الموسوعة الفقهية الكويتية

دَوْلَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الدَّوْلَةُ فِي اللُّغَةِ حُصُول الشَّيْءِ فِي يَدِ هَذَا تَارَةً وَفِي يَدِ هَذَا أُخْرَى، أَوِ الْعُقْبَةُ فِي الْمَال وَالْحَرْبِ (أَيِ التَّعَاقُبُ) ، وَالدَّوْلَةُ فِي الْمَال وَالْحَرْبِ سَوَاءٌ، وَقِيل: الدُّولَةُ بِالضَّمِّ فِي الْمَال، وَالدَّوْلَةُ بِالْفَتْحِ فِي الْحَرْبِ.
وَالإِْدَالَةُ مَعْنَاهَا الْغَلَبَةُ، يُقَال: أُدِيل لَنَا عَلَى أَعْدَائِنَا أَيْ نُصِرْنَا عَلَيْهِمْ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ: يُدَال عَلَيْنَا الْمَرَّةَ وَنُدَال عَلَيْهِ الأُْخْرَى (1) . أَيْ: نَغْلِبُهُ مَرَّةً وَيَغْلِبُنَا مَرَّةً، مِنَ التَّدَاوُل، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَتِلْكَ الأَْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ (2) } وَقَوْلُهُ: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَْغْنِيَاءِ مِنْكُمْ (3) } أَيْ يُتَدَاوَلُونَ الْمَال بَيْنَهُمْ وَلاَ يَجْعَلُونَ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُ نَصِيبًا (4) .
__________
(1) حديث أبي سفيان أخرجه البخاري (الفتح 6 / 110 - ط السلفية) .
(2) سورة آل عمران / 140.
(3) سورة الحشر / 7.
(4) لسان العرب، مادة: " دول "، والكليات 2 / 340، والمصباح المنير.

(21/36)


أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَلَمْ يَشِعِ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا الْمُصْطَلَحِ، وَوَرَدَ اسْتِعْمَالُهُ فِي بَعْضِ كُتُبِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالأَْحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ (1) . وَسَارَ الْفُقَهَاءُ فِي الْكَلاَمِ عَنِ اخْتِصَاصَاتِ " الدَّوْلَةِ " عَلَى إِدْرَاجِهَا ضِمْنَ الْكَلاَمِ عَنْ صَلاَحِيَّاتِ الإِْمَامِ وَاخْتِصَاصَاتِهِ حَيْثُ اعْتَبَرُوا أَنَّ " الدَّوْلَةَ " مُمَثَّلَةٌ فِي شَخْصِ الإِْمَامِ الأَْعْظَمِ، أَوِ الْخَلِيفَةِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ وِلاَيَاتٍ وَوَاجِبَاتٍ وَحُقُوقٍ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَعْهُودَ أَنَّ " الدَّوْلَةَ " هِيَ مَجْمُوعَةُ الإِْيَالاَتِ (2) تَجْتَمِعُ لِتَحْقِيقِ السِّيَادَةِ عَلَى أَقَالِيمَ (3) مُعَيَّنَةٍ، لَهَا حُدُودُهَا، وَمُسْتَوْطِنُوهَا، فَيَكُونُ الْحَاكِمُ أَوِ الْخَلِيفَةُ، أَوْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، عَلَى رَأْسِ هَذِهِ السُّلُطَاتِ.
وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِاسْتِعْمَال مُصْطَلَحِ " دَوْلَةٍ " عِنْدَ مَنِ اسْتَعْمَلَهُ مِنْ فُقَهَاءِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَوِ الأَْحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ (4) .
__________
(1) كتاب: " بدائع السلك في طبائع الملك " لمحمد بن الأزرق، وكتاب " تسهيل النظر وتعجيل الظفر " للماوردي.
(2) الإيالة: السياسة، وأخذت في بعض كتب الأنظمة الإسلامية معنى السلطة، فيقال: إيالة القضاء، إيالة الحسبة، وهكذا (الغياثي 256) .
(3) ورد استعمال هذا المصطلح عند المالكية في معرض كلامهم عن أمان السلطان (الزرقاني 8 / 122، والدسوقي 2 / 165) عند تعليقهم على كلام خليل (كتأمين غيره إقليمًا) .
(4) انظر مثلاً بدائع السلك 1 / 108، 114، 115، 134، 143، 148، 151، وانظر كذلك تسهيل النظر ص157، ويقابل كلام الفقهاء عن الدولة في القوانين المعاصرة، القانون الدستوري الذي يحدد شكل الدولة، والسلطات التي تقوم عليها، واختصاص كل سلطة، وعلاقتها بعضها ببعض، وعلاقة المواطنين بها.

(21/36)


وَنَتِيجَةً لِذَلِكَ يُمْكِنُ الْقَوْل أَنَّ الدَّوْلَةَ تَقُومُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَرْكَانٍ وَهِيَ: الدَّارُ، وَالرَّعِيَّةُ، وَالْمَنَعَةُ (1) (السِّيَادَةُ) .
2 - وَلَقَدْ بَحَثَ الْفُقَهَاءُ أَرْكَانَ الدَّوْلَةِ عِنْدَ بَحْثِهِمْ عَنْ أَحْكَامِ دَارِ الإِْسْلاَمِ، يَتَّضِحُ هَذَا مِنْ تَعْرِيفَاتِهِمْ لِدَارِ الإِْسْلاَمِ:
التَّعْرِيفُ الأَْوَّل: " كُل دَارٍ ظَهَرَتْ فِيهَا دَعْوَةُ الإِْسْلاَمِ مِنْ أَهْلِهِ بِلاَ خَفِيرٍ، وَلاَ مُجِيرٍ، وَلاَ بَذْل جِزْيَةٍ، وَقَدْ نَفَذَ فِيهَا حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ إِنْ كَانَ فِيهِمْ ذِمِّيٌّ، وَلَمْ يَقْهَرْ أَهْل الْبِدْعَةِ فِيهَا أَهْل السُّنَّةِ (2) ".
وَالتَّعْرِيفُ الثَّانِي:
" كُل أَرْضٍ سَكَنَهَا مُسْلِمُونَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ، أَوْ تَظْهَرُ فِيهَا أَحْكَامُ الإِْسْلاَمِ (3) ".
فَالدَّارُ هِيَ الْبِلاَدُ الإِْسْلاَمِيَّةُ وَمَا تَشْمَلُهُ مِنْ أَقَالِيمَ دَاخِلَةٍ تَحْتَ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ.
__________
(1) لفظ المنعة أو عبارة أمن الرعية بأمن المسلمين، يستخدمها الفقهاء بما يقابل لفظ السيادة. لما يحصل بذلك من حفظ حقوق الدولة من الانتقاص. المواق 6 / 277، فتح القدير 4 / 414، البدائع 7 / 130، نهاية المحتاج 7 / 382.
(2) أصول الدين ص27 أبو منصور عبد القادر البغدادي.
(3) حاشية البجيرمي 4 / 220، نهاية المحتاج 8 / 184.

(21/37)


وَالرَّعِيَّةُ هُمُ الْمُقِيمُونَ فِي حُدُودِ الدَّوْلَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْل الذِّمَّةِ. وَالسِّيَادَةُ هِيَ ظُهُورُ حُكْمِ الإِْسْلاَمِ وَنَفَاذُهُ. وَعَدَمُ الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ وَلِيِّ الأَْمْرِ، وَعَدَمُ الاِفْتِيَاتِ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى أَيِّ وِلاَيَةٍ مِنْ وِلاَيَاتِ الدَّوْلَةِ؛ لأَِنَّ الاِفْتِيَاتَ عَلَيْهَا افْتِيَاتٌ عَلَى الإِْمَامِ. وَيَكُونُ الاِفْتِيَاتُ بِالسَّبْقِ بِفِعْل شَيْءٍ دُونَ اسْتِئْذَانِ مَنْ يَجِبُ اسْتِئْذَانُهُ، وَالاِفْتِيَاتُ عَلَى الإِْمَامِ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ، فَإِذَا أَمَّنَ أَحَدُ الرَّعِيَّةِ كَافِرًا دُونَ إِذْنِ الإِْمَامِ، وَكَانَ فِي تَأْمِينِهِ مَفْسَدَةٌ، فَإِنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَنْبِذَ هَذَا الأَْمَانَ، وَلَهُ أَنْ يُعَزِّرَ مَنِ افْتَاتَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا بَاشَرَ الْمُسْتَحِقُّ فَأَقَامَ الْحَدَّ أَوِ الْقِصَاصَ دُونَ إِذْنِ الإِْمَامِ عَزَّرَهُ الإِْمَامُ لاِفْتِيَاتِهِ عَلَيْهِ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ: " أَمَان " " وَافْتِيَات " " وَدَارُ الإِْسْلاَمِ ".
3 - وَتَتَأَلَّفُ الدَّوْلَةُ مِنْ مَجْمُوعَةٍ مِنَ النُّظُمِ وَالْوِلاَيَاتِ بِحَيْثُ تُؤَدِّي كُل وِلاَيَةٍ مِنْهَا وَظِيفَةً خَاصَّةً مِنْ وَظَائِفِ الدَّوْلَةِ، وَتَعْمَل مُجْتَمِعَةً لِتَحْقِيقِ مَقْصِدٍ عَامٍّ، وَهُوَ رِعَايَةُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ.
يَقُول الْمَاوَرْدِيُّ: (الإِْمَامَةُ مَوْضُوعَةٌ لِخِلاَفَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا) (1) وَالإِْمَامُ هُوَ مَنْ تَصْدُرُ عَنْهُ جَمِيعُ الْوِلاَيَاتِ فِي الدَّوْلَةِ.
__________
(1) الأحكام السلطانية ص 5.

(21/37)


وَيَقُول ابْنُ تَيْمِيَّةَ: " فَالْمَقْصُودُ الْوَاجِبُ بِالْوِلاَيَاتِ إِصْلاَحُ دِينِ الْخَلْقِ الَّذِي مَتَى فَاتَهُمْ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا نَعِمُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِصْلاَحُ مَا لاَ يَقُومُ الدِّينُ إِلاَّ بِهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُمْ (1) ".
وَيَقُول ابْنُ الأَْزْرَقِ: " إِنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الْوُجُوبِ الشَّرْعِيِّ - يَعْنِي وُجُوبَ نَصْبِ الإِْمَامِ - رَاجِعَةٌ إِلَى النِّيَابَةِ عَنِ الشَّارِعِ فِي حِفْظِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا بِهِ، وَسُمِّيَ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ النِّيَابَةِ خِلاَفَةً وَإِمَامَةً، وَذَلِكَ لأَِنَّ الدِّينَ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي إِيجَادِ الْخَلْقِ لاَ الدُّنْيَا فَقَطْ (2) ".
وَبَعْدَ هَذَا نَعْرِضُ إِلَى مَجْمُوعِ الْوِلاَيَاتِ فِي الدَّوْلَةِ وَمَا يَخُصُّ كُلًّا مِنْهَا مِنْ وَظَائِفَ:

أَوَّلاً: الْحَاكِمُ أَوِ الإِْمَامُ الأَْعْظَمُ:
4 - الإِْمَامُ وَكِيلٌ عَنِ الأُْمَّةِ فِي خِلاَفَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا، وَيَتَوَلَّى مَنْصِبَهُ بِمُوجِبِ عَقْدِ الإِْمَامَةِ (3) .
وَالأَْصْل فِي الإِْمَامِ أَنْ يُبَاشِرَ إِدَارَةَ الدَّوْلَةِ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ هَذَا مُتَعَذِّرًا مَعَ اتِّسَاعِ الدَّوْلَةِ وَكَثْرَةِ وَظَائِفِهَا، وَتَعَدُّدِ السَّلِطَاتِ فِيهَا جَازَ لَهُ أَنْ يُنِيبَ عَنْهُ مَنْ يَقُومُ بِهَذِهِ السُّلُطَاتِ مِنْ وُلاَةٍ، وَأُمَرَاءَ، وَوُزَرَاءَ، وَقُضَاةٍ، وَغَيْرِهِمْ،
__________
(1) السياسة الشرعية ص 22.
(2) بدائع السلك 1 / 93.
(3) الموسوعة 6 / 215

(21/38)


وَيَكُونُونَ الْوُكَلاَءَ عَنْهُ فِي إِدَارَةِ مَا وُكِّل إِلَيْهِمْ مِنْ أَعْمَالٍ. فَإِدَارَةُ الإِْمَامِ لِلدَّوْلَةِ دَائِرَةٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَكِيلاً عَنِ النَّاسِ وَنَائِبًا عَنْهُمْ، وَبَيْنَ أَنْ يُنِيبَ هُوَ وَيُوَكِّل مَنْ يَقُومُ بِأَعْبَاءِ الْحُكْمِ شَرِيطَةَ أَلاَّ يَنْصَرِفَ عَنِ النَّظَرِ الْعَامِّ فِي شُئُونِ الدَّوْلَةِ، وَمُطَالَعَةِ كُلِّيَّاتِ الأُْمُورِ مَعَ الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَال مَنْ يُوَلِّيهِمْ؛ لِيَتَحَقَّقَ مِنْ كِفَايَتِهِمْ لِمَنَاصِبِهِمْ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِمَامَةٌ كُبْرَى) .

ثَانِيًا: وَلِيُّ الْعَهْدِ:
5 - وَهُوَ مَنْ يُوَلِّيهِ الإِْمَامُ عَهْدَ الإِْمَامَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَيْسَ لِوَلِيِّ الْعَهْدِ تَصَرُّفٌ فِي شُئُونِ الدَّوْلَةِ مَا دَامَ الإِْمَامُ حَيًّا، وَلاَ يَلِي شَيْئًا فِي حَيَاةِ الإِْمَامِ، وَإِنَّمَا تَبْدَأُ إِمَامَتُهُ وَسُلْطَتُهُ بِمَوْتِ الإِْمَامِ، فَتَصَرُّفُهُ كَالْوَكَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ بِشَرْطٍ، وَلَيْسَ لِلإِْمَامِ عَزْل وَلِيِّ الْعَهْدِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ؛ لأَِنَّهُ اسْتَخْلَفَهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْلُهُ، قِيَاسًا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ خَلْعِ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ لِمَنْ بَايَعُوهُ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِمَامَةٌ كُبْرَى) .

ثَالِثًا: أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ
6 - وَوَجْهُ اعْتِبَارِهِمْ سُلْطَةً مُسْتَقِلَّةً أَنَّ لَهُمْ قُدْرَةَ
__________
(1) الغياثي للجويني ص 291 - 292.
(2) نهاية المحتاج 7 / 391، أسنى المطالب 4 / 110، الأحكام السلطانية للماوردي ص11.

(21/38)


الْقِيَامِ بِنَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ وَاجِبَاتِ الدَّوْلَةِ وَهِيَ:
أ - اخْتِيَارُ الإِْمَامِ وَمُبَايَعَتُهُ.
ب - اسْتِئْنَافُ بَيْعَةِ وَلِيِّ الْعَهْدِ عِنْدَ تَوْلِيَتِهِ إِمَامًا، حَيْثُ تُعْتَبَرُ شُرُوطُ الإِْمَامَةِ فِيهِ مِنْ وَقْتِ الْعَهْدِ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ فَاسِقًا وَقْتَ الْعَهْدِ وَكَانَ بَالِغًا عَدْلاً عِنْدَ مَوْتِ الْمُوَلِّي لَمْ تَصِحَّ خِلاَفَتُهُ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ أَهْل الاِخْتِيَارِ بَيْعَتَهُ.
ج - تَعْيِينُ نَائِبٍ عَنْ وَلِيِّ الْعَهْدِ فِي حَال غَيْبَتِهِ عِنْدَ مَوْتِ الْخَلِيفَةِ.
د - خَلْعُ الإِْمَامِ إِذَا قَامَ مَا يُوجِبُ خَلْعَهُ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: " أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ (1) ".

رَابِعًا: الْمُحْتَسِبُ:
7 - هُوَ مَنْ يُوَلِّيهِ الإِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ لِلْقِيَامِ بِوَظِيفَةِ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلِلنَّظَرِ فِي أَحْوَال الرَّعِيَّةِ وَالْكَشْفِ عَنْ أُمُورِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ،
وَهُوَ فَرْضٌ فِي حَقِّهِ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْوِلاَيَةِ. وَمَوْضُوعُ هَذِهِ الْوِلاَيَةِ إِلْزَامُ الْحُقُوقِ وَالْمَعُونَةِ عَلَى اسْتِيفَائِهَا، وَمَحَل وِلاَيَتِهِ كُل مُنْكَرٍ مَوْجُودٍ فِي الْحَال ظَاهِرٍ لِلْمُحْتَسِبِ بِغَيْرِ تَجَسُّسٍ مَعْلُومٍ كَوْنُهُ مُنْكَرًا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ، وَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَّخِذَ عَلَى إِنْكَارِهِ أَعْوَانًا؛ لأَِنَّهُ مَنْصُوبٌ لِهَذَا الْعَمَل، وَمِنْ صَلاَحِيَّتِهِ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعُرْفِ دُونَ الشَّرْعِ، وَلِهَذَا يَجِبُ
__________
(1) الموسوعة 5 / 115، وكذلك الماوردي في الأحكام السلطانية ص 6، 11، الغياثي ص 126.

(21/39)


أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَسِبُ فَقِيهًا عَارِفًا بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ لِيَعْلَمَ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ.
وَعَمَل الْمُحْتَسِبِ وَاسِطَةٌ بَيْنَ عَمَل الْقَاضِي وَعَمَل وَالِي الْمَظَالِمِ.
فَيَتَّفِقُ الْمُحْتَسِبُ مَعَ الْقَاضِي فِي أُمُورٍ مِنْهَا:
(1) جَوَازُ الاِسْتِعْدَاءِ لِلْمُحْتَسِبِ، وَسَمَاعُهُ دَعْوَى الْمُسْتَعْدِي عَلَى الْمُسْتَعْدَى عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ فِيمَا يَدْخُل تَحْتَ اخْتِصَاصِهِ.
(2) لَهُ أَنْ يَلْزَمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَبِإِقْرَارٍ، مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنَ الأَْدَاءِ فَيَلْزَمُ بِالدَّفْعِ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ؛ لأَِنَّ تَأْخِيرَ الْحَقِّ مُنْكَرٌ ظَاهِرٌ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ لإِِزَالَتِهِ.
وَيَفْتَرِقُ الْمُحْتَسِبُ عَنِ الْقَاضِي فِي أُمُورٍ مِنْهَا:
(1) جَوَازُ النَّظَرِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ مَعْرُوفٍ أَوْ يَنْهَى عَنْهُ مِنْ مُنْكَرٍ دُونَ التَّوَقُّفِ عَلَى دَعْوَى أَوِ اسْتِعْدَاءٍ.
(2) أَنَّ الْحِسْبَةَ مَوْضُوعَةٌ لِلرَّهْبَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى قُوَّةِ السَّلْطَنَةِ الْمُؤَيَّدَةِ بِالْجُنْدِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَحْكَامِ الْحِسْبَةِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: " حِسْبَة ".

خَامِسًا: الْقَضَاءُ:
8 - عُرِّفَ الْقَضَاءُ بِأَنَّهُ: إِنْشَاءُ إِلْزَامٍ فِي مَسَائِل
__________
(1) معالم القربة ص 71، نهاية الرتبة ص 6، الأحكام السلطانية 240 - 242، إحياء علوم الدين 2 / 324.

(21/39)


الاِجْتِهَادِ الْمُتَقَارِبَةِ فِيمَا يَقَعُ فِيهِ النِّزَاعُ لِمَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَعُرِّفَ كَذَلِكَ بِأَنَّهُ: الإِْلْزَامُ فِي الظَّاهِرِ عَلَى صِيغَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِأَمْرٍ ظُنَّ لُزُومُهُ فِي الْوَاقِعِ.
فَالْقَضَاءُ سُلْطَةٌ تُمَكِّنُ مَنْ تَوَلاَّهَا مِنَ الإِْلْزَامِ بِالأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَفَصْل الْخُصُومَاتِ، وَقَطْعِ الْمُنَازَعَاتِ بَيْنَ النَّاسِ. وَقَضَاءُ الْقَاضِي مُظْهِرٌ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لاَ مُثْبِتٌ لَهُ.
وَتَجْتَمِعُ فِي الْقَاضِي صِفَاتٌ ثَلاَثَةٌ: فَهُوَ شَاهِدٌ مِنْ جِهَةِ الإِْثْبَاتِ، وَمُفْتٍ مِنْ جِهَةِ الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ، وَذُو سُلْطَانٍ مِنْ جِهَةِ الإِْلْزَامِ. وَيَدْخُل فِي وِلاَيَةِ الْقَضَاءِ فَصْل الْخُصُومَاتِ، وَاسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ، وَالنَّظَرُ فِي أَمْوَال الْيَتَامَى وَالْمَجَانِينِ وَالسُّفَهَاءِ، وَالْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ وَالْمُفْلِسِ، وَالنَّظَرُ فِي الْوُقُوفِ، وَتَنْفِيذُ الْوَصَايَا، وَتَزْوِيجُ اللاَّتِي لاَ وَلِيَّ لَهُنَّ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ (1) ". وَالْقَاضِي يَنُوبُ عَنِ الإِْمَامِ فِي هَذَا.
وَلَيْسَ هُنَاكَ ضَابِطٌ عَامٌّ لِمَا يَدْخُل فِي وِلاَيَةِ الْقَاضِي وَمَا لاَ يَدْخُل، فَالأَْصْل فِيهِ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ بِاخْتِلاَفِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَقَدْ تَتَّسِعُ صَلاَحِيَّةُ الْقَاضِي لِتَشْمَل وِلاَيَةَ الْحَرْبِ، وَالْقِيَامَ بِأَعْمَال بَيْتِ الْمَال وَالْعَزْل وَالْوِلاَيَةِ، وَقَدْ تَقْتَصِرُ عَلَى النَّظَرِ فِي الْخُصُومَاتِ وَالْمُنَازَعَاتِ.
__________
(1) حديث: " فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له ". أخرجه الترمذي (3 / 399 - ط الحلبي) من حديث عائشة: وقال: " حديث حسن ".

(21/40)


وَالْقَضَاءُ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي لاَ يَتَوَلاَّهَا إِلاَّ الإِْمَامُ، كَعَقْدِ الذِّمَّةِ، وَالْقَاضِي وَكِيلٌ عَنِ الإِْمَامِ فِي الْقِيَامِ بِالْقَضَاءِ، وَلِذَا لاَ تَثْبُتُ وِلاَيَتُهُ إِلاَّ بِتَوْلِيَةِ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، وَهُوَ عَقْدُ وِلاَيَةٍ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول، وَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالْوَكَالَةِ، وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهَا مَعْرِفَةُ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَهْلِيَّةَ مَنْ يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ، وَكَذَلِكَ تَعْيِينُ مَا يَدْخُل تَحْتَ وِلاَيَتِهِ مِنْ أَعْمَالٍ؛ لِيَعْلَمَ مَحَلَّهَا فَلاَ يَحْكُمُ فِي غَيْرِهَا (1) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: " قَضَاء ".

سَادِسًا: بَيْتُ الْمَال:
9 - بَيْتُ الْمَال هُوَ الْجِهَةُ الَّتِي يُسْنَدُ إِلَيْهَا حِفْظُ الأَْمْوَال الْعَامَّةِ لِلدَّوْلَةِ، وَالْمَال الْعَامُّ هُوَ كُل مَالٍ اسْتَحَقَّهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُهُ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ كَالزَّكَاةِ، وَالْفَيْءِ، وَخُمُسِ الْغَنَائِمِ الْمَنْقُولَةِ، وَخُمُسِ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ، وَالْمَعَادِنِ، وَخُمُسِ الرِّكَازِ، وَالْهَدَايَا الَّتِي تُقَدَّمُ إِلَى الْقُضَاةِ أَوْ عُمَّال الدَّوْلَةِ مِمَّا يَحْمِل شُبْهَةَ الرِّشْوَةِ أَوِ الْمُحَابَاةِ، وَكَذَلِكَ الضَّرَائِبُ الْمُوَظَّفَةُ عَلَى الرَّعِيَّةِ لِمَصْلَحَتِهِمْ وَمَوَارِيثُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِلاَ وَارِثٍ، وَالْغَرَامَاتُ وَالْمُصَادَرَاتُ. وَيَقُومُ بَيْتُ
__________
(1) كشاف القناع 6 / 285، حاشية الدسوقي 4 / 289، حواشي تحفة المحتاج 10 / 102، 120، تبصرة الحكام 1 / 13، 14، حاشية ابن عابدين 4 / 296، 297.

(21/40)


الْمَال بِصَرْفِ هَذِهِ الأَْمْوَال فِي مَصَارِفِهَا كُلٌّ بِحَسَبِهِ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ سِجِلٌّ هُوَ دِيوَانُ بَيْتِ الْمَال لِضَبْطِ مَا يَرِدُ إِلَيْهِ وَمَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ أَمْوَالٍ، وَلِضَبْطِ مَصَارِفِهَا كَذَلِكَ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: " بَيْتُ الْمَال (1) ".

سَابِعًا: الْوُزَرَاءُ:
10 - لَمَّا كَانَ الْمُتَعَذِّرُ عَلَى الإِْمَامِ الْقِيَامَ بِنَفْسِهِ بِأَعْبَاءِ الْحُكْمِ وَتَسْيِيرِ شُئُونِ الدَّوْلَةِ مَعَ كَثْرَتِهَا كَانَ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْتَنِيبَ الْوُزَرَاءَ ذَوِي الْكِفَايَةِ لِذَلِكَ.
وَالْوَزِيرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَزِيرَ تَفْوِيضٍ، أَوْ وَزِيرَ تَنْفِيذٍ. أَمَّا وَزِيرُ التَّفْوِيضِ فَهُوَ مِنْ يُفَوِّضُ لَهُ الإِْمَامُ تَدْبِيرَ أُمُورِ الدَّوْلَةِ وَإِمْضَاءَهَا بِاجْتِهَادِهِ، وَلَهُ النَّظَرُ الْعَامُّ فِي شُئُونِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ وَكِيلٌ عَنِ الإِْمَامِ فِيمَا وُلِّيَ عَلَيْهِ، وَأُسْنِدَ إِلَيْهِ، وَيُشْتَرَطُ فِي وَزِيرِ التَّفْوِيضِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الإِْمَامِ بِاسْتِثْنَاءِ كَوْنِهِ قُرَشِيًّا، وَكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا عَلَى خِلاَفٍ فِيهِ، وَكَمَا يَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَنْ يُبَاشِرَ شُئُونَ الدَّوْلَةِ، يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يُبَاشِرُهَا، وَكُل مَا صَحَّ مِنَ الإِْمَامِ صَحَّ مِنَ الْوَزِيرِ إِلاَّ أُمُورًا ثَلاَثَةً:
أَحَدُهَا: وِلاَيَةُ الْعَهْدِ، فَإِنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَعْهَدَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْوَزِيرِ.
ثَانِيهَا: أَنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَطْلُبَ الإِْعْفَاءَ مِنَ الإِْمَامَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْوَزِيرِ.
__________
(1) الموسوعة 8 / 242.

(21/41)


ثَالِثُهَا: أَنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَعْزِل مَنْ قَلَّدَهُ الْوَزِيرُ، وَلَيْسَ لِلْوَزِيرِ عَزْل مَنْ قَلَّدَهُ الإِْمَامُ.
وَالْوَزَارَةُ وِلاَيَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى عَقْدٍ، وَالْعُقُودُ لاَ تَصِحُّ إِلاَّ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ الْمُشْتَمِل عَلَى شَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عُمُومُ النَّظَرِ. وَالثَّانِي: النِّيَابَةُ.
فَإِذَا اقْتَصَرَ الإِْمَامُ عَلَى عُمُومِ النَّظَرِ دُونَ النِّيَابَةِ كَانَ اللَّفْظُ خَاصًّا بِوِلاَيَةِ الْعَهْدِ، إِذْ أَنَّ نَظَرَهُ عَامٌّ كَنَظَرِ الإِْمَامِ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَنُوبُ عَنْهُ حَال حَيَاتِهِ، وَأَمَّا إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى النِّيَابَةِ دُونَ عُمُومِ النَّظَرِ كَانَتْ نِيَابَةً مُبْهَمَةً لَمْ تُبَيِّنْ مَا اسْتَنَابَهُ فِيهِ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يُجْمَعَ لَهُ بَيْنَ عُمُومِ النَّظَرِ وَالنِّيَابَةِ؛ لِتَنْعَقِدَ وَزَارَةُ التَّفْوِيضِ.
أَمَّا وَزِيرُ التَّنْفِيذِ فَلاَ يَسْتَقِل بِالنَّظَرِ كَوَزِيرِ التَّفْوِيضِ، فَتَقْتَصِرُ مُهِمَّتُهُ عَلَى تَنْفِيذِ أَمْرِ الإِْمَامِ فَهُوَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الإِْمَامِ وَالرَّعِيَّةِ يُبَلِّغُهُمْ أَوَامِرَهُ وَيُخْبِرُهُمْ بِتَقْلِيدِ الْوُلاَةِ، وَلِذَا لاَ يَحْتَاجُ وَزِيرُ التَّنْفِيذِ إِلَى عَقْدٍ وَتَقْلِيدٍ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهَا مُجَرَّدُ الإِْذْنِ، وَتَقْصُرُ فِي شُرُوطِهَا عَنْ شُرُوطِ وَزَارَةِ التَّفْوِيضِ. وَلَمَّا قَصُرَتْ مُهِمَّتُهُ عَلَى تَبْلِيغِ الْخَلِيفَةِ وَالتَّبْلِيغِ عَنْهُ، اشْتُرِطَ فِيهِ الأَْمَانَةُ وَالصِّدْقُ، وَقِلَّةُ الطَّمَعِ، وَأَنْ يَسْلَمَ مِنْ عَدَاوَةِ النَّاسِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَأَنْ يَكُونَ ضَابِطًا لِمَا يَنْقِل، وَأَنْ لاَ يَكُونَ مِنْ أَهْل الأَْهْوَاءِ. وَقَدْ يُشَارِكُ وَزِيرُ التَّنْفِيذِ فِي الْمَشُورَةِ وَالرَّأْيِ فَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ

(21/41)


صَاحِبَ حُنْكَةٍ وَتَجْرِبَةٍ تُؤَدِّيهِ إِلَى إِصَابَةِ الرَّأْيِ وَحُسْنِ الْمَشُورَةِ (1) .

إِمَارَةُ الْحَرْبِ:
11 - تَتَوَلَّى هَذِهِ الإِْمَارَةُ وِلاَيَةَ الْحَرْبِ وَحِمَايَةَ الدَّوْلَةِ مِنَ الاِعْتِدَاءِ عَلَيْهَا مِنَ الْخَارِجِ. وَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ إِمَارَةً خَاصَّةً مَقْصُورَةً عَلَى سِيَاسَةِ الْجَيْشِ وَإِعْدَادِهِ، وَتَدْبِيرِ الْحَرْبِ. أَوْ أَنْ تَتَّسِعَ صَلاَحِيَّتُهَا فِيمَا يُفَوِّضُ إِلَيْهَا الإِْمَامُ فَتَشْمَل قَسْمَ الْغَنَائِمِ، وَعَقْدَ الصُّلْحِ.

وَيَلْزَمُ أَمِيرَ الْجَيْشِ فِي سِيَاسَتِهِ لِلْجَيْشِ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ
1) . حِرَاسَتُهُمْ مِنْ غِرَّةٍ يَظْفَرُ بِهَا الْعَدُوُّ مِنْهُمْ.
2) تَخَيُّرُ مَوْضِعِ نُزُولِهِمْ لِمُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ.
3) إِعْدَادُ مَا يَحْتَاجُ الْجَيْشُ إِلَيْهِ.
4) أَنْ يَعْرِفَ أَخْبَارَ عَدُوِّهِ.
5) تَرْتِيبُ الْجَيْشِ فِي مَصَافِّ الْحَرْبِ.
6) أَنْ يُقَوِّيَ نُفُوسَهُمْ بِمَا يُشْعِرُهُمْ مِنَ الظَّفَرِ.
7) أَنْ يَعِدَ أَهْل الصَّبْرِ وَالْبَلاَءِ مِنْهُمْ بِثَوَابِ اللَّهِ.
8) أَنْ يُشَاوِرَ ذَوِي الرَّأْيِ مِنْهُمْ.
9) أَنْ يَأْخُذَ جَيْشَهُ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حُقُوقِهِ.
10) أَنْ لاَ يُمَكِّنَ أَحَدًا مِنْ جَيْشِهِ أَنْ يَتَشَاغَل
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 22، 23، 27 - 29، الغياثي 149 - 158، بدائع السلك 1 / 185، 186.

(21/42)


بِتِجَارَةٍ أَوْ زِرَاعَةٍ، حَتَّى لاَ يَنْصَرِفَ عَنْ مُصَابَرَةِ الْعَدُوِّ (1) .
وَتَجْهِيزُ الْمُثْبَتِينَ فِي دِيوَانِ الْجُنْدِ مِنَ الْغُزَاةِ فِي سَبِيل اللَّهِ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَمَحَلُّهُ بَيْتُ مَال الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَعَلَى أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ وَأَغْنِيَائِهِمْ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: " جِهَاد ".

زَوَال الدَّوْلَةِ:
12 - تَزُول الدَّوْلَةُ بِزَوَال أَحَدِ أَرْكَانِهَا: الشَّعْبُ، أَوِ الإِْقْلِيمُ، أَوِ الْمَنَعَةُ (السِّيَادَةُ) أَوْ بِتَحَوُّلِهَا مِنْ دَارِ إِسْلاَمٍ إِلَى دَارِ حَرْبٍ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: " دَارُ الإِْسْلاَمِ ".

تَعَدُّدُ الدُّوَل الإِْسْلاَمِيَّةِ:
13 - يَتَعَلَّقُ حُكْمُ تَعَدُّدِ الدُّوَل الإِْسْلاَمِيَّةِ بِحُكْمِ تَعَدُّدِ الأَْئِمَّةِ حَيْثُ إِنَّ الدَّوْلَةَ الإِْسْلاَمِيَّةَ تُمَثِّل شَخْصَ الإِْمَامِ؛ لأَِنَّهُ مَصْدَرُ السُّلْطَةِ فِيهَا، وَعَنْهُ تَصْدُرُ جَمِيعُ سُلُطَاتِ الدَّوْلَةِ وَصَلاَحِيَّاتِهَا.
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ كَوْنُ إِمَامَيْنِ فِي الْعَالَمِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ إِمَامٌ وَاحِدٌ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الآْخِرَ مِنْهُمَا (2)
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 35 - 54.
(2) حديث: " إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما " أخرجه مسلم (3 / 1480 - ط الحلبي) ، من حديث أبي سعيد الخدري.

(21/42)


وَلأَِنَّ فِي تَعَدُّدِ الدُّوَل الإِْسْلاَمِيَّةِ مَظِنَّةٌ لِلنِّزَاعِ وَالْفُرْقَةِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ (1) } .
وَفِي أَحَدِ أَوْجُهِ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرِّيحِ فِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ الدَّوْلَةُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ (2) .
انْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى) .

وَاجِبَاتُ الدَّوْلَةِ الْعَامَّةِ (3) :
14 - يَتَعَيَّنُ عَلَى الدَّوْلَةِ مُمَثَّلَةً بِمَجْمُوعِ سُلُطَاتِهَا أَنْ تَرْعَى الْمَصَالِحَ الْعَامَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ الدَّاخِلِينَ تَحْتَ وِلاَيَتِهَا، وَجِمَاعُ هَذِهِ الْمَصَالِحِ يَعُودُ إِلَى:
1) حِفْظِ أُصُول الدِّينِ وَإِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ. وَتُنْظَرُ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (إِمَامَةٌ كُبْرَى، رِدَّة، بِدْعَة، ضَرُورِيَّات، وَجِهَاد) .
2) إِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَعُقُوبَةِ الْمُسْتَحِقِّ وَتَعْزِيرِهِ. وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحَاتِ: (قِصَاص، تَعْزِير) .
__________
(1) سورة الأنفال / 46.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 37.
(3) بدائع السلك في طبائع الملك 1 / 185 - 397، 2 / 633 - 698، ويراجع كذلك مصطلح (إمامة كبرى) و (أولو الأمر) .

(21/43)


3) حِفْظِ الْمَال الْعَامِّ لِلدَّوْلَةِ، وَيُرَاجَعُ فِي هَذَا مُصْطَلَحِ بَيْتِ الْمَال.
4) إِقَامَةِ الْعَدْل وَتَنْفِيذِ الأَْحْكَامِ وَقَطْعِ الْخُصُومَاتِ، وَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ مُصْطَلَحِ: (قَضَاء) .
(5) رِعَايَةِ أَهْل الذِّمَّةِ، وَيُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ: (أَهْل الذِّمَّةِ) .
(6) تَكْثِيرِ الْعِمَارَةِ، وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عِمَارَة) .
(7) إِقَامَةِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحِ: (سِيَاسَةٌ شَرْعِيَّةٌ) .

(21/43)


دِيَاتٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الدِّيَاتُ جَمْعُ دِيَةٍ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ وَدَى الْقَاتِل الْقَتِيل يَدِيُّهِ دِيَةً إِذَا أَعْطَى وَلِيَّهُ الْمَال الَّذِي هُوَ بَدَل النَّفْسِ، وَأَصْلُهَا وِدْيَةٌ، فَهِيَ مَحْذُوفَةُ الْفَاءِ كَعِدَةٍ مِنَ الْوَعْدِ وَزِنَةٍ مِنَ الْوَزْنِ. وَكَذَلِكَ هِبَةٌ مِنَ الْوَهْبِ. وَالْهَاءُ فِي الأَْصْل بَدَلٌ مِنْ فَاءِ الْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ الْوَاوُ، ثُمَّ سُمِّيَ ذَلِكَ الْمَال (دِيَةً) تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا اسْمٌ لِلْمَال الَّذِي هُوَ بَدَل النَّفْسِ (2) .
وَمِثْلُهُ مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ. حَيْثُ قَالُوا فِي تَعْرِيفِهَا: هِيَ مَالٌ يَجِبُ بِقَتْل آدَمِيٍّ حُرٍّ عِوَضًا عَنْ دَمِهِ (3) .
لَكِنْ قَال فِي تَكْمِلَةِ الْفَتْحِ: الأَْظْهَرُ فِي تَفْسِيرِ الدِّيَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ آخِرًا مِنْ أَنَّ الدِّيَةَ:
__________
(1) المصباح المنير، والمغرب مادة: " ودي ".
(2) اللباب شرح الكتاب 3 / 44، وتكملة فتح القدير 9 / 204، 205.
(3) كفاية الطالب 2 / 237، 238.

(21/44)


اسْمٌ لِضَمَانٍ (مُقَدَّرٍ) يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الآْدَمِيِّ أَوْ طَرَفٍ مِنْهُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّهَا تُؤَدَّى عَادَةً وَقَلَّمَا يَجْرِي فِيهَا الْعَفْوُ؛ لِعِظَمِ حُرْمَةِ الآْدَمِيِّ (1) .
وَهَذَا مَا يُؤَيِّدُهُ الْعَدَوِيُّ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ قَال بَعْدَ تَعْرِيفِ الدِّيَةِ: إِنَّ مَا وَجَبَ فِي قَطْعِ الْيَدِ مَثَلاً يُقَال لَهُ دِيَةٌ حَقِيقَةً، إِذْ قَدْ وَقَعَ التَّعْبِيرُ بِهِ فِي كَلاَمِهِمْ (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَعَمَّمُوا تَعْرِيفَ الدِّيَةِ لِيَشْمَل مَا يَجِبُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ وَعَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ. قَال الشَّافِعِيَّةُ: (هِيَ الْمَال الْوَاجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْحُرِّ فِي نَفْسٍ أَوْ فِيمَا دُونَهَا (3)) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: (إِنَّهَا الْمَال الْمُؤَدَّى إِلَى مَجْنِيٍّ عَلَيْهِ، أَوْ وَلِيِّهِ، أَوْ وَارِثِهِ بِسَبَبِ جِنَايَةٍ (4)) . وَتُسَمَّى الدِّيَةُ عَقْلاً أَيْضًا، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا تَعْقِل الدِّمَاءَ أَنْ تُرَاقَ، وَالثَّانِي أَنَّ الدِّيَةَ كَانَتْ إِذَا وَجَبَتْ وَأُخِذَتْ مِنَ الإِْبِل تُجْمَعُ فَتُعْقَل، ثُمَّ تُسَاقُ إِلَى وَلِيِّ الدَّمِ (5) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقِصَاصُ:
2 - الْقِصَاصُ مِنَ الْقَصِّ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى
__________
(1) تكملة فتح القدير 9 / 204، 205، والاختيار 5 / 35.
(2) كفاية الطالب مع حاشية العدوي 3 / 237، 238.
(3) نهاية المحتاج 7 / 298، ومغني المحتاج 4 / 53.
(4) مطالب أولي النهى 6 / 75، وكشاف القناع 6 / 5.
(5) الاختيار 5 / 58.

(21/44)


الْقَطْعِ، وَالْقِصَاصُ فِي الشَّرْعِ هُوَ الْقَوَدُ، وَهُوَ أَنْ يُفْعَل بِالْجَانِي مِثْل مَا فَعَل (1) . فَإِذَا قَتَل قُتِل مِثْلَهُ، وَإِذَا جَرَحَ جُرِحَ مِثْلَهُ. (ر: قِصَاص) .

ب - الْغُرَّةُ:
3 - الْغُرَّةُ مِنْ كُل شَيْءٍ أَوَّلُهُ، وَالْغُرَّةُ: الْعَبْدُ أَوِ الأَْمَةُ، وَمِنْ مَعَانِيهَا فِي الشَّرْعِ: ضَمَانٌ يَجِبُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ، وَتَبْلُغُ قِيمَتُهَا نِصْفَ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَهِيَ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل أَوْ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ
عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (غُرَّة) ، سُمِّيَتْ غُرَّةً؛ لأَِنَّهَا أَوَّل مَقَادِيرِ الدِّيَةِ، وَأَقَل مَا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ فِي الْجِنَايَاتِ (2) .

ج - الأَْرْشُ:
4 - الأَْرْشُ يُطْلَقُ غَالِبًا عَلَى الْمَال الْوَاجِبِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الدِّيَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى؛ لأَِنَّهَا تَشْمَل الْمَال الْمُؤَدَّى مُقَابِل النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ. وَقَدْ يُطْلَقُ الأَْرْشُ عَلَى بَدَل النَّفْسِ أَيْضًا، فَيَكُونُ بِمَعْنَى الدِّيَةِ (3) .

د - حُكُومَةُ عَدْلٍ:
5 - مِنْ مَعَانِي حُكُومَةِ الْعَدْل رَدُّ الظَّالِمِ عَنِ
__________
(1) التعريفات للجرجاني، والمصباح المنير.
(2) ابن عابدين 5 / 377، وجواهر الإكليل 1 / 303، وحاشية الجمل 5 / 101، والمغني 7 / 804.
(3) اللباب شرح الكتاب 3 / 44، وتكملة الفتح 9 / 204، 205، والاختيار 5 / 35، والتعريفات للجرجاني.

(21/45)


الظُّلْمِ. وَتُطْلَقُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْوَاجِبِ يُقَدِّرُهُ عَدْلٌ فِي جِنَايَةٍ لَيْسَ فِيهَا مِقْدَارٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الْمَال.
فَهِيَ تَخْتَلِفُ عَنِ الأَْرْشِ وَالدِّيَةِ فِي أَنَّهَا غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ فِي الشَّرْعِ، وَتَجِبُ وَتُقَدَّرُ بِحُكْمِ الْعَدْل (1) .

هـ - الضَّمَانُ:
6 - الضَّمَانُ لُغَةً: الاِلْتِزَامُ، وَشَرْعًا: يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
أ - الْمَعْنَى الْخَاصُّ: وَهُوَ دَفْعُ مِثْل الشَّيْءِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ وَقِيمَةِ الشَّيْءِ فِي الْقِيمِيَّاتِ (2) .
فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يُطْلَقُ غَالِبًا عَلَى مَا يُدْفَعُ مُقَابِل إِتْلاَفِ الأَْمْوَال، بِخِلاَفِ الدِّيَةِ الَّتِي تُدْفَعُ مُقَابِل التَّعَدِّي عَلَى الأَْنْفُسِ.
ب - الْمَعْنَى الْعَامُّ الشَّامِل لِلْكَفَالَةِ: وَعَرَّفَهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ الْتِزَامُ دَيْنٍ أَوْ إِحْضَارُ عَيْنٍ أَوْ بَدَنٍ. وَيُقَال لِلْعَقْدِ الْمُحَصِّل لِذَلِكَ أَيْضًا، أَوْ هُوَ شَغْل ذِمَّةٍ أُخْرَى بِالْحَقِّ (3) .

مَشْرُوعِيَّةُ الدِّيَةِ:
7 - الأَْصْل فِي مَشْرُوعِيَّةِ الدِّيَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ
__________
(1) تبيين الحقائق 6 / 133، وتكملة الفتح 9 / 218.
(2) مجلة الأحكام العدلية م / 415، والزرقاني 6 / 144، 146.
(3) القليوبي 2 / 323، وجواهر الإكليل 2 / 109، ومطالب أولي النهى 3 / 292.

(21/45)


مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ (1) } ، وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى أَهْل الْيَمَنِ كِتَابًا فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدِّيَاتُ وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقُرِئَتْ عَلَى أَهْل الْيَمَنِ هَذِهِ نُسْخَتُهَا: مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى شُرَحْبِيل بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، وَنُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، وَالْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ قَيْل ذِي رُعَيْنٍ وَمَعَافِرَ وَهَمْدَانَ أَمَّا بَعْدُ، وَكَانَ فِي كِتَابِهِ: إِنَّ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلاً عَنْ بَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ قَوَدٌ إِلاَّ أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُول، وَأَنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ مِائَةً مِنَ الإِْبِل، وَفِي الأَْنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ، وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الرِّجْل الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الإِْبِل، وَفِي كُل أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْل عَشْرٌ مِنَ الإِْبِل، وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل، وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل، وَأَنَّ الرَّجُل يُقْتَل بِالْمَرْأَةِ، وَعَلَى أَهْل الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ وَفِي الْيَدِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ (2) .
__________
(1) سورة النساء / 92.
(2) حديث أبي بكر بن محمد بن حزم عن أبيه عن جده في الديات والفرائض: أخرجه النسائي (8 / 58 - 59 ط المكتبة التجارية) ، وخرجه ابن حجر في التلخيص (4 / 17 - 18 - ط شركة الطباعة الفنية) ، وتكلم على أسانيده، ونقل تصحيحه عن جماعة من العلماء.

(21/46)


وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَالْحِكْمَةُ فِي وُجُوبِهَا هِيَ صَوْنُ بُنْيَانِ الآْدَمِيِّ عَنِ الْهَدْمِ، وَدَمِهِ عَنِ الْهَدَرِ (1) .

أَقْسَامُ الدِّيَةِ:
8 - تَخْتَلِفُ الدِّيَةُ وَمِقْدَارُهَا بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ نَوْعِ الْجِنَايَةِ وَصِفَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ.
فَهُنَاكَ دِيَةُ النَّفْسِ وَدِيَةُ الأَْعْضَاءِ، كَمَا أَنَّ هُنَاكَ دِيَةً مُغَلَّظَةً وَدِيَةً غَيْرَ مُغَلَّظَةٍ، فَدِيَةُ الْعَمْدِ إِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِهِ كَالْعَفْوِ، أَوْ عَدَمِ تَوَفُّرِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْقِصَاصِ أَوْ بِوُجُودِ شُبْهَةِ دِيَةٍ مُغَلَّظَةٍ، كَمَا أَنَّ دِيَةَ شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّطَةٌ، وَدِيَةَ الْخَطَأِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ دِيَةٌ غَيْرُ مُغَلَّظَةٍ. وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل مَعَ بَيَانِ مَعْنَى الْعَمْدِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ. وَأَسْبَابُ التَّغْلِيظِ وَالتَّخْفِيفِ فِي الدِّيَةِ، وَاخْتِلاَفُ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ فِيمَا بَعْدُ.

شُرُوطُ وُجُوبِ الدِّيَةِ:
9 - أ - يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الدِّيَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَعْصُومَ الدَّمِ، أَيْ مَصُونَ الدَّمِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
__________
(1) الاختيار 5 / 35، والفواكه الدواني 2 / 257، والمهذب 2 / 191، 196، وكشاف القناع 6 / 5، والمغني لابن قدامة 7 / 558.

(21/46)


فَإِذَا كَانَ مُهْدَرَ الدَّمِ، كَأَنْ كَانَ حَرْبِيًّا، أَوْ مُسْتَحِقَّ الْقَتْل حَدًّا أَوْ قِصَاصًا فَلاَ تَجِبُ الدِّيَةُ بِقَتْلِهِ لِفَقْدِ الْعِصْمَةِ. وَلِبَيَانِ مَعْنَى الْعِصْمَةِ وَشُرُوطِهَا يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (عِصْمَة) .
وَأَمَّا الإِْسْلاَمُ فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الدِّيَةِ لاَ مِنْ جَانِبِ الْقَاتِل وَلاَ مِنْ جَانِبِ الْمَقْتُول، فَتَجِبُ الدِّيَةُ سَوَاءٌ أَكَانَ الْقَاتِل أَوِ الْمَقْتُول مُسْلِمًا، أَمْ ذِمِّيًّا، أَمْ مُسْتَأْمَنًا.
وَكَذَلِكَ لاَ يُشْتَرَطُ الْعَقْل وَالْبُلُوغُ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ بِقَتْل الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ اتِّفَاقًا، كَمَا تَجِبُ فِي مَال الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ (مَعَ خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ) .
وَذَلِكَ لأَِنَّ الدِّيَةَ ضَمَانٌ مَالِيٌّ فَتَجِبُ فِي حَقِّهِمَا (1) ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ.

ب - وُجُودُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ:
10 - وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الدِّيَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ، قَال الْكَاسَانِيُّ: وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يُهَاجِرْ إِلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ خَطَأً لاَ تَجِبُ الدِّيَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا.
وَلاَ يَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ هَذَا الشَّرْطَ فَيَرَوْنَ أَنَّ الْعِصْمَةَ تَحْصُل بِالإِْسْلاَمِ أَوِ الأَْمَانِ، فَيَدْخُل
__________
(1) البدائع للكاساني 7 / 253، والتاج والإكليل على هامش الحطاب 6 / 231، والإقناع 4 / 173، وكشاف القناع 6 / 5.

(21/47)


فِيهَا الْمُسْلِمُ - وَلَوْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ - كَمَا يَدْخُل فِيهَا الذِّمِّيُّ، وَالْمُسْتَأْمَنُ، وَالْمَعْقُودُ مَعَهُمْ عَقْدُ الْمُوَادَعَةِ، وَالْهُدْنَةِ (1) .

أَسْبَابُ وُجُوبِ الدِّيَةِ:

أَوَّلاً: الْقَتْل:
11 - الْقَتْل هُوَ لُغَةً: إِزْهَاقُ الرُّوحِ، يُقَال: قَتَلْتُهُ قَتْلاً: إِذَا أَزْهَقْتَ رُوحَهُ.
وَأَطْلَقَهُ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا عَلَى الْفِعْل الْمُزْهِقِ، أَيِ الْقَاتِل لِلنَّفْسِ، أَوْ فِعْل مَا يَكُونُ سَبَبًا لِزَهُوقِ النَّفْسِ، وَالزَّهُوقُ هُوَ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ الْبَدَنَ (2) .
وَقَسَّمَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْقَتْل إِلَى عَمْدٍ، وَشِبْهِ عَمْدٍ، وَخَطَأٍ.
وَقَسَّمَهُ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: الْعَمْدِ، وَشِبْهِ الْعَمْدِ، وَالْخَطَأِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الْخَطَأِ، وَالْقَتْل بِالسَّبَبِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَيْسَ هُنَاكَ إِلاَّ قَتْل الْعَمْدِ، وَقَتْل الْخَطَأِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَتْل) .
__________
(1) المراجع السابقة، وانظر الزرقاني 8 / 4، والقليوبي 4 / 221.
(2) المصباح المنير، والبدائع 2 / 233، وتكملة الفتح 8 / 244، والاختيار 5 / 23 - 26، وجواهر الإكليل 2 / 256، والحطاب 6 / 240 - 242، ومغني المحتاج 4 / 2 - 4، 32، وكشاف القناع 5 / 13، 504 - 505.

(21/47)


أَنْوَاعُ الْقَتْل الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ:
الأَْوَّل: الْقَتْل الْخَطَأُ
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي الْقَتْل الْخَطَأِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ. فَكُل مَنْ قَتَل إِنْسَانًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، مُسْتَأْمَنًا أَوْ مُهَادَنًا، وَجَبَتِ الدِّيَةُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا (1) } وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ (2) } .
وَدِيَةُ الْخَطَأِ تَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي مُؤَجَّلَةً فِي ثَلاَثِ سِنِينَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُْخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَقَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا (3) أَيْ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ.
وَدَلِيل تَأْجِيلِهَا كَمَا قَال الْكَاسَانِيُّ: إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى بِذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ خَالَفَهُ أَحَدٌ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا (4) .
__________
(1) سورة النساء / 92.
(2) سورة النساء / 92.
(3) حديث أبي هريرة: " اقتتلت امرأتان من هذيل " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 252 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1310 - ط الحلبي) .
(4) البدائع 7 / 255 - 256، والمغني 7 / 769، 771، والشرح الكبير للدردير 4 / 281، ومغني المحتاج 1 / 55، والمهذب 2 / 6.

(21/48)


حِكْمَةُ وُجُوبِ دِيَةِ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ:
13 - الأَْصْل وُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَى الْجَانِي نَفْسِهِ؛ لأَِنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ الْقَتْل، وَأَنَّهُ وُجِدَ مِنَ الْقَاتِل، وَلاَ يُؤَاخَذُ أَحَدٌ بِذَنْبِ غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (1) } ، وَلِهَذَا لَمْ تَتَحَمَّل الْعَاقِلَةُ ضَمَانَ الأَْمْوَال وَدِيَةَ الْعَمْدِ. لَكِنَّهُ تَرَكَ هَذَا الأَْصْل فِي دِيَةِ الْخَطَأِ بِنَصِّ الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَبِفِعْل الصَّحَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ كَمَا قَال الْبُهُوتِيُّ: إِنَّ جِنَايَاتِ الْخَطَأِ تَكْثُرُ، وَدِيَةُ الآْدَمِيِّ كَثِيرَةٌ، فَإِيجَابُهَا عَلَى الْجَانِي فِي مَالِهِ يُجْحِفُ بِهِ، فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِيجَابَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ عَلَى سَبِيل الْمُوَاسَاةِ لِلْقَاتِل وَالإِْعَانَةِ لَهُ تَخْفِيفًا (2) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: فِي حِكْمَتِهِ: إِنَّ حِفْظَ الْقَاتِل وَاجِبٌ عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَحْفَظُوا فَقَدْ فَرَّطُوا، وَالتَّفْرِيطُ مِنْهُمْ ذَنْبٌ.
وَيَدْخُل الْقَاتِل فِي تَحَمُّل دِيَةِ الْخَطَأِ مَعَ الْعَاقِلَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فَيَكُونُ فِيمَا يُؤَدِّي مِثْل أَحَدِهِمْ خِلاَفًا لِلشَّافِعِيِّ وَالْحَنَابِلَةِ كَمَا سَيَأْتِي (3) .
__________
(1) سورة الأنعام / 164.
(2) كشاف القناع 6 / 6، وانظر الشرح الكبير للدردير 4 / 281.
(3) البدائع 7 / 255، واللباب شرح الكتاب 2 / 71.

(21/48)


وَفِي بَيَانِ الْمُرَادِ مِنَ الْعَاقِلَةِ، وَتَحْدِيدِهَا، وَكَيْفِيَّةِ تَحْمِيلِهَا الدِّيَةَ، وَمِقْدَارُ مَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ مِنَ الدِّيَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَاقِلَة) .

14 - وَدِيَةُ الْقَتْل الْخَطَأِ دِيَةٌ مُخَفَّفَةٌ، وَلاَ تُغَلَّظُ فِي أَيِّ حَالٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ حَيْثُ قَالُوا بِتَغْلِيظِهَا فِي ثَلاَثِ حَالاَتٍ:
1 - إِذَا حَدَثَ الْقَتْل فِي حَرَمِ مَكَّةَ، تَحْقِيقًا لِلأَْمْنِ.
2 - إِذَا حَدَثَ الْقَتْل فِي الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ، أَيْ ذِي الْقَعْدَةِ وَذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ وَرَجَبٍ.
3 - إِذَا قَتَل الْقَاتِل ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ لَهُ. فَفِي هَذِهِ الْحَالاَتِ تَجِبُ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ؛ لِمَا رَوَى مُجَاهِدٌ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى فِيمَنْ قَتَل فِي الْحَرَمِ، أَوْ فِي الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ، أَوْ مَحْرَمًا بِالدِّيَةِ وَثُلُثِ الدِّيَةِ. وَلاَ تُغَلَّظُ الدِّيَةُ فِي الْقَتْل فِي الْمَدِينَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تُغَلَّظُ؛ لأَِنَّهَا كَالْحَرَمِ فِي تَحْرِيمِ الصَّيْدِ فَكَذَلِكَ فِي تَغْلِيظِ الدِّيَةِ (1) .
أَمَّا تَغْلِيظُ الدِّيَةِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ فَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِهِ، مَعَ بَيَانِ مَعْنَى التَّغْلِيظِ وَالتَّخْفِيفِ فِي الدِّيَةِ.

وَتَجِبُ الدِّيَةُ مِنْ صِنْفِ الْمَال الَّذِي يَمْلِكُهُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ. فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الإِْبِل تُؤَدَّى فِي
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 54، والمهذب 2 / 196، 197، والمغني 7 / 772، 774.

(21/49)


الْقَتْل الْخَطَأِ أَخْمَاسًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَهِيَ عِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً اتِّفَاقًا (1) . وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِشْرِينَ الْبَاقِيَةِ: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: هِيَ مِنْ بَنِي الْمَخَاضِ، وَهَذَا قَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ أَيْضًا (2) . لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: فِي دِيَةِ الْخَطَأِ: عِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ بَنِي مَخَاضٍ ذَكَرٍ (3) . (رَاجِعْ بَيَانَ هَذِهِ الأَْنْوَاعِ مِنَ الإِْبِل فِي مُصْطَلَحَاتِهَا) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا فِي الْعِشْرِينَ الْبَاقِيَةِ: هِيَ مِنْ بَنِي اللَّبُونِ، وَهَذَا قَوْل عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَرَبِيعَةَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَى الَّذِي قُتِل بِخَيْبَرَ بِمِائَةٍ مِنْ إِبِل الصَّدَقَةِ (4) وَلَيْسَ
__________
(1) البدائع 7 / 254، وبداية المجتهد 2 / 275، ومغني المحتاج 4 / 54، والمهذب 2 / 197، والمغني 7 / 769، 771.
(2) البدائع 7 / 254، والمغني 7 / 770.
(3) حديث ابن مسعود في دية الخطأ: " عشرون حقة. . . " أخرجه أبو داود (4 / 680 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والدارقطني (2 / 173 - ط دار المحاسن) ، وضعفه الدارقطني، وأطال في بيان وجوه تضعيفه.
(4) حديث: " ودى الذي قتل بخيبر بمائة من إبل الصدقة ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 229 - 230 - ط السلفية) من حديث سهل بن أبي حثمة.

(21/49)


فِيهَا ابْنُ مَخَاضٍ (1) .
وَالدِّيَةُ مِنَ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، أَمَّا مِنَ الْوَرِقِ (الْفِضَّةِ) فَهِيَ عَشَرَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَاثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ مِقْدَارِ الدِّيَةِ.

الثَّانِي: الْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ:
15 - الْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ هُوَ الْقَتْل بِمَا لاَ يَقْتُل غَالِبًا، كَمَا هُوَ تَعْبِيرُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَوْ هُوَ الْقَتْل بِمَا لاَ يُفَرِّقُ الأَْجْزَاءَ، كَمَا هُوَ تَعْبِيرُ الْحَنَفِيَّةِ. وَلاَ يَقُول بِهِ الْمَالِكِيَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ مِمَّنْ يَقُولُونَ بِشِبْهِ الْعَمْدِ فِي أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلدِّيَةِ.
وَالدِّيَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّطَةٌ. وَدَلِيل وُجُوبِهَا وَتَغْلِيظِهَا فِي الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ وَإِنَّ قَتِيل الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةٌ مِنَ الإِْبِل، أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلاَدُهَا (2) .
__________
(1) المهذب 2 / 197، ومغني المحتاج 4 / 54، وبداية المجتهد 2 / 375 ط المكتبة التجارية، وبنت مخاض: هي الإبل التي طعنت في السنة الثانية. وبنت لبون: هي التي طعنت في الثالثة. وحقة: هي التي طعنت في الرابعة. وجذعة: هي التي طعنت في الخامسة (اللباب 2 / 44) .
(2) حديث: " ألا وإن قتيل الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا ". أخرجه النسائي (8 / 41 - ط شركة الطباعة الفنية) وصححه ابن القطان كما في التلخيص لابن حجر (4 / 15 - ط شركة الطباعة الفنية) .

(21/50)


وَتَجِبُ هَذِهِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي عِنْدَ جُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِشِبْهِ الْعَمْدِ، وَبِهِ قَال الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَذَلِكَ؛ لِشُبْهَةِ عَدَمِ الْقَصْدِ لِوُقُوعِ الْقَتْل بِمَا لاَ يُقْصَدُ بِهِ الْقَتْل عَادَةً، أَوْ لاَ يَقْتُل غَالِبًا (1) .
وَلاَ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْجَانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيَشْتَرِكُ فِيهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا فِي الْقَتْل الْخَطَأِ.
وَدَلِيل وُجُوبِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُْخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَقَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا (2) .
وَقَال ابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَقَتَادَةُ، وَأَبُو ثَوْرٍ: إِنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْقَاتِل فِي مَالِهِ؛ لأَِنَّهَا مُوجِبُ فِعْلٍ قَصَدَهُ، فَلَمْ تَحْمِلْهُ الْعَاقِلَةُ، كَالْعَمْدِ الْمَحْضِ (3) .

وُجُوهُ تَغْلِيظِ الدِّيَةِ وَتَخْفِيفِهَا فِي شِبْهِ الْعَمْدِ:
16 - إِنَّ الْقَتْل شِبْهَ الْعَمْدِ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْعَمْدِ
__________
(1) البدائع 7 / 251، 255، ومغني المحتاج 4 / 55، والمغني لابن قدامة 7 / 766، 767.
(2) الحديث تقدم تخريجه ف 12.
(3) المغني 7 / 267 وما بعدها.

(21/50)


وَالْخَطَأِ، فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَاتِل قَصَدَ الْفِعْل يُشْبِهُ الْعَمْدَ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ الْقَتْل يُشْبِهُ الْخَطَأَ، وَلِهَذَا رُوعِيَ فِي عُقُوبَتِهِ التَّغْلِيظُ وَالتَّخْفِيفُ مَعًا، فَتُغَلَّظُ الدِّيَةُ فِيهِ مِنْ نَاحِيَةِ أَسْنَانِ الإِْبِل، وَتُخَفَّفُ مِنْ نَاحِيَةِ وُجُوبِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَمِنْ نَاحِيَةِ التَّأْجِيل فَتُؤَدَّى مِنْ قِبَل الْعَاقِلَةِ فِي ثَلاَثِ سِنِينَ فِي آخِرِ كُل سَنَةٍ ثُلُثُهَا. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ أَعْلَمُ فِي أَنَّهَا تَجِبُ مُؤَجَّلَةً خِلاَفًا بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (1) .

وَلاَ تُغَلَّظُ الدِّيَةُ فِي غَيْرِ الإِْبِل عِنْدَ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهَا مُقَدَّرَةٌ، وَلَمْ يَرِدِ النَّصُّ فِي غَيْرِ الإِْبِل فَيُقْتَصَرُ عَلَى التَّوْقِيفِ (2) .
وَاخْتَلَفَ الْجُمْهُورُ فِي أَسْنَانِ الإِْبِل الْوَاجِبَةِ فِي دِيَةِ الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ:
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْل مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهَا مُثَلَّثَةٌ، ثَلاَثُونَ حِقَّةً، وَثَلاَثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلاَدُهَا. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: هِيَ مِائَةٌ مِنَ الإِْبِل أَرْبَاعًا: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً،
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 55، والمغني لابن قدامة 7 / 766، 767.
(2) اللباب 2 / 44، وكشاف القناع 6 / 19.

(21/51)


وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً (1) .
وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ مَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ: (ر: عَاقِلَة) .

الثَّالِثُ: الْقَتْل الْعَمْدُ:
17 - الأَْصْل أَنَّ الْقَتْل الْعَمْدَ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُْنْثَى بِالأُْنْثَى. . .} الآْيَةَ (2) .
فَمَنْ قَتَل شَخْصًا عَمْدًا عُدْوَانًا يُقْتَل قِصَاصًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الدِّيَةَ لَيْسَتْ عُقُوبَةً أَصْلِيَّةً لِلْقَتْل الْعَمْدِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ بِالصُّلْحِ (بِرِضَا الْجَانِي) ، كَمَا هُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَوْ بَدَلاً عَنِ الْقِصَاصِ، وَلَوْ بِغَيْرِ رِضَا الْجَانِي، كَمَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. فَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ لِسَبَبٍ مَا وَجَبَتِ الدِّيَةُ عِنْدَهُمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّ الدِّيَةَ عُقُوبَةٌ أَصْلِيَّةٌ بِجَانِبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ. فَالْوَاجِبُ عِنْدَهُمْ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ: الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ، وَيُخَيَّرُ الْوَلِيُّ بَيْنَهُمَا وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الْجَانِي (3) .
__________
(1) اللباب شرح الكتاب 3 / 44، 71، ومغني المحتاج 4 / 55، والمغني 7 / 765 - 767.
(2) سورة البقرة / 178.
(3) البدائع 1 / 241، والدسوقي 4 / 239، ومغني المحتاج 4 / 48، وكشاف القناع 5 / 543 - 545.

(21/51)


تَغْلِيظُ الدِّيَةِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ:
18 - الدِّيَةُ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ مُغَلَّظَةٌ، سَوَاءٌ أُوجِبَ فِيهِ الْقِصَاصُ وَسَقَطَ بِالْعَفْوِ، أَوْ لِشُبْهَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، أَمْ لَمْ يَجِبْ أَصْلاً، كَقَتْل الْوَالِدِ وَلَدَهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تَغْلِيظِ الدِّيَةِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ:
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تَجِبُ أَرْبَاعًا، خَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَتَجِبُ فِي مَال الْجَانِي حَالَّةً، وَذَلِكَ تَغْلِيظًا عَلَى الْقَاتِل.
لَكِنِ الْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: تُثَلَّثُ الدِّيَةُ فِي قَتْل الأَْبِ وَلَدَهُ عَمْدًا إِذَا لَمْ يُقْتَل بِهِ.
فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ التَّثْلِيثُ بِثَلاَثِينَ حِقَّةً، وَثَلاَثِينَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً أَيْ حَامِلاً.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: دِيَةُ الْعَمْدِ مُثَلَّثَةٌ فِي مَال الْجَانِي حَالَّةً فَهِيَ مُغَلَّظَةٌ مِنْ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ: كَوْنِهَا عَلَى الْجَانِي، وَحَالَّةً، وَمِنْ جِهَةِ السِّنِّ (1) .
وَلاَ تُؤَجَّل الدِّيَةُ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ الأَْصْل وُجُوبُ الدِّيَةِ حَالَّةً بِسَبَبِ الْقَتْل، وَالتَّأْجِيل فِي الْخَطَأِ ثَبَتَ مَعْدُولاً بِهِ عَنِ الأَْصْل لإِِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، أَوْ مَعْلُولاً بِالتَّخْفِيفِ عَلَى الْقَاتِل، حَتَّى تَحْمِل عَنْهُ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 258، 259، جواهر الإكليل 2 / 265، وكشاف القناع 6 / 19، 20، ومغني المحتاج 4 / 53 - 55.

