كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ
__________
(1) البدائع 5 / 171 و 172 وذكر صورًا من الشروط، منها " ما لو اشترى نعلاً (جلدًا) على أن يحذوه البائع أو جرابًا على أن يخرزه له خفًا. جائز استحسانًا، للتعامل، وأما شراء ثوب على أن يخيطه البائع له فهو مفسد لعدم التعامل، ويظهر من هذا التعليل إمكان إلحاق كل

(20/155)


الأَْجَل، أَوِ الرَّهْنِ، أَوِ الْكَفِيل - مَعَ الْمَعْلُومِيَّةِ وَالتَّعْيِينِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ - أَوْ بِشَرْطِ الإِْشْهَادِ.
فَإِنْ لَمْ يُوَفِّ الْمُلْتَزِمُ بِالشَّرْطِ بِأَنْ لَمْ يَرْهَنْ أَوْ لَمْ يَتَكَفَّل الْكَفِيل الْمُعَيَّنُ ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِطِ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ.
وَلاَ يُجْبَرُ مَنْ شَرَطَ عَلَيْهِ الشَّرْطَ عَلَى الْقِيَامِ بِمَا شَرَطَ، لِزَوَال الضَّرَرِ بِالْفَسْخِ، كَمَا لاَ يَقُومُ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ مَقَامَهُ إِذَا تَلِفَ (1) .
وَنَحْوُ ذَلِكَ لِلْحَنَابِلَةِ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الرَّهْنِ وَالْكَفِيل إِنْ وَفَّى الْمُلْتَزِمُ بِالشَّرْطِ لَزِمَ الْعَقْدُ، وَإِنْ أَبَى فَلِلْمُشْتَرِطِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإِْمْضَاءِ بِدُونِ مُقَابِلٍ عَنْ تَرْكِ الرَّهْنِ وَالْكَفِيل (2) .
وَالْمَذْهَبُ الْحَنْبَلِيُّ هُوَ أَوْسَعُ الْمَذَاهِبِ عِنَايَةً بِالشُّرُوطِ وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الأَْصْل فِي الْعُقُودِ رِضَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَنَتِيجَتُهَا هُوَ مَا أَوْجَبَاهُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالتَّعَاقُدِ (3) . وَقَدِ اعْتَدُّوا بِمَبْدَأِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فِي اعْتِبَارِ الشُّرُوطِ بَعْدَمَا وَسَّعُوا مِنْ مَفْهُومِهِ، عَلَى
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 32، نهاية المحتاج 3 / 455، الجمل على شرح المنهج 3 / 75 - 78، وهو على الفور؛ لأنه خيار نقص. المجموع 9 / 419 للشروط الجائزة فقط دون موجب فواتها.
(2) منتهى الإرادات 2 / 160 - 161، المغني م3355 وذكروا من صور هذا الخيار أن يتلف الرهن المشروط فللبائع المرتهن الخيار (المغني م 3288) .
(3) فتاوى ابن تيمية 3 / 239.

(20/155)


أَسَاسِ أَنَّ مَصْلَحَةَ الْعَاقِدِ هِيَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلَوْ لَمْ يُوجِبْهَا الْعَقْدُ فَأَبَاحُوا أَكْثَرَ مِنْ شَرْطِ الرَّهْنِ وَالْكَفِيل الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ، عَلَى أَنْ يَكُونَ مِمَّا لاَ يُصَادِمُ نَصًّا شَرْعِيًّا أَوْ أَصْلاً مِنْ أُصُول الشَّرِيعَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الشَّرْطَ قَدْ يَكُونُ فِي ذَاتِهِ غَيْرَ مُلْزِمٍ شَرْعًا لِلْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ يَصِحُّ اشْتِرَاطُهُ، وَتَكُونُ ثَمَرَةُ صِحَّةِ اشْتِرَاطِهِ تَمْكِينَ الشُّرُوطِ لَهُ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ عِنْدَ عَدَمِ وَفَاءِ الْمُشْتَرِطِ (1) .
وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَنَابِلَةُ مَعَ هَذَا خِيَارَ فَوَاتِ الشَّرْطِ فِي عِدَادِ مَا أَوْرَدُوهُ مِنْ خِيَارَاتٍ (2) . إِلاَّ أَنَّ صَاحِبَ " غَايَةِ الْمُنْتَهَى " اسْتَوْجَهَ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْخِيَارَاتِ الثَّمَانِيَةِ الْمُتَدَاوَلَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (بِاسْتِمْرَارِ) قِسْمًا تَاسِعًا مِنْ أَقْسَامِ الْخِيَارِ وَهُوَ الْخِيَارُ الَّذِي ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي لِفَقْدِ شَرْطٍ صَحِيحٍ، أَوْ فَقْدِ شَرْطٍ فَاسِدٍ، سَوَاءٌ كَانَ يُبْطِل الْعَقْدَ أَوْ لاَ يُبْطِلُهُ، وَقَدْ أَقَرَّهُ الشَّارِحُ عَلَى ذَلِكَ الاِسْتِدْرَاكِ، وَإِنْ كَانَتْ فَائِدَتُهُ شَكْلِيَّةً فَالْخِيَارُ كَمَا رَأَيْنَا مُعْتَبَرٌ فِي الْمَرَاجِعِ الْفِقْهِيَّةِ لِلْحَنَابِلَةِ وَإِنْ لَمْ
__________
(1) الشرح الكبير على المقنع 4 / 375، والمغني 4 / 430، وكشاف القناع 3 / 351.
(2) المقنع وحاشيته 2 / 75، والمغني 4 / 430، ومنتهى الإرادات 2 / 166 - 167، كشاف القناع 3 / 177 و 198 وهو أوسعها سردًا للخيارات.

(20/156)


تُبْرِزْهُ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِمَا يُورِدُونَهُ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ مِنْ صُوَرِهِ وَقُيُودِهِ (1) .

انْتِقَالُهُ بِالْمَوْتِ:
4 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ الثَّابِتَ لِلْبَائِعِ عِنْدَ عَجْزِ الْمُشْتَرِي عَنْ تَسْلِيمِ الرَّهْنِ الْمَشْرُوطِ فِي الْبَيْعِ يَنْتَقِل إِلَى الْوَارِثِ بِلاَ خِلاَفٍ (2) .

سُقُوطُهُ وَبَقِيَّةُ أَحْكَامِهِ::
5 - يُطَبَّقُ مَا يَجْرِي فِي خِيَارِ الْعَيْبِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكَلاَمِ عَنْ خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ، (ر: خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ) .
__________
(1) مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى 3 / 137.
(2) المجموع 9 / 210، فتح القدير 5 / 135.

(20/156)


خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّعْرِيفُ الْمُخْتَارُ لِخِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ مُسْتَمَدًّا مِنْ مَاهِيَّةِ هَذَا الْخِيَارِ، هُوَ (حَقُّ الْفَسْخِ لِتَخَلُّفِ وَصْفٍ مَرْغُوبٍ اشْتَرَطَهُ الْعَاقِدُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ) .
وَمِثَالُهُ: أَنْ يَشْتَرِيَ إِنْسَانٌ شَيْئًا وَيَشْتَرِطَ فِيهِ وَصْفًا مَرْغُوبًا لَهُ، كَمَنْ اشْتَرَى حِصَانًا عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ أَصِيلٌ فَإِذَا هُوَ هَجِينٌ، أَوِ اشْتَرَى جَوَادًا عَلَى أَنَّهُ هِمْلاَجٌ (سَرِيعُ الْمَشْيِ فِي سُهُولَةٍ) فَإِذَا هُوَ بَطِيءٌ، أَوْ سَرِيعٌ فِي اضْطِرَابٍ وَعُسْرٍ، وَكَذَلِكَ شِرَاءُ الْبَقَرَةِ عَلَى أَنَّهَا حَلُوبٌ (كَثِيرَةُ اللَّبَنِ زِيَادَةً عَنِ الْمُعْتَادِ فِي أَمْثَالِهَا) .
وَمِنَ الأَْمْثِلَةِ الْعَمَلِيَّةِ: اشْتِرَاطُ كَوْنِ الْكَلْبِ صَائِدًا، وَشَرْطُ كَوْنِ الثَّمَنِ مَكْفُولاً بِهِ (1) .

تَسْمِيَتُهُ:
2 - يُسَمَّى هَذَا الْخِيَارُ أَيْضًا بِخِيَارِ خُلْفِ الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ، وَقَدْ يَقْتَصِرُ عَلَى (خِيَارِ الْخُلْفِ) أَوْ
__________
(1) فتح القدير 5 / 135، ومطالب أولي النهى 3 / 137.

(20/157)


يُدْعَى (تَخَلُّفُ الصِّفَةِ) ، وَأَحْيَانًا يُسَمِّيهِ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ (خِيَارَ الْوَصْفِ) لَكِنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ مُوهِمَةٌ لأَِنَّ خِيَارَ الْوَصْفِ يُطْلَقُ عِنْدَ الأَْكْثَرِينَ عَلَى مُطَابَقَةِ الْمَبِيعِ الْغَائِبِ لِلْوَصْفِ إِذَا بِيعَ عَلَى الصِّفَةِ، وَهُوَ مِمَّا يَنْتَفِي بِهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ إِلاَّ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ لِلتَّرَوِّي وَلَوْ طَابَقَ، كَمَا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَبْحَثُهُ مُسْتَقِلًّا، وَآخَرُونَ يُلْحِقُونَهُ بِخِيَارِ الْعَيْبِ أَوْ خِيَارِ الشَّرْطِ (1) .

مَشْرُوعِيَّةُ اشْتِرَاطِ الْوَصْفِ فِي الْبَيْعِ:
3 - لاَ سَبِيل إِلَى إِثْبَاتِ مَشْرُوعِيَّةِ هَذَا الْخِيَارِ إِلاَّ بِإِثْبَاتِ مَوْضُوعِهِ وَهُوَ (اشْتِرَاطُ صِفَةٍ مَرْغُوبَةٍ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَوْلاَ الاِشْتِرَاطُ لَمْ تَثْبُتْ) ، وَمُسْتَنَدُ صِحَّةِ هَذَا الاِشْتِرَاطِ هُوَ تَسْوِيغُ الشُّرُوطِ الْعَقْدِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ لِلْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ النَّظَرِيَّةِ مَوَاقِفُ مُخْتَلِفَةٌ مَعَ صَعِيدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمْ هُوَ الصِّحَّةُ، بَعْدَ تَوَافُرِ مَا يَتَطَلَّبُهُ كُل مَذْهَبٍ مِنْ شَرَائِطَ. وَهَذَا الْمَوْضُوعُ وَاقِعٌ فِي النِّطَاقِ الَّذِي لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ (الشَّرْطُ الَّذِي يُعْتَبَرُ مِنْ مَصَالِحِ الْعَقْدِ) كَاشْتِرَاطِ الرَّهْنِ أَوِ
__________
(1) فتح القدير 5 / 135 (جعله صاحب الهداية مسألة في خيار الشرط) تكملة المجموع 12 / 364 (ألحقه بخيار العيب) وكذلك المالكية فقد ابتدأ به (خليل) أحكام العيب بعدما مهد بقسم موجب الرد إلى قسمين: أولهما: بعدم مشروط فيه غرض (وهو هذا) . والثاني: بما العادة السلامة منه (وهو خيار العيب) ، الخرشي على خليل 4 / 35، الدسوقي 3 / 108.

(20/157)


الْكَفِيل، أَمَّا اشْتِرَاطُ صِفَةٍ زَائِدَةٍ فَهُوَ مَقِيسٌ عَلَيْهِ.
وَسَبَبُ اعْتِبَارِ الْحَنَفِيَّةِ اشْتِرَاطَ الْوُصُوفِ سَائِغًا أَنَّهُمْ أَنْزَلُوهُ مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ إِذَا كَانَ لاَ غَرَرَ فِيهِ، ذَلِكَ أَنَّ الْوَصْفَ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْبَيْعِ، دُونَ الْتِفَاتٍ إِلَى اشْتِرَاطِ الْمُشْتَرِي لَهُ، فَإِنَّهُ يَدْخُل فِي الْعَقْدِ وَيَكُونُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ، فَكَانَ اشْتِرَاطُهُ صَحِيحًا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَرَرٌ (1) .
ثُمَّ إِنَّ الْوَصْفَ الْمَرْغُوبَ فِيهِ يَرْجِعُ إِلَى صِفَةِ الثَّمَنِ أَوِ الْمُثَمَّنِ، فَهُوَ مُلاَئِمٌ لِلْعَقْدِ (2) .
3 م - وَلَمَّا كَانَ الْمُهِمُّ فِي تَسْوِيغِ اشْتِرَاطِ الصِّفَةِ الأَْثَرَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى الإِْخْلاَل بِالشَّرْطِ هَل هُوَ الْفَسَادُ - كَمَا هُوَ الْحَال فِي الاِشْتِرَاطِ فِي غَيْرِ الصِّفَاتِ - أَمِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا الرَّدُّ؟
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الأَْثَرَ هُوَ التَّخْيِيرُ، وَلَمْ يَقُولُوا بِفَسَادِ الْعَقْدِ حِينَ تَخَلَّفَ الْوَصْفُ؛ لأَِنَّ تَخَلُّفَهُ لاَ يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلاَفِ الْجِنْسِ وَذَلِكَ حَيْثُ يَقَعُ فِيهِ الْعَقْدُ عَلَى جِنْسٍ فَيَظْهَرُ أَنَّ الْمَبِيعَ جِنْسٌ آخَرُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ هُنَا؛ لأَِنَّ فَوَاتَ الْوَصْفِ رَاجِعٌ إِلَى اخْتِلاَفِ النَّوْعِ
__________
(1) فتح القدير 5 / 135.
(2) العناية شرح الهداية 5 / 136، والبدائع 5 / 169، والمغني 4 / 139، على أحد وجهين وهو الأولى؛ لأن فيه مقصدًا صحيحًا.

(20/158)


لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ فِي الأَْغْرَاضِ، فَلاَ يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِفَوَاتِهِ. وَصَارَ كَفَوَاتِ وَصْفِ السَّلاَمَةِ الَّذِي فِيهِ خِيَارُ الْعَيْبِ، فَيَكُونُ فِي هَذَا خِيَارُ الْوَصْفِ بِالْقِيَاسِ (1) .

