الموسوعة الفقهية الكويتية

رِبَاعٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّبَاعُ لُغَةً: جَمْعُ رَبْعٍ وَهُوَ الْمَنْزِل وَالدَّارُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ يَرْبَعُ فِيهِ أَيْ يَسْكُنُهُ وَيُقِيمُ فِيهِ. وَالْجَمْعُ: أَرْبُعٌ وَرِبَاعٌ وَرُبُوعٌ. وَفِي حَدِيثِ أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَهَل تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ؟ وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ دَارٍ (1) ، وَرَبْعُ الْقَوْمِ: مَحَلَّتُهُمْ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَرَادَتْ بَيْعَ رِبَاعِهَا أَيْ مَنَازِلِهَا، وَالرَّبْعَةُ: أَخَصُّ مِنَ الرَّبْعِ، وَالرَّبْعُ: الْمَحَلَّةُ. يُقَال: مَا أَوْسَعَ رَبْعَ بَنِي فُلاَنٍ (2) .
وَاصْطِلاَحًا: أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ اسْمَ الرَّبْعِ عَلَى الْبِنَاءِ وَحَائِطِ النَّخْل يُحَوَّطُ عَلَيْهِ بِجِدَارٍ أَوْ غَيْرِهِ (3) .
__________
(1) حديث: " وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 451 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 984 - ط الحلبي) من حديث أسامة بن زيد، وعند البيهقي (6 / 34 - ط دائرة المعارف العثمانية) : " من دار أو دور ".
(2) لسان العرب، مادة: (ربع ودار) ، المهذب للشيرازي ط - عيسى البابي الحلبي - 1 / 376.
(3) كشاف القناع 3 / 160، ودستور العلماء 2 / 128.

(22/80)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَقَارُ:
2 - الْعَقَارُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ: كُل مِلْكٍ ثَابِتٍ لَهُ أَصْلٌ، كَالدَّارِ وَالنَّخْل.
وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ الضَّيْعَةُ، وَجَعَلُوا الْبِنَاءَ وَالنَّخْل مِنَ الْمَنْقُولاَتِ، وَعِنْدَهُمْ قَوْلٌ كَقَوْل الْجُمْهُورِ.
وَعَقَارُ الْبَيْتِ: مَتَاعُهُ وَنَضَدُهُ إِذَا كَانَ حَسَنًا كَبِيرًا، وَيُقَال: فِي الْبَيْتِ عَقَارٌ حَسَنٌ أَيْ: مَتَاعٌ وَأَدَاةٌ (1) .

ب - الأَْرْضُ:
3 - الأَْرْضُ مَعْرُوفَةٌ وَجَمْعُهَا أَرَاضٍ وَأَرَضُونَ.

ج - الدَّارُ:
4 - الدَّارُ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْعَرْصَةِ وَالْبِنَاءِ وَالْمَحَلَّةِ، وَاللَّفْظُ مُؤَنَّثٌ.
وَقَال ابْنُ جِنِّي: هِيَ مِنْ دَارَ يَدُورُ لِكَثْرَةِ حَرَكَاتِ النَّاسِ فِيهَا وَالْجَمْعُ أَدْوُرٌ وَأَدْؤُرٌ، وَالْكَثِيرُ دِيَارٌ وَدُورٌ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالرِّبَاعِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أ - رِبَاعُ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ وَإِجَارَةِ رِبَاعِ مَكَّةَ وَعَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ إِذَا وَقَعَ،
__________
(1) المغرب والمصباح وابن عابدين 4 / 421.

(22/80)


لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (1) ، وَلِحَدِيثِ مُجَاهِدٍ مَرْفُوعًا مَكَّةُ حَرَامٌ، حَرَّمَهَا اللَّهُ، لاَ تَحِل بَيْعُ رِبَاعِهَا، وَلاَ إِجَارَةُ بُيُوتِهَا (2) ، وَلِحَدِيثِ مَكَّةُ مُنَاخٌ لاَ تُبَاعُ رِبَاعُهَا وَلاَ تُؤَاجَرُ بُيُوتُهَا (3) ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: فَإِنْ سَكَنَ بِأُجْرَةٍ فِي رِبَاعِ مَكَّةَ لَمْ يَأْثَمْ بِدَفْعِهَا (4) .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا وَإِجَارَتُهَا وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ، وَبِهَذَا قَال الشَّافِعِيَّةُ، وَاسْتَدَل الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِجَوَازِ بَيْعِ رِبَاعِ مَكَّةَ وَكِرَاءِ دُورِهَا بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} (5) فَنَسَبَ الدِّيَارَ إِلَى الْمَالِكِينَ، وَبِحَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ أَيْنَ تَنْزِل فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ فَقَال: وَهَل تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ (6) ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا
__________
(1) سورة الحج / 25.
(2) حديث مجاهد مرفوعًا: " مكة حرام، حرمها الله، لا تحل بيع رباعها ولا. . . . " أخرجه ابن أبي شيبة كما في نصب الراية للزيلعي (4 / 266 - ط المجلس العلمي) وإسناده ضعيف لإرساله.
(3) حديث: " مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر بيوتها " أخرجه الدارقطني (3 / 58 - ط دار المحاسن) من حديث عبد الله بن عمرو، وأعله بضعف أحد رواته.
(4) كشاف القناع 3 / 160، بدائع الصنائع 5 / 146.
(5) سورة الحشر / 9.
(6) حديث: " وهل ترك لنا عقيل من رباع. . . " تقدم تخريجه في ف / 1.

(22/81)


طَالِبٍ، وَلَمْ يَرِثْ جَعْفَرٌ وَلاَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا شَيْئًا لأَِنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَبِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ دَخَل دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ (1) فَنَسَبَ الدِّيَارَ إِلَى مَالِكِيهَا، وَبِاشْتِرَاءِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَارَ الْحَجَّامِينَ وَإِسْكَانِهَا (2) .
وَالْمَالِكِيَّةُ عِنْدَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ:
الأُْولَى: الْمَنْعُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ.
وَالثَّانِيَةُ: الْجَوَازُ، قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَاتِ وَالْمُعْتَمَدُ الَّذِي بِهِ الْفَتْوَى، وَعَلَيْهِ جَرَى الْعَمَل مِنْ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى وَالْقُضَاةِ بِمَكَّةَ.
وَالثَّالِثَةُ: الْكَرَاهَةُ، فَإِنْ قَصَدَ بِالْكِرَاءِ الآْلاَتِ وَالأَْخْشَابَ جَازَ، وَإِنْ قَصَدَ الْبُقْعَةَ فَلاَ خَيْرَ فِيهِ.
وَالرَّابِعَةُ: تَخْصِيصُ الْكَرَاهَةِ بِالْمَوْسِمِ لِكَثْرَةِ النَّاسِ وَاحْتِيَاجِهِمْ إِلَى الْوَقْفِ (3) .

ب - الشُّفْعَةُ فِي الرِّبَاعِ:
6 - تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الرِّبَاعِ قَبْل قِسْمَتِهَا بِالإِْجْمَاعِ تَبَعًا لِلأَْرْضِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَصْلاً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لأَِنَّ ضَرَرَ أَذَى الدَّخِيل يَتَأَبَّدُ، وَذَلِكَ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ فِي الْعَقَارِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الْعَقَارِ إِنْ
__________
(1) حديث: " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. . . . . . . . . " أخرجه مسلم (3 / 1406 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) إعلام الساجد بأحكام المساجد ص 147 - 148
(3) تهذيب الفروق للقرافي 4 / 11.

(22/81)


كَانَ رَبْعًا أَوْ حَائِطًا. قَالُوا: لأَِنَّ الضَّرَرَ فِي الْعَقَارِ يَتَأَبَّدُ مِنْ جِهَةِ الشَّرِيكِ فَتَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ لإِِزَالَةِ الضَّرَرِ (1) .
وَلِمَزِيدِ الإِْيضَاحِ انْظُرْ: (شُفْعَةٌ) .

ج - قِسْمَةُ الرِّبَاعِ:
7 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ يَتْبَعَانِ الأَْرْضَ فِي الْقِسْمَةِ، وَالأَْرْضُ لاَ تَتْبَعُهُمَا، فَمَنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِهِ مِنْ قِسْمَةِ الأَْرْضِ شَيْءٌ مِنْهُمَا فَهُوَ لَهُ، بِخِلاَفِ الْعَكْسِ (2) .
وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ فَنَصُّوا عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الأَْرْضِ وَالْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ يَتْبَعُ الآْخَرَ فِي بَيْعِهِ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ شَرْطٌ أَوْ عُرْفٌ (3) . وَلِمَزِيدٍ مِنَ الإِْيضَاحِ انْظُرْ: (قِسْمَةٌ) .

د - وَقْفُ الرِّبَاعِ:
8 - يَصِحُّ وَقْفُ الْعَقَارِ مِنْ أَرْضٍ وَدُورٍ وَحَوَانِيتَ وَبَسَاتِينَ وَنَحْوِهَا بِالاِتِّفَاقِ بِدَلِيل وَقْفِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِائَةَ سَهْمٍ فِي خَيْبَرَ؛ وَلأَِنَّ جَمَاعَةً
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 236، والمبسوط 14 / 98، وحاشية الدسوقي 3 / 476، والخرشي 6 / 163، والمهذب للشيرازي 1 / 376، والمغني 5 / 463، ومنتهى الإرادات 1 / 527.
(2) نهاية المحتاج 8 / 271، ومغني المحتاج 4 / 424، والباجوري على ابن قاسم 2 / 17، ودليل الطالب ص 108، 140
(3) بداية المجتهد 2 / 257، والخرشي 4 / 90.

(22/82)


مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَقَفُوا؛ وَلأَِنَّ الْعَقَارَ مُتَأَبِّدٌ عَلَى الدَّوَامِ وَالْوَقْفُ تَحْبِيسُ الأَْصْل وَتَسْبِيل الْمَنْفَعَةِ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْفٌ) .
__________
(1) الدر المختار 3 / 408 - 439، والشرح الكبير 4 / 76، ومغني المحتاج 2 / 377، والمغني 5 / 585

(22/82)


رِبْحٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّبْحُ وَالرَّبَحُ وَالرَّبَاحُ لُغَةً النَّمَاءُ فِي التِّجَارَةِ، وَيُسْنَدُ الْفِعْل إِلَى التِّجَارَةِ مَجَازًا، فَيُقَال: رَبِحَتْ تِجَارَتُهُ، فَهِيَ رَابِحَةٌ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (1) .
قَال الأَْزْهَرِيُّ: رَبِحَ فِي تِجَارَتِهِ إِذَا أَفْضَل فِيهَا، وَأَرْبَحَ فِيهَا: صَادَفَ سُوقًا ذَاتَ رِبْحٍ، وَأَرْبَحْتُ الرَّجُل إِرْبَاحًا: أَعْطَيْتُهُ رِبْحًا.
وَبِعْتُهُ الْمَتَاعَ وَاشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ مُرَابَحَةً: إِذَا سَمَّيْتُ لِكُل قَدْرٍ مِنَ الثَّمَنِ رِبْحًا (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَنْ ذَلِكَ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
النَّمَاءُ:
2 - النَّمَاءُ الزِّيَادَةُ، وَكُل شَيْءٍ عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ إِمَّا نَامٍ أَوْ صَامِتٌ، فَالنَّامِي مِثْل النَّبَاتِ
__________
(1) سورة البقرة / 16.
(2) لسان العرب المصباح المنير مادة: (ربح) .

(22/83)


وَالأَْشْجَارِ، وَالصَّامِتُ كَالْحَجَرِ وَالْجَبَل، وَالنَّمَاءُ فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ مَجَازٌ، وَفِي الْمَاشِيَةِ حَقِيقَةٌ؛ لأَِنَّهَا تَزِيدُ بِتَوَالُدِهَا (1) . وَالنَّمَاءُ قَدْ يَكُونُ بِطَبِيعَةِ الشَّيْءِ أَوْ بِالْعَمَل. فَالنَّمَاءُ أَعَمُّ مِنَ الرِّبْحِ.

الْغَلَّةُ:
3 - تُطْلَقُ الْغَلَّةُ عَلَى الدَّخْل الَّذِي يَحْصُل مِنْ رَيْعِ الأَْرْضِ أَوْ أُجْرَتِهَا، أَوْ أُجْرَةِ الدَّارِ وَاللَّبَنِ وَالنِّتَاجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِي الْحَدِيثِ: الْغَلَّةُ بِالضَّمَانِ قَال ابْنُ الأَْثِيرِ: هُوَ كَحَدِيثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الآْخَرِ: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ (2) .
وَاسْتِغْلاَل الْمُسْتَغَلاَّتِ، أَخْذُ غَلَّتِهَا، وَأَغَلَّتِ الضَّيْعَةُ أَعْطَتِ الْغَلَّةَ فَهِيَ مُغِلَّةٌ: إِذَا أَتَتْ بِشَيْءٍ وَأَصْلُهَا بَاقٍ (3) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - الرِّبْحُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا، أَوْ غَيْرَ مَشْرُوعٍ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ.
فَالرِّبْحُ الْمَشْرُوعُ هُوَ مَا نَتَجَ عَنْ تَصَرُّفٍ مُبَاحٍ
__________
(1) الفروق ص 95، ولسان العرب.
(2) حديث: " الغلة بالضمان " وفي رواية: " الخراج بالضمان " أخرجه أحمد (6 / 80 - ط الميمنية) ، واللفظ الثاني أخرجه أبو داود (3 / 780 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير (3 / 22 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) القاموس والمصباح والمغرب ص 343، والمفردات ص 269

(22/83)


كَالْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، مِثْل الْبَيْعِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَغَيْرِهَا فَالرِّبْحُ النَّاتِجُ عَنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُبَاحَةِ حَلاَلٌ بِالإِْجْمَاعِ مَعَ مُرَاعَاةِ أَنَّ لِكُل عَقْدٍ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ قَوَاعِدَ وَشَرَائِطَ شَرْعِيَّةً لاَ بُدَّ مِنْ مُرَاعَاتِهَا (1) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَاتِ: (بَيْعٌ، شَرِكَةٌ، مُرَابَحَةٌ) .
وَالرِّبْحُ غَيْرُ الْمَشْرُوعِ: هُوَ مَا نَتَجَ عَنْ تَصَرُّفٍ مُحَرَّمٍ كَالرِّبَا وَالْقِمَارِ وَالتِّجَارَةِ بِالْمُحَرَّمَاتِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) .
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ (3) (ر: رِبًا، أَشْرِبَةٌ، بَيْعٌ) .
وَأَمَّا الرِّبْحُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، فَمِنْهُ مَا نَتَجَ عَنِ التَّصَرُّفِ فِيمَا كَانَ تَحْتَ يَدِ الإِْنْسَانِ مِنْ مَال غَيْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ يَدَ أَمَانَةٍ كَالْمُودَعِ، أَمْ يَدَ ضَمَانٍ كَالْغَاصِبِ وَخِلاَفِهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
فَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ لاَ يَطِيبُ لِمَنْ تَصَرَّفَ فِي الْمَغْصُوبِ أَوِ الْوَدِيعَةِ، هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 240 - 245
(2) سورة البقرة / 275.
(3) حديث: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 424 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1207 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.

(22/84)


وَمُحَمَّدٍ خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ. وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ حَصَل التَّصَرُّفُ فِي ضَمَانِهِ وَمِلْكِهِ. أَمَّا الضَّمَانُ فَظَاهِرٌ؛ لأَِنَّ الْمَغْصُوبَ دَخَل فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ، وَأَمَّا الْمِلْكُ؛ فَلأَِنَّهُ يَمْلِكُهُ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِذَا ضُمِّنَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ التَّصَرُّفَ حَصَل فِي مِلْكِهِ وَضَمَانِهِ، لَكِنَّهُ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ؛ لأَِنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَسَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ، إِذِ الْفَرْعُ يَحْصُل عَلَى وَصْفِ الأَْصْل، وَأَصْلُهُ حَدِيثُ الشَّاةِ حَيْثُ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّصَدُّقِ بِلَحْمِهَا عَلَى الأَْسْرَى (1) .
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ فَالرِّبْحُ لِمَنْ تَصَرَّفَ فِي الْوَدِيعَةِ وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ؛ لأَِنَّهَا لَوْ تَلِفَتْ لَضَمِنَهَا، وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: لَوِ اتَّجَرَ الْغَاصِبُ فِي الْمَال الْمَغْصُوبِ فَالرِّبْحُ لَهُ فِي الأَْظْهَرِ، فَإِذَا غَصَبَ دَرَاهِمَ وَاشْتَرَى شَيْئًا فِي ذِمَّتِهِ وَنَقَدَ الدَّرَاهِمَ فِي ثَمَنِهِ وَرَبِحَ رَدَّ مِثْل
__________
(1) حديث الشاة: " عن رجل من الأنصار " لما رجع رسول الله (من جنازة استقبله داعي امرأة، فجاء وجيء بالطعام فوضع يده، ثم وضع القوم فأكلوا، فنظر آباؤنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوك لقمة في فمه ثم قال: " أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها " فأرسلت المرأة قالت: يا ر

(22/84)


الدَّرَاهِمِ؛ لأَِنَّهَا مِثْلِيَّةٌ إِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَهُ، وَإِلاَّ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ بِعَيْنِهِ، أَمَّا إِذَا اشْتَرَى بِعَيْنِهِ فَالْجَدِيدُ بُطْلاَنُهُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الرِّبْحُ لِصَاحِبِ الْوَدِيعَةِ أَوْ مَالِكِ الْمَغْصُوبِ (1) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا غَصَبَ أَثْمَانًا فَاتَّجَرَ بِهَا أَوْ عُرُوضًا فَبَاعَهَا وَاتَّجَرَ بِثَمَنِهَا فَالرِّبْحُ لِلْمَالِكِ وَالسِّلَعُ الْمُشْتَرَاةُ لَهُ. وَقَال الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ: إِنْ كَانَ الشِّرَاءُ بِعَيْنِ الْمَال فَالرِّبْحُ لِلْمَالِكِ، قَال الشَّرِيفُ: وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ.
وَإِنِ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ نَقَدَ الأَْثْمَانَ فَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ لِلْغَاصِبِ؛ لأَِنَّهُ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ فِي ذِمَّتِهِ، فَكَانَ الشِّرَاءُ لَهُ، وَالرِّبْحُ لَهُ، وَعَلَيْهِ بَدَل الْمَغْصُوبِ، وَهَذَا قِيَاسُ قَوْل الْخِرَقِيِّ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ؛ لأَِنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ، فَكَانَ لَهُ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى لَهُ بِعَيْنِ الْمَال، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَإِنْ حَصَل خُسْرَانٌ فَهُوَ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لأَِنَّهُ نَقْصٌ حَصَل فِي الْمَغْصُوبِ (2) .
__________
(1) فتح القدير لابن الهمام 7 / 373، وكفاية الطالب شرح الرسالة 2 / 222، ومغني المحتاج 2 / 291، والقليوبي وعميرة 3 / 38، ومطالب أولي النهى 4 / 62 - 64، وجواهر الإكليل 2 / 117 - 220، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 328
(2) المغني 5 / 275.

(22/85)


الرِّبْحُ فِي الْمُضَارَبَةِ:
5 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَحْدِيدَ النِّسْبَةِ فِي قِسْمَةِ الرِّبْحِ مِنْ أَرْكَانِ صِحَّةِ عَقْدِ الْقِرَاضِ (الْمُضَارَبَةِ) وَيَكُونُ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْعَامِل عَلَى مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ مِنَ التَّسَاوِي أَوِ التَّفَاضُل، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَامِل نِصْفُ الرِّبْحِ أَوْ ثُلُثُهُ، أَوْ رُبُعُهُ، أَوْ خُمُسُهُ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ، أَيْ يَجُوزُ لِلْمَالِكِ أَنْ يَشْرِطَ لِنَفْسِهِ ثُلُثَيِ الرِّبْحِ، أَوْ ثُلُثَهُ، أَوْ رُبُعَهُ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ النِّسَبِ، كَثِيرَةً كَانَتْ أَوْ قَلِيلَةً، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، فَلَوْ قَال الْمَالِكُ لِلْعَامِل: خُذْ هَذَا الْمَال مُضَارَبَةً وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِي، أَوْ قَال: كُلُّهُ لَكَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ رِعَايَةً لِلَّفْظِ؛ لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَقْتَضِي كَوْنَ الرِّبْحِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، فَإِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالرِّبْحِ انْتَفَى مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَفَسَدَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَكُونُ مُضَارَبَةً صَحِيحَةً فِي الصُّورَتَيْنِ؛ لأَِنَّهُمَا دَخَلاَ فِي التَّرَاضِي فَإِذَا شَرَطَ لأَِحَدِهِمَا الرِّبْحَ فَكَأَنَّهُ وَهَبَ الآْخَرَ نَصِيبَهُ فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَال: وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِي كَانَ إِبْضَاعًا صَحِيحًا؛ لأَِنَّهُ أَثْبَتَ لَهُ حُكْمَ الإِْبْضَاعِ فَانْصَرَفَ إِلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلٌ آخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَالإِْبْضَاعُ بَعْثُ الْمَال مَعَ مَنْ يَتَّجِرُ فِيهِ مُتَبَرِّعًا، وَالْبِضَاعَةُ الْمَال الْمَبْعُوثُ، وَمِنَ الصِّيَغِ الصَّحِيحَةِ

(22/85)


لِلإِْبْضَاعِ قَوْل الْمَالِكِ لِلْعَامِل: خُذْ هَذَا الْمَال فَاتَّجِرْ بِهِ أَوْ تَصَرَّفْ فِيهِ وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِي، وَكَذَا قَوْلُهُ: أَبْضَعْتُكَ هَذَا الْمَال. أَمَّا إِذَا قَال: وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لَكَ، فَقَرْضٌ، وَقَدْ جَرَى مِثْل هَذَا الْخِلاَفِ فِيمَا إِذَا قَال: أَبْضَعْتُكَ عَلَى أَنَّ نِصْفَ الرِّبْحِ لَكَ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ قِرَاضٌ فَاسِدٌ رِعَايَةً لِلْمَعْنَى. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ إِبْضَاعٌ رِعَايَةً لِلَّفْظِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِبْضَاعٌ، مُضَارَبَةٌ، قَرْضٌ) .

الرِّبْحُ فِي الشَّرِكَةِ:
6 - الرِّبْحُ فِي الشَّرِكَةِ يَكُونُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ أَوِ الشُّرَكَاءِ عَلَى مَا يَتَّفِقَانِ أَوْ يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ مِنْ نِصْفٍ، أَوْ ثُلُثٍ، أَوْ رُبُعٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، أَيْ يَجُوزُ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِيهِ مَعَ تَفَاضُلِهِمَا فِي الْمَال وَأَنْ يَتَفَاضَلاَ فِيهِ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي الْمَال؛ لأَِنَّ الْعَمَل مِمَّا يُسْتَحَقُّ بِهِ الرِّبْحُ، فَجَازَ أَنْ يَتَفَاضَلاَ فِي الرِّبْحِ مَعَ وُجُودِ الْعَمَل مِنْهُمَا؛ لأَِنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ يَكُونُ أَبْصَرَ بِالتِّجَارَةِ مِنَ الآْخَرِ وَأَقْوَى عَلَى الْعَمَل، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ زِيَادَةً فِي الرِّبْحِ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِهِ، كَمَا يَشْتَرِطُ الرِّبْحَ فِي مُقَابَلَةِ عَمَل الْمُضَارِبِ، وَبِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ:
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 30، ومغني المحتاج 2 / 312، وحاشية ابن عابدين 4 / 483، وروضة الطالبين 5 / 122، وجواهر الإكليل 2 / 173.

(22/86)


إِنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الشَّرِكَةِ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ فَإِنْ تَسَاوَى الْمَالاَنِ فَالرِّبْحُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا بِالتَّسَاوِي، وَإِنْ تَفَاضَل يَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا مُتَفَاضِلاً، سَوَاءٌ تَسَاوَيَا فِي الْعَمَل أَوْ تَفَاوَتَا فِيهِ؛ لأَِنَّ الرِّبْحَ هُوَ ثَمَرَةُ الْمَالَيْنِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى قَدْرِهِمَا، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا مِنَ الرِّبْحِ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ فِي الْمَال (1) .
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (شَرِكَة) .

زَكَاةُ رِبْحِ التِّجَارَةِ:
7 - يُضَمُّ الرِّبْحُ الْحَاصِل مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْل إِلَى الأَْصْل، وَذَلِكَ لأَِجْل حِسَابِ الزَّكَاةِ. فَلَوِ اشْتَرَى مَثَلاً عَرْضًا فِي شَهْرِ الْمُحَرَّمِ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَارَتْ قِيمَتُهُ قَبْل آخِرِ الْحَوْل وَلَوْ بِلَحْظَةٍ ثَلاَثَمِائَةِ دِرْهَمٍ زَكَّى الْجَمِيعَ آخِرَ الْحَوْل، سَوَاءٌ حَصَل الرِّبْحُ فِي نَفْسِ الْعَرَضِ كَسِمَنِ الْحَيَوَانِ، أَمْ بِارْتِفَاعِ الأَْسْوَاقِ، قِيَاسًا عَلَى النِّتَاجِ مَعَ الأُْمَّهَاتِ؛ وَلأَِنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى حَوْل كُل زِيَادَةٍ مَعَ اضْطِرَابِ الأَْسْوَاقِ مِمَّا يَشُقُّ؛ وَلأَِنَّهُ نَمَاءٌ جَارٍ فِي الْحَوْل تَابِعٌ لأَِصْلِهِ فِي الْمِلْكِ فَكَانَ مَضْمُومًا إِلَيْهِ فِي الْحَوْل، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ هُوَ خِلاَفُ الأَْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةِ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَضُمُّ الرِّبْحَ إِلَى الأَْصْل مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ
__________
(1) حاشية العدوي 2 / 188، والقوانين الفقهية ص 288، ومغني المحتاج 2 / 214

(22/86)


نُضُوضٌ فَإِنْ كَانَ فَلاَ يَضُمُّ بَل يُزَكِّي الأَْصْل لِحَوْلِهِ وَيَسْتَأْنِفُ لِلرِّبْحِ حَوْلاً.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّهُ يَبْنِي حَوْل كُل مُسْتَفَادٍ عَلَى حَوْل جِنْسِهِ نَمَاءً كَانَ أَوْ غَيْرَهُ (1) .
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةُ عُرُوضِ التِّجَارَةِ) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 3 / 37، ومغني المحتاج 1 / 398، 2 / 269، وروض الطالب 1 / 383، وحاشية العدوي 1 / 426.

(22/87)


رَبَضٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّبَضُ بِفَتْحَتَيْنِ مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: مَأْوَى الْغَنَمِ، يُقَال: رَبَضَتِ الدَّابَّةُ رَبْضًا وَرُبُوضًا. وَالرَّبَضُ وَالرُّبُوضُ لِلْغَنَمِ كَالْبُرُوكِ لِلإِْبِل، وَجَمْعُهُ أَرْبَاضٌ.
وَمِثْل الرَّبَضِ بِهَذَا الْمَعْنَى الْمَرْبِضُ، وَجَمْعُهُ مَرَابِضُ (1) .
وَفِي الْحَدِيثِ: مَثَل الْمُنَافِقِ مَثَل الشَّاةِ بَيْنَ الرَّبِيضَيْنِ (2) . أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْمَثَل قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ} (3) .
وَيُطْلَقُ الرَّبَضُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَمْرَيْنِ:
أ - مَا حَوْل الْمَدِينَةِ مِنْ بُيُوتٍ وَمَسَاكِنَ، كَمَا
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، مادة: (ربض) و (عطن) .
(2) حديث: " مثل المنافق مثل الشاة بين الربيضين " أخرجه أحمد (2 / 82 - ط الميمنية) من حديث عبد الله بن عمر، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (7 / 297 - 298 - ط المعارف) .
(3) سورة النساء / 143.

(22/87)


يَقُولُونَ: لاَ بُدَّ لِلْقَصْرِ فِي السَّفَرِ مِنْ مُجَاوَزَةِ الْقَرْيَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِرَبَضِ الْمِصْرِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
ب - الْمَرْبِضُ، أَيْ مَأْوَى الْغَنَمِ وَبُرُوكِ الْبَهِيمَةِ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْفِنَاءُ:
2 - الْفِنَاءُ بِالْكَسْرِ: سَعَةٌ أَمَامَ الدَّارِ، وَفِنَاءُ الشَّيْءِ مَا اتَّصَل بِهِ مُعَدًّا لِمَصَالِحِهِ (2) .
وَفِنَاءُ الْبَلَدِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ: الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِمَصَالِحِ الْبَلَدِ كَرَكْضِ الدَّوَابِّ وَدَفْنِ الْمَوْتَى وَإِلْقَاءِ التُّرَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (3) .

ب - الْحَرِيمُ:
3 - حَرِيمُ الشَّيْءِ مَا حَوْلَهُ مِنْ حُقُوقٍ وَمَرَافِقَ، سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِ مَالِكِهِ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِالاِنْتِفَاعِ بِهِ (4) . قَال النَّوَوِيُّ: الْحَرِيمُ هُوَ الْمَوَاضِعُ الْقَرِيبَةُ الَّتِي يُحْتَاجُ إِلَيْهَا لِتَمَامِ الاِنْتِفَاعِ كَالطَّرِيقِ وَمَسِيل الْمَاءِ وَنَحْوِهِمَا (5) .
وَيَخْتَلِفُ مِقْدَارُ الْحَرِيمِ بِاخْتِلاَفِ الْمَوَاضِعِ وَمَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 525، وكشاف القناع 4 / 23، وجواهر الإكليل 1 / 35
(2) المصباح المنير ولسان العرب، مادة: (فني) .
(3) التعريفات للجرجاني، وحاشية ابن عابدين 1 / 525، وحاشية الطحطاوي 1 / 330.
(4) المصباح المنير مادة: (حرم) .
(5) روضة الطالبين 5 / 282، 283

(22/88)


يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَرِيمُ. كَحَرِيمِ الْقَرْيَةِ وَحَرِيمِ الدَّارِ، وَحَرِيمِ الْبِئْرِ وَحَرِيمِ النَّهْرِ وَنَحْوِهَا (1) . وَانْظُرْ: (حَرِيم) .

ج - الْعَطَنُ وَالْمَعْطَنُ:
4 - الْعَطَنُ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تُنَحَّى إِلَيْهِ الإِْبِل عَنِ الْمَاءِ إِذَا شَرِبَتِ الشَّرْبَةَ الأُْولَى فَتَبْرُكُ فِيهِ، ثُمَّ يُمْلأَُ الْحَوْضُ لَهَا ثَانِيَةً فَتَعُودُ مِنْ عَطَنِهَا إِلَى الْحَوْضِ لِتَعِل، أَيْ تَشْرَبَ الشَّرْبَةَ الثَّانِيَةَ، وَهُوَ الْعَلَل.
وَيُسَمَّى الْمَوْضِعُ الَّذِي تَبْرُكُ فِيهِ الإِْبِل مَعْطَنًا أَيْضًا، وَجَمْعُهُ مَعَاطِنُ (2) . وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: لاَ تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الإِْبِل (3) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - الرَّبَضُ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل، أَيْ مَا حَوْل الْمَدِينَةِ مِنْ بُيُوتٍ وَمَسَاكِنَ، ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ حُكْمَهُ فِي صَلاَةِ الْمُسَافِرِ، حَيْثُ اشْتَرَطُوا مُفَارَقَتَهُ لِقَصْرِ الصَّلاَةِ الرُّبَاعِيَّةِ لِلْمُسَافِرِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: يُشْتَرَطُ لِقَصْرِ الصَّلاَةِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 279، ونهاية المحتاج 5 / 330، والروضة 5 / 282، 283
(2) الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي / 101.
(3) حديث: " لا تصلوا في أعطان الإبل " أخرجه الترمذي (2 / 181 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة وقال: " حديث حسن صحيح ".

(22/88)


الرُّبَاعِيَّةِ فِي السَّفَرِ خُرُوجُ الْمُسَافِرِ مِنْ عِمَارَةِ مَوْضِعِ إِقَامَتِهِ مِنْ جَانِبِ خُرُوجِهِ، كَمَا يُشْتَرَطُ مُفَارَقَتُهُ تَوَابِعَ مَوْضِعِ الإِْقَامَةِ، كَرَبَضِ الْمَدِينَةِ - وَهُوَ مَا حَوْل الْمَدِينَةِ مِنْ بُيُوتٍ وَمَسَاكِنَ - فَإِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمِصْرِ، وَكَذَا الْقُرَى الْمُتَّصِلَةُ بِالرَّبَضِ فِي الصَّحِيحِ. وَبِخِلاَفِ الْبَسَاتِينِ وَلَوْ مُتَّصِلَةً بِالْبِنَاءِ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْبَلْدَةِ، وَلَوْ سَكَنَهَا أَهْل الْبَلْدَةِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ أَوْ بَعْضِهَا (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةُ الْمُسَافِرِ) .

صَلاَةُ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ فِي الأَْرْبَاضِ بِاعْتِبَارِهَا خَارِجَ الْبَلَدِ:
6 - لَمْ يَتَعَرَّضِ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ فِي الأَْرْبَاضِ نَصًّا. وَالرَّبَضُ التَّابِعُ لِلْبَلَدِ لاَ يَجُوزُ الْقَصْرُ لِلْمُسَافِرِ قَبْل مُجَاوَزَتِهِ، فَتَجُوزُ فِيهِ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ إِذَا تَوَفَّرَتْ سَائِرُ شُرُوطِهَا، أَمَّا الأَْرْبَاضُ خَارِجَ الْبَلَدِ غَيْرُ التَّابِعَةِ لَهُ فَلاَ تَصِحُّ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ فِيهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (2)) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 525، وحاشية الطحطاوي 1 / 330، وفتح القدير 2 / 8، والهندية 1 / 139، وجواهر الإكليل 1 / 88، ومغني المحتاج 1 / 263، 264، وحاشية القليوبي 1 / 256، وكشاف القناع 1 / 507، والمغني 2 / 259، 261
(2) ابن عابدين 1 / 525، 536، 537، وجواهر الإكليل 1 / 88، 93، 103، ومغني المحتاج 1 / 263، 280، وكشاف القناع 1 / 507.

(22/89)


وَتَفْصِيلُهُ فِي: (صَلاَةُ الْجُمُعَةِ، وَصَلاَةُ الْعِيدِ) .

إِحْيَاءُ الأَْرْبَاضِ:
7 - الإِْحْيَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ لأَِرْضِ الْمَوَاتِ، وَالْمَوَاتُ اسْمٌ لِمَا لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ مِنَ الأَْرْضِ الْخَرَابِ الدَّارِسَةِ. فَمَا لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لأَِحَدٍ، وَلاَ حَقًّا خَاصًّا لَهُ، وَلاَ حَرِيمًا لِمَعْمُورٍ، وَلاَ مُنْتَفَعًا بِهِ، يُعْتَبَرُ مَوَاتًا يَحِل إِحْيَاؤُهُ. وَاشْتَرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَوَاتِ أَنْ لاَ يَكُونَ قَرِيبًا مِنَ الْقَرْيَةِ عُرْفًا (كَمَا هُوَ تَحْدِيدُ الْحَنَابِلَةِ وَمَنْ مَعَهُمْ، أَوْ بِحَيْثُ يَصِل إِلَيْهِ صَوْتُ الْمُنَادِي مِنَ الْقَرْيَةِ كَمَا قَال الْحَنَفِيَّةُ) وَذَلِكَ لأَِنَّ الْقَرِيبَ مِنَ الْقَرْيَةِ لاَ يَنْقَطِعُ ارْتِفَاقُ أَهْلِهَا عَنْهُ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَكُونُ مِنَ الْمَوَاتِ. وَعَلَى ذَلِكَ فَالأَْرْبَاضُ لاَ تُعْتَبَرُ مَوَاتًا فَلاَ يَجُوزُ إِحْيَاؤُهَا (1) . وَتَفْصِيل مَا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهُ وَمَا لاَ يَجُوزُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ ف 11، 12، 16) .

الرَّبَضُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي: (مَأْوَى الْغَنَمِ) :
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الصَّلاَةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ إِذَا أُمِنَتِ النَّجَاسَةُ لِحَدِيثِ: صَلُّوا فِي
__________
(1) ابن عابدين 5 / 278، وجواهر الإكليل 2 / 202، والمواق 6 / 2 - 6، قليوبي 3 / 87، 88، 90، 91، والمغني 5 / 332، 563 - 566، وكشاف القناع 4 / 187.

(22/89)


مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلاَ تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الإِْبِل (1) . وَلِحَدِيثِ: أَنَّ رَجُلاً سَأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟ قَال: نَعَمْ. قَال: أُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الإِْبِل؟ قَال: لاَ. (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَة، وَمَكْرُوهَاتُ الصَّلاَةِ) .
__________
(1) حديث: " صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل " أخرجه الترمذي (2 / 181 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(2) فتح الباري 1 / 335، 342، 527، وعمدة القاري 3 / 157، 4 / 182، ابن عابدين 1 / 255، وجواهر الإكليل 1 / 35، والمجموع 3 / 160، 161، والمغني 2 / 67، 69، 71. وحديث: " أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أصلي في مرابض الغنم. . . " أخرجه مسلم (1 / 275 - ط الحلبي) من حديث جابر بن سمرة.

(22/90)


رَبِيئَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّبِيئَةُ وَالرَّبِيءُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ الطَّلِيعَةِ - عَيْنُ الْقَوْمِ - يَرْقُبُ الْعَدُوَّ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ لِئَلاَّ يَدْهَمَ قَوْمَهُ، مِنْ رَبَأَ الْقَوْمَ يَرْبَؤُهُمْ رَبْئًا: اطَّلَعَ لَهُمْ عَلَى شَرَفٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ: مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَل رَجُلٍ رَأَى الْعَدُوَّ فَانْطَلَقَ يَرْبَأُ أَهْلَهُ (1) .
قَال فِي اللِّسَانِ: وَإِنَّمَا أَنَّثُوهُ؛ لأَِنَّ الطَّلِيعَةَ يُقَال لَهُ الْعَيْنُ، وَالْعَيْنُ مُؤَنَّثَةٌ إِذْ بِعَيْنِهِ يَنْظُرُ وَيَرْعَى أُمُورَ الْقَوْمِ وَيَحْرُسُهُمْ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، قَال الْخَطَّابِيُّ: هُوَ الرَّقِيبُ الَّذِي يُشْرِفُ عَلَى الْمَرْقَبِ، وَيَنْظُرُ الْعَدُوَّ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ يَأْتِي، فَيُنْذِرُ أَصْحَابَهُ. وَلاَ يَكُونُ إِلاَّ عَلَى شَرَفٍ أَوْ جَبَلٍ أَوْ شَيْءٍ مُرْتَفِعٍ (3) .
__________
(1) حديث: " مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو. . . . . . . . " أخرجه مسلم (1 / 193 - ط الحلبي) من حديث قبيصة بن المخارق وزهير بن عمرو.
(2) متن اللغة ولسان العرب، والصحاح مادة: (ربأ) ، المعجم الوسيط، والنهاية 1 / 179.
(3) الخطابي على أبي داود 1 / 136، وبذل المجهود 2 / 127.

(22/90)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجَاسُوسُ:
2 - الْجَاسُوسُ اسْمٌ لِمَنْ يَتَتَبَّعُ الأَْخْبَارَ وَيَفْحَصُ عَنْ بَوَاطِنِ الأُْمُورِ، مِنْ جَسَّ الأَْخْبَارَ وَتَجَسَّسَهَا أَيْ: تَتَبَّعَهَا. وَهُوَ صَاحِبُ الشَّرِّ، وَقِيل: يَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ (1) .

ب - الْمُرَابِطُ:
3 - الْمُرَابِطُ: الْمُقِيمُ فِي ثَغْرٍ مِنْ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ لإِِعْزَازِ الدِّينِ وَمُرَاقَبَةِ الْعَدُوِّ (2) .

ج - الْحَارِسُ:
4 - الْحَارِسُ: فَاعِلٌ مِنَ الْحِرَاسَةِ بِمَعْنَى الْحِفْظِ. وَجَمْعُهُ حُرَّاسٌ، وَحَرَسُ السُّلْطَانِ أَعْوَانُهُ.
فَالرَّبِيئَةُ وَالْحَارِسُ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى (3) ، غَيْرَ أَنَّ الرَّبِيئَةَ يَكُونُ غَالِبًا عَلَى جَبَلٍ أَوْ شَرَفٍ مُرْتَفِعٍ وَلاَ يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْحَارِسِ.

د - الرَّصَدِيُّ:
5 - الرَّصَدِيُّ الَّذِي يَقْعُدُ عَلَى الطَّرِيقِ يَنْظُرُ النَّاسَ لِيَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا (4) .
__________
(1) المصباح المنير مادة: (جس) .
(2) ابن عابدين 3 / 217، 218
(3) المصباح المنير ولسان العرب، مادة: (حرس) .
(4) المصباح المنير مادة: (رصد) .

(22/91)


الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
6 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الرَّبِيئَةِ فِي الْغَنَائِمِ وَالْقَتْل وَقَطْعِ الطَّرِيقِ.

أَوَّلاً: فِي الْجِهَادِ وَالْغَنَائِمِ:
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ رَبِيئَةَ الْقَوْمِ فِي الْجِهَادِ مِنْهُمْ، وَيُسْهَمُ لَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ كَالْمُقَاتِلِينَ؛
لأَِنَّ مَصْلَحَةَ الْجِهَادِ تَقْتَضِي أَنْ يُقَاتِل بَعْضُ الْقَوْمِ، وَيَكُونَ بَعْضُهُمْ فِي الرِّدْءِ، وَبَعْضُهُمْ يَحْفَظُونَ السَّوَادَ، وَبَعْضُهُمْ فِي الْعُلُوفَةِ، وَلَوْ قَاتَل كُل الْجَيْشِ لَفَسَدَ التَّدْبِيرُ (1) .

حُكْمُ الرَّبِيئَةِ فِي الْقِصَاصِ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَل الْجَمْعُ بِالْوَاحِدِ إِذَا اشْتَرَكَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي الْفِعْل الْمُفْضِي إِلَى الْمَوْتِ، وَيُقْتَصُّ مِنْهُمْ جَمِيعًا إِذَا تَحَقَّقَتْ سَائِرُ شُرُوطِ الْقِصَاصِ، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاص) .
وَإِذَا كَانَ مَعَهُمْ رَبِيئَةٌ وَلَمْ يَشْتَرِكْ مَعَهُمْ فِي الْفِعْل الْمُفْضِي لِلْمَوْتِ وَلَمْ يُبَاشِرْهُ فَالْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُتَّفِقًا مَعَهُمْ فِي قَصْدِ الْقَتْل أَمْ
__________
(1) شرح السير الكبير 3 / 1012، والمواق بهامش الحطاب 3 / 370، وبذل المجهول 2 / 127، وتخريج الدلالات السمعية للخزاعي 319 - 320

(22/91)


لاَ؛ لأَِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ فِي الْقِصَاصِ الْمُبَاشَرَةَ مِنَ الْكُل (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُقْتَصُّ مِنْهُ إِذَا كَانَ مُتَمَالِئًا مَعَهُمْ، بِأَنْ قَصَدَ الْجَمِيعُ الْقَتْل وَحَضَرُوا وَإِنْ لَمْ يَتَوَلَّهُ إِلاَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَوِ اسْتُعِينَ بِهِ أَعَانَهُ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ فِي الرِّدْءِ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاص) .

حُكْمُ الرَّبِيئَةِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ:
9 - الرَّبِيئَةُ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُبَاشِرِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ (الْحِرَابَةِ) فَيُقْتَل مَعَ الْمُحَارِبِينَ إِذَا حَصَل الْقَتْل وَلَوْ بَاشَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ الْمُحَارَبَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حُصُول الْمَنَعَةِ وَالْمُعَاضَدَةِ، وَمِنْ عَادَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الْمُبَاشَرَةُ مِنَ الْبَعْضِ وَالإِْعَانَةُ مِنَ الْبَعْضِ الآْخَرِ. بِخِلاَفِ سَائِرِ الْحُدُودِ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ عُمَرَ قَتَل مَنْ كَانَ رَبِيئَةً لِلَّذِينَ قَتَلُوا (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ أَعَانَ
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي مع حاشية الشلبي 6 / 114، ومغني المحتاج 4 / 22، ونهاية المحتاج 7 / 261، 263، والمغني لابن قدامة 7 / 671 - 674
(2) الدسوقي 4 / 245.
(3) فتح القدير 5 / 181، والبدائع 7 / 91، والمواق على الحطاب 6 / 316، والمدونة 6 / 301، والمغني لابن قدامة 8 / 297.

(22/92)


قُطَّاعَ الطَّرِيقِ أَوْ كَثَّرَ جَمْعَهُمْ بِالْحُضُورِ أَوْ كَانَ عَيْنًا لَهُمْ، وَلَمْ يُبَاشِرْ بِنَفْسِهِ، بَل يُعَزَّرُ (1) .
(ر: قَطْعُ الطَّرِيقِ) .
__________
(1) المهذب 2 / 286، ومغني المحتاج 4 / 182.

(22/92)


رَبِيبَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّبِيبَةُ لُغَةً: هِيَ ابْنَةُ امْرَأَةِ الرَّجُل مِنْ غَيْرِهِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الرَّبِّ، وَهُوَ الإِْصْلاَحُ؛ لأَِنَّهُ يَقُومُ بِأُمُورِهَا وَيُصْلِحُ أَحْوَالَهَا، وَالْجَمْعُ رَبَائِبُ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: الرَّبِيبَةُ: بِنْتُ الزَّوْجَةِ، وَبِنْتُ ابْنِهَا، وَبِنْتُ بِنْتِهَا وَإِنْ سَفَلاَ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ وَارِثَةً أَوْ غَيْرَ وَارِثَةٍ. وَالاِبْنُ رَبِيبٌ (2) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الرَّبِيبَةُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بِشَرْطِ دُخُول الرَّجُل بِأُمِّهَا، فَإِذَا دَخَل الرَّجُل بِزَوْجَتِهِ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ رَبِيبَتُهُ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حِجْرِهِ أَمْ لَمْ تَكُنْ فِي قَوْل عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ ذِكْرَ الْحِجْرِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} (3) خَرَجَ
__________
(1) طلبة الطلبة ص 41 - ط العامرة، وصحيح مسلم بشرح النووي 10 / 35، وعمدة القاري 9 / 396 - ط العامرة.
(2) المغني لابن قدامة 6 / 569 - ط الرياض، والقليوبي وعميرة 3 / 243.
(3) سورة النساء / 23.

(22/93)


مَخْرَجَ الْعَادَةِ وَالْغَالِبِ، لاَ مَخْرَجَ الشَّرْطِ فَلاَ يَكُونُ لَهُ مَفْهُومٌ حِينَئِذٍ إِجْمَاعًا، وَلِهَذَا اكْتَفَى فِي مَوْضِعِ الإِْحْلاَل بِنَفْيِ الدُّخُول، وَلَمْ يَشْتَرِطْ نَفْيَ كَوْنِهَا فِي الْحِجْرِ مَعَ نَفْيِ الدُّخُول حَيْثُ لَمْ يَقُل فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وَلَسْنَ فِي حُجُورِكُمْ، فَإِنَّ الإِْبَاحَةَ تَتَعَلَّقُ بِضِدِّ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُرْمَةُ (1) .
وَقَال عُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَبَعْضُ النَّاسِ: لاَ تُحَرَّمُ الرَّبِيبَةُ عَلَى الرَّجُل إِلاَّ إِذَا كَانَتْ فِي حِجْرِهِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى بِنْتَ الزَّوْجَةِ بِوَصْفِ كَوْنِهَا فِي حِجْرِ الزَّوْجِ فَيَتَقَيَّدُ التَّحْرِيمُ بِهَذَا الْوَصْفِ (2) .
هَذَا وَلِلْفُقَهَاءِ تَفَاصِيل (3) فِي مَعْنَى الدُّخُول الَّذِي يَقَعُ بِهِ تَحْرِيمُ الرَّبَائِبِ، وَفِي ثُبُوتِ حُرْمَةِ
__________
(1) عمدة القاري 9 / 396 - ط العامرة، الزيلعي 2 / 102، وفتح القدير والعناية 2 / 359 - ط الأميرية، والتاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 3 / 462، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 51 - 52 نشر دار المعرفة، ومغني المحتاج 3 / 177 نشر دار إحياء التراث العربي، والمغني لابن قدامة 6 / 569
(2) أحكام القرآن للجصاص 2 / 129 نشر دار الكتاب العربي، بدائع الصنائع 2 / 159، والزيلعي 2 / 102، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 52، والمغني لابن قدامة 6 / 569.
(3) عمدة القاري 9 / 369، وفتح الباري 9 / 158 نشر السلفية، وبدائع الصنائع 2 / 260، والتاج والإكليل 3 / 462، وبداية المجتهد 2 / 33 - ط مصطفى الحلبي، والمغني 6 / 570، والفروع 5 / 195، 196

(22/93)


الْمُصَاهَرَةِ بِالْخَلْوَةِ وَاللَّمْسِ وَالنَّظَرِ، وَفِي تَعَلُّقِ تِلْكَ الْحُرْمَةِ بِالزِّنَا وَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ تُنْظَرُ فِي (مُحَرَّمَات) .

أَثَرُ مَوْتِ الزَّوْجَةِ فِي تَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ:
3 - يَرَى عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الرَّجُل إِذَا تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ ثُمَّ مَاتَتْ قَبْل الدُّخُول بِهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَتَهَا فَلاَ يَقُومُ الْمَوْتُ مَقَامَ الدُّخُول فِي التَّحْرِيمِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} (1) . قَال صَاحِبُ الْمَبْسُوطِ: فَإِنَّ حُرْمَةَ الرَّبِيبَةِ فِي الآْيَةِ تَعَلَّقَتْ شَرْعًا بِشَرْطِ الدُّخُول فَلَوْ أَقَمْنَا الْمَوْتَ مَقَامَ الدُّخُول كَانَ ذَلِكَ بِالرَّأْيِ، كَمَا لاَ يَجُوزُ نَصْبُ شَرْطٍ بِالرَّأْيِ لاَ يَجُوزُ إِقَامَةُ شَرْطٍ مَقَامَ شَرْطٍ بِالرَّأْيِ. وَلأَِنَّ الْفُرْقَةَ النَّاتِجَةَ عَنِ الْمَوْتِ فُرْقَةٌ قَبْل الدُّخُول فَلَمْ تُحَرِّمِ الرَّبِيبَةَ كَفُرْقَةِ الطَّلاَقِ (2) .
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ - وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَبِهِ قَال زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ -: إِنَّ الْمَوْتَ يَنْزِل مَنْزِلَةَ الدُّخُول فِي تَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ؛ لأَِنَّ الْمَوْتَ أُقِيمَ مَقَامَ الدُّخُول فِي تَكْمِيل الْعِدَّةِ وَالصَّدَاقِ فَيَقُومُ مَقَامَهُ فِي تَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ (3) .
__________
(1) سورة النساء / 23.
(2) المبسوط للسرخسي 4 / 200، والمغني 6 / 570، وتحفة المحتاج 7 / 302.
(3) أحكام القرآن للجصاص 2 / 127، نشر دار الكتاب العربي، والمبسوط 4 / 200، والمغني 6 / 570، والفروع لابن مفلح 5 / 195.

(22/94)


وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ: (مُحَرَّمَات) (وَمَوْت) (وَدُخُول) .

تَحْرِيمُ بَنَاتِ الرَّبِيبَةِ وَبَنَاتِ أَبْنَائِهَا:
4 - تَثْبُتُ حُرْمَةُ بَنَاتِ الرَّبِيبَةِ وَبَنَاتِ أَبْنَائِهَا وَإِنْ سَفَلْنَ بِالإِْجْمَاعِ؛ وَلأَِنَّ الاِسْمَ يَشْمَلُهُنَّ (1) .
__________
(1) البحر الرائق 3 / 100، وفتح القدير 2 / 359، وبدائع الصنائع 2 / 259، 260، والفواكه الدواني 2 / 42، وتحفة المحتاج 7 / 302، والفروع 5 / 195

(22/94)


رَتَقٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّتْقُ لُغَةً: ضِدُّ الْفَتْقِ، وَقَدْ رَتَقْتُ الْفَتْقَ أَرْتُقُهُ فَارْتَتَقَ، أَيْ: الْتَأَمَ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} (1) .
وَالرَّتَقُ - بِالتَّحْرِيكِ - مَصْدَرُ قَوْلِكَ: رَتِقَتِ الْمَرْأَةُ تَرْتَقُ فَهِيَ رَتْقَاءُ بَيِّنَةُ الرَّتَقِ أَيْ: لاَ يُسْتَطَاعُ جِمَاعُهَا لاِرْتِتَاقِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْهَا، أَوْ لاَ خَرْقَ لَهَا إِلاَّ الْمَبَال خَاصَّةً (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اصْطِلاَحُ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى. فَقَدْ عَرَّفَ النَّوَوِيُّ الرَّتَقَ بِأَنَّهُ انْسِدَادُ مَحَل الْجِمَاعِ بِاللَّحْمِ (3) .
وَقَال الرَّحِيبَانِيُّ: الرَّتَقُ هُوَ كَوْنُ الْفَرْجِ مَسْدُودًا مُلْتَصِقًا لاَ يَسْلُكُهُ ذَكَرٌ بِأَصْل الْخِلْقَةِ (4) .
__________
(1) سورة الأنبياء / 30.
(2) الصحاح، والقاموس المحيط مادة: (رتق) ، والمطلع على أبواب المقنع 323
(3) روضة الطالبين 7 / 177.
(4) مطالب أولي النهى 3 / 108.

(22/95)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَرَنُ:
2 - الْقَرَنُ مَا يَمْنَعُ سُلُوكَ الذَّكَرِ فِي الْفَرْجِ وَهُوَ إِمَّا غُدَّةٌ غَلِيظَةٌ أَوْ لَحْمَةٌ مُرْتَفِعَةٌ أَوْ عَظْمٌ، وَامْرَأَةٌ قَرْنَاءُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِهَا. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْقَرَنَ عَظْمٌ نَاتِئٌ مُحَدَّدُ الرَّأْسِ كَقَرْنِ الْغَزَالَةِ يَمْنَعُ الْجِمَاعَ (1) .

ب - الْعَفَل:
3 - الْعَفَل - بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْفَاءِ - لَحْمٌ يَبْرُزُ فِي قُبُل الْمَرْأَةِ، وَلاَ يَسْلَمُ غَالِبًا مِنْ رَشْحٍ يُشْبِهُ أُدْرَةَ الرَّجُل. وَقِيل: إِنَّهُ رَغْوَةٌ فِي الْفَرْجِ تَحْدُثُ عِنْدَ الْجِمَاعِ (2) .
قَال صَاحِبُ غَايَةِ الْمُنْتَهَى: إِنْ كَانَ الاِنْسِدَادُ بِأَصْل الْخِلْقَةِ فَهِيَ رَتْقَاءُ، وَإِلاَّ فَهِيَ قَرْنَاءُ وَعَفْلاَءُ. وَسَوَّى الأَْزْهَرِيُّ بَيْنَ الرَّتَقِ وَالْقَرَنِ وَالْعَفَل، ثُمَّ قَال: الْعَفَل لاَ يَكُونُ فِي الأَْبْكَارِ، إِنَّمَا يُصِيبُ الْمَرْأَةَ بَعْدَمَا تَلِدُ (3) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَثَرُ الرَّتَقِ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ:
4 - يَعْتَبِرُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الرَّتَقَ مِنَ
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 25.
(2) الدسوقي 2 / 248، والزرقاني 4 / 237.
(3) مطالب أولي النهى 5 / 147، الزاهر للأزهري 316.

(22/95)


الْعُيُوبِ الْمُثْبِتَةِ لِلْخِيَارِ (1) .
فَالزَّوْجُ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ إِذَا كَانَتْ زَوْجَتُهُ رَتْقَاءَ حَال الْعَقْدِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا؛ لأَِنَّ الرَّتَقَ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْوَطْءُ، وَعَامَّةُ مَصَالِحِ النِّكَاحِ يَقِفُ حُصُولُهَا عَلَى الْوَطْءِ.
فَإِنَّ الْعِفَّةَ عَنِ الزِّنَا وَالسَّكَنَ وَالْوَلَدَ تَحْصُل بِالْوَطْءِ، وَالرَّتَقُ يَمْنَعُ مِنْهُ، فَلِهَذَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ بِهِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ بِالزَّوْجَةِ رَتَقٌ فَلاَ خِيَارَ لِلزَّوْجِ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ. وَبِهَذَا قَال عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو قِلاَبَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالأَْوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ، وَفِي الْمَبْسُوطِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (3) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِأَنَّ الرَّتَقَ لاَ يُخِل بِمُوجِبِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْحِل، فَلاَ يَثْبُتُ بِهِ خِيَارُ الْفَسْخِ كَالْعَمَى وَالشَّلَل وَالزَّمَانَةِ، فَأَمَّا الاِسْتِيفَاءُ فَهُوَ ثَمَرَةٌ وَفَوَاتُ الثَّمَرَةِ لاَ يُؤَثِّرُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ.
نَظِيرُهُ أَنَّ الاِسْتِيفَاءَ يَفُوتُ بِمَوْتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، وَلاَ يُوجِبُ ذَلِكَ انْفِسَاخَ النِّكَاحِ حَتَّى
__________
(1) حاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 83 دار المعرفة، والشرح الصغير 2 / 470، وروضة الطالبين 7 / 177، وأسنى المطالب 3 / 176، وفتح القدير 3 / 367.
(2) المغني 6 / 651، وبدائع الصنائع 2 / 327.
(3) البناية 4 / 763، وفتح القدير 3 / 267، وانظر المبسوط 5 / 96.

(22/96)


لاَ يَسْقُطَ شَيْءٌ مِنَ الْمَهْرِ. وَالرَّتَقُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ دُونَ الْمَوْتِ؛ لأَِنَّ الاِسْتِيفَاءَ هُنَا يَتَأَتَّى بِوَاسِطَةٍ، لإِِمْكَانِ شَقِّ الرَّتَقِ (1) .

إِجْبَارُ الرَّتْقَاءِ عَلَى مُدَاوَاةِ رَتَقِهَا:
5 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرَّتْقَاءَ إِذَا طَلَبَ زَوْجُهَا الْفَسْخَ وَطَلَبَتِ التَّدَاوِيَ تُؤَجَّل لِذَلِكَ بِالاِجْتِهَادِ وَلاَ تُجْبَرُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ خِلْقَةً، وَيَلْزَمُ الرَّجُل الصَّبْرُ حَيْثُ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى مُدَاوَاتِهَا حُصُول عَيْبٍ فِي فَرْجِهَا. كَمَا أَنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ إِذَا طَلَبَهُ الزَّوْجُ إِذَا كَانَ لاَ ضَرَرَ عَلَيْهَا فِي الْمُدَاوَاةِ (2) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ إِجْبَارُ الرَّتْقَاءِ عَلَى شَقِّ الْمَوْضِعِ فَلَوْ فَعَلَتْ وَأَمْكَنَ الْوَطْءُ فَلاَ خِيَارَ لِزَوَال سَبَبِهِ (3) . وَقَال صَاحِبُ الدُّرِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لِلزَّوْجِ شَقُّ رَتَقِ زَوْجَتِهِ وَهَل تُجْبَرُ؟ الظَّاهِرُ: نَعَمْ؛ لأَِنَّ التَّسْلِيمَ الْوَاجِبَ عَلَيْهَا لاَ يُمْكِنُ بِدُونِهِ.
وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ عَابِدِينَ بِقَوْلِهِ: لَكِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ " لَهُ شَقُّ رَتَقِهَا " غَيْرُ مَنْقُولَةٍ وَإِنَّمَا الْمَنْقُول قَوْلُهُمْ فِي تَعْلِيل عَدَمِ الْخِيَارِ بِعَيْبِ الرَّتَقِ: " لإِِمْكَانِ شَقِّهِ " وَهَذَا لاَ يَدُل عَلَى أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، وَلِذَا قَال فِي
__________
(1) المبسوط وانظر البناية 4 / 765، بدائع الصنائع 2 / 328، والبحر الرائق 4 / 138.
(2) الفواكه الدواني 2 / 70، وحاشية الدسوقي 2 / 283، 284، نشر دار الفكر.
(3) روضة الطالبين 7 / 177، وأسنى المطالب 3 / 176.

(22/96)


الْبَحْرِ بَعْدَ نَقْلِهِ التَّعْلِيل الْمَذْكُورَ: وَلَكِنْ مَا رَأَيْتُ هَل يُشَقُّ جَبْرًا أَمْ لاَ (1) ؟
وَلَمْ يُسْتَدَل عَلَى نَصٍّ لِلْحَنَابِلَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: لاَ يَثْبُتُ خِيَارٌ فِي عَيْبٍ زَال بَعْدَ عَقْدٍ لِزَوَال سَبَبِهِ (2) .

نَفَقَةُ الرَّتْقَاءِ:
6 - تَجِبُ النَّفَقَةُ لِلرَّتْقَاءِ سَوَاءٌ حَدَثَ الرَّتَقُ بَعْدَ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا لِلزَّوْجِ أَمْ قَارَنَهُ؛ لأَِنَّ الاِسْتِمْتَاعَ بِهَا مُمْكِنٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَلاَ تَفْرِيطَ مِنْ جِهَتِهَا. بِهَذَا قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجِبُ النَّفَقَةُ لِمُطِيقَةٍ بِهَا مَانِعٌ كَرَتَقٍ إِلاَّ أَنْ يَتَلَذَّذَ بِهَا عَالِمًا (4) .
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: نَفَقَة) .

قَسْمُ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ الرَّتْقَاءِ:
7 - يَقْسِمُ الزَّوْجُ وُجُوبًا لِزَوْجَتِهِ الرَّتْقَاءِ، لأَِنَّ الْقَصْدَ بِالْقَسْمِ الأُْنْسُ لاَ الْوَطْءُ (5) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 597، وحاشية الطحطاوي على الدر 2 / 213، والبحر الرائق 4 / 138.
(2) مطالب أولي النهى 3 / 150.
(3) روضة الطالبين 9 / 60، والمغني 7 / 603، وفتح القدير والعناية 3 / 324، 327
(4) الدسوقي 2 / 452، وجواهر الإكليل 1 / 402
(5) مطالب أولي النهى 3 / 277، والمغني مع الشرح الكبير 8 / 139، والشرح الصغير 2 / 505 نشر دار المعارف، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 59، وابن عابدين 2 / 400، ومجمع الأنهر 1 / 359، وروضة الطالبين 7 / 345.

(22/97)


هَذَا وَلِلتَّفْصِيل فِيمَا يَثْبُتُ بِهِ الرَّتَقُ وَشَرْطِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ بِهِ وَسَائِرِ الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ يُنْظَرُ: (عَيْب، نِكَاح) .

(22/97)


رِثَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الرِّثَاءِ فِي اللُّغَةِ: التَّرَحُّمُ عَلَى الْمَيِّتِ وَالتَّرَقُّقُ لَهُ، وَبُكَاؤُهُ وَمَدْحُهُ، وَتَعْدَادُ مَحَاسِنِهِ، وَنَظْمُ الشِّعْرِ فِيهِ. وَالْمَرْأَةُ الرَّثَّاءَةُ: الْكَثِيرَةُ الرِّثَاءِ لِبَعْلِهَا أَوْ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ يُكْرَمُ عِنْدَهَا، وَرَثَيْتُ لَهُ: رَحِمْتُهُ، وَرَثَى لَهُ: رَقَّ لَهُ وَأَشْفَقَ عَلَيْهِ (1) .
وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ كَمَا ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: مَدْحُ الْمَيِّتِ وَذِكْرُ مَحَاسِنِهِ، وَذَكَرَ الْعَيْنِيُّ فِي عُمْدَةِ الْقَارِي أَنَّ مَعْنَاهُ تَعْدَادُ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّأْبِينُ:
2 - التَّأْبِينُ فِي اللُّغَةِ وَالاِصْطِلاَحِ: الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ. قَال فِي الْمِصْبَاحِ: أَبَّنْتُ الرَّجُل تَأْبِينًا إِذَا بَكَيْتَ وَأَثْنَيْتَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ (3) .
__________
(1) الصحاح واللسان والمصباح، مادة: (رثى) .
(2) فتح الباري 3 / 164 - ط الرياض، عمدة القاري 8 / 88 - ط المنيرية.
(3) الصحاح، مادة: (أبن) ، والكليات.

(22/98)


ب - النَّدْبُ:
3 - النَّدْبُ مَصْدَرُ نَدَبَ وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ ذِكْرُ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ. قَال فِي الْمِصْبَاحِ: نَدَبَتِ الْمَرْأَةُ الْمَيِّتَ نَدْبًا مِنْ بَابِ قَتَل، وَهِيَ نَادِبَةٌ، وَالْجَمْعُ نَوَادِبُ، لأَِنَّهُ كَالدُّعَاءِ، فَإِنَّهَا تُقْبِل عَلَى تَعْدِيدِ مَحَاسِنِهِ كَأَنَّهُ يَسْمَعُهَا. وَمَعْنَاهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِثْلُهُ فِي اللُّغَةِ (1) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِتَرْثِيَةِ الْمَيِّتِ بِشِعْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَكِنْ يُكْرَهُ الإِْفْرَاطُ فِي مَدْحِهِ لاَ سِيَّمَا عِنْدَ جِنَازَتِهِ.
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ صَاحِبِ التَّتِمَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ تَرْثِيَةُ الْمَيِّتِ بِذِكْرِ آبَائِهِ، وَخَصَائِلِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَالأَْوْلَى الاِسْتِغْفَارُ لَهُ.
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَا هَيَّجَ الْمُصِيبَةَ مِنْ وَعْظٍ أَوْ إِنْشَادِ شِعْرٍ فَمِنَ النِّيَاحَةِ أَيْ: الْمَنْهِيِّ عَنْهَا.
قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ (2) .

رَجَبٌ

انْظُرْ: الأَْشْهُرُ الْحُرُمُ.
__________
(1) المصباح مادة: (ندب) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 603 - ط بولاق، الطحطاوي على الدر المختار 1 / 382 - ط بولاق، المجموع 5 / 216 - ط السلفية، الإنصاف 2 / 569 - ط التراث.

(22/98)


رُجْحَانٌ (تَرْجِيحٌ)

التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّجْحَانُ لُغَةً: اسْمُ مَصْدَرِ رَجَحَ الشَّيْءُ يَرْجَحُ رُجُوحًا إِذَا زَادَ وَزْنُهُ، وَيَتَعَدَّى بِالأَْلِفِ وَبِالتَّثْقِيل فَيُقَال: أَرْجَحْتُ الشَّيْءَ وَرَجَّحْتُهُ تَرْجِيحًا أَيْ فَضَّلْتُهُ وَقَوَّيْتُهُ. وَأَرْجَحْتُ الرَّجُل أَيْ أَعْطَيْتُهُ رَاجِحًا (1) .
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَقَدْ عَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ التَّرْجِيحَ بِأَنَّهُ: إِظْهَارُ الزِّيَادَةِ لأَِحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الآْخَرِ بِمَا لاَ يَسْتَقِل " فَخَرَجَ بِقَوْلِهِمْ: (الْمُتَمَاثِلَيْنِ) النَّصُّ مَعَ الْقِيَاسِ، فَلاَ يُقَال: النَّصُّ رَاجِحٌ عَلَى الْقِيَاسِ لاِنْتِفَاءِ الْمُمَاثَلَةِ، وَلِعَدَمِ قِيَامِ التَّعَارُضِ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا مِنْ قَبِيل تَرْتِيبِ الأَْدِلَّةِ وَاسْتِحْقَاقِ تَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ مِنْ حَيْثُ الرُّتْبَةُ وَهُوَ غَيْرُ التَّرْجِيحِ.
كَمَا خَرَجَ بِقَوْلِهِمْ: (بِمَا لاَ يَسْتَقِل) الدَّلِيل الْمُسْتَقِل، فَإِذَا وَافَقَ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ دَلِيلاً مُنْفَرِدًا آخَرَ فَلاَ يُرَجَّحُ عَلَيْهِ، إِذْ لاَ تَرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الأَْدِلَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاِسْتِقْلاَل كُلٍّ مِنْ تِلْكَ الأَْدِلَّةِ بِإِثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ، فَلاَ يَنْضَمُّ إِلَى الآْخَرِ وَلاَ يَتَّحِدُ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، مادة (رجح) .

(22/99)


بِهِ لِيُفِيدَ تَقْوِيَتَهُ؛ لأَِنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا يَتَقَوَّى بِصِفَةٍ تُوجَدُ فِي ذَاتِهِ لاَ بِانْضِمَامِ مِثْلِهِ إِلَيْهِ.
وَلِذَا عَرَّفَ صَاحِبُ الْمَنَارِ التَّرْجِيحَ بِأَنَّهُ: فَضْل أَحَدِ الْمِثْلَيْنِ عَلَى الآْخَرِ وَصْفًا " أَيْ وَصْفًا تَابِعًا لاَ أَصْلاً، وَلِذَا فَلاَ يَتَرَجَّحُ الْقِيَاسُ عَلَى قِيَاسٍ آخَرَ يُعَارِضُهُ بِقِيَاسٍ آخَرَ يَنْضَمُّ إِلَيْهِ يُوَافِقُهُ فِي الْحُكْمِ، أَمَّا إِذَا وَافَقَهُ فِي الْعِلَّةِ فَإِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ مِنْ كَثْرَةِ الأَْدِلَّةِ بَل مِنْ كَثْرَةِ الأُْصُول، وَبِالتَّالِي يُفِيدُ التَّرْجِيحَ بِالْكَثْرَةِ؛ لأَِنَّ التَّعَدُّدَ فِي الْعِلَّةِ يُفِيدُ التَّعَدُّدَ فِي الْقِيَاسِ. وَكَذَا لاَ يَتَرَجَّحُ الْحَدِيثُ عَلَى حَدِيثٍ آخَرَ يُعَارِضُهُ بِحَدِيثٍ آخَرَ، وَلاَ بِنَصِّ الْكِتَابِ كَذَلِكَ (1) .
وَعَرَّفَ الشَّافِعِيَّةُ - وَمَنْ وَافَقَهُمْ - التَّرْجِيحَ بِأَنَّهُ: اقْتِرَانُ أَحَدِ الصَّالِحَيْنِ لِلدَّلاَلَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَعَ تَعَارُضِهِمَا بِمَا يُوجِبُ الْعَمَل بِهِ وَإِهْمَال الآْخَرِ ".
وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ (أَحَدِ الصَّالِحَيْنِ) عَنْ غَيْرِ الصَّالِحَيْنِ لِلدَّلاَلَةِ، وَلاَ أَحَدِهِمَا.
وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ (مَعَ تَعَارُضِهِمَا) عَنِ الصَّالِحَيْنِ اللَّذَيْنِ لاَ تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا.
وَبِقَوْلِهِ (بِمَا يُوجِبُ الْعَمَل) عَمَّا اخْتَصَّ بِهِ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ عَنِ الآْخَرِ مِنَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ أَوِ الْعَرَضِيَّةِ وَلاَ مَدْخَل لَهَا فِي التَّقْوِيَةِ وَالتَّرْجِيحِ (2) .
__________
(1) تيسير التحرير 3 / 153، وفتح الغفار شرح المنار 2 / 52.
(2) الإحكام في أصول الأحكام 4 / 239.

(22/99)


وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَخْلَصَ مِنَ التَّعْرِيفَيْنِ السَّابِقَيْنِ أَنَّ الرَّاجِحَ هُوَ: مَا ظَهَرَ فَضْلٌ فِيهِ عَلَى مُعَادِلِهِ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجَمْعُ:
2 - الْجَمْعُ إِعْمَال الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ بِحَمْل كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهٍ (2) .

ب - النَّسْخُ:
3 - النَّسْخُ رَفْعُ الشَّارِعِ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ (3) .

ج - التَّعَارُضُ:
4 - التَّعَارُضُ: التَّمَانُعُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ مُطْلَقًا بِحَيْثُ يَقْتَضِي أَحَدُهُمَا غَيْرَ مَا يَقْتَضِي الآْخَرُ وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (تَعَارُض) ج 12 ص 184
أَحْكَامُ التَّرْجِيحِ:
يَتَعَلَّقُ بِالتَّرْجِيحِ أَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (تَعَارُض) .
وَأَحْكَامٌ أُصُولِيَّةٌ مُجْمَلُهَا فِيمَا يَلِي:
__________
(1) تيسير التحرير 3 / 153.
(2) تيسير التحرير 3 / 173، وجمع الجوامع بحاشية العطار 2 / 405.
(3) مسلم الثبوت 2 / 53.

(22/100)


حُكْمُ الْعَمَل بِالدَّلِيل الرَّاجِحِ:
5 - يَجِبُ الْعَمَل بِالدَّلِيل الرَّاجِحِ وَإِهْمَال الْمَرْجُوحِ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ صَحِيحٍ. دَل عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ عَلَى تَقْدِيمِ بَعْضِ الأَْخْبَارِ عَلَى بَعْضٍ لِقُوَّةِ الظَّنِّ، بِسَبَبِ عِلْمِ الرُّوَاةِ وَكَثْرَتِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ وَعُلُوِّ مَنْصِبِهِمْ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ تَقْدِيمُهُمْ خَبَرَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ - أَوْ مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ - فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْل (1) عَلَى خَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ (2) .
وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُهُمْ خَبَرَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا وَهُوَ صَائِمٌ (3) عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلاَ صَوْمَ لَهُ (4)
__________
(1) حديث: " إذا التقى الختانان أو مس الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل " أخرجه الشافعي في الأم (1 / 37 - نشر دار المعرفة) وأصله في مسلم (1 / 272 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " إنما الماءُ من الماء " أخرجه مسلم 1 / 269 - ط الحلبي.
(3) حديث: " كان يصبح جنبًا وهو صائم " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 143 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 780 - ط الحلبي) .
(4) حديث: " من أصبح جنبًا فلا صوم له " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 143 - ط السلفية) ، ومسلم 2 / 779 - 780 - ط الحلبي) ، وبين فيهما أنه لم يسمع ذلك من النبي صلى اله عليه وسلم، بل سمعه من الفضل بن عباس.

(22/100)


فَقَدَّمُوا خَبَرَهَا عَلَى خَبَرِهِ لِكَوْنِهَا أَعْرَفَ بِحَال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا تَقْرِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا (1) عَلَى تَرْتِيبِ الأَْدِلَّةِ وَتَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّرْجِيحِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ نَظِيرُهُ. وَإِذَا كَانَ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ رَاجِحًا فَالْعُقَلاَءُ يُوجِبُونَ بِعُقُولِهِمُ الْعَمَل بِالرَّاجِحِ، وَالأَْصْل تَنْزِيل التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مَنْزِلَةَ التَّصَرُّفَاتِ الْعُرْفِيَّةِ، وَلِهَذَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ (2) .
وَكَذَلِكَ إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ كَوْنُ الْفَرْعِ أَشْبَهَ بِأَحَدِ الأَْصْلَيْنِ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ بِالإِْجْمَاعِ، فَقَدْ فُهِمَ مِنْ أُصُول الشَّرِيعَةِ اعْتِبَارُ مَا هُوَ عَادَةٌ لِلنَّاسِ فِي تِجَارَتِهِمْ، وَسُلُوكِهِمُ الطُّرُقَ، فَإِنَّهُمْ عِنْدَ تَعَارُضِ الأَْسْبَابِ الْمَخُوفَةِ يُرَجِّحُونَ وَيَمِيلُونَ إِلَى الأَْسْلَمِ (3) .
__________
(1) " تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن قاضيًا ": أخرجه الترمذي (3 / 607 - ط الحلبي) وقال: " هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل ".
(2) حديث: " ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن " ورد موقوفًا على ابن مسعود، أخرجه أحمد في المسند (1 / 379 - ط الميمنية) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 177 - 178 - ط القدسي) : " رجاله موثقون ".
(3) الإحكام في أصول الأحكام 4 / 240، والمستصفى 2 / 394، وجمع الجوامع 2 / 404.

(22/101)


الطُّرُقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى مَعْرِفَةِ الرَّاجِحِ مِنَ الأَْدِلَّةِ:
6 - وَضَعَ الأُْصُولِيُّونَ جُمْلَةً مِنْ قَوَاعِدِ التَّرْجِيحِ لِمَعْرِفَةِ الرَّاجِحِ مِنَ الأَْدِلَّةِ الْمُتَعَارِضَةِ، وَقُسِّمَتْ هَذِهِ الْقَوَاعِدُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: قَوَاعِدُ التَّرْجِيحِ بَيْنَ خَبَرَيْنِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: قَوَاعِدُ التَّرْجِيحِ بَيْنَ قِيَاسَيْنِ.
وَالْمُرَجِّحَاتُ لاَ تَنْحَصِرُ لِكَثْرَتِهَا، وَضَابِطُهَا غَلَبَةُ الظَّنِّ وَقُوَّتُهُ.

7 - الْقِسْمُ الأَْوَّل: قَوَاعِدُ التَّرْجِيحِ بَيْنَ مَنْقُولَيْنِ وَتَتَنَوَّعُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّنَدِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَتْنِ وَدَلاَلَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ خَارِجٍ.

8 - النَّوْعُ الأَْوَّل: هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّنَدِ وَهُوَ عِدَّةُ أُمُورٍ، مِنْهَا:
1 - أَنْ تَكُونَ رُوَاةُ أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ رُوَاةِ الآْخَرِ فَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ رُجْحَانُهُ لِقِلَّةِ احْتِمَال الْغَلَطِ.
2 - أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَالآْخَرُ مِنْ صِغَارِهِمْ.
3 - أَنْ يَتَقَدَّمَ إِسْلاَمُ أَحَدِ الرَّاوِيَيْنِ عَلَى الآْخَرِ.
4 - يُرَجَّحُ الْمُتَوَاتِرُ عَلَى الآْحَادِ.
5 - يُرَجَّحُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِيمَا لاَ تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، حَيْثُ إِنَّ

(22/101)


تَفَرُّدَ الْوَاحِدِ بِنَقْل مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ طَرِيقٍ قَرِيبٌ مِنَ الْكَذِبِ.

9 - النَّوْعُ الثَّانِي: قَوَاعِدُ التَّرْجِيحِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَتْنِ وَدَلاَلَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ.
1 - أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ أَمْرًا دَالًّا عَلَى الْوُجُوبِ وَالثَّانِي نَهْيًا دَالًّا عَلَى الْحَظْرِ، فَالدَّال عَلَى الْحَظْرِ مُرَجَّحٌ عَلَى الدَّال عَلَى الْوُجُوبِ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ تَرْجِيحُ حَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلاَةِ فِي الأَْوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ (1) عَلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَسِيَ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا (2) وَمَنْ قَال بِأَنَّ الصَّلاَةَ ذَاتَ السَّبَبِ تُصَلَّى فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ - وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ - اسْتَفَادُوا هَذَا مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ أَفَادَ خُصُوصِيَّةَ الصَّلاَةِ ذَاتِ السَّبَبِ فَخَصُّوا بِهِ عُمُومَ حَدِيثِ النَّهْيِ.
2 - أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا دَالًّا عَلَى الْحَظْرِ وَالآْخَرُ عَلَى الإِْبَاحَةِ:
وَلِلأُْصُولِيِّينَ اتِّجَاهَاتٌ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ الْحَظْرَ عَلَى الإِْبَاحَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ الإِْبَاحَةَ عَلَى الْحَظْرِ.
__________
(1) حديث النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة. أخرجه مسلم (1 / 570 - ط الحلبي) من حديث عمرو بن عبسة.
(2) حديث: " من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها " أخرجه مسلم (1 / 477 - ط الحلبي) من حديث أنس.

(22/102)


وَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الْحَظْرِ وَالإِْبَاحَةِ فَيَتَسَاقَطَانِ لِتَسَاوِي الْمُثْبِتِ مَعَ النَّافِي.
3 - يُرَجَّحُ الدَّال عَلَى الْوُجُوبِ وَالْكَرَاهَةِ وَالنَّدْبِ عَلَى الدَّال عَلَى الإِْبَاحَةِ.
4 - يُرَجَّحُ الْحَقِيقِيُّ عَلَى الْمَجَازِيِّ لِعَدَمِ افْتِقَارِ الْحَقِيقِيِّ لِلْقَرِينَةِ.
5 - يُرَجَّحُ مَا لاَ يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارٍ وَلاَ حَذْفٍ عَلَى مَا احْتَاجَ إِلَيْهِمَا.
6 - أَنْ تَكُونَ دَلاَلَةُ أَحَدِهِمَا مُؤَكَّدَةً دُونَ الأُْخْرَى، فَيُرَجَّحُ الْمُؤَكَّدُ عَلَى غَيْرِهِ لأَِنَّهُ أَقْوَى دَلاَلَةً كَحَدِيثِ: فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ (1) .
7 - يُرَجَّحُ مَا دَل بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ عَلَى مَا دَل بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ لِلاِخْتِلاَفِ فِيهِ دُونَ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ. وَفِي قَوْلٍ يُرَجَّحُ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ عَلَى الْمُوَافَقَةِ؛ لأَِنَّ الْمُخَالَفَةَ تُفِيدُ التَّأْسِيسَ دُونَ الْمُوَافَقَةِ.

10 - النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّرْجِيحِ بِأَمْرٍ خَارِجٍ وَقَدْ أَثْبَتَهُ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ:
وَذَكَرَ الآْمِدِيُّ مِنْ ذَلِكَ:
1 - أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ مُوَافِقًا لِدَلِيلٍ آخَرَ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ عَقْلٍ أَوْ حِسٍّ،
__________
(1) حديث: " فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل " أخرجه الترمذي (3 / 399 - ط الحلبي) من حديث عائشة، وقال: " هذا حديث حسن ".

(22/102)


فَيُرَجَّحُ عَلَى مُعَارِضِهِ؛ لأَِنَّ الْعَمَل بِهِ يَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ دَلِيلَيْنِ.
2 - يَتَرَجَّحُ مَا عَمِل بِمُقْتَضَاهُ عُلَمَاءُ الْمَدِينَةِ أَوِ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ.
3 - أَنْ يَكُونَ كِلاَ الْحَدِيثَيْنِ مُؤَوَّلاً إِلاَّ أَنَّ دَلِيل التَّأْوِيل فِي أَحَدِهِمَا أَرْجَحُ مِنْ دَلِيل الآْخَرِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ.
4 - يُرَجَّحُ مَا ذُكِرَ فِيهِ سَبَبُ وُرُودِهِ عَلَى مَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ السَّبَبُ؛ لأَِنَّ ذِكْرَ السَّبَبِ مُشْعِرٌ بِزِيَادَةِ الاِهْتِمَامِ بِمَا رَوَاهُ (1) .

11 - الْقِسْمُ الثَّانِي: التَّرْجِيحُ بَيْنَ قِيَاسَيْنِ:
1 - يُرَجَّحُ الْقِيَاسُ بِرُجْحَانِ دَلِيل حُكْمِ الأَْصْل فِي أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ عَلَى دَلِيل حُكْمِ الأَْصْل فِي الْقِيَاسِ الآْخَرِ.
2 - يُرَجَّحُ الْقِيَاسُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْفَرْعُ مِنْ جِنْسِ الأَْصْل عَلَى الْقِيَاسِ الَّذِي لَيْسَ كَذَلِكَ لأَِنَّ الْجِنْسَ بِالْجِنْسِ أَشْبَهُ.
3 - تُرَجَّحُ عِلَّةُ الْقِيَاسِ الأَْقْوَى مَسْلَكًا عَلَى الأَْضْعَفِ.
فَيُرَجَّحُ الْقِيَاسُ الْمَنْصُوصُ عَلَى عِلَّتِهِ صَرِيحًا عَلَى مَا ثَبَتَتْ عِلَّتُهُ بِالإِْيمَاءِ وَالإِْشَارَةِ لِقُوَّةِ التَّصْرِيحِ. وَيُرَجَّحُ الْقِيَاسُ الَّذِي ثَبَتَتْ عِلَّتُهُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ عَلَى مَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ، وَمَا ثَبَتَتْ
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام 4 / 242 - 268، وتيسير التحرير 3 / 157 - 168، وجمع الجوامع بحاشية العطار 2 / 406 - 420، ومسلم الثبوت 2 / 204 - 210

(22/103)


بِالإِْيمَاءِ عَلَى مَا ثَبَتَتْ بِالْمُنَاسَبَةِ وَبِالدَّوَرَانِ.
وَيُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ: (قِيَاس) لِلتَّفْصِيل فِي مَسَالِكِ الْعِلَّةِ وَتَرْتِيبِهَا قُوَّةً وَضَعْفًا.
وَتُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الْمُوَافِقَةُ لِقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ عَلَى غَيْرِهَا لِقُوَّةِ الأُْولَى وَلِكَثْرَةِ مَا يَشْهَدُ لَهَا.
وَحَيْثُ رَجَحَتِ الْعِلَّةُ فِي كُل مَا تَقَدَّمَ فَيَتْبَعُهُ تَرْجِيحُ الْقِيَاسِ الَّذِي بُنِيَتْ عَلَيْهِ (1) .
وَالْمُرَجِّحَاتُ فِي الأَْقْسَامِ السَّابِقَةِ كَثِيرَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ. وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَعَارُض) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ (12 184) حَيْثُ تَقَدَّمَ هُنَاكَ أَحْكَامُ التَّرْجِيحِ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ، وَتَعَارُضِ الأَْدِلَّةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ، وَتَعَارُضِ تَعْدِيل الشُّهُودِ وَتَجْرِيحِهِمْ، وَالتَّرْجِيحِ فِي حَال احْتِمَال بَقَاءِ الإِْسْلاَمِ وَحُدُوثِ الرِّدَّةِ، وَتَعَارُضِ الأَْحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ، وَتَعَارُضِ الأَْصْل وَالظَّاهِرِ، وَمَا يَنْبَنِي عَلَى كُلٍّ مِنْ مَسَائِل.

رِجْسٌ

انْظُرْ: نَجَاسَة
__________
(1) جمع الجوامع بحاشية العطار 2 / 416 - 420، وتيسير التحرير 4 / 78 - 97

(22/103)


رَجْعَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّجْعَةُ اسْمُ مَصْدَرِ رَجَعَ، يُقَال: رَجَعَ عَنْ سَفَرِهِ، وَعَنِ الأَْمْرِ يَرْجِعُ رَجْعًا وَرُجُوعًا وَرُجْعَى وَمَرْجِعًا، قَال ابْنُ السِّكِّيتِ: هُوَ نَقِيضُ الذَّهَابِ، وَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ فِي اللُّغَةِ الْفُصْحَى فَيُقَال: رَجَعْتُهُ عَنِ الشَّيْءِ وَإِلَيْهِ، وَرَجَعْتُ الْكَلاَمَ وَغَيْرَهُ أَيْ رَدَدْتُهُ قَال تَعَالَى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} (1)
وَرَجَعَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى أَهْلِهَا بِمَوْتِ زَوْجِهَا أَوْ بِطَلاَقٍ، فَهِيَ رَاجِعَةٌ، وَالرَّجْعَةُ بِالْفَتْحِ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ، وَالرَّجْعَةُ بَعْدَ الطَّلاَقِ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ (2) .
وَالرَّجْعِيُّ نِسْبَةٌ إِلَى الرَّجْعَةِ، وَالطَّلاَقُ الرَّجْعِيُّ: مَا يَجُوزُ مَعَهُ لِلزَّوْجِ رَدُّ زَوْجَتِهِ فِي عِدَّتِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَعَدَّدَتْ تَعْرِيفَاتُ الْفُقَهَاءِ لِلرَّجْعَةِ عَلَى النَّحْوِ الآْتِي:
__________
(1) سورة التوبة / 83.
(2) المعجم الوسيط، والمصباح المنير، مادة: (رجع) .

(22/104)


عَرَّفَهَا الْعَيْنِيُّ بِأَنَّهَا اسْتِدَامَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ.
وَعَرَّفَهَا صَاحِبُ الْبَدَائِعِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا " اسْتِدَامَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ الْقَائِمِ وَمَنْعُهُ مِنَ الزَّوَال (1) ".
وَعَرَّفَهَا الدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهَا " عَوْدُ الزَّوْجَةِ الْمُطَلَّقَةِ لِلْعِصْمَةِ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ عَقْدٍ (2) ".
وَعَرَّفَهَا الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِقَوْلِهِ: رَدُّ الْمَرْأَةِ إِلَى النِّكَاحِ مِنْ طَلاَقٍ غَيْرِ بَائِنٍ فِي الْعِدَّةِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ (3) .
وَعَرَّفَهَا الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهَا " إِعَادَةُ مُطَلَّقَةٍ غَيْرِ بَائِنٍ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عَقْدٍ (4) ".

دَلِيل مَشْرُوعِيَّةِ الرَّجْعَةِ وَحِكْمَتُهَا:
2 - إِنَّ ارْتِجَاعَ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الإِْصْلاَحِ، لِذَلِكَ نَجِدُ الشَّرِيعَةَ الإِْسْلاَمِيَّةَ قَدْ نَظَّمَتْ أَحْكَامَهَا. . وَقَدْ أَشَارَ الْكَاسَانِيُّ إِلَى حِكْمَةِ الرَّجْعَةِ بِقَوْلِهِ: " إِنَّ الْحَاجَةَ تَمَسُّ إِلَى
__________
(1) البناية على الهداية 4 / 591 ط دار الفكر للطباعة والنشر، وبدائع الصنائع 3 / 181 ط دار الكتاب العربي، بيروت.
(2) الشرح الكبير ص 369 ط المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة، والخرشي 4 / 79 ط - دار صادر بيروت.
(3) مغني المحتاج 3 / 335 ط - عيسى الحلبي.
(4) كشاف القناع 5 / 341، الناشر دار الباز - مكة، والروض المربع شرح زاد المستقنع 6 / 601 ط - بساط بيروت.

(22/104)


الرَّجْعَةِ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ قَدْ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يَنْدَمُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى مَا أَشَارَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَل جَلاَلُهُ بِقَوْلِهِ: {لاَ تَدْرِي لَعَل اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (1) فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّدَارُكِ، فَلَوْ لَمْ تَثْبُتِ الرَّجْعَةُ لاَ يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ، لِمَا عَسَى أَنْ لاَ تُوَافِقَهُ الْمَرْأَةُ فِي تَجْدِيدِ النِّكَاحِ وَلاَ يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا فَيَقَعُ فِي الزِّنَا (2) " لِذَا شُرِعَتِ الرَّجْعَةُ لِلإِْصْلاَحِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَهَذِهِ حِكْمَةٌ جَلِيلَةٌ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ.
3 - وَقَدْ ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الرَّجْعَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ ذَلِكَ:
- أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا} (3) وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} (4) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ وَرَدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ حَفْصَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا (5) ، فَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ
__________
(1) سورة الطلاق / 1.
(2) بدائع الصنائع 3 / 181.
(3) سورة البقرة / 228.
(4) سورة البقرة / 231.
(5) حديث عمر بن الخطاب أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها. أخرجه أبو داود (2 / 712 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (2 / 197 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(22/105)


حَفْصَةَ تَطْلِيقَةً، فَأَتَاهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَال: يَا مُحَمَّدُ، طَلَّقْتَ حَفْصَةَ وَهِيَ صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ، وَهِيَ زَوْجَتُكَ فِي الْجَنَّةِ؟ فَرَاجِعْهَا (1) .
وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّاسُ وَالرَّجُل يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ مَا شَاءَ أَنْ يُطَلِّقَهَا، وَهِيَ امْرَأَتُهُ إِذَا ارْتَجَعَهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ طَلَّقَهَا مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ، حَتَّى قَال رَجُلٌ لاِمْرَأَتِهِ: وَاللَّهِ لاَ أُطَلِّقُكِ فَتَبِينِي مِنِّي وَلاَ آوِيكِ أَبَدًا، قَالَتْ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ قَال: أُطَلِّقُكِ فَكُلَّمَا هَمَّتْ عِدَّتُكِ أَنْ تَنْقَضِيَ رَاجَعْتُكِ، فَذَهَبَتِ الْمَرْأَةُ حَتَّى دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ فَأَخْبَرَتْهَا فَسَكَتَتْ عَائِشَةُ حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَل الْقُرْآنُ: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (2)
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَاسْتَأْنَفَ النَّاسُ الطَّلاَقَ مُسْتَقْبَلاً، مَنْ كَانَ طَلَّقَ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ طَلَّقَ (3) .
__________
(1) حديث أنس: " أن النبي (طلق حفصة. . . . " أخرجه الحاكم (4 / 15 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، وضعف الذهبي أحد رواته في ميزان الاعتدال 1 / 482 - ط الحلبي.
(2) سورة البقرة / 229.
(3) حديث عائشة: " كان الناس والرجل يطلق امرأته " أخرجه الترمذي (3 / 488 - ط الحلبي) عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، ثم أسنده مرة أخرى عن هشام بن عروة عن أبيه دون ذكر عائشة، وقال: " هذا أصح يعني مرسلاً ".

(22/105)


وَالإِْمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الرَّجْعَةُ فِي الْعِدَّةِ بِقَصْدِ الإِْصْلاَحِ لاَ الإِْضْرَارِ (1) .
وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الرَّجْعَةِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ شُرُوطِهَا، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَقَدْ جَاءَ فِي الرَّوْضِ الْمُرْبِعِ مَا نَصُّهُ " قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ إِذَا طَلَّقَ دُونَ الثَّلاَثِ، وَالْعَبْدَ دُونَ اثْنَتَيْنِ، أَنَّ لَهُمَا الرَّجْعَةَ فِي الْعِدَّةِ (2) "

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الأَْصْل فِي الرَّجْعَةِ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ وَهِيَ حَقٌّ لِلزَّوْجِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا} (3) . وَتَكُونُ الرَّجْعَةُ وَاجِبَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ إِذَا طَلَّقَ الرَّجُل امْرَأَتَهُ طَلْقَةً وَاحِدَةً فِي حَالَةِ حَيْضٍ فَهَذَا طَلاَقٌ بِدْعِيٌّ يَسْتَوْجِبُ التَّصْحِيحَ، وَالتَّصْحِيحُ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِالرَّجْعَةِ.
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَل عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَال: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 191، 199
(2) الروض المربع 6 / 601.
(3) سورة البقرة / 228.

(22/106)


بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْل أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ (1) .
وَتُسَنُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ (2) .
وَتَكُونُ الرَّجْعَةُ مَنْدُوبَةً، وَذَلِكَ فِي حَالَةِ نَدَمِ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلاَقِ، وَلاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ هُنَاكَ أَوْلاَدٌ تَقْتَضِي الْمَصْلَحَةُ نَشْأَتَهُمْ فِي ظِل الأَْبَوَيْنِ لِيُدَبِّرَا شُؤُونَهُمْ، فَتَكُونُ الرَّجْعَةُ مَنْدُوبَةً تَحْصِيلاً لِلْمَصْلَحَةِ الَّتِي نَدَبَ إِلَيْهَا الشَّارِعُ الْحَكِيمُ، فَقَدْ حَضَّ فِي كَثِيرٍ مِنَ الآْيَاتِ عَلَى الصُّلْحِ وَالتَّوْفِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، قَال تَعَالَى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (3) وَقَال تَعَالَى: {وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْل بَيْنَكُمْ} (4) .
وَتَكُونُ الرَّجْعَةُ مُحَرَّمَةً إِذَا قَصَدَ الزَّوْجُ الإِْضْرَارَ بِالْمَرْأَةِ فَيُرَاجِعُهَا لِيُلْحِقَ بِهَا الأَْذَى وَالضَّرَرَ، وَقَدْ نَهَى الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (5) فِي هَذِهِ الآْيَةِ يَنْهَى اللَّهُ
__________
(1) حديث ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض. . . أخرجه البخاري (الفتح 9 / 345 - 346 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1093 - ط الحلبي) ، واللفظ للبخاري.
(2) الاختيار 3 / 122 - 123، الخرشي على خليل 4 / 27، ومغني المحتاج 2 / 309، وكشاف القناع 5 / 24.
(3) سورة النساء / 128.
(4) سورة البقرة / 238.
(5) تفسير القرطبي عند الآية 231 من سورة البقرة.

(22/106)


تَعَالَى الأَْزْوَاجَ أَنْ يُمْسِكُوا زَوْجَاتِهِمْ بِقَصْدِ إِضْرَارِهِنَّ وَأَذَاهُنَّ، وَالنَّهْيُ يُفِيدُ التَّحْرِيمَ، فَتَكُونُ الرَّجْعَةُ مُحَرَّمَةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَمَعَ هَذَا تَكُونُ الرَّجْعَةُ صَحِيحَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ قَال الْقُرْطُبِيُّ: مَنْ فَعَل ذَلِكَ فَالرَّجْعَةُ صَحِيحَةٌ، وَلَوْ عَلِمْنَا نَحْنُ ذَلِكَ الْمَقْصِدَ طَلَّقْنَا عَلَيْهِ (2) .
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: لاَ يُمَكَّنُ مِنَ الرَّجْعَةِ إِلاَّ مَنْ أَرَادَ إِصْلاَحًا وَأَمْسَكَ بِمَعْرُوفٍ (3) . وَتَكُونُ الرَّجْعَةُ مَكْرُوهَةً إِذَا ظَنَّ الزَّوْجُ أَنَّهُ لَنْ يُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ الإِْحْسَانُ إِلَى زَوْجَتِهِ، فَتَكُونُ الرَّجْعَةُ فِي حَقِّهِ مَكْرُوهَةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.

شُرُوطُ الرَّجْعَةِ:
وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ مَا يَلِي:

5 - الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ تَكُونَ الرَّجْعَةُ بَعْدَ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ سَوَاءٌ صَدَرَ مِنَ الزَّوْجِ أَوْ مِنَ الْقَاضِي؛ لأَِنَّهَا اسْتِئْنَافٌ لِلْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي قُطِعَتْ بِالطَّلاَقِ، فَلَوْلاَ وُقُوعُهُ لَمَا كَانَ لِلرَّجْعَةِ فَائِدَةٌ، فَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُل امْرَأَتَهُ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ فَلَيْسَ لَهُ حَقُّ مُرَاجَعَتِهَا، إِذْ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ تَبِينُ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا بَيْنُونَةً كُبْرَى وَلاَ يَحِل لَهُ مُرَاجَعَتُهَا حَتَّى
__________
(1) أحكام القرآن، الجصاص 1 / 389.
(2) تفسير القرطبي 3 / 123، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 200.
(3) الفروع 5 / 464.

(22/107)


تَتَزَوَّجَ آخَرَ. قَال تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِل لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (1) .
وَالْفُقَهَاءُ جَمِيعًا مُتَّفِقُونَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ (2) .

6 - الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَحْصُل الرَّجْعَةُ بَعْدَ الدُّخُول بِالزَّوْجَةِ الْمُطَلَّقَةِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُول وَأَرَادَ مُرَاجَعَتَهَا فَلَيْسَ لَهُ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ وَهَذَا بِالاِتِّفَاقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً} (3) . إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ (4) اعْتَبَرُوا الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ فِي حُكْمِ الدُّخُول مِنْ حَيْثُ صِحَّةُ الرَّجْعَةِ؛ لأَِنَّ الْخَلْوَةَ تُرَتِّبُ أَحْكَامًا مِثْل أَحْكَامِ الدُّخُول، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ فَلاَ بُدَّ عِنْدَهُمْ مِنَ الدُّخُول لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ، وَلاَ تَكْفِي الْخَلْوَةُ (5) .

7 - الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْمُطَلَّقَةُ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلاَ يَصِحُّ ارْتِجَاعُهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى
__________
(1) سورة البقرة / 230.
(2) البناية 4 / 591، وكشاف القناع 5 / 341، والأم 6 / 243، والشرح الكبير للدردير 2 / 369.
(3) سورة الأحزاب / 49.
(4) كشاف القناع 5 / 341.
(5) انظر المراجع السابقة ومغني المحتاج 4 / 337.

(22/107)


{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} ثُمَّ قَال تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (1) أَيْ فِي الْقُرُوءِ الثَّلاَثَةِ؛
وَلأَِنَّ فِي ارْتِجَاعِ الْمُطَلَّقَةِ فِي فَتْرَةِ الْعِدَّةِ اسْتِدَامَةً وَاسْتِمْرَارًا لِعَقْدِ النِّكَاحِ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ انْقَطَعَتْ هَذِهِ الاِسْتِدَامَةُ فَلاَ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَقَال الْكَاسَانِيُّ: مِنْ شُرُوطِ جَوَازِ الرَّجْعَةِ قِيَامُ الْعِدَّةِ فَلاَ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ لأَِنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ يَزُول بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَلاَ تُتَصَوَّرُ الاِسْتِدَامَةُ، إِذْ الاِسْتِدَامَةُ لِلْقَائِمِ لِصِيَانَتِهِ عَنِ الزَّوَال (2) وَأَمَّا مَا تَنْتَهِي بِهِ الْعِدَّةُ فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عِدَّة) .

8 - الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَلاَّ تَكُونَ الْفُرْقَةُ قَبْل الرَّجْعَةِ نَاشِئَةً عَنْ فَسْخِ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (فَسْخ) .

9 - الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَلاَّ يَكُونَ الطَّلاَقُ بِعِوَضٍ، فَإِنْ كَانَ الطَّلاَقُ بِعِوَضٍ فَلاَ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ حِينَئِذٍ بَائِنٌ لاِفْتِدَاءِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا مِنَ الزَّوْجِ بِمَا قَدَّمَتْهُ لَهُ مِنْ عِوَضٍ مَالِيٍّ يُنْهِي هَذِهِ الْعَلاَقَةَ مِثْل الْخُلْعِ وَالطَّلاَقِ عَلَى مَالٍ.

10 - الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ تَكُونَ الرَّجْعَةُ مُنَجَّزَةً فَلاَ يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا عَلَى شَرْطٍ أَوْ إِضَافَتُهَا إِلَى
__________
(1) سورة البقرة / 228.
(2) بدائع الصنائع 3 / 183.

(22/108)


زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَصُورَةُ التَّعْلِيقِ عَلَى الشَّرْطِ أَنْ يَقُول: إِنْ جَاءَ زَيْدٌ فَقَدْ رَاجَعْتُكِ، أَوْ إِنْ فَعَلْتِ كَذَا فَقَدْ رَاجَعْتُكِ، وَصُورَةُ الإِْضَافَةِ لِلزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَل كَأَنْ يَقُول: أَنْتِ رَاجِعَةٌ غَدًا أَوْ بَعْدَ شَهْرٍ وَهَكَذَا، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَعْلِيق ف 46) الْمَوْسُوعَة ج 12 ص 31.
اسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِدَامَةٌ لِعَقْدِ النِّكَاحِ أَوْ إِعَادَةٌ لَهُ، وَالنِّكَاحُ لاَ يَقْبَل التَّعْلِيقَ وَالإِْضَافَةَ، وَالرَّجْعَةُ تَأْخُذُ حُكْمَ النِّكَاحِ (1) .

11 - الشَّرْطُ السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَجِعُ أَهْلاً لإِِنْشَاءِ عَقْدِ النِّكَاحِ.
وَهَذَا الشَّرْطُ وَرَدَ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ كُل مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي إِنْشَاءِ عَقْدِ الزَّوَاجِ يَكُونُ لَهُ الْحَقُّ فِي ارْتِجَاعِ مُطَلَّقَتِهِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ شُرُوطِ الرَّجْعَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ مِنَ الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِمَا لإِِنْشَاءِ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ رَجْعَةَ نَاقِصِي الأَْهْلِيَّةِ، وَهُمْ: الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ، وَالسَّفِيهُ، وَالْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ، وَالْمُفْلِسُ، وَقَدْ بَنَوْا إِجَازَةَ الرَّجْعَةِ مِنْ هَؤُلاَءِ عَلَى أَسَاسِ عَدَمِ إِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِهِمْ، وَعَلَى حَسَبِ حَالَةِ كُلٍّ مِنْ هَؤُلاَءِ
__________
(1) البدائع 3 / 185، والخرشي 4 / 80، المغني 8 / 485، والأم 6 / 245.

(22/108)


عَلَى حِدَةٍ، فَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَيَصِحُّ عَقْدُ نِكَاحِهِ إِلاَّ أَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى إِجَازَةِ وَلِيِّهِ، فَكَمَا صَحَّ عَقْدُهُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ، وَأَمَّا السَّفِيهُ فَيَصِحُّ عَقْدُ نِكَاحِهِ فِي حُدُودِ مَهْرِ الْمِثْل فَصَحَّتْ رَجْعَتُهُ لاِسْتِمْرَارِ عَقْدِ النِّكَاحِ مِنْ جِهَةٍ؛ وَكَذَا لِعَدَمِ وُجُودِ الإِْسْرَافِ مِنْهُ، وَأَمَّا الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ فَقَدْ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ؛ لأَِنَّ الرَّجْعَةَ لَيْسَ فِيهَا إِدْخَال غَيْرِ وَارِثٍ مَعَ الْوَرَثَةِ، وَأَمَّا الْمُفْلِسُ فَصَحَّتِ الرَّجْعَةُ مِنْهُ؛ لأَِنَّهَا لاَ تَتَطَلَّبُ مَهْرًا جَدِيدًا فَلاَ تَشْغَل ذِمَّتَهُ بِالْتِزَامَاتٍ مَالِيَّةٍ وَلاَ يَحْتَاجُ لإِِذْنِ الدَّائِنِينَ، كَمَا أَجَازُوا الرَّجْعَةَ مِنَ الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ مَعَ عَدَمِ جَوَازِ عَقْدِ نِكَاحِهِ؛ لأَِنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِمْرَارٌ لِعَقْدِ النِّكَاحِ وَلَيْسَتْ إِنْشَاءً جَدِيدًا لَهُ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ شَرْطَ الْمُرْتَجِعِ أَهْلِيَّةُ النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلاً مُخْتَارًا غَيْرَ مُرْتَدٍّ؛ لأَِنَّ الرَّجْعَةَ كَإِنْشَاءِ النِّكَاحِ فَلاَ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ فِي الرِّدَّةِ وَالصِّبَا وَالْجُنُونِ وَلاَ مِنْ مُكْرَهٍ، كَمَا لاَ يَصِحُّ النِّكَاحُ فِيهَا.
فَالرَّجْعَةُ لاَ تَصِحُّ إِلاَّ مِنْ بَالِغٍ عَاقِلٍ مُخْتَارٍ (2) .
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ السَّفِيهَ فَكَمَا
__________
(1) الخرشي 4 / 79 - 80، الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي 2 / 369 - 370
(2) مغني المحتاج 3 / 335 - 336، ونهاية المحتاج 7 / 53.

(22/109)


يَصِحُّ نِكَاحُهُ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ. . . وَالسَّكْرَانُ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ تَصِحُّ رَجْعَتُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ فِي الأَْصْل أَهْلٌ لإِِبْرَامِ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَلاَ تَصِحُّ رَجْعَتُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، كَمَا لاَ تَصِحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ رَجْعَةُ السَّكْرَانِ غَيْرِ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ، لأَِنَّ أَقْوَالَهُ كُلَّهَا لاَغِيَةٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ الرَّجْعَةِ مِنَ الْمُحْرِمِ؛ لأَِنَّ الإِْحْرَامَ لاَ يُؤَثِّرُ فِي أَهْلِيَّةِ الْمُحْرِمِ لإِِنْشَاءِ عَقْدِ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ عَارِضٌ. هَذَا وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي الرَّجْعَةِ رِضَا الْمَرْأَةِ. وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} (1) .
يَدُل عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.

كَيْفِيَّةُ الرَّجْعَةِ:
لِلرَّجْعَةِ كَيْفِيَّتَانِ: رَجْعَةٌ بِالْقَوْل، وَرَجْعَةٌ بِالْفِعْل.

أَوَّلاً: الرَّجْعَةُ بِالْقَوْل:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ تَصِحُّ بِالْقَوْل الدَّال عَلَى ذَلِكَ، كَأَنْ يَقُول لِمُطَلَّقَتِهِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ رَاجَعْتُكِ، أَوِ ارْتَجَعْتُكِ، أَوْ رَدَدْتُكِ لِعِصْمَتِي وَهَكَذَا كُل لَفْظٍ يُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنَى.
قَال الْعَيْنِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَا نَصُّهُ: " وَالرَّجْعَةُ أَنْ يَقُول لِلَّتِي طَلَّقَهَا طَلْقَةً، أَوْ طَلْقَتَيْنِ: رَاجَعْتُكِ بِالْخِطَابِ لَهَا، أَوْ رَاجَعْتُ امْرَأَتِي بِالْغَيْبَةِ، وَهَذَا
__________
(1) سورة البقرة / 228.

(22/109)


صَرِيحٌ فِي الرَّجْعَةِ، وَكَذَا إِذَا قَال: رَدَدْتُكِ أَوْ أَمْسَكْتُكِ ".
وَقَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الأَْلْفَاظَ الَّتِي تَصِحُّ بِهَا الرَّجْعَةُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: اللَّفْظُ الصَّرِيحُ مِثْل رَاجَعْتُكِ وَارْتَجَعْتُكِ إِلَى نِكَاحِي، وَهَذَا الْقِسْمُ تَصِحُّ بِهِ الرَّجْعَةُ وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْكِنَايَةُ: وَهِيَ الأَْلْفَاظُ الَّتِي تَحْتَمِل مَعْنَى الرَّجْعَةِ وَمَعْنًى آخَرَ غَيْرَهَا، كَأَنْ يَقُول: أَنْتِ عِنْدِي كَمَا كُنْتِ، أَوْ أَنْتِ امْرَأَتِي وَنَوَى بِهِ الرَّجْعَةَ.
فَأَلْفَاظُ الْكِنَايَةِ تَحْتَمِل الرَّجْعَةَ وَغَيْرَهَا مِثْل أَنْتِ عِنْدِي كَمَا كُنْتِ، فَإِنَّهَا تَحْتَمِل كَمَا كُنْتِ زَوْجَةً، وَكَمَا كُنْتِ مَكْرُوهَةً، وَلِذَلِكَ قَال الْفُقَهَاءُ: إِنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ وَيُسْأَل عَنْهَا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الأَْلْفَاظِ مِثْل رَدَدْتُكِ وَأَمْسَكْتُكِ هَل هِيَ مِنَ الصَّرِيحِ أَوِ الْكِنَايَةِ، فَذَهَبَ فَرِيقٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ وَتَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ.
وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ " رَدَدْتُكِ " يَحْتَمِل الرَّدَّ إِلَى الزَّوْجِيَّةِ أَوْ إِلَى بَيْتِ أَبِيهَا، " وَأَمْسَكْتُكِ " يَحْتَمِل الإِْمْسَاكَ بِالزَّوْجِيَّةِ أَوِ الإِْمْسَاكَ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهَا فِي عِدَّتِهَا.
وَذَهَبَ فَرِيقٌ آخَرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَمَعَهُمْ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ هَذَيْنِ

(22/110)


اللَّفْظَيْنِ مِنْ صَرِيحِ الرَّجْعَةِ فَلاَ يَحْتَاجَانِ إِلَى نِيَّةٍ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهَا أَحْكَامُ الرَّجْعَةِ دَلَّتْ عَلَيْهَا بِلَفْظَيِ الرَّدِّ وَالإِْمْسَاكِ (1) . قَال تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (2) وَقَال تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (3) .

ثَانِيًا: الرَّجْعَةُ بِالْفِعْل:
13 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْجِمَاعَ وَمُقَدِّمَاتِهِ تَصِحُّ بِهِمَا الرَّجْعَةُ، جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ " قَال: أَوْ يَطَؤُهَا، أَوْ يَلْمَسُهَا بِشَهْوَةٍ، أَوْ يَنْظُرُ إِلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ، وَهَذَا عِنْدَنَا (4) "، وَقَوْلُهُمْ هَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَهُمْ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَطَاوُسٌ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّعْبِيُّ، وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ يَكُونُ النَّظَرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ جَسَدِ الزَّوْجَةِ سِوَى الْفَرْجِ رَجْعَةً.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الرَّجْعَةَ تُعْتَبَرُ اسْتِدَامَةً لِلنِّكَاحِ
__________
(1) البناية على الهداية 4 / 592 - 593، وبدائع الصنائع 3 / 181 - 182، والخرشي 4 / 80، ومغني المحتاج 3 / 337، وكشاف القناع 5 / 342.
(2) سورة البقرة / 228.
(3) سورة الطلاق / 2.
(4) الهداية مع حاشية البناية 4 / 593.

(22/110)


وَاسْتِمْرَارًا لِجَمِيعِ آثَارِهِ، وَمِنْ آثَارِ النِّكَاحِ حِل الْجِمَاعِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، لِذَلِكَ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ بِالْجِمَاعِ وَمُقَدِّمَاتِهِ؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ مَا زَال مَوْجُودًا إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ.
كَمَا أَنَّ الأَْفْعَال صَرِيحَهَا وَدَلاَلَتَهَا تَدُل عَلَى نِيَّةِ الْفَاعِل، فَإِذَا وَطِئَ الزَّوْجُ مُطَلَّقَتَهُ الرَّجْعِيَّةَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، أَوْ قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ، أَوْ لاَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ، اعْتُبِرَ هَذَا الْفِعْل رَجْعَةً بِالدَّلاَلَةِ، فَكَأَنَّهُ بِوَطْئِهَا قَدْ رَضِيَ أَنْ تَعُودَ إِلَى عِصْمَتِهِ.
وَقَدْ قَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ الْقُبْلَةَ وَالنَّظَرَ إِلَى الْفَرْجِ وَاللَّمْسِ بِالشَّهْوَةِ. أَمَّا إِذَا حَصَل لَمْسٌ أَوْ نَظَرٌ إِلَى الْفَرْجِ، أَوْ تَقْبِيلٌ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، فَلاَ تَتَحَقَّقُ الرَّجْعَةُ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الأَْشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ، إِذَا كَانَتْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَإِنَّهَا تَحْصُل مِنَ الزَّوْجِ وَغَيْرِهِ كَالْمُسَاكِنِينَ لَهَا، أَوِ الْمُتَحَدِّثِينَ مَعَهَا، أَوِ الطَّبِيبِ وَالْقَابِلَةِ (الْمُوَلِّدَةِ) أَمَّا وُجُودُ الشَّهْوَةِ مَعَ هَذِهِ الأَْفْعَال فَإِنَّهَا لاَ تَحْصُل إِلاَّ مِنَ الزَّوْجِ فَقَطْ.
فَإِذَا صَحَّتِ الرَّجْعَةُ مَعَ هَذِهِ الأَْفْعَال بِغَيْرِ شَهْوَةٍ احْتَاجَ الزَّوْجُ إِلَى طَلاَقِهَا، فَتَطُول عَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَتَقَعُ الْمَرْأَةُ فِي حَرَجٍ شَدِيدٍ (1) .
وَإِذَا حَدَثَتْ هَذِهِ الأَْشْيَاءُ مِنَ الْمَرْأَةِ كَأَنْ قَبَّلَتْ زَوْجَهَا، أَوْ نَظَرَتْ إِلَيْهِ، أَوْ لَمَسَتْهُ بِشَهْوَةٍ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ. وَاسْتَدَلاَّ عَلَى
__________
(1) البناية على الهداية 4 / 594، وبدائع الصنائع 3 / 181 - 182، والمبسوط للسرخسي 6 / 21.

(22/111)


ذَلِكَ بِأَنَّ حِل الْمُعَاشَرَةِ الزَّوْجِيَّةِ قَدْ ثَبَتَ لَهُمَا مَعًا، فَتَصِحُّ الرَّجْعَةُ مِنْهَا إِذَا نَظَرَتْ إِلَيْهِ بِشَهْوَةٍ، كَمَا يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ تَثْبُتُ مِنْ جِهَتِهَا، كَأَنْ عَاشَرَتِ ابْنَ زَوْجِهَا أَوْ أَبَاهُ، كَمَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ أَيْضًا، لِذَلِكَ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ مِنْ جِهَتِهَا إِذَا لَمَسَتْهُ أَوْ قَبَّلَتْهُ بِشَهْوَةٍ، أَوْ رَأَتْ فَرْجَهُ بِشَهْوَةٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لاَ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ مِنْ جِهَتِهَا إِذَا لَمَسَتْهُ أَوْ قَبَّلَتْهُ بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَتْ إِلَى فَرْجِهِ بِشَهْوَةٍ، وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الرَّجْعَةَ حَقٌّ لِلزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ حَتَّى إِنَّهُ يُرَاجِعُهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا، وَلَيْسَ لَهَا حَقُّ مُرَاجَعَةِ زَوْجِهَا لاَ بِالْقَوْل وَلاَ بِالْفِعْل، فَسَوَاءٌ نَظَرَتْ إِلَيْهِ بِشَهْوَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا لاَ تَثْبُتُ لَهَا الرَّجْعَةُ (1) .
14 - وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ صِحَّةَ الرَّجْعَةِ بِالْفِعْل كَالْوَطْءِ وَمُقَدِّمَاتِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَنْوِيَ الزَّوْجُ بِهَذِهِ الأَْفْعَال الرَّجْعَةَ، فَإِذَا قَبَّلَهَا أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ، أَوْ نَظَرَ إِلَى مَوْضِعِ الْجِمَاعِ بِشَهْوَةٍ، أَوْ وَطِئَهَا وَلَمْ يَنْوِ الرَّجْعَةَ فَلاَ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بِفِعْل هَذِهِ الأَْشْيَاءِ، جَاءَ فِي الْخَرَشِيِّ مَا نَصُّهُ: أَنَّ الرَّجْعَةَ لاَ تَحْصُل بِفِعْلٍ مُجَرَّدٍ عَنْ نِيَّةِ الرَّجْعَةِ وَلَوْ بِأَقْوَى الأَْفْعَال كَوَطْءٍ وَقُبْلَةٍ وَلَمْسٍ، وَالدُّخُول عَلَيْهَا مِنَ الْفِعْل فَإِذَا نَوَى بِهِ الرَّجْعَةَ كَفَى (2) .
__________
(1) المبسوط 6 / 22، وما بعدها، والبناية للعيني 4 / 595 - 596
(2) الخرشي 4 / 81، والدسوقي 2 / 370.

(22/111)


15 - وَالرَّجْعَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تَصِحُّ بِالْفِعْل مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ بِوَطْءٍ أَوْ مُقَدِّمَاتِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْفِعْل مَصْحُوبًا بِنِيَّةِ الزَّوْجِ فِي الرَّجْعَةِ أَوْ لاَ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ فِي الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ تُعْتَبَرُ أَجْنَبِيَّةً عَنِ الزَّوْجِ فَلاَ يَحِل لَهُ وَطْؤُهَا، وَالرَّجْعَةُ فِي الْعِدَّةِ تُعْتَبَرُ إِعَادَةً لِعَقْدِ الزَّوَاجِ، وَكَمَا أَنَّ عَقْدَ الزَّوَاجِ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِالْقَوْل الدَّال عَلَيْهِ، فَكَذَا الرَّجْعَةُ لاَ تَصِحُّ إِلاَّ بِالْقَوْل الدَّال عَلَيْهَا أَيْضًا، فَلَوْ أَنَّ رَجُلاً وَطِئَ امْرَأَةً قَبْل عَقْدِ النِّكَاحِ فَوَطْؤُهُ حَرَامٌ، فَكَذَا الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ لَوْ وَطِئَهَا الزَّوْجُ فِي الْعِدَّةِ فَوَطْؤُهُ هَذَا حَرَامٌ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِي الأُْمِّ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ أَنَّ الرَّجْعَةَ حَقٌّ لِلأَْزْوَاجِ، وَأَنَّ الرَّدَّ ثَابِتٌ لَهُمْ دُونَ رِضَى الْمَرْأَةِ قَال: وَالرَّدُّ يَكُونُ بِالْكَلاَمِ دُونَ الْفِعْل مِنْ جِمَاعٍ وَغَيْرِهِ؛ لأَِنَّهُ رَدٌّ بِلاَ كَلاَمٍ، فَلاَ تَثْبُتُ رَجْعَةٌ لِرَجُلٍ عَلَى امْرَأَتِهِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِالرَّجْعَةِ، كَمَا لاَ يَكُونُ نِكَاحٌ وَلاَ طَلاَقٌ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِهِمَا، فَإِذَا تَكَلَّمَ بِهَا فِي الْعِدَّةِ ثَبَتَتْ لَهُ الرَّجْعَةُ (1) . "
16 - وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ فِي صِحَّةِ الرَّجْعَةِ بَيْنَ الْوَطْءِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، فَإِنَّ الرَّجْعَةَ عِنْدَهُمْ تَصِحُّ بِالْوَطْءِ وَلاَ تَصِحُّ بِمُقَدِّمَاتِهِ وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ ذَلِكَ:

أَوَّلاً: صِحَّةُ الرَّجْعَةِ بِالْوَطْءِ:
17 - تَصِحُّ الرَّجْعَةُ عِنْدَهُمْ بِالْوَطْءِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ
__________
(1) الأم 6 / 244، وروضة الطالبين للنووي 8 / 217 ط - المكتب الإسلامي.

(22/112)


نَوَى الزَّوْجُ الرَّجْعَةَ أَوْ لَمْ يَنْوِهَا وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَى ذَلِكَ (1) .
وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّ فَتْرَةَ الْعِدَّةِ تُؤَدِّي إِلَى بَيْنُونَةِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّجْعَةِ، فَإِذَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ وَوَطِئَهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَقَدْ عَادَتْ إِلَيْهِ، وَيَكُونُ هَذَا مِثْل حُكْمِ الإِْيلاَءِ، فَإِذَا آلَى الزَّوْجُ مِنْ زَوْجَتِهِ ثُمَّ وَطِئَهَا فَقَدِ ارْتَفَعَ حُكْمُ الإِْيلاَءِ، فَكَذَا الْحَال فِي الرَّجْعَةِ إِذَا وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ فَقَدْ عَادَتْ إِلَيْهِ. .
ثُمَّ ذَكَرُوا دَلِيلاً آخَرَ يُؤَكِّدُ صِحَّةَ الرَّجْعَةِ بِالْوَطْءِ، جَاءَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ عَلَى الْمُقْنِعِ " أَنَّ الطَّلاَقَ سَبَبٌ لِزَوَال الْمِلْكِ وَمَعَهُ خِيَارٌ، فَتَصَرُّفُ الْمَالِكِ بِالْوَطْءِ يَمْنَعُ عَمَلَهُ كَمَا يَنْقَطِعُ بِهِ التَّوْكِيل فِي طَلاَقِهَا (2) "، هَذَا مَا اسْتَدَل بِهِ الْحَنَابِلَةُ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ.

ثَانِيًا: مُقَدِّمَاتُ الْوَطْءِ:
18 - اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ فِي صِحَّةِ الرَّجْعَةِ بِمُقَدِّمَاتِ الْوَطْءِ، فَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَحْمَدَ عَدَمُ صِحَّةِ الرَّجْعَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى مَوْضِعِ الْجِمَاعِ وَاللَّمْسِ وَالتَّقْبِيل بِشَهْوَةٍ، وَحُجَّةُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا يَأْتِي:
1 - أَنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ إِذَا حَدَثَتْ لاَ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 343.
(2) الشرح الكبير لابن قدامة المقدسي مع المغني 8 / 475.

(22/112)


يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ وَلاَ يَجِبُ بِهَا مَهْرٌ فَلاَ تَصِحُّ بِهَا الرَّجْعَةُ.
2 - أَنَّ النَّظَرَ إِلَى مَوْضِعِ الْجِمَاعِ أَوِ اللَّمْسَ قَدْ يَحْدُثُ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ لِلْحَاجَةِ، فَلاَ تَكُونُ رَجْعَةً مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى هِيَ: تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بِفِعْل هَذِهِ الأَْشْيَاءِ لأَِنَّهَا لاَ تَخْلُو مِنَ اسْتِمْتَاعٍ يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. وَالرِّوَايَةُ الأُْولَى: هِيَ الْمُعْتَمَدَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهَا أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ هَل تَصِحُّ مَعَهَا الرَّجْعَةُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: تَصِحُّ الرَّجْعَةُ مَعَ الْخَلْوَةِ لأَِنَّ أَحْكَامَ النِّكَاحِ تَتَقَرَّرُ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ بِالإِْضَافَةِ إِلَى إِمْكَانِ الاِسْتِمْتَاعِ فِي الْخَلْوَةِ.
الْقَوْل الثَّانِي: لاَ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ مَعَ الْخَلْوَةِ لأَِنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ فِي حَالَةِ الطَّلاَقِ لاَ يَتَأَتَّى فِيهَا الاِسْتِمْتَاعُ فَلاَ تَصِحُّ مَعَهَا الرَّجْعَةُ (1) . .

أَحْكَامُ الرَّجْعَةِ:
الإِْشْهَادُ عَلَى الرَّجْعَةِ:
19 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْجَدِيدُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الإِْشْهَادَ عَلَى الرَّجْعَةِ مُسْتَحَبٌّ، وَهَذَا
__________
(1) الشرح الكبير 8 / 474، وكشاف القناع 5 / 343، وما بعدها.

(22/113)


الْقَوْل مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَمَنْ رَاجَعَ امْرَأَتَهُ وَلَمْ يُشْهِدْ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ؛ لأَِنَّ الإِْشْهَادَ مُسْتَحَبٌّ.
وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ مَا يَأْتِي:
1 - الرَّجْعَةُ مِثْل النِّكَاحِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا امْتِدَادًا لَهُ، وَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ اسْتِدَامَةَ النِّكَاحِ لاَ تَلْزَمُهَا شَهَادَةٌ، فَكَذَا الرَّجْعَةُ لاَ تَجِبُ فِيهَا الشَّهَادَةُ.
2 - الرَّجْعَةُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِ وَهِيَ لاَ تَحْتَاجُ لِقَبُول الْمَرْأَةِ، لِذَلِكَ لاَ تُشْتَرَطُ الشَّهَادَةُ لِصِحَّتِهَا؛ لأَِنَّ الزَّوْجَ قَدِ اسْتَعْمَل خَالِصَ حَقِّهِ، وَالْحَقُّ إِذَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى قَبُولٍ أَوْ وَلِيٍّ فَلاَ تَكُونُ الشَّهَادَةُ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ.
قَالُوا: وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (1) هَذَا أَمْرٌ، وَالأَْمْرُ فِي هَذِهِ الآْيَةِ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ لاَ عَلَى الْوُجُوبِ، مِثْل قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (2) وَاتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ بِلاَ إِشْهَادٍ، فَكَذَا اسْتُحِبَّ الإِْشْهَادُ عَلَى الرَّجْعَةِ لِلأَْمْنِ مِنَ الْجُحُودِ، وَقَطْعِ النِّزَاعِ، وَسَدِّ بَابِ الْخِلاَفِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. وَيُلاَحَظُ أَنَّ تَأْكِيدَ الْحَقِّ فِي الْبَيْعِ فِي حَاجَةٍ إِلَى إِشْهَادٍ أَكْثَرَ مِنَ الرَّجْعَةِ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ إِنْشَاءٌ لِتَصَرُّفٍ شَرْعِيٍّ، أَمَّا الرَّجْعَةُ فَهِيَ
__________
(1) سورة الطلاق / 2.
(2) سورة البقرة / 282.

(22/113)


اسْتِدَامَةُ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ أَوْ إِعَادَتُهَا، فَلَمَّا صَحَّ الْبَيْعُ بِلاَ إِشْهَادٍ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ بِلاَ إِشْهَادٍ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الزَّوْجَةَ لَوْ مَنَعَتْ زَوْجَهَا مِنْ وَطْئِهَا حَتَّى يُشْهِدَ عَلَى الرَّجْعَةِ كَانَ فِعْلُهَا هَذَا حَسَنًا وَتُؤْجَرُ عَلَيْهِ، وَلاَ تَكُونُ عَاصِيَةً لِزَوْجِهَا (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ بِأَنَّ الإِْشْهَادَ عَلَى الرَّجْعَةِ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} . وَبِالأَْثَرِ الْمَرْوِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَمَّنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلاَقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ وَقَعَ بِهَا وَلَمْ يُشْهِدْ، فَقَال: طَلَّقْتَ لِغَيْرِ سُنَّةٍ وَرَاجَعْتَ لِغَيْرِ سُنَّةٍ، أَشْهِدْ عَلَى ذَلِكَ وَلاَ تَعُدْ؛ وَلأَِنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِبَاحَةُ بُضْعٍ مُحَرَّمٍ فَيَلْزَمُهُ الإِْشْهَادُ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: إِنَّ الإِْشْهَادَ عَلَى الرَّجْعَةِ لَيْسَ شَرْطًا وَلاَ وَاجِبًا فِي الأَْظْهَرِ (2) .
__________
(1) البناية على الهداية 4 / 595، بدائع الصنائع 3 / 181، والمبسوط للسرخسي 6 / 22، الخرشي 4 / 87، حاشية الدسوقي 2 / 377، والشرح الكبير للدردير 2 / 377، وكشاف القناع 5 / 342 - 343، الشرح الكبير لابن قدامة 8 / 472 - 473
(2) روضة الطالبين 8 / 216، ومغني المحتاج 3 / 336، والشرح الكبير لابن قدامة المقدسي 8 / 472 - 473، وكشاف القناع 5 / 342، والمغني لابن قدامة 8 / 481.

(22/114)


إعْلاَمُ الزَّوْجَةِ بِالرَّجْعَةِ:
20 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ إِعْلاَمَ الزَّوْجَةِ بِالرَّجْعَةِ مُسْتَحَبٌّ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ الَّتِي قَدْ تَنْشَأُ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ.
قَال الْعَيْنِيُّ مَا نَصُّهُ: " وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعْلِمَهَا " أَيْ يُعْلِمَ الْمَرْأَةَ بِالرَّجْعَةِ، فَرُبَّمَا تَتَزَوَّجُ عَلَى زَعْمِهَا أَنَّ زَوْجَهَا لَمْ يُرَاجِعْهَا وَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَيَطَؤُهَا الزَّوْجُ، فَكَانَتْ عَاصِيَةً بِتَرْكِ سُؤَال زَوْجِهَا وَهُوَ يَكُونُ مُسِيئًا بِتَرْكِ الإِْعْلاَمِ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَوْ لَمْ يُعْلِمْهَا صَحَّتِ الرَّجْعَةُ؛ لأَِنَّهَا اسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ الْقَائِمِ وَلَيْسَتْ بِإِنْشَاءٍ، فَكَانَ الزَّوْجُ مُتَصَرِّفًا فِي خَالِصِ حَقِّهِ، وَتَصَرُّفُ الإِْنْسَانِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ الْغَيْرِ (1) .

سَفَرُ الزَّوْجِ بِالْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ:
21 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ السَّفَرَ بِمُطَلَّقَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ، أَمَّا الْجُمْهُورُ فَلاَ يُجِيزُونَ السَّفَرَ بِهَا؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً مِنْ كُل وَجْهٍ؛ وَلأَِنَّ الزَّوْجَ مَأْمُورٌ بِعَدَمِ إِخْرَاجِهَا مِنَ الْبَيْتِ فِي الْعِدَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} (2) .
وَلأَِنَّ الْعِدَّةَ قَدْ تَنْقَضِي وَهِيَ فِي السَّفَرِ مَعَهُ
__________
(1) البناية على الهداية 4 / 597، والمحلى لابن حزم الظاهري 10 / 251، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18 / 159، والخرشي 4 / 87.
(2) سورة الطلاق / 1.

(22/114)


فَتَكُونُ مَعَ أَجْنَبِيٍّ عَنْهَا وَهَذَا مُحَرَّمٌ، كُل هَذَا إِذَا لَمْ يُرَاجِعْهَا فِي الْعِدَّةِ، أَمَّا إِذَا رَاجَعَهَا فَتُسَافِرُ مَعَهُ لأَِنَّهَا زَوْجَةٌ لَهُ (1) .

تَزَيُّنُ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ وَتَشَوُّفُهَا لِزَوْجِهَا:
22 - الْمُطَلَّقَةُ طَلاَقًا رَجْعِيًّا لَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ لِزَوْجِهَا بِمَا تَفْعَلُهُ النِّسَاءُ لأَِزْوَاجِهِنَّ مِنْ أَوْجُهِ الزِّينَةِ مِنَ اللُّبْسِ وَغَيْرِهِ. قَال الْحَنَابِلَةُ: تَتَزَيَّنُ وَتُسْرِفُ فِي ذَلِكَ (2) . وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ وَتَتَشَوَّفَ لَهُ (3) . وَالتَّشَوُّفُ وَضْعُ الزِّينَةِ فِي الْوَجْهِ، وَالتَّزَيُّنُ أَعَمُّ مِنَ التَّشَوُّفِ؛ لأَِنَّهُ يَشْمَل الْوَجْهَ وَغَيْرَهُ.
وَقَدْ أُجِيزَ لِلْمَرْأَةِ فِعْل ذَلِكَ لِتَرْغِيبِ الزَّوْجِ فِي الْمُرَاجَعَةِ، فَالتَّزَيُّنُ وَسِيلَةٌ لِلرَّجْعَةِ فَلَعَلَّهُ يَرَاهَا فِي زِينَتِهَا فَتَرُوقُ فِي عَيْنِهِ وَيَنْدَمُ عَلَى طَلاَقِهَا فَيُرَاجِعُهَا.
وَاسْتَدَلُّوا لِجَوَازِ التَّزَيُّنِ بِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ رَجْعِيًّا فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ وَالنِّكَاحُ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ كَوْنُهَا فِي الْعِدَّةِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ تَزَيُّنِ الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ لِزَوْجِهَا لأَِنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ عَنْهُ وَالرَّجْعَةُ إِعَادَةٌ لِلنِّكَاحِ عِنْدَهُمْ.
وَيَتْبَعُ هَذَا الْحُكْمَ أَمْرٌ آخَرُ وَهُوَ دُخُول الزَّوْجِ عَلَيْهَا فِي حُجْرَتِهَا، فَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ لاَ يَدْخُل عَلَيْهَا
__________
(1) الشرح الكبير لابن قدامة 8 / 474، والبناية على الهداية 4 / 611 - 613، والدسوقي 2 / 422، والروضة 8 / 221.
(2) كشاف القناع 5 / 343.
(3) البناية على الهداية 4 / 611 - 613

(22/115)


إِلاَّ بِإِذْنِهَا إِذَا كَانَ لاَ يَنْوِي الرَّجْعَةَ. وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ مُتَجَرِّدَةً مِنَ الثِّيَابِ فَيَقَعُ نَظَرُهُ عَلَى مَوْضِعِ الْجِمَاعِ فَيَكُونُ مُرَاجِعًا عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَ ذَلِكَ رَجْعَةً، أَمَّا إِذَا كَانَ يَنْوِي الْمُرَاجَعَةَ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَدْخُل عَلَيْهَا؛ لأَِنَّ فِي نِيَّتِهِ مُرَاجَعَتَهَا فَكَانَتْ زَوْجَةً لَهُ، وَخُصُوصًا أَنَّ الرَّجْعَةَ لاَ تَحْتَاجُ إِلَى مُوَافَقَةِ الْمَرْأَةِ (1) .

اخْتِلاَفُ الزَّوْجَيْنِ فِي الرَّجْعَةِ:
23 - إِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ عَلَى مُطَلَّقَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ أَنَّهُ رَاجَعَهَا أَمْسِ أَوْ قَبْل شَهْرٍ صُدِّقَ إِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ؛ لأَِنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ فَلاَ يَكُونُ مُتَّهَمًا فِي الإِْخْبَارِ، وَلاَ يُصَدَّقُ إِذَا قَال ذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ لأَِنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لاَ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ، فَإِنِ ادَّعَى بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا أَنَّهُ كَانَ رَاجَعَهَا فِي عِدَّتِهَا فَأَنْكَرَتْ، فَالْقَوْل قَوْلُهَا؛ لأَِنَّهُ ادَّعَى مُرَاجَعَتَهَا فِي زَمَنٍ لاَ يَمْلِكُ مُرَاجَعَتَهَا فِيهِ.
وَإِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَنَّهُ قَدْ رَاجَعَ مُطَلَّقَتَهُ فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ.
قَال السَّرَخْسِيُّ: وَإِذَا قَال زَوْجُ الْمُعْتَدَّةِ لَهَا: قَدْ رَاجَعْتُكِ، فَقَالَتْ مُجِيبَةً لَهُ: قَدِ انْقَضَتْ عِدَّتِي، فَالْقَوْل قَوْلُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلاَ تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ. وَعِنْدَهُمَا الْقَوْل قَوْل الزَّوْجِ وَالرَّجْعَةُ صَحِيحَةٌ
__________
(1) الشرح الكبير لابن قدامة 8 / 474، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18 / 158، ومغني المحتاج 3 / 337، والروضة 8 / 221، والمبسوط للسرخسي 6 / 25.

(22/115)


؛ لأَِنَّهَا صَادَفَتِ الْعِدَّةَ، فَإِنَّ عِدَّتَهَا بَاقِيَةٌ مَا لَمْ تُخْبِرْ بِالاِنْقِضَاءِ، وَقَدْ سَبَقَتِ الرَّجْعَةُ خَبَرَهَا بِالاِنْقِضَاءِ فَصَحَّتِ الرَّجْعَةُ وَسَقَطَتِ الْعِدَّةُ، فَإِنَّهَا أَخْبَرَتْ بِالاِنْقِضَاءِ بَعْدَ سُقُوطِ الْعِدَّةِ، وَلَيْسَ لَهَا وِلاَيَةُ الإِْخْبَارِ بَعْدَ سُقُوطِ الْعِدَّةِ وَلَوْ سَكَتَتْ سَاعَةً ثُمَّ أَخْبَرَتْ؛ وَلأَِنَّهَا صَارَتْ مُتَّهَمَةً فِي الإِْخْبَارِ بِالاِنْقِضَاءِ بَعْدَ رَجْعَةِ الزَّوْجِ فَلاَ يُقْبَل خَبَرُهَا، كَمَا لَوْ قَال الْمُوَكِّل لِلْوَكِيل عَزَلْتُكَ، فَقَال الْوَكِيل كُنْتُ بِعْتُهُ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُول: الرَّجْعَةُ صَادَفَتْ حَال انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلاَ تَصِحُّ؛ لأَِنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ لَيْسَ بِعِدَّةٍ مُطْلَقًا وَشَرْطُ الرَّجْعَةِ أَنْ تَكُونَ فِي عِدَّةٍ مُطْلَقَةٍ (1) .
__________
(1) المبسوط 6 / 22، والشرح الكبير 8 / 488، ومغني المحتاج 3 / 338، 339

(22/116)


رَجُلٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّجُل فِي اللُّغَةِ خِلاَفُ الْمَرْأَةِ وَهُوَ الذَّكَرُ مِنْ نَوْعِ الإِْنْسَانِ، وَقِيل إِنَّمَا يَكُونُ رَجُلاً إِذَا احْتَلَمَ وَشَبَّ، وَقِيل هُوَ رَجُلٌ سَاعَةَ تَلِدُهُ أُمُّهُ إِلَى مَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَتَصْغِيرُهُ رُجَيْلٌ قِيَاسًا، وَرُوَيْجِلٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَيُجْمَعُ رَجُلٌ عَلَى رِجَالٍ. وَجَمْعُ الْجَمْعِ رِجَالاَتٌ، وَيُطْلَقُ الرَّجُل أَيْضًا عَلَى الرَّاجِل أَيِ الْمَاشِي. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} (1) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي.
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَهُوَ كَمَا ذَكَرَ الْجُرْجَانِيُّ فِي التَّعْرِيفَاتِ: الذَّكَرُ مِنْ بَنِي آدَمَ جَاوَزَ حَدَّ الصِّغَرِ بِالْبُلُوغِ (2) .
وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمِيرَاثِ، وَأَمَّا فِي الْمِيرَاثِ فَيُطْلَقُ الرَّجُل عَلَى الذَّكَرِ مِنْ حِينِ يُولَدُ، وَمِنْهُ
__________
(1) سورة البقرة / 239.
(2) اللسان والمصباح، مادة (رجل) والتعريفات للجرجاني / 146 ط، الكتاب العربي.

(22/116)


قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَال نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَْقْرَبُونَ} (1) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
يَخْتَصُّ الرَّجُل بِأَحْكَامٍ يُخَالِفُ فِيهَا الْمَرْأَةَ وَفِيمَا يَلِي أَهَمُّهَا:

أ - لُبْسُ الْحَرِيرِ:
2 - يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل لُبْسُ الْحَرِيرِ اتِّفَاقًا، وَيَحْرُمُ افْتِرَاشُهُ فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ تَوَسُّدِهِ وَافْتِرَاشِهِ، لِمَا رَوَى أَبُو مُوسَى أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أُحِل الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لإِِنَاثِ أُمَّتِي، وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا (2) . وَلِمَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ فَإِنَّ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآْخِرَةِ (3) .
وَهَذَا - أَيْ تَحْرِيمُ لُبْسِ الْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَال - مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَلاَ خِلاَفَ فِيهِ، وَيُسْتَثْنَى
__________
(1) سورة النساء / 7.
(2) حديث: " أحل الذهب والحرير لإناث أمتي. . . . . . . . . " أخرجه النسائي (8 / 161 - ط المكتبة التجارية) ، وحسنه ابن المديني كما في التلخيص لابن حجر 1 / 53 - ط شركة الطباعة الفنية.
(3) حديث: " لا تلبسوا الحرير؛ فإن من لبسه في الدنيا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 284 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1642 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.

(22/117)


مِنْ ذَلِكَ الْعَلَمُ فِي الثَّوْبِ إِذَا كَانَ أَقَل مِنْ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ، وَمِثْلُهُ الرِّقَاعُ، وَلَبِنَةُ الْجَيْبِ، وَسَجْفُ الْفِرَاءِ، وَفِي لُبْسِهِ لِدَفْعِ قَمْلٍ أَوْ حِكَّةٍ أَوْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ مُهْلِكَيْنِ، أَوْ لُبْسِهِ لِلْحَرْبِ خِلاَفٌ، وَمَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (حَرِير) . (1)

ب - اسْتِعْمَال الرَّجُل الذَّهَبَ أَوِ الْفِضَّةَ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْرِيمِ حُلِيِّ الذَّهَبِ عَلَى الرِّجَال، فَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل اسْتِعْمَال الذَّهَبِ وَلاَ يَحِل لَهُ مِنْهُ إِلاَّ مَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ أَوِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ كَالأَْنْفِ وَالسِّنِّ وَالأُْنْمُلَةِ. وَيَجُوزُ لَهُ أَيْضًا لِلْحَاجَةِ شَدُّ أَسْنَانِهِ بِالذَّهَبِ.
وَيَحِل لَهُ مِنَ الْفِضَّةِ الْخَاتَمُ، وَكَذَا تَحْلِيَةُ بَعْضِ أَدَوَاتِهِ كَسَيْفِهِ بِهَا، وَشَدُّ أَسْنَانِهِ بِالْفِضَّةِ، وَأَمَّا سَائِرُ حِلْيَةِ الْفِضَّةِ فَفِي تَحْرِيمِهَا عَلَى الرَّجُل خِلاَفٌ.
وَالآْنِيَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنَ النَّقْدَيْنِ يَحْرُمُ
__________
(1) نتائج الأفكار مع فتح القدير 8 / 93 - 94 - ط الأميرية، تبيين الحقائق 6 / 15 - ط بولاق، بدائع الصنائع 5 / 131 - ط الجمالية، الاختيار 4 / 158 - ط المعرفة، الزرقاني 1 / 182 - ط الفكر، جواهر الإكليل 1 / 43 - ط المعرفة، والدسوقي 1 / 220 - ط الفكر، الخرشي 1 / 252 - 253 - ط بولاق، روضة الطالبين 2 / 65 - ط المكتب الإسلامي، أسنى المطالب 1 / 275 - ط الميمنية، والمهذب 1 / 115 - ط الحلبي، نهاية المحتاج 2 / 365 - 366 - ط المكتبة الإسلامية، تحفة المحتاج 3 / 22 - 23 - ط صادر، وحاشية القليوبي 1 / 302 - 303 - ط الحلبي، الإنصاف 1 / 478 - 479 ط التراث، وكشاف القناع 1 / 282 - ط النصر، والمغني 1 / 588 - 589 - ط الرياض.

(22/117)


اسْتِعْمَالُهَا عَلَى الْجَمِيعِ (1) . وَالتَّفْصِيل مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (آنِيَة) ، وَمُصْطَلَحُ: (حُلِيّ) .

ج - عَوْرَةُ الرَّجُل فِي الصَّلاَةِ وَخَارِجَهَا:
4 - عَوْرَةُ الرَّجُل فِي الصَّلاَةِ وَخَارِجَهَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رَأْيُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ (2) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْفَل السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَتَيْنِ مِنَ الْعَوْرَةِ (3) .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا الْفَرْجَانِ فَقَطْ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ حَسَرَ الإِْزَارَ عَنْ فَخِذِهِ حَتَّى إِنِّي لأََنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ فَخِذِ النَّبِيِّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (4) .
وَالتَّفْصِيل مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (عَوْرَة)
__________
(1) الاختيار 4 / 159 - ط المعرفة، وحاشية ابن عابدين 5 / 229 - ط بولاق، تبيين الحقائق 6 / 15 - 16 - ط بولاق، جواهر الإكليل 1 / 10 - ط المعرفة، الدسوقي 1 / 62 - 64 - ط الفكر، الزرقاني 1 / 35 - 37 - ط الفكر، حاشية القليوبي 2 / 23 - 24 - ط الحلبي، وروضة الطالبين 2 / 262 - 264 - ط المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 2 / 234 - 235 - ط النصر، والمغني 3 / 15 - 18 - ط الرياض.
(2) الحموي علي ابن نجيم 2 / 170 - 171 - ط العامرة، جواهر الإكليل 1 / 41 - ط المعرفة، روضة الطالبين 1 / 282 - 283 - ط المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 1 / 265 - 266 - ط النصر.
(3) حديث: " أسفل السرة وفوق الركبتين من العورة " أخرجه أحمد (2 / 187 - ط الميمنية) من حديث عبد الله بن عمرو بلفظ: " إذا أنكح أحدكم عبده أو أجيره فلا ينظرن إلى شيء من عورته؛ فإنما أسفل من سرته إلى ركبتيه من عورته "، وإسناده حسن.
(4) حديث: أنس أن النبي " يوم خيبر حسر. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 480 - ط السلفية) .

(22/118)


د - اخْتِصَاصُ الأَْذَانِ بِالرِّجَال دُونَ النِّسَاءِ:
5 - مِنَ الشُّرُوطِ الْوَاجِبَةِ فِي الْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ رَجُلاً، فَلاَ يَصِحُّ أَذَانُ الْمَرْأَةِ؛ لأَِنَّ رَفْعَ صَوْتِهَا قَدْ يُوقِعُ فِي الْفِتْنَةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلاَ يُعْتَدُّ بِأَذَانِهَا لَوْ أَذَّنَتْ (1) .
وَالتَّفْصِيل مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (أَذَان) .

هـ - وُجُوبُ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ عَلَى الرِّجَال دُونَ النِّسَاءِ:
6 - مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ الذُّكُورَةُ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلاَ تَجِبُ عَلَيْهَا صَلاَةُ الْجُمُعَةِ اتِّفَاقًا.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (صَلاَةُ الْجُمُعَةِ)

و كَوْنُ الرَّجُل إِمَامًا فِي الصَّلاَةِ دُونَ الْمَرْأَةِ: 7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِي إِمَامَةِ الصَّلاَةِ لِلرِّجَال فِي الْفَرِيضَةِ، فَلاَ تَصِحُّ إِمَامَةُ الْمَرْأَةِ لِلرِّجَال فِيهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ (2) ، وَلِمَا رَوَى جَابِرٌ مَرْفُوعًا لاَ تَؤُمَّنَّ
__________
(1) راجع مصطلح أذان من الموسوعة الفقهية 2 / 367 - ط الموسوعة الفقهية.
(2) حديث: " أخروهن من حيث أخرهن الله. . . . " أورده الزيلعي في نصب الراية (2 / 36 - ط المجلس العلمي) وقال: " حديث غريب مرفوعًا " ثم عزاه إلى مصنف عبد الرزاق موقوفًا على ابن مسعود، وهو فيه (3 / 149 - ط المجلس العلمي) ضمن حديث طويل، ذكر بعضه ابن حجر في الفتح (1 / 400 - ط السلفية) وصحح إسناده.

(22/118)


امْرَأَةٌ رَجُلاً (1) ، وَلأَِنَّ فِي إِمَامَتِهَا لِلرِّجَال افْتِتَانًا بِهَا (2) .

ز - مَا يَخْتَصُّ بِالرَّجُل مِنْ أَعْمَال الْحَجِّ:
8 - يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل لُبْسُ الْمَخِيطِ مِنَ الثِّيَابِ بِخِلاَفِ الْمَرْأَةِ، وَالْمَشْرُوعُ فِي حَقِّهِ الْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ بِخِلاَفِ الْمَرْأَةِ، فَإِنَّ الْمَشْرُوعَ فِي حَقِّهَا التَّقْصِيرُ دُونَ الْحَلْقِ، وَيُسَنُّ لِلرَّجُل الرَّمَل فِي طَوَافِهِ وَالاِضْطِبَاعُ وَالإِْسْرَاعُ بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الأَْخْضَرَيْنِ فِي السَّعْيِ وَرَفْعُ صَوْتِهِ بِالتَّلْبِيَةِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تُخَالِفُهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ (3) . وَالتَّفْصِيل مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (حَجّ) (وَإِحْرَام) (وَتَلْبِيَة) (وَطَوَاف) .

ح - دِيَةُ الرَّجُل:
9 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ دِيَةَ الرَّجُل الْحُرِّ الْمُسْلِمِ مِائَةٌ مِنَ الإِْبِل، وَأَمَّا دِيَةُ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ
__________
(1) حديث: " لا تؤمن امرأة رجلاً. . . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 343 - ط الحلبي) ، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 203 - ط دار الجنان) : " هذا إسناد ضعيف ".
(2) الموسوعة الفقهية 6 / 204.
(3) ابن عابدين 2 / 146، 190، بدائع الصنائع 2 / 123، 141، 185 - 186، والدسوقي 2 / 9، 41، 46، 54، 55، ومغني المحتاج (1 / 467، 519) ، ونهاية المحتاج (3 / 264) ، والمغني 3 / 236 - 237، 328 - 330، 372، 394

(22/119)


الْمُسْلِمَةِ فَهِيَ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُل الْحُرِّ الْمُسْلِمِ.
وَالتَّفْصِيل مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (دِيَة) (1)

ط - وُجُوبُ الْجِهَادِ عَلَى الرَّجُل دُونَ الْمَرْأَةِ:
10 - الْجِهَادُ إِذَا كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ بِأَنْ دَهَمَ الْعَدُوُّ بَلَدًا مِنْ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُل قَادِرٍ عَلَى حَمْل السِّلاَحِ وَالْقِتَال مِنْ أَهْل ذَلِكَ الْبَلَدِ رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا أَوْ شَيْخًا، وَأَمَّا إِذَا كَانَ فَرْضَ كِفَايَةٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرِّجَال فَقَطْ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهَا لِضَعْفِهَا اتِّفَاقًا. وَانْظُرْ: (جِهَاد) .

ي - أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَرْأَةِ:
11 - لاَ تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنَ الْمَرْأَةِ (2) . وَانْظُرْ: (جِزْيَة) .

ك - اخْتِصَاصُ الشَّهَادَةِ فِي غَيْرِ الأَْمْوَال بِالرِّجَال دُونَ النِّسَاءِ:
12 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي الْقَوَدِ وَالْحُدُودِ لاَ يُقْبَل فِيهَا إِلاَّ الرِّجَال فَلاَ تُقْبَل فِيهَا
__________
(1) البدائع 7 / 254 - ط الجمالية، وجواهر الإكليل 2 / 266 - 270 - ط المعرفة، والمهذب 2 / 198 - ط الحلبي، والمغني 7 / 797 - 798 - ط الرياض.
(2) ابن عابدين 3 / 220 - ط المصرية، والدسوقي 2 / 174 - 175 - ط الفكر، وحاشية القليوبي 4 / 216 - ط الحلبي، الأشباه والنظائر للسيوطي 239 - ط الحلبي، والمغني 8 / 347 - ط الرياض.

(22/119)


شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ. وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَة) .

ل - الْمِيرَاثُ:
13 - يَخْتَلِفُ مِيرَاثُ الرَّجُل عَنْ مِيرَاثِ الْمَرْأَةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الصُّوَرِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِرْث) (1)

م - الرَّجُل وَالْوِلاَيَةُ:
14 - يُقَدَّمُ الرَّجُل عَلَى الْمَرْأَةِ فِي كُل وِلاَيَةٍ هُوَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِهَا مِنْهَا. وَتُقَدَّمُ الْمَرْأَةُ عَلَى الرَّجُل فِي الْوِلاَيَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِهَا مِنَ الرَّجُل وَهِيَ الْحَضَانَةُ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (وِلاَيَة) .
وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَ: (ذُكُورَة) .
__________
(1) حاشية البقري على الرحبية 22 - 25 - ط الحلبي.
(2) ابن عابدين 4 / 356، والتبصرة 1 / 24، والفروق للقرافي 2 / 157 - 158 فرق 96، والأحكام السلطانية للماوردي / 65، والمغني 6 / 137، 9 / 39، ونيل الأوطار 6 / 251، وفتح الباري 8 / 126 - ط السلفية.

(22/120)


رِجْلٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّجْل لُغَةً: قَدَمُ الإِْنْسَانِ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ وَجَمْعُهَا أَرْجُلٌ، وَرِجْل الإِْنْسَانِ هِيَ مِنْ أَصْل الْفَخِذِ إِلَى الْقَدَمِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} (1) وَرَجُلٌ أَرْجَل أَيْ: عَظِيمُ الرِّجْل، وَالرَّاجِل خِلاَفُ الْفَارِسِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} (2) .
وَمَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْحَال فَيُرَادُ بِهِ الْقَدَمُ مَعَ الْكَعْبَيْنِ كَمَا هُوَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (3) ، وَيُرَادُ بِهِ دُونَ الْمَفْصِل بَيْنَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ، كَمَا هُوَ الْحَال فِي قَطْعِ رِجْل السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ.
وَيُطْلَقُ تَارَةً فَيُرَادُ بِهِ مِنْ أَصْل الْفَخِذِ إِلَى الْقَدَمِ (4) .
__________
(1) سورة النور / 31.
(2) سورة البقرة / 239.
(3) سورة المائدة / 6.
(4) لسان العرب، والمصباح (رجل) .

(22/120)


الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
وَرَدَتِ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرِّجْل فِي عَدَدٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ مِنْهَا مَا يَلِي:

أ - الْوُضُوءُ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ غَسْل الرِّجْلَيْنِ مَعَ الْكَعْبَيْنِ - وَهُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ عِنْدَ مَفْصِل السَّاقِ وَالْقَدَمِ - مِنْ فُرُوضِ الْوُضُوءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. . .} (1) وَلِلأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي غَسْل الرِّجْلَيْنِ، وَمِنْهَا مَا رُوِيَ فِي وُضُوءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ غَسَل كُل رِجْلٍ ثَلاَثًا (2) . وَفِي لَفْظٍ: ثُمَّ غَسَل رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَل رِجْلَهُ الْيُسْرَى مِثْل ذَلِكَ (3) . وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْلٌ لِلأَْعْقَابِ مِنَ النَّارِ (4) وَذَلِكَ عِنْدَمَا رَأَى قَوْمًا يَتَوَضَّئُونَ وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ.
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً تَوَضَّأَ،
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) حديث: " غسل كل رجل ثلاثًا. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 266 - ط السلفية) من حديث عثمان.
(3) حديث: " ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين " أخرجه مسلم (1 / 205 - ط الحلبي) من حديث عثمان.
(4) حديث: " ويل للأعقاب من النار " أخرجه مسلم (1 / 214 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو.

(22/121)


فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفُرٍ عَلَى قَدَمِهِ فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ، فَرَجَعَ ثُمَّ صَلَّى (1) .
وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ فِي الرِّجْلَيْنِ هُوَ الْمَسْحُ لاَ الْغَسْل، وَذَلِكَ أَخْذًا بِقِرَاءَةِ مُهَاجِرٍ " أَرْجُلِكُمْ " فِي قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} (2) فَإِنَّهَا تَقْتَضِي كَوْنَ الأَْرْجُل مَمْسُوحَةً لاَ مَغْسُولَةً.
وَذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ إِلَى أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ غَسْل الرِّجْلَيْنِ وَبَيْنَ مَسْحِهِمَا؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدَةٍ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ قَدْ ثَبَتَ كَوْنُهَا قِرَاءَةً وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ مُقْتَضَيْهِمَا وَهُوَ وُجُوبُ الْغَسْل بِقِرَاءَةِ النَّصْبِ وَوُجُوبُ الْمَسْحِ بِقِرَاءَةِ الْجَرِّ، فَيُخَيَّرُ الْمُكَلَّفُ إِنْ شَاءَ عَمِل بِقِرَاءَةِ النَّصْبِ فَغَسَل، وَإِنْ شَاءَ عَمِل بِقِرَاءَةِ الْخَفْضِ فَمَسَحَ، وَأَيُّهُمَا فَعَل يَكُونُ آتِيًا بِالْمَفْرُوضِ، كَمَا هُوَ الْحَال فِي الأَْمْرِ بِأَحَدِ الأَْشْيَاءِ الثَّلاَثَةِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (وُضُوء، مَسْح) .

ب - حَدُّ السَّرِقَةِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَدَّ السَّارِقِ قَطْعُ يَدِهِ
__________
(1) حديث عمر: " أن رجلاً توضأ. . . . " أخرجه مسلم (1 / 215 - ط الحلبي) .
(2) سورة المائدة / 6.
(3) البدائع 1 / 5، والمجموع 1 / 417، والقوانين الفقهية ص 27، وجواهر الإكليل 1 / 14، والمغني لابن قدامة 1 / 132.

(22/121)


لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) وَأَوَّل مَا يُقْطَعُ مِنَ السَّارِقِ يَدُهُ الْيُمْنَى؛ لأَِنَّ الْبَطْشَ بِهَا أَقْوَى فَكَانَتِ الْبِدَايَةُ بِهَا أَرْدَعَ؛ وَلأَِنَّهَا آلَةُ السَّرِقَةِ، فَكَانَتِ الْعُقُوبَةُ بِقَطْعِهَا أَوْلَى.
4 - وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ سَرَقَ ثَانِيًا قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال فِي السَّارِقِ: إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ (2) وَلأَِنَّهُ فِي الْمُحَارَبَةِ الْمُوجِبَةِ قَطْعَ عُضْوَيْنِ إِنَّمَا تُقْطَعُ يَدُهُ وَرِجْلُهُ، وَلاَ تُقْطَعُ يَدَاهُ، وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَرَبِيعَةَ أَنَّهُ إِنْ سَرَقَ ثَانِيًا تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (3) وَلأَِنَّ الْيَدَ آلَةُ السَّرِقَةِ وَالْبَطْشِ فَكَانَتِ الْعُقُوبَةُ بِقَطْعِهَا أَوْلَى، قَال ابْنُ قُدَامَةَ - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْقَوْل - وَهَذَا شُذُوذٌ يُخَالِفُ قَوْل جَمَاعَةِ فُقَهَاءِ الأَْمْصَارِ مِنْ أَهْل الْفِقْهِ وَالأَْثَرِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
5 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا سَرَقَ ثَالِثًا بَعْدَ قَطْعِ
__________
(1) سورة المائدة / 38.
(2) حديث أبي هريرة: " إذا سرق السارق فاقطعوا يده " أخرجه الدراقطني (3 / 181 - ط دار المحاسن) وأعله شمس الحق العظيم آبادي في تعليقه عليه بضعف أحد رواته، ولكن له شاهد من حديث جابر بن عبد الله، أخرجه أبو داود (4 / 565 - 566 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(3) سورة المائدة / 38.

(22/122)


يَدِهِ الْيُمْنَى وَرِجْلِهِ الْيُسْرَى.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْطَعُ مِنْهُ شَيْءٌ بَل يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِسَارِقٍ أَقْطَعَ الْيَدِ وَالرِّجْل قَدْ سَرَقَ يُقَال لَهُ: سَدُومُ، وَأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَهُ، فَقَال لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّمَا عَلَيْهِ قَطْعُ يَدٍ وَرِجْلٍ، فَحَبَسَهُ عُمَرُ، وَلَمْ يَقْطَعْهُ.
وَلِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَطَعَ يَدَهُ - الْيُمْنَى - ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الثَّانِيَةَ وَقَدْ سَرَقَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ - الْيُسْرَى - ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الثَّالِثَةَ وَقَدْ سَرَقَ، فَقَال لأَِصْحَابِهِ: مَا تَرَوْنَ فِي هَذَا؟ قَالُوا: اقْطَعْهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَال: قَتَلْتُهُ إِذَنْ وَمَا عَلَيْهِ الْقَتْل، لاَ أَقْطَعُهُ، إِنْ قَطَعْتُ يَدَهُ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يَأْكُل الطَّعَامَ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاَةِ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ يَغْتَسِل مِنْ جَنَابَتِهِ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ يَتَمَسَّحُ، وَإِنْ قَطَعْتُ رِجْلَهُ بِأَيِّ شَيْءٍ يَمْشِي، بِأَيِّ شَيْءٍ يَقُومُ عَلَى حَاجَتِهِ، إِنِّي لأََسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ أَنْ لاَ أَدَعَ لَهُ يَدًا يَبْطِشُ بِهَا، وَلاَ رِجْلاً يَمْشِي عَلَيْهَا، ثُمَّ ضَرَبَهُ بِخَشَبَةٍ وَحَبَسَهُ.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَحَمَّادٌ وَالثَّوْرِيُّ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ إِنْ سَرَقَ ثَالِثًا قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى. فَإِنْ سَرَقَ رَابِعًا قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي

(22/122)


السَّارِقِ: إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ (1) . وَلأَِنَّهُ فِعْل أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ قَتَادَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَتُقْطَعُ رِجْل السَّارِقِ مِنَ الْمَفْصِل بَيْنَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ.

ج - قَاطِعُ الطَّرِيقِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ إِذَا أَخَذَ الْمَال وَلَمْ يَقْتُل، وَكَانَ الْمَال الَّذِي أَخَذَهُ بِمِقْدَارِ مَا تُقْطَعُ بِهِ يَدُ السَّارِقِ، فَإِنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَْرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ} (2) . وَبِهَذَا تَتَحَقَّقُ الْمُخَالَفَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الآْيَةِ، وَهِيَ أَرْفَقُ بِهِ فِي إِمْكَانِ مَشْيِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ مُخَيَّرٌ، فَيَحْكُمُ بَيْنَ الْقَتْل وَالصَّلْبِ وَالْقَطْعِ وَالنَّفْيِ، سَوَاءٌ قَتَل وَأَخَذَ الْمَال، أَمْ قَتَل فَقَطْ، أَوْ أَخَذَ الْمَال فَقَطْ، أَمْ خَوَّفَ دُونَ أَنْ يَقْتُل أَوْ يَأْخُذَ الْمَال (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (حِرَابَة) .
__________
(1) الحديث تقدم في ف / 5.
(2) سورة المائدة / 33.
(3) البدائع 7 / 93، وروضة الطالبين 10 / 156، والقوانين الفقهية ص 368، والمغني لابن قدامة 8 / 293، وجواهر الإكليل 2 / 294.

(22/123)


د - دِيَةُ الرِّجْل:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ فِي قَطْعِ الرِّجْلَيْنِ دِيَةً كَامِلَةً، وَفِي قَطْعِ إِحْدَاهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ، وَفِي قَطْعِ أُصْبُعِ الرِّجْل عُشْرَ الدِّيَةِ، وَفِي أُنْمُلَتِهَا ثُلُثَ الْعُشْرِ إِلاَّ الإِْبْهَامَ فَفِي أُنْمُلَتِهَا نِصْفُ الْعُشْرِ إِذْ لَيْسَ فِيهِ إِلاَّ أُنْمُلَتَانِ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ لَهُ فِي كِتَابِهِ: وَفِي الرِّجْل الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ (1) . قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كِتَابُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَمَا فِيهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ إِلاَّ قَلِيلاً.
وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ قَطْعَ الرِّجْل يُوجِبُ نِصْفَ الدِّيَةِ إِذَا كَانَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ أَوْ مِنْ أُصُول الأَْصَابِعِ الْخَمْسَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا قُطِعَتْ مِنَ السَّاقِ أَوْ مِنَ الرُّكْبَةِ أَوْ مِنَ الْفَخِذِ أَوْ مِنَ الْوَرِكِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ) إِلَى أَنَّ قَطْعَ الرِّجْل مِنْ هَذِهِ الأَْمَاكِنِ لاَ تَزِيدُ بِهِ الدِّيَةُ؛ لأَِنَّ الرِّجْل اسْمٌ لِهَذِهِ الْجَارِحَةِ إِلَى أَصْل الْفَخِذِ، فَلاَ يُزَادُ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْعِ، وَلأَِنَّ السَّاقَ أَوِ الْفَخِذَ لَيْسَ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ شَرْعًا، فَيَكُونُ تَبَعًا لِمَا لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ وَهِيَ الْقَدَمُ.
__________
(1) حديث عمرو بن حزم: " في الرجل الواحدة نصف الدية " أخرجه النسائي (8 / 58 - ط المكتبة التجارية) .

(22/123)


وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ حُكُومَةِ عَدْلٍ فِي ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى نِصْفِ الدِّيَةِ الْوَاجِبِ فِي الْقَدَمِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَة، وَحُكُومَةُ عَدْلٍ)

هـ - هَل الرِّجْل مِنَ الْعَوْرَةِ؟
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ رِجْل الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ عَوْرَةٌ مَا عَدَا قَدَمَيْهَا.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ مِنَ الرِّجْل عَوْرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَال. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ الرُّكْبَتَيْنِ وَالسُّرَّةِ مِنَ الرِّجْل عَوْرَةٌ (2) .
وَيُنْظَرُ: (عَوْرَة) .
__________
(1) البدائع 7 / 311 - 314، وتبيين الحقائق للزيلعي 6 / 133، والقوانين الفقهية ص 356، جواهر الإكليل 2 / 268، ومغني المحتاج 4 / 66، والمغني لابن قدامة 8 / 35، وحاشية ابن عابدين 5 / 369.
(2) البدائع 5 / 118، وجواهر الإكليل 1 / 41، والقوانين الفقهية ص 58، والمغني لابن قدامة 1 / 577، وروضة الطالبين 1 / 282.

(22/124)


رَجْمٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّجْمُ فِي اللُّغَةِ: الرَّمْيُ بِالْحِجَارَةِ.
وَيُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ أُخْرَى مِنْهَا: الْقَتْل.
وَمِنْهَا: الْقَذْفُ بِالْغَيْبِ أَوْ بِالظَّنِّ.
وَمِنْهَا اللَّعْنُ، وَالطَّرْدُ، وَالشَّتْمُ وَالْهِجْرَانُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ رَجْمُ الزَّانِي الْمُحْصَنِ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى الْمَوْتِ (2) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الرَّجْمِ عَلَى الزَّانِي الْمُحْصَنِ رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً.
وَقَدْ ثَبَتَ الرَّجْمُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ فِي أَخْبَارٍ تُشْبِهُ التَّوَاتُرَ. وَهَذَا قَوْل عَامَّةِ أَهْل الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا إِلاَّ الْخَوَارِجَ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْجَلْدُ لِلْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ لِقَوْل
__________
(1) تاج العروس، ولسان العرب، مادة: (رجم) .
(2) القوانين الفقهية لابن جزي ص 232

(22/124)


اللَّهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ الزِّنَى

مَنْ يُحَدُّ بِالرَّجْمِ:
3 - تَخْتَصُّ عُقُوبَةُ الرَّجْمِ بِالزَّانِي الْمُكَلَّفِ الْمُحْصَنِ:
وَالْمُحْصَنُ: كُل مُكَلَّفٍ حُرٌّ مُخْتَارٌ مُلْتَزِمٌ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَطِئَ أَوْ وُطِئَتْ حَال الْكَمَال فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ، أَوْ مُرْتَدًّا، لاِلْتِزَامِهِمَا أَحْكَامَ الشَّرْعِ.
وَانْظُرْ: (إِحْصَان) .
أَمَّا غَيْرُ الْمُكَلَّفِ فَلاَ يُرْجَمُ؛ لأَِنَّ فِعْلَهُ لاَ يُوصَفُ بِتَحْرِيمٍ، كَمَا لاَ يُرْجَمُ غَيْرُ الْمُلْتَزِمِ كَالْحَرْبِيِّ (2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (زِنَى)

كَيْفِيَّةُ الرَّجْمِ:
4 - إِذَا كَانَ الْمَرْجُومُ رَجُلاً أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ الرَّجْمِ، وَهُوَ قَائِمٌ وَلَمْ يُوثَقْ، وَلَمْ يُحْفَرْ لَهُ، سَوَاءٌ ثَبَتَ زِنَاهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِإِقْرَارٍ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَيُحْفَرُ لَهَا عِنْدَ الرَّجْمِ إِلَى صَدْرِهَا
__________
(1) سورة النور / 2.
(2) المغني 8 / 161، وشرح الزرقاني 8 / 75، وأسنى المطالب 4 / 128، وابن عابدين 3 / 148.

(22/125)


إِنْ ثَبَتَ زِنَاهَا بِبَيِّنَةٍ؛ لِئَلاَّ تَتَكَشَّفَ عَوْرَتُهَا (1) .
وَقَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: لاَ يُحْفَرُ لَهَا، كَالرَّجُل. وَيُخْرَجُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الرَّجْمَ إِلَى أَرْضٍ فَضَاءٍ، وَيَبْتَدِئُ بِالرَّجْمِ الشُّهُودُ إِذَا ثَبَتَ زِنَاهُ بِشَهَادَةٍ، نَدْبًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَوُجُوبًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَيَحْضُرُ الإِْمَامُ عِنْدَ الرَّجْمِ كَمَا يَحْضُرُ جَمْعٌ مِنَ الرِّجَال الْمُسْلِمِينَ، وَيُرْجَمُ بِحِجَارَةٍ مُعْتَدِلَةٍ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (زِنَى) .

الْجَمْعُ بَيْنَ الرَّجْمِ، وَالْجَلْدِ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْمَعُ عَلَى الزَّانِي الْمُحْصَنِ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ، وَقَال أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ: إِنَّهُ يُجْلَدُ ثُمَّ يُرْجَمُ (2) . (ر: جَلْد)

تَكْفِينُ الْمَرْجُومِ وَالصَّلاَةُ عَلَيْهِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَرْجُومَ يُكَفَّنُ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَاعِزٍ: اصْنَعُوا بِهِ مَا تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ (3) ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى الْغَامِدِيَّةِ (4) . وَالتَّفْصِيل فِي (صَلاَةُ الْجِنَازَةِ) .
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 133، وابن عابدين 3 / 147، والمغني 8 / 158.
(2) المصادر السابقة.
(3) حديث: " اصنعوا به ما تصنعون بموتاكم " أخرجه ابن أبي شيبة (3 / 254 - ط الدار السلفية بمبي) من حديث بريدة، وأعله ابن حجر في الدراية (2 / 97 - ط الفجالة) بأحد رواته.
(4) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم صلى على الغامدية " أخرجه مسلم (3 / 1324 - ط الحلبي) من حديث بريدة.

(22/125)


رَجْمُ الْحَامِل:
7 - لاَ يُقَامُ حَدُّ الرَّجْمِ عَلَى الْحَامِل حَتَّى تَضَعَ وَيَسْتَغْنِيَ عَنْهَا وَلِيدُهَا، سَوَاءٌ كَانَ الْحَمْل مِنْ زِنًا أَمْ غَيْرِهِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْحَامِل لاَ تُرْجَمُ حَتَّى تَضَعَ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي، وَإِنَّهُ رَدَّهَا، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ لِمَ تَرُدُّنِي لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا فَوَاللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى، قَال: إِمَّا لاَ فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي، فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي خِرْقَةٍ، قَالَتْ: هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ، قَال: اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ، فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ فَقَالَتْ: هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْتُهُ وَقَدْ أَكَل الطَّعَامَ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا، فَيُقْبِل خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ فَسَبَّهَا فَسَمِعَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّهُ إِيَّاهَا فَقَال: مَهْلاً يَا خَالِدُ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ (1) .
__________
(1) حديث الغامدية. . . أخرجه مسلم (3 / 1323 - 1324 - ط الحلبي) .

(22/126)


وَلأَِنَّ امْرَأَةً زَنَتْ فِي أَيَّامِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهَمَّ عُمَرُ بِرَجْمِهَا وَهِيَ حَامِلٌ، فَقَال لَهُ مُعَاذٌ: إِنْ كَانَ لَكَ سَبِيلٌ عَلَيْهَا فَلَيْسَ لَكَ سَبِيلٌ عَلَى حَمْلِهَا، فَلَمْ يَرْجُمْهَا؛ وَلأَِنَّ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا فِي حَال حَمْلِهَا إِتْلاَفًا لِمَعْصُومٍ، وَلاَ سَبِيل إِلَيْهِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُود)
__________
(1) المصادر السابقة.

(22/126)


رُجُوعٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّجُوعُ فِي اللُّغَةِ: الاِنْصِرَافُ، يُقَال: رَجَعَ يَرْجِعُ رَجْعًا وَرُجُوعًا وَرُجْعَى وَمَرْجِعًا: إِذَا انْصَرَفَ، وَرَجَعَهُ: رَدَّهُ، وَالرَّجْعَةُ: مُرَاجَعَةُ الرَّجُل أَهْلَهُ. وَرَجَعَ مِنْ سَفَرِهِ، وَعَنِ الأَْمْرِ يَرْجِعُ رَجْعًا وَرُجُوعًا، قَال ابْنُ السِّكِّيتِ: هُوَ نَقِيضُ الذَّهَابِ، وَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ فِي اللُّغَةِ الْفُصْحَى، وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ قَال تَعَالَى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ. .} (1) . وَهُذَيْلٌ تُعَدِّيهِ بِالأَْلِفِ، وَرَجَعْتُ الْكَلاَمَ وَغَيْرَهُ: رَدَدْتُهُ، وَرَجَعَ فِي الشَّيْءِ: عَادَ فِيهِ، وَمِنْ هُنَا قِيل: رَجَعَ فِي هِبَتِهِ إِذَا أَعَادَهَا إِلَى مِلْكِهِ (2) .
وَفِي الْكُلِّيَّاتِ: الرُّجُوعُ: الْعَوْدُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مَكَانًا أَوْ صِفَةً، أَوْ حَالاً، يُقَال: رَجَعَ إِلَى مَكَانِهِ، وَإِلَى حَالَةِ الْفَقْرِ أَوِ الْغِنَى، وَرَجَعَ إِلَى الصِّحَّةِ أَوِ الْمَرَضِ، أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الصِّفَاتِ،
__________
(1) سورة التوبة / 83.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح.

(22/127)


وَرَجَعَ عَوْدُهُ عَلَى بَدْئِهِ، أَيْ رَجَعَ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ، وَرَجَعَ عَنِ الشَّيْءِ تَرَكَهُ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ: أَقْبَل (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرَّدُّ:
2 - الرَّدُّ صَرْفُ الشَّيْءِ وَرَجْعُهُ، وَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْءَ إِذَا لَمْ يَقْبَلْهُ، وَكَذَا إِذَا خَطَّأَهُ، وَرَدَدْتُ إِلَيْهِ جَوَابَهُ، أَيْ رَجَعْتُ وَأَرْسَلْتُ، وَمِنْهُ: رَدَدْتُ عَلَيْهِ الْوَدِيعَةَ، وَتَرَدَّدْتُ إِلَى فُلاَنٍ: رَجَعْتُ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَتَرَادَّ الْقَوْمُ الْبَيْعَ: رَدُّوهُ (3) .
وَالْفُقَهَاءُ أَحْيَانًا يَسْتَعْمِلُونَ الرَّدَّ وَالرُّجُوعَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَال الْمَحَلِّيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: لِكُلٍّ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُعِيرِ رَدُّ الْعَارِيَّةِ مَتَى شَاءَ، وَرَدُّ الْمُعِيرِ بِمَعْنَى رُجُوعِهِ (4) . وَيَقُول الْفُقَهَاءُ فِي الْوَصِيَّةِ: يَكُونُ الرُّجُوعُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْقَوْل كَرَجَعْتُ فِي وَصِيَّتِي، أَوْ أَبْطَلْتُهَا وَنَحْوِهِ كَرَدَدْتُهَا (5) .
__________
(1) الكليات للكفوي 2 / 390.
(2) البدائع 6 / 127، 283 و 7 / 61، 378، وجواهر الإكليل 1 / 91، 170، والقليوبي 2 / 293، وشرح منتهى الإرادات 2 / 545.
(3) لسان العرب والمصباح المنير.
(4) القليوبي وعميرة 3 / 21 - 22
(5) شرح منتهى الإرادات 2 / 545.

(22/127)


وَقَدْ يَخْتَصُّ الرُّجُوعُ بِمَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ التَّصَرُّفُ كَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَالرُّجُوعِ عَنِ الإِْقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ، وَيُسْتَعْمَل الرَّدُّ فِيمَنْ صَدَرَ التَّصَرُّفُ لِصَالِحِهِ كَرَدِّ الْمُسْتَعِيرِ لِلْعَارِيَّةِ، وَرَدِّ الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ، أَوْ مِنْ طَرَفٍ ثَالِثٍ كَرَدِّ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ

ب - الْفَسْخُ:
3 - الْفَسْخُ: النَّقْضُ، يُقَال فَسَخَ الشَّيْءَ يَفْسَخُهُ فَسْخًا فَانْفَسَخَ: أَيْ نَقَضَهُ فَانْتَقَضَ، وَفَسِخَ رَأْيُهُ: فَسَدَ، وَيُقَال: فَسَخْتُ الْبَيْعَ وَالنِّكَاحَ فَانْفَسَخَ، أَيْ نَقَضْتُهُ فَانْتَقَضَ، وَفَسَخْتُ الْعَقْدَ فَسْخًا رَفَعْتُهُ، وَفَسَخْتُ الشَّيْءَ فَرَّقْتُهُ (1) .
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الْفَسْخَ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ، قَال الْكَاسَانِيُّ: الرُّجُوعُ: فَسْخُ الْعَقْدِ بَعْدَ تَمَامِهِ (2) .
وَفِي الْمَنْثُورِ لِلزَّرْكَشِيِّ: الْفَسْخُ لَفْظٌ أَلَّفَهُ الْفُقَهَاءُ، وَمَعْنَاهُ رَدُّ الشَّيْءِ وَاسْتِرْدَادُ مُقَابِلِهِ (3) .

ج - النَّقْضُ:
4 - النَّقْضُ: إِفْسَادُ مَا أَبْرَمْتَ مِنْ عَقْدٍ أَوْ بِنَاءٍ، وَالنَّقْضُ: انْتِثَارُ الْعَقْدِ مِنَ الْبِنَاءِ وَالْحَبْل وَالْعَقْدِ،
__________
(1)) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) البدائع 6 / 128.
(3) المنثور 3 / 47.

(22/128)


وَهُوَ ضِدُّ الإِْبْرَامِ، يُقَال: نَقَضْتُ الْبِنَاءَ وَالْحَبْل وَالْعَقْدَ، وَفِي حَدِيثِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ: فَنَاقَضَنِي وَنَاقَضْتُهُ (1) "، أَيْ يَنْقُضُ قَوْلِي وَأَنْقُضُ قَوْلَهُ، وَأَرَادَ بِهِ الْمُرَاجَعَةَ وَالْمُرَادَّةَ (2) . وَيَقُول الْفُقَهَاءُ: يَحْصُل الرُّجُوعُ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِالْقَوْل كَنَقَضْتُ الْوَصِيَّةَ (3) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الرُّجُوعُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا بِاخْتِلاَفِ مَوْضُوعِهَا، وَلِذَلِكَ يَعْتَرِي الرُّجُوعُ الأَْحْكَامَ التَّكْلِيفِيَّةَ.
فَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَالرُّجُوعِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عِنْدَ التَّنَازُعِ، وَكَرُجُوعِ الْمُرْتَدِّ إِلَى الإِْسْلاَمِ، وَرُجُوعِ الْبُغَاةِ إِلَى طَاعَةِ الإِْمَامِ (4) .
وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا كَاسْتِحْبَابِ تَعْجِيل رُجُوعِ الْمُسَافِرِ إِلَى أَهْلِهِ بَعْدَ قَضَاءِ حَاجَتِهِ (5) .
وَكَرُجُوعِ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالتَّرَاضِي بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالإِْقَالَةِ (6) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَقَال
__________
(1) في حديث صوم التطوع: " فناقضني وناقضته ". أورده ابن الأثير في النهاية (5 / 107 ط الحلبي) .
(2) لسان العرب والمصباح المنير والمفردات للراغب الأصفهاني.
(3) البدائع 7 / 394، ومغني المحتاج 3 / 71.
(4) مختصر تفسير ابن كثير 1 / 408، وجواهر الإكليل 2 / 278، وشرح منتهى الإرادات 3 / 382.
(5) الدسوقي 1 / 367.
(6) شرح منتهى الإرادات

(22/128)


مُسْلِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (1) .
وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا وَذَلِكَ كَالرُّجُوعِ فِي الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ كَالْوَصِيَّةِ (2) .
وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا كَالرُّجُوعِ فِي الصَّدَقَةِ، وَقَدْ قَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ وَهَبَ هِبَةً عَلَى وَجْهِ صَدَقَةٍ فَإِنَّهُ لاَ يَرْجِعُ فِيهَا (3) .
وَكَالرُّجُوعِ عَنْ دِينِ الإِْسْلاَمِ، فَمَنْ كَانَ مُسْلِمًا، أَوْ كَافِرًا وَأَسْلَمَ حَرُمَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ عَنْ دِينِ الإِْسْلاَمِ؛ لأَِنَّهُ يُصْبِحُ بِذَلِكَ مُرْتَدًّا (4) .
وَقَدْ يَكُونُ الرُّجُوعُ مَكْرُوهًا كَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. جَاءَ فِي الاِخْتِيَارِ: يُكْرَهُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ؛ لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَسَاسَةِ وَالدَّنَاءَةِ، وَقَدْ قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ (5) . شَبَّهَهُ بِهِ لِخَسَاسَةِ الْفِعْل وَدَنَاءَةِ الْفَاعِل (6) .
__________
(1) حديث: " من أقال مسلمًا أقاله الله عثرته يوم القيامة " أخرجه ابن ماجه (2 / 741 - ط الحلبي) ، والحاكم (2 / 45 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) البدائع 7 / 378.
(3) الهداية 3 / 231، والمغني 5 / 684.
(4) البدائع 7 / 134.
(5) حديث: " العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 235 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1241 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس، واللفظ لمسلم.
(6) الاختيار لتعليل المختار 3 / 51.

(22/129)


مَا يَتَعَلَّقُ بِالرُّجُوعِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَسْبَابُ الرُّجُوعِ:
6 - الرُّجُوعُ قَدْ يَكُونُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ كَالْقَضَاءِ، وَالإِْقْرَارِ، وَالشَّهَادَةِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالْهِبَةِ، وَالْكَفَالَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ يَكُونُ فِي الأَْفْعَال كَرُجُوعِ مَنْ تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ دُونَ إِحْرَامٍ إِلَى الْمِيقَاتِ لِيُحْرِمَ مِنْهُ، وَكَرُجُوعِ الْمُسَافِرَةِ الَّتِي طَرَأَ عَلَيْهَا مُوجِبُ الْعِدَّةِ إِلَى مَسْكَنِهَا لِتَعْتَدَّ فِيهِ.
وَتَخْتَلِفُ أَسْبَابُ الرُّجُوعِ فِي كُل ذَلِكَ وَتَتَعَدَّدُ بِاخْتِلاَفِ الْمَوَاضِعِ وَالْمَسَائِل، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلاً: الرُّجُوعُ فِي الأَْقْوَال وَالتَّصَرُّفَاتِ:
1 - الرُّجُوعُ فِي الْحُكْمِ وَالْفَتْوَى:
لِلرُّجُوعِ فِي الْحُكْمِ وَالْفَتْوَى أَسْبَابٌ مِنْهَا:

أ - خَفَاءُ الدَّلِيل:
7 - الأَْصْل فِي الْحُكْمِ وَالْفَتْوَى هُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَرْجِعُ فِيهِمَا إِلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الإِْجْمَاعِ، وَإِلاَّ فَالْقِيَاسُ وَالاِجْتِهَادُ إِنْ لَمْ يُوجَدْ نَصٌّ ظَاهِرٌ. (1) وَدَلِيل ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (2)
__________
(1) مختصر تفسير ابن كثير 1 / 408، وأعلام الموقعين 2 / 279 - 280، والمغني 9 / 50، 532، وفواتح الرحموت 2 / 395.
(2) سورة النساء / 105.

(22/129)


وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (1) .
وَقَدْ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ وَقَال لَهُ: كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟ قَال: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ، قَال: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَال: فَبِسُنَّةِ رَسُول اللَّهِ، قَال: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُول اللَّهِ وَلاَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَال: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلاَ آلُو، فَضَرَبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرَهُ وَقَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُول رَسُول اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُول اللَّهِ (2) . وَلِذَلِكَ لاَ يُنْقَضُ قَضَاءُ الْقَاضِي إِلاَّ إِذَا خَالَفَ نَصًّا ظَاهِرًا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، أَوْ خَالَفَ إِجْمَاعًا، أَوْ خَالَفَ قِيَاسًا جَلِيًّا، كَمَا يَقُول بَعْضُ الْفُقَهَاءِ. (3)
لَكِنْ قَدْ يَكُونُ الْحُكْمُ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ لِخَفَاءِ
__________
(1) سورة النساء / 59.
(2) حديث: " بَعَثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن " أخرجه أبو داود (4 / 18 - 19 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والترمذي (3 / 607 - ط الحلبي) ، واللفظ لأبي داود، وقال الترمذي: " هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل ".
(3) البدائع 7 / 4 / 14، والتبصرة بهامش فتح العلي 1 / 70، ومغني المحتاج 4 / 396، والمغني 9 / 56، والأحكام للآمدي 4 / 203.

(22/130)


الدَّلِيل، وَقَدْ تَكُونُ الْفَتْوَى كَذَلِكَ، فَإِذَا ظَهَرَ الْحَقُّ وَوُجِدَ الدَّلِيل وَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ أَنَّهُ خَفِيَ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دِيَةُ الأَْصَابِعِ فَقَضَى فِي الإِْبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ حَتَّى أُخْبِرَ أَنَّ فِي كِتَابِ آل عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِيهَا بِعُشْرِ عُشْرٍ فَتَرَكَ قَوْلَهُ وَرَجَعَ إِلَيْهِ (1) .

ب - اسْتِظْهَارُ الْمُجْتَهِدِ رَأْيَ مُجْتَهِدٍ آخَرَ:
8 - الاِخْتِلاَفُ بَيْنَ الْمُجْتَهِدَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ يُوجِبُ عَلَى أَحَدِهِمَا الرُّجُوعَ إِلَى رَأْيِ مَنْ ظَهَرَ الْحَقُّ فِي جَانِبِهِ، فَقَدْ عَارَضَ عُمَرُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فِي قِتَال مَانِعِي الزَّكَاةِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأَِنَّهُمْ فِي نَظَرِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَشْهَدُونَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَقَدْ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَمَنْ قَال لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ (2) ، فَقَال أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لأَُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَال، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ
__________
(1) إعلام الموقعين 2 / 270 - 271، والمغني 9 / 42، 51، وحديث: " قضاء عمر في دية الأصابع ورجوعه عن رأيه " أخرجه البيهقي (8 / 93 - ط دائرة المعارف العثمانية) .
(2) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 262 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 51 - 52 - ط الحلبي) .

(22/130)


عَلَى مَنْعِهِ، فَقَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ قَدْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَال فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.
قَال النَّوَوِيُّ وَالأَْبِيُّ فِي شَرْحِهِمَا لِلْحَدِيثِ: هَذَا يَدُل عَلَى اجْتِهَادِ الأَْئِمَّةِ فِي النَّوَازِل وَرَدِّهَا إِلَى الأُْصُول، وَمُنَاظَرَةِ أَهْل الْعِلْمِ فِيهَا، وَرُجُوعِ مَنْ ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ إِلَى قَوْل صَاحِبِهِ. (1)

ج - اقْتِضَاءُ الْمَصْلَحَةِ:
9 - قَدْ يَكُونُ الرُّجُوعُ مِنْ أَجْل الْمَصْلَحَةِ، (2) وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَل مَنْزِلاً لِلْحَرْبِ فِي بَدْرٍ فَقِيل لَهُ: إِنْ كَانَ بِوَحْيٍ فَسَمْعًا وَطَاعَةً، وَإِنْ كَانَ بِاجْتِهَادٍ وَرَأْيٍ فَهُوَ مَنْزِل مَكِيدَةٍ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَل بِاجْتِهَادٍ وَرَأْيٍ، فَأُشِيرَ عَلَيْهِ بِمَكَانٍ آخَرَ فِيهِ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ فَفَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَرَجَعَ إِلَى رَأْيِ الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ (3) .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 1 / 210 - 213، والأبي 1 / 109
(2) المستصفى 2 / 356، وصحيح مسلم بشرح الأبي 1 / 114، 125، وشرح النووي 1 / 225، 241، ومختصر تفسير ابن كثير 2 / 91، والأحكام للآمدي 4 / 169 - 170 ط المكتب الإسلامي.
(3) حديث الحباب بن المنذر أورده ابن هشام في السيرة (1 / 620 - ط الحلبي) نقلاً عن ابن إسحاق، وفيه جهالة الواسطة بين ابن إسحاق والحباب، ووصله الحاكم في المستدرك (3 / 426 - 427 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال الذهبي: " حديث منكر ".

(22/131)


قَال ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ: حُدِّثْتُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، أَنَّهُمْ ذَكَرُوا: أَنَّ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ، أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِل، أَمَنْزِلاً أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ، وَلاَ نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَال بَل هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ، فَانْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ، فَنَنْزِلَهُ، ثُمَّ نُغَوِّرَ مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْقُلُبِ، ثُمَّ نَبْنِيَ عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمَّ نُقَاتِل الْقَوْمَ، فَنَشْرَبُ وَلاَ يَشْرَبُونَ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ. فَنَهَضَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ النَّاسِ، فَسَارَ حَتَّى إِذَا أَتَى أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ نَزَل عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْقُلُبِ فَغُوِّرَتْ، وَبَنَى حَوْضًا عَلَى الْقَلِيبِ الَّذِي نَزَل عَلَيْهِ، فَمُلِئَ مَاءً، ثُمَّ قَذَفُوا فِيهِ الآْنِيَةَ.
وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الأَْزْوَادِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ حِينَ نَفِدَتْ أَزْوَادُ الْقَوْمِ حَتَّى هَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْرِ بَعْضِ حَمَائِلِهِمْ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَجْمَعَ مَا بَقِيَ مِنْ أَزْوَادِ الْقَوْمِ فَيَدْعُو عَلَيْهَا فَفَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ حَتَّى مَلأََ الْقَوْمُ أَزْوِدَتَهُمْ (1) . قَال الْعُلَمَاءُ: لاَ خِلاَفَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَيَرْجِعَ إِلَى
__________
(1) حديث عمر في " جمع الأزواد. . . " أخرجه مسلم (1 / 56 - 57 - ط الحلبي) .

(22/131)


رَأْيِ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ، كَمَا فَعَل فِي تَلْقِيحِ النَّخْل، وَالنُّزُول بِبَدْرٍ، وَمُصَالَحَةِ أَهْل الأَْحْزَابِ.
وَكَذَلِكَ فَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَرْسَل أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِنَعْلَيْهِ وَقَال لَهُ: مَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ فَقَال لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ تَفْعَل فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِل النَّاسُ عَلَيْهَا، فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ. فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَخَلِّهِمْ (1) .

د - تَغَيُّرُ اجْتِهَادِ الْقَاضِي:
10 - مِنْ أَسْبَابِ الرُّجُوعِ أَيْضًا تَغَيُّرُ الاِجْتِهَادِ، فَالْمُجْتَهِدُ الَّذِي يَتَغَيَّرُ اجْتِهَادُهُ إِلَى رَأْيٍ يُخَالِفُ رَأْيَهُ الأَْوَّل يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ عَنِ اجْتِهَادِهِ الأَْوَّل وَالْعَمَل بِمَا تَغَيَّرَ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ كِتَابُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ وَقَدْ جَاءَ فِيهِ: وَلاَ يَمْنَعَنَّكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَ بِهِ الْيَوْمَ فَرَاجَعْتَ فِيهِ رَأْيَكَ وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ أَنْ تُرَاجِعَ فِيهِ الْحَقَّ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ وَلاَ يُبْطِلُهُ شَيْءٌ، وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِل.
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: يُرِيدُ أَنَّكَ إِذَا اجْتَهَدْتَ فِي حُكُومَةٍ ثُمَّ وَقَعَتْ لَكَ مَرَّةً أُخْرَى فَلاَ يَمْنَعُكَ
__________
(1) حديث: " من لقيت وراء هذا الحائط يشهد. . . " أخرجه مسلم (1 / 60 - ط الحلبي) .

(22/132)


الاِجْتِهَادُ الأَْوَّل مِنْ إِعَادَتِهِ، فَإِنَّ الاِجْتِهَادَ قَدْ يَتَغَيَّرُ، وَلاَ يَكُونُ الاِجْتِهَادُ الأَْوَّل مَانِعًا مِنَ الْعَمَل بِالثَّانِي إِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ الْحَقُّ، فَإِنَّ الْحَقَّ أَوْلَى بِالإِْيثَارِ؛ لأَِنَّهُ قَدِيمٌ سَابِقٌ عَلَى الْبَاطِل، فَإِنْ كَانَ الاِجْتِهَادُ الأَْوَّل قَدْ سَبَقَ الثَّانِيَ، وَالثَّانِي هُوَ الْحَقُّ فَهُوَ أَسْبَقُ مِنْ الاِجْتِهَادِ الأَْوَّل؛ لأَِنَّهُ قَدِيمٌ سَابِقٌ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَلاَ يُبْطِلُهُ وُقُوعُ الاِجْتِهَادِ الأَْوَّل عَلَى خِلاَفِهِ، بَل الرُّجُوعُ إِلَيْهِ أَوْلَى مِنَ التَّمَادِي عَلَى الاِجْتِهَادِ الأَْوَّل. (1)
11 - عَلَى أَنَّ تَغَيُّرَ الاِجْتِهَادِ وَإِنْ كَانَ يُوجِبُ الرُّجُوعَ إِلَى مَا تَغَيَّرَ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ لَكِنَّ ذَلِكَ لاَ يُبْطِل الاِجْتِهَادَ الأَْوَّل إِذَا صَدَرَ بِهِ حُكْمٌ.
وَهَذَا فِي الْحَوَادِثِ الَّتِي هِيَ مَحَل الاِجْتِهَادِ، قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْمُجْتَهِدُ إِذَا قَضَى فِي حَادِثَةٍ بِرَأْيِهِ - وَهِيَ مَحَل الاِجْتِهَادِ - ثُمَّ رُفِعَتْ إِلَيْهِ ثَانِيًا فَتَحَوَّل رَأْيُهُ يَعْمَل بِالرَّأْيِ الثَّانِي، وَلاَ يُوجِبُ هَذَا نَقْضَ الْحُكْمِ بِالرَّأْيِ الأَْوَّل؛ لأَِنَّ الْقَضَاءَ بِالرَّأْيِ الأَْوَّل قَضَاءٌ مُجْمَعٌ عَلَى جَوَازِهِ لاِتِّفَاقِ أَهْل الاِجْتِهَادِ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ فِي مَحَل الاِجْتِهَادِ بِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَكَانَ هَذَا قَضَاءً مُتَّفَقًا عَلَى صِحَّتِهِ، وَلاَ اتِّفَاقَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الرَّأْيِ الثَّانِي، فَلاَ يَجُوزُ نَقْضُ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ بِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَلِهَذَا لاَ يَجُوزُ لِقَاضٍ آخَرَ أَنْ يُبْطِل هَذَا الْقَضَاءَ، كَذَا هَذَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) إعلام الموقعين 1 / 110، 234

(22/132)


قَضَى فِي الْمُشَرَّكَةِ بِإِسْقَاطِ الإِْخْوَةِ مِنَ الأَْبَوَيْنِ وَتَوْرِيثِ الإِْخْوَةِ لأُِمٍّ، ثُمَّ شَرَّكَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ بَعْدُ، وَلَمَّا سُئِل قَال: تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَهَذِهِ عَلَى مَا نَقْضِي، فَأَخَذَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِلاَ الاِجْتِهَادَيْنِ بِمَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ الْقَضَاءُ الأَْوَّل مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الثَّانِي، وَلَمْ يُنْقَضِ الأَْوَّل بِالثَّانِي، فَجَرَى أَئِمَّةُ الإِْسْلاَمِ بَعْدَهُ عَلَى هَذَيْنِ الأَْصْلَيْنِ. (1)
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي جَوَازِ رُجُوعِ الْقَاضِي عَمَّا قَضَى بِهِ إِذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ.
قَال ابْنُ حَبِيبٍ: أَخْبَرَنِي مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ فِي الْقَاضِي يَقْضِي بِالْقَضَاءِ ثُمَّ يَرَى مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ فَيُرِيدُ الرُّجُوعَ عَنْهُ إِلَى مَا رَأَى، فَذَلِكَ لَهُ مَا كَانَ عَلَى وِلاَيَتِهِ الَّتِي فِيهَا قَضَى بِذَلِكَ الْقَضَاءِ الَّذِي يُرِيدُ الرُّجُوعَ عَنْهُ، وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَسَحْنُونٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: لاَ يَجُوزُ فَسْخُهُ، وَصَوَّبَهُ أَئِمَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ قِيَاسًا عَلَى حُكْمِ غَيْرِهِ؛ وَلأَِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ نَقْضُ هَذَا لِرَأْيِهِ الثَّانِي لَكَانَ لَهُ فَسْخُ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَلاَ يَقِفُ عَلَى حَدٍّ، وَلاَ يَثِقُ أَحَدٌ بِمَا قُضِيَ لَهُ بِهِ وَذَلِكَ ضَرَرٌ شَدِيدٌ، وَقِيل: إِنْ كَانَ الْقَضَاءُ بِمَالٍ فَسَخَهُ، وَإِنْ كَانَ ثُبُوتَ
__________
(1) البدائع 7 / 5، والمغني 9 / 56 - 57، وإعلام الموقعين 1 / 110 - 111، 4 / 232، والوجيز 2 / 241، والأحكام للآمدي 4 / 203.

(22/133)


نِكَاحٍ أَوْ فَسْخَهُ لَمْ يَنْقُضْهُ. قَال ابْنُ رَاشِدٍ الْقَفْصِيُّ: وَالْمَشْهُورُ جَوَازُ الرُّجُوعِ وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لأَِنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى الصَّوَابِ.
لَكِنَّ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ ذَكَرَ أَنَّ الْخِلاَفَ إِنَّمَا هُوَ إِذَا حَكَمَ بِذَلِكَ وَهُوَ يَرَاهُ بِاجْتِهَادِهِ، أَمَّا إِنْ قَضَى بِذَلِكَ ذَاهِلاً أَوْ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلاً فَلاَ يَنْبَغِي الْخِلاَفُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ عَنْهُ إِلَى مَا رَأَى إِذْ قَدْ تَبَيَّنَ لَهُ الْخَطَأُ.
وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ قَال بِهِ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ اسْتِنَادًا إِلَى مَا جَاءَ فِي كِتَابِ عُمَرَ إِلَى أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. (1)

هـ - تَغَيُّرُ اجْتِهَادِ الْمُفْتِي:
12 - مِنْ أَسْبَابِ الرُّجُوعِ كَذَلِكَ تَغَيُّرُ اجْتِهَادِ الْمُفْتِي، فَإِذَا أَفْتَى الْمُجْتَهِدُ بِرَأْيٍ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ عَنْ رَأْيِهِ الأَْوَّل وَالإِْفْتَاءُ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ثَانِيًا.
وَقَدْ كَانَ لأَِئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ أَقْوَالٌ رَجَعُوا عَنْهَا لَمَّا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُمْ وَصَارَتْ لَهُمْ أَقْوَالٌ أُخْرَى هِيَ الَّتِي تَغَيَّرَ إِلَيْهَا اجْتِهَادُهُمْ. فَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ عَنِ الْقَوْل بِأَنَّ الصَّدَقَةَ أَفْضَل مِنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ لَمَّا حَجَّ وَعَرَفَ مَشَقَّتَهُ. (2)
__________
(1) منح الجليل 4 / 193، والتبصرة بهامش فتح العلي 1 / 71 - 72، والمغني 9 / 56
(2) ابن عابدين 1 / 49

(22/133)


وَقَدْ كَانَ لِمَالِكٍ أَقْوَالٌ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهَا نَقَلَهَا عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَغَيْرُهُ، وَنَظَرًا لأَِنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ لاَزَمَ مَالِكًا كَثِيرًا وَكَانَ لاَ يَغِيبُ عَنْ مَجْلِسِهِ إِلاَّ لِعُذْرٍ فَقَدْ قَالُوا: مَنْ قَلَّدَ مَالِكًا فَإِنَّمَا يَأْخُذُ بِالْقَوْل الْمَرْجُوعِ إِلَيْهِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ؛ لأَِنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ الرَّاجِحُ لِمَصِيرِ مَالِكٍ إِلَيْهِ آخِرًا مَعَ ذِكْرِهِ الْقَوْل الأَْوَّل. (1)
كَذَلِكَ كَانَ لِلشَّافِعِيِّ مَذْهَبَانِ أَوْ قَوْلاَنِ وَهُمَا الْقَدِيمُ وَالْجَدِيدُ، يَقُول النَّوَوِيُّ: صَنَّفَ الشَّافِعِيُّ فِي الْعِرَاقِ كِتَابَهُ الْقَدِيمَ، وَيُسَمَّى كِتَابَ الْحُجَّةِ، وَيَرْوِيهِ عَنْهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ جِلَّةِ أَصْحَابِهِ وَهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالزَّعْفَرَانِيُّ، وَالْكَرَابِيسِيُّ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مِصْرَ وَصَنَّفَ كُتُبَهُ الْجَدِيدَةَ كُلَّهَا بِمِصْرَ.
ثُمَّ يَقُول النَّوَوِيُّ: كُل مَسْأَلَةٍ فِيهَا قَوْلاَنِ لِلشَّافِعِيِّ قَدِيمٌ وَجَدِيدٌ، فَالْجَدِيدُ هُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ الْعَمَل؛ لأَِنَّ الْقَدِيمَ مَرْجُوعٌ عَنْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ بَعْضَ الْمَسَائِل الْمُسْتَثْنَاةِ وَالَّتِي يُفْتَى فِيهَا بِالْقَدِيمِ. وَقَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: مُعْتَقَدِي أَنَّ الأَْقْوَال الْقَدِيمَةَ لَيْسَتْ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ حَيْثُ كَانَتْ؛ لأَِنَّهُ جَزَمَ فِي الْجَدِيدِ بِخِلاَفِهَا، وَالْمَرْجُوعُ عَنْهُ لَيْسَ مَذْهَبًا لِلرَّاجِعِ.
13 - عَلَى أَنَّ أَتْبَاعَ الأَْئِمَّةِ قَدْ يُفْتُونَ بِالأَْقْوَال الْقَدِيمَةِ الَّتِي رَجَعَ عَنْهَا أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ لِرَجَاحَتِهَا فِي نَظَرِهِمْ.
__________
(1) التبصرة بهامش فتح العلي 1 / 60.

(22/134)


يَقُول النَّوَوِيُّ: إِذَا عَلِمْتُ حَال الْقَدِيمِ وَوَجَدْنَا أَصْحَابَنَا أَفْتَوْا بِالْمَسَائِل الَّتِي فِيهِ حَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَدَّاهُمُ اجْتِهَادُهُمْ إِلَى الْقَدِيمِ لِظُهُورِ دَلِيلِهِ وَهُمْ مُجْتَهِدُونَ فَأَفْتَوْا بِهِ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نِسْبَتُهُ إِلَى الشَّافِعِيِّ، وَلَمْ يَقُل أَحَدٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِل إِنَّهَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. (1) وَيَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: أَتْبَاعُ الأَْئِمَّةِ يُفْتُونَ كَثِيرًا بِأَقْوَالِهِمُ الْقَدِيمَةِ الَّتِي رَجَعُوا عَنْهَا، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي سَائِرِ الطَّوَائِفِ. فَالْحَنَفِيَّةُ يُفْتُونَ بِلُزُومِ الْمَنْذُورَاتِ الَّتِي مَخْرَجُهَا مَخْرَجُ الْيَمِينِ كَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ، وَقَدْ حَكَوْا هُمْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَجَعَ قَبْل مَوْتِهِ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ إِلَى التَّكْفِيرِ، وَالْحَنَابِلَةُ يُفْتِي كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِوُقُوعِ طَلاَقِ السَّكْرَانِ، وَقَدْ صَرَّحَ أَحْمَدُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ إِلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ، وَالشَّافِعِيَّةُ يُفْتُونَ بِالْقَوْل الْقَدِيمِ فِي مَسْأَلَةِ التَّثْوِيبِ، وَامْتِدَادِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ، وَمَسْأَلَةِ التَّبَاعُدِ عَنِ النَّجَاسَةِ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِل، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقَوْل الَّذِي صَرَّحَ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ لَمْ يَبْقَ مَذْهَبًا لَهُ، فَإِذَا أَفْتَى الْمُفْتِي بِهِ مَعَ نَصِّهِ عَلَى خِلاَفِهِ لِرُجْحَانِهِ عِنْدَهُ لَمْ يُخْرِجْهُ ذَلِكَ عَنِ التَّمَذْهُبِ بِمَذْهَبِهِ.
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: الصَّوَابُ إِذَا تَرَجَّحَ - عِنْدَ الْمُنْتَسِبِ إِلَى مَذْهَبٍ - قَوْلٌ غَيْرُ قَوْل إِمَامِهِ بِدَلِيلٍ رَاجِحٍ فَلاَ بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى أُصُول إِمَامِهِ
__________
(1) المجموع (1 / 24 - 25، 112 - 113) تحقيق المطيعي.

(22/134)


وَقَوَاعِدِهِ، فَإِنَّ الأَْئِمَّةَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أُصُول الأَْحْكَامِ، وَمَتَى قَال بَعْضُهُمْ قَوْلاً مَرْجُوحًا فَأُصُولُهُ تَرُدُّهُ وَتَقْتَضِي الْقَوْل الرَّاجِحَ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: قَال أَبُو عَمْرٍو: اخْتِيَارُ أَحَدِ أَتْبَاعِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِلْقَدِيمِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيل اخْتِيَارِهِ مَذْهَبَ غَيْرِ الشَّافِعِيِّ إِذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ. (1)
2 - الرُّجُوعُ فِي الْعُقُودِ:
أ - الرُّجُوعُ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ:
14 - الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ (غَيْرُ اللاَّزِمَةِ) كَالْعَارِيَّةِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالشَّرِكَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالْوَدِيعَةِ، عُقُودٌ غَيْرُ لاَزِمَةٍ، وَعَدَمُ لُزُومِهَا يُبِيحُ الرُّجُوعَ فِيهَا إِذَا تَوَافَرَتِ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ الَّتِي حَدَّدَهَا الْفُقَهَاءُ كَشَرْطِ نُضُوضِ (2) رَأْسِ الْمَال فِي الْمُضَارَبَةِ، وَشَرْطِ عِلْمِ الطَّرَفِ الآْخَرِ بِالْفَسْخِ، وَشَرْطِ عَدَمِ الضَّرَرِ فِي الرُّجُوعِ، فَمَنِ اسْتَعَارَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ، وَأَرَادَ الْمُعِيرُ الرُّجُوعَ، فَإِنَّ الرُّجُوعَ الْفِعْلِيَّ يَتَوَقَّفُ حَتَّى يَحْصُدَ الزَّرْعَ، وَمَنْ أَعَارَ مَكَانًا لِدَفْنٍ، وَحَصَل الدَّفْنُ فِعْلاً فَلاَ يَرْجِعُ الْمُعِيرُ فِي مَوْضِعِهِ حَتَّى يَنْدَرِسَ أَثَرُ الْمَدْفُونِ، كَمَا أَنَّ الْعَارِيَّةَ الْمُقَيَّدَةَ بِأَجَلٍ أَوْ عَمَلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ
__________
(1) المجموع 1 / 113، وإعلام الموقعين 4 / 238 - 239
(2) الناض من المال: ما كان نقدًا، وهو ضد العرض، الزاهر: ف / 302.

(22/135)


رُجُوعَ فِيهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ الأَْجَل أَوِ الْعَمَل. (1)

ب - الْعُقُودُ الَّتِي يَدْخُلُهَا الْخِيَارُ:
15 - الْعُقُودُ الَّتِي مِنْ طَبِيعَتِهَا اللُّزُومُ كَالْبَيْعِ، يَكُونُ لُزُومُهَا بِتَمَامِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول، مَا لَمْ يَلْحَقْهَا الْخِيَارُ فَإِذَا لَحِقَهَا الْخِيَارُ صَارَتْ عُقُودًا غَيْرَ لاَزِمَةٍ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، فَيَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا. (2) انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (خِيَار) .

3 - الرُّجُوعُ بِالإِْقَالَةِ:
16 - الإِْقَالَةُ - سَوَاءٌ اعْتُبِرَتْ فَسْخًا أَوْ بَيْعًا - تُعْتَبَرُ رُجُوعًا فِي الْعَقْدِ بِرِضَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَهِيَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْجَائِزَةِ بَل الْمَنْدُوبَةِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَقَال مُسْلِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ (3) وَالْقَصْدُ مِنْهَا رَدُّ كُل حَقٍّ إِلَى صَاحِبِهِ، فَفِي الْبَيْعِ مَثَلاً يَعُودُ - بِمُقْتَضَاهَا - الْمَبِيعُ إِلَى الْبَائِعِ، وَالثَّمَنُ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَفِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ لاَ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّمَنِ الأَْوَّل أَوْ نَقْصُهُ أَوْ رَدُّ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ لأَِنَّ
__________
(1) البدائع 6 / 37، 77، 109، 216، 7 / 378، وجواهر الإكليل 2 / 115، 132، 177، 318، والشرح الصغير 2 / 208 - ط الحلبي، ومغني المحتاج 2 / 215، 270، 319، 3 / 71، القليوبي وعميرة 3 / 21، 22، وشرح منتهى الإرادات 2 / 305، 394، 398، 545، والدسوقي 3 / 535، والمبسوط 12 / 47.
(2) البدائع 5 / 134، ومغني المحتاج 2 / 44، وشرح منتهى الإرادات 2 / 167 - 168
(3) الحديث تقدم في ف / 5.

(22/135)


مُقْتَضَى الإِْقَالَةِ رَدُّ الأَْمْرِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَرُجُوعُ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى مَا كَانَ لَهُ. (1)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (إِقَالَة)

4 - الرُّجُوعُ بِسَبَبِ الإِْفْلاَسِ:
17 - الإِْفْلاَسُ مِنْ أَسْبَابِ الرُّجُوعِ، ذَلِكَ أَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ يَتَعَلَّقُ بِمَال الْمَدِينِ، فَإِذَا حُجِرَ عَلَيْهِ وَكَانَ قَدِ اشْتَرَى شَيْئًا وَقَبَضَهُ وَلَمْ يَدْفَعْ ثَمَنَهُ وَوَجَدَهُ بِعَيْنِهِ قَائِمًا، فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِي عَيْنِ مَالِهِ، وَيَكُونُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، وَلاَ يَسْقُطُ حَقُّهُ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي لِلْمَبِيعِ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا ابْتَاعَ الرَّجُل السِّلْعَةَ ثُمَّ أَفْلَسَ وَهِيَ عِنْدَهُ بِعَيْنِهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنَ الْغُرَمَاءِ (2) وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ - الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - هَذَا مَعَ مُرَاعَاةِ شُرُوطِ الرُّجُوعِ الَّتِي حَدَّدَهَا الْفُقَهَاءُ كَكَوْنِ السِّلْعَةِ بَاقِيَةً فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَلَمْ تَتَغَيَّرْ صُورَتُهَا كَالْحِنْطَةِ إِذَا طُحِنَتْ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَقٌّ كَرَهْنٍ، وَأَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ فِي عَيْنِ مَالِهِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ،
__________
(1) الهداية 3 / 54، والدسوقي 3 / 156، ومنح الجليل 2 / 705، والمهذب 1 / 309، وشرح منتهى الإرادات 2 / 192 - 193
(2) حديث: " إذا ابتاع الرجل السلعة ثم أفلس وهي عنده. . . . " أخرجه البيهقي (6 / 45 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة وأصله في مسلم (3 / 1193 - 1194 - ط الحلبي) .

(22/136)


كَالْبَيْعِ وَالْقَرْضِ وَالسَّلَمِ، خِلاَفًا لِلْمُعَاوَضَةِ غَيْرِ الْمَحْضَةِ، كَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، فَلاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا، وَذَلِكَ كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَكُونُ الْبَائِعُ أَحَقَّ بِعَيْنِ مَالِهِ الَّذِي وَجَدَهُ عِنْدَ الْمُفْلِسِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ فَيُبَاعُ وَيُقَسَّمُ ثَمَنُهُ بِالْحِصَصِ؛ لأَِنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ قَدْ زَال عَنِ الْمَبِيعِ وَخَرَجَ مِنْ ضَمَانِهِ إِلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَضَمَانِهِ، فَسَاوَى بَاقِيَ الْغُرَمَاءِ فِي سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ سِلْعَتَهُ بِعَيْنِهَا عِنْدَ رَجُلٍ وَقَدْ أَفْلَسَ وَلَمْ يَكُنْ قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهَا شَيْئًا فَهِيَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهَا شَيْئًا فَهُوَ أُسْوَةٌ لِلْغُرَمَاءِ (2) .
وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَ الْمَبِيعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ، فَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِيهِ، وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ الَّذِي اسْتَدَل بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَى الْقَبْضِ بِغَيْرِ إِذْنٍ. (3)
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ (إِفْلاَس مِنَ الْمَوْسُوعَةِ ج 5 310) .
__________
(1) الدسوقي 3 / 282 - 283، والمواق بهامش الحطاب 5 / 50، والمهذب 1 / 329، ومغني المحتاج 2 / 158، وكشاف القناع 3 / 425، والمغني 4 / 458.
(2) حديث: " أيما رجل باع سلعته بعينها عند رجل، وقد أفلس. . . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 790 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وأصله في البخاري الفتح (5 / 62 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1993 - ط الحلبي) .
(3) البدائع 5 / 252، وابن عابدين 5 / 96، والعناية بهامش فتح القدير 8 / 209 - 210 - ط دار إحياء التراث.

(22/136)


5 - الرُّجُوعُ بِسَبَبِ الْمَوْتِ:
18 - مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ تَعَلَّقَتِ الدُّيُونُ بِمَالِهِ، وَإِذَا مَاتَ مُفْلِسًا قَبْل تَأْدِيَةِ ثَمَنِ مَا اشْتَرَاهُ وَقَبَضَهُ وَوَجَدَ الْبَائِعُ عَيْنَ مَالِهِ فِي التَّرِكَةِ، فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَكُونُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِالثَّمَنِ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ وَيَرْجِعَ فِي عَيْنِ مَالِهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ (1) فَإِنْ كَانَتِ التَّرِكَةُ تَفِي بِالدَّيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْل أَبِي سَعِيدٍ الإِْصْطَخْرِيِّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَيْنِ مَالِهِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَالثَّانِي لاَ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَيْنِ مَالِهِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ؛ لأَِنَّ الْمَال يَفِي بِالدَّيْنِ فَلَمْ يَجُزِ الرُّجُوعُ فِي الْمَبِيعِ كَالْحَيِّ الْمَلِيءِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَيْسَ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِي عَيْنِ مَالِهِ، بَل يَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعًا فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ مِنْهُ وَلَمْ يَقْبِضِ الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا فَوَجَدَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ مَاتَ الَّذِي ابْتَاعَهُ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ فِيهِ أُسْوَةُ
__________
(1) حديث: " أيما رجل مات أو أفلس، فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه " أخرجه ابن ماجه (2 / 790 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وأعله ابن حجر بجهالة الراوي عن أبي هريرة، كذا في التلخيص (3 / 38 - ط شركة الطباعة الفنية) .

(22/137)


الْغُرَمَاءِ (1) وَلأَِنَّ الْمِلْكَ انْتَقَل عَنِ الْمُفْلِسِ إِلَى الْوَرَثَةِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَهُ. (2) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَرِكَة) .

6 - الرُّجُوعُ بِسَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ:
19 - الاِسْتِحْقَاقُ - بِمَعْنَاهُ الأَْعَمِّ - ظُهُورُ كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا وَاجِبًا لِلْغَيْرِ، وَالاِسْتِحْقَاقُ يَرِدُ فِي الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَالْمَسْرُوقُ مِنْهُ يَثْبُتُ لَهُمَا حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ وَيَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ رَدُّ الْمَغْصُوبِ وَالْمَسْرُوقِ لِرَبِّهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ (3) .
وَيَشْمَل كَذَلِكَ اسْتِحْقَاقَ الْمَبِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي، أَوِ الْمَوْهُوبِ عَلَى الْمُتَّهَبِ، فَيَتَبَيَّنُ فَسَادُ الْعَقْدِ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيَتَوَقَّفُ نَفَاذُ الْعَقْدِ عَلَى الإِْجَازَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَيَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي فِي الْجُمْلَةِ حَقُّ
__________
(1) حديث: " أيما رجل باع متاعًا فأفلس الذي ابتاعه منه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئًا فوجده بعينه فهو أحق به، وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء " أخرجه مالك في الموطأ (2 / 678 - ط الحلبي) من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام مرسلاً
(2) البدائع 5 / 252، ومنح الجليل 3 / 148، والمهذب 1 / 334، وشرح منتهى الإرادات 2 / 280.
(3) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي " أخرجه الترمذي (3 / 557 - ط الحلبي) من حديث الحسن بن سمرة، وأعله ابن حجر بقوله: " الحسن مختلف بسماعه من سمرة " كذا في التلخيص الحبير (3 / 53 - ط شركة الطباعة الفنية) .

(22/137)


الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ ثُبُوتُ الاِسْتِحْقَاقِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالإِْقْرَارِ. (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِحْقَاق) .

7 - الرُّجُوعُ بِسَبَبِ الأَْدَاءِ وَوُجُودِ الإِْذْنِ:
20 - أَدَاءُ الدَّيْنِ بِإِذْنِ الْمَدِينِ فِي الأَْدَاءِ أَوْ فِي الضَّمَانِ مِنْ أَسْبَابِ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَدِينِ، فَمَنْ أَذِنَ لِغَيْرِهِ بِضَمَانِ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ أَذِنَ لَهُ بِأَدَائِهِ فَأَدَّاهُ قَاصِدًا الرُّجُوعَ بِهِ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَدِينِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، مَعَ مُرَاعَاةِ تَوَافُرِ شُرُوطِ صِحَّةِ الضَّمَانِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي كُل مَذْهَبٍ، كَكَوْنِ الضَّامِنِ أَهْلاً لِلتَّبَرُّعِ، وَكَكَوْنِ الدَّيْنِ ثَابِتًا عِنْدَ الضَّمَانِ، وَكَوْنِهِ مَعْلُومًا عِنْدَ مَنْ لاَ يُجِيزُ ضَمَانَ الْمَجْهُول، وَكَأَنْ يُضِيفَ الْمَضْمُونُ الضَّمَانَ إِلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يَقُول: اضْمَنْ عَنِّي. كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ وَالاِسْتِثْنَاءَاتِ.
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الرُّجُوعِ وَعَدَمِهِ عِنْدَ ضَمَانِ الدَّيْنِ وَأَدَائِهِ دُونَ إِذْنِ الْمَدِينِ فِي الضَّمَانِ أَوْ فِي الأَْدَاءِ. فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ أَدَّى
__________
(1) ابن عابدين 5 / 118 - 119، والبدائع 7 / 83، 148، والفتاوى الهندية 3 / 165، ومنح الجليل 3 / 515 - 523، والدسوقي 3 / 461، والحطاب 5 / 296، ومغني المحتاج 2 / 276 وما بعدها، وأشباه السيوطي 232، وشرح منتهى الإرادات 2 / 374، 401، والقواعد لابن رجب 119 - 283 وأشباه ابن نجيم 264

(22/138)


دَيْنَ غَيْرِهِ دُونَ إِذْنِهِ فَلاَ يَحِقُّ لَهُ الرُّجُوعُ بِمَا أَدَّى؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَدِينِ تَبَرُّعٌ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْغَيْرِ فَلاَ يَحْتَمِل الرُّجُوعَ. (1)
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ لِصِحَّةِ الضَّمَانِ وَالأَْدَاءِ دُونَ إِذْنِ الْمَدِينِ، وَهَذَا إِذَا ضَمِنَ أَوْ أَدَّى عَلَى سَبِيل الرِّفْقِ بِالْمَدِينِ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْغَرَضُ إِضْرَارَهُ بِسُوءِ طَلَبِهِ وَحَبْسِهِ لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا فَلاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمَدِينِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ الَّذِي أَدَّاهُ لَهُ. (2)
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: إِنِ انْتَفَى الإِْذْنُ فِي الأَْدَاءِ وَالضَّمَانِ فَلاَ رُجُوعَ لَهُ؛ لأَِنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ وَلأَِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ رُجُوعٌ لَمَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَيِّتِ بِضَمَانِ أَبِي قَتَادَةَ. (3)
وَإِنْ أَذِنَ الْمَدِينُ فِي الضَّمَانِ فَقَطْ وَسَكَتَ عَنِ الأَْدَاءِ رَجَعَ فِي الأَْصَحِّ لأَِنَّهُ أَذِنَ فِي سَبَبِ الأَْدَاءِ، وَالثَّانِي: لاَ يَرْجِعُ لاِنْتِفَاءِ الإِْذْنِ فِي الأَْدَاءِ.
21 - وَيُسْتَثْنَى مِنْ أَحَقِّيَّةِ الرُّجُوعِ - إِذَا وُجِدَ
__________
(1) البدائع 6 / 13 - 14، وفتح القدير 4 / 303 - 304 ط دار إحياء التراث.
(2) الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 334 - 336
(3) فعن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: سمعت عبد الله بن أبي قتادة يحدث عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل ليصلي عليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " صلوا على صاحبكم؛ فإن عليه دَينًا " قال أبو قتادة: هو عليَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "

(22/138)


الإِْذْنُ فِي الضَّمَانِ - مَا إِذَا ثَبَتَ الضَّمَانُ بِبَيِّنَةٍ وَهُوَ مُنْكِرٌ، كَأَنِ ادَّعَى عَلَى زَيْدٍ وَغَائِبٍ أَلْفًا، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ضَمِنَ مَا عَلَى الآْخَرِ بِإِذْنِهِ، فَأَنْكَرَ زَيْدٌ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً وَغَرَّمَهُ، لَمْ يَرْجِعْ زَيْدٌ عَلَى الْغَائِبِ بِالنِّصْفِ؛ لِكَوْنِهِ مُكَذِّبًا بِالْبَيِّنَةِ، فَهُوَ مَظْلُومٌ بِزَعْمِهِ، فَلاَ يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِ ظَالِمِهِ، وَكَذَا لَوْ قَال الضَّامِنُ بِالإِْذْنِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُؤَدِّيَ دَيْنَ فُلاَنٍ وَلاَ أَرْجِعَ بِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَدَّى لاَ يَرْجِعُ.
وَإِنْ أَذِنَ الْمَدِينُ فِي الأَْدَاءِ وَانْتَفَى الإِْذْنُ فِي الضَّمَانِ فَضَمِنَ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَأَدَّى بِالإِْذْنِ، فَلاَ رُجُوعَ لَهُ فِي الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّ وُجُوبَ الأَْدَاءِ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَلَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: يَرْجِعُ؛ لأَِنَّهُ أَسْقَطَ الدَّيْنَ عَنِ الأَْصِيل بِإِذْنِهِ،
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ أَدَّى وَشَرَطَ الرُّجُوعَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ. (1)
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ بَنَوْا ثُبُوتَ الْحَقِّ فِي الرُّجُوعِ وَعَدَمِهِ عَلَى النِّيَّةِ. قَالُوا: إِنْ قَضَى الضَّامِنُ الدَّيْنَ وَلَمْ يَنْوِ رُجُوعًا عَلَى مَضْمُونٍ عَنْهُ بِمَا قَضَاهُ لَمْ يَرْجِعْ؛ لأَِنَّهُ مُتَطَوِّعٌ سَوَاءٌ ضَمِنَ بِإِذْنِهِ أَمْ لاَ، وَإِنْ نَوَى الرُّجُوعَ رَجَعَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الضَّمَانُ أَوِ الْقَضَاءُ بِإِذْنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ أَمْ بِدُونِ إِذْنِهِ؛ لأَِنَّهُ قَضَاءٌ مُبَرِّئٌ مِنْ دَيْنٍ وَاجِبٍ فَكَانَ مِنْ ضَمَانِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، كَالْحَاكِمِ إِذَا قَضَاهُ عَنْهُ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ، وَلَوْ لَمْ يَأْذَنْ فِي قَضَاءٍ وَلاَ ضَمَانٍ، وَأَمَّا
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 209

(22/139)


قَضَاءُ عَلِيٍّ وَأَبِي قَتَادَةَ فَكَانَ تَبَرُّعًا؛ لِقَصْدِ بَرَاءَةِ ذِمَّةِ الْمَدِينِ الْمُتَوَفَّى لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْكَلاَمُ فِيمَنْ نَوَى الرُّجُوعَ لاَ فِيمَنْ تَبَرَّعَ،
هَكَذَا جَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ وَشَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ، لَكِنَّ ابْنَ قُدَامَةَ ذَكَرَ رِوَايَةً فِي أَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَقَضَى بِغَيْرِ إِذْنٍ أَيْضًا فَإِنَّهُ لاَ يَرْجِعُ بِشَيْءٍ وَلَوْ نَوَى الرُّجُوعَ، بِدَلِيل حَدِيثِ عَلِيٍّ وَأَبِي قَتَادَةَ فَإِنَّهُمَا لَوْ كَانَا يَسْتَحِقَّانِ الرُّجُوعَ عَلَى الْمَيِّتِ صَارَ الدَّيْنُ لَهُمَا فَكَانَتْ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ مَشْغُولَةً بِدَيْنِهِمَا كَاشْتِغَالِهَا بِدَيْنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَلَمْ يُصَل عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأَِنَّهُ تَبَرَّعَ بِذَلِكَ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَلَفَ دَوَابَّهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا: إِنْ قَضَى الدَّيْنَ وَلَمْ يَنْوِ رُجُوعًا وَلاَ تَبَرُّعًا بَل ذَهِل عَنْ قَصْدِهِ الرُّجُوعَ وَعَدَمَهُ لَمْ يَرْجِعْ كَالْمُتَبَرِّعِ لِعَدَمِ قَصْدِهِ الرُّجُوعَ. (1)
22 - هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِدَيْنِ الآْدَمِيِّ، أَمَّا دَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ فَإِنَّ مَنْ أَدَّى زَكَاةَ غَيْرِهِ دُونَ إِذْنِهِ فَلاَ يُجْزِئُ مَا أَدَّاهُ عَنِ الزَّكَاةِ لاِشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهَا وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، وَلاَ رُجُوعَ لَهُ بِمَا أَدَّى، إِلاَّ أَنَّ الزَّكَاةَ إِنْ أَخْرَجَهَا أَحَدٌ بِغَيْرِ عِلْمِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ الإِْمَامِ فَمُقْتَضَى قَوْل أَصْحَابِنَا فِي الأُْضْحِيَّةِ يَذْبَحُهَا
__________
(1) كشاف القناع 3 / 371 - 372، وشرح منتهى الإرادات 2 / 250، والمغني 4 / 607 - 609

(22/139)


غَيْرُ رَبِّهَا بِغَيْرِ عِلْمِهِ وَإِذْنِهِ إِنْ كَانَ الْفَاعِل لِذَلِكَ صَدِيقَهُ وَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَفْعَل ذَلِكَ لَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؛ لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ عِنْدَهُ لِتَمَكُّنِ الصَّدَاقَةِ بَيْنَهُمَا، أَجْزَأَتْهُ الأُْضْحِيَّةُ إِنْ كَانَ مُخْرِجَ الزَّكَاةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيل، فَمُقْتَضَى قَوْلِهِمْ فِي الأُْضْحِيَّةِ أَنَّ الزَّكَاةَ تُجْزِئُهُ، لأَِنَّ كِلَيْهِمَا عِبَادَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا مُفْتَقِرَةٌ لِلنِّيَّةِ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيل لاَ تُجْزِئُ عَنْ رَبِّهَا لاِفْتِقَارِهَا لِلنِّيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ لأَِجْل شَائِبَةِ الْعِبَادَةِ. (1)
وَإِنْ أَمَرَ شَخْصٌ غَيْرَهُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ عَنْهُ أَجْزَأَتْ، وَكَانَ لِلْمُؤَدِّي حَقُّ الرُّجُوعِ بِاتِّفَاقٍ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اشْتَرَطُوا ضَمَانَ الآْمِرِ بِأَنْ يَقُول: عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ؛ لأَِنَّهُ فِي بَابِ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ يَثْبُتُ لِلْقَابِضِ مِلْكٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْمِثْل، حَتَّى لَوْ ظَهَرَ أَنْ لاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ لاَ يَسْتَرِدُّ مِنَ الْفَقِيرِ مَا قَبَضَ، فَيَثْبُتُ لِلآْمِرِ مِلْكُ مِثْل ذَلِكَ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ إِلاَّ بِالشَّرْطِ. قَال فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ:
وَالْحَاصِل أَنَّ الأَْمْرَ فِي الْكَفَالَةِ تَضَمَّنَ طَلَبَ الْقَرْضِ إِذَا ذَكَرَ لَفْظَةَ " عَنِّي "، وَفِي قَضَاءِ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ طَلَبُ اتِّهَابٍ، وَلَوْ ذَكَرَ لَفْظَةَ " عَنِّي " (2) .
__________
(1) الفروق للقرافي 3 / 186 - 187
(2) فتح القدير 6 / 303 - 304، والمادة 204 من مرشد الحيران، ومغني المحتاج 2 / 202، والمنثور 1 / 157، وشرح منتهى الإرادات 2 / 251، وقواعد ابن رجب 137

(22/140)


ثَانِيًا: الرُّجُوعُ مِنَ الْمَكَانِ وَإِلَيْهِ:
23 - مِنْ أَسْبَابِ الرُّجُوعِ مِنَ الْمَكَانِ أَوْ إِلَيْهِ النُّزُول عَلَى حُكْمِ الشَّرْعِ، وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي أَمَاكِنَ مُتَفَرِّقَةٍ وَمِنْ ذَلِكَ.

أ - رُجُوعُ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ الْمَكَانِيَّ لِلْحَجِّ دُونَ إِحْرَامٍ:
24 - لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مِيقَاتٌ مَكَانِيٌّ حَدَّدَهُ الشَّرْعُ، وَالإِْحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ الْمُحَدَّدِ لِمُرِيدِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ مَرَّ بِهِ، وَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ لِيُحْرِمَ مِنْهُ إِنْ أَمْكَنَهُ، فَإِنْ رَجَعَ إِلَيْهِ فَأَحْرَمَ مِنْهُ فَلاَ دَمَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَتَجَاوَزْهُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ؛ لأَِنَّهُ أَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ الَّذِي أُمِرَ بِالإِْحْرَامِ مِنْهُ.
وَإِنْ تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ وَأَحْرَمَ فَعَلَيْهِ دَمٌ، سَوَاءٌ رَجَعَ إِلَى الْمِيقَاتِ أَوْ لَمْ يَرْجِعْ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ رَجَعَ قَبْل أَنْ يَتَلَبَّسَ بِنُسُكٍ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ عَادَ فَلَبَّى سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ لَمْ يَسْقُطْ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال لِلَّذِي أَحْرَمَ بَعْدَ الْمِيقَاتِ: ارْجِعْ إِلَى الْمِيقَاتِ فَلَبِّ وَإِلاَّ فَلاَ حَجَّ لَكَ، فَأَوْجَبَ التَّلْبِيَةَ مِنَ الْمِيقَاتِ فَلَزِمَ اعْتِبَارُهَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لاَ يَسْقُطُ الدَّمُ، لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ؛ لأَِنَّ وُجُوبَ الدَّمِ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ بِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ مِنْ غَيْرِ إِحْرَامٍ فَلاَ

(22/140)


تَنْعَدِمُ الْجِنَايَةُ بِعَوْدِهِ فَلاَ يَسْقُطُ الدَّمُ، وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ مَا تَلَبَّسَ بِأَفْعَال الْحَجِّ مِنْ طَوَافٍ وَغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ بِاتِّفَاقٍ. (1)

ب - رُجُوعُ الْمُعْتَدَّةِ إِلَى مَنْزِل الْعِدَّةِ:
25 - يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ خَرَجَتْ لِحَجٍّ أَوْ زِيَارَةٍ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا مُوجِبُ الْعِدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ أَوْ مَوْتِ زَوْجِهَا هَل يَجِبُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ إِلَى مَنْزِلِهَا لِتَعْتَدَّ فِيهِ لِوُجُوبِ ذَلِكَ شَرْعًا عَلَيْهَا حَيْثُ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُعْتَدَّاتِ عَنِ الْخُرُوجِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ} (2) أَمْ لاَ يَجِبُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ؟ قَال الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ لَزِمَتْهَا عِدَّةُ طَلاَقٍ بَائِنٍ أَوْ عِدَّةُ وَفَاةٍ بَعْدَمَا خَرَجَتْ لِلْحَجِّ فَإِنْ كَانَ إِلَى مَنْزِلِهَا أَقَل مِنْ مُدَّةِ سَفَرٍ وَإِلَى مَكَّةَ مُدَّةُ سَفَرٍ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى مَنْزِلِهَا لِتَعْتَدَّ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِنْشَاءُ سَفَرٍ فَصَارَ كَأَنَّهَا فِي بَلَدِهَا.
وَإِنْ كَانَ إِلَى مَكَّةَ أَقَل مِنْ مُدَّةِ سَفَرٍ وَإِلَى مَنْزِلِهَا مُدَّةُ سَفَرٍ مَضَتْ إِلَى مَكَّةَ؛ لأَِنَّهَا لاَ تَحْتَاجُ إِلَى الْمَحْرَمِ فِي أَقَل مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ أَقَل مِنْ مُدَّةِ سَفَرٍ فَهِيَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَتْ مَضَتْ وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ إِلَى مَنْزِلِهَا، وَالرُّجُوعُ أَوْلَى لِيَكُونَ الاِعْتِدَادُ فِي مَنْزِل الزَّوْجِيَّةِ، وَهُوَ
__________
(1) البدائع 2 / 165، وجواهر الإكليل 1 / 170، ومغني المحتاج 1 / 475، والمغني 3 / 266.
(2) سورة الطلاق / 1.

(22/141)


أَوْجَهُ. نَقَل هَذَا ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ، وَفِي الْعِنَايَةِ وَالنِّهَايَةِ يَتَعَيَّنُ الرُّجُوعُ؛ لأَِنَّهَا إِذَا رَجَعَتْ صَارَتْ مُقِيمَةً، وَإِذَا مَضَتْ كَانَتْ مُسَافِرَةً.
وَإِنْ كَانَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مُدَّةُ سَفَرٍ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مِصْرَ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ وَجَدَتْ مَحْرَمًا.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إِذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِلاَ مَحْرَمٍ بِلاَ خِلاَفٍ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَفَازَةِ أَوْ فِي بَعْضِ الْقُرَى بِحَيْثُ لاَ تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا فَلَهَا أَنْ تَمْضِيَ فَتَدْخُل مَوْضِعَ الأَْمْنِ، ثُمَّ لاَ تَخْرُجُ مِنْهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، سَوَاءٌ وَجَدَتْ مَحْرَمًا أَمْ لَمْ تَجِدْ.
وَعِنْدَهُمَا تَخْرُجُ إِذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: عَلَى الْمُعْتَدَّةِ أَنْ تُمْضِيَ مُدَّةَ الْعِدَّةِ فِي بَيْتِهَا الَّذِي كَانَتْ فِيهِ قَبْل طُرُوءِ الْعِدَّةِ، وَلَوْ كَانَتْ قَدْ نَقَلَهَا الزَّوْجُ قَبْل الْمَوْتِ أَوِ الطَّلاَقِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، وَاتُّهِمَ أَنَّهُ نَقَلَهَا لِيُسْقِطَ سُكْنَاهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ مُقِيمَةً بِغَيْرِ مَسْكَنِهَا وَقْتَ الْمَوْتِ أَوِ الطَّلاَقِ فَيَجِبُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ لِمَنْزِلِهَا لِتَعْتَدَّ فِيهِ.
__________
(1) البدائع 2 / 1242، 3 / 206 - 207، وابن عابدين 2 / 622، وفتح القدير والعناية عليه 4 / 168.

(22/141)


وَلَوْ خَرَجَتْ لِحَجِّ الصَّرُورَةِ (1) مَعَ زَوْجِهَا وَمَاتَ الزَّوْجُ أَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ سَيْرِهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَرْجِعَ لِتَعْتَدَّ بِمَنْزِلِهَا إِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنَ الْعِدَّةِ بَعْدَ رُجُوعِهَا وَلَوْ يَوْمًا وَاحِدًا. لَكِنَّ الرُّجُوعَ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا كَانَتْ لَمْ تُحْرِمِ بِالْحَجِّ، فَإِنْ كَانَتْ دَخَلَتْ فِي الإِْحْرَامِ وَلَوْ فِي أَوَّل يَوْمٍ مِنْ سَفَرِهَا فَلاَ تَرْجِعُ.
وَلَوْ خَرَجَتْ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ أَوْ لِزِيَارَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقُرَبِ فَيَجِبُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ وَلَوْ وَصَلَتْ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي تُرِيدُهُ وَلَوْ بَعْدَ إِقَامَتِهَا نَحْوَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ.
وَلَوْ خَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا لِلإِْقَامَةِ فِي مَكَانٍ آخَرَ بَعْدَ رَفْضِ السُّكْنَى فِي الْمَسْكَنِ الأَْوَّل فَطُلِّقَتْ أَوْ مَاتَ زَوْجُهَا فَهِيَ بِالْخِيَارِ فِي الاِعْتِدَادِ بِأَيِّ مَكَانٍ شَاءَتْ. (2) وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ انْتَقَلَتِ الزَّوْجَةُ بِإِذْنِ الزَّوْجِ إِلَى مَسْكَنٍ آخَرَ فِي الْبَلَدِ فَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ قَبْل وُصُولِهَا إِلَى الْمَسْكَنِ الآْخَرِ فَلاَ تَرْجِعُ إِلَى مَسْكَنِهَا الأَْوَّل، بَل تَعْتَدُّ فِي الثَّانِي عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الأُْمِّ لأَِنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِالْقِيَامِ فِيهِ، وَقِيل: تَعْتَدُّ فِي الأَْوَّل؛ لأَِنَّ مُوجِبَ الْعِدَّةِ لَمْ يَحْصُل وَقْتَ الْفِرَاقِ فِي الثَّانِي، وَقِيل: تَتَخَيَّرُ لِتَعَلُّقِهَا بِكُلٍّ مِنْهُمَا.
__________
(1) حجة الصرورة - بفتح الصاد المهملة -: حجة الإسلام.
(2) جواهر الإكليل 1 / 392، والدسوقي 2 / 485، والمواق 4 / 163.

(22/142)


أَمَّا إِذَا وَجَبَتِ الْعِدَّةُ بَعْدَ وُصُولِهَا لِلثَّانِي اعْتَدَّتْ فِيهِ جَزْمًا. وَإِنْ كَانَ الاِنْتِقَال بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ وَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ رَجَعَتْ إِلَى الأَْوَّل وَلَوْ بَعْدَ وُصُولِهَا لِلثَّانِي لِعِصْيَانِهَا بِذَلِكَ، إِلاَّ إِذَا أَذِنَ لَهَا بَعْدَ الْوُصُول.
وَإِنْ أَذِنَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ فِي سَفَرِ حَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ تِجَارَةٍ، أَوِ اسْتِحْلاَل مَظْلِمَةٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَسَفَرٍ لِحَاجَتِهَا، ثُمَّ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، فَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُفَارِقْ عُمْرَانَ الْبَلَدِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ فِي الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّهَا لَمْ تَشْرَعْ فِي السَّفَرِ.
وَإِنْ فَارَقَتْ عُمْرَانَ الْبَلَدِ وَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَلَهَا الرُّجُوعُ وَلَهَا الْمُضِيُّ فِي السَّفَرِ؛ لأَِنَّ فِي قَطْعِهَا عَنِ السَّفَرِ مَشَقَّةً، لاَ سِيَّمَا إِذَا بَعُدَتْ عَنِ الْبَلَدِ، أَوْ خَافَتْ الاِنْقِطَاعَ عَنِ الرُّفْقَةِ، وَالأَْفْضَل الرُّجُوعُ. وَإِذَا اخْتَارَتِ الْمُضِيَّ وَمَضَتْ لِمَقْصِدِهَا أَوْ بَلَغَتْهُ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ بَعْدَ قَضَاءِ حَاجَتِهَا دُونَ تَقَيُّدٍ بِمُدَّةِ السَّفَرِ وَهِيَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ. وَيَجِبُ الرُّجُوعُ بَعْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ لِتَعْتَدَّ مَا بَقِيَ مِنَ الْعِدَّةِ فِي مَسْكَنِهَا.
وَإِذَا سَافَرَتْ لِنُزْهَةٍ أَوْ زِيَارَةٍ أَوْ سَافَرَ بِهَا الزَّوْجُ لِحَاجَتِهِ وَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ فَلاَ تَزِيدُ عَلَى مُدَّةِ إِقَامَةِ الْمُسَافِرِينَ ثُمَّ تَعُودُ.
وَإِنْ قَدَّرَ لَهَا الزَّوْجُ مُدَّةً فِي نُقْلَةٍ أَوْ سَفَرِ حَاجَةٍ أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ كَاعْتِكَافٍ، اسْتَوْفَتْهَا وَعَادَتْ لِتَمَامِ الْعِدَّةِ.

(22/142)


وَلَوْ أَحْرَمَتْ بِحَجٍّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ، فَإِنْ خَافَتْ فَوَاتَ الْحَجِّ لِضِيقِ الْوَقْتِ وَجَبَ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ مُعْتَدَّةً لِتَقَدُّمِ الإِْحْرَامِ، وَإِنْ لَمْ تَخَفْ فَوَاتَ الْحَجِّ لِسَعَةِ الْوَقْتِ جَازَ لَهَا الْخُرُوجُ إِلَى ذَلِكَ لِمَا فِي تَعْيِينِ الصَّبْرِ مِنْ مَشَقَّةِ الْمُصَابَرَةِ عَلَى الإِْحْرَامِ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ سَافَرَتْ بِإِذْنِ زَوْجِهَا أَوْ مَعَهُ لِنُقْلَةٍ مِنْ بَلَدٍ إِلَى آخَرَ فَمَاتَ قَبْل مُفَارَقَةِ الْبُنْيَانِ رَجَعَتْ وَاعْتَدَّتْ بِمَنْزِلِهَا؛ لأَِنَّهَا فِي حُكْمِ الْمُقِيمَةِ، وَلَوْ سَافَرَتْ لِغَيْرِ نُقْلَةٍ كَتِجَارَةٍ وَزِيَارَةٍ وَلَوْ لِحَجٍّ وَلَمْ تُحْرِمْ وَمَاتَ زَوْجُهَا قَبْل مَسَافَةِ الْقَصْرِ رَجَعَتْ وَاعْتَدَّتْ بِمَنْزِلِهَا، لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَال: تُوُفِّيَ أَزْوَاجُ نِسَاءٍ وَهُنَّ حَاجَّاتٌ أَوْ مُعْتَمِرَاتٌ فَرَدَّهُنَّ عُمَرُ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ حَتَّى يَعْتَدِدْنَ فِي بُيُوتِهِنَّ وَلأَِنَّهَا أَمْكَنَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي مَنْزِلِهَا قَبْل أَنْ تَبْعُدَ فَلَزِمَهَا كَمَا لَوْ لَمْ تُفَارِقِ الْبُنْيَانَ.
وَإِنْ مَاتَ زَوْجُهَا بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبُنْيَانِ، فَإِنْ كَانَ سَفَرُهَا لِنُقْلَةٍ، أَوْ بَعْدَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ إِنْ كَانَ لِغَيْرِ نُقْلَةٍ، فَإِنَّهَا تُخَيَّرُ بَيْنَ الرُّجُوعِ فَتَعْتَدُّ فِي مَنْزِلِهَا وَبَيْنَ الْمُضِيِّ إِلَى مَقْصِدِهَا؛ لأَِنَّ كِلاَ الْبَلَدَيْنِ سَوَاءٌ. وَحَيْثُ مَضَتْ أَقَامَتْ لِقَضَاءِ حَاجَتِهَا، فَإِنْ كَانَ لِنُزْهَةٍ أَوْ زِيَارَةٍ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدَّرَ لَهَا مُدَّةَ إِقَامَتِهَا أَقَامَتْهَا، وَإِلاَّ أَقَامَتْ ثَلاَثًا، فَإِذَا
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 404.

(22/143)


مَضَتِ الْمُدَّةُ أَوْ قَضَتْ حَاجَتَهَا، فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ وَنَحْوُهُ أَتَمَّتِ الْعِدَّةَ بِمَكَانِهَا، وَكَذَا إِنْ كَانَتْ لاَ تَصِل إِلَى مَنْزِلِهَا إِلاَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَإِلاَّ لَزِمَهَا الْعَوْدُ لِتُتِمَّ الْعِدَّةَ بِمَنْزِلِهَا.
وَمَنْ أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ بِإِذْنِ الزَّوْجِ ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ، فَإِنْ كَانَتْ سَارَتْ مَسَافَةً أَقَل مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ اعْتِدَادِهَا بِمَنْزِلِهَا وَبَيْنَ الْحَجِّ بِأَنِ اتَّسَعَ الْوَقْتُ لَهُمَا، عَادَتْ لِمَنْزِلِهَا فَاعْتَدَّتْ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهَا الْجَمْعُ، بِأَنْ كَانَ الْوَقْتُ لاَ يَتَّسِعُ لَهُمَا، قَدَّمَتِ الْحَجَّ إِنْ كَانَتْ بَعُدَتْ عَنْ بَلَدِهَا بِأَنْ كَانَتْ سَافَرَتْ مَسَافَةَ قَصْرٍ، وَإِنْ لَمْ تَبْعُدْ مَسَافَةَ قَصْرٍ وَقَدْ أَحْرَمَتْ قَدَّمَتِ الْعِدَّةَ وَرَجَعَتْ وَتَتَحَلَّل بِعُمْرَةٍ. (1)

ج - الرُّجُوعُ عِنْدَ عَدَمِ الإِْذْنِ:
26 - لاَ يَجُوزُ لإِِنْسَانٍ دُخُول بَيْتِ غَيْرِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، مَالِكًا كَانَ مَنْ بِالْمَنْزِل، أَوْ مُسْتَأْجِرًا، أَوْ مُسْتَعِيرًا، إِذَا كَانَ الدَّاخِل أَجْنَبِيًّا أَوْ قَرِيبًا غَيْرَ مَحْرَمٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا أَوْ مَفْتُوحًا.
وَالْوَاجِبُ الاِسْتِئْذَانُ ثَلاَثًا، فَإِنْ أُذِنَ لَهُ بِالدُّخُول دَخَل، وَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ أَوْ قِيل لَهُ: ارْجِعْ، رَجَعَ وُجُوبًا دُونَ إِلْحَاحٍ، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 3 / 228 - 229

(22/143)


خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيل لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (1)
أَيْ إِذَا رَدُّوكُمْ مِنَ الْبَابِ قَبْل الإِْذْنِ أَوْ بَعْدَهُ فَرُجُوعُكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ. (2)

د - الرُّجُوعُ مِنَ السَّفَرِ لِحَقِّ الزَّوْجَةِ:
27 - لِلزَّوْجَةِ حَقٌّ فِي الْوَطْءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَفِي مُؤَانَسَةِ زَوْجِهَا لَهَا، وَلِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ كَانَ مُسَافِرًا التَّعْجِيل بِالرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِهِ بَعْدَ قَضَاءِ حَاجَتِهِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّل إِلَى أَهْلِهِ وَفِي رِوَايَةٍ: فَلْيُعَجِّل الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ (3) .
قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي الْحَدِيثِ: كَرَاهَةُ التَّغَرُّبِ عَنِ الأَْهْل لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَاسْتِحْبَابُ اسْتِعْجَال الرُّجُوعِ، وَلاَ سِيَّمَا مَنْ يَخْشَى عَلَيْهِمُ الضَّيْعَةَ
__________
(1) سورة النور / 27 - 28
(2) بدائع الصنائع 5 / 124 - 125، والفواكه الدواني 2 / 427، والشرح الصغير 2 / 530 - ط الحلبي، ومغني المحتاج 4 / 199، ومختصر تفسير ابن كثير 2 / 596 - 597
(3) حديث: " السفر قطعة من العذاب " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 622 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1526 - ط الحلبي) والرواية الثانية أخرجها أحمد في المسند (2 / 496 ط الميمنية) .

(22/144)


بِالْغَيْبَةِ، وَلِذَلِكَ يُكْرَهُ أَنْ يَغِيبَ الرَّجُل فِي سَفَرِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ (أَيْ أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ الإِْيلاَءِ) وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَل حَفْصَةَ: كَمْ تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنِ الرَّجُل؟ فَقَالَتْ: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَأَمَرَ أُمَرَاءَ الأَْجْنَادِ أَنْ لاَ يَتَخَلَّفَ الْمُتَزَوِّجُ عَنْ أَهْلِهِ أَكْثَرَ مِنْهَا عَنْهَا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ زِيَادَةُ مُضَارَّةٍ بِهَا لَمَا شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْفِرَاقَ بِالإِْيلاَءِ مِنْهَا، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ: خَمْسَةَ أَشْهُرٍ أَوْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَأَنَّ عُمَرَ وَقَّتَ لِلنَّاسِ فِي مَغَازِيهِمْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَرْجِعُونَ بَعْدَهَا. (1)

هـ - الرُّجُوعُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُنْكَرِ:
28 - وُجُودُ الْمُنْكَرِ فِي أَيِّ مَكَانٍ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الرُّجُوعِ عَنْهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِزَالَتِهِ.
فَمَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ فَعَلَيْهِ الإِْجَابَةُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُنْكَرٌ كَخَمْرٍ وَنَحْوِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي، فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ الإِْنْكَارُ وَإِزَالَةُ الْمُنْكَرِ لَزِمَهُ الْحُضُورُ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الإِْنْكَارِ لاَ يَلْزَمْهُ الْحُضُورُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِوُجُودِ الْمُنْكَرِ حَتَّى حَضَرَ أَزَالَهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ رَجَعَ، وَقِيل: يَصْبِرُ مَعَ
__________
(1) فتح الباري 3 / 622 - 623، وابن عابدين 2 / 398، وجواهر الإكليل 1 / 91، والمهذب 2 / 107 - 108، والمغني 7 / 31، والآداب الشرعية 1 / 482.

(22/144)


الإِْنْكَارِ بِقَلْبِهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ. (1)
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (مُنْكَر، دَعْوَة) .

ثَالِثًا: امْتِنَاعُ الرُّجُوعِ:
29 - يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ لأَِسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا:

أ - حُكْمُ الشَّرْعِ:
30 - بَعْضُ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَتِمُّ لاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا نُزُولاً عَلَى حُكْمِ الشَّرْعِ، وَذَلِكَ كَالصَّدَقَةِ، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا؛ لأَِنَّ الصَّدَقَةَ لإِِرَادَةِ الثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل. وَقَدْ قَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ وَهَبَ هِبَةً عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ لاَ يَرْجِعُ فِيهَا وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، إِذِ الرَّأْيُ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ عَلَى الْوَلَدِ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا. (2) وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ لِغَيْرِ الْوَلَدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ - الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) الاختيار 4 / 176، وابن عابدين 5 / 221 - 222، والبدائع 5 / 128، والدسوقي 2 / 337، والفواكه الدواني 2 / 421، ومغني المحتاج 3 / 247، والمغني 7 / 5 - 6، وأعلام الموقعين 4 / 209.
(2) الهداية 3 / 231، والكافي لابن عبد البر 2 / 1008، ونهاية المحتاج 5 / 413، والمغني 5 / 684، والمبسوط 12 / 34 - 92

(22/145)


وَالْحَنَابِلَةِ - لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لِلرَّجُل أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً ثُمَّ يَرْجِعَ فِيهَا إِلاَّ الْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ (1) . وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَلاَ فِي هِبَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلآْخَرِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الرَّجُل أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا (2) أَيْ لَمْ يُعَوَّضْ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ عِوَضٌ مَعْنًى؛ لأَِنَّ التَّوَاصُل سَبَبُ التَّنَاصُرِ وَالتَّعَاوُنِ فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ وَسِيلَةً إِلَى اسْتِيفَاءِ النُّصْرَةِ، وَسَبَبِ الثَّوَابِ فِي الدَّارِ الآْخِرَةِ، فَكَانَ أَقْوَى مِنَ الْمَال، وَأَمَّا امْتِنَاعُ الرُّجُوعِ بِالنِّسْبَةِ لِهِبَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلآْخَرِ؛ فَلأَِنَّ صِلَةَ الزَّوْجِيَّةِ تَجْرِي مَجْرَى صِلَةِ الْقَرَابَةِ الْكَامِلَةِ، بِدَلِيل أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ التَّوَارُثِ فِي جَمِيعِ الأَْحْوَال.
وَكَذَلِكَ يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ إِلَى الْفَقِيرِ بَعْدَ قَبْضِهَا؛ لأَِنَّ الْهِبَةَ إِلَى الْفَقِيرِ صَدَقَةٌ؛ لأَِنَّهُ يَطْلُبُ بِهَا الثَّوَابَ كَالصَّدَقَةِ وَلاَ رُجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى الْفَقِيرِ بَعْدَ قَبْضِهَا لِحُصُول الثَّوَابِ
__________
(1) الحطاب 6 / 64، والمهذب 1 / 454، والمغني 5 / 682 - 683، وحديث: " لا يحل للرجل أن يعطي عطية ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده " أخرجه الترمذي (4 / 442 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(2) حديث: " الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها " أخرجه ابن ماجه (2 / 798 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وضعفه البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 40 - ط دار الجنان) .

(22/145)


الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْعِوَضِ بِوَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى. (1)
وَالْوَقْفُ إِذَا تَمَّ وَلَزِمَ لاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ لأَِنَّهُ مِنَ الصَّدَقَةِ، (2) وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَال: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟ فَقَال: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا
قَال: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ (3) .
انْظُرْ: مُصْطَلَحَاتِ: (صَدَقَة، وَقْف، هِبَة)

ب - الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ:
31 - الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ إِذَا تَمَّتْ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول، وَخَلَتْ مِنَ الْخِيَارَاتِ لاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ - إِلاَّ بِرِضَاهُمَا مَعًا كَمَا فِي الإِْقَالَةِ - وَذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ إِذَا لَزِمَ وَتَمَّ لاَ يَقْبَل الْفَسْخَ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ بِلاَ مُوجِبٍ؛ لأَِنَّهَا أَوْجَبَتْ حَقًّا لاَزِمًا أَوْ مِلْكًا لاَزِمًا لِلْغَيْرِ، وَقَدْ قَال
__________
(1) البدائع 6 / 132 - 133
(2) ابن عابدين 3 / 361، والكافي لابن عبد البر 2 / 1012، ونهاية المحتاج 5 / 385، والمغني 5 / 600.
(3) حديث: " أصاب عمر أرضًا بخيبر " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 355 - ط السلفية) .

(22/146)


عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ. (1)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ (بَيْع، إِجَارَة) .

ج - تَعَذُّرُ الرُّجُوعِ:
32 - تَعَذُّرُ الرُّجُوعِ فِيمَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ قَدْ يَمْنَعُ حَقَّ الرُّجُوعِ وَيُسْقِطُهُ. وَمِنْ ذَلِكَ تَعَذُّرُ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ الَّتِي يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا، وَذَلِكَ كَخُرُوجِ الْمَوْهُوبِ مِنْ مِلْكِ الْوَاهِبِ، وَمَوْتِ الْوَاهِبِ أَوِ الْمَوْهُوبِ لَهُ. وَالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ، عَلَى مَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، أَوِ الْمُنْفَصِلَةِ كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ. أَوْ كَانَ الاِبْنُ تَزَوَّجَ لأَِجْل الْهِبَةِ كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ. (2) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (هِبَة) .

د - الإِْسْقَاطُ:
33 - مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ السَّاقِطَ يُصْبِحُ كَالْمَعْدُومِ لاَ سَبِيل إِلَى إِعَادَتِهِ إِلاَّ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ يَصِيرُ مِثْلَهُ لاَ عَيْنَهُ.
وَمِنَ الْحُقُوقِ مَا يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ فِيهَا بَعْدَ إِسْقَاطِهَا.
__________
(1) البدائع 4 / 201، 5 / 297، 306، 7 / 28، وجواهر الإكليل 2 / 2 شرح منتهى الإرادات 2 / 371
(2) البدائع 6 / 129، والهداية 3 / 227، والزيلعي 5 / 98، ومنح الجليل 4 / 106، ومغني المحتاج 2 / 403، وشرح منتهى الإرادات 2 / 526، والبدائع 6 / 128.

(22/146)


وَمِنْ ذَلِكَ: إِذَا أَبْرَأَ الدَّائِنُ الْمَدِينَ فَقَدْ سَقَطَ الدَّيْنُ وَلاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ إِلَى مُطَالَبَةِ الْمَدِينِ إِلاَّ إِذَا وُجِدَ سَبَبٌ جَدِيدٌ، وَمِنْ ذَلِكَ حَقُّ الْقِصَاصِ لَوْ عُفِيَ عَنْهُ فَقَدْ سَقَطَ وَسَلِمَتْ نَفْسُ الْقَاتِل وَلاَ تُسْتَبَاحُ إِلاَّ بِجِنَايَةٍ أُخْرَى وَكَمَنْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الشُّفْعَةِ فَلاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ إِلَى الْمُطَالَبَةِ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ قَدْ بَطَل فَلاَ يَعُودُ إِلاَّ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ؛
وَكَذَلِكَ الرِّضَا بِالْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ وَالتَّصَرُّفُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُسْقِطُ حَقَّ الْمُشْتَرِي وَلاَ يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ بِالْعَيْبِ أَوْ بِفَسْخِ الْبَيْعِ.
وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ (1) وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي: (إِسْقَاط، شُفْعَة، قِصَاص، خِيَار) .

رَابِعًا: مَا يَكُونُ بِهِ الرُّجُوعُ:
34 - الرُّجُوعُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْل كَقَوْل الْمُوصِي: رَجَعْتُ فِي الْوَصِيَّةِ أَوْ فَسَخْتُهَا، أَوْ رَدَدْتُهَا، أَوْ أَبْطَلْتُهَا، أَوْ نَقَضْتُهَا.
وَمِثْل ذَلِكَ فِي الْهِبَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُودِ الَّتِي يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا.
وَكَقَوْل الرَّاجِعِ عَنِ الإِْقْرَارِ بِالزِّنَى: كَذَبْتُ، أَوْ رَجَعْتُ عَمَّا أَقْرَرْتُ بِهِ، أَوْ مَا زَنَيْتُ.
وَقَدْ يَكُونُ الرُّجُوعُ بِالتَّصَرُّفِ كَأَنْ يَفْعَل فِي
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 20، وشرح المجلة للأتاسي 1 / 118، مادة 51، وجواهر الإكليل 2 / 162، وشرح منتهى الإرادات 3 / 288.

(22/147)


الْمُوصَى بِهِ فِعْلاً يُسْتَدَل بِهِ عَلَى الرُّجُوعِ، فَلَوْ أَنَّ الْمُوصِيَ فَعَل فِي الْمُوصَى بِهِ فِعْلاً لَوْ فَعَلَهُ فِي الْمَغْصُوبِ لاَنْقَطَعَ بِهِ مِلْكُ الْمَالِكِ كَانَ رُجُوعًا كَمَا لَوْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ، وَكَمَا إِذَا أَوْصَى بِثَوْبٍ ثُمَّ قَطَعَهُ وَخَاطَهُ قَمِيصًا، أَوْ بِقُطْنٍ ثُمَّ غَزَلَهُ، أَوْ بِحَدِيدَةٍ ثُمَّ صَنَعَ مِنْهَا إِنَاءً؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْفْعَال لَمَّا أَوْجَبَتْ حُكْمَ الثَّابِتِ فِي الْمَحَل وَهُوَ الْمِلْكُ فَلأََنْ تُوجِبَ بُطْلاَنَ مُجَرَّدِ كَلاَمٍ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ أَصْلاً أَوْلَى؛ وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأَْفْعَال تُبَدِّل الْعَيْنَ وَتُصَيِّرُهَا شَيْئًا آخَرَ اسْمًا وَمَعْنًى فَكَانَ اسْتِهْلاَكًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَكَانَ دَلِيل الرُّجُوعِ. (1)
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْجُحُودِ أَوِ الإِْنْكَارِ هَل يَكُونُ رُجُوعًا؟ .
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجَحْدَ لاَ يَكُونُ رُجُوعًا.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ رِوَايَتَانِ، جَاءَ فِي بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ: لَوْ أَوْصَى ثُمَّ جَحَدَ الْوَصِيَّةَ ذَكَرَ فِي الأَْصْل أَنَّهُ يَكُونُ رُجُوعًا وَلَمْ يَذْكُرْ خِلاَفًا؛ لأَِنَّ مَعْنَى الرُّجُوعِ عَنِ الْوَصِيَّةِ هُوَ فَسْخُهَا وَإِبْطَالُهَا، وَفَسْخُ الْعَقْدِ كَلاَمٌ يَدُل عَلَى عَدَمِ الرِّضَا بِالْعَقْدِ السَّابِقِ وَبِثُبُوتِ حُكْمِهِ، وَالْجُحُودُ فِي مَعْنَاهُ؛ لأَِنَّ الْجَاحِدَ لِتَصَرُّفٍ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ غَيْرُ رَاضٍ بِهِ
__________
(1) البدائع 7 / 61، 378، وجواهر الإكليل 2 / 318، ومغني المحتاج 3 / 71 - 72، وشرح منتهى الإرادات 2 / 545.

(22/147)


وَبِثُبُوتِ حُكْمِهِ، فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْفَسْخِ، فَحَصَل مَعْنَى الرُّجُوعِ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ ثُمَّ عُرِضَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ فَقَال: لاَ أَعْرِفُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ، قَال: هَذَا رُجُوعٌ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَال: لَمْ أُوصِ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ.
وَقَال مُحَمَّدٌ: لاَ يَكُونُ الْجَحْدُ رُجُوعًا، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ: إِذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ قَال بَعْدَ ذَلِكَ: اشْهَدُوا أَنِّي لَمْ أُوصِ لِفُلاَنٍ بِقَلِيلٍ وَلاَ كَثِيرٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا رُجُوعًا مِنْهُ عَنْ وَصِيَّةِ فُلاَنٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلاَفًا؛ لأَِنَّ الرُّجُوعَ عَنِ الْوَصِيَّةِ يَسْتَدْعِي سَابِقِيَّةَ وُجُودِ الْوَصِيَّةِ، وَالْجُحُودُ إِنْكَارُ وُجُودِهَا أَصْلاً، فَلاَ يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الرُّجُوعِ، فَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَل رُجُوعًا. قَال الْكَاسَانِيُّ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا ذُكِرَ فِي الأَْصْل قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ قَوْل مُحَمَّدٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ. (1)
وَمِمَّا يُعْتَبَرُ رُجُوعًا عَنِ الإِْقْرَارِ بِالزِّنَى هُرُوبُ الزَّانِي وَلَوْ فِي أَثْنَاءِ إِقَامَةِ الْحَدِّ؛ لأَِنَّ الْهَرَبَ دَلِيل الرُّجُوعِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا هَرَبَ مَاعِزٌ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: هَلاَّ تَرَكْتُمُوهُ وَجِئْتُمُونِي بِهِ (2) وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَمَّا
__________
(1) البدائع 7 / 380 - 381، ومغني المحتاج 3 / 71، وشرح منتهى الإرادات 2 / 546.
(2) حديث: " هلا تركتموه وجئتموني به " أخرجه أبو داود 4 / 576 - 577 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث جابر بن عبد الله.

(22/148)


عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَلاَ يُعْتَبَرُ الْهَرَبُ رُجُوعًا، إِلاَّ أَنْ يُصَرِّحَ بِالرُّجُوعِ، وَالْهَرَبُ فَقَطْ لاَ يُعْتَبَرُ رُجُوعًا، وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لأَِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِالإِْقْرَارِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالرُّجُوعِ، وَلَكِنْ يُكَفُّ عَنْهُ فَإِنْ رَجَعَ فَذَاكَ، وَإِلاَّ حُدَّ. (1)

خَامِسًا: ارْتِجَاعُ الزَّوْجَةِ:
35 - ارْتِجَاعُ الزَّوْجَةِ الْمُطَلَّقَةِ يُسَمَّى رَجْعَةً، وَهِيَ لُغَةً - بِفَتْحِ الرَّاءِ - الْمَرَّةُ مِنَ الرُّجُوعِ، وَشَرْعًا: رَدُّ الْمَرْأَةِ إِلَى النِّكَاحِ مِنْ طَلاَقٍ غَيْرِ بَائِنٍ فِي الْعِدَّةِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} (2) أَيْ رَجْعَتِهِنَّ، وَلَمَّا طَلَّقَ النَّبِيُّ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا جَاءَهُ جِبْرِيل فَقَال لَهُ: رَاجِعْ حَفْصَةَ فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ فَرَاجَعَهَا (3) .، وَلأَِنَّ الْحَاجَةَ تَمَسُّ إِلَى الرَّجْعَةِ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ قَدْ يُطَلِّقُ ثُمَّ يَنْدَمُ فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّدَارُكِ، وَالرَّجْعَةُ تَكُونُ بِالْقَوْل
__________
(1) البدائع 7 / 61، وجواهر الإكليل 2 / 285، ومغني المحتاج 4 / 151، ومنتهى الإرادات 3 / 340.
(2) سورة البقرة / 228.
(3) حديث: " لما طلق النبي صلى الله عليه وسلم حفصة جاءه جبريل " أخرجه الحاكم 4 / 15 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث قيس بن زيد مرسلاً، ولكن الحديث صحيح دون ذكر أمر جبريل، ورد من حديث عمر بن الخطاب، أخرجه أبو داود 2 / 712 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (2 / 197 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(22/148)


بِاتِّفَاقٍ كَقَوْل الزَّوْجِ: رَاجَعْتُ زَوْجَتِي، أَوِ ارْتَجَعْتُهَا، أَوْ رَدَدْتُهَا.
وَتَكُونُ بِالْوَطْءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) ، وَتَكُونُ بِالْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ بِشَهْوَةٍ، وَالنَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} سَمَّى الرَّجْعَةَ رَدًّا، وَالرَّدُّ لاَ يَخْتَصُّ بِالْقَوْل كَرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى - لاَ تَحْصُل الرَّجْعَةُ بِالْفِعْل؛ لأَِنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِبَاحَةُ بُضْعٍ مَقْصُودٍ أُمِرَ بِالإِْشْهَادِ فِيهِ فَلَمْ يَحْصُل مِنَ الْقَادِرِ بِغَيْرِ قَوْلٍ كَالنِّكَاحِ. وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ. (1)
وَفِي بَيَانِ أَرْكَانِ الرَّجْعَةِ وَشُرُوطِهَا يُنْظَرُ: (رَجْعَة) .

سَادِسًا: أَثَرُ الرُّجُوعِ:
36 - لِلرُّجُوعِ آثَارٌ مُتَعَدِّدَةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمَرْجُوعِ عَنْهُ وَإِلَيْهِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَأْتِي:

أ - أَثَرُ الرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَةِ:
37 - الرُّجُوعُ عَنِ الشَّهَادَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْل
__________
(1) البدائع 3 / 180 - 181 - 182 - 183، وجواهر الإكليل 1 / 362، والمهذب 2 / 104، ومغني المحتاج 3 / 335، والمغني 7 / 283.

(22/149)


الْحُكْمِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَبْل اسْتِيفَاءِ الْمَحْكُومِ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الاِسْتِيفَاءِ. فَإِنْ كَانَ الرُّجُوعُ قَبْل الْحُكْمِ امْتَنَعَ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ مَنْ رَجَعَ عَنْ شَهَادَتِهِ لِلتَّنَاقُضِ؛ وَلأَِنَّ الْحَاكِمَ لاَ يَدْرِي، أَصَدَقَ فِي الأَْوَّل أَمْ فِي الثَّانِي؟ فَيَنْتَفِي ظَنُّ الصِّدْقِ، وَكَذِبُهُ ثَابِتٌ لاَ مَحَالَةَ، إِمَّا فِي الشَّهَادَةِ أَوِ الرُّجُوعِ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَى الشُّهُودِ فِي مَالٍ لِعَدَمِ الإِْتْلاَفِ، لَكِنْ لَوْ كَانَ رُجُوعُهُمْ عَنْ شَهَادَتِهِمْ فِي زِنَى حُدُّوا حَدَّ الْقَذْفِ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
وَإِنْ كَانَ الرُّجُوعُ بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَبْل اسْتِيفَاءِ الْمَحْكُومِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ بِمَالٍ لاَ يُنْقَضُ الْحُكْمُ، وَيَضْمَنُ الشُّهُودُ الْمَال، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَشَمْسِ الأَْئِمَّةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفَرَّقَ شَيْخُ الإِْسْلاَمِ خُوَاهَرْ زَادَهْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَال: إِنْ كَانَ الْمَال عَيْنًا ضَمِنَ الشُّهُودُ، سَوَاءٌ قَبَضَهُ الْمُدَّعِي أَمْ لَمْ يَقْبِضْهُ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا لاَ يَضْمَنُ الشُّهُودُ إِلاَّ إِذَا قَبَضَهُ الْمُدَّعِي وَهُوَ الْمَشْهُودُ لَهُ فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ الرُّجُوعُ بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَبْل الاِسْتِيفَاءِ فِي غَيْرِ الْمَال بِأَنْ كَانَ فِي قِصَاصٍ أَوْ حَدٍّ، فَلاَ تُسْتَوْفَى الْعُقُوبَةُ؛ لأَِنَّهَا تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَالرُّجُوعُ شُبْهَةٌ، وَهَذَا عِنْدَ الْجَمِيعِ إِلاَّ فِي قَوْلٍ لاِبْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، لَكِنْ قِيل: إِنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ وَاسْتَحْسَنَ عَدَمَ الاِسْتِيفَاءِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ دِيَةُ عَمْدٍ لِلْمَشْهُودِ لَهُ

(22/149)


؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ بِالْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ، وَقَدْ سَقَطَ أَحَدُهُمَا فَتَعَيَّنَ الآْخَرُ، وَيَرْجِعُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِمَا غَرِمَهُ مِنَ الدِّيَةِ عَلَى الشُّهُودِ، وَهُوَ مَا قَال بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا.
وَإِنْ كَانَ الرُّجُوعُ بَعْدَ الْحُكْمِ وَالاِسْتِيفَاءِ مَضَى الْحُكْمُ وَلاَ يُنْقَضُ، وَضَمِنَ الشُّهُودُ الدِّيَةَ فِي الْقِصَاصِ وَالرَّجْمِ، وَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ فِي الشَّهَادَةِ بِالزِّنَى وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - غَيْرَ أَشْهَبَ - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَشْهَبُ: عَلَيْهِمُ الْقِصَاصُ إِنْ قَالُوا تَعَمَّدْنَا، أَوْ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ، وَإِنْ قَالُوا أَخْطَأْنَا فَعَلَيْهِمْ دِيَةٌ مُخَفَّفَةٌ. (1)
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلاَتٌ تُنْظَرُ فِي (شَهَادَة) .

ب - أَثَرُ الرُّجُوعِ عَنِ الإِْقْرَارِ:
38 - مِنْ آثَارِ الرُّجُوعِ عَنِ الإِْقْرَارِ سُقُوطُ الْحَدِّ، فَمَنْ أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا وَهُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ كَالزِّنَى وَالشُّرْبِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ رُجُوعَهُ يُعْتَبَرُ
__________
(1) الاختيار 2 / 153 - 155، وفتح القدير 6 / 536 وما بعدها، والبدائع 6 / 283 وما بعدها، والفواكه الدواني 2 / 309 - 310، وجواهر الإكليل 2 / 245، ومغني المحتاج 4 / 456 - 457، وأسنى المطالب 4 / 381، والمهذب 2 / 341، وكشاف القناع 6 / 441، وشرح منتهى الإرادات 3 / 563، والمغني 9 / 245 - 247

(22/150)


شُبْهَةً دَارِئَةً لِلْحَدِّ؛ لاِحْتِمَال صِدْقِهِ وَاحْتِمَال كَذِبِهِ، فَيُوَرِّثُ شُبْهَةً فِي ظُهُورِ الْحَدِّ، وَالْحُدُودُ لاَ تُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَحِينَ أَقَرَّ مَاعِزٌ بِالزِّنَى لَقَّنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّجُوعَ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْحَدُّ مُحْتَمِلاً لِلسُّقُوطِ بِالرُّجُوعِ مَا كَانَ لِلتَّلْقِينِ مَعْنًى، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَال الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو ثَوْرٍ: يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ مَاعِزًا هَرَبَ فَقَتَلُوهُ، وَلَوْ قُبِل رُجُوعُهُ لَلَزِمَتْهُمُ الدِّيَةُ، وَلأَِنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ بِإِقْرَارِهِ، فَلَمْ يُقْبَل رُجُوعُهُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.
أَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لاَ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ مِنَ الأَْمْوَال وَغَيْرِهَا فَلاَ يُقْبَل الرُّجُوعُ فِيهَا.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ مَعَ التَّفْصِيل الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ فِيمَا إِذَا كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. (1)
وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي بَحْثِ: (إِقْرَار) .

ج - أَثَرُ الرُّجُوعِ عَنِ الإِْسْلاَمِ وَإِلَيْهِ:
39 - مِنْ آثَارِ الرُّجُوعِ عَنِ الإِْسْلاَمِ وَإِلَيْهِ إِهْدَارُ الدَّمِ أَوْ عِصْمَتُهُ، فَمَنْ كَانَ مُسْلِمًا ثُمَّ رَجَعَ عَنْ
__________
(1) البدائع 7 / 61، 232، 233، والدسوقي 4 / 318، 319، والقوانين الفقهية ص 313 ط دار الكتاب العربي في باب الإقرار، والفروق للقرافي 4 / 38، والمهذب 2 / 346، والمغني 5 / 164، 8 / 197.

(22/150)


دِينِ الإِْسْلاَمِ اعْتُبِرَ مُرْتَدًّا فَالرِّدَّةُ هِيَ الرُّجُوعُ عَنِ الإِْسْلاَمِ، وَيُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ثَلاَثًا، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ أُهْدِرَ دَمُهُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ بَدَّل دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ (1) .
وَإِذَا تَابَ الْمُرْتَدُّ وَرَجَعَ إِلَى الإِْسْلاَمِ فَقَدْ عُصِمَ دَمُهُ وَمَالُهُ، وَمِثْلُهُ الْمُحَارِبُ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَى الإِْسْلاَمِ، (2) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَمَنْ قَال لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَالَهُ إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (رِدَّة - جِهَاد) .

رَحِمٌ

انْظُرْ: أَرْحَام
__________
(1) حديث: " من بدل دينه فاقتلوه " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 267 - ط السلفية) من حديث ابن عباس.
(2) البدائع 7 / 134 - 135، 140، وجواهر الإكليل 2 / 277، والمهذب 2 / 219، 222، والمغني 8 / 123.
(3) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 112 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 51 - 52 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.

(22/151)


رُخْصَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - تُطْلَقُ كَلِمَةُ رُخْصَةٍ - فِي لِسَانِ الْعَرَبِ - عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ نُجْمِل أَهَمَّهَا فِيمَا يَلِي:
أ - نُعُومَةُ الْمَلْمَسِ، يُقَال: رَخُصَ الْبَدَنُ رَخَاصَةً إِذَا نَعُمَ مَلْمَسُهُ وَلاَنَ، فَهُوَ رَخْصٌ - بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ - وَرَخِيصٌ، وَهِيَ رَخْصَةٌ وَرَخِيصَةٌ.
ب - انْخِفَاضُ الأَْسْعَارِ، يُقَال: رَخُصَ الشَّيْءُ رُخْصًا - بِضَمٍّ فَسُكُونٍ - فَهُوَ رَخِيصٌ ضِدُّ الْغَلاَءِ. (1)
ج - الإِْذْنُ فِي الأَْمْرِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ: يُقَال: رَخَّصَ لَهُ فِي الأَْمْرِ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ، وَالاِسْمُ رُخْصَةٌ عَلَى وَزْنِ فُعْلَةٌ مِثْل غُرْفَةٍ، وَهِيَ ضِدُّ التَّشْدِيدِ، أَيْ أَنَّهَا تَعْنِي التَّيْسِيرَ فِي الأُْمُورِ، يُقَال: رَخَّصَ الشَّرْعُ فِي كَذَا تَرْخِيصًا، وَأَرْخَصَ إِرْخَاصًا إِذَا يَسَّرَهُ وَسَهَّلَهُ. (2) قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس.
(2) المصباح المنير.

(22/151)


يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا الْغَزَالِيُّ بِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَمَّا وُسِّعَ لِلْمُكَلَّفِ فِي فِعْلِهِ لِعُذْرٍ عَجَزَ عَنْهُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَزِيمَةُ:
2 - الْعَزِيمَةُ لُغَةً: الْقَصْدُ الْمُؤَكَّدُ. (3)
وَاصْطِلاَحًا عِبَارَةٌ عَمَّا لَزِمَ الْعِبَادَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى. (4)
فَلاَ يُقَال رُخْصَةٌ بِدُونِ عَزِيمَةٍ تُقَابِلُهَا، فَهُمَا يَنْتَمِيَانِ مَعًا إِلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِاتِّفَاقِ أَهْل الذِّكْرِ، وَهُمَا عَلَى الْقَوْل الرَّاجِحِ مِنَ الأَْحْكَامِ الْوَضْعِيَّةِ، وَعَلَى الْمَرْجُوحِ مِنَ الأَْحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ التَّكْلِيفَ (أَوْ الاِقْتِضَاءَ) مَوْجُودٌ فِي الْعَزِيمَةِ كَمَا أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الرُّخْصَةِ إِلاَّ أَنَّهُ فِي الأُْولَى أَصْلِيٌّ كُلِّيٌّ مُطَّرِدٌ وَاضِحٌ، وَفِي الثَّانِيَةِ طَارِئٌ جُزْئِيٌّ غَيْرُ مُطَّرِدٍ مَعَ خَفَائِهِ وَدِقَّتِهِ. وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا أَنَّ الأُْولَى تُمَثِّل حَقَّ
__________
(1) حديث: " إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته " أخرجه أحمد (2 / 108 - ط الميمنية) من حديث ابن عمر، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (3 / 162 - ط القدسي) ، وقال: " رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح ".
(2) المستصفى 1 / 63، مطبعة محمد مصطفى سنة 1356 هـ.
(3) المصباح المنير.
(4) المستصفى 1 / 98

(22/152)


اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ وَأَنَّ الثَّانِيَةَ تُمَثِّل حَظَّ الْعِبَادِ مِنْ لُطْفِهِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (عَزِيمَة) .

ب - الإِْبَاحَةُ:
3 - الإِْبَاحَةُ هِيَ: تَخْيِيرُ الْمُكَلَّفِ بَيْنَ الْفِعْل وَالتَّرْكِ. فَالإِْبَاحَةُ تُشْعِرُ بِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا أَصْلِيٌّ. وَتَتَلاَقَى فِي بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ مَعَ الرُّخَصِ. (1) انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِبَاحَة) .

ج - رَفْعُ الْحَرَجِ:
4 - رَفْعُ الْحَرَجِ فِي الاِصْطِلاَحِ يَتَمَثَّل فِي إِزَالَةِ كُل مَا يُؤَدِّي إِلَى مَشَقَّةٍ زَائِدَةٍ فِي الْبَدَنِ أَوِ النَّفْسِ أَوِ الْمَال فِي الْبَدْءِ وَالْخِتَامِ، وَالْحَال وَالْمَآل. وَهُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُول الشَّرِيعَةِ ثَبَتَ بِأَدِلَّةٍ قَطْعِيَّةٍ لاَ تَقْبَل الشَّكَّ. (2)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الرُّخْصَةِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ مِنْ وُجُوهٍ:
1 - أَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ أَصْلٌ كُلِّيٌّ مِنْ أُصُول الشَّرِيعَةِ وَمَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِهَا - كَمَا سَبَقَ - أَمَّا الرُّخَصُ فَهِيَ فَرْعٌ يَنْدَرِجُ ضِمْنَ هَذَا الأَْصْل الْعَامِّ وَجُزْءٌ أُخِذَ مِنْ هَذَا الْكُل، فَرَفْعُ الْحَرَجِ مُؤَدَّاهُ يُسْرُ التَّكَالِيفِ فِي جَمِيعِ أَطْوَارِهَا، وَالرُّخَصُ مُؤَدَّاهَا تَيْسِيرُ مَا شَقَّ عَلَى بَعْضِ النُّفُوسِ عِنْدَ التَّطْبِيقِ
__________
(1) المستصفى 1 / 64
(2) الموافقات 1 / 168.

(22/152)


مِنْ تِلْكَ الأَْحْكَامِ الْمُيَسَّرَةِ ابْتِدَاءً (1) .
2 - أَنَّ الْحَرَجَ مَرْفُوعٌ عَنِ الأَْحْكَامِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً فِي الْحَال وَالْمَآل، بَيْنَمَا الرُّخَصُ تَشْمَل - عَادَةً - أَحْكَامًا مَشْرُوعَةً بِنَاءً عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ تَنْتَهِي بِانْتِهَائِهَا، وَأُخْرَى تُرَاعَى فِيهَا أَسْبَابٌ مُعَيَّنَةٌ تَتْبَعُهَا وُجُودًا وَعَدَمًا.
وَلَيْسَتِ الرُّخَصُ مُرَادِفَةً لِرَفْعِ الْحَرَجِ وَإِلاَّ لَكَانَتْ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ كُلُّهَا رُخَصًا بِدُونِ عَزَائِمَ. وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رَفْعُ الْحَرَجِ) .
3 - إِذَا رَفَعَ الْمُشَرِّعُ الْحَرَجَ عَنْ فِعْلٍ مِنَ الأَْفْعَال فَالَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ الْفِعْل إِنْ وَقَعَ مِنَ الْمُكَلَّفِ لاَ إِثْمَ وَلاَ مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِ، وَيَبْقَى الإِْذْنُ فِي الْفِعْل مَسْكُوتًا عَنْهُ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَقْصُودٍ، إِذْ لَيْسَ كُل مَا لاَ حَرَجَ فِيهِ يُؤْذَنُ فِيهِ، (2) بِخِلاَفِ التَّرْخِيصِ فِي الْفِعْل فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ - إِلَى جَانِبِ ذَلِكَ - الإِْذْنَ فِيهِ. (3) انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رَفْعُ الْحَرَجِ) .

د - النَّسْخُ:
5 - النَّسْخُ اصْطِلاَحًا بَيَانُ انْتِهَاءِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ مُتَرَاخٍ عَنْهُ. فَإِذَا كَانَ النَّسْخُ مِنَ
__________
(1) الموافقات 1 / 313.
(2) المصدر السابق 4 / 61
(3) نفس المصدر 1 / 146.

(22/153)


الأَْشَدِّ لِلأَْخَفِّ فَإِنَّهُ يَشْتَرِكُ مَعَ الرُّخْصَةِ فِي الْتِمَاسِ التَّخْفِيفِ، وَلَكِنَّهُ لاَ يُعَدُّ مِنْهَا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي سَبَقَ؛ لأَِنَّ الدَّلِيل الأَْصْلِيَّ لَمْ يَعُدْ قَائِمًا. انْظُرْ: (نَسْخ) .

الْحِكْمَةُ مِنْ تَشْرِيعِ الرُّخَصِ:
6 - تَحْقِيقُ مَبْدَأِ الْيُسْرِ وَالسَّمَاحَةِ فِي الإِْسْلاَمِ تَحْقِيقًا عَمَلِيًّا تَطْبِيقِيًّا. قَال تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1) . وَقَال - جَل ذِكْرُهُ -: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِْنْسَانُ ضَعِيفًا} (2) . وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ (3) وَقَال أَيْضًا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا، وَلاَ مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا (4)
الصِّيَغُ الَّتِي تَدُل عَلَى الرُّخْصَةِ:
7 - الرُّخْصَةُ تَكُونُ غَالِبًا بِمَا يَلِي:

أ - مَادَّتُهَا: مِثْل رَخَّصَ وَأَرْخَصَ وَرُخْصَةٍ، فَفِي
__________
(1) سورة البقرة / 185.
(2) سورة النساء / 28.
(3) حديث: " إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 93 ط السلفية) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) حديث: " إن الله لم يبعثني معنتًا. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1105 - ط الحلبي) من حديث أبي بكر رضي الله عنه.

(22/153)


الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا بَال أَقْوَامٍ يَرْغَبُونَ عَمَّا رُخِّصَ لِي فِيهِ (1) وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، وَرَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ. . (2) وَفِيهِ - أَيْضًا - أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: رَخَّصَ فِي الْكَفَّارَةِ قَبْل الْحِنْثِ (3) .
وَرَخَّصَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْجَرِّ غَيْرِ الْمُزَفَّتِ مِنَ الأَْوْعِيَةِ (4) . وَرَخَّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ قَبْل طَوَافِ الْوَدَاعِ (5) . وَرَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا (6) . {
وَرَخَّصَ فِي الرُّقْيَةِ مِنَ الْعَيْنِ. . (7) وَفِي حَدِيثِ
__________
(1) حديث: " ما بال قوم يرغبون عما رخص لي فيه " أخرجه مسلم (4 / 1829 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
(2) حديث: " نهى عن بيع الثمر بالتمر، ورخص في العرية " أخرجه البخاري الفتح (4 / 387 - ط السلفية) من حديث سهل بن أبي حثمة.
(3) حديث: " رخص في الكفارة قبل الحنث " ورد من حديث أبي موسى الأشعري، أخرجه البخاري الفتح (12 / 602 - ط السلفية) .
(4) حديث: " رخص للمسلمين في الجر غير المزفت من الأوعية " أخرجه البخاري الفتح (10 / 57 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عمرو.
(5) حديث: " رخص للحائض أن تنفر قبل طواف الوداع " أخرجه البخاري الفتح (3 / 586 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 963 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس.
(6) حديث: " رخص للزبير وعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير " أخرجه البخاري (10 / 295 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1646 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(7) حديث: " رخص في الرقية من العين " أخرجه مسلم (4 / 1725 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.

(22/154)


جَزَاءِ الصَّيْدِ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ (1) . يَعْنِي عَلَيْكُمْ بِالصَّوْمِ إِذَا كَانَ فِي تَعْوِيضِهِ بِالأَْنْعَامِ عُسْرٌ مَهْمَا كَانَ مَأْتَاهُ.

ب - نَفْيُ الْجُنَاحِ:
وَرَدَ الْجُنَاحُ مَنْفِيًّا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ آيَةً يُسْتَفَادُ مِنْ أَغْلَبِهَا التَّرْخِيصُ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَهْل الْعِلْمِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ} (2) .

ج - نَفْيُ الإِْثْمِ:
مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِل بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) .

د - الاِسْتِثْنَاءُ مِنْ حُكْمٍ عَامٍّ:
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: - فِي شَأْنِ الإِْكْرَاهِ -: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (4)
__________
(1) حديث: " عليكم برخصة الله التي رخص لكم " أخرجه مسلم (2 / 786 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) سورة النساء / 101.
(3) سورة البقرة / 173.
(4) سورة النحل / 106.

(22/154)


رَخَّصَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الآْيَةِ لِلْمُكْرَهِ إِظْهَارَ الْكُفْرِ - إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ التَّلَفَ - فَلَهُ أَنْ يُظْهِرَ الْكُفْرَ بِشَيْءٍ مِنْ مَظَاهِرِهِ الَّتِي يُطْلَقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا كُفْرٌ فِي عُرْفِ النَّاسِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ رِفْقًا بِعِبَادِهِ، وَاعْتِبَارًا لِلأَْشْيَاءِ بِغَايَاتِهَا وَمَقَاصِدِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال - بَعْدَ أَنْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا -: يَا رَسُول اللَّهِ، مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ، وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟ قَال: مُطْمَئِنًّا بِالإِْيمَانِ. فَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنْ عَادُوا فَعُدْ (1) .

أَقْسَامُ الرُّخْصَةِ:
8 - تَنْقَسِمُ الرُّخْصَةُ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ أَهَمُّهَا:
أ - بِاعْتِبَارِ حُكْمِهَا: الَّذِينَ قَسَّمُوا الرُّخَصَ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ هُمُ الشَّافِعِيَّةُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا حَيْثُ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّهَا تَنْقَسِمُ - بِالاِعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ - إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: (2)
__________
(1) حديث: " إن عادوا فعد. . . . " أخرجه ابن جرير في تفسيره (14 / 182 - ط الحلبي) وفي سنده إرسال.
(2) المحلي على جمع الجوامع 1 / 122 بحاشية البناني، غاية الوصول ص 18، نهاية السول في شرح منهاج الوصول للبيضاوي 1 / 121، 122، والأشباه والنظائر ص 82 للسيوطي.

(22/155)


الْقِسْمُ الأَْوَّل:
9 - رُخَصٌ وَاجِبَةٌ: مِثْل أَكْل الْمُضْطَرِّ مِمَّا حُرِّمَ مِنَ الْمَأْكُولاَتِ، وَشُرْبِهِ مِمَّا حُرِّمَ مِنَ الْمَشْرُوبَاتِ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْل الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، وَقِيل: إِنَّ أَكْل الْمُضْطَرِّ أَوْ شُرْبَهُ مِمَّا ذُكِرَ جَائِزٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَوْل بِالْوُجُوبِ يَتَنَافَى مَعَ التَّرْخِيصِ، وَلِذَلِكَ نَقَلُوا عَنْ إِلْكِيَا الْهِرَّاسِيِّ الشَّافِعِيِّ الْقَوْل بِأَنَّ أَكْل الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ عَزِيمَةٌ لاَ رُخْصَةٌ، كَالْفِطْرِ لِلْمَرِيضِ فِي رَمَضَانَ وَنَحْوِهِ هُرُوبًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي التَّنَاقُضِ. (1)
وَقَدْ أَشَارَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الأُْصُول إِلَى خِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي حُرْمَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَأَكْل الْمَيْتَةِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَمَا أُهِل بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَنَحْوِهَا فِي حَال الضَّرُورَةِ - بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ الأَْكْل وَاجِبًا أَوْ جَائِزًا -: هَل تُرْفَعُ تِلْكَ الْحُرْمَةُ فِي هَذِهِ الْحَال فَيَصِيرُ أَكْلُهَا مُبَاحًا، أَوْ تَبْقَى وَيَرْتَفِعُ الإِْثْمُ فَقَطْ؟ .
بَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّهَا لاَ تَحِل، وَلَكِنْ يُرَخَّصُ فِي الْفِعْل إِبْقَاءً عَلَى حَيَاةِ الشَّخْصِ - كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الإِْكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ تَرْتَفِعُ فِي
__________
(1) انظر كلام الهراسي ورد ابن دقيق العيد في سلم الوصول إلى نهاية السول (حاشية الشيخ بخيت على الإسنوي 1 / 121) .

(22/155)


تِلْكَ الْحَالَةِ، وَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ اسْتَنَدَ إِلَى أَدِلَّةٍ مَبْسُوطَةٍ فِي كُتُبِ الأُْصُول. (1)
وَهَذَا الْخِلاَفُ تَظْهَرُ لَهُ فَائِدَتَانِ:
الأُْولَى: إِذَا صَبَرَ الْمُضْطَرُّ حَتَّى مَاتَ لاَ يَكُونُ آثِمًا عَلَى الْقَوْل الأَْوَّل، وَيَكُونُ آثِمًا عَلَى الثَّانِي.
الثَّانِيَةُ: إِذَا حَلَفَ الْمُكَلَّفُ بِأَنْ لاَ يَأْكُل حَرَامًا أَبَدًا، فَتَنَاوَل مِنْهُ فِي حَال الضَّرُورَةِ يَحْنَثُ عَلَى الأَْوَّل، وَلاَ يَحْنَثُ عَلَى الثَّانِي. (2)
الْقِسْمُ الثَّانِي:
10 - رُخَصٌ مَنْدُوبَةٌ: مِثْل الْقَصْرِ لِلْمُسَافِرِ سَفَرًا يَبْلُغُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل أَيْضًا الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسَافِرِ الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، وَالإِْبْرَادُ بِالظُّهْرِ، وَالنَّظَرُ إِلَى الْمَخْطُوبَةِ، (3) وَمُخَالَطَةُ الْيَتَامَى فِي أَمْوَالِهِمْ وَسَائِرِ أَحْوَالِهِمْ مِمَّا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ اعْتِمَادًا عَلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} (4) . حَيْثُ نَصَّ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الآْيَةَ تَتَضَمَّنُ تَرْخِيصًا فِي خَلْطِ طَعَامِ الْيَتِيمِ بِطَعَامِ كَافِلِهِ، وَشَرَابِهِ بِشَرَابِهِ،
__________
(1) سلم الوصول إلى نهاية السول 1 / 121، 122، كشف الأسرار على أصول البزدوي 1 / 642.
(2) سلم الوصول 1 / 122، كشف الأسرار 1 / 642.
(3) التمهيد لابن عبد البر 2 / 122، المحلي على جمع الجوامع 1 / 121، الأشباه والنظائر ص 82.
(4) سورة البقرة / 220.

(22/156)


وَمَاشِيَتِهِ بِمَاشِيَتِهِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، كَمَا أَكَّدُوا بِأَنَّهَا أَفَادَتْ حَثًّا عَلَى هَذِهِ الْمُخَالَطَةِ وَتَعْرِيضًا بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ احْتِقَارِ الْيَتِيمِ وَالتَّرَفُّعِ عَنْهُ. (1)
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
11 - رُخَصٌ مُبَاحَةٌ: وَقَدْ مَثَّلُوا لَهَا بِالْعُقُودِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ، كَالسَّلَمِ، وَالْعَرِيَّةِ، وَالْقِرَاضِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَالإِْجَارَةِ، وَالْجُعْل، وَنَحْوِهَا مِمَّا أُبِيحَ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ. (2)
الْقِسْمُ الرَّابِعُ:
12 - رُخَصٌ جَاءَتْ عَلَى خِلاَفِ الأَْوْلَى: مِثْل الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسَافِرِ الَّذِي لاَ يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ مَشَقَّةً قَوِيَّةً، وَالتَّيَمُّمِ لِمَنْ وَجَدَ الْمَاءَ يُبَاعُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْل مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَالْجَمْعِ الَّذِي لاَ تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَةُ الْمُسَافِرِ.
وَالسُّؤَال عَنِ الأَْشْيَاءِ فِي وَقْتِهَا، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَنَسْخِهِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ. (3)
ب - بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ:
تَقْسِيمُ الرُّخَصِ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ يُمَثِّل وِجْهَةَ نَظَرِ
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 1 / 389 - 391، أحكام القرآن لابن العربي 1 / 65
(2) نهاية السول 1 / 123، 124، 127، 128، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 82، التمهيد لابن عبد البر 2 / 171.
(3) المعيار للونشريسي 1 / 87، 4، 5.

(22/156)


الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ تَوَاطَأَتْ كَلِمَتُهُمْ سَلَفًا وَخَلَفًا عَلَى تَقْسِيمِهَا - بِالاِعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ - إِلَى قِسْمَيْنِ رَئِيسِيَّيْنِ:

الْقِسْمُ الأَْوَّل: رُخَصٌ حَقِيقِيَّةٌ:
13 - وَهِيَ الَّتِي تَقَعُ فِي مُقَابَلَةِ عَزَائِمَ مَا يَزَال الْعَمَل بِهَا جَارِيًا لِقِيَامِ دَلِيلِهَا، وَهَذَا الْقِسْمُ يَنْقَسِمُ - بِدَوْرِهِ - إِلَى قِسْمَيْنِ:
1 - مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ، وَالْحُرْمَةِ مَعًا، وَهُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الرُّخَصِ؛ لأَِنَّ الْحُرْمَةَ لَمَّا كَانَتْ قَائِمَةً مَعَ سَبَبِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ شَرَعَ لِلْمُكَلَّفِ الإِْقْدَامَ عَلَى الْفِعْل دُونَ مُؤَاخَذَةٍ بِنَاءً عَلَى عُذْرِهِ، كَانَ ذَلِكَ الإِْقْدَامُ فِي أَكْمَل دَرَجَاتِهِ فَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعَفْوِ عَنِ الْجِنَايَةِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ. وَلَيْسَ فِي الأَْمْرِ أَيُّ غَرَابَةٍ؛ لأَِنَّ كَمَال الرُّخَصِ بِكَمَال الْعَزَائِمِ، فَكُلَّمَا كَانَتْ هَذِهِ حَقِيقِيَّةً كَامِلَةً ثَابِتَةً مِنْ كُل وَجْهٍ، كَانَتِ الرُّخْصَةُ فِي مُقَابَلَتِهَا كَذَلِكَ. (1) وَقَدْ ذَكَرُوا - لِهَذَا الْقِسْمِ - أَمْثِلَةً مِنْهَا:
التَّرْخِيصُ فِي إِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ مَعَ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالإِْيمَانِ عِنْدَ الإِْكْرَاهِ الْمُلْجِئِ بِالْقَتْل أَوْ بِالْقَطْعِ؛ لأَِنَّ فِي امْتِنَاعِهِ عَنِ الْفِعْل إِتْلاَفَ ذَاتِهِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَفِي إِقْدَامِهِ عَلَيْهِ
__________
(1) المغني في أصول الفقه ص 87، كشف الأسرار 1 / 636، والتوضيح على التنقيح 3 / 83 - 85، فواتح الرحموت 1 / 116، 117، مرآة الأصول 2 / 394.

(22/157)


إِتْلاَفَ حَقِّ الشَّرْعِ صُورَةً دُونَ مَعْنًى حَيْثُ إِنَّ الرُّكْنَ الأَْصْلِيَّ فِي الإِْيمَانِ - وَهُوَ التَّصْدِيقُ - بَاقٍ عَلَى حَالِهِ. (1) وَمَعَ ذَلِكَ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَخْيِيرِهِ بَيْنَ الْفِعْل وَالتَّرْكِ، بَل رَجَّحَ الْحَنَفِيَّةُ مِنْهُمُ الأَْخْذَ بِالْعَزِيمَةِ فِي هَذَا الْمِثَال بِالْخُصُوصِ؛ لأَِنَّ إِحْيَاءَ النُّفُوسِ - هُنَا - يُقَابِلُهُ مَوْقِفٌ عَظِيمٌ مِنْ مَوَاقِفِ السُّمُوِّ وَالإِْبَاءِ وَالتَّمَسُّكِ بِالْحَقِّ مَهْمَا اشْتَدَّتِ الْفِتْنَةُ وَعَظُمَ الْبَلاَءُ. (2) وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا التَّرْجِيحِ بِمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ أَكْرَهَ رَجُلَيْنِ - مِنَ الْمُسْلِمِينَ - عَلَى الْكُفْرِ فَنَطَقَ أَحَدُهُمَا بِكَلِمَتِهِ فَنَجَا، وَأَصَرَّ الآْخَرُ عَلَى الْجَهْرِ بِالْحَقِّ فَهَلَكَ، فَقَال فِيهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ بَلَغَهُ خَبَرُهُمَا: أَمَّا الأَْوَّل فَقَدْ أَخَذَ بِرُخْصَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ صَدَعَ بِالْحَقِّ فَهَنِيئًا لَهُ (3) .
2 - مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ وَتَرَاخِي الْحُرْمَةِ: مِثْل الإِْفْطَارِ فِي رَمَضَانَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسَافِرِ، فَإِنَّ السَّبَبَ الْمُحَرِّمَ لِلإِْفْطَارِ - وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ - قَائِمٌ، لَكِنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ أَوْ حُرْمَةَ الإِْفْطَارِ غَيْرُ قَائِمَةٍ عَلَى الْفَوْرِ بَل ثَابِتَةٌ عَلَى
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) كشف الأسرار 1 / 636، والتوضيح 3 / 85.
(3) حديث: " إكراه مسيلمة رجلين من المسلمين على الكفر " أخرجه ابن أبي شيبة من حديث الحسن مرسلاً، وأخرجه كذلك عبد الرزاق في تفسيره عن معمر معضلاً، كذا في " الكافي الشافي " لابن حجر (2 / 637 - ط دار الكتاب العربي بهامش الكشاف) .

(22/157)


التَّرَاخِي بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ. قَال تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) .
وَالْعَمَل بِالْعَزِيمَةِ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَيْضًا أَوْلَى مِنَ الْعَمَل بِالرُّخْصَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَيِ الصَّوْمُ أَوْلَى مِنَ الإِْفْطَارِ عِنْدَهُمْ.
أَوَّلاً: لأَِنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ - وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ - كَانَ قَائِمًا، وَتَرَاخِي الْحُكْمِ بِالأَْجَل غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ التَّعْجِيل، مِثْلَمَا هُوَ الأَْمْرُ فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّل، فَكَانَ الْمُؤَدِّي لِلصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَامِلاً لِلَّهِ تَعَالَى فِي أَدَاءِ الْفَرْضِ، وَالْمُتَرَخِّصُ بِالْفِطْرِ عَامِلاً لِنَفْسِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى التَّرْفِيهِ، فَقَدَّمَ حَقَّ اللَّهِ وَهُوَ أَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ.
ثَانِيًا: لأَِنَّ فِي الأَْخْذِ بِالْعَزِيمَةِ نَوْعَ يُسْرٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي شَهْرِ الصِّيَامِ أَيْسَرُ مِنَ التَّفَرُّدِ بِهِ بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ. (2) هَذَا إِذَا لَمْ يُضْعِفْهُ الصَّوْمُ، فَإِذَا أَضْعَفَهُ كَانَ الْفِطْرُ أَوْلَى، فَإِنْ صَبَرَ حَتَّى مَاتَ كَانَ آثِمًا بِلاَ خِلاَفٍ. وَقَدْ رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ الأَْخْذَ بِالرُّخْصَةِ فِي هَذَا الْمِثَال، وَالْجَمِيعُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ ثُمَّ مَاتَ قَبْل إِدْرَاكِ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ مَاتَ قَبْل رَمَضَانَ. وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ أَخَذَ
__________
(1) سورة البقرة / 184.
(2) كشف الأسرار 1 / 640، والتوضيح 3 / 85، مرآة الأصول 2 / 396، وفواتح الرحموت 1 / 171.

(22/158)


بِالْعَزِيمَةِ فَصَامَ فِي السَّفَرِ وَقَعَ صِيَامُهُ فِي الْفَرْضِ وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ. (1)
الْقِسْمُ الثَّانِي: رُخَصٌ مَجَازِيَّةٌ:
14 - وَتُسَمَّى أَيْضًا - فِي اصْطِلاَحِهِمْ -: رُخَصُ الإِْسْقَاطِ، وَقَدْ قَسَّمُوهَا - كَذَلِكَ - إِلَى قِسْمَيْنِ فَرْعِيَّيْنِ:
1 - مَا وُضِعَ عَنْ هَذِهِ الأُْمَّةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ - رَحْمَةً بِهَا وَإِكْرَامًا لِنَبِيِّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الأَْحْكَامِ الشَّاقَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَفْرُوضَةً عَلَى الأُْمَمِ السَّابِقَةِ مِثْل:
- قَتْل النَّفْسِ لِصِحَّةِ التَّوْبَةِ
- قَرْضِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مِنَ الْجِلْدِ وَالثَّوْبِ. (2)
2 - مَا سَقَطَ عَنِ الْعِبَادِ مَعَ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ: فَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ سَقَطَ كَانَ مَجَازًا، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ كَانَ شَبِيهًا بِالرُّخَصِ الْحَقِيقِيَّةِ، مِثْل السَّلَمِ وَمَا قَارَبَهُ مِنَ الْعُقُودِ الَّتِي أُبِيحَتْ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ أُصُولٍ مَمْنُوعَةٍ، فَمِنْ حَيْثُ اسْتِثْنَاؤُهَا مِمَّا ذُكِرَ سَقَطَ الْمَنْعُ مِنْهَا فَشَابَهَتْ مَا وُضِعَ عَنَّا مِنَ الأَْغْلاَل الَّتِي كَانَتْ عَلَى الأُْمَمِ السَّابِقَةِ، فَكَانَتْ رُخَصًا مَجَازِيَّةً مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ إِذْ لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهَا عَزَائِمُ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ أُصُولَهَا مَشْرُوعَةٌ وَأَنَّ بَعْضَ الشُّرُوطِ الَّتِي تَجَاوَزَ عَنْهَا الشَّرْعُ مِنْ أَجْل التَّخْفِيفِ وَالْمَصْلَحَةِ مَا زَالَتْ قَائِمَةً فِي تِلْكَ الأُْصُول
__________
(1) كشف الأسرار 1 / 639.
(2) كشف الأسرار 1 / 641، والمغني في أصول الفقه ص 88، والتوضيح 3 / 86، مرآة الأصول 2 / 396.

(22/158)


أَشْبَهَتِ الرُّخَصَ الْحَقِيقِيَّةَ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ اعْتُبِرَ هَذَا الْقِسْمُ أَقْرَبَ إِلَى الرُّخَصِ الْحَقِيقِيَّةِ مِنْ سَابِقِهِ، وَاعْتُبِرَ السَّابِقُ أَتَمَّ فِي الْمَجَازِيَّةِ مِنْ هَذَا. (1) وَهَذَا الْقِسْمُ يُرَادِفُ الرُّخَصَ الْمُبَاحَةَ فِي تَقْسِيمِ الشَّافِعِيَّةِ. وَالأَْقْسَامُ الأَْرْبَعَةُ - الْحَاصِلَةُ بَعْدَ تَقْسِيمِ كُلٍّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ الرَّئِيسِيَّيْنِ إِلَى قِسْمَيْنِ فَرْعِيَّيْنِ - لاَ تَبْعُدُ كَثِيرًا عَنِ الإِْطْلاَقَاتِ الأَْرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّاطِبِيُّ. (2)
ج - تَقْسِيمُ الرُّخَصِ حَسَبِ التَّخْفِيفِ:
تَنْقَسِمُ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ - الَّذِي يَخُصُّ الأَْحْكَامَ الطَّارِئَةَ - إِلَى سِتَّةِ أَنْوَاعٍ: (3)
15 - الأَْوَّل: تَخْفِيفُ إِسْقَاطٍ، وَيَكُونُ حَيْثُ يُوجَدُ الْعُذْرُ أَوِ الْمُوجِبُ مِنْ ذَلِكَ.
1 - إِسْقَاطُ الْخُرُوجِ إِلَى الْجَمَاعَةِ لِلْمَرَضِ أَوْ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ، أَوْ لِلرِّيحِ وَالْمَطَرِ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ وَفِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ أَنْ يُصَلُّوا فِي رِحَالِهِمْ (4) .
__________
(1) المغني في أصول الفقه ص 89، كشف الأسرار 1 / 641، والتلويح على التوضيح 3 / 86.
(2) الموافقات 1 / 301، وما بعدها و 3 / 241.
(3) قواعد الأحكام 2 / 8، والأشباه والنظائر ص 82، غمز عيون البصائر على الأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 116، 117
(4) حديث: " رخص في الصلاة في الرحال في الليلة ذات برد وريح ومطر " أخرجه البخاري الفتح 2 / 156 - 157 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 484 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر.

(22/159)


2 - إِسْقَاطُ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ لِلأَْعْذَارِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمِثَال الأَْوَّل وَلِغَيْرِهَا مِمَّا وَقَعَ بَسْطُهُ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ وَالأَْحْكَامِ. (1)
3 - إِسْقَاطُ شَرْطِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ. (2)
4 - إِسْقَاطُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَنْ غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ (3) ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (4) .
5 - إِسْقَاطُ الْجِهَادِ عَنْ ذَوِي الأَْعْذَارِ، قَال الْمَوْلَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيل اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} (5) .
6 - إِسْقَاطُ الصَّلاَةِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ وَالصَّعِيدِ الطَّيِّبِ، فِي الْمَشْهُورِ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، إِلاَّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ وَوَافَقَهُمُ الثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ. وَقَال مَالِكٌ - فِي رِوَايَةِ الْمَدَنِيِّينَ عَنْهُ -: لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. (6)
__________
(1) نيل الأوطار 3 / 225، أحكام القرآن لابن العربي 2 / 257.
(2) الرسالة للشافعي ص 122، 177، مكتبة التراث القاهرة، ط 2 سنة 1399 هـ.
(3) قواعد الأحكام 2 / 8.
(4) سورة آل عمران / 97.
(5) سورة النساء / 95.
(6) الجامع لأحكام القرآن 3 / 2102 - المكتبة الشعبية، نيل الأوطار 1 / 267، والمعيار 1 / 52 - 53.

(22/159)


وَبَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ الَّذِي يَجِبُ إِسْقَاطُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ هُوَ حُكْمُ اسْتِعْمَال الْمَاءِ وَالتُّرَابِ فَيُوجِبُونَ الصَّلاَةَ عِنْدَ فِقْدَانِهِمَا. (1)
7 - إِسْقَاطُ الْقَضَاءِ عَمَّنْ أَفْطَرَ نَاسِيًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عِنْدَ جُمْهُورِ الأَْئِمَّةِ عَمَلاً بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَل أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ (2) . وَخَالَفَ مَالِكٌ فَقَال بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ قِيَاسًا عَلَى مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَإِنَّهُ يَقْضِيهَا مَتَى تَذَكَّرَهَا. (3)
8 - إِسْقَاطُ الْكَفَّارَةِ بِالإِْعْسَارِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى خِلاَفِ الأَْظْهَرِ وَفِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ لِلْحَنَابِلَةِ وَتَبِعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (4) اسْتِنَادًا إِلَى مَا جَاءَ فِي آخِرِ حَدِيثِ الأَْعْرَابِيِّ الَّذِي وَقَعَ عَلَى أَهْلِهِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ. . أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ (5) .
__________
(1) جامع الأصول 8 / 145، نيل الأوطار 1 / 267، الجامع لأحكام القرآن 3 / 2102
(2) حديث: " من نسي وهو صائم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 155 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 809 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، واللفظ لمسلم.
(3) بداية المجتهد 1 / 210.
(4) القليوبي 2 / 72، والمغني 3 / 132.
(5) حديث: " أطعمه أهلك " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 163 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة، وانظر الحديث كاملاً مع وجه الاستدلال بجملته الأخيرة في: (المنتقى 2 / 52 - 55، نيل الأوطار 4 / 216) .

(22/160)


9 - إِسْقَاطُ الْحَدِّ بِالشُّبْهَةِ لِمَا تَقَرَّرَ - عَمَلاً بِمَجْمُوعَةٍ مِنَ الأَْحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ يُدَعِّمُ بَعْضُهَا الْبَعْضَ - (1) مِنْ أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. (2)
النَّوْعُ الثَّانِي: تَخْفِيفُ تَنْقِيصٍ: مِثَالُهُ:
16 - 1 - قَصْرُ الصَّلاَةِ الرُّبَاعِيَّةِ فِي السَّفَرِ إِلَى رَكْعَتَيْنِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ الْقَصْرِ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا. (3)
2 - تَنْقِيصُ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْمَرِيضُ مِنْ أَفْعَال الصَّلاَةِ: كَتَنْقِيصِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَغَيْرِهِمَا إِلَى الْقَدْرِ الْمَيْسُورِ مِنْ ذَلِكَ. (4)
النَّوْعُ الثَّالِثُ: تَخْفِيفُ إِبْدَالٍ: مِثْل:
17 - إِبْدَال الْوُضُوءِ وَالْغُسْل بِالتَّيَمُّمِ،
__________
(1) حديث: " ادرؤوا الحدود بالشبهات " أخرجه أبو سعد المسعاني في " الذيل " كما في " المقاصد الحسنة " للسخاوي (ص 30 - ط الخانجي) ، ونقل عن ابن حجر أنه قال: " في سنده من لا يعرف ". وأورده الشوكاني في نيل الأوطار (7 / 272) ، وسرد له عدة أسانيد مرفوعة وموقوفة، وقال: وما في الباب وإن كان فيه المقال المعروف فقد شد عضده ما ذكرناه (يعني الروايات التي ذكرها) فيصلح بعد ذلك للاحتجاج به.
(2) الأشباه والنظائر ص 123، والأشباه والنظائر بشرح الحموي 1 / 161.
(3) قواعد الأحكام 2 / 8، نيل الأوطار 3 / 200.
(4) قواعد الأحكام 2 / 8.

(22/160)


قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَل عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1)
الرَّابِعُ: تَخْفِيفُ تَقْدِيمٍ: مِثْل:
18 - 1 - تَقْدِيمُ الْعَصْرِ إِلَى الظُّهْرِ وَالْعِشَاءِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِجَمْعِ التَّقْدِيمِ، وَنَصُّوا عَلَى جَوَازِهِ جُمْلَةً فِي عِدَّةِ حَالاَتٍ مِنْهَا: السَّفَرُ وَالْمَرَضُ وَالْخَوْفُ. (2)
2 - تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ عَلَى الْحَوْل مُسَارَعَةً إِلَى الْخَيْرِ لِمَا رَوَاهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْجِيل صَدَقَتِهِ قَبْل أَنْ تَحِل فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ (3) .
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) جامع الأصول 6 / 451، 459، ونيل الأوطار 6 / 296، 298، و 3 / 212 - 215، وفتح الباري 2 / 23، 24، والنووي على مسلم 5 / 215 - 217، والمدونة 1 / 115، 116، والمنتقى 1 / 254 - 256، المعيار 1 / 115، ومجموع الفتاوى لابن تيمية 24 / 77، 78.
(3) حديث أن العباس بن عبد المطلب سأل النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل. . . " أخرجه أبو داود (2 / 276 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وذكر طرقه ابن حجر في الفتح (3 / 334 - ط السلفية) ، وأشار إلى ثبوته بمجموع طرقه.

(22/161)


الْخَامِسُ: تَخْفِيفُ تَأْخِيرٍ: مِثْل:
19 - تَأْخِيرُ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ إِلَى الْعِشَاءِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ بِجَمْعِ التَّأْخِيرِ، وَيَكُونُ فِي السَّفَرِ، وَفِي مُزْدَلِفَةَ، وَمِنْ أَجْل الْمَرَضِ وَالْمَطَرِ وَمَا إِلَيْهَا مِنَ الأَْعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِلتَّأْخِيرِ. (1)
السَّادِسُ: تَخْفِيفُ إِبَاحَةٍ مَعَ قِيَامِ الْمَانِعِ: مِثْل:
20 - 1 - صَلاَةُ الْمُسْتَجْمِرِ مَعَ بَقِيَّةِ أَثَرِ النَّجَسِ الَّذِي لاَ يَزُول تَمَامًا إِلاَّ بِالْمَاءِ.
2 - الْعَفْوُ عَنْ بَعْضِ النَّجَاسَاتِ لِقِلَّتِهَا، أَوْ لِعُسْرِ الاِحْتِرَازِ مِنْهَا، أَوْ لِعُسْرِ إِزَالَتِهَا.

د - تَقْسِيمُ الرُّخَصِ بِاعْتِبَارِ أَسْبَابِهَا:
هَذَا التَّقْسِيمُ يُعَدُّ أَكْثَرَ ضَبْطًا لأُِصُول الرُّخَصِ، وَأَكْثَرَ جَمْعًا لِفُرُوعِهَا، وَهِيَ - بِحَسَبِهِ - تَنْقَسِمُ إِلَى عِدَّةِ أَقْسَامٍ مِنْهَا:
21 - رُخَصٌ سَبَبُهَا الضَّرُورَةُ:
قَدْ تَطْرَأُ عَلَى الْمُكَلَّفِ حَالَةٌ مِنَ الْخَطَرِ أَوِ الْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ تَجْعَلُهُ يَخَافُ مِنْ حُدُوثِ أَذًى بِالنَّفْسِ، أَوْ بِالْعِرْضِ، أَوْ بِالْعَقْل، أَوْ بِالْمَال، أَوْ بِتَوَابِعِهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ - عِنْدَئِذٍ - أَوْ يُبَاحُ لَهُ ارْتِكَابُ الْحَرَامِ، أَوْ تَرْكُ الْوَاجِبِ، أَوْ تَأْخِيرُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ فِي غَالِبِ الظَّنِّ ضِمْنَ قُيُودِ
__________
(1) انظر: مصادر جمع التقديم المذكورة آنفًا.

(22/161)


الشَّرْعِ. (1) (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: ضَرُورَة) .
وَعَلَى هَذَا الأَْسَاسِ قَعَّدَ الْفُقَهَاءُ قَاعِدَةً هَامَّةً مِنْ قَوَاعِدِ الأُْصُول الْقَرِيبَةِ نَصُّهَا: الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ. (2) وَهِيَ تُعَدُّ مِنْ فُرُوعِ الْقَاعِدَتَيْنِ الْكُلِّيَّتَيْنِ: إِذَا ضَاقَ الأَْمْرُ اتَّسَعَ. وَالضَّرَرُ يُزَال. وَقَدْ فَرَّعُوا عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَمَا يَتَّصِل بِهَا فُرُوعًا كَثِيرَةً تُنْظَرُ فِي أَبْوَابِهَا.
22 - 2 - رُخَصٌ سَبَبُهَا الْحَاجَةُ:
الْحَاجَةُ نَوْعَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ (انْظُرِ التَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: حَاجَة) .
وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُرَخَّصُ مِنْ أَجْلِهِ: فَالْعُقُودُ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ أَوْ وَقَعَ اسْتِثْنَاؤُهَا مِنْ أُصُولٍ مَمْنُوعَةٍ كَالسَّلَمِ وَالإِْجَارَةِ وَالْجُعْل وَالْمُغَارَسَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْقَرْضِ وَالْقِرَاضِ وَالاِسْتِصْنَاعِ وَدُخُول الْحَمَّامِ وَالْوَصِيَّةِ وَمَا شَابَهَهَا إِنَّمَا وَقَعَ التَّرْخِيصُ فِيهَا لِحَاجَةِ النَّاسِ عُمُومًا إِلَيْهَا، وَالتَّرْخِيصُ فِي التَّأْدِيبِ لِمَنْ جُعِل لَهُ، وَفِي التَّضْيِيقِ عَلَى بَعْضِ الْمُتَّهَمِينَ لإِِظْهَارِ الْحَقِّ وَفِي التَّلَفُّظِ بِالْفُحْشِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَاضِي أَوِ الرَّاوِي أَوِ الشَّاهِدِ لِلدِّقَّةِ وَفِي لُبْسِ الْحَرِيرِ وَاسْتِعْمَال الذَّهَبِ وَالنَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَةِ لِلْعِلاَجِ وَفِي التَّبَخْتُرِ بَيْنَ الصُّفُوفِ لإِِغَاظَةِ الْكُفَّارِ وَالنَّيْل مِنْهُمْ، وَفِي الْكَذِبِ لِلإِْصْلاَحِ، وَفِي الْغِيبَةِ عِنْدَ التَّظَلُّمِ أَوْ
__________
(1) الحموي على الأشباه والنظائر 1 / 188.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 83، 84.

(22/162)


الاِسْتِفْتَاءِ وَنَحْوِهِمَا، وَفِي خُرُوجِ الْمَرْأَةِ لِقَضَاءِ شَأْنٍ مِنْ شُؤُونِهَا، أَوْ لِلتَّعَلُّمِ وَالْفَتْوَى وَالتَّقَاضِي وَسَفَرِهَا لِلْعِلاَجِ وَمَا إِلَى هَذِهِ الْحَالاَتِ إِنَّمَا وَقَعَ التَّرْخِيصُ فِيهَا مِنْ أَجْل حَاجَاتٍ تَمَسُّ طَوَائِفَ خَاصَّةً مِنَ الْمُجْتَمَعِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يُبَاحُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ يُبَاحُ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ، أَيْ أَنَّ هَذِهِ تُثْبِتُ حُكْمًا مِثْل الأُْولَى إِلاَّ أَنَّ حُكْمَ الْحَاجَةِ مُسْتَمِرٌّ وَخَاصَّةً إِذَا كَانَتْ عَامَّةً وَحُكْمَ الضَّرُورَةِ مَوْقُوتٌ بِمُدَّةِ قِيَامِهَا إِذْ " الضَّرُورَةُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا " (1) كَمَا وَقَعَ الاِتِّفَاقُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ نَوْعَانِ: مُحَرَّمَاتٌ لِذَاتِهَا، وَمُحَرَّمَاتٌ لِغَيْرِهَا، فَالأُْولَى لاَ يُرَخَّصُ فِيهَا عَادَةً إِلاَّ مِنْ أَجْل الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَصْلَحَةٍ ضَرُورِيَّةٍ، وَالثَّانِيَةُ يُرَخَّصُ فِيهَا حَتَّى مِنْ أَجْل الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَصْلَحَةٍ حَاجِيَّةٍ. (2) عَلَى أَنَّهُ لاَ مَانِعَ مِنْ أَنْ تُعَامَل هَذِهِ مُعَامَلَةَ الأُْولَى وَلَوْ فِي بَعْضِ الْحَالاَتِ، وَعَلَى هَذَا الأَْسَاسِ وَمَا قَبْلَهُ جَاءَتِ الْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ: الْحَاجَةُ تَنْزِل مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ. (3) وَقَدْ خَرَّجَ الْفُقَهَاءُ اعْتِمَادًا عَلَيْهَا جُزْئِيَّاتٍ مُتَفَرِّقَةً يُمْكِنُ أَنْ
__________
(1) الحموي على الأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 119، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 84
(2) التوضيح على التنقيح 3 / 80، والتلويح على التوضيح 3 / 80، 81.
(3) الحموي على الأشباه والنظائر 1 / 126، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 88، 89.

(22/162)


تَكُونَ أُصُولاً يَلْحَقُ بِهَا مَا يُمَاثِلُهَا مِنْ نَظَائِرِهَا. (1)
وَهُنَاكَ رُخَصٌ سَبَبُهَا السَّفَرُ أَوِ الْمَرَضُ أَوِ النِّسْيَانُ أَوِ الْجَهْل أَوِ الْخَطَأُ أَوِ النَّقْصُ أَوِ الْوَسْوَسَةُ أَوِ التَّرْغِيبُ فِي الدُّخُول فِي الإِْسْلاَمِ وَحَدَاثَةُ الدُّخُول فِيهِ أَوِ الْعُسْرُ وَعُمُومُ الْبَلْوَى وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (تَيْسِير) .

عَلاَقَةُ الرُّخْصَةِ بِبَعْضِ الأَْدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ:
23 - الْمُتَتَبِّعُ لِلاِسْتِحْسَانِ وَالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَمُرَاعَاةِ الْخِلاَفِ وَالتَّقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْجَوَابِرِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحِيَل الشَّرْعِيَّةِ يَظْفَرُ بِعَلاَقَةٍ وَطِيدَةٍ بَيْنَ هَذِهِ الأُْمُورِ وَبَيْنَ الرُّخَصِ تَتَمَثَّل إِجْمَالاً فِي جَلْبِ الْيُسْرِ وَدَفْعِ الْعُسْرِ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ، فَلْتُرَاجَعْ تِلْكَ الأَْدِلَّةُ فِي مَحَالِّهَا مِنَ الْمَوْسُوعَةِ.

الْقِيَاسُ عَلَى الرُّخَصِ:
24 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الرُّخَصَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا إِذَا كَانَتْ مِمَّا يُعْقَل مَعْنَاهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهَا غَيْرُهَا مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ الَّتِي تُشَارِكُهَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ. (2) فَقَدْ قَاسَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ صِحَّةَ بَيْعِ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ عَلَى بَيْعِ الْعَرَايَا الْمُرَخَّصِ فِيهِ بِالنَّصِّ لاِتِّحَادِهِمَا فِي الْعِلَّةِ. (3) كَمَا حَكَمُوا بِصِحَّةِ صَوْمِ مَنْ أَفْطَرَ
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) شفاء العليل ص 655، ونهاية السول 4 / 35.
(3) شرح التنقيح بحاشية القيرواني ص 368.

(22/163)


مُخْطِئًا أَوْ مُكْرَهًا قِيَاسًا عَلَى مَنْ أَفْطَرَ نَاسِيًا الَّذِي ثَبَتَتْ صِحَّةُ صَوْمِهِ بِالنَّصِّ النَّبَوِيِّ. (1) وَزَادَ الشَّافِعِيُّ فَقَاسَ عَلَيْهِ كَلاَمَ النَّاسِي فِي صَلاَتِهِ. (2)
وَقَاسُوا الإِْقْطَارَ فِي الْعَيْنِ فِي رَمَضَانَ عَلَى الاِكْتِحَال الْمُرَخَّصِ فِيهِ نَصًّا. (3)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ - بِاسْتِثْنَاءِ أَبِي يُوسُفَ - إِلَى مَنْعِ الْقِيَاسِ عَلَى الرُّخَصِ لأَِدِلَّةٍ مَبْسُوطَةٍ فِي كُتُبِ الأُْصُول. (4)

الأَْخْذُ بِالرُّخَصِ أَوِ الْعَزَائِمِ:
25 - قَدْ يَرْفَعُ الشَّرْعُ عَنِ الْمُكَلَّفِ الْحَرَجَ فِي الأَْخْذِ بِالْعَزِيمَةِ أَوْ فِي الأَْخْذِ بِالرُّخْصَةِ، أَيْ أَنَّهُ يَكُونُ مُخَيَّرًا فِي بَعْضِ الْحَالاَتِ بَيْنَ الإِْتْيَانِ بِهَذِهِ أَوْ بِتِلْكَ؛ لأَِنَّ مَا بَيْنَهُمَا صَارَ بِمَثَابَةِ مَا بَيْنَ أَجْزَاءِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ الَّذِي يُكْتَفَى فِيهِ بِالإِْتْيَانِ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ، وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ كَانَ لِلتَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا مَجَالٌ رَحْبٌ غَزِيرُ الْمَادَّةِ تَبَايَنَتْ فِيهِ أَنْظَارُ الْمُجْتَهِدِينَ حَيْثُ اخْتَلَفُوا بَيْنَ مُرَجِّحٍ لِلأَْخْذِ بِالْعَزِيمَةِ - فِي هَذِهِ الْحَالَةِ - وَبَيْنَ مُرَجِّحٍ لِلأَْخْذِ بِالرُّخْصَةِ فِيهَا، وَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قَدْ عَلَّل رَأْيَهُ
__________
(1) النووي على مسلم 8 / 35.
(2) الأم 2 / 97، شفاء الغليل ص 651.
(3) العارضة 3 / 257، وأعلام الموقعين 4 / 294.
(4) المعتمد 2 / 254، والأحكام للآمدي 3 / 9، والوصول 2 / 254، وما بعدها.

(22/163)


بِمَجْمُوعَةٍ مِنَ الْمُبَرِّرَاتِ الْمَعْقُولَةِ تَكَفَّل الشَّاطِبِيُّ بِعَدِّهَا عَدًّا وَاضِحًا مُرَتَّبًا. (1)

آرَاءُ الْعُلَمَاءِ فِي تَتَبُّعِ الرُّخَصِ:
26 - الرُّخَصُ الشَّرْعِيَّةُ الثَّابِتَةُ بِالْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ لاَ بَأْسَ فِي تَتَبُّعِهَا لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ (2) .
أَمَّا تَتَبُّعُ رُخَصِ الْمَذَاهِبِ الاِجْتِهَادِيَّةِ وَالْجَرْيُ وَرَاءَهَا دُونَ سَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا وَنَحْوُهَا مِمَّا يُمَاثِلُهَا يُعْتَبَرُ هُرُوبًا مِنَ التَّكَالِيفِ، وَتَخَلُّصًا مِنَ الْمَسْئُولِيَّةِ، وَهَدْمًا لِعَزَائِمِ الأَْوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَجُحُودًا لِحَقِّ اللَّهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَهَضْمًا لِحُقُوقِ عِبَادِهِ، وَهُوَ يَتَعَارَضُ مَعَ مَقْصِدِ الشَّرْعِ الْحَكِيمِ مِنَ الْحَثِّ عَلَى التَّخْفِيفِ عُمُومًا وَعَلَى التَّرَخُّصِ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (3) . إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ وَقَدِ اعْتَبَرَ الْعُلَمَاءُ هَذَا الْعَمَل فِسْقًا لاَ يَحِل. (4) وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ الإِْجْمَاعَ
__________
(1) الموافقات 1 / 333 - 333 (ترجيح الأخذ بالعزيمة) وص 339 - 344 (ترجيح الأخذ بالرخصة) .
(2) حديث: " إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه " أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (11 / 323 - ط وزارة الأوقاف العراقية) من حديث ابن عباس، وحسنه المنذري في الترغيب (2 / 135 - ط الحلبي) .
(3) سورة البقرة / 185.
(4) الموافقات 4 / 140، وشرح التنقيح ص 386، والمعيار 6 / 369 - 381، 382.

(22/164)


عَلَيْهِ. (1) وَقَال نَقْلاً عَنْ غَيْرِهِ: لَوْ أَخَذْتَ بِرُخْصَةِ كُل عَالِمٍ اجْتَمَعَ فِيكَ الشَّرُّ كُلُّهُ. (2)
وَقَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: لَوْ أَنَّ رَجُلاً عَمِل بِقَوْل أَهْل الْكُوفَةِ فِي النَّبِيذِ وَأَهْل الْمَدِينَةِ فِي السَّمَاعِ وَأَهْل مَكَّةَ فِي الْمُتْعَةِ كَانَ فَاسِقًا. (3)
وَقَدْ دَخَل الْقَاضِي إِسْمَاعِيل - يَوْمًا - عَلَى الْمُعْتَضِدِ الْعَبَّاسِيِّ فَرَفَعَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ كِتَابًا وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ وَقَدْ جَمَعَ فِيهِ صَاحِبُهُ الرُّخَصَ مِنْ زَلَل الْعُلَمَاءِ فَقَال لَهُ الْقَاضِي الْمَذْكُورُ - بَعْدَ أَنْ تَأَمَّلَهُ -: مُصَنِّفُ هَذَا زِنْدِيقٌ، فَقَال: أَلَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الأَْحَادِيثُ؟ قَال: بَلَى، وَلَكِنْ مَنْ أَبَاحَ الْمُسْكِرَ لَمْ يُبِحِ الْمُتْعَةَ، وَمَنْ أَبَاحَ الْمُتْعَةَ لَمْ يُبِحِ الْغِنَاءَ وَالْمُسْكِرَ، وَمَا مِنْ عَالِمٍ إِلاَّ وَلَهُ زَلَّةٌ، وَمَنْ جَمَعَ زَلَل الْعُلَمَاءِ ثُمَّ أَخَذَ بِهَا ذَهَبَ دِينُهُ، فَأَمَرَ الْمُعْتَضِدُ بِإِحْرَاقِ ذَلِكَ الْكِتَابِ. (4)
فَالأَْخْذُ بِالرُّخَصِ لاَ يَعْنِي تَتَبُّعَهَا وَالْبَحْثَ عَنْهَا لِلتَّحَلُّل مِنَ التَّكْلِيفِ وَإِنَّمَا يَعْنِي الاِنْتِقَال مِنْ تَكْلِيفٍ أَشَدَّ إِلَى تَكْلِيفٍ أَخَفَّ لِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ.

الرُّخَصُ إِضَافِيَّةٌ:
27 - إِنَّ الرُّخَصَ عَلَى كَثْرَةِ أَدِلَّتِهَا أَوْ صِيَغِهَا،
__________
(1) مراتب الإجماع ص 175.
(2) الأحكام 6 / 179.
(3) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ص 272.
(4) نفس المصدر.

(22/164)


وَعَلَى مَا صَحَّ مِنْ حَثِّ الشَّرْعِ عَلَيْهَا وَتَرْغِيبِهِ فِي الأَْخْذِ بِهَا - تَبْقَى فِي النِّهَايَةِ إِضَافِيَّةً: أَيْ أَنَّ كُل أَحَدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ فَقِيهُ نَفْسِهِ فِي الأَْخْذِ بِهَا أَوْ فِي عَدَمِهِ. (1) وَيَكْفِي أَنْ نَعْلَمَ لِتَوْضِيحِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَشَقَّةَ مَثَلاً الَّتِي تُعْتَبَرُ سَبَبًا هَامًّا مِنْ أَسْبَابِ الرُّخَصِ تَخْتَلِفُ قُوَّةً وَضَعْفًا بِحَسَبِ أَحْوَال النَّاسِ، فَفِي التَّنَقُّل تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمُسَافِرِينَ، وَأَزْمِنَةِ السَّفَرِ، وَمُدَّتِهِ وَوَسَائِلِهِ، وَمَا إِلَى هَذَا مِمَّا يَتَعَذَّرُ ضَبْطُهُ وَاطِّرَادُهُ فِي جَمِيعِ الْخَلْقِ، فَلَمْ يُنَطِ الْحُكْمُ بِذَاتِ الْمَشَقَّةِ بَل أُسْنِدَ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ مِمَّا يَدُل غَالِبًا عَلَيْهَا وَهُوَ السَّفَرُ لأَِنَّهُ مَظِنَّةُ حُصُولِهَا.