الموسوعة
الفقهية الكويتية دَامِعَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدَّامِعَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ دَمَعَتِ الْعَيْنُ دَمْعًا، أَيْ
سَال دَمْعُهَا، وَالدَّمْعُ: مَاءُ الْعَيْنِ، وَشَجَّةٌ دَامِعَةٌ:
تَسِيل دَمًا، فَالدَّامِعَةُ مِنَ الشِّجَاجِ هِيَ الَّتِي يَسِيل مِنْهَا
الدَّمُ كَدَمْعِ الْعَيْنِ (1) .
وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي مَعْنَى الدَّامِعَةِ: فَالشَّافِعِيَّةُ،
وَالْحَنَابِلَةُ، وَالطَّحَاوِيُّ، وَقَاضِي زَادَهْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
يُسَايِرُونَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ، وَالْحَنَابِلَةُ يُسَمُّونَهَا
الْبَازِلَةَ وَالدَّامِيَةَ أَيْضًا.
وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا جَاءَ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِمْ،
كَالْبَدَائِعِ وَالْكَافِي وَابْنِ عَابِدِينَ وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ:
هِيَ الَّتِي تُظْهِرُ الدَّمَ وَلاَ تُسِيلُهُ كَالدَّمْعِ فِي الْعَيْنِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الدَّامِعَةُ وَالدَّامِيَةُ شَيْءٌ وَاحِدٌ،
وَهِيَ الَّتِي تَصْعَقُ الْجِلْدَ فَيَرْشَحُ مِنْهُ دَمٌ، كَالدَّمْعِ
مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْشَقَّ الْجِلْدُ (2) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمغرب، مادة: " دمع ".
(2) ابن عابدين 5 / 372، والبدائع 7 / 296، وتكملة فتح القدير 9 / 217 دار
إحياء التراث العربي، والزرقاني 8 / 15، والدسوقي 4 / 251، ومغني المحتاج 4
/ 26، ونهاية المحتاج 7 / 268، وكشاف القناع 6 / 51، والمغني 8 / 54 - 55.
(20/222)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الدَّامِعَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً.
فَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا فَفِيهَا الْقِصَاصُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ.
وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لإِِمْكَانِ الْمُمَاثَلَةِ فِي
الاِسْتِيفَاءِ، وَلِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} .
(1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي
رِوَايَةٍ، إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِيهَا لِعَدَمِ إِمْكَانِ
الاِسْتِيفَاءِ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ، وَإِنَّمَا فِيهَا حُكُومَةُ
عَدْلٍ (2) ، لأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ وَلاَ يُمْكِنُ
إِهْدَارُهَا فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّخَعِيِّ
وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَإِنْ كَانَتِ الدَّامِعَةُ خَطَأً فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ، لأَِنَّهُ
لَمْ يَرِدْ فِيهَا شَيْءٌ مُقَدَّرٌ مِنَ الشَّرْعِ، وَلاَ يُمْكِنُ
إِهْدَارُهَا فَوَجَبَ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ.
وَهَذَا إِذَا لَمْ تَبْرَأِ الشَّجَّةُ، أَوْ بَرِئَتْ عَلَى شَيْنٍ،
فَإِذَا بَرِئَتْ دُونَ أَثَرٍ فَلاَ شَيْءَ فِيهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّ الأَْرْشَ إِنَّمَا يَجِبُ
__________
(1) سورة المائدة / 45.
(2) حكومة العدل هي التعويض الذي يقدره أهل الخبرة وينظر مصطلح: (حكومة
عدل) .
(20/223)
بِالشَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ
بِالأَْثَرِ، وَقَدْ زَال فَسَقَطَ الأَْرْشُ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِ حُكُومَةُ الأَْلَمِ لأَِنَّ الشَّجَّةَ
قَدْ تَحَقَّقَتْ وَلاَ سَبِيل إِلَى إِهْدَارِهَا، وَقَدْ تَعَذَّرَ
إِيجَابُ أَرْشِ الشَّجَّةِ، فَيَجِبُ أَرْشُ الأَْلَمِ، وَقَال مُحَمَّدٌ:
يَجِبُ قَدْرُ مَا أَنْفَقَ مِنْ أُجْرَةِ الطَّبِيبِ وَثَمَنِ الدَّوَاءِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا بَرِئَتْ وَلَمْ تُنْقِصْ شَيْئًا
فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَى التَّعْزِيرِ كَمَا
لَوْ لَطَمَهُ أَوْ ضَرَبَهُ بِمُثْقِلٍ فَزَال الأَْلَمُ.
وَالثَّانِي: يَفْرِضُ الْقَاضِي شَيْئًا بِاجْتِهَادِهِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، شِجَاجٌ،
قِصَاصٌ، دِيَةٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 354، 373، 376، والبدائع 7 / 309، 316، 324، والهداية 4
/ 82، 187، والاختيار 5 / 42، وحاشية الدسوقي 4 / 250، 251، 269، 270،
والفواكه الدواني 2 / 263، ومغني المحتاج 4 / 26، 59، ونهاية المحتاج 7 /
268، 306، 325، وروضة الطالبين 9 / 265، 309، والمغني 7 / 710 و 8 / 56 -
57، وكشاف القناع 6 / 51 - 52.
(20/223)
دَامِغَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدَّامِغَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ دَمَغَهُ أَيْ أَصَابَ دِمَاغَهُ،
وَشَجَّهُ حَتَّى بَلَغَتِ الشَّجَّةُ الدِّمَاغَ، وَالدَّامِغَةُ مِنَ
الشِّجَاجِ هِيَ الَّتِي تُهَشِّمُ الدِّمَاغَ وَلاَ حَيَاةَ مَعَهَا
غَالِبًا (1) .
وَهِيَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كَذَلِكَ، فَقَدْ قَالُوا: هِيَ الَّتِي
تَخْرِقُ خَرِيطَةَ الدِّمَاغِ (الْجِلْدَةَ الرَّقِيقَةَ السَّاتِرَةَ
لِلْمُخِّ) وَتَصِل إِلَيْهِ. وَهِيَ مُذَفِّفَةٌ غَالِبًا. وَلِذَلِكَ
لَمْ يَذْكُرْهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي
الشِّجَاجِ لِلْمَوْتِ بَعْدَهَا عَادَةً، فَتَكُونُ عِنْدَهُ قَتْلاً لاَ
شَجًّا (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ.
2 - الدَّامِغَةُ مِنَ الشِّجَاجِ إِنْ كَانَتْ عَمْدًا فَلاَ
__________
(1) المغرب، والمصباح المنير، ولسان العرب مادة: " دمغ ".
(2) ابن عابدين 5 / 372 - 373، والاختيار 5 / 41، والدسوقي 4 / 252، وجواهر
الإكليل 2 / 260، ومغني المحتاج 4 / 26، والمغني 8 / 47، وكشاف القناع 6 /
52.
(20/224)
قِصَاصَ فِيهَا إِنْ لَمْ تُفْضِ إِلَى
الْمَوْتِ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِالْمِثْل
لِعِظَمِ خَطَرِهَا وَخَشْيَةِ السِّرَايَةِ إِلَى النَّفْسِ، وَلِذَلِكَ
يَسْتَوِي فِي الْحُكْمِ فِيهَا عَمْدُهَا وَخَطَؤُهَا. وَهَذَا
بِاتِّفَاقٍ.
وَفِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ قِيَاسًا عَلَى الْمَأْمُومَةِ (الآْمَّةِ)
لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى أَهْل الْيَمَنِ كِتَابًا فِيهِ
الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدِّيَاتُ، وَفِيهِ: فِي الْمَأْمُومَةِ
ثُلُثُ الدِّيَةِ. (1)
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ: يَجِبُ عَلَى الْجَانِي أَرْشُ مَأْمُومَةٍ وَحُكُومَةُ
عَدْلٍ، لأَِنَّ خَرْقَ الْجِلْدِ جِنَايَةٌ بَعْدَ الْمَأْمُومَةِ
فَوَجَبَ لأَِجْلِهَا حُكُومَةٌ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَجِبُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصَّ
مُوضِحَةً، لأَِنَّهُ يَقْتَصُّ بَعْضَ حَقِّهِ، وَلأَِنَّهَا دَاخِلَةٌ
فِي الْجِنَايَةِ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهَا، وَيَأْخُذُ الأَْرْشَ فِي
الْبَاقِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ لأَِنَّهُ تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ فِيهِ
فَانْتَقَل إِلَى الْبَدَل، كَمَا لَوْ قَطَعَ أُصْبُعَيْهِ وَلَمْ
يُمْكِنِ الاِسْتِيفَاءُ إِلاَّ مِنْ وَاحِدَةٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَيْسَ لَهُ أَرْشُ
__________
(1) حديث عمرو بن حزم: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل
اليمن كتابًا " أخرجه النسائي (8 / 58 - ط المكتبة التجارية) . وذكر ابن
حجر في التلخيص (4 / 18 - ط شركة الطباعة الفنية) أن جماعة من العلماء
صححوه.
(20/224)
الْبَاقِي، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي
بَكْرٍ، لأَِنَّهُ جُرْحٌ وَاحِدٌ فَلاَ يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ قِصَاصٍ
وَدِيَةٍ.
ثُمَّ إِنَّ الْحُكْمَ بِثُلُثِ الدِّيَةِ إِنَّمَا هُوَ إِذَا عَاشَ
الْمَشْجُوجُ، أَمَّا إِذَا مَاتَ بِهَا فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ
عَمْدًا فَفِيهَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، وَإِنْ كَانَتْ خَطَأً
فَفِيهَا دِيَةُ نَفْسٍ كَامِلَةً (1) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 372 - 373، والبدائع 7 / 316، وتكملة فتح القدير 9 /
218، وجواهر الإكليل 2 / 260، 267، والدسوقي 4 / 270، ومغني المحتاج 4 /
26، 58، والمهذب 2 / 179، 200، والمغني 7 / 710 و 8 / 47، وكشاف القناع 6 /
52.
(20/225)
دَامِيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدَّامِيَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ دَمِيَ الْجُرْحُ يَدْمَى دَمْيًا
وَدَمًى: خَرَجَ مِنْهُ الدَّمُ، وَالشَّجَّةُ الدَّامِيَةُ: هِيَ الَّتِي
يَخْرُجُ دَمُهَا وَلاَ يَسِيل (1) .
وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي مَعْنَى الدَّامِيَةِ.
فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يُسَايِرُونَ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيَّ، إِذْ يَقُول الْمَالِكِيَّةُ: هِيَ الَّتِي تُضْعِفُ
الْجِلْدَ فَيَرْشَحُ مِنْهُ دَمٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْشَقَّ الْجِلْدُ.
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: هِيَ الَّتِي تَدْمَى مِنْ غَيْرِ سَيَلاَنِ
الدَّمِ (2) .
وَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّ الدَّامِيَةَ هِيَ الَّتِي
تُخْرِجُ الدَّمَ وَتُسِيلُهُ وَلاَ تُوضِحُ الْعَظْمَ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ
إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ الَّذِينَ يُسَمُّونَهَا أَيْضًا الْبَازِلَةَ
وَالدَّامِغَةَ (3) .
__________
(1) المغرب، والمصباح المنير، ولسان العرب: مادة: " دمى ".
(2) منح الجليل 4 / 264، والدسوقي 4 / 250 - 251، ومغني المحتاج 4 / 26.
(3) تكملة فتح القدير 9 / 217 نشر دار إحياء التراث العربي، وابن عابدين 5
/ 372 - 373، والبدائع 7 / 296، والاختيار 5 / 41، والمغني 8 / 55، وكشاف
القناع 6 / 51.
(20/225)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - حُكْمُ الدَّامِيَةِ هُوَ حُكْمُ الدَّامِعَةِ بِكُل تَفَاصِيلِهِ
سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَمْدًا أَمْ خَطَأً.
(ر: دَامِعَةٌ) .
(20/226)
دِبَاغَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدِّبَاغَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ دَبَغَ الْجِلْدَ يَدْبُغُهُ
دَبْغًا وَدِبَاغَةً، أَيْ عَالَجَهُ وَلَيَّنَهُ بِالْقَرَظِِ وَنَحْوِهِ
لِيَزُول مَا بِهِ مِنْ نَتْنٍ وَفَسَادٍ وَرُطُوبَةٍ.
وَالدِّبَاغَةُ أَيْضًا اسْمٌ يُطْلَقُ عَلَى حِرْفَةِ الدَّبَّاغِ وَهُوَ
صَاحِبُهَا.
أَمَّا الدِّبْغُ وَالدِّبَاغُ بِالْكَسْرِ فَهُمَا مَا يُدْبَغُ بِهِ
الْجِلْدُ لِيَصْلُحَ. وَالْمَدْبَغَةُ مَوْضِعُ الدَّبْغِ (1) .
وَتُطْلَقُ الدِّبَاغَةُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ نَفْسِهِ (2) .
قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: الدَّبْغُ نَزْعُ فُضُول الْجِلْدِ،
وَهِيَ مَائِيَّتُهُ وَرُطُوبَاتُهُ الَّتِي يُفْسِدُهُ بَقَاؤُهَا،
وَيُطَيِّبُهُ نَزْعُهَا بِحَيْثُ لَوْ نُقِعَ فِي الْمَاءِ لَمْ يَعُدْ
إِلَيْهِ النَّتْنُ وَالْفَسَادُ (3) .
وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ الدَّبْغُ
__________
(1) المصباح المنير، ومتن اللغة، والمعجم الوسيط مادة: " دبغ ".
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 136، ونهاية المحتاج 1 / 232، والخرشي 1 / 88.
(3) مغني المحتاج 1 / 82، وانظر الخرشي 1 / 88، والدسوقي 1 / 53.
(20/226)
بِمَا يَحْرِفُ الْفَمَ، أَيْ يَلْذَعُ
اللِّسَانَ بِحَرَافَتِهِ كَالْقَرَظِ وَالْعَفْصِ وَنَحْوِهِمَا (1) ،
كَمَا سَيَأْتِي: (ف 7)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصِّبَاغَةُ:
2 - الصِّبَاغَةُ حِرْفَةُ الصَّبَّاغِ، وَالصِّبْغُ وَالصِّبْغَةُ
وَالصِّبَاغُ بِالْكَسْرِ كُلُّهَا بِمَعْنًى، وَهُوَ مَا يُصْبَغُ بِهِ،
وَالصَّبْغُ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ، يُقَال: صَبَغَ الثَّوْبَ صَبْغًا: أَيْ
لَوَّنَهُ بِالصِّبَاغِ، وَالأَْصْل فِي مَعْنَاهُ التَّغْيِيرُ،
وَيَعْرِضُ لِلْجِلْدِ وَغَيْرِهِ (2) .
ب - التَّشْمِيسُ:
3 - التَّشْمِيسُ مَصْدَرُ شَمَّسْتُ الشَّيْءَ إِذَا وَضَعْتَهُ فِي
الشَّمْسِ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يُبْسَطَ الْجِلْدُ فِي الشَّمْسِ
لِتَجِفَّ مِنْهُ الرُّطُوبَةُ، وَتَزُول عَنْهُ الرَّائِحَةُ
الْكَرِيهَةُ. وَاعْتَبَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ دِبَاغًا
حُكْمِيًّا (3) كَمَا سَيَأْتِي.
ج - التَّتْرِيبُ:
4 - التَّتْرِيبُ مَصْدَرُ تَرَّبَ، يُقَال: تَرَّبْتُ الإِْهَابَ
تَتْرِيبًا، إِذَا نَثَرَ عَلَيْهِ التُّرَابَ لإِِزَالَةِ مَا عَلَيْهِ
مِنْ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 82، ونهاية المحتاج 1 / 233، وحاشية القليوبي 1 / 73.
(2) المصباح المنير، ومتن اللغة، مادة: " صبغ ".
(3) البناية على الهداية 1 / 472، وابن عابدين 1 / 136.
(20/227)
رُطُوبَةٍ وَرَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ، وَيُقَال
أَيْضًا: تَرَّبْتُ الشَّيْءَ إِذَا وَضَعْتَ عَلَيْهِ التُّرَابَ. وَهُوَ
أَيْضًا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الدِّبَاغِ الْحُكْمِيِّ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُمْ (1) .
مَشْرُوعِيَّةُ الدِّبَاغَةِ:
5 - الدِّبَاغَةُ مُبَاحَةٌ، وَهِيَ مِنَ الْحِرَفِ الَّتِي فِيهَا
مَصْلَحَةٌ لِلنَّاسِ.
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا لِجَوَازِ الدِّبَاغَةِ بِأَحَادِيثَ مِنْهَا:
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ
فَقَدْ طَهُرَ (2) وَلأَِنَّ الدِّبَاغَةَ وَسِيلَةٌ لِتَطْهِيرِ
الْجُلُودِ بِإِزَالَةِ مَا بِهَا مِنْ نَتْنٍ وَفَسَادٍ فَيُنْتَفَعُ
بِهَا، كَمَا يُنْتَفَعُ مِنْ سَائِرِ الأَْشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ (3) .
مَا يَقْبَل الدِّبَاغَةَ:
6 - الْجُلُودُ هِيَ الَّتِي تُدْبَغُ غَالِبًا وَتَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ
عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي بَيَانُهُ.
وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ - مِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ - أَنَّ
الْمَثَانَةَ وَالْكَرِشَ، مِثْل الإِْهَابِ فِي قَبُول الدِّبَاغِ
وَالطَّهَارَةِ بِهِ، وَكَذَلِكَ الأَْمْعَاءُ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ
نَقْلاً عَنْ
__________
(1) المرجعان نفسهما.
(2) حديث: " أيما إهاب دبغ فقد طهر " أخرجه النسائي (7 / 173 - ط المكتبة
التجارية) من حديث ابن عباس، وأصله في صحيح مسلم (1 / 277 - ط الحلبي) .
(3) ابن عابدين 1 / 136، ومواهب الجليل مع المواق 1 / 101، ومغني المحتاج 1
/ 82 - 83، وكشاف القناع 1 / 54 - 55.
(20/227)
الْبَحْرِ: فَلَوْ دُبِغَتِ الْمَثَانَةُ
وَجُعِل فِيهَا لَبَنٌ جَازَ.
وَكَذَلِكَ الْكَرِشُ إِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إِصْلاَحِهِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: إِنَّهُ لاَ يَطْهُرُ، لأَِنَّهُ كَاللَّحْمِ،
وَإِذَا أَصْلَحَ أَمْعَاءَ شَاةٍ مَيِّتَةٍ فَصَلَّى وَهِيَ مَعَهُ جَازَ،
لأَِنَّهُ يَتَّخِذُ مِنْهَا الأَْوْتَارَ وَهُوَ كَالدِّبَاغِ (1) .
وَقَال الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَجَعْل الْمُصْرَانِ وِتْرًا
دِبَاغٌ، وَكَذَا جَعْل الْكَرِشِ، لأَِنَّهُ هُوَ الْمُعْتَادُ فِيهِ (2)
.
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ مِنَ الْحَيَّةِ
الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَهَا دَمٌ، وَكَذَلِكَ الْفَأْرَةُ لاَ يَقْبَلاَنِ
الدِّبَاغَ فَلاَ يَطْهُرَانِ بِالْعِلاَجِ (3) .
مَا تَحْصُل بِهِ الدِّبَاغَةُ:
7 - مَا يَحْصُل بِهِ الدِّبَاغَةُ يُسَمَّى دَبْغًا وَدِبَاغًا،
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الدِّبَاغِ أَنْ
يَكُونَ مُنَشِّفًا لِلرُّطُوبَةِ مُنَقِّيًا لِلْخَبَثِ، مُزِيلاً
لِلرِّيحِ، وَلاَ يُشْرَطُ أَنْ تَكُونَ الدِّبَاغَةُ بِفِعْل فَاعِلٍ،
فَإِنْ وَقَعَ الْجِلْدُ فِي مَدْبَغَتِهِ بِنَحْوِ رِيحٍ، أَوْ أُلْقِيَ
الدَّبْغُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ فَانْدَبَغَ بِهِ كَفَى. كَمَا لاَ يُشْتَرَطُ
أَنْ يَكُونَ الدَّابِغُ مُسْلِمًا.
وَذَهَبَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ
الدِّبَاغُ طَاهِرًا، فَإِنَّ حِكْمَةَ الدِّبَاغِ إِنَّمَا هِيَ بِأَنْ
يُزِيل
__________
(1) ابن عابدين 1 / 135.
(2) كشاف القناع 1 / 56.
(3) ابن عابدين 1 / 136، والزيلعي 1 / 25.
(20/228)
عُفُونَةَ الْجِلْدِ وَيُهَيِّئَهُ
لِلاِنْتِفَاعِ بِهِ عَلَى الدَّوَامِ. فَمَا أَفَادَ ذَلِكَ جَازَ بِهِ،
طَاهِرًا كَانَ كَالْقَرَظِ وَالْعَفْصِ، أَوْ نَجِسًا كَزَرْقِ الطُّيُورِ
(1) .
وَهَل يُشْتَرَطُ غَسْل الْجِلْدِ أَثْنَاءَ أَوْ بَعْدَ الدِّبَاغَةِ؟
فِيهِ تَفْصِيلٌ يَأْتِي بَيَانُهُ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ
الدِّبَاغُ طَاهِرًا، لأَِنَّهَا طَهَارَةٌ مِنْ نَجَاسَةٍ فَلَمْ تَحْصُل
بِنَجِسٍ، كَالاِسْتِجْمَارِ وَالْغَسْل (2) .
وَصَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ) بِأَنَّهُ لاَ يَكْفِي فِي الدِّبَاغَةِ التَّشْمِيسُ،
وَلاَ التَّتْرِيبُ (3) . ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا يُدْبَغُ بِهِ. فَنُقِل
عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَا دُبِغَ بِهِ
جِلْدُ الْمَيْتَةِ مِنْ دَقِيقٍ أَوْ مِلْحٍ أَوْ قَرَظٍ فَهُوَ طَهُورٌ،
ثُمَّ قَال: وَهُوَ صَحِيحٌ، فَإِنَّ حِكْمَةَ الدِّبَاغِ إِنَّمَا هِيَ
بِأَنْ يُزِيل عُفُونَةَ الْجِلْدِ وَيُهَيِّئَهُ لِلاِنْتِفَاعِ بِهِ
عَلَى الدَّوَامِ فَمَا أَفَادَ ذَلِكَ جَازَ بِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الدَّبْغُ نَزْعُ فُضُولِهِ، وَذَلِكَ يَحْصُل
بِمَا يَحْرِفُ الْفَمَ أَيْ يَلْذَعُ اللِّسَانَ بِحَرَافَتِهِ،
كَالْقَرَظِ وَالْعَفْصِ وَقُشُورِ الرُّمَّانِ، وَالشَّثِّ وَالشَّبِّ (4)
. وَلَوْ بِإِلْقَائِهِ عَلَى الدِّبْغِ بِنَحْوِ رِيحٍ، أَوْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 136، والدسوقي 1 / 55، ومغني المحتاج 1 / 82، وكشاف
القناع 1 / 56، والمغني 1 / 70.
(2) المغني 1 / 70، وكشاف القناع 1 / 76.
(3) الدسوقي 1 / 55، والحطاب 1 / 101، ومغني المحتاج 1 / 82، وكشاف القناع
1 / 56، والمغني 1 / 70.
(4) الشث: شجر مر الطعم طيب الريح يدبغ به، والشب: معدن يشبه الزاج يدبغ
به.
(20/228)
إِلْقَاءِ الدِّبْغِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ.
لاَ شَمْسٍ وَتُرَابٍ وَتَجْمِيدٍ وَتَمْلِيحٍ مِمَّا لاَ يَنْزِعُ
الْفُضُول وَإِنْ جَفَّتْ وَطَابَتْ رَائِحَتُهُ، لأَِنَّ الْفَضَلاَتِ
لَمْ تَزُل، وَإِنَّمَا جَمَدَتْ، بِدَلِيل أَنَّهُ لَوْ نُقِعَ فِي
الْمَاءِ عَادَتْ إِلَيْهِ الْعُفُونَةُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَحْصُل الدَّبْغُ بِنَجِسٍ، وَلاَ بِغَيْرِ
مُنَشِّفٍ لِلرُّطُوبَةِ مُنَقٍّ لِلْخَبَثِ بِحَيْثُ لَوْ نُقِعَ
الْجِلْدُ بَعْدَهُ فِي الْمَاءِ فَسَدَ، وَلاَ بِتَشْمِيسٍ وَلاَ
بِتَتْرِيبٍ وَلاَ بِرِيحٍ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَتَحْصُل الدِّبَاغَةُ عِنْدَهُمْ بِكُل مَا
يَمْنَعُ النَّتْنَ وَالْفَسَادَ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَمَا يَمْنَعُ
عَلَى نَوْعَيْنِ حَقِيقِيٍّ كَالْقَرَظِ وَالشَّبِّ وَالْعَفْصِ
وَنَحْوِهِ، وَحُكْمِيٍّ كَالتَّتْرِيبِ وَالتَّشْمِيسِ وَالإِْلْقَاءِ فِي
الرِّيحِ. وَلَوْ جَفَّ وَلَمْ يَسْتَحِل لَمْ يَطْهُرْ (2) .
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الدِّبَاغِ الْحَقِيقِيِّ وَالْحُكْمِيِّ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ إِلاَّ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَصَابَ
الْمَاءُ جِلْدَ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ الْحَقِيقِيِّ لاَ يَعُودُ
نَجِسًا بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عِنْدَهُمْ، وَفِيمَا بَعْدَ الدِّبَاغِ
الْحُكْمِيِّ رِوَايَتَانِ (3) .
__________
(1) كشاف القناع 1 / 56.
(2) ابن عابدين 1 / 136.
(3) المرجع السابق نفسه، وترى اللجنة أن الدباغ يحصل بالأشياء المعتادة في
ذلك، ولا يشترط فيه مادة خاصة أو آلة، والمرجع في ذلك إلى أهل الصنعة،
والحكمة في ذلك إنما هي زوال عفونة الجلد وفساده وتهيئته للانتفاع، فما
أفاد ذلك جاز به (انظر البناية 1 / 373، والحطاب 1 / 101) .
(20/229)
أَثَرُ الدِّبَاغَةِ فِي تَطْهِيرِ
الْجُلُودِ:
8 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ جِلْدَ الآْدَمِيِّ طَاهِرٌ حَيًّا
أَوْ مَيِّتًا، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، وَأَنَّهُ لَيْسَ مَحَلًّا
لِلدِّبَاغَةِ أَصْلاً. وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ جِلْدَ
الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول اللَّحْمِ كَالإِْبِل وَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ
وَالظِّبَاءِ وَنَحْوِهَا طَاهِرٌ قَبْل الذَّبْحِ وَبَعْدَهُ، سَوَاءٌ
أَدُبِغَ أَمْ لَمْ يُدْبَغْ.
وَكَذَلِكَ مَيْتَةُ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا لاَ
نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي نَجَاسَةِ جُلُودِ مَيْتَةِ
الْحَيَوَانَاتِ قَبْل الدِّبَاغِ، وَعَرَّفُوا الْمَيْتَةَ بِأَنَّهَا
الْمَيِّتُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ الَّذِي لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ،
مَأْكُولَةُ اللَّحْمِ أَوْ غَيْرُهُ، مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ
بِذَكَاةٍ غَيْرِ شَرْعِيَّةٍ، كَمُذَكَّى الْمَجُوسِيِّ أَوِ
الْكِتَابِيِّ لِصَنَمِهِ، أَوِ الْمُحْرِمِ لِصَيْدٍ، أَوِ الْمُرْتَدِّ
أَوْ نَحْوِهِ (1) .
(ر: مَيْتَةٌ) .
9 - وَاخْتَلَفُوا فِي طَهَارَةِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغَةِ عَلَى
التَّفْصِيل التَّالِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ
فِي جِلْدِ مَيْتَةِ مَأْكُول اللَّحْمِ - إِلَى أَنَّ الدِّبَاغَةَ
وَسِيلَةٌ لِتَطْهِيرِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَأْكُولَةَ
اللَّحْمِ أَمْ غَيْرَ مَأْكُولَةِ اللَّحْمِ، فَيَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ
جِلْدُ مَيْتَةِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ إِلاَّ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ
عِنْدَ الْجَمِيعِ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ، وَإِلاَّ جِلْدَ الآْدَمِيِّ
لِكَرَامَتِهِ
__________
(1) الخرشي 1 / 188، ومغني المحتاج 1 / 78، وكشاف القناع 1 / 54.
(20/229)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا
بَنِي آدَمَ} (1) وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا جِلْدَ الْكَلْبِ،
كَمَا اسْتَثْنَى مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ جِلْدَ الْفِيل (2) .
وَاسْتَدَلُّوا لِطَهَارَةِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغَةِ
بِأَحَادِيثَ، مِنْهَا:
أ - قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ
فَقَدْ طَهُرَ. (3)
ب - وَبِمَا رَوَى سَلَمَةُ بْنُ الْمُحَبِّقِ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ دَعَا بِمَاءٍ
مِنْ عِنْدِ امْرَأَةٍ، قَالَتْ: مَا عِنْدِي إِلاَّ فِي قِرْبَةٍ لِي
مَيْتَةٍ. قَال: أَلَيْسَ قَدْ دَبَغْتِهَا؟ قَالَتْ: بَلَى. قَال: فَإِنَّ
دِبَاغَهَا ذَكَاتُهَا. (4)
ج - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: تَصَدَّقَ عَلَى
مَوْلاَةٍ لِمَيْمُونَةَ بِشَاةٍ فَمَاتَتْ، فَمَرَّ بِهَا رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: هَلاَّ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا
فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ؟ فَقَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ،
فَقَال: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا. (5)
__________
(1) سورة الإسراء / 70.
(2) ابن عابدين 1 / 136، والبدائع 1 / 85، ومغني المحتاج 1 / 78، والمغني
لابن قدامة 1 / 66، 67.
(3) الإهاب هو الجلد قبل الدبغ، فإذا دبغ يسمى أديمًا (المصباح) والحديث
تقدم تخريجه (ف / 5) .
(4) أخرجه النسائي (7 / 173 - 174 - ط المكتبة التجارية) وصححه ابن حجر في
التلخيص (1 / 49 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(5) حديث: " هلا أخذتم إهابها فدبغتموه " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 413 - ط
السلفية) ، ومسلم (1 / 276 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.
(20/230)
وَاسْتَدَلُّوا بِالْمَعْقُول أَيْضًا،
وَهُوَ أَنَّ الدَّبْغَ يُزِيل سَبَبَ النَّجَاسَةِ وَهُوَ الرُّطُوبَةُ
وَالدَّمُ، فَصَارَ الدَّبْغُ لِلْجِلْدِ كَالْغَسْل لِلثَّوْبِ، وَلأَِنَّ
الدِّبَاغَ يَحْفَظُ الصِّحَّةَ لِلْجِلْدِ وَيُصْلِحُهُ لِلاِنْتِفَاعِ
بِهِ كَالْحَيَاةِ، ثُمَّ الْحَيَاةُ تَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنِ
الْجُلُودِ فَكَذَلِكَ الدِّبَاغُ (1) .
أَمَّا اسْتِثْنَاءُ جِلْدِ الْخِنْزِيرِ فَلأَِنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ،
أَيْ أَنَّ ذَاتَهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا نَجِسَةٌ حَيًّا وَمَيِّتًا،
فَلَيْسَتْ نَجَاسَتُهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّمِ أَوِ الرُّطُوبَةِ
كَنَجَاسَةِ غَيْرِهِ مِنْ مَيْتَةِ الْحَيَوَانَاتِ، فَلِذَا لَمْ يَقْبَل
التَّطْهِيرَ (2) .
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ لاِسْتِثْنَاءِ الْكَلْبِ بِأَنَّهُ وَرَدَ فِي
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ
يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ. (3)
وَالطَّهَارَةُ تَكُونُ لِحَدَثٍ أَوْ خَبَثٍ، وَلاَ حَدَثَ عَلَى
الإِْنَاءِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْوُلُوغَ سَبَبٌ لِلْخَبَثِ بِسَبَبِ
نَجَاسَةِ فَمِ الْكَلْبِ، فَبَقِيَّةُ أَجْزَاءِ الْكَلْبِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 136، والبدائع 1 / 85، والبناية 1 / 236، 362، والمجموع
1 / 216 وما بعدها، ومغني المحتاج 1 / 78، وكشاف القناع 1 / 54، والمغني 1
/ 67.
(2) روي عن أبي يوسف وسحنون من المالكية طهارة جلد الخنزير أيضًا بالدباغ
(ابن عابدين 1 / 136، والدسوقي 1 / 54، والمجموع 1 / 214) .
(3) حديث: " طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب. . . . " أخرجه مسلم (1 /
234 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(20/230)
أَوْلَى بِالنَّجَاسَةِ، وَإِذَا كَانَتِ
الْحَيَاةُ لاَ تَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنِ الْكَلْبِ فَالدِّبَاغُ
أَوْلَى، لأَِنَّ الْحَيَاةَ أَقْوَى مِنَ الدِّبَاغِ بِدَلِيل أَنَّهَا
سَبَبٌ لِطَهَارَةِ الْجُمْلَةِ، وَالدِّبَاغُ وَسِيلَةٌ لِطَهَارَةِ
الْجِلْدِ فَقَطْ (1) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ لِطَهَارَةِ جِلْدِ الْكَلْبِ بِالدِّبَاغَةِ
بِعُمُومِ الأَْحَادِيثِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ (2) .
وَالْكَلْبُ لَيْسَ نَجِسَ الْعَيْنِ عِنْدَهُمْ فِي الأَْصَحِّ،
وَكَذَلِكَ الْفِيل عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَدْ رُوِيَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْتَشِطُ
بِمُشْطٍ مِنْ عَاجٍ (3) ، وَفَسَّرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ بِعَظْمِ
الْفِيل.
10 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ بِعَدَمِ طَهَارَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ
بِالدِّبَاغَةِ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُكَيْمٍ قَال: أَتَانَا
كِتَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل وَفَاتِهِ
بِشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ: أَلاَّ تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ
وَلاَ عَصَبٍ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: كُنْتُ رَخَّصْتُ لَكُمْ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ، فَإِذَا
جَاءَكُمْ كِتَابِي هَذَا فَلاَ تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ
وَلاَ عَصَبٍ. (4)
__________
(1) المجموع 1 / 211، 214، 220، ومغني المحتاج 1 / 78.
(2) المراجع السابقة للحنفية.
(3) حديث: " كان يمتشط بمشط من عاج " أخرجه البيهقي (1 / 26 - ط دائرة
المعارف العثمانية) من حديث أنس، وضعف إسناده. وانظر ابن عابدين 1 / 136.
(4) حديث عبد الله بن عكيم بروايتيه: " أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم قبل وفاته " أخرجه الترمذي (4 / 222 - ط الحلبي) ، وأبو داود (4 / 370
- تحقيق عزت عبيد دعاس) بألفاظ متقاربة، وحسنه الترمذي.
(20/231)
وَأَجَابَ الْمَالِكِيَّةُ عَنِ
الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي طَهَارَةِ الْجِلْدِ بِالدِّبَاغِ
بِأَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الطَّهَارَةِ اللُّغَوِيَّةِ أَيِ
النَّظَافَةِ، وَلِذَا جَازَ الاِنْتِفَاعُ بِهِ فِي حَالاَتٍ خَاصَّةٍ
كَمَا سَيَأْتِي.
وَرُوِيَ عَنْ سَحْنُونَ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ
قَوْلُهُمَا: بِطَهَارَةِ جِلْدِ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ بِالدِّبَاغَةِ
حَتَّى الْخِنْزِيرِ (1) .
11 - وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ جِلْدُ
مَيْتَةِ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي الْحَيَاةِ، مِنْ إِبِلٍ وَبَقَرٍ
وَظِبَاءٍ وَنَحْوِهَا، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مَأْكُول اللَّحْمِ، لِعُمُومِ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ
فَقَدْ طَهُرَ (2) فَيَتَنَاوَل الْمَأْكُول وَغَيْرَهُ، وَخَرَجَ مِنْهُ
مَا كَانَ نَجِسًا فِي حَال الْحَيَاةِ لِكَوْنِ الدَّبْغِ إِنَّمَا
يُؤَثِّرُ فِي دَفْعِ نَجَاسَةٍ حَادِثَةٍ بِالْمَوْتِ فَيَبْقَى مَا
عَدَاهُ عَلَى قَضِيَّةِ الْعُمُومِ.
كَمَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ قَوْلُهُ: بِطَهَارَةِ جُلُودِ مَيْتَةِ
مَأْكُول اللَّحْمِ فَقَطْ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
ذَكَاةُ الأَْدِيمِ دِبَاغُهُ (3) وَالذَّكَاةُ إِنَّمَا تَعْمَل فِيمَا
يُؤْكَل لَحْمُهُ،
__________
(1) الدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 54، والمحلى 9 / 32 م 1549، والمغني 1 /
66، 67، وكشاف القناع 1 / 54.
(2) تقدم تخريج الحديث ف / 5.
(3) حديث: " ذكاة الأديم دباغه ". أخرجه أحمد (3 / 476 - ط الميمنية) من
حديث سلمة بن المحبق، وفي إسناده جهالة، ولكن له شاهد من حديث عائشة أخرجه
النسائي (7 / 174 - ط المكتبة التجارية) وإسناده صحيح.
(20/231)
فَكَذَلِكَ الدِّبَاغُ (1)
غَسْل الْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ:
12 - لَمْ يَذْكُرِ الْحَنَفِيَّةُ ضَرُورَةَ غَسْل الْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ
أَثْنَاءَ الدِّبَاغَةِ وَلاَ بَعْدَهَا، فَالظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِهِمْ
طَهَارَةُ الْجِلْدِ بِمُجَرَّدِ الدَّبْغِ قَبْل الْغَسْل، كَمَا هُوَ
وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا، لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ (2)
وَلأَِنَّهُ طَهُرَ بِانْقِلاَبِهِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى اسْتِعْمَال
الْمَاءِ كَالْخَمْرَةِ إِذَا انْقَلَبَتْ خَلًّا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الطَّهَارَةَ لاَ
تَحْصُل بِمُجَرَّدِ الدَّبْغِ بَل تَحْتَاجُ إِلَى الْغَسْل لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِلْدِ الشَّاةِ الْمَيِّتَةِ:
يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظُ. (3)
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ غَسْل الْجِلْدِ
أَثْنَاءَ الدِّبَاغَةِ تَغْلِيبًا لِمَعْنَى الإِْحَالَةِ، وَلِحَدِيثِ
مُسْلِمٍ. إِذَا دُبِغَ الإِْهَابُ فَقَدْ طَهُرَ (4) وَلَمْ يَذْكُرْ
فِيهِ الْغَسْل.
__________
(1) المغني 1 / 68، 69، وكشاف القناع 1 / 54، 55.
(2) تقدم تخريج الحديث (ف / 5) .
(3) البدائع 1 / 185، وابن عابدين 1 / 136، والزيلعي 1 / 25، والمغني 1 /
70، 71، وكشاف القناع 1 / 54، 55، وانظر المجموع 1 / 226، والحديث: "
يطهرها الماء والقرظ ". أخرجه أبو داود (4 / 369، 370 - تحقيق عزت عبيد
دعاس) والنسائي (7 / 174 - ط المكتبة التجارية) من حديث ميمونة، وفي إسناده
جهالة.
(4) حديث: " إذا دبغ الإهاب فقد طهر " أخرجه مسلم (1 / 277 - ط الحلبي) من
حديث عبد الله بن عباس.
(20/232)
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ يُشْتَرَطُ غَسْلُهُ
أَثْنَاءَ الدِّبَاغَةِ تَغْلِيبًا لِمَعْنَى الإِْزَالَةِ، وَلِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الآْخَرِ: يُطَهِّرُهَا
الْمَاءُ وَالْقَرَظُ وَحُمِل الأَْوَّل عَلَى النَّدْبِ، أَمَّا بَعْدَ
الدِّبَاغَةِ فَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ وُجُوبُ غَسْلِهِ بِالْمَاءِ،
لأَِنَّ الْمَدْبُوغَ يَصِيرُ كَثَوْبٍ نَجِسٍ أَيْ مُتَنَجِّسٍ
لِمُلاَقَاتِهِ لِلأَْدْوِيَةِ النَّجِسَةِ. أَوِ الَّتِي تَنَجَّسَتْ بِهِ
قَبْل طُهْرِهِ فَيَجِبُ غَسْلُهُ لِذَلِكَ (1) .
طُرُقُ الاِنْتِفَاعِ بِالْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ:
أ - أَكْل جِلْدِ الْمَيْتَةِ الْمَدْبُوغِ:
13 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ جَوَازِ أَكْل جِلْدِ
الْمَيْتَةِ مِنَ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمَأْكُول اللَّحْمِ سَوَاءٌ
أَكَانَ قَبْل الدَّبْغِ أَمْ بَعْدَهُ. وَكَذَلِكَ فِي جِلْدِ مَيْتَةِ
مَأْكُول اللَّحْمِ قَبْل دَبْغِهِ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ أَكْلُهُ
اتِّفَاقًا، أَمَّا بَعْدَ دَبْغِهِ فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ
(الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ
الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) عَلَى عَدَمِ جَوَازِ أَكْلِهِ
أَيْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (2)
وَالْجِلْدُ جُزْءٌ مِنْهَا.
وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَيْتَةِ:
إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا. (3)
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَامِدٍ، وَهُوَ وَجْهٌ لأَِصْحَابِ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 82، 83، والمجموع 1 / 225، 226.
(2) سورة المائدة / 3.
(3) حديث: " إنما حرم أكلها ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 413 - ط السلفية)
، ومسلم (1 / 276 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس.
(20/232)
الشَّافِعِيِّ جَوَازُ أَكْلِهِ بَعْدَ
الدَّبْغِ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَكَاةُ
الأَْدِيمِ دِبَاغُهُ. (1) وَلأَِنَّهُ جِلْدٌ طَاهِرٌ مِنْ حَيَوَانٍ
مَأْكُول اللَّحْمِ فَأَشْبَهَ الْمُذَكَّى (2) .
ب - اسْتِعْمَال الْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ وَالتَّعَامُل بِهِ:
14 - إِذَا قُلْنَا بِطَهَارَةِ الْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ - غَيْرِ جِلْدِ
السِّبَاعِ - فَيَصِحُّ بَيْعُهُ، وَإِجَارَتُهُ، وَاسْتِعْمَالُهُ،
وَالاِنْتِفَاعُ بِهِ فِي كُل مَا يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ سِوَى
الأَْكْل.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ جَوَازَ
اسْتِعْمَالِهِ فِي الْيَابِسَاتِ فَقَطْ، حَيْثُ قَال الْمَالِكِيَّةُ:
يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْيَابِسَاتِ بِأَنْ يُوعَى فِيهِ الْعَدَسُ
وَالْفُول وَنَحْوُهُمَا، وَيُغَرْبَل عَلَيْهَا، وَلاَ يُطْحَنُ لأَِنَّهُ
يُؤَدِّي إِلَى تَحْلِيل بَعْضِ أَجْزَائِهِ فَتَخْتَلِطُ بِالدَّقِيقِ.
لاَ فِي نَحْوِ عَسَلٍ وَلَبَنٍ وَسَمْنٍ وَمَاءِ زَهْرٍ. وَيَجُوزُ
لُبْسُهَا فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ لاَ فِيهَا.
كَمَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَاءِ
أَيْضًا، لأَِنَّ لَهُ قُوَّةَ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ لِطَهُورِيَّتِهِ
فَلاَ يَضُرُّهُ إِلاَّ إِذَا تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ (3) .
أَمَّا جُلُودُ السِّبَاعِ فَفِيهَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحِ: (جِلْدٌ ف / 14) .
__________
(1) تقدم تخريجه (ف / 11) .
(2) ابن عابدين 1 / 136، جواهر الإكليل 1 / 10، والمجموع 1 / 229، 230،
والمغني 1 / 70.
(3) الدسوقي 1 / 55، والخرشي 1 / 88، 89، والمغني 1 / 70، وكشاف القناع 1 /
54.
(20/233)
دُبَّاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدُّبَّاءُ فِي اللُّغَةِ: الْقَرْعُ، قِيل: الدُّبَّاءُ
الْمُسْتَدِيرُ مِنْهُ وَقِيل: الْيَابِسُ، وَوَاحِدُهُ الدُّبَّاءَةُ (1)
.
وَالْمُرَادُ بِهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي مَوْضُوعِ الأَْشْرِبَةِ
الْقُرْعَةُ الْيَابِسَةُ الْمُتَّخَذَةُ وِعَاءً لِلاِنْتِبَاذِ فِيهِ (2)
.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَنْتَمُ:
2 - الْحَنْتَمُ جِرَارٌ مَدْهُونَةٌ خُضْرٌ، كَانَتْ تُحْمَل الْخَمْرُ
فِيهَا إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْل التَّحْرِيمِ ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهَا
فَقِيل لِلْخَزَفِ كُلِّهِ: حَنْتَمٌ، وَوَاحِدَتُهَا حَنْتَمَةٌ (3) .
__________
(1) تاج العروس، مادة: " دبب "، والصحاح مادة: " دبى "، والنهاية لابن
الأثير 2 / 96.
(2) كشاف القناع 6 / 120، وصحيح مسلم بشرح النووي 1 / 185، والموسوعة
الفقهية 5 / 21.
(3) النهاية لابن الأثير 1 / 448، والعناية بهامش فتح القدير 9 / 38 نشر
دار إحياء التراث العربي، وكشاف القناع 6 / 120، وحاشية العدوي على شرح
الرسالة 2 / 390 نشر دار المعرفة.
(20/233)
ب - الْمُزَفَّتُ:
3 - الْمُزَفَّتُ هُوَ الإِْنَاءُ الَّذِي طُلِيَ بِالزِّفْتِ، وَهُوَ
نَوْعٌ مِنَ الْقَارِ، وَيُقَال لَهُ أَيْضًا: الْمُقَيَّرُ (1) .
ج - النَّقِيرُ.
4 - النَّقِيرُ هُوَ جِذْعُ النَّخْلَةِ يُنْقَرُ وَيُجْعَل ظَرْفًا
كَالْقَصْعَةِ (2) .
وَهَذِهِ الأَْوْعِيَةُ كُلُّهَا تَشْتَرِكُ فِي أَنَّ مَا يُوضَعُ مِنَ
الشَّرَابِ فِِيهَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ التَّخَمُّرُ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
الاِنْتِبَاذُ فِي الدُّبَّاءِ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ) إِلَى جَوَازِ
الاِنْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ مَا وَرَدَ مِنَ
النَّهْيِ عَنِ الاِنْتِبَاذِ فِيهَا إِنَّمَا كَانَ أَوَّلاً ثُمَّ نُسِخَ
(4) ،
__________
(1) النهاية لابن الأثير 2 / 304، والعناية 9 / 38، وكشاف القناع 9 / 38،
وعمدة القاري 21 / 171.
(2) حاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 390، وعمدة القاري 21 / 171، وصحيح
مسلم بشرح النووي 1 / 185، والموسوعة الفقهية 5 / 21.
(3) الموسوعة الفقهية 1 / 122، والمنتقى 3 / 149، صحيح مسلم بشرح النووي 1
/ 185
(4) الزيلعي 6 / 48، والبناية 9 / 553 - 554، وعمدة القاري 21 / 178، وصحيح
مسلم بشرح النووي 1 / 185 - 186، 13 / 158 - 159، والمجموع 2 / 566 نشر
السلفية، والمغني لابن قدامة 8 / 318، ونيل الأوطار 8 / 184 ط العثمانية،
والموسوعة الفقهية 5 / 21.
(20/234)
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ بُرَيْدَةَ أَنَّ
النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال: كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ
عَنِ الأَْشْرِبَةِ فِي ظُرُوفِ الأَْدَمِ فَاشْرَبُوا فِي كُل وِعَاءٍ
غَيْرَ أَنْ لاَ تَشْرَبُوا مُسْكِرًا وَفِي رِوَايَةٍ: نَهَيْتُكُمْ مِنَ
الظُّرُوفِ وَإِنَّ الظُّرُوفَ - أَوْ ظَرْفًا - لاَ يُحِل شَيْئًا وَلاَ
يُحَرِّمُهُ وَكُل مُسْكِرٍ حَرَامٌ. (1)
قَال النَّوَوِيُّ: كَانَ الاِنْتِبَاذُ فِي الْمُزَفَّتِ وَالدُّبَّاءِ
وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ
خَوْفًا مِنْ أَنْ يَصِيرَ مُسْكِرًا فِيهَا، وَلاَ يُعْلَمُ بِهِ
لِكَثَافَتِهَا فَتَتْلَفُ مَالِيَّتُهُ، وَرُبَّمَا شَرِبَهُ الإِْنْسَانُ
ظَانًّا أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُسْكِرًا، فَيَصِيرُ شَارِبًا لِلْمُسْكِرِ،
وَكَانَ الْعَهْدُ قَرِيبًا بِإِبَاحَةِ الْمُسْكِرِ فَلَمَّا طَال
الزَّمَانُ وَاشْتَهَرَ تَحْرِيمُ الْمُسْكِرِ، وَتَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي
نُفُوسِهِمْ، نُسِخَ النَّهْيُ وَأُبِيحَ لَهُمُ الاِنْتِبَاذُ فِي كُل
وِعَاءٍ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَشْرَبُوا مُسْكِرًا، وَهَذَا صَرِيحُ قَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ
(2) .
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ
إِلَى كَرَاهَةِ الاِنْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (3) ، لأَِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الاِنْتِبَاذِ
فِي
__________
(1) حديث بريدة: " كنت نهيتكم عن الأشربة " أخرجه مسلم (3 / 1585 - ط
الحلبي) بروايتيه.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 13 / 159 ط المطبعة المصرية بالأزهر.
(3) بداية المجتهد 1 / 407، 408 ط المكتبة التجارية، ونيل الأوطار 8 / 184،
وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 390، والمغني 8 / 318، والبناية 9 /
554.
(20/234)
الدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ
وَالْحَنْتَمِ. (1)
وَيَرَى هَذَا الْفَرِيقُ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ النَّهْيَ
الْمُتَقَدِّمَ الَّذِي نُسِخَ إِنَّمَا كَانَ نَهْيًا عَنِ الاِنْتِبَاذِ
مُطْلَقًا، أَمَّا النَّهْيُ عَنِ الاِنْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ
وَغَيْرِهَا مِنَ الأَْوْعِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ فَهُوَ
بَاقٍ - عِنْدَهُمْ - سَدًّا لِلذَّرَائِعِ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْوْعِيَةَ
تُعَجِّل شِدَّةَ النَّبِيذِ (2) . (ر: أَشْرِبَةٌ ف 18 ج 5 ص 21) .
هَذَا وَلِلتَّفْصِيل فِي تَطْهِيرِ الدُّبَّاءِ (3) وَغَيْرِهَا مِنَ
الأَْوْعِيَةِ إِذَا اسْتُعْمِل فِيهَا الْخَمْرُ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ:
(نَجَاسَةٌ) .
__________
(1) حديث: " نهى عن الانتباذ في الدباء والنقير. . . . " أخرجه مسلم (3 /
1579 - الحلبي) من حديث عائشة.
(2) بداية المجتهد 1 / 408، ونيل الأوطار 8 / 184، وصحيح مسلم بشرح النووي
1 / 186.
(3) الزيلعي 6 / 48، والبناية 9 / 556، وفتح القدير 9 / 39.
(20/235)
دُبُرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدُّبُرُ بِضَمَّتَيْنِ خِلاَفُ الْقُبُل. وَدُبُرُ كُل شَيْءٍ
عَقِبَهُ. وَمِنْهُ يُقَال لآِخِرِ الأَْمْرِ دُبُرٌ. وَأَصْلُهُ مَا
أَدْبَرَ عَنْهُ الإِْنْسَانُ. وَالدُّبُرُ الْفَرْجُ وَجَمْعُهُ
أَدْبَارٌ. وَوَلاَّهُ دُبُرَهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْهَزِيمَةِ (1) .
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} .
(2)
وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا خِلاَفُ الْقُبُل مِنَ الإِْنْسَانِ
وَالْحَيَوَانِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقُبُل:
2 - الْقُبُل بِضَمَّتَيْنِ وَبِسُكُونِ الْبَاءِ، وَمِنْ مَعَانِيهِ
فَرْجُ الإِْنْسَانِ مِنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى. وَقِيل هُوَ لِلأُْنْثَى
خَاصَّةً. وَالْقُبُل مِنْ كُل شَيْءٍ خِلاَفُ دُبُرِهِ. وَعَلَى ذَلِكَ
فَالْقُبُل مُقَابِل الدُّبُرِ (3) .
ب - الْفَرْجُ:
3 - الْفَرْجُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْخَلَل بَيْنَ
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب في المادة.
(2) سورة القمر / 45.
(3) المصباح واللسان في المادة.
(20/235)
الشَّيْئَيْنِ، وَجَمْعُهُ فُرُوجٌ،
وَالْفُرْجَةُ كَالْفَرْجِ، وَالْفَرْجُ الْعَوْرَةُ.
وَالْغَالِبُ اسْتِعْمَال الْفَرْجِ فِي الْقُبُل مِنَ الذَّكَرِ
وَالأُْنْثَى. وَقَدْ يَشْمَل الْقُبُل وَالدُّبُرَ مَعًا فِي اصْطِلاَحِ
الْفُقَهَاءِ (1)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالدُّبُرِ.
النَّظَرُ إِلَى الدُّبُرِ وَمَسُّهُ:
4 - الدُّبُرُ مِنَ الْعَوْرَةِ الْمُغَلَّظَةِ عِنْدَ جَمِيعِ
الْفُقَهَاءِ، فَلاَ يَجُوزُ كَشْفُهُ وَالنَّظَرُ إِلَيْهِ لِغَيْرِ
الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، بِدُونِ ضَرُورَةٍ.
أَمَّا الزَّوْجَانِ فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى جَوَازِ نَظَرِ
الزَّوْجِ لِجَمِيعِ أَجْزَاءِ بَدَنِ الزَّوْجَةِ، كَمَا يَجُوزُ لَهَا
أَنْ تَنْظُرَ مِنْهُ مَا أُبِيحَ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنْهَا (2) .
وَصَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ بِكَرَاهَةِ
النَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ مُطْلَقًا وَلَوْ مِنْ نَفْسِهِ بِلاَ حَاجَةٍ،
لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَا
رَأَيْتُ مِنْهُ وَلاَ رَأَى مِنِّي. (3)
__________
(1) المغرب والمصباح المنير ولسان العرب في المادة، وفتح القدير 2 / 265،
وابن عابدين 2 / 100، وجواهر الإكليل 1 / 22، وحاشية الدسوقي 1 / 523،
وحاشية الجمل 5 / 129، ومواهب الجليل 3 / 405، والمغني لابن قدامة 1 / 578.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 234، وجواهر الإكليل 1 / 275، وأسنى المطالب 3 /
112 - 113، ونهاية المحتاج 6 / 196، والمغني لابن قدامة 1 / 578.
(3) حديث عائشة: " ما رأيت منه ولا رأى مني " أخرجه أبو الشيخ الأصبهاني في
أخلاق النبي (ص 251 - 252 - ط مطابع الهلالي بمصر) . وفي إسناده متهم
بالكذب كما في الميزان للذهبي (4 / 11 - ط الحلبي) . وانظر نهاية المحتاج 6
/ 196.
(20/236)
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي
مُصْطَلَحَيْ: (عَوْرَةٌ، وَنَظَرٌ) .
نَقْضُ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الدُّبُرِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ الْقَوْل الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ
وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - إِلَى عَدَمِ نَقْضِ الْوُضُوءِ
بِمَسِّ الدُّبُرِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ نَفْسِهِ أَمْ مِنْ
غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ بِحَائِلٍ أَمْ بِغَيْرِ حَائِلٍ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ: يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ
حَلْقَةِ الدُّبُرِ بِبَاطِنِ الْكَفِّ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ سَوَاءٌ
أَكَانَ مِنْ نَفْسِهِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي نَقْضِ
الْوُضُوءِ أَنْ يَكُونَ الْمَسُّ بِتَلَذُّذٍ عِنْدَهُمْ.
وَكَذَا قَال الْحَنَابِلَةُ - فِي الْمُعْتَمَدِ - غَيْرَ أَنَّهُمْ لَمْ
يُقَيِّدُوهُ بِبَاطِنٍ، بَل يُنْتَقَضُ بِمَسِّهِ بِظَهْرِ الْيَدِ أَوْ
بَاطِنِهَا أَوْ حَرْفِهَا (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ مَسَّ
فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ (3) ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِذَا أَفْضَى أَحَدُكُمْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 99، ومغني المحتاج 1 / 36، وكشاف القناع 8 / 128،
والمغني 1 / 178 - 179.
(2) مغني المحتاج 1 / 35 - 36، وكشاف القناع 1 / 128.
(3) حديث: " من مس فرجه فليتوضأ " أخرجه ابن ماجه (1 / 162 - ط الحلبي) من
حديث أم حبيبة، وصححه الإمام أحمد كما في التلخيص لابن حجر (1 / 124 ط شركة
الطباعة الفنية) .
(20/236)
بِيَدِهِ إِلَى فَرْجِهِ وَلَيْسَ
بَيْنَهُمَا سِتْرٌ أَوْ حِجَابٌ فَلْيَتَوَضَّأْ. (1)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ عِنْدَهُمْ بِمَسِّ
الدُّبُرِ إِذَا كَانَ مِنْ نَفْسِهِ. أَمَّا مَسُّ دُبُرِ الْغَيْرِ
فَحُكْمُهُ عِنْدَهُمْ حُكْمُ اللَّمْسِ، إِذَا الْتَذَّ بِهِ صَاحِبُهُ
أَوْ قَصَدَ اللَّذَّةَ يُنْتَقَضُ، وَإِلاَّ لاَ يُنْتَقَضُ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَدَثٌ) .
الاِسْتِنْجَاءُ:
6 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي آدَابِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالاِسْتِنْجَاءِ
أَنَّهُ يُنْدَبُ إِزَالَةُ مَا فِي الْمَحَل مِنْ أَذًى بِمَاءِ أَوْ
حَجَرٍ بِالْيَدِ الْيُسْرَى، وَيُنْدَبُ إِعْدَادُ مُزِيل الأَْذَى مِنْ
جَامِدٍ طَاهِرٍ أَوْ مَائِعٍ، كَمَا يُنْدَبُ اسْتِعْمَال الْجَامِدِ
وِتْرًا، وَتَقْدِيمُ الْقُبُل عَلَى الدُّبُرِ احْتِرَازًا مِنْ تَنَجُّسِ
يَدِهِ بِمَا عَلَى الْمَخْرَجِ (3) عَلَى خِلاَفٍ لِلْفُقَهَاءِ فِي
بَعْضِ الأُْمُورِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَيْ: " اسْتِنْجَاءٌ وَاسْتِجْمَارٌ ".
__________
(1) حديث: " إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه، وليس. . . . " أخرجه ابن حبان
(الإحسان 2 / 222 - ط دار الكتب العلمية) من حديث أبي هريرة، وصححه.
(2) جواهر الإكليل 1 / 20 - 21.
(3) ابن عابدين 1 / 223، 226، وحاشية الدسوقي 1 / 105 - 106، ومغني المحتاج
1 / 43، 46، وكشاف القناع 1 / 60 - 62.
(20/237)
أَثَرُ مَا يَخْرُجُ مِنَ الدُّبُرِ:
7 - الْخَارِجُ الْمُعْتَادُ مِنَ الدُّبُرِ كَالنَّجَاسَةِ وَالرِّيحِ
نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا الْخَارِجُ غَيْرُ الْمُعْتَادِ كَالْحَصَى وَالدُّودِ وَالشَّعْرِ
فَفِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ نُجْمِلُهُ فِيمَا يَأْتِي:
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّهُ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ
جَافًّا أَمْ مَبْلُولاً بِنَجَاسَةٍ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ: إِنَّ الْخَارِجَ
غَيْرَ الْمُعْتَادِ كَحَصًى تَوَلَّدَ بِالْبَطْنِ، وَدُودٍ، لاَ يُنْقِضُ
الْوُضُوءَ وَلَوْ مَبْلُولاً بِغَائِطٍ غَيْرِ مُتَفَاحِشٍ بِحَيْثُ
يُنْسَبُ الْخُرُوجُ لِلْحَصَى وَالدُّودِ لاَ لِلْغَائِطِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ إِذَا كَانَ
غَيْرَ نَقِيٍّ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي: (حَدَثٌ) .
أَثَرُ مَا يَدْخُل فِي دُبُرِ الصَّائِمِ:
8 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ وُصُول عَيْنٍ
مِنَ الأَْعْيَانِ مِنَ الْخَارِجِ إِلَى الْجَوْفِ وَإِنْ قَلَّتْ أَوْ
لَمْ تَكُنْ مِمَّا يُؤْكَل كَسِمْسِمَةٍ أَوْ حَصَاةٍ، وَلَوْ
بِالْحُقْنَةِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 92، ومغني المحتاج 1 / 32 - 33، وكشاف القناع 1 / 122 و
124.
(2) جواهر الإكليل 1 / 19، 20، وحاشية الدسوقي 1 / 115.
(20/237)
مُفْطِرٌ لِلصَّوْمِ، لأَِنَّ الصَّوْمَ
إِمْسَاكٌ عَنْ كُل مَا يَصِل إِلَى الْجَوْفِ. وَعَلَى ذَلِكَ فَمَا دَخَل
فِي دُبُرِ الصَّائِمِ مِنْ خَشَبَةٍ أَوْ حَصَاةٍ وَلَوْ كَانَتْ
صَغِيرَةً وَغَيْرَ مَبْلُولَةٍ يُفْطِرُ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَدْخَل
أُصْبُعَهُ فِي دُبُرٍ جَافَّةً كَانَتْ أَمْ مَبْلُولَةً (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الصَّوْمُ يَفْسُدُ بِالدُّخُول، وَالْوُضُوءُ
يُنْتَقَضُ بِالْخُرُوجِ، فَإِذَا أَدْخَل عُودًا جَافًّا وَلَمْ
يُغَيِّبْهُ لاَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِدَاخِلٍ مِنْ كُل
وَجْهٍ. وَمِثْلُهُ الأُْصْبُعُ الْجَافَّةُ.
وَإِنْ غَيَّبَ الْعُودَ أَوْ نَحْوَهُ فَسَدَ وَإِنْ كَانَ جَافًّا
لِتَحَقُّقِ الدُّخُول الْكَامِل.
وَكَذَلِكَ يَفْسُدُ الصَّوْمُ إِذَا أَدْخَل شَيْئًا مِنَ الْعُودِ أَوِ
الأُْصْبُعِ فِي دُبُرِهِ مُبْتَلًّا، كَمَا فِي حَالَةِ الاِسْتِنْجَاءِ،
لاِسْتِقْرَارِ الْبِلَّةِ فِي الْجَوْفِ. وَإِذَا أَدْخَلَهُمَا يَابِسَةً
لاَ يَفْسُدُ الصَّوْمُ عَلَى الْمُخْتَارِ عِنْدَهُمْ، لأَِنَّهَا
لَيْسَتْ آلَةَ الْجِمَاعِ وَلاَ تُعْتَبَرُ دَاخِلَةً مِنْ كُل وَجْهٍ
وَلَمْ تَنْقُل الْبِلَّةَ إِلَى الدَّاخِل (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَا وَصَل لِلْمَعِدَةِ مِنْ مَنْفَذٍ عَالٍ
مُفْسِدٌ لِلصَّوْمِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَ مُتَحَلِّلاً أَمْ غَيْرَ
مُتَحَلِّلٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ عَمْدًا أَمْ سَهْوًا. وَهَذَا هُوَ
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 115 - 116، ومغني المحتاج 1 / 427 - 428، وكشاف
القناع 2 / 318، والمغني لابن قدامة 3 / 105.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 101، 112، وحاشية الطحطاوي على الدر 1 / 85، 94،
والبدائع 2 / 93، 94.
(20/238)
الْمُخْتَارُ عِنْدَ اللَّخْمِيِّ.
وَذَهَبَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ إِلَى أَنَّ لِلْحَصَاةِ حُكْمَ الطَّعَامِ
يُوجِبُ فِي السَّهْوِ الْقَضَاءَ، وَفِي الْعَمْدِ الْقَضَاءَ
وَالْكَفَّارَةَ.
وَإِنْ كَانَ مِنْ مَنْفَذٍ سَافِلٍ - كَالدُّبُرِ مَثَلاً - فَلاَ
يُفْسِدُ إِذَا كَانَ جَامِدًا، وَيُفْسِدُ إِذَا كَانَ مُتَحَلِّلاً،
وَالْمُرَادُ بِالْمُتَحَلِّل الْمَائِعُ، أَيْ مَا يَنْمَاعُ وَلَوْ فِي
الْمَعِدَةِ، بِخِلاَفِ غَيْرِ الْمُتَحَلِّل الَّذِي لاَ يَنْمَاعُ فِي
الْمَعِدَةِ، كَدِرْهَمٍ وَحَصَاةٍ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْحُقْنَةَ مِنْ مَائِعٍ فِي الدُّبُرِ
تُوجِبُ الْقَضَاءَ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ بِخِلاَفِ الْحُقْنَةِ
بِالْجَامِدِ فَلاَ قَضَاءَ، كَمَا لاَ قَضَاءَ فِي فَتَائِل عَلَيْهَا
دُهْنٌ لِخِفَّتِهَا (1) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (صَوْمٌ) .
الاِسْتِمْتَاعُ بِدُبُرِ الزَّوْجَةِ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِجَوَازِ اسْتِمْتَاعِ الزَّوْجِ
بِظَاهِرِ دُبُرِ زَوْجَتِهِ وَلَوْ بِغَيْرِ حَائِلٍ، بِشَرْطِ عَدَمِ
الإِْيلاَجِ، لأَِنَّهُ كَسَائِرِ جَسَدِهَا، وَجَمِيعُهُ مُبَاحٌ، إِلاَّ
مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ الإِْيلاَجِ.
وَهَذَا فِي غَيْرِ الْحَائِضِ. أَمَّا فِي الْحَائِضِ فَقَيَّدُوا جَوَازَ
الاِسْتِمْتَاعِ بِمَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهَا وَسُرَّتِهَا دُونَ
الإِْيلاَجِ بِأَنْ يَكُونَ بِحَائِلٍ (2) . عَلَى خِلاَفٍ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 523 - 524، مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25 / 233.
(2) ابن عابدين 5 / 194، 234، والمغني 7 / 23، وجواهر الإكليل 1 / 275،
وأسنى المطالب 3 / 113، وكشاف القناع 5 / 189.
(20/238)
وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ:
(حَيْضٌ) .
الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ:
أ - وَطْءُ الذُّكُورِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ الإِْتْيَانِ فِي دُبُرِ
الرِّجَال، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِاللِّوَاطِ (1) ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ
تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ، وَعَابَ مَنْ فَعَلَهُ، فَقَال:
{وَلُوطًا إِذْ قَال لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ
بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَال
شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَل أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} . (2)
وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَنِ اللَّهُ مَنْ
عَمَل عَمَل قَوْمِ لُوطٍ ثَلاَثًا (3) .