مَشْرُوعِيَّةُ خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ:
4 - ذَهَبَ إِلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْخِيَارِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ (2) .
وَيَسْتَنِدُ ثُبُوتُهُ عَلَى ثُبُوتِ خِيَارِ الْعَيْبِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ فَوَاتَ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ بَعْدَ أَنْ حَصَل فِي الْعَقْدِ الاِلْتِزَامُ مِنَ الْبَائِعِ بِهِ، هُوَ فِي مَعْنَى فَوَاتِ وَصْفِ السَّلاَمَةِ فِي الْمَبِيعِ إِذَا ظَهَرَ فِيهِ عَيْبٌ، فَكَمَا يَثْبُتُ فِي الصُّورَةِ الأَْخِيرَةِ خِيَارُ الْعَيْبِ يَثْبُتُ فِي الصُّورَةِ الأُْولَى خِيَارُ الْوَصْفِ. وَكُلٌّ مِنَ الْخِيَارَيْنِ ثَبَتَ لِتَخَلُّفِ شَرْطٍ فِي الْحِل، غَيْرَ أَنَّ الشَّرْطَ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ ثَابِتٌ دَلاَلَةً، كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ، أَمَّا فِي خِيَارِ الْوَصْفِ فَهُوَ ثَابِتٌ نَصًّا (3) .
وَلِهَذَا أَوْرَدَ الشَّافِعِيَّةُ خِيَارَ فَوَاتِ الْوَصْفِ تَالِيًا لِخِيَارِ الْعَيْبِ أَوْ مُخْتَلِطًا بِهِ، كَمَا فَعَل الشِّيرَازِيُّ، وَقَدْ عَلَّل حَقَّ الْخِيَارِ فِيهِ بِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنْقَصَ مِمَّا شَرَطَ،
__________
(1) الهداية وشرحها العناية 5 / 136.
(2) البدائع 5 / 169، المهذب وتكملة المجموع 12 / 364، الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 108.
(3) الكاساني: بدائع الصنائع 5 / 273 و 169.

(20/158)


وَأَضَافَ السُّبْكِيُّ: فَصَارَ كَالْمَعِيبِ الَّذِي يَخْرُجُ أَنْقَصَ مِمَّا اقْتَضَاهُ الْعُرْفُ (1) .

شَرَائِطُ قِيَامِ خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ:
5 - هَذِهِ الشَّرَائِطُ بَعْضُهَا يَنْبَغِي وُجُودُهُ فِي الْوَصْفِ لِيَكُونَ مُعْتَبَرًا اشْتِرَاطُهُ، وَبَعْضُهَا يَتَّصِل بِتَخَلُّفِ الْوَصْفِ أَوْ فَوَاتِهِ لِيَنْشَأَ عَنْ ذَلِكَ صِحَّةُ الْبَيْعِ مَعَ الْخِيَارِ بَدَلاً مِنَ الْفَسَادِ أَوِ الْبُطْلاَنِ.

شَرَائِطُ الْوَصْفِ الْمُعْتَبَرِ:
6 - يُشْتَرَطُ لِكَوْنِ الْوَصْفِ مُعْتَبَرًا:
1 - أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ وُجُودَهُ وَصْفًا: أَمَّا لَوْ كَانَ مِلْكِيَّةَ عَيْنٍ أُخْرَى أَوْ مَنْفَعَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ لَيْسَ مِنْ قَبِيل الأَْوْصَافِ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ فَوَاتِ الْوَصْفِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الشُّرُوطِ. وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى فَسَادِ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الشَّاةِ حَامِلاً، لأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَصْفٍ بَل اشْتِرَاطُ مِقْدَارٍ مِنَ الْمَبِيعِ مَجْهُولٍ، وَضَمُّ الْمَعْلُومِ إِلَى الْمَجْهُول يَجْعَل الْكُل مَجْهُولاً، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ الْوَصْفَ، مَا يَدْخُل تَحْتَ الْمَبِيعِ بِلاَ
__________
(1) المهذب وشرحه (تكملة المجموع) للسبكي 12 / 364 - 365، وقد رأينا في خيارات النقيصة كيف جعل الغزالي تخلف الوصف أحد أسباب النقيصة الثلاثة (الوجيز 2 / 141) .

(20/159)


ذِكْرٍ، كَالْجَوْدَةِ، وَالأَْشْجَارِ، وَالْبِنَاءِ وَالأَْطْرَافِ (1) .
2 - أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْمَرْغُوبُ مُبَاحًا فِي الشَّرْعِ، (أَوْ مُقَرَّرًا مِنْهُ) : فَاشْتِرَاطُ الْمَحْظُورِ مِنَ الأَْوْصَافِ لاَغٍ، كَاشْتِرَاطِهِ فِي الْكَبْشِ كَوْنَهُ نَطَّاحًا، أَوِ الدِّيكِ صَائِلاً (لاِسْتِعْمَالِهِ فِي صُوَرٍ مِنَ اللَّهْوِ مَحْظُورَةٍ) لأَِنَّ مَا لاَ يُقِرُّهُ الشَّارِعُ يَمْتَنِعُ الاِلْتِزَامُ بِهِ (2) .
3 - أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مُنْضَبِطًا (لَيْسَ فِيهِ غَرَرٌ) : وَذَلِكَ بِحَيْثُ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ وَالْحُكْمُ بِوُجُودِهِ وَعَدَمِهِ.
4 - أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مَرْغُوبًا فِيهِ: وَذَلِكَ بِحَسَبِ الْعَادَةِ، فَلَوِ اشْتَرَطَ مَا لَيْسَ بِمَرْغُوبٍ أَصْلاً، كَأَنْ يَكُونَ مَعِيبًا فَإِذَا هُوَ سَلِيمٌ فَلاَ خِيَارَ لَهُ. وَيَتَّصِل بِالْكَلاَمِ عَنْ مَرْغُوبِيَّةِ الْوَصْفِ أَنْ يَتَحَقَّقَ فِي الْمَبِيعِ وَصْفٌ أَفْضَل مِنَ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَصْفَ خَيْرٌ مِمَّا اشْتَرَطَهُ فَالْعَقْدُ لاَزِمٌ وَلاَ خِيَارَ لَهُ، وَذَكَرُوا مِنْ أَمْثِلَتِهِ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي الْجَمَل أَنَّهُ بَعِيرٌ فَإِذَا هُوَ نَاقَةٌ، وَالْمُشْتَرِي مِنْ أَهْل الْبَادِيَةِ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ مَا فِيهِ
__________
(1) البدائع 5 / 172؛ لأن المشروط صفة محضة للمبيع أو الثمن لا يتصور انقلابها بها أصلاً ولا يكون لها حصة من الثمن بحال، ولو كان موجودًا عند العقد يدخل فيه من غير تسمية. وقال في شرط (الحمل في الجارية) : الشرط هناك عين وهو الحمل فلا يصلح شرطًا.
(2) فتح القدير 5 / 135، والعناية 5 / 136، ورد المحتار 4 / 46.

(20/159)


الدَّرُّ وَالنَّسْل (1) . وَلأَِصْحَابِ الْمَذَاهِبِ تَفْصِيلٌ فِي ضَبْطِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ، فَالْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّهُ مَا فِيهِ غَرَضٌ لِلْعَاقِدِ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ مَالِيَّةٌ أَمْ لاَ، لأَِنَّ الْغَرَضَ أَعَمُّ مِنَ الْمَالِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّهُ مَا فِيهِ مَالِيَّةٌ لاِخْتِلاَفِ الْقِيَمِ بِوُجُودِهِ وَعَدَمِهِ، وَأَوْجَزَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: الَّذِي يَدُل عَلَيْهِ كَلاَمُهُمْ: أَنَّهُ كُل وَصْفٍ مَقْصُودٍ مُنْضَبِطٍ فِيهِ مَالِيَّةٌ. وَذَكَرَ السُّبْكِيُّ تَقْسِيمَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ وَالرَّافِعِيِّ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةَ إِلَى ثَلاَثَةٍ:
1 - أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا زِيَادَةٌ مَالِيَّةٌ يَصِحُّ الْتِزَامُهَا وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ بِتَخَلُّفِهَا.
2 - أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا غَرَضٌ صَحِيحٌ غَيْرُ الْمَال وَتَخَلُّفُهَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ عَلَى خِلاَفٍ.
3 - أَنْ لاَ يَتَعَلَّقَ بِهَا مَالِيَّةٌ وَلاَ غَرَضٌ مَقْصُودٌ، وَاشْتِرَاطُهَا لَغْوٌ لاَ خِيَارَ بِفَقْدِهِ، ثُمَّ اسْتُحْسِنَ مِنَ النَّوَوِيِّ جَعْلُهَا قِسْمَيْنِ بِالاِقْتِصَارِ عَلَى الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ أَوْ عَدَمِهِ (2) .
__________
(1) العناية وفتح القدير 5 / 136، وقد فصّل ابن الهمام وغيره مسألة اشتراط الحمل في الأمة المبيعة. المجموع 9 / 324، المغني 4 / 139، مغني المحتاج 2 / 34، الفتاوى الكبرى لابن حجر 2 / 139.
(2) البدائع 5 / 172، الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 108، الفتاوى الكبرى لابن حجر 2 / 139، تكملة المجموع 12 / 365 وفي 12 / 366: الأجود اعتبار قوة الغرض وضعفه دون اعتبار المالية، والغرض قد يتعلق بصفة ولا يقوم غيرها مقامها وإن كان أفضل منها من جهة أخرى.

(20/160)


5 - أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُشْتَرِي الْوَصْفَ الْمَرْغُوبَ، وَيُوَافِقَ عَلَى ذَلِكَ الْبَائِعُ فِي الْعَقْدِ، فَلاَ يُعْتَبَرُ حَال الْمُشْتَرِي قَرِينَةً كَافِيَةً عَنِ الاِشْتِرَاطِ.
وَذَلِكَ لأَِنَّ هَذَا الْوَصْفَ يَسْتَحِقُّ فِي الْعَقْدِ بِالشَّرْطِ - لاَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ - فَلَوْلاَهُ لَمَا اسْتُحِقَّ (1) .
عَلَى أَنَّهُ تُعْتَبَرُ حَال الْمُشْتَرِي فِي تَفْسِيرِ الْوَصْفِ فِيمَا إِذَا حَصَل اشْتِرَاطُهُ بِصُورَةٍ مُقْتَضِبَةٍ. وَكَذَلِكَ يُؤْخَذُ حَال الْمُشْتَرِي بِالاِعْتِبَارِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمَوْجُودِ فِي الْبَيْعِ، هَل هُوَ أَفْضَل مِنَ الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ فَيَسْقُطُ خِيَارُهُ أَمْ دُونَهُ. وَلَوِ اشْتَرَى كَلْبًا مَعْرُوفًا بِأَنَّهُ صَائِدٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ نِسْيَانُهُ، يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْوَصْفِ وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ صَرَاحَةً، كَكَوْنِ الْكَلْبِ صَائِدًا، لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ رَغْبَةً فِي هَذِهِ الصِّفَةِ، فَصَارَتْ مَشْرُوطَةً دَلاَلَةً (2) .
وَفِي مَنْزِلَةِ الشَّرْطِ الصَّادِرِ مِنَ الْمُشْتَرِي مَا يَصْدُرُ مِنَ الْبَائِعِ مِنَ الْمُنَادَاةِ عَلَى السِّلْعَةِ حَال الْبَيْعِ أَنَّهَا كَذَا وَكَذَا، فَتُرَدُّ بِعَدَمِ هَذَا الْوَصْفِ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: وَلاَ يُعَدُّ مَا يَقَعُ فِي الْمُنَادَاةِ مِنْ تَلْفِيقِ السِّمْسَارِ حَيْثُ كَانَتْ الْعَادَةُ أَنَّهُمْ يُلَفِّقُونَ مِثْل ذَلِكَ، فَلاَ رَدَّ عِنْدَ عَدَمِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمُنَادَاةِ
__________
(1) العناية وفتح القدير 5 / 136.
(2) فتح القدير 5 / 137.

(20/160)


عَلَى الظَّاهِرِ لِدُخُول الْمُشْتَرِي عَلَى عَدَمِ ذَلِكَ (1) .

شَرَائِطُ تَخَلُّفِ الْوَصْفِ (أَوْ فَوَاتِهِ) :
7 - يُشْتَرَطُ فِي تَخَلُّفِ الْوَصْفِ (لِبَقَاءِ الْعَقْدِ صَحِيحًا وَاسْتِلْزَامِهِ الْخِيَارَ) :
1 - أَنْ يَكُونَ التَّخَلُّفُ دَاخِلاً تَحْتَ جِنْسِ الْمَبِيعِ، أَمَّا لَوِ اشْتَرَطَ أَنَّ الثَّوْبَ قُطْنٌ فَإِذَا هُوَ كَتَّانٌ فَالْعَقْدُ غَيْرُ صَحِيحٍ لاِخْتِلاَفِ الْجِنْسِ. وَلَمَّا كَانَ فَوَاتُ الْوَصْفِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلاَفِ حَال الْمَبِيعِ عَنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ غَامِضًا، وَضَعَ الْفُقَهَاءُ لَهُ ضَابِطًا يُرَاعَى لإِِعْطَاءِ كُل حَالَةٍ حُكْمَهَا الْمُنَاسِبَ مِنْ بَيْنِ الأَْحْكَامِ التَّالِيَةِ: الْفَسَادِ، الصِّحَّةِ وَثُبُوتِ الْخِيَارِ، الصِّحَّةِ دُونَ خِيَارٍ (2) .
وَالضَّابِطُ هُوَ فُحْشُ التَّفَاوُتِ فِي الأَْغْرَاضِ وَعَدَمُهُ وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَارِنَ الْمَبِيعَ بِالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ وَيَرَى مَدَى الاِخْتِلاَفِ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى وَالاِخْتِلاَفُ فِي النَّوْعِ فَحَسْبُ، فَفِيهِ الْخِيَارُ، أَمَّا إِنْ كَانَ التَّفَاوُتُ فِي الْجِنْسِ فَحُكْمُهُ الْفَسَادُ.
وَلِهَذَا تَفْصِيلٌ جَيِّدٌ أَوْرَدَهُ ابْنُ الْهُمَامِ (3) ، وَهُوَ مِثَالٌ يُحْتَذَى لِلتَّمْيِيزِ فِي غَيْرِ الذَّوَاتِ الَّتِي اتَّخَذَهَا
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 108.
(2) فتح القدير 5 / 137.
(3) فتح القدير 5 / 137.