(21/52)


الْعَاقِلَةُ، وَالْعَامِدُ يَسْتَحِقُّ التَّغْلِيظَ، وَلِهَذَا وَجَبَ فِي مَالِهِ لاَ عَلَى الْعَاقِلَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: التَّغْلِيظُ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ كَالتَّغْلِيظِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ مِنْ نَاحِيَةِ أَسْنَانِ الإِْبِل، فَتَجِبُ أَرْبَاعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَأَثْلاَثًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ. إِلاَّ أَنَّهَا تَجِبُ فِي مَال الْجَانِي وَحْدَهُ وَلاَ تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ؛ لأَِنَّهَا جَزَاءُ فِعْلٍ ارْتَكَبَهُ قَصْدًا وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (1) } . وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلاَ يَجْنِي جَانٍ إِلاَّ عَلَى نَفْسِهِ (2) .
وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ مُؤَجَّلَةً أَيْضًا فِي ثَلاَثِ سِنِينَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (خِلاَفًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ) ؛ لأَِنَّ الأَْجَل وَصْفٌ لِكُل دِيَةٍ وَجَبَتْ بِالنَّصِّ، فَدِيَةُ الْقَتْل الْعَمْدِ مُغَلَّظَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ فَقَطْ: أَحَدُهُمَا مِنْ نَاحِيَةِ الأَْسْنَانِ، وَالثَّانِي أَنَّهَا تَجِبُ فِي مَال الْجَانِي (3) .

حَالاَتُ وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ:
أ - الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ:
19 - رَغَّبَ الشَّارِعُ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ فَقَال
__________
(1) سورة الأنعام / 164.
(2) حديث: " لا يجني جان إلا على نفسه " أخرجه الترمذي (4 / 461 - ط الحلبي) من حديث عمرو بن الأحوص، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(3) البدائع 7 / 256، 257.

(21/52)


سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى (1) } ثُمَّ قَال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ (2) } ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَلاَ عَفَا رَجُلٌ عَنْ مَظْلِمَةٍ إِلاَّ زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا (3) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ مَجَّانًا فَهُوَ أَفْضَل.
وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ فِي الْحَالاَتِ التَّالِيَةِ:

1 - عَفْوِ جَمِيعِ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيل:
20 - إِذَا عَفَا جَمِيعُ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيل وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ صَغِيرٌ وَلاَ مَجْنُونٌ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَتَسْقُطُ الدِّيَةُ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ؛ لأَِنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ هُوَ الْقِصَاصُ، وَهُوَ الْوَاجِبُ عَيْنًا أَيْ مُتَعَيِّنًا عِنْدَهُمْ، فَلَيْسَ لِلأَْوْلِيَاءِ أَنْ يُجْبِرُوا الْجَانِيَ عَلَى دَفْعِ الدِّيَةِ، وَإِنَّمَا لَهُمْ أَنْ يَعْفُوا مَجَّانًا أَوْ يَقْتَصُّوا
__________
(1) سورة البقرة / 178.
(2) سورة البقرة / 178.
(3) حديث: " ما نقصت صدقة من مال. . . " أخرجه مسلم (4 / 2001 - ط الحلبي) ، وأحمد (2 / 235 - ط الميمنية) من حديث أبي هريرة، واللفظ لأحمد

(21/53)


مِنْهُ، فَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِالْعَفْوِ فَلاَ بَدِيل لَهُ مِنَ الدِّيَةِ، إِلاَّ عَنْ طَرِيقِ التَّرَاضِي وَالصُّلْحِ بَيْنَ الأَْوْلِيَاءِ وَالْجَانِي، وَإِذَا حَصَل الصُّلْحُ بَيْنَهُمْ جَازَ الْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَل مِنْهَا بِرِضَا الْجَانِي؛ لأَِنَّ بَدَل الصُّلْحِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لِلأَْوْلِيَاءِ أَنْ يَعْفُوا عَنِ الْقَوَدِ عَلَى الدِّيَةِ بِغَيْرِ رِضَا الْجَانِي.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ الْعَفْوَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلدِّيَةِ بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ فَلاَ تَجِبُ الدِّيَةُ بِنَاءً عَلَى الْقَوْل الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقَوَدُ؛ لأَِنَّ الْقَتْل لَمْ يُوجِبِ الدِّيَةَ عَلَى هَذَا الْقَوْل، وَالْعَفْوُ إِسْقَاطُ شَيْءٍ ثَابِتٍ، لاَ إِثْبَاتُ مَعْدُومٍ.
وَعَلَى قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَهُمْ: تَجِبُ الدِّيَةُ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُهُمَا، فَإِذَا تُرِكَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْقَوَدُ وَجَبَ الآْخَرُ أَيِ الدِّيَةُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُخَيَّرُ الأَْوْلِيَاءُ بَيْنَ الْقَوَدِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قُتِل لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُودَى وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ (2) . وَحَيْثُ إِنَّ الدِّيَةَ دُونَ الْقِصَاصِ فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَنْتَقِل إِلَيْهَا وَلَوْ سَخِطَ الْجَانِي؛ لأَِنَّهَا أَقَل مِنْ حَقِّهِ،
__________
(1) البدائع للكاساني 7 / 247، والدسوقي مع الشرح الكبير للدردير 4 / 239، 240.
(2) حديث: " من قتل له قتيل فهو بخير النظرين " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 205 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 989 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.

(21/53)


وَإِنْ عَفَا مُطْلَقًا بِأَنْ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِقَوَدٍ وَلاَ دِيَةٍ، أَوْ قَال: عَفَوْتُ عَنِ الْقَوَدِ، فَلَهُ الدِّيَةُ؛ لاِنْصِرَافِ الْعَفْوِ إِلَى الْقَوَدِ فِي مُقَابَلَةِ الاِنْتِقَامِ، وَالاِنْتِقَامُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْقَتْل (1) .

2 - عَفْوُ بَعْضِ الأَْوْلِيَاءِ:
21 - إِذَا عَفَا بَعْضُ الأَْوْلِيَاءِ عَنِ الْقَوَدِ دُونَ الْبَعْضِ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْقَاتِل؛ لأَِنَّهُ سَقَطَ نَصِيبُ الْعَافِي بِالْعَفْوِ، فَيَسْقُطُ نَصِيبُ الآْخَرِ فِي الْقَوَدِ ضَرُورَةً؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَجَزَّأُ فَلاَ يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاءُ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ.
وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَبْقَى لِلآْخَرِينَ نَصِيبُهُمْ مِنَ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لإِِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا فِي عَفْوِ بَعْضِ الأَْوْلِيَاءِ لِلَّذِينَ لَمْ يَعْفُوا نَصِيبَهُمْ مِنَ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ أَنْكَرَ أَحَدٌ عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا.
وَيَسْتَوِي فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَفْوُ أَحَدِ الأَْوْلِيَاءِ مَجَّانًا أَوْ إِلَى الدِّيَةِ.
وَلاَ يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ مِنْ قِبَل الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ ثَابِتًا لَهُمَا،
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 48، 49، والمهذب 2 / 189، كشاف القناع 5 / 543، 544، والمغني 7 / 742، 744.

(21/54)


وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمُضِرَّةِ الْمَحْضَةِ، فَلاَ يَمْلِكَانِهِ كَالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهِمَا (1) .

ب - مَوْتُ الْجَانِي (فَوَاتُ مَحَل الْقِصَاصِ) :
22 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْقَاتِل إِذَا مَاتَ أَوْ قُتِل سَقَطَ الْقِصَاصُ بِفَوَاتِ مَحَلِّهِ وَلاَ تَجِبُ الدِّيَةُ؛ لأَِنَّ الْقِصَاصَ فِي الْعَمْدِ هُوَ الْوَاجِبُ عَيْنًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى (2) } . الآْيَةَ، حَتَّى لاَ يَمْلِكُ الْوَلِيُّ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ مِنَ الْقَاتِل بِغَيْرِ رِضَاهُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ مَاتَ الْقَاتِل أَوْ قُتِل وَجَبَتِ الدِّيَةُ فِي تَرِكَتِهِ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ بِقَتْل الْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ: الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ، وَيُخَيَّرُ الْوَلِيُّ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الْجَانِي. فَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِمَوْتِ الْجَانِي بَقِيَ حَقُّهُ فِي اسْتِيفَاءِ الدِّيَةِ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلاَنِ: الأَْوَّل وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ: أَنَّ مُوجِبَ الْقَتْل الْعَمْدِ الْقَوَدُ عَيْنًا، وَهَذَا مُتَّفِقٌ مَعَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عِنْدَ سُقُوطِ الْقِصَاصِ بِعَفْوٍ
__________
(1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني 7 / 246 - 247، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 261، والمهذب للشيرازي 2 / 190، والمغني لابن قدامة 7 / 744.
(2) سورة البقرة / 178.

(21/54)


أَوْ غَيْرِهِ كَمَوْتِ الْجَانِي، فَتَجِبُ الدِّيَةُ بِغَيْرِ رِضَا الْجَانِي.
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: مُوجِبُ الْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ (الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ) مُبْهَمًا لاَ بِعَيْنِهِ، وَعَلَى كِلاَ الْقَوْلَيْنِ تَجِبُ الدِّيَةُ عِنْدَ سُقُوطِ الْقِصَاصِ بِمَوْتِ الْجَانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .

ج - الدِّيَةُ فِي أَحْوَال سُقُوطِ الْقِصَاصِ:
23 - إِذَا وُجِدَ مَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ بَدَلاً عَنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لِوُجُوبِ الدِّيَةِ حَال سُقُوطِ الْقِصَاصِ بِسَبَبِ الشُّبْهَةِ أَمْثِلَةً، مِنْهَا:

1 - قَتْل الْوَالِدِ وَلَدَهُ:
24 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَتَل الْوَالِدُ وَلَدَهُ فَلاَ قِصَاصَ لِحَدِيثِ: " لاَ يُقَادُ الأَْبُ مِنِ ابْنِهِ (2) " وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْوَالِدِ لِشُبْهَةِ الْجُزْئِيَّةِ وَتَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ.
وَفِي حُكْمِ الْوَالِدِ الْجَدُّ وَالْوَالِدَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تُقْتَل الأُْمُّ بِقَتْل وَلَدِهَا.
__________
(1) البدائع 7 / 241، والدسوقي مع الشرح الكبير للدردير 4 / 239، مغني المحتاج 4 / 48، كشاف القناع 7 / 543، 545.
(2) حديث: " لا يقاد الأب من ابنه. . . " أخرجه البيهقي في السنن (8 / 38 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عمر، ونقل الزيلعي في نصب الراية (4 / 339 - ط المجلس العلمي) عن البيهقي أنه صححه.

(21/55)


وَهَذَا بِخِلاَفِ قَتْل الْوَلَدِ لِلْوَالِدِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَ الْجَمِيعِ. وَعَلَّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقِصَاصَ شُرِعَ لِتَحْقِيقِ حِكْمَةِ الْحَيَاةِ بِالزَّجْرِ وَالرَّدْعِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى الزَّجْرِ فِي جَانِبِ الْوَلَدِ لاَ فِي جَانِبِ الْوَالِدِ؛ وَلأَِنَّ الْوَالِدَ كَانَ سَبَبًا فِي حَيَاةِ الْوَلَدِ فَلاَ يَكُونُ الْوَلَدُ سَبَبًا فِي مَوْتِهِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا قَتَل الرَّجُل ابْنَهُ مُتَعَمِّدًا، وَاعْتَرَفَ بِقَصْدِ قَتْلِهِ، أَوْ فَعَل بِهِ فِعْلاً مِنْ شَأْنِهِ الْقَتْل مِثْل أَنْ يَذْبَحَهُ أَوْ يَشُقَّ بَطْنَهُ، وَلاَ شُبْهَةَ لَهُ فِي ادِّعَاءِ الْخَطَأِ يُقْتَل بِهِ قِصَاصًا (1) .

2 - الاِشْتِرَاكُ مَعَ مَنْ لاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ:
25 - لَوِ اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي قَتْل رَجُلٍ أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَوِ انْفَرَدَ وَالآْخَرُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ لَوِ انْفَرَدَ، كَالصَّبِيِّ مَعَ الْبَالِغِ، وَالْمَجْنُونِ مَعَ الْعَاقِل، وَالْخَاطِئِ مَعَ الْعَامِدِ فَإِنَّهُ لاَ قِصَاصَ عَلَى أَيِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي شَرِيكِ الْمُخْطِئِ وَالْمَجْنُونِ. فَتَجِبُ عَلَى الْمُتَعَمِّدِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ وَنِصْفُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْمُخْطِئِ وَالْمَجْنُونِ. وَاسْتَدَلُّوا لِسُقُوطِ الْقِصَاصِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 235، وحاشية ابن عابدين 5 / 343، مغني المحتاج 4 / 18، والمهذب 2 / 174، والمغني 7 / 666، 667، والدسوقي 4 / 242، والفواكه الدواني 2 / 259.

(21/55)


فِي هَذِهِ الْحَالاَتِ - كَمَا قَال الْكَاسَانِيُّ - بِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي فِعْل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لأَِنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ فِعْل مَنْ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَوِ انْفَرَدَ مُسْتَقِلًّا فِي الْقَتْل، فَيَكُونُ فِعْل الآْخَرِ فَضْلاً (1) .
وَفِي شَرِيكِ الصَّبِيِّ قَال الْمَالِكِيَّةُ: عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إِنْ تَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ عَمْدًا، وَعَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لأَِنَّ عَمْدَهُ كَخَطَئِهِ. وَإِنْ لَمْ يَتَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ وَتَعَمَّدَا قَتْلَهُ، أَوْ تَعَمَّدَ الْكَبِيرُ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ، وَعَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ نِصْفُهَا.
أَمَّا إِذَا اشْتَرَكَ أَجْنَبِيٌّ مَعَ الأَْبِ فِي قَتْل وَلَدِهِ فَالْجُمْهُورُ: (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) عَلَى أَنَّهُ يُقْتَل شَرِيكُ الأَْبِ، وَعَلَى الأَْبِ نِصْفُ الدِّيَةِ مُغَلَّظَةً عِنْدَ مَنْ يَقُول بِعَدَمِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي فِعْل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَشَرِيكِ الْخَاطِئِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَعَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي: (قِصَاص) .
__________
(1) البدائع 7 / 235، وجواهر الإكليل 2 / 257، والدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 246، 247، والمغني 7 / 676، 677، 680، ومغني المحتاج 4 / 20، 21، وحاشية القليوبي 4 / 108.
(2) البدائع 7 / 237، وجواهر الإكليل 2 / 257، والدسوقي 4 / 246، 247، ومغني المحتاج 4 / 20، والمغني 7 / 636، 666.

(21/56)


3 - إِرْثُ الْوَلَدِ حَقَّ الاِقْتِصَاصِ مِنْ أَصْلِهِ:
26 - إِذَا وَرِثَ الْوَلَدُ الْقِصَاصَ مِنْ أَحَدِ الأَْبَوَيْنِ عَلَى الآْخَرِ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ وَذَلِكَ لِشُبْهَةِ الْوِرَاثَةِ. فَلَوْ قَتَل أَحَدُ الأَْبَوَيْنِ صَاحِبَهُ وَلَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ؛ لأَِنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ لِوَلَدِهِ، وَلاَ يَجِبُ لِلْوَلَدِ قِصَاصٌ عَلَى وَالِدِهِ.؛ لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِبْ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فَلأََنْ لاَ يَجِبَ لَهُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى. وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى. أَوْ كَانَ لِلْمَقْتُول وَلَدٌ سِوَاهُ أَوْ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ أَمْ لَمْ يَكُنْ؛ لأَِنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْقِصَاصُ لَوَجَبَ لَهُ جُزْءٌ مِنْهُ وَلاَ يُمْكِنُ وُجُوبُهُ. وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ بَعْضُهُ سَقَطَ كُلُّهُ؛ لأَِنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَتَبَعَّضُ، وَصَارَ كَمَا لَوْ عَفَا بَعْضُ مُسْتَحَقِّي الْقِصَاصِ عَنْ نَصِيبِهِ مِنْهُ، وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَقُول بِعَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْوَالِدِ بِسَبَبِ قَتْل وَلَدِهِ، وَهُمُ الْجُمْهُورُ.
وَكَذَا لَوْ قَتَل رَجُلٌ أَخَاهُ أَوْ أَحَدًا يَرِثُ ابْنُهُ حَقَّ الْقِصَاصِ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ.
وَهُنَاكَ أَنْوَاعٌ أُخْرَى تَمْنَعُ الْقِصَاصَ (1) . يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحَاتِ: (قِصَاص، قَتْل، شُبْهَة) .
__________
(1) الزيلعي 6 / 105، 106، والفواكه الدواني 2 / 257، ونهاية المحتاج 7 / 21، المغني لابن قدامة 7 / 668، 669.

(21/56)


د - الْقَتْل بِالتَّسَبُّبِ:
27 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْل بِالسَّبَبِ مُطْلَقًا، بَل تَجِبُ الدِّيَةُ؛ لأَِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا فِي الْقِصَاصِ أَنْ يَكُونَ الْقَتْل مُبَاشَرَةً، وَلاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ فَيُقْتَصُّ مِنَ الْقَاتِل فِي بَعْضِ حَالاَتِ التَّسَبُّبِ عِنْدَهُمْ.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الْحَالاَتِ، وَلَمْ يَقُولُوا بِالْقِصَاصِ فِي حَالاَتٍ أُخْرَى بَل قَالُوا بِوُجُوبِ الدِّيَةِ (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَتْلٌ بِالتَّسَبُّبِ) .

مَا تَجِبُ مِنْهُ الدِّيَةُ: (أُصُول الدِّيَةِ) :
28 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الإِْبِل أَصْلٌ فِي الدِّيَةِ، فَتُقْبَل إِذَا أُدِّيَتْ مِنْهَا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ (2) .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى الإِْبِل: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ أُصُول الدِّيَةِ أَيْ مَا تُقْضَى مِنْهُ الدِّيَةُ مِنَ الأَْمْوَال ثَلاَثَةُ أَجْنَاسٍ: الإِْبِل وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ
__________
(1) البدائع 7 / 239، 274، والمهذب 2 / 194، المغني 7 / 645، 822، 823، الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 243، 244، والمواق 6 / 241، ومغني المحتاج 4 / 6، وجواهر الإكليل 2 / 245.
(2) البدائع 7 / 253، 254، والفواكه الدواني 2 / 257، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 266، ومغني المحتاج 4 / 55، 56، وكشاف القناع 6 / 18، 19، والمغني 7 / 759 وما بعدها.

(21/57)


فِي النَّفْسِ مِائَةً مِنَ الإِْبِل (1) ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: عَلَى أَهْل الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْل الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ (2) .
فَالدِّيَةُ عَلَى أَهْل الإِْبِل مِائَةٌ مِنَ الإِْبِل، وَعَلَى أَهْل الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ وَعَلَى أَهْل الْوَرِقِ (الْفِضَّةِ) اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى أَهْل الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْل الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلاً قُتِل فَجَعَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا.
قَال النَّفْرَاوِيُّ الْمَالِكِيُّ: صَرْفُ دِينَارِ الدِّيَةِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا، كَدِينَارِ السَّرِقَةِ وَالنِّكَاحِ، بِخِلاَفِ دِينَارِ الْجِزْيَةِ وَالزَّكَاةِ فَصَرْفُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَأَمَّا دِينَارُ الصَّرْفِ فَلاَ يَنْضَبِطُ (3) .
__________
(1) حديث: " إن في النفس مائة من الإبل " تقدم من حديث عمرو بن حزم ف / 7.
(2) حديث: " على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم ". مركب من حديثين، الأول تقدم من حديث عمرو بن حزم ف / 7، والثاني ورد من قضائه صلى الله عليه وسلم، أخرجه أبو داود (4 / 681 - 682 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث ابن عباس، وأعل بالإرسال كما في التلخيص لابن حجر (4 / 23 ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) الزيلعي 1 / 127، والفواكه الدواني 2 / 257، ومغني المحتاج 4 / 56، وكشاف القناع 6 / 8، والمغني 7 / 760. وحديث: أن رجلاً قتل فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفًا. تقدم في التعليق على الحديث السابق.

(21/57)


وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الدِّيَةُ مِنَ الْوَرِقِ عَشَرَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ؛ لِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (الدِّيَةُ عَشَرَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ) ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا مَعَ أَنَّ الْمَقَادِيرَ لاَ تُعْرَفُ إِلاَّ سَمَاعًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدِّيَةِ فِي قَتِيلٍ بِعَشَرَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ
وَلأَِنَّ الدِّينَارَ مُقَوَّمٌ فِي الشَّرْعِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَمَا فِي الزَّكَاةِ، فَإِنَّ نِصَابَ الْفِضَّةِ فِي الزَّكَاةِ مُقَدَّرٌ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَنِصَابَ الذَّهَبِ فِيهَا بِعِشْرِينَ دِينَارًا.
قَال الزَّيْلَعِيُّ: يُحْمَل مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى وَزْنِ خَمْسَةٍ، وَمَا رَوَيْنَاهُ عَلَى وَزْنِ سِتَّةٍ، وَهَكَذَا كَانَتْ دَرَاهِمُهُمْ فِي زَمَانِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى زَمَانِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاسْتَوَيَا (1) . وَبِهَذَا ظَهَرَ أَنَّ الاِخْتِلاَفَ فِي مِقْدَارِ الدِّيَةِ يَرْجِعُ إِلَى سِعْرِ صَرْفِ الدِّينَارِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل الصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ أُصُول الدِّيَةِ خَمْسَةٌ: الإِْبِل
__________
(1) البدائع 7 / 254. وحديث: " قضى بالدية في قتيل بعشرة آلاف درهم. . . " قال عنه الزيلعي: " غريب " كذا في نصب الراية (4 / 362 - ط المجلس العلمي) يعني أنه لا أصل له.

(21/58)


وَالذَّهَبُ وَالْوَرِقُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، وَهَذَا قَوْل عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَفُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَزَادَ عَلَيْهَا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - الْحُلَل، فَتَكُونُ أُصُول الدِّيَةِ سِتَّةَ أَجْنَاسٍ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ عُمَرَ قَامَ خَطِيبًا فَقَال: أَلاَ إِنَّ الإِْبِل قَدْ غَلَتْ. . فَفَرَضَهَا عَلَى أَهْل الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْل الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا وَعَلَى أَهْل الْبَقَرِ مَائِتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْل الشَّاءِ أَلْفَيْ شَاةٍ، وَعَلَى أَهْل الْحُلَل مِائَتَيْ حُلَّةٍ (1) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَأَيُّ شَيْءٍ أَحْضَرَهُ مَنْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ مِنَ الْجَانِي أَوِ الْعَاقِلَةِ مِنْ هَذِهِ الأُْصُول لَزِمَ الْوَلِيَّ أَوِ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ أَخْذُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِغَيْرِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ أَهْل ذَلِكَ النَّوْعِ أَمْ لَمْ يَكُنْ؛ لأَِنَّهَا أُصُولٌ فِي قَضَاءِ الْوَاجِبِ يُجْزِئُ وَاحِدٌ مِنْهَا، فَكَانَتِ الْخِيَرَةُ إِلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ: وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَوْل طَاوُسٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ: إِنَّ الأَْصْل فِي الدِّيَةِ الإِْبِل لاَ غَيْرُ؛ لِقَوْلِهِ: أَلاَ إِنَّ قَتِيل الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةٌ مِنَ الإِْبِل (3) .
وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ دِيَةِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فَغَلَّظَ
__________
(1) المغني 7 / 759، والبدائع 7 / 253، 254.
(2) الزيلعي 6 / 27، والمغني 7 / 761.
(3) حديث: " ألا إن قتيل الخطأ ". تقدم فقرة / 15.

(21/58)


بَعْضَهَا وَخَفَّفَ بَعْضَهَا، وَلاَ يَتَحَقَّقُ هَذَا فِي غَيْرِ الإِْبِل؛ وَلأَِنَّهُ بَدَل مُتْلَفٍ (وَجَبَ) حَقًّا لآِدَمِيٍّ، فَكَانَ مُتَعَيِّنًا كَعِوَضِ الأَْمْوَال (1) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ وَلَهُ إِبِلٌ تُؤْخَذُ الدِّيَةُ مِنْهَا سَلِيمَةً مِنَ الْعُيُوبِ، وَأَيُّهُمَا أَرَادَ الْمَعْدُول عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا فَلِلآْخَرِ مَنْعُهُ، وَلاَ يَعْدِل إِلَى نَوْعٍ آخَرَ أَوْ قِيمَتِهِ إِلاَّ بِتَرَاضٍ مِنَ الْمُودِي وَالْمُسْتَحِقِّ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ مُتَعَيِّنٌ فِي الإِْبِل فَاسْتُحِقَّتْ كَالْمِثْل فِي الْمِثْلِيَّاتِ الْمُتْلَفَةِ.
وَلَوْ عَدِمَتْ إِبِل الدِّيَةِ حِسًّا بِأَنْ لَمْ تُوجَدْ فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ تَحْصِيلُهَا مِنْهُ، أَوْ شَرْعًا بِأَنْ وُجِدَتْ فِيهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهَا، فَالْوَاجِبُ أَلْفُ دِينَارٍ عَلَى أَهْل الدَّنَانِيرِ أَوِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِضَّةً عَلَى أَهْل الدَّرَاهِمِ، وَهَذَا قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ لِحَدِيثِ: " عَلَى أَهْل الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْل الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ (2) " وَفِي الْقَوْل الْجَدِيدِ لِلشَّافِعِيِّ تَجِبُ قِيمَتُهَا وَقْتَ وُجُوبِ تَسْلِيمِهَا بِنَقْدِ بَلَدِهِ الْغَالِبِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ لأَِنَّهُ بَدَل مُتْلَفٍ، فَيَرْجِعُ إِلَى قِيمَتِهَا عِنْدَ إِعْوَازِ الأَْصْل (3) . وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: أَهْل الْبَوَادِي مِنْ كُل
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 55، 56، والمغني لابن قدامة 7 / 759، 760.
(2) حديث: " على أهل الذهب ألف دينار ". تقدم في نفس الفقرة.
(3) مغني المحتاج 4 / 55، 56، والمغني لابن قدامة 7 / 761، وكشاف القناع 6 / 18.

(21/59)


إِقْلِيمٍ مِنْ أَهْل الإِْبِل فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُمْ إِلاَّ الْخَيْل وَالْبَقَرُ فَلاَ نَصَّ، وَالظَّاهِرُ تَكْلِيفُهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَى حَاضِرَتِهِمْ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَقِيل: يُكَلَّفُونَ قِيمَةَ الإِْبِل (1) .

مِقْدَارُ الدِّيَةِ: أَوَّلاً: مِقْدَارُ الدِّيَةِ فِي النَّفْسِ:
أ - دِيَةُ الذَّكَرِ الْحُرِّ:
29 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ دِيَةَ الذَّكَرِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ هِيَ مِائَةٌ مِنَ الإِْبِل أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا عَلَى مَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ. كَمَا أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي مِقْدَارِ الدِّيَةِ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْحُلَل عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهَا (2) .

دِيَةُ الأُْنْثَى
30 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ دِيَةَ الأُْنْثَى الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ هِيَ نِصْفُ دِيَةِ الذَّكَرِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُل؛ لِمَا رَوَى مُعَاذٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: دِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 57.
(2) الزيلعي 6 / 126، 127، والبدائع 7 / 253، 254، وجواهر الإكليل 2 / 266، والمغني لابن قدامة 7 / 760 وما بعدها.

(21/59)


الرَّجُل (1) . وَلأَِنَّهَا فِي الشَّهَادَةِ وَالْمِيرَاثِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُل فَكَذَلِكَ فِي الدِّيَةِ.
وَهَذَا فِي دِيَةِ النَّفْسِ، أَمَّا فِي دِيَةِ الأَْطْرَافِ وَالْجُرُوحِ فَاخْتَلَفُوا: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِنَّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ أَطْرَافِ وَجِرَاحِ الرَّجُل أَيْضًا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: عَقْل الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُل فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَهَا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لأَِنَّهُمَا شَخْصَانِ تَخْتَلِفُ دِيَتُهُمَا فِي النَّفْسِ فَاخْتَلَفَتْ فِي الأَْطْرَافِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تُسَاوِي الْمَرْأَةُ الرَّجُل فِي دِيَةِ الأَْطْرَافِ إِلَى ثُلُثِ دِيَةِ الرَّجُل. فَإِذَا بَلَغَتِ الثُّلُثَ رَجَعَتْ إِلَى عَقْلِهَا، فَإِذَا قَطَعَ لَهَا ثَلاَثَ أَصَابِعَ فَلَهَا ثَلاَثُونَ مِنَ الإِْبِل كَالرَّجُل، وَإِذَا قَطَعَ لَهَا أَرْبَعَ أَصَابِعَ فَإِنَّهَا تَأْخُذُ نِصْفَ مَا يَأْخُذُهُ الرَّجُل: أَيْ تَأْخُذُ عِشْرِينَ مِنَ الإِْبِل، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَبِهِ قَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعُرْوَةُ وَالزُّهْرِيُّ، وَهُوَ قَوْل فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَقْل الْمَرْأَةِ مِثْل عَقْل الرَّجُل
__________
(1) حديث: " دية المرأة على النصف من دية الرجل " أخرجه البيهقي (8 / 95 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال: " إسناده لا يثبت مثله ".

(21/60)


حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثَ مِنْ دِيَتِهَا (1) . وَهُوَ نَصٌّ يُقَدَّمُ عَلَى مَا سِوَاهُ (2) .

دِيَةُ الْخُنْثَى
31 - إِذَا كَانَ الْمَقْتُول خُنْثَى مُشْكِلاً فَفِيهِ نِصْفُ دِيَةِ ذَكَرٍ وَنِصْفُ دِيَةِ أُنْثَى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُ يَحْتَمِل الذُّكُورِيَّةَ وَالأُْنُوثِيَّةَ، وَقَدْ يَئِسْنَا مِنِ انْكِشَافِ حَالِهِ فَيَجِبُ التَّوَسُّطُ بَيْنَهُمَا بِكِلاَ الاِحْتِمَالَيْنِ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قُتِل خَطَأً وَجَبَتْ دِيَةُ الْمَرْأَةِ وَيُوقَفُ الْبَاقِي إِلَى التَّبَيُّنِ (4) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْخُنْثَى كَالأُْنْثَى فِي الدِّيَةِ فَيَجِبُ فِي قَتْلِهَا نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لأَِنَّ زِيَادَتَهُ عَلَيْهَا مَشْكُوكٌ فِيهَا (5) .

دِيَةُ الْكَافِرِ
32 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ دِيَةَ لِلْحَرْبِيِّ؛ لأَِنَّهُ لاَ عِصْمَةَ لَهُ.
__________
(1) حديث: " عقل المرأة مثل عقل الرجل. . . " أخرجه النسائي (8 / 44 - 45 - ط المكتبة التجارية) وفي إسناده ضعف كما في نصب الراية (4 / 364 - ط المجلس العلمي) .
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 368، والاختيار للموصلي 5 / 36، والفواكه الدواني 2 / 259، ومغني المحتاج 4 / 56، 57، والمغني لابن قدامة 7 / 797، وما بعدها.
(3) مواهب الجليل للحطاب وبهامشه التاج والإكليل للمواق 6 / 433، والمغني 8 / 62.
(4) حاشية ابن عابدين 5 / 369.
(5) مغني المحتاج 4 / 57، وروضة الطالبين 9 / 159.

(21/60)


أَمَّا الذِّمِّيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الدِّيَةِ فِيهِمَا: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعُرْوَةَ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ دِيَةَ الْكِتَابِيِّ الذِّمِّيِّ وَالْمُعَاهَدِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: دِيَةُ الْمُعَاهَدِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ، وَفِي لَفْظٍ: دِيَةُ عَقْل الْكَافِرِ نِصْفُ دِيَةِ عَقْل الْمُؤْمِنِ (1) .
وَوَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: دِيَةُ الْمُعَاهِدِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ (2) . وَأَهْل الْكِتَابِ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَبِهِ قَال عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (3) .
وَهَذَا فِي دِيَةِ النَّفْسِ. قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَدِيَةُ جِرَاحِ أَهْل الْكِتَابِ كَذَلِكَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ جِرَاحِ الْمُسْلِمِينَ (4) .
__________
(1) حديث: " دية المعاهد نصف دية الحر. . . " أخرجه أبو داود (4 / 707 - 708 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، واللفظ الثاني أخرجه الترمذي (4 / 25 - ط الحلبي) ، وقال: " حديث حسن ".
(2) حديث: " دية المعاهد نصف دية المسلم. . . " أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6 / 299 - ط المقدسي) ، وقال: " رواه الطبراني في الأوسط، وفيه جماعة لم أعرفهم ".
(3) الفواكه الدواني 2 / 259، 260، والمغني 7 / 793 - 796.
(4) الفواكه الدواني 2 / 260.

(21/61)


وَقَال الْحَنَابِلَةُ: جِرَاحَاتُ أَهْل الْكِتَابِ مِنْ دِيَاتِهِمْ كَجِرَاحِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَاتِهِمْ. وَتُغَلَّظُ دِيَاتُهُمْ بِاجْتِمَاعِ الْحُرُمَاتِ عِنْدَ مَنْ يَرَى تَغْلِيظَ دِيَاتِ الْمُسْلِمِينَ (1) .
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الذِّمِّيَّ - كِتَابِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ - وَالْمُسْتَأْمَنَ وَالْمُسْلِمَ فِي الدِّيَةِ سَوَاءٌ وَهَذَا قَوْل إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
فَلاَ يَخْتَلِفُ قَدْرُ الدِّيَةِ بِالإِْسْلاَمِ وَالْكُفْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِتَكَافُؤِ الدِّمَاءِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ (2) } . أَطْلَقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْقَوْل بِالدِّيَةِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقَتْل مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، فَدَل عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْكُل وَاحِدٌ.
وَرُوِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ قَتَل مُسْتَأْمَنَيْنِ فَقَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمَا بِدِيَةِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ (3) . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَضَيَا فِي دِيَةِ الذِّمِّيِّ
__________
(1) المغني 7 / 795.
(2) سورة النساء / 92.
(3) حديث عمرو بن أمية الضمري ذكره ابن إسحاق في سيرته بدون إسناد، ونقله عنه ابن هشام في سيرته كذلك (2 / 186 - ط الحلبي) . وأخرجه موصولاً الترمذي من حديث ابن عباس (4 / 20 - ط الحلبي) ، وقال: " هذا حديث غريب ".

(21/61)


بِمِثْل دِيَةِ الْمُسْلِمِ؛ وَلأَِنَّ وُجُوبَ كَمَال الدِّيَةِ يَعْتَمِدُ عَلَى كَمَال حَال الْقَتْل فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَهِيَ الذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْعِصْمَةُ وَقَدْ وُجِدَتْ، وَنُقِل عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ دِيَةَ فِي الْمُسْتَأْمَنِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: دِيَةُ كُلٍّ مِنَ الْيَهُودِيِّ أَوِ النَّصْرَانِيِّ إِذَا كَانَ لَهُ أَمَانٌ وَتَحِل مُنَاكَحَتُهُ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ نَفْسًا وَغَيْرَهَا، وَدِيَةُ الْوَثَنِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ إِذَا كَانَ لَهُمَا أَمَانٌ ثُلُثَا عُشْرِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَمِثْل الْمَجُوسِيِّ عَابِدُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالزِّنْدِيقُ مِمَّنْ لَهُ أَمَانٌ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَل دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ وَدِيَةَ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ لاَ يُفْعَل بِلاَ تَوْقِيفٍ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمَعْصُومِ فَدَمُهُ هَدَرٌ (2) .
وَهَذَا كُلُّهُ فِي الذُّكُورِ، أَمَّا الإِْنَاثُ مِنَ الْكُفَّارِ اللَّوَاتِي لَهُمْ أَمَانٌ فَدِيَتُهُنَّ نِصْفُ دِيَةِ الذُّكُورِ مِنْهُمُ اتِّفَاقًا. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا، وَنَقَل ابْنُ الْمُنْذِرِ إِجْمَاعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُل (3) .

دِيَةُ الْجَنِينِ
33 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْجِنَايَةِ
__________
(1) البدائع 7 / 254، 255، وحاشية ابن عابدين 5 / 369.
(2) المهذب 2 / 198، ومغني المحتاج 4 / 57.
(3) المغني 7 / 795.

(21/62)


الَّتِي تَرَتَّبَ عَلَيْهَا انْفِصَال الْجَنِينِ عَنْ أُمِّهِ مَيِّتًا هُوَ غُرَّةٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجِنَايَةُ بِالضَّرْبِ أَمْ بِالتَّخْوِيفِ أَمِ الصِّيَاحِ أَمْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا أَمْ خَطَأً، وَلَوْ مِنَ الْحَامِل نَفْسِهَا أَوْ مِنْ زَوْجِهَا (1) . لِمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ رَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُْخْرَى فَطَرَحَتْ جَنِينَهَا، فَقَضَى فِيهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ (2) .
وَالْغُرَّةُ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ، وَهِيَ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل أَوْ خَمْسُونَ دِينَارًا، وَلاَ تَخْتَلِفُ الْغُرَّةُ بِذُكُورَةِ الْجَنِينِ وَأُنُوثَتِهِ، فَهِيَ فِي كِلَيْهِمَا سَوَاءٌ (ر: غُرَّة) .
وَأَمَّا جَنِينُ الْكِتَابِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ مِمَّنْ لَهُنَّ أَمَانٌ إِذَا كَانَ مَحْكُومًا بِكُفْرِهِ فَفِيهِ عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ؛ لأَِنَّ جَنِينَ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ مَضْمُونٌ بِعُشْرِ دِيَةِ أُمِّهِ فَكَذَلِكَ جَنِينُ الْكَافِرَةِ (3) .
وَهَذَا إِذَا أَلْقَتْهُ نَتِيجَةً لِلْجِنَايَةِ مَيِّتًا فِي حَيَاتِهَا (4) .
أَمَّا إِذَا أَلْقَتْهُ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً ثُمَّ مَاتَ نَتِيجَةً
__________
(1) ابن عابدين 5 / 377، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير للدردير 4 / 269، وأسنى المطالب 4 / 89، والمغني لابن قدامة 7 / 799 - 800.
(2) حديث أبي هريرة: " أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى " تقدم فقرة (15) .
(3) المغني 7 / 800.
(4) مغني المحتاج 4 / 103.

(21/62)


لِلْجِنَايَةِ: كَأَنْ مَاتَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مُبَاشَرَةً أَوْ دَامَ أَلَمُهُ ثُمَّ مَاتَ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ اتِّفَاقًا؛ لأَِنَّهُ قَتْل إِنْسَانٍ حَيٍّ (1) .
وَإِذَا أَلْقَتْهُ نَتِيجَةً؛ لِلْجِنَايَةِ عَلَيْهَا مَيِّتًا بَعْدَ مَوْتِهَا فَاخْتَلَفُوا فِيهِ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: فِي الأُْمِّ الدِّيَةُ، وَلاَ شَيْءَ فِي الْجَنِينِ؛ لأَِنَّ مَوْتَهَا سَبَبٌ لِمَوْتِهِ؛ لأَِنَّهُ يَخْتَنِقُ بِمَوْتِهَا، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَتَنَفَّسُ بِنَفَسِهَا، وَاحْتُمِل مَوْتُهُ بِالضَّرْبَةِ فَلاَ تَجِبُ الْغُرَّةُ بِالشَّكِّ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تَجِبُ فِيهِ غُرَّةٌ أَيْضًا؛ لأَِنَّهُ جَنِينٌ تَلِفَ بِحِنَايَةٍ، وَعُلِمَ ذَلِكَ بِخُرُوجِهِ فَوَجَبَ ضَمَانُهُ، كَمَا لَوْ سَقَطَ فِي حَيَاتِهَا، وَلأَِنَّهُ آدَمِيٌّ مَوْرُوثٌ فَلاَ يَدْخُل فِي ضَمَانِ أُمِّهِ كَمَا لَوْ خَرَجَ حَيًّا (3) . وَإِنْ أَلْقَتْ جَنِينَيْنِ مَيِّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَفِي كُل وَاحِدَةٍ غُرَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهُ ضَمَانُ آدَمِيٍّ فَتَتَعَدَّدُ الْغُرَّةُ بِتَعَدُّدِهِ كَالدِّيَاتِ.
وَإِنْ أَلْقَتْهُمْ أَحْيَاءَ ثُمَّ مَاتُوا فَفِي كُل وَاحِدٍ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ حَيًّا فَمَاتَ، وَبَعْضُهُمْ مَيِّتًا، فَفِي الْحَيِّ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَفِي الْمَيِّتِ غُرَّةٌ (4) .
وَإِنْ ظَهَرَ بَعْضُ خَلْقِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَيِّتًا وَلَمْ
__________
(1) الاختيار 5 / 44، والدسوقي 4 / 269، ومغني المحتاج 102 - 104، والمغني 7 / 799، 806.
(2) الاختيار 5 / 44، والدسوقي 4 / 269.
(3) مغني المحتاج 4 / 103، والمغني 7 / 804، 806.
(4) المراجع السابقة.

(21/63)


يَخْرُجْ بَاقِيهِ فَفِيهِ غُرَّةٌ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَقَال مَالِكٌ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ تَجِبُ الْغُرَّةُ حَتَّى تُلْقِيَهُ كَامِلاً (1) .
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ أَلْقَتْ يَدًا أَوْ رِجْلاً وَمَاتَتْ فَتَجِبُ غُرَّةٌ؛ لأَِنَّ الْعِلْمَ قَدْ حَصَل بِوُجُودِ الْجَنِينِ، وَالْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْيَدَ بَانَتْ بِالْجِنَايَةِ، وَلَوْ عَاشَتْ وَلَمْ تُلْقِ جَنِينًا فَلاَ يَجِبُ إِلاَّ نِصْفُ غُرَّةٍ، كَمَا أَنَّ يَدَ الْحَيِّ لاَ يَجِبُ فِيهَا إِلاَّ نِصْفُ دِيَةٍ وَلاَ يُضْمَنُ بَاقِيهِ؛ لأَِنَّا لَمْ نَتَحَقَّقْ تَلَفَهُ.
وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَجِبُ لِلْعُضْوِ الزَّائِدِ حُكُومَةٌ، وَلَوْ أَلْقَتْ يَدًا ثُمَّ جَنِينًا مَيِّتًا بِلاَ يَدٍ قَبْل الاِنْدِمَال وَزَال الأَْلَمُ مِنَ الأُْمِّ فَغُرَّةٌ؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْيَدَ مُبَانَةٌ مِنْهُ بِالْجِنَايَةِ، أَوْ حَيًّا فَمَاتَ مِنَ الْجِنَايَةِ فَدِيَةٌ وَدَخَل فِيهَا أَرْشُ الْيَدِ، فَإِنْ عَاشَ وَشَهِدَ الْقَوَابِل أَوْ عُلِمَ أَنَّهَا يَدُ مَنْ خُلِقَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ فَنِصْفُ دِيَةٍ لِلْيَدِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدِ الْقَوَابِل بِذَلِكَ وَلَمْ يُعْلَمْ فَنِصْفُ غُرَّةٍ لِلْيَدِ عَمَلاً بِالْيَقِينِ، أَوْ أَلْقَتْهُ بَعْدَ الاِنْدِمَال وَزَال الأَْلَمُ أُهْدِرَ الْجَنِينُ لِزَوَال الأَْلَمِ الْحَاصِل بِالْجِنَايَةِ، وَوَجَبَ لِلْيَدِ الْمُلْقَاةِ قَبْلَهُ إِنْ خَرَجَ مَيِّتًا نِصْفُ غُرَّةٍ، أَوْ حَيًّا وَمَاتَ أَوْ عَاشَ فَنِصْفُ دِيَةٍ إِنْ شَهِدَ
__________
(1) الاختيار 5 / 44، والدسوقي 4 / 269، ومغني المحتاج 4 / 103، والمغني 7 / 805، 806، وقد راجعت اللجنة كتاب الاختيار وابن عابدين ومجمع الضمانات والمبسوط، ولم تجد للحنفية نصًّا في هذه الصورة.

(21/63)


الْقَوَابِل أَوْ عُلِمَ أَنَّهَا يَدُ مَنْ خُلِقَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ، وَإِنِ انْفَصَل بَعْدَ إِلْقَاءِ الْيَدِ مَيِّتًا كَامِل الأَْطْرَافِ بَعْدَ الاِنْدِمَال فَلاَ شَيْءَ فِيهِ، وَفِي الْيَدِ حُكُومَةٌ، أَوْ قَبْل الاِنْدِمَال مَيِّتًا فَغُرَّةٌ فَقَطْ؛ لاِحْتِمَال أَنَّ الْيَدَ الَّتِي أَلْقَتْهَا كَانَتْ زَائِدَةً لِهَذَا الْجَنِينِ وَانْمَحَقَ أَثَرُهَا، أَوْ حَيًّا وَمَاتَ فَدِيَةٌ لاَ غُرَّةٌ، وَإِنْ عَاشَ فَحُكُومَةٌ، وَتَأَخُّرُ الْيَدِ عَنِ الْجَنِينِ إِلْقَاءٌ كَتَقَدُّمٍ؛ لِذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ، وَكَذَا لَحْمٌ أَلْقَتْهُ امْرَأَةٌ بِحِنَايَةٍ عَلَيْهَا يَجِبُ فِيهِ غُرَّةٌ إِذَا قَال الْقَوَابِل وَهُنَّ أَهْل الْخِبْرَةِ فِيهِ صُورَةٌ خَفِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِنَّ فَلاَ يَعْرِفُهَا سِوَاهُنَّ لِحِذْقِهِنَّ، وَنَحْوُهُ لِلْحَنَابِلَةِ (1) .

ثَانِيًا - الاِعْتِدَاءُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ
مُوجِبَاتُ الدِّيَةِ فِي الاِعْتِدَاءِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ، وَهِيَ إِبَانَةُ الأَْطْرَافِ، وَإِتْلاَفُ الْمَعَانِي، وَالشِّجَاجُ وَالْجُرُوحُ.

الْقِسْمُ الأَْوَّل: إِبَانَةُ الأَْطْرَافِ: (قَطْعُ الأَْعْضَاءِ) :
34 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ فِي قَطْعِ مَا لاَ نَظِيرَ لَهُ فِي بَدَنِ الإِْنْسَانِ كَالأَْنْفِ وَاللِّسَانِ وَالذَّكَرِ وَالْحَشَفَةِ وَالصُّلْبِ إِذَا انْقَطَعَ الْمَنِيُّ، وَمَسْلَكِ الْبَوْل، وَمَسْلَكِ الْغَائِطِ دِيَةً كَامِلَةً.
وَمَنْ أَتْلَفَ مَا فِي الْبَدَنِ مِنْهُ شَيْئَانِ كَالْعَيْنَيْنِ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 104، والمغني 7 / 814، 815، وكشاف القناع 6 / 30.

(21/64)


وَالأُْذُنَيْنِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ، وَالشَّفَتَيْنِ وَالْحَاجِيَيْنِ إِذَا ذَهَبَ شَعْرُهُمَا نِهَائِيًّا وَلَمْ يَنْبُتْ، وَالثَّدْيَيْنِ، وَالْحَلَمَتَيْنِ، وَالأُْنْثَيَيْنِ، وَالشُّفْرَيْنِ وَاللَّحْيَيْنِ، وَالأَْلْيَتَيْنِ إِذَا تَلِفَتَا مَعًا فَفِيهِمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ: وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَمَنْ أَتْلَفَ مَا فِي الإِْنْسَانِ مِنْهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ، كَأَشْفَارِ الْعَيْنَيْنِ وَالأَْجْفَانِ فَفِيهَا الدِّيَةُ، وَفِي كُل وَاحِدٍ مِنْهَا رُبْعُ الدِّيَةِ، وَمَا فِيهِ مِنْهُ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ، كَأَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَأَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ فَفِي جَمِيعِهَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، وَفِي كُل وَاحِدٍ مِنْهَا عُشْرُ الدِّيَةِ، وَمَا فِي الأَْصَابِعِ مِنَ الْمَفَاصِل (السَّلاَمِيَّاتِ) فَفِي أَحَدِهَا ثُلُثُ دِيَةِ الأُْصْبُعِ، وَنِصْفُ دِيَةِ الأُْصْبُعِ فِيمَا فِيهَا مَفْصِلاَنِ وَهِيَ الإِْبْهَامُ خَاصَّةً، وَفِي جَمِيعِ الأَْسْنَانِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَفِي كُل سِنٍّ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل. وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَالأَْصْل فِيهِ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْل الْيَمَنِ أَنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةَ وَفِي الأَْنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةَ (1) .
فَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْبَعْضِ يَكُونُ وَارِدًا فِي الْبَاقِي دَلاَلَةً؛ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَاهُ.
وَالأَْصْل فِي الأَْعْضَاءِ أَنَّهُ إِذَا فُوِّتَ جِنْسُ مَنْفَعَةٍ عَلَى الْكَمَال أَوْ أَزَال جَمَالاً مَقْصُودًا فِي الآْدَمِيِّ عَلَى الْكَمَال يَجِبُ كُل الدِّيَةِ؛ لأَِنَّ فِيهِ إِتْلاَفَ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ، إِذِ النَّفْسُ لاَ تَبْقَى
__________
(1) حديث: " إن في النفس الدية، وفي اللسان الدية " تقدم من حديث عمرو بن حزم ف / 7.

(21/64)


مُنْتَفَعًا بِهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَإِتْلاَفُ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ مُلْحَقٌ بِالإِْتْلاَفِ مِنْ كُل وَجْهٍ فِي الآْدَمِيِّ تَعْظِيمًا لَهُ كَمَا قَال الزَّيْلَعِيُّ (1) .
وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل ذَلِكَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:

أَوَّلاً - دِيَةُ مَا لاَ نَظِيرَ لَهُ فِي الْبَدَنِ مِنَ الأَْعْضَاءِ.
أ - دِيَةُ الأَْنْفِ:
35 - الأَْنْفُ إِذَا قُطِعَ كُلُّهُ أَوْ قُطِعَ الْمَارِنُ مِنْهُ (وَهُوَ مَا لاَنَ مِنَ الأَْنْفِ وَخَلاَ مِنَ الْعَظْمِ) فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِمَا رُوِيَ فِي كِتَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْل الْيَمَنِ: وَإِنَّ فِي الأَْنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةَ (2) . وَلأَِنَّ فِيهِ جَمَالاً وَمَنْفَعَةً زَالَتَا بِالْقَطْعِ فَوَجَبَتِ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ (3) .
ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ قَالُوا: فِي قَطْعِ كُلٍّ مِنْ طَرَفَيِ الْمَارِنِ الْمُسَمَّيَيْنِ بِالْمَنْخِرَيْنِ، وَفِي الْحَاجِزِ بَيْنَهُمَا ثُلُثُ الدِّيَةِ تَوْزِيعًا لِلدِّيَةِ عَلَيْهَا.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْحَاجِزِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَفِيهِمَا دِيَةٌ؛ لأَِنَّ الْجَمَال وَكَمَال الْمَنْفَعَةِ فِيهِمَا دُونَ الْحَاجِزِ (4) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَا نَقَصَ مِنَ الأَْنْفِ فَفِيهِ
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 129.
(2) حديث: " إن في الأنف إذا أوعب جدعه الدية " تقدم من حديث عمرو بن حزم ف / 7.
(3) بدائع الصنائع للكاساني 7 / 311، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير للدردير 4 / 272، مغني المحتاج 4 / 62، وكشاف القناع 6 / 37.
(4) مغني المحتاج 4 / 62، والمغني 8 / 12، 13.

(21/65)


بِحِسَابِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَالنَّقْصُ يُقَاسُ مِنَ الْمَارِنِ، لاَ مِنَ الأَْصْل (1) .

ب - دِيَةُ اللِّسَانِ:
36 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي قَطْعِ اللِّسَانِ الْمُتَكَلَّمِ بِهِ إِذَا اسْتُوعِبَ قَطْعًا، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَوَرَدَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إِلَى أَهْل الْيَمَنِ: وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ (2) وَلأَِنَّ فِيهِ جَمَالاً وَمَنْفَعَةً. أَمَّا الْجَمَال فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ الْجَمَال فَقَال: فِي اللِّسَانِ (3) وَأَمَّا الْمَنْفَعَةُ فَإِنَّ بِهِ تُبَلَّغُ الأَْغْرَاضُ وَتُسْتَخْلَصُ الْحُقُوقُ وَتُقْضَى الْحَاجَاتُ وَتَتِمُّ الْعِبَادَاتُ، وَالنُّطْقُ يَمْتَازُ بِهِ الآْدَمِيُّ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَبِهِ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الإِْنْسَانِ (4) بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ الإِْنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (5) } وَكَذَا تَجِبُ الدِّيَةُ بِقَطْعِ بَعْضِهِ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْكَلاَمِ؛ لأَِنَّ الدِّيَةَ
__________
(1) الحطاب 6 / 261.
(2) حديث: " في اللسان الدية " تقدم من حديث عمرو بن حزم. ف / 7.
(3) حديث: " الجمال في اللسان " أخرجه الحاكم في المستدرك (3 / 330 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث علي بن الحسين مرسلاً، وكذا أعله به الذهبي في تلخيص المستدرك.
(4) الزيلعي 6 / 129، ومغني المحتاج 4 / 62، والمواق على الحطاب 6 / 263، والمغني 8 / 15.
(5) سورة الرحمن / 3.

(21/65)


تَجِبُ لِتَفْوِيتِ الْمَنْفَعَةِ، وَقَدْ حَصَل بِالاِمْتِنَاعِ عَنِ الْكَلاَمِ (1) .
وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الْكَلاَمِ بِبَعْضِ الْحُرُوفِ دُونَ بَعْضٍ، تُقَسَّمُ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِ الْحُرُوفِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، فَمَا نَقَصَ مِنَ الْحُرُوفِ وَجَبَ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِهِ، وَقِيل: تُقْسَمُ الدِّيَةُ عَلَى الْحُرُوفِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ دُونَ الشَّفَةِ وَالْحَلْقِ، فَتُسْتَثْنَى مِنْهَا الْحُرُوفُ الشَّفَوِيَّةُ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْبَاءُ، وَالْمِيمُ، وَالْفَاءُ، وَالْوَاوُ، وَحُرُوفُ الْحَلْقِ وَهِيَ سِتَّةٌ هِيَ: الْهَمْزَةُ، وَالْهَاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالْحَاءُ، وَالْغَيْنُ، وَالْخَاءُ، فَتَبْقَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَرْفًا تَنْقَسِمُ الدِّيَةُ عَلَيْهَا (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، فَإِنْ قُطِعَ بَعْضُهُ فَإِنْ مَنَعَ جُمْلَةَ الْكَلاَمِ فَفِيهِ الدِّيَةُ. وَقَالُوا أَيْضًا: الدِّيَةُ فِي الْكَلاَمِ لاَ فِي اللِّسَانِ، فَإِنْ قُطِعَ مِنْ لِسَانِهِ مَا يَنْقُصُ مِنْ حُرُوفِهِ فَعَلَيْهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَلاَ يُحْتَسَبُ فِي الْكَلاَمِ عَلَى عَدَدِ الْحُرُوفِ، فَرُبَّ حَرْفٍ أَثْقَل مِنْ حَرْفٍ فِي النُّطْقِ، وَلَكِنْ بِالاِجْتِهَادِ فِيمَا نَقَصَ مِنَ الْكَلاَمِ (3) .
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) الزيلعي 6 / 229، ونهاية المحتاج 7 / 220، 321، والمغني 8 / 14 - 17.
(3) المواق على الحطاب نقلا عن المدونة 6 / 262، وجواهر الإكليل 2 / 269.

(21/66)


قَطْعُ لِسَانِ الأَْخْرَسِ وَالصَّغِيرِ:
37 - لاَ دِيَةَ فِي قَطْعِ لِسَانِ الأَْخْرَسِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بَل تَجِبُ فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْكَلاَمُ، وَلاَ كَلاَمَ فِيهِ فَصَارَ كَالْيَدِ الشَّلاَّءِ (1) .
وَهَذَا إِذَا لَمْ يَذْهَبْ بِقَطْعِهِ الذَّوْقُ، وَإِلاَّ تَجِبُ الدِّيَةُ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ إِزَالَةِ الْمَنَافِعِ، أَمَّا إِذَا قُطِعَ لِسَانَ الصَّغِيرِ الَّذِي لاَ يَتَكَلَّمُ لِصِغَرِهِ فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ؛ لأَِنَّ ظَاهِرَهُ السَّلاَمَةُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَكَلَّمْ لأَِنَّهُ لاَ يُحْسِنُ الْكَلاَمَ، فَوَجَبَتْ بِهِ الدِّيَةُ كَالْكَبِيرِ وَيُخَالِفُ الأَْخْرَسَ، فَإِنَّهُ عُلِمَ أَنَّهُ أَشَل؛ وَلأَِنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ فِي سَائِرِ أَعْضَاءِ الصَّغِيرِ فَكَذَلِكَ فِي قَطْعِ لِسَانِهِ، وَإِنْ بَلَغَ حَدًّا يَتَكَلَّمُ مِثْلُهُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ فَقُطِعَ لِسَانُهُ لَمْ تَجِبِ الدِّيَةُ؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْكَلاَمِ فَيَجِبُ فِيهِ مَا يَجِبُ فِي لِسَانِ الأَْخْرَسِ (2) .
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الدِّيَةِ فِي لِسَانِ الصَّغِيرِ ظُهُورُ أَثَرِ نُطْقٍ بِتَحْرِيكِهِ لِبُكَاءٍ وَمَصِّ ثَدْيٍ وَنَحْوِهِمَا؛ لأَِنَّهَا أَمَارَاتٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى سَلاَمَةِ اللِّسَانِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فَحُكُومَةٌ؛ لأَِنَّ سَلاَمَتَهُ غَيْرُ مُتَيَقَّنَةٍ، وَالأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ (3) .
وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى نَصٍّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 369، وجواهر الإكليل 2 / 269، ومغني المحتاج 4 / 63، المغني لابن قدامة 8 / 16.
(2) ابن عابدين 5 / 356، ومغني المحتاج 4 / 62، 63، والمغني 8 / 19.
(3) مغني المحتاج 4 / 63.

(21/66)


ج - دِيَةُ الذَّكَرِ وَالْحَشَفَةِ:
38 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي قَطْعِ تَمَامِ الْحَشَفَةِ (رَأْسِ الذَّكَرِ) كَمَا تَجِبُ فِي قَطْعِ الذَّكَرِ مِنْ أَصْلِهِ (1) ؛ لأَِنَّ مُعْظَمَ مَنَافِعِ الذَّكَرِ مِنْ لَذَّةِ الْمُبَاشَرَةِ، وَأَحْكَامِ الْوَطْءِ، وَالإِْيلاَدِ، وَاسْتِمْسَاكِ الْبَوْل وَنَحْوِهَا تَتَعَلَّقُ بِهَا، وَالْحَشَفَةُ أَصْلٌ فِي مَنْفَعَةِ الإِْيلاَجِ وَالدَّفْقِ، وَالْقَصَبَةُ كَالتَّابِعِ لَهَا.
وَإِذَا قُطِعَ بَعْضُ الْحَشَفَةِ فَفِيهِ بِحِسَابِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَيُقَاسُ مِنَ الْحَشَفَةِ لاَ مِنْ أَصْل الذَّكَرِ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ بِقِسْطِهِ مِنْ كُل الذَّكَرِ؛ لأَِنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِكَمَال الدِّيَةِ (2) . قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَهَذَا إِذَا لَمْ يَخْتَل مَجْرَى الْبَوْل، فَإِنِ اخْتَل وَلَمْ يَنْقَطِعِ الْبَوْل فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الأَْمْرَيْنِ مِنْ قِسْطِ الدِّيَةِ وَحُكُومَةِ فَسَادِ الْمَجْرَى (3) . أَمَّا إِذَا انْقَطَعَ الْبَوْل وَفَسَدَ مَسْلَكُهُ فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي ذَكَرِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالشَّيْخِ وَالشَّابِّ عَلَى السَّوَاءِ، سَوَاءٌ أَقَدَرَ عَلَى الْجِمَاعِ أَمْ لَمْ يَقْدِرْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِعُمُومِ مَا وَرَدَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِهْل الْيَمَنِ وَفِي الذَّكَرِ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 268، وابن عابدين 5 / 369، ومغني المحتاج 4 / 67، والمغني 8 / 32.
(2) مغني المحتاج 4 / 67، والمغني 8 / 34.
(3) نفس المرجع.

(21/67)


الدِّيَةُ (1) ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّغِيرِ: إِنْ عُلِمَتْ صِحَّتُهُ بِحَرَكَةٍ لِلْبَوْل وَنَحْوِهِ فَفِيهِ الدِّيَةُ، وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ صِحَّتُهُ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ (2) .
أَمَّا ذَكَرُ الْعِنِّينِ وَالْخَصِيِّ فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُ تَجِبُ فِيهِمَا الدِّيَةُ؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ (3) وَلأَِنَّ ذَكَرَ الْخَصِيِّ سَلِيمٌ قَادِرٌ عَلَى الإِْيلاَجِ وَإِنَّمَا الْفَائِتُ الإِْيلاَدُ، وَالْعُنَّةُ عَيْبٌ فِي غَيْرِ الذَّكَرِ؛ لأَِنَّ الشَّهْوَةَ فِي الْقَلْبِ وَالْمَنِيَّ فِي الصُّلْبِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ تَكْمُل دِيَتُهُمَا لأَِنَّ مَنْفَعَتَهُ الإِْنْزَال وَالإِْحْبَال وَالْجِمَاعُ وَقَدْ عُدِمَ ذَلِكَ فِيهِمَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَال، فَلَمْ تَكْمُل دِيَتُهُمَا، وَإِذَا لَمْ تَجِبْ فِيهِمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ تَجِبُ فِيهِمَا حُكُومَةُ عَدْلٍ (4) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فِي الْعِنِّينِ وَالْخَصِيِّ فَقَالُوا: إِذَا كَانَ مُعْتَرِضًا عَنْ جَمِيعِ النِّسَاءِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ: لُزُومُ الدِّيَةِ، وَقِيل حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَرِضًا عَنْ بَعْضِ النِّسَاءِ فَفِيهِ الدِّيَةُ اتِّفَاقًا عِنْدَهُمْ (5) .
__________
(1) الحديث: " وفي الذكر الدية. . . " تقدم من حديث عمرو بن حزم ف / 7.
(2) اللباب شرح الكتاب 2 / 46، والبدائع 7 / 311، وابن عابدين 5 / 374، وجواهر الإكليل 2 / 268، والروضة 9 / 287، والمغني 8 / 33، 34.
(3) مغني المحتاج 4 / 67، والروضة 9 / 287، والمغني لابن قدامة 8 / 33، والبجيرمي على الخطيب 4 / 26.
(4) المراجع السابقة وابن عابدين 5 / 356.
(5) جواهر الإكليل 2 / 268، والمواق 6 / 261.

(21/67)


د - دِيَةُ الصُّلْبِ:
39 - صُلْبُ الرَّجُل إِذَا انْكَسَرَ وَذَهَبَ مَشْيُهُ أَوْ جِمَاعُهُ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ. وَكَذَلِكَ إِذَا انْكَسَرَ وَاحْدَوْدَبَ وَانْقَطَعَ الْمَاءُ، فَلَمْ يَنْجَبِرْ وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ جِمَاعُهُ وَلاَ مَشْيُهُ؛ لِمَا وَرَدَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ (1) ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَال: " مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّهُ فِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ "؛ وَلأَِنَّهُ عُضْوٌ لَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِثْلُهُ، وَفِيهِ جَمَالٌ وَمَنْفَعَةٌ، فَوَجَبَتْ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ كَالأَْنْفِ (2) .
وَأَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ الْقَوْل بِوُجُوبِ الدِّيَةِ فِي كَسْرِ الصُّلْبِ وَإِنْ لَمْ تَذْهَبْ مَنَافِعُهُ مِنَ الْمَشْيِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْجِمَاعِ، وَلَمْ يَنْقَطِعِ الْمَاءُ (3) .

هـ - دِيَةُ إِتْلاَفِ مَسْلَكِ الْبَوْل وَمَسْلَكِ الْغَائِطِ:
40 - تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي إِتْلاَفِ مَسْلَكِ الْبَوْل وَمَسْلَكِ الْغَائِطِ، وَفِي إِفْضَاءِ الْمَرْأَةِ مِنْ قِبَل الزَّوْجِ أَوْ غَيْرِهِ، وَهُوَ رَفْعُ مَا بَيْنَ مَدْخَل ذَكَرٍ وَدُبُرٍ، فَيَصِيرُ مَسْلَكُ جِمَاعِهَا وَغَائِطِهَا وَاحِدًا. وَقِيل: الإِْفْضَاءُ رَفْعُ مَا بَيْنَ مَدْخَل ذَكَرٍ وَمَخْرَجِ بَوْلٍ، فَيَصِيرُ سَبِيل جِمَاعِهَا وَبَوْلِهَا وَاحِدًا، وَفِي
__________
(1) حديث: " وفي الصلب الدية " تقدم من حديث عمرو بن حزم ف / 7.
(2) البدائع 7 / 311، وجواهر الإكليل 2 / 268، والروضة 9 / 302، والمغني 8 / 32، ومغني المحتاج 4 / 74، والاختيار 5 / 37.
(3) المغني 8 / 32.

(21/68)


هَذِهِ الْحَالَةِ تَجِبُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِذْ بِهِ تَفُوتُ الْمَنْفَعَةُ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لأَِنَّهُ يَمْنَعُهَا مِنَ اللَّذَّةِ، وَلاَ تُمْسِكُ الْوَلَدَ وَلاَ الْبَوْل إِلَى الْخَلاَءِ؛ وَلأَِنَّ مُصِيبَتَهَا أَعْظَمُ مِنَ الْمُصَابَةِ بِالشُّفْرَيْنِ، كَمَا عَلَّلَهُ ابْنُ شَعْبَانَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ فِي الإِْفْضَاءِ حُكُومَةُ عَدْلٍ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: فِي الإِْفْضَاءِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى فِيهِ بِذَلِكَ،
وَقَالُوا: إِنِ اسْتَطْلَقَ بَوْلُهَا مَعَ الإِْفْضَاءِ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ (3) .

ثَانِيًا - الأَْعْضَاءُ الَّتِي فِي الْبَدَنِ مِنْهَا اثْنَانِ:
الأُْذُنَانِ:
41 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ) إِلَى أَنَّ فِي اسْتِيصَال الأُْذُنَيْنِ قَلْعًا أَوْ قَطْعًا كَمَال الدِّيَةِ، وَفِي قَلْعِ أَوْ قَطْعِ إِحْدَاهُمَا نِصْفَهَا
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ
__________
(1) البدائع 7 / 311، والدسوقي 4 / 277، 278، ومغني المحتاج 4 / 74، 75، والمغني 8 / 51.
(2) الدسوقي مع الشرح الكبير للدردير 4 / 277.
(3) المغني 8 / 51.

(21/68)


وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَذَلِكَ لِخَبَرِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: فِي الأُْذُنِ خَمْسُونَ مِنَ الإِْبِل (1) وَلأَِنَّهُمَا عُضْوَانِ فِيهِمَا جَمَالٌ وَمَنْفَعَةٌ، وَفِي قَلْعِهِمَا أَوْ قَطْعِهِمَا تَفْوِيتُ الْجَمَال عَلَى الْكَمَال، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ،
وَسَوَاءٌ أَذْهَبَ السَّمْعَ أَمْ لَمْ يُذْهِبْ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ سَمِيعًا أَمْ أَصَمَّ؛ لأَِنَّ الصَّمَمَ نَقْصٌ فِي غَيْرِ الأُْذُنِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي دِيَتِهِمَا (2) .
وَفِي وَجْهٍ أَوْ قَوْلٍ مُخَرَّجٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: تَجِبُ فِي الأُْذُنَيْنِ حُكُومَةُ عَدْلٍ إِلاَّ إِذَا ذَهَبَ السَّمْعُ فَفِيهِ دِيَةٌ اتِّفَاقًا. وَثَالِثُ الأَْقْوَال عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: هُوَ أَنَّ فِي الأُْذُنَيْنِ حُكُومَةً مُطْلَقًا. قَال الْمَوَّاقُ: وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ (3) .