وَفِي عُقُوبَةِ فَاعِلِهِ، وَالأَْحْكَامِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهِ
تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (لِوَاطٌ)
ب - وَطْءُ الأَْجْنَبِيَّةِ فِي دُبُرِهَا:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ إِتْيَانِ الأَْجْنَبِيَّةِ فِي
__________
(1) ابن عابدين 3 / 155، 156، وجواهر الإكليل 2 / 283، 285، وحاشية
القليوبي 4 / 124، 179، والمغني 8 / 187، وكشاف القناع 6 / 94.
(2) سورة الأعراف 80، 81.
(3) حديث: " لعن الله من عمل عمل قوم لوط " أخرجه ابن حبان (الإحسان 6 /
299 - ط دار الكتب العلمية) ، وحسنه الذهبي في كتاب الكبائر (ص 81 - ط دار
ابن كثير) .
(20/239)
دُبُرِهَا، وَأَلْحَقَهُ أَكْثَرُ
الْفُقَهَاءِ بِالزِّنَى فِي الْحُكْمِ (1) .
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (زِنًى، لِوَاطٌ) .
ج - وَطْءُ الزَّوْجَةِ فِي دُبُرِهَا:
12 - لاَ يَحِل وَطْءُ الزَّوْجَةِ فِي الدُّبُرِ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (وَطْءٌ) .
د - وَطْءُ الْبَهِيمَةِ وَالْحَيَوَانِ:
13 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حُرْمَةِ وَطْءِ الْحَيَوَانِ
فِي دُبُرِهِ أَوْ قُبُلِهِ (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (وَطْءٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 155 - 156، التاج والإكليل مع الحطاب 6 / 291، ومغني
المحتاج 4 / 144، وكشاف القناع 6 / 94.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 155 - 156، والحطاب 3 / 407، ومغني المحتاج 4 /
143، وحاشية الجمل 5 / 129، والمغني 7 / 22، وكشاف القناع 5 / 188، 189.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 155، والحطاب مع المواق 6 / 293، ومغني المحتاج 4
/ 145، والمغني لابن قدامة 8 / 188، 191.
(20/239)
دُخَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - دُخَانُ النَّارِ مَعْرُوفٌ، وَجَمْعُهُ أَدْخِنَةٌ، وَدَوَاخِنُ،
وَدَوَاخِينُ، يُقَال: دَخَنَتِ النَّارُ: ارْتَفَعَ دُخَانُهَا،
وَدَخَنَتْ: إِذَا فَسَدَتْ بِإِلْقَاءِ الْحَطَبِ عَلَيْهَا حَتَّى هَاجَ
دُخَانُهَا، وَقَدْ يَضَعُ الْعَرَبُ الدُّخَانَ مَوْضِعَ الشَّرِّ إِذَا
عَلاَ، فَيَقُولُونَ: كَانَ بَيْنَنَا أَمْرٌ ارْتَفَعَ لَهُ دُخَانٌ.
وَقَدْ قِيل: إِنَّ الدُّخَانَ قَدْ مَضَى (1) .
وَمِنْ إِطْلاَقَاتِهِ أَيْضًا: التَّبَغُ وَالْبُخَارُ (2) ، وَقَدْ مَرَّ
تَفْصِيل أَحْكَامِهِمَا فِي مُصْطَلَحَيْ: " بُخَارٌ " " وَتَبَغٌ ".
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالدُّخَانِ:
دُخَانُ النَّجَاسَةِ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي طَهَارَةِ الدُّخَانِ الْمُتَصَاعِدِ
__________
(1) مختار الصحاح، ولسان العرب المحيط، والصحاح في اللغة والعلوم مادة: "
دخن ".
(2) لسان العرب المحيط، والصحاح في اللغة والعلوم مادة: " بخر " و " تبغ ".
(20/240)
مِنَ النَّجَاسَةِ: فَذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي
الْمُعْتَمَدِ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ دُخَانَ النَّجَاسَةِ
طَاهِرٌ. قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيل الاِسْتِحْسَانِ
دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَلِلضَّرُورَةِ وَتَعَذُّرِ التَّحَرُّزِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي
الْمَذْهَبِ، وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ دُخَانَ
النَّجَاسَةِ كَأَصْلِهَا، وَظَاهِرُ كَلاَمِ الرَّمْلِيِّ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ قَلِيلَهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ مُطْلَقًا، وَعَلَى
هَذَا فَمَنِ اسْتَصْبَحَ بِدُهْنٍ نَجِسٍ، يُعْفَى عَمَّا يُصِيبُهُ مِنْ
دُخَانِ الْمِصْبَاحِ لِقِلَّتِهِ.
وَأَمَّا عِنْدَ ابْنِ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيِّ فَيُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ
إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مُغَلَّظٍ، وَإِلاَّ فَلاَ يُعْفَى عَنْهُ قَلِيلاً
كَانَ أَوْ كَثِيرًا (1) .
فَسَادُ الصَّوْمِ بِالدُّخَانِ:
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الصَّائِمَ لَوْ أَدْخَل فِي حَلْقِهِ
الدُّخَانَ أَفْطَرَ، سَوَاءٌ كَانَ دُخَانَ تَبَغٍ، أَوْ عُودٍ، أَوْ
عَنْبَرٍ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ إِذَا كَانَ ذَاكِرًا لِلصَّوْمِ. إِذْ
يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ. وَأَمَّا إِذَا وَصَل
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 47، وابن عابدين 1 / 216 ط دار إحياء التراث
العربي، وحاشية الدسوقي 1 / 57 - 58، ومواهب الجليل 1 / 106 - 107 ط دار
الفكر، والإقناع للخطيب الشربيني 1 / 22، وحاشية الجمل 1 / 179 ط دار إحياء
التراث العربي، ونهاية المحتاج 1 / 247 ط مصطفى البابي الحلبي، وأسنى
المطالب 1 / 278، والمغني 1 / 72، وكشاف القناع 1 / 186.
(20/240)
إِلَى حَلْقِهِ دُونَ قَصْدٍ، فَلاَ
يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ، لِعَدَمِ إِمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ،
لأَِنَّهُ إِذَا أَطْبَقَ الْفَمَ، دَخَل مِنَ الأَْنْفِ.
وَفِي اسْتِنْشَاقِ الدُّخَانِ عَمْدًا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ، يُنْظَرُ
مُصْطَلَحُ: " صَوْمٌ (1) ".
الْقَتْل بِالدُّخَانِ:
4 - مَنْ حَبَسَ شَخْصًا فِي بَيْتٍ وَسَدَّ مَنَافِذَهُ فَاجْتَمَعَ فِيهِ
الدُّخَانُ وَضَاقَ نَفَسُهُ فَمَاتَ، فَفِيهِ الْقِصَاصُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ
الْمَالِكِيَّةِ إِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ مَوْتَهُ، أَمَّا إِنْ قَصَدَ
مُجَرَّدَ التَّعْذِيبِ فَالدِّيَةُ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَوَاعِدُهُمْ تَأْبَى وُجُوبَ الْقِصَاصِ (2) ،
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاصٌ، وَدِيَةٌ) .
إِيذَاءُ الْجَارِ بِالدُّخَانِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ فِي دَارِهِ
تَنُّورًا لِلْخَبْزِ الدَّائِمِ كَمَا يَكُونُ فِي الدَّكَاكِينِ،
يُمْنَعُ،
__________
(1) ابن عابدين 2 / 97، و5 / 295، وفتح القدير 2 / 258 ط دار إحياء التراث
العربي، وشرح الزرقاني 2 / 204 ط دار الفكر، والدسوقي 1 / 525، والقليوبي 2
/ 56، ونهاية المحتاج 3 / 169، وكشاف القناع 2 / 321.
(2) ابن عابدين 5 / 348 - 349 وما بعدها، والشرح الصغير 4 / 339، وروضة
الطالبين 9 / 254، ومطالب أولي النهى 6 / 8.
(20/241)
لأَِنَّهُ يَضُرُّ بِجِيرَانِهِ ضَرَرًا
فَاحِشًا لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، إِذْ يَأْتِي مِنْهُ
الدُّخَانُ الْكَثِيرُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَال
بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يُمْنَعُ، لأَِنَّهُ
تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ،
فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ كَمَا لَوْ طَبَخَ فِي دَارِهِ أَوْ خَبَزَ فِيهَا.
أَمَّا دُخَانُ التَّنُّورِ الْمُعْتَادِ فِي الْبُيُوتِ، وَدُخَانُ
الْخَبْزِ وَالطَّبِيخِ فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ لاَ يُمْنَعُ، لأَِنَّ
ضَرَرَهُ يَسِيرٌ، وَلاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، فَتَدْخُلُهُ
الْمُسَامَحَةُ (1) .
وَإِذَا طَبَخَ الْجَارُ مَا يَصِل دُخَانُهُ أَوْ رَائِحَتُهُ إِلَى
جَارِهِ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُهْدِيَهُ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ لِحَدِيثِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي ذِكْرِ حُقُوقِ الْجَارِ،
ذَكَرَ مِنْهَا: وَلاَ تُؤْذِهِ بِقُتَارِ رِيحِ قِدْرِكَ إِلاَّ أَنْ
تَغْرِفَ لَهُ مِنْهَا. (2)
__________
(1) ابن عابدين 4 / 361، جواهر الإكليل 2 / 122، ونهاية المحتاج 5 / 337،
والقليوبي 3 / 90.
(2) حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: " ولا تؤذه بقتار ريح قدرك إلا أن
تغرف له منها " ذكره المنذري في الترغيب (3 / 357 - ط الحلبي) وعزاه إلى
مكارم الأخلاق للخرائطي، وصدره بصيغة التضعيف.
(20/241)
دُخُولٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الدُّخُول فِي اللُّغَةِ نَقِيضُ الْخُرُوجِ (1) . وَفِي
الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الاِنْفِصَال مِنَ الْخَارِجِ إِلَى الدَّاخِل (2) .
وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْوَطْءِ عَلَى سَبِيل الْكِنَايَةِ. قَال
الْمُطَرِّزِيُّ: سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَطْءُ مُبَاحًا أَوْ مَحْظُورًا (3)
.
وَقَال الْفَيُّومِيُّ: " دَخَل بِامْرَأَتِهِ دُخُولاً، كِنَايَةٌ عَنِ
الْجِمَاعِ أَوَّل مَرَّةٍ وَغَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْوَطْءِ
الْمُبَاحِ " وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} . (4)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخُرُوجُ:
2 - الْخُرُوجُ فِي اللُّغَةِ نَقِيضُ الدُّخُول. وَالْخُرُوجُ
__________
(1) لسان العرب المحيط مادة: " دخل ".
(2) الاختيار 4 / 54.
(3) كشاف القناع 5 / 72، والمغرب للمطرزي والمصباح للفيومي والمعجم الوسيط
مادة: " دخل ".
(4) سورة النساء / 23.
(20/242)
أَيْضًا: أَوَّل مَا يَنْشَأُ مِنَ
السَّحَابِ، قَال الأَْخْفَشُ: يُقَال لِلْمَاءِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ
السَّحَابِ: خُرُوجٌ (1) . فَالدُّخُول، وَالْخُرُوجُ بِالْمَعْنَى
الأَْوَّل ضِدَّانِ، وَبِالْمَعْنَى الثَّانِي مُتَبَايِنَانِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - لِلدُّخُول بِإِطْلاَقَيْهِ أَحْكَامٌ تَعْتَرِيهِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ
بِاخْتِلاَفِ مَوَاطِنِهَا، وَاخْتِلاَفِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الدُّخُول.
وَنُجْمِل أَهَمَّهَا فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: أَحْكَامُ الدُّخُول بِالإِْطْلاَقِ الأَْوَّل:
دُخُول الْمَسْجِدِ:
4 - يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ دُخُول الْمَسْجِدِ أَنْ يُقَدِّمَ
رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وَيُؤَخِّرَ الْيُسْرَى عِنْدَ الدُّخُول،
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُول: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ
(2) وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ يُقَال: أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ،
وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ (3) وَبِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ صَل
__________
(1) لسان العرب المحيط، ومتن اللغة مادة " خرج ".
(2) دليل قوله: اللهم افتح لي أبواب رحمتك. حديث أبي حميد أو أبي أسيد
أخرجه مسلم (1 / 494 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم ". أخرجه أبو داود (1 / 318 -
تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبد الله بن عمر، وجوّد إسناده النووي في
الأذكار (ص 85 - ط دار ابن كثير) .
(20/242)
عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ
وَسَلِّمْ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ
رَحْمَتِكَ. (1) وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ دَخَل الْمَسْجِدَ صَلاَةُ
رَكْعَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: " مَسْجِدٌ ".
دُخُول مَكَّةَ:
5 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ دُخُول مَكَّةَ بِاخْتِلاَفِ الدَّاخِل:
فَالآْفَاقِيُّ لاَ يَجُوزُ لَهُ دُخُولُهَا إِلاَّ مُحْرِمًا، سَوَاءٌ
أَدَخَلَهَا حَاجًّا أَمْ مُعْتَمِرًا، وَاخْتُلِفَ فِيمَا إِذَا دَخَلَهَا
لِغَيْرِ النُّسُكِ.
وَمَنْ كَانَ دَاخِل الْمِيقَاتِ فَلَهُ أَنْ يَدْخُل مَكَّةَ بِغَيْرِ
إِحْرَامٍ لِحَاجَتِهِ، لأَِنَّهُ يَتَكَرَّرُ دُخُولُهُ لِحَاجَتِهِ،
وَأَمَّا لِلْحَجِّ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ دُخُولُهَا مِنْ غَيْرِ إِحْرَامٍ،
لأَِنَّهُ لاَ يَتَكَرَّرُ، وَكَذَا لأَِدَاءِ الْعُمْرَةِ، لأَِنَّهُ
الْتَزَمَهَا بِنَفْسِهِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: " إِحْرَامٌ ".
وَلاَ بَأْسَ بِدُخُول مَكَّةَ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ نَهَارًا.
__________
(1) حديث: " بسم الله، اللهم صل على محمد " أخرجه الترمذي (2 / 128 - ط
الحلبي) من حديث فاطمة، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 25 - ط دائرة
المعارف العثمانية) ، وإسناداهما متكلم فيهما، إلا أنه يقوي أحدهما الآخر،
وانظر: القوانين الفقهية / 55، والمجموع 2 / 179، والأذكار للنووي 32 - 33،
والمغني 1 / 455.
(20/243)
وَيُسْتَحَبُّ الدُّخُول مِنْ بَابِ بَنِي
شَيْبَةَ عِنْدَ دُخُول مَكَّةَ اقْتِدَاءً بِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) كَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُول عِنْدَ الدُّخُول
الأَْدْعِيَةَ الْمَأْثُورَةَ (2) ،
وَتَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (حَجٌّ) (وَإِحْرَامٌ) .
دُخُول الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ الْمَسْجِدَ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْحَائِضِ
وَالنُّفَسَاءِ دُخُول الْمَسْجِدِ، وَالْمُكْثُ فِيهِ وَلَوْ بِوُضُوءٍ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْجُنُبِ سَوَاءٌ أَكَانَ رَجُلاً أَمِ
امْرَأَةً، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
جَاءَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبُيُوتُ
أَصْحَابِهِ شَارِعَةً فِي الْمَسْجِدِ، فَقَال: وَجِّهُوا هَذِهِ
الْبُيُوتَ، فَإِنِّي لاَ أُحِل الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلاَ جُنُبٍ. (3)
وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ الدُّخُول فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِذَا كَانَ
لِلضَّرُورَةِ كَالْخَوْفِ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ، أَوْ
__________
(1) حديث: " الدخول من باب بني شيبة عند دخول مكة " عزاه ابن حجر في
التلخيص (2 / 243 - ط شركة الطباعة الفنية) إلى الطبراني من حديث عبد الله
بن عمر، وأعله براو ضعيف في إسناده.
(2) الاختيار (1 / 141، 142، 145 ط دار المعرفة، وجواهر الإكليل 1 / 170،
179 ط مكة المكرمة، والقليوبي 2 / 101، 102 ط دار إحياء الكتب العربية،
والمغني 3 / 368 - ط الرياض.
(3) حديث: " وجهوا هذه البيوت. . . " أخرجه أبو داود (1 / 158 - 159 -
تحقيق عزت عبيد دعاس) والبيهقي (2 / 442 - ط دائرة المعارف العثمانية) ،
ولمح البيهقي إلى تضعيفه.
(20/243)
كَأَنْ يَكُونَ بَابُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ
وَلاَ يُمْكِنُهُ تَحْوِيلُهُ وَلاَ السُّكْنَى فِي غَيْرِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي دُخُولِهِ مَارًّا، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ دُخُولُهُ لِلْحَائِضِ
وَالْجُنُبِ وَلَوْ مَارًّا مِنْ بَابٍ لِبَابٍ. إِلاَّ أَنْ لاَ يَجِدَ
بُدًّا فَيَتَيَمَّمُ وَيَدْخُل. وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ يُمْنَعُ الْجُنُبُ مِنَ
الْعُبُورِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ
الْمُسَيِّبِ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْحَائِضَ إِذَا أَرَادَتْ
الْعُبُورَ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنْ خَافَتْ تَلْوِيثَهُ حَرُمَ الْعُبُورُ
عَلَيْهَا، وَإِنْ أَمِنَتِ التَّلْوِيثَ جَازَ الْعُبُورُ عَلَى
الصَّحِيحِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تُمْنَعُ الْحَائِضُ مِنَ الْمُرُورِ فِي
الْمَسْجِدِ إِنْ خَافَتْ تَلْوِيثَهُ (1) .
دُخُول الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ الْمَسْجِدَ:
7 - قَال النَّوَوِيُّ: يَجُوزُ إِدْخَال الصَّبِيِّ الْمَسْجِدَ وَإِنْ
كَانَ الأَْوْلَى تَنْزِيهُ الْمَسْجِدِ عَمَّنْ لاَ يُؤْمَنُ مِنْهُ
تَنْجِيسُهُ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِعَدَمِ جَوَازِ إِدْخَالِهِ الْمَسْجِدَ إِنْ
__________
(1) الاختيار 1 / 13، وابن عابدين 1 / 115، 194 ط دار إحياء التراث العربي،
وفتح القدير 1 / 114، 115 ط الأميرية، وجواهر الإكليل 1 / 32 و 1 / 23،
ونهاية المحتاج 1 / 218 ط مصطفى الحلبي، وروضة الطالبين 1 / 135 ط المكتب
الإسلامي، ونيل المآرب 1 / 106، والمغني 1 / 140
(20/244)
كَانَ لاَ يَكُفُّ عَنِ الْعَبَثِ إِذَا
نُهِيَ عَنْهُ، وَإِلاَّ فَيُكْرَهُ. وَكَذَلِكَ الْمَجَانِينُ (1) ، لِمَا
وَرَدَ مَرْفُوعًا: جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ
وَمَجَانِينَكُمْ، وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ، وَخُصُومَاتِكُمْ، وَرَفْعَ
أَصْوَاتِكُمْ، وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ، وَسَل سُيُوفِكُمْ، وَاتَّخِذُوا
عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ وَجَمِّرُوهَا فِي الْجُمَعِ. (2)
دُخُول الْكَافِرِ الْمَسْجِدَ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ دُخُول الْكَافِرِ الْمَسْجِدَ،
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ دُخُولُهُ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ، وَلاَ يُكْرَهُ دُخُولُهُ غَيْرَهُ. إِلاَّ أَنَّ جَوَازَ
الدُّخُول مُقَيَّدٌ بِالإِْذْنِ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ جُنُبًا أَمْ لاَ، لأَِنَّهُ لاَ
يَعْتَقِدُ حُرْمَتَهُ. فَلَوْ جَلَسَ الْحَاكِمُ فِيهِ لِلْحُكْمِ،
فَلِلذِّمِّيِّ دُخُولُهُ لِلْمُحَاكَمَةِ، وَيُنَزَّل جُلُوسُهُ
مَنْزِلَةَ إِذْنِهِ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَهُ مُطْلَقًا إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَغَيْرِهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْزَل وَفْدَ ثَقِيفٍ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 441، وجواهر الإكليل 1 / 80، والمجموع 2 / 176، وروضة
الطالبين 1 / 297، وتحفة الراكع والساجد للجراعي 204
(2) حديث: " جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم " أخرجه ابن ماجه (1 / 247 -
ط الحلبي) من حديث واثلة بن الأسقع، وضعفه البوصيري في الزوائد (1 / 162 -
ط دار الجنان) .
(20/244)
فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانُوا كُفَّارًا،
وَقَال: لَيْسَ عَلَى الأَْرْضِ مِنْ نَجَسِهِمْ شَيْءٌ (1) وَكَرِهَهُ
الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مُطْلَقًا إِلاَّ
لِضَرُورَةٍ، كَعِمَارَةٍ لَمْ تُمْكِنْ مِنْ مُسْلِمٍ، أَوْ كَانَتْ مِنَ
الْكَافِرِ أَتْقَنَ (2) .
دُخُول الْحَمَّامِ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ دُخُول الْحَمَّامِ
مَشْرُوعٌ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ، لِمَا رُوِيَ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل الْحَمَّامَ وَتَنَوَّرَ (3)
(اسْتَخْدَمَ النُّوْرَةَ) ، وَدَخَل خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَمَّامَ
حِمْصَ، وَكَانَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ يَدْخُلاَنِ الْحَمَّامَ،
وَلَكِنَّ إِبَاحَةَ الدُّخُول مُقَيَّدَةٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ
كَشْفُ الْعَوْرَةِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي تَخْتَلِفُ
بِاخْتِلاَفِ كَوْنِ الدَّاخِل رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً (4) . وَتَفْصِيل
ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: " حَمَّامٌ ".
__________
(1) حديث: " ليس على الأرض من نجسهم شيء " أورده الجصاص في أحكام القرآن (3
/ 88 - نشر دار الكتاب العربي) بلفظ مقارب من حديث عثمان بن أبي العاص
معلقًا، ورواه أبو داود في المراسيل (ص 80 - ط الرسالة) من حديث الحسن
مرسلا بلفظ: " إن الأرض لا تنجس إنما ينجس ابن آدم ".
(2) الاختيار 4 / 166، وابن عابدين 1 / 115، و 5 / 248، وجواهر الإكليل 1 /
23، و1 / 383 - ط مكة المكرمة، والمجموع 2 / 174، وروضة الطالبين 1 / 296،
297، ونهاية المحتاج 1 / 218، 219، والمغني 8 / 532
(3) حديث: " دخل الحمام وتنور " أخرجه البيهقي (1 / 152 - ط دائرة المعارف
العثمانية) من حديث ثوبان، وضعفه بقوله: " ليس بالمعروف بعض رجاله ".
(4) الفتاوى الهندية 1 / 13، والاختيار 4 / 168، وابن عابدين 5 / 31،
والقوانين الفقهية / 433، 444، وحاشية البناني على هامش الزرقاني 7 / 45،
وأسنى المطالب 1 / 72، والمغني 1 / 230، 231، والآداب الشرعية 3 / 337
(20/245)
دُخُول الْخَلاَءِ:
10 - يُسَنُّ لِدَاخِل الْخَلاَءِ تَقْدِيمُ رِجْلِهِ الْيُسْرَى، وَيَقُول
عِنْدَ الدُّخُول: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ
الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ. لأَِنَّ التَّسْمِيَةَ يَبْدَأُ بِهَا
لِلتَّبَرُّكِ، ثُمَّ يَسْتَعِيذُ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ:
" قَضَاءُ الْحَاجَةِ ".
دُخُول مَكَانٍ فِيهِ مُنْكَرٌ:
11 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الدُّخُول
بِقَصْدِ الْمُكْثِ وَالْجُلُوسِ إِلَى مَحَلٍّ فِيهِ مُنْكَرٌ.
وَيَجِبُ الدُّخُول إِذَا كَانَ الْمُنْكَرُ يَزُول بِدُخُولِهِ لِنَحْوِ
عِلْمٍ أَوْ جَاهٍ، لإِِزَالَةِ الْمُنْكَرِ (2) .
دُخُول الْمُسْلِمِ الْكَنِيسَةَ وَالْبِيعَةَ:
12 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ دُخُول
الْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ، لأَِنَّهُ مَجْمَعُ الشَّيَاطِينِ، لاَ مِنْ
حَيْثُ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الدُّخُول. وَذَهَبَ بَعْضُ
الشَّافِعِيَّةِ فِي رَأْيٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ
دُخُولُهَا
__________
(1) ابن عابدين 1 / 230، وجواهر الإكليل 1 / 18، والقليوبي 1 / 38، 41، 42،
ونيل المآرب 1 / 51
(2) الاختيار 4 / 166، جواهر الإكليل 1 / 326، وقليوبي 4 / 235، الآداب
الشرعية 3 / 440 - 441
(20/245)
إِلاَّ بِإِذْنِهِمْ، وَذَهَبَ الْبَعْضُ
الآْخَرُ فِي رَأْيٍ آخَرَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ دُخُولُهَا بِغَيْرِ
إِذْنِهِمْ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلْمُسْلِمِ دُخُول
بِيعَةٍ وَكَنِيسَةٍ وَنَحْوِهِمَا وَالصَّلاَةَ فِي ذَلِكَ، وَعَنْ
أَحْمَدَ يُكْرَهُ إِنْ كَانَ ثَمَّ صُورَةٌ، وَقِيل مُطْلَقًا، ذَكَرَ
ذَلِكَ فِي الرِّعَايَةِ، وَقَال فِي الْمُسْتَوْعِبِ: وَتَصِحُّ صَلاَةُ
الْفَرْضِ فِي الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَقَال ابْنُ
تَمِيمٍ. لاَ بَأْسَ بِدُخُول الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ الَّتِي لاَ صُوَرَ
فِيهَا، وَالصَّلاَةِ فِيهَا. وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: يُكْرَهُ كَالَّتِي
فِيهَا صُوَرٌ، وَحَكَى فِي الْكَرَاهَةِ رِوَايَتَيْنِ. وَقَال فِي
الشَّرْحِ. لاَ بَأْسَ بِالصَّلاَةِ فِي الْكَنِيسَةِ النَّظِيفَةِ رُوِيَ
ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي مُوسَى وَحَكَاهُ عَنْ جَمَاعَةٍ،
وَكَرِهَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَالِكٌ الصَّلاَةَ فِي الْكَنَائِسِ لأَِجْل
الصُّوَرِ، وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: تُكْرَهُ الصَّلاَةُ فِيهَا لأَِنَّهُ
كَالتَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيل لَهَا، وَقِيل: لأَِنَّهُ يَضُرُّ بِهِمْ (1)
.
وَيُكْرَهُ دُخُول كَنَائِسِهِمْ يَوْمَ نَيْرُوزِهِمْ وَمَهْرَجَانِهِمْ.
قَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ تَدْخُلُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ
فِي كَنَائِسِهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ، فَإِنَّ السَّخْطَةَ تَنْزِل
عَلَيْهِمْ (2)
دُخُول الْبُيُوتِ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمَرْءِ دُخُول
__________
(1) ابن عابدين 5 / 248، وجواهر الإكليل 1 / 383، والقليوبي 4 / 235،
والآداب الشرعية 3 / 440 - 441
(2) الآداب الشرعية 3 / 442
(20/246)
بَيْتٍ مَسْكُونٍ غَيْرِ بَيْتِهِ إِلاَّ
بَعْدَ الاِسْتِئْذَانِ وَالإِْذْنِ لَهُ بِالدُّخُول، وَفِي ذَلِكَ
تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِئْذَانٌ) .
ثَانِيًا: أَحْكَامُ الدُّخُول بِالإِْطْلاَقِ الثَّانِي (الْوَطْءُ) :
أَثَرُ الدُّخُول فِي الْمَهْرِ:
14 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ سَمَّى مَهْرًا
لَزِمَهُ بِالدُّخُول، لأَِنَّهُ تَحَقَّقَ بِهِ تَسْلِيمُ الْمُبْدَل،
وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُول لَزِمَهُ نِصْفُهُ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ
فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} . (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (مَهْرٌ) .
أَثَرُ الدُّخُول فِي الْعِدَّةِ:
15 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الطَّلاَقَ إِذَا كَانَ بَعْدَ
الدُّخُول، فَالْعِدَّةُ لِغَيْرِ الْحَامِل ثَلاَثَةُ قُرُوءٍ، أَوْ
ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ عَلَى حَسَبِ الأَْحْوَال، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} (2)
وقَوْله تَعَالَى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ
__________
(1) سورة البقرة / 237 وانظر فتح القدير 3 / 234 ط دار إحياء التراث
العربي، والاختيار 3 / 102، والقوانين الفقهية / 206، والقليوبي 3 / 220،
ونيل المآرب 2 / 193، 195، 196
(2) سورة البقرة / 228
(20/246)
نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ
فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} . (1)
وَعِدَّةُ الْحَامِل وَضْعُ حَمْلِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاَتُ
الأَْحْمَال أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (2) وَعِدَّةُ
الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}
. (3)
وَإِذَا كَانَ الطَّلاَقُ قَبْل الدُّخُول فَلاَ عِدَّةَ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ
الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ
فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} . (4) وَتَفْصِيل
ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (عِدَّةٌ (5)) .
دَرْءُ الْحَدِّ
انْظُرْ: (شُبْهَةٌ، حُدُودٌ) .
__________
(1) سورة الطلاق / 4
(2) سورة الطلاق / 4
(3) سورة البقرة / 234
(4) سورة الأحزاب / 49
(5) الاختيار 3 / 172 - 173، والقوانين الفقهية 234، 235، والقليوبي 4 /
39، ونيل المآرب 2 / 272، 273
(20/247)
دَرَاهِمُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدَّرَاهِمُ جَمْعُ دِرْهَمٍ، وَهُوَ لَفْظٌ مُعَرَّبٌ، وَهُوَ نَوْعٌ
مِنَ النَّقْدِ ضُرِبَ مِنَ الْفِضَّةِ كَوَسِيلَةٍ لِلتَّعَامُل،
وَتَخْتَلِفُ أَنْوَاعُهُ وَأَوْزَانُهُ بِاخْتِلاَفِ الْبِلاَدِ الَّتِي
تَتَدَاوَلُهُ وَتَتَعَامَل بِهِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الدَّنَانِيرُ:
2 - الدَّنَانِيرُ جَمْعُ دِينَارٍ، وَهُوَ مُعَرَّبٌ، قَال أَبُو
مَنْصُورٍ: دِينَارٌ أَصْلُهُ أَعْجَمِيٌّ غَيْرَ أَنَّ الْعَرَبَ
تَكَلَّمَتْ بِهِ فَصَارَ عَرَبِيًّا.
وَالدِّينَارُ اسْمٌ لِلْقِطْعَةِ مِنَ الذَّهَبِ الْمَضْرُوبَةِ
الْمُقَدَّرَةِ بِالْمِثْقَال (2) . فَهِيَ تَخْتَلِفُ عَنِ الدَّرَاهِمِ
فِي أَنَّهَا مِنَ الذَّهَبِ فِي حِينِ أَنَّ الدَّرَاهِمَ مِنَ
الْفِضَّةِ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير والمعجم الوسيط والمغرب مادة: " دره ".
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، والأموال لأبي عبيد / 629، وفتوح البلدان
/ 451، ومقدمة ابن خلدون / 183
(20/247)
ب - النَّقْدُ.
3 - لِلنَّقْدِ ثَلاَثَةُ مَعَانٍ فَيُطْلَقُ عَلَى الْحُلُول أَيْ خِلاَفِ
النَّسِيئَةِ، وَعَلَى إِعْطَاءِ النَّقْدِ، وَعَلَى تَمَيُّزِ
الدَّرَاهِمِ وَإِخْرَاجِ الزَّيْفِ مِنْهَا، وَمُطْلَقِ النَّقْدِ
وَيُرَادُ بِهِ مَا ضُرِبَ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي
يَتَعَامَل بِهَا النَّاسُ (1) .
ج - الْفُلُوسُ:
4 - الْفُلُوسُ جَمْعُ فَلْسٍ، وَتُطْلَقُ الْفُلُوسُ وَيُرَادُ بِهَا مَا
ضُرِبَ مِنَ الْمَعَادِنِ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَصَارَتْ
عُرْفًا فِي التَّعَامُل وَثَمَنًا بِاصْطِلاَحِ النَّاسِ (2) .
د - سِكَّةٌ:
5 - السَّكُّ: تَضْبِيبُ الْبَابِ أَوِ الْخَشَبِ بِالْحَدِيدِ.
وَالسِّكَّةُ: حَدِيدَةٌ قَدْ كُتِبَ عَلَيْهَا، وَيُضْرَبُ عَلَيْهَا
الدَّرَاهِمُ، وَهِيَ الْمَنْقُوشَةُ ثُمَّ نُقِل إِلَى أَثَرِهَا وَهِيَ
النُّقُوشُ الْمَاثِلَةُ عَلَى الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ نُقِل
إِلَى الْقِيَامِ عَلَى ذَلِكَ، وَهِيَ الْوَظِيفَةُ فَصَارَ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير ومغني المحتاج 1 / 389، والمغني 4 / 54،
والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 179
(2) لسان العرب والمصباح المنير والبدائع 5 / 236، والشرح الصغير 1 / 218 ط
الحلبي، والأحكام السلطانية لأبي يعلى / 179
(20/248)
عَلَمًا عَلَيْهَا فِي عُرْفِ الدُّوَل،
وَتُسَمَّى الدَّرَاهِمُ الْمَضْرُوبَةُ سِكَّةً (1) .
الدِّرْهَمُ الإِْسْلاَمِيُّ وَكَيْفِيَّةُ تَحْدِيدِهِ وَتَقْدِيرِهِ:
6 - كَانَتِ الدَّرَاهِمُ الْمَضْرُوبَةُ قَبْل الإِْسْلاَمِ مُتَعَدِّدَةً
مُخْتَلِفَةَ الأَْوْزَانِ، وَكَانَتْ تَرِدُ إِلَى الْعَرَبِ مِنَ
الأُْمَمِ الْمُجَاوِرَةِ فَكَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِهَا، لاَ
بِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ بَل بِأَوْزَانٍ اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا، وَجَاءَ
الإِْسْلاَمُ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى هَذِهِ الأَْوْزَانِ كَمَا جَاءَ فِي
قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَزْنُ وَزْنُ
أَهْل مَكَّةَ، وَالْمِكْيَال مِكْيَال أَهْل الْمَدِينَةِ. (2)
وَلَمَّا احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى تَقْدِيرِ الدِّرْهَمِ فِي
الزَّكَاةِ كَانَ لاَ بُدَّ مِنْ وَزْنٍ مُحَدَّدٍ لِلدِّرْهَمِ يُقَدَّرُ
النِّصَابُ عَلَى أَسَاسِهِ، فَجُمِعَتِ الدَّرَاهِمُ الْمُخْتَلِفَةُ
الْوَزْنِ وَأُخِذَ الْوَسَطُ مِنْهَا، وَاعْتُبِرَ هُوَ الدِّرْهَمُ
الشَّرْعِيُّ، وَهُوَ الَّذِي تَزِنُ الْعَشَرَةُ مِنْهُ سَبْعَةَ
مَثَاقِيل مِنَ الذَّهَبِ، فَضُرِبَتِ الدَّرَاهِمُ الإِْسْلاَمِيَّةُ
عَلَى هَذَا الأَْسَاسِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ
عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فُقَهَاءَ وَمُؤَرِّخِينَ،
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 183،
وللماوردي ص 155، ومقدمة ابن خلدون / 183
(2) حديث: " الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة ". أخرجه أبو
داود (3 / 633 - 634 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث ابن عمر، وصححه
الدارقطني والنووي كما في التلخيص لابن حجر (2 / 175) - ط شركة الطباعة
الفنية) .
(20/248)
لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْعَهْدِ
الَّذِي تَمَّ فِيهِ هَذَا التَّحْدِيدُ، فَقِيل إِنَّ ذَلِكَ تَمَّ فِي
عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَقِيل
إِنَّ ذَلِكَ تَمَّ فِي عَهْدِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ
تَمَّ فِي عَهْدِ عُمَرَ أَمْ فِي عَهْدِ بَنِي أُمَيَّةَ فَإِنَّ
الدِّرْهَمَ الشَّرْعِيَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ الأَْمْرُ عَلَيْهِ هُوَ
الَّذِي ضُرِبَ فِي عَهْدِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَكَانَ هُوَ
أَسَاسَ التَّقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ.
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ وَالْمُؤَرِّخِينَ أَثْبَتُوا أَنَّ الدِّرْهَمَ
الشَّرْعِيَّ لَمْ يَبْقَ عَلَى الْوَضْعِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ
الإِْجْمَاعُ فِي عَهْدِ عَبْدِ الْمَلِكِ، بَل أَصَابَهُ تَغْيِيرٌ
كَبِيرٌ فِي الْوَزْنِ وَالْعِيَارِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَصَارَ
أَهْل كُل بَلَدٍ يَسْتَخْرِجُونَ الْحُقُوقَ الشَّرْعِيَّةَ مِنْ
نَقْدِهِمْ بِمَعْرِفَةِ النِّسْبَةِ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ
مَقَادِيرِهَا الشَّرْعِيَّةِ إِلَى أَنْ قِيل: يُفْتَى فِي كُل بَلَدٍ
بِوَزْنِهِمْ (1) .
وَنَشَأَ مِنْ ذَلِكَ اضْطِرَابٌ فِي مَعْرِفَةِ الأَْنْصِبَةِ، وَهَل
تُقَدَّرُ بِالْوَزْنِ أَوْ بِالْعَدَدِ؟ وَأَصْبَحَ الْوُصُول
__________
(1) فتوح البلدان للبلاذري / 451 إلى 454، وهامش الأحكام السلطانية لأبي
يعلى 175 - 178 والأحكام السلطانية للماوردي / 153 - 154، ومقدمة ابن خلدون
/ 183 - 184، والأموال لأبي عبيد / 629 - 630، وحاشية ابن عابدين 2 / 28 -
30، وبدائع الصنائع 2 / 16، والأبيّ شرح صحيح مسلم 3 / 109، والمجموع 5 /
474 - 476 تحقيق المطيعي، ومغني المحتاج 1 / 389، ونهاية المحتاج 3 / 84،
والمغني 3 / 4 ط الرياض.
(20/249)
إِلَى مَعْرِفَةِ الدِّينَارِ الشَّرْعِيِّ
الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ غَايَةً تَمْنَعُ هَذَا الاِضْطِرَابَ. وَإِلَى
عَهْدٍ قَرِيبٍ لَمْ يَصِل الْفُقَهَاءُ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ حَتَّى
أَثْبَتَ الْمُؤَرِّخُ عَلِيُّ بَاشَا مُبَارَكٌ - بِوَاسِطَةِ
اسْتِقْرَاءِ النُّقُودِ الإِْسْلاَمِيَّةِ الْمَحْفُوظَةِ فِي دُورِ
الآْثَارِ بِالدُّوَل الأَْجْنَبِيَّةِ - أَنَّ دِينَارَ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ مَرْوَانَ يَزِنُ 4، 25. جِرَامٍ مِنَ الذَّهَبِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ
وَزْنُ الدِّرْهَمِ. 2، 975 جِرَامًا مِنَ الْفِضَّةِ.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعْتَبَرُ مِعْيَارًا فِي اسْتِخْرَاجِ الْحُقُوقِ
الشَّرْعِيَّةِ مِنْ زَكَاةٍ، وَدِيَةٍ، وَتَحْدِيدِ صَدَاقٍ، وَنِصَابِ
سَرِقَةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ (1) .
مَنْ يَتَوَلَّى ضَرْبَ الدَّرَاهِمِ:
7 - ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ وَظِيفَةٌ ضَرُورِيَّةٌ لِلدَّوْلَةِ، إِذْ بِهَا
يَتَمَيَّزُ الْخَالِصُ مِنَ الْمَغْشُوشِ بَيْنَ النَّاسِ فِي النُّقُودِ
عِنْدَ الْمُعَامَلاَتِ، وَيُتَّقَى الْغِشُّ بِخَتْمِ السُّلْطَانِ
عَلَيْهَا بِالنُّقُوشِ الْمَعْرُوفَةِ (2) . وَقَدْ قَال الإِْمَامُ
أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: لاَ يَصْلُحُ ضَرْبُ
الدَّرَاهِمِ إِلاَّ فِي دَارِ الضَّرْبِ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ، لأَِنَّ
النَّاسَ إِنْ رُخِّصَ لَهُمْ رَكِبُوا الْعَظَائِمَ، فَقَدْ مَنَعَ
الإِْمَامُ أَحْمَدُ مِنَ الضَّرْبِ بِغَيْرِ إِذْنِ السُّلْطَانِ لِمَا
فِيهِ مِنَ الاِفْتِيَاتِ عَلَيْهِ (3) .
__________
(1) فقه الزكاة 1 / 253، والخراج للدكتور الريس / 352 - 354
(2) مقدمة ابن خلدون / 183
(3) الأحكام السلطانية لأبي يعلى / 181
(20/249)
وَفِي الرَّوْضَةِ لِلنَّوَوِيِّ: يُكْرَهُ
لِلرَّعِيَّةِ ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ وَإِنْ كَانَتْ خَالِصَةً، لأَِنَّ
ضَرْبَ الدَّرَاهِمِ مِنْ شَأْنِ الإِْمَامِ (1) .
وَذَكَرَ الْبَلاَذُرِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أُتِيَ
بِرَجُلٍ يَضْرِبُ عَلَى غَيْرِ سِكَّةِ السُّلْطَانِ فَعَاقَبَهُ
وَسَجَنَهُ وَأَخَذَ حَدِيدَهُ فَطَرَحَهُ فِي النَّارِ، وَحَكَى
الْبَلاَذُرِيُّ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ أَخَذَ رَجُلاً
يَضْرِبُ عَلَى غَيْرِ سِكَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَأَرَادَ قَطْعَ يَدِهِ
ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَعَاقَبَهُ، قَال الْمُطَّلِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ حَنْطَبٍ: فَرَأَيْتُ مَنْ بِالْمَدِينَةِ مِنْ شُيُوخِنَا حَسَّنُوا
ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ (2) .
حُكْمُ كَسْرِ الدَّرَاهِمِ وَقَطْعِهَا:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ كَسْرِ الدَّرَاهِمِ وَقَطْعِهَا،
فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ إِلَى
كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ مُطْلَقًا، لِحَاجَةٍ وَلِغَيْرِ حَاجَةٍ، لأَِنَّهُ
مِنْ جُمْلَةِ الْفَسَادِ فِي الأَْرْضِ وَيُنْكَرُ عَلَى فَاعِلِهِ،
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
نَهَى عَنْ كَسْرِ سِكَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْجَائِزَةِ بَيْنَهُمْ. (3)
وَالْكَرَاهَةُ عِنْدَ الإِْمَامِ أَحْمَدَ لِلتَّحْرِيمِ عَلَى مَا
__________
(1) الروضة للنووي 2 / 258، والمجموع 5 / 468
(2) فتوح البلدان للبلاذري عن طريق الواقدي / 455
(3) حديث: " نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم ". أخرجه ابن ماجه (2 /
761 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود، ونقل المناوي في فيض القدير (6
/ 346 - ط المكتبة التجارية) عن العراقي وعبد الحق الأشبيلي أنهما ضعفاه.
(20/250)
جَاءَ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ
مُحَمَّدٍ وَرِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ وَرِوَايَةِ حَرْبٍ - وَقَدْ سُئِل
عَنْ كَسْرِ الدَّرَاهِمِ - فَقَال: هُوَ عِنْدِي مِنَ الْفَسَادِ فِي
الأَْرْضِ وَكَرِهَهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً. لَكِنَّهُ صَرَّحَ فِي
رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ، قَال أَبُو
طَالِبٍ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنِ الدَّرَاهِمِ تُقَطَّعُ فَقَال: لاَ،
نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَسْرِ سِكَّةِ
الْمُسْلِمِينَ، وَقِيل لَهُ: فَمَنْ كَسَرَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ؟ قَال: لاَ،
وَلَكِنْ قَدْ فَعَل مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال أَبُو يَعْلَى: وَقَوْلُهُ: لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، مَعْنَاهُ
لاَ مَأْثَمَ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَفُقَهَاءُ الْعِرَاقِ إِلَى أَنَّ كَسْرَهَا
غَيْرُ مَكْرُوهٍ.
وَفَصَّل قَوْمٌ، فَقَال الشَّافِعِيُّ. إِنْ كَسَرَهَا لِحَاجَةٍ لَمْ
يُكْرَهُ لَهُ، وَإِنْ كَسَرَهَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ كُرِهَ لَهُ، لأَِنَّ
إِدْخَال النَّقْصِ عَلَى الْمَال مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ سَفَهٌ.
وَاعْتَبَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ حَال الْبَلَدِ فَقَال: إِنَّ كَرَاهَةَ
الْقَطْعِ مَحْمُولٌ عِنْدِي عَلَى بَلَدٍ لاَ يَجُوزُ فِيهِ الْقَطْعُ،
وَلاَ يَنْفُقُ الْمَقْطُوعُ مِنَ الدَّرَاهِمِ نَفَاقَ الصَّحِيحِ.
وَاعْتَبَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَطْعَ السِّكَّةِ
مَانِعًا مِنَ الشَّهَادَةِ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْمَوَّازِ: إِلاَّ
أَنْ يُعْذَرَ بِجَهْلٍ، وَقَال عَنْهُ الْعُتْبِيُّ: لاَ يَجُوزُ وَإِنْ
كَانَ جَاهِلاً.
وَقَال سَحْنُونُ: لَيْسَ قَطْعُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ بِجُرْحَةٍ.
(20/250)
قَال بَعْضُ الشُّيُوخِ: وَهَذَا
الاِخْتِلاَفُ إِنَّمَا هُوَ إِذَا قَطَعَهَا وَهِيَ وَازِنَةٌ فَرَدَّهَا
نَاقِصَةً وَالْبَلَدُ لاَ تَجُوزُ فِيهِ إِلاَّ وَازِنَةٌ، وَهِيَ تَجْرِي
فِيهِ عَدَدًا بِغَيْرِ وَزْنٍ، فَانْتَفَعَ بِمَا قَطَعَ مِنْهَا،
وَيُنْفِقُهَا بِغَيْرِ وَزْنٍ فَتُجْرَى مَجْرَى الْوَازِنَةِ، فَلاَ
خِلاَفَ فِي أَنَّ ذَلِكَ جُرْحَةٌ، وَلَوْ قَطَعَهَا وَكَانَ التَّبَايُعُ
بِهَا بِالْمِيزَانِ فَلاَ خِلاَفَ أَنَّ التَّبَايُعَ بِهَا لَيْسَ
بِجُرْحَةٍ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا فَذَلِكَ مَكْرُوهٌ.
أَمَّا قَطْعُ الدَّرَاهِمِ لِصِيَاغَتِهَا حُلِيًّا لِلنِّسَاءِ، فَقَدْ
قَال ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَقْطَعَ الرَّجُل
الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ حُلِيًّا لِبَنَاتِهِ وَنِسَائِهِ.
وَقَدْ مَنَعَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ أَنْ تُقْطَعَ لِلصِّيَاغَةِ، قَال فِي
رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ - وَقَدْ سَأَلَهُ عَنِ الرَّجُل يَقْطَعُ
الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ يَصُوغُ مِنْهَا - قَال: لاَ تَفْعَل، فِي
هَذَا ضَرَرٌ عَلَى النَّاسِ، وَلَكِنْ يَشْتَرِي تِبْرًا مَكْسُورًا
بِالْفِضَّةِ (1) .
إِنْفَاقُ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِنْفَاقِ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ.
فَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ الشِّرَاءَ بِالدَّرَاهِمِ الزَّائِفَةِ
__________
(1) الكافي لابن عبد البر 2 / 644، والتبصرة بهامش فتح العلي 1 / 219،
والأحكام السلطانية للماوردي / 155 - 156، والأحكام السلطانية لأبي يعلى /
182 - 183، وفتوح البلدان للبلاذري / 455
(20/251)
وَلاَ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهَا،
بَل يَتَعَلَّقُ بِجِنْسِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ الزُّيُوفِ إِنْ كَانَ
الْبَائِعُ يَعْلَمُ بِحَالِهَا خَاصَّةً لأَِنَّهُ رَضِيَ بِجِنْسِ
الزُّيُوفِ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ لاَ يَعْلَمُ لاَ يَتَعَلَّقُ
الْعَقْدُ بِجِنْسِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ
بِالْجَيِّدِ مِنْ نَقْدِ تِلْكَ الْبَلَدِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَرْضَ إِلاَّ
بِهِ إِذَا كَانَ لاَ يَعْلَمُ بِحَالِهَا.
وَيُجِيزُ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ تُبَاعَ لِمَنْ لاَ
يَغُشُّ بِهَا النَّاسَ بَل لِمَنْ يُكَسِّرُهَا وَيَجْعَلُهَا حُلِيًّا
أَوْ غَيْرَهُ.
فَإِنْ بَاعَ لِمَنْ يَغُشُّ بِهِ فُسِخَ الْبَيْعُ.
وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ إِنْ عُلِمَ مِعْيَارُ الْفِضَّةِ فِي
الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ صَحَّتِ الْمُعَامَلَةُ بِهَا مُعَيَّنَةً،
وَفِي الذِّمَّةِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولاً فَفِيهِ أَرْبَعَةُ
أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا الصِّحَّةُ مُطْلَقًا، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ
رَوَاجُهَا وَهِيَ رَائِجَةٌ، وَلِحَاجَةِ الْمُعَامَلَةِ بِهَا. . ثُمَّ
قَال: وَمَنْ مَلَكَ دَرَاهِمَ مَغْشُوشَةً كُرِهَ لَهُ إِمْسَاكُهَا بَل
يَسْبِكُهَا وَيُصَفِّيهَا، قَال الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: إِلاَّ إِنْ
كَانَتْ دَرَاهِمُ الْبَلَدِ مَغْشُوشَةً فَلاَ يُكْرَهُ إِمْسَاكُهَا.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ الْغِشُّ يَخْفَى لَمْ يَجُزِ
التَّعَامُل بِهَا رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فَعَلَى
رِوَايَتَيْنِ: الْمَنْعُ وَالْجَوَازُ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (صَرْفٌ، رِبًا، غِشٌّ) .
__________
(1) البدائع 5 / 198، والشرح الصغير 2 / 22 ط الحلبي، ومغني المحتاج 1 /
390، والأحكام السلطانية لأبي يعلى / 179، والمغني 4 / 57
(20/251)
مَسُّ الْمُحْدِثِ لِلدَّرَاهِمِ الَّتِي
عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَسِّ الْمُحْدِثِ - حَدَثًا
أَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ - الدَّرَاهِمَ الَّتِي عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ
الْقُرْآنِ.
فَأَجَازَ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَسَبَبُ الْجَوَازِ
أَنَّهُ لاَ يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمُصْحَفِ فَأَشْبَهَتْ كُتُبَ
الْفِقْهِ، وَلأَِنَّ فِي الاِحْتِرَازِ مِنْ ذَلِكَ مَشَقَّةً،
وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، وَالْبَلْوَى تَعُمُّ فَعُفِيَ عَنْهُ.
مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ
الدَّرَاهِمَ الَّتِي عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَالْوَرَقَةِ
الَّتِي كُتِبَ فِيهَا قُرْآنٌ.
وَكَرِهَ ذَلِكَ عَطَاءٌ وَالْقَاسِمُ وَالشَّعْبِيُّ لأَِنَّ الْقُرْآنَ
مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا (1) .
دُخُول الْخَلاَءِ مَعَ حَمْل الدَّرَاهِمِ الَّتِي عَلَيْهَا اسْمُ
اللَّهِ:
11 - يُكْرَهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ
__________
(1) البدائع 1 / 37، والهندية 1 / 339، والدسوقي 1 / 125، والمجموع 2 / 70
- 71، ومغني المحتاج 1 / 38، والمغني 1 / 148، والأحكام السلطانية لأبي
يعلى ص 180
(20/252)
وَالشَّافِعِيَّةِ) دُخُول الْخَلاَءِ مَعَ
حَمْل الدَّرَاهِمِ الَّتِي نُقِشَ عَلَيْهَا اسْمُ اللَّهِ أَوْ شَيْءٌ
مِنَ الْقُرْآنِ، لَكِنْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنِ اتَّخَذَ الإِْنْسَانُ
لِنَفْسِهِ مَبَالاً طَاهِرًا فِي مَكَانٍ طَاهِرٍ لاَ يُكْرَهُ، وَقَال
الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ مَسْتُورَةً بِشَيْءٍ أَوْ
خَافَ عَلَيْهَا الضَّيَاعَ جَازَ الدُّخُول بِهَا.
وَاخْتَلَفَتِ الأَْقْوَال عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. فَجَاءَ فِي كَشَّافِ
الْقِنَاعِ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِدُخُول الْخَلاَءِ وَمَعَ الرَّجُل
الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ عَلَيْهَا اسْمُ اللَّهِ، قَال أَحْمَدُ:
أَرْجُو أَلاَّ يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ، وَفِي الْمُسْتَوْعِبِ إِنَّ
إِزَالَةَ ذَلِكَ أَفْضَل، قَال فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ: ظَاهِرُ كَلاَمِ
كَثِيرٍ مِنَ الأَْصْحَابِ أَنَّ حَمْل الدَّرَاهِمِ وَنَحْوِهَا
كَغَيْرِهَا فِي الْكَرَاهَةِ، وَذَكَرَ ابْنُ رَجَبٍ أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ
عَلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ هَانِئٍ وَقَال فِي
الدَّرَاهِمِ: إِذَا كَانَ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ أَوْ مَكْتُوبًا عَلَيْهِ
{قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يُكْرَهُ أَنْ يُدْخَل اسْمُ اللَّهِ الْخَلاَءَ
(1) .
التَّصْوِيرُ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَنَحْوِهَا مِنَ النُّقُودِ:
12 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الصُّوَرَ الَّتِي
عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ جَائِزَةٌ، وَعَلَّل الْحَنَفِيَّةُ
ذَلِكَ لِصِغَرِهَا وَعَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا مُمْتَهَنَةٌ.
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَصْوِيرٌ) ف - 57 (ج 12 122) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 323، والدسوقي 1 / 107، وأسنى المطالب 1 / 46،
وكشاف القناع 1 / 59
(20/252)
تَقْدِيرُ بَعْضِ الْحُقُوقِ
الشَّرْعِيَّةِ بِالدَّرَاهِمِ:
حَدَّدَ الإِْسْلاَمُ مَقَادِيرَ مُعَيَّنَةً بِالدَّرَاهِمِ فِي بَعْضِ
الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ وَمِنْ ذَلِكَ:
أ - الزَّكَاةُ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نِصَابَ الْفِضَّةِ الَّذِي يَجِبُ
فِيهِ الزَّكَاةُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ خِلاَفَ
فِي ذَلِكَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الإِْسْلاَمِ. وَقَدْ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ
وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ فِيمَا
دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ. (1)
وَالأُْوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا بِغَيْرِ خِلاَفٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ
مِائَتَيْ دِرْهَمٍ.
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ
دَرَاهِمَ (2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (زَكَاةٌ) .
ب - الدِّيَةُ:
14 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ الدِّيَةَ إِنْ كَانَتْ مِنَ الْفِضَّةِ
فَإِنَّهَا تُقَدَّرُ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، لِمَا رُوِيَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِي عَدِيٍّ قُتِل،
__________
(1) حديث: " ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة ". أخرجه البخاري (الفتح
3 / 323 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 675 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد.
(2) المغني 3 / 3
(20/253)
فَجَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الدِّيَةَ بِالدَّرَاهِمِ تُقَدَّرُ
بِعَشَرَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى
بِالدِّيَةِ فِي قَتِيلٍ بِعَشَرَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ (2) ، وَهَذَا
بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل الْمُسْلِمِ (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (دِيَاتٌ) .
ج - السَّرِقَةُ:
15 - حَدَّدَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ النِّصَابَ الَّذِي
يُقْطَعُ بِهِ السَّارِقُ بِالنِّسْبَةِ لِلدَّرَاهِمِ بِثَلاَثَةِ
دَرَاهِمَ، أَوْ مَا قِيمَتُهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ، لِمَا رَوَى ابْنُ
عُمَرَ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ
فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ. (4)
وَحَدَّدَ الْحَنَفِيَّةُ النِّصَابَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ،
__________
(1) حديث ابن عباس: " أن رجلا من بني عدي قتل فجعل النبي صلى الله عليه
وسلم ديته اثني عشر ألفًا ". أخرجه أبو داود (4 / 681 - 682 تحقيق عزت عبيد
دعاس) ، وصوب النسائي وابن حبان وغيرهما إرساله، كذا في نصب الراية للزيلعي
(4 / 361 - ط المجلس العلمي) .
(2) حديث عمر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدية في قتيل بعشرة
آلاف درهم ". أورده الزيلعي في نصب الراية (4 / 362 - ط المجلس العلمي)
وقال: " غريب " يعني: أنه لا أصل له كما ذكر في مقدمة كتابه.
(3) المغني 7 / 759 - 760، والهداية 4 / 178
(4) حديث ابن عمر: " قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجن ثمنه ثلاثة
دراهم ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 97 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1313 - ط
الحلبي) .
(20/253)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو
بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ يُقْطَعُ السَّارِقُ إِلاَّ فِي
عَشَرَةِ دَرَاهِمَ.
(1) أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَدَّرُوا نِصَابَ السَّرِقَةِ بِرُبْعِ
دِينَارٍ أَوْ مَا قِيمَتُهُ رُبْعُ دِينَارٍ (2) ، كَمَا رَوَتْ عَائِشَةُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْطَعُ السَّارِقَ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا.
(3)
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ تُنْظَرُ فِي: (سَرِقَةٌ) .
د - الْمَهْرُ.
16 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَل يَتَقَدَّرُ أَقَل الصَّدَاقِ أَمْ لاَ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَقَل الصَّدَاقِ
يَتَقَدَّرُ بِمَا تُقْطَعُ فِيهِ يَدُ السَّارِقِ، وَذَلِكَ مُقَدَّرٌ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
بِثَلاَثَةِ
__________
(1) حديث: " لا يقطع السارق إلا في عشرة دراهم " أخرجه الدارقطني (3 / 193
- ط دار المحاسن) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ونقل الزيلعي في
نصب الراية (3 / 359 - ط المجلس العلمي) عن ابن عبد الهادي في التنقيح أنه
أعله بعدم سماع الراوي عن عمرو بن شعيب منه.
(2) البدائع 7 / 77، وجواهر الإكليل 2 / 290، والمهذب 2 / 278، والمغني 8 /
242
(3) حديث عائشة: " كان يقطع السارق في ربع دينار فصاعدًا ". أخرجه البخاري
(الفتح 12 / 96 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1312 - ط الحلبي) ، واللفظ
لمسلم.
(20/254)
دَرَاهِمَ، وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ
بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال. لاَ مَهْرَ
دُونَ عَشَرَةٍ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ حَدَّ لأَِقَلِّهِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (صَدَاقٌ) .
اعْتِبَارُ وَزْنِ الدِّرْهَمِ الشَّرْعِيِّ فِي الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ
الْمُقَدَّرَةِ بِالدَّرَاهِمِ:
17 - مَا حَدَّدَهُ الإِْسْلاَمُ فِي الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ مُقَدَّرًا
بِالدَّرَاهِمِ، كَالزَّكَاةِ، وَالدِّيَةِ، وَنِصَابِ السَّرِقَةِ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ الْوَزْنُ دُونَ
الْعَدَدِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ الْوَزْنُ فِي الدَّرَاهِمِ دُونَ الْعَدَدِ، لأَِنَّ
الدَّرَاهِمَ اسْمٌ لِلْمَوْزُونِ، لأَِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ قَدْرٍ مِنَ
الْمَوْزُونِ مُشْتَمِلٍ عَلَى جُمْلَةٍ مَوْزُونَةٍ مِنَ الدَّوَانِيقِ
وَالْحَبَّاتِ، حَتَّى لَوْ كَانَ وَزْنُهَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ
وَعَدَدُهَا مِائَتَانِ، أَوْ قِيمَتُهَا لِجَوْدَتِهَا وَصِيَاغَتِهَا
تُسَاوِي مِائَتَيْنِ فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا (2) . وَاعْتِبَارُ الْوَزْنِ
فِي الدَّرَاهِمِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحُقُوقِ الْمُقَدَّرَةِ مِنْ قِبَل
الشَّرْعِ، أَمَّا الْمُعَامَلاَتُ الَّتِي تَتِمُّ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ
بَيْعٍ وَشِرَاءٍ، وَإِجَارَةٍ، وَقَرْضٍ، وَرَهْنٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلاَ
يُشْتَرَطُ فِيهَا ذَلِكَ، وَإِنَّمَا
__________
(1) البدائع 2 / 275 - 276، والشرح الصغير 2 / 409 ط الحلبي، والمهذب 2 /
56، والمغني 6 / 680
(2) بدائع الصنائع 2 / 16، وابن عابدين 2 / 28 - 29، والمجموع للنووي 5 /
478 تحقيق المطيعي، والمغني 3 / 3
(20/254)
يَجْرِي فِيهَا مَا يَتَعَامَل بِهِ
النَّاسُ، وَلِذَلِكَ يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا أُطْلِقَ الدِّرْهَمُ
فِي الْعَقْدِ انْصَرَفَ إِلَى الْمُتَعَارَفِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَطْلَقَ
الْوَاقِفُ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهَا.
مَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالدَّرَاهِمِ وَمَا لاَ يَجُوزُ:
18 - يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ، هَل يَجُوزُ
التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالدَّرَاهِمِ أَوْ لاَ يَجُوزُ؟ وَمِنْ ذَلِكَ
مَثَلاً: إِجَارَةُ الدَّرَاهِمِ، أَوْ رَهْنُهَا، أَوْ وَقْفُهَا عَلَى
الإِْقْرَاضِ، أَوْ عَلَى الْقِرَاضِ (الْمُضَارَبَةِ) أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
فَفِي الْوَقْفِ مَثَلاً يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: مَا لاَ يُمْكِنُ
الاِنْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ كَالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ
لاَ يَصِحُّ وَقْفُهُ فِي قَوْل عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَأَهْل الْعِلْمِ.
وَأَجَازَ مَالِكٌ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَقْفَهَا (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهَا.
__________
(1) ابن عابدين 2 / 30
(2) المغني 5 / 640، وجواهر الإكليل 2 / 305، والمهذب 1 / 447
(20/255)
دُرْدِيُّ الْخَمْرِ
انْظُرْ: أَشْرِبَةٌ
دَرَكٌ
انْظُرْ: ضَمَانُ الدَّرَكِ
(20/255)
دُعَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدُّعَاءُ لُغَةً مَصْدَرُ دَعَوْتُ اللَّهَ أَدْعُوهُ دُعَاءً
وَدَعْوَى، أَيِ ابْتَهَلْتُ إِلَيْهِ بِالسُّؤَال وَرَغِبْتُ فِيمَا
عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ. وَهُوَ بِمَعْنَى النِّدَاءِ يُقَال: دَعَا
الرَّجُل دَعْوًا وَدُعَاءً أَيْ: نَادَاهُ، وَدَعَوْتُ فُلاَنًا صِحْتُ
بِهِ وَاسْتَدْعَيْتُهُ، وَدَعَوْتُ زَيْدًا نَادَيْتُهُ وَطَلَبْتُ
إِقْبَالَهُ. وَدَعَا الْمُؤَذِّنُ النَّاسَ إِلَى الصَّلاَةِ فَهُوَ
دَاعِي اللَّهِ، وَالْجَمْعُ: دُعَاةٌ وَدَاعُونَ. وَدَعَاهُ يَدْعُوهُ
دُعَاءً وَدَعْوَى: أَيْ: رَغِبَ إِلَيْهِ، وَدَعَا زَيْدًا: اسْتَعَانَهُ،
وَدَعَا إِلَى الأَْمْرِ: سَاقَهُ إِلَيْهِ. (1)
وَالدُّعَاءُ فِي الاِصْطِلاَحِ: الْكَلاَمُ الإِْنْشَائِيُّ الدَّال عَلَى
الطَّلَبِ مَعَ الْخُضُوعِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا سُؤَالاً. (2)
وَقَدْ قَال الْخَطَّابِيُّ: حَقِيقَةُ الدُّعَاءِ اسْتِدْعَاءُ الْعَبْدِ
مِنْ رَبِّهِ الْعِنَايَةَ وَاسْتِمْدَادُهُ إِيَّاهُ الْمَعُونَةَ،
وَحَقِيقَتُهُ إِظْهَارُ الاِفْتِقَارِ إِلَيْهِ، وَالْبَرَاءَةُ مِنَ
الْحَوْل وَالْقُوَّةِ الَّتِي لَهُ، وَهُوَ سِمَةُ الْعُبُودِيَّةِ
وَإِظْهَارُ الذِّلَّةِ
__________
(1) لسان العرب المحيط، وتاج العروس، والمصباح المنير.
(2) قواعد الفقه للبركتي.
(20/256)
الْبَشَرِيَّةِ، وَفِيهِ مَعْنَى
الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ، وَإِضَافَةُ الْجُودِ وَالْكَرَمِ إِلَيْهِ. (1)
2 - وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِمَعَانٍ مِنْهَا:
أ - الاِسْتِغَاثَةُ: كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {قُل أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ
أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ
تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَل إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا
تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} . (2)
ب - الْعِبَادَةُ: كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} . (3) وقَوْله تَعَالَى:
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ
وَالْعَشِيِّ} . (4) وقَوْله تَعَالَى {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا
لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} . (5)
ج - النِّدَاءُ: وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ
فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} . (6) وَقَوْلُهُ: {قَالَتْ إِنَّ أَبِي
يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} . (7)
د - الطَّلَبُ وَالسُّؤَال مِنَ اللَّهِ: وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا كَمَا
فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي
__________
(1) إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين 5 / 27 - 28 دار الفكر.
(2) سورة الأنعام 40 - 41
(3) سورة الأعراف / 194
(4) سورة الكهف / 28
(5) سورة الكهف / 14
(6) سورة الإسراء / 52
(7) سورة القصص / 25
(20/256)
قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا
دَعَانِ} . (1) وقَوْله تَعَالَى
: {وَقَال رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} . (2)
وَيُوَافِقُ هَذَا الْمَعْنَى مَا يُقَال: دَعَوْتُ اللَّهَ أَدْعُوهُ
دُعَاءً، أَيِ ابْتَهَلْتُ إِلَيْهِ بِالسُّؤَال، وَرَغِبْتُ فِيمَا
عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَالدَّاعِي اسْمُ الْفَاعِل مِنَ الدُّعَاءِ،
وَالْجَمْعُ دُعَاةٌ، وَدَاعُونَ، مِثْل قَاضٍ وَقُضَاةٌ وَقَاضُونَ. (3)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِغْفَارُ:
3 - الاِسْتِغْفَارُ فِي اللُّغَةِ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ بِالْقَوْل
وَالْفِعْل، وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا يُسْتَعْمَل فِي ذَلِكَ
الْمَعْنَى.