(20/161)


مَوْضُوعًا لِلتَّوْضِيحِ، فَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ ضَابِطَ اخْتِلاَفِ الْمَوْجُودِ عَنِ الْمَشْرُوطِ هُوَ إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى فَفِيهِ الْخِيَارُ (1) وَذَكَرَ أَنَّ مَا فَحُشَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ أَغْرَاضِهِ فَهُوَ أَجْنَاسٌ، وَمَا لَمْ يَفْحُشُ فَهُوَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَأَوْرَدَ فِيمَا يُعْتَبَرُ مِنَ الثِّيَابِ أَجْنَاسًا كَالْكَتَّانِ، وَالْقُطْنِ. وَأَنَّ الذَّكَرَ مَعَ الأُْنْثَى.
وَأَمَّا اخْتِلاَفُ النَّوْعِ دُونَ الْجِنْسِ فَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: شِرَاءُ لَحْمٍ عَلَى أَنَّهُ لَحْمُ مَعْزٍ فَإِذَا هُوَ لَحْمُ ضَأْنٍ، وَعَكْسُهُ (2) .

حَدُّ الْفَوَاتِ:
8 - إِذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ قَبْضِهِ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَطِ فَلاَ يَكُونُ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ، أَمَّا إِنْ لَمْ يَجِدَ الْوَصْفَ أَصْلاً أَوْ وَجَدَ مِنْهُ شَيْئًا يَسِيرًا نَاقِصًا بِحَيْثُ لاَ يَنْطَلِقُ الاِسْمُ عَلَيْهِ فَلَهُ حَقُّ الرَّدِّ.
وَمِثَالُهُ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي شِرَاءِ الْكَلْبِ أَنْ يَكُونَ كَلْبًا صَائِدًا، فَوَصْفُ الصَّيْدِ لَهُ مَفْهُومٌ وَهُوَ الاِسْتِجَابَةُ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الاِنْقِضَاضِ عَلَى الصَّيْدِ. وَالاِئْتِمَارُ بِأَمْرِ مُرْسِلِهِ بِحَيْثُ يَرْجِعُ إِنِ اسْتَدْعَاهُ أَوْ
__________
(1) ونحوه ضابط الشافعية بالجنس وتعليلهم عدم الصحة في بعض الصور بأن العقد وقع على جنس فلا ينعقد على جنس آخر (تكملة المجموع 12 / 334) .
(2) فتح القدير 5 / 137، تكملة المجموع 12 / 371.

(20/161)


يَنْطَلِقُ إِنْ أَغْرَاهُ، فَمَتَى وُجِدَ هَذَا الْوَصْفُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بِالصُّورَةِ الْمُثْلَى الَّتِي يَنْدُرُ مَعَهَا إِفْلاَتُ الْفَرِيسَةِ مِنْهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ. أَمَّا إِذَا كَانَ لاَ يَصِيدُ أَصْلاً، أَوْ يَصِيدُ بِصُورَةٍ نَاقِصَةٍ لاَ يَسْتَحِقُّ مَعَهَا أَنْ يُسَمَّى (صَائِدًا) فَلَهُ حَقُّ الرَّدِّ (1) .
2 - أَنْ يَكُونَ فَوَاتُ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَطِ لَيْسَ عَيْبًا:
9 - وَقَدْ تَوَارَدَتْ عِبَارَاتُ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْمُثْبِتِينَ لِهَذَا الْخِيَارِ عَلَى أَنَّ الصِّفَةَ الْمَقْصُودَةَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِمَّا لاَ يُعَدُّ فَقْدُهَا عَيْبًا، وَإِلاَّ كَانَتِ الْقَضِيَّةُ مِنْ بَابِ خِيَارِ الْعَيْبِ (2) .

مُوجِبُ خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ:
10 - إِذَا تَحَقَّقَ فَوَاتُ الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ - كَمَا سَبَقَ - وَكَانَ مُسْتَوْفِيًا الشَّرَائِطَ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ. وَمَاهِيَّةُ هَذَا الْخِيَارِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقُّ رَدِّ الْمَبِيعِ، أَوْ أَخْذِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ دُونَ أَرْشٍ لِلْوَصْفِ الْفَائِتِ (3) .
__________
(1) فتح القدير والعناية 5 / 135، وتكملة المجموع 12 / 365 يكفي أن يوجد من الصفة المذكورة ما ينطلق عليه الاسم ولا يشترط النهاية فيها، البدائع 5 / 169، الحطاب 4 / 447، كشاف القناع 2 / 37.
(2) المجموع شرح المهذب 9 / 324، المغني 4 / 139، تذكرة الفقهاء 1 / 540.
(3) فتح القدير 5 / 136، المغني 4 / 839 ط 4.

(20/162)


هَذَا، إِذَا لَمْ يَمْتَنِعَ الرَّدُّ، فَإِنِ امْتَنَعَ الرَّدُّ بِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّةِ الْوَصْفِ الْفَائِتِ مِنَ الثَّمَنِ. وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَوَّمَ الْمَبِيعُ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ. الْوَصْفِ وَغَيْرَ مُتَّصِفٍ بِهِ، وَيَرْجِعَ بِالتَّفَاوُتِ.
وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لاَ يَرْجِعُ بِشَيْءٍ، لأَِنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي بِالشَّرْطِ لاَ بِالْعَقْدِ، وَتَعَذُّرُ الرَّدِّ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ لاَ يُوجِبُ الرُّجُوعَ عَلَى الْبَائِعِ، فَكَذَا هَذَا، وَالصَّحِيحُ الرِّوَايَةُ السَّابِقَةُ - وَهِيَ مِنْ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. لأَِنَّ الْبَائِعَ عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِهِ وَصْفَ السَّلاَمَةِ، كَمَا فِي الْعَيْبِ.
أَمَّا انْحِصَارُ الْخِيَارِ فِي أَمْرَيْنِ، هُمَا الرَّدُّ أَوِ الأَْخْذُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَعَدَمُ تَخْوِيل الْمُشْتَرِي الرُّجُوعَ بِحِصَّةِ الْفَوَاتِ إِلاَّ عِنْدَ امْتِنَاعِ الرَّدِّ، فَهُوَ أَنَّ الْفَائِتَ وَصْفٌ، وَالأَْوْصَافُ لاَ يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، لِكَوْنِهَا تَابِعَةً فِي الْعَقْدِ تَدْخُل مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ، وَلَوْ فَاتَتْ بِيَدِ الْبَائِعِ قَبْل التَّسْلِيمِ لَمْ يَنْقُصْ مِنَ الثَّمَنِ شَيْءٌ (1) .
__________
(1) فتح القدير 5 / 135، والعناية 5 / 136، ولينظر لتفصيل قضية الأوصاف وعدم مقابلتها بشيء من الثمن (5 / 91 - 93) من الفتح والعناية. تكملة المجموع " إذا ظهر الخلف في الصفة المشترطة وقد تقدم فسخ العقد بهلاك أو حدوث عيب فله أخذ الأرش على التفصيل المتقدم في خيار العيب " 12 / 371.

(20/162)


الْعُقُودُ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ:
11 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ مَجَال هَذَا الْخِيَارِ هُوَ مَجَال خِيَارِ الْعَيْبِ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ عَلَى مَا يَتَعَيَّنُ، فَلاَ يَثْبُتُ فِي الْمَبِيعِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ بِالتَّعْيِينِ، وَهُوَ الْمَبِيعُ الَّذِي يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ عَلَى طِبْقِ الْوَصْفِ فَهُوَ غَيْرُ الْمَبِيعِ:
وَكَذَلِكَ لاَ يَثْبُتُ فِي الْمَبِيعِ الْغَائِبِ، لأَِنَّ لِلْمَبِيعِ الْغَائِبِ خِيَارًا خَاصًّا بِهِ وَهُوَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ.

تَوْقِيتُ خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ عَلَى التَّرَاخِي وَلاَ يَتَوَقَّتُ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ إِلَى أَنْ يُوجَدَ مَا يُسْقِطُهُ مِمَّا يَدُل عَلَى الرِّضَا. وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ تَوْقِيتَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَهُوَ عِنْدَهُمْ عَلَى الْفَوْرِ. وَذَلِكَ كُلُّهُ مُنْسَجِمٌ مَعَ اعْتِبَارِ خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ بِخِيَارِ الْعَيْبِ وَابْتِنَائِهِ عَلَيْهِ (1) .

انْتِقَالُهُ بِالْمَوْتِ:
13 - هَذَا الْخِيَارُ يُورَثُ بِمَوْتِ مُسْتَحِقِّهِ، فَيَنْتَقِل إِلَى وَرَثَتِهِ، لأَِنَّهُ فِي ضِمْنِ مِلْكِ الْعَيْنِ، هَكَذَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَالاِنْتِقَال عِنْدَهُمْ مُقَرَّرٌ فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ مِنَ الْخِيَارَاتِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْعَيْنِ (2)
__________
(1) العناية 5 / 136، الحطاب 4 / 448، تكملة المجموع 12 / 370، كشاف القناع 2 / 39.
(2) البحر الرائق 6 / 19، وفتح القدير 5 / 135.

(20/163)


سُقُوطُهُ:
14 - يَسْقُطُ بِمَا يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الْعَيْبِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (خِيَارُ الْعَيْبِ) .

خِيَارُ الْقَبُول

انْظُرْ: بَيْعٌ

(20/163)


خِيَارُ كَشْفِ الْحَال

التَّعْرِيفُ:
1 - الْكَشْفُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الإِْظْهَارُ، وَرَفْعُ شَيْءٍ عَمَّا يُوَارِيهِ وَيُغَطِّيهِ، يُقَال: كَشَفَهُ فَانْكَشَفَ. وَالتَّكَشُّفُ مِنْ تَكَشَّفَ أَيْ ظَهَرَ، كَانْكَشَفَ. وَالْحَال مَعْرُوفُ الْمَعْنَى (1) .
وَالتَّعْرِيفُ الاِصْطِلاَحِيُّ مُسْتَمَدٌّ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، فَخِيَارُ الْكَشْفِ هُوَ: حَقُّ الْفَسْخِ لِمَنْ ظَهَرَ لَهُ مِقْدَارُ الْمَبِيعِ عَلَى غَيْرِ مَا ظَنَّهُ (2) .
وَسَمَّاهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَسْمَاءٍ عَدِيدَةٍ مِنْ نَفْسِ الْمَادَّةِ اللُّغَوِيَّةِ، فَقَدْ دَعَوْهُ: كَشْفَ الْحَال، وَانْكِشَافَ الْحَال، وَالتَّكَشُّفَ.
وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْخِيَارِ يَظْهَرُ مِنِ اسْتِعْرَاضِ مَجَالِهِ، فَهُوَ يَجْرِي فِي الْمَقَايِيسِ الشَّخْصِيَّةِ الَّتِي يَلْجَأُ إِلَيْهَا الْمُتَعَاقِدَانِ أَحْيَانًا بَدَلاً مِنَ الْمَقَايِيسِ الْمُتَعَارَفِ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ كَانَ الْمِقْيَاسُ مِنْ وَسَائِل الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ.
وَمِثَالُهُ الْمُتَدَاوَل لَدَى الْفُقَهَاءِ. أَنْ يَبِيعَ
__________
(1) المصباح المنير، والمغرب، والقاموس المحيط مادة: " كشف ".
(2) رد المحتار 4 / 27 و 45.

(20/164)


شَخْصٌ شَيْئًا مِمَّا يُبَاعُ بِالْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ فَلاَ يُسْتَعْمَل لِتَقْدِيرِهِ الْمَكَايِيل أَوِ الْمَوَازِينُ الْمُتَعَارَفُ عَلَيْهَا، بَل يَبِيعُهُ بِإِنَاءٍ بِعَيْنِهِ لاَ يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ، كَصُنْدُوقٍ أَوْ كِيسٍ. أَوْ بِوَزْنِ حَجَرٍ بِعَيْنِهِ كَذَلِكَ. فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ (سَيَأْتِي بَيَانُهَا) وَمُسْتَتْبَعُ حَقِّ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي، أَيْ أَنَّ الْبَيْعَ غَيْرُ لاَزِمٍ (1) .
وَفِي صِحَّتِهِ خِلاَفٌ عُنِيَتْ بِذِكْرِهِ كُتُبُ الْحَنَفِيَّةِ.

مَشْرُوعِيَّتُهُ:
2 - أَخَذَ الْحَنَفِيَّةُ بِهَذَا الْخِيَارِ فِي رِوَايَةٍ وَذَكَرُوهُ فِي عِدَادِ الْخِيَارَاتِ الْمُسَمَّاةِ عِنْدَهُمْ. وَأَثْبَتَ هَذَا الْخِيَارَ أَيْضًا الشَّافِعِيَّةُ، وَإِنْ أَطْلَقُوا عَلَيْهِ غَيْرَ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ، وَأَحْيَانًا لَمْ يُسَمُّوهُ بَل عَبَّرُوا عَنْهُ.
فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّهُ لَوْ قَال: " بِعْتُكَ مِلْءَ هَذَا الْكُوزِ أَوِ الْبَيْتِ مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ، أَوْ زِنَةَ هَذِهِ الْحَصَاةِ مِنْ هَذَا الذَّهَبِ، هُوَ صَحِيحٌ. لإِِمْكَانِ الأَْخْذِ مِنَ الْمُعَيَّنِ قَبْل تَلَفِهِ. وَالْعِلْمُ بِالْقَدْرِ الْمُعَيَّنِ لاَ يُشْتَرَطُ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ قَال: فِي ذِمَّتِي صِفَتُهَا كَذَا " (2) .
وَقَدْ مَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَعَدُّوهُ مِنْ أَنْوَاعِ بَيْعِ الْغَرَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا (3) .
__________
(1) رد المحتار 4 / 27.
(2) الفتاوى الكبرى لابن حجر 2 / 157.
(3) القوانين الفقهية 248، المحلى 8 / 377 م1420.

