الموسوعة الفقهية الكويتية

ذَاتُ عِرْقٍ

التَّعْرِيفُ:
1 - ذَاتُ عِرْقٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ بَعْدَهَا قَافٌ، مِيقَاتُ أَهْل الْعِرَاقِ وَمَنْ يَمُرُّ بِهَا مِنْ أَهْل الآْفَاقِ، وَهِيَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - يَتَّصِل بِذَاتِ عِرْقٍ أَلْفَاظٌ وَهِيَ: جَمِيعُ الْمَوَاقِيتِ الْمَعْرُوفَةِ، وَإِحْرَامٌ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (إِحْرَام، وَحَجّ، وَمِيقَات) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ مِيقَاتٌ لأَِهْل الْعِرَاقِ وَمَنْ يَمُرُّ بِهِ مِنْ أَهْل الآْفَاقِ. كَمَا لاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ الإِْحْرَامَ مِنْهَا وَاجِبٌ عَلَى كُل مِنْ مَرَّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، قَاصِدًا مَكَّةَ لأَِدَاءِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ (الْحَجِّ
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات 3 / 114 ط. المكتبة العلمية، والمصباح مادة: " عرق ".

(21/163)


وَالْعُمْرَةِ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ. (1)
وَأَمَّا مَنْ قَصَدَ مَكَّةَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَفِيهِ خِلاَفٌ (2) يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي " إِحْرَامٍ ".
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا فِي أَنَّ الْمَوَاقِيتَ الأَْرْبَعَةَ وَهِيَ ذُو الْحُلَيْفَةِ وَالْجُحْفَةُ، وَقَرْنُ الْمَنَازِل وَيَلَمْلَمُ، ثَابِتٌ تَوْقِيتُهَا بِالنَّصِّ.
وَأَمَّا ذَاتُ عِرْقٍ، فَفِي ثُبُوتِ كَوْنِهَا مِيقَاتًا بِالنَّصِّ أَوْ بِالاِجْتِهَادِ خِلاَفٌ. فَصَحَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَطَّابُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْل عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ مِنَ السَّلَفِ.
وَذَكَرَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ أَنَّ تَوْقِيتَهَا ثَابِتٌ بِالاِجْتِهَادِ، أَيْ بِاجْتِهَادِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْل طَاوُوسٍ وَابْنِ سِيرِينَ (3)
__________
(1) حديث: " هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 384 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 838 - 839 ط الحلبي) من حديث ابن عباس.
(2) فتح الباري 3 / 384 ط الرياض، صحيح مسلم شرح النووي 8 / 83 ط. المصرية، تبيين الحقائق 2 / 6 - 7 ط. بولاق، الدسوقي 2 / 23 ط. الفكر، الكافي 1 / 388 ط. المكتب الإسلامي.
(3) بدائع الصنائع 2 / 164 ط. الجمالية، حاشية ابن عابدين 2 / 152 - 153 ط. بولاق، فتح القدير 2 / 131 ط. الأميرية، مواهب الجليل 3 / 32 ط. النجاح، جواهر الإكليل 1 / 169 ط. المعرفة، روضة الطالبين 3 / 39 ط. المكتب الإسلامي، حاشية القليوبي 2 / 92 - 93 ط. الحلبي، نهاية المحتاج 3 / 252 ط. المكتبة الإسلامية، والمجموع 7 / 197 ط. السلفية، الأم 2 / 138 ط. المعرفة، كشاف القناع 2 / 400 ط. النصر، الكافي 1 / 388 ط. المكتب الإسلامي، المبدع 3 / 107 - 108 ط. المكتب الإسلامي، الإنصاف 3 / 424 - 25 ط. التراث، المغني 3 / 258 ط. الرياض، فتح الباري 3 / 390 ط. الرياض.

(21/164)


احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِثُبُوتِهِ بِالنَّصِّ بِأَحَادِيثَ مِنْهَا، مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يُسْأَل عَنِ الْمُهَل فَقَال: سَمِعْتُ - أَحْسِبُهُ رَفَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَال: مُهَل أَهْل الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَالطَّرِيقُ الآْخَرُ الْجُحْفَةُ، وَمُهَل أَهْل الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ، وَمُهَل أَهْل نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ، وَمُهَل أَهْل الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ (1) . وَمِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لأَِهْل الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ (2) . قَالُوا: وَالأَْحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ أَسَانِيدُ مُفْرَدَاتِهَا ضَعِيفَةً، فَمَجْمُوعُهَا يُقَوِّي بَعْضُهُ بَعْضَهَا، وَيَصِيرُ الْحَدِيثُ حَسَنًا
، وَيُحْتَجُّ بِهِ، وَيُحْمَل تَحْدِيدُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِاجْتِهَادِهِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ تَحْدِيدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث جابر: " مهل أهل المدينة. . . . " أخرجه مسلم (2 / 841 - ط. الحلبي) .
(2) حديث عائشة: " وقت لأهل العراق ذات عرق. . . " أخرجه النسائي (5 / 125 - ط. المكتبة التجارية) .

(21/164)


فَحَدَّدَهُ بِاجْتِهَادِهِ، فَوَافَقَ النَّصَّ (1) .
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِثُبُوتِهِ بِالاِجْتِهَادِ بِمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ (أَيِ الْبَصْرَةُ وَالْكُوفَةُ) أَتَوْا عُمَرَ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّ لأَِهْل نَجْدٍ قَرْنًا وَهُوَ جَوْرٌ (أَيْ مَيْلٌ) عَنْ طَرِيقِنَا، وَإِنَّا إِنْ أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا قَال: فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ، فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ (2) .
هَذَا وَالأَْحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِذَاتِ عِرْقٍ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَوَاقِيتِ الْمَكَانِيَّةِ يَذْكُرُهَا الْفُقَهَاءُ فِي الْحَجِّ وَيُبْحَثُ عَنْهَا أَيْضًا فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَام، وَمِيقَات) .
__________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي 8 / 86 ط. المصرية، المجموع 7 / 194، 197 ط. السلفية، المغني 3 / 258 ط. الرياض.
(2) فتح الباري 3 / 389 ط. الرياض، المجموع 7 / 197 ط. السلفية. وحديث ابن عمر: " لما فتح هذان المصران. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 389 - ط السلفية) .

(21/165)


ذُؤَابَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الذُّؤَابَةِ فِي اللُّغَةِ: الضَّفِيرَةُ مِنَ الشَّعْرِ إِذَا كَانَتْ مُرْسَلَةً، وَطَرَفُ الْعِمَامَةِ، وَالْجَمْعُ الذُّؤَابَاتُ وَالذَّوَائِبُ (1) .
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ الذُّؤَابَةَ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَقِيصَةُ:
2 - الْعَقِيصَةُ هِيَ الضَّفِيرَةُ مِنَ الشَّعْرِ إِذَا كَانَتْ مَلْوِيَّةً. وَتَخْتَلِفُ الْعَقِيصَةُ عَنِ الذُّؤَابَةِ فِي أَنَّ الذُّؤَابَةَ هِيَ الضَّفِيرَةُ مِنَ الشَّعْرِ إِذَا كَانَتْ مُرْسَلَةً (3) .

ب - الضَّفِيرَةُ وَالضَّمِيرَةُ وَالْغَدِيرَةُ:
3 - قَال النَّوَوِيُّ نَقْلاً عَنِ الأَْزْهَرِيِّ: الضَّفَائِرُ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) كشاف القناع 1 / 57، 119.
(3) النهاية في غريب الحديث وكشاف القناع 1 / 75، والمختصر في الشمائل المحمدية (ص65) .

(21/165)


وَالضَّمَائِرُ وَالْغَدَائِرُ هِيَ الذَّوَائِبُ إِذَا أُدْخِل بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ نَسْجًا (1) .
الْعَذَبَةُ:
4 - قَال الْقَسْطَلاَّنِيُّ: الْعَذَبَةُ الطَّرَفُ، كَعَذَبَةِ السَّوْطِ وَاللِّسَانِ أَيْ: طَرَفِهِمَا.
فَالطَّرَفُ الأَْعْلَى يُسَمَّى عَذَبَةً مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلاِصْطِلاَحِ الْعُرْفِيِّ الآْنَ (2) .
وَالذُّؤَابَةُ شَرْعًا: هِيَ طَرَفُ الْعِمَامَةِ الْمُرْسَل عَلَى الْعُنُقِ فَأَسْفَل، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرْسَل الطَّرَفَ الأَْعْلَى أَوِ الأَْسْفَل (3) .
فَالْعَذَبَةُ بِالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيِّ وَالذُّؤَابَةُ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، إِذِ الذُّؤَابَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هِيَ طَرَفُ الْعِمَامَةِ الْمُرْخَى (4) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالذُّؤَابَةِ:
أَوَّلاً: بِمَعْنَى الضَّفِيرَةِ:
1 - جَعْل الشَّعْرِ ذُؤَابَةً:
5 - اتِّخَاذُ شَعْرِ الرَّأْسِ أَفْضَل مِنْ إِزَالَتِهِ (5) ، إِلاَّ أَنْ يَشُقَّ إِكْرَامُهُ، وَيَنْتَهِي لِرَجُلٍ إِلَى أُذُنَيْهِ، أَوْ
__________
(1) لسان العرب والمصباح مادة: " ضفر "، و " غدر "، و " ضمر "، والمجموع للنووي 2 / 187، وانظر الشمائل المحمدية ص 65.
(2) إرشاد الساري 8 / 428.
(3) الدين الخالص لمحمود السبكي 6 / 227، وانظر روضة الطالبين 2 / 69، والحطاب 1 / 541.
(4) كشاف القناع 1 / 119.
(5) المغني 1 / 88 ط الرياض، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 350، ونيل الأوطار 1 / 122 ط. العثمانية، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 8 / 294 ط. ملتان.

(21/166)


إِلَى مَنْكِبَيْهِ كَشَعْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) وَلاَ بَأْسَ بِزِيَادَةٍ عَلَى الْمَنْكِبَيْنِ وَجَعْلِهِ ذُؤَابَةً (2) . فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ: قَدِمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَدْمَةً وَلَهُ أَرْبَعُ غَدَائِرَ. (3)
قَال صَاحِبُ الْمِرْقَاةِ: الْغَدَائِرُ جَمْعُ غَدِيرَةٍ بِمَعْنَى ضَفِيرَةٍ، وَيُقَال لَهَا ذُؤَابَةٌ أَيْضًا (4) .

2 - نَقْضُ الذَّوَائِبِ عِنْدَ الْغُسْل:
6 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تُنْقَضَ ضَفَائِرُهَا وَتُبَل ذَوَائِبُهَا عِنْدَ الْغُسْل إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ أُصُول شَعْرِهَا؛ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ: إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ لِغُسْل الْجَنَابَةِ؟ قَال: لاَ، إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلاَثَ حَثَيَاتٍ ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَفَأَنْقُضُهُ لِلْحَيْضَةِ وَالْجَنَابَةِ فَقَال: لاَ (5) وَلأَِنَّ
__________
(1) حديث: ورد من حديث أنس: " كان يضرب شعر رأس النبي صلى الله عليه وسلم منكبيه " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 356 - ط. السلفية) ، ومسلم (4 / 1819 - ط. الحلبي) .
(2) مطالب أولي النهى (1 / 85، 86) ، وكشاف القناع 1 / 75.
(3) حديث أم هانئ: " قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة. . . " أخرجه الترمذي (4 / 246 - ط. الحلبي) ، وأعله الترمذي بالانقطاع بين مجاهد وأم هانئ.
(4) مرقاة المفاتيح شرح المشكاة 8 / 301.
(5) حديث أم سلمة: " إني امرأة أشد ضفر رأسي. . . ". أخرجه مسلم (1 / 259 - 260 ط. الحلبي) بروايتيه.

(21/166)


فِي النَّقْضِ عَلَيْهَا حَرَجًا، وَفِي الْحَلْقِ مُثْلَةً فَسَقَطَ (1) .
وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لِسُقُوطِ وُجُوبِ نَقْضِ الشَّعْرِ الْمَضْفُورِ بِجَانِبِ كَوْنِ الشَّعْرِ رَخْوًا بِحَيْثُ يَدْخُل الْمَاءُ وَسْطَهُ أَنْ يَكُونَ مَضْفُورًا بِنَفْسِهِ أَوَبِخَيْطٍ أَوْ خَيْطَيْنِ (2) .
أَمَّا مَا ضُفِرَ مِنَ الشَّعْرِ بِخُيُوطٍ كَثِيرَةٍ فَيَجِبُ نَقْضُهَا فِي الْوُضُوءِ، وَكَذَا فِي الْغُسْل اشْتَدَّتْ أَمْ لاَ، كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ نَقْضُ الضَّفْرِ إِذَا اشْتَدَّ بِنَفْسِهِ فِي الْغُسْل خَاصَّةً، وَأَمَّا الْخَيْطُ وَالْخَيْطَانِ فَلاَ يَضُرَّانِ فِي وُضُوءٍ وَلاَ غُسْلٍ إِلاَّ أَنْ يَشْتَدَّا (3) .
قَال الْحَنَابِلَةُ: تَنْقُضُ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا لِغُسْلِهَا مِنَ الْحَيْضِ وَلَيْسَ عَلَيْهَا نَقْضُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ إِذَا أَرْوَتْ أُصُولَهُ، وَهَذَا مَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ وَطَاوُوسٍ.
قَال مُهَنَّا: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنِ الْمَرْأَةِ تَنْقُضُ شَعْرَهَا إِذَا اغْتَسَلَتْ مِنَ الْجَنَابَةِ؟ فَقَال: لاَ، فَقُلْتُ لَهُ: فِي هَذَا شَيْءٌ؟ قَال: نَعَمْ - حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ (4) . قُلْتُ: فَتَنْقُضُ
__________
(1) البناية 1 / 262، 263، والزيلعي 1 / 14، فتح القدير 1 / 40 ط. الأميرية، والفتاوى الخانية بهامش الهندية 1 / 33، 34، المجموع 2 / 186، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 188، 189 نشر دار المعرفة.
(2) حاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 189 م.
(3) الزرقاني 1 / 59.
(4) الحديث تقدم ف / 5.

(21/167)


شَعْرَهَا مِنَ الْحَيْضِ؟ قَال: نَعَمْ، قُلْتُ لَهُ: وَكَيْفَ تَنْقُضُهُ مِنَ الْحَيْضَةِ وَلاَ تَنْقُضُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ؟ فَقَال: حَدِيثُ أَسْمَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: " لاَ تَنْقُضُهُ ".
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّهُ لاَ يَجِبُ نَقْضُ الشَّعْرِ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَأَمَّا نَقْضُهُ لِلْغُسْل مِنَ الْحَيْضِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهُ وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ وَطَاوُوسٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهَا، إِذَا كَانَتْ حَائِضًا: انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي (1) وَلاَ يَكُونُ الْمُشْطُ إِلاَّ فِي شَعْرٍ غَيْرِ مَضْفُورٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: انْقُضِي شَعْرَكِ وَاغْتَسِلِي؛ وَلأَِنَّ الأَْصْل وُجُوبُ نَقْضِ الشَّعْرِ لِيَتَحَقَّقَ وُصُول الْمَاءِ إِلَى مَا يَجِبُ غَسْلُهُ فَعُفِيَ عَنْهُ فِي غُسْل الْجَنَابَةِ؛ لأَِنَّهُ يَكْثُرُ فَيَشُقُّ ذَلِكَ فِيهِ وَالْحَيْضُ بِخِلاَفِهِ فَبَقِيَ عَلَى مُقْتَضَى الأَْصْل فِي الْوُجُوبِ، وَقَال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: هَذَا مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ (2) .
__________
(1) حديث: " انقضى رأسك وامتشطي " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 417 - ط. السلفية) ، ومسلم (2 / 870 - ط الحلبي) من حديث عائشة، والرواية الأخرى: " انقضي شعرك واغتسلي " في سنن ابن ماجه (1 / 210 - ط الحلبي) .
(2) المغني 1 / 225 - 227، وكشاف القناع 1 / 154، والمجموع 2 / 187.

(21/167)


وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - فِيمَا هُوَ مُقَابِلٌ لِلصَّحِيحِ - أَنَّهُ قَال: إِنَّ الْمَرْأَةَ تُسْبِل ذَوَائِبَهَا ثَلاَثًا مَعَ كُل بِلَّةٍ عَصْرَةٌ لِيَبْلُغَ الْمَاءُ شُعَبَ قُرُونِهَا (1) .
وَقَال ابْنُ الْهُمَامِ وَالْعَيْنِيُّ: وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ لِلْحَصْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ (2) . قَال النَّخَعِيُّ: يَجِبُ نَقْضُ الضَّفَائِرِ بِكُل حَالٍ (3) .
هَذَا، وَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ شَعْرٌ مَضْفُورٌ فَهُوَ كَالْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ نَقْضُ شَعْرِهِ إِذَا كَانَ رَخْوًا بِحَيْثُ يَدْخُل الْمَاءُ وَسْطَهُ (4) . وَقَال الصَّدْرُ الشَّهِيدُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا أَضْفَرَ الرَّجُل شَعْرَهُ يَجِبُ إِيصَال الْمَاءِ إِلَى انْتِهَاءِ الشَّعْرِ قَال الْعَيْنِيُّ: وَالاِحْتِيَاطُ إِيصَال الْمَاءِ (5) .

ثَانِيًا - بِمَعْنَى طَرَفِ الْعِمَامَةِ:

1 - إِرْخَاءُ الذُّؤَابَةِ
7 - إِرْخَاءُ الذُّؤَابَةِ مِنَ السُّنَّةِ (6) ، فَقَدْ جَاءَ فِي
__________
(1) البناية 1 / 263، والعناية بهامش فتح القدير 1 / 40.
(2) البناية 1 / 262، وفتح القدير 1 / 40، 41.
(3) البناية 1 / 262، والمجموع 2 / 187.
(4) حاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 189، والمجموع 2 / 187، والمغني 1 / 226، والبناية 1 / 262.
(5) البناية 1 / 262.
(6) الآداب الشرعية 3 / 536، وكشاف القناع 1 / 119، وابن عابدين 5 / 481، والاختيار 4 / 178، ومواهب الجليل 1 / 541، وحاشية الجمل 2 / 89.

(21/168)


إِرْخَاءِ الذُّؤَابَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا صَحِيحٌ وَمِنْهَا حَسَنٌ، نَاصَّةٌ عَلَى فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإِِرْخَاءِ الذُّؤَابَةِ لِنَفْسِهِ وَلِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَعَلَى أَمْرِهِ بِهِ (1) .
فَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اعْتَمَّ سَدَل عِمَامَتَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ (2) .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَال: عَمَّمَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَدَلَهَا مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي (3) .
قَال ابْنُ رَسْلاَنَ فِي شَرْحِ السُّنَنِ عِنْدَ ذِكْرِ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَهِيَ الَّتِي صَارَتْ شِعَارَ الصَّالِحِينَ الْمُتَمَسِّكِينَ بِالسُّنَّةِ، يَعْنِي إِرْسَال الْعِمَامَةِ عَلَى الصَّدْرِ. وَقَال: وَفِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنِ الْعِمَامَةِ الْمُقَعَّطَةِ (4) . قَال أَبُو عُبَيْدٍ: الْمُقَعَّطَةُ:
__________
(1) حاشية الجمل 2 / 89.
(2) حديث: " كان إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه " أخرجه الترمذي (4 / 235 - ط الحلبي) ، وقال: " حديث حسن غريب ".
(3) حديث عبد الرحمن بن عوف: " عممني رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه أبو داود (4 / 341 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وذكر المنذري في مختصره أنَّ في إسناده جهالة. مختصر السنن (6 / 45 - نشر دار المعرفة) .
(4) قوله: وفي الحديث النهي عن العمامة المقعطة. ورد فيه ما ذكره أبو عبيد في غريب الحديث (3 / 120 - ط دائرة المعارف العثمانية) : " في حديثه - عليه الصلاة والسلام - أنه أمر بالتلحي ونهى عن الاقتعاط " ولم يذكر له إسنادًا.

(21/168)


الَّتِي لاَ ذُؤَابَةَ لَهَا وَلاَ حَنَكَ (1) .
قَال النَّوَوِيُّ: يَجُوزُ لُبْسُ الْعِمَامَةِ بِإِرْسَال طَرَفِهَا وَبِغَيْرِ إِرْسَالِهِ، وَلاَ كَرَاهَةَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَمْ يَصِحَّ فِي النَّهْيِ عَنْ تَرْكِ إِرْسَالِهَا شَيْءٌ (2) .
وَقَدِ اسْتَدَل عَلَى جَوَازِ تَرْكِ الْعَذَبَةِ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ (3) بِدُونِ ذِكْرِ الذُّؤَابَةِ، قَال: فَدَل عَلَى أَنَّ الذُّؤَابَةَ لَمْ يَكُنْ يُرْخِيهَا دَائِمًا بَيْنَ كَتِفَيْهِ (4) .

كَيْفِيَّةُ إِرْخَاءِ الذُّؤَابَةِ
8 - لَقَدْ وَرَدَتْ عِدَّةُ أَحَادِيثَ فِي كَيْفِيَّةِ إِرْخَاءِ الذُّؤَابَةِ:
فَمِنْهَا مَا يَدُل عَلَى إِرْخَائِهَا بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ وَحَدِيثِ أَبِي مُوسَى إِنَّ جَبْرَائِيل نَزَل عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ قَدْ أَرْخَى ذُؤَابَتَهُ مِنْ وَرَائِهِ (5) .
__________
(1) نيل الأوطار 2 / 108، 109 ط. العثمانية.
(2) روضة الطالبين 2 / 69، ونيل الأوطار 2 / 110، وتحفة الأحوذي 5 / 414.
(3) حديث جابر: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء " أخرجه مسلم (2 / 990 - ط. الحلبي) .
(4) نيل الأوطار 2 / 109، وتحفة الأحوذي 5 / 413.
(5) تحفة الأحوذي 5 / 411، 412. وحديث أبي موسى: أن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة سوداء. أورده الهيثمي في " مجمع الزوائد " (5 / 120 - ط القدسي) وقال: " رواه الطبراني، وفيه عبيد الله بن تمام، وهو ضعيف ".

(21/169)


وَبِاسْتِحْبَابِ إِرْخَاءِ الذُّؤَابَةِ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ يَقُول الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَمِنَ الأَْحَادِيثِ مَا يَدُل عَلَى إِرْخَاءِ الذُّؤَابَةِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُعْتَمِّ وَمِنْ خَلْفِهِ كَحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَال: عَمَّمَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَدَلَهَا مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي (2) .
وَسُئِل مَالِكٌ عَنْ إِرْخَاءِ الْعِمَامَةِ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ قَال: لَمْ أَرَ أَحَدًا مِمَّنْ أَدْرَكْتُهُ يُرْخِي بَيْنَ كَتِفَيْهِ إِلاَّ عَامِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَرَامٍ وَلَكِنْ يُرْسِلُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ أَكْمَل (3) .
كَمَا أَنَّ هُنَاكَ أَحَادِيثَ تَدُل عَلَى إِرْخَاءِ الذُّؤَابَةِ مِنَ الْجَانِبِ الأَْيْمَنِ كَحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يُوَلِّي وَالِيًا حَتَّى يُعَمِّمَهُ وَيُرْخِيَ لَهَا مِنْ جَانِبِهِ الأَْيْمَنِ نَحْوَ الأُْذُنِ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 481، والزيلعي 6 / 229، وحاشية الجمل 2 / 89، وكشاف القناع 1 / 119، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 536، وصحيح الترمذي بشرح ابن العربي المالكي 7 / 243.
(2) الحديث تقدم ف 7.
(3) عمدة القاري 21 / 307.
(4) حديث أبي أمامة: " كان لا يولي واليًا حتى يعممه ". أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (8 / 170 - ط وزارة الأوقاف العراقية) ، وأورده الهيثمي في المجمع (5 / 120 - ط القدسي) ، وقال: رواه الطبراني، وفيه جميع بن ثوب، وهو متروك.

(21/169)


أَمَّا إِرْخَاءُ الذُّؤَابَةِ مِنَ الْجَانِبِ الأَْيْسَرِ فَقَدْ قَال الْحَافِظُ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ: الْمَشْرُوعُ مِنَ الأَْيْسَرِ، وَلَمْ أَرَ مَا يَدُل عَلَى تَعْيِينِ الأَْيْمَنِ إِلاَّ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ - الْمَذْكُورِ آنِفًا - بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ. وَقَال: وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَلَعَلَّهُ كَانَ يُرْخِيهَا مِنَ الْجَانِبِ الأَْيْمَنِ ثُمَّ يَرُدُّهَا مِنَ الْجَانِبِ الأَْيْسَرِ (1) .

2 - مِقْدَارُ الذُّؤَابَةِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ الذُّؤَابَةِ: مِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَ ذَلِكَ بِشِبْرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَال إِلَى وَسَطِ الظَّهْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَال إِلَى مَوْضِعِ الْجُلُوسِ (2) .
وَقَال بَعْضُ الْحُفَّاظِ: أَقَل مَا وَرَدَ فِي طُول الذُّؤَابَةِ أَرْبَعُ أَصَابِعَ، وَأَكْثَرُ مَا وَرَدَ ذِرَاعٌ، وَبَيْنَهُمَا شِبْرٌ (3) . هَذَا وَإِطَالَةُ الذُّؤَابَةِ كَثِيرًا مِنَ الإِْسْبَال الْمَنْهِيِّ عَنْهُ (4) .
قَال النَّوَوِيُّ وَالْجَمَل مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِرْسَال
__________
(1) إرشاد الساري للقسطلاني 8 / 428.
(2) تبيين الحقائق 6 / 229، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 537.
(3) حاشية الجمل 2 / 89.
(4) الآداب الشرعية 3 / 537، وروضة الطالبين 2 / 69، وكشاف القناع 1 / 277.

(21/170)


الْعَذَبَةِ إِرْسَالاً فَاحِشًا كَإِرْسَال الثَّوْبِ يَحْرُمُ لِلْخُيَلاَءِ وَيُكْرَهُ لِغَيْرِهِ (1) .
فَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الإِْسْبَال فِي الإِْزَارِ وَالْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ، مَنْ جَرَّ مِنْهَا شَيْئًا خُيَلاَءَ لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (2) .
قَال ابْنُ بَطَّالٍ: وَإِسْبَال الْعِمَامَةِ الْمُرَادُ بِهِ إِرْسَال الْعَذَبَةِ زَائِدًا عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَقَدْ نَقَل الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنِ الْعُلَمَاءِ كَرَاهَةَ كُل مَا زَادَ عَلَى الْعَادَةِ وَعَلَى الْمُعْتَادِ فِي اللِّبَاسِ مِنَ الطُّول وَالسَّعَةِ. قَال الصَّنْعَانِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَادَ بِالْمُعْتَادِ مَا كَانَ فِي عَصْرِ النُّبُوَّةِ (3) .
__________
(1) نيل الأوطار 2 / 110 ط. العثمانية، وتحفة الأحوذي 5 / 413.
(2) حديث: " الإسبال في الإزار والقميص والعمامة " أخرجه النسائي (8 / 208 - ط المكتبة التجارية) من حديث عبد الله بن عمر، وصحح إسناده النووي في رياض الصالحين (ص 357 - ط الرسالة) .
(3) سبل السلام (4 / 309 نشر دار الكتاب العربي) .

(21/170)


ذَبَائِحُ

(1)

التَّعْرِيفُ:
1 - الذَّبَائِحُ جَمْعُ ذَبِيحَةٍ - وَهِيَ الْحَيَوَانُ الْمَذْبُوحُ - مَأْخُوذَةٌ مِنَ الذَّبْحِ - بِفَتْحِ الذَّال - وَهُوَ مَصْدَرُ ذَبَحَ يَذْبَحُ كَمَنَعَ يَمْنَعُ.
وَيُطْلَقُ الذَّبْحُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الشَّقِّ وَهُوَ الْمَعْنَى الأَْصْلِيُّ، ثُمَّ اسْتُعْمِل فِي قَطْعِ الْحُلْقُومِ مِنْ بَاطِنٍ عِنْدَ النَّصِيل، وَهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَهُ صَاحِبُ اللِّسَانِ، وَالْحُلْقُومُ هُوَ مَجْرَى النَّفَسِ - بِفَتْحِ الْفَاءِ - وَالْمُرَادُ بِالْبَاطِنِ مُقَدَّمُ الْعُنُقِ، وَالنَّصِيل - بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الصَّادِ - مَفْصِل مَا بَيْنَ الْعُنُقِ وَالرَّأْسِ تَحْتَ اللَّحْيَيْنِ (2) .
وَلِلذَّبْحِ فِي الاِصْطِلاَحِ ثَلاَثَةُ مَعَانٍ:
(الأَْوَّل) الْقَطْعُ فِي الْحَلْقِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ مِنَ الْعُنُقِ " وَاللَّبَّةُ " بِفَتْحِ اللاَّمِ هِيَ الثُّغْرَةُ بَيْنَ التَّرْقُوَتَيْنِ أَسْفَل الْعُنُقِ
__________
(1) هذه الترجمة للحنفية والشافعية، وترجمة المالكية والحنابلة (بالذكاة) .
(2) القاموس المحيط، ولسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني، مادة: (ذبح) .

(21/171)


" وَاللَّحْيَانِ " مُثَنَّى اللَّحْيِ بِفَتْحِ اللاَّمِ وَهُمَا الْعَظْمَانِ اللَّذَانِ يَلْتَقِيَانِ فِي الذَّقَنِ، وَتَنْبُتُ عَلَيْهِمَا الأَْسْنَانُ السُّفْلَى.
وَالْفُقَهَاءُ يُرِيدُونَ هَذَا الْمَعْنَى حِينَ يَقُولُونَ مَثَلاً: (يُسْتَحَبُّ فِي الْغَنَمِ وَنَحْوِهَا الذَّبْحُ (1)) أَيْ أَنْ تُقْطَعَ فِي حَلْقِهَا لاَ فِي لَبَّتِهَا.
(الثَّانِي) الْقَطْعُ فِي الْحَلْقِ أَوِ اللَّبَّةِ وَهَذَا أَعَمُّ مِنَ الأَْوَّل لِشُمُولِهِ الْقَطْعَ فِي اللَّبَّةِ، وَالْفُقَهَاءُ يُرِيدُونَ هَذَا الْمَعْنَى حِينَمَا يَقُولُونَ: إِنَّ الْحَيَاةَ الْمُسْتَقِرَّةَ هِيَ مَا فَوْقَ حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ وَهِيَ الْحَرَكَةُ الشَّدِيدَةُ الَّتِي يَتَحَرَّكُهَا الْحَيَوَانُ حِينَمَا يُقَارِبُ الْمَوْتَ بَعْدَ الْقَطْعِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ الْقَطْعُ فِي حَلْقِهِ أَمْ فِي لَبَّتِهِ (2) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (3) فَإِنَّهُ يَشْمَل مَا قُطِعَ فِي حَلْقِهِ وَمَا قُطِعَ فِي لَبَّتِهِ.
(الثَّالِثُ) : مَا يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى حِل الْحَيَوَانِ سَوَاءٌ أَكَانَ قَطْعًا فِي الْحَلْقِ أَمْ فِي اللَّبَّةِ مِنْ حَيَوَانٍ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، أَمْ إِزْهَاقًا لِرَوْحِ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ بِإِصَابَتِهِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ جَسَدِهِ بِمُحَدَّدٍ أَوَبِجَارِحَةٍ مُعَلَّمَةٍ.
وَهَذَا الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنْ سَابِقَيْهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْل الْفُقَهَاءِ (لاَ تَحِل ذَبِيحَةُ الْمُشْرِكِ) فَالْمُرَادُ كُل
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 60.
(2) بدائع الصنائع 5 / 51.
(3) سورة المائدة / 3.

(21/171)


مَا أَصَابَهُ الْمُشْرِكُ فِي حَلْقِهِ أَوْ لَبَّتِهِ إِنْ كَانَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ، أَوْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ جَسَدِهِ إِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النَّحْرُ:
2 - يُسْتَعْمَل النَّحْرُ فِي اللُّغَةِ اسْمًا وَمَصْدَرًا وَذَلِكَ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى أَعْلَى الصَّدْرِ وَمَوْضِعِ الْقِلاَدَةِ مِنْهُ وَالصَّدْرِ كُلِّهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الطَّعْنِ فِي لَبَّةِ الْحَيَوَانِ، لأَِنَّهَا مُسَامِتَةٌ لأَِعْلَى صَدْرِهِ، يُقَال: نَحَرَ الْبَعِيرَ يَنْحَرُهُ نَحْرًا (2) .
وَالنَّحْرُ فِي الاِصْطِلاَحِ الطَّعْنُ فِي اللَّبَّةِ أَيْضًا فَهُوَ مُقَابِلٌ لِلذَّبْحِ بِمَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ الأَْوَّل، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل الْفُقَهَاءِ (يُسْتَحَبُّ فِي الإِْبِل النَّحْرُ، وَفِي الْغَنَمِ وَنَحْوِهَا الذَّبْحُ (3)) .

ب - الْعَقْرُ:
3 - الْعَقْرُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْقَافِ لُغَةً: ضَرْبُ قَوَائِمِ الْبَعِيرِ أَوِ الشَّاةِ بِالسَّيْفِ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ الْعَرَبُ حَتَّى اسْتَعْمَلُوهُ فِي الْقَتْل وَالإِْهْلاَكِ، وَرُبَّمَا اسْتَعْمَلُوهُ فِي النَّحْرِ خَاصَّةً؛
__________
(1) وصرح الشافعية بإرادة هذا المعنى العام حينما تكلموا في أول موضوع الذبائح عن تعريف الذبح وأركانه. ر: شرح منهج الطلاب بحاشية البجيرمي 4 / 285.
(2) اللسان، والقاموس، وتاج العروس مادة: (نحر) .
(3) بدائع الصنائع 5 / 60.

(21/172)


لأَِنَّ نَاحِرَ الإِْبِل كَانَ يَضْرِبُ إِحْدَى قَوَائِمِهَا ثُمَّ يَنْحَرُهَا (1) .
وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى الإِْصَابَةِ الْقَاتِلَةِ لِلْحَيَوَانِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَتْ مِنْ بَدَنِهِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِالسَّهْمِ أَمْ بِجَوَارِحِ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ (2) .

ج - الْجَرْحُ
4 - الْجَرْحُ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْكَسْبِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} (3) . وَعَلَى التَّأْثِيرِ فِي الشَّيْءِ بِالسِّلاَحِ (4) ، وَيُطْلَقُ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْفِقْهِ عَلَى مَعْنَى " الْعَقْرِ " الْمُتَقَدِّمِ (5) .

د - الصَّيْدُ:
5 - الصَّيْدُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ صَادَ الْوَحْشَ أَوِ الطَّيْرَ أَوِ السَّمَكَ، إِذَا أَمْسَكَهَا بِالْمِصْيَدَةِ (6) أَوْ أَخَذَهَا، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا صِيدَ، وَعَلَى مَا يُصَادُ،
__________
(1) اللسان مادة: (عقر) .
(2) البدائع 5 / 43.
(3) سورة الأنعام / 60.
(4) اللسان مادة: (جرح) .
(5) البدائع 5 / 43.
(6)
(المصيدة) بكسر الميم وسكون الصاد وبفتح الميم وسكون الصاد وبفتح الميم وكسر الصاد: آلة الصيد، والمقصود بالإمساك إزالة المنعة بالقبض أو الحبس أو التعجيز أو القتل أو غير ذلك.

(21/172)


أَيْ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُصَادَ لاِمْتِنَاعِهِ بِشِدَّةِ الْعَدْوِ أَوِ الطَّيَرَانِ أَوِ الْغَوْصِ. وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَهُ مَصْدَرًا، وَبِمَعْنَى مَا صِيدَ وَمَا يُصَادُ أَيْضًا، لَكِنَّهُمْ حِينَمَا يَسْتَعْمِلُونَهُ مَصْدَرًا يُطْلِقُونَهُ تَارَةً عَلَى إِزَالَةِ مَنَعَةِ مَا كَانَ مُمْتَنِعًا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَتَارَةً عَلَى إِزْهَاقِ رَوْحِ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ الْمُتَوَحِّشِ بِإِرْسَال نَحْوِ سَهْمٍ أَوْ كَلْبٍ أَوْ صَقْرٍ، فَيُرَادِفُ " الْعَقْرَ " الْمُتَقَدِّمَ، وَحِينَمَا يَسْتَعْمِلُونَهُ بِمَعْنَى مَا صِيدَ يَقْصِدُونَ بِهِ تَارَةً مَا أُزِيلَتْ مَنَعَتُهُ، وَتَارَةً مَا أُزْهِقَتْ رُوحُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ الْمُتَوَحِّشِ. . . إِلَخْ، وَحِينَمَا يَسْتَعْمِلُونَهُ بِمَعْنَى مَا يُصَادُ يُرِيدُونَ بِهِ الْحَيَوَانَ الْبَرِّيَّ الْمُتَوَحِّشَ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْد) .

هـ - التَّذْكِيَةُ:
6 - التَّذْكِيَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ ذَكَّيْتُ الْحَيَوَانَ أَيْ ذَبَحْتُهُ أَوْ نَحَرْتُهُ، وَالذَّكَاةُ: اسْمُ الْمَصْدَرِ. وَمَعْنَاهَا إِتْمَامُ الشَّيْءِ وَالذَّبْحِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ السَّبَبُ الْمُوَصِّل لِحِل أَكْل الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ اخْتِيَارًا (2) .
وَتُعْرَفُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا السَّبِيل الشَّرْعِيَّةُ لِبَقَاءِ طَهَارَةِ الْحَيَوَانِ وَحِل أَكْلِهِ إِنْ كَانَ مَأْكُولاً،
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط، والمفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني مادة: (ذكا) .
(2) الشرح الصغير بهامش بلغة السالك 1 / 312.

(21/173)


وَحِل الاِنْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ وَشَعْرِهِ إِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْكُولٍ (1) .

أَثَرُ الذَّكَاةِ فِي الْحَيَوَانِ:
7 - الْحَيَوَانُ نَوْعَانِ مَأْكُولٌ وَغَيْرُ مَأْكُولٍ وَلِلذَّكَاةِ أَثَرٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا.

أ - أَثَرُ الذَّكَاةِ فِي الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمَأْكُول:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ الَّذِي لاَ يُؤْكَل:
1 - إِنْ كَانَ نَجَسًا حَيًّا وَمَيِّتًا كَالْخِنْزِيرِ لَمْ يَقْبَل
__________
(1) ها هنا مصححان للحنفية: أحدهما: أن الحيوان غير المأكول يبقى طهره جلدًا ولحمًا بالتذكية ولو اضطرارية، والثاني: أن اللحم لا يبقى طهره، وجزم صاحبا الهداية والكنز بعدم التفضيل بين اللحم والجلد فكلاهما يبقى طهره، قال ابن عابدين: " التفصيل أصح ما يفتى به "

(21/173)


الذَّكَاةَ؛ لأَِنَّهَا إِنَّمَا تُفِيدُ بَقَاءَ الطُّهْرِ وَلاَ تَقْلِبُ النَّجَسَ طَاهِرًا.
2 - وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا حَيًّا وَمَيِّتًا - وَهُوَ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ كَالنَّمْل وَالنَّحْل - فَلاَ حَاجَةَ إِلَى تَذْكِيَتِهِ؛ لأَِنَّ طُهْرَهُ بَاقٍ.
3 - وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا فِي الْحَيَاةِ نَجَسًا بِالْمَوْتِ كَالْحِمَارِ الأَْهْلِيِّ فَهُوَ صَالِحٌ لِلتَّذْكِيَةِ وَلَهَا فِيهِ أَثَرَانِ:
الأَْوَّل: بَقَاءُ طُهْرِهِ وَلَوْلاَ التَّذْكِيَةُ لَتَنَجَّسَ بِالْمَوْتِ.
وَالثَّانِي: حِل الاِنْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ وَشَعْرِهِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى دِبَاغٍ (1) . (ر: نَجَاسَة، دِبَاغ) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الذَّكَاةَ لاَ تَعْمَل فِي غَيْرِ الْمَأْكُول (2) لَكِنْ يُسْتَحَبُّ ذَكَاةُ مَا لاَ يُؤْكَل إِنْ أَيِسَ مِنْ حَيَاتِهِ بِمَرَضٍ أَوْ عَمًى بِمَكَانٍ لاَ عَلَفَ فِيهِ، وَلاَ يُرْجَى أَخْذُ أَحَدٍ لَهُ، وَهَذِهِ الذَّكَاةُ لَيْسَتْ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ لأَِنَّهَا لِلإِْرَاحَةِ لاَ لِلتَّطْهِيرِ (3) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِتَحْرِيمِ ذَبْحِ غَيْرِ الْمَأْكُول وَلَوْ لإِِرَاحَةٍ، لَكِنْ لَوِ اضْطُرَّ إِنْسَانٌ لأَِكْلِهِ كَانَ ذَبْحُهُ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْقَتْل؛ لأَِنَّهُ أَسْهَل لِخُرُوجِ الرُّوحِ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 85، 86، الدر المختار على حاشية ابن عابدين 5 / 196.
(2) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 19، 321.
(3) الخرشي على خليل بحاشية العدوي 2 / 316.
(4) البجيرمي على الإقناع 4 / 248.

(21/174)


وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَطْهُرُ جِلْدُ غَيْرِ الْمَأْكُول بِالذَّكَاةِ لأَِنَّهَا ذَكَاةٌ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ (1) .

ب - أَثَرُ الذَّكَاةِ فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول:
9 - الْحَيَوَانُ الْمَأْكُول إِنْ كَانَ سَمَكًا أَوْ جَرَادًا فَلاَ حَاجَةَ إِلَى تَذْكِيَتِهِ؛ لأَِنَّ مَيْتَتَهُمَا طَاهِرَةٌ حَلاَلٌ، لِمَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَال (2) . وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَحْرِ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِل مَيْتَتُهُ. (3)
وَأَمَّا سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ الْبَحْرِيَّةِ غَيْرَ السَّمَكِ فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ تُؤْكَل وَلَوْ بِغَيْرِ تَذْكِيَةٍ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ تُؤْكَل أَصْلاً وَلَوْ ذُكِّيَتْ. وَسَائِرُ مَا لاَ نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ يُؤْكَل عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَلَوْ بِلاَ تَذْكِيَةٍ. (وَانْظُرْ: أَطْعِمَة) .
وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يَحِل إِلاَّ بِالتَّذْكِيَةِ.
__________
(1) المقنع 1 / 21.
(2) حديث: " أحلت لنا ميتتان ودمان: فأما الميتتان فالحوت. . . . " أخرجه أحمد (2 / 97 - ط الميمنية) ، والبيهقي (10 / 7 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصحح الدارقطني وقفه كما في التلخيص (1 / 26 - شركة الطباعة الفنية) ، وكذا تبعه البيهقي.
(3) حديث: " هو الطهور ماؤه، الحل ميتته " أخرجه أبو داود (1 / 64 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والترمذي (1 / 101 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وصححه البخاري كما في التلخيص الحبير (1 / 9 - ط شركة الطباعة الفنية) .

(21/174)


وَإِنْ كَانَ الْحَيَوَانُ الْمَأْكُول بَرِّيًّا ذَا نَفْسٍ سَائِلَةٍ فَهُوَ صَالِحٌ لِلذَّكَاةِ.
وَلَهَا فِيهِ ثَلاَثَةُ آثَارٍ:
الأَْوَّل: بَقَاءُ طُهْرِهِ، وَالثَّانِي: حِل الاِنْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ وَشَعْرِهِ دُونَ دِبَاغٍ، وَالثَّالِثُ: حِل أَكْلِهِ (1) .

تَقْسِيمُ الذَّكَاةِ:
10 - سَبَقَ أَنَّ الذَّكَاةَ لَهَا أَثَرٌ فِي الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ الطَّاهِرِ الَّذِي لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ سَوَاءٌ أَكَانَ مَأْكُولاً أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (2) . وَالْحَيَوَانُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ كَالْمُسْتَأْنَسِ مِنَ الدَّوَابِّ وَالطُّيُورِ، أَوْ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَوْحِشِ مِنْهَا.
وَلِهَذَا كَانَتِ الذَّكَاةُ نَوْعَيْنِ:
(الأَْوَّل) : الذَّبْحُ أَوِ النَّحْرُ عَلَى حَسَبِ نَوْعِ الْحَيَوَانِ إِنْ كَانَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ. (الثَّانِي) : الصَّيْدُ بِالرَّمْيِ أَوْ بِإِرْسَال الْجَارِحَةِ عِنْدَ امْتِنَاعِ الْحَيَوَانِ وَتَوَحُّشِهِ بِالطَّيَرَانِ أَوِ الْعَدْوِ،
__________
(1) الدر المختار بحاشية ابن عابدين 5 / 186، ونهاية المحتاج 8 / 105، 107، والمقنع 3 / 534، والخرشي على خليل بحاشية العدوي 2 / 323.
(2) إنما قيد بالبري؛ لأن السمك لا ذكاة له عند الجمهور. وقيد بالطاهر؛ لأن النجس كالخنزير لا ذكاة له إجماعًا. وقيد بالذي له نفس سائلة؛ لأن ما لا نفس سائلة له إن كان غير مأكول فلا ذكاة له اتفاقًا، وإن كان مأكولاً كالجراد فلا ذكاة له عند الجمهور. وقد علم هـ

(21/175)


وَهُوَ كَالْبَدَل عَنِ الأَْوَّل، إِذْ لَمْ يُجِزْهُ الشَّارِعُ إِلاَّ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ رَحْمَةً بِالنَّاسِ وَرِعَايَةً لِحَاجَاتِهِمْ.
وَمِنْ هُنَا انْقَسَمَتِ الذَّكَاةُ إِلَى " اخْتِيَارِيَّةٍ " وَهِيَ النَّوْعُ الأَْوَّل " وَاضْطِرَارِيَّةٍ " وَهِيَ النَّوْعُ الثَّانِي. وَقَدِ انْفَرَدَ الْحَنَفِيَّةُ بِتَسْمِيَةِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ بِهَذَيْنِ الاِسْمَيْنِ (1) . وَسَمَّى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ النَّوْعَ الأَْوَّل ذَكَاةَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَالنَّوْعَ الثَّانِيَ ذَكَاةَ غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ (2) .
وَمَضَى أَنَّ هُنَاكَ نَوْعًا آخَرَ مِنَ الذَّكَاةِ (3) هُوَ ذَكَاةُ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَبَقِيَ نَوْعٌ يَقُول بِهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ ذَكَاةُ الْجَنِينِ بِذَكَاةِ أُمِّهِ
فَجُمْلَةُ الأَْنْوَاعِ اتِّفَاقًا وَاخْتِلاَفًا أَرْبَعَةٌ هِيَ: الذَّكَاةُ الاِخْتِيَارِيَّةُ، وَالذَّكَاةُ الاِضْطِرَارِيَّةُ، وَذَكَاةُ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ، وَذَكَاةُ الْجَنِينِ تَبَعًا لأُِمِّهِ.

النَّوْعُ الأَْوَّل مِنْ أَنْوَاعِ الذَّكَاةِ:
الذَّكَاةُ الاِخْتِيَارِيَّةُ:
أ - حَقِيقَتُهَا.
11 - حَقِيقَةُ الذَّكَاةِ الاِخْتِيَارِيَّةِ الذَّبْحُ فِيمَا يُذْبَحُ وَهُوَ مَا عَدَا الإِْبِل مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهَا،
__________
(1) البدائع 5 / 40.
(2) الإقناع بحاشية البجيرمي 4 / 246، 247.
(3) ر: ف / 9.

(21/175)


وَالنَّحْرُ فِيمَا يُنْحَرُ وَهُوَ الإِْبِل خَاصَّةً، وَتَخْصِيصُ الذَّكَاةِ الاِخْتِيَارِيَّةِ بِالذَّبْحِ أَوِ النَّحْرِ وَاجِبٌ فَلاَ يَجُوزُ الْعُدُول عَنْهَا فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ بِلاَ خِلاَفٍ.
قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ لِمَنْ قَدَرَ، وَذَرِ الأَْنْفُسَ حَتَّى تَزْهَقَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: " الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ (1) . وَالْمَقْصُودُ بِالذَّكَاةِ فِي كَلاَمِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ذَكَاةُ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ لِغَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ صِفَةً أُخْرَى ذُكِرَتْ فِي أَحَادِيثِ الصَّيْدِ.
وَتَخْصِيصُ الإِْبِل بِالنَّحْرِ وَمَا عَدَاهَا بِالذَّبْحِ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ وَاجِبٌ، وَوَجْهُ اسْتِحْبَابِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الإِْبِل النَّحْرَ، وَفِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ الذَّبْحَ فَقَال: {فَصَل لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2) . وَقَال: {إِنَّ اللَّهَ
__________
(1) أثر عمر بن الخطاب وابن عباس أخرجهما عبد الرزاق في المصنف (4 / 495 - ط المجلس العلمي) . وورد في معناهما حديث مرفوع، فعن أبي هريرة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بديل بن ورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى: ألا إن الذكاة في الحلق واللبة وأورده الزيلعي في نصب الراية (4 / 185 - ط المجلس العلمي) ، ونقل عن ابن الهادي في التنقيح أنه قال: " هذا إسناد ضعيف بمرة ".
(2) سورة الكوثر / 2.

(21/176)


يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (1) . وَقَال: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (2) . وَالذِّبْحُ - بِكَسْرِ الذَّال - بِمَعْنَى الْمَذْبُوحِ وَهُوَ الْكَبْشُ الَّذِي فُدِيَ بِهِ إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ وَلأَِنَّ الأَْصْل فِي الذَّكَاةِ إِنَّمَا هُوَ الأَْسْهَل عَلَى الْحَيَوَانِ، وَمَا فِيهِ نَوْعُ رَاحَةٍ لَهُ فَهُوَ أَفْضَل، وَالأَْسْهَل فِي الإِْبِل النَّحْرُ لِخُلُوِّ لَبَّتِهَا عَنِ اللَّحْمِ وَاجْتِمَاعِ اللَّحْمِ فِيمَا سِوَاهَا، وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَنَحْوُهَا جَمِيعُ عُنُقِهَا لاَ يَخْتَلِفُ (3) .
وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيَّةُ بِالإِْبِل سَائِرَ مَا طَال عُنُقُهُ كَالإِْوَزِّ وَالْبَطِّ وَمَا قُدِرَ عَلَيْهِ مِنَ النَّعَامِ (4) . وَأَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ النَّحْرَ فِي الإِْبِل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَل لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وَقَاسُوا عَلَى الإِْبِل مَا قُدِرَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّرَافِيِّ وَالْفِيَلَةِ.
وَأَجَازُوا الذَّبْحَ وَالنَّحْرَ - مَعَ أَفْضَلِيَّةِ الذَّبْحِ - فِي الْبَقَرِ لِوُرُودِ الذَّبْحِ فِيهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} ، وَأَمَّا النَّحْرُ فَقَدْ قِيل فِي تَعْلِيلِهِ عِنْدَهُمْ: إِنَّ عُنُقَ الْبَقَرَةِ لَمَّا كَانَ فَوْقَ الشَّاةِ وَدُونَ عُنُقِ الْبَعِيرِ جَازَ فِيهَا الأَْمْرَانِ جَمِيعًا الذَّبْحُ وَالنَّحْرُ؛ لِقُرْبِ خُرُوجِ الدَّمِ مِنْ جَوْفِهَا بِالذَّبْحِ، وَالنَّحْرُ فِيهِ أَخَفُّ، وَلَمْ يَجُزِ الذَّبْحُ فِي الْبَعِيرِ لِبُعْدِ خُرُوجِ الدَّمِ مِنْ جَوْفِهَا بِالذَّبْحِ.
__________
(1) سورة البقرة / 67.
(2) سورة الصافات / 107.
(3) البدائع 5 / 40، 41، والمقنع 3 / 538.
(4) الإقناع بحاشية البجيرمي 4 / 249، 250.

(21/176)


وَقَاسُوا عَلَيْهِ مَا قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْ بَقَرِ الْوَحْشِ وَحُمُرِهِ وَخَيْلِهِ وَبِغَالِهِ، وَأَوْجَبُوا الذَّبْحَ فِيمَا عَدَا هَذِهِ الأَْصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ (1) .