وَالْمَغْفِرَةُ فِي الأَْصْل السَّتْرُ، وَالْمُرَادُ بِالاِسْتِغْفَارِ
طَلَبُ التَّجَاوُزِ عَنِ الذَّنْبِ، فَالْمُسْتَغْفِرُ يَطْلُبُ مِنَ
اللَّهِ تَعَالَى الْمَغْفِرَةَ، أَيْ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ
وَالتَّجَاوُزَ عَنْهُ. (4) قَال تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا
فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا
لِذُنُوبِهِمْ} . (5)
وَالنِّسْبَةُ بَيْنَ الاِسْتِغْفَارِ وَالدُّعَاءِ الْعُمُومُ
__________
(1) سورة البقرة / 186
(2) سورة غافر / 60
(3) لسان العرب المحيط، والمصباح المنير
(4) البحر المحيط 5 / 301 طبع مطبعة السعادة.
(5) سور ة آل عمران / 135
(20/257)
وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ، فَكُل
اسْتِغْفَارٍ دُعَاءٌ، وَلَيْسَ كُل دُعَاءٍ اسْتِغْفَارًا. (1)
ب - الذِّكْرُ:
4 - الذِّكْرُ هُوَ التَّلَفُّظُ بِالشَّيْءِ وَإِحْضَارُهُ فِي الذِّهْنِ
بِحَيْثُ لاَ يَغِيبُ عَنْهُ. (2)
وَذِكْرُ اللَّهِ بِالْمَعْنَى الأَْعَمِّ شَامِلٌ لِلدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ.
وَبِالْمَعْنَى الأَْخَصِّ الَّذِي هُوَ تَمْجِيدُ اللَّهِ وَتَقْدِيسُهُ
وَذِكْرُ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا مُبَايِنٌ
لِلدُّعَاءِ، وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (ذِكْرٌ) .
حُكْمُ الدُّعَاءِ:
5 - قَال النَّوَوِيُّ: إِنَّ الْمَذْهَبَ الْمُخْتَارَ الَّذِي عَلَيْهِ
الْفُقَهَاءُ وَالْمُحَدِّثُونَ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ
الطَّوَائِفِ كُلِّهَا مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ الدُّعَاءَ
مُسْتَحَبٌّ. (3)
وَقَدْ يَكُونُ الدُّعَاءُ وَاجِبًا كَالدُّعَاءِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ. وَكَالدُّعَاءِ الْوَارِدِ فِي
صَلاَةِ الْجِنَازَةِ، وَكَالدُّعَاءِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ
بَعْضِ الْفُقَهَاءِ. ر: (صَلاَةٌ، صَلاَةُ الْجِنَازَةِ، خُطْبَةٌ) .
__________
(1) مدارج السالكين 1 / 308 طبع السنة المحمدية، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة
المصابيح 3 / 460، وشرح ثلاثيات مسند أحمد 3 / 902
(2) قواعد الفقه للبركتي
(3) الأذكار ص 608 تحقيق محيي الدين.
(20/257)
ثُمَّ هَل الأَْفْضَل الدُّعَاءُ أَمِ
السُّكُوتُ وَالرِّضَا بِمَا سَبَقَ بِهِ الْقَدَرُ؟
نَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ الْقُشَيْرِيِّ قَوْلَهُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
أَنَّ الأَْفْضَل الدُّعَاءُ أَمِ السُّكُوتُ وَالرِّضَا؟ فَمِنْهُمْ مَنْ
قَال: الدُّعَاءُ عِبَادَةٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ. (1) وَلأَِنَّ الدُّعَاءَ إِظْهَارُ
الاِفْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: السُّكُوتُ تَحْتَ جَرَيَانِ الْحُكْمِ أَتَمُّ،
وَالرِّضَا بِمَا سَبَقَ بِهِ الْقَدَرُ أَوْلَى.
وَقَال قَوْمٌ: يَكُونُ صَاحِبَ دُعَاءٍ بِلِسَانِهِ وَرِضًا بِقَلْبِهِ
لِيَأْتِيَ بِالأَْمْرَيْنِ جَمِيعًا. (2)
فَضْل الدُّعَاءِ:
6 - وَرَدَ فِي فَضْل الدُّعَاءِ نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ نُورِدُ بَعْضَهَا فِيمَا يَلِي:
قَال تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي
وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} . (3)
وَمَعْنَى الْقُرْبِ هُنَا كَمَا نُقِل عَنِ الزَّرْكَشِيِّ، أَنَّهُ إِذَا
أَخْلَصَ فِي الدُّعَاءِ، وَاسْتَغْرَقَ فِي
__________
(1) حديث: " الدعاء هو العبادة " أخرجه أبو داود (2 / 161 - تحقيق عزت عبيد
دعاس) ، والترمذي (5 / 456 - ط الحلبي) من حديث النعمان بن بشير، وقال
الترمذي: " حديث حسن صحيح ".
(2) الأذكار ص 609
(3) سورة البقرة / 186
(20/258)
مَعْرِفَةِ اللَّهِ، امْتَنَعَ أَنْ
يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَقِّ وَاسِطَةٌ، وَذَلِكَ هُوَ الْقُرْبُ.
(1)
وَقَال تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ
يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . (2)
وَقَال تَعَالَى: {قُل ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا
مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَْسْمَاءُ الْحُسْنَى} . (3)
وَقَال تَعَالَى: {وَقَال رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ
الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ
دَاخِرِينَ} . (4)
وَرَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ. (5)
ثُمَّ قَرَأَ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآْيَةَ.
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ
(6)
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ
يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُل إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا
صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ. (7)
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
لَيْسَ شَيْءٌ
__________
(1) إتحاف السادة المتقين 5 / 28
(2) سورة الأعراف / 55
(3) سورة الإسراء / 110
(4) سورة غافر / 60
(5) حديث: " إن الدعاء هو العبادة ". سبق تخريجه ف / 5
(6) حديث " الدعاء مخ العبادة ". أخرجه الترمذي (5 / 456 ط الحلبي) من حديث
أنس بن مالك، وقال: " هذا حديث غريب ".
(7) حديث: " إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه. . . " أخرجه
الترمذي (5 / 557 - ط الحلبي) من حديث سلمان، وقال: " حديث حسن غريب ".
(20/258)
أَكْرَم عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل مِنَ
الدُّعَاءِ. (1)
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا عَلَى الأَْرْضِ مُسْلِمٌ
يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ إِلاَّ آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا أَوْ صَرَفَ
عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ
رَحِمٍ. (2)
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَلُوا اللَّهَ تَعَالَى مِنْ
فَضْلِهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُسْأَل، وَأَفْضَل
الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ. (3)
أَثَرُ الدُّعَاءِ:
7 - الدُّعَاءُ عِبَادَةٌ، وَلَهُ أَثَرٌ بَالِغٌ وَفَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ،
وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْنَا الْحَقُّ عَزَّ وَجَل بِالدُّعَاءِ
وَلَمْ يَرْغَبِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ،
فَكَمْ رُفِعَتْ مِحْنَةٌ بِالدُّعَاءِ، وَكَمْ مِنْ مُصِيبَةٍ أَوْ
كَارِثَةٍ كَشَفَهَا اللَّهُ بِالدُّعَاءِ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْقُرْآنُ
الْكَرِيمُ جُمْلَةً مِنَ الأَْدْعِيَةِ اسْتَجَابَهَا اللَّهُ تَعَالَى
بِمَنِّهِ وَفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ
النَّصْرِ فِي بَدْرٍ دُعَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث: " ليس شيء أكرم على الله من الدعاء ". أخرجه الترمذي (5 / 455 -
ط الحلبي) وقال ابن القطان: " رواته كلهم ثقات، وما موضع في إسناده ينظر
فيه إلا عمران، وفيه خلاف " كذا في فيض القدير (5 / 366 ط المكتبة
التجارية) .
(2) حديث: " ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة " أخرجه الترمذي (5 / 566 -
ط الحلبي) من حديث عبادة بن الصامت، وقال: " حسن صحيح ".
(3) حديث: " سلوا الله تعالى من فضله " أخرجه الترمذي (5 / 565 - ط الحلبي)
من حديث عبد الله بن مسعود، وقال الترمذي: " هكذا روى حماد بن واقد هذا
الحديث، وليس بالحافظ " وانظر إتحاف السادة المتقين مع الإحياء 5 / 30
(20/259)
وَالدُّعَاءُ سَبَبٌ أَكِيدٌ لِغُفْرَانِ
الْمَعَاصِي، وَلِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، وَلِجَلْبِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ
الشَّرِّ.
وَمَنْ تَرَكَ الدُّعَاءَ فَقَدْ سَدَّ عَلَى نَفْسِهِ أَبْوَابًا
كَثِيرَةً مِنَ الْخَيْرِ.
وَقَال الْغَزَالِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا فَائِدَةُ الدُّعَاءِ
وَالْقَضَاءُ لاَ مَرَدَّ لَهُ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْقَضَاءِ رَدُّ
الْبَلاَءِ بِالدُّعَاءِ، فَالدُّعَاءُ سَبَبٌ لِرَدِّ الْبَلاَءِ
وَاسْتِجْلاَبِ الرَّحْمَةِ، كَمَا أَنَّ التُّرْسَ سَبَبٌ لِرَدِّ
السِّهَامِ، وَالْمَاءُ سَبَبٌ لِخُرُوجِ النَّبَاتِ مِنَ الأَْرْضِ،
فَكَمَا أَنَّ التُّرْسَ يَدْفَعُ السَّهْمَ فَيَتَدَافَعَانِ، فَكَذَلِكَ
الدُّعَاءُ وَالْبَلاَءُ يَتَعَالَجَانِ.
وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الاِعْتِرَافِ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لاَ
يُحْمَل السِّلاَحُ، وَقَدْ قَال تَعَالَى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ
وَأَسْلِحَتَهُمْ} (1) ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ لاَ
يَسْقِيَ الأَْرْضَ بَعْدَ بَثِّ الْبَذْرِ، فَيُقَال: إِنْ سَبَقَ
الْقَضَاءُ بِالنَّبَاتِ نَبَتَ الْبَذْرُ وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ لَمْ
يَنْبُتْ، بَل رَبْطُ الأَْسْبَابِ بِالْمُسَبَّبَاتِ هُوَ الْقَضَاءُ
الأَْوَّل الَّذِي هُوَ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ،
وَتَرْتِيبُ تَفْصِيل الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى تَفَاصِيل الأَْسْبَابِ عَلَى
التَّدْرِيجِ وَالتَّقْدِيرُ هُوَ الْقَدَرُ، وَالَّذِي قَدَّرَ الْخَيْرَ
قَدَّرَهُ بِسَبَبٍ، وَالَّذِي قَدَّرَ الشَّرَّ قَدَّرَ لِرَفْعِهِ
سَبَبًا، فَلاَ تَنَاقُضَ بَيْنَ هَذِهِ الأُْمُورِ عِنْدَ مَنِ
انْفَتَحَتْ بَصِيرَتُهُ.
__________
(1) سورة النساء / 102
(20/259)
ثُمَّ فِي الدُّعَاءِ مِنَ الْفَائِدَةِ
أَنَّهُ يَسْتَدْعِي حُضُورَ الْقَلْبِ مَعَ اللَّهِ وَهُوَ مُنْتَهَى
الْعِبَادَاتِ، وَلِذَلِكَ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ. (1)
وَالْغَالِبُ عَلَى الْخَلْقِ أَنْ لاَ تَنْصَرِفَ قُلُوبُهُمْ إِلَى
ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل إِلاَّ عِنْدَ إِلْمَامِ حَاجَةٍ وَإِرْهَاقِ
مُلِمَّةٍ، فَإِنَّ الإِْنْسَانَ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ
عَرِيضٍ.
فَالْحَاجَةُ تُحْوِجُ إِلَى الدُّعَاءِ، وَالدُّعَاءُ يَرُدُّ الْقَلْبَ
إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل بِالتَّضَرُّعِ وَالاِسْتِكَانَةِ، فَيَحْصُل
بِهِ الذِّكْرُ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْعِبَادَاتِ.
وَلِذَلِكَ صَارَ الْبَلاَءُ مُوَكَّلاً بِالأَْنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ
السَّلَامُ، ثُمَّ الأَْوْلِيَاءِ، ثُمَّ الأَْمْثَل فَالأَْمْثَل،
لأَِنَّهُ يَرُدُّ الْقَلْبَ بِالاِفْتِقَارِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ
عَزَّ وَجَل، وَيَمْنَعُ مِنْ نِسْيَانِهِ، وَأَمَّا الْغِنَى فَسَبَبٌ
لِلْبَطَرِ فِي غَالِبِ الأُْمُورِ، فَإِنَّ الإِْنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ
رَآهُ اسْتَغْنَى. (2)
وَقَال الْخَطَّابِيُّ: فَإِنْ قِيل فَمَا تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى:
{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (3) وَهُوَ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ يَلْزَمُ
الْوَفَاءُ بِهِ، وَلاَ يَجُوزُ وُقُوعُ الْخُلْفِ فِيهِ؟ قِيل هَذَا
مُضْمَرٌ فِيهِ الْمَشِيئَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَل إِيَّاهُ
تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} (4)
__________
(1) حديث: " الدعاء مخ العبادة ". سبق تخريجه ف / 6
(2) إحياء علوم الدين 1 / 336 - 337، 339 ط الاستقامة بالقاهرة.
(3) سورة غافر / 60
(4) سورة الأنعام / 41
(20/260)
وَقَدْ يَرِدُ الْكَلاَمُ بِلَفْظٍ عَامٍّ
مُرَادُهُ خَاصٌّ، وَإِنَّمَا يُسْتَجَابُ مِنَ الدُّعَاءِ مَا وَافَقَ
الْقَضَاءَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لاَ تَظْهَرُ لِكُل دَاعٍ اسْتِجَابَةُ
دُعَائِهِ، فَعَلِمْتَ أَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ فِي نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْهُ
بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ. وَقَدْ قِيل: مَعْنَى الاِسْتِجَابَةِ: أَنَّ
الدَّاعِيَ يُعَوَّضُ مِنْ دُعَائِهِ عِوَضًا مَا، فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ
إِسْعَافًا بِطَلَبَتِهِ الَّتِي دَعَا لَهَا، وَذَلِكَ إِذَا وَافَقَ
الْقَضَاءَ، فَإِنْ لَمْ يُسَاعِدْهُ الْقَضَاءُ، فَإِنَّهُ يُعْطَى
سَكِينَةً فِي نَفْسِهِ، وَانْشِرَاحًا فِي صَدْرِهِ، وَصَبْرًا يَسْهُل
مَعَهُ احْتِمَال ثِقَل الْوَارِدَاتِ عَلَيْهِ، وَعَلَى كُل حَالٍ فَلاَ
يَعْدَمُ فَائِدَةَ دُعَائِهِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الاِسْتِجَابَةِ. (1)
آدَابُ الدُّعَاءِ:
8 - أ - أَنْ يَكُونَ مَطْعَمُ الدَّاعِي وَمَسْكَنُهُ وَمَلْبَسُهُ وَكُل
مَا مَعَهُ حَلاَلاً. (2) بِدَلِيل مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لاَ يَقْبَل إِلاَّ
طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ
الْمُرْسَلِينَ، فَقَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُل كُلُوا مِنَ
الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} (3) وَقَال تَعَالَى:
__________
(1) شأن الدعاء للخطابي ص 12 - 13 دمشق دار المأمون للتراث.
(2) إحياء علوم الدين للغزالي 1 / 312 وما بعدها والبركة في فضل السعي
والحركة 3 / 4 وما بعدها، تحفة الذاكرين ص 34 وما بعدها
(3) سورة المؤمنون / 51
(20/260)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا
مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (1) ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُل يُطِيل
السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا
رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ،
وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ
لِذَلِكَ. (2)
ب - أَنْ يَتَرَصَّدَ لِدُعَائِهِ الأَْوْقَاتَ الشَّرِيفَةَ كَيَوْمِ
عَرَفَةَ مِنَ السَّنَةِ، وَرَمَضَانَ مِنَ الأَْشْهُرِ، وَيَوْمَ
الْجُمُعَةِ مِنَ الأُْسْبُوعِ، وَوَقْتَ السَّحَرِ مِنْ سَاعَاتِ
اللَّيْل. قَال تَعَالَى: {وَبِالأَْسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (3)
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَنْزِل اللَّهُ تَعَالَى كُل
لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْل
الآْخِرُ يَقُول: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي
فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ. (4)
ج - أَنْ يَغْتَنِمَ الأَْحْوَال الشَّرِيفَةَ. قَال أَبُو هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ أَبْوَابَ السَّمَاءِ تُفْتَحُ عِنْدَ زَحْفِ
الصُّفُوفِ فِي سَبِيل اللَّهِ تَعَالَى، وَعِنْدَ نُزُول الْغَيْثِ،
وَعِنْدَ إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ، فَاغْتَنِمُوا الدُّعَاءَ
فِيهَا. وَقَال مُجَاهِدٌ: إِنَّ الصَّلاَةَ جُعِلَتْ فِي خَيْرِ
السَّاعَاتِ فَعَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ خَلْفَ
__________
(1) سورة البقرة / 172
(2) حديث: " أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا ". أخرجه مسلم (2 /
703 - ط الحلبي) .
(3) سورة الذاريات / 18
(4) حديث: " ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا. . . ". أخرجه البخاري
(الفتح 3 / 29 - ط السلفية) ومسلم (1 / 521 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(20/261)
الصَّلَوَاتِ. وَقَال صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُرَدُّ الدُّعَاءُ بَيْنَ الأَْذَانِ
وَالإِْقَامَةِ. (1) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا:
الصَّائِمُ لاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُ (2)
وَبِالْحَقِيقَةِ يَرْجِعُ شَرَفُ الأَْوْقَاتِ إِلَى شَرَفِ الْحَالاَتِ
أَيْضًا، إِذْ وَقْتُ السَّحَرِ وَقْتُ صَفَاءِ الْقَلْبِ وَإِخْلاَصِهِ
وَفَرَاغِهِ مِنَ الْمُشَوِّشَاتِ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ
وَقْتُ اجْتِمَاعِ الْهِمَمِ وَتَعَاوُنِ الْقُلُوبِ عَلَى اسْتِدْرَارِ
رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل، فَهَذَا أَحَدُ أَسْبَابِ شَرَفِ
الأَْوْقَاتِ سِوَى مَا فِيهَا مِنْ أَسْرَارٍ لاَ يَطَّلِعُ الْبَشَرُ
عَلَيْهَا. وَحَالَةُ السُّجُودِ أَيْضًا أَجْدَرُ بِالإِْجَابَةِ، قَال
أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ
وَجَل وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ (3)
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ
الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ
الرَّبَّ تَعَالَى، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ
فَقَمِنٌ
__________
(1) حديث: " لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة " أخرجه أبو داود (1 / 358
- 359 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أنس بن مالك، وحسنه ابن حجر كما في
الفتوحات الربانية (2 / 135 - ط المنيرية) .
(2) حديث: " الصائم لا ترد دعوته " أخرجه الترمذي (5 / 578 - ط الحلبي) من
حديث أبي هريرة، وقال: " حديث حسن ".
(3) حديث: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ". أخرجه مسلم (1 / 350 -
ط الحلبي) .
(20/261)
أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ. (1)
د - أَنْ يَدْعُوَ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ وَيَرْفَعَ يَدَيْهِ بِحَيْثُ
يُرَى بَيَاضُ إِبِطَيْهِ. رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْمَوْقِفَ بِعَرَفَةَ
وَاسْتَقْبَل الْقِبْلَةَ وَلَمْ يَزَل يَدْعُو حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ.
(2) وَقَال سَلْمَانُ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ
إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا (3) وَرَوَى
أَنَسٌ أَنَّهُ رَأَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبِطَيْهِ. (4)
هـ - أَنْ يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ فِي آخِرِ الدُّعَاءِ. قَال عُمَرُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا مَدَّ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يَرُدَّهُمَا حَتَّى
يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ. (5) وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَعَا
__________
(1) حديث: " إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا " أخرجه مسلم (1 / 348 - ط
الحلبي) .
(2) حديث جابر: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى الموقف بعرفة ".
أخرجه مسلم (2 / 890 - ط الحلبي) دون قوله: " يدعو " فقد أخرجه من حديث
أسامة بن زيد؛ النسائيُّ (5 / 254 - ط المكتبة التجارية) ، وقال العراقي: "
رجاله ثقات ". كذا في تخريجه لأحاديث إحياء علوم الدين (1 / 313 - ط
الحلبي) .
(3) حديث: " إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه. . . . " سبق
تخريجه ف / 6
(4) حديث أنس: " أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء
". أخرجه مسلم (2 / 612 - ط الحلبي) .
(5) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مد يديه في الدعاء لم
يردهما ". أخرجه الترمذي (5 / 464 - ط الحلبي) ، وضعفه العراقي في تخريج
إحياء علوم الدين (1 / 313) .
(20/262)
ضَمَّ كَفَّيْهِ وَجَعَل بُطُونَهُمَا
مِمَّا يَلِي وَجْهَهُ. (1)
فَهَذِهِ هَيْئَاتُ الْيَدِ، وَلاَ يَرْفَعُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ.
قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ
رَفْعِهِمْ أَبْصَارَهُمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ فِي الصَّلاَةِ إِلَى
السَّمَاءِ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ. (2)
و خَفْضُ الصَّوْتِ بَيْنَ الْمُخَافَتَةِ وَالْجَهْرِ لِقَوْلِهِ عَزَّ
وَجَل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} ، (3)
وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَْشْعَرِيَّ قَال: قَدِمْنَا مَعَ
رَسُول اللَّهِ فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ كَبَّرَ، وَكَبَّرَ
النَّاسُ وَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ: ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ،
إِنَّكُمْ لَيْسَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ
سَمِيعًا قَرِيبًا، وَالَّذِي تَدْعُونَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ
عُنُقِ رَاحِلَةِ أَحَدِكُمْ (4) وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَل:
__________
(1) حديث: " كان صلى الله عليه وسلم إذا دعا ضم كفيه وجعل بطونهما. . . . "
أخرجه الطبراني (11 / 435 - ط وزارة الأوقاف العراقية) وضعف إسناده العراقي
في تخريجه لإحياء علوم الدين (1 / 313 - ط الحلبي) ولكن له شواهد تقويه.
(2) حديث: " لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم " أخرجه مسلم (1 / 321 - ط
الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) سورة الأعراف / 55
(4) حديث: " يا أيها الناس، اربعوا على أنفسكم؛ إنكم ليس تدعون أصم ولا
غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا، والذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق
راحلة أحدكم " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 135 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2076
- 2077 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.
(20/262)
{وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ
تُخَافِتْ بِهَا} (1) أَيْ بِدُعَائِك، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَل
عَلَى نَبِيِّهِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَال: {إِذْ نَادَى
رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} (2)
ز - أَنْ لاَ يَتَكَلَّفَ السَّجْعَ فِي الدُّعَاءِ فَإِنَّ حَال الدَّاعِي
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَال مُتَضَرِّعٍ، وَالتَّكَلُّفُ لاَ يُنَاسِبُهُ.
قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي
الدُّعَاءِ، (3) وَقَدْ قَال عَزَّ وَجَل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا
وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} ، وَقِيل مَعْنَاهُ
التَّكَلُّفُ لِلأَْسْجَاعِ، وَالأَْوْلَى أَنْ لاَ يُجَاوِزَ الدَّعَوَاتِ
الْمَأْثُورَةَ، فَإِنَّهُ قَدْ يَعْتَدِي فِي دُعَائِهِ فَيَسْأَل مَا لاَ
تَقْتَضِيهِ مَصْلَحَتُهُ، فَمَا كُل أَحَدٍ يُحْسِنُ الدُّعَاءَ،
وَلِلْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَانْظُرِ السَّجْعَ مِنَ
الدُّعَاءِ فَاجْتَنِبْهُ، فَإِنِّي عَهِدْتُ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَفْعَلُونَ إِلاَّ ذَلِكَ. (4)
ح - التَّضَرُّعُ وَالْخُشُوعُ وَالرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ قَال اللَّهُ
تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ
__________
(1) سورة الإسراء / 110
(2) سورة مريم / 3
(3) حديث: " سيكون قوم يعتدون في الدعاء ". أخرجه ابن ماجه (2 / 1271 - ط
الحلبي) والحاكم (1 / 540 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله
بن مغفل، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) حديث ابن عباس: " انظر السجع في الدعاء فاجتنبه ". أخرجه البخاري
(الفتح 11 / 138 - ط السلفية) .
(20/263)
وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} (1)
وَقَال عَزَّ وَجَل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} .
ط - أَنْ يَجْزِمَ الدُّعَاءَ وَيُوقِنَ بِالإِْجَابَةِ. قَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمُ
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ،
لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لاَ مُسْتَكْرِهَ لَهُ. (2) وَقَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ
فَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ. (3)
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ
مُوقِنُونَ بِالإِْجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل لاَ
يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ. (4) وَقَال سُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ: لاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ مِنَ الدُّعَاءِ مَا يَعْلَمُ مِنْ
نَفْسِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل أَجَابَ دُعَاءَ شَرِّ الْخَلْقِ
إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ إِذْ {قَال رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ قَال فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} . (5)
__________
(1) سورة الأنبياء / 90
(2) حديث: " لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت. . . " أخرجه البخاري
(الفتح 11 / 139 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 2063 - ط الحلبي) من حديث أبي
هريرة.
(3) حديث: " إذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء " أخرجه
ابن حبان (الإحسان 2 / 127 - ط دار الكتب العلمية) من حديث أبي هريرة،
وأصله في صحيح مسلم (4 / 2063 - ط الحلبي) .
(4) حديث: " ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة " أخرجه الترمذي (5 / 517 -
ط الحلبي) والحاكم (1 / 493 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي
هريرة، وضعف الذهبي إسناده لضعف أحد رواته.
(5) سورة الحجر / 36
(20/263)
ي - أَنْ يُلِحَّ فِي الدُّعَاءِ
وَيُكَرِّرَهُ ثَلاَثًا. قَال ابْنُ مَسْعُودٍ: كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلاَثًا، وَإِذَا سَأَل سَأَل ثَلاَثًا.
(1)
ك - أَنْ لاَ يَسْتَبْطِئَ الإِْجَابَةَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُسْتَجَابُ لأَِحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَل، يَقُول
قَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي. فَإِذَا دَعَوْتَ فَاسْأَل اللَّهَ
كَثِيرًا فَإِنَّكَ تَدْعُو كَرِيمًا. (2)
ل - أَنْ يَفْتَتِحَ الدُّعَاءَ بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل
وَبِالصَّلاَةِ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَعْدَ الْحَمْدِ لِلَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَيَخْتِمَهُ بِذَلِكَ
كُلِّهِ أَيْضًا، لِمَا وَرَدَ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَال: سَمِعَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً يَدْعُو فِي
صَلاَتِهِ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ وَلَمْ يُصَل عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
عَجِل هَذَا ثُمَّ دَعَاهُ، فَقَال لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ: إِذَا صَلَّى
أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ، ثُمَّ يُصَلِّي
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَدْعُو بِمَا
شَاءَ. (3) وَدَلِيل خَتْمِهِ بِذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى:
__________
(1) حديث: " كان عليه السلام إذا دعا دعا ثلاثًا ". أخرجه مسلم (3 / 1418 -
ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود.
(2) حديث: " يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ". أخرجه البخاري (الفتح 11 / 140 -
ط السلفية) ومسلم (4 / 2095 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث: " إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله. . . . " أخرجه أبو داود (2
/ 162 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية (3 /
62 - ط المنيرية) .
(20/264)
{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1)
وَأَمَّا الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ فَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَجْعَلُونِي كَقَدَحِ الرَّاكِبِ يَجْعَل مَاءَهُ
فِي قَدَحِهِ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ شَرِبَهُ، وَإِلاَّ صَبَّهُ،
اجْعَلُونِي فِي أَوَّل كَلاَمِكُمْ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ. (2)
م - وَهُوَ الأَْدَبُ الْبَاطِنُ، وَهُوَ الأَْصْل فِي الإِْجَابَةِ:
التَّوْبَةُ وَرَدُّ الْمَظَالِمِ وَالإِْقْبَال عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل
بِكُنْهِ الْهِمَّةِ، فَذَلِكَ هُوَ السَّبَبُ الْقَرِيبُ فِي
الإِْجَابَةِ.
الدُّعَاءُ مَعَ التَّوَسُّل بِصَالِحِ الْعَمَل:
9 - يُسْتَحَبُّ لِمَنْ وَقَعَ فِي شِدَّةٍ أَنْ يَدْعُوَ بِصَالِحِ
عَمَلِهِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال:
سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول:
انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى آوَاهُمُ
الْمَبِيتُ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَل
فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ
هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ.
قَال رَجُلٌ مِنْهُمْ. . . الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَهُوَ مَذْكُورٌ ضِمْنَ
بَحْثِ (تَوَسُّلٌ - ف 7) (3)
__________
(1) سورة يونس / 10
(2) حديث: " لا تجعلوني كقدح الراكب. . . . " أخرجه ابن النجار في ذيل
تاريخ بغداد كما في كنز العمال (1 / 509 - ط الرسالة) من حديث جابر بن عبد
الله.
(3) حديث: " انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 449
- ط السلفية) ومسلم (4 / 2099 - ط الحلبي) . وانظر الأذكار ص 612 دار ابن
كثير بدمشق.
(20/264)
تَعْمِيمُ الدُّعَاءِ:
10 - يُسْتَحَبُّ تَعْمِيمُ الدُّعَاءِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: (1) يَا عَلِيُّ عَمِّمْ
(2) وَلِحَدِيثِ: مَنْ صَلَّى صَلاَةً لَمْ يَدْعُ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ فَهِيَ خِدَاجٌ (3) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلاً يَقُول: اللَّهُمَّ اغْفِرْ
لِي، فَقَال: وَيْحَكَ لَوْ عَمَّمْتَ لاَسْتُجِيبَ لَكَ (4)
الاِعْتِدَاءُ فِي الدُّعَاءِ:
11 - نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الاِعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ
بِقَوْلِهِ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ} (5) وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: سَيَكُونُ قَوْمٌ
يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ.
(6) قَال الْقُرْطُبِيُّ: الْمُعْتَدِي هُوَ الْمُجَاوِزُ لِلْحَدِّ
وَمُرْتَكِبُ الْحَظْرِ، وَقَدْ يَتَفَاضَل بِحَسَبِ مَا يُعْتَدَى فِيهِ،
ثُمَّ قَال: وَالاِعْتِدَاءُ فِي الدُّعَاءِ عَلَى وُجُوهٍ:
__________
(1) كشاف القناع 1 / 367
(2) حديث: " يا علي عمم. . . " أورده صاحب كشاف القناع (1 / 365 - ط عالم
الكتب) ولم يعزه للمصدر الذي أخرجه، ولم نهتد إليه في المصادر الموجودة بين
أيدينا.
(3) حديث: " من صلى صلاة لم يدع فيها للمؤمنين. . . " لم نهتد إليه في
المصادر الحديثية الموجودة بين أيدينا.
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 350 ط بولاق. وحديث: " لو عممت لاستجيب لك ". لم
نهتد إليه في المصادر الحديثية الموجودة بين أيدينا.
(5) سورة الأعراف / 55
(6) حديث: " سيكون قوم يعتدون في الدعاء ". سبق تخريجه ف / 8
(20/265)
مِنْهَا الْجَهْرُ الْكَثِيرُ
وَالصِّيَاحُ، وَمِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ أَنْ تَكُونَ لَهُ مَنْزِلَةُ
نَبِيٍّ، أَوْ يَدْعُوَ بِمُحَالٍ وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الشَّطَطِ.
وَمِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ طَالِبًا مَعْصِيَةً، وَنَحْوَ ذَلِكَ. (1)
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَحْرُمُ سُؤَال الْعَافِيَةِ مَدَى الدَّهْرِ،
وَالْمُسْتَحِيلاَتِ الْعَادِيَّةِ كَنُزُول الْمَائِدَةِ،
وَالاِسْتِغْنَاءِ عَنِ التَّنَفُّسِ فِي الْهَوَاءِ، أَوْ ثِمَارًا مِنْ
غَيْرِ أَشْجَارٍ، كَمَا يَحْرُمُ الدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ
لِلْكُفَّارِ. (2)
الدُّعَاءُ بِالْمَأْثُورِ وَغَيْرِ الْمَأْثُورِ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ كُل دُعَاءٍ دُنْيَوِيٍّ
وَأُخْرَوِيٍّ، وَلَكِنَّ الدُّعَاءَ بِالْمَأْثُورِ أَفْضَل مِنْ
غَيْرِهِ. (3)
الدُّعَاءُ فِي الصَّلاَةِ:
13 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُسَنُّ الدُّعَاءُ فِي
التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ بَعْدَ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُشْبِهُ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ، أَوْ
بِمَا يُشْبِهُ أَلْفَاظَ السُّنَّةِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ الدُّعَاءُ بِمَا
يُشْبِهُ كَلاَمَ النَّاسِ كَأَنْ يَقُول: اللَّهُمَّ زَوِّجْنِي
فُلاَنَةَ، أَوِ اعْطِنِي كَذَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَالْمَنَاصِبِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ:
يُسَنُّ
__________
(1) تفسير القرطبي 7 / 226
(2) حاشية ابن عابدين (1 / 350 ط بولاق) .
(3) روضة الطالبين للنووي 1 / 265، وأسنى المطالب 1 / 16
(20/265)
الدُّعَاءُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَقَبْل
السَّلاَمِ بِخَيْرَيِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ
بِشَيْءٍ مُحَرَّمٍ أَوْ مُسْتَحِيلٍ أَوْ مُعَلَّقٍ، فَإِنْ دَعَا
بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، وَالأَْفْضَل أَنْ يَدْعُوَ
بِالْمَأْثُورِ. (1)
طَلَبُ الدُّعَاءِ مِنْ أَهْل الْفَضْل:
14 - يُسْتَحَبُّ طَلَبُ الدُّعَاءِ مِنْ أَهْل الْفَضْل وَإِنْ كَانَ
الطَّالِبُ أَفْضَل مِنَ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ، (2) فَعَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُمْرَةِ، فَأَذِنَ، وَقَال: لاَ
تَنْسَنَا يَا أَخِي مِنْ دُعَائِكَ (3) فَقَال كَلِمَةً مَا يَسُرُّنِي
أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا.
فَضْل الدُّعَاءِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ:
15 - قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ
يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا
بِالإِْيمَانِ} . (4) وَقَال تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 351، ونهاية المحتاج للرملي 1 / 511، ومواهب الجليل
وكشاف القناع 1 / 360 - 361، وروضة الطالبين للنووي 1 / 365، وأسنى المطالب
1 / 166، وحاشية الشرقاوي 1 / 311، والفتاوى الهندية 1 / 72، والمغني لابن
قدامة 1 / 585، والدسوقي 1 / 52، 232، البدائع 1 / 213، قليوبي 1 / 168
(2) الأذكار ص 615
(3) حديث: " لا تنسنا يا أخيّ من دعائك ". أخرجه أبو داود (2 / 169 - تحقيق
عزت عبيد دعاس) وفي إسناده راو ضعيف مترجم في ميزان الاعتدال للذهبي (2 /
353 - 354 - ط الحلبي) .
(4) سورة الحشر / 10
(20/266)
لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ} . (1) وَقَال تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (2) وَقَال تَعَالَى
إِخْبَارًا عَنْ نُوحٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {رَبِّ اغْفِرْ
لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَل بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ} . (3)
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَا مِنْ عَبْدٍ
مُسْلِمٍ يَدْعُو لأَِخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ إِلاَّ قَال الْمَلَكُ،
وَلَكَ بِمِثْلٍ (4) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُول: دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ
لأَِخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ
مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لأَِخِيهِ بِخَيْرٍ، قَال الْمَلَكُ الْمُوَكَّل
بِهِ: آمِينَ، وَلَكَ بِمِثْلٍ.
(5) وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
إِنَّ أَسْرَعَ الدُّعَاءِ إِجَابَةً دَعْوَةُ غَائِبٍ لِغَائِبٍ. (6)
__________
(1) سورة محمد / 19
(2) سورة إبراهيم / 41
(3) سورة نوح / 28
(4) حديث: " ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب. . . " أخرجه مسلم (4 /
2094 - ط الحلبي) .
(5) حديث: " دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة ". أخرجه مسلم (4
/ 2094 - ط الحلبي) .
(6) حديث: " إن أسرع الدعاء إجابة دعوة غائب لغائب. . . " أخرجه أبو داود
(2 / 186 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (4 / 352 - ط الحلبي) ، وضعف
الترمذي إسناده.
(20/266)
اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ لِمَنْ أَحْسَنَ
إِلَيْهِ:
16 - قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صُنِعَ
إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَال لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ
أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ. (1)
وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ
مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ
فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ. (2)
الدُّعَاءُ لِلذِّمِّيِّ إِذَا فَعَل مَعْرُوفًا:
17 - قَال النَّوَوِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى لَهُ
(أَيِ الذِّمِّيِّ) بِالْمَغْفِرَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِمَّا لاَ يُقَال
لِلْكُفَّارِ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى لَهُ بِالْهِدَايَةِ وَصِحَّةِ
الْبَدَنِ وَالْعَافِيَةِ وَشِبْهِ ذَلِكَ. (3)
لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: اسْتَسْقَى
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَقَاهُ يَهُودِيٌّ،
فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جَمَّلَكَ
اللَّهُ فَمَا رَأَى الشَّيْبَ حَتَّى مَاتَ. (4)
__________
(1) حديث: " من صنع إليه معروف فقال لفاعله جزاك الله خيرًا. . . " أخرجه
الترمذي (4 / 380 - ط الحلبي) من حديث أسامة بن زيد، وقال: " حديث حسن جيد
".
(2) حديث: " من صنع إليكم معروفًا فكافئوه ". أخرجه أبو داود (2 / 310 -
تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 412 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه
الحاكم ووافقه الذهبي
(3) الأذكار ص 496
(4) حديث: " استسقى النبي صلى الله عليه وسلم فسقاه يهودي ". أخرجه ابن
السني في عمل اليوم والليلة (ص 143 - ط دار البيان) وفيه راو ضعيف ترجم له
الذهبي في " الميزان " (1 / 327 - ط الحلبي) .
(20/267)
دُعَاءُ الإِْنْسَانِ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ
أَوْ ظَلَمَ الْمُسْلِمِينَ:
18 - قَال اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ
مِنَ الْقَوْل إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} (1) قَال الْقُرْطُبِيُّ: الَّذِي
يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الآْيَةِ أَنَّ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَنْتَصِرَ مِنْ
ظَالِمِهِ، وَلَكِنْ مَعَ اقْتِصَادٍ، إِنْ كَانَ الظَّالِمُ مُؤْمِنًا،
كَمَا قَال الْحَسَنُ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَأَرْسِل لِسَانَكَ وَادْعُ
بِمَا شِئْتَ مِنَ الْهَلَكَةِ وَبِكُل دُعَاءٍ، كَمَا فَعَل النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَال: اللَّهُمَّ اشْدُدْ
وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ. اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ
كَسِنِي يُوسُفَ. (2) وَقَال: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِفُلاَنٍ وَفُلاَنٍ
سَمَّاهُمْ (3) وَإِنْ كَانَ مُجَاهِرًا بِالظُّلْمِ دَعَا عَلَيْهِ
جَهْرًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِرْضٌ مُحْتَرَمٌ، وَلاَ بَدَنٌ مُحْتَرَمٌ،
وَلاَ مَالٌ مُحْتَرَمٌ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ قَال:
سُرِقَ لَهَا شَيْءٌ فَجَعَلَتْ تَدْعُو عَلَيْهِ، فَقَال النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُسَبِّخِي عَنْهُ أَيْ لاَ
تُخَفِّفِي عَنْهُ الْعُقُوبَةَ بِدُعَائِكِ عَلَيْهِ. (4)
__________
(1) سورة النساء / 148
(2) حديث: " اللهم اشدد وطأتك على مضر ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 492 - ط
السلفية) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث: " اللهم عليك بفلان وفلان ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 106 - ط
السلفية) من حديث عبد الله بن مسعود.
(4) القرطبي 6 / 2 وحديث: " لا تسبخي عنه ". أخرجه أبو داود (2 / 168 -
تحقيق عزت عبيد دعاس) . وفي إسناده انقطاع.
(20/267)
قَال النَّوَوِيُّ: اعْلَمْ أَنْ هَذَا
الْبَابَ وَاسِعٌ جِدًّا، وَقَدْ تَظَاهَرَ عَلَى جَوَازِهِ نُصُوصُ
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَفْعَال سَلَفِ الأُْمَّةِ وَخَلَفِهَا،
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ
مَعْلُومَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ عَنِ الأَْنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ
وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِمْ بِدُعَائِهِمْ عَلَى الْكُفَّارِ. (1)
وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال يَوْمَ الأَْحْزَابِ: مَلأََ اللَّهُ قُبُورَهُمْ
وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا حَبَسُونَا وَشَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ
الْوُسْطَى. (2)
وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَْكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلاً
أَكَل بِشِمَالِهِ عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَال: كُل بِيَمِينِكَ قَال: لاَ أَسْتَطِيعُ، قَال: لاَ
اسْتَطَعْتَ مَا مَنَعَهُ إِلاَّ الْكِبْرُ قَال: فَمَا رَفَعَهَا إِلَى
فِيهِ.
قَال النَّوَوِيُّ: هَذَا الرَّجُل هُوَ بُسْرٌ - بِضَمِّ الْبَاءِ
وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ - ابْنُ رَاعِي الْعِيرِ الأَْشْجَعِيُّ،
صَحَابِيٌّ، فَفِيهِ جَوَازُ الدُّعَاءِ عَلَى مَنْ خَالَفَ الْحُكْمَ
الشَّرْعِيَّ.
(3) وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَال: شَكَا أَهْل الْكُوفَةِ
__________
(1) الأذكار ص 479
(2) حديث: " ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 105
- ط السلفية) ، ومسلم (1 / 436 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.
(3) حديث: " كل بيمينك ". أخرجه مسلم (3 / 1599 ط الحلبي) .
(20/268)
سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَعَزَلَهُ وَاسْتَعْمَل
عَلَيْهِمْ. . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَال: أَرْسَل مَعَهُ عُمَرُ
رِجَالاً أَوْ رَجُلاً إِلَى الْكُوفَةِ يَسْأَل عَنْهُ، فَلَمْ يَدَعْ
مَسْجِدًا إِلاَّ سَأَل عَنْهُ وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا، حَتَّى دَخَل
مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَال لَهُ:
أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ، يُكَنَّى أَبَا سَعْدَةَ فَقَال: أَمَّا إِذَا
نَشَدْتَنَا فَإِنَّ سَعْدًا لاَ يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، وَلاَ يَقْسِمُ
بِالسَّوِيَّةِ، وَلاَ يَعْدِل فِي الْقَضِيَّةِ. قَال سَعْدٌ: أَمَا
وَاللَّهِ لأََدْعُوَنَّ بِثَلاَثٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا
كَاذِبًا قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَأَطِل عُمُرَهُ، وَأَطِل فَقْرَهُ،
وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ. فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُول: شَيْخٌ مَفْتُونٌ
أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ. قَال عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ
الرَّاوِي عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ
سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الْكِبَرِ، وَإِنَّهُ
لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ فَيَغْمِزُهُنَّ.
وَعَنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا، خَاصَمَتْهُ أَرْوَى بِنْتُ أَوْسٍ - وَقِيل: أُوَيْسٍ
- إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَادَّعَتْ أَنَّهُ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ
أَرْضِهَا، فَقَال سَعِيدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا كُنْتُ آخُذُ مِنْ
أَرْضِهَا شَيْئًا بَعْدَ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَال: مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَال سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الأَْرْضِ
ظُلْمًا طُوِّقَهَ
(20/268)
إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ. (1) قَال
مَرْوَانُ: لاَ أَسْأَلُكَ بَيِّنَةً بَعْدَ هَذَا، فَقَال سَعِيدٌ:
اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا وَاقْتُلْهَا فِي
أَرْضِهَا، قَال: فَمَا مَاتَتْ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهَا، وَبَيْنَمَا هِيَ
تَمْشِي فِي أَرْضِهَا إِذْ وَقَعَتْ فِي حُفْرَةٍ فَمَاتَتْ.
نَهْيُ الْمُكَلَّفِ عَنْ دُعَائِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ:
19 - قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَدْعُوا
عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَوْلاَدِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا
عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لاَ تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَل فِيهَا
عَطَاءً فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ. (2)
الأَْدْعِيَةُ فِي الْمُنَاسَبَاتِ:
20 - هُنَاكَ أَدْعِيَةٌ تُقَال أَثْنَاءَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ
وَبَعْدَهَا، وَعِنْدَ صَلاَةِ الْكُسُوفِ، وَالْخُسُوفِ،
وَالاِسْتِسْقَاءِ، وَالْحَاجَةِ، وَالاِسْتِخَارَةِ، تُنْظَرُ فِي
مَوَاضِعِهَا، وَأَدْعِيَةٌ تَتَعَلَّقُ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل، وَأَثْنَاءَ
الصِّيَامِ، وَعِنْدَ الإِْفْطَارِ، وَفِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، تُنْظَرُ
فِي مُصْطَلَحِ (صَوْمٌ) .
وَأَدْعِيَةٌ تُقَال فِي أَعْمَال الْحَجِّ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ:
(حَجٌّ) .
__________
(1) حديث: " من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه. . . " أخرجه البخاري (الفتح
6 / 293 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1231 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " لا تدعوا على أنفسكم ". أخرجه مسلم (4 / 2304 - ط الحلبي) من
حديث جابر بن عبد الله.
(20/269)
وَأَدْعِيَةٌ تُقَال بَعْدَ عَقْدِ
النِّكَاحِ، وَعِنْدَ الزِّفَافِ تُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاحٌ) .
وَهُنَاكَ أَدْعِيَةٌ فِي الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ، وَعِنْدَ
الْمُهِمَّاتِ، أُلِّفَتْ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ، كَكِتَابِ الأَْذْكَارِ
لِلنَّوَوِيِّ، وَعَمَل الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لِلنَّسَائِيِّ، وَلاِبْنِ
السُّنِّيِّ وَغَيْرِهَا.
(20/269)
دَعْوَى
التَّعْرِيفُ:
1 - الدَّعْوَى فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنَ الاِدِّعَاءِ، مَصْدَرُ ادَّعَى،
وَتُجْمَعُ عَلَى دَعَاوَى بِكَسْرِ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا.
وَلَهَا فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا: الطَّلَبُ
وَالتَّمَنِّي، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {لَهُمْ فِيهَا
فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} . (1) وَمِنْهَا: الدُّعَاءُ، كَمَا
فِي قَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ
دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . (2) وَمِنْهَا:
الزَّعْمُ. وَلاَ تُطْلَقُ الدَّعْوَى عَلَى الْقَوْل الْمُؤَيَّدِ
بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، بَل يَكُونُ ذَلِكَ حَقًّا، وَصَاحِبُهُ
مُحِقًّا لاَ مُدَّعِيًا، فَلاَ تُطْلَقُ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِنَّ مَا صَدَرَ عَنْهُ مَقْرُونٌ
بِالْحُجَّةِ السَّاطِعَةِ، وَهِيَ الْمُعْجِزَةُ. وَكَانُوا يُسَمُّونَ
مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ مُدَّعِيًا لِلنُّبُوَّةِ.
وَالدَّعْوَى فِي الاِصْطِلاَحِ: قَوْلٌ يَطْلُبُ بِهِ
__________
(1) سورة يس / 57
(2) سورة يونس / 10
(20/270)
الإِْنْسَانُ إِثْبَاتَ حَقٍّ عَلَى
الْغَيْرِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي أَوِ الْمُحَكَّمِ. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَضَاءُ:
2 - الْقَضَاءُ فِي اللُّغَةِ: الْحُكْمُ. وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ:
تَبْيِينُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَالإِْلْزَامُ بِهِ، وَفَصْل
الْخُصُومَةِ. (2) وَالصِّلَةُ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالْقَضَاءِ أَنَّ
الدَّعْوَى طَلَبُ حَقٍّ، وَالْقَضَاءُ نَهْوِ الْحُكْمِ فِي هَذَا
الطَّلَبِ وَالإِْلْزَامِ بِهِ.
ب - التَّحْكِيمُ:
3 - التَّحْكِيمُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ حَكَّمَ، يُقَال:
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، تاج العروس، التعريفات ص 72، المبسوط 17 /
29 مطبعة السعادة بمصر - الطبعة الأولى، وانظر تنوير الأبصار 1 / 370، 372
ط مصطفى الحلبي 1386 هـ، والفروق 4 / 72 مطبعة عيسى الحلبي - الطبعة الأولى
1346، وتحفة المحتاج 10 / 285 المطبعة الميمنية بمصر - الطبعة الثالثة 1315
هـ، والمغني 9 / 271مطعة دار المنار الطبعة الثالثة 1367 هـ، وكشاف القناع
4 / 227 المطبعة العامرة الشرقية - الطبعة الأولى 1319 هـ وغاية المنتهى 3
/ 476 مؤسسة دار السلام للطباعة والنشر بدمشق - الطبعة الأولى، ومنتهى
الإرادات - القسم الثاني ص 628 - مطبعة دار الجيل الجديد 1381 هـ. تحقيق
الشيخ عبد الغني عبد الخالق.
(2) بدائع الصنائع 7 / 2، ومغني المحتاج 4 / 372، ومطالب أولي النهى في شرح
غاية المنتهى 6 / 453
(20/270)
حَكَّمُوهُ بَيْنَهُمْ: أَيْ فَوَّضُوهُ
أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ،
وَيُقَال: حَكَّمْنَا فُلاَنًا فِيمَا بَيْنَنَا أَيْ أَجَزْنَا حُكْمَهُ
بَيْنَنَا.
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: تَوْلِيَةُ الْخَصْمَيْنِ حَاكِمًا
يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا. (1)
وَعَلَى هَذَا يَشْتَرِكُ التَّحْكِيمُ وَالدَّعْوَى فِي أَنَّ كُلًّا
مِنْهُمَا يَتَضَمَّنُ طَلَبَ الْفَصْل فِي الْخُصُومَةِ، وَيَخْتَلِفَانِ
مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ، وَالأَْثَرُ، وَالْمَحَل:
فَالتَّحْكِيمُ فِي حَقِيقَتِهِ عَقْدٌ مَبْنَاهُ عَلَى اتِّفَاقِ
إِرَادَتَيْنِ، حَيْثُ يَكُونُ بِتَرَاضِي الْخُصُومِ عَلَى اخْتِيَارِ
مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا، وَلاَ يَصِحُّ بِإِرَادَةِ أَحَدِهِمَا دُونَ
الآْخَرِ. (2) أَمَّا الدَّعْوَى فَهِيَ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ يَقُومُ بِهِ
الْمُدَّعِي بِإِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ.
وَلِلتَّحْكِيمِ أَثَرٌ إِنْشَائِيٌّ، حَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
إِنْشَاءُ وِلاَيَةٍ خَاصَّةٍ لِلْمُحَكَّمِ لَمْ تَكُنْ لَهُ قَبْل
التَّحْكِيمِ، أَمَّا الدَّعْوَى فَلَيْسَ لَهَا مِثْل هَذَا الأَْثَرِ،
إِذْ تُرْفَعُ إِلَى الْقَاضِي الَّذِي يَسْتَمِدُّ وِلاَيَتَهُ مِنْ
عَقْدِ التَّوْلِيَةِ.
وَالتَّحْكِيمُ يَجُوزُ فِي الأَْمْوَال بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ،
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ. (3)
__________
(1) البحر الرائق 7 / 24 طبع دار الكتب العربية الكبرى بمصر.
(2) فتح القدير 5 / 500 طبعة بولاق 1318 هـ، أدب القضاء لابن أبي الدم ص
139 طبع دمشق 1975 م
(3) روضة القضاة ص 80 طبع بغداد 1970 م، تبصرة الحكام 1 / 55، أدب القضاء ص
138طبع دمشق، الإنصاف 11 / 198 - مطبعة السنة المحمدية 1958م.
(20/271)
أَمَّا الدَّعْوَى فَتَصِحُّ فِي جَمِيعِ
الْحُقُوقِ بِلاَ خِلاَفٍ.
ج - الاِسْتِفْتَاءُ:
4 - الاِسْتِفْتَاءُ طَلَبُ الإِْفْتَاءِ، وَالإِْفْتَاءُ هُوَ:
الإِْخْبَارُ عَنْ حُكْمِ الشَّارِعِ فِي أَمْرٍ مِنَ الأُْمُورِ بِنَاءً
عَلَى اسْتِقْرَاءِ الأَْدِلَّةِ وَاتِّبَاعِ مُقْتَضَيَاتِهَا. (1)
وَعَلَيْهِ فَإِنَّ الاِسْتِفْتَاءَ هُوَ طَلَبُ بَيَانِ الْحُكْمِ
الشَّرْعِيِّ فِي أَمْرٍ مِنَ الأُْمُورِ.
وَتَخْتَلِفُ الدَّعْوَى عَنْهُ أَنَّ فِيهَا طَلَبَ إِلْزَامِ الْخَصْمِ
بِحَقٍّ، فَتَقْتَضِي وُجُودَ خَصْمٍ يُطْلَبُ إِلْزَامُهُ بِالْحَقِّ،
وَلَيْسَ فِي الاِسْتِفْتَاءِ طَلَبُ إِلْزَامٍ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ
وُجُودُ خَصْمٍ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - لَمَّا كَانَتِ الدَّعْوَى فِي حَقِيقَتِهَا إِخْبَارًا يُقْصَدُ بِهِ
طَلَبُ حَقٍّ أَمَامَ الْقَضَاءِ، وَهِيَ تَحْتَمِل الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ،
فَمِنَ الْبَدَهِيِّ أَنْ تَكُونَ مُحَرَّمَةً إِذَا كَانَتْ دَعْوَى
كَاذِبَةً، وَكَانَ الْمُدَّعِي يَعْلَمُ ذَلِكَ، أَوْ يَغْلِبُ ذَلِكَ
عَلَى ظَنِّهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُحِقٌّ
فِي دَعْوَاهُ، فَهِيَ عِنْدَئِذٍ تَصَرُّفٌ مُبَاحٌ، فَلَهُ أَنْ
يَرْفَعَهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ يَقْصِدُ بِهَا الضِّرَارَ، فَتَكُونُ
مُحَرَّمَةً، كَمَا لَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ غَرِيمَهُ لاَ يُنْكِرُ
حَقَّهُ، وَأَنَّهُ عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِتَوْفِيَتِهِ إِيَّاهُ،
فَيَرْفَعُ الدَّعْوَى لِلتَّشْهِيرِ بِهِ، فَتَكُونُ مُحَرَّمَةً.
__________
(1) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 5 مطبعة الأنوار بمصر - الطبعة
الأولى 1938 م، والإنصاف 11 / 186
(20/271)
أَرْكَانُ الدَّعْوَى:
6 - أَرْكَانُ الدَّعْوَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ هِيَ:
الْمُدَّعِي، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْمُدَّعَى، وَالْقَوْل الَّذِي
يَصْدُرُ عَنِ الْمُدَّعِي يَقْصِدُ بِهِ طَلَبَ حَقٍّ لِنَفْسِهِ أَوْ
لِمَنْ يُمَثِّلُهُ. وَلِكُل رُكْنٍ مِنْ هَذِهِ الأَْرْكَانِ شُرُوطٌ
خَاصَّةٌ سَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِيمَا بَعْدُ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ رُكْنُ الدَّعْوَى هُوَ التَّعْبِيرُ الْمَقْبُول
الَّذِي يَصْدُرُ عَنْ إِنْسَانٍ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ يَقْصِدُ بِهِ
طَلَبَ حَقٍّ لَهُ أَوْ لِمَنْ يُمَثِّلُهُ، مِثْل قَوْل الرَّجُل: لِي
عَلَى فُلاَنٍ أَوْ قِبَل فُلاَنٍ كَذَا، أَوْ قَضَيْتُ حَقَّ فُلاَنٍ،
أَوْ أَبْرَأَنِي عَنْ حَقِّهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي
أَنَّ الرُّكْنَ هَل هُوَ مُجَرَّدُ التَّعْبِيرِ الطَّلَبِيِّ مِنْ قَوْلٍ
أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ، أَوْ أَنَّهُ هُوَ مَدْلُول ذَلِكَ
التَّعْبِيرِ، أَوْ أَنَّهُ كِلاَ الأَْمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَبِعِبَارَةٍ
أُخْرَى هَل رُكْنُ الدَّعْوَى هُوَ الدَّال أَوِ الْمَدْلُول أَوْ
كِلاَهُمَا؟ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى كُل وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأَْقْوَال
جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ. (1)
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 222 مطبعة الجمالية بالقاهرة 1910 م، حاشية
الشرنبلالي على درر الحكام 2 / 329 المطبعة العامرة الشرقية 1304 هـ، تبيين
الحقائق وحاشية الشلبي 4 / 290 - المطبعة الأميرية - الطبعة الأولى 1314
هـ، الدرر المنتقى في شرح الملتقى 2 / 205 مطبوع على هامش مجمع الأنهر -
المطبعة العثمانية - الطبعة الأولى 1327هـ، المجاني الزهرية على الفواكه
البدرية ص18 مطبعة النيل بالقاهرة
(20/272)
كَيْفِيَّةُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ
الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ:
7 - تَمْيِيزُ الْقَاضِي الْمُدَّعِي مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُعْتَبَرُ
مِنْ أَهَمِّ الأُْمُورِ الَّتِي تُعِينُهُ عَلَى إِصَابَةِ الْحَقِّ فِي
الأَْحْكَامِ الَّتِي يُصْدِرُهَا، ذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ جَعَل عِبْءَ
الإِْثْبَاتِ فِي الدَّعْوَى عَلَى الْمُدَّعِي. وَعِبْءَ دَفْعِهَا
بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْمُدَّعِي
إِثْبَاتَهَا بِالْبَيِّنَةِ. وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ الْعِبْءَ الأَْوَّل
أَثْقَل مِنَ الْعِبْءِ الثَّانِي، فَإِنْ أَخْطَأَ الْقَاضِي فِي
التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ سَيُحَمِّل الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
الْعِبْءَ الأَْثْقَل، وَيَجْعَل عَلَى الْمُدَّعِي الْعِبْءَ الأَْخَفَّ،
مِمَّا قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْخَطَأِ فِي الْحُكْمِ وَالظُّلْمِ فِي
الْقَضَاءِ.
لِذَلِكَ اجْتَهَدَ الْفُقَهَاءُ فِي وَضْعِ الضَّوَابِطِ الَّتِي تُعِينُ
الْقُضَاةَ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي
أَيَّةِ خُصُومَةٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، وَيُمْكِنُ حَصْرُ
أَقْوَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي اتِّجَاهَيْنِ:
8 - الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَاعْتَمَدُوا فِيهِ عَلَى النَّظَرِ
إِلَى جَنَبَةِ كُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ الْمُتَنَازِعَيْنِ: فَمَنْ
كَانَتْ جَنَبَتُهُ قَوِيَّةً بِشَهَادَةِ أَيِّ أَمْرٍ مُصَدِّقٍ
لِقَوْلِهِ كَانَ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالآْخَرُ مُدَّعِيًا. وَمَعَ
اتِّفَاقِ أَصْحَابِ هَذَا الاِتِّجَاهِ عَلَى هَذَا الأَْصْل، إِلاَّ
أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الأَْمْرِ الْمُصَدِّقِ الَّذِي إِذَا
تَجَرَّدَ عَنْهُ قَوْل أَحَدِ الْمُتَخَاصِمَيْنِ كَانَ هُوَ الْمُدَّعِي،
فَتَبَايَنَتْ - بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ - تَعْرِيفَاتُهُمْ لِلْمُدَّعِي
وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى النَّحْوِ الآْتِي:
(20/272)
أَوَّلاً: ذَهَبَ مُعْظَمُ فُقَهَاءِ
الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ مَنْ تَجَرَّدَتْ دَعْوَاهُ
عَنْ أَمْرٍ يُصَدِّقُهُ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ: أَوْ كَانَ أَضْعَفَ
الْمُتَدَاعِيَيْنِ أَمْرًا فِي الدَّلاَلَةِ عَلَى الصِّدْقِ. (1)
وَفَسَّرَ آخَرُونَ مِنْهُمْ هَذَا الأَْمْرَ الْمُصَدِّقَ بِقَوْلِهِمِ:
الْمُدَّعِي هُوَ مَنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ قَوْلُهُ بِمَعْهُودٍ أَوْ أَصْلٍ.
وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَكْسُهُ. وَالْمَعْهُودُ هُوَ الْعُرْفُ
وَالْعَادَةُ وَالْغَالِبُ. (2)
وَرَأَى بَعْضُهُمْ تَقْيِيدَ التَّعْرِيفِ السَّابِقِ لِلْمُدَّعِي
بِقَوْلِهِ " حَال الدَّعْوَى "، أَيْ أَنَّ: التَّجَرُّدَ الْمَقْصُودَ
هُوَ الَّذِي يَكُونُ حَال الدَّعْوَى، وَقَبْل إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ،
وَلِذَلِكَ قَال بَعْضُهُمْ " بِمُصَدِّقٍ غَيْرِ بَيِّنَةٍ "، أَيْ أَنْ
لاَ يَكُونَ الأَْمْرُ الْمُصَدِّقُ الَّذِي تَجَرَّدَ عَنْهُ قَوْل
الْمُدَّعِي هُوَ الْبَيِّنَةُ، فَإِنَّهُ يَظَل مُدَّعِيًا وَلَوْ لَمْ
يَتَجَرَّدْ قَوْلُهُ مِنْهَا. (3)
__________
(1) حاشية الأمير 2 / 316 المطبعة البهية الشرقية 1304 هـ، مواهب الجليل 6
/ 124 مطبعة السعادة بمصر - الطبعة الأولى 1325 هـ.
(2) تبصرة الحكام 1 / 123 مطبعة مصطفى الحلبي 1958 م مطبوع على هامش فتح
العلي المالك، القوانين الفقهية ص 288 مطبعة النهضة بتونس 1926م، البهجة في
شرح التحفة 1 / 28 المطبعة البهية بمصر، ياقوتة الحكام ص 4، المطبعة
المولوية بفاس العليا - الطبعة الأولى 1327 هـ، العقد المنظم للحكام 2 /
198 مطبوع على هامش تبصرة الحكام - المطبعة العامرة الشرقية - الطبعة
الأولى 1301 هـ، الخرشي 7 / 154 - المطبعة الأميرية الكبرى ببولاق - الطبعة
الثانية 1317 هـ
(3) حاشية الدسوقي 4 / 143 - مطبعة عيسى الحلبي، التاج والإكليل ومواهب
الجليل 6 / 124 مطبعة السعادة بمصر - الطبعة الأولى 1329 هـ، شرح حدود ابن
عرفة ص 470 - المطبعة التونسية بتونس - الطبعة الأولى 1350 هـ، حاشية
الأمير 2 / 316
(20/273)
ثُمَّ إِنَّ الأَْمْرَ الْمُصَدِّقَ
الَّذِي إِذَا اعْتَضَدَ بِهِ جَانِبُ أَحَدِ الْمُتَخَاصِمَيْنِ كَانَ
دَلِيلاً عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ
أَحَدَ شَيْئَيْنِ هُمَا:
الأَْصْل وَالظَّاهِرُ:
9 - أَمَّا الأَْصْل فَهُوَ الْقَاعِدَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْمَعْمُول بِهَا
فِي الْوَاقِعَةِ الْمَخْصُوصَةِ، أَوِ الدَّلاَلَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ،
أَوِ اسْتِصْحَابُ الْحَال الأَْوَّل. (1) وَقَدْ ذَكَرُوا مِنَ الأُْصُول:
1 - الأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنَ الْحُقُوقِ قَبْل عِمَارَتِهَا:
فَمَنِ ادَّعَى دَيْنًا عَلَى آخَرَ، فَأَنْكَرَ الْمَطْلُوبُ كَانَ
الْمُنْكِرُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، لأَِنَّ الأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ،
وَقَدْ عَضَّدَهُ هَذَا الأَْصْل، فَكَانَ الْقَوْل لَهُ بِيَمِينِهِ إِنْ
لَمْ تَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ. وَلَوِ اعْتَرَفَ الْمَطْلُوبُ
بِالدَّيْنِ وَادَّعَى الْقَضَاءَ، لَكَانَ الطَّالِبُ هُوَ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ فِي هَذَا الدَّفْعِ، لأَِنَّ الأَْصْل اسْتِصْحَابُ عِمَارَةِ
الذِّمَّةِ بَعْدَ ثُبُوتِ شُغْلِهَا، فَكَانَ الْقَوْل لَهُ بِيَمِينِهِ
إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلآْخَرِ بَيِّنَةٌ.
2 - الأَْصْل فِي الإِْنْسَانِ الصِّحَّةُ قَبْل ثُبُوتِ مَرَضِهِ،
وَيَكُونُ مُدَّعِي الْمَرَضِ مُدَّعِيًا خِلاَفَ الأَْصْل، فَعَلَيْهِ
الْبَيِّنَةُ، فَإِذَا وَقَعَ طَلاَقُ رَجُلٍ لِزَوْجَتِهِ طَلاَقًا
بَائِنًا، ثُمَّ مَاتَ، فَقَامَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 122
(20/273)
الْوَرَثَةِ تَدَّعِي أَنَّهُ طَلَّقَ فِي
مَرَضِ الْمَوْتِ لِكَيْ تَرِثَ مِنْهُ، فَأَنْكَرَ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ،
كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُدَّعِيَةً خِلاَفَ الأَْصْل الَّذِي يَقْضِي بِأَنَّ
الإِْنْسَانَ سَلِيمٌ حَتَّى يَثْبُتَ مَرَضُهُ، فَعَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ
وَالْقَوْل لِلْوَرَثَةِ.
3 - الأَْصْل عَدَمُ الْمَضَارَّةِ وَالتَّعَدِّي، فَلَوِ ادَّعَى شَخْصٌ
عَلَى الطَّبِيبِ الْعَمْدَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمَأْذُونِ فِيهِ،
فَادَّعَى الطَّبِيبُ الْخَطَأَ، فَإِنَّ الْقَوْل لَهُ.
4 - الأَْصْل فِي الإِْنْسَانِ الْجَهْل بِالشَّيْءِ حَتَّى يَقُومَ
عَلَيْهِ الدَّلِيل بِالْعِلْمِ، فَإِذَا قَامَ الشَّرِيكُ يَطْلُبُ
حِصَّةَ شَرِيكِهِ بِالشُّفْعَةِ مِمَّنِ اشْتَرَاهَا، وَكَانَ ذَلِكَ
بَعْدَ مُرُورِ عَامٍ عَلَى عَقْدِ الْبَيْعِ، فَادَّعَى الْمُشْتَرِي
عِلْمَ الشَّرِيكِ بِالْبَيْعِ، وَادَّعَى هُوَ جَهْلَهُ بِذَلِكَ كَانَ
الْقَوْل قَوْل الشَّرِيكِ، وَالْمُشْتَرِي هُوَ الْمُدَّعِي، وَعَلَيْهِ
الْبَيِّنَةُ الَّتِي تَشْهَدُ أَنَّ الشَّرِيكَ كَانَ عَلَى عِلْمٍ
بِالْعَقْدِ.
