الموسوعة
الفقهية الكويتية رَأْسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّأْسُ مُفْرَدٌ، وَجَمْعُ الْقِلَّةِ فِيهِ: أَرْؤُسٌ، وَجَمْعُ
الْكَثْرَةِ رُءُوسٌ.
وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: أَعْلَى كُل شَيْءٍ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى
سَيِّدِ الْقَوْمِ، وَعَلَى الْقَوْمِ إِذَا كَثُرُوا وَعَزُّوا. وَرَأْسُ
الْمَال: أَصْلُهُ (1) .
وَالاِصْطِلاَحُ الشَّرْعِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرَّأْسِ:
2 - تَخْتَلِفُ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرَّأْسِ بِاخْتِلاَفِ
مَوْضُوعِ الْحُكْمِ.
فَفِي الْوُضُوءِ يَجِبُ الْمَسْحُ بِالرَّأْسِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَأَمَّا مِقْدَارُ مَا يُمْسَحُ فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ
إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (وُضُوءٌ) .
وَفِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل الْمُحْرِمِ
تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهُ، وَتَجِبُ الْفِدْيَةُ فِيهِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٌ) .
وَفِي الْجِنَايَةِ عَلَى الرَّأْسِ قِصَاصٌ، أَوْ دِيَةٌ، أَوْ
__________
(1) تاج العروس، متن اللغة.
(22/5)
أَرْشٌ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ:
(جِنَايَةٌ، دِيَةٌ، أَرْشٌ) .
كَشْفُ الرَّأْسِ فِي الصَّلاَةِ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اسْتِحْبَابِ سَتْرِ الرَّأْسِ
فِي الصَّلاَةِ لِلرَّجُل، بِعِمَامَةٍ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، لأَِنَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَذَلِكَ يُصَلِّي (1) .
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَجِبُ عَلَيْهَا سَتْرُ رَأْسِهَا فِي الصَّلاَةِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (صَلاَةٌ وَعَوْرَةٌ) .
سَتْرُ الرَّأْسِ عِنْدَ دُخُول الْخَلاَءِ:
3 - يُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ يَدْخُل الْخَلاَءَ حَاسِرَ الرَّأْسِ (2) ،
لِخَبَرِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا
دَخَل الْخَلاَءَ لَبِسَ حِذَاءَهُ، وَغَطَّى رَأْسَهُ (3) .
ضَرْبُ الرَّأْسِ فِي الْحَدِّ، وَالتَّأْدِيبِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُضْرَبُ رَأْسُ
الْمَجْلُودِ لِلْحَدِّ أَوِ التَّعْزِيرِ؛ لأَِنَّهُ مِنَ الْمَقَاتِل،
وَرُبَّمَا
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالعمامة " ذكره صاحب
كشاف القناع (1 / 267 - ط عالم الكتب) نقلاً عن المجد ابن تيمية في شرحه.
وانظر: فتح القدير 1 / 297، وكشاف القناع 1 / 266 - 267، وأسنى المطالب 1 /
178، وروضة الطالبين 1 / 288.
(2) روضة الطالبين 1 / 66، وكشاف القناع 1 / 59، ابن عابدين 1 / 230.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء. . . " ذكره
صاحب كشاف القناع 1 / 59 - ط عالم الكتب) وعزاه إلى ابن سعد من حديث حبيب
بن صالح مرسلاً.
(22/5)
يُفْضِي ضَرْبُهُ إِلَى ذَهَابِ سَمْعِهِ،
وَبَصَرِهِ، وَعَقْلِهِ، أَوْ قَتْلِهِ، وَالْمَقْصُودُ تَأْدِيبُهُ لاَ
قَتْلُهُ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال
لِلْجَلاَّدِ: اتَّقِ الْوَجْهَ، وَالرَّأْسَ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهُ يُضْرَبُ الرَّأْسُ فِي
الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُخَافُ التَّلَفُ بِسَوْطٍ أَوْ
سَوْطَيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ قَال: اضْرِبُوا الرَّأْسَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ فِيهِ، وَهَذَا
هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
الْيَمِينُ عَلَى أَكْل الرُّءُوسِ:
5 - إِذَا حَلَفَ لاَ يَأْكُل رَأْسًا وَأَطْلَقَ، حُمِل عَلَى رُءُوسِ
الأَْنْعَامِ، وَهِيَ الْغَنَمُ، وَالإِْبِل، وَالْبَقَرُ؛ لأَِنَّهَا هِيَ
الَّتِي تُبَاعُ وَتُشْتَرَى فِي السُّوقِ مُنْفَرِدَةً، وَهِيَ
الْمُتَعَارَفَةُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ
عِنْدَهُمْ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَال الصَّاحِبَانِ: يُحْمَل عَلَى
رَأْسِ الْغَنَمِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَمَّا إِنْ
عَمَّمَ أَوْ خَصَّصَ فَإِنَّهُ يُتَّبَعُ، وَإِنْ قَصَدَ مَا يُسَمَّى
رَأْسًا حَنِثَ بِالْكُل (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مَبَاحِثِ الأَْيْمَانِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِشَعْرِ الرَّأْسِ مِنَ الأَْحْكَامِ فَيُنْظَرُ
فِي مُصْطَلَحِ: (شَعْرٌ) .
__________
(1) الاختيار 4 / 85، ومغني المحتاج 4 / 190، والمغني 8 / 314، ومواهب
الجليل 6 / 318.
(2) مغني المحتاج 4 / 335، والاختيار 4 / 64، وابن عابدين 3 / 91، وأسنى
المطالب 4 / 255.
(22/6)
رَأْسُ الْمَال
التَّعْرِيفُ:
1 - رَأْسُ الْمَال فِي اللُّغَةِ: أَصْل الْمَال بِلاَ رِبْحٍ وَلاَ
زِيَادَةٍ، وَهُوَ جُمْلَةُ الْمَال الَّتِي تُسْتَثْمَرُ فِي عَمَلٍ مَا
(1) . قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ
أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - يُذْكَرُ هَذَا الْمُصْطَلَحُ فِي: الزَّكَاةِ، وَالشَّرِكَةِ،
وَالْمُضَارَبَةِ، وَالسَّلَمِ، وَالرِّبَا، وَالْقَرْضِ، وَبُيُوعِ
الأَْمَانَاتِ، وَالْمُرَابَحَةِ، وَالتَّوْلِيَةِ، وَالْحَطِيطَةِ.
وَيُرْجَعُ إِلَى الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذَا الْمُصْطَلَحِ فِي
مَظَانِّهَا الْمَذْكُورَةِ.
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس، والمعجم الوسيط.
(2) سورة البقرة / 279.
(22/6)
رُؤْيَا
التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّؤْيَا عَلَى وَزْنِ فُعْلَى مَا يَرَاهُ الإِْنْسَانُ فِي
مَنَامِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لأَِلِفِ التَّأْنِيثِ كَمَا فِي
الْمِصْبَاحِ، وَتُجْمَعُ عَلَى رُؤًى.
وَأَمَّا الرُّؤْيَةُ بِالْهَاءِ فَهِيَ رُؤْيَةُ الْعَيْنِ
وَمُعَايَنَتُهَا لِلشَّيْءِ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ، وَتَأْتِي أَيْضًا
بِمَعْنَى الْعِلْمِ كَمَا فِي الصِّحَاحِ وَاللِّسَانِ، فَإِنْ كَانَتْ
بِمَعْنَى النَّظَرِ بِالْعَيْنِ فَإِنَّهَا تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ
وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الْعِلْمِ فَإِنَّهَا تَتَعَدَّى إِلَى
مَفْعُولَيْنِ (1) .
وَالرُّؤْيَا فِي الاِصْطِلاَحِ لاَ تَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْلْهَامُ:
2 - الإِْلْهَامُ فِي اللُّغَةِ: تَلْقِينُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
الْخَيْرَ لِعَبْدِهِ، أَوْ إِلْقَاؤُهُ فِي رُوعِهِ (2) .
__________
(1) المصباح، والقاموس مادة: (روى) ، الصحاح واللسان، مادة: (رأى) ،
والكليات 2 / 384 ط - دمشق.
(2) القاموس، واللسان، والصحاح، مادة: (لهم) .
(22/7)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: إِيقَاعُ شَيْءٍ
يَطْمَئِنُّ لَهُ الصَّدْرُ يَخُصُّ بِهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْضَ
أَصْفِيَائِهِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِلْهَامٌ) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرُّؤْيَا وَالإِْلْهَامِ أَنَّ الإِْلْهَامَ يَكُونُ
فِي الْيَقَظَةِ، بِخِلاَفِ الرُّؤْيَا فَإِنَّهَا لاَ تَكُونُ إِلاَّ فِي
النَّوْمِ.
ب - الْحُلُمُ:
3 - الْحُلُمُ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ اللاَّمِ وَقَدْ
تُسَكَّنُ تَخْفِيفًا هُوَ الرُّؤْيَا، أَوْ هُوَ اسْمٌ لِلاِحْتِلاَمِ
وَهُوَ الْجِمَاعُ فِي النَّوْمِ (2) . وَالْحُلُمُ وَالرُّؤْيَا وَإِنْ
كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَحْدُثُ فِي النَّوْمِ إِلاَّ أَنَّ الرُّؤْيَا
اسْمٌ لِلْمَحْبُوبِ فَلِذَلِكَ تُضَافُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى، وَالْحُلُمُ اسْمٌ لِلْمَكْرُوهِ فَيُضَافُ إِلَى الشَّيْطَانِ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الرُّؤْيَا مِنَ اللَّهِ،
وَالْحُلُمُ مِنَ الشَّيْطَانِ (3) ، وَقَال عِيسَى بْنُ دِينَارٍ:
الرُّؤْيَا رُؤْيَةُ مَا يُتَأَوَّل عَلَى الْخَيْرِ وَالأَْمْرِ الَّذِي
يُسَرُّ بِهِ، وَالْحُلُمُ هُوَ الأَْمْرُ الْفَظِيعُ الْمَجْهُول يُرِيهِ
الشَّيْطَانُ لِلْمُؤْمِنِ لِيُحْزِنَهُ وَلِيُكَدِّرَ عَيْشَهُ (4) .
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون.
(2) القاموس المحيط، مادة: (حلم) ، صحيح مسلم بشرح النووي 15 / 16 ط -
المصرية، تفسير القرطبي 9 / 124 ط - المصرية.
(3) حديث: " الرؤيا من الله والحلم من
الشيطان " أخرجه البخاري الفتح (12 / 369 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1771 -
ط الحلبي) ، من حديث أبي قتادة، وعند البخاري: " الرؤيا الصادقة ".
(4) المنتقى 7 / 277 ط - العربي.
(22/7)
ج - الْخَاطِرُ:
4 - الْخَاطِرُ هُوَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مَرَاتِبِ حَدِيثِ
النَّفْسِ، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ مَا يَخْطِرُ فِي الْقَلْبِ مِنْ
تَدْبِيرِ أَمْرٍ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ مَا يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ مِنَ
الْخِطَابِ أَوِ الْوَارِدُ الَّذِي لاَ عَمَل لِلْعَبْدِ فِيهِ،
وَالْخَاطِرُ غَالِبًا يَكُونُ فِي الْيَقَظَةِ بِخِلاَفِ الرُّؤْيَا (1) .
د - الْوَحْيُ:
5 - مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ كَمَا قَال ابْنُ فَارِسٍ الإِْشَارَةُ
وَالرِّسَالَةُ وَالْكِتَابَةُ وَكُل مَا أَلْقَيْتَهُ إِلَى غَيْرِك
لِيَعْلَمَهُ، وَهُوَ مَصْدَرُ وَحَى إِلَيْهِ يَحِي مِنْ بَابِ وَعَدَ،
وَأَوْحَى إِلَيْهِ بِالأَْلِفِ مِثْلُهُ، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَال
الْوَحْيِ فِيمَا يُلْقَى إِلَى الأَْنْبِيَاءِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
تَعَالَى (2) . فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّؤْيَا وَاضِحٌ،
وَرُؤْيَا الأَْنْبِيَاءِ وَحْيٌ، وَفِي الْحَدِيثِ: أَوَّل مَا بُدِئَ
بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ
الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ (3) .
الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ وَمَنْزِلَتُهَا:
6 - الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ حَالَةٌ شَرِيفَةٌ وَمَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ
كَمَا
__________
(1) المصباح مادة: (مطر) ، والمنثور للزركشي 2 / 33 ط - الأولى، والتعريفات
للجرجاني / 129 ط - العربي، والكليات 2 / 309 ط - دمشق.
(2) المصباح مادة: (وحي) .
(3) حديث: " أول ما بدئ به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا
الصادقة " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 22 - ط السلفية) من حديث عائشة.
(22/8)
ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ، قَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ
النُّبُوَّةِ إِلاَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ
الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ (1) . وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي
جَامِعِهِ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْل مِصْرَ سَأَل أَبَا الدَّرْدَاءِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (2) قَال: مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ مُنْذُ
سَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا،
فَقَال: مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ غَيْرُك مُنْذُ أُنْزِلَتْ، هِيَ
الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ (3) .
وَقَدْ حَكَمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ
الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ
النُّبُوَّةِ (4) وَرُوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَالْمُرَادُ بِالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ غَالِبُ رُؤَى الصَّالِحِينَ
__________
(1) حديث: " لم يبق من مبشرات النبوة. . . . " أخرجه مسلم (1 / 348 - ط
الحلبي) من حديث ابن عباس.
(2) سورة يونس / 64.
(3) حديث أبي الدرداء: ما سألني عنها أحد غيرك. أخرجه الترمذي (5 / 286 -
287 - ط الحلبي) ، وفي إسناده جهالة، ولكن له شاهد من حديث عبادة بن
الصامت، أخرجه أحمد (5 / 315 - ط الميمنية) وآخر من حديث أبي هريرة أخرجه
الطبري في تفسيره (15 / 131 - ط المعارف) يتقوى به.
(4) فتح الباري 12 / 362 - 363 ط الرياض، صحيح مسلم بشرح النووي 15 / 20 -
21 ط المصرية، تحفة الأحوذي 6 / 549 ط. الفجالة، وتفسير القرطبي 9 / 122 -
123 ط المصرية. وحديث: " الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من
النبوة " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 373 - ط السلفية) من حديث أبي سعيد
الخدري.
(22/8)
كَمَا قَال الْمُهَلَّبُ، وَإِلاَّ
فَالصَّالِحُ قَدْ يَرَى الأَْضْغَاثَ وَلَكِنَّهُ نَادِرٌ لِقِلَّةِ
تَمَكُّنِ الشَّيْطَانِ مِنْهُمْ، بِخِلاَفِ عَكْسِهِمْ، فَإِنَّ الصِّدْقَ
فِيهَا نَادِرٌ لِغَلَبَةِ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ، فَالنَّاسُ
عَلَى هَذَا ثَلاَثُ دَرَجَاتٍ.
- الأَْنْبِيَاءُ وَرُؤَاهُمْ كُلُّهَا صِدْقٌ، وَقَدْ يَقَعُ فِيهَا مَا
يَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرٍ.
- وَالصَّالِحُونَ وَالأَْغْلَبُ عَلَى رُؤَاهُمُ الصِّدْقُ، وَقَدْ يَقَعُ
فِيهَا مَا لاَ يَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرٍ.
- وَمَنْ عَدَاهُمْ وَقَدْ يَقَعُ فِي رُؤَاهُمُ الصِّدْقُ وَالأَْضْغَاثُ.
وَقَال الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْعَرَبِيُّ: إِنَّ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ
الصَّالِحِ هِيَ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَى أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ
لِصَلاَحِهَا وَاسْتِقَامَتِهَا، بِخِلاَفِ رُؤْيَا الْفَاسِقِ فَإِنَّهَا
لاَ تُعَدُّ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ، وَقِيل تُعَدُّ مِنْ أَقْصَى
الأَْجْزَاءِ، وَأَمَّا رُؤْيَا الْكَافِرِ فَلاَ تُعَدُّ أَصْلاً.
وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ أَنَّ الْمُسْلِمَ
الصَّادِقَ الصَّالِحَ هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ حَالُهُ حَال الأَْنْبِيَاءِ
فَأُكْرِمَ بِنَوْعٍ مِمَّا أُكْرِمَ بِهِ الأَْنْبِيَاءُ وَهُوَ
الاِطِّلاَعُ عَلَى الْغَيْبِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْفَاسِقُ
وَالْمُخَلِّطُ فَلاَ، وَلَوْ صَدَقَتْ رُؤْيَاهُمْ أَحْيَانًا فَذَاكَ
كَمَا قَدْ يَصْدُقُ الْكَذُوبُ، وَلَيْسَ كُل مَنْ حَدَّثَ عَنْ غَيْبٍ
يَكُونُ خَبَرُهُ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ كَالْكَاهِنِ وَالْمُنَجِّمِ
(1) .
__________
(1) فتح الباري (12 / 362 - 391 ط - الرياض، وصحيح مسلم بشرح النووي 15 /
20 - 21 ط المصرية، وتفسير القرطبي 9 / 124 ط الأولى.
(22/9)
هَذَا، وَقَدِ اسْتُشْكِل كَوْنُ
الرُّؤْيَا جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ مَعَ أَنَّ النُّبُوَّةَ انْقَطَعَتْ
بِمَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ذَكَرَ
الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ فَقِيل فِي الْجَوَابِ: إِنْ وَقَعَتِ الرُّؤْيَا
مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ جُزْءٌ مِنْ
أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ حَقِيقَةً، وَإِنْ وَقَعَتْ مِنْ غَيْرِ النَّبِيِّ
فَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ عَلَى سَبِيل الْمَجَازِ.
وَقَال الْخَطَّابِيُّ: قِيل مَعْنَاهُ: أَنَّ الرُّؤْيَا تَجِيءُ عَلَى
مُوَافَقَةِ النُّبُوَّةِ لاَ أَنَّهَا جُزْءٌ بَاقٍ مِنَ النُّبُوَّةِ،
وَقِيل الْمَعْنَى: إِنَّهَا جُزْءٌ مِنْ عِلْمِ النُّبُوَّةِ؛ لأَِنَّ
النُّبُوَّةَ وَإِنِ انْقَطَعَتْ فَعِلْمُهَا بَاقٍ (1) .
رُؤْيَا اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْمَنَامِ:
7 - اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ رُؤْيَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي
الْمَنَامِ فَقِيل: لاَ تَقَعُ، لأَِنَّ الْمَرْئِيَّ فِيهِ خَيَالٌ
وَمِثَالٌ، وَذَلِكَ عَلَى الْقَدِيمِ مُحَالٌ، وَقِيل: تَقَعُ لأَِنَّهُ
لاَ اسْتِحَالَةَ لِذَلِكَ فِي الْمَنَامِ (2) .
رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ:
8 - ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ مِنْ صَحِيحِهِ بَابًا
بِعِنْوَانِ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْمَنَامِ وَذَكَرَ فِيهِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ مِنْهَا: مَا رَوَاهُ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: " سَمِعْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) فتح الباري 12 / 363، 364
(2) الفروق 4 / 446، وتهذيب الفروق 4 / 271، وفتح الباري 12 / 387.
(22/9)
يَقُول: مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ
فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ وَلاَ يَتَمَثَّل الشَّيْطَانُ بِي (1) .
وَهَذِهِ الأَْحَادِيثُ تَدُل عَلَى جَوَازِ رُؤْيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي
الْفَتْحِ، وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَقْوَالاً مُخْتَلِفَةً
فِي مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَآنِي فِي
الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ.
وَالصَّحِيحُ مِنْهَا أَنَّ مَقْصُودَهُ أَنَّ رُؤْيَتَهُ فِي كُل حَالَةٍ
لَيْسَتْ بَاطِلَةً وَلاَ أَضْغَاثًا، بَل هِيَ حَقٌّ فِي نَفْسِهَا،
وَلَوْ رُئِيَ عَلَى غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا فِي
حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَصَوُّرُ تِلْكَ
الصُّورَةِ لَيْسَ مِنَ الشَّيْطَانِ بَل هُوَ مِنْ قِبَل اللَّهِ، وَقَال:
وَهَذَا قَوْل الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ،
وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ (2) أَيْ رَأَى الْحَقَّ
الَّذِي قَصَدَ إِعْلاَمَ الرَّائِي بِهِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا
وَإِلاَّ سَعَى فِي تَأْوِيلِهَا وَلاَ يُهْمِل أَمْرَهَا، لأَِنَّهَا
إِمَّا بُشْرَى بِخَيْرٍ، أَوْ إِنْذَارٌ مِنْ شَرٍّ إِمَّا لِيُخِيفَ
الرَّائِيَ، إِمَّا لِيَنْزَجِرَ عَنْهُ، وَإِمَّا لِيُنَبِّهَ عَلَى
حُكْمٍ يَقَعُ لَهُ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ (3) .
وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ أَنَّ رُؤْيَتَهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا تَصِحُّ لأَِحَدِ رَجُلَيْنِ: -
__________
(1) حديث: " من رآني في المنام فسيراني في اليقظة " أخرجه البخاري (الفتح
12 / 383 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1775 - ط الحلبي) واللفظ للبخاري.
(2) حديث: " فقد رأى الحق " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 383 - ط السلفية) من
حديث أبي قتادة.
(3) فتح الباري (12 / 384 - 385 ط الرياض) .
(22/10)
أَحَدُهُمَا: صَحَابِيٌّ رَآهُ فَعَلِمَ
صِفَتَهُ فَانْطَبَعَ فِي نَفْسِهِ مِثَالُهُ فَإِذَا رَآهُ جَزَمَ
بِأَنَّهُ رَأَى مِثَالَهُ الْمَعْصُومَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَيَنْتَفِي
عَنْهُ اللَّبْسُ وَالشَّكُّ فِي رُؤْيَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ.
وَثَانِيهِمَا: رَجُلٌ تَكَرَّرَ عَلَيْهِ سَمَاعُ صِفَاتِهِ
الْمَنْقُولَةِ فِي الْكُتُبِ حَتَّى انْطَبَعَتْ فِي نَفْسِهِ صِفَتُهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمِثَالُهُ الْمَعْصُومُ، كَمَا حَصَل
ذَلِكَ لِمَنْ رَآهُ، فَإِذَا رَآهُ جَزَمَ بِأَنَّهُ رَأَى مِثَالَهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا يَجْزِمُ بِهِ مَنْ رَآهُ،
فَيَنْتَفِي عَنْهُ اللَّبْسُ وَالشَّكُّ فِي رُؤْيَتِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَمَّا غَيْرُ هَذَيْنِ فَلاَ يَحِل لَهُ
الْجَزْمُ بَل يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَآهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
بِمِثَالِهِ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ مِنْ تَخْيِيل الشَّيْطَانِ، وَلاَ
يُفِيدُ قَوْل الْمَرْئِيِّ لِمَنْ رَآهُ أَنَا رَسُول اللَّهِ، وَلاَ
قَوْل مَنْ يَحْضُرُ مَعَهُ هَذَا رَسُول اللَّهِ؛ لأَِنَّ الشَّيْطَانَ
يَكْذِبُ لِنَفْسِهِ وَيَكْذِبُ لِغَيْرِهِ، فَلاَ يَحْصُل الْجَزْمُ،
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ صَرِيحًا فِي أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ
مِثَالِهِ الْمَخْصُوصِ لاَ يُنَافِي مَا تَقَرَّرَ فِي التَّعْبِيرِ أَنَّ
الرَّائِيَ يَرَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَيْخًا وَشَابًّا
وَأَسْوَدَ، وَذَاهِبَ الْعَيْنَيْنِ، وَذَاهِبَ الْيَدَيْنِ، وَعَلَى
أَنْوَاعٍ شَتَّى مِنَ الْمُثُل الَّتِي لَيْسَتْ مِثَالَهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ صِفَاتُ الرَّائِينَ
وَأَحْوَالُهُمْ تَظْهَرُ فِيهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ
كَالْمِرْآةِ لَهُمْ (1) .
__________
(1) الفروق (4 / 245 ط الأولى) .
(22/10)
تَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى قَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِعْلِهِ فِي
الرُّؤْيَا:
9 - مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْمَنَامِ يَقُول قَوْلاً أَوْ يَفْعَل فِعْلاً فَهَل يَكُونُ قَوْلُهُ
هَذَا أَوْ فِعْلُهُ حُجَّةً يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ أَوْ لاَ؟ .
ذَكَرَ الشَّوْكَانِيُّ فِي ذَلِكَ ثَلاَثَةَ أَقْوَالٍ: -
الأَْوَّل: أَنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً وَيَلْزَمُ الْعَمَل بِهِ، وَقَدْ
ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ مِنْهَا الأُْسْتَاذُ
أَبُو إِسْحَاقَ؛ لأَِنَّ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ حَقٌّ وَالشَّيْطَانُ لاَ يَتَمَثَّل بِهِ.
الثَّانِيَ: أَنَّهُ لاَ يَكُونُ حُجَّةً وَلاَ يَثْبُتُ بِهِ حُكْمٌ
شَرْعِيٌّ؛ لأَِنَّ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي الْمَنَامِ وَإِنْ كَانَتْ رُؤْيَا حَقٍّ وَأَنَّ الشَّيْطَانَ لاَ
يَتَمَثَّل بِهِ لَكِنِ النَّائِمُ لَيْسَ مِنْ أَهْل التَّحَمُّل
لِلرِّوَايَةِ لِعَدَمِ حِفْظِهِ.
الثَّالِثَ: أَنَّهُ يُعْمَل بِذَلِكَ مَا لَمْ يُخَالِفْ شَرْعًا
ثَابِتًا.
قَال الشَّوْكَانِيُّ: وَلاَ يَخْفَاكَ أَنَّ الشَّرْعَ الَّذِي شَرَعَهُ
اللَّهُ لَنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَدْ كَمَّلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَل وَقَال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ} (1) .
وَلَمْ يَأْتِنَا دَلِيلٌ يَدُل عَلَى أَنَّ رُؤْيَتَهُ فِي النَّوْمِ
بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَال فِيهَا
بِقَوْلٍ، أَوْ فَعَل فِيهَا فِعْلاً يَكُونُ دَلِيلاً وَحُجَّةً، بَل
قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ كَمَّل لِهَذِهِ الأُْمَّةِ مَا
شَرَعَهُ لَهَا عَلَى لِسَانِهِ وَلَمْ يَبْقَ
__________
(1) سورة المائدة / 3.
(22/11)
بَعْدَ ذَلِكَ حَاجَةٌ لِلأُْمَّةِ فِي
أَمْرِ دِينِهَا، وَقَدِ انْقَطَعَتِ الْبَعْثَةُ لِتَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ
وَتَبْيِينِهَا بِالْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ رَسُولاً حَيًّا وَمَيِّتًا،
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا ضَبْطَ النَّائِمِ لَمْ يَكُنْ
مَا رَآهُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِعْلِهِ
حُجَّةً عَلَيْهِ وَلاَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الأُْمَّةِ (1) .
وَذَكَرَ صَاحِبُ تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ أَيْضًا أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ مِنْ
صِحَّةِ الرُّؤْيَا التَّعْوِيل عَلَيْهَا فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ
لاِحْتِمَال الْخَطَأِ فِي التَّحَمُّل وَعَدَمِ ضَبْطِ الرَّائِي، ثُمَّ
ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَدُل عَلَى أَنَّ مَا يَثْبُتُ فِي الْيَقَظَةِ
مُقَدَّمٌ عَلَى مَا ثَبَتَ بِالنَّوْمِ عِنْدَ التَّعَارُضِ، قَال
الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ لِرَجُلٍ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ يَقُول لَهُ إِنَّ فِي الْمَحَل
الْفُلاَنِيِّ رِكَازًا اذْهَبْ فَخُذْهُ وَلاَ خُمُسَ عَلَيْكَ فَذَهَبَ
وَوَجَدَهُ وَاسْتَفْتَى ذَلِكَ الرَّجُل الْعُلَمَاءَ، فَقَال لَهُ
الْعِزُّ: أَخْرِجِ الْخُمُسَ فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ، وَقُصَارَى
رُؤْيَتِكَ الآْحَادُ، فَلِذَلِكَ لَمَّا اضْطَرَبَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ
بِالتَّحْرِيمِ وَعَدَمِهِ فِيمَنْ رَآهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي
الْمَنَامِ فَقَال لَهُ إِنَّ امْرَأَتَكَ طَالِقٌ ثَلاَثًا وَهُوَ
يَجْزِمُ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا لِتَعَارُضِ خَبَرِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ عَنْ تَحْرِيمِهَا فِي النَّوْمِ، وَإِخْبَارِهِ فِي
الْيَقَظَةِ فِي شَرِيعَتِهِ الْمُعَظَّمَةِ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ لَهُ،
اسْتَظْهَرَ الأَْصْل أَنَّ إِخْبَارَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي
الْيَقَظَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْخَبَرِ فِي النَّوْمِ لِتَطَرُّقِ
الاِحْتِمَال لِلرَّائِي بِالْغَلَطِ فِي ضَبْطِهِ الْمِثَال قَال: فَإِذَا
عَرَضْنَا عَلَى
__________
(1) إرشاد الفحول / 249 ط. الحلبي.
(22/11)
أَنْفُسِنَا احْتِمَال طُرُوِّ الطَّلاَقِ
مَعَ الْجَهْل بِهِ وَاحْتِمَال طُرُوِّ الْغَلَطِ فِي الْمِثَال فِي
النَّوْمِ وَجَدْنَا الْغَلَطَ فِي الْمِثَال أَيْسَرَ وَأَرْجَحَ، أَمَّا
ضَبْطُ عَدَمِ الطَّلاَقِ فَلاَ يَخْتَل إِلاَّ عَلَى النَّادِرِ مِنَ
النَّاسِ، وَالْعَمَل بِالرَّاجِحِ مُتَعَيِّنٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَال عَنْ
حَلاَلٍ إِنَّهُ حَرَامٌ، أَوْ عَنْ حَرَامٍ إِنَّهُ حَلاَلٌ، أَوْ عَنْ
حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ قَدَّمْنَا مَا ثَبَتَ فِي الْيَقَظَةِ
عَلَى مَا رَأَى فِي النَّوْمِ، كَمَا لَوْ تَعَارَضَ خَبَرَانِ مِنْ
أَخْبَارِ الْيَقَظَةِ صَحِيحَانِ فَإِنَّا نُقَدِّمُ الأَْرْجَحَ
بِالسَّنَدِ، أَوْ بِاللَّفْظِ، أَوْ بِفَصَاحَتِهِ، أَوْ قِلَّةِ
الاِحْتِمَال فِي الْمَجَازِ أَوْ غَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ خَبَرُ الْيَقَظَةِ
وَخَبَرُ النَّوْمِ يَخْرُجَانِ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ (1) .
تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا:
10 - التَّعْبِيرُ كَمَا ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ خَاصٌّ
بِتَفْسِيرِ الرُّؤْيَا، وَمَعْنَاهُ الْعُبُورُ مِنْ ظَاهِرِهَا إِلَى
بَاطِنِهَا، وَقِيل: هُوَ النَّظَرُ فِي الشَّيْءِ، فَيُعْتَبَرُ بَعْضُهُ
بِبَعْضٍ حَتَّى يَحْصُل عَلَى فَهْمِهِ حَكَاهُ الأَْزْهَرِيُّ،
وَبِالأَْوَّل جَزَمَ الرَّاغِبُ، وَقَال أَصْلُهُ مِنَ الْعَبْرِ بِفَتْحٍ
ثُمَّ سُكُونٍ، وَهُوَ التَّجَاوُزُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَخَصُّوا
تَجَاوُزَ الْمَاءِ بِسِبَاحَةٍ أَوْ فِي سَفِينَةٍ أَوْ غَيْرِهَا
بِلَفْظِ الْعُبُورِ بِضَمَّتَيْنِ، وَعَبَرَ الْقَوْمُ إِذَا مَاتُوا
كَأَنَّهُمْ جَازُوا الْقَنْطَرَةَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الآْخِرَةِ،
قَال: وَالاِعْتِبَارُ وَالْعِبْرَةُ الْحَالَةُ الَّتِي يُتَوَصَّل بِهَا
مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُشَاهَدِ إِلَى مَا لَيْسَ
__________
(1) تهذيب الفروق (4 / 270 - 271 ط - الأولى) .
(22/12)
بِمُشَاهَدٍ، وَيُقَال: عَبَرْتُ
الرُّؤْيَا بِالتَّخْفِيفِ إِذَا فَسَّرْتَهَا، وَعَبَّرْتُهَا
بِالتَّشْدِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ (1) .
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُمْ
لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} (2) أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ عُبُورِ النَّهْرِ،
فَعَابِرُ الرُّؤْيَا يَعْبُرُ بِمَا يَؤُول إِلَيْهِ أَمْرُهَا،
وَيَنْتَقِل بِهَا كَمَا فِي رُوحِ الْمَعَانِي مِنَ الصُّورَةِ
الْمُشَاهَدَةِ فِي الْمَنَامِ إِلَى مَا هِيَ صُورَةٌ وَمِثَالٌ لَهَا
مِنَ الأُْمُورِ الآْفَاقِيَّةِ وَالأَْنْفُسِيَّةِ الْوَاقِعَةِ فِي
الْخَارِجِ (3) .
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إِعْلاَمِ الْمُوَقِّعِينَ
صُوَرًا لِتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا وَتَأْوِيلِهَا، وَمِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ:
تَأْوِيل الثِّيَابِ بِالدِّينِ وَالْعِلْمِ، فَإِنَّ الرَّسُول صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّل الْقَمِيصَ فِي الْمَنَامِ بِالدِّينِ
وَالْعِلْمِ (4) .
وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا
يَسْتُرُ صَاحِبَهُ وَيُجَمِّلُهُ بَيْنَ النَّاسِ، فَالْقَمِيصُ يَسْتُرُ
بَدَنَهُ، وَالْعِلْمُ وَالدِّينُ يَسْتُرُ رُوحَهُ وَقَلْبَهُ،
وَيُجَمِّلُهُ بَيْنَ النَّاسِ.
وَتَأْوِيل اللَّبَنِ بِالْفِطْرَةِ لِمَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ
التَّغْذِيَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَيَاةِ وَكَمَال النَّشْأَةِ. وَتَأْوِيل
__________
(1) المصباح المنير، فتح الباري (12 / 352 ط - الرياض) .
(2) سورة يوسف / 43.
(3) تفسير القرطبي (9 / 200 ط - المصرية) ، روح المعاني (12 / 250 ط
المنيرية) .
(4) حديث: " إن الرسول صلى الله عليه وسلم أوَّل القميص في المنام بالدين
والعلم " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 395 - ط السلفية) دون قوله (والعلم) .
(22/12)
الْبَقَرِ بِأَهْل الدِّينِ وَالْخَيْرِ
الَّذِينَ بِهِمْ عِمَارَةُ الأَْرْضِ كَمَا أَنَّ الْبَقَرَ كَذَلِكَ.
وَتَأْوِيل الزَّرْعِ وَالْحَرْثِ بِالْعَمَل، لأَِنَّ الْعَامِل زَارِعٌ
لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
وَتَأْوِيل الْخَشَبِ الْمَقْطُوعِ الْمُتَسَانِدِ بِالْمُنَافِقِينَ،
وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُنَافِقَ لاَ رُوحَ فِيهِ وَلاَ ظِل
وَلاَ ثَمَرَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَشَبِ الَّذِي هُوَ كَذَلِكَ.
وَتَأْوِيل النَّارِ بِالْفِتْنَةِ لإِِفْسَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا
يَمُرُّ عَلَيْهِ وَيَتَّصِل بِهِ.
وَتَأْوِيل النُّجُومِ بِالْعُلَمَاءِ وَالأَْشْرَافِ لِحُصُول هِدَايَةِ
أَهْل الأَْرْضِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَلاِرْتِفَاعِ الأَْشْرَافِ بَيْنَ
النَّاسِ كَارْتِفَاعِ النُّجُومِ.
وَتَأْوِيل الْغَيْثِ بِالرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ
وَالْحِكْمَةِ وَصَلاَحِ حَال النَّاسِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الصُّوَرِ الْوَارِدَةِ فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا وَالْمَأْخُوذَةِ مِنَ
الأَْمْثِلَةِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ، ثُمَّ قَال: وَبِالْجُمْلَةِ
فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْثَال الْقُرْآنِ كُلِّهَا أُصُولٌ وَقَوَاعِدُ
لِعِلْمِ التَّعْبِيرِ لِمَنْ أَحْسَنَ الاِسْتِدْلاَل بِهَا، وَكَذَلِكَ
مَنْ فَهِمَ الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يُعَبِّرُ بِهِ الرُّؤْيَا أَحْسَنَ
تَعْبِيرٍ، وَأُصُول التَّعْبِيرِ الصَّحِيحَةُ إِنَّمَا أُخِذَتْ مِنْ
مِشْكَاةِ الْقُرْآنِ، فَالسَّفِينَةُ تُعَبَّرُ بِالنَّجَاةِ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} (1) وَتُعَبَّرُ
بِالتِّجَارَةِ. وَالطِّفْل الرَّضِيعُ يُعَبَّرُ بِالْعَدُوِّ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى
__________
(1) سورة العنكبوت / 15.
(22/13)
: {فَالْتَقَطَهُ آل فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ
لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} (1) .
وَالرَّمَادُ بِالْعَمَل الْبَاطِل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَل الَّذِينَ
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ}
(2) فَإِنَّ الرُّؤْيَا أَمْثَالٌ مَضْرُوبَةٌ لِيَسْتَدِل الرَّائِي بِمَا
ضُرِبَ لَهُ مِنَ الْمَثَل عَلَى نَظِيرِهِ، وَيَعْبُرُ مِنْهُ إِلَى
شَبَهِهِ (3) .
هَذَا وَمِمَّا وَرَدَ فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا مِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ
أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ
مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا
الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ، وَرَأَيْتُ
فِيهَا بَقَرًا وَاللَّهُ خَيْرٌ، فَإِذَا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ
أُحُدٍ، وَإِذَا الْخَيْرُ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ
وَثَوَابِ الصِّدْقِ الَّذِي أَتَانَا اللَّهُ بِهِ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ
(4) .
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَال: قَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ
أُوتِيتُ خَزَائِنَ الأَْرْضِ فَوُضِعَ فِي يَدَيَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ
فَكَبُرَا عَلَيَّ وَأَهَمَّانِي، فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنِ انْفُخْهُمَا
فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا الْكَذَّابَيْنِ
__________
(1) سورة القصص / 8.
(2) سورة إبراهيم / 18.
(3) أعلام الموقعين 1 / 190 - 195 ط - الكليات.
(4) حديث أبي موسى: " رأيت في المنام أني أهاجر إلى مكة " أخرجه البخاري
(الفتح 12 / 421 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1779 - 1780 - ط الحلبي) واللفظ
للبخاري.
(22/13)
اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا: صَاحِبَ
صَنْعَاءَ وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ (1) .
وَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: رَأَيْتُ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ خَرَجَتْ مِنَ
الْمَدِينَةِ حَتَّى قَامَتْ بِمَهْيَعَةَ، فَأَوَّلْتُ أَنَّ وَبَاءَ
الْمَدِينَةِ نُقِل إِلَى مَهْيَعَةَ وَهِيَ الْجُحْفَةُ (2) .
وَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: رَأَيْتُ فِي رُؤْيَايَ أَنِّي هَزَزْتُ
سَيْفًا فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ، فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ هَزَزْتُهُ أُخْرَى فَعَادَ أَحْسَنَ
مَا كَانَ، فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَتْحِ
وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ (3) .
هَذَا وَلاَ تُقَصُّ الرُّؤْيَا عَلَى غَيْرِ شَفِيقٍ وَلاَ نَاصِحٍ، وَلاَ
يُحَدَّثُ بِهَا إِلاَّ عَاقِلٌ مُحِبٌّ، أَوْ نَاصِحٌ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {قَال يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ
فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} (4) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لاَ تُقَصُّ الرُّؤْيَا إِلاَّ عَلَى عَالِمٍ أَوْ
__________
(1) حديث أبي هريرة: " بينا أنا نائم إذ أتيت خزائن الأرض " أخرجه البخاري
(الفتح 12 / 423 - ط السلفية) ومسلم (4 / 1781 - ط الحلبي) واللفظ للبخاري.
(2) حديث ابن عمر: " رأيت امرأة سوداء. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 12 /
426 - ط السلفية) .
(3) حديث أبي موسى: " رأيت في رؤياي أني هززت سيفًا " أخرجه البخاري (الفتح
12 / 427 - ط السلفية) .
(4) سورة يوسف / 5.