الْعَيْنَانِ:
42 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ فِي قَطْعِ أَوْ فَقْءِ الْعَيْنَيْنِ دِيَةً كَامِلَةً، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعَيْنُ كَبِيرَةً أَمْ صَغِيرَةً، صَحِيحَةً أَمْ مَرِيضَةً، سَلِيمَةً أَمْ حَوْلاَءَ، وَذَلِكَ لِقَوْل
__________
(1) حديث: " وفي الأذن خمسون " أخرج هذا الشطر الدارقطني (3 / 209 - ط دار المحاسن) ، وهو شطر من حديث عمرو بن حزم. ف / 7.
(2) الزيلعي 6 / 129، والتاج والإكليل 6 / 261، وروضة الطالبين 9 / 272، ومغني المحتاج 4 / 61، والمغني 8 / 8، 9
(3) المراجع السابقة.

(21/69)


النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ (1) .
وَلأَِنَّ فِي تَفْوِيتِ الاِثْنَيْنِ مِنْهُمَا تَفْوِيتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ أَوِ الْجَمَال عَلَى الْكَمَال، فَيَجِبُ فِيهِ كَمَال الدِّيَةِ، وَفِي تَفْوِيتِ أَحَدِهِمَا تَفْوِيتُ النِّصْفِ، فَيَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ (2) .
هَذَا فِي الْعُيُونِ الْمُبْصِرَةِ، أَمَّا الْعَيْنُ الْعَوْرَاءُ فَلاَ دِيَةَ فِي قِلْعِهَا بَل تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ (3) .
وَاخْتَلَفُوا فِي قَلْعِ الْعَيْنِ السَّلِيمَةِ مِنَ الأَْعْوَرِ.
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَجِبُ فِي قَلْعِ عَيْنِ الأَْعْوَرِ السَّلِيمَةِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَبِهِ قَال الزُّهْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَقَتَادَةُ وَإِسْحَاقُ؛ لأَِنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَضَوْا فِي عَيْنِ الأَْعْوَرِ بِالدِّيَةِ، وَلَمْ نَعْلَمْ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا وَلأَِنَّ قَلْعَ عَيْنِ الأَْعْوَرِ يَتَضَمَّنُ إِذْهَابَ الْبَصَرِ كُلِّهِ، فَوَجَبَتِ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، كَمَا لَوْ أَذْهَبَهُ مِنَ الْعَيْنَيْنِ؛ لأَِنَّ السَّلِيمَةَ الَّتِي عَطَّلَهَا بِمَنْزِلَةِ عَيْنَيْ غَيْرِهِ (4) .
__________
(1) حديث: " وفي العينين الدية " تقدم من حديث عمرو بن حزم ف / 7.
(2) ابن عابدين 5 / 370 وما بعدها، والتاج والإكليل على هامش الحطاب 6 / 261، ومغني المحتاج 4 / 61، والمغني لابن قدامة 8 / 2 - 5.
(3) نفس المراجع.
(4) المواق على هامش الحطاب 6 / 261، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 4 / 272، ونهاية المحتاج 7 / 309، والخرشي 8 / 36، والمغني لابن قدامة 8 / 2 - 5.

(21/69)


وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْل مَسْرُوقٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ: إِذَا قَلَعَ عَيْنَ الأَْعْوَرِ الأُْخْرَى فَفِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي الْعَيْنِ خَمْسُونَ مِنَ الإِْبِل (1)
وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ (2) يَقْتَضِي أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهِمَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا قُلِعَتْ عَيْنُ شَخْصٍ وَوَجَبَتْ فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ ثُمَّ قُلِعَتِ الثَّانِيَةُ، فَقَالِعُ الثَّانِيَةِ قَالِعُ عَيْنِ أَعْوَرَ، فَلَوْ وَجَبَتْ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ لَوَجَبَ فِيهِمَا دِيَةٌ وَنِصْفُ دِيَةٍ (3) .

الْيَدَانِ:
43 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي قَطْعِ الْيَدَيْنِ وَوُجُوبِ نِصْفِهَا فِي قَطْعِ إِحْدَاهُمَا؛ لِمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْيَدِ خَمْسُونَ مِنَ الإِْبِل (4) ؛ وَلأَِنَّ فِيهِمَا جَمَالاً ظَاهِرًا وَمَنْفَعَةً كَامِلَةً، وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ
__________
(1) حديث: " في العين خمسون من الإبل " أخرجه الدارقطني (3 / 209 - ط دار المحاسن) ضمن حديث عمرو بن حزم ف / 7.
(2) حديث: " وفي العينين الدية " تقدم من حديث عمرو بن حزم ف / 7.
(3) حاشية ابن عابدين مع الدر المختار 5 / 370، وروضة الطالبين 9 / 272، ونهاية المحتاج 7 / 309، ومغني المحتاج 4 / 61، 62.
(4) حديث: " وفي اليد خمسون من الإبل ". تقدم. ف / 7.

(21/70)


مِنْ جِنْسِهِمَا غَيْرُهُمَا، فَكَانَ فِيهِمَا الدِّيَةُ كَالْعَيْنَيْنِ (1) .
وَيَجِبُ فِي قَطْعِ الْكَفِّ تَحْتَ الرُّسْغِ مَا يَجِبُ فِي الأَْصَابِعِ عَلَى مَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي الأَْصَابِعِ: فِي كُل أُصْبُعٍ عَشْرٌ مِنَ الإِْبِل (2) مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إِذَا قُطِعَتِ الأَْصَابِعُ وَحْدَهَا أَوْ قُطِعَتِ الْكَفُّ الَّتِي فِيهَا الأَْصَابِعُ (3) . وَهَذَا فِي الْيَدِ السَّلِيمَةِ، أَمَّا الْيَدُ الشَّلاَّءُ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ دِيَةَ فِي قَطْعِهَا بَل فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهَا قَدْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهَا مِنْ قَبْل، فَلَمْ تَفُتِ الْمَنْفَعَةُ بِالْقَطْعِ، وَلاَ تَقْدِيرَ فِيهَا، فَتَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ (4) .
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ فِي الْيَدِ الشَّلاَّءِ ثُلُثَ دِيَتِهَا (5) ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَال: قَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَدِ الشَّلاَّءِ إِذَا قُطِعَتْ بِثُلُثِ دِيَتِهَا (6) ، وَحَدُّ الْيَدِ
__________
(1) البدائع 7 / 311، والتاج والإكليل 6 / 261، والروضة 9 / 282، والمغني لابن قدامة 8 / 27.
(2) حديث: " في كل أصبع عشر من الإبل " تقدم من حديث عمرو بن حزم. ف / 7.
(3) البدائع 7 / 314.
(4) الاختيار 5 / 40، والدسوقي 4 / 277، والمغني 8 / 39، وكشاف القناع 6 / 50.
(5) المغني لابن قدامة 8 / 9، 40.
(6) حديث: " قضى في اليد الشلاء إذا قطعت. . . " أخرجه النسائي (8 / 55 - ط المكتبة التجارية) ، والراوي عن عمرو بن شعيب وهو العلاء بن الحارث فيه مقال كما في ترجمته من التهذيب لابن حجر (8 / 177 - ط دائرة المعارف العثمانية) .

(21/70)


الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الدِّيَةُ مِنَ الرُّسْغِ أَوِ الْكُوعِ؛ لأَِنَّ اسْمَ الْيَدِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ، بِدَلِيل أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا (1) } وَالْوَاجِبُ قَطْعُهُمَا مِنَ الْكُوعِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا قَطَعَ مَا فَوْقَ الْكُوعِ أَيْ: مِنْ بَعْضِ السَّاعِدِ أَوِ الْمِرْفَقِ أَوِ الْمَنْكِبِ: فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ قَطَعَهَا مَعَ نِصْفِ السَّاعِدِ أَوْ مِنَ الْمِرْفَقِ أَوِ الْمَنْكِبِ فَفِي الْكَفِّ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الزِّيَادَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ لِلْكَفِّ (2) . وَهُوَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِنَّ مَا زَادَ عَلَى أَصَابِعِ الْيَدِ فَهُوَ تَبَعٌ لِلأَْصَابِعِ إِلَى الْمَنْكِبِ، فَإِنْ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ فَوْقِ الْكُوعِ مِثْل أَنْ يَقْطَعَهَا مِنَ الْمِرْفَقِ أَوْ نِصْفِ السَّاعِدِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لأَِنَّ الْيَدَ اسْمٌ لِلْجَمِيعِ إِلَى الْمَنْكِبِ بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ (3) } وَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ مَسَحَ الصَّحَابَةُ إِلَى الْمَنَاكِبِ، وَقَال ثَعْلَبٌ: الْيَدُ إِلَى الْمَنْكِبِ، وَفِي عُرْفِ النَّاسِ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ
__________
(1) سورة المائدة / 38.
(2) الهداية مع الفتح 8 / 315، والروضة 9 / 282.
(3) سورة المائدة / 6.

(21/71)


يُسَمَّى يَدًا، فَإِذَا قَطَعَهَا مِنْ فَوْقِ الْكُوعِ فَمَا قَطَعَ إِلاَّ يَدًا وَاحِدَةً، وَالشَّرْعُ أَوْجَبَ فِي الْيَدِ الْوَاحِدَةِ نِصْفَ الدِّيَةِ فَلاَ يُزَادُ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْعِ (1) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: فِي الْيَدَيْنِ سَوَاءٌ مِنَ الْمَنْكِبِ أَوِ الْمِرْفَقِ أَوِ الْكُوعِ دِيَةٌ، وَكَذَلِكَ فِي الأَْصَابِعِ، وَأَمَّا إِنْ قَطَعَ الأَْصَابِعَ أَوْ مَعَ الْكَفِّ فَأُخِذَتِ الدِّيَةُ ثُمَّ حَصَلَتْ جِنَايَةٌ عَلَيْهَا بَعْدَ إِزَالَةِ الأَْصَابِعِ فَحُكُومَةٌ، سَوَاءٌ أَقْطَعَ الْيَدَ مِنَ الْكُوعِ، أَمِ الْمِرْفَقِ، أَمِ الْمَنْكِبِ (2) .
وَسَيَأْتِي تَفْصِيل دِيَةِ الأَْصَابِعِ فِي مَوْضِعِهَا.

الأُْنْثَيَانِ:
44 - الأُْنْثَيَانِ وَالْبَيْضَتَانِ فِي قَطْعِهِمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ (3) ، وَلأَِنَّ فِيهِمَا الْجَمَال وَالْمَنْفَعَةَ، فَإِنَّ النَّسْل يَكُونُ بِهِمَا بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَتْ فِيهِمَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَال: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ فِي الصُّلْبِ الدِّيَةَ، وَفِي الأُْنْثَيَيْنِ الدِّيَةَ، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْيُسْرَى وَالْيُمْنَى فَتَجِبُ فِي كُل
__________
(1) الهداية مع الفتح 8 / 315، والمغني 8 / 28.
(2) الزرقاني 8 / 37، والدسوقي 4 / 273.
(3) حديث: " وفي البيضتين الدية " تقدم من حديث عمرو بن حزم. ف / 7.

(21/71)


وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ (1) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ الأُْنْثَيَيْنِ وَالذَّكَرَ مَعًا تَجِبُ دِيَتَانِ. وَكَذَا لَوْ قَطَعَ الذَّكَرَ ثُمَّ قَطَعَ الأُْنْثَيَيْنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2)) . أَمَّا إِذَا قَطَعَ أُنْثَيَيْهِ ثُمَّ قَطَعَ ذَكَرَهُ فَفِيهِ دِيَةٌ لِلأُْنْثَيَيْنِ، وَحُكُومَةٌ لِلذَّكَرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الذَّكَرِ قَبْل قَطْعِهِ، فَهُوَ ذَكَرُ خَصِيٍّ (3) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَجِبُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ دِيَتَانِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ فِي قَطْعِ ذَكَرِ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ (4) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ قُطِعَتِ الأُْنْثَيَانِ مَعَ الذَّكَرِ فَفِي ذَلِكَ دِيَتَانِ، وَإِنْ قُطِعَتَا قَبْل الذَّكَرِ أَوْ بَعْدَهُ فَفِيهِمَا الدِّيَةُ، وَإِنْ قُطِعَ الذَّكَرُ قَبْلَهُمَا أَوْ بَعْدَهُمَا فَفِيهِ الدِّيَةُ، وَمَنْ لاَ ذَكَرَ لَهُ فَفِي أُنْثَيَيْهِ الدِّيَةُ، وَمَنْ لاَ أُنْثَيَيْنِ لَهُ فَفِي ذَكَرِهِ الدِّيَةُ (5) .

(
__________
(1) الهداية مع الفتح 8 / 310، ومواهب الجليل 6 / 261، ومغني المحتاج 4 / 67، والمغني لابن قدامة 8 / 34، وكشاف القناع 6 / 49.
(2) ابن عابدين 5 / 370، والتاج والإكليل 6 / 261، ومغني المحتاج 4 / 67، والمغني 8 / 33، 34، وكشاف القناع 6 / 49.
(3) ابن عابدين 5 / 370، والمغني 8 / 34، وكشاف القناع 6 / 49.
(4) مغني المحتاج 4 / 67، والروضة 9 / 287، والمغني 8 / 33.
(5) المواق على هامش الحطاب 6 / 261.

(21/72)


اللَّحْيَانِ:
45 - اللَّحْيَانِ هُمَا الْعَظْمَانِ اللَّذَانِ تَنْبُتُ عَلَيْهِمَا الأَْسْنَانُ السُّفْلَى، وَمُلْتَقَاهُمَا الذَّقَنُ، وَقَدْ صَرَّحَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِأَنَّ فِي اللَّحْيَيْنِ دِيَةً كَامِلَةً، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ كَالأُْذُنَيْنِ.
وَعَلَّلُوا وُجُوبَ الدِّيَةِ فِيهِمَا بِأَنَّ فِيهِمَا جَمَالاً وَمَنْفَعَةً، وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِثْلُهُمَا فَكَانَتْ فِيهِمَا الدِّيَةُ كَسَائِرِ مَا فِي الْبَدَنِ مِنْهُ شَيْئَانِ، وَإِنْ قَلَعَهُمَا بِمَا عَلَيْهِمَا مِنْ أَسْنَانٍ وَجَبَتْ دِيَتُهُمَا وَدِيَةُ الأَْسْنَانِ، وَلَمْ تَدْخُل دِيَةُ الأَْسْنَانِ فِي دِيَتِهِمَا، بِخِلاَفِ دِيَةِ الأَْصَابِعِ فَإِنَّهَا تَدْخُل فِي دِيَةِ الْيَدِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ اللَّحْيَيْنِ يُوجَدَانِ قَبْل وُجُودِ الأَْسْنَانِ فِي الْخِلْقَةِ وَيَبْقَيَانِ بَعْدَ ذَهَابِهَا فِي حَقِّ الْكَبِيرِ، وَإِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنَ اللَّحْيَيْنِ وَالأَْسْنَانِ يَنْفَرِدُ بِاسْمِهِ، وَلاَ يَدْخُل أَحَدُهُمَا فِي اسْمِ الآْخَرِ، بِخِلاَفِ الأَْصَابِعِ وَالْكَفِّ، فَإِنَّ اسْمَ الْيَدِ يَشْمَلُهُمَا، وَأَنَّ الأَْسْنَانَ مَغْرُوزَةٌ فِي اللَّحْيَيْنِ وَلاَ تُعْتَبَرُ جُزْءًا مِنْهُمَا بِخِلاَفِ الْكَفِّ مَعَ الأَْصَابِعِ؛ لأَِنَّهُمَا كَالْعُضْوِ الْوَاحِدِ (1) .
وَاسْتَشْكَل الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِيجَابَ الدِّيَةِ فِي اللَّحْيَيْنِ بِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِمَا خَبَرٌ، وَالْقِيَاسُ لاَ يَقْتَضِيهِ؛ لأَِنَّهُمَا مِنَ الْعِظَامِ الدَّاخِلَةِ فَيُشْبِهَانِ التَّرْقُوَةَ وَالضِّلْعَ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لاَ دِيَةَ فِي السَّاعِدِ وَالْعَضُدِ وَالسَّاقِ وَالْفَخِذِ، وَهِيَ عِظَامٌ فِيهَا جَمَالٌ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 65، والبجيرمي 4 / 154، والمغني 8 / 27.

(21/72)


وَمَنْفَعَةٌ (1) .
وَقَال الزَّيْلَعِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ اللَّحْيَيْنِ مِنَ الْوَجْهِ فَيَتَحَقَّقُ الشِّجَاجُ فِيهِمَا، فَيَجِبُ فِيهِمَا مُوجِبُهَا خِلاَفًا لِمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنَ الْوَجْهِ؛ لأَِنَّ الْمُوَاجَهَةَ لاَ تَقَعُ بِهِمَا (2) .
وَلَمْ نَعْثُرْ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى نَصٍّ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ.

الثَّدْيَانِ:
46 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ فِي قَطْعِ ثَدْيَيِ الْمَرْأَةِ دِيَةً كَامِلَةً، وَفِي الْوَاحِدِ مِنْهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ فِي ثَدْيِ الْمَرْأَةِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَفِي الثَّدْيَيْنِ الدِّيَةَ، وَلأَِنَّ فِيهِمَا جَمَالاً وَمَنْفَعَةً فَأَشْبَهَا الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ (3) .
كَذَلِكَ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي قَطْعِ حَلَمَتَيِ (4) الثَّدْيَيْنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ؛ لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ الْكَامِلَةَ وَجَمَال الثَّدْيِ بِهِمَا كَمَنْفَعَةِ الْيَدَيْنِ وَجَمَالِهِمَا
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 65، والمغني 8 / 27.
(2) الزيلعي 6 / 132.
(3) البدائع 7 / 311، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 4 / 273، ومغني المحتاج 4 / 66، والمغني 8 / 30.
(4) الحلمة هي المجتمع الناتئ على رأس الثدي.

(21/73)


بِالأَْصَابِعِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي حَلَمَتَيْهِمَا إِذَا بَطَل اللَّبَنُ أَوْ فَسَدَ، وَإِلاَّ وَجَبَتْ حُكُومَةٌ بِقَدْرِ الشَّيْنِ. قَالُوا: وَكَذَا تَلْزَمُ الدِّيَةُ كَامِلَةً إِنْ بَطَل اللَّبَنُ أَوْ فَسَدَ مِنْ غَيْرِ قَطْعِ الْحَلَمَتَيْنِ، فَالدِّيَةُ عِنْدَهُمْ لِفَسَادِ اللَّبَنِ لاَ لِقَطْعِ الْحَلَمَتَيْنِ، وَمِنْ ثَمَّ اسْتَظْهَرَ ابْنُ عَرَفَةَ أَنَّ فِي قَطْعِ حَلَمَتَيِ الْعَجُوزِ حُكُومَةً كَالْيَدِ الشَّلاَّءِ (2) .
وَهَذَا فِي ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، أَمَّا ثَدْيَا الرَّجُل فَفِيهِمَا حُكُومَةُ عَدْلٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (3)) إِذْ لَيْسَ فِيهِمَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، بَل مُجَرَّدُ جَمَالٍ،
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَجِبُ فِيهِمَا الدِّيَةُ كَثَدْيَيِ الْمَرْأَةِ (4) .

الأَْلْيَتَانِ:
47 - الأَْلْيَتَانِ هُمَا مَا عَلاَ وَأَشْرَفَ مِنْ أَسْفَل الظَّهْرِ عِنْدَ اسْتِوَاءِ الْفَخِذَيْنِ، وَفِيهِمَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ إِذَا أُخِذَتَا إِلَى الْعَظْمِ الَّذِي تَحْتَهُمَا، وَفِي كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْجَمَال وَالْمَنْفَعَةِ فِي الرُّكُوبِ
__________
(1) البدائع 7 / 311، والزيلعي 6 / 131، والمغني 8 / 30، ومغني المحتاج 4 / 66.
(2) الدسوقي مع الشرح الكبير للدردير 4 / 273.
(3) الزيلعي 6 / 131، والبدائع 7 / 311، والدسوقي 4 / 273، ومغني المحتاج 4 / 66.
(4) المغني 8 / 31، ومغني المحتاج 4 / 66.

(21/73)


وَالْقُعُودِ. وَهَذَا إِذَا أُخِذَتَا إِلَى الْعَظْمِ وَاسْتُؤْصِل لَحْمُهُمَا حَتَّى لاَ يَبْقَى عَلَى الْوَرِكِ لَحْمٌ. أَمَّا بَعْضُ اللَّحْمِ فَإِذَا عُرِفَ قَدْرُهُ فَبِقِسْطِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَإِلاَّ فَالْحُكُومَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَقَالُوا: لاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فِي أَلْيَتَيِ الرَّجُل حُكُومَةٌ، وَكَذَلِكَ فِي أَلْيَتَيِ الْمَرْأَةِ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ. وَقَال أَشْهَبُ: فِيهِمَا الدِّيَةُ؛ لأَِنَّهُمَا أَعْظَمُ عَلَيْهَا مِنْ ثَدْيَيْهَا (2) .

الرِّجْلاَنِ:
48 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي قَطْعِ الرِّجْلَيْنِ كِلْتَيْهِمَا، وَأَنَّ فِي إِحْدَاهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ وَحَدُّ الْقَطْعِ هُنَا هُوَ مَفْصِل الْكَعْبَيْنِ.
وَالْخِلاَفُ فِيمَا إِذَا قُطِعَ أَكْثَرُ مِنَ الْكَعْبَيْنِ إِلَى أَصْل الْفَخِذِ مِنَ الْوَرِكِ أَوِ الرُّكْبَةِ، كَالْخِلاَفِ فِي قَطْعِ الْيَدَيْنِ فَوْقَ الْكُوعَيْنِ فِي وُجُوبِ حُكُومَةِ عَدْلٍ مَعَ الدِّيَةِ أَوْ عَدَمِ وُجُوبِهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ (ر: ف 43) ، وَرِجْل الأَْعْرَجِ كَرِجْل الصَّحِيحِ، كَمَا أَنَّ يَدَ الأَْعْسَمِ كَيَدِ الصَّحِيحِ (3) .

(
__________
(1) الاختيار 5 / 38، ومغني المحتاج 4 / 67، والمغني لابن قدامة 8 / 31.
(2) الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 277.
(3) الهداية مع الفتح 8 / 315، وجواهر الإكليل 2 / 268، والروضة 9 / 285، والمغني 8 / 35، والعسم يبس في المرفق والرسغ تعوج منه اليد والقدم، اللسان - مادة: " عسم ".

(21/74)


الشَّفَتَانِ:
49 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ فِي قَطْعِ الشَّفَتَيْنِ دِيَةً كَامِلَةً؛ لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ (1) وَلأَِنَّهُمَا عُضْوَانِ لَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِثْلُهُمَا، فِيهِمَا جَمَالٌ ظَاهِرٌ وَمَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، فَإِنَّهُمَا طَبَقٌ عَلَى الْفَمِ تَقِيَانِ مَا يُؤْذِيهِ، وَيَسْتُرَانِ الأَْسْنَانَ، وَيَرُدَّانِ الرِّيقَ، وَيُنْفَخُ بِهِمَا، وَيَتِمُّ بِهِمَا الْكَلاَمُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ، فَتَجِبُ فِيهِمَا الدِّيَةُ كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ.
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ فِي كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، يَجِبُ فِي الشَّفَةِ الْعُلْيَا ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي السُّفْلَى الثُّلُثَانِ، وَبِهِ قَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالزُّهْرِيُّ؛ لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ بِهَا أَعْظَمُ؛ لأَِنَّهَا هِيَ الَّتِي تَدُورُ وَتَتَحَرَّكُ، وَتَحْفَظُ الرِّيقَ، وَالطَّعَامَ، وَالْعُلْيَا سَاكِنَةٌ (2) .

الْحَاجِبَانِ وَاللِّحْيَةُ وَقَرَعُ الرَّأْسِ:
50 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِي إِتْلاَفِ
__________
(1) حديث: " وفي الشفتين الدية " تقدم تخريجه ف / 7.
(2) تبيين الحقائق على كنز الدقائق للزيلعي 6 / 129، وروضة الطالبين 9 / 274، ومغني المحتاج 4 / 62، والمغني لابن قدامة 8 / 14.

(21/74)


شَعْرِ الْحَاجِبَيْنِ إِذَا لَمْ يَنْبُتَا الدِّيَةَ، وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفَ الدِّيَةِ، وَكَذَلِكَ فِي شَعْرِ اللِّحْيَةِ إِذَا لَمْ يَنْبُتِ الدِّيَةُ، وَهَذَا قَوْل سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَشُرَيْحٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ لأَِنَّ فِيهِ إِذْهَابَ الْجَمَال عَلَى الْكَمَال، وَفِيهِ إِذْهَابَ مَنْفَعَةٍ، فَإِنَّ الْحَاجِبَ يَرُدُّ الْعَرَقَ عَنِ الْعَيْنِ وَيُفَرِّقُهُ، وَهُدْبُ الْعَيْنِ يَرُدُّ عَنْهَا وَيَصُونُهَا (1) .
وَأَمَّا اللِّحْيَةُ فَلأَِنَّ فِيهَا جَمَالاً كَامِلاً؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّ مَلاَئِكَةَ سَمَاءِ الدُّنْيَا تَقُول: سُبْحَانَ مَنْ زَيَّنَ الرِّجَال بِاللِّحَى وَالنِّسَاءَ بِالذَّوَائِبِ (2) .
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْجَبَ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ إِذَا حُلِقَ فَلَمْ يَنْبُتْ دِيَةً كَامِلَةً.
وَنَقَل الْمُوصِلِيُّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيِّ قَوْلَهُ: إِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي اللِّحْيَةِ إِذَا كَانَتْ كَامِلَةً يَتَجَمَّل بِهَا. أَمَّا إِذَا كَانَتْ طَاقَاتٍ مُتَفَرِّقَةً لاَ يَتَجَمَّل بِهَا فَلاَ شَيْءَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَفَرِّقَةٍ وَلاَ يَتَجَمَّل بِهَا وَلَيْسَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْهَا مِمَّا تَشِينُهَا فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ (3) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ
__________
(1) البدائع 7 / 311، والاختيار 5 / 38، 39، المغني لابن قدامة 8 / 10، 11.
(2) حديث: " ملائكة سماء الدنيا " أخرجه الديلمي في مسند الفردوس (4 / 157 - ط دار الكتب العلمية) .
(3) الاختيار 5 / 39.

(21/75)


هَذِهِ الشُّعُورِ إِلاَّ بِذَهَابِهِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يُرْجَى عَوْدُهُ مِثْل أَنْ يَقْلِبَ عَلَى رَأْسِهِ مَاءً حَارًّا فَيَتْلَفَ مَنْبَتُ الشَّعْرِ، فَيَنْقَلِعَ بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ لاَ يَعُودُ، وَإِنْ رُجِيَ عَوْدُهُ إِلَى مُدَّةٍ انْتُظِرَ إِلَيْهَا (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجِبُ فِي إِتْلاَفِ الشُّعُورِ غَيْرُ الْحُكُومَةِ؛ لأَِنَّهُ إِتْلاَفُ جَمَالٍ مِنْ غَيْرِ الْمَنْفَعَةِ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ غَيْرُ الْحُكُومَةِ، كَإِتْلاَفِ الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ وَالْيَدِ الشَّلاَّءِ (2) .

الشُّفْرَانِ:
51 - الشُّفْرَانِ بِالضَّمِّ هُمَا اللَّحْمَانِ الْمُحِيطَانِ بِفَرْجِ الْمَرْأَةِ الْمُغَطِّيَانِ لَهُ، وَفِي قَطْعِهِمَا أَوْ إِتْلاَفِهِمَا إِنْ بَدَا الْعَظْمُ مِنْ فَرْجِهَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، وَفِي إِتْلاَفِ أَوْ قَطْعِ أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى فِي شُفْرَيِ الْمَرْأَةِ بِالدِّيَةِ. وَلأَِنَّ فِيهِمَا جَمَالاً وَمَنْفَعَةً مَقْصُودَةً، إِذْ بِهِمَا يَقَعُ الاِلْتِذَاذُ بِالْجِمَاعِ (3) . وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنِ الرَّتْقَاءِ وَالْقَرْنَاءِ وَغَيْرِهِمَا، وَلاَ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ،
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 10، 11.
(2) الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 269، والمهذب 2 / 208.
(3) الدسوقي مع الشرح الكبير للدردير 4 / 268، ومغني المحتاج للخطيب الشربيني 4 / 67، والمغني لابن قدامة 8 / 41 ط. الرياض، والخرشي 8 / 45.

(21/75)


وَالْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
وَلَمْ نَجِدْ فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ كَلاَمًا فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ.

الأَْعْضَاءُ الَّتِي فِي الْبَدَنِ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ:
أَشْفَارُ الْعَيْنَيْنِ وَأَهْدَابُهُمَا:
52 - الأَْشْفَارُ هِيَ حُرُوفُ الْعَيْنِ الَّتِي يَنْبُتُ عَلَيْهَا الشَّعْرُ، وَالشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَيْهَا هُوَ الْهُدْبُ (2) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ فِي قَطْعِ أَوْ قَلْعِ أَشْفَارِ الْعَيْنَيْنِ الأَْرْبَعَةِ دِيَةً كَامِلَةً، وَفِي أَحَدِهَا رُبْعَ الدِّيَةِ، وَهَذَا إِذَا أُتْلِفَتْ بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ لاَ يُرْجَى عَوْدُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَا الْجَمَال عَلَى الْكَمَال، وَتَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَنْفَعَةُ وَهِيَ دَفْعُ الأَْذَى وَالْقَذَى عَنِ الْعَيْنِ، وَتَفْوِيتُ ذَلِكَ يُنْقصُ الْبَصَرَ، وَيُورِثُ الْعَمَى، فَإِذَا وَجَبَ فِي الْكُل الدِّيَةُ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ وَجَبَ فِي الْوَاحِدِ مِنْهَا رُبْعُ الدِّيَةِ، وَفِي الاِثْنَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الثَّلاَثَةِ ثَلاَثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ.
وَلَوْ قَطَعَ أَوْ قَلَعَ الْجُفُونَ مَعَ الأَْهْدَابِ وَالأَْشْفَارِ تَجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لأَِنَّ الأَْشْفَارَ مَعَ الْجُفُونِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ كَالْمَارِنِ مَعَ الْقَصَبَةِ (3)
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 67، والمغني 8 / 41، 42.
(2) المصباح المنير.
(3) تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 130، وبدائع الصنائع 7 / 311، 324، الاختيار 5 / 38، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 277، ومغني المحتاج 4 / 62، والمغني 8 / 7.

(21/76)


وَلَوْ قَلَعَ أَوْ قَطَعَ الأَْهْدَابَ وَحْدَهَا دُونَ الأَْشْفَارِ، قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) : تَجِبُ فِيهَا دِيَةُ مِثْل قَطْعِ الأَْشْفَارِ؛ لأَِنَّ فِيهَا جَمَالاً وَنَفْعًا، فَإِنَّهَا تَقِي الْعَيْنَيْنِ وَتَرُدُّ عَنْهُمَا، وَتُجَمِّلُهُمَا تُحَسِّنُهُمَا، فَوَجَبَتْ فِيهَا الدِّيَةُ كَمَا تَجِبُ فِي حَلَمَتَيِ الثَّدْيِ وَالأَْصَابِعِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: فِي قَطْعِ الأَْهْدَابِ وَحْدَهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ كَسَائِرِ الشُّعُورِ؛ لأَِنَّ الْفَائِتَ بِقَطْعِهَا الزِّينَةُ وَالْجَمَال دُونَ الْمَقَاصِدِ الأَْصْلِيَّةِ وَهَذَا إِذَا فَسَدَ مَنْبَتُهَا، وَإِلاَّ فَالتَّعْزِيرُ (2) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: لاَ دِيَةَ فِي قَلْعِ أَشْفَارِ الْعَيْنَيْنِ، وَلاَ فِي أَهْدَابِهِمَا، بَل تَجِبُ فِيهِمَا حُكُومَةُ عَدْلٍ مُطْلَقًا، قَال الْمَوَّاقُ نَقْلاً عَنِ الْمُدَوَّنَةِ: لَيْسَ فِي أَشْفَارِ الْعَيْنِ وَجُفُونِهَا إِلاَّ الاِجْتِهَادُ. أَيْ حُكُومَةُ عَدْلٍ (3) .

مَا فِي الْبَدَنِ مِنْهُ عَشَرَةٌ:
أَصَابِعُ الْيَدَيْنِ وَأَصَابِعُ الرِّجْلَيْنِ:
53 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ فِي قَطْعِ أَوْ قَلْعِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ الْعَشَرَةِ دِيَةً كَامِلَةً، وَكَذَلِكَ فِي
__________
(1) الزيلعي 6 / 130، والاختيار 5 / 38، والمغني 8 / 7، 8.
(2) مغني المحتاج 4 / 62.
(3) التاج والإكليل على هامش الحطاب 6 / 263.

(21/76)


قَطْعِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ، وَفِي قَطْعِ كُل أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ عُشْرُ الدِّيَةِ أَيْ عَشَرَةٌ مِنَ الإِْبِل؛ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: وَفِي كُل أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْل عَشْرٌ مِنَ الإِْبِل (1) . وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دِيَةُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ عَشْرٌ مِنَ الإِْبِل لِكُل أُصْبُعٍ (2) وَلأَِنَّ فِي قَطْعِ الْكُل تَفْوِيتَ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ أَوِ الْمَشْيِ، فَتَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَأَصَابِعُ كُلٍّ مِنَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ عَشْرٌ، فَفِي كُل أُصْبُعٍ عُشْرُ الدِّيَةِ، وَدِيَةُ كُل أُصْبُعٍ مَقْسُومَةٌ عَلَى أَنَامِلِهَا (سُلاَمِيَّاتِهَا) ، وَفِي كُل أُصْبُعٍ ثَلاَثُ أَنَامِل إِلاَّ الإِْبْهَامَ فَإِنَّهَا أُنْمُلَتَانِ. وَعَلَى ذَلِكَ فَفِي كُل أُنْمُلَةٍ مِنَ الأَْصَابِعِ غَيْرِ الإِْبْهَامِ ثُلُثُ دِيَةِ الأُْصْبُعِ وَهُوَ ثَلاَثَةُ أَبْعِرَةٍ وَثُلُثٌ، وَفِي الإِْبْهَامِ فِي كُل أُنْمُلَةٍ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ، وَالأَْصَابِعُ كُلُّهَا سَوَاءٌ لإِِطْلاَقِ الْحَدِيثِ (3) .
أَمَّا الأُْصْبُعُ الزَّائِدَةُ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ عِنْدَ
__________
(1) حديث: " وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل " تقدم ف / 7.
(2) حديث: " دية أصابع اليدين والرجلين سواء، عشر من الإبل لكل أصبع " أخرجه الترمذي (4 / 13 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح ".
(3) تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 131، وجواهر الإكليل 2 / 270، ومغني المحتاج 4 / 66، والمغني لابن قدامة 8 / 35، 36.

(21/77)


جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) ؛ لِعَدَمِ وُرُودِ النَّصِّ فِيهَا، وَالتَّقْدِيرُ لاَ يُصَارُ إِلَيْهِ إِلاَّ بِالتَّوْقِيفِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فِي إِتْلاَفِ الأُْصْبُعِ الزَّائِدَةِ فِي يَدٍ أَوْ رِجْلٍ إِذَا كَانَتْ قَوِيَّةً عَلَى التَّصَرُّفِ قُوَّةَ الأَْصَابِعِ الأَْصْلِيَّةِ عُشْرُ الدِّيَةِ إِنْ أُفْرِدَتْ بِالإِْتْلاَفِ، وَإِنْ قُطِعَتْ مَعَ الأَْصَابِعِ الأَْصْلِيَّةِ فَلاَ شَيْءَ فِيهَا (2) .
وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ فِيهَا ثُلُثَ دِيَةِ الأُْصْبُعِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى رِوَايَةِ إِيجَابِ الثُّلُثِ فِي الْيَدِ الشَّلاَّءِ (3) .

مَا فِي الْبَدَنِ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةٍ: دِيَةُ الأَْسْنَانِ:
54 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ فِي كُل سِنٍّ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَهُوَ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل أَوْ خَمْسُونَ دِينَارًا؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل (4) . وَالأَْسْنَانُ كُلُّهَا سَوَاءٌ لإِِطْلاَقِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ: وَالأَْسْنَانُ كُلُّهَا سَوَاءٌ وَلأَِنَّ
__________
(1) الزيلعي 6 / 131، ومغني المحتاج 4 / 66 وما بعدها، والمغني 8 / 36.
(2) جواهر الإكليل 2 / 270.
(3) المغني 8 / 36.
(4) حديث: " وفي السن خمس من الإبل " تقدم من حديث عمرو بن حزم. ف / 7.

(21/77)


الْكُل فِي أَصْل الْمَنْفَعَةِ سَوَاءٌ، فَلاَ يُعْتَبَرُ التَّفَاوُتُ فِيهِ، كَالأَْيْدِي وَالأَْصَابِعِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا زِيَادَةُ مَنْفَعَةٍ فَفِي الآْخَرِ زِيَادَةُ جَمَالٍ.
وَعَلَى ذَلِكَ تَزِيدُ دِيَةُ الأَْسْنَانِ كُلِّهَا عَلَى دِيَةِ النَّفْسِ بِثَلاَثَةِ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ لَهُ اثْنَانِ وَثَلاَثُونَ سِنًّا، فَإِذَا وَجَبَ فِي الْوَاحِدَةِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ يَجِبُ فِي الْكُل مِائَةٌ وَسِتُّونَ مِنَ الإِْبِل (1) .
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَزِيدُ عَلَى دِيَةٍ إِنْ اتَّحَدَ الْجَانِي وَاتَّحَدَتِ الْجِنَايَةُ، كَأَنْ أَسْقَطَهَا بِشُرْبِ دَوَاءٍ أَوْ بِضَرْبٍ أَوْ ضَرَبَاتٍ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّل انْدِمَالٍ؛ لأَِنَّ الأَْسْنَانَ جِنْسٌ مُتَعَدِّدٌ فَأَشْبَهَ الأَْصَابِعَ، فَإِنْ تَخَلَّل الاِنْدِمَال بَيْنَ كُل سِنٍّ وَأُخْرَى أَوْ تَعَدَّدَ الْجَانِي فَإِنَّهَا تَزِيدُ قَطْعًا (2) . وَهَذَا فِي قَلْعِ الأَْسْنَانِ الأَْصْلِيَّةِ الْمَثْغُورَةِ (الدَّائِمَةِ) . وَلَوْ ضَرَبَ أَسْنَانَ رَجُلٍ فَتَحَرَّكَتْ أَوْ تَغَيَّرَتْ إِلَى السَّوَادِ أَوِ الْحُمْرَةِ أَوِ الْخُضْرَةِ أَوْ نَحْوِهَا فَفِيهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ ضَرَبَ أَسْنَانَ رَجُلٍ وَتَحَرَّكَتْ يَنْتَظِرُ مُضِيَّ حَوْلٍ؛ لأَِنَّهُ مُدَّةٌ يَظْهَرُ فِيهَا حَقِيقَةُ حَالِهَا مِنَ السُّقُوطِ وَالتَّغَيُّرِ وَالثُّبُوتِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَضْرُوبُ صَغِيرًا أَمْ كَبِيرًا، فَإِنْ تَغَيَّرَتْ إِلَى
__________
(1) الزيلعي 6 / 131، وجواهر الإكليل 2 / 270، ومغني المحتاج 4 / 64، وكشاف القناع 6 / 42.
(2) مغني المحتاج 4 / 65.

(21/78)


السَّوَادِ أَوْ إِلَى الْحُمْرَةِ أَوْ إِلَى الْخُضْرَةِ فَفِيهَا الأَْرْشُ تَامًّا؛ لأَِنَّهُ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهَا، وَذَهَابُ مَنْفَعَةِ الْعُضْوِ كَذَهَابِ الْعُضْوِ، وَإِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ إِلَى الصُّفْرَةِ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الأَْسْنَانِ بِقَلْعٍ أَوِ اسْوِدَادٍ أَوْ بِهِمَا، أَوْ بِحُمْرَةٍ بَعْدَ بَيَاضٍ، أَوْ بِصُفْرَةٍ إِنْ كَانَا عُرِفَا كَالسَّوَادِ فِي إِذْهَابِ الْجَمَال، وَإِلاَّ فَعَلَى حِسَابِ مَا نَقَصَ، كَمَا تَجِبُ الدِّيَةُ بِاضْطِرَابِهَا جِدًّا بِحَيْثُ لاَ يُرْجَى ثُبُوتُهَا، وَفِي الاِضْطِرَابِ الْخَفِيفِ الأَْرْشُ بِقَدْرِهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَكْمُل دِيَةُ السِّنِّ بِقَلْعِ كُل سِنٍّ أَصْلِيَّةٍ تَامَّةٍ مَثْغُورَةٍ غَيْرِ مُتَقَلْقِلَةٍ (3) .
فَلاَ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي السِّنِّ الشَّاغِيَةِ (4) ، وَتَجِبُ فِيهَا حُكُومَةٌ، وَلَوْ سَقَطَتْ سِنُّهُ فَاتَّخَذَ سِنًّا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ عَظْمٍ طَاهِرٍ فَلاَ دِيَةَ فِي قَلْعِهَا، وَإِنْ قُلِعَتْ قَبْل الاِلْتِحَامِ لَمْ تَجِبِ الْحُكُومَةُ لَكِنْ يُعَزَّرُ الْقَالِعُ، وَإِنْ قُلِعَتْ بَعْدَ تَشَبُّثِ اللَّحْمِ بِهَا وَاسْتِعْدَادِهَا لِلْمَضْغِ وَالْقَطْعِ فَلاَ حُكُومَةَ أَيْضًا عَلَى الأَْظْهَرِ، وَتَكْمُل دِيَةُ السِّنِّ بِكَسْرِ مَا ظَهَرَ
__________
(1) البدائع للكاساني 7 / 315.
(2) جواهر الإكليل 2 / 270.
(3) الروضة 9 / 176.
(4) السن الشاغية هي السن الزائدة على الأسنان التي خالف منبتها منبت غيرها (المصباح) .

(21/78)


مِنْهَا وَإِنْ بَقِيَ السِّنْخُ بِحَالِهِ (1) . وَلَوْ قَلَعَ السِّنَّ مِنَ السِّنْخِ وَجَبَ أَرْشُ السِّنِّ فَقَطْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ قَلَعَ سِنَّ صَغِيرٍ لَمْ يُثْغِرْ يُنْتَظَرُ عَوْدُهَا، فَإِنْ عَادَتْ فَلاَ دِيَةَ وَتَجِبُ الْحُكُومَةُ إِنْ بَقِيَ شَيْنٌ. وَإِنْ مَضَتِ الْمُدَّةُ الَّتِي يُتَوَقَّعُ فِيهَا الْعَوْدُ وَلَمْ تَعُدْ وَفَسَدَ الْمَنْبَتُ تَجِبُ الدِّيَةُ. وَإِنْ قَلَعَ سِنًّا وَكَانَتْ مُتَقَلْقِلَةً (مُتَحَرِّكَةً) فَإِنْ كَانَ بِهَا اضْطِرَابٌ شَدِيدٌ بِهَرَمٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِمَا وَبَطَلَتْ مَنْفَعَتُهَا فَفِيهَا الْحُكُومَةُ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَحَرِّكَةً حَرَكَةً يَسِيرَةً لاَ تُنْقِصُ الْمَنَافِعَ فَلاَ أَثَرَ لَهَا وَتَجِبُ الدِّيَةُ (2) .
وَلَوْ تَزَلْزَلَتْ سِنٌّ صَحِيحَةٌ بِجِنَايَةٍ ثُمَّ سَقَطَتْ بَعْدَهَا لَزِمَ الأَْرْشُ، وَإِنْ ثَبَتَتْ وَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: فِي كُل سِنٍّ مِمَّنْ قَدْ أَثْغَرَ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل سَوَاءٌ أُقْلِعَتْ بِسَخَنِهَا أَوْ قَطَعَ الظَّاهِرَ مِنْهَا فَقَطْ، وَسَوَاءٌ أَقَلَعَهَا فِي دَفْعَةٍ أَوْ دَفَعَاتٍ، وَإِنْ قَلَعَ مِنْهَا السِّنْخَ فَقَطْ فَفِيهِ حُكُومَةٌ، وَلاَ يَجِبُ بِقَلْعِ سِنِّ الصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يُثْغِرْ شَيْءٌ فِي الْحَال، لَكِنْ يُنْتَظَرُ عَوْدُهَا، فَإِنْ مَضَتْ مُدَّةٌ يَحْصُل بِهَا
__________
(1) السنخ - بالكسر -: أصل السن، والسنخ الأصل في كل شيء. (المصباح) .
(2) الروضة 9 / 276 - 280.
(3) مغني المحتاج 4 / 63، 64، 65، وروضة الطالبين 9 / 276 - 280.

(21/79)


الْيَأْسُ مِنْ عَوْدِهَا وَجَبَتْ دِيَتُهَا، وَإِنْ عَادَتْ فَصِيرَةً أَوْ شَوْهَاءَ أَوْ أَطْوَل مِنْ أَخَوَاتِهَا أَوْ صَفْرَاءَ أَوْ حَمْرَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ، أَوْ خَضْرَاءَ فَحُكُومَةٌ؛ لأَِنَّهَا لَمْ تَذْهَبْ بِمَنْفَعَتِهَا فَلَمْ تَجِبْ دِيَتُهَا، وَوَجَبَتِ الْحُكُومَةُ لِنَقْصِهَا، وَإِنْ جَعَل الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَكَانَ السِّنِّ الْمَقْلُوعَةِ سِنًّا أُخْرَى فَثَبَتَتْ لَمْ يُسْقِطْ دِيَةَ الْمَقْلُوعَةِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَجْعَل مَكَانَهَا شَيْئًا. ثُمَّ إِنْ قُلِعَتِ السِّنُّ الْمَجْعُولَةُ فَفِيهَا حُكُومَةٌ لِلنَّقْصِ، وَإِنْ قَلَعَ سِنَّهُ فَرَدَّهُ فَالْتَحَمَ فَلَهُ أَرْشُ نَقْصِهِ فَقَطْ وَهُوَ حُكُومَةٌ، ثُمَّ إِنْ أَبَانَهَا أَجْنَبِيٌّ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَبَتْ دِيَتُهَا كَمَا لَوْ لَمْ تَتَقَدَّمْ جِنَايَةٌ عَلَيْهَا (1) .

دِيَةُ الْمَعَانِي وَالْمَنَافِعِ:
55 - الأَْصْل فِي دِيَةِ الْمَعَانِي - فَضْلاً عَمَّا وَرَدَ فِي بَعْضِهَا مِنْ نُصُوصٍ - أَنَّهُ إِذَا فَوَّتَ جِنْسَ مَنْفَعَةٍ عَلَى الْكَمَال، أَوْ أَزَال جَمَالاً مَقْصُودًا فِي الآْدَمِيِّ عَلَى الْكَمَال يَجِبُ كُل الدِّيَةِ؛ لأَِنَّ فِيهِ إِتْلاَفَ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ، إِذِ النَّفْسُ لاَ تَبْقَى مُنْتَفَعًا بِهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِتْلاَفُ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ مُلْحَقٌ بِالإِْتْلاَفِ مِنْ كُل وَجْهٍ فِي الآْدَمِيِّ تَعْظِيمًا لَهُ (2) .
وَهَذَا الأَْصْل كَمَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الأَْعْضَاءِ مُطَبَّقٌ كَذَلِكَ فِي إِذْهَابِ الْمَعَانِي وَالْمَنَافِعِ مِنَ الأَْعْضَاءِ وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي الظَّاهِرِ. وَمِمَّا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ
__________
(1) كشاف القناع 6 / 43، والمغني 8 / 21.
(2) تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 129.

(21/79)


مِنَ الْمَعَانِي الْعَقْل وَالنُّطْقُ وَقُوَّةُ الْجِمَاعِ وَالإِْمْنَاءُ فِي الذَّكَرِ وَالْحَبَل فِي الْمَرْأَةِ، وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالشَّمُّ وَالذَّوْقُ وَاللَّمْسُ.
وَهَذَا إِذَا أُتْلِفَتِ الْمَعَانِي دُونَ إِتْلاَفِ الأَْعْضَاءِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَيْهَا. فَإِنْ تَلِفَ الْعُضْوُ وَالْمَنْفَعَةُ مَعًا فَفِي ذَلِكَ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ. وَإِنْ أَتْلَفَهُمَا بِجِنَايَتَيْنِ مُنْفَرِدَتَيْنِ تَخَلَّلَهُمَا الْبُرْءُ فَدِيَةُ كُل عُضْوٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ بِحَسَبِ الْحَالَةِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ - الْعَقْل:
56 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ فِي إِذْهَابِ الْعَقْل؛ لأَِنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْمَعَانِي قَدْرًا وَأَعْظَمِهَا نَفْعًا، فَإِنَّ بِهِ يَتَمَيَّزُ الإِْنْسَانُ وَيَعْرِفُ حَقَائِقَ الأَْشْيَاءِ، وَيَهْتَدِي إِلَى مَصَالِحِهِ، وَيَتَّقِي مَا يَضُرُّهُ، وَيَدْخُل فِي التَّكْلِيفِ (1) . وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: وَفِي الْعَقْل الدِّيَةُ (2) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ أَذْهَبَ عَقْلَهُ تَمَامًا بِالضَّرْبِ وَغَيْرِهِ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، وَإِنْ نَقَصَ عَقْلُهُ نَقْصًا مَعْلُومًا بِالزَّمَانِ وَغَيْرِهِ، مِثْل إِنْ صَارَ يَجِنُّ يَوْمًا وَيُفِيقُ يَوْمًا فَعَلَيْهِ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مِثْل أَنْ صَارَ مَدْهُوشًا، أَوْ يَفْزَعُ مِمَّا لاَ يُفْزَعُ مِنْهُ وَيَسْتَوْحِشُ إِذَا خَلاَ، فَهَذَا لاَ يُمْكِنُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 369، والزيلعي 6 / 129، وحاشية الزرقاني 8 / 35، روضة الطالبين 9 / 289، والمغني لابن قدامة 8 / 37، وما بعدها.
(2) حديث: " وفي العقل الدية " تقدم تخريجه ف / 7.

(21/80)


تَقْدِيرُهُ، فَتَجِبُ فِيهِ حُكُومَةٌ (1) .
وَمِثْلُهُ مَا فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَتَقْدِيرُ الْجِنَايَةِ يَكُونُ بِتَقْدِيرِ الْقَاضِي مُسْتَعِينًا بِقَوْل أَهْل الْخِبْرَةِ.

ب - قُوَّةُ النُّطْقِ:
57 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ فِي إِذْهَابِ قُوَّةِ النُّطْقِ دِيَةً فَإِذَا فَعَل بِلِسَانِهِ مَا يُعْجِزُهُ عَنِ النُّطْقِ بِالْكَمَال تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، وَإِنْ عَجَزَ عَجْزًا جُزْئِيًّا بِأَنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى نُطْقِ بَعْضِ الْحُرُوفِ دُونَ بَعْضِهَا فَالدِّيَةُ تُقْسَمُ بِحِسَابِ الْحُرُوفِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَسَمَ الدِّيَةَ عَلَى الْحُرُوفِ، فَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُرُوفِ أُسْقِطَ بِحِسَابِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَمَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ أَلْزَمَهُ بِحِسَابِهِ مِنْهَا.
وَقِيل: تُوَزَّعُ الدِّيَةُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاللِّسَانِ دُونَ حُرُوفِ الْحَلْقِ السِّتَّةِ وَالْحُرُوفِ الشَّفَوِيَّةِ الْخَمْسَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي دِيَةِ اللِّسَانِ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ يُقَدَّرُ نَقْصُ النُّطْقِ بِالْكَلاَمِ اجْتِهَادًا مِنَ الْعَارِفِينَ، لاَ بِقَدْرِ الْحُرُوفِ، لاِخْتِلاَفِهَا بِالْخِفَّةِ وَالثِّقَل (4) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 37، 38.
(2) ابن عابدين 5 / 369، والروضة 9 / 289.
(3) الزيلعي 6 / 129، وابن عابدين 5 / 360، وجواهر الإكليل 2 / 268، 269، وروضة الطالبين 9 / 296، وكشاف القناع 6 / 40.
(4) جواهر الإكليل 2 / 268، 269.

(21/80)


وَتَجِبُ هَذِهِ الدِّيَةُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى النُّطْقِ، وَإِنْ كَانَ اللِّسَانُ بَاقِيًا.

ج - قُوَّةُ الذَّوْقِ:
58 - الذَّوْقُ قُوَّةٌ مُثَبَّتَةٌ فِي الْعَصَبِ الْمَفْرُوشِ عَلَى جُرْمِ اللِّسَانِ، تُدْرَكُ بِهِ الطُّعُومُ لِمُخَالَطَةِ الرُّطُوبَةِ اللُّعَابِيَّةِ الَّتِي فِي الْفَمِ، وَوُصُولِهَا إِلَى الْعَصَبِ (1) .
وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي إِتْلاَفِ حَاسَّةِ الذَّوْقِ، وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِ فَأَذْهَبَ كَلاَمَهُ وَذَوْقَهُ مَعًا فَعَلَيْهِ دِيَتَانِ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ فِي الإِْنْسَانِ (2) .
قَال النَّوَوِيُّ: يَبْطُل الذَّوْقُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى اللِّسَانِ أَوِ الرَّقَبَةِ أَوْ نَحْوِهِمَا. وَالْمُدْرَكُ بِالذَّوْقِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ: الْحَلاَوَةُ وَالْحُمُوضَةُ وَالْمَرَارَةُ وَالْمُلُوحَةُ وَالْعُذُوبَةُ. وَالدِّيَةُ تَتَوَزَّعُ عَلَيْهَا.
فَإِذَا أَبْطَل إِدْرَاكَ وَاحِدَةٍ وَجَبَ خُمُسُ الدِّيَةِ، وَإِذَا أَبْطَل إِدْرَاكَ اثْنَتَيْنِ وَجَبَ خُمُسَا الدِّيَةِ وَهَكَذَا. وَلَوْ نَقَصَ الإِْحْسَاسَ فَلَمْ يُدْرِكِ الطُّعُومَ عَلَى كَمَالِهَا فَالْوَاجِبُ الْحُكُومَةُ (3) .

د - السَّمْعُ وَالْبَصَرُ:
59 - تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي إِذْهَابِ قُوَّةِ السَّمْعِ أَوْ قُوَّةِ الْبَصَرِ إِذَا ذَهَبَتِ الْمَنْفَعَةُ بِتَمَامِهَا، عِنْدَ جَمِيعِ
__________
(1) الخرشي 8 / 35.
(2) الهداية مع الفتح 8 / 308، وابن عابدين 5 / 369، والخرشي 8 / 35، وحاشية الدسوقي 1 / 272، ومغني المحتاج 4 / 74، وكشاف القناع 6 / 40.
(3) الروضة 9 / 301.

(21/81)


الْفُقَهَاءِ (1) . وَلَوْ أَذْهَبَ الْبَصَرَ مِنْ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ أَوِ السَّمْعَ مِنْ إِحْدَى الأُْذُنَيْنِ فَفِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ. أَمَّا لَوْ أَذْهَبَ بَعْضَ الْبَصَرِ أَوْ بَعْضَ السَّمْعِ مِنْ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ أَوِ الأُْذُنَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ بِحِسَابِ مَا ذَهَبَ إِنْ كَانَ مُنْضَبِطًا، كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: فِي نُقْصَانِ السَّمْعِ أَوِ الْبَصَرِ حُكُومَةٌ مُطْلَقًا (2) .
وَلَوْ أَزَال أُذُنَيْهِ وَسَمْعَهُ تَجِبُ دِيَتَانِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ؛ لأَِنَّ مَحَل السَّمْعِ غَيْرُ مَحَل الْقَطْعِ، فَالسَّمْعُ قُوَّةٌ أَوْدَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَصَبِ الْمَفْرُوشِ فِي الصِّمَاخِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ فَقَأَ عَيْنَيْهِ فَأَذْهَبَ بَصَرَهُ فَتَجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لأَِنَّ الْبَصَرَ يَكُونُ بِهِمَا (3) .

هـ - قُوَّةُ الشَّمِّ:
60 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي إِتْلاَفِ الشَّمِّ كَامِلاً؛ لأَِنَّهُ حَاسَّةٌ تَخْتَصُّ بِمَنْفَعَةٍ، فَكَانَتْ فِيهِ الدِّيَةُ كَسَائِرِ الْحَوَاسِّ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: وَفِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 269، والزيلعي 6 / 129، وحاشية الدسوقي 1 / 272، والروضة 9 / 291، ومغني المحتاج 4 / 69، 70، وكشاف القناع 6 / 34، 35.
(2) الدسوقي 4 / 272، والروضة 9 / 292، والمغني 8 / 2، 3، كشاف القناع 6 / 36.
(3) مغني المحتاج 4 / 69، والمغني 8 / 2، 9.

(21/81)


الْمَشَامِّ الدِّيَةُ (1) .
وَإِنْ نَقَصَ الشَّمُّ بِأَنْ عَلِمَ قَدْرَ الذَّاهِبِ وَجَبَ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ وَجَبَتْ حُكُومَةٌ يُقَدِّرُهَا الْحَاكِمُ بِالاِجْتِهَادِ (2) .
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الشَّمِّ بَل فِيهِ حُكُومَةٌ (3) .

و اللَّمْسُ:
61 - اللَّمْسُ قُوَّةٌ مُثْبَتَةٌ عَلَى سَطْحِ الْبَدَنِ تُدْرَكُ بِهِ الْحَرَارَةُ وَالْبُرُودَةُ وَالنُّعُومَةُ وَالْخُشُونَةُ وَنَحْوُهَا عِنْدَ الْمُمَاسَّةِ. وَقَدْ ذَكَرَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ فِي إِذْهَابِ هَذِهِ الْقُوَّةِ دِيَةً كَامِلَةً قِيَاسًا عَلَى الشَّمِّ (4) . وَلَمْ نَجِدْ لِبَقِيَّةِ الْفُقَهَاءِ كَلاَمًا فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ.

ز - قُوَّةُ الْجِمَاعِ وَالإِْمْنَاءِ:
62 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى قُوَّةِ الْجِمَاعِ إِذَا عَجَزَ عَنْهُ كَامِلاً بِإِفْسَادِ إِنْعَاظِهِ، وَلَوْ مَعَ بَقَاءِ الْمَنِيِّ وَسَلاَمَةِ الصُّلْبِ وَالذَّكَرِ، أَوِ انْقَطَعَ مَاؤُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِالضَّرْبِ عَلَى الصُّلْبِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْجِمَاعَ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُ جَمَّةٌ، فَإِذَا فَاتَ وَجَبَ بِهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ. وَكَذَلِكَ بِانْقِطَاعِ الْمَاءِ يَفُوتُ
__________
(1) حديث: " وفي المشام الدية " تقدم تخريجه ف / 7.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 369، وجواهر الإكليل 2 / 268، وروضة الطالبين 2 / 295، ومغني المحتاج 4 / 70، 71، والمغني لابن قدامة 8 / 11، 12.
(3) مغني المحتاج 4 / 71.
(4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 272.

(21/82)


جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ مِنَ التَّوَالُدِ وَالتَّنَاسُل (1) .
وَلاَ تَنْدَرِجُ فِي إِتْلاَفِ الْجِمَاعِ أَوِ الإِْمْنَاءِ دِيَةُ الصُّلْبِ وَإِنْ كَانَتْ قُوَّةُ الْجِمَاعِ فِيهِ كَمَا قَال الْمَالِكِيَّةُ. فَلَوْ ضَرَبَ صُلْبَهُ فَأَبْطَلَهُ وَأَبْطَل جِمَاعَهُ فَعَلَيْهِ دِيَتَانِ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيل إِتْلاَفَ قُوَّةِ حَبَل الْمَرْأَةِ فَيَكْمُل فِيهِ دِيَتُهَا لاِنْقِطَاعِ النَّسْل (2) .

دِيَةُ الشِّجَاجِ وَالْجِرَاحِ:
63 - الشِّجَاجُ مَا يَكُونُ فِي الرَّأْسِ أَوِ الْوَجْهِ، وَالْجِرَاحُ مَا يَكُونُ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فِي سَائِرِ جِرَاحِ الْبَدَنِ، بِاسْتِثْنَاءِ الْجَائِفَةِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيهَا الْحُكُومَةُ (3) ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهَا نَصٌّ مِنَ الشَّرْعِ وَيَصْعُبُ ضَبْطُهَا وَتَقْدِيرُهَا (4) .
أَمَّا الْجَائِفَةُ، وَهِيَ مَا وَصَل إِلَى الْجَوْفِ مِنْ بَطْنٍ أَوْ ظَهْرٍ أَوْ صَدْرٍ أَوْ ثُغْرَةِ نَحْرٍ أَوْ وَرِكٍ أَوْ جَنْبٍ أَوْ خَاصِرَةٍ أَوْ مَثَانَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى
__________
(1) الاختيار 5 / 37، وحاشية الدسوقي 4 / 272، وقليوبي 4 / 142، ونهاية المحتاج 7 / 323، 324، والمغني 9 / 32.
(2) القليوبي 4 / 142، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 272، ومغني المحتاج 4 / 74.
(3) الحكومة هي ما تدفع للمجني عليه من قبل الجاني باجتهاد القاضي أو بتقدير أهل الخبرة، وذلك فيما لا يكون فيه أرش مقدر (ر: حكومة عدل) .
(4) الاختيار لتعليل المختار 5 / 42، والزيلعي 6 / 132، 134، وجواهر الإكليل بهامش خليل 2 / 267، وروضة الطالبين 9 / 265، والمغني 8 / 44.

(21/82)


أَنَّ فِيهَا ثُلُثَ الدِّيَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَمْدًا أَمْ خَطَأً، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ (1) .
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْجَائِفَةَ إِذَا نَفَذَتْ مِنْ جَانِبٍ لآِخَرَ تُعْتَبَرُ جَائِفَتَيْنِ، وَفِيهِمَا ثُلُثَا الدِّيَةِ (2) .
أَمَّا الشِّجَاجُ وَهِيَ الْجُرُوحُ الْوَاقِعَةُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ فَقَدْ قَسَّمَهَا أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَشَرَةِ أَقْسَامٍ، عَلَى اخْتِلاَفٍ فِي تَسْمِيَتِهَا، وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ كُلٍّ مِنْهَا.

جَزَاءُ هَذِهِ الشِّجَاجِ:
64 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ أَرْشٍ مُقَدَّرٍ فِيمَا يَكُونُ أَقَل مِنَ الْمُوضِحَةِ، أَيْ قَبْل الْمُوضِحَةِ، وَهِيَ الْحَارِصَةُ، وَالدَّامِعَةُ وَالدَّامِيَةُ وَالْبَاضِعَةُ وَالْمُتَلاَحِمَةُ وَالسِّمْحَاقُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الشِّجَاجِ حُكُومَةُ عَدْلٍ (3) .
لأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، وَلاَ يُمْكِنُ إِهْدَارُهَا، فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ (4) .
وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ مَعْرِفَةُ قَدْرِهَا مِنَ الْمُوضِحَةِ فَكَذَلِكَ. وَإِنْ أَمْكَنَ
__________
(1) حديث: " وفي الجائفة ثلث الدية " تقدم تخريجه ف / 7.
(2) الاختيار 5 / 42، وابن عابدين 5 / 356، والمواق 6 / 246، 258، وجواهر الإكليل 2 / 267، والروضة 9 / 266، وما بعدها، والمغني 8 / 49.
(3) الزيلعي 6 / 133، والاختيار 5 / 42، والفواكه الدواني 2 / 263، والروضة 9 / 265، والمغني 8 / 42.
(4) المراجع السابقة، والاختيار 5 / 42.

(21/83)


بِأَنْ كَانَ عَلَى رَأْسِ مُوضِحَةٍ إِذَا قِيسَ بِهَا الْبَاضِعَةُ مَثَلاً عُرِفَ أَنَّ الْمَقْطُوعَ ثُلُثٌ أَوْ نِصْفٌ فِي عُمْقِ اللَّحْمِ وَجَبَ قِسْطُهُ مِنْ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ.
قَال النَّوَوِيُّ: فَإِنْ شَكَكْنَا فِي قَدْرِهَا مِنَ الْمُوضِحَةِ أَوْجَبْنَا الْيَقِينَ، قَال الأَْصْحَابُ: وَتُعْتَبَرُ مَعَ ذَلِكَ الْحُكُومَةُ، فَيَجِبُ أَكْثَرُ الأَْمْرَيْنِ مِنَ الْحُكُومَةِ وَمَا يَقْتَضِيهِ التَّقْسِيطُ، لأَِنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا (1) .
أَمَّا الْمُوضِحَةُ وَالْهَاشِمَةُ وَالْمُنَقِّلَةُ وَالآْمَّةُ أَوِ الْمَأْمُومَةُ فَفِي كُل وَاحِدٍ مِنْهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، وَبَيَانُهُ فِيمَا يَلِي:

أ - الْمُوضِحَةُ:
65 - الْمُوضِحَةُ هِيَ أَقَل شَجَّةٍ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ مِنَ الشَّارِعِ، وَلَهَا أَهَمِّيَّةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهُ يَجِبُ فِيهَا الْقِصَاصُ إِذَا كَانَتْ عَمْدًا، وَهِيَ الْفَاصِل بَيْنَ وُجُوبِ الْمُقَدَّرِ أَيِ الأَْرْشِ وَغَيْرِ الْمُقَدَّرِ أَيِ الْحُكُومَةِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ فِي الْمُوضِحَةِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَهُوَ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل فِي الْحُرِّ الذَّكَرِ الْمُسْلِمِ (2) . لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل (3) .
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ لاَ يَعْتَبِرُونَ الْجُرْحَ عَلَى
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 265.
(2) ابن عابدين 5 / 372، والمدونة 6 / 310، وجواهر الإكليل 2 / 267، والروضة 9 / 263، والمغني 8 / 42.
(3) حديث: " وفي الموضحة خمس من الإبل " سبق تخريجه ف / 7.

(21/83)


الأَْنْفِ وَاللَّحْيِ الأَْسْفَل مُوضِحَةً، فَلاَ يَقُولُونَ فِيهَا بِأَرْشٍ مُقَدَّرٍ، فَتَجِبُ فِيهِمَا حُكُومَةُ عَدْلٍ، كَسَائِرِ جِرَاحَاتِ الْبَدَنِ (1) .
وَقَيَّدَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِأَنْ لاَ يَكُونَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَصْلَعًا، وَإِلاَّ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ لأَِنَّ جِلْدَهُ أَنْقَصُ زِينَةً مِنْ غَيْرِهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل فِي حَقِّ مَنْ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ بِقَتْلِهِ، وَهُوَ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ الذَّكَرُ وَهَذَا الْمَبْلَعُ نِصْفُ عُشْرِ دِيَتِهِ، فَتُرَاعَى هَذِهِ النِّسْبَةُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَتَجِبُ فِي مُوضِحَةِ الْيَهُودِيِّ نِصْفُ عُشْرِ دِيَتِهِ وَهُوَ بَعِيرٌ وَثُلُثَانِ، وَفِي مُوضِحَةِ الْمَرْأَةِ بَعِيرَانِ وَنِصْفٌ، وَفِي مُوضِحَةِ الْمَجُوسِيِّ ثُلُثَا بَعِيرٍ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى فِي مُوضِحَتِهِمَا لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل (4) ، وَهُوَ مُطْلَقٌ، فَالرَّجُل وَالْمَرْأَةُ لاَ يَخْتَلِفَانِ فِي أَرْشِ الْمُوضِحَةِ؛ لأَِنَّهُ دُونَ الثُّلُثِ، وَهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِيمَا دُونَ الثُّلُثِ وَيَخْتَلِفَانِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ (5) .
وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مُوضِحَةَ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ سَوَاءٌ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
__________
(1) المدونة 6 / 310.
(2) ابن عابدين 5 / 372.
(3) الروضة 9 / 263.
(4) حديث: " وفي الموضحة خمس من الإبل " سبق تخريجه ف / 7.
(5) المغني لابن قدامة 8 / 42، 43.

(21/84)


وَبِهِ قَال شُرَيْحٌ وَمَكْحُولٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ.

وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ مُوضِحَةَ الْوَجْهِ فِيهَا عَشْرٌ مِنَ الإِْبِل لأَِنَّ شَيْنَهَا أَكْثَرُ، وَمُوضِحَةَ الرَّأْسِ يَسْتُرُهَا الشَّعْرُ وَالْعِمَامَةُ (1) . 50 ب - الْهَاشِمَةُ
66 - الْهَاشِمَةُ هِيَ الَّتِي تَتَجَاوَزُ الْمُوضِحَةَ وَتَهْشِمُ الْعَظْمَ أَيْ تَكْسِرُهُ كَمَا تَقَدَّمَ،
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ فِيهَا عُشْرَ الدِّيَةِ، وَهُوَ عَشَرَةُ أَبْعِرَةٍ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَتْ مَعَ الإِْيضَاحِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ عَنْ تَوْقِيفٍ، وَبِهِ قَال قَتَادَةُ وَالثَّوْرِيُّ (2) .
أَمَّا فِي الْهَاشِمَةِ دُونَ الإِْيضَاحِ فَفِيهَا خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقِيل: حُكُومَةٌ (3) .
وَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: تَجِبُ فِي الْهَاشِمَةِ الْحُكُومَةُ، إِذْ لاَ سُنَّةَ فِيهَا وَلاَ إِجْمَاعَ، فَتَجِبُ فِيهَا الْحُكُومَةُ
__________
(1) نفس المرجع.
(2) الزيلعي 6 / 133، 134، وانظر نصب الراية 4 / 375، ونهاية المحتاج 7 / 305، والمغني 8 / 45، 46.
(3) مغني المحتاج 4 / 58.

(21/84)


كَمَا تَجِبُ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ (1) . أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ: فَقَدْ جَاءَ فِي مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ وَشُرُوحِهِ أَنَّ الْهَاشِمَةَ أَرْشُهَا عُشْرُ الدِّيَةِ وَنِصْفُهُ (2) . وَنَقَل الْمَوَّاقُ عَنِ ابْنِ شَاسٍ أَنَّ الْهَاشِمَةَ لاَ دِيَةَ فِيهَا بَل حُكُومَةٌ.
وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: لَمْ يَعْرِفْهَا مَالِكٌ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ فِيهَا عُشْرُ الدِّيَةِ مِائَةُ دِينَارٍ (3) .
وَقَال النَّفْرَاوِيُّ الْمَالِكِيُّ: الْمُنَقِّلَةُ، وَيُقَال لَهَا: الْهَاشِمَةُ أَيْضًا، فِيهَا عُشْرُ الدِّيَةِ وَنِصْفُ عُشْرِهَا وَهِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ بَعِيرًا (4) .

ج - الْمُنَقِّلَةُ:
67 - الْمُنَقِّلَةُ هِيَ الَّتِي تَنْقُل الْعِظَامَ بَعْدَ كَسْرِهَا وَتُزِيلُهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْمُنَقِّلَةِ عُشْرُ الدِّيَةِ وَنِصْفُهُ - أَيْ خَمْسَةَ عَشَرَ بَعِيرًا - وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الإِْبِل (5) . وَمِثْلُهُ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ
__________
(1) المغني 8 / 45، 46.
(2) جواهر الإكليل 2 / 267.
(3) المواق بهامش الحطاب 6 / 258، 259.
(4) الفواكه الدواني 2 / 262.
(5) حديث: " وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل " سبق تخريجه ف / 7.

(21/85)


مَرْفُوعًا، وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ إِجْمَاعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَيْهِ (1) .
وَقَدْ سَبَقَ كَلاَمُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمُنَقِّلَةَ يُقَال لَهَا الْهَاشِمَةُ أَيْضًا عِنْدَهُمْ (2) .

د - الآْمَّةُ أَوِ الْمَأْمُومَةُ:
68 - الآْمَّةُ وَالْمَأْمُومَةُ شَيْءٌ وَاحِدٌ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ نَقْلاً عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: أَهْل الْعِرَاقِ يَقُولُونَ لَهَا الآْمَّةُ، وَأَهْل الْحِجَازِ يَقُولُونَ لَهَا الْمَأْمُومَةُ، وَهِيَ الْجِرَاحَةُ الْوَاصِلَةُ إِلَى أُمِّ الدِّمَاغِ، وَهُوَ الْجِلْدَةُ الَّتِي تَجْمَعُ الدِّمَاغَ وَتَسْتُرُهُ.
وَيَجِبُ فِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (3)) لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: فِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ (4) وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْل ذَلِكَ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 372، والاختيار 5 / 42، والمواق على هامش الحطاب 6 / 258، 259، ومغني المحتاج 4 / 58، والروضة 9 / 264، والمغني 8 / 46.
(2) الفواكه الدواني 2 / 262، الزرقاني 8 / 34، 35.
(3) الاختيار 5 / 42، والزيلعي 6 / 132، وجواهر الإكليل 2 / 260، والمواق 6 / 259، والروضة 9 / 262، والمغني 8 / 47.
(4) حديث: " وفي المأمومة ثلث الدية " تقدم من حديث عمرو بن حزم ف / 7.

(21/85)


وَنَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّ فِيهَا ثُلُثَ الدِّيَةِ وَحُكُومَةً (1) .

هـ - الدَّامِغَةُ:
69 - الدَّامِغَةُ هِيَ الشَّجَّةُ الَّتِي تَتَجَاوَزُ عَنِ الآْمَّةِ فَتَخْرِقُ الْجِلْدَةَ وَتَصِل إِلَى الدِّمَاغِ وَتَخْسِفُهُ (2) .
وَلَمْ يَذْكُرْهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي بَحْثِ الشِّجَاجِ؛ لأَِنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ يَمُوتُ بَعْدَهَا عَادَةً، فَيَكُونُ قَتْلاً، لاَ شَجًّا.
فَإِنْ عَاشَ الْمَحْنِيُّ عَلَيْهِ بَعْدَ الدَّامِغَةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالأَْصَحُّ الْمَنْصُوصُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّ فِيهَا مَا فِي الآْمَّةِ، وَهُوَ ثُلُثُ الدِّيَةِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَجِبُ فِيهَا مَعَ الثُّلُثِ حُكُومَةٌ لِخَرْقِ غِشَاءِ الدِّمَاغِ. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَجِبُ فِي الدَّامِغَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ (3) .

تَدَاخُل الدِّيَاتِ وَتَعَدُّدُهَا:
70 - الأَْصْل أَنَّ الدِّيَةَ تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْجِنَايَةِ
__________
(1) الروضة 9 / 264.
(2) المصباح المنير، مادة: " دماغ "، والزيلعي 6 / 130، 131، ومغني المحتاج 4 / 58، والمغني 8 / 47.
(3) الخرشي 8 / 16، والزرقاني 8 / 17، وجواهر الإكليل 2 / 60، والمواق 6 / 246، والدسوقي 4 / 270، ومغني المحتاج 4 / 58.

(21/86)


وَإِتْلاَفِ الأَْعْضَاءِ أَوِ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ إِذَا لَمْ تُفِضْ إِلَى الْمَوْتِ. فَإِنْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ مَعًا وَلَمْ يَمُتِ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ تَجِبُ دِيَتَانِ.
وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ فَأَذْهَبَ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَعَقْلَهُ وَجَبَ ثَلاَثُ دِيَاتٍ، وَهَكَذَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رَجُلٍ رَمَى آخَرَ بِحَجَرٍ فَذَهَبَ عَقْلُهُ وَبَصَرُهُ وَسَمْعُهُ وَكَلاَمُهُ فَقَضَى فِيهِ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ وَهُوَ حَيٌّ؛ لأَِنَّهُ أَذْهَبَ مَنَافِعَ فِي كُل وَاحِدَةٍ مِنْهَا دِيَةٌ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ دِيَاتُهَا كَمَا لَوْ أَذْهَبَهَا بِجِنَايَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ.
أَمَّا إِذَا أَفَضَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى الْمَوْتِ فَتَتَدَاخَل دِيَاتُ الأَْطْرَافِ وَالْمَعَانِي فِي دِيَةِ النَّفْسِ فَلاَ تَجِبُ إِلاَّ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ (1) .
71 - وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الأَْصْل اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ إِذَا لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهَا الْبُرْءُ وَالاِنْدِمَال وَكَانَتْ مِنْ جَانٍ وَاحِدٍ تَتَدَاخَل مَعَ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ.
فَإِذَا قَطَعَ يَدَيْهِ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً قَبْل الْبُرْءِ لاَ يَجِبُ عَلَى الْجَانِي إِلاَّ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ. وَكَذَلِكَ إِذَا قَطَعَ سَائِرَ أَعْضَائِهِ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً، أَوْ سَرَتِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 303، وفتح القدير 8 / 282، والاختيار 5 / 43، والزيلعي 6 / 135، والمواق 6 / 264، وحاشية الزرقاني 8 / 83، وجواهر الإكليل 2 / 270، ومغني المحتاج 4 / 76، والروضة 9 / 306، والمغني 7 / 685 وما بعدها، و 8 / 38.

(21/86)


الْجِنَايَةُ عَلَى الأَْطْرَافِ إِلَى النَّفْسِ فَمَاتَ مِنْهَا (1) .
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ تَتَدَاخَل الأَْعْضَاءُ فِي مَنَافِعِهَا، وَالْمَنَافِعُ فِي الأَْعْضَاءِ إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى نَفْسِ الْمَحَل، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً أَمْ بِدَفَعَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، إِذَا لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهَا الْبُرْءُ. فَإِذَا قَطَعَ أَنْفَهُ وَأَذْهَبَ شَمَّهُ لاَ تَجِبُ إِلاَّ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِذَا أَذْهَبَ بَصَرَهُ ثُمَّ فَقَأَ عَيْنَيْهِ لاَ تَجِبُ إِلاَّ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَهَكَذَا. وَسَوَاءٌ أَحَصَلَتِ الْجِنَايَتَانِ مَعًا أَمْ بِالتَّرَاخِي بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَتَخَلَّل بَيْنَهُمَا بُرْءٌ.
وَهَذَا إِذَا اتَّفَقَتْ صِفَةُ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ وَالأَْطْرَافِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَكَانَتِ الْجِنَايَةُ فِي الأَْطْرَافِ بِالْقَطْعِ وَإِتْلاَفِ الْمَعَانِي فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَطْرَأْ عَلَى الْجِنَايَتَيْنِ انْدِمَالٌ.
وَإِذَا طَرَأَ الْبُرْءُ وَالاِنْدِمَال بَيْنَ الْجِنَايَتَيْنِ عَلَى الأَْطْرَافِ، أَوْ عَلَى طَرَفٍ وَمَعْنًى مِنْ نَفْسِ الطَّرَفِ تَتَعَدَّدُ الدِّيَاتُ. فَإِذَا قَطَعَ أَنْفَهُ وَانْدَمَل ثُمَّ أَتْلَفَ شَمَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ دِيَتَانِ. وَإِذَا قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَلَمْ يَسْرِ إِلَى النَّفْسِ وَانْدَمَلَتْ تَجِبُ عَلَيْهِ دِيَتَانِ، وَهَكَذَا (2) .
أَمَّا إِنِ اخْتَلَفَتِ الْجِنَايَةُ صِفَةً، بِأَنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا عَمْدًا وَالأُْخْرَى خَطَأً، أَوْ لَمْ يَكُنْ مَحَل الْجِنَايَتَيْنِ وَاحِدًا، وَلَمْ يَتَخَلَّل بَيْنَهُمَا بُرْءٌ، أَوْ كَانَتِ
__________
(1) البدائع 7 / 303، وجواهر الإكليل 2 / 270، والروضة 9 / 307.
(2) نفس المراجع السابقة.

(21/87)


الْجِنَايَةُ عَلَى طَرَفٍ أَوْ مَعْنًى لَكِنَّهَا سَرَتْ إِلَى طَرَفٍ أَوْ مَعْنًى آخَرَ فَفِي هَذِهِ الْمَسَائِل وَفُرُوعٍ أُخْرَى مِنْ نَوْعِهَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ، بَيَانُ ضَوَابِطِهِ فِيمَا يَلِي:
72 - يَقُول الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا قَبْل أَنْ تَبْرَأَ، أَوْ قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً أَوْ قَطَعَ يَدَهُ خَطَأً فَبَرِئَتْ يَدُهُ ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً، أَوْ قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا فَبَرَأَتْ ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِالأَْمْرَيْنِ جَمِيعًا.
جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ وَفَتْحِ الْقَدِيرِ: الأَْصْل فِيهِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجِرَاحَاتِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ تَتْمِيمًا لِلأَْوَّل لأَِنَّ الْقَتْل فِي الأَْعَمِّ يَقَعُ بِضَرَبَاتٍ مُتَعَاقِبَةٍ وَفِي اعْتِبَارِ كُل ضَرْبَةٍ بِنَفْسِهَا بَعْضُ الْحَرَجِ إِلاَّ أَنْ لاَ يُمْكِنَ الْجَمْعُ فَيُعْطَى كُل وَاحِدٍ حُكْمَ نَفْسِهِ وَقَدْ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ فِي هَذِهِ الْفُصُول فِي الأَْوَّلَيْنِ لاِخْتِلاَفِ حُكْمِ الْفِعْلَيْنِ وَفِي الآْخَرَيْنِ لِتَخَلُّل الْبُرْءِ، وَهُوَ قَاطِعٌ لِلسِّرَايَةِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَتَخَلَّل وَقَدْ تَجَانَسَا بِأَنْ كَانَا خَطَأَيْنِ يَجْمَعُ بِالإِْجْمَاعِ لإِِمْكَانِ الْجَمْعِ وَاكْتُفِيَ بِدِيَةٍ وَاحِدَةٍ (1) .
وَقَال الْمُوصِلِيُّ الْحَنَفِيُّ: مَنْ شَجَّ رَجُلاً فَذَهَبَ عَقْلُهُ أَوْ شَعْرُ رَأْسِهِ دَخَل فِيهِ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ؛ لأَِنَّ الْعَقْل إِذَا فَاتَ فَاتَتْ مَنْفَعَةُ جَمِيعِ الأَْعْضَاءِ فَصَارَ كَمَا إِذَا شَجَّهُ فَمَاتَ، وَأَمَّا الشَّعْرُ فَلأَِنَّ أَرْشَ الْمُوضِحَةِ يَجِبُ لِفَوَاتِ بَعْضِ الشَّعْرِ حَتَّى لَوْ نَبَتَ
__________
(1) الهداية مع الفتح 8 / 282، 283.

(21/87)


سَقَطَ الأَْرْشُ، وَالدِّيَةُ تَجِبُ بِفَوَاتِ جَمِيعِ الشَّعْرِ، وَقَدْ تَعَلَّقَا بِفِعْلٍ وَاحِدٍ فَيَدْخُل الْجُزْءُ فِي الْكُل كَمَا لَوْ قَطَعَ أُصْبُعَهُ فَشُلَّتْ يَدُهُ
وَإِنْ ذَهَبَ سَمْعُهُ أَوْ بَصَرُهُ أَوْ كَلاَمُهُ لَمْ تَدْخُل، وَيَجِبُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ مَعَ ذَلِكَ، لِمَا رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى فِي ضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ؛ وَلأَِنَّ مَنْفَعَةَ كُل عُضْوٍ مِنْ هَذِهِ الأَْعْضَاءِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ لاَ تَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ فَأَشْبَهَ الأَْعْضَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ، بِخِلاَفِ الْعَقْل فَإِنَّ مَنْفَعَتَهُ تَتَعَدَّى إِلَى جَمِيعِ الأَْعْضَاءِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشَّجَّةَ تَدْخُل فِي دِيَةِ السَّمْعِ وَالْكَلاَمِ دُونَ الْبَصَرِ؛ لأَِنَّ السَّمْعَ وَالْكَلاَمَ أَمْرٌ بَاطِنٌ فَاعْتَبَرَهُ بِالْعَقْل، أَمَّا الْبَصَرُ فَأَمْرٌ ظَاهِرٌ فَلاَ يُلْتَحِقُ بِهِ (1) .
وَقَال الزَّيْلَعِيُّ: الْجِنَايَةُ إِذَا وَقَعَتْ عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ فَأَتْلَفَتْ شَيْئَيْنِ، وَأَرْشُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرُ، دَخَل الأَْقَل فِيهِ، وَلاَ فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى عُضْوَيْنِ لاَ يَدْخُل، وَيَجِبُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْشُهُ سَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِسُقُوطِ الْقِصَاصِ بِهِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ لِلأَْوَّل الْقِصَاصُ إِنْ كَانَ عَمْدًا وَأَمْكَنَ الاِسْتِيفَاءُ، وَإِلاَّ فَكَمَا قَال أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَال زُفَرُ لاَ يَدْخُل أَرْشُ الأَْعْضَاءِ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنَايَةٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَلاَ يَتَدَاخَلاَنِ
__________
(1) الاختيار للموصلي 5 / 43.

(21/88)


كَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ (1) .
73 - يَقُول الْمَالِكِيَّةُ: تَتَعَدَّدُ الدِّيَةُ بِتَعَدُّدِ الْجِنَايَةِ إِلاَّ الْمَنْفَعَةَ بِمَحَلِّهَا، فَلَوْ ضَرَبَ صُلْبَهُ فَبَطَل قِيَامُهُ وَقُوَّةُ ذَكَرِهِ حَتَّى ذَهَبَ مِنْهُ أَمْرُ النِّسَاءِ لَمْ يَنْدَرِجْ، وَوَجَبَتْ دِيَتَانِ، كَمَا أَنَّ مَنْ شَجَّ رَجُلاً مُوضِحَةً فَذَهَبَ مِنْ ذَلِكَ سَمْعُهُ وَعَقْلُهُ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَتَانِ بِجَانِبِ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ.
أَمَّا إِذَا ذَهَبَتِ الْمَنْفَعَةُ بِمَحَلِّهَا فَتَنْدَرِجُ الْجِنَايَتَانِ، فَتَجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَمَحَلِّهَا مَعًا (2) .
وَكَذَا إِذَا جَنَى عَلَى لِسَانِهِ فَأَذْهَبَ ذَوْقَهُ وَنُطْقَهُ أَوْ فَعَل بِهِ مَا مَنَعَ بِهِ وَاحِدًا مِنْهُمَا، أَوْ هُمَا مَعَ بَقَاءِ اللِّسَانِ إِذَا ذَهَبَ كُلُّهُ بِضَرْبَةٍ أَوْ بِضَرَبَاتٍ فِي فَوْرٍ. وَأَمَّا بِضَرَبَاتٍ بِغَيْرِ فَوْرٍ فَتَتَعَدَّدُ بِمَحَلِّهَا الَّذِي لاَ تُوجَدُ إِلاَّ بِهِ. فَإِنْ وُجِدَتْ بِغَيْرِهِ وَبِهِ وَلَوْ أَكْثَرَهَا، كَأَنْ كَسَرَ صُلْبَهُ فَأَقْعَدَهُ وَذَهَبَتْ قُوَّةُ الْجِمَاعِ فَعَلَيْهِ دِيَةٌ لِمَنْعِ قِيَامِهِ، وَدِيَةٌ لِعَدَمِ قُوَّةِ الْجِمَاعِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهَا فِي الصُّلْبِ.
وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْمَالِكِيَّةِ فِي الأُْذُنِ وَالأَْنْفِ، فَقَدْ نَقَل أَكْثَرُ شُرَّاحِ خَلِيلٍ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ فِي الشَّمِّ دِيَةً وَيَنْدَرِجُ فِي الأَْنْفِ كَالْبَصَرِ مَعَ الْعَيْنِ وَالسَّمْعِ مَعَ الأُْذُنِ. وَهَذَا مُطَابِقٌ لِقَاعِدَةِ: إِنَّ الْمَنْفَعَةَ لاَ تَتَعَدَّدُ بِمَحَلِّهَا، كَمَا اقْتَضَاهُ نَصُّ خَلِيلٍ: (وَتَعَدَّدَتِ الدِّيَةُ بِتَعَدُّدِهَا إِلاَّ الْمَنْفَعَةَ
__________
(1) الزيلعي 6 / 135.
(2) المواق 6 / 264.

(21/88)


بِمَحَلِّهَا) ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، كَمَا قَال الْبُنَانِيِّ (1) .
وَقَال الزَّرْقَانِيُّ: وَلاَ يَشْمَل قَوْلُهُ (بِمَحَلِّهَا) الأُْذُنَ وَالأَْنْفَ، وَإِنِ اقْتَضَاهُ كَلاَمُ بَعْضِ الشُّرَّاحِ، بَل فِي قَطْعِ الأُْذُنِ أَوِ الأَْنْفِ غَيْرِ الْمَارِنِ حُكُومَةٌ، وَالدِّيَةُ فِي السَّمْعِ وَالشَّمِّ؛ لأَِنَّ السَّمْعَ لَيْسَ مَحَلُّهُ الأُْذُنَ، وَالشَّمَّ لَيْسَ مَحَلُّهُ الأَْنْفَ بِدَلِيل تَعْرِيفَيْهِمَا (2) .
74 - أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَال الشِّرْبِينِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْمِنْهَاجِ: إِذَا أَزَال الْجَانِي أَطْرَافًا تَقْتَضِي دِيَاتٍ كَقَطْعِ أُذُنَيْنِ، وَيَدَيْنِ وَرِجْلَيْنِ، وَلَطَائِفَ (مَعَانِي) تَقْتَضِي دِيَاتٍ، كَإِبْطَال سَمْعٍ، وَبَصَرٍ وَشَمٍّ، فَمَاتَ سِرَايَةً مِنْهَا، وَكَذَا مِنْ بَعْضِهَا وَلَمْ يَنْدَمِل الْبَعْضُ كَمَا اقْتَضَاهُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ، وَاعْتَمَدَهُ الْبُلْقِينِيُّ إِذَا كَانَ قَبْل الاِنْدِمَال لِلْبَعْضِ الآْخَرِ فَدِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَسَقَطَ بَدَل مَا ذَكَرَهُ؛ لأَِنَّهَا صَارَتْ نَفْسًا، أَمَّا إِذَا مَاتَ بِسِرَايَةِ بَعْضِهَا بَعْدَ انْدِمَال بَعْضٍ آخَرَ مِنْهَا لَمْ يَدْخُل مَا انْدَمَل فِي دِيَةِ النَّفْسِ قَطْعًا، وَكَذَا لَوْ جَرَحَهُ جُرْحًا خَفِيفًا لاَ مَدْخَل لِلسِّرَايَةِ فِيهِ ثُمَّ أَجَافَهُ (أَصَابَهُ بِجَائِفَةٍ) فَمَاتَ بِسِرَايَةِ الْجَائِفَةِ قَبْل انْدِمَال ذَلِكَ الْجُرْحِ فَلاَ يَدْخُل أَرْشُهُ فِي دِيَةِ النَّفْسِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلاَمِ
__________
(1) جواهر الإكليل شرح مختصر خليل 2 / 270، والتاج والإكليل بهامش الحطاب 6 / 264، وحاشية البناني على الزرقاني 8 / 43.
(2) شرح الزرقاني على مختصر خليل 8 / 43.

(21/89)


الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا، أَمَّا مَا لاَ يُقَدَّرُ بِالدِّيَةِ فَيَدْخُل أَيْضًا كَمَا فُهِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ بِالأَْوْلَى، وَكَذَا لَوْ حَزَّهُ الْجَانِي أَيْ قَطَعَ عُنُقَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ قَبْل انْدِمَالِهِ مِنَ الْجِرَاحَةِ يَلْزَمُهُ لِلنَّفْسِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الأَْصَحِّ الْمَنْصُوصِ؛ لأَِنَّ دِيَةَ النَّفْسِ وَجَبَتْ قَبْل اسْتِقْرَارِ مَا عَدَاهَا فَيَدْخُل فِيهَا بَدَلُهُ كَالسِّرَايَةِ. وَالثَّانِي تَجِبُ دِيَاتُ مَا تَقَدَّمَهَا؛ لأَِنَّ السِّرَايَةَ قَدِ انْقَطَعَتْ بِالْقَتْل فَأَشْبَهَ انْقِطَاعَهَا بِالاِنْدِمَال. وَمَا سَبَقَ هُوَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْفِعْل الْمَجْنِيِّ بِهِ، فَإِنْ كَانَ مُخْتِلَفًا كَأَنْ حَزَّ الرَّقَبَةَ عَمْدًا وَالْجِنَايَةُ الْحَاصِلَةُ قَبْل الْحَزِّ خَطَأً، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ أَوْ عَكْسَهُ كَأَنْ حَزَّهُ خَطَأً وَالْجِنَايَاتُ عَمْدًا أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ فَلاَ تَدَاخُل لِشَيْءٍ مِمَّا دُونَ النَّفْسِ فِيهَا فِي الأَْصَحِّ، بَل يَسْتَحِقُّ الطَّرَفَ وَالنَّفْسَ لاِخْتِلاَفِهِمَا وَاخْتِلاَفِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، فَلَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ ثُمَّ حَزَّ رَقَبَتَهُ عَمْدًا، أَوْ قَطَعَ هَذِهِ الأَْطْرَافَ عَمْدًا ثُمَّ حَزَّ الرَّقَبَةَ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ وَعَفَا الأَْوَّل فِي الْعَمْدِ عَلَى دِيَتِهِ وَجَبَتْ فِي الأُْولَى دِيَةُ خَطَأٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ وَدِيَةُ عَمْدٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ دِيَتَا عَمْدٍ وَدِيَةُ خَطَأٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ، وَالْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ تَسْقُطُ الدِّيَاتُ فِيهِمَا، وَلَوْ حَزَّ الرَّقَبَةَ غَيْرُهُ أَيِ الْجَانِي الْمُتَقَدِّمِ تَعَدَّدَتْ، أَيِ الدِّيَاتُ؛ لأَِنَّ فِعْل الإِْنْسَانِ لاَ يَدْخُل فِي فِعْل غَيْرِهِ، فَيَلْزَمُ كُلًّا مِنْهُمَا مَا أَوْجَبَتْهُ جِنَايَتُهُ (1) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 76، 77، ونهاية المحتاج 7 / 324، وانظر الروضة 9 / 306، 307.

(21/89)


75 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ عَادَ فَضَرَبَ عُنُقَهُ قَبْل أَنْ تَنْدَمِل جِرَاحُهُ، وَصَارَ الأَْمْرُ إِلَى الدِّيَةِ بِعَفْوِ الْوَلِيِّ أَوْ كَوْنِ الْفِعْل خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَالْوَاجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لأَِنَّهُ قَاتِلٌ قَبْل اسْتِقْرَارِ الْجُرْحِ، فَدَخَل أَرْشُ الْجِرَاحَةِ فِي أَرْشِ النَّفْسِ، كَمَا لَوْ سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: تَجِبُ دِيَةُ الأَْطْرَافِ الْمَقْطُوعَةِ وَدِيَةُ النَّفْسِ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا قَطَعَ بِسِرَايَةِ الْجُرْحِ بِقَتْلِهِ صَارَ كَالْمُسْتَقِرِّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ (1) .
وَإِنْ قَطَعَ الْجَانِي بَعْضَ أَعْضَائِهِ ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَ أَنْ بَرِئَتِ الْجِرَاحُ، مِثْل إِنْ قَطَعَ الْجَانِي يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَبَرِئَتْ جِرَاحَتُهُ ثُمَّ قَتَلَهُ فَقَدِ اسْتَقَرَّ حُكْمُ الْقَطْعِ بِالْبُرْءِ وَلِوَلِيِّ الْقَتِيل الْخِيَارُ، إِنْ شَاءَ عَفَا وَأَخَذَ ثَلاَثَ دِيَاتٍ، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُ وَأَخَذَ دِيَتَيْنِ، دِيَةً لِلْيَدَيْنِ وَدِيَةً لِلرِّجْلَيْنِ؛ لأَِنَّ كُل جِنَايَةٍ مِنْ ذَلِكَ اسْتَقَرَّ حُكْمُهَا، كَمَا قَال الْبُهُوتِيُّ (2) . وَهَذَا يَعْنِي أَنَّهُ لاَ تَدَاخُل بَعْدَ الاِنْدِمَال عِنْدَهُمْ لاَ فِي النَّفْسِ وَلاَ فِي الأَْعْضَاءِ.

مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ:
76 - الأَْصْل أَنَّ الدِّيَةَ إِذَا كَانَ مُوجِبُهَا الْفِعْل الْخَطَأَ أَوْ شِبْهَ الْعَمْدِ، وَلَمْ تَكُنْ أَقَل مِنَ الثُّلُثِ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ، إِلاَّ دِيَةَ الْعَبْدِ أَوْ مَا وَجَبَ بِإِقْرَارِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوِ الصُّلْحِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
__________
(1) المغني 7 / 185، 186، وكشاف القناع 5 / 539.
(2) كشاف القناع 5 / 540.

(21/90)


لاَ تَعْقِل الْعَوَاقِل عَمْدًا وَلاَ عَبْدًا وَلاَ صُلْحًا وَلاَ اعْتِرَافًا (1) .
وَيَشْتَرِكُ مَعَ الْعَاقِلَةِ فِي تَحَمُّل دِيَةِ الْخَطَأِ الْجَانِي نَفْسُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُمْ، حَيْثُ قَالُوا: لَيْسَ عَلَى الْجَانِي الْمُخْطِئِ شَيْءٌ مِنَ الدِّيَةِ (2) .
وَقَدْ تَقَدَّمَ دَلِيل وَحِكْمَةُ تَحَمُّل الْعَاقِلَةِ دِيَةَ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحِ: (عَاقِلَة) .
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا وَسَقَطَ الْقِصَاصُ بِشُبْهَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، أَوْ ثَبَتَتْ بِاعْتِرَافِ الْجَانِي أَوِ الصُّلْحِ فَإِنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ فِي مَال الْجَانِي نَفْسِهِ؛ لأَِنَّهَا دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ، وَمِنْ وُجُوهِ التَّغْلِيظِ فِي الْعَمْدِ وُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَى الْجَانِي نَفْسِهِ كَمَا سَبَقَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي عَمْدِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ: فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ خَطَأٌ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا كَمَال الْقَصْدِ، فَدِيَتُهُمَا عَلَى عَاقِلَتِهِمَا كَشِبْهِ
__________
(1) حديث: " لا تعقل العواقل عمدًا ولا عبدًا ولا صلحًا ولا اعترافًا " أورده الزيلعي في نصب الراية (4 / 399 - ط المجلس العلمي) وقال: " غريب " يعني: لا أصل له.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 412، وحاشية القليوبي 4 / 156، وجواهر الإكليل 2 / 265

(21/90)


الْعَمْدِ (1) . وَلأَِنَّ مَجْنُونًا صَال عَلَى رَجُلٍ بِسَيْفِ فَضَرَبَهُ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَعَل عَقْلَهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَال: عَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ سَوَاءٌ.
وَلأَِنَّ الصَّبِيَّ مَظِنَّةُ الْمَرْحَمَةِ، وَالْعَاقِل الْمُخْطِئُ لَمَّا اسْتَحَقَّ التَّخْفِيفَ حَتَّى وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَهَؤُلاَءِ - وَهُمْ أَغْرَارٌ - أَوْلَى بِهَذَا التَّخْفِيفِ (2) .

وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ: إِنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ عَمْدٌ إِذَا كَانَ لَهُمَا نَوْعُ تَمْيِيزٍ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ؛ لأَِنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْل الْعُقُوبَةِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمَا مُوجَبُهُ الآْخَرُ وَهُوَ الدِّيَةُ (3) .

وُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَى أَهْل الْقَرْيَةِ:
77 - إِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي قَرْيَةٍ أَوْ مَكَانٍ مَمْلُوكٍ لِجَمَاعَةٍ، وَلاَ يُعْرَفُ قَاتِلُهُ، وَادَّعَى الأَْوْلِيَاءُ الْقَتْل عَلَى أَهْل الْمَحَلَّةِ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ بَعْدَ الْقَسَامَةِ (4) ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ فِي شُرُوطِ وَأَحْكَامِ الْقَسَامَةِ، تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَسَامَة) .
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 139، والدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 282، 486، ومغني المحتاج 4 / 10، والمغني لابن قدامة 7 / 776
(2) نفس المراجع السابقة.
(3) مغني المحتاج 4 / 10.
(4) ابن عابدين 5 / 410، وما بعدها، جواهر الإكليل 2 / 15، وحاشية القليوبي على المنهاج 4 / 163، والمغني 8 / 64 - 68.

(21/91)


وُجُوبُ الدِّيَةِ فِي بَيْتِ الْمَال:
يَتَحَمَّل بَيْتُ الْمَال الدِّيَةَ فِي الْحَالاَتِ التَّالِيَةِ:

أ - عَدَمُ وُجُودِ الْعَاقِلَةِ أَوْ عَجْزُهَا عَنْ أَدَاءِ الدِّيَةِ:
78 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ مَنْ لاَ عَاقِلَةَ لَهُ، أَوْ كَانَ لَهُ عَاقِلَةٌ وَعَجَزَتْ عَنْ جَمِيعِ مَا وَجَبَ بِخَطَئِهِ أَوْ تَتِمَّتِهِ تَكُونُ دِيَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَال لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا وَارِثُ مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ أَعْقِل عَنْهُ وَأَرِثُهُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: هَذَا إِذَا كَانَ الْجَانِي مُسْلِمًا، فَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا أَوْ ذِمِّيًّا فَدِيَتُهُ فِي مَال الْجَانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الرَّاجِحِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقِيل: عِنْدَهُمْ قَوْلاَنِ، كَمُسْلِمٍ لاَ عَاقِلَةَ لَهُ وَلاَ بَيْتَ مَالٍ (2) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَنْ لاَ عَاقِلَةَ لَهُ هَل يُؤَدَّى عَنْهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال أَوْ لاَ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: يُؤَدَّى عَنْهُ مِنْهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الزُّهْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَى الأَْنْصَارِيَّ الَّذِي قُتِل بِخَيْبَرَ مِنْ بَيْتِ الْمَال؛ وَلأَِنَّ
__________
(1) حديث: " أنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه " أخرجه ابن ماجه (2 / 880 - ط الحلبي) ، من حديث المقداد بن معديكرب، وحسنه أبو زرعة الرازي كما في التلخيص لابن حجر (3 / 80 - ط شركة الطباعة الفنية)
(2) ابن عابدين 5 / 413، والمواق على هامش الحطاب 6 / 266، وجواهر الإكليل 2 / 271، والروضة 9 / 354، والمغني 7 / 791، وما بعدها، ومغني المحتاج 4 / 97

(21/91)


الْمُسْلِمِينَ يَرِثُونَ مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ، فَيَعْقِلُونَ عَنْهُ عِنْدَ عَدَمِ عَاقِلَتِهِ، كَعَصَبَاتِهِ وَمَوَالِيهِ.
وَالثَّانِيَةُ: لاَ يَجِبُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ بَيْتَ الْمَال فِيهِ حَقٌّ لِلنِّسَاءِ وَالصَّبِيَّانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْفُقَرَاءِ، وَلاَ عَمَل عَلَيْهِمْ، فَلاَ يَجُوزُ صَرْفُهُ فِيمَا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْكَافِرُ الذِّمِّيُّ يَعْقِل عَنْهُ ذَوُو دِينِهِ الَّذِينَ يُؤَدُّونَ مَعَهُ الْجِزْيَةَ، وَالصُّلْحِيُّ يَعْقِل عَنْهُ أَهْل صُلْحِهِ (2) .

ب - خَطَأُ الإِْمَامِ أَوِ الْحَاكِمِ فِي حُكْمِهِ:
79 - إِذَا أَخْطَأَ وَلِيُّ الأَْمْرِ أَوِ الْقَاضِي فِي حُكْمِهِ فَتَلِفَ بِذَلِكَ نَفْسٌ أَوْ عُضْوٌ، فَدِيَتُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَال عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمِثَالُهُ مَنْ مَاتَ فِي التَّعْزِيرِ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ وَالتَّجَاوُزِ بِأَمْرِ الإِْمَامِ، فَإِنَّ دِيَتَهُ تَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَال، لاَ عَلَى الْعَاقِلَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِهَا فِي بَيْتِ الْمَال بِأَنَّهُ خَطَأٌ يَكْثُرُ وُجُودُهُ، فَلَوْ وَجَبَ ضَمَانُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الإِْمَامِ أَجْحَفَ بِهِمْ (3) .
وَفِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لأَِنَّهَا وَجَبَتْ
__________
(1) المغني 7 / 791
(2) جواهر الإكليل 2 / 271
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 190، وروضة الطالبين 11 / 308، والمغني 8 / 312.

(21/92)


بِخَطَئِهِ، كَمَا لَوْ رَمَى صَيْدًا فَقَتَل آدَمِيًّا (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ زَادَ فِي التَّعْزِيرِ يَظُنُّ السَّلاَمَةَ فَخَابَ ظَنُّهُ فَهَدَرٌ، وَإِنْ شَكَّ فَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَهُوَ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ (2) .

ج - وُجُودُ الْقَتِيل فِي الأَْمَاكِنِ الْعَامَّةِ:
80 - إِذَا وُجِدَ الْقَتِيل فِي مَكَانٍ يَكُونُ التَّصَرُّفُ فِيهِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، كَالشَّارِعِ الأَْعْظَمِ النَّافِذِ، وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ، وَالسِّجْنِ وَكُل مَكَانٍ لاَ يَخْتَصُّ التَّصَرُّفُ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلاَ لِجَمَاعَةٍ يُحْصَوْنَ، فَالدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَال؛ لأَِنَّ الْغُرْمَ بِالْغُنْمِ، فَلَمَّا كَانَ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ هُمُ الْمُنْتَفَعِينَ بِهَذِهِ الأَْمَاكِنِ كَانَ الْغُرْمُ عَلَيْهِمْ، فَيُدْفَعُ مِنْ مَالِهِمُ الْمَوْضُوعِ لَهُمْ فِي بَيْتِ الْمَال. وَكَذَلِكَ إِذَا قُتِل شَخْصٌ فِي زِحَامِ طَوَافٍ أَوْ مَسْجِدٍ عَامٍّ أَوِ الطَّرِيقِ الأَْعْظَمِ وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، فَدِيَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَال (3) ، لِقَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ يُطَل دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ (4) .

تَعَذُّرُ حُصُول الدِّيَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَال:
81 - إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْجَانِي عَاقِلَةٌ، وَتَعَذَّرَ حُصُول الدِّيَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَال لِعَدَمِ وُجُودِهِ أَوْ عَدَمِ ضَبْطِهِ، فَهَل يَسْقُطُ الدَّمُ أَوْ تَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةً عَلَى الْجَانِي نَفْسِهِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) الروضة 9 / 228 و 11 / 308، والمغني 8 / 312
(2) الدسوقي 4 / 355.
(3) ابن عابدين 5 / 406، ونيل المآرب 2 / 110
(4) أثر علي - رضي الله عنه -: " لا يطل دم امرئ مسلم " أخرجه سعيد بن منصور في سننه كما في المغني لابن قدامة (8 / 69 - ط الرياض) .

(21/92)


وَاخْتَارَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهَا تَجِبُ فِي مَال الْجَانِي (1) . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا تَسْقُطُ (2) بِتَعَذُّرِ أَخْذِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَال حَيْثُ وَجَبَتْ فِيهِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْقَاتِل، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ، وَلاَ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَيْضًا لِعَجْزِهَا عَنْ أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهَا مِنَ الدِّيَةِ، وَلَوْ أَيْسَرَتِ الْعَاقِلَةُ بَعْدَ ذَلِكَ أُخِذَتِ الدِّيَةُ مِنْهَا كَامِلَةً لِئَلاَّ يَضِيعَ دَمُ الْمُسْلِمِ هَدَرًا، قَال الرَّحِيبَانِيُّ: وَهَذَا مُتَّجَهٌ، وَيُتَّجَهُ أَنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَ أَخْذُ الدِّيَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَال فَتَجِبُ فِي مَال الْقَاتِل (3) .
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ تُؤْخَذُ مِنَ الْجَانِي بَل تَجِبُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ كَنَفَقَةِ الْفُقَرَاءِ كَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ، وَقَال: لَوْ حَدَثَ فِي بَيْتِ الْمَال مَالٌ هَل يُؤْخَذُ مِنْهُ الْوَاجِبُ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لاَ، كَمَا لاَ يُطَالَبُ فَقِيرُ الْعَاقِلَةِ لِغِنَاهُ بَعْدَ الْحَوْل (4) .

مَنْ يَسْتَحِقُّ الدِّيَةَ:
82 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلدِّيَةِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ أَيْ قَطْعِ الأَْطْرَافِ وَإِزَالَةِ الْمَعَانِي هُوَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ نَفْسُهُ، إِذْ هُوَ الْمُتَضَرِّرُ، فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِالدِّيَةِ، وَلَهُ حَقُّ الإِْبْرَاءِ وَالْعَفْوُ عَنْهَا. وَإِذَا عَفَا عَنِ الدِّيَةِ فَلَيْسَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 413، الخرشي 8 / 46، ومغني المحتاج 4 / 97، والروضة 9 / 357، والمغني 7 / 792، 793
(2) نيل المآرب 2 / 110
(3) مطالب أولي النهى 6 / 139، 140
(4) الروضة 9 / 357

(21/93)


لِلأَْوْلِيَاءِ الْمُطَالَبَةُ بِشَيْءٍ إِذَا لَمْ تَسْرِ الْجِنَايَةُ إِلَى النَّفْسِ.
أَمَّا إِذَا سَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى النَّفْسِ وَمَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بَعْدَ عَفْوِهِ عَنْ قَطْعِ الأَْطْرَافِ وَالْمَعَانِي فَهَل لِلأَْوْلِيَاءِ الْمُطَالَبَةُ بِدِيَةِ النَّفْسِ لأَِنَّ الْعَفْوَ حَصَل عَنِ الْقَطْعِ لاَ عَنِ الْقَتْل؟ أَوْ لَيْسَ لَهُمُ الْمُطَالَبَةُ بِالدِّيَةِ الْكَامِلَةِ؛ لأَِنَّ الْعَفْوَ عَنْ مُوجِبِ الْجِنَايَةِ وَهُوَ الْقَطْعُ عَفْوٌ عَنِ الْجِنَايَةِ نَفْسِهَا؟ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاص، وَعَفْو، وَسِرَايَة) .
أَمَّا دِيَةُ النَّفْسِ فَهِيَ مَوْرُوثَةٌ كَسَائِرِ أَمْوَال الْمَيِّتِ حَسَبَ الْفَرَائِضِ الْمُقَدَّرَةِ شَرْعًا فِي تَرِكَتِهِ فَيَأْخُذُ مِنْهَا كُلٌّ مِنَ الْوَرَثَةِ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ نَصِيبَهُ الْمُقَدَّرَ لَهُ بِاسْتِثْنَاءِ الْقَاتِل، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (1) وَلِمَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ قَال: الْعَقْل مِيرَاثٌ بَيْنَ وَرَثَةِ الْقَتِيل عَلَى فَرَائِضِهِمْ (2) . وَهَذَا قَوْل أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ (3) .
__________
(1) سورة النساء / 92
(2) حديث: " العقل ميراث بين ورثة القتيل على فرائضهم " أخرجه النسائي (8 / 3 - ط المكتبة التجارية) ، وأبو داود (4 / 692 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده حسن
(3) فتح القدير مع الهداية 8 / 284، 286، وكفاية الطالب شرح الرسالة 2 / 247، والمواق مع الحطاب 6 / 258، وحاشية الجمل 5 / 108، 109، ومغني المحتاج 4 / 105، ومطالب أولي النهى 4 / 497، 498، والأم للشافعي 7 / 149، والمغني لابن قدامة 6 / 320

(21/93)


وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: لاَ يَرِثُ الدِّيَةَ إِلاَّ عَصَبَاتُ الْمَقْتُول الَّذِينَ يَعْقِلُونَ عَنْهُ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَذْهَبُ إِلَى هَذَا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ لَمَّا بَلَغَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْرِيثُ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا (1) . فَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ الضَّحَّاكِ الْكِلاَبِيِّ قَال: كَتَبَ إِلَيَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا أَشْيَمَ (2) .
وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لِلْمَقْتُول وَارِثٌ تُؤَدَّى دِيَتُهُ لِبَيْتِ الْمَال لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا وَارِثُ مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ، أَعْقِل عَنْهُ وَأَرِثُهُ (3) .

الْعَفْوُ عَنِ الدِّيَةِ:
83 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الدِّيَةَ تَسْقُطُ بِالْعَفْوِ عَنْهَا. فَإِذَا عَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَنْ دِيَةِ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الْقَطْعِ وَإِتْلاَفِ الْمَعَانِي تَسْقُطُ دِيَتُهَا؛ لأَِنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ الَّتِي تَسْقُطُ بِعَفْوِ مَنْ لَهُ حَقُّ الْعَفْوِ، وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ هُوَ
__________
(1) المراجع السابقة، والمغني لابن قدامة 6 / 320، 321، وجواهر الإكليل 2 / 264
(2) حديث: " أنه ورث امرأة أشيم الضبابي " أخرجه أبو داود (3 / 339 - 340 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ونقل الزيلعي عن ابن القطان أنه أعله بالانقطاع بين عمر بن الخطاب والراوي عنه، وهو سعيد بن المسيب، كذا في نصب الراية للزيلعي (4 / 352 - ط المجلس العلمي)
(3) حديث: " أنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه " سبق تخريجه ف / 78.

(21/94)


الْمُسْتَحِقُّ الْوَحِيدُ فِي دِيَةِ الأَْطْرَافِ وَالْمَعَانِي.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ دِيَةَ النَّفْسِ تَسْقُطُ بِعَفْوِ أَوْ إِبْرَاءِ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا. وَإِذَا عَفَا أَوْ أَبْرَأَ بَعْضُهُمْ دُونَ الْبَعْضِ يَسْقُطُ حَقُّ مَنْ عَفَا وَتَبْقَى حِصَّةُ الآْخَرِينَ فِي مَال الْجَانِي إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا، وَعَلَى الْعَاقِلَةِ إِنْ كَانَتْ خَطَأً.
وَاتَّفَقُوا فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ لَهُ الْعَفْوُ عَنْ دَمِ نَفْسِهِ بَعْدَ مَا وَجَبَ لَهُ الدَّمُ مِثْل أَنْ يَعْفُوَ بَعْدَ إِنْفَاذِ مَقَاتِلِهِ عَمْدًا كَانَ الْقَتْل أَوْ خَطَأً.
وَإِذَا صَارَ الأَْمْرُ إِلَى الدِّيَةِ يَكُونُ الْعَفْوُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ فَيَنْعَقِدُ فِي الثُّلُثِ (1) .
أَمَّا إِذَا عَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَنْ دِيَةِ قَطْعِ عُضْوٍ، فَسَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى عُضْوٍ آخَرَ أَوْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَهَل يَشْمَل الْعَفْوُ دِيَةَ النَّفْسِ أَوِ الْعُضْوِ الَّذِي سَرَتْ إِلَيْهِ الْجِنَايَةُ؟ فَفِيهِ مَا يَأْتِي مِنَ التَّفْصِيل:
أ - إِذَا عَفَا عَنِ الْقَطْعِ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ بِأَنْ قَال: عَفَوْتُ عَنْ جِنَايَتِكَ، أَوْ قَال: عَفَوْتُ عَنِ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ، شَمَل الْعَفْوُ مَا يَحْدُثُ مِنَ الْقَطْعِ مِنْ إِتْلاَفِ عُضْوٍ آخَرَ أَوِ الْمَوْتِ.
وَإِنْ عَفَا عَنِ الْقَطْعِ مُطْلَقًا بِأَنْ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِقَوَدٍ وَلاَ دِيَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَحْدُثُ مِنْهُ فَهَذَا الْعَفْوُ يَخُصُّ الْقَطْعَ، وَلاَ يَتَنَاوَل مَا يَسْرِي مِنْهُ مِنْ إِتْلاَفِ أَعْضَاءٍ
__________
(1) فتح القدير مع الهداية 8 / 284، 285، والبدائع 7 / 249، ومواهب الجليل مع المواق 5 / 86، 87 و 6 / 255، وجواهر الإكليل 2 / 276، وحاشية الجمل على المنهج 5 / 54، 56، والمغني 7 / 748، وما بعدها

(21/94)


أُخْرَى أَوِ النَّفْسِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) ، وَعَلَى ذَلِكَ فَالْجَانِي ضَامِنٌ لِلْجِنَايَةِ وَمَا تَسْرِي إِلَيْهِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ. حَتَّى إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا بِالْقِصَاصِ بَعْدَ الْقَسَامَةِ إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا مِنْ وَاحِدٍ تَعَيَّنَ لَهَا.
وَاسْتَدَل الْفُقَهَاءُ لِعَدَمِ شُمُول الْعَفْوِ لِمَا يَسْرِي مِنْهُ مِنْ إِتْلاَفِ الأَْعْضَاءِ أَوِ النَّفْسِ بِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ قَتْل النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ (أَوْ إِتْلاَفُ الْعُضْوِ) ، وَالْعَفْوُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ بِصَرِيحِهِ؛ لأَِنَّهُ عَفَا عَنِ الْقَطْعِ، وَهُوَ غَيْرُ الْقَتْل، وَبِالسِّرَايَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاقِعَ قَتْلٌ، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ إِلاَّ أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ؛ لأَِنَّ صُورَةَ الْعَفْوِ أَوْرَثَتْ شُبْهَةً وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْقَوَدِ، بِخِلاَفِ الْعَفْوِ عَنِ الْقَطْعِ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ؛ لأَِنَّهَا اسْمُ جِنْسٍ وَبِخِلاَفِ الْعَفْوِ عَنِ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ لأَِنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْعَفْوِ عَنِ السِّرَايَةِ وَالْقَتْل (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَصِحُّ الْعَفْوُ، وَيَتَنَاوَل مَا يَسْرِي عَنِ الْقَطْعِ مِنْ إِتْلاَفِ عُضْوٍ آخَرَ أَوِ النَّفْسِ، فَلاَ شَيْءَ عَلَى الْقَاتِل، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْقَطْعِ عَفْوٌ عَنْ مُوجَبِهِ، وَمُوجَبُهُ الْقَطْعُ
__________
(1) فتح القدير مع الهداية 8 / 284، 285، والبدائع 7 / 249، ومواهب الجليل مع المواق 5 / 86، 87 و 6 / 255، وجواهر الإكليل 2 / 276، وحاشية الجمل على المنهج 5 / 54، 56، والمغني 7 / 748، وما بعدها

(21/95)


لَوِ اقْتَصَرَ، أَوِ الْقَتْل إِذَا سَرَى، فَكَانَ الْعَفْوُ عَنْهُ عَفْوًا عَنْ مُوجَبِهِ أَيُّهُمَا كَانَ. وَلأَِنَّ اسْمَ الْقَطْعِ يَتَنَاوَل السَّارِيَ وَالْمُقْتَصِرَ، فَيَكُونُ الْعَفْوُ عَنِ الْقَطْعِ عَفْوًا عَنْ نَوْعَيْهِ، وَصَارَ كَمَا إِذَا كَانَ الْعَفْوُ عَنِ الْجِنَايَةِ، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَل الْجِنَايَةَ السَّارِيَةَ وَالْمُقْتَصِرَةَ فَكَذَا هَذَا.
وَعَلَى ذَلِكَ فَتَسْقُطُ بِعَفْوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَنِ الْقَطْعِ وَلَوْ سَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى النَّفْسِ عِنْدَهُمْ (1) .
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحَاتِ: (قَتْل، قِصَاص، سِرَايَة) .
__________
(1) المراجع السابقة

(21/95)


دِيَاثَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الدِّيَاثَةُ لُغَةً: الاِلْتِوَاءُ فِي اللِّسَانِ، وَلَعَلَّهُ مِنَ التَّذْلِيل وَالتَّلْيِينِ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ دَاثَ الشَّيْءُ دَيْثًا مِنْ بَابِ بَاعَ لاَنَ وَسَهُل، وَيُعَدَّى بِالتَّثْقِيل فَيُقَال دَيَّثَ غَيْرَهُ. وَمِنْهُ اشْتِقَاقُ الدَّيُّوثِ، وَهُوَ الرَّجُل الَّذِي لاَ غَيْرَةَ لَهُ عَلَى أَهْلِهِ، وَالدِّيَاثَةُ بِالْكَسْرِ: فِعْلُهُ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ عُرِّفَتِ الدِّيَاثَةُ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ يَجْمَعُهَا مَعْنًى وَاحِدٌ لاَ تَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَهُوَ عَدَمُ الْغَيْرَةِ عَلَى الأَْهْل وَالْمَحَارِمِ (2) .
وَمِثْل الدَّيُّوثِ عِنْدَهُمُ الْقَرْطَبَانُ (3) - بِفَتْحِ
__________
(1) الصحاح والقاموس واللسان والمصباح مادة: " ديث "، والمغرب / 172 ط العربي
(2) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 3 / 184 ط المصرية، وأسنى المطالب 3 / 327 ط. الميمنية، روضة الطالبين 8 / 185 - 186ط. المكتب الإسلامي، كشاف القناع 6 / 112 ط. النصر، المغني 8 / 223 ط الرياض
(3) المصباح مادة: " قرط "، حاشية ابن عابدين 3 / 184 ط. المصرية، تبيين الحقائق 3 / 208 ط. بولاق، الفتاوى الهندية 2 / 168 ط. المكتبة الإسلامية، أسنى المطالب 3 / 327 ط الميمنية، روضة الطالبين 8 / 185 - 186 ط. المكتب الإسلامي، مغني المحتاج 3 / 334 ط. التراث، نهاية المحتاج 7 / 51 - 52 ط. المكتبة الإسلامية، حاشية القليوبي 3 / 364 ط الحلبي، كشاف القناع 6 / 112 ط النصر، المغني 8 / 223 ط. الرياض.

(21/96)


الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ - وَالْقَرْنَانُ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - قِيَادَةٌ
2 - الْقِيَادَةُ ذَاتُ الصِّلَةِ بِالدِّيَاثَةِ هِيَ: السَّعْيُ بَيْنَ الرَّحْل وَالْمَرْأَةِ بِالْفُجُورِ، وَهِيَ فِعْل الْقَوَّادِ، كَمَا أَنَّ الدِّيَاثَةَ فِعْل الدَّيُّوثِ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى (2) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - الدِّيَاثَةُ مِنَ الْكَبَائِرِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثَةٌ لاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالدَّيُّوثُ، وَرَجُلَةُ النِّسَاءِ (3) .
فَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً يُمْكِنُ احْتِسَابُهَا مِنَ الإِْفْسَادِ فِي الأَْرْضِ. قَال الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ:
__________
(1) المصباح مادة: " قرن "، الدسوقي 4 / 329 ط. الفكر، جواهر الإكليل 2 / 288 ط. المعرفة، الزرقاني 8 / 89 ط. الفكر، التاج والإكليل 6 / 301 ط. النجاح، الخرشي 8 / 88 - 89 ط بولاق، المغني 8 / 233 ط. الرياض.
(2) لسان العرب، والمعجم الوسيط
(3) حديث: " ثلاثة لا يدخلون الجنة ". أخرجه الحاكم (1 / 72 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عمر، وصححه، ووافقه الذهبي

(21/96)


إِنَّ الْحِرَابَةَ فِي الْفُرُوجِ أَفْحَشُ مِنْهَا فِي الأَْمْوَال، وَإِنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ لَيَرْضَوْنَ أَنْ تَذْهَبَ أَمْوَالُهُمْ وَتُحْرَبَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَلاَ يُحْرَبَ الْمَرْءُ مِنْ زَوْجَتِهِ أَوْ بِنْتِهِ، وَلَوْ كَانَ فَوْقَ مَا قَال اللَّهُ عُقُوبَةٌ، لَكَانَتْ لِمَنْ يَسْلُبُ الْفُرُوجَ (1)) .

مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّيَاثَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أ - الطَّلاَقُ:
4 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الدِّيَاثَةَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الطَّلاَقِ وَأَسْبَابِهَا، عَلَى اخْتِلاَفٍ فِي الْحُكْمِ مِنْ حَيْثُ الْوُجُوبُ أَوِ النَّدْبُ (2) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (طَلاَق) .

ب - الْقَذْفُ وَالتَّعْزِيرُ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ شَتَمَ آخَرَ بِأَنْ قَال لَهُ: يَا دَيُّوثُ، فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ وَلاَ يُحَدُّ؛ لأَِنَّهُ آذَاهُ بِإِلْحَاقِ الشَّيْنِ بِهِ، وَلاَ مَدْخَل لِلْقِيَاسِ فِي بَابِ الْحُدُودِ فَوَجَبَ التَّعْزِيرُ (3) .
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 2 / 594، الشرح الصغير للدردير 4 / 491، الكبائر للذهبي ص100، كبيرة 270
(2) أسنى المطالب 3 / 327 ط الميمنية، وروضة الطالبين 8 / 185 - 186ط. المكتب الإسلامي، مغني المحتاج 3 / 334 ط التراث، ونهاية المحتاج 7 / 51 - 52 ط المكتبة الإسلامية، وحاشية القليوبي 3 / 364 ط الحلبي، كشاف القناع 5 / 233 ط. النصر، المغني 7 / 97 ط الرياض
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 184 ط المصرية، تبيين الحقائق 3 / 208 ط. بولاق، الفتاوى الهندية 2 / 168 ط. المكتبة الإسلامية، الدسوقي 4 / 329 ط. الفكر، جواهر الإكليل 2 / 288 ط. المعرفة، الزرقاني 8 / 89 ط. الفكر، التاج والإكليل 6 / 301 ط. النجاح، الخرشي 8 / 88 - 89 ط. بولاق، روضة الطالبين 8 / 313 ط. المكتب الإسلامي، كشاف القناع 6 / 112 ط. النصر، المغني 8 / 223 ط. الرياض.

(21/97)


ج - الشَّهَادَاتُ:
6 - ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الدِّيَاثَةَ مِنَ الأُْمُورِ الْمُسْقِطَةِ لِلْعَدَالَةِ (1) وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (شَهَادَة) .
__________
(1) حاشية الدرر على الغرر / 429 ط. العثمانية، حاشية ابن عابدين 4 / 377 ط. المصرية، فتح القدير 6 / 38 ط. الأميرية، مواهب الجليل 6 / 151 ط. النجاح، الدسوقي 4 / 165 ط. الفكر، الخرشي 7 / 177 ط. بولاق، الزرقاني 7 / 158 ط. الفكر، جواهر الإكليل 2 / 233 ط. المعرفة، أسنى المطالب 4 / 341 ط. الميمنية، روضة الطالبين 11 / 223 ط. المكتب الإسلامي، كشاف القناع 5 / 421 ط النصر.

(21/97)


دِيَانَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدِّيَانَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ دَانَ يَدِينُ بِالدِّينِ دِيَانَةً: إِذَا تَعَبَّدَ بِهِ. وَتَدَيَّنَ بِهِ كَذَلِكَ، فَهُوَ دَيِّنٌ، مِثْل سَادَ فَهُوَ سَيِّدٌ، وَدَيَّنْتُهُ (بِالتَّشْدِيدِ) وَكَّلْتُهُ إِلَى دِينِهِ، وَتَرَكْتُهُ وَمَا يَدِينُ: لَمْ أَعْتَرِضْ عَلَيْهِ فِيمَا يَرَاهُ سَائِغًا فِي اعْتِقَادِهِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: هِيَ قَبُول دَعْوَى الْحَالِفِ، أَوِ الْمُطَلِّقِ وَنَحْوِهِمَا بِلَفْظٍ صَرِيحٍ بِالنِّيَّةِ، لاَ قَضَاءَ إِذَا ادَّعَى أَنَّهُ قَصَدَ بِاللَّفْظِ مَا يُخَالِفُ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ عُرْفًا، وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُهُ، احْتِمَالاً بَعِيدًا (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَضَاءُ:
2 - الْقَضَاءُ لُغَةً: الْحُكْمُ، وَاصْطِلاَحًا: هُوَ الإِْخْبَارُ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى سَبِيل الإِْلْزَامِ (3) .
__________
(1) المصباح المنير وتاج العروس مادة: " دين ".
(2) معين الحكام ص 6، نهاية المحتاج 8 / 235.
(3) معين الحكام ص 6، نهاية المحتاج 8 / 235

(21/98)


ب - الإِْفْتَاءُ:
3 - الإِْفْتَاءُ لُغَةً: إِبَانَةُ الْحُكْمِ، وَاصْطِلاَحًا: هُوَ إِظْهَارُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي الْوَاقِعَةِ لاَ عَلَى سَبِيل الإِْلْزَامِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إِذَا تَلَفَّظَ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ بِالطَّلاَقِ كَأَنْ يَقُول مُخَاطِبًا زَوْجَتَهُ: أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ يَقُول: أَرَدْتُ أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ مِنْ قَيْدٍ حِسِّيٍّ أَوْ مِنْ دَيْنٍ كَانَ عَلَيْهَا، أَوْ يَقُول: أَرَدْتُ أَنْ أَقُول: أَنْتِ حَائِضٌ مَثَلاً فَسَبَقَ لِسَانِي إِلَى أَنْتِ طَالِقٌ، وَلَمْ أَقْصِدْ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُقْبَل قَضَاءً لأَِنَّهُ خِلاَفُ الظَّاهِرِ، وَيُقْبَل دِيَانَةً؛ لأَِنَّهُ صَرْفُ اللَّفْظِ إِلَى مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ. وَيُتْرَكُ وَشَأْنَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ سَأَلَتْهُ الطَّلاَقَ وَكَانَتْ مُوَثَّقَةً، فَقَال: أَنْتِ طَالِقٌ، وَادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الطَّلاَقَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مِنَ الْوَثَاقِ، أَوْ كَانَتْ مُوثَقَةً لَمْ تَسْأَلْهُ، فَقَال: أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ لَمْ تَكُنْ مُوثَقَةً وَقَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، فَالْحُكْمُ فِي الأَْوَّل يُدَيَّنُ بِلاَ خِلاَفٍ، وَفِي الثَّالِثِ لاَ يُدَيَّنُ مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ، أَمَّا الثَّانِي فَقِيل: يُدَيَّنُ وَقِيل: لاَ يُدَيَّنُ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 431، المغني 7 / 122، روضة الطالبين 8 / 18.
(2) الدسوقي 2 / 378

(21/98)


وَمَعْنَى الدِّيَانَةِ هُنَا مَعَ نَفْيِ الْقَبُول ظَاهِرًا، أَنْ يُقَال لِلْمَرْأَةِ: أَنْتِ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَلاَ يَجُوزُ لَكِ تَمْكِينُهُ مِنْ نَفْسِكِ إِلاَّ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّكِ صِدْقُهُ بِقَرِينَةٍ. وَيُقَال لِلزَّوْجِ: لاَ نُمَكِّنُكَ مِنْ تَتَبُّعِهَا، وَلَكَ أَنْ تَتْبَعَهَا، وَالطَّلَبُ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، وَتَحِل لَكَ إِذَا رَاجَعْتَهَا (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مَعْنَى الدِّيَانَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَهُ بِعَدَمِ وُقُوعِ الطَّلاَقِ. أَمَّا الْقَاضِي فَلاَ يَجُوزُ لَهُ تَصْدِيقُهُ، وَيَقْضِي عَلَيْهِ بِالْوُقُوعِ؛ لأَِنَّهُ خِلاَفُ الظَّاهِرِ، بِلاَ قَرِينَةٍ، وَالْمَرْأَةُ كَالْقَاضِي، لاَ يَحِل لَهَا تَمْكِينُهُ مِنْ نَفْسِهَا، وَلَيْسَ لَهَا دَفْعُهُ عَنْهَا بِقَتْلِهِ، بَل تَفْدِي نَفْسَهَا بِمَالٍ أَوْ تَهْرُبُ مِنْهُ (2) .

ضَابِطُ مَا يُدَيَّنُ فِيهِ، وَمَا يُقْبَل ظَاهِرًا:
5 - قَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: مَا يَدَّعِيهِ الشَّخْصُ مِنَ النِّيَّةِ: أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: أَحَدُهَا: أَنْ يَرْفَعَ مَا صَرَّحَ بِهِ بِأَنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَال: أَرَدْتُ طَلاَقًا لاَ يَقَعُ عَلَيْكِ، أَوْ لَمْ أُرِدْ إِيقَاعَ الطَّلاَقِ، فَلاَ تُؤَثِّرُ دَعْوَاهُ ظَاهِرًا، وَلاَ يُدَيَّنُ بَاطِنًا؛ لأَِنَّهُ خِلاَفُ الظَّاهِرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ.
ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ مَا يَدَّعِيهِ مُقَيِّدًا لِمَا تَلَفَّظَ بِهِ
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 18 - 20
(2) ابن عابدين 2 / 432، وفيه تفصيل لا بد من الرجوع إليه لضبط المسألة

(21/99)


مُطْلَقًا، بِأَنْ يَقُول: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ يَقُول: أَرَدْتُ عِنْدَ دُخُول الدَّارِ، فَلاَ يُقْبَل ظَاهِرًا، وَفِي التَّدْيِينِ خِلاَفٌ.
ثَالِثُهَا: أَنْ يَرْجِعَ مَا يَدَّعِيهِ إِلَى تَخْصِيصِ عُمُومٍ فَيُدَيَّنُ، وَفِي الْقَبُول ظَاهِرًا خِلاَفٌ.
رَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلاً لِلطَّلاَقِ مِنْ غَيْرِ شُيُوعٍ وَظُهُورٍ، وَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ تَقَعُ الْكِنَايَاتُ، وَيُعْمَل فِيهَا بِالنِّيَّةِ (أَيْ قَضَاءً وَدِيَانَةً) .
وَلِلشَّافِعِيَّةِ ضَابِطٌ آخَرُ: قَالُوا: يُنْظَرُ فِي التَّفْسِيرِ بِخِلاَفِ الظَّاهِرِ، فَإِنْ كَانَ لَوْ وَصَل بِاللَّفْظِ لاَ يَنْتَظِمُ الْكَلاَمُ وَلاَ يَسْتَقِيمُ مَعْنَاهُ لَمْ يُقْبَل قَضَاءً، وَلاَ دِيَانَةً، كَأَنْ يَقُول: أَرَدْتُ طَلاَقًا لاَ يَقَعُ، وَإِنْ كَانَ الْكَلاَمُ يَنْتَظِمُ وَيَسْتَقِيمُ مَعْنَاهُ بِالْوَصْل، فَلاَ يُقْبَل ظَاهِرًا، وَيُقْبَل دِيَانَةً.
كَأَنْ يَقُول: أَرَدْتُ طَلاَقًا فِي وَثَاقٍ، أَوْ: أَرَدْتُ إِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ؛ لأَِنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ (1) . وَاسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا نِيَّةَ التَّعْلِيقِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا: لاَ يُدَيَّنُ فِيهِ عَلَى الْمَذْهَبِ.
6 - وَالْيَمِينُ، وَالإِْيلاَءُ، وَالظِّهَارُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ كَالطَّلاَقِ، فَلاَ يُقْبَل مِنْهُ قَضَاءً إِذَا ادَّعَى أَنَّهُ أَرَادَ
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 19 و 20

(21/99)


بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ فِيمَا ذُكِرَ مَا يُخَالِفُ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، فَإِنْ حَلَفَ أَنَّهُ لاَ يَأْكُل خُبْزًا أَوْ لاَ يَشْرَبُ لَبَنًا، ثُمَّ قَال: أَرَدْتُ نَوْعًا خَاصًّا مِنَ الْخُبْزِ وَاللَّبَنِ، فَلاَ يُقْبَل مِنْهُ قَضَاءً لأَِنَّهُ خِلاَفُ الطَّاهِرِ وَيُقْبَل دِيَانَةً؛ لأَِنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ بِالنِّيَّةِ جَائِزٌ وَالاِحْتِمَال قَائِمٌ، فَيُوَكَّل إِلَى دِينِهِ بَاطِنًا، أَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَيُحْكَمُ بِحِنْثِهِ؛ لأَِنَّهُ يَدَّعِي خِلاَفَ الظَّاهِرِ (1) .
وَنَحْنُ نُحَكِّمُ الظَّوَاهِرَ وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ.
وَفِي الإِْيلاَءِ: إِنْ قَال: وَاللَّهِ لاَ وَطِئْتُكِ، أَوْ وَاللَّهِ لاَ جَامَعْتُكِ، أَوْ لاَ أَصَبْتُكِ، أَوْ لاَ بَاشَرْتُكِ، ثُمَّ قَال: أَرَدْتُ بِالْوَطْءِ: بِالْقَدَمِ، وَبِالْجِمَاعِ: اجْتِمَاعَ الأَْجْسَامِ، وَبِالإِْصَابَةِ: الإِْصَابَةَ بِالْيَدِ، لَمْ يُقْبَل مِنْهُ فِي الْحُكْمِ؛ لأَِنَّهُ خِلاَفُ الظَّاهِرِ وَالْعُرْفِ، وَيُقْبَل مِنْهُ دِيَانَةً لأَِنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ.
وَتُنْظَرُ الأَْمْثِلَةُ وَالتَّطْبِيقَاتُ فِي أَبْوَابِ الطَّلاَقِ وَالأَْيْمَانِ، وَالإِْيلاَءِ، وَالظِّهَارِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ تَعَرَّضَ الْمَالِكِيَّةُ لِهَذَا فِي مَسْأَلَةِ نُفُوذِ حُكْمِ الْحَكَمِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِمَا يَدُل عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلنِّيَّةِ وَلِعِلْمِ الشَّخْصِ، لاَ لِلْحُكْمِ الظَّاهِرِ فِيمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ فِعْل الْحَرَامِ، وَقَال الْقَرَافِيُّ يُؤْخَذُ النَّاسُ بِأَلْفَاظِهِمْ وَلاَ تَنْفَعُهُمْ نِيَّتُهُمْ إِلاَّ أَنْ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 68

(21/100)


تَكُونَ قَرِينَةٌ مُصَدِّقَةٌ. وَنُقِل فِيمَنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ، وَنَوَى مِنْ وَثَاقٍ، أَنَّهُ قِيل: يُدَيَّنُ، وَقِيل: لاَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا (1) .
__________
(1) الفروق للقرافي 1 / 164، الشرح الصغير 4 / 223، القوانين الفقهية 153، القليوبي 4 / 10، المغني 7 / 317

(21/100)


دِيبَاجٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدِّيبَاجُ ضَرْبٌ مِنَ الثِّيَابِ سَدَاهُ وَلُحْمَتُهُ مِنَ الإِْبْرَيْسَمِ (الْحَرِيرِ الطَّبِيعِيِّ) (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - يَتَّصِل بِلَفْظِ دِيبَاجٍ عَدَدٌ مِنَ الأَْلْفَاظِ وَهِيَ: إِبْرَيْسَمٌ - إِسْتَبْرَقٌ - خَزٌّ - دِمَقْسٌ - سُنْدُسٌ - قَزٌّ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلاَمُ فِيهَا مُفَصَّلاً فِي مُصْطَلَحِ: (حَرِير) فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ.