ب - الْحِكْمَةُ فِي اشْتِرَاطِهَا:
12 - الْحِكْمَةُ فِي اشْتِرَاطِ التَّذْكِيَةِ أَنَّ الْحُرْمَةَ فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول لِمَكَانِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَلاَ يَزُول إِلاَّ بِالذَّبْحِ أَوِ النَّحْرِ، وَأَنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا وَرَدَ بِإِحْلاَل الطَّيِّبَاتِ خَاصَّةً قَال تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِل لَهُمْ قُل أُحِل لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (2) وَقَال تَعَالَى: {وَيُحِل لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (3) . وَلاَ يَطِيبُ إِلاَّ بِخُرُوجِ الدَّمِ وَذَلِكَ بِالذَّبْحِ أَوِ النَّحْرِ، وَلِهَذَا حُرِّمَتِ الْمَيْتَةُ؛ لأَِنَّ الْمُحَرَّمَ وَهُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ فِيهَا قَائِمٌ، وَلِذَا لاَ يَطِيبُ مَعَ قِيَامِهِ، وَلِهَذَا يَفْسُدُ فِي أَدْنَى مُدَّةٍ لاَ يَفْسُدُ فِي مِثْلِهَا الْمَذْبُوحُ، وَكَذَا الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَل السَّبُعُ إِذَا لَمْ تُدْرَكْ حَيَّةً، فَتُذْبَحُ أَوْ تُنْحَرُ (4) .
وَمِنَ الْحِكْمَةِ أَيْضًا التَّنْفِيرُ عَنِ الشِّرْكِ وَأَعْمَال الْمُشْرِكِينَ، وَتَمْيِيزُ مَأْكُول الآْدَمِيِّ عَنْ مَأْكُول
__________
(1) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 314، والمنتقى شرح الموطأ 3 / 108 الناشر دار الكتاب العربي.
(2) سورة المائدة / 4.
(3) سورة الأعراف / 157.
(4) بدائع الصنائع 5 / 40، وينظر مغني المحتاج 4 / 267.

(21/177)


السِّبَاعِ، وَأَنْ يَتَذَكَّرَ الإِْنْسَانُ إِكْرَامَ اللَّهِ لَهُ بِإِبَاحَةِ إِزْهَاقِ رَوْحِ الْحَيَوَانِ لأَِكْلِهِ وَالاِنْتِفَاعِ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ (1) .

ج - تَقْسِيمُ الذَّكَاةِ الاِخْتِيَارِيَّةِ:
13 - تَنْقَسِمُ الذَّكَاةُ الاِخْتِيَارِيَّةُ - كَمَا عُلِمَ مِنْ حَقِيقَتِهَا - إِلَى ذَبْحٍ وَنَحْرٍ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقِيقَةٌ وَشَرَائِطُ وَآدَابُ وَمَكْرُوهَاتٌ.

(أَوَّلاً) الذَّبْحُ:
حَقِيقَةُ الذَّبْحِ:
14 - حَقِيقَةُ الذَّبْحِ قَطْعُ الأَْوْدَاجِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا فِي الْحَلْقِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلاَفِ الْمَذَاهِبِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الأَْوْدَاجَ أَرْبَعَةٌ وَهِيَ: الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ وَالْعِرْقَانِ اللَّذَانِ يُحِيطَانِ بِهِمَا وَيُسَمَّيَانِ (الْوَدَجَيْنِ) (2) . فَإِذَا فَرَى ذَلِكَ كُلَّهُ فَقَدْ أَتَى بِالذَّكَاةِ بِكَمَالِهَا. وَإِنْ فَرَى بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ فَفِيهِ خِلاَفٌ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ حَل إِذَا اسْتَوْعَبَ قَطْعَهُمَا؛ لأَِنَّ الذَّبْحَ إِزَالَةُ الْحَيَاةِ، وَالْحَيَاةُ لاَ تَبْقَى بَعْدَ قَطْعِهِمَا
__________
(1) حجة الله البالغة للدهلوي 2 / 812 وما بعدها نشر دار الكتب الحديثة بالقاهرة.
(2) سميت العروق الأربعة أوداجًا تغليبًا، كما قيل: القمران في الشمس والقمر.

(21/177)


عَادَةً وَقَدْ تَبْقَى بَعْدَ قَطْعِ الْوَدَجَيْنِ إِذْ هُمَا عِرْقَانِ كَسَائِرِ الْعُرُوقِ، وَالْحَيَاةُ لاَ تَبْقَى بَعْدَ قَطْعِ عِرْقَيْنِ مِنْ سَائِرِ الْعُرُوقِ (1) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا قَطَعَ أَكْثَرَ الأَْوْدَاجِ، وَهُوَ ثَلاَثَةٌ مِنْهَا - أَيَّ ثَلاَثَةٍ كَانَتْ - وَتَرَكَ وَاحِدًا حَل؛ لأَِنَّ لِلأَْكْثَرِ حُكْمَ الْجَمِيعِ فِيمَا بُنِيَ عَلَى التَّوْسِعَةِ فِي أُصُول الشَّرْعِ، وَالذَّكَاةُ بُنِيَتْ عَلَى التَّوْسِعَةِ حَيْثُ يُكْتَفَى فِيهَا بِبَعْضٍ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْجُمْهُورِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْكَيْفِيَّةِ فَيُقَامُ الأَْكْثَرُ فِيهَا مَقَامَ الْجَمِيعِ (2) .
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ يَحِل حَتَّى يَقْطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ وَأَحَدَ الْعِرْقَيْنِ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْعُرُوقِ يُقْصَدُ بِقَطْعِهِ غَيْرُ مَا يُقْصَدُ بِهِ الآْخَرُ، إِذِ الْحُلْقُومُ مَجْرَى النَّفَسِ، وَالْمَرِيءُ مَجْرَى الطَّعَامِ، وَالْوَدَجَانِ مَجْرَيَانِ لِلدَّمِ، فَإِذَا قُطِعَ أَحَدُهُمَا حَصَل بِقَطْعِهِ الْمَقْصُودُ مِنْهُمَا، وَإِذَا تُرِكَ الْحُلْقُومُ أَوِ الْمَرِيءُ لَمْ يَحْصُل بِقَطْعِ مَا سِوَاهُ الْمَقْصُودُ مِنْ قَطْعِهِ (3) .
وَقَال مُحَمَّدٌ: لاَ يَحِل حَتَّى يَقْطَعَ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنَ الأَْرْبَعَةِ أَكْثَرَهُ؛ لأَِنَّهُ إِذَا قَطَعَ الأَْكْثَرَ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنَ الأَْرْبَعَةِ، فَقَدْ حَصَل الْمَقْصُودُ بِالذَّبْحِ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 105، 110، والمقنع 3 / 537، 538.
(2) بدائع الصنائع 5 / 41.
(3) بدائع الصنائع 5 / 42.

(21/178)


وَهُوَ خُرُوجُ الدَّمِ؛ لأَِنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ مَا يَخْرُجُ بِقَطْعِ الْجَمِيعِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا قَطَعَ جَمِيعَ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ حَل، وَلاَ يَكْفِي نِصْفُ الْحُلْقُومِ مَعَ جَمِيعِ الْوَدَجَيْنِ عَلَى الأَْصَحِّ (2) . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ يُشْتَرَطُ قَطْعُ الأَْوْدَاجِ الأَْرْبَعَةِ، اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ الْبَنَّا وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْزِيُّ وَغَيْرُهُمْ (3) ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ قَطْعَ الأَْعْضَاءِ الأَْرْبَعَةِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَقَطْعَ بَعْضِهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالأَْصْل التَّحْرِيمُ فَلاَ يُعْدَل عَنْهُ إِلاَّ بِيَقِينٍ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَرِيطَةِ الشَّيْطَانِ (4) وَهِيَ الَّتِي تُذْبَحُ فَيُقْطَعُ الْجِلْدُ وَلاَ تُفْرَى الأَْوْدَاجُ.

حُكْمُ الْمُغَلْصَمَةِ:
15 - الْمُغَلْصَمَةُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ قَوْلِهِمْ: غَلْصَمَهُ إِذَا قَطَعَ غَلْصَمَتَهُ. وَالْغَلْصَمَةُ هِيَ جَوْزَةُ الْعُنُقِ وَهِيَ رَأْسُ الْحُلْقُومِ، وَهِيَ صَفِيحَةٌ غُضْرُوفِيَّةٌ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 41.
(2) الشرح الصغير مع بلغة السالك 2 / 314.
(3) المقنع 3 / 537، 538.
(4) حديث: " نهى عن شريطة الشيطان " أخرجه أبو داود (3 / 252 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وأعله ابن القطان بأحد رواته، كذا في الفيض للمناوي (6 / 332 - ط المكتبة التجارية) .

(21/178)


عِنْدَ أَصْل اللِّسَانِ، سَرْجِيَّةُ الشَّكْل، مُغَطَّاةٌ بِغِشَاءٍ مُخَاطِيٍّ، وَتَنْحَدِرُ إِلَى الْخَلْفِ لِتَغْطِيَةِ فَتْحَةِ الْحَنْجَرَةِ لإِِقْفَالِهَا فِي أَثْنَاءِ الْبَلْعِ (1) .
وَالْمُرَادُ بِالْمُغَلْصَمَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ الذَّبِيحَةُ الَّتِي انْحَازَتِ الْجَوْزَةُ فِيهَا لِجِهَةِ الْبَدَنِ، بِأَنْ يُمِيل الذَّابِحُ يَدَهُ إِلَى جِهَةِ الذَّقَنِ فَلاَ يَقْطَعُ الْجَوْزَةَ بَل يَجْعَلُهَا كُلَّهَا مُنْحَازَةً لِجِهَةِ الْبَدَنِ مَفْصُولَةً عَنِ الرَّأْسِ (2) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ بِأَنَّ الْمُغَلْصَمَةَ لاَ يَحِل أَكْلُهَا، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْقَطْعَ حِينَئِذٍ صَارَ فَوْقَ الْحُلْقُومِ، فَإِنَّ الذَّبْحَ لَمْ يَكُنْ فِي الْحُلْقُومِ وَإِنَّمَا كَانَ فِي الرَّأْسِ (3) .
وَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ مَا خُلاَصَتُهُ: صَرَّحَ فِي " الذَّخِيرَةِ " بِأَنَّ الذَّبْحَ إِذَا وَقَعَ أَعْلَى مِنَ الْحُلْقُومِ لاَ يَحِل؛ لأَِنَّ الْمَذْبَحَ هُوَ الْحُلْقُومُ، لَكِنْ رِوَايَةُ الرُّسْتُغْفَنِيِّ تُخَالِفُ هَذِهِ حَيْثُ قَال: هَذَا قَوْل الْعَوَامِّ وَلَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ، فَتَحِل سَوَاءٌ بَقِيَتِ الْعُقْدَةُ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ أَوِ الصَّدْرَ؛ لأَِنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَنَا قَطْعُ أَكْثَرِ الأَْوْدَاجِ وَقَدْ
__________
(1) كذا عرفها مجمع اللغة العربية في المعجم الوسيط، مادة: (غلصم) .
(2) الشرح الصغير 1 / 313.
(3) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 313، والخرشي مع العدوي 2 / 101، وحاشية الرهوني على الزرقاني 3 / 2، 3، وحاشية كنون بهامش حاشية الرهوني 3 / 2، 3، والشرواني على التحفة 9 / 322.

(21/179)


وُجِدَ.
وَقَدْ شَنَّعَ الأَْتْقَانِيُّ فِي " غَايَةِ الْبَيَانِ " عَلَى مَنْ شَرَطَ بَقَاءَ الْعُقْدَةِ فِي الرَّأْسِ وَقَال: إِنَّهُ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى الْعُقْدَةِ فِي كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَلاَ كَلاَمِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَل الذَّكَاةُ بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ، وَقَدْ حَصَلَتْ، لاَ سِيَّمَا عَلَى قَوْل الإِْمَامِ مِنَ الاِكْتِفَاءِ بِثَلاَثٍ مِنَ الأَْرْبَعِ أَيًّا كَانَتْ، وَيَجُوزُ تَرْكُ الْحُلْقُومِ أَصْلاً، فَبِالأَْوْلَى إِذَا قُطِعَ مِنْ أَعْلاَهُ وَبَقِيَتِ الْعُقْدَةُ أَسْفَلَهُ (1) .

شَرَائِطُ الذَّبْحِ:
هِيَ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ: شَرَائِطُ فِي الْمَذْبُوحِ، وَشَرَائِطُ فِي الذَّابِحِ، وَشَرَائِطُ فِي الآْلَةِ.
شَرَائِطُ الْمَذْبُوحِ:
16 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الذَّبْحِ ثَلاَثُ شَرَائِطَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَذْبُوحِ وَهِيَ:
1 - أَنْ يَكُونَ حَيًّا وَقْتَ الذَّبْحِ.
2 - أَنْ يَكُونَ زَهُوقُ رُوحِهِ بِمَحْضِ الذَّبْحِ.
3 - أَلاَّ يَكُونَ صَيْدًا حَرَمِيًّا. وَزَادَ بَعْضُ الْمَذَاهِبِ شَرَائِطَ أُخْرَى مِنْهَا:
4 - أَلاَّ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالنَّحْرِ. وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 187.

(21/179)


فَجُمْلَةُ الشَّرَائِطِ أَرْبَعٌ.
17 - أَمَّا الشَّرِيطَةُ (الأُْولَى) وَهِيَ كَوْنُهُ حَيًّا وَقْتَ الذَّبْحِ فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ الْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ فِي الذَّبِيحِ قَبْل الذَّبْحِ إِنْ كَانَ هُنَاكَ سَبَبٌ يُحَال عَلَيْهِ الْهَلاَكُ كَالاِنْخِنَاقِ وَالتَّرَدِّي وَالضَّرْبِ وَالنَّطْحِ وَأَكْل السَّبُعِ وَخُرُوجِ الأَْمْعَاءِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ سَبَبٌ يُحَال عَلَيْهِ الْهَلاَكُ فَإِنَّهُ يَكْفِي وُجُودُ الْحَيَاةِ وَلَوْ كَانَ الْحَيَوَانُ فِي آخِرِ رَمَقٍ، وَمَثَّل الشَّافِعِيَّةُ لِذَلِكَ بِمَا لَوْ جَاعَ الْحَيَوَانُ أَوْ مَرِضَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَرَضُهُ بِأَكْل نَبَاتٍ مُضِرٍّ.
وَالْحَيَاةُ الْمُسْتَقِرَّةُ هِيَ مَا زَادَتْ عَنْ حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ سَوَاءٌ انْتَهَتْ إِلَى حَالٍ يُعْلَمُ أَنَّهَا لاَ تَعِيشُ مَعَهُ أَوْ تَعِيشُ، أَمْ لَمْ تَنْتَهِ إِلَى هَذِهِ الْحَال. وَجَعَل الشَّافِعِيَّةُ عَلاَمَةَ الْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ - إِذَا لَمْ تُعْلَمْ قَبْل الذَّبْحِ - أَنْ يَتَحَرَّكَ الْحَيَوَانُ بَعْدَ الذَّبْحِ حَرَكَةً شَدِيدَةً، أَوْ يَنْفَجِرَ مِنْهُ الدَّمُ (1) .
وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: " لاَ يُكْتَفَى بِقِيَامِ أَصْل الْحَيَاةِ بَل لاَ بُدَّ مِنَ الْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ (2) ". وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي بَيَانِ الاِسْتِقْرَارِ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 111، البجيرمي على الإقناع 4 / 249، والمقنع 3 / 540.
(2) البدائع 5 / 50.

(21/180)


رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمَذْبُوحَ يَعِيشُ لَوْ لَمْ يُذْبَحْ، وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنَ الْحَيَاةِ مِقْدَارُ مَا يَعِيشُ بِهِ نِصْفَ يَوْمٍ (1) .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي بَيَانِ الاِسْتِقْرَارِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ يَبْقَى مِنْ حَيَاةِ مَا يُرَادُ ذَبْحُهُ أَكْثَرُ مِمَّا يَبْقَى مِنْ حَيَاةِ الْمَذْبُوحِ.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ قَوْل مُحَمَّدٍ مُفَسِّرًا فَقَال: إِنَّ عَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ إِنْ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلاَّ الاِضْطِرَابُ لِلْمَوْتِ فَذَبَحَهُ فَإِنَّهُ لاَ يَحِل، وَإِنْ كَانَ يَعِيشُ مُدَّةً كَالْيَوْمِ أَوْ كَنِصْفِهِ حَل (2) .
وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ اسْتِقْرَارَ الْحَيَاةِ لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْمَذْبُوحِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ كَانَ فِي مَعْنَى الْمَيْتَةِ فَلاَ تَلْحَقُهُ الذَّكَاةُ كَالْمَيْتَةِ حَقِيقَةً (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ لَمْ يَحْدُثْ بِالْحَيَوَانِ مَا يَقْتَضِي الْيَأْسَ مِنْ بَقَاءِ حَيَاتِهِ كَفَى فِي حِلِّهِ التَّحَرُّكُ بَعْدَ الذَّبْحِ أَوْ سَيَلاَنُ الدَّمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلٌّ مِنْهُمَا قَوِيًّا.
وَإِنْ حَدَثَ بِهِ مَا يَقْتَضِي الْيَأْسَ مِنْ بَقَاءِ حَيَاتِهِ كَإِخْفَاءِ مَرَضِهِ، أَوِ انْتِفَاخٍ بِعُشْبٍ، أَوْ دَقِّ عُنُقٍ، أَوْ سُقُوطٍ مِنْ شَاهِقٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ حَل بِشَرِيطَتَيْنِ:
__________
(1) البدائع 5 / 51.
(2) المرجع السابق نفسه.
(3) المرجع السابق نفسه.

(21/180)


أَلاَّ يَنْفُذَ بِذَلِكَ مَقْتَلٌ مِنْهُ قَبْل الذَّبْحِ، وَأَنْ يَكُونَ قَوِيَّ الْحَرَكَةِ مَعَ الذَّبْحِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ يَشْخَبَ مِنْهُ الدَّمُ بَعْدَ الذَّبْحِ أَيْ يَخْرُجَ بِقُوَّةٍ (1) .
وَنَفَاذُ الْمَقْتَل يَكُونُ عِنْدَهُمْ بِوَاحِدٍ مِنْ خَمْسَةِ أُمُورٍ:
أَوَّلُهَا: قَطْعُ النُّخَاعِ، وَأَمَّا كَسْرُ الصُّلْبِ فَلَيْسَ بِمَقْتَلٍ.
ثَانِيهَا: قَطْعُ وَدَجٍ، وَأَمَّا شَقُّهُ بِلاَ قَطْعٍ فَفِيهِ قَوْلاَنِ.
ثَالِثُهَا: نَثْرُ دِمَاغٍ وَهُوَ مَا تَحْوِيهِ الْجُمْجُمَةُ، وَأَمَّا شَرْخُ الرَّأْسِ أَوْ خَرْقُ خَرِيطَةِ الدِّمَاغِ بِلاَ انْتِشَارٍ فَلَيْسَ بِمَقْتَلٍ. رَابِعُهَا: نَثْرُ حَشْوَةٍ وَهِيَ مَا حَوَاهُ الْبَطْنُ مِنْ قَلْبٍ وَكَبِدٍ وَطِحَالٍ وَكُلْيَةٍ وَأَمْعَاءٍ أَيْ إِزَالَةُ مَا ذُكِرَ عَنْ مَوْضِعِهِ بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ إِعَادَتُهُ إِلَى مَوْضِعِهِ.
خَامِسُهَا: ثَقْبُ مَصِيرٍ - وَهُوَ الْمِعَى وَيُجْمَعُ عَلَى مُصْرَانٍ وَجَمْعُ الْجَمْعِ مَصَارِينُ - وَأَمَّا ثَقْبُ الْكَرِشِ فَلَيْسَ بِمَقْتَلٍ فَالْبَهِيمَةُ الْمُنْتَفِخَةُ إِذَا ذُبِحَتْ فَوُجِدَتْ مَثْقُوبَةَ الْكَرِشِ تُؤْكَل عَلَى الْمُعْتَمَدِ (2) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يَكْفِي قِيَامُ أَصْل الْحَيَاةِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ؛ لأَِنَّهُ إِذَا ذُبِحَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ
__________
(1) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 320.
(2) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 320.

(21/181)


فَقَدْ صَارَ مُذَكًّى وَدَخَل تَحْتَ النَّصِّ وَهُوَ: قَوْله تَعَالَى {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (1) فَإِنْ عُلِمَتْ حَيَاةُ الْمَذْبُوحِ قَبْل الذَّبْحِ لَمْ يُشْتَرَطْ بَعْدَ الذَّبْحِ تَحَرُّكٌ وَلاَ خُرُوجُ دَمٍ، وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ كَأَنْ كَانَ الْمَذْبُوحُ مَرِيضًا أَوْ مُنْخَنِقًا أَوْ نَطِيحًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَشَكَكْنَا فِي حَيَاتِهِ فَذَبَحْنَاهُ فَتَحَرَّكَ أَوَخَرَجَ مِنْهُ الدَّمُ كَانَ هَذَا عَلاَمَةً عَلَى الْحَيَاةِ فَيَحِل، وَالْمُرَادُ بِالْحَرَكَةِ الْحَرَكَةُ الَّتِي تَدُل عَلَى الْحَيَاةِ قَبْل الذَّبْحِ، وَمِنْهَا ضَمُّ الْفَمِ وَضَمُّ الْعَيْنِ وَقَبْضُ الرِّجْل وَقِيَامُ الشَّعْرِ، بِخِلاَفِ فَتْحِ الْفَمِ أَوِ الْعَيْنِ وَمَدِّ الرِّجْل وَنَوْمِ الشَّعْرِ فَهِيَ لاَ تَدُل عَلَى سَبْقِ الْحَيَاةِ، وَالْمُرَادُ بِخُرُوجِ الدَّمِ سَيَلاَنُهُ عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي يَسِيل بِهَا دَمُ الْحَيِّ بَعْدَ ذَبْحِهِ وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
وَقِيل: الاِكْتِفَاءُ بِأَصْل الْحَيَاةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ، لَكِنْ ظَاهِرُ كَلاَمِهِ اشْتِرَاطُ خُرُوجِ الدَّمِ، فَإِنَّهُ قَال: مَتَى ذُبِحَ الْحَيَوَانُ فَخَرَجَ مِنْهُ الدَّمُ الأَْحْمَرُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْمُذَكَّى الْمَذْبُوحِ فِي الْعَادَةِ لَيْسَ هُوَ دَمَ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ يَحِل أَكْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَتَحَرَّكْ (3) .
18 - وَأَمَّا الشَّرِيطَةُ (الثَّانِيَةُ) وَهِيَ: أَنْ يَكُونَ
__________
(1) سورة المائدة / 3.
(2) بدائع الصنائع 5 / 50، حاشية ابن عابدين 5 / 187، 196.
(3) بدائع الصنائع 5 / 50، حاشية ابن عابدين 5 / 187، 196.

(21/181)


زَهُوقُ رُوحِهِ بِمَحْضِ الذَّبْحِ: فَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْل صَاحِبِ " الْبَدَائِعِ ": ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ أَنَّ رَجُلاً قَطَعَ شَاةً نِصْفَيْنِ ثُمَّ إِنَّ رَجُلاً فَرَى أَوْدَاجَهَا وَالرَّأْسُ يَتَحَرَّكُ، أَوْ شَقَّ رَجُلٌ بَطْنَهَا فَأَخْرَجَ مَا فِي جَوْفِهَا وَفَرَى رَجُلٌ آخَرُ الأَْوْدَاجَ فَإِنَّ هَذَا لاَ يُؤْكَل لأَِنَّ الْفِعْل الأَْوَّل قَاتِلٌ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إِنْ كَانَتِ الضَّرْبَةُ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ لَمْ تُؤْكَل الشَّاةُ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ أُكِلَتْ؛ لأَِنَّ الْعُرُوقَ الْمَشْرُوطَةَ فِي الذَّبْحِ مُتَّصِلَةٌ مِنَ الْقَلْبِ إِلَى الدِّمَاغِ، فَإِذَا كَانَتِ الضَّرْبَةُ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ فَقَدْ قَطَعَهَا فَحَلَّتْ (1) ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ فَلَمْ يَقْطَعْهَا فَلَمْ تَحِل (2) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (3) بِمَا يُفِيدُ اشْتِرَاطَ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ، وَمَثَّل لَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِمَا لَوِ اقْتَرَنَ بِذَبْحِ الشَّاةِ مَثَلاً نَزْعُ الْحَشْوَةِ، أَوْ نَخْسُ الْخَاصِرَةِ، أَوِ الْقَطْعُ مِنَ الْقَفَا فَلاَ تَحِل الشَّاةُ لاِجْتِمَاعِ مُبِيحٍ وَمُحَرِّمٍ فَيُغَلَّبُ الْمُحَرِّمُ (4) .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَائِرَ الْمَذَاهِبِ لاَ يُخَالِفُ فِي هَذِهِ
__________
(1) يؤخذ من هذا أن الذبح بالمعنى الشامل للنحر عند صاحب هذا الرأي لا يختص بالعنق، بل يشمل كل شق فوق القلب تنقطع به العروق الواجب قطعها في الذبح والنحر.
(2) البدائع 5 / 51، 52.
(3) الخرشي على خليل بحاشية العدوي 2 / 310، والبجيرمي على الإقناع 4 / 248، والروضة البهية 2 / 268.
(4) البجيرمي على الإقناع 4 / 248.

(21/182)


الشَّرِيطَةِ؛ لأَِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَةٍ لاَ خِلاَفَ فِيهَا وَهِيَ تَغْلِيبُ الْمُحَرِّمِ عَلَى الْمُبِيحِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا، بَل إِنَّ الْحَنَابِلَةَ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ حَدَثَ بَعْدَ الذَّبْحِ وَقَبْل الْمَوْتِ مَا يُعِينُ عَلَى الْهَلاَكِ حُرِّمَتِ الذَّبِيحَةُ، فَفِي " الْمُقْنِعِ وَحَاشِيَتِهِ " مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ مَا خُلاَصَتُهُ أَنَّهُ إِذَا ذَبَحَ الْحَيَوَانَ ثُمَّ غَرِقَ أَوْ وَطِئَ عَلَيْهِ شَيْءٌ يَقْتُلُهُ مِثْلُهُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ:
(إِحْدَاهُمَا) : لاَ يَحِل، وَهُوَ الْمَذْهَبُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فِي الصَّيْدِ: إِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ فَلاَ تَأْكُل. (1) وَلِقَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ رَمَى طَائِرًا فَوَقَعَ فِي مَاءٍ فَغَرِقَ فِيهِ فَلاَ يَأْكُلُهُ. وَلأَِنَّ الْغَرَقَ سَبَبٌ يَقْتُل فَإِذَا اجْتَمَعَ مَا يُبِيحُ وَمَا يُحَرِّمُ غُلِّبَ التَّحْرِيمُ.
(وَالثَّانِيَةُ) : أَنَّهُ يَحِل، وَبِهِ قَال أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهَا إِذَا ذُبِحَتْ صَارَتْ مُذَكَّاةً حَلاَلاً، فَلاَ يَضُرُّهَا مَا يَحْدُثُ لَهَا بَعْدَ التَّذْكِيَةِ وَقَبْل تَمَامِ خُرُوجِ الرُّوحِ.
وَهَل الذَّبْحُ بِآلَةٍ مَسْمُومَةٍ يُعْتَبَرُ مِنْ قَبِيل اقْتِرَانِ مُحَرِّمٍ وَمُبِيحٍ فَتَحْرُمُ الذَّبِيحَةُ، أَوْ لاَ يُعْتَبَرُ؛ لأَِنَّ سَرَيَانَ السُّمِّ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الذَّبْحِ؟ . صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِالثَّانِي.
وَفَصَّل الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ
__________
(1) حديث: " إن وقع في الماء فلا تأكل " أخرجه البخاري الفتح 9 / 610 - ط السلفية.

(21/182)


أَنَّ السُّمَّ أَعَانَ عَلَى الْهَلاَكِ فَالذَّبِيحَةُ حَرَامٌ، وَإِلاَّ فَلاَ (1) .
19 - وَأَمَّا الشَّرِيطَةُ (الثَّالِثَةُ) : - وَهِيَ أَلاَّ يَكُونَ الْمَذْبُوحُ صَيْدًا حَرَمِيًّا -: فَإِنَّ التَّعَرُّضَ لِصَيْدِ الْحَرَمِ بِالْقَتْل وَالدَّلاَلَةِ وَالإِْشَارَةِ مُحَرَّمٌ، حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى. قَال تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (2) . وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ مَكَّةَ فَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا (3) . وَالْفِعْل فِي الْمُحَرَّمِ شَرْعًا لاَ يَكُونُ ذَكَاةً، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَوْلِدُهُ الْحَرَمَ أَمْ دَخَل مِنَ الْحِل إِلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ يُضَافُ إِلَى الْحَرَمِ فِي الْحَالَيْنِ، فَيَكُونُ صَيْدَ الْحَرَمِ، فَإِنْ ذُبِحَ صَيْدُ الْحَرَمِ كَانَ مَيْتَةً سَوَاءٌ أَكَانَ الذَّابِحُ مُحْرِمًا أَمْ حَلاَلاً (4) . وَلِزِيَادَةِ التَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (حَجّ) (وَحَرَم) (وَإِحْرَام) .
20 - وَأَمَّا الشَّرِيطَةُ (الرَّابِعَةُ) : الَّتِي زَادَهَا
__________
(1) المقنع 3 / 538، والمغني مع الشرح الكبير 11 / 48.
(2) سورة العنكبوت / 67.
(3) حديث: " فلا ينفر صيدها. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 46 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1558 - ط الحلبي) ، واللفظ لمسلم.
(4) بدائع الصنائع 5 / 52، ويلاحظ أن صاحب البدائع جعل هذه الشريطة خاصة بالذكاة الاضطرارية وهو سهو أو سبق قلم، لأن الصيد الحرمي يحرم ذبحه ونحره وعقره والتعرض له فهي شريطة عامة. والدسوقي على الشرح الكبير 2 / 72، ومغني المحتاج 1 / 525، وكشاف القناع 2 / 437.

(21/183)


الْمَالِكِيَّةُ (1) - وَهِيَ أَلاَّ يَكُونَ الْمَذْبُوحُ مُخْتَصًّا بِالنَّحْرِ - فَخُلاَصَتُهَا أَنَّ الْحَيَوَانَ الْمُخْتَصَّ بِالنَّحْرِ - وَقَدْ سَبَقَ اخْتِلاَفُهُمْ فِيهِ - يَحْرُمُ فِيهِ الْعُدُول عَنِ النَّحْرِ إِلَى الذَّبْحِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَيَصِيرُ الْمَذْبُوحُ حِينَئِذٍ مَيْتَةً. فَلَوْ كَانَ الْعُدُول لِضَرُورَةٍ كَفَقْدِ الآْلَةِ الصَّالِحَةِ لِلنَّحْرِ، وَكَالْوُقُوعِ فِي حُفْرَةٍ، وَاسْتِعْصَاءِ الْحَيَوَانِ لَمْ يَحْرُمْ وَلَمْ تَحْرُمِ الذَّبِيحَةُ.
وَخَالَفَ سَائِرُ الْمَذَاهِبِ فِي هَذِهِ الشَّرِيطَةِ، فَجَوَّزُوا الْعُدُول بِكَرَاهَةٍ أَوْ بِلاَ كَرَاهَةٍ كَمَا يَأْتِي فِي مَكْرُوهَاتِ الذَّبْحِ.

شَرَائِطُ الذَّابِحِ:
21 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الذَّبْحِ فِي الْجُمْلَةِ شَرَائِطُ رَاجِعَةٌ إِلَى الذَّابِحِ وَهِيَ:
1 - أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً.
2 - أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا.
3 - أَنْ يَكُونَ حَلاَلاً إِذَا ذَبَحَ صَيْدَ الْبَرِّ.
4 - أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى الذَّبِيحَةِ عِنْدَ التَّذَكُّرِ وَالْقُدْرَةِ.
5 - أَلاَّ يُهِل بِالذَّبْحِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ:
6 - أَنْ يَقْطَعَ مِنْ مُقَدَّمِ الْعُنُقِ.
7 - أَلاَّ يَرْفَعَ يَدَهُ قَبْل تَمَامِ التَّذْكِيَةِ.
8 - أَنْ يَنْوِيَ التَّذْكِيَةَ.
__________
(1) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 314، 319.

(21/183)


22 - الشَّرِيطَةُ الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً سَوَاءٌ كَانَ رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً بَالِغًا أَوْ غَيْرَ بَالِغٍ إِذَا كَانَ مُمَيِّزًا وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ) .
وَعَلَّل الْحَنَفِيَّةُ اشْتِرَاطَ الْعَقْل بِأَنَّ صِحَّةَ الْقَصْدِ إِلَى التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ لاَ بُدَّ مِنْهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الذَّابِحُ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَصْدِ التَّسْمِيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهَا وَاجِبًا، وَلاَ تَتَحَقَّقُ صِحَّةُ التَّسْمِيَةِ مِمَّنْ لاَ يَعْمَل، فَلاَ تُؤْكَل ذَبِيحَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يَعْقِل، وَالسَّكْرَانِ الَّذِي لاَ يَعْقِل، أَمَّا الصَّبِيُّ وَالسَّكْرَانُ وَالْمَعْتُوهُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ الذَّبْحَ وَيَقْدِرُونَ عَلَيْهِ فَتُؤْكَل ذَبِيحَتُهُمْ.
وَوَجَّهَ ابْنُ قُدَامَةَ الاِشْتِرَاطَ بِأَنَّ غَيْرَ الْعَاقِل لاَ يَصِحُّ مِنْهُ الْقَصْدُ إِلَى الذَّبْحِ.
وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حِل ذَبِيحَةِ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ مَعَ الْكَرَاهَةِ - بِخِلاَفِ النَّائِمِ - أَمَّا الْحِل فَلأَِنَّ لَهُمْ قَصْدًا فِي الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلأَِنَّهُمْ قَدْ يُخْطِئُونَ الذَّبْحَ، وَإِنَّمَا حُرِّمَتْ ذَبِيحَةُ (النَّائِمِ) لأَِنَّهُ لاَ يُتَصَوَّرُ لَهُ قَصْدٌ. (1)
23 - الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 5 / 188، والخرشي على خليل 2 / 301، ونهاية المحتاج 8 / 106، والمقنع 3 / 535، والمغني 8 / 581.

(21/184)


فَلاَ تَحِل ذَبِيحَةُ الْوَثَنِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَوَجْهُ اشْتِرَاطِهَا أَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِ وَالْكِتَابِيِّ لاَ يُخْلِصُ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكَ يُهَلِّل غَيْرَ اللَّهِ أَوْ يَذْبَحُ عَلَى النُّصُبِ. وَقَدْ قَال تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَل السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (1) . وَالْمَجُوسِيُّ لاَ يَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ عَلَى الذَّبِيحَةِ.
وَقَدْ قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْمَجُوسِ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْل الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلاَ آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ. (2)
وَالْمُرْتَدُّ - وَلَوْ لِدِينِ أَهْل كِتَابٍ - لاَ يُقَرُّ عَلَى الدِّينِ الَّذِي انْتَقَل إِلَيْهِ فَهُوَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَالْوَثَنِيِّ، فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ غُلاَمًا مُرَاهِقًا لَمْ تُؤْكَل ذَبِيحَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ رِدَّتَهُ
__________
(1) سورة المائدة / 3.
(2) حديث: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ناكحي. . . . " أخرج قوله: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " مالك في الموطأ (1 / 278 - ط الحلبي) ، وقال ابن عبد البر في " التمهيد " (2 / 114 - ط وزارة الأوقاف العراقية) : " هذا حديث منقطع "، وأخرج بقيته البيهقي (9 / 192 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث الحسن بن محمد بن علي، وأعله بالإرسال.

(21/184)


مُعْتَبَرَةٌ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُؤْكَل بِنَاءً عَلَى أَنَّ رِدَّتَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ. (1)
وَإِنَّمَا حَلَّتْ ذَبِيحَةُ أَهْل الْكِتَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (2) وَالْمُرَادُ مِنْ طَعَامِهِمْ ذَبَائِحُهُمْ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ بِأَهْل الْكِتَابِ مَعْنًى، لأَِنَّ غَيْرَ الذَّبَائِحِ مِنْ أَطْعِمَةِ سَائِرِ الْكَفَرَةِ مَأْكُولٌ، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الطَّعَامَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالذَّبَائِحِ فَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُتَطَعَّمُ، وَالذَّبَائِحُ مِمَّا يُتَطَعَّمُ، فَيَدْخُل تَحْتَ اسْمِ الطَّعَامِ فَيَحِل لَنَا أَكْلُهَا. (3)
مَنْ هُوَ الْكِتَابِيُّ:
24 - الْمَقْصُودُ بِالْكِتَابِيِّ فِي بَابِ الذَّبَائِحِ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ ذِمِّيًّا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَوْ حَرْبِيًّا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، حُرًّا أَوَرَقِيقًا، لاَ الْمَجُوسِيُّ. (4)
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ فِي كُلٍّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَلاَّ يُعْلَمَ دُخُول أَوَّل آبَائِهِمْ فِي الدِّينِ بَعْدَ بَعْثَةٍ نَاسِخَةٍ، فَالْيَهُودِيُّ الَّذِي عَلِمْنَا دُخُول أَوَّل آبَائِهِ فِي الْيَهُودِيَّةِ بَعْدَ بَعْثَةِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 45.
(2) سورة المائدة / 5.
(3) بدائع الصنائع 5 / 45، والخرشي على خليل بحاشية العدوي 2 / 301، ونهاية المحتاج 8 / 106، والمقنع 3 / 535.
(4) البدائع 5 / 45، والخرشي 2 / 301.

(21/185)


لاَ تَحِل ذَبِيحَتُهُ، وَالنَّصْرَانِيُّ الَّذِي عَلِمْنَا دُخُول أَوَّل آبَائِهِ فِي الْمَسِيحِيَّةِ بَعْدَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَحِل ذَبِيحَتُهُ؛ لأَِنَّ الدُّخُول فِي الدِّينِ بَعْدَ الْبَعْثَةِ النَّاسِخَةِ لَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فَيَكُونُ كَالرِّدَّةِ. (1)
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ كَوْنَ الرَّجُل كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ هُوَ حُكْمٌ يَسْتَفِيدُهُ بِنَفْسِهِ لاَ بِنَسَبِهِ، فَكُل مَنْ تَدَيَّنَ بِدِينِ أَهْل الْكِتَابِ فَهُوَ مِنْهُمْ، سَوَاءٌ كَانَ أَبُوهُ أَوْ جَدُّهُ قَدْ دَخَل فِي دِينِهِمْ أَمْ لَمْ يَدْخُل، وَسَوَاءٌ أَكَانَ دُخُولُهُ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيل أَمْ قَبْل ذَلِكَ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ الصَّرِيحُ عَنْ أَحْمَدَ. (2)
حُكْمُ ذَبَائِحِ الصَّابِئَةِ وَالسَّامِرَةِ: (3)
25 - تُؤْكَل ذَبَائِحُ الصَّابِئَةِ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لاَ تُؤْكَل. فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ قَوْمٌ يُؤْمِنُونَ بِكِتَابٍ، فَإِنَّهُمْ يَقْرَءُونَ الزَّبُورَ وَلاَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَلَكِنْ يُعَظِّمُونَهَا كَتَعْظِيمِ الْمُسْلِمِينَ الْكَعْبَةَ فِي الاِسْتِقْبَال إِلَيْهَا، إِلاَّ أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ فِي بَعْضِ دِيَانَاتِهِمْ، وَهَذَا لاَ يَمْنَعُ الْمُنَاكَحَةَ
__________
(1) البجيرمي على الإقناع 4 / 233، ونهاية المحتاج 8 / 82 - 83.
(2) المقنع 3 / 535.
(3) الصابئة طائفة من النصارى نسبة إلى صابئ عم نوح، والسامرة فرقة من اليهود نسبة إلى السامري عابد العجل وهو الذي صنعه. (بجيرمي على الخطيب 4 / 233) .

(21/185)


كَالْيَهُودِ مَعَ النَّصَارَى، فَلاَ يَمْنَعُ حِل الذَّبِيحَةِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ (وَعَابِدُ الْكَوَاكِبِ كَعَابِدِ الْوَثَنِ) فَلاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ مُنَاكَحَتُهُمْ وَلاَ أَكْل ذَبَائِحِهِمْ. (1)
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ السَّامِرَةِ وَالصَّابِئَةِ فَأَحَلُّوا ذَبَائِحَ السَّامِرَةِ؛ لأَِنَّ مُخَالَفَتَهُمْ لِلْيَهُودِ لَيْسَتْ كَبِيرَةً، وَحَرَّمُوا ذَبَائِحَ الصَّابِئَةِ لِعِظَمِ مُخَالَفَتِهِمْ لِلنَّصَارَى. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الصَّابِئَةَ فِرْقَةٌ مِنَ النَّصَارَى، وَالسَّامِرَةَ فِرْقَةٌ مِنَ الْيَهُودِ وَتُؤْكَل ذَبَائِحُ الصَّابِئَةِ إِنْ لَمْ تُكَفِّرْهُمُ النَّصَارَى وَلَمْ يُخَالِفُوهُمْ فِي أُصُول دِينِهِمْ، وَتُؤْكَل ذَبَائِحُ السَّامِرَةِ إِنْ لَمْ تُكَفِّرْهُمُ الْيَهُودُ وَلَمْ يُخَالِفُوهُمْ فِي أُصُول دِينِهِمْ. (3)
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُنْظَرُ فِي الصَّابِئَةِ، فَإِنْ كَانُوا يُوَافِقُونَ أَحَدَ أَهْل الْكِتَابَيْنِ فِي نَبِيِّهِمْ وَكِتَابِهِمْ فَهُمْ مِنْهُمْ، وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي ذَلِكَ فَلَيْسُوا مِنْ أَهْل الْكِتَابِ. (4)
__________
(1) البدائع 2 / 271، 5 / 46، وابن عابدين على الدر المختار 5 / 188.
(2) الخرشي بحاشية العدوي 2 / 303، والشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 313.
(3) البجيرمي على الإقناع 4 / 233.
(4) المغني 8 / 497.

(21/186)


حُكْمُ ذَبَائِحِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ:
26 - يَسْتَوِي نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ مَعَ سَائِرِ النَّصَارَى فِي حِل ذَبَائِحِهِمْ؛ لأَِنَّهُمْ عَلَى دِينِ النَّصَارَى، إِلاَّ أَنَّهُمْ نَصَارَى الْعَرَبِ فَيَتَنَاوَلُهُمْ عُمُومُ الآْيَةِ الشَّرِيفَةِ.
وَحَكَى صَاحِبُ " الْبَدَائِعِ " أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: لاَ تُؤْكَل ذَبَائِحُ نَصَارَى الْعَرَبِ لأَِنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْل الْكِتَابِ، وَقَرَأَ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَل {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ} (1) ، وَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: تُؤْكَل، (2) وَقَرَأَ {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (3) . وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (جِزْيَة) .

حُكْمُ مَنِ انْتَقَل إِلَى دِينِ أَهْل الْكِتَابِ أَوْ غَيْرِهِمْ:
27 - إِذَا انْتَقَل الْكِتَابِيُّ إِلَى دَيْنٍ غَيْرِ أَهْل الْكِتَابِ مِنَ الْكَفَرَةِ لاَ تُؤْكَل ذَبِيحَتُهُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَصِرْ كِتَابِيًّا، وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ.
وَإِذَا انْتَقَل الْكِتَابِيُّ مِنْ دِينِهِ إِلَى دَيْنِ أَهْل كِتَابٍ آخَرِينَ كَيَهُودِيٍّ تَنَصَّرَ أُكِلَتْ ذَبِيحَتُهُ، وَكَذَا لَوِ انْتَقَل غَيْرُ الْكِتَابِيِّ مِنَ الْكَفَرَةِ إِلَى دَيْنِ أَهْل الْكِتَابِ فَإِنَّهُ تُؤْكَل ذَبِيحَتُهُ. (4)
__________
(1) سورة البقرة / 78.
(2) البدائع 5 / 45، والقوانين الفقهية 120، ومغني المحتاج 4 / 244، والمقنع 3 / 535.
(3) سورة المائدة / 51.
(4) الدر المختار بحاشية ابن عابدين 5 / 190.

(21/186)


وَوَافَقَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى هَذَا الأَْخِيرِ حَيْثُ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمَجُوسِيَّ إِذَا تَنَصَّرَ أَوْ تَهَوَّدَ يُقَرُّ عَلَى الدِّينِ الْمُنْتَقَل إِلَيْهِ وَيَصِيرُ لَهُ حُكْمُ أَهْل الْكِتَابِ مِنْ أَكْل ذَبِيحَتِهِ وَغَيْرِهِ مِنَ الأَْحْكَامِ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَنِ انْتَقَل إِلَى دِينِ أَهْل كِتَابٍ بَعْدَ بَعْثَةٍ نَاسِخَةٍ لاَ تَحِل ذَبِيحَتُهُ وَلاَ ذَبِيحَةُ ذُرِّيَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ. (2)
حُكْمُ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ كِتَابِيٍّ وَغَيْرِ كِتَابِيٍّ:
28 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إِلَى أَنَّ الْمَوْلُودَ بَيْنَ كِتَابِيٍّ وَغَيْرِ كِتَابِيٍّ تُؤْكَل ذَبِيحَتُهُ أَيُّهُمَا كَانَ الْكِتَابِيُّ الأَْبَ أَوِ الأُْمَّ. (3)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُعْتَبَرُ الأَْبُ فَإِنْ كَانَ كِتَابِيًّا تُؤْكَل وَإِلاَّ فَلاَ، هَذَا إِذَا كَانَ أَبًا شَرْعِيًّا بِخِلاَفِ الزَّانِي فَإِنَّ الْمُتَوَلِّدَ لاَ يَتْبَعُهُ وَإِنَّمَا يَتْبَعُ الأُْمَّ. (4)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ تُؤْكَل ذَبِيحَةُ الْمُتَوَلِّدِ مُطْلَقًا، لأَِنَّهُ يَتْبَعُ أَخَسَّ الأَْصْلَيْنِ احْتِيَاطًا. (5) وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. (6)
شَرَائِطُ حِل ذَبِيحَةِ الْكِتَابِيِّ:
29 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّمَا تُؤْكَل ذَبِيحَةُ الْكِتَابِيِّ إِذَا
__________
(1) الخرشي على خليل 2 / 302.
(2) البجيرمي على الإقناع 4 / 233.
(3) البدائع 5 / 45، والمقنع 3 / 535.
(4) العدوي على الخرشي 2 / 303.
(5) البجيرمي على الإقناع 4 / 233.
(6) المقنع 3 / 525.

(21/187)


لَمْ يُشْهَدْ ذَبْحُهُ، وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ شَيْءٌ، أَوْ شُهِدَ وَسُمِعَ مِنْهُ تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ؛ لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ شَيْءٌ يُحْمَل عَلَى أَنَّهُ قَدْ سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى، وَجَرَّدَ التَّسْمِيَةَ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ كَمَا بِالْمُسْلِمِ. وَإِنْ سُمِعَ مِنْهُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّهُ عَنَى بِهِ - عَزَّ وَجَل - الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تُؤْكَل؛ لأَِنَّهُ أَظْهَرَ تَسْمِيَةً هِيَ تَسْمِيَةُ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ إِذَا نَصَّ فَقَال مَثَلاً: بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ، فَلاَ تَحِل، وَإِذَا سُمِعَ مِنْهُ أَنْ سَمَّى الْمَسِيحَ وَحْدَهُ أَوْ سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى وَالْمَسِيحَ لاَ تُؤْكَل ذَبِيحَتُهُ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَمَا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (1) . وَهَذَا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَلاَ يُؤْكَل. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَحِل ذَبِيحَةُ الْكِتَابِيِّ إِذَا لَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ أُهِّل بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْمُسْلِمِ. (3)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِي ذَبِيحَةِ الْكِتَابِيِّ ثَلاَثُ شَرَائِطَ:
أ - أَنْ يَذْبَحَ مَا يَحِل لَهُ بِشَرْعِنَا مِنْ غَنَمٍ وَبَقَرٍ وَغَيْرِهِمَا إِذَا ذَبَحَ لِنَفْسِهِ - أَيْ ذَبَحَ مَا يَمْلِكُهُ - وَخَرَجَ بِذَلِكَ مَا لَوْ ذَبَحَ الْيَهُودِيُّ لِنَفْسِهِ حَيَوَانًا ذَا ظُفُرٍ، وَهُوَ مَا لَهُ جِلْدَةٌ بَيْنَ أَصَابِعِهِ كَالإِْبِل وَالإِْوَزِّ فَلاَ يَحِل لَنَا أَكْلُهُ (4)
__________
(1) سورة النحل / 115.
(2) البدائع 5 / 46.
(3) الإقناع بحاشية البجيرمي 4 / 251، 256.
(4) الخرشي مع العدوي 2 / 303.

(21/187)


وَبِهَذَا قَال الْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ. لَكِنَّهُمْ لَمْ يُقَيِّدُوا الْمَسْأَلَةَ بِكَوْنِ الْيَهُودِيِّ ذَبَحَ لِنَفْسِهِ بَل قَالُوا: لَوْ ذَبَحَ الْيَهُودِيُّ ذَا ظُفُرٍ لَمْ يَحِل لَنَا فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عَدَمُ التَّحْرِيمِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ. (1)
قَال الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنْ ذَبَحَ لِمُسْلِمٍ بِأَمْرِهِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ: أَرْجَحُهُمَا عِنْدَ ابْنِ عَرَفَةَ التَّحْرِيمُ - كَمَا ذَكَرَهُ الْعَدَوِيُّ عَلَى الْخَرَشِيِّ - سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ أَمْ لاَ. وَفِي (الشَّرْحِ الصَّغِيرِ) : الرَّاجِحُ الْكَرَاهَةُ. (2)
فَإِنْ ذَبَحَ لِمُسْلِمٍ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَالظَّاهِرُ الْحِل - كَمَا قَرَّرَهُ الْعَدَوِيُّ - لأَِنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ عَلَى ذَبْحِهِ الْمُوجِبِ لِغُرْمِهِ يَصِيرُ كَالْمَمْلُوكِ لَهُ. (3)
وَإِنْ ذَبَحَ الْكِتَابِيُّ لِكِتَابِيٍّ آخَرَ مَا يَحِل لَهُمَا حَل لَنَا، أَوْ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمَا حَرُمَ عَلَيْنَا، أَوْ مَا يَحِل لأَِحَدِهِمَا وَيَحْرُمُ عَلَى الآْخَرِ. فَالظَّاهِرُ اعْتِبَارُ حَال الذَّابِحِ. (4)
ب - أَلاَّ يَذْكُرَ عَلَيْهِ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ، فَإِنْ ذَكَرَ عَلَيْهِ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ كَأَنْ قَال: بِاسْمِ الْمَسِيحِ أَوِ الْعَذْرَاءِ أَوَالصَّنَمِ لَمْ يُؤْكَل، بِخِلاَفِ مَا لَوْ ذَبَحُوا لأَِنْفُسِهِمْ ذَبِيحَةً بِقَصْدِ أَكْلِهِمْ مِنْهَا وَلَوْ فِي أَعْيَادِهِمْ وَأَفْرَاحِهِمْ، وَقَصَدُوا التَّقَرُّبَ بِهَا لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
__________
(1) المقنع 3 / 543.
(2) العدوي على الخرشي 2 / 303، الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 315.
(3) الخرشي مع العدوي 2 / 306.
(4) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 315.

(21/188)


أَوَالصَّلِيبِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ اسْمَيْهِمَا فَإِنَّهُ يَحِل لَنَا أَكْلُهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ. (1)
وَبِالْحِل فِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَال أَحْمَدُ فِي أَرْجَحِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الَّتِي اخْتَارَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِل عَنْهُ فَقَال: كُلُوا وَأَطْعِمُونِي رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ كَذَلِكَ رَوَاهُمَا سَعِيدٌ، وَرَخَّصَ فِيهِ عَمْرُو بْنُ الأَْسْوَدِ وَمَكْحُولٌ وَضَمْرَةُ بْنُ حَبِيبٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (2) وَهَذَا مِنْ طَعَامِهِمْ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَحْرُمُ وَإِنْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَاخْتَارَ ذَلِكَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَابْنُ عَقِيلٍ وَهُوَ قَوْل مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ. (3)
وَقِيل: إِنْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ اسْمَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَالصَّلِيبِ لاَ يَضُرُّ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَضُرُّ إِخْرَاجُهُ قُرْبَةً لِذَاتِ غَيْرِ اللَّهِ لأَِنَّهُ الَّذِي أُهِل بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ. (4)
ج - أَلاَّ يَغِيبَ حَال ذَبْحِهِ عَنَّا إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْتَحِل الْمَيْتَةَ، إِذْ لاَ بُدَّ مِنْ حُضُورِ مُسْلِمٍ عَارِفٍ بِالذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ خَوْفًا مِنْ كَوْنِهِ قَتَلَهَا أَوَنَخَعَهَا أَوَسَمَّى عَلَيْهَا غَيْرَ اللَّهِ.
__________
(1) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 314.
(2) سورة المائدة / 5.
(3) المقنع 3 / 544.
(4) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 315.