(22/14)
نَاصِحٍ (1) . وَأَنْ لاَ يَقُصَّهَا عَلَى
مَنْ لاَ يُحْسِنُ التَّأْوِيل، لِقَوْل مَالِكٍ: لاَ يُعَبِّرُ الرُّؤْيَا
إِلاَّ مَنْ يُحْسِنُهَا، فَإِنْ رَأَى خَيْرًا أَخْبَرَ بِهِ، وَإِنْ
رَأَى مَكْرُوهًا فَلْيَقُل خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، قِيل: فَهَل
يُعَبِّرُهَا عَلَى الْخَيْرِ وَهُوَ عِنْدَهُ عَلَى الْمَكْرُوهِ لِقَوْل
مَنْ قَال: إِنَّهَا عَلَى مَا تَأَوَّلَتْ عَلَيْهِ، فَقَال: لاَ، ثُمَّ
قَال: الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ، فَلاَ يُتَلاَعَبُ
بِالنُّبُوَّةِ.
وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا
وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ، وَلْيَتْفُل ثَلاَثًا، وَلاَ يُحَدِّثْ بِهَا
أَحَدًا فَإِنَّهَا لاَ تَضُرُّهُ، وَإِذَا رَأَى مَا يُحِبُّ فَعَلَيْهِ
أَنْ يَحْمَدَ، وَأَنْ يُحَدِّثَ بِهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ
بْنِ سَعِيدٍ قَال: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ يَقُول: " لَقَدْ كُنْتُ أَرَى
الرُّؤْيَا فَتُمْرِضُنِي حَتَّى سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ يَقُول: وَأَنَا
كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا تُمْرِضُنِي حَتَّى سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنَ اللَّهِ،
فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ فَلاَ يُحَدِّثْ بِهِ إِلاَّ مَنْ
يُحِبُّ، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ
شَرِّهَا وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَلْيَتْفُل ثَلاَثًا، وَلاَ يُحَدِّثْ
بِهَا أَحَدًا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ (2) .
__________
(1) حديث: " لا تقص الرؤيا إلا على عالم أو ناصح " أخرجه الترمذي (4 / 537
- ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(2) حديث أبي قتادة: " الرؤيا الحسنة من الله " أخرجه البخاري (الفتح 12 /
430 - ط السلفية) .
(22/14)
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤْيَا يُحِبُّهَا فَإِنَّهَا
مِنَ اللَّهِ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَيْهَا وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإِذَا
رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ فَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الشَّيْطَانِ،
فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا وَلاَ يَذْكُرْهَا لأَِحَدٍ فَإِنَّهَا لَنْ
تَضُرَّهُ (1) .
__________
(1) تفسير القرطبي 9 / 126 ط الأولى، فتح الباري 12 / 421 - 430 ط الرياض،
وصحيح مسلم بشرح النووي 15 / 31 - 34، وحديث أبي سعيد الخدري: " إذا رأى
أحدكم الرؤيا " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 430 - ط السلفية) .
(22/15)
رُؤْيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّؤْيَةُ لُغَةً: إدْرَاكُ الشَّيْءِ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ، وَقَال
ابْنُ سِيدَهْ: الرُّؤْيَةُ: النَّظَرُ بِالْعَيْنِ وَالْقَلْبِ.
وَالْغَالِبُ فِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ هُوَ الْمَعْنَى
الأَْوَّل، وَذَلِكَ كَمَا فِي رُؤْيَةِ الْهِلاَل، وَرُؤْيَةِ الْمَبِيعِ،
وَرُؤْيَةِ الشَّاهِدِ لِلشَّيْءِ الْمَشْهُودِ بِهِ وَهَكَذَا.
وَقَال الْجُرْجَانِيُّ: الرُّؤْيَةُ: الْمُشَاهَدَةُ بِالْبَصَرِ حَيْثُ
كَانَ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْدْرَاكُ:
2 - الإِْدْرَاكُ: هُوَ الْمَعْرِفَةُ فِي أَوْسَعِ مَعَانِيهَا، وَيَشْمَل
الإِْدْرَاكَ الْحِسِّيَّ وَالْمَعْنَوِيَّ (2) .
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ: انْطِبَاعُ صُورَةِ الشَّيْءِ فِي الذِّهْنِ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والصحاح، والتعريفات
للجرجاني.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، والصحاح.
(22/15)
وَبِذَلِكَ يَكُونُ الإِْدْرَاكُ أَعَمَّ
مِنَ الرُّؤْيَةِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِالْبَصَرِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ
الْحَوَاسِّ، وَلِذَلِكَ يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: مُدْرَكُ الْعِلْمِ
الَّذِي تَقَعُ بِهِ الشَّهَادَةُ: الرُّؤْيَةُ وَالسَّمَاعُ وَالشَّمُّ
وَالذَّوْقُ وَاللَّمْسُ (1) .
ب - النَّظَرُ:
3 - النَّظَرُ: طَلَبُ ظُهُورِ الشَّيْءِ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ أَوْ
غَيْرِهَا مِنَ الْحَوَاسِّ. وَالنَّظَرُ بِالْقَلْبِ مِنْ جِهَةِ
التَّفَكُّرِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّظَرِ وَالرُّؤْيَةِ أَنَّ النَّظَرَ
تَقْلِيبُ الْعَيْنِ حِيَال مَكَانِ الْمَرْئِيِّ طَلَبًا لِرُؤْيَتِهِ،
وَالرُّؤْيَةُ هِيَ إِدْرَاكُ الْمَرْئِيِّ. وَقَال الْبَاقِلاَّنِيُّ:
النَّظَرُ هُوَ الْفِكْرُ الَّذِي يُطْلَبُ بِهِ عِلْمٌ أَوْ غَلَبَةُ
ظَنٍّ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِطَلَبِ الرُّؤْيَةِ
بِاخْتِلاَفِ مَا تُسْتَعْمَل فِيهِ الرُّؤْيَةُ فَقَدْ تَكُونُ
الرُّؤْيَةُ وَاجِبَةً عَلَى الْكِفَايَةِ كَرُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ
كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ. وَقَدْ تَكُونُ الرُّؤْيَةُ مُسْتَحَبَّةً
كَرُؤْيَةِ الْمَخْطُوبَةِ. وَقَدْ تَكُونُ حَرَامًا كَرُؤْيَةِ عَوْرَةِ
الأَْجْنَبِيِّ. وَقَدْ تَكُونُ مُبَاحَةً كَرُؤْيَةِ الأَْشْيَاءِ
الْعَادِيَّةِ.
وَسَيَأْتِي تَفْصِيلٌ لِذَلِكَ فِي الْبَحْثِ.
__________
(1) المغني 9 / 158 ط الرياض.
(2) الفروق للعسكري 67، وكشاف اصطلاحات الفنون 6 / 1386.
(22/16)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالرُّؤْيَةِ مِنْ
أَحْكَامٍ:
رُؤْيَةُ الأَْجْنَبِيَّاتِ وَالْمَحَارِمِ:
5 - يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل تَعَمُّدُ رُؤْيَةِ مَا يُعْتَبَرُ عَوْرَةً
مِنَ الْمَرْأَةِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَحْرَمًا أَمْ أَجْنَبِيَّةً عَلَى
الاِخْتِلاَفِ بَيْنَ مَا هُوَ عَوْرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَحْرَمِ وَمَا
هُوَ عَوْرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْجْنَبِيِّ. هَذَا مَعَ اسْتِثْنَاءِ
حَالاَتِ الضَّرُورَةِ كَالنَّظَرِ لِلْعِلاَجِ أَوْ مِنْ أَجْل
الشَّهَادَةِ.
كَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ تَعَمُّدُ رُؤْيَةِ مَا يُعْتَبَرُ
عَوْرَةً مِنَ الرَّجُل سَوَاءٌ أَكَانَ مَحْرَمًا أَمْ أَجْنَبِيًّا مَعَ
الاِخْتِلاَفِ بَيْنَ مَا هُوَ عَوْرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَحْرَمِ وَمَا
هُوَ عَوْرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْجْنَبِيِّ.
وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل تَعَمُّدُ رُؤْيَةِ الْعَوْرَةِ مِنْ رَجُلٍ
آخَرَ. وَيَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ تَعَمُّدُ رُؤْيَةِ الْعَوْرَةِ مِنَ
امْرَأَةٍ أُخْرَى.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا
مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ
اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ
أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ
إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا. . .} (1) إِلَخْ الآْيَةِ.
وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِسْمَاءَ
بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: يَا
أَسْمَاءُ: إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ
أَنْ يُرَى مِنْهَا
__________
(1) سورة النور / 30، 31
(22/16)
إِلاَّ هَذَا وَهَذَا وَأَشَارَ إِلَى
وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ (1) .
وَتَعَمُّدُ النَّظَرِ بِشَهْوَةٍ إِلَى مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ حَرَامٌ
سَوَاءٌ أَكَانَ النَّظَرُ مِنَ الرَّجُل إِلَى الْمَرْأَةِ أَوِ
الْعَكْسَ؛ لأَِنَّهُ يَجُرُّ إِلَى الْفِتْنَةِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَلِيُّ لاَ تُتْبِعُ النَّظْرَةَ
النَّظْرَةَ، فَإِنَّ لَكَ الأُْولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآْخِرَةُ (2) ،
وَلِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الْفَضْل بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ رَدِيفَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَجِّ فَجَاءَتْهُ
الْخَثْعَمِيَّةُ تَسْتَفْتِيهِ، فَأَخَذَ الْفَضْل يَنْظُرُ إِلَيْهَا
وَتَنْظُرُ هِيَ إِلَيْهِ فَصَرَفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَجْهَ الْفَضْل عَنْهَا (3) . فَقَال لَهُ الْعَبَّاسُ فِي رِوَايَةٍ:
لَوَيْتَ عُنُقَ ابْنِ عَمِّكَ. قَال: رَأَيْتُ شَابًّا وَشَابَّةً فَلَمْ
آمَنِ الشَّيْطَانَ عَلَيْهِمَا (4) .
هَذَا مَعَ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ فِي الْجُمْلَةِ
بِنَظَرِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى عَوْرَةِ الآْخَرِ فَيَحِل
لِكُلٍّ مِنْهُمَا النَّظَرُ إِلَى كُل بَدَنِ الآْخَرِ.
__________
(1) حديث: " يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت. . . . " أخرجه أبو داود (4 /
358 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عائشة، وقال أبو داود: " هذا مرسل،
خالد بن دريك لم يدرك عائشة ".
(2) حديث: " يا علي، لا تتبع النظرة النظرة. . . . . . . . . . " أخرجه
الترمذي (5 / 101 - ط الحلبي) من حديث بريدة، وقال الترمذي: " حديث حسن
غريب ".
(3) حديث الفضل بن العباس مع الخثعمية أخرجه البخاري (الفتح 3 / 378 - ط
السلفية) ، ومسلم (2 / 973 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.
(4) أخرجها الترمذي (3 / 224) ط الحلبي (وقال: حديث حسن صحيح) .
(22/17)
وَيَجُوزُ فِي الْجُمْلَةِ رُؤْيَةُ
الإِْنْسَانِ عَوْرَةَ نَفْسِهِ (1) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَاتِ: (أَجْنَبِيٌّ، أُنُوثَةٌ،
حِجَابٌ، سَتْرُ الْعَوْرَةِ، عَوْرَةٌ، نَظَرٌ) .
رُؤْيَةُ الْمَخْطُوبَةِ:
6 - الأَْصْل أَنَّ تَعَمُّدَ رُؤْيَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ حَرَامٌ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}
(2) لَكِنْ مَنْ أَرَادَ النِّكَاحَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ
إِلَى مَنْ يُرِيدُ نِكَاحَهَا، بَل يُسَنُّ ذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَقَدْ
خَطَبَ امْرَأَةً: انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ
بَيْنَكُمَا (3) ، بَل يَجُوزُ تَكْرَارُ النَّظَرِ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ
لِيَتَبَيَّنَ هَيْئَتَهَا، فَلاَ يَنْدَمُ بَعْدَ النِّكَاحِ، إِذْ لاَ
يَحْصُل الْغَرَضُ غَالِبًا بِأَوَّل نَظْرَةٍ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ
(4) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (خِطْبَةٌ) .
رُؤْيَةُ الْمُتَيَمِّمِ الْمَاءَ:
7 - مَنْ تَيَمَّمَ لِلصَّلاَةِ لِعَدَمِ وُجُودِ الْمَاءِ ثُمَّ رَأَى
__________
(1) ابن عابدين 5 / 233 وما بعدها، والدسوقي 1 / 214 وما بعدها، ومغني
المحتاج 3 / 128، 129، والمغني 6 / 554 وما بعدها، والقرطبي 12 / 222 وما
بعدها.
(2) سورة النور / 30.
(3) حديث: " انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينكما. . " أخرجه الترمذي (3 /
397 - ط الحلبي) ، وقال: " حديث حسن ".
(4) مغني المحتاج 3 / 128، والمغني 6 / 552 - 553، والدسوقي 2 / 215.
(22/17)
الْمَاءَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى
اسْتِعْمَالِهِ قَبْل الدُّخُول فِي الصَّلاَةِ بَطَل تَيَمُّمُهُ وَوَجَبَ
عَلَيْهِ الْوُضُوءُ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ
يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ (1) .
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ بُطْلاَنَ التَّيَمُّمِ بِمَا إِذَا اتَّسَعَ
الْوَقْتُ لأَِدَاءِ رَكْعَةٍ بَعْدَ اسْتِعْمَال الْمَاءِ وَإِلاَّ فَلاَ
يَبْطُل التَّيَمُّمُ.
وَذَهَبَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ
لاَ يَنْتَقِضُ بِوُجُودِ الْمَاءِ أَصْلاً؛ لأَِنَّ الطَّهَارَةَ بَعْدَ
صِحَّتِهَا لاَ تَنْتَقِضُ إِلاَّ بِالْحَدَثِ، وَوُجُودُ الْمَاءِ لَيْسَ
بِحَدَثٍ (2) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (حَدَثٌ، وَوُضُوءٌ، وَتَيَمُّمٌ،
وَصَلاَةٌ) .
رُؤْيَةُ الْمَبِيعِ:
8 - مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ الْعِلْمُ بِالْمَبِيعِ، فَلاَ يَصِحُّ
الْبَيْعُ مَعَ الْجَهْل بِالْمَبِيعِ، وقَوْله تَعَالَى: {وَأَحَل اللَّهُ
الْبَيْعَ} (3) مَخْصُوصٌ بِمَا إِذَا عَلِمَ الْمَبِيعَ.
وَمِنَ الأُْمُورِ الَّتِي يَتِمُّ بِهَا الْعِلْمُ بِالْمَبِيعِ
الرُّؤْيَةُ الْمُقَارِنَةُ لِلْعَقْدِ، فَإِذَا رَأَى الْمُتَعَاقِدَانِ
الْمَبِيعَ حَال
__________
(1) حديث: " إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم. . . . " أخرجه الترمذي
(1 / 212 - ط لحلبي) ، والحاكم (1 / 176 - 177 - ط دائرة المعارف
العثمانية) من حديث أبي ذر، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) البدائع 1 / 57، والدسوقي 1 / 158 - 159، وجواهرالإكليل 1 / 28، وأسنى
المطالب 1 / 88، والمغني 1 / 268 - 269، والقواعد لابن رجب ص 10
(3) سورة البقرة / 275.
(22/18)
الْعَقْدِ يَكُونُ الْبَيْعُ لاَزِمًا
فَلاَ يَكُونُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، وَيَقُومُ
مَقَامَ الرُّؤْيَةِ الْمُقَارِنَةِ لِلْعَقْدِ الرُّؤْيَةُ السَّابِقَةُ
عَلَى الْعَقْدِ بِزَمَنٍ لاَ يَتَغَيَّرُ فِيهِ الْمَبِيعُ غَالِبًا
تَغَيُّرًا ظَاهِرًا فِيهِ لِحُصُول الْعِلْمِ بِالْمَبِيعِ بِتِلْكَ
الرُّؤْيَةِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ شَاهَدَاهُ حَالَةَ الْعَقْدِ، وَالشَّرْطُ
إِنَّمَا هُوَ الْعِلْمُ، وَإِنَّمَا الرُّؤْيَةُ طَرِيقُ الْعِلْمِ، وَلاَ
حَدَّ لِلزَّمَنِ الَّذِي لاَ يَتَغَيَّرُ فِيهِ الْمَبِيعُ، إِذِ
الْمَبِيعُ مِنْهُ مَا يُسْرِعُ تَغَيُّرُهُ، وَمَا يَتَبَاعَدُ، وَمَا
يَتَوَسَّطُ، فَيُعْتَبَرُ كُلٌّ بِحَسَبِهِ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَبِيعَ
عَلَى حَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ أَصْبَحَ الْبَيْعُ لاَزِمًا وَلاَ خِيَارَ
فِيهِ، وَإِنْ وَجَدَ الْمَبِيعَ مُتَغَيِّرًا عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي
رَآهُ عَلَيْهَا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي.
وَجَوَازُ الْبَيْعِ بِالرُّؤْيَةِ السَّابِقَةِ عَلَى الْعَقْدِ هُوَ
رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَقَال أَبُو الْقَاسِمِ الأَْنْمَاطِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ
يَجُوزُ فِي الْقَوْل الْجَدِيدِ لِلشَّافِعِيِّ حَتَّى يَرَيَا الْمَبِيعَ
حَال الْعَقْدِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ
الْحَكَمِ وَحَمَّادٍ؛ لأَِنَّ الرُّؤْيَةَ شَرْطٌ فِي الْعَقْدِ، وَمَا
كَانَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا حَال
الْعَقْدِ كَالشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي (خِيَارُ الرُّؤْيَةِ) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 292 - 293، وابن عابدين 4 / 69، وجواهر الإكليل 2 /
9، والدسوقي 3 / 24، ومغني المحتاج 2 / 18 - 19، والمهذب 1 / 271، والمغني
3 / 583، وشرح منتهى الإرادات 2 / 146
(22/18)
الرُّؤْيَةُ الْمُعْتَبَرَةُ:
9 - الْمُعْتَبَرُ فِي رُؤْيَةِ الْمَبِيعِ الْعِلْمُ بِالْمَقْصُودِ
الأَْصْلِيِّ مِنْ مَحَل الْعَقْدِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلاَفِ الْمَقَاصِدِ،
فَلَيْسَ مِنَ اللاَّزِمِ رُؤْيَةُ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْمَبِيعِ، بَل قَدْ
تَكْفِي رُؤْيَةُ الْبَعْضِ الَّذِي يَدُل عَلَى بَقِيَّتِهِ وَعَلَى
الْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ؛ لأَِنَّ رُؤْيَةَ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْمَبِيعِ
قَدْ تَكُونُ مُتَعَذِّرَةً كَمَا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ صُبْرَةً
فَإِنَّهُ يَتَعَذَّرُ رُؤْيَةُ كُل حَبَّةٍ مِنْهَا، وَلِذَلِكَ يُكْتَفَى
بِرُؤْيَةِ مَا هُوَ مَقْصُودٌ، فَإِذَا رَآهُ جَعَل غَيْرَ الْمَرْئِيِّ
تَبَعًا لِلْمَرْئِيِّ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَبِيعَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا
وَاحِدًا أَوْ أَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةً. فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ شَيْئًا
وَاحِدًا فَإِنَّهُ يُكْتَفَى بِرُؤْيَةِ الْبَعْضِ الَّذِي يَدُل عَلَى
الْمَقْصُودِ، فَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ مَثَلاً فَرَسًا أَوْ بَغْلاً أَوْ
حِمَارًا فَيُكْتَفَى بِرُؤْيَةِ الْوَجْهِ وَالْمُؤَخِّرَةِ؛ لأَِنَّ
الْوَجْهَ وَالْكَفَل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُضْوٌ مَقْصُودٌ فِي هَذَا
الْجِنْسِ، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ بَقَرَةً حَلُوبًا، فَإِنَّهُ مَعَ
ذَلِكَ يَنْظُرُ إِلَى الضَّرْعِ، وَهَكَذَا.
وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ أَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةً، فَإِنْ كَانَتْ آحَادُهُ
لاَ تَتَفَاوَتُ، وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمِثْلِيِّ، وَمِنْ
عَلاَمَتِهِ أَنْ يُعْرَضَ بِالنَّمُوذَجِ كَالْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ
فَإِنَّهُ يُكْتَفَى بِرُؤْيَةِ بَعْضِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْبَاقِي
أَرْدَأَ مِمَّا رَأَى فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ.
وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ أَثْوَابًا مُتَعَدِّدَةً وَهِيَ مِنْ نَمَطٍ
وَاحِدٍ لاَ تَخْتَلِفُ عَادَةً بِحَيْثُ يُبَاعُ كُل وَاحِدٍ مِنْهَا
(22/19)
بِثَمَنٍ مُتَّحِدٍ فَقَدْ اسْتَظْهَرَ
ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ يَكْفِي رُؤْيَةُ ثَوْبٍ مِنْهَا؛ لأَِنَّهَا
تُبَاعُ بِالنَّمُوذَجِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ، وَيَلْحَقُ بِمَا لاَ
تَتَفَاوَتُ آحَادُهُ الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَقَارِبَةُ كَالْجَوْزِ،
فَيُكْتَفَى بِرُؤْيَةِ الْبَعْضِ عَنْ رُؤْيَةِ الْكُل؛ لأَِنَّ
التَّفَاوُتَ بَيْنَ صَغِيرِ الْجَوْزِ وَكَبِيرِهِ مُتَقَارِبٌ مُلْحَقٌ
بِالْعَدَمِ عُرْفًا وَعَادَةً، وَهُوَ الأَْصَحُّ، خِلاَفًا لِلْكَرْخِيِّ
حَيْثُ أَلْحَقَهُ بِالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ لاِخْتِلاَفِهَا فِي
الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَجَعَل لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارَ.
وَإِنْ كَانَتْ آحَادُ الْمَبِيعِ تَتَفَاوَتُ وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ
بِالْقِيَمِيِّ وَيُسَمَّى الْعَدَدِيَّاتَ الْمُتَفَاوِتَةَ، وَلاَ
يُبَاعُ بِالنَّمُوذَجِ كَالدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ الْمُتَفَاوِتَةِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلاَ بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ مَا يَدُل عَلَى الْمَقْصُودِ
مِنَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ أَوْ رُؤْيَةِ ذَلِكَ مِنْ كُل وَاحِدٍ إِنْ
كَانَ الْمَبِيعُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الأَْشْيَاءِ
الْمُتَفَاوِتَةِ كَعَدَدٍ مِنَ الدَّوَابِّ.
هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ
الْمَذَاهِبِ فِي الْجُمْلَةِ (1) ، مَعَ اخْتِلاَفِ الْمَذَاهِبِ -
وَكَذَا فُقَهَاءُ الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ - فِي تَحْدِيدِ مَا يَتِمُّ
بِهِ الْعِلْمُ بِالْمَقْصُودِ لِيُكْتَفَى بِرُؤْيَتِهِ. وَتَفْصِيل
ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (خِيَارُ الرُّؤْيَةِ) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 65، 66 - 67، والبدائع 5 / 293، 294، والهداية وشروحها
5 / 536، 537، نشر دار إحياء التراث، والدسوقي 3 / 24، والحطاب والمواق
بهامشه 4 / 293، 294، ومغني المحتاج 2 / 19، 20، وكشاف القناع 3 / 163،
والمغني 3 / 581.
(22/19)
رُؤْيَةُ الْمَشْهُودِ بِهِ:
10 - مِنْ شُرُوطِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِهِ
مَعْلُومًا لِلشَّاهِدِ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ.
فَلاَ يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ إِلاَّ بِمَا يَعْلَمُهُ
بِرُؤْيَةٍ أَوْ سَمَاعٍ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْفُ مَا
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُل
أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} (1) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَال: ذُكِرَ عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُل يَشْهَدُ بِشَهَادَةٍ، فَقَال لِي:
يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، لاَ تَشْهَدْ إِلاَّ عَلَى مَا يُضِيءُ لَكَ كَضِيَاءِ
هَذِهِ الشَّمْسِ وَأَوْمَأَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّمْسِ (2) .
وَمِنْ مَدَارِكِ الْعِلْمِ بِالْمَشْهُودِ بِهِ الرُّؤْيَةُ، فَإِنْ كَانَ
الْمَشْهُودُ بِهِ مِنَ الأَْفْعَال كَالْغَصْبِ وَالإِْتْلاَفِ وَالزِّنَى
وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَسَائِرِ الأَْفْعَال، وَكَذَا الصِّفَاتُ
الْمَرْئِيَّةُ كَالْعُيُوبِ فِي الْمَبِيعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ
يُعْرَفُ إِلاَّ بِرُؤْيَتِهِ، فَهَذَا يُشْتَرَطُ فِي تَحَمُّل
الشَّهَادَةِ فِيهِ الرُّؤْيَةُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَدَاءُ
الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ قَطْعًا إِلاَّ بِرُؤْيَتِهِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِثْل الْعُقُودِ كَالْبَيْعِ
__________
(1) سورة الإسراء / 36.
(2) حديث: " عن ابن عباس قال: ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل.
. . . " أخرجه الحاكم (4 / 98 - 99 - ط دائرة المعارف العثمانية) وضعفه
الذهبي في تلخيصه للمستدرك، وكذا ضعفه ابن حجر في التلخيص (4 / 198 - ط
شركة الطباعة الفنية) .
(22/20)
وَالإِْجَارَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ
الأَْقْوَال، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مِنْ
مَدَارِكِ الْعِلْمِ، هَل لاَ بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَعَ
سَمَاعِ أَقْوَالِهِمَا، أَمْ يَكْفِي السَّمَاعُ فَقَطْ؟ فَعِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَكْفِي السَّمَاعُ وَلاَ تُعْتَبَرُ
رُؤْيَةُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إِذَا عَرَفَهُمَا وَتَيَقَّنَ أَنَّهُ
كَلاَمُهُمَا، وَبِهَذَا قَال ابْنُ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ
وَاللَّيْثُ وَشُرَيْحٌ وَعَطَاءٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى؛ لأَِنَّهُ عَرَفَ
الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ يَقِينًا فَجَازَتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ
رَآهُ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ لِمَنْ عَرَفَ الْمَشْهُودَ
عَلَيْهِ يَقِينًا، وَقَدْ يَحْصُل الْعِلْمُ بِالسَّمَاعِ يَقِينًا،
وَقَدِ اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ بِتَجْوِيزِهِ الرِّوَايَةَ مِنْ غَيْرِ
رُؤْيَةٍ، وَلِهَذَا قُبِلَتْ رِوَايَةُ الأَْعْمَى وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى
عَنْ أَزْوَاجِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
غَيْرِ مَحَارِمِهِنَّ.
وَالأَْصْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ تُشْتَرَطُ الرُّؤْيَةُ مَعَ
السَّمَاعِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ مِنَ الأَْقْوَال كَالأَْفْعَال؛ لأَِنَّ
مِنْ شُرُوطِ تَحَمُّل الشَّهَادَةِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ التَّحَمُّل
بِمُعَايَنَةِ الْمَشْهُودِ لَهُ بِنَفْسِهِ لاَ بِغَيْرِهِ إِلاَّ فِي
أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ يَصِحُّ التَّحَمُّل فِيهَا بِالتَّسَامُعِ مِنَ
النَّاسِ كَالنِّكَاحِ وَالنَّسَبِ وَالْمَوْتِ، وَالدَّلِيل عَلَى شَرْطِ
التَّحَمُّل عَنْ طَرِيقِ الْمُعَايَنَةِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، لاَ تَشْهَدْ
إِلاَّ عَلَى مَا يُضِيءُ لَكَ كَضِيَاءِ هَذِهِ الشَّمْسِ، وَأَوْمَأَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ إِلَى
الشَّمْسِ وَلاَ يَعْلَمُ مِثْل الشَّمْسِ إِلاَّ بِالْمُعَايَنَةِ
بِنَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الأَْعْمَى عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ سَوَاءٌ أَكَانَ
(22/20)
بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّل أَمْ لاَ،
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُقْبَل إِذَا كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّل.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ سَمِعَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ لاَ يَجُوزُ
لَهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَلَوْ فَسَّرَهُ لِلْقَاضِي بِأَنْ قَال: سَمِعْتُهُ
بَاعَ وَلَمْ أَرَ شَخْصَهُ حِينَ تَكَلَّمَ، لاَ يَقْبَلُهُ؛ لأَِنَّ
النَّغْمَةَ تُشْبِهُ النَّغْمَةَ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا كَانَ الْمَشْهُودُ
عَلَيْهِ دَخَل الْبَيْتَ وَعَلِمَ الشَّاهِدُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي
الْبَيْتِ أَحَدٌ سِوَاهُ ثُمَّ جَلَسَ عَلَى الْبَابِ وَلَيْسَ فِي
الْبَيْتِ مَسْلَكٌ غَيْرُهُ فَسَمِعَ إِقْرَارَ الدَّاخِل وَلاَ يَرَاهُ،
فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِمَا سَمِعَ؛
لأَِنَّهُ حَصَل بِهِ الْعِلْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: كَذَلِكَ لاَ بُدَّ مِنَ الرُّؤْيَةِ مَعَ
السَّمَاعِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الأَْقْوَال كَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ
مِثْل الشَّهَادَةِ عَلَى الأَْفْعَال. وَلِذَلِكَ لاَ تُقْبَل فِيهَا
شَهَادَةُ الأَْصَمِّ وَلاَ الأَْعْمَى اعْتِمَادًا عَلَى الصَّوْتِ؛
لأَِنَّ الأَْصْوَاتَ تَتَشَابَهُ وَيَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا التَّلْبِيسُ.
وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مِثْل الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا
الْحَنَفِيَّةُ وَأَنْكَرَهُ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي
مُصْطَلَحِ: (شَهَادَةٌ) .
__________
(1) البداية وشروحها، فتح القدير والعناية 6 / 462 - 463، وبدائع الصنائع 6
/ 266، 268، والدسوقي 4 / 167، وأسنى المطالب 4 / 364، ومغني المحتاج 4 /
446، والمغني 9 / 158 - 159، 189
(22/21)
رُؤْيَةُ الْقَاضِي الْخُصُومَ:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ قَضَاءِ الأَْعْمَى، كَمَا
اخْتَلَفُوا فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (قَضَاء، وَعَمَى، وَغَيْبَة) .
أَثَرُ الرُّؤْيَةِ:
12 - لِلرُّؤْيَةِ أَثَرٌ فِي بَعْضِ الأَْحْكَامِ وَمِنْ ذَلِكَ:
أ - وُجُوبُ الصَّوْمِ لِرُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ وَوُجُوبُ الْفِطْرِ
لِرُؤْيَةِ هِلاَل شَوَّالٍ (1) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ،
فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمُ الشَّهْرُ فَعُدُّوا لَهُ ثَلاَثِينَ (2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (رُؤْيَةُ الْهِلاَل) .
ب - رُؤْيَةُ الْمُنْكَرِ تُوجِبُ النَّهْيَ عَنْهُ وَمُحَاوَلَةَ
تَغْيِيرِهِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ
يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ} (3) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ
أَضْعَفُ الإِْيمَانِ (4) :
__________
(1) المغني 3 / 89 - 90
(2) حديث " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته. . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4
/ 119 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 762 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة،
واللفظ لمسلم.
(3) سورة آل عمران / 104.
(4) حديث: " من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن. . . . . . . " أخرجه
مسلم (1 / 69 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري.
(22/21)
هَذَا مَعَ مُرَاعَاةِ أَنَّ الْوَاجِبَ
تَغْيِيرُهُ هُوَ الْمُجْمَعُ عَلَى إِنْكَارِهِ، وَمُرَاعَاةِ عَدَمِ
تَرَتُّبِ فِتْنَةٍ عَلَى مُحَاوَلَةِ التَّغْيِيرِ، وَمُرَاعَاةِ
الظُّرُوفِ الَّتِي تَتَلاَءَمُ مَعَ كُل مَرْتَبَةٍ مِنَ الْمَرَاتِبِ
الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْحَدِيثِ مِنَ التَّغْيِيرِ بِالْيَدِ أَوْ
بِاللِّسَانِ أَوْ بِالْقَلْبِ (1) . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي:
(الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ) .
ج - يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
فَإِنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ (2) . وَكَانَ
ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُول إِذَا رَأَى
الْبَيْتَ: " بِاسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ.
وَالأَْفْضَل الدُّعَاءُ بِالْمَأْثُورِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى الْبَيْتَ رَفَعَ يَدَيْهِ
وَقَال: اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا
وَتَعْظِيمًا وَمَهَابَةً، وَزِدْ مِنْ شَرَفِهِ وَكَرَمِهِ مِمَّنْ
حَجَّهُ أَوِ اعْتَمَرَهُ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا وَبِرًّا
(3) .
د - رُؤْيَةُ عَيْبٍ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ تُثْبِتُ
لِلْمُشْتَرِي خِيَارَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ (4) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (خِيَارُ الْعَيْبِ)
__________
(1) إحياء علوم الدين 2 / 312 - 319
(2) الهداية وفتح القدير 2 / 352 - 353
(3) حديث: " كان إذا رأى البيت رفع يديه، وقال: اللهم زد هذا البيت. . . .
" أخرجه الشافعي في المسند (1 / 339 - ترتيب السندي - ط مطبعة السعادة)
وقال ابن حجر: " وهو معضل فيما بين ابن جريج والنبي صلى الله عليه وسلم كذا
في التلخيص (2 / 242 - ط شركة الطباعة الفينة) .
(4) ابن عابدين 4 / 72.
(22/22)
رُؤْيَةُ الْهِلاَل
التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّؤْيَةُ: النَّظَرُ بِالْعَيْنِ وَالْقَلْبِ، وَهِيَ مَصْدَرُ
رَأَى، وَالرُّؤْيَةُ بِالْعَيْنِ تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ،
وَبِمَعْنَى الْعِلْمِ تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ (1) . وَحَقِيقَةُ
الرُّؤْيَةِ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى الأَْعْيَانِ كَانَتْ بِالْبَصَرِ،
كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ
وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ (2) ، وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الْعِلْمُ مَجَازًا
(3) .
وَتَرَاءَى الْقَوْمُ: رَأَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَتَرَاءَيْنَا
الْهِلاَل: نَظَرْنَا.
وَلِلْهِلاَل عِدَّةُ مَعَانٍ مِنْهَا: الْقَمَرُ فِي أَوَّل
اسْتِقْبَالِهِ الشَّمْسَ كُل شَهْرٍ قَمَرِيٍّ فِي اللَّيْلَةِ الأُْولَى
وَالثَّانِيَةِ، قِيل: وَالثَّالِثَةِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْقَمَرِ
لَيْلَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَسَبْعٍ وَعِشْرِينَ
__________
(1) لسان العرب، مادة: (رأى) .
(2) حديث: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 119 -
ط السلفية) ، ومسلم (2 / 762 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) أبو البقاء الكفوي: الكليات (معجم في المصطلحات والفروق اللغوية) ،
وابن منظور: لسان العرب، مادة: (رأى) .
(22/22)
لأَِنَّهُ فِي قَدْرِ الْهِلاَل فِي أَوَّل
الشَّهْرِ.
وَقِيل يُسَمَّى هِلاَلاً إِلَى أَنْ يَبْهَرَ ضَوْءُهُ سَوَادَ اللَّيْل،
وَهَذَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي اللَّيْلَةِ السَّابِعَةِ (1) .
وَالْمَقْصُودُ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل: مُشَاهَدَتُهُ بِالْعَيْنِ بَعْدَ
غُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ
السَّابِقِ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ خَبَرُهُ وَتُقْبَل شَهَادَتُهُ فَيَثْبُتُ
دُخُول الشَّهْرِ بِرُؤْيَتِهِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
طَلَبُ رُؤْيَةِ الْهِلاَل:
2 - رُؤْيَةُ الْهِلاَل أَمْرٌ يَقْتَضِيهِ ارْتِبَاطُ تَوْقِيتِ بَعْضِ
الْعِبَادَاتِ بِهَا، فَيُشْرَعُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَجِدُّوا فِي
طَلَبِهَا وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي لَيْلَةِ الثَّلاَثِينَ مِنْ شَعْبَانَ
لِمَعْرِفَةِ دُخُول رَمَضَانَ، وَلَيْلَةِ الثَّلاَثِينَ مِنْ رَمَضَانَ
لِمَعْرِفَةِ نِهَايَتِهِ وَدُخُول شَوَّالٍ، وَلَيْلَةِ الثَّلاَثِينَ
مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ لِمَعْرِفَةِ ابْتِدَاءِ ذِي الْحِجَّةِ. فَهَذِهِ
الأَْشْهُرُ الثَّلاَثَةُ يَتَعَلَّقُ بِهَا رُكْنَانِ مِنْ أَرْكَانِ
الإِْسْلاَمِ هُمَا الصِّيَامُ وَالْحَجُّ، وَلِتَحْدِيدِ عِيدِ الْفِطْرِ
وَعِيدِ الأَْضْحَى.
وَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَلَبِ
الرُّؤْيَةِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: قَال النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا
لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ
ثَلاَثِينَ (2) .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ
__________
(1) الجوهري: الصحاح، مادة: (هلال) ، وابن منظور: لسان العرب، مادة (هلل) .
(2) حديث: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4
/ 119 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 762 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، ولفظ
مسلم: " غمّي ".
(22/23)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، فَلاَ تَصُومُوا
حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ
ثَلاَثِينَ (1) .
أَوْجَبَ الْحَدِيثُ الأَْوَّل صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ بِرُؤْيَةِ
هِلاَلِهِ أَوْ بِإِكْمَال شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ، وَأَمَرَ بِالإِْفْطَارِ
لِرُؤْيَةِ هِلاَل شَوَّالٍ، أَوْ بِإِتْمَامِ رَمَضَانَ ثَلاَثِينَ.
وَنَهَى الْحَدِيثُ الثَّانِي عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ قَبْل رُؤْيَةِ
هِلاَلِهِ أَوْ قَبْل إِتْمَامِ شَعْبَانَ فِي حَالَةِ الصَّحْوِ.
وَوَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ فِيهِ أَمْرٌ
بِالاِعْتِنَاءِ بِهِلاَل شَعْبَانَ لأَِجْل رَمَضَانَ قَال: أَحْصُوا
هِلاَل شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ (2) وَحَدِيثٌ يُبَيِّنُ اعْتِنَاءَهُ
بِشَهْرِ شَعْبَانَ لِضَبْطِ دُخُول رَمَضَانَ، عَنْ عَائِشَةَ كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَفَّظُ مِنْ شَعْبَانَ
مَا لاَ يَتَحَفَّظُ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ يَصُومُ لِرُؤْيَةِ رَمَضَانَ
فَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِ عَدَّ ثَلاَثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَ (3) قَال
الشُّرَّاحُ: أَيْ
__________
(1) حديث: " الشهر تسع وعشرون ليلة. . . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 /
119 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 759 - ط الحلبي) واللفظ للبخاري.
(2) حديث: " أحصوا هلال شعبان لرمضان. . . " أخرجه الترمذي (3 / 62 - ط
الحلبي) ، والحاكم (1 / 425 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي
هريرة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) حديث: " كان يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره " أخرجه أبو داود (2 /
744 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 423 - ط دائرة المعارف
العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(22/23)
يَتَكَلَّفُ فِي عَدِّ أَيَّامِ شَعْبَانَ
لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ (1) . وَقَدِ اهْتَمَّ
الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِرُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ فَكَانُوا يَتَرَاءَوْنَهُ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَال: تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلاَل
فَأَخْبَرْتُ بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ (2) .
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَال: كُنَّا مَعَ عُمَرَ بَيْنَ مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ، فَتَرَاءَيْنَا الْهِلاَل، وَكُنْتُ رَجُلاً حَدِيدَ
الْبَصَرِ فَرَأَيْتُهُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَآهُ غَيْرِي.
قَال: فَجَعَلْتُ أَقُول لِعُمَرَ: أَمَا تَرَاهُ؟ فَجَعَل لاَ يَرَاهُ.
قَال: يَقُول عُمَرُ: سَأَرَاهُ وَأَنَا مُسْتَلْقٍ عَلَى فِرَاشِي (3) .
وَقَدْ أَوْجَبَ الْحَنَفِيَّةُ كِفَايَةَ الْتِمَاسِ رُؤْيَةِ هِلاَل
رَمَضَانَ لَيْلَةَ الثَّلاَثِينَ مِنْ شَعْبَانَ فَإِنْ رَأَوْهُ صَامُوا،
وَإِلاَّ أَكْمَلُوا الْعِدَّةَ ثُمَّ صَامُوا (4) ؛ لأَِنَّ
__________
(1) عون المعبود 6 / 444.