(20/164)


وَالْمَنْعُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَوَجْهُ الْقَوْل بِالْجَوَازِ أَنَّ الْجَهَالَةَ الثَّابِتَةَ فِي هَذَا الْعَقْدِ لاَ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، لأَِنَّهُ يَتَعَجَّل تَسْلِيمُهُ فِي الْمَجْلِسِ (وَهُوَ أَحَدُ الشُّرُوطِ الْخَاصَّةِ) وَإِنَّمَا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ الْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ لِلنِّزَاعِ.
قَال ابْنُ الْهُمَامِ: الْوَجْهُ يَقْتَضِي أَنْ يَثْبُتَ الْخِيَارُ إِذَا كَال بِهِ أَوْ وَزَنَ لِلْمُشْتَرِي، كَمَا فِي الشِّرَاءِ بِوَزْنِ هَذَا الْحَجَرِ ذَهَبًا، نَصَّ فِي جَمِيعِ النَّوَازِل (أَيْ كُتُبِ الْفَتَاوَى) عَلَى أَنَّ فِيهِ الْخِيَارَ إِذَا عَلِمَ بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ بِالْوَزْنِ. ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ ابْنُ الْهُمَامِ بِمَا نُقِل، بَل أَتَى بِنَظِيرٍ لِهَذَا الْحُكْمِ فَقَال: وَأَقْرَبُ الأُْمُورِ إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا إِذَا بَاعَ صُبْرَةً كُل قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ: أَنَّهُ إِذَا كَال فِي الْمَجْلِسِ حَتَّى عَرَفَ الْمِقْدَارَ صَحَّ وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي كَمَا إِذَا رَآهُ وَلَمْ يَكُنْ رَآهُ وَقْتَ الْبَيْعِ، مَعَ أَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ رَأَى الصُّبْرَةَ قَبْل الْكَيْل وَوَقَعَتِ الإِْشَارَةُ إِلَيْهَا.
أَمَّا الْقَوْل بِالْمَنْعِ فَوَجْهُهُ أَنَّ الْبَيْعَ فِي الْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُجَازَفَةً أَوْ بِذِكْرِ الْقَدْرِ، فَفِي الْمُجَازَفَةِ: الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَا يُشَارُ إِلَيْهِ، وَعِنْدَ ذِكْرِ الْقَدْرِ: الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَا سُمِّيَ مِنَ الْقَدْرِ وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْهُمَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُجَازَفَةٍ، وَلاَ سُمِّيَ قَدْرٌ مَعِينٌ إِذْ لَمْ يَكُنَ الْمِكْيَال مَعْلُومًا (1) .
__________
(1) الكفاية شرح الهداية 5 / 471، وفتح القدير والعناية (أيضًا) .

(20/165)


شَرَائِطُ صِحَّةِ الْعَقْدِ مَعَ خِيَارِ الْكَشْفِ:
3 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ الْمَذْكُورِ الْمُسْتَلْزِمِ خِيَارَ كَشْفِ الْحَال:
1 - بَقَاءُ الْمِكْيَال، أَوِ الْمِيزَانِ، غَيْرِ الْمَعْرُوفِ عَلَى حَالِهِمَا:
فَلَوْ تَلِفَا قَبْل التَّسْلِيمِ فَسَدَ الْبَيْعُ، لأَِنَّهُ لاَ يَعْلَمُ مَبْلَغَ مَا بَاعَهُ إِيَّاهُ. وَهَذَا الشَّرْطُ ذَكَرَهُ فِي الْبَحْرِ نَقْلاً عَنِ السِّرَاجِ وَأَوْرَدَهُ ابْنُ عَابِدِينَ مُقِرًّا لَهُ (1) .
2 - تَعْجِيل تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ:
أَيْ: تَسْلِيمُهُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ قَال ابْنُ الْهُمَامِ: " كُل الْعِبَارَاتِ تُفِيدُ تَقْيِيدَ صِحَّةِ الْبَيْعِ فِي ذَلِكَ بِالتَّعْجِيل " وَمِنْ ذَلِكَ عِبَارَةُ السَّرَخْسِيِّ:
لَوِ اشْتَرَى بِهَذَا الإِْنَاءِ يَدًا بِيَدٍ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، ثُمَّ إِنَّ فِي الْمُعَيَّنِ الْبَيْعَ مُجَازَفَةً يَجُوزُ، فَبِمِكْيَالٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ أَوْلَى (2) . وَهَذَا لأَِنَّ التَّسْلِيمَ: عَقِيبَ الْبَيْعِ (3) .
3 - يُشْتَرَطُ (فِي الْكَيْل خَاصَّةً) أَنْ لاَ يَحْتَمِل الْمِكْيَال الشَّخْصِيُّ النُّقْصَانَ، بِأَنْ لاَ يَنْكَبِسَ وَلاَ يَنْقَبِضَ، كَأَنْ يَكُونَ مِنْ خَشَبٍ أَوْ حَدِيدٍ. أَمَّا إِذَا كَانَ كَالزِّنْبِيل وَالْجُوَالِقِ فَلاَ يَجُوزُ.
__________
(1) رد المحتار 4 / 27.
(2) رد المحتار 4 / 27.
(3) فتح القدير 5 / 86، المبسوط 13 / 250، ولهذه الشريطة لا يصح السلم بإناء غير معلوم، وبالتالي ليس هو محلاً للخيار.

(20/165)


وَمِنْ ذَلِكَ الْقَبِيل بَيْعُ مِلْءِ قِرْبَةٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ رَاوِيَةٍ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّ الْمَاءَ لَيْسَ عِنْدَهُ وَلاَ يُعْرَفُ قَدْرُ الْقِرْبَةِ، لَكِنْ أَطْلَقَ فِي الْمُجَرَّدِ جَوَازَهُ. وَلاَ بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ الْقِرَبِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي الْبَلَدِ مَعَ غَالِبِ السَّقَّائِينَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إِذَا مَلأََهَا ثُمَّ تَرَاضَيَا جَازَ. قَال ابْنُ الْهُمَامِ: وَلاَ شَكَّ أَنَّ الْقِيَاسَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَأَمَّا الاِسْتِحْسَانُ الثَّابِتُ بِالتَّعَامُل فَمُقْتَضَاهُ الْجَوَازُ بَعْدَ أَنْ يُسَمِّيَ نَوْعَ الْقِرْبَةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ مُعَيَّنَةً. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ التَّفَاوُتِ يَسِيرٌ أُهْدِرَ فِي الْمَاءِ.

(20/166)


خِيَارُ الْكَمِّيَّةِ

التَّعْرِيفُ:
1 - (الْكَمِّيَّةُ) ، مَصْدَرٌ صِنَاعِيٌّ مِنْ (كَمْ) وَهِيَ الأَْدَاةُ الْمَوْضُوعَةُ فِي اللُّغَةِ لِلسُّؤَال عَنِ الْمِقْدَارِ (1) . وَخِيَارُ الْكَمِّيَّةِ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ، عَلَى مَا عَرَّفَهُ صَاحِبُ الْفَتَاوَى السِّرَاجِيَّةِ: خِيَارُ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ (2) . وَالْمُرَادُ بِهِ (حَقُّ الْبَائِعِ فِي الْفَسْخِ لِخَفَاءِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ عِنْدَ التَّعَاقُدِ) .
وَيُسَمَّى هَذَا الْخِيَارُ خِيَارَ الْكَمِّيَّةِ، لأَِنَّهُ بِسَبَبِ جَهْل كَمِّيَّةِ الثَّمَنِ، لِعَدَمِ رُؤْيَتِهِ رُؤْيَةً مُفِيدَةً، بَل يُرَى فِي وِعَاءٍ بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِهِ.
وَهَذَا الْخِيَارُ شَدِيدُ الشَّبَهِ مِنْ حَيْثُ الْغَرَضُ، بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَنْدَرِجْ فِيهِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ لاَ يَثْبُتُ فِي النُّقُودِ (3) .
وَلِهَذَا الْخِيَارِ تَطْبِيقَاتُهُ - عَلَى قِلَّتِهَا - لَكِنَّهُ يَقَعُ
__________
(1) القاموس المحيط مادة: " كم "، مغني اللبيب 2 / 183، والمصباح المنير.
(2) حاشية الحموي على الأشباه لابن نجيم 1 / 327، ورسالة حدود الفقه لابن نجيم.
(3) فتح القدير 5 / 82، رد المحتار 4 / 22، والفتاوى الهندية 3 / 127، نقلاً عن قاضيخان.

(20/166)


فِي حَال الْمُسَاوَمَاتِ الْوُدِّيَّةِ، وَفِي الْمُصَالَحَةِ عَنِ الْحُقُوقِ، فَيَلْجَأُ الْمُبَادِل إِلَى تَقْدِيمِ صُرَّةٍ مِنَ الْمَال أَوْ رَبْطَةٍ مِنَ الأَْوْرَاقِ النَّقْدِيَّةِ. بَل فِي الْمُبَايَعَاتِ الْعَادِيَةِ أَحْيَانًا يَشْتَرِي الشَّخْصُ شَيْئًا بِمَا فِي جَيْبِهِ أَوْ حَقِيبَتِهِ مِنَ النُّقُودِ دُونَ بَيَانِ الْمِقْدَارِ، وَإِثْبَاتُ هَذَا الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ عِنْدَ مَعْرِفَةِ الْمِقْدَارِ، يُحَقِّقُ تَمَامَ التَّرَاضِي.

مَشْرُوعِيَّتُهُ:
2 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْخِيَارِ، وَأَدْرَجُوهُ فِي عِدَادِ الْخِيَارَاتِ الَّتِي أَحْصَوْهَا، وَرَأَوْا أَنَّهُ مُكَمِّلٌ لِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا لِثُبُوتِهِ بِالْقِيَاسِ عَلَى خِيَارِ الْعَيْبِ، فَهُوَ عَلَى هَذَا خِيَارُ نَقِيصَةٍ، وَرُبَّمَا كَانَ ثُبُوتُهُ عِلاَجًا لِلْجَهَالَةِ - وَهِيَ الَّتِي ثَبَتَ لأَِجْلِهَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ - دَرْءًا لِلْجَهَالَةِ وَتَخْفِيفًا لِلْغَرَرِ. وَصَنِيعُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْمُقَارَنَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ يَدْنُو بِهِ إِلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، فَكَأَنَّهُ هُوَ، لَوْلاَ تَخْصِيصُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ بِالأَْعْيَانِ، وَأَمَّا خِيَارُ الْكَمِّيَّةِ فَهُوَ لِلنُّقُودِ (2) .

أَحْكَامُ خِيَارِ الْكَمِّيَّةِ:
3 - مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ الثَّمَنِ
__________
(1) رد المحتار 4 / 46، والأشباه والنظائر لابن نجيم، والبحر الرائق له 2 / 3.
(2) البدائع 5 / 220.

(20/167)


وَوَصْفُهُ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مِنَ الزُّمْرَةِ الَّتِي تُدْعَى: الأَْثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَثْبُتُ مُطْلَقَةً عَنِ الإِْشَارَةِ إِلَيْهَا. وَلِذَا اشْتُرِطَ مَعْرِفَةُ الْمِقْدَارِ وَالْوَصْفِ لِتَنْتَفِيَ الْجَهَالَةُ الْفَاحِشَةُ الَّتِي تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ وَالتَّسَلُّمَ. بِخِلاَفِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ. فَالْعِلْمُ بِالْمِقْدَارِ: كَأَنْ يَقُول عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَالْعِلْمُ بِالصِّفَةِ: أَنْ يُحَدِّدَ الدَّرَاهِمَ بِأَنْ يَنْسُبَهَا النِّسْبَةَ الْمُمَيِّزَةَ لَهَا عَنْ غَيْرِهَا إِذَا كَانَ ثَمَّةَ دَرَاهِمُ مُخْتَلِفَةٌ، فَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ دَفْعَ الأَْدْوَنِ، وَالْبَائِعُ يَطْلُبُ الأَْرْفَعَ، فَلاَ يَحْصُل مَقْصُودُ شَرْعِيَّةِ الْعَقْدِ.
وَالْعَقْدُ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا بِقِيمَتِهِ أَوْ بِمَا حَل بِهِ، أَوْ بِمَا يُرِيدُ الْمُشْتَرِي، أَوْ بِمَا يُحِبُّ، أَوْ أَنْ يَجْعَل الثَّمَنَ رَأْسَ الْمَال أَوْ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ أَوْ بِمِثْل مَا اشْتَرَى فُلاَنٌ، وَلَمْ يَعْلَمَ الْمُشْتَرِي بِقَدْرِ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ لَمْ يَجُزْ. أَمَّا لَوْ عَلِمَ بِهِ فَهُوَ جَائِزٌ (1) .
وَمِنْهُ مَا لَوْ بَاعَهُ بِمِثْل مَا يَبِيعُ النَّاسُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا لاَ يَتَفَاوَتُ. وَمِنْهُ أَنْ يَبِيعَ عَلَى قَدْرِ مَا بَاعَ بِهِ - وَقَدِ اخْتَلَفَ مَا بَاعَ بِهِ - أَوْ عَلَى مَا يَبِيعُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَل فَهَذَا فَاسِدٌ (2) .
4 - وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ مُسَمًّى بِالْعَدَدِ وَالنَّوْعِ بَل كَانَ مُشَارًا إِلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الإِْشَارَةُ إِلَى ذَاتِهِ
__________
(1) البدائع 5 / 220، ويشكل هذا صورة رئيسة لخيار الكمية مجالها بيوع الأمانة.
(2) فتح القدير 5 / 83، رد المحتار 4 / 21.