الأَْحْكَامُ الإِْجْمَالِيَّةُ:
3 - أَحْكَامُ الدِّيبَاجِ فِي الْجُمْلَةِ هِيَ الأَْحْكَامُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي مُصْطَلَحِ حَرِيرٍ، إِذِ الدِّيبَاجُ لاَ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ حَرِيرًا، وَلَمْ يَذْكُرِ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامًا خَاصَّةً بِالدِّيبَاجِ إِلاَّ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ.
__________
(1) اللسان والمصباح والصحاح مادة: " دبج "، والمغرب / 159 - 160 - ط. العربي، والمصباح مادة: " سد "، ومادة: " لحم "، وفي معنى: الإبريسم. راجع تاج العروس باب الميم فصل الباء مادة: " برسم ".

(21/101)


أ - الاِسْتِجْمَارُ بِهِ:
4 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُكْرَهُ الاِسْتِجْمَارُ بِخِرْقَةِ الدِّيبَاجِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِفْسَادِ الْمَال مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ.
وَجَوَّزَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ حَتَّى لِلرِّجَال؛ لأَِنَّ الاِسْتِجْمَارَ بِهِ، لاَ يُعَدُّ اسْتِعْمَالاً لَهُ فِي الْعُرْفِ. وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل يُنْظَرُ: (حَرِير) .

دَيْرٌ
انْظُرْ: مَعَابِد

(21/101)


دَيْنٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - أ - الدَّيْنُ فِي اللُّغَةِ: يُقَال دَانَ الرَّجُل يَدِينُ دَيْنًا مِنْ الْمُدَايَنَةِ. وَيُقَال: دَايَنْتُ فُلاَنًا إِذَا عَامَلْتَهُ دَيْنًا، إِمَّا أَخْذًا أَوْ عَطَاءً. مِنْ أَدَنْتُ: أَقْرَضْتُ وَأَعْطَيْتُ دَيْنًا (1) .

ب - مَعْنَى الدَّيْنِ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ:
2 - قِيل فِي مَعْنَاهُ أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ أَوْضَحُهَا مَا قَالَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ: " الدَّيْنُ لُزُومُ حَقٍّ فِي الذِّمَّةِ ".
فَيَشْمَل الْمَال وَالْحُقُوقَ غَيْرَ الْمَالِيَّةِ كَصَلاَةٍ فَائِتَةٍ وَزَكَاةٍ وَصِيَامٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا يَشْمَل مَا ثَبَتَ بِسَبَبِ قَرْضٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ إِتْلاَفٍ أَوْ جِنَايَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (2) .
__________
(1) لسان العرب، معجم مقاييس اللغة
(2) فتح الغفار شرح المنار (ط. مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1355 هـ) 3 / 20، والعناية شرح الهداية (مطبعة الميمنية بمصر سنة 1306هـ) 6 / 346، وانظر الفروق للقرافي 2 / 134، منح الجليل 1 / 362، وما بعدها، نهاية المحتاج 3 / 130، وما بعدها، أسنى المطالب 1 / 356، 585، العذب الفائض شرح عمدة الفارض 1 / 15، والزرقاني على خليل 2 / 164، 178، وشرح منتهى الإرادات 1 / 368، والقواعد لابن رجب ص 144

(21/102)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَيْنُ:
3 - يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ فِي اصْطِلاَحِهِمْ كَلِمَةَ " الْعَيْنِ " فِي مُقَابِل " الدَّيْنِ " بِاعْتِبَارِ أَنَّ الدَّيْنَ هُوَ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا مُشَخَّصًا، سَوَاءٌ أَكَانَ نَقْدًا أَمْ غَيْرَهُ (1) . أَمَّا الْعَيْنُ " فَهِيَ الشَّيْءُ الْمُعَيَّنُ الْمُشَخَّصُ كَبَيْتٍ (2) ".

ب - الْكَالِئُ:
4 - الْكَالِئُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ الْمُؤَخِّرُ (3) . وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ (4) . وَالْمُرَادُ بِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بَيْعُ النَّسِيئَةِ بِالنَّسِيئَةِ، أَوِ الدَّيْنِ الْمُؤَخَّرِ بِالدَّيْنِ الْمُؤَخَّرِ (5) .
__________
(1) انظر رد المحتار (بولاق سنة 1272 هـ) 4 / 25، والمادة (158) من مجلة الأحكام العدلية
(2) انظر م 159 من مجلة الأحكام العدلية
(3) لسان العرب، معجم مقاييس اللغة، الصحاح
(4) حديث: " نهى عن بيع الكالئ بالكالئ. . . " أخرجه الدارقطني (3 / 71 - ط دار المحاسن) من حديث ابن عمر، ونقل ابن حجر عن الشافعي أنه قال: (أهل الحديث يوهنون هذا الحديث) . وذكر ابن حجر سبب ضعفه، كما في التلخيص الحبير (3 / 26 - 27 - ط شركة الطباعة الفنية) . غير أن الأمة تلقته بالقبول، كما انعقد الإجماع على عدم جواز بيع الكالئ بالكالئ. وهذا يؤيد قبوله
و (5) انظر الموطأ 2 / 628، الأم 3 / 33، المهذب 1 / 278، شرح منتهى الإرادات 2 / 200، المبدع 4 / 150، البناية على الهداية 6 / 550، المغني 4 / 53، نظرية العقد لابن تيمية ص 235، تكملة المجموع (المنيرية) 10 / 107، بداية المجتهد 2 / 162، الإجماع لابن المنذر ص 117

(21/102)


ج - الْقَرْضُ:
5 - الْقَرْضُ عَقْدٌ مَخْصُوصٌ يَرِدُ عَلَى دَفْعِ مَالٍ مِثْلِيٍّ لآِخَرَ لِيَرُدَّ مِثْلَهُ (1) . وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ أَحْيَانًا اسْمُ " دَيْنٍ " فَيُقَال: دَانَ فُلاَنٌ يَدِينُ دَيْنًا: اسْتَقْرَضَ. وَدِنْتُ الرَّجُل: أَقْرَضْتُهُ (2) . وَالْقَرْضُ أَخَصُّ مِنَ الدَّيْنِ.

مَا يَقْبَل الثُّبُوتَ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا مِنَ الأَْمْوَال:
6 - عَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ الدَّيْنَ بِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ " مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ مَالٍ فِي مُعَاوَضَةٍ، أَوْ إِتْلاَفٍ، أَوْ قَرْضٍ " وَهُوَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عِبَارَةٌ عَنْ " مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ مَالٍ بِسَبَبٍ يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ ". وَهَذَا الْخِلاَفُ فِي حَقِيقَةِ الدَّيْنِ - بِالنَّظَرِ إِلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ - لَيْسَ لَهُ أَثَرٌ عَلَى قَضِيَّةِ: أَيُّ الأَْمْوَال يَصِحُّ أَنْ تَثْبُتَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَأَيُّهَا لاَ تَقْبَل ذَلِكَ؟ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَال يَنْقَسِمُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى قِسْمَيْنِ: أَعْيَانٍ وَمَنَافِعَ. أَوَّلاً: أَمَّا الأَْعْيَانُ فَهِيَ نَوْعَانِ: مِثْلِيٌّ، وَقِيَمِيٌّ.

أ - أَمَّا الْمِثْلِيُّ:
7 - فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ أَنْ
__________
(1) رد المحتار (بولاق 1272 هـ) 4 / 171
(2) الصحاح للجوهري والمصباح المنير مادة: " دين "، كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي (ط. كلكته) 2 / 502

(21/103)


يَكُونَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَمِنْ هُنَا جَازَ إِقْرَاضُهُ وَالسَّلَمُ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. فَإِذَا وَجَبَ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الذِّمَّةِ كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ بِهِ مُتَعَلِّقَةً بِعَيْنٍ مَوْصُوفَةٍ غَيْرِ مُشَخَّصَةٍ، وَكُل عَيْنٍ تَتَحَقَّقُ فِيهَا تِلْكَ الصِّفَاتُ الْمُعَيَّنَةُ يَصِحُّ لِلْمَدِينِ أَنْ يَقْضِيَ بِهَا دَيْنَهُ، وَلَيْسَ لِلدَّائِنِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ قَبُولِهَا (1) .

ب - وَأَمَّا الْقِيَمِيُّ: فَلَهُ حَالَتَانِ:
8 - الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُضْبَطُ بِالْوَصْفِ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الاِسْتِصْنَاعِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْقَرْضِ وَالسَّلَمِ (2) . وَجَاءَ فِي " الْمُهَذَّبِ " لِلشِّيرَازِيِّ: " يَجُوزُ قَرْضُ كُل مَالٍ يُمْلَكُ بِالْبَيْعِ وَيُضْبَطُ بِالْوَصْفِ؛ لأَِنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ يَثْبُتُ الْعِوَضُ فِيهِ فِي الذِّمَّةِ، فَجَازَ فِيمَا يُمْلَكُ وَيُضْبَطُ بِالْوَصْفِ كَالسَّلَمِ ". وَقَال: " وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي كُل
__________
(1) انظر م 522، وم 798 من مرشد الحيران
(2) انظر رد المحتار 4 / 212، فتح العزيز 9 / 268، اختلاف الفقهاء للطبري (ط. فريدريك كرن) ص 101، وما بعدها 109، الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب (ط. يونس) 1 / 281 - 282، القوانين الفقهية ص 295، 315، شرح الخرشي 5 / 212 وما بعدها، الزرقاني على خليل 5 / 213 وما بعدها، شرح منتهى الإرادات 2 / 214، كشاف القناع 3 / 277، وما بعدها 3 / 300، وانظر م 388 - 392 من مجلة الأحكام العدلية وم 571 من مرشد الحيران.

(21/103)


مَالٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَتُضْبَطُ صِفَاتُهُ كَالأَْثْمَانِ وَالْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالثِّيَابِ (1) ".
9 - وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ لِلْقِيَمِيِّ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لاَ يُضْبَطُ بِالصِّفَةِ، كَالْجَوَاهِرِ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَعَقِيقٍ وَفَيْرُوزٍ وَنَحْوِهَا مِمَّا تَخْتَلِفُ آحَادُهُ وَتَتَفَاوَتُ أَفْرَادُهُ وَلاَ يَقْبَل الاِنْضِبَاطَ بِالأَْوْصَافِ.
وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ كَوْنِ هَذَا الْمَال دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ جَعْلُهُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ صَحَّ انْشِغَال ذِمَّةِ الْمُلْتَزِمِ بِذَلِكَ الْمَال لَكَانَ غَيْرَ مُتَعَيِّنٍ، وَلَوَجَبَ عِنْدَئِذٍ أَنْ تَفْرُغَ الذِّمَّةُ وَيُوَفَّى الاِلْتِزَامُ بِأَدَاءِ أَيِّ فَرْدٍ كَانَ مِنْ أَمْثَالِهِ، وَلاَ مِثْل لَهُ.
وَعَلَى هَذَا شَرَطُوا فِي صِحَّةِ الْقَرْضِ وَالسَّلَمِ وَالاِسْتِصْنَاعِ أَنْ يَكُونَ الْمَال الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ مُنْضَبِطًا بِالصِّفَةِ بِالْقُوَّةِ وَالْفِعْل؛ لأَِنَّ مَا لاَ تَنْضَبِطُ صِفَاتُهُ تَخْتَلِفُ آحَادُهُ كَثِيرًا، وَذَلِكَ يُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إِلَى الْمُنَازَعَةِ وَالْخُصُومَةِ عِنْدَ الْوَفَاءِ، وَعَدَمُهَا مَطْلُوبٌ شَرْعًا (2) .
__________
(1) المهذب 1 / 310
(2) رد المحتار 4 / 171، 203، كشاف القناع 3 / 276، 278، شرح منتهى الإرادات 2 / 214، 225، شرح الخرشي 5 / 212، 229، الزرقاني على خليل 5 / 213، القوانين الفقهية ص 295، 315، المهذب 1 / 310، التنبيه للشيرازي (ط. مصطفى الحلبي) ص 68، 70، نهاية المحتاج 2 / 194، 222، أسنى المطالب 2 / 141، اختلاف الفقهاء للطبري ص 101، 114، وانظر م 381 من مجلة الأحكام العدلية وم 552 من مرشد الحيران

(21/104)


وَقَدِ اسْتَثْنَى مَالِكٌ وَالْحَنَفِيَّةُ مِنْ هَذَا الأَْصْل دَيْنَ الْمَهْرِ، فَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ قِيَمِيًّا مَعْلُومَ الْجِنْسِ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُول الصِّفَةِ، وَجَعَل مَالِكٌ لَهَا الْوَسَطَ مِمَّا سُمِّيَ إِنْ وَقَعَ النِّكَاحُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لِلزَّوْجِ الْخِيَارُ فِي أَدَاءِ الْوَسَطِ مِنْهُ أَوْ قِيمَتِهِ. وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ لاَ تَضُرُّ، إِذِ الْمَال غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي الزَّوَاجِ، فَيُتَسَامَحُ فِيهِ بِمَا لاَ يُتَسَامَحُ بِهِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ الأُْخْرَى؛ لأَِنَّ الْمُعَاوَضَاتِ تُبْنَى عَلَى الْمُشَاحَّةِ وَالْمُكَايَسَةِ، فَكَانَ الْجَهْل بِأَوْصَافِ الْعِوَضِ فِيهَا مُخِلًّا بِالْمَقْصُودِ مِنْهَا، بِخِلاَفِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُكَارَمَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الصَّدَاقِ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا مُمَاثِلاً، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ الشَّارِعُ نِحْلَةً فَهُوَ كَالْهِبَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ لاَ يَضُرُّ الْجَهْل بِهِ كَمَا لاَ يَضُرُّ بِالْهِبَةِ (1) .
(وَالْقَوْل الثَّانِي) لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ غَيْرُ الأَْصَحِّ، أَنَّهُ يَصِحُّ كَوْنُهُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ إِذَا كَانَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ (2) . وَفِيمَا يَكُونُ بِهِ الْوَفَاءُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَجْهَانِ:
__________
(1) رد المحتار 2 / 347، الكافي لابن عبد البر 1 / 453، بداية المجتهد 2 / 19، المبسوط 5 / 67 - 68
(2) فتح العزيز 9 / 345، وما بعدها، 363 وما بعدها، المهذب 1 / 310، 311، نهاية المحتاج 4 / 222

(21/104)


(أَحَدُهُمَا) : أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ الْمَالِيَّةِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ لِشَخْصٍ عَيْنًا مَالِيَّةً قِيَمِيَّةً، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا. قَال الشِّيرَازِيُّ: " لأَِنَّ مَا ضُمِنَ بِالْمِثْل إِذَا كَانَ لَهُ مِثْلٌ، ضُمِنَ بِالْقِيمَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ كَالْمُتْلَفَاتِ (1) ".
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِرَدِّ مِثْلِهِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْخِلْقَةُ مَعَ التَّغَاضِي عَنِ التَّفَاوُتِ الْيَسِيرِ فِي الْقِيمَةِ.
ثَانِيًا: أَمَّا الْمَنَافِعُ، وَمَدَى قَبُولِهَا لِلثُّبُوتِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ:
10 - فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ تُعْتَبَرُ أَمْوَالاً بِحَدِّ ذَاتِهَا، وَأَنَّهَا تُحَازُ بِحِيَازَةِ أُصُولِهَا وَمَصَادِرِهَا، وَهِيَ الأَْعْيَانُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا، وَلِهَذَا جَازَتْ الْمُعَاوَضَةُ عَنْهَا بِالْمَال فِي الإِْجَارَةِ بِشَتَّى صُوَرِهَا. كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ تُعْتَبَرُ صَالِحَةً لأََنْ تَثْبُتَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ إِذَا كَانَتْ مِثْلِيَّةً أَوْ قَابِلَةً لأََنْ تُضْبَطَ بِالْوَصْفِ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الأَْعْيَانِ وَلاَ فَرْقَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مَنَافِعَ أَعْيَانٍ أَمْ مَنَافِعَ أَشْخَاصٍ.
وَعَلَى هَذَا نَصُّوا فِي بَابِ الإِْجَارَةِ عَلَى جَوَازِ التَّعَاقُدِ عَلَى مَنْفَعَةٍ مَوْصُوفَةٍ فِي الذِّمَّةِ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ بِالذَّاتِ، وَسَمَّوْهَا " إِجَارَةَ الذِّمَّةِ " نَظَرًا لِتَعَلُّقِ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا بِذِمَّةِ الْمُؤَجِّرِ، لاَ بِأَشْيَاءَ
__________
(1) المهذب 1 / 311.

(21/105)


مُعَيَّنَةٍ. كَمَا إِذَا اسْتَأْجَرَ شَخْصٌ دَابَّةً مَوْصُوفَةً لِتَحْمِلَهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ بِالْعَقْدِ تَثْبُتُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُؤَجِّرِ أَوِ الْمُكَارِي، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَهُ مِنْ مَكَانِهِ إِلَى الْمَكَانِ الْمَطْلُوبِ عَلَى أَيَّةِ دَابَّةٍ يُحْضِرُهَا إِلَيْهِ. وَلِهَذَا لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ إِذَا هَلَكَتِ الدَّابَّةُ الَّتِي عَيَّنَهَا الْمُؤَجِّرُ أَوِ اسْتُحِقَّتْ، بَل يَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَيْهِ فَيُطَالِبُهُ بِغَيْرِهَا؛ لأَِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، بَل مُتَعَلِّقٌ فِي الذِّمَّةِ، وَعَلَى الْمُؤَجِّرِ الْوَفَاءُ بِتِلْكَ الْمَنْفَعَةِ بِأَيَّةِ دَابَّةٍ أُخْرَى يُحْضِرُهَا لَهُ.
وَقَدِ اعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ " إِجَارَةَ الذِّمَّةِ " سَلَمًا فِي الْمَنَافِعِ، وَلِهَذَا اشْتَرَطُوا فِي صِحَّتِهَا تَعْجِيل الأُْجْرَةِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي السَّلَمِ، سَوَاءٌ عُقِدَتْ بِلَفْظِ الإِْجَارَةِ أَوِ السَّلَمِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الشَّرْطِ الْحَنَابِلَةُ إِذَا عُقِدَتْ بِلَفْظِ السَّلَمِ، أَمَّا إِذَا عُقِدَتْ بِغَيْرِهِ، فَلَمْ يَشْتَرِطُوا تَعْجِيل الأُْجْرَةِ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لاَ
__________
(1) فتح العزيز 12 / 205، المهذب 1 / 406، مغني المحتاج 2 / 334، روضة الطالبين 5 / 176، نهاية المحتاج 4 / 208، 301، 5 / 262، حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 4 / 418، شرح منتهى الإرادات 2 / 360، كشاف القناع 3 / 556، الفروق للقرافي 2 / 133، ميارة على تحفة ابن عاصم 2 / 98، القوانين الفقهية ص 302، شرح الخرشي 7 / 3، الأشباه والنظائر للسيوطي ص 281، شرح الأبي على صحيح مسلم 4 / 245.

(21/105)


تُعْتَبَرُ أَمْوَالاً؛ لأَِنَّ الْمَال عِنْدَهُمْ هُوَ: " مَا يَمِيل إِلَيْهِ طَبْعُ الإِْنْسَانِ، وَيُمْكِنُ ادِّخَارُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ (1) ". وَالْمَنَافِعُ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلإِْحْرَازِ وَالاِدِّخَارِ، إِذْ هِيَ أَعْرَاضٌ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَآنًا فَآنًا، وَتَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ وَقْتِهَا وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا غَيْرُ مَا يَنْتَهِي. . . وَبِنَاءً عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِمُ الْمَنَافِعَ أَمْوَالاً، وَقَصْرِهِمُ الدَّيْنَ عَلَى الْمَال، فَإِنَّ الْمَنَافِعَ لاَ تَقْبَل الثُّبُوتَ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا وَفْقَ قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِمْ، وَمِنْ أَجْل ذَلِكَ لَمْ يُجِيزُوا فِي بَابِ الإِْجَارَةِ أَنْ يَرِدَ الْعَقْدُ عَلَى مَنْفَعَةٍ مَوْصُوفَةٍ فِي الذِّمَّةِ، وَشَرَطُوا لِصِحَّةِ عَقْدِ الإِْجَارَةِ كَوْنَ الْمُؤَجَّرِ مُعَيَّنًا (2) .

مَحَل تَعَلُّقِ الدَّيْنِ وَاسْتِثْنَاءَاتُهُ:
11 - تَقَدَّمَ أَنَّ الدَّيْنَ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ، هُوَ " مَا وَجَبَ مِنْ مَالٍ فِي الذِّمَّةِ. . . " وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ تَعَلُّقُهُ بِذِمَّةِ الْمَدِينِ، وَلاَ يَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ عِنْدَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ أَمْ مَلَكَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَتَكُونُ جَمِيعُ أَمْوَالِهِ صَالِحَةً لِوَفَاءِ أَيِّ دَيْنٍ ثَبَتَ عَلَيْهِ، وَلاَ يَكُونُ الدَّيْنُ مَانِعًا لَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِ بِأَيِّ نَوْعٍ
__________
(1) م 126 من مجلة الأحكام العدلية.
(2) جاء في م 449 من مجلة الأحكام العدلية: " يلزم تعيين المأجور، بناء على ذلك لا يصح إيجار أحد الحانوتين من دون تعيين أو تمييز " وجاء في م 580 من مرشد الحيران: " يشترط لصحة الإجارة رضا العاقدين وتعيين المؤجر ".

(21/106)


مِنْ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ، هَذَا هُوَ الأَْصْل فِي جَمِيعِ الدُّيُونِ، وَلَكِنْ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ اسْتِثْنَاءَاتٌ، حَيْثُ إِنَّ بَعْضَ الدُّيُونِ تَتَعَلَّقُ بِأَعْيَانِ الْمَدِينِ الْمَالِيَّةِ تَأْكِيدًا لِحَقِّ الدَّائِنِ وَتَوْثِيقًا لَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ:
12 - أ - الدَّيْنُ الَّذِي اسْتَوْثَقَ لَهُ صَاحِبُهُ بِرَهْنٍ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ. . وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَكُونُ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا إِلاَّ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَيُقَدَّمُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فِي اسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنْهَا عَلَى مَنْ عَدَاهُ مِنَ الدَّائِنِينَ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ. (ر: رَهْن، تَرِكَة، إِفْلاَس) .
13 - ب - الدَّيْنُ الَّذِي حُجِرَ عَلَى الْمَدِينِ بِسَبَبِهِ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِأَمْوَالِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ (1) ، لأَِنَّ حَجْرَ الْمُفْلِسِ يَعْنِي " خَلْعَ الرَّجُل مِنْ مَالِهِ لِغُرَمَائِهِ (2) " وَلأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَقُّ الْغُرَمَاءِ مُتَعَلِّقًا بِمَالِهِ لَمَا كَانَ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ " وَلأَِنَّهُ يُبَاعُ مَالُهُ فِي دُيُونِهِمْ، فَكَانَتْ حُقُوقُهُمْ مُتَعَلِّقَةً بِهِ كَالرَّهْنِ (3) ". وَلاَ يَخْفَى أَنَّ الدَّيْنَ هَاهُنَا إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّةِ الأَْعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ بِذَوَاتِهَا، بِمَعْنَى أَنَّ الْمَدِينَ لَيْسَ
__________
(1) الهداية (مع فتح القدير مطبعة الميمنية) 8 / 207، مع ملاحظة أن أبا حنيفة يمنع الحجر على المفلس، شرح الخرشي 5 / 262، فتح العزيز 10 / 196، كشاف القناع 3 / 411 (مطبعة الحكومة بمكة المكرمة) ، نهاية المحتاج 4 / 305
(2) شرح الخرشي 5 / 262
(3) كشاف القناع 3 / 411

(21/106)


لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ تَصَرُّفًا يَنْقُصُ مِنْ قِيمَتِهَا الْمَالِيَّةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلاَ أَنْ يُعَاوِضَ عَلَيْهَا بِغَبْنٍ يَلْحَقُهُ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الإِْضْرَارِ بِحُقُوقِ الدَّائِنِينَ. . . وَتَصِحُّ فِيهِ الْمُبَادَلاَتُ الْمَالِيَّةُ الَّتِي لاَ غَبْنَ عَلَيْهِ فِيهَا؛ لأَِنَّهَا إِذَا أَخْرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ شَيْئًا فَقَدْ أَدْخَلَتْ فِيهِ مَا يُعَادِلُهُ، فَبَقِيَتْ قِيمَةُ الأَْمْوَال ثَابِتَةً (1) . . .
14 - ج - حُقُوقُ الدَّائِنِينَ وَالْوَرَثَةِ فِي مَال الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ، حَيْثُ إِنَّهَا تَتَعَلَّقُ فِيهِ بِمَال الْمَرِيضِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِذِمَّتِهِ فِي حَال الصِّحَّةِ. وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ مَرَضَ الْمَوْتِ مَرْحَلَةٌ تَتَهَيَّأُ فِيهَا شَخْصِيَّةُ الإِْنْسَانِ وَأَهْلِيَّتُهُ لِلزَّوَال، كَمَا أَنَّهُ مُقَدَّمَةٌ لِثُبُوتِ الْحُقُوقِ فِي أَمْوَال الْمَرِيضِ لِمَنْ سَتَنْتَقِل إِلَيْهِمْ هَذِهِ الأَْمْوَال بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ دَائِنِينَ وَوَرَثَةٍ. فَيَنْتُجُ عَنْ ذَلِكَ أَنْ تُصْبِحَ الدُّيُونُ مُتَعَلِّقَةً بِمَال الْمَرِيضِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِذِمَّتِهِ قَبْل الْمَرَضِ؛ لأَِنَّ الذِّمَّةَ تَضْعُفُ بِالْمَرَضِ لِعَجْزِ صَاحِبِهَا عَنِ السَّعْيِ وَالاِكْتِسَابِ، فَيَتَحَوَّل التَّعَلُّقُ مِنْ ذِمَّتِهِ - مَعَ بَقَائِهَا - إِلَى مَالِهِ تَوْثِيقًا لِلدَّيْنِ، وَتَتَقَيَّدُ تَصَرُّفَاتُهُ بِمَا لاَ يَضُرُّ بِحُقُوقِ الدَّائِنِينَ. كَمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ لِيَخْلُصَ لَهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ تَمَلُّكُ الثُّلُثَيْنِ مِمَّا يَبْقَى بَعْدَ سَدَادِ الدُّيُونِ إِنْ كَانَتْ هُنَاكَ دُيُونٌ،
__________
(1) الهداية (مطبعة الميمنية) 8 / 206

(21/107)


فَتَتَقَيَّدُ تَصَرُّفَاتُهُ أَيْضًا بِمَا لاَ يَضُرُّ بِحُقُوقِ الْوَرَثَةِ.
أَمَّا الثُّلُثُ فَقَدْ جَعَلَهُ الشَّارِعُ حَقًّا لِلْمَرِيضِ يُنْفِقُهُ فِيمَا يَرَى مِنْ سُبُل الْخَيْرِ وَنَحْوِهَا، سَوَاءٌ بِالتَّبَرُّعِ الْمُنْجَزِ حَال الْمَرَضِ، أَوْ بِالْوَصِيَّةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (1) .
15 - عَلَى أَنَّ هُنَاكَ فَرْقًا بَيْنَ تَعَلُّقِ حَقِّ الدَّائِنِينَ وَتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَال الْمَرِيضِ، وَهَذَا الْفَرْقُ يَئُول إِلَى أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَقَّ الدَّائِنِينَ يَتَعَلَّقُ بِمَال الْمَرِيضِ مَعْنًى لاَ صُورَةً، أَيْ أَنَّهُ لاَ يَتَعَلَّقُ بِذَاتِ الأَْشْيَاءِ الَّتِي يَمْلِكُهَا، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمِقْدَارِ مَا فِيهَا مِنْ مَالِيَّةٍ؛ لأَِنَّ الْغَرَضَ مِنْ تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِمَالِهِ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنِ اسْتِيفَاءِ دُيُونِهِمْ (2) .
أَمَّا تَعَلُّقُ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَال الْمَرِيضِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ هَل يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّتِهِ أَمْ بِعَيْنِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: - فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ أَبِي يَعْلَى وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ كَحَقِّ الْغُرَمَاءِ يَتَعَلَّقُ بِمَال الْمَرِيضِ مَعْنًى لاَ صُورَةً، فَيَصِحُّ بَيْعُ الْمَرِيضِ بِمِثْل الْقِيمَةِ
__________
(1) انظر قرة عيون الأخيار 2 / 127، مغني المحتاج 2 / 165، شرح الخرشي 5 / 305، المغني 4 / 508 (ط. المنار 1348 هـ) ، كشف الأسرار على أصول البزدوي 4 / 1427 (استانبول 1307 هـ) ، فواتح الرحموت 1 / 174، بدائع الصنائع 7 / 224.
(2) انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 307

(21/107)


لِلأَْجْنَبِيِّ وَلِلْوَارِثِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي تَصَرُّفِهِ إِبْطَالٌ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّهُمْ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ، فَكَانَ الْوَارِثُ وَالأَْجْنَبِيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءً (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ تَارَةً بِالصُّورَةِ وَالْمَعْنَى، وَتَارَةً أُخْرَى بِالْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ، فَإِذَا كَانَ تَصَرُّفُ الْمَرِيضِ مَعَ غَيْرِ وَارِثٍ كَانَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِالْمَالِيَّةِ، فَيَصِحُّ بَيْعُهُ لِلأَْجْنَبِيِّ بِمِثْل الْقِيمَةِ لاَ بِأَقَل. وَإِذَا كَانَ تَصَرُّفُهُ مَعَ وَارِثٍ كَانَ حَقُّهُمْ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ وَالْمَالِيَّةِ، فَلَيْسَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يُؤْثِرَ أَحَدًا مِنْ وَرَثَتِهِ بِعَيْنٍ مِنْ مَالِهِ وَلَوْ بِالْبَيْعِ لَهُ بِمِثْل الْقِيمَةِ، إِذِ الإِْيثَارُ كَمَا يَكُونُ بِالتَّبَرُّعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، يَكُونُ بِأَنْ يَخُصَّهُ بِأَعْيَانٍ يَخْتَارُهَا لَهُ مِنْ مَالِهِ، وَلَوْ كَانَ الْبَدَل مِثْل قِيمَتِهَا (2) .
وَالْفَرْقُ الثَّانِي بَيْنَ تَعَلُّقِ حَقِّ الدَّائِنِينَ بِمَال الْمَرِيضِ وَبَيْنَ تَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ أَنَّ حَقَّ الدَّائِنِينَ
__________
(1) كشف الأسرار 4 / 1431 وما بعدها، المبسوط 14 / 150، اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى ص 29، رد المحتار 4 / 193 (بولاق 1299 هـ) ، المهذب 1 / 460، نهاية المحتاج 5 / 408، 417، المدونة 3 / 222 (المطبعة الخيرية 1324 هـ) ، المغني (ط. المنار 1348 هـ) 6 / 421، الإنصاف 7 / 172
(2) كشف الأسرار 4 / 1432، المبسوط 14 / 150، رد المحتار (بولاق 1299 هـ) 4 / 193، العقود الدرية لابن عابدين 2 / 268، فتاوى قاضيخان 2 / 177، الإنصاف للمرداوي 7 / 172

(21/108)


فِي التَّعَلُّقِ بِمَال الْمَرِيضِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ؛ لأَِنَّ وَفَاءَ الدَّيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى تَوْزِيعِ الْمِيرَاثِ، فَيَتَعَلَّقُ حَقُّ الدَّائِنِينَ بِجَمِيعِ مَالِهِ إِنْ كَانَتْ دُيُونُهُمْ مُسْتَغْرَقَةً، فِي حِينِ لاَ يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثَيِ التَّرِكَةِ بَعْدَ وَفَاءِ الدُّيُونِ؛ لأَِنَّ لِلْمَرِيضِ حَقَّ التَّصَرُّفِ فِي ثُلُثِ مَالِهِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُنْجَزًا أَمْ مُضَافًا إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَيَأْخُذُ تَبَرُّعُهُ هَذَا حُكْمَ الْوَصِيَّةِ.
16 - د - مَا يُنْفَقُ فِي سَبِيل تَسْدِيدِ الدُّيُونِ الْمُحِيطَةِ بِأَمْوَال الْمَدِينِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عِنْدَ بَيْعِ أَمْوَالِهِ لِلْوَفَاءِ بِدُيُونِهِ كَأُجْرَةِ الْمُنَادِي وَالْكَيَّال وَالْحَمَّال وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُؤَنِ، فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِأَمْوَال الْمَدِينِ، وَيُقَدَّمُ الْوَفَاءُ بِهَا عَلَى سَائِرِ الدُّيُونِ الْمُطْلَقَةِ (1) .
17 - هـ - دَيْنُ مُشْتَرِي الْمَتَاعِ الَّذِي بَاعَهُ الْحَاكِمُ مِنْ أَمْوَال الْمَدِينِ الْمُفْلِسِ إِذَا ظَهَرَ مُسْتَحَقًّا وَتَلِفَ الثَّمَنُ الْمَقْبُوضُ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِمَال الْمَدِينِ، وَيُقَدَّمُ بَدَل الثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَهُ عَلَى بَاقِي الْغُرَمَاءِ، وَلاَ يُضَارِبُ بِهِ مَعَهُمْ لِئَلاَّ يَرْغَبَ النَّاسُ عَنْ شِرَاءِ مَال الْمُفْلِسِ (2) .
18 - و - الدَّيْنُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الصَّانِعُ كَصَائِغٍ وَنَسَّاجٍ وَخَيَّاطٍ أُجْرَةً عَلَى عَمَلِهِ إِذَا أَفْلَسَ
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 317، كشاف القناع 3 / 424، حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 5 / 135، شرح منتهى الإرادات 2 / 284
(2) نهاية المحتاج 4 / 317، تحفة المحتاج 5 / 135

(21/108)


صَاحِبُهُ، وَالْعَيْنُ بِيَدِ الصَّانِعِ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِمَا فِي يَدِهِ مِنْ مَتَاعِهِ، وَيُقَدَّمُ بِهِ عَلَى سَائِرِ الْغُرَمَاءِ (1) .
جَاءَ فِي " الْمُدَوَّنَةِ ": " إِذَا أَفْلَسَ الرَّجُل وَلَهُ حُلِيٌّ عِنْدَ صَائِغٍ قَدْ صَاغَهُ لَهُ، كَانَ هُوَ أَوْلَى بِأَجْرِهِ، وَلَمْ يُحَاصَّهُ الْغُرَمَاءُ، بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ فِي يَدَيْهِ (2) "، " وَكُل ذِي صَنْعَةٍ مِثْل الْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ وَالصَّائِغِ وَمَا أَشْبَهَهُمْ مِنْهُمْ أَحَقُّ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْغُرَمَاءِ فِي الْمَوْتِ وَالتَّفْلِيسِ جَمِيعًا، وَكُل مَنْ تُكُورِيَ عَلَى حَمْل مَتَاعٍ فَحَمَلَهُ إِلَى بَلَدٍ مِنَ الْبُلْدَانِ، فَالْمُكْرَى أَحَقُّ بِمَا فِي يَدَيْهِ مِنَ الْغُرَمَاءِ فِي الْمَوْتِ وَالتَّفْلِيسِ جَمِيعًا (3) ".
19 - ز - دَيْنُ الْكِرَاءِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ صَاحِبُ الأَْرْضِ الْمُؤَجَّرَةِ إِذَا أَفْلَسَ الْمُسْتَأْجِرُ بَعْدَمَا زَرَعَهَا، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالزَّرْعِ، وَيُقَدَّمُ بِهِ عَلَى سَائِرِ غُرَمَاءِ الْمُسْتَأْجِرِ (4) . قَال التَّسَوُّلِيُّ: " لأَِنَّ الزَّرْعَ كَرَهْنٍ بِيَدِهِ فِي كِرَائِهَا، فَيُبَاعُ وَيُؤْخَذُ الْكِرَاءُ مِنْ ثَمَنِهِ (5) ". وَكَذَا " كُل مَنِ اسْتُؤْجِرَ فِي زَرْعٍ أَوْ نَخْلٍ أَوْ أَصْلٍ يَسْقِيهِ، فَسَقَاهُ ثُمَّ فَلَّسَ صَاحِبُهُ،
__________
(1) القوانين الفقهية ص 347، البهجة شرح التحفة للتسولي 2 / 333، شرح ميارة على تحفة ابن عاصم 2 / 242
(2) المدونة 13 / 239 (مطبعة السعادة بمصر سنة 1323 هـ)
(3) المدونة 13 / 239 (مطبعة السعادة سنة 1323 هـ) .
(4) شرح ميارة على التحفة 2 / 242، والقوانين الفقهية ص 347.
(5) البهجة شرح التحفة 2 / 333

(21/109)


فَسَاقِيهِ أَوْلَى بِهِ مِنَ الْغُرَمَاءِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ (1) ".
20 - ح - الدَّيْنُ الْوَاجِبُ عَلَى مَنْ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ مَالاً، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ كَتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِالْمَرْهُونِ.
وَقَدْ أَثْبَتَ الشَّارِعُ هَذَا التَّعَلُّقَ لِمَصْلَحَةِ الْمَيِّتِ كَيْ تَبْرَأَ ذِمَّتُهُ " فَاللاَّئِقُ بِهِ أَلاَّ يُسَلَّطَ الْوَارِثُ عَلَيْهِ (2) ".
21 - ط - الدَّيْنُ الَّذِي يَكُونُ لِلْمُسْتَأْجِرِ الَّذِي عَجَّل الأُْجْرَةَ وَتَسَلَّمَ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ، إِذَا فُسِخَتْ الإِْجَارَةُ قَبْل انْتِهَاءِ مُدَّتِهَا لِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ، فَإِنَّ مَا يُقَابِل الْمُدَّةَ الْبَاقِيَةَ مِنَ الأُْجْرَةِ يَكُونُ دَيْنًا مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ، فَإِذَا بِيعَتِ الدُّيُونُ عَلَى مَالِكِهَا الْمُتَوَفَّى كَانَ دَيْنُ الْمُسْتَأْجِرِ مُقَدَّمًا عَلَى دُيُونِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِانْفِسَاخِ الإِْجَارَةِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: " فَإِنَّهُ إِذَا أَعْطَى الأُْجْرَةَ أَوَّلاً ثُمَّ مَاتَ الآْجِرُ صَارَتِ الدَّارُ هُنَا بِالأُْجْرَةِ (3) ".

أَسْبَابُ ثُبُوتِ الدَّيْنِ:
22 - الأَْصْل بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الإِْنْسَانِ مِنْ كُل دَيْنٍ أَوِ
__________
(1) المدونة 13 / 238
(2) الهداية للمرغيناني (مطبعة الميمنية سنة 1319 هـ) 9 / 436، روضة الطالبين 4 / 84، المهذب 1 / 334، شرح منتهى الإرادات 2 / 286، كشاف القناع 3 / 427، الزرقاني على خليل 8 / 203، منح الجليل 4 / 697.
(3) رد المحتار 5 / 484 (بولاق 1272 هـ)

(21/109)


الْتِزَامٍ أَوْ مَسْئُولِيَّةٍ مَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبٌ يُنْشِئُ ذَلِكَ وَيُلْزِمُ بِهِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ لاَ بُدَّ لِثُبُوتِ أَيِّ دَيْنٍ مِنْ سَبَبٍ مُوجِبٍ يَقْتَضِيهِ. . وَالْبَاحِثُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ يَجِدُ أَنَّ أَسْبَابَ وُجُوبِ الدَّيْنِ عَدِيدَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ، غَيْرَ أَنَّهُ يُمْكِنُ حَصْرُهَا فِي تِسْعَةِ أَسْبَابٍ:
23 - أَحَدُهَا: الاِلْتِزَامُ بِالْمَال: سَوَاءٌ أَكَانَ فِي عَقْدٍ يَتِمُّ بَيْنَ طَرَفَيْنِ كَالْبَيْعِ، وَالسَّلَمِ، وَالْقَرْضِ، وَالإِْجَارَةِ، وَالزَّوَاجِ، وَالطَّلاَقِ عَلَى مَالٍ، وَالْحَوَالَةِ، وَالْكَفَالَةِ بِالْمَال، وَالاِسْتِصْنَاعِ وَنَحْوِهَا، أَوْ كَانَ فِي الْتِزَامٍ فَرْدِيٍّ يَتِمُّ بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ كَنَذْرِ الْمَال عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَالْتِزَامِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
فَفِي الْقَرْضِ مَثَلاً يَلْتَزِمُ الْمُقْتَرِضُ أَنْ يَرُدَّ لِلْمُقْرِضِ مَبْلَغًا مِنَ النُّقُودِ، أَوْ قَدْرًا مِنْ أَمْوَالٍ
__________
(1) حيث إن المالكية يرون أن كل التزام فردي بهبة، أو صدقة، أو حبس، أو جائزة، أو قرض، على وجه الصلة وطلب البر والمكافأة وما أشبه ذلك من الوجوه المعروفة بين الناس في احتسابهم وحسن معاشرتهم، لازم لصاحبه، لا يقبل منه الرجوع عنه، ولصاحب الحق فيه إذا كان معي " للحطاب 1 / 219 (مطبوع ضمن فتح العلي المالك لعليش ط الحلبي 1958 م) : " من التزم الإنفاق على شخص مدة معينة أو مدة حياة المنفق أو المنفق عليه، أو حتى يقدم زيد، أو إلى أجل مجهول لزمه ما لم يفلس أو يمت، لأن في كلام ابن رشد أن المعروف - على مذهب مالك وأصحابه - لازم لمن أوجبه على نفسه ما لم يفلس أو يمت

(21/110)


مِثْلِيَّةٍ يَكُونُ قَدِ اقْتَرَضَهَا مِنْهُ، وَثَبَتَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ.
عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الدُّيُونِ الَّتِي تَثْبُتُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ لاَ تَسْتَقِرُّ فِي الذِّمَّةِ بَعْدَ لُزُومِهَا إِلاَّ بِقَبْضِ الْبَدَل الْمُقَابِل لَهَا، إِذْ بِهِ يَحْصُل الأَْمْنُ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ بِسَبَبِ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِهِ إِلاَّ دَيْنًا وَاحِدًا وَهُوَ دَيْنُ السَّلَمِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لاَزِمًا فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقَرٍّ لاِحْتِمَال طُرُوءِ انْقِطَاعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى انْفِسَاخِ الْعَقْدِ وَسُقُوطِ الدَّيْنِ.
وَتَعْلِيل ذَلِكَ أَنَّ اسْتِقْرَارَ الدَّيْنِ فِي أَيِّ عَقْدٍ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ إِنَّمَا يَعْنِي الأَْمْنَ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ بِسَبَبِ تَعَذُّرِ حُصُول الدَّيْنِ الْمَذْكُورِ؛ لِعَدَمِ وُجُودِ جِنْسِهِ وَامْتِنَاعِ الاِعْتِيَاضِ عَنْهُ. . وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِدَيْنِ السَّلَمِ دُونَ بَقِيَّةِ الدُّيُونِ؛ لِجَوَازِ الاِعْتِيَاضِ عَنْهَا عِنْدَ انْقِطَاعِ جِنْسِهَا (1) .
24 - وَالثَّانِي: الْعَمَل غَيْرُ الْمَشْرُوعِ الْمُقْتَضِي لِثُبُوتِ دَيْنٍ عَلَى الْفَاعِل: كَالْقَتْل الْمُوجِبِ لِلدِّيَةِ وَالْجِنَايَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلأَْرْشِ، وَإِتْلاَفِ مَال الْغَيْرِ، وَكَتَعَدِّي يَدِ الأَْمَانَةِ أَوْ تَفْرِيطِهَا فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَا بِحَوْزَتِهِ مِنْ أَمْوَالٍ، كَتَعَمُّدِ الأَْجِيرِ الْخَاصِّ إِتْلاَفَ الأَْعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ تَحْتَ يَدِهِ أَوْ إِهْمَالِهِ فِي
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 326، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 350

(21/110)


حِفْظِهَا (1) . وَيُعَدُّ مِنْ هَذَا الْقَبِيل مَا لَوْ " أَتْلَفَ عَلَى شَخْصٍ وَثِيقَةً تَتَضَمَّنُ دَيْنًا لَهُ عَلَى إِنْسَانٍ، وَلَزِمَ مِنْ إِتْلاَفِهَا ضَيَاعُ ذَلِكَ الدَّيْنِ، فَيَلْزَمُهُ الدَّيْنُ (2) ".
25 - وَالثَّالِثُ: هَلاَكُ الْمَال فِي يَدِ الْحَائِزِ إِذَا كَانَتْ يَدَ ضَمَانٍ، مَهْمَا كَانَ سَبَبُ الْهَلاَكِ، كَتَلَفِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَهَلاَكِ الْمَتَاعِ فِي يَدِ الأَْجِيرِ الْمُشْتَرِكِ أَوِ الْقَابِضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
26 - وَالرَّابِعُ: تَحَقُّقُ مَا جَعَلَهُ الشَّارِعُ مَنَاطًا لِثُبُوتِ حَقٍّ مَالِيٍّ: كَحَوَلاَنِ الْحَوْل عَلَى النِّصَابِ فِي الزَّكَاةِ، وَاحْتِبَاسِ الْمَرْأَةِ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَحَاجَةِ الْقَرِيبِ فِي نَفَقَةِ الأَْقَارِبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِذَا وُجِدَ سَبَبٌ مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ مَنْ قَضَى الشَّارِعُ بِإِلْزَامِهِ بِهِ.
27 - وَالْخَامِسُ: إِيجَابُ الإِْمَامِ لِبَعْضِ التَّكَالِيفِ الْمَالِيَّةِ عَلَى الْقَادِرِينَ عَلَيْهَا لِلْوَفَاءِ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِلأُْمَّةِ إِذَا عَجَزَ بَيْتُ الْمَال عَنِ الْوَفَاءِ بِهَا، أَوْ لِلْمُسَاهَمَةِ فِي إِغَاثَةِ الْمَنْكُوبِينَ وَإِعَانَةِ
__________
(1) القوانين الفقهية لابن جزي ص 360، الفروق للقرافي 2 / 206
(2) قاله الإمام تقي الدين السبكي، ونقله عنه ولده تاج الدين في طبقات الشافعية الكبرى (ط. عيسى الحلبي) 10 / 232، وانظر القوانين الفقهية ص 361، الفروق للقرافي 2 / 206.

(21/111)


الْمُتَضَرِّرِينَ بِزِلْزَالٍ مُدَمِّرٍ أَوْ حَرِيقٍ شَامِلٍ أَوْ حَرْبٍ مُهْلِكَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْجَأُ النَّاسَ وَلاَ يَتَّسِعُ بَيْتُ الْمَال لِتَحَمُّلِهِ أَوِ التَّعْوِيضِ عَنْهُ (1) .
لَكِنْ لاَ يَجُوزُ هَذَا إِلاَّ بِشُرُوطٍ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ تَتَعَيَّنَ الْحَاجَةُ. فَلَوْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَال مَا يَقُومُ بِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِالْعَدْل. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ أَنْ يُنْفِقَهُ فِي سَرَفٍ، وَلاَ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ لاَ يَسْتَحِقُّ، وَلاَ يُعْطِيَ أَحَدًا أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَصْرِفَ مَصْرِفَهُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ وَالْحَاجَةِ لاَ بِحَسَبِ الْغَرَضِ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْغُرْمُ عَلَى مَنْ كَانَ قَادِرًا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَلاَ إِجْحَافٍ، وَمَنْ لاَ شَيْءَ لَهُ، أَوْ لَهُ شَيْءٌ قَلِيلٌ فَلاَ يَغْرَمُ شَيْئًا.
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَتَفَقَّدَ هَذَا فِي كُل وَقْتٍ، فَرُبَّمَا جَاءَ وَقْتٌ لاَ يَفْتَقِرُ فِيهِ لِزِيَادَةٍ عَلَى مَا فِي بَيْتِ الْمَال، فَلاَ يُوَزَّعُ. وَكَمَا يَتَعَيَّنُ الْمَال فِي
__________
(1) رد المحتار (ط. مصطفى الحلبي 1376 هـ) 2 / 336، 337، نهاية المحتاج 8 / 50، حاشية الجمل 3 / 588، 4 / 183، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2 / 242، المعيار للونشريسي ط. الأوقاف المغربية 11 / 131، والمستصفى 1 / 304.

(21/111)


التَّوْزِيعِ، فَكَذَلِكَ إِذَا تَعَيَّنَتِ الضَّرُورَةُ لِلْمَعُونَةِ بِالأَْبْدَانِ وَلَمْ يَكْفِ الْمَال، فَإِنَّ النَّاسَ يُجْبَرُونَ عَلَى التَّعَاوُنِ عَلَى الأَْمْرِ الدَّاعِي لِلْمَعُونَةِ بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ وَتَعَيُّنِ الْمَصْلَحَةِ وَالاِفْتِقَارِ إِلَى ذَلِكَ (1) .
28 - السَّبَبُ السَّادِسُ مِنْ أَسْبَابِ ثُبُوتِ الدَّيْنِ: أَدَاءُ مَا يَظُنُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْهُ: كَمَنْ دَفَعَ إِلَى شَخْصٍ مَالاً يَظُنُّهُ دَيْنًا وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَنَفْسِ الأَْمْرِ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْقَابِضِ بِمَا أَخَذَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ مَنْ أَخَذَ مِنْ غَيْرِهِ مَا لاَ حَقَّ لَهُ فِيهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ إِلَيْهِ (2) . وَقَدْ نَصَّتْ م 207 مِنْ مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ " مَنْ دَفَعَ شَيْئًا ظَانًّا أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَتَبَيَّنَ عَدَمُ وُجُوبِهِ، فَلَهُ الرُّجُوعُ بِهِ عَلَى مَنْ قَبَضَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ".
29 - وَالسَّابِعُ: أَدَاءُ وَاجِبٍ مَالِيٍّ يَلْزَمُ الْغَيْرَ عَنْهُ بِنَاءً عَلَى طَلَبِهِ: كَمَا إِذَا أَمَرَ شَخْصٌ غَيْرَهُ بِأَدَاءِ دَيْنِهِ، فَأَدَّاهُ الْمَأْمُورُ مِنْ مَالِهِ عَنْهُ، فَإِنَّ مَا دَفَعَهُ يَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الآْمِرِ لِلْمَأْمُورِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِهِ، سَوَاءٌ شَرَطَ الآْمِرُ رُجُوعَهُ - بِأَنْ
__________
(1) المعيار للونشريسي 11 / 127 - 128
(2) وهذه القضية فرع للقاعدة الفقهية الكلية: " لا يجوز لأحد أخذ مال أحد بلا سبب شرعي " (م 97 من المجلة العدلية) ، وانظر المبدع لبرهان الدين ابن مفلح شرح المقنع 4 / 202

(21/112)


قَال لَهُ: أَدِّ دَيْنِي عَلَى أَنْ أُؤَدِّيَهُ لَكَ بَعْدُ - أَوْ لَمْ يَشْرِطْ ذَلِكَ، بِأَنْ قَال لَهُ: أَدِّ دَيْنِي - فَقَطْ - فَأَدَّاهُ (1) .
وَمِثْل ذَلِكَ مَا لَوْ أَمَرَ شَخْصٌ آخَرَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ لَهُ، أَوْ بِبِنَاءِ دَارٍ أَوْ دُكَّانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَفَعَل الْمَأْمُورُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الآْمِرِ بِمَا دَفَعَهُ، سَوَاءٌ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ (2) . وَكَذَا لَوْ أَمَرَ شَخْصٌ آخَرَ بِأَنْ يَكْفُلَهُ بِالْمَال فَكَفَلَهُ، ثُمَّ أَدَّى الْكَفِيل مَا كَفَل بِهِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمَكْفُول بِمَا أَدَّى عَنْهُ (3) . وَكَذَا إِذَا أَحَال مَدِينٌ دَائِنَهُ عَلَى شَخْصٍ غَيْرِ مَدِينٍ لِلْمُحِيل، فَرَضِيَ الْمُحَال عَلَيْهِ، وَأَدَّى عَنْهُ الدَّيْنَ الْمُحَال بِهِ بِنَاءً عَلَى طَلَبِهِ، فَإِنَّ الْمُحَال عَلَيْهِ يَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيل بِمَا أَدَّى عَنْهُ (4) .
__________
(1) رد المحتار (ط. الحلبي 1386هـ) 2 / 674، تكملة رد المحتار 2 / 334، اختلاف الفقهاء لابن جرير الطبري 2 / 62 وما بعدها، نهاية المحتاج 4 / 448، فتح العزيز 10 / 389، وانظر م (1506) من المجلة العدلية وم 198، 199 من مرشد الحيران
(2) تكملة رد المحتار 2 / 334، وانظر م (1508) من المجلة العدلية وم 200 من مرشد الحيران.
(3) رد المحتار 4 / 271، المغني لابن قدامة 5 / 86، نهاية المحتاج 4 / 447، المهذب 1 / 349، فتح العزيز 10 / 390، وانظر م 862 من مرشد الحيران، الإشراف للقاضي عبد الوهاب ط. تونس 2 / 21.
(4) بدائع الصنائع 7 / 3443 مطبعة الإمام، رد المحتار 4 / 294، تبيين الحقائق 4 / 174، فتح العزيز 10 / 339، المغني 4 / 579، أسنى المطالب 2 / 231، المهذب 1 / 345، كشاف القناع 3 / 372، البهجة شرح التحفة 2 / 58، شرح التاودي على التحفة 2 / 57، الشرح الكبير على المقنع 5 / 58

(21/112)


30 - وَالثَّامِنُ: الْفِعْل الْمَشْرُوعُ حَالَةَ الضَّرُورَةِ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ إِتْلاَفُ مَال الْغَيْرِ: كَمَنْ أَكَل طَعَامَ غَيْرِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ مُضْطَرًّا لِدَفْعِ الْهَلاَكِ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ تَرْخِيصَ الشَّارِعِ وَإِبَاحَتَهُ اسْتِهْلاَكَ مَال الْغَيْرِ بِدُونِ إِذْنِهِ لِدَاعِي الضَّرُورَةِ لاَ يُسْقِطُ عَنِ الْفَاعِل الْمَسْئُولِيَّةَ الْمَالِيَّةَ، وَلاَ يُعْفِيهِ مِنْ ثُبُوتِ مِثْل مَا أَتْلَفَهُ أَوْ قِيمَتِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لِمَالِكِهِ، فَالأَْعْذَارُ الشَّرْعِيَّةُ لاَ تُنَافِي عِصْمَةَ الْمَحَل، وَالإِْبَاحَةُ لِلاِضْطِرَارِ لاَ تُنَافِي الضَّمَانَ (1) ؛ وَلأَِنَّ إِذْنَ الشَّارِعِ الْعَامَّ بِالتَّصَرُّفِ إِنَّمَا يَنْفِي الإِْثْمَ وَالْمُؤَاخَذَةَ بِالْعِقَابِ، وَلاَ يُعْفِي مِنْ تَحَمُّل تَبَعَةِ الإِْتْلاَفِ، بِخِلاَفِ إِذْنِ الْمَالِكِ (2) ، وَلِلْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ " الاِضْطِرَارُ لاَ يُبْطِل حَقَّ الْغَيْرِ " (م 33) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ، وَبِهَذَا قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَغَيْرِهِمْ (3) .
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالُوا: لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لأَِنَّ دَفْعَ الْهَلاَكِ
__________
(1) رد المحتار 5 / 215
(2) وهو ما عبر عنه القرافي بقوله: " الإذن العام من قبل صاحب الشرع في التصرفات لا يسقط الضمان، وإذن المالك الآدمي في التصرفات يسقطه ". الفروق 1 / 195
(3) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1 / 94، 2 / 176، القواعد لابن رجب ص 37، 69، 72، الفروق 1 / 196، رد المحتار 5 / 215، المهذب 1 / 257، التنبيه للشيرازي (ط. الحلبي) ص 53، نهاية المحتاج 8 / 152 وما بعدها م (33) من مجلة الأحكام العدلية

(21/113)


عَنْهُ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْمَالِكِ، وَالْوَاجِبُ لاَ يُؤْخَذُ لَهُ عِوَضٌ (1) .
وَهُنَاكَ رَأْيٌ ثَالِثٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُضْطَرَّ إِلَى طَعَامِ الْغَيْرِ لِدَفْعِ الْهَلاَكِ عَنْ نَفْسِهِ إِنَّمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِصَاحِبِهِ إِنْ كَانَتْ مَعَهُ - أَيْ بِأَنْ كَانَ مَعَهُ مَالٌ حَاضِرٌ - وَإِلاَّ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِوُجُوبِ بَذْل رَبِّهِ لَهُ (2) .
31 - وَالتَّاسِعُ: الْقِيَامُ بِعَمَلٍ نَافِعٍ لِلْغَيْرِ بِدُونِ إِذْنِهِ: وَهُوَ نَوْعَانِ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: أَنْ يَأْتِيَ بِعَمَلٍ يَلْزَمُ الْغَيْرَ أَوْ يَحْتَاجُهُ بِدُونِ إِذْنِهِ، كَمَنْ أَنْفَقَ عَنْ غَيْرِهِ نَفَقَةً وَاجِبَةً عَلَيْهِ، أَوْ قَضَى عَنْهُ دَيْنًا ثَابِتًا فِي ذِمَّتِهِ، وَلَمْ يَنْوِ الْمُنْفِقُ بِذَلِكَ التَّبَرُّعَ، فَإِنَّ مَا دَفَعَهُ يَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُنْفِقِ عَنْهُ. وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) . خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ (4) . فَقَدْ جَاءَ فِي مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ (م 205) : " إِذَا قَضَى أَحَدٌ دَيْنَ غَيْرِهِ بِلاَ أَمْرِهِ سَقَطَ الدَّيْنُ عَنِ
__________
(1) الفروق للقرافي 1 / 196
(2) الزرقاني على خليل وحاشية البناني عليه 3 / 30، منح الجليل وحاشيته لعليش 1 / 599، المحلى لابن حزم 8 / 303
(3) شرح الخرشي (7 / 64، 128) ، الزرقاني على خليل (7 / 63، 116) ، القواعد لابن رجب (ص 143 وما بعدها) ، منح الجليل (4 / 129) ، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (9 / 232) ، أعلام الموقعين (2 / 414 - 420) ، القياس لابن تيمية (ط. السلفية) ص 38
(4) فتح العزيز 10 / 388، نهاية المحتاج 4 / 448

(21/113)


الْمَدْيُونِ، سَوَاءٌ أَقَبِل أَمْ لَمْ يَقْبَل، وَيَكُونُ الدَّافِعُ مُتَبَرِّعًا لاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمَدْيُونِ بِشَيْءٍ مِمَّا دَفَعَهُ بِلاَ أَمْرِهِ، وَلاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ الْقَابِضِ لاِسْتِرْدَادِ مَا دَفَعَهُ إِلَيْهِ ".
وَحُجَّتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ مَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ وَاجِبًا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ نَفَقَةٍ عَلَى قَرِيبٍ أَوْ زَوْجَةٍ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ، فَهُوَ إِمَّا فُضُولِيٌّ، وَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَفُوتَ عَلَيْهِ مَا فَوَّتَهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ مُتَفَضِّلٌ فَعِوَضُهُ عَلَى اللَّهِ دُونَ مَنْ تَفَضَّل عَلَيْهِ، فَلاَ يَسْتَحِقُّ مُطَالَبَتَهُ (1) .
32 - وَقَدْ ذَكَرَ عَلِيّ حَيْدَر فِي كِتَابِهِ: " دُرَرُ الْحُكَّامِ شَرْحُ مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ " قَاعِدَةَ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذَا النَّوْعِ وَهِيَ: " أَنَّ مَنْ أَدَّى مَصْرُوفًا عَائِدًا عَلَى غَيْرِهِ بِدُونِ أَمْرِهِ أَوْ إِذْنِ الْحَاكِمِ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا (2) ".
وَحَكَى لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فُرُوعًا كَثِيرَةً مِنْهَا:
أ - إِذَا وَفَّى شَخْصٌ دَيْنَ آخَرَ بِدُونِ أَمْرِهِ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا.
ب - إِذَا دَفَعَ الرَّاهِنُ أَوِ الْمُرْتَهِنُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مَصْرُوفًا عَلَى الرَّهْنِ يَلْزَمُ الآْخَرَ بِدُونِ أَمْرِهِ أَوْ إِذْنِ الْحَاكِمِ يُعْتَبَرُ مُتَبَرِّعًا، وَلاَ يَحِقُّ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مُضْطَرًّا لِهَذَا الإِْنْفَاقِ طَالَمَا أَنَّهُ مُقْتَدِرٌ عَلَى اسْتِحْصَال أَمْرٍ مِنَ الْحَاكِمِ بِهِ لِتَأْمِينِ حَقِّهِ بِالرُّجُوعِ عَلَى الْمُسْتَفِيدِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ. وَعَلَى
__________
(1) انظر أعلام الموقعين
(2) درر الحكام 2 / 114، 3 / 638

(21/114)


ذَلِكَ نَصَّتْ الْمَجَلَّةُ الْعَدْلِيَّةُ فِي (م 725) (1) .
ج - إِذَا أَدَّى الْمُسْتَأْجِرُ الْمَصَارِيفَ اللاَّزِمَةَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ بِلاَ أَمْرِهِ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا (م 529) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ (2) .
وَإِذَا أَعْطَى الْمُسْتَأْجِرُ الْحَيَوَانَ الْمَأْجُورَ عَلَفًا بِدُونِ أَمْرِ الْمُؤَجِّرِ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا (3) .
د - إِذَا كَفَل شَخْصٌ دَيْنَ آخَرَ بِدُونِ أَمْرِهِ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا (4) .
هـ - إِذَا صَرَفَ الْمُودَعُ عَلَى الْوَدِيعَةِ بِلاَ أَمْرِ صَاحِبِهَا أَوْ إِذْنِ الْحَاكِمِ يُعَدُّ مُتَبَرِّعًا (5) .
و إِذَا عَمَّرَ الشَّرِيكُ الْمِلْكَ الْمُشْتَرَكَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بِدُونِ إِذْنِ الشَّرِيكِ أَوِ الْحَاكِمِ يُعَدُّ مُتَبَرِّعًا (6) .
ز - لَوْ أَنْشَأَ أَحَدٌ دَارًا أَوْ عَمَّرَهَا لِصَاحِبِهَا بِدُونِ أَمْرِهِ كَانَ الْبِنَاءُ أَوِ الْعِمَارَةُ لِصَاحِبِ الْعَرْصَةِ أَوِ الدَّارِ، وَيَكُونُ الْمُنْشِئُ مُتَبَرِّعًا فِيمَا أَنْفَقَهُ (7) .
ح - لَوْ أَنْفَقَ شَخْصٌ عَلَى عُرْسِ آخَرَ بِلاَ إِذْنِهِ
__________
(1) انظر درر الحكام 2 / 112 وما بعدها، 3 / 642
(2) وانظر درر الحكام 1 / 517 وما بعدها، 2 / 114
(3) م 561 من المجلة، وانظر درر الحكام 1 / 551، 2 / 114، 3 / 642.
(4) درر الحكام 1 / 694، 2 / 114.
(5) انظر م 786 من المجلة، درر الحكام 2 / 114، 252، 3 / 642
(6) انظر م 1311 من المجلة وم 765 - 769 من مرشد الحيران ودرر الحكام 2 / 114، 3 / 334 وما بعدها.
(7) درر الحكام 3 / 642

(21/114)


كَانَ مُتَبَرِّعًا (1) .
33 - وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْقِيَامِ بِعَمَلٍ نَافِعٍ لِلْغَيْرِ: أَنْ يَقُومَ بِعَمَلٍ يَحْتَاجُهُ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ وَلاَ يُتَوَصَّل إِلَيْهِ إِلاَّ بِإِسْدَاءِ نَفْعٍ لِغَيْرِهِ يَحْتَاجُهُ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ. كَمَا إِذَا أَعَارَ شَخْصٌ لآِخَرَ عَيْنًا لِيَرْهَنَهَا بِدَيْنٍ عَلَيْهِ، وَلَمَّا أَرَادَ الْمُعِيرُ اسْتِرْدَادَهَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ فَفَعَل، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ بِالدَّيْنِ. وَبِهَذَا قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) ، وَعَلَيْهِ نَصَّتْ مَجَلَّةُ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ فِي (م 732) مِنْهَا

أَقْسَامُ الدَّيْنِ:
34 - يَنْقَسِمُ الدَّيْنُ بِاعْتِبَارِ التَّعَلُّقِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أ - دَيْنٌ مُطْلَقٌ: وَهُوَ الدَّيْنُ الْمُرْسَل الْمُتَعَلِّقُ بِالذِّمَّةِ وَحْدَهَا.
ب - دَيْنٌ مُوَثَّقٌ: وَهُوَ الدَّيْنُ الْمُتَعَلِّقُ بِعَيْنٍ مَالِيَّةٍ لِتَكُونَ وَثِيقَةً لِجَانِبِ الاِسْتِيفَاءِ كَدَيْنِ الرَّهْنِ وَنَحْوِهِ. وَثَمَرَةُ هَذَا التَّقْسِيمِ تَئُول إِلَى أَمْرَيْنِ:
__________
(1) درر الحكام 3 / 642
(2) تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 89، رد المحتار 5 / 331، القواعد لابن رجب ص 146 - 148، أعلام الموقعين 2 / 417 وما بعدها، درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر 2 / 113، 130، 3 / 331، 342 وما بعدها، وانظر م 1310 - 1316 من مجلة الأحكام العدلية، وم 765 - 768، 772 من مرشد الحيران.