(2) حديث ابن عمر: " تراءى الناس الهلال " أخرجه أبو داود (2 / 756 - 757 -
تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 423 - ط دائرة المعارف العثمانية)
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) أثر أنس بن مالك: " كنا مع عمر بين مكة والمدينة " أخرجه مسلم (4 /
2202 - ط الحلبي) .
(4) الشرنبلالي: حسن بن عمار، مراقي الفلاح (ص 107 المطبعة العلمية 1315) ،
رسائل ابن عابدين 1 / 222
(22/24)
مَا لاَ يَحْصُل الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ
فَهُوَ وَاجِبٌ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ تَرَائِي الْهِلاَل احْتِيَاطًا
لِلصَّوْمِ وَحِذَارًا مِنْ الاِخْتِلاَفِ (1) .
وَلَمْ نَجِدْ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ تَصْرِيحًا بِهَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ.
طُرُقُ إِثْبَاتِ الْهِلاَل:
أَوَّلاً: الرُّؤْيَةُ بِالْعَيْنِ:
أ - الرُّؤْيَةُ مِنَ الْجَمِّ الْغَفِيرِ الَّذِينَ تَحْصُل بِهِمْ
الاِسْتِفَاضَةُ:
3 - هِيَ رُؤْيَةُ الْجَمِّ الْغَفِيرِ الَّذِينَ لاَ يَجُوزُ
تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ عَادَةً، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي صِفَتِهِمْ
مَا يُشْتَرَطُ فِي صِفَةِ الشَّاهِدِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ وَالْبُلُوغِ
وَالْعَدَالَةِ (2) .
وَهَذَا أَحَدُ تَفْسِيرَيْ الاِسْتِفَاضَةِ، وَقَدِ ارْتَقَتْ بِهِ إِلَى
التَّوَاتُرِ، أَمَّا التَّفْسِيرُ الثَّانِي لِلاِسْتِفَاضَةِ فَقَدْ
حُدِّدَتْ بِمَا زَادَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَشْخَاصٍ (3) .
وَالتَّفْسِيرَانِ يَلْتَقِيَانِ فِي أَنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ تَكُونُ فِي
حَالَةِ الصَّحْوِ، وَأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَا دُخُول رَمَضَانَ.
__________
(1) البهوتي: منصور بن يونس، كشاف القناع 2 / 270 (مطبعة أنصار السنة
المحمدية 1366 / 1947) .
(2) ابن رشد: المقدمات على هامش المدونة 1 / 189 (دار الفكر ط 2 - 1400 /
1980) .
(3) الحطاب، ومواهب الجليل 2 / 384 (دار الفكر ط 2: 1398 / 1978)
(22/24)
وَقَدْ قَال بِهَذَا النَّوْعِ فِي
الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ الْحَنَفِيَّةُ لإِِثْبَاتِ رَمَضَانَ
وَشَوَّالٍ (1) .
وَقَال بِهِ أَيْضًا الْمَالِكِيَّةُ لَكِنَّهُمْ سَكَتُوا عَنِ اشْتِرَاطِ
الصَّحْوِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
ب - رُؤْيَةُ عَدْلَيْنِ:
4 - نُقِل الْقَوْل بِاشْتِرَاطِ رُؤْيَةِ عَدْلَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ (2) ،
وَقَال بِهَذَا الرَّأْيِ الْمَالِكِيَّةُ فِي حَالَةِ الْغَيْمِ
وَالصَّحْوِ فِي الْمِصْرِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فَيَثْبُتُ بِرُؤْيَةِ
الْعَدْلَيْنِ الصَّوْمُ وَالْفِطْرُ وَشَهْرُ ذِي الْحِجَّةِ،
وَاشْتَرَطُوا فِي الْعَدْل الإِْسْلاَمَ وَالْحُرِّيَّةَ وَالذُّكُورَةَ
وَمَا تَقْتَضِيهِ الْعَدَالَةُ مِنَ الْعَقْل وَالْبُلُوغِ
وَالاِلْتِزَامِ بِالإِْسْلاَمِ (3) .
وَاعْتَبَرَ سَحْنُونٌ شَهَادَةَ اثْنَيْنِ فَقَطْ فِي الصَّحْوِ، وَفِي
الْمِصْرِ الْكَبِيرِ رِيبَةً، وَلَمْ يُنْقَل عَنْهُ تَعْيِينُ الْعَدَدِ
فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ يُقْبَل فِي مِثْلِهَا
غَيْرُ الرُّؤْيَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ وَأَقَلُّهَا ثَلاَثَةٌ.
قَال: " وَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ إِذَا لَمْ يَشْهَدْ
غَيْرُهُمَا فِي الْمِصْرِ الْكَبِيرِ وَالصَّحْوِ، وَأَيَّةُ رِيبَةٍ
أَكْبَرُ مِنْ هَذِهِ (4) ".
__________
(1) الكاساني: بدائع الصنائع 2 / 80 (دار الكتاب العربي بيروت، ط 2: 1402 /
1982) .
(2) المدونة 1 / 174 (دار الفكر، ط 2: 1400 / 1980) .
(3) الحطاب: مواهب الجليل 2 / 381.
(4) المرجع نفسه 2 / 385.
(22/25)
وَنُقِل الْقَوْل بِاشْتِرَاطِ عَدْلَيْنِ
فِي الشَّهَادَةِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا هِلاَل رَمَضَانَ عَنِ
الْبُوَيْطِيِّ تِلْمِيذِ الشَّافِعِيِّ (1) .
ج - رُؤْيَةُ عَدْلٍ وَاحِدٍ:
5 - لِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلاَتٌ وَشُرُوطٌ فِي قَبُول رُؤْيَةِ الْعَدْل
الْوَاحِدِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي: قَبِل الْحَنَفِيَّةُ فِي رُؤْيَةِ
هِلاَل رَمَضَانَ شَهَادَةَ الْعَدْل الْوَاحِدِ فِي الْغَيْمِ أَوِ
الْغُبَارِ وَانْعِدَامِ صَحْوِ السَّمَاءِ، وَاكْتَفَوْا فِي وَصْفِ
الْعَدَالَةِ بِتَرْجِيحِ الْحَسَنَاتِ عَلَى السَّيِّئَاتِ، وَقَبِلُوا
شَهَادَةَ مَسْتُورِ الْحَال، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا الذُّكُورَةَ
وَالْحُرِّيَّةَ، وَاعْتَبَرُوا الإِْعْلاَمَ بِالرُّؤْيَةِ مِنْ قَبِيل
الإِْخْبَارِ.
وَتَتِمُّ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُمْ فِي الْمِصْرِ أَمَامَ الْقَاضِي، وَفِي
الْقَرْيَةِ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ رَأَى الْهِلاَل
وَحْدَهُ وَلَمْ يَقْبَل الْقَاضِي شَهَادَتَهُ صَامَ، فَلَوْ أَفْطَرَ
وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ (2) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ عَلَى قَبُول شَهَادَةِ الْعَدْل الْوَاحِدِ
بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ قَال: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: أَبْصَرْتُ الْهِلاَل
اللَّيْلَةَ، قَال: أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؟ قَال: نَعَمْ، قَال: يَا بِلاَل أَذِّنْ
فِي
__________
(1) أبو إسحاق الشيرازي: المهذب 1 / 179 (ط. عيسى الحلبي، مصر) .
(2) الكاساني: بدائع الصنائع 2 / 81.
(22/25)
النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا (1) .
وَتَقَدَّمَ فِي تَرَائِي الْهِلاَل حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،
وَفِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل فَصَامَ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ.
وَبِأَنَّ الإِْخْبَارَ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل مِنَ الرِّوَايَةِ وَلَيْسَ
بِشَهَادَةٍ؛ لأَِنَّهُ يُلْزِمُ الْمُخْبَرَ بِالصَّوْمِ، وَمَضْمُونُ
الشَّهَادَةِ لاَ يُلْزِمُ الشَّاهِدَ بِشَيْءٍ، وَالْعَدَدُ لَيْسَ
بِشَرْطٍ فِي الرِّوَايَةِ فَأَمْكَنَ قَبُول خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي
رُؤْيَةِ الْهِلاَل بِالشُّرُوطِ الْوَاجِبِ تَوَفُّرُهَا فِي الرَّاوِي
لِخَبَرٍ دِينِيٍّ، وَهِيَ: الإِْسْلاَمُ وَالْعَقْل وَالْبُلُوغُ
وَالْعَدَالَةُ (2) .
وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْمَالِكِيَّةُ رُؤْيَةَ الْعَدْل الْوَاحِدِ فِي
إِثْبَاتِ الْهِلاَل، وَلَمْ يُوجِبُوا الصَّوْمَ بِمُقْتَضَاهَا عَلَى
الْجَمَاعَةِ (3) ، وَأَلْزَمُوا مَنْ رَأَى الْهِلاَل وَحْدَهُ
بِإِعْلاَمِ الإِْمَامِ بِرُؤْيَتِهِ لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ
رَأَى أَوْ عَلِمَ فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا، وَأَوْجَبُوا عَلَى الرَّائِي
الْمُنْفَرِدِ الصِّيَامَ، وَلَوْ رَدَّ الإِْمَامُ شَهَادَتَهُ فَإِنْ
أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ
__________
(1) حديث ابن عباس: " جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبصرت
الهلال. . . " أخرجه أبو داود (2 / 754 - 755 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ،
والترمذي (3 / 66 - ط الحلبي) ، وبين الترمذي أن أكثر رواته رووه مرسلاً،
وكذا نقل الزيلعي عن النسائي أنه رجح الإرسال، انظر نصب الراية (2 / 443 -
ط المجلس العلمي) .
(2) الكاساني: بدائع الصنائع 2 / 81.
(3) الحطاب: شرح مواهب الجليل 2 / 384، وزروق: شرح رسالة ابن أبي زيد
القيرواني 1 / 291.
(22/26)
الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ
الْخَطَّابِ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ،
فَقَال: إِنِّي جَالَسْتُ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلْتُهُمْ وَأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ حَدَّثُونِي
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: صُومُوا
لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ
فَأَكْمِلُوا ثَلاَثِينَ فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا
(2) .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ قَبُول هَذَا النَّوْعِ مِنَ الرُّؤْيَةِ إِذَا
لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ مَنْ يَعْتَنِي بِأَمْرِ الْهِلاَل (3) .
وَقَبِل بَعْضُهُمْ رُؤْيَةَ الرَّجُل الْوَاحِدِ وَالْعَبْدِ
وَالْمَرْأَةِ إِذَا أُرِيدَ مِنَ الشَّهْرِ مَعْرِفَةُ عِلْمِ التَّارِيخِ
بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَتَعَلَّقَ بِهِ حُلُول دَيْنٍ أَوْ إِكْمَال عِدَّةٍ،
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلاَ بُدَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ (4) .
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَبُول رُؤْيَةِ الْعَدْل الْوَاحِدِ
فِي هِلاَل رَمَضَانَ وَإِلْزَامُ الْجَمِيعِ الصِّيَامَ بِمُقْتَضَاهَا
احْتِيَاطًا لِلْفَرْضِ، وَلَمْ يَقْبَلُوهَا مِنَ الْعَبْدِ
وَالْمَرْأَةِ؛ لأَِنَّ الإِْخْبَارَ بِالرُّؤْيَةِ عِنْدَهُمْ مِنْ قَبِيل
الشَّهَادَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَبُول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِخْبَارَ ابْنِ عُمَرَ وَحْدَهُ بِهِلاَل رَمَضَانَ،
وَقَبُولِهِ أَيْضًا إِخْبَارَ
__________
(1) المدونة 1 / 174، وبداية المجتهد 1 / 293.
(2) حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم أخرجه النسائي (4 / 132 - 133 - ط المكتبة التجارية) وإسناده صحيح.
(3) الحطاب: مواهب الجليل 2 / 386.
(4) المرجع نفسه ص 382
(22/26)
أَعْرَابِيٍّ بِذَلِكَ (1) ، وَأَوْجَبُوا
عَلَى الرَّائِي الصَّوْمَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَدْلاً (2) .
وَقَبِل الْحَنَابِلَةُ فِي هِلاَل رَمَضَانَ رُؤْيَةَ الْعَدْل
الْوَاحِدِ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا الذُّكُورَةَ وَالْحُرِّيَّةَ وَرَفَضُوا
شَهَادَةَ مَسْتُورِ الْحَال فِي الصَّحْوِ وَالْغَيْمِ، وَمُسْتَنَدُهُمْ
قَبُول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ
الأَْعْرَابِيِّ (3) . وَلَمْ يَقْبَلُوا فِي بَقِيَّةِ الشُّهُورِ إِلاَّ
رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
رُؤْيَةُ هِلاَل شَوَّالٍ وَبَقِيَّةِ الشُّهُورِ:
6 - اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى اشْتِرَاطِ رُؤْيَةِ عَدْلَيْنِ
فِي هِلاَل شَوَّالٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفْصِيلاَتِ.
فَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لإِِثْبَاتِ هِلاَل شَوَّالٍ فِي حَالَةِ
الصَّحْوِ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ جَمَاعَةً يَحْصُل الْعِلْمُ لِلْقَاضِي
بِخَبَرِهِمْ كَمَا فِي هِلاَل رَمَضَانَ، وَلَمْ يَقْبَلُوا فِي حَال
الْغَيْمِ إِلاَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ
مُسْلِمَيْنِ حُرَّيْنِ عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ غَيْرَ مَحْدُودَيْنِ فِي
قَذْفٍ، وَإِنْ تَابَا كَمَا فِي الشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ
وَالأَْمْوَال؛ لأَِنَّ الإِْخْبَارَ بِهِلاَل شَوَّالٍ مِنْ بَابِ
الشَّهَادَةِ. وَفِيهِ نَفْعٌ لِلْمُخْبِرِ، وَهُوَ إسْقَاطُ الصَّوْمِ
عَنْهُ فَكَانَ مُتَّهَمًا فَاشْتُرِطَ فِيهِ الْعَدَدُ نَفْيًا
__________
(1) إخبار ابن عمر وقبوله إخبار الأعرابي تقدم تخريجه (ف 2، 5) .
(2) أبو إسحاق الشيرازي: المهذب (1 / 179) .
(3) ابن قدامة، المغني (3 / 157 نشر مكتبة الرياض الحديثة) ، والبهوتي:
منصور بن يونس، كشاف القناع (2 / 273 - 274) .
(22/27)
لِلتُّهْمَةِ بِخِلاَفِ هِلاَل رَمَضَانَ
فَإِنَّهُ لاَ تُهْمَةَ فِيهِ (1) .
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي هِلاَل شَوَّالٍ الرُّؤْيَةَ
الْمُسْتَفِيضَةَ أَوْ شَهَادَةَ عَدْلَيْنِ مِمَّنْ يَشْهَدُونَ فِي
الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ. وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ مَنْ رَأَى هِلاَل شَوَّالٍ
وَحْدَهُ لاَ يُفْطِرُ، خَوْفًا مِنَ التُّهْمَةِ وَسَدًّا لِلذَّرِيعَةِ،
وَإِنْ أَفْطَرَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ عُثِرَ عَلَيْهِ عُوقِبَ إِنِ اتُّهِمَ (2) .
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي ثُبُوتِ هِلاَل شَوَّالٍ
شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حُرَّيْنِ عَدْلَيْنِ احْتِيَاطًا لِلْفَرْضِ،
وَأَبَاحَ الشَّافِعِيَّةُ الْفِطْرَ سِرًّا لِمَنْ رَأَى الْهِلاَل
وَحْدَهُ؛ لأَِنَّهُ إِنْ أَظْهَرَهُ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتُّهْمَةِ
وَالْعُقُوبَةِ، وَمَنَعَ الْحَنَابِلَةُ الْفِطْرَ لِمَنْ رَأَى الْهِلاَل
وَحْدَهُ.
وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْفِطْرُ سِرًّا لأَِنَّهُ
تَيَقَّنَهُ يَوْمَ عِيدٍ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ صَوْمِهِ (3) .
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ فِي حَالَةِ الصَّحْوِ بَيْنَ أَهِلَّةِ
__________
(1) الكاساني: بدائع الصنائع 2 / 81، وابن عابدين ورسائل ابن عابدين 1 /
212.
(2) المدونة 1 / 174، وابن الجزي: القوانين الفقهية ص 121 (الدار العربية
للكتاب، تونس) ، والموطأ 1 / 287 - 288، والمنتقى للباجي 2 / 39.
(3) أبو إسحاق الشيرازي، والمهذب 1 / 179 - 180، والبهوتي: منصور بن يونس،
كشاف القناع 2 / 275.
(22/27)
رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ وَذِي الْحِجَّةِ
وَاشْتَرَطُوا فِي الثَّلاَثَةِ رُؤْيَةَ جَمْعٍ يَثْبُتُ بِهِ الْعِلْمُ،
وَفَرَّقُوا بَيْنَهَا فِي حَالَةِ الْغَيْمِ فَاكْتَفَوْا فِي ثُبُوتِ
هِلاَل ذِي الْحِجَّةِ بِشَهَادَةِ عَدْلٍ وَاحِدٍ. وَاشْتَرَطَ
الْكَرْخِيُّ مِنْهُمْ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ
كَمَا فِي هِلاَل شَوَّالٍ لأَِنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ يَتَعَلَّقُ بِهَا
حُكْمُ وُجُوبِ الأُْضْحِيَّةِ فَيَجِبُ فِيهَا الْعَدَدُ.
وَرَدَّ عَلَيْهِ الْكَاسَانِيُّ بِأَنَّ الإِْخْبَارَ عَنْ هِلاَل ذِي
الْحِجَّةِ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ لاَ الشَّهَادَةِ لِوُجُوبِ
الأُْضْحِيَّةِ عَلَى الشَّاهِدِ وَغَيْرِهِ، فَلاَ يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ
(1) .
وَأَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ شَهَادَةَ عَدْلَيْنِ، فَقَال مَالِكٌ فِي
الْمَوْسِمِ بِأَنَّهُ يُقَامُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ إِذَا كَانَا
عَدْلَيْنِ (2) .
وَسَوَّى الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ شَوَّالٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ
فَاشْتَرَطُوا رُؤْيَةَ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا (3)
.
رُؤْيَةُ الْهِلاَل نَهَارًا:
7 - وَرَدَتْ عَنْ صَحَابَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نُقُولٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي حُكْمِ رُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ
نَهَارًا، وَهَل هُوَ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ أَوِ الْمُقْبِلَةِ؟
__________
(1) الكاساني: بدائع الصنائع 2 / 82.
(2) المدونة: 1 / 174.
(3) حديث: " فإن شهد شاهدان. . . " تقدم تخريجه (ف 5) .
(22/28)
فَعَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ، وَرِوَايَةٌ
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ التَّفْرِيقُ بَيْنَ
الرُّؤْيَةِ قَبْل الزَّوَال وَبَعْدَهُ. فَإِنْ كَانَتْ قَبْل الزَّوَال
فَالْهِلاَل لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ الزَّوَال،
فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ صَاحِبُ أَبِي
حَنِيفَةَ إِلَى هَذَا الرَّأْيِ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْهِلاَل لاَ يُرَى
قَبْل الزَّوَال عَادَةً إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لِلَيْلَتَيْنِ، وَهَذَا
يُوجِبُ كَوْنَ الْيَوْمِ مِنْ رَمَضَانَ فِي هِلاَل رَمَضَانَ، وَكَوْنَهُ
يَوْمَ الْفِطْرِ فِي هِلاَل شَوَّالٍ (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَفِي نَقْلٍ عَنِ
ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رُؤْيَةَ الْهِلاَل يَوْمَ الشَّكِّ هِيَ لِلَّيْلَةِ
الْمُقْبِلَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ قَبْل الزَّوَال أَمْ بَعْدَهُ.
وَقَال عُمَرُ: إِنَّ الأَْهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ فَإِذَا
رَأَيْتُمُ الْهِلاَل نَهَارًا فَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تُمْسُوا إِلاَّ
أَنْ يَشْهَدَ رَجُلاَنِ مُسْلِمَانِ أَنَّهُمَا أَهَلاَّهُ بِالأَْمْسِ
عَشِيَّةً (2) .
وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ نَاسًا رَأَوْا
هِلاَل الْفِطْرِ نَهَارًا، فَأَتَمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
صِيَامَهُ إِلَى اللَّيْل، وَقَال: لاَ، حَتَّى يُرَى مِنْ حَيْثُ يُرَى
بِاللَّيْل (3) .
__________
(1) الكاساني: بدائع الصنائع 2 / 82، وابن عابدين، ورسائل ابن عابدين 1 /
217 - 218
(2) المدونة 1 / 174، وخرجه القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن 2 /
302 (دار إحياء التراث العربي، بيروت) .
(3) المدونة 1 / 174 - 175
(22/28)
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: ". . . إِنَّمَا
مَجْرَاهُ فِي السَّمَاءِ، وَلَعَلَّهُ أَبْيَنُ سَاعَتَئِذٍ، وَإِنَّمَا
الْفِطْرُ مِنَ الْغَدِ فِي يَوْمِ يُرَى الْهِلاَل.
وَنُسِبَ هَذَا الرَّأْيُ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ
(1) .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا النَّقْل عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَيَكُونُ
رِوَايَةً ثَانِيَةً عَنْهُ تُخَالِفُ مَا نُقِل عَنْهُ مِنَ التَّفْرِيقِ
بَيْنَ الرُّؤْيَةِ قَبْل الزَّوَال وَبَعْدَهُ.
وَقَدْ رَفَضَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ التَّفْرِيقَ
فِي هِلاَل رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ؛ لأَِنَّ الأَْصْل عِنْدَهُمَا أَنْ لاَ
يُعْتَبَرَ فِي رُؤْيَةِ الْهِلاَل قَبْل الزَّوَال وَلاَ بَعْدَهُ،
وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ لِرُؤْيَتِهِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ (2) .
وَعَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ " مَنْ رَأَى هِلاَل شَوَّالٍ نَهَارًا فَلاَ
يُفْطِرُ، وَيُتِمُّ صِيَامَ يَوْمِهِ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا هُوَ هِلاَل
اللَّيْلَةِ الَّتِي تَأْتِي (3) ".
وَهُوَ فِي هَذَا النَّقْل عَنْهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الرُّؤْيَةِ قَبْل
الزَّوَال وَبَعْدَهُ، وَاعْتَبَرَ الْهِلاَل الَّذِي رُئِيَ نَهَارًا
لِلَّيْلَةِ الْقَادِمَةِ، وَذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ إِلَى التَّفْرِيقِ،
وَنَسَبَهُ إِلَى مَالِكٍ، قَال: " فَإِنْ رُئِيَ الْهِلاَل قَبْل
__________
(1) المدونة 1 / 175.
(2) الكاساني: بدائع الصنائع 2 / 82، وابن عابدين: رسائل ابن عابدين 1 /
218 - 220
(3) الموطأ 1 / 287، والمدونة 1 / 175.
(22/29)
الزَّوَال فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ
فَيُمْسِكُونَ إِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي شَعْبَانَ وَيُفْطِرُونَ إِنْ وَقَعَ
فِي رَمَضَانَ وَيُصَلُّونَ الْعِيدَ، وَإِذَا رُئِيَ بَعْدَ الزَّوَال
فَهُوَ لِلْقَادِمَةِ سَوَاءٌ أَصَلَّيْتَ الظُّهْرَ أَمْ لَمْ تُصَل (1)
".
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ رُئِيَ الْهِلاَل
بِالنَّهَارِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لِمَا رَوَى سُفْيَانُ
بْنُ سَلَمَةَ قَال: أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ وَنَحْنُ بِخَانِقِينَ: إِنَّ الأَْهِلَّةَ بَعْضُهَا
أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلاَل نَهَارًا فَلاَ
تُفْطِرُوا حَتَّى يَشْهَدَ رَجُلاَنِ مُسْلِمَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ
بِالأَْمْسِ (2) .
وَنَبَّهَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْهِلاَل لاَ يُرَى يَوْمَ تِسْعَةٍ
وَعِشْرِينَ قَبْل الزَّوَال؛ لأَِنَّهُ أَهَّل سَاعَتَئِذٍ، وَلأَِنَّ
الشَّهْرَ لاَ يَكُونُ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ فَتَحَدَّدَ مَجَال
رُؤْيَتِهِ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ بَعْدَ الزَّوَال أَوْ
فِي يَوْمِ ثَلاَثِينَ قَبْل الزَّوَال وَبَعْدَهُ، فَإِذَا رُئِيَ يَوْمَ
تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ بَعْدَ الزَّوَال وَلَمْ يُرَ لَيْلاً، فَالظَّاهِرُ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَثْبُتُ بِالرُّؤْيَةِ النَّهَارِيَّةِ،
وَعَارَضَ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: لاَ يَكْفِي ذَلِكَ عَنْ
رُؤْيَتِهِ لَيْلَةَ الثَّلاَثِينَ، وَأَنَّهُ لاَ أَثَرَ لِرُؤْيَتِهِ
نَهَارًا.
وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ نَهَارًا يَوْمَ ثَلاَثِينَ فَلاَ يُبْحَثُ مَعَهَا
عَنْ رُؤْيَتِهِ لَيْلاً لإِِكْمَال الْعِدَّةِ (3) .
__________
(1) الحطاب: ومواهب الجليل 2 / 392.
(2) أبو إسحاق الشيرازي: المهذب 1 / 179، والبهوتي: منصور بن يونس: كشاف
القناع 2 / 272.
(3) الحطاب: مواهب الجليل 2 / 392.
(22/29)
ثَانِيًا: إِكْمَال الشَّهْرِ ثَلاَثِينَ:
8 - يَكُونُ الشَّهْرُ الْقَمَرِيُّ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلاَثِينَ
يَوْمًا لِحَدِيثِ: إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لاَ نَكْتُبُ وَلاَ
نَحْسِبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً
وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلاَثِينَ (1) .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَال: لَمَا صُمْنَا مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ أَكْثَرُ مِمَّا
صُمْنَا ثَلاَثِينَ (2) .
وَإِذَا لَمْ يُرَ الْهِلاَل بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ التَّاسِعِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ أَوْ رَمَضَانَ أَوْ ذِي الْقَعْدَةِ
أَكْمَل الشَّهْرَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا حَسَبَ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، فَلاَ تَصُومُوا
حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ
ثَلاَثِينَ (3) .
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ حَالَةِ الصَّحْوِ وَحَالَةِ الْغَيْمِ
فَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ وُجُوبُ صِيَامِ يَوْمِ الثَّلاَثِينَ مِنْ
شَعْبَانَ إِنْ حَال دُونَ مَطْلَعِهِ غَيْمٌ أَوْ قَتَرٌ وَنَحْوُهُمَا
__________
(1) حديث: " إنا أمة أمية. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 126 - ط
السلفية) ، ومسلم (2 / 761 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر، واللفظ للبخاري.
(2) حديث ابن مسعود: " لما صمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم تسعًا وعشرين
" أخرجه أبو داود (2 / 742 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(3) حديث: " الشهر تسع وعشرون ليلة. . . . . . . . " أخرجه البخاري (الفتح
4 / 119 - ط السلفية) .
(22/30)
بِنِيَّةِ رَمَضَانَ احْتِيَاطًا لاَ
يَقِينًا وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسَمَّى صِيَامَ يَوْمِ الشَّكِّ
وَتَفْصِيلُهَا فِي: (صَوْمٌ) .
فَإِنْ تَبَيَّنَ فِي نِهَايَةِ رَمَضَانَ أَنَّ شَعْبَانَ نَاقِصٌ وَجَبَ
قَضَاءُ الْيَوْمِ الَّذِي غُمَّ فِيهِ الْهِلاَل.
تَوَالِي الْغَيْمِ:
9 - عِنْدَ تَوَالِي الْغَيْمِ فِي نِهَايَةِ الشُّهُورِ الْقَمَرِيَّةِ
تُكْمَل ثَلاَثِينَ ثَلاَثِينَ عَمَلاً بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ: فَإِنْ
غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ (1) .
وَيَقَعُ قَضَاءُ مَا ثَبَتَ إِفْطَارُهُ، فَإِذَا حَصَل الْغَيْمُ فِي
شَهْرٍ أَوْ أَكْثَرَ قَبْل رَمَضَانَ فَكَمُلَتْ، ثُمَّ رُئِيَ هِلاَل
شَوَّالٍ لَيْلَةَ ثَلاَثِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَلاَ قَضَاءَ لِجَوَازِ أَنْ
يَكُونَ رَمَضَانُ نَاقِصًا، وَإِنْ رُئِيَ لَيْلَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ
مِنْ رَمَضَانَ وَجَبَ قَضَاءُ يَوْمٍ، وَإِنْ رُئِيَ لَيْلَةَ ثَمَانٍ
وَعِشْرِينَ وَجَبَ قَضَاءُ يَوْمَيْنِ، وَإِنْ رُئِيَ لَيْلَةَ سَبْعٍ
وَعِشْرِينَ تَمَّ قَضَاءُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ (2) .
وَإِنَّ مَا أَجْرَى اللَّهُ بِهِ الْعَادَةَ أَنْ لاَ تَتَوَالَى
أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ نَاقِصَةٌ وَلاَ كَامِلَةٌ، وَمِنَ النَّادِرِ
تَوَالِي ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ نَاقِصَةٍ أَوْ كَامِلَةٍ أَيْضًا (3) .
قَال الْحَطَّابُ: فَإِنْ تَوَالَى الْكَمَال فِي شَهْرَيْنِ أَوْ
ثَلاَثَةٍ عُمِل عَلَى أَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ نَاقِصٌ فَأَصْبَحَ النَّاسُ
صِيَامًا، وَإِنْ تَوَالَتْ نَاقِصَةً عُمِل
__________
(1) حديث: " فإن غم عليكم. . . . " سبق تخريجه (ف 8) .
(2) الحطاب: مواهب الجليل 2 / 379.
(3) البهوتي: منصور بن يونس: كشاف القناع 2 / 275، والحطاب: مواهب الجليل 2
/ 389.
(22/30)
عَلَى أَنَّ رَمَضَانَ كَامِلٌ فَأَصْبَحَ
النَّاسُ مُفْطِرِينَ وَإِنْ لَمْ يَتَوَال قَبْل هَذَا الشَّهْرِ الَّذِي
غُمَّ الْهِلاَل فِي آخِرِهِ شَهْرَانِ فَأَكْثَرُ كَامِلَةٌ وَلاَ
نَاقِصَةٌ احْتَمَل أَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّهْرُ نَاقِصًا أَوْ كَامِلاً
احْتِمَالاً وَاحِدًا يُوجِبُ أَنْ يَكْمُل ثَلاَثِينَ كَمَا وَرَدَ فِي
الْحَدِيثِ. ثُمَّ قَال: هَذَا فِي الصَّوْمِ، أَمَّا فِي الْفِطْرِ إِذَا
غُمَّ هِلاَل شَوَّالٍ فَلاَ يُفْطِرُ بِالتَّقْدِيرِ الَّذِي يَغْلِبُ
فِيهِ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ رَمَضَانَ نَاقِصٌ (1) .
وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى نَصٍّ لِلْفُقَهَاءِ فِي شَأْنِ الْبِلاَدِ الَّتِي
يَسْتَقِرُّ الْغَيْمُ أَوِ الضَّبَابُ فِي سَمَائِهَا (2) .
صَوْمُ مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الأَْشْهُرُ:
10 - مَنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ فِي مَكَانٍ لاَ تَصِلُهُ فِيهِ أَخْبَارُ
رَمَضَانَ، كَالسَّجِينِ وَالأَْسِيرِ بِدَارِ الْحَرْبِ
__________
(1) الحطاب، مواهب الجليل 2 / 389.
(2) نثبت في هذه المسألة قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة في
دورته الرابعة المنعقدة بمقر الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي بمكة
المكرمة في الفترة ما بين السابع والسابع عشر من شهر ربيع الآخر 1401 هـ.
(إنه بالنسبة للأماكن التي تكون سماؤها محجوبة بما
(22/31)
فَاشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الأَْشْهُرُ،
وَلَمْ يَعْرِفْ مَوْعِدَ رَمَضَانَ، يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الاِجْتِهَادُ
لِمَعْرِفَتِهِ فَإِنْ اجْتَهَدَ وَتَحَرَّى وَوَافَقَ صِيَامُهُ شَهْرَ
رَمَضَانَ أَوْ مَا بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ
الَّذِي صَامَهُ نَاقِصًا، وَرَمَضَانُ كَامِلاً قَضَى النَّقْصَ، وَإِنْ
صَامَ شَهْرًا قَبْل رَمَضَانَ لَمْ يَكْفِهِ؛ لأَِنَّ الْعِبَادَةَ لاَ
تَصِحُّ قَبْل وَقْتِهَا، فَلَوْ وَافَقَ بَعْضَهُ فَمَا وَافَقَهُ أَوْ
بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ دُونَ مَا قَبْلَهُ، وَإِنْ صَامَ بِلاَ اجْتِهَادٍ
لَمْ يُجْزِهِ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الاِجْتِهَادِ (1) .
ثَالِثًا: إِثْبَاتُ الأَْهِلَّةِ بِالْحِسَابِ الْفَلَكِيِّ:
11 - وَقَعَ الْخَوْضُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُنْذُ أَوَاخِرِ
الْقَرْنِ الْهِجْرِيِّ الأَْوَّل، فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا أَحَدُ
التَّابِعِينَ وَبُحِثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ لَدُنْ فُقَهَائِنَا
السَّابِقِينَ بِالْقَدْرِ الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ.
وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ بَحْثِهَا وُجُودُ لَفْظَةٍ مُشْكِلَةٍ فِي حَدِيثٍ
ثَابِتٍ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَلَفَ
الشُّرَّاحُ فِي الْمُرَادِ مِنْهَا، وَاسْتَدَل بِهَا الْقَائِلُونَ
بِالْحِسَابِ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ.
وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ مِنْ إيرَادِ الْحَدِيثِ بِلَفْظِهِ، وَإِتْبَاعِهِ
بِتَفْسِيرِ الَّذِينَ اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى جَوَازِ اعْتِمَادِ
الْحِسَابِ فِي إِثْبَاتِ الْهِلاَل، ثُمَّ آرَاءِ الَّذِينَ فَهِمُوا
مِنْهُ خِلاَفَ فَهْمِهِمْ. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
__________
(1) أبو إسحاق الشيرازي، المهذب 1 / 180، والبهوتي: منصور بن يونس، كشاف
القناع 2 / 276 - 277
(22/31)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَال: لاَ
تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلاَل، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ
فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ (1) .
عَلَّقَ الْحَدِيثُ بِدَايَةَ صِيَامِ رَمَضَانَ وَالشُّرُوعِ فِي
الإِْفْطَارِ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل، وَأَمَرَ عِنْدَ تَعَذُّرِهَا فِي
حَالَةِ الْغَيْمِ بِالتَّقْدِيرِ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ
فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ.
رَأْيُ الْقَائِلِينَ بِالْحِسَابِ:
12 - تَضَمَّنَ هَذَا الرَّأْيُ الْقَوْل بِتَقْدِيرِ الْهِلاَل
بِالْحِسَابِ الْفَلَكِيِّ وَنُسِبَ إِلَى مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الشِّخِّيرِ مِنَ التَّابِعِينَ وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ
مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ (2) .
وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لاَ يَصِحُّ عَنْ مُطَرِّفٍ، وَنَفَى
نِسْبَةَ مَا عُرِفَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ إِلَى الشَّافِعِيِّ لأَِنَّ
الْمَعْرُوفَ عَنْهُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ (3) .
وَنَقَل ابْنُ رُشْدٍ عَنْ مُطَرِّفٍ قَوْلَهُ: " يُعْتَبَرُ الْهِلاَل
إِذَا غُمَّ بِالنُّجُومِ وَمَنَازِل الْقَمَرِ وَطَرِيقِ الْحِسَابِ،
قَال: وَرُوِيَ مِثْل ذَلِكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي رِوَايَةٍ،
وَالْمَعْرُوفُ لَهُ الْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهُ لاَ يُصَامُ
__________
(1) حديث: " لا تصوموا حتى تروا الهلال. . . . . . " أخرجه البخاري (الفتح
4 / 119 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 759 - ط الحلبي) .
(2) العيني: عمدة القاري 10 / 261.
(3) فتح الباري 1 / 122.
(22/32)
إِلاَّ بِرُؤْيَةٍ فَاشِيَةٍ أَوْ
شَهَادَةٍ عَادِلَةٍ كَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ (1) ".
وَعَنْ مُطَرِّفٍ أَيْضًا أَنَّ الْعَارِفَ بِالْحِسَابِ يَعْمَل بِهِ فِي
نَفْسِهِ (2) .
أَمَّا ابْنُ سُرَيْجٍ فَاعْتَبَرَ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: فَاقْدُرُوا لَهُ: خِطَابًا لِمَنْ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى
بِعِلْمِ الْحِسَابِ، وَقَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْحَدِيثِ الآْخَرِ: فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ خِطَابًا لِلْعَامَّةِ (3) .
وَبَيَّنَ ابْنُ الصَّلاَحِ مَا قَصَدَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ مِنَ
الْمَعْرِفَةِ بِالْحِسَابِ فَقَال: " مَعْرِفَةُ مَنَازِل الْقَمَرِ هِيَ
مَعْرِفَةُ سَيْرِ الأَْهِلَّةِ، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْحِسَابِ فَأَمْرٌ
دَقِيقٌ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الآْحَادُ. فَمَعْرِفَةُ مَنَازِل
الْقَمَرِ تُدْرَكُ بِأَمْرٍ مَحْسُوسٍ يُدْرِكُهُ مَنْ يُرَاقِبُ
النُّجُومَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَقَال بِهِ
فِي حَقِّ الْعَارِفِ بِهَا فِيمَا يَخُصُّهُ (4) ".
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّقْل عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ فِي حُكْمِ صِيَامِ
الْعَارِفِ بِالْحِسَابِ عِنْدَ ثُبُوتِ الْهِلاَل عِنْدَهُ، فَفِي
رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَقُل بِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ،
وَإِنَّمَا قَال بِجَوَازِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ
__________
(1) المقدمات 1 / 188.
(2) الحطاب: مواهب الجليل 2 / 388، وقد نسب القول إلى ابن رشد.
(3) عارضة الأحوذي شرح صحيح الترمذي 3 / 207 - 208 (دار العلم للجميع) ،
وابن حجر فتح الباري 4 / 122 - 123، والزرقاني شرح الموطأ 2 / 154.
(4) ابن حجر، فتح الباري 4 / 122.
(22/32)
لُزُومُ الصِّيَامِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ
(1) .
وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ قَوْل: لاَ بَأْسَ بِالاِعْتِمَادِ عَلَى
قَوْل الْمُنَجِّمِينَ (2) .
وَقَال الْقُشَيْرِيُّ: " إِذَا دَل الْحِسَابُ عَلَى أَنَّ الْهِلاَل قَدْ
طَلَعَ مِنَ الأُْفُقِ عَلَى وَجْهٍ يُرَى لَوْلاَ وُجُودُ الْمَانِعِ
كَالْغَيْمِ مَثَلاً، فَهَذَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ لِوُجُودِ السَّبَبِ
الشَّرْعِيِّ، وَلَيْسَ حَقِيقَةُ الرُّؤْيَةِ مَشْرُوطَةً فِي اللُّزُومِ،
فَإِنَّ الاِتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْمَحْبُوسَ فِي الْمَطْمُورَةِ إِذَا
عَلِمَ بِإِتْمَامِ الْعِدَّةِ أَوْ بِالاِجْتِهَادِ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ
رَمَضَانَ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ (3) ".
آرَاءُ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ إِثْبَاتِ الأَْهِلَّةِ بِالْحِسَابِ
وَأَدِلَّتُهُمْ:
13 - الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ أَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ
الصَّوْمِ وَالإِْفْطَارِ رُؤْيَةُ الْهِلاَل، وَأَنَّهُ لاَ عِبْرَةَ
بِقَوْل الْمُؤَقِّتِينَ وَلَوْ عُدُولاً، وَمَنْ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِمْ
فَقَدْ خَالَفَ الشَّرْعَ، وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ
أَنْ يُجْتَهَدَ فِي ذَلِكَ، وَيُعْمَل بِقَوْل أَهْل الْحِسَابِ (4) .
وَمَنَعَ مَالِكٌ مِنَ اعْتِمَادِ الْحِسَابِ فِي إِثْبَاتِ الْهِلاَل،
فَقَال: " إِنَّ الإِْمَامَ الَّذِي يَعْتَمِدُ عَلَى
__________
(1) ابن حجر، فتح الباري 4 / 122.