5 - الأَْصْل فِي الإِْنْسَانِ الْفَقْرُ، لِسَبْقِهِ، حَيْثُ يُولَدُ
خَالِيَ الْيَدِ، فَيَكْتَسِبُ بِعَمَلِهِ، فَيُصْبِحُ غَنِيًّا، غَيْرَ
أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ النَّاسَ مَحْمُولُونَ عَلَى الْمُلاَءِ
لِغَلَبَتِهِ، فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا تَعَارَضَ فِيهِ الأَْصْل
وَالْغَالِبُ، وَقُدِّمَ الأَْخِيرُ فِيهِ، وَفَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ
زَاعِمَ الإِْعْسَارِ يُعْتَبَرُ مُدَّعِيًا، وَإِنْ وَافَقَهُ الأَْصْل
الَّذِي هُوَ الْفَقْرُ، فَهُوَ الْمُدَّعِي وَالْمَطَالِبُ بِالْبَيِّنَةِ
عَلَى الإِْعْسَارِ.
10 - وَأَمَّا الظَّاهِرُ فَيُسْتَفَادُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
الْعُرْفُ، وَالْقَرَائِنُ الْمُغَلِّبَةُ عَلَى الظَّنِّ.
(20/274)
الأَْوَّل: الْعُرْفُ، وَيُسَمِّيهِ
بَعْضُهُمُ الْمَعْهُودَ وَالْغَالِبَ وَالْعَادَةَ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى
حُجِّيَّتِهِ بِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} . (1)
وَقَدْ قَالُوا: الْعُرْفُ مُقَدَّمٌ عَلَى الأَْصْل، وَكُل أَصْلٍ
كَذَّبَهُ الْعُرْفُ، رُجِّحَ هَذَا الأَْخِيرُ عَلَيْهِ، وَاسْتُثْنِيَ
مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ الْمَسَائِل، مِنْهَا مَا لَوِ ادَّعَى الصَّالِحُ
التَّقِيُّ الْعَظِيمُ الْمَنْزِلَةَ أَوِ الشَّأْنَ فِي الْعِلْمِ
وَالدِّينِ عَلَى أَفْسَقِ النَّاسِ وَأَدْنَاهُمْ عِلْمًا وَدِينًا
دِرْهَمًا وَاحِدًا، فَإِنَّ الْغَالِبَ صِدْقُهُ، وَالأَْصْل بَرَاءَةُ
الذِّمَّةِ، فَيُقَدَّمُ الأَْصْل عَلَى الْغَالِبِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ.
(2)
الأَْمْرُ الثَّانِي: الْقَرَائِنُ وَظَوَاهِرُ الْحَال وَغَلَبَةُ
الظَّنِّ، فَمَنْ حَازَ شَيْئًا مُدَّةً يَتَصَرَّفُ فِيهِ، ثُمَّ
ادَّعَاهُ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُ يُرَجَّحُ قَوْل الْحَائِزِ فِي دَعْوَى
الْمِلْكِيَّةِ، وَيَكُونُ الآْخَرُ مُدَّعِيًا، لأَِنَّ قَوْلَهُ
يُخَالِفُ الظَّاهِرَ الْمُسْتَنْبَطَ مِنَ الْوَاقِعِ وَالْقَرَائِنِ،
فَيُكَلَّفُ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا وَقَعَتْ دَعْوَاهُ
بِيَمِينِ الْحَائِزِ. (3)
وَقَدِ اسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنَ الْقَاعِدَةِ السَّابِقَةِ فِي
التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْضَ
الْمَسَائِل، إِمَّا لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ،
__________
(1) سورة الأعراف / 199
(2) القوانين الفقهية ص 288، العقد المنظم للحكام 2 / 198، وتهذيب الفروق 4
/ 119 - 120
(3) القوانين الفقهية ص 288
(20/274)
وَإِمَّا لِلضَّرُورَةِ: كَمَا فِي قَوْل
الأُْمَنَاءِ فِي تَلَفِ الأَْمَانَاتِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ،
فَإِنَّهُ يُقْبَل مَعَ أَنَّ الأَْصْل عَدَمُهُ، لأَِنَّهُ أَمْرٌ
عَارِضٌ، وَإِنَّمَا قُبِل كَيْلاَ يَزْهَدَ النَّاسُ فِي قَبُول
الأَْمَانَاتِ، فَتَفُوتُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ. (1) وَكَمَا فِي قَوْل
الْغَاصِبِ بِتَلَفِ الْمَغْصُوبِ، فَإِنَّهُ يُقْبَل مَعَ يَمِينِهِ،
لِلضَّرُورَةِ، وَيُعْتَبَرُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، إِذْ لَوْ لَمْ يُقْبَل
قَوْلُهُ، وَاعْتُبِرَ مُدَّعِيًا لَكَانَ مَصِيرُهُ الْخُلُودَ فِي
السِّجْنِ. (2)
ثَانِيًا: ذَهَبَ مُعْظَمُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ
الْمُدَّعِيَ هُوَ: مَنْ يَلْتَمِسُ خِلاَفَ الظَّاهِرِ، وَالْمُدَّعَى
عَلَيْهِ هُوَ: مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالظَّاهِرِ. (3) وَالظَّاهِرُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ نَوْعَانِ: ظَاهِرٌ بِنَفْسِهِ، وَظَاهِرٌ بِغَيْرِهِ،
وَيُطْلِقُونَ كَثِيرًا لَفْظَ " الأَْصْل " عَلَى النَّوْعِ الأَْوَّل،
وَإِذَا ذَكَرُوا الظَّاهِرَ فِي مُقَابَلَةِ الأَْصْل كَانَ الْمَقْصُودُ
بِهِ النَّوْعَ الثَّانِيَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ بِغَيْرِهِ. وَلَكِنَّ
الظَّاهِرَ الَّذِي ذَكَرُوهُ فِي التَّعْرِيفِ الْمُتَقَدِّمِ
لِلْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُقْصَدُ بِهِ النَّوْعَانِ جَمِيعًا.
__________
(1) تهذيب الفروق 4 / 122 بهامش الفروق - مطبعة عيسى الحلبي بمصر - الطبعة
الأولى 1346 هـ.
(2) تبصرة الحكام 1 / 126
(3) الوجيز للغزالي 2 / 260 - مطبعة الآداب 1317 هـ، المنهاج ومغني المحتاج
4 / 464 طبع الحلبي 1377هـ، قواعد الأحكام 2 / 32 - دار الشرق للطباعة
بالقاهرة 1388هـ، شرح المحلي 4 / 336 مطبعة مصطفى الحلبي 1956م، حاشية
الباجوري 2 / 401 مطبعة السعادة - الطبعة الأولى 1910 م
(20/275)
وَالظَّاهِرُ بِنَفْسِهِ هُوَ أَقْوَى
أَنْوَاعِ الظَّاهِرِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مَا يَكُونُ مُسْتَفَادًا مِنَ
الأُْصُول، كَالظَّاهِرِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْبَرَاءَةِ الأَْصْلِيَّةِ:
بَرَاءَةِ الذِّمَمِ مِنَ الْحُقُوقِ، وَالأَْجْسَادِ مِنَ الْعُقُوبَاتِ
وَبَرَاءَةِ الإِْنْسَانِ مِنَ الأَْفْعَال وَالأَْقْوَال جَمِيعِهَا. (1)
وَالظَّاهِرُ بِغَيْرِهِ عِنْدَهُمْ هُوَ مَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْعُرْفِ
وَالْعَوَائِدِ، أَوْ مِنَ الْقَرَائِنِ وَدَلاَئِل الْحَال.
وَإِذَا تَعَارَضَ الظَّاهِرُ بِنَفْسِهِ مَعَ الظَّاهِرِ بِغَيْرِهِ
فَغَالِبًا مَا يُقَدِّمُ الشَّافِعِيَّةُ الأَْوَّل، وَيَكُونُ الَّذِي
يَدَّعِي خِلاَفَهُ مُدَّعِيًا يُكَلَّفُ بِالْبَيِّنَةِ إِنْ لَمْ يُقِرَّ
خَصْمُهُ، وَالآْخَرُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَمِثَال ذَلِكَ: أَنَّ
الْمَرْأَةَ لَوِ ادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا الْحَاضِرِ أَنَّهُ لاَ
يُنْفِقُ عَلَيْهَا، فَالأَْصْل يَقْضِي بِعَدَمِ الإِْنْفَاقِ،
وَالظَّاهِرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَرَائِنِ الْحَال يَقْضِي بِأَنَّهُ
يُنْفِقُ عَلَيْهَا، وَالشَّافِعِيَّةُ يُقَدِّمُونَ الأَْوَّل عَلَى
الثَّانِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَيَكُونُ الْقَوْل قَوْل
الْمَرْأَةِ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الزَّوْجِ، وَهَذَا بِخِلاَفِ مَا
ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، حَيْثُ يَجْعَلُونَ الْمَرْأَةَ
مُدَّعِيَةً، وَالزَّوْجُ مُدَّعًى عَلَيْهِ. (2)
أَمَّا إِذَا تَعَارَضَ ظَاهِرَانِ فِي قُوَّةٍ وَاحِدَةٍ، كَأَنْ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 70 - 71 - طبع مكة 1331 هـ، وقواعد الأحكام
2 / 32، مغني المحتاج 4 / 464 طبع الحلبي 1377 هـ
(2) لب اللباب ص 255 - المطبعة التونسية بتونس 1346 هـ
(20/275)
يَكُونَا مُسْتَفَادَيْنِ مِنْ أَصْلٍ
وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ أَصْلَيْنِ فِي قُوَّةٍ وَاحِدَةٍ، كَانَ كُلٌّ مِنَ
الطَّرَفَيْنِ مُدَّعِيًا مُكَلَّفًا بِالْبَيِّنَةِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي
كِتَابِ الأُْمِّ مَا نَصُّهُ: إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ
أَكْرَاهُ بَيْتًا مِنْ دَارٍ شَهْرًا بِعَشَرَةٍ، وَادَّعَى الْمُكْتَرِي
أَنَّهُ اكْتَرَى الدَّارَ كُلَّهَا ذَلِكَ الشَّهْرَ بِعَشَرَةٍ، فَكُل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ عَلَى صَاحِبِهِ، وَعَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
الْبَيِّنَةُ. (1)
وَيَظْهَرُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الشُّقَّةَ لَيْسَتْ بَعِيدَةً بَيْنَ
الْمِعْيَارِ الَّذِي قَال بِهِ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ أَجْل التَّمْيِيزِ
بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَبَيْنَ الْمِعْيَارِ الَّذِي
قَال بِهِ الشَّافِعِيَّةُ، بَل إِنَّهُمَا يَكَادَانِ يَتَشَابَهَانِ،
وَالْخِلاَفُ بَيْنَهُمَا مُنْحَصِرٌ فِي التَّطْبِيقِ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا
يَتَعَارَضُ أَمْرَانِ مِنْ أُمُورِ الظَّاهِرِ: فَالشَّافِعِيَّةُ
يَرَوْنَ الأَْصْل أَقْوَى مَنَابِعِ الظُّهُورِ غَالِبًا،
وَالْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ دَلاَئِل الْحَال مِنْ عُرْفٍ
وَقَرَائِنَ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدَّمَ الأَْقْوَى
فِي نَظَرِهِ، وَجَعَل مُخَالِفَهُ مُدَّعِيًا وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ.
11 - الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُعْظَمُ فُقَهَاءِ
الْحَنَفِيَّةِ، وَبَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى، وَهُوَ
تَعْرِيفُ الْمُدَّعِي بِأَنَّهُ: مَنْ إِذَا تَرَكَ الْخُصُومَةَ لاَ
يُجْبَرُ عَلَيْهَا، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ. مَنْ إِذَا تَرَكَهَا
يُجْبَرُ عَلَيْهَا. (2) وَمِثْلُهُ قَوْل الْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ
أَنَّهُمْ
__________
(1) الأم 6 / 241 - المطبعة الأميرية ببولاق - الطبعة الأولى 1324 هـ
(2) المبسوط 17 / 31، وبدائع الصنائع 6 / 224، وتبيين الحقائق 4 / 291،
وتبصرة الحكام 1 / 124، والوجيز 2 / 260، والمغني 9 / 272
(20/276)
ذَهَبُوا إِلَى اشْتِقَاقِ تَعْرِيفِ
الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ تَعْرِيفِ الدَّعْوَى نَفْسِهَا:
فَالْمُدَّعِي - عِنْدَهُمْ - هُوَ مُنْشِئُ الدَّعْوَى، وَالْمُدَّعَى
عَلَيْهِ هُوَ مَنْ تَوَجَّهَتْ ضِدُّهُ الدَّعْوَى، وَلِذَلِكَ قَال
بَعْضُهُمْ:
الْمُدَّعِي هُوَ مَنْ يُضِيفُ إِلَى نَفْسِهِ اسْتِحْقَاقَ شَيْءٍ عَلَى
الآْخَرِ وَإِذَا سَكَتَ تُرِكَ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ مَنْ يُضَافُ
اسْتِحْقَاقُ شَيْءٍ عَلَيْهِ وَإِذَا سَكَتَ لَمْ يُتْرَكْ. (1) وَقَال
بَعْضُهُمْ: الْمُدَّعِي هُوَ مَنْ يُطَالِبُ غَيْرَهُ بِحَقٍّ يَذْكُرُ
اسْتِحْقَاقَهُ عَلَيْهِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُطَالِبُهُ
غَيْرُهُ بِحَقٍّ يَذْكُرُ اسْتِحْقَاقَهُ عَلَيْهِ. وَقَال آخَرُونَ:
الْمُدَّعِي هُوَ مَنْ يَلْتَمِسُ قِبَل غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ عَيْنًا أَوْ
دَيْنًا أَوْ حَقًّا، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ مَنْ يَدْفَعُ ذَلِكَ
عَنْ نَفْسِهِ. (2)
الْفَائِدَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُدَّعِي
وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ:
12 - أَهَمُّ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى
عَلَيْهِ هُوَ تَعْيِينُ الطَّرَفِ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ عِبْءُ
الإِْثْبَاتِ، وَالطَّرَفُ الَّذِي لاَ يُكَلَّفُ إِلاَّ بِالْيَمِينِ
عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لِلطَّرَفِ الأَْوَّل. وَهَذَا
الأَْمْرُ هُوَ مَدَارُ الْقَضَاءِ وَعَمُودُهُ، إِذْ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ
لاَ يَبْقَى عَلَى الْقَاضِي سِوَى تَطْبِيقِ الْقَوَاعِدِ الْمَعْرُوفَةِ
فِي الْبَيِّنَاتِ وَالتَّرْجِيحِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَال: أَيُّمَا رَجُلٍ عَرَفَ
__________
(1) المغني 9 / 272
(2) كشاف القناع 4 / 227، بدائع الصنائع 6 / 224
(20/276)
الْمُدَّعِي مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
لَمْ يَلْتَبِسْ عَلَيْهِ مَا يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا. (1)
وَإِنَّمَا جُعِلَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، لأَِنَّ جَانِبَهُ
ضَعِيفٌ، إِذْ هُوَ يُرِيدُ تَغْيِيرَ الْحَال الْمُسْتَقِرِّ بِمَا
يَزْعُمُهُ، وَفِي هَذَا يَقُول ابْنُ رُشْدٍ: " فَالْمَعْنَى الَّذِي مِنْ
أَجْلِهِ كَانَ الْقَوْل لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، هُوَ أَنَّ لَهُ سَبَبًا
يَدُل عَلَى صِدْقِهِ دُونَ الْمُدَّعِي فِي مُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، وَهُوَ
كَوْنُ السِّلْعَةِ بِيَدِهِ إِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي شَيْءٍ
بِعَيْنِهِ، أَوْ كَوْنُ ذِمَّتِهِ بَرِيئَةً عَلَى الأَْصْل فِي بَرَاءَةِ
الذِّمَمِ إِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِيمَا فِي ذِمَّتِهِ.
وَالْمَعْنَى الَّذِي وَجَبَ مِنْ أَجْلِهِ عَلَى الْمُدَّعِي إِقَامَةُ
الْبَيِّنَةِ عَلَى دَعْوَاهُ هُوَ تَجَرُّدُ دَعْوَاهُ مِنْ سَبَبٍ يَدُل
عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ. (2)
وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَذَهَبَ دِمَاءُ قَوْمٍ
وَأَمْوَالُهُمْ. (3)
مَكَانُ الدَّعْوَى:
13 - الْكَلاَمُ فِي مَكَانِ الدَّعْوَى يَقْتَضِي بَيَانَ أَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: الْمَجْلِسُ الَّذِي تُرْفَعُ فِيهِ
__________
(1) المقدمات الممهدات 2 / 318 - مطبعة السعادة بمصر - الطبعة الأولى 1325
هـ
(2) المقدمات الممهدات 2 / 316 - 317
(3) حديث: " لو يعطى الناس بدعواهم لذهب دماء قوم وأموالهم ". أخرجه
البخاري (الفتح 8 / 213 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1336 - ط الحلبي) من
حديث عبد الله بن عباس.
(20/277)
الدَّعْوَى وَتُنْظَرُ فِيهِ، وَهُوَ مَا
يُسَمَّى بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ.
وَالثَّانِي: الْقَاضِي الْمُخْتَصُّ بِنَظَرِ الدَّعْوَى.
أَوَّلاً: مَجْلِسُ الْقَضَاءِ:
14 - الأَْصْل أَنَّ جَمِيعَ الأَْمْكِنَةِ صَالِحَةٌ لِتَلَقِّي
الْمُتَنَازِعَيْنِ وَالنَّظَرِ فِي خُصُومَاتِهِمْ، وَلَيْسَ مِنْهَا
شَيْءٌ يَحْرُمُ فِيهِ ذَلِكَ، إِلاَّ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ إِهْدَارُ
حَقٍّ أَوْ فِعْل مُحَرَّمٍ، كَمَا لَوِ اسْتَخْدَمَ الْقَاضِي مِلْكَ
إِنْسَانٍ مِنْ أَجْل الْقِيَامِ بِإِجْرَاءَاتِ التَّقَاضِي مِنْ غَيْرِ
الْحُصُول عَلَى إِذْنِهِ.
وَلَكِنْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِفَاتٍ وَخَصَائِصَ يُسْتَحَبُّ
تَوَافُرُهَا فِي الأَْمَاكِنِ الَّتِي تُرْفَعُ فِيهَا الدَّعَاوَى،
وَيُفْصَل فِيهَا بَيْنَ الْخُصُومِ. وَيُمْكِنُ إِرْجَاعُ هَذِهِ
الصِّفَاتِ وَالْخَصَائِصِ إِلَى أَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ تَوَفَّرَ التَّيْسِيرُ عَلَى جَمِيعِ
النَّاسِ فِي الْوُصُول إِلَيْهَا، وَالاِهْتِدَاءِ إِلَى مَوْضِعِهَا،
وَأَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ يُتَوَخَّى الْعَدْل وَالإِْنْصَافُ بَيْنَ
النَّاسِ فِيمَا يَبْذُلُونَهُ مِنَ الْجَهْدِ لِلْوُصُول إِلَيْهَا. (1)
الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ تَوَفَّرَ الاِسْتِقْرَارُ النَّفْسِيُّ
وَالرَّاحَةُ الْجَسَدِيَّةُ لِلنَّاسِ الَّذِينَ يَقْصِدُونَهَا
لِلتَّقَاضِي، وَلِلْقُضَاةِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَهَا مَجْلِسًا
لِلْقِيَامِ بِوَظَائِفِهِمْ.
وَيَنْبَنِي عَلَى الأَْمْرِ الأَْوَّل أَنْ يَكُونَ مَجْلِسُ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 387 طبع الحلبي 1377 هـ
(20/277)
الْقَضَاءِ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ الَّذِي
يَخْتَصُّ بِهِ، بِحَيْثُ يَصِل إِلَيْهِ كُل قَاصِدٍ لِلتَّقَاضِي،
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَانٍ بَارِزٍ، وَلَيْسَ فِي مَوْضِعٍ
مُسْتَتِرٍ غَيْرِ مَشْهُورٍ، حَتَّى وَإِنْ أَقَامَ الْقَاضِي عَلَى
بَابِهِ مَنْ يَأْذَنُ لِلنَّاسِ بِالدُّخُول عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ لاَ
يَظْهَرُ جُلُوسُهُ بِهِ، وَلاَ يَهْتَدِي إِلَيْهِ الْغُرَبَاءُ. (1)
وَيَنْبَنِي عَلَى الأَْمْرِ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَجْلِسُ الْقَضَاءِ
فَسِيحًا لاَ يَتَأَذَّى الْحَاضِرُونَ بِضِيقِهِ، وَأَنْ يَكُونَ نَزِهًا
لاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْحَرُّ وَالْبَرْدُ وَالْغُبَارُ وَالدُّخَانُ
وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَيَجْلِسُ الْقَاضِي لِلصَّيْفِ حَيْثُ يَلِيقُ بِهِ،
وَلِلرِّيَاحِ وَالشِّتَاءِ حَيْثُ يَلِيقُ. (2)
وَلِلْفُقَهَاءِ اخْتِلاَفَاتٌ وَتَفْصِيلاَتٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ
بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ مِنِ اتِّخَاذِ الْبَوَّابِ وَالْحَاجِبِ،
وَاتِّخَاذِ الْمَسْجِدِ مَجْلِسًا لِلتَّقَاضِي وَغَيْرِ ذَلِكَ،
وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٌ، وَمَسْجِدٌ، وَحَاجِبٌ ج 16 - 244) .
ثَانِيًا: الْقَاضِي الْمُخْتَصُّ بِنَظَرِ الدَّعْوَى:
15 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ قَاضٍ
__________
(1) درر الحكام وحاشية الشرنبلالي عليه 2 / 406، المنهاج ومغني المحتاج 4 /
387 طبع الحلبي 1377 هـ. القوانين الفقهية ص 284، أسهل المدارك 3 / 199 -
مطبعة عيسى الحلبي - الطبعة الأولى، المهذب 2 / 293 طبع دار إحياء الكتب
العربية، الفروع 3 / 793 - مطبعة المنار بمصر 1339هـ.
(2) المهذب 2 / 293 طبع دار إحياء الكتب العربية، المنهاج ومغني المحتاج 4
/ 390 - طبع 1377 هـ.
(20/278)
وَاحِدٌ يَخْتَصُّ بِالطَّرَفَيْنِ
فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي تُرْفَعُ إِلَيْهِ الدَّعْوَى. أَمَّا إِذَا
تَعَدَّدَ الْقُضَاةُ، وَاسْتَقَل كُلٌّ بِمَحَلَّةٍ يَخْتَصُّ
بِالْقَضَاءِ بَيْنَ أَهْلِهَا، وَلاَ يَتَعَدَّاهَا إِلَى غَيْرِهَا،
فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ الْقَاضِي الْمُخْتَصِّ
بِنَظَرِ الدَّعْوَى عَلَى الآْرَاءِ الآْتِيَةِ.
16 - الرَّأْيُ الأَْوَّل: أَنَّ الدَّعْوَى تُرْفَعُ إِلَى الْقَاضِي
الَّذِي يَخْتَارُهُ الْمُدَّعِي. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ وَمُعْظَمُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
(1) وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ إِذَا تَعَدَّدَ الْقُضَاةُ فِي نِطَاقِ
بَلَدٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ الْمُتَنَازِعَانِ مِنْ أَهْل هَذَا الْبَلَدِ.
(2)
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ هَذَا الرَّأْيِ بِأَنَّ الْمُدَّعِي هُوَ الَّذِي
لاَ يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ، بِحَيْثُ إِذَا تَرَكَهَا تُرِكَ
وَشَأْنُهُ، فَهُوَ الْمُنْشِئُ لِلْخُصُومَةِ، فَيُعْطَى الْخِيَارَ: إِنْ
شَاءَ أَنْشَأَهَا عِنْدَ قَاضِي مَكَانِهِ هُوَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْشَأَهَا
عِنْدَ قَاضِي مَكَانِ خَصْمِهِ، فَلأَِنَّ الْحَقَّ لَهُ فِي الدَّعْوَى
جُعِل الْحَقُّ لَهُ فِي تَعْيِينِ الْقَاضِي. (3)
__________
(1) البحر الرائق 7 / 193 - مطبعة دار الكتب العربية الكبرى بمصر 1333 هـ،
نهاية المحتاج 8 / 86 - المطبعة البهية المصرية 1304 هـ، حاشية الشرواني
وحاشية العبادي على تحفة المحتاج 10 / 119، القواعد لابن رجب ص 362 -
الطبعة الأولى 1933م، منتهى الإرادات القسم الثاني ص 575، غاية المنتهى 3 /
431
(2) حاشية الدسوقي 4 / 164
(3) حاشية الدسوقي 4 / 135، كشاف القناع 4 / 172، تكملة حاشية ابن عابدين 7
/ 401 المطبعة العثمانية 1327 هـ.
(20/278)
17 - الرَّأْيُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَقَّ
فِي تَعْيِينِ الْقَاضِي الَّذِي يَنْظُرُ فِي الدَّعْوَى يَكُونُ
لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ لاَ لِلْمُدَّعِي، وَإِلَى هَذَا الرَّأْيِ ذَهَبَ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي الْمَذْهَبِ
الْحَنَفِيِّ.
وَيَسْتَنِدُ هَذَا الرَّأْيُ إِلَى أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُدَافِعُ
عَنْ نَفْسِهِ، وَالْمَدَافِعُ يَطْلُبُ السَّلاَمَةَ لِنَفْسِهِ،
وَالأَْصْل بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ، وَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لَهُ، فَأَخْذُهُ
إِلَى مَنْ يَأْبَاهُ لِرِيبَةٍ يَثْبُتُ عِنْدَهُ رُبَّمَا يُوقِعُهُ فِي
ارْتِبَاكٍ يَحْصُل لَهُ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى إِثْبَاتِ مَا لَيْسَ
فِي الْحَقِيقَةِ ثَابِتًا فِي ذِمَّتِهِ، فَالأَْوْلَى مُرَاعَاةُ
جَانِبِهِ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ وَاعْتِبَارُ اخْتِيَارِهِ، لأَِنَّهُ
يُرِيدُ الدَّفْعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَخَصْمُهُ يُرِيدُ أَنْ يُوجِبَ
عَلَيْهِ، وَمَنْ طَلَبَ السَّلاَمَةَ أَوْلَى بِالنَّظَرِ مِمَّنْ طَلَبَ
ضِدَّهَا. (1)
وَيَرَى بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مَذْهَبَ مُحَمَّدِ بْنِ
الْحَسَنِ لَيْسَ مَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ عِنْدَهُ فِي
تَعْيِينِ الْقَاضِي الَّذِي تُرْفَعُ إِلَيْهِ الدَّعْوَى وَيُنْظَرُ
فِيهَا هِيَ لِمَكَانِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَنَّ قَاضِيَ هَذَا
الْمَكَانِ هُوَ الْمُخْتَصُّ فِيهِ، فَلَيْسَتِ الْعِبْرَةُ لاِخْتِيَارِ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا لِمَكَانِهِ. (2)
18 - الرَّأْيُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ،
__________
(1) الدر المختار مع تكملة الحاشية 7 / 401، البحر الرائق 7 / 193
(2) الفواكه البدرية ص 76، البحر الرائق 7 / 193
(20/279)
فَقَدِ اتَّفَقُوا مَعَ الشَّافِعِيَّةِ
وَأَبِي يُوسُفَ فِي أَنَّ الاِخْتِيَارَ يَكُونُ لِلْمُدَّعِي فِي
تَحْدِيدِ الْقَاضِي الْمُخْتَصِّ بِنَظَرِ الدَّعْوَى فِي حَالَةِ
تَعَدُّدِ الْقُضَاةِ فِي نِطَاقِ الْبَلَدِ الْوَاحِدِ. إِلاَّ أَنَّهُمُ
اخْتَلَفُوا مَعَهُمْ فِي تَحْدِيدِهِ عِنْدَمَا يَتَعَدَّدُ الْقُضَاةُ،
وَتَتَعَدَّدُ الْبِلاَدُ، وَاخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ فِي ذَلِكَ
بِاخْتِلاَفِ الْمُدَّعَى بِهِ أَيْضًا عَلَى النَّحْوِ الآْتِي:
1 - فَفِي دَعَاوَى الدَّيْنِ، اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الدَّعْوَى تُنْظَرُ
فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ فِيهِ الطَّالِبُ بِالْمَطْلُوبِ. (1)
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ مُدَّعِيَ الدَّيْنِ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مَنْ
يَشَاءُ مِنَ الْقُضَاةِ إِذَا كَانَ هُوَ وَخَصْمُهُ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ،
وَتَعَدَّدَ قُضَاتُهُ، وَكَانُوا مُسْتَقِلِّينَ بِالنَّظَرِ فِي جَمِيعِ
أَنْوَاعِ الدَّعَاوَى. فَإِنْ لَمْ يَكُونَا فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ
فَلِلْمُدَّعِي أَنْ يَتَعَلَّقَ بِخَصْمِهِ فِي أَيِّ مَكَانٍ يَجِدُهُ،
وَيُطَالِبُ بِحَقِّهِ عِنْدَ قَاضِي ذَلِكَ الْمَكَانِ.
2 - وَفِي دَعَاوَى الْعَيْنِ يُنْظَرُ: إِنْ كَانَ الْمُتَخَاصِمَانِ مِنْ
بَلَدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَكِلاَهُمَا فِي وِلاَيَةِ قَاضٍ وَاحِدٍ،
فَإِنَّ الدَّعْوَى تُرْفَعُ إِلَى ذَلِكَ الْقَاضِي فِي مَجْلِسِ
قَضَائِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي بَلَدِ الْمُدَّعِي أَمْ فِي بَلَدِ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَحَيْثُمَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ. (2)
__________
(1) التاج والإكليل ومواهب الجليل 6 / 146، الخرشي 7 / 174، العقد المنظم
للحكام 2 / 201، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 164
(2) حاشية الدسوقي 4 / 164
(20/279)
وَأَمَّا إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي
وِلاَيَةِ قَاضٍ، فَعِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلاَنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: وَهُوَ لاِبْنِ الْمَاجِشُونِ كَمَا نَقَل عَنْهُ
ابْنُ حَبِيبٍ، وَفِيهِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الدَّعْوَى يَنْبَغِي أَنْ
تُرْفَعَ إِلَى الْقَاضِي الْمَوْجُودِ فِي مَحَل الشَّيْءِ الْمُدَّعَى.
(1) فَإِذَا رُفِعَتْ إِلَيْهِ الدَّعْوَى فَإِنَّهُ يَسْمَعُ بَيِّنَةَ
الْمُدَّعِي، وَيَضْرِبُ لِمَنْ عِنْدَهُ الْحَقُّ الْمُدَّعَى أَجَلاً
حَتَّى يَأْتِيَ، فَيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ يُوَكِّل لَهُ وَكِيلاً
يَقُومُ عَنْهُ بِالْخُصُومَةِ فِي ذَلِكَ. (2)
وَنَقَل فَضْل بْنُ سَلَمَةَ أَنَّ هَذَا الرَّأْيَ ذَهَبَ إِلَيْهِ
سَحْنُونُ وَابْنُ كِنَانَةَ. (3)
الْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ قَوْل مُطَرِّفِ وَأَصْبَغَ، وَيَرَيَانِ أَنَّ
الدَّعْوَى إِنَّمَا تُرْفَعُ إِلَى قَاضِي مَوْضِعِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ،
وَلاَ يُلْتَفَتُ إِلَى مَوْضِعِ الْمُدَّعِي وَلاَ مَوْضِعِ الْمُدَّعَى
بِهِ. (4) وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ،
وَقَدْ نَقَلَهُ فَضْل بْنُ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَنَقَل
بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا هُوَ عَمَل أَهْل الْمَدِينَةِ، (5) غَيْرَ
أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مِنْ حَقِّ
__________
(1) التاج والإكليل ومواهب الجليل 6 / 146، الخرشي 7 / 174، تبصرة الحكام 1
/ 84، العقد المنظم للحكام 2 / 200، حاشية الدسوقي 4 / 164
(2) حاشية الدسوقي 4 / 164
(3) تبصرة الحكام 1 / 84
(4) الشرح الكبير 4 / 164 مطبوع على هامش حاشية الدسوقي، تبصرة الحكام 1 /
84
(5) حاشية الدسوقي 4 / 164
(20/280)
الْمُدَّعِي أَنْ يَبْدَأَ بِقَاضِي
مَحَلَّتِهِ، فَيَرْفَعَ إِلَيْهِ أَمْرَهُ، وَيُثْبِتَ عِنْدَهُ
بَيِّنَتَهُ، ثُمَّ يَكْتُبَ قَاضِيهِ إِلَى قَاضِي مَحَلَّةِ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ بِذَلِكَ، فَيَأْخُذَ الْمُدَّعِي كِتَابَ قَاضِيهِ لِيُقَدِّمَهُ
إِلَى قَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ وَكَّل غَيْرَهُ،
وَأَرْسَلَهُ بِالْكِتَابِ، فَإِذَا قَدِمَ الْمُدَّعِي أَوْ وَكِيلُهُ
إِلَى قَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَلَّمَهُ كِتَابَ قَاضِيهِ، فَإِنْ
ثَبَتَ عِنْدَهُ، قَرَأَهُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَسَأَلَهُ
الْمَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ، وَإِلاَّ أَنْفَذَ
الْحُكْمَ عَلَيْهِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَفْعَل الْمُدَّعِي ذَلِكَ
وَإِنَّمَا قَدِمَ مُبَاشَرَةً إِلَى قَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ
كَانَتْ بَيِّنَتُهُ مَعَهُ، نُظِرَتِ الدَّعْوَى، وَطُلِبَ مِنَ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمَخْرَجُ. أَمَّا إِذَا أَعْلَمَهُ الْمُدَّعِي
أَنَّ بَيِّنَتَهُ فِي مَكَانِ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى، كَتَبَ إِلَى قَاضِي
مَحَلَّةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَطَلَبَ مِنْهُ تَزْوِيدَهُ بِالْبَيِّنَةِ.
وَفِي جَمِيعِ الأَْحْوَال يُعْطَى الْمُدَّعِي أَوِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
الْمُدَّةَ الْكَافِيَةَ لِتَحْضِيرِ الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ.
غَيْرَ أَنَّ أَصْبَغَ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ وَجَدَ الْمُدَّعِي
خَصْمَهُ فِي مَحَلَّتِهِ أَوْ مَحَلَّةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى،
وَتَعَلَّقَ بِهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي وَجَدَهُ فِيهِ، فَإِنَّ
الْقَاضِيَ الَّذِي يَنْظُرُ فِي الدَّعْوَى فِي هَذِهِ الْحَال هُوَ
قَاضِي الْمَكَانِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ فِيهِ. (1)
تِلْكَ الآْرَاءُ فِي تَحْدِيدِ الْقَاضِي الْمُخْتَصِّ بِنَظَرِ
الدَّعْوَى مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِهَا فِيمَا إِذَا تَمَيَّزَ
الْمُدَّعِي
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 84
(20/280)
مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَلَكِنْ قَدْ
يَكُونُ كُلٌّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مُدَّعِيًا وَمُدَّعًى عَلَيْهِ فِي آنٍ
وَاحِدٍ، وَذَلِكَ كَاخْتِلاَفِهِمَا فِي قِسْمَةِ الْمِلْكِ، أَوْ كَمَا
إِذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ صَدَاقٍ اخْتِلاَفًا
يُوجِبُ تَحَالُفَهُمَا، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يُمْكِنُ تَطْبِيقُ
أَحَدِ تِلْكَ الآْرَاءِ السَّابِقَةِ، وَإِنَّمَا تُرْفَعُ الدَّعْوَى
إِلَى أَقْرَبِ الْقُضَاةِ مِنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ، فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي
الْمَسَافَةِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ
كَانَ الْقَوْل لَهُ فِي تَعْيِينِ الْقَاضِي الْمُخْتَصِّ. (1)
الرَّأْيُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي الْمَذْهَبِ
الْحَنْبَلِيِّ، هُوَ مَنْعُ الْمُتَنَازِعَيْنِ مِنَ التَّقَاضِي إِلَى
أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى قَاضٍ مُعَيَّنٍ. (2) وَإِنَّمَا ضَعَّفَهُ
فُقَهَاءُ الْحَنَابِلَةِ لأَِنَّهُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى ظُلْمِ أَحَدِ
الطَّرَفَيْنِ، إِذْ لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُحْتَاجًا
إِلَى رَفْعِ الدَّعْوَى أَكْثَرَ مِنَ الآْخَرِ، وَغَالِبًا مَا يَكُونُ
هَذَا الْمُحْتَاجُ هُوَ الْمُدَّعِي، وَبِذَلِكَ تُتَاحُ لِلآْخَرِ
الْفُرْصَةُ فِي التَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ إِذَا طَلَبَ مِنْهُ
الاِتِّفَاقَ عَلَى قَاضٍ مُعَيَّنٍ
أَنْوَاعُ الدَّعَاوَى:
19 - لِلدَّعَاوَى تَقْسِيمَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَأَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ
__________
(1) حاشية الشرواني وحاشية العبادي على تحفة المحتاج 10 / 119، منتهى
الإرادات - القسم الثاني ص 575، كشاف القناع 4 / 172، القواعد لابن رجب ص
363، 364
(2) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 69 - مطبعة مصطفى الحلبي - الطبعة
الثانية 1386هـ - 1966 م
(20/281)
يَعُودُ مُعْظَمُهَا إِلَى اعْتِبَارَيْنِ:
الاِعْتِبَارُ الأَْوَّل: يَعُودُ إِلَى مَدَى صِحَّةِ الدَّعَاوَى،
وَهَذَا بِدَوْرِهِ يَعُودُ إِلَى مِقْدَارِ تَوَفُّرِ الشُّرُوطِ
الشَّرْعِيَّةِ فِيهَا.
الاِعْتِبَارُ الثَّانِي: يَعُودُ إِلَى تَنَوُّعِ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى.
أَنْوَاعُ الدَّعَاوَى بِاعْتِبَارِ صِحَّتِهَا:
20 - أَوَّلاً: الدَّعْوَى الصَّحِيحَةُ: وَهِيَ الدَّعْوَى
الْمُسْتَوْفِيَةُ لِجَمِيعِ شَرَائِطِهَا، وَتَتَضَمَّنُ طَلَبًا
مَشْرُوعًا. وَهَذِهِ الدَّعْوَى يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا جَمِيعُ
أَحْكَامِهَا، فَيُكَلَّفُ الْخَصْمُ بِالْحُضُورِ، وَبِالْجَوَابِ إِذَا
حَضَرَ، وَتُطْلَبُ الْبَيِّنَةُ مِنَ الْمُدَّعِي إِذَا أَنْكَرَ
خَصْمُهُ، وَتُوَجَّهُ الْيَمِينُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِنْ عَجَزَ
الْمُدَّعِي عَنِ الْبَيِّنَةِ.
21 - ثَانِيًا: الدَّعْوَى الْفَاسِدَةُ: وَهِيَ الدَّعْوَى الَّتِي
اسْتَوْفَتْ جَمِيعَ شَرَائِطِهَا الأَْسَاسِيَّةِ، وَلَكِنَّهَا
مُخْتَلَّةٌ فِي بَعْضِ أَوْصَافِهَا بِصُورَةٍ يُمْكِنُ إِصْلاَحُهَا
وَتَصْحِيحُهَا، كَأَنْ يَدَّعِيَ شَخْصٌ عَلَى آخَرَ بِدَيْنٍ، وَلاَ
يُبَيِّنُ مِقْدَارَهُ، أَوْ يَدَّعِي عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقَ عَقَارٍ،
وَلاَ يُبَيِّنُ حُدُودَهُ. وَتَرْجِعُ أَسْبَابُ الْفَسَادِ فِي
الدَّعْوَى إِلَى تَخَلُّفِ أَحَدِ شَرْطَيْنِ هُمَا:
أ - شَرْطُ الْمَعْلُومِيَّةِ: مَعْلُومِيَّةُ الْمُدَّعَى، كَمَا فِي
الْمِثَالَيْنِ السَّابِقَيْنِ، أَوْ مَعْلُومِيَّةُ سَبَبِ
الاِسْتِحْقَاقِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذِكْرُهُ مِنَ الدَّعَاوَى.
(20/281)
ب - الشُّرُوطُ الْمَطْلُوبَةُ فِي
التَّعْبِيرِ الْمُكَوِّنِ لِلدَّعْوَى، كَمَا لَوْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي
طَلَبِ عَيْنٍ مِنَ الأَْعْيَانِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُدَّعِي فِيهَا
أَنَّهَا بِيَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ يَكُونُ مُتَرَدِّدًا فِي
الأَْلْفَاظِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا، كَأَنْ يَقُول: أَشُكُّ أَوْ
أَظُنُّ أَنَّ لِي عَلَى فُلاَنٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مَثَلاً. فَفِي جَمِيعِ
هَذِهِ الْحَالاَتِ لاَ تُرَدُّ الدَّعْوَى، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ مِنَ
الْمُدَّعِي إِكْمَال مَا يَنْقُصُهَا، فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ نُظِرَتْ
دَعْوَاهُ، وَطَلَبَ الْجَوَابَ مِنْ خَصْمِهِ، وَإِلاَّ فَتُرَدُّ إِلَى
أَنْ يُصَحِّحَهَا. (1)
وَهَذَا الاِصْطِلاَحُ فِي تَسْمِيَةِ هَذِهِ الأَْنْوَاعِ مِنَ
الدَّعَاوَى بِالْفَاسِدَةِ اخْتَصَّ بِهِ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ.
غَيْرَ أَنَّ فُقَهَاءَ الشَّافِعِيَّةِ ذَكَرُوا هَذَا النَّوْعَ مِنَ
الدَّعَاوَى، وَجَعَلُوا لَهُ الأَْحْكَامَ ذَاتَهَا، إِلاَّ أَنَّهُمْ
يُسَمُّونَهَا بِالدَّعَاوَى النَّاقِصَةِ. وَالدَّعْوَى النَّاقِصَةُ
عِنْدَهُمْ هِيَ: كُل دَعْوَى يَفْتَقِرُ الْحَاكِمُ فِي فَصْل
الْخُصُومَةِ مَعَهَا إِلَى شَيْءٍ آخَرَ. (2) وَقَدْ جَعَلُوا الدَّعْوَى
النَّاقِصَةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: نَاقِصَةُ الصِّفَةِ وَنَاقِصَةُ
الشَّرْطِ:
أَمَّا نَاقِصَةُ الصِّفَةِ فَهِيَ الدَّعْوَى الَّتِي لَمْ يُفَصِّل
الْمُدَّعِي فِيهَا أَوْصَافَ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى اللاَّزِمَ ذِكْرُهَا،
كَأَنْ يُهْمِل ذِكْرَ حُدُودِ الْعَقَارِ الْمُدَّعَى، أَوْ
__________
(1) المبسوط 16 / 78، تبصرة الحكام 1 / 104، تحفة المحتاج 10 / 297، المغني
9 / 86
(2) أدب القضاء للغزي ق10 أ - مخطوط بدار الكتب (907 فقه شافعي) .
(20/282)
مِقْدَارَ الدَّيْنِ، وَفِيهَا يَجِبُ
عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَسْأَل الْمُدَّعِيَ عَنِ النَّقْصِ، فَإِنْ
أَكْمَلَهُ صَحَّتِ الدَّعْوَى وَإِلاَّ فَلاَ.
وَأَمَّا نَاقِصَةُ الشَّرْطِ فَيَقْصِدُونَ بِهَا دَعْوَى النِّكَاحِ
الَّتِي لاَ يُذْكَرُ فِيهَا الْوَلِيُّ وَالشُّهُودُ. (1)
وَلاَ يَخْتَلِفُ حُكْمُ هَذِهِ الدَّعَاوَى عِنْدَ الْمَذَاهِبِ
الأُْخْرَى عَمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.
وَهُنَاكَ نَوْعٌ مِنَ الدَّعَاوَى عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ
تَكُونُ نَاقِصَةً فِي حُكْمِهَا لِنُقْصَانِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهَا.
وَهَذِهِ هِيَ الدَّعَاوَى الَّتِي يَنْقِصُهَا حُصُول خِلْطَةٍ أَوْ
مُعَامَلَةٍ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنَّهَا
تُسْمَعُ، وَلَكِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لاَ يُطَالَبُ بِالْيَمِينِ
إِذَا عَجَزَ الْمُدَّعِي عَنْ إِثْبَاتِهَا بِالْبَيِّنَةِ. وَالْفَرْقُ
بَيْنَ هَذَا النَّوْعِ وَالدَّعْوَى الْفَاسِدَةِ بِالْمَعْنَى
السَّابِقِ، أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى صَحِيحَةٌ فِي ذَاتِهَا،
وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَحْكَامُهَا جَمِيعُهَا إِلاَّ الْيَمِينَ.
وَالشَّرْطُ النَّاقِصُ فِيهَا لاَ يُمْكِنُ اسْتِكْمَالُهُ خِلاَفًا
لِلدَّعْوَى الْفَاسِدَةِ.
22 - ثَالِثًا: الدَّعْوَى الْبَاطِلَةُ: وَهِيَ الدَّعْوَى غَيْرُ
الصَّحِيحَةِ أَصْلاً، وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ، لأَِنَّ
إِصْلاَحَهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَتَعُودُ أَسْبَابُ الْبُطْلاَنِ فِي
الدَّعَاوَى إِلَى فَقْدِ أَحَدِ الشُّرُوطِ الأَْسَاسِيَّةِ
الْمَطْلُوبَةِ فِيهَا. وَمِنْ أَمْثِلَةِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ
__________
(1) الحاوي للماوردي جـ 13 ق 45 ب - مخطوط بدار الكتب المصرية (501 فقه
شافعي)
(20/282)
الدَّعْوَى الَّتِي يَرْفَعُهَا الشَّخْصُ،
وَلاَ يَكُونُ لَهُ فِي رَفْعِهَا صِفَةٌ، كَأَنْ يَكُونَ فُضُولِيًّا،
فَلاَ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَتَكُونُ بَاطِلَةً. وَكَذَلِكَ الدَّعْوَى
الْمَرْفُوعَةُ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِخَصْمٍ، وَالدَّعْوَى الْمَرْفُوعَةُ
مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ،
وَالدَّعْوَى الَّتِي لاَ تَسْتَنِدُ إِلَى حَقٍّ وَلَوْ فِي الظَّاهِرِ،
كَمَنْ يَطْلُبُ فِي دَعْوَاهُ الْحُكْمَ عَلَى آخَرَ بِوُجُوبِ
إِقْرَاضِهِ مَالاً لأَِنَّهُ مُعْسِرٌ، وَدَعْوَى مَا لَيْسَ مَشْرُوعًا،
كَدَعْوَى الْمُطَالَبَةِ بِثَمَنِ خَمْرٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ، أَوْ مَيْتَةٍ.
وَقَدْ تُسَمَّى هَذِهِ الدَّعَاوَى عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ
بِالدَّعَاوَى الْفَاسِدَةِ، وَهُوَ اصْطِلاَحٌ عَامٌّ عِنْدَهُمْ يَدْخُل
تَحْتَهُ جَمِيعُ الدَّعَاوَى الْمُخْتَلَّةِ فِي أَيَّةِ نَاحِيَةٍ مِنْ
نَوَاحِيهَا الأَْسَاسِيَّةِ، وَقَدْ صَنَّفَهَا الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ
عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى صِنْفَيْنِ:
الصِّنْفُ الأَْوَّل: مَا عَادَ فَسَادُهُ إِلَى الْمُدَّعِي، وَذَلِكَ
كَمُسْلِمٍ ادَّعَى نِكَاحَ مَجُوسِيَّةٍ، فَهَذِهِ دَعْوَى بَاطِلَةٌ
لاِمْتِنَاعِ مَقْصُودِهَا فِي حَقِّ الْمُدَّعِي.
الصِّنْفُ الثَّانِي: مَا عَادَ فَسَادُهُ إِلَى الشَّيْءِ الْمُدَّعَى،
وَجُعِل هَذَا الصِّنْفُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَضْرُبٍ:
الضَّرْبُ الأَْوَّل: دَعْوَى مَا لاَ تُقَرُّ الْيَدُ عَلَيْهِ،
كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: دَعْوَى مَا تُقَرُّ عَلَيْهِ الْيَدُ، وَلاَ تَصِحُّ
الْمُعَاوَضَةُ عَنْهُ، كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ وَالسَّمَادِ النَّجِسِ،
فَهَذِهِ تُقَرُّ عَلَيْهَا الْيَدُ، لِلاِنْتِفَاعِ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ
إِذَا دُبِغَ، وَبِالسِّمَادِ فِي الزُّرُوعِ وَالشَّجَرِ،
(20/283)
فَإِذَا تَوَجَّهَتِ الدَّعْوَى إِلَى
شَيْءٍ مِنْ هَذَا، لَمْ يَخْل مِنْ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا أَوْ تَالِفًا،
فَإِنْ كَانَ تَالِفًا كَانَتِ الدَّعْوَى بَاطِلَةً، لأَِنَّهُ لاَ
يَسْتَحِقُّ بِتَلَفِهَا مِثْلٌ وَلاَ قِيمَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً
لَمْ يَخْل أَنْ يَدَّعِيَهَا بِمُعَاوَضَةٍ أَوْ بِغَيْرِ مُعَاوَضَةٍ،
فَإِنْ كَانَتِ الأُْولَى، كَأَنْ يَدَّعِيَهَا بِالاِبْتِيَاعِ، كَانَتِ
الدَّعْوَى بَاطِلَةً، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَفَعَ ثَمَنَهَا،
فَتَكُونَ دَعْوَاهُ مُتَوَجِّهَةً إِلَى الثَّمَنِ إِنْ طَلَبَهُ،
وَيَكُونَ ذِكْرُ ابْتِيَاعِهَا إِخْبَارًا عَنِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ
لاِسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ. أَمَّا إِذَا ادَّعَاهَا بِغَيْرِ مُعَاوَضَةٍ،
فَقَدْ صَحَّتْ دَعْوَاهُ مِنْ أَحَدِ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ: دَعْوَى
غَصْبِهَا، وَدَعْوَى الْوَصِيَّةِ بِهَا، وَدَعْوَى هِبَتِهَا.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: دَعْوَى مَا تُقَرُّ الْيَدُ عَلَيْهِ مِلْكًا،
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِل مِنْ مَالِكٍ إِلَى مَالِكٍ، وَهَذَا
كَالْوَقْفِ، فَالدَّعْوَى فِيهِ عَلَى الْمَالِكِ فَاسِدَةٌ، وَلاَ
يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَهَا الْقَاضِي عَلَى مَالِكٍ، لاِسْتِحَالَةِ
انْتِقَالِهِ عَنْ مِلْكِهِ إِلَى مِلْكِ غَيْرِهِ. (1)
23 - الدَّعَاوَى الْمَمْنُوعُ سَمَاعُهَا: وَهَذِهِ الدَّعَاوَى صَحِيحَةٌ
فِي أَصْلِهَا، وَإِنَّمَا مَنَعَ الْقُضَاةُ مِنْ سَمَاعِهَا،
لاِقْتِضَاءِ الْمَصْلَحَةِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ كَدَعْوَى مَا تَقَادَمَ
زَمَانُهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ ذِمَّتِهِ، قَال فِي
الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: (الْقَضَاءُ مُظْهِرٌ لاَ مُثْبِتٌ، وَيَتَخَصَّصُ
بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ وَخُصُومَةٍ،
__________
(1) الحاوي للماوردي ج 13 ق 44 ب، 45 أ
(20/283)
حَتَّى لَوْ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِعَدَمِ
سَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَسَمِعَهَا لَمْ
يَنْفُذْ) قَال ابْنُ عَابِدِينَ: (سَلاَطِينُ آل عُثْمَانَ يَأْمُرُونَ
قُضَاتَهُمْ فِي جَمِيعِ وِلاَيَاتِهِمْ أَنْ لاَ يَسْمَعُوا دَعْوَى
بَعْدَ مُضِيِّ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً سِوَى الْوَقْفِ وَالإِْرْثِ،
وَنَقَل فِي الْحَامِدِيَّةِ فَتَاوَى مِنَ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ
بِعَدَمِ سَمَاعِهَا بَعْدَ النَّهْيِ الْمَذْكُورِ، لَكِنْ هَل يَبْقَى
النَّهْيُ بَعْدَ مَوْتِ السُّلْطَانِ الَّذِي نَهَى بِحَيْثُ لاَ
يَحْتَاجُ بَعْدَهُ إِلَى نَهْيٍ جَدِيدٍ؟ أَفْتَى فِي الْخَيْرِيَّةِ
بِأَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ تَجْدِيدِ النَّهْيِ، وَلاَ يَسْتَمِرُّ. . .) .
(1)
وَعَدَمُ سَمَاعِ الدَّعْوَى بِمُرُورِ الزَّمَانِ إِنَّمَا هُوَ
لِلنَّهْيِ عَنْهُ مِنَ السُّلْطَانِ، فَيَكُونُ الْقَاضِي مَعْزُولاً عَنْ
سَمَاعِهَا، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْقَضَاءَ يَتَخَصَّصُ
بِالزَّمَانِ، فَإِذَا أَمَرَ السُّلْطَانُ بِسَمَاعِهَا بِالرَّغْمِ مِنْ
مُرُورِ الزَّمَانِ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا تُسْمَعُ، وَالْغَرَضُ مِنَ
النَّهْيِ قَطْعُ الْحِيَل وَالتَّزْوِيرِ، وَعَدَمُ سَمَاعِ الْقَاضِي
لَهَا إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ إِنْكَارِ الْخَصْمِ، فَلَوِ اعْتَرَفَ
تُسْمَعُ، إِذْ لاَ تَزْوِيرَ مَعَ الإِْقْرَارِ.
وَعَدَمُ سَمَاعِهَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ حَيْثُ يَتَحَقَّقُ تَرْكُهَا
الْمُدَّةَ الْمُقَرَّرَةَ، فَلَوِ ادَّعَى الْمُدَّعِي فِي أَثْنَائِهَا،
لَمْ يُمْنَعْ مِنْ سَمَاعِ دَعْوَاهُ ثَانِيَةً، مَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ
الدَّعْوَى الأُْولَى وَالثَّانِيَةِ هَذِهِ الْمُدَّةُ، وَشَرْطُ
الدَّعْوَى الْقَاطِعَةِ لِلْمُدَّةِ أَنْ تَكُونَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي،
فَلَوْ أَنَّ شَخْصًا تَرَكَ دَعْوَاهُ مُدَّةَ خَمْسَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 342 - مطبعة مصطفى الحلبي 1386هـ.
(20/284)
عَشْرَةَ سَنَةً وَلَمْ يَدَّعِ عِنْدَ
الْقَاضِي، بَل طَالَبَ خَصْمَهُ بِحَقِّهِ مِرَارًا فِي غَيْرِ مَجْلِسِ
الْقَاضِي، فَمُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ أَنْ لاَ تُسْمَعَ دَعْوَاهُ.
وَتَرْكُ الدَّعْوَى إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ ثُبُوتِ حَقِّ طَلَبِهَا،
فَلَوْ مَاتَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ، أَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً
مَثَلاً مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ فَلَهَا طَلَبُ مُؤَخَّرِ الْمَهْرِ،
لأَِنَّ حَقَّ طَلَبِهِ إِنَّمَا ثَبَتَ لَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ أَوِ
الطَّلاَقِ، لاَ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ. وَمِثْلُهُ مَا لَوْ أَخَّرَ
الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ مُدَّةَ التَّقَادُمِ لإِِعْسَارِ الْمَدْيُونِ،
ثُمَّ ثَبَتَ يَسَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَتُحْسَبُ الْمُدَّةُ مِنْ وَقْتِ
ثُبُوتِ الْيَسَارِ. (1)
أَنْوَاعُ الدَّعَاوَى بِاعْتِبَارِ تَنَوُّعِ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى:
24 - الْمُدَّعَى فِي الدَّعْوَى لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ
الْحُقُوقِ الَّتِي قَرَّرَهَا الشَّارِعُ، وَهَذِهِ الْحُقُوقُ تَعُودُ
فِي مُجْمَلِهَا إِمَّا إِلَى حِفْظِ النَّوْعِ الإِْنْسَانِيِّ وَبَقَاءِ
النَّسْل وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، وَإِمَّا إِلَى حِفْظِ الْفَرْدِ
الإِْنْسَانِيِّ وَمَا يَتَّبِعُهُ مِنْ حِفْظِ عِرْضِهِ وَعَقْلِهِ
وَدِينِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (2)
وَقَدْ شُرِعَتِ الدَّعَاوَى مِنْ أَجْل حِمَايَةِ هَذِهِ الْحُقُوقِ،
فَتَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِهَا، وَذَلِكَ مِنْ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ:
25 - أَوَّلاً: الْمُدَّعَى قَدْ يَكُونُ فِعْلاً مُحَرَّمًا وَقَعَ مِنْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 343
(2) العناية 6 / 137 بهامش فتح القدير - مطبعة مصطفى محمد 1356 هـ.
(20/284)
شَخْصٍ وَيُوجِبُ عُقُوبَتَهُ، كَالْقَتْل،
أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ، أَوِ السَّرِقَةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
أَسْبَابِ الْعُدْوَانِ، وَقَدْ لاَ يَكُونُ كَذَلِكَ، بِأَنْ يَدَّعِيَ
شَخْصٌ عَقْدًا مِنْ بَيْعٍ، أَوْ قَرْضٍ، أَوْ رَهْنٍ، أَوْ غَيْرِهَا.
فَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ تَقْسِيمُ الدَّعَاوَى إِلَى قِسْمَيْنِ
رَئِيسِيَّيْنِ هُمَا: دَعَاوَى التُّهْمَةِ، وَدَعَاوَى غَيْرِ
التُّهْمَةِ.
وَفَائِدَةُ هَذَا التَّقْسِيمِ تَظْهَرُ فِي الإِْجْرَاءَاتِ وَطُرُقِ
الإِْثْبَاتِ الْمُتَّبَعَةِ فِي كُلٍّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ:
1 - فَإِنَّ بَعْضَ دَعَاوَى التُّهَمِ وَالْعُدْوَانِ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ
بِنِصَابٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الشُّهُودِ يَزِيدُ عَلَى النِّصَابِ
الْمَطْلُوبِ فِي الدَّعَاوَى الأُْخْرَى. وَكَثِيرٌ مِنْهَا لاَ يَثْبُتُ
بِالنُّكُول إِذَا صَدَرَ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
2 - ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُقَهَاءِ قَدْ أَجَازُوا فِي حَقِّ
الْمُتَّهَمِ فِي دَعَاوَى التُّهْمَةِ أَسَالِيبَ مِنَ الإِْجْرَاءَاتِ
لاَ يَجُوزُ اتِّخَاذُهَا فِي الدَّعَاوَى الأُْخْرَى، وَذَلِكَ كَحَبْسِ
الْمُتَّهَمِ إِذَا كَانَ مِمَّنْ تَلْحَقُهُمُ التُّهْمَةُ الْمَنْسُوبَةُ
إِلَيْهِ، أَوْ كَانَ مَجْهُول الْحَال. (1)
26 - ثَانِيًا: الْمُدَّعَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا، أَوْ دَيْنًا،
أَوْ حَقًّا شَرْعِيًّا مَحْضًا. وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ يُمْكِنُ
تَصْنِيفُ الدَّعَاوَى إِلَى ثَلاَثَةِ أَصْنَافٍ:
الصِّنْفُ الأَْوَّل: دَعَاوَى الْعَيْنِ: وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ
مَحَلُّهَا عَيْنًا مِنَ الأَْعْيَانِ، وَالْعَيْنُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ
عَقَارًا فَتُسَمَّى بِدَعْوَى الْعَقَارِ، أَوْ تَكُونَ مَنْقُولاً
فَتُسَمَّى دَعْوَى الْمَنْقُول.
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 153، 158 - 159
(20/285)
الصِّنْفُ الثَّانِي: دَعَاوَى الدَّيْنِ:
وَهِيَ مَا يَكُونُ مَحَلُّهَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، مَهْمَا كَانَ
سَبَبُ هَذَا الدَّيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَقْدَ قَرْضٍ، أَمْ ثَمَنَ
مَبِيعٍ، أَمْ ضَمَانًا لِشَيْءٍ أَتْلَفَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
الصِّنْفُ الثَّالِثُ: دَعَاوَى الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ: وَيُقْصَدُ
بِهَا الدَّعَاوَى الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا الْحُقُوقُ الأُْخْرَى الَّتِي
لاَ تَدْخُل فِي زُمْرَةِ الأَْعْيَانِ وَلاَ زُمْرَةِ الدُّيُونِ،
وَلَيْسَ لَهَا خَصَائِصُهَا مِنْ قَابِلِيَّةِ الاِنْتِقَال بِعِوَضٍ أَوْ
بِغَيْرِهِ، وَمُعْظَمُهَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُقُوقِ الْعَائِلِيَّةِ مِنْ
نَسَبٍ وَنِكَاحٍ وَحَضَانَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمِنْهَا دَعَاوَى
الشُّفْعَةِ. (1)
وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا التَّصْنِيفِ لأَِنْوَاعِ الدَّعَاوَى أَمْرَانِ
هُمَا:
1 - مَعْرِفَةُ الْخَصْمِ الَّذِي تُوَجَّهُ إِلَيْهِ الدَّعْوَى، فَقَدْ
وَضَعَ الْفُقَهَاءُ قَوَاعِدَ - سَيَأْتِي ذِكْرُهَا - لَتَعْيِينِ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي كُل صِنْفٍ مِنْ تِلْكَ الأَْصْنَافِ، وَجَعَلُوا
لِكُل نَوْعٍ قَاعِدَةً خَاصَّةً، لِمَعْرِفَةِ مَنْ هُوَ الْخَصْمُ فِي
الدَّعْوَى.
2 - مَعْرِفَةُ الطَّرِيقَةِ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا الْمُدَّعَى فِي كُل
نَوْعٍ، فَجَعَلُوا لِمَعْلُومِيَّةِ الْمُدَّعَى فِي دَعَاوَى الدَّيْنِ
قَاعِدَةً عَامَّةً، وَكَذَلِكَ لِدَعَاوَى الْعَيْنِ، وَدَعَاوَى
الْحُقُوقِ الْمَحْضَةِ. وَفِي كُل مَرَّةٍ يُرِيدُ الْقَاضِي تَحْدِيدَ
الشَّيْءِ الْمُدَّعَى فِي الدَّعْوَى يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ
مِنْ أَيِّ صِنْفٍ هِيَ.
__________
(1) أدب القضاء لابن أبي الدم ص 154 - ط دار الكتب الحديثة - الكويت
(20/285)
27 - ثَالِثًا: الْمُدَّعَى قَدْ يَكُونُ
حَقًّا أَصْلِيًّا، وَقَدْ يَكُونُ يَدًا وَتَصَرُّفًا، وَبِنَاءً عَلَيْهِ
تَنْقَسِمُ الدَّعَاوَى إِلَى قِسْمَيْنِ: دَعَاوَى الْحَقِّ، وَدَعَاوَى
الْحِيَازَةِ أَوْ دَعَاوَى وَضْعِ الْيَدِ، وَفِي الأُْولَى يُطْلَبُ
الْحُكْمُ بِالْحَقِّ الأَْصْلِيِّ، وَهُوَ حَقُّ الْمِلْكِ وَمَا
يَتَفَرَّعُ عَنْهُ مِنَ الْحُقُوقِ، وَيُطْلَبُ فِي الثَّانِي الْحُكْمُ
بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْعَيْنِ مَحَل الدَّعْوَى.
وَالْحِيَازَةُ مَصْلَحَةٌ يَرْعَاهَا الشَّارِعُ وَيَحْمِيهَا إِلَى أَنْ
يَتَبَيَّنَ ارْتِكَازُهَا عَلَى سَبَبٍ بَاطِلٍ، فَلاَ يُعْتَرَفُ بِهَا
عِنْدَئِذٍ وَإِنْ طَالَتْ. وَلِذَلِكَ صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ
بِأَنَّ الْيَدَ أَوِ (الْحِيَازَةَ) حَقٌّ مَقْصُودٌ لِلإِْنْسَانِ، (1)
فَيَصِحُّ أَنْ تُطْلَبَ بِالدَّعْوَى، سَوَاءٌ أَطُلِبَ الْحُكْمُ بِهَا
أَمْ طُلِبَتْ إِعَادَتُهَا لِمَنْ سُلِبَتْ مِنْهُ، أَمْ طُلِبَ دَفْعُ
التَّعَرُّضِ لَهَا أَمْ غَيْرُ ذَلِكَ. وَمِنَ الدَّعَاوَى الَّتِي
شُرِعَتْ لِهَذَا الْغَرَضِ:
28 - أ - دَعْوَى دَفْعِ التَّعَرُّضِ: وَالتَّعَرُّضُ الْمَقْصُودُ فِي
هَذَا الْمَقَامِ هُوَ أَنْ يُحَاوِل غَيْرُ ذِي حَقٍّ الاِسْتِيلاَءَ
عَلَى مَا هُوَ لِغَيْرِهِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، أَوْ
بِالاِسْتِعَانَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، فَيَرْفَعُ صَاحِبُ الْحَقِّ
دَعْوَى يَطْلُبُ بِهَا مَنْعَ تَعَرُّضِهِ لَهُ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
دَفْعَهُ بِنَفْسِهِ.
وَقَدْ قَرَّرَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ التَّعَرُّضَ هُوَ كُل مَا
يَسْتَضِرُّ بِهِ صَاحِبُ الْحَقِّ الْمُدَّعَى: إِمَّا بِمَدِّ الْيَدِ
إِلَى مِلْكِهِ. أَوْ بِمَا يَمْنَعُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، أَوْ
__________
(1) المبسوط 17 / 35، العناية 6 / 256 - 257، الشرح الصغير 4 / 320
(20/286)
بِمُلاَزَمَتِهِ عَلَيْهِ وَقَطْعِهِ عَنْ
أَشْغَالِهِ. (1)
وَقَدْ أَجَازَ الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الدَّعْوَى مَهْمَا كَانَ مَحَلُّهَا
عَقَارًا أَوْ مَنْقُولاً، (2) بَل ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى
جَوَازِهَا لِدَفْعِ تَعَرُّضٍ مُوَجَّهٍ إِلَى ذِمَّةِ شَخْصٍ آخَرَ،
كَأَنْ يُطَالِبَهُ بِدَيْنٍ يَدَّعِيهِ فِي ذِمَّتِهِ، فَيَتَضَرَّرُ مِنْ
هَذِهِ الْمُطَالَبَةِ، كَأَنْ يُلاَزِمَهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ يُشَنِّعَ
عَلَيْهِ فِي جَاهِهِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. أَمَّا إِذَا كَانَتْ
مُطَالَبَتُهُ لاَ تَضُرُّهُ، فَإِنَّهَا لاَ تَصِحُّ دَعْوَى دَفْعِ
التَّعَرُّضِ مِنْهُ. (3)
وَتَخْتَلِفُ هَذِهِ الدَّعْوَى عَنْ دَعْوَى قَطْعِ النِّزَاعِ بِأَنَّ
هَذِهِ الأَْخِيرَةَ عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ إِنْسَانٍ غَيْرَهُ عِنْدَ
الْقَاضِي بِدُونِ أَنْ يُعَارِضَهُ فِي شَيْءٍ يَضُرُّهُ، وَيَقُول
لِلْقَاضِي: بَلَغَنِي أَنَّ فُلاَنًا يُرِيدُ مُنَازَعَتِي
وَمُخَاصَمَتِي، وَأُرِيدُ قَطْعَ النِّزَاعِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ،
فَأَطْلُبُ إِحْضَارَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ لَهُ عَلَيَّ حَقٌّ
فَلْيُبَيِّنْهُ أَمَامَكَ بِالْحُجَّةِ، وَإِلاَّ فَلْيَعْتَرِفْ أَنِّي
بَرِيءٌ مِنْ كُل حَقٍّ يَدَّعِيهِ، فَهَذَا الْقَوْل لاَ يُسْمَعُ مِنْهُ،
لأَِنَّ الْمُدَّعِيَ لاَ يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ. (4)
29 - ب - دَعْوَى اسْتِرْدَادِ الْحِيَازَةِ: يَجُوزُ
__________
(1) الحاوي للماوردي ج 13 ق 44 ب، الأشباه والنظائر للسيوطي ص 507 - 508 -
طبع دار الكتب العلمية، بيروت.