(21/115)


أَحَدُهُمَا: تَقْدِيمُ حَقِّ صَاحِبِ الدَّيْنِ الْمُوَثَّقِ فِي اسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنَ الْعَيْنِ الَّتِي تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِهَا عَلَى سَائِرِ الدَّائِنِينَ فِي حَال حَيَاةِ الْمَدِينِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَالثَّانِي: تَقْدِيمُ الدُّيُونِ الْمُوَثَّقَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَعْيَانِ التَّرِكَةِ فِي حَال وَفَاةِ الْمَدِينِ عَلَى تَجْهِيزِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (1) . " إِيثَارًا لِلأَْهَمِّ، كَمَا تُقَدَّمُ تِلْكَ الْحُقُوقُ عَلَى حَقِّهِ فِي الْحَيَاةِ (2) ". أَمَّا الدُّيُونُ الْمُرْسَلَةُ فِي الذِّمَّةِ فَيُقَدَّمُ التَّجْهِيزُ عَلَيْهَا. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: " فَإِذَا رَهَنَ شَيْئًا وَسَلَّمَهُ وَلَمْ يَتْرُكْ غَيْرَهُ، فَدَيْنُ الْمُرْتَهِنِ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّجْهِيزِ، فَإِنْ فَضَل بَعْدَهُ شَيْءٌ صُرِفَ إِلَيْهِ (3) ". وَإِنَّمَا قُدِّمَتِ الدُّيُونُ الْمُوَثَّقَةُ عَلَى التَّجْهِيزِ لِتَعَلُّقِهَا بِالْمَال قَبْل صَيْرُورَتِهِ تَرِكَةً، " وَالأَْصْل أَنَّ كُل حَقٍّ يُقَدَّمُ فِي الْحَيَاةِ يُقَدَّمُ فِي الْوَفَاةِ (4) ".
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ وَقَالُوا بِتَقْدِيمِ حَقِّ الْمَيِّتِ فِي تَجْهِيزِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ عَلَى حُقُوقِ الدَّائِنِينَ، وَلَوْ كَانَتْ دُيُونُهُمْ مُتَعَلِّقَةً بِأَعْيَانِ التَّرِكَةِ " كَمَا يُقَدَّمُ الْمُفْلِسُ بِنَفَقَتِهِ عَلَى غُرَمَائِهِ؛ وَلأَِنَّ لِبَاسَ الْمُفْلِسِ
__________
(1) رد المحتار (بولاق 1272 هـ) 5 / 483 - 484، ونهاية المحتاج 6 / 5، 7، 8، تحفة المحتاج 6 / 385، والزرقاني على خليل 8 / 203، 204
(2) نهاية المحتاج 6 / 8
(3) رد المحتار 5 / 483 (بولاق سنة 1272 هـ) .
(4) رد المحتار 5 / 484

(21/115)


مُقَدَّمٌ عَلَى قَضَاءِ دُيُونِهِ، فَكَذَلِكَ كَفَنُ الْمَيِّتِ، وَلأَِنَّ سُتْرَتَهُ وَاجِبَةٌ فِي الْحَيَاةِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ (1) ".

-
35 - وَيَنْقَسِمُ الدَّيْنُ بِاعْتِبَارِ قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أ - دَيْنُ الصِّحَّةِ: وَهُوَ الدَّيْنُ الَّذِي شُغِلَتْ بِهِ ذِمَّةُ الإِْنْسَانِ حَال صِحَّتِهِ، سَوَاءٌ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ فِيهَا أَمْ بِالْبَيِّنَةِ، وَيَلْحَقُ بِهِ فِي الْحُكْمِ الدَّيْنُ الَّذِي لَزِمَهُ وَهُوَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَكَانَ ثُبُوتُهُ بِالْبَيِّنَةِ.
ب - دَيْنُ الْمَرَضِ: وَهُوَ الدَّيْنُ الَّذِي لَزِمَ الإِْنْسَانَ بِإِقْرَارِهِ وَهُوَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَلَمْ يَكُنْ طَرِيقٌ لِثُبُوتِهِ غَيْرَ ذَلِكَ (2) .
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِوَاءِ دَيْنِ الصِّحَّةِ وَدَيْنِ الْمَرَضِ فِي الاِسْتِيفَاءِ مِنَ التَّرِكَةِ إِذَا كَانَ فِي التَّرِكَةِ سَعَةٌ لَهُمَا (3) .
36 - أَمَّا إِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ لاَ تَفِي بِكِلَيْهِمَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْدِيمِ دَيْنِ الصِّحَّةِ عَلَى دَيْنِ الْمَرَضِ فِي الاِسْتِيفَاءِ مِنَ التَّرِكَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ
__________
(1) العذب الفائض شرح عمدة الفارض 1 / 13
(2) البدائع 7 / 225، تكملة فتح القدير (ط. مصطفى محمد سنة 1356 هـ) 7 / 2، تكملة رد المحتار (مصر سنة 1330 هـ) 2 / 130.
(3) المغني (مطبعة المنار سنة 1348هـ) 5 / 343، الشرح الكبير على المقنع 5 / 275، إعانة الطالبين 3 / 194، جواهر العقود للأسيوطي (القاهرة 1955 م) 1 / 18.

(21/116)


وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالتَّمِيمِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّ دُيُونَ الصِّحَّةِ تَسْتَوِي مَعَ دُيُونِ الْمَرَضِ فِي الاِسْتِيفَاءِ مِنَ التَّرِكَةِ، وَتُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (2) . حَيْثُ لَمْ يُفَضَّل أَحَدُ الدَّيْنَيْنِ عَلَى الآْخَرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الاِسْتِيفَاءِ؛ وَلأَِنَّهُمَا حَقَّانِ يَجِبُ قَضَاؤُهُمَا مِنْ رَأْسِ الْمَال لاِسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ وَفِي مَحَلِّهِ.
- أَمَّا السَّبَبُ: فَهُوَ الإِْقْرَارُ الصَّادِرُ عَنْ عَقْلٍ وَدِينٍ، مِنْ شَأْنِ الْعَقْل وَالدِّينِ أَنْ يَمْنَعَا مَنْ قَامَا بِهِ عَنِ الْكَذِبِ فِي الإِْخْبَارِ، إِذِ الإِْقْرَارُ إِخْبَارٌ عَنِ الْوَاجِبِ فِي ذِمَّةِ الْمُقِرِّ، وَهَذَا الْمَعْنَى لاَ يَخْتَلِفُ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، بَل فِي حَالَةِ الْمَرَضِ يَزْدَادُ رُجْحَانُ جِهَةِ الصِّدْقِ؛ لأَِنَّ الْمَرَضَ سَبَبُ التَّوَرُّعِ عَنِ الْمَعَاصِي وَالإِْنَابَةِ عَمَّا جَرَى فِي الْمَاضِي لِكَوْنِهِ آخِرَ عَهْدِهِ بِالدُّنْيَا، وَأَوَّل عَهْدِهِ بِالآْخِرَةِ،
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 71، مغني المحتاج 2 / 240، الأم (بولاق 1322 هـ) 7 / 110، إعانة الطالبين 3 / 194، البجيرمي على الخطيب 3 / 136، المبسوط 18 / 26، اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى ص 63، المهذب 2 / 345، بدائع الصنائع 7 / 225، تبيين الحقائق 5 / 23، تكملة فتح القدير 7 / 3، الغرة المنيفة للغزنوي ص 108 (مطبعة السعادة بمصر 1950 م)
(2) سورة النساء / 11.

(21/116)


فَيَكُونُ خَوْفُ الْمُقِرِّ أَكْثَرَ، كَمَا يَكُونُ أَبْعَدَ عَنِ الْكَذِبِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الإِْقْرَارُ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ أَوْلَى، فَلاَ أَقَل مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا.
- وَأَمَّا الْمَحَل: فَهُوَ الذِّمَّةُ، إِذْ هِيَ مَحَل الْوُجُوبِ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَلاَ فَرْقَ.
فَلَمَّا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ وَمَحَلِّهِ لَزِمَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الاِسْتِيفَاءِ.
وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي غَيْرِ الأَْصَحِّ: هُوَ أَنَّ دُيُونَ الصِّحَّةِ وَمَا فِي حُكْمِهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَى دُيُونِ الْمَرَضِ، وَإِذَا لَمْ تَفِ التَّرِكَةُ بِدُيُونِ الصِّحَّةِ قُسِمَتْ بَيْنَ دَائِنِي الصِّحَّةِ بِالْحِصَصِ. وَكَذَلِكَ الْحَال إِذَا لَمْ تَكُنْ دُيُونُ صِحَّةٍ، وَكَانَتْ هُنَاكَ دُيُونُ مَرَضٍ، وَضَاقَتْ عَنْهَا التَّرِكَةُ، فَإِنَّهَا تُقْسَمُ بَيْنَ الدَّائِنِينَ بِالْحِصَصِ، وَمِثْل ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ مَا لَوْ وُفِّيَتْ دُيُونٌ، وَلَمْ يَفِ مَا بَقِيَ مِنَ التَّرِكَةِ بِدُيُونِ الْمَرَضِ كُلِّهَا (1) .
وَدَلِيلُهُمْ عَلَى تَقْدِيمِ دُيُونِ الصِّحَّةِ عَلَى
__________
(1) جامع الفصولين (بولاق 1300هـ) 2 / 182 وما بعدها، المبسوط 18 / 26، تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 5 / 22، البدائع 7 / 225، تكملة فتح القدير 7 / 2، المغني لابن قدامة (مطبوع مع الشرح الكبير) 5 / 343، نهاية المحتاج 2 / 240، مغني المحتاج 5 / 71، الشرح الكبير على المقنع 5 / 275، الغرة المنيفة للغزنوي ص 108، وانظر م 1602 من مجلة الأحكام العدلية وم 569 من الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية

(21/117)


دُيُونِ الْمَرَضِ أَنَّ الْحُقُوقَ إِذَا اجْتَمَعَتْ فِي مَال الْمَيِّتِ يُقَدَّمُ الأَْقْوَى، كَالدَّيْنِ يُقَدَّمُ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَالْوَصِيَّةُ تُقَدَّمُ عَلَى الْمِيرَاثِ، وَدَيْنُ الصِّحَّةِ هُنَا أَقْوَى، لأَِنَّهُ ظَهَرَ بِإِقْرَارِهِ فِي وَقْتٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَالِهِ حَقٌّ أَصْلاً، وَلَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ نَوْعُ حَجْرٍ، وَلِهَذَا صَحَّ عِتْقُهُ وَهِبَتُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَال، بِخِلاَفِ دَيْنِ الْمَرَضِ الَّذِي ثَبَتَ فِي حَالٍ تَعَلَّقَ بِأَمْوَالِهِ دَيْنُ صِحَّتِهِ، وَصَارَتْ هَذِهِ الأَْمْوَال مَحِلًّا لِلْوَفَاءِ بِهِ، وَضَمَانًا لَهُ، وَوَرَدَ عَلَيْهِ فِيهِ نَوْعُ حَجْرٍ، أَلاَ تَرَى أَنَّ تَبَرُّعَاتِهِ لاَ تَنْفُذُ إِلاَّ مِنَ الثُّلُثِ، فَكَانَ الأَْقْوَى أَوْلَى. وَسَبَبُ إِلْحَاقِ الدُّيُونِ الَّتِي لَزِمَتْهُ فِي حَال مَرَضِهِ بِالْبَيِّنَةِ بِدُيُونِ الصِّحَّةِ فِي الْحُكْمِ هُوَ انْتِفَاءُ التُّهْمَةِ فِي ثُبُوتِهَا، إِذِ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ لاَ مَرَدَّ لَهُ، فَيُقَدَّمُ عَلَى الْمُقَرِّ بِهِ فِي حَال الْمَرَضِ (1) .

37 - وَيَنْقَسِمُ الدَّيْنُ بِاعْتِبَارِ الدَّائِنِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أ - دَيْنِ اللَّهِ: وَهُوَ كُل دَيْنٍ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْعِبَادِ مَنْ يُطَالِبُ بِهِ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لَهُ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
نَوْعٌ يَظْهَرُ فِيهِ وَجْهُ الْعِبَادَةِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَا لاَ مُقَابِل لَهُ مِنَ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ، كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَفِدْيَةِ الصِّيَامِ، وَدُيُونِ النُّذُورِ،
__________
(1) قرة عيون الأخيار 2 / 130، تكملة فتح القدير 7 / 5، حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 5 / 23، المبسوط 18 / 27

(21/117)


وَالْكَفَّارَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا عِبَادَاتٌ يُؤَدِّيهَا الْمُسْلِمُ امْتِثَالاً لأَِمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقَرُّبًا إِلَيْهِ.
وَنَوْعٌ يُفْرَضُ لِتَمْكِينِ الدَّوْلَةِ مِنَ الْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِلأُْمَّةِ، وَهُوَ مَا يُقَابَل - فِي الْغَالِبِ - بِمَنْفَعَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ لِلْمُكَلَّفِ كَخُمُسِ الْغَنَائِمِ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَعْدَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَمَا يَفْرِضُهُ الإِْمَامُ عَلَى الْقَادِرِينَ مِنْ أَفْرَادِ الأُْمَّةِ لِلْوَفَاءِ بِالْمَصَالِحِ الَّتِي يَعْجِزُ بَيْتُ الْمَال عَنِ الْوَفَاءِ بِهَا. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (دَيْنُ اللَّهِ) .
ب - وَدَيْنُ الْعَبْدِ: وَهُوَ كُل دَيْنٍ لَهُ مِنَ الْعِبَادِ مَنْ يُطَالِبُ بِهِ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لَهُ كَثَمَنِ مَبِيعٍ وَأُجْرَةِ دَارٍ وَبَدَل قَرْضٍ وَإِتْلاَفٍ وَأَرْشِ جِنَايَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلِصَاحِبِ هَذَا الدَّيْنِ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ الْمَدِينَ، وَأَنْ يَرْفَعَ أَمْرَهُ إِلَى الْقَاضِي إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الأَْدَاءِ لِيُجْبِرَهُ عَلَيْهِ بِالطُّرُقِ الْمَشْرُوعَةِ. (ر: حَبْس، حَجْر) .

38 - وَيَنْقَسِمُ الدَّيْنُ بِاعْتِبَارِ السُّقُوطِ وَعَدَمِهِ إِلَى قِسْمَيْنِ: صَحِيحٍ وَغَيْرِ صَحِيحٍ (1) .
أ - فَالدَّيْنُ الصَّحِيحُ: هُوَ الدَّيْنُ الثَّابِتُ الَّذِي لاَ يَسْقُطُ إِلاَّ بِالأَْدَاءِ أَوِ الإِْبْرَاءِ كَدَيْنِ الْقَرْضِ
__________
(1) رد المحتار (بولاق 1272 هـ) 4 / 263، كشاف اصطلاحات الفنون ط كلكته 2 / 502 وما بعدها، التعريفات للجرجاني (الدار التونسية 1971 م) ص 56، وانظر م 852، 853 من مرشد الحيران

(21/118)


وَدَيْنِ الْمَهْرِ وَدَيْنِ الاِسْتِهْلاَكِ وَنَحْوِهَا.
ب - وَالدَّيْنُ غَيْرُ الصَّحِيحِ: هُوَ الدَّيْنُ الَّذِي يَسْقُطُ بِالأَْدَاءِ أَوِ الإِْبْرَاءِ وَبِغَيْرِهِمَا مِنَ الأَْسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ سُقُوطَهُ مِثْل دَيْنِ بَدَل الْكِتَابَةِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِعَجْزِ الْعَبْدِ الْمُكَاتَبِ عَنْ أَدَائِهِ.

39 - وَيَنْقَسِمُ الدَّيْنُ بِاعْتِبَارِ الشَّرِكَةِ فِيهِ إِلَى قِسْمَيْنِ: مُشْتَرَكٍ وَغَيْرِ مُشْتَرَكٍ (1) .
أ - فَالدَّيْنُ الْمُشْتَرَكُ: هُوَ مَا كَانَ سَبَبُهُ مُتَّحِدًا، سَوَاءٌ أَكَانَ ثَمَنَ مَبِيعٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، بَيْعَ صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يُذْكَرْ عِنْدَ الْبَيْعِ مِقْدَارُ ثَمَنِ حِصَّةِ كُل وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ، أَمْ دَيْنًا آيِلاً بِالإِْرْثِ إِلَى عِدَّةِ وَرَثَةٍ، أَمْ قِيمَةَ مَالٍ مُسْتَهْلَكٍ مُشْتَرَكٍ، أَمْ بَدَل قَرْضٍ مُسْتَقْرَضٍ مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ.
ب - الدَّيْنُ غَيْرُ الْمُشْتَرَكِ: هُوَ مَا كَانَ سَبَبُهُ مُخْتَلِفًا لاَ مُتَّحِدًا، كَأَنْ أَقْرَضَ اثْنَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ مَبْلَغًا لِشَخْصٍ أَوْ بَاعَاهُ مَالاً مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، وَسَمَّى حِينَ الْبَيْعِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِنَصِيبِهِ ثَمَنًا عَلَى حِدَتِهِ.
40 - وَتَبْرُزُ ثَمَرَةُ هَذَا التَّقْسِيمِ فِي الْمَسَائِل التَّالِيَةِ:
أَوَّلاً: إِذَا كَانَتِ الدُّيُونُ الْمَطْلُوبَةُ مِنَ الْمَدِينِ
__________
(1) الدر المختار مع رد المحتار (بولاق 1272 هـ) 4 / 480، درر الحكام شرح مجلة الأحكام 3 / 53، وانظر م 169، 170 من مرشد الحيران وم 1091 من المجلة العدلية، والفتاوى الهندية 2 / 336

(21/118)


غَيْرَ مُشْتَرَكَةٍ، فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْ أَرْبَابِهَا اسْتِيفَاءُ دَيْنِهِ عَلَى حِدَةٍ مِنَ الْمَدِينِ، وَمَا يَقْبِضُهُ يُحْسَبُ مِنْ دَيْنِهِ خَاصَّةً، لاَ يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الدَّائِنِينَ الأُْخَرِ (1) .
أَمَّا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ الْمَطْلُوبُ مِنَ الْمَدِينِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، فَلِكُل وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَطْلُبَ حِصَّتَهُ مِنْهُ، وَلاَ يَخْتَصَّ الْقَابِضُ مِنْهُمْ بِمَا قَبَضَهُ، بَل يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الشُّرَكَاءِ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقٌّ فِيهِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ (2) .
ثَانِيًا: إِذَا قَبَضَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ حِصَّتَهُ مِنَ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ وَأَخْرَجَهَا مِنْ يَدِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ كَهِبَةٍ وَقَضَاءِ دَيْنٍ عَلَيْهِ أَوِ اسْتَهْلَكَهَا فَلِشَرِيكِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ حِصَّتَهُ مِنْهَا.
فَلَوْ كَانَ مَبْلَغُ أَلْفِ دِينَارٍ دَيْنًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ مُنَاصَفَةً، فَقَبَضَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْمَدِينِ خَمْسَمِائَةٍ وَاسْتَهْلَكَهَا، فَلِلدَّائِنِ الآْخَرِ أَنْ يُضَمِّنَهُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ. أَمَّا الْخَمْسُمِائَةِ الأُْخْرَى فَتَبْقَى بَيْنَ الاِثْنَيْنِ مُشْتَرَكَةً (3) .
__________
(1) م 172 من مرشد الحيران، م 1099 من المجلة العدلية، والفتاوى الهندية 2 / 337، ودرر الحكام 3 / 62.
(2) الفتاوى الهندية بولاق 1310هـ 2 / 336، درر الحكام 3 / 63 وما بعدها، وانظر م 1100، 1101من المجلة العدلية وم 173 من مرشد الحيران.
(3) الفتاوى الهندية 2 / 337، درر الحكام 3 / 66، وانظر م 1102، 1103 من المجلة العدلية، م 175 من مرشد الحيران.

(21/119)


ثَالِثًا: إِذَا قَبَضَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ حِصَّتَهُ مِنَ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ، وَتَلِفَتْ فِي يَدِهِ بِدُونِ تَعَدٍّ مِنْهُ وَلاَ تَقْصِيرٍ، فَلاَ يَضْمَنُ حِصَّةَ شَرِيكِهِ فِي الْمَقْبُوضِ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ مُسْتَوْفِيًا حِصَّةَ نَفْسِهِ، وَمَا بَقِيَ مِنَ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ فَيَكُونُ حَقًّا لِلشَّرِيكِ الآْخَرِ (1) .
رَابِعًا: إِذَا أَخَذَ أَحَدُ الدَّائِنَيْنِ - دَيْنًا مُشْتَرَكًا - كَفِيلاً بِحِصَّتِهِ مِنَ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ، أَوْ أَحَالَهُ الْمَدِينُ عَلَى آخَرَ، فَلِشَرِيكِهِ الآْخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْمَبْلَغِ الَّذِي يَأْخُذُهُ مِنَ الْكَفِيل أَوِ الْمُحَال عَلَيْهِ (2) .

41 - وَيَنْقَسِمُ الدَّيْنُ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ أَدَائِهِ إِلَى قِسْمَيْنِ: حَالٍّ وَمُؤَجَّلٍ (3) .
أ - فَالدَّيْنُ الْحَال: هُوَ مَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ عِنْدَ طَلَبِ الدَّائِنِ، فَتَجُوزُ الْمُطَالَبَةُ بِأَدَائِهِ عَلَى الْفَوْرِ، وَالْمُخَاصَمَةُ فِيهِ بِاتِّفَاقٍ. وَيُقَال لَهُ " الدَّيْنُ الْمُعَجَّل " أَيْضًا.
ب - وَالدَّيْنُ الْمُؤَجَّل: هُوَ مَا لاَ يَجِبُ أَدَاؤُهُ قَبْل حُلُول الأَْجَل. لَكِنْ لَوْ أُدِّيَ قَبْلَهُ يَصِحُّ، وَيَسْقُطُ عَنْ ذِمَّةِ الْمَدِينِ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 337، درر الحكام 3 / 73، وانظر م 1106 من المجلة العدلية وم 176 من مرشد الحيران
(2) الفتاوى الهندية 2 / 340، درر الحكام 3 / 75، وانظر م 1109 من المجلة العدلية وم 181 من مرشد الحيران
(3) كشاف اصطلاحات الفنون ط كلكته 2 / 502

(21/119)


وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَجْدُرُ الإِْشَارَةُ إِلَى أَنَّ مِنَ الدُّيُونِ مَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ حَالًّا، بِحَيْثُ لاَ يَصِحُّ تَأْجِيلُهُ، فَإِنْ تَأَجَّل فَسَدَ الْعَقْدُ. مِثْل رَأْسِ مَال السَّلَمِ (ر: السَّلَمُ) وَالْبَدَلَيْنِ فِي الصَّرْفِ (ر: الصَّرْفُ) بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَرَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (ر: مُضَارَبَة) وَالأُْجْرَةِ فِي إِجَارَةِ الذِّمَّةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (ر: إِجَارَة) وَمُصْطَلَحَ: (أَجَل) .

تَوْثِيقُ الدَّيْنِ:
مَعْنَى تَوْثِيقِ الدَّيْنِ:
42 - التَّوْثِيقُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ الإِْحْكَامُ. وَمِنْ هُنَا سُمِّيَ الْعَهْدُ مِيثَاقًا وَمَوْثِقًا لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْحْكَامِ وَالثُّبُوتِ (1) .
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ:
فَذَكَرَ إِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ فِي كِتَابِهِ: " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " أَنَّ الْوَثِيقَةَ هِيَ " مَا يَزْدَادُ بِهَا الدَّيْنُ وَكَادَةً (2) ".
وَبِتَتَبُّعِ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِمُصْطَلَحِ: " تَوْثِيقُ الدَّيْنِ " نَجِدُ أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَهُ عَلَى أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَقْوِيَةُ وَتَأْكِيدُ حَقِّ الدَّائِنِ فِيمَا يَكُونُ
__________
(1) لسان العرب، معجم مقاييس اللغة، المصباح المنير م: (وثق) والمطلع للبعلي ص 247
(2) أحكام القرآن لإلكيا الهراسي (ط. دار الكتب الحديثة بمصر) 1 / 421.

(21/120)


لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ مِنْ مَالٍ بِشَيْءٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ - كَالْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ - لِمَنْعِ الْمَدِينِ مِنَ الإِْنْكَارِ، وَتَذْكِيرِهِ عِنْدَ النِّسْيَانِ؛ وَلِلْحَيْلُولَةِ دُونَ ادِّعَائِهِ أَقَل مِنَ الدَّيْنِ، أَوِ ادِّعَاءِ الدَّائِنِ أَكْثَرَ مِنْهُ، أَوْ حُلُولِهِ أَوِ انْقِضَاءِ الأَْجَل وَنَحْوِ ذَلِكَ، بِحَيْثُ إِذَا حَصَل نِزَاعٌ أَوْ خِلاَفٌ بَيْنَ الْمُتَدَايِنَيْنِ، فَيُعْتَبَرُ هَذَا التَّوْثِيقُ وَسِيلَةً يُحْتَجُّ بِهَا لإِِثْبَاتِ الدَّيْنِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ أَمَامَ الْقَضَاءِ.
وَالأَْمْرُ الثَّانِي: تَثْبِيتُ حَقِّ الدَّائِنِ فِيمَا يَكُونُ لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ مِنْ مَالٍ وَإِحْكَامُهُ، بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ عِنْدَ امْتِنَاعِ الْمَدِينِ عَنِ الْوَفَاءِ - لأَِيِّ سَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ - مِنِ اسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنْ شَخْصٍ ثَالِثٍ يَكْفُل الْمَدِينَ بِمَالِهِ، أَوْ مِنْ عَيْنٍ مَالِيَّةٍ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الدَّائِنِ وَتَكُونُ رَهِينَةً بِدَيْنِهِ.

طُرُقُ تَوْثِيقِ الدَّيْنِ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ طُرُقَ تَوْثِيقِ الدَّيْنِ أَرْبَعَةٌ:

أ - تَوْثِيقُ الدَّيْنِ بِالْكِتَابَةِ:
43 - دَلَّتْ آيَةُ الدَّيْنِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ. . .} (1) إِلَى آخِرِ الآْيَةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ
__________
(1) سورة البقرة / 282.

(21/120)


تَوْثِيقِ الدَّيْنِ بِالْكِتَابَةِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ الْمُعْرِبَةِ عَنْهُ الْمُعَرِّفَةِ لِلْحَاكِمِ بِمَا يَحْكُمُ عِنْدَ التَّرَافُعِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي صَكٍّ مُوَضِّحٍ لِلدَّيْنِ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ (1) .
غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي حُجِّيَّةِ الْكِتَابَةِ فِي تَوْثِيقِ الدَّيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أ - فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى صِحَّةِ تَوْثِيقِ الدَّيْنِ بِالْكِتَابَةِ، وَأَنَّهَا بَيِّنَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي الإِْثْبَاتِ إِذَا كَانَتْ صَحِيحَةَ النِّسْبَةِ إِلَى كَاتِبِهَا (2) .
ب - وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُعْتَمَدُ عَلَى الْخَطِّ الْمُجَرَّدِ إِذَا لَمْ يُشْهَدْ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْخُطُوطَ تَشْتَبِهُ وَالتَّزْوِيرَ فِيهَا مُمْكِنٌ، وَقَدْ تُكْتَبُ لِلتَّجْرِبَةِ أَوِ اللَّهْوِ. . وَمَعَ قِيَامِ هَذِهِ الاِحْتِمَالاَتِ وَالشُّبُهَاتِ لاَ يَبْقَى لِلْخَطِّ الْمُجَرَّدِ حُجِّيَّةٌ، وَلاَ يَصْلُحُ لِلاِعْتِمَادِ عَلَيْهِ وَحْدَهُ. أَمَّا إِذَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ فَيُعْتَبَرُ
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 248
(2) شرح أدب القاضي للجصاص ص 254، مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية ص 601، تبصرة الحكام لابن فرحون (بهامش فتاوى عليش) 1 / 363، كشاف القناع 4 / 373، ظفر اللاضي فيما يجب في القضاء على القاضي لصديق حسن خان (لاهور) ص 130، 131، الطرق الحكمية ص 205، كشف الأسرار 3 / 52، 53، معين الحكام ص 125، فتح العلي المالك لعليش 2 / 311، درر الحكام شرح مجلة الأحكام 4 / 137

(21/121)


وَثِيقَةً وَحُجَّةً؛ لأَِنَّ الشَّهَادَةَ تَرْفَعُ الشَّكَّ وَتُزِيل الاِحْتِمَال (1) .
وَمِنْ أَهَمِّ صُوَرِ التَّوْثِيقِ بِالْكِتَابَةِ:
44 - أَوَّلاً: إِذَا أَمَرَ شَخْصٌ آخَرَ بِأَنْ يَكْتُبَ إِقْرَارَهُ، فَيَكُونَ هَذَا الأَْمْرُ إِقْرَارًا حُكْمًا. جَاءَ فِي " الدُّرِّ الْمُخْتَارِ ": " الأَْمْرُ بِكِتَابَةِ الإِْقْرَارِ إِقْرَارٌ حُكْمًا (2) ، فَإِنَّهُ كَمَا يَكُونُ بِاللِّسَانِ يَكُونُ بِالْبَنَانِ، فَلَوْ قَال لِلصَّكَّاكِ: اكْتُبْ خَطَّ إِقْرَارِي بِأَلْفٍ عَلَيَّ، أَوِ اكْتُبْ بَيْعَ دَارِي، أَوْ طَلاَقَ امْرَأَتِي صَحَّ (3) ".
45 - ثَانِيًا: إِنَّ قُيُودَ التُّجَّارِ - كَالصَّرَّافِ وَالْبَيَّاعِ وَالسِّمْسَارِ - الَّتِي تَكُونُ فِي دَفَاتِرِهِمُ الْمُعْتَدِّ بِهَا، وَتُبَيِّنُ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ دُيُونٍ تُعْتَبَرُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ فِي شَكْل صَكٍّ أَوْ سَنَدٍ رَسْمِيٍّ، وَذَلِكَ
__________
(1) طرح التثريب 6 / 191، الأبي على صحيح مسلم 4 / 338، أدب القاضي للماوردي 2 / 98، أصول السرخسي 1 / 358، كشف الأسرار للبخاري 3 / 52، المهذب 2 / 305، رد المحتار (بولاق 1272 هـ) 4 / 352، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 217، معين الحكام للطرابلسي (ط. الحلبي) ص 125، الطرق الحكمية (ط. السنة المحمدية) ص 204 وما بعدها، مرقاة المفاتيح للملا علي القاري 3 / 397، الإشراف للقاضي عبد الوهاب 2 / 280، كشاف القناع 4 / 373، شرح منتهى الإرادات 2 / 539
(2) قرة عيون الأخيار (الميمنية 1321 هـ) 2 / 97، الفتاوى الهندية (بولاق 1310 هـ) 4 / 167، درر الحكام 4 / 138، وانظر م 1607 من المجلة العدلية
(3) رد المحتار (بولاق 1272 هـ) 4 / 455

(21/121)


لأَِنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ أَنَّ التَّاجِرَ يَكْتُبُ دَيْنَهُ وَمَطْلُوبَهُ فِي دَفْتَرِهِ صِيَانَةً لَهُ مِنْ النِّسْيَانِ، وَلاَ يَكْتُبُهُ لِلَّهْوِ وَاللَّعِبِ. أَمَّا مَا يُكْتَبُ فِيهَا مِنْ دُيُونٍ لَهُمْ عَلَى النَّاسِ فَلاَ يُعْتَبَرُ وَثِيقَةً وَحُجَّةً، وَيَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِهَا إِلَى وَجْهٍ آخَرَ (1) .
46 - ثَالِثًا: السَّنَدَاتُ وَالْوُصُولاَتُ الرَّسْمِيَّةُ تُعْتَبَرُ حُجَجًا مُعْتَمَدَةً فِي تَوْثِيقِ الدَّيْنِ وَإِثْبَاتِهِ (2) .
جَاءَ فِي فَتَاوَى قَارِئِ الْهِدَايَةِ: " إِذَا كَتَبَ عَلَى وَجْهِ الصُّكُوكِ يَلْزَمُهُ الْمَال، وَهُوَ أَنْ يَكْتُبَ: يَقُول فُلاَنٌ الْفُلاَنِيُّ إِنَّ فِي ذِمَّتِي لِفُلاَنٍ الْفُلاَنِيِّ كَذَا وَكَذَا، فَهُوَ إِقْرَارٌ يَلْزَمُ (3) ".
47 - رَابِعًا: إِذَا أَنْكَرَ مَنْ كَتَبَ أَوِ اسْتَكْتَبَ سَنَدًا رَسْمِيًّا مَمْضِيًّا بِإِمْضَائِهِ أَوْ مَخْتُومًا بِخَتْمِهِ الدَّيْنَ الَّذِي يَحْتَوِيهِ ذَلِكَ السَّنَدُ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِخَطِّهِ وَخَتْمِهِ، فَلاَ يُعْتَبَرُ إِنْكَارُهُ، وَيَلْزَمُهُ أَدَاءُ ذَلِكَ الدَّيْنِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى إِثْبَاتٍ بِوَجْهٍ آخَرَ (4) .
__________
(1) فتح العلي المالك 2 / 311، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 218، نشر العرف لابن عابدين (ضمن رسائل ابن عابدين - استانبول) 2 / 144، معين الحكام ص 126، قرة عيون الأخيار 1 / 60، 2 / 97، الفتاوى الهندية 4 / 167، درر الحكام 4 / 138، وانظر م 1608 من المجلة العدلية، رد المحتار 4 / 353 وما بعدها
(2) رد المحتار 4 / 354، درر الحكام 4 / 139، 140، وانظر م 1609 من المجلة العدلية
(3) رد المحتار 4 / 354
(4) قرة عيون الأخيار 1 / 59، رد المحتار 4 / 354، 374، درر الحكام 4 / 141، وانظر م 1610 من المجلة العدلية

(21/122)


أَمَّا إِذَا أَنْكَرَ خَطَّ السَّنَدِ الَّذِي أَعْطَاهُ مَرْسُومًا أَيْضًا وَقَال: إِنَّهُ لَيْسَ خَطِّي، فَيُنْظَرُ: -
فَإِنْ كَانَ خَطُّهُ مَشْهُورًا وَمُتَعَارَفًا بَيْنَ الْجَارِ وَأَهْل الْبَلَدِ وَثَبَتَ أَنَّهُ خَطُّهُ، فَلاَ يُعْتَبَرُ إِنْكَارُهُ، وَيُعْمَل بِذَلِكَ السَّنَدِ بِدُونِ حَاجَةٍ لإِِثْبَاتِ مَضْمُونِهِ (1) .
- أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ خَطُّهُ مَشْهُورًا وَمُتَعَارَفًا فَيُسْتَكْتَبُ، وَيُعْرَضُ خَطُّهُ عَلَى الْخُبَرَاءِ، فَإِذَا أَفَادُوا أَنَّ الْخَطَّيْنِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، فَيُؤْمَرُ ذَلِكَ الشَّخْصُ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ الْمَذْكُورِ، وَإِلاَّ فَلاَ (2) .
48 - خَامِسًا: إِذَا أَعْطَى شَخْصٌ لآِخَرَ سَنَدًا رَسْمِيًّا يُفِيدُ أَنَّهُ مَدِينٌ لَهُ بِمَبْلَغٍ مِنَ الْمَال، ثُمَّ تُوُفِّيَ، فَيُلْزَمُ وَرَثَتُهُ بِإِيفَائِهِ مِنَ التَّرِكَةِ إِذَا اعْتَرَفُوا بِكَوْنِ السَّنَدِ لِلْمُتَوَفَّى وَلَوْ أَنْكَرُوا الدَّيْنَ.
أَمَّا إِذَا أَنْكَرُوا السَّنَدَ فَيُنْظَرُ: إِنْ كَانَ خَطُّ الْمُتَوَفَّى وَخَتْمُهُ مَشْهُورًا وَمُتَعَارَفًا، وَثَبَتَ أَنَّ الْخَطَّ خَطُّهُ وَالْخَتْمَ خَتْمُهُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَدَاءُ الدَّيْنِ مِنَ التَّرِكَةِ، وَلاَ عِبْرَةَ لإِِنْكَارِهِمْ، وَإِنْ كَانَ خِلاَفَ ذَلِكَ فَلاَ يُعْمَل بِالسَّنَدِ لِوُجُودِ شُبْهَةِ التَّزْوِيرِ فِيهِ (3) .
__________
(1) رد المحتار 4 / 354
(2) قرة عيون الأخيار 2 / 97، 98، درر الحكام 4 / 141، 142، معين الحكام للطرابلسي ص 125، تبصرة الحكام لابن فرحون (بهامش فتاوى عليش) ، 1 / 363، وانظر م 1610 من المجلة العدلية
(3) رد المحتار 4 / 354، درر الحكام 4 / 142، وانظر م 1611 من المجلة العدلية. ترى اللجنة أنه قد وجدت في هذا العصر وسائل يثبت بها من الخطوط - المزور منها وغير المزور - فينبغي النظر إليها بعين الاعتبار؛ لأنها تكاد تكون يقينية

(21/122)


49 - سَادِسًا: إِذَا وَجَدَ الْوَارِثُ خَطًّا لِمُوَرِّثِهِ يُفِيدُ أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا قَدْرُهُ كَذَا وَكَذَا لِفُلاَنٍ، فَيَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ الْعَمَل بِخَطِّ مُوَرِّثِهِ وَدَفْعُ الدَّيْنِ إِلَى مَنْ هُوَ مَكْتُوبٌ بِاسْمِهِ مِنَ التَّرِكَةِ (1) .
حُكْمُ التَّوْثِيقِ بِالْكِتَابَةِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَوْثِيقِ الدَّيْنِ بِالْكِتَابَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
50 - أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ أَنَّ كِتَابَةَ الدَّيْنِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً (2) .
إِذِ الأَْمْرُ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاكْتُبُوهُ} لِلإِْرْشَادِ لِمَنْ يَخْشَى ضَيَاعَ دَيْنِهِ بِالنِّسْيَانِ أَوِ الإِْنْكَارِ، حَيْثُ لاَ يَكُونُ الْمَدِينُ مَوْضِعَ ثِقَةٍ كَامِلَةٍ مِنْ دَائِنِهِ، يَدُل عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (3) وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ الْكِتَابَةَ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ إِذَا تَوَافَرَتِ الأَْمَانَةُ وَالثِّقَةُ بَيْنَ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 457، رد المحتار 4 / 354، مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية ص 417، الإفصاح لابن هبيرة (ط. الرياض) 2 / 27، كشاف القناع 4 / 203
(2) أحكام القرآن للجصاص (استانبول) 1 / 482، أحكام القرآن للشافعي 1 / 137، الأم (دار المعرفة 1393 هـ) 3 / 89 وما بعدها، المغني لابن قدامة 4 / 362، جامع البيان للطبري 3 / 77، تفسير القرطبي 3 / 383
(3) سورة البقرة / 283

(21/123)


الْمُتَعَامِلِينَ، وَقَدْ دَرَجَ النَّاسُ مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا عَلَى عَدَمِ كِتَابَةِ الدُّيُونِ مَا دَامَتِ الثِّقَةُ قَائِمَةً بَيْنَ الْمُتَدَايِنَيْنِ، وَلَمْ يُنْقَل عَنْ فُقَهَائِهِمْ نَكِيرٌ مَعَ اشْتِهَارِ ذَلِكَ.
51 - وَالثَّانِي: لاِبْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَبَعْضِ السَّلَفِ: وَهُوَ أَنَّ كِتَابَةَ الدَّيْنِ وَاجِبَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاكْتُبُوهُ} إِذِ الأَْصْل فِي الأَْمْرِ إِفَادَةُ الْوُجُوبِ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ دَلاَلَةَ هَذَا الأَْمْرِ عَلَى الْوُجُوبِ اهْتِمَامُ الآْيَةِ بِبَيَانِ مَنْ لَهُ حَقُّ الإِْمْلاَءِ وَصِفَةِ الْكَاتِبِ، وَحَثِّهِ عَلَى الاِسْتِجَابَةِ إِذَا طُلِبَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَالْحَثِّ عَلَى كِتَابَةِ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ، ثُمَّ التَّعْبِيرِ عَنْ عَدَمِ وُجُوبِ الْكِتَابَةِ فِي الْمُبَادَلاَتِ النَّاجِزَةِ بِنَفْيِ الْجُنَاحِ، حَيْثُ إِنَّهُ يُشْعِرُ بِلَوْمِ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَةَ عِنْدَ تَعَامُلِهِ بِالدَّيْنِ (1) .

ب - تَوْثِيقُ الدَّيْنِ بِالشَّهَادَةِ:
52 - دَل قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ. . .} (2) إِلَى آخِرِ الآْيَةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَوْثِيقِ الدَّيْنِ بِالشَّهَادَةِ وَأَنَّهَا وَثِيقَةٌ وَاحْتِيَاطٌ لِلدَّائِنِ؛ لأَِنَّ اسْتِشْهَادَ الشُّهُودِ أَنْفَى لِلرَّيْبِ وَأَبْقَى لِلْحَقِّ وَأَدْعَى إِلَى رَفْعِ
__________
(1) المحلى لابن حزم 8 / 80، تفسير الطبري (بولاق) 3 / 77، 79، تفسير القرطبي (دار الكتب) 3 / 383.
(2) سورة البقرة / 282

(21/123)


التَّنَازُعِ وَالاِخْتِلاَفِ، وَفِي ذَلِكَ صَلاَحُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَعًا.
وَبَيَّنَتِ الآْيَةُ أَنَّ نِصَابَ الشَّهَادَةِ عَلَى الدَّيْنِ هُوَ: إِمَّا رَجُلاَنِ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ يُرْتَضَى مِنَ الْعُدُول الثِّقَاتِ، فَإِذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ كَانَ وَثِيقَةً مُعْتَبَرَةً وَحُجَّةً شَرْعِيَّةً فِي إِثْبَاتِ الدَّيْنِ، وَبَيِّنَةً قَوِيَّةً يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا الْقَاضِي فِي الْحُكْمِ بِهِ لِطَالِبِهِ.

حُكْمُ التَّوْثِيقِ بِالشَّهَادَةِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَوْثِيقِ الدَّيْنِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
53 - أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّ الإِْشْهَادَ عَلَى الدَّيْنِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ، وَقَال إِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ: " وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الأَْمْنَ لاَ يَقَعُ إِلاَّ بِحَسَبِ الظَّنِّ وَالتَّوَهُّمِ لاَ عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ، وَذَلِكَ يَدُل عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا أَمَرَ بِهَا لِطُمَأْنِينَةِ قَلْبِهِ لاَ لِحَقِّ الشَّرْعِ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِحَقِّ الشَّرْعِ لَمَا قَال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} وَلاَ ثِقَةَ بِأَمْنِ الْعِبَادِ، إِنَّمَا الاِعْتِمَادُ عَلَى مَا يَرَاهُ الشَّرْعُ
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 262، أحكام القرآن للجصاص 1 / 482، أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 1 / 365

(21/124)


مَصْلَحَةً، فَالشَّهَادَةُ مَتَى شُرِعَتْ فِي النِّكَاحِ لَمْ تَسْقُطْ بِتَرَاضِيهِمَا وَأَمْنِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَدَل ذَلِكَ أَنَّ الشَّهَادَةَ (فِي غَيْرِ النِّكَاحِ) شُرِعَتْ لِلطُّمَأْنِينَةِ؛ وَلأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَل لِتَوْثِيقِ الدُّيُونِ طُرُقًا مِنْهَا: الْكِتَابُ، وَمِنْهَا الرَّهْنُ، وَمِنْهَا الإِْشْهَادُ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الأَْمْصَارِ أَنَّ الرَّهْنَ مَشْرُوعٌ بِطَرِيقِ النَّدْبِ لاَ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ، فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ مِثْلُهُ فِي الإِْشْهَادِ (1) ".
54 - وَالثَّانِي: لِبَعْضِ السَّلَفِ: وَهُوَ أَنَّ الإِْشْهَادَ عَلَى الدَّيْنِ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الدَّيْنِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} . الآْيَةَ (2)

ج - تَوْثِيقُ الدَّيْنِ بِالرَّهْنِ:
55 - الْمُرَادُ بِالرَّهْنِ " الْمَال الَّذِي يُجْعَل وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْ ثَمَنِهِ إِنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ (3) . . ". وَبِهَذِهِ الْوَثِيقَةِ يَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِالرَّهْنِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، فَإِذَا كَانَ عَلَى الرَّاهِنِ دُيُونٌ أُخْرَى لاَ تَفِي بِهَا أَمْوَالُهُ، وَبِيعَ الرَّهْنُ لِسَدَادِ مَا عَلَيْهِ، كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ
__________
(1) أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 1 / 365
(2) المحلى 8 / 80، أحكام القرآن للجصاص 1 / 481، 482.
(3) المغني 4 / 361، وانظر رد المحتار 5 / 307، شرح منتهى الإرادات 2 / 228.

(21/124)


مِنْ ثَمَنِهِ أَوَّلاً، فَإِذَا بَقِيَ شَيْءٌ فَهُوَ لِسَائِرِ الْغُرَمَاءِ (1) .

حُكْمُ التَّوْثِيقِ بِالرَّهْنِ:
56 - ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَوْثِيقَ الدَّيْنِ بِالرَّهْنِ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَأَنَّ الأَْمْرَ بِهِ فِي الآْيَةِ لِلإِْرْشَادِ (2) . قَال ابْنُ قُدَامَةَ: " وَالرَّهْنُ غَيْرُ وَاجِبٍ، لاَ نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا؛ لأَِنَّهُ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ، فَلَمْ يَجِبْ كَالضَّمَانِ وَالْكِتَابَةِ، وَقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (3) إِرْشَادٌ لَنَا لاَ إِيجَابٌ عَلَيْنَا، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (4) ؛ وَلأَِنَّهُ أَمَرَ بِهِ عِنْدَ إِعْوَازِ الْكِتَابَةِ، وَالْكِتَابَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَكَذَا بَدَلُهَا (5) ".

د - تَوْثِيقُ الدَّيْنِ بِالْكَفَالَةِ:
57 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِيقَةِ كَفَالَةِ الدَّيْنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
1 - فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا " ضَمُّ ذِمَّةِ
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 1 / 523
(2) أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 1 / 365، أحكام القرآن للجصاص 1 / 482، البرهان للزركشي 3 / 39، الأم (ط. دار المعرفة) 3 / 138، المحلى 8 / 80، كشاف القناع 3 / 307 (ط. مكة) .
(3) سورة البقرة / 283
(4) سورة البقرة / 283
(5) المغني 4 / 362

(21/125)


الْكَفِيل إِلَى ذِمَّةِ الْمَكْفُول فِي الاِلْتِزَامِ بِالدَّيْنِ، فَيَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِمَا جَمِيعًا، وَلِصَاحِبِ الْحَقِّ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا (1) ". وَشَغْل الدَّيْنِ الْوَاحِدِ ذِمَّتَيْنِ عَلَى سَبِيل التَّعَلُّقِ وَالاِسْتِيثَاقِ، كَتَعَلُّقِ دَيْنِ الرَّهْنِ بِهِ وَبِذِمَّةِ الرَّاهِنِ (2) ، وَأَنَّهُ كَفَرْضِ الْكِفَايَةِ، يَتَعَلَّقُ بِالْكُل وَيَسْقُطُ بِفِعْل الْبَعْضِ. وَتَعَلُّقُهُ هَذَا لاَ يَعْنِي تَعَدُّدَهُ؛ لأَِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ. . وَمَا التَّعَدُّدُ إِلاَّ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ تَعَلَّقَ بِهِمْ فَقَطْ (3) . وَعَلَى هَذَا فَلاَ زِيَادَةَ فِي الدَّيْنِ؛ لأَِنَّ الاِسْتِيفَاءَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (4) .
2 - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا " ضَمُّ ذِمَّةِ الْكَفِيل إِلَى ذِمَّةِ الْمَكْفُول فِي الاِلْتِزَامِ بِالدَّيْنِ " إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَيْسَ لِلْمَكْفُول لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيل بِالدَّيْنِ إِلاَّ إِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الاِسْتِيفَاءُ مِنَ الأَْصِيل؛ لأَِنَّ الضَّمَانَ وَثِيقَةٌ، فَلاَ يُسْتَوْفَى الْحَقُّ مِنْهَا إِلاَّ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِيفَائِهِ مِنَ الْمَدِينِ، كَالرَّهْنِ (5) .
__________
(1) الأم 3 / 229، المهذب 1 / 348، نهاية المحتاج 4 / 443، كشاف القناع 3 / 350 وما بعدها، الشرح الكبير على المقنع 5 / 70، شرح منتهى الإرادات 2 / 245، المغني 4 / 590
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 246
(3) نهاية المحتاج 4 / 444
(4) تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 146
(5) الخرشي على خليل وحاشية العدوي عليه 6 / 21، 28، القوانين الفقهية ص 354، الزرقاني على خليل 6 / 22، 29، منح الجليل 3 / 243، 258

(21/125)


3 - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا ضَمُّ ذِمَّةِ الْكَفِيل إِلَى ذِمَّةِ الأَْصِيل فِي وُجُوبِ الأَْدَاءِ، لاَ فِي وُجُوبِ الدَّيْنِ؛ لأَِنَّ ثُبُوتَ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ اعْتِبَارٌ شَرْعِيٌّ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ، وَلاَ دَلِيل عَلَى ثُبُوتِهِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيل؛ لأَِنَّ التَّوْثِيقَ يَحْصُل بِالْمُشَارَكَةِ فِي وُجُوبِ الأَْدَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى إِيجَابِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ، كَالْوَكِيل بِالشِّرَاءِ يُطَالِبُ بِالثَّمَنِ، وَالثَّمَنُ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّل وَحْدَهُ، وَعَلَى هَذَا عَرَّفُوهَا بِأَنَّهَا " ضَمُّ ذِمَّةِ الْكَفِيل إِلَى ذِمَّةِ الأَْصِيل فِي الْمُطَالَبَةِ (1) ".
4 - وَذَهَبَ ابْنُ أَبِي يَعْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ يَنْتَقِل بِالْكَفَالَةِ إِلَى ذِمَّةِ الْكَفِيل - كَمَا فِي الْحَوَالَةِ - فَلاَ يَكُونُ لِلدَّائِنِ أَنْ يُطَالِبَ الأَْصِيل (2) .
وَعَلَى أَيَّةِ حَالٍ، فَسَوَاءٌ أَكَانَتْ كَفَالَةُ الدَّيْنِ مَعْنَاهَا ضَمُّ ذِمَّةِ الْكَفِيل إِلَى ذِمَّةِ الْمَكْفُول فِي الاِلْتِزَامِ بِالدَّيْنِ، أَمْ فِي الْمُطَالَبَةِ فَقَطْ، أَمِ انْتِقَال الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةِ الْمَكْفُول إِلَى ذِمَّةِ الْكَفِيل فَإِنَّهَا تَقْتَضِي بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ الْتِزَامَ الْكَفِيل بِأَدَاءِ الدَّيْنِ إِلَى الدَّائِنِ إِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الأَْصِيل، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى التَّوْثِيقِ وَفَائِدَتُهُ وَثَمَرَتُهُ.
__________
(1) رد المحتار 4 / 249، تبيين الحقائق 4 / 146، تعريفات الجرجاني (ط. تونس) ، وانظر 839 من مرشد الحيران، وم 612 من مجلة الأحكام العدلية
(2) المحلى 8 / 111، الشرح الكبير على المقنع 5 / 71.

(21/126)


التَّصَرُّفُ فِي الدَّيْنِ:
التَّصَرُّفُ فِي الدَّيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الدَّائِنِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَدِينِ.

تَصَرُّفُ الدَّائِنِ:
يَنْحَصِرُ تَصَرُّفُ الدَّائِنِ فِي دَيْنِهِ بِتَمْلِيكِهِ لِلْمَدِينِ أَوْ لِغَيْرِهِ بِإِحْدَى طَرَائِقِ التَّمْلِيكِ الْمَشْرُوعَةِ، سَوَاءٌ بِعِوَضٍ أَمْ بِغَيْرِ عِوَضٍ.

الْحَالَةُ الأُْولَى: (تَمْلِيكُ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ) :
يَخْتَلِفُ حُكْمُ تَمْلِيكِ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ بِحَسَبِ حَال الدَّيْنِ وَمَدَى اسْتِقْرَارِ مِلْكِ الدَّائِنِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الدُّيُونَ نَوْعَانِ:
58 - (النَّوْعُ الأَْوَّل) مَا يَكُونُ الْمِلْكُ عَلَيْهِ مُسْتَقِرًّا: كَغَرَامَةِ الْمُتْلَفِ، وَبَدَل الْقَرْضِ، وَقِيمَةِ الْمَغْصُوبِ، وَعِوَضِ الْخُلْعِ، وَثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَالأُْجْرَةِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَالْمَهْرِ بَعْدَ الدُّخُول، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الدُّيُونِ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ تَمْلِيكِهِ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ (1) .
__________
(1) المجموع شرح المهذب 9 / 274، فتح العزيز 8 / 434 وما بعدها، المهذب 1 / 269، 270، نهاية المحتاج 4 / 88، أسنى المطالب 2 / 84، الأشباه والنظائر للسيوطي ص 331، رد المحتار 4 / 166، 244، تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 82، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 358، المغني لابن قدامة 4 / 134، شرح منتهى الإرادات 2 / 222، كشاف القناع 3 / 293، المبدع شرح المقنع 4 / 198، بدائع الصنائع (مطبعة الإمام) 7 / 3103، وانظر م 424 من مرشد الحيران.

(21/126)


غَيْرَ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ اسْتَثْنَوْا مِنْ قَاعِدَةِ جَوَازِ تَمْلِيكِ الدَّيْنِ لِمَنْ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ بَدَل الصَّرْفِ وَرَأْسِ مَال السَّلَمِ، فَلَمْ يُجِيزُوا التَّصَرُّفَ فِي أَيٍّ مِنْهُمَا قَبْل قَبْضِهِ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ تَفْوِيتًا لِشَرْطِ الصِّحَّةِ، وَهُوَ الْقَبْضُ فِي بَدَلَيِ الصَّرْفِ وَرَأْسِ مَال السَّلَمِ قَبْل الاِفْتِرَاقِ (1) .
كَمَا اشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِصِحَّةِ تَمْلِيكِ الدَّيْنِ لِمَنْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْلُوَ الْعَقْدُ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ، فَلَوْ بَاعَ الدَّائِنُ دَيْنَهُ مِنَ الْمَدِينِ بِمَا لاَ يُبَاعُ بِهِ نَسِيئَةً كَذَهَبٍ بِفِضَّةٍ أَوْ حِنْطَةٍ بِشَعِيرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ، فَلاَ يَصِحُّ ذَلِكَ إِلاَّ إِذَا قَبَضَ الدَّائِنُ الْعِوَضَ قَبْل التَّفَرُّقِ مِنَ الْمَجْلِسِ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كُنْتُ أَبِيعُ الإِْبِل بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، آخُذُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، وَأُعْطِي هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، فَأَتَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَال: لاَ بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا مَا لَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا
__________
(1) تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 4 / 82، 118، 136، رد المحتار 4 / 166، 209، 244، بدائع الصنائع 7 / 3102 وما بعدها، 7 / 3188، أسنى المطالب 2 / 85، القواعد لابن رجب ص 82، وانظر م 559 من مرشد الحيران

(21/127)


شَيْءٌ (1) . فَقَدْ شَرَطَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَبْضَ قَبْل التَّفَرُّقِ (2) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا قَبَضَ الدَّائِنُ الْعِوَضَ فِي الْمَجْلِسِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُ الدَّيْنِ وَتَمْلِيكُهُ لاِنْتِفَاءِ الْمَانِعِ، إِذْ يَصْدُقُ عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّهُ تَقَابُضٌ، لِوُجُودِ الْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ فِي الْعِوَضِ الْمَدْفُوعِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ، وَالْحُكْمِيِّ فِيمَا فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ؛ لأَِنَّهُ كَأَنَّهُ قَبَضَهُ مِنْهُ وَرَدَّهُ إِلَيْهِ (3) .
وَكَذَلِكَ اشْتَرَطَ جَمْعٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ انْتِفَاءَ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ لِصِحَّةِ تَمْلِيكِ الدَّيْنِ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ، حَيْثُ نَقَل أَحْمَدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ رُشْدٍ وَالسُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُمْ إِجْمَاعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ غَيْرُ جَائِزٍ (4) .
وَعَلَى ذَلِكَ:
أ - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ صَرْفِ مَا فِي الذِّمَّةِ. فَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ فِي ذِمَّةِ رَجُلٍ
__________
(1) حديث ابن عمر: " كنت أبيع الإبل بالبقيع. . . " أخرجه أبو داود (3 / 650 - 651 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، ونقل البيهقي عن شعبة أنه حكم عليه بالوقف، كذا في التلخيص الحبير (3 / 26 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) نهاية المحتاج 4 / 88، الأشباه والنظائر للسيوطي ص 331، شرح منتهى الإرادات 2 / 222، المغني لابن قدامة 4 / 54، 134، المبدع 4 / 198، الشرح الكبير على المقنع 4 / 172، كشاف القناع 3 / 294، فتح العزيز 8 / 436، المجموع شرح المهذب (مطبعة التضامن الأخوي) 9 / 274
(3) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 4 / 89، كشاف القناع 3 / 257، شرح منتهى الإرادات 2 / 200، المغني 4 / 54
(4) تكملة المجموع للسبكي (مطبعة التضامن الأخوي) 10 / 107، المغني 4 / 53، بداية المجتهد 2 / 162

(21/127)


دَنَانِيرُ، وَالآْخَرُ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ، فَاصْطَرَفَا بِمَا فِي ذِمَّتَيْهِمَا، فَلاَ يَصِحُّ ذَلِكَ (1) . قَال الشَّافِعِيُّ فِي " الأُْمِّ ": " وَمَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ لِرَجُلٍ، وَلِلرَّجُل عَلَيْهِ دَنَانِيرُ، فَحَلَّتْ أَوْ لَمْ تَحِل، فَتَطَارَحَاهَا صَرْفًا فَلاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ دَيْنٌ بِدَيْنٍ (2) ".
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَتَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَتَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَقَالُوا: بِجَوَازِ صَرْفِ مَا فِي الذِّمَّةِ؛ لأَِنَّ الذِّمَّةَ الْحَاضِرَةَ كَالْعَيْنِ الْحَاضِرَةِ غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الدَّيْنَانِ قَدْ حَلاَّ مَعًا، فَأَقَامُوا حُلُول الأَْجَلَيْنِ فِي ذَلِكَ مَقَامَ النَّاجِزِ بِالنَّاجِزِ (3) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 200، المبدع 4 / 156، المغني 4 / 53، تكملة المجموع للسبكي 10 / 107، كشاف القناع 3 / 257
(2) الأم 3 / 33 (ط. دار المعرفة بلبنان 1393 هـ) .
(3) بداية المجتهد 2 / 224 (ط. دار الكتب الحديثة بمصر) ، تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 140، شرح الخرشي 5 / 234، الزرقاني على خليل 5 / 232، منح الجليل 3 / 53، اختلاف الفقهاء للطبري ص 60، إيضاح المسالك للونشريسي ص 141، 328، طبقات الشافعية لابن السبكي (ط. الحلبي) 10 / 231، مواهب الجليل 4 / 310، الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية للبعلي ص 128، رد المحتار 4 / 239، تكملة المجموع للسبكي (مطبعة التضامن الأخوي) 10 / 107، القوانين الفقهية لابن جزي ص 320، مجموع فتاوى ابن تيمية (ط. الرياض) 20 / 512، نظرية العقد لابن تيمية ص 235

(21/128)


ب - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ جَعْل الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ رَأْسَ مَال سَلَمٍ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ (1) .
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ وَقَالاَ: بِجَوَازِهِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ - وَهُوَ بَيْعُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، أَيِ الدَّيْنِ الْمُؤَخَّرِ بِالدَّيْنِ الْمُؤَخَّرِ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (2) .
ج - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ عَلَى أَنَّ الدَّائِنَ إِذَا بَاعَ الدَّيْنَ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ، فَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ ذَلِكَ أَنْ يَقْبِضَ الدَّائِنُ الْعِوَضَ قَبْل التَّفَرُّقِ مِنَ الْمَجْلِسِ، كَيْ لاَ يَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ (3) .
أَمَّا إِذَا بَاعَ الدَّيْنَ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، فَلاَ يُشْتَرَطُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ قَبْضُ الْمُشْتَرِي،
__________
(1) رد المحتار 4 / 209، تبيين الحقائق 4 / 140، فتح العزيز 9 / 212، الشرح الكبير على المقنع 4 / 336، بدائع الصنائع 7 / 3155 (مطبعة الإمام) ، نهاية المحتاج 4 / 180، المغني / 329، شرح منتهى الإرادات 2 / 221
(2) أعلام الموقعين 2 / 9
(3) البدائع 7 / 3230، شرح منتهى الإرادات 2 / 222، كشاف القناع 3 / 294، المغني 4 / 134، المبدع 4 / 199، المجموع شرح المهذب (مطبعة التضامن الأخوي) 9 / 274، فتح العزيز 8 / 437

(21/128)


لاِنْتِفَاءِ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. قَال الْكَاسَانِيُّ: " إِنَّ الدَّيْنَ لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ فُلُوسًا أَوْ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا أَوْ قِيمَةَ الْمُسْتَهْلَكِ، فَإِنْ كَانَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَاشْتَرَى بِهِ شَيْئًا بِعَيْنِهِ جَازَ الشِّرَاءُ، وَقَبْضُ الْمُشْتَرِي لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ افْتِرَاقًا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ فِيمَا لاَ يَتَضَمَّنُ رِبَا النَّسَاءِ، وَلاَ يَتَضَمَّنُ هَاهُنَا. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الدَّيْنُ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا أَوْ قِيمَةَ الْمُسْتَهْلَكِ لِمَا قُلْنَا (1) ".
59 - (وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الدُّيُونِ) مَا لاَ يَكُونُ الْمِلْكُ عَلَيْهِ مُسْتَقِرًّا: كَالْمُسْلَمِ فِيهِ وَالأُْجْرَةِ قَبْل اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ مُضِيِّ زَمَانِهَا، وَالْمَهْرُ قَبْل اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ مُضِيِّ زَمَانِهَا وَالْمَهْرُ قَبْل الدُّخُول وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الدُّيُونِ يَجُوزُ تَمْلِيكُهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا لِلدَّيْنِ عَنِ الْمَدِينِ، وَلاَ دَلِيل عَلَى مَنْعِهِ (2) .
أَمَّا تَمْلِيكُهُ بِعِوَضٍ، فَقَدْ فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ دَيْنِ السَّلَمِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الدُّيُونِ غَيْرِ الْمُسْتَقِرَّةِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ - دَيْنُ السَّلَمِ
60 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ بَيْعِ الْمُسْلِمِ الدَّيْنَ
__________
(1) البدائع 7 / 3229
(2) رد المحتار 4 / 209، البدائع 7 / 3178، كشاف القناع 3 / 293، شرح منتهى الإرادات 2 / 222

(21/129)


الْمُسْلَمَ فِيهِ لِلْمَدِينِ، أَوِ الاِعْتِيَاضِ عَنْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ بِسَبَبِ انْقِطَاعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَامْتِنَاعِ الاِعْتِيَاضِ عَنْهُ، فَكَانَ كَالْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلاَ يَصْرِفْهُ فِي غَيْرِهِ. (1) قَالُوا: وَهَذَا يَقْتَضِي أَلاَّ يَبِيعَ الْمُسْلِمُ دَيْنَ السَّلَمِ لاَ مِنْ صَاحِبِهِ وَلاَ مِنْ غَيْرِهِ (2) .
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَصَحَّحَهُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمُ، وَهُوَ جَوَازُ بَيْعِ الْعَرَضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ بِثَمَنِ الْمِثْل أَوْ دُونِهِ، لاَ أَكْثَرَ مِنْهُ (3) .
__________
(1) حديث: " من أسلم في شيء فلا يصرفه في غيره " أخرجه أبو داود (3 / 744 - 745 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والدارقطني (3 / 45 - ط دار المحاسن) من حديث أبي سعيد الخدري واللفظ للدارقطني، وضعفه ابن حجر ونقل عن غيره أنه أعله بالضعف والاضطراب، التلخيص الحبير (3 / 25 - شركة الطباعة الفنية) .
(2) لأم 3 / 133، رد المحتار 4 / 166، 209، تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 4 / 118، أسنى المطالب 2 / 84، نهاية المحتاج 4 / 87، المهذب 1 / 270، فتح العزيز 8 / 432، مجموع فتاوى ابن تيمية 29 / 500، 503، 506، المغني 4 / 334، المبدع 4 / 197، شرح منتهى الإرادات 2 / 222، الأشباه والنظائر للسيوطي ص 326، 331، وانظر م 559 من مرشد الحيران.
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية 29 / 503، 504، 518، 519، تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته لابن القيم 5 / 117، القوانين الفقهية ص 296، مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية ص 345

(21/129)


وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ مِنَ الْمَدِينِ وَالاِعْتِيَاضِ عَنْهُ إِذَا كَانَ بِسِعْرِ الْمِثْل أَوْ دُونَهُ بِعَدَمِ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ، إِذِ الْحَدِيثُ الَّذِي اسْتَدَل بِهِ الْمَانِعُونَ مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلاَ يَصْرِفْهُ إِلَى غَيْرِهِ ضَعِيفٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ، وَحَتَّى لَوْ صَحَّ، فَإِنَّ مَعْنَى فَلاَ يَصْرِفْهُ إِلَى غَيْرِهِ أَنْ لاَ يَصْرِفَهُ إِلَى سَلَمٍ آخَرَ، أَوْ لاَ يَبِيعَهُ بِمُعَيَّنٍ مُؤَجَّلٍ، وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَحَل النِّزَاعِ. قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: " فَثَبَتَ أَنَّهُ لاَ نَصَّ فِي التَّحْرِيمِ وَلاَ إِجْمَاعَ وَلاَ قِيَاسَ، وَأَنَّ النَّصَّ وَالْقِيَاسَ يَقْتَضِيَانِ الإِْبَاحَةَ (1) ".
أَمَّا عَدَمُ جَوَازِ الاِعْتِيَاضِ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، فَلأَِنَّ دَيْنَ السَّلَمِ مَضْمُونٌ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَمْ يَنْتَقِل إِلَى ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، فَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ بِزِيَادَةٍ، فَقَدْ رَبِحَ رَبُّ السَّلَمِ فِيمَا لَمْ يَضْمَنْ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ (2) .
61 - (ب) الدُّيُونُ الَّتِي لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُ الدَّائِنِ
__________
(1) تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته لابن القيم 5 / 117
(2) حديث: " نهى عن ربح ما لم يضمن " ورد من حديث عبد الله بن عمر وبلفظ: " لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن ". أخرجه الترمذي (3 / 527 - ط الحلبي) ، وقال: " حديث حسن صحيح "

(21/130)


عَلَيْهَا لِعَدَمِ قَبْضِ الْمَدِينِ الشَّيْءَ الْمُقَابِل لَهَا، كَالأُْجْرَةِ قَبْل اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ مُضِيِّ زَمَانِهَا، وَكَالْمَهْرِ قَبْل الدُّخُول وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَهَذِهِ الدُّيُونُ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ تَمْلِيكِهَا مِمَّنْ هِيَ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ عَلَى قَوْلَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا مِمَّنْ هِيَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ مِلْكَهُ عَلَيْهَا غَيْرُ تَامٍّ (1) .
وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ جَوَازُ بَيْعِهَا مِمَّنْ هِيَ عَلَيْهِ، كَالدُّيُونِ الَّتِي اسْتَقَرَّ مِلْكُ الدَّائِنِ عَلَيْهَا، إِذْ لاَ فَرْقَ بَيْنَهَا (2) .

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: (تَمْلِيكُ الدُّيُونِ لِغَيْرِ الْمَدِينِ) :
62 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَمْلِيكِ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ (3) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 223، كشاف القناع 3 / 294
(2) رد المحتار 4 / 166، نهاية المحتاج 4 / 88، المجموع شرح المهذب (مطبعة التضامن الأخوي) 9 / 275، فتح العزيز 8 / 434 وما بعدها، الأشباه والنظائر للسيوطي ص331
(3) المبدع بشرح المقنع 4 / 199، مجموع فتاوى ابن تيمية 29 / 506، تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته لابن القيم 5 / 114، المنثور في القواعد للزركشي 2 / 161.