(2) عمدة القاري 10 / 271، ورسائل ابن عابدين 1 / 224.
(3) عمدة القاري 10 / 272.
(4) رسائل ابن عابدين 1 / 244 - 225
(22/33)
الْحِسَابِ لاَ يُقْتَدَى بِهِ، وَلاَ
يُتَّبَعُ ".
وَبَيَّنَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ حُكْمَ صِيَامِ مَنِ اعْتَمَدَ
الْحِسَابَ فَقَال: " فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ أَحَدٌ فَالَّذِي عِنْدِي
أَنَّهُ لاَ يُعْتَدُّ بِمَا صَامَ مِنْهُ عَلَى الْحِسَابِ وَيَرْجِعُ
إِلَى الرُّؤْيَةِ وَإِكْمَال الْعَدَدِ، فَإِنِ اقْتَضَى ذَلِكَ قَضَاءَ
شَيْءٍ مِنْ صَوْمِهِ قَضَاهُ (1) ".
وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ قَوْلاً آخَرَ لِلْمَالِكِيَّةِ بِجَوَازِ
اعْتِمَادِ الْحِسَابِ فِي إِثْبَاتِ الأَْهْلِيَّةِ (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَال النَّوَوِيُّ: قَال أَصْحَابُنَا
وَغَيْرُهُمْ: " لاَ يَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ إِلاَّ بِدُخُولِهِ،
وَيُعْلَمُ دُخُولُهُ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل، فَإِنْ غُمَّ وَجَبَ
اسْتِكْمَال شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ، ثُمَّ يَصُومُونَ سَوَاءٌ كَانَتِ
السَّمَاءُ مُصْحِيَةً أَوْ مُغَيِّمَةً غَيْمًا قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا ".
وَفِي هَذَا حَصْرُ طُرُقِ إِثْبَاتِ هِلاَل رَمَضَانَ فِي الرُّؤْيَةِ
وَإِكْمَال شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ، وَفِي هَذَا الْحَصْرِ نَفْيٌ
لاِعْتِمَادِ الْحِسَابِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِرَفْضِهِ؛
لأَِنَّهُ حَدْسٌ وَتَخْمِينٌ وَرَأَى اعْتِبَارَهُ فِي الْقِبْلَةِ
وَالْوَقْتِ (3) .
نَقَل الْقَلْيُوبِيُّ عَنِ الْعَبَّادِيِّ قَوْلَهُ: إِذَا دَل الْحِسَابُ
الْقَطْعِيُّ عَلَى عَدَمِ رُؤْيَةِ الْهِلاَل لَمْ يُقْبَل
__________
(1) أبو الوليد الباجي، المنتقى 2 / 38 (دار الكتاب العربي، طبعة مصورة عن
ط - الأولى) ، والحطاب 2 / 387، وفتح الباري 4 / 127، والعيني 5 / 270 -
272
(2) الفروق 2 / 178، الفرق 102
(3) النووي، المجموع شرح المهذب 6 / 270، والزرقاني شرح الموطأ 2 / 154،
والقسطلاني: إرشاد الساري 3 / 356 (دار الفكر، بيروت) .
(22/33)
قَوْل الْعُدُول بِرُؤْيَتِهِ، وَتُرَدُّ
شَهَادَتُهُمْ. ثُمَّ قَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ، وَلاَ
يَجُوزُ الصَّوْمُ حِينَئِذٍ وَمُخَالَفَةُ ذَلِكَ مُعَانَدَةٌ
وَمُكَابَرَةٌ (1) .
وَلاَ يَعْتَمِدُ الْحَنَابِلَةُ الْحِسَابَ الْفَلَكِيَّ فِي إِثْبَاتِ
هِلاَل رَمَضَانَ، وَلَوْ كَثُرَتْ إِصَابَتُهُ (2) .
أَدِلَّةُ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ إِثْبَاتِ الأَْهِلَّةِ بِالْحِسَابِ:
اسْتَدَل الْمَانِعُونَ بِالْحَدِيثِ نَفْسِهِ الَّذِي اسْتَدَل
الْمُثْبِتُونَ بِهِ فَفَسَّرُوهُ بِغَيْرِ الْمُرَادِ مِنْهُ.
أَوَّلاً: تَفْسِيرُ الْحَدِيثِ الْمُشْتَمِل عَلَى التَّقْدِيرِ بِمَا
يَنْقُضُ مَفْهُومَ التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَائِلُونَ
بِالْحِسَابِ.
فَسَّرَ الأَْئِمَّةُ الأَْجِلَّةُ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: فَاقْدُرُوا لَهُ بِتَفْسِيرَيْنِ:
الأَْوَّل: حَمْل التَّقْدِيرِ عَلَى إِتْمَامِ الشَّهْرِ ثَلاَثِينَ.
الثَّانِي: تَفْسِيرٌ بِمَعْنَى تَضْيِيقِ عَدَدِ أَيَّامِ الشَّهْرِ.
التَّفْسِيرُ الأَْوَّل:
جَاءَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ يُصْبِحُ مُفْطِرًا إِذَا
كَانَتِ السَّمَاءُ صَاحِيَةً وَصَائِمًا إِذَا كَانَتْ مُغَيِّمَةً
لأَِنَّهُ يَتَأَوَّل قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ إِتْمَامُ الشَّهْرِ ثَلاَثِينَ (3) .
__________
(1) القليوبي 2 / 49.
(2) البهوتي: منصور بن يونس، كشاف القناع 2 / 272.
(3) ابن رشد، المقدمات 1 / 187 - 189
(22/34)
وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ أَبُو
حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ،
فَحَمَلُوا عِبَارَةَ: فَاقْدُرُوا لَهُ عَلَى تَمَامِ الْعَدَدِ
ثَلاَثِينَ يَوْمًا (1) .
وَالْبُخَارِيُّ أَتْبَعَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ هُنَا
بِرِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ جَاءَ فِيهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً
فَلاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا
الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ (2) . وَأَتْبَعَهُ فِي نَفْسِ الْبَابِ بِحَدِيثِ
أَبِي هُرَيْرَةَ، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ
قَال: قَال أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صُومُوا
لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ
فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ (3) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: قَصَدَ (الْبُخَارِيُّ) بِذَلِكَ بَيَانَ الْمُرَادِ
مِنْ قَوْلِهِ فَاقْدُرُوا لَهُ (4) ، وَأَيَّدَ ابْنُ رُشْدٍ تَفْسِيرَ
الْبُخَارِيِّ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ يَكُونُ بِمَعْنَى
التَّمَامِ، وَدَعَّمَ رَأْيَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ جَعَل اللَّهُ
لِكُل شَيْءٍ قَدْرًا} (5) أَيْ تَمَامًا (6) .
__________
(1) النووي، شرح مسلم على هامش القسطلاني 5 / 53 ط دار الفكر بيروت.
(2) حديث: " الشهر تسع وعشرون ليلة. . . . " تقدم تخريجه (ف 2) .
(3) حديث: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته. . . . " تقدم تخريجه (ف 2) .
(4) فتح الباري 4 / 120.
(5) سورة الطلاق / 3.
(6) ابن رشد، المقدمات 1 / 187.
(22/34)
التَّفْسِيرُ الثَّانِي بِمَعْنَى
تَضْيِيقِ عَدَدِ أَيَّامِ الشَّهْرِ:
فَسَّرَ الْقَائِلُونَ بِهِ اقْدُرُوا لَهُ بِمَعْنَى ضَيِّقُوا لَهُ
الْعَدَدَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} (1) ،
وَالتَّضْيِيقُ لَهُ أَنْ يَجْعَل شَعْبَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا
(2) . وَمِمَّنْ قَال بِهَذَا الرَّأْيِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ
مِمَّنْ يُجَوِّزُ صَوْمَ يَوْمِ الشَّكِّ إِنْ كَانَتِ السَّمَاءُ
مُغَيِّمَةً (3) .
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لاَ
نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسِبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي مَرَّةً
تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلاَثِينَ (4) .
بَيَّنَ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ الْمَنْفِيَّ عَنْهُمُ الْكِتَابُ وَالْحِسَابُ
هُمْ أَغْلَبُ أَهْل الإِْسْلاَمِ الَّذِينَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ تَحْدِيثِهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، أَوْ
أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّبِيُّ نَفْسُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ.
ثُمَّ قَال ابْنُ حَجَرٍ: " الْمُرَادُ بِالْحِسَابِ هُنَا حِسَابُ
النُّجُومِ وَتَسْيِيرُهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ مِنْ ذَلِكَ
إِلاَّ النَّزْرَ الْيَسِيرَ، فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِالصَّوْمِ
__________
(1) سورة الطلاق / 7.
(2) ابن قدامة، المغني 3 / 90، والنووي، المجموع شرح المهذب 6 / 270، وشرح
مسلم 3 / 53.
(3) النووي، المجموع شرح المهذب 6 / 270، وشرح مسلم 3 / 53
(4) حديث: " إنا أمة أمية. . . " تقدم تخريجه (ف 7) .
(22/35)
وَغَيْرِهِ بِالرُّؤْيَةِ لِدَفْعِ
الْحَرَجِ عَنْهُمْ فِي مُعَانَاةِ حِسَابِ التَّسْيِيرِ، وَاسْتَمَرَّ
الْحُكْمُ فِي الصَّوْمِ وَلَوْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ،
بَل ظَاهِرُ السِّيَاقِ يُشْعِرُ بِنَفْيِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ
بِالْحِسَابِ أَصْلاً. وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي
فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ وَلَمْ يَقُل
فَسَلُوا أَهْل الْحِسَابِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ كَوْنُ الْعَدَدِ عِنْدَ
الإِْغْمَاءِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُكَلَّفُونَ فَيَرْتَفِعُ الاِخْتِلاَفُ
وَالنِّزَاعُ عَنْهُمْ (1) ".
اخْتِلاَفُ الْمَطَالِعِ:
14 - اخْتِلاَفُ مَطَالِعِ الْهِلاَل أَمْرٌ وَاقِعٌ بَيْنَ الْبِلاَدِ
الْبَعِيدَةِ كَاخْتِلاَفِ مَطَالِعِ الشَّمْسِ، لَكِنْ هَل يُعْتَبَرُ
ذَلِكَ فِي بَدْءِ صِيَامِ الْمُسْلِمِينَ وَتَوْقِيتِ عِيدَيِ الْفِطْرِ
وَالأَْضْحَى وَسَائِرِ الشُّهُورِ فَتَخْتَلِفُ بَيْنَهُمْ بَدْءًا
وَنِهَايَةً أَمْ لاَ يُعْتَبَرُ بِذَلِكَ، وَيَتَوَحَّدُ الْمُسْلِمُونَ
فِي صَوْمِهِمْ وَفِي عِيدَيْهِمْ؟ ،
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ عِبْرَةَ بِاخْتِلاَفِ
الْمَطَالِعِ، وَهُنَاكَ مَنْ قَال بِاعْتِبَارِهَا، وَخَاصَّةً بَيْنَ
الأَْقْطَارِ الْبَعِيدَةِ، فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ: بِأَنَّهُ لِكُل بَلَدٍ رُؤْيَتُهُمْ، وَأَوْجَبُوا عَلَى
الأَْمْصَارِ الْقَرِيبَةِ اتِّبَاعَ بَعْضِهَا بَعْضًا، وَأَلْزَمُوا
أَهْل الْمِصْرِ الْقَرِيبِ فِي حَالَةِ اخْتِلاَفِهِمْ مَعَ مِصْرٍ
قَرِيبٍ مِنْهُمْ بِصِيَامِهِمْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَصِيَامِ
__________
(1) فتح الباري 4 / 127، ونفس المعنى للحديث فسره به العيني في عمدة القاري
10 / 286 - 287
(22/35)
الآْخَرِينَ ثَلاَثِينَ اعْتِمَادًا عَلَى
الرُّؤْيَةِ أَوْ إِتْمَامَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ أَنْ يَقْضُوا الْيَوْمَ
الَّذِي أَفْطَرُوهُ؛ لأَِنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ حَسَبَ مَا ثَبَتَ عِنْدَ
الْمِصْرِ الآْخَرِ، وَالْمُعْتَمَدُ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
أَنَّهُ لاَ اعْتِبَارَ بِاخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ فَإِذَا ثَبَتَ
الْهِلاَل فِي مِصْرٍ لَزِمَ سَائِرَ النَّاسِ فَيُلْزَمُ أَهْل
الْمَشْرِقِ بِرُؤْيَةِ أَهْل الْمَغْرِبِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى جَمِيعِ أَقْطَارِ
الْمُسْلِمِينَ إِذَا رُئِيَ الْهِلاَل فِي أَحَدِهَا.
وَقَيَّدَ بَعْضُهُمْ هَذَا التَّعْمِيمَ فَاسْتَثْنَى الْبِلاَدَ
الْبَعِيدَةَ كَثِيرًا كَالأَْنْدَلُسِ وَخُرَاسَانَ (2) .
وَبَيَّنَ الْقَرَافِيُّ اخْتِلاَفَ مَطَالِعِ الْهِلاَل عِلْمِيًّا،
وَذَكَرَ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِهِ مُكْتَفِيًا بِهِ عَنِ الْبَقِيَّةِ
الْمَذْكُورَةِ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ: وَهُوَ أَنَّ الْبِلاَدَ
الْمَشْرِقِيَّةَ إِذَا كَانَ الْهِلاَل فِيهَا فِي الشُّعَاعِ وَبَقِيَتِ
الشَّمْسُ تَتَحَرَّكُ مَعَ الْقَمَرِ إِلَى الْجِهَةِ الْغَرْبِيَّةِ
فَمَا تَصِل الشَّمْسُ إِلَى أُفُقِ الْمَغْرِبِ إِلاَّ وَقَدْ خَرَجَ
الْهِلاَل عَنِ الشُّعَاعِ فَيَرَاهُ أَهْل الْمَغْرِبِ وَلاَ يَرَاهُ
أَهْل الْمَشْرِقِ. وَاسْتَنْتَجَ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ وَمِنَ اتِّفَاقِ
عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعِهِمْ عَلَى اخْتِلاَفِ أَوْقَاتِ
الصَّلاَةِ وَمُرَاعَاةِ ذَلِكَ فِي الْمِيرَاثِ بِحَيْثُ أَفْتَوْا
بِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ أَخَوَانِ عِنْدَ الزَّوَال أَحَدُهُمَا
بِالْمَشْرِقِ وَالآْخَرُ بِالْمَغْرِبِ حُكِمَ بِأَسْبَقِيَّةِ مَوْتِ
الْمَشْرِقِيِّ؛ لأَِنَّ
__________
(1) ابن عابدين: رسائل ابن عابدين 1 / 228، 229
(2) القرافي، الفروق 2 / 203، والحطاب، مواهب الجليل 2 / 384.
(22/36)
زَوَال الْمَشْرِقِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى
زَوَال الْمَغْرِبِ فَيَرِثُ الْمَغْرِبِيُّ الْمَشْرِقِيَّ، فَقَرَّرَ
بَعْدَ إِثْبَاتِهِ اخْتِلاَفَ الْهِلاَل بِاخْتِلاَفِ الآْفَاقِ وُجُوبَ
أَنْ يَكُونَ لِكُل قَوْمٍ رُؤْيَتُهُمْ فِي الأَْهِلَّةِ، كَمَا أَنَّ
لِكُل قَوْمٍ أَوْقَاتَ صَلَوَاتِهِمْ، وَرَأَى أَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ
عَلَى جَمِيعِ الأَْقَالِيمِ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل بِقُطْرٍ مِنْهَا
بَعِيدٌ عَنِ الْقَوَاعِدِ، وَالأَْدِلَّةُ لَمْ تَقْتَضِ ذَلِكَ (1) .
وَعَمِل الشَّافِعِيَّةُ بِاخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ فَقَالُوا: " إِنَّ
لِكُل بَلَدٍ رُؤْيَتَهُمْ وَإِنَّ رُؤْيَةَ الْهِلاَل بِبَلَدٍ لاَ
يَثْبُتُ بِهَا حُكْمُهُ لِمَا بَعُدَ عَنْهُمْ ". كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ
النَّوَوِيُّ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا مَعَ مَنْ وَافَقَهُمْ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَعْمَل
بِرُؤْيَةِ أَهْل الشَّامِ لِحَدِيثِ كُرَيْبٍ أَنَّ أُمَّ الْفَضْل بِنْتَ
الْحَارِثِ بَعَثَتْهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، قَال: فَقَدِمْتُ
الشَّامَ فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا وَاسْتَهَل عَلَيَّ رَمَضَانُ، وَأَنَا
بِالشَّامِ، فَرَأَيْتُ الْهِلاَل لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ قَدِمْتُ
الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ فَسَأَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَبَّاسٍ ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلاَل فَقَال: مَتَى رَأَيْتُمْ؟ فَقُلْتُ:
رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ. فَقَال: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ فَقُلْتُ:
نَعَمْ. وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا، وَصَامَ مُعَاوِيَةُ فَقَال: لَكِنَّا
رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلاَ
__________
(1) القرافي، الفروق 2 / 204.
(2) المجموع شرح المهذب 5 / 273 - 275، وشرح مسلم 5 / 58 - 59، والشوكاني
نيل الأوطار 4 / 268 (دار الجيل) .
(22/36)
نَزَال نَصُومُ حَتَّى نُكْمِل ثَلاَثِينَ
أَوْ نَرَاهُ، فَقُلْتُ: أَوَلاَ تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ
وَصِيَامِهِ، فَقَال: لاَ. هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَقَدْ عَلَّل النَّوَوِيُّ هَذِهِ الْفَتْوَى مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّ
الرُّؤْيَةَ لاَ يَثْبُتُ حُكْمُهَا فِي حَقِّ الْبَعِيدِ (2) . وَقَال
الْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ، وَأَلْزَمُوا
جَمِيعَ الْبِلاَدِ بِالصَّوْمِ إِذَا رُئِيَ الْهِلاَل فِي بَلَدٍ (3) .
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ
بِحَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُومُوا
لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ (4) ، فَقَدْ أَوْجَبَ هَذَا
الْحَدِيثُ الصَّوْمَ بِمُطْلَقِ الرُّؤْيَةِ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ
دُونَ تَقْيِيدِهَا بِمَكَانٍ، وَاعْتَبَرُوا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ
عَبَّاسٍ مِنَ اجْتِهَادِهِ، وَلَيْسَ نَقْلاً عَنِ الرَّسُول صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَثَرُ الْخَطَأِ فِي رُؤْيَةِ الْهِلاَل:
15 - قَدْ يُنْتَجُ عَنْ تَوَاصُل الْغَيْمِ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ قَبْل
رَمَضَانَ أَوْ شَوَّالٍ أَوْ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ عَنْ عَدَمِ التَّحَرِّي
فِي رُؤْيَةِ الْهِلاَل خَطَأٌ فِي بِدَايَةِ رَمَضَانَ،
__________
(1) حديث أم الفضل أخرجه مسلم (2 / 765) - ط الحلبي.
(2) شرح مسلم 5 / 58 - 59
(3) ابن قدامة، المغني 3 / 88 - 89
(4) حديث: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته " تقدم تخريجه (ف 1)
(22/37)
وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِفْطَارُ يَوْمٍ
مِنْهُ، أَوْ خَطَأٌ فِي بِدَايَةِ شَوَّالٍ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
إِفْطَارُ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ صِيَامُ يَوْمِ الْعِيدِ، أَوْ
خَطَأٌ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وُقُوفٌ بِعَرَفَةَ فِي
غَيْرِ وَقْتِهِ، وَهَذَا أَخْطَرُهَا (1) .
وَقَدِ اسْتَنَدَ الْقَائِلُونَ بِصِحَّةِ الْوُقُوفِ فِي غَيْرِ يَوْمِهِ
إِلَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: شَهْرَانِ لاَ يَنْقُصَانِ: شَهْرَا عِيدٍ:
رَمَضَانُ وَذُو الْحِجَّةِ (2) .
وَفَهِمُوا مِنْهُ أَنَّ الْخَطَأَ فِي الْوَقْفَةِ لاَ يَنْقُصُ
أَجْرَهَا، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى لاَ يُفْسِدُهَا.
قَال الطِّيبِيُّ: ظَاهِرُ سِيَاقِ الْحَدِيثِ بَيَانُ اخْتِصَاصِ
الشَّهْرَيْنِ بِمَزِيَّةٍ لَيْسَتْ فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الشُّهُورِ،
وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ثَوَابَ الطَّاعَةِ فِي غَيْرِهِمَا يَنْقُصُ،
وَإِنَّمَا الْمُرَادُ رَفْعُ الْحَرَجِ عَمَّا عَسَى أَنْ يَقَعَ فِيهِ
خَطَأٌ فِي الْحُكْمِ لاِخْتِصَاصِهِمَا بِالْعِيدَيْنِ وَجَوَازِ
احْتِمَال وُقُوعِ الْخَطَأِ فِيهِمَا. وَمِنْ ثَمَّ قَال: شَهْرَا عِيدٍ
بَعْدَ قَوْلِهِ: شَهْرَانِ لاَ يَنْقُصَانِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى
قَوْلِهِ: رَمَضَانُ وَذُو الْحِجَّةِ (3) .
قَال ابْنُ بَطَّالٍ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْعَيْنِيُّ: " قَالَتْ
طَائِفَةٌ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ بِخَطَأٍ شَامِلٍ لِجَمِيعِ أَهْل
الْمَوْقِفِ فِي يَوْمٍ قَبْل يَوْمِ عَرَفَةَ أَوْ بَعْدَهُ أَنَّهُ
يُجْزِئُ
__________
(1) الحطاب، مواهب الجليل 2 / 283
(2) حديث: " شهران لا ينقصان: شهرا عيد: رمضان وذو الحجة " أخرجه البخاري
(الفتح 4 / 124 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 766 - ط الحلبي) من حديث أبي
بكرة.
(3) فتح الباري 4 / 126.
(22/37)
عَنْهُ، وَهُوَ قَوْل عَطَاءِ بْنِ أَبِي
رَبَاحٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ،
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُهُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ بِصِيَامِ مَنِ الْتَبَسَتْ
عَلَيْهِ الشُّهُورُ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَقَعَ صِيَامُهُ قَبْل
رَمَضَانَ أَوْ بَعْدَهُ (1) ".
وَإِلَى نَفْسِ هَذَا الرَّأْيِ ذَهَبَ النَّوَوِيُّ فَقَال: " إِنَّ كُل
مَا وَرَدَ فِي رَمَضَانَ وَذِي الْحِجَّةِ مِنَ الْفَضَائِل
وَالأَْحْكَامِ حَاصِلٌ سَوَاءٌ كَانَ رَمَضَانُ ثَلاَثِينَ أَوْ تِسْعًا
وَعِشْرِينَ، سَوَاءٌ صَادَفَ الْوُقُوفُ الْيَوْمَ التَّاسِعَ أَوْ
غَيْرَهُ بِشَرْطِ انْتِفَاءِ التَّقْصِيرِ فِي ابْتِغَاءِ الْهِلاَل ".
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: " الْحَدِيثُ يُطَمْئِنُ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ
تِسْعًا وَعِشْرِينَ أَوْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ فِي غَيْرِ يَوْمِهَا
اجْتِهَادًا (2) ".
وَنَظَرًا إِلَى أَنَّ حُصُول النَّقْصِ فِي رَمَضَانَ وَاضِحٌ، وَفِي ذِي
الْحِجَّةِ غَيْرُ وَاضِحٍ لِوُقُوعِ الْمَنَاسِكِ فِي أَوَّلِهِ فَقَدْ
بَيَّنَ ذَلِكَ الْعَيْنِيُّ بِقَوْلِهِ: " قَدْ تَكُونُ أَيَّامُ الْحَجِّ
مِنَ الإِْغْمَاءِ وَالنُّقْصَانِ مِثْل مَا يَكُونُ فِي آخِرِ رَمَضَانَ
بِأَنْ يُغَمَّى هِلاَل ذِي الْقَعْدَةِ وَيَقَعُ فِيهِ الْغَلَطُ
بِزِيَادَةِ يَوْمٍ أَوْ نُقْصَانِهِ فَيَقَعُ عَرَفَةُ فِي الْيَوْمِ
الثَّامِنِ أَوِ الْعَاشِرِ مِنْهُ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ أَجْرَ
الْوَاقِفِينَ بِعَرَفَةَ فِي مِثْلِهِ لاَ يَنْقُصُ عَمَّا لاَ غَلَطَ
فِيهِ ".
__________
(1) العيني، عمدة القاري 10 / 285 - 286
(2) ابن حجر، فتح الباري 4 / 126، والقسطلاني، إرشاد الساري 3 / 359.
(22/38)
وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُمْ إِنْ
أَخْطَئُوا وَوَقَفُوا بَعْدَ يَوْمِ عَرَفَةَ يَوْمَ النَّحْرِ
يُجْزِيهِمْ، وَإِنْ قَدَّمُوا الْوُقُوفَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَعَادُوا
الْوُقُوفَ مِنَ الْغَدِ وَلَمْ يُجْزِهِمْ (1) .
تَبْلِيغُ الرُّؤْيَةِ:
16 - إِذَا ثَبَتَ الْهِلاَل عِنْدَ الْجِهَةِ الْمُخْتَصَّةِ الْمَوْثُوقِ
بِهَا وَجَبَ إِعْلاَمُ النَّاسِ لِلشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ، أَوِ
الإِْفْطَارِ وَصَلاَةِ عِيدِ الْفِطْرِ، أَوْ صَلاَةِ عِيدِ الأَْضْحَى
وَذَبْحِ الأُْضْحِيَّةِ بِالْخَبَرِ كَمَا قَال الْقَرَافِيُّ: "
ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ رِوَايَةٌ مَحْضَةٌ كَالأَْحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ
وَشَهَادَةٌ مَحْضَةٌ كَإِخْبَارِ الشُّهُودِ عَنِ الْحُقُوقِ عَلَى
الْمُعَيَّنِينَ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَمُرَكَّبٌ مِنْ شَهَادَةٍ
وَرِوَايَةٍ، وَلَهُ صُوَرٌ أَحَدُهَا الإِْخْبَارُ عَنْ رُؤْيَةِ هِلاَل
رَمَضَانَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الصَّوْمَ لاَ يَخْتَصُّ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ
بَل عَامٌّ عَلَى جَمِيعِ الْمِصْرِ أَوْ أَهْل الآْفَاقِ فَهُوَ مِنْ
هَذَا الْوَجْهِ رِوَايَةٌ لِعَدَمِ الاِخْتِصَاصِ بِمُعَيَّنٍ وَلِعُمُومِ
الْحُكْمِ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِهَذَا الْعَامِّ
دُونَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ (2) ".
وَإِذَا كَانَتِ الرُّؤْيَةُ فِي حَدِّ ذَاتِهَا تُشْبِهُ الشَّهَادَةَ
وَالرِّوَايَةَ، فَإِنَّ الإِْعْلاَمَ بِهَا بَعْدَ ثُبُوتِهَا لاَ خِلاَفَ
فِي كَوْنِهِ رِوَايَةً، لِذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعْتَمَدُ فِي نَقْلِهَا
وَسَائِل
__________
(1) العيني، عمدة القاري 10 / 285، والإجابة نفسها نقلها القسطلاني في
إرشاد الساري 3 / 359، ونسبها إلى الكرماني.
(2) الفروق 1 / 10.
(22/38)
نَقْل الْخَبَرِ، وَيُشْتَرَطُ فِي
الْمُخْبِرِ بِهَا شُرُوطُ الرَّاوِي الْمَقْبُول الرِّوَايَةِ
الْمُتَعَارَفُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَهِيَ:
الْعَدَالَةُ وَالضَّبْطُ (1) .
وَقْتُ الإِْعْلاَمِ:
17 - إِنَّ وَقْتَ الإِْعْلاَمِ بِالنِّسْبَةِ لِرَمَضَانَ هُوَ مَا قَبْل
فَجْرِ الْيَوْمِ الأَْوَّل مِنْهُ فَإِنْ حَصَل بَعْدَ ذَلِكَ وَجَبَ
الإِْمْسَاكُ وَعَقْدُ نِيَّةِ الصِّيَامِ وَقَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ
حَتَّى بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ بَيَّتَ الصِّيَامَ عَلَى غَيْرِ جَزْمٍ
بِدُخُول رَمَضَانَ (2) . عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحِ: (صَوْمٌ) .
الأَْدْعِيَةُ الْمَأْثُورَةُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلاَل:
18 - وَرَدَتْ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَدْعِيَةٌ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلاَل مِنْهَا مَا جَاءَ عَنْ طَلْحَةَ
بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلاَل قَال: اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا
بِالْيُمْنِ وَالإِْيمَانِ وَالسَّلاَمَةِ وَالإِْسْلاَمِ، رَبِّي
وَرَبُّكَ اللَّهُ (3) .
وَمِنْهَا رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ لِهَذَا الْمَتْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا
رَأَى الْهِلاَل، قَال:
__________
(1) الفروق 1 / 385.
(2) الحطاب: مواهب الجليل 2 / 392.
(3) حديث: " كان إذا رأى الهلال قال: اللهم أهله علينا باليمن والإيمان. .
. . " أخرجه الترمذي (5 / 504 - ط الحلبي) من حديث طلحة بن عبيد الله،
وقال: " هذا حديث حسن غريب ".
(22/39)
اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا
بِالأَْمْنِ وَالإِْيمَانِ، وَالسَّلاَمَةِ وَالإِْسْلاَمِ وَالتَّوْفِيقِ
لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، رَبُّنَا وَرَبُّكَ اللَّهُ (1) .
وَمِنْهَا مَا جَاءَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَال: كَانَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى الْهِلاَل قَال:
اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، لاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ
بِاللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذَا الشَّهْرِ،
وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ الْقَدَرِ، وَمِنْ سُوءِ الْحَشْرِ (2) .
وَمِنْهَا عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلاَل قَال: هِلاَل
خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلاَل خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلاَل خَيْرٍ وَرُشْدٍ، آمَنْتُ
بِالَّذِي خَلَقَكَ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يَقُول: الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي ذَهَبَ بِشَهْرِ كَذَا وَجَاءَ بِشَهْرِ كَذَا (3) .
هَذِهِ الأَْحَادِيثُ نَقَلَهَا أَيْضًا النَّوَوِيُّ فِي الأَْذْكَارِ،
وَالْحَطَّابُ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيل، وَنَقَل
__________
(1) حديث ابن عمر: " كان إذا رأى الهلال قال: اللهم أهله بالأمن والإيمان.
. . . " أخرجه الطبراني في " المعجم الكبير " (12 / 356 - ط الأوقاف
العراقية) ، وقال الهيثمي في المجمع (10 / 139 - ط القدسي) : " فيه عثمان
بن إبراهيم الحاطبي، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات ".
(2) حديث عبادة بن الصامت: " كان إذا رأى الهلال قال:. . . . " أخرجه عبد
الله بن أحمد في زوائده على المسند (5 / 329 - ط الميمنية) وقال الهيثمي في
المجمع (10 / 139 - ط القدسي) : " رواه عبد الله والطبراني، وفيه راو لم
يسم ".
(3) حديث قتادة أنه بلغه: " أن النبي (كان إذا رأى الهلال. . . . " أخرجه
أبو داود (5 / 326 - 327 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وإسناده ضعيف لإرساله
(22/39)
إِثْرَهَا قَوْلاً لِلدَّمِيرِيِّ نَصَّ
فِيهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْمُلْكِ عِنْدَ رُؤْيَةِ
الْهِلاَل لِلأَْثَرِ الْوَارِدِ فِيهَا، وَلأَِنَّهَا الْمُنَجِّيَةُ
الْوَاقِيَةُ (1) .
__________
(1) الأذكار ص 171، ومواهب الجليل 2 / 382، 383
(22/40)
رَائِحَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّائِحَةُ وَالرِّيحُ فِي اللُّغَةِ: النَّسِيمُ طَيِّبًا كَانَ
أَوْ نَتِنًا. يُقَال: وَجَدْتُ رَائِحَةَ الشَّيْءِ وَرِيحَهُ.
وَالرَّائِحَةُ عَرَضٌ يُدْرَكُ بِحَاسَّةِ الشَّمِّ. وَقِيل: لاَ يُطْلَقُ
اسْمُ الرِّيحِ إِلاَّ عَلَى الطَّيِّبِ (1) ، جَاءَ فِي الأَْثَرِ:
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالإِْثْمِدِ
الْمُرَوَّحِ أَيِ الْمُطَيَّبِ عِنْدَ النَّوْمِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
تَرِدُ كَلِمَةُ " رَائِحَةٌ " فِي كُتُبِ الْفِقْهِ فِي أَبْوَابٍ
مُخْتَلِفَةٍ، وَبِاخْتِلاَفِ الأَْبْوَابِ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا.
أ - الرَّائِحَةُ فِي بَابِ الطَّهَارَةِ:
2 - الأَْصْل فِي رَفْعِ الْحَدَثِ وَإِزَالَةِ الْخَبَثِ أَنْ
__________
(1) لسان العرب، تاج العروس، المغرب، المصباح المنير.
(2) حديث: " أمر بالإثمد المروح عند النوم " أخرجه أبو داود (2 / 776 -
تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث معبد بن هوذة، ثم قال: " قال لي ابن معين: هو
حديث منكر ".
(22/40)
يَكُونَ بِالْمَاءِ قَال تَعَالَى:
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (1) .
وَاشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لِطَهُورِيَّةِ الْمَاءِ بَقَاءَ
أَوْصَافِهِ الأَْصْلِيَّةِ وَهِيَ: اللَّوْنُ وَالطَّعْمُ وَالرَّائِحَةُ.
فَإِنْ تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ، كَرَائِحَتِهِ، بِشَيْءٍ خَالَطَهُ
بِحَيْثُ لاَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَاءِ عُرْفًا، بَل يُضَافُ
إِلَيْهِ قَيْدٌ لاَزِمٌ، كَمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ
يَسْلُبُ عَنْهُ الطَّهُورِيَّةَ، فَيُصْبِحُ الْمَاءُ طَاهِرًا غَيْرَ
مُطَهِّرٍ إِنْ كَانَ الْمُخَالِطُ الْمُغَيِّرُ طَاهِرًا، فَلاَ يَرْفَعُ
حَدَثًا وَلاَ يُزِيل خَبَثًا وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا بِذَاتِهِ؛ لأَِنَّهُ
لَيْسَ مَاءً مُطْلَقًا (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ عَنِ الْمَاءِ
تَغَيُّرُ أَوْصَافِهِ إِنْ لَمْ يَزُل عَنْهُ طَبْعُ الْمَاءِ. وَطَبْعُ
الْمَاءِ: كَوْنُهُ سَيَّالاً مُرَطِّبًا مُسَكِّنًا لِلْعَطَشِ (3) .
أَمَّا إِذَا حَصَل التَّغَيُّرُ بِمُجَاوِرٍ لِلْمَاءِ لَمْ يُخَالِطْهُ
فَإِنَّهُ لاَ يَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ مُجَرَّدُ
تَرَوُّحٍ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (مِيَاهٌ) .
ب - رَائِحَةُ الطِّيبِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُحْظَرُ عَلَى
الْمُحْرِمِ اسْتِعْمَال مَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ وَيُقْصَدُ بِهِ
رَائِحَتُهُ كَالْمِسْكِ وَالْعُودِ وَنَحْوِهِمَا، أَمَّا مَا لاَ
تُقْصَدُ
__________
(1) سورة الفرقان / 48.
(2) أسنى المطالب 1 / 7 - 8، كشاف القناع 1 / 32، الزرقاني 1 / 11،
الشرقاوي على التحرير 1 / 32 - 34
(3) الاختيار 1 / 14.
(22/41)
رَائِحَتُهُ، كَالتُّفَّاحِ وَالأُْتْرُجِّ
فَلاَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ اسْتِعْمَالُهُ، وَإِنْ كَانَتْ
رَائِحَتُهُ طَيِّبَةً. وَانْظُرْ (إِحْرَامٌ) .
ج - الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ وَالرَّائِحَةُ الْكَرِيهَةُ فِي
الْمَسَاجِدِ:
4 - يُسْتَحَبُّ تَطْيِيبُ الْمَسَاجِدِ، وَيُصَانُ الْمَسْجِدُ عَنِ
الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ مِنْ ثُومٍ أَوْ بَصَلٍ وَنَحْوِهِمَا، وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ، كَمَا يُكْرَهُ لِمَنْ أَكَل شَيْئًا مِنْ
ذَلِكَ دُخُول الْمَسَاجِدِ وَيُرَخَّصُ لَهُ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ فِي
الْمَسْجِدِ، وَمِثْلُهُ مَنْ لَهُ صُنَانٌ أَوْ بَخَرٌ. وَذَهَبَ
الْحَنَابِلَةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ إِخْرَاجِ مَنْ بِهِ ذَلِكَ إِزَالَةً
لِلأَْذَى (1) ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
أَخْرَجَ أَذًى مِنَ الْمَسْجِدِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي
الْجَنَّةِ (2) ، وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ أَكَل
ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا - أَوْ قَال: فَلْيَعْتَزِل
مَسْجِدَنَا (3) .
__________
(1) كشاف القناع 2 / 365، وأسنى المطالب 1 / 215، وجواهر الإكليل 2 / 203،
ومواهب الجليل 6 / 13.
(2) حديث: " من أخرج أذى من المسجد بنى الله له بيتًا في الجنة " أخرجه ابن
ماجه 1 / 250 - ط الحلبي من حديث أبي سعيد الخدري، وقال البوصيري في مصباح
الزجاجة (1 / 163 - ط دار الجنان) : " هذا إسناد ضعيف، ومسلم - هو ابن يسار
- لم يسمع من أبي سعيد، ومحمد - يعني ابن صالح المدني - فيه لين ".
(3) حديث: " من أكل ثومًا أو بصلاً فليعتزلنا - أو قال: فليعتزل مسجدنا "
أخرجه البخاري (الفتح 2 / 239 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 394 - ط الحلبي)
من حديث جابر بن عبد الله
(22/41)
وَقَال: مَنْ أَكَل مِنْ هَذِهِ
الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ يَعْنِي الثُّومَ فَلاَ يَقْرَبْنَا فِي
الْمَسْجِدِ وَفِي رِوَايَةٍ: فَلاَ يَقْرَبْ مُصَلاَّنَا (1) .
وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِخْرَاجُ الرِّيحِ فِي الْمَسْجِدِ
بِجَامِعِ الإِْيذَاءِ بِالرَّائِحَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ
(2) ، لِخَبَرِ: إِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ
بَنُو آدَمَ (3) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ ذَلِكَ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ؛
لأَِنَّ الْمَسْجِدَ يُنَزَّهُ عَنِ النَّجَاسَةِ الْعَيْنِيَّةِ (4) .
وَانْظُرْ: (مَسَاجِدُ) .
د - التَّلَفُ بِسَبَبِ الرَّائِحَةِ:
5 - إِذَا اتَّخَذَ مِنْ دَارِهِ - بَيْنَ الدُّورِ الْمَسْكُونَةِ -
مَعْمَلاً لَهُ رَائِحَةٌ مُؤْذِيَةٌ، فَشَمَّهُ أَطْفَالٌ أَوْ غَيْرُهُمْ
فَمَاتُوا بِذَلِكَ ضَمِنَ صَاحِبُ الدَّارِ، لِمُخَالَفَتِهِ الْعَادَةَ.
وَإِنْ قَلَى أَوْ شَوَى فِي دَارِهِ مَا يُسَبِّبُ إِجْهَاضَ الْحَامِل
إِنْ لَمْ تَأْكُل مِنْهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّمَ إِلَيْهَا مَا
يَدْفَعُ عَنْهَا الإِْجْهَاضَ بِعِوَضٍ إِنْ
__________
(1) حديث: " من أكل من هذه الشجرة الخبيثة (يعني الثوم) فلا يقربنا في
المسجد ". وفي رواية: " فلا يقرب مصلانا ". أخرجه مسلم (1 / 395 - ط
الحلبي) وأبو عوانة (1 / 412 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي
سعيد الخدري، والرواية الأخرى لأبي عوانة.
(2) المصادر السابقة، وكشاف القناع 1 / 497.
(3) حديث: " إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم " أخرجه مسلم (1 /
395 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(4) مواهب الجليل 6 / 13.
(22/42)
كَانَتْ قَادِرَةً عَلَى الْعِوَضِ،
وَإِلاَّ فَبِلاَ عِوَضٍ، وَإِنْ لَمْ تَطْلُبْ مِنْهُ، فَإِنْ قَصَّرَ
ضَمِنَ دِيَةَ الْجَنِينِ (1) . وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ الدِّيَاتِ،
وَمُصْطَلَحِ: (إِجْهَاضٌ، ف 9) .