(2) البحر الرائق 7 / 194، الحاوي جـ 13 ق 44 ب، المغني 9 / 85
(3) الحاوي جـ 13 ق 44 ب
(4) البحر الرائق 7 / 194
(20/286)
لِصَاحِبِ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ أَنْ
يَطْلُبَ مِنَ الْقَاضِي إِعَادَةَ حِيَازَتِهِ الْمَغْصُوبَةِ مِنْهُ
بِالْقَهْرِ أَوِ الْحِيلَةِ أَوِ الْخِدَاعِ، فَلِمَالِكِ الْعَيْنِ أَوْ
مُسْتَعِيرِهَا أَوْ مُسْتَأْجِرِهَا أَوْ مُرْتَهِنِهَا أَنْ يَرْفَعَ
الدَّعْوَى لاِسْتِرْدَادِ مَا سُلِبَ مِنْهُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ سَالِبُ
الْحِيَازَةِ مُحِقًّا فِيمَا فَعَل فَيُقْضَى لَهُ بِحَقِّهِ
وَحِيَازَتِهِ.
شُرُوطُ الدَّعْوَى:
30 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى جُمْلَةُ شُرُوطٍ بَعْضُهَا فِي
الْقَوْل الَّذِي يَصْدُرُ عَنِ الْمُدَّعِي يُقْصَدُ بِهِ طَلَبُ حَقٍّ
لِنَفْسِهِ، وَبَعْضُهَا فِي الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ،
وَبَعْضُهَا فِي الْمُدَّعَى بِهِ، وَبَعْضُهَا فِي رُكْنِ الدَّعْوَى.
أَوَّلاً: مَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَوْل الَّذِي يَصْدُرُ عَنِ الْمُدَّعِي
وَيَطْلُبُ بِهِ حَقًّا لِنَفْسِهِ:
يُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْقَوْل عِدَّةُ شُرُوطٍ، وَهِيَ:
31 - الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ لاَ تَكُونَ الدَّعْوَى مُنَاقِضَةً
لأَِمْرٍ سَبَقَ صُدُورُهُ عَنِ الْمُدَّعِي. (1)
وَالتَّنَاقُضُ فِي اصْطِلاَحِ الأُْصُولِيِّينَ تَقَابُل
__________
(1) المبسوط 17 / 96، بدائع الصنائع 6 / 223 - 224، الأشباه والنظائر لابن
نجيم ص 87 - المطبعة الحسينية بمصر 1322 هـ، القوانين الفقهية لابن جزي ص
291، تبصرة الحكام 1 / 136 - 137، شرح المحلي على المنهاج 4 / 334، تحفة
المحتاج 10 / 296، مغني المحتاج 4 / 110 طبع سنة 1377 هـ، الفروع 3 / 808،
غاية المنتهى 3 / 448، كشاف القناع 4 / 203
(20/287)
الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ عَلَى
وَجْهٍ لاَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ. (1)
وَالْمَقْصُودُ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يَسْبِقَ مِنَ الْمُدَّعِي
مَا يُعَارِضُ دَعْوَاهُ بِحَيْثُ بِهِ يَسْتَحِيل الْجَمْعُ بَيْنَ
السَّابِقِ وَاللاَّحِقِ، (2) وَذَلِكَ كَمَا لَوْ ادَّعَى شَخْصٌ أَنَّ
هَذِهِ الدَّارَ وَقْفٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ ادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ أَوْ
لِغَيْرِهِ، فَلاَ تُقْبَل لِوُجُودِ التَّنَاقُضِ بَيْنَ الدَّعْوَيَيْنِ،
إِذِ الْوَقْفُ لاَ يَصِيرُ مِلْكًا. (3)
وَالتَّنَاقُضُ الْمَانِعُ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى قَدْ يَقَعُ مِنَ
الْمُدَّعِي فِي الدَّعْوَى الأَْصْلِيَّةِ، كَمَا لَوْ طَلَبَ شَخْصٌ
شِرَاءَ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ هِبَتَهُ مِنْهُ، أَوْ إِيدَاعَهُ
عِنْدَهُ أَوْ إِجَارَتَهُ لَهُ، ثُمَّ ادَّعَى مِلْكِيَّةَ هَذَا
الشَّيْءِ، وَكَمَا لَوْ خَطَبَ رَجُلٌ امْرَأَةً يُرِيدُ نِكَاحَهَا،
ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ زَوْجُهَا. (4) وَقَدْ يَقَعُ مِنَ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ فِي دَفْعٍ مِنَ الدُّفُوعِ الَّتِي يُقَدِّمُهَا، كَمَا لَوِ
ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ وَدِيعَةً، فَأَنْكَرَهَا الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ، فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الإِْيدَاعِ، فَدَفَعَ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِرَدِّهَا أَوْ هَلاَكِهَا،
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون المجلد الثاني ص 1413
(2) الفواكه البدرية ص 98
(3) درر الحكام وحاشية الشرنبلالي 2 / 355، تنوير الأبصار والدر المختار ص
7 / 18
(4) جامع الفصولين 1 / 149 - المطبعة الأزهرية - الطبعة الأولى 1300 هـ،
شرح المحلي على المنهاج 4 / 344
(20/287)
فَلاَ يُقْبَل دَفْعُهُ، لِتَنَاقُضِهِ
مَعَ إِنْكَارِهِ السَّابِقِ. (1)
وَيَجْمَعُ هَذِهِ الأَْمْثِلَةَ وَأَشْبَاهَهَا أَنَّ مَنِ ادُّعِيَ
عَلَيْهِ بِحَقٍّ مِنَ الْحُقُوقِ فَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ شَيْءٌ،
فَلَمَّا خَافَ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِذَلِكَ أَقَرَّ بِهِ
وَادَّعَى فِيهِ وَجْهًا مِنْ وُجُوهِ الإِْسْقَاطِ، لَمْ يَنْفَعْهُ
ذَلِكَ وَلَمْ يُقْبَل مِنْهُ. (2)
وَلاَ يَتَحَقَّقُ التَّنَاقُضُ الْمَانِعُ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى إِلاَّ
بِشُرُوطٍ هِيَ:
32 - أ - أَنْ يَكُونَ الأَْمْرَانِ الْمُتَنَاقِضَانِ (وَهُمَا الدَّعْوَى
وَمَا صَدَرَ قَبْلَهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ) صَادِرَيْنِ عَنْ شَخْصٍ
وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمُدَّعِي، أَوْ عَنْ شَخْصَيْنِ هُمَا فِي حُكْمِ
الشَّخْصِ الْوَاحِدِ، كَمَا هُوَ الْحَال فِي الْوَكِيل وَالْمُوَكِّل،
وَالْوَارِثِ وَالْمُوَرِّثِ. فَلَوْ أَنَّ الْوَكِيل ادَّعَى عَيْنًا
لِمُوَكِّلِهِ، وَكَانَ هَذَا الْمُوَكِّل قَدْ سَبَقَ مِنْهُ إِقْرَارٌ
بِأَنَّ تِلْكَ الْعَيْنَ لَيْسَتْ لَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ لِغَيْرِهِ، لَمْ
تُقْبَل دَعْوَى الْوَكِيل لِمُنَاقَضَتِهَا لإِِقْرَارِ الْمُوَكِّل. (3)
33 - ب - أَنْ لاَ يَقَعَ مِنَ الْمُدَّعِي تَوْفِيقٌ بَيْنَ دَعْوَاهُ
وَمَا صَدَرَ عَنْهُ مِمَّا يُنَاقِضُهَا، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا
__________
(1) جامع الفصولين 1 / 149، العقد المنظم للحكام 2 / 198، تبصرة الحكام 1 /
136 - 137
(2) تبصرة الحكام 1 / 136
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 87، تحفة المحتاج وحاشية الشرواني 10 /
296
(20/288)
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) . (1)
وَأَمَّا فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ فِي
هَذَا الشَّرْطِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: مِثْل رَأْيِ الْجُمْهُورِ. (2)
الثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ وُقُوعُ التَّوْفِيقِ الْفِعْلِيِّ مِنَ
الْمُدَّعِي بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ عَدَمُ
إِمْكَانِ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ،
وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ صُوَرِ التَّنَاقُضِ، وَسَوَاءٌ أَوَقَعَ فِي
الدَّعْوَى الأَْصْلِيَّةِ، أَمْ وَقَعَ فِي الدَّفْعِ مِنَ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيِّنًا أَمْ مُبْهَمًا.
(3)
فَبِنَاءً عَلَى هَذَا الرَّأْيِ إِذَا دَفَعَ الْخَصْمُ بِتَنَاقُضِ
خَصْمِهِ فِي دَعْوَاهُ اكْتُفِيَ لِرَدِّ هَذَا الدَّفْعِ أَنْ
يَتَصَوَّرَ الْقَاضِي إِمْكَانَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ،
وَلاَ يُشْتَرَطُ سُؤَال الْمُتَنَاقِضِ - ظَاهِرًا - أَنْ يُوَفِّقَ
بَيْنَهُمَا فِعْلاً.
فَلَوْ أَنَّ شَخْصًا ادَّعَى دَارًا بِهِبَةٍ أَوْ شِرَاءٍ مِنْ أَبِيهِ،
ثُمَّ ادَّعَاهَا إِرْثًا مِنْهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ الثَّانِيَةُ
لإِِمْكَانِ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْكَلاَمَيْنِ، بِأَنْ يَكُونَ قَدِ
ابْتَاعَ الدَّارَ مِنْ أَبِيهِ، فَعَجَزَ عَنْ إِثْبَاتِ ذَلِكَ لِعَدَمِ
__________
(1) القوانين الفقهية ص 291، أدب القضاء لابن أبي الدم ق 51 ب، مختصر
الفتاوى المصرية ص 608، جامع الفصولين 1 / 128، درر الحكام 2 / 35
(2) جامع الفصولين 1 / 152
(3) جامع الفصولين 1 / 151 - 152، طبع 1300 هـ، حاشية ابن عابدين 7 / 14
طبع 1386 هـ
(20/288)
الْبَيِّنَةِ، ثُمَّ وَرِثَهَا بَعْدَ
ذَلِكَ. غَيْرَ أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى أَوَّلاً انْتِقَال الدَّارِ إِلَيْهِ
بِالإِْرْثِ، ثُمَّ ادَّعَاهَا بِالشِّرَاءِ لَمْ تُقْبَل دَعْوَاهُ
الأُْخْرَى، لِلتَّنَاقُضِ وَتَعَذُّرِ التَّوْفِيقِ. (1)
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عَدَمُ إِمْكَانِ التَّوْفِيقِ إِذَا
وَقَعَ التَّنَاقُضُ فِي كَلاَمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (أَيْ: فِي دَفْعِهِ
لِلدَّعْوَى الأَْصْلِيَّةِ) . أَمَّا إِذَا وَقَعَ التَّنَاقُضُ مِنَ
الْمُدَّعِي فِي الدَّعْوَى الأَْصْلِيَّةِ، فَلاَ يُشْتَرَطُ فِي
اعْتِبَارِهِ عَدَمُ إِمْكَانِ التَّوْفِيقِ، وَإِنَّمَا عَدَمُ وُقُوعِ
التَّوْفِيقِ الْفِعْلِيِّ مِنَ الْمُتَنَاقِضِ. وَيُعْتَبَرُ التَّنَاقُضُ
مَانِعًا مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى، وَإِنْ كَانَ التَّوْفِيقُ مُمْكِنًا،
إِذَا لَمْ يَقُمِ الْمُدَّعِي بِالتَّوْفِيقِ الْفِعْلِيِّ بَيْنَ
أَقْوَالِهِ الْمُتَنَاقِضَةِ. (2)
الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عَدَمُ التَّوْفِيقِ الْفِعْلِيِّ
لاِعْتِبَارِ التَّنَاقُضِ مَانِعًا مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى إِذَا كَانَ
ظَاهِرًا لِنَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ، وَكَانَ التَّوْفِيقُ خَفِيًّا، وَإِلاَّ
فَيُشْتَرَطُ عَدَمُ الإِْمْكَانِ، فَمَنْ كَانَ قَدِ ادَّعَى لِغَيْرِهِ
عَيْنًا لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَدَّعِيَهَا لِنَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، مَعَ
أَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ قَدِ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بَعْدَ تَأْرِيخِ
الدَّعْوَى السَّابِقَةِ، فَإِنْ وَفَّقَ بِهَذَا فِعْلاً، وَبَرْهَنَ
عَلَيْهِ قُبِلَتْ دَعْوَاهُ وَسُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ، وَإِلاَّ فَلاَ، (3)
لأَِنَّ دَعْوَاهُ الأُْولَى إِقْرَارٌ بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِ
__________
(1) جامع الفصولين 1 / 128
(2) الدر المختار مع تكملة حاشية ابن عابدين 7 / 16، المجاني الزهرية ص 10
(3) درر الحكام 2 / 355، جامع الفصولين 1 / 124 درر الحكام 2 / 355، جامع
الفصولين 1 / 124
(20/289)
وَنَفْيٌ لِلْمِلْكِ عَنْ نَفْسِهِ،
وَدَعْوَاهُ الثَّانِيَةُ إِيجَابُ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ وَنَفْيُهُ عَنْ
غَيْرِهِ، فَتَنَاقَضَ النَّافِي وَالْمُثْبِتُ، فَلاَ بُدَّ مِنَ
التَّوْفِيقِ الْفِعْلِيِّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لِظُهُورِ التَّنَاقُضِ
وَخَفَاءِ التَّوْفِيقِ.
بِخِلاَفِ مَا لَوْ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ مَبْلَغًا مِنَ ذ0 الْمَال،
فَدَفَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَدَّاهُ لَهُ فِي مَكَانِ كَذَا،
فَلَمَّا لَمْ يَسْتَطِعْ إِثْبَاتَ ذَلِكَ دَفَعَ بِأَنَّهُ أَدَّاهُ
الدَّيْنَ فِي مَكَانٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الدَّفْعِ
الأَْوَّل، فَيُقْبَل دَفْعُهُ الثَّانِي، لإِِمْكَانِ التَّوْفِيقِ بِأَنْ
يَكُونَ أَدَّاهُ مَرَّتَيْنِ لِقَطْعِ مُطَالَبَتِهِ. (1)
34 - ج - وَيُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِ التَّنَاقُضِ الْمَانِعِ مِنْ سَمَاعِ
الدَّعْوَى أَنْ لاَ يَكُونَ الْكَلاَمُ الأَْوَّل قَدْ كُذِّبَ شَرْعًا
بِالْقَضَاءِ، (2) فَلَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ أَنَّهُ كَفَل لَهُ
عَنْ مَدْيُونِهِ بِأَلْفٍ، فَأَنْكَرَ الْكَفَالَةَ، وَبَرْهَنَ
الدَّائِنُ أَنَّهُ كَفَل عَنْ مَدْيُونِهِ، وَحَكَمَ بِهِ الْقَاضِي،
وَأَخَذَ الْمَكْفُول لَهُ مِنْهُ الْمَال، ثُمَّ إِنَّ الْكَفِيل ادَّعَى
عَلَى الْمَدْيُونِ أَنَّهُ كَفَل عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَبَرْهَنَ عَلَى
ذَلِكَ، قُبِلَتْ هَذِهِ الدَّعْوَى وَسُمِعَتِ الْبَيِّنَةُ، وَإِنْ
كَانَتْ هَذِهِ الدَّعْوَى مُنَاقِضَةً لِمَا سَبَقَ مِنْهُ مِنْ إِنْكَارِ
الْكَفَالَةِ عِنْدَمَا ادَّعَاهَا عَلَيْهِ الدَّائِنُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ
إِنْكَارَهُ السَّابِقَ
__________
(1) جامع الفصولين 1 / 146
(2) الفواكه البدرية ص 99، الدر المختار وتكملة حاشية ابن عابدين 7 / 18،
جامع الفصولين 1 / 140
(20/289)
بَطَل أَثَرُهُ بِتَكْذِيبِ الْحَاكِمِ
لَهُ. (1)
هَذَا وَقَدْ قَرَّرَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ التَّنَاقُضَ
يُغْتَفَرُ فِي الدَّعْوَى فِي الْمَسَائِل الَّتِي تَخْفَى أَسْبَابُهَا
مِثْل مَسَائِل النَّسَبِ وَبَعْضِ الْمَسَائِل الْمُتَعَلِّقَةِ
بِالطَّلاَقِ وَغَيْرِهَا. (2)
مَا يَرْتَفِعُ بِهِ التَّنَاقُضُ.
35 - يَرْتَفِعُ التَّنَاقُضُ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ
بِأَمْرَيْنِ اثْنَيْنِ هُمَا: التَّوْفِيقُ الْفِعْلِيُّ بَيْنَ
الْمُتَنَاقِضَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الإِْشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ،
وَتَصْدِيقُ الْخَصْمِ. فَلَوْ أَنَّ شَخْصًا ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَلْفَ
دِينَارٍ بِسَبَبِ الْقَرْضِ، ثُمَّ ادَّعَاهُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ
الْكَفَالَةِ، فَصَدَّقَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سُمِعَتْ دَعْوَاهُ
بِالرَّغْمِ مِنْ تَنَاقُضِهِ. (3)
هَذَا وَقَدْ قَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ التَّنَاقُضَ يُغْتَفَرُ فِيمَا
كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْخَفَاءِ.
فَفِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ (م 1655) : " يُعْفَى عَنِ
التَّنَاقُضِ إِذَا ظَهَرَتْ مَعْذِرَةُ الْمُدَّعِي وَكَانَ مَحَل خَفَاءٍ
".
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا أَفْتَى بِهِ فِي الْحَامِدِيَّةِ مِنْ
أَنَّهُ إِذَا مَاتَ زَيْدٌ عَنْ وَرَثَةٍ بَالِغِينَ، وَخَلَّفَ حِصَّتَهُ
__________
(1) جامع الفصولين 1 / 140، تكملة حاشية ابن عابدين 7 / 18
(2) بدائع الصنائع 6 / 224، درر الحكام 2 / 256، الفواكه البدرية ص 100،
الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 87، جامع الفصولين 1 / 135 - 136
(3) الدر المختار مع التكملة 7 / 17 - 18
(20/290)
مِنْ دَارٍ، وَصَدَّقَ الْوَرَثَةُ أَنَّ
بَقِيَّةَ الدَّارِ لِفُلاَنٍ وَفُلاَنٍ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ مُوَرِّثَهُمُ
الْمَذْكُورَ اشْتَرَى بَقِيَّةَ الدَّارِ مِنْ وَرَثَةِ فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ
فِي حَال صِغَرِ الْمُصَدِّقِينَ، وَأَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ،
تُسْمَعُ دَعْوَاهُمْ، لأَِنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ فِي مَحَل الْخَفَاءِ
فَيَكُونُ عَفْوًا.
وَمِنْ ذَلِكَ دَعْوَى النَّسَبِ أَوِ الطَّلاَقِ، لأَِنَّ النَّسَبَ
مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرٍ خَفِيٍّ وَهُوَ الْعُلُوقُ، إِذْ هُوَ مِمَّا
يَغْلِبُ خَفَاؤُهُ عَلَى النَّاسِ، فَالتَّنَاقُضُ فِي مِثْلِهِ غَيْرُ
مُعْتَبَرٍ، وَالطَّلاَقُ يَنْفَرِدُ بِهِ الزَّوْجُ.
وَمِنْ ذَلِكَ: الْمَدِينُ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ لَوْ بَرْهَنَ عَلَى
إِبْرَاءِ الدَّائِنِ لَهُ. وَالْمُخْتَلِعَةُ بَعْدَ أَدَاءِ بَدَل
الْخُلْعِ لَوْ بَرْهَنَتْ عَلَى طَلاَقِ الزَّوْجِ قَبْل الْخُلْعِ. (1)
وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَهَكَذَا كُل مَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْخَفَاءِ
فَإِنَّهُ يُعْفَى فِيهِ عَنِ التَّنَاقُضِ.
هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا أَفْتَى فِي
الْحَامِدِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل الأَْكْثَرِينَ مِنْ فُقَهَاءِ مَذْهَبِ
الْمَالِكِيَّةِ، فَقَدْ نَقَل الْحَطَّابُ عَنِ الْقَرَافِيِّ أَنَّهُ:
إِذَا أَقَرَّ الْوَارِثُ أَنَّ مَا تَرَكَهُ أَبُوهُ مِيرَاثٌ بَيْنَ
الْوَرَثَةِ عَلَى مَا عُهِدَ فِي الشَّرِيعَةِ وَعَلَى مَا تُحْمَل
عَلَيْهِ الدِّيَانَةُ، ثُمَّ جَاءَ بِشُهُودٍ أَخْبَرُوهُ أَنَّ أَبَاهُ
أَشْهَدَهُمْ أَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ بِهَذِهِ الدَّارِ
__________
(1) مجلة الأحكام وشرحها للأتاسي 5 / 144 - 145، ودرر الحكام 4 / 228،
وتنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 29 - 30 و 175، والزيلعي وهامشه 4 / 99 - 100،
والبدائع 6 / 224
(20/290)
وَحَازَهَا لَهُ، أَوْ أَقَرَّ الأَْبُ
أَنَّهُ مَلَكَهَا عَلَيْهِ بِوَجْهٍ شَرْعِيٍّ، فَإِنَّهُ إِذَا رَجَعَ
عَنْ إِقْرَارِهِ بِأَنَّ التَّرِكَةَ كُلَّهَا مَوْرُوثَةٌ إِلاَّ هَذِهِ
الدَّارَ الْمَشْهُودَ لَهُ بِهَا دُونَ الْوَرَثَةِ وَاعْتَذَرَ
بِإِخْبَارِ الْبَيِّنَةِ لَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا، بِذَلِكَ
بَل أَقَرَّ بِنَاءً عَلَى الْعَادَةِ وَمُقْتَضَى ظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ،
فَإِنَّهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَيُقْبَل عُذْرُهُ وَيُقِيمُ بَيِّنَتَهُ،
وَلاَ يَكُونُ إِقْرَارُهُ السَّابِقُ مُكَذِّبًا لِلْبَيِّنَةِ وَقَادِحًا
فِيهَا، لأَِنَّ هَذَا عُذْرٌ عَادِيٌّ يُسْمَعُ مِثْلُهُ.
وَنُقِل عَنْ سَحْنُونَ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ. (1)
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْبَيِّنَةَ تُقْبَل
لِلْعُذْرِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ لاَ تُقْبَل لِلْمُنَاقَضَةِ. (2)
وَهَذَا عَلَى مَا جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ وَالْقَلْيُوبِيِّ.
وَفِي حَوَاشِي الشِّرْوَانِيِّ وَابْنِ قَاسِمٍ عَلَى تُحْفَةِ
الْمُحْتَاجِ: لَوْ أَقَرَّ مَدِينٌ لآِخَرَ، ثُمَّ ادَّعَى أَدَاءَهُ
إِلَيْهِ وَأَنَّهُ نَسِيَ ذَلِكَ حَالَةَ الإِْقْرَارِ سُمِعَتْ دَعْوَاهُ
لِلتَّحْلِيفِ فَقَطْ. فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِالأَْدَاءِ قُبِلَتْ
عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُهُمْ لاِحْتِمَال مَا قَالَهُ، فَلاَ
تَنَاقُضَ، كَمَا لَوْ قَال: لاَ بَيِّنَةَ لِي، ثُمَّ أَتَى بِبَيِّنَةٍ
تُسْمَعُ. (3)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ بَعْدَ الإِْنْكَارِ،
فَمَنِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ بِحَقٍّ فَأَنْكَرَهُ، ثُمَّ ثَبَتَ عَلَيْهِ
الْحَقُّ فَادَّعَى الْقَضَاءَ أَوْ إِبْرَاءَ الْمُدَّعِي لَهُ سَابِقًا
__________
(1) الحطاب 5 / 223، والفروق للقرافي 4 / 38
(2) نهاية المحتاج 8 / 250، وقليوبي 4 / 305
(3) حواشي الشرواني وابن قاسم على تحفة المحتاج 5 / 399
(20/291)
عَلَى زَمَنِ إِنْكَارِهِ، كَمَا لَوْ
ادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفًا مِنْ قَرْضٍ أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ فَقَال: مَا
اقْتَرَضْتُ مِنْهُ وَمَا اشْتَرَيْتُ مِنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ اقْتَرَضَ
أَوِ اشْتَرَى مِنْهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ فَقَال: قَضَيْتُهُ أَوْ
أَبْرَأَنِي قَبْل هَذَا الْوَقْتِ، لَمْ يُقْبَل مِنْهُ ذَلِكَ وَإِنْ
أَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً، لأَِنَّ إِنْكَارَ الْحَقِّ يَقْتَضِي نَفْيَ
الْقَضَاءِ أَوِ الإِْبْرَاءَ مِنْهُ، لأَِنَّهُمَا لاَ يَكُونَانِ إِلاَّ
عَنْ حَقٍّ سَابِقٍ، فَيَكُونُ مُكَذِّبًا لِنَفْسِهِ. (1)
36 - الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى بِتَعْبِيرَاتٍ
جَازِمَةٍ وَقَاطِعَةٍ وَلاَ تَرَدُّدَ فِيهَا، فَلاَ تَصِحُّ الدَّعْوَى
بِنَحْوِ: أَشُكُّ أَوْ أَظُنُّ أَنَّ لِي عَلَى فُلاَنٍ مَبْلَغَ كَذَا،
أَوْ أَنَّهُ غَصَبَ مِنِّي دَابَّتِي. (2)
وَقَدِ اسْتُثْنِيَ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ دَعَاوَى الاِتِّهَامِ
(الدَّعَاوَى الْجِنَائِيَّةُ) ، فَإِنَّهَا تَجُوزُ بِالأَْلْفَاظِ
الْمُتَرَدِّدَةِ، فَإِذَا قَال: أَتَّهِمُهُ بِسَرِقَةِ دِينَارٍ مَثَلاً،
فَإِنَّ دَعْوَاهُ تُسْمَعُ، لأَِنَّ دَعَاوَى الاِتِّهَامِ تَرْجِعُ فِي
أَسَاسِهَا إِلَى الشَّكِّ وَالظَّنِّ. (3)
37 - الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَذْكُرَ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ
أَنَّهُ يُطَالِبُ بِالْحَقِّ الَّذِي يَدَّعِيهِ: وَهَذَا الشَّرْطُ
اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، وَفِي مُعْظَمِ الْمَذَاهِبِ قَوْلاَنِ
بِخُصُوصِهِ. الرَّاجِحُ مِنْهُمَا: عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ، وَالاِكْتِفَاءُ
بِدَلاَلَةِ الْحَال. وَاشْتَرَطَهُ أَصْحَابُ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 3 / 493، والمغني 9 / 236 - 237
(2) حاشية الدسوقي 4 / 144، لب اللباب ص 255
(3) حاشية الدسوقي 4 / 144
(20/291)
الْمُتُونِ وَالشُّرُوحِ مِنْ فُقَهَاءِ
الْحَنَفِيَّةِ وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِتَصْحِيحِهِ، بَيْنَمَا صَرَّحَ
أَصْحَابُ الْفَتَاوَى مِنْهُمْ بِتَصْحِيحِ خِلاَفِهِ.
وَعَدَمُ اشْتِرَاطِهِ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَحَدُ
قَوْلَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِاشْتِرَاطِهِ بِأَنَّ حَقَّ الإِْنْسَانِ
يَجِبُ إِيفَاؤُهُ بِطَلَبِهِ، وَالْحُكْمُ حَقُّ الْمُدَّعِي، فَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ غَيْرَ طَالِبٍ لَهُ إِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ،
وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْقَضِيَّةَ عَلَى سَبِيل الْحِكَايَةِ
وَالاِسْتِفْتَاءِ، فَإِذَا طَلَبَهُ تَبَيَّنَ غَرَضُهُ، وَبِأَنَّ
الْقَاضِيَ نُصِّبَ لِقَطْعِ الْخُصُومَاتِ، لاَ لإِِنْشَائِهَا، فَإِذَا
طَلَبَ الْمُدَّعِي الْقَضَاءَ لَهُ بِحَقِّهِ أَجَابَهُ إِلَى طَلَبِهِ،
وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ، فَإِنْ نَظَرَ فِي الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ مَا
طُلِبَ لِلْحَقِّ مِنَ الْمُدَّعِي كَانَ مُنْشِئًا لِلْخُصُومَةِ، وَهُوَ
مَا لَمْ يُجْعَل الْقَضَاءُ لأَِجْلِهِ.
وَاحْتَجَّ الآْخَرُونَ بِأَنَّ الْمُقَدِّمَاتِ وَدَلاَئِل الْحَال
تُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ لاَ يَقْصِدُ بِدَعْوَاهُ إِلاَّ
الْحُكْمَ لَهُ بِحَقِّهِ، وَتَسْلِيمَهُ إِلَيْهِ، وَكَوْنُ الْمُدَّعِي
يَقُول ذَلِكَ حِكَايَةً بَعِيدٌ جِدًّا، لأَِنَّ مَجَالِسَ الْقَضَاءِ
لَمْ تُنْشَأْ لِهَذَا الْغَرَضِ. (1)
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 222، العناية وتكملة فتح القدير 6 / 144، الفواكه
البدرية ص 106، الهداية وتكملة فتح القدير 6 / 147، تبصرة الحكام 1 / 38
طبع 1301 هـ، الحاوي الكبير ج 13 ق 44 أ، المغني 9 / 86، الروض الندي ص
512، غاية المنتهى 3 / 499، كشاف القناع 4 / 203
(20/292)
38 - الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ
الدَّعْوَى بِلِسَانِ الْمُدَّعِي عَيْنًا: وَهَذَا الشَّرْطُ اخْتَصَّ
بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ، فَلَمْ يَجُزِ التَّوْكِيل إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي
الْمُدَّعِي عُذْرٌ مَقْبُولٌ، أَوْ يَرْضَى خَصْمُهُ بِالتَّوْكِيل.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ، وَجَوَازِ
التَّوْكِيل بِالْخُصُومَةِ شَاءَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَمْ أَبَى. (1)
39 - الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَذْكُرَ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَى
الْعَيْنِ أَنَّ الْمُدَّعَى بِهِ فِي يَدِ الْخَصْمِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الشَّرْطِ دَعْوَى مَنْعِ التَّعَرُّضِ، لأَِنَّ
الْخَصْمَ فِيهَا يَتَعَرَّضُ لِلْمُدَّعِي وَيَكُونُ الْعَيْنُ فِي يَدِ
هَذَا الأَْخِيرِ. (2)
ثَانِيًا: شُرُوطُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ: يُشْتَرَطُ فِي
كُلٍّ مِنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ شَرْطَانِ: شَرْطُ
الأَْهْلِيَّةِ، وَشَرْطُ الصِّفَةِ.
40 - شَرْطُ الأَْهْلِيَّةِ: لَمَّا كَانَتِ الدَّعْوَى تَصَرُّفًا
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 222، تبصرة الحكام 1 / 111 طبع 1301 هـ، فتح المعين
وترشيح المستفيدين ص 245، منتهى الإرادات - القسم الأول ص 444
(2) العناية 6 / 144، مواهب الجليل 6 / 125، مغني المحتاج 4 / 465،
الشرواني على تحفة المحتاج 10 / 296، الحاوي الكبير 13 / ق 43 ب
(20/292)
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ
شَرْعِيَّةٌ وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْهَا، فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ
فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى
عَلَيْهِ أَهْلاً لِلْقِيَامِ بِالتَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ. (1)
وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ أَهْلاً فَيُطَالِبُ لَهُ بِحَقِّهِ مُمَثِّلُهُ
الشَّرْعِيُّ مِنْ وَلِيٍّ أَوْ وَصِيٍّ.
وَالْحَنَفِيَّةُ لاَ يَشْتَرِطُونَ كَمَال الأَْهْلِيَّةِ فِي كِلاَ
الطَّرَفَيْنِ، وَيَكْتَفُونَ بِالأَْهْلِيَّةِ النَّاقِصَةِ، وَكَذَلِكَ
الْمَالِكِيَّةُ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي، (2) وَيُشْتَرَطُ الرُّشْدُ
عِنْدَهُمْ فِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
يَسْتَثْنُونَ بَعْضَ الْحَالاَتِ وَلاَ يَشْتَرِطُونَ فِيهَا كَمَال
الأَْهْلِيَّةِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
1 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ
الْمَأْذُونِ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ الدَّعْوَى وَأَنْ يَكُونَ مُدَّعًى
عَلَيْهِ، (3) وَذَلِكَ لأَِنَّ الدَّعْوَى وَالْجَوَابَ عَلَيْهَا مِنَ
التَّصَرُّفَاتِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ، فَتَصِحُّ
مِنَ الصَّبِيِّ الَّذِي أَذِنَ لَهُ وَلِيُّهُ، وَلاَ تَصِحُّ مِمَّنْ
لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ.
2 - وَالْمَالِكِيَّةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى
عَلَيْهِ:
__________
(1) درر الحكام 2 / 330، الفتاوى الهندية 4 / 2، تبصرة الحكام 1 / 133،
المنهاج مع شرح المحلي 4 / 163، مغني المحتاج 4 / 407 - 408، إعانة
الطالبين 4 / 241، الفروع 3 / 808، كشاف القناع 4 / 277
(2) جامع أحكام الصغار على هامش جامع الفصولين 1 / 303 - 304، مغني المحتاج
4 / 407 - 408
(3) درر الحكام 2 / 303، المجاني الزهرية على الفواكه البدرية ص 88، جامع
أحكام الصغار 1 / 37
(20/293)
فَأَمَّا الْمُدَّعِي فَلاَ يُشْتَرَطُ
فِيهِ الرُّشْدُ، وَتَصِحُّ الدَّعْوَى مِنَ السَّفِيهِ وَالصَّبِيِّ،
وَلاَ يَشْتَرِطُونَ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ كَمَا هُوَ الْحَال
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (1)
وَأَمَّا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَتُشْتَرَطُ فِيهِ الأَْهْلِيَّةُ
الْكَامِلَةُ، فَإِنْ كَانَ عَدِيمَهَا أَوْ نَاقِصَهَا لَمْ تَصِحَّ
الدَّعْوَى عَلَيْهِ.
3 - وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالأَْصْل عِنْدَهُمُ اشْتِرَاطُ الْبُلُوغِ
فِي الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: تُسْمَعُ
الدَّعْوَى عَلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَصِحُّ إِقْرَارُهُمْ
بِهِ، فَتُسْمَعُ الدَّعْوَى بِالْقَتْل عَلَى السَّفِيهِ. (2)
4 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تَصِحُّ الدَّعْوَى عَلَى السَّفِيهِ فِيمَا
يُؤْخَذُ بِهِ حَال سَفَهِهِ، فَتَصِحُّ عَلَيْهِ دَعْوَى الطَّلاَقِ
وَالْقَذْفِ. (3)
وَالْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يُجِيزُونَ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ، وَهُمْ
غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ قَالُوا بِسَمَاعِ الدَّعْوَى عَلَى الصَّغِيرِ
وَالْمَجْنُونِ وَالْمَيِّتِ إِذَا كَانَ مَعَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ بِمَا
يَدَّعِيهِ، وَكَانَتْ حَاضِرَةً لَدَيْهِ وَبِشُرُوطٍ أُخْرَى سَتَأْتِي.
وَيُحَلِّفُهُ الْقَاضِي يَمِينًا سَمَّاهَا بَعْضُهُمْ " يَمِينَ
الاِسْتِظْهَارِ "، وَيَذْكُرُ فِيهَا
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 127
(2) المنهاج وشرح المحلي وحاشية قليوبي 4 / 163 - 164، تحفة المحتاج 10 /
293، مغني المحتاج 4 / 110 طبع 1377 هـ.
(3) منتهى الإرادات - القسم الثاني ص 628، الفروع 3 / 808، كشاف القناع 4 /
277
(20/293)
أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ مَا ادَّعَى بِهِ
مِمَّنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِمْ، وَلاَ أَبْرَأَهُمْ مِنْ ذَلِكَ.
(1)
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَلأَِنَّهُمْ لاَ يُجِيزُونَ الدَّعْوَى إِلاَّ
عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ وَمُكَلَّفٍ، وَلاَ يُجِيزُونَ الْقَضَاءَ عَلَى
الْغَائِبِ، وَإِنْ أَحْضَرَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ، فَهُمْ
مِنْ طَرِيقِ أَوْلَى لاَ يُجِيزُونَ سَمَاعَ الدَّعْوَى عَلَى الصَّغِيرِ
أَوِ الْمَجْنُونِ أَوِ الْمَيِّتِ، حَيْثُ هُمْ أَضْعَفُ حَالاً مِنَ
الْغَائِبِ.
شَرْطُ الصِّفَةِ:
41 - الْمَقْصُودُ بِهِ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى
عَلَيْهِ ذَا شَأْنٍ فِي الْقَضِيَّةِ الَّتِي أُثِيرَتْ حَوْلَهَا
الدَّعْوَى، وَأَنْ يَعْتَرِفَ الشَّارِعُ بِهَذَا الشَّأْنِ
وَيَعْتَبِرَهُ كَافِيًا لِتَخْوِيل الْمُدَّعِي حَقَّ الاِدِّعَاءِ،
وَلِتَكْلِيفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْجَوَابِ وَالْمُخَاصَمَةِ.
وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْمُدَّعِي إِذَا كَانَ يَطْلُبُ الْحَقَّ
لِنَفْسِهِ، أَوْ لِمَنْ يُمَثِّلُهُ. (2) وَيَحِقُّ لِلدَّائِنِ أَنْ
يَرْفَعَ دَعْوَى لِمَدِينِهِ يُطَالِبُ فِيهِ بِحُقُوقِهِ إِذَا أَحَاطَ
الدَّيْنُ بِأَمْوَالِهِ وَأُشْهِرَ إِفْلاَسُهُ.
وَالْقَاعِدَةُ فِي هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ مَنْ يَدَّعِي
حَقًّا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَقُّ مُنْتَقِلاً إِلَيْهِ
صَحَّتْ دَعْوَاهُ، وَإِلاَّ فَلاَ، فَتَصِحُّ الدَّعْوَى مِنَ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 407 - 408، والدسوقي 4 / 162، 227
(2) تبصرة الحكام 1 / 109
(20/294)
الْوَارِثِ فِيمَا يَدَّعِيهِ لِمُورِثِهِ،
وَلاَ تَصِحُّ مِنَ الدَّائِنِ الَّذِي يَرْفَعُ دَعْوَى لِمَدِينِهِ إِذَا
لَمْ يُشْهَرْ إِفْلاَسُهُ. (1) وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَيْضًا يَجِبُ
أَنْ يَكُونَ ذَا صِفَةٍ، فَلاَ تَصِحُّ الدَّعْوَى إِلاَّ إِذَا رُفِعَتْ
فِي وَجْهِ مَنْ يَعْتَبِرُهُ الْمُشَرِّعُ خَصْمًا، وَيُجْبِرُهُ عَلَى
الدُّخُول فِي الْقَضِيَّةِ، لِيُجِيبَ بِالاِعْتِرَافِ أَوْ
بِالإِْنْكَارِ.
وَالْقَاعِدَةُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ مَنِ ادَّعَى عَلَى إِنْسَانٍ شَيْئًا،
فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَوْ أَقَرَّ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ،
وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بِإِنْكَارِهِ خَصْمًا
فِي الدَّعْوَى، وَتَصِحُّ بِتَوْجِيهِهَا إِلَيْهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ
لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَى إِقْرَارِهِ حُكْمٌ لَمْ يَكُنْ خَصْمًا
بِإِنْكَارِهِ، (2) وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ حَدَّدَ
الْفُقَهَاءُ الْخَصْمَ فِي مُخْتَلَفِ أَنْوَاعِ الدَّعَاوَى:
أ - فَفِي دَعَاوَى الْعَيْنِ يَكُونُ الْخَصْمُ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ
الْعَيْنُ فِي يَدِهِ. (3) وَذَلِكَ لأَِنَّ أَيَّ شَخْصٍ لَيْسَتِ
الْعَيْنُ الْمُدَّعَاةُ فِي يَدِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا،
وَالْحَائِزُ لَهَا هُوَ الَّذِي يَمْلِكُ أَنْ يَقْرَبَهَا، فَهُوَ إِذَنِ
الْخَصْمُ فِي دَعْوَاهَا.
وَالْيَدُ الَّتِي يَكُونُ صَاحِبُهَا خَصْمًا فِي الدَّعْوَى هِيَ الَّتِي
تَدُل عَلَى الْمِلْكِ فِي الظَّاهِرِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ
__________
(1) تحفة المحتاج 11 / 310، مغني المحتاج 2 / 147 طبع الحلبي 1377 هـ
(2) مواهب الجليل 6 / 125
(3) الهداية والعناية والتكملة 6 / 146، درر الحكام 2 / 330، جامع الفصولين
1 / 38، تبصرة الحكام 1 / 104 طبع 1301 هـ، الأم 6 / 236، إعانة الطالبين 4
/ 241
(20/294)
كَذَلِكَ بِأَنْ كَانَتْ يَدًا طَارِئَةً،
كَيَدِ مُسْتَأْجِرٍ، أَوْ مُسْتَعِيرٍ، أَوْ مُرْتَهِنٍ، لَمْ يَصِحَّ
تَوْجِيهُ الدَّعْوَى إِلَى صَاحِبِهَا مُنْفَرِدًا، وَلَكِنْ يُطْلَبُ
مِنَ الْحَائِزِ الْعَرَضِيِّ الْحُضُورُ إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ
لِيُؤْمَرَ بِتَسْلِيمِ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى عِنْدَ إِثْبَاتِ
الدَّعْوَى. وَإِذَا وَجَّهَهَا الْمُدَّعِي إِلَيْهِ، كَانَ لِهَذَا
الْحَائِزِ الْعَرَضِيِّ أَنْ يَدْفَعَ الدَّعْوَى بِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ
يَدَ مِلْكٍ، وَإِنَّمَا هِيَ يَدٌ عَارِضَةٌ، بِشَرْطِ أَنْ يُبَرْهِنَ
عَلَى دَفْعِهِ، وَعِنْدَئِذٍ تُرَدُّ دَعْوَى الْمُدَّعِي. وَيُطْلَبُ
مِنْهُ رَفْعُهَا فِي مُوَاجَهَةِ الْمَالِكِ. (1)
وَهَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ مُخْتَصٌّ بِدَعَاوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ
عَنِ السَّبَبِ، أَمَّا إِذَا ادَّعَى الْمُدَّعِي أَنَّ فُلاَنًا غَصَبَ
مِنْهُ مَالَهُ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ دَفْعُ هَذِهِ
الدَّعْوَى بِحُجَّةِ أَنَّ الْعَيْنَ الْمُدَّعَاةَ لَيْسَتْ فِي يَدِهِ،
لأَِنَّ الأَْصْل فِي دَعْوَى الْفِعْل - كَمَا سَيَأْتِي - أَنَّهَا
يَصِحُّ تَوْجِيهُهَا ضِدَّ الْفَاعِل. (2)
42 - وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَا يَأْتِي:
1 - إِذَا بَاعَ رَجُلٌ مِلْكَ غَيْرِهِ، وَسَلَّمَهُ بِدُونِ إِذْنِهِ،
كَانَ الْخَصْمُ هُوَ الْمُشْتَرِي، وَلَكِنَّ مَحَل
__________
(1) الهداية 6 / 212، درر الحكام 2 / 343، جامع الفصولين 1 / 130 - 131،
نهاية المحتاج 8 / 168، 169، المغني 9 / 301، كشاف القناع 6 / 275 طبع 1367
هـ
(2) الهداية والتكملة 6 / 112، درر الحكام 2 / 343، جامع الفصولين 1 / 130
- 131، الفتاوى الهندية 4 / 43، نهاية المحتاج 8 / 168، المغني 9 / 301،
كشاف القناع 6 / 275 طبع 1367 هـ.
(20/295)
ذَلِكَ إِذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي
اسْتِرْدَادَ الْعَيْنِ، أَمَّا إِذَا أَرَادَ التَّضْمِينَ سُمِعَتِ
الدَّعْوَى عَلَى الْبَائِعِ الْغَاصِبِ وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِ
غَيْرِهِ، لأَِنَّهَا تَكُونُ دَعْوَى فِعْلٍ عِنْدَئِذٍ.
2 - إِذَا تُوُفِّيَ شَخْصٌ عَنْ تَرِكَةٍ فِيهَا أَعْيَانٌ وَلَهُ
وَرَثَةٌ، وَأَرَادَ شَخْصٌ الاِدِّعَاءَ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِهَا كَانَ
الْخَصْمُ لَهُ هُوَ الْوَارِثُ الَّذِي فِي يَدِهِ تِلْكَ الْعَيْنُ،
وَلاَ تُسْمَعُ الدَّعْوَى بِهَا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْوَرَثَةِ. (1)
3 - إِذَا بِيعَ عَقَارٌ، فَطَلَبَ الشَّفِيعُ أَخْذَهُ بِالشُّفْعَةِ،
فَإِنْ تَسَلَّمْهُ الْمُشْتَرِي كَانَ هُوَ الْخَصْمُ لِلشَّفِيعِ، وَإِنْ
لَمْ يَتَسَلَّمْهُ كَانَ الْخَصْمُ لَهُ كُلًّا مِنَ الْبَائِعِ
وَالْمُشْتَرِي، لأَِنَّ الأَْوَّل وَاضِعُ الْيَدِ، فَيَحْضُرُ مِنْ أَجْل
التَّسْلِيمِ، وَالآْخَرُ مَالِكٌ، فَلاَ تُسْمَعُ الدَّعْوَى إِلاَّ
بِحُضُورِهِمَا جَمِيعًا. (2)
4 - إِذَا بَاعَ شَخْصٌ لِغَيْرِهِ عَيْنًا، وَلَمْ يُسَلِّمْهَا إِلَيْهِ،
فَأَرَادَ آخَرُ ادِّعَاءَ مِلْكِيَّتِهَا، كَانَ الْخَصْمُ لَهُ كُلًّا
مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، لأَِنَّ الأَْوَّل وَاضِعُ الْيَدِ، فَلاَ
بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ لِيُؤْمَرَ بِالتَّسْلِيمِ عِنْدَ ثُبُوتِ
الدَّعْوَى، وَأَمَّا إِذَا سَلَّمَهَا الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي كَانَ
الْخَصْمُ هُوَ الْمُشْتَرِي. فَفِي جَمِيعِ الْحَالاَتِ الَّتِي تَكُونُ
فِيهَا الْعَيْنُ الْمُدَّعَاةُ فِي يَدِ غَيْرِ
__________
(1) البحر الرائق 7 / 194، جامع الفصولين ص 52، أدب القضاء للغزي ق 2 أ.
(2) جامع الفصولين 1 / 52
(20/295)
الْمَالِكِ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ
الدَّعْوَى بِالْمِلْكِ حُضُورُ الاِثْنَيْنِ. (1)
وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْمَالِكُ لِلْعَيْنِ، وَإِنْ
لَمْ تَكُنْ يَدُهُ عَلَى الْمُدَّعَى بِهِ فِعْلاً، وَلَكِنَّهَا عَلَيْهِ
حُكْمًا، وَالآْخَرُ حِيَازَتُهُ لَهَا عَرَضِيَّةٌ وَمُؤَقَّتَةٌ،
وَلأَِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى إِقْرَارِهِ حُكْمٌ،
وَإِنَّمَا يُطْلَبُ حُضُورُ الآْخَرِينَ لِغَايَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ
الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ لِلْمُدَّعِي عِنْدَ ثُبُوتِ
الدَّعْوَى.
5 - وَفِي دَعَاوَى الدَّيْنِ، الْخَصْمُ هُوَ مَنْ كَانَ الدَّيْنُ فِي
ذِمَّتِهِ أَوْ نَائِبُهُ، لأَِنَّ الْمَدِينَ هُوَ الَّذِي إِذَا أَقَرَّ
بِالدَّيْنِ حَمَل نَتِيجَةَ إِقْرَارِهِ وَأُلْزِمَ بِهِ. وَبِنَاءً عَلَى
ذَلِكَ لاَ تُوَجَّهُ الدَّعْوَى ضِدُّ حَائِزِ الْعَيْنِ الَّتِي
يَتَمَلَّكُهَا الْمَدِينُ، كَالْمُسْتَأْجَرِ مِنْهُ، وَلاَ الْغَاصِبِ
مِنْهُ، وَلاَ الْمُسْتَعِيرِ مِنْهُ.
6 - وَفِي دَعْوَى الْفِعْل كَالْغَصْبِ وَغَيْرِهِ، الْخَصْمُ هُوَ
الْفَاعِل، (2) أَيِ الَّذِي يُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَامَ بِالْفِعْل.
7 - وَفِي دَعْوَى الْقَوْل، الْخَصْمُ هُوَ الْقَائِل، أَيِ الَّذِي
يُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَال الْقَوْل، فَدَعْوَى الطَّلاَقِ تُقِيمُهَا
الزَّوْجَةُ عَلَى زَوْجِهَا، وَكَذَلِكَ دَعْوَى الْقَذْفِ أَوِ
الشَّتْمِ.
8 - وَفِي دَعْوَى الْعَقْدِ، الْخَصْمُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لَهُ، أَوْ
__________
(1) البحر الرائق 7 / 194، جامع الفصولين 1 / 38
(2) درر الحكام 2 / 344
(20/296)
مَنْ قَامَ مَقَامَهُ، كَالْوَكِيل، أَوِ
الْوَارِثِ، أَوِ الْوَصِيِّ.
9 - وَفِي دَعْوَى الْحَقِّ، كَحَقِّ الْحَضَانَةِ وَالرَّضَاعِ، الْخَصْمُ
هُوَ كُل شَخْصٍ لَهُ شَأْنٌ فِي الدَّعْوَى، وَهُوَ الَّذِي يُنَازِعُ
الْمُدَّعِيَ فِي ذَلِكَ الْحَقِّ، وَيَمْنَعُهُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِهِ.
دَعْوَى الْحِسْبَةِ: (1)
43 - الدَّعْوَى هِيَ طَلَبُ شَخْصٍ حَقَّهُ مِنْ آخَرَ فِي حُضُورِ
الْحَاكِمِ كَمَا سَبَقَ، فَهِيَ أَصْلاً تَحْتَاجُ إِلَى طَالِبٍ
(الْمُدَّعِي) وَمَطْلُوبٍ (الْمُدَّعَى) وَمَطْلُوبٍ مِنْهُ (الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ) .
وَإِذَا كَانَ الْمُدَّعَى مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَلاَ تَتَحَقَّقُ
الدَّعْوَى بِغَيْرِ الطَّلَبِ مِنْ مُدَّعٍ مُعَيَّنٍ كَمَا هُوَ
الأَْصْل. أَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالْحُدُودِ
وَالتَّعَدِّي عَلَى مَا يَرْجِعُ مَنَافِعُهُ لِلْعَامَّةِ، فَلاَ
تَحْتَاجُ إِلَى مُدَّعٍ خَاصٍّ، وَتُقْبَل فِيهَا شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ.
(أَيْ: لِلأَْجْرِ لاَ لإِِجَابَةِ مُدَّعٍ) مَعَ مُرَاعَاةِ طُرُقِ
الإِْثْبَاتِ الْخَاصَّةِ بِهَا حَسَبَ تَنَوُّعِ مَوْضُوعَاتِهَا.
__________
(1) الحسبة: هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله،
فهي وظيفة دينية وحق ثابت لكل مسلم وللمحتسب، إلا أنه متعين على المحتسب
بحكم الولاية، أما على غيره فداخل في فروض الكفاية (الأحكام السلطانية
للماوردي ص 240) وللمقارنة بين الحسبة والقضا
(20/296)
فَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَجَلَّةِ أَنَّهُ
يُشْتَرَطُ سَبْقُ الدَّعْوَى فِي الشَّهَادَةِ بِحُقُوقِ النَّاسِ.
قَال الأَْتَاسِيُّ: لأَِنَّ ثُبُوتَ حُقُوقِهِمْ يَتَوَقَّفُ عَلَى
مُطَالَبَتِهِمْ، وَلَوْ بِالتَّوْكِيل. بِخِلاَفِ حُقُوقِ اللَّهِ
تَعَالَى، حَيْثُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا الدَّعْوَى، لأَِنَّ إِقَامَةَ
حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبَةٌ عَلَى كُل أَحَدٍ، فَكُل أَحَدٍ خَصْمٌ
فِي إِثْبَاتِهَا، فَصَارَ كَأَنَّ الدَّعْوَى مَوْجُودَةٌ.
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَال: يَنْتَصِبُ أَحَدُ الْعَامَّةِ خَصْمًا عَنِ
الْبَاقِينَ مِنَ الْعَامَّةِ فِي الْمَحَال الَّتِي مَنْفَعَتُهَا
عَائِدَةٌ إِلَى الْعُمُومِ. ثُمَّ قَال نَقْلاً عَنْ جَامِعِ
الْفُصُولَيْنِ: بَنَى حَائِطًا عَلَى الْفُرَاتِ وَاتَّخَذَ عَلَيْهِ
رَحًى، أَوْ بَنَى فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ، فَخَاصَمَهُ أَحَدٌ يُقْضَى
عَلَيْهِ بِهَدْمِهِ. (1)
وَذَكَرَ فِي الدُّرِّ فِي بَحْثِ الشَّهَادَةِ: وَالَّذِي تُقْبَل فِيهِ
الشَّهَادَةُ حِسْبَةً بِدُونِ الدَّعْوَى أَرْبَعَةَ عَشْرَ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: هِيَ الْوَقْفُ لِلْفُقَرَاءِ أَوْ لِلْمَسْجِدِ
وَنَحْوِهِ (أَيْ لِلْعَامَّةِ) ، وَطَلاَقُ الزَّوْجَةِ، وَتَعْلِيقُ
طَلاَقِهَا، وَحُرِّيَّةُ الأَْمَةِ وَتَدْبِيرُهَا، وَالْخُلْعُ، وَهِلاَل
رَمَضَانَ، وَالنَّسَبُ، وَحَدُّ الزِّنَى، وَحَدُّ الشُّرْبِ،
وَالإِْيلاَءُ، وَالظِّهَارُ، وَحُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ، وَدَعْوَى
الْمَوْلَى نَسَبَ الْعَبْدِ، وَالشَّهَادَةُ بِالرَّضَاعِ.
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية م 1696، وشرحها للأتاسي 5 / 248، وانظر درر
الحكام 4 / 344
(20/297)
ثُمَّ قَال: وَلاَ يَخْفَى أَنَّ شَاهِدَ
الْحِسْبَةِ لاَ بُدَّ أَنْ يَدَّعِيَ مَا يَشْهَدُ بِهِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ
مُدَّعٍ آخَرُ. وَعَلَى هَذَا فَكُل مَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الشَّهَادَةُ
حِسْبَةً يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تُقْبَل فِيهِ الدَّعْوَى حِسْبَةً.
ثُمَّ عَلَّقَ عَلَى كَلاَمِ الدُّرِّ نَقْلاً عَنِ الأَْشْبَاهِ: وَلَيْسَ
لَنَا مُدَّعٍ حِسْبَةً إِلاَّ فِي دَعْوَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، فَقَال:
مُرَادُهُ أَنَّهُ لاَ يُسَمَّى مُدَّعِيًا، أَوْ أَنَّ مُدَّعِيَ
الْحِسْبَةَ لاَ يَحْلِفُ لَهُ الْخَصْمُ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ،
فَلاَ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الشَّهَادَةِ. (1)
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ فِي بَحْثِ الشَّهَادَةِ (2) أَنَّهُ تَجِبُ
الْمُبَادَرَةُ فِي حَقِّ اللَّهِ بِالرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ بِقَدْرِ
الإِْمْكَانِ إِنِ اسْتُدِيمَ ارْتِكَابُ التَّحْرِيمِ عِنْدَ عَدَمِ
الرَّفْعِ، كَعِتْقٍ لِرَقِيقٍ، مَعَ كَوْنِ السَّيِّدِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ
تَصَرُّفَ الْمَالِكِ مِنِ اسْتِخْدَامٍ وَبَيْعٍ وَوَطْءٍ وَنَحْوِ
ذَلِكَ، وَكَطَلاَقٍ لِزَوْجَةٍ مَعَ كَوْنِ الْمُطَلِّقِ لَمْ يَنْكَفَّ
عَنْهَا فَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ بِالرَّفْعِ، وَكَوَقْفٍ عَلَى مُعَيَّنٍ
أَوْ غَيْرِهِ، وَلاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ مَسْجِدًا أَوْ رِبَاطًا أَوْ
مَدْرَسَةً، وَوَاضِعُ الْيَدِ يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ،
فَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ بِالرَّفْعِ لِرَدِّهِ إِلَى أَصْلِهِ.
وَكَرَضَاعٍ بَيْنَ زَوْجَيْنِ. وَإِنْ لَمْ يَسْتَلْزِمِ ارْتِكَابَ
التَّحْرِيمِ بِأَنْ كَانَ التَّحْرِيمُ يَنْقَضِي بِالْفَرَاغِ مِنْ
مُتَعَلَّقِهِ كَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ، خُيِّرَ فِي الرَّفْعِ
وَعَدَمِهِ، وَالتَّرْكُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنَ السَّتْرِ الْمَطْلُوبِ
فِي غَيْرِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 402 - 403 بتصرف يسير.
(2) الشرح الصغير للدردير 4 / 247 - 249
(20/297)
الْمُجَاهِرِ، وَإِلاَّ فَالرَّفْعُ
أَوْلَى. (1)
وَمِثْلُهُ مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا:
وَتُقْبَل شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى
كَالصَّلاَةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، بِأَنْ يَشْهَدَ بِتَرْكِهَا،
وَفِيمَا لَهُ حَقٌّ مُؤَكَّدٌ، كَطَلاَقٍ، وَعِتْقٍ، وَعَفْوٍ عَنْ
قِصَاصٍ، وَبَقَاءِ عِدَّةٍ وَانْقِضَائِهَا، بِأَنْ يَشْهَدَ بِمَا ذُكِرَ
لِيَمْنَعَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ فِي حَدٍّ لِلَّهِ
تَعَالَى، بِأَنْ يَشْهَدَ بِمُوجَبِهِ، كَحَدِّ الزِّنَى، وَالسَّرِقَةِ،
وَقَطْعِ الطَّرِيقِ.
وَالأَْفْضَل فِيهِ السَّتْرُ إِذَا رَأَى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ، وَكَذَا
النَّسَبُ عَلَى الصَّحِيحِ. كَمَا ذَكَرُوا مِنْهَا الرَّضَاعَ.
قَال الشِّرْبِينِيُّ: تُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ أُمِّ الزَّوْجَةِ
وَبِنْتِهَا مَعَ غَيْرِهِمَا حِسْبَةً بِلاَ تَقَدُّمِ دَعْوَى، لأَِنَّ
الرَّضَاعَ تُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ، كَمَا لَوْ شَهِدَ
أَبُوهَا وَابْنُهَا، أَوِ ابْنَاهَا بِطَلاَقِهَا مِنْ زَوْجِهَا
حِسْبَةً. (2)
وَقَال فِي مَحَلٍّ آخَرَ: وَمَا تُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ هَل
تُسْمَعُ فِيهِ دَعْوَاهَا؟ وَجْهَانِ: أَوْجَهُهُمَا: " تُسْمَعُ،
لأَِنَّهُ لاَ حَقَّ لِلْمُدَّعِي فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَالْوَجْهُ
الثَّانِي: أَنَّهَا تُسْمَعُ فِي غَيْرِ حُدُودِ اللَّهِ ". (3)
__________
(1) الشرح الصغير للدردير 4 / 247 - 249، وجواهر الإكليل 2 / 236
(2) المحلي وحاشية القليوبي وعميرة عليه 4 / 322، 323، ومغني المحتاج 3 /
424، 4 / 437
(3) مغني المحتاج 4 / 437
(20/298)
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا فِي بَابِ
الشَّهَادَةِ أَنَّهَا تُقْبَل فِي حُقُوقِ اللَّهِ الْخَالِصَةِ حِسْبَةً،
كَمَا تُقْبَل فِيمَا كَانَ حَقًّا لآِدَمِيٍّ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَلاَ
تَفْتَقِرُ إِلَى تَقَدُّمِ الدَّعْوَى.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: الْحُقُوقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
44 - أَحَدُهُمَا: حَقٌّ لآِدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ، كَالْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ
وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُقُودِ، وَالْعُقُوبَاتِ كَالْقِصَاصِ،
وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَالْوَقْفِ عَلَى آدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ، فَلاَ تُسْمَعُ
الشَّهَادَةُ فِيهِ إِلاَّ بَعْدَ الدَّعْوَى، لأَِنَّ الشَّهَادَةَ فِيهِ
حَقٌّ لآِدَمِيٍّ، فَلاَ تُسْتَوْفَى إِلاَّ بَعْدَ مُطَالَبَتِهِ
وَإِذْنِهِ، وَلأَِنَّهَا حُجَّةٌ عَلَى الدَّعْوَى وَدَلِيلٌ لَهَا فَلاَ
يَجُوزُ تَقَدُّمُهَا عَلَيْهَا.
45 - الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ حَقًّا لآِدَمِيٍّ غَيْرِ مُعَيَّنٍ،
كَالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، أَوْ جَمِيعِ
الْمُسْلِمِينَ، أَوْ عَلَى مَسْجِدٍ، أَوْ سِقَايَةٍ، أَوْ مَقْبَرَةٍ
مُسَبَّلَةٍ، أَوِ الْوَصِيَّةِ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَنَحْوِ هَذَا، أَوْ
مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ
تَعَالَى، أَوِ الزَّكَاةِ، أَوِ الْكَفَّارَةِ، فَلاَ تَفْتَقِرُ
الشَّهَادَةُ بِهِ إِلَى تَقَدُّمِ الدَّعْوَى، لأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ
مُسْتَحِقٌّ مُعَيَّنٌ مِنَ الآْدَمِيِّينَ يَدَّعِيهِ وَيُطَالِبُ بِهِ.
وَلِذَلِكَ شَهِدَ أَبُو بَكْرَةَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْمُغِيرَةِ،
وَشَهِدَ الْجَارُودُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ
بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَشَهِدَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ
عُقْبَةَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ دَعْوَى
فَأُجِيزَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي
(20/298)
ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ قَبُولٌ مِنْ أَحَدٍ
وَلاَ رِضًى مِنْهُ، وَكَذَلِكَ مَا لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ أَحَدِ
الْغَرِيمَيْنِ كَتَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ بِالطَّلاَقِ، أَوِ الظِّهَارِ،
أَوْ إِعْتَاقِ الرَّقِيقِ، تَجُوزُ الْحِسْبَةُ بِهِ وَلاَ تُعْتَبَرُ
فِيهِ دَعْوَى. (1)
هَذَا وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ كُل مَا
تُعْتَبَرُ فِيهِ الشَّهَادَةُ حِسْبَةً يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تُقْبَل
فِيهِ الدَّعْوَى حِسْبَةً. (2)
ثَالِثًا: شُرُوطُ الْمُدَّعَى بِهِ:
46 - الشَّرْطُ الأَْوَّل - يُشْتَرَطُ فِي الْمُدَّعَى بِهِ أَنْ يَكُونَ
مَعْلُومًا (3) ، وَالْمُرَادُ بِعِلْمِ الْمُدَّعَى بِهِ تَصَوُّرُهُ،
أَيْ تَمَيُّزُهُ فِي ذِهْنِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ
وَالْقَاضِي. (4) وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِالدَّعْوَى هُوَ
إِصْدَارُ الْحُكْمِ فِيهَا، وَالْمَقْصُودُ بِالْحُكْمِ فَصْل
الْخُصُومَةِ بِإِلْزَامِ الْمَحْقُوقِ بِرَدِّ الْحَقِّ إِلَى صَاحِبِهِ،
وَلاَ إِلْزَامَ مَعَ الْجَهَالَةِ.
وَبِنَاءً عَلَيْهِ لاَ يَصِحُّ الْحُكْمُ بِمَا لاَ إِلْزَامَ فِيهِ،
وَهَكَذَا لاَ يَتَحَصَّل مَقْصُودُ الدَّعْوَى بِدُونِ الْعِلْمِ
__________
(1) المغني 9 / 215 - 216
(2) ابن عابدين 3 / 403
(3) بدائع الصنائع 6 / 222، حاشية الشلبي 4 / 292، تهذيب الفروق 4 / 114،
117، حاشية الدسوقي 4 / 292، المهذب 2 / 311، المغني 9 / 84، نيل المآرب
بشرح دليل الطالب 2 / 143، كشاف القناع 6 / 277 طبع 1367 هـ
(4) تهذيب الفروق 4 / 114، حاشية العدوي على الخرشي 7 / 154، حاشية الدسوقي
4 / 144.
(20/299)
فَوَجَبَ اشْتِرَاطُهُ لِصِحَّتِهَا.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ صِحَّةَ الشَّهَادَةِ مَرْهُونَةٌ
بِمُطَابِقَتِهَا لِلدَّعْوَى، فَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى مَجْهُولَةَ
الْمُدَّعَى بِهِ لَمْ تَصِحَّ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا، لأَِنَّهَا لاَ
تَصِحُّ عَلَى الْمَجْهُول، فَتَكُونُ الدَّعْوَى مَرْفُوضَةً لِعَدَمِ
إِمْكَانِ إِثْبَاتِهَا. (1)
حُدُودُ هَذَا الشَّرْطِ:
47 - لِلْمُدَّعَى بِهِ جَوَانِبُ مُتَعَدِّدَةٌ: فَهُنَاكَ ذَاتُ
الشَّيْءِ الْمُدَّعَى، وَهَذَا يَخْتَلِفُ حُدُودُهُ حَسَبَ الأَْحْوَال،
فَيُفْصَل فِيهِ بَيْنَ مَا يَكُونُ عَيْنًا وَمَا يَكُونُ دَيْنًا،
وَالأَْوَّل يُفْصَل فِيهِ بَيْنَ مَا هُوَ عَقَارٌ وَمَا هُوَ مَنْقُولٌ.