(21/188)


وَلاَ تُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ فِي الْكِتَابِيِّ تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِخِلاَفِ الْمُسْلِمِ. (1)
30 - الشَّرِيطَةُ (الثَّالِثَةُ) عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنْ يَكُونَ حَلاَلاً إِذَا أَرَادَ ذَبْحَ صَيْدِ الْبَرِّ، وَهُوَ الْوَحْشُ طَيْرًا كَانَ أَوْ دَابَّةً. فَالْمُحْرِمُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلصَّيْدِ الْبَرِّيِّ سَوَاءٌ أَكَانَ التَّعَرُّضُ بِاصْطِيَادٍ أَمْ ذَبْحٍ أَمْ قَتْلٍ أَمْ غَيْرِهَا، وَمُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يَدُل الْحَلاَل عَلَى صَيْدِ الْبَرِّ أَوْ يَأْمُرَ بِهِ أَوْ يُشِيرَ إِلَيْهِ، فَمَا ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ مَيْتَةٌ، وَكَذَا مَا ذَبَحَهُ الْحَلاَل بِدَلاَلَةِ الْمُحْرِمِ أَوْ إِشَارَتِهِ. قَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (2) وَقَال تَعَالَى: {أُحِل لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (3) .
وَخَرَجَ بِالصَّيْدِ: الْمُسْتَأْنَسِ كَالدَّجَاجِ وَالْغَنَمِ وَالإِْبِل، فَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يُذَكِّيَهَا؛ لأَِنَّ التَّحْرِيمَ مَخْصُوصٌ بِالصَّيْدِ أَيْ بِمَا شَأْنُهُ أَنْ يُصَادَ وَهُوَ الْوَحْشُ فَبَقِيَ غَيْرُهُ عَلَى عُمُومِ الإِْبَاحَةِ. وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَ جَمِيعُ الْمَذَاهِبِ. (4)
__________
(1) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 314، القوانين الفقهية 185.
(2) سورة المائدة / 95.
(3) سورة المائدة / 96.
(4) البدائع 5 / 50، والشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 297، ونهاية المحتاج 3 / 332، 341، والمقنع 1 / 436، والدسوقي 2 / 72، ومغني المحتاج 1 / 525، وكشاف القناع 2 / 437.

(21/189)


31 - الشَّرِيطَةُ (الرَّابِعَةُ) ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى اشْتِرَاطِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ التَّذَكُّرِ وَالْقُدْرَةِ. فَمَنْ تَعَمَّدَ تَرْكَهَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى النُّطْقِ بِهَا لاَ تُؤْكَل ذَبِيحَتُهُ - مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كِتَابِيًّا - وَمَنْ نَسِيَهَا أَوْ كَانَ أَخْرَسَ أُكِلَتْ ذَبِيحَتُهُ.
وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (1)
نَهَى سُبْحَانَهُ عَنْ أَكْل مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ وَسَمَّاهُ فِسْقًا، وَالْمَقْصُودُ مَا تُرِكَتِ التَّسْمِيَةُ عَلَيْهِ عَمْدًا مَعَ الْقُدْرَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْمُسْلِمُ يَكْفِيهِ اسْمُهُ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ حِينَ يَذْبَحُ فَلْيُسَمِّ وَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ لْيَأْكُل (2) وَيُقَاسُ عَلَى الْمُسْلِمِ - فِي الْحَدِيثِ - الْكِتَابِيُّ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَنَا طَعَامَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَيُشْتَرَطُ فِيهِمْ مَا يُشْتَرَطُ فِينَا. (3)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ
__________
(1) سورة الأنعام / 121.
(2) حديث: " المسلم يكفيه اسمه " أخرجه الدارقطني (4 / 296 - ط دار المحاسن) ، وأعله ابن القطان بما قيل في أحد رواته، كذا في نصب الراية للزيلعي (4 / 182 - ط المجلس العلمي) ، ثم ذكر الزيلعي أنه أعل كذلك بالوقف.
(3) بدائع الصنائع 5 / 46، 47، وحاشية ابن عابدين 5 / 189، والشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 319، والبجيرمي على الإقناع 4 / 251، والمقنع 3 / 540، 541.

(21/189)


مُسْتَحَبَّةٌ (1) وَوَافَقَهُمُ ابْنُ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (2) وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ مُخَالِفَةٌ لِلْمَشْهُورِ لَكِنِ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ (3) - لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَنَا ذَبَائِحَ أَهْل الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (4) وَهُمْ لاَ يَذْكُرُونَهَا، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (5) ، فَفِيهِ تَأْوِيلاَنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ، يَعْنِي مَا ذُبِحَ لِلأَْصْنَامِ بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (6) وَسِيَاقُ الآْيَةِ دَالٌّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وَالْحَالَةُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا فِسْقًا هِيَ الإِْهْلاَل لِغَيْرِ اللَّهِ.
قَال تَعَالَى: {أَوْ فِسْقًا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (7) . ثَانِيهِمَا: مَا قَالَهُ أَحْمَدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَيْتَةُ بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} (8) وَذَلِكَ لأَِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: أَتَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمْ - أَيْ ذَكَّيْتُمْ - وَلاَ تَأْكُلُونَ مَا قَتَل اللَّهُ؟ يَعْنُونَ الْمَيْتَةَ.
__________
(1) البجيرمي على الإقناع 4 / 251.
(2) بلغة السالك على الشرح الصغير 1 / 319.
(3) المقنع 3 / 541.
(4) سورة المائدة / 5.
(5) سورة الأنعام / 121.
(6) سورة النمل / 115.
(7) سورة الأنعام / 145.
(8) سورة الأنعام / 121.

(21/190)


وَمِمَّا يَدُل عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ التَّسْمِيَةِ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِلَحْمٍ لاَ نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لاَ؟ فَقَال: سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوهُ قَالَتْ: وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْكُفْرِ (1) فَلَوْ كَانَتِ التَّسْمِيَةُ شَرِيطَةً لَمَا حَلَّتِ الذَّبِيحَةُ مَعَ الشَّكِّ فِي وُجُودِهَا؛ لأَِنَّ الشَّكَّ فِي الشَّرِيطَةِ شَكٌّ فِيمَا شُرِطَتْ لَهُ.
وَيَشْهَدُ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: سَأَل رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُل مِنَّا يَذْبَحُ وَيَنْسَى أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ قَال: اسْمُ اللَّهِ عَلَى كُل مُسْلِمٍ (2) . وَفِي لَفْظٍ عَلَى فَمِ كُل مُسْلِمٍ وَهَذَا عَامٌّ فِي النَّاسِي وَالْمُتَعَمِّدِ؛ لأَِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لاَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ. (3)
ثُمَّ إِنَّ الْمُتَّفِقِينَ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّسْمِيَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ النَّاطِقَ الْعَالِمَ بِالْوُجُوبِ إِذَا تَرَكَهَا عَمْدًا تَحْرُمُ ذَبِيحَتُهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِيِّ وَالأَْخْرَسِ وَالسَّاهِي وَالْجَاهِل بِالْوُجُوبِ. (4)
أَمَّا الْكِتَابِيُّ فَقَدْ قَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ تُشْتَرَطُ فِي
__________
(1) حديث عائشة: " سموا عليه أنتم وكلوه " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 634 - ط السلفية) .
(2) حديث: " اسم الله على كل مسلم " أخرجه الدارقطني (4 / 295 - ط دار المحاسن) وضعف أحد رواته.
(3) البجيرمي على الإقناع 4 / 251، بلغة السالك على الشرح الصغير 1 / 319، والمقنع 3 / 541.
(4) انظر مراجع المذاهب السابقة.

(21/190)


حَقِّهِ التَّسْمِيَةُ؛ لأَِنَّ اللَّهَ أَبَاحَ ذَبَائِحَ أَهْل الْكِتَابِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُ التَّسْمِيَةَ. (1) وَاشْتَرَطَهَا الْبَاقُونَ فِي الْكِتَابِيِّ.
وَأَمَّا الأَْخْرَسُ فَقَدِ اشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ أَنْ يُشِيرَ بِالتَّسْمِيَةِ، بِأَنْ يُومِئَ إِلَى السَّمَاءِ، (2) وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ الْبَاقُونَ. (3)
وَأَمَّا السَّاهِي عَنِ التَّسْمِيَةِ فَتَحْرُمُ ذَبِيحَتُهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ مُخَالِفَةٌ لِلْمَشْهُورِ. (4)
وَفُرِّعَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ تَحْرِيمِ ذَبِيحَةِ السَّاهِي، أَوْ مَنْ ذَبَحَ ذَبِيحَةً لِغَيْرِهِ بِأَمْرِهِ فَنَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى، أَوْ تَعَمَّدَ، فَهُوَ ضَامِنٌ مِثْل الْحَيَوَانِ الَّذِي أَفْسَدَ؛ لأَِنَّهُ مَيْتَةٌ، وَأَمْوَال النَّاسِ تُضْمَنُ بِالْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ. (5)
وَأَمَّا الْجَاهِل بِوُجُوبِ التَّسْمِيَةِ إِذَا تَرَكَهَا عَمْدًا فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ. فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ: يَحْرُمُ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا وَسَهْوًا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِسْحَاقَ وَالثَّوْرِيِّ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَرَبِيعَةَ: يَحْرُمُ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا لاَ سَهْوًا.
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 314.
(2) المقنع 3 / 540.
(3) ر: مراجع المذاهب السابقة.
(4) المقنع 3 / 540.
(5) ر: مراجع المذاهب السابقة.

(21/191)


ثُمَّ إِنَّ لِلتَّسْمِيَةِ حَقِيقَةً وَشَرَائِطَ وَوَقْتًا نَذْكُرُهَا فِي الْفِقْرَاتِ التَّالِيَةِ.

حَقِيقَةُ التَّسْمِيَةِ:
32 - حَقِيقَتُهَا: ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَيَّ اسْمٍ كَانَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. . .} (1) مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ اسْمٍ وَاسْمٍ، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. . .} (2) لأَِنَّهُ إِذَا ذَكَرَ الذَّابِحُ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ لَمْ يَكُنِ الْمَأْكُول مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا، وَسَوَاءٌ أَقَرَنَ بِالاِسْمِ الصِّفَةَ بِأَنْ قَال: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَجَل، اللَّهُ الرَّحْمَنُ، اللَّهُ الرَّحِيمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ أَمْ لَمْ يَقْرِنْ بِأَنْ قَال: اللَّهُ أَوِ الرَّحْمَنُ أَوِ الرَّحِيمُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْمَشْرُوطَ بِالآْيَةِ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - وَكَذَا التَّهْلِيل وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّسْبِيحُ، سَوَاءٌ أَكَانَ جَاهِلاً بِالتَّسْمِيَةِ الْمَعْهُودَةِ أَمْ عَالِمًا بِهَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ التَّسْمِيَةُ بِالْعَرَبِيَّةِ أَمْ بِغَيْرِهَا، مِمَّنْ لاَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ يُحْسِنُهَا، هَذَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ. (3)
وَوَافَقَ سَائِرُ الْمَذَاهِبِ عَلَى التَّسْمِيَةِ الْمَعْهُودَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَخَالَفَ بَعْضُهُمْ فِي إِلْحَاقِ الصِّيَغِ
__________
(1) سورة الأنعام / 118، 119.
(2) سورة الأنعام / 121.
(3) البدائع 5 / 48.

(21/191)


الأُْخْرَى بِهَا، وَبَعْضُهُمْ فِي وُقُوعِهَا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ. (1)
فَالْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: إِنَّ التَّسْمِيَةَ الْوَاجِبَةَ هِيَ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ بِأَيِّهِ صِيغَةٍ كَانَتْ مِنْ تَسْمِيَةٍ أَوْ تَهْلِيلٍ أَوْ تَسْبِيحٍ أَوْ تَكْبِيرٍ، لَكِنِ الأَْفْضَل أَنْ يَقُول بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. (2)
وَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا: يَكْفِي فِي التَّسْمِيَةِ: بِسْمِ اللَّهِ، وَالأَْكْمَل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَقِيل: لاَ يَقُول: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ لأَِنَّ الذَّبْحَ فِيهِ تَعْذِيبٌ (وَالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) لاَ يُنَاسِبَانِهِ. (3)
وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا: إِنَّ الْمَذْهَبَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ هُوَ أَنْ يَقُول: بِسْمِ اللَّهِ، لاَ يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا؛ لأَِنَّ إِطْلاَقَ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ ذِكْرِهَا يَنْصَرِفُ إِلَيْهَا، وَقِيل: يَكْفِي تَكْبِيرُ اللَّهِ تَعَالَى وَنَحْوُهُ كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ، وَإِنْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ يَحْصُل بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ. (4)

شَرَائِطُ التَّسْمِيَةِ:
33 - يُشْتَرَطُ فِي التَّسْمِيَةِ أَرْبَعُ شَرَائِطَ:
1 - أَنْ تَكُونَ التَّسْمِيَةُ مِنَ الذَّابِحِ حَتَّى لَوْ سَمَّى
__________
(1) ر: مراجع المذاهب السابقة في التسمية.
(2) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 319.
(3) البجيرمي على الإقناع 4 / 251، ومغني المحتاج 4 / 272 - 273.
(4) المقنع 3 / 540.

(21/192)


غَيْرَهُ وَهُوَ سَاكِتٌ ذَاكِرٌ غَيْرُ نَاسٍ لاَ يَحِل عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَ التَّسْمِيَةَ. (1)
2 - أَنْ يُرِيدَ بِهَا التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ بِهَا التَّسْمِيَةَ لاِفْتِتَاحِ الْعَمَل لاَ يَحِل، وَكَذَا إِذَا قَال الْحَمْدُ لِلَّهِ وَأَرَادَ بِهِ الْحَمْدَ عَلَى سَبِيل الشُّكْرِ، وَكَذَا لَوْ سَبَّحَ أَوْ هَلَّل أَوْ كَبَّرَ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ وَصْفَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالتَّنَزُّهِ عَنْ صِفَاتِ الْحُدُوثِ لاَ غَيْرَ.
وَهَذَا أَيْضًا عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَ التَّسْمِيَةَ.
وَمَنْ غَفَل عَنْ إِرَادَةِ الذِّكْرِ وَالتَّعْظِيمِ لَمْ تَحْرُمْ ذَبِيحَتُهُ حَيْثُ لَمْ يُرِدْ مَعْنًى آخَرَ مِمَّا ذَكَرْنَا. (2)
3 - أَلاَّ يَشُوبَ تَعْظِيمَهُ تَعَالَى بِالتَّسْمِيَةِ مَعْنًى آخَرُ كَالدُّعَاءِ، فَلَوْ قَال: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي " لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَسْمِيَةً؛ لأَِنَّهُ دُعَاءٌ، وَالدُّعَاءُ لاَ يُقْصَدُ بِهِ التَّعْظِيمُ الْمَحْضُ، فَلاَ يَكُونُ تَسْمِيَةً كَمَا لاَ يَكُونُ تَكْبِيرًا. (3)
4 - أَنْ يُعَيِّنَ بِالتَّسْمِيَةِ الذَّبِيحَةَ لأَِنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهَا لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِذَلِكَ. (4)
وَقْتُ التَّسْمِيَةِ:
34 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ وَقْتَ التَّسْمِيَةِ فِي الذَّكَاةِ الاِخْتِيَارِيَّةِ هُوَ وَقْتُ التَّذْكِيَةِ،
__________
(1) البدائع 5 / 48.
(2) البدائع 5 / 48، والدر المختار بحاشية ابن عابدين 5 / 191.
(3) البدائع 5 / 48.
(4) البدائع 5 / 49، 50.

(21/192)


لاَ يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ إِلاَّ بِزَمَانٍ قَلِيلٍ لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ. (1)
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ يَكُونُ عِنْدَ حَرَكَةِ يَدِ الذَّابِحِ، وَقَال جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عِنْدَ الذَّبْحِ أَوْ قَبْلَهُ قَرِيبًا فَصَل بِكَلاَمٍ أَوْ لاَ. (2)
35 - الشَّرِيطَةُ (الْخَامِسَةُ) - مِنْ شَرَائِطِ الذَّابِحِ - أَلاَّ يُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِالذَّبْحِ. وَالْمَقْصُودُ هُوَ تَعْظِيمُ غَيْرِ اللَّهِ سَوَاءٌ أَكَانَ بِرَفْعِ الصَّوْتِ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَعَهُ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لاَ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ الذَّبْحِ بِأَسْمَاءِ الآْلِهَةِ مُتَقَرِّبِينَ إِلَيْهَا بِذَبَائِحِهِمْ. (3) وَهِيَ شَرِيطَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا لِتَصْرِيحِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِهَا، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَسْتَثْنُونَ الْكِتَابِيَّ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الشَّرِيطَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ شَرَائِطِ الذَّابِحِ. (ر: ف 29) .
وَلِلإِْهْلاَل لِغَيْرِ اللَّهِ صُوَرٌ:

الصُّورَةُ الأُْولَى:
ذِكْرُ اسْمِ غَيْرِ اللَّهِ عِنْدَ الذَّبْحِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ سَوَاءٌ أَذُكِرَ مَعَهُ اسْمُ اللَّهِ أَمْ لاَ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقُول الذَّابِحُ: بِسْمِ اللَّهِ وَاسْمِ
__________
(1) البدائع 5 / 48، 49، والشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 319.
(2) المقنع بحاشيته 3 / 540.
(3) تفسير أبي السعود (1 / 147 - ط: محمد علي صبيح) لقوله تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ. . . .) سورة البقرة / 173 الآية.

(21/193)


الرَّسُول فَهَذَا لاَ يَحِل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (1) وَلأَِنَّ الْمُشْرِكِينَ يَذْكُرُونَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ فَتَجِبُ مُخَالَفَتُهُمْ بِالتَّجْرِيدِ.
وَلَوْ قَال الذَّابِحُ - بِسْمِ اللَّهِ - مُحَمَّدٌ رَسُول اللَّهِ فَإِنْ قَال: وَمُحَمَّدٍ - بِالْجَرِّ - لاَ يَحِل، لأَِنَّهُ أَشْرَكَ فِي اسْمِ اللَّهِ اسْمَ غَيْرِهِ. وَإِنْ قَال: وَمُحَمَّدٌ - بِالرَّفْعِ - يَحِل؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَعْطِفْهُ بَل اسْتَأْنَفَ فَلَمْ يُوجَدِ الإِْشْرَاكُ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِوُجُودِ الْوَصْل مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ فَيُتَصَوَّرُ بِصُورَةِ الْحَرَامِ فَيُكْرَهُ، هَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ. (2)
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ قَال: بِسْمِ اللَّهِ وَاسْمِ مُحَمَّدٍ، فَإِنْ قَصَدَ التَّشْرِيكَ كَفَرَ وَحَرُمَتِ الذَّبِيحَةُ، وَإِنْ قَصَدَ أَذْبَحُ بِاسْمِ اللَّهِ وَأَتَبَرَّكُ بِاسْمِ مُحَمَّدٍ كَانَ الْقَوْل مَكْرُوهًا وَالذَّبِيحَةُ حَلاَلاً، وَإِنْ أَطْلَقَ كَانَ الْقَوْل مُحَرَّمًا لإِِبْهَامِهِ التَّشْرِيكَ وَكَانَتِ الذَّبِيحَةُ حَلاَلاً. (3)
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ:
أَنْ يَقْصِدَ الذَّابِحُ التَّقَرُّبَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالذَّبْحِ وَإِنْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ وَحْدَهُ عَلَى الذَّبِيحَةِ وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَذْبَحَ لِقُدُومِ أَمِيرٍ وَنَحْوِهِ.
وَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ وَحَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ عَلَيْهِ مَا خُلاَصَتُهُ: لَوْ ذَبَحَ لِقُدُومِ الأَْمِيرِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْعُظَمَاءِ (تَعْظِيمًا لَهُ) حَرُمَتْ ذَبِيحَتُهُ، وَلَوْ أَفْرَدَ
__________
(1) سورة النحل / 115.
(2) بدائع الصنائع 5 / 48.
(3) البجيرمي على الإقناع 4 / 251.

(21/193)


اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِالذِّكْرِ؛ لأَِنَّهُ أَهَّل بِهَا لِغَيْرِ اللَّهِ.
وَلَوْ ذَبَحَ لِلضَّيْفِ لَمْ تَحْرُمْ ذَبِيحَتُهُ لأَِنَّهُ سُنَّةُ الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِكْرَامُ الضَّيْفِ تَعْظِيمٌ لِشَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِثْل ذَلِكَ مَا لَوْ ذَبَحَ لِلْوَلِيمَةِ أَوْ لِلْبَيْعِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَحِل وَمَا يَحْرُمُ: إِنْ قَصَدَ تَعْظِيمَ غَيْرِ اللَّهِ عِنْدَ الذَّبْحِ يَحْرُمُ، وَقَصْدُ الإِْكْرَامِ وَنَحْوُهُ لاَ يَحْرُمُ. (1)
وَفِي حَاشِيَةِ الْبُجَيْرِمِيِّ عَلَى الإِْقْنَاعِ " أَفْتَى أَهْل بُخَارَى بِتَحْرِيمِ مَا يُذْبَحُ عِنْدَ لِقَاءِ السُّلْطَانِ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ " (2) .
36 - الشَّرِيطَةُ (السَّادِسَةُ) الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا الْمَالِكِيَّةُ:
أَنْ يَقْطَعَ الذَّابِحُ مِنْ مُقَدَّمِ الْعُنُقِ، فَلاَ تَحِل الذَّبِيحَةُ إِنْ ضَرَبَهَا مِنَ الْقَفَا؛ لأَِنَّهَا بِقَطْعِ النُّخَاعِ تَصِيرُ مَيْتَةً، وَكَذَا لاَ تَحِل إِنْ ضَرَبَهَا مِنْ صَفْحَةِ الْعُنُقِ وَبَلَغَ النُّخَاعَ، أَمَّا إِنْ بَدَأَ الضَّرْبَ مِنَ الصَّفْحَةِ وَمَال بِالسِّكِّينِ إِلَى الصَّفْحَةِ الأُْخْرَى مِنْ غَيْرِ قَطْعِ النُّخَاعِ، فَإِنَّهَا تُؤْكَل. وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَوْ ذَبَحَ مِنَ الْقَفَا عَصَى، فَإِنْ أَسْرَعَ فَقَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ وَبِالذَّبِيحَةِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ حَلَّتْ؛ لأَِنَّ الذَّكَاةَ صَادَفَتْهَا وَهِيَ حَيَّةٌ وَإِلاَّ فَلاَ تَحِل؛ لأَِنَّهَا صَارَتْ مَيْتَةً فَلاَ يُفِيدُ الذَّبْحُ بَعْدَ ذَلِكَ.
__________
(1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 5 / 196.
(2) البجيرمي على الإقناع 4 / 251.

(21/194)


وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ فَفِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَصَحَّحَهَا ابْنُ قُدَامَةَ وَالْمَرْدَاوِيُّ تَحِل، وَالثَّانِيَةُ: لاَ تَحِل، وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ وَمَفْهُومُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ. (1)
37 - الشَّرِيطَةُ (السَّابِعَةُ) الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا:
أَلاَّ يَرْفَعَ يَدَهُ قَبْل تَمَامِ التَّذْكِيَةِ، فَإِنْ رَفَعَ يَدَهُ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لاَ يَضُرُّ إِلاَّ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ مَا لَوْ أَنْفَذَ بَعْضَ مَقَاتِلِهَا وَعَادَ لِتَكْمِلَةِ الذَّبْحِ عَنْ بُعْدٍ، وَمَا عَدَا هَذِهِ تُؤْكَل اتِّفَاقًا أَوْ عَلَى الرَّاجِحِ.
وَصُورَةُ الاِتِّفَاقِ مَا إِذَا كَانَتْ لَوْ تُرِكَتْ تَعِيشُ، أَوْ لاَ تَعِيشُ وَكَانَ الرَّفْعُ اضْطِرَارًا.
وَصُورَةُ الرَّاجِحِ مَا إِذَا كَانَتْ لَوْ تُرِكَتْ لَمْ تَعِشْ وَعَادَ عَنْ قُرْبٍ وَكَانَ الرَّفْعُ اخْتِيَارًا. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ رَفَعَ يَدَهُ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَضُرَّ إِنْ كَانَتْ فِي الْمَذْبُوحِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ عِنْدَ بَدْءِ الْمَرَّةِ الأَْخِيرَةِ، فَإِنْ بَدَأَهَا وَفِيهِ حَرَكَةُ مَذْبُوحٍ لَمْ يَحِل. (3)
38 - الشَّرِيطَةُ (الثَّامِنَةُ) :
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ
__________
(1) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 313، ومغني المحتاج 4 / 271، والفروع 6 / 314.
(2) الخرشي علي العدوي 2 / 302.
(3) البجيرمي على الإقناع 4 / 248.

(21/194)


قَصْدِ التَّذْكِيَةِ بِأَنْ يَنْوِيَ الذَّابِحُ التَّذْكِيَةَ الشَّرْعِيَّةَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَحْضِرْ حِل الأَْكْل مِنَ الذَّبِيحَةِ، فَلَوْ قَصَدَ مُجَرَّدَ مَوْتِهَا أَوْ قَصَدَ ضَرْبَهَا فَأَصَابَ مَحَل الذَّبْحِ لَمْ تُؤْكَل، وَكَذَا إِذَا تَرَكَ النِّيَّةَ وَلَوْ نِسْيَانًا أَوْ عَجْزًا لَمْ تُؤْكَل ذَبِيحَتُهُ. (1)
إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَعْنُونَ بِالْقَصْدِ قَصْدَ الْفِعْل كَمَا لَوْ صَال عَلَيْهِ حَيَوَانٌ مَأْكُولٌ فَضَرَبَهُ بِسَيْفٍ فَقَطَعَ رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَكْلُهُ؛ لأَِنَّ قَصْدَ الذَّبْحِ لاَ يُشْتَرَطُ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ قَصْدُ الْفِعْل وَقَدْ وُجِدَ. (2)
وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ رَاجِعْ (صَائِل) .

شَرَائِطُ آلَةِ الذَّبْحِ:
39 - يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الذَّبْحِ شَرِيطَتَانِ رَاجِعَتَانِ إِلَى آلَتِهِ:
أَنْ تَكُونَ قَاطِعَةً، وَأَلاَّ تَكُونَ سِنًّا أَوْ ظُفُرًا قَائِمَيْنِ.
40 - الشَّرِيطَةُ (الأُْولَى) الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنْ تَكُونَ قَاطِعَةً، سَوَاءٌ أَكَانَتْ حَدِيدًا أَمْ لاَ، كَالْمَرْوَةِ وَاللِّيطَةِ وَشَقَّةِ الْعَصَا. (3) وَالزُّجَاجُ،
__________
(1) الخرشي علي العدوي 2 / 302، والمقنع بحاشيته 3 / 536.
(2) البجيرمي على الإقناع 4 / 246، ونهاية المحتاج 8 / 116.
(3) المروة واحدة المرو وهو حجر أبيض والمقصود به هنا ما كان رقيقًا يحصل به الذبح، والليطة: قشرة القصبة والقوس والقناة وكل شيء له متانة، والجمع ليط، كريشة وريش، والشقة - بكسر الشين - الشظية أو القطعة المشقوقة من لوح أو خشب أو غيره (ر: لسان العرب) .

(21/195)


وَالصَّدَفُ الْقَاطِعُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ حَادَّةً أَمْ كَلِيلَةً مَا دَامَتْ قَاطِعَةً.
وَالأَْصْل فِي جَوَازِ التَّذْكِيَةِ بِغَيْرِ الْحَدِيدِ مَا وَرَدَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّا لاَقُوا الْعَدُوَّ غَدًا، وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى. قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْجِل أَوْ أَرْنِي مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُل، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ. وَسَأُحَدِّثُكَ: أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ. (1)
وَأَمَّا جَوَازُ التَّذْكِيَةِ بِالْمُدَى الْكَلِيلَةِ وَنَحْوِهَا إِنْ كَانَتْ تَقْطَعُ فَلِحُصُول مَعْنَى الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ. (2) وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْكَلِيلَةَ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَلاَّ يَحْتَاجُ الْقَطْعُ بِهَا إِلَى قُوَّةِ الذَّابِحِ، وَأَنْ يَقْطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ قَبْل انْتِهَاءِ الْحَيَوَانِ إِلَى حَرَكَةِ مَذْبُوحٍ. (3)
41 - الشَّرِيطَةُ (الثَّانِيَةُ) ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ إِلَى أَلاَّ تَكُونَ الآْلَةُ سِنًّا أَوْ ظُفُرًا قَائِمَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمْ تَحِل الذَّبِيحَةُ؛ لأَِنَّ الذَّابِحَ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا فَتُخْنَقُ وَتُفْسَخُ فَلاَ يَحِل أَكْلُهَا.
__________
(1) حديث رافع بن خديج. . . . أخرجه البخاري (الفتح 9 / 638 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1558 - ط الحلبي) ، واللفظ لمسلم.
(2) البدائع 5 / 42، 60، وحاشية ابن عابدين 5 / 187، والخرشي علي العدوي 2 / 314، والبجيرمي على الإقناع 4 / 250، والمقنع 3 / 537.
(3) البجيرمي على الإقناع 4 / 250

(21/195)


وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الظُّفُرُ الْقَائِمُ ظُفُرَ غَيْرِهِ جَازَ وَذَلِكَ بِأَنْ يَأْخُذَ الذَّابِحُ يَدَ غَيْرِهِ فَيُمِرُّ ظُفْرَهَا كَمَا يُمِرُّ السِّكِّينَ فَإِنَّ الذَّبِيحَةَ تَحِل؛ لأَِنَّهَا قَطَعَتْ وَلَمْ تَفْسَخْ، وَخَرَجَ بِقَيْدِ " قَائِمَيْنِ " السِّنُّ وَالظُّفُرُ الْمَنْزُوعَانِ إِذَا كَانَا قَاطِعَيْنِ فَتَجُوزُ التَّذْكِيَةُ بِهِمَا. (1)
وَهَذَا لاَ يُعَارِضُ الْحَدِيثَ السَّابِقَ فَإِنَّ الْمُرَادَ فِيهِ بِالسِّنِّ وَالظُّفُرِ الْقَائِمَانِ لاَ الْمَنْزُوعَانِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل مَا أَفْرَى الأَْوْدَاجَ مَا لَمْ يَكُنْ قَرْضَ سِنٍّ أَوْ حَزَّ ظُفُرٍ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الذَّكَاةُ بِالسِّنِّ وَالظُّفُرِ وَبَقِيَّةِ الْعِظَامِ مُطْلَقًا مُتَّصِلَيْنِ كَانَا أَوْ مُنْفَصِلَيْنِ لِظَاهِرِ حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ السَّابِقِ. (3)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ لاَ يَجُوزُ بِالسِّنِّ وَالظُّفُرِ، وَفِي الْعَظْمِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَالْمَذْهَبُ الْجَوَازُ. (4)
وَالْقَوْل الثَّالِثُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ تَجُوزُ الذَّكَاةُ مُطْلَقًا بِالسِّنِّ وَالظُّفُرِ مُنْفَصِلَيْنِ وَمُتَّصِلَيْنِ.
وَالْقَوْل الرَّابِعُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازُ الذَّكَاةِ
__________
(1) البدائع 5 / 42.
(2) حديث: " كل ما أفرى الأوداج. . . " أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (8 / 250 - وزارة الأوقاف العراقية) ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 34 - ط القدسي) ، وقال: فيه علي بن يزيد، وهو ضعيف.
(3) الخرشي علي العدوي 2 / 315، ونهاية المحتاج 8 / 113، والمقنع 3 / 537.
(4) المقنع 3 / 537.

(21/196)


بِالظُّفُرِ مُطْلَقًا وَكَرَاهِيَتُهَا بِالسِّنِّ مُطْلَقًا.
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا جَوَازُ الذَّكَاةِ بِالْعَظْمِ مُطْلَقًا.
وَمَحَل أَقْوَال الْمَالِكِيَّةِ أَنْ تُوجَدَ آلَةٌ مَعَهُمَا غَيْرُ الْحَدِيدِ فَإِنْ وُجِدَ الْحَدِيدُ تَعَيَّنَ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ آلَةٌ سِوَاهَا تَعَيَّنَ الذَّبْحُ بِهِمَا. (1)

آدَابُ الذَّبْحِ:
42 - يُسْتَحَبُّ فِي الذَّبْحِ أُمُورٌ. (2) مِنْهَا:
أ - أَنْ يَكُونَ بِآلَةِ حَدِيدٍ حَادَّةٍ كَالسِّكِّينِ وَالسَّيْفِ الْحَادَّيْنِ لاَ بِغَيْرِ الْحَدِيدِ وَلاَ بِالْكَلِيلَةِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلإِْرَاحَةِ الْمَطْلُوبَةِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ (3) .
ب - التَّذْفِيفُ فِي الْقَطْعِ - وَهُوَ الإِْسْرَاعُ - لأَِنَّ فِيهِ إِرَاحَةً لِلذَّبِيحَةِ.
ج - أَنْ يَكُونَ الذَّابِحُ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ، وَالذَّبِيحَةُ مُوَجَّهَةً إِلَى الْقِبْلَةِ بِمَذْبَحِهَا لاَ بِوَجْهِهَا إِذْ هِيَ جِهَةُ الرَّغْبَةِ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ شَأْنُهُ؛ وَلأَِنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَأْكُل ذَبِيحَةً لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ. وَلاَ مُخَالِفَ لَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَصَحَّ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ
__________
(1) الخرشي علي العدوي 2 / 315.
(2) ر: في هذه الآداب: بدائع الصنائع 5 / 60، وحاشية ابن عابدين على الدر المختار 5 / 188.
(3) حديث: " وليرح ذبيحته. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1548 - ط الحلبي) من حديث شداد بن أوس.

(21/196)


د - إِحْدَادُ الشَّفْرَةِ قَبْل إِضْجَاعِ الشَّاةِ وَنَحْوِهَا، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (1) وَاتَّفَقُوا عَلَى كَرَاهَةِ أَنْ يَحُدَّ الذَّابِحُ الشَّفْرَةَ بَيْنَ يَدَيِ الذَّبِيحَةِ، وَهِيَ مُهَيَّأَةٌ لِلذَّبْحِ لِمَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَجُلاً أَضْجَعَ شَاةً يُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَهَا وَهُوَ يَحُدُّ شَفْرَتَهُ، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُرِيدُ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ؟ هَلاَّ حَدَدْتَ شَفْرَتَكَ قَبْل أَنْ تُضْجِعَهَا. (2)
وَلاَ تَحْرُمُ الذَّبِيحَةُ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الذَّبْحِ أَوْ فِعْل شَيْءٍ مِنْ مَكْرُوهَاتِهِ؛ لأَِنَّ النَّهْيَ الْمُسْتَفَادَ مِنَ الْحَدِيثِ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بَل لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ مَا يَلْحَقُ الْحَيَوَانَ مِنْ زِيَادَةِ أَلَمٍ لاَ حَاجَةَ إِلَيْهَا، فَلاَ يُوجِبُ الْفَسَادَ. (3)
هـ - أَنْ تُضْجَعَ الذَّبِيحَةُ عَلَى شِقِّهَا الأَْيْسَرِ بِرِفْقٍ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ كَيْفِيَّةَ الإِْضْجَاعِ وَمَا يُسَنُّ مَعَهُ فَقَالُوا: السُّنَّةُ أَنْ تَأْخُذَ الشَّاةَ بِرِفْقٍ وَتُضْجِعَهَا عَلَى شِقِّهَا الأَْيْسَرِ وَرَأْسُهَا مُشْرِفٌ، وَتَأْخُذُ بِيَدِكَ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 319، ونهاية المحتاج 8 / 112.
(2) حديث: " أتريد أن تميتها. . . " أخرجه الحاكم (4 / 231 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، وصححه ووافقه الذهبي.
(3) الشرح الصغير 1 / 319، ونهاية المحتاج 8 / 112، والمقنع 3 / 542.

(21/197)


الْيُسْرَى جَلْدَةَ حَلْقِهَا مِنَ اللَّحْيِ الأَْسْفَل بِالصُّوفِ أَوْ غَيْرِهِ فَتَمُدَّهُ حَتَّى تَتَبَيَّنَ الْبَشَرَةُ، وَتَضَعَ السِّكِّينَ فِي الْمَذْبَحِ حَتَّى تَكُونَ الْجَوْزَةُ فِي الرَّأْسِ، ثُمَّ تُسَمِّيَ اللَّهَ وَتُمِرَّ السِّكِّينَ مَرًّا مُجْهِزًا مِنْ غَيْرِ تَرْدِيدٍ، ثُمَّ تَرْفَعُ وَلاَ تَنْخَعُ وَلاَ تَضْرِبُ بِهَا الأَْرْضَ وَلاَ تَجْعَل رِجْلَكَ عَلَى عُنُقِهَا.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِاسْتِحْبَابِ شَدِّ قَوَائِمِهَا وَتَرْكِ رِجْلِهَا الْيُمْنَى لِتَسْتَرِيحَ بِتَحْرِيكِهَا.
وَالدَّلِيل عَلَى اسْتِحْبَابِ الإِْضْجَاعِ فِي جَمِيعِ الْمَذْبُوحَاتِ حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ يَطَأُ فِي سَوَادٍ، وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ، وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ فَأُتِيَ بِهِ لِيُضَحِّيَ بِهِ، فَقَال لَهَا: يَا عَائِشَةُ، هَلُمِّي الْمُدْيَةَ ثُمَّ قَال: اشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ فَفَعَلَتْ، ثُمَّ أَخَذَهَا وَأَخَذَ الْكَبْشَ فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ. (1)
قَال النَّوَوِيُّ: جَاءَتِ الأَْحَادِيثُ بِالإِْضْجَاعِ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ إِضْجَاعَ الذَّبِيحَةِ يَكُونُ عَلَى جَانِبِهَا الأَْيْسَرِ لأَِنَّهُ أَسْهَل عَلَى الذَّابِحِ فِي أَخْذِ السِّكِّينِ بِالْيَمِينِ وَإِمْسَاكِ رَأْسِهَا بِالْيَسَارِ. (2)
وَقَاسَ الْجُمْهُورُ عَلَى الْكَبْشِ جَمِيعَ الْمَذْبُوحَاتِ الَّتِي تَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الإِْضْجَاعِ.
__________
(1) حديث عائشة: " أمر بكبش أقرن. . . " أخرجه مسلم (3 / 1557 - ط الحلبي) .
(2) نيل الأوطار 5 / 138.

(21/197)


و - سَوْقُ الذَّبِيحَةِ إِلَى الْمَذْبَحِ بِرِفْقٍ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ.
ز - عَرْضُ الْمَاءِ عَلَى الذَّبِيحَةِ قَبْل ذَبْحِهَا، صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا.
ح - وَإِذَا كَانَتِ الذَّبِيحَةُ قُرْبَةً مِنَ الْقُرُبَاتِ كَالأُْضْحِيَّةِ يُكَبِّرُ الذَّابِحُ ثَلاَثًا قَبْل التَّسْمِيَةِ وَثَلاَثًا بَعْدَهَا، ثُمَّ يَقُول: اللَّهُمَّ هَذَا مِنْكَ وَإِلَيْكَ فَتَقَبَّلْهُ مِنِّي، صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ. (ر: أُضْحِيَّة) .
ط - كَوْنُ الذَّبْحِ بِالْيَدِ الْيُمْنَى، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ. (1)
ي - عَدَمُ الْمُبَالَغَةِ فِي الْقَطْعِ حَتَّى يَبْلُغَ الذَّابِحُ النُّخَاعَ أَوْ يُبِينَ رَأْسُ الذَّبِيحَةِ حَال ذَبْحِهَا وَكَذَا بَعْدَ الذَّبْحِ قَبْل أَنْ تَبْرُدَ وَكَذَا سَلْخُهَا قَبْل أَنْ تَبْرُدَ لِمَا فِي كُل ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ إِيلاَمٍ لاَ حَاجَةَ إِلَيْهَا. (2)
وَلِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الذَّبِيحَةِ أَنْ تُفَرَّسَ (3) . قَال إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ ": الْفَرْسُ أَنْ يَذْبَحَ الشَّاةَ فَتُنْخَعَ، وَقَال ابْنُ الأَْثِيرِ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 319، والخرشي على العدوي 2 / 314، ونهاية المحتاج 8 / 112، والبجيرمي على الإقناع 4 / 250، والمقنع بحاشيته 1 / 475.
(2) بلغة السالك على الشرح الصغير 1 / 312.
(3) حديث: " نهى عن الذبيحة أن تفرس " أخرجه البيهقي (9 / 280 - ط دائرة المعارف العثمانية) ثم قال: " وهذا إسناد ضعيف ".

(21/198)


فِي " النِّهَايَةِ ": هُوَ " كَسْرُ رَقَبَةِ الذَّبِيحَةِ قَبْل أَنْ تَبْرُدَ " فَإِنْ نَخَعَ أَوْ سَلَخَ قَبْل أَنْ تَبْرُدَ لَمْ تَحْرُمِ الذَّبِيحَةُ لِوُجُودِ التَّذْكِيَةِ بِشَرَائِطِهَا.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْهَا أَوْ إِلْقَائِهَا فِي النَّارِ بَعْدَ تَمَامِ ذَبْحِهَا وَقَبْل خُرُوجِ رُوحِهَا. (1)
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا بِكَرَاهَةِ تَحْرِيكِهَا وَنَقْلِهَا قَبْل خُرُوجِ رُوحِهَا.
وَقَال الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَحْرُمُ كَسْرُ عُنُقِهَا حَتَّى تَبْرُدَ، وَقَطْعُ عُضْوٍ مِنْهَا قَبْل أَنْ تَبْرُدَ. (2)
ثَانِيًا: النَّحْرُ:
حَقِيقَةُ النَّحْرِ:
43 - حَقِيقَتُهُ قَطْعُ الأَْوْدَاجِ فِي اللَّبَّةِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحَيَوَانِ، وَهَذَا رَأْيُ الْجُمْهُورِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ حَقِيقَتَهُ الطَّعْنُ فِي اللَّبَّةِ طَعْنًا يُفْضِي إِلَى الْمَوْتِ وَإِنْ لَمْ تُقْطَعِ الأَْوْدَاجُ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحَيَوَانِ أَيْضًا. (3) وَاللَّبَّةُ هِيَ الثُّغْرَةُ بَيْنَ التَّرْقُوَتَيْنِ أَسْفَل الْعُنُقِ كَمَا سَبَقَ فِي (ف 1) .
__________
(1) الخرشي مع العدوي 2 / 316، والبجيرمي على الإقناع 4 / 308.
(2) الخرشي مع العدوي 2 / 316، ونهاية المحتاج 8 / 112، والمقنع 3 / 539.
(3) الخرشي على العدوي 2 / 301، 302، والشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 314.

(21/198)


وَسَبَقَ فِي حَقِيقَةِ الذَّكَاةِ الاِخْتِيَارِيَّةِ (ف 11) أَنَّ الْمُخْتَصَّ بِالنَّحْرِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ هُوَ الإِْبِل عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ كُل مَا طَال عُنُقُهُ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ مَا قُدِرَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّرَافِ وَالْفِيلَةِ، وَجَوَّزُوا الذَّبْحَ وَالنَّحْرَ - مَعَ أَفْضَلِيَّةِ الذَّبْحِ - فِي الْبَقَرِ وَمَا قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْ بَقَرِ الْوَحْشِ وَحُمُرِهِ وَخَيْلِهِ وَبِغَالِهِ.
ثُمَّ إِنَّ خِلاَفَ الأَْئِمَّةِ فِيمَا يَكْفِي مِنْ قَطْعِ الأَْوْدَاجِ فِي النَّحْرِ هُوَ الْخِلاَفُ السَّابِقُ فِي " حَقِيقَةِ الذَّبْحِ " (ف 14) .
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ فَرَّقُوا بَيْنَ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ فَقَالُوا: إِنَّ الذَّبْحَ يَكُونُ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ، وَالنَّحْرُ يَكُونُ بِالطَّعْنِ فِي اللَّبَّةِ طَعْنًا مُفْضِيًا إِلَى الْمَوْتِ، دُونَ اشْتِرَاطِ قَطْعِ شَيْءٍ مِنَ الْعُرُوقِ الأَْرْبَعَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، خِلاَفًا لِلَّخْمِيِّ؛ لأَِنَّ وَرَاءَ اللَّبَّةِ عِرْقًا مُتَّصِلاً بِالْقَلْبِ يُفْضِي طَعْنُهُ إِلَى سُرْعَةِ خُرُوجِ الرُّوحِ. (1)

شَرَائِطُ النَّحْرِ:
44 - يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ النَّحْرِ الشَّرَائِطُ السَّابِقُ ذِكْرُهَا فِي الذَّبْحِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا يُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يَكُونَ الْحَيَوَانُ الْمَنْحُورُ مُخْتَصًّا بِالذَّبْحِ وَهُوَ مَا عَدَا الأَْصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ. فَلَوْ نَحَرَ مَا يَخْتَصُّ بِالذَّبْحِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ حَرُمَ النَّحْرُ وَالْحَيَوَانُ الْمَنْحُورُ
__________
(1) الخرشي على العدوي 2 / 301، 302، والشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 314.

(21/199)


خِلاَفًا لِسَائِرِ الْمَذَاهِبِ الَّتِي تُجِيزُ نَحْرَ مَا يُذْبَحُ.

آدَابُ النَّحْرِ:
45 - يُسْتَحَبُّ فِي النَّحْرِ كُل مَا يُسْتَحَبُّ فِي الذَّبْحِ، وَاخْتِلاَفُ الْمَذَاهِبِ هُنَاكَ هُوَ نَفْسُ اخْتِلاَفِهَا هُنَا. إِلاَّ أَنَّ الإِْبِل تُنْحَرُ قَائِمَةً عَلَى ثَلاَثٍ مَعْقُولَةَ الْيَدِ الْيُسْرَى. (1)
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ لِلنَّحْرِ كَيْفِيَّةً وَهِيَ أَنْ يُوَجِّهَ النَّاحِرُ مَا يُرِيدُ نَحْرَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ وَيَقِفَ بِجَانِبِ الرِّجْل الْيُمْنَى غَيْرِ الْمَعْقُولَةِ مُمْسِكًا مِشْفَرَهُ الأَْعْلَى بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَيَطْعَنُهُ فِي لَبَّتِهِ بِيَدِهِ الْيُمْنَى مُسَمِّيًا. (2)
وَنُقِل عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إِنْ خَشِيَ عَلَيْهَا أَنَاخَهَا. (3)
وَمِمَّا يَدُل عَلَى اسْتِحْبَابِ إِقَامَةِ الإِْبِل عَلَى ثَلاَثٍ عِنْدَ النَّحْرِ قَوْله تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} (4) قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: (مَعْقُولَةً عَلَى ثَلاَثَةٍ) (5) .
وَأَحَادِيثُ مِنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ
__________
(1) البدائع 5 / 41، ونهاية المحتاج 8 / 111، والمقنع بحاشيته 1 / 474.
(2) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 319.
(3) المقنع بحاشيته 1 / 475، والإقناع بحاشية البجيرمي 4 / 250.
(4) سورة الحج / 36.
(5) أثر ابن عباس أخرجه البيهقي (5 / 237 - ط دائرة المعارف العثمانية) .

(21/199)


كَانُوا يَنْحَرُونَ الْبَدَنَةَ مَعْقُولَةَ الْيُسْرَى قَائِمَةً عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ قَوَائِمِهَا (1) .
وَمِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَتَى عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يَنْحَرُ بَدَنَتَهُ بَارِكَةً، فَقَال: " ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (2) .

مَكْرُوهَاتُ النَّحْرِ:
46 - يُكْرَهُ فِي النَّحْرِ جَمِيعُ الْمَكْرُوهَاتِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا فِي الذَّبْحِ.

الذَّكَاةُ الاِضْطِرَارِيَّةُ:
47 - الذَّكَاةُ الاِضْطِرَارِيَّةُ هِيَ الْجَرْحُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنَ الْبَدَنِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْحَيَوَانِ، أَيْ كَأَنَّهَا صَيْدٌ فَتُسْتَعْمَل لِلضَّرُورَةِ فِي الْمَعْجُوزِ عَنْهُ مِنَ الصَّيْدِ وَالأَْنْعَامِ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْحَالَةُ: الْعَقْرَ.
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى حِل لَحْمِ الْحَيَوَانِ بِذَكَاةِ الضَّرُورَةِ لأَِنَّ الذَّبْحَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا، وَلاَ بُدَّ مِنْ إِخْرَاجِ الدَّمِ لإِِزَالَةِ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ وَتَطْيِيبِ اللَّحْمِ، فَيُقَامُ سَبَبُ الذَّبْحِ مَقَامَهُ وَهُوَ الْجَرْحُ؛ لأَِنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ.
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة " أخرجه أبو داود (2 / 371 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وأورده ابن حجر في الفتح (3 / 553 - ط السلفية) وسكت عنه.
(2) حديث زياد بن جبير عن ابن عمر. أخرجه البخاري (الفتح 3 / 553 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 956 - ط الحلبي) ، واللفظ لمسلم.

(21/200)


فَلَوْ تَوَحَّشَ حَيَوَانٌ أَهْلِيٌّ بَعْدَ أَنْ كَانَ إِنْسِيًّا أَوْ مُسْتَأْنَسًا، أَوْ نَدَّ بَعِيرٌ (شَرَدَ) أَوْ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ وَنَحْوِهِ، وَلَمْ تُمْكِنِ الذَّكَاةُ الاِخْتِيَارِيَّةُ، أَيْ عَجَزَ عَنْ ذَبْحِهِ فِي الْحَلْقِ فَذَكَاتُهُ حَيْثُ يُصَابُ بِأَيِّ جَرْحٍ مِنْ بَدَنِهِ، وَيَحِل حِينَئِذٍ أَكْلُهُ كَصَيْدِ الطَّائِرِ أَوِ الْحَيَوَانِ الْمُتَوَحِّشِ، لِحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَال: كُنَّا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَنَدَّ بَعِيرٌ مِنْ إِبِل الْقَوْمِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ خَيْلٌ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَإِذَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا شَيْءٌ فَافْعَلُوا بِهِ هَكَذَا. (1)
وَسَوَاءٌ نَدَّ الْبَعِيرُ أَوِ الْبَقَرَةُ أَوِ الشَّاةُ فِي الصَّحْرَاءِ أَوْ فِي الْمِصْرِ، فَذَكَاتُهَا الْعَقْرُ، وَبِهِ قَال عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: فَإِنْ نَدَّتْ الشَّاةُ فِي الصَّحْرَاءِ فَذَكَاتُهَا الْعَقْرُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَإِنْ نَدَّتْ فِي الْمِصْرِ لَمْ يَجُزْ عَقْرُهَا؛ لأَِنَّهُ يُمْكِنُ أَخْذُهَا، إِذْ هِيَ لاَ تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا فَكَانَ الذَّبْحُ مَقْدُورًا عَلَيْهِ فَلاَ يَجُوزُ الْعَقْرُ، وَهَذَا لأَِنَّ الْعَقْرَ خَلَفٌ مِنَ الذَّبْحِ وَالْقُدْرَةَ عَلَى الأَْصْل تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إِلَى الْخَلَفِ.
ثُمَّ لاَ خِلاَفَ فِي التَّذْكِيَةِ الاِضْطِرَارِيَّةِ بِالسَّهْمِ وَالرُّمْحِ وَالْحَجَرِ وَالْخَشَبِ وَنَحْوِهَا، وَأَمَّا إِذَا لَمْ
__________
(1) حديث رافع بن خديج: " إن لهذه البهائم أوابد. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 638 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1558 - الحلبي) .