هـ - ثُبُوتُ حَدِّ الشُّرْبِ بِوُجُودِ الرَّائِحَةِ:
6 - لاَ يَثْبُتُ حَدُّ الشُّرْبِ بِوُجُودِ رَائِحَةِ الْخَمْرِ فِي فَمِ
الشَّارِبِ فِي قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، مِنْهُمْ: الثَّوْرِيُّ،
وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ
عَنْهُ، وَهِيَ الْمَذْهَبُ. وَقَالُوا: يُحْتَمَل أَنَّهُ تَمَضْمَضَ
بِالْخَمْرِ أَوْ حَسِبَهَا مَاءً فَلَمَّا صَارَتْ فِي فَمِهِ مَجَّهَا،
وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا، أَوْ شَرِبَ شَرَابَ التُّفَّاحِ
فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْهُ كَرَائِحَةِ الْخَمْرِ، وَبِوُجُودِ الاِحْتِمَال
لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّهُ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَثْبُتُ حَدُّ الشُّرْبِ بِوُجُودِ الرَّائِحَةِ،
وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَالُوا: إِنَّ ابْنَ
مَسْعُودٍ جَلَدَ رَجُلاً وَجَدَ مِنْهُ رَائِحَةَ الْخَمْرِ؛ وَلأَِنَّ
الرَّائِحَةَ تَدُل عَلَى شُرْبِهِ لِلْخَمْرِ، فَأُجْرِيَ مَجْرَى
الإِْقْرَارِ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي: (سُكْرٌ) .
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 337، وحاشية عميرة على المحلي 3 / 90، وشرح الزرقاني
8 / 32.
(2) ابن عابدين 3 / 164، وأسنى المطالب 4 / 159، والمغني 8 / 317.
(3) شرح الزرقاني 8 / 113، ومواهب الجليل 6 / 317، والمغني لابن قدامة 8 /
309
(22/42)
و - تَغَيُّرُ رَائِحَةِ لَحْمِ
الْجَلاَّلَةِ أَوْ لَبَنِهَا:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَكْل لَحْمِ
الْجَلاَّلَةِ وَشُرْبُ لَبَنِهَا إِذَا تَغَيَّرَتْ رَائِحَتُهُمَا
بِالنَّجَاسَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ بِالتَّحْرِيمِ. وَانْظُرْ: (أَطْعِمَةٌ،
جَلاَّلَةٌ) .
ز - مَنْعُ الزَّوْجَةِ مِنْ أَكْل مَا يَتَأَذَّى الزَّوْجُ مِنْ
رَائِحَتِهِ:
8 - لِلزَّوْجِ مَنْعُ زَوْجَتِهِ مِنْ تَنَاوُل مَا يَتَأَذَّى مِنْ
رَائِحَتِهِ كَالثُّومِ، وَالْبَصَل وَنَحْوِهِمَا.
كَمَا لَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى إِزَالَةِ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ مِنْ
بَدَنِهَا، وَثَوْبِهَا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ كَمَال الاِسْتِمْتَاعِ
(1) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاحٌ) .
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 137، وقليوبي 3 / 252، والمغني 7 / 29 - 30
(22/43)
رَابِغٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - رَابِغٌ: وَادٍ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ قُرْبَ الْبَحْرِ، وَهُوَ
مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ قَرِيبٌ مِنَ الْجُحْفَةِ (1) .
وَأَصْل هَذَا الْمُصْطَلَحِ اللُّغَوِيِّ: رَبَغَ الْقَوْمُ فِي
النَّعِيمِ: أَقَامُوا. . . وَالرَّبْغُ: التُّرَابُ، وَالرَّابِغُ: مَنْ
يُقِيمُ عَلَى أَمْرٍ مُمْكِنٍ لَهُ.
وَالْجُحْفَةُ مِيقَاتُ الإِْحْرَامِ لأَِهْل الشَّامِ وَتُرْكِيَّةَ
وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ، وَتَقَعُ قُرْبَ السَّاحِل وَسَطَ الطَّرِيقِ
بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.
وَقَدِ انْدَثَرَتِ الْجُحْفَةُ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ وَأَصْبَحَتْ لاَ
تَكَادُ تُعْرَفُ، وَأَصْبَحَ حُجَّاجُ هَذِهِ الْبِلاَدِ يُحْرِمُونَ مِنْ
رَابِغٍ احْتِيَاطًا، وَتَقَعُ قَبْل الْجُحْفَةِ بِقَلِيلٍ؛ لِلْقَادِمِ
مِنَ الْمَدِينَةِ وَتَبْعُدُ عَنْ مَكَّةَ (220) كِيلُو مِتْرًا.
انْظُرْ: (إِحْرَامٌ: ف 40) .
__________
(1) انظر القاموس ولسان العرب ومراصد الإطلاع ومعجم البلدان 3 / 11،
والشرقاوي على التحرير 1 / 505، والحطاب 3 / 30، وابن عابدين 2 / 153،
وكشاف القناع 2 / 400.
(22/43)
رَاتِبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّاتِبُ: لُغَةً مِنْ رَتَبَ الشَّيْءُ رُتُوبًا إِذَا ثَبَتَ
وَاسْتَقَرَّ، فَالرَّاتِبُ هُوَ الثَّابِتُ، وَعَيْشٌ رَاتِبٌ: أَيْ
ثَابِتٌ دَائِمٌ. قَال ابْنُ جِنِّي: يُقَال: مَا زِلْتُ عَلَى هَذَا
رَاتِبًا أَيْ مُقِيمًا (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ
(2) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - وَرَدَ مُصْطَلَحُ الرَّاتِبِ فِي عِدَّةِ أَبْوَابٍ مِنْ كُتُبِ
الْفِقْهِ مِنْهَا:
أ - السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ مِنَ الصَّلَوَاتِ:
3 - وَهِيَ السُّنَنُ التَّابِعَةُ لِلْفَرَائِضِ، وَوَقْتُهَا وَقْتُ
الْمَكْتُوبَاتِ الَّتِي تَتْبَعُهَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَقَادِيرِهَا.
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير مادة: (رتب) .
(2) يرد (الراتب) عند الفقهاء المعاصرين
كثيرًا في مباحث الوقف والإجارة ويراد به ما رتب للشخص من أجر أو غلة بصفة
دائمة.
(22/44)
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى
أَنَّ الرَّوَاتِبَ الْمُؤَكَّدَةَ عَشْرُ رَكَعَاتٍ، رَكْعَتَانِ قَبْل
الصُّبْحِ، وَرَكْعَتَانِ قَبْل الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهَا،
وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ؛ لِمَا
وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: حَفِظْتُ
مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ رَكَعَاتٍ:
رَكْعَتَيْنِ قَبْل الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ
بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي
بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْل الصُّبْحِ، وَكَانَتْ سَاعَةً لاَ يُدْخَل
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا، حَدَّثَتْنِي
حَفْصَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ
وَطَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ (1) .
وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ مَرْجُوحَةٌ عِنْدَ الْمَذَاهِبِ تَذْكُرُ أَرْبَعًا
بَعْدَ الظُّهْرِ، وَأَرْبَعًا قَبْل الْعَصْرِ، وَاثْنَتَيْنِ قَبْل
الْمَغْرِبِ، وَسِتًّا بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَأَنْ لاَ رَاتِبَةَ بَعْدَ
الْعِشَاءِ بِلاَ حَدٍّ (2) .
وَالتَّفَاصِيل فِي: (السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِقْدَارَهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ
رَكْعَةً: رَكْعَتَانِ قَبْل صَلاَةِ الْفَجْرِ، وَأَرْبَعُ رَكَعَاتٍ
قَبْل صَلاَةِ الظُّهْرِ - لاَ يُسَلِّمُ إِلاَّ فِي آخِرِهِنَّ -
وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ صَلاَةِ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ صَلاَةِ
__________
(1) حديث ابن عمر: " حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات. . . . .
" أخرجه البخاري (الفتح 3 / 58 - ط السلفية) .
(2) الشرح الصغير 1 / 402، وجواهر الإكليل 1 / 73، ومغني المحتاج 1 / 220،
والمغني لابن قدامة 2 / 125، المجموع 4 / 221.
(22/44)
الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ صَلاَةِ
الْعِشَاءِ (1) .
لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ ثَابَرَ عَلَى
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَل لَهُ بَيْتًا فِي
الْجَنَّةِ: أَرْبَعًا قَبْل الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ،
وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ،
وَرَكْعَتَيْنِ قَبْل الْفَجْرِ (2) .
وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاظَبَ عَلَيْهَا
وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِنْهَا إِلاَّ لِعُذْرٍ.
4 - وَآكَدُ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ رَكْعَتَا
الْفَجْرِ لِوُرُودِ الأَْحَادِيثِ بِالتَّرْغِيبِ فِيهِمَا مَا لَمْ
يَرِدْ فِي غَيْرِهِمَا مِنَ النَّوَافِل (3) . عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا (4) وَرُوِيَ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا أَنَّهُ قَال:
لاَ تَدَعُوا الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْل صَلاَةِ
__________
(1) البدائع 1 / 284، وحاشية ابن عابدين 1 / 452.
(2) حديث: " من ثابر على اثنتي عشرة ركعة. . . . . . . . . . " أخرجه
النسائي (3 / 261 - ط المكتبة التجارية) ، والترمذي (2 / 273 - ط الحلبي)
واللفظ للنسائي، وقال الترمذي: " حديث غريب من هذا الوجه، مغيرة بن زياد قد
تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه "، ولكن للحديث شاهد من حديث أم حبيبة
أخرجه النسائي والترمذي يتقوى به.
(3) البدائع 1 / 284، وحاشية ابن عابدين 1 / 452، والشرح الصغير للدردير 1
/ 408
(4) حديث: " ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها. . . . . . . " أخرجه مسلم
(1 / 501 - ط الحلبي) .
(22/45)
الْفَجْرِ، فَإِنَّ فِيهِمَا الرَّغَائِبَ
(1) وَفِي رِوَايَةٍ: لاَ تَدَعُوا رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَلَوْ
طَرَدَتْكُمُ الْخَيْل (2) .
ب - الْمُؤَذِّنُ الرَّاتِبُ:
5 - إِذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ مُؤَذِّنٌ رَاتِبٌ فَلاَ يُؤَذَّنُ
قَبْلَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَخَلَّفَ وَيُخَافَ فَوَاتُ وَقْتِ التَّأْذِينِ
فَيُؤَذِّنُ غَيْرُهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ
الصُّدَائِيِّ أَنَّهُ أَذَّنَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ غَابَ بِلاَلٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (3) وَأَذَّنَ
رَجُلٌ حِينَ غَابَ أَبُو مَحْذُورَةَ (4) . وَلأَِنَّ مُؤَذِّنِي
الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُمْ
يَسْبِقُهُمْ بِالأَْذَانِ.
__________
(1) حديث: " لا تدعوا الركعتين اللتين قبل صلاة الفجر " أخرجه الطبراني في
معجمه الكبير (12 / 408 - ط الأوقاف العراقية) من حديث عبد الله بن عمر،
وذكره الهيثمي في حديثه مطولاً في المجمع (2 / 218 - ط القدسي) ثم قال: "
رواه الطبراني في الكبير، وفيه عبد الرحيم بن يحيى وهو ضعيف، وروى أحمد
منه: " وركعتي الفجر، حافظوا عليهما فإن فيهما الرغائب " وفيه رجل لم يسم.
(2) حديث: " لا تدعوا ركعتي الفجر، ولو طردتكم الخيل " أخرجه أحمد (2 / 405
- ط الميمنية) ، وأبو داود (2 / 46 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي
هريرة، واللفظ لأحمد. وقال عبد الحق الإشبيلي: " إسناده ليس بقوي " كذا في
فيض القدير للمناوي (6 / 393 - ط المكتبة التجارية) .
(3) حديث: " أذان زياد بن الحارث الصدائي. . . " أخرجه الترمذي (1 / 383 -
384 - ط الحلبي) وأعله الترمذي بضعف أحد رواته
(4) حديث: " أذن رجل حين غاب أبو مخدورة " ذكره ابن قدامة في المغني (1 /
429 - ط الرياض) وعزاه إلى الأثرم.
(22/45)
وَإِذَا نَازَعَ الْمُؤَذِّنَ الرَّاتِبَ
غَيْرُهُ فِي الأَْذَانِ يُقَدَّمُ الرَّاتِبُ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْمُؤَذِّنَ الرَّاتِبَ يُعِيدُ الأَْذَانَ
إِذَا أَذَّنَ فِي الْمَسْجِدِ مَنْ يُكْرَهُ أَذَانُهُ كَالْفَاسِقِ،
وَالْجُنُبِ، وَالْمَرْأَةِ. وَقَال فِي الْمَجْمُوعِ شَرْطُ الْمُؤَذِّنِ
الرَّاتِبِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْمَوَاقِيتِ إِمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ
بِوَاسِطَةِ ثِقَةٍ آخَرَ (1) .
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (أَذَانٌ) .
ج - الإِْمَامُ الرَّاتِبُ:
6 - الإِْمَامُ الرَّاتِبُ - وَهُوَ الَّذِي رَتَّبَهُ السُّلْطَانُ، أَوْ
نَائِبُهُ، أَوِ الْوَاقِفُ، أَوْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ -
يُقَدَّمُ فِي إِمَامَةِ الصَّلاَةِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْحَاضِرِينَ
وَإِنِ اخْتُصَّ غَيْرُهُ بِفَضِيلَةٍ كَأَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ مِنْهُ أَوْ
أَقْرَأَ مِنْهُ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّهُ أَتَى أَرْضًا لَهُ وَعِنْدَهَا مَسْجِدٌ يُصَلِّي فِيهِ مَوْلًى
لاِبْنِ عُمَرَ فَصَلَّى مَعَهُمْ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ
فَأَبَى وَقَال: صَاحِبُ الْمَسْجِدِ أَحَقُّ.
أَمَّا إِنْ كَانَ مَعَهُ الإِْمَامُ الأَْعْظَمُ أَوْ نَائِبُهُ أَوِ
الْقَاضِي أَوْ أَمْثَالُهُمْ مِنْ ذَوِي السُّلْطَانِ وَالْوِلاَيَةِ،
فَيُقَدَّمُونَ عَلَى الإِْمَامِ الرَّاتِبِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَؤُمَّنَّ الرَّجُل الرَّجُل فِي سُلْطَانِهِ
وَلاَ يَقْعُدْ عَلَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 264، والمجموع 3 / 8، 102، ومغني المحتاج 1 /
137، والمغني لابن قدامة 1 / 429.
(22/46)
تَكْرِمَتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (1) .
" وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّ
عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ وَأَنَسًا فِي بُيُوتِهِمَا (2) .
وَلأَِنَّ تَقَدُّمَ غَيْرِ صَاحِبِ السُّلْطَانِ بِحَضْرَتِهِ بِدُونِ
إِذْنِهِ لاَ يَلِيقُ بِبَذْل الطَّاعَةِ (3) . وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ
بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ مَحَل
تَقْدِيمِ الْوَالِي عَلَى الإِْمَامِ الرَّاتِبِ إِذَا لَمْ يَكُنِ
الإِْمَامُ مُرَتَّبًا مِنَ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ، أَمَّا إِذَا
كَانَ الإِْمَامُ مِمَّنْ رَتَّبَهُ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ فَإِنَّهُ
مُقَدَّمٌ عَلَى وَالِي الْبَلَدِ وَقَاضِيهِ (4) .
7 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إِعَادَةِ الْجَمَاعَةِ فِي
الْمَسْجِدِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ - وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - إِلَى كَرَاهَةِ إِعَادَةِ
الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي لَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ، وَلاَ يَقَعُ
فِي مَمَرِّ النَّاسِ، مَا لَمْ تَكُنِ الإِْعَادَةُ بِإِذْنِ الإِْمَامِ
الرَّاتِبِ، فَمَنْ فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ مَعَ الإِْمَامِ الرَّاتِبِ
صَلَّى
__________
(1) حديث: " لا يَؤُمَنَّ الرجل الرجل في سلطانه. . . " أخرجه مسلم (1 /
465 - ط الحلبي) من حديث أبي مسعود الأنصاري.
(2) قوله: " لأن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَّ عتبان بن مالك وأنسًا في
بيوتهما ". أما إمامته لعتبان بن مالك فأخرج حديثه البخاري (الفتح 1 / 518
- ط السلفية) ، ومسلم (1 / 455 - ط الحلبي) . وأما إمامته لأنس بن مالك
فأخرجه البخاري (الفتح 2 / 345 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 457 - ط الحلبي)
.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 375، والشرح الصغير 1 / 454، ومغني المحتاج 1 /
244، والمغني لابن قدامة 2 / 205، والبدائع 1 / 158
(4) مغني المحتاج 1 / 244.
(22/46)
مُنْفَرِدًا لِئَلاَّ يُفْضِي ذَلِكَ إِلَى
اخْتِلاَفِ الْقُلُوبِ وَالْعَدَاوَةِ وَالتَّهَاوُنِ فِي الصَّلاَةِ مَعَ
الإِْمَامِ الرَّاتِبِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ،
وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالنَّوَوِيُّ، وَأَبُو قِلاَبَةَ،
وَأَيُّوبُ، وَابْنُ عَوْنٍ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ إِعَادَةُ
الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي لَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ وَاقِعًا فِي مَمَرِّ النَّاسِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُل صَلاَةَ الْفَذِّ
بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً وَفِي رِوَايَةٍ: بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ
دَرَجَةً (2) .
وَلِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ
رَجُلاً دَخَل الْمَسْجِدَ وَقَدْ صَلَّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ فَقَال: مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا
فَيُصَلِّي مَعَهُ؟ فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَصَلَّى مَعَهُ (3) .
وَفِي رِوَايَةٍ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ رَجُلٌ
يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّيَ مَعَهُ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 371، والمجموع للإمام النووي 4 / 221، والمغني
لابن قدامة 2 / 180
(2) حديث: " صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة " أخرجه البخاري
(الفتح 2 / 131 - ط السلفية) من حديث أبي سعيد الخدري ورواية " سبع وعشرين
درجة " أخرجها البخاري (الفتح 2 / 131 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 450 - ط
الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.
(3) حديث أبي سعيد: " أن رجلاً دخل المسجد " أخرجه أحمد (3 / 5 - ط
الميمنية) ، وأخرج الرواية الأخرى أحمد (3 / 64) ، والحاكم (1 / 209 - ط
دائرة المعارف العثمانية) ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي
(22/47)
وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ،
وَزَادَ: قَال: فَلَمَّا صَلَّيَا قَال: وَهَذَانِ جَمَاعَةٌ (1) .
وَلأَِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ فَاسْتُحِبَّ لَهُ فِعْلُهَا،
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ
وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ (2) .
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ يَقَعُ فِي سُوقٍ، أَوْ فِي مَمَرِّ
النَّاسِ، أَوْ لَيْسَ لَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ، أَوْ لَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ
وَلَكِنَّهُ أَذِنَ لِلْجَمَاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَلاَ كَرَاهَةَ فِي
الْجَمَاعَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَمَا زَادَ، بِالإِْجْمَاعِ (3)
.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَزِيدُ تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي: (صَلاَةُ
الْجَمَاعَةِ) .
8 - أَمَّا مَسْأَلَةُ الاِسْتِحْقَاقِ الرَّاتِبِ فِي الْوَقْفِ
وَغَيْرِهِ مِنَ الْوَظَائِفِ فَتَفَاصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (رِزْقٌ،
وَظِيفَةٌ، وَقْفٌ، إِجَارَةٌ) .
رَاكِبٌ
انْظُرْ: رُكُوبٌ.
__________
(1) حديث أبي أمامة أخرجه أحمد (5 / 254 - ط الميمنية) ، وقال الهيثمي في
المجمع (2 / 45 - ط القدسي) ، " وله طرق كلها ضعيفة ".
(2) المغني لابن قدامة 2 / 180، والمجموع للإمام النووي 4 / 222.
(3) المجموع للإمام النووي 4 / 222، والمغني لابن قدامة 2 / 180، وحاشية
ابن عابدين 1 / 371
(22/47)
رَاهِبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّاهِبُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ الْفَاعِل مِنْ رَهِبَ يَرْهَبُ
رَهَبًا وَرُهْبًا وَرَهْبَةً إِذَا خَافَ.
وَالرَّاهِبُ: الْمُنْقَطِعُ لِلْعِبَادَةِ مِنَ النَّصَارَى. وَيُجْمَعُ
عَلَى رُهْبَانٍ، كَرَاكِبٍ وَرُكْبَانٍ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقِسِّيسُ:
2 - الْقِسِّيسُ بِالْكَسْرِ: عَالِمُ النَّصَارَى، وَجَمْعُهُ
قِسِّيسُونَ، وَقَسَاوِسَةُ.
قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَالْقَسُّ بِالْفَتْحِ أَيْضًا رَئِيسٌ مِنْ
رُؤَسَاءِ النَّصَارَى فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ (2) .
فَالرَّاهِبُ: عَابِدُ النَّصَارَى، وَالْقِسِّيسُ: عَالِمُهُمْ.
ب - الأَْحْبَارُ:
3 - الأَْحْبَارُ جَمْعُ الْحِبْرِ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ الْعَالِمُ.
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، مادة: (رهب) والقرطبي 6 / 258
(2) المصباح المنير، مادة: (قسس) ، والقرطبي 6 / 258.
(22/48)
وَالْحَبْرُ بِالْفَتْحِ لُغَةٌ فِيهِ،
وَهُوَ مِنَ التَّحْبِيرِ، وَهُوَ التَّحْسِينُ، سُمِّيَ الْعَالِمُ
حَبْرًا لأَِنَّهُ يُحَبِّرُ الْعِلْمَ، أَيْ: يُبَيِّنُهُ وَيُزَيِّنُهُ.
وَقَال الْجَوْهَرِيُّ: الْحِبْرُ وَالْحَبْرُ وَاحِدُ أَحْبَارِ
الْيَهُودِ (1) .
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ
أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (2) .
الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالرَّاهِبِ:
أ - قَتْل الرَّاهِبِ فِي الْجِهَادِ:
4 - إِذَا اشْتَرَكَ الرُّهْبَانُ فِي قِتَال الْمُسْلِمِينَ فَلاَ خِلاَفَ
بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ قَتْلِهِمْ حِينَ الظَّفَرِ بِهِمْ
كَسَائِرِ الْمُقَاتِلِينَ، وَكَذَلِكَ إِذَا خَالَطُوا النَّاسَ، أَوْ
كَانُوا يُمِدُّونَ الْمُقَاتِلِينَ بِرَأْيِهِمْ وَيُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى
الْقِتَال (3) .
أَمَّا إِذَا لَمْ يَشْتَرِكُوا فِي الْقِتَال وَلَمْ يُخَالِطُوا النَّاسَ
بَل كَانُوا مُنْعَزِلِينَ فِي صَوَامِعِهِمْ بِلاَ رَأْيٍ، فَذَهَبَ
الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ
رِوَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُمْ لاَ يُقْتَلُونَ؛
لاِعْتِزَالِهِمْ أَهْل دِينِهِمْ عَنْ مُحَارَبَةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَلِمَا
__________
(1) المصباح المنير، مادة: (حبر) ، وتفسير القرطبي 6 / 189، وتفسير الرازي
12 / 3.
(2) سورة التوبة / 31.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 224 - 226، وجواهر الإكليل 1 / 253، والدسوقي 2 /
177، والأحكام السلطانية للماوردي ص 134، والمغني 8 / 478
(22/48)
رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: وَسَتَمُرُّونَ عَلَى
أَقْوَامٍ فِي الصَّوَامِعِ قَدْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا فَدَعُوهُمْ
حَتَّى يُمِيتَهُمُ اللَّهُ عَلَى ضَلاَلِهِمْ. وَلأَِنَّهُمْ لاَ
يُقَاتِلُونَ تَدَيُّنًا فَأَشْبَهُوا مَنْ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَال
(1) .
وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ جَوَازُ قَتْلِهِمْ، لِعُمُومِ
قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (2) ، وَلأَِنَّهُمْ
أَحْرَارٌ مُكَلَّفُونَ فَجَازَ قَتْلُهُمْ كَغَيْرِهِمْ (3) . (ر:
جِهَادٌ) .
ب - وَضْعُ الْجِزْيَةِ عَلَى الرُّهْبَانِ:
5 - وَضْعُ الْجِزْيَةِ عَلَى الرُّهْبَانِ مَحَل خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ
يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي: (جِزْيَةٌ) .
__________
(1) المراجع السابقة، وانظر الحطاب 3 / 351، وحاشية القليوبي 4 / 218.
(2) سورة التوبة / 5.
(3) مغني المحتاج 4 / 223، والقليوبي 4 / 218.
(22/49)
رِبًا
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّبَا فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مَقْصُورٌ عَلَى الأَْشْهَرِ، وَهُوَ
مِنْ رَبَا يَرْبُو رَبْوًا، وَرُبُوًّا وَرِبَاءً (1) .
وَأَلِفُ الرِّبَا بَدَلٌ عَنْ وَاوٍ، وَيُنْسَبُ إِلَيْهِ فَيُقَال:
رِبَوِيٌّ، وَيُثَنَّى بِالْوَاوِ عَلَى الأَْصْل فَيُقَال: رِبَوَانِ،
وَقَدْ يُقَال: رِبَيَانِ - بِالْيَاءِ - لِلإِْمَالَةِ السَّائِغَةِ فِيهِ
مِنْ أَجْل الْكَسْرَةِ (2) .
وَالأَْصْل فِي مَعْنَاهُ الزِّيَادَةُ، يُقَال: رَبَا الشَّيْءُ إِذَا
زَادَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَمْحَقُ
اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (3) . وَأَرْبَى الرَّجُل:
عَامَل بِالرِّبَا أَوْ دَخَل فِيهِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: مَنْ أَجْبَى
فَقَدْ أَرْبَى (4) وَالإِْجْبَاءُ: بَيْعُ الزَّرْعِ قَبْل أَنْ يَبْدُوَ
صَلاَحُهُ.
وَيُقَال: الرِّبَا وَالرَّمَا وَالرَّمَاءُ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) المصباح المنير، وتاج العروس، مادة: (ربو) .
(2) لسان العرب، وتاج العروس، مادة: (ربو) .
(3) سورة البقرة / 276.
(4) حديث: " من أجبى فقد أربى " أورده أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب
الحديث (1 / 217 - ط دائرة المعارف العثمانية) بدون إسناد.
(22/49)
قَوْلُهُ: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ
الرَّمَا، يَعْنِي الرِّبَا (1) .
وَالرُّبْيَةُ - بِالضَّمِّ وَالتَّخْفِيفِ - اسْمٌ مِنَ الرِّبَا،
وَالرُّبِّيَّةُ: الرِّبَاءُ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُلْحِ أَهْل نَجْرَانَ: أَنْ لَيْسَ
عَلَيْهِمْ رُبِّيَّةٌ وَلاَ دَمٌ (2) .
قَال أَبُو عُبَيْدٍ: هَكَذَا رُوِيَ بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ وَالْيَاءِ،
وَقَال الْفَرَّاءُ: أَرَادَ بِهَا الرِّبَا الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمْ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ، وَالدِّمَاءَ الَّتِي كَانُوا يَطْلُبُونَ بِهَا،
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَسْقَطَ عَنْهُمْ كُل رِبًا كَانَ عَلَيْهِمْ إِلاَّ
رُءُوسَ الأَْمْوَال فَإِنَّهُمْ يَرُدُّونَهَا (3) .
وَالرِّبَا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ:
عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: فَضْلٌ خَالٍ عَنْ عِوَضٍ بِمِعْيَارٍ
شَرْعِيٍّ مَشْرُوطٍ لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْمُعَاوَضَةِ (4) .
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: عَقْدٌ عَلَى عِوَضٍ مَخْصُوصٍ
غَيْرِ مَعْلُومِ التَّمَاثُل فِي مِعْيَارِ الشَّرْعِ
__________
(1) تفسير القرطبي 9 / 305، 12 / 13، وتاج العروس، ولسان العرب، وتهذيب
الأسماء واللغات 3 / 117.
(2) حديث: " أن ليس عليهم رُبِّيَّة ولا دم " أخرجه البيهقي في دلائل
النبوة (5 / 389 - ط دار الكتب العلمية) ، واستغربه ابن كثير في تفسيره (2
/ 50 - ط دار الأندلس) .
(3) لسان العرب.
(4) ابن عابدين (4 / 176 وما بعدها) ، وهذا التعريف للتمرتاشي في تنوير
الأبصار، وفي الاختيار (2 / 30) ، وقيل: الربا في الشرع عبارة عن عقد فاسد
بصفة سواء كان فيه زيادة أو لم يكن؛ فإن بيع الدراهم بالدنانير نسيئة ربا،
ولا زيادة فيه.
(22/50)
حَالَةَ الْعَقْدِ أَوْ مَعَ تَأْخِيرٍ فِي
الْبَدَلَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا (1) .
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: تَفَاضُلٌ فِي أَشْيَاءَ، وَنَسْءٌ
فِي أَشْيَاءَ، مُخْتَصٌّ بِأَشْيَاءَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِهَا -
أَيْ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا - نَصًّا فِي الْبَعْضِ، وَقِيَاسًا فِي
الْبَاقِي مِنْهَا (2) .
وَعَرَّفَ الْمَالِكِيَّةُ كُل نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّبَا عَلَى
حِدَةٍ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَيْعُ:
2 - الْبَيْعُ لُغَةً: مَصْدَرُ بَاعَ، وَالأَْصْل فِيهِ أَنَّهُ
مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْعَقْدِ مَجَازًا لأَِنَّهُ
سَبَبُ التَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ.
وَالْبَيْعُ مِنَ الأَْضْدَادِ مِثْل الشِّرَاءِ، وَيُطْلَقُ عَلَى كُل
وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَفْظُ بَائِعٍ، وَلَكِنَّ اللَّفْظَ
إِذَا أُطْلِقَ فَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ بَاذِل السِّلْعَةِ،
وَيُطْلَقُ الْبَيْعُ عَلَى الْمَبِيعِ فَيُقَال: بَيْعٌ جَيِّدٌ (4) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهُ الْقَلْيُوبِيُّ بِأَنَّهُ: عَقْدُ
مُعَاوَضَةٍ مَالِيَّةٍ تُفِيدُ مِلْكَ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ عَلَى
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 21.
(2) كشاف القناع 3 / 251، ومطالب أولي النهى 3 / 157.
(3) كفاية الطالب الرباني 2 / 99 وغيرها.
(4) المصباح المنير 69
(22/50)
التَّأْبِيدِ لاَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ
(1) .
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ الْبَيْعِ أَقْوَالٌ أُخْرَى سَبَقَتْ فِي
مُصْطَلَحِ: (بَيْعٌ (2)) .
وَالْبَيْعُ فِي الْجُمْلَةِ حَلاَلٌ، وَالرِّبَا حَرَامٌ.
ب - الْعَرَايَا:
3 - الْعَرِيَّةُ لُغَةً: النَّخْلَةُ يُعْرِيهَا صَاحِبُهَا غَيْرَهُ
لِيَأْكُل ثَمَرَتَهَا فَيَعْرُوهَا أَيْ يَأْتِيهَا، أَوْ هِيَ
النَّخْلَةُ الَّتِي أُكِل مَا عَلَيْهَا، وَالْجَمْعُ عَرَايَا، وَيُقَال:
اسْتَعْرَى النَّاسُ أَيْ: أَكَلُوا الرُّطَبَ (3) .
وَعَرَّفَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْعَ الْعَرَايَا بِأَنَّهُ: بَيْعُ الرُّطَبِ
عَلَى النَّخْل بِتَمْرٍ فِي الأَْرْضِ، أَوْ الْعِنَبِ فِي الشَّجَرِ
بِزَبِيبٍ، فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ بِتَقْدِيرِ الْجَفَافِ
بِمِثْلِهِ (4) .
وَيَذْهَبُ آخَرُونَ فِي تَعْرِيفِ بَيْعِ الْعَرَايَا وَحُكْمِهِ
مَذَاهِبَ يُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِهَا إِلَى مُصْطَلَحِ: (تَعْرِيَةٌ)
(وَبَيْعُ الْعَرَايَا) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ 9 91.
وَبَيْعُ الْعَرَايَا مِنَ الْمُزَابَنَةِ، وَفِيهِ مَا فِي الْمُزَابَنَةِ
مِنَ الرِّبَا أَوْ شُبْهَتِهِ، لَكِنَّهُ أُجِيزَ بِالنَّصِّ، وَمِنْهُ
مَا رُوِيَ عَنْ سَهْل بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَال: نَهَى رَسُول
__________
(1) حاشية قليوبي 2 / 152.
(2) الموسوعة الفقهية 9 / 5 وما بعدها
(3) المصباح المنير والقاموس المحيط.
(4) شرح المنهاج للمحلي 2 / 238
(22/51)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَرَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ أَنْ
تُبَاعَ بِخَرْصِهَا يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا (1) ، وَفِي لَفْظٍ:
عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ وَقَال: ذَلِكَ الرِّبَا تِلْكَ
الْمُزَابَنَةُ، إِلاَّ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ:
النَّخْلَةِ وَالنَّخْلَتَيْنِ يَأْخُذُهَا أَهْل الْبَيْتِ بِخَرْصِهَا
تَمْرًا يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الرِّبَا مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ، وَهُوَ
مِنَ الْكَبَائِرِ، وَمِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ، وَلَمْ يُؤْذِنِ
اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَاصِيًا بِالْحَرْبِ سِوَى آكِل الرِّبَا،
وَمَنِ اسْتَحَلَّهُ فَقَدْ كَفَرَ - لإِِنْكَارِهِ مَعْلُومًا مِنَ
الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ - فَيُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِل،
أَمَّا مَنْ تَعَامَل بِالرِّبَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِلًّا
لَهُ فَهُوَ فَاسِقٌ (3) .
قَال الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ الرِّبَا لَمْ يَحِل فِي شَرِيعَةٍ
قَطُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ}
(4) يَعْنِي فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ (5) .
__________
(1) حديث: " نهى عن بيع الثمر بالتمر " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 387 - ط
السلفية) ، ومسلم (3 / 1170 - ط الحلبي) واللفظ الثاني هو لمسلم.
(2) نيل الأوطار 5 / 226.
(3) المبسوط 12 / 109، وكفاية الطالب 2 / 99، والمقدمات لابن رشد ص 501،
502، والمجموع 9 / 390، ونهاية المحتاج 3 / 409، والمغني 3 / 3.
(4) سورة النساء / 161
(5) المجموع 9 / 391، ومغني المحتاج 2 / 21.
(22/51)
وَدَلِيل التَّحْرِيمِ مِنَ الْكِتَابِ
قَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ
الرِّبَا} (1) .
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ
إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ. .
.} (2) .
5 - قَال السَّرَخْسِيُّ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لآِكِل الرِّبَا خَمْسًا
مِنَ الْعُقُوبَاتِ:
إِحْدَاهَا: التَّخَبُّطُ. . قَال اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ يَقُومُونَ
إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}
(3) .
الثَّانِيَةُ: الْمَحْقُ. . قَال تَعَالَى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا}
(4) وَالْمُرَادُ الْهَلاَكُ وَالاِسْتِئْصَال، وَقِيل: ذَهَابُ
الْبَرَكَةِ وَالاِسْتِمْتَاعِ حَتَّى لاَ يَنْتَفِعَ بِهِ، وَلاَ وَلَدُهُ
بَعْدَهُ.
الثَّالِثَةُ: الْحَرْبُ. . قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ
مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (5) .
الرَّابِعَةُ: الْكُفْرُ. . قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ
مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (6) وَقَال سُبْحَانَهُ بَعْدَ
ذِكْرِ الرِّبَا: {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُل كَفَّارٍ
__________
(1) سورة البقرة / 275.
(2) سورة البقرة / 275
(3) سورة البقرة / 275
(4) سورة البقرة / 276
(5) سورة البقرة / 279
(6) سورة البقرة / 278.
(22/52)
أَثِيمٍ} (1) أَيْ: كَفَّارٍ بِاسْتِحْلاَل
الرِّبَا، أَثِيمٍ فَاجِرٍ بِأَكْل الرِّبَا.
الْخَامِسَةُ: الْخُلُودُ فِي النَّارِ (2) . قَال تَعَالَى: {وَمَنْ عَادَ
فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (3) .
وَكَذَلِكَ - قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4) ، قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {أَضْعَافًا
مُضَاعَفَةً} لَيْسَ لِتَقْيِيدِ النَّهْيِ بِهِ، بَل لِمُرَاعَاةِ مَا
كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعَادَةِ تَوْبِيخًا لَهُمْ بِذَلِكَ، إِذْ كَانَ
الرَّجُل يُرْبِي إِلَى أَجَلٍ، فَإِذَا حَل الأَْجَل قَال لِلْمَدِينِ:
زِدْنِي فِي الْمَال حَتَّى أَزِيدَكَ فِي الأَْجَل، فَيَفْعَل، وَهَكَذَا
عِنْدَ مَحَل كُل أَجَلٍ، فَيَسْتَغْرِقُ بِالشَّيْءِ الطَّفِيفِ مَالَهُ
بِالْكُلِّيَّةِ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَنَزَلَتِ الآْيَةُ (5) .
6 - وَدَلِيل التَّحْرِيمِ مِنَ السُّنَّةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا:
مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ
الْمُوبِقَاتِ
__________
(1) سورة البقرة / 276.
(2) المبسوط 12 / 109 - 110
(3) سورة البقرة / 275
(4) سورة آل عمران / 130
(5) أحكام القرآن للجصاص 1 / 465، وتفسير أبي السعود 1 / 271، وروح المعاني
4 / 55.
(22/52)
قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟
قَال: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْل النَّفْسِ الَّتِي
حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْل الرِّبَا، وَأَكْل مَال
الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ
الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ (1) .
وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُمَا قَال: لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ آكِل الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَقَال:
هُمْ سَوَاءٌ (2) .
وَأَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى أَصْل تَحْرِيمِ الرِّبَا (3) .
وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَفْصِيل مَسَائِلِهِ وَتَبْيِينِ أَحْكَامِهِ
وَتَفْسِيرِ شَرَائِطِهِ.
7 - هَذَا، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ يُقْرِضُ أَوْ يَقْتَرِضُ أَوْ يَبِيعُ
أَوْ يَشْتَرِي أَنْ يَبْدَأَ بِتَعَلُّمِ أَحْكَامِ هَذِهِ
الْمُعَامَلاَتِ قَبْل أَنْ يُبَاشِرَهَا، حَتَّى تَكُونَ صَحِيحَةً
وَبَعِيدَةً عَنِ الْحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ، وَمَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ
إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَتَرْكُهُ إِثْمٌ وَخَطِيئَةٌ، وَهُوَ إِنْ
لَمْ يَتَعَلَّمْ هَذِهِ الأَْحْكَامَ قَدْ يَقَعُ
__________
(1) حديث: " اجتنبوا السبع الموبقات. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 393
- ط السلفية) ، ومسلم (1 / 92 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا. . . . . " أخرجه
مسلم (3 / 1219 - ط الحلبي) .
(3) حاشية الصعيدي على كفاية الطالب 2 / 99، والمجموع 9 / 390، والمغني 3 /
3، والمقدمات لابن رشد 501، 502
(22/53)
فِي الرِّبَا دُونَ أَنْ يَقْصِدَ
الإِْرْبَاءَ، بَل قَدْ يَخُوضُ فِي الرِّبَا وَهُوَ يَجْهَل أَنَّهُ
تَرَدَّى فِي الْحَرَامِ وَسَقَطَ فِي النَّارِ، وَجَهْلُهُ لاَ يُعْفِيهِ
مِنَ الإِْثْمِ وَلاَ يُنَجِّيهِ مِنَ النَّارِ؛ لأَِنَّ الْجَهْل
وَالْقَصْدَ لَيْسَا مِنْ شُرُوطِ تَرَتُّبِ الْجَزَاءِ عَلَى الرِّبَا،
فَالرِّبَا بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ - مِنَ الْمُكَلَّفِ - مُوجِبٌ
لِلْعَذَابِ الْعَظِيمِ الَّذِي تَوَعَّدَ اللَّهُ جَل جَلاَلُهُ بِهِ
الْمُرَابِينَ، يَقُول الْقُرْطُبِيُّ: لَوْ لَمْ يَكُنِ الرِّبَا إِلاَّ
عَلَى مَنْ قَصَدَهُ مَا حُرِّمَ إِلاَّ عَلَى الْفُقَهَاءِ.
وَقَدْ أُثِرَ عَنِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَذِّرُونَ مِنْ
الاِتِّجَارِ قَبْل تَعَلُّمِ مَا يَصُونُ الْمُعَامَلاَتِ التِّجَارِيَّةَ
مِنَ التَّخَبُّطِ فِي الرِّبَا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: لاَ يَتَّجِرُ فِي سُوقِنَا إِلاَّ مَنْ فَقِهَ، وَإِلاَّ
أَكَل الرِّبَا، وَقَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنِ اتَّجَرَ
قَبْل أَنْ يَتَفَقَّهَ ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا ثُمَّ ارْتَطَمَ ثُمَّ
ارْتَطَمَ، أَيْ: وَقَعَ وَارْتَبَكَ وَنَشِبَ (1) .
وَقَدْ حَرَصَ الشَّارِعُ عَلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى
الرِّبَا؛ لأَِنَّ مَا أَفْضَى إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ، وَكُل ذَرِيعَةٍ
إِلَى الْحَرَامِ هِيَ حَرَامٌ، رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدِهِ عَنْ
جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: لَمَّا نَزَلَتْ:
__________
(1) تفسير القرطبي 3 / 352، وتفسير ابن كثير 1 / 581 - 582، وتفسير الطبري
6 / 38، ومغني المحتاج 2 / 22 و 6 / 29.
(22/53)
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ
يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ
الْمَسِّ. .} (1) قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَنْ لَمْ يَذَرِ الْمُخَابَرَةَ فَلْيُؤْذَنْ بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ (2) قَال ابْنُ كَثِيرٍ: وَإِنَّمَا حُرِّمَتِ الْمُخَابَرَةُ
وَهِيَ الْمُزَارَعَةُ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنَ الأَْرْضِ،
وَالْمُزَابَنَةُ وَهِيَ اشْتِرَاءُ الرُّطَبِ فِي رُءُوسِ النَّخْل
بِالتَّمْرِ عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ، وَالْمُحَاقَلَةُ وَهِيَ اشْتِرَاءُ
الْحَبِّ فِي سُنْبُلِهِ فِي الْحَقْل بِالْحَبِّ عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ،
إِنَّمَا حُرِّمَتْ هَذِهِ الأَْشْيَاءُ وَمَا شَاكَلَهَا حَسْمًا
لِمَادَّةِ الرِّبَا؛ لأَِنَّهُ لاَ يُعْلَمُ التَّسَاوِي بَيْنَ
الشَّيْئَيْنِ قَبْل الْجَفَافِ، وَلِهَذَا قَال الْفُقَهَاءُ: الْجَهْل
بِالْمُمَاثَلَةِ كَحَقِيقَةِ الْمُفَاضَلَةِ، وَمِنْ هَذَا حَرَّمُوا
أَشْيَاءَ بِمَا فَهِمُوا مِنْ تَضْيِيقِ الْمَسَالِكِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى
الرِّبَا وَالْوَسَائِل الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ، وَتَفَاوَتَ نَظَرُهُمْ
بِحَسَبِ مَا وَهَبَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ مِنَ الْعِلْمِ.
8 - وَبَابُ الرِّبَا مِنْ أَشْكَل الأَْبْوَابِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْل
الْعِلْمِ، وَقَدْ قَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ثَلاَثٌ وَدِدْتُ
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهِدَ إِلَيْنَا
فِيهِنَّ عَهْدًا نَنْتَهِي إِلَيْهِ: الْجَدُّ وَالْكَلاَلَةُ وَأَبْوَابٌ
مِنَ الرِّبَا، يَعْنِي - كَمَا قَال ابْنُ كَثِيرٍ - بِذَلِكَ بَعْضَ
الْمَسَائِل الَّتِي فِيهَا شَائِبَةُ الرِّبَا، وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ
__________
(1) سورة البقرة / 275
(2) حديث: " من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله " أخرجه أبو
داود (3 / 695 - تحقيق عزت عبيد دعاس) دون ذكر الآية، وأعله المناوي في فيض
القدير (6 / 224 - ط المكتبة التجارية) .
(22/54)
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَحْمَةُ
اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:
مِنْ آخِرِ مَا نَزَل آيَةُ الرِّبَا، وَإِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبِضَ قَبْل أَنْ يُفَسِّرَهَا لَنَا،
فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ، وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:
ثَلاَثٌ لأََنْ يَكُونَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَيَّنَهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: الْكَلاَلَةُ،
وَالرِّبَا، وَالْخِلاَفَةُ (1) .
حِكْمَةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا:
9 - أَوْرَدَ الْمُفَسِّرُونَ لِتَحْرِيمِ الرِّبَا حِكَمًا
تَشْرِيعِيَّةً:
مِنْهَا: أَنَّ الرِّبَا يَقْتَضِي أَخْذَ مَال الإِْنْسَانِ مِنْ غَيْرِ
عِوَضٍ؛ لأَِنَّ مَنْ يَبِيعُ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ نَقْدًا أَوْ
نَسِيئَةً تَحْصُل لَهُ زِيَادَةُ دِرْهَمٍ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَمَال
الْمُسْلِمِ مُتَعَلِّقُ حَاجَتِهِ، وَلَهُ حُرْمَةٌ عَظِيمَةٌ، قَال
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حُرْمَةُ مَال الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ
دَمِهِ (2) وَإِبْقَاءُ الْمَال فِي يَدِهِ مُدَّةً مَدِيدَةً
وَتَمْكِينُهُ مِنْ أَنْ يَتَّجِرَ فِيهِ وَيَنْتَفِعَ بِهِ أَمْرٌ
مَوْهُومٌ، فَقَدْ يَحْصُل وَقَدْ لاَ يَحْصُل، وَأَخْذُ الدِّرْهَمِ
الزَّائِدِ مُتَيَقَّنٌ، وَتَفْوِيتُ
__________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1 / 581 - 582، وتفسير الطبري 6 / 38،
وتفسير القرطبي 3 / 364، 6 / 29.
(2) حديث: " حرمة مال المسلم كحرمة دمه " أخرجه أبو نعيم في الحلية (7 /
334 - ط السعادة) من حديث عبد الله بن مسعود، وفي إسناده ضعف، ولكن أورد
ابن حجر شواهد له يتقوى بها، التلخيص الحبير (3 / 46 - ط شركة الطباعة
الفنية) .
(22/54)
الْمُتَيَقَّنِ لأَِجْل الْمَوْهُومِ لاَ
يَخْلُو مِنْ ضَرَرٍ (1) .
وَمِنْهَا: أَنَّ الرِّبَا يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ الاِشْتِغَال
بِالْمَكَاسِبِ؛ لأَِنَّ صَاحِبَ الدِّرْهَمِ إِذَا تَمَكَّنَ بِوَاسِطَةِ
عَقْدِ الرِّبَا مِنْ تَحْصِيل الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ نَقْدًا كَانَ أَوْ
نَسِيئَةً خَفَّ عَلَيْهِ اكْتِسَابُ وَجْهِ الْمَعِيشَةِ، فَلاَ يَكَادُ
يَتَحَمَّل مَشَقَّةَ الْكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَاتِ
الشَّاقَّةِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى انْقِطَاعِ مَنَافِعِ الْخَلْقِ
الَّتِي لاَ تَنْتَظِمُ إِلاَّ بِالتِّجَارَاتِ وَالْحِرَفِ
وَالصِّنَاعَاتِ وَالْعِمَارَاتِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الرِّبَا يُفْضِي إِلَى انْقِطَاعِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ
النَّاسِ مِنَ الْقَرْضِ؛ لأَِنَّ الرِّبَا إِذَا حُرِّمَ طَابَتِ
النُّفُوسُ بِقَرْضِ الدِّرْهَمِ وَاسْتِرْجَاعِ مِثْلِهِ، وَلَوْ حَل
الرِّبَا لَكَانَتْ حَاجَةُ الْمُحْتَاجِ تَحْمِلُهُ عَلَى أَخْذِ
الدِّرْهَمِ بِدِرْهَمَيْنِ، فَيُفْضِي إِلَى انْقِطَاعِ الْمُوَاسَاةِ
وَالْمَعْرُوفِ وَالإِْحْسَانِ (2) .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَال ابْنُ الْقَيِّمِ. . . فَرِبَا النَّسِيئَةِ،
وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مِثْل أَنْ
يُؤَخِّرَ دَيْنَهُ وَيَزِيدَهُ فِي الْمَال، وَكُلَّمَا أَخَّرَهُ زَادَ
فِي الْمَال، حَتَّى تَصِيرَ الْمِائَةُ عِنْدَهُ آلاَفًا
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 409، وحاشية الجمل 3 / 46، والقليوبي 2 / 166،
وتفسير القرطبي 3 / 359. وينظر الفرق بين العلة والحكمة والسبب في الملحق
الأصولي، ويمكن الرجوع إلى كتب أصول الفقه، ومنها: حاشية البناني على شرح
جمع الجوامع 1 / 94 وما بعدها، و 2 / 240 وما بعدها.
(2) التفسير الكبير للفخر الرازي 7 / 93 - 94، وتفسير غرائب القرآن ورغائب
الفرقان للنيسابوري 3 / 81 بهامش الطبري.
(22/55)
مُؤَلَّفَةً، وَفِي الْغَالِبِ لاَ يَفْعَل
ذَلِكَ إِلاَّ مُعْدِمٌ مُحْتَاجٌ، فَإِذَا رَأَى أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ
يُؤَخِّرُ مُطَالَبَتَهُ وَيَصْبِرُ عَلَيْهِ بِزِيَادَةٍ يَبْذُلُهَا لَهُ
تَكَلَّفَ بَذْلَهَا لِيَفْتَدِيَ مِنْ أَسْرِ الْمُطَالَبَةِ وَالْحَبْسِ،
وَيُدَافِعُ مِنْ وَقْتٍ إِلَى وَقْتٍ، فَيَشْتَدُّ ضَرَرُهُ، وَتَعْظُمُ
مُصِيبَتُهُ، وَيَعْلُوهُ الدَّيْنُ حَتَّى يَسْتَغْرِقَ جَمِيعَ
مَوْجُودِهِ، فَيَرْبُو الْمَال عَلَى الْمُحْتَاجِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ
يَحْصُل لَهُ، وَيَزِيدُ مَال الْمُرَابِي مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَحْصُل
مِنْهُ لأَِخِيهِ، فَيَأْكُل مَال أَخِيهِ بِالْبَاطِل، وَيَحْصُل أَخُوهُ
عَلَى غَايَةِ الضَّرَرِ، فَمِنْ رَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ
وَحِكْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى خَلْقِهِ أَنْ حَرَّمَ الرِّبَا (1) . .
.
10 - وَأَمَّا الأَْصْنَافُ السِّتَّةُ الَّتِي حُرِّمَ فِيهَا الرِّبَا
بِمَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الذَّهَبُ
بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ،
وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ
بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ
اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى، الآْخِذُ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاءٌ (2) .
11 - أَمَّا هَذِهِ الأَْصْنَافُ فَقَدْ أَجْمَل ابْنُ الْقَيِّمِ حِكْمَةَ
تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا حَيْثُ قَال: وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ
__________
(1) أعلام الموقعين 2 / 154.
(2) حديث: " الذهب بالذهب، والحنطة بالحنطة " هذا الحديث مركب من حديثين:
الأول من حديث عبادة بن الصامت، والثاني من حديث أبي هريرة، أخرجهما مسلم
(3 / 1211 - ط الحلبي) .
(22/55)
أَنَّهُمْ مَنَعُوا مِنَ التِّجَارَةِ فِي
الأَْثْمَانِ - أَيِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ - بِجِنْسِهَا لأَِنَّ ذَلِكَ
يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ مَقْصُودَ الأَْثْمَانِ، وَمَنَعُوا التِّجَارَةَ فِي
الأَْقْوَاتِ - أَيِ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ -
بِجِنْسِهَا لأَِنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ مَقْصُودَ الأَْقْوَاتِ
(1) .
وَفَصَّل ابْنُ الْقَيِّمِ فَقَال: الصَّحِيحُ بَل الصَّوَابُ أَنَّ
الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ هِيَ
الثَّمَنِيَّةُ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانُ
الْمَبِيعَاتِ، وَالثَّمَنُ هُوَ الْمِعْيَارُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ
تَقْوِيمُ الأَْمْوَال، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا مَضْبُوطًا لاَ
يَرْتَفِعُ وَلاَ يَنْخَفِضُ، إِذْ لَوْ كَانَ الثَّمَنُ يَرْتَفِعُ
وَيَنْخَفِضُ كَالسِّلَعِ لَمْ يَكُنْ لَنَا ثَمَنٌ نَعْتَبِرُ بِهِ
الْمَبِيعَاتِ، بَل الْجَمِيعُ سِلَعٌ، وَحَاجَةُ النَّاسِ إِلَى ثَمَنٍ
يَعْتَبِرُونَ بِهِ الْمَبِيعَاتِ حَاجَةٌ ضَرُورِيَّةٌ عَامَّةٌ، وَذَلِكَ
لاَ يُعْرَفُ إِلاَّ بِسِعْرٍ تُعْرَفُ بِهِ الْقِيمَةُ، وَذَلِكَ لاَ
يَكُونُ إِلاَّ بِثَمَنٍ تُقَوَّمُ بِهِ الأَْشْيَاءُ وَيَسْتَمِرُّ عَلَى
حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلاَ يُقَوَّمُ هُوَ بِغَيْرِهِ، إِذْ يَصِيرُ
سِلْعَةً يَرْتَفِعُ وَيَنْخَفِضُ، فَتَفْسُدُ مُعَامَلاَتُ النَّاسِ
وَيَقَعُ الْخُلْفُ وَيَشْتَدُّ الضَّرَرُ. . . فَالأَْثْمَانُ لاَ
تُقْصَدُ لأَِعْيَانِهَا، بَل يُقْصَدُ التَّوَصُّل بِهَا إِلَى السِّلَعِ،
فَإِذَا صَارَتْ فِي أَنْفُسِهَا سِلَعًا تُقْصَدُ لأَِعْيَانِهَا فَسَدَ
أَمْرُ النَّاسِ.
وَأَضَافَ: وَأَمَّا الأَْصْنَافُ الأَْرْبَعَةُ الْمَطْعُومَةُ فَحَاجَةُ
النَّاسِ إِلَيْهَا أَعْظَمُ مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى
__________
(1) أعلام الموقعين 2 / 159
(22/56)
غَيْرِهَا؛ لأَِنَّهَا أَقْوَاتُ
الْعَالَمِ، فَمِنْ رِعَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ أَنْ مُنِعُوا مِنْ
بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ إِلَى أَجَلٍ، سَوَاءٌ اتَّحَدَ الْجِنْسُ أَوِ
اخْتَلَفَ، وَمُنِعُوا مِنْ بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ حَالًّا
مُتَفَاضِلاً وَإِنِ اخْتَلَفَتْ صِفَاتُهَا، وَجُوِّزَ لَهُمُ التَّفَاضُل
مَعَ اخْتِلاَفِ أَجْنَاسِهَا.
فَقَدْ قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَسِرُّ ذَلِكَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -
أَنَّهُ لَوْ جَوَّزَ بَيْعَ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ نَسَاءً لَمْ يَفْعَل
ذَلِكَ أَحَدٌ إِلاَّ إِذَا رَبِحَ، وَحِينَئِذٍ تَسْمَحُ نَفْسُهُ
بِبَيْعِهَا حَالَّةً لِطَمَعِهِ فِي الرِّبْحِ، فَيَعِزُّ الطَّعَامُ
عَلَى الْمُحْتَاجِ وَيَشْتَدُّ ضَرَرُهُ،. . فَكَانَ مِنْ رَحْمَةِ
الشَّارِعِ بِهِمْ وَحِكْمَتِهِ أَنْ مَنَعَهُمْ مِنْ رِبَا النَّسَاءِ
فِيهَا كَمَا مَنَعَهُمْ مِنْ رِبَا النَّسَاءِ فِي الأَْثْمَانِ؛ إِذْ
لَوْ جَوَّزَ لَهُمُ النَّسَاءَ فِيهَا لَدَخَلَهَا " إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ
وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ " فَيَصِيرُ الصَّاعُ الْوَاحِدُ لَوْ أُخِذَ
قُفْزَانًا كَثِيرَةً، فَفُطِمُوا عَنِ النَّسَاءِ، ثُمَّ فُطِمُوا عَنْ
بَيْعِهَا مُتَفَاضِلاً يَدًا بِيَدٍ، إِذْ تَجُرُّهُمْ حَلاَوَةُ
الرِّبْحِ وَظَفَرُ الْكَسْبِ إِلَى التِّجَارَةِ فِيهَا نَسَاءً وَهُوَ
عَيْنُ الْمَفْسَدَةِ، وَهَذَا بِخِلاَفِ الْجِنْسَيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ
فَإِنَّ حَقَائِقَهُمَا وَصِفَاتِهِمَا وَمَقَاصِدَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ،
فَفِي إِلْزَامِهِمُ الْمُسَاوَاةَ فِي بَيْعِهَا إِضْرَارٌ بِهِمْ، وَلاَ
يَفْعَلُونَهُ، وَفِي تَجْوِيزِ النَّسَاءِ بَيْنَهَا ذَرِيعَةٌ إِلَى "
إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ " فَكَانَ مِنْ تَمَامِ
رِعَايَةِ مَصَالِحِهِمْ أَنْ قَصَرَهُمْ عَلَى بَيْعِهَا يَدًا بِيَدٍ
كَيْفَ شَاءُوا، فَحَصَلَتْ لَهُمُ الْمُبَادَلَةُ، وَانْدَفَعَتْ عَنْهُمْ
مَفْسَدَةُ " إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ " وَهَذَا
(22/56)
بِخِلاَفِ مَا إِذَا بِيعَتْ
بِالدَّرَاهِمِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْمَوْزُونَاتِ نَسَاءً فَإِنَّ
الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى ذَلِكَ، فَلَوْ مُنِعُوا مِنْهُ لأََضَرَّ
بِهِمْ، وَلاَمْتَنَعَ السَّلَمُ الَّذِي هُوَ مِنْ مَصَالِحِهِمْ فِيمَا
هُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَالشَّرِيعَةُ لاَ تَأْتِي بِهَذَا، وَلَيْسَ
بِهِمْ حَاجَةٌ فِي بَيْعِ هَذِهِ الأَْصْنَافِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ
نَسَاءً، وَهُوَ ذَرِيعَةٌ قَرِيبَةٌ إِلَى مَفْسَدَةِ الرِّبَا، فَأُبِيحَ
لَهُمْ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَتُهُمْ وَلَيْسَ
بِذَرِيعَةٍ إِلَى مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ، وَمُنِعُوا مِمَّا لاَ تَدْعُو
الْحَاجَةُ إِلَيْهِ وَيُتَذَرَّعُ بِهِ غَالِبًا إِلَى مَفْسَدَةٍ
رَاجِحَةٍ (1) .
أَقْسَامُ الرِّبَا:
رِبَا الْبَيْعِ (رِبَا الْفَضْل) :
12 - وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي الأَْعْيَانِ الرِّبَوِيَّةِ، وَالَّذِي
عُنِيَ الْفُقَهَاءُ بِتَعْرِيفِهِ وَتَفْصِيل أَحْكَامِهِ فِي الْبُيُوعِ،
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ أَنْوَاعِهِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2) إِلَى أَنَّهُ نَوْعَانِ:
1 - رِبَا الْفَضْل. . وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ فَضْلٌ خَالٍ
عَنْ عِوَضٍ بِمِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ مَشْرُوطٍ لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ
فِي الْمُعَاوَضَةِ (3) .
2 - رِبَا النَّسِيئَةِ. . . وَهُوَ: فَضْل الْحُلُول عَلَى
__________
(1) أعلام الموقعين 2 / 157 - 158
(2) بدائع الصنائع 5 / 183، وجواهر الإكليل 2 / 17، والقوانين الفقهية 254،
المغني 4 / 3.
(3) الدر المختار 4 / 176 - 177
(22/57)
الأَْجَل، وَفَضْل الْعَيْنِ عَلَى
الدَّيْنِ فِي الْمَكِيلَيْنِ أَوِ الْمَوْزُونَيْنِ عِنْدَ اخْتِلاَفِ
الْجِنْسِ، أَوْ فِي غَيْرِ الْمَكِيلَيْنِ أَوِ الْمَوْزُونَيْنِ عِنْدَ
اتِّحَادِ الْجِنْسِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ رِبَا الْبَيْعِ ثَلاَثَةُ
أَنْوَاعٍ:
1 - رِبَا الْفَضْل. . وَهُوَ الْبَيْعُ مَعَ زِيَادَةِ أَحَدِ
الْعِوَضَيْنِ عَنِ الآْخَرِ فِي مُتَّحِدِ الْجِنْسِ.
2 - رِبَا الْيَدِ. . وَهُوَ الْبَيْعُ مَعَ تَأْخِيرِ قَبْضِ
الْعِوَضَيْنِ أَوْ قَبْضِ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ أَجَلٍ.
3 - رِبَا النَّسَاءِ. . وَهُوَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ أَجَلٍ وَلَوْ قَصِيرًا
فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ.
وَزَادَ الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ رِبَا الْقَرْضِ الْمَشْرُوطِ
فِيهِ جَرُّ نَفْعٍ، قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَيُمْكِنُ رَدُّهُ إِلَى رِبَا
الْفَضْل، وَقَال الرَّمْلِيُّ: إِنَّهُ مِنْ رِبَا الْفَضْل، وَعَلَّل
الشَّبْرَامَلِّسِيُّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا جُعِل رِبَا الْقَرْضِ
مِنْ رِبَا الْفَضْل مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ - يَعْنِي
الْبَيْعَ -؛ لأَِنَّهُ لَمَّا شَرَطَ نَفْعًا لِلْمُقْرِضِ كَانَ
بِمَنْزِلَةِ أَنَّهُ بَاعَ مَا أَقْرَضَهُ بِمَا يَزِيدُ عَلَيْهِ مِنْ
جِنْسِهِ فَهُوَ مِنْهُ حُكْمًا.
رِبَا النَّسِيئَةِ:
13 - وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي الدَّيْنِ نَظِيرَ الأَْجَل أَوِ
الزِّيَادَةِ فِيهِ وَسُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الرِّبَا رِبَا
النَّسِيئَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 183، ومغني المحتاج 2 / 21، وحاشية القليوبي 2 /
167، ونهاية المحتاج 3 / 409.
(22/57)
مِنْ أَنْسَأْتُهُ الدَّيْنَ: أَخَّرْتُهُ
- لأَِنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ مُقَابِل الأَْجَل أَيًّا كَانَ سَبَبُ
الدَّيْنِ بَيْعًا كَانَ أَوْ قَرْضًا (1) .
وَسُمِّيَ رِبَا الْقُرْآنِ؛ لأَِنَّهُ حُرِّمَ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
فِي قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً. . .} (2) .
ثُمَّ أَكَّدَتِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ تَحْرِيمَهُ فِي خُطْبَةِ
الْوَدَاعِ وَفِي أَحَادِيثَ أُخْرَى.
ثُمَّ انْعَقَدَ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَحْرِيمِهِ.
وَسُمِّيَ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ، لأَِنَّ تَعَامُل أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ
بِالرِّبَا لَمْ يَكُنْ إِلاَّ بِهِ كَمَا قَال الْجَصَّاصُ.
وَالرِّبَا الَّذِي كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُهُ وَتَفْعَلُهُ إِنَّمَا
كَانَ قَرْضَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إِلَى أَجَلٍ بِزِيَادَةٍ عَلَى
مِقْدَارِ مَا اسْتَقْرَضَ عَلَى مَا يَتَرَاضَوْنَ بِهِ (3) .
وَسُمِّيَ أَيْضًا الرِّبَا الْجَلِيَّ، قَال ابْنُ الْقَيِّمِ:
الْجَلِيُّ: رِبَا النَّسِيئَةِ، وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ، مِثْل أَنْ يُؤَخِّرَ دَيْنَهُ وَيَزِيدَهُ فِي الْمَال،
وَكُلَّمَا أَخَّرَهُ زَادَهُ فِي الْمَال حَتَّى تَصِيرَ الْمِائَةُ
عِنْدَهُ آلاَفًا مُؤَلَّفَةً (4) . .
__________
(1) المصباح المنير 2 / 605، وجامع البيان عن تأويل آي القرآن 4 / 90 ط -
مصطفى البابي الحلبي.
(2) سورة آل عمران / 130.
(3) أحكام القرآن 1 / 465، وجامع البيان عن تأويل آي القرآن 6 / 8 - ط دار
المعارف، وتفسير النيسابوري 3 / 79، وتفسير الرازي 7 / 91، وفتح القدير 1 /
265
(4) أعلام الموقعين 2 / 154
(22/58)
14 - وَرِبَا الْفَضْل يَكُونُ
بِالتَّفَاضُل فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ أَمْوَال الرِّبَا إِذَا
بِيعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ نَقْدًا، أَوْ
بَيْعِ صَاعِ قَمْحٍ بِصَاعَيْنِ مِنَ الْقَمْحِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيُسَمَّى رِبَا الْفَضْل لِفَضْل أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ عَلَى الآْخَرِ،
وَإِطْلاَقُ التَّفَاضُل عَلَى الْفَضْل مِنْ بَابِ الْمَجَازِ، فَإِنَّ
الْفَضْل فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الآْخَرِ.
وَيُسَمَّى رِبَا النَّقْدِ فِي مُقَابَلَةِ رِبَا النَّسِيئَةِ:
وَيُسَمَّى الرِّبَا الْخَفِيَّ، قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: الرِّبَا
نَوْعَانِ: جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ، فَالْجَلِيُّ حُرِّمَ، لِمَا فِيهِ مِنَ
الضَّرَرِ الْعَظِيمِ، وَالْخَفِيُّ حُرِّمَ، لأَِنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى
الْجَلِيِّ، فَتَحْرِيمُ الأَْوَّل قَصْدًا، وَتَحْرِيمُ الثَّانِي
لأَِنَّهُ وَسِيلَةٌ، فَأَمَّا الْجَلِيُّ فَرِبَا النَّسِيئَةِ وَهُوَ
الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَأَمَّا رِبَا الْفَضْل فَتَحْرِيمُهُ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ
كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ
تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ
الرَّمَاءَ (1) وَالرَّمَاءُ هُوَ الرِّبَا، فَمَنَعَهُمْ مِنْ
__________
(1) حديث أبي سعيد: " لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين؛ فإني أخاف. . . . " لم
يرد هذا الحديث مرفوعًا من حديث أبي سعيد، وإنما ورد موقوفًا على عمر بن
الخطاب بلفظ: " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها
على بعض. . . " إلى أن قال: " إني أخاف عليكم الرماء "
(22/58)
رِبَا الْفَضْل لِمَا يَخَافُهُ عَلَيْهِمْ
مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا بَاعُوا دِرْهَمًا
بِدِرْهَمَيْنِ - وَلاَ يُفْعَل هَذَا إِلاَّ لِلتَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَ
النَّوْعَيْنِ - إِمَّا فِي الْجَوْدَةِ، وَإِمَّا فِي السِّكَّةِ،
وَإِمَّا فِي الثِّقَل وَالْخِفَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ - تَدَرَّجُوا
بِالرِّبْحِ الْمُعَجَّل فِيهَا إِلَى الرِّبْحِ الْمُؤَخَّرِ وَهُوَ
عَيْنُ رِبَا النَّسِيئَةِ، وَهَذَا ذَرِيعَةٌ قَرِيبَةٌ جِدًّا، فَمِنْ
حِكْمَةِ الشَّارِعِ أَنْ سَدَّ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الذَّرِيعَةَ، وَهِيَ
تَسُدُّ عَلَيْهِمْ بَابَ الْمَفْسَدَةِ (1) . .
أَثَرُ الرِّبَا فِي الْعُقُودِ:
15 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ الَّذِي
يُخَالِطُهُ الرِّبَا مَفْسُوخٌ لاَ يَجُوزُ بِحَالٍ، وَأَنَّ مَنْ أَرْبَى
يُنْقَضُ عَقْدُهُ وَيُرَدُّ فِعْلُهُ وَإِنْ كَانَ جَاهِلاً؛ لأَِنَّهُ
فَعَل مَا حَرَّمَهُ الشَّارِعُ وَنَهَى عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي
التَّحْرِيمَ وَالْفَسَادَ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ عَمِل عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ
رَدٌّ (2) وَلِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال: جَاءَ بِلاَلٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ، فَقَال
لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ أَيْنَ
هَذَا؟ فَقَال بِلاَلٌ: مِنْ تَمْرٍ كَانَ عِنْدَنَا رَدِيءٍ، فَبِعْتُ
مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِمَطْعَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَال رَسُول
__________
(1) المجموع 10 / 26، وأعلام الموقعين 2 / 155.
(2) حديث: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " أخرجه مسلم (3 / 1344 -
ط الحلبي) من حديث عائشة.
(22/59)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عِنْدَ ذَلِكَ: أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا، لاَ تَفْعَل، وَلَكِنْ إِذَا
أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ التَّمْرَ فَبِعْهُ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِ
بِهِ (1) فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَّهْ عَيْنُ
الرِّبَا أَيْ هُوَ الرِّبَا الْمُحَرَّمُ نَفْسُهُ لاَ مَا يُشْبِهُهُ،
وَقَوْلُهُ: فَهُوَ رَدٌّ يَدُل عَلَى وُجُوبِ فَسْخِ صَفْقَةِ الرِّبَا
وَأَنَّهَا لاَ تَصِحُّ بِوَجْهٍ (2) .
وَرَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّل رِبًا أَضَعُ رِبَانَا:
رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ
(3) .
وَقَال عَنْهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَوْلُهُ: الْمُرَادُ
بِالْوَضْعِ الرَّدُّ وَالإِْبْطَال (4) .
وَفَصَّل ابْنُ رُشْدٍ فَقَال: مَنْ بَاعَ بَيْعًا أَرْبَى فِيهِ غَيْرَ
مُسْتَحِلٍّ لِلرِّبَا فَعَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ الْمُوجِعَةُ إِنْ لَمْ
يُعْذَرْ بِجَهْلٍ، وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ مَا كَانَ قَائِمًا، وَالْحُجَّةُ
فِي ذَلِكَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ
السَّعْدَيْنِ أَنْ يَبِيعَا آنِيَةً مِنَ الْمَغَانِمِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ
فِضَّةٍ، فَبَاعَا كُل ثَلاَثَةٍ بِأَرْبَعَةٍ عَيْنًا، أَوْ كُل
أَرْبَعَةٍ بِثَلاَثَةٍ عَيْنًا، فَقَال لَهُمَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْبَيْتُمَا فَرُدَّا (5) .
__________
(1) حديث أبي سعيد: " جاء بلال بتمر برني. . . . . " أخرجه البخاري (الفتح
4 / 490 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1215 - 1216 - ط الحلبي)
(2) تفسير القرطبي 3 / 356 - 358، وحاشية القليوبي 2 / 175 و 167
(3) حديث: " ربا الجاهلية موضوع " أخرجه مسلم (2 / 889 - ط الحلبي) من حديث
جابر بن عبد الله.
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 8 / 183.
(5) حديث: " أربيتما فردا. . . . " أخرجه مالك في الموطأ (2 / 632 - ط
الحلبي) عن يحيى بن سعيد مرسلاً.
(22/59)
فَإِنْ فَاتَ الْبَيْعُ فَلَيْسَ لَهُ
إِلاَّ رَأْسُ مَالِهِ قَبَضَ الرِّبَا أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ، فَإِنْ كَانَ
قَبَضَهُ رَدَّهُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَرْبَى ثُمَّ تَابَ
فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ رَأْسُ مَالِهِ، وَمَا قَبَضَ مِنَ الرِّبَا وَجَبَ
عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى مَنْ قَبَضَهُ مِنْهُ، وَأَمَّا مَنْ
أَسْلَمَ وَلَهُ رِبًا، فَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ فَهُوَ لَهُ؛ لِقَوْل
اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى
فَلَهُ مَا سَلَفَ} (1) وَلِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ (2) وَأَمَّا إِنْ
كَانَ لَمْ يَقْبِضِ الرِّبَا فَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَهُوَ
مَوْضُوعٌ عَنِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي هَذَا أَعْلَمُهُ
(3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: اشْتِرَاطُ الرِّبَا فِي الْبَيْعِ مُفْسِدٌ
لِلْبَيْعِ، لَكِنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ فِي الْمُعَامَلاَتِ بَيْنَ
الْفَاسِدِ وَالْبَاطِل، فَيُمْلَكُ الْمَبِيعُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ
بِالْقَبْضِ، وَلاَ يُمْلَكُ فِي الْبَيْعِ الْبَاطِل بِالْقَبْضِ، يَقُول
ابْنُ عَابِدِينَ: الْفَسَادُ وَالْبُطْلاَنُ فِي الْعِبَادَاتِ سِيَّانِ،
أَمَّا فِي الْمُعَامَلاَتِ فَإِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ أَثَرُ الْمُعَامَلَةِ
عَلَيْهَا فَهُوَ الْبُطْلاَنُ، وَإِنْ تَرَتَّبَ فَإِنْ كَانَ مَطْلُوبَ
التَّفَاسُخِ شَرْعًا فَهُوَ الْفَسَادُ، وَإِلاَّ
__________
(1) سورة البقرة / 275
(2) حديث: " من أسلم على شيء فهو له. . . . " أخرجه البيهقي (9 / 113 - ط
دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة، ثم ضعفه البيهقي لضعف راو
فيه، وذكر أنه يروى مرسلاً.
(3) المقدمات 503، والسعدان (كما في المجموع 10 / 67) سعد بن مالك وسعد بن
عبادة رضي الله عنهما.
(22/60)
فَهُوَ الصِّحَّةُ (1) .
وَالْبَيْعُ الرِّبَوِيُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ الْبُيُوعِ
الْفَاسِدَةِ، وَحُكْمُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعِوَضَ
يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ وَيَجِبُ رَدُّهُ لَوْ قَائِمًا، وَرَدُّ مِثْلِهِ
أَوْ قِيمَتِهِ لَوْ مُسْتَهْلَكًا، وَعَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ رَدُّ
الزِّيَادَةِ الرِّبَوِيَّةِ لَوْ قَائِمَةً، لاَ رَدُّ ضَمَانِهَا، قَال
ابْنُ عَابِدِينَ: وَحَاصِلُهُ أَنَّ فِيهِ حَقَّيْنِ، حَقَّ الْعَبْدِ
وَهُوَ رَدُّ عَيْنِهِ لَوْ قَائِمًا وَمِثْلِهِ لَوْ هَالِكًا، وَحَقَّ
الشَّرْعِ وَهُوَ رَدُّ عَيْنِهِ لِنَقْضِ الْعَقْدِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ
شَرْعًا، وَبَعْدَ الاِسْتِهْلاَكِ لاَ يَتَأَتَّى رَدُّ عَيْنِهِ
فَتَعَيَّنَ رَدُّ الْمِثْل وَهُوَ مَحْضُ حَقِّ الْعَبْدِ، ثُمَّ إِنَّ
رَدَّ عَيْنِهِ لَوْ قَائِمًا فِيمَا لَوْ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى
الزَّائِدِ، أَمَّا لَوْ بَاعَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ
وَزَادَهُ دَانِقًا هِبَةً مِنْهُ فَإِنَّهُ لاَ يُفْسِدُ الْعَقْدَ (2) .
الْخِلاَفُ فِي رِبَا الْفَضْل:
16 - أَطْبَقَتِ الأُْمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُل فِي بَيْعِ
الرِّبَوِيَّاتِ إِذَا اجْتَمَعَ التَّفَاضُل مَعَ النَّسَاءِ، وَأَمَّا
إِذَا انْفَرَدَ نَقْدًا فَإِنَّهُ كَانَ فِيهِ خِلاَفٌ قَدِيمٌ: صَحَّ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ إِبَاحَتُهُ، وَكَذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَعَ رُجُوعِهِ عَنْهُ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ، وَفِيهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَيْءٌ
__________
(1) المبسوط 12 / 109، والدر المختار 5 / 29، 3 / 123.
(2) رد المحتار 4 / 177، والبحر الرائق 6 / 136.
(22/60)
مُحْتَمَلٌ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ
وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ،
وَأَمَّا التَّابِعُونَ: فَصَحَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي
رَبَاحٍ وَفُقَهَاءِ الْمَكِّيِّينَ، وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ وَعُرْوَةَ (1)
.
انْقِرَاضُ الْخِلاَفِ فِي رِبَا الْفَضْل وَدَعْوَى الإِْجْمَاعِ عَلَى
تَحْرِيمِهِ:
17 - نَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ قَال: أَجْمَعَ
عُلَمَاءُ الأَْمْصَارِ: مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْل
الْمَدِينَةِ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْل
الْعِرَاقِ، وَالأَْوْزَاعِيُّ وَمَنْ قَال بِقَوْلِهِ مِنْ أَهْل
الشَّامِ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدِ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْل مِصْرَ،
وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ ذَهَبٍ
بِذَهَبٍ، وَلاَ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ، وَلاَ بُرٍّ بِبُرٍّ، وَلاَ شَعِيرٍ
بِشَعِيرٍ، وَلاَ تَمْرٍ بِتَمْرٍ، وَلاَ مِلْحٍ بِمِلْحٍ، مُتَفَاضِلاً
يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ نَسِيئَةً، وَأَنَّ مَنْ فَعَل ذَلِكَ فَقَدْ أَرْبَى
وَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ، قَال: وَقَدْ رَوَيْنَا هَذَا الْقَوْل عَنْ
جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَجَمَاعَةٍ يَكْثُرُ عَدَدُهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ (2) .
وَنَاقَشَ السُّبْكِيُّ دَعْوَى الإِْجْمَاعِ مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ،
وَانْتَهَى إِلَى الْقَوْل: فَعَلَى هَذَا امْتَنَعَ دَعْوَى الإِْجْمَاعِ
فِي تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْل بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، لَكِنَّا بِحَمْدِ
اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَغْنُونَ عَنِ
__________
(1) المجموع 10 / 26، 33
(2) المجموع 10 / 40 - 41
(22/61)
الإِْجْمَاعِ فِي ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ
الصَّحِيحَةِ الْمُتَضَافِرَةِ، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى الإِْجْمَاعِ
فِي مَسْأَلَةٍ خَفِيَّةٍ سَنَدُهَا قِيَاسٌ أَوِ اسْتِنْبَاطٌ دَقِيقٌ (1)
.
الأَْحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْل:
18 - رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثُ
كَثِيرَةٌ فِي تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْل (2) :
مِنْهَا: مَا رَوَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ قَال:
لاَ تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ وَلاَ الدِّرْهَمَ
بِالدِّرْهَمَيْنِ (3) .
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدِّينَارُ
بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ، لاَ فَضْل بَيْنَهُمَا، فَمَنْ
كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ بِوَرِقٍ، فَلْيَصْرِفْهَا بِذَهَبٍ، وَمَنْ كَانَتْ
لَهُ حَاجَةٌ بِذَهَبٍ فَلْيَصْرِفْهَا بِوَرِقٍ، وَالصَّرْفُ هَاءَ
وَهَاءَ (4) .
وَمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ،
__________
(1) المجموع 10 / 40، 41، 43، 47 - 50
(2) المجموع 10 / 40 - 59
(3) المجموع 10 / 60. وحديث: " لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم.
. . . " أخرجه مسلم (3 / 1209 - ط الحلبي) .
(4) حديث: " الدينار بالدينار. . . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 760 - ط
الحلبي) ، والحاكم (2 / 49 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث علي بن
أبي طالب، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(22/61)
وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ
بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ،
وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا
بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ
شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ (1) .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّمَا الرِّبَا فِي
النَّسِيئَةِ (2) فَقَدْ قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: مِثْل هَذَا يُرَادُ بِهِ
حَصْرُ الْكَمَال وَأَنَّ الرِّبَا الْكَامِل إِنَّمَا هُوَ فِي
النَّسِيئَةِ، كَمَا قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ
عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ} (3) وَكَقَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّمَا الْعَالِمُ
الَّذِي يَخْشَى اللَّهَ، وَمِثْلُهُ عِنْدَ ابْنِ حَجَرٍ، قَال: قِيل
الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: لاَ رِبًا إِلاَّ فِي النَّسِيئَةِ الرِّبَا
الأَْغْلَظُ الشَّدِيدُ التَّحْرِيمِ الْمُتَوَعَّدُ عَلَيْهِ بِالْعِقَابِ
الشَّدِيدِ، كَمَا تَقُول الْعَرَبُ: لاَ عَالِمَ فِي الْبَلَدِ إِلاَّ
زَيْدٌ مَعَ أَنَّ فِيهَا عُلَمَاءَ غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ نَفْيُ
الأَْكْمَل لاَ نَفْيُ الأَْصْل (4) .
__________
(1) حديث: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة. . . . . . . . . " أخرجه مسلم (3
/ 1211 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " إنما الربا في النسيئة. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1218 - ط
الحلبي) . وأخرجه البخاري (الفتح 4 / 381 - ط السلفية) بلفظ: " لا ربا إلا
في النسيئة ".
(3) سورة الأنفال / 2.
(4) المغني 4 / 4، أحكام القرآن 1 / 466، وصحيح مسلم 11 / 25، وأعلام
الموقعين 2 / 155، وفتح الباري 4 / 304.
(22/62)
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ: يُمْكِنُ
الْجَمْعُ بِأَنَّ مَفْهُومَ حَدِيثِ أُسَامَةَ عَامٌّ؛ لأَِنَّهُ يَدُل
عَلَى نَفْيِ رِبَا الْفَضْل عَنْ كُل شَيْءٍ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ
الأَْجْنَاسِ الرِّبَوِيَّةِ أَمْ لاَ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنْهَا مُطْلَقًا،
فَيُخَصَّصُ هَذَا الْمَفْهُومُ بِمَنْطُوقِهَا (1) .
الأَْجْنَاسُ الَّتِي نُصَّ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا:
19 - الأَْجْنَاسُ الَّتِي نُصَّ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا سِتَّةٌ
وَهِيَ: الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ
وَالْمِلْحُ، وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ عَلَيْهَا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ،
مِنْ أَتَمِّهَا حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ السَّابِقُ.
قَال الْقُرْطُبِيُّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْقَوْل بِمُقْتَضَى
هَذِهِ السُّنَّةِ، وَعَلَيْهَا جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ،
إِلاَّ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ فَإِنَّ مَالِكًا جَعَلَهُمَا صِنْفًا
وَاحِدًا، فَلاَ يَجُوزُ مِنْهُمَا اثْنَانِ بِوَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْل
اللَّيْثِ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَمُعْظَمِ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ
وَالشَّامِ، وَأَضَافَ مَالِكٌ إِلَيْهِمَا السُّلْتَ (2) .
وَاتَّفَقَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ رِبَا الْفَضْل لاَ يَجْرِي إِلاَّ
فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَلاَ يَجْرِي فِي
__________
(1) نيل الأوطار 5 / 216 - 217
(2) تفسير القرطبي 3 / 349، والسلت: قيل ضرب من الشعير ليس له قشر، ويكون
في الغور والحجاز، قاله الجوهري، وقال ابن فارس: ضرب منه رقيق القشر صغير
الحب، وقال الأزهري: حب بين الحنطة والشعير ولا قشر له كقشر الشعير فهو
كالحنطة في ملاسته وكالشعير في طبعه وبرودته. . . المصباح المنير، وفي
جواهر الإكليل 2 / 18: هو حب بين القمح والشعير لا قشر له
(22/62)
الْجِنْسَيْنِ وَلَوْ تَقَارَبَا لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِيعُوا الذَّهَبَ
بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ (1) .
وَخَالَفَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَقَال: كُل شَيْئَيْنِ يَتَقَارَبُ
الاِنْتِفَاعُ بِهِمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالآْخَرِ
مُتَفَاضِلاً، كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ بِالزَّبِيبِ،
لأَِنَّهُمَا يَتَقَارَبُ نَفْعُهُمَا فَجَرَيَا مَجْرَى نَوْعَيِ
الْجِنْسِ الْوَاحِدِ (2) .
الاِخْتِلاَفُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الأَْجْنَاسِ:
20 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا سِوَى الأَْجْنَاسِ السِّتَّةِ
الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الأَْحَادِيثِ، هَل يَحْرُمُ الرِّبَا
فِيهَا كَمَا يَحْرُمُ فِي هَذِهِ الأَْجْنَاسِ السِّتَّةِ أَمْ لاَ
يَحْرُمُ؟ .
فَذَهَبَ عَامَّةُ أَهْل الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا لاَ
يَقْتَصِرُ عَلَى الأَْجْنَاسِ السِّتَّةِ، بَل يَتَعَدَّى إِلَى مَا فِي
مَعْنَاهَا، وَهُوَ مَا وُجِدَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ
التَّحْرِيمِ فِي الأَْجْنَاسِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ؛ لأَِنَّ
ثُبُوتَ الرِّبَا فِيهَا بِعِلَّةٍ، فَيَثْبُتُ فِي كُل مَا وُجِدَتْ فِيهِ
الْعِلَّةُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ
__________
(1) حديث: " بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدًا بيد " أخرجه بمعناه البخاري
(الفتح 4 / 379، 383 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1213 - ط الحلبي) من حديث
أبي بكرة، ولفظه عند مسلم وأبي عوانة كما في الفتح (4 / 383) .
(2) المغني 4 / 5.
(22/63)
التَّحْرِيمِ؛ لأَِنَّ الْقِيَاسَ دَلِيلٌ
شَرْعِيٌّ، فَتُسْتَخْرَجُ عِلَّةُ الْحُكْمِ وَيَثْبُتُ فِي كُل مَوْضِعٍ
وُجِدَتْ عِلَّتُهُ فِيهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ وَإِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ
الْحَنْظَلِيَّ رَوَيَا حَدِيثَ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الأَْعْيَانِ
السِّتَّةِ وَفِي آخِرِهِ وَكَذَلِكَ كُل مَا يُكَال وَيُوزَنُ (1) فَهُوَ
تَنْصِيصٌ عَلَى تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ إِلَى سَائِرِ الأَْمْوَال، وَفِي
حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَبِيعُوا
الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَلاَ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ فَإِنِّي
أَخْشَى عَلَيْكُمُ الرَّمَا (2) أَيِ الرِّبَا، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ عَيْنَ
الصَّاعِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَا يَدْخُل تَحْتَ الصَّاعِ، كَمَا
يُقَال خُذْ هَذَا الصَّاعَ أَيْ مَا فِيهِ، وَوَهَبْتُ لِفُلاَنٍ صَاعًا
أَيْ مِنَ الطَّعَامِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ
الأَْنْصَارِيَّ فَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَيْبَرَ، فَقَدِمَ بِتَمْرٍ
جَنِيبٍ، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَكُل تَمْرَ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قَال: لاَ، وَاللَّهِ، يَا رَسُول اللَّهِ،
إِنَّا لَنَشْتَرِي الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنَ الْجَمْعِ. فَقَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ
__________
(1) حديث: " وكذلك كل ما يكال ويوزن. . . . " أخرجه البيهقي 5 / 286 - ط
دائرة المعارف العثمانية بلفظ: " وكل ما يكال أو يوزن ".
(2) حديث عبد الله بن عمر: " لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين " أخرجه أحمد (2 /
109 - ط الميمنية) وضعف إسناده أحمد شاكر في تعليقه على المسند (8 / 182 -
ط المعارف) .
(22/63)
تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ مِثْلاً بِمِثْلٍ،
أَوْ بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا، وَكَذَلِكَ
الْمِيزَانُ (1) .
يَعْنِي مَا يُوزَنُ بِالْمِيزَانِ، فَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الآْثَارِ
قِيَامُ الدَّلِيل عَلَى تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ مِنَ الأَْشْيَاءِ
السِّتَّةِ إِلَى غَيْرِهَا. وَكَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ
أَنَّ مَال الرِّبَا سِتَّةُ أَشْيَاءَ، وَلَكِنْ ذَكَرَ حُكْمَ الرِّبَا
فِي الأَْشْيَاءِ السِّتَّةِ.
وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الأَْجْنَاسِ السِّتَّةِ بِالذِّكْرِ فِي
الْحَدِيثِ أَنَّ عَامَّةَ الْمُعَامَلاَتِ يَوْمَئِذٍ كَانَتْ بِهَا عَلَى
مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: كُنَّا فِي الْمَدِينَةِ نَبِيعُ الأَْوْسَاقَ
وَنَبْتَاعُهَا (2) وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَدْخُل تَحْتَ الْوَسْقِ مِمَّا
تَكْثُرُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ وَهِيَ الأَْجْنَاسُ الْمَذْكُورَةُ (3) .
وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَمَسْرُوقٍ وَالشَّعْبِيِّ وَقَتَادَةَ وَعُثْمَانَ
الْبَتِّيِّ وَنُفَاةِ الْقِيَاسِ أَنَّهُمْ قَصَرُوا التَّحْرِيمَ عَلَى
الأَْجْنَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا، وَقَالُوا
إِنَّ التَّحْرِيمَ لاَ يَجْرِي فِي غَيْرِهَا بَل إِنَّهُ عَلَى أَصْل
الإِْبَاحَةِ، وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ:
__________
(1) حديث: " أكل تمر خيبر هكذا " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 317 - ط
السلفية) ، ومسلم (3 / 1215 - الحلبي) واللفظ لمسلم.
(2) حديث: " كنا في المدينة نبيع الأوساق ونبتاعها " أخرجه النسائي (7 / 15
- ط المكتبة التجارية) ، والحاكم (2 / 5 - ط دائرة المعارف العثمانية) من
حديث قيس بن أبي غرزة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) المبسوط 12 / 112 - 113، وجواهر الإكليل 2 / 17، والمجموع 9 / 393،
والمغني 4 / 5.
(22/64)
أَنَّ الشَّارِعَ خَصَّ مِنَ الْمَكِيلاَتِ
وَالْمَطْعُومَاتِ وَالأَْقْوَاتِ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، فَلَوْ كَانَ
الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي كُل الْمَكِيلاَتِ أَوْ فِي كُل الْمَطْعُومَاتِ
لَقَال: لاَ تَبِيعُوا الْمَكِيل بِالْمَكِيل مُتَفَاضِلاً أَوْ: لاَ
تَبِيعُوا الْمَطْعُومَ بِالْمَطْعُومِ مُتَفَاضِلاً، فَإِنَّ هَذَا
الْكَلاَمَ يَكُونُ أَشَدَّ اخْتِصَارًا وَأَكْثَرَ فَائِدَةً، فَلَمَّا
لَمْ يَقُل ذَلِكَ وَعَدَّ الأَْرْبَعَةَ عَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَ
الْحُرْمَةِ مَقْصُورٌ عَلَيْهَا. وَأَنَّ التَّعْدِيَةَ مِنْ مَحَل
النَّصِّ إِلَى غَيْرِ مَحَل النَّصِّ لاَ تُمْكِنُ إِلاَّ بِوَاسِطَةِ
تَعْلِيل الْحُكْمِ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ وَهُوَ عِنْدَ نُفَاةِ
الْقِيَاسِ غَيْرُ جَائِزٍ (1) .
عِلَّةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الأَْجْنَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا:
21 - اتَّفَقَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا فِي
الأَْجْنَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا إِنَّمَا هُوَ لِعِلَّةٍ، وَأَنَّ
الْحُكْمَ بِالتَّحْرِيمِ يَتَعَدَّى إِلَى مَا تَثْبُتُ فِيهِ هَذِهِ
الْعِلَّةُ، وَأَنَّ عِلَّةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاحِدَةٌ، وَعِلَّةَ
الأَْجْنَاسِ الأَْرْبَعَةِ الأُْخْرَى وَاحِدَةٌ. . ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي
تِلْكَ الْعِلَّةِ.
22 - فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْعِلَّةُ: الْجِنْسُ وَالْقَدْرُ، وَقَدْ
عُرِفَ الْجِنْسُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ
بِالذَّهَبِ، وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ (2) وَعُرِفَ الْقَدْرُ
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِثْلاً بِمِثْلٍ وَيَعْنِي
بِالْقَدْرِ الْكَيْل فِيمَا يُكَال
__________
(1) المبسوط 12 / 112، والمجموع 9 / 393، تفسير الرازي 7 / 92 - 93،
والمغني 4 / 5.
(2) الحديث تقدم تخريجه ف / 10.
(22/64)
وَالْوَزْنَ فِيمَا يُوزَنُ لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ كُل مَا يُكَال وَيُوزَنُ
(1) ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَبِيعُوا
الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ (2) ، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُل مَكِيلٍ سَوَاءٌ
أَكَانَ مَطْعُومًا أَمْ لَمْ يَكُنْ، وَلأَِنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ
بِالْكَيْل وَالْوَزْنِ إِمَّا إِجْمَاعًا (أَيْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ)
أَوْ؛ لأَِنَّ التَّسَاوِيَ حَقِيقَةً لاَ يُعْرَفُ إِلاَّ بِهِمَا،
وَجَعْل الْعِلَّةِ مَا هُوَ مُتَعَلِّقُ الْحُكْمِ إِجْمَاعًا أَوْ هُوَ
مُعَرِّفٌ لِلتَّسَاوِي حَقِيقَةً أَوْلَى مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى مَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ وَلاَ يُعْرَفُ التَّسَاوِي حَقِيقَةً فِيهِ؛ وَلأَِنَّ
التَّسَاوِيَ وَالْمُمَاثَلَةَ شَرْطٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ
أَوْ صِيَانَةً لأَِمْوَال النَّاسِ، وَالْمُمَاثَلَةُ بِالصُّورَةِ
وَالْمَعْنَى أَتَمُّ، وَذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ؛ لأَِنَّ الْكَيْل
وَالْوَزْنَ يُوجِبُ الْمُمَاثَلَةَ صُورَةً، وَالْجِنْسُ يُوجِبُهَا
مَعْنًى، فَكَانَ أَوْلَى (3) .
23 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: عِلَّةُ الرِّبَا فِي النُّقُودِ مُخْتَلَفٌ
فِيهَا، فَقِيل: غَلَبَةُ الثَّمَنِيَّةِ، وَقِيل: مُطْلَقُ
الثَّمَنِيَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ عِلَّةُ الرِّبَا فِي النُّقُودِ مَا
ذُكِرَ؛ لأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يُمْنَعِ الرِّبَا فِيهَا لأََدَّى ذَلِكَ
إِلَى قِلَّتِهَا فَيَتَضَرَّرُ النَّاسُ.
وَعِلَّةُ رِبَا الْفَضْل فِي الطَّعَامِ الاِقْتِيَاتُ وَالاِدِّخَارُ،
وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَقَوْل الأَْكْثَرِ وَالْمُعَوَّل عَلَيْهِ،
__________
(1) الحديث تقدم تخريجه ف / 20.
(2) حديث: " لا تبيعوا الصاع بالصاعين. . . . " شطر من حديث عبد الله بن
عمر المتقدم تخريجه ف / 20.
(3) المبسوط 12 / 113، والاختيار 2 / 30.
(22/65)
وَالاِقْتِيَاتُ مَعْنَاهُ قِيَامُ
بِنْيَةِ الآْدَمِيِّ بِهِ - أَيْ حِفْظُهَا وَصِيَانَتُهَا - بِحَيْثُ لاَ
تَفْسُدُ بِالاِقْتِصَارِ عَلَيْهِ، وَفِي مَعْنَى الاِقْتِيَاتِ إِصْلاَحُ
الْقُوتِ كَمِلْحٍ وَتَوَابِل، وَمَعْنَى الاِدِّخَارِ عَدَمُ فَسَادِهِ
بِالتَّأْخِيرِ إِلَى الأَْجَل الْمُبْتَغَى مِنْهُ عَادَةً، وَلاَ حَدَّ
لَهُ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ بَل هُوَ فِي كُل شَيْءٍ بِحَسَبِهِ،
فَالْمَرْجِعُ فِيهِ لِلْعُرْفِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ
الاِدِّخَارُ مُعْتَادًا، وَلاَ عِبْرَةَ بِالاِدِّخَارِ لاَ عَلَى وَجْهِ
الْعَادَةِ.
وَإِنَّمَا كَانَ الاِقْتِيَاتُ وَالاِدِّخَارُ عِلَّةَ حُرْمَةِ الرِّبَا
فِي الطَّعَامِ لِخَزْنِ النَّاسِ لَهُ حِرْصًا عَلَى طَلَبِ وُفُورِ
الرِّبْحِ فِيهِ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ.
وَعِلَّةُ رِبَا النَّسَاءِ مُجَرَّدُ الطَّعْمِ عَلَى وَجْهِ التَّدَاوِي،
فَتَدْخُل الْفَاكِهَةُ وَالْخُضَرُ كَبِطِّيخٍ وَقِثَّاءٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ
(1) .
24 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ
الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَوْنُهُمَا جِنْسَ الأَْثْمَانِ
غَالِبًا - كَمَا نَقَل الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ - وَيُعَبَّرُ
عَنْهَا بِجِنْسِيَّةِ الأَْثْمَانِ غَالِبًا أَوْ بِجَوْهَرِيَّةِ
الأَْثْمَانِ غَالِبًا، وَهَذِهِ عِلَّةٌ قَاصِرَةٌ عَلَى الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ لاَ تَتَعَدَّاهُمَا إِذْ لاَ تُوجَدُ فِي غَيْرِهِمَا،
فَتَحْرِيمُ الرِّبَا فِيهِمَا لَيْسَ لِمَعْنًى يَتَعَدَّاهُمَا إِلَى
غَيْرِهِمَا مِنَ الأَْمْوَال؛ لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ لِمَعْنًى
يَتَعَدَّاهُمَا إِلَى غَيْرِهِمَا لَمْ يَجُزْ إِسْلاَمُهُمَا فِيمَا
سِوَاهُمَا مِنَ الأَْمْوَال؛ لأَِنَّ كُل شَيْئَيْنِ جَمَعَتْهُمَا
عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي الرِّبَا لاَ يَجُوزُ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 41 - 42، وحاشية العدوي على كفاية
الطالب 2 / 100 - 101
(22/65)
إِسْلاَمُ أَحَدِهِمَا فِي الآْخَرِ
كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، فَلَمَّا جَازَ
إِسْلاَمُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الْمَوْزُونَاتِ وَالْمَكِيلاَتِ
وَغَيْرِهِمَا مِنَ الأَْمْوَال دَل عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِمَا
لِمَعْنًى لاَ يَتَعَدَّاهُمَا وَهُوَ أَنَّهُمَا مِنْ جِنْسِ
الأَْثْمَانِ.
وَذُكِرَ لَفْظُ " غَالِبًا " فِي بَيَانِ عِلَّةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلاِحْتِرَازِ مِنَ الْفُلُوسِ إِذَا رَاجَتْ
رَوَاجَ النُّقُودِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ ثَمَنًا فِي بَعْضِ
الْبِلاَدِ فَلَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الأَْثْمَانِ غَالِبًا، وَيَدْخُل
فِيمَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا الأَْوَانِي وَالتِّبْرُ وَنَحْوُهُمَا مِنَ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُول: الْعِلَّةُ
كَوْنُهُمَا قِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَمَعَهُمَا،
قَال: وَكُلُّهُ قَرِيبٌ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: جَزَمَ الشِّيرَازِيُّ فِي التَّنْبِيهِ أَنَّ
الْعِلَّةَ كَوْنُهُمَا قِيَمَ الأَْشْيَاءِ، وَأَنْكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو
الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْ قَالَهُ؛ لأَِنَّ الأَْوَانِيَ
وَالتِّبْرَ وَالْحُلِيَّ يَجْرِي فِيهَا الرِّبَا، وَلَيْسَتْ مِمَّا
يَقُومُ بِهَا، وَلَنَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ غَرِيبٌ أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا
فِيهِمَا بِعَيْنِهِمَا لاَ لِعِلَّةٍ، حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ.
وَمَا سِوَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنَ الْمَوْزُونَاتِ كَالْحَدِيدِ
وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالصُّوفِ
وَالْغَزْل وَغَيْرِهَا. . لاَ رِبَا فِيهَا، فَيَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا
بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلاً وَمُؤَجَّلاً.
وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الأَْجْنَاسِ الأَْرْبَعَةِ
وَهِيَ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالْمِلْحُ أَنَّهَا
مَطْعُومَةٌ،
(22/66)
وَهَذَا قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي
الْجَدِيدِ، وَالدَّلِيل مَا رَوَى مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الطَّعَامُ
بِالطَّعَامِ مِثْلاً بِمِثْلٍ (1) فَقَدْ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِالطَّعَامِ
الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْمَطْعُومِ، وَالْمُعَلَّقُ بِالْمُشْتَقِّ
مُعَلَّلٌ بِمَا مِنْهُ الاِشْتِقَاقُ كَالْقَطْعِ وَالْجَلْدِ
الْمُعَلَّقَيْنِ بِالسَّارِقِ وَالزَّانِي (2) . وَلأَِنَّ الْحَبَّ مَا
دَامَ مَطْعُومًا يَحْرُمُ فِيهِ الرِّبَا، فَإِذَا زُرِعَ وَخَرَجَ عَنْ
أَنْ يَكُونَ مَطْعُومًا لَمْ يَحْرُمْ فِيهِ الرِّبَا، فَإِذَا انْعَقَدَ
الْحَبُّ وَصَارَ مَطْعُومًا حَرُمَ فِيهِ الرِّبَا، فَدَل عَلَى أَنَّ
الْعِلَّةَ فِيهِ كَوْنُهُ مَطْعُومًا، فَعَلَى هَذَا يَحْرُمُ الرِّبَا
فِي كُل مَا يُطْعَمُ.
وَقَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ
الرِّبَا فِي الأَْجْنَاسِ الأَْرْبَعَةِ أَنَّهَا مَطْعُومَةٌ مَكِيلَةٌ
أَوْ مَطْعُومَةٌ مَوْزُونَةٌ، وَعَلَيْهِ فَلاَ يَحْرُمُ الرِّبَا إِلاَّ
فِي مَطْعُومٍ يُكَال أَوْ يُوزَنُ.
وَالْجَدِيدُ هُوَ الأَْظْهَرُ، وَتَفْرِيعُ الشَّافِعِيِّ وَالأَْصْحَابِ
عَلَيْهِ، قَالُوا: الْمُرَادُ بِالْمَطْعُومِ مَا قُصِدَ لِطَعْمِ
الآْدَمِيِّ غَالِبًا، بِأَنْ يَكُونَ أَظْهَرُ مَقَاصِدِهِ الطَّعْمَ
وَإِنْ لَمْ يُؤْكَل إِلاَّ نَادِرًا، وَالطَّعْمُ يَكُونُ اقْتِيَاتًا
أَوْ تَفَكُّهًا أَوْ تَدَاوِيًا، وَالثَّلاَثَةُ تُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ
الأَْجْنَاسِ السِّتَّةِ، فَإِنَّهُ نُصَّ فِيهِ عَلَى الْبُرِّ
__________
(1) حديث: " الطعام بالطعام مثلاً بمثل. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1214 - ط
الحلبي) من حديث معمر بن عبد الله.
(2)
) في قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)
سورة المائدة / 38، وفي قوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا. . .
.) سورة النور / 20.
(22/66)
وَالشَّعِيرِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُمَا
التَّقَوُّتُ، فَأُلْحِقَ بِهِمَا مَا فِي مَعْنَاهُمَا كَالأُْرْزِ
وَالذُّرَةِ، وَنُصَّ فِيهِ عَلَى التَّمْرِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ
التَّفَكُّهُ وَالتَّأَدُّمُ، فَأُلْحِقَ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ
كَالتِّينِ وَالزَّبِيبِ، وَنُصَّ فِيهِ عَلَى الْمِلْحِ وَالْمَقْصُودُ
مِنْهُ الإِْصْلاَحُ، فَأُلْحِقَ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ كَالْمُصْطَكَى
وَالسَّقَمُونْيَا وَالزَّنْجَبِيل، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَا يُصْلِحُ
الْغِذَاءَ وَمَا يُصْلِحُ الْبَدَنَ، فَالأَْغْذِيَةُ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ
وَالأَْدْوِيَةُ لِرَدِّ الصِّحَّةِ (1) .
25 - وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا
فِي الأَْجْنَاسِ السِّتَّةِ ثَلاَثُ رِوَايَاتٍ: أَشْهَرُهَا أَنَّ
عِلَّةَ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَوْنُهُمَا مَوْزُونَيْ
جِنْسٍ، وَفِي الأَْجْنَاسِ الْبَاقِيَةِ كَوْنُهَا مَكِيلاَتِ جِنْسٍ،
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَجْرِي الرِّبَا فِي كُل مَكِيلٍ أَوْ
مَوْزُونٍ بِجِنْسِهِ وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا لاَ يَتَأَتَّى كَيْلُهُ
كَتَمْرَةٍ بِتَمْرَةٍ أَوْ تَمْرَةٍ بِتَمْرَتَيْنِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ
بِتَسَاوِيهِمَا فِي الْكَيْل، وَلاَ يَتَأَتَّى وَزْنُهُ كَمَا دُونَ
الأَْرْزَةِ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ وَنَحْوِهِمَا، مَطْعُومًا
كَانَ الْمَكِيل أَوِ الْمَوْزُونُ أَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، وَلاَ يَجْرِي
الرِّبَا فِي مَطْعُومٍ لاَ يُكَال وَلاَ يُوزَنُ كَالْمَعْدُودَاتِ مِنَ
التُّفَّاحِ وَالرُّمَّانِ وَالْبِطِّيخِ وَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ
وَنَحْوِهَا، فَيَجُوزُ بَيْعُ بَيْضَةٍ وَخِيَارَةٍ وَبِطِّيخَةٍ
بِمِثْلِهَا، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ لأَِنَّهُ لَيْسَ مَكِيلاً وَلاَ
مَوْزُونًا، لَكِنْ نَقَل مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَرِهَ بَيْعَ
__________
(1) المهذب 1 / 270، والمجموع 9 / 393 - 397، مغني المحتاج 2 / 22 - 25،
أسنى المطالب 2 / 22.
(22/67)
بَيْضَةٍ بِبَيْضَتَيْنِ وَقَال: لاَ
يَصْلُحُ إِلاَّ وَزْنًا بِوَزْنٍ؛ لأَِنَّهُ مَطْعُومٌ، وَلاَ يَجْرِي
الرِّبَا فِيمَا لاَ يُوزَنُ عُرْفًا لِصِنَاعَتِهِ، وَلَوْ كَانَ أَصْلُهُ
الْوَزْنَ غَيْرَ الْمَعْمُول مِنَ النَّقْدَيْنِ كَالْمَعْمُول مِنَ
الصُّفْرِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَنَحْوِهِ، كَالْخَوَاتِمِ مِنْ
غَيْرِ النَّقْدَيْنِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الأَْثْمَانِ
الثَّمَنِيَّةُ، وَفِيمَا عَدَاهَا كَوْنُهُ مَطْعُومَ جِنْسٍ فَيَخْتَصُّ
بِالْمَطْعُومَاتِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا عَدَاهَا؛ لِمَا رَوَى مَعْمَرُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَلأَِنَّ الطَّعْمَ
وَصْفُ شَرَفٍ إِذْ بِهِ قِوَامُ الأَْبْدَانِ، وَالثَّمَنِيَّةَ وَصْفُ
شَرَفٍ إِذْ بِهَا قِوَامُ الأَْمْوَال، فَيَقْتَضِي التَّعْلِيل بِهِمَا؛
وَلأَِنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ فِي الأَْثْمَانِ الْوَزْنَ لَمْ
يَجُزْ إِسْلاَمُهُمَا فِي الْمَوْزُونَاتِ لأَِنَّ أَحَدَ وَصْفَيْ
عِلَّةِ الرِّبَا الْفَضْل يَكْفِي فِي تَحْرِيمِ النَّسَاءِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: الْعِلَّةُ فِيمَا عَدَا الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ كَوْنُهُ مَطْعُومَ جِنْسٍ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا فَلاَ
يَجْرِي الرِّبَا فِي مَطْعُومٍ لاَ يُكَال وَلاَ يُوزَنُ، كَالتُّفَّاحِ
وَالرُّمَّانِ وَالْخَوْخِ وَالْبِطِّيخِ وَنَحْوِهَا، وَلاَ فِيمَا لَيْسَ
بِمَطْعُومٍ كَالزَّعْفَرَانِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ، لأَِنَّ لِكُل
وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأَْصْنَافِ أَثَرًا، وَالْحُكْمُ مَقْرُونٌ
بِجَمِيعِهَا فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَلاَ يَجُوزُ حَذْفُهُ؛ وَلأَِنَّ
الْكَيْل وَالْوَزْنَ وَالْجِنْسَ لاَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْمُمَاثَلَةِ
وَإِنَّمَا أَثَرُهُ فِي
(22/67)
تَحْقِيقِهَا فِي الْعِلَّةِ مَا يَقْتَضِي
ثُبُوتَ الْحُكْمِ لاَ مَا تَحَقَّقَ شَرْطُهُ.
وَالطَّعْمُ بِمُجَرَّدِهِ لاَ تَتَحَقَّقُ الْمُمَاثَلَةُ بِهِ لِعَدَمِ
الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ فِيهِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الْمُمَاثَلَةُ فِي
الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ الْكَيْل وَالْوَزْنُ، وَلِهَذَا
وَجَبَتِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَكِيل كَيْلاً وَفِي الْمَوْزُونِ وَزْنًا،
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطَّعْمُ مُعْتَبَرًا فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ
دُونَ غَيْرِهِمَا، وَالأَْحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ
يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَتَقْيِيدُ كُل وَاحِدٍ مِنْهَا بِالآْخَرِ،
فَنَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ
الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ (1) يَتَقَيَّدُ بِمَا
فِيهِ مِعْيَارٌ شَرْعِيٌّ وَهُوَ الْكَيْل وَالْوَزْنُ، وَنَهْيُهُ عَنْ
بَيْعِ الصَّاعِ بِالصَّاعَيْنِ يَتَقَيَّدُ بِالْمَطْعُومِ الْمَنْهِيِّ
عَنِ التَّفَاضُل فِيهِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ فَرْقَ فِي الْمَطْعُومَاتِ بَيْنَ مَا
يُؤْكَل قُوتًا كَالأُْرْزِ وَالذُّرَةِ وَالدُّخْنِ، أَوْ أُدْمًا
كَالْقُطْنِيَّاتِ وَاللَّحْمِ وَاللَّبَنِ، أَوْ تَفَكُّهًا كَالثِّمَارِ،
أَوْ تَدَاوِيًا كَالإِْهْلِيلَجِ وَالسَّقَمُونْيَا، فَإِنَّ الْكُل فِي
بَابِ الرِّبَا وَاحِدٌ (2) .
مِنْ أَحْكَامِ الرِّبَا:
26 - إِذَا تَحَقَّقَتْ عِلَّةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي مَالٍ مِنَ
الأَْمْوَال، فَإِنْ بِيعَ بِجِنْسِهِ حُرِّمَ فِيهِ التَّفَاضُل
وَالنَّسَاءُ وَالتَّفَرُّقُ قَبْل الْقَبْضِ؛ لِمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ
__________
(1) الحديث تقدم تخريجه في ف / 24.
(2) المغني 4 / 5 - 9، كشاف القناع 3 / 252.
(22/68)
الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ
وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ
بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً
بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ
الأَْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ (1) .
وَهَذَا قَدْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَفِيمَا عَدَاهُ
تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ بِحَسَبِ اخْتِلاَفِهِمْ فِي الْعِلَّةِ.
وَفِيمَا يَلِي مُجْمَل أَحْكَامِ الرِّبَا فِي كُل مَذْهَبٍ عَلَى حِدَةٍ.
27 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الرِّبَا الْقَدْرُ
مَعَ الْجِنْسِ، فَإِنْ وُجِدَا حُرِّمَ الْفَضْل وَالنَّسَاءُ، فَلاَ
يَجُوزُ بَيْعُ قَفِيزِ بُرٍّ بِقَفِيزَيْنِ مِنْهُ، وَلاَ بَيْعُ قَفِيزِ
بُرٍّ بِقَفِيزٍ مِنْهُ وَأَحَدُهُمَا نَسَاءٌ، وَإِنْ عُدِمَا - أَيِ
الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ - حَل الْبَيْعُ، وَإِنْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا أَيِ
الْقَدْرُ وَحْدَهُ كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ، أَوِ الْجِنْسُ وَحْدَهُ
كَالثَّوْبِ الْهَرَوِيِّ بِهَرَوِيٍّ مِثْلِهِ حَل الْفَضْل وَحَرُمَ
النَّسَاءُ. قَالُوا: أَمَّا إِذَا وُجِدَ الْمِعْيَارُ وَعُدِمَ الْجِنْسُ
كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ وَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، فَلِقَوْلِهِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ، وَيُرْوَى
النَّوْعَانِ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ
(2) وَأَمَّا إِذَا وُجِدَتِ الْجِنْسِيَّةُ وَعُدِمَ الْمِعْيَارُ
__________
(1) حديث عبادة بن الصامت: " الذهب بالذهب. . . . . . . . . " أخرجه مسلم
(3 / 1211 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " إذا اختلف الجنسان " وفي رواية: " النوعان " أورده الزيلعي في
نصب الراية (4 / 4 - ط المجلس العلمي) ، وقال: " غريب بهذا اللفظ " ثم أحال
إلى حديث عبادة بن الصامت المتقدم.
(22/68)
كَالْهَرَوِيِّ بِالْهَرَوِيِّ، فَإِنَّ
الْمُعَجَّل خَيْرٌ مِنَ الْمُؤَجَّل وَلَهُ فَضْلٌ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ
الْفَضْل مِنْ حَيْثُ التَّعْجِيل رِبًا؛ لأَِنَّهُ فَضْلٌ يُمْكِنُ
الاِحْتِرَازُ عَنْهُ وَهُوَ مَشْرُوطٌ فِي الْعَقْدِ فَيَحْرُمُ.
وَيَحْرُمُ بَيْعُ كَيْلِيٍّ أَوْ وَزْنِيٍّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلاً
وَنَسِيئَةً وَلَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، كَجِصٍّ كَيْلِيٍّ أَوْ حَدِيدٍ
وَزْنِيٍّ، وَيَحِل بَيْعُ ذَلِكَ مُتَمَاثِلاً لاَ مُتَفَاضِلاً وَبِلاَ
مِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ، فَإِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُقَدِّرِ الْمِعْيَارَ
بِالذَّرَّةِ وَبِمَا دُونَ نِصْفِ الصَّاعِ كَحَفْنَةٍ بِحَفْنَتَيْنِ
أَوْ ثَلاَثَةٍ مَا لَمْ يَبْلُغْ نِصْفَ الصَّاعِ، وَكَذَرَّةٍ مِنْ
ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَتُفَّاحَةٍ بِتُفَّاحَتَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا،
فَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُعَيَّنَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ.
وَخَالَفَ مُحَمَّدٌ فَرَأَى تَحْرِيمَ الرِّبَا فِي الْكَثِيرِ
وَالْقَلِيل كَتَمْرَةٍ بِتَمْرَتَيْنِ.
وَجَيِّدُ مَال الرِّبَا وَرَدِيئُهُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ سَوَاءٌ،
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا
سَوَاءٌ (1) ؛ وَلأَِنَّ فِي اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ سَدَّ
بَابِ الْبِيَاعَاتِ فَيَلْغُو، وَاسْتَثْنَوْا مَسَائِل لاَ يَجُوزُ
فِيهَا إِهْدَارُ اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ، وَهِيَ: مَال الْيَتِيمِ
وَالْوَقْفِ وَالْمَرِيضِ فَلاَ يُبَاعُ الْجَيِّدُ مِنْهُ بِالرَّدِيءِ.
وَيَجُوزُ بَيْعُ الرَّدِيءِ
__________
(1) حديث: جيدها ورديئها سواء. أورده الزيلعي في نصب الراية (4 / 37 - ط
المجلس العلمي) وقال: " غريب، ومعناه يؤخذ من إطلاق حديث أبي سعيد المتقدم
تخريجه ف / 16.
(22/69)
بِالْجَيِّدِ وَالْقُلْبِ (1)
وَالْمَرْهُونِ إِذَا انْكَسَرَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ وَنَقَصَتْ قِيمَتُهُ
فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا بِخِلاَفِ جِنْسِهِ.
وَمَا وَرَدَ النَّصُّ بِكَيْلِهِ فَكَيْلِيٌّ أَبَدًا، وَمَا وَرَدَ
النَّصُّ بِوَزْنِهِ فَوَزْنِيٌّ أَبَدًا اتِّبَاعًا لِلنَّصِّ، وَعَنْ
أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْعُرْفِ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ
خِلاَفَ النَّصِّ وَأَشَارَ ابْنُ عَابِدِينَ إِلَى تَقْوِيَتِهِ،
وَرَجَّحَهُ الْكَمَال ابْنُ الْهُمَامِ؛ لأَِنَّ النَّصَّ عَلَى ذَلِكَ
الْكَيْل فِي الشَّيْءِ أَوِ الْوَزْنِ فِيهِ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ
الْوَقْتِ إِلاَّ؛ لأَِنَّ الْعَادَةَ إِذْ ذَاكَ كَذَلِكَ، وَقَدْ
تَبَدَّلَتْ فَتَبَدَّل الْحُكْمُ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْعُرْفُ فِي
زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَكْسِ لَوَرَدَ النَّصُّ
مُوَافِقًا لَهُ، وَلَوْ تَغَيَّرَ الْعُرْفُ فِي حَيَاتِهِ لَنَصَّ عَلَى
تَغَيُّرِ الْحُكْمِ.
وَيَجُوزُ بَيْعُ لَحْمٍ بِحَيَوَانٍ وَلَوْ مِنْ جِنْسِهِ وَبَيْعُ قُطْنٍ
بِغَزْل قُطْنٍ فِي الأَْصَحِّ، وَبَيْعُ رُطَبٍ بِرُطَبٍ مُتَمَاثِلاً
كَيْلاً، وَبَيْعُ لُحُومٍ مُخْتَلِفَةٍ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَلَبَنُ
بَقَرٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ مُتَفَاضِلاً يَدًا بِيَدٍ، وَيَجُوزُ بَيْعُ
اللَّبَنِ بِالْجُبْنِ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْبُرِّ بِدَقِيقٍ أَوْ
سَوِيقٍ، وَلاَ بَيْعُ الزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ.
وَلاَ رِبَا بَيْنَ مُتَفَاوِضَيْنِ وَشَرِيكَيْ عِنَانٍ إِذَا تَبَايَعَا
مِنْ مَال الشَّرِكَةِ (2) .
28 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ وَلاَ
__________
(1) القلب بضم القاف وسكون اللام: ما يلبس في الذراع من فضة، فإن كان من
ذهب فهو السوار. رد المحتار 4 / 183
(2) الاختيار 2 / 31 وما بعدها، رد المحتار 4 / 178، 181 وما بعدها.
(22/69)
ذَهَبٍ بِذَهَبٍ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ
يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلاً
إِلاَّ يَدًا بِيَدٍ، وَالطَّعَامُ مِنَ الْحُبُوبِ وَالْقُطْنِيَّةِ (1)
وَشِبْهِهَا مِمَّا يُدَّخَرُ مِنْ قُوتٍ أَوْ إِدَامٍ لاَ يَجُوزُ
الْجِنْسُ مِنْهُ بِجِنْسِهِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ
يَجُوزُ فِيهِ تَأْخِيرٌ، وَلاَ يَجُوزُ طَعَامٌ بِطَعَامٍ إِلَى أَجَلٍ،
كَانَ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ خِلاَفِهِ، كَانَ مِمَّا يُدَّخَرُ أَوْ لاَ
يُدَّخَرُ.
وَلاَ بَأْسَ بِالْفَوَاكِهِ وَالْبُقُول وَمَا لاَ يُدَّخَرُ مُتَفَاضِلاً
وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ التَّفَاضُل
فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ فِيمَا يُدَّخَرُ مِنَ الْفَوَاكِهِ الْيَابِسَةِ
وَسَائِرِ الإِْدَامِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلاَّ الْمَاءَ وَحْدَهُ،
وَمَا اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهُ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ سَائِرِ الْحُبُوبِ
وَالثِّمَارِ وَالطَّعَامِ فَلاَ بَأْسَ بِالتَّفَاضُل فِيهِ يَدًا بِيَدٍ،
وَلاَ يَجُوزُ التَّفَاضُل فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْهُ إِلاَّ فِي
الْخُضَرِ وَالْفَوَاكِهِ، وَالْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ وَالسُّلْتُ كَجِنْسٍ
وَاحِدٍ فِيمَا يَحِل مِنْهُ وَيَحْرُمُ، وَالزَّبِيبُ كُلُّهُ جِنْسٌ
وَالتَّمْرُ كُلُّهُ صِنْفٌ، وَالْقُطْنِيَّةُ أَجْنَاسٌ فِي الْبُيُوعِ،
وَاخْتَلَفَ قَوْل مَالِكٍ فِيهَا وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي
الزَّكَاةِ أَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلُحُومُ ذَوَاتِ الأَْرْبَعِ مِنَ
الأَْنْعَامِ كَالإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْوَحْشِ كَالْغَزَال
وَبَقَرِ الْوَحْشِ، وَلُحُومُ الطَّيْرِ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ،
وَلُحُومُ
__________
(1) القطنية بكسر القاف أو ضمها وسكون الطاء وكسر النون والياء المشددة،
وحكي تخفيفها - قال الباجي: هي البسيلة، سميت بذلك لأنها تقطن بالمحل ولا
تفسد بالتأخير. (الفواكه الدواني 2 / 112) .
(22/70)
دَوَابِّ الْمَاءِ كُلُّهَا جِنْسٌ، وَمَا
تَوَلَّدَ مِنْ لُحُومِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ شَحْمٍ فَهُوَ
كَلَحْمِهِ، وَأَلْبَانُ ذَلِكَ الْجِنْسِ مِنْ ذَوَاتِ الأَْرْبَعِ
الإِْنْسِيِّ مِنْهُ وَالْوَحْشِيِّ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ
جُبْنُهُ وَسَمْنُهُ، كُل وَاحِدٍ مِنْهَا جِنْسٌ فَكُل وَاحِدٍ مِنَ
الثَّلاَثَةِ يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَمَاثِلاً لاَ
مُتَفَاضِلاً (1) .
29 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا بِيعَ الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ إِنْ
كَانَا جِنْسًا اشْتُرِطَ الْحُلُول وَالْمُمَاثَلَةُ وَالتَّقَابُضُ قَبْل
التَّفَرُّقِ، أَوْ جِنْسَيْنِ كَحِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ جَازَ التَّفَاضُل
وَاشْتُرِطَ الْحُلُول وَالتَّقَابُضُ، وَلاَ بُدَّ مِنَ الْقَبْضِ
الْحَقِيقِيِّ، وَدَقِيقُ الأُْصُول الْمُخْتَلِفَةِ الْجِنْسِ وَخَلُّهَا
وَدُهْنُهَا أَجْنَاسٌ؛ لأَِنَّهَا فُرُوعُ أُصُولٍ مُخْتَلِفَةٍ
فَأُعْطِيَتْ حُكْمَ أُصُولِهَا، وَاللُّحُومُ وَالأَْلْبَانُ كَذَلِكَ فِي
الأَْظْهَرِ. وَالنَّقْدُ بِالنَّقْدِ كَالطَّعَامِ بِالطَّعَامِ.
وَالْمُمَاثَلَةُ تُعْتَبَرُ فِي الْمَكِيل كَيْلاً وَفِي الْمَوْزُونِ
وَزْنًا، وَالْمُعْتَبَرُ غَالِبُ عَادَةِ أَهْل الْحِجَازِ فِي عَهْدِ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جُهِل يُرَاعَى
فِيهِ بَلَدُ الْبَيْعِ، وَقِيل: الْكَيْل، وَقِيل: الْوَزْنُ، وَقِيل:
يُتَخَيَّرُ، وَقِيل: إِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ اعْتُبِرَ.
وَتُعْتَبَرُ الْمُمَاثَلَةُ وَقْتَ الْجَفَافِ؛ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فَقَال:
أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ
(2) أَشَارَ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 112 - 116، الدسوقي 3 / 48
(2) حديث: " أينقص الرطب إذا يبس. . . " أخرجه الترمذي (3 / 199 - ط
الحلبي) من حديث سعد بن أبي وقاص، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(22/70)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقَوْلِهِ: أَيَنْقُصُ إِلَى أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ
عِنْدَ الْجَفَافِ وَإِلاَّ فَالنُّقْصَانُ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يُسْأَل
عَنْهُ، وَيُعْتَبَرُ أَيْضًا إِبْقَاؤُهُ عَلَى هَيْئَةٍ يَتَأَتَّى
ادِّخَارُهُ عَلَيْهَا كَالتَّمْرِ بِنَوَاهُ، فَلاَ يُبَاعُ رُطَبٌ
بِرُطَبٍ وَلاَ بِتَمْرٍ، وَلاَ عِنَبٌ بِعِنَبٍ وَلاَ بِزَبِيبٍ،
لِلْجَهْل بِالْمُمَاثَلَةِ وَقْتَ الْجَفَافِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ،
وَمَا لاَ جَفَافَ لَهُ كَالْقِثَّاءِ وَالْعِنَبِ الَّذِي لاَ يَتَزَبَّبُ
لاَ يُبَاعُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ أَصْلاً قِيَاسًا عَلَى الرُّطَبِ، وَفِي
قَوْلٍ مُخَرَّجٍ تَكْفِي مُمَاثَلَتُهُ رُطَبًا؛ لأَِنَّ مُعْظَمَ
مَنَافِعِهِ فِي رُطُوبَتِهِ فَكَانَ كَاللَّبَنِ فَيُبَاعُ وَزْنًا وَإِنْ
أَمْكَنَ كَيْلُهُ.
وَكُل شَيْئَيْنِ اتَّفَقَا فِي الاِسْمِ الْخَاصِّ مِنْ أَصْل الْخِلْقَةِ
كَالتَّمْرِ الْبَرْنِيِّ وَالتَّمْرِ الْمَعْقِلِيِّ فَهُمَا جِنْسٌ
وَاحِدٌ، وَكُل شَيْئَيْنِ اخْتَلَفَا فِي الاِسْمِ مِنْ أَصْل الْخِلْقَةِ
كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ فَهُمَا جِنْسَانِ،
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ذَكَرَ سِتَّةَ أَشْيَاءَ وَحَرَّمَ فِيهَا التَّفَاضُل إِذَا بِيعَ كُلٌّ
مِنْهَا بِمَا وَافَقَهُ فِي الاِسْمِ وَأَبَاحَ فِيهِ التَّفَاضُل إِذَا
بِيعَ بِمَا خَالَفَهُ فِي الاِسْمِ، فَدَل عَلَى أَنَّ كُل شَيْئَيْنِ
اتَّفَقَا فِي الاِسْمِ فَهُمَا جِنْسٌ وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الاِسْمِ
فَهُمَا جِنْسَانِ (1) .
30 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: كُل مَا كِيل أَوْ وُزِنَ مِنْ جَمِيعِ
الأَْشْيَاءِ فَلاَ يَجُوزُ التَّفَاضُل فِيهِ إِذَا كَانَ جِنْسًا
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 22 - 29، والمهذب 1 / 272.
(22/71)
وَاحِدًا، وَمَا كَانَ مِنْ جِنْسَيْنِ
جَازَ التَّفَاضُل فِيهِ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ نَسِيئَةً،
وَالدَّلِيل حَدِيثُ عُبَادَةَ السَّابِقُ، وَمَا كَانَ مِمَّا لاَ يُكَال
وَلاَ يُوزَنُ فَجَائِزٌ التَّفَاضُل فِيهِ يَدًا بِيَدٍ وَنَسِيئَةً
سَوَاءٌ بِيعَ بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ - فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ -
وَلاَ يُبَاعُ شَيْءٌ مِنَ الرُّطَبِ بِيَابِسٍ مِنْ جِنْسِهِ إِلاَّ
الْعَرَايَا، فَأَمَّا بَيْعُ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ وَالْعِنَبِ
بِالْعِنَبِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الرُّطُبِ بِمِثْلِهِ فَيَجُوزُ مَعَ
التَّمَاثُل، وَأَمَّا مَا لاَ يَيْبَسُ كَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ
فَعَلَى قَوْلَيْنِ، وَلاَ يُبَاعُ مَا أَصْلُهُ الْكَيْل بِشَيْءٍ مِنْ
جِنْسِهِ وَزْنًا وَلاَ مَا أَصْلُهُ الْوَزْنُ كَيْلاً، وَالْمَرْجِعُ فِي
مَعْرِفَةِ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ إِلَى الْعُرْفِ بِالْحِجَازِ فِي
عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمِكْيَال
مِكْيَال أَهْل الْمَدِينَةِ وَالْوَزْنُ وَزْنُ أَهْل مَكَّةَ (1) .
وَمَا لاَ عُرْفَ فِيهِ بِالْحِجَازِ يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ:
أَحَدَهُمَا: يُرَدُّ إِلَى أَقْرَبِ الأَْشْيَاءِ شَبَهًا بِالْحِجَازِ.
وَالثَّانِيَ: يُعْتَبَرُ عُرْفُهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَالتُّمُورُ كُلُّهَا
جِنْسٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهَا، وَالْبُرُّ وَالشَّعِيرُ
جِنْسَانِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُمَا جِنْسٌ
وَاحِدٌ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِشَيْءٍ مِنْ فُرُوعِهَا:
__________
(1) حديث: " المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة " أخرجه أبو
داود (3 / 633 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والبيهقي (6 / 31 - ط دائرة المعارف
العثمانية) من حديث عبد الله بن عمر، ونقل المناوي في الفيض (6 / 374 - ط
المكتبة التجارية) تصحيحه عن جمع من العلماء.
(22/71)
السَّوِيقُ، وَالدَّقِيقُ فِي الصَّحِيحِ،
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالدَّقِيقِ،
فَأَمَّا بَيْعُ بَعْضِ فُرُوعِهَا بِبَعْضٍ فَيَجُوزُ بَيْعُ كُل وَاحِدٍ
مِنَ الدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ بِنَوْعِهِ مُتَسَاوِيًا، فَأَمَّا بَيْعُ
الدَّقِيقِ بِالسَّوِيقِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ. وَالأَْصَحُّ
أَنَّ اللَّحْمَ أَجْنَاسٌ بِاخْتِلاَفِ أُصُولِهِ، وَفِي اللَّبَنِ
رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: هُوَ جِنْسٌ وَاحِدٌ.
وَالثَّانِيَةُ: هُوَ أَجْنَاسٌ بِاخْتِلاَفِ أُصُولِهِ كَاللَّحْمِ، وَلاَ
يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِهِ، وَأَمَّا بَيْعُ
اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ
أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي جَوَازَهُ، وَبَيْعُ اللَّحْمِ
بِحَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُول اللَّحْمِ جَائِزٌ فِي ظَاهِرِ قَوْلِهِمْ،
وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ مَال الرِّبَا بِأَصْلِهِ الَّذِي فِيهِ
مِنْهُ كَالسِّمْسِمِ بِالشَّيْرَجِ وَالزَّيْتُونِ بِالزَّيْتِ وَسَائِرِ
الأَْدْهَانِ بِأُصُولِهَا وَالْعَصِيرِ بِأَصْلِهِ.
وَبَيْعُ شَيْءٍ مِنَ الْمُعْتَصَرَاتِ بِجِنْسِهِ يَجُوزُ مُتَمَاثِلاً،
وَيَجُوزُ بَيْعُهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ مُتَفَاضِلاً وَكَيْفَ شَاءَ؛
لأَِنَّهُمَا جِنْسَانِ، وَيُعْتَبَرُ التَّسَاوِي فِيهِمَا بِالْكَيْل،
وَسَوَاءٌ أَكَانَا مَطْبُوخَيْنِ أَمْ نِيئَيْنِ، أَمَّا بَيْعُ النِّيءِ
بِالْمَطْبُوخِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَلاَ يَجُوزُ (1) .
مِنْ مَسَائِل الرِّبَا:
31 - مَسَائِل الرِّبَا كَثِيرَةٌ وَمُتَعَدِّدَةٌ، وَالْعِلَّةُ هِيَ
__________
(1) المغني 4 / 4 - 39
(22/72)
الأَْصْل الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ
عَامَّةُ مَسَائِل الرِّبَا (1) .
أَوْ كَمَا قَال الْقُرْطُبِيُّ: اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ مَسَائِل
هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ وَفُرُوعَهُ مُنْتَشِرَةٌ، وَالَّذِي يَرْبِطُ
لَكَ ذَلِكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى مَا اعْتَبَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي عِلَّةِ
الرِّبَا (2) . وَفِيمَا يَلِي أَمْثِلَةٌ وَمُخْتَارَاتٌ مِنْ هَذِهِ
الْمَسَائِل:
الْمُحَاقَلَةُ:
32 - بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا بِحِنْطَةٍ صَافِيَةٍ مِنَ
التِّبْنِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ شَرْعًا لِمَا فِيهِ مِنْ جَهْل
التَّسَاوِي بَيْنَ الْعِوَضَيْنِ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (بَيْعُ الْمُحَاقَلَةِ (3)) (وَمُحَاقَلَةٌ) .
الْمُزَابَنَةُ:
33 - بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى النَّخْل بِتَمْرٍ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ
شَرْعًا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمُمَاثَلَةِ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ (4)) .
الْعِينَةُ:
34 - بَيْعُ السِّلْعَةِ بِثَمَنٍ، إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ شِرَاؤُهَا مِنَ
الْمُشْتَرِي بِأَقَل مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ، وَهِيَ حَرَامٌ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - لأَِنَّهُ مِنَ الرِّبَا أَوْ ذَرِيعَةٌ إِلَى
الرِّبَا.
__________
(1) الاختيار 2 / 30.
(2) تفسير القرطبي 3 / 352.
(3) الموسوعة الفقهية 9 / 138
(4) الموسوعة الفقهية 9 / 139.
(22/72)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ
الْعِينَةِ (1)) .
بَيْعُ الأَْعْيَانِ غَيْرِ الرِّبَوِيَّةِ:
35 - الأَْعْيَانُ الرِّبَوِيَّةُ نَوْعَانِ:
أ - الأَْعْيَانُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا فِي حَدِيثَيْ عُبَادَةَ وَأَبِي
سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا.
ب - الأَْعْيَانُ الَّتِي تَحَقَّقَتْ فِيهَا عِلَّةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا،
وَهِيَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي
الْعِلَّةِ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ، وَهِيَ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ مَا عَدَا هَذِهِ الأَْعْيَانَ الرِّبَوِيَّةَ
بِنَوْعَيْهَا لاَ يَحْرُمُ فِيهَا الرِّبَا، فَيَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا
بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلاً وَنَسِيئَةً، وَيَجُوزُ فِيهَا التَّفَرُّقُ قَبْل
التَّقَابُضِ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: أَمَرَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُجَهِّزَ جَيْشًا فَنَفِدَتِ الإِْبِل،
فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ عَلَى قِلاَصِ الصَّدَقَةِ، فَكُنْتُ آخُذُ
الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إِلَى إِبِل الصَّدَقَةِ (2) . وَعَنْ
__________
(1) الموسوعة الفقهية 9 / 95
(2) حديث: عبد الله بن عمرو: " أمرني رسول الله (أن أجهز جيشًا ". أخرجه
أبو داود (3 / 652 - 653 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال ابن القطان: " هذا
حديث ضعيف، ومضطرب الإسناد. كذا في نصب الراية للزيلعي (4 / 47 - ط المجلس
العلمي) ، ولكن رواه البيهقي (5 / 288 - ط دائرة المعارف العثمانية) من
طريق آخر، وقال عنه ابن حجر: " إسناده قوي " كذا في الدراية (2 / 159 - ط
الفجالة) .
(22/73)
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
بَاعَ جَمَلاً إِلَى أَجَلٍ بِعِشْرِينَ بَعِيرًا، وَبَاعَ ابْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا بَعِيرًا بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ،
وَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا رَاحِلَةً
بِأَرْبَعِ رَوَاحِل وَرَوَاحِلُهُ بِالرَّبَذَةِ، وَاشْتَرَى رَافِعُ بْنُ
خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ فَأَعْطَاهُ
أَحَدَهُمَا وَقَال: آتِيَكَ بِالآْخَرِ غَدًا (1) .
وَمَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ، بَيْعَ
الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً، كَالْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ لِحَدِيثِ
سَمُرَةَ - مَرْفُوعًا - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ
نَسِيئَةً (2) .
وَلأَِنَّ الْجِنْسَ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْل، فَحُرِّمَ
النَّسَاءُ كَالْكَيْل وَالْوَزْنِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يُتَصَوَّرُ الرِّبَا فِي غَيْرِ النَّقْدَيْنِ
وَالطَّعَامِ مِنَ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ وَسَائِرِ التَّمَلُّكَاتِ،
وَذَلِكَ بِاجْتِمَاعِ ثَلاَثَةِ أَوْصَافٍ:
أ - التَّفَاضُل.
ب - النَّسِيئَةُ.
ج - اتِّفَاقُ الأَْغْرَاضِ وَالْمَنَافِعِ.
كَبَيْعِ ثَوْبٍ بِثَوْبَيْنِ إِلَى أَجَلٍ، وَبَيْعِ فَرَسٍ
__________
(1) المهذب 1 / 271، والاختيار 2 / 31، فتح القدير 5 / 280، والمغني 4 /
14، والقوانين الفقهية: 260
(2) حديث: نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. أخرجه أبو داود (3 / 652 -
تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والترمذي (3 / 529 - ط الحلبي) ، وقال: " حديث حسن
صحيح ".
(22/73)
لِلرُّكُوبِ بِفَرَسَيْنِ لِلرُّكُوبِ
إِلَى أَجَلٍ.
فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا لِلرُّكُوبِ دُونَ الآْخَرِ جَازَ؛ لاِخْتِلاَفِ
الْمَنَافِعِ.
بَيْعُ الْعَيْنِ بِالتِّبْرِ، وَالْمَصْنُوعِ بِغَيْرِهِ:
36 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ عَيْنَ الذَّهَبِ،
وَتِبْرَهُ، وَالصَّحِيحَ، وَالْمَكْسُورَ مِنْهُ، سَوَاءٌ فِي جَوَازِ
الْبَيْعِ مَعَ التَّمَاثُل فِي الْمِقْدَارِ وَتَحْرِيمِهِ مَعَ
التَّفَاضُل، قَال الْخَطَّابِيُّ: وَقَدْ حَرَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَاعَ مِثْقَال ذَهَبٍ عَيْنٍ
بِمِثْقَالٍ وَشَيْءٍ مِنْ تِبْرٍ غَيْرِ مَضْرُوبٍ، وَكَذَلِكَ حَرَّمَ
التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْمَضْرُوبِ مِنَ الْفِضَّةِ وَغَيْرِ الْمَضْرُوبِ
مِنْهَا، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا (1) .
وَرُوِيَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ
عَنْ مَالِكٍ، فِي التَّاجِرِ يَحْفِزُهُ الْخُرُوجُ وَبِهِ حَاجَةٌ إِلَى
دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٍ أَوْ دَنَانِيرَ مَضْرُوبَةٍ، فَيَأْتِي دَارَ
الضَّرْبِ بِفِضَّتِهِ أَوْ ذَهَبِهِ فَيَقُول لِلضَّرَّابِ: خُذْ فِضَّتِي
هَذِهِ أَوْ ذَهَبِي وَخُذْ قَدْرَ عَمَل يَدِكَ وَادْفَعْ إِلَيَّ
دَنَانِيرَ مَضْرُوبَةً فِي ذَهَبِي أَوْ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً فِي
فِضَّتِي هَذِهِ لأَِنِّي مَحْفُوزٌ لِلْخُرُوجِ وَأَخَافُ أَنْ يَفُوتَنِي
مَنْ أَخْرُجُ
__________
(1) حديث: " الذهب بالذهب تبرها وعينها " أخرجه أبو داود (3 / 644 - تحقيق
عزت عبيد دعاس) ، والنسائي (7 / 246 - ط المكتبة التجارية) من حديث عبادة
بن الصامت، وإسناده صحيح، ومقالة الخطابي في معالم السنن (5 / 20 - بهامش
مختصر السنن - نشر دار المعرض) .
(22/74)
مَعَهُ، أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ
لِلضَّرُورَةِ، وَأَنَّهُ قَدْ عَمِل بِهِ بَعْضُ النَّاسِ، وَحَكَاهُ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي قَبَسِهِ عَنْ مَالِكٍ فِي غَيْرِ التَّاجِرِ
وَإِنَّ مَالِكًا قَدْ خَفَّفَ فِي ذَلِكَ، قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
وَالْحُجَّةُ فِيهِ لِمَالِكٍ بَيِّنَةٌ.
قَال الأَْبْهَرِيُّ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الرِّفْقِ لِطَلَبِ
التِّجَارَةِ وَلِئَلاَّ يَفُوتَ السُّوقُ وَلَيْسَ الرِّبَا إِلاَّ عَلَى
مَنْ أَرَادَ أَنْ يُرْبِيَ مِمَّنْ يَقْصِدُ إِلَى ذَلِكَ وَيَبْتَغِيهِ
(1) .
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الصِّحَاحِ
بِالْمُكَسَّرَةِ؛ وَلأَِنَّ لِلصِّنَاعَةِ قِيمَةً بِدَلِيل حَالَةِ
الإِْتْلاَفِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ ضَمَّ قِيمَةَ الصِّنَاعَةِ إِلَى
الذَّهَبِ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ قَال لِصَانِعٍ: اصْنَعْ لِي خَاتَمًا وَزْنَ
دِرْهَمٍ، وَأُعْطِيكَ مِثْل وَزْنِهِ وَأُجْرَتَكَ دِرْهَمًا فَلَيْسَ
ذَلِكَ بَيْعَ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، وَقَال أَصْحَابُنَا: لِلصَّائِغِ
أَخْذُ الدِّرْهَمَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي مُقَابَلَةِ الْخَاتَمِ
وَالثَّانِي أُجْرَةً لَهُ (2) .
الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ:
37 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
إِلَى أَنَّهُ لاَ فَرْقَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ
وَدَارِ الإِْسْلاَمِ، فَمَا كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ
__________
(1) تفسير القرطبي 3 / 351 - 352، والمجموع 10 / 88، والدسوقي 3 / 43،
والقوانين الفقهية 256، وابن عابدين 4 / 181.
(2) المغني 4 / 10 - 11
(22/74)
الإِْسْلاَمِ كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ
الْحَرْبِ، سَوَاءٌ جَرَى بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ أَوْ مُسْلِمٍ وَحَرْبِيٍّ،
وَسَوَاءٌ دَخَلَهَا الْمُسْلِمُ بِأَمَانٍ أَمْ بِغَيْرِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا
مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ؛ وَلأَِنَّ مَا كَانَ رِبًا فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ
كَانَ رِبًا مُحَرَّمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ كَمَا لَوْ تَبَايَعَهُ
مُسْلِمَانِ مُهَاجِرَانِ وَكَمَا لَوْ تَبَايَعَهُ مُسْلِمٌ وَحَرْبِيٌّ
فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ؛ وَلأَِنَّ مَا حُرِّمَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ
حُرِّمَ هُنَاكَ كَالْخَمْرِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي؛ وَلأَِنَّهُ عَقْدٌ
عَلَى مَا لاَ يَجُوزُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ فَلَمْ يَصِحَّ كَالنِّكَاحِ
الْفَاسِدِ هُنَاكَ (1) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: لاَ يَحْرُمُ الرِّبَا بَيْنَ
الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلاَ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ
أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرَا مِنْهَا؛ لأَِنَّ
مَالَهُمْ مُبَاحٌ إِلاَّ أَنَّهُ بِالأَْمَانِ حُرِّمَ التَّعَرُّضُ لَهُ
بِغَيْرِ رِضَاهُمْ تَحَرُّزًا عَنِ الْغَدْرِ وَنَقْضِ الْعَهْدِ، فَإِذَا
رَضُوا بِهِ حَل أَخْذُ مَالِهِمْ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، بِخِلاَفِ
الْمُسْتَأْمَنِ؛ لأَِنَّ مَالَهُ صَارَ مَحْظُورًا بِالأَْمَانِ (2) .
مَسْأَلَةُ مُدِّ عَجْوَةٍ:
38 - إِذَا جَمَعَ الْبَيْعُ رِبَوِيًّا مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَاخْتَلَفَ
جِنْسُ الْمَبِيعِ مِنْهُمَا بِأَنِ اشْتَمَل أَحَدُهُمَا عَلَى جِنْسَيْنِ
رِبَوِيَّيْنِ اشْتَمَل الآْخَرُ عَلَيْهِمَا، كَمُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ
بِمُدٍّ مِنْ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ، وَكَذَا لَوِ
__________
(1) المجموع 9 / 391، والمغني 4 / 45 - 46
(2) رد المحتار 4 / 188، والاختيار 2 / 33
(22/75)
اشْتَمَل عَلَى أَحَدِهِمَا فَقَطْ كَمُدٍّ
وَدِرْهَمٍ بِمُدَّيْنِ أَوْ دِرْهَمَيْنِ، أَوِ اشْتَمَلاَ جَمِيعُهُمَا
عَلَى جِنْسٍ رِبَوِيٍّ وَانْضَمَّ إِلَيْهِ غَيْرُ رِبَوِيٍّ فِيهِمَا
كَدِرْهَمٍ وَثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ وَثَوْبٍ، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا كَدِرْهَمٍ
وَثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ، أَوِ اخْتَلَفَ نَوْعُ الْمَبِيعِ كَصِحَاحٍ
وَمُكَسَّرَةٍ تَنْقُصُ قِيمَتُهَا عَنْ قِيمَةِ الصِّحَاحِ بِهِمَا أَيْ
بِصِحَاحٍ وَمُكَسَّرَةٍ، أَوْ بِأَحَدِهِمَا أَيْ بِصِحَاحٍ فَقَطْ أَوْ
بِمُكَسَّرَةٍ فَقَطْ. . . إِذَا كَانَ الْبَيْعُ عَلَى صُورَةٍ مِنْ
هَذِهِ الصُّوَرِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ
الْفِقْهِيَّةُ الْمَعْرُوفَةُ بِمَسْأَلَةِ " مُدِّ عَجْوَةٍ ".
وَالدَّلِيل عَلَى بُطْلاَنِ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ خَبَرُ
مُسْلِمٍ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أُتِيَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِلاَدَةٍ فِيهَا خَرَزٌ
وَذَهَبٌ تُبَاعُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالذَّهَبِ الَّذِي فِي الْقِلاَدَةِ فَنُزِعَ وَحْدَهُ ثُمَّ قَال:
الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ وَفِي رِوَايَةٍ: لاَ تُبَاعُ
حَتَّى تُفْصَل (1) .
وَاسْتَدَل مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى بِأَنَّ قَضِيَّةَ اشْتِمَال أَحَدِ
طَرَفَيِ الْعَقْدِ عَلَى مَالَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ تَوْزِيعُ مَا فِي
الآْخَرِ عَلَيْهِمَا اعْتِبَارًا بِالْقِيمَةِ، وَالتَّوْزِيعُ يُؤَدِّي
إِلَى الْمُفَاضَلَةِ أَوِ الْجَهْل بِالْمُمَاثَلَةِ؛ لأَِنَّهُ إِذَا
بَاعَ مُدًّا وَدِرْهَمًا بِمُدَّيْنِ إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمُدِّ
الَّذِي مَعَ الدِّرْهَمِ أَكْثَرَ أَوْ أَقَل مِنْهُ لَزِمَتْهُ
الْمُفَاضَلَةُ، أَوْ مِثْلَهُ فَالْمُمَاثَلَةُ مَجْهُولَةٌ
__________
(1) حديث فضالة بن عبيد: " أتى النبي صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها خرز
وذهب " أخرجه مسلم (3 / 1213 - ط الحلبي) .
(22/75)
وَلِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ
بِتَحَقُّقِ الرِّبَا فِي مَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ تَفْصِيلٌ وَتَفْرِيعٌ
عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَحْكَامِ الْمَسْأَلَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالشَّعْبِيُّ
وَالنَّخَعِيُّ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الرِّبَوِيُّ الْمُفْرَدُ
أَكْثَرَ مِنَ الَّذِي مَعَهُ غَيْرُهُ، أَوْ كَانَ مَعَ كُل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ إِذَا أَمْكَنَ
حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ لَمْ يُحْمَل عَلَى الْفَسَادِ فَيُجْعَل
الرِّبَوِيُّ فِي مُقَابَلَةِ قَدْرِهِ مِنَ الرِّبَوِيِّ الآْخَرِ
وَيُجْعَل الزَّائِدُ فِي مُقَابَلَةِ مَا زَادَ عَنِ الْقَدْرِ
الْمُمَاثِل (1) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 28، والمغني 4 / 39 - 40، والقوانين الفقهية 259،
وابن عابدين 4 / 236، 237
(22/76)
رِبَاطٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّبَاطُ وَالْمُرَابَطَةُ مُلاَزَمَةُ ثَغْرِ الْعَدُوِّ،
وَأَصْلُهُ أَنْ يَرْبِطَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَيْلَهُ، ثُمَّ صَارَ
لُزُومُ الثَّغْرِ رِبَاطًا، وَرُبَّمَا سُمِّيَتِ الْخَيْل أَنْفُسُهَا
رِبَاطًا، وَيُقَال: الرِّبَاطُ مِنَ الْخَيْل: الْخَمْسُ فَمَا فَوْقَهَا.
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} (1) أَيْ:
أَقِيمُوا عَلَى جِهَادِ عَدُوِّكُمْ. وَيُطْلَقُ الرِّبَاطُ عَلَى
الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، أَوْ مُدَاوَمَةِ الْجُلُوسِ
فِي الْمَسْجِدِ، كَمَا جَاءَ فِي الأَْثَرِ: قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ: أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ
الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُول
اللَّهِ. قَال: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ
الْخُطَى إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ،
فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، ثَلاَثًا (2) .
وَالأَْرْبِطَةُ: الْبُيُوتُ الْمُسَبَّلَةُ لإِِيوَاءِ الْفُقَرَاءِ
وَالْغُرَبَاءِ وَطَلَبَةِ الْعِلْمِ
__________
(1) سورة آل عمران / 200.
(2) حديث: " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا " أخرجه مسلم (1 / 219
- ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(22/76)
وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي
يُرَابِطُ فِيهِ الْمُجَاهِدُونَ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجِهَادُ:
2 - وَهُوَ فِي اللُّغَةِ بَذْل الْوُسْعِ فِي الأَْمْرِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: بَذْل الْوُسْعِ فِي الْقِتَال فِي سَبِيل اللَّهِ
مُبَاشَرَةً، أَوْ مُعَاوَنَةً بِمَالٍ، أَوْ رَأْيٍ، أَوْ تَكْثِيرِ
سَوَادٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (2) .
فَالْجِهَادُ أَعَمُّ مِنَ الرِّبَاطِ.
ب - الْحِرَاسَةُ:
3 - وَهُوَ مَصْدَرُ حَرَسَ الشَّيْءَ: إِذَا حَفِظَهُ، وَتَحَرَّسَ مِنْ
فُلاَنٍ وَاحْتَرَسَ مِنْهُ: تَحَفَّظَ مِنْهُ (3) .
وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الرِّبَاطِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
أَوَّلاً: الرِّبَاطُ بِمَعْنَى مُلاَزَمَةِ الثُّغُورِ:
4 - الرِّبَاطُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ لأَِنَّهُ حِفْظُ ثُغُورِ
الإِْسْلاَمِ وَصِيَانَتُهَا، وَدَفْعٌ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَنْ
__________
(1) تاج العروس، ولسان العرب، والمصباح المنير، والقرطبي تفسير آية: آل
عمران الأخيرة، وحاشية ابن عابدين 3 / 217.
(2) رد المحتار على الدر المختار 3 / 218.
(3) مختار الصحاح.
(22/77)
حَرِيمِهِمْ، وَقُوَّةٌ لأَِهْل الثَّغْرِ
وَلأَِهْل الْغَزْوِ، قَال أَحْمَدُ: هُوَ أَصْل الْجِهَادِ وَفَرْعُهُ (1)
.
وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ الأَْمْرُ بِهِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} (2) .
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: قَال جُمْهُورُ الأُْمَّةِ فِي تَفْسِيرِ الآْيَةِ:
رَابِطُوا أَعْدَاءَكُمْ بِالْخَيْل، وَعَزَا إِلَى ابْنِ عَطِيَّةَ
قَوْلَهُ: الْقَوْل الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى رَابِطُوا: أَنَّ الرِّبَاطَ
هُوَ الْمُلاَزَمَةُ فِي سَبِيل اللَّهِ، أَصْلُهَا مِنْ رَبْطِ الْخَيْل،
ثُمَّ سُمِّيَ كُل مُلاَزِمٍ لِثَغْرٍ مِنْ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ
مُرَابِطًا، فَارِسًا كَانَ أَمْ رَاجِلاً (3) .
فَضْل الرِّبَاطِ:
5 - وَرَدَ فِي فَضْل الرِّبَاطِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيل اللَّهِ
خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ
مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا (4) .
وَقَال: رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ
وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ
__________
(1) المغني 8 / 354، ومطالب أولي النهى 2 / 509، وفتح القدير 4 / 278.
(2) سورة آل عمران / 200.
(3) تفسير القرطبي 4 / 323.
(4) حديث: " رباط يوم في سبيل الله. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 85 - ط
السلفية) من حديث سهل بن سعد.
(22/77)
يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ،
وَأَمِنَ الْفَتَّانَ (1) . وَوَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كُل مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلاَّ الَّذِي مَاتَ
مُرَابِطًا فِي سَبِيل اللَّهِ، فَإِنَّهُ يُنَمَّى لَهُ عَمَلُهُ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَأْمَنُ مِنْ فَتَّانِ الْقَبْرِ (2) .
أَفْضَل الرِّبَاطِ:
6 - أَفْضَل الرِّبَاطِ: أَشَدُّ الثُّغُورِ خَوْفًا؛ لأَِنَّ مُقَامَهُ
بِهِ أَنْفَعُ، وَأَهْلَهُ أَحْوَجُ (3) .
الْمَحَل الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ الرِّبَاطُ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَحَل الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ
الرِّبَاطُ، فَإِنَّهُ لاَ يَتَحَقَّقُ فِي كُل مَحَلٍّ، فَقَال
الْحَنَفِيَّةُ: الْمُخْتَارُ: أَنَّهُ لاَ يَكُونُ الرِّبَاطُ، إِلاَّ فِي
مَوْضِعٍ لاَ يَكُونُ وَرَاءَهُ إِسْلاَمٌ؛ لأَِنَّ مَا دُونَهُ لَوْ كَانَ
رِبَاطًا فَكُل الْمُسْلِمِينَ فِي بِلاَدِهِمْ مُرَابِطُونَ، وَقَال
بَعْضُهُمْ: إِذَا أَغَارَ الْعَدُوُّ عَلَى مَوْضِعٍ مَرَّةً سُمِّيَ
ذَلِكَ الْمَوْضِعُ رِبَاطًا، أَرْبَعِينَ سَنَةً (4) .
__________
(1) حديث: " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر. . . " أخرجه مسلم (3 / 1520 -
ط الحلبي) من حديث سلمان الفارسي.
(2) حديث: " كل ميت يختم على عمله. . . " أخرجه الترمذي (4 / 165 - ط
الحلبي) من حديث فضالة بن عبيد، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(3) مطالب أولي النهى 2 / 509، والمغني 8 / 355.
(4) فتح القدير 4 / 278، وحاشية الطحطاوي 2 / 437.
(22/78)
وَالأَْصْل فِي هَذَا: حَدِيثُ مَنْ حَرَسَ
مِنْ وَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي سَبِيل اللَّهِ مُتَطَوِّعًا لاَ
يَأْخُذُهُ سُلْطَانٌ لَمْ يَرَ النَّارَ بِعَيْنَيْهِ إِلاَّ تَحِلَّةَ
الْقَسَمِ (1) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي: إِذَا نَوَى بِالإِْقَامَةِ فِي
أَيِّ مَكَانٍ وَإِنْ كَانَ وَطَنَهُ دَفْعَ الْعَدُوِّ، فَإِنَّهُ يَكُونُ
مُرَابِطًا، قَال: وَمِنْ ثَمَّ اخْتَارَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ سُكْنَى
الثُّغُورِ. وَعَزَا إِلَى ابْنِ التِّينِ أَنَّهُ قَال: الرِّبَاطُ
مُلاَزَمَةُ الْمَكَانِ الَّذِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ
لِحِرَاسَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ
الْوَطَنِ، وَعَزَا ذَلِكَ إِلَى ابْنِ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ (2) .
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: الْمُرَابِطُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ الَّذِي
يَشْخَصُ إِلَى ثَغْرٍ مِنَ الثُّغُورِ لِيُرَابِطَ فِيهِ مُدَّةً مَا.
أَمَّا سُكَّانُ الثُّغُورِ دَائِمًا بِأَهْلِيهِمُ الَّذِينَ يَعْمُرُونَ
وَيَكْتَسِبُونَ هُنَالِكَ فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا حُمَاةً فَلَيْسُوا
بِمُرَابِطِينَ (3) .
مُدَّةُ الرِّبَاطِ:
8 - قَال الْفُقَهَاءُ: تَمَامُ الرِّبَاطِ: أَرْبَعُونَ يَوْمًا
__________
(1) حديث: " من حرس من وراء المسلمين. . . . " أخرجه أحمد (3 / 437 - 438 -
ط الميمنية) من حديث معاذ بن أنس، وقال المنذري: " لا بأس بإسناده في
المتابعات ". الترغيب والترهيب (2 / 248 - ط الحلبي) .
(2) فتح الباري 6 / باب الجهاد.
(3) تفسير القرطبي 4 / 323.
(22/78)
فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: تَمَامُ الرِّبَاطِ أَرْبَعُونَ
يَوْمًا (1) .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَنْ رَابَطَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَقَدِ
اسْتَكْمَل الرِّبَاطَ.
وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَلَمْ نَقِفْ عَلَى خِلاَفٍ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ قَدِمَ
عَلَى عُمَرَ مِنَ الرِّبَاطِ، فَقَال: كَمْ رَابَطْتَ؟ قَال: ثَلاَثِينَ
يَوْمًا، فَقَال عُمَرُ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ أَلاَّ رَجَعْتَ حَتَّى
تُتِمَّهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَإِنْ رَابَطَ أَكْثَرَ فَلَهُ أَجْرُهُ.
أَمَّا أَقَل الرِّبَاطِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَقَال الْحَنَابِلَةُ:
إِنَّ أَقَل الرِّبَاطِ سَاعَةٌ (2) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي: أَقَل مَا يُجْزِئُ يَوْمٌ أَوْ
لَيْلَةٌ، وَقَال: لأَِنَّهُ قَيَّدَ الْيَوْمَ فِي الْحَدِيثِ، وَأَطْلَقَ
فِي الآْيَةِ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ مُطْلَقَ الآْيَةِ
مُقَيَّدٌ بِالْحَدِيثِ؛ لأَِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ أَقَل الرِّبَاطِ
يَوْمٌ، لِسِيَاقِهِ فِي مَقَامِ الْمُبَالَغَةِ وَذِكْرُهُ مَعَ سَوْطٍ
يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ (3) .
الرِّبَاطَاتُ الْمُسَبَّلَةُ:
9 - الرِّبَاطَاتُ الْمُسَبَّلَةُ فِي الطُّرُقِ وَعَلَى أَطْرَافِ
__________
(1) حديث: " تمام الرباط أربعون يومًا. . . . " أخرجه الطبراني في معجمه
الكبير (7 / 157 - ط وزارة الأوقاف العراقية) من حديث أبي أمامة، وقال
الهيثمي في المجمع (5 / 290 - ط القدسي) : " فيه أيوب بن مدرك، وهو ضعيف ".
(2) المغني 8 / 354 - 355، ومطالب أولي النهى 2 / 509.
(3) فتح الباري 6 / 85 - 86
(22/79)
بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ - وَهِيَ مَا
يُبْنَى لِلْمُسَافِرِينَ وَالْغُرَبَاءِ وَالْفُقَرَاءِ - مِنَ
الْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ. فَمَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِعٍ مِنْهَا
وَهُوَ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِمَنَافِعِهَا صَارَ أَحَقَّ بِهِ،
وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ إِزْعَاجُهُ، سَوَاءٌ دَخَل بِإِذْنِ الإِْمَامِ أَمْ
لاَ. وَلاَ يَبْطُل حَقُّهُ بِالْخُرُوجِ لِحَاجَةٍ كَشِرَاءِ طَعَامٍ،
وَنَحْوِهِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ تَخْلِيفُهُ نَائِبًا لَهُ فِي الْمَوْضِعِ،
وَلاَ أَنْ يَتْرُكَ فِيهِ مَتَاعَهُ. وَإِذَا سَكَنَ بَيْتًا مِنْهَا مَنْ
تَتَوَفَّرُ فِيهِ شُرُوطُ الْمُسَبَّلَةِ، وَغَابَ أَيَّامًا قَلِيلَةً
فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ إِذَا عَادَ. فَإِنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ بَطَل حَقُّهُ
(1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (الْمَنَافِعُ الْمُشْتَرَكَةُ،
وَقْف) .
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 299، وقليوبي 3 / 94، وأسنى المطالب 2 / 451.
(22/79)
|