كَمَا أَنَّ الدَّعَاوَى الأُْخْرَى الَّتِي يُطْلَبُ بِهَا غَيْرُ
الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ، كَدَعْوَى النَّسَبِ لَهَا قَوَاعِدُ تَخْتَلِفُ
فِي تَحْدِيدِ الْمُدَّعَى بِهِ. وَهُنَاكَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ
الْمُدَّعَى بِهِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَاقِعَةِ الشَّرْعِيَّةِ
الَّتِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا الْمُدَّعِي فِي اسْتِحْقَاقِ مَا
يَدَّعِيهِ، وَهُنَاكَ أَيْضًا شُرُوطُ هَذَا السَّبَبِ، وَقَدْ وَضَعَ
بَعْضُ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ قَاعِدَةً عَامَّةً فِي كَيْفِيَّةِ
الْعِلْمِ بِالْمُدَّعَى بِهِ، فَقَالُوا: (إِنَّمَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ
الدَّعْوَى جَهَالَةٌ تَمْنَعُ مِنِ اسْتِيفَاءِ الْمَحْكُومِ بِهِ،
وَتَوْجِيهِ الْمُطَالَبَةِ نَحْوَهُ، حَيْثُ يَكُونُ الْمُدَّعَى بِهِ
مَجْهُولاً يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَوْ ذَاكَ، أَمَّا
إِذَا سَلِمَ الْمُدَّعَى بِهِ مِنْ هَذَا، وَكَانَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 222، حاشية الشلبي 4 / 292، نيل المآرب 2 / 143
(20/299)
مَحْصُورًا بِمَا يُضْبَطُ بِهِ فَلاَ) (1)
وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل هَذَا الشَّرْطِ حَسَبَ أَنْوَاعِ الدَّعَاوَى
الْمُخْتَلِفَةِ:
كَيْفِيَّةُ الْعِلْمِ بِالْمُدَّعَى بِهِ فِي دَعَاوَى الْعَيْنِ:
الْمُدَّعَى بِهِ فِي دَعْوَى الْعَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَقَارًا،
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْقُولاً، وَلِكُلٍّ طَرِيقَةٌ خَاصَّةٌ فِي
التَّعْرِيفِ بِهِ:
48 - فِي دَعْوَى الْعَقَارِ: يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى ذِكْرُ مَا
يُمَيِّزُ الْعَقَارَ الْمُدَّعَى عَنْ غَيْرِهِ، وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ
عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِذِكْرِ حُدُودِهِ، وَنَاحِيَتِهِ
مِنَ الْبَلَدِ الْمَوْجُودِ فِيهَا. (2)
لَكِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ اشْتَرَطُوا تَخْصِيصَهُ بِقُيُودٍ أَكْثَرَ
مِنْ تِلْكَ، فَاشْتَرَطُوا ذِكْرَ الْمَحَلَّةِ وَالسِّكَّةِ الَّتِي
يَنْتَمِي إِلَيْهَا ذَلِكَ الْعَقَارُ، مَعَ ذِكْرِ جِهَةِ الْبَابِ
الَّتِي يُفْتَحُ عَلَيْهَا.
هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا، وَأَمَّا فِي الْعَقَارِ الْمَشْهُورِ
فَلاَ يُشْتَرَطُ لِتَحْدِيدِهِ غَيْرُ ذِكْرِ اسْمِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ وَالصَّاحِبَيْنِ. (3)
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْحُدُودِ فِي
__________
(1) أدب القضاء - الغزي ق 3 أ.
(2) بدائع الصنائع 6 / 222، تنوير الأبصار 1 / 391، تبصرة الحكام 1 / 105
طبع 1301 هـ. إعانة الطالبين 4 / 241، المغني 9 / 85، كشاف القناع 6 / 278
طبع 1367 هـ.
(3) تنوير الأبصار مع قرة عيون الأخيار 1 / 391، المنهاج مع شرح المحلي 4 /
311، فتح المعين وإعانة الطالبين 4 / 243، كشاف القناع 6 / 278 طبع 1367
هـ.
(20/300)
تَعْرِيفِ الْعَقَارِ سَوَاءٌ أَكَانَ
مَشْهُورًا أَمْ غَيْرَ مَشْهُورٍ. (1)
وَيُشْتَرَطُ فِي تَعْرِيفِ الْحُدُودِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ
يُذْكَرَ أَسْمَاءُ أَصْحَابِهَا وَأَنْسَابُهُمْ إِلاَّ الْمَشْهُورِينَ
مِنْهُمْ، فَيُكْتَفَى بِأَسْمَائِهِمْ، وَيُكْتَفَى عِنْدَهُمْ بِذِكْرِ
ثَلاَثَةِ حُدُودٍ لِلْعَقَارِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ الدَّعْوَى
بِذِكْرِ ثَلاَثَةِ حُدُودٍ بِأَنَّ لِلأَْكْثَرِ حُكْمَ الْكُل غَالِبًا،
وَاشْتَرَطَ زُفَرُ أَنْ تُذْكَرَ جَمِيعُ الْحُدُودِ، (2) وَهُوَ
الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ
الاِكْتِفَاءُ بِالْحَدَّيْنِ وَالْحَدِّ الْوَاحِدِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ
الْخَطَأَ فِي ذِكْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْحُدُودِ الأَْرْبَعَةِ يَجْعَل
الدَّعْوَى غَيْرَ مَقْبُولَةٍ، لأَِنَّ ذَلِكَ يُورِثُ الشَّكَّ فِي
مَعْرِفَةِ الْمُدَّعِي لِمَا يَدَّعِيهِ، وَلِعَدَمِ انْطِبَاقِ
الدَّعْوَى عَلَى مَحَل النِّزَاعِ، وَلاَ يُقَاسُ عَلَى حَالَةِ
الاِبْتِدَاءِ. (3)
وَأَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَقَدِ اشْتَرَطُوا ذِكْرَ جَمِيعِ
الْحُدُودِ لأَِنَّ التَّعْرِيفَ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِذِكْرِ الْحُدُودِ
الأَْرْبَعَةِ، وَأَضَافَ عُلَمَاءُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ قَدْ
يُكْتَفَى بِثَلاَثَةٍ وَأَقَل مِنْهَا إِذَا عُرِفَ الْعَقَارُ بِهَا.
وَقَالُوا: إِنَّ الْمَعْرِفَةَ فِي الْعَقَارِ لاَ تَتَقَيَّدُ
بِالْحُدُودِ الأَْرْبَعَةِ، فَقَدْ
__________
(1) تنوير الأبصار والدر المختار مع قرة عيون الأخيار 1 / 391
(2) تنوير الأبصار والدر المختار وقرة عيون الأخيار 1 / 300، 391، 392،
وتبصرة الحكام 1 / 105، ونهاية المحتاج 8 / 111، وفتح المعين وإعانة
الطالبين، والمنهاج والمحلي وحاشية قليوبي وحاشية عميرة 4 / 311، وكشاف
القناع 6 / 278.
(3) قرة عيون الأخيار 1 / 392.
(20/300)
يُعْرَفُ بِالشُّهْرَةِ الْعَامَّةِ فَلاَ
تَحْتَاجُ لِذِكْرِ حَدٍّ وَلاَ غَيْرِهِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ
دَعْوَى الْعَقَارِ ذِكْرُ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِ.
وَذَهَبَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى صِحَّةِ دَعْوَى
الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فِي الْبِلاَدِ الَّتِي لَمْ يَقْدُمْ بِنَاؤُهَا،
أَيْ حَدِيثَةُ الْعَهْدِ فِي تَأْسِيسِهَا، فَلاَ يُسْأَل فِيهَا عَنْ
سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ، لاِحْتِمَال أَنَّ الْمُدَّعِيَ تَمَلَّكَهُ
بِسَبَبِ الْخُطَّةِ، أَيْ: أَنَّهُ يَمْلِكُهُ مِنَ الأَْصْل، وَلَمْ
يَنْتَقِل إِلَى مِلْكِهِ بِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ النَّاقِلَةِ
لِلْمِلْكِيَّةِ كَالْبَيْعِ، وَذَلِكَ لِقُرْبِ عَهْدِ تَأْسِيسِهِ،
وَأَمَّا دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فِي الْبِلاَدِ الَّتِي قَدُمَ
بِنَاؤُهَا، وَطَال الْعَهْدُ عَلَى تَأْسِيسِهَا فَلاَ تَصِحُّ، وَذَلِكَ
لأَِنَّ قِدَمَ الْبِنَاءِ قَرِينَةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ
يَدَّعِيهِ بِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ النَّاقِلَةِ لِلْمِلْكِيَّةِ،
لاِسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ تَمَلَّكَهُ بِسَبَبِ الْخُطَّةِ لِبُعْدِ
عَهْدِهَا، فَلاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ بَيَانِ السَّبَبِ، إِذْ لاَ يَجُوزُ
الْحُكْمُ بِالْمِلْكِ بِسَبَبٍ مَجْهُولٍ، وَمَا دَامَ حُدُوثُ السَّبَبِ
مُتَيَقَّنًا، فَيُحْتَمَل أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُدَّعِي
بَاطِلٌ، وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِلْكٌ. (1)
وَصَرَّحَ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ بِوُجُوبِ ذِكْرِ سَبَبِ
الاِسْتِحْقَاقِ، وَلَمْ يُمَيِّزُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ دَعْوَى الْعَقَارِ
وَغَيْرِهَا. (2) بَل رَأَى بَعْضُ عُلَمَائِهِمْ أَنَّ
__________
(1) البحر الرائق 7 / 201
(2) تبصرة الحكام 1 / 130 - 131، الخرشي 7 / 154.
(20/301)
الْقَاضِيَ إِنْ لَمْ يَسْأَل عَنْهُ
وَقَبِل الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ كَانَ كَالْخَابِطِ خَبْطَ
عَشْوَاءَ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ يَكُونُ فَاسِدًا،
فَلاَ بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ لِيُعْرَفَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَوِ ادَّعَى
الْمُدَّعِي نِسْيَانَ السَّبَبِ لَمْ يُكَلَّفْ بِبَيَانِهِ (1) .
فِي دَعْوَى الْمَنْقُول:
49 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الطَّرِيقَةِ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا
الْمُدَّعَى بِهِ الْمَنْقُول:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَنْقُول الْقَائِمِ
وَالْهَالِكِ، وَبَيْنَ الْمَنْقُول الْغَائِبِ عَنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ
وَالْحَاضِرِ فِيهِ:
فَأَمَّا الْمَنْقُول الْقَائِمُ الْحَاضِرُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ
فَيُعْلَمُ بِالإِْشَارَةِ إِلَيْهِ لأَِنَّ هَذِهِ الْوَسِيلَةَ
مُمْكِنَةٌ فِي هَذِهِ الْحَال، فَلاَ يُصَارُ إِلَى أَقَلٍّ مِنْهَا.
فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْعَيْنُ الْمَنْقُولَةُ حَاضِرَةً فِي مَجْلِسِ
الْقَاضِي: فَإِنْ كَانَ إِحْضَارُهَا إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ
مُيَسَّرًا بِحَيْثُ لاَ يُكَلِّفُ نَفَقَةً، طُلِبَ مِنَ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ إِحْضَارُهَا لِيُشَارَ إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ إِحْضَارُهَا
يُكَلِّفُ نَفَقَةً، فَيَذْهَبُ الْقَاضِي أَوْ أَمِينُهُ إِلَى مَكَانِ
وُجُودِهَا لِيُشَارَ إِلَيْهَا.
وَأَمَّا الْمَنْقُول الْهَالِكُ فَيُعْرَفُ بِذِكْرِ الْقِيمَةِ فَقَطْ،
لأَِنَّ عَيْنَ الْمُدَّعَى بِهِ تَعَذَّرَ مُشَاهَدَتُهَا،
__________
(1) التاج والإكليل 6 / 124، تهذيب الفروق 4 / 115، تبصرة الحكام 1 / 130 -
131، العقد المنظم للحكام 2 / 198.
(20/301)
وَلاَ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا بِالْوَصْفِ،
إِذِ الْعَيْنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ تُعْرَفُ بِالْوَصْفِ،
فَاشْتُرِطَ بَيَانُ الْقِيمَةِ، حَيْثُ تُعْرَفُ بِهَا الْعَيْنُ
الْهَالِكَةُ. وَهَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَنْقُول الْقِيَمِيِّ،
وَأَمَّا الْمِثْلِيُّ فَإِنَّ دَعْوَاهُ تُعْتَبَرُ دَعْوَى دَيْنٍ فِي
الذِّمَّةِ، فَيُشْتَرَطُ فِي تَعْرِيفِهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الدَّيْنِ،
وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ قَرِيبًا. (1)
وَأَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَلَمْ يَقْصِرُوا طَرِيقَةَ الْعِلْمِ
بِالْمَنْقُول عَلَى الإِْشَارَةِ إِلَيْهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي
مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، أَوْ كَانَ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ أَمَّا إِذَا كَانَ غَائِبًا: فَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا
وَجَبَ عَلَى الْمُدَّعِي ذِكْرُ وَصْفِهِ الْمَشْرُوطِ فِي عَقْدِ
السَّلَمِ. وَإِنْ كَانَ قِيَمِيًّا: فَإِنْ كَانَ مُنْضَبِطًا
بِالْوَصْفِ، فَيَجِبُ وَصْفُهُ بِمَا يَنْضَبِطُ بِهِ، وَإِلاَّ فَيَجِبُ
ذِكْرُ قِيمَتِهِ. (2)
وَأَصْل الْخِلاَفِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَنَّ
الأَْعْيَانَ الْقِيَمِيَّةَ، هَل تَنْضَبِطُ بِالْوَصْفِ أَوْ لاَ
تَنْضَبِطُ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقِيَمِيَّ
__________
(1) الهداية مع فتح القدير والتكملة 6 / 142 - 143، تنوير الأبصار والدر
المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 544، جامع الفصولين 1 / 70، الفتاوى الهندية
4 / 3، 5، 6
(2) أدب القضاء لابن أبي الدم ق 26 أ، المحرر في الفقه 2 / 206، كشف
المخدرات ص 511، منتهى الإرادات القسم الثاني ص 592 - 593، الروض الندي
ص513، نيل المآرب 2 / 143، تبصرة الحكام 1 / 131، تهذيب الفروق 4 / 114،
المنهاج وشرح المحلي 4 / 336، المغني 9 / 84 - 85، نهاية المحتاج 8 / 162،
كشاف القناع 4 / 204
(20/302)
لاَ يَنْضَبِطُ بِالْوَصْفِ، لأَِنَّ
الْعَيْنَ قَدْ تَشْتَرِكُ مَعَ عَيْنٍ أُخْرَى فِي الْوَصْفِ
وَالْحِلْيَةِ، وَبِنَاءً عَلَيْهِ قَالُوا: لاَ بُدَّ مِنَ الإِْشَارَةِ
فِي تَعْرِيفِ الْقِيَمِيِّ، لأَِنَّ الشَّكَّ لاَ يَنْقَطِعُ إِلاَّ
بِهَا. (1)
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَْعْيَانِ
الْقِيَمِيَّةِ يُمْكِنُ أَنْ تَنْضَبِطَ بِالْوَصْفِ.
وَبِنَاءً عَلَيْهِ ذَهَبُوا إِلَى الاِكْتِفَاءِ بِوَصْفِ مِثْل هَذِهِ
الأَْعْيَانِ فِي الدَّعْوَى، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا إِحْضَارَهَا لِيُشَارَ
إِلَيْهَا.
الْعِلْمُ بِسَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ فِي دَعْوَى الْمَنْقُول:
50 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ ذِكْرِ سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ
فِي دَعْوَى الْمَنْقُول عَلَى الآْرَاءِ التَّالِيَةِ: (2)
أ - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ دَعْوَى الْمِثْلِيِّ
وَدَعْوَى الْقِيَمِيِّ: فَاشْتَرَطُوا ذِكْرَ سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ فِي
الأُْولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، وَذَلِكَ لاِخْتِلاَفِ أَحْكَامِ
الأَْسْبَابِ الْمُرَتِّبَةِ لِلدُّيُونِ فِي الذِّمَمِ، وَلأَِنَّ
الأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَمِ مِنَ الدُّيُونِ، فَلاَ بُدَّ لِصِحَّةِ
دَعْوَى اشْتِغَالِهَا مِنْ بَيَانِ سَبَبِ هَذَا الاِشْتِغَال. (3)
__________
(1) حاشية الشلبي 4 / 293
(2) الوجيز وفتح العزيز 9 / 267 وما بعدها، تحفة الطلاب مع حاشية الشرقاوي
2 / 24
(3) البحر الرائق 7 / 195، تنوير الأبصار والدر المختار وحاشية ابن عابدين
5 / 547
(20/302)
ب - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى
وُجُوبِ ذِكْرِ السَّبَبِ فِي دَعَاوَى الْعَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ
مِثْلِيَّةً أَمْ قِيَمِيَّةً، وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَسْأَل
الْمُدَّعِيَ عَنْ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِ لِلْمُدَّعَى بِهِ، فَإِنْ لَمْ
يَفْطَنْ لِذَلِكَ كَانَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يُوَجِّهَ هَذَا
السُّؤَال، فَإِنِ امْتَنَعَ الْمُدَّعِي عَنْ ذِكْرِهِ لَمْ يُكَلَّفِ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْجَوَابِ عَنِ الدَّعْوَى، وَبِذَلِكَ لاَ
تُنْتِجُ أَثَرَهَا، وَهُوَ وُجُوبُ الْجَوَابِ عَلَى الْخَصْمِ. (1)
وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ يَكُونُ مُعْتَمِدًا فِي
دَعْوَاهُ عَلَى سَبَبٍ فَاسِدٍ، كَأَنْ يَكُونَ ثَمَنَ خَمْرٍ أَوْ
خِنْزِيرٍ أَوْ مَيْتَةٍ، فَإِنَّ كُل هَذَا وَنَحْوَهُ لاَ يَصْلُحُ
سَبَبًا لاِسْتِحْقَاقِ شَيْءٍ مِنَ الأَْشْيَاءِ. (2)
ج - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ
ذِكْرِ سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ فِي دَعْوَى الْمَنْقُول، سَوَاءٌ أَكَانَ
قِيَمِيًّا أَمْ مِثْلِيًّا، لِتَعَدُّدِ الأَْسْبَابِ وَكَثْرَتِهَا،
وَفِي إِيجَابِ ذِكْرِهَا عَلَى الْمُدَّعِي حَرَجٌ كَبِيرٌ، فَيَتَرَتَّبُ
عَلَى ذَلِكَ ضَيَاعُ حُقُوقِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَوَجَبَ عَدَمُ
اشْتِرَاطِ ذَلِكَ. (3)
وَفِي الأَْشْيَاءِ الَّتِي مِنْهَا ذُكُورٌ وَمِنْهَا إِنَاثٌ لاَ بُدَّ
مِنْ ذِكْرِ صِفَةِ الأُْنُوثَةِ أَوِ الذُّكُورَةِ فِي
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 130 - 131، التاج والإكليل 6 / 124، الخرشي 7 / 154،
تهذيب الفروق 4 / 114 - 115
(2) العقد المنظم للحكام 2 / 198
(3) المهذب 2 / 311، الحاوي الكبير ج 13 ق 43 ل، 49 أ، منتهى الإرادات -
القسم الثاني ص 592، شرح المنتهى 4 / 276 - 277، كشاف القناع 4 / 204
(20/303)
الدَّعْوَى (1) .
كَيْفِيَّةُ الْعِلْمِ بِالْمُدَّعَى بِهِ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ:
51 - إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ نَقْدًا، فَإِنَّهُ يُعْلَمُ بِبَيَانِ
جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ وَوَصْفِهِ وَقَدْرِهِ، (2) وَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي
الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ النَّقْدُ
مُتَعَارَفًا عَلَيْهِ فَلاَ حَاجَةَ لِذِكْرِ غَيْرِ قَدْرِهِ. وَكَذَلِكَ
إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مِثْلِيًّا، فَإِنَّهُ يُعْلَمُ بِمِثْل مَا
يُعْلَمُ بِهِ النَّقْدُ. وَإِذْ كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ عَيْنًا
قِيَمِيَّةً، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ تَكُونُ فِي الدَّعْوَى فِي
هَذِهِ الْحَال دَعْوَى دَيْنٍ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ هَالِكَةً، فَإِذَا
كَانَتْ هَالِكَةً تُعْلَمُ بِذِكْرِ قِيمَتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِلاَّ
فَلاَ تُعْلَمُ إِلاَّ بِالإِْشَارَةِ إِلَيْهَا.
وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ تَثْبُتُ الأَْعْيَانُ الْقِيَمِيَّةُ فِي
الذِّمَّةِ إِذَا كَانَتْ مِمَّا يَنْضَبِطُ بِالْوَصْفِ، وَعِنْدَئِذٍ
تُعْلَمُ عِنْدَهُمْ بِذِكْرِ أَوْصَافِهَا الَّتِي تَنْضَبِطُ بِهَا،
وَهِيَ الأَْوْصَافُ الَّتِي يُشْتَرَطُ ذِكْرُهَا فِي عَقْدِ السَّلَمِ
(3) .
__________
(1) الفروق 4 / 72، منتهى الإرادات 2 / 594، جواهر العقود 2 / 499
(2) الهداية مع تكملة القدير 6 / 141، تنوير الأبصار والدر المختار وحاشية
ابن عابدين 5 / 547، تبصرة الحكام 1 / 105 طبع 1301 هـ، المهذب 2 / 311،
المنهاج وشرح المحلي وحاشية قليوبي، وحاشية عميرة 4 / 236 - 237، المغني 9
/ 85
(3) الفروق 4 / 72، تبصرة الحكام 1 / 105 طبع 1301 هـ، فتح المعين وإعانة
الطالبين 4 / 241، ترشيح المستفيدين ص 407 - 408، المغني 9 / 84، 85، منتهى
الإرادات، القسم الأول 391، وكشاف القناع 4 / 204
(20/303)
الْعِلْمُ بِسَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ فِي
دَعْوَى الدَّيْنِ:
52 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ ذِكْرِ سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ
فِي دَعْوَى الدَّيْنِ عَلَى الآْرَاءِ الآْتِيَةِ:
أ - فَذَهَبَ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ
الْمَالِكِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ ذِكْرِ السَّبَبِ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ،
وَإِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُدَّعِي أَنْ يُبَيِّنَ مِنْ أَيِّ
وَجْهٍ تَرَتَّبَ لَهُ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهَل
هُوَ مِنْ قَرْضٍ أَوْ عَقْدٍ أَوْ إِتْلاَفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الأَْسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ. (1) وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ
بِأَنَّ كُل دَيْنٍ لاَ بُدَّ لِتَرَتُّبِهِ فِي الذِّمَّةِ مِنْ سَبَبٍ
شَرْعِيٍّ، لأَِنَّ الأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَمِ مِنِ اشْتِغَالِهَا
بِالدُّيُونِ، فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مِنْ سَبَبٍ لِكُل دَيْنٍ فَيَجِبُ
عَلَى مُدَّعِي الدَّيْنِ بَيَانُ سَبَبِهِ، لأَِنَّ الأَْسْبَابَ
تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا، فَإِنْ كَانَ سَبَبُ الدَّيْنِ عَقْدَ السَّلَمِ
مَثَلاً، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ مَكَانِ الإِْيفَاءِ، وَلاَ
يَجُوزُ الاِسْتِبْدَال بِهِ قَبْل الْقَبْضِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ
الدَّيْنُ ثَمَنَ مَبِيعٍ، حَيْثُ يَجُوزُ الاِسْتِبْدَال بِهِ قَبْل
قَبْضِهِ وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ بَيَانُ مَكَانِ الإِْيفَاءِ. (2) وَمِنْ
جِهَةٍ أُخْرَى قَدْ يَكُونُ السَّبَبُ بَاطِلاً كَأَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ
ثَمَنَ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ نَتِيجَةَ مُقَامَرَةٍ أَوْ نَحْوَ
ذَلِكَ، فَيَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِهِ لِيُعْرَفَ ذَلِكَ. وَمِنْ جِهَةٍ
ثَالِثَةٍ فَإِنَّ بَعْضَ
__________
(1) البحر الرائق 7 / 195، الفتاوى الهندية 4 / 3، تبصرة الحكام 1 / 104
طبع 1301هـ. الخرشي، وحاشية العدوي 7 / 154، تهذيب الفروق 4 / 115
(2) جامع الفصولين 1 / 73
(20/304)
الأَْسْبَابِ لاَ يَصِحُّ الاِعْتِمَادُ
عَلَيْهَا فِي دَعْوَى الدَّيْنِ، كَمَا لَوِ ادَّعَى دَيْنًا عَلَى شَخْصٍ
وَقَال: إِنَّهُ نَتِيجَةٌ لِحِسَابٍ بَيْنَهُمَا، أَوْ أَنَّهُ أَقَرَّ
لَهُ بِهِ، فَيَدَّعِي عَلَيْهِ بِسَبَبِ هَذَا الإِْقْرَارِ. (1)
ب - وَذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ
ذِكْرُ سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ إِلاَّ فِيمَا إِذَا
كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مِنَ النُّقُودِ الَّتِي انْقَطَعَ التَّعَامُل
بِهَا وَفِي الْمِثْلِيَّاتِ. (2)
وَفِي حَالَةِ دَعْوَى الْمَرْأَةِ الدَّيْنَ فِي تَرِكَةِ زَوْجِهَا،
لأَِنَّهَا قَدْ تَظُنُّ أَنَّ النَّفَقَةَ تَصْلُحُ سَبَبًا لإِِيجَادِ
الدَّيْنِ فِي جَمِيعِ الْحَالاَتِ مَعَ أَنَّهَا لاَ تَصْلُحُ لِذَلِكَ
بَعْدَ وَفَاةِ الزَّوْجِ. (3) وَعَلَّلُوا عَدَمَ اشْتِرَاطِ ذِكْرِ
السَّبَبِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالاَتِ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ
يَسْتَحْيِي مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُل فِي
الْحَرَجِ، وَبِأَنَّ هُنَاكَ بَعْضَ الأَْسْبَابِ لاَ يُمْكِنُ
بَيَانُهَا، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا انْتَقَل إِلَى الْمُدَّعِي سَنَدُ
دَيْنٍ مِنْ مُورِثِهِ، وَكَانَ سَبَبُ الدَّيْنِ غَيْرَ مَذْكُورٍ فِي
السَّنَدِ، وَالْمُدَّعِي لاَ يَعْرِفُهُ.
ج - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دَعْوَى
الدَّيْنِ تَكُونُ صَحِيحَةً وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا سَبَبَ
اسْتِحْقَاقِ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى. (4) وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 3، جامع الفصولين 1 / 84
(2) جامع الفصولين 1 / 76
(3) قرة عيون الأخيار 1 / 399
(4) المهذب 2 / 311، إعانة الطالبين 4 / 243، منتهى الإرادات - القسم
الثاني ص 592
(20/304)
أَسْبَابَ الْمِلْكِ تَكُونُ مِنْ جِهَاتٍ
شَتَّى يَكْثُرُ عَدَدُهَا، كَالإِْرْثِ وَالاِبْتِيَاعِ وَالْهِبَةِ
وَالْوَصِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَسَقَطَ وُجُوبُ الْكَشْفِ عَنْ
سَبَبِهَا لِكَثْرَتِهَا وَاخْتِلاَفِهَا (1) .
كَيْفِيَّةُ الْعِلْمِ بِالْمُدَّعَى بِهِ فِي دَعْوَى الْعَقْدِ:
53 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ ذِكْرِ شُرُوطِ الْعَقْدِ
لِصِحَّةِ دَعْوَاهُ عَلَى أَقْوَالٍ:
أ - فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الدَّعْوَى
بَيَانُ شُرُوطِ كُل سَبَبٍ لَهُ شُرُوطٌ كَثِيرَةٌ وَمُعَقَّدَةٌ، فَلاَ
تَصِحُّ دَعْوَى النِّكَاحِ وَالسَّلَمِ إِلاَّ بِذِكْرِ شُرُوطِهِمَا
مُفَصَّلَةً. (2) وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ ذِكْرَ الطَّوْعِ وَالرَّغْبَةِ
فِي دَعْوَى الْعَقْدِ، وَخَالَفَ آخَرُونَ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ بَيْنَ
النَّاسِ هُوَ الطَّوْعُ، وَالإِْكْرَاهُ نَادِرٌ لاَ حُكْمَ لَهُ. (3)
ب - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ ذِكْرُ شُرُوطِ
الْعَقْدِ فِي دَعْوَاهُ، لأَِنَّ ظَاهِرَ عُقُودِ الْمُسْلِمِينَ
الصِّحَّةُ، فَتُحْمَل الدَّعْوَى عَلَى الصَّحِيحِ. (4)
ج - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ ذِكْرُ شُرُوطِ
الْعَقْدِ فِي دَعْوَاهُ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْعَقْدُ عَقْدَ نِكَاحٍ،
__________
(1) المهذب 2 / 311، الحاوي الكبير جـ 13 ق 749
(2) البحر الرائق 7 / 195، معين الحكام ص 55 - 56
(3) البحر الرائق 7 / 202، قرة عيون الأخيار 1 / 399
(4) الفروق 4 / 73
(20/305)
حَيْثُ اشْتَرَطُوا ذِكْرَ أَنَّهُ
تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ بِشَاهِدَيْنِ وَوَلِيٍّ وَرِضَاهَا. وَهَذَا
مَنْقُولٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْفَائِتَ فِي
الزَّوَاجِ بِالْحُكْمِ الْخَاطِئِ لاَ يُعَوَّضُ، خِلاَفًا لِلْعُقُودِ
الأُْخْرَى، فَإِنَّهَا أَقَل خَطَرًا، فَأَشْبَهَتْ دَعْوَاهُ دَعْوَى
الْقَتْل، حَيْثُ اتُّفِقَ عَلَى وُجُوبِ ذِكْرِ شُرُوطِهِ. (1)
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِأَنَّ الاِخْتِلاَفَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ
أَكْثَرُ مِنْهُ فِي أَيِّ عَقْدٍ آخَرَ، وَبِأَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّهُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْعُقُودِ
فَقَال: لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ. (2) وَلَوْلاَ
هَذَا التَّخْصِيصُ لَكَانَ كَغَيْرِهِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ
الشَّافِعِيَّةِ حَمَلُوهُ عَلَى الاِسْتِحْبَابِ. (3)
د - وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ ذِكْرِ شُرُوطِ الْعَقْدِ فِي
دَعْوَاهُ مَهْمَا كَانَ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ عَقْدِ النِّكَاحِ
وَغَيْرِهِ، وَلاَ بَيْنَ مَا هُوَ كَثِيرُ الشُّرُوطِ وَقَلِيلُهَا (4) .
ذِكْرُ السَّبَبِ فِي الدَّعَاوَى الْجِنَائِيَّةِ:
54 - لَمْ يَخْتَلِفِ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ ذِكْرِ السَّبَبِ فِي
__________
(1) تحفة المحتاج وحاشية الشرواني 10 / 299، فتح المعين وإعانة الطالبين 4
/ 243، المهذب 2 / 311، المنهاج وشرحه للمحلي وحاشية عميرة 4 / 336، 337
(2) حديث: " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ". أخرجه البيهقي (7 / 125 - ط
دائرة المعارف العثمانية) من حديث عائشة وإسناده صحيح.
(3) الحاوي الكبير جـ 13 ق 49 ب، نهاية المحتاج 8 / 163
(4) منتهى الإرادات - القسم الثاني ص 583، غاية المنتهى 3 / 449
(20/305)
الدَّعْوَى الْجِنَائِيَّةِ، فَفِي دَعْوَى
الْقَتْل مَثَلاً يُشْتَرَطُ ذِكْرُ الْقَتْل وَهَل هُوَ عَنْ عَمْدٍ أَوْ
عَنْ خَطَإٍ، وَإِلاَّ فَإِنَّ الدَّعْوَى لاَ تَكُونُ صَحِيحَةً حَتَّى
يُصَحِّحَهَا صَاحِبُهَا، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْفَائِتَ بِالْقَتْل
وَنَحْوِهِ مِنَ الْجِنَايَاتِ لاَ يُعَوَّضُ، وَقَدْ يُحْكَمُ بِشَيْءٍ
لاَ يُمْكِنُ رَدُّهُ بَعْدَ الْحُكْمِ، وَلأَِنَّ الأَْحْكَامَ
الصَّادِرَةَ فِي هَذِهِ الدَّعَاوَى تَتَعَلَّقُ بِالأُْصُول الَّتِي
جَاءَ الإِْسْلاَمُ لِحِفْظِهَا، وَهِيَ الدِّيْنُ وَالنَّفْسُ وَالْعَقْل
وَالنَّسْل وَالْمَال، فَلاَ يَجُوزُ التَّهَاوُنُ فِي أَمْرِهَا،
وَلأَِنَّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ تُدْفَعُ بِالشُّبُهَاتِ، وَعَدَمُ
التَّفْصِيل فِي دَعْوَاهَا يُورِثُ شُبْهَةً، فَلاَ تُقْبَل. (1)
وَلاَ بُدَّ فِي دَعْوَى الإِْرْثِ مِنْ ذِكْرِ سَبَبِهِ، فَيَذْكُرُ مِنْ
أَيَّةِ جِهَةٍ اسْتَحَقَّ الإِْرْثَ مِنَ الْمَيِّتِ (2) .
الاِسْتِثْنَاءَاتُ الْوَارِدَةُ عَلَى شَرْطِ الْمَعْلُومِيَّةِ:
55 - لَمَّا كَانَ اشْتِرَاطُ الْعِلْمِ بِالْمُدَّعَى بِهِ فِي الدَّعْوَى
هُوَ تَحْقِيقُ مَقْصُودِ مَشْرُوعِيَّةِ الدَّعْوَى مِنْ فَصْل
الْمُنَازَعَةِ، وَالإِْلْزَامِ بِالْحَقِّ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَرَوْنَ
عَدَمَ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ فِي كُل مَرَّةٍ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ
الْمَقْصُودُ بِدُونِهِ، وَذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الاِسْتِثْنَاءَاتِ.
وَقَدْ حَاوَل كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَضْعَ
__________
(1) الفروق 4 / 72، منتهى الإرادات - القسم الثاني ص 594، جواهر العقود 2 /
499
(2) منتهى الإرادات - القسم الثاني ص 594، كشف المخدرات ص 510
(20/306)
ضَوَابِطَ لِهَذِهِ الاِسْتِثْنَاءَاتِ.
إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مُعْظَمِهَا، وَفِيمَا يَأْتِي بَعْضُ
الضَّوَابِطِ وَبَعْضُ الْمَسَائِل الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا الدَّعْوَى
بِالْمَجْهُول: -
1 - ذَكَرَ ابْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيُّ ضَابِطًا لِمَا تَصِحُّ الدَّعْوَى
بِهِ مَجْهُولاً، وَهُوَ أَنَّ الدَّعْوَى بِالْمَجْهُول تُقْبَل إِذَا
كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ فِيهَا مِمَّا يَصِحُّ وُقُوعُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ
بَيْنَهُمَا، كَالْوَصِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ
الْمُوصَى بِهِ فِيهَا مَجْهُولاً، كَذَلِكَ تَصِحُّ الدَّعْوَى
بِالْوَصِيَّةِ الْمَجْهُولَةِ. (1)
2 - وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: تَجُوزُ الدَّعْوَى بِالْمَجْهُول
إِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ فِيهَا مَوْقُوفًا عَلَى تَقْدِيرِ الْقَاضِي
كَالنَّفَقَةِ وَأُجْرَةِ الْحَضَانَةِ وَأَجْرِ الْمِثْل وَنَحْوِهَا. (2)
3 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا كَانَ هُنَالِكَ عُذْرٌ لِلْمُدَّعِي
فِي جَهْلِهِ بِمَا يَدَّعِيهِ قُبِلَتْ دَعْوَاهُ، وَذَلِكَ كَدَعْوَى
شَخْصٍ نَصِيبًا مِنْ وَقْفٍ كَثُرَ مُسْتَحِقُّوهُ، فَإِنَّهُ يُعْذَرُ
لِغَلَبَةِ الْجَهْل بِكَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الأَْوْقَافِ. (3)
4 - وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ
وَمُعْظَمُ الْحَنَابِلَةِ جَوَازَ دَعْوَى الإِْقْرَارِ بِالْمَجْهُول،
لأَِنَّ الإِْقْرَارَ إِخْبَارٌ عَنِ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ، فَتَجُوزُ
__________
(1) القواعد ص 332 - 333، وقريب من هذا موجود في المغني 9 / 84 - 85
(2) مغني المحتاج 3 / 229 طبع الحلبي 1377هـ، تحفة المحتاج 10 / 295
(3) الفروق 4 / 73
(20/306)
الدَّعْوَى بِهِ مَجْهُولاً، وَعَلَى
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيَانُ مَا أَخْبَرَ عَنْ وُجُوبِهِ.
وَقَدْ قَاسَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى دَعْوَى الْوَصِيَّةِ
بِالْمَجْهُول. (1)
5 - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا وَبَعْضُ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ
إِلَى جَوَازِ الدَّعْوَى بِالْمَجْهُول فِي حَالَةِ الْغَصْبِ، وَذَلِكَ
لأَِنَّ الإِْنْسَانَ قَدْ لاَ يَعْرِفُ قِيمَةَ مَالِهِ الْمَغْصُوبِ،
فَإِنَّ الْغَصْبَ كَثِيرًا مَا يَحْدُثُ وَلاَ يَتَمَكَّنُ الشُّهُودُ
مِنْ مُعَايَنَةِ الْمَغْصُوبِ، وَقَدْ يَقُولُونَ: رَأَيْنَا فُلاَنًا
يَغْصِبُ مَال فُلاَنٍ وَلاَ نَدْرِي قِيمَةَ مَا غَصَبَ، فَيُقْبَل ذَلِكَ
(2) .
الشَّرْطُ الثَّانِي:
56 - أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى بِهِ مُحْتَمِل الثُّبُوتِ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الدَّعْوَى بِمَا
يَسْتَحِيل ثُبُوتُهُ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ كَمَنْ يَدَّعِي
بُنُوَّةَ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ سِنًّا أَوْ مَنْ هُوَ مُسَاوِيهِ، وَكَمَنْ
يَدَّعِي عَلَى شَخْصٍ مَعْرُوفٍ بِالصَّلاَحِ وَالتَّقْوَى أَنَّهُ غَصَبَ
مَالَهُ، وَكَادِّعَاءِ رَجُلٍ مِنَ السُّوقَةِ عَلَى الْخَلِيفَةِ أَوْ
عَلَى عَظِيمٍ مِنَ الْمُلُوكِ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِكَنْسِ دَارِهِ
وَسِيَاسَةِ دَوَابِّهِ، وَنَقَل الْعِزُّ بْنُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 545، تهذيب الفروق 4 / 116، تحفة المحتاج 10 /
295، المغني 9 / 84، 85، منتهى الإرادات - القسم الثاني ص 592
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 544 - 545، أدب القضاء للغزي ق2 ب،
3 أ
(20/307)
عَبْدِ السَّلاَمِ عَنِ الشَّافِعِيِّ
الْقَوْل بِقَبُول الدَّعْوَى فِي الْمِثَال الأَْخِيرِ، مَعَ مُخَالَفَةِ
بَعْضِ أَصْحَابِهِ لَهُ فِي هَذَا الْقَوْل.
وَاسْتَدَل الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ كَوْنِ الْمُدَّعَى بِهِ
مُحْتَمَلاً فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ
بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ فِي قَوْله تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} .
وَمِمَّا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ
أَنَّهُ قَال: " مَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ
حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ (1) فَفِي
هَذَا دَعْوَةٌ إِلَى وُجُوبِ اعْتِبَارِ الْعُرْفِ السَّائِدِ بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ لأَِنَّهُمْ لاَ يَتَّفِقُونَ إِلاَّ عَلَى مَا يَرْضَاهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ سَمَاعَ الدَّعْوَى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ
طَرَفَيْنِ لَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمَا تَعَامُلٌ وَلاَ خِلْطَةٌ، فَإِنْ
أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ حُكِمَ لَهُ بِمَا ادَّعَى، وَإِنْ لَمْ
يَقْدِرْ عَلَى الْبَيِّنَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَحْلِيفُ خَصْمِهِ،
فَالتَّعَامُل وَالْخِلْطَةُ شَرْطٌ عِنْدَهُمْ فِي تَوْجِيهِ الْيَمِينِ
عَلَى الْخَصْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْل مَالِكٍ
وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ
قَوْل ابْنِ الْقَيِّمِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ
يُشْتَرَطُ
__________
(1) حديث: " ما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئًا فهو
عند الله سيء. . . " أخرجه أحمد في المسند (1 / 379 - ط الميمنية) وحسنه
السخاوي في المقاصد الحسنة (ص 367 - ط الخانجي) .
(20/307)
فِي تَوَجُّهِ الْيَمِينِ ثُبُوتُ خِلْطَةٍ
وَهُوَ قَوْل ابْنِ نَافِعٍ، لِجَرَيَانِ الْعَمَل بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ
مَا جَرَى بِهِ الْعَمَل مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الْمَذْهَبِ
إِنْ خَالَفَهُ (1) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ::
57 - أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى بِهِ حَقًّا أَوْ مَا يَنْفَعُ فِي
الْحَقِّ، وَأَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَقُّ قَدْ تَعَرَّضَ لإِِضْرَارِ
الْخَصْمِ
فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الدَّعْوَى أَنْ
لاَ تَكُونَ عَبَثًا، (2) وَالْمَالِكِيَّةُ ذَكَرُوا صِيغَةً لِهَذَا
الشَّرْطِ قَرِيبَةً مِمَّا سَبَقَ، فَاشْتَرَطُوا فِي الدَّعْوَى أَنْ
تَكُونَ ذَاتَ غَرَضٍ صَحِيحٍ بِأَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا نَفْعٌ
مُعْتَبَرٌ شَرْعًا. (3) وَفُرُوعُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَدُل
عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا.
وَقَدْ وَضَعَ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ قَاعِدَةً عَامَّةً لِتَحَقُّقِ
هَذَا الشَّرْطِ فِي الدَّعْوَى فَقَالُوا. بِأَنَّهُ لاَ يَتَحَقَّقُ
إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُدَّعِي
لَوْ أَقَرَّ بِهِ خَصْمُهُ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 544 - 545، وأدب القضاء للغزي ق 2ب، 3أ، وبدائع الصنائع
6 / 224، والبحر الرائق 7 / 192، وتبصرة الحكام 1 / 129، 2 / 153، وتهذيب
الفروق 4 / 117 - 118، وحاشية الدسوقي 4 / 145 - 146، والفروق 4 / 81،
والحاوي الكبير 13 ق 46أ، والطرق الحكمية ص 97 - 98
(2) المجاني الزهرية على الفواكه البدرية ص 107، قرة عيون الأخيار 1 / 381
(3) الفروق 4 / 72، 117
(4) الفروق 4 / 72، تبصرة الحكام 1 / 126 - 127
(20/308)
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الشَّرْطِ تُرَدُّ
الدَّعْوَى فِي الْحَالاَتِ الآْتِيَةِ:
1 - إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُدَّعَى حَقًّا، أَوْ كَانَ كَذَلِكَ
وَلَكِنَّهُ حَقِيرٌ لاَ يَسْتَحِقُّ شَغْل الْقَضَاءِ بِهِ، وَمِثَال
الأَْوَّل أَنْ تَدَّعِيَ امْرَأَةٌ زَوْجِيَّةَ شَخْصٍ مَاتَ، وَلَمْ
تَطْلُبْ فِي دَعْوَاهَا حَقًّا آخَرَ مِنْ إِرْثٍ أَوْ صَدَاقٍ مُؤَخَّرٍ،
أَوْ كَمَنْ يَطْلُبُ إِلْحَاقَهُ بِنَسَبِ شَخْصٍ مَاتَ، وَلاَ يَطْلُبُ
حَقًّا آخَرَ مِنْ إِرْثٍ وَنَحْوِهِ.
وَمِثَال الثَّانِي أَنْ يَطْلُبَ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ حَبَّةَ
قَمْحٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الأَْشْيَاءِ التَّافِهَةِ.
2 - أَنْ لاَ يَكُونَ الْحَقُّ الْمُدَّعَى مُخْتَصًّا بِالْمُدَّعِي،
وَإِنَّمَا يَعُودُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَيْسُ الْمُدَّعِي نَائِبًا عَنْ
صَاحِبِ الْحَقِّ.
3 - أَنْ لاَ يَكُونَ هُنَاكَ مُنَازِعٌ لِلْمُدَّعِي فِي الْحَقِّ الَّذِي
يَطْلُبُهُ فِي دَعْوَاهُ، كَمَنْ يَرْفَعُ دَعْوَى أَمَامِ الْقَضَاءِ
وَيَطْلُبُ فِيهَا الْحُكْمَ لَهُ بِالدَّارِ الَّتِي يَسْكُنُهَا مِنْ
غَيْرِ أَنْ يُنَازِعَهُ أَحَدٌ فِيهَا.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الشَّرْطِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ
يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى أَنْ تَكُونَ فِيمَا يَلْزَمُ شَيْئًا
عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى فَرْضِ ثُبُوتِ الدَّعْوَى (1) .
وَلِذَلِكَ لاَ تَصِحُّ الدَّعْوَى بِمَا يَكُونُ
__________
(1) تنوير الأبصار مع قرة عيون الأخيار 1 / 381، الهداية وتكملة فتح القدير
6 / 137، الفتاوى الهندية 4 / 2، مواهب الجليل 6 / 125، تبصرة الحكام 1 /
126، الوجيز للغزالي 2 / 261، تحفة المحتاج 10 / 296، الفروع 3 / 810
(20/308)
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُخَيَّرًا فِيهِ،
فَلاَ تَصِحُّ دَعْوَى الْهِبَةِ غَيْرِ الْمَقْبُوضَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُول
بِعَدَمِ لُزُومِهَا قَبْل الْقَبْضِ، وَكَذَلِكَ الْوَكَالَةُ الَّتِي لاَ
يَأْخُذُ الْوَكِيل عَلَيْهَا أَجْرًا، وَكَذَلِكَ دَعْوَى الْوَعْدِ
وَدَعْوَى الْوَصِيَّةِ عَلَى الْمُوصِي فِي الْحَالاَتِ الَّتِي يَجُوزُ
لَهُ الرُّجُوعُ عَنْ وَصِيَّتِهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ الْمُؤَجَّل:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ هَذِهِ
الدَّعْوَى. (1) وَذَلِكَ لأَِنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّل غَيْرُ لاَزِمٍ
فِي الْحَال، فَدَعْوَاهُ طَلَبٌ لِمَا لَيْسَ بِلاَزِمٍ وَقْتَ
الْبَيِّنَةِ، فَلاَ تَكُونُ مُفِيدَةً قَبْل حُلُول الأَْجَل. (2)
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ بَعْضَ الْحَالاَتِ فَقَبِلُوا
فِيهَا دَعْوَى الدَّيْنِ الْمُؤَجَّل، وَمِنْ هَذِهِ الْحَالاَتِ مَا لَوْ
كَانَ الدَّيْنُ الْمَطْلُوبُ بِالدَّعْوَى قَدْ حَل بَعْضُهُ، فَتَصِحُّ
الدَّعْوَى بِهِ جَمِيعًا، عَلَى أَنْ يُرَاعَى الأَْجَل بِالنِّسْبَةِ
لِلْجُزْءِ الَّذِي لَمْ يَحِل بَعْدُ. (3) وَمِنْهَا مَا لَوِ ادَّعَى
الدَّائِنُ عَلَى مَدِينِهِ
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 137 - 138، شرح المحلي على المنهاج 4 / 337، تحفة
المحتاج 10 / 302، غاية المنتهى 3 / 448، الروض الندي شرح كافي المبتدي ص
512، كشاف القناع 4 / 203
(2) ترشيح المستفيدين ص 408، كشاف القناع 6 / 277 (مطبعة أنصار السنة
المحمدية 1948) .
(3) الحاوي الكبير جـ 13 ق 44 أ، أدب القضاء لابن أبي الدم ق 26 أ، حاشية
عميرة 4 / 337
(20/309)
الْمُعْسِرِ، وَقَصَدَ بِدَعْوَاهُ
إِثْبَاتَ دَيْنِهِ، لِيُطَالِبَ بِهِ إِذَا أَيْسَرَ الْغَرِيمُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَالْحَنَابِلَةُ
فِي قَوْلٍ إِلَى جَوَازِ الدَّعْوَى بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّل إِذَا قَصَدَ
بِهَا حِفْظَ الْبَيِّنَاتِ مِنَ الضَّيَاعِ، وَذَلِكَ اسْتِحْسَانًا
لأَِنَّ الْقِيَاسَ عَدَمُ صِحَّةِ الدَّعْوَى بِحَقٍّ غَيْرِ لاَزِمٍ فِي
الْحَال. وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ حَاجَةُ النَّاسِ إِلَى حِفْظِ
حُقُوقِهِمُ الْمُؤَجَّلَةِ احْتِيَاطًا لِمَا قَدْ تَئُول إِلَيْهِ
الْبَيِّنَاتُ مِنَ الْفِقْدَانِ. (2)
وَبِنَاءً عَلَى الشَّرْطِ السَّابِقِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى
عَدَمِ صِحَّةِ مَا يُسَمَّى بِدَعْوَى قَطْعِ النِّزَاعِ، وَصُورَتُهَا
أَنْ يَدَّعِيَ شَخْصٌ أَنَّ آخَرَ يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ قِبَلَهُ حَقًّا،
وَيُهَدِّدُ مِنْ حِينٍ لآِخَرَ بِاسْتِعْمَال هَذَا الْحَقِّ فَيَلْجَأُ
إِلَى الْقَضَاءِ طَالِبًا مِنْهُ إِحْضَارَ صَاحِبِ الزَّعْمِ
وَتَكْلِيفَهُ بِعَرْضِ دَعْوَاهُ وَأَسَانِيدِهَا لِيُبَرْهِنَ هُوَ عَلَى
كَذِبِهَا وَيَطْلُبَ الْحُكْمَ بِوَضْعِ حَدٍّ لِهَذِهِ الْمَزَاعِمِ (3)
.
الآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الدَّعْوَى:
إِذَا رُفِعَتِ الدَّعْوَى مُسْتَوْفِيَةَ الشُّرُوطِ، تَرَتَّبَ
__________
(1) تحفة المحتاج 10 / 302 - 303
(2) الفتاوى الهندية 4 / 99، الوجيز في فقه مذهب الإمام الشافعي 2 / 262،
غاية المنتهى 3 / 448، نيل المآرب 2 / 143
(3) البحر الرائق 7 / 194، الأشباه والنظائر للسيوطي 507، كشاف القناع 4 /
195
(20/309)
عَلَيْهَا ثَلاَثَةُ آثَارٍ هِيَ: نَظَرُ
الْقَاضِي فِيهَا، وَحُضُورُ الْخَصْمِ، وَالْجَوَابُ عَنْهَا، وَتَفْصِيل
هَذَا فِيمَا يَأْتِي:
أَوَّلاً - نَظَرُ الدَّعْوَى:
58 - إِذَا رُفِعَتِ الدَّعْوَى إِلَى الْقَاضِي كَانَ مُكَلَّفًا
بِالنَّظَرِ فِيهَا وَالْفَصْل بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ، وَلَيْسَ لَهُ
الاِمْتِنَاعُ عَنْ ذَلِكَ، إِذِ الْفَصْل فِي خُصُومَاتِ النَّاسِ فَرْضٌ
عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ إِحْقَاقٌ لِلْحَقِّ وَرَفْعٌ لِلظُّلَمِ، وَرَفْعُ
الظُّلْمِ وَاجِبٌ عَلَى الْقَاضِي عَلَى الْفَوْرِ. (1)
وَفِي خِلاَل نَظَرِ الْقَاضِي فِي الدَّعْوَى الْمَرْفُوعَةِ إِلَيْهِ
يَنْبَغِي عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ مَبَادِئٍ وَأُصُولٍ أَشَارَ إِلَيْهَا
الْفُقَهَاءُ، بَعْضُهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا مُسْتَحَبٌّ،
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٌ) .
ثَانِيًا - حُضُورُ الْخَصْمِ:
59 - إِذَا أَرَادَ الْمُدَّعِي الْمُطَالَبَةَ بِحَقِّهِ عَنْ طَرِيقِ
الْقَضَاءِ سَلَكَ أَحَدَ سَبِيلَيْنِ:
الأَْوَّل - أَنْ يَتَوَجَّهَ أَوَّلاً إِلَى خَصْمِهِ يَطْلُبُ مِنْهُ
الْحُضُورَ مَعَهُ إِلَى مَجْلِسِ التَّقَاضِي.
الثَّانِي: أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى الْقَاضِي فِي مَجْلِسِهِ مُبَاشَرَةً،
فَيَرْفَعَ الدَّعْوَى وَيَطْلُبَ مِنْهُ إِحْضَارَ خَصْمِهِ مِنْ أَجْل
مُقَاضَاتِهِ وَالنَّظَرِ فِي الْخُصُومَةِ.
__________
(1) المبسوط 16 / 110، قواعد الأحكام 2 / 30، نهاية المحتاج 8 / 80
(20/310)
فَإِذَا سَلَكَ الْمُدَّعِي السَّبِيل
الأَْوَّل فَإِنَّهُ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَدْعُوَ خَصْمَهُ إِلَى
مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بِأَرْفَقِ الْوُجُوهِ وَأَجْمَل الأَْقْوَال،
وَالأَْصْل أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الإِْجَابَةُ إِلَى
ذَلِكَ وَعَدَمُ التَّأَخُّرِ. (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى
: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا
فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا
إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ
يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَل أُولَئِكَ
هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْل الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا
إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . (2)
فَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الآْيَاتُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى
كُل مُؤْمِنٍ أَنْ يَسْتَجِيبَ لِمَنْ يَدْعُوهُ إِلَى التَّحَاكُمِ إِلَى
شَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ
ظَالِمًا فَاجِرًا. (3)
60 - وَأَمَّا إِذَا سَلَكَ الْمُدَّعِي الطَّرِيقَ الآْخَرَ، أَوْ رَفَضَ
خَصْمُهُ الْحُضُورَ مَعَهُ إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، فَالأَْصْل أَنَّهُ
يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي إِحْضَارُهُ، وَلَكِنَّ لِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلاً
وَخِلاَفًا فِي وُجُوبِ إِحْضَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ
الدَّعْوَى.
__________
(1) روضة القضاة للسمناني ق 32 ب، تبصرة الحكام 1 / 302، أدب القضاء لابن
أبي الدم ق 14 ب، كشاف القناع 4 / 192
(2) سورة النور الآيات 48 - 51
(3) تفسير ابن كثير 3 / 298
(20/310)
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُفَرَّقُ بَيْنَ
حَالَتَيْنِ: (الأُْولَى) : أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَرِيبًا
مِنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بِحَيْثُ إِذَا أَحْضَرَهُ الْقَاضِي أَمْكَنَهُ
أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَيَبِيتَ فِيهِ. (وَالثَّانِيَةُ) : أَنْ
يَكُونَ بَعِيدًا عَنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بِحَيْثُ إِذَا أُحْضِرَ
إِلَيْهِ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْمَبِيتِ فِي مَنْزِلِهِ.
فَفِي الْحَالَةِ الأُْولَى يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي إِحْضَارُهُ
بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، إِذْ لاَ يَتِمُّ إِنْصَافُ الْمَظْلُومِينَ مِنَ
الظَّالِمِينَ إِلاَّ بِذَلِكَ.
وَفِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ لاَ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي إِحْضَارُهُ
بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، لأَِنَّ حُضُورَ
مَجْلِسِ الْقَضَاءِ يُزْرِي بِبَعْضِ النَّاسِ، وَقَدْ لاَ يَكُونُ
لِلْمُدَّعِي غَرَضٌ مِنْ دَعْوَاهُ إِلاَّ أَذِيَّةَ خَصْمِهِ. وَلَكِنْ
يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي إِحْضَارُ الْخَصْمِ إِذَا اسْتَطَاعَ الْمُدَّعِي
أَنْ يُعَضِّدَ دَعْوَاهُ بِبَيِّنَةٍ يُقِيمُهَا، فَإِنْ فَعَل أَمَرَ
الْقَاضِي بِإِحْضَارِهِ. ثُمَّ إِذَا حَضَرَ أُعِيدَتِ الْبَيِّنَةُ مِنْ
أَجْل الْقَضَاءِ بِهَا. وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ
يَطْلُبُ مِنَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً مِنْ أَجْل إِحْضَارِ خَصْمِهِ،
وَإِنَّمَا يَكْتَفِي مِنْهُ بِالْيَمِينِ عَلَى صِدْقِ دَعْوَاهُ، فَإِنْ
حَلَفَ أَمَرَ الْقَاضِي بِإِحْضَارِ خَصْمِهِ، وَإِلاَّ فَلاَ. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ،
وَحَدُّ الْبُعْدِ عِنْدَهُمْ مَسِيرَةُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، فَأَمَّا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 420 ط بولاق 1272 هـ.
(20/311)
الْقَرِيبُ فَيَنْبَغِي عَلَى الْقَاضِي
أَنْ يَأْمُرَ بِإِحْضَارِهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، فَإِنْ أَبَى
لِغَيْرِ عُذْرٍ أَحْضَرَهُ قَهْرًا. عَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْمُرُ
بِإِحْضَارِهِ إِلاَّ إِذَا قَدَّمَ الْمُدَّعِي وَجْهًا يَسْتَوْجِبُ
إِحْضَارَهُ، فَإِنْ أَظْهَرَ حُجَّةً أَوْ قَوْلاً يُوجِبُ ذَلِكَ
أَجَابَهُ، وَإِنْ لَمْ يُظْهِرْ شَيْئًا لَمْ يَأْمُرْ بِإِحْضَارِ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ بَعِيدًا عَنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ
أَكْثَرَ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجِبُ إِحْضَارُهُ،
وَقَدْ أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ الْبَعِيدِ
إِذَا كَانَ مَعَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ
بَيِّنَةٌ فَقَدْ جَعَلُوا لِلْقَاضِي الَّذِي رُفِعَتْ إِلَيْهِ
الدَّعْوَى أَنْ يَكْتُبَ إِلَى قَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَيَطْلُبَ
مِنْهُ اسْتِجْوَابَهُ، وَيُسَجِّل مَا يُبْدِيهِ مِنْ حُجَجٍ ثُمَّ
يُرْسِلَهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْظُرَ فِي الدَّعْوَى عَلَى ضَوْءِ مَا
يَصِلُهُ مِنْ قَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى
أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعَ الْمُدَّعِي شَاهِدٌ بِدَعْوَاهُ كَتَبَ
الْقَاضِي إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: إِمَّا أَنْ تَحْضُرَ أَوْ تُرْضِيَ
خَصْمَكَ. (1)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ إِحْضَارُ الْخَصْمِ الْحَاضِرِ فِي
الْبَلَدِ، أَوْ مَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ، بِحَيْثُ
يَسْتَطِيعُ الْحُضُورَ إِلَيْهِ وَالرُّجُوعَ إِلَى بَلَدِهِ فِي
الْيَوْمِ نَفْسِهِ. وَلَكِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا مِنْ أَجْل وُجُوبِ
إِحْضَارِ الْخَصْمِ أَنْ لاَ يُعْلَمَ كَذِبَ
__________
(1) العقد المنظم للحكام 2 / 199، القوانين الفقهية ص 287، القول المرتضى ق
3 ب
(20/311)
الْمُدَّعِي، وَأَنْ لاَ يَكُونَ
الْمُدَّعَى بِهِ مُسْتَحِيلاً عَقْلاً أَوْ عَادَةً، وَأَنْ لاَ يَكُونَ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُسْتَأْجِرًا لِعَيْنٍ يُعَطِّل حُضُورُهُ
اسْتِيفَاءَ مَنْفَعَتِهَا، وَإِنَّمَا يُحْضِرُهُ إِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ
الإِْجَارَةِ، وَقَدْ ضَبَطُوا التَّعْطِيل الْمُضِرَّ بِأَنْ يَمْضِيَ
زَمَنٌ يُقَابَل بِأُجْرَةٍ وَإِنْ قَلَّتْ. (1)
وَالشَّافِعِيَّةُ كَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُجِيزُونَ
الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ إِذَا كَانَ مَعَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ
مَقْبُولَةٌ، وَبِهَذَا يَسْتَطِيعُ الْمُدَّعِي عَلَى الْغَائِبِ
الْبَعِيدِ أَنْ يَسْلُكَ هَذَا الطَّرِيقَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْلُبَ
إِحْضَارَ خَصْمِهِ. (2)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مَسْلَكٌ قَرِيبٌ مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ
الشَّافِعِيَّةُ: فَقَدْ فَصَّلُوا بَيْنَ الْقَرِيبِ مِنْ مَجْلِسِ
الْحُكْمِ وَالْبَعِيدِ عَنْهُ، فَالْقَرِيبُ يَحْضُرُ بِمُجَرَّدِ
الدَّعْوَى، وَلاَ يُطْلَبُ مِنَ الْمُدَّعِي تَفْصِيل مَطَالِبِهِ، وَلاَ
ذِكْرُ الشُّرُوطِ الْمُصَحِّحَةِ لِلدَّعْوَى، وَالْبَعِيدُ لاَ يَحْضُرُ
إِلاَّ إِذَا فَصَّل الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ وَذَكَرَ جَمِيعَ شُرُوطِهَا،
وَلَكِنَّ مُقْتَضَى كَلاَمِهِمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي فِي
الْقَرِيبِ أَنْ يَسْتَفْسِرَ عَنْ بَعْضِ شُرُوطِ الدَّعْوَى، فَيَسْأَل
مَثَلاً عَنِ الْمُدَّعَى بِهِ لِيَعْلَمَ إِنْ كَانَ تَافِهًا لاَ
تَتَّبِعُهُ الْهِمَّةُ أَوْ غَيْرَ تَافِهٍ. وَيَجْدُرُ بِالذِّكْرِ أَنَّ
الْحَنَابِلَةَ هُمْ مِمَّنْ أَجَازَ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ
الْبَعِيدِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْمُدَّعِي
__________
(1) تحفة المحتاج 10 / 186، 189
(2) المهذب 2 / 305، شرح المحلي، حاشية قليوبي وعميرة 4 / 308
(20/312)
عَلَى الْغَائِبِ الْبَعِيدِ يَسْتَطِيعُ
أَنْ يَطْلُبَ الْحُكْمَ عَلَى خَصْمِهِ مَعَ غِيَابِهِ، وَلاَ يَطْلُبُ
إِحْضَارَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ
يَكُونَ مَعَهُ بَيِّنَةٌ بِمَا يَدَّعِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ
بَيِّنَةٌ لَمْ يُنْظَرْ فِي دَعْوَاهُ. (1)
كَيْفِيَّةُ إِحْضَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:
61 - إِذَا اسْتَجَابَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِدَعْوَةِ خَصْمِهِ، وَحَضَرَ
مَعَهُ إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، فَلاَ حَاجَةَ عِنْدَئِذٍ لأَِيِّ
إِجْرَاءٍ يُتَّخَذُ مِنْ أَجْل إِحْضَارِهِ.
وَأَمَّا إِذَا جَاءَ الْمُدَّعِي إِلَى الْقَاضِي وَقَال لَهُ: إِنَّ لِي
عَلَى فُلاَنٍ حَقًّا، وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ تَوَارَى عَنِّي وَلَيْسَ
يَحْضُرُ مَعِي، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَنْظُرُ فِي الدَّعْوَى، وَيَسْأَل
عَنْ مَكَانِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْحَال بِحَيْثُ
يَنْبَغِي إِحْضَارُ الْمَطْلُوبِ أَمَرَ الْقَاضِي بِإِحْضَارِهِ
بِكِتَابٍ أَوْ رَسُولٍ. (2) ثُمَّ إِذَا أَطْلَعَ الْخَصْمَ عَلَى طَلَبِ
الْحُضُورِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحُضُورُ دِيَانَةً وَقَضَاءً، إِلاَّ إِذَا
وَكَّل عَنْ نَفْسِهِ مَنْ يَرْضَاهُ لِيَنُوبَ عَنْهُ فِي الْمُخَاصَمَةِ،
وَإِلاَّ فَإِنْ أَثْبَتَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ تَعَنَّتَ وَرَفَضَ
الْمَجِيءَ بَعْدَ أَنْ أَطْلَعَهُ
__________
(1) كشاف القناع 4 / 192 - 193، 208، المغني 9 / 61 - 63، غاية المنتهى 3 /
445
(2) أدب القاضي للناصحي ق 4 أ، العقد المنظم للحكام 2 / 199، المنهاج وشرح
المحلي وحاشية قليوبي وعميرة 4 / 313، وتحفة المحتاج 10 / 189، المغني 9 /
61، 62، كشاف القناع 4 / 192
(20/312)
عَلَى طَلَبِ الْقَاضِي، فَإِنَّ هَذَا
يُرْسِل إِلَيْهِ بَعْضَ أَعْوَانِهِ، فَيُحْضِرُونَهُ قَهْرًا إِذَا
وَجَدُوهُ وَامْتَنَعَ عَنِ الْحُضُورِ. (1) ثُمَّ إِذَا حَضَرَ إِلَى
مَجْلِسِ الْقَاضِي وَقَامَ الدَّلِيل عَلَى تَعَنُّتِهِ وَامْتِنَاعِهِ
مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ أُدِّبَ بِمَا يَرَاهُ الْقَاضِي مُنَاسِبًا
لِمِثْلِهِ. (2) وَذَلِكَ لأَِنَّهُ امْتَنَعَ عَنِ الْقِيَامِ
بِوَاجِبَيْنِ هُمَا: التَّحَاكُمُ إِلَى شَرْعِ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ
دُعِيَ إِلَيْهِ، وَطَاعَةُ وَلِيِّ الأَْمْرِ.
ثُمَّ إِذَا عَجَزَ الأَْعْوَانُ عَنْ إِحْضَارِهِ بَعَثَ الْقَاضِي إِلَى
صَاحِبِ الشُّرْطَةِ أَوِ الْوَالِي، فَيُعَرِّفُهُ بِالأَْمْرِ،
فَيُحْضِرُهُ إِلَيْهِ.
ثَالِثًا - الْجَوَابُ عَلَى الدَّعْوَى:
62 - إِذَا اسْتَوْفَى الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ جَمِيعَ الشُّرُوطِ
الْمَطْلُوبَةِ لِصِحَّتِهَا تَرَتَّبَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
الإِْجَابَةُ عَنْهَا.