(21/200)


يُجْرَحْ فَلاَ يَحِل أَكْلُهُ (1) لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ الصَّيْدِ بِالْمِعْرَاضِ، فَقَال عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِذَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُل وَإِذَا أَصَابَهُ بِعَرْضِهِ فَقَتَل فَإِنَّهُ وَقِيذٌ فَلاَ تَأْكُل (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ جَمِيعَ الْحَيَوَانَاتِ الْمُسْتَأْنَسَةِ إِذَا شَرَدَتْ وَتَوَحَّشَتْ فَإِنَّهَا لاَ تُؤْكَل بِالْعَقْرِ عَمَلاً بِالأَْصْل، وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ إِنْ تَوَحَّشَ غَيْرُ الْبَقَرِ لَمْ يُؤْكَل بِالْعَقْرِ، وَإِنْ تَوَحَّشَ الْبَقَرُ جَازَ أَكْلُهُ بِالْعَقْرِ، لأَِنَّ الْبَقَرَ لَهَا أَصْلٌ فِي التَّوَحُّشِ تَرْجِعُ إِلَيْهِ، أَيْ شَبَّهَهَا بِبَقَرِ الْوَحْشِ.
وَإِنْ وَقَعَ فِي حُفْرَةٍ عُجِزَ عَنْ إِخْرَاجِهِ فَلاَ يُؤْكَل بِالْعَقْرِ، وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ: يُؤْكَل الْحَيَوَانُ الْمُتَرَدِّي الْمَعْجُوزُ عَنْ ذَكَاتِهِ بَقَرًا أَوْ غَيْرَهُ بِالْعَقْرِ صِيَانَةً لِلأَْمْوَال. (3) وَلِلتَّفْصِيل:
(ر: صِيَال وَصَيْد) .

ذَكَاةُ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ:
48 - سَبَقَ بَيَانُ أَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ
__________
(1) البدائع 5 / 43، وتبيين الحقائق 6 / 54، 58، وروضة الطالبين 3 / 240، ونهاية المحتاج 8 / 113، ومغني المحتاج 4 / 273، والمغني 8 / 558 - 559، والمقنع 3 / 547 - 548، ونيل الأوطار 8 / 168 ط مصطفى الحلبي.
(2) حديث: " إذا أصاب بِحَدِّهِ فَكُل، وإذا أصاب بعرضه فقتل، فإنه وقيذ فلا تأكل " أخرجه مسلم (3 / 1530 - ط الحلبي) .
(3) الدسوقي 2 / 103، وبلغة السالك 1 / 315، وبداية المجتهد 1 / 469.

(21/201)


كَالْجَرَادِ لاَ حَاجَةَ فِي حِل أَكْلِهِ إِلَى الذَّكَاةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَال. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ إِلَى إِزْهَاقِ رُوحِهِ بِفِعْل شَيْءٍ يَمُوتُ بِفِعْلِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْفِعْل مِمَّا يُعَجِّل الْمَوْتَ مِنْ قَطْعِ رَأْسٍ أَوْ إِلْقَاءٍ فِي نَارٍ أَوْ مَاءٍ حَارٍّ، أَوَمِمَّا لاَ يُعَجِّل كَقَطْعِ جَنَاحٍ أَوْ رِجْلٍ أَوْ إِلْقَاءٍ فِي مَاءٍ بَارِدٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ بُدَّ فِي هَذِهِ التَّذْكِيَةِ مِنَ النِّيَّةِ وَالتَّسْمِيَةِ وَسَائِرِ الشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي التَّذْكِيَةِ. (2) (ر: أَطْعِمَة)

ذَكَاةُ الْجَنِينِ تَبَعًا لأُِمِّهِ:
49 - إِذَا ذُكِّيَتْ أُنْثَى مِنَ الْحَيَوَانِ فَمَاتَ بِتَذْكِيَتِهَا جَنِينُهَا فَفِي حِل هَذَا الْجَنِينِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. فَمَنْ قَال بِحِلِّهِ قَال إِنَّ ذَكَاتَهُ هِيَ مَوْتُهُ بِسَبَبِ ذَكَاةِ أُمِّهِ، فَهَذَا الْمَوْتُ ذَكَاةٌ تَبَعِيَّةٌ، وَمَنْ قَال بِعَدَمِ حِلِّهِ قَال إِنَّهُ مَيْتَةٌ لأَِنَّ الذَّكَاةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ اسْتِقْلاَلِيَّةً.
وَتَفْصِيل الْخِلاَفِ فِي ذَلِكَ أَنَّ جَنِينَ الْمُذَكَّاةِ الَّذِي خَرَجَ بَعْدَ تَذْكِيَتِهَا لَهُ حَالَتَانِ. (3)
__________
(1) حديث: " أحلت لنا ميتتان ودمان. . . . " سبق تخريجه ف / 9.
(2) بدائع الصنائع 5 / 42، 43، وحاشية ابن عابدين 5 / 193، والشرح الصغير 1 / 321، والإقناع بحاشية البجيرمي 4 / 255 256، والمقنع 3 / 541.
(3) الخرشي 2 / 323، 324، والمقنع 3 / 535.

(21/201)


(الْحَالَةُ الأُْولَى) : أَنْ يَخْرُجَ قَبْل نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ بِأَنْ يَكُونَ عَلَقَةً أَوْ مُضْغَةً أَوْ جَنِينًا غَيْرَ كَامِل الْخِلْقَةِ فَلاَ يَحِل عِنْدَ الْجُمْهُورِ لأَِنَّهُ مَيْتَةٌ، إِذْ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْمَوْتِ تَقَدُّمُ الْحَيَاةِ. قَال تَعَالَى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} (1) فَمَعْنَى قَوْلِهِ {كُنْتُمْ أَمْوَاتًا} كُنْتُمْ مَخْلُوقِينَ بِلاَ حَيَاةٍ، وَذَلِكَ قَبْل أَنْ تَنْفُخَ فِيهِمُ الرُّوحُ.
(الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ) : أَنْ يَخْرُجَ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ بِأَنْ يَكُونَ جَنِينًا كَامِل الْخِلْقَةِ - أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يُشْعِرْ - وَلِهَذِهِ الْحَالَةِ صُوَرٌ:
الصُّورَةُ الأُْولَى: أَنْ يَخْرُجَ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً فَتَجِبُ تَذْكِيَتُهُ فَإِنْ مَاتَ قَبْل التَّذْكِيَةِ، فَهُوَ مَيْتَةٌ اتِّفَاقًا.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَخْرُجَ حَيًّا كَحَيَاةِ مَذْبُوحٍ فَإِنْ أَدْرَكْنَا ذَكَاتَهُ وَذَكَّيْنَاهُ حَل اتِّفَاقًا، وَإِنْ لَمْ نُدْرِكْ حَل أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ حَيَاةَ الْمَذْبُوحِ كَلاَ حَيَاةٍ فَكَأَنَّهُ مَاتَ بِتَذْكِيَةِ أُمِّهِ، وَبِنَحْوِ هَذَا قَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ.
وَبِهَذَا قَال الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا، لَكِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا فِي حِلِّهِ حِينَئِذٍ أَنْ يَنْبُتَ شَعْرُ جَسَدِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَكَامَل وَلاَ يَكْفِي شَعْرُ رَأْسِهِ أَوْ عَيْنِهِ.
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَخْرُجَ مَيِّتًا وَيُعْلَمَ أَنْ مَوْتَهُ كَانَ قَبْل تَذْكِيَةِ أُمِّهِ فَلاَ يَحِل اتِّفَاقًا، وَيُعْرَفُ مَوْتُهُ قَبْل ذَكَاةِ أُمِّهِ بِأُمُورٍ مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّكًا فِي
__________
(1) سورة البقرة / 28.

(21/202)


بَطْنِهَا فَتُضْرَبُ فَتَسْكُنُ حَرَكَتُهُ ثُمَّ تُذَكَّى، فَيَخْرُجُ مَيِّتًا، وَمِنْهَا: أَنْ يَخْرُجَ رَأْسُهُ مَيِّتًا ثُمَّ تُذَكَّى.
الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَخْرُجَ مَيِّتًا بَعْدَ تَذْكِيَةِ أُمِّهِ بِمُدَّةٍ لِتَوَانِي الْمُذَكِّي فِي إِخْرَاجِهِ، فَلاَ يَحِل اتِّفَاقًا لِلشَّكِّ فِي أَنَّ مَوْتَهُ كَانَ بِتَذْكِيَةِ أُمِّهِ أَوْ بِالاِنْخِنَاقِ لِلتَّوَانِي فِي إِخْرَاجِهِ.
الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَخْرُجَ مَيِّتًا عَقِبَ تَذْكِيَةِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْلَمَ مَوْتُهُ قَبْل التَّذْكِيَةِ فَيَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ مَوْتَهُ بِسَبَبِ التَّذْكِيَةِ لاَ بِسَبَبٍ آخَرَ. وَهَذِهِ الصُّورَةُ مَحَل خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ لاَ بَأْسَ بِأَكْلِهِ.
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا الإِْشْعَارَ، وَهُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَدَلِيل الْجُمْهُورِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ (1) وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَتَذَكَّى بِذَكَاةِ أُمِّهِ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّهُ تَبَعٌ لأُِمِّهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، أَمَّا حَقِيقَةً فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا حُكْمًا فَلأَِنَّهُ يُبَاعُ بِبَيْعِ الأُْمِّ؛ وَلأَِنَّ جَنِينَ الأَْمَةِ يَعْتِقُ بِعِتْقِهَا، وَالْحُكْمُ فِي التَّبَعِ يَثْبُتُ بِعِلَّةِ الأَْصْل وَلاَ تُشْتَرَطُ لَهُ عِلَّةٌ عَلَى حِدَةٍ لِئَلاَّ يَنْقَلِبَ التَّبَعُ أَصْلاً.
__________
(1) حديث: " ذكاة الجنين ذكاة أمه. . . . " أخرجه أبو داود (3 / 253 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (4 / 114 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، من حديث جابر بن عبد الله، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.

(21/202)


وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحِل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (1) وَالْجَنِينُ الَّذِي لَمْ يُدْرَكْ حَيًّا بَعْدَ تَذْكِيَةِ أُمِّهِ مَيْتَةٌ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ حَيَاةَ الْجَنِينِ مُسْتَقِلَّةٌ إِذْ يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهَا بَعْدَ مَوْتِ أُمِّهِ فَتَكُونُ تَذْكِيَتُهُ مُسْتَقِلَّةً.

هَل يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِكَوْنِ الذَّابِحِ أَهْلاً لِلتَّذْكِيَةِ:
50 - قَال الزَّيْلَعِيُّ: لَوْ أَنَّ بَازِيًا مُعَلَّمًا أَخَذَ صَيْدًا فَقَتَلَهُ وَلاَ يُدْرَى أَرْسَلَهُ إِنْسَانٌ أَوْ لاَ، لاَ يُؤْكَل لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي الإِْرْسَال، وَلاَ إِبَاحَةَ بِدُونِهِ، وَإِنْ كَانَ مُرْسَلاً فَهُوَ مَال الْغَيْرِ فَلاَ يَجُوزُ تَنَاوُلُهُ إِلاَّ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ، حُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الزَّيْلَعِيِّ صَاحِبِ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ، ثُمَّ قَال: وَقَعَ فِي عَصْرِنَا حَادِثَةُ الْفَتْوَى وَهِيَ أَنَّ رَجُلاً وَجَدَ شَاتَهُ مَذْبُوحَةً بِبُسْتَانِهِ فَهَل يَحِل لَهُ أَكْلُهَا أَوْ لاَ؟ وَمُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ أَنَّهُ لاَ يَحِل لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي أَنَّ الذَّابِحَ مِمَّنْ تَحِل ذَكَاتُهُ أَوْ لاَ، وَهَل سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهَا أَوْ لاَ؟ لَكِنْ فِي الْخُلاَصَةِ فِي " اللُّقَطَةِ ": إِنْ أَصَابَ قَوْمٌ بَعِيرًا مَذْبُوحًا فِي طَرِيقِ الْبَادِيَةِ وَلَمْ يَكُنْ قَرِيبًا مِنَ الْمَاءِ وَوَقَعَ فِي الْقَلْبِ أَنَّ صَاحِبَهُ فَعَل ذَلِكَ إِبَاحَةً لِلنَّاسِ فَلاَ بَأْسَ بِأَخْذِهِ وَالأَْكْل مِنْهُ؛ لأَِنَّ الثَّابِتَ بِالدَّلاَلَةِ كَالثَّابِتِ بِالصَّرِيحِ وَهَذَا مِنْ صَاحِبِ الْخُلاَصَةِ يَدُل عَلَى إِبَاحَةِ الأَْكْل بِالشَّرِيطَةِ الْمَذْكُورَةِ. فَعُلِمَ أَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ
__________
(1) سورة المائدة / 3.

(21/203)


الذَّابِحِ أَهْلاً لِلذَّكَاةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ حَادِثَةِ الْفَتْوَى وَاللُّقَطَةِ بِأَنَّ الذَّابِحَ فِي الأُْولَى غَيْرُ الْمَالِكِ قَطْعًا وَفِي الثَّانِيَةِ يُحْتَمَل. (1)
وَأَفَادَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْبَازِي وَمَسْأَلَةِ الْمَذْبُوحِ فِي الْبُسْتَانِ فَرْقًا وَهُوَ أَنَّ الْبَازِيَ الَّذِي طَبْعُهُ الاِصْطِيَادُ ظَاهِرُ حَالِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُرْسَلٍ وَغَيْرُ مَمْلُوكٍ لأَِحَدٍ بِخِلاَفِ الذَّابِحِ فِي بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ تَحِل ذَبِيحَتُهُ وَأَنَّهُ سَمَّى، وَاحْتِمَال عَدَمِ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي اللَّحْمِ الَّذِي يُبَاعُ فِي السُّوقِ وَهُوَ احْتِمَالٌ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي التَّحْرِيمِ قَطْعًا.
وَأَفَادَ أَيْضًا أَنَّ مَسْأَلَةَ الْبَعِيرِ الَّذِي وُجِدَ مَذْبُوحًا قُيِّدَتْ بِقَيْدَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَرِيبًا مِنَ الْمَاءِ لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ احْتَمَل أَنَّهُ وَقَعَ فِيهِ فَأَخْرَجَهُ صَاحِبُهُ مِنْهُ فَذَبَحَهُ عَلَى ظَنِّ حَيَاتِهِ فَلَمْ يَتَحَرَّكْ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ دَمٌ فَتَرَكَهُ لِعِلْمِهِ بِمَوْتِهِ بِالْمَاءِ، فَلاَ يَتَأَتَّى احْتِمَال أَنَّهُ تَرَكَهُ إِبَاحَةً لِلنَّاسِ.
وَالْقَيْدُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْقَلْبِ أَنَّ صَاحِبَهُ فَعَل ذَلِكَ إِبَاحَةً لِلنَّاسِ، وَالْمَقْصُودُ بِالْوُقُوعِ فِي الْقَلْبِ الظَّنُّ الْغَالِبُ لاَ مُجَرَّدُ الْخُطُورِ فَإِنَّهُ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ.
وَأَفَادَ أَيْضًا أَنَّهُ يَجِبُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَا لَوْ كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْمَذْبُوحُ يَسْكُنُهُ أَوْ يَسْلُكُ فِيهِ مَنْ لاَ تَحِل ذَكَاتُهُ كَالْمَجُوسِيِّ أَوْ لاَ، فَفِي
__________
(1) الدر المختار بحاشية ابن عابدين 5 / 306، 307.

(21/203)


الْحَالَةِ الأُْولَى لاَ يُؤْكَل بِخِلاَفِ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ. (1)
وَيُنَاسِبُ هَذَا مَا فِي كِتَابِ " الإِْقْنَاعِ " فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ " لَوْ أَخْبَرَهُ فَاسِقٌ أَوْ كِتَابِيٌّ أَنَّهُ ذَبَحَ هَذِهِ الشَّاةَ مَثَلاً حَل أَكْلُهَا؛ لأَِنَّهُ مِنْ أَهْل الذَّبْحِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ مَجُوسٌ وَمُسْلِمُونَ وَجُهِل ذَابِحُ الْحَيَوَانِ هَل هُوَ مُسْلِمٌ أَوْ مَجُوسِيٌّ لَمْ يَحِل أَكْلُهُ لِلشَّكِّ فِي الذَّبْحِ الْمُبِيحِ وَالأَْصْل عَدَمُهُ، لَكِنْ إِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَغْلَبَ كَمَا فِي بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحِل، وَفِي مَعْنَى الْمَجُوسِيِّ كُل مَنْ لَمْ تَحِل ذَبِيحَتُهُ. (2)
وَفِي كِتَابِ " الْمُقْنِعِ " فِي الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِيِّ " إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَسَمَّى الذَّابِحُ أَمْ لاَ، أَوْ ذَكَرَ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ أَمْ لاَ، فَذَبِيحَتُهُ حَلاَلٌ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَنَا كُل مَا ذَبَحَهُ الْمُسْلِمُ وَالْكِتَابِيُّ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّنَا لاَ نَقِفُ عَلَى كُل ذَابِحٍ. (3) وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ قَوْمًا هُمْ حَدِيثُو عَهْدٍ بِشِرْكٍ يَأْتُونَنَا بِلَحْمٍ لاَ نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ أَمْ لَمْ يَذْكُرُوهُ قَال: سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوهُ. (4)

مَخْنُوقَةُ الْكِتَابِيِّ:
51 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَخْنُوقَةَ الْكِتَابِيِّ وَمَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 5 / 306، 307.
(2) البجيرمي على الإقناع 4 / 256.
(3) المقنع بحاشيته 3 / 541.
(4) حديث عائشة سبق تخريجه بهذا المعنى (ر: ف / 31) .

(21/204)


ذُبِحَ بِطَرِيقٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ لاَ يَجُوزُ أَكْلُهُ، لأَِنَّهَا إِذَا لَمْ تُؤْكَل مِنَ الْمُسْلِمِ فَمِنَ الْكِتَابِيِّ أَوْلَى، وَأَمَّا مَا قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنْ جَوَازِ أَكْل مَخْنُوقَةِ الْكِتَابِيِّ فَقَدْ رَدُّوهُ عَلَيْهِ.
قَال ابْنُ جُزَيٍّ: إِذَا غَابَ الْكِتَابِيُّ عَلَى الذَّبِيحَةِ فَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ يُذَكُّونَ أَكَلْنَا، وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ الْمَيْتَةَ كَنَصَارَى الأَْنْدَلُسِ، أَوْ شَكَكْنَا فِي ذَلِكَ لَمْ نَأْكُل مَا غَابُوا عَلَيْهِ، وَلاَ يَنْبَغِي لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَقْصِدَ الشِّرَاءَ مِنْ ذَبَائِحِ الْيَهُودِ وَيُنْهَى الْمُسْلِمُونَ عَنْ شِرَاءِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَيُنْهَى الْيَهُودُ عَنِ الْبَيْعِ مِنْهُمْ، وَمَنِ اشْتَرَى مِنْهُمْ فَهُوَ رَجُل سُوءٍ وَلاَ يُفْسَخُ شِرَاؤُهُ، وَقَال ابْنُ شَعْبَانَ: أَكْرَهُ قَدِيدَ الرُّومِ وَجُبْنَهُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ إِنْفَحَةِ الْمَيْتَةِ. قَال الْقَرَافِيُّ: وَكَرَاهِيَتُهُ مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّحْرِيمِ لِثُبُوتِ أَكْلِهِمُ الْمَيْتَةَ، وَأَنَّهُمْ يَخْنُقُونَ الْبَهَائِمَ وَيَضْرِبُونَهَا حَتَّى تَمُوتَ. (1)
__________
(1) حاشية الرهوني على الزرقاني 3 / 11 - 15، والقوانين الفقهية ص 185.

(21/204)


ذَبْحٌ
انْظُرْ: ذَبَائِحُ
ذِرَاعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الذِّرَاعُ فِي اللُّغَةِ تُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: الْيَدُ مِنْ كُل حَيَوَانٍ، لَكِنِ الذِّرَاعُ مِنَ الإِْنْسَانِ مِنَ الْمِرْفَقِ إِلَى أَطْرَافِ الأَْصَابِعِ. وَقَال بَعْضُهُمْ: (هِيَ السَّاعِدُ الْجَامِعُ لِعَظْمَيِ الزَّنْدِ. وَالزَّنْدُ وَصْل طَرَفِ الذِّرَاعِ بِالْكَفِّ) وَذِرَاعُ الْيَدِ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ.
الثَّانِي: ذِرَاعُ الْقِيَاسِ الَّتِي تُقَاسُ بِهَا الْمِسَاحَةُ، يُقَال: ذَرَعْتُ الثَّوْبَ ذَرْعًا أَيْ قِسْتُهُ بِالذِّرَاعِ، وَتُجْمَعُ عَلَى أَذْرُعٍ وَذُرْعَانٍ.
وَذِرَاعُ الْقِيَاسِ أُنْثَى فِي الأَْكْثَرِ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ يُذَكِّرُهَا.
وَتُسْتَعْمَل فِي الاِصْطِلاَحِ بِالْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أَوَّلاً: بِالنِّسْبَةِ لِلْمَعْنَى الأَْوَّل:
أ - الْيَدُ:
2 - الْيَدُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْمَنْكِبِ إِلَى أَطْرَافِ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب مادة: " ذرع "، وكشاف القناع 1 / 504، وصبح الأعشى للقلقشندي 3 / 283.

(21/205)


الأَْصَابِعِ، فَهِيَ تَشْمَل الذِّرَاعَ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل، كَمَا تَشْمَل الْعَضُدَ وَالْكَفَّ. فَذِرَاعُ الإِْنْسَانِ جُزْءٌ مِنْ يَدِهِ. وَتُطْلَقُ الْيَدُ عَلَى الإِْحْسَانِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى سَبِيل التَّجَوُّزِ، فَيُقَال: يَدُهُ عَلَيْهِ، أَيْ سُلْطَانُهُ، وَالأَْمْرُ بِيَدِ فُلاَنٍ، أَيْ فِي تَصَرُّفِهِ. (1)
ب - الْمِرْفَقُ:
3 - الْمِرْفَقُ الْمَفْصِل الَّذِي يَفْصِل بَيْنَ الْعَضُدِ وَالسَّاعِدِ. (2)
ثَانِيًا: بِالنِّسْبَةِ لِلْمَعْنَى الثَّانِي:
أ - الأُْصْبُعُ، الْقَبْضَةُ، الْقَصَبَةُ، الأَْشْل، الْقَفِيزُ، الْعَشِيرُ:
4 - جَاءَ فِي الْمِصْبَاحِ: أَنَّ مَجْمُوعَ عَرْضِ كُل سِتِّ شَعِيرَاتٍ مُعْتَدِلاَتٍ يُسَمَّى أُصْبُعًا، وَالْقَبْضَةَ أَرْبَعُ أَصَابِعَ، وَالذِّرَاعَ سِتُّ قَبَضَاتٍ، وَكُل عَشَرَةِ أَذْرُعٍ تُسَمَّى قَصَبَةً، وَكُل عَشْرِ قَصَبَاتٍ تُسَمَّى أَشْلاً، (3) وَقَدْ سُمِّيَ مَضْرُوبُ الأَْشْل فِي نَفْسِهِ جَرِيبًا، وَيُسَمَّى مَضْرُوبُ الأَْشْل فِي الْقَصَبَةِ قَفِيزًا، وَمَضْرُوبُ الأَْشْل فِي الذِّرَاعِ
__________
(1) المصباح المنير في المادة، والبدائع 1 / 4، الحطاب 1 / 191، وكشاف القناع 1 / 98، ومغني المحتاج 1 / 52.
(2) المصباح المنير، مادة (رفق) ، والبناية على الهداية 1 / 106، والحطاب 1 / 191، وجواهر الإكليل 1 / 14.
(3) الأشل: حبل يقاس به، وهي نبطية معربة (اللسان) .

(21/205)


عَشِيرًا. فَحَصَل مِنْ هَذَا أَنَّ الْجَرِيبَ عَشَرَةُ آلاَفِ ذِرَاعٍ. (1)
ب - الْمِيل وَالْفَرْسَخُ وَالْبَرِيدُ:
5 - الْمِيل بِالْكَسْرِ عِنْدَ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى مِقْدَارِ مَدَى الْبَصَرِ مِنَ الأَْرْضِ كَمَا نَقَلَهُ الْمِصْبَاحُ عَنِ الأَْزْهَرِيِّ. وَعِنْدَ الْقُدَمَاءِ مِنْ أَهْل الْهَيْئَةِ هُوَ ثَلاَثَةُ آلاَفِ ذِرَاعٍ. وَعِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ مِنْهُمْ أَرْبَعُهُ آلاَفِ ذِرَاعٍ. قَال فِي الْمِصْبَاحِ: وَالْخِلاَفُ لَفْظِيٌّ؛ لأَِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِقْدَارَهُ سِتَّةٌ وَتِسْعُونَ أَلْفَ أُصْبُعٍ. . وَلَكِنِ الْقُدَمَاءُ يَقُولُونَ: الذِّرَاعُ اثْنَانِ وَثَلاَثُونَ أُصْبُعًا، وَالْمُحْدَثُونَ يَقُولُونَ: أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ أُصْبُعًا.
أَمَّا الْفَرْسَخُ فَهُوَ ثَلاَثَةُ أَمْيَالٍ، وَالْبَرِيدُ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ أَيِ اثْنَا عَشَرَ مِيلاً. (2)
الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالذِّرَاعِ:
الذِّرَاعُ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل - أَيِ السَّاعِدُ - ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ وَبَيَّنُوا أَحْكَامَهَا فِي مَسَائِل نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:

أ - غَسْل الذِّرَاعَيْنِ فِي الْوُضُوءِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ غَسْل
__________
(1) المصباح المنير، مادة " جرب " وانظر الأحكام السلطانية للماوردي ص 152، 173؛ حيث أورد أنواع الذراع في العهود الإسلامية.
(2) المصباح المنير مواد (مال، فرسخ، برد) ، وجواهر الإكليل 1 / 88، ومغني المحتاج 1 / 266، وكشاف القناع 1 / 504.

(21/206)


الذِّرَاعِ فِي الْوُضُوءِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (1) .
وَالْمِرْفَقُ مُجْتَمَعُ طَرَفِ السَّاعِدِ وَالْعَضُدِ، أَوْ هُوَ آخِرُ عَظْمِ الذِّرَاعِ الْمُتَّصِل بِالْعَضُدِ فَشَمَلَتِ الآْيَةُ كُل الذِّرَاعِ إِلَى الْمِرْفَقِ، وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِي فَرْضِيَّةِ غَسْل الْمِرْفَقِ نَفْسِهِ. فَالْجُمْهُورُ وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمِرْفَقَ يَجِبُ غَسْلُهُ كَذَلِكَ، فَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {إِلَى الْمَرَافِقِ} مَعَ الْمَرَافِقِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَل يَدَيْهِ حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدَيْنِ ثُمَّ قَال: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ (2) .
وَقَال زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ: إِنَّهُ لاَ يَجِبُ غَسْل الْمِرْفَقَيْنِ؛ لأَِنَّ الْغَايَةَ لاَ تَدْخُل تَحْتَ الْمُغَيَّا، فَالْمِرْفَقَانِ لاَ يَدْخُلاَنِ فِي الْغَسْل، كَمَا لاَ يَدْخُل اللَّيْل فِي الصَّوْمِ (3) فِي قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل} (4)
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) حديث أبي هريرة: " أنه توضأ فغسل يديه. . . " أخرجه مسلم (1 / 216 - ط الحلبي) .
(3) البناية على الهداية 1 / 106، 109، والبدائع للكاساني 1 / 4، ومواهب الجليل للحطاب 1 / 191، ومغني المحتاج 1 / 52، وأسنى المطالب شرح روض الطالب 1 / 32، وكشاف القناع 1 / 97.
(4) سورة البقرة / 187.

(21/206)


وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ مَعَ أَدِلَّةِ الْجُمْهُورِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (وُضُوء) .

ب - افْتِرَاشُ الذِّرَاعَيْنِ فِي الصَّلاَةِ:
7 - يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَفْتَرِشَ ذِرَاعَيْهِ فِي الصَّلاَةِ، أَيْ يَبْسُطَهُمَا فِي حَالَةِ السَّجْدَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، (1) وَذَلِكَ لِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ، وَلاَ يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَة) بَحْثِ مَا يُكْرَهُ فِيهَا.

ج - الْجِنَايَةُ عَلَى الذِّرَاعِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَطَعَ ذِرَاعَ إِنْسَانٍ مِنَ الْمَفْصِل، أَيِ الْمِرْفَقِ، فَفِي الْعَمْدِ قِصَاصٌ، وَفِي الْخَطَأِ نِصْفُ الدِّيَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ الذِّرَاعِ أَوْ كَسْرِهَا مِنْ غَيْرِ الْمَفْصِل:
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَنْ جَنَى عَلَى ذِرَاعِ إِنْسَانٍ فَكَسَرَهَا فَلاَ قِصَاصَ فِيهِ وَلاَ دِيَةَ مُعَيَّنَةٌ، عَمْدًا كَانَ أَوْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 432، والاختيار لتعليل المختار للموصلي 1 / 61، بدائع الصنائع للكاساني 1 / 210، 215، وفتح الباري 2 / 301، وكشاف القناع 1 / 37.
(2) حديث: " اعتدلوا في السجود. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 301 ط السلفية) .

(21/207)


خَطَأً، بَل تَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ، (1) وَذَلِكَ لاِمْتِنَاعِ تَحْقِيقِ الْمُمَاثَلَةِ، وَهِيَ الأَْصْل فِي جَرَيَانِ الْقِصَاصِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَكْسِرُ زِيَادَةً عَنْ عُضْوِ الْجَانِي، أَوْ يَقَعُ خَلَلٌ فِيهِ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ تَقْدِيرٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الدِّيَةِ. (2)
لَكِنِ الْحَنَابِلَةُ صَرَّحُوا بِأَنَّ فِي كَسْرِ الزَّنْدِ أَرْبَعَةَ أَبْعِرَةٍ لأَِنَّهُ عَظْمَانِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ تَقْدِيرَ فِي جِرَاحِ الْبَدَنِ غَيْرَ الْخَمْسَةِ: الضِّلْعِ، وَالتَّرْقُوَتَيْنِ، وَالزَّنْدَيْنِ؛ لأَِنَّ التَّقْدِيرَ يَثْبُتُ بِالتَّوْقِيفِ، وَمُقْتَضَى الدَّلِيل وُجُوبُ الْحُكُومَةِ فِي هَذِهِ الْعِظَامِ الْبَاطِنَةِ، وَإِنَّمَا خَالَفْنَاهُ فِي هَذِهِ الْعِظَامِ لِقَضَاءِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَفِيمَا عَدَاهَا يَبْقَى عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيل. (3)
وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الذِّرَاعِ بَعِيرَانِ، إِذَا جُبِرَ ذَلِكَ مُسْتَقِيمًا، بِأَنْ بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَغَيَّرَ عَنْ صِفَتِهِ. وَإِنْ لَمْ يَنْجَبِرْ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ. (4)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُقَادُ فِي كَسْرِ الْعِظَامِ إِلاَّ فِيمَا يَعْظُمُ خَطَرُهُ كَالرَّقَبَةِ وَالْفَخِذِ وَالصُّلْبِ. (5)
__________
(1) الحكومة هي ما يجب في الجناية الواقعة على ما دون النفس فيما ليس له أرش مقدر، ولمعرفة تقديرها ينظر مصطلح (حكومة عدل) .
(2) ابن عابدين 5 / 353، 354، بداية المجتهد 2 / 425، وجواهر الإكليل 2 / 260، والمغني 8 / 27، مغني المحتاج 1 / 28.
(3) المغني لابن قدامة 8 / 53، 54.
(4) كشاف القناع 6 / 57، 58.
(5) بداية المجتهد 2 / 425، وجواهر الإكليل 2 / 260.

(21/207)


وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَة، وَقِصَاص، وَجِنَايَة) .

ثَانِيًا - الذِّرَاعُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي:
الذِّرَاعُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي، أَيْ مَا يُقَاسُ بِهَا، ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي مَسَائِل مِنْهَا مَا يَلِي:

أ - تَقْدِيرُ الْمَاءِ الْكَثِيرِ:
9 - قَدَّرَ الْفُقَهَاءُ الْمَاءَ الْكَثِيرَ وَالْقَلِيل بِالذِّرَاعِ فِيمَا إِذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (مِيَاه) .

ب - تَحْدِيدُ مَسَافَةِ السَّفَرِ:
10 - الْمُسَافِرُ لَهُ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ كَجَوَازِ الإِْفْطَارِ وَقَصْرِ الصَّلاَةِ الرَّبَاعِيَةِ وَجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَسُقُوطِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَنَحْوِهَا.
وَالأَْصْل فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلاَةِ. (1)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ السَّفَرِ الَّذِي تَثْبُتُ لَهُ هَذِهِ الأَْحْكَامُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي صَلاَةِ الْمُسَافِرِ وَالصِّيَامِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
__________
(1) حديث: " إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ". أخرجه الترمذي (3 / 85 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك الكعبي، وقال: " حديث حسن ".

(21/208)


ذُرِّيَّةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الذُّرِّيَّةُ: إِمَّا فُعْلِيَّةٌ: مِنَ الذَّرِّ: أَيْ صِغَارِ النَّمْل أَوْ فُعُّولَةٌ: مِنَ الذَّرْءِ وَهُوَ الْخَلْقُ أُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ يَاءً، ثُمَّ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً، وَأُدْغِمَتِ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ، وَالْجَمْعُ ذُرِّيَّاتٌ وَذَرَارِيُّ، وَمَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ: قِيل: نَسْل الثَّقَلَيْنِ، وَقِيل: هِيَ وَلَدُ الرَّجُل، وَقِيل: مِنْ أَسْمَاءِ الأَْضْدَادِ تَجِيءُ تَارَةً بِمَعْنَى الأَْبْنَاءِ (1) قَال تَعَالَى فِي قِصَّةِ نُوحٍ {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} (2) . وَتَجِيءُ تَارَةً بِمَعْنَى الآْبَاءِ وَالأَْجْدَادِ. (3) كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} (4) . وَالاِصْطِلاَحُ الشَّرْعِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) الكليات 2 / 361 _ معجم متن اللغة.
(2) سورة الصافات / 77.
(3) تفسير القرطبي 15 / 34.
(4) سورة يس / 43.

(21/208)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأَْوْلاَدُ:
2 - الأَْوْلاَدُ جَمْعُ وَلَدٍ، وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى. (1)
ب - النَّسْل:
3 - النَّسْل فِي الأَْصْل عِبَارَةٌ عَنْ خُرُوجِ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ مُطْلَقًا، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الأَْوْلاَدِ وَالذُّرِّيَّةِ.

ج - الْعَقِبُ:
4 - الْعَقِبُ هُوَ الْوَلَدُ: مِنْ أَعْقَبَ الرَّجُل إِذَا مَاتَ وَخَلَّفَ عَقِبًا أَيْ وَلَدًا. (2)
د - الأَْحْفَادُ:
5 - الأَْحْفَادُ أَوِ الْحَفَدَةُ بِفَتْحَتَيْنِ: يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ: عَلَى وَلَدِ الْوَلَدِ وَعَلَى الأَْعْوَانِ وَالْخَدَمِ وَالأَْخْتَانِ وَالأَْصْهَارِ، وَالْمُفْرَدُ: حَفِيدٌ وَحَافِدٌ. (3)
هـ - الأَْسْبَاطُ:
6 - الأَْسْبَاطُ: جَمْعُ سِبْطٍ، وَهُوَ وَلَدُ الاِبْنِ وَالاِبْنَةِ. (4)
__________
(1) تاج العروس والمصباح المنير.
(2) الكليات 2 / 361.
(3) مختار الصحاح.
(4) المعجم الوسيط، مادة: " سبط ".

(21/209)


الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الذُّرِّيَّةَ تَتَنَاوَل الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، فَإِذَا وَقَفَ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ دَخَل فِيهِ أَوْلاَدُ الْبَنَاتِ؛ لأَِنَّ الْبَنَاتِ ذُرِّيَّتُهُ، وَأَوْلاَدُهُنَّ ذُرِّيَّةٌ لَهُ حَقِيقَةً، فَيَجِبُ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْوَقْفِ، وَدَل عَلَى صِحَّةِ هَذَا قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْل وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَعِيسَى} (1) وَهُوَ مِنْ وَلَدِ بِنْتِهِ، فَجَعَلَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّةَ " عِيسَى " وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَإِسْمَاعِيل وَإِدْرِيسَ ثُمَّ قَال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} (2) وَعِيسَى مَعَهُمْ. (3)
وَقَال الْخِرَقِيُّ: لاَ يَدْخُل أَوْلاَدُ الْبَنَاتِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ، وَاسْتَدَل بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ} (4) فَدَخَل فِيهِ أَوْلاَدُ الْبَنِينَ دُونَ أَوْلاَدِ الْبَنَاتِ وَهَكَذَا كُل مَوْضُوعٍ ذُكِرَ فِيهِ الْوَلَدُ فِي الإِْرْثِ وَالْحَجْبِ يَدْخُل وَلَدُ الْبَنِينَ دُونَ وَلَدِ
__________
(1) سورة الأنعام / 84 - 85.
(2) سورة مريم / 58.
(3) المغني لابن قدامة 5 / 615، قليوبي 3 / 404، ابن عابدين 3 / 433، حاشية الدسوقي 4 / 92، شرح الزرقاني 7 / 89
(4) سورة النساء / 11.

(21/209)


الْبَنَاتِ، وَالذُّرِّيَّةُ وَالنَّسْل فِي حُكْمِ الأَْوْلاَدِ. (1) يُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (وَلَد) وَبَابِ الْوَقْفِ

ذَرْعِيَّاتٌ

ر مِثْلِيٌّ
__________
(1) المغني 5 / 161 - 162.

(21/210)


ذَرْقٌ

1 - الذَّرْقُ فِي اللُّغَةِ خَرْءُ الطَّائِرِ، مِنْ ذَرَقَ الطَّائِرُ يَذْرِقُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا ذَرْقًا وَذُرَاقًا إِذَا رَمَى بِسَلْحِهِ. وَهُوَ مِنْ الطَّائِرِ كَالتَّغَوُّطِ مِنَ الإِْنْسَانِ. وَقَدْ يُسْتَعَارُ فِي الثَّعْلَبِ وَالسَّبُعِ. (1)
وَيُطْلَقُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ نَفْسِهِ. (2)

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - الْخَرْءُ وَالذَّرْقُ وَالْخِثْيُ وَالْبَعْرُ وَالرَّوْثُ وَالنَّجْوُ وَالْعَذِرَةُ أَلْفَاظٌ تُطْلَقُ عَلَى فَضْلَةِ الْحَيَوَانِ الْخَارِجَةِ مِنَ الدُّبُرِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ كَمَا جَاءَ فِي ابْنِ عَابِدِينَ أَنَّ الرَّوْثَ يَكُونُ لِلْفَرَسِ وَالْبَغْل وَالْحِمَارِ، وَالْخِثْيَ لِلْبَقَرِ وَالْفِيل، وَالْبَعْرَ لِلإِْبِل وَالْغَنَمِ، وَالْخَرْءَ لِلطُّيُورِ، وَالنَّجْوَ لِلْكَلْبِ، وَالْعَذِرَةَ لِلإِْنْسَانِ، وَالرَّجِيعُ يُطْلَقُ عَلَى الرَّوْثِ وَالْعَذِرَةِ. (3)
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير، ومتن اللغة في المادة.
(2) ابن عابدين 1 / 147، 213، وحاشية القليوبي 1 / 184.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 147، المصباح (رجع) .

(21/210)


وَهَذَا فِي الْغَالِبِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَل بَعْضُهَا مَكَانَ بَعْضٍ تَوَسُّعًا، كَمَا وَرَدَ فِي عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ. (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً: ذَرْقُ الطُّيُورِ الَّتِي يُؤْكَل لَحْمُهَا:
3 - ذَرْقُ الطُّيُورِ مِمَّا يُؤْكَل لَحْمُهُ كَالْحَمَامِ وَالْعَصَافِيرِ، طَاهِرٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) وَذَلِكَ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ بِسَبَبِ امْتِلاَءِ الطُّرُقِ وَالْخَانَاتِ بِهَا؛
وَلإِِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَرْكِ الْحَمَامِ فِي الْمَسَاجِدِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنْ أَصَابَ شَيْءٌ مِنْهُ بَدَنَ الإِْنْسَانِ أَوْ ثَوْبَهُ دَاخِل الصَّلاَةِ أَوْ خَارِجَهَا لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ وَلاَ يَنْجُسُ ثَوْبُهُ. (2)
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ خَرْءَ الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ الأَْهْلِيِّ؛ لأَِنَّهُمَا يَتَغَذَّيَانِ بِنَجَسٍ فَلاَ يَخْلُو خَرْؤُهُمَا مِنَ النَّتِنِ وَالْفَسَادِ. (3)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - بِنَجَاسَةِ خَرْءِ الطُّيُورِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ مَأْكُول اللَّحْمِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَنَزَّهُوا مِنَ الْبَوْل (4) وَلأَِنَّهُ رَجِيعٌ فَكَانَ نَجَسًا كَرَجِيعِ الآْدَمِيِّ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 147، وجواهر الإكليل 1 / 9، 217، ومغني المحتاج 1 / 79.
(2) الاختيار 1 / 34، وجواهر الإكليل 1 / 217، وكشاف القناع 1 / 193، 4 / 1، والمغني لابن قدامة 2 / 89.
(3) الاختيار 1 / 35، وجواهر الإكليل 1 / 9.
(4) حديث: " تنزهوا من البول " أخرجه الدارقطني (1 / 127 - ط دار المحاسن) من حديث أنس بن مالك، وصوب إرساله من الطريق الذي رواه، ولكن ذكر ابن أبي حاتم الرازي في علل الحديث (1 / 26 ط السلفية) طريقًا أخرى له وصوب أنه محفوظ.

(21/211)


وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ يُعْفَى عَنْ ذَرْقِ الطُّيُورِ الْمَأْكُولَةِ اللَّحْمِ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَلِيلاً أَمْ كَثِيرًا عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِمَشَقَّةِ الاِحْتِرَازِ عَنْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لاَ يُعْفَى عَنْ كَثِيرِهِ.
وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا، فَقَالُوا بِالْعَفْوِ عَنْهُ فِي الصَّلاَةِ مُطْلَقًا، وَفِي خَارِجِ الصَّلاَةِ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ وَلاَ يُعْفَى عَنْ كَثِيرِهِ. (1)

ثَانِيًا - ذَرْقُ الطُّيُورِ الَّتِي لاَ يُؤْكَل لَحْمُهَا:
4 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ ذَرْقَ الطُّيُورِ الَّتِي لاَ يُؤْكَل لَحْمُهَا كَالْبَازِ وَالشَّاهِينِ وَالرَّخَمِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ نَجَسٌ، وَهَذَا قَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ مِمَّا أَحَالَهُ طَبْعُ الْحَيَوَانِ إِلَى نَتْنٍ وَفَسَادٍ. (2)
وَفِي رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ طَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ. وَاسْتَدَلُّوا لِطَهَارَتِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِمَا يَنْفَصِل مِنَ الطُّيُورِ نَتْنٌ وَخَبَثُ رَائِحَةٍ.
__________
(1) حاشية القليوبي 1 / 184، ومغني المحتاج 1 / 79، 193، والمغني لابن قدامة 2 / 88.
(2) ابن عابدين 1 / 214، البناية على الهداية 1 / 747، والاختيار 1 / 34، ومغني المحتاج 1 / 79، وقليوبي 1 / 184، والمغني 2 / 86، وكشاف القناع 1 / 193، وجواهر الإكليل 1 / 9، 217، وحاشية الدسوقي 1 / 151.

(21/211)


وَلاَ يُنَحَّى شَيْءٌ مِنَ الطُّيُورِ عَنِ الْمَسَاجِدِ فَعَرَفْنَا أَنَّ خَرْءَ الْجَمِيعِ طَاهِرٌ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ فَرْقَ فِي الْخَرْءِ بَيْنَ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ وَمَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ. (1)
5 - وَعَلَى الْقَوْل بِنَجَاسَتِهِ - كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ - قَال الْمَالِكِيَّةُ: يُعْفَى عَمَّا أَصَابَ مِنْهُ الثَّوْبَ أَوِ الْبَدَنَ مِقْدَارَ مَا يَصْعُبُ وَيَشُقُّ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ، بِأَنْ يَكُونَ مِقْدَارَ الدِّرْهَمِ أَوْ أَقَل فِي الْمِسَاحَةِ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى وَلِعُسْرِ الاِحْتِرَازِ عَنْهُ، وَلاَ يُعْفَى عَنْ كَثِيرِهِ لِنُدْرَتِهِ وَعَدَمِ مَشَقَّةِ الاِحْتِرَازِ عَنْهُ. (3)
وَتُعْرَفُ الْكَثْرَةُ وَالْقِلَّةُ عِنْدَهُمْ بِالْعَادَةِ الْغَالِبَةِ، فَمَا يَغْلِبُ عَادَةً التَّلَطُّخُ بِهِ وَيَعْسُرُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ عَادَةً قَلِيلٌ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ. (4)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ شَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَاتِ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ دَمًا أَوْ قَيْحًا يَسِيرًا مِمَّا لاَ يَفْحُشُ فِي نَظَرِ الشَّخْصِ؛ لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الْعَفْوِ عَنِ النَّجَاسَةِ إِلاَّ مَا خَصَّهُ الدَّلِيل، وَلَمْ يُوجَدْ إِلاَّ فِي الدَّمِ وَالْقَيْحِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: (مَا كَانَ لإِِحْدَانَا إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ
__________
(1) البناية على الهداية 1 / 747.
(2) جواهر الإكليل 1 / 11، وحاشية الدسوقي 1 / 71، 72.
(3) حاشية القليوبي 1 / 184، ونهاية المحتاج 2 / 26، ومغني المحتاج 1 / 79، 93.
(&#
x664 ;) المراجع السابقة

(21/212)


تَحِيضُ فِيهِ، فَإِنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ بَلَّتْهُ بِرِيقِهَا ثُمَّ قَصَعَتْهُ بِرِيقِهَا) (1) وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَسْجُدُ فَيُخْرِجُ يَدَيْهِ فَيَضَعُهُمَا بِالأَْرْضِ، وَهُمَا يَقْطُرَانِ دَمًا مِنْ شِقَاقٍ كَانَ فِي يَدَيْهِ، وَعَصَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ دَمٍ وَقَيْحٍ فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
وَعَلَى ذَلِكَ إِنْ صَلَّى وَفِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ وَإِنْ قَلَّتْ أَعَادَ. (2)
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ الْقَيْءِ وَالْمَذْيِ وَرِيقِ الْبَغْل وَالْحِمَارِ وَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَسِبَاعِ الطَّيْرِ. قَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَبْوَالِهَا وَأَرْوَاثِهَا لأَِنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ عَنْهُ. (3)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَعَلَى الرِّوَايَةِ بِنَجَاسَةِ الذَّرْقِ، اعْتَبَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ لأَِنَّهَا تَذْرِقُ فِي الْهَوَاءِ وَالتَّحَامِي عَنْهُ مُتَعَذِّرٌ، وَاعْتَبَرَهُ مُحَمَّدٌ مِنَ النَّجَاسَةِ الْغَلِيظَةِ؛ لأَِنَّ التَّخْفِيفَ لِلضَّرُورَةِ وَلاَ ضَرُورَةَ هُنَا؛ لِعَدَمِ مُخَالَطَةِ هَذِهِ الطُّيُورِ لِلنَّاسِ. (4)
وَعَلَى ذَلِكَ فَيُعْفَى قَدْرُ مَا دُونَ رُبْعِ الثَّوْبِ أَوِ الْبَدَنِ الْمُصَابِ بِذَرْقِ الطُّيُورِ غَيْرِ مَأْكُولَةِ اللَّحْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَلاَ يُعْفَى أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى أَصْل الْحَنَفِيَّةِ
__________
(1) حديث عائشة: " ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد " أخرجه أبو داود (1 / 254 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(2) المغني 2 / 77، 78، وكشاف القناع 1 / 193، 194.
(3) كشاف القناع 1 / 193، 194، والمغني لابن قدامة 2 / 82.
(4) البناية على الهداية 1 / 446، 447.

(21/212)


مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ وَالنَّجَاسَةِ الْغَلِيظَةِ.
وَيُعْرَفُ قَدْرُ الدِّرْهَمِ عِنْدَهُمْ فِي النَّجَاسَةِ الْمُتَجَسِّدَةِ بِالْوَزْنِ، وَفِي الْمَائِعَةِ بِالْمِسَاحَةِ بِأَنْ تَكُونَ قَدْرَ مُقَعَّرِ الْكَفِّ دَاخِل مَفَاصِل الأَْصَابِعِ. (1)
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَجَاسَة) .

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ
: 6 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ ذَرْقِ الطُّيُورِ وَفَضَلاَتِ الْحَيَوَانَاتِ فِي أَبْوَابِ الطَّهَارَةِ وَبَحْثِ الأَْنْجَاسِ وَالْمَعْفُوَّاتِ عَنِ الأَْنْجَاسِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
__________
(1) البناية على الهداية 1 / 447، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 83 - 84، وحاشية ابن عابدين 1 / 147.

(21/213)


ذَرِيعَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الذَّرِيعَةُ لُغَةً: الْوَسِيلَةُ الْمُفْضِيَةُ إِلَى الشَّيْءِ، جَاءَ فِي اللِّسَانِ: يُقَال: فُلاَنٌ ذَرِيعَتِي إِلَيْكَ أَيْ سَبَبِي وَصِلَتِي الَّذِي أَتَسَبَّبُ بِهِ إِلَيْكَ. وَالذَّرِيعَةُ السَّبَبُ إِلَى الشَّيْءِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الذَّرِيعَةَ فِي كَلاَمِهِمْ جَمَلٌ يُخْتَل بِهِ الصَّيْدُ يَمْشِي الصَّيَّادُ إِلَى جَنْبِهِ فَيَسْتَتِرُ وَيَرْمِي الصَّيْدَ إِذَا أَمْكَنَهُ، وَذَلِكَ الْجَمَل يُسَيَّبُ أَوَّلاً مَعَ الْوَحْشِ حَتَّى تَأْلَفَهُ. (1)
وَالذَّرِيعَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى الشَّيْءِ.
وَالذَّرِيعَةُ كَمَا تَكُونُ إِلَى الْمَفَاسِدِ الْمُحَرَّمَةِ، تَكُونُ إِلَى الْمَصَالِحِ أَيْضًا، فَالْوَسِيلَةُ إِلَى الْحَجِّ كَالسَّفَرِ وَالاِسْتِعْدَادِ لَهُ، فَالْحَجُّ مِنَ الْمَقَاصِدِ، وَالسَّفَرُ مِنَ الْوَسَائِل وَالذَّرَائِعِ، وَالْمَقَاصِدُ هِيَ الأُْمُورُ الْمُكَوِّنَةُ لِلْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ فِي ذَاتِهَا، فَالرِّبَا مَقْصِدٌ مُحَرَّمٌ، وَبُيُوعُ الآْجَال ذَرِيعَةٌ إِلَيْهِ، وَالْحَجُّ مَقْصِدٌ مَشْرُوعٌ، وَالسَّفَرُ وَسِيلَةٌ إِلَيْهِ.
__________
(1) لسان العرب، مادة: " ذرع ".

(21/213)


الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - حُكْمُ الذَّرِيعَةِ يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ جِهَتَيْنِ: الأُْولَى سَدُّ الذَّرَائِعِ، وَالثَّانِيَةُ: فَتْحُهَا. (1)
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (سَدِّ الذَّرَائِعِ) وَالْمُلْحَقَ الأُْصُولِيَّ.
__________
(1) شرح تنقيح الفصول ص 200.

(21/214)


ذَقَنٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الذَّقَنُ فِي اللُّغَةِ مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ مِنْ أَسْفَلِهِمَا، وَهُمَا الْعَظْمَانِ اللَّذَانِ تَنْبُتُ عَلَيْهِمَا الأَْسْنَانُ السُّفْلَى، وَجَمْعُهُ أَذْقَانٌ. (1) وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْوَجْهِ كُلِّهِ، تَسْمِيَةً لِلْكُل بِاسْمِ الْجُزْءِ، كَمَا وَرَدَ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَخِرُّونَ لِلأَْذْقَانِ سُجَّدًا} (2) ، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ لِلْوُجُوهِ. وَإِنَّمَا خَصَّ الأَْذْقَانَ بِالذِّكْرِ؛ لأَِنَّ الذَّقَنَ أَقْرَبُ شَيْءٍ مِنَ الْوُجُوهِ. (3)
وَإِطْلاَقُ الذَّقَنِ عَلَى مَا يَنْبُتُ عَلَى مُجْتَمَعِ اللَّحْيَيْنِ مِنَ الشَّعْرِ مُوَلَّدٌ. (4)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُطْلَقُ الذَّقَنُ عَلَى نَفْسِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، كَمَا نَصَّتْ عَلَيْهِ عِبَارَاتُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ فِي حَدِّ الْوَجْهِ الْمَفْرُوضِ غَسْلُهُ فِي الْوُضُوءِ. حَيْثُ قَالُوا: " حَدُّ الْوَجْهِ طُولاً مِنْ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير في المادة، وحاشية القليوبي 1 / 47.
(2) سورة الإسراء / 107.
(3) تفسير القرطبي 10 / 341.
(4) متن اللغة في المادة.

(21/214)


مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ إِلَى أَسْفَل الذَّقَنِ أَيْ مُنْتَهَى اللَّحْيَيْنِ " (1) .
وَفَسَّرَهُ فِي الدُّرِّ بِأَنَّهُ مَنْبَتُ الأَْسْنَانِ السُّفْلَى. (2) وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
اللِّحْيَةُ، الْفَكُّ، الْحَنَكُ، اللَّحْيُ:
2 - اللِّحْيَةُ اسْمٌ يَجْمَعُ مِنَ الشَّعْرِ مَا نَبَتَ عَلَى الْخَدَّيْنِ وَالذَّقَنِ، أَوْ هِيَ الشَّعْرُ النَّازِل عَلَى الذَّقَنِ. (3)
وَالْفَكُّ بِالْفَتْحِ اللَّحْيُ، وَالْفَكَّانِ اللَّحْيَانِ، وَقِيل مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ عِنْدَ الصُّدْغِ مِنْ أَعْلَى وَأَسْفَل. قَال فِي اللِّسَانِ نَقْلاً عَنِ التَّهْذِيبِ: الْفَكَّانِ مُلْتَقَى الشِّدْقَيْنِ. (4)
وَاللَّحْيُ عَظْمُ الْحَنَكِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الأَْسْنَانُ. وَهُوَ مِنَ الإِْنْسَانِ حَيْثُ يَنْبُتُ الشَّعْرُ. وَالْحَنَكُ مِنَ الإِْنْسَانِ وَالدَّابَّةِ بَاطِنُ أَعْلَى الْفَمِ مِنَ الدَّاخِل، وَقِيل: هُوَ الأَْسْفَل فِي طَرَفِ مُقَدَّمِ اللَّحْيَيْنِ مِنْ أَسْفَلِهِمَا. وَمِنْهُ تَحْنِيكُ الصَّبِيِّ، وَهُوَ مَضْغُ التَّمْرِ ثُمَّ تَدْلِيكُهُ بِحَنَكِهِ. قَال الدُّسُوقِيُّ: حَاصِلُهُ أَنَّ ضَبَّةَ الْحَنَكِ السُّفْلَى قِطْعَتَانِ كُلٌّ
__________
(1) كفاية الطالب الرباني 1 / 50، وجواهر الإكليل 1 / 14، والإقناع للشربيني 1 / 35، ومطالب أولي النهى 1 / 113، وكشاف القناع 1 / 95.
(2) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 65.
(3) لسان العرب والمصباح المنير.
(4) لسان العرب والمصباح المنير.

(21/215)


مِنْهُمَا يُقَال لَهَا لَحْيٌ وَمَحَل اجْتِمَاعِهِمَا هُوَ الذَّقَنُ (1)
. الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالذَّقَنِ:
أَوَّلاً: غَسْل الذَّقَنِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الذَّقَنَ مِنَ الْوَجْهِ، فَيَجِبُ غَسْلُهُ فِي الْوُضُوءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (2) .
4 - وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ غَسْل الذَّقَنِ الَّذِي نَبَتَتْ عَلَيْهِ اللِّحْيَةُ الْخَفِيفَةُ، أَيِ الَّتِي تَظْهَرُ الْبَشَرَةُ تَحْتَهَا، وَلاَ تَسْتُرُهَا عَنِ الرَّائِي.
أَمَّا مَا نَبَتَ عَلَى الذَّقَنِ مِنَ اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ فَيَجِبُ غَسْل ظَاهِرِهَا لأَِنَّهَا نَبَتَتْ فِي مَحَل الْفَرْضِ، وَالْمُوَاجَهَةُ تَحْصُل بِهَا فَتَدْخُل فِي اسْمِ الْوَجْهِ. أَمَّا بَاطِنُهَا مِنَ الذَّقَنِ وَالْبَشَرَةِ فَلاَ يَجِبُ غَسْلُهُ فِي الْوُضُوءِ؛ لِعُسْرِ إِيصَال الْمَاءِ إِلَيْهِ، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَغَرَفَ غُرْفَةً غَسَل بِهَا وَجْهَهُ (3) وَكَانَتْ لِحْيَتُهُ الْكَرِيمَةُ كَثِيفَةً، وَبِالْغُرْفَةِ الْوَاحِدَةِ لاَ يَصِل الْمَاءُ إِلَى ذَلِكَ غَالِبًا. (4)
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير، وحاشية القليوبي 4 / 256، والشرح الكبير للدردير 1 / 86.
(2) سورة المائدة / 6.
(3) حديث: " توضأ فغرف غرفة. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 240 - ط السلفية) من حديث ابن عباس.
(4) ابن عابدين 1 / 68 - 69، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 86، ومغني المحتاج 1 / 51 - 52، وكشاف القناع 1 / 96، والمغني لابن قدامة 1 / 117، 118.

(21/215)


وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحَيْ: (لِحْيَة وَوُضُوء) .

ثَانِيًا: وُجُوبُ الدِّيَةِ:
5 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ فِي دِيَةِ الأَْطْرَافِ أَنَّ مَنْ فَوَّتَ مَنْفَعَةً عَلَى الْكَمَال، أَوْ أَزَال جَمَالاً مَقْصُودًا عَلَى الْكَمَال، فَإِذَا كَانَ الْعُضْوُ مِنَ الأَْفْرَادِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَظِيرٌ فِي بَدَنِ الإِْنْسَانِ كَالأَْنْفِ وَاللِّسَانِ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ. وَإِذَا كَانَ مِنَ الأَْزْوَاجِ مِثْل الْعَيْنَيْنِ وَالأُْذُنَيْنِ فَفِي كِلَيْهِمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ. (1)
وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ فِي اللَّحْيَيْنِ كِلَيْهِمَا؛ لأَِنَّ فِيهِمَا نَفْعًا وَجَمَالاً لَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِثْلُهُمَا. وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ. فَإِنْ قَلَعَهُمَا بِمَا عَلَيْهِمَا مِنَ الأَْسْنَانِ وَجَبَتْ دِيَتُهُمَا وَدِيَةُ الأَْسْنَانِ مَعًا، فَلاَ تَدْخُل دِيَةُ الأَْسْنَانِ فِي اللَّحْيَيْنِ. (2)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَة، لِحْيَة) .

ذَكَاةٌ

،
ر: ذَبَائِحُ، صَيْد
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 369، وجواهر الإكليل 2 / 268.
(2) مغني المحتاج 4 / 65، وكشاف القناع 6 / 44، 45.

(21/216)


ذَكَرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الذَّكَرُ اسْمٌ لِلْعُضْوِ الْمَعْرُوفِ، جَمْعُهُ ذِكَرَةٌ بِوَزْنِ (عِنَبَةٍ) وَمَذَاكِيرُ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. وَالذَّكَرُ أَيْضًا خِلاَفُ الأُْنْثَى، وَجَمْعُهُ ذُكْرَانٌ وَذُكُورٌ، وَالْمَصْدَرُ الذُّكُورَةُ، (1) وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (ذُكُورَة) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
:

الأُْنْثَى:
2 - الأُْنْثَى: هِيَ خِلاَفُ الذَّكَرِ مِنْ كُل شَيْءٍ وَالْجَمْعُ إِنَاثٌ وَأُنُثٌ، مِثْل حِمَارٍ وَحُمُرٍ، وَالتَّأْنِيثُ خِلاَفُ التَّذْكِيرِ. (2)
الْفَرْجُ:
3 - الْفَرْجُ مِنَ الإِْنْسَانِ يُطْلَقُ عَلَى الْقُبُل وَالدُّبُرِ مِنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِجٌ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْعُرْفِ فِي الْقُبُل. (3)
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير، غريب القرآن للأصفهاني مادة: " ذكر ".
(2) المصباح المنير، لسان العرب مادة: " أنث ".
(3) المصباح المنير.

(21/216)


مَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّكَرِ مِنَ الأَْحْكَامِ:
أ - انْتِقَاضُ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ بِالْكَفِّ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ بِالْكَفِّ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ إِلَى عَدَمِ انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ مُطْلَقًا. (2)
وَرَاجِعِ التَّفْصِيل وَالأَْدِلَّةَ فِي (حَدَث) .

الْقِصَاصُ فِي قَطْعِ الذَّكَرِ:
5 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي قَطْعِ الذَّكَرِ السَّلِيمِ إِذَا تَوَافَرَتْ شُرُوطُ الْقِصَاصِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (3) وَلأَِنَّ لَهُ نِهَايَةً مُنْضَبِطَةً فَأُلْحِقَتْ بِالْمَفَاصِل، فَيُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ.
وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ ذَكَرُ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ،
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 35، المجموع 2 / 40، المغني لابن قدامة 1 / 179، الإنصاف 1 / 202.
(2) البدائع 1 / 30، وجواهر الإكليل 1 / 20، ومغني المحتاج 1 / 35، المجموع 2 / 40، والمغني لابن قدامة 1 / 178، والإنصاف 1 / 202.
(3) سورة المائدة / 45.

(21/217)


وَالشَّيْخِ وَالشَّابِّ، كَمَا يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ، وَالصَّحِيحُ وَالْمَرِيضُ؛ لأَِنَّ مَا وَجَبَ الْقِصَاصُ فِيهِ مِنَ الأَْطْرَافِ لَمْ يَخْتَلِفْ بِهَذِهِ الْمَعَانِي.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي قَطْعِ الذَّكَرِ مِنْ أَصْلِهِ أَوْ قَطْعِ بَعْضِهِ إِلاَّ الْحَشَفَةَ؛ لأَِنَّ الذَّكَرَ يَنْقَبِضُ مَرَّةً وَيَنْبَسِطُ أُخْرَى، فَلاَ يُمْكِنُ مُرَاعَاةُ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ. وَالْمُمَاثَلَةُ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَانْعِدَامُهَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ. أَمَّا قَطْعُ الْحَشَفَةِ فَفِيهِ الْقِصَاصُ؛ لإِِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْل؛ لأَِنَّ لَهَا حَدًّا مَعْلُومًا تَنْتَهِي إِلَيْهِ. (1)
وَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي قَطْعِ ذَكَرِ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ إِذَا كَانَ الْقَاطِعُ غَيْرَ خَصِيٍّ وَلاَ عِنِّينٍ. رَاجِعْ تَفَاصِيل هَذَا الْخِلاَفِ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاص) . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ بِقَطْعِ الذَّكَرِ السَّلِيمِ بِالأَْشَل. (2)

وُجُوبُ الدِّيَةِ فِي قَطْعِ الذَّكَرِ:
6 - أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ فِي قَطْعِ الذَّكَرِ الدِّيَةَ كَامِلَةً إِذَا لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
__________
(1) البدائع 7 / 308، جواهر الإكليل 2 / 260، 268، مغني المحتاج 4 / 27، المغني لابن قدامة 7 / 713.
(2) روضة الطالبين 9 / 192 - 195، مغني المحتاج 4 / 67، والقوانين الفقهية ص 356، المغني لابن قدامة 7 / 723.

(21/217)


كِتَابِهِ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ (1) وَلأَِنَّهُ عُضْوٌ وَاحِدٌ فِي الْبَدَنِ فِيهِ الْمَنْفَعَةُ وَالْجَمَال فَكَمُلَتْ فِيهِ الدِّيَةُ. كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي قَطْعِ الْحَشَفَةِ - وَهِيَ رَأْسُ الذَّكَرِ - لأَِنَّ مُعْظَمَ مَنَافِعِ الذَّكَرِ وَهُوَ لَذَّةُ الْمُبَاشَرَةِ تَتَعَلَّقُ بِهَا، وَأَحْكَامُ الْوَطْءِ عَلَيْهَا، فَمَا عَدَاهَا مِنَ الذَّكَرِ كَالتَّابِعِ لَهَا، كَالْكَفِّ مَعَ الأَْصَابِعِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ كَذَلِكَ فِي شَلَل الذَّكَرِ؛ لأَِنَّهُ ذَهَبَ بِنَفْعِهِ، وَلاَ فَرْقَ فِي وَحُوبِ الدِّيَةِ فِي الذَّكَرِ بَيْنَ الذَّكَرِ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، وَلاَ بَيْنَ ذَكَرِ الشَّيْخِ وَالشَّابِّ، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الْجِمَاعِ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ، بِشَرْطِ أَنْ يُعْلَمَ صِحَّةُ ذَكَرِ الصَّغِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ بِذَكَرِ الْعِنِّينِ، وَذَلِكَ بَعْدَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ دِيَةَ فِي قَطْعِ ذَكَرِ الأَْشَل وَمَقْطُوعِ الْحَشَفَةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي ذَكَرِ الْعِنِّينِ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ؛ وَلأَِنَّهُ عُضْوٌ لاَ خَلَل فِي نَفْسِهِ بَل هُوَ سَلِيمٌ، وَعَدَمُ الاِنْتِشَارِ يَعُودُ لِضَعْفٍ فِي الْقَلْبِ أَوِ الدِّمَاغِ أَوْ لِعَوَامِل أُخْرَى؛ وَلأَِنَّهُ غَيْرُ مَيْئُوسٍ مِنْ جِمَاعِهِ.
وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ:
__________
(1) حديث: " وفي الذكر الدية " أخرجه النسائي (8 / 58 - ط المكتبة التجارية) ، ونقل ابن حجر في التلخيص (4 / 18 - ط شركة الطباعة الفنية) عن جماعة من العلماء أنهم صححوه.

(21/218)


إِنَّهُ لاَ تَكْمُل فِيهِ الدِّيَةُ؛ لأَِنَّ مَنْفَعَةَ الذَّكَرِ هِيَ الإِْنْزَال وَالإِْحْبَال وَالْجِمَاعُ وَقَدْ عُدِمَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي حَال الْكَمَال، فَلَمْ تَكْمُل دِيَتُهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ قَتَادَةُ. (1)
7 - وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ كَذَلِكَ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ بِذَكَرِ الْخَصِيِّ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ وَهِيَ الرَّاجِحَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ دِيَةٍ كَامِلَةٍ فِيهِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الذَّكَرِ هُوَ الإِْنْزَال وَتَحْصِيل النَّسْل.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَإِسْحَاقُ،
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْقَوْل الآْخَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ فِي ذَكَرِ الْخَصِيِّ دِيَةً كَامِلَةً؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ (2) وَلأَِنَّ مِنْ صِفَةِ الذَّكَرِ الْجِمَاعَ وَهُوَ بَاقٍ فِيهِ. (3)
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحَاتِ: (دِيَة، حَشَفَة، حُكُومَةُ عَدْلٍ، عِنِّين، خَصِيّ، قِصَاص) .
وَوَرَدَتْ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ أَحْكَامٌ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 33، مغني المحتاج 4 / 67، حاشية العدوي 2 / 277، جواهر الإكليل 2 / 268، حاشية ابن عابدين 5 / 369، البدائع 7 / 308، حاشية الدسوقي 4 / 273.
(2) حديث: " في الذكر الدية " سبق تخريجه ف / 6.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 370 - 372، مغني المحتاج 4 / 67، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 273، المغني لابن قدامة 8 / 33، كشاف القناع 6 / 49.

(21/218)


بِالذَّكَرِ مِنْهَا: وُجُوبُ الْغُسْل بِتَغْيِيبِ حَشَفَةِ الذَّكَرِ فِي الْفَرَجِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْمَهْرَ يَسْتَقِرُّ لِلْمَرْأَةِ بِالْوَطْءِ.
وَمِنْهَا أَنَّ الإِْحْصَانَ يَحْصُل بِذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ.
وَمِنْهَا أَنَّ حَدَّ الزِّنَى يَجِبُ بِإِيلاَجِ شَيْءٍ مِنَ الذَّكَرِ لِلرَّجُل الْبَالِغِ فِي فَرْجِ امْرَأَةٍ مُشْتَهَاةٍ مُحَرَّمَةٍ خَالِيَةٍ عَنِ الشُّبْهَةِ. (1) وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحَاتِ: (غُسْل، وَمَهْر، وَإِحْصَان، وَزِنًى، وَحَشَفَة، وَوَطْء) .
__________
(1) القوانين الفقهية ص 207، 360، ومغني المحتاج 3 / 224، 4 / 143، 147، والمغني لابن قدامة 1 / 204، 6 / 724، 8 / 161.

(21/219)


ذِكْرٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الذِّكْرُ لُغَةً مَصْدَرُ ذَكَرَ الشَّيْءَ يَذْكُرُهُ ذِكْرًا وَذُكْرًا، وَقَال الْكِسَائِيُّ: الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ ضِدُّ الإِْنْصَاتِ ذَالُهُ مَكْسُورَةٌ، وَبِالْقَلْبِ ضِدُّ النِّسْيَانِ وَذَالُهُ مَضْمُومَةٌ، وَقَال غَيْرُهُ: بَل هُمَا لُغَتَانِ. (1)
وَهُوَ يَأْتِي فِي اللُّغَةِ لِمَعَانٍ:
الأَْوَّل: الشَّيْءُ يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ، أَيْ مَا يُنْطَقُ بِهِ، يُقَال: ذَكَرْتُ الشَّيْءَ أَذْكُرُهُ ذُكْرًا وَذِكْرًا إِذَا نَطَقْتَ بِاسْمِهِ أَوْ تَحَدَّثْتَ عَنْهُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} (2) .
وَالثَّانِي: اسْتِحْضَارُ الشَّيْءِ فِي الْقَلْبِ، ضِدُّ النِّسْيَانِ. قَال تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فَتَى مُوسَى: {وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} (3) .
قَال الرَّاغِبُ فِي الْمُفْرَدَاتِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ فِي بَصَائِرِهِ: " الذِّكْرُ تَارَةً يُرَادُ بِهِ هَيْئَةٌ
__________
(1) تاج العروس، ومفردات الراغب، وكشاف القناع عن متن الإقناع، الرياض، مكتبة النصر الحديثة 6 / 264.
(2) سورة مريم / 2.
(3) سورة الكهف / 63.

(21/219)


لِلنَّفْسِ بِهَا يُمْكِنُ الإِْنْسَانُ أَنْ يَحْفَظَ مَا يَقْتَنِيهِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَهُوَ كَالْحِفْظِ، إِلاَّ أَنَّ الْحِفْظَ يُقَال اعْتِبَارًا بِإِحْرَازِهِ، وَالذِّكْرُ يُقَال بِاعْتِبَارِ اسْتِحْضَارِهِ، وَتَارَةً يُقَال لِحُضُورِ الشَّيْءِ الْقَلْبَ أَوِ الْقَوْل. وَلِذَلِكَ قِيل: الذِّكْرُ ذِكْرَانِ: ذِكْرٌ بِالْقَلْبِ، وَذِكْرٌ بِاللِّسَانِ، وَكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَرْبَانِ: ذِكْرٌ عَنْ نِسْيَانٍ، وَذِكْرٌ لاَ عَنْ نِسْيَانٍ، بَل عَنْ إِدَامَةِ حِفْظٍ. وَكُل قَوْلٍ يُقَال لَهُ ذِكْرٌ. وَمِنَ الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ مَعًا (1) قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} (2) .
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَيُسْتَعْمَل الذِّكْرُ بِمَعْنَى ذِكْرِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَل، سَوَاءٌ بِالإِْخْبَارِ الْمُجَرَّدِ عَنْ ذَاتِهِ أَوْ صِفَاتِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ أَوْ أَحْكَامِهِ أَوْ بِتِلاَوَةِ كِتَابِهِ أَوْ بِمَسْأَلَتِهِ وَدُعَائِهِ أَوْ بِإِنْشَاءِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِتَقْدِيسِهِ وَتَمْجِيدِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَحَمْدِهِ وَشُكْرِهِ وَتَعْظِيمِهِ. وَيُسْتَعْمَل الذِّكْرُ اصْطِلاَحًا بِمَعْنًى أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى إِنْشَاءِ الثَّنَاءِ بِمَا تَقَدَّمَ، دُونَ سَائِرِ الْمَعَانِي الأُْخْرَى الْمَذْكُورَةِ. وَيُشِيرُ إِلَى الاِسْتِعْمَال بِهَذَا الْمَعْنَى الأَْخَصِّ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ
__________
(1) مطالب أولي النهى 1 / 107، دمشق، المكتب الإسلامي، 1380 هـ.
(2) سورة البقرة / 200.

(21/220)


اللَّهِ أَكْبَرُ} (1) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَل مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ (2) . فَجَعَلَتِ الآْيَةُ الذِّكْرَ غَيْرَ الصَّلاَةِ عَلَى التَّفْسِيرِ بِأَنَّ نَهْيَ ذِكْرِ اللَّهِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ أَعْظَمُ مِنْ نَهْيِ الصَّلاَةِ عَنْهُمَا، وَجَعَل الْحَدِيثُ الذِّكْرَ غَيْرَ تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرَ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ الدُّعَاءُ. وَهَذَا الاِسْتِعْمَال الأَْخَصُّ هُوَ الأَْكْثَرُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، حَتَّى إِنَّ ابْنَ عَلاَّنَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ الْحَقِيقَةُ، وَأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي مَجَازٌ. قَال: " أَصْل وَضْعِ الذِّكْرِ هُوَ مَا تَعَبَّدَنَا الشَّارِعُ بِلَفْظِهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِتَعْظِيمِ الْحَقِّ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ".
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْتَنَعَ مِنْ رَدِّ السَّلاَمِ عَلَى الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ حَتَّى تَوَضَّأَ ثُمَّ قَال: إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى إِلاَّ عَلَى طُهْرٍ (3) .
قَال ابْنُ عَلاَّنَ: جَوَابُ السَّلاَمِ لَيْسَ مَوْضُوعًا لِذَلِكَ، أَيْ لِلثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ. فَإِطْلاَقُ الذِّكْرِ
__________
(1) سورة العنكبوت / 45.
(2) حديث: " من شغله القرآن وذكري عن مسألتي. . . " أخرجه الترمذي (5 / 184 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري، وقال الترمذي: " حديث حسن غريب ".
(3) حديث: " إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر " أخرجه أبو داود (1 / 23 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 167 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.

(21/220)


عَلَيْهِ مَجَازٌ شَرْعِيٌّ سَبَبُهُ - أَيْ عَلاَقَتُهُ - الْمُشَابَهَةُ أَيْ مِنْ حَيْثُ هُوَ قَوْلٌ يُبْنَى عَلَيْهِ الثَّوَابُ. (1)
وَأُطْلِقَ الذِّكْرُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى عِدَّةِ أُمُورٍ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ اللُّغَوِيَّيْنِ أَوْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَأُطْلِقَ عَلَى الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ نَفْسِهِ فِي مِثْل قَوْله تَعَالَى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} (2) وَقَال: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآْيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} (3) .
وَأُطْلِقَ عَلَى التَّوْرَاةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ} (4) .
وَأُطْلِقَ عَلَى كُتُبِ الأَْنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ. قَال الرَّاغِبُ: قَوْله تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْل الذِّكْرِ} (5) أَيِ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَقَال الزُّبَيْدِيُّ: كُل كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الأَْنْبِيَاءِ ذِكْرٌ، وَقَال تَعَالَى: {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُل هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} (6) أَيْ هَذَا هُوَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّل عَلَى مَنْ مَعِي وَالْكِتَابُ الآْخَرُ
__________
(1) الفتوحات الربانية شرح الأذكار النووية، لمحمد بن علان الصديقي الشافعي، بيروت، المكتبة الإسلامية، بالتصوير عن طبعة القاهرة، جمعية النشر والتأليف الأزهرية 1 / 396.
(2) سورة الأنبياء / 50.
(3) سورة آل عمران / 58.
(4) سورة الأنبياء / 105.
(5) سورة الأنبياء / 7.
(6) سورة الأنبياء / 24.

(21/221)


الْمُنَزَّل عَلَى مَنْ تَقَدَّمَنِي، وَهُوَ التَّوْرَاةُ وَالإِْنْجِيل وَالزَّبُورُ وَالصُّحُفُ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ بِأَنْ تَتَّخِذُوا إِلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَقَدْ فُسِّرَتِ الآْيَةُ أَيْضًا بِغَيْرِ ذَلِكَ. (1)
وَأُطْلِقَ الذِّكْرُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَنْزَل اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولاً} (2) . فَقَدْ قِيل: إِنَّ الذِّكْرَ هُنَا وَصْفٌ لِلرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَنَّ الْكَلِمَةَ وَصْفٌ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بُشِّرَ بِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَأُطْلِقَ الذِّكْرُ بِمَعْنَى الصِّيتِ، وَيَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَبِمَعْنَى الشَّرَفِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ صَاحِبَهُمَا يُذْكَرُ بِهِمَا. وَقَدْ فُسِّرَ بِهِمَا قَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} (3) وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} (4) .
وَأُطْلِقَ الذِّكْرُ بِمَعْنَى الاِتِّعَاظِ وَمَا يَحْصُل بِهِ الْوَعْظُ، وَقَدْ فُسِّرَ بِذَلِكَ (5) قَوْله تَعَالَى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَل مِنْ مُدَّكِرٍ} (6)
__________
(1) تفسير الرازي 22 / 148 عند الآية 24 من سورة الأنبياء.
(2) سورة الطلاق / 10، 11.
(3) سورة الأنبياء / 10.
(4) سورة الزخرف / 44.
(5) انظر تفسير الرازي وتفسير ابن كثير عند هذه الآية من سورة القمر.
(6) سورة القمر / 18.

(21/221)


وقَوْله تَعَالَى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} (1) قَال الرَّازِيُّ: الْمَعْنَى: أَنَرُدُّ عَنْكُمُ النَّصَائِحَ وَالْمَوَاعِظَ. (2) وَقَدْ فُسِّرَتْ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَأُطْلِقَ الذِّكْرُ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَذَلِكَ فِي قَوْل النَّبِيِّ: وَكَتَبَ اللَّهُ فِي الذِّكْرِ كُل شَيْءٍ (3) أَيْ لأَِنَّ اللَّوْحَ مَحَلٌّ لِلذِّكْرِ كَتَبَ اللَّهُ فِيهِ كُل شَيْءٍ مِنَ الْكَائِنَاتِ. (4)
وَيَشْتَمِل هَذَا الْبَحْثُ عَلَى مَا يَلِي:
1 - الذِّكْرُ بِمَعْنَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ.
2 - وَالذِّكْرُ بِمَعْنَى النُّطْقِ بِاسْمِ الشَّيْءِ.
3 - وَالذِّكْرُ بِمَعْنَى اسْتِحْضَارِ الشَّيْءِ فِي الْقَلْبِ.
4 - وَالذِّكْرُ بِمَعْنَى الشُّهْرَةِ وَالصِّيتِ وَالشَّرَفِ.
وَأَمَّا الذِّكْرُ بِسَائِرِ الْمَعَانِي فَتُنْظَرُ أَحْكَامُهُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى (ر: قُرْآن. تَوْرَاة. إِنْجِيل. وَعْظ. دُعَاء) .

أَوَّلاً: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى:
حُكْمُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى:
2 - الذِّكْرُ مَحْبُوبٌ مَطْلُوبٌ مِنْ كُل أَحَدٍ مُرَغَّبٌ فِيهِ فِي جَمِيعِ الأَْحْوَال، إِلاَّ فِي حَالٍ وَرَدَ الشَّرْعُ
__________
(1) سورة الزخرف / 5.
(2) الرازي عند الآية الخامسة من سورة الزخرف.
(3) حديث: " كتب الله في الذكر كل شيء " أخرجه البخاري الفتح 6 / 286 - ط السلفية) من حديث عمران بن حصين.
(4) فتح الباري، القاهرة، المكتبة السلفية 6 / 290.

(21/222)


بِاسْتِثْنَائِهَا، كَحَال الْجُلُوسِ عَلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَحَال سَمَاعِ الْخُطْبَةِ (1) عَلَى مَا يَأْتِي.
وَدَلِيل اسْتِحْبَابِهِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَنَهَى عَنْ ضِدِّهِ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ، وَعَلَّقَ الْفَلاَحَ بِاسْتِدَامَتِهِ وَكَثْرَتِهِ، وَأَثْنَى عَلَى أَهْلِهِ وَجَعَلَهُمْ أَهْل الاِنْتِفَاعِ بِآيَاتِهِ، وَأَنَّهُمْ أُولُو الأَْلْبَابِ، وَأَخْبَرَ عَنْ خُسْرَانِ مَنْ لَهَا عَنِ الذِّكْرِ بِغَيْرِهِ، (2) وَجَعَل ذِكْرَهُ تَعَالَى لأَِهْلِهِ جَزَاءَ ذِكْرِهِمْ لَهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُل شَيْءٍ، وَجَعَلَهُ قَرِينَ الأَْعْمَال الصَّالِحَةِ، وَجَعَلَهُ مُفْتَتَحَهَا وَمُخْتَتَمَهَا، (3) فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ يَرِدُ بَعْضُهَا أَثْنَاءَ هَذَا الْبَحْثِ لاَ نُطِيل بِذِكْرِهَا هُنَا. وَيَزْدَادُ اسْتِحْبَابُ الذِّكْرِ فِي مَوَاضِعَ يَأْتِي تَفْصِيلُهَا.
وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، وَمِنَ الذِّكْرِ الْوَاجِبِ بَعْضُ أَذْكَارِ الصَّلاَةِ كَتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.
وَمِنَ الذِّكْرِ الْوَاجِبِ الأَْذَانُ وَالإِْقَامَةُ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُمَا يَجِبَانِ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَرَدُّ السَّلاَمِ وَالتَّسْمِيَةُ عَلَى الذَّبِيحَةِ. فَيُنْظَرُ تَفْصِيل أَحْكَامِ كُلٍّ مِنْهَا فِي مَوْضِعِهِ.
وَقَدْ يَكُونُ الذِّكْرُ حَرَامًا، وَذَلِكَ كَأَنْ يَتَضَمَّنَ شِرْكًا كَتَلْبِيَةِ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ يَتَضَمَّنَ نَقْصًا، مِثْل مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ: السَّلاَمُ
__________
(1) فتح الباري 11 / 212، 209.
(2) نزل الأبرار لصديق حسن خان ص 10 (بيانات النشر غير متوفرة) .
(3) مدارج السالكين لابن القيم 2 / 424، 425.

(21/222)


عَلَى اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَقُولُوا السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلاَمُ وَلَكِنْ قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ. . . (1) فَإِنَّ السَّلاَمَ إِنَّمَا يُطْلَبُ لِمَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ هُوَ السَّلاَمُ، فَالسَّلاَمُ يُطْلَبُ مِنْهُ وَلاَ يُطْلَبُ لَهُ، بَل يُثْنَى عَلَيْهِ بِهِ نَحْوُ " اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ " (2) .
وَقَدْ يَحْرُمُ الذِّكْرُ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ كَالذِّكْرِ فِي حَال خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ. (3)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَة الْجُمُعَةِ) .
وَقَدْ يَكُونُ الذِّكْرُ مَكْرُوهًا وَذَلِكَ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ يَرِدُ ذِكْرُهَا أَثْنَاءَ الْبَحْثِ.

فَضَائِل الذِّكْرِ وَفَوَائِدُهُ:
3 - تَتَبَيَّنُ مَنْزِلَةُ الذِّكْرِ بَيْنَ شَعَائِرِ الدِّينِ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا مَا يَلِي:
الأَْوَّل: أَنَّ الذِّكْرَ بِالْمَعْنَى الشَّامِل لِتِلاَوَةِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ أَفْضَل الأَْعْمَال عَلَى الإِْطْلاَقِ، وَنَقَل ابْنُ عَلاَّنَ عَنْ شَرْحِ الْمِشْكَاةِ لاِبْنِ حَجَرٍ أَنَّ قَضِيَّةَ كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْجِهَادَ
__________
(1) حديث: " لا تقولوا السلام على الله؛ فإن الله هو السلام " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 320 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن مسعود.
(2) حديث: " اللهم أنت السلام ومنك السلام ". أخرجه مسلم (1 / 414 - ط الحلبي) من حديث ثوبان.
(3) مجموع الفتاوى الكبرى لابن تيمية 10 / 553 وما بعدها. ط الرياض، وجواهر الإكليل 1 / 98.

(21/223)


أَفْضَل مِنَ الذِّكْرِ. (1) وَوَجْهُ الأَْوَّل مَا فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَال: ذِكْرُ اللَّهِ (2) .
قَال صَاحِبُ نُزُل الأَْبْرَارِ: أَفَادَ الْحَدِيثُ أَنَّ الذِّكْرَ خَيْرُ الأَْعْمَال عَلَى الْعُمُومِ، وَأَنَّهُ أَكْثَرُهَا نَمَاءً وَبَرَكَةً وَأَرْفَعُهَا دَرَجَةً.
وَمِثْلُهُ حَدِيثُ الْغَازِي فِي سَبِيل اللَّهِ لَوْ ضَرَبَ بِسَيْفِهِ فِي الْكُفَّارِ حَتَّى يَنْكَسِرَ وَيَخْتَضِبَ دَمًا لَكَانَ الذَّاكِرُونَ اللَّهَ أَفْضَل مِنْهُ دَرَجَةً (3) وَاسْتَشْكَل بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَفْضِيل الذِّكْرِ عَلَى الْجِهَادِ مَعَ وُرُودِ الأَْدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ أَفْضَل الأَْعْمَال، (4) وَجَمَعَ بَعْضُ أَهْل الْعِلْمِ بَيْنَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الأَْشْخَاصِ وَالأَْحْوَال فَمَنْ كَانَ مُطِيقًا لِلْجِهَادِ قَوِيَّ الأَْثَرِ فِيهِ فَأَفْضَل أَعْمَالِهِ الْجِهَادُ، وَمَنْ كَانَ كَثِيرَ الْمَال فَأَفْضَل أَعْمَالِهِ الصَّدَقَةُ، وَغَيْرُ هَذَيْنِ
__________
(1) الفتوحات الربانية 1 / 261، ونزل الأبرار لصديق حسن خان ص 15، وشرح الإحياء للزبيدي 10 / 4.
(2) حديث: " ألا أنبئكم بخير أعمالكم. . . " أخرجه الترمذي (5 / 459 - ط الحلبي) ، والحاكم (1 / 496 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) حديث: " الغازي في سبيل الله لو ضرب بسيفه. . . " أخرجه الترمذي (5 / 458 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري، وأعله الترمذي بقوله: " هذا حديث غريب ".
(4) نزل الأبرار ص 14 - 16.

(21/223)


أَفْضَل أَعْمَالِهِ الذِّكْرُ وَالصَّلاَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. قَال الشَّوْكَانِيُّ: وَلَكِنْ يَدْفَعُ هَذَا تَصْرِيحُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَفْضَلِيَّةِ الذِّكْرِ عَلَى الْجِهَادِ نَفْسِهِ فِي هَذِهِ الأَْحَادِيثِ. (1)
وَجَمَعَ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ الَّذِي هُوَ أَفْضَل مِنَ الْجِهَادِ، الذِّكْرُ الْكَامِل الْجَامِعُ بَيْنَ ذِكْرِ اللِّسَانِ وَذِكْرِ الْقَلْبِ بِالتَّفَكُّرِ وَالاِسْتِحْضَارِ، فَالَّذِي يَحْصُل لَهُ ذَلِكَ يَكُونُ أَفْضَل مِمَّنْ يُقَاتِل الْكُفَّارَ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْضَارٍ لِذَلِكَ، وَأَفْضَلِيَّةُ الْجِهَادِ هِيَ بِالنِّسْبَةِ لِلذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ الْمُجَرَّدِ. وَنُقِل عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّ وَجْهَ الْجَمْعِ أَنَّهُ مَا مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ إِلاَّ وَالذِّكْرُ مُشْتَرَطٌ فِي تَصْحِيحِهِ، فَمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ بِقَلْبِهِ فَلَيْسَ عَمَلُهُ كَامِلاً، فَصَارَ الذِّكْرُ أَفْضَل الأَْعْمَال مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ. (2)
وَأَفْضَل أَهْل كُل عَمَلٍ أَكْثَرُهُمْ فِيهِ ذِكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَفْضَل الْمُصَلِّينَ أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا لِلَّهِ، وَأَفْضَل الصَّائِمِينَ أَكْثَرُهُمْ فِي صَوْمِهِمْ ذِكْرًا لِلَّهِ، وَكَذَا الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ، (3) قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ، قَالُوا وَمَنِ الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُول اللَّهِ، قَال: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ (4) وَذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمُنَافِقِينَ بِقِلَّةِ
__________
(1) تحفة الذاكرين للشوكاني شرح عدة الحصن الحصين للجزري ص 10، دار الكتاب العربي.
(2) فتح الباري 11 / 210.
(3) نزل الأبرار ص 27 - 29، وانظر مدارج السالكين 2 / 426.
(4) حديث: " سبق المفردون. . . " أخرجه مسلم (4 / 2062 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.

(21/224)


الذِّكْرِ فِي صَلاَتِهِمْ، قَال تَعَالَى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} (1) .
الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ إِنَّمَا شُرِعَتْ لإِِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى (2) مِنْ ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ الصَّلاَةِ {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} (3) ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسَاجِدِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ (4) .
الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَعَ الذَّاكِرِينَ بِالْقُرْبِ وَالْوِلاَيَةِ وَالنَّصْرِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّوْفِيقِ، وَأَنَّهُ يَذْكُرُ مَنْ ذَكَرَهُ، وَمَنْ نَسِيَ اللَّهَ نَسِيَهُ وَأَنْسَاهُ نَفْسَهُ. (5)
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (6) . وَقَال: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (7) وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإٍَ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍَ خَيْرٍ مِنْهُمْ (8) .
__________
(1) سورة النساء / 142.
(2) نزل الأبرار ص 27.
(3) سورة طه / 14.
(4) حديث: " إنما هي لذكر الله والصلاة وتلاوة القرآن ". أخرجه مسلم (1 / 237 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(5) نزل الأبرار ص 12، 26.
(6) سورة البقرة / 152.
(7) سورة التوبة / 67.
(8) حديث: " يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي. . . " أخرجه البخاري (الفتح 13 / 384 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 2061 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.

(21/224)


الرَّابِعُ: أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى يُحَصِّنُ الذَّاكِرَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَمِنْ أَذَاهُ (1) قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَّكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (2) .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ عَلَى قَلْبِهِ الْوَسْوَاسُ، فَإِذَا عَقَل فَذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ، وَإِذَا غَفَل وَسْوَسَ. (3)
الْخَامِسُ: مَا فِي الذِّكْرِ مِنَ الأَْجْرِ الْعَظِيمِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا فِي الْحَدِيثِ أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ وَلاَ يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَل مِنْكُمْ إِلاَّ مَنْ صَنَعَ مِثْل مَا صَنَعْتُمْ، قَالُوا بَلَى يَا رَسُول اللَّهِ. قَال: تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُل صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ (4) .
السَّادِسُ: أَنَّ الذِّكْرَ يَكْسُو الذَّاكِرِينَ الْجَلاَلَةَ
__________
(1) نزل الأبرار ص 23، وتحفة الذاكرين ص 14.
(2) سورة الأعراف / 201.
(3) حديث: " ما من مولود إلا على قلبه الوسواس ". أخرجه ابن جرير في تفسيره (30 / 355 - ط الحلبي) ، وضعفه ابن حجر في فتح الباري (8 / 741 - ط السلفية) ، وعلقه البخاري بلفظ مقارب، ورجح ابن حجر أن الأولى ورود صيغة التضعيف من البخاري.
(4) حديث: " ألا أحدثكم شيئًا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 325 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 416 - 417 - ط الحلبي) من حيث أبي هريرة.

(21/225)


وَالْمَهَابَةَ وَيُورِثُهُمْ مَحَبَّةَ اللَّهِ الَّتِي هِيَ رُوحُ الإِْسْلاَمِ، وَيُحْيِي عِنْدَهُمْ الْمُرَاقَبَةَ لَهُ وَالإِْنَابَةَ إِلَيْهِ وَالْهَيْبَةَ لَهُ وَتَتَنَزَّل السَّكِينَةُ. (1)
وَفِي الذِّكْرِ حَيَاةُ قَلْبِ الذَّاكِرِ وَلِينُهُ، وَزَوَال قَسْوَتِهِ، وَفِيهِ شِفَاءُ الْقَلْبِ مِنْ أَدْوَاءِ الْغَفْلَةِ وَحُبِّ الْمَعَاصِي، وَيُعِينُ الإِْنْسَانَ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَيُيَسِّرُ أَمْرَهَا، فَإِنَّهُ يُحَبِّبُهَا إِلَى الإِْنْسَانِ وَيُلِذُّهَا لَهُ، فَلاَ يَجِدُ لَهَا مِنَ الْكُلْفَةِ وَالْمَشَقَّةِ مَا يَجِدُهُ الْغَافِل.
وَفِي الصَّحِيحِ مَرْفُوعًا مَثَل الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَل الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ (2) .
وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ التَّارِكَ لِلذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ فِي حَيَاةٍ ذَاتِيَّةٍ فَلَيْسَ لِحَيَاتِهِ اعْتِبَارٌ، بَل هُوَ شَبِيهٌ بِالأَْمْوَاتِ حِسًّا الَّذِينَ أَجْسَادُهُمْ عُرْضَةٌ لِلْهَوَامِّ، وَبَوَاطِنُهُمْ مُتَعَطِّلَةٌ عَنِ الإِْدْرَاكِ وَالْفَهْمِ. (3)
السَّابِعُ: أَنَّ الذِّكْرَ أَيْسَرُ الْعِبَادَاتِ مَعَ كَوْنِهِ أَجَلَّهَا وَأَفْضَلَهَا وَأَكْرَمَهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ حَرَكَةَ اللِّسَانِ أَخَفُّ حَرَكَاتِ الْجَوَارِحِ، فِيهِ يَحْصُل الْفَضْل لِلذَّاكِرِ وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى فِرَاشِهِ وَفِي سُوقِهِ، وَفِي حَال صِحَّتِهِ وَسَقَمِهِ، وَفِي حَال نَعِيمِهِ وَلَذَّتِهِ وَمَعَاشِهِ وَقِيَامِهِ وَقُعُودِهِ وَاضْطِجَاعِهِ وَسَفَرِهِ، وَإِقَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ
__________
(1) نزل الأبرار ص 22.
(2) حديث: " مثل الذي يذكر ربه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 208 - ط السلفية) من حديث أبي موسى.
(3) تحفة الذاكرين ص 11 والفتوحات الربانية 1 / 219.

(21/225)


مِنَ الأَْعْمَال الصَّالِحَةِ يَعُمُّ الأَْوْقَاتَ وَالأَْحْوَال مِثْلَهُ. (1)
هَذَا وَيَأْتِي قَرِيبًا بَعْضُ مَا وَرَدَ فِي التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ مِنَ الْفَضْل نَوْعًا نَوْعًا.

مَا يَكُونُ بِهِ الذِّكْرُ:
4 - الذِّكْرُ يَكُونُ بِاللِّسَانِ وَبِالْقَلْبِ. وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ بِاللِّسَانِ أَنْ يَتَحَرَّكَ بِهِ اللِّسَانُ وَيُسْمِعَ نَفْسَهُ عَلَى الأَْقَل إِنْ كَانَ ذَا سَمْعٍ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لَغَطٌ يَمْنَعُ السَّمَاعَ.
وَذِكْرُ اللِّسَانِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَيَّنِ يَتَأَدَّى بِهِ الذِّكْرُ الْمُكَلَّفُ بِهِ فِي الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا، وَلاَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ مُجَرَّدُ إِمْرَارِ الذِّكْرِ الْمَطْلُوبِ عَلَى الْقَلْبِ.
قَال الْفُقَهَاءُ: وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ أَقْوَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ قَال كَذَا فَلَهُ مِنَ الأَْجْرِ كَذَا. فَلاَ يَحْصُل ذَلِكَ إِلاَّ بِمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْقَوْل.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ وَبِالْقَلْبِ جَمِيعًا أَفْضَل مِنَ الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ وَحْدَهُ دُونَ مُوَاطَأَةِ الْقَلْبِ أَيْ مَعَ عَدَمِ إِجْرَائِهِ عَلَى الْقَلْبِ تَسْبِيحًا كَانَ أَوْ تَهْلِيلاً أَوْ غَيْرَهُمَا، وَأَفْضَل مِنْ إِمْرَارِ الذِّكْرِ عَلَى الْقَلْبِ دُونَ نُطْقٍ بِاللِّسَانِ. أَمَّا فِي حَال انْفِرَادِ أَحَدِ الذِّكْرَيْنِ عَنِ الآْخَرِ فَقَدِ اخْتُلِفَ أَيُّهُمَا أَفْضَل.
__________
(1) نزل الأبرار ص 24 - 25.

(21/226)


فَقِيل: ذِكْرُ الْقَلْبِ أَفْضَل، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ النَّوَوِيُّ فِي أَذْكَارِهِ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ، وَقِيل: لاَ ثَوَابَ فِي الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ وَحْدَهُ نَقَلَهُ الْهَيْتَمِيُّ عَنْ عِيَاضٍ وَالْبُلْقِينِيِّ، وَقِيل: ذِكْرُ اللِّسَانِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنِ الْمَعْنَى يَحْصُل بِهِ الثَّوَابُ وَهُوَ أَفْضَل مِنَ الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ وَحْدَهُ؛ لأَِنَّ فِي ذِكْرِ اللِّسَانِ امْتِثَالاً لأَِمْرِ الشَّرْعِ مِنْ حَيْثُ الذِّكْرُ؛ لأَِنَّ مَا تَعَبَّدَنَا بِهِ لاَ يَحْصُل إِلاَّ بِالتَّلَفُّظِ بِهِ بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ، بِخِلاَفِ الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ وَحْدَهُ فَلاَ يَحْصُل بِهِ الاِمْتِثَال.
وَهَذَا كُلُّهُ فِي الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ بِالْمَعْنَى الْمُبَيَّنِ، أَمَّا الذِّكْرُ الْقَلْبِيُّ بِمَعْنَى تَذَكُّرِ عَظَمَةِ اللَّهِ عِنْدَ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَإِرَادَةِ الْفِعْل الَّذِي فِيهِ رِضَاهُ فَيَفْعَلُهُ، أَوِ الَّذِي فِيهِ سُخْطُهُ فَيَتْرُكُهُ، وَالتَّفَكُّرُ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ وَجَبَرُوتِهِ وَآيَاتِهِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَاوَاتِهِ وَمَصْنُوعَاتِهِ فَقَال عِيَاضٌ: هَذَا النَّوْعُ لاَ يُقَارِبُهُ ذِكْرُ اللِّسَانِ، فَكَيْفَ يَفْضُلُهُ. (1) وَفِي الْحَدِيثِ خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ (2) .
__________
(1) الفتوحات الربانية 1 / 106 - 108، ونزل الأبرار ص 11، ومدارج السالكين 2 / 431، ومختصر الفتاوى المصرية ص 44 مطبعة أنصار السنة المحمدية.
(2) حديث: " خير الذكر الخفي ". أخرجه أحمد (1 / 172 - ط الميمنية) من حديث سعد بن أبي وقاص، وفي إسناده انقطاع بين سعد الراوي عنه وهو محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة كما في ترجمته من التهذيب لابن حجر (9 / 301 - ط دائرة المعارف العثمانية) .

(21/226)


صِيَغُ الذِّكْرِ:
5 - الأَْذْكَارُ الْقَوْلِيَّةُ قِسْمَانِ: أَذْكَارٌ مَأْثُورَةٌ، وَهِيَ مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْلِيمُهَا وَالأَْمْرُ بِهَا، أَوْ وَرَدَ عَنْهُ قَوْلُهَا فِي مُنَاسَبَةٍ خَاصَّةٍ أَوْ فِي غَيْرِ مُنَاسَبَةٍ، وَمِنْ قَبِيل الذِّكْرِ الْمَأْثُورِ الأَْذْكَارُ الْقُرْآنِيَّةُ كَذِكْرِ رُكُوبِ الدَّابَّةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} (1) .

الْقِسْمُ الأَْوَّل: الأَْذْكَارُ الْمَأْثُورَةُ:
6 - الأَْذْكَارُ الْوَارِدَةُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ أَفْرَدَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالتَّأْلِيفِ مِنْهُمُ النَّوَوِيُّ وَابْنُ الْجَزَرِيِّ وَغَيْرُهُمَا. وَالْقُرْآنُ وَإِنْ كَانَ كُلُّهُ ذِكْرًا بِالْمَعْنَى الأَْعَمِّ لِلذِّكْرِ إِلاَّ أَنَّ فِيهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ - وَهُوَ الذِّكْرُ بِالْمَعْنَى الأَْخَصِّ - الشَّيْءُ الْكَثِيرُ الطَّيِّبُ. وَقَدْ جَمَعَ النَّوَوِيُّ فِي أَذْكَارِهِ جُمَلاً مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَا الشَّيْخُ صِدِّيق حَسَن خَان فِي بَابِ الدَّعَوَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ مِنْ كِتَابِهِ (2) .
فَمِنْ ذَلِكَ أَمْرُهُ تَعَالَى لَنَا بِالاِسْتِعَاذَةِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (3) .
__________
(1) سورة الزخرف / 13، 14.
(2) نزل الأبرار ص 146 - 158، والقليوبي 1 / 65
(3) سورة النحل / 98.

(21/227)


وَأَمَّا الْمَأْثُورَاتُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَثِيرَةٌ وَسَيَأْتِي فِي أَثْنَاءِ الْبَحْثِ جُمْلَةٌ مِنْهَا.
ثُمَّ الْمَأْثُورَاتُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا مَا وَرَدَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ مُطْلَقًا أَوْ لِسَبَبٍ، وَمِنْهَا مَا وَرَدَ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ مُطْلَقًا أَوْ لِسَبَبٍ، فَيُتَّبَعُ بِحَسَبِ ذَلِكَ.
وَفِيمَا يَلِي مِنَ الأَْذْكَارِ الْمَأْثُورَاتِ أَنْوَاعٌ خُصَّتْ بِمَزِيدِ تَوْكِيدٍ:

التَّهْلِيل
7 - وَهُوَ قَوْل (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) (1) وَمَعْنَاهَا نَفْيُ الأُْلُوهِيَّةِ عَنْ كُل شَيْءٍ وَكُل أَحَدٍ، وَإِثْبَاتُ اسْتِحْقَاقِهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، فَلاَ رَبَّ غَيْرُهُ وَلاَ يُعْبَدُ سِوَاهُ.
وَتُسَمَّى هَذِهِ الْكَلِمَةُ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّهَا تَدُل عَلَى نَفْيِ الشَّرِيكِ عَلَى الإِْطْلاَقِ. وَتُسَمَّى أَيْضًا كَلِمَةَ الإِْخْلاَصِ (2) .
وَكَلِمَةُ التَّوْحِيدِ خُلاَصَةُ دَعْوَةِ الرُّسُل، كَمَا قَال تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (3) وَلاَ يَصِحُّ الإِْيمَانُ لِلْقَادِرِ إِلاَّ بِالنُّطْقِ بِهَا مَعَ التَّصْدِيقِ بِمَعْنَاهَا بِالْجَنَانِ، وَقِيل: يَحْصُل بِالتَّصْدِيقِ بِهَا وَهُوَ عَاصٍ بِتَرْكِ اللَّفْظِ،
__________
(1) فتح الباري 11 / 201.
(2) الفتوحات الربانية 1 / 213 - 217، وفتح الباري 11 / 203.
(3) سورة الأنبياء / 25.

(21/227)


وَالْجُمْهُورُ عَلَى الأَْوَّل (1) .
وَمَنْ شَهِدَ بِهَا وَبِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل فِي الإِْسْلاَمِ حُكْمًا (ر: إِسْلاَم) ، وَقَدْ جُعِلَتِ الشَّهَادَتَانِ جُزْءًا مِنَ الأَْذَانِ، وَهُمَا ذِكْرٌ مِنْ أَذْكَارِ الصَّلاَةِ وَاجِبٌ، وَقِيل: سُنَّةٌ (ر: أَذَان، وَتَشَهُّد) .
وَفَضْل التَّهْلِيل عَظِيمٌ، وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَال لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ (2) وَقَوْلُهُ: أَفْضَل الذِّكْرِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ (3) .
وَالتَّهْلِيل مُسْتَحَبٌّ فِي كُل وَقْتٍ وَحَالٍ، وَوَرَدَ فِي السُّنَّةِ الأَْمْرُ بِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا:
عِنْدَ دُخُول السُّوقِ؛ لِحَدِيثِ: مَنْ دَخَل السُّوقَ فَقَال: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفَ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفَ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفَ دَرَجَةٍ (4) .
__________
(1) الفتوحات الربانية 1 / 184، 213.
(2) حديث: " إن الله قد حرم على النار. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 519 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 456 - ط الحلبي) من حديث عتبان بن مالك.
(3) حديث: " أفضل الذكر لا إله إلا الله " أخرجه الترمذي (5 / 462 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله، وقال: " حديث حسن ".
(4) حديث: " من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده. . . " أخرجه الترمذي (5 / 491 - ط الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب، وقال الترمذي: " هذا حديث غريب ".