(20/167)


أَوْ إِلَى وِعَائِهِ، فَفِي الإِْشَارَةِ الْمُبَاشِرَةِ إِلَيْهِ كَمَا لَوْ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ فِي يَدِهِ وَهِيَ مَرْئِيَّةٌ لَهُ، فَإِنَّهُ بِقَبُول الْعَقْدِ يَصِحُّ وَيَلْزَمُ، فَلاَ خِيَارَ لَهُ، وَالْوَجْهُ فِي هَذَا أَنَّ الْبَاقِيَ هِيَ جَهَالَةُ الْوَصْفِ (يَعْنِي الْقَدْرَ) وَهِيَ لاَ تَضُرُّ، إِذْ لاَ تَمْنَعُ مِنَ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ، أَمَّا إِذَا كَانَ مُشَارًا إِلَيْهِ وَلَكِنَّهُ فِي وِعَاءٍ مَانِعٍ مِنْ مَعْرِفَةِ مِقْدَارِهِ - وَلَوْ عَلَى سَبِيل التَّقْرِيبِ - كَمَا لَوْ كَانَ فِي صُنْدُوقٍ أَوْ خَابِيَةٍ، ثُمَّ رَأَى الثَّمَنَ بَعْدَئِذٍ بَادِيًا دُونَ وِعَاءٍ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ قَبْل مِقْدَارَهُ مِنَ الْخَارِجِ. كَمَا لَوْ كَانَ فِي صُرَّةٍ. فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ عَدَمُ التَّخْيِيرِ، لأَِنَّهُ عَرَفَ الْمِقْدَارَ.
أَمَّا صَاحِبُ الدُّرِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَدْ فَصَّل فِي الْعِبْرَةِ عَلَى أَسَاسِ مَعْرِفَةِ مَا فِيهَا مِنْ خَارِجٍ، فَإِنْ كَانَتْ تُعْرَفُ فَلاَ خِيَارَ، وَإِنْ كَانَتْ لاَ تُعْرَفُ مِنَ الْخَارِجِ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ بِمَثَابَةِ الْخَابِيَةِ. وَالضَّابِطُ فِي هَذَا: " أَنَّ الْوِعَاءَ الْمُشْتَمِل عَلَى الثَّمَنِ إِنْ كَانَ يَدُل عَلَى مَا فِيهِ. (دَلاَلَةً تَقْرِيبِيَّةً) فَلاَ يَثْبُتُ مَعَهُ خِيَارُ الْكَمِّيَّةِ، وَإِلاَّ ثَبَتَ الْخِيَارُ " (1) .
وَقَدْ تَعَرَّضَ الشَّافِعِيَّةُ لِمَا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ مُسَمًّى وَلاَ مُحَدَّدًا، بَل كَانَ صُرَّةً مِنَ الدَّرَاهِمِ تَمَّتِ الْمُبَادَلَةُ بِهَا جُزَافًا لاَ يَعْلَمُ وَاحِدٌ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَدْرَهَا، لَكِنَّهَا مُشَاهَدَةٌ مِنْهُمَا، صَحَّ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 22، والفتح 5 / 82.

(20/168)


الْبَيْعُ بِلاَ خِلاَفٍ. لَكِنْ هَل يُكْرَهُ الْبَيْعُ بِصُرَّةِ الدَّرَاهِمِ جُزَافًا؟ فِيهِ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ حَكَاهُمَا الْخُرَاسَانِيُّونَ، أَصَحُّهُمَا: يُكْرَهُ، وَبِهِ قَطَعَ الشِّيرَازِيُّ وَآخَرُونَ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ. وَالثَّانِي: لاَ يُكْرَهُ، لأَِنَّهَا مُشَاهَدَةٌ (1) .
__________
(1) المجموع شرح المهذب 9 / 343.

(20/168)


خِيَارُ الْمَجْلِسِ

التَّعْرِيفُ:
1 - سَبَقَ الْكَلاَمُ عَنْ كَلِمَةِ (خِيَارٌ) فِي مُصْطَلَحِ خِيَارٌ بِوَجْهٍ عَامٍّ، وَأَمَّا كَلِمَةُ (الْمَجْلِسِ) - بِكَسْرِ اللاَّمِ - فَهِيَ تَرِدُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرًا مِيمِيًّا، وَاسْمًا لِلزَّمَانِ، وَاسْمًا لِلْمَكَانِ، مِنْ مَادَّةِ (الْجُلُوسِ) وَاسْتِعْمَالُهُ الْمُنَاسِبُ هُنَا هُوَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ، أَيْ مَوْضِعِ الْجُلُوسِ. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ كَلِمَةَ (الْمَجْلِسِ) تَحْمِل مَعْنَى (مَجْلِسِ الْعَقْدِ) فَهِيَ لَيْسَتْ لِمُطْلَقِ مَجْلِسٍ، بَل لِمَجْلِسِ الْعَقْدِ خَاصَّةً، وَهَذَا التَّقْيِيدُ تُشِيرُ إِلَيْهِ (أَل) فَهِيَ لِلدَّلاَلَةِ عَلَى الْمَعْهُودِ فِي الذِّهْنِ. وَالْمُرَادُ مَكَانُ التَّبَايُعِ أَوِ التَّعَاقُدِ (1) . فَمَا دَامَ الْمَكَانُ الَّذِي يَضُمُّ كِلاَ الْعَاقِدَيْنِ وَاحِدًا، فَلَهُمَا الْخِيَارُ فِي إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ، إِلَى أَنْ يَتَفَرَّقَا وَيَكُونَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجْلِسُهُ الْمُسْتَقِل.
وَمَجْلِسُ الْعَقْدِ: هُوَ الْوِحْدَةُ الزَّمَنِيَّةُ الَّتِي تَبْدَأُ مِنْ وَقْتِ صُدُورِ الإِْيجَابِ، وَتَسْتَمِرُّ طِوَال الْمُدَّةِ الَّتِي يَظَل فِيهَا الْعَاقِدَانِ مُنْصَرِفَيْنِ إِلَى التَّعَاقُدِ،
__________
(1) مطالب أولي النهى 3 / 83، ونهاية المحتاج 3 / 85.

(20/169)


دُونَ ظُهُورِ إِعْرَاضٍ مِنْ أَحَدِهِمَا عَنِ التَّعَاقُدِ، وَتَنْتَهِي بِالتَّفَرُّقِ، وَهُوَ مُغَادَرَةُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ لِلْمَكَانِ الَّذِي حَصَل فِيهِ الْعَقْدُ.
وَفِي حُكْمِ التَّفَرُّقِ حُصُول التَّخَايُرِ. وَهُوَ أَنْ يُخَيِّرَ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ فِي إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ رَدِّهِ.
لَكِنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ لاَ يَبْدَأُ مِنْ صُدُورِ الإِْيجَابِ بَل مِنْ لَحَاقِ الْقَبُول بِهِ مُطَابِقًا لَهُ، أَمَّا قَبْل وُقُوعِ الْقَبُول فَإِنَّ الْعَاقِدَيْنِ يَمْلِكَانِ خِيَارًا فِي إِجْرَاءِ الْعَقْدِ أَوْ عَدَمِهِ، لَكِنَّهُ خِيَارٌ يُدْعَى خِيَارُ الْقَبُول، وَهُوَ يَسْبِقُ تَمَامَ التَّعَاقُدِ. هَذَا، وَإِنَّ حَقِيقَةَ الْجُلُوسِ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً فِي هَذَا الْخِيَارِ الْمُسَمَّى (بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ) ، لأَِنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْفَتْرَةُ الزَّمَنِيَّةُ الَّتِي تَعْقُبُ عَمَلِيَّةَ التَّعَاقُدِ دُونَ طُرُوءِ التَّفَرُّقِ مِنْ مَكَانِ التَّعَاقُدِ. فَالْجُلُوسُ ذَاتُهُ لَيْسَ مُعْتَبَرًا فِي ثُبُوتِهِ، وَلاَ تَرْكُ الْمَجْلِسِ مُعْتَبَرٌ فِي انْقِضَائِهِ، بَل الْعِبْرَةُ لِلْحَال الَّتِي يَتَلَبَّسُ بِهَا الْعَاقِدَانِ، وَهِيَ الاِنْهِمَاكُ فِي التَّعَاقُدِ.
فَخِيَارُ الْمَجْلِسِ هُوَ: حَقُّ الْعَاقِدِ فِي إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ رَدِّهِ، مُنْذُ التَّعَاقُدِ إِلَى التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ.
وَمُعْظَمُ الْمُؤَلِّفِينَ يَدْعُونَ هَذَا الْخِيَارَ (خِيَارَ الْمَجْلِسِ) غَيْرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ دَعَاهُ (خِيَارَ الْمُتَبَايِعَيْنِ) (1) وَلَعَل هَذِهِ التَّسْمِيَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُثْبِتِ لِهَذَا الْخِيَارِ، وَهُوَ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ
__________
(1) هو ابن قدامة في المغني 3 / 482.

(20/169)


مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا. فَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ الْمَرْوِيَّةِ: الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ (1) . وَبَعْضُ مَنْ لاَ يَأْخُذُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ قَدْ يَسْتَعْمِلُونَ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ أَيْضًا لَكِنَّهُمْ لاَ يُرِيدُونَهُ، بَل يَقْصِدُونَ حَالاَتِ تَخْيِيرٍ أُخْرَى نَاشِئَةً بِأَسْبَابٍ شَرْعِيَّةٍ، تَتَقَيَّدُ مُدَّتُهَا بِمَجْلِسِ نُشُوءِ الْخِيَارِ الَّذِي ثَبَتَ لِمُدَّةٍ لاَ تُجَاوِزُ زَمَنَ الْمَجْلِسِ، نَحْوُ تَفْوِيضِ الطَّلاَقِ لِلزَّوْجَةِ، حَيْثُ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهَا مَا لَمْ تَقُمْ فَتُبَدِّل مَجْلِسُهَا، أَوْ تَعْمَل مَا يَقْطَعُ الْمَجْلِسَ (2) .

مَشْرُوعِيَّةُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ، فَذَهَبَ مُعْظَمُهُمْ إِلَى الْقَوْل بِهِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى إِنْكَارِهِ وَاعْتِبَارِ الْعَقْدِ لاَزِمًا مِنْ فَوْرِ انْعِقَادِهِ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول.
فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، ذَهَبُوا إِلَى إِثْبَاتِهِ، فَلاَ يَلْزَمُ الْعَقْدُ عِنْدَ هَؤُلاَءِ إِلاَّ بِالتَّفَرُّقِ عَنِ الْمَجْلِسِ أَوِ التَّخَايُرِ وَاخْتِيَارِ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ (3) .
__________
(1) حديث: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 328 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1164 - ط الحلبي) من حديث حكيم بن حزام. وأخرج الرواية الأخرى: " المتبايعان بالخيار " البخاري (الفتح4 / 328 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1164 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر، والسياق للبخاري.
(2) رد المحتار 3 / 316.
(3) المجموع 9 / 169، المغني 3 / 482، والمحلى 8 / 409، نيل الأوطار 5 / 197.

(20/170)


وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ فُقَهَاءِ السَّلَفِ إِلَى نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ (1) . كَمَا نَفَاهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ لَمْ تُدَوَّنْ مَذَاهِبُهُمْ، الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالْعَنْبَرِيُّ.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ مِنَ السُّنَّةِ الْقَوْلِيَّةِ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْمُتَبَايِعَانِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ وَفِي رِوَايَةٍ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَكُونُ الْبَيْعُ خِيَارًا وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ (2) . وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل إِثْبَاتُ الْخِيَارِ مِنَ الشَّرْعِ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ، وَهُمَا مُتَبَايِعَانِ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول. أَمَّا قَبْل ذَلِكَ فَهُمَا مُتَسَاوِمَانِ. وَالْحَدِيثُ وَإِنْ جَاءَ بِلَفْظِ (الْمُتَبَايِعَيْنِ) يَشْمَل مَا فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ (3) . وَوَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَوْلُهُ: كَانَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا (4) . وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِي أُصُول الْحَدِيثِ، وَأُصُول الْفِقْهِ، أَنَّ قَوْل الصَّحَابِيِّ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا، لَهُ حُكْمُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ.
__________
(1) فتح القدير 5 / 81، البدائع 5 / 228، الحطاب 4 / 310، المحلى 8 / 409 م1417 نيل الأوطار 5 / 197.
(2) حديث " المتبايعان بالخيار " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 326، 328، 333 ط السلفية) من حديث عبد الله بن عمر برواياته.
(3) المهذب 1 / 257.
(4) نصب الراية 4 / 3، وجامع الأصول 2 / 9 - 10.

(20/170)


وَاسْتَدَلُّوا مِنَ السُّنَّةِ الْفِعْلِيَّةِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ الْبَيْعِ، أَيْ قَال لَهُ: اخْتَرْ، لِكَيْ يَنْبَرِمَ الْعَقْدُ، وَذَلِكَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْحَدِيثِ بِرِوَايَتِهِ الأُْخْرَى، أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَايَعَ رَجُلاً فَلَمَّا بَايَعَهُ قَال لَهُ: اخْتَرْ، ثُمَّ قَال: هَكَذَا الْبَيْعُ (1) .
وَهُنَاكَ آثَارٌ لِلصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَظَانِّهَا.
وَاسْتَدَلُّوا لَهُ أَيْضًا بِالْمَعْقُول، كَحَاجَةِ النَّاسِ الدَّاعِيَةِ إِلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ، لأَِنَّ الإِْنْسَانَ بَعْدَ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا قَدْ يَبْدُو لَهُ فَيَنْدَمُ، فَبِالْخِيَارِ الثَّابِتِ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ (2) .
وَاحْتَجَّ النُّفَاةُ بِدَلاَئِل مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ:
فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3) فَهَذِهِ الآْيَةُ أَبَاحَتْ أَكْل الْمَال بِالتِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ، مُطْلَقًا عَنْ قَيْدِ التَّفَرُّقِ عَنْ مَكَانِ الْعَقْدِ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جَوَازُ الأَْكْل فِي
__________
(1) حديث: " خير أعرابيًا بعد البيع ". أخرجه الترمذي (3 / 542 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله. والرواية الأخرى، أخرجها البيهقي (5 / 270 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عباس.
(2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2 / 126، المجموع 9 / 187.
(3) سورة النساء / 29.