(21/130)


وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِعِوَضٍ أَمْ بِغَيْرِ عِوَضٍ.
كَأَنْ يَقُول شَخْصٌ لآِخَرَ: وَهَبْتُكَ مَا لِي مِنْ دَيْنٍ عَلَى فُلاَنٍ فَيَقْبَل. أَوْ يَقُول لَهُ: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ
كَذَا بِمَا لِيَ مِنْ دَيْنٍ عَلَى فُلاَنٍ، فَيَقْبَل أَوْ يَقُول لَهُ: اسْتَأْجَرْتُ مِنْكَ كَذَا بِالدَّيْنِ الثَّابِتِ لِي فِي ذِمَّةِ فُلاَنٍ، فَيَقْبَل. فَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لأَِنَّ الْوَاهِبَ أَوِ الْمُشْتَرِيَ أَوِ الْمُسْتَأْجِرَ يَهَبُ أَوْ يَبِيعُ مَا لَيْسَ فِي يَدِهِ، وَلاَ لَهُ مِنَ السُّلْطَةِ شَرْعًا مَا يُمَكِّنُهُ مِنْ قَبْضِهِ مِنْهُ، فَكَانَ بَيْعًا لِشَيْءٍ لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، إِذْ رُبَّمَا مَنَعَهُ الْمَدِينُ أَوْ جَحَدَهُ، وَذَلِكَ غَرَرٌ فَلاَ يَجُوزُ (1) .
وَقَدِ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ قَاعِدَةِ عَدَمِ جَوَازِ تَمْلِيكِ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ ثَلاَثَ حَالاَتٍ (2) :
الأُْولَى: إِذَا وَكَّل الدَّائِنُ الشَّخْصَ الَّذِي
__________
(1) رد المحتار 4 / 166، تبيين الحقائق 4 / 83، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 357، 358، أسنى المطالب 2 / 85، نهاية المحتاج 4 / 89، فتح العزيز 8 / 439، المجموع شرح المهذب 9 / 275، الأشباه والنظائر للسيوطي ص 331، شرح منتهى الإرادات 2 / 222، المبدع 4 / 199، كشاف القناع 3 / 293، 294، بدائع الصنائع 7 / 3104، الشرح الكبير على المقنع 4 / 342
(2) رد المحتار 4 / 166، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 357، 358، البدائع 7 / 3104

(21/131)


مَلَّكَهُ الدَّائِنُ فِي قَبْضِ ذَلِكَ الدَّيْنِ مِنْ مَدِينِهِ، فَيَصِحُّ ذَلِكَ، وَيَقْبِضُ الدَّيْنَ مِنَ الْمَدِينِ بِاعْتِبَارِهِ وَكِيلاً عَنِ الدَّائِنِ، وَبِمُجَرَّدِ الْقَبْضِ يَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ، وَتَنْتَقِل مَلَكِيَّةُ الدَّيْنِ إِلَيْهِ.
وَالثَّانِيَةُ: إِذَا أَحَال الدَّائِنُ الشَّخْصَ الَّذِي مَلَّكَهُ الدَّيْنَ عَلَى مَدِينِهِ، فَيَصِحُّ ذَلِكَ، وَيَقْبِضُ الدَّيْنَ مِنَ الْمَدِينِ بِاعْتِبَارِهِ مُحَالاً مِنَ الدَّائِنِ عَلَيْهِ، وَبِمُجَرَّدِ الْقَبْضِ تَنْتَقِل مَلَكِيَّةُ الدَّيْنِ إِلَيْهِ.
وَالثَّالِثَةُ: الْوَصِيَّةُ، فَإِنَّهَا تَصِحُّ بِالدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهَا تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيَنْتَقِل الْمِلْكُ فِيهِ كَمَا يَنْتَقِل بِالإِْرْثِ.
وَالثَّالِثُ: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ - صَحَّحَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ كَالشِّيرَازِيِّ فِي الْمُهَذَّبِ وَالنَّوَوِيِّ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ، وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ وَأَفْتَى بِهِ زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ وَغَيْرُهُ - وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ سَائِرِ الدُّيُونِ - عَدَا دَيْنِ السَّلَمِ - لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُهَا لِلْمَدِينِ وَلاَ فَرْقَ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا وَالْمَدِينُ مُقِرًّا مَلِيئًا أَوْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ لاَ كُلْفَةَ فِي إِقَامَتِهَا. وَذَلِكَ لاِنْتِفَاءِ الْغَرَرِ النَّاشِئِ عَنْ عَدَمِ قُدْرَةِ الدَّائِنِ عَلَى تَسْلِيمِ الدَّيْنِ إِلَيْهِ (1) .
__________
(1) المهذب 1 / 270، الأشباه والنظائر للسيوطي ص 331، المجموع شرح المهذب 9 / 275، فتح العزيز 8 / 439، نهاية المحتاج 4 / 90، روضة الطالبين للنووي 3 / 514، أسنى المطالب شرح روض الطالب 2 / 85

(21/131)


وَكَمَا اشْتُرِطَ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ إِذَا كَانَ بِمَا لاَ يُبَاعُ بِهِ نَسِيئَةً - كَالرِّبَوِيَّاتِ بِبَعْضِهَا - فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ كَذَلِكَ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ.
وَالرَّابِعُ لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ الْمَدِينِ بِشُرُوطٍ تُبَاعِدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَرَرِ، وَتَنْفِي عَنْهُ سَائِرَ الْمَحْظُورَاتِ الأُْخْرَى، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ ثَمَانِيَةٌ (1) :
1 - أَنْ يُعَجِّل الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ؛ لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يُعَجِّل فِي الْحِينِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ.
2 - أَنْ يَكُونَ الْمَدِينُ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ؛ لِيَعْلَمَ مِنْ فَقْرٍ أَوْ غِنًى؛ لأَِنَّ عِوَضَ الدَّيْنِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ حَال الْمَدِينِ، وَالْمَبِيعُ لاَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولاً.
3 - أَنْ يَكُونَ الْمَدِينُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لَهُ فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ دَيْنِهِ وَلَوْ كَانَ ثَابِتًا بِالْبَيِّنَةِ حَسْمًا لِلْمُنَازَعَاتِ.
4 - أَنْ يُبَاعَ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، أَوْ بِجِنْسِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهُ.
5 - أَلاَّ يَكُونَ ذَهَبًا بِفِضَّةٍ وَلاَ عَكْسَهُ، لاِشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ فِي صِحَّةِ بَيْعِهَا.
6 - أَلاَّ يَكُونَ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَالْمَدِينِ عَدَاوَةٌ.
__________
(1) منح الجليل 2 / 564 وما بعدها، الزرقاني على خليل 5 / 83، البهجة شرح التحفة 2 / 47 وما بعدها، الموطأ (ط. عيسى الحلبي) 2 / 675، شرح الخرشي 5 / 77، التاودي على التحفة 2 / 48

(21/132)


7 - أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ، احْتِرَازًا مِمَّا لَوْ كَانَ طَعَامًا، إِذْ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ.
8 - أَلاَّ يَقْصِدَ الْمُشْتَرِي إِعْنَاتَ الْمَدِينِ وَالإِْضْرَارَ بِهِ.

تَصَرُّفُ الْمَدِينِ:
63 - يَنْحَصِرُ تَصَرُّفُ الْمَدِينِ فِي الدَّيْنِ الثَّابِتِ فِي ذِمَّتِهِ فِي أَمْرَيْنِ: الْحَوَالَةِ، وَالسَّفْتَجَةِ.
الْحَالَةُ الأُْولَى: الْحَوَالَةُ. (ر: حَوَالَة) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: السَّفْتَجَةُ. (ر: سَفْتَجَة) .

الدَّيْنُ فِي ظِل تَغَيُّرَاتِ النُّقُودِ:
64 - يُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ فِي أَحْكَامِ الدَّيْنِ مِنَ النُّقُودِ عِنْدَ طُرُوءِ التَّغَيُّرَاتِ عَلَى النَّقْدِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ نَقْدًا بِالْخِلْقَةِ (أَيْ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ) وَمَا إِذَا كَانَ ثَابِتًا بِالاِصْطِلاَحِ (بِأَنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ وَجَرَى الاِصْطِلاَحُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ اسْتِعْمَال النَّقْدَيْنِ) كَالْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْعُمُلاَتِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

تَغَيُّرُ النُّقُودِ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ نَقْدًا بِالْخِلْقَةِ:
65 - إِنَّ الدَّيْنَ الثَّابِتَ فِي الذِّمَّةِ إِذَا كَانَ عُمْلَةً ذَهَبِيَّةً أَوْ فِضِّيَّةً مُحَدَّدَةً مُسَمَّاةً فَغَلَتْ أَوْ رَخُصَتْ عِنْدَ حُلُول وَقْتِ الأَْدَاءِ، فَلاَ يَلْزَمُ الْمَدِينَ أَنْ

(21/132)


يُؤَدِّيَ غَيْرَهَا؛ لأَِنَّهَا نَقْدٌ بِالْخِلْقَةِ، وَهَذَا التَّغَيُّرُ فِي قِيمَتِهَا لاَ تَأْثِيرَ لَهُ عَلَى الدَّيْنِ أَلْبَتَّةَ (1) . وَقَدْ جَاءَ فِي (م 805) مِنْ مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ. " وَإِنِ اسْتَقْرَضَ شَيْئًا مِنَ الْمَكِيلاَتِ أَوِ الْمَوْزُونَاتِ أَوِ الْمَسْكُوكَاتِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَرَخُصَتْ أَسْعَارُهَا أَوْ غَلَتْ، فَعَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهَا، وَلاَ عِبْرَةَ بِرُخْصِهَا وَغُلُوِّهَا ".
وَحَتَّى لَوْ زَادَتِ الْجِهَةُ الْمُصْدِرَةُ لِهَذِهِ الْعُمْلَةِ سِعْرَهَا أَوْ نَقَصَتْهُ، فَلاَ يَلْزَمُ الْمَدِينَ إِلاَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْعَقْدُ (2) .
يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: " ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَدَّدَ فِي زَمَانِنَا وُرُودُ الأَْمْرِ السُّلْطَانِيِّ بِتَغْيِيرِ سِعْرِ بَعْضٍ مِنَ النُّقُودِ الرَّائِجَةِ بِالنَّقْصِ، وَاخْتَلَفَ الإِْفْتَاءُ فِيهِ. وَالَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْحَال الآْنَ دَفْعُ النَّوْعِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ لَوْ كَانَ مُعَيَّنًا، كَمَا إِذَا اشْتَرَى سِلْعَةً بِمِائَةِ رِيَالٍ إِفْرِنْجِيٍّ أَوْ مِائَةِ ذَهَبٍ عَتِيقٍ (3) ".
وَلَوْ أَبْطَلَتِ السُّلْطَةُ الْمُصْدِرَةُ لِهَذِهِ الْعُمْلَةِ التَّعَامُل بِهَا، فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الْمَدِينَ سِوَاهَا وَفَاءً بِالْعَقْدِ، إِذْ هِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا، وَهِيَ الثَّابِتَةُ فِي الذِّمَّةِ دُونَ غَيْرِهَا. وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي
__________
(1) تنبيه الرقود على مسائل العقود لابن عابدين (مطبوع ضمن رسائل ابن عابدين) 2 / 14
(2) منح الجليل لعليش 2 / 534، قطع المجادلة عند تغيير المعاملة للسيوطي (مطبوع ضمن كتاب الحاوي للفتاوى) 1 / 97 وما بعدها
(3) تنبيه الرقود 2 / 66

(21/133)


" الأُْمِّ " وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ (1) . قَال الشَّافِعِيُّ: " وَمَنْ سَلَّفَ فُلُوسًا أَوْ دَرَاهِمَ أَوْ بَاعَ بِهَا، ثُمَّ أَبْطَلَهَا السُّلْطَانُ، فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ مِثْل فُلُوسِهِ أَوْ دَرَاهِمِهِ الَّتِي سَلَّفَ أَوْ بَاعَ بِهَا (2) ". وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا أُبْطِلَتْ هَذِهِ الْعُمْلَةُ وَاسْتُبْدِل بِهَا غَيْرُهَا، فَيُرْجَعُ إِلَى قِيمَةِ الْعُمْلَةِ الْمُلْغَاةِ مِنَ الذَّهَبِ، وَيَأْخُذُ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْقِيمَةَ ذَهَبًا (3) .
أَمَّا إِذَا عُدِمَتْ تِلْكَ الْعُمْلَةُ أَوِ انْقَطَعَتْ أَوْ فُقِدَتْ فِي بَلَدِ الْمُتَدَايِنَيْنِ، فَتَجِبُ عِنْدَئِذٍ قِيمَتُهَا مِمَّا تَجَدَّدَ وَتَوَفَّرَ التَّعَامُل بِهِ مِنَ الْعُمُلاَتِ (4) .
وَلَوْ قَلَّتْ أَوْ عَزَّ وُجُودُهَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجِبُ غَيْرُهَا لإِِمْكَانِ تَحْصِيلِهَا مَعَ الْعِزَّةِ، بِخِلاَفِ انْقِطَاعِهَا وَانْعِدَامِهَا وَفَقْدِهَا (5) . قَال الْهَيْثَمِيُّ: " وَلَوْ بَاعَ بِنَقْدٍ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَعَيَّنَ شَيْئًا مَوْجُودًا، اتُّبِعَ وَإِنْ عَزَّ (6) ".
وَتَجْدُرُ الإِْشَارَةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِلَى أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَيَّدُوا الْقَوْل بِإِلْزَامِ الدَّائِنِ بِقَبُول مِثْل النَّقْدِ الَّذِي ثَبَتَ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ، وَإِلْزَامِ الْمَدِينِ بِأَدَائِهِ إِذَا كَانَ
__________
(1) حاشية الرهوني 5 / 118، 119، منح الجليل 2 / 534، حاشية المدني على كنون 5 / 118
(2) الأم 3 / 33 (ط. دار المعرفة ببيروت) .
(3) حاشية الرهوني 2 / 119
(4) منح الجليل 2 / 535
(5) نهاية المحتاج 3 / 397
(6) تحفة المحتاج 4 / 255

(21/133)


مُتَوَفِّرًا - فِي حَالَتَيِ الْغَلاَءِ وَالرُّخْصِ - بِأَنْ يَكُونَ التَّعَامُل بِهَذَا النَّقْدِ مَسْمُوحًا بِهِ مِنْ قِبَل الدَّوْلَةِ.
أَمَّا إِذَا مَنَعَتِ الدَّوْلَةُ النَّاسَ مِنَ التَّعَامُل بِهِ، فَلاَ يُجْبَرُ الدَّائِنُ عَلَى قَبُولِهِ، وَيَكُونُ لَهُ الْقِيمَةُ وَقْتَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ مِنَ النُّقُودِ إِنْ تَرَتَّبَ عَلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ مِنْ جِنْسِهِ رِبَا الْفَضْل، سَوَاءٌ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِ التَّعَامُل بِهَذَا النَّقْدِ أَمْ لَمْ يَتَّفِقُوا، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى أَدَاءِ الْقِيمَةِ مِنْ جِنْسِهِ رِبَا الْفَضْل، فَلاَ مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْوَفَاءُ بِقِيمَتِهِ مِنْ جِنْسِهِ (1) .

تَغَيُّرُ النُّقُودِ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ نَقْدًا بِالاِصْطِلاَحِ:
إِذَا كَانَ الدَّيْنُ الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ نَقْدًا بِالاِصْطِلاَحِ لاَ بِالْخِلْقَةِ كَسَائِرِ الْعُمُلاَتِ الأُْخْرَى غَيْرِ الذَّهَبِيَّةِ وَالْفِضِّيَّةِ، فَطَرَأَ عَلَيْهِ تَغَيُّرٌ عِنْدَ حُلُولِهِ، فَعِنْدَئِذٍ يُفَرَّقُ بَيْنَ خَمْسِ حَالاَتٍ:

الْحَالَةُ الأُْولَى: (الْكَسَادُ الْعَامُّ لِلنَّقْدِ) :
66 - وَذَلِكَ بِأَنْ تُوقِفَ الْجِهَةُ الْمُصْدِرَةُ لِلنَّقْدِ التَّعَامُل بِهِ، فَتُتْرَكُ الْمُعَامَلَةُ بِهِ فِي جَمِيعِ الْبِلاَدِ،
__________
(1) كشاف القناع 3 / 301، الشرح الكبير على المقنع 4 / 358، شرح منتهى الإرادات 2 / 226، المغني 4 / 365 (مطبوع مع الشرح الكبير بمطبعة المنار 1347 هـ) ، المبدع 4 / 207، المحرر لمجد الدين ابن تيمية 1 / 335

(21/134)


وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ بِـ " كَسَادِ النَّقْدِ " (1) .
فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ: لَوِ اشْتَرَى شَخْصٌ سِلْعَةً بِنَقْدٍ مُحَدَّدٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ كَسَدَ ذَلِكَ النَّقْدُ قَبْل الْوَفَاءِ، أَوِ اسْتَدَانَ نَقْدًا مَعْلُومًا ثُمَّ كَسَدَ قَبْل الأَْدَاءِ، أَوْ وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ الْمَهْرُ الْمُؤَجَّل نَقْدًا مُحَدَّدًا، ثُمَّ كَسَدَ قَبْل حُلُولِهِ. فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لأَِبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَنَّ النَّقْدَ الَّذِي كَسَدَ إِذَا كَانَ ثَمَنًا فِي بَيْعٍ، فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَيَجِبُ الْفَسْخُ مَا دَامَ مُمْكِنًا؛ لأَِنَّهُ بِالْكَسَادِ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ ثَمَنًا، حَيْثُ إِنَّ ثَمَنِيَّتَهُ ثَبَتَتْ بِالاِصْطِلاَحِ، فَإِذَا تَرَكَ النَّاسُ التَّعَامُل بِهِ، فَإِنَّهَا تَزُول عَنْهُ صِفَةُ الثَّمَنِيَّةِ، فَيَبْقَى الْمَبِيعُ بِلاَ ثَمَنٍ، فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ. أَمَّا إِذَا كَانَ دَيْنًا فِي قَرْضٍ أَوْ مَهْرًا مُؤَجَّلاً، فَيَجِبُ رَدُّ مِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ كَاسِدًا؛ لأَِنَّهُ هُوَ الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ لاَ غَيْرُهُ (2) . حَيْثُ " إِنَّ الْقَرْضَ إِعَارَةٌ، وَمُوجِبُهَا رَدُّ الْعَيْنِ مَعْنًى، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِرَدِّ مِثْلِهِ
__________
(1) الكساد في اللغة: عدم النفاق لقلة الرغبات. (المصباح المنير 2 / 644) ، أما في اصطلاح الفقهاء: " فهو أن يبطل التداول بنوع من العملة، ويسقط رواجها في البلاد كافة ". (شرح المجلة لعلي حيدر (1 / 108) ، تبيين الحقائق 4 / 143، تنبيه الرقود لابن عابدين 2 / 60.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 225، بدائع الصنائع 7 / 3244 وما بعدها، تبيين الحقائق 4 / 142، درر الحكام لعلي حيدر 3 / 94

(21/134)


وَلَوْ كَانَ كَاسِدًا - لأَِنَّ الثَّمَنِيَّةَ زِيَادَةٌ فِيهِ، حَيْثُ إِنَّ صِحَّةَ الْقَرْضِ لاَ تَعْتَمِدُ الثَّمَنِيَّةَ، بَل تَعْتَمِدُ الْمِثْلِيَّةَ، وَبِالْكَسَادِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِثْلاً، وَلِهَذَا صَحَّ اسْتِقْرَاضُهُ بَعْدَ الْكَسَادِ، وَصَحَّ اسْتِقْرَاضُ مَا لَيْسَ بِثَمَنٍ كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ وَالْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَنًا، وَلَوْلاَ أَنَّهُ إِعَارَةٌ فِي الْمَعْنَى لَمَا صَحَّ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ مُبَادَلَةَ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ نَسِيئَةً وَأَنَّهُ حَرَامٌ، فَصَارَ الْمَرْدُودُ عَيْنَ الْمَقْبُوضِ حُكْمًا، فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الرَّوَاجُ كَرَدِّ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالْقَرْضُ كَالْغَصْبِ إِذْ هُوَ مَضْمُونٌ بِمِثْلِهِ (1) ".
وَالْقَوْل الثَّانِي: لأَِبِي يُوسُفَ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي غَيْرِ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ رَدُّ الْمِثْل بَعْدَمَا كَسَدَ، وَيَجِبُ عَلَى الْمَدِينِ رَدُّ قِيمَةِ النَّقْدِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ - يَوْمَ التَّعَامُل - مِنْ نَقْدٍ آخَرَ (2) . وَبِهَذَا أَخَذَتِ الْمَادَّةُ:
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 144
(2) الفتاوى الهندية 3 / 225، تبيين الحقائق 4 / 142، درر الحكام شرح مجلة الأحكام 3 / 94، كشاف القناع 3 / 301، شرح منتهى الإرادات 2 / 226، الشرح الكبير على المقنع 4 / 358، حاشية الرهوني 5 / 102، حاشية المدني 5 / 118. وقد حكى صاحب " الذخيرة البرهانية " أن هذا القول هو المفتى به في مذهب الحنفية، وذلك لأنه أيسر؛ حيث إن القيمة يوم التعامل تكون معلومة، بخلاف يوم الكساد؛ فإنها لا تعرف إلا بحرج. (انظر الفتاوى الهندية 3 / 225، تبيين الحقائق 4 / 144، الشلبي على تبيين الحقائق 4 / 142، تنبيه الرقود 2 / 59) .

(21/135)


" 805 " مِنْ مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ حَيْثُ جَاءَ فِيهَا: " إِذَا اسْتَقْرَضَ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا مِنَ الْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ وَالنُّقُودِ غَالِبَةِ الْغِشِّ (1) ، فَكَسَدَتْ وَبَطَل التَّعَامُل بِهَا فَعَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهَا يَوْمَ قَبْضِهَا لاَ يَوْمَ رَدِّهَا ".
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ:
أَوَّلاً: بِأَنَّ إِيقَافَ التَّعَامُل بِهَا مِنْ قِبَل الْجِهَةِ الْمُصْدِرَةِ لَهَا مَنْعٌ لِنَفَاقِهَا وَإِبْطَالٌ لِمَالِيَّتِهَا، إِذْ هِيَ أَثْمَانٌ بِالاِصْطِلاَحِ لاَ بِالْخِلْقَةِ، فَصَارَ ذَلِكَ إِتْلاَفًا لَهَا، فَيَجِبُ بَدَلُهَا وَهُوَ الْقِيمَةُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ الْجَوَابِرِ. ثَانِيًا: وَلأَِنَّ الدَّائِنَ قَدْ دَفَعَ شَيْئًا مُنْتَفَعًا بِهِ لأَِخْذِ عِوَضٍ مُنْتَفَعٍ بِهِ، فَلاَ يُظْلَمُ بِإِعْطَائِهِ مَا لاَ يَنْتَفِعُ بِهِ.
قَالُوا: وَإِنَّمَا اعْتُبِرَتِ الْقِيمَةُ يَوْمَ التَّعَامُل؛ لأَِنَّهُ وَقْتُ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ: لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَدِينِ رَدُّ قِيمَةِ النَّقْدِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ التَّعَامُل مِنَ النَّقْدِ الآْخَرِ وَقْتَ الْكَسَادِ، أَيْ فِي آخِرِ نَفَاقِهَا، وَهُوَ آخِرُ مَا تَعَامَل النَّاسُ بِهَا؛ لأَِنَّهُ وَقْتُ الاِنْتِقَال إِلَى الْقِيمَةِ، إِذْ كَانَ يَلْزَمُهُ رَدُّ مِثْلِهَا مَا دَامَتْ نَافِقَةً، فَإِذَا كَسَدَتِ انْتَقَل إِلَى قِيمَتِهَا حِينَئِذٍ (2) .
__________
(1) المراد بالنقود غالبة الغش: العملة التي يكون غالبها من معدن غير الذهب والفضة
(2) الشرح الكبير على المقنع 4 / 358، الفتاوى الهندية 3 / 225، الزيلعي 4 / 143، وحاشية الشلبي على تبيين الحقائق 4 / 142، تنبيه الرقود 2 / 59، درر الحكام شرح مجلة الأحكام 3 / 94 وقد جاء في كتب الحنفية المشار إليها نقلا عن المحيط والتيمة والحقائق أن الفتوى في المذهب على قول الإمام محمد بن الحسن رفقًا بالمدينين؛ حيث إن القيمة في آخر النفاق تكون عادة أقل منها يوم التعامل

(21/135)


وَالْقَوْل الرَّابِعُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ أَنَّ النَّقْدَ إِذَا كَسَدَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ وَقَبْل أَدَائِهِ، فَلَيْسَ لِلدَّائِنِ سِوَاهُ. وَيُعْتَبَرُ هَذَا الْكَسَادُ كَجَائِحَةٍ نَزَلَتْ بِالدَّائِنِ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ قَرْضًا أَوْ ثَمَنَ مَبِيعٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ (1) .

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: (الْكَسَادُ الْمَحَلِّيُّ لِلنَّقْدِ) :
67 - وَذَلِكَ بِأَنْ يَبْطُل التَّعَامُل بِالنَّقْدِ فِي بَعْضِ الْبِلاَدِ لاَ فِي جَمِيعِهَا. وَمِثْلُهُ فِي عَصْرِنَا الْحَاضِرِ الْعُمُلاَتُ الَّتِي تُصْدِرُهَا بَعْضُ الدُّوَل وَتَمْنَعُ تَدَاوُلَهَا فِي خَارِجِ أَرَاضِيهَا. فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ: إِذَا اشْتَرَى شَخْصٌ بِنَقْدٍ نَافِقٍ ثُمَّ كَسَدَ فِي الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْبَيْعُ قَبْل
__________
(1) تحفة المحتاج وحاشية الشرواني عليه 4 / 258، 5 / 44، أسنى المطالب 2 / 143، قطع المجادلة عند تغيير المعاملة للسيوطي 1 / 97 وما بعدها، المجموع شرح المهذب 9 / 282، 331، الأم 3 / 33، نهاية المحتاج 3 / 399، 4 / 223، شرح الخرشي 5 / 55، الزرقاني على خليل 5 / 60، حاشية الرهوني 2 / 120، 121، منح الجليل 2 / 534

(21/136)


الأَْدَاءِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ لاَ يَفْسُدُ، وَيَكُونُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالنَّقْدِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ، وَبَيْنَ أَخْذِ قِيمَةِ ذَلِكَ النَّقْدِ مِنْ عُمْلَةٍ رَائِجَةٍ. وَهَذَا هُوَ الْقَوْل الْمُعْتَمَدُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إِذَا كَسَدَ النَّقْدُ فِي بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ، فَيَجْرِي عَلَيْهِ فِيهَا حُكْمُ الْكَسَادِ الْعَامِّ فِي جَمِيعِ الْبِلاَدِ اعْتِبَارًا لاِصْطِلاَحِ أَهْل تِلْكَ الْبَلْدَةِ (2) .

الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: (انْقِطَاعُ النَّقْدِ) :
68 - وَذَلِكَ بِأَنْ يُفْقَدَ النَّقْدُ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ، وَلاَ يَتَوَفَّرَ فِي الأَْسْوَاقِ لِمَنْ يُرِيدُهُ (3) .
فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ: لَوِ اشْتَرَى شَخْصٌ سِلْعَةً
__________
(1) تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 4 / 143، تنبيه الرقود لابن عابدين 2 / 59، 60
(2) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 4 / 143
(3) وحد الانقطاع - كما جاء في تبيين الحقائق والذخيرة البرهانية - هو: " ألا يوجد في السوق، وإن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت ". (تبيين الحقائق 4 / 143، تنبيه الرقود 2 / 60) وفي شرح المجلة لعلي حيدر: " الانقطاع: هو عدم وجود مثل الشيء في الأسواق، ولو وجد ذلك المثل في البيوت؛ فإنه ما لم يوجد في الأسواق فيعد منقطعًا " (درر الحكام 1 / 108 وقال الخرشي والزرقاني في ضابط الانقطاع: " إن العبرة بالعدم في بلد المعاملة أي البلد التي تعاملا فيها، ولو وجد في غيرها فإنه يعتبر منقطعًا " (انظر شرح الخرشي 5 / 55، الزرقاني على خليل 5 / 60)

(21/136)


بِنَقْدٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ انْقَطَعَ قَبْل أَنْ يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لِلْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ عَلَى الْمُشْتَرِي أَدَاءَ مَا يُسَاوِيهِ فِي الْقِيمَةِ فِي آخِرِ يَوْمٍ قَبْل الاِنْقِطَاعِ؛ لِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِ مِثْل النَّقْدِ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ، فَيُصَارُ إِلَى بَدَلِهِ وَهُوَ الْقِيمَةُ.
وَمِثْل ذَلِكَ يُقَال فِي دَيْنِ الْقَرْضِ وَغَيْرِهِ. وَإِنَّمَا اعْتُبِرَتِ الْقِيمَةُ قُبَيْل الاِنْقِطَاعِ؛ لأَِنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يَنْتَقِل الْوُجُوبُ فِيهِ مِنَ الْمِثْل إِلَى الْقِيمَةِ (1) .
وَالْقَوْل الثَّانِي: لأَِبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَدِينِ أَدَاءُ مَا يُسَاوِيهِ فِي الْقِيمَةِ يَوْمَ التَّعَامُل؛ لأَِنَّهُ وَقْتُ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ (2) .
وَالْقَوْل الثَّالِثُ: لأَِبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَنَّ الاِنْقِطَاعَ كَالْكَسَادِ يُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ (3) .
وَالْقَوْل الرَّابِعُ: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ الْحُصُول عَلَى ذَلِكَ النَّقْدِ مَعَ فَقْدِهِ وَانْقِطَاعِهِ، فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِلاَّ فَتَجِبُ
__________
(1) الشرح الكبير على المقنع 4 / 358، تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 4 / 142، تنبيه الرقود 2 / 59، 60.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 225، تبيين الحقائق 4 / 142
(3) تنبيه الرقود 2 / 59، تبيين الحقائق 4 / 142، الفتاوى الهندية 3 / 225

(21/137)


قِيمَتُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ دَيْنَ قَرْضٍ أَوْ ثَمَنَ مَبِيعٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. لَكِنْ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ عِنْدَمَا يُصَارُ إِلَيْهَا: فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَجِبُ فِي وَقْتِ الْمُطَالَبَةِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ (2) : تَجِبُ فِي أَبْعَدِ الأَْجَلَيْنِ مِنَ الاِسْتِحْقَاقِ - وَهُوَ حُلُول الأَْجَل - وَالْعَدَمِ الَّذِي هُوَ الاِنْقِطَاعُ (3) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْقِيمَةَ إِنَّمَا تُقَدَّرُ وَقْتَ الْحُكْمِ (4) .

الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: (غَلاَءُ النَّقْدِ وَرُخْصُهُ) .
69 - وَذَلِكَ بِأَنْ تَزِيدَ قِيمَةُ النَّقْدِ أَوْ تَنْقُصَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، اللَّذَيْنِ يُعْتَبَرَانِ
__________
(1) تحفة المحتاج 4 / 258، نهاية المحتاج 3 / 399، وانظر قطع المجادلة للسيوطي 1 / 97
(2) منح الجليل 2 / 535، الخرشي 5 / 55، الزرقاني على خليل 5 / 60
(3) سواء مطله المدين بها أم لا، كما هو ظاهر كلام خليل والمدونة، وذهب الخرشي وغيره إلى أن هذا مقيد بما إذا لم يحصل من المدين مطل، وإلا وجب عليه ما آل إليه، أي من المعاملة الجديدة لا القيمة - أي ما آل إليه الأمر من السكة الجديدة الزائدة على القديمة - لأنه ظ الزرقاني 5 / 60، منح الجليل 2 / 535، حاشية الرهوني 5 / 121) .
(4) منح الجليل 2 / 535، الزرقاني على خليل 5 / 60

(21/137)


الْمِقْيَاسَ الَّذِي تُقَدَّرُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ أَثْمَانُ الأَْشْيَاءِ وَقِيَمُهَا، وَيُعَدَّانِ ثَمَنًا. وَهَذَا هُوَ مُرَادُ الْفُقَهَاءِ بِـ " الْغَلاَءِ " " وَالرُّخْصِ " فِي هَذَا الْمَقَامِ.
فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ: إِذَا تَغَيَّرَتْ قِيمَةُ النَّقْدِ غَلاَءً أَوْ رُخْصًا بَعْدَمَا ثَبَتَ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ بَدَلاً فِي قَرْضٍ أَوْ دَيْنِ مَهْرٍ أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَقَبْل أَنْ يُؤَدِّيَهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَا يَلْزَمُ الْمَدِينَ أَدَاؤُهُ. عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لأَِبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمَدِينِ أَدَاؤُهُ هُوَ نَفْسُ النَّقْدِ الْمُحَدَّدِ فِي الْعَقْدِ وَالثَّابِتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، دُونَ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَلَيْسَ لِلدَّائِنِ سِوَاهُ (1) . وَقَدْ كَانَ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ يَذْهَبُ إِلَى هَذَا الرَّأْيِ أَوَّلاً ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: لأَِبِي يُوسُفَ - وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَدِينِ أَنْ يُؤَدِّيَ قِيمَةَ النَّقْدِ الَّذِي طَرَأَ عَلَيْهِ الْغَلاَءُ أَوِ الرُّخْصُ يَوْمَ ثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ مِنْ نَقْدٍ رَائِجٍ. فَفِي الْبَيْعِ تَجِبُ
__________
(1) تنبيه الرقود 2 / 60، حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 4 / 142، 143، قطع المجادلة عند تغيير المعاملة للسيوطي 1 / 97 - 99، البدائع 7 / 3245، الشرح الكبير على المقنع 4 / 58، شرح منتهى الإرادات 2 / 226، كشاف القناع 3 / 301، المغني (المطبوع مع الشرح الكبير) 4 / 365، الزرقاني على خليل 5 / 60، حاشية الرهوني 5 / 121، منح الجليل 2 / 534، 535.

(21/138)


الْقِيمَةُ يَوْمَ الْعَقْدِ، وَفِي الْقَرْضِ يَوْمَ الْقَبْضِ (1) .
وَالْقَوْل الثَّالِثُ: وَجْهٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ التَّغَيُّرَ إِذَا كَانَ فَاحِشًا، فَيَجِبُ أَدَاءُ قِيمَةِ النَّقْدِ الَّذِي طَرَأَ عَلَيْهِ الْغَلاَءُ أَوِ الرُّخْصُ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا فَالْمِثْل (2) . قَال الرَّهُونِيُّ - مُعَلِّقًا عَلَى قَوْل الْمَالِكِيَّةِ الْمَشْهُورِ بِلُزُومِ الْمِثْل وَلَوْ تَغَيَّرَ النَّقْدُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ -: " قُلْتُ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكْثُرْ ذَلِكَ جِدًّا، حَتَّى يَصِيرَ الْقَابِضُ لَهَا كَالْقَابِضِ لِمَا لاَ كَبِيرَ مَنْفَعَةٍ فِيهِ؛ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ (3) الَّتِي عَلَّل بِهَا الْمُخَالِفُ فِي الْكَسَادِ (4) .

انْقِضَاءُ الدَّيْنِ:
إِذَا ثَبَتَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ فَإِنَّهَا تَبْقَى مَشْغُولَةً بِالدَّيْنِ، وَلاَ تَبْرَأُ إِلاَّ بِحُصُول أَحَدِ أَسْبَابِ انْقِضَاءِ الدَّيْنِ التَّالِيَةِ:

أَوَّلاً: الأَْدَاءُ:
70 - إِذَا أَدَّى الْمَدِينُ أَوْ نَائِبُهُ أَوْ كَفِيلُهُ أَوْ غَيْرُهُمُ
__________
(1) تنبيه الرقود لابن عابدين 2 / 60، 61، 63
(2) حاشية المدني (بهامش الرهوني) 5 / 118
(3) ويقصد العلة التي استدل بها أصحاب القول المقابل للمشهور في مسألة كساد النقد، وهي أن الدائن قد دفع شيئًا منتفعًا به لأخذ منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به. (انظر حاشية الرهوني 5 / 120، حاشية المدني 5 / 118)
(4) حاشية الرهوني 5 / 121

(21/138)


الدَّيْنَ إِلَى الدَّائِنِ أَوْ نَائِبِهِ الَّذِي لَهُ وِلاَيَةُ قَبْضِ دُيُونِهِ، فَإِنَّ ذِمَّةَ الْمَدِينِ تَبْرَأُ بِالأَْدَاءِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الدَّيْنُ. أَمَّا إِذَا دَفَعَ الدَّيْنَ إِلَى مَنْ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ عَلَى قَبْضِ دُيُونِ الدَّائِنِ، فَلاَ يَنْقَضِي الدَّيْنُ، وَلاَ تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمَدِينِ (1) . (ر: أَدَاء) .
وَوِلاَيَةُ قَبْضِ الدُّيُونِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ تَثْبُتُ بِأَمْرَيْنِ: إِمَّا بِتَوْلِيَةِ الدَّائِنِ، وَإِمَّا بِتَوْلِيَةِ الشَّارِعِ: - أَمَّا الَّتِي تَثْبُتُ بِتَوْلِيَةِ الدَّائِنِ: فَهِيَ وِلاَيَةُ الْوَكِيل بِقَبْضِ الدَّيْنِ؛ لأَِنَّ مَنْ مَلَكَ التَّصَرُّفَ فِي شَيْءٍ أَصَالَةً مَلَكَ التَّوْكِيل فِيهِ، وَنَفْسُ الْقَبْضِ وَالاِسْتِيفَاءِ مِمَّا يَقْبَل النِّيَابَةَ، فَكَانَ قَبْضُ الْوَكِيل بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْمُوَكِّل وَلاَ فَرْقَ. . وَلاَ بُدَّ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْوَكِيل وَالْمُوَكِّل أَهْلاً لِلْقَبْضِ.
(ر: قَبْض) . - وَأَمَّا الَّتِي تَثْبُتُ بِتَوْلِيَةِ الشَّارِعِ: فَهِيَ وِلاَيَةُ مَنْ يَلِي مَال الْمَحْجُورِ وَيَتَوَلَّى قَبْضَ حُقُوقِهِ. وَهَذِهِ الْوِلاَيَةُ لَيْسَتْ بِتَوْلِيَةِ الدَّائِنِ؛ لاِنْتِفَاءِ أَهْلِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ بِتَوْلِيَةِ الشَّارِعِ. (ر: وِلاَيَة) .
وَيُشْتَرَطُ لِنَفَاذِ وَفَاءِ الدَّيْنِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مَالِكًا لِمَا دَفَعَهُ، فَإِنِ اسْتَحَقَّ بِالْبَيِّنَةِ وَأَخَذَهُ صَاحِبُهُ فَلِلدَّائِنِ الرُّجُوعُ بِدَيْنِهِ عَلَى غَرِيمِهِ (2) .
__________
(1) انظر م 195، 196، 197، 205، 217، 218 من مرشد الحيران.
(2) م 221 من مرشد الحيران.

(21/139)


ثَانِيًا: الإِْبْرَاءُ:
71 - وَذَلِكَ كَمَا إِذَا كَانَ لِزَيْدٍ فِي ذِمَّةِ بَكْرٍ مِائَةُ دِينَارٍ ثَمَنُ مَبِيعٍ أَوْ بَدَل قَرْضٍ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَأَبْرَأَهُ مِنَ الدَّيْنِ كُلِّهِ، فَيَنْتَهِي بِذَلِكَ الْتِزَامُ الْمَدِينِ لِفَرَاغِ ذِمَّتِهِ بِالإِْبْرَاءِ، وَيَنْقَضِي الدَّيْنُ. كَمَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْكَفِيل بِالدَّيْنِ تَبَعًا لِبَرَاءَةِ ذِمَّةِ الأَْصِيل إِذَا كَانَ الدَّيْنُ مَضْمُونًا. وَلَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ بَعْضِ الدَّيْنِ لَمْ يَبْقَ لَهُ إِلاَّ مُطَالَبَتُهُ بِالْبَاقِي. وَالإِْبْرَاءُ يَتِمُّ بِإِيجَابٍ مِنَ الدَّائِنِ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى قَبُولٍ مِنَ الْمَدِينِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ؛ لأَِنَّ الإِْبْرَاءَ عَنِ الدَّيْنِ إِسْقَاطٌ مِنْ وَجْهٍ وَتَمْلِيكٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. . فَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ إِسْقَاطًا لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُول، وَبِاعْتِبَارِهِ تَمْلِيكًا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ؛ لأَِنَّ الْمَرْءَ لاَ يُجْبَرُ عَلَى إِدْخَال شَيْءٍ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ. إِلاَّ فِي الإِْرْثِ (1) . (ر: إِبْرَاء) .

ثَالِثًا: الْمُقَاصَّةُ:
72 - وَهِيَ إِسْقَاطُ دَيْنٍ مَطْلُوبٍ لِشَخْصٍ مِنْ غَرِيمِهِ فِي مُقَابَلَةِ دَيْنٍ مَطْلُوبٍ مِنْ ذَلِكَ الشَّخْصِ لِغَرِيمِهِ
، وَذَلِكَ بِأَنْ تُشْغَل ذِمَّةُ الدَّائِنِ بِمِثْل مَا لَهُ عَلَى الْمَدِينِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَوَقْتِ الأَْدَاءِ، فَعِنْدَئِذٍ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ وَيَسْقُطُ الدَّيْنَانِ إِذَا كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْمِقْدَارِ، فَإِنْ تَفَاوَتَا فِي الْقَدْرِ سَقَطَ مِنَ الأَْكْثَرِ بِقَدْرِ الأَْقَل وَبَقِيَتْ الزِّيَادَةُ، فَتَكُونُ
__________
(1) انظر م 1568 من مجلة الأحكام العدلية، وانظر م 224، 236، 246 من مرشد الحيران.

(21/139)


الْمُقَاصَّةُ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَيَبْقَى أَحَدُهُمَا مَدِينًا لِلآْخَرِ بِمَا زَادَ (1) . (ر: مُقَاصَّة) .

رَابِعًا: اتِّحَادُ الذِّمَّةِ:
73 - وَذَلِكَ كَمَا إِذَا كَانَ زَيْدٌ مَدِينًا لأَِخِيهِ الشَّقِيقِ بَكْرٍ بِمَبْلَغِ أَلْفِ دِينَارٍ مَثَلاً، ثُمَّ مَاتَ بَكْرٌ الدَّائِنُ، وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ إِلاَّ أَخُوهُ زَيْدٌ، فَيَرِثُ زَيْدٌ مِنْ ضِمْنِ مَا يَرِثُهُ عَنْ بَكْرٍ هَذَا الدَّيْنَ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ زَيْدٌ مَدِينًا وَدَائِنًا لِحُلُولِهِ مَحَل الدَّائِنِ الْمُورَثِ، فَإِذَا طَالَبَ بِالدَّيْنِ، فَهُوَ إِنَّمَا يُطَالِبُ نَفْسَهُ لِيَأْخُذَهُ لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ لاِتِّحَادِ الذِّمَّةِ، فَيَسْقُطُ الدَّيْنُ وَيَنْقَضِي لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الْمُطَالَبَةِ. (ر: إِرْث) .

خَامِسًا: التَّقَادُمُ:
74 - لاَ يُعْتَبَرُ التَّقَادُمُ مِنْ أَسْبَابِ انْقِضَاءِ الدَّيْنِ شَرْعًا؛ لأَِنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ لاَصِقٌ بِذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لِمَنْ هُوَ لَهُ، لاَ يُسْقِطُهُ تَقَادُمُ الزَّمَنِ مَهْمَا طَال. وَلَكِنْ تَقَادُمُ الزَّمَنِ يُؤَثِّرُ فِي مَنْعِ سَمَاعِ الدَّعْوَى إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُنْكِرًا، وَالْمُدَّعِي لاَ عُذْرَ لَهُ فِي تَرْكِ الْمُطَالَبَةِ، عَلَى مَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ بَيَانًا مُفَصَّلاً (2) . (ر: تَقَادُم) .

سَادِسًا: انْفِسَاخُ سَبَبِ الْوُجُوبِ:
75 - وَذَلِكَ كَمَا إِذَا فُسِخَ عَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ الْوَارِدِ
__________
(1) انظر م 224، 226، 230، 231 من مرشد الحيران.
(2) انظر م 256 - 261 من مرشد الحيران وم 1660 - 1675 من مجلة الأحكام العدلية.

(21/140)


عَلَى الأَْعْيَانِ الْمَالِيَّةِ بِخِيَارٍ مِنَ الْخِيَارَاتِ، أَوْ بِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِفَسْخِهِ، فَإِنَّهُ يَنْقَضِي الدَّيْنُ الَّذِي كَانَ مُتَرَتِّبًا عَلَيْهِ، وَتَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمَدِينِ مِنَ الْبَدَل الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ هَلاَكُ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا، وَفَوَاتُ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهَا فِي إِجَارَةِ الأَْعْيَانِ، حَيْثُ تَسْقُطُ الأُْجْرَةُ عَنِ الْمُدَّةِ الْمُتَبَقِّيَةِ وَتَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَجَّل شَيْئًا مِنْهَا، فَلَهُ اسْتِرْدَادُ مَا عَجَّلَهُ زَائِدًا عَلَى أُجْرَةِ الْمُدَّةِ السَّابِقَةِ عَلَى هَلاَكِ الْعَيْنِ (1) . (ر: فَسْخ، إِجَارَة، بَيْع، خِيَار) .

سَابِعًا: تَجْدِيدُ الدَّيْنِ:
76 - وَذَلِكَ بِاسْتِبْدَال دَيْنٍ جَدِيدٍ بِالدَّيْنِ الأَْصْلِيِّ، حَيْثُ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ فَسْخِ عَقْدِ الْمُدَايَنَةِ الأُْولَى وَتَجْدِيدِهَا فِي عَقْدٍ آخَرَ بِتَرَاضِي الْمُتَدَايِنَيْنِ، كَمَا إِذَا كَانَ زَيْدٌ مَدِينًا لِبَكْرٍ بِمَبْلَغِ عِشْرِينَ دِينَارًا أُجْرَةِ مَنْزِلٍ مَمْلُوكٍ لِبَكْرٍ اسْتَأْجَرَهُ زَيْدٌ مِنْهُ، فَيَتَّفِقُ مَعَهُ عَلَى أَنْ يَبْقَى ذَلِكَ الدَّيْنُ بِذِمَّتِهِ عَلَى سَبِيل الْقَرْضِ (2) .
وَلاَ يَخْفَى أَنَّهُ إِذَا فُسِخَ عَقْدُ الْمُدَايَنَةِ الأُْولَى وَصَارَ تَجْدِيدُهُ بِعَقْدٍ آخَرَ، سَقَطَ الدَّيْنُ الْوَاجِبُ بِالْعَقْدِ الأَْوَّل، وَتَرَتَّبَ عَلَى الْمَدِينِ دَيْنٌ جَدِيدٌ
__________
(1) انظر م 253 - 255 من مرشد الحيران.
(2) الفتاوى الخانية 2 / 218، وانظر م 250 من مرشد الحيران.

(21/140)


بِالْعَقْدِ الثَّانِي (1) . وَمِنْ آثَارِ انْقِضَاءِ الدَّيْنِ وَسُقُوطِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ الأَْوَّل مَكْفُولاً، وَفُسِخَ عَقْدُهُ، وَصَارَ تَجْدِيدُهُ بِعَقْدٍ آخَرَ، بَطَلَتِ الْكَفَالَةُ وَبَرِئَ الْكَفِيل، فَلاَ يُطَالَبُ بِالدَّيْنِ الْحَاصِل بِالْعَقْدِ الْجَدِيدِ إِلاَّ إِذَا جُدِّدَتِ الْكَفَالَةُ (2) .

ثَامِنًا: الْحَوَالَةُ:
77 - وَذَلِكَ أَنَّ الْمُحَال إِذَا قَبِل الْحَوَالَةَ وَرَضِيَ الْمُحَال عَلَيْهِ بِهَا بَرِئَ الْمُحِيل وَكَفِيلُهُ - إِنْ كَانَ لَهُ كَفِيلٌ - مِنَ الدَّيْنِ وَمِنَ الْمُطَالَبَةِ مَعًا؛ لاِنْقِضَاءِ الدَّيْنِ بِالْحَوَالَةِ، وَيَثْبُتُ لِلْمُحَال حَقُّ مُطَالَبَةِ الْمُحَال عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ بَرَاءَةَ الْمُحِيل وَكَفِيلِهِ الْمُشَارَ إِلَيْهَا مُقَيَّدَةٌ بِسَلاَمَةِ حَقِّ الْمُحَال لَدَى الْمُحَال عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) . (ر: حَوَالَة) .

تَاسِعًا: مَوْتُ الْمَدِينِ مُفْلِسًا:
78 - وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الذَّاهِبِينَ إِلَى سُقُوطِ الدَّيْنِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا عَنِ الْمَدِينِ إِذَا مَاتَ مُفْلِسًا، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ كَفِيلٌ بِالدَّيْنِ، أَوْ رَهْنٌ قَبْل الْمَوْتِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: " إِنَّ الدَّيْنَ يَسْقُطُ
__________
(1) العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية 1 / 288، وانظر م 251 من مرشد الحيران.
(2) العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية 1 / 288 (بولاق 1300 هـ) ، وانظر م 252 من مرشد الحيران.
(3) رد المحتار 4 / 291، 292 (بولاق 1272 هـ) .

(21/141)


عَنِ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ بِهِ كَفِيلٌ حَال حَيَاتِهِ أَوْ رَهْنٌ (1) ". وَمِنْ هُنَا لَمْ تَصِحَّ عِنْدَهُمْ كَفَالَةُ دَيْنِ مَيِّتٍ مُفْلِسٍ بَعْدَ وَفَاتِهِ (2) . وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ لِلأَْحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى بَقَاءِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ (3) . (ر: إِفْلاَس، كَفَالَة، تَرِكَة) .
__________
(1) رد المحتار 4 / 270.
(2) رد المحتار 4 / 270.
(3) انظر الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب 2 / 21، المغني لابن قدامة 4 / 593 (ط. مكتبة الرياض الحديثة 1401 هـ) .

(21/141)


دَيْنُ اللَّهِ

التَّعْرِيفُ:
1 - فِي اللُّغَةِ: دَانَ يَدِينُ دَيْنًا، وَدَايَنَهُ مُدَايَنَةً وَدِيَانًا، عَامَلَهُ بِالدَّيْنِ فَأَعْطَاهُ دَيْنًا وَأَخَذَ بِدَيْنٍ، وَادَّانَ: اقْتَرَضَ فَصَارَ دَيْنًا. وَالدَّيْنُ: الْقَرْضُ وَثَمَنُ الْمَبِيعِ، وَكُل مَا لَيْسَ حَاضِرًا (1) .
وَالدَّيْنُ اصْطِلاَحًا: عُرِّفَ بِتَعْرِيفَاتٍ كَثِيرَةٍ وَأَوْلَى هَذِهِ التَّعْرِيفَاتِ هُوَ " لُزُومُ حَقٍّ فِي الذِّمَّةِ (2) ". وَهَذَا التَّعْرِيفُ يَشْمَل كُل مَا يَشْغَل ذِمَّةَ الإِْنْسَانِ سَوَاءٌ أَكَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ أَمْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَدَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ حُقُوقُهُ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ وَلاَ مُطَالِبَ لَهَا مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ، كَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْحَجِّ، وَالصَّوْمِ الَّذِي لَمْ يُؤَدَّ، وَالصَّلاَةِ الَّتِي خَرَجَ وَقْتُهَا وَلَمْ تُؤَدَّ،
__________
(1) لسان العرب، ومعجم مقاييس اللغة والمعجم الوسيط والمصباح المنير، والعناية على الهداية وفتح القدير 6 / 346، 632 ط إحياء التراث وابن عابدين 4 / 169.
(2) فتح الغفار شرح المنار 3 / 20.

(21/142)


وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ إِذْ أَنَّ الزَّكَاةَ مِنْ حَقِّ الإِْمَامِ الْمُطَالَبَةُ بِهَا وَكَذَا قَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ كَالْكَفَّارَةِ وَالْهَدْيِ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى:
2 - الْحَقُّ ضِدُّ الْبَاطِل، وَحَقَّ الأَْمْرُ: أَيْ ثَبَتَ وَوَجَبَ. وَحَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ لِلْعَالَمِ فَلاَ يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدٌ، وَيُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا.
قَال الْقَرَافِيُّ: حَقُّ اللَّهِ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا (2) .
وَقَدْ قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى عِبَادَاتٍ وَعُقُوبَاتٍ وَكَفَّارَاتٍ (3) . . . إِلَخْ
__________
(1) الزيلعي 6 / 230، والبدائع 1 / 95، 2 / 7 - 8، 76، ومنح الجليل 1 / 363، والفروق 2 / 134، والحطاب 6 / 409، ومغني المحتاج 1 / 411، 3 / 3، والمغني 3 / 45، وفتح الباري 4 / 65 - 66، وفتح القدير 2 / 117 - 119 نشر دار المعرفة.
(2) حديث: " حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 397 - 398 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 58 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(3) المصباح المنير، وابن عابدين 4 / 188، وكشف الأسرار 4 / 134 - 135، والمنثور في القواعد 2 / 58، والفروق للقرافي 1 / 140 - 142.

(21/142)


فَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَعَمُّ مِنْ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى لأَِنَّهُ يَشْمَل كُل مَا وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ أَكَانَ دَيْنًا تَرَتَّبَ فِي الذِّمَّةِ أَمْ لاَ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - دَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي يَتَرَتَّبُ فِي ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الدَّيْنُ عِبَادَاتٍ بَدَنِيَّةً أَمْ مَالِيَّةً أَمْ كَانَ كَفَّارَاتٍ أَمْ نُذُورًا يَجِبُ قَضَاؤُهُ، لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَال: نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ (1) . قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَيُلْتَحَقُ بِالْحَجِّ كُل حَقٍّ ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ كَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ زَكَاةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (2) .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ كَذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ قَال: نَعَمْ، فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى (3) .
__________
(1) حديث ابن عباس: " أرأيت لو كان على أمك. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 64 - ط السلفية) .
(2) فتح الباري (4 / 6 - 66) .
(3) حديث ابن عباس: " دين الله أحق أن يقضى " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 192 - ط السلفية) .

(21/143)


وَكَذَلِكَ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَلْيُصَل إِذَا ذَكَرَهَا، لاَ كَفَّارَةَ لَهَا إِلاَّ ذَلِكَ (1) .
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ مَا ذُكِرَ عَنِ ابْنِ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ لِغَيْرِ عُذْرٍ لاَ يَقْضِي لِمَفْهُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ نَسِيَ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا (2) . وَحِكْمَتُهُ التَّغْلِيظُ عَلَيْهِ، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ (3) .
هَذَا مَعَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي وَفِيمَا يُقْضَى عَنِ الْمَيِّتِ أَوْ لاَ يُقْضَى.

أَسْبَابُ صَيْرُورَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ:
يَصِيرُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ لأَِسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا:
__________
(1) حديث: " من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها. . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 70 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 477 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(2) حديث: " من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها. . . " أخرجه مسلم (1 / 477 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(3) ابن عابدين 1 / 493، وبدائع الصنائع 1 / 245 - 247، 2 / 103، وفتح القدير 2 / 114، ومنح الجليل 1 / 170، 392، 522، والمنثور 1 / 101 و 3 / 316 - 317، وأشباه السيوطي ص 361 ط الحلبي، ومغني المحتاج 1 / 127 - 128، 329، 440، 445، وأسنى المطالب 1 / 356، وشرح منتهى الإرادات 1 / 139، 453، 456.

(21/143)


أ - خُرُوجُ الْوَقْتِ قَبْل الأَْدَاءِ:
4 - الْعِبَادَةُ الْبَدَنِيَّةُ الَّتِي لَهَا وَقْتٌ مُحَدَّدٌ كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ إِذَا فَاتَ الْوَقْتُ الْمُحَدَّدُ لَهَا قَبْل الأَْدَاءِ اسْتَقَرَّتْ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ وَوَجَبَ الْقَضَاءُ، يَقُول الْقَرَافِيُّ: الصَّلاَةُ لاَ يَنْتَقِل الأَْدَاءُ فِيهَا إِلَى الذِّمَّةِ إِلاَّ إِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ؛ لأَِنَّهَا مُعَيَّنَةٌ بِوَقْتِهَا، وَالْقَضَاءُ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ يَتَعَيَّنُ حَدُّهُ بِخُرُوجِهِ فَهُوَ فِي الذِّمَّةِ، فَالصَّلاَةُ إِنْ تَعَذَّرَ فِيهَا الأَْدَاءُ بِخُرُوجِ وَقْتَيْهَا (أَيِ الاِخْتِيَارِيِّ وَالضَّرُورِيِّ) لِعُذْرٍ لاَ يَجِبُ الْقَضَاءُ، وَإِنْ خَرَجَ لِغَيْرِ عُذْرٍ تَرَتَّبَتْ فِي الذِّمَّةِ وَوَجَبَ الْقَضَاءُ. وَبِمِثْل ذَلِكَ قَال الْكَاسَانِيُّ (1) .
وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ مِنْ عِبَادَاتٍ بَدَنِيَّةٍ مُقَيَّدَةٍ بِوَقْتٍ كَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرِ رَجَبٍ مَثَلاً وَمَضَى شَهْرُ رَجَبٍ دُونَ أَنْ يَصُومَهُ فَإِنَّهُ يُصْبِحُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
وَلِذَلِكَ يُقَسِّمُ الْحَنَفِيَّةُ صَوْمَ الْفَرْضِ إِلَى قِسْمَيْنِ: عَيْنٍ وَدَيْنٍ. فَالْعَيْنُ مَا لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ إِمَّا بِتَعْيِينِ اللَّهِ تَعَالَى كَصَوْمِ رَمَضَانَ وَإِمَّا بِتَعْيِينِ الْعَبْدِ كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، وَأَمَّا صَوْمُ الدَّيْنِ فَمَا لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ كَصَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ (2) . . . إِلَخْ يَقُول الْكَاسَانِيُّ: فَمَنْ
__________
(1) الفروق للقرافي 2 / 134، والبدائع 1 / 95.
(2) البدائع 2 / 75 - 76.

(21/144)


قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ رَجَبٍ فَأَفْطَرَ فِيهِ قَضَى فِي شَهْرٍ آخَرَ لأَِنَّهُ فَوَّتَ الْوَاجِبَ عَنْ وَقْتِهِ فَصَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ عَلَى لِسَانِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى أَنَّ كَوْنَ الصَّلاَةِ أَوِ الصِّيَامِ تُصْبِحُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ لاَ يُنَاقِضُ التَّعَلُّقَ بِالذِّمَّةِ فِي وَقْتِ الأَْدَاءِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى كَلاَمِ الأُْصُولِيِّينَ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ أَصْل الْوُجُوبِ وَوُجُوبِ الأَْدَاءِ، وَبَيْنَ الْوَاجِبِ بِالأَْمْرِ وَالْوَاجِبِ بِالسَّبَبِ وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

ب - إِتْلاَفُ الْمُعَيَّنِ مِنَ الأَْمْوَال أَوْ تَلَفُهُ:
5 - مَعَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِالْعَيْنِ أَوْ بِالذِّمَّةِ إِلاَّ أَنَّهُمْ جَمِيعًا يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اسْتِهْلاَكَ مَال الزَّكَاةِ أَوِ التَّصَرُّفَ فِيهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ يَجْعَلُهَا دَيْنًا ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ. يَقُول الْقَرَافِيُّ: إِنَّ الزَّكَاةَ مَا دَامَتْ مُعَيَّنَةً بِوُجُودِ نِصَابِهَا لاَ تَكُونُ فِي الذِّمَّةِ فَإِذَا تَلِفَ النِّصَابُ بِعُذْرٍ لاَ يَضْمَنُ نَصِيبَ الْفُقَرَاءِ وَلاَ يَنْتَقِل الْوَاجِبُ إِلَى الذِّمَّةِ، وَيَقُول الْكَاسَانِيُّ: مَنْ أَتْلَفَ الثِّمَارَ أَوِ الزَّرْعَ أَوْ أَكَلَهَا بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا ضَمِنَهَا وَكَانَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مَال الزَّكَاةِ بَعْدَ حَوَلاَنِ الْحَوْل (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (زَكَاة) .
__________
(1) البدائع 5 / 95، والمغني 9 / 28 - 30.
(2) الفروق 2 / 134، والبدائع 2 / 7، 63، والمغني 2 / 679، ومغني المحتاج 1 / 419.

(21/144)


وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ مَا كَانَ مُعَيَّنًا مِنْ نَذْرٍ أَوْ هَدْيٍ وَاجِبٍ. فَمَنْ عَيَّنَ هَدْيًا فَعَطِبَ أَوْ سُرِقَ أَوْ ضَل عَادَ الْوُجُوبُ إِلَى ذِمَّتِهِ (1) .

ج - الْعَجْزُ عَنِ الأَْدَاءِ حِينَ الْوُجُوبِ:
6 - قَال النَّوَوِيُّ وَالسُّيُوطِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ: الْحُقُوقُ الْمَالِيَّةُ الْوَاجِبَةُ لِلَّهِ تَعَالَى ثَلاَثَةُ أَضْرُبٍ:
1 - ضَرْبٌ يَجِبُ لاَ بِسَبَبِ مُبَاشَرَةٍ مِنَ الْعَبْدِ كَزَكَاةِ الْفِطْرِ فَإِذَا عَجَزَ عَنْهُ وَقْتَ الْوُجُوبِ لَمْ يَثْبُتْ فِي ذِمَّتِهِ فَلَوْ أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ.
2 - وَضَرْبٌ يَجِبُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ عَلَى جِهَةِ الْبَدَل كَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَفِدْيَةِ الْحَلْقِ وَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ فِي الْحَجِّ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْهُ وَقْتَ وُجُوبِهِ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ تَغْلِيبًا لِمَعْنَى الْغَرَامَةِ لأَِنَّهُ إِتْلاَفٌ مَحْضٌ.
3 - وَضَرْبٌ يَجِبُ بِسَبَبِهِ لاَ عَلَى جِهَةِ الْبَدَل كَكَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ وَالْقَتْل، فَفِيهَا قَوْلاَنِ مَشْهُورَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ عِنْدَ الْعَجْزِ لأَِنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْعَجْزِ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ (2) .
__________
(1) المغني 3 / 534، وابن عابدين 2 / 12.
(2) المجموع شرح المهذب 6 / 309، وأشباه السيوطي ص 361 ط عيسى الحلبي، والمنثور 2 / 59 - 60، ومغني المحتاج 3 / 367 و 1 / 440، 445.

(21/145)


وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (صَوْم، وَكَفَّارَة، وَقَتْل، وَظِهَار) .

د - النُّذُورُ الْمُطْلَقَةُ:
7 - وَهِيَ الَّتِي لَمْ تُعَلَّقْ عَلَى شَرْطٍ أَوْ تُقَيَّدْ بِوَقْتٍ بَل كَانَتْ مُضَافَةً إِلَى وَقْتٍ مُبْهَمٍ كَمَنْ قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا، فَهِيَ فِي الذِّمَّةِ إِلَى أَنْ تُؤَدَّى، وَجَمِيعُ الْعُمْرِ وَقْتٌ لَهَا عِنْدَ مَنْ يَقُول بِأَنَّ الأَْمْرَ الْمُطْلَقَ عَلَى التَّرَاخِي. وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ الْحَجُّ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي كَالْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَيَقُول الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ نَذْرِ الْقُرْبَةِ الْمَالِيَّةِ كَالصَّدَقَةِ وَالأُْضْحِيَّةِ الاِلْتِزَامُ لَهَا فِي الذِّمَّةِ أَوِ الإِْضَافَةِ إِلَى مُعَيَّنٍ يَمْلِكُهُ (2) .
وَيَقُول الْقَرَافِيُّ: جَمِيعُ الْعُمْرِ ظَرْفٌ لِوُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِإِيقَاعِ النُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ لِوُجُودِ التَّكْلِيفِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ (3) .

النِّيَابَةُ عَنِ الْغَيْرِ فِي أَدَاءِ دَيْنِ اللَّهِ:
8 - دَيْنُ اللَّهِ الْمَالِيُّ الْمَحْضُ كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ عَنِ الْغَيْرِ سَوَاءٌ أَكَانَ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا إِخْرَاجُ الْمَال وَهُوَ يَحْصُل بِفِعْل النَّائِبِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الأَْدَاءُ عَنِ الْحَيِّ أَمْ عَنِ
__________
(1) البدائع 5 / 94.
(2) مغني المحتاج 4 / 358.
(3) الفروق 1 / 221 - 222.

(21/145)


الْمَيِّتِ، إِلاَّ أَنَّ الأَْدَاءَ عَنِ الْحَيِّ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ بِاتِّفَاقٍ وَذَلِكَ لِلاِفْتِقَارِ فِي الأَْدَاءِ إِلَى النِّيَّةِ لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ فَلاَ تَسْقُطُ عَنِ الْمُكَلَّفِ بِدُونِ إِذْنِهِ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَيِّتِ فَلاَ يُشْتَرَطُ الإِْذْنُ إِذْ يَجُوزُ التَّبَرُّعُ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ عَنِ الْمَيِّتِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ فَلاَ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا حَال الْحَيَاةِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (1) وَقَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلاَ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ (2) .
قَال الْكَاسَانِيُّ: أَيْ فِي حَقِّ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ لاَ فِي حَقِّ الثَّوَابِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ بَعْدَ الْمَمَاتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَهَذَا الْحُكْمُ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِقَضَاءِ الْعِبَادَةِ نَفْسِهَا عَنِ الْمَيِّتِ. أَمَّا فِدْيَةُ الصِّيَامِ وَكَفَّارَةُ الإِْفْطَارِ فَيَجُوزُ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَتَبَرَّعُوا بِهَا عَنِ الْمَيِّتِ إِذَا لَمْ يُوصِ. أَمَّا إِذَا أَوْصَى فَقَال الْحَنَفِيَّةُ فَتُؤَدَّى مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ (3) . وَلِغَيْرِهِمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ
__________
(1) سورة النجم / 39.
(2) الأثر عن ابن عباس: " لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم. . . " أخرجه النسائي في الكبرى 2 / 314 - ط المكتبة القيمة، وصححه ابن حجر في التلخيص (2 / 209 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) البدائع 2 / 41، 53، 103، 118، 212، 5 / 96، وابن عابدين 1 / 491 - 493، والزيلعي 6 / 230، ومنح الجليل 1 / 375، 383، 404، والحطاب 2 / 543 - 544، والفروق 2 / 205 و 3 / 188.

(21/146)


يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَصِيَّة) .
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَلاَ يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَنِ الْمَيِّتِ عَمَّا تَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ صَلاَةٍ فَاتَتْهُ وَمَاتَ دُونَ قَضَائِهَا. وَأَمَّا الصَّوْمُ فَمَا تَرَتَّبَ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ مِنْهُ فَفِي الْجَدِيدِ لاَ يَصِحُّ الصَّوْمُ عَنْهُ لأَِنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لاَ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَال الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا يُكَفَّرُ عَنْهُ بِإِخْرَاجِ مُدٍّ مِنْ طَعَامٍ عَنْ كُل يَوْمٍ فَاتَهُ، وَفِي الْقَدِيمِ يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ وَلِيُّهُ عَنْهُ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ (1) ، وَهَذَا هُوَ الأَْظْهَرُ، قَال السُّبْكِيُّ وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُخْتَارَ وَالْمُفْتَى بِهِ، وَالْقَوْلاَنِ يَجْرِيَانِ فِي الصِّيَامِ الْمَنْذُورِ إِذَا لَمْ يُؤَدَّ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ فَصَلُوا بَيْنَ الْوَاجِبِ بِأَصْل الشَّرْعِ مِنْ صَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَبَيْنَ مَا أَوْجَبَهُ الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ نَذْرِ صَلاَةٍ وَصِيَامٍ. فَقَالُوا: مَنْ مَاتَ وَفِي ذِمَّتِهِ صَلاَةٌ مَفْرُوضَةٌ لَمْ تُؤَدَّ، أَوْ صِيَامُ رَمَضَانَ لَمْ يُؤَدَّ، فَلاَ تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي ذَلِكَ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ لاَ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ حَال الْحَيَاةِ فَبَعْدَ الْمَوْتِ كَذَلِكَ. أَمَّا مَا أَوْجَبَهُ الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ مِنْ صَلاَةٍ وَصَوْمٍ وَتَمَكَّنَ مِنَ الأَْدَاءِ وَلَمْ يَفْعَل حَتَّى مَاتَ سُنَّ لِوَلِيِّهِ فِعْل النَّذْرِ
__________
(1) حديث: " من مات وعليه صيام صام عنه وليه " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 192 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 803 - ط الحلبي) من حديث عائشة.