(21/228)


وَمِنْهَا إِذَا أَصْبَحَ الإِْنْسَانُ وَإِذَا أَمْسَى، بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ وَصَلاَةِ الْمَغْرِبِ وَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ، وَمِنْهَا إِذَا سَبَقَ لِسَانُهُ بِالْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ، كَمَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَلَفَ فَقَال فِي حَلِفِهِ وَاللاَّتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُل لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ (1) .

التَّسْبِيحُ:
8 - وَهُوَ قَوْل " سُبْحَانَ اللَّهِ ". وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْقَائِل يُنَزِّهُ اللَّهَ تَعَالَى تَنْزِيهًا عَنْ كُل نَقْصٍ، وَمِنْهُ نَفْيُ الشَّرِيكِ وَالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَجَمِيعِ النَّقْصِ (2) . وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ مُرْسَلاً أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال - فِي قَوْل الْعَبْدِ سُبْحَانَ اللَّهِ -: تَنْزِيهُ اللَّهِ مِنَ السُّوءِ (3) .
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّسْبِيحِ مُطْلَقًا كَمَا فِي: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (4) وَقَوْلِهِ:
__________
(1) حديث: " من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى فليقل. . . " أخرجه البخاري (الفتح 8 / 611 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1267 - 1268 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) الفتوحات الربانية 1 / 178، وفتح الباري 11 / 206، وفتاوى ابن تيمية 10 / 248.
(3) حديث موسى بن طلحة: " تنزيه الله من السوء " أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (1 / 76 - ط دار الكتاب العربي) ، وهو مرسل لأن موسى تابعي، ووصله البزار من حديث طلحة بن عبيد الله كما في " مجمع الزوائد " (10 / 94 - 95 - ط القدسي) وقال الهيثمي: " فيه عبد الرحمن بن حماد الطلحي، وهو ضعيف ".
(4) سورة الواقعة / 74.

(21/228)


{وَتَوَكَّل عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} (1) .
وَالأَْكْثَرُ قَرْنُ التَّسْبِيحِ بِاسْمٍ دَالٍّ عَلَى التَّعْظِيمِ، أَوْ بِالْحَمْدِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ التَّسْبِيحَ تَنْزِيهٌ وَتَخْلِيَةٌ فَهُوَ مِنْ بَابِ السَّلْبِ، وَالْحَمْدُ ثَنَاءٌ بِصِفَاتِ الْكَمَال فَهُوَ مِنْ بَابِ الإِْيجَابِ (2) ، وَلِذَا قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (3) وَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَْعْلَى} (4) وَقَال {وَتَوَكَّل عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} (5) وَقَال {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (6) .
وَفَضْل التَّسْبِيحِ عَظِيمٌ كَمَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ (7) .
وَوَرَدَ الأَْمْرُ بِالتَّسْبِيحِ فِي الْقُرْآنِ {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} (8) ، وَ {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (9) {
__________
(1) سورة الفرقان / 58.
(2) الفتوحات الربانية 1 / 179، وفتاوى ابن تيمية 10 / 250، 251.
(3) سورة الواقعة / 74.
(4) سورة الأعلى / 1.
(5) سورة الفرقان / 58.
(6) سورة الإسراء / 44.
(7) حديث: " كلمتان خفيفتان على اللسان. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 566 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 2072 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(8) سورة الروم / 17.
(9) سورة الأحزاب / 42.

(21/229)


وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْل فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} (1) .
وَفِي السُّنَّةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا دُعَاءُ الاِسْتِفْتَاحِ " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ. . . " إِلَخْ (2) .
وَالأَْمْرُ بِالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ " وَفِي السُّجُودِ " بِسُبْحَانَ رَبِّيَ الأَْعْلَى (3) " وَوَرَدَ الأَْمْرُ بِفِعْلِهِ بَعْدَ الصَّلاَةِ.
وَجُعِل التَّسْبِيحُ لِمَنْ فِي الصَّلاَةِ إِذَا نَابَهُ أَمْرٌ تَنْبِيهًا لِغَيْرِهِ، وَأَمَرَ بِهِ وَعِنْدَ سَمَاعِ الرَّعْدِ.
وَكَذَا إِنْ حَكَى نِسْبَةَ مَا فِيهِ نَقْصٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، كَمَا قَال تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} (4) أَوْ سَمِعَ ذَلِكَ، أَوْ سَمِعَ مَا يَتَعَجَّبُ مِنْهُ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ جُنُبًا وَرَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْخَنَسَ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1) سورة الطور / 48، 49.
(2) دعاء الاستفتاح: " سبحانك اللهم وبحمدك ". أخرجه أبو داود (1 / 491 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 235 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عائشة. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) الأمر بالتسبيح في الركوع بـ (سبحان ربي العظيم) . . أخرجه أبو داود (1 / 542 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 225 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عقبة بن عامر، قال الذهبي عن أحد رواته: قلت: إياس ليس بالمعروف. قال أخرى: " ليس بالقوي " كما في التهذيب لابن حجر (1 / 389 - ط دائرة المعارف العثمانية) .
(4) سورة البقرة / 116.

(21/229)


سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لاَ يَنْجُسُ (1) .
وَفِي أَكْثَرِ هَذِهِ الْمَسَائِل تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَسْبِيح) .

التَّحْمِيدُ:
9 - وَيُسَمَّى أَيْضًا الْحَمْدَلَةَ، وَهُوَ قَوْل: الْحَمْدُ لِلَّهِ نُطْقًا. وَمَعْنَى كَوْنِ الْحَمْدِ لِلَّهِ: أَنَّ كُل حَمْدٍ أَوْ حَقِيقَةَ الْحَمْدِ أَوِ الْحَمْدَ الْمَعْهُودَ أَيِ الَّذِي حَمِدَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَحَمِدَهُ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ، مَمْلُوكٌ أَوْ مُسْتَحَقٌّ لَهُ، فَحَمْدُ غَيْرِهِ لاَ اعْتِدَادَ بِهِ؛ لأَِنَّ كُل النِّعَمِ مِنْهُ تَعَالَى، وَفِي الْحَدِيثِ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ (2) . وَهَذَا يُرَجِّحُ أَنَّ الْمَعْنَى الاِسْتِغْرَاقُ وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُورِ (3) .
وَحَقِيقَةُ الْحَمْدِ: الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيل الاِخْتِيَارِيِّ عَلَى قَصْدِ التَّبْجِيل، وَبِهَذَا فَارَقَ الْمَدْحَ، فَإِنَّ الْمَدْحَ الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيل الاِخْتِيَارِيِّ وَغَيْرِهِ (4) . وَقِيل الْحَمْدُ الْوَصْفُ
__________
(1) حديث: " سبحان الله، إن المؤمن لا ينجس " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 390 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " اللهم لك الحمد كله ". أخرجه البيهقي كما في الترغيب للمنذري (2 / 441 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري، وصدره المنذري بصيغة التضعيف.
(3) الفتوحات الربانية 1 / 184، ونزل الأبرار ص 158.
(4) نزل الأبرار ص 158، والقليوبي على شرح المنهاج 1 / 4، والفتوحات الربانية 3 / 185.

(21/230)


بِالْجَمِيل اخْتِيَارِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ بِقَصْدِ الثَّنَاءِ (1) ، وَهَذَا أَصَحُّ. وَقِيل الْحَمْدُ فِي الْعُرْفِ يَكُونُ بِالْقَوْل وَبِالْفِعْل أَيْضًا (2) .
وَمَعْنَى الشُّكْرِ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْحَمْدِ إِلاَّ أَنَّهُ كَمَا قَال الزَّمَخْشَرِيُّ أَعَمُّ مَوْرِدًا، أَيْ لأَِنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ، وَالْحَمْدُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ، وَالْحَمْدُ أَعَمُّ مُتَعَلَّقًا؛ لأَِنَّ الشُّكْرَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي مُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ، وَالْحَمْدُ يَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ وَيَكُونُ لِمُجَرَّدِ اتِّصَافِ الْمَحْمُودِ بِالْجَمِيل.
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَالتَّمْجِيدُ أَخَصُّ مِنَ التَّحْمِيدِ، فَإِنَّ التَّمْجِيدَ: الْمَدْحُ بِصِفَاتِ الْجَلاَل وَالْمُلْكِ وَالسُّؤْدُدِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ (3) .
وَالذِّكْرُ بِحَمْدِ اللَّهِ وَتَمْجِيدِهِ وَشُكْرِهِ مَأْمُورٌ بِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَفَضْلُهُ كَبِيرٌ، قَال اللَّهُ تَعَالَى {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (4) وَقَال {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأََزِيدَنَّكُمْ} (5) وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلأَْسْوَدِ بْنِ سُرَيْعٍ: إِنَّ رَبَّكَ يُحِبُّ الْحَمْدَ (6) وَقَال:
__________
(1) القليوبي على شرح المنهاج 1 / 4.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 10.
(3) نزل الأبرار ص 158، 159، ولسان العرب، ومختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية ص 94.
(4) سورة البقرة / 152.
(5) سورة إبراهيم / 7.
(6) حديث: " إن ربك يحب الحمد ". أخرجه أحمد (3 / 435 - ط الميمنية) وذكره الهيثمي في المجمع (9 / 66 - ط القدسي) وقال: " رواه أحمد والطبراني بنحوه ورجالهما ثقات، وفي بعضهم خلاف ".

(21/230)


الْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأَُ الْمِيزَانَ (1) .
وَتُسَنُّ الْحَمْدَلَةُ فِي ابْتِدَاءِ كُل عَمَلٍ ذِي بَالٍ، فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَخُطْبَةِ النِّكَاحِ، وَالْخُطْبَةِ عِنْدَ عَقْدِهِ، وَفِي التَّدْرِيسِ، وَالتَّصْنِيفِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَبَعْدَ الأَْكْل أَوِ الشُّرْبِ وَعِنْدَ الْعُطَاسِ، وَعِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْخَلاَءِ، وَفِي افْتِتَاحِ الدُّعَاءِ وَاخْتِتَامِهِ وَعِنْدَ حُصُول النِّعَمِ أَوِ انْدِفَاعِ الْمَكْرُوهِ وَيُسَنُّ لِمَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ أَنْ يَقُول: (الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُل حَالٍ) . (2) وَاسْتِيفَاؤُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَحْمِيد) .

التَّكْبِيرُ:
10 - وَهُوَ لُغَةً التَّعْظِيمُ، وَشَرْعًا قَوْل: (اللَّهُ أَكْبَرُ) .
وَوَرَدَ الأَْمْرُ بِهِ مُطْلَقًا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (3) وَقَوْلِهِ: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} (4) وَقَوْلِهِ {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (5) ، وَفِي السُّنَّةِ
__________
(1) حديث: " الحمد لله تملأ الميزان ". أخرجه مسلم (1 / 203 - ط الحلبي) من حديث أبي مالك الأشعري.
(2) الفتوحات الربانية 3 / 285 - 295، ونزل الأبرار ص 158.
(3) سورة المدثر / 3.
(4) سورة الإسراء / 111.
(5) سورة البقرة / 185.

(21/231)


قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ (1) .
وَوَرَدَ الأَْمْرُ بِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا فِي الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ وَمِنْهَا تَكْبِيرَةُ الإِْحْرَامِ بِالصَّلاَةِ وَتَكْبِيرَاتُ الاِنْتِقَال فِيهَا، وَالتَّكْبِيرُ فِي الْعِيدَيْنِ فِي الْخُطْبَةِ وَالصَّلاَةِ، وَالتَّكْبِيرُ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُكَبَّرُ فِي صَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ.
وَيُسَنُّ التَّكْبِيرُ عَقِبَ الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَعِنْدَ تَمَامِ الصَّوْمِ حَتَّى يُصَلِّيَ الْعِيدَ، وَفِي يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَيُكَبِّرُ الْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ طَوَافِهِ، وَعِنْدَ ابْتِدَاءِ سَعْيِهِ، وَفِي أَثْنَاءِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. وَيُكَبِّرُ الذَّابِحُ وَالصَّائِدُ مَعَ التَّسْمِيَةِ، وَسُنَّ التَّكْبِيرُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلاَل وَيُسَنُّ لِلْمُسَافِرِ إِذَا عَلاَ شَرَفًا أَوْ رَكِبَ دَابَّةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَكْبِير) .
وَوَرَدَ فِي فَضْلِهِ أَحَادِيثُ مِنْهَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحَبُّ الْكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ أَرْبَعٌ فَذَكَرَ مِنْهُنَّ التَّكْبِيرَ (3) .
__________
(1) حديث: " كل تكبرة صدقة " أخرجه مسلم (1 / 499 - ط الحلبي) من حديث أبي ذر.
(2) فتاوى ابن تيمية 10 / 196.
(3) حديث: " أحب الكلام إلى الله أربع ". أخرجه مسلم (3 / 1685 - ط الحلبي) من حديث سمرة بن جندب.

(21/231)


الْحَوْقَلَةُ:
11 - هِيَ قَوْل: " لاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ ". وَمَعْنَاهَا عَلَى مَا قَال ابْنُ حَجَرٍ: لاَ تَحْوِيل لِلْعَبْدِ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلاَّ بِعِصْمَةِ اللَّهِ، وَلاَ قُوَّةَ لَهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلاَّ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، وَفِي الْفُتُوحَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ أَنَّ تَفْسِيرَهَا بِذَلِكَ رَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا (1) وَفِي لَفْظِهِ: بِعَوْنِ اللَّهِ. وَقَال النَّوَوِيُّ: هِيَ اسْتِسْلاَمٌ وَتَفْوِيضٌ، وَأَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَمْلِكُ مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا، وَلَيْسَ لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِ شَرٍّ وَلاَ قُوَّةٌ فِي جَلْبِ نَفْعٍ، إِلاَّ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ.
وَوَرَدَ فِي فَضْلِهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لأَِبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، أَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً هِيَ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ: لاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ (2) .
وَوَرَدَ الأَْمْرُ بِقَوْلِهَا مُطْلَقًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَوَرَدَ الأَْمْرُ بِقَوْلِهَا فِي إِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ عِنْدَ قَوْلِهِ: حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، وَحَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ (3) .
__________
(1) حديث: " تفسير لا حول ولا قوة إلا بالله ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10 / 99 - ط القدسي) وقال: " رواه البزار بإسنادين أحدهما منقطع وفيه عبد الله بن خراش والغالب عليه الضعف، والآخر متصل حسن ".
(2) حديث: " يا عبد الله بن قيس ألا أعلمك كلمة. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 11 / 500 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 2076 - ط الحلبي) .
(3) فتح الباري 11 / 500، 501 ك. القدر ب 7، وكشاف القناع 1 / 246، والفتوحات الربانية 1 / 241 - 243

(21/232)


وَوَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الأَْمْرُ بِهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} (1) . وَاسْتِيفَاءُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَوْقَلَة) .

الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ:
12 - هَذِهِ الأَْنْوَاعُ الْخَمْسَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنَ الأَْذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ وَرَدَ تَسْمِيَتُهَا " الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ " وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَكْثِرُوا مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ. قِيل: وَمَا هِيَ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: التَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيل وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَلاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ (2) وَفِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا قُل سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَهُنَّ يَحْطُطْنَ الْخَطَايَا كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا، وَهُنَّ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ. وَفِي لَفْظٍ خُذْهُنَّ قَبْل أَنْ يُحَال بَيْنَكَ وَبَيْنَهُنَّ (3) .
وَوَرَدَ فِي فَضْل الأَْرْبَعِ الأُْوَل مِنْهُنَّ أَحَادِيثُ
__________
(1) سورة الكهف / 39.
(2) حديث: " استكثروا من الباقيات الصالحات ". أخرجه أحمد (3 / 75 - ط الميمنية) ، وفي إسناده راو ضعفه الذهبي في الميزان (2 / 24 - 25 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " قل سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله ". أورده الهيثمي في " مجمع الزوائد " (10 / 90 - ط القدسي) وقال: رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما عمر بن راشد اليمامي، وقد وثق على ضعفه، وبقية رجاله رجال الصحيح ".

(21/232)


جَامِعَةٌ، مِنْهَا أَنَّهُنَّ " أَحَبُّ الْكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ " (1)
وَمِنْهَا حَدِيثُ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا " هُنَّ أَفْضَل الْكَلاَمِ بَعْدَ الْقُرْآنِ، وَهُنَّ مِنَ الْقُرْآنِ، لاَ يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ " (2) وَأَنَّهُنَّ " أَحَبُّ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ " (3) . " وَأَنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنَ الْكَلاَمِ أَرْبَعًا " (4) فَذَكَرَهُنَّ (5) .
وَوَرَدَ الأَْمْرُ بِقَوْلِهِنَّ بَعْدَ السَّلاَمِ مِنَ الصَّلاَةِ، وَيَأْتِي صِيغَةُ ذَلِكَ.

الاِسْتِرْجَاعُ:
13 - هُوَ قَوْل " إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ".
وَمَعْنَى " إِنَّا لِلَّهِ " إِقْرَارُ قَائِلِهَا أَنَّنَا نَحْنُ وَأَهْلُنَا وَأَمْوَالُنَا عَبِيدٌ لِلَّهِ يَصْنَعُ فِينَا مَا يَشَاءُ. وَمَعْنَى " وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ " إِقْرَارُ قَائِلِهَا عَلَى نَفْسِهِ بِالْهَلاَكِ ثُمَّ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ إِلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحُكْمِ كَمَا كَانَ أَوَّل مَرَّةٍ.
__________
(1) حديث: " أحب الكلام إلى الله. . . " أخرجه مسلم (3 / 1685 - ط الحلبي) .
(2) حديث سمرة: " هي أفضل الكلام بعد القرآن ". أخرجه أحمد (5 / 20 - ط الميمنية) ، وإسناده صحيح.
(3) حديث: " أنهن أحب إليه صلى الله عليه وسلم مما طلعت عليه الشمس ". أخرجه مسلم (4 / 2072 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(4) حديث: " إن الله اصطفى من الكلام أربعًا ". أخرجه أحمد (2 / 302 - ط الميمنية) من حديث أبي هريرة وأبي سعيد معًا، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10 / 87 - ط القدسي) وقال: " رواه أحمد والبزار ورجالهما رجال الصحيح ".
(5) تحفة الذاكرين ص 243 - 248.

(21/233)


وَوَرَدَ الأَْمْرُ بِقَوْلِهَا عِنْدَ الْمُصِيبَةِ مُطْلَقًا، صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً فَإِنَّهَا تُسَهِّل عَلَى الإِْنْسَانِ فَقْدَ مَا فَقَدَ، قَال تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (1) وَوَرَدَ فِي السُّنَّةِ الأَْمْرُ بِهَا لِمَنْ مَاتَ لَهُ مَيِّتٌ، أَوْ بَلَغَهُ وَفَاةُ صَدِيقِهِ (2) ، وَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَيَانُ بَعْضِ ذَلِكَ.

التَّسْمِيَةُ:
14 - وَهِيَ قَوْل (بِسْمِ اللَّهِ) أَوْ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) .
يُقَال: سَمَّيْتُ اللَّهَ تَعَالَى أَيْ قُلْتَ بِسْمِ اللَّهِ، وَيُقَال أَيْضًا: بَسْمَلْتُ، وَالْمَصْدَرُ الْبَسْمَلَةُ.
وَمَعْنَاهَا: أَبْتَدِئُ هَذَا الْفِعْل أَوْ هَذَا الْقَوْل مُسْتَعِينًا بِاللَّهِ عَلَى إِتْمَامِهِ، أَوْ مُتَبَرِّكًا بِذِكْرِ اسْمِهِ تَعَالَى. وَقَدِ افْتَتَحَ اللَّهُ بِهَا فَاتِحَةَ كِتَابِهِ وَجَمِيعَ سُوَرِهِ مَا عَدَا سُورَةَ (بَرَاءَةٌ) . وَوَرَدَ الأَْمْرُ بِقَوْلِهَا فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ وَعِنْدَ الْغُسْل وَدُخُول الْمَسْجِدِ أَوِ الْخُرُوجِ مِنْهُ وَعَلَى الذَّبْحِ وَإِرْسَال النَّصْل أَوِ الْجَارِحَةِ عَلَى الصَّيْدِ وَعَلَى الأَْكْل أَوِ الشُّرْبِ أَوِ الْجِمَاعِ، وَكَذَا عِنْدَ دُخُول الْخَلاَءِ (3) . وَيُنْظَرُ
__________
(1) سورة البقرة / 155، 156.
(2) الأذكار النووية والفتوحات الربانية 4 / 29، 120 - 124 و 3 / 296.
(3) تفسير ابن كثير 1 / 18 القاهرة، عيسى الحلبي، وتفسير الرازي 1 / 102، 103.

(21/233)


تَفْصِيل الْقَوْل فِي كُل شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ وَ (ر: تَسْمِيَة) .

قَوْل مَا شَاءَ اللَّهُ:
15 - وَرَدَ ذِكْرُهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} (1) قَال الْقُرْطُبِيُّ: أَيْ هَذِهِ الْجَنَّةُ هِيَ مَا شَاءَ اللَّهُ. وَقَال الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ: تَقْدِيرُهُ: الأَْمْرُ مَا شَاءَ اللَّهُ.

وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَأَى شَيْئًا فَأَعْجَبَهُ فَقَال: مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ لَمْ يَضُرَّهُ الْعَيْنُ (2) وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِذَا خَرَجَ الرَّجُل مِنْ مَنْزِلِهِ فَقَال: بِسْمِ اللَّهِ قَال الْمَلَكُ: هُدِيتَ، وَإِذَا قَال: مَا شَاءَ اللَّهُ قَال: كُفِيتَ، وَإِذَا قَال: لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ قَال الْمَلِكُ: وُقِيتَ.

قَال أَشْهَبُ: قَال مَالِكٌ: يَنْبَغِي لِكُل مَنْ دَخَل مَنْزِلَهُ أَنْ يَقُول هَذَا. يَعْنِي مَا وَرَدَ فِي الآْيَةِ (3) .
__________
(1) سورة الكهف / 39.
(2) حديث: " من رأى شيئًا فأعجبه فقال: ما شاء الله " أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 106 - ط دار البيان) ، وفي إسناده أبو بكر الهذلي، وهو ضعيف كما في " ميزان الاعتدال " للذهبي (4 / 497 - ط الحلبي) .
(3) تفسير القرطبي 10 / 406، 407.

(21/234)


الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
16 - وَهِيَ قَوْل " صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ " أَوْ نَحْوِهَا مِمَّا يُفِيدُ سُؤَال اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رَسُولِهِ وَيُسَلِّمَ عَلَيْهِ.
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ (2) . وَمِنَ الصِّيَغِ الْوَارِدَةِ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الأَْنْصَارِيِّ أَنَّ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ قَال لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ يَا رَسُول اللَّهِ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَال: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آل إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آل إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (3) .
وَالصَّلاَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ، وَقِيل: رَحْمَتُهُ لَهُ، وَصَلاَةُ الْمَلاَئِكَةِ وَالْعِبَادِ عَلَيْهِ دُعَاءٌ بِالرَّحْمَةِ مَقْرُونٌ بِالتَّعْظِيمِ (4) .
__________
(1) سورة الأحزاب / 56.
(2) حديث: " لا تجعلوا قبري عبدًا. . . " أخرجه أبو داود (2 / 534 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة، وصححه النووي في الأذكار (ص 206 - ط دار ابن كثير) .
(3) حديث أبي مسعود الأنصاري في سؤال بشير بن سعد، أخرجه مسلم (1 / 305 - ط الحلبي) .
(4) الفتوحات الربانية 2 / 340، وتحفة الذاكرين ص 24.

(21/234)


وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) .

التَّلْبِيَةُ:
17 - وَهِيَ قَوْل " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ " وَهِيَ مِنْ أَذْكَارِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَمَعْنَاهَا: أُقِيمُ عَلَى إِجَابَتِكَ يَا رَبِّ إِقَامَةً بَعْدَ إِقَامَةٍ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل أَحْكَامِهَا فِي مَبَاحِثِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ

الْحَسْبَلَةُ:
18 - وَهِيَ قَوْل " حَسْبِيَ اللَّهُ " وَمَعْنَاهُ الاِكْتِفَاءُ بِدِفَاعِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ عَنْ دِفَاعِ غَيْرِهِ وَعَوْنِهِ.
وَيُسَنُّ قَوْلُهَا لِمَنْ غَلَبَهُ أَمْرٌ (1) ، لِمَا فِي حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقَال الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَّا أَدْبَرَ: حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل. فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُل حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل (2) .

أَذْكَارٌ مَأْثُورَةٌ أُخْرَى:
19 - وَهُنَاكَ أَذْكَارٌ أُخْرَى مَأْثُورَةٌ مُرْتَبِطَةٌ بِأَسْبَابٍ أَوْ مُطْلَقَةٌ يَأْتِي بَيَانُ بَعْضِهَا فِي الْبَحْثِ.
__________
(1) أذكار النووي، والفتوحات الربانية 4 / 25.
(2) حديث: " إن الله يلوم على العجز ". أخرجه أبو داود (4 / 44 - 45 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وفي إسناده من فيه جهالة.

(21/235)


وَقَدْ جَمَعَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَابْنِ السُّنِّيِّ فِي " عَمَل الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ " وَالنَّوَوِيِّ فِي " الأَْذْكَارِ " وَابْنِ الْقَيِّمِ فِي " الْوَابِل الصَّيِّبِ مِنَ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ " وَصِدِّيق حَسَن خَان فِي " نُزُل الأَْبْرَارِ ". وَيَعْرِضُ لَهَا الْفُقَهَاءُ فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ مَبَاحِثِ الْفِقْهِ.

أَفْضَل الأَْذْكَارِ:
20 - قَال النَّوَوِيُّ: الْقُرْآنُ أَفْضَل الذِّكْرِ. قَال الْقُرْطُبِيُّ: لأَِنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى جَمِيعِ الذِّكْرِ مِنْ تَذْكِيرٍ وَتَهْلِيلٍ وَتَحْمِيدٍ وَتَسْبِيحٍ وَتَمْجِيدٍ وَعَلَى الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالدُّعَاءِ وَالسُّؤَال وَالأَْمْرِ بِالتَّفَكُّرِ وَالاِعْتِبَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَمَنْ وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ وَتَدَبَّرَهُ فَقَدْ حَصَّل أَفْضَل الْعِبَادَاتِ، وَهُوَ قَبْل ذَلِكَ كَلاَمُ اللَّهِ فَلاَ يُدَانِيهِ شَيْءٌ.
ثُمَّ ذَكَرَ فِي أَفْضَلِيَّتِهِ قَيْدًا فَقَال: أَفْضَل الذِّكْرِ الْقُرْآنُ لِمَنْ عَمِل بِهِ، وَنُقِل ذَلِكَ عَنْ سُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَل مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ وَفَضْل كَلاَمِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلاَمِ كَفَضْل اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ (1) .
وَاسْتَدَل ابْنُ تَيْمِيَّةَ لِكَوْنِ الْقُرْآنِ أَفْضَل مِنْ سَائِرِ الذِّكْرِ بِتَعَيُّنِهِ فِي الصَّلاَةِ، وَبِأَنَّهُ لاَ يَقْرَبُهُ
__________
(1) حديث: " من شغله القرآن عن مسألتي ". تقدم تخريجه في (ف / 1) .

(21/235)


جُنُبٌ، وَلاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الطَّاهِرُ، بِخِلاَفِ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ (1) .
وَلاَ تَخْتَلِفُ الأَْحَادِيثُ فِي أَنَّ أَفْضَل الأَْذْكَارِ بَعْدَ الْقُرْآنِ الْكَلِمَاتُ الأَْرْبَعُ " سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ " (2) . وَرَدَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ، وَفِي حَدِيثٍ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لأََنْ أَقُولَهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ (3) . وَوَرَدَ أَنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنَ الْكَلاَمِ أَرْبَعًا (4) . فَذَكَرَهُنَّ.
وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ بِهِنَّ أَفْضَل مِنْهُ بِغَيْرِهِنَّ مِمَّا فِي الْقُرْآنِ، وَهُنَّ كَذَلِكَ أَفْضَل مِنْ سَائِرِ الأَْذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ، فَعَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: هُنَّ أَفْضَل الْكَلاَمِ بَعْدَ الْقُرْآنِ، وَهُنَّ مِنَ الْقُرْآنِ، لاَ يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ (5) .
أَمَّا الأَْفْضَل مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الأَْرْبَعِ فَهُوَ كَلِمَةُ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ وَالطِّيبِيُّ، وَاسْتَظْهَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، لِمَا فِي الْحَدِيثِ: {
__________
(1) مختصر الفتاوى المصرية ص 97.
(2) حديث: " سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله. . . " تقدم تخريجه في (ف / 12) .
(3) حديث: " لأن أقولهن أحب إليّ مما طلعت. . . " تقدم تخريجه في (ف / 12) .
(4) حديث: " إن الله اصطفى من الكلام أربعًا. . . . " تقدم تخريجه في (ف / 12) .
(5) حديث: " هن أفضل الكلام بعد القرآن، وهن. . . . " تقدم تخريجه في (ف / 12) .

(21/236)


أَفْضَل الدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَأَفْضَل مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ (1) .
وَالْحَدِيثُ الآْخَرُ الْقُدْسِيُّ لَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضَ وَعَامِرَهُنَّ غَيْرِي فِي كِفَّةٍ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فِي كِفَّةٍ مَالَتْ بِهِنَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ (2) وَالْحَدِيثُ الآْخَرُ أَفْضَل الذِّكْرِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ (3) وَفِي حَدِيثٍ هِيَ أَفْضَل الْحَسَنَاتِ (4) وَلأَِنَّهَا مِفْتَاحُ الإِْسْلاَمِ وَبَابُهُ الَّذِي لاَ يَدْخُل إِلَيْهِ إِلاَّ مِنْهُ، وَعَمُودُهُ الَّذِي لاَ يَقُومُ بِغَيْرِهِ، وَهِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ (5) ".
قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَيُعَارِضُ ذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ
__________
(1) حديث: " أفضل الدعاء يوم عرفة. . . " أخرجه مالك في الموطأ (1 / 215 - ط الحلبي) من حديث طلحة بن عبيد الله مرسلاً، ووصله الترمذي (5 / 572 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بإسناد يشهد لإسناد الموطأ.
(2) حديث: " لو أن السماوات والأرض. . . . " أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10 / 82 - ط القدسي) وقال: " رواه أبو يعلى، ورجاله وثقوا على ضعف فيهم ".
(3) حديث: " أفضل الذكر لا إله إلا الله. . . " تقدم تخريجه في (ف / 7) .
(4) حديث: " هي أفضل الحسنات ". أخرجه أحمد (5 / 169 - ط الميمنية) من حديث أبي ذر، وفي إسناده جهالة.
(5) التذكار في أفضل الأذكار للقرطبي ص40، وفتح الباري 11 / 207، وتحفة الذاكرين ص 232، والفتوحات الربانية 1 / 181.

(21/236)


حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ الْمَرْفُوعُ: أَنَّ أَحَبَّ الْكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ (1) وَجُمِعَ بَيْنَ ذَلِكَ بِأَوْجُهٍ مِنْهَا: أَنَّ أَفْضَلِيَّةَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ لِدُخُول مَعَانِي الْكَلِمَاتِ الأَْرْبَعِ تَحْتَهَا إِمَّا بِالتَّصْرِيحِ أَوْ بِالاِسْتِلْزَامِ فَقَدْ صَرَّحَتْ بِالتَّنْزِيهِ وَالتَّحْمِيدِ، وَإِذَا كَانَ مَعْنَاهَا تَنْزِيهَهُ تَعَالَى عَمَّا لاَ يَلِيقُ بِجَلاَلِهِ انْدَرَجَ فِيهِ مَعْنَى لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَإِذَا كَانَ كُل فَضْلٍ وَإِفْضَالٍ مِنْهُ تَعَالَى فَلاَ شَيْءَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَأَمَّا أَفْضَلِيَّةُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَلِذِكْرِ الْوَحْدَانِيَّةِ صَرِيحًا (2) .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الذِّكْرَ أَفْضَل مِنَ الدُّعَاءِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ (3) ؛ لِحَدِيثِ مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَل مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ (4) .

أَفْضَل الأَْذْكَارِ مِنْ حَيْثُ الاِشْتِغَال بِهَا:
21 - مَا تَقَدَّمَ هُوَ الأَْفْضَلِيَّةُ فِي الذِّكْرِ الْمُطْلَقِ: أَفْضَلُهُ الاِشْتِغَال بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَهِيَ أَفْضَل مِنَ الاِشْتِغَال بِالتَّهْلِيل وَالتَّسْبِيحِ الْمُطْلَقِ. ثُمَّ الْكَلِمَاتُ الأَْرْبَعُ، ثُمَّ سَائِرُ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ، قَال
__________
(1) حديث: " أحب الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده ". أخرجه مسلم (4 / 2094 - ط الحلبي) .
(2) الفتوحات الربانية 1 / 181، وفتح الباري 11 / 207.
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية 10 / 427.
(4) حديث: " من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته. . . " تقدم تخريجه في (ف 1) .

(21/237)


النَّوَوِيُّ: أَمَّا الْمَأْثُورُ فِي وَقْتٍ أَوْ نَحْوِهِ - أَيْ لِسَبَبٍ - فَالاِشْتِغَال بِهِ - أَيْ فِي الْوَقْتِ أَوْ عِنْدَ السَّبَبِ - أَفْضَل. اهـ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الاِشْتِغَال بِالذِّكْرِ الْمُؤَقَّتِ فِي وَقْتِهِ، وَالْمُقَيَّدِ بِسَبَبٍ عِنْدَ سَبَبِهِ أَفْضَل مِنَ الاِشْتِغَال بِسَائِرِ الْمَأْثُورَاتِ، حَتَّى مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ وَنَحْوِهِمَا وَحَتَّى مِنَ الاِشْتِغَال بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. قَال ابْنُ عَلاَّنَ: مَا وَرَدَ مِنَ الذِّكْرِ مُخْتَصًّا بِمَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ حَالٍ كَأَذْكَارِ الطَّوَافِ وَلَيْلَةِ الْجُمُعَةِ وَحَال النَّوْمِ فَالاِشْتِغَال بِهِ أَفْضَل مِنَ الاِشْتِغَال بِالتِّلاَوَةِ (1) . قَال عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ: سَأَلْتُ الأَْوْزَاعِيَّ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَعْجَبُ إِلَيْكَ أَمِ الذِّكْرُ؟ فَقَال: سَل أَبَا مُحَمَّدٍ، يَعْنِي سَعِيدًا، أَيِ ابْنَ الْمُسَيِّبِ، فَسَأَلْتُهُ فَقَال: بَل الْقُرْآنُ. فَقَال الأَْوْزَاعِيُّ: إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يَعْدِل الْقُرْآنَ، وَلَكِنْ إِنَّمَا كَانَ هَدْيُ مَنْ سَلَفَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْل الْغُرُوبِ (2) .
قَال الشَّوْكَانِيُّ: وَهَكَذَا مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنَ الأَْذْكَارِ فِي الأَْوْقَاتِ وَعَقِيبَ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي الاِشْتِغَال بِمَا وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ إِرْشَادَهُ إِلَيْهِ يَدُل عَلَى أَنَّهُ أَفْضَل مِنْ غَيْرِهِ (3) . وَصَرَّحَ بِمِثْل ذَلِكَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ فِي قَوَاعِدِهِ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي فَتَاوِيهِ (4) . وَفِي مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى
__________
(1) الأذكار النووية والفتوحات الربانية 3 / 227، 4 / 388.
(2) التذكار في أفضل الأذكار ص 43.
(3) عدة الحصن الحصين ص 33.
(4) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2 / 171، ومجموع فتاوى ابن تيمية 10 / 427.

(21/237)


الْقُرْآنُ أَفْضَل مِنْ سَائِرِ الذِّكْرِ لَكِنِ الاِشْتِغَال بِالْمَأْثُورِ مِنَ الذِّكْرِ فِي مَحَلِّهِ كَأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ أَفْضَل مِنْ تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ الْمَحَل (1) .
وَعَلَى هَذَا فَالأَْفْضَل عِنْدَ الأَْذَانِ الاِشْتِغَال بِإِجَابَتِهِ وَبَعْدَ الصَّلاَةِ بِالأَْذْكَارِ الْوَارِدَةِ وَعِنْدَ الإِْفْطَارِ فِي رَمَضَانَ الاِشْتِغَال بِمَا وَرَدَ مِنَ الذِّكْرِ، وَهَكَذَا.

الذِّكْرُ بِغَيْرِ الْمَأْثُورِ:

أ - فِي الأَْذْكَارِ الْمُطْلَقَةِ:
22 - يَجُوزُ فِي الأَْذْكَارِ الْمُطْلَقَةِ الإِْتْيَانُ بِمَا هُوَ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ مِمَّا يَتَضَمَّنُ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلاَ يَسْتَلْزِمُ نَقْصًا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الصِّيغَةُ مَأْثُورَةً عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا فِي الذِّكْرِ الْمُطْلَقِ مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ.
وَلاَ يَدْخُل فِي الْمَأْثُورِ فِي هَذَا الْبَابِ مَا نُقِل عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَلاَّنَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، قَال: لأَِنَّ مَا وَرَدَ عَنِ الصَّحَابِيِّ مِمَّا لِلرَّأْيِ فِيهِ مَدْخَلٌ لاَ يَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ (2) . فَيَكُونُ مَا وَرَدَ مِنْ أَذْكَارِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَضْمُومًا إِلَى مَا نُقِل مِنَ الأَْذْكَارِ
__________
(1) مطالب أولي النهى 1 / 603.
(2) الفتوحات الربانية 4 / 388 و 1 / 119.

(21/238)


عَنْ غَيْرِهِمْ فِي كَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ الْمَأْثُورِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا نُقِل عَنْهُمُ الْكَثِيرُ الطَّيِّبُ مِمَّا يَحْسُنُ تَعَلُّمُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ.
وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الاِشْتِغَال بِالذِّكْرِ الْمَأْثُورِ أَفْضَل مِنَ الاِشْتِغَال بِذِكْرٍ يَخْتَرِعُهُ الإِْنْسَانُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ. وَوَجْهُ الأَْفْضَلِيَّةِ وَاضِحٌ وَهُوَ مَا فِيهِ مِنَ الاِقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَوْنُهُ أَعْلَمَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَكَوْنُهُ أَفْصَحَ الْعَرَبِ وَأَعْلَمَهُمْ بِمَوَاقِعِ الْكَلاَمِ، وَكَوْنُهُ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَأُمِدَّ بِالتَّسْدِيدِ الرَّبَّانِيِّ، وَكَمَال النُّصْحِ لأُِمَّتِهِ (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: الْخَيْرُ وَالْفَضْل إِنَّمَا هُوَ فِي اتِّبَاعِ الْمَأْثُورِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفِيهِمَا مَا يَكْفِي فِي سَائِرِ الأَْوْقَاتِ، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ أَصْحَابُنَا. وَقَال فِي مَوْضِعٍ: أَوْرَادُ الْمَشَايِخِ وَأَحْزَابُهُمْ لاَ بَأْسَ بِالاِشْتِغَال بِهَا.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْهِنْدِيَّةِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ فِي صَلاَتِهِ بِدُعَاءٍ مَحْفُوظٍ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ بِمَا يَحْضُرُهُ (2) .

ب - الذِّكْرُ بِغَيْرِ الْمَأْثُورِ فِي مُنَاسِبَاتٍ مُعَيَّنَةٍ:
23 - مَا تَقَدَّمَ هُوَ فِي الذِّكْرِ الْمُطْلَقِ، أَمَّا فِي الأَْسْبَابِ وَالْمُنَاسَبَاتِ الْمُعَيَّنَةِ:
أ - فَإِنْ كَانَ فِي مِثْل تِلْكَ الْمُنَاسَبَةِ ذِكْرٌ مَأْثُورٌ فَإِنَّ
__________
(1) الفتوحات الربانية 1 / 17.
(2) رد المحتار 2 / 352.

(21/238)


التَّكْلِيفَ يَتَأَدَّى بِهِ. فَلَوْ أَتَى بَدَلَهُ بِذِكْرٍ غَيْرِ مَأْثُورٍ فَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ:
فَمَا كَانَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْعِبَادَةِ أَوْ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِهَا لَمْ يُمْكِنْ إِبْدَالُهُ، وَذَلِكَ كَأَذْكَارِ الأَْذَانِ، وَأَذْكَارِ الصَّلاَةِ الَّتِي لاَ بُدَّ مِنْهَا كَالْفَاتِحَةِ، وَتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، وَالتَّشَهُّدِ.
وَمَا كَانَ الإِْتْيَانُ بِهِ مِنَ الأَْذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ مُسْتَحَبًّا أَوْ جَائِزًا فَفِي إِبْدَالِهِ بِغَيْرِهِ تَفْصِيلٌ:
فَالأَْصْل أَنَّ الإِْتْيَانَ بِالذِّكْرِ الْمَأْثُورِ أَفْضَل، وَإِنْ دَعَا وَذَكَرَ بِغَيْرِهِ مِمَّا يَلِيقُ فَلاَ بَأْسَ.
فَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الطَّوَافُ، قَال النَّوَوِيُّ: قَال أَصْحَابُنَا: الْقِرَاءَةُ فِي الطَّوَافِ أَفْضَل مِنَ الدَّعَوَاتِ غَيْرِ الْمَأْثُورَةِ وَأَمَّا الْمَأْثُورَةُ فَهِيَ أَفْضَل مِنِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الصَّحِيحِ (1) .
ب - أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمُنَاسَبَةِ الْمُعَيَّنَةِ ذِكْرٌ وَارِدٌ، فَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُنْكَرُ اسْتِعْمَال ذِكْرٍ مِمَّا يُحِبُّ الإِْنْسَانُ مِمَّا يَلِيقُ بِالْمُنَاسَبَةِ، أَخْذًا مِنْ إِطْلاَقِ الأَْمْرِ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ فِي النُّصُوصِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالنَّبَوِيَّةِ. دُونَ أَنْ يُدَّعَى لِذَلِكَ الذِّكْرِ أَوِ الدُّعَاءِ فَضْلٌ أَوْ خُصُوصِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ.
وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ التَّهْنِئَةُ بِالْعِيدِ وَبِدُخُول الأَْعْوَامِ وَالأَْشْهُرِ، قَال صَاحِبُ الدُّرِّ: التَّهْنِئَةُ بِالْعِيدِ بِلَفْظِ تَقَبَّل اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ لاَ تُنْكَرُ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّمَا قَال ذَلِكَ لأَِنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ فِيهِ شَيْءٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. قَال: وَفِي
__________
(1) أذكار النووي والفتوحات الربانية 4 / 388.

(21/239)


الْقُنْيَةِ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَل فِيهَا عَنْ أَصْحَابِنَا كَرَاهَةٌ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: يُمْكِنُ أَنْ يَلْحَقَ بِذَلِكَ قَوْلُهُ: عِيدٌ مُبَارَكٌ وَنَحْوُهُ.
ثُمَّ قَال: عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ الدُّعَاءُ بِالْبَرَكَةِ فِي أُمُورٍ شَتَّى فَيُؤْخَذُ مِنْهُ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ بِهَذَا أَيْضًا. وَعَنِ الْحَافِظِ الْمَقْدِسِيِّ: أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَزَالُوا مُخْتَلِفِينَ فِيهِ وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ لاَ سُنَّةَ فِيهِ وَلاَ بِدْعَةَ (1) . اهـ.
وَفِي الْمُغْنِي: عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَال: لاَ أَبْتَدِئُ بِهِ أَحَدًا وَإِنْ قَالَهُ أَحَدٌ رَدَدْتُ عَلَيْهِ (2) .
وَعَنْ مَالِكٍ فِي مِثْل " تَقَبَّل اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ، وَغَفَرَ لَنَا وَلَكَ " يَوْمَ الْعِيدِ: قَال: لاَ أَعْرِفُهُ وَلاَ أُنْكِرُهُ. قَال ابْنُ حَبِيبٍ: أَيْ: لاَ يَعْرِفُهُ سُنَّةً وَلاَ يُنْكِرُهُ عَلَى مَنْ يَقُولُهُ لأَِنَّهُ قَوْلٌ حَسَنٌ؛ لأَِنَّهُ دُعَاءٌ. قَال صَاحِبُ الْفَوَاكِهِ: وَمِثْلُهُ قَوْل النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ " عِيدٌ مُبَارَكٌ، وَأَحْيَاكُمُ اللَّهُ لأَِمْثَالِهِ " لاَ شَكَّ فِي جَوَازِ كُل ذَلِكَ (3) .
وَقَال الأَْوْزَاعِيُّ: هُوَ بِدْعَةٌ (4) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا سُنَّةٌ (5) . وَانْظُرْ بَحْثَ (تَهْنِئَةٌ) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ (14 99) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 557، ونهاية المحتاج 2 / 391.
(2) المغني 2 / 399.
(3) الفواكه الدواني 1 / 322.
(4) ابن عابدين 1 / 557.
(5) القليوبي وعميرة 1 / 310، الفتوحات الربانية 1 / 119، 5 / 109، 377، الاعتصام 2 / 10 و 1 / 284.

(21/239)


الزِّيَادَةُ فِي الذِّكْرِ عَلَى مَا وَرَدَ:
24 - الزِّيَادَةُ فِي الذِّكْرِ الْمُرَتَّبِ شَرْعًا عَلَى سَبَبٍ، الأَْصْل فِيهِ الْجَوَازُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيَتَقَيَّدُ بِقُيُودٍ تُفْهَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ، فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ صَحِيحَ الْمَعْنَى لاَ يَسْتَلْزِمُ نَقْصًا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَأَلاَّ يَكُونَ مِمَّا عُلِمَ أَنَّ الشَّارِعَ أَرَادَ الْمُحَافَظَةَ فِيهِ عَلَى اللَّفْظِ الْوَارِدِ، فَلاَ يُزَادُ عَلَى أَلْفَاظِ الأَْذَانِ وَأَلْفَاظِ التَّشَهُّدِ وَنَحْوِهِمَا، وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مَا وَرَدَ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا يَلِيقُ.
وَقَدْ نَقَل ابْنُ عَلاَّنَ أَنَّ زِيَادَاتِ الْعُلَمَاءِ فِي الْقُنُوتِ وَنَحْوِهِ مِنَ الأَْذْكَارِ يَكُونُ الإِْتْيَانُ بِهَا أَوْلَى، وَفَارَقَ التَّشَهُّدَ وَغَيْرَهُ بِأَنَّ الْعُلَمَاءَ فَهِمُوا أَنَّ الْمَدَارَ فِيهِ عَلَى لَفْظِهِ فَلِذَا لَمْ يَزِيدُوا فِيهِ، وَرَأَوْا أَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ خِلاَفُ الأَْوْلَى بِخِلاَفِ الْقُنُوتِ فَإِنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ لِلدُّعَاءِ تَأْثِيرًا عَظِيمًا فِي الاِسْتِجَابَةِ فَتَوَسَّعُوا فِي الدُّعَاءِ فِيهِ (1) .
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُلَبِّي فِي الْحَجِّ بِتَلْبِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ، لاَ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَزِيدُ فِيهَا " لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ لَبَّيْكَ، وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَل
__________
(1) الفتوحات الربانية 5 / 109، مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية 92.

(21/240)


وَفِي رِوَايَةٍ: قَال ابْنُ عُمَرَ: كَانَ عُمَرُ يُهِل بِهَذَا (أَيْ بِتَلْبِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَيَزِيدُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ (1) إِلَخْ.
قَال ابْنُ حَجَرٍ: قَال الطَّحَاوِيُّ: قَال قَوْمٌ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّلْبِيَةِ مَا أَحَبَّ مِنَ الذِّكْرِ لِلَّهِ، وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ. وَاحْتَجُّوا بِهَذَا الْمَرْوِيِّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ. وَقَال آخَرُونَ: لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ عَلَى مَا عَلَّمَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ، كَمَا عَلَّمَهُمُ التَّكْبِيرَ فِي الصَّلاَةِ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُتَعَدَّى فِي ذَلِكَ شَيْئًا مِمَّا عَلَّمَهُ. اهـ. ثُمَّ قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَقَوْل مَنْ قَال: إِنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى التَّلْبِيَةِ هُوَ قَوْل الْجُمْهُورِ وَبِهِ صَرَّحَ أَشْهَبُ. وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مَالِكٍ الْكَرَاهَةَ. قَال: وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَقَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَحَكَى أَهْل الْعِرَاقِ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ كَرِهَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمَرْفُوعِ، وَغَلِطُوا، بَل لاَ يُكْرَهُ وَلاَ يُسْتَحَبُّ. وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ إِنْ زَادَ فِي التَّلْبِيَةِ شَيْئًا مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ فَلاَ بَأْسَ وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنْ زَادَ فِي التَّلْبِيَةِ عَمَّا وَرَدَ فَحَسَنٌ. وَحُكِيَ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا قَوْلُهُ: " لاَ ضِيقَ عَلَى أَحَدٍ فِي قَوْل مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ، غَيْرَ أَنَّ الاِخْتِيَارَ عِنْدِي أَنْ يُفْرِدَ مَا رُوِيَ
__________
(1) حديث ابن عمر في التلبية والزيادة فيها أخرجه مسلم (2 / 841، 842 - ط الحلبي) .

(21/240)


عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ ". قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا أَعْدَل الْوُجُوهِ، فَيُفْرَدُ مَا جَاءَ مَرْفُوعًا، وَإِذَا اخْتَارَ قَوْل مَا جَاءَ مَوْقُوفًا، أَوْ أَنْشَأَهُ هُوَ مِنْ قِبَل نَفْسِهِ مِمَّا يَلِيقُ، قَالَهُ عَلَى انْفِرَادِهِ حَتَّى لاَ يَخْتَلِطَ بِالْمَرْفُوعِ. قَال: وَهُوَ شَبِيهٌ بِحَال الدُّعَاءِ فِي التَّشَهُّدِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِيهِ: ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ بَعْدُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ (1) . أَيْ بَعْدَ أَنْ يَفْرُغَ مِنَ الْمَرْفُوعِ (2) .
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ رِفَاعَةَ الزُّرَقِيِّ قَال: كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَال: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قَال رَجُلٌ وَرَاءَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَال: مَنِ الْمُتَكَلِّمُ؟ قَال: أَنَا. قَال: رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاَثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّل (3) ، ثُمَّ قَال ابْنُ حَجَرٍ: اسْتَدَل بِهَذَا عَلَى إِحْدَاثِ ذِكْرٍ فِي الصَّلاَةِ غَيْرِ مَأْثُورٍ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُخَالِفٍ لِلْمَأْثُورِ (4) .
قَال عَلِيٌّ الْقَارِيُّ: وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلاً عَطَسَ إِلَى جَنْبِهِ فَقَال:
__________
(1) حديث: " ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء ". أخرجه مسلم (1 / 302 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود.
(2) فتح الباري 3 / 410، 411.
(3) حديث: رفاعة الزرقي: أخرجه البخاري (2 / 284 - ط السلفية) .
(4) فتح الباري 2 / 284، 287.

(21/241)


الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالسَّلاَمُ عَلَى رَسُول اللَّهِ. فَقَال ابْنُ عُمَرَ. وَأَنَا أَقُول: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالسَّلاَمُ عَلَى رَسُول اللَّهِ وَلَيْسَ هَكَذَا عَلَّمَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
ثُمَّ بَيَّنَ الْقَارِيُّ وَجْهَ إِنْكَارِ ابْنِ عُمَرَ لِتِلْكَ الزِّيَادَةِ قَائِلاً: الزِّيَادَةُ الْمَطْلُوبَةُ هِيَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحَمْدِ لَهُ سَوَاءٌ وَرَدَ أَمْ لاَ، وَأَمَّا زِيَادَةُ ذِكْرٍ آخَرَ بِطَرِيقِ الضَّمِّ إِلَيْهِ فَغَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ؛ لأَِنَّ مَنْ سَمِعَ رُبَّمَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَأْثُورِ بِهِ (2) .