(20/171)


الْمَجْلِسِ قَبْل التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ، وَعِنْدَ الْقَائِلِينَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، إِذَا فَسَخَ أَحَدُهُمَا الْعَقْدَ فِي الْمَجْلِسِ لاَ يُبَاحُ لَهُ الأَْكْل، فَكَانَ ظَاهِرُ النَّصِّ حُجَّةً عَلَيْهِمْ (1) .
وقَوْله تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (2) فَإِذَا لَمْ يَقَعِ الْعَقْدُ لاَزِمًا لَمْ يَتَحَقَّقْ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِهِ، وَهُوَ مَا تَقْضِي بِهِ الآْيَةُ (3) .
وَاحْتَجُّوا مِنَ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ (4) فَدَل عَلَى أَنَّهُ لاَ تَقْيِيدَ بِالتَّفَرُّقِ، فَلَوْ كَانَ قَيْدًا لَذَكَرَهُ، كَمَا ذَكَرَ قَيْدَ الاِسْتِيفَاءِ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ.
كَمَا أَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِإِحْدَى رِوَايَاتِ حَدِيثِ الْمُتَبَايِعَيْنِ الَّتِي فِيهَا: فَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ (5) ، حَيْثُ تَدُل عَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ لاَ يَمْلِكُ الْفَسْخَ إِلاَّ مِنْ جِهَةِ الاِسْتِقَالَةِ (6) .
وَحَدِيثِ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ وَفِي
__________
(1) البدائع 5 / 228، فتح القدير 5 / 81، المجموع 9 / 184.
(2) سورة المائدة / 1.
(3) فتح القدير 5 / 81، وبداية المجتهد 2 / 140.
(4) حديث: " من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 349 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1160 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.
(5) أخرج هذه الرواية أبو داود (3 / 736 تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبد الله بن عمرو.
(6) المجموع 9 / 184.

(20/171)


رِوَايَةٍ: عِنْدَ شُرُوطِهِمْ (1) وَالْقَوْل بِالْخِيَارِ بَعْدَ الْعَقْدِ يُفْسِدُ الشَّرْطَ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ يَعْتَبِرُ الشُّرُوطَ.
وَقَاسُوا الْبَيْعَ وَنَحْوَهُ مِنَ الْمُعَامَلاَتِ الْمَالِيَّةِ فِي هَذَا عَلَى النِّكَاحِ، وَالْخُلْعِ، وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ، وَالْكِتَابَةِ، وَكُلٌّ مِنْهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَتِمُّ بِلاَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ الدَّال عَلَى الرِّضَا، فَكَذَلِكَ الْبَيْعُ.
كَمَا قَاسُوا مَا قَبْل التَّفَرُّقِ عَلَى مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قِيَاسٌ جَلِيٌّ (2) .
وَمِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ قَالُوا: إِنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ خِيَارٌ بِمَجْهُولٍ، فَإِنَّ مُدَّةَ الْمَجْلِسِ مَجْهُولَةٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَا خِيَارًا مَجْهُولاً، وَهَذِهِ جَهَالَةٌ فَاحِشَةٌ مَمْنُوعَةٌ فِي الشَّرْعِ (3) .
وَكَذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ الْبَيْعَ صَدَرَ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطٍ، وَالْعَقْدُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ فِي الْحَال. فَالْفَسْخُ مِنْ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ يَكُونُ تَصَرُّفًا فِي الْعَقْدِ الثَّابِتِ
__________
(1) حديث: " المسلمون على شروطهم " وفي رواية: " عند شروطهم " أخرجه أبو داود (4 / 20 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة، وإسناده حسن، والرواية الأخرى أخرجها (الدارقطني (3 / 27 - ط دار المحاسن) من حديث عائشة، وضعف إسناده ابن حجر في التلخيص (3 / 23 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) نيل الأوطار 5 / 210، فتح القدير 5 / 82.
(3) المجموع 9 / 184.

(20/172)


بِتَرَاضِيهِمَا، أَوْ تَصَرُّفًا فِي حُكْمِهِ بِالرَّفْعِ وَالإِْبْطَال مِنْ غَيْرِ رِضَا الآْخَرِ وَهَذَا لاَ يَجُوزُ، كَمَا لَمْ تَجُزِ الإِْقَالَةُ أَوِ الْفَسْخُ مِنْ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ (1) .

زَمَنُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ:
3 - الزَّمَنُ الَّذِي يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، هُوَ الْفَتْرَةُ الَّتِي أَوَّلُهَا لَحْظَةُ انْبِرَامِ الْعَقْدِ، أَيْ بَعْدَ صُدُورِ الْقَبُول مُوَافِقًا لِلإِْيجَابِ.

أَمَدُ الْخِيَارِ:
4 - أَمَدُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ لاَ يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ، لأَِنَّهُ مَوْكُولٌ لإِِرَادَةِ كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَيَطُول بِرَغْبَتِهِمَا فِي زِيَادَةِ التَّرَوِّي، وَيَقْصُرُ بِإِرَادَةِ الْمُسْتَعْجِل مِنْهُمَا حِينَ يُخَايِرُ صَاحِبَهُ أَوْ يُفَارِقُهُ. فَهُوَ يُخَالِفُ فِي هَذَا خِيَارَ الشَّرْطِ الْقَائِمَ عَلَى تَعْيِينِ الأَْمَدِ بِصُورَةٍ مُحَدَّدَةٍ. فَانْتِهَاءُ الْخِيَارِ عَلَى هَذَا غَيْرُ مُنْضَبِطٍ لاِرْتِبَاطِهِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ. وَكِلاَهُمَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ زَمَنُ حُصُولِهِ.
وَلَكِنَّ هُنَاكَ وَجْهًا فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَصَفَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ، مُفَادُهُ: أَنَّ لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ أَمَدًا أَقْصَى هُوَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ كَيْ لاَ يَزِيدَ عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ.
وَهُنَاكَ وَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّ مِنْ مُسْقِطَاتِهِ شُرُوعَ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي أَمْرٍ آخَرَ، وَإِعْرَاضَهُ عَمَّا يَتَعَلَّقُ
__________
(1) البدائع 5 / 228، والعناية على الهداية 5 / 81، وتبيين الحقائق للزيلعي 4 / 3.

(20/172)


بِالْعَقْدِ مَعَ طُول الْفَصْل. فَهَذَا الْمُسْقِطُ يُقَصِّرُ مِنْ أَجَل الْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنَ التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ. لأَِنَّهُ يَحْصُرُهُ فِي حَالَةِ التَّعَاقُدِ الْجَادَّةِ وَهِيَ بُرْهَةٌ يَسِيرَةٌ. وَالرَّاجِحُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ هُوَ الْوَجْهُ الأَْوَّل الْقَائِل بِأَنَّهُ ثَابِتٌ حَتَّى التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ (1) .

انْتِهَاءُ الْخِيَارِ:
5 - أَسْبَابُ انْتِهَاءِ الْخِيَارِ مُنْحَصِرَةٌ فِي التَّفَرُّقِ، وَالتَّخَايُرِ (اخْتِيَارِ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ) . وَهُنَاكَ سَبَبٌ ثَالِثٌ يَنْتَهِي بِهِ الْخِيَارُ تَبَعًا لاِنْتِهَاءِ الْعَقْدِ، أَصْلاً، وَهُوَ فَسْخُ الْعَقْدِ، ذَلِكَ أَنَّ الْفَسْخَ هُوَ الَّذِي شُرِعَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ لإِِتَاحَتِهِ، لَكِنَّهُ يَأْتِي عَلَى الْعَقْدِ وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ يَسْقُطُ الْخِيَارُ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ، وَبِالْمَوْتِ، عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الْقَائِلَةِ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ.

أَوَّلاً: التَّفَرُّقُ:
6 - يَنْتَهِي خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِالتَّفَرُّقِ، وَهُوَ سَبَبٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُثْبِتِينَ لَهُ، وَيُرَاعَى فِيهِ عُرْفُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ (2) .

ثَانِيًا - التَّخَايُرُ:
اخْتِيَارُ لُزُومِ الْعَقْدِ:
7 - مِنْ أَسْبَابِ انْتِهَاءِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ اخْتِيَارُ لُزُومِ الْعَقْدِ، عَلَى أَنْ يَحْصُل ذَلِكَ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ
__________
(1) المجموع 9 / 180.
(2) المجموع 9 / 180، والمغني 3 / 507، ونهاية المحتاج 4 / 8، ومغني المحتاج 2 / 45، والمكاسب 222.

(20/173)


كِلَيْهِمَا، فَيَسْقُطَ بِهِ الْخِيَارُ، وَسَبِيلُهُ أَنْ يَقُولاَ: اخْتَرْنَا لُزُومَ الْعَقْدِ، أَوْ أَمْضَيْنَاهُ، أَوْ أَلْزَمْنَاهُ، أَوْ أَجَزْنَاهُ أَوْ نَحْوَهُ. وَاجْتِمَاعُهُمَا عَلَى اخْتِيَارِ اللُّزُومِ يُسَمَّى: التَّخَايُرُ (1) ، وَلَهُ نَظِيرُ الأَْثَرِ الَّذِي يَحْدُثُ بِالتَّفَرُّقِ.

الْخِلاَفُ فِي التَّخَايُرِ:
8 - اخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ فِي انْتِهَائِهِ بِالتَّخَايُرِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَصَفَهَا ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّهَا أَصَحُّ إِلَى انْتِهَاءِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِالتَّخَايُرِ.
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى عَدَمِ انْتِهَاءِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِالتَّخَايُرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ (2) . مُسْتَنَدُ الرِّوَايَةِ الْمُقْتَصِرَةِ عَلَى التَّفَرُّقِ أَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ وَلاَ تَخْصِيصٍ، وَهِيَ رِوَايَةُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَأَبِي بَرْزَةَ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
أَمَّا مُسْتَنَدُ الرِّوَايَةِ الْمُصَحَّحَةِ الَّتِي تَجْعَل الْمُسْقِطَ أَحَدَ الأَْمْرَيْنِ: التَّفَرُّقَ أَوِ التَّخَايُرَ، فَهُوَ الرِّوَايَاتُ الأُْخْرَى الْمُتَضَمَّنَةُ لِذَيْنِكَ الأَْمْرَيْنِ، كَرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ الْمَرْفُوعَةِ: فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا
__________
(1) ومن صور اختيار اللزوم أن يقولا: تخايرنا العقد.
(2) المجموع 9 / 190، شرح المنهج 3 / 106، المغني 3 / 486 م 2757.

(20/173)


صَاحِبَهُ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ أَيْ لَزِمَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا: الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ كَانَ عَنْ خِيَارٍ فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ عَنْ خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالأَْخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى (1) .

أَحْكَامُ التَّخَايُرِ:
9 - التَّخَايُرُ إِمَّا أَنْ يَحْصُل صَرَاحَةً بِنَحْوِ عِبَارَةِ: اخْتَرْنَا إِمْضَاءَ الْعَقْدِ، وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ ضِمْنًا، وَمِثَالُهُ: أَنْ يَتَبَايَعَ الْعَاقِدَانِ الْعِوَضَيْنِ (اللَّذَيْنِ جَرَى عَلَيْهِمَا الْعَقْدُ الأَْوَّل) بَعْدَ قَبْضِهِمَا فِي الْمَجْلِسِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُتَضَمِّنٌ لِلرِّضَا بِلُزُومِ الْعَقْدِ الأَْوَّل. بَل يَكْفِي تَصَرُّفُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ مَعَ الآْخَرِ بِالْعِوَضِ الَّذِي لَهُ، أَيْ لاَ يُشْتَرَطُ تَبَايُعُ الْعِوَضَيْنِ، بَل هُوَ مُجَرَّدُ تَصْوِيرٍ، وَيَكْفِي بَيْعُ أَحَدِهِمَا لِسُقُوطِ الْخِيَارِ وَإِمْضَاءِ الْعَقْدِ (2) .
وَانْتِهَاءُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِالتَّخَايُرِ، إِنَّمَا هُوَ إِذَا وَقَعَ اخْتِيَارُ الْفَسْخِ أَوِ الإِْمْضَاءِ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ، أَوْ قَال كُلٌّ مِنْهُمَا لِلآْخَرِ: اخْتَرْ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ لِسُقُوطِ الْخِيَارِ. أَمَّا إِذَا قَال أَحَدُهُمَا لِلآْخَرِ: اخْتَرْ، فَسَكَتَ وَلَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ، فَمَا حُكْمُ خِيَارِ السَّاكِتِ؟ وَمَا حُكْمُ خِيَارِ الْقَائِل؟
__________
(1) المغني 4 / 486.
(2) نهاية المحتاج 4 / 8 بحاشية الشبراملسي، المجموع 9 / 191.

(20/174)


خِيَارُ السَّاكِتِ بَعْدَ التَّخْيِيرِ:
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ السَّاكِتَ لاَ يَنْقَطِعُ خِيَارُهُ (1) .
وَالْقَوْل الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ: سُقُوطُ خِيَارِهِ. وَاسْتُدِل لِلاِتِّجَاهِ الأَْوَّل بِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُبْطِل خِيَارَهُ فَلَمْ يَحْصُل الرِّضَا، إِنَّمَا سَكَتَ عَنِ الْفَسْخِ أَوِ الإِْمْضَاءِ. فَإِسْقَاطُ خِيَارِهِ يَتَنَافَى مَعَ حَقِّهِ فِي الْخِيَارِ وَالاِخْتِيَارِ بِنَفْسِهِ (2) .
وَاسْتُدِل لِلاِتِّجَاهِ الثَّانِي بِقِيَاسِ السُّقُوطِ عَلَى الثُّبُوتِ، فَكَمَا أَنَّ ثُبُوتَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ لاَ يَتَجَزَّأُ فَلاَ يَثْبُتُ لأَِحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ، فَكَذَلِكَ سُقُوطُهُ، لِيَتَسَاوَيَا فِي انْتِهَاءِ الْعَقْدِ، كَمَا تَسَاوَيَا فِي قِيَامِهِ وَنُشُوئِهِ (3) .