وَالْجَوَابُ عَنِ الدَّعْوَى بِاعْتِبَارِهِ تَصَرُّفًا شَرْعِيًّا، لاَ
يَصِحُّ إِلاَّ بِشُرُوطٍ، وَهِيَ:
أ - أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا بِصِيغَةٍ جَازِمَةٍ، فَلاَ يُقْبَل مِنَ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَقُول فِي الْجَوَابِ عَلَى دَعْوَى
الْمُدَّعِي: (مَا أَظُنُّ لَهُ عِنْدِي شَيْئًا) . (3)
__________
(1) القوانين الفقهية ص 287
(2) أدب القاضي للناصحي ق4أ، أدب القضاء لابن أبي الدم ق 14 ب، المغني 9 /
61 - 62، كشاف القناع 4 / 192
(3) معين الحكام ص 64، أدب القضاء لابن أبي الدم ق 30 ب، لب اللباب ص 256
(20/313)
ب - أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلدَّعْوَى،
وَذَلِكَ بِأَنْ يُجِيبَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ جَمِيعِ طَلَبَاتِ
الْمُدَّعِي، وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَنِ الإِْجَابَةِ عَنْ جُزْءٍ مِنْهَا.
بَل ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْجَوَابَ لاَ يَنْبَغِي أَنْ
يَكُونَ أَكْثَرَ عُمُومِيَّةً مِنَ الدَّعْوَى، بِأَنْ يَعُمَّهَا
وَيَعُمَّ غَيْرَهَا، كَمَا لَوْ أَجَابَ بِقَوْلِهِ: (لاَ حَقَّ لَكَ
قِبَلِي) وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ مِثْل هَذَا الْجَوَابِ مَقْبُولٌ،
لأَِنَّ قَوْلَهُ: (لاَ حَقَّ لَكَ) نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ
فَتُفِيدُ الْعُمُومَ (1) .
وَكَذَلِكَ قَالُوا: لاَ يَكْفِي فِي الْجَوَابِ عَلَى الدَّعْوَى
بِمِائَةِ دِينَارٍ مَثَلاً أَنْ يَقُول: (لَيْسَ لَكَ عَلَيَّ مِائَةٌ)
حَتَّى يَقُول: (وَلاَ شَيْءَ مِنْهَا) ، لأَِنَّهُ بِدُونِ ذَلِكَ
يُنْكِرُ اسْتِحْقَاقَ مِائَةٍ عَلَيْهِ، وَلاَ يُنْكِرُ اسْتِحْقَاقَ
الأَْقَل، وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي عَلَيْهِ كُل جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ
الْمِائَةِ، فَلاَ يَكُونُ فِي جَوَابِهِ مُسْتَغْرِقًا لِجَمِيعِ
طَلَبَاتِ الْمُدَّعِي، وَإِنَّمَا لِجُزْءٍ مِنْهَا، وَيَظَل مُتَوَقِّفًا
عَنِ الْجَوَابِ فِي حَقِّ بَاقِي الأَْجْزَاءِ. (2)
بَل ذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ
أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ نَصًّا، فَلَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ
دِينَارًا، فَأَجَابَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: لاَ يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ
فَلْسًا، لاَ يُقْبَل الْجَوَابُ حَتَّى
__________
(1) المهذب 2 / 311، المنهاج وحاشية قليوبي 4 / 338، لب اللباب ص 256، كشاف
القناع 4 / 196
(2) غاية المنتهى 3 / 451، كشاف القناع 4 / 196، الفروع 3 / 803، المنهاج
وحاشية قليوبي 4 / 388
(20/313)
يُصَرِّحَ بِنَفْيِ جَمِيعِ أَجْزَاءِ
الدِّينَارِ. (1)
وَالظَّاهِرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى خِلاَفِ هَذَا، لأَِنَّ مِثْل
هَذَا الْجَوَابِ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْجُزْءِ الأَْصْغَرِ نَصًّا،
وَيَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْبَاقِي مِنْ طَرِيقِ الْفَحْوَى أَوِ
الدَّلاَلَةِ.
أَوْجُهُ الْجَوَابِ:
جَوَابُ الدَّعْوَى الَّذِي يَصْدُرُ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لاَ
يَخْرُجُ عَنْ أَحَدِ الأَْوْجُهِ الآْتِيَةِ:
63 - 1 - أَنْ يَكُونَ إِقْرَارًا بِالْحَقِّ الْمُدَّعَى: وَيُقْصَدُ
بِالإِْقْرَارِ إِخْبَارُ الشَّخْصِ بِحَقٍّ لآِخَرَ عَلَيْهِ. (2)
وَقَدْ يَكُونُ الإِْقْرَارُ تَامًّا بِأَنْ يُقِرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
بِجَمِيعِ الْمُدَّعَى بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ نَاقِصًا بِأَنْ يُقِرَّ
بِبَعْضِ الْمُدَّعَى بِهِ وَيُنْكِرَ الْبَاقِيَ: فَإِذَا أَقَرَّ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الْمُدَّعَى بِهِ أَلْزَمَهُ الْقَاضِي
بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَامِل الأَْهْلِيَّةِ
مُخْتَارًا، فَيَلْزَمُ الْمُقِرَّ بِمُقْتَضَى إِقْرَارِهِ.
وَالإِْقْرَارُ بِالْمُدَّعَى قِسْمَانِ: صَرِيحٌ وَضِمْنِيٌّ.
وَالأَْوَّل وَاضِحٌ، وَالضِّمْنِيُّ يَكُونُ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال
الَّتِي يَدْفَعُ فِيهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دَعْوَى
__________
(1) غاية المنتهى 3 / 451، كشاف القناع 6 / 333، الفروع 3 / 813
(2) درر الحكام 2 / 357، تنوير الأبصار والدر المختار وحاشية ابن عابدين 5
/ 588، وشرح حدود ابن عرفة ص 332، ومغني المحتاج 2 / 238، فيض الإله المالك
2 / 102
(20/314)
خَصْمِهِ، فَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا الدَّفْعِ
أَنَّهُ مُقِرٌّ بِأَصْل الدَّعْوَى، وَذَلِكَ كَأَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ
مَالاً، فَيَقُول فِي الْجَوَابِ: لَقَدْ أَبْرَأَنِيَ الْمُدَّعِي عَنْ
هَذَا الْمَال، فَيَكُونَ هَذَا الدَّفْعُ مُتَضَمِّنًا لِلإِْقْرَارِ
بِالْمُدَّعِي. (1) وَلِلإِْقْرَارِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِهِ.
64 - 2 - أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ إِنْكَارًا لِلْحَقِّ الْمُدَّعَى:
وَالإِْنْكَارُ قَدْ يَكُونُ كُلِّيًّا فَيَسْرِي حُكْمُهُ عَلَى جَمِيعِ
الْمُدَّعَى بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ جُزْئِيًّا، فَيَسْرِي حُكْمُهُ عَلَى
الْجُزْءِ الْمُنْكَرِ.
وَيُشْتَرَطُ فِي الإِْنْكَارِ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا وَبِصِيغَةِ
الْجَزْمِ، فَلاَ يَصِحُّ قَوْل الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: (مَا أَظُنُّ لَهُ
عِنْدِي شَيْئًا) . (2) وَيَسْتَلْزِمُ هَذَا الشَّرْطُ أَنَّهُ يَجِبُ
أَنْ يَتَنَاوَل الإِْنْكَارُ الْحَقَّ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الدَّعْوَى،
فَلاَ يَصِحُّ إِذَا كَانَ يَتَنَاوَل حَقًّا آخَرَ لَمْ تَقْتَضِهِ
الدَّعْوَى، فَفِي جَوَابِ دَعْوَى الْوَدِيعَةِ مَثَلاً يُقْبَل مِنَ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَقُول: (لَمْ تُودِعْنِي، أَوْ لاَ تَسْتَحِقُّ
عَلَيَّ شَيْئًا) ، فَلَوْ قَال: (لاَ يَلْزَمُنِي دَفْعُ شَيْءٍ أَوْ
تَسْلِيمُ شَيْءٍ إِلَيْكَ) ، لَمْ يَكُنْ هَذَا إِنْكَارًا لِلدَّعْوَى،
لأَِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ التَّخْلِيَةُ
بَيْنَ الْمُودِعِ الْوَدِيعَةِ، فَهُوَ قَدْ نَفَى حَقًّا لَمْ يَدَّعِهِ
عَلَيْهِ الْمُدَّعِي، فَلاَ يُعْتَبَرُ إِنْكَارًا لِدَعْوَى
الْوَدِيعَةِ. (3)
__________
(1) أدب القضاء لابن أبي الدم ق 28 ب.
(2) لب اللباب ص 256، معين الحكام ص 64
(3) تحفة المحتاج 10 / 305
(20/314)
وَفِي دَعْوَى الطَّلاَقِ لاَ يُشْتَرَطُ
أَنْ يَقُول فِي إِنْكَارِهَا: (لَمْ أُطَلِّقْ) ، وَإِنَّمَا يَكْفِي أَنْ
يَقُول: (أَنْتِ زَوْجَتِي) ، وَفِي دَعْوَى النِّكَاحِ يَكْفِي فِي
إِنْكَارِهَا أَنْ يَقُول: (لَيْسَتْ زَوْجَتِي) . (1)
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الإِْنْكَارِ أَنَّهُ يُخَيَّرُ الْمُدَّعِي بَيْنَ
تَحْلِيفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَبَيْنَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى
صِحَّةِ دَعْوَاهُ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ فَلَيْسَ لَهُ غَيْرُ تَحْلِيفِهِ. (2)
65 - 3 - وَقَدْ لاَ يَكُونُ الْجَوَابُ إِقْرَارًا وَلاَ إِنْكَارًا،
بِأَنْ يَسْكُتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلاَ يَتَكَلَّمُ بِإِقْرَارٍ
وَلاَ إِنْكَارٍ، أَوْ يَقُول: (لاَ أُقِرُّ وَلاَ أُنْكِرُ) . وَحُكْمُ
ذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى حَال
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِيُعْرَفَ إِنْ كَانَ سُكُوتُهُ مُتَعَمَّدًا أَوْ
نَاتِجًا عَنْ عَاهَةٍ أَوْ دَهْشَةٍ أَوْ غَبَاوَةٍ، فَإِذَا عُلِمَ
أَنَّهُ لاَ عَاهَةَ بِهِ وَأَصَرَّ عَلَى الاِمْتِنَاعِ يَنْزِل
مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ وَيَأْخُذُ حُكْمَهُ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ السَّاكِتَ لاَ
يَنْزِل مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ بِحَالٍ مِنَ الأَْحْوَال، وَإِنَّمَا
يُجْبَرُ عَلَى الْجَوَابِ، بِالأَْدَبِ الْمُنَاسِبِ. (3)
66 - 4 - وَقَدْ يُجِيبُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِجَوَابٍ غَيْرِ صَحِيحٍ،
فَيُنَبَّهُ إِلَيْهِ، فَلاَ يُصَحِّحُهُ، كَأَنْ يَقُول
__________
(1) المرجع نفسه.
(2) أدب القضاء لابن أبي الدم ق 30 ب.
(3) الفواكه البدرية ص 117، البحر الرائق 7 / 23، أدب القضاء لابن أبي الدم
ق 31 ب.
(20/315)
بَعْدَ طَلَبِ الْجَوَابِ مِنْهُ:
فَلْيُثْبِتِ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ، فَلاَ يَكُونُ هَذَا جَوَابًا
صَحِيحًا، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَيْهِ اعْتُبِرَ فِي حُكْمِ الْمُمْتَنِعِ
عَنِ الْجَوَابِ، لأَِنَّ طَلَبَ الإِْثْبَاتِ لاَ يَسْتَلْزِمُ
اعْتِرَافًا وَلاَ إِنْكَارًا. (1)
وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الَّتِي ذَكَرَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا
الصَّدَدِ أَنَّ مَنِ اعْتَرَفَ بِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ يُوجِبُ عَلَيْهِ
شَيْئًا، فَإِنَّهُ لاَ يَكْفِيهِ فِي نَفْيِ مَا يُوجِبُهُ ذَلِكَ
السَّبَبُ أَنْ يُجِيبَ بِمَا هُوَ عَامٌّ يَشْمَل الْحَقَّ وَغَيْرَهُ،
وَلَكِنْ لاَ بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ عَدَمِ مَا أَوْجَبَهُ ذَلِكَ السَّبَبُ
بِالطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ، مِثَال ذَلِكَ: لَوِ ادَّعَتِ امْرَأَةٌ عَلَى
مَنْ يَعْتَرِفُ بِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ الْمَهْرَ، فَقَال الزَّوْجُ فِي
الْجَوَابِ عَلَيْهَا: (لاَ تَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا) ، لَمْ يَصِحَّ
هَذَا الْجَوَابُ، وَاعْتُبِرَ مُقِرًّا بِالْحَقِّ الْمُدَّعَى بِهِ،
فَيَلْزَمُهُ، لأَِنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ إِنْ لَمْ
يُقِمْ بَيِّنَةً بِإِسْقَاطِ الْمَهْرِ. (2)
67 - 5 - وَقَدْ يَكُونُ الْجَوَابُ دَفْعًا لِلدَّعْوَى: الدَّفْعُ -
كَمَا يُسْتَخْلَصُ مِنْ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ - دَعْوَى مِنَ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ يَقْصِدُ بِهَا دَفْعَ الْخُصُومَةِ عَنْهُ، أَوْ إِبْطَال
دَعْوَى الْمُدَّعِي، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ الدَّفْعَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ
نَوْعَانِ:
الأَْوَّل: الدَّفْعُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ إِبْطَال دَعْوَى
__________
(1) تحفة المحتاج وحاشية العبادي 10 / 304، لب اللباب لابن رشد ص 256
(2) حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 10 / 503، كشاف القناع 4 / 196
(20/315)
الْمُدَّعِي نَفْسِهَا، وَمِثَالُهُ: أَنْ
يَدَّعِيَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دَعْوَى الْعَيْنِ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا
مِنْهُ وَقَبَضَهَا، أَوْ أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ وَقَبَضَهَا، أَوْ أَيَّ
سَبَبٍ شَرْعِيٍّ لاِنْتِقَالِهَا إِلَى يَدِهِ. (1)
الثَّانِي: الدَّفْعُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ دَفْعُ الْخُصُومَةِ عَنِ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِدُونِ تَعَرُّضٍ لِصِدْقِ الْمُدَّعِي أَوْ
كَذِبِهِ فِي دَعْوَاهُ، وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ بِدَفْعِ
الْخُصُومَةِ، وَمِثَالُهُ: أَنْ يَدْفَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي
دَعْوَى الْعَيْنِ بِأَنَّ يَدَهُ عَلَى الشَّيْءِ لَيْسَتْ يَدَ
خُصُومَةٍ، وَإِنَّمَا يَدُ حِفْظٍ، كَأَنْ يَدَّعِيَ بِأَنَّهُ
مُسْتَعِيرٌ لِهَذِهِ الْعَيْنِ أَوْ مُسْتَأْجِرٌ لَهَا، أَوْ أَنَّهَا
مُودَعَةٌ عِنْدَهُ أَوْ مَرْهُونَةٌ لَدَيْهِ، فَإِذَا أَقَامَ بَيِّنَةً
عَلَى دَعْوَاهُ، فَإِنَّ الْخُصُومَةَ تَنْدَفِعُ عَنْهُ. (2)
وَمَحَل هَذَا الدَّفْعِ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي عَلَى خَصْمِهِ
مِلْكًا مُطْلَقًا، فَإِنْ كَانَ يَدَّعِي عَلَيْهِ فِعْلاً، كَغَصْبٍ أَوْ
بَيْعٍ أَوْ سَرِقَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يُقْبَل مَا تَقَدَّمَ، لأَِنَّ
الْخَصْمَ فِي دَعْوَى الْفِعْل هُوَ الَّذِي يُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ
فَعَلَهُ، وَلاَ يُنْظَرُ إِلَى يَدِهِ. (3)
وَمِنْ صُوَرِ دَفْعِ الْخُصُومَةِ أَنْ يَدْفَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ أَبْرَأَهُ مِنَ الدَّعْوَى أَوْ مِنَ
__________
(1) المنهاج وشرح المحلي، حاشية قليوبي 4 / 337
(2) البدائع 6 / 231، تحفة المحتاج 10 / 309، غاية المنتهى 3 / 458
(3) البدائع 6 / 231
(20/316)
الْخُصُومَةِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ هَذَا
الإِْبْرَاءَ، فَإِنَّ ثُبُوتَ ذَلِكَ يَدْفَعُ الْخُصُومَةَ مِنْ غَيْرِ
أَنْ يُؤَثِّرَ عَلَى الْحَقِّ ذَاتِهِ، وَلِذَلِكَ قَال الْفُقَهَاءُ:
إِنَّ الدَّفْعَ بِالإِْبْرَاءِ مِنَ الدَّعْوَى لاَ يَتَضَمَّنُ
إِقْرَارًا بِالْحَقِّ الْمُدَّعَى، حَتَّى لَوْ عَجَزَ الدَّافِعُ عَنْ
إِثْبَاتِ دَفْعِهِ جَازَ لَهُ دَفْعُ الدَّعْوَى بِأَيِّ دَفْعٍ آخَرَ
مِنْ إِبْرَاءٍ مِنَ الْحَقِّ أَوْ قَضَاءٍ أَوْ حَوَالَةٍ وَنَحْوِهِ.
وَهَذَا الدَّفْعُ أَجَازَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَنَصَّ
الشَّافِعِيَّةُ عَلَى بُطْلاَنِهِ. (1)
وَمِنْ صُوَرِهِ أَيْضًا دَفْعُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِنُقْصَانِ
أَهْلِيَّتِهِ أَوْ بِنُقْصَانِ أَهْلِيَّةِ خَصْمِهِ الْمُدَّعِي، فَلَوْ
رُفِعَتِ الدَّعْوَى عَلَى نَاقِصِ الأَْهْلِيَّةِ فَقَال: أَنَا صَبِيٌّ،
وَقَفَتِ الْخُصُومَةُ حَتَّى يَبْلُغَ. (2)
وَالنَّوْعُ الأَْوَّل مِنَ الدُّفُوعِ يَصِحُّ إِيرَادُهُ فِي أَيَّةِ
مَرْحَلَةٍ تَكُونُ عَلَيْهَا الدَّعْوَى قَبْل إِصْدَارِ الْحُكْمِ بِلاَ
خِلاَفٍ، فَيَصِحُّ قَبْل الْبَيِّنَةِ، كَمَا يَصِحُّ بَعْدَهَا. وَأَمَّا
بَعْدَ الْحُكْمِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى
صِحَّتِهِ إِذَا تَضَمَّنَ إِبْطَال الْحُكْمِ. وَلَمْ يُمْكِنِ
التَّوْفِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّعْوَى الأَْصْلِيَّةِ. (3) وَذَهَبَ
بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ
__________
(1) البحر الرائق 7 / 203، الوجيز للغزالي 2 / 261، تحفة المحتاج 10 / 301،
شرح المحلي 4 / 341، كشاف القناع 4 / 233، الفروع 3 / 828
(2) شرح المحلي على المنهاج 4 / 341
(3) قرة عيون الأخيار 2 / 457، 2 / 26 - 27، البحر الرائق 7 / 230 - 231،
الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 89، تبصرة الحكام 1 / 80
(20/316)
لاَ يُقْبَل مِنَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ
أَيُّ دَفْعٍ بَعْدَ فَصْل الدَّعْوَى، وَلَكِنَّ لَهُ أَنْ يَطْعَنَ
بِأَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَاضِي عَدَاوَةً، فَإِذَا أَثْبَتَ ذَلِكَ
وَجَبَ فَسْخُ الْحُكْمِ، وَإِعَادَةُ الْمُحَاكَمَةِ. (1)
وَأَمَّا دَفْعُ الْخُصُومَةِ فَيَجُوزُ إِبْدَاؤُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
قَبْل الْحُكْمِ وَلاَ يَصِحُّ بَعْدَهُ، لأَِنَّ تَأَخُّرَ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ فِي دَفْعِ الْخُصُومَةِ عَنْ نَفْسِهِ إِلَى مَا بَعْدَ
الْحُكْمِ يَجْعَل الدَّعْوَى صَحِيحَةً فِي جَمِيعِ مَرَاحِلِهَا،
لأَِنَّهَا قَامَتْ عَلَى خَصْمٍ حَسَبَ الظَّاهِرِ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ
قَدْ صَدَرَ صَحِيحًا، فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَدْفَعَ بِأَنَّ
يَدَهُ مَثَلاً كَانَتْ يَدَ حِفْظٍ عَلَى الْعَيْنِ الَّتِي حُكِمَ بِهَا
لِلْمُدَّعِي، إِذْ يَغْدُو بِمَثَابَةِ أَجْنَبِيٍّ يُرِيدُ إِثْبَاتَ
الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ، فَلَمْ تَتَضَمَّنْ دَعْوَاهُ إِبْطَال الْقَضَاءِ
السَّابِقِ. (2)
وَالشَّافِعِيَّةُ لاَ يَرَوْنَ صِحَّةَ دَفْعِ الْخُصُومَةِ إِلاَّ قَبْل
الشُّرُوعِ فِي إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ مِنَ الْمُدَّعِي، قَال الْقَفَّال:
إِذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدًا عَلَى مِلْكِيَّتِهِ لِلْعَيْنِ، ثُمَّ
قَبْل إِكْمَال الشَّهَادَةِ دَفَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنَّ
الْعَيْنَ لَيْسَتْ مِلْكَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ لِزَوْجَتِهِ مَثَلاً لَمْ
يُقْبَل مِنْهُ هَذَا الدَّفْعُ، وَطُلِبَ مِنَ الْمُدَّعِي إِكْمَال
الشَّهَادَةِ، حَتَّى إِذَا أَتَمَّهَا بِشُرُوطِهَا قُضِيَ لَهُ
بِالْمُدَّعَى بِهِ، وَلِلزَّوْجَةِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تَرْفَعَ دَعْوَى
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 80 - 81
(2) حاشية منحة الخالق على البحر الرائق 7 / 230
(20/317)
عَلَيْهِ بِالْعَيْنِ الَّتِي قُضِيَ لَهُ
بِهَا، فَمُنِعَ مِنْ إِبْدَاءِ الدَّفْعِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي إِقَامَةِ
الْبَيِّنَةِ، لأَِنَّهُ مُقَصِّرٌ لِسُكُوتِهِ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ. (1)
وَالأَْصْل فِي الدَّفْعِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، سَوَاءٌ
أَكَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ فِي الدَّعْوَى الأَْصْلِيَّةِ أَمْ كَانَ فِي
دَفْعِهَا، إِذْ مِنَ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الدَّفْعَ
نَفْسَهُ دَعْوَى يُصْبِحُ فِيهَا الْمُدَّعِي مُدَّعًى عَلَيْهِ،
وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الدَّعْوَى الأَْصْلِيَّةِ مُدَّعِيًا فِي
الدَّفْعِ، فَيَكُونُ لِلْمُدَّعِي الَّذِي انْقَلَبَ مُدَّعًى عَلَيْهِ
فِي الدَّفْعِ أَنْ يَدْفَعَ الدَّفْعَ الْمُوَجَّهَ إِلَيْهِ. (2)
وَلَكِنَّهُ يَسْمَعُ مِنْ غَيْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا تَعَدَّى
إِلَيْهِ الْحُكْمُ عَلَى فَرْضِ صُدُورِهِ، كَمَا لَوِ ادَّعَى رَجُلٌ
دَيْنًا عَلَى مُورِثٍ وَخَاصَمَ أَحَدَ الْوَرَثَةِ، وَأَثْبَتَهُ
بِالْبَيِّنَةِ، كَانَ لِغَيْرِ الْمُخَاصِمِ مِنَ الْوَرَثَةِ دَفْعُ
هَذِهِ الدَّعْوَى، لأَِنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنِ
الْجَمِيعِ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّرِكَةِ، فَالْحُكْمُ يَتَعَدَّى إِلَى
غَيْرِ الْوَارِثِ الْمُخَاصِمِ، فَيَكُونُ لَهُ الْحَقُّ فِي دَفْعِهِ.
(3)
68 - هَذَا، وَيُشْتَرَطُ فِي الدَّفْعِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الدَّعْوَى،
لأَِنَّهُ نَوْعٌ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا
__________
(1) تحفة المحتاج 10 / 308 - 309
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 89
(3) قرة عيون الأخيار 2 / 457، معين الحكام للطرابلسي ص 129
(20/317)
تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الآْثَارِ مَا
يَتَرَتَّبُ عَلَى الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ، فَإِذَا عَجَزَ الدَّافِعُ
عَنْ إِثْبَاتِ دَفْعِهِ بِوَسَائِل الإِْثْبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَطَلَبَ
يَمِينَ الْمُدَّعِي حَلَفَ الْمُدَّعِي، فَإِنْ نَكَل هَذَا عَنِ
الْيَمِينِ ثَبَتَ الدَّفْعُ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِالنُّكُول، وَأَمَّا
عِنْدَ الآْخَرِينَ فَيَحْلِفُ الدَّافِعُ يَمِينَ الرَّدِّ، فَإِنْ فَعَل
ثَبَتَ الدَّفْعُ وَانْدَفَعَتِ الدَّعْوَى، وَأَمَّا إِذَا حَلَفَ
الْمُدَّعِي عَادَتْ دَعْوَاهُ الأَْصْلِيَّةُ. (1) ثُمَّ يُنْظَرُ بَعْدَ
ذَلِكَ فِي طَبِيعَةِ الدَّفْعِ، فَقَدْ يَكُونُ مُتَضَمِّنًا
لِلإِْقْرَارِ بِالْمُدَّعَى بِهِ، كَمَا لَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ
بِدَيْنٍ مُعَيَّنٍ، فَدَفَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَائِلاً: إِنَّ
الْمُدَّعِيَ كَانَ أَبْرَأَنِي مِنَ الْمَبْلَغِ الْمَذْكُورِ، وَعَجَزَ
عَنْ إِثْبَاتِ الإِْبْرَاءِ، وَحَلَفَ الْمُدَّعِي عَلَى عَدَمِهِ،
فَإِنَّ الْمُدَّعِي يَسْتَحِقُّ مَا ادَّعَى بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ
يُكَلَّفَ بَيِّنَةً أُخْرَى، لأَِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِدَفْعِهِ
قَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ مَدِينًا بِالْمَبْلَغِ الْمُدَّعَى،
وَالأَْصْل بَقَاءُ اشْتِغَال ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يَثْبُتَ الْعَكْسُ،
وَهَذَا لَمْ يَثْبُتْ، فَيُحْكَمُ لِلْمُدَّعِي بِالْمَبْلَغِ الَّذِي
يُطَالِبُ بِهِ. (2)
وَقَدْ لاَ يَكُونُ الدَّفْعُ مُتَضَمِّنًا إِقْرَارَ الدَّافِعِ
بِالْحَقِّ الْمُدَّعَى، كَمَا فِي صُوَرِ دَفْعِ الْخُصُومَةِ الَّتِي
تَقَدَّمَ بَعْضُهَا.
وَتَفْصِيلُهُ فِي: (إِقْرَارٌ، وَإِنْكَارٌ، وَنُكُولٌ) (3) .
__________
(1) قرة عيون الأخيار 2 / 460، كشاف القناع 4 / 201.
(2) كشاف القناع 4 / 201، أدب القضاء لابن أبي الدم ق 29 أ.
(3) انظر شرح المجلة للأتاسي مادة: 1631 (5 / 64)
(20/318)
انْتِهَاءُ الدَّعْوَى:
69 - تَنْتَهِي الدَّعْوَى غَالِبًا بِصُدُورِ حُكْمٍ فِي مَوْضُوعِهَا
يَحْسِمُ النِّزَاعَ، بِحَيْثُ لاَ تُقْبَل بَعْدَ ذَلِكَ إِثَارَتُهُ،
وَلَكِنَّهَا قَدْ تَنْتَهِي بِعَارِضٍ مِنَ الْعَوَارِضِ يَضَعُ حَدًّا
لِلْخُصُومَةِ قَبْل وُصُولِهَا إِلَى تِلْكَ النِّهَايَةِ.
أَمَّا الْحُكْمُ فَقَدْ عَرَّفَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ فَصْل
الْخُصُومَةِ (1) . وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ: أَنْ تَتَقَدَّمَهُ
خُصُومَةٌ وَدَعْوَى صَحِيحَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ بِصِيغَةِ الإِْلْزَامِ،
وَأَنْ يَكُونَ وَاضِحًا بِحَيْثُ يُعَيَّنُ فِيهِ مَا يُحْكَمُ بِهِ
وَمَنْ يُحْكَمُ لَهُ بِصُورَةٍ وَاضِحَةٍ، وَشُرُوطٌ أُخْرَى مُخْتَلَفٌ
فِيهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا وَتَفْصِيل أَنْوَاعِ
الْحُكْمِ وَأَثَرِهِ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٌ) .
وَأَمَّا الْعَوَارِضُ الَّتِي تَنْتَهِي الدَّعْوَى قَبْل صُدُورِ حُكْمٍ
فِيهَا، فَإِنَّهُ بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ الْفُقَهَاءَ لَمْ يُعْنَوْا
بِحَصْرِهَا، إِلاَّ أَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِنْتَاجُهَا مِنَ الْقَوَاعِدِ
وَالأُْصُول الَّتِي اعْتَمَدُوا عَلَيْهَا فِي التَّقَاضِي وَنَظَرِ
الدَّعَاوِي، وَمِنْ بَعْضِ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا:
أ - بِنَاءً عَلَى تَعْرِيفِ الْمُدَّعِي بِأَنَّهُ مَنْ إِذَا تَرَكَ
الْخُصُومَةَ لاَ يُجْبَرُ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الدَّعْوَى تَنْتَهِي
__________
(1) كفاية الطالب الرَّبَّاني 2 / 253، كشاف القناع 4 / 266
(20/318)
بِتَنَازُل الْمُدَّعِي عَنْهَا
بِإِرَادَتِهِ، قَال الْبَاجُورِيُّ: (إِنَّ مَشِيئَةَ الْمُدَّعِي لاَ
تَتَقَيَّدُ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ، فَلَهُ إِمْهَال الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
إِلَى الأَْبَدِ بَل لَهُ الاِنْصِرَافُ وَتَرْكُ الْخُصُومَةِ
بِالْكُلِّيَّةِ) . (1)
ب - وَبِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ شُرُوطِ الدَّعْوَى فَإِنَّهَا
تَنْتَهِي إِذَا طَرَأَ مَا يَجْعَل بَعْضَ تِلْكَ الشُّرُوطِ
مُتَخَلِّفًا، كَمَا لَوْ أَضْحَى الْمُدَّعِي لاَ مَصْلَحَةَ لَهُ فِي
مُتَابَعَةِ السَّيْرِ فِي الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ
أَنَّ كَوْنَ الدَّعْوَى مُفِيدَةً شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا، وَيُمْكِنُ
حُدُوثُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ مِنْهَا: أَنْ يُتَوَفَّى الصَّغِيرُ
الْمُتَنَازَعُ عَلَى حَضَانَتِهِ، فَيُصْبِحُ الاِسْتِمْرَارُ فِي
الدَّعْوَى غَيْرَ مُفِيدٍ لِلْمُدَّعِي، وَمِنْهَا أَنْ يُتَوَفَّى
الزَّوْجُ الَّذِي تَطْلُبُ الزَّوْجَةُ الْحُكْمَ بِتَطْلِيقِهَا مِنْهُ،
حَيْثُ تَنْتَفِي الْمَصْلَحَةُ فِي اسْتِمْرَارِ نَظَرِ الدَّعْوَى.
غَيْرَ أَنَّهُ يَجْدُرُ بِالْمُلاَحَظَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ
الْمُدَّعِيَ الأَْصْلِيَّ فِي الدَّعْوَى قَدْ يُصْبِحُ فِي مَرْكَزِ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا تَقَدَّمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الأَْصْلِيُّ
بِدَفْعٍ صَحِيحٍ لِلدَّعْوَى الأَْصْلِيَّةِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ
الْقَاعِدَةَ السَّابِقَةَ تَقْتَضِي أَنْ لاَ يُسْمَحَ لِلْمُدَّعِي
الأَْصْلِيِّ أَنْ يَتْرُكَ دَعْوَاهُ إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
قَدْ أَبْدَى دَفْعًا لِهَذِهِ الدَّعْوَى إِلاَّ إِذَا تَرَاضَيَا عَلَى
ذَلِكَ.
__________
(1) حاشية الباجوري 2 / 401
(20/319)
وَكَذَلِكَ تَنْتَهِي الدَّعْوَى إِذَا
انْتَهَى التَّنَازُعُ فِي الْحَقِّ الْمَطْلُوبِ قَبْل صُدُورِ حُكْمٍ فِي
مَوْضُوعِ الدَّعْوَى، كَمَا لَوْ تَصَالَحَ الْخُصُومُ عَلَى الْحَقِّ
الْمُدَّعَى.
(20/319)
دَعْوَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدَّعْوَةُ مَصْدَرُ (دَعَا) تَقُول: دَعَوْتُ زَيْدًا دُعَاءً
وَدَعْوَةً، أَيْ نَادَيْتُهُ.
وَقَدْ تَكُونُ لِلْمَرَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ
دَعْوَةً مِنَ الأَْرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} (1) أَيْ دَعَاكُمْ
مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَالدَّعْوَةُ تَأْتِي فِي اللُّغَةِ لِمَعَانٍ مِنْهَا:
أ - النِّدَاءُ، تَقُول دَعَوْتُ فُلاَنًا أَيْ نَادَيْتُهُ، وَهَذَا هُوَ
الأَْصْل فِي مَعْنَى (دَعَا) مُطْلَقًا وَلَوْ مِنَ الأَْعْلَى
لِلأَْدْنَى، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ
فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} (2)
ب - الطَّلَبُ مِنَ الأَْدْنَى إِلَى الأَْعْلَى، وَمِنْهُ قَوْله
تَعَالَى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (3) وَاسْتِعْمَال
لَفْظِ الدُّعَاءِ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنَ (الدَّعْوَةِ) . وَمِثْلُهُ
(الدَّعْوَى) كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4)
__________
(1) سورة الروم / 25
(2) سورة الإسراء / 52
(3) سورة البقرة / 186
(4) سورة يونس / 10
(20/320)
أَيْ آخِرُ دُعَائِهِمْ، وَقَدْ يُخَصُّ
بِطَلَبِ الْحُضُورِ، تَقُول: (دَعَوْتُ فُلاَنًا) أَيْ قُلْتُ لَهُ
تَعَال.
ج - وَالدَّعْوَةُ الدِّينُ أَوِ الْمَذْهَبُ، حَقًّا كَانَ أَمْ بَاطِلاً،
سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَِنَّ صَاحِبَهُ يَدْعُو إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْله
تَعَالَى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} . (1)
د - وَالدَّعْوَةُ مَا دَعَوْتَ إِلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ.
وَخَصَّهَا اللِّحْيَانِيُّ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ، وَهِيَ
طَعَامُ الْعُرْسِ.
هـ - وَالدَّعْوَةُ الْحِلْفُ، أَيْ لأَِنَّهُ يُدْعَى بِهِ
لِلاِنْتِصَارِ.
و وَالدَّعْوَةُ النَّسَبُ، تَقُول: فُلاَنٌ يُدْعَى لِفُلاَنٍ، أَيْ
يُنْسَبُ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {ادْعُوهُمْ لآِبَائِهِمْ
هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} (2) وَالْمَنْسُوبُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ
يُقَال لَهُ: الدَّعِيُّ، وَأَكْثَرُ الْعَرَبِ يَقُولُونَ فِي النَّسَبِ
(الدَّعْوَةُ) وَقَال ابْنُ شُمَيْلٍ: الدِّعْوَةُ (بِكَسْرِ الدَّال) فِي
النَّسَبِ، وَالدَّعْوَةُ فِي الطَّعَامِ، وَعَدِيُّ بْنُ الرَّبَابِ عَلَى
الْعَكْسِ يَفْتَحُونَ الدَّال فِي النَّسَبِ وَيَكْسِرُونَ فِي
الطَّعَامِ، وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ الدَّعْوَةَ فِي دَارِ
الْحَرْبِ بِالضَّمِّ. (3)
ز - وَالدَّعْوَةُ الأَْذَانُ أَوِ الإِْقَامَةُ، وَفِي الْحَدِيثِ:
الْخِلاَفَةُ فِي قُرَيْشٍ، وَالْحُكْمُ فِي الأَْنْصَارِ،
__________
(1) سورة الرعد / 14
(2) سورة الأحزاب / 5
(3) لسان العرب ومختار الصحاح، وابن عابدين 3 / 223
(20/320)
وَالدَّعْوَةُ فِي الْحَبَشَةِ (1) جَعْل
الأَْذَانِ فِي الْحَبَشَةِ تَفْضِيلاً لِمُؤَذَّنِ بِلاَلٍ، وَإِنَّمَا
قِيل لِلأَْذَانِ ذَلِكَ لأَِنَّهُ دَعْوَةٌ إِلَى الصَّلاَةِ، وَلِذَلِكَ
يَقُول الْمُجِيبُ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ
وَالصَّلاَةِ الْقَائِمَةِ. . . إِلَخْ. (2)
وَأَمَّا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ لاَ تَخْرُجُ
عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ.
2 - وَسَنَقْصِرُ الْبَحْثَ فِي هَذَا الْمُصْطَلَحِ عَلَى الْمَعَانِي
التَّالِيَةِ:
أ - الدَّعْوَةُ: بِمَعْنَى طَلَبِ الدُّخُول فِي الدِّينِ
وَالاِسْتِمْسَاكِ بِهِ.
ب - وَالدَّعْوَةُ: بِمَعْنَى الْمُنَادَاةِ وَطَلَبِ الْحُضُورِ إِلَى
الدَّاعِي.
وَأَمَّا الدَّعْوَةُ: بِمَعْنَى الدُّعَاءِ. وَهُوَ الرَّغْبَةُ إِلَى
اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ يُجِيبَ سُؤَال الدَّاعِي وَيَقْضِيَ حَاجَتَهُ
فَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي (دُعَاءٌ) .
وَأَمَّا الدَّعْوَةُ بِمَعْنَى النَّسَبِ فَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي:
(نَسَبٌ) .
__________
(1) حديث: " الخلافة في قريش، والحكم في الأنصار، والدعوة في الحبشة "
أخرجه أحمد في مسنده (4 / 185 - ط الميمنية) من حديث عتبة بن عبد، وقال
الهيثمي: " رجاله ثقات " كذا في " مجمع الزوائد " (4 / 192 - ط القدسي) .
(2) حديث: " اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة. . . " أخرجه
البخاري (الفتح 2 / 94 - ط السلفية) من حديث جابر بن عبد الله.
(20/321)
أَوَّلاً:
الدَّعْوَةُ بِمَعْنَى الدِّينِ " أَوِ الْمَذْهَبِ " أَوْ بِمَعْنَى
الدُّخُول فِيهِمَا:
3 - أَمَّا بِالْمَعْنَى الثَّانِي فَوَاضِحٌ مَأْخَذُهُ لُغَةً، فَإِنَّ
الدَّاعِيَ يَطْلُبُ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يُتَابِعَهُ عَلَى دِينِهِ،
وَالطَّلَبُ دَعْوَةٌ.
وَأَمَّا إِطْلاَقُ الدَّعْوَةِ عَلَى الدِّينِ نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى
الْمَذْهَبِ، فَلأَِنَّ صَاحِبَهُ يَدْعُو إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْله
تَعَالَى: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) (1) قَال الزَّجَّاجُ: جَاءَ فِي
التَّفْسِيرِ أَنَّهَا شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَيْ
لأَِنَّهَا يُدْعَى إِلَيْهَا أَهْل الْمِلَل الْكَافِرَةِ. وَفِي كِتَابِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْل: إِنِّي
أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِْسْلاَمِ وَفِي رِوَايَةٍ دَاعِيَةِ
الإِْسْلاَمِ (2) . قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: أَيْ بِدَعْوَتِهِ.
وَيُطْلَقُ عَلَى الأَْدْيَانِ وَالْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ أَنَّهَا
دَعَوَاتٌ، كَدَعَوَاتِ الْمُتَنَبِّئِينَ، وَأَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ
الْفَاسِدَةِ الْمُبْتَدَعَةِ، كَالدَّعَوَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّتِي
أَكْثَرَتْ مِنِ اسْتِعْمَال هَذَا الْمُصْطَلَحِ وَمُشْتَقَّاتِهِ، غَيْرَ
أَنَّ " الدَّعْوَةَ " إِذَا أُطْلِقَتْ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ
فَالْمَعْنِيُّ بِهَا دَعْوَةُ الْحَقِّ وَهِيَ الدَّعْوَةُ
الإِْسْلاَمِيَّةُ، كَقَوْلِهِمْ فِي أَبْوَابِ الْجِهَادِ: " لاَ يَحِل
لَنَا أَنْ نُقَاتِل
__________
(1) سورة الرعد / 14
(2) حديث: " إني أدعوك بدعاية الإسلام - وفي رواية بداعية الإسلام " أخرج
الرواية الأولى البخاري (الفتح 1 / 32 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1396 - ط
الحلبي) ، وأخرج الرواية الثانية مسلم (3 / 1397 - ط الحلبي) كلاهما من
حديث أبي سفيان.
(20/321)
مَنْ لاَ تَبْلُغُهُ الدَّعْوَةُ إِلَى
الإِْسْلاَمِ ". (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
4 - أ - الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ:
الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْسَعُ دَلاَلَةً
مِنَ " الدَّعْوَةِ "، إِذْ أَنَّ " الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ " أَمْرٌ
بِالْمَعْرُوفِ الأَْكْبَرِ الَّذِي هُوَ الإِْيمَانُ وَالصَّلاَحُ،
وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ الأَْكْبَرِ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ
وَالإِْشْرَاكُ بِهِ وَمَعْصِيَتُهُ.
(وَالدَّعْوَةُ) تَهْدُفُ إِلَى الإِْقْنَاعِ وَالْوُصُول إِلَى قُلُوبِ
الْمَدْعُوِّينَ لِلتَّأْثِيرِ فِيهَا حَتَّى تَتَحَوَّل عَمَّا هِيَ
عَلَيْهِ مِنَ الإِْعْرَاضِ أَوِ الْعِنَادِ، إِلَى الإِْقْبَال
وَالْمُتَابَعَةِ، أَمَّا الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ
الْمُنْكَرِ فَقَدْ يَهْدُفُ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ يَهْدُفُ إِلَى
مُجَرَّدِ وُجُودِ الْمَعْرُوفِ وَزَوَال الْمُنْكَرِ، سَوَاءٌ أَحَصَل
الاِقْتِنَاعُ وَالْمُتَابَعَةُ أَمْ لَمْ يَحْصُلاَ.
وَعَلَى هَذَا فَالدَّعْوَةُ أَخَصُّ مِنَ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.
ب - الْجِهَادُ:
5 - الْجِهَادُ الْقِتَال لإِِعْلاَءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ
الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْجِهَادُ
فِعْلٌ، وَالْجِهَادُ لَيْسَ هُوَ الدَّعْوَةُ، بَل الدَّعْوَةُ
مُطَالَبَةُ الْكَافِرِ وَنَحْوِهِ بِالإِْيمَانِ وَالاِتِّبَاعِ،
وَالدَّعْوَةُ وَاجِبَةٌ قَبْل الْقِتَال، كَمَا سَيَأْتِي.
__________
(1) الدر المختار 3 / 223، وانظر مصطلح: (تبييت) في الموسوعة.
(20/322)
ج - الْوَعْظُ:
6 - الْوَعْظُ وَالْعِظَةُ: النُّصْحُ وَالتَّذْكِيرُ بِالْعَوَاقِبِ، قَال
ابْنُ سِيدَةَ: هُوَ تَذْكِيرُكَ لِلإِْنْسَانِ بِمَا يُلَيِّنُ قَلْبَهُ
مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. (1) فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الدَّعْوَةِ، إِذِ
الدَّعْوَةُ تَكُونُ أَيْضًا بِالْمُجَادَلَةِ وَالْمُحَاوَرَةِ وَكَشْفِ
الشُّبَهِ وَتَبْلِيغِ الدِّينِ مُجَرَّدًا.
حُكْمُ الدَّعْوَةِ:
7 - الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَرْضٌ لاَزِمٌ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى {ادْعُ إِلَى سَبِيل رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ
الْحَسَنَةِ} (2) وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو
إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (3) وَقَوْلِهِ:
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ} (4)
وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ هَل هُوَ عَيْنِيٌّ
أَمْ كِفَائِيٌّ (5) .
وَتَفْصِيلُهُ ذُكِرَ فِي مُصْطَلَحِ: " أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ ".
فَضْل الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى:
8 - يَتَبَيَّنُ فَضْل الْقِيَامِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى
مِنْ وُجُوهٍ:
__________
(1) لسان العرب.
(2) سورة النحل / 125
(3) سورة يوسف / 108
(4) سورة آل عمران / 104
(5) تفسير ابن كثير 2 / 109، وسورة المائدة / 105
(20/322)
9 - الْوَجْهُ الأَْوَّل:
أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَوَلاَّهَا اللَّهُ تَعَالَى،
فَأَرْسَل الرُّسُل وَأَنْزَل مَعَهُمُ الْكُتُبَ وَأَيَّدَهُمْ
بِالْمُعْجِزَاتِ، وَأَمَرَ بِالتَّقْوَى، وَأَمَرَ النَّاسَ بِعِبَادَتِهِ
وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، كَمَا أَنَّهُ فِي مَخْلُوقَاتِهِ نَصَبَ
الأَْدِلَّةَ عَلَى كَوْنِهِ الرَّبَّ الْخَالِقَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ
يُعْبَدَ، وَفِي كُتُبِهِ ذَكَرَ الْبَرَاهِينَ الَّتِي تُثْبِتُ ذَلِكَ،
ثُمَّ بَشَّرَ وَحَذَّرَ وَأَنْذَرَ، وَقَال: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى
دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . (1)
وَتَوَلَّى الدَّعْوَةَ أَيْضًا رُسُلُهُ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ بِتَكْلِيفٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ مَضْمُونَ
الرِّسَالَةِ الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَال: {وَلَقَدْ
بَعَثْنَا فِي كُل أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا
الطَّاغُوتَ} (2) وَقَال: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ
يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} . (3)
وَآخِرُ الرُّسُل مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ
اللَّهُ تَعَالَى وَحَدَّدَ لَهُ مَهَامَّ الرِّسَالَةِ وَمِنْهَا
الدَّعْوَةُ إِلَيْهِ تَعَالَى، فَقَال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا
أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًّا إِلَى اللَّهِ
بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} . (4)
فَوَظِيفَةُ الدَّاعِيَةِ إِذَنْ مِنَ الشَّرَفِ فِي مَرْتَبَةٍ عَالِيَةٍ،
إِذْ أَنَّهَا تَبْلِيغُ دَعْوَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمُتَابَعَةُ
__________
(1) سورة يونس / 25
(2) سورة النحل / 36
(3) سورة النساء / 165
(4) سورة الأحزاب / 45
(20/323)
مُهِمَّةِ الرُّسُل، وَالسَّيْرُ عَلَى
طَرِيقِهِمْ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {قُل هَذِهِ
سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}
(1)
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مِنْ دُعَاءِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ
أَنْ يَقُولُوا: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (2) قَال
قَتَادَةُ: " أَيْ قَادَةً فِي الْخَيْرِ، وَدُعَاةَ هُدًى يُؤْتَمُّ بِنَا
فِي الْخَيْرِ ". (3)
10 - الْوَجْهُ الثَّانِي:
مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ
دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِل صَالِحًا. . .} (4) فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ
الدُّعَاءَ إِلَى اللَّهِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، هُوَ أَحْسَنُ الْقَوْل،
وَأَعْلاَهُ مَرْتَبَةً، وَمَا ذَلِكَ إِلاَّ لِشَرَفِ غَايَاتِهِ وَعِظَمِ
أَثَرِهِ.
11 - الْوَجْهُ الثَّالِثُ:
مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ. . .} (5) وَقَوْلُهُ:
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} ، إِلَى
قَوْلِهِ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (6) ، فَالآْيَةُ تُبَيِّنُ
أَفْضَلِيَّةَ هَذِهِ الأُْمَّةِ عَلَى غَيْرِهَا، وَأَنَّهُ هُوَ دَعْوَةُ
النَّاسِ، وَالتَّسَبُّبُ فِي إِيمَانِهِمْ، وَفِي مُسَارَعَتِهِمْ إِلَى
الْمَعْرُوفِ وَانْتِهَائِهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ.
__________
(1) سورة يوسف / 108
(2) سورة الفرقان / 74
(3) فتح الباري 13 / 251 القاهرة، المطبعة السلفية 1371 هـ.
(4) سورة فصلت / 33
(5) سورة آل عمران / 110
(6) سورة آل عمران / 104
(20/323)
وَالآْيَةُ الثَّانِيَةُ: حَصَرَتِ
الْفَلاَحَ فِي الدُّعَاةِ الآْمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهِينَ، عَنِ
الْمُنْكَرِ.
12 - الْوَجْهُ الرَّابِعُ:
مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَْجْرِ مِثْل أُجُورِ مَنْ
تَبِعَهُ لاَ يُنْقِصُ ذَلِكَ لَهُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ (1) فَفِيهِ
عِظَمُ أَجْرِ الدُّعَاةِ إِذَا اهْتَدَى بِدَعْوَتِهِمْ أَقْوَامٌ قَلِيلٌ
أَوْ كَثِيرٌ، وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَعْطَاهُ
الرَّايَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ: انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِل
بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِْسْلاَمِ فَوَاللَّهِ لأََنْ
يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ
لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ (2) .
أَهْدَافُ الدَّعْوَةِ وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا:
13 - يَهْدُفُ تَشْرِيعُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَى
تَحْقِيقِ أَغْرَاضٍ سَامِيَةٍ مِنْهَا:
1 - إِرْشَادُ الْبَشَرِيَّةِ إِلَى أَعْلَى حَقٍّ فِي هَذَا الْوُجُودِ،
إِذْ بِدُونِ الدَّعْوَةِ لاَ يَتَمَكَّنُ الْبَشَرُ مِنْ مَعْرِفَةِ
رَبِّهِمْ، وَيَبْقَوْنَ فِي تَخَبُّطٍ مِنْ أَمْرِ أَصْل الْخَلْقِ
وَالْغَرَضِ مِنْهُ، وَمَآلِهِ، وَوَضْعِ الإِْنْسَانِ فِي هَذَا
الْكَوْنِ، فَتَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلاَتُ وَالأَْوْهَامُ
__________
(1) حديث: " من دعا إلى هدى كان له من الأجر. . . ". أخرجه مسلم (4 / 2060
- ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ". أخرجه مسلم (4 / 1872 - ط
الحلبي) من حديث سهل بن سعد.
(20/324)
كَمَا قَال تَعَالَى: {كِتَابٌ
أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} . (1)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ} : أَيْ بِالْكِتَابِ وَهُوَ
الْقُرْآنِ، أَيْ بِدُعَائِكَ إِلَيْهِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ
وَالضَّلاَلَةِ إِلَى نُورِ الإِْيمَانِ وَالْعِلْمِ بِتَوْفِيقِهِ
إِيَّاهُمْ وَلُطْفِهِ بِهِمْ، وَأُضِيفَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِنَّهُ الدَّاعِي، وَالْمُنْذِرُ الْهَادِي إِلَى
صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. (2)
2 - إِنْقَاذُ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ أَسْبَابِ الدَّمَارِ وَالْهَلاَكِ،
فَإِنَّ الْبَشَرَ إِذَا سَارُوا فِي حَيَاتِهِمْ بِمُجَرَّدِ عُقُولِهِمْ
وَأَهْوَائِهِمْ وَغَرَائِزِهِمْ، لاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوَقِّي مَا
يَضُرُّهُمْ، وَيُؤَدِّي بِهِمْ إِلَى الْفَسَادِ فِي الْغَالِبِ،
وَالشَّرَائِعُ الإِْلَهِيَّةُ جَاءَتْ بِالتَّحْلِيل وَالتَّحْرِيمِ
وَالْقَوَاعِدِ الَّتِي تَكْفُل لِمُتَّبِعِيهَا السَّعَادَةَ وَالصَّلاَحَ
وَاسْتِقَامَةَ الأُْمُورِ. قَال تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُول إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (3)
أَيْ يُحْيِي دِينَكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ، أَوْ إِلَى مَا يُحْيِي بِهِ
قُلُوبَكُمْ فَتُوَحِّدُوهُ، وَهَذَا إِحْيَاءٌ مُسْتَعَارٌ، لأَِنَّهُ
مِنْ مَوْتِ الْكُفْرِ وَالْجَهْل، وَقَال مُجَاهِدٌ وَالْجُمْهُورُ:
اسْتَجِيبُوا لِلطَّاعَةِ وَمَا تَضَمَّنَهُ
__________
(1) سورة إبراهيم / 1
(2) القرطبي 9 / 338، وروح المعاني 1 / 105 - 108، وتفسير ابن كثير 1 / 69
- 71
(3) سورة الأنفال / 24
(20/324)
الْقُرْآنُ، فَفِيهِ الْحَيَاةُ
الأَْبَدِيَّةُ وَالنِّعْمَةُ السَّرْمَدِيَّةُ. (1)
3 - تَحْقِيقُ الْغَايَةِ مِنَ الْخَلْقِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ
الْكَوْنَ وَمَهَّدَهُ لِلنَّاسِ لِيُعْبَدَ فِيهِ، قَال تَعَالَى: {وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونَ} (2)
قَال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ
إِلاَّ لآِمُرَهُمْ بِالْعِبَادَةِ، وَقَال مُجَاهِدٌ: إِلاَّ
لِيَعْرِفُونِي. قَال الثَّعْلَبِيُّ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، لأَِنَّهُ
لَوْ لَمْ يَخْلُقْهُمْ لَمَا عُرِفَ وُجُودُهُ وَتَوْحِيدُهُ.
وَلاَ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالدَّعْوَةِ، لِيَتَمَكَّنَ الْخَلْقُ
مِنْ مَعْرِفَةِ الْوُجُوهِ الَّتِي يُرِيدُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
أَنْ يُعْبَدَ بِهَا، فَإِنَّ الْعَقْل لاَ يَهْتَدِي لِذَلِكَ مِنْ دُونِ
أَنْ يُبَلَّغَ بِهِ مِمَّنْ يُعَلِّمُهُ.
4 - إِقَامَةُ حُجَّةِ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ، بِأَنَّ دِينَهُ
وَشَرَائِعَهُ قَدْ بَلَغَتْهُمْ حَتَّى إِنْ عَذَّبَهُمْ لَمْ يَكُنْ
عَذَابُهُ ظُلْمًا، كَمَا قَال تَعَالَى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ
الرُّسُل} . (3)
5 - تَحْقِيقُ الْهِدَايَةِ وَالرَّحْمَةِ الْمَقْصُودَةِ بِإِرْسَال
الرُّسُل وَإِنْزَال الْكُتُبِ، كَمَا قَال تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً
لِلْعَالَمِينَ} (4)
__________
(1) تفسير القرطبي 7 / 389
(2) سورة الذاريات / 56، وانظر القرطبي 17 / 55
(3) سورة النساء / 165
(4) سورة الأنبياء / 107
(20/325)
وَقَال عَنْ كِتَابِهِ: {هُدًى
لِلْمُتَّقِينَ} (1) {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (2)
فَالدَّعْوَةُ هِيَ الْوَسِيلَةُ إِلَى إِطْلاَعِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ
بِالرَّسُول وَالْكِتَابِ عَلَى حَقِيقَتِهِمَا وَحَقِيقَةِ مَا جَاءَا
بِهِ، فَتَعُمُّ الرَّحْمَةُ وَالْهِدَايَةُ إِلَى الْمَدَى الَّذِي
يَشَاءُ إِلَيْهِ.
6 - تَكْثِيرُ عَدَدِ الأَْقْوَامِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ، وَتَحْقِيقُ
عِزَّةِ شَأْنِ الإِْسْلاَمِ وَالْمُسْلِمِينَ.
7 - مَا تَقَدَّمَ هُوَ فِي دَعْوَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، أَمَّا
الدَّعْوَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَالْهَدَفُ مِنْهَا تَذْكِيرُ
الْغَافِلِينَ وَالْعُصَاةِ، وَالْعَوْدَةُ بِالْمُنْحَرِفِينَ إِلَى
الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَتَقْلِيل الْمَفَاسِدِ فِي الْمُجْتَمَعِ
الإِْسْلاَمِيِّ، وَإِزَالَةُ الشُّبَهِ الَّتِي يَنْشُرُهَا أَعْدَاءُ
الدِّينِ، وَتَكْثِيرُ الْمُلْتَزِمِينَ الْمُتَمَسِّكِينَ بِتَعَالِيمِ
الدِّينِ لِيَعِيشَ الْمُؤْمِنُونَ - وَمِنْهُمُ الدُّعَاةُ أَنْفُسُهُمْ -
فِي عِزَّةٍ وَقُوَّةٍ، وَفِي أَمْنٍ وَرَخَاءٍ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ كَثُرَ
الْمُنْكَرُ وَأَهْلُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى ضَعْفِ أَهْل
الإِْيمَانِ، وَذُلِّهِمْ بَيْنَ أَقْوَامِهِمْ، وَإِذَا كَثُرَ
الْمُنْكَرُ وَأَهْلُهُ حَتَّى غَلَبُوا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْفِتَنِ
وَالْعُقُوبَةِ الَّتِي قَدْ لاَ يَسْلَمُ مِنْهَا الْمُؤْمِنُونَ
أَنْفُسُهُمْ، كَمَا قَال تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (3) .
الدَّعْوَةُ إِلَى الْبَاطِل:
14 - حَرَّمَ الإِْسْلاَمُ الدَّعْوَةَ إِلَى الْبَاطِل، وَشَدَّدَ
__________
(1) سورة البقرة / 2
(2) سورة النمل / 77
(3) سورة الأنفال / 25
(20/325)
النَّكِيرَ عَلَى دُعَاةِ الْبَاطِل فِي
آيَاتٍ صَرِيحَةٍ وَأَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ، كَمَا حَذَّرَ الْقُرْآنُ
وَالسُّنَّةُ مِنْ مُسَانَدَةِ الدَّاعِينَ إِلَى الْبَاطِل أَوْ تَسْهِيل
الأَْمْرِ عَلَيْهِمْ. فَحَذَّرَ اللَّهُ مِنْ دَعْوَةِ شَيْطَانِ الْجِنِّ
الإِْنْسَانَ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، بِأَنْ أَخْبَرَنَا بِمَقَالَتِهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلضَّالِّينَ وَلِلْعُصَاةِ الَّذِينَ أَضَلَّهُمْ،
كَمَا قَال تَعَالَى: {وَقَال الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَْمْرُ إِنَّ
اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا
كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ
فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا
بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا
أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْل إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
(1) وَكَذَلِكَ شَيَاطِينُ الإِْنْسِ يَقُول لَهُمُ الْمَدْعُوُّونَ
الَّذِينَ ضَلُّوا بِسَبَبِهِمْ: {بَل مَكْرُ اللَّيْل وَالنَّهَارِ إِذْ
تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَل لَهُ أَنْدَادًا} (2)
وَحَذَّرَ مِنْ مَصِيرِ دُعَاةِ الْبَاطِل وَأَتْبَاعِهِمْ فَقَال فِي
فِرْعَوْنَ وَآلِهِ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}
(3)
وَقَدْ دَل الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَلَى أَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى الْبَاطِل
يَحْمِل بِالإِْضَافَةِ إِلَى وِزْرِ نَفْسِهِ أَوْزَارَ مَنْ ضَلُّوا
بِدَعْوَتِهِ، كَمَا قَال تَعَالَى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ
__________
(1) سورة إبراهيم / 22
(2) سورة سبأ / 33
(3) سورة القصص / 41
(20/326)
يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1) قَال
ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّ الدُّعَاةَ عَلَيْهِمْ إِثْمُ ضَلاَلِهِمْ فِي
أَنْفُسِهِمْ، وَإِثْمٌ آخَرُ، بِسَبَبِ مَا أَضَلُّوا مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِ أُولَئِكَ شَيْءٌ، وَهَذَا مِنْ عَدْل اللَّهِ
تَعَالَى. (2)
وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ دَعَا إِلَى
ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِْثْمِ مِثْل آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ
يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْءٌ (3) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ
حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَال: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ: إِنَّا
كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ
فَهَل بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَال: نَعَمْ، ثُمَّ بَيَّنَ
هَذَا الشَّرَّ فَقَال: دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ
أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا قَال حُذَيْفَةُ: قُلْتُ: يَا
رَسُول اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، قَال: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا
وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا (4) الْحَدِيثَ. وَكُل هَذَا يُوجِبُ
عَلَى الْمُسْلِمِ الْحَذَرَ مِنْ دَعْوَةِ الْبَاطِل وَمِمَّنْ يَحْمِل
تِلْكَ الدَّعْوَةَ.
بَيَانُ مَا يُدْعَى إِلَيْهِ:
15 - أَوَّل مَا يُدْعَى إِلَيْهِ الْكَافِرُ الَّذِي لَمْ تَبْلُغْهُ
__________
(1) سورة النحل / 25
(2) تفسير ابن كثير 2 / 189
(3) حديث: " من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم. . . . . . . " أخرجه مسلم
(4 / 2060 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(4) حديث حذيفة بن اليمان، أخرجه البخاري (الفتح 13 / 35 - ط السلفية) ،
ومسلم (3 / 1475 - ط الحلبي) .
(20/326)
الدَّعْوَةُ، الإِْيمَانُ بِوُجُودِ
اللَّهِ تَعَالَى، وَتَوْحِيدُهُ، وَالتَّصْدِيقُ بِكِتَابِهِ،
وَالإِْيمَانُ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالإِْيمَانُ بِسَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ، وَرُسُلِهِ،
وَالْيَوْمِ الآْخِرِ، وَمُتَابَعَةُ أَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ،
وَاتِّبَاعُ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَتَعْظِيمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالاِلْتِزَامُ بِسَائِرِ فَرَائِضِ
الإِْسْلاَمِ وَوَاجِبَاتِهِ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالإِْقْبَال
عَلَى الأَْعْمَال الْمُسْتَحَبَّةِ، وَعَلَى مَحَاسِنِ الأَْخْلاَقِ،
وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ مِنْ شَوَائِبِ النِّفَاقِ وَالرِّيَاءِ، وَتَرْكُ
مَا كَرِهَهُ الشَّرْعُ، وَتَعَلُّمُ الْقُرْآنِ وَالأَْحْكَامِ.
16 - وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِمُعَاذِ بْنِ
جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: إِنَّكَ تَقْدُمُ عَلَى قَوْمٍ
مِنْ أَهْل الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّل مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ
عِبَادَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَل - وَفِي رِوَايَةٍ: فَادْعُهُمْ إِلَى
شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُول اللَّهِ -
فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ
خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ
- وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنْ أَطَاعُوا بِذَلِكَ - فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ
اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ
فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ. فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا، فَخُذْ مِنْهُمْ،
وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ (1) قَال ابْنُ حَجَرٍ: بَدَأَ
بِالشَّهَادَتَيْنِ لأَِنَّهُمَا أَصْل الدِّينِ الَّذِي لاَ يَصِحُّ
شَيْءٌ غَيْرُهُ إِلاَّ بِهِمَا، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَيْرَ مُوَحِّدٍ
__________
(1) حديث: إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 /
357 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 50، 51 - ط الحلبي) .
(20/327)
فَالْمُطَالَبَةُ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَيْهِ
بِكُل وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَمَنْ كَانَ
مُوَحِّدًا فَالْمُطَالَبَةُ لَهُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الإِْقْرَارِ
وَالْوَحْدَانِيَّةِ، ثُمَّ قَال: بَدَأَ بِالأَْهَمِّ فَالأَْهَمِّ،
وَذَلِكَ مِنَ التَّلَطُّفِ فِي الْخِطَابِ لأَِنَّهُ لَوْ طَالَبَهُمْ
بِالْجَمِيعِ فِي أَوَّل مَرَّةٍ لَمْ يَأْمَنِ النُّفْرَةَ. (1)
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ فَقَال: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} (2)
وَقَال تَعَالَى: {قُل هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} . (3)
وَفِي بَعْضِ الآْيَاتِ عَبَّرَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى سَبِيل اللَّهِ
فَقَال: {ادْعُ إِلَى سَبِيل رَبِّكَ} (4) وَهَذَا أَعْظَمُ مَا دَعَا
إِلَيْهِ الرُّسُل، كَمَا قَال اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْل
نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَلاَّ
تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} (5) وَقَوْل كُلٍّ مِنْ هُودٍ وَصَالِحٍ
عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: {قَال يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ
مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (6) .
وَاجِبُ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ إِلَى الْحَقِّ:
17 - مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَى دِينِ
__________
(1) فتح الباري 3 / 357
(2) سورة القصص / 87
(3) سورة يوسف / 108
(4) سورة النحل / 125
(5) سورة هود / 24، 25
(6) سورة هود / 50 - 61
(20/327)
الإِْسْلاَمِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ،
وَجَبَ عَلَيْهِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى قَبُولِهِ، وَالرِّضَا بِهِ،
وَمُتَابَعَةُ الدَّاعِي إِلَيْهِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ
سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَفَتَحَ لَهُ بِهِ بَابًا لِيَدْخُل إِلَى
مَأْدُبَتِهِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ
جَابِرٍ قَال: جَاءَتْ مَلاَئِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَائِمٌ إِلَى أَنْ قَال: فَقَالُوا: مَثَلُهُ
كَمَثَل رَجُلٍ بَنَى دَارًا، وَحَمَل فِيهَا مَأْدُبَةً، وَبَعَثَ
دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَل الدَّارَ، وَأَكَل مِنَ
الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُل الدَّارَ
وَلَمْ يَأْكُل مِنَ الْمَأْدُبَةِ فَأَوَّلُوا الرُّؤْيَا فَقَالُوا:
الدَّارُ الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ (1) وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ
الْمَدْعُوُّ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ لَهُ بِصُورَةٍ
وَاضِحَةٍ فَقَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ حُجَّةُ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ اسْتَحَقَّ عُقُوبَةَ الْمُشْرِكِينَ
وَالْكَافِرِينَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولاً} (2) ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ
مِنْ هَذِهِ الأُْمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ
وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ
النَّارِ. (3)
__________
(1) حديث جابر بن عبد الله: " جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. .
. " أخرجه البخاري (الفتح 13 / 249 - ط السلفية) .
(2) سورة الإسراء / 15
(3) حديث: " والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة. . . " أخرجه
مسلم (1 / 134 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(20/328)
وَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَجَبَ
عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَكْتَفِيَ بِالتَّسَمِّي بِالإِْسْلاَمِ، بَل عَلَيْهِ
الْعِلْمُ بِأَحْكَامِهِ وَالْعَمَل بِهَا، وَالتَّخَلُّقُ بِالأَْخْلاَقِ
الإِْسْلاَمِيَّةِ، وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى التَّخَلُّصِ مِمَّا يُنَافِي
الإِْسْلاَمَ مِنَ الاِعْتِمَادَاتِ وَالْعَادَاتِ.
مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ الإِْسْلاَمِ:
18 - مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ لاَ
يُكَلَّفُونَ بِشَيْءٍ مِنَ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، أَمَّا إِذَا
رَغِبَ أَحَدٌ مِنَ الْكُفَّارِ فِي دُخُول بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ
لِيَسْمَعَ الْقُرْآنَ، وَيَعْلَمَ مَا جَاءَ بِهِ، وَيَفْهَمَ أَحْكَامَهُ
وَأَوَامِرَهُ وَنَوَاهِيَهُ، فَيَجِبُ إِعْطَاؤُهُ الأَْمَانَ لأَِجْل
ذَلِكَ، فَإِنْ قَبِل فَهُوَ حَسَنٌ، وَإِلاَّ وَجَبَ رَدُّهُ إِلَى
مَأْمَنِهِ. قَال تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ
مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ} . (1)
أَمَّا مِنْ حَيْثُ النَّجَاةُ فِي الآْخِرَةِ، فَقَدْ قَسَّمَ الإِْمَامُ
الْغَزَالِيُّ النَّاسَ فِي شَأْنِ دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ:
الأَْوَّل: مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا بِالْمَرَّةِ، قَال: وَهَؤُلاَءِ
نَاجُونَ.
الثَّانِي: مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ عَلَى وَجْهِهَا وَلَمْ يَنْظُرْ
فِي
__________
(1) سورة التوبة / 6
(20/328)
أَدِلَّتِهَا اسْتِكْبَارًا أَوْ
إِهْمَالاً أَوْ عِنَادًا، قَال: وَهَؤُلاَءِ مُؤَاخَذُونَ.
الثَّالِثُ: مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، كَمَنْ
بَلَغَهُ اسْمُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ
يَبْلُغْهُمْ نَعْتُهُ وَصِفَتُهُ، بَل سَمِعُوا مُنْذُ الصِّبَا بِاسْمِهِ
مِنْ أَعْدَائِهِ مُتَّهَمًا بِالتَّدْلِيسِ وَالْكَذِبِ وَادِّعَاءِ
النُّبُوَّةِ قَال: فَهَؤُلاَءِ فِي مَعْنَى الصِّنْفِ الأَْوَّل (1) .
الْمُكَلَّفُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ:
19 - الإِْمَامُ أَوْلَى النَّاسِ بِإِقَامَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ،
وَذَلِكَ لأُِمُورٍ:
الأَْوَّل: أَنَّ الإِْمَامَةَ فِي شَرِيعَةِ الإِْسْلاَمِ إِنَّمَا هِيَ
لِحِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا، وَحِرَاسَةُ الدِّينِ
تَتَضَمَّنُ الْحِرْصَ عَلَى نَشْرِهِ، وَتَقْوِيَتِهِ، وَقِيَامِ الْعَمَل
بِهِ، وَاسْتِمْرَارِ كَلِمَتِهِ عَالِيَةً، وَتَتَضَمَّنُ الدِّفَاعَ
عَنْهُ ضِدَّ الشُّبُهَاتِ، وَالضَّلاَلاَتِ، الَّتِي يُلْقِيهَا
وَيَبُثُّهَا أَعْدَاءُ الدِّينِ. قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ:
__________
(1) مع الله، للشيخ محمد الغزالي ص 62، القاهرة، دار الكتب الحديثة 1380 هـ
نقلا عن فيصل التفرقة للإمام أبي حامد الغزالي، وتفسير ابن كثير عند قوله
تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا) من سورة
الإسراء 30، 31 القاهرة عيسى الحلبي، وتفسير الرازي 15 / 226، والقرطبي 8 /
74، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 84، ونهاية المحتاج 1 / 371، وشرح المنهاج
بحاشية القليوبي 1 / 120، وشرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني المسمى كفاية
الطالب الرباني 1 / 211 دار المعرفة، ومواهب الجليل 1 / 469، وحاشية
الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 200
(20/329)
" وَلِيُّ الأَْمْرِ إِنَّمَا نُصِّبَ
لِيَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَذَلِكَ هُوَ
مَقْصُودُ الْوِلاَيَةِ (1) " كَمَا أَنَّ مِنْ وَاجِبِ الإِْمَامِ
إِقَامَةُ الْجِهَادِ لِنَشْرِ الإِْسْلاَمِ، وَالْجِهَادُ فِي ذَلِكَ
نَوْعٌ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ.
الثَّانِي: أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ هُوَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الرَّاجِحِ، وَفُرُوضُ الْكِفَايَاتِ عَلَى
الإِْمَامِ الْقِيَامُ بِهَا أَوْ تَكْلِيفُ مَنْ يَقُومُ بِهَا،
كَتَكْلِيفِهِ لِلْقُضَاةِ، وَالأَْئِمَّةِ، وَالْمُؤَذِّنِ، وَأَهْل
الْجِهَادِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ مَا حَصَل لِلإِْمَامِ مِنَ التَّمْكِينِ فِي الأَْرْضِ
وَنُفُوذِ الْكَلِمَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ
صَالِحًا فِي نَفْسِهِ مُحَاوِلاً الإِْصْلاَحَ جَهْدَهُ، لِقَوْل اللَّهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ
اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَْرْضِ
أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ
وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُْمُورِ} . (2)
20 - وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ مُكَلَّفٌ بِهَا كُل مُسْلِمٍ
وَمُسْلِمَةٍ عَلَى سَبِيل الْوُجُوبِ الْكِفَائِيِّ أَوِ الْعَيْنِيِّ،
__________
(1) السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، بتحقيق محمد المبارك ص 65
بيروت. دار الكتب العربية 1386هـ.
(2) سورة الحج / 40، 41، وانظر تفسير القرطبي 1 / 73
(20/329)
فَلَيْسَتْ خَاصَّةً بِالْعُلَمَاءِ
الَّذِينَ بَلَغُوا فِي الْعِلْمِ الْمَرَاتِبَ الْعَالِيَةَ، وَإِنَّمَا
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي عَالِمًا بِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ،
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَضَّرَ اللَّهُ
امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ (1) . وَقَوْلِهِ:
بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً (2) وَقَال بَعْدَ أَنْ خَطَبَ فِي حَجَّةِ
الْوَدَاعِ: لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ. (3)
فَالْمُسْلِمُ يَدْعُو إِلَى أَصْل الإِْسْلاَمِ، وَإِلَى أَصْل الأُْمُورِ
الظَّاهِرَةِ مِنْهُ كَالإِْيمَانِ بِاللَّهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ،
وَكُتُبِهِ، وَالْيَوْمِ الآْخِرِ، وَكَفِعْل الصَّلاَةِ، وَأَدَاءِ
الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِلَى نَحْوِ
تَرْكِ الْمَعَاصِي الظَّاهِرَةِ مِنَ الزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ،
وَالْعُقُوقِ، وَالْفُحْشِ فِي الْقَوْل. وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ
يَدْعُوَ إِلَى شَيْءٍ يَجْهَلُهُ، لِئَلاَّ يَكُونَ عَلَيْهِ إِثْمُ مَنْ
يُضِلُّهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَيَخْتَصُّ أَهْل الْعِلْمِ بِالدَّعْوَةِ
إِلَى تَفَاصِيل ذَلِكَ، وَكَشْفِ الشُّبَهِ، وَجِدَال أَصْحَابِهَا،
وَرَدِّ غُلُوِّ الْغَالِينَ، وَانْتِحَال الْمُبْطِلِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ،
وَلِغَيْرِ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا الدَّعْوَةُ إِلَى مَسَائِل جُزْئِيَّةٍ
إِذَا عَلِمُوهَا وَأَصْبَحُوا بِهَا عَلَى بَصِيرَةٍ، وَلاَ يُشْتَرَطُ
لِذَلِكَ التَّبَحُّرُ فِي الْعِلْمِ
__________
(1) حديث: " نضر الله امرأ سمع منا شيئًا. . . " أخرجه الترمذي (5 / 34 - ط
الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود، وقال: " حسن صحيح ".
(2) حديث: " بلغوا عني ولو آية " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 496 - ط
السلفية) من حديث عبد الله بن عمرو.
(3) حديث: " ليبلغ الشاهد الغائب " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 158 - ط
السلفية) من حديث أبي بكرة.
(20/330)
الدِّينِيِّ بِجَمِيعِ أَقْسَامِهِ،
فَكُلٌّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ يَدْعُو إِلَى مَا هُوَ عَالِمٌ بِهِ. قَال
الْغَزَالِيُّ: " وَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ فِي كُل مَسْجِدٍ وَمَحَلَّةٍ مِنَ
الْبَلَدِ فَقِيهٌ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ، وَكَذَا فِي كُل قَرْيَةٍ
" ثُمَّ قَال: " وَكُل عَامِّيٍّ عَرَفَ شُرُوطَ الصَّلاَةِ فَعَلَيْهِ
أَنْ يُعَرِّفَ غَيْرَهُ، وَإِلاَّ فَهُوَ شَرِيكٌ فِي الإِْثْمِ. .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الإِْنْسَانَ لاَ يُولَدُ عَالِمًا بِالشَّرْعِ،
وَإِنَّمَا يَجِبُ التَّبْلِيغُ عَلَى أَهْل الْعِلْمِ. فَكُل مَنْ
تَعَلَّمَ مَسْأَلَةً وَاحِدَةً فَهُوَ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ بِهَا.
وَالإِْثْمُ - أَيْ فِي تَرْكِ التَّبْلِيغِ - عَلَى الْفُقَهَاءِ أَشَدُّ
لأَِنَّ قُدْرَتَهُمْ فِيهِ أَظْهَرُ، وَهُوَ بِصِنَاعَتِهِمْ أَلْيَقُ ".
(1)
شُرُوطُ الدَّاعِيَةِ:
21 - يُشْتَرَطُ فِي الدَّاعِيَةِ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا (أَيْ مُسْلِمًا
عَاقِلاً بَالِغًا) وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا عَادِلاً، وَلاَ خِلاَفَ فِي
أَنَّ الْمَرْأَةَ مُكَلَّفَةٌ بِالدَّعْوَةِ، مُشَارِكَةٌ لِلرَّجُل
فِيهَا.
وَرَاجِعْ هُنَا مُصْطَلَحَ: (الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ) (ف 4) .
أَخْلاَقُ الدَّاعِيَةِ وَآدَابُهُ:
22 - يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَخْلاَقُ الدَّاعِيَةِ مُنْسَجِمَةٌ
وَمُتَّفِقَةٌ مَعَ مَضْمُونِ الدَّعْوَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَمَثَّل فِي
الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَفِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَمُنَاسَبَةُ
ذَلِكَ
__________
(1) إحياء علوم الدين 2 / 342، القاهرة، المكتبة التجارية 1955 م.
(20/330)
تَظْهَرُ مِنْ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ:
الأَْوَّل: أَنَّ فِي التَّخَلُّقِ بِأَخْلاَقِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
الْخَيْرَ كُلَّهُ، مِنَ الْكَرَمِ، وَالسَّمَاحَةِ، وَالْوَفَاءِ،
وَالصِّدْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْخْلاَقِ الإِْسْلاَمِيَّةِ.
الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْتَارَ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدَعْوَةِ الإِْسْلاَمِ
أَدَّبَهُ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهُ، وَجَعَلَهُ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ،
وَكَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ تَخَلُّقَ الدَّاعِي بِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ
وَاصْطِبَاغَهُ بِصِبْغَتِهِ، يُعِينُهُ عَلَى الدَّعْوَةِ، فَإِنَّهُ
يُيَسِّرُ عَلَى الْمَدْعُوِّينَ قَبُول الدَّعْوَةِ، إِذْ يَرَوْنَ
دَاعِيَهُمْ مُمْتَثِلاً لِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَرَ بِأَمْرٍ بَدَأَ فِيهِ
بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، كَمَا قَال فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ:
أَلاَ وَإِنَّ كُل دَمٍ وَمَالٍ وَمَأْثَرَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ أَوَّل
دَمٍ يُوضَعُ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
ثُمَّ قَال: أَلاَ وَإِنَّ كُل رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ،
وَإِنَّ اللَّهَ قَضَى أَنَّ أَوَّل رِبًا يُوضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. (1)
الرَّابِعُ: أَنَّ مُوَافَقَةَ أَخْلاَقِ الدَّاعِي لِمَضْمُونِ دَعْوَتِهِ
يُؤَكِّدُ مَضْمُونَ الدَّعْوَةِ وَيُقَوِّيهِ فِي نُفُوسِ
__________
(1) حديث: " ألا وإن كل دم ومال ومأثرة. . . " أخرجه أحمد (5 / 73 - ط
الميمنية) من حديث أبي قرة الرقاشي عن عمه، والبزار كما في السيرة النبوية
لابن كثير (4 / 403 - نشر دار إحياء التراث العربي) من حديث عبد الله بن
عمر، وفي كل منهما مقال، لكن يقوي أحدهما الآخر.
(20/331)
الْمَدْعُوِّينَ وَالأَْتْبَاعِ، فَإِنَّهُ
يَكُونُ مَثَلاً حَيًّا لِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ، وَنَمُوذَجًا عَمَلِيًّا
يَحْتَذِيهِ الأَْتْبَاعُ، وَيَخْرُجُ فِي أَنْفُسِهِمْ عَنْ أَنْ يَكُونَ
مَضْمُونُ الدَّعْوَةِ أَمْرًا خَيَالِيًّا بَعِيدًا عَنِ الْوَاقِعِ.
هَذَا بِالإِْضَافَةِ إِلَى أَنَّ الْمَدْعُوَّ يَتَعَلَّمُ مِنْ أَخْلاَقِ
الدَّاعِيَةِ مِنَ التَّفَاصِيل مَا قَدْ لاَ تُبَلِّغُهُ الدَّعْوَةُ
الْقَوْلِيَّةُ.
وَلَوْ أَنَّ أَخْلاَقَ الدَّاعِي كَانَتْ عَلَى خِلاَفِ مَا يَدْعُو
إِلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ تَكْذِيبًا ضِمْنِيًّا لِدَعْوَتِهِ، وَإِضْعَافًا
لَهَا فِي نُفُوسِ الْمَدْعُوِّينَ وَالأَْتْبَاعِ، وَالْمَعْصِيَةُ
قَبِيحَةٌ مِنْ كُل أَحَدٍ، وَلَكِنَّهَا مِنَ الدَّاعِيَةِ أَشَدُّ
قُبْحًا وَسُوءًا. وَهُوَ مُهْلِكٌ لِدَعْوَتِهِ، قَاطِعٌ لِلنَّاسِ عَنِ
الْقَبُول مِنْهُ.
وَهَذَا الْقَوْل صَادِقٌ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالأَْخْلاَقِ وَالآْدَابِ
الإِْسْلاَمِيَّةِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ.
الْخَامِسُ: التَّحَلِّي بِمَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ، وَمَحَاسِنِ
الصِّفَاتِ.
عَلَى الدُّعَاةِ أَنْ يَزِيدُوا عِنَايَتَهُمْ بِأَخْلاَقٍ وَصِفَاتٍ
مُعَيَّنَةٍ خَاصَّةٍ، لِمَا لَهَا مِنْ مِسَاسٍ بِالدَّعْوَةِ يُؤَدِّي
إِلَى نَجَاحِهَا، كَالصَّبْرِ وَالتَّوَاضُعِ، وَالرَّحْمَةِ وَاللِّينِ،
وَالرِّفْقِ بِالْمَدْعُوِّينَ، وَالصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ، وَالْحُنْكَةِ
وَالْفِطْنَةُ فِي التَّعَامُل مَعَ مَنْ يَدْعُوهُمْ، وَمَعَ ظُرُوفِ
الدَّعْوَةِ، وَرِعَايَةِ الضُّعَفَاءِ وَالْعَامَّةِ عِنْدَ التَّعَامُل
مَعَهُمْ، وَالْفِطْنَةِ فِي التَّعَامُل مَعَ أَهْل النِّفَاقِ.
(20/331)
وَكَذَلِكَ التَّعَاوُنُ وَعَدَمُ
الاِخْتِلاَفِ بَيْنَ الدُّعَاةِ، مَعَ التَّحَابِّ وَالتَّوَاصُل
وَالتَّنَاصُحِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، حَتَّى تُؤْتِيَ الدَّعْوَةُ أُكُلَهَا،
وَالْحَذَرُ مِنْ أَهْل النِّفَاقِ، وَمِمَّنْ يُحَاوِلُونَ إِفْسَادَ
ذَاتِ الْبَيْنِ بَيْنَ الدُّعَاةِ.
طُرُقُ الدَّعْوَةِ وَأَسَالِيبُهَا:
23 - طُرُقُ الدَّعْوَةِ وَأَسَالِيبُهَا تَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ ظُرُوفِ
الدَّعْوَةِ، وَبِاخْتِلاَفِ أَحْوَال الْمَدْعُوِّينَ وَالدُّعَاةِ،
وَذَلِكَ لأَِنَّ الدَّعْوَةَ تَعَامُلٌ مَعَ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ،
وَالنُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ مُخْتَلِفَةٌ فِي طَبَائِعِهَا
وَأَمْزِجَتِهَا، وَمَا يُؤَثِّرُ فِي إِنْسَانٍ قَدْ لاَ يُؤَثِّرُ فِي
غَيْرِهِ، وَمَا يُؤَثِّرُ فِي إِنْسَانٍ فِي حَالٍ قَدْ لاَ يُؤَثِّرُ
فِيهِ فِي حَالٍ أُخْرَى، فَلاَ بُدَّ لِلدَّاعِيَةِ مِنْ مُرَاعَاةِ
ذَلِكَ كُلِّهِ وَالْعَمَل بِحَسَبِهِ، وَيَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ قَوْل
اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيل رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَل عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ} (1) وَالْحَكِيمُ - كَمَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ -
الْمُتْقِنُ لِلأُْمُورِ.
24 - وَمِنَ الأَْسَالِيبِ الرَّئِيسِيَّةِ فِي الدَّعْوَةِ الَّتِي سَارَ
عَلَيْهَا النَّبِيُّونَ وَعَمِل بِهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَدَلَّتْ
عَلَيْهَا حُجَجُ التَّجَارِبِ:
1 - التَّمَسُّكُ بِالْحَقِّ وَالصَّوَابِ فِي وَسَائِل
__________
(1) سورة النحل / 125
(20/332)
الدَّعْوَةِ، فَلاَ يَسْلُكْ وَسَائِل
غَيْرَ مَشْرُوعَةٍ.
2 - التَّدَرُّجُ فِي الدَّعْوَةِ.
3 - التَّرَيُّثُ وَالتَّمَهُّل وَعَدَمُ اسْتِعْجَال النَّتَائِجِ قَبْل
أَدَائِهَا.
4 - التَّصَدِّي لِلشُّبُهَاتِ الَّتِي يَطْرَحُهَا أَعْدَاءُ الدِّينِ
لِلتَّشْكِيكِ فِي الدَّعْوَةِ، أَوِ الدُّعَاةِ، وَإِزَالَةُ تِلْكَ
الشُّبُهَاتِ.
5 - تَنْوِيعُ أَسَالِيبِ الدَّعْوَةِ بِاسْتِخْدَامِ التَّرْغِيبِ
وَالتَّرْهِيبِ.
6 - الاِسْتِفَادَةُ مِنَ الْفُرَصِ الْمُتَاحَةِ لِتَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ.
7 - تَقْدِيمُ النَّفْعِ، وَبَذْل الْمَعْرُوفِ لِكُل مَنْ يَحْتَاجُ
إِلَيْهِ، كَإِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، وَكِسْوَةِ الْعَارِي، وَرِعَايَةِ
الْيَتِيمِ، وَمَعُونَةِ الْمُضْطَرِّ.
8 - إِنْشَاءُ الْمَرَاكِزِ التَّعْلِيمِيَّةِ لِيُتَابَعَ الدَّاخِل فِي
الإِْسْلاَمِ، بِالتَّرْبِيَةِ، وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ،
وَسِيرَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَتَفْقِيهِهِ فِي الدِّينِ،
وَاسْتِئْصَال بَقَايَا الشِّرْكِ وَالْجَاهِلِيَّةِ، وَأَخْلاَقِهِمَا،
وَعَادَاتِهِمَا، وَآدَابِهِمَا، الْمُخَالِفَةِ لِدِينِ اللَّهِ.
وَسَائِل الدَّعْوَةِ:
25 - وَسَائِل الدَّعْوَةِ مُتَنَوِّعَةٌ، فَكُل وَسِيلَةٍ تُسَاعِدُ عَلَى
تَحْقِيقِ أَهْدَافِ الدَّعْوَةِ يُمْكِنُ اتِّخَاذُهَا لِذَلِكَ، مَا لَمْ
تَكُنْ مُحَرَّمَةً شَرْعًا.
وَالْوَسَائِل الرَّئِيسِيَّةُ أَنْوَاعٌ. فَمِنْهَا:
1 - التَّبْلِيغُ بِالْقَوْل، وَهُوَ الأَْصْل فِي وَسَائِل
(20/332)
الدَّعْوَةِ. وَقَدْ قَال تَعَالَى:
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِل صَالِحًا
وَقَال إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) . وَيَكُونُ ذَلِكَ بِأُمُورٍ
أَهَمُّهَا:
- قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَبَيَانُ مَعَانِيهِ، وَالْخُطَبُ،
وَالْمُحَاضَرَاتُ، وَالنَّدَوَاتُ، وَمَجَالِسُ التَّذْكِيرِ،
وَالدُّرُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ وَخَارِجِهَا، وَيَكُونُ بِزِيَارَاتِ
الْمَدْعُوِّينَ، وَاسْتِغْلاَل التَّجَمُّعَاتِ.
- وَشَبِيهٌ بِالْقَوْل الْكِتَابَةُ، كَمَا فَعَل النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَعْوَةِ الْمُلُوكِ، كَمَا اسْتَعْمَلَهُ
الْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِهِ، وَيُمْكِنُ الإِْفَادَةُ مِنْ وَسَائِل
الإِْعْلاَمِ الْعَدِيدَةِ، كَالإِْذَاعَاتِ الْمَسْمُوعَةِ،
وَالْمَرْئِيَّةِ، وَالصِّحَافَةِ، وَالْكُتُبِ وَالْمَنْشُورَاتِ،
وَغَيْرِهَا.
2 - التَّبْلِيغُ عَنْ طَرِيقِ الْقُدْوَةِ الْحَسَنَةِ، وَالسِّيرَةِ
الْحَمِيدَةِ، وَالأَْخْلاَقِ الْفَاضِلَةِ، وَالتَّمَسُّكِ بِأَهْدَابِ
الدِّينِ.
3 - الْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ، لأَِنَّهُ وَسِيلَةٌ لِحِمَايَةِ
الدَّعْوَةِ، وَمُوَاجَهَةِ الْمُتَصَدِّينَ لَهَا.
أَمَّا الَّذِينَ يَعِيشُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي سَلاَمٍ، فَإِنَّ
الإِْسْلاَمَ لاَ يَنْهَى عَنْ بِرِّهِمْ وَمَوَدَّتِهِمْ، وَيُمْكِنُ أَنْ
يَقِفُوا عَلَى مَحَاسِنِ الإِْسْلاَمِ بِاخْتِلاَطِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ.
ثَانِيًا:
الدَّعْوَةُ (إِلَى الطَّعَامِ)
26 - الدَّعْوَةُ وَالدِّعْوَةُ وَالْمَدْعَاةُ وَالْمِدْعَاةُ مَا
__________
(1) سورة فصلت / 33
(20/333)
دَعَوْتَ إِلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ.
وَخَصَّ اللِّحْيَانِيُّ بِالدَّعْوَةِ الْوَلِيمَةَ، (1) إِلاَّ أَنَّ
الْمَشْهُورَ أَنَّ الدَّعْوَةَ أَعَمُّ مِنَ الْوَلِيمَةِ. وَبِمَعْنَى
الدَّعْوَةِ الْمَأْدُبَةُ.
قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: الْمَأْدُبَةُ كُل طَعَامٍ صُنِعَ لِدَعْوَةٍ أَوْ
عُرْسٍ. (2)
وَيُطْلِقُ الْعَرَبُ عَلَى أَنْوَاعِ الدَّعَوَاتِ إِلَى الطَّعَامِ
أَسْمَاءً خَاصَّةً يُحْصِيهَا الْفُقَهَاءُ عَادَةً أَوَّل بَابِ
الْوَلِيمَةِ، قَال الْبُهُوتِيُّ: إِنَّهَا إِحْدَى عَشْرَةَ:
1 - الْوَلِيمَةُ: وَهِيَ طَعَامُ الْعُرْسِ، وَقِيل: هِيَ اسْمٌ لِكُل
دَعْوَةِ طَعَامٍ لِسُرُورٍ حَادِثٍ، فَتَكُونُ عَلَى هَذَا النَّوْعِ
مُرَادِفَةً لِلدَّعْوَةِ، إِلاَّ أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا فِي طَعَامِ
الْعُرْسِ أَكْثَرُ (3) . وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِجَعْل الْوَلِيمَةِ
قَبْل الدُّخُول بِزَمَنٍ يَسِيرٍ. وَالأَْعْرَافُ تَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ.
(4)
2 - الشَّنْدَخِيَّةُ: وَهِيَ طَعَامُ الإِْمْلاَكِ عَلَى الزَّوْجَةِ،
وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَسٌ مُشَنْدَخٌ أَيْ يَتَقَدَّمُ
غَيْرَهُ، لأَِنَّ طَعَامَ الإِْمْلاَكِ يَتَقَدَّمُ الدُّخُول.
3 - الإِْعْذَارُ وَالْعَذِيرَةُ وَالْعَذْرَةُ وَالْعَذِيرُ: وَهِيَ
الدَّعْوَةُ إِلَى طَعَامٍ يُصْنَعُ عِنْدَ خِتَانِ الْمَوْلُودِ.
__________
(1) لسان العرب.
(2) لسان العرب.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 221، كشاف القناع 5 / 164، الدسوقي 2 / 337
(4) كشاف القناع 5 / 165، والقليوبي على شرح المنهاج 3 / 294
(20/333)
4 - الْخُرْسُ أَوِ الْخُرْسَةُ: وَهُوَ
الإِْطْعَامُ عِنْدَ الْوِلاَدَةِ، لِخَلاَصِ الْوَالِدَةِ وَسَلاَمَتِهَا
مِنَ الطَّلْقِ.
5 - الْعَقِيقَةُ: الذَّبْحُ لِلْمَوْلُودِ يَوْمَ سَابِعِهِ.
6 - الْوَكِيرَةُ: وَهِيَ الطَّعَامُ الَّذِي يُصْنَعُ بِمُنَاسَبَةِ
الْبِنَاءِ، قَال النَّوَوِيُّ: أَيِ الْمَسْكَنُ الْمُتَجَدِّدُ،
سُمِّيَتْ بِذَلِكَ مِنَ الْوَكْرِ، وَهُوَ الْمَأْوَى وَالْمُسْتَقَرُّ.
7 - النَّقِيعَةُ: وَهِيَ مَا يُصْنَعُ مِنَ الطَّعَامِ لِلْغَائِبِ إِذَا
قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ طَوِيلاً كَانَ أَوْ قَصِيرًا، وَفِي كُتُبِ
الشَّافِعِيَّةِ اسْتِحْبَابُهَا لِلْعَائِدِ مِنَ الْحَجِّ (1) .
8 - التُّحْفَةُ: وَهِيَ الطَّعَامُ الَّذِي يَصْنَعُهُ لِغَيْرِهِ
الْقَادِمِ الزَّائِرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِمًا مِنْ سَفَرٍ.
9 - الْحِذَاقُ. وَهُوَ مَا يُصْنَعُ مِنَ الطَّعَامِ عِنْدَ حِذَاقِ
الصَّبِيِّ، وَهُوَ يَوْمُ خَتْمِهِ لِلْقُرْآنِ.
10 - الْوَضِيمَةُ: وَهِيَ طَعَامُ الْمَأْتَمِ. وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ:
هِيَ لِلْمُصِيبَةِ.
11 - وَالشِّنْدَاخُ: وَهُوَ الْمَأْكُول مِنْ خَتْمَةِ الْقَارِئِ.
12 - وَالْعَتِيرَةُ: وَهِيَ الذَّبِيحَةُ تُذْبَحُ أَوَّل يَوْمٍ مِنْ
رَجَبٍ (2) .
وَقَدْ يَجْرِي الْعُرْفُ بِدَعَوَاتٍ أُخْرَى، غَيْرِ مُسَمَّاةٍ، وَقَدْ
ذَكَرَ مِنْهَا صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ نَقْلاً عَنْ كُتُبِ
الشَّافِعِيَّةِ الدَّعْوَةَ لِلإِْخَاءِ.
__________
(1) القليوبي على شرح المنهاج 2 / 151
(2) حاشية الدسوقي 2 / 337، والقليوبي 3 / 294 وغيرهم، كشاف القناع 5 / 165
وما بعدها.
(20/334)
وَفِي الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ بَعْضُ
الاِخْتِلاَفِ فِي أَسْمَاءِ بَعْضِ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ وَيُنْظَرُ ذَلِكَ
فِي مُصْطَلَحَاتِ: (وَلِيمَةٌ، وَعَقِيقَةٌ، وَخِتَانٌ، وَغَيْرُهَا) .
أَمَّا مَا تَخْتَصُّ بِهِ دَعْوَةُ الْعُرْسِ وَالْعَقِيقَةِ
وَغَيْرِهِمَا مِنَ الأَْحْكَامِ فَيُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِهِ، وَنَذْكُرُ
هُنَا أَحْكَامَ الدَّعَوَاتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّعْوَةِ بِصِفَةٍ
عَامَّةٍ.
مُسْقِطَاتُ وُجُوبِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ.
27 - يَسْقُطُ وُجُوبُ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ بِأُمُورٍ مِنْهَا:
1 - أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي ظَالِمًا أَوْ فَاسِقًا، أَوْ مُبْتَدِعًا.
2 - أَنْ يَكُونَ مَال الدَّاعِي يَخْتَلِطُ فِيهِ الْحَلاَل بِالْحَرَامِ.
3 - إِذَا كَانَ الدَّاعِي امْرَأَةً وَلَمْ تُؤْمَنِ الْخَلْوَةُ.
4 - إِذَا كَانَ الدَّاعِي غَيْرَ مُسْلِمٍ، فَيَجُوزُ إِجَابَتُهُ إِذْا
كَانَ يُرْجَى إِسْلاَمُهُ، أَوْ كَانَ جَارًا، أَوْ كَانَتْ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الدَّاعِي قَرَابَةٌ.
5 - أَنْ لاَ يَكُونَ الدَّاعِي قَدْ عَيَّنَ بِدَعْوَتِهِ مَنْ يُرِيدُ
حُضُورَهُ، وَإِنَّمَا عَمَّمَ الدَّعْوَةَ.
6 - أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ بِلَفْظٍ غَيْرِ صَرِيحٍ، كَقَوْلِهِ: إِنْ
شِئْتَ فَاحْضُرْ.
7 - أَنْ يَخْتَصَّ بِالدَّعْوَةِ الأَْغْنِيَاءَ وَيَتْرُكَ الْفُقَرَاءَ.
8 - أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ فِي الْمَدْعُوِّينَ مَنْ يَتَأَذَّى
بِهِ الْمَدْعُوُّ، لأَِمْرٍ دُنْيَوِيٍّ أَوْ دِينِيٍّ.
(20/334)
9 - أَنْ يَكُونَ فِي الدَّعْوَةِ مُنْكَرٌ
يَعْلَمُ بِهِ الْمَدْعُوُّ قَبْل حُضُورِهِ.
10 - تَكَرُّرُ الدَّعْوَةِ لِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فَأَكْثَرَ.
11 - أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي مَدِينًا لِلْمَدْعُوِّ.
12 - أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ دَاعِيَانِ فَأَكْثَرُ، وَلاَ يَتَأَتَّى
إِجَابَةُ الدَّعَوَاتِ كُلِّهَا فَيُجِيبُ الأَْوَّل.
كَمَا تَسْقُطُ إِجَابَةُ الدَّاعِي لأَِعْذَارٍ خَاصَّةٍ بِالْمَدْعُوِّ،
كَأَنْ يَكُونَ مَرِيضًا، أَوْ مَشْغُولاً بِحَقٍّ لِغَيْرِهِ، أَوْ أَنْ
يَكُونَ فِي الْمَكَانِ كَثْرَةُ زِحَامٍ، أَوْ كَوْنُ الْمَدْعُوِّ
قَاضِيًا وَالدَّاعِي خَصْمًا، أَوْ لاَ يُقِيمُ الدَّعْوَةَ لَوْلاَ
الْقَاضِي - مَعَ تَفْصِيلٍ فِي الْمَذَاهِبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الْقَاضِي - يُنْظَرُ فِي (أَدَبُ الْقَاضِي) وَفِي (وَلِيمَةٌ) .
كَمَا تَسْقُطُ إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ بِإِعْفَاءِ الدَّاعِي، كَسَائِرِ
حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ. (1)
وَفِي كُل هَذَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَلِيمَةٌ،
خِطْبَةٌ، نِكَاحٌ، عَقِيقَةٌ، ضِيَافَةٌ) .
28 - مِنَ الآْدَابِ الَّتِي يُرَاعِيهَا الدَّاعِي فِي دَعْوَتِهِ:
1 - أَنْ يُعَيِّنَ مَنْ يَدْعُوهُ.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 221 - 222، الفتاوى الهندية 5 / 342 - 343، كشاف القناع
5 / 166، 167 - 168، والمغني 5 / 11، 7 / 3 - 9 / 79 - 80، وحاشية الدسوقي
2 / 337، 338، والآداب الشرعية 1 / 333، والقليوبي 3 / 295 - 296
(20/335)
2 - وَأَنْ يَخُصَّ بِدَعْوَتِهِ أَهْل
الصَّلاَحِ وَالتَّقْوَى.
3 - وَأَنْ لاَ يُسْرِفَ فِيمَا يُقَدِّمُهُ وَلاَ يُقَتِّرَ.
4 - وَأَنْ لاَ يُلِحَّ بِالْفِطْرِ عَلَى مَنْ كَانَ صَائِمًا.
5 - وَأَنْ يَتَبَسَّطَ مَعَ الْمَدْعُوِّينَ فِي الْحَدِيثِ،
وَيُشَارِكَهُمْ فِي الطَّعَامِ.
6 - وَأَنْ لاَ يَمْدَحَ طَعَامَهُ.
7 - وَأَنْ يُكْرِمَ أَفْضَل الْمَدْعُوِّينَ فِي التَّقْدِيمِ
وَالتَّوْدِيعِ.
وَمِنَ الآْدَابِ الَّتِي يُرَاعِيهَا الْمَدْعُوُّ:
1 - أَنْ يَنْوِيَ بِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ تَكْرِيمَ الدَّاعِي.
2 - وَأَنْ لاَ يَدْخُل بَيْتَ الدَّاعِي إِلاَّ بِإِذْنِهِ.
3 - وَأَنْ لاَ يَتَصَدَّرَ الْمَجْلِسَ، وَإِذَا عَيَّنَ لَهُ صَاحِبُ
الدَّعْوَةِ مَكَانًا مُعَيَّنًا فَلاَ يَتَعَدَّاهُ.
4 - وَأَنْ لاَ يَمْتَنِعَ مِنَ الطَّعَامِ إِلاَّ إِذَا كَانَ صَائِمًا
صَوْمًا وَاجِبًا.
5 - وَأَنْ لاَ يُسَارِعَ إِلَى تَنَاوُل الطَّعَامِ.
6 - وَأَنْ يُرَاعِيَ الآْدَابَ الْعَامَّةَ فِي الأَْكْل.
7 - وَأَنْ يُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ الْمُحْتَاجَ مِنَ الْحَاضِرِينَ.
فَيَتْرُكَ لَهُ مَا يُلاَئِمُهُ.
8 - أَنْ لاَ يُعَجِّل بِرَفْعِ يَدِهِ مِنَ الطَّعَامِ حَتَّى يَفْرُغَ
الْقَوْمُ.
9 - أَنْ يَدْعُوَ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ بَعْدَ الْفَرَاغِ.
10 - وَأَنْ لاَ يُطِيل الْجُلُوسَ بَعْدَ الطَّعَامِ.
التَّطَفُّل عَلَى الدَّعَوَاتِ:
29 - لاَ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُل إِلَى الْوَلاَئِمِ وَغَيْرِهَا مِنَ
(20/335)
الدَّعَوَاتِ مَنْ لَمْ يُدْعَ إِلَيْهَا،
فَإِنَّ فِي هَذَا دَنَاءَةً وَمَذَلَّةً، وَلاَ يَلِيقُ ذَلِكَ
بِالْمُؤْمِنِ، وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا
مَنْ دَخَل عَلَى غَيْرِ دَعْوَةٍ دَخَل سَارِقًا وَخَرَجَ مُغِيرًا
الْحَدِيثَ (1) .
وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ يُسَمَّى الطُّفَيْلِيَّ.
وَعَلَى هَذَا فَالتَّطَفُّل حَرَامٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، مَا
لَمْ يَكُنْ غَيْرُ الْمَدْعُوِّ تَابِعًا لِمَدْعُوٍّ ذِي قَدْرٍ يُعْلَمُ
أَنَّهُ لاَ يَحْضُرُ وَحْدَهُ عَادَةً، فَلاَ يَحْرُمُ، لأَِنَّهُ
مَدْعُوٌّ حُكْمًا بِدَعْوَةِ مَتْبُوعِهِ، وَكَرِهَ أَحْمَدُ أَنْ
يَتَعَمَّدَ الرَّجُل الْقَوْمَ حِينَ وَضْعِ الطَّعَامِ فَيَفْجَأَهُمْ،
وَإِنْ فَجَأَهُمْ بِلاَ تَعَمُّدِ أَكَل نَصًّا، وَأَطْلَقَ فِي
الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِ الْكَرَاهَةَ إِلاَّ مَنْ عَادَتُهُ
السَّمَاحَةُ. (2)
وَلَوْ أَنَّ أَحَدًا أَوْ جَمَاعَةً دُعُوا فَتَبِعَهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ
مَدْعُوًّا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَنْهَوْهُ وَلاَ أَنْ يَأْذَنُوا
لَهُ، وَيَلْزَمُهُمْ إِعْلاَمُ صَاحِبِ الطَّعَامِ، لِمَا رَوَى أَبُو
مَسْعُودٍ الأَْنْصَارِيُّ: أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَْنْصَارِ دَعَا
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَامِسَ خَمْسَةٍ، فَلَمَّا
جَاءُوا اتَّبَعَهُمْ رَجُلٌ لَمْ يُدْعَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْبَابَ قَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا اتَّبَعَنَا،
فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ، وَإِنْ شِئْتَ رَجَعَ. قَال. بَل آذَنُ
لَهُ يَا رَسُول اللَّهِ (3) .
__________
(1) حديث: " من دخل على غير دعوة دخل سارقًا وخرج مغيرًا ". أخرجه أبو داود
(4 / 125 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وأعله أبو داود لجهالة أحد رواته.
(2) كشاف القناع 5 / 175، والمغني 5 / 17، والشرح الكبير للدردير 2 / 338،
والآداب الشرعية 3 / 187
(3) حديث أبي مسعود الأنصاري: أخرجه البخاري (الفتح 9 / 559 - ط السلفية) ،
ومسلم (3 / 1608 - ط الحلبي) بألفاظ متقاربة.
(20/336)
الدَّعْوَةُ بِمَعْنَى النِّدَاءِ أَوْ
طَلَبِ الْحُضُورِ:
30 - وَهَذَا فِي اللُّغَةِ كَثِيرٌ بَل هُوَ الأَْصْل فِي الدَّعْوَةِ
بِالْمَعَانِي الأُْخْرَى، وَمِنْهُ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِذَا
دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَْرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} (1)
وَقَوْلُهُ: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} (2) أَيْ
يُنَادِيكُمْ لِتَخْرُجُوا مِنْ قُبُورِكُمْ فَتَقُومُونَ. يُقَال
دَعَوْتُهُ دَعْوَةً وَدُعَاءً: أَيْ نَادَيْتُهُ. وَيَكُونُ مِنَ
الأَْعْلَى لِلأَْدْنَى كَمَا فِي الآْيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، وَمِنَ
الأَْدْنَى لِلأَْعْلَى، وَمِنَ الْمُسَاوِي لِلْمُسَاوِي، بِخِلاَفِ
الدُّعَاءِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ، فَلاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنَ
الأَْدْنَى لِلأَْعْلَى.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلدَّعْوَةِ:
31 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلِيمَةُ الْعُرْسِ سُنَّةٌ وَفِيهَا مَثُوبَةٌ
عَظِيمَةٌ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: وَلِيمَةُ الْعُرْسِ مَنْدُوبَةٌ، وَقِيل
وَاجِبَةٌ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلِيمَةُ الْعُرْسِ وَغَيْرِهِ سُنَّةٌ
لِثُبُوتِهَا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلاً وَفِعْلاً.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الأَْصْل فِي جَمِيعِ الدَّعَوَاتِ الْمُسَمَّاةِ
وَغَيْرِ الْمُسَمَّاةِ أَنَّهَا جَائِزَةٌ، أَيْ مُبَاحَةٌ، لأَِنَّ
__________
(1) سورة الروم / 25
(2) سورة الإسراء / 52
(20/336)
الأَْصْل فِي الأَْشْيَاءِ الإِْبَاحَةُ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ وَهِيَ: وَلِيمَةُ
الْعُرْسِ فَإِنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَقِيل وَاجِبَةٌ،
وَالْعَقِيقَةُ فَإِنَّهَا سُنَّةٌ، وَالْمَأْتَمُ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ
وَهُوَ اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ فِي الْمَوْتِ.
وَفِي الْمُغْنِي خِلاَفُ ذَلِكَ، قَال: حُكْمُ الدَّعْوَةِ لِلْخِتَانِ
وَسَائِرِ الدَّعَوَاتِ غَيْرِ الْوَلِيمَةِ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ. (1)
وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل وَالْخِلاَفِ: (وَلِيمَةٌ، عَقِيقَةٌ، جِنَازَةٌ،
خِتَانٌ) .
تَكْرَارُ الدَّعْوَةِ:
31 م - قَال الْحَنَفِيَّةُ لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَدْعُوَ لِلْوَلِيمَةِ
ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ يَنْقَطِعُ الْعُرْسُ بَعْدَ ذَلِكَ
وَالْوَلِيمَةُ، وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَكْرَارُ الدَّعْوَةِ
لِلسَّبَبِ الْوَاحِدِ وَلَوْ وَلِيمَةً، قَالُوا: إِلاَّ أَنْ يَكُونَ
الْمَدْعُوُّ ثَانِيًا غَيْرَ الْمَدْعُوِّ أَوَّلاً.
وَإِنْ كَانَ تَكْرَارُهَا لِضِيقِ مَنْزِلٍ، أَوْ لأَِنَّهُ أَرَادَ أَنْ
يَدْعُوَ جِنْسًا بَعْدَ جِنْسٍ، فَلاَ كَرَاهَةَ، قَالَهُ الْقَلْيُوبِيُّ
مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ تَكُونُ مَكْرُوهَةً إِلاَّ إِذَا كَرَّرَهَا
لِلْيَوْمِ الثَّالِثِ أَوْ مَا بَعْدَهُ (2) لِلْحَدِيثِ: الْوَلِيمَةُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 343، الخرشي 3 / 701، وحاشية الشرقاوي على التحرير
2 / 275، وكشاف القناع 5 / 166 - 168، والمغني 7 / 11 - 12
(2) الشرح الكبير على مختصر خليل 2 / 337، وكشاف القناع 5 / 168، والقليوبي
3 / 294 - 295
(20/337)
أَوَّل يَوْمٍ حَقٌّ، وَالثَّانِي
مَعْرُوفٌ، والثَّالِثَ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ (1) .
حُكْمُ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ:
32 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ إِجَابَةَ الدَّعْوَةِ فِي
الأَْصْل وَاجِبَةٌ إِنْ كَانَتْ إِلَى وَلِيمَةِ عُرْسٍ (ر: وَلِيمَةٌ)
وَأَمَّا مَا عَدَاهَا فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الإِْجَابَةِ إِلَيْهَا.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَيْسَتِ
الإِْجَابَةُ إِلَيْهَا وَاجِبَةً بَل هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ
عُذْرٌ أَوْ مَانِعٌ عَلَى مَا يَأْتِي. وَسَوَاءٌ كَانَتْ لِسَبَبٍ
كَبِنَاءٍ أَوْ وِلاَدَةٍ أَوْ خِتَانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، مَا لَمْ
تَكُنْ مِنَ الدَّاعِي مَكْرُوهَةً كَدَعْوَةِ الْمَأْتَمِ، وَذَلِكَ
لأَِنَّ فِي إِجَابَةِ الدَّاعِي تَطْيِيبُ نَفْسِهِ، وَجَبْرُ قَلْبِهِ.
(2)
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ: أَنَّ
الإِْجَابَةَ لِغَيْرِ الْعُرْسِ وَالْعَقِيقَةِ مُبَاحَةٌ وَقِيل هِيَ
مَكْرُوهَةٌ، وَالْمَأْدُبَةُ إِذَا فُعِلَتْ لإِِينَاسِ الْجَارِ
وَمَوَدَّتِهِ مَنْدُوبَةٌ. (3)
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الإِْجَابَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى
الْمَدْعُوِّ فِي وَلِيمَةِ الْعُرْسِ وَغَيْرِهَا، أَخْذًا
__________
(1) حديث: " الوليمة أول يوم حق، والثاني معروف، والثالث رياء وسمعة "
أخرجه أبو داود (4 / 126 - 127 تحقيق عزت عبيد دعاس) وذكر إسناده البخاري
في التاريخ الكبير (3 / 425 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال: " لم يصح
إسناده ".
(2) المغني 7 / 11، 12، والفتاوى الهندية 5 / 343
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 337
(20/337)
بِالْعُمُومَاتِ، وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ
ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا. إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ
أَخَاهُ فَلِيُجِبْ، عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ (1) وَقَوْلُهُ: حَقُّ
الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلاَمِ، وَعِيَادَةُ
الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ،
وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ. (2) فَجَعَل إِجَابَةَ الدَّعْوَةِ حَقًّا
لِلْمُسْلِمِ، وَالْحَقُّ هُوَ الْوَاجِبُ، وَلَمْ يَخُصَّ عُرْسًا مِنْ
غَيْرِهِ (3) .
إِجَابَةُ دَعْوَةِ الْفُقَرَاءِ وَالإِْجَابَةُ عَلَى الطَّعَامِ
الْقَلِيل:
33 - لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَقْرُ الدَّاعِي، أَوْ خِفَّةُ شَأْنِهِ،
أَوْ قِلَّةُ الطَّعَامِ مَانِعًا مِنْ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ، فَإِنَّ
ذَلِكَ مِنَ الْكِبْرِ. وَالدَّعْوَةُ مَشْرُوعَةٌ لإِِحْيَاءِ
الْمَوَدَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَمَزِيدِ التَّآلُفِ. وَفِي حَدِيثِ
الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
لَوْ دُعِيتَ إِلَى كُرَاعٍ لأََجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ
لَقَبِلْتُ. (4)
__________
(1) حديث: " إذا دعا أحدكم أخاه فليجب، عرسًا كان أو نحوه ". أخرجه مسلم (2
/ 1053 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض. . . "
أخرجه البخاري (الفتح 3 / 112 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1704 ط الحلبي) من
حديث أبي هريرة، واللفظ للبخاري.
(3) المغني 7 / 11، وشرح المنهاج معه حاشية القليوبي 3 / 295
(4) حديث: " لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إليَّ كراع لقبلت " أخرجه
البخاري (الفتح 9 / 245 - السلفية) من حديث أبي هريرة.
(20/338)
& وَالْكُرَاعُ مِنَ الشَّاةِ وَنَحْوِهَا:
مُسْتَدَقُّ السَّاقِ.
قَال ابْنُ حَجَرٍ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى حُسْنِ خُلُقِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوَاضُعِهِ وَجَبْرِهِ لِقُلُوبِ النَّاسِ،
وَعَلَى قَبُول الْهَدِيَّةِ وَإِجَابَةِ مَنْ يَدْعُو الرَّجُل إِلَى
مَنْزِلِهِ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ شَيْءٌ قَلِيلٌ،
ثُمَّ قَال: قَال الْمُهَلَّبُ: لاَ يَبْعَثُ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى
الطَّعَامِ إِلاَّ صِدْقُ الْمَوَدَّةِ وَسُرُورُ الدَّاعِي بِأَكْل
الْمَدْعُوِّ مِنْ طَعَامِهِ، وَالتَّحَبُّبُ إِلَيْهِ بِالْمُؤَاكَلَةِ،
وَتَوْكِيدِ الذِّمَامِ مَعَهُ بِهَا، فَلِذَلِكَ حَضَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الإِْحَابَةِ وَلَوْ نَزَرَ الطَّعَامُ
الْمَدْعُوُّ إِلَيْهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: الإِْجَابَةُ لِمَا قَل أَوْ
كَثُرَ. ا. هـ ".
(1) وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: إِذَا دُعِيتُمْ إِلَى كُرَاعٍ فَأَجِيبُوا. (2)
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ (3) .
الآْدَابُ الشَّرْعِيَّةُ لِلدَّعْوَةِ بِمَعْنَى الْمُنَادَاةِ:
34 - أ - مِنْ أَدَبِ الدَّعْوَةِ مِنَ الْمُسْلِمِ لأَِخِيهِ الْمُسْلِمِ
أَنْ يُنَادِيَهُ بِالاِسْمِ أَوِ الْوَصْفِ الَّذِي يُحِبُّهُ،
__________
(1) فتح الباري 9 / 246
(2) حديث: " إذا دعيتم إلى كراع فأجيبوا " أخرجه مسلم (2 / 1054 - ط
الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.
(3) حديث: " كان يجيب دعوة المملوك " أخرجه ابن ماجه (2 / 770 - ط الحلبي)
من حديث أنس بن مالك، وفي إسناده مسلم بن كيسان الملائي، وهو ضعيف، كما في
" الميزان " للذهبي (4 / 106 - 107 - ط الحلبي) .
(20/338)
قَال ابْنُ عَقِيلٍ: " لاَ تَدْعُوَنَّ
أَحَدًا إِلاَّ بِأَحَبِّ أَسْمَائِهِ إِلَيْهِ " (1) وَمِنْ ذَلِكَ
اسْتِعْمَال الْكُنَى فِي النِّدَاءِ كَقَوْلِكَ: يَا أَبَا فُلاَنٍ وَيَا
أُمَّ فُلاَنٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْعَرَبِ نَوْعٌ مِنَ التَّكْرِيمِ،
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَنِّي
أَصْحَابَهُ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ كَنَّى بَعْضَ الصِّغَارِ مِنْهُمْ،
كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال
لأَِخِي أَنَسٍ وَكَانَ صَغِيرًا يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَل
النُّغَيْرُ. (2)
35 - ب - وَمِنْهَا أَنْ لاَ يَكُونَ النِّدَاءُ بِالأَْلْقَابِ
الْمَكْرُوهَةِ وَالأَْسْمَاءِ الَّتِي فِيهَا تَحْقِيرٌ وَيَنْفِرُ
مِنْهَا صَاحِبُهَا، لِقَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلاَ
تَنَابَزُوا بِالأَْلْقَابِ} (3) وَفِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي جَبِيْرَةَ بْنِ الضَّحَّاكِ قَال: كَانَ الرَّجُل مِنَّا يَكُونُ
لَهُ الاِسْمَانِ وَالثَّلاَثَةُ فَيُدْعَى بِهَا فَعَسَى أَنْ يَكْرَهَ
فَنَزَلَتْ {وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَْلْقَابِ} . ا. هـ.
وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنِ النِّدَاءُ بِالْوَصْفِ الْمَكْرُوهِ سَبِيل
التَّأْدِيبِ وَالتَّعْزِيرِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ. (4) أَوْ عَلَى سَبِيل
الاِنْتِصَارِ مِنَ الظَّالِمِ بِسَبَبِ ظُلْمِهِ، وَذَلِكَ لِقَوْل
اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ
الْقَوْل إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} (5) . فَيَقُول لَهُ: يَا ظَالِمُ
__________
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 595
(2) حديث: " يا أبا عمير ما فعل النغير ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 582 -
ط السلفية) من حديث أنس بن مالك.
(3) سورة الحجرات / 11
(4) المغني 9 / 43
(5) سورة النساء / 148
(20/339)
يَا خَائِنُ، إِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ
مِنْهُ الظُّلْمُ أَوِ الْخِيَانَةُ.
وَلاَ يَحِل لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدْعُوَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ بِالْكُفْرِ
بِأَنْ يَقُول لَهُ: يَا كَافِرُ، أَوْ يَا يَهُودِيُّ، أَوْ يَا
نَصْرَانِيُّ.
وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ أَوْ قَال يَا عَدُوَّ اللَّهِ وَلَيْسَ
كَذَلِكَ إِلاَّ حَارَ عَلَيْهِ (1)
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: أَيُّمَا امْرِئٍ قَال لأَِخِيهِ: يَا كَافِرُ،
فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَال وَإِلاَّ رَجَعَتْ
عَلَيْهِ. (2)
36 - ج - وَمِنْهَا أَنْ يُرَاعِيَ الدَّاعِي مَا حَضَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ
فِي الْمُخَاطَبَاتِ مِنْ تَوْقِيرِ مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّوْقِيرَ
وَالتَّبْجِيل لِعِلْمِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ عَدْلِهِ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ
الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَال: مِنَ
السُّنَّةِ أَنْ يُوَقَّرَ أَرْبَعَةٌ: الْعَالِمُ، وَذُو الشَّيْبَةِ
وَالسُّلْطَانُ وَالْوَالِدُ، وَمِنَ الْجَفَاءِ أَنْ يَدْعُوَ الرَّجُل
وَالِدَهُ بِاسْمِهِ. (3)
37 - د - وَمِنْهَا أَنْ لاَ يُسْتَعْمَل فِي النِّدَاءِ الأَْلْفَاظُ
الدَّالَّةُ عَلَى إِهَانَةِ الْمُخَاطِبِ لِنَفْسِهِ أَمَامَ
الْمُخَاطَبِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ كَرِيمٌ بِكَرَامَةِ الإِْيمَانِ،
عَزِيزٌ بِعَظَمَةِ اللَّهِ فِي صَدْرِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: لاَ يَنْبَغِي
لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِل نَفْسَهُ. (4)
__________
(1) حديث: " من دعا رجلا بالكفر أو قال: يا عدو الله، وليس كذلك إلا حار
عليه ". أخرجه مسلم (1 / 80 - ط الحلبي) من حديث أبي ذر.
(2) حديث: " أيما امرئ قال لأخيه يا كافر. . . " أخرجه مسلم (1 / 79 - ط
الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.
(3) الآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 256
(4) حديث: " لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه. . . " أخرجه الترمذي (4 / 523 -
ط الحلبي) من حديث حذيفة، وحسنه.
(20/339)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلدَّعْوَةِ
وَالإِْجَابَةِ إِلَيْهَا:
38 - تَأْخُذُ الدَّعْوَةُ حُكْمَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ غَالِبًا، فَقَدْ
تَكُونُ وَاجِبَةً، أَوْ سُنَّةً، أَوْ مُسْتَحَبَّةً، أَوْ مَكْرُوهَةً،
أَوْ مُحَرَّمَةً، فَتَكُونُ تَلْبِيَةُ الدَّعْوَةِ وَاجِبَةً فِي
أَحْوَالٍ مِنْهَا.
39 - أ - أَنْ يُدْعَى لأَِدَاءِ وَاجِبٍ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا
عَيْنِيًّا كَإِقَامَةِ الصَّلاَةِ فَلاَ يَصِحُّ تَأْخِيرُهُ وَكَانَتِ
الإِْجَابَةُ إِلَيْهِ مُتَعَيِّنَةً، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى
الْكِفَايَةِ كَانَتِ الإِْحَابَةُ إِلَيْهِ وَاجِبَةً عَلَى الْكِفَايَةِ،
كَإِجَابَةِ دَعْوَةِ الْمَلْهُوفِ، وَالْمُضْطَرِّ الْمُشْرِفِ عَلَى
الْهَلاَكِ، وَالْمُسْتَغِيثِ (ر: اسْتِغَاثَةٌ، اضْطِرَارٌ) .
40 - ب - أَنْ يُدْعَى إِلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ فَتَجِبُ
الاِسْتِجَابَةُ لِلدَّاعِي، لأَِنَّ الْفِعْل وَاجِبُ التَّرْكِ أَصْلاً،
وَيَتَأَكَّدُ الْوُجُوبُ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ أَيْضًا، وَقَدْ قَال
اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِذَا
قِيل لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِْثْمِ فَحَسْبُهُ
جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} (1) وَفِي مُقَابِل ذَلِكَ قَال تَعَالَى
فِي شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ: {إِنَّمَا كَانَ قَوْل الْمُؤْمِنِينَ إِذَا
دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) وَقَال:
{وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
__________
(1) سورة البقرة / 204 - 206
(2) سورة النور / 51
(20/340)
وَالرَّسُول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا
بِرَبِّكُمْ} (1)
41 - ج - وَتَكُونُ الاِسْتِجَابَةُ أَيْضًا وَاجِبَةً عَلَى مَنْ دُعِيَ
إِلَى قَاضٍ يَحْكُمُ طِبْقًا لِلشَّرِيعَةِ فِي حَقٍّ عَلَيْهِ.
فَعَلَيْهِ الاِسْتِجَابَةُ، وَيَحْرُمُ الاِمْتِنَاعُ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ
مَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ عَلَى حُضُورِهِ، وَإِلاَّ وَجَبَ الْوَفَاءُ
أَوِ الْحُضُورُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ الْحَقُّ. وَلَوْ دَعَاهُ الْقَاضِي
نَفْسُهُ لَزِمَ الْحُضُورُ أَيْضًا (2) ، وَذَلِكَ لِقَوْل اللَّهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي وَصْفِ الْمُنَافِقِينَ: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ
مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ}
(3) وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْل الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا
إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4) وَفِي الْمَسْأَلَةِ
تَفْصِيلاَتٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (دَعْوَى، وَقَضَاءٌ) .
42 - د - وَتَكُونُ الإِْجَابَةُ وَاجِبَةً أَيْضًا عَلَى مَنْ دُعِيَ
لِتَحَمُّل الشَّهَادَةِ، أَوْ دُعِيَ لأَِدَاءِ شَهَادَةٍ تَحَمَّلَهَا،
لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}
(5) قَال الْمَحَلِّيُّ: تَحَمُّل الشَّهَادَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِي
النِّكَاحِ - أَيْ فِي حَقِّ مَنْ هُمْ أَهْلٌ
__________
(1) سورة الحديد / 8
(2) الفروق للقرافي 4 / 78، الفرق ص 235، شرح المنهاج وحاشية القليوبي 4 /
313
(3) سورة النور / 48 - 49
(4) سورة النور / 51
(5) سورة البقرة / 282
(20/340)
لِثُبُوتِهِ، وَإِنْ زَادُوا عَلَى
النِّصَابِ - لِتَوَقُّفِ الاِنْعِقَادِ عَلَيْهِ، فَيَلْزَمُهُ
الاِسْتِجَابَةُ إِنْ كَانَ حَاضِرًا، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا وَدُعِيَ
لِلتَّحَمُّل فَالأَْصَحُّ عَدَمُ وُجُوبِ الإِْجَابَةِ إِلاَّ أَنْ
يَكُونَ الْمُحَمَّل مَرِيضًا، أَوْ مَحْبُوسًا، أَوِ امْرَأَةً
مُخَدَّرَةً، أَوْ قَاضِيًا يُشْهِدُهُ عَلَى أَمْرٍ ثَبَتَ عِنْدَهُ.
وَأَمَّا الدَّعْوَةُ لِلأَْدَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقَضِيَّةِ
إِلاَّ اثْنَانِ لَزِمَهُمَا الأَْدَاءُ لِمَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ،
فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ فَالْوُجُوبُ عَلَى الْكِفَايَةِ (1) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (شَهَادَةٌ) .
43 - هـ - أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي وَاجِبَ الطَّاعَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ:
أ - الاِسْتِجَابَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَدْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى كُل صَحَابِيٍّ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِيهِ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُول بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ
بَعْضِكُمْ بَعْضًا} (2) عَلَى أَحَدِ الأَْقْوَال فِي تَفْسِيرِ الآْيَةِ.
قَال الرَّازِيُّ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَفَّال وَالْمُبَرِّدِ، قَال: أَيْ
وَلاَ تَجْعَلُوا أَمْرَهُ إِيَّاكُمْ وَدُعَاءَهُ لَكُمْ كَمَا يَكُونُ
مِنْ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، إِذْ كَانَ أَمْرُهُ فَرْضًا لاَزِمًا. (3)
__________
(1) البدائع 6 / 224، والشرح الصغير 1 / 87، وشرح المنهاج 4 / 329 - 330
(2) سورة النور / 63
(3) تفسير فخر الدين الرازي 24 / 39 - 40
(20/341)
هَذَا وَتَجِبُ الاِسْتِجَابَةُ لِدُعَاءِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاءٌ أَكَانَ
الْمَدْعُوُّ فِي غَيْرِ صَلاَةٍ، أَوْ كَانَ فِي صَلاَةِ فَرْضٍ، أَوْ
صَلاَةِ نَفْلٍ. وَفِي بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِالاِسْتِجَابَةِ لَهُ
بِالْقَوْل خِلاَفٌ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْمُعَلَّى،
قَال: كُنْتُ أُصَلِّي فَمَرَّ بِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَدَعَانِي فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ،
فَقَال: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي؟ أَلَمْ يَقُل اللَّهُ: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُول إِذَا
دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (1) ثُمَّ قَال: لأَُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ
سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ قَبْل أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ. . . (2)
الْحَدِيثَ
44 - ب - أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي هُوَ الأَْبُ أَوِ الأُْمُّ، إِذْ مِنَ
الْعُقُوقِ لَهُمَا أَنْ يَسْمَعَهُمَا يَدْعُوَانِهِ فَلاَ يَسْتَجِيبُ
لَهُمَا، فَإِنْ دَعَوَاهُ جَمِيعًا أَجَابَ الأُْمَّ أَوَّلاً، وَيَدُل
لأَِصْل الْمَسْأَلَةِ فِي الْوُجُوبِ قِصَّةُ جُرَيْجٍ الْعَابِدِ،
وَفِيهِ: أَنَّهُ كَانَ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَةٍ فَجَاءَتْ أُمُّهُ،
فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا تَدْعُوهُ، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ أَنَا أُمُّكَ
كَلِّمْنِي. فَصَادَفَتْهُ يُصَلِّي، فَقَال: اللَّهُمَّ أُمِّي
وَصَلاَتِي، فَاخْتَارَ صَلاَتَهُ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ أَنَّهَا دَعَتْ
عَلَيْهِ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهَا (3) .
__________
(1) سورة الأنفال / 24
(2) حديث أبي سعيد بن المعلى. أخرجه البخاري (الفتح 8 / 307 - ط السلفية) .
(3) قصة جريج العابد. أخرجها مسلم (4 / 1976 - 1978 - ط الحلبي) من حديث
أبي هريرة.
(20/341)
قَال الْحَنَفِيَّةُ كَمَا فِي الدُّرِّ
وَرَدِّ الْمُحْتَارِ: لَوْ دَعَاهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ فِي الْفَرْضِ لاَ
يُجِيبُهُ إِلاَّ أَنْ يَسْتَغِيثَ بِهِ - وَاسْتِغَاثَةُ غَيْرِ
الأَْبَوَيْنِ كَذَلِكَ - وَكَانَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إِغَاثَتِهِ
وَتَخْلِيصِهِ، فَيَجِبُ إِغَاثَتُهُ وَقَطْعُ الصَّلاَةِ، وَفِي النَّفْل
إِنْ عَلِمَ الَّذِي نَادَاهُ مِنْ أَبٍ أَوْ أُمٍّ أَنَّهُ فِي الصَّلاَةِ
فَدَعَاهُ لاَ يُجِيبُهُ، لأَِنَّ نِدَاءَهُ لَهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ
فِي صَلاَةٍ مَعْصِيَةٌ، وَلاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ
الْخَالِقِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ فِي صَلاَةٍ فَإِنَّهُ
يُجِيبُهُ، لِمَا فِي قِصَّةِ جُرَيْجٍ الْعَابِدِ (1) . وَقَدْ
تَقَدَّمَتْ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ إِجَابَةَ الْوَالِدِ فِي النَّافِلَةِ
أَفْضَل مِنَ التَّمَادِي فِيهَا، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ
ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالأُْمِّ دُونَ الأَْبِ وَقَال بِهِ
مِنَ السَّلَفِ مَكْحُولٌ (2) .
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي شَأْنِ حَدِيثِ قِصَّةِ جُرَيْجٍ: قَال
الْعُلَمَاءُ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ الصَّوَابُ فِي
حَقِّهِ إِجَابَتَهَا، لأَِنَّهُ كَانَ فِي صَلاَةِ نَفْلٍ،
وَالاِسْتِمْرَارُ فِيهَا تَطَوُّعٌ لاَ وَاجِبٌ، وَإِجَابَةُ الأُْمِّ
وَبِرُّهَا وَاجِبٌ، وَعُقُوقُهَا حَرَامٌ (3) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: جَوَازُ قَطْعِ الصَّلاَةِ مُطْلَقًا لإِِجَابَةِ
نِدَاءِ الأُْمِّ نَفْلاً كَانَتْ أَوْ فَرْضًا وَجْهٌ فِي
__________
(1) رد المحتار حاشية ابن عابدين على الدر 1 / 478
(2) فتح الباري 6 / 482 كتاب 60، أحاديث الأنبياء باب 48 قول الله
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ) .
(3) شرح النووي على صحيح مسلم 16 / 105 المطبعة المصرية.
(20/342)
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، حَكَاهُ
الرُّويَانِيُّ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الصَّلاَةَ
إِنْ كَانَتْ نَفْلاً وَعَلِمَ تَأَذِّي الْوَالِدِ بِالتَّرْكِ وَجَبَتِ
الإِْجَابَةُ وَإِلاَّ فَلاَ، وَإِنْ كَانَتْ فَرْضًا وَضَاقَ الْوَقْتُ
لَمْ تَجِبِ الإِْجَابَةُ، وَإِنْ لَمْ يَضِقْ وَجَبَ عِنْدَ إِمَامِ
الْحَرَمَيْنِ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ لأَِنَّهَا تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ.
ج - أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي هُوَ الزَّوْجُ إِذَا دَعَا امْرَأَتَهُ إِلَى
فِرَاشِهِ، لِمَا فِي الْحَدِيثِ: إِذَا دَعَا الرَّجُل امْرَأَتَهُ إِلَى
فِرَاشِهِ فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ لَعَنَتْهَا الْمَلاَئِكَةُ حَتَّى
تُصْبِحَ. (1)
6 - أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي هُوَ إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مَنْ يَنُوبُ
عَنْهُ فِي الْوِلاَيَةِ، كَأَمِيرِ الْحَجِّ، وَأَمِيرِ الْجَيْشِ،
وَالْوَالِي وَنَحْوِهِمْ، فَتَجِبُ الاِسْتِجَابَةُ لَهُمْ بِمُقْتَضَى
الْوِلاَيَةِ، مَا لَمْ تَكُنْ دَعْوَتُهُمْ إِلَى مُحَرَّمٍ.
__________
(1) حديث: " إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة
حتى تصبح ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 294 - السلفية) ، ومسلم (2 / 1060 -
ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(20/342)
|