التَّبْدِيل فِي أَلْفَاظِ الأَْذْكَارِ الْوَارِدَةِ:
25 - تَبْدِيل لَفْظٍ مِنَ الأَْذْكَارِ الْوَارِدَةِ بِلَفْظٍ آخَرَ اخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا، فَقِيل: هُوَ جَائِزٌ لأَِنَّهُ شَبِيهٌ بِالرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى جَائِزَةٌ إِذَا كَانَ اللَّفْظُ الْبَدِيل مُسَاوِيًا فِي الْمَعْنَى لِلَّفْظِ الْوَارِدِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْمَازِرِيُّ فَقَال تَعْلِيقًا عَلَى حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهُ: إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأَ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَْيْمَنِ. ثُمَّ قُل: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ
__________
(1) حديث: ابن عمر في العطاس. أخرجه الترمذي (5 / 81 - ط الحلبي) وضعفه بقوله: " هذا حديث غريب ".
(2) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح لعلي القاري 9 / 100، الملقان (باكستان) ، المكتبة الإمدادية د. ت، والفتوحات الربانية 6 / 14.

(21/241)


نَفْسِي إِلَيْكَ. . إِلَى قَوْلِهِ: آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ. . . قَال فَرَدَدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: وَرَسُولِكَ قَال: لاَ، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ (1) .
قَال الْمَازِرِيُّ عَقِبَهُ: سَبَبُ هَذَا الإِْنْكَارِ أَنَّ هَذَا ذِكْرٌ وَدُعَاءٌ، فَيَنْبَغِي فِيهِ الاِقْتِصَارُ عَلَى الذِّكْرِ الْوَارِدِ بِحُرُوفِهِ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ الْجَزَاءُ بِتِلْكَ الْحُرُوفِ، وَلَعَلَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِتِلْكَ الْكَلِمَاتِ، فَتَعَيَّنَ أَدَاؤُهَا بِحُرُوفِهَا (2) . وَإِلَى مِثْل ذَلِكَ مَال ابْنُ حَجَرٍ (3) . وَهَذَا كَمَا هُوَ وَاضِحٌ فِي الأَْذْكَارِ الْمُقَيَّدَةِ الَّتِي رَتَّبَ الشَّارِعُ عَلَيْهَا فَضْلاً خَاصًّا، لاَ فِي الذِّكْرِ الْمُطْلَقِ.

الذِّكْرُ بِالاِسْمِ الْمُفْرَدِ، وَبِالضَّمِيرِ الْمُفْرَدِ:
26 - ذَكَرَ الرَّشِيدِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى النِّهَايَةِ مَا يَدُل عَلَى أَنَّ فِي الذِّكْرِ بِالاِسْمِ الْمُفْرَدِ (اللَّهُ، اللَّهُ، اللَّهُ) خِلاَفًا فِي أَنَّهُ ذِكْرٌ أَمْ لاَ.
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الاِسْمُ الْمُفْرَدُ مُظْهَرًا أَوْ مُضْمَرًا لَيْسَ بِكَلاَمٍ تَامٍّ وَلاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ إِيمَانٌ وَلاَ كُفْرٌ، وَلاَ أَمْرٌ، وَلاَ نَهْيٌ، وَلاَ يُعْطِي الْقَلْبَ
__________
(1) حديث البراء بن عازب: " إذا أتيت مضجعك ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 357 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 2081 - 2082 - ط الحلبي) .
(2) الفتوحات الربانية 3 / 144، وشرح صحيح مسلم للأبي 7 / 135.
(3) فتح الباري 11 / 112.

(21/242)


مَعْرِفَةً مُفِيدَةً، وَإِنَّمَا يُعْطِيهِ تَصَوُّرًا مُطْلَقًا. وَالذِّكْرُ بِالاِسْمِ الْمُضْمَرِ أَبْعَدُ عَنِ السُّنَّةِ (1) .

آدَابُ الذَّاكِرِينَ:
لِلذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ آدَابٌ يَسْتَدْعِيهَا كَمَال الْمَذْكُورِ وَجَلاَلُهُ، وَإِذَا رُوعِيَتْ كَانَتْ أَوْلَى بِالْقَبُول وَالإِْجَابَةِ، فَمِنْ تِلْكَ الآْدَابِ:

أ - طَلَبُ الْعَوْنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الذِّكْرِ:
27 - وَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا عَلَى أَنْ يَقُول: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ (2) .

ب - أَنْ يَكُونَ الذَّاكِرُ مُتَطَهِّرًا مِنَ الْحَدَثِ:
28 - وَاسْتَدَل لِذَلِكَ بِحَدِيثِ الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ قَال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبُول، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ حَتَّى تَوَضَّأَ، ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيَّ وَقَال: إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إِلاَّ عَلَى طُهْرٍ، أَوْ قَال: عَلَى طَهَارَةٍ (3) .
وَقَال ابْنُ عَلاَّنَ: يُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ
__________
(1) نهاية المحتاج وحاشية الرشيدي 1 / 117، مختصر الفتاوى المصرية ص96، ومجموع فتاوى ابن تيمية 10 / 226، 227، 556 - 565.
(2) حديث: " اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك ". أخرجه أحمد (5 / 247 - ط الميمنية) ، والحاكم (3 / 273 - 274 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث معاذ بن جبل، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) الحديث تقدم تخريجه ف 1.

(21/242)


الأَْفْضَل أَلاَّ تُوجَدَ الأَْذْكَارُ إِلاَّ فِي أَكْمَل الأَْحْوَال، كَالطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثَيْنِ، وَطَهَارَةِ الْفَمِ مِنَ الْخَبَثِ (1) .
وَلَمْ يَقُولُوا بِاشْتِرَاطِ ذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُل أَحْيَانِهِ (2) ". وَ " كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْغَائِطِ قَال: غُفْرَانَكَ (3) "، وَ " كَانَ يَقُول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الأَْذَى وَعَافَانِي " (4)
. فَهَذَا ذِكْرٌ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ. وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ لِلْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ (5) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا فِي الْهِدَايَةِ وَشُرُوحِهَا أَنَّ الذَّاكِرَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَضِّئًا. وَمِنْ ذَلِكَ الأَْذَانُ وَالإِْقَامَةُ، فَإِنْ أَذَّنَ بِلاَ وُضُوءٍ جَازَ بِلاَ كَرَاهَةٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ، وَإِنْ أَقَامَ بِلاَ وُضُوءٍ جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ
__________
(1) الفتوحات الربانية 1 / 396.
(2) حديث: " كان يذكر الله على كل أحيانه ". أخرجه مسلم (1 / 282 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
(3) حديث: " كان إذا خرج من الغائط قال: غفرانك ". أخرجه الترمذي (1 / 12 - ط الحلبي) من حديث عائشة، وقال: " حديث حسن غريب ".
(4) حديث: " الحمد لله الذي أذهب عني الأذى ". أخرجه ابن ماجه (1 / 110 - ط الحلبي) من حديث أنس، وقال البوصيري: " هذا حديث ضعيف، ولا يصح فيه بهذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، كذا في " مصباح الزجاجة " (ص 92 - ط دار الجنان) .
(5) الفتوحات الربانية 1 / 127.

(21/243)


الْفَصْل بَيْنَ الإِْقَامَةِ وَالصَّلاَةِ بِالاِشْتِغَال بِأَعْمَال الْوُضُوءِ، وَالإِْقَامَةُ شُرِعَتْ مُتَّصِلَةً (1) .
وَيُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ اسْتِحْبَابَ التَّطَهُّرِ لِلذِّكْرِ إِنَّمَا هُوَ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ كَخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَالأَْذَانِ (2) ، وَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: الْوُضُوءُ لِمُطْلَقِ الذِّكْرِ مَنْدُوبٌ وَلَوْ لِلْجُنُبِ، وَتَرْكُهُ خِلاَفُ الأَْوْلَى (3) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: إِنْ كَانَ فِي فَمِهِ نَجَاسَةٌ أَزَالَهَا بِالْمَاءِ، فَلَوْ ذَكَرَ وَلَمْ يَغْسِلْهَا فَهُوَ مَكْرُوهٌ وَلاَ يَحْرُمُ، وَلَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَفَمُهُ نَجَسٌ كُرِهَ، وَفِي تَحْرِيمِهِ وَجْهَانِ لأَِصْحَابِنَا أَصَحُّهُمَا لاَ يَحْرُمُ (4) .
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ: تَنْظِيفُ الْفَمِ عِنْدَ الذِّكْرِ بِالسِّوَاكِ أَدَبٌ حَسَنٌ؛ لأَِنَّهُ الْمَحَل الَّذِي يَكُونُ الذِّكْرُ بِهِ فِي الصَّلاَةِ، وَقَدْ صَحَّ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ تَيَمَّمَ مِنْ جِدَارِ الْحَائِطِ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ (5) ، فَهَذَا فِي مُجَرَّدِ رَدِّ السَّلاَمِ فَذِكْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَوْلَى (6) .
وَيُسْتَثْنَى مِنَ الأَْحْكَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْقُرْآنُ،
__________
(1) الهداية وفتح القدير 1 / 176، 414.
(2) فتح القدير 1 / 414.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 1 / 117، 195.
(4) الفتوحات الربانية 1 / 143.
(5) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم لما سلم عليه بعض الصحابة تيمم ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 444 - ط السلفية) من حديث أبي جهم بن الحارث.
(6) شرح عدة الحصن الحصين ص 32، ونزل الأبرار ص 29.

(21/243)


فَتَحْرُمُ قِرَاءَتُهُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْجُنُبِ؛ لِحَدِيثِ: لاَ يَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلاَ الْجُنُبُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (قُرْآن، جَنَابَة، وَحَيْض) .
فَإِنْ قَرَأَ شَيْئًا مِنَ الأَْذْكَارِ الَّتِي تُوَافِقُ الْقُرْآنَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْل، وَكَانَ يَنْوِي بِهَا الذِّكْرَ لاَ الْقُرْآنَ، فَلاَ بَأْسَ، وَذَلِكَ كَالْبَسْمَلَةِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَكَآيَتَيِ الرُّكُوبِ {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا. . .} (2) وَآيَةِ النُّزُول: {رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكًا. . .} (3) وَآيَةِ الاِسْتِرْجَاعِ {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (4) . وَقِيل: يَحْرُمُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ غُسْلٌ قِرَاءَةُ آيَةٍ وَلَوْ بِقَصْدِ ذِكْرٍ سَدًّا لِلْبَابِ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى (5) .

ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى حَال قَضَاءِ الْحَاجَةِ:
29 - يُكْرَهُ لِمَنْ هُوَ فِي الْخَلاَءِ لِحَاجَتِهِ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ
__________
(1) حديث: " لا يقرأ الحائض ولا الجنب شيئًا من القرآن ". أخرجه الترمذي (1 / 236 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر، ثم نقل الترمذي عن البخاري تضعيف راو في سنده.
(2) سورة الزخرف / 13.
(3) سورة المؤمنون / 29.
(4) سورة البقرة / 156.
(5) كشاف القناع 1 / 148، مطالب أولي النهى 1 / 170، والفتوحات الربانية 1 / 130، والمجموع 2 / 352، ونزل الأبرار ص 10، ونهاية المحتاج 1 / 204.

(21/244)


تَعَالَى، أَوْ أَنْ يَتَكَلَّمَ، صَرَّحَ بِهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ. وَقَال ابْنُ كَجٍّ: إِنَّهُ يَحْرُمُ الذِّكْرُ فِي تِلْكَ الْحَال، وَإِلَيْهِ مَال الأَْذْرَعِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ
وَنُقِلَتْ إِجَازَةُ الذِّكْرِ فِي الْمِرْحَاضِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعَنِ النَّخَعِيِّ.
وَصَرَّحَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ بِأَنَّهُ إِذَا عَطَسَ فِي الْخَلاَءِ فَلاَ يَحْمَدُ اللَّهَ بِلِسَانِهِ بَل بِقَلْبِهِ وَقَال فِي الأَْذْكَارِ: وَصَرَّحَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِأَنَّهُ لاَ يُشَمِّتُ عَاطِسًا وَلاَ يَرُدُّ السَّلاَمَ وَلاَ يُجِيبُ الْمُؤَذِّنَ. وَكَذَا فِي حَال الْجِمَاعِ (1) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (قَضَاء الْحَاجَةِ) .

ج - التَّحَرِّي فِي الأَْمْكِنَةِ:
30 - يُجْتَنَبُ الذِّكْرُ فِي الْمَوَاضِعِ الْقَذِرَةِ وَمَوْضِعِ التَّخَلِّي كَمَا تَقَدَّمَ (2) . وَمِنَ الأَْدَبِ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُهُ نَظِيفًا خَالِيًا عَمَّا يَشْغَل الْبَال (3) .
أَمَّا الْحَمَّامُ فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، أَوْ عَلَى سَطْحِهِ وَنَحْوِهِ مِنْ كُل مَا يَتْبَعُهُ فِي بَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ؛ لِمَا رَوَى
__________
(1) الفتوحات الربانية 1 / 392، 387، وكشاف القناع 1 / 63، وابن عابدين 1 / 230، وفتح القدير 1 / 414.
(2) نزل الأبرار ص 369.
(3) الفتوحات الربانية 1 / 142.

(21/244)


النَّخَعِيُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ دَخَل الْحَمَّامَ فَقَال: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ (1) .
وَلاَ يُكْرَهُ ذِكْرُ اللَّهِ فِي الطَّرِيقِ (2) ، وَفِي الْحَدِيثِ مَا سَلَكَ رَجُلٌ طَرِيقًا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ عَزَّ وَجَل فِيهِ إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِ تِرَةٌ (3) . وَالأَْصْل فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَوْضِعِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْكَرَاهَةِ (4) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَْرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْل اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (5) .

د - تَحَرِّي الأَْمَاكِنِ الْفَاضِلَةِ:
31 - كَالْمَسَاجِدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (6) .
__________
(1) كشاف القناع 1 / 160، ومطالب أولي النهى 1 / 187، والفتوحات الربانية 1 / 146.
(2) نزل الأبرار ص 369، والفتوحات الربانية 1 / 146.
(3) حديث: " ما سلك رجل طريقًا لم يذكر الله فيه إلا كان عليه ترة ". أخرجه أحمد (2 / 432 - ط الميمنية) ، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 93 - ط دار البيان) من حديث أبي هريرة، واللفظ لابن السني، وقال الهيثمي في المجمع (10: 80) : " رواه أحمد، وأبو إسحاق مولى عبد الله بن الحارث لم يوثقه أحد ولم يخرجه، وبقية رجال أحد إسنادي أحمد رجال الصحيح ". والترة: النقص أو التبعة. النهاية. مادة: " وتر ".
(4) الفتوحات الربانية 6 / 176.
(5) سورة الجمعة / 10.
(6) سورة النور / 36.

(21/245)


وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا: إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ (1) . وَمِنْهَا الْمَشَاعِرُ الْمُعَظَّمَةُ، كَمَا قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} (2) .

هـ - تَحَرِّي الأَْزْمِنَةِ الْفَاضِلَةِ:
32 - وَذَلِكَ كَالْغُدُوِّ وَالآْصَال، وَأَطْرَافِ اللَّيْل وَالنَّهَارِ، لِمَا وَرَدَ مِنَ الأَْمْرِ بِذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِْبْكَارِ} (3) وَقَوْلِهِ {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْل غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافِ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} (4) وَقَوْلِهِ: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ اللَّيْل فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} (5) .
قِيل وَإِنَّمَا خَصَّ مِنَ النَّهَارِ الْبُكْرَةَ وَالْعَشِيَّ؛ لأَِنَّ الشُّغْل فِيهِمَا غَالِبٌ عَلَى النَّاسِ.
قَال النَّوَوِيُّ: أَشْرَفُ أَوْقَاتِ الذِّكْرِ فِي النَّهَارِ الذِّكْرُ بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ، قَال ابْنُ عَلاَّنَ: إِنَّمَا فُضِّل الذِّكْرُ ذَلِكَ الْوَقْتَ لِكَوْنِهِ تَشْهَدُهُ
__________
(1) الحديث تقدم تخريجه ف / 3.
(2) سورة البقرة / 198.
(3) سورة غافر / 55.
(4) سورة طه / 130.
(5) سورة الإنسان / 25، 26.

(21/245)


الْمَلاَئِكَةُ (1) ، قَال تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (2) وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حِجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ (3) وَمِنْ هُنَا كَرِهَ مَالِكٌ الْكَلاَمَ بَعْدَ صَلاَةِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ لأَِجْل الاِنْشِغَال بِالذِّكْرِ وَيُكْرَهُ النَّوْمُ عِنْدَهُمْ حِينَئِذٍ (4) .

وَمِنْ أَفْضَل مَوَاسِمِ الذِّكْرِ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ. قَال النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ الإِْكْثَارُ مِنَ الذِّكْرِ فِيهَا زِيَادَةً عَلَى غَيْرِهَا، وَيُسْتَحَبُّ مِنْ ذَلِكَ يَوْمُ عَرَفَةَ مَا لاَ يُسْتَحَبُّ فِي غَيْرِهِ (5) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} (6) .
وَالأَْصْل أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَحَبٌّ فِي كُل وَقْتٍ، وَلاَ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَوْقَاتُ النَّهْيِ، بَل قَدْ نُقِل عَنِ الْغَزَالِيِّ فِي الإِْحْيَاءِ وَغَيْرِهِ أَنَّ مَنْ قَال: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ قَامَتْ مَقَامَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ،
__________
(1) الأذكار والفتوحات الربانية 3 / 63، 74، 75، 76.
(2) سورة الإسراء / 78.
(3) حديث: " من صلى الغداة في جماعة ". أخرجه الترمذي (2 / 481 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك، وقال: " حديث حسن غريب ".
(4) مواهب الجليل 2 / 74، وحاشية الدسوقي 1 / 317، وجواهر الإكليل 1 / 74.
(5) الأذكار النووية والفتوحات الربانية 4 / 248.
(6) سورة الحج / 28.

(21/246)


فَيَنْبَغِي اسْتِعْمَالُهُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ لِمَكَانِ الْخِلاَفِ، وَاسْتَحْسَنَهُ الْحَطَّابُ (1) .

و الدُّعَاءُ بَعْدَ الأَْعْمَال الصَّالِحَةِ:
33 - وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي شَأْنِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَْرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْل اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) وَقَوْلُهُ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جَنُوبِكُمْ} (3) وَقَوْلُهُ فِي الاِنْتِهَاءِ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} (4) وَقَال النَّوَوِيُّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، وَجَاءَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ فِي أَنْوَاعٍ مِنْهُ مُتَعَدِّدَةٍ (5) ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (6) .
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 314، والقليوبي 1 / 215.
(2) سورة الجمعة / 10.
(3) سورة النساء / 103.
(4) سورة البقرة / 200.
(5) الفتوحات الربانية 3 / 27 - 29.
(6) حديث ابن عباس: " أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 324 - 325 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 410 - ط الحلبي) .

(21/246)


ز - تَجَنُّبُ الذِّكْرِ فِي أَحْوَالٍ مُعَيَّنَةٍ:
34 - وَنَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:
1 - حَال قَضَاءِ الْحَاجَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
2 - حَال الْجِمَاعِ. قَال ابْنُ عَلاَّنَ: الذِّكْرُ عِنْدَ نَفْسِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوِ الْجِمَاعِ لاَ يُكْرَهُ بِالْقَلْبِ بِالإِْجْمَاعِ. وَأَمَّا الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ حِينَئِذٍ فَلَيْسَ مِمَّا شُرِعَ لَنَا وَلاَ نَدَبَنَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ نُقِل عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، بَل يَكْفِي فِي هَذِهِ الْحَال الْحَيَاءُ وَالْمُرَاقَبَةُ (1) .
أَمَّا عِنْدَ إِرَادَةِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوِ الْجِمَاعِ فَهُنَاكَ أَذْكَارٌ مَأْثُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ.
3 - حَال خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ لِمَنْ يَسْمَعُ صَوْتَ الْخَطِيبِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) وَلأَِنَّ الإِْنْصَاتَ إِلَى الْخُطْبَةِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (3) . وَمِثَالُهُ التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيل (4) . لَكِنْ إِنْ كَانَ لاَ يَسْمَعُ لِبُعْدِهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْسْبَابِ فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ مِنَ الْكَلاَمِ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ، قَال أَحْمَدُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ:
__________
(1) الفتوحات الربانية 1 / 143.
(2) سورة الأعراف / 204.
(3) الفتوحات الربانية 1 / 144، والقليوبي 1 / 280.
(4) مواهب الجليل 2 / 176، والدسوقي 1 / 385، وجواهر الإكليل 1 / 98، والزرقاني 2 / 63

(21/247)


وَرَخَّصَ لَهُ فِي الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ عَطَاءٌ وَسَعِيدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ. وَاحْتَجَّ لِهَذَا بِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ: رَجُلٌ حَضَرَهَا يَلْغُو وَهُوَ حَظُّهُ مِنْهَا، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا يَدْعُو، فَهُوَ رَجُلٌ دَعَا اللَّهَ إِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِإِنْصَاتٍ وَسُكُوتٍ. . الْحَدِيثَ ". (1)

وَإِنْ كَانَ لِلذِّكْرِ سَبَبٌ كَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَرَدِّ السَّلاَمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ فَذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ - وَإِسْحَاقُ إِلَى أَنَّهُ يَفْعَلُهُ وَإِنْ كَانَ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ لِكَوْنِهِ وَاجِبًا كَتَحْذِيرِ ضَرِيرٍ، وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى إِلَى أَنَّهُ لاَ يَرُدُّ سَلاَمًا وَلاَ يُشَمِّتُ عَاطِسًا إِنْ كَانَ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ، وَيَفْعَلُهُ إِذَا لَمْ يَسْمَعْ (2) ، وَكَالتَّأْمِينِ عَلَى دُعَاءِ الْخَطِيبِ وَالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّعَوُّذِ عِنْدَ ذِكْرِ مَا يَسْتَدْعِيهِ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِهِ عَلَى اخْتِلاَفٍ فِي أَنَّهُ يُسِرُّهُ أَوْ يَجْهَرُ بِهِ.
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: مَنْ عَطَسَ وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ حَمِدَ اللَّهَ سِرًّا (3) .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَحِل التَّحْرِيمِ لِلذِّكْرِ
__________
(1) حديث: " يحضر الجمعة ثلاثة نفر ". أخرجه أبو داود (1 / 666 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وإسناده حسن.
(2) المغني 2 / 320 - 324، والقليوبي على شرح المنهاج 1 / 280.
(3) مواهب الجليل 2 / 176، والدسوقي 1 / 385، وجواهر الإكليل 1 / 98.

(21/247)


أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ هُوَ فِي حَالَةِ كَوْنِ الْخَطِيبِ فِي ذِكْرِ أَرْكَانِ الْخُطْبَةِ دُونَ مَا عَدَاهَا، فَلاَ يَحْرُمُ قَبْلَهَا وَلاَ بَيْنَهَا وَلاَ بَعْدَهَا وَلاَ يُكْرَهُ (1) .

ح - اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي مَجْلِسِ الذِّكْرِ:
35 - مِنْ آدَابِ الذِّكْرِ اسْتِقْبَال الذَّاكِرِ الْقِبْلَةَ. قَال الشَّوْكَانِيُّ: وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا الْجِهَةُ الَّتِي يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا الْعَابِدُونَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالدَّاعُونَ لَهُ وَالْمُتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ (2) .
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ لِكُل شَيْءٍ سَيِّدًا وَإِنَّ سَيِّدَ الْمَجَالِسِ قُبَالَةُ الْقِبْلَةِ (3) .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ فِي الاِسْتِسْقَاءِ اسْتَقْبَل الْقِبْلَةَ (4) .

ط - الرَّغْبَةُ وَالْخُشُوعُ وَالتَّدَبُّرُ:
36 - مِنْ آدَابِ الذِّكْرِ أَنْ يَجْلِسَ الذَّاكِرُ مُتَذَلِّلاً
__________
(1) القليوبي 1 / 280.
(2) تحفة الذاكرين ص 34، 35، الفتوحات الربانية 1 / 136.
(3) حديث: " إن لكل شيء سيدًا، وإن سيد المجالس قبالة القبلة ". أورده الهيثمي في المجمع (8 / 59 - ط القدسي) ، وقال: " رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن ".
(4) حديث: " لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو في الاستسقاء استقبل القبلة ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 515 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن زيد الأنصاري.

(21/248)


مُتَخَشِّعًا بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ. قَال النَّوَوِيُّ: وَلَوْ ذَكَرَ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الأَْحْوَال جَازَ وَلاَ كَرَاهَةَ، وَيَكُونُ تَارِكًا لِلأَْفْضَل. اهـ.
قَال ابْنُ عَلاَّنَ: قَوْلُهُ مُتَخَشِّعًا أَيْ ذَا خُشُوعٍ فِي الْبَاطِنِ وَلَوْ بِتَكَلُّفِهِ، وَقِيل الْخُشُوعُ فِي الْجَوَارِحِ وَالْخُضُوعُ فِي الْقَلْبِ (1) . وَمِمَّا يُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} (2) وَقَال ابْنُ كَثِيرٍ: أَيِ اذْكُرِ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً وَبِالْقَوْل (3) . وَقَال أَبُو حَيَّانَ: أَيْ يَذْكُرُهُ بِالْقَوْل الْخَفِيِّ الَّذِي يُشْعِرُ بِالتَّذَلُّل وَالْخُضُوعِ كَمَا يُنَاجِي الْمُلُوكَ (4) .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الذَّاكِرُ مُتَدَبِّرًا مُتَعَقِّلاً لِمَا يَذْكُرُ بِهِ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيل وَذِكْرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَإِنْ جَهِل شَيْئًا مِمَّا يَذْكُرُ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَبَيَّنَهُ وَلاَ يَحْرِصَ عَلَى تَحْصِيل الْكَثْرَةِ بِالْعَجَلَةِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَدَاءِ الذِّكْرِ مَعَ الْغَفْلَةِ وَهُوَ خِلاَفُ الْمَطْلُوبِ، وَقَلِيل الذِّكْرِ مَعَ حُضُورِ الْقَلْبِ خَيْرٌ مِنَ الْكَثِيرِ مِنْهُ مَعَ الْجَهْل وَالْفُتُورِ.
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ: التَّدَبُّرُ لِلذِّكْرِ أَكْمَل لأَِنَّ الذَّاكِرَ يَكُونُ فِي حُكْمِ الْمُخَاطِبِ وَالْمُنَاجِي. ثُمَّ قَال: وَيَكُونُ أَجْرُهُ أَتَمَّ وَأَوْفَى، وَلاَ يُنَافِي ثُبُوتَ
__________
(1) الفتوحات الربانية 1 / 136، وتحفة الذاكرين ص 36.
(2) سورة الأعراف / 205.
(3) تفسير ابن كثير عند تفسير آخر سورة الأعراف.
(4) الفتوحات الربانية 3 / 75.

(21/248)


مَا وَرَدَ الْوَعْدُ بِهِ مِنَ الأَْذْكَارِ لِمَنْ جَاءَ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَتَدَبَّرْ مَعْنَاهَا؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ تَقْيِيدُ مَا وَعَدَ بِهِ مِنْ ثَوَابِهَا بِالتَّدَبُّرِ وَالْفَهْمِ. وَوَافَقَهُ الشَّيْخُ صِدِّيق حَسَن خَان (1) .
أَمَّا ابْنُ عَلاَّنَ فَقَال: نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ فَهْمِ مَعْنَى التَّهْلِيلَةِ، وَإِلاَّ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا صَاحِبُهَا فِي الإِْنْقَاذِ مِنَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، قَال: وَمِثْلُهَا بَاقِي الأَْذْكَارِ لاَ بُدَّ فِي حُصُول ثَوَابِهِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَلَوْ بِوَجْهٍ (2) .

ي - الْحِرْصُ عَلَى الذِّكْرِ فِي الْعُزْلَةِ وَالاِنْفِرَادِ عَنِ النَّاسِ:
37 - الذِّكْرُ فِي حَال الْعُزْلَةِ عَنِ النَّاسِ وَالاِنْفِرَادِ عَنْهُمْ وَحَيْثُ لاَ يَعْلَمُ بِهِ إِلاَّ اللَّهُ تَعَالَى أَفْضَل مِنَ الذِّكْرِ فِي الْمَلأَِ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْحَالَيْنِ فَضْلُهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍَ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍَ خَيْرٍ مِنْهُمْ (3) . قَال ابْنُ حَجَرٍ: " قَال بَعْضُ أَهْل الْعِلْمِ: يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الذِّكْرَ الْخَفِيَّ أَفْضَل مِنَ الذِّكْرِ الْجَهْرِيِّ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ بِثَوَابٍ لاَ أُطْلِعُ عَلَيْهِ أَحَدًا (4) . وَفِي
__________
(1) تحفة الذاكرين ص 32، والفتوحات الربانية 1 / 148، ونزل الأبرار ص 10.
(2) الفتوحات الربانية 1 / 148.
(3) الحديث تقدم تخريجه في ف / 3.
(4) فتح الباري 13 / 386.

(21/249)


الْحَدِيثِ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِل إِلاَّ ظِلُّهُ فَذَكَرَ مِنْهُمْ: وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: ذَكَرَ اللَّهَ فِي خَلاَءٍ (1) قَال ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ لأَِنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ (2) .
وَسَيَأْتِي حُكْمُ الاِجْتِمَاعِ عَلَى الذِّكْرِ (ف 40) .

حُكْمُ إِخْفَاءِ الذِّكْرِ:
38 - لاَ يُعْتَدُّ بِشَيْءٍ مِمَّا رَتَّبَ الشَّارِعُ الأَْجْرَ عَلَى الإِْتْيَانِ بِهِ مِنَ الأَْذْكَارِ الْوَاجِبَةِ أَوِ الْمُسْتَحَبَّةِ فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا حَتَّى يَتَلَفَّظَ بِهِ الذَّاكِرُ وَيُسْمِعَ نَفْسَهُ إِذَا كَانَ صَحِيحَ السَّمْعِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَكْثَرَ مِنْ مُنَاسَبَةٍ بِأَنَّ مَنْ قَال كَذَا كَانَ لَهُ مِنَ الأَْجْرِ كَذَا لاَ يَحْصُل لَهُ ذَلِكَ الأَْجْرُ إِلاَّ بِمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مَعْنَى الْقَوْل، وَهُوَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالتَّلَفُّظِ بِاللِّسَانِ. وَلاَ يَحْصُل ذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بِمُجَرَّدِ تَحْرِيكِ اللِّسَانِ بِغَيْرِ صَوْتٍ أَصْلاً بَل لاَ بُدَّ مِنْ صَوْتٍ، وَأَقَلُّهُ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا هُوَ ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ شَفَتَاهُ (3) .
__________
(1) حديث: " سبعة يظلهم الله في ظله ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 143 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة، ورواية: " ذكر الله في خلاء " أخرجها البخاري (الفتح 12 / 112) .
(2) فتح الباري 2 / 147، وعمدة القاري 5 / 179، 180.
(3) حديث: " أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت شفتاه ". أخرجه أحمد (2 / 540 - ط الميمنية) من حديث أبي هريرة، والحاكم (1 / 496 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي الدرداء، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(21/249)


وَقَال الشَّوْكَانِيُّ: لَمْ يَرِدْ مَا يَدُل عَلَى اشْتِرَاطِ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ بَل يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَوْلٌ بِمُجَرَّدِ التَّلَفُّظِ وَهُوَ تَحْرِيكُ اللِّسَانِ وَإِنْ لَمْ يُسْمِعْ نَفْسَهُ (1) .
وَمَعَ هَذَا فَالإِْسْرَارُ بِالذِّكْرِ بِالْقَلْبِ بِدُونِ تَلَفُّظٍ وَلاَ تَحْرِيكٍ لِلِّسَانِ بَل بِإِمْرَارِ الْكَلاَمِ الَّذِي يَذْكُرُ بِهِ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ تَسْبِيحٍ وَتَحْمِيدٍ وَتَهْلِيلٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلِّهِ جَائِزٌ وَيُؤْجَرُ عَلَيْهِ فَاعِلُهُ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي (2) .
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الذِّكْرِ جَائِزٌ حَيْثُ يَمْتَنِعُ الذِّكْرُ اللِّسَانِيُّ، كَحَال قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْجِمَاعِ وَعِنْدَ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ إِمْرَارُ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَلْبِ لِلْجُنُبِ أَوِ الْحَائِضِ، قَال ابْنُ عَلاَّنَ: وَمِنْ ذَلِكَ الْهَمْسُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ بِقِرَاءَةٍ فَلاَ يَشْمَلُهَا النَّهْيُ (3) .

رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ:
39 - يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى مِقْدَارُ رَفْعِ الصَّوْتِ
__________
(1) تحفة الذاكرين ص 32، ونزل الأبرار ص 11، والفتوحات الربانية 1 / 155 وما بعدها
(2) الحديث تقدم تخريجه في ف / 3.
(3) الفتوحات الربانية 1 / 127 - 129.

(21/250)


الْمَأْذُونِ بِهِ فِي الذِّكْرِ، فَالأَْصْل أَنَّ الذَّاكِرَ يُنَاجِي رَبَّهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ وَسِعَ سَمْعُهُ الأَْصْوَاتَ،
فَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يَجْهَرَ بِالذِّكْرِ فَوْقَ مَا يُسْمِعُ نَفْسَهُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ لِلْخُشُوعِ وَأَبْعَدُ مِنَ الرِّيَاءِ، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْل بِالْغُدُوِّ وَالآْصَال وَلاَ تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} (1) وَقَال: {ادْعُوَا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (2) قَال بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَيِ الْمُعْتَدِينَ بِرَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ فِي الدُّعَاءِ (3) .
وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ (4) .
قَال فِي نُزُل الأَْبْرَارِ: الطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يَجْهَرَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ الْجَهْرُ، وَيُسِرَّ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ الإِْسْرَارُ، وَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ مُبَيَّنَةٌ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي لَمْ يَرِدْ فِيهِ الدَّلِيل عَلَى الْجَهْرِ أَوِ السِّرِّ فَالذَّاكِرُ فِيهِ بِالْخِيَارِ، وَلَكِنْ لاَ بُدَّ لِلذَّاكِرِ فِيهِ مِنْ مُلاَحَظَةِ
__________
(1) سورة الأعراف / 205.
(2) سورة الأعراف / 55.
(3) تحفة الذاكرين ص 36، وابن عابدين 2 / 175، وجواهر الإكليل 1 / 256.
(4) حديث: " اربعوا على أنفسكم ". أخرجه مسلم (4 / 2076، 2077 - ط الحلبي) من حديث أبي موسى الأشعري.

(21/250)


قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} (1) لِئَلاَّ يَتَجَاوَزَ الْحُدُودَ الْمَضْرُوبَةَ لَهُ (2) وَلِذَلِكَ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ مَعَ الْجِنَازَةِ (3) .
وَقَدِ اضْطَرَبَ كَلاَمُ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذَا الأَْصْل، فَنُقِل عَنِ الْقَاضِي أَنَّ الْجَهْرَ بِالذِّكْرِ فِي غَيْرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا حَرَامٌ لِمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَخْرَجَ جَمَاعَةً مِنَ الْمَسْجِدِ يُهَلِّلُونَ وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهْرًا، وَقَال لَهُمْ: مَا أَرَاكُمْ إِلاَّ مُبْتَدِعِينَ. وَقَال فِي الْفَتَاوَى الْخَيْرِيَّةِ: إِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ وَالأَْحْوَال فَالإِْسْرَارُ أَفْضَل حَيْثُ خِيفَ الرِّيَاءُ أَوْ تَأَذِّي الْمُصَلِّينَ أَوِ النِّيَامِ، وَالْجَهْرُ أَفْضَل حَيْثُ خَلاَ مِمَّا ذُكِرَ (4) .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الأَْصْل مَوَاضِعُ يَنْبَغِي فِيهَا الْجَهْرُ بِالذِّكْرِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الَّتِي قَدَّرَهَا الشَّرْعُ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهَا:
1 - مَا قُصِدَ بِهِ الإِْسْمَاعُ وَالتَّبْلِيغُ، كَالأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ وَتَكْبِيرَاتِ الإِْمَامِ وَقِرَاءَتِهِ فِي الْجَهْرِيَّةِ وَتَكْبِيرَاتِ الْمُبَلِّغِ وَإِلْقَاءِ السَّلاَمِ وَجَوَابِهِ. وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَجْهَرُ فِي ذَلِكَ بِالْقَدْرِ الَّذِي يَحْصُل بِهِ الْمَقْصُودُ (5) .
__________
(1) سورة الإسراء / 110.
(2) نزل الأبرار ص 8.
(3) فتح القدير 1 / 469.
(4) ابن عابدين 5 / 255.
(5) ابن عابدين 2 / 175.

(21/251)


وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (إِسْرَار، جَهْر) .
2 - بَعْضُ أَنْوَاعِ أَذْكَارِ الصَّلاَةِ وَرَدَتِ السُّنَّةُ فِيهَا بِالْجَهْرِ كَالْبَسْمَلَةِ، وَالتَّأْمِينِ، وَالْقُنُوتِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّحْمِيدِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ، وَالتَّلْبِيَةِ فِي الْحَجِّ (1) وَفِي بَعْضِ ذَلِكَ خِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مَوَاضِعِهِ، وَفِي مُصْطَلَحَيْ: (إِسْرَار، وَجَهْر) .
3 - بَعْضُ الأَْذْكَارِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّنْبِيهُ أَوِ التَّعْلِيمُ، أَوْ فَائِدَةٌ أُخْرَى كَأَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّسْمِيَةِ عَلَى الطَّعَامِ حَتَّى يُنَبِّهَ غَيْرَهُ، أَوْ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلاَةِ اللَّيْل لِيُسْمِعَ أَهْلَهُ (2) . قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَرَفْعُ صَوْتِ مُرَابِطٍ وَحَارِسِ بَحْرٍ بِالتَّكْبِيرِ فِي حَرَسِهِمْ لأَِنَّهُ شِعَارُهُمْ لَيْلاً وَنَهَارًا (3) .

الاِجْتِمَاعُ لِلذِّكْرِ:
40 - أَوْرَدَ صَاحِبُ نُزُل الأَْبْرَارِ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ لاَ يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ حَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ (4) ثُمَّ قَال: فِي الْحَدِيثِ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 256.
(2) كشاف القناع 1 / 366 - 368.
(3) جواهر الإكليل 1 / 256.
(4) حديث: " لا يقعد قوم يذكرون الله " أخرجه مسلم (4 / 2074 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة وأبي سعيد.

(21/251)


تَرْغِيبٌ عَظِيمٌ فِي الاِجْتِمَاعِ عَلَى الذِّكْرِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْخَصَائِصَ الأَْرْبَعَ فِي كُل وَاحِدَةٍ مِنْهَا مَا يُثِيرُ رَغْبَةَ الرَّاغِبِينَ، وَيُقَوِّي عَزِيمَةَ الصَّالِحِينَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ (1) .
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلاَئِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطَّرِيقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْل الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. الْحَدِيثَ، وَفِي آخِرِهِ فَيَقُول اللَّهُ عَزَّ وَجَل: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي غَفَرْتُ لَهُمْ. فَيَقُول مَلَكٌ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ: فِيهِمْ فُلاَنٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَال: هُمُ الْجُلَسَاءُ لاَ يَشْقَى جَلِيسُهُمْ (2) .
وَمِنْ هُنَا مَال النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ الْجُلُوسُ فِي حِلَقِ الذِّكْرِ (3) . وَأَوْرَدَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَال: مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلإِْسْلاَمِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا. . إِلَى أَنْ قَال: أَتَانِي جِبْرِيل فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلاَئِكَةَ (4) .
__________
(1) نزل الأبرار ص 17.
(2) حديث: " إن لله ملائكة يطوفون في الطرق " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 208 - 209 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 2069 - 2070 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) الفتوحات الربانية 1 / 89 - 106.
(4) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه " أخرجه مسلم (4 / 2075 - ط الحلبي) من حديث معاوية.

(21/252)


وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الاِجْتِمَاعُ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ حَسَنٌ إِذَا لَمْ يُتَّخَذْ سُنَّةً رَاتِبَةً وَلاَ اقْتَرَنَ بِهِ مُنْكَرٌ مِنْ بِدْعَةٍ (1) .
وَقَال عَطَاءٌ: " مَجَالِسُ الذِّكْرِ هِيَ مَجَالِسُ الْحَلاَل وَالْحَرَامِ، أَيْ مَجَالِسُ الْعِلْمِ " وَلاَ يَعْنِي ذَلِكَ انْحِصَارَ مَجَالِسِ الذِّكْرِ الْمَشْرُوعَةِ بِهَا، بَل هِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَجَالِسِ الذِّكْرِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ عَطَاءٌ التَّنْصِيصَ عَلَى أَخَصِّ أَنْوَاعِهِ، وَلَيْسَتْ مَجَالِسَ الْبِدَعِ وَمَزَامِيرَ الشَّيْطَانِ (2) .
وَعَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: لَوِ اجْتَمَعَ الْقَوْمُ لِقِرَاءَةٍ وَدُعَاءٍ وَذِكْرٍ فَعَنْهُ أَنَّهُ قَال: وَأَيُّ شَيْءٍ أَحْسَنُ مِنْهُ، وَعَنْهُ: لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ. وَعَنْهُ: أَنَّهُ مُحْدَثٌ.
وَنَقَل عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ: مَا أَكْرَهُهُ إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى غَيْرِ وَعْدٍ إِلاَّ أَنْ يُكْثِرُوا. قَال ابْنُ مَنْصُورٍ يَعْنِي يَتَّخِذُوهُ عَادَةً. وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ مِنْ جُمُوعِ أَهْل وَقْتِنَا فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمَشَاهِدِ فِي لَيَالٍ يُسَمُّونَهَا إِحْيَاءً. وَكَرِهَهُ مَالِكٌ (3) .

الذِّكْرُ الْجَمَاعِيُّ:
41 - وَهُوَ مَا يَنْطِقُ بِهِ الذَّاكِرُونَ الْمُجْتَمِعُونَ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ يُوَافِقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَدْ جَعَلَهُ
__________
(1) مختصر الفتاوى المصرية ص 86 مطبعة المدني.
(2) الفتوحات الربانية 1 / 114.
(3) كشاف القناع 1 / 432.

(21/252)


الشَّاطِبِيُّ إِذَا الْتُزِمَ بِدْعَةً إِضَافِيَّةً تُجْتَنَبُ (1) ، قَال: إِذَا نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ فَالْتَزَمَ قَوْمٌ الاِجْتِمَاعَ عَلَيْهِ عَلَى لِسَانٍ وَاحِدٍ وَصَوْتٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ فِي نَدْبِ الشَّرْعِ مَا يَدُل عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ الْمُلْتَزَمِ؛ لأَِنَّ الْتِزَامَ الأُْمُورِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ يُفْهَمُ عَلَى أَنَّهُ تَشْرِيعٌ، وَخُصُوصًا مَعَ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي مَجَامِعِ النَّاسِ كَالْمَسَاجِدِ، فَإِذَا أُظْهِرَتْ هَذَا الإِْظْهَارَ وَوُضِعَتْ فِي الْمَسَاجِدِ كَسَائِرِ الشَّعَائِرِ كَالأَْذَانِ وَصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ وَالْكُسُوفِ، فُهِمَ مِنْهَا بِلاَ شَكٍّ أَنَّهَا سُنَّةٌ إِنْ لَمْ تُفْهَمْ مِنْهَا الْفَرْضِيَّةُ، فَلَمْ يَتَنَاوَلْهَا الدَّلِيل الْمُسْتَدَل بِهِ، فَصَارَتْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ بِدَعًا مُحْدَثَةً. وَنَحْوُهُ لاِبْنِ الْحَاجِّ (2) فِي الْمَدْخَل (3) .
__________
(1) الاعتصام للشاطبي 1 / 200 القاهرة، المكتبة التجارية، وينظر ابن عابدين 5 / 255.
(2) اللجنة ترى أن اشتراك مجموعة في الأذكار المأثورة أو الأدعية الواردة أو قراءة القرآن بصوت واحد جائز بشرط عدم التشويش على المصلين أو غيرهم مما هم فيه من عمل مشروع ولا سيما إذا كانت هذه الطريقة تساعد على النشاط وتعليم غير المتعلم، وبشرط ألا تعتقد هذه الكيفية
(3) المدخل لابن الحاج 1 / 297.

(21/253)


حَال الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الذِّكْرِ:
42 - ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى حَال الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الذِّكْرِ، فَنَعَتَهُمْ تَارَةً بِالْوَجَل، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (1) ، وَبِالْخُشُوعِ، كَمَا قَال تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَل مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْل فَطَال عَلَيْهِمُ الأَْمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} (2) وَنَعَتَهُمْ تَارَةً أُخْرَى بِالطُّمَأْنِينَةِ عِنْدَ الذِّكْرِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (3) .
وَجَمَعَ بَيْنَ الأَْمْرَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّل أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمِنْ يُضْلِل اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (4) .
فَأَمَّا الْوَجَل فَهُوَ الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ مِنَ الرَّهْبَةِ عِنْدَ ذِكْرِ عَظَمَتِهِ وَجَلاَلِهِ وَنَظَرِهِ إِلَى الْقُلُوبِ وَالأَْعْمَال، وَذِكْرِ أَمْرِ الآْخِرَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحِسَابِ وَالْعِقَابِ، فَيَقْشَعِرُّ الْجَلْدُ بِسَبَبِ الْخَوْفِ الآْخِذِ بِمَجَامِعِ الْقُلُوبِ،
__________
(1) سورة الأنفال / 2.
(2) سورة الحديد / 16.
(3) سورة الرعد / 28.
(4) سورة الزمر / 23.

(21/253)


وَخَاصَّةً عِنْدَ تَذَكُّرِهِمْ مَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَالتَّفْرِيطِ فِي جَنْبِ اللَّهِ.
وَأَمَّا الطُّمَأْنِينَةُ فَهِيَ مَا يَحْصُل مِنْ لِينِ الْقَلْبِ وَرِقَّتِهِ وَسُكُونِهِ، وَذَلِكَ إِذَا سَمِعُوا مَا أُعِدَّ لِلْمُتَّقِينَ مِنْ جَزِيل الثَّوَابِ، وَذَكَرُوا رَحْمَتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَصِدْقَ وَعْدِهِ لِمَنْ فَعَل الطَّاعَاتِ وَاسْتَقَامَ عَلَى شَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى (1) .
وَقَدْ يَصْحَبُ الْخَشْيَةَ الْبُكَاءُ وَفَيْضُ الدَّمْعِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ قَال: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَل مِنَ الْبُكَاءِ (2) . وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِل إِلاَّ ظِلُّهُ. . فَذَكَرَ مِنْهُمْ: وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ (3) .
أَمَّا مَا يَتَكَلَّفُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنَ التَّغَاشِي وَالصَّعْقِ وَالصِّيَاحِ وَالشَّطْحِ فَقَدْ قَال الشَّاطِبِيُّ وَغَيْرُهُ: هُوَ بِدَعٌ مُسْتَنْكَرَةٌ. وَقَال ابْنُ كَثِيرٍ: قَال قَتَادَةُ فِي قَوْله تَعَالَى: {
__________
(1) تفسير الرازي 19 / 49، عند الآية 28 من سورة الرعد، وتفسير ابن كثير عند الآية نفسها، وتفسير القرطبي 9 / 315، 15 / 250.
(2) حديث عبد الله بن الشخير: " انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي " أخرجه النسائي (3 / 13 - ط المكتبة التجارية) ، والحاكم (1 / 264 دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) الحديث تقدم تخريجه في ف / 37.

(21/254)


ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (1) .
هَذَا نَعْتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَلَمْ يَنْعَتْهُمْ بِذَهَابِ عُقُولِهِمْ وَالْغَشَيَانِ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا هَذَا فِي أَهْل الْبِدَعِ (2) .
وَقَال الشَّاطِبِيُّ: وَقَدْ مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْل الْعِرَاقِ سَاقِطٍ، وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، فَقَال: مَا هَذَا؟ قَالُوا: إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَوْ سَمِعَ اللَّهَ عَزَّ وَجَل يُذْكَرُ، خَرَّ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، قَال ابْنُ عُمَرَ: وَاللَّهِ إِنَّا لَنَخْشَى اللَّهَ وَلاَ نَسْقُطُ، ثُمَّ قَال: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُل فِي جَوْفِ أَحَدِهِمْ، مَا كَانَ هَذَا صَنِيعَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَال الشَّاطِبِيُّ: وَهَذَا إِنْكَارٌ.
وَقِيل لأَِسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ: إِنَّ نَاسًا هَاهُنَا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ تَأْخُذُهُمْ غَشْيَةٌ، فَقَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ". ر وَقِيل لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ قَوْمًا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ يُغْشَى عَلَيْهِمْ. فَقَالَتْ: إِنَّ الْقُرْآنَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ تُنْزَفَ عَنْهُ عُقُول الرِّجَال، وَلَكِنَّهُ كَمَا قَال اللَّهُ تَعَالَى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ. . .} الآْيَةَ (3) .
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِل عَنِ الْقَوْمِ يُقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ فَيُصْعَقُونَ، قَال: " ذَلِكَ فِعْل الْخَوَارِجِ وَهَذَا تَنْبِيهٌ مِنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَنَّ هَذَا فِعْل مَنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنَ الدِّينِ إِلاَّ ظَاهِرَهُ، وَلَمْ
__________
(1) سورة الزمر / 23.
(2) تفسير ابن كثير 4 / 510 عند الآية 22 من سورة الزمر.
(3) سورة الزمر / 23.

(21/254)


يَفْقَهْ حُدُودَهُ، وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الأَْمْرَ كَانَ فِي الْخَوَارِجِ فَاشِيًا، كَمَا قَال أَبُو حَمْزَةَ الشَّارِي يَمْدَحُ أَصْحَابَهُ مِنَ الشُّرَاةِ " كُلَّمَا مَرُّوا بِآيَةِ خَوْفٍ شَهِقُوا خَوْفًا مِنَ النَّارِ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةِ رَحْمَةٍ شَهِقُوا شَوْقًا إِلَى الْجَنَّةِ (1) ".
وَعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَال: جِئْتُ أَبِي، فَقَال: أَيْنَ كُنْتَ؟ فَقُلْتُ: وَجَدْتُ أَقْوَامًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ، فَيُرْعَدُ أَحَدُهُمْ حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، فَقَعَدْتُ مَعَهُمْ. فَقَال: لاَ تَقْعُدْ بَعْدَهَا. فَرَآنِي كَأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ ذَلِكَ فِيَّ. فَقَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو الْقُرْآنَ، وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَتْلُوَانِ الْقُرْآنَ، فَلاَ يُصِيبُهُمْ هَذَا، أَفَتَرَاهُمْ أَخْشَعَ لِلَّهِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ فَرَأَيْتُ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَتَرَكْتُهُمْ (2) .

الرَّقْصُ وَالدَّوَرَانُ وَالطَّبْل وَالزَّمْرُ عِنْدَ الذِّكْرِ:
43 - يَزِيدُ بَعْضُ أَهْل الْبِدَعِ عِنْدَ الذِّكْرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أُمُورًا أُخْرَى، قَال الشَّاطِبِيُّ: يَا لَيْتَهُمْ وَقَفُوا عِنْدَ هَذَا الْحَدِّ الْمَذْمُومِ، وَلَكِنَّهُمْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ الرَّقْصَ وَالزَّمْرَ وَالدَّوَرَانَ وَالضَّرْبَ عَلَى الصُّدُورِ، وَبَعْضُهُمْ يَضْرِبُ عَلَى رَأْسِهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعَمَل الْمُضْحِكِ لِلْحَمْقَى، لِكَوْنِهِ مِنْ أَعْمَال الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ، الْمُبْكِي
__________
(1) البداية والنهاية لابن كثير 10 / 36 (38) في حوادث سنة 130 هـ.
(2) المدخل لابن الحاج 2 / 6.