خِيَارُ الْمُنْفَرِدِ بِالتَّخْيِيرِ:
أَمَّا خِيَارُ الَّذِي بَادَرَ إِلَى تَخْيِيرِ صَاحِبِهِ فَلَمْ يُجِبْهُ هَذَا بِشَيْءٍ، فَفِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: سُقُوطُ خِيَارِهِ - وَهُوَ الأَْصَحُّ - بِدَلاَلَةِ تَعْلِيقِ الْحَدِيثِ مَصِيرَ خِيَارِ الْعَاقِدِ عَلَى صُدُورِ
__________
(1) المهذب والمجموع 9 / 185 و 9 / 191.
(2) المغني 3 / 486، منتهى الإرادات 1 / 357، المقنع 2 / 34.
(3) للشافعية نحو هذا الخلاف فيما لو (اختار) أحدهما إمضاء العقد وسكت الآخر. وهذه المسألة غير المذكورة آنفًا فتلك فيما لو (خير) صاحبه. . (المجموع 9 / 191) .

(20/174)


التَّخْيِيرِ مِنْهُ، وَلأَِنَّهُ جَعَل لِصَاحِبِهِ مَا مَلَكَهُ مِنَ الْخِيَارِ فَسَقَطَ خِيَارُهُ.
الرَّأْيُ الثَّانِي: لاَ يَسْقُطُ خِيَارُهُ، لأَِنَّهُ خَيَّرَ صَاحِبَهُ فَلَمْ يَخْتَرْ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ، لأَِنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى التَّخْيِيرِ كَانَ بِقَصْدِ الاِجْتِمَاعِ عَلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ لَهُمَا، فَلَمَّا لَمْ يَحْصُل بَقِيَ لَهُ خِيَارُهُ (1) .

اخْتِيَارُ فَسْخِ الْعَقْدِ:
10 - سَوَاءٌ حَصَل الْفَسْخُ لِلْعَقْدِ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ جَمِيعًا، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ بِصُدُورِهِ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَلَوْ تَمَسَّكَ الآْخَرُ بِإِجَازَةِ الْعَقْدِ، ذَلِكَ أَنَّ الْفَسْخَ مُقَدَّمٌ عَلَى الإِْجَازَةِ حِينَ اخْتِلاَفِ رَغْبَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، لأَِنَّ إِثْبَاتَ الْخِيَارِ إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ التَّمَكُّنُ مِنَ الْفَسْخِ دُونَ الإِْجَازَةِ لأَِصَالَتِهَا. وَالْفَسْخُ - كَمَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ - مَقْصُودُ الْخِيَارِ (2) .
وَفَسْخُ الْعَقْدِ مُسْقِطٌ لِلْخِيَارِ تَبَعًا، لأَِنَّ سُقُوطَهُ كَانَ لِسُقُوطِ الْعَقْدِ أَصْلاً، فَيَسْقُطُ الْخِيَارُ أَيْضًا لاِبْتِنَائِهِ عَلَيْهِ، وَحَسَبَ الْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ " إِذَا بَطَل الشَّيْءُ بَطَل مَا فِي ضِمْنِهِ " (3) .
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ حُصُول الْفَسْخِ مُبَاشَرَةً، أَوْ
__________
(1) المجموع 9 / 185، مغني المحتاج 2 / 45، نهاية المحتاج 4 / 8، المغني 3 / 486، الفروع 4 / 83.
(2) مغني المحتاج 2 / 44، المجموع 9 / 191.
(3) من القواعد الكلية التي صدرت بها المجلة المادة / 52.

(20/175)


عَقِبَ تَخْيِيرِ أَحَدِهِمَا الآْخَرَ، فَالأَْثَرُ لِلْفَسْخِ، لأَِنَّهُ هُوَ مَقْصُودُ الْخِيَارِ (1) .

ثَالِثًا - التَّصَرُّفُ:
11 - يَفْتَرِقُ الشَّافِعِيَّةُ عَنِ الْحَنَابِلَةِ فِي هَذَا الْمُسْقِطِ، فَفِي حِينِ يَأْبَاهُ الأَْوَّلُونَ، وَيُصَرِّحُونَ بِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ لاَ يُسْقِطُ خِيَارَ الْمَجْلِسِ فِي غَيْرِ صُورَةِ الْبَيْعِ كَمَا سَبَقَ، يَذْهَبُ الْحَنَابِلَةُ إِلَى التَّفْصِيل، فَفِي عِدَّةِ صُوَرٍ يَسْقُطُ بِالتَّصَرُّفِ مِنَ الْمُشْتَرِي - أَوِ الْبَائِعِ - خِيَارُهُمَا جَمِيعًا، أَوْ خِيَارُ أَحَدِهِمَا (2) .
وَتَجْدُرُ الإِْشَارَةُ إِلَى أَنَّ أَكْثَرَ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ اكْتَفَوْا بِالْبَيَانِ دَلاَلَةً دُونَ التَّصْرِيحِ بِعَدَمِ الأَْثَرِ لِلتَّصَرُّفِ فِي إِسْقَاطِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، حَيْثُ نَصُّوا فِي بَابِ خِيَارِ الشَّرْطِ عَلَى إِسْقَاطِهِ إِيَّاهُ، وَسَكَتُوا فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ عَنِ اعْتِبَارِهِ مُسْقِطًا، لَكِنَّ بَعْضَهُمْ عَزَّزَ هَذَا الْبَيَانَ بِالتَّصْرِيحِ، فَفِي شَرْحِ الْقَاضِي زَكَرِيَّا لِمُخْتَصَرِهِ " الْمَنْهَجِ " عِنْدَمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْمُسْقِطَيْنِ: التَّخَايُرِ وَالتَّفَرُّقِ، أَضَافَ مُحَشِّيهِ سُلَيْمَانُ الْجَمَل قَائِلاً مِنْ طَرِيقِ الْحَاشِيَةِ عَلَى نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ (3) عَنْ شَرْحِ الْعُبَابِ: إِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ حَصْرِهِ لِقَاطِعِ الْخِيَارِ فِيهِمَا، أَنَّ رُكُوبَ الْمُشْتَرِي الدَّابَّةَ الْمَبِيعَةَ لاَ يَقْطَعُ، وَهُوَ أَحَدُ
__________
(1) المجموع 9 / 191.
(2) مغني المحتاج 2 / 45، المغني 3 / 491.
(3) نهاية المحتاج بحاشية الشبراملسي 4 / 7 - 8.

(20/175)


وَجْهَيْنِ لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ لاِخْتِبَارِهَا، وَالثَّانِي يَقْطَعُ، لِتَصَرُّفِهِ، وَالَّذِي يُتَّجَهُ تَرْجِيحُهُ الأَْوَّل، وَلاَ نُسَلِّمُ أَنَّ مِثْل هَذَا التَّصَرُّفِ يَقْطَعُهُ، وَيُقَاسُ بِالْمَذْكُورِ مَا فِي مَعْنَاهُ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا بِأَنَّهُ مِنَ الْفُرُوقِ بَيْنَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ (1) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ، فَلَدَيْهِمْ صُوَرٌ يَسْقُطُ بِهَا خِيَارُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَهَمُّهَا: تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ لَهُ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ، فَإِنَّهُ مُسْقِطٌ لِخِيَارِهِمَا، وَالتَّصَرُّفُ صَحِيحٌ، وَذَلِكَ لِدَلاَلَتِهِ عَلَى تَرَاضِيهِمَا بِإِمْضَائِهِ، فَلَيْسَ أَقَل أَثَرًا مِنَ التَّخَايُرِ. أَمَّا تَصَرُّفُ الْبَائِعِ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي، فَالرَّاجِحُ أَنَّهُ مُمَاثِلٌ فِي الْحُكْمِ لِتَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمُغْنِي أَنَّ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ، وَأَنَّ الْوَجْهَ فِي احْتِمَال عَدَمِ إِسْقَاطِهِ لِلْخِيَارِ، أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى الإِْذْنِ، فَتَصَرُّفُهُ كَمَا لَوْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنٍ (2) .
أَمَّا تَصَرُّفُ أَحَدِهِمَا بِتَصَرُّفٍ نَاقِلٍ، كَالْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ، أَوِ الْوَقْفِ، أَوْ بِتَصَرُّفٍ شَاغِلٍ كَالإِْجَارَةِ، أَوِ الرَّهْنِ. . فَلاَ يُسْقِطُ الْخِيَارَ، لأَِنَّ الْبَائِعَ تَصَرَّفَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ - بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَهُمْ - وَأَمَّا الْمُشْتَرِي
__________
(1) شرح المنهج بحاشية الجمل 33 / 106، وقد استوجه بعدئذ قيدًا على الإطلاق في إسقاط التصرف لخيار الشرط 3 / 119.
(2) المغني 3 / 491 م 2764، وكشاف القناع 3 / 209، وقد سوى بين صورتي البائع والمشتري في الإذن.

(20/176)


فَإِنَّهُ يُسْقِطُ حَقَّ الْبَائِعِ مِنَ الْخِيَارِ، وَاسْتِرْجَاعِ الْمَبِيعِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْبَائِعِ بِهِ تَعَلُّقًا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّصَرُّفِ فَمَنَعَ صِحَّتَهُ أَيْضًا (1) .

رَابِعًا: إِسْقَاطُ الْخِيَارِ ابْتِدَاءً:
12 - الْمُرَادُ هُنَا بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ: التَّنَازُل عَنْهُ قَبْل اسْتِعْمَالِهِ، وَذَلِكَ قَبْل التَّعَاقُدِ، أَوْ فِي بِدَايَةِ الْعَقْدِ قَبْل إِبْرَامِهِ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ: التَّبَايُعُ بِشَرْطِ نَفْيِ الْخِيَارِ. وَعَلَى هَذَا الاِصْطِلاَحِ لاَ يُعْتَبَرُ مِنْهُ التَّخَلِّي عَنِ الْخِيَارِ بَعْدَ التَّعَاقُدِ، أَثَرُ اسْتِحْقَاقِ الْعَاقِدَيْنِ لَهُ وَسَرَيَانُ الْمَجْلِسِ، فَالتَّخَلِّي عَنْهُ حِينَئِذٍ بِالتَّخَايُرِ يَسْتَحِقُّ اسْمَ (الاِنْتِهَاءِ) لِلْخِيَارِ، لاَ الإِْسْقَاطِ لَهُ. أَمَّا حُكْمُ هَذَا الإِْسْقَاطِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْقَائِلُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، فَكَانَ لَهُمْ فِيهِ الآْرَاءُ التَّالِيَةُ:
الأَْوَّل: صِحَّةُ الإِْسْقَاطِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهٌ لَيْسَ بِالْمُصَحَّحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
الثَّانِي: امْتِنَاعُ الإِْسْقَاطِ وَبُطْلاَنُ الْبَيْعِ أَيْضًا، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْبُوَيْطِيِّ، وَكُتُبِ الْمَذْهَبِ الْقَدِيمِ.
الثَّالِثُ: امْتِنَاعُ الإِْسْقَاطِ وَصِحَّةُ الْبَيْعِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ غَيْرُ مُصَحَّحٍ (2) .
__________
(1) المغني 3 / 490 م 2763، وكشاف القناع 3 / 208، 209.
(2) المغني 3 / 486 م 2757، كشاف القناع 3 / 200، الشرح الكبير على المقنع 4 / 64، المهذب والمجموع 9 / 185 و190، مغني المحتاج 2 / 44، ونهاية المحتاج 4 / 8.

(20/176)


وَسَوَاءٌ فِي إِسْقَاطِ الْخِيَارِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ أَنْ يُسْقِطَاهُ كِلاَهُمَا، أَوْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِإِسْقَاطِ خِيَارِهِ، أَوْ يَشْتَرِطَا سُقُوطَ خِيَارِ أَحَدِهِمَا بِمُفْرَدِهِ. فَفِي إِسْقَاطِ خِيَارَيْهِمَا يَلْزَمُ الْعَقْدُ، وَفِي إِسْقَاطِ خِيَارِ أَحَدِهِمَا يَبْقَى خِيَارُ الآْخَرِ (1) .
وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ صَحَّحَ إِسْقَاطَ الْخِيَارِ قَبْل الْعَقْدِ بِحَدِيثِ الْخِيَارِ نَفْسِهِ، حَيْثُ جَاءَ فِي إِحْدَى رِوَايَاتِهِ: فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ وَفِي رِوَايَةٍ: إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ كَانَ عَنْ خِيَارٍ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ عَنْ خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ (2) . وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا التَّخَايُرَ فِي الْمَجْلِسِ، فَهِيَ عَامَّةٌ تَشْمَلُهُ وَتَشْمَل التَّخَايُرَ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، فَهُمَا فِي الْحُكْمِ شَيْءٌ وَاحِدٌ. وَلأَِنَّ مَا أَثَّرَ فِي الْخِيَارِ فِي الْمَجْلِسِ، أَثَّرَ فِيهِ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ، فَكَمَا يَكُونُ لِلْعَاقِدِ التَّنَازُل عَنِ الْخِيَارِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ لَهُ ذَلِكَ قُبَيْل التَّعَاقُدِ، وَتَشْبِيهُهُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ فِي جَوَازِ إِخْلاَءِ الْعَقْدِ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ.
وَمِمَّا اسْتَدَل بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ
__________
(1) كشف القناع 3 / 200.
(2) حديث: " فإن خير أحدهما الآخر " أخرجه مسلم (3 / 1163 - ط الحلبي) . من حديث عبد الله بن عمر. والرواية الثانية أخرجها النسائي (7 / 248 - ط المكتبة التجارية) .