(21/146)


عَنْهُ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَال: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: فَصَوْمِي عَنْ أُمِّكِ. لأَِنَّ النَّذْرَ أَخَفُّ حُكْمًا مِنَ الْوَاجِبِ بِأَصْل الشَّرْعِ.
وَيَجُوزُ لِغَيْرِ الْوَلِيِّ فِعْل مَا عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ نَذْرٍ بِإِذْنِهِ وَبِدُونِ إِذْنِهِ (1) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَجِّ لِمَا فِيهِ مِنْ جَانِبٍ مَالِيٍّ وَجَانِبٍ بَدَنِيٍّ، فَمَنْ كَانَ عَاجِزًا بِنَفْسِهِ عَنْ أَدَاءِ الْحَجِّ وَأَمْكَنَهُ الأَْدَاءُ بِمَالِهِ بِإِنَابَةِ غَيْرِهِ مَنَابَ نَفْسِهِ لَزِمَهُ الإِْنَابَةُ فِي الْحَجِّ عَنْهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي الْحَجِّ. وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيِّ فِي الْجُمْلَةِ.
أَمَّا مَنْ مَاتَ وَكَانَ مُسْتَطِيعًا وَلَمْ يَحُجَّ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَجِبُ الْقَضَاءُ مِنْ رَأْسِ مَال تَرِكَتِهِ؛ لِمَا رَوَى بُرَيْدَةُ قَال: أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ،
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 184 - 187، والمجموع شرح المهذب 6 / 77، 337، 343 تحقيق المطيعي، ومغني المحتاج 1 / 439 و 3 / 68 - 69، شرح منتهى الإرادات 1 / 121، 453، 457 - 458، والمغني 3 / 143 و 9 / 30 - 31.

(21/147)


فَقَال لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حُجِّي عَنْ أُمِّكِ (1) . وَلأَِنَّهُ حَقٌّ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ حَال الْحَيَاةِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَدَيْنِ الآْدَمِيِّ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حَجُّ الْفَرِيضَةِ وَالنَّذْرِ، فَإِنْ حَجَّ عَنْهُ الْوَارِثُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِاسْتِئْجَارٍ سَقَطَ الْحَجُّ عَنِ الْمَيِّتِ. وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ حَجَّ عَنِ الْمَيِّتِ أَجْنَبِيٌّ جَازَ وَلَوْ بِلاَ إِذْنٍ كَمَا إِنَّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ بِلاَ إِذْنٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ تَبَرُّعُ الْوَارِثِ بِالْحَجِّ بِنَفْسِهِ عَنِ الْمَيِّتِ أَوْ بِالإِْحْجَاجِ عَنْهُ رَجُلاً آخَرَ وَلَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) .

أَثَرُ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ
8 م - مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ أَلاَّ يَكُونَ هُنَاكَ دَيْنٌ لآِدَمِيٍّ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ لأَِنَّ لَهُ مُطَالِبًا مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ، وَكَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِدَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى كَالْكَفَّارَةِ وَالنَّذْرِ وَالْهَدْيِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْل خَلِيلٍ وَابْنِ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَمْنَعُ وُجُوبَ
__________
(1) حديث بريدة: " حجي عن أمك " أخرجه مسلم 2 / 805 - ط الحلبي.
(2) البدائع 2 / 212 - 213، 221، وابن عابدين 1 / 514 - 515 و 2 / 245، والشرح الكبير 2 / 10، ومغني المحتاج 1 / 468، والمجموع شرح المهذب 7 / 82 - 87، والمغني 3 / 241 - 245.

(21/147)


الزَّكَاةِ؛ لأَِنَّ أَثَرَ هَذَا الدَّيْنِ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الآْخِرَةِ وَهُوَ الثَّوَابُ بِالأَْدَاءِ وَالإِْثْمُ بِالتَّرْكِ، وَلإِِطْلاَقِ الأَْدِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلزَّكَاةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَعِنْدَ ابْنِ عَتَّابٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ هَذَا الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي الأَْمْوَال عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَال: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُول: هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلِيُؤَدِّهِ حَتَّى تُخْرِجُوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ. وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى (1) .
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّ هَذَا الدَّيْنَ يَمْنَعُ زَكَاةَ الْمَال الْبَاطِنِ وَهُوَ النَّقْدُ وَالْعَرْضُ وَلاَ يَمْنَعُ زَكَاةَ الْمَال الظَّاهِرِ وَهُوَ الْمَاشِيَةُ وَالزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ وَالْمَعَادِنُ.
وَهَذَا الْحُكْمُ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ لِدُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا فِي ذَلِكَ دَيْنُ الزَّكَاةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ دَيْنِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهِ مِنَ الدُّيُونِ. فَالْحُكْمُ السَّابِقُ عِنْدَهُمْ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ دَيْنِ الزَّكَاةِ.
أَمَّا مَنْ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ زَكَاةُ سَنَوَاتٍ مَضَتْ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ لِلزَّكَاةِ الْحَاضِرَةِ.
فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ دَيْنُ الزَّكَاةِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ الْحَاضِرَةِ، وَهُوَ قَوْل زُفَرَ فِي
__________
(1) حديث: " دين الله أحق أن يقضى " سبق تخريجه ف / 3.

(21/148)


الأَْمْوَال الظَّاهِرَةِ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ: دَيْنُ الزَّكَاةِ لاَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ الْحَاضِرَةِ، وَهُوَ قَوْل زُفَرَ فِي الأَْمْوَال الْبَاطِنَةِ.
وَحُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِالْمَنْعِ أَنَّ دَيْنَ الزَّكَاةِ لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ وَهُوَ الإِْمَامُ فَأَشْبَهَ دَيْنَ الآْدَمِيِّ وَهُوَ تَعْلِيل زُفَرَ فِي الأَْمْوَال الظَّاهِرَةِ بِخِلاَفِ الْبَاطِنَةِ. وَيُلاَحَظُ أَنَّ الأَْحْكَامَ السَّابِقَةَ جَمِيعُهَا إِنَّمَا هِيَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِزَكَاةِ الْعَيْنِ (النَّقْدَيْنِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ) فَهِيَ الَّتِي يُؤَثِّرُ فِيهَا الدَّيْنُ، أَمَّا زَكَاةُ الْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ فَلاَ يُؤَثِّرُ الدَّيْنُ فِي وُجُوبِ إِخْرَاجِهَا (1) . وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ: (زَكَاة) .

حُكْمُ الإِْيصَاءِ بِدَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى:
9 - دُيُونُ اللَّهِ تَعَالَى الْمَالِيَّةُ الَّتِي اسْتَقَرَّتْ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ مِنْ زَكَاةٍ أَوْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ أَوْ إِفْطَارٍ فِي رَمَضَانَ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ فِدْيَةِ أَذًى فِي الْحَجِّ، أَوْ جَزَاءِ صَيْدٍ، أَوْ هَدْيٍ لِتَمَتُّعٍ أَوْ قِرَانٍ إِذَا أَدْرَكَتْهُ الْوَفَاةُ وَلَمْ يُؤَدِّهَا يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْيصَاءُ بِهَا. وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْحَجِّ، أَوْ كَانَ
__________
(1) البدائع 2 / 7 - 8، وابن عابدين 2 / 5، والدسوقي 1 / 483، ومنح الجليل 1 / 362 - 363، ومغني المحتاج 1 / 411، ونهاية المحتاج 3 / 130، وشرح منتهى الإرادات 1 / 368 - 369.

(21/148)


عَاجِزًا بِنَفْسِهِ وَأَمْكَنَهُ الأَْدَاءُ بِمَالِهِ بِإِنَابَةِ غَيْرِهِ مَنَابَ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْحَجِّ عَنْهُ.
أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الَّتِي تَرَتَّبَتْ فِي ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ كَالصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ فَإِنَّ الصِّيَامَ الَّذِي فَرَّطَ الإِْنْسَانُ فِيهِ كَقَضَاءِ رَمَضَانَ أَوْ صِيَامِ كَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٍ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ عِنْدَ وَفَاتِهِ بِالْفِدْيَةِ، وَهِيَ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ عَنْ كُل يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الصِّيَامِ الَّتِي فَاتَتْهُ.
وَالْحُكْمُ فِي جَمِيعِ مَا سَبَقَ هُوَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ فَاتَتْهُ صَلاَةٌ لَمْ يَقْضِهَا. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: مَنْ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ وَكَانَ يَقْدِرُ عَلَى الصَّلاَةِ وَلَوْ بِالإِْيمَاءِ وَلَمْ يُصَل فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الإِْيصَاءُ بِالْكَفَّارَةِ بِأَنْ يُعْطِيَ لِكُل صَلاَةٍ فَاتَتْهُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ كَالْفِطْرَةِ قَال: وَكَذَا حُكْمُ الْوِتْرِ. وَنَقَل الْبُوَيْطِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يُطْعَمَ لِكُل صَلاَةٍ مُدٌّ (1) .

تَعَلُّقُ دَيْنِ اللَّهِ بِتَرِكَةِ الْمَيِّتِ:
10 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دَيْنَ اللَّهِ
__________
(1) البدائع 2 / 103، 104، 118، 221، 7 / 330، وابن عابدين 1 / 491 - 492، وفتح القدير 2 / 273 ط دار إحياء التراث، والكافي لابن عبد البر 1 / 338 - 339، 2 / 1036، ومنح الجليل 4 / 643، والشرح الصغير 2 / 465 ط الحلبي، ومغني المحتاج 1 / 439، 3 / 39، وقليوبي 3 / 177، وشرح منتهى الإرادات 2 / 540 - 547.

(21/149)


سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُتَرَتِّبَ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ يَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ، وَيَجِبُ أَدَاؤُهُ مِنْهَا سَوَاءٌ أَوْصَى الْمَيِّتُ بِذَلِكَ أَمْ لَمْ يُوصِ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ لاَ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ إِلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِهِ الْمَيِّتُ فَإِذَا أَوْصَى بِهِ أَخْرَجَهُ الْوَرَثَةُ مِنَ التَّرِكَةِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يَتَعَلَّقُ دَيْنُ اللَّهِ بِالتَّرِكَةِ إِلاَّ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ هِيَ:
أ - أَنْ يُوصِيَ الْمَيِّتُ بِذَلِكَ فَتَخْرُجُ مِنَ التَّرِكَةِ.
ب - أَنْ يُشْهِدَ فِي صِحَّتِهِ بِأَنَّ هَذَا الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَخْرُجُ مِنَ التَّرِكَةِ وَلَوْ لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ.
ج - أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْوَاجِبُ إِخْرَاجُهَا قَائِمَةً كَزَكَاةِ الْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَهَل يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ الْمَال أَوْ مِنَ الثُّلُثِ، وَمَا يُقَدَّمُ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ (1) ؟ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَرِكَة) .

سُقُوطُ دَيْنِ اللَّهِ
11 - الأَْصْل أَنَّ دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يَسْقُطُ وَلاَ تَبْرَأُ مِنْهُ الذِّمَّةُ إِلاَّ بِالْقَضَاءِ، لَكِنْ هُنَاكَ بَعْضُ الأَْسْبَابِ الَّتِي يَسْقُطُ بِهَا الْقَضَاءُ وَمِنْ ذَلِكَ:
__________
(1) شرح السراجية للجرجاني بحاشية الفناري ص 30، والدسوقي 4 / 441 - 457، ومغني المحتاج 3 / 68 - 69، ونهاية المحتاج 6 - 7، 76، وشرح منتهى الإرادات 1 / 121، 373، 417، 457، 458 و 2 / 547، والمغني 2 / 683 - 684، 3 / 81، 143 - 145.

(21/149)


1 - الْحَرَجُ:
12 - أ - فَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ لاَ يَسْقُطُ عَنْهُمَا قَضَاءُ الصَّوْمِ وَيَسْقُطُ عَنْهُمَا قَضَاءُ الصَّلاَةِ لِلْحَرَجِ يَقُول الْكَاسَانِيُّ: يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ قَضَاءُ الصَّوْمِ لِفَوَاتِ صَوْمِ رَمَضَانَ عَلَيْهِمَا وَلِقُدْرَتِهِمَا عَلَى الْقَضَاءِ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَرَجِ لأَِنَّ وُجُوبَهَا يَتَكَرَّرُ فِي كُل يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ (1) .
ب - الْمُغْمَى عَلَيْهِ، إِنْ أُغْمِيَ عَلَى شَخْصٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ أَقَل يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الصَّلاَةِ لاِنْعِدَامِ الْحَرَجِ، وَإِنْ زَادَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ يُحْرَجُ فِي الْقَضَاءِ لِدُخُول الْعِبَادَةِ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يُفِيقَ فِي جُزْءٍ مِنْ وَقْتِهَا. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَقْضِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي فَاتَتْهُ حَال إِغْمَائِهِ. وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِغْمَاء) .
ج - يَقُول الْحَنَفِيَّةُ: الْمَرِيضُ الْعَاجِزُ عَنِ الإِْيمَاءِ فِي الصَّلاَةِ إِذَا فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ ثُمَّ بَرِئَ، فَإِنْ كَانَ مَا فَاتَهُ يَوْمًا أَوْ أَقَل قَضَاهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَرَجِ، وَذَلِكَ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِمِثْل ذَلِكَ رُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ
__________
(1) البدائع 2 / 89، والمغني 3 / 142، والفروق 2 / 62.

(21/150)


وَهُوَ أَيْضًا مِنِ اخْتِيَارَاتِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ (1) .

2 - الْعَجْزُ عَنِ الْقَضَاءِ:
13 - أ - مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ لِعُذْرٍ مِنْ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ ثُمَّ مَاتَ سَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَجَبَ بِالشَّرْعِ، وَقَدْ مَاتَ قَبْل إِمْكَانِ فِعْلِهِ فَسَقَطَ إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ كَالْحَجِّ (2) .
ب - مَنْ عَجَزَ عَنْ كَفَّارَةِ الإِْفْطَارِ فِي رَمَضَانَ الَّتِي وَجَبَتْ بِجِمَاعٍ أَوْ بِغَيْرِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الْمَذَاهِبِ سَقَطَتْ عَنْهُ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الأَْعْرَابِيَّ أَنْ يُطْعِمَ أَهْلَهُ (3) وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِكَفَّارَةٍ أُخْرَى وَلاَ بَيَّنَ لَهُ بَقَاءَهَا فِي ذِمَّتِهِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ. وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: تَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ (4) .

3 - هَلاَكُ مَال الزَّكَاةِ:
14 - هَلاَكُ نِصَابِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا بِحَوَلاَنِ
__________
(1) البدائع 1 / 246، والاختيارات ص72، والمغني 1 / 400.
(2) البدائع 2 / 103، والاختيار 1 / 134، ومنح الجليل 1 / 413، ومغني المحتاج 1 / 438، والمهذب 1 / 194، وشرح منتهى الإرادات 1 / 457.
(3) حديث: " أمر الأعرابي أن يطعم أهله " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 163 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(4) شرح منتهى الإرادات 1 / 453، والمغني 3 / 132، ومغني المحتاج 1 / 445، والحطاب 2 / 432، والبدائع 5 / 112.

(21/150)


الْحَوْل يُسْقِطُ الزَّكَاةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْهَلاَكُ قَبْل التَّمَكُّنِ مِنَ الأَْدَاءِ أَمْ بَعْدَهُ؛ لأَِنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ يَسْتَدْعِي تَفْوِيتَ مِلْكٍ أَوْ يَدٍ، وَتَأْخِيرَ الزَّكَاةِ عَنْ أَوَّل أَوْقَاتِ الإِْمْكَانِ لَمْ يُفَوِّتْ عَلَى الْفَقِيرِ مِلْكًا وَلاَ يَدًا فَلاَ يَضْمَنُ.
وَيَقُول ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ فَعَزَلَهَا وَأَخْرَجَهَا فَتَلِفَتْ مِنْهُ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ إِلاَّ إِنْ تَلِفَ الْمَال قَبْل التَّمَكُّنِ مِنَ الأَْدَاءِ بِلاَ تَقْصِيرٍ، أَمَّا بَعْدَ التَّمَكُّنِ فَتَلَفُ الْمَال يُوجِبُ الضَّمَانَ (1) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: الزَّكَاةُ لاَ تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَال فَرَّطَ أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ، هَذَا الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَحَكَى عَنْهُ الْمَيْمُونِيُّ أَنَّهُ إِذَا تَلِفَ النِّصَابُ قَبْل التَّمَكُّنِ مِنَ الأَْدَاءِ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ عَنْهُ، وَإِنْ تَلِفَ بَعْدَهُ لَمْ تَسْقُطْ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مَذْهَبًا لأَِحْمَدَ، ثُمَّ قَال ابْنُ قُدَامَةَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَالصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ الزَّكَاةَ تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَال إِذَا لَمْ يُفَرِّطْ فِي الأَْدَاءِ لأَِنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيل الْمُوَاسَاةِ فَلاَ تَجِبُ عَلَى وَجْهٍ يَجِبُ أَدَاؤُهَا مَعَ عَدَمِ الْمَال وَفَقْرِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (زَكَاة) .
__________
(1) البدائع 2 / 22، 53، والأشباه لابن نجيم ص 359، والكافي لابن عبد البر 1 / 302، ومغني المحتاج 1 / 418.
(2) المغني 2 / 682 - 683.

(21/151)


4 - الرِّدَّةُ
15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرِّدَّةَ تُسْقِطُ دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ أَكَانَ بَدَنِيًّا أَمْ مَالِيًّا لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (1) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإِْسْلاَمُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ (2) . وَعَلَى هَذَا فَمَنْ كَانَ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ - وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ - ثُمَّ أَسْلَمَ فَمَا كَانَ مِنْ دُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذِمَّتِهِ فَقَدْ بَطَل تَعَلُّقُهُ بِهَا وَسَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرِّدَّةَ لاَ تُسْقِطُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى مَالِيًّا أَوْ بَدَنِيًّا (3) .
وَقَدْ فَصَّل ابْنُ قُدَامَةَ الْقَوْل بِالنِّسْبَةِ لِمَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ فَقَال فِي الزَّكَاةِ: مَنِ ارْتَدَّ قَبْل مُضِيِّ الْحَوْل وَحَال الْحَوْل وَهُوَ مُرْتَدٌّ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الإِْسْلاَمَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فَعَدَمُهُ فِي بَعْضِ الْحَوْل يُسْقِطُ الزَّكَاةَ كَالْمِلْكِ وَالنِّصَابِ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى الإِْسْلاَمِ قَبْل مُضِيِّ الْحَوْل اسْتَأْنَفَ حَوْلاً، أَمَّا إِنِ ارْتَدَّ بَعْدَ الْحَوْل لَمْ تَسْقُطِ الزَّكَاةُ عَنْهُ.
__________
(1) سورة الأنفال / 38.
(2) حديث: " الإسلام يهدم ما كان قبله " أخرجه مسلم (1 / 112 - ط الحلبي) من حديث عمرو بن العاص.
(3) البدائع 2 / 4، 53، 117، 7 / 136، ومنح الجليل 4 / 472، ومغني المحتاج 1 / 130، 408.

(21/151)


وَأَمَّا الصَّلاَةُ فَلاَ تَسْقُطُ أَيْضًا لَكِنْ لاَ يُطَالَبُ بِفِعْلِهَا لأَِنَّهَا لاَ تَصِحُّ مِنْهُ وَلاَ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ، فَإِذَا عَادَ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا، وَالزَّكَاةُ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ وَلاَ تَسْقُطُ بِالرِّدَّةِ كَالدَّيْنِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (رِدَّة، زَكَاة) .

5 - الْمَوْتُ:
16 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دُيُونَ اللَّهِ لاَ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ بَل تَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ فَيَخْرُجُ مِنْهَا مَا عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ دُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى كَدُيُونِ الآْدَمِيِّ. وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ الْحَجُّ فَيُحَجُّ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ. أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ فَإِنَّ الصَّلاَةَ تَسْقُطُ عَنْهُ عِنْدَهُمَا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قَالَهُ الْبُوَيْطِيُّ الشَّافِعِيُّ مِنَ الإِْطْعَامِ عَنْهُ لِكُل صَلاَةٍ مُدٌّ، وَمِثْل ذَلِكَ قِيل فِي الاِعْتِكَافِ الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ. وَأَمَّا الصِّيَامُ فَيُفْدَى عَنْهُ، وَفِي الْقَدِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُصَامُ عَنْهُ، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ وَالْقَدِيمُ أَظْهَرُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ نَذْرُ الْعِبَادَةِ يُفْعَل عَنِ الْمَيِّتِ مِنْ تَرِكَتِهِ، أَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ وَالْكَفَّارَةُ فَيُطْعَمُ عَنْهُ.
وَقَدِ اسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِعَدَمِ سُقُوطِ دَيْنِ اللَّهِ بِالْمَوْتِ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: قَالَتِ امْرَأَةٌ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ
__________
(1) المغني 3 / 55.

(21/152)


وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا قَال: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَال: فَصَوْمِي عَنْ أُمِّكِ (1) .
وَمَا رَوَى النَّسَائِيُّ أَنَّ رَجُلاً قَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَال: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَال: نَعَمْ، قَال: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ (2) ، كَمَا اسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ بِصِيَامِ الْوَلِيِّ بِقَوْل النَّبِيِّ: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ (3) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمَوْتَ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا لَمْ يُوصِ بِهِ، فَمَنْ مَاتَ وَفِي ذِمَّتِهِ صَلاَةٌ أَوْ صَوْمٌ أَوْ زَكَاةٌ أَوْ حَجٌّ أَوْ كَفَّارَةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى سَقَطَتْ عَنْهُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَلِذَلِكَ لاَ تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَلاَ يُؤْمَرُ الْوَصِيُّ أَوِ الْوَارِثُ بِالأَْدَاءِ مِنَ التَّرِكَةِ؛ لأَِنَّ دَيْنَ اللَّهِ عِبَادَةٌ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِنِيَّةِ الْمُكَلَّفِ وَفِعْلِهِ، فَإِذَا لَمْ يُوصِ فَقَدْ فَاتَ الشَّرْطُ بِمَوْتِهِ فَلاَ يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الْوَاجِبِ فَيَسْقُطُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِلتَّعَذُّرِ.
لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْعُشْرِ إِذَا كَانَ قَائِمًا، فَمَنْ
__________
(1) حديث ابن عباس: " قالت امرأة: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها. . . " أخرجه مسلم (2 / 804 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " أرأيت لو كان على أبيك دين ". أخرجه النسائي (5 / 118 - ط المكتبة التجارية) من حديث عبد الله بن عباس.
(3) حديث: " من مات وعليه صيام. . . " سبق تخريجه ف / 7.

(21/152)


مَاتَ وَعَلَيْهِ الْعُشْرُ، فَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ قَائِمًا فَلاَ يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَسْقُطُ، أَمَّا لَوْ كَانَ الْخَارِجُ مُسْتَهْلَكًا فَإِنَّهُ يَسْقُطُ.
وَالأَْصْل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمَوْتَ يُسْقِطُ مَا عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ دُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ فِي أَحْوَالٍ ثَلاَثَةٍ وَهِيَ:
أ - إِذَا أَوْصَى بِهَا.
ب - إِذَا أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ وَلَوْ لَمْ يُوصِ بِهَا.
ج - إِذَا تَعَلَّقَ بِعَيْنٍ قَائِمَةٍ كَزَكَاةِ الْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (حَجّ، وَصَوْم) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 492، 5 / 484، والزيلعي 6 / 230، والبدائع 2 / 53، وشرح السراجية بحاشية الفناري ص 30، وأشباه ابن نجيم ص 360، والدسوقي 4 / 441 - 422، 444، 457، ومنح الجليل 4 / 670 - 671.

(21/153)


الدِّينَارِيَّةُ الصُّغْرَى

التَّعْرِيفُ:
1 - الدِّينَارِيَّةُ: مَنْسُوبَةٌ إِلَى الدِّينَارِ، وَوُصِفَتْ بِالصُّغْرَى لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ " الدِّينَارِيَّةُ الْكُبْرَى ". وَالدِّينَارُ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ (1) . انْظُرْ تَفْصِيلَهُ فِي مُصْطَلَحِ: (دَنَانِيرُ) . وَالدِّينَارِيَّةُ الصُّغْرَى فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: هِيَ مَسْأَلَةٌ مِنَ الْمَسَائِل الْمُلَقَّبَاتِ فِي الْمَوَارِيثِ، وَهِيَ الْمَسَائِل الَّتِي لُقِّبَتْ كُلٌّ مِنْهَا بِلَقَبٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَمِنْهَا - غَيْرَ مَسْأَلَتِنَا - الدِّينَارِيَّةُ الْكُبْرَى، وَالأَْكْدَرِيَّةُ، وَالْخَرْقَاءُ، وَغَيْرُهَا (2) .

صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ وَمَا لُقِّبَتْ بِهِ:
2 - صَوَّرَ الْفُقَهَاءُ " الدِّينَارِيَّةَ الصُّغْرَى " فِي إِرْثٍ انْحَصَرَ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ أُنْثَى، هُنَّ: ثَلاَثُ زَوْجَاتٍ، وَجَدَّتَانِ، وَأَرْبَعُ أَخَوَاتٍ لأُِمٍّ، وَثَمَانِي أَخَوَاتٍ شَقِيقَاتٍ أَوْ لأَِبٍ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: " دنر "، المقادير الشرعية 118، 120، 132، 143.
(2) أسنى المطالب 3 / 25.

(21/153)


وَلُقِّبَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِأَلْقَابٍ أُخْرَى - غَيْرِ لَقَبِ: الدِّينَارِيَّةِ الصُّغْرَى - مِنْهَا: " السَّبْعَةَ عَشْرِيَّةَ " نِسْبَةً إِلَى عَدَدِ الْوَارِثَاتِ فِيهَا " وَأُمُّ الأَْرَامِل " لِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْوَارِثَاتِ الأَْرَامِل " وَأُمُّ الْفُرُوجِ " لأَِنَّ جَمِيعَ الْوَارِثَاتِ فِيهَا مِنَ النِّسَاءِ " وَالْمِنْبَرِيَّةُ "، وَأَمَّا تَلْقِيبُهَا " بِالدِّينَارِيَّةِ الصُّغْرَى " فَلأَِنَّ مَيِّتًا تَرَكَ سَبْعَةَ عَشَرَ دِينَارًا فَخَصَّ كُل وَارِثَةٍ دِينَارٌ (1) .

الْحُكْمُ فِي الدِّينَارِيَّةِ الصُّغْرَى:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الإِْرْثَ حِينَ يَنْحَصِرُ فِي: ثَلاَثِ زَوْجَاتٍ، وَجَدَّتَيْنِ، وَأَرْبَعِ أَخَوَاتٍ لأُِمٍّ، وَثَمَانِي أَخَوَاتٍ شَقِيقَاتٍ أَوْ لأَِبٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلزَّوْجَاتِ الثَّلاَثِ الرُّبْعُ - وَهُوَ ثَلاَثَةٌ مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ - وَلِلْجَدَّتَيْنِ السُّدُسُ - وَهُوَ اثْنَانِ - وَلِلأَْخَوَاتِ لِلأُْمِّ الثُّلُثُ - وَهُوَ أَرْبَعَةٌ - وَلِلأَْخَوَاتِ الشَّقِيقَاتِ أَوْ لأَِبٍ الثُّلُثَانِ - وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ - فَيَكُونُ مَجْمُوعُ السِّهَامِ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَهُوَ الْعَدَدُ الَّذِي عَالَتْ إِلَيْهِ الْمَسْأَلَةُ.
وَيَكُونُ لِكُل وَاحِدَةٍ مِنَ الْوَارِثَاتِ سَهْمٌ: لِكُل وَاحِدَةٍ مِنَ الزَّوْجَاتِ الثَّلاَثِ سَهْمٌ مِنْ نَصِيبِهِنَّ " الرُّبْعُ " وَهُوَ ثَلاَثَةٌ، وَلِكُل وَاحِدَةٍ مِنَ الْجَدَّتَيْنِ سَهْمٌ مِنْ نَصِيبِهِمَا " السُّدُسُ " وَهُوَ
__________
(1) الاختيار 3 / 227 - 228، الزرقاني 8 / 216 - 217، روضة الطالبين 6 / 63، أسنى المطالب 3 / 25، مطالب أولي النهى 4 / 583 - 584.

(21/154)


اثْنَانِ، وَلِكُل وَاحِدَةٍ مِنَ الأَْخَوَاتِ الأَْرْبَعِ لِلأُْمِّ سَهْمٌ مِنْ نَصِيبِهِنَّ " الثُّلُثُ " وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، وَلِكُل وَاحِدَةٍ مِنَ الأَْخَوَاتِ الشَّقِيقَاتِ أَوْ لأَِبٍ سَهْمٌ مِنْ نَصِيبِهِنَّ " الثُّلُثَانِ " وَهُمَا ثَمَانِيَةٌ. أَصْل الْمَسْأَلَةِ اثْنَا عَشَرَ وَعَالَتْ إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنَ الْمَسَائِل الَّتِي يُعَايَا بِهَا فَيُقَال: سَبْعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً مِنْ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، اقْتَسَمْنَ مَال الْمَيِّتِ، حَصَل لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سَهْمٌ (1) .
وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَحْوِهَا يُرَاجَعُ: " إِرْث " وَيُنْظَرُ: " عَوْل ".
__________
(1) المراجع السابقة.

(21/154)


الدِّينَارِيَّةُ الْكُبْرَى

التَّعْرِيفُ:
1 - الدِّينَارِيَّةُ: مَنْسُوبَةٌ إِلَى الدِّينَارِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ " دَنَانِير ". وَالْكُبْرَى: صِفَةٌ تُمَيِّزُهَا عَنْ " الدِّينَارِيَّةِ الصُّغْرَى ". انْظُرْ مُصْطَلَحَ: " دِينَارِيَّة صُغْرَى ".
وَالدِّينَارِيَّةُ الْكُبْرَى فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هِيَ مَسْأَلَةٌ مِنَ الْمَسَائِل الْمُلَقَّبَاتِ فِي الْمَوَارِيثِ. وَقَدْ سَبَقَ التَّعْرِيفُ بِهَا فِي مُصْطَلَحِ: " الدِّينَارِيَّةِ الصُّغْرَى ".

صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ، وَمَا لُقِّبَتْ بِهِ:
2 - صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: انْحِصَارُ الإِْرْثِ فِي زَوْجَةٍ وَأُمٍّ وَبِنْتَيْنِ وَاثْنَيْ عَشَرَ أَخًا وَأُخْتٍ لأَِبٍ وَأُمٍّ أَوْ لأَِبٍ. وَلُقِّبَتْ " بِالدِّينَارِيَّةِ الْكُبْرَى " " وَبِالرِّكَابِيَّةِ "، " وَبِالشَّاكِيَةِ " لأَِنَّ شُرَيْحًا قَضَى فِيهَا لِلأُْخْتِ بِدِينَارٍ وَاحِدٍ، وَكَانَتِ التَّرِكَةُ سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ، فَلَمْ تَرْضَ الأُْخْتُ، وَمَضَتْ إِلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ تَشْتَكِي شُرَيْحًا، فَوَجَدَتْهُ رَاكِبًا، فَأَمْسَكَتْ بِرِكَابِهِ

(21/155)


وَقَالَتْ: إِنَّ أَخِي تَرَكَ سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ فَأَعْطَانِي شُرَيْحٌ دِينَارًا وَاحِدًا، فَقَال عَلِيٌّ: لَعَل أَخَاكِ تَرَكَ زَوْجَةً وَأُمًّا وَابْنَتَيْنِ وَاثْنَيْ عَشَرَ أَخًا وَأَنْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَال عَلِيٌّ، ذَلِكَ حَقُّكِ وَلَمْ يَظْلِمْكِ شُرَيْحٌ شَيْئًا.
وَتُلَقَّبُ أَيْضًا " بِالدَّاوُدِيَّةِ " لأَِنَّ دَاوُدَ الطَّائِيَّ سُئِل عَنْ مِثْلِهَا فَقَسَمَهَا هَكَذَا، فَجَاءَتِ الأُْخْتُ - وَهِيَ غَيْرُ الأُْخْتِ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ - إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَتْ: إِنَّ أَخِي مَاتَ وَتَرَكَ سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ فَمَا أُعْطِيتُ إِلاَّ دِينَارًا وَاحِدًا، فَقَال: مَنْ قَسَمَ التَّرِكَةَ؟ قَالَتْ: تِلْمِيذُكَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ، قَال: هُوَ لاَ يَظْلِمُ، هَل تَرَكَ أَخُوكِ جَدَّةً؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: هَل تَرَكَ بِنْتَيْنِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: هَل تَرَكَ زَوْجَةً؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: هَل مَعَكِ اثْنَا عَشَرَ أَخًا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: إِذَنْ حَقُّكِ دِينَارٌ.
وَتُلَقَّبُ أَيْضًا " بِالْعَامِرِيَّةِ " لأَِنَّ الأُْخْتَ سَأَلَتْ عَامِرًا الشَّعْبِيَّ عَنْهَا، فَأَجَابَ بِمِثْل ذَلِكَ (1) .

الْحُكْمُ فِي الدِّينَارِيَّةِ الْكُبْرَى:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الإِْرْثَ حِينَ يَنْحَصِرُ فِي: زَوْجَةٍ وَأُمٍّ أَوْ جَدَّةٍ وَبِنْتَيْنِ وَاثْنَيْ عَشَرَ أَخَا وَأُخْتٍ وَاحِدَةٍ لأَِبٍ وَأُمٍّ أَوَلأَِبٍ، وَالتَّرِكَةُ سِتُّمِائَةِ دِينَارٍ، أَنَّهُ يَكُونُ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ، وَلِلأُْمِّ أَوَالْجَدَّةِ السُّدُسُ مِائَةُ دِينَارٍ،
__________
(1) الاختيار 3 / 258، الزرقاني 8 / 217، أسنى المطالب 3 / 27، مطالب أولي النهى 4 / 584.

(21/155)


وَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِينَارًا، وَلِكُل أَخٍ دِينَارَانِ، وَلِلأُْخْتِ دِينَارٌ. . بِتَوْزِيعِ الْبَاقِي بَعْدَ الْفُرُوضِ عَلَى الإِْخْوَةِ الاِثْنَيْ عَشَرَ، وَعَلَى الأُْخْتِ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ. وَالْمَسْأَلَةُ عَادِلَةٌ، وَهِيَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِل الْمُعَايَاةِ (1) .
وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل يُرْجَعُ إِلَى: (إِرْث) .
__________
(1) المراجع السابقة.

(21/156)


دِيوَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدِّيوَانُ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَيُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مُجْتَمَعِ الصُّحُفِ، وَعَلَى الْكِتَابِ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ أَهْل الْجَيْشِ وَأَهْل الْعَطِيَّةِ وَعَلَى جَرِيدَةِ الْحِسَابِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْحِسَابِ، ثُمَّ عَلَى مَوْضِعِ الْحِسَابِ، وَفِي تَاجِ الْعَرُوسِ: مَعَانِي الدِّيوَانِ خَمْسَةٌ: الْكَتَبَةُ وَمَحَلُّهُمْ، وَالدَّفْتَرُ، وَكُل كِتَابٍ، وَمَجْمُوعُ الشِّعْرِ (1) .
وَالدِّيوَانُ فِي الاِصْطِلاَحِ: الدَّفْتَرُ الَّذِي تُثْبَتُ فِيهِ الأَْسْمَاءُ أَوَالْوَثَائِقُ، وَمَا وُضِعَ لِحِفْظِ مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ السَّلْطَنَةِ " الدَّوْلَةِ " مِنَ الأَْعْمَال وَالأَْمْوَال وَمَنْ يَقُومُ بِهَا مِنَ الْجُيُوشِ وَالْعُمَّال (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السِّجِل:
2 - السِّجِل لُغَةً: الْكِتَابُ الْكَبِيرُ، وَفِي حَدِيثِ
__________
(1) القاموس المحيط، لسان العرب، تاج العروس، المصباح المنير مادة: " دون "، وتهذيب الأسماء واللغات 3 / 107.
(2) الدر المختار 4 / 308، جواهر الإكليل 1 / 256، كشاف القناع 6 / 312، الأحكام السلطانية للماوردي 199.

(21/156)


الْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:. . . فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كِفَّةٍ. . . (1)
وَقِيل: السِّجِل حَجَرٌ كَانَ يُكْتَبُ فِيهِ، ثُمَّ سُمِّيَ كُل مَا يُكْتَبُ فِيهِ سِجِلًّا.
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: السِّجِل: الصَّكُّ، وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ السِّجَالَةِ وَهِيَ الْكِتَابَةُ (2) .
وَاصْطِلاَحًا: مَا يُكْتَبُ مُتَضَمَّنًا حُكْمَ الْقَاضِي، أَيْ مَا يُكْتَبُ مِنِ ادِّعَاءٍ، وَإِجَابَةٍ، وَبَيِّنَةٍ، وَحُكْمِ الْقَاضِي (3) .
وَالدِّيوَانُ قَدْ يَتَضَمَّنُ السِّجِل وَغَيْرَهُ مِنَ الْمُحَاضِرِ وَالْحُجَجِ وَالْوَثَائِقِ وَلاَ عَكْسَ.

ب - الْمَحْضَرُ:
3 - الْمَحْضَرُ لُغَةً: السِّجِل، وَاصْطِلاَحًا: مَا يُكْتَبُ مِنْ وَقَائِعِ الدَّعْوَى دُونَ حُكْمٍ (4) .
وَالدِّيوَانُ يَتَضَمَّنُ - عَادَةً - الْمَحْضَرَ وَغَيْرَهُ مِنَ الأَْوْرَاقِ وَالْوَثَائِقِ.
__________
(1) حديث: " فتوضع السجلات في كفة " أخرجه الترمذي (5 / 25 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو، وقال: " هذا حديث حسن غريب ".
(2) لسان العرب، مادة: " سجل "، والمفردات 225، وتفسير القرطبي 11 / 347.
(3) الدر المختار 4 / 351، شرح المحلي على المنهاج 4 / 303، كشاف القناع 6 / 312.
(4) لسان العرب، مادة: " حضر "، ومغني المحتاج 4 / 394، ونقل ابن عابدين عن الدر أن المحضر ما كتب فيه ما جرى بين الخصمين من إقرار أو إنكار والحكم ببينة أو نكل على وجه يرفع الاشتباه، ابن عابدين 4 / 308.

(21/157)


أَوَّل مَنْ وَضَعَ الدِّيوَانَ فِي الإِْسْلاَمِ:
4 - أَوَّل مَنْ وَضَعَ الدِّيوَانَ فِي الإِْسْلاَمِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ أَهْل الدِّيوَانِ (الْمَوْسُوعَةُ ج 7 118) .

مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّيوَانِ مِنْ أَحْكَامٍ:
اتِّخَاذُ الدِّيوَانِ:
5 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَجْعَل دِيوَانًا أَيْ: دَفْتَرًا يَجْمَعُ فِيهِ أَسْمَاءَ الْجُنْدِ وَعَطَاءَهُمْ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ - فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ -: إِنَّ وَضْعَ دِيوَانِ الْجُنْدِ مُسْتَحَبٌّ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلاَمُ الشَّيْخَيْنِ (النَّوَوِيِّ وَالرَّافِعِيِّ) ، وَكَلاَمُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ صَرِيحٌ فِيهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ فِي الْمُحَرَّرِ، قَال صَاحِبُ الأَْنْوَارِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَضَعَ الإِْمَامُ دَفْتَرًا، وَإِنْ قَال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّ الظَّاهِرَ الْوُجُوبُ، لِئَلاَّ تُشْتَبَهَ الأَْحْوَال وَيَقَعَ الْخَبْطُ وَالْغَلَطُ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ أَنْ يَضَعَ دِيوَانًا
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص199، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 237، بدائع الصنائع 7 / 256، نهاية المحتاج 6 / 138.
(2) جواهر الإكليل 1 / 256.
(3) فتاوى الرملي بهامش الفتاوى الكبرى للهيثمي 3 / 135، القليوبي 3 / 989.

(21/157)


فِيهِ أَسْمَاءُ الْمُقَاتِلَةِ، وَقَدْرُ أَرْزَاقِهِمْ ضَبْطًا لَهُمْ، وَلِمَا قُدِّرَ لَهُمْ (1) .

دِيوَانُ الدَّوْلَةِ وَأَقْسَامُهُ:
6 - دِيوَانُ الدَّوْلَةِ - وَنَحْوِهَا كَالسَّلْطَنَةِ أَوِ الإِْمَارَةِ أَوِ الْمَمْلَكَةِ - وُضِعَ لِحِفْظِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الأَْعْمَال وَالأَْمْوَال، وَمَنْ يَقُومُ بِهَا مِنَ الْجُيُوشِ وَالْعُمَّال. وَقُسِّمَ - فِي أَصْل وَضْعِهِ - أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: -

الْقِسْمُ الأَْوَّل: مَا يَخْتَصُّ بِالْجَيْشِ مِنْ إِثْبَاتٍ وَعَطَاءٍ:
7 - ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى أَنَّ الإِْثْبَاتَ فِي الدِّيوَانِ مُعْتَبَرٌ بِثَلاَثَةِ شُرُوطٍ: وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (أَهْل الدِّيوَانِ) ، وَمُصْطَلَحِ: (عَطَاء) .

الإِْخْرَاجُ أَوَالْخُرُوجُ مِنْ دِيوَانِ الْجَيْشِ:
8 - إِذَا أَرَادَ وَلِيُّ الأَْمْرِ إِسْقَاطَ بَعْضِ الْجَيْشِ مِنَ الدِّيوَانِ لِسَبَبٍ أَوْجَبَهُ، أَوَلِعُذْرٍ اقْتَضَاهُ جَازَ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ سَبَبٍ لَمْ يَجُزْ لأَِنَّهُمْ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ.
وَإِذَا أَرَادَ بَعْضُ الْجَيْشِ إِخْرَاجَ نَفْسِهِ مِنَ الدِّيوَانِ جَازَ مَعَ الاِسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، وَلَمْ يَجُزْ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا.
وَإِذَا جَرَّدَ الْجَيْشَ لِقِتَالٍ فَامْتَنَعُوا - وَهُمْ أَكْفَاءُ
__________
(1) مطالب أولي النهى 2 / 575، المغني 6 / 417.

(21/158)


مَنْ حَارَبَهُمْ - سَقَطَتْ أَرْزَاقُهُمْ، وَإِنْ ضَعُفُوا عَنْهُمْ لَمْ تَسْقُطْ. وَإِذَا مَرِضَ بَعْضُهُمْ أَوْ جُنَّ وَرُجِيَ زَوَال الْمَرَضِ أَوِ الْجُنُونِ وَلَوْ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ أُعْطِيَ وَبَقِيَ اسْمُهُ فِي الدِّيوَانِ لِئَلاَّ يَرْغَبَ النَّاسُ عَنِ الْجِهَادِ وَيَشْتَغِلُوا بِالْكَسْبِ، فَإِنَّهُمْ لاَ يَأْمَنُونَ هَذِهِ الْعَوَارِضَ بِاتِّفَاقِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَإِنْ لَمْ يُرْجَ زَوَال الْمَرَضِ أَوِ الْجُنُونِ، فَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَخْرُجُ مِنَ الدِّيوَانِ وَسَقَطَ سَهْمُهُ؛ لأَِنَّهُ فِي مُقَابِل عَمَلٍ قَدْ عُدِمَ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَيُعْطَى الْكِفَايَةَ اللاَّئِقَةَ بِهِ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يُعْطَى لِعَدَمِ رَجَاءِ نَفْعِهِ، أَيْ: لاَ يُعْطَى مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ الْمُعَدَّةِ لِلْمُقَاتِلَةِ، وَلَكِنْ يُعْطَى مِنْ غَيْرِهَا إِنْ كَانَ مُحْتَاجًا (1) .

الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَخْتَصُّ بِالأَْعْمَال مِنْ رُسُومٍ وَحُقُوقٍ:
9 - وَبَيَانُهُ مِنْ جَوَانِبَ:
الأَْوَّل: تَحْدِيدُ الْعَمَل بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَتَفْصِيل نَوَاحِيهِ الَّتِي تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا، فَيُجْعَل لِكُل بَلَدٍ حَدًّا لاَ يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَيُفَصَّل نَوَاحِي كُل بَلَدٍ إِذَا اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُهَا. الثَّانِي: بَيَانُ حَال الْبَلَدِ هَل فُتِحَ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي 206، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 243.

(21/158)


وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُ أَرْضِهِ مِنْ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ، فَإِنْ كَانَ جَمِيعُهُ أَرْضَ عُشْرٍ لَمْ يَلْزَمْ إِثْبَاتُ مِسَاحَاتِهِ؛ لأَِنَّ الْعُشْرَ عَلَى الزَّرْعِ دُونَ الْمِسَاحَةِ، وَيَكُونُ مَا اسْتُؤْنِفَ زَرْعُهُ مَرْفُوعًا إِلَى دِيوَانِ الْعُشْرِ لاَ مُسْتَخْرَجًا مِنْهُ، وَيَلْزَمُ تَسْمِيَةُ أَرْبَابِهِ عِنْدَ رَفْعِهِ إِلَى الدِّيوَانِ؛ لأَِنَّ وُجُوبَ الْعُشْرِ فِيهِ مُعْتَبَرٌ بِأَرْبَابِهِ دُونَ رِقَابِ الأَْرْضِينَ، وَإِذَا رُفِعَ الزَّرْعُ بِأَسْمَاءِ أَرْبَابِهِ ذُكِرَ مَبْلَغُ كَيْلِهِ وَحَال سَقْيِهِ بِسَيْحٍ (مَاءٍ جَارٍ) أَوْ عَمَلٍ؛ لاِخْتِلاَفِ حُكْمِهِ لِيُسْتَوْفَى عَلَى مُوجِبِهِ.
وَإِنْ كَانَ جَمِيعُهُ أَرْضَ خَرَاجٍ لَزِمَ إِثْبَاتُ مِسَاحَاتِهِ؛ لأَِنَّ الْخَرَاجَ عَلَى الْمِسَاحَةِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْخَرَاجُ فِي حُكْمِ الأُْجْرَةِ لَمْ يَلْزَمْ تَسْمِيَةُ أَرْبَابِ الأَْرْضِينَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَخْتَلِفُ بِإِسْلاَمٍ وَلاَ بِكُفْرٍ، وَإِنْ كَانَ الْخَرَاجُ فِي حُكْمِ الْجِزْيَةِ لَزِمَ تَسْمِيَةُ أَرْبَابِهِمْ وَوَصْفُهُمْ بِإِسْلاَمٍ أَوْ كُفْرٍ؛ لاِخْتِلاَفِ حُكْمِهِ بِاخْتِلاَفِ أَهْلِهِ.
وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ عُشْرًا وَبَعْضُهُ خَرَاجًا فُصِّل فِي دِيوَانِ الْعُشْرِ مَا كَانَ مِنْهُ عُشْرًا، وَفِي دِيوَانِ الْخَرَاجِ مَا كَانَ مِنْهُ خَرَاجًا؛ لاِخْتِلاَفِ الْحُكْمِ فِيهِمَا، وَأُجْرِيَ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَخْتَصُّ بِحُكْمِهِ.
الثَّالِثُ: بَيَانُ أَحْكَامِ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا مِنْ مُقَاسَمَةٍ عَلَى الزَّرْعِ أَوْ وَرِقٍ (فِضَّةٍ) مُقَدَّرٍ عَلَى الْخَرَاجِ.
الرَّابِعُ: ذِكْرُ مَنْ فِي كُل بَلَدٍ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ

(21/159)


وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً بِالْيَسَارِ وَالإِْعْسَارِ سُمُّوا فِي الدِّيوَانِ مَعَ ذِكْرِ عَدَدِهِمْ، لِيُخْتَبَرَ حَال يَسَارِهِمْ وَإِعْسَارِهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي الْيَسَارِ وَالإِْعْسَارِ جَازَ الاِقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ عَدَدِهِمْ وَوَجَبَ مُرَاعَاتُهُمْ فِي كُل عَامٍ لِيُثْبَتَ مَنْ بَلَغَ وَيُسْقَطَ مَنْ مَاتَ أَوْ أَسْلَمَ، لِيَنْحَصِرَ بِذَلِكَ مَا يُسْتَحَقُّ مِنْ جِزْيَتِهِمْ.
الْخَامِسُ: ذِكْرُ أَجْنَاسِ الْمَعَادِنِ فِي الْبَلَدِ - إِنْ كَانَ مِنْ بُلْدَانِ الْمَعَادِنِ - وَعَدَدِ كُل جِنْسٍ، لِيُسْتَوْفَى حَقُّ الْمَعْدِنِ مِنْهَا.
السَّادِسُ: إِنْ كَانَ الْبَلَدُ ثَغْرًا يُتَاخِمُ دَارَ الْحَرْبِ وَكَانَتْ أَمْوَال الْكُفَّارِ قَدْ دَخَلَتْ دَارَ الإِْسْلاَمِ مَعْشُورَةً عَنْ صُلْحٍ اسْتَقَرَّ مَعَهُمْ وَأُثْبِتَ فِي دِيوَانِ عَقْدِ صُلْحِهِمْ وَقُدِّرَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ مِنْ عُشْرٍ أَوْ خُمُسٍ أَوْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فَإِنْ كَانَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْمْتِعَةِ وَالأَْمْوَال فُصِّلَتْ فِيهِ، وَكَانَ الدِّيوَانُ مَوْضُوعًا لإِِخْرَاجِ رُسُومِهِ وَلاِسْتِيفَاءِ مَا يُرْفَعُ إِلَيْهِ مِنْ مَقَادِيرِ الأَْمْتِعَةِ الْمَحْمُولَةِ إِلَيْهِ (1) .

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَخْتَصُّ بِالْعُمَّال مِنْ تَقْلِيدٍ وَعَزْلٍ:
10 - وَبَيَانُهُ فِيمَا يَلِي:
الأَْوَّل: ذِكْرُ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ تَقْلِيدُ الْعُمَّال، وَهُوَ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 206 - 209، الأحكام السلطانية لأبي يعلى 244 - 246.

(21/159)


مُعْتَبَرٌ بِنُفُوذِ الأَْمْرِ وَجَوَازِ النَّظَرِ، وَهَذَا يَكُونُ مِنْ أَحَدِ ثَلاَثَةٍ: السُّلْطَانِ الْمُسْتَوْلِي عَلَى كُل الأُْمُورِ، أَوْ وَزِيرِ التَّفْوِيضِ، أَوْ عَامِل عَامِّ الْوِلاَيَةِ كَعَامِل إِقْلِيمٍ أَوْ مِصْرٍ عَظِيمٍ يُقَلَّدُ فِي خُصُوصِ الأَْعْمَال عَامِلاً.
أَمَّا وَزِيرُ التَّنْفِيذِ فَلاَ يَصِحُّ مِنْهُ تَقْلِيدُ عَامِلٍ إِلاَّ بَعْدَ الْمُطَالَعَةِ وَالاِسْتِئْمَارِ.
الثَّانِي: ذِكْرُ مَنْ يَصِحُّ أَنْ يَتَقَلَّدَ الْعِمَالَةَ، وَهُوَ مَنِ اسْتَقَل بِكِفَايَتِهِ وَوُثِقَ بِأَمَانَتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ عِمَالَةُ تَفْوِيضٍ تَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ رُوعِيَ فِيهَا الْحُرِّيَّةُ وَالإِْسْلاَمُ، وَإِنْ كَانَتْ عِمَالَةُ تَنْفِيذٍ لاَ اجْتِهَادَ لِلْعَامِل فِيهَا، لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى الْحُرِّيَّةِ وَالإِْسْلاَمِ.
الثَّالِثُ: ذِكْرُ الْعَمَل الَّذِي يَتَقَلَّدُهُ، وَهَذَا يُعْتَبَرُ فِيهِ ثَلاَثَةُ شُرُوطٍ:
أ - تَحْدِيدُ النَّاحِيَةِ بِمَا تَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهَا.
ب - تَعْيِينُ الْعَمَل الَّذِي يَخْتَصُّ بِنَظَرِهِ فِيهَا مِنْ جِبَايَةٍ أَوْ خَرَاجٍ أَوْ عُشْرٍ.
ج - الْعِلْمُ بِرُسُومِ الْعَمَل وَحُقُوقِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ يَنْفِي عَنْهُ الْجَهَالَةَ. فَإِذَا اسْتُكْمِلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ فِي عَمَلٍ عَلِمَ بِهِ الْمُوَلِّي وَالْمُوَلَّى صَحَّ التَّقْلِيدُ وَنَفَذَ.
الرَّابِعُ: بَيَانُ زَمَانِ النَّظَرِ، وَلاَ يَخْلُو مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْوَالٍ:
أ - أَنْ يُقَدَّرَ بِمُدَّةٍ مَحْصُورَةٍ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ مُجَوِّزًا لِلنَّظَرِ فِيهَا وَمَانِعًا مِنَ النَّظَرِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا، وَلاَ يَكُونُ النَّظَرُ فِي الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لاَزِمًا

(21/160)


مِنْ جِهَةِ الْمُوَلِّي، وَلَهُ صَرْفُهُ وَالاِسْتِبْدَال بِهِ إِنْ رَأَى ذَلِكَ صَلاَحًا.
ب - أَنْ يُقَدَّرَ بِالْعَمَل، فَيَقُول الْمُوَلِّي: قَلَّدْتُكَ خَرَاجَ نَاحِيَةِ كَذَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، أَوْ قَلَّدْتُكَ صَدَقَاتِ بَلَدِ كَذَا فِي هَذَا الْعَامِ، فَتَكُونُ مُدَّةُ نَظَرِهِ مُقَدَّرَةً بِفَرَاغِهِ عَنْ عَمَلِهِ، فَإِذَا فَرَغَ انْعَزَل عَنْهُ، وَهُوَ قَبْل فَرَاغِهِ يَجُوزُ أَنْ يَعْزِلَهُ الْمُوَلِّي، وَعَزْلُهُ لِنَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ بِصِحَّةِ جَارِيهِ (1) وَفَسَادِهِ.
ج - أَنْ يَكُونَ التَّقْلِيدُ مُطْلَقًا فَلاَ يُقَدَّرُ بِمُدَّةٍ وَلاَ عَمَلٍ، فَيَقُول الْمُوَلِّي مَثَلاً: قَلَّدْتُكَ خَرَاجَ الْكُوفَةِ، أَوْ أَعْشَارَ الْبَصْرَةِ، أَوْ حِمَايَةَ بَغْدَادَ، وَهُوَ تَقْلِيدٌ صَحِيحٌ وَإِنْ جُهِلَتْ مُدَّتُهُ.
الْخَامِسُ: فِي جَارِي (مُقَابِل) الْعَامِل عَلَى عَمَلِهِ، وَلاَ يَخْلُو مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْوَالٍ:
أ - أَنْ يُسَمِّيَ مَعْلُومًا فَيَسْتَحِقَّ الْمُسَمَّى إِذَا وَفَّى الْعِمَالَةَ حَقَّهَا، فَإِنْ قَصَّرَ فِيهَا رُوعِيَ تَقْصِيرُهُ، وَإِنْ زَادَ فِي الْعَمَل رُوعِيَتْ الزِّيَادَةُ.
ب - أَنْ يُسَمِّيَ مَجْهُولاً فَيَسْتَحِقَّ جَارِيَ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِل، فَإِنْ كَانَ جَارِي الْعَمَل مُقَدَّرًا فِي الدِّيوَانِ، وَعَمِل بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُمَّال، صَارَ ذَلِكَ الْقَدْرُ هُوَ جَارِيَ الْمِثْل، وَإِنْ لَمْ يَعْمَل بِهِ إِلاَّ وَاحِدًا لَمْ يَصِرْ ذَلِكَ مَأْلُوفًا فِي جَارِي الْمِثْل.
ج - أَنْ لاَ يُسَمَّى بِمَجْهُولٍ وَلاَ بِمَعْلُومٍ، وَفِيمَا
__________
(1) الجاري هو ما يجري عليه من الرزق (المرتب) .

(21/160)


يَسْتَحِقُّهُ خِلاَفٌ: قَال الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ الْجَارِي مِثْلُهُ عَلَى عَمَلِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ قَالَهَا الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ.
فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لاَ جَارِيَ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ وَيَكُونُ مُتَطَوِّعًا بِهِ حَتَّى يُسَمِّيَ جَارِيًا مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولاً لِخُلُوِّ عَمَلِهِ مِنْ عِوَضٍ.
وَقَال الْمُزَنِيُّ: لَهُ جَارِي مِثْلِهِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ، لاِسْتِيفَاءِ عَمَلِهِ عَنْ إِذْنِهِ.
وَقَال ابْنُ سُرَيْجٍ: إِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِأَخْذِ الْجَارِي عَلَى عَمَلِهِ فَلَهُ جَارِي مِثْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يُشْهَرْ بِأَخْذِ الْجَارِي عَلَيْهِ فَلاَ جَارِيَ لَهُ.
وَقَال الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إِنْ دُعِيَ إِلَى الْعَمَل فِي الاِبْتِدَاءِ أَوْ أُمِرَ بِهِ، فَلَهُ جَارِي مِثْلِهِ، فَإِنِ ابْتَدَأَ بِالطَّلَبِ فَأُذِنَ لَهُ فِي الْعَمَل فَلاَ جَارِيَ لَهُ.
وَلَخَّصَ أَبُو يَعْلَى رَأْيَ الْحَنَابِلَةِ فَقَال: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِأَخْذِ الْجَارِي عَلَى عَمَلِهِ فَلَهُ جَارِي مِثْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بِأَخْذِ الْجَارِي عَلَيْهِ فَلاَ جَارِيَ لَهُ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْل ابْنِ سُرَيْجٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى: إِذَا كَانَ فِي عَمَلِهِ مَالٌ يُجْتَبَى فَجَارِيهِ يُسْتَحَقُّ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَجَارِيهِ فِي بَيْتِ الْمَال مُسْتَحَقٌّ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ.
السَّادِسُ: فِيمَا يَصِحُّ بِهِ التَّقْلِيدُ، فَإِنْ كَانَ نُطْقًا تَلَفَّظَ بِهِ الْمُوَلِّي صَحَّ بِهِ التَّقْلِيدُ كَمَا تَصِحُّ بِهِ سَائِرُ

(21/161)


الْعُقُودِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ تَوْقِيعِ الْمُوَلِّي بِتَقْلِيدِهِ خَطَأً لاَ لَفْظًا صَحَّ التَّقْلِيدُ، وَانْعَقَدَتْ بِهِ الْوِلاَيَاتُ السُّلْطَانِيَّةُ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِهِ شَوَاهِدُ الْحَال اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْجَارِي فِيهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ التَّقْلِيدُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ لاَ يَتَعَدَّاهُ إِلَى اسْتِنَابَةِ غَيْرِهِ فِيهِ، وَلاَ يَصِحُّ إِنْ كَانَ عَامًّا مُتَعَدِّيًا (1) .

كَاتِبُ الدِّيوَانِ:
11 - كَاتِبُ الدِّيوَانِ هُوَ صَاحِبُ ذِمَامِهِ. وَالْمُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ وِلاَيَتِهِ شَرْطَانِ: الْعَدَالَةُ وَالْكِفَايَةُ. أَمَّا الْعَدَالَةُ: فَلأَِنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى حَقِّ بَيْتِ الْمَال وَالرَّعِيَّةِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فِي الْعَدَالَةِ وَالأَْمَانَةِ عَلَى صِفَةِ الْمُؤْتَمَنِينَ. وَأَمَّا الْكِفَايَةُ: فَلأَِنَّهُ مُبَاشِرٌ لِعَمَلٍ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي الْقِيَامِ بِهِ مُسْتَقِلًّا بِكِفَايَةِ الْمُبَاشِرِينَ.
فَإِذَا صَحَّ تَقْلِيدُ الْكَاتِبِ فَالَّذِي نُدِبَ لَهُ سِتَّةُ أَشْيَاءَ:
1 - حِفْظُ الْقَوَانِينِ عَلَى الرُّسُومِ الْعَادِلَةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ تَتَحَيَّفُ بِهَا الرَّعِيَّةُ أَوْ نُقْصَانٍ يَنْثَلِمُ بِهِ حَقُّ بَيْتِ الْمَال.
2 - اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَامِلِينَ، وَمِنَ الْقَابِضِينَ لَهَا مِنَ الْعُمَّال.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 209 - 213، ولأبي يعلى ص 247 - 251.

(21/161)


3 - إِثْبَاتُ الرُّفُوعِ (1) ، وَيَنْقَسِمُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ.
أ - رُفُوعُ الْمِسَاحَةِ وَالْعَمَل. . فَإِنْ كَانَتْ أُصُولُهَا مُقَدَّرَةً فِي الدِّيوَانِ اعْتُبِرَ صِحَّةُ الرَّفْعِ بِمُقَابَلَةِ الأَْصْل، وَأُثْبِتَ فِي الدِّيوَانِ إِنْ وَافَقَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الدِّيوَانِ أُصُولٌ عَمِل فِي إِثْبَاتِهَا عَلَى قَوْل رَافِعِهَا.
ب - رُفُوعُ قَبْضٍ وَاسْتِيفَاءٍ. . فَيَعْمَل فِي إِثْبَاتِهَا عَلَى قَوْل رَافِعِهَا؛ لأَِنَّهُ يُقِرُّ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ لاَ لَهَا.
ج - رُفُوعُ الْخَرَاجِ وَالنَّفَقَةِ. فَرَافِعُهَا مُدَّعٍ لَهَا فَلاَ تُقْبَل دَعْوَاهُ إِلاَّ بِالْحُجَجِ الْبَالِغَةِ.
4 - مُحَاسَبَةُ الْعُمَّال. . وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهَا بِاخْتِلاَفِ مَا تَقَلَّدُوهُ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ عُمَّال الْخَرَاجِ لَزِمَهُمْ رَفْعُ الْحِسَابِ، وَوَجَبَ عَلَى كَاتِبِ الدِّيوَانِ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَى صِحَّةِ مَا رَفَعُوهُ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ عُمَّال الْعُشْرِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَفْعُ الْحِسَابِ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَى كَاتِبِ الدِّيوَانِ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْعُشْرَ عِنْدَهُ صَدَقَةٌ لاَ يَقِفُ مَصْرِفُهَا عَلَى اجْتِهَادِ الْوُلاَةِ، وَلَوْ تَفَرَّدَ أَهْلُهَا بِمَصْرِفِهَا أَجْزَأَتْ، وَيَلْزَمُهُمْ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَفْعُ الْحِسَابِ، وَيَجِبُ عَلَى كَاتِبِ الدِّيوَانِ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَيْهِ، لأَِنَّ مَصْرِفَ الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ عِنْدَهُ مُشْتَرَكٌ.
5 - إِخْرَاجُ الأَْمْوَال. . وَلاَ يُخْرِجُ مِنْهَا إِلاَّ مَا عَلِمَ صِحَّتَهُ، وَلاَ يَبْتَدِئُ بِذَلِكَ حَتَّى يُسْتَدْعَى مِنْهُ.
__________
(1) الرفوع الزيادات التي ترد على المرتبات والاستحقاقات وغيرها.

(21/162)


6 - تَصَفُّحُ الظُّلاَمَاتِ. . وَهُوَ مُخْتَلَفٌ بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ الْمُتَظَلِّمِ: فَإِنْ كَانَ الْمُتَظَلِّمُ مِنَ الرَّعِيَّةِ تَظَلَّمَ مِنْ عَامِلٍ تَحَيَّفَهُ فِي مُعَامَلَةٍ، كَانَ صَاحِبُ الدِّيوَانِ فِيهَا حَاكِمًا بَيْنَهُمَا، وَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَصَفَّحَ الظُّلاَمَةَ وَيُزِيل التَّحَيُّفَ؛ لأَِنَّهُ مَنْدُوبٌ لِحِفْظِ الْقَوَانِينِ وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ، فَصَارَ بِعَقْدِ الْوِلاَيَةِ مُسْتَحِقًّا لِتَصَفُّحِ الظُّلاَمَاتِ. وَإِنْ كَانَ الْمُتَظَلِّمُ عَامِلاً جُوزِفَ فِي حِسَابِهِ أَوْ غُولِطَ فِي مُعَامَلَتِهِ، صَارَ صَاحِبُ الدِّيوَانِ خَصْمًا فِي الظُّلاَمَةِ، وَكَانَ الْمُتَصَفِّحُ لَهَا وَلِيَّ الأَْمْرِ (1) .

أَهْل الدِّيوَانِ:
12 - أَهْل الدِّيوَانِ هُمُ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ مِنَ الدِّيوَانِ عَطَاءً وَيَأْخُذُونَ مِنْهُ رِزْقًا. وَفِي بَيَانِ أَصْنَافِهِمْ وَشُرُوطِ إِثْبَاتِهِمْ فِي الدِّيوَانِ وَالضَّابِطِ لِلْمَصَارِفِ. تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَهْل الدِّيوَانِ) .

عَقْل الدِّيوَانِ عَنْ أَهْلِهِ:
13 - يَتَحَمَّل الدِّيوَانُ الدِّيَةَ الَّتِي تَجِبُ بِذَاتِ الْقَتْل إِذَا كَانَ الْقَاتِل وَاحِدًا مِنْ أَهْل الدِّيوَانِ. . عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ يُنْظَرُ فِي: (أَهْل الدِّيوَانِ، وَدِيَة، وَعَاقِلَة) .
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 210 - 218، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 253 - 257.

(21/162)


دِيوَانُ الْقَاضِي:
14 - هُوَ مَا فِيهِ وَثَائِقُ النَّاسِ مِنَ الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلاَّتِ وَغَيْرِهَا. وَأَوَّل مَا يَبْدَأُ بِهِ الْقَاضِي إِذَا تَقَلَّدَ أَنْ يَطْلُبَ دِيوَانَ الْقَاضِي قَبْلَهُ؛ لأَِنَّ الدِّيوَانَ وُضِعَ لِيَكُونَ حُجَّةً عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَيُجْعَل فِي يَدِ مَنْ لَهُ وِلاَيَةُ الْقَضَاءِ؛ وَلأَِنَّهُ الأَْسَاسُ الَّذِي يَبْنِي عَلَيْهِ الْقَاضِي حُكْمَهُ، وَيَلْزَمُ الْقَاضِيَ السَّابِقَ تَسْلِيمُهُ إِلَى الْقَاضِي الَّذِي خَلَفَهُ، لأَِنَّ الدِّيوَانَ كَانَ فِي يَدِهِ بِحُكْمِ الْوِلاَيَةِ، وَقَدْ صَارَتْ إِلَى الْقَاضِي الْجَدِيدِ (1) . وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل يُنْظَرُ: (قَضَاء) (2) .

دِيوَانُ الرَّسَائِل:
15 - اسْتُحْدِثَ هَذَا الدِّيوَانُ عِنْدَمَا ضَعُفَتِ اللُّغَةُ، وَفَسَدَتِ الأَْلْسُنُ، فَاحْتَاجَ أُولُو الأَْمْرِ إِلَى مَنْ يَكْتُبُ الْكُتُبَ عَنْهُمْ بِأَلْفَاظٍ بَلِيغَةٍ مُؤَثِّرَةٍ تَفِي بِالْمُرَادِ (3) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 308، أدب القضاء: الدرر المنظومات في الأقضية والحكومات لابن أبي الدم ص 122، كشاف القناع 6 / 312.
(2) مقدمة ابن خلدون 2 / 618 ط لجنة البيان العربي.
(3) ترى اللجنة أن ترتيب الديوان من الأمور الإجرائية التنظيمية التي قد تتغير بالزمان أو المكان، والشرع لا يمنع ما تقتضيه المصلحة من تطوير في الديوان بحيث لا يخالف نصًّا أو مجمعًا عليه أو قاعدة، وبشرط أن لا يسبب ظلمًا أو فسادًا.

(21/163)