(21/255)


لِلْعُقَلاَءِ، رَحْمَةً لَهُمْ، إِذْ لَمْ يُتَّخَذْ مِثْل هَذَا طَرِيقًا إِلَى اللَّهِ وَتَشَبُّهًا بِالصَّالِحِينَ (1) .
وَقَال الآْجُرِّيُّ: يُقَال لِمَنْ فَعَل هَذَا: اعْلَمْ أَنَّ أَصْدَقَ النَّاسِ مَوْعِظَةً، وَأَنْصَحَ النَّاسِ لأُِمَّتِهِ، وَأَرَقَّ النَّاسِ قَلْبًا، وَخَيْرَ النَّاسِ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ - أَيْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاَ يَشُكُّ فِي ذَلِكَ عَاقِلٌ، مَا صَرَخُوا عِنْدَ مَوْعِظَةٍ، وَلاَ زَعَقُوا، وَلاَ رَقَصُوا، وَلاَ زَفَنُوا، وَلَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَكَانُوا أَحَقَّ بِهِ أَنْ يَفْعَلُوهُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُ بِدْعَةٌ وَبَاطِلٌ وَمُنْكَرٌ (2) . اهـ.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَفِي الْمُلْتَقَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَرِهَ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْجِنَازَةِ وَالزَّحْفِ وَالتَّذْكِيرِ، فَمَا ظَنُّكَ عِنْدَ الْغِنَاءِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ وَجْدًا وَمَحَبَّةً فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ لاَ أَصْل لَهُ فِي الدِّينِ (3) .

قَسْوَةُ الْقَلْبِ عِنْدَ الذِّكْرِ:
44 - هَذِهِ حَالٌ مُقَابِلَةٌ لِحَال الْمُؤْمِنِينَ، وَمُشَابِهَةٌ لِحَال الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، قَال اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (4) فَكَانَ وَجَل الْقُلُوبِ عِنْدَ
__________
(1) الاعتصام للشاطبي 1 / 223 - 225، وتفسير القرطبي 15 / 249.
(2) الاعتصام للشاطبي 1 / 226.
(3) ابن عابدين 5 / 255.
(4) سورة الأنفال / 2.

(21/255)


الذِّكْرِ عَلاَمَةً عَلَى صِدْقِ إِيمَانِهِمْ وَإِنَابَتِهِمْ، وَقَال فِي شَأْنِ الْكُفَّارِ {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآْخِرَةِ} (1) وَفِي شَأْنِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} (2) .
وَقَدْ حَذَّرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَسْوَةِ الْقَلْبِ عِنْدَ الذِّكْرِ بِسَبَبِ طُول الأَْمَدِ وَالاِنْشِغَال بِمَا يَصْرِفُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالاِتِّعَاظِ بِهِ فَقَال: {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ. . .} (3) وَقَال تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَل مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْل فَطَال عَلَيْهِمُ الأَْمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (4) .
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَال: مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلاَمِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الآْيَةِ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} إِلاَّ أَرْبَعَ سِنِينَ (5) .
وَعَنْ أَنَسٍ قَال: اسْتَبْطَأَ اللَّهُ قُلُوبَ الْمُهَاجِرِينَ بَعْدَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ نُزُول الْقُرْآنِ فَأَنْزَل اللَّهُ: {
__________
(1) سورة الزمر / 45.
(2) سورة الزمر / 22.
(3) سورة النور / 37.
(4) سورة الحديد / 16.
(5) حديث ابن مسعود: أخرجه مسلم (4 / 2319 - ط الحلبي) .

(21/256)


أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} (1) .

الإِْكْثَارُ مِنَ الذِّكْرِ:
45 - الإِْكْثَارُ مِنَ الذِّكْرِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لِقَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (2) وَقَوْلِهِ: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (3) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ قَالُوا وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ (4) . وَقَال رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ شَرَائِعَ الإِْسْلاَمِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ؟ فَقَال: لاَ يَزَال لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ (5) .
وَذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ: {إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} (6) وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي
__________
(1) حديث أنس: أورده السيوطي في الدر المنثور (6 / 57 - ط دار الفكر) وعزاه لابن مردويه.
(2) سورة الأحزاب / 41، 42.
(3) سورة الأحزاب / 35.
(4) الحديث تقدم تخريجه في ف / 3.
(5) حديث: " لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله " أخرجه الترمذي (5 / 458 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن غريب ".
(6) سورة النساء / 142.

(21/256)


الذِّكْرِ الْكَثِيرِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الآْيَةِ، فَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ وَغُدُوًّا وَعَشِيًّا وَفِي الْمَضَاجِعِ وَكُلَّمَا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ وَكُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى. وَيُوَضِّحُهُ مَا قَالَهُ أَبُو عَمْرِو بْنِ الصَّلاَحِ عَمَّا يَصِيرُ بِهِ الْعَبْدُ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ، قَال: إِذَا وَاظَبَ عَلَى الأَْذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ الْمُثْبَتَةِ صَبَاحًا وَمَسَاءً فِي الأَْوْقَاتِ وَالأَْحْوَال الْمُخْتَلِفَةِ لَيْلاً وَنَهَارًا كَانَ مِنْهُمْ. أَيْ لأَِنَّهُ إِنْ وَاظَبَ عَلَيْهَا فَهِيَ تَشْمَل الأَْوْقَاتَ وَالأَْحْوَال. وَقَال عَطَاءٌ: مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بِحُقُوقِهَا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الآْيَةِ (1) .
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا أَيْقَظَ الرَّجُل أَهْلَهُ مِنَ اللَّيْل فَصَلَّيَا، أَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا كُتِبَا فِي الذَّاكِرِينَ وَالذَّاكِرَاتِ (2) .
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ: صِدْقُ كَثْرَةِ الذِّكْرِ عَلَى مَنْ وَاظَبَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَلَوْ قَلِيلاً أَكْمَل مِنْ صِدْقِهِ عَلَى مَنْ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا مِنْ غَيْرِ مُوَاظَبَةٍ (3) . وَفِي
__________
(1) الأذكار النووية والفتوحات الربانية 114 - 126، ونزل الأبرار ص9.
(2) حديث: " إذا أيقظ الرجل أهله من الليل " أخرجه أبو داود (2 / 74 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (2 / 416 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) نزل الأبرار ص 9، وعدة الحصن الحصين ص 33.

(21/257)


الْحَدِيثِ: أَحَبُّ الأَْعْمَال إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَل (1) .

وَيَتَعَلَّقُ بِالإِْكْثَارِ مِنَ الذِّكْرِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ أُمُورٌ مِنْهَا:

أ - التَّحْزِيبُ وَالأَْوْرَادُ وَقَضَاءُ مَا يَفُوتُ:
46 - قَال ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْحِزْبُ مِنَ الْقُرْآنِ الْوِرْدُ، وَهُوَ شَيْءٌ يَفْرِضُهُ الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ يَقْرَؤُهُ كُل يَوْمٍ. اهـ. وَالْمُرَادُ هُنَا مَا يُرَتِّبُهُ الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الأَْذْكَارِ. وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَصَلاَةِ الظُّهْرِ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْل (2) . وَهَذَا وَارِدٌ فِي الْحِزْبِ مِنَ الْقُرْآنِ، لَكِنْ قَال النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ لَهُ وَظِيفَةٌ مِنَ الذِّكْرِ فِي وَقْتٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، أَوْ عَقِبَ صَلاَةٍ، أَوْ حَالَةً مِنَ الأَْحْوَال، فَفَاتَتْهُ، أَنْ يَتَدَارَكَهَا وَيَأْتِيَ بِهَا إِذَا تَمَكَّنَ مِنْهَا وَلاَ يُهْمِلُهَا، فَإِنَّهُ إِذَا اعْتَادَ عَلَيْهَا لَمْ يُعَرِّضْهَا لِلتَّفْوِيتِ وَإِذَا تَسَاهَل فِي قَضَائِهَا سَهُل عَلَيْهِ تَضْيِيعُهَا فِي وَقْتِهَا. قَال الشَّوْكَانِيُّ: وَقَدْ كَانَ
__________
(1) حديث: " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 294 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 2171 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
(2) حديث: " من نام عن حزبه أو عن شيء منه " أخرجه مسلم (1 / 515 - ط الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب.

(21/257)


الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَقْضُونَ مَا فَاتَهُمْ مِنْ أَذْكَارِهِمُ الَّتِي يَفْعَلُونَهَا فِي أَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ.
وَقَال ابْنُ عَلاَّنَ: الْمُرَادُ بِالأَْحْوَال: الأَْحْوَال الْمُتَعَلِّقَةُ بِالأَْوْقَاتِ، لاَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالأَْسْبَابِ كَالذِّكْرِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلاَل وَسَمَاعِ الرَّعْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلاَ يُنْدَبُ تَدَارُكُهُ عِنْدَ فَوَاتِ سَبَبِهِ. وَمَنْ تَرَكَ الأَْوْرَادَ بَعْدَ اعْتِيَادِهَا يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ (1) .

ب - تَكْرَارُ الأَْذْكَارِ وَعَدُّهَا:
47 - تَكْرَارُ الذِّكْرِ مَشْرُوعٌ. وَقَدْ وَرَدَتِ الأَْحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ بِتَرْتِيبِ الأَْجْرِ عَلَى أَذْكَارٍ تُكَرَّرُ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ مَنْ قَال لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْل عَشْرِ رِقَابٍ وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ الْحَدِيثَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَل مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلاَّ رَجُلٌ عَمِل أَكْثَرَ مِنْهُ (2) .
وَالتَّكْرَارُ لِعَدَدٍ مَحْدُودٍ يَقْتَضِي عَدَّ الذِّكْرِ بِشَيْءٍ يَحْسِبُهُ بِهِ، وَوَرَدَ عَنْ يَسِيرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: عَلَيْكُنَّ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيل وَالتَّقْدِيسِ، وَاعْقِدْنَ
__________
(1) الفتوحات الربانية والأذكار النووية 1 / 149 وما بعدها، وعدة الحصن الحصين ص 33، ونزل الأبرار ص 10.
(2) حديث: " من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 201 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2071 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.

(21/258)


بِالأَْنَامِل فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولاَتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ (1) يَعْنِي أَنَّ الأَْنَامِل تَشْهَدُ لِلذَّاكِرِ، فَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَعْقِدْنَ عَدَدَ التَّسْبِيحِ مُسْتَعِينَاتٍ بِالأَْنَامِل.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْقِدُ التَّسْبِيحَ. وَفِي رِوَايَةٍ قَال: يَعْقِدُ التَّسْبِيحَ بِيَمِينِهِ (2) .
قَال ابْنُ عَلاَّنَ: يُحْتَمَل أَنَّ الْمُرَادَ الْعَقْدُ بِنَفْسِ الأَْنَامِل، أَوْ بِجُمْلَةِ الأَْصَابِعِ. قَال: وَالْعَقْدُ بِالْمَفَاصِل أَنْ يَضَعَ إِبْهَامَهُ فِي كُل ذِكْرٍ عَلَى مِفْصَلٍ، وَالْعَقْدُ بِالأَْصَابِعِ أَنْ يَعْقِدَهَا ثُمَّ يَفْتَحَهَا. وَفِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ: الْعَقْدُ هُنَا بِمَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ (3) .

وَيَجُوزُ التَّسْبِيحُ بِالْحَصَى وَالنَّوَى وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ عَقَدَ أَبُو دَاوُدَ بَابًا بِعِنْوَانِ: بَابُ التَّسْبِيحِ بِالْحَصَى (4) . أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل عَلَى امْرَأَةٍ وَبَيْنَ يَدَيْهَا نَوًى أَوْ حَصًى تُسَبِّحُ بِهِ، فَقَال: أُخْبِرُكِ بِمَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكِ مِنْ هَذَا أَوْ أَفْضَل،
__________
(1) حديث: " عليكن بالتسبيح. . . " أخرجه الترمذي (5 / 571 - ط الحلبي) ، وقال: " هذا حديث غريب ".
(2) حديث عبد الله بن عمرو: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح " أخرجه أبو داود (2 / 170 - 171 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 547 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، وصححه الذهبي.
(3) الفتوحات الربانية 3 / 250.
(4) عون المعبود 4 / 366 نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.

(21/258)


فَقَال: سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي السَّمَاءِ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي الأَْرْضِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ بَيْنَ ذَلِكَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقٌ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ مِثْل ذَلِكَ، وَلاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ مِثْل ذَلِكَ. (1)

اسْتِخْدَامُ السُّبْحَةِ فِي عَدَدِ الأَْذْكَارِ:
48 - السُّبْحَةُ كَمَا قَال ابْنُ مَنْظُورٍ هِيَ الْخَرَزَاتُ الَّتِي يَعُدُّ بِهَا الْمُسَبِّحُ تَسْبِيحَهُ قَال: وَهِيَ كَلِمَةٌ مُوَلَّدَةٌ، وَقَدْ قَال: الْمِسْبَحَةُ.
قَال الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ شَمْسُ الْحَقِّ شَارِحُ السُّنَنِ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ حَدِيثَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ السَّابِقِ ذِكْرُهُ: الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ عَدِّ التَّسْبِيحِ بِالنَّوَى وَالْحَصَى، وَكَذَا بِالسُّبْحَةِ لِعَدَمِ الْفَارِقِ، لِتَقْرِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَرْأَةِ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَمِ إِنْكَارِهِ، وَالإِْرْشَادُ إِلَى مَا هُوَ أَفْضَل مِنْهُ لاَ يُنَافِي الْجَوَازَ. قَال: وَقَدْ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ آثَارٌ، وَلَمْ يُصِبْ مَنْ قَال إِنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ (2) . وَجَرَى صَاحِبُ الْحِرْزِ عَلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ إِلاَّ أَنَّهُ قَال: إِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ، وَنَقَل
__________
(1) حديث: " دخل على امرأة وبين يديها نوى أو حصى تسبح به " أخرجه أبو داود (2 / 169 - 170 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وقال الذهبي عن راويه " خزيمة " في الميزان (1 / 653 - ط الحلبي) : " لا يعرف ". وألمح إلى روايته لهذا الحديث.
(2) عون المعبود 4 / 367 نشر دار الفكر بالتصوير عن طبعة السلفية بالمدينة.

(21/259)


ابْنُ عَلاَّنَ عَنْ شَرْحِ الْمِشْكَاةِ لاِبْنِ حَجَرٍ قَوْلَهُ: فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ نَدْبُ اتِّخَاذِ السُّبْحَةِ، وَزَعْمُ أَنَّهَا بِدْعَةٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، إِلاَّ أَنْ يُحْمَل عَلَى تِلْكَ الْكَيْفِيَّاتِ الَّتِي اخْتَرَعَهَا بَعْضُ السُّفَهَاءِ، مِمَّا يُمَحِّضُهَا لِلزِّينَةِ أَوِ الرِّيَاءِ أَوِ اللَّعِبِ (1) . اهـ.
وَرَدَّ ابْنُ عَلاَّنَ الْقَوْل بِأَنَّهَا بِدْعَةٌ بِأَنَّ إِقْرَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ عَلَى الْعَدِّ بِالْحَصَى أَوِ النَّوَى يَنْفِي أَنَّهَا بِدْعَةٌ فَإِنَّ الإِْقْرَارَ هُوَ مِنَ السُّنَّةِ، وَالسُّبْحَةُ فِي مَعْنَى الْعَدِّ بِالْحَصَى، إِذْ لاَ يَخْتَلِفُ الْغَرَضُ مِنْ كَوْنِهَا مَنْظُومَةً - أَيْ مَنْظُومَةً بِخَيْطٍ - أَوْ مَنْثُورَةً. قَال: وَقَدْ أَفْرَدْتُ السُّبْحَةَ بِجُزْءٍ لَطِيفٍ سَمَّيْتُهُ " إِيقَادُ الْمَصَابِيحِ لِمَشْرُوعِيَّةِ اتِّخَاذِ الْمَسَابِيحِ " أَوْرَدْتُ فِيهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الأَْخْبَارِ وَالآْثَارِ وَالاِخْتِلاَفِ فِي تَفَاضُل الاِشْتِغَال بِهَا أَوْ بِعَقْدِ الأَْصَابِعِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْعَقْدَ بِالأَْنَامِل أَفْضَل لاَ سِيَّمَا مَعَ الأَْذْكَارِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، أَمَّا فِي الأَْعْدَادِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي يُلْهِي الاِشْتِغَال بِعَدِّهَا عَنِ التَّوَجُّهِ لِلذِّكْرِ فَالأَْفْضَل اسْتِعْمَال السُّبْحَةِ (2) .

الْحِرْصُ عَلَى جَوَامِعِ الذِّكْرِ:
49 - الْمُرَادُ بِجَوَامِعِ الذِّكْرِ مَا يُقَيِّدُ فِيهِ الذَّاكِرُ لَفْظَ
__________
(1) في جعله اتخاذ السبحة للزينة أو اللعب بدعة نظر، لأن البدعة في الدين واتخاذها للزينة أو للعب أمر دنيوي لا حرج فيه لقوله تعالى: (قُل مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) الآية.
(2) الفتوحات الربانية 1 / 251، 252.

(21/259)


الذِّكْرِ بِعَدَدٍ كَبِيرٍ أَوْ مِقْدَارٍ عَظِيمٍ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الإِْرْشَادِ إِلَى ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الْمُتَقَدِّمُ، وَمِنْهَا حَدِيثُ جُوَيْرِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَمَا أَضْحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَال: مَا زِلْتُ عَلَى الْحَال الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ (1) .
وَنَحْوُ مَا وَرَدَ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلاَل وَجْهِكَ وَعَظِيمِ سُلْطَانِكَ (2) . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى (3) .
__________
(1) حديث جويرية: " أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها " أخرجه مسلم (4 / 2090 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك " أخرجه ابن ماجه (2 / 1249 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 261 - ط دار الجنان) : " هذا إسناد فيه مقال، وقدامة بن إبراهيم ذكره ابن حبان في الثقات، وصدقة ابن بشير لم أر من جرحه ولا من وثقه، وبقية رجال الإسناد ثقات ".
(3) حديث: " الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا " أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (ص 289 - ط مؤسسة الرسالة) من حديث أنس، وصححه ابن حبان (الإحسان 2 / 104 - ط دار الكتب العلمية) .

(21/260)


قَال الأَْبِيُّ: يَدُل الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ الْجَامِعَ يَحْصُل بِهِ مِنَ الثَّوَابِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحِبُّ الْجَوَامِعَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَيَدَعُ مَا سِوَى ذَلِكَ (1) . ثُمَّ قَال: وَالأَْظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الْكَثْرَةِ لاَ أَنَّهَا مِثْل كَلِمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعَدَدِ؛ لأَِنَّ كَلِمَاتِهِ تَعَالَى غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ.
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَال: عَدَدَ كَذَا، وَزِنَةَ كَذَا كُتِبَ لَهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ، وَفَضْل اللَّهِ يَمُنُّ بِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. قَال: وَلاَ يُتَّجَهُ هُنَا أَنْ يُقَال إِنَّ مَشَقَّةَ مَنْ قَال هَذَا أَخَفُّ مِنْ مَشَقَّةِ مَنْ كَرَّرَ اللَّفْظَ كَثِيرًا، فَإِنَّ هَذَا بَابٌ مَنَحَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِبَادِ اللَّهِ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ، وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ، تَخْفِيفًا عَلَيْهِمْ، وَتَكْثِيرًا لأُِجُورِهِمْ دُونَ تَعَبٍ وَلاَ نَصَبٍ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَنَقَل ابْنُ عَلاَّنَ عَنِ الشَّيْخِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ النُّوَيْرِيِّ قَوْلَهُ: قَدْ يَكُونُ الْعَمَل الْقَلِيل أَفْضَل مِنَ الْعَمَل الْكَثِيرِ كَقَصْرِ الصَّلاَةِ فِي السَّفَرِ أَفْضَل مِنَ الإِْتْمَامِ، لَكِنْ لَوْ نَذَرَ إِنْسَانٌ أَنْ يَقُول: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَشْرَ مَرَّاتٍ، فَقَال سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ لاَ يَخْرُجُ
__________
(1) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك " أخرجه أبو داود (2 / 163 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عائشة، وجود إسناده النووي في الأذكار (ص 596 - ط دار ابن كثير) .

(21/260)


عَنْ عُهْدَةِ نَذْرِهِ لأَِنَّ الْعَدَدَ هُنَا مَقْصُودٌ. وَجَعَل إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ نَظِيرَ ذَلِكَ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ أَلْفَ صَلاَةٍ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ صَلاَةً وَاحِدَةً، أَوْ نَذَرَ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَقَرَأَ سُورَةَ الإِْخْلاَصِ (1) .

كِتَابَةُ ذِكْرِ اللَّهِ وَأَحْكَامُ الذِّكْرِ الْمَكْتُوبِ:
50 - صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَحْرُمُ كِتَابَةُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِشَيْءٍ نَجَسٍ أَوْ عَلَى شَيْءٍ نَجَسٍ، فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ قَصْدًا لِلإِْهَانَةِ اسْتَحَقَّ الْقَتْل؛ لأَِنَّهُ رِدَّةٌ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا.
وَحَيْثُ كُتِبَ بِنَجَسٍ وَجَبَ غَسْلُهُ بِطَاهِرٍ أَوْ حَرْقُهُ لِصِيَانَتِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ طَاهِرًا فَتَنَجَّسَ، أَمَّا إِنْ لَمْ يُوجَدْ إِلاَّ مَاءٌ نَجَسٌ أَوْ نَارٌ نَجِسَةٌ فَلاَ يَجُوزُ الْغَسْل وَالتَّحْرِيقُ بِهِمَا وَيُعْدَل إِلَى دَفْنِ الذِّكْرِ فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ لاَ تَطَؤُهُ الأَْقْدَامُ. وَلاَ تُكْرَهُ فِي الذِّكْرِ كِتَابَتُهُ فِي السُّتُورِ أَوْ غَيْرِهَا بِغَيْرِ مَسْجِدٍ إِذَا لَمْ تَكُنْ تُدَاسُ، فَإِنْ كَانَتْ تُدَاسُ كُرِهَ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَيَحْرُمُ دَوْسُ الذِّكْرِ. قَالُوا: وَيُكْرَهُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَى حِيطَانِ الْمَسَاجِدِ ذِكْرٌ أَوْ غَيْرُهُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يُلْهِي الْمُصَلِّي.
وَكَرِهَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ شِرَاءَ ثَوْبٍ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ يُجْلَسُ عَلَيْهِ وَيُدَاسُ (2) ، وَكَرِهَ بَيْعَ
__________
(1) عدة الحصن الحصين ص 240، والفتوحات الربانية 1 / 195 - 199، 3 / 298، وشرح الأبي على صحيح مسلم 7 / 142، 143.
(2) كشاف القناع 1 / 137، ومطالب أولي النهى 1 / 155، 156، 159.

(21/261)


الثِّيَابِ الَّتِي عَلَيْهَا ذِكْرُ اللَّهِ لأَِهْل الذِّمَّةِ (1) . وَفِي الْفُرُوعِ: يَحْرُمُ مَسُّ ذِكْرِ اللَّهِ بِنَجَسٍ. وَلاَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ الذِّكْرُ أَوْ مَسُّ مَا فِيهِ ذِكْرٌ بِخِلاَفِ الْقُرْآنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَدَثُ أَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ لَوْ كَانَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ (2) .
وَفِي تَعْلِيقِ الذِّكْرِ الْمَكْتُوبِ لِدَفْعِ ضَرَرٍ وَاقِعٍ خِلاَفٌ. (ر: تَعْوِيذ ف 23) .

الأَْذْكَارُ الَّتِي رَتَّبَهَا الشَّارِعُ:
51 - رَتَّبَ الشَّارِعُ كَثِيرًا مِنَ الأَْذْكَارِ، فِي أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ.
فَمِنْهَا أَذْكَارٌ مُرَتَّبَةٌ بِحَسَبِ الزَّمَانِ كَأَذْكَارِ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ وَالظَّهِيرَةِ وَدُخُول الشَّهْرِ وَرُؤْيَةِ الْهِلاَل.
وَمِنْهَا أَذْكَارٌ بِحَسَبِ الْمَكَانِ.
وَمِنْهَا أَذْكَارٌ فِي الْعِبَادَاتِ، كَأَذْكَارِ الصَّلاَةِ وَمَا قَبْلَهَا، وَأَذْكَارُ الصَّوْمِ وَالإِْفْطَارِ مِنْهُ وَالْحَجِّ. وَمِنْهَا أَذْكَارٌ مُرَتَّبَةٌ لِلأَْفْعَال وَالأَْحْوَال، كَأَذْكَارِ النَّوْمِ وَالاِسْتِيقَاظِ مِنْهُ، وَأَذْكَارِ الْمَلْبَسِ وَالأَْكْل وَالشُّرْبِ وَالذَّبْحِ. وَأَذْكَارِ عَقْدِ النِّكَاحِ وَالْمُعَاشَرَةِ، وَأَذْكَارِ الْعُطَاسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَأَذْكَارٍ تُقَال عِنْدَ التَّطَيُّرِ وَالتَّشَاؤُمِ، وَعِنْدَ الْكَرْبِ وَالشِّدَّةِ، وَعِنْدَ السَّفَرِ وَالنُّزُول، وَالرُّكُوبِ وَالْعَوْدَةِ، وَأَذْكَارِ
__________
(1) المغني 8 / 535.
(2) مطالب أولي النهى 1 / 155، 156.

(21/261)


الْمَجَالِسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ أَلَّفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ تَآلِيفَ مَشْهُورَةً. وَيُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا بِالرُّجُوعِ إِلَى مَوَاضِعِهَا فِي هَذِهِ الْمَوْسُوعَةِ أَوْ فِي الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي الأَْذْكَارِ.

أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى الذِّكْرِ:
52 - مَا كَانَ مِنَ الأَْذْكَارِ وَاجِبًا لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَيْهِ.
قَال الْقَلْيُوبِيُّ: مَا كَانَ عَلَى مَسْنُونٍ كَالأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ الْقُرْآنِ تَجُوزُ الإِْجَارَةُ عَلَيْهَا وَأَخْذُ الأُْجْرَةِ حَيْثُ كَانَ فِي ذَلِكَ كُلْفَةٌ (1) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازُ أَخْذِ الأُْجْرَةِ عَلَى الأَْذَانِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي عَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ: أَنَّهُ يُكْرَهُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى الأَْذَانِ (2) .

ثَانِيًا: الذِّكْرُ بِمَعْنَى النُّطْقِ بِاسْمِ الشَّخْصِ أَوِ الشَّيْءِ:
53 - وَهُوَ بِمَعْنَى الْقَوْل أَوِ الْحِكَايَةِ.
وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِحَسَبِ الشَّيْءِ الْمَذْكُورِ أَوِ الشَّخْصِ الْمَذْكُورِ، وَبِحَسَبِ مَا يَقُولُهُ عَنْهُ. وَالأَْصْل أَنَّ الذِّكْرَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُبَاحٌ، وَتَعْرِضُ لَهُ
__________
(1) القليوبي 3 / 74.
(2) المغني 1 / 415.

(21/262)


الأَْحْكَامُ الأُْخْرَى: فَمِنْهُ مَا يَكُونُ وَاجِبًا كَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ بِحَقٍّ. فَإِنَّهَا ذِكْرٌ لِلْمَشْهُودِ بِهِ.
وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، كَذِكْرِ مَا يَكُونُ فِيهِ الْخَيْرُ، كَإِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَدَلاَلَتِهِمْ عَلَى الْمَعْرُوفِ، وَكَذِكْرِ الْفَاسِقِ الْمُجَاهِرِ بِمَا فِيهِ لِيُعْرَفَ، وَذِكْرِ أَهْل الْبِدَعِ لِئَلاَّ يُغْتَرَّ بِهِمْ.
وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مَكْرُوهًا كَالنُّطْقِ بِأَمْرٍ فِيهِ شُبْهَةُ التَّحْرِيمِ أَوِ الدَّلاَلَةُ عَلَيْهِ.
وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مُحَرَّمًا كَالْغِيبَةِ (1) ، وَهِيَ كَمَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ، قِيل: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُول؟ قَال: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُول فَقَدِ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ. وَقَدْ يَكُونُ مُكَفِّرًا كَمَنْ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ رَسُولَهُ أَوْ كِتَابَهُ بِاسْتِهْزَاءٍ أَوِ اسْتِخْفَافٍ فَيَسْتَحِقُّ قَائِلُهُ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الرِّدَّةِ إِنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَيُنْتَقَضُ عَهْدُهُ إِنْ كَانَ ذِمِّيًّا. وَانْظُرْ: (غِيبَة، رِدَّة، اسْتِخْفَاف) .

ثَالِثًا: الذِّكْرُ بِمَعْنَى اسْتِحْضَارِ الشَّيْءِ فِي الْقَلْبِ:
54 - وَهُوَ يُقَابِل النِّسْيَانَ. وَالذَّاكِرُ فِي حَال الْمُخَالَفَةِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ أَوْ فِعْل الْمُحَرَّمِ مُسْتَحِقٌّ لِلإِْثْمِ، وَتَلْزَمُهُ الأَْحْكَامُ
__________
(1) حديث: " ذكرك أخاك بما يكره " أخرجه مسلم (4 / 2001 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.

(21/262)


الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ سَوَاءٌ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ.
أَمَّا النِّسْيَانُ فَهُوَ مِنْ عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ، وَهُوَ عَدَمُ الاِسْتِحْضَارِ وَقْتَ الْحَاجَةِ. قَال شَارِحُ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: النِّسْيَانُ عُذْرٌ فِي حَقِّ الإِْثْمِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ. وَأَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ مَعَ مُذَكِّرٍ فَلاَ عُذْرَ، كَأَكْل النَّاسِي فِي الصَّلاَةِ مُطْلَقًا إِذْ هَيْئَاتُهَا مُذَكِّرَةٌ، وَصَيْدِ الْمُحْرِمِ نَاسِيًا إِذِ الإِْحْرَامُ مُذَكِّرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُذَكِّرٌ فَيَكُونُ عُذْرًا، كَالأَْكْل فِي نَهَارِ رَمَضَانَ نَاسِيًا، وَسَلاَمِ الْمُصَلِّي فِي الْقَعْدَةِ الأُْولَى نَاسِيًا وَتَرْكِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ نَاسِيًا (1) .
وَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ تَفْصِيل ذَلِكَ وَالْخِلاَفِ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (نِسْيَان) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلتَّذَكُّرِ:
55 - الذِّكْرُ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا يَطْرَأُ فِي الْغَالِبِ عَلَى الإِْنْسَانِ دُونَ إِرَادَتِهِ، لَكِنْ قَدْ يَتَكَلَّفُ التَّذَكُّرَ فَيَتَذَكَّرُ، وَمِنْ هُنَا فَقَدْ يَكُونُ مُكَلَّفًا بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصَالِحِ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِتَذَكُّرِ نِعَمِهِ لِيُشْكَرَ وَلِيَعْرِفَ الإِْنْسَانُ حَقَّ رَبِّهِ تَعَالَى مِنْ تَوْحِيدِهِ وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، كَمَا قَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَل مِنْ
__________
(1) فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت 1 / 170.

(21/263)


خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَْرْضِ} (1) وَأَمَرَ تَعَالَى بِذِكْرِ الآْخِرَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْهَوْل وَالْحِسَابِ وَنَعِيمِ الْجَنَّةِ وَعَذَابِ النَّارِ وَمَصَارِعِ الظَّالِمِينَ مِمَّنْ سَاقَ ذِكْرَهُمْ فِي كِتَابِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ. (2)
وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآْخِرَةَ (3) . وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِكُل إِنْسَانٍ صَحِيحًا كَانَ أَوْ مَرِيضًا ذِكْرُ الْمَوْتِ، بِأَنْ يَجْعَلَهُ نَصْبَ عَيْنَيْهِ؛ لأَِنَّهُ أَزْجَرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَأَدْعَى لِلطَّاعَةِ (4) .

رَابِعًا: الذِّكْرُ بِمَعْنَى الصِّيتِ وَالشَّرَفِ:
56 - امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (5) وَامْتَنَّ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ بِقَوْلِهِ: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ
__________
(1) سورة فاطر / 3.
(2) حديث: " أكثروا ذكر هاذم اللذات " أخرجه الترمذي (4 / 553 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة. وقال: " هذا حديث حسن غريب ".
(3) حديث: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور " أخرجه مسلم (3 / 1654 - ط الحلبي) من حديث بريدة، وقوله: (فإنها تذكر الآخرة) أخرجه أحمد (5 / 355 - ط الحلبي) .
(4) نهاية المحتاج 2 / 422، والمغني 2 / 448.
(5) سورة الشرح / 4.

(21/263)


تَعْقِلُونَ} (1) وَقَال: {بَل أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} (2) قَال الْقُرْطُبِيُّ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا الشَّرَفُ (3) . وَأَخْبَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ دَعَا اللَّهَ تَعَالَى فَقَال: {وَاجْعَل لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآْخِرِينَ} (4) قَال مُجَاهِدٌ: هُوَ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، وَقَال ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ الثَّنَاءُ وَخُلْدُ الْمَكَانَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَدْ أَجَابَ اللَّهُ دَعَوْتَهُ فَكُل أُمَّةٍ تَتَمَسَّكُ بِهِ وَتُعَظِّمُهُ.
قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَمِنْ هُنَا رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُل أَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ صَالِحًا، وَيُرَى فِي عَمَل الصَّالِحِينَ إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَل لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (5) أَيْ حُبًّا فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَثَنَاءً حَسَنًا (6) . فَنَبَّهَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَاجْعَل لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآْخِرِينَ} (7) عَلَى اسْتِحْبَابِ اكْتِسَابِ مَا يُورِثُ الذِّكْرَ الْجَمِيل.
قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَال الْمُحَقِّقُونَ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي الْعَمَل الصَّالِحِ الَّذِي يُكْسِبُ الثَّنَاءَ الْحَسَنَ.
__________
(1) سورة الأنبياء / 10.
(2) سورة المؤمنون / 71.
(3) تفسير القرطبي 11 / 273.
(4) سورة الشعراء / 84.
(5) سورة مريم / 96.
(6) تفسير القرطبي 13 / 113.
(7) سورة الشعراء / 84.

(21/264)


وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُثْنِي عَلَى مَنْ تَمَيَّزَ بِفِعْلٍ أَوْ فَضْلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَيَحْمَدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانُوا يُظْهِرُونَ سُرُورَهُمْ بِذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: إِنِّي أَكِل قَوْمًا إِلَى مَا جَعَل اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْغِنَى مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ قَال عَمْرٌو: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُمْرَ النَّعَمِ. (1) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُلِئَ عَمَّارٌ إِيمَانًا إِلَى مُشَاشِهِ (2) .
لَكِنْ عَلَى الْمُؤْمِنِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يَتَجَنَّبَ أُمُورًا:
الأَْوَّل: لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَطْلُبَ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ بِمَا لَيْسَ حَقًّا وَمَا لَمْ يَفْعَل، بِأَنْ يُرَائِيَ فَيُظْهِرَ لِلنَّاسِ مَا لَيْسَ فِيهِ مِنَ الْفَضَائِل، أَوْ يَدَّعِيَ بِأَفْعَال خَيْرٍ لَمْ يَفْعَلْهَا، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} (3) وَقَوْلُهُ: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا
__________
(1) حديث: " إني أكل قومًا إلى ما جعل الله في قلوبهم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 250 - ط السلفية) من حديث عمرو بن تغلب.
(2) حديث: " ملئ عمار إيمانًا إلى مشاشه " أخرجه النسائي (8 / 111 - ط المكتبة التجارية) ، والحاكم (3 / 392 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. والمشاش رؤوس العظام اللينة التي يمكن مضغها. ومفرده مشاشة وهو ما أشرف من عظم المنكب. (لسان العرب والنهاية لابن الأثير) .
(3) سورة آل عمران / 188.

(21/264)


لاَ تَفْعَلُونَ} (1) نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَقُولُونَ جَاهَدْنَا وَأَبْلَيْنَا وَلَمْ يُجَاهِدُوا، وَقِيل فِي تَفْسِيرِهَا غَيْرُ ذَلِكَ (2) .
الثَّانِي: أَنْ لاَ يَكُونَ قَصْدُهُ مِنَ الْعَمَل مُجَرَّدَ الثَّنَاءِ وَالذِّكْرِ الْجَمِيل، بَل يَعْمَل الْعَمَل الصَّالِحَ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَسُرُّهُ أَنْ يَظْهَرَ لِيُقْتَدَى بِهِ فِيهِ، أَوْ يَعْلَمَ مَكَانَهُ مِنَ الْفَضْل سُرُورًا بِالْخَيْرِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، قَال ابْنُ رُشْدٍ: سُئِل مَالِكٌ عَنِ الرَّجُل يُحِبُّ أَنْ يَلْقَى فِي طَرِيقِهِ الْمَجْدَ، وَيَكْرَهُ أَنْ يَلْقَى فِي طَرِيقِهِ السُّوءَ. فَأَمَّا رَبِيعَةُ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَال: إِذَا كَانَ أَوَّل أَمْرِهِ ذَلِكَ وَأَصْلُهُ لِلَّهِ فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} (3) .
وَقَال تَعَالَى: {وَاجْعَل لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآْخِرِينَ} (4) قَال مَالِكٌ: فَأَيُّ شَيْءٍ هَذَا إِلاَّ هَذَا؟ فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ يَكُونُ فِي الْقَلْبِ لاَ يَمْلِكُهُ، هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَمْنَعَهُ الْعَمَل (5) .
وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ مَنْ صَلَّى صَلاَةً لِيَرَاهَا النَّاسُ وَيَرَوْهُ فِيهَا فَيَشْهَدُوا لَهُ بِالإِْيمَانِ، أَوْ أَرَادَ طَلَبَ الْمَنْزِلَةِ وَالظُّهُورِ لِقَبُول الشَّهَادَةِ وَجَوَازِ الإِْمَامَةِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِالرِّيَاءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا الرِّيَاءُ الْمَعْصِيَةُ: أَنْ يُظْهِرَهَا صَيْدًا لِلنَّاسِ وَطَرِيقًا
__________
(1) سورة الصف / 3.
(2) تفسير القرطبي 18 / 78.
(3) سورة طه / 39.
(4) سورة الشعراء / 84.
(5) المقدمات لابن رشد 1 / 30.

(21/265)


لِلأَْكْل (1) . وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَنْ طَلَبَ بِالْعِبَادَةِ فَضْل اللَّهِ تَعَالَى فِي الآْخِرَةِ بِدُخُول جَنَّتِهِ وَالْخَلاَصِ مِنْ نَارِهِ لاَ يَكُونُ فِعْلُهُ مُنَافِيًا لِلإِْخْلاَصِ.
فَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ مِنَ الْعَمَل الصَّالِحِ مُجَرَّدَ الْعُلُوِّ فِي الأَْرْضِ وَتَحْصِيل الْمَصَالِحِ الْعَاجِلَةِ وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ الأَْوَّل وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ ذَلِكَ مُحْبِطًا لأَِجْرِهِ، بَل كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا وَفِيهِ فَيَقُول اللَّهُ تَعَالَى: وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأََنْ يُقَال جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيل، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ (2) وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا فَعَل الْعِبَادَةَ لِطَلَبِ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ فَهُوَ الرِّيَاءُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ (3) .
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: فَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يَكُونُ الدِّينُ مَقْصُودَهُ وَالدُّنْيَا وَسِيلَةً، وَبَيْنَ مَنْ تَكُونُ الدُّنْيَا مَقْصُودَهُ وَالدِّينُ وَسِيلَةً، وَالأَْشْبَهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ لَهُ فِي الآْخِرَةِ خَلاَقٌ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ (4) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (نِيَّة) .
__________
(1) تفسير القرطبي 5 / 423، وانظر الموافقات 2 / 402.
(2) حديث: " ولكنك قاتلت لأن يقال جريء " أخرجه مسلم (3 / 1514 - ط الحلبي) ، من حديث أبي هريرة.
(3) تفسير القرطبي 5 / 181، وفتح الباري 11 / 136، والداء والدواء لابن القيم ص 191، والفروق للقرافي 3 / 12.
(4) مجموع الفتاوى 26 / 20.

(21/265)


ذُكُورَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الذُّكُورَةُ لُغَةً خِلاَفُ الأُْنُوثَةِ، وَالتَّذْكِيرُ خِلاَفُ التَّأْنِيثِ، وَجَمْعُ الذَّكَرِ ذُكُورٌ، وَذُكُورَةٌ، وَذُكْرَانٌ، وَذِكَارَةٌ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} (1) .
وَمَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ هُوَ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - الْخُنُوثَةُ: حَالَةٌ بَيْنَ الذُّكُورَةِ وَالأُْنُوثَةِ (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: خُنْثَى) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالذُّكُورَةِ:
تَنَاوَل الْفُقَهَاءُ الأَْحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالذُّكُورَةِ فِي عِدَّةِ أَبْوَابٍ مِنْهَا:
__________
(1) سورة الشورى / 42.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، وغريب القرآن للأصفهاني مادة: (ذكر) .

(21/266)


فِي الصَّلاَةِ:
أ - الإِْمَامَةُ:
3 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الذُّكُورَةَ شَرْطٌ لإِِمَامَةِ الصَّلاَةِ، وَأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ تَؤُمَّ الْمَرْأَةُ رَجُلاً وَلاَ امْرَأَةً مِثْلَهَا، سَوَاءٌ كَانَتِ الصَّلاَةُ فَرِيضَةً أَوْ نَافِلَةً، وَسَوَاءٌ عُدِمَتِ الرِّجَال أَوْ وُجِدَتْ لِحَدِيثِ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً (1) .
وَتَبْطُل صَلاَةُ الْمَأْمُومِ دُونَ الْمَرْأَةِ الَّتِي صَلَّتْ إِمَامًا فَتَصِحُّ صَلاَتُهَا.
وَوَافَقَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ - مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ - فِي مَنْعِ إِمَامَتِهَا لِلرِّجَال، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: خَطَبَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: لاَ تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلاً (2) ، إِلاَّ أَنَّهُمْ خَالَفُوا الْمَالِكِيَّةَ فِي مَسْأَلَةِ إِمَامَةِ الْمَرْأَةِ لِلنِّسَاءِ فَيَرَوْنَ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ، وَالْحَنَفِيَّةُ يَرَوْنَ كَرَاهَةَ إِمَامَتِهَا لِلنِّسَاءِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَمَّتْ نِسْوَةً فِي صَلاَةِ الْعَصْرِ وَقَامَتْ وَسْطَهُنَّ وَكَذَا أُمُّ سَلَمَةَ. كَمَا أَنَّ بَعْضَ الْحَنَابِلَةِ يَرَوْنَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَؤُمَّ الْمَرْأَةُ الرِّجَال فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ وَتَكُونُ وَرَاءَهُمْ؛ لِمَا رُوِيَ
__________
(1) حديث: " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 13 / 53 - ط السلفية) من حديث أبي بكرة.
(2) حديث جابر: " لا تؤمنَّ امرأة رجلاً " أخرجه ابن ماجه (1 / 343 - ط الحلبي) وضعفه النووي في المجموع (4 / 255 - ط المنيرية) .

(21/266)


عَنْ أُمِّ وَرَقَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَل لَهَا مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ لَهَا وَأَمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ أَهْل دَارِهَا (1) .
وَذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ إِلَى صِحَّةِ صَلاَةِ الرِّجَال وَرَاءَ الْمَرْأَةِ (2) .

ب - صَلاَةُ الْجُمُعَةِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ الذُّكُورَةُ الْمُحَقَّقَةُ، فَلاَ تَجِبُ عَلَى امْرَأَةٍ وَلاَ عَلَى خُنْثَى مُشْكِلٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إِلاَّ أَرْبَعَةً: عَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَوِ امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيٌّ أَوْ مَرِيضٌ، (3) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلاَّ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا أَوِ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَمْلُوكًا، فَمَنِ اسْتَغْنَى بِلَهْوٍ أَوْ تِجَارَةٍ اسْتَغْنَى اللَّهُ عَنْهُ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (4) .
__________
(1) حديث أم ورقة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل لها مؤذنًا. . . " أخرجه أبو داود (1 / 397 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وصححه ابن خزيمة (3 / 89 - ط المكتب الإسلامي) .
(2) المجموع للإمام النووي 4 / 254، ومواهب الجليل 2 / 92، وجواهر الإكليل 1 / 78، والفواكه الدواني 1 / 238، والبدائع 1 / 157، والمغني لابن قدامة 2 / 198.
(3) حديث: " الجمعة حق واجب على كل مسلم " أخرجه أبو داود (1 / 644 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 288 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث طارق بن شهاب، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) حديث: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه. . . . . " أخرجه الدارقطني (2 / 3 - ط دار المحاسن) من حديث جابر بن عبد الله، وضعف إسناده ابن حجر في التلخيص (2 / 65 - ط شركة الطباعة الفنية) .

(21/267)


وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ حَضَرَتْ وَصَلَّتِ الْجُمُعَةَ صَحَّتْ مِنْهَا؛ لأَِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يُصَلِّينَ خَلْفَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ النِّسَاءُ فِي الْعَدَدِ الْمُشْتَرَطِ لاِنْعِقَادِ الْجُمُعَةِ عَلَى اخْتِلاَفِ الأَْقْوَال فِي الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ. (1)

فِي النِّكَاحِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَتَوَلَّى عَقْدَ النِّكَاحِ. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ - وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِي الْوَلِيِّ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تَمْلِكُ تَزْوِيجَ نَفْسِهَا وَلاَ غَيْرِهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، شَرِيفَةً أَوْ دَنِيئَةً، رَشِيدَةً أَوْ سَفِيهَةً، حُرَّةً أَوْ أَمَةً فَإِنْ فَعَلَتْ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ (2) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ
__________
(1) البدائع (1 / 258) ، والفواكه الدواني (1 / 309) ، ومغني المحتاج (1 / 276) ، والمغني لابن قدامة (2 / 327) .
(2) حديث: " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل " أخرجه الدارقطني (3 / 227 - ط دار المحاسن) من حديث عائشة، وفي إسناده مقال، ولكن له طرق يقوي بعضها بعضًا، ذكر بعضها الدارقطني، ويراجع نيل الأوطار للشوكاني (6 / 259 - ط دار الجيل) .

(21/267)


فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ. (1)
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ - وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الرَّشِيدَةِ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا وَنَفْسَ غَيْرِهَا، وَأَنْ تُوَكِّل فِي النِّكَاحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} ، (2) وَلأَِنَّ التَّزْوِيجَ خَالِصُ حَقِّهَا وَهِيَ مِنْ أَهْل الْمُبَاشَرَةِ، كَبَيْعِهَا وَبَاقِي تَصَرُّفَاتِهَا الْمَالِيَّةِ. (3)

فِي الْجِهَادِ:
6 - اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ الذُّكُورَةَ الْمُحَقَّقَةَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْجِهَادِ عَلَى الْمُسْلِمِ، فَلاَ يَجِبُ جِهَادٌ عَلَى امْرَأَةٍ، وَلاَ عَلَى خُنْثَى مُشْكِلٍ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ هَل عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ، عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لاَ قِتَال فِيهِ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ.} (4)
__________
(1) حديث: " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها. . . " أخرجه الترمذي (3 / 299 - ط الحلبي) من حديث عائشة، وقال: " حديث حسن ".
(2) سورة البقرة / 232.
(3) البدائع (2 / 247) ، والقوانين الفقهية (ص202) ، والجمل على شرح المنهج (4 / 138) ، والمغني لابن قدامة (7 / 449) .
(4) حديث عائشة: " هل على النساء جهاد. . . . . . . " أخرجه ابن ماجةماجه (2 / 968 - ط الحلبي) ، وإسناده صحيح.

(21/268)


وَلأَِنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَهْل الْقِتَال لِضَعْفِهَا، وَبِنْيَتُهَا لاَ تَحْتَمِل الْحَرْبَ عَادَةً، وَلِذَلِكَ لاَ يُسْهَمُ لَهَا مِنَ الْغَنِيمَةِ فِي حَالَةِ حُضُورِهَا. أَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكِل فَلأَِنَّهُ لاَ يُعْلَمُ كَوْنُهُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ مَعَ الشَّكِّ فِي هَذَا الشَّرْطِ.
وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ النَّفِيرُ عَامًّا - كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ - فَأَمَّا إِذَا عَمَّ النَّفِيرُ بِأَنْ هَجَمَ الْعَدُوُّ عَلَى بَلَدٍ فَهُوَ فَرْضُ عَيْنٍ يُفْتَرَضُ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَيَخْرُجُ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوْلاَهُ، وَالْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا وَالْوَلَدُ بِغَيْرِ إِذْنِ وَالِدَيْهِ. (1)

فِي الْجِزْيَةِ:
7 - قَال الْفُقَهَاءُ: لاَ تُضْرَبُ الْجِزْيَةُ إِلاَّ عَلَى الرِّجَال فَلاَ جِزْيَةَ عَلَى امْرَأَةٍ، وَلاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ. (2) . لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الأَْجْنَادِ أَنِ اضْرِبُوا الْجِزْيَةَ وَلاَ تَضْرِبُوهَا عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. (3)
__________
(1) البدائع (7 / 98) ، والفواكه الدواني (1 / 463) ، ومغني المحتاج (4 / 216) ، والمغني لابن قدامة (8 / 347) .
(2) البدائع (7 / 111) ، ومغني المحتاج (4 / 245) ، والمغني لابن قدامة (8 / 507) ، والقوانين الفقهية (ص 161) .
(3) أثر عمر: " ألا يضربوا الجزية على النساء ولا على الصبيان " أخرجه عبد الرزاق في المصنف (10 / 331 - ط المجلس العلمي) ، والبيهقي (9 / 195 - ط دائرة المعارف العثمانية) .

(21/268)


فِي الْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ:
أ - الإِْمَامَةُ الْعُظْمَى:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الإِْمَامِ الأَْعْظَمِ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا فَلاَ تَصِحُّ وِلاَيَةُ امْرَأَةٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً (1) . وَلِكَيْ يَتَمَكَّنَ مِنْ مُخَالَطَةِ الرِّجَال وَيَتَفَرَّغَ لِتَصْرِيفِ شُئُونِ الْحُكْمِ؛ وَلأَِنَّ هَذَا الْمَنْصِبَ تُنَاطُ بِهِ أَعْمَالٌ خَطِيرَةٌ، وَأَعْبَاءٌ جَسِيمَةٌ تُلاَئِمُ الذُّكُورَةَ. (2)
ب - الْقَضَاءُ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِي الْقَضَاءِ. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِي الْقَاضِي، فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ تَتَوَلَّى الْمَرْأَةُ وَظِيفَةَ الْقَضَاءِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً (3) . وَلَمْ يُوَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ وَلاَ مَنْ بَعْدَهُمُ امْرَأَةً قَضَاءً وَلاَ وِلاَيَةَ بَلَدٍ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمْ يَخْل مِنْهُ جَمِيعُ الزَّمَانِ غَالِبًا.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَاضِيَةً فِي
__________
(1) حديث: " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " سبق تخريجه (ف / 3) .
(2) حاشية ابن عابدين (1 / 368) ، والقوانين الفقهية (ص22) ، ومغني المحتاج (4 / 130) ، وكشاف القناع (6 / 159) .
(3) حديث: " لن يفلح قوم ولوا. . . . " سبق تخريجه (ف / 3) .

(21/269)


غَيْرِ الْحُدُودِ؛ لأَِنَّ شَهَادَتَهَا تُقْبَل فِي ذَلِكَ، وَأَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ - عِنْدَهُمْ - تَدُورُ مَعَ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ فَمَا يُقْبَل شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ فِيهِ يَجُوزُ أَنْ تَتَوَلَّى الْقَضَاءَ فِيهِ، وَمَا لاَ فَلاَ. قَال الْكَاسَانِيُّ: أَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ مِنْ شُرُوطِ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، بَل يَجُوزُ أَنْ تَتَوَلَّى الْمَرْأَةُ الْقَضَاءَ فِيمَا لاَ حُدُودَ فِيهِ وَلاَ قِصَاصَ. وَذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ إِلَى جَوَازِ تَوَلِّي الْمَرْأَةِ الْقَضَاءَ مُطْلَقًا؛ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُفْتِيَةً، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَاضِيَةً. (1)
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: قَضَاء.
10 - وَهُنَاكَ أَحْكَامٌ أُخْرَى تَخْتَصُّ بِالذُّكُورَةِ مِنْهَا: فِي الْعَقِيقَةِ، وَالْمِيرَاثِ، وَتَطْهِيرِ بَوْل الرَّضِيعِ، وَفِي الْعَوْرَةِ، وَلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ، وَالشَّهَادَةِ فِي الْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ، وَفِي الشَّهَادَاتِ عَامَّةً، وَفِي زَكَاةِ الأَْنْعَامِ، وَفِي الدِّيَاتِ. وَتُنْظَرُ هَذِهِ كُلُّهَا وَغَيْرُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (أُنُوثَة) .
__________
(1) البدائع (7 / 3) ، والقوانين الفقهية (ص299) ، ومغني المحتاج (4 / 375) ، والمغني لابن قدامة (9 / 39) .

(21/269)