(20/177)


الَّذِينَ نَحَوْا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَنْحَى الْحَنَابِلَةِ، أَنَّ الْخِيَارَ جُعِل رِفْقًا بِالْمُتَعَاقِدِينَ، فَجَازَ لَهُمَا تَرْكُهُ. وَلأَِنَّ الْخِيَارَ غَرَرٌ فَجَازَ إِسْقَاطُهُ.
أَمَّا دَلِيل الْمَنْعِ - وَهُوَ الأَْصَحُّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - فَهُوَ أَنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ قَبْل ثُبُوتِ سَبَبِهِ، إِذْ هُوَ خِيَارٌ يَثْبُتُ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ فَلَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُهُ قَبْل تَمَامِهِ، وَلَهُ نَظِيرٌ هُوَ (خِيَارُ الشُّفْعَةِ) فَإِنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ فِي ذَلِكَ لاَ يُمْكِنُ إِسْقَاطُهُ قَبْل ثُبُوتِهِ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ إِسْقَاطَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ يُنَافِي مُقْتَضَى الْبَيْعِ لِثُبُوتِهِ شَرْعًا مَصْحُوبًا بِالْخِيَارِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لاَ يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ.
أَمَّا دَلِيل جَوَازِ إِسْقَاطِ الشَّرْطِ فَقَطْ وَصِحَّةُ الْبَيْعِ، فَهُوَ مَا فِي الشَّرْطِ مِنْ مُخَالَفَةِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ لاَ يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةٍ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ، يَبْطُل وَحْدَهُ وَلاَ يُبْطِل الْعَقْدَ (1) .

أَسْبَابُ انْتِقَال الْخِيَارِ:

أَوَّلاً: الْمَوْتُ:
13 - اخْتَلَفَتِ الآْرَاءُ فِي أَثَرِ الْمَوْتِ عَلَى خِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى الصُّورَةِ التَّالِيَةِ:
__________
(1) المغني 3 / 485 - 486 م 2757، والمجموع شرح المهذب 9 / 185، مغني المحتاج 2 / 44، الشرح الكبير على المقنع 4 / 64 - 65، كشاف القناع 2 / 445.

(20/177)


الأَْوَّل: انْتِقَال الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ إِلَى الْوَارِثِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.
الثَّانِي: سُقُوطُ الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ.
الثَّالِثُ: التَّفْصِيل بَيْنَ وُقُوعِ الْمُطَالَبَةِ مِنَ الْمَيِّتِ بِهِ فِي وَصِيَّتِهِ، وَعَدَمِ تِلْكَ الْمُطَالَبَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ (1) .
اسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِانْتِقَال الْخِيَارِ - بِالْمَوْتِ - إِلَى الْوَرَثَةِ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَالأَْحَادِيثِ، فِي انْتِقَال مَا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ مِنْ حَقٍّ إِلَى الْوَرَثَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ: مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ (2) . وَخِيَارُ الْمَجْلِسِ خِيَارٌ ثَابِتٌ لِفَسْخِ الْبَيْعِ فَلَمْ يَبْطُل بِالْمَوْتِ كَخِيَارِ الشَّرْطِ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِقِيَاسِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى خِيَارِ الْعَيْبِ، فَكِلاَهُمَا حَقٌّ لاَزِمٌ ثَابِتٌ فِي الْبَيْعِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي انْتِقَال خِيَارِ الْعَيْبِ بِالْمَوْتِ، فَكَذَلِكَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ. وَيُقَاسُ أَيْضًا عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ، وَهُمْ يَقُولُونَ بِأَنَّهُ مِمَّا يُورَثُ.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِإِبْطَال الْخِيَارِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، بِأَنَّهُ إِرَادَةٌ وَمَشِيئَةٌ، تَتَّصِل بِشَخْصِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 45، المجموع 9 / 206، الفروع 4 / 91، المغني 3 / 486.
(2) أخرجه البخاري (الفتح 12 2 ? / 9 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1237 - الحلبي) ، من حديث أبي هريرة.

(20/178)


الْعَاقِدِ، وَانْتِقَال ذَلِكَ إِلَى الْوَارِثِ لاَ يُتَصَوَّرُ (1) . ثَانِيًا: الْجُنُونُ وَنَحْوُهُ:
14 - إِذَا أُصِيبَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ بِالْجُنُونِ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، انْتَقَل الْخِيَارُ - فِي الأَْصَحِّ - إِلَى الْوَلِيِّ، مِنْ حَاكِمٍ أَوْ غَيْرِهِ: كَالْمُوَكِّل عِنْدَ مَوْتِ الْوَكِيل، وَقَدِ ارْتَأَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ ذَلِكَ حَيْثُ يُئِسَ مِنْ إِفَاقَتِهِ أَوْ طَالَتْ مُدَّتُهُ، لَكِنَّ الرَّاجِحَ عَدَمُ الاِنْتِظَارِ مُطْلَقًا (2) .
وَكَذَلِكَ إِنْ خَرِسَ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ تُفْهَمْ إِشَارَتُهُ، وَلاَ كِتَابَةَ لَهُ، نَصَّبَ الْحَاكِمُ نَائِبًا عَنْهُ، وَإِنْ أَمْكَنَتِ الإِْجَازَةُ مِنْهُ بِالتَّفَرُّقِ، وَلَيْسَ هُوَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا الْحَاكِمُ نَابَ عَنْهُ فِيمَا تَعَذَّرَ مِنْهُ بِالْقَوْل، أَمَّا إِذَا فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ، أَوْ كَانَ لَهُ كِتَابَةٌ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ.
وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ بِسُقُوطِ الْخِيَارِ فِي الْجُنُونِ وَالإِْغْمَاءِ، لأَِنَّ مُفَارَقَةَ الْعَقْل لَيْسَتْ أَوْلَى مِنْ مُفَارَقَةِ الْمَكَانِ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجُنُونَ لاَ يُبْطِلُهُ، فَهُوَ
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 8، ومغني المحتاج 2 / 46، والمجموع 9 / 222، المغني 3 / 486، الفروع 4 / 91، وفيه: وقيل: كخيار الشرط، أي: لا يورث إلا بمطالبة الميت به في وصيته.
(2) حاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 108.
(3) مغني المحتاج 2 / 46.

(20/178)


عَلَى خِيَارِهِ إِذَا أَفَاقَ، أَمَّا فِي مُطْبِقِ الْجُنُونِ وَالإِْغْمَاءِ، فَيَقُومُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ أَوِ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ، بِخِلاَفِ الْمَوْتِ لأَِنَّهُ أَعْظَمُ الْفُرْقَتَيْنِ (1) .

آثَارُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ:

15 - لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ آثَارٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْعَقْدِ، لَكِنَّ أَحَدَهَا يُعْتَبَرُ الأَْثَرَ الأَْصْلِيَّ لِلْخِيَارِ، فِي حِينِ تَكُونُ الأُْخْرَى آثَارًا فَرْعِيَّةً، هَذَا الأَْثَرُ الأَْصْلِيُّ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخِيَارِ مِنْ كُل الْخِيَارَاتِ. وَلِذَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَمَّى (الأَْثَرُ الْعَامُّ) ، وَهُوَ مَنْعُ لُزُومِ الْعَقْدِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى امْتِنَاعِ لُزُومِ الْعَقْدِ آثَارٌ مُتَفَرِّعَةٌ عَنْهُ تَتَّصِل بِانْتِقَال الْمِلْكِ وَغَيْرِهِ. أَوَّلاً: الأَْثَرُ الأَْصْلِيُّ:
مَنْعُ لُزُومِ الْعَقْدِ:
16 - مُفَادُ ذَلِكَ اعْتِبَارُ الْعَقْدِ غَيْرَ لاَزِمٍ إِلَى أَنْ يَحْصُل التَّفَرُّقُ عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، أَوِ اخْتِيَارُ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ. فَيَكُونُ لِكُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ قَبْل ذَلِكَ.
وَهَذَا الأَْثَرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، ذَلِكَ أَنَّ مَقْصُودَ الْخِيَارِ الْفَسْخُ (2) ،
__________
(1) الإقناع 2 / 84، مطالب أولي النهى 3 / 86، منتهى الإرادات 1 / 357، منار السبيل 1 / 316، المغني 3 / 486، القواعد والفوائد الأصولين لابن اللحام البعلي ص 36.
(2) المجموع 9 / 191.

(20/179)


وَلاَ يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَقْصُودُ إِلاَّ بِتَقَاصُرِ الْعَقْدِ عَنْ مَرْتَبَةِ الْقُوَّةِ، وَالاِسْتِعْصَاءِ عَنِ الْفَسْخِ. وَهَذَا التَّقَاصُرُ سَبِيلُهُ أَنْ يَظَل الْعَقْدُ غَيْرَ لاَزِمٍ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْخِيَارُ.

ثَانِيًا: الآْثَارُ الْفَرْعِيَّةُ:
انْتِقَال الْمِلْكِ
17 - هَذَا الأَْثَرُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى رَأْيَيْنِ:

الرَّأْيُ الأَْوَّل: فِقْدَانُ الأَْثَرِ:
وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ - فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ - (وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ) (1) . وَعَلَى هَذَا يَنْتَقِل الْمِلْكُ إِلَى الْمُشْتَرِي مَعَ وُجُودِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ. وَلاَ أَثَرَ لَهُ عَلَى نَفَاذِ الْعَقْدِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لاَ يَتَوَقَّفُ، كَمَا لاَ أَثَرَ لَهُ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ، فَهُوَ يُنْتِجُ أَحْكَامَهُ كُلَّهَا - مَعَ بَقَائِهِ قَابِلاً لِلْفَسْخِ - خِلاَل الْمَجْلِسِ إِلَى حُصُول مَا يُنْهِي الْخِيَارَ مِنْ تَفَرُّقٍ أَوْ تَخَايُرٍ.

الرَّأْيُ الثَّانِي: تَقْيِيدُ النَّفَاذِ:
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ - فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ مِنْ ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ - أَنَّ لِلْخِيَارِ أَثَرًا فِي نَفَاذِ أَحْكَامِ الْعَقْدِ، فَهُوَ يُعْتَبَرُ مَوْقُوفًا مُرَاعًى مِنْ حَيْثُ انْتِقَال
__________
(1) المغني 3 / 488 م 2760، الفروع 4 / 86، كشاف القناع 2 / 50، المجموع 9 / 230، مغني المحتاج 2 / 44.

(20/179)


الْمِلْكِ، فَلاَ يُحْكَمُ بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِلْمُشْتَرِي وَلاَ لِلْبَائِعِ، بَل يُنْتَظَرُ، فَإِنْ تَمَّ الْعَقْدُ، حُكِمَ بِأَنَّهُ كَانَ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَإِلاَّ فَقَدْ بَانَ أَنَّهُ مِلْكُ الْبَائِعِ لَمْ يَزُل عَنْ مِلْكِهِ. وَهَكَذَا يَكُونُ الثَّمَنُ مَوْقُوفًا (1) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ الرَّأْيِ الأَْوَّل (الْقَائِل بِانْتِقَال الْمِلْكِ) بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ، أَهَمُّهَا الاِسْتِدْلاَل بِالسُّنَّةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ (2) وَحَدِيثُ: مَنْ بَاعَ نَخْلاً بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ، فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ. (3) وَجْهُ الدَّلاَلَةِ فِيهِمَا: أَنَّهُ جَعَل الْمَال الْمُصَاحِبَ لِلْعَبْدِ، وَالثَّمَرَةَ لِلْمُبْتَاعِ بِمُجَرَّدِ اشْتِرَاطِهِ، وَاسْتَدَلُّوا مِنْ وُجُوهِ الْمَعْقُول، بِأَنَّ الْبَيْعَ مَعَ وُجُودِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بَيْعٌ صَحِيحٌ، فَيَنْتَقِل الْمِلْكُ فِي أَثَرِهِ، وَلأَِنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ، فَيَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ فِيهِ لاَ يُنَافِيهِ (4) .
__________
(1) المجموع 9 / 230، نهاية المحتاج 4 / 20.
(2) حديث: " من باع عبدًا وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع ". أخرجه أبو داود (3 / 716 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث جابر بن عبد الله، وقال المنذري: " في إسناده مجهول "، كذا في مختصر السنن (5 / 80 - نشر دار المعرفة) .
(3) حديث: " من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 313 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1172 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر، واللفظ للبخاري.
(4) المغني 3 / 488، وكشاف القناع 2 / 51.

(20/180)


أَمَّا أَصْحَابُ الرَّأْيِ الثَّانِي (الْقَائِل بِأَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْخِيَارُ، فَيُعْرَفُ كَيْفَ كَانَ عِنْدَ الْعَقْدِ) وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ الْخِيَارَ (كَخِيَارِ الشَّرْطِ مَثَلاً) إِذَا ثَبَتَ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ لَمْ يَنْتَقِل الْمِلْكُ فِي الْعِوَضَيْنِ، وَإِذَا ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ انْتَقَل الْمِلْكُ فِيهِمَا، فَإِذَا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْعَاقِدَيْنِ (وَذَلِكَ مَا يَحْصُل فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ) فَإِنَّ مُقْتَضَى ثُبُوتِهِ لِلْبَائِعِ عَدَمُ انْتِقَال الْمِلْكِ، وَمُقْتَضَى ثُبُوتِهِ لِلْمُشْتَرِي انْتِقَالُهُ، فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّوَقُّفِ وَالْمُرَاعَاةِ (التَّرَقُّبِ) إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْخِيَارُ بِالتَّفَرُّقِ، أَوِ التَّخَايُرِ، أَوْ غَيْرِهِمَا (1) .

أَثَرُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى الْعَقْدِ بِخِيَارِ شَرْطٍ:
18 - لاَ أَثَرَ لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ، فَإِنَّ مُدَّةَ خِيَارِ الشَّرْطِ تُحْسَبُ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ الْوَاقِعِ فِيهِ الشَّرْطُ. هَذَا إِذَا كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ قَدِ اشْتُرِطَ فِي الْعَقْدِ، أَمَّا إِنِ اشْتُرِطَ فِي الْمَجْلِسِ فَإِنَّ الْمُدَّةَ تُحْسَبُ مِنْ حِينِ الشَّرْطِ (2) .
__________
(1) نهاية المحتاج بحاشية الشبراملسي 4 / 20، ومغني المحتاج 2 / 44، والمجموع 9 / 228.
(2) نهاية المحتاج 4 / 19.

(20/180)