الموسوعة
الفقهية الكويتية رَقْص
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّقْصُ وَالرَّقَصُ وَالرَّقَصَانُ مَعْرُوفٌ.
وَهُوَ مَصْدَرُ رَقَصَ يَرْقُصُ رَقْصًا، وَالرَّقْصُ: أَحَدُ
الْمَصَادِرِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى فَعَل فِعْلاً نَحْوُ طَرَدَ طَرَدًا،
وَحَلَبَ حَلَبًا.
وَيُقَال: أَرْقَصَتِ الْمَرْأَةُ وَلَدَهَا وَرَقَّصَتْهُ، وَفُلاَنٌ
يَرْقُصُ فِي كَلاَمِهِ أَيْ: يُسْرِعُ، وَلَهُ رَقْصٌ فِي الْقَوْل أَيْ:
عَجَلَةٌ (1) .
فَتَدُورُ مَوَادُّ اللَّفْظِ لُغَةً عَلَى مَعَانِي الإِْسْرَاعِ فِي
الْحَرَكَةِ وَالاِضْطِرَابِ وَالاِرْتِفَاعِ وَالاِنْخِفَاضِ.
وَالزَّفْنُ: الرَّقْصُ، وَفِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ أَنَّهَا كَانَتْ
تَزْفِنُ لِلْحَسَنِ أَيْ: تُرَقِّصُهُ (2) .
وَاصْطِلاَحًا: عَرَّفَ ابْنُ عَابِدِينَ الرَّقْصَ بِأَنَّهُ التَّمَايُل،
وَالْخَفْضُ، وَالرَّفْعُ بِحَرَكَاتٍ مَوْزُونَةٍ (3) .
__________
(1) أساس البلاغة 1 / 361، ولسان العرب 1 / 1206، والقاموس المحيط ص 801
مادة: (رقص) .
(2) لسان العرب مادة: (زفن) .
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 307.
(23/9)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
(أ) اللَّعِبُ:
2 - وَهُوَ طَلَبُ الْفَرَحِ بِمَا لاَ يَحْسُنُ أَنْ يُطْلَبَ بِهِ (1) .
(ب) اللَّهْوُ:
3 - صَرْفُ الْهَمِّ بِمَا لاَ يَحْسُنُ أَنْ يُصْرَفَ بِهِ، وَقِيل:
اللَّهْوُ الاِسْتِمْتَاعُ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا.
وَاللَّعِبُ: الْعَبَثُ، وَقِيل: اللَّهْوُ: الْمَيْل عَنِ الْجِدِّ إِلَى
الْهَزْل، وَاللَّعِبُ: تَرْكُ مَا يَنْفَعُ بِمَا لاَ يَنْفَعُ (2) .
حُكْمُ الرَّقْصِ:
4 - عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَتِ الْحَبَشَةُ
يَزْفِنُونَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَيَرْقُصُونَ، يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ. فَقَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَقُولُونَ؟
قَالُوا: يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ (3) .
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جَالِسًا فَسَمِعْنَا لَغَطًا وَصَوْتَ صِبْيَانٍ، فَقَامَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا حَبَشِيَّةٌ
تَزْفِنُ - أَيْ تَرْقُصُ -
__________
(1) الكليات للكفوي 4 / 174.
(2) لسان العرب.
(3) حديث أنس: " كانت الحبشة يزفنون بين يدي رسول الله ". أخرجه أحمد (3 /
152 - ط الميمنية) وإسناده صحيح.
(23/9)
وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهَا، فَقَال: يَا
عَائِشَةُ تَعَالَيْ فَانْظُرِي (1) .
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْقَفَّال
مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى كَرَاهَةِ الرَّقْصِ مُعَلِّلِينَ ذَلِكَ
بِأَنَّ فِعْلَهُ دَنَاءَةٌ وَسَفَهٌ، وَأَنَّهُ مِنْ مُسْقِطَاتِ
الْمُرُوءَةِ، وَأَنَّهُ مِنَ اللَّهْوِ. قَال الأَْبِيُّ: وَحَمَل
الْعُلَمَاءُ حَدِيثَ رَقْصِ الْحَبَشَةِ عَلَى الْوَثْبِ بِسِلاَحِهِمْ،
وَلَعِبِهِمْ بِحِرَابِهِمْ، لِيُوَافِقَ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ:
يَلْعَبُونَ عِنْدَ رَسُول اللَّهِ بِحِرَابِهِمْ (2) .
وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يَصْحَبِ الرَّقْصَ أَمْرٌ مُحَرَّمٌ كَشُرْبِ
الْخَمْرِ، أَوْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَنَحْوِهِمَا، فَيَحْرُمُ اتِّفَاقًا.
وَذَهَبَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى أَنَّ اتِّخَاذَ الرَّقْصِ ذِكْرًا أَوْ
عِبَادَةً، بِدْعَةٌ وَمَعْصِيَةٌ، لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِهِ، وَلاَ
رَسُولُهُ، وَلاَ أَحَدٌ مِنَ الأَْئِمَّةِ، أَوِ السَّلَفِ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرَّقْصَ لاَ يَحْرُمُ
__________
(1) حديث عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا فسمعنا لغطا ".
أخرجه الترمذي (5 / 621 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح غريب ".
(2) حديث أبي هريرة: " يلعبون عند رسول الله بحرابهم ". أخرجه مسلم (2 /
610 - ط الحلبي) .
(3) المبدع 10 / 226، فتاوى ابن تيمية 5 / 64، 83، 11 / 599، 604، 605،
بلغة السالك 2 / 138، حاشية ابن عابدين 3 / 307، 5 / 253، نهاية المحتاج 8
/ 282، حواشي تحفة المحتاج 10 / 221، روض الطالب وشرحه للأنصاري 4 / 346،
مغني المحتاج 4 / 430، وكشاف القناع 5 / 184، وشرح الأبي على مسلم 3 / 43.
(23/10)
وَلاَ يُكْرَهُ بَل يُبَاحُ،
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَ حَبَشَةُ يَزْفِنُونَ
فِي يَوْمِ عِيدٍ فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعْتُ رَأْسِي عَلَى مَنْكِبِهِ فَجَعَلْتُ
أَنْظُرُ إِلَى لَعِبِهِمْ حَتَّى كُنْتُ أَنَا الَّتِي أَنْصَرِفُ عَنِ
النَّظَرِ إِلَيْهِمْ (1) . وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِقْرَارِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفِعْلِهِمْ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى
إِبَاحَتِهِ، وَدَلِيلُهُ مِنَ الْمَعْقُول أَنَّ الرَّقْصَ مُجَرَّدُ
حَرَكَاتٍ عَلَى اسْتِقَامَةٍ وَاعْوِجَاجٍ.
وَذَهَبَ الْبُلْقِينِيُّ إِلَى أَنَّ الرَّقْصَ إِذَا كَثُرَ بِحَيْثُ
أَسْقَطَ الْمُرُوءَةَ حَرُمَ، وَالأَْوْجَهُ فِي الْمَذْهَبِ خِلاَفُهُ.
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الإِْبَاحَةَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ
تَكَسُّرٌ كَفِعْل الْمُخَنَّثِينَ وَإِلاَّ حَرُمَ عَلَى الرِّجَال
وَالنِّسَاءِ، أَمَّا مَنْ يَفْعَلُهُ خِلْقَةً مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ
فَلاَ يَأْثَمُ بِهِ.
قَال فِي الرَّوْضِ: وَبِالتَّكَسُّرِ حَرَامٌ وَلَوْ مِنَ النِّسَاءِ (2)
.
شَهَادَةُ الرَّقَّاصِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى رَدِّ شَهَادَةِ الرَّقَّاصِ لأَِنَّهُ
سَاقِطُ الْمُرُوءَةِ، وَهِيَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي
إِسْقَاطِ الْمُرُوءَةِ هُوَ الْمُدَاوَمَةُ وَالإِْكْثَارُ مِنَ
__________
(1) حديث عائشة: " جاء حبشة يزفنون ". أخرجه مسلم (2 / 609 - 610 - ط
الحلبي) .
(2) نهاية المحتاج 8 / 282 - 283، الجمل 5 / 381، حواشي التحفة 10 / 221.
(23/10)
الرَّقْصِ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ بِمَنْ يَلِيقُ بِهِ الرَّقْصُ، أَمَّا مَنْ لاَ يَلِيقُ
بِهِ فَتَسْقُطُ مُرُوءَتُهُ وَلَوْ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. وَالْمَرْجِعُ
فِي الْمُدَاوَمَةِ وَالإِْكْثَارِ إِلَى الْعَادَةِ، وَيَخْتَلِفُ
الأَْمْرُ بِاخْتِلاَفِ عَادَاتِ النَّوَاحِي وَالْبِلاَدِ، وَقَدْ
يُسْتَقْبَحُ مِنْ شَخْصٍ قَدْرٌ لاَ يُسْتَقْبَحُ مِنْ غَيْرِهِ.
وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ يُفِيدُ اعْتِبَارَ الْمُدَاوَمَةِ
وَالإِْكْثَارِ كَذَلِكَ، حَيْثُ عَبَّرُوا بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ. قَال
فِي الْبِنَايَةِ: وَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الطُّفَيْلِيِّ وَالْمُشَعْوِذِ
وَالرَّقَّاصِ وَالسُّخَرَةِ بِلاَ خِلاَفٍ (1) .
الاِسْتِئْجَارُ عَلَى الرَّقْصِ:
6 - الاِسْتِئْجَارُ عَلَى الرَّقْصِ يَتْبَعُ حُكْمَ الرَّقْصِ نَفْسِهِ،
فَحَيْثُ كَانَ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا كَانَ حُكْمُ
الاِسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ.
وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الرَّقْصَ حَيْثُ كَانَ حَرَامًا
لاَ يَجُوزُ الاِسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ وَلاَ يَجُوزُ دَفْعُ الدَّرَاهِمِ
لِلرَّقَّاصِ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ جَوَازِ الاِسْتِئْجَارِ
عَلَى الْمَنَافِعِ الْمُحَرَّمَةِ وَغَيْرِ الْمُتَقَوِّمَةِ، فَحَيْثُ
كَانَ الرَّقْصُ حَرَامًا لاَ يَجُوزُ الاِسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ (2) .
وَيُرَاجَعُ فِي هَذَا مُصْطَلَحُ: " إِجَارَة ".
__________
(1) فتح القدير مع شرح العناية 6 / 39، البناية 7 / 180، الشرح الصغير 4 /
242، نهاية المحتاج 8 / 282 - 284، روضة الطالبين 11 / 230، كشاف القناع 6
/ 423، الفروع 6 / 573، والسخرة: من يسخر منه.
(2) الشرح الصغير 4 / 10.
(23/11)
رِقّ
(1)
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّقُّ لُغَةً: مَصْدَرُ رَقَّ الْعَبْدُ يَرِقُّ، ضِدُّ عَتَقَ،
يُقَال: اسْتَرَقَّ فُلاَنٌ مَمْلُوكَهُ وَأَرَقَّهُ، نَقِيضُ أَعْتَقَهُ.
وَالرَّقِيقُ: الْمَمْلُوكُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَيُقَال
لِلأُْنْثَى أَيْضًا رَقِيقَةٌ، وَالْجَمْعُ رَقِيقٌ وَأَرِقَّاءُ.
وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْعَبِيدُ رَقِيقًا؛ لأَِنَّهُمْ يَرِقُّونَ
لِمَالِكِهِمْ، وَيَذِلُّونَ وَيَخْضَعُونَ. وَأَصْلُهُ مِنَ الرِّقَّةِ
وَهِيَ ضِدُّ الْغِلَظِ وَالثَّخَانَةِ فِي الْمَحْسُوسَاتِ، يُقَال:
ثَوْبٌ رَقِيقٌ، وَثِيَابٌ رِقَاقٌ، ثُمَّ اسْتُعْمِل فِي
__________
(1) كان الرق متعارفا عليه قبل الإسلام
بقرون متطاولة، وكانت الحياة الاقتصادية قائمة في الغالب على أكتاف الرقيق،
والحياة الاجتماعية كذلك، كان الرقيق يشكل جزءًا كبيرًا من عناصرها. وقد
جاء الإسلام الحنيف فحث على تحرير الأرقاء، وكان من أوائل ما نزل من القرآن
(23/11)
الْمَعْنَوِيَّاتِ فَقِيل: فُلاَنٌ رَقِيقُ
الدِّينِ، أَوْ رَقِيقُ الْقَلْبِ (1) .
وَالرِّقُّ فِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ مُوَافِقٌ لِمَعْنَاهُ لُغَةً،
فَهُوَ كَوْنُ الإِْنْسَانِ مَمْلُوكًا لإِِنْسَانٍ آخَرَ.
وَعَرَّفَهُ بَعْضُ أَهْل الْفَرَائِضِ وَالْفِقْهِ بِأَنَّهُ " عَجْزٌ
__________
(1) لسان العرب، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 3 / 167 القاهرة، عيسى
الحلبي.
(23/12)
حُكْمِيٌّ يَقُومُ بِالإِْنْسَانِ سَبَبُهُ
الْكُفْرُ (1) " أَوْ أَنَّهُ " عَجْزٌ شَرْعِيٌّ مَانِعٌ لِلْوِلاَيَاتِ
مِنَ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ وَغَيْرِهِمَا (2) ".
وَلِلرَّقِيقِ أَسْمَاءٌ أُخْرَى بِحَسَبِ نَوْعِهِ وَحَالِهِ، كَالْقِنِّ:
وَهُوَ مَنْ لاَ عِتْقَ فِيهِ أَصْلاً، وَيُقَابِلُهُ الْمُبَعَّضُ، وَهُوَ
الْمُعْتَقُ بَعْضُهُ وَسَائِرُهُ رَقِيقٌ، وَمَنْ فِيهِ شَائِبَةُ
حُرِّيَّةٍ، وَهُوَ مَنِ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الْعِتْقِ كَالْمُكَاتَبِ،
وَالْمُدَبَّرِ، وَالْمُوصَى بِعِتْقِهِ، وَالْمُعْتَقُ عِنْدَ أَجَلٍ،
وَأُمِّ الْوَلَدِ.
أَسْبَابُ تَمَلُّكِ الرَّقِيقِ:
2 - يَدْخُل الرَّقِيقُ فِي مِلْكِ الإِْنْسَانِ بِوَاحِدٍ مِنَ الطُّرُقِ
الآْتِيَةِ:
أَوَّلاً: اسْتِرْقَاقُ الأَْسْرَى وَالسَّبْيِ مِنَ الأَْعْدَاءِ
الْكُفَّارِ، وَقَدْ اسْتَرَقَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نِسَاءَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَذَرَارِيَّهُمْ (3) . وَفِي
اسْتِرْقَاقِهِمْ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ
(اسْتِرْقَاق) .
وَلاَ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ اسْتِرْقَاقِ الْمُسْلِمِ؛ لأَِنَّ الإِْسْلاَمَ
يُنَافِي ابْتِدَاءَ الاِسْتِرْقَاقِ؛ لأَِنَّهُ يَقَعُ جَزَاءً
لاِسْتِنْكَافِ الْكَافِرِ عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى،
__________
(1) العذب الفائض 1 / 23 القاهرة، مصطفى الحلبي 1372هـ.
(2) شرح مسلم الثبوت 1 / 171 نشر بولاق، روضة الطالبين للنووي 6 / 162،
دمشق، المكتب الإسلامي.
(3) حديث: " استرق النبي صلى الله عليه وسلم نساء بني قريظة وذراريهم ".
أخرجه البخاري (الفتح 7 / 412 - ط السلفية) من حديث عائشة.
(23/12)
فَجَازَاهُ بِأَنْ صَيَّرَهُ عَبْدَ
عَبِيدِهِ (1) .
ثَانِيًا: وَلَدُ الأَْمَةِ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا يَتْبَعُ أُمَّهُ فِي
الرِّقِّ، سَوَاءٌ، أَكَانَ أَبُوهُ حُرًّا أَمْ عَبْدًا، وَهُوَ رَقِيقٌ
لِمَالِكِ أُمِّهِ، لأَِنَّ وَلَدَهَا مِنْ نَمَائِهَا، وَنَمَاؤُهَا
لِمَالِكِهَا، وَلِلإِْجْمَاعِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَدُ
الْمَغْرُورِ وَهُوَ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ
فَإِذَا هِيَ أَمَةٌ. وَكَذَا لَوِ اشْتَرَطَ مُتَزَوِّجُ الأَْمَةِ أَنْ
يَكُونَ أَوْلاَدُهُ مِنْهَا أَحْرَارًا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ
الْفُقَهَاءِ (2) .
ثَالِثًا: الشِّرَاءُ مِمَّنْ يَمْلِكُهُ مِلْكًا صَحِيحًا مُعْتَرَفًا
بِهِ شَرْعًا، وَكَذَا الْهِبَةُ وَالْوَصِيَّةُ وَالصَّدَقَةُ
وَالْمِيرَاثُ وَغَيْرُهَا مِنْ صُوَرِ انْتِقَال الأَْمْوَال مِنْ مَالِكٍ
إِلَى آخَرَ.
وَلَوْ كَانَ مَنْ بَاعَ الرَّقِيقَ، أَوْ وَهَبَهُ كَافِرًا ذِمِّيًّا
أَوْ حَرْبِيًّا فَيَصِحُّ ذَلِكَ أَيْضًا، وَقَدْ أَهْدَى الْمُقَوْقِسُ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَارِيَتَيْنِ، فَتَسَرَّى
بِإِحْدَاهُمَا، وَوَهَبَ الأُْخْرَى لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ (3) .
الأَْصْل فِي الإِْنْسَانِ الْحُرِّيَّةُ لاَ الرِّقُّ:
3 - الأَْصْل فِي الإِْنْسَانِ الْحُرِّيَّةُ لاَ الرِّقُّ، وَقَدْ
__________
(1) العناية بهامش فتح القدير 4 / 316، القاهرة، مطبعة بولاق 1318هـ.
(2) كشاف القناع 5 / 99 الرياض، مكتبة النصر الحديثة، والدر المختار مع
حاشية ابن عابدين 3 / 12، 13.
(3) حديث: " إهداء المقوقس جاريتين للنبي صلى الله عليه وسلم ". ذكره ابن
سعد في الطبقات (8 / 214 - ط دار صادر) من حديث الزهري مرسلا.
(23/13)
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ
اللَّقِيطَ إِذَا وُجِدَ وَلَمْ يُعْرَفْ نَسَبُهُ يَكُونُ حُرًّا، وَإِنِ
احْتُمِل أَنَّهُ رَقِيقٌ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَامَّةُ
أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ اللَّقِيطَ حُرٌّ. وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ:
لأَِنَّ الأَْصْل فِي الآْدَمِيِّينَ الْحُرِّيَّةُ، فَإِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ أَحْرَارًا، وَإِنَّمَا الرِّقُّ
لِعَارِضٍ، فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ الْعَارِضُ فَلَهُ حُكْمُ
الأَْصْل (1) .
وَالْحُرِّيَّةُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى
إِبْطَالِهِ إِلاَّ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، فَلاَ يَجُوزُ إِبْطَال هَذَا
الْحَقِّ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ الْحُرِّ وَلَوْ
رَضِيَ بِذَلِكَ (2) .
وَمَا كَانَ مِنْ خَوَاصِّ الآْدَمِيَّةِ فِي الرَّقِيقِ لاَ يَبْطُل
بِرِقِّهِ، بَل يَبْقَى عَلَى أَصْل الْحُرِّيَّةِ، كَالطَّلاَقِ، فَإِنَّ
حَقَّ تَطْلِيقِ زَوْجَةِ الْعَبْدِ هُوَ لَهُ، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ
يُطَلِّقَهَا عَلَيْهِ (3) .
إِلْغَاءُ الشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ لأَِنْوَاعٍ مِنْ
الاِسْتِرْقَاقِ:
4 - حَرَّمَتِ الشَّرِيعَةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ اسْتِرْقَاقَ الْحُرِّ
بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: قَال اللَّهُ تَعَالَى: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا
فَأَكَل ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ
__________
(1) المغني 5 / 679، 680، القاهرة، دار المنار، 1367هـ، ط ثالثة، وكشاف
القناع 6 / 392، وفتح القدير 6 / 250.
(2) فتح القدير 6 / 237.
(3) العناية وفتح القدير 3 / 44.
(23/13)
اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ
وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ (1) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَهَذَا لَفْظُهُ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو:
ثَلاَثَةٌ لاَ يَقْبَل اللَّهُ مِنْهُمْ صَلاَةً. . . وَذَكَرَ مِنْهُمْ
وَرَجُلٌ اعْتَبَدَ مُحَرَّرًا (2) قَال الْخَطَّابِيُّ: اعْتِبَادُ
الْحُرِّ يَقَعُ بِأَمْرَيْنِ: أَنْ يَعْتِقَهُ ثُمَّ يَكْتُمَ ذَلِكَ،
أَوْ يَجْحَدَهُ، وَالثَّانِي: أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ كُرْهًا بَعْدَ
الْعِتْقِ. ا. هـ (3) وَكَذَلِكَ الاِسْتِرْقَاقُ بِخَطْفِ الْحُرِّ، أَوْ
سَرِقَتِهِ، أَوْ إِكْرَاهِهِ، أَوِ التَّوَصُّل إِلَى جَعْلِهِ فِي
حَبَائِل الرِّقِّ، بِأَيِّ وَسِيلَةٍ، كُل ذَلِكَ مُحَرَّمٌ، وَلاَ
يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ، بَل يَبْقَى الْمَخْطُوفُ أَوِ الْمَسْرُوقُ حُرًّا
إِنْ كَانَ مَعْصُومًا بِإِسْلاَمٍ أَوْ عَهْدٍ، وَمَنِ اشْتَرَى مِنْ
هَؤُلاَءِ وَاِتَّخَذَ مَا اشْتَرَاهُ رَقِيقًا أَوْ بَاعَهُ، حَرُمَ
عَلَيْهِ مَا فَعَل، وَدَخَل فِي الَّذِينَ قَال رَسُول اللَّهِ تَعَالَى
فِيهِمْ: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا فِي
الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا، فَإِنْ وَطِئَ شَيْئًا مِنْ الْجَوَارِي
الَّتِي (اسْتُمْلِكَتْ) بِهَذِهِ الطُّرُقِ الْمُحَرَّمَةِ فَهُوَ زِنًا،
حُكْمُهُ حُكْمُ الزِّنَا، مِنْ إِقَامَةِ حَدِّ الزِّنَا عَلَى
الْوَاطِئِ، وَعَلَى الْمَوْطُوءَةِ إِنْ زَال
__________
(1) حديث: " قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ". أخرجه البخاري
(الفتح 4 / 417 - ط السلفية من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة ". أخرجه أبو داود (1 / 397 -
تحقيق عزت عبيد دعاس) ، ونقل المناوي في فيض القدير (1 / 329 - ط المكتبة
التجارية) عن النووي والعراقي أنهما ضعفاه.
(3) فتح الباري 4 / 418 القاهرة، المطبعة السلفية 1371هـ.
(23/14)
الإِْكْرَاهُ وَرَضِيَتْ بِالْبَقَاءِ
عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَالْوَلَدُ الَّذِي يُولَدُ لَهُمَا وَلَدُ
زِنًا، لاَ يَلْتَحِقُ نَسَبُهُ بِالْوَاطِئِ (1) .
إِثْبَاتُ الرِّقِّ:
5 - تَثْبُتُ دَعْوَى الرِّقِّ عَلَى مَجْهُول النَّسَبِ بِالْبَيِّنَةِ،
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ فَلاَ اسْتِحْلاَفَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ، وَيُسْتَحْلَفُ فِيهَا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ، وَلاَ يَكْفِي
الشَّاهِدَ رُؤْيَتُهُ يَسْتَخْدِمُ الرَّجُل أَوِ الْمَرْأَةَ لِيَشْهَدَ
بِرِقِّهِمَا، بَل لاَ بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ رِقَّهُمَا، وَلاَ تَكْفِي
الْيَدُ، مَا لَمْ يَكُنِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ صَغِيرًا لاَ يُعَبِّرُ
عَنْ نَفْسِهِ، وَقِيل عِنْدَهُمْ: لَهُ أَنْ يَشْهَدَ أَيْضًا عَلَى
الْكَبِيرِ بِمُجَرَّدِ الْيَدِ (2) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: إِذَا ادَّعَى رِقَّ بَالِغٍ فَقَال الْبَالِغُ:
أَنَا حُرُّ الأَْصْل، فَالْقَوْل قَوْلُهُ، وَعَلَى الْمُدَّعِي
الْبَيِّنَةُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمُدَّعِي اسْتَخْدَمَهُ قَبْل
الإِْنْكَارِ وَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ جَرَى عَلَيْهِ
الْبَيْعُ مِرَارًا وَتَدَاوَلَتْهُ الأَْيْدِي أَمْ لاَ، وَقَال فِي
مَوْضِعٍ آخَرَ: وَإِذَا لَمْ يُقِرَّ اللَّقِيطُ بِرِقٍّ فَهُوَ حُرٌّ
إِلاَّ أَنْ يُقِيمَ أَحَدٌ بَيِّنَةً بِرِقِّهِ. وَإِنْ أَقَرَّ وَهُوَ
بَالِغٌ عَاقِلٌ بِرِقِّهِ لِشَخْصٍ فَصَدَّقَهُ قُبِل إِنْ لَمْ يَسْبِقْ
إِقْرَارَهُ بِالْحُرِّيَّةِ، وَإِلاَّ لَمْ يُقْبَل.
وَقَال أَيْضًا: لَوِ ادَّعَى رِقَّ صَغِيرٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
__________
(1) تكملة فتح القدير 7 / 392، فتح الباري 4 / 418، الأشباه للسيوطي ص 111.
(2) فتح القدير والعناية 6 / 162.
(23/14)
فِي يَدِهِ، لَمْ يُصَدَّقْ إِلاَّ
بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ، فَإِنِ اسْتَنَدَتِ الْيَدُ إِلَى
الْتِقَاطٍ فَكَذَلِكَ عَلَى الأَْظْهَرِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفِ
اسْتِنَادُهُ إِلَى الْتِقَاطٍ صُدِّقَ وَحُكِمَ لَهُ، كَمَا لَوِ ادَّعَى
ثَوْبًا فِي يَدِهِ، فَلَوْ كَانَ مُمَيِّزًا فَالأَْصَحُّ يُحْكَمُ لَهُ
بِرِقِّهِ، وَلاَ أَثَرَ لإِِنْكَارِهِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ كَالْبَالِغِ،
ثُمَّ إِذَا بَلَغَ الصَّغِيرُ الَّذِي حُكِمَ بِرِقِّهِ وَأَنْكَرَ
الرِّقَّ فَالأَْصَحُّ اسْتِمْرَارُ الرِّقِّ حَتَّى تَقُومَ بَيِّنَةٌ
بِخِلاَفِهِ، وَالثَّانِي: يُصَدَّقُ مُنْكِرُ الرِّقِّ إِلاَّ أَنْ
تَقُومَ بِهِ بَيِّنَةٌ (1) .
وَيَكْفِي فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الرِّقِّ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ (2) .
وَمَنِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَقَال الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ: بَل أَنَا حُرٌّ، وَأَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً،
تَعَارَضَتَا وَتَسَاقَطَتَا. قَال الْبُهُوتِيُّ: وَيُخَلَّى سَبِيلُهُ،
لأَِنَّ الأَْصْل الْحُرِّيَّةُ، وَالرِّقُّ طَارِئٌ وَلَمْ يَثْبُتْ (3) .
ثُبُوتُ الرِّقِّ بِالإِْقْرَارِ:
6 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ صَبِيٌّ مَجْهُول النَّسَبِ فِي يَدِ
رَجُلٍ وَهُوَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ، أَيْ يَعْقِل فَحْوَى مَا يَجْرِي
عَلَى لِسَانِهِ، وَادَّعَى الرَّجُل رِقَّهُ، فَقَال الصَّبِيُّ: أَنَا
حُرٌّ، فَالْقَوْل قَوْلُهُ؛ لأَِنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَلَوْ قَال:
أَنَا عَبْدٌ لِفُلاَنٍ - لِغَيْرِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ -
__________
(1) روضة الطالبين 12 / 77، 78.
(2) روضة الطالبين 11 / 255، والمنهاج وشرحه للمحلي 3 / 128.
(3) كشاف القناع 6 / 397.
(23/15)
فَهُوَ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ؛
لأَِنَّهُ أَقَرَّ بِالرِّقِّ، وَإِنْ كَانَ لاَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ
فَهُوَ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ.
وَأَمَّا الصَّبِيُّ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ إِذَا أَقَرَّ
بِالرِّقِّ وَهُوَ مَجْهُول النَّسَبِ فَهُوَ رَقِيقٌ، وَمِنْ بَابِ
أَوْلَى مَنْ كَانَ عِنْدَ إِقْرَارِهِ بَالِغًا (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَثْبُتُ الرِّقُّ بِإِقْرَارِ الصَّبِيِّ
الْمُمَيِّزِ وَيَثْبُتُ بِإِقْرَارِ الْبَالِغِ (2) لَكِنْ إِنْ أَقَرَّ
بِالرِّقِّ مَنْ هُوَ ثَابِتُ الْحُرِّيَّةِ لَمْ يَصِحَّ إِقْرَارُهُ،
فَلَوْ أَقَرَّتْ حُرَّةٌ لِزَوْجِهَا بِأَنَّهَا أَمَتُهُ، فَبَاعَهَا
لِلْجُوعِ وَالْغَلاَءِ، فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي، قَال الْمَالِكِيَّةُ:
فَلاَ حَدَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَعْزِيرَ؛ لِعُذْرِهَا بِالْجُوعِ،
وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى زَوْجِهَا بِالثَّمَنِ (3) . أَيْ
لأَِنَّهَا حُرَّةٌ فَلاَ تُرَقُّ بِذَلِكَ.
مَنْ يَمْلِكُ الرَّقِيقَ، وَمَنْ لاَ يَمْلِكُهُ:
أَوَّلاً: الْكَافِرُ:
7 - لاَ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ اسْتِدَامَةُ تَمَلُّكِ رَقِيقٍ مُسْلِمٍ
اتِّفَاقًا. وَهَذَا الْحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لأَِنَّ الإِْسْلاَمَ
يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى، وَلِمَا فِيهِ مِنْ إِهَانَةِ الْمُسْلِمِ بِمِلْكِ
الْكَافِرِ لَهُ. وَقِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْكَافِرِ
مُسْلِمَةً، بَل أَوْلَى.
وَقَدْ يَدْخُل الرَّقِيقُ الْمُسْلِمُ فِي مِلْكِ الْكَافِرِ فِي
__________
(1) الهداية وفتح القدير 6 / 250.
(2) كشاف القناع 6 / 392.
(3) الزرقاني 7 / 80.
(23/15)
صُوَرٍ مُعَيَّنَةٍ، لَكِنْ يُجْبَرُ عَلَى
إِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ بِبَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ لِمُسْلِمٍ، أَوْ
إِعْتَاقٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ تِلْكَ الصُّوَرِ:
1 - أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ كَافِرٍ عَبْدٌ كَافِرٌ فَيُسْلِمُ. فَقَدْ
صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُؤْمَرُ الْكَافِرُ بِبَيْعِهِ
تَخْلِيصًا لِلْعَبْدِ الَّذِي أَسْلَمَ مِنْ بَقَائِهِ فِي مِلْكِ
الْكَافِرِ.
2 - وَمِنْهَا أَنْ يَمْلِكَهُ بِالشِّرَاءِ، وَهَذَا فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ
مَالِكٍ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ: فَيَصِحُّ وَيُجْبَرُ عَلَى إِزَالَةِ
مِلْكِهِ عَنْهُ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى
عَنْ مَالِكٍ، وَالْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ
عِنْدَ أَصْحَابِهِ: لاَ يَصِحُّ شِرَاءُ الْكَافِرِ مُسْلِمًا أَصْلاً.
وَيَحْرُمُ بَيْعُ الْمُسْلِمِ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ لِكَافِرٍ عَلَى كِلاَ
الْقَوْلَيْنِ، إِذِ الْخِلاَفُ فِي الصِّحَّةِ لاَ فِي التَّحْرِيمِ.
وَيُسْتَثْنَى مَا إِذَا اشْتَرَى الْكَافِرُ مُسْلِمًا يَعْتِقُ عَلَيْهِ
بِالْقَرَابَةِ، أَوِ اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْعِتْقِ فِي الْحَال، فَذَلِكَ
أَوْلَى بِالصِّحَّةِ، وَلِذَلِكَ أَجَازَهُ أَيْضًا الْحَنَابِلَةُ فِي
رِوَايَةٍ؛ لأَِنَّ الْمِلْكَ يَزُول فِي الْحَال عَقِبَ الشِّرَاءِ
مُبَاشَرَةً، وَيَحْصُل ذَلِكَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، بِدُونِ تَوَقُّفٍ
عَلَى تَصَرُّفٍ مِنَ الْمَالِكِ، وَيَحْصُل بِهِ مِنْ نَفْعِ
الْحُرِّيَّةِ أَضْعَافُ مَا حَصَل مِنَ الإِْهَانَةِ بِالْمِلْكِ فِي
لَحْظَةٍ يَسِيرَةٍ. وَهَكَذَا كُل شِرَاءٍ يَسْتَتْبِعُ عِتْقًا.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُمْنَعُ بَيْعُ الرَّقِيقِ الْمُسْلِمِ
لِكَافِرٍ، فَإِنْ وَقَعَ مَضَى بَيْعُهُ فَلاَ يُفْسَخُ، وَيُجْبَرُ عَلَى
إِزَالَةِ
(23/16)
مِلْكِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ (1) .
وَلَوْ وَكَّل كَافِرٌ مُسْلِمًا فِي شِرَاءِ رَقِيقٍ لَمْ يَصِحَّ
الشِّرَاءُ عِنْدَ مَنْ مَنَعَ شِرَاءَ الْكَافِرِ لِعَبْدٍ مُسْلِمٍ؛
لأَِنَّ الْمِلْكَ يَقَعُ لِلْمُوَكِّل، وَالْمُوَكِّل لَيْسَ بِأَهْلٍ
لِشِرَائِهِ كَمَا لَوْ وَكَّل مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا فِي شِرَاءِ خَمْرٍ.
وَإِنْ وَكَّل الْمُسْلِمُ كَافِرًا يَشْتَرِي لَهُ رَقِيقًا كَافِرًا
صَحَّ، أَمَّا إِنْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ رَقِيقٍ مُسْلِمٍ فَفِيهِ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ؛ لأَِنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ كَانَ لِمَا فِيهِ مِنْ
ثُبُوتِ مِلْكِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَالْمِلْكُ هُنَا يَثْبُتُ
لِلْمُسْلِمِ، فَلَمْ يَتَحَقَّقِ الْمَانِعُ.
وَالثَّانِي: لاَ يَصِحُّ؛ لأَِنَّ مَا مَنَعَ مِنْ شِرَائِهِ مَنَعَ مِنَ
التَّوَكُّل فِيهِ، كَتَوَكُّل الْمُحْرِمِ فِي شِرَاءِ صَيْدٍ، وَتَوَكُّل
الْكَافِرِ فِي عَقْدِ نِكَاحِ مُسْلِمَةٍ، وَتَوَكُّل الْمُسْلِمِ فِي
شِرَاءِ خَمْرٍ لِذِمِّيٍّ (2) .
وَإِنْ كَانَ عَبْدٌ كَافِرٌ فِي مِلْكِ شَخْصٍ كَافِرٍ فِي دَارِ
الإِْسْلاَمِ، فَأَسْلَمَ الْعَبْدُ، لَمْ يَزُل مِلْكُ صَاحِبِهِ
بِإِسْلاَمِهِ، لَكِنْ لاَ يُقَرُّ فِي يَدِهِ، بَل يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ
مِلْكِهِ عَنْهُ بِبَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ عِتْقٍ، أَوْ غَيْرِهَا،
وَلاَ يَكْفِي الرَّهْنُ أَوِ التَّزْوِيجُ أَوِ الْحَيْلُولَةُ
بَيْنَهُمَا (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 40، المغني 4 / 365، وروضة الطالبين 3 / 344،
347، وجواهر الإكليل 2 / 3، مكة المكرمة، دار الباز، مصور عن طبعة القاهرة
1332هـ.
(2) المغني 4 / 265.
(3) روضة الطالبين 3 / 347.
(23/16)
أَمَّا إِنْ أَسْلَمَ الْعَبْدُ الْكَافِرُ
الْمَمْلُوكُ لِكَافِرٍ بِدَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ
حُرًّا، سَوَاءٌ هَاجَرَ إِلَيْنَا أَوِ الْتَحَقَ بِجَيْشِ
الْمُسْلِمِينَ. فَلَوْ خَرَجَ إِلَيْنَا مُسْلِمًا، أَوْ سَبَاهُ
الْمُسْلِمُونَ، لَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُ؛ لأَِنَّ مِلْكَ الْكَافِرِ
ارْتَفَعَ عَنْهُ حُكْمًا بِمُجَرَّدِ إِسْلاَمِهِ، وَلَوْ بَقِيَ فِي يَدِ
الْكَافِرِ؛ لأَِنَّ الإِْسْلاَمَ يُنَافِي ابْتِدَاءَ الاِسْتِرْقَاقِ (1)
.
ثَانِيًا: الْقَرِيبُ:
8 - إِذَا مَلَكَ الإِْنْسَانُ أَحَدًا مِنْ وَالِدَيْهِ وَإِنْ عَلَوَا
أَوْ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَل وَلَوْ مِنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ، عَتَقَ
عَلَيْهِ بِنَفْسِ الْمِلْكِ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، وَلاَ
عَلَى نُطْقٍ بِصِيغَةِ عِتْقٍ، وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ
(2) .
وَسَوَاءٌ كَانَ دُخُولُهُ فِي مِلْكِهِ بِاخْتِيَارِهِ كَشِرَاءٍ أَوْ
بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَمَا لَوْ وَرِثَهُ (3) .
__________
(1) البناني على الزرقاني 8 / 120، وفتح القدير 4 / 316، وكشاف القناع 5 /
491، والمدونة للإمام مالك 3 / 357، بيروت، دار صادر.
(2) حديث: " من ملك ذا رحم محرم فهو حر ". أخرجه الترمذي (3 / 637 - ط
الحلبي) من حديث الحسن بن سمرة، وأعله الترمذي، ولكن أخرجه ابن ماجه (2 /
844 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر، وصححه ابن حزم كما في الجوهر
النقي بهامش السنن للبيهقي (10 / 289 - ط دائرة المعارف العثمانية) .
(3) شرح الزرقاني على مختصر خليل 8 / 128، 129، وفتح القدير 3 / 370.
(23/17)
وَاخْتُلِفَ فِي بَقِيَّةِ ذَوِي الرَّحِمِ
الْمَحْرَمِ سِوَى أَصْحَابِ قَرَابَةِ الْوِلاَدِ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ تَحْتَ
عُنْوَانِ: (عِتْق) .
ثَالِثًا: الْمَمَالِيكُ:
9 - يَدْخُل الْمَمْلُوكُ فِي مِلْكِ مَمْلُوكٍ آخَرَ إِذَا كَانَ
الْمَمْلُوكُ مُكَاتَبًا، وَكَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ قَال بِأَنَّ الْعَبْدَ
يَمْلِكُ، أَمَّا مَنْ قَال بِأَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَمْلِكُ أَصْلاً فَلاَ
يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ أَوِ الأَْمَةُ مِلْكًا
لِعَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، وَلِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فُرُوعٌ فِي التَّسَرِّي
وَغَيْرِهِ.
جَرَيَانُ الرِّقِّ عَلَى الْعَرَبِ:
10 - قَال ابْنُ حَجَرٍ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْعَرَبِيَّ إِذَا
سُبِيَ جَازَ أَنْ يُسْتَرَقَّ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَرَبِيُّ أَمَةً
كَانَ وَلَدُهَا رَقِيقًا أَخْذًا بِإِطْلاَقِ الأَْحَادِيثِ الدَّالَّةِ
عَلَى الاِسْتِرْقَاقِ، وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ اسْتَرَقَّ مِنْ سَبْيِ هَوَازِنَ وَبَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ
عَرَبٌ (1) . وَأَمَرَ عَائِشَةَ بِشِرَاءِ رَقَبَةٍ مِنْ أَسْرَى بَنِي
تَمِيمٍ وَإِعْتَاقِهَا عَنْ نَذْرِهَا (2) . قَال ابْنُ حَجَرٍ:
وَالأَْفْضَل عِتْقُ مَنْ يُسْتَرَقُّ مِنْهُمْ، وَلِذَلِكَ قَال عُمَرُ
__________
(1) ذكر سبي بني المصطلق. أخرجه البخاري (الفتح 5 / 170 - ط السلفية) من
حديث ابن عمر. وأما ذكر سبي هوازن فقد أخرجه البخاري (الفتح 5 / 169 - ط
السلفية) من حديث مروان، والمسور بن مخرمة.
(2) نص الأمر بعتقها أخرجه البخاري (الفتح 5 / 170 - ط السلفية) من حديث
أبي هريرة، وأما ما ورد أنه كان عليها نذر في ذلك فقد أخرجه الطبراني في
الأوسط كما في فتح الباري (5 / 172 - ط السلفية) .
(23/17)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مِنَ الْعَارِ أَنْ
يَمْلِكَ الرَّجُل ابْنَ عَمِّهِ أَوْ بِنْتَ عَمِّهِ.
وَذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى أَنَّ
عَلَى سَيِّدِ الأَْمَةِ تَقْوِيمَ الْوَلَدِ، وَيُلْزَمُ أَبُوهُ
بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ، وَلاَ يُسْتَرَقُّ الْوَلَدُ أَصْلاً (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّ
الْعَرَبَ لاَ يُسْتَرَقُّ رِجَالُهُمْ.
قَال أَبُو عُبَيْدٍ: بِذَلِكَ مَضَتْ سُنَّةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَرِقَّ أَحَدًا مِنْ
ذُكُورِهِمْ.
قَال: وَكَذَلِكَ حَكَمَ عُمَرُ فِيهِمْ أَيْضًا حَتَّى رَدَّ سَبْيَ أَهْل
الْجَاهِلِيَّةِ وَأَوْلاَدَ الإِْمَاءِ مِنْهُمْ أَحْرَارًا إِلَى
عَشَائِرِهِمْ عَلَى فِدْيَةٍ يُؤَدُّونَهَا إِلَى الَّذِينَ أَسْلَمُوا
وَهُمْ فِي أَيْدِيهِمْ. قَال: وَهَذَا مَشْهُورٌ مِنْ رَأْيِ عُمَرَ.
وَرَوَى عَنْهُ الشَّعْبِيُّ أَنَّ عُمَرَ قَال: لَيْسَ عَلَى عَرَبِيٍّ
مِلْكٌ. وَنُقِل عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى بِفِدَاءِ مَنْ كَانَ فِي الرِّقِّ
مِنْهُمْ (2) .
أَنْوَاعُ الرِّقِّ:
11 - الرَّقِيقُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لاَ شَائِبَةَ فِيهِ،
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَائِبَةٌ. وَالرَّقِيقُ الْخَالِصُ، يُسَمَّى
الْقِنَّ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَلَمًا لِمَالِكٍ وَاحِدٍ، وَإِمَّا
__________
(1) فتح الباري 5 / 170 - 173، وانظر القليوبي 3 / 249.
(2) الأموال لأبي عبيد ص 133 - 135 القاهرة سنة 1955م.
(23/18)
أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا وَهُوَ الَّذِي
يَمْلِكُهُ شَرِيكَانِ أَوْ أَكْثَرُ.
وَالرَّقِيقُ الَّذِي فِيهِ شَائِبَةٌ هُوَ الَّذِي أَعْتَقَ بَعْضُهُ
فِعْلاً، كَنِصْفِهِ أَوْ رُبُعِهِ، وَبَقِيَ سَائِرُهُ رَقِيقًا،
وَيُسَمَّى الْمُبَعَّضَ، أَوِ انْعَقَدَ فِيهِ سَبَبُ التَّحْرِيرِ،
وَهُوَ ثَلاَثَةُ أَصْنَافٍ: الأَْوَّل: أُمُّ الْوَلَدِ، وَهِيَ
الْجَارِيَةُ إِذَا وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا، فَإِنَّهَا تَكُونُ
بِالْوِلاَدَةِ مُسْتَحِقَّةً لِلْحُرِّيَّةِ بِوَفَاةِ سَيِّدِهَا.
وَالثَّانِي: الْمُكَاتَبُ، وَهُوَ مَنِ اشْتَرَى نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ
بِمَالٍ مُنَجَّمٍ، فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْحُرِّيَّةِ بِمُجَرَّدِ تَمَامِ
الأَْدَاءِ.
وَالثَّالِثُ: الْمُدَبَّرُ، وَالتَّدْبِيرُ أَنْ يَجْعَل السَّيِّدُ
عَبْدَهُ مُعْتَقًا عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ، أَيْ بِمُجَرَّدِ وَفَاةِ
السَّيِّدِ، وَفِي مَعْنَاهُ: الْمُوصَى بِعِتْقِهِ، وَالْمُعَلَّقُ
عِتْقُهُ بِصِفَةٍ أَوْ أَجَلٍ.
وَهَذِهِ الأَْنْوَاعُ الثَّلاَثَةُ الْمِلْكُ فِيهَا كَامِلٌ، فَإِنْ
كَانَتْ أَمَةً جَازَ لِلسَّيِّدِ الْوَطْءُ.
وَلَكِنَّ الرِّقَّ فِيهَا نَاقِصٌ لاِنْعِقَادِ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ
فِيهِ، وَلِذَا لاَ يُجْزِئُ عِتْقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ (1) .
وَفِيمَا يَلِي أَحْكَامُ الرَّقِيقِ الْقِنِّ، ثُمَّ أَحْكَامُ
الْمُشْتَرَكِ وَالْمُبَعَّضِ.
أَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ، وَالْمُكَاتَبُ، وَالْمُدَبَّرُ، فَتُنْظَرُ
أَحْكَامُهُمْ فِي (اسْتِيلاَد) ، (تَدْبِير) ، (مُكَاتَبَة) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 12.
(23/18)
النَّوْعُ الأَْوَّل
أَحْكَامُ الرَّقِيقِ الْقِنِّ الْمَمْلُوكِ لِمَالِكٍ وَاحِدٍ
حُقُوقُ السَّيِّدِ وَوَاجِبَاتُ رَقِيقِهِ تُجَاهَهُ:
لِلسَّيِّدِ رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً عَلَى مَمَالِيكِهِ الذُّكُورِ
وَالإِْنَاثِ حُقُوقٌ يَجِبُ عَلَى الرَّقِيقِ مُرَاعَاتُهَا، مِنْهَا:
12 - أَوَّلاً: طَاعَتُهُ لِلسَّيِّدِ فِي كُل مَا يَأْمُرُهُ بِهِ أَوْ
يَنْهَاهُ عَنْهُ، وَلاَ يَتَقَيَّدُ وُجُوبُ الطَّاعَةِ بِقَيْدٍ إِلاَّ
مَا وَرَدَ التَّقْيِيدُ بِهِ شَرْعًا، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ:
أ - أَنْ يَأْمُرَهُ السَّيِّدُ بِأَمْرٍ فِيهِ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ
تَعَالَى كَشُرْبِ خَمْرٍ، أَوْ سَرِقَةٍ، أَوْ إِيذَاءٍ لأَِحَدٍ مِنَ
النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ طَاعَةَ لأَِحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ (1)
وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى
الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ
إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) أَيْ غَفُورٌ لَهُنَّ رَحِيمٌ بِهِنَّ
حَيْثُ أُكْرِهْنَ عَلَى مَا لاَ يَحِل.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا لَوْ أَجْبَرَ السَّيِّدُ رَقِيقَهُ الْمُسْلِمَ
عَلَى تَرْكِ الْفَرَائِضِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ صَلاَةٍ أَوْ صَوْمٍ، هَذَا
مَعَ مُرَاعَاةِ أَنَّ بَعْضَ الْفَرَائِضِ
__________
(1) حديث: " لا طاعة لأحد في معصية الله ". أخرجه أحمد (5 / 66 - ط
الميمنية) من حديث الحكم بن عمروالغفاري، وقواه ابن حجر في الفتح (13 / 123
- ط السلفية) .
(2) سورة النور / 33.
(23/19)
اللاَّزِمَةِ لِلأَْحْرَارِ سَاقِطَةٌ
شَرْعًا عَنِ الأَْرِقَّاءِ، كَالْحَجِّ، وَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ.
ب - أَنْ يَكُونَ كَافِرًا فَيُجْبِرَهُ سَيِّدُهُ عَلَى الإِْسْلاَمِ،
فَلاَ يَجِبُ عَلَى الرَّقِيقِ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ لأَِنَّهُ لاَ
إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ. وَاسْتَثْنَى الْحَلِيمِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ
أَنْ تَكُونَ كَافِرَةً غَيْرَ كِتَابِيَّةٍ وَيَرْغَبَ سَيِّدُهَا فِي
الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَيُجْبِرَهَا عَلَى الإِْسْلاَمِ لِتَحِل لَهُ،
فَرَأَى الْحَلِيمِيُّ جَوَازَ ذَلِكَ لإِِزَالَةِ الْمَانِعِ مِنَ
الْوَطْءِ، قَاسَهُ عَلَى جَوَازِ إِجْبَارِهَا عَلَى إِزَالَةِ
النَّجَاسَةِ وَغُسْل الْحَيْضِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
خِلاَفُ ذَلِكَ. وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ السَّيِّدَ إِنْ حَمَل
رَقِيقَهُ عَلَى الْفَسَادِ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ (1) .
لأَِنَّ الرِّقَّ أَفَادَهَا الأَْمَانُ مِنَ الْقَتْل فَلاَ تُجْبَرُ
كَالْمُسْتَأْمَنَةِ، قَالُوا: وَلَيْسَ كَالْغُسْل فَإِنَّهُ لاَ يَعْظُمُ
الأَْمْرُ فِيهِ (2) .
ج - لَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدَهُ الذَّكَرَ الْبَالِغَ
امْرَأَةً لاَ يَرْضَاهَا حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً، فَإِنْ كَانَ
الْعَبْدُ صَغِيرًا جَازَ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَقَوْلٌ
لِلشَّافِعِيِّ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: لِلسَّيِّدِ أَنْ
يُجْبِرَ عَبْدَهُ عَلَى النِّكَاحِ.
وَلاَ يَلْزَمُ الْعَبْدَ طَاعَةُ سَيِّدِهِ لَوْ كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنَ
الرَّقِيقِ فَسْخُ زَوَاجِهِ الصَّحِيحِ، سَوَاءٌ تَمَّ بِإِذْنِهِ
__________
(1) القليوبي 4 / 94.
(2) روضة الطالبين 7 / 136.
(23/19)
أَوْ إِذْنِ مَالِكٍ سَابِقٍ، فَلَوْ
كَانَتِ الأَْمَةُ مُزَوَّجَةً، فَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُجْبِرَهَا
عَلَى طَلَبِ الطَّلاَقِ، وَكَذَا لَيْسَ لَهُ الْحَقُّ فِي مَنْعِهَا مِنَ
الْكَوْنِ مَعَ زَوْجِهَا لَيْلاً.
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي مُرَاعَاةِ الْحَقَّيْنِ، حَقِّ الزَّوْجِ
وَحَقِّ السَّيِّدِ، يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ (1) .
د - إِنْ كَانَ الْعَبْدُ ذِمِّيًّا فَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ
أَنَّهُ لاَ يُمْنَعُ مِنْ إِتْيَانِ الْكَنِيسَةِ، أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ،
أَوْ أَكْل لَحْمِ الْخِنْزِيرِ لأَِنَّ ذَلِكَ دِينُهُ، نَقَلَهُ
الْبُنَانِيِّ عَنْ قَوْل مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ (2)
13 - ثَانِيًا: لِلسَّيِّدِ حَقُّ الاِسْتِخْدَامِ فِي الْمَنْزِل
وَخَارِجَهُ فِيمَا شَاءَ مِنْ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ فِي زِرَاعَةٍ أَوْ
خِدْمَةٍ أَوْ رِسَالَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَيَتَقَيَّدُ هَذَا بِأَنْ
يَكُونَ الْعَمَل مِمَّا يُطِيقُهُ الرَّقِيقُ، فَيَحْرُمُ تَكْلِيفُهُ
بِمَا لاَ يُطِيقُهُ أَوْ يَشُقُّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً كَبِيرَةً، لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ،
جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ
فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُل، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ
تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا
يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ (3) أَيْ لِيُعِنْهُ بِنَفْسِهِ أَوْ
بِغَيْرِهِ؛ وَلأَِنَّ
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 386، وكشاف القناع 5 / 489، 493، والمغني 6 / 506.
(2) البناني على الزرقاني 5 / 304.
(3) حديث: " إخوانكم خولكم ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 174 - ط السلفية،
ومسلم (3 / 1283 - ط الحلبي) من حديث أبي ذر.
(23/20)
ذَلِكَ يَضُرُّ بِهِ وَيُؤْذِيهِ،
وَالسَّيِّدُ مَمْنُوعٌ مِنَ الإِْضْرَارِ بِرَقِيقِهِ (1) .
وَقَال مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَذْهَبُ
إِلَى الْعَوَالِي كُل سَبْتٍ فَإِذَا وَجَدَ عَبْدًا فِي عَمَلٍ لاَ
يُطِيقُهُ وَضَعَ عَنْهُ مِنْهُ.
قَال مَالِكٌ: وَكَانَ عُمَرُ يَزِيدُ فِي رِزْقِ مَنْ قَل رِزْقُهُ، قَال:
وَأَكْرَهُ مَا أَحْدَثُوا مِنْ إِجْهَادِ الْعَبِيدِ (2) .
وَإِذَا اسْتَعْمَل الْعَبْدَ نَهَارًا أَرَاحَهُ لَيْلاً، وَكَذَا
بِالْعَكْسِ، وَيُرِيحُهُ بِالصَّيْفِ فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ،
وَالنَّوْمِ، وَالصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَيَسْتَعْمِلُهُ فِي
الشِّتَاءِ النَّهَارَ مَعَ طَرَفَيِ اللَّيْل، وَيَتَّبِعُ فِي ذَلِكَ
كُلِّهِ الْعَادَةَ الْغَالِبَةَ (3) .
وَإِذَا سَافَرَ بِهِمْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُرْكِبَهُمْ وَلَوْ عُقْبَةً
عِنْدَ الْحَاجَةِ (4) .
14 - ثَالِثًا: لِلسَّيِّدِ حَقُّ انْتِزَاعِ الْمَال الْمُتَحَصِّل
لِلرَّقِيقِ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، كَمَا لَوْ كَانَ أَجْرَ عَمَلِهِ أَوْ
مَهْرَ الأَْمَةِ، أَوْ أَرْشَ جِنَايَةٍ عَلَى الرَّقِيقِ، أَوْ بَدَل
خُلْعِ الْعَبْدِ امْرَأَتَهُ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ وُهِبَ
__________
(1) فتح الباري 5 / 175، وكشاف القناع 5 / 491، والمغني 7 / 631، وروضة
الطالبين 9 / 119.
(2) الموطأ بشرح الباجي 7 / 305.
(3) روضة الطالبين 9 / 119، وكشاف القناع 5 / 490.
(4) كشاف القناع 5 / 490، والقليوبي 4 / 94، والعقبة تناوب شخصين أو أكثر
ركوب الدابة الواحدة.
(23/20)
لِلرَّقِيقِ مَالٌ، أَوِ اكْتَسَبَ مِنَ
الْمُبَاحِ (1) .
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ أَوْ لاَ يَمْلِكُ كَمَا
سَيَأْتِي، لَكِنْ عِنْدَ مَنْ قَال إِنَّهُ يَمْلِكُ فَلِسَيِّدِهِ
انْتِزَاعُ مَا بِيَدِهِ مِنَ الْمَال مَتَى شَاءَ، وَقَدْ قَال اللَّهُ
تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى
شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ
سِرًّا وَجَهْرًا} (2) .
15 - رَابِعًا: لِلسَّيِّدِ حَقُّ اسْتِغْلاَل مَمَالِيكِهِ، أَيْ أَنْ
يَسْتَعْمِل السَّيِّدُ رَقِيقَهُ فِيمَا يُدِرُّ عَلَى السَّيِّدِ مَالاً،
وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤَجِّرَهُ فِيمَا شَاءَ مِنْ عَمَلٍ وَيَأْخُذَ
السَّيِّدُ أَجْرَهُ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ إِنْ كَانَ ذَا صَنْعَةٍ
كَحِدَادَةٍ أَوْ خِيَاطَةٍ فِي أَنْ يَعْمَل بِأَجْرٍ، وَكَذَا لَوْ
أَذِنَ لَهُ فِي تِجَارَةٍ أَوْ زِرَاعَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. وَمِنْ غَلَّةِ
الأَْمَةِ وَلَدُهَا إِنْ زُوِّجَتْ، وَوُلِدَ عَلَى الرِّقِّ.
وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَأْمُرَ عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ بِالْكَسْبِ أَوْ
يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يَتَكَسَّبَ بِمَا شَاءَ، غَيْرَ أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ
أَنْ يُلْزِمَ بِالْكَسْبِ أَمَةً لاَ صَنْعَةَ لَهَا، قَال عُثْمَانُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي بَعْضِ خُطَبِهِ: لاَ تُكَلِّفُوا الأَْمَةَ
غَيْرَ ذَاتِ الصَّنْعَةِ الْكَسْبَ، فَإِنَّكُمْ مَتَى كَلَّفْتُمُوهَا
ذَلِكَ كَسَبْتِ بِفَرْجِهَا، وَلاَ تُكَلِّفُوا الصَّغِيرَ الْكَسْبَ،
فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ سَرَقَ (3) . قَال الْبَاجِيُّ: أَيْ إِنَّهَا
إِذَا أُلْزِمَتْ خَرَاجًا وَهِيَ لَيْسَتْ ذَاتَ صَنْعَةٍ تَصْنَعُهَا
بِخَرَاجٍ، اضْطَرَّهَا ذَلِكَ لِلْكَسْبِ مِنْ أَيِّ
__________
(1) روضة الطالبين 6 / 187، وكشاف القناع 3 / 568.
(2) سورة النحل / 75.
(3) الموطأ وشرح الباجي 7 / 305.
(23/21)
وَجْهٍ أَمْكَنَهَا، وَكَانَ ذَلِكَ
سَبَبًا إِلَى أَنْ تَكْسِبَ بِفَرْجِهَا، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ
الصَّغِيرُ إِذَا كُلِّفَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْخَرَاجِ وَهُوَ لاَ يُطِيقُ
ذَلِكَ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا اضْطَرَّهُ إِلَى أَنْ يَتَخَلَّصَ مِمَّا
لَزِمَهُ مِنَ الْخَرَاجِ بِأَنْ يَسْرِقَ.
وَمَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى عَنْ كَسْبِ الأَْمَةِ (1) فَلَيْسَ عَلَى
إِطْلاَقِهِ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ
مَرْفُوعًا: نَهَى عَنْ كَسْبِ الأَْمَةِ حَتَّى يُعْلَمَ مِنْ أَيْنَ هُوَ
(2) . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ
نَهَى عَنْ كَسْبِ الأَْمَةِ إِلاَّ مَا عَمِلَتْ بِيَدِهَا (3) . وَقَال
هَكَذَا بِيَدِهِ، نَحْوُ الْغَزْل وَالنَّفْشِ (4) .
الْمُخَارَجَةُ:
16 - الْمُخَارَجَةُ أَنْ يَضْرِبَ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ أَوْ
__________
(1) حديث: " نهى عن كسب الأمة ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 426 - ط
السلفية) من حديث أبي جحيفة.
(2) حديث: " نهى عن كسب الأمة حتى يعلم من أين هو ". أخرجه أبو داود (3 /
710 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وفي إسناده جهالة كما في فيض القدير للمناوي (6
/ 338 - ط المكتبة التجارية) ولكن يشهد له الذي بعده.
(3) حديث: " نهى عن كسب الأمة إلا ما عملت بيدها ". أخرجه أبو داود (3 /
710 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (2 / 42 - ط دائرة المعارف العثمانية)
وصححه ووافقه الذهبي.
(4) فتح الباري 4 / 427.
(23/21)
أَمَتِهِ خَرَاجًا مَعْلُومًا يُؤَدِّيهِ
كَكُل يَوْمٍ أَوْ أُسْبُوعٍ مِمَّا يَكْتَسِبُهُ، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ
أَنْ يَجْبُرَ الْعَبْدَ عَلَيْهَا وَلاَ لِلْعَبْدِ إِجْبَارُ السَّيِّدِ،
بَل هُوَ عَقْدٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّرَاضِي مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَفِي
قَوْلٍ: لِلسَّيِّدِ إِجْبَارُهُ. قَال النَّوَوِيُّ: وَلَيْسَ هَذَا
الْقَوْل بِشَيْءٍ.
وَإِذَا تَرَاضَيَا عَلَى خَرَاجٍ فَلْيَكُنْ لَهُ كَسْبٌ دَائِمٌ يَفِي
بِذَلِكَ الْخَرَاجِ فَاضِلاً عَنْ نَفَقَتِهِ وَكُسْوَتِهِ إِنْ جَعَلَهَا
فِي كَسْبِهِ. فَإِنْ وَضَعَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ كَسْبِهِ بَعْدَ
نَفَقَتِهِ لَمْ يَجُزْ. وَكَذَا إِنْ كَلَّفَ مِنْ لاَ كَسْبَ لَهُ
الْمُخَارَجَةَ، وَإِذَا وَفَّى مَا عَلَيْهِ وَزَادَ كَسْبُهُ عَلَى
الْمَضْرُوبِ عَلَيْهِ فَالزِّيَادَةُ لَهُ. وَهِيَ بِرٌّ وَرِفْقٌ مِنَ
السَّيِّدِ بِعَبْدِهِ، وَتَوْسِيعٌ لِلنَّفَقَةِ عَلَيْهِ.
وَيَجْبُرُ النَّقْصَ فِي بَعْضِ الأَْيَّامِ بِالزِّيَادَةِ فِي
بَعْضِهَا، وَإِذَا أَدَّى مَا عَلَيْهِ فَلَهُ تَرْكُ الْعَمَل.
وَالْمُخَارَجَةُ جَائِزَةٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَيْ غَيْرُ لاَزِمَةٍ،
فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا فَسْخُهَا (1) .
17 - خَامِسًا: يَجِبُ عَلَى الرَّقِيقِ أَيْضًا الْحِفْظُ وَالصِّيَانَةُ
لِمَا بِيَدِهِ مِنْ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ
نَفْسِهِ. وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِْمَامُ رَاعٍ، وَهُوَ
مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُل فِي أَهْلِهِ رَاعٍ، وَهُوَ
مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا
رَاعِيَةٌ، وَهِيَ
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 118، والقليوبي 4 / 94، وكشاف القناع 5 / 491،
والمغني 7 / 631.
(23/22)
مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا،
وَالْخَادِمُ فِي مَال سَيِّدِهِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ
(1) .
قَال ابْنُ حَجَرٍ: رِعَايَتُهُ حِفْظُ مَا تَحْتَ يَدِهِ وَالْقِيَامُ
بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ خِدْمَتِهِ (2) .
وَعَلَى الرَّقِيقِ أَيْضًا النُّصْحُ لِسَيِّدِهِ، وَبَذْل جَهْدِهِ فِي
خِدْمَتِهِ، وَتَنْفِيذُ أَوَامِرِهِ وَتَرْكُ الْكَسَل فِيهَا، لِحَدِيثِ
أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا أَيُّمَا عَبْدٍ أَدَّى حَقَّ
اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ فَلَهُ أَجْرَانِ (3) .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْمَمْلُوكِ الَّذِي يُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ،
وَيُؤَدِّي إِلَى سَيِّدِهِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ
وَالنَّصِيحَةِ وَالطَّاعَةِ أَجْرَانِ (4) .
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: إِذَا نَصَحَ الْعَبْدُ
لِسَيِّدِهِ وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ
(5) قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدِي أَنَّ
الْعَبْدَ لَمَّا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ وَاجِبَانِ
__________
(1) حديث: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 69
- ط السلفية) ومسلم (3 / 1459 - ط الحلبي من حديث ابن عمر، واللفظ للبخاري)
.
(2) فتح الباري 13 / 113.
(3) حديث: " أيما عبد أدى حق الله وحق مواليه فله أجران ". أخرجه البخاري
(الفتح 5 / 175 - ط السلفية) .
(4) حديث: " للمملوك الذي يحسن عبادة ربه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 /
177 - ط السلفية) .
(5) حديث: " إذا نصح العبد لسيده وأحسن عبادة ربه كان أجره مرتين ". أخرجه
البخاري (الفتح 5 / 277 - ط السلفية) .
(23/22)
طَاعَةُ رَبِّهِ فِي الْعِبَادَاتِ،
وَطَاعَةُ سَيِّدِهِ فِي الْمَعْرُوفِ، فَقَامَ بِهِمَا جَمِيعًا، كَانَ
لَهُ ضِعْفُ أَجْرِ الْحُرِّ الْمُطِيعِ لِطَاعَتِهِ (1) .
18 - سَادِسًا: لِلسَّيِّدِ حَقُّ تَأْدِيبِ عَبْدِهِ وَمُعَاقَبَتِهِ
عَلَى تَرْكِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، أَوْ فِعْل مَا حَرَّمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ مُخَالَفَةِ السَّيِّدِ، أَوْ إِسَاءَةِ الأَْدَبِ،
أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ بِاللَّوْمِ أَوِ الضَّرْبِ، كَمَا يُؤَدِّبُ وَلَدَهُ
وَزَوْجَتَهُ النَّاشِزَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي إِقَامَةِ السَّيِّدِ الْحَدَّ وَالْقِصَاصَ عَلَى
عَبْدِهِ (2) . وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَمِنْ جُمْلَةِ الْعُقُوبَةِ الَّتِي يَمْلِكُهَا السَّيِّدُ أَنْ
يَضْرِبَهُ عَلَى تَرْكِ الصَّلاَةِ إِذَا كَانَ مُمَيِّزًا وَبَلَغَ
عَشْرَ سِنِينَ، وَذَلِكَ لِتَمْرِينِهِ عَلَيْهَا حَتَّى يَأْلَفَهَا
وَيَعْتَادَهَا (3) لِحَدِيثِ: وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ
عَشْرٍ (4) . قَال الْحَجَّاوِيُّ وَالْبُهُوتِيُّ: وَلِلسَّيِّدِ أَنْ
يَزِيدَ فِي ضَرْبِ الرَّقِيقِ، تَأْدِيبًا عَلَى ضَرْبِ الْوَلَدِ
وَالزَّوْجَةِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ
تَضْرِبْ ظَعِينَتَكَ
__________
(1) فتح الباري 5 / 172 - 174، والقليوبي 4 / 94.
(2) روضة الطالبين 10 / 103، 175، وفتح الباري 12 / 163 - 165 و 174 وكشاف
القناع 6 / 79.
(3) كشاف القناع 1 / 225.
(4) حديث: " واضربوهم عليها وهم أبناء عشر ". أخرجه أبو داود (1 / 334 -
تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وحسنه النووي في
رياض الصالحين (ص 171 - ط الرسالة) .
(23/23)
كَضَرْبِ أُمَيَّتِكَ (1) وَقَوْلِهِ: لاَ
يَجْلِدُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي
آخِرِ الْيَوْمِ (2) . وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يُقَيِّدَ عَبْدَهُ إِذَا خَافَ
عَلَيْهِ الإِْبَاقَ (3) .
19 - سَابِعًا: لِلسَّيِّدِ حَقُّ وَطْءِ مَمْلُوكَتِهِ مَا لَمْ يَمْنَعْ
مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ، كَأَنْ تَكُونَ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ
أَوْ مُزَوَّجَةً، أَوْ كَافِرَةً غَيْرَ كِتَابِيَّةٍ، أَوْ تَكُونَ
مُرْتَدَّةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، أَوْ فِيهَا شِرْكٌ لِغَيْرِهِ، فَإِذَا
وُطِئَتْ تَكُونُ سَرِيَّةً، إِلاَّ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مُزَوَّجَةً
ثُمَّ مُلِكَتْ بِالسَّبْيِ جَازَ لِمَالِكِهَا فَسْخُ نِكَاحِهَا ثُمَّ
وَطْؤُهَا بَعْدَ الاِسْتِبْرَاءِ.
وَلِلاِسْتِمْتَاعِ بِالإِْمَاءِ أَحْكَامٌ وَضَوَابِطُ شَرْعِيَّةٌ
تُنْظَرُ فِي مَوْضِعِهَا مِمَّا يَلِي. وَفِي مُصْطَلَحِ: (تَسَرِّي) .
وَيَجِبُ عَلَى الْمَمْلُوكَةِ أَنْ تُمَكِّنَ سَيِّدَهَا مِنْ نَفْسِهَا
لِلاِسْتِمْتَاعِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهَا الاِمْتِنَاعُ مِنْ ذَلِكَ
لأَِنَّهُ مَنْعُ حَقٍّ، مَا لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، أَوْ
__________
(1) حديث: " لا تضرب ظعينتك كضربك أُميتك ". أخرجه أبو داود (1 / 98 - 99 -
تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث لقيط بن صبرة، ونقل ابن حجر عن الإمام أحمد
أن الراوي عن لقيط لم يسمع منه، كذا في التلخيص الحبير (1 / 81 - ط شركة
الطباعة الفنية) .
(2) حديث: " لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها في آخر اليوم ".
أخرجه البخاري (الفتح 9 / 302 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2191 ط. الحلبي. من
حديث عبد الله بن زمعة، واللفظ للبخاري) .
(3) كشاف القناع 5 / 491، 492، وفتح القدير 8 / 133.
(23/23)
يَكُونَ لَهَا عُذْرٌ صَحِيحٌ (1) .
20 - ثَامِنًا: لِلسَّيِّدِ التَّصَرُّفُ فِي رَقِيقِهِ بِالْبَيْعِ
وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُقُودِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ كَمَا يَأْتِي
قَرِيبًا.
21 - تَاسِعًا: لِلسَّيِّدِ أَنْ يَمْنَعَ عَبْدَهُ مِنَ التَّزَوُّجِ،
أَوِ التَّعَاقُدِ، أَوِ التَّصَرُّفِ بِالْوَجْهِ الَّذِي يُرِيدُ.
فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ
تَعَاقُدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ السَّيِّدِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ
الَّتِي لِلسَّيِّدِ عَلَى رَقِيقِهِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ بَاقِي هَذَا
الْبَحْثِ.
إِبَاقُ الرَّقِيقِ وَهَرَبُهُ:
22 - الإِْبَاقُ: انْطِلاَقُ الْعَبْدِ تَمَرُّدًا عَلَى مَنْ هُوَ فِي
يَدِهِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ كَدِّ عَمَلٍ، فَإِنْ كَانَ تَمَرُّدُهُ
لِذَلِكَ لاَ يُسَمَّى آبِقًا، بَل هُوَ هَارِبٌ أَوْ ضَالٌّ أَوْ فَارٌّ.
وَالإِْبَاقُ مُحَرَّمٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَال حَقِّ السَّيِّدِ،
وَهُوَ مِنْ عُيُوبِ الرَّقِيقِ (2) . وَلِلإِْبَاقِ أَحْكَامٌ
مُخْتَلِفَةٌ تُنْظَرُ فِي (إِبَاق) .
مَا لاَ يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ مِنْ رَقِيقِهِ:
23 - لَيْسَ لِلسَّيِّدِ قَتْل عَبْدِهِ، وَلاَ جَرْحُهُ، وَلاَ
التَّمْثِيل بِهِ بِقَطْعِ شَيْءٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، كَجَدْعِ
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 207.
(2) رد المحتار 3 / 325، وحاشية الدسوقي 4 / 127، ومغني المحتاج 2 / 13،
والمغني 5 / 660 و7 / 634، وكشاف القناع 3 / 483.
(23/24)
أَنْفِهِ أَوْ قَطْعِ أُذُنِهِ، لِنَهْيِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُثْلَةِ (1) .
وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ خِصَاءُ عَبْدِهِ.
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ ضَرْبًا شَدِيدًا إِلاَّ لِذَنْبٍ عَظِيمٍ.
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَلْطِمَهُ فِي وَجْهِهِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبِ
الْوَجْهَ (2) . وَلِحَدِيثِ: مَنْ لَطَمَ غُلاَمَهُ فَكَفَّارَتُهُ
عِتْقُهُ (3) . وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ جَنَاهُ.
وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَشْتُمَ أَبَوَيْ رَقِيقِهِ وَإِنْ كَانَا
كَافِرَيْنِ (4) .
وَإِنْ مَثَّل السَّيِّدُ بِرَقِيقِهِ، فَقَطَعَ أُذُنَهُ أَوْ أَنْفَهُ
أَوْ عُضْوًا مِنْهُ، أَوْ جَبَّهُ أَوْ خَصَاهُ أَوْ خَرَقَ أَوْ حَرَقَ
عُضْوًا مِنْهُ، عَتَقَ عَلَيْهِ بِلاَ حُكْمِ حَاكِمٍ بَل بِمُجَرَّدِ
التَّمْثِيل بِهِ. عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ، وَفِي قَوْلٍ: بَل بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، لِمَا وَرَدَ
أَنَّ زِنْبَاعًا وَجَدَ غُلاَمًا لَهُ مَعَ جَارِيَةٍ فَجَدَعَ أَنْفَهُ
وَجَبَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال
مَنْ فَعَل هَذَا بِكَ؟
__________
(1) حديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة ". أخرجه البخاري
(الفتح 5 / 119 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن يزيد الأنصاري.
(2) حديث: " إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه ". أخرجه أحمد (2 / 244 - ط
الميمنية) من حديث أبي هريرة، وأصله في مسلم (4 / 2016 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " من لطم غلامه فكفارته عتقه ". أخرجه مسلم (3 / 1278 - ط
الحلبي) وأحمد (2 / 25 - ط الميمنية) من حديث ابن عمر. واللفظ لأحمد.
(4) كشاف القناع 5 / 492، والمغني 7 / 634.
(23/24)
فَقَال: زِنْبَاعٌ: فَدَعَاهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟
فَقَال كَانَ مِنْ أَمْرِهِ كَذَا وَكَذَا، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبْدِ: اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ (1) .
وَلَوِ اسْتَكْرَهَ عَبْدَهُ عَلَى الْفَاحِشَةِ بِلِوَاطٍ عَتَقَ أَيْضًا،
وَمِثْلُهُ مَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ الَّتِي لاَ تُطِيقُ الْوَطْءَ
فَأَفْضَاهَا؛ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى التَّمْثِيل.
وَلاَ يَعْتِقُ بِخَدْشِهِ أَوْ ضَرْبِهِ أَوْ لَعْنِهِ (2) ، وَفِي
الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ (عِتْق) ،
وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ بِالتَّمْثِيل بِهِ تَعَمُّدَ الشَّيْنِ
الْمَعْنَوِيِّ كَحَلْقِ لِحْيَةِ عَبْدٍ تَاجِرٍ، أَوْ حَلْقِ شَعْرِ
أَمَةٍ رَفِيعَةٍ. وَأَلْحَقُوا بِهِ أَيْضًا تَمْثِيل الرَّجُل بِعَبْدِ
غَيْرِهِ، وَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ لِصَاحِبِهِ، لَكِنْ لاَ يَسْتَحِقُّ
الْعِتْقَ بِذَلِكَ إِلاَّ إِنْ كَانَتْ مَفْسَدَةً لِمَنَافِعِ الرَّقِيقِ
كُلِّهَا أَوْ جُلِّهَا (3)
.
حُقُوقُ الرَّقِيقِ عَلَى سَيِّدِهِ:
24 - أَوَّلاً: نَفَقَةُ الْمَمْلُوكِينَ وَاجِبَةٌ عَلَى مَالِكِيهِمْ
إِجْمَاعًا، لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الأَْحَادِيثِ مِنْهَا قَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ
وَكِسْوَتُهُ لاَ يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَل إِلاَّ مَا يُطِيقُ (4)
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَفَى
__________
(1) حديث: " أن زنباعًا وجد غلامًا له مع جارية ". أخرجه أحمد (2 / 182 - ط
الميمنية) وذكره الهيثمي في المجمع (6 / 288 - ط المقدسي) وقال: " رجاله
ثقات ".
(2) كشاف القناع 4 / 514، والزرقاني 8 / 130 - 131.
(3) الزرقاني وحاشية البناني 8 / 129 و6 / 147.
(4) حديث: " للمملوك طعامه وكسوته ". أخرجه مسلم (3 / 1284 - ط الحلبي) من
حديث أبي هريرة.
(23/25)
بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ
يَمْلِكُ قُوتَهُ (1) . وَلأَِنَّهُ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ نَفَقَةٍ،
وَمَنَافِعُهُ لِسَيِّدِهِ، وَهُوَ أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ فَوَجَبَتْ
عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ.
وَالْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ قَدْرُ كِفَايَتِهِ.
وَسَوَاءٌ أَكَانَ الرَّقِيقُ مُوَافِقًا فِي الدِّينِ لِمَالِكِهِ أَوْ
مُخَالِفًا لَهُ.
وَالسَّيِّدُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَجْعَل نَفَقَتَهُ مِنْ كَسْبِهِ إِنْ
كَانَ لَهُ كَسْبٌ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ كَسْبَهُ أَوْ يَجْعَلَهُ
بِرَسْمِ خِدْمَتِهِ وَيُنْفِقَ السَّيِّدُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؛ لأَِنَّ
الْكُل مَالُهُ.
وَإِنْ كَانَ لِلْمَمْلُوكِ كَسْبٌ أَكْثَرُ مِنْ نَفَقَتِهِ وَجَعَل
السَّيِّدُ نَفَقَتَهُ فِي كَسْبِهِ، فَلِلسَّيِّدِ أَخْذُ الزَّائِدِ عَنْ
نَفَقَتِهِ، وَإِنْ كَانَ كَسْبُهُ لاَ يَكْفِي لِنَفَقَتِهِ فَعَلَى
سَيِّدِهِ إِتْمَامُهَا. وَتَسْقُطُ النَّفَقَةُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ.
وَالْوَاجِبُ مِنَ الإِْطْعَامِ كِفَايَتُهُ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ
وَأُدْمِ مِثْلِهِ بِالْمَعْرُوفِ.
وَالْوَاجِبُ مِنَ الْكِسْوَةِ الْمَعْرُوفُ مِنْ غَالِبِ الْكِسْوَةِ
لأَِمْثَال الْمَمْلُوكِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ.
وَيَجِبُ لَهُ الْغِطَاءُ وَالْوِطَاءُ وَالْمَسْكَنُ وَالْمَاعُونُ. وَلاَ
يَجُوزُ الاِقْتِصَارُ فِي الْكِسْوَةِ عَلَى مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ
وَإِنْ كَانَ لاَ يَتَأَذَّى بِحَرٍّ أَوْ بَرْدٍ.
فَإِنِ امْتَنَعَ السَّيِّدُ مِنَ الإِْنْفَاقِ الْوَاجِبِ لِعُسْرِهِ
__________
(1) حديث: " كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قوته ". أخرجه مسلم (2 /
692 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو.
(23/25)
أَوْ إِبَائِهِ فَطَلَبَ الْمَمْلُوكُ
بَيْعَهُ أُجْبِرَ السَّيِّدُ عَلَى ذَلِكَ، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ
بِأَنَّ الْقَاضِيَ يَبِيعُ مَال السَّيِّدِ فِي نَفَقَةِ رَقِيقِهِ. وَلاَ
يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ عَبِيدِهِ فِي النَّفَقَةِ،
وَلاَ بَيْنَ الْجَوَارِي، بَل يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ
بَعْضُهُنَّ لِلاِسْتِمْتَاعِ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَزِيدَهَا فِي
النَّفَقَةِ (1) . وَهَذَا كُلُّهُ تَفْصِيل الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِذَا مَرِضَ الْمَمْلُوكُ أَوْ
زَمِنَ أَوْ عَمِيَ، وَانْقَطَعَ كَسْبُهُ، فَعَلَى سَيِّدِهِ الإِْنْفَاقُ
عَلَيْهِ، وَالْقِيَامُ بِهِ؛ لأَِنَّ نَفَقَتَهُ تَجِبُ بِالْمِلْكِ لاَ
بِالْعَمَل، وَلِذَا تَجِبُ مَعَ الصِّغَرِ (2) .
وَلاَ تَسْقُطُ نَفَقَةُ الرَّقِيقِ بِإِبَاقِهِ أَوْ عِصْيَانِهِ أَوْ
حَبْسِهِ أَوْ نُشُوزِ الأَْمَةِ (3) .
وَلَوِ امْتَنَعَ السَّيِّدُ عَنِ الإِْنْفَاقِ فَقَدَرَ الْعَبْدُ عَلَى
أَخْذِ قَدْرِ كِفَايَتِهِ مِنْ مَال سَيِّدِهِ فَلَهُ ذَلِكَ (4) .
وَيَلْزَمُ السَّيِّدَ نَفَقَةُ تَجْهِيزِ رَقِيقِهِ إِذَا مَاتَ
وَدَفْنُهُ (5) .
وَتُسْتَحَبُّ مُدَاوَاهُ الرَّقِيقِ إِذَا مَرِضَ وَمَا لَزِمَ مِنْ
أُجْرَةِ الطَّبِيبِ وَثَمَنِ الدَّوَاءِ فَهُوَ عَلَى السَّيِّدِ،
وَيَجِبُ خِتَانُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَخْتُونًا مِنْهُمْ، وَهَذَا عِنْدَ
__________
(1) المغني 7 / 630، 632، وكشاف القناع 5 / 488، والمحلي على المنهاج 4 /
93، وروضة الطالبين 9 / 115 - 118، والزرقاني 4 / 259، 260.
(2) المغني 7 / 631.
(3) كشاف القناع 5 / 488.
(4) كشاف القناع 5 / 489.
(5) كشاف القناع 2 / 104، 5 / 489.
(23/26)
مَنْ قَال بِوُجُوبِ الْخِتَانِ (1) . (ر:
خِتَان)
25 - ثَانِيًا: ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى
السَّيِّدِ إِعْفَافُ مَمَالِيكِهِ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا إِذَا
طَلَبُوا ذَلِكَ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَْيَامَى مِنْكُمْ
وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (2) وَقَال ابْنُ
عَبَّاسٍ. " مَنْ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ فَلَمْ يُزَوِّجْهَا وَلَمْ
يُصِبْهَا، أَوْ عَبْدٌ فَلَمْ يُزَوِّجْهُ فَمَا صَنَعَا مِنْ شَيْءٍ
كَانَ عَلَى السَّيِّدِ فَلَوْلاَ وُجُوبُ إِعْفَافِهِمَا لَمَا لَحِقَ
السَّيِّدَ إِثْمٌ بِفِعْلِهِمَا، وَلأَِنَّ النِّكَاحَ تَدْعُو إِلَيْهِ
الْحَاجَةُ غَالِبًا وَيَتَضَرَّرُ بِفَوَاتِهِ وَيَتَعَرَّضُ بِمَنْعِهِ
مِنْهُ لِلْفِتْنَةِ، فَأُجْبِرَ السَّيِّدُ عَلَيْهِ كَالنَّفَقَةِ،
وَيَكُونُ الإِْعْفَافُ لِلذَّكَرِ بِتَزْوِيجِهِ أَوْ بِتَمْلِيكِهِ
أَمَةً يَتَسَرَّاهَا عَلَى خِلاَفٍ فِي جَوَازِ تَسَرِّيهِ، يَأْتِي
بَيَانُهُ، وَلِلأُْنْثَى بِتَزْوِيجِهَا أَوْ بِوَطْءِ سَيِّدِهَا لَهَا
بِمَا يُغْنِيهَا عَنِ التَّزْوِيجِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ قَضَاءُ
حَاجَتِهَا وَدَفْعُ شَهْوَتِهَا، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ تَزْوِيجُهَا.
وَإِذَا كَانَ لِلْعَبْدِ زَوْجَةٌ فَعَلَى سَيِّدِهِ تَمْكِينُهُ مِنْ
الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا لَيْلاً؛ لأَِنَّ وُجُوبَ الإِْعْفَافِ يَقْتَضِي
الإِْذْنَ فِي الاِسْتِمْتَاعِ الْمُعْتَادِ.
فَإِنِ امْتَنَعَ السَّيِّدُ مِنَ النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ أَوِ
الإِْعْفَافِ الْوَاجِبِ بِمَا تَقَدَّمَ، سَوَاءٌ لِعَجْزِهِ أَوْ
إِبَائِهِ فَطَلَبَ الْعَبْدُ أَوِ الْجَارِيَةُ أَنْ يُبَاعَ، وَجَبَ
عَلَى السَّيِّدِ إِجَابَتُهُ إِلَى ذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ، وَلِحَدِيثِ:
تَقُول الْمَرْأَةُ: إِمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي أَوْ تُطَلِّقَنِي، وَيَقُول
__________
(1) كشاف القناع 5 / 490.
(2) سورة النور / 32.
(23/26)
الْعَبْدُ: أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي،
وَيَقُول الاِبْنُ: أَطْعِمْنِي إِلَى مَنْ تَدَعُنِي وَفِي رِوَايَةٍ:
وَيَقُول خَادِمُكَ أَطْعِمْنِي وَإِلاَّ فَبِعْنِي (1) . فَإِنْ لَمْ
يَفْعَل بَاعَ الْحَاكِمُ مَالَهُ فِي نَفَقَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ
مَالاً أَمَرَهُ بِبَيْعِهِ، أَوْ يُؤَجِّرُهُ أَوْ يَعْتِقُهُ، فَإِنْ
لَمْ يَفْعَل بَاعَهُ الْحَاكِمُ.
وَإِذَا كَانَ السَّيِّدُ يَطَأُ جَارِيَتَهُ فَغَابَ غَيْبَةً لاَ
تُقْطَعُ إِلاَّ بِكُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ فَطَلَبَتِ التَّزْوِيجَ
زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ (2) .
وَلاَ يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَقَارِبِ الرَّقِيقِ
إِعْفَافُهُ، بَل الْحَقُّ عَلَى السَّيِّدِ، وَالأَْصَحُّ
لِلشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ وُجُوبِ إِعْفَافِ السَّيِّدِ رَقِيقَهُ.
وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ كَلاَمًا فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ، وَنَسَبَ صَاحِبُ الْمُغْنِي إِلَيْهِمَا عَدَمَ
الْوُجُوبِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْضْرَارِ الْمَالِيِّ بِالسَّيِّدِ؛
وَلأَِنَّ التَّزْوِيجَ لَيْسَ مِمَّا تَقُومُ بِهِ الْبَيِّنَةُ (3) .
26 - ثَالِثًا: إِذَا طَلَبَ الرَّقِيقُ الْعِتْقَ لَمْ يَلْزَمْ سَيِّدَهُ
أَنْ يُعْتِقَهُ، لَكِنْ إِنْ طَلَبَ الْكِتَابَةَ، وَهِيَ الْعِتْقُ عَلَى
مَالٍ يُؤَدِّيهِ لِسَيِّدِهِ، وَجَبَ عَلَى سَيِّدِهِ أَنْ يُعَاقِدَهُ
عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمْ
__________
(1) المغني 7 / 632، 633، وروضة الطالبين 9 / 119، وفتح الباري 9 / 500،
501. وحديث: " تقول المرأة: إما أن تطعمني أو تطلقني ". أخرجه البخاري
(الفتح 9 / 500 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(2) كشاف القناع 1 / 489، 490.
(3) القليوبي 5 / 271.
(23/27)
عِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ وَمَسْرُوقٌ وَعُمَرُ
وَابْنُ دِينَارٍ وَالضَّحَّاكُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ
يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَال اللَّهِ الَّذِي
آتَاكُمْ} (1) وَرُوِيَ أَنَّ سِيرِينَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ سِيرِينَ
سَأَل أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَهُوَ مَوْلاَهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ، فَأَبَى
أَنَسٌ، فَرَفَعَ عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
الدُّرَّةَ وَتَلاَ: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}
فَكَاتَبَهُ أَنَسٌ.
وَذَهَبَ أَئِمَّةُ الأَْمْصَارِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ غَيْرُ
وَاجِبٍ، قَالُوا: لأَِنَّهَا مُعَاوَضَةٌ فَلاَ تَصِحُّ إِلاَّ عَنْ
تَرَاضٍ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ
يَحِل لاِمْرِئٍ مِنْ مَال أَخِيهِ إِلاَّ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ (2) .
وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ فِي الآْيَةِ الْقُوَّةُ عَلَى الْكَسْبِ
وَالأَْدَاءِ، وَقِيل: الْمُرَادُ الصَّلاَحُ وَالأَْمَانَةُ وَالدِّينُ
(3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل الْكَلاَمِ فِي الْكِتَابَةِ وَأَحْكَامِ الْمُكَاتَبِ
تَحْتَ عُنْوَانِ: (مُكَاتَبَة)
__________
(1) سورة النور / 33.
(2) حديث: " لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه ". أخرجه أحمد
(3 / 423 - ط الميمنية) من حديث عمرو بن يثربي، وأورده الهيثمي في المجمع
(4 / 171 - 172 - ط القدسي) وقال: " رواه أحمد وابنه في زياداته عليه،
والطبراني في الكبير والأوسط، ورجال أحمد ثقات ".
(3) تفسير القرطبي عند الآية 33 من سورة النور، القاهرة، دار الكتب
المصرية، والزرقاني 8 / 148، وكشاف القناع 4 / 540.
(23/27)
الإِْنْفَاقُ عَلَى زَوْجَةِ الرَّقِيقِ
وَوَلَدِهِ:
27 - يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى زَوْجَةِ الرَّقِيقِ
حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً، وَنَفَقَةُ الْجَارِيَةِ الْمُزَوَّجَةِ
عَلَى زَوْجِهَا إِنْ كَانَ حُرًّا، وَعَلَى سَيِّدِ زَوْجِهَا إِنْ كَانَ
رَقِيقًا مَا كَانَتْ مَعَ زَوْجِهَا، وَحَيْثُ عَادَتْ إِلَى سَيِّدِهَا
لِخِدْمَتِهِ يُنْفِقُ عَلَيْهَا مَا كَانَتْ عِنْدَهُ.
وَنَفَقَةُ أَوْلاَدِ الرَّقِيقَةِ عَلَى سَيِّدِهَا وَلَوْ كَانَ
أَبُوهُمْ حُرًّا؛ لأَِنَّهُمْ يَكُونُونَ رَقِيقًا لِلسَّيِّدِ تَبَعًا
لأُِمِّهِمْ، وَنَفَقَةُ أَوْلاَدِ الْحُرَّةِ مِنْ عَبْدٍ عَلَى مَنْ
تَجِبُ عَلَيْهِمْ نَفَقَتُهُمْ مِنَ الأَْقَارِبِ؛ لأَِنَّهُمْ لاَ
يَتْبَعُونَ السَّيِّدَ، بَل يَكُونُونَ أَحْرَارًا، وَمِنَ الأَْقَارِبِ
الأُْمُّ (1) ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي بَحْثِ: (نَفَقَة) .
الرِّفْقُ بِالرَّقِيقِ وَالإِْحْسَانُ إِلَيْهِ:
28 - أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالإِْحْسَانِ إِلَى الرَّقِيقِ فِي
قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ
وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيل وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
(2) . قَال الْقُرْطُبِيُّ: نَدَبَهُمْ إِلَى مَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ،
وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى الإِْحْسَانِ وَإِلَى طَرِيقِ التَّوَاضُعِ،
__________
(1) كشاف القناع 5 / 488.
(2) سورة النساء / 36.
(23/28)
حَتَّى لاَ يَرَوْا لأَِنْفُسِهِمْ
مَزِيَّةً عَلَى عَبِيدِهِمْ إِذِ الْكُل عَبِيدُ اللَّهِ، وَالْمَال مَال
اللَّهِ، لَكِنْ سُخِّرَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَمَلَكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
إِتْمَامًا لِلنِّعْمَةِ، وَتَنْفِيذًا لِلْحِكْمَةِ (1) . وَقَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ
الإِْحْسَانَ عَلَى كُل شَيْءٍ (2) . وَوَرَدَ فِي حَدِيثِ حَجَّةِ
الْوَدَاعِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى
بِهِمْ فَقَال: أَرِقَّاءَكُمْ أَرِقَّاءَكُمْ (3) . وَفِي حَدِيثٍ: قَال:
كَانَ آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ قَال: الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ. اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ (4) .
وَقَدْ بَيَّنَتْ شَرِيعَةُ الإِْسْلاَمِ أَنَّ الرَّقِيقَ وَالأَْحْرَارَ
إِخْوَةٌ، وَأَنَّ الاِخْتِلاَفَ بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ لاَ يَعْنِي
عَدَمَ قِيَامِ هَذِهِ الأُْخُوَّةِ، وَأَمَّا جَعْل الرَّقِيقِ بِيَدِ
سَيِّدِهِ، وَتَمْلِيكُهُ رَقَبَتَهُ فَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْفِتْنَةِ
وَالاِبْتِلاَءِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِيَعْلَمَ مَنْ يَقُومُ بِحَقِّ
ذَلِكَ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً
أَنْ
__________
(1) تفسير القرطبي 5 / 190.
(2) حديث: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء ". أخرجه مسلم (3 / 1548 - ط
الحلبي) من حديث شداد بن أوس.
(3) حديث: " أرقاءكم أرقاءكم ". أخرجه أحمد (4 / 35 - 36 - ط الميمنية) من
حديث يزيد بن جارية، وأورده الهيثمي في المجمع (4 / 236 - ط القدسي) وقال:
" رواه أحمد والطبراني، وفيه عاصم بن عبيد الله، وهو ضعيف ".
(4) حديث: " الصلاة الصلاة، اتقوا لله فيما ملكت أيمانكم ". أخرجه أحمد (1
/ 78 - ط الميمنية) من حديث علي بن أبي طالب، وإسناده صحيح.
(23/28)
يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ
فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} (1) أَيْ
أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ (2) .
وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِخْوَانُكُمْ
خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ (3) وَرُوِيَ أَنَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: حُسْنُ الْمَلَكَةِ يُمْنٌ، وَفِي
رِوَايَةٍ: نَمَاءٌ، وَسُوءُ الْخُلُقِ شُؤْمٌ (4) أَيْ إِذَا أَحْسَنَ
الصَّنِيعَ بِالْمَمَالِيكِ وَمُعَامَلَتَهُمْ فَإِنَّهُمْ يُحْسِنُونَ
خِدْمَتَهُ، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْيُمْنِ وَالْبَرَكَةِ، كَمَا أَنَّ
سُوءَ الْمَلَكَةِ يُؤَدِّي إِلَى الشُّؤْمِ وَالْهَلَكَةِ (5) .
وَالإِْحْسَانُ إِلَى الرَّقِيقِ يَتَضَمَّنُ بِالإِْضَافَةِ إِلَى
الاِلْتِزَامِ بِحُقُوقِهِ الْوَاجِبَةِ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ أُمُورًا،
مِنْهَا:
أ - تَرْكُ ظُلْمِهِ وَالإِْسَاءَةِ إِلَيْهِ:
29 - سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِضَرْبٍ، أَوْ شَتْمٍ، أَوْ تَحْقِيرٍ كَمَا
تَقَدَّمَ، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَْنْصَارِيِّ قَال:
كُنْتُ أَضْرِبُ غُلاَمًا لِي، فَسَمِعْتُ مِنْ خَلْفِي صَوْتًا: اعْلَمْ
أَبَا مَسْعُودٍ - قَال رَاوِي الْحَدِيثِ: مَرَّتَيْنِ - لَلَّهُ أَقْدَرُ
مِنْكَ عَلَيْهِ فَالْتَفَتُّ
__________
(1) سورة النساء / 25.
(2) تفسير القرطبي 5 / 141.
(3) حديث: " إخوانكم خولكم ". تقدم تخريجه ف / 13.
(4) حديث: " حسن الملكة يمن، وسوء الخلق شؤم ". أخرجه أحمد (3 / 502 - ط
الميمنية) وأبو داود (5 / 362 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وأعله المناوي في "
الفيض " (3 / 386 - ط المكتبة التجارية) .
(5) عون المعبود 14 / 71 المدينة المنورة، السلفية.
(23/29)
فَإِذَا هُوَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ: هُوَ حُرٌّ
لِوَجْهِ اللَّهِ. قَال: أَمَا إِنَّكَ لَوْ لَمْ تَفْعَل لَلَفَحَتْكَ
النَّارُ. أَوْ: لَمَسَّتْكَ النَّارُ (1) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لاَ يَدْخُل الْجَنَّةَ سَيِّئُ الْمَلَكَةِ (2) .
ب - الإِْحْسَانُ إِلَى الْعَبْدِ فِي الطَّعَامِ:
30 - وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُجْلِسَهُ مَعَهُ لِيَأْكُل مِنْ طَعَامِهِ إِذَا
أَحْضَرَهُ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ اسْتُحِبَّ أَنْ يُنَاوِلَهُ
مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي عَالَجَ الطَّعَامَ تَأَكَّدَ
الاِسْتِحْبَابُ، وَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي هَذَا الْحَال إِلَى
الْوُجُوبِ فِي قَوْلٍ، وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ
مِمَّا يَطْعَمُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ (3) . وَقَوْلِهِ: إِذَا
أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامٍ فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ
فَلْيُنَاوِلْهُ أَكْلَةً أَوْ أَكْلَتَيْنِ، أَوْ لُقْمَةً أَوْ
لُقْمَتَيْنِ، فَإِنَّهُ وَلِيَ حَرَّهُ وَعِلاَجَهُ (4) . وَفِي رِوَايَةٍ
إِذَا كَفَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ صَنْعَةَ
__________
(1) حديث: " اعلم أبا مسعود لله أقدر منك عليه ". أخرجه مسلم (3 / 1281 - ط
الحلبي) .
(2) حديث: " لا يدخل الجنة سيئ الملكة ". أخرجه الترمذي (4 / 334 - ط
الحلبي) من حديث أبي بكر الصديق، وقال: " هذا حديث غريب، وقد تكلم أيوب
السختياني وغير واحد في فرقد السبخي من قبل حفظه " وكذا ضعفه المناوي في "
الفيض " (6 / 449 - ط المكتبة التجارية) .
(3) حديث: " من كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم وليلبسه مما يلبس ".
تقدم تخريجه ف / 13.
(4) حديث: " إذا أتى أحدكم خادمه ". أخرجه البخاري (الفتح - 9 / 581 - ط
السلفية) من حديث أبي هريرة.
(23/29)
طَعَامِهِ وَكَفَاهُ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ
فَلْيُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيَأْكُل، فَإِنْ أَبَى فَلْيَأْخُذْ لُقْمَةً
فَلْيُرَوِّغْهَا ثُمَّ لِيُعْطِهَا إِيَّاهُ (1) .
قَال النَّوَوِيُّ: التَّرْوِيغُ أَنْ يَرْوِيَهَا دَسَمًا.
قَال: وَلْيَكُنْ مَا يُنَاوِلُهُ لُقْمَةً كَبِيرَةً تَسُدُّ مَسَدًّا،
لاَ صَغِيرَةً تُهَيِّجُ الشَّهْوَةَ وَلاَ تَقْضِي النَّهْمَةَ (2) .
ج - الإِْحْسَانُ إِلَى الْعَبْدِ فِي الْمَلْبَسِ:
31 - وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَجْعَل لِبَاسَ عَبْدِهِ مِثْل مَلاَبِسِهِ هُوَ
فِي الْجَوْدَةِ، فَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَفِيهِ:
وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ.
د - أَنْ يَبِيعَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُلاَءَمَةِ:
32 - إِذَا سَاءَ الأَْمْرُ بَيْنَ الرَّقِيقِ وَسَيِّدِهِ يَنْبَغِي
لِلسَّيِّدِ أَنْ يَبِيعَهُ لِئَلاَّ يَسْتَمِرَّ أَذَاهُ. قَال ابْنُ
تَيْمِيَّةَ: لَوْ لَمْ تُلاَئِمْ أَخْلاَقُ الْعَبْدِ أَخْلاَقَ
سَيِّدِهِ، لَزِمَهُ إِخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ، لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي
ذَرٍّ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
لاَءَمَكُمْ مِنْ مَمْلُوكِيكُمْ فَأَطْعِمُوهُ مِمَّا تَأْكُلُونَ،
وَاكْسُوهُ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَمَنْ لَمْ يُلاَئِمْكُمْ مِنْهُمْ
فَبِيعُوهُ، وَلاَ تُعَذِّبُوا خَلْقَ اللَّهِ (3) .
__________
(1) حديث: " إذا كفى أحدكم خادمه صنعة طعامه ". أخرجه أحمد (2 / 299 - ط
الميمنية) من حديث أبي هريرة، وإسناده صحيح.
(2) روضة الطالبين 9 / 116، 117، والمغني 7 / 630، وكشاف القناع 5 / 489.
(3) حديث: " من لاءمكم من مملوكيكم ". أخرجه أبو داود (5 / 361 - تحقيق عزت
عبيد دعاس) وإسناده صحيح وانظر عون المعبود 14 / 67، وكشاف القناع 5 / 491.
(23/30)
وَجَاءَ فِي الْمُغْنِي: إِنْ طَلَبَ
الرَّقِيقُ الْبَيْعَ وَالسَّيِّدُ قَدْ وَفَّى بِحُقُوقِهِ لَمْ يُجْبَرِ
السَّيِّدُ عَلَيْهِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. قَال أَبُو دَاوُدَ: قِيل
لأَِحْمَدَ: اسْتَبَاعَتِ الْمَمْلُوكَةُ وَهُوَ يَكْسُوهَا مِمَّا
يَلْبَسُ وَيُطْعِمُهَا مِمَّا يَأْكُل؟ قَال: لاَ تُبَاعُ وَإِنْ
أَكْثَرَتْ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ تَحْتَاجَ إِلَى زَوْجٍ فَتَقُول:
زَوِّجْنِي.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: بِهَذَا قَال عَطَاءٌ وَإِسْحَاقُ فِي الْعَبْدِ
يُحْسِنُ إِلَيْهِ سَيِّدُهُ وَهُوَ يَسْتَبِيعُ: لاَ يَبِيعُهُ، لأَِنَّ
الْمِلْكَ لِلسَّيِّدِ وَالْحَقَّ لَهُ، فَلاَ يُجْبَرُ عَلَى إِزَالَتِهِ
مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِالْعَبْدِ، كَمَا لاَ يُجْبَرُ عَلَى طَلاَقِ
امْرَأَتِهِ مَعَ الْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ لَهَا، وَلاَ عَلَى بَيْعِ
بَهِيمَتِهِ مَعَ الإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا (1) .
هـ - أَنْ يُحْسِنَ اسْمَهُ:
33 - لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ نَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُسَمِّيَ رَقِيقَنَا بِأَرْبَعَةِ أَسْمَاءٍ:
أَفْلَحَ، وَرَبَاحٍ، وَيَسَارٍ، وَنَافِعٍ. . (2)
وَأَنْ يُحْسِنَ فِي مُخَاطَبَتِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ لاَ يُكَلِّفَهُ
مُنَادَاتَهُ بِنَحْوِ " رَبِّي " بَل يَقُول: سَيِّدِي " وَلاَ يَنْبَغِي
أَنْ يَدْعُوَهُ السَّيِّدُ بِلَفْظِ " يَا عَبْدِي " " وَيَا أَمَتِي "
بَل يَقُول: يَا فَتَايَ
__________
(1) المغني 7 / 633.
(2) حديث: " نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نسمي رقيقنا بأربعة أسماء "
أخرجه مسلم (3 / 1685 - ط الحلبي) من حديث سمرة بن جندب.
(23/30)
وَيَا فَتَاتِي " وَنَحْوَ ذَلِكَ، لِمَا
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَقُل أَحَدُكُمْ أَطْعِمْ رَبَّكَ. وَضِّئْ رَبَّكَ.
وَلْيَقُل: سَيِّدِي مَوْلاَيَ. وَلاَ يَقُل أَحَدُكُمْ: عَبْدِي، أَمَتِي،
وَلْيَقُل: غُلاَمِي وَفَتَايَ وَفَتَاتِي (1) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
وَبَوَّبَ لَهُ " بَابَ كَرَاهَةِ التَّطَاوُل عَلَى الرَّقِيقِ "،
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَزَادَ فِي آخِرِهِ وَجَارِيَتِي
قَال ابْنُ حَجَرٍ: أَرْشَدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَا
يُؤَدِّي الْمَعْنَى مَعَ السَّلاَمَةِ مِنَ التَّعَاظُمِ، لأَِنَّ لَفْظَ
الْفَتَى وَالْغُلاَمِ لَيْسَ دَالًّا عَلَى مَحْضِ الْمِلْكِ كَدَلاَلَةِ
الْعَبْدِ، فَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَال الْفَتَى فِي الْحُرِّ، وَكَذَلِكَ
الْغُلاَمُ وَالْجَارِيَةُ (2) .
و أَنْ يُحْسِنَ أَدَبَهُ وَتَعْلِيمَهُ:
34 - رَوَى أَبُو مُوسَى الأَْشْعَرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ عِنْدَهُ وَلِيدَةٌ
فَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ
تَأْدِيبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا كَانَ لَهُ أَجْرَانِ (3)
السُّلْطَانُ وَرِعَايَةُ الرَّقِيقِ:
35 - عَلَى السُّلْطَانِ رِعَايَةُ الرَّقِيقِ، وَمِنْ ذَلِكَ إِذَا
__________
(1) حديث: " لا يقل أحدكم: أطعم ربك ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 117 - ط
السلفية) ، ومسلم (4 / 1765 - ط الحلبي) وأخرجه مسلم (4 / 1764) بالرواية
الأخرى.
(2) فتح الباري 5 / 180.
(3) حديث: " أيما رجل كانت عنده وليدة ". أخرجه البخاري (الفتح9 / 126 - ط
السلفية) ومسلم (1 / 135 - ط الحلبي) واللفظ للبخاري.
(23/31)
كَانَ السَّيِّدُ يُلْزِمُ رَقِيقَهُ
بِخَرَاجٍ لاَ يُطِيقُهُ، مَنَعَهُ السُّلْطَانُ (1) . وَكَذَلِكَ إِنْ
كَانَ يُكَلِّفُهُ بِعَمَلٍ لاَ يُطِيقُهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْل عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
كَانَ يَخْرُجُ كُل سَبْتٍ إِلَى الْعَوَالِي فَإِذَا وَجَدَ عَبْدًا فِي
عَمَلٍ لاَ يُطِيقُهُ وَضَعَ عَنْهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ إِذَا عَذَّبَ السَّيِّدُ رَقِيقَهُ، أَوِ ارْتَكَبَ فِي
حَقِّهِ مَا لاَ يَحِل لَهُ مِنْ مُثْلَةٍ، أَوْ جَرْحٍ أَوْ قَطْعٍ،
أَلْزَمَهُ بِتَحْرِيرِهِ فِيمَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ التَّحْرِيرَ، أَوْ
دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَكُنِ التَّحْرِيرُ وَاجِبًا، كَمَا
تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ذَلِكَ.
وَلِلسُّلْطَانِ تَعْزِيرُ السَّيِّدِ فِي تِلْكَ الْحَال بِقَوْلٍ أَوْ
فِعْلٍ، عَلَى الْقَاعِدَةِ فِي التَّعْزِيرِ.
وَإِذَا قَذَفَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ كَانَ لِلْعَبْدِ رَفْعُهُ إِلَى
الْحَاكِمِ لِيُعَزِّرَهُ، قَال النَّوَوِيُّ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ،
وَقِيل: لَيْسَ لَهُ طَلَبُ التَّعْزِيرِ مِنْ سَيِّدِهِ (2) .
وَإِذَا كَانَ السَّيِّدُ لاَ يُنْفِقُ عَلَى عَبِيدِهِ، أَوْ يُنْفِقُ
عَلَيْهِمْ نَفَقَةً لاَ تَكْفِيهِمْ أَلْزَمَهُ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ،
وَكَذَا إِذَا أَبَى تَزْوِيجَهُمْ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَإِنْ
أَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِتَزْوِيجِهِمْ فَأَبَى، يُزَوِّجُهُمُ
السُّلْطَانُ (3) .
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 119.
(2) روضة الطالبين 8 / 327.
(3) روضة الطالبين 7 / 102.
(23/31)
تَصَرُّفَاتُ الْمَالِكِ فِي رَقِيقِهِ:
36 - الرَّقِيقُ مِنْ جُمْلَةِ مَال السَّيِّدِ فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ
فِيهِمْ كَمَا يَتَصَرَّفُ فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِ بِالْبَيْعِ
وَالشِّرَاءِ وَالإِْجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالْهِبَةِ وَالإِْعَارَةِ،
وَلَهُ أَنْ يَجْعَل الْعَبْدَ أَوِ الأَْمَةَ ثَمَنًا فِي بَيْعٍ، أَوْ
عِوَضًا فِي الإِْجَارَةِ، أَوْ مَهْرًا لِزَوْجَتِهِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ
مِنْ وُجُوهِ التَّصَرُّفِ.
إِلاَّ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الرَّقِيقِ لَهُ خُصُوصِيَّاتٌ يَقْتَضِيهَا
وَضْعُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِنْسَانٌ، وَمِنْ حَيْثُ هُوَ مُسْلِمٌ، أَوْ
كَافِرٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ هَذِهِ الْخُصُوصِيَّاتِ:
أَوَّلاً: الْبَيْعُ (1) :
بَيْعُ الْعَبْدِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ:
37 - اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَاعِدَةِ فَسَادِ الشَّرْطِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ
مُقْتَضَى عَقْدِ الْبَيْعِ وَلاَ مَصْلَحَتِهِ، فَإِنَّ الْبَائِعَ إِذَا
اشْتَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَعْتِقَ الرَّقِيقَ الَّذِي بَاعَهُ
إِيَّاهُ، فَالشَّرْطُ الْمَذْكُورُ صَحِيحٌ عِنْدَ مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَوْل الْمَشْهُورِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ
أَحْمَدَ، وَاحْتَجَّ لِهَذَا الْقَوْل بِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ وَشَرَطَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا عِتْقَهَا
وَوَلاَءَهَا، فَأَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
شَرْطَ الْوَلاَءِ دُونَ شَرْطِ
__________
(1) يذكر أصحاب كتب القضاء وكتب الشروط ما يراعى عند كتابة عقد بيع الرقيق.
انظر مثلاً أدب القضاء لابن أبي الدم الشافعي ص 301 - 304 و484 نشر جامعة
دمشق (د. ت) وكتاب جواهر العقود للمنهاجي الأسيوطي.
(23/32)
الْعِتْقِ (1) .
ثُمَّ إِنْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي فَقَدْ وَفَّى بِمَا شُرِطَ عَلَيْهِ،
وَإِنْ لَمْ يَعْتِقْهُ فَقِيل: يُجْبَرُ عَلَيْهِ، وَقِيل: لاَ يُجْبَرُ،
وَلَكِنْ يَكُونُ لِلْبَائِعِ الْفَسْخُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ رَهْنًا فَلَمْ
يُسَلِّمْ لَهُ.
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَيْعَ يَكُونُ فَاسِدًا، عَلَى
أَصْلِهِ فِي فَسَادِ الْبَيْعِ بِالشَّرْطِ، لَكِنْ إِنْ أَعْتَقَهُ
الْمُشْتَرِي بَعْدَمَا اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْعِتْقِ يَصِحُّ الْبَيْعُ
حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَال
صَاحِبَاهُ: يَبْقَى فَاسِدًا حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ؛ لأَِنَّ
الْبَيْعَ وَقَعَ فَاسِدًا، فَلاَ يَنْقَلِبُ جَائِزًا.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ يَصِحُّ الْبَيْعُ وَيَفْسُدُ الشَّرْطُ،
وَهُوَ مُقْتَضَى مَا نُقِل عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى (2) .
بَيْعُ الْعَبِيدِ أَوْ شِرَاؤُهُمْ سَلَمًا، أَوْ فِي الذِّمَّةِ:
38 - يَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بَيْعُ الرَّقِيقِ سَلَمًا لإِِمْكَانِ
الضَّبْطِ بِالأَْوْصَافِ الْمَشْرُوطَةِ فِي السَّلَمِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ
إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ السَّلَمُ فِي الرَّقِيقِ؛ لأَِنَّهُ يَخْتَلِفُ
__________
(1) حديث عائشة: " أنها اشترت بريرة ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 185 - ط
السلفية) .
(2) المغني 4 / 226، وروضة الطالبين 3 / 401، وجواهر الإكليل 2 / 25،
والهداية مع فتح القدير 5 / 214، 217.
(23/32)
اخْتِلاَفًا فَاحِشًا بِالْمَعَانِي
الْبَاطِنَةِ، فَلاَ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ، فَيُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ
(1) .
التَّفْرِيقُ فِي الْبَيْعِ بَيْنَ الأَْقَارِبِ:
39 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلسَّيِّدِ فِي
الْبَيْعِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ ذَوِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، كَالتَّفْرِيقِ
بَيْنَ عَبْدٍ وَأُمِّهِ، أَوِ ابْنِهِ، أَوْ بِنْتِهِ، أَوْ عَمِّهِ، أَوْ
عَمَّتِهِ، أَوْ خَالِهِ، أَوْ خَالَتِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ الْمَذْكُورُ
بَيْنَ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ.
وَاحْتَجَّ الْفَرِيقَانِ بِمَا رَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَمَرَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ أَبِيعَ غُلاَمَيْنِ أَخَوَيْنِ، فَبِعْتُهُمَا فَفَرَّقْتُ
بَيْنَهُمَا. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَال: أَدْرِكْهُمَا فَارْتَجِعْهُمَا، وَلاَ تَبِعْهُمَا
إِلاَّ جَمِيعًا، وَفِي رِوَايَةٍ رُدَّهُ رُدَّهُ (2) . وَعَنْ أَبِي
مُوسَى مَرْفُوعًا لَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ
وَوَلَدِهَا، وَالأَْخِ وَأَخِيهِ (3) .
__________
(1) المغني 4 / 282، وفتح القدير 5 / 327، وشرح المحلي على المنهاج 2 /
252، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 200 - 204، وروضة الطالبين 4 / 19.
(2) حديث: " أدركهما فارتجعهما، ولا تبعهما إلا جميعًا ". أخرجه أحمد (1 /
97 - 98 - ط الميمنية) وأورده الهيثمي في المجمع (4 / 107 - ط القدسي)
وقال: " رجاله رجال الصحيح "، والرواية الأخرى أخرجها الترمذي (3 / 572 - ط
الحلبي) .
(3) حديث: " لعن الله من فرق بين الوالدة وولدها، والأخ وأخيه ". أخرجه ابن
ماجه (2 / 756 - ط الحلبي) ، ونقل المناوي في الفيض (5 / 275 - ط المكتبة)
عن الذهبي أنه قال: " فيه إبراهيم بن إسماعيل ضعفوه ".
(23/33)
قَالُوا: وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي
الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا وَالأَْخِ وَأَخِيهِ فَيُقَاسُ عَلَيْهِمَا
سَائِرُ الْقَرَابَاتِ ذَاتِ الْمَحْرَمِ مِنْ بَابِ قِيَاسِ الدَّلاَلَةِ.
وَلأَِنَّ الصَّغِيرَ يَسْتَأْنِسُ بِالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ،
وَالْكَبِيرَ يَتَعَاهَدُهُ، وَفِي التَّفْرِيقِ قَطْعُ الْمَرْحَمَةِ
عَلَى الصِّغَارِ، وَلاَ يَدْخُل فِي التَّحْرِيمِ أَوِ الْكَرَاهَةِ
التَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ
التَّفْرِيقُ بَيْنَ الأُْمِّ وَوَلَدِهَا لِحَدِيثِ " مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ
الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ (1) " وَحَدِيثِ لاَ تُوَلَّهُ وَالِدَةٌ عَنْ
وَلَدِهَا (2) .
وَالْمُحَرَّمُ عِنْدَهُمُ التَّفْرِيقُ بِمُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ وَجَعْل
أَحَدِهِمَا عِوَضًا فِي الإِْجَارَةِ وَهِبَةِ الثَّوَابِ، وَمَا
بِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ كَالْقِسْمَةِ، لاَ فِي غَيْرِ الْمُعَاوَضَةِ
كَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ الْمَحْضَةِ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّ
الْحَقَّ لِلأُْمِّ، فَإِنْ رَضِيَتْ بِالتَّفْرِيقِ جَازَ. وَسَوَاءٌ
أَخْتَلَفَ دِينُ الأُْمِّ وَابْنِهَا، أَمِ اتَّفَقَ.
__________
(1) حديث: " من فرق بين الوالدة وولدها فرق الله بينه. . " أخرجه الترمذي
(3 / 511 - ط الحلبي) من حديث أبي أيوب وحسنه.
(2) حديث: " لا توله والدة عن ولدها ". أخرجه البيهقي (8 / 5 - ط دائرة
المعارف العثمانية) من حديث أبي بكر، وضعفه ابن حجر في التلخيص (3 / 15 - ط
دائرة المعارف العثمانية) .
(23/33)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ
يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا بِالْبَيْعِ
وَالْقِسْمَةِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا، وَلاَ يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ فِي
الْعِتْقِ وَالْوَصِيَّةِ. قَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَيَلْحَقُ بِالأُْمِّ
الأَْبُ وَالْجَدُّ وَالْجَدَّةُ وَإِنْ عَلَوْا وَلَوْ مِنْ جِهَةِ
الأُْمِّ، وَلاَ يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ بَقِيَّةِ الْمَحَارِمِ.
وَفِي قَوْلٍ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ فِي بَابِ الْجِهَادِ:
لاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَسَائِرِ الْمَحَارِمِ (1) .
هَذَا وَإِنَّ حُكْمَ التَّفْرِيقِ الْمُتَقَدِّمِ يَسْتَمِرُّ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
مَا دَامَ كِلاَهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا دُونَ الْبُلُوغِ، وَعِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ إِلَى سِنِّ التَّمْيِيزِ كَسَبْعٍ أَوْ
ثَمَانٍ، فَإِنْ زَادَ كِلاَهُمَا عَنْ ذَلِكَ جَازَ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ
سَلَمَةَ بْنَ الأَْكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَى أَبَا بَكْرٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِامْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا، فَنَفَلَهُ أَبُو بَكْرٍ
ابْنَتَهَا، فَاسْتَوْهَبَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَوَهَبَهَا لَهُ (2) .
وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ أَهْدَى الْمُقَوْقِسُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَارِيَةَ وَأُخْتَهَا سِيرِينَ، فَأَعْطَى
سِيرِينَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَتَرَكَ مَارِيَةَ لِنَفْسِهِ (3) .
وَلأَِنَّهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ يَصِيرُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ.
__________
(1) المغني 4 / 266، والهداية وشروحها 5 / 241، 242 - 245، وكفاية الطالب
الرباني، والروضة للنووي 4 / 415 و10 / 258.
(2) حديث سلمة بن الأكوع: " أنه أتى أبا بكر بامرأة وابنتها ". أخرجه مسلم
(3 / 1376 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " أهدى المقوقس إلى النبي صلى الله عليه وسلم مارية ". ذكره ابن
سعد في الطبقات (8 / 214 - ط دار صادر) من حديث الزهري مرسلاً.
(23/34)
وَالْعَادَةُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ
الأَْحْرَارِ، فَالْمَرْأَةُ تُزَوِّجُ ابْنَتَهَا.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَسْتَمِرُّ إِلَى أَنْ يُثْغِرَ الصَّغِيرُ،
أَيْ تَنْبُتَ أَسْنَانُهُ بَعْدَ سُقُوطِ الرَّوَاضِعِ، فَإِنْ أَثْغَرَ
جَازَ التَّفْرِيقُ لاِسْتِغْنَائِهِ عَنْ أُمِّهِ فِي أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ
وَمَنَامِهِ وَقِيَامِهِ (1) .
حُكْمُ الْبَيْعِ الَّذِي حَصَل بِهِ التَّفْرِيقُ:
40 - الْبَيْعُ الَّذِي فُرِّقَ بِهِ بَيْنَ الأُْمِّ وَوَلَدِهَا أَوْ
غَيْرِهِ مِنَ التَّفْرِيقِ الْمُحَرَّمِ، عَلَى الْخِلاَفِ السَّابِقِ،
إِذَا وَقَعَ يَكُونُ فَاسِدًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ قَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ حِينَ فَرَّقَ
بَيْنَ أَخَوَيْنِ بِالْبَيْعِ: اذْهَبْ فَارْتَجِعْهُمَا وَإِنَّمَا
يَجِبُ الاِرْتِجَاعُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَفْسُدُ، لأَِنَّ النَّهْيَ فِي أَمْرٍ
خَارِجٍ عَنْ صُلْبِ الْعَقْدِ وَشَرَائِطِهِ، فَيُكْرَهُ الْعَقْدُ
عِنْدَهُمْ وَيَصِحُّ (2) .
رَدُّ الرَّقِيقِ فِي الْبَيْعِ بِالْعَيْبِ:
41 - الْعُيُوبُ هِيَ النَّقَائِصُ الْمُوجِبَةُ لِنَقْصِ الْمَالِيَّةِ
فِي عَادَاتِ التُّجَّارِ، وَالْمَرْجِعُ فِي مَا أُشْكِل مِنْهُ
__________
(1) المغني 4 / 266، وفتح القدير 5 / 245، وكفاية الطالب وحاشية العدوي 2 /
147.
(2) فتح القدير 6 / 244، والروضة 10 / 258.
(23/34)
عُرْفُ أَهْلِهِ، وَيُرَدُّ الرَّقِيقُ
بِعُيُوبٍ مُعَيَّنَةٍ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةً عِنْدَ الْعَقْدِ،
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُطَوَّلاَتِ (1) .
حُكْمُ مَال الرَّقِيقِ إِذَا بِيعَ:
42 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا بِيعَ الرَّقِيقُ
وَلَهُ مَالٌ مَلَّكَهُ إِيَّاهُ مَوْلاَهُ أَوْ خَصَّهُ بِهِ، وَلَمْ
يَشْتَرِطْ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ أَنَّ الْمَال لِلْمُشْتَرِي، فَإِنَّهُ
يَكُونُ لِلْبَائِعِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ
إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ (2) وَلأَِنَّ الْعَبْدَ وَمَالَهُ
لِلسَّيِّدِ، فَإِذَا بَاعَ الْعَبْدَ اخْتَصَّ الْبَيْعُ بِهِ دُونَ
مَالِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ عَبْدَانِ، فَبَاعَ أَحَدَهُمَا لَمْ
يَتَنَاوَل الْبَيْعُ الْعَبْدَ الثَّانِيَ.
ثُمَّ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي خِلاَفِ
الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ: إِلَى أَنَّهُ إِنِ اشْتَرَطَ الْمُشْتَرِي مَال
الْعَبْدِ صَحَّ، وَيَكُونُ الْمَال لَهُ، لِمَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ
الذِّكْرِ، وَلاَ يَصِحُّ ذَلِكَ إِلاَّ إِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ شِرَاءَ
الْعَبْدِ وَالرَّغْبَةَ فِيهِ، وَأَنَّ الْمَال تَبَعٌ، وَإِنَّمَا قَصَدَ
بَقَاءَ الْمَال لِلْعَبْدِ وَإِقْرَارَهُ فِي يَدِهِ،
__________
(1) المغني 4 / 152 - 154، والزرقاني 5 / 127 - 130 وروضة الطالبين 3 / 460
- 462، وفتح القدير 5 / 152 - 157.
(2) حديث: " من ابتاع عبدًا وله مال فماله للذي باعه إلا. . . " أخرجه
البخاري (الفتح 5 / 49 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1173 - ط الحلبي) من حديث
ابن عمر.
(23/35)
وَحِينَئِذٍ يُغْتَفَرُ فِي الْمَال
الْجَهَالَةُ، وَيُغْتَفَرُ كَوْنُهُ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ وَلَوْ كَانَ
أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ؛ لأَِنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَصِحُّ تَبَعًا وَلَوْ
كَانَ لاَ يَصِحُّ اسْتِقْلاَلاً، كَالتَّمْوِيهِ بِالذَّهَبِ فِي سَقْفِ
بَيْتٍ بِيعَ بِذَهَبٍ. فَإِنْ كَانَ الْمَال هُوَ الْمَقْصُودُ اشْتُرِطَ
الْعِلْمُ بِهِ، وَسَائِرُ شُرُوطِ الْبَيْعِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ
لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَشْتَرِطَ مَال الْعَبْدِ إِلاَّ أَنْ تَتَحَقَّقَ
شُرُوطُ الْبَيْعِ؛ لأَِنَّهُ مَبِيعٌ آخَرُ، فَاشْتُرِطَ فِيهِ مَا
يُشْتَرَطُ فِي سَائِرِ الْمَبِيعَاتِ (1) .
وَهَذَا كُلُّهُ يَجْرِي أَيْضًا فِي حُلِيِّ الْجَارِيَةِ الَّتِي
تَلْبَسُهَا، وَمَا قَدْ يَكُونُ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى الْعَبْدِ مِنَ
الثِّيَابِ الَّتِي تُرَادُ لِلْجَمَال. أَمَّا الثِّيَابُ الْمُعْتَادَةُ
مِمَّا كَانَ يَلْبَسُهُ عِنْدَ الْبَائِعِ لِلْبِذْلَةِ وَالْخِدْمَةِ
فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي
الأَْصَحِّ: لاَ يَدْخُل فِي الْبَيْعِ شَيْءٌ مِنَ الثِّيَابِ إِلاَّ
بِالشَّرْطِ (2) .
رَهْنُ الرَّقِيقِ:
43 - يَجُوزُ لِسَيِّدِ الرَّقِيقِ ارْتِهَانُهُ بِحَقٍّ عَلَيْهِ، ذَكَرًا
كَانَ الرَّقِيقُ أَوْ أُنْثَى. وَلَوْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ فَيَجُوزُ
رَهْنُهَا دُونَ وَلَدِهَا، أَوْ مَعَهُ؛ لأَِنَّ الرَّهْنَ لاَ يُزِيل
الْمِلْكَ، فَإِنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى بَيْعِهَا فِي الدَّيْنِ بِيعَ
وَلَدُهَا
__________
(1) المغني 4 / 172، وروضة الطالبين 3 / 546.
(2) المغني 4 / 174، وروضة الطالبين 3 / 547.
(23/35)
مَعَهَا؛ لأَِنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا
حَرَامٌ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا بِيعَا تَعَلَّقَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ
بِمَا يَخُصُّ الأُْمَّ مِنَ الثَّمَنِ (1) .
- وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْمَرْهُونِ بِغَيْرِ إِذْنِ
الْمُرْتَهِنِ، كَالْبَيْعِ، أَوِ الإِْجَارَةِ، أَوِ الْهِبَةِ، أَوِ
الْوَقْفِ، أَوِ الرَّهْنِ. وَإِنْ تَصَرَّفَ يَكُونُ تَصَرُّفُهُ
بَاطِلاً. وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ، فَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ عِتْقُ الْعَبْدِ
الْمَرْهُونِ؛ لأَِنَّهُ يُبْطِل الْوَثِيقَةَ مِنْهُ، لَكِنْ إِنْ
أَعْتَقَهُ نَفَذَ الْعِتْقُ إِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُوسِرًا، وَهُوَ قَوْل
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَخَالَفَ عَطَاءٌ وَالْبَتِّيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ
وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ الثَّلاَثَةِ، فَقَالُوا: لاَ
يَنْفُذُ الْعِتْقُ وَلَوْ كَانَ الرَّاهِنُ مُوسِرًا.
وَعِنْدَ مَنْ قَال بِنَفَاذِهِ يُؤْخَذُ مِنَ الرَّاهِنِ قِيمَتُهُ
فَتَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ.
وَأَمَّا الْمُعْسِرُ فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ، ثُمَّ قَال
الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: إِنْ أَيْسَر قَبْل حُلُول الْحَقِّ أُخِذَتْ
مِنْهُ الْقِيمَةُ فَجُعِلَتْ رَهْنًا، وَإِنْ أَيْسَر بَعْدَ حُلُولِهِ
طُولِبَ بِأَصْل الدَّيْنِ.
قَال أَبُو حَنِيفَةَ: يُسْتَسْعَى الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ فِي قِيمَتِهِ،
فَإِذَا أَدَّاهَا جُعِلَتْ رَهْنًا، وَيَرْجِعُ الْعَتِيقُ عَلَى
الرَّاهِنِ.
وَقَال مَالِكٌ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ - قَال النَّوَوِيُّ: هُوَ
الأَْظْهَرُ - وَرِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ:
__________
(1) المغني 4 / 341، وروضة الطالبين 4 / 40، 42.
(23/36)
لاَ يَنْفُذُ عِتْقُ الْمُعْسِرِ؛
لأَِنَّهُ بِالْعِتْقِ يَسْقُطُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ مِنَ الْوَثِيقَةِ
وَمِنْ بَدَلِهَا، فَيَمْتَنِعُ نَفَاذُهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْضْرَارِ
بِالْمُرْتَهِنِ (1) . وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنْ أَيْسَر فِي
الأَْجَل أَخَذَ مِنَ الرَّاهِنِ الدَّيْنَ وَنَفَذَ الْعِتْقُ، وَإِلاَّ
بِيعَ مِنَ الْعَبْدِ مِقْدَارُ مَا يَفِي بِالدَّيْنِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ
بَيْعُ بَعْضِهِ بِيعَ كُلُّهُ وَالْبَاقِي لِلرَّاهِنِ.
وَفِي رَهْنِ الرَّقِيقِ تَفْصِيلٌ وَتَفْرِيعٌ يُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهِ
(2) .
الإِْيصَاءُ بِالرَّقِيقِ، أَوْ بِمَنَافِعِهِ:
44 - تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِالرَّقِيقِ، وَتَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ
الْوَصِيَّةِ (ر: وَصِيَّة) .
وَيَجُوزُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُوصِيَ بِمَنَافِعِ
الرَّقِيقِ، سَوَاءٌ وَصَّى بِذَلِكَ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، أَوْ فِي
الزَّمَانِ كُلِّهِ. وَذَلِكَ لأَِنَّهُ يَصِحُّ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ
بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، فَيَصِحُّ بِالْوَصِيَّةِ، كَالأَْعْيَانِ.
وَإِذَا أَطْلَقَ كَانَ ذَلِكَ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَإِنْ خَصَّ نَوْعًا
مِنَ الْمَنَافِعِ اخْتُصَّ بِهَا وَحْدَهُ، كَالْخِدْمَةِ، أَوِ
الْكِتَابَةِ.
وَنُقِل عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى الْقَوْل بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ،
__________
(1) المغني 4 / 361 - 363، وروضة الطالبين 4 / 76، والهداية مع تكملة فتح
القدير 8 / 208، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 248.
(2) المغني 4 / 369، وروضة الطالبين 4 / 104، وتكملة فتح القدير على
الهداية 8 / 237، والدسوقي على الشرح الكبير 3 / 257.
(23/36)
لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ مَعْدُومَةٌ حِينَ
الإِْيصَاءِ، وَالْوَصِيَّةَ بِالْمَنْفَعَةِ تَمْلِيكٌ لِلْمَنَافِعِ
بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَيْسَتْ مُجَرَّدَ تَمْلِيكِ انْتِفَاعٍ. فَإِنْ مَاتَ
الْمُوصَى لَهُ انْتَقَل الْحَقُّ فِيهَا لِلْوَارِثِ، وَيُعْتَبَرُ
خُرُوجُ الْمَنْفَعَةِ مِنَ الثُّلُثِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ لِرَجُلٍ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ، وَلآِخَرَ
بِنَفْعِهِ (1) .
وَنَفَقَةُ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِنَفْعِهِ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ: تَكُونُ عَلَى مَالِكِ
الرَّقَبَةِ، قِيَاسًا عَلَى الْعَبْدِ الَّذِي لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ،
وَعَلَى الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجِرِ؛ وَلأَِنَّ فِطْرَتَهُ عَلَى مَالِكِهِ
فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ
نَفَقَتَهُ عَلَى مَالِكِ الْمَنْفَعَةِ، قِيَاسًا عَلَى الأَْمَةِ
الْمُزَوَّجَةِ، فَإِنَّ نَفَقَتَهَا عَلَى الزَّوْجِ لاَ عَلَى
السَّيِّدِ، وَلأَِنَّ النَّفْعَ لَهُ، فَكَانَ الضَّرَرُ عَلَيْهِ،
وَإِلاَّ كَانَ ضِرَارًا وَفِي الْحَدِيثِ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ. (2)
وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كُلُّهُ فِي نَفَقَةِ الْمُوصَى بِنَفْعِهِ
عَلَى التَّأْبِيدِ، أَمَّا إِنْ كَانَ لِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ فَنَفَقَتُهُ
عَلَى الْوَارِثِ قَوْلاً وَاحِدًا، قَال النَّوَوِيُّ: قِيَاسًا عَلَى
الْمُسْتَأْجِرِ.
__________
(1) المغني 6 / 59، 62، وروضة الطالبين 6 / 117، 186 - 188، والزرقاني 8 /
195.
(2) حديث: " الخراج بالضمان ". أخرجه أبو داود (3 / 780 - تحقيق عزت عبيد
دعاس) من حديث عائشة، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير لابن حجر (3
/ 22 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(23/37)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ
الْمُوصَى بِنَفْعِهِ لاَ يُطِيقُ الْخِدْمَةَ لِصِغَرٍ أَوْ مَرَضٍ
فَنَفَقَتُهُ عَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ إِلَى أَنْ يُدْرِكَ الْخِدْمَةَ،
فَإِذَا أَدْرَكَهَا كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ
بِالْخِدْمَةِ (1) .
التَّصَرُّفُ فِي الرَّقِيقِ الْمُوصَى بِنَفْعِهِ:
45 - اخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي بَيْعِ الرَّقِيقِ
الْمُوصَى بِنَفْعِهِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ فِي كُلٍّ مِنَ
الْمَذْهَبَيْنِ: فَقِيل: لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ التَّصَرُّفُ فِيهَا
بِالْبَيْعِ، فَإِنْ بِيعَ بَقِيَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ فِي الْمَنْفَعَةِ.
فَيُبَاعُ مَسْلُوبُ الْمَنْفَعَةِ إِلَى نِهَايَةِ الْمُدَّةِ الْمُوصَى
بِهَا، وَيَقُومُ الْمُشْتَرِي مَقَامَ الْبَائِعِ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ،
وَسَوَاءٌ بِيعَ مِنْ مَالِكِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، لأَِنَّ
مِلْكَ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْبَيْعِ؛ وَلأَِنَّ مُشْتَرِيَهُ
يُمْكِنُ أَنْ يَعْتِقَهُ فَيَحْصُل لَهُ أَجْرُهُ وَوَلاَؤُهُ.
وَقِيل: لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ مَالِكِ مَنْفَعَتِهِ؛ لأَِنَّ مَا لاَ
نَفْعَ فِيهِ لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ كَالْحَشَرَاتِ، وَقِيل: يَجُوزُ
بَيْعُهُ مِنْ مَالِكِ مَنْفَعَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ مَالِكَ
مَنْفَعَتِهِ يَجْتَمِعُ لَهُ الرَّقَبَةُ وَالْمَنْفَعَةُ، فَيَنْتَفِعُ
بِذَلِكَ، بِخِلاَفِ غَيْرِهِ.
46 - وَلِمَالِكِ الرَّقَبَةِ أَنْ يَعْتِقَ الرَّقِيقَ الْمُوصَى
بِنَفْعِهِ، وَتَبْقَى الْمَنْفَعَةُ لِمَنْ أُوصِيَ لَهُ بِهَا، وَلاَ
يَرْجِعُ الرَّقِيقُ عَلَى مُعْتِقِهِ بِشَيْءٍ، وَفِي قَوْلٍ
__________
(1) المغني 6 / 59، 62، وروضة الطالبين 6 / 189، والدر المختار بهامش حاشية
ابن عابدين 5 / 444.
(23/37)
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَبْطُل
الْوَصِيَّةُ. وَفِي رُجُوعِ الْمُوصَى لَهُ عَلَى الْمُعْتِقِ بِقِيمَةِ
الْمَنَافِعِ وَجْهَانِ.
قَال النَّوَوِيُّ: لَعَل أَصَحَّهُمَا الرُّجُوعُ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ إِعْتَاقَ الْمُوصَى بِنَفْعِهِ عَنِ
الْكَفَّارَةِ لاَ يُجْزِئُ (1) .
47 - وَأَمَّا التَّصَرُّفُ فِي مَنْفَعَةِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِنَفْعِهِ
فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ بِهَا، فَلَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ الْعَبْدَ الْمُدَّةَ
الَّتِي أُوصِيَ لَهُ بِالنَّفْعِ فِيهَا، وَلَهُ أَنْ يَهَبَهَا، وَذَلِكَ
لأَِنَّهُ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ بِوَجْهٍ صَحِيحٍ مِلْكًا تَامًّا، فَلَهُ
التَّصَرُّفُ فِيهَا كَمَا لَوْ مَلَكَهَا بِالإِْجَارَةِ. وَهَذَا
مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُوصَى لَهُ
إِجَارَةُ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ عَلَى أَصْل
الْحَنَفِيَّةِ، فَإِذَا مَلَكَهَا بِعِوَضٍ كَانَ مُمَلَّكًا أَكْثَرَ
مِمَّا مَلَكَهُ، وَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ (2) .
وَلِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يُثْبِتَ يَدَهُ عَلَى الْعَبْدِ الْمُوصَى
بِنَفْعِهِ لَهُ، وَلَهُ مَنَافِعُهُ، وَأَكْسَابُهُ الْمُعْتَادَةُ،
وَأُجْرَةُ الْحِرْفَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِلَى
أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَارِثِ وَلاَ لِلْمُوصَى لَهُ بِنَفْعِهَا الْوَطْءُ؛
لأَِنَّ الْوَارِثَ لاَ يَمْلِكُ نَفْعَهَا مِلْكًا تَامًّا يَحِل لَهُ
بِهِ الْوَطْءُ، وَالْمُوصَى لَهُ لَيْسَتْ هِيَ مِنْ مِلْكِ يَمِينِهِ
حَتَّى يَجُوزَ لَهُ الْوَطْءُ.
__________
(1) المغني 6 / 61، وروضة الطالبين 6 / 189.
(2) المغني 6 / 60، والدر المختار 5 / 443.
(23/38)
وَلَيْسَ لأَِحَدٍ مِنْهُمَا تَزْوِيجُهَا
إِلاَّ بِرِضَا الآْخَرِ.
لَكِنْ إِنِ احْتَاجَتْ إِلَى التَّزْوِيجِ وَطَلَبَتْهُ وَجَبَ
تَزْوِيجُهَا، وَيَتَوَلَّى تَزْوِيجَهَا مَالِكُ الرَّقَبَةِ (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بِنَفْعِ
الْعَبْدِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ، وَإِذَا مَاتَ
بَعْدَ وَفَاتِهِ يَعُودُ الْعَبْدُ إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي بِحُكْمِ
مِلْكِهِمْ لِلرَّقَبَةِ.
قَالُوا: لأَِنَّ الْمُوصِيَ أَوْجَبَ الْحَقَّ لِلْمُوصَى لَهُ
لِيَسْتَوْفِيَ الْمَنَافِعَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ، وَلَوِ انْتَقَل إِلَى
وَارِثِ الْمُوصَى لَهُ اسْتَحَقَّهَا ابْتِدَاءً مِنْ مِلْكِ الْمُوصِي
مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ: بَل تَكُونُ
مَنَافِعُهُ لِوَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَدَّدَ
الْوَصِيَّةَ بِزَمَنٍ، وَإِنْ كَانَ حَدَّدَهَا بِزَمَنٍ فَيَكُونُ
كَالْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ يُورَثُ مَا بَقِيَ مِنْ زَمَانِ الإِْجَارَةِ
وَيُؤَاجَرُ فِيهَا (2) .
الرَّقِيقُ وَالتَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ، وَأَحْكَامُ التَّصَرُّفَاتِ:
48 - الأَْصْل فِي الرَّقِيقِ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ كَسَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ
مَتَى كَانَ بَالِغًا عَاقِلاً، رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً، وَلِذَا
فَهُوَ مَجْزِيٌّ عَلَى أَعْمَالِهِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا
__________
(1) المغني 6 / 62، 63، وروضة الطالبين 6 / 187، 190، والدر المختار 5 /
444، والدسوقي 4 / 448.
(2) الدر المختار ورد المحتار 5 / 443، 444، وجواهر الإكليل 2 / 324،
والدسوقي 4 / 448.
(23/38)
فِي الآْخِرَةِ، وَيُؤَاخَذُ بِهَا فِي
الدُّنْيَا.
قَال الشَّيْخُ عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ: الرَّقِيقُ يُشْبِهُ الْحُرَّ
فِي التَّكَالِيفِ وَكَثِيرٍ مِنَ الأَْحْكَامِ، كَإِيجَابِ الْقِصَاصِ،
وَالْفِطْرَةِ، وَالتَّحْلِيفِ، وَالْحُدُودِ، وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي
قَتْلِهِ (1) .
وَتَنْبَنِي غَالِبُ أَحْكَامِ أَفْعَال الرَّقِيقِ عَلَى الأُْصُول
التَّالِيَةِ:
الأَْصْل الأَْوَّل: أَهْلِيَّةُ الرَّقِيقِ:
48 م - عَرَضَ الأُْصُولِيُّونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لأَِهْلِيَّةِ
الرَّقِيقِ، فَبَيَّنُوا أَنَّ الرِّقَّ عَارِضٌ عَلَى الأَْهْلِيَّةِ
يُنْقِصُهَا، فَالرَّقِيقُ مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ هُوَ عَلَى أَصْل
الْحُرِّيَّةِ، فَتَصِحُّ أَقَارِيرُهُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَلَهُ
التَّزَوُّجُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَإِنَّمَا احْتَاجَ فِيهِ لِلإِْذْنِ
لأَِنَّهُ يَجِبُ بِهِ الْمَال فِي الذِّمَّةِ، وَهُوَ أَهْلٌ
لِلتَّصَرُّفِ لأَِنَّ التَّصَرُّفَ هُوَ بِصِحَّةِ الْعَقْل وَالذِّمَّةِ.
أَمَّا الْعَقْل فَهُوَ لاَ يَخْتَل بِالرِّقِّ، وَلِذَا كَانَتْ رِوَايَةُ
الرَّقِيقِ صَحِيحَةً مُلْزِمَةً لِلْعَمَل، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَلاَمُهُ
مُعْتَبَرًا لَمْ تُعْتَبَرْ رِوَايَتُهُ، وَأَمَّا الذِّمَّةُ فَإِنَّمَا
تَكُونُ بِأَهْلِيَّةِ الإِْيجَابِ عَلَيْهِ وَالاِسْتِحْبَابِ لَهُ،
وَلِتَحَقُّقِهِمَا خُوطِبَ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الصَّلاَةِ
وَالصَّوْمِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَتَجِبُ لَهُ النَّفَقَةُ
عَلَى سَيِّدِهِ، وَإِنَّمَا حُجِرَ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ لِمَانِعٍ هُوَ
الْمُحَافَظَةُ عَلَى حَقِّ السَّيِّدِ، وَسَقَطَ عَنْهُ بَعْضُ
الْوَاجِبَاتِ كَالْجُمُعَةِ
__________
(1) عميرة على شرح المنهاج 3 / 30، 31.
(23/39)
وَالْعِيدَيْنِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ،
مُحَافَظَةً عَلَى حَقِّ السَّيِّدِ فِي مَنَافِعِ الْعَبْدِ؛ لأَِنَّ
الرِّقَّ يَمْنَعُ كَوْنَ الرَّقِيقِ مَالِكًا لِمَنَافِعِ نَفْسِهِ، كَمَا
أَنَّهُ هُوَ بِذَاتِهِ مَمْلُوكٌ لِلسَّيِّدِ. فَإِذْنُ السَّيِّدِ لَهُ
فِي التَّصَرُّفِ رَفْعٌ لِلْمَانِعِ، لاَ إِثْبَاتٌ لِلأَْهْلِيَّةِ،
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الرَّقِيقُ غَيْرُ أَهْلٍ لِلتَّصَرُّفِ، فَإِنْ
أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ تَثْبُتُ الأَْهْلِيَّةُ (1) .
وَالرِّقُّ يَمْنَعُ الْوِلاَيَاتِ، فَلاَ تَصِحُّ الشَّهَادَةُ مِنْهُ
عَلَى أَحَدٍ، وَلاَ قَضَاؤُهُ، وَلاَ تَحْكِيمُهُ، وَلاَ إِمَارَتُهُ،
وَالرِّقُّ يُنْقِصُ الذِّمَّةَ، وَمِنْ هُنَا تُضَمُّ رَقَبَتُهُ إِلَى
ذِمَّتِهِ، فِي مِثْل غَرَامَاتِ الْجِنَايَاتِ، فَتُبَاعُ رَقَبَتُهُ
فِيهَا، إِلاَّ أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى (2) .
الأَْصْل الثَّانِي:
هَل يَمْلِكُ الرَّقِيقُ الْمَال أَمْ لاَ يَمْلِكُ؟
49 - إِذَا لَمْ يُمَلِّكِ السَّيِّدُ عَبْدَهُ الْمَال فَلاَ يَمْلِكُهُ
اتِّفَاقًا. وَذَلِكَ لأَِنَّ سَيِّدَهُ يَمْلِكُ عَيْنَهُ وَمَنَافِعَهُ،
فَمَا حَصَل بِسَبَبِ ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِسَيِّدِهِ لأَِنَّهُ
ثَمَرَةُ مِلْكِهِ، كَثَمَرَةِ شَجَرَتِهِ، فَأَمَّا إِنْ مَلَّكَهُ
سَيِّدُهُ مَالاً، فَقَدِ اخْتَلَفَ الأَْئِمَّةُ فِي ذَلِكَ: فَذَهَبَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَالشَّافِعِيُّ فِي
الْجَدِيدِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُهُ
بِحَالٍ، لأَِنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلاَ يَمْلِكُ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ يُتَصَوَّرُ
اجْتِمَاعُ مِلْكَيْنِ عَلَى الْحَقِيقَةِ
__________
(1) مسلم الثبوت 1 / 171 - 173 بولاق 1322هـ.
(2) شرح مسلم الثبوت 1 / 128.
(23/39)
وَالْكَمَال فِي مَالٍ وَاحِدٍ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَأَحْمَدُ فِي
الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى - وَرَجَّحَهَا ابْنُ قُدَامَةَ - إِلَى أَنَّهُ
يَمْلِكُ إِذَا مَلَّكَهُ سَيِّدُهُ؛ لأَِنَّهُ آدَمِيٌّ حَيٌّ حُجِرَ
عَلَيْهِ لِحَقِّ سَيِّدِهِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي التَّمَلُّكِ مَلَكَ،
لِثُبُوتِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ الآْدَمِيَّةُ مَعَ الْحَيَاةِ وَزَوَال
الْمَانِعِ، وَقِيَاسًا عَلَى مِلْكِهِ لِلنِّكَاحِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ؛
وَلأَِنَّهُ بِالآْدَمِيَّةِ يَتَمَهَّدُ لِلْمِلْكِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى خَلَقَ الْمَال لِبَنِي آدَمَ لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى
الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ، وَأَحْكَامِ التَّكَالِيفِ،
وَالرَّقِيقُ آدَمِيٌّ فَتَمَهَّدَ لِلْمِلْكِ، وَصَلَحَ لَهُ، كَمَا
تَمَهَّدَ لِلتَّكْلِيفِ وَالْعِبَادَةِ (1) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ مَلَّكَهُ غَيْرُ سَيِّدِهِ
مَالاً لاَ يَمْلِكُ، وَعَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُ يَمْلِكُ فَلِلسَّيِّدِ
الرُّجُوعُ فِي الْمَال الَّذِي مَلَّكَهُ إِيَّاهُ مَتَى شَاءَ
السَّيِّدُ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ التَّصَرُّفُ فِيمَا مَلَّكَهُ إِيَّاهُ
سَيِّدُهُ إِلاَّ بِإِذْنِ السَّيِّدِ (2) .
50 - وَإِذَا مَاتَ الرَّقِيقُ الْمُمَلَّكُ ارْتَفَعَ مِلْكُهُ عَنِ
الْمَال، وَلاَ يُورَثُ عَنْهُ، بَل يَكُونُ لِسَيِّدِهِ. وَإِذَا أَتْلَفَ
إِنْسَانٌ الْمَال الَّذِي مَلَّكَهُ السَّيِّدُ لِرَقِيقِهِ يَنْقَطِعُ
مِلْكُ الْعَبْدِ عَنْهُ وَيَكُونُ لِلسَّيِّدِ، وَالْمُطَالَبَةُ لَهُ
دُونَ الْعَبْدِ (3) .
__________
(1) المغني 4 / 174 و2 / 623، 625، والحموي على الأشباه 2 / 153، والزرقاني
3 / 196، و8 / 126.
(2) روضة الطالبين 3 / 574 و10 / 26، والزرقاني 8 / 126.
(3) روضة الطالبين 3 / 26.
(23/40)
وَتَنْبَنِي عَلَى قَاعِدَةِ الْمِلْكِ
هَذِهِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَحْكَامِ الرَّقِيقِ مِنْهَا: أَنَّهُ هَل
عَلَيْهِ زَكَاةٌ، وَهَل يُضَحِّي، وَهَل يُكَفِّرُ بِالإِْطْعَامِ، وَهَل
يَتَسَرَّى؟ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَأْتِي بَيَانُهُ.
الأَْصْل الثَّالِثُ: الأَْمْوَال الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرَّقِيقِ:
قَسَّمَ السُّيُوطِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الأَْمْوَال الْمُتَعَلِّقَةَ
بِالرَّقِيقِ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ:
51 - الأَْوَّل: مَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ، فَيُبَاعُ فِيهِ،
وَهُوَ أَرْشُ جِنَايَاتِهِ وَبَدَل مَا يُتْلِفُهُ، سَوَاءٌ كَانَ
فِعْلُهُ بِإِذْنِ السَّيِّدِ أَمْ لاَ، لِوُجُوبِهِ بِغَيْرِ رِضَا
الْمُسْتَحِقِّ، وَهَذَا إِنْ كَانَ فِعْلُهُ مُعْتَبَرًا بِأَنْ كَانَ
عَاقِلاً مُمَيِّزًا، فَلَوْ كَانَ صَغِيرًا غَيْرَ مُمَيِّزٍ أَوْ
مَجْنُونًا، فَلاَ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ ضَمَانٌ عَلَى الأَْصَحِّ.
52 - الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ، فَلاَ يُبَاعُ
فِيهِ، وَلاَ يَلْزَمُ السَّيِّدَ أَدَاؤُهُ، بَل يُطَالَبُ بِهِ مَتَى
عَتَقَ، وَهُوَ مَا وَجَبَ بِرِضَا الْمُسْتَحِقِّ كَبَدَل الْمَبِيعِ
وَالْقَرْضِ إِذَا أَتْلَفَهُمَا. وَلَوْ نَكَحَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ
وَوَطِئَ تَعَلَّقَ مَهْرُ الْمِثْل بِذِمَّتِهِ، لِكَوْنِهِ وَجَبَ
بِرِضَا الْمُسْتَحِقِّ، وَقِيل بِرَقَبَتِهِ؛ لأَِنَّهُ إِتْلاَفٌ، وَلَوْ
أَفْطَرَتِ الْجَارِيَةُ فِي رَمَضَانَ لِحَمْلٍ أَوْ رَضَاعٍ خَوْفًا
عَلَى الْوَلَدِ فَالْفِدْيَةُ فِي ذِمَّتِهَا.
53 - الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِ الْعَبْدِ، وَهُوَ
مَا ثَبَتَ بِرِضَا الْعَبْدِ وَالسَّيِّدِ، وَهُوَ الْمَهْرُ
وَالنَّفَقَةُ، إِذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي النِّكَاحِ فَنَكَحَ،
وَهُوَ كَسُوبٌ، أَوْ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، أَوْ ضَمِنَ
بِإِذْنِ
(23/40)
السَّيِّدِ، أَوْ لَزِمَهُ دَيْنُ
تِجَارَةٍ. وَالْمُعْتَبَرُ مَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ الإِْذْنِ لاَ
قَبْلَهُ.
وَحَيْثُ لَمْ يُوفِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، يَتَعَلَّقُ الْفَاضِل
بِذِمَّتِهِ، وَلاَ يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ.
وَفِي وَجْهٍ: أَنَّ الْمَال فِي الضَّمَانِ مُتَعَلِّقٌ بِذِمَّتِهِ وَفِي
وَجْهٍ آخَرَ: بِرَقَبَتِهِ.
54 - الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّيِّدِ، وَهُوَ مَا
يُتْلِفُهُ الْعَبْدُ الْمَجْنُونُ، وَالصَّغِيرُ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ،
كَمَا تَقَدَّمَ (1) .
أَحْكَامُ أَفْعَال الرَّقِيقِ:
أَوَّلاً: عِبَادَاتُ الرَّقِيقِ:
الأَْصْل فِي الرَّقِيقِ أَنَّهُ فِي الْعِبَادَاتِ كَالْحُرِّ سَوَاءٌ،
وَيَخْتَلِفُ عَنْهُ فِي أُمُورٍ مِنْهَا:
55 - أ - عَوْرَةُ الْمَمْلُوكَةِ فِي الصَّلاَةِ - وَفِي خَارِجِهَا
أَيْضًا - أَخَفُّ مِنْ عَوْرَةِ الْحُرَّةِ، فَهِيَ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَفِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، مِنَ السُّرَّةِ
إِلَى الرُّكْبَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ مَرْفُوعًا:
إِذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ خَادِمَهُ عَبْدَهُ أَوْ أَجِيرَهُ، فَلاَ
يَنْظُرُ إِلَى مَا دُونَ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ (2) . وَيَزِيدُ
الْحَنَفِيَّةُ: الْبَطْنَ وَالظَّهْرَ، وَفِي كَلاَمِهِمْ مَا يُفِيدُ
أَنَّ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي / 196.
(2) حديث: " إذا زوج أحدكم خادمه عبده أو أجيره فلا. . " أخرجه أبو داود (1
/ 334 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وإسناده
حسن.
(23/41)
أَعْلَى صَدْرِهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ،
ثُمَّ قَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ تُطَالَبُ الأَْمَةُ بِتَغْطِيَةِ
رَأْسِهَا فِي الصَّلاَةِ لاَ وُجُوبًا وَلاَ نَدْبًا بَل هُوَ جَائِزٌ.
وَظَاهِرُ كَلاَمِهِمْ أَنَّ الأَْمَةَ إِنْ صَلَّتْ مَكْشُوفَةَ شَيْءٍ
مِمَّا عَدَا الْعَوْرَةَ الْمَذْكُورَةَ أَعْلاَهُ لاَ إِعَادَةَ
عَلَيْهَا، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهَا لَوْ صَلَّتْ مَكْشُوفَةَ الْفَخِذِ
أَعَادَتْ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُسْتَحَبُّ لِلأَْمَةِ أَنْ
تَسْتَتِرَ فِي الصَّلاَةِ كَسَتْرِ الْحُرَّةِ احْتِيَاطًا (1) .
ب - الأَْذَانُ، وَالإِْقَامَةُ، وَالإِْمَامَةُ:
56 - يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ وَالْمُقِيمُ عَبْدًا عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. ثُمَّ قَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ
عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْذِنَ سَيِّدَهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ هُبَيْرَةَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ
حُرًّا (2) .
57 - وَإِمَامَةُ الْعَبْدِ أَيْضًا جَائِزَةٌ لِلأَْحْرَارِ وَالْعَبِيدِ
عَلَى السَّوَاءِ. وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُورِ.
وَقَال مَالِكٌ: لاَ يَكُونُ الْعَبْدُ إِمَامًا فِي مَسَاجِدِ
الْقَبَائِل، وَلاَ مَسَاجِدِ الْجَمَاعَةِ، وَلاَ الأَْعْيَادِ، وَلاَ
يُصَلِّي بِالْقَوْمِ الْجُمُعَةَ، وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَؤُمَّ فِي
السَّفَرِ إِنْ كَانَ أَقْرَأَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُتَّخَذَ إِمَامًا
رَاتِبًا، وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَؤُمَّ فِي رَمَضَانَ فِي النَّافِلَةِ.
__________
(1) الزرقاني 1 / 175، 177، وروضة الطالبين 1 / 283، وفتح القدير 1 / 183،
وكشاف القناع 1 / 266.
(2) كشاف القناع 1 / 235، وروضة الطالبين 1 / 202.
(23/41)
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِمَا رُوِيَ عَنْ
سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدٍ قَال: تَزَوَّجْتُ وَأَنَا عَبْدٌ،
فَدَعَوْتُ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَجَابُونِي، فَكