الموسوعة الفقهية الكويتية

دَاتُورَةٌ
انْظُرْ: مُخَدِّرٌ
__________
(1) القليوبي 3 / 203.
(2) جواهر الإكليل 1 / 12.
(3) ابن عابدين 5 / 271، 272.
(4) ابن عابدين 3 / 273.

(20/193)


دَاخِلٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الدَّاخِل فِي اللُّغَةِ: فَاعِلٌ مِنْ دَخَل الشَّيْءُ دُخُولاً، وَدَاخِل الشَّيْءِ خِلاَفُ خَارِجِهِ، وَدَخَلْتُ الدَّارَ وَنَحْوَهَا دُخُولاً صِرْتَ دَاخِلَهَا، فَهِيَ حَاوِيَةٌ لَكَ (1) .
وَالْمُرَادُ بِالدَّاخِل فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ: وَاضِعُ الْيَدِ عَلَى الْعَيْنِ، وَيُعَبِّرُ عَنْهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِذِي الْيَدِ، وَصَاحِبِ الْيَدِ، وَالْحَائِزِ (2) . يَقُول الْبَعْلِيُّ الْحَنْبَلِيُّ: الدَّاخِل: مِنَ الْعَيْنِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا فِي يَدِهِ (3) .
وَجَاءَ فِي الْمَجَلَّةِ فِي تَعْرِيفِ ذِي الْيَدِ: (هُوَ الَّذِي وَضَعَ يَدَهُ عَلَى عَيْنٍ بِالْفِعْل، أَوِ الَّذِي ثَبَتَ تَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ) (4) .
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ (الدَّاخِل) بِالْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا.
__________
(1) المصباح المنير في المادة.
(2) كشاف القناع 6 / 390، ومغني المحتاج 4 / 480، والمطلع على أبواب المقنع ص 404.
(3) المطلع على أبواب المقنع ص 404.
(4) مجلة الأحكام العدلية م (1679) .

(20/194)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخَارِجُ:
2 - الْخَارِجُ خِلاَفُ الدَّاخِل. وَيُرَادُ بِهِ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ مَنْ لاَ شَيْءَ فِي يَدِهِ، بَل جَاءَ مِنَ الْخَارِجِ، وَيُنَازِعُ الدَّاخِل (1) (ذَا الْيَدِ) . فَهُوَ الْبَرِيءُ عَنْ وَضْعِ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ بِالْوَجْهِ الْمَذْكُورِ (2) .
وَيَكْثُرُ اسْتِعْمَال كَلِمَتَيِ الدَّاخِل وَالْخَارِجِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي مَبَاحِثِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ.
وَإِذَا تَمَيَّزَ الدَّاخِل عَنِ الْخَارِجِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ يَتَمَيَّزُ الْمُدَّعِي عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَالْخَارِجُ هُوَ الْمُدَّعِي، وَالدَّاخِل هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الأَْصْل فِي الدَّعْوَى، لأَِنَّ الدَّاخِل لاَ يَحْتَاجُ إِلَى الدَّعْوَى لِوُجُودِ الْعَيْنِ فِي يَدِهِ (3) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي الدَّعَاوَى وَتَرْجِيحِ الْبَيِّنَاتِ صُوَرًا تُرَجَّحُ فِيهَا بَيِّنَةُ الْخَارِجِ عَلَى الدَّاخِل، وَأُخْرَى تُرَجَّحُ فِيهَا بَيِّنَةُ الدَّاخِل عَلَى الْخَارِجِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ حَال إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، نَذْكُرُ مِنْهَا الصُّوَرَ الْمَشْهُورَةَ التَّالِيَةَ مَعَ بَيَانِ أَدِلَّتِهِمْ
__________
(1) المطلع ص 404، ومغني المحتاج 4 / 480، 481.
(2) مجلة الأحكام العدلية م (1680) .
(3) ابن عابدين 4 4 ? / 437، والبدائع 6 / 225، وتبصرة الحكام 1 / 248، ومغني المحتاج 4 / 480، والمغني 9 / 275، 276، وكشاف القناع 6 / 390، 391.

(20/194)


إِجْمَالاً تَارِكِينَ التَّفْصِيل إِلَى مَوَاضِعِهِ مِنْ مُصْطَلَحَاتِ: (تَعَارُضٌ، دَعْوَى، شَهَادَةٌ) .

أَوَّلاً: الْبَيِّنَةُ عَلَى دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ (1) :
4 - إِذَا تَدَاعَى الرَّجُلاَنِ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ بِأَنِ ادَّعَيَا مِلْكَ عَيْنٍ دُونَ سَبَبِ الْمِلْكِيَّةِ مِنَ الإِْرْثِ أَوِ الشِّرَاءِ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَأَقَامَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْل عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يُقْضَى بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ، وَلاَ تُعْتَبَرُ بَيِّنَةُ الدَّاخِل (ذِي الْيَدِ) فِي مِلْكٍ مُطْلَقٍ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْخَارِجَ هُوَ الْمُدَّعِي، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (2) . فَجَعَل جِنْسَ الْبَيِّنَةِ فِي جَنْبَةِ الْمُدَّعِي فَلاَ يَبْقَى فِي جَنْبَةِ
__________
(1) الملك المطلق هو الذي لم يتقيد بأحد أسباب الملك كالإرث والشراء ونحوهما. وغير المطلق هو المضاف إلى سبب، وهو أن يبين سبب الملك مثل أن يقيم بينة بأن هذه العين ملكه نتجت في ملكه، أو أن هذا الثوب ملكه نسجه في ملكه. وهذا السبب على نوعين: منه ما يمكن أن يتكر والاختيار 2 / 117) .
(2) حديث: " البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه ". أخرجه بهذا اللفظ البيهقي (10 / 252 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس، وأشار إلى شذوذ هذا اللفظ، ورواه بإسناد صحيح بلفظ: " البينة على المدعي، واليمين على من أنكر ".

(20/195)


الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ. وَلأَِنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي أَكْثَرُ فَائِدَةً، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهَا، كَتَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الْجَرْحِ عَلَى التَّعْدِيل، وَدَلِيل كَثْرَةِ فَائِدَتِهَا أَنَّهَا تُثْبِتُ سَبَبًا لَمْ يَكُنْ، وَبَيِّنَةُ الْمُنْكِرِ إِنَّمَا تُثْبِتُ ظَاهِرًا تَدُل عَلَيْهِ الْيَدُ، فَلَمْ تَكُنْ مُفِيدَةً، لأَِنَّ الشَّهَادَةَ بِالْمِلْكِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهَا رُؤْيَةَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفَ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، وَأَقَامَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ (الدَّاخِل) ، لأَِنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ الدَّاخِل بِيَدِهِ، كَالْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ مَعَ أَحَدِهِمَا قِيَاسٌ، فَيُقْضَى لَهُ بِهَا (2) .
قَال ابْنُ فَرْحُونَ: وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الدَّاخِل عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ عِنْدَ التَّكَافُؤِ (3) .
وَهَل يُحْكَمُ لِلدَّاخِل بِبَيِّنَةٍ مَعَ الْيَمِينِ أَوْ بِغَيْرِ الْيَمِينِ؟ قَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ بَيِّنَتِهِ فِي الأَْصَحِّ، وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الدُّسُوقِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَذَكَرَ ابْنُ فَرْحُونَ أَنَّهُ يُحْكَمُ لِلْحَائِزِ مَعَ الْيَمِينِ، وَبِهِ قَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 437، والبدائع 6 / 225، والاختيار 2 / 116، 117، وتبصرة الحكام 1 / 248، وكشاف القناع 6 / 390، والمغني 9 / 275، 276.
(2) مغني المحتاج 4 / 481، والدسوقي 4 / 223، وتبصرة الحكام 1 / 248، والمغني 9 / 275، 276.
(3) تبصرة الحكام 1 / 248، 249.
(4) الدسوقي 4 / 223، وتبصرة الحكام 1 / 248، والمهذب 2 / 312.

(20/195)


ثَانِيًا: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمِلْكِ الْمُضَافِ إِلَى سَبَبٍ:
5 - إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى عَلَى مِلْكٍ مُسْتَنِدٍ إِلَى سَبَبٍ مِنَ الإِْرْثِ، أَوِ الشِّرَاءِ، أَوْ غَيْرِهِمَا فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنِ اخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ بِاخْتِلاَفِ الصُّوَرِ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:
أ - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ إِذَا كَانَ قَابِلاً لِلتَّكْرَارِ، كَالشِّرَاءِ، وَنَسْجِ ثَوْبِ الْخَزِّ، وَزَرْعِ الْحُبُوبِ وَنَحْوِهَا تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ، لِكَوْنِهَا فِي حُكْمِ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ. إِلاَّ إِذَا ادَّعَى كُلٌّ مِنْهُمَا تَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ، بِأَنْ قَال كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا: إِنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ زَيْدٍ مَثَلاً. فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الدَّاخِل.
أَمَّا إِذَا كَانَ سَبَبُ الْمِلْكِ غَيْرَ قَابِلٍ لِلتَّكْرَارِ، كَالنِّتَاجِ، أَوْ نَسْجِ ثَوْبِ الْقُطْنِ مَثَلاً، فَتُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الدَّاخِل، لأَِنَّ مَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَمْرٌ زَائِدٌ لاَ تَدُل عَلَيْهِ الْيَدُ فَتَعَارَضَتَا، فَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِالْيَدِ (1) . وَلِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَصَمَ إِلَيْهِ رَجُلاَنِ فِي دَابَّةٍ أَوْ بَعِيرٍ، فَأَقَامَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَتَهُ بِأَنَّهَا لَهُ نُتِجَهَا، فَقَضَى بِهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ (2) .
__________
(1) الاختيار 2 / 117، وحاشية ابن عابدين 4 / 237 وما بعدها، والفتاوى الهندية 4 / 73، ومجلة الأحكام العدلية م (1758، 1759) .
(2) حديث جابر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم اختصم إليه رجلان في دابة. . . " أخرجه البيهقي (10 / 256 - ط دائرة المعارف العثمانية) . وضعفه ابن حجر في التلخيص (4 / 210 - ط شركة الطباعة الفنية) .

(20/196)


وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَرْجِيحُ بَيِّنَةِ الدَّاخِل (ذِي الْيَدِ) إِذَا تَسَاوَتَا فِي الْعَدَالَةِ (1) ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الدَّعْوَى فِي مِلْكٍ مُطْلَقٍ أَوْ فِي مِلْكٍ مُضَافٍ إِلَى سَبَبٍ يَتَكَرَّرُ أَوْ لاَ يَتَكَرَّرُ. وَقَال ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لاَ يَنْتَفِعُ الْحَائِزُ (الدَّاخِل) بِبَيِّنَتِهِ، وَبَيِّنَةُ الْمُدَّعِي أَوْلَى.
أَمَّا إِذَا ذَكَرَتْ إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ سَبَبَ الْمِلْكِ مِنْ نِتَاجٍ أَوْ زِرَاعَةٍ، وَالأُْخْرَى لَمْ تَذْكُرْ سِوَى مُجَرَّدِ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ يُرَجَّحُ مَنْ ذَكَرَ السَّبَبَ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ (الدَّاخِل) فِي الْمِلْكِ الْمُضَافِ إِلَى سَبَبٍ أَيْضًا، كَمَا فِي الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، إِلاَّ إِذَا أَطْلَقَ الدَّاخِل دَعْوَى الْمِلْكِ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً. وَقَيَّدَهُ الْخَارِجُ بِقَوْلِهِ: (اشْتَرَيْتُهُ مِنْكَ) ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ، لِزِيَادَةِ عِلْمِهَا، لَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ تُسْمَعُ بَيِّنَةُ الدَّاخِل إِلاَّ بَعْدَ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي جَانِبِهِ الْيَمِينُ فَلاَ يَعْدِل عَنْهَا مَا دَامَتْ كَافِيَةً (3) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَهُمْ ثَلاَثُ رِوَايَاتٍ: الأُْولَى:
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 248، 249.
(2) نفس المرجع.
(3) مغني المحتاج 2 / 480، 481، ونهاية المحتاج 8 / 340 وما بعدها.

(20/196)


وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَهُمْ تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي (الْخَارِجِ) ، وَعَدَمُ سَمَاعِ بَيِّنَةِ الدَّاخِل بِحَالٍ، سَوَاءٌ أَشَهِدَتْ بِأَنَّ الْعَيْنَ لَهُ نَتَجَتْ فِي مِلْكِهِ، أَوْ قَطِيعَةُ الإِْمَامِ أَمْ لاَ، إِلاَّ إِذَا أَقَامَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنَ الآْخَرِ فَتُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الدَّاخِل.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ إِذَا شَهِدَتْ بَيِّنَةُ الدَّاخِل بِسَبَبِ الْمِلْكِ فَقَالَتْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَتَجَتْ فِي مِلْكِهِ، أَوِ اشْتَرَاهَا، أَوْ نَسَجَهَا. . قُدِّمَتْ، وَإِلاَّ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي (الْخَارِجِ) .
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (الدَّاخِل) تُقَدَّمُ بِكُل حَالٍ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُسْتَنِدَةً إِلَى سَبَبٍ أَمْ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ، لأَِنَّ جَنْبَةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَقْوَى، لأَِنَّ الأَْصْل مَعَهُ وَيَمِينُهُ تُقَدَّمُ عَلَى يَمِينِ الْمُدَّعِي، فَإِذَا تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ وَجَبَ إِبْقَاءُ يَدِهِ عَلَى مَا فِيهَا، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَحَدِيثُ جَابِرٍ يَدُل عَلَى هَذَا، فَإِنَّهُ إِنَّمَا قُدِّمَتْ بَيِّنَتُهُ لِيَدِهِ (1) .

ثَالِثًا: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمِلْكِ الْمُؤَرَّخِ:
6 - إِذَا أَقَامَ كُلٌّ مِنَ الدَّاخِل وَالْخَارِجِ بَيِّنَةً عَلَى مِلْكِ عَيْنٍ وَذَكَرَ التَّارِيخَ، فَبَيِّنَةُ مَنْ تَارِيخُهُ مُقَدَّمٌ أَوْلَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ
__________
(1) المغني 9 / 275، 276، وكشاف القناع 6 / 390 وما بعدها.

(20/197)


الْحَنَابِلَةِ، مَثَلاً إِذَا ادَّعَى أَحَدٌ أَنَّ الْعَرْصَةَ الَّتِي فِي يَدِ غَيْرِهِ مَلَكَهَا هُوَ مُنْذُ سَنَةٍ، وَقَال ذُو الْيَدِ (الدَّاخِل) : إِنَّهُ مَلَكَهَا مُنْذُ سَنَتَيْنِ، تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ.
وَإِنْ قَال الدَّاخِل: (مَلَكْتُهَا مُنْذُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ) تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ بَيِّنَةَ مَنْ يَكُونُ تَارِيخُهُ مُقَدَّمًا تُثْبِتُ الْمِلْكَ لَهُ وَقْتَ التَّارِيخِ، وَالآْخَرُ لاَ يَدَّعِيهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لاَ يَثْبُتُ لِغَيْرِهِ إِلاَّ بِالتَّلَقِّي مِنْهُ، إِذِ الأَْصْل فِي الثَّابِتِ دَوَامُهُ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ هَذَا الأَْصْل دَعْوَى النِّتَاجِ، فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ فِيهَا أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ مُطْلَقًا، دُونَ اعْتِبَارِ التَّارِيخِ، كَمَا يَدُل عَلَيْهِ حَدِيثُ جَابِرٍ الْمُتَقَدِّمُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَانَتِ الْيَدُ لِمُتَقَدِّمِ التَّارِيخِ قُدِّمَتْ قَطْعًا، وَإِذَا كَانَتْ لِمُتَأَخِّرِ التَّارِيخِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا تُقَدَّمُ أَيْضًا، لأَِنَّهُمَا مُتَسَاوِيَتَانِ فِي إِثْبَاتِ الْمِلْكِ فِي الْحَال فَيَتَسَاقَطَانِ فِيهِ، وَتَبْقَى الْيَدُ فِيهِ مُقَابِلَةَ الْمِلْكِ السَّابِقِ، وَهِيَ أَقْوَى مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمِلْكِ السَّابِقِ بِدَلِيل أَنَّهَا لاَ تُزَال بِهَا.
وَفِي الْقَوْل الثَّانِي: يُرَجَّحُ السَّبْقُ، وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ: يَتَسَاوَيَانِ (2) .
__________
(1) الاختيار 2 / 117، وحاشية ابن عابدين 4 / 437، وما بعدها، ومجلة الأحكام العدلية م (1760) ، وتبصرة الحكام 1 / 248، 249، والمغني 9 / 275، 276.
(2) نهاية المحتاج 8 / 343.

(20/197)


وَفِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ وَلاَ اعْتِبَارَ لِلتَّارِيخِ (1) .
وَهُنَاكَ صُوَرٌ وَفُرُوعٌ أُخْرَى يُرْجَعُ لِحُكْمِهَا وَأَدِلَّةِ الْفُقَهَاءِ فِيهَا فِي مُصْطَلَحَاتِ: (دَعْوَى، شَهَادَةٌ) .
__________
(1) المغني 9 / 275.

(20/198)


دَارٌ

التَّعْرِيفُ
1 - الدَّارُ لُغَةً اسْمٌ جَامِعٌ لِلْعَرْصَةِ وَالْبِنَاءِ وَالْمَحَلَّةِ. وَفِي كُلِّيَّاتِ أَبِي الْبَقَاءِ: الدَّارُ اسْمٌ لِمَا يَشْتَمِل عَلَى بُيُوتٍ وَمَنَازِل وَصَحْنٍ غَيْرِ مَسْقُوفٍ.
وَهِيَ مِنْ دَارَ يَدُورُ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ حَرَكَاتِ النَّاسِ فِيهَا وَاعْتِبَارًا بِدَوَرَانِهَا الَّذِي لَهَا بِالْحَائِطِ، وَجَمْعُهَا أَدْوُرٌ، وَدُورٌ، وَالْكَثِيرُ دِيَارٌ، وَهِيَ الْمَنَازِل الْمَسْكُونَةُ وَالْمَحَال.
وَكُل مَوْضِعٍ حَل بِهِ قَوْمٌ فَهُوَ دَارُهُمْ، وَمِنْ هُنَا سُمِّيَتِ الْبَلْدَةُ دَارًا، وَالصَّقْعُ دَارًا.
وَقَدْ تُطْلَقُ الدَّارُ عَلَى الْقَبَائِل مَجَازًا (1) .
وَمَعْنَاهَا الاِصْطِلاَحِيُّ لاَ يَخْتَلِفُ عَنْ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَيْتُ:
2 - أَصْل الْبَيْتِ لُغَةً مَأْوَى الإِْنْسَانِ بِاللَّيْل، لأَِنَّهُ
__________
(1) لسان العرب، غريب القرآن للأصفهاني، المصباح المنير مادة: " دار " مغني المحتاج 2 / 84.

(20/198)


يُقَال: بَاتَ: أَيْ أَقَامَ بِاللَّيْل، كَمَا يُقَال: ظَل بِالنَّهَارِ، وَيُقَال: لِلْمَسْكَنِ بَيْتٌ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ اللَّيْل فِيهِ.
وَيَقَعُ اسْمُ الْبَيْتِ عَلَى الْمُتَّخَذِ مِنْ حَجَرٍ، أَوْ مَدَرٍ، أَوْ صُوفٍ، أَوْ وَبَرٍ، أَوْ غَيْرِهَا.
وَيُعَبَّرُ عَنْ مَكَانِ الشَّيْءِ بِأَنَّهُ بَيْتُهُ، وَفِي التَّنْزِيل: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} (1) وَبَيْتُ اللَّهِ مَحَل عِبَادَتِهِ. وَالْبَيْتُ الْعَتِيقُ، وَالْبَيْتُ الْحَرَامُ هُوَ الْكَعْبَةُ أَوِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ كُلُّهُ (2) .
فَبَيْنَ الْبَيْتِ وَالدَّارِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ (3) .

ب - الْحُجْرَةُ:
3 - الْحُجْرَةُ هِيَ الْوَاحِدَةُ مِنْ حُجَرِ الدَّارِ، وَالْجَمْعُ حُجَرٌ، وَحُجُرَاتٌ، مِثْل غُرَفٍ وَغُرُفَاتٍ (4) .

ح - الْغُرْفَةُ:
4 - الْغُرْفَةُ: الْعُلِّيَّةُ، وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْحُجْرَةِ، وَالْجَمْعُ غُرَفٌ، ثُمَّ غُرُفَاتٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا (5) .
__________
(1) سورة العنكبوت / 41.
(2) لسان العرب، المصباح المنير مادة: " بيت ".
(3) لسان العرب، المصباح المنير، غريب القرآن للأصفهاني، مادة " بيت ".
(4) المصباح المنير.
(5) المصباح المنير.

(20/199)


د - الْخِدْرُ:
5 - الْخِدْرُ: السِّتْرُ، وَالْجَمْعُ خُدُورٌ، وَيُطْلَقُ الْخِدْرُ عَلَى الْبَيْتِ إِنْ كَانَ فِيهِ امْرَأَةٌ وَأَوْلاَدٌ (1) .

هـ - الْمَنْزِل:
6 - الْمَنْزِل: الْمَنْهَل، وَالدَّارُ، وَمَوْضِعُ النُّزُول، وَقَدْ تَكُونُ اسْمًا لِمَا يَشْتَمِل عَلَى بُيُوتٍ، وَصَحْنٍ مُسَقَّفٍ، وَمَطْبَخٍ، يَسْكُنُهُ الرَّجُل لِعِيَالِهِ، وَهُوَ دُونَ الدَّارِ وَفَوْقَ الْبَيْتِ. وَأَقَلُّهُ بَيْتَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ (2) .

و الْمُخْدَعُ:
7 - الْمُخْدَعُ بِضَمِّ الْمِيمِ، بَيْتٌ صَغِيرٌ يُحْرَزُ فِيهِ الشَّيْءُ، وَكَسْرُ الْمِيمِ وَفَتْحُهَا لُغَتَانِ، مَأْخُوذٌ مِنْ أَخْدَعْتُ الشَّيْءَ بِالأَْلِفِ إِذَا أَخْفَيْتَهُ (3) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالدَّارِ:
8 - أَوْرَدَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الدَّارِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي عِدَّةِ أَبْوَابٍ مِنْهَا: الْبَيْعُ، وَالإِْجَارَةُ، وَالْوَصِيَّةُ، وَالْوَقْفُ.
وَبَحَثُوا فِيمَا لَوْ بَاعَ الشَّخْصُ الدَّارَ، أَوْ آجَرَهَا أَوْ أَوْصَى بِهَا، أَوْ وَقَفَهَا، مَا يَدْخُل فِي هَذَا الْعَقْدِ وَمَا لاَ يَدْخُل فِيهِ.
فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الدَّارِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) المغرب، والمصباح، والمختار، والكليات، والمبسوط للسرخسي 8 / 164، 168.
(3) المصباح المنير.

(20/199)


يَدْخُل فِيهِ الأَْرْضُ وَالْبِنَاءُ وَكُل مَا هُوَ مُثَبَّتٌ فِيهَا كَالأَْجْنِحَةِ وَالرَّوَاشِنِ، وَالدَّرَجِ وَالْمَرَاقِي الْمَعْقُودَةِ، وَالسُّقُفِ، وَالْجُسُورِ، وَالْبَلاَطِ الْمَفْرُوشِ الْمُثَبَّتِ فِي الأَْرْضِ، وَالأَْبْوَابِ الْمَنْصُوبَةِ وَغَلْقِهَا الْمُثَبَّتِ، وَالْخَوَابِي، وَمَعَاجِنِ الْخَبَّازِينَ وَخَشَبِ الْقَصَّارِينَ، وَالإِْجَّانَاتِ الْمُثَبَّتَةِ (وَهِيَ آنِيَةٌ تُغْسَل فِيهَا الثِّيَابُ) وَالرُّفُوفِ، وَالسَّلاَلِمِ، وَالسُّرُرِ عَلَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الثَّلاَثَةُ مُسَمَّرَةً.
كَمَا يَدْخُل فِي هَذَا الْعَقْدِ الأَْشْجَارُ الرَّطْبَةُ الْمَغْرُوسَةُ فِي الدَّارِ، وَالْبِئْرُ الْمَحْفُورَةُ، وَالأَْوْتَادُ الْمَغْرُوزَةُ فِيهَا، لأَِنَّ اسْمَ الدَّارِ يَقَعُ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الأَْشْيَاءِ عُرْفًا.
وَكَذَلِكَ يَدْخُل فِي هَذَا الْعَقْدِ حَجَرُ الرَّحَى إِذَا كَانَ الأَْسْفَل مِنْهُمَا مُثَبَّتًا (1) .
وَفِي قَوْلٍ لِكُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لاَ يَدْخُل الْحَجَرُ الأَْعْلَى إِذَا كَانَ مُنْفَصِلاً.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَنْقُولاَتِ الْمُنْفَصِلَةَ وَغَيْرَ الْمُثَبَّتَةِ لاَ تَدْخُل فِي الْعَقْدِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ، وَذَلِكَ كَالسَّرِيرِ، وَالْفُرُشِ، وَالسَّتَائِرِ، وَالرُّفُوفِ الْمَوْضُوعَةِ بِغَيْرِ تَسْمِيرٍ وَلاَ غَرْزٍ فِي الْحَائِطِ، وَكَذَلِكَ الأَْقْفَال وَالْحِبَال، وَالدَّلْوُ، وَالْبَكَرَةُ إِذَا لَمْ تَكُنْ مُرَكَّبَةً بِالْبِئْرِ بِأَنْ كَانَتْ مَشْدُودَةً بِحَبْلٍ أَوْ مَوْضُوعَةً.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 373، 4 / 33، جواهر الإكليل 2 / 59، مغني المحتاج 2 / 84، 346، المغني لابن قدامة 4 / 88، 5 / 458.

(20/200)


وَكَذَلِكَ السَّلاَلِمُ الْمَوْضُوعَةُ غَيْرُ الْمُرَكَّبَةِ. وَكُل مَا لاَ يَكُونُ مِنْ بِنَاءِ الدَّارِ وَلاَ مُتَّصِلاً بِهَا مِنْ خَشَبٍ وَحَجَرٍ، وَحَيَوَانٍ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَنْقُولاَتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الدَّارِ.
وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ.
أَمَّا إِذَا اتَّفَقَ الطَّرَفَانِ عَلَى أَنْ يَشْمَل الْعَقْدُ جَمِيعَ الْمَنْقُولاَتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الدَّارِ أَوْ بَعْضَهَا، أَوْ قَال: وَقَفْتُ الدَّارَ بِجَمِيعِ مَا فِيهَا، فَإِنَّ الْمَنْقُولاَتِ الْمَوْجُودَةَ تَدْخُل فِي الْعَقْدِ تَبَعًا لِلدَّارِ أَوْ حَسْبَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الطَّرَفَانِ (1) .
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٌ، وَقْفٌ)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْفِ عُلْوِ الدَّارِ دُونَ سُفْلِهَا، أَوْ سُفْلِهَا دُونَ عُلْوِهَا، أَوْ جَعْل وَسَطِ دَارِهِ مَسْجِدًا وَلَمْ يَذْكُرِ الاِسْتِطْرَاقَ (2) .
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى صِحَّةِ هَذَا الْوَقْفِ؛ لأَِنَّهُ كَمَا يَصِحُّ بَيْعُهُ فَكَذَلِكَ يَصِحُّ وَقْفُهُ، كَوَقْفِ الدَّارِ جَمِيعًا، وَلأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ يُزِيل الْمِلْكَ إِلَى مَنْ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الاِسْتِقْرَارِ وَالتَّصَرُّفِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ (3) .
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْفٌ) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 373، مغني المحتاج 2 / 346، جواهر الإكليل 2 / 59.
(2) الاستطراق كما في المغرب، هو استفعال من الطريق، وهو اتخاذ المكان طريقًا. مادة: (طرق) .
(3) روضة الطالبين 5 / 315، والمغني لابن قدامة 5 / 607.

(20/200)


دَارُ الإِْسْلاَمِ
التَّعْرِيفُ:
1 - دَارُ الإِْسْلاَمِ هِيَ: كُل بُقْعَةٍ تَكُونُ فِيهَا أَحْكَامُ الإِْسْلاَمِ ظَاهِرَةً (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: هِيَ كُل أَرْضٍ تَظْهَرُ فِيهَا أَحْكَامُ الإِْسْلاَمِ - وَيُرَادُ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ: كُل حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهِ غَيْرِ نَحْوِ الْعِبَادَاتِ كَتَحْرِيمِ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ - أَوْ يَسْكُنُهَا الْمُسْلِمُونَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ فِيهَا أَهْل ذِمَّةٍ، أَوْ فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَأَقَرُّوهَا بِيَدِ الْكُفَّارِ، أَوْ كَانُوا يَسْكُنُونَهَا، ثُمَّ أَجَلاَهُمُ الْكُفَّارُ عَنْهَا (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - دَارُ الْحَرْبِ:
2 - دَارُ الْحَرْبِ هِيَ: كُل بُقْعَةٍ تَكُونُ فِيهَا أَحْكَامُ الْكُفْرِ ظَاهِرَةً (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 130 - 131، ابن عابدين 3 / 253، المبسوط 10 / 114، كشاف القناع 3 / 43، الإنصاف 4 / 121، المدونة 2 / 22.
(2) حاشية البجيرمي 4 / 220 وهو ما يفهم من نهاية المحتاج 8 / 81 وما بعدها.
(3) المصادر السابقة.

(20/201)


ب - دَارُ الْعَهْدِ:
3 - دَارُ الْعَهْدِ: وَتُسَمَّى دَارَ الْمُوَادَعَةِ وَدَارَ الصُّلْحِ وَهِيَ: كُل نَاحِيَةٍ صَالَحَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَهَا بِتَرْكِ الْقِتَال عَلَى أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ لأَِهْلِهَا (1) .

ج - دَارُ الْبَغْيِ:
4 - دَارُ الْبَغْيِ هِيَ: نَاحِيَةٌ مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ تَحَيَّزَ إِلَيْهَا مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ شَوْكَةٌ خَرَجَتْ عَلَى طَاعَةِ الإِْمَامِ بِتَأْوِيلٍ (2) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - إِذَا اسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى بُقْعَةٍ مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ صَارَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ النَّاحِيَةِ الَّتِي اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْكُفَّارُ، رِجَالاً وَنِسَاءً، صِغَارًا وَكِبَارًا، أَصِحَّاءَ وَمَرْضَى، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَهْل النَّاحِيَةِ دَفْعَ الْعَدُوِّ عَنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ، صَارَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ أَهْل النَّوَاحِي الأُْخْرَى مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَهَكَذَا حَتَّى يَكُونَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ يَجُوزُ تَمْكِينُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ. وَيَأْثَمُ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 178، وفتح القدير 5 / 334.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 38، فتح القدير 5 / 334، بدائع الصنائع 7 / 130 - 131، أسنى المطالب 4 / 111.

(20/201)


إِذَا تَرَكُوا غَيْرَهُمْ يَسْتَوْلِي عَلَى شَيْءٍ مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ. (ر: جِهَادٌ) .
وَيَجِبُ عَلَى أَهْل بُلْدَانِ دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَقُرَاهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِقَامَةُ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ، وَإِظْهَارُهَا فِيهَا كَالْجُمُعَةِ، وَالْجَمَاعَةِ، وَصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ، وَالأَْذَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ، فَإِنْ تَرَكَ أَهْل بَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ إِقَامَةَ هَذِهِ الشَّعَائِرِ أَوْ إِظْهَارَهَا قُوتِلُوا وَإِنْ أَقَامُوهَا سِرًّا (1) .
وَلاَ يَجُوزُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ دُخُول دَارِ الإِْسْلاَمِ إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنَ الإِْمَامِ أَوْ أَمَانٍ فِي مُسْلِمٍ. وَلاَ يَجُوزُ لَهُمْ إِحْدَاثُ دُورِ عِبَادَةٍ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ: كَالْكَنَائِسِ، وَالصَّوَامِعِ، وَبَيْتِ النَّارِ، عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي.

تَحَوُّل دَارِ الإِْسْلاَمِ إِلَى دَارِ كُفْرٍ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحَوُّل دَارِ الإِْسْلاَمِ إِلَى دَارٍ لِلْكُفْرِ.
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ تَصِيرُ دَارُ الإِْسْلاَمِ دَارَ كُفْرٍ بِحَالٍ مِنَ الأَْحْوَال، وَإِنِ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْكُفَّارُ، وَأَجْلَوُا الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا، وَأَظْهَرُوا فِيهَا أَحْكَامَهُمْ (2) . لِخَبَرِ: الإِْسْلاَمُ يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى عَلَيْهِ (3)
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 174، روضة الطالبين 10 / 217، بدائع الصنائع 1 / 232، و 7 / 98، وكشاف القناع 1 / 134، ونهاية المحتاج 2 / 136 - 137.
(2) نهاية المحتاج 8 / 82، وأسنى المطالب 4 / 204.
(3) حديث: " الإسلام يعلو ولا يعلى عليه " أخرجه الدارقطني (3 / 252 - ط دار المحاسن) من حديث عائذ بن عمرو المزني، وحسنه ابن حجر في الفتح (3 / 220 - ط السلفية) .

(20/202)


وَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ (أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ) : تَصِيرُ دَارُ الإِْسْلاَمِ دَارَ كُفْرٍ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فِيهَا (1) . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِيرُ دَارَ كُفْرٍ إِلاَّ بِثَلاَثِ شَرَائِطَ:
1 - ظُهُورُ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فِيهَا.
2 - أَنْ تَكُونَ مُتَاخِمَةً لِدَارِ الْكُفْرِ.
3 - أَنْ لاَ يَبْقَى فِيهَا مُسْلِمٌ، وَلاَ ذِمِّيٌّ آمِنًا بِالأَْمَانِ الأَْوَّل، وَهُوَ أَمَانُ الْمُسْلِمِينَ.
وَوَجْهُ قَوْل الصَّاحِبَيْنِ وَمَنْ مَعَهُمَا أَنَّ دَارَ الإِْسْلاَمِ وَدَارَ الْكُفْرِ: أُضِيفَتَا إِلَى الإِْسْلاَمِ وَإِلَى الْكُفْرِ لِظُهُورِ الإِْسْلاَمِ أَوِ الْكُفْرِ فِيهِمَا، كَمَا تُسَمَّى الْجَنَّةُ دَارَ السَّلاَمِ، وَالنَّارُ دَارَ الْبَوَارِ، لِوُجُودِ السَّلاَمَةِ فِي الْجَنَّةِ، وَالْبَوَارِ فِي النَّارِ، وَظُهُورُ الإِْسْلاَمِ وَالْكُفْرِ إِنَّمَا هُوَ بِظُهُورِ أَحْكَامِهِمَا، فَإِذَا ظَهَرَتْ أَحْكَامُ الْكُفْرِ فِي دَارٍ فَقَدْ صَارَتْ دَارَ كُفْرٍ، فَصَحَّتِ الإِْضَافَةُ، وَلِهَذَا صَارَتِ الدَّارُ دَارَ إِسْلاَمٍ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ شَرِيطَةٍ أُخْرَى، فَكَذَا تَصِيرُ دَارَ كُفْرٍ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فِيهَا.
وَوَجْهُ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 130 - 131، وابن عابدين 3 / 253، وكشاف القناع 3 / 43، والإنصاف 4 / 121، والمدونة 2 / 22.

(20/202)


إِضَافَةِ الدَّارِ إِلَى الإِْسْلاَمِ وَالْكُفْرِ لَيْسَ هُوَ عَيْنُ الإِْسْلاَمِ وَالْكُفْرِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُوَ: الأَْمْنُ، وَالْخَوْفُ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الأَْمْنَ إِنْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الدَّارِ عَلَى الإِْطْلاَقِ وَالْخَوْفَ لِغَيْرِهِمْ عَلَى الإِْطْلاَقِ فَهِيَ دَارُ إِسْلاَمٍ، وَإِنْ كَانَ الأَْمْنُ فِيهَا لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الإِْطْلاَقِ وَالْخَوْفُ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الإِْطْلاَقِ فَهِيَ دَارُ كُفْرٍ، فَالأَْحْكَامُ عِنْدَهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الأَْمَانِ وَالْخَوْفِ، لاَ عَلَى الإِْسْلاَمِ وَالْكُفْرِ، فَكَانَ اعْتِبَارُ الأَْمْنِ وَالْخَوْفِ أَوْلَى (1) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (دَارُ الْحَرْبِ) .

دُخُول الْحَرْبِيِّ دَارَ الإِْسْلاَمِ:
7 - لَيْسَ لِلْحَرْبِيِّ دُخُول دَارِ الإِْسْلاَمِ إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنَ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، فَإِنِ اسْتَأْذَنَ فِي دُخُولِهَا فَإِنْ كَانَ فِي دُخُولِهِ مَصْلَحَةٌ، كَإِبْلاَغِ رِسَالَةٍ، أَوْ سَمَاعِ كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ حَمْل مِيرَةٍ أَوْ مَتَاعٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِمَا الْمُسْلِمُونَ، جَازَ الإِْذْنُ لَهُ بِدُخُول دَارِ الإِْسْلاَمِ إِلاَّ الْحَرَمَ، وَلاَ يُقِيمُ فِي الْحِجَازِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، لأَِنَّ مَا زَادَ عَلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ فِي حُكْمِ الإِْقَامَةِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَفِي غَيْرِ الْحِجَازِ يُقِيمُ قَدْرَ الْحَاجَةِ. أَمَّا الْحَرَمُ فَلاَ يَجُوزُ دُخُول كَافِرٍ فِيهِ وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا بِحَالٍ مِنَ الأَْحْوَال عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (2) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) الأم للشافعي 4 / 177، ونهاية المحتاج 8 / 91، وحاشية الدسوقي 2 / 184، وكشاف القناع 3 / 118 - 134، وروضة الطالبين 10 / 309، وأسنى المطالب 4 / 214 وحاشية ابن عابدين 3 / 275، وبدائع الصنائع 7 / 114.

(20/203)


إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (1) . وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ: (أَرْضُ الْعَرَبِ، حَرَمٌ) .

مَال الْمُسْتَأْمَنِ وَأَهْلُهُ:
8 - إِذَا دَخَل الْحَرْبِيُّ دَارَ الإِْسْلاَمِ بِأَمَانٍ مِنَ الإِْمَامِ كَانَ مَا مَعَهُ مِنْ مَالٍ، وَزَوْجَةٍ، وَأَوْلاَدٍ صِغَارٍ فِي أَمَانٍ، أَمَّا مَا خَلَّفَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلاَ يَدْخُل فِي الأَْمَانِ، إِلاَّ بِالشَّرْطِ فِي عَقْدِ الأَْمَانِ.
وَإِنْ نَقَضَ الْعَهْدَ وَالْتَحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَقِيَ الأَْمَانُ لِمَا تَرَكَهُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَلَهُ أَنْ يَدْخُل فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ لِتَحْصِيل مَا تَرَكَهُ مِنْ دَيْنٍ وَوَدِيعَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ مَاتَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَتَرِكَتُهُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ لِوَرَثَتِهِ (2) .
وَإِنْ دَخَل لِتِجَارَةٍ جَازَ لِلإِْمَامِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ عُشْرَ مَا مَعَهُ مِنْ مَال التِّجَارَةِ، وَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ (3) .
__________
(1) سورة التوبة / 28.
(2) روضة الطالبين 10 / 289، ونهاية المحتاج 8 / 80، 89، وأسنى المطالب 4 / 206، ومواهب الجليل 3 / 362، وابن عابدين 3 / 249، وكشاف القناع 3 / 108.
(3) روضة الطالبين 10 / 319، ونهاية المحتاج 8 / 91، وكشاف القناع 3 / 137.

(20/203)


اسْتِيطَانُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ دَارَ الإِْسْلاَمِ:
9 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ دَارَ الإِْسْلاَمِ إِلَى قِسْمَيْنِ: جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهَا: فَجَزِيرَةُ الْعَرَبِ لاَ يُمَكَّنُ غَيْرُ الْمُسْلِمِ مِنَ الاِسْتِيطَانِ فِيهَا، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِخَبَرِ: لاَ يُتْرَكُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ (2) .
وَخَبَرِ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ (3) .
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ.
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الْمُرَادُ بِالْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْحِجَازُ، فَتَجُوزُ إِقَامَتُهُمْ فِي غَيْرِ الْحِجَازِ مِنَ الْجَزِيرَةِ، لأَِنَّ أَحَدًا مِنَ الْخُلَفَاءِ لَمْ يُخْرِجِ الْكُفَّارَ مِنَ الْيَمَنِ، وَتَيْمَاءَ، وَنَجْرَانَ. وَقَال غَيْرُهُمْ: الْمُرَادُ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ كُلُّهَا مِنْ عَدَنِ أَبْيَنَ إِلَى رِيفِ الْعِرَاقِ (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (أَرْضُ الْعَرَبِ) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 114، ومواهب الجليل 3 / 381.
(2) حديث: " لا يترك بجزيرة العرب دينان " أخرجه أحمد (6 / 275 - ط الميمنية) من حديث عائشة، وقال الهيثمي في المجمع (5 / 325 - ط القدسي) : " رواه أحمد بإسنادين، ورجال طريقين منها ثقات متصل إسنادهما ".
(3) حديث: " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 271 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1258 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.
(4) نهاية المحتاج 8 90، وأسنى المطالب 4 / 114، وروضة الطالبين 10 / 309، وكشاف القناع 3 / 136.

(20/204)


إِحْدَاثُ دُورِ عِبَادَةٍ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ:
10 - لاَ يَجُوزُ إِحْدَاثُ كَنِيسَةٍ، أَوْ صَوْمَعَةٍ، أَوْ بَيْتِ نَارٍ لِلْمَجُوسِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، بِتَفْصِيلٍ يُرْجَعُ: إِلَى مُصْطَلَحِ: (مَعَابِدُ) .

اللَّقِيطُ وَأَثَرُ الدَّارِ فِي دِينِهِ:
11 - إِذَا وُجِدَ طِفْلٌ مَنْبُوذٌ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ حُكِمَ بِإِسْلاَمِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ مُسْلِمِينَ (انْظُرْ: لَقِيطٌ) .

إِحْيَاءُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ مَوَاتَ دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَحَفْرُ مَعَادِنِهِ
12 - لَيْسَ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ إِحْيَاءُ مَوَاتٍ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ لاَ يَمْلِكُهُ بِالإِْحْيَاءِ، وَلاَ حَفْرُ مَعَادِنِهَا، وَلاَ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ. وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ، وَزَكَاةُ الْمَعَادِنِ) .

(20/204)


دَارُ الْبَغْيِ

التَّعْرِيفُ:
1 - الدَّارُ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْعَرْصَةِ وَالْبِنَاءِ وَالْمَحَلَّةِ، وَكُل مَوْضِعٍ حَل بِهِ قَوْمٌ فَهُوَ دَارُهُمْ.
وَالْبَغْيُ لُغَةً: مَصْدَرُ بَغَى يَبْغِي بَغْيًا إِذَا ظَلَمَ وَتَعَدَّى، وَيُقَال: بَغَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا طَلَبْتَهُ.
وَأَصْل الْبَغْيِ الظُّلْمُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَبَغَى الْجُرْحُ تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِي فَسَادِهِ. وَبَغَتِ الْمَرْأَةُ بَغْيًا، وَبَاغَتَ مُبَاغَاةً، وَتَبْغِي بِغَاءً فَهِيَ بَغِيٌّ، إِذَا فَجَرَتْ، وَذَلِكَ لِتَجَاوُزِهَا إِلَى مَا لَيْسَ لَهَا.
وَبَغَتِ السَّمَاءُ تَجَاوَزَتْ فِي الْمَطَرِ الْحَدَّ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ. وَبَغَى تَكَبَّرَ وَاسْتَطَال وَعَدَل عَنِ الْحَقِّ وَقَصَدَ الْفَسَادَ (1) .
وَالْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ هِيَ الظَّالِمَةُ الْخَارِجَةُ عَنْ طَاعَةِ الإِْمَامِ الْعَادِل، وَمِنْهُ قَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمَّارِ بْنِ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة " دار "، ولسان العرب مادة " بغي "، ومغني المحتاج 4 / 123، وحاشية ابن عابدين 3 / 308.

(20/205)


يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ (1) .
وَهَذَا هُوَ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ، فَالْبَاغِي هُوَ الْمُخَالِفُ لإِِمَامِ الْعَدْل الْخَارِجُ عَنْ طَاعَتِهِ بِامْتِنَاعِهِ مِنْ أَدَاءِ وَاجِبٍ عَلَيْهِ كَزَكَاةٍ وَخَرَاجِ أَرْضٍ وَغَيْرِهِمَا (2) .
2 - وَدَارُ الْبَغْيِ فِي الاِصْطِلاَحِ: جُزْءٌ مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ تَفَرَّدَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَرَجُوا عَلَى طَاعَةِ الإِْمَامِ الْحَقِّ بِحُجَّةٍ تَأَوَّلُوهَا مُبَرِّرَةٍ لِخُرُوجِهِمْ، وَامْتَنَعُوا وَتَحَصَّنُوا بِتِلْكَ الأَْرْضِ الَّتِي أَصْبَحَتْ فِي حَوْزَتِهِمْ، وَأَقَامُوا عَلَيْهِمْ حَاكِمًا مِنْهُمْ، وَصَارَ لَهُمْ جَيْشٌ وَمَنَعَةٌ (3) .

أَحْكَامُ دَارِ الْبَغْيِ:
3 - إِذَا اسْتَوْلَى الْبُغَاةُ عَلَى بَلَدٍ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَنَصَّبُوا لَهُمْ إِمَامًا، وَأَحْدَثَ إِمَامُهُمْ تَصَرُّفَاتٍ بِاعْتِبَارِهِ حَاكِمًا كَالْجِبَايَةِ، مِنْ جَمْعِ الزَّكَاةِ، وَالْعُشُورِ، وَالْجِزْيَةِ، وَالْخَرَاجِ، وَاسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ، وَالتَّعَازِيرِ، وَإِقَامَةِ الْقُضَاةِ، فَفِي نَفَاذِ هَذِهِ
__________
(1) حديث: " ويح عمار، تقتله الفئة الباغية " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 541 - ط السلفية) من حديث أبي سعيد الخدري.
(2) لسان العرب مادة: " بغا " حاشية ابن عابدين 3 / 308، جواهر الإكليل 2 / 277، مغني المحتاج 4 / 123، روضة الطالبين 10 / 50.
(3) فتح القدير 4 / 408، وما بعدها، البدائع 7 / 140، والدر المختار والحاشية 3 / 338، والمغني 8 / 107.

(20/205)


التَّصَرُّفَاتِ وَتَرَتُّبِ آثَارِهَا عَلَيْهَا فِي حَقِّ أَهْل الْعَدْل تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (بُغَاةٌ) (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 140 - 141، حاشية ابن عابدين 3 / 308، وجواهر الإكليل 2 / 277، روضة الطالبين 10 / 50، مغني المحتاج 4 / 123.

(20/206)


دَارُ الْحَرْبِ
التَّعْرِيفُ:
1 - دَارُ الْحَرْبِ: هِيَ كُل بُقْعَةٍ تَكُونُ أَحْكَامُ الْكُفْرِ فِيهَا ظَاهِرَةً (1) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِدَارِ الْحَرْبِ:
الْهِجْرَةُ:
2 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ النَّاسَ فِي شَأْنِ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَضْرُبٍ:
أ - مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ، وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَلاَ يُمْكِنُهُ إِظْهَارُ دِينِهِ مَعَ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى لاَ تَجِدُ مَحْرَمًا، إِنْ كَانَتْ تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا فِي الطَّرِيقِ، أَوْ كَانَ خَوْفُ الطَّرِيقِ أَقَل مِنْ خَوْفِ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ (2) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 30 - 31، كشاف القناع 3 / 43، الإنصاف 4 / 121، المدونة 2 / 22.
(2) نهاية المحتاج 8 / 82، كشاف القناع 3 / 43، أسنى المطالب 4 / 204، المغني 8 / 456، عمدة القاري 1 / 35، الإنصاف 4 / 121، فتح العلي المالك 1 / 313 مطبعة مصطفى محمد.

(20/206)


أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَْرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1) .
وَفِي الآْيَةِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ، وَالْوَعِيدُ الشَّدِيدُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ وَتَرْكِ الْوَاجِبِ.
وَلِحَدِيثِ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُل مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ لاَ تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا (2) وَحَدِيثِ: لاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا دَامَ الْعَدُوُّ يُقَاتِل (3) أَمَّا حَدِيثُ: لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ (4) فَمَعْنَاهُ لاَ هِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ فَتْحِهَا، لِصَيْرُورَةِ مَكَّةَ دَارَ إِسْلاَمٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
ب - مَنْ لاَ هِجْرَةَ عَلَيْهِ: وَهُوَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْهَا، إِمَّا لِمَرَضٍ، أَوْ إِكْرَاهٍ عَلَى الإِْقَامَةِ فِي دَارِ الْكُفْرِ، أَوْ ضَعْفٍ كَالنِّسَاءِ، وَالْوِلْدَانِ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ
__________
(1) سورة النساء / 97.
(2) حديث: " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، لا تتراءى ناراهما " أخرجه الترمذي (4 / 155 - ط الحلبي) من حديث جرير بن عبد الله، وإسناده صحيح.
(3) حديث: " لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل ". أخرجه أحمد (1 / 192 - ط الميمنية) من حديث عبد الله بن السعدي، وقال الهيثمي في المجمع (5 / 251 - ط السعادة) : " رجاله ثقات ".
(4) حديث: " لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 3 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1487 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.

(20/207)


لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} (1) .
ج - مَنْ تُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ، وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ: مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْهِجْرَةِ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَهَذَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْجِهَادِ، وَتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ (2) .
د - وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ قِسْمًا رَابِعًا: وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ دِينِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَيَقْدِرُ عَلَى الاِعْتِزَال فِي مَكَانٍ خَاصٍّ، وَالاِمْتِنَاعِ مِنَ الْكُفَّارِ، فَهَذَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ، لأَِنَّ مَكَانَ اعْتِزَالِهِ صَارَ دَارَ إِسْلاَمٍ بِامْتِنَاعِهِ، فَيَعُودُ بِهِجْرَتِهِ إِلَى حَوْزَةِ الْكُفَّارِ، وَهُوَ أَمْرٌ لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّ كُل مَحَلٍّ قَدَرَ أَهْلُهُ عَلَى الاِمْتِنَاعِ مِنَ الْكُفَّارِ صَارَ دَارَ إِسْلاَمٍ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تَجِبُ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لِخَبَرِ: لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ (4) .
أَمَّا حَدِيثُ: ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّل مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ (5) . فَمَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ: لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ.

التَّزَوُّجُ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّزَوُّجِ فِي دَارِ
__________
(1) سورة النساء / 98.
(2) المصادر الفقهية السابقة.
(3) روضة الطالبين 10 / 282، نهاية المحتاج 8 / 82.
(4) المبسوط م 5 ج 10 / 6، والحديث تقدم تخريجه.
(5) حديث: " ادعهم إلى التحول من دارهم. . . " أخرجه مسلم (3 / 1357 - ط الحلبي) من حديث بريدة بن الحصيب.

(20/207)


الْحَرْبِ لِمَنْ دَخَل فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِأَمَانٍ، لِتِجَارَةٍ، أَوْ لِغَيْرِهَا، وَلَوْ بِمُسْلِمَةٍ، وَتَشْتَدُّ الْكَرَاهَةُ إِذَا كَانَتْ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْكَرَاهَةُ تَحْرِيمِيَّةٌ فِي الْحَرْبِيَّةِ لاِفْتِتَاحِ بَابِ الْفِتْنَةِ، وَتَنْزِيهِيَّةٌ فِي غَيْرِهَا، لأَِنَّ فِيهِ تَعْرِيضًا لِلذُّرِّيَّةِ لِفَسَادٍ عَظِيمٍ، إِذْ أَنَّ الْوَلَدَ إِذَا نَشَأَ فِي دَارِهِمْ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يَنْشَأَ عَلَى دِينِهِمْ، وَإِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ مِنْهُمْ فَقَدْ تَغْلِبُ عَلَى وَلَدِهَا فَيَتْبَعُهَا عَلَى دِينِهَا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ أَسِيرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلاَ يَحِل لَهُ التَّزَوُّجُ مَا دَامَ أَسِيرًا، لأَِنَّهُ إِذَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ كَانَ لَهُمْ رَقِيقًا (2)

الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّ الرِّبَا حَرَامٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَحُرْمَتِهِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، فَمَا كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، سَوَاءٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ أَهْل الْحَرْبِ، أَوْ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ لَمْ يُهَاجِرَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَبِهَذَا قَال الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالُوا: إِنَّ النُّصُوصَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا عَامَّةٌ، وَلَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ دَارٍ وَدَارٍ، وَلاَ بَيْنَ مُسْلِمٍ
__________
(1) المغني 8 / 455، أسنى المطالب / 161، الخرشي 3 / 226، المبسوط م 5 ج 10 / 96، ورد المحتار 2 / 289.
(2) المغني 8 / 455.

(20/208)


وَغَيْرِهِ (1) . (رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: رِبًا) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: لاَ يَحْرُمُ الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَأَهْل الْحَرْبِ، وَلاَ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ لَمْ يُهَاجِرَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ (2) . لِحَدِيثِ: لاَ رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ (3) وَلأَِنَّ مَالَهُمْ مُبَاحٌ فِي دَارِهِمْ، فَبِأَيِّ طَرِيقٍ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُ أَخَذَ مَالاً مُبَاحًا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَدْرٌ، وَلأَِنَّ مَال أَهْل الْحَرْبِ مُبَاحٌ بِغَيْرِ عَقْدٍ، فَبِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ أَوْلَى.
وَلأَِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَاطَرَ قُرَيْشًا قَبْل الْهِجْرَةِ حِينَ أَنْزَل اللَّهُ تَعَالَى: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَْرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} (4) وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: أَتَرَوْنَ أَنَّ الرُّومَ تَغْلِبُ؟ قَال: نَعَمْ. فَقَالُوا: هَل لَكَ أَنْ تُخَاطِرَنَا فِي ذَلِكَ؟ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: اذْهَبْ إِلَيْهِمْ فَزِدْ فِي الْخَطَرِ وَزِدْ فِي الأَْجَل فَفَعَل، وَغَلَبَتِ الرُّومُ فَارِسًا فَأَخَذَ
__________
(1) المجموع شرح المهذب 9 / 191، المغني 4 / 45، 8 / 458، المدونة 4 / 271.
(2) شرح فتح القدير 6 / 177.
(3) حديث: " لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب " قال الزيلعي في نصب الراية (4 / 44 - ط المجلس العلمي) : " غريب " يعني أنه لا أصل له. ثم ذكر أن الشافعي قال عن رواية مرفوعة ذكرها مكحول بلفظ: " لا ربا بين أهل الحرب " قال الشافعي: هذا ليس بثابت، ولا حجة
(4) سورة الروم / 1.

(20/208)


أَبُو بَكْرٍ خَطَرَهُ، فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْقِمَارُ بِعَيْنِهِ (1) .
وَكَانَتْ مَكَّةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دَارَ حَرْبٍ، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لِلْمُسْلِمِ أَخْذَ مَال الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَا لَمْ يَكُنْ غَدْرًا (2) .

إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ زَنَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ سَرَقَ، أَوْ قَذَفَ مُسْلِمًا، أَوْ شَرِبَ خَمْرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ.
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ، لأَِنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ فَرْضٌ كَالصَّلاَةِ، وَالصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ، وَلاَ تُسْقِطُ دَارُ الْحَرْبِ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
إِذَا قَتَل مُسْلِمٌ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ يَسْتَوْفِي مِنْهُ الْقِصَاصَ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ كَمَا لَوْ كَانُوا فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَوْ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
__________
(1) حديث أبي بكر في نزول سورة الروم. أورده الزمخشري في الكشاف (3 / 466 - 467 - ط دار الكتاب العربي) وقال ابن حجر في تخريجه: " قصة أبي بكر في المراهنة رواها الترمذي وغيره من حديث نيار بن مكرم الأسلمي وسياقها مخالف لسياق هذه القصة ".
(2) حاشية الطحطاوي 3 / 112، بدائع الصنائع 5 / 192.
(3) الخرشي 3 / 111، والأم 4 / 248.

(20/209)


لاَ تُقَامُ الْحُدُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ (1) . وَقَوْلِهِ: مَنْ زَنَى أَوْ سَرَقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَصَابَ بِهَا حَدًّا ثُمَّ هَرَبَ فَخَرَجَ إِلَيْنَا فَإِنَّهُ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ (2) وَلأَِنَّ الإِْمَامَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِعَدَمِ الْوِلاَيَةِ، وَلاَ يُقَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، لأَِنَّ الْفِعْل لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا أَصْلاً، وَكَذَلِكَ إِذَا قَتَل مُسْلِمًا فِيهَا لاَ يُؤْخَذُ بِالْقِصَاصِ وَإِنْ كَانَ الْقَتْل عَمْدًا لِتَعَذُّرِ الاِسْتِيفَاءِ، وَلأَِنَّ كَوْنَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْرَثَ شُبْهَةً فِي الْوُجُوبِ، وَالْقِصَاصُ لاَ يَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَيَضْمَنُ الدِّيَةَ وَتَكُونُ فِي مَالِهِ لاَ عَلَى الْعَاقِلَةِ، لأَِنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى الْقَاتِل ابْتِدَاءً، ثُمَّ الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّل عَنْهُ لِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ التَّنَاصُرِ، وَلاَ تَنَاصُرَ عِنْدَ اخْتِلاَفِ الدَّارِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا: تَجِبُ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ، وَلَكِنَّهَا لاَ تُقَامُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَتُقَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) حديث: " لا تقام الحدود في دار الحرب ". قال الزيلعي في نصب الراية (3 / 343 - ط المجلس العلمي) : " غريب " يعني أنه لا أصله له. ثم ذكر أنه ورد من قول زيد بن ثابت: لا تقام الحدود في دار الحرب مخافة أن يلحق أهلها بالعدو.
(2) حديث: " من زنى أو سرق في دار الحرب. . . " لم نهتد إليه في المصادر الحديثية التي بين أيدينا.
(3) بدائع الصنائع 7 / 131، وابن عابدين 3 / 156، وفتح القدير 4 / 153، ونصب الراية 3 / 343.

(20/209)


كَتَبَ إِلَى النَّاسِ لاَ يَجْلِدَنَّ أَمِيرُ جَيْشٍ وَلاَ سَرِيَّةٍ رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَدًّا وَهُوَ غَازٍ حَتَّى يَقْطَعَ الدَّرْبَ قَافِلاً لِئَلاَّ يَلْحَقَهُ حَمِيَّةُ الشَّيْطَانِ، فَيَلْحَقَ، بِالْكُفَّارِ (1) .

حَدُّ مَنْ أَصَابَ حَدًّا مِنْ أَفْرَادِ الْجَيْشِ:
6 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَصَابَ أَحَدُ أَفْرَادِ الْجَيْشِ حَدًّا، أَوْ قَتَل مُسْلِمًا خَطَأً أَوْ عَمْدًا فِي دَارِ الْحَرْبِ خَارِجَ الْمُعَسْكَرِ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَوِ الْقِصَاصُ، أَمَّا إِذَا زَنَى أَحَدُهُمْ فِي مُعَسْكَرِ الْجَيْشِ لَمْ يَأْخُذْهُ أَمِيرُ الْجَيْشِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الإِْمَامُ لَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِ إِقَامَةَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُضَمِّنُهُ الْمَسْرُوقَ وَالدِّيَةَ فِي الْقَتْل، لأَِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ ضَمَانِ الْمَال.
أَمَّا إِذَا غَزَا مَنْ لَهُ وِلاَيَةُ إِقَامَةِ الْحُدُودِ، سَوَاءٌ غَزَا الْخَلِيفَةُ بِنَفْسِهِ، أَوْ أَمِيرُ مِصْرٍ مِنَ الأَْمْصَارِ، فَفَعَل رَجُلٌ مِنَ الْجَيْشِ ذَلِكَ فِي مُعَسْكَرِهِ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَاقْتَصَّ مِنْهُ فِي الْعَمْدِ، وَضَمَّنَهُ الدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ فِي مَالِهِ، لأَِنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ إِلَى الإِْمَامِ، وَبِمَا لَهُ مِنَ الشَّوْكَةِ، وَانْقِيَادِ الْجُيُوشِ لَهُ يَكُونُ لِعَسْكَرِهِ حُكْمُ دَارِ الإِْسْلاَمِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِذَا أَصَابَ الرَّجُل حَدًّا وَهُوَ مُحَاصِرٌ لِلْعَدُوِّ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَقَالُوا:
__________
(1) المغني 8 / 473 - 474.
(2) بدائع الصنائع 7 / 131 - 132، وابن عابدين 3 / 156، وفتح القدير 4 / 153.

(20/210)


وَلاَ يَمْنَعُنَا الْخَوْفُ عَلَيْهِ مِنَ اللُّحُوقِ بِالْمُشْرِكِينَ أَنْ نُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ. وَلَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ تَوَقِّيًا مِنْ أَنْ يَغْضَبَ مَا أَقَمْنَا الْحَدَّ أَبَدًا، لأَِنَّهُ يُمْكِنُهُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَيُعَطَّل حُكْمُ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقَامَ الْحُدُودَ بِالْمَدِينَةِ وَالشِّرْكُ قَرِيبٌ مِنْهَا، وَفِيهَا مُشْرِكُونَ مُوَادَعُونَ.
وَضَرَبَ الشَّارِبَ بِحُنَيْنٍ. وَالشِّرْكُ قَرِيبٌ مِنْهَا (1) .

حُصُول الْفُرْقَةِ بِاخْتِلاَفِ الدَّارِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ:
7 - اخْتِلاَفُ الْفُقَهَاءِ فِي انْقِطَاعِ عِصْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ بِاخْتِلاَفِ الدَّارَيْنِ.
فَقَال الْجُمْهُورُ: لاَ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلاَفِ الدَّارِ، فَإِنْ أَسْلَمَ زَوْجُ كِتَابِيَّةٍ، وَهَاجَرَ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَبَقِيَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، لأَِنَّ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّةِ يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُ فَالاِسْتِمْرَارُ أَوْلَى، سَوَاءٌ كَانَ قَبْل الدُّخُول، أَوْ بَعْدَهُ. وَإِنْ أَسْلَمَتْ كِتَابِيَّةٌ تَحْتَ كِتَابِيٍّ، أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ غَيْرَ الْكِتَابِيِّينَ، قَبْل الدُّخُول حَصَلَتِ الْفُرْقَةُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (2) وَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الدُّخُول، وَقَفَ الأَْمْرُ عَلَى انْتِهَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ الآْخَرُ فِي الْعِدَّةِ بَقِيَ نِكَاحُهُمَا، وَإِلاَّ تَبَيَّنَّا فَسْخَهُ مُنْذُ أَسْلَمَ الأَْوَّل،
__________
(1) الأم للشافعي 4 / 248، الخرشي 3 / 117.
(2) سورة الممتحنة / 10.

(20/210)


لأَِنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ اخْتِلاَفُ الدِّينِ لاَ اخْتِلاَفُ الدَّارِ (1) . وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ شُبْرُمَةَ قَال: كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْلِمُ الرَّجُل قَبْل الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ قَبْلَهُ، فَأَيُّهُمَا أَسْلَمَ قَبْل انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْعِدَّةِ فَلاَ نِكَاحَ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الأَْثَرِ دَارَ حَرْبٍ، وَلاَ دَارَ إِسْلاَمٍ، فَسَبَبُ الْفُرْقَةِ إِذًا اخْتِلاَفُ الدِّينِ.
فَكَوْنُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لاَ يُوجِبُ فُرْقَةً (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ تَحْصُل بِاخْتِلاَفِ الدَّارَيْنِ، فَإِنْ خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَتَرَكَ الآْخَرَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا، لأَِنَّهُ بِاخْتِلاَفِ الدَّارَيْنِ يَخْرُجُ الْمِلْكُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ، لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ عَادَةً، فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَائِهِ فَائِدَةٌ (3) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (اخْتِلاَفُ الدَّارِ) .

قِسْمَةُ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ قَسْمِ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ.
__________
(1) كشاف القناع 5 / 118 - 119، القوانين الفقهية ص 201، أسنى المطالب 3 / 163، شرح الزرقاني 3 / 225.
(2) المصادر السابقة.
(3) بدائع الصنائع 2 / 338 - 339، رد المحتار 2 / 537.

(20/211)


فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ قِسْمَتُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَتَبَايُعُهَا فِيهَا، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ قَال: قُلْتُ لِلأَْوْزَاعِيِّ: هَل قَسَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنَ الْغَنَائِمِ بِالْمَدِينَةِ؟ فَقَال: لاَ أَعْلَمُهُ، إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يَتَّبِعُونَ غَنَائِمَهُمْ، وَيَقْسِمُونَهَا فِي أَرْضِ عَدُوِّهِمْ، وَلَمْ يَغْفُل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ غَزَاةٍ قَطُّ أَصَابَ فِيهَا غُنَيْمَةً إِلاَّ خَمَّسَهَا وَقَسَّمَهَا مِنْ قَبْل أَنْ يَغْفُل، مِنْ ذَلِكَ غُزَاةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَهَوَازِنَ، وَخَيْبَرَ، وَلأَِنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيهَا بِالْقَهْرِ وَالاِسْتِيلاَءِ فَصَحَّتْ قِسْمَتُهُ، وَلأَِنَّ قِسْمَةَ أَمْوَالِهِمْ فِي دَارِهِمْ أَنْكَى لَهُمْ، وَأَطْيَبُ لِقُلُوبِ الْمُجَاهِدِينَ، وَأَحْفَظُ لِلْغَنِيمَةِ، وَأَرْفَقُ بِهِمْ فِي التَّصَرُّفِ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْقِسْمَةُ نَوْعَانِ:
1 - قِسْمَةُ حَمْلٍ وَنَقْلٍ.
2 - وَقِسْمَةُ مِلْكٍ.
أَمَّا قِسْمَةُ الْحَمْل، فَهِيَ إِنْ عَزَّتِ الدَّوَابُّ، وَلَمْ يَجِدِ الإِْمَامُ حَمُولَةً يُفَرِّقُ الْغَنَائِمَ عَلَى الْغُزَاةِ فَيَحْمِل كُل رَجُلٍ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، ثُمَّ يَسْتَرِدُّهَا مِنْهُمْ، فَيَقْسِمُهَا قِسْمَةَ مِلْكٍ.
أَمَّا قِسْمَةُ الْمِلْكِ فَلاَ تَجُوزُ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى
__________
(1) المغني 8 / 422، كشاف القناع 3 / 82، الإنصاف 4 / 162، الخرشي 3 / 136، نهاية المحتاج 8 / 76، مغني المحتاج 4 / 234.

(20/211)


يُخْرِجُوهَا إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَيُحْرِزُوهَا، وَقَالُوا: إِنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الأَْخْذِ، وَيَتَأَكَّدُ بِالإِْحْرَازِ، وَيَتَمَكَّنُ بِالْقِسْمَةِ كَحَقِّ الشَّفِيعِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ، وَيَتَأَكَّدُ بِالطَّلَبِ، وَيَتِمُّ الْمِلْكُ بِالأَْخْذِ، وَمَا دَامَ الْحَقُّ ضَعِيفًا لاَ تَجُوزُ الْقِسْمَةُ لأَِنَّهُ دُونَ الْمِلْكِ الضَّعِيفِ فِي الْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ، وَلأَِنَّ السَّبَبَ هُوَ الْقَهْرُ، وَقَبْل الإِْحْرَازِ هُمْ قَاهِرُونَ يَدًا مَقْهُورُونَ دَارًا، وَالثَّابِتُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ يَكُونُ ضَعِيفًا (1) .
9 - وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلاَفِ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْجُمْهُورِ أَحْكَامٌ.
مِنْهَا: أَنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُ الْغَانِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لاَ يُورَثُ مِنَ الْغَنِيمَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يُورَثُ.
وَمِنْهَا: إِذَا لَحِقَ الْجَيْشَ أَحَدٌ بَعْدَ الْحِيَازَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لاَ يُشَارِكُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُشَارِكُهُمْ إِذَا لَحِقَ قَبْل الْحِيَازَةِ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ.
وَإِذَا أَتْلَفَ أَحَدُ الْغَانِمِينَ شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَضْمَنُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلاَ يَضْمَنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 121، المبسوط م 5 ج 10 / 33.
(2) نهاية المحتاج 8 / 74، بدائع الصنائع 7 / 121، والمغني 8 / 419 - 420، مغني المحتاج 4 / 232 - 234.

(20/212)


اسْتِيلاَءُ الْكُفَّارِ عَلَى أَمْوَال الْمُسْلِمِينَ، وَأَثَرُ الدَّارِ فِي ذَلِكَ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَمَلُّكِ أَهْل الْحَرْبِ أَمْوَال الْمُسْلِمِينَ بِالاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمْ لاَ يَمْلِكُونَهَا وَإِنْ أَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ، لأَِنَّهُ مَالٌ مَعْصُومٌ طَرَأَتْ عَلَيْهِ يَدٌ عَادِيَةٌ، فَلَمْ يَمْلِكْ بِهَا كَالْغَصْبِ.
وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ لاَ يَمْلِكُ مَال الْمُسْلِمِ بِالاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهِ بِغَصْبٍ، فَالْمُشْرِكُ أَوْلَى أَلاَّ يَمْلِكَ (1) .
وَخَبَرُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي الأَْنْصَارِيَّةِ الَّتِي أُسِرَتْ، ثُمَّ امْتَطَتْ نَاقَةَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَعْجَزَتْ مَنْ طَلَبَهَا، فَنَذَرَتِ الأَْنْصَارِيَّةُ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَلَمَّا قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ رَآهَا النَّاسُ، فَقَالُوا: الْعَضْبَاءُ، نَاقَةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَتْ: إِنَّهَا نَذَرَتْ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَأَتَوْا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَال: سُبْحَانَ اللَّهِ، بِئْسَمَا جَزَتْهَا، نَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ الْعَبْدُ. (2)
وَلَوْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَمْلِكُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
__________
(1) الأم للشافعي 4 / 255.
(2) حديث عمران بن حصين: " في الأنصارية التي أسرت. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1263 - ط الحلبي) .

(20/212)


أَمْوَالَهُمْ لَمَلَكَتِ الأَْنْصَارِيَّةُ النَّاقَةَ. لأَِنَّهَا تَكُونُ أَخَذَتْ مَالاً غَيْرَ مَعْصُومٍ فِي دَارِ حَرْبٍ وَأَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ، وَلَكِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّهَا نَذَرَتْ فِيمَا لاَ تَمْلِكُ وَأَخَذَ نَاقَتَهُ، وَبِهِ قَال أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، قَال: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ أَهْل دَارِ الْحَرْبِ إِذَا دَخَلُوا دَارَ الإِْسْلاَمِ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى أَمْوَال الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُحْرِزُوهَا بِدَارِهِمْ لاَ يَمْلِكُونَهَا، أَمَّا إِذَا أَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَهَا. وَقَالُوا: لأَِنَّ مِلْكَ الْمُسْلِمِ يَزُول بِالإِْحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَتَزُول الْعِصْمَةُ، فَكَأَنَّهُمُ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، لأَِنَّ الْمِلْكَ هُوَ: الاِخْتِصَاصُ بِالْمَحَل فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ، أَوْ شُرِعَ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَحَل، وَقَدْ زَال بِالإِْحْرَازِ بِالدَّارِ. فَإِذَا زَال مَعْنَى الْمِلْكِ أَوْ مَا شُرِعَ لَهُ الْمِلْكُ، يَزُول الْمِلْكُ ضَرُورَةً (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ: يَمْلِكُونَهَا بِالاِسْتِيلاَءِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ. وَقَالُوا: لأَِنَّ الْقَهْرَ سَبَبٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمُسْلِمُ مَال الْكَافِرِ، فَمَلَكَ بِهِ الْكَافِرُ مَال الْمُسْلِمِ كَالْبَيْعِ، وَلأَِنَّ الاِسْتِيلاَءَ سَبَبُ الْمِلْكِ فَيَثْبُتُ قَبْل الْحِيَازَةِ إِلَى الدَّارِ، كَاسْتِيلاَءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَال الْكُفَّارِ، وَلأَِنَّ مَا كَانَ سَبَبًا
__________
(1) المصدر السابق، المغني 8 / 434.
(2) بدائع الصنائع 7 / 227 - 228، المبسوط م 5 ج 10 / 52.

(20/213)


لِلْمِلْكِ أَثْبَتَ الْمِلْكَ حَيْثُ وُجِدَ، كَالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ (1) .
وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلاَفِ، اخْتِلاَفُهُمْ فِي حُكْمِ مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ أَهْل دَارِ الْحَرْبِ مِنْ أَمْوَال الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ الْمُسْلِمُونَ، فَمَنْ رَأَى أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ أَمْوَال الْمُسْلِمِينَ: يَرَى أَنَّهُ إِذَا وَجَدَهُ مَالِكُهُ الْمُسْلِمُ أَوِ الذِّمِّيُّ قَبْل الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِدُونِ رَدِّ قِيمَتِهِ، أَمَّا إِذَا وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ لاَ يَمْلِكُونَهُ: يَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا وَجَدَ مَالَهُ فِي الْغَنِيمَةِ أَخَذَهُ قَبْل الْقِسْمَةِ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِلاَ رَدِّ شَيْءٍ (2) .

قَضَاءُ الْقَاضِي الْمُسْلِمِ فِي مُنَازَعَاتٍ حَدَثَتْ أَسْبَابُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ:
11 - إِذَا دَخَل مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، وَأَخَذَ مَالاً مِنْ حَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُضَارَبَةً، أَوْ وَدِيعَةً، أَوْ بِشِرَاءٍ أَوْ بِبَيْعٍ فِي الذِّمَّةِ أَوْ قَرْضٍ، فَالثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ، عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ إِلَيْهِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَإِذَا خَرَجَ الْحَرْبِيُّ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ مُسْتَأْمَنًا قَضَى الْقَاضِي عَلَى الْمُسْلِمِ بِمَالِهِ كَمَا يَقْضِي بِهِ لِلْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، لأَِنَّ الْحُكْمَ جَارٍ عَلَى الْمُسْلِمِ حَيْثُ كَانَ، لاَ نُزِيل
__________
(1) المغني 8 / 434، الإنصاف 4 / 162، المدونة 2 / 12، الخرشي 3 / 138.
(2) المصادر السابقة، الأم للشافعي 4 / 283.

(20/213)


الْحَقَّ عَنْهُ بِأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ. كَمَا لاَ تَزُول الصَّلاَةُ عَنْهُ بِأَنْ يَكُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَكَذَلِكَ إِنِ اقْتَرَضَ حَرْبِيٌّ مِنْ حَرْبِيٍّ أَوْ مُسْلِمٍ مَالاً ثُمَّ دَخَل إِلَيْنَا فَأَسْلَمَ، فَعَلَيْهِ الْبَدَل وَيُقْضَى عَلَيْهِ لاِلْتِزَامِهِ بِعَقْدٍ (1) .
أَمَّا إِنْ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَالَهُ أَوْ غَصَبَهُ مِنْهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَقَدِمَا إِلَيْنَا بِإِسْلاَمٍ، أَوْ أَمَانٍ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا، وَالإِْتْلاَفُ لَيْسَ عَقْدًا يُسْتَدَامُ، وَلأَِنَّ مَال الْحَرْبِيِّ لاَ يَزِيدُ عَلَى مَال الْمُسْلِمِ، وَهُوَ لاَ يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْحَرْبِيِّ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَضْمَنَ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَيْسَ لِلْقَاضِي الْمُسْلِمِ الْقَضَاءُ مِنْ حَرْبِيَّيْنِ إِذَا خَرَجَا إِلَيْنَا مُسْتَأْمَنَيْنِ، لأَِنَّ الْمُدَايَنَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَعَتْ هَدَرًا لاِنْعِدَامِ وِلاَيَتِنَا عَلَيْهِمْ. أَمَّا لَوْ خَرَجَا إِلَيْنَا مُسْلِمَيْنِ فَإِنَّهُ يَقْضِي بَيْنَهُمَا لِثُبُوتِ الْوِلاَيَةِ، أَمَّا فِي الْغَصْبِ وَالإِْتْلاَفِ فَلاَ يَقْضِي، وَإِنْ خَرَجَا إِلَيْنَا مُسْلِمَيْنِ (3) .

عِصْمَةُ الأَْنْفُسِ وَالأَْمْوَال فِي دَارِ الْحَرْبِ:
12 - الأَْصْل أَنَّ أَمْوَال أَهْل الْحَرْبِ وَدِمَاءَهُمْ
__________
(1) الأم للشافعي 4 / 288، كشاف القناع 3 / 109، مغني المحتاج 4 / 230.
(2) مغني المحتاج 4 / 230، والمغني 8 / 483 ط الرياض.
(3) بدائع الصنائع 7 / 132 - 133.

(20/214)


مُبَاحَةٌ لاَ عِصْمَةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلِلْمُسْلِمِينَ الاِسْتِيلاَءُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِشَتَّى الطُّرُقِ، لأَِنَّهُمْ يَسْتَبِيحُونَ دِمَاءَنَا وَأَمْوَالَنَا، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَلَكِنْ ذَكَرُوا حَالاَتٍ تُثْبِتُ لأَِنْفُسِهِمْ وَلأَِمْوَالِهِمُ الْعِصْمَةَ وَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، مِنْهَا:
13 - أ - إِذَا دَخَل الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ أَوْ بِأَسْرٍ، وَائْتَمَنُوهُ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ لَمْ يَحِل لَهُ خِيَانَتُهُمْ فِي شَيْءٍ، لأَِنَّهُمْ أَعْطَوْهُ الأَْمَانَ مَشْرُوطًا بِتَرْكِهِ خِيَانَتَهُمْ، وَأَمْنِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي اللَّفْظِ، فَهُوَ مَعْلُومٌ فِي الْمَعْنَى، فَلَمْ يَحِل لَهُ خِيَانَتُهُمْ، لأَِنَّهُ غَدْرٌ، وَلاَ يَصْلُحُ الْغَدْرُ فِي الإِْسْلاَمِ، فَإِنْ سَرَقَ مِنْهُمْ شَيْئًا أَوْ غَصَبَ، وَجَبَ رَدُّهُ إِلَى أَرْبَابِهِ، فَإِنْ جَاءَ أَرْبَابُهُ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ بِأَمَانٍ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ، وَإِلاَّ بَعَثَ بِهِ إِلَيْهِمْ، لأَِنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهٍ مُحَرَّمٍ فَلَزِمَهُ رَدُّهُ، كَمَا لَوْ أَخَذَ مَال مُسْلِمٍ (1) .
وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ حُقِنَ دَمُهُ، وَأَحْرَزَ مَالَهُ وَأَوْلاَدَهُ الصِّغَارَ مِنَ السَّبْيِ، فَإِذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا اقْتُصَّ مِنْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ قَتَلَهُ خَطَأً فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ فِي عِصْمَةِ دَمِ الْمُسْلِمِ وَمَالِهِ
__________
(1) البدائع 7 / 133، والخرشي 2 / 116، والأم للشافعي 4 / 248 - 249، ومغني المحتاج 4 / 239، والمغني لابن قدامة 8 / 458.

(20/214)


أَيْنَمَا كَانَ وَحَيْثُ وُجِدَ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ خَطَأً فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إِلاَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْخَطَأِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (2) وَلَمْ يَذْكُرِ الدِّيَةَ. وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (قَتْل عَمْدٍ) .
أَمَّا أَوْلاَدُهُ الصِّغَارُ فَأَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ تَبَعًا لَهُ أَمَّا مَالُهُ فَمَا كَانَ بِيَدِهِ مِنْ مَنْقُولٍ فَهُوَ لَهُ.
وَكَذَلِكَ مَا كَانَ بِيَدِ مُسْلِمٍ وَدِيعَةً، أَوْ بِيَدِ ذِمِّيٍّ فَهُوَ لَهُ، لأَِنَّ يَدَ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمَالِكِ فَكَانَ مَعْصُومًا.
أَمَّا الْعَقَارُ مِنْ مَالِهِ فَإِنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى دَارِ الْحَرْبِ فَهِيَ غَنِيمَةٌ، لأَِنَّهَا بُقْعَةٌ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَجَازَ اغْتِنَامُهَا (3) .
14 - ب - وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، أَوْ خَرَجَ إِلَيْهَا، وَلَهُ أَوْلاَدٌ صِغَارٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ صَارُوا مُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَجُزْ سَبْيُهُمْ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. وَقَالُوا: إِنَّهُمْ أَوْلاَدُ مُسْلِمٍ، فَيَجِبُ أَنْ يَتْبَعُوهُ فِي الإِْسْلاَمِ كَمَا لَوْ كَانُوا
__________
(1) المغني 8 / 94، 428، كشاف القناع 3 / 58، ومغني المحتاج 4 / 226، الأم للشافعي 4 / 245، الخرشي 3 / 142.
(2) سورة النساء: الآية 92.
(3) بدائع الصنائع 7 / 105، رد المحتار 3 / 233.

(20/215)


مَعَهُ فِي الدَّارِ، وَلأَِنَّ مَالَهُ مَال مُسْلِمٍ فَلاَ يَجُوزُ اغْتِنَامُهُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَهَاجَرَ إِلَيْنَا ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ، فَأَمْوَالُهُ فَيْءٌ، إِلاَّ مَا كَانَ فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ وَدِيعَةً.
وَإِنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَجَمِيعُ أَمْوَالِهِ وَأَوْلاَدِهِ الصِّغَارِ فَيْءٌ، لأَِنَّ اخْتِلاَفَ الدَّارِ يَمْنَعُ التَّبَعِيَّةَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا دَخَل الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ فَأَصَابَ مَالاً، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إِلَيْنَا (3) .

التِّجَارَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
15 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلتَّاجِرِ أَنْ يَحْمِل إِلَى دَارِ الْحَرْبِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ أَهْل الْحَرْبِ عَلَى الْحَرْبِ، كَالسِّلاَحِ بِأَنْوَاعِهِ، وَالسُّرُوجِ، وَالنُّحَاسِ، وَالْحَدِيدِ، وَكُل مَا مِنْ شَأْنِهِ تَقْوِيَتِهِمْ فِي الْحَرْبِ، لأَِنَّ فِي ذَلِكَ إِمْدَادَهُمْ وَإِعَانَتَهُمْ عَلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لِلْحَرْبِيِّ
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) المدونة 2 / 19، بدائع الصنائع 7 / 105 - 106.
(3) بدائع الصنائع 7 / 105 - 106.

(20/215)


إِذَا دَخَل دَارَ الإِْسْلاَمِ أَنْ يَشْتَرِيَ سِلاَحًا، وَإِذَا اشْتَرَى لاَ يُمَكَّنُ مِنْ إِدْخَالِهِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ (1) .
أَمَّا الاِتِّجَارُ بِغَيْرِ السِّلاَحِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لاَ يُسْتَخْدَمُ فِي الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلاَ بَأْسَ بِهِ، كَالثِّيَابِ، وَالطَّعَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لاِنْعِدَامِ عِلَّةِ الْمَنْعِ مِنَ الْبَيْعِ. إِلاَّ أَنْ يَحْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلْعَةِ فَلاَ يُحْمَل إِلَيْهِمْ، وَجَرَتِ الْعَادَةُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ التُّجَّارِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَدْخُلُونَ دَارَ الْحَرْبِ لِلتِّجَارَةِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ الْمَنْعِ وَلاَ إِنْكَارَ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّ الأَْفْضَل أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ، لأَِنَّهُمْ يَسْتَخِفُّونَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَكَانَ الْكَفُّ وَالإِْمْسَاكُ عَنِ الدُّخُول فِي دَارِهِمْ مِنْ بَابِ صِيَانَةِ النَّفْسِ عَنِ الْهَوَانِ، وَالدِّينِ عَنِ الزَّوَال (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ الْمُتَاجَرَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَلاَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى بِلاَدِهِمْ حَيْثُ تَجْرِي أَحْكَامُ الْكُفْرِ عَلَيْهِ (3) .

أَثَرُ اخْتِلاَفِ الدَّارِ فِي أَحْكَامِ الأُْسْرَةِ وَالتَّوَارُثِ:
16 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ
__________
(1) المدونة 4 / 270، ابن عابدين 3 / 226، قليوبي 2 / 156، الفتاوى الهندية 2 / 192، بدائع الصنائع 7 / 102، جواهر الإكليل 2 / 3.
(2) بدائع الصنائع 7 / 102.
(3) المدونة 4 / 270.

(20/216)


الْمُسْلِمَ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالآْخَرُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَوَارُثِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الدَّارِ.
(ر: اخْتِلاَفُ الدَّارِ) .

(20/216)


دَارُ الْعَهْدِ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْعَهْدِ فِي اللُّغَةِ: الأَْمَانُ، وَالذِّمَّةُ، وَالْيَمِينُ، وَالْحِفَاظُ، وَرِعَايَةُ الْحُرْمَةِ، وَكُل مَا بَيْنَ الْعِبَادِ مِنَ الْمَوَاثِيقِ فَهُوَ عَهْدٌ (1) .
وَدَارُ الْعَهْدِ هِيَ: كُل بَلَدٍ صَالَحَ الإِْمَامُ أَهْلَهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الأَْرْضُ لَهُمْ، وَلِلْمُسْلِمِينَ الْخَرَاجُ عَنْهَا (2) .
وَتُسَمَّى دَارَ الْمُوَادَعَةِ، وَدَارَ الصُّلْحِ، وَدَارَ الْمُعَاهَدَةِ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - دَارُ الْحَرْبِ:
2 - دَارُ الْحَرْبِ هِيَ كُل بُقْعَةٍ تَكُونُ أَحْكَامُ الْكُفْرِ فِيهَا ظَاهِرَةً.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: هِيَ كُل مَكَانٍ يَسْكُنُهُ غَيْرُ
__________
(1) تاج العروس: مادة عهد.
(2) بدائع الصنائع 7 / 30 - 31، الأحكام السلطانية للماوردي ص 138، وكشاف القناع 3 / 43، 96، الإنصاف 4 / 121، والمدونة 2 / 22.

(20/217)


الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَسْبِقْ فِيهِ حُكْمٌ إِسْلاَمِيٌّ، أَوْ لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ قَطُّ أَحْكَامُ الإِْسْلاَمِ (1) .
فَدَارُ الْعَهْدِ أَخَصُّ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لِوُجُودِ الْمَوَاثِيقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ أَهْلِهَا، فَلِذَا اخْتَصَّتْ عَنْ دَارِ الْحَرْبِ بِأَحْكَامٍ سَيَأْتِي بَيَانُهَا.

ب - دَارُ الإِْسْلاَمِ:
3 - دَارُ الإِْسْلاَمِ هِيَ كُل بَلَدٍ أَوْ إِقْلِيمٍ تَظْهَرُ فِيهِ أَحْكَامُ الإِْسْلاَمِ (2) .

ج - دَارُ الْبَغْيِ:
4 - دَارُ الْبَغْيِ هِيَ الْمَكَانُ الَّذِي يَنْحَازُ إِلَيْهِ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ خَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ الإِْمَامِ بِتَأْوِيلٍ، وَغَلَبُوا عَلَيْهِ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِدَارِ الْعَهْدِ:
5 - يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ الإِْمَامُ مَعَ أَهْل الْحَرْبِ عَهْدًا لِلْمَصْلَحَةِ يَتْرُكُ بِمُوجَبِهِ الْقِتَال مُدَّةً بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَتَكُونُ تِلْكَ الدَّارُ دَارَ عَهْدٍ. وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (هُدْنَةٌ) .
وَقَسَّمَ الْفُقَهَاءُ عَقْدَ الصُّلْحِ مَعَ أَهْل الْحَرْبِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
__________
(1) المبسوط 10 / 86، والبدائع 7 / 108، ونهاية المحتاج 8 / 82، أسنى المطالب ص 204، حاشية البجيرمي 4 / 220.
(2) المصادر السابقة.

(20/217)


أ - قِسْمٌ يُشْتَرَطُ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الأَْرَاضِي لَنَا، وَنُقِرُّهَا بِأَيْدِيهِمْ بِخَرَاجٍ يُؤَدُّونَهُ لَنَا. فَهَذَا الصُّلْحُ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَيَكُونُ الْخَرَاجُ الَّذِي يُؤَدُّونَهُ أُجْرَةً لاَ يَسْقُطُ بِإِسْلاَمِهِمْ، وَيُؤْخَذُ خَرَاجُهَا إِذَا انْتَقَلَتْ إِلَى مُسْلِمٍ، وَهُمْ يَصِيرُونَ أَهْل عَهْدٍ. وَالدَّارُ دَارُ إِسْلاَمٍ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَتَصَرَّفُوا فِيهَا بِالْبَيْعِ، أَوِ الرَّهْنِ، فَإِنْ دَفَعُوا الْجِزْيَةَ عَنْ رِقَابِهِمْ جَازَ إِقْرَارُهُمْ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَإِنْ مَنَعُوا الْجِزْيَةَ لَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهَا، وَلَمْ يُقَرُّوا فِيهَا إِلاَّ الْمُدَّةَ الَّتِي يُقَرُّ فِيهَا أَهْل الْهُدْنَةِ (1) .
ب - وَقِسْمٌ يُشْتَرَطُ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ مَعَهُمْ أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ لَهُمْ، فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ عَقْدٌ صَحِيحٌ، وَالْخَرَاجُ الَّذِي يُؤَدُّونَهُ فِي حُكْمِ الْجِزْيَةِ مَتَى أَسْلَمُوا يَسْقُطُ عَنْهُمْ، وَلاَ تَصِيرُ الدَّارُ دَارَ إِسْلاَمٍ، وَتَكُونُ دَارَ عَهْدٍ وَلَهُمْ بَيْعُهَا، وَرَهْنُهَا، وَإِذَا انْتَقَلَتْ إِلَى مُسْلِمٍ لَمْ يُؤْخَذْ خَرَاجُهَا، وَيُقَرُّونَ فِيهَا مَا أَقَامُوا عَلَى الْعَهْدِ، وَلاَ تُؤْخَذُ جِزْيَةُ رِقَابِهِمْ، لأَِنَّهُمْ فِي غَيْرِ دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَلَهُمْ إِحْدَاثُ كَنِيسَةٍ فِيهَا، لأَِنَّ الأَْرْضَ لَهُمْ وَلَيْسَتْ دَارَ إِسْلاَمٍ فَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا، وَلاَ يُمْنَعُونَ مِنْ إِظْهَارِ شَعَائِرِهِمْ فِيهَا كَالْخَمْرِ،
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 138، الأم للشافعي 4 / 182، المغني 8 / 526، كشاف القناع 3 / 95، الخرشي م 2 ج 3 / 147.

(20/218)


وَالْخِنْزِيرِ، وَضَرْبِ النَّاقُوسِ، وَلاَ يُمْنَعُونَ إِلاَّ مِمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ كَإِيوَاءِ جَاسُوسٍ، وَنَقْل أَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الأَْعْدَاءِ، وَسَائِرِ مَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ. وَيَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُسْلِمِينَ وَالذِّمِّيِّينَ مِنَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا عُقِدَ الْعَهْدُ مَعَ الْكُفَّارِ عَلَى أَنْ تُجْرَى فِي دَارِهِمْ أَحْكَامُ الإِْسْلاَمِ صَارَتْ دَارُهُمْ بِالصُّلْحِ دَارَ إِسْلاَمٍ، وَصَارُوا أَهْل ذِمَّةٍ تُؤْخَذُ جِزْيَةُ رِقَابِهِمْ، وَإِذَا طَلَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ الْمُوَادَعَةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ سِنِينَ مَعْلُومَةً عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا الْخَرَاجَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ لاَ تَجْرِيَ أَحْكَامُ الإِْسْلاَمِ عَلَيْهِمْ فِي دَارِهِمْ لَمْ يُقْبَل مِنْهُمْ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا رَأَى الإِْمَامُ مَصْلَحَةً فِي عَقْدِ الْعَهْدِ مَعَهُمْ بِهَذَا الشَّرْطِ جَازَ بِشَرْطِ الضَّرُورَةِ، وَهِيَ ضَرُورَةُ الاِسْتِعْدَادِ لِلْقِتَال بِأَنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةُ الْمُجَاوَزَةِ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ، فَلاَ تَجُوزُ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ، لأَِنَّ الْمُوَادَعَةَ تَرْكُ الْقِتَال الْمَفْرُوضِ، فَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ فِي حَالٍ يَقَعُ وَسِيلَةً إِلَى الْقِتَال، لأَِنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ قِتَالاً مَعْنًى، قَال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَْعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} (2) وَعِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ لاَ بَأْسَ بِهِ، لِقَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا
__________
(1) المصادر السابقة، ومغني المحتاج 4 / 254.
(2) سورة محمد / 35.

(20/218)


لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ} (1) وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادَعَ أَهْل مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ تُوضَعَ الْحَرْبُ عَشْرَ سِنِينَ. (2)
وَلاَ يُشْتَرَطُ إِذْنُ الإِْمَامِ بِالْمُوَادَعَةِ، حَتَّى لَوْ وَادَعَهُمْ فَرِيقٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ جَازَتْ مُوَادَعَتُهُمْ، لأَِنَّ الْمُعَوَّل عَلَيْهِ كَوْنُ عَقْدِ الْمُوَادَعَةِ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ (3) .
وَلَكِنَّهُمْ لاَ يَخْرُجُونَ بِهَذِهِ الْمُوَادَعَةِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا أَهْل حَرْبٍ، فَإِذَا صَالَحَهُمْ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَحَاطَ مَعَ الْجَيْشِ بِبِلاَدِهِمْ فَمَا يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ عَلَى الصُّلْحِ يَكُونُ غَنِيمَةً يُخَمِّسُهَا، وَيَقْسِمُ الْبَاقِي عَلَى الْجَيْشِ، لأَِنَّهُ تَوَصَّل إِلَيْهِ بِقُوَّةِ السَّيْفِ، فَإِنْ لَمْ يَنْزِل بِسَاحَتِهِمْ، وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ وَطَلَبُوا مِنْهُ الْمُوَادَعَةَ بِالْمَال، فَمَا يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ، لاَ خُمُسَ فِيهِ، بَل يُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الْجِزْيَةِ.

الأَْمَانُ لأَِهْل دَارِ الْعَهْدِ:
6 - يَمْنَعُ الإِْمَامُ الْمُسْلِمِينَ وَالذِّمِّيِّينَ مِنْ إِيذَاءِ أَهْل دَارِ الْعَهْدِ وَالتَّعَرُّضِ لَهُمْ، لأَِنَّهُمْ اسْتَفَادُوا الأَْمَانَ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ بِالْمُوَادَعَةِ، أَمَّا إِنْ
__________
(1) سورة الأنفال / 61.
(2) حديث: " وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عام الحديبية ". أخرجه أبو داود (3 / 210 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ورجاله ثقات.
(3) بدائع الصنائع 7 / 108.

(20/219)


أَغَارَ عَلَيْهِمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ، فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الدِّفَاعُ عَنْهُمْ، لأَِنَّهُمْ بِهَذَا الْعَهْدِ " الْمُوَادَعَةِ " مَا خَرَجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا أَهْل حَرْبٍ، لأَِنَّهُمْ لَمْ يَنْقَادُوا لِحُكْمِ الإِْسْلاَمِ، فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نُصْرَتُهُمْ (1) . وَهَذَا الْعَهْدُ أَوِ الْمُوَادَعَةُ: عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ مُحْتَمِلٌ لِلنَّقْضِ، فَلِلإِْمَامِ أَنْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} (2) أَمَّا إِذَا وَقَعَ عَلَى أَنْ تَجْرِيَ فِي دَارِهِمْ أَحْكَامُ الإِْسْلاَمِ فَهُوَ عَقْدٌ لاَزِمٌ، لاَ يَحْتَمِل النَّقْضَ مِنَّا، لأَِنَّ الْعَهْدَ الْوَاقِعَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَقْدُ ذِمَّةٍ. وَالدَّارُ دَارُ إِسْلاَمٍ يَجْرِي فِيهَا حُكْمُ الإِْسْلاَمِ (3) . فَإِنْ نَقَضُوا الصُّلْحَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ مَعَهُمْ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ دَارَهُمْ تَصِيرُ دَارَ حَرْبٍ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ فِي دَارِهِمْ مُسْلِمٌ أَوْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ بَلَدٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَتَبْقَى دَارُهُمْ دَارَ إِسْلاَمِ يَجْرِي عَلَى أَهْلِهَا حُكْمُ الْبُغَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ مُسْلِمٌ وَلاَ بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ بَلَدٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَتَكُونُ دَارَ حَرْبٍ (4) .
__________
(1) المبسوط 10 / 86، البدائع 7 / 108، والفتاوى الهندية 2 / 196، 197.
(2) سورة الأنفال / 58.
(3) المصادر السابقة.
(4) الماوردي ص 138، وأبو يعلى ص 146، والدسوقي 2 / 206.

(20/219)


وَإِذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ وَكَانَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِدَارِنَا يُبَلَّغُ مَأْمَنَهُ، أَيْ مَا يَأْمَنُونَ فِيهِ مِنَّا وَمِنْ أَهْل الْعَهْدِ، ثُمَّ كَانُوا حَرْبًا لَنَا (1) .
__________
(1) الشرقاوي على التحرير 2 / 24.

(20/220)


دَالِيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الدَّالِيَةِ فِي اللُّغَةِ: الدَّلْوُ وَنَحْوُهَا، وَخَشَبٌ يُصْنَعُ كَهَيْئَةِ الصَّلِيبِ، وَيُشَدُّ بِرَأْسِ الدَّلْوِ، ثُمَّ يُؤْخَذُ حَبْلٌ يُرْبَطُ طَرَفُهُ بِذَلِكَ، وَطَرَفُهُ بِجِذْعٍ قَائِمٍ عَلَى رَأْسِ الْبِئْرِ وَيُسْقَى بِهَا، فَهِيَ فَاعِلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، وَالْجَمْعُ: الدَّوَالِي (1) .
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ هَذَا اللَّفْظَ بِالْمَعْنَى نَفْسِهِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السَّانِيَةُ:
2 - السَّانِيَةُ: الدَّلْوُ الْكَبِيرَةُ تُنْصَبُ عَلَى الْمَسْنَوِيَّةِ، ثُمَّ تَجُرُّهُ الْمَاشِيَةُ ذَاهِبَةً وَرَاجِعَةً، وَالسَّانِيَةُ أَيْضًا النَّاضِحَةُ، وَهِيَ النَّاقَةُ الَّتِي يُسْتَقَى عَلَيْهَا (3) .
__________
(1) المصباح المنير مادة: " دلو ".
(2) العناية بهامش تكملة فتح القدير 8 / 149 ط الأميرية، وكشاف القناع 2 / 209.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: " سنا " والمعجم الوسيط، وكشاف القناع 2 / 209.

(20/220)


النَّاعُورَةُ:
3 - النَّاعُورَةُ وَاحِدَةُ النَّوَاعِيرِ الَّتِي يُسْتَقَى بِهَا يُدِيرُهَا الْمَاءُ وَلَهَا صَوْتٌ (1) . فَالدَّالِيَةُ، وَالسَّانِيَةُ، وَالنَّاعُورَةُ وَسَائِل رَفْعِ الْمَاءِ إِلَى الأَْرْضِ (2) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - زَكَاةُ مَا سُقِيَ بِالدَّالِيَةِ:
كُل مَا سُقِيَ بِكُلْفَةٍ وَمُؤْنَةٍ مِنْ دَالِيَةٍ، أَوْ سَانِيَةٍ، أَوْ دُولاَبٍ، أَوْ نَاعُورَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ. لِحَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: بَعَثَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ، وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِمَّا سَقَتِ السَّمَاءُ وَمَا سُقِيَ بَعْلاً (3) الْعُشْرَ، وَمَا سُقِيَ بِالدَّوَالِي نِصْفَ الْعُشْرِ. (4) وَلأَِنَّ لِلْكُلْفَةِ تَأْثِيرًا فِي إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ جُمْلَةً بِدَلِيل الْمَعْلُوفَةِ، فَلأََنْ يُؤَثِّرَ فِي تَخْفِيفِهَا أَوْلَى، وَلأَِنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي الْمَال النَّامِي، وَلِلْكُلْفَةِ تَأْثِيرٌ فِي تَقْلِيل النَّمَاءِ، فَأَثَّرَتْ فِي تَقْلِيل الْوَاجِبِ فِيهَا (5) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: " نعر "، وكشاف القناع 2 / 209.
(2) المغني 2 / 699، وكشاف القناع 2 / 209.
(3) البعل: الزرع الذي يشرب بعروقه فيستغني عن السقي (المعجم الوسيط والمصباح)
(4) حديث معاذ: " بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وأمرني أن آخذ مما سقت السماء " أخرجه ابن ماجه (1 / 581 - ط الحلبي) وإسناده حسن.
(5) المغني لابن قدامة 2 / 699 ط الرياض، ومطالب أولي النهى 2 / 61، والاختيار لتعليل المختار 1 / 113، نشر دار المعرفة، وأسنى المطالب 1 / 371، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 418، نشر دار المعرفة.

(20/221)


وَلِلتَّفْصِيل فِي زَكَاةِ مَا سُقِيَ سَيْحًا (1) وَبِدَالِيَةٍ وَنَحْوِهَا. يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (زَكَاةٌ) .

نَصْبُ الدَّالِيَةِ عَلَى الأَْنْهَارِ:
5 - يَجُوزُ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَصْبُ الدَّالِيَةِ عَلَى الأَْنْهَارِ الْعَامَّةِ، كَالنِّيل، وَدِجْلَةَ، وَالْفُرَاتِ، وَنَحْوِهَا. إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِالنَّهْرِ، لأَِنَّ هَذِهِ الأَْنْهَارَ لَمْ تَدْخُل تَحْتَ يَدِ أَحَدٍ فَلاَ يَثْبُتُ الاِخْتِصَاصُ بِهَا لأَِحَدٍ، فَكَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِيهَا عَلَى السَّوَاءِ، وَكَانَ لِكُل وَاحِدٍ الْحَقُّ فِي الاِنْتِفَاعِ، لَكِنْ بِشَرْطِ عَدَمِ الضَّرَرِ بِالنَّهْرِ، كَالاِنْتِفَاعِ بِطَرِيقِ الْعَامَّةِ، وَإِنْ أَضَرَّ بِالنَّهْرِ فَلِكُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْعُهُ، لأَِنَّهُ حَقٌّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِبَاحَةُ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّهِمْ مَشْرُوطَةٌ بِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ، كَالتَّصَرُّفِ فِي الطَّرِيقِ الأَْعْظَمِ (2) . أَمَّا النَّهْرُ الْمُشْتَرَكُ إِذَا أَرَادَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ نَصْبَ دَالِيَةٍ عَلَيْهِ فَيُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ لاَ يَضُرُّ بِالشُّرْبِ وَالنَّهْرِ، وَكَانَ مَوْضِعُ الْبِنَاءِ أَرْضَ صَاحِبِهِ جَازَ، وَإِلاَّ فَلاَ، لأَِنَّ رَقَبَةَ النَّهْرِ وَمَوْضِعَ الْبِنَاءِ مِلْكٌ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَحَقُّ الْكُل مُتَعَلِّقٌ بِالْمَاءِ، وَلاَ سَبِيل إِلَى التَّصَرُّفِ فِي
__________
(1) السيح: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض أي من غير آلة ولا كلفة (المعجم الوسيط) .
(2) بدائع الصنائع 6 / 192 ط الجمالية، ومجلة الأحكام العدلية المادة (1238) ، والمغني لابن قدامة 5 / 583، وروضة الطالبين 5 / 304 - 306.

(20/221)


الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ وَالْحَقِّ الْمُشْتَرَكِ إِلاَّ بِرِضَا الشُّرَكَاءِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي: (مِيَاهٌ، نَهْرٌ) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 190، وابن عابدين 5 / 285.

(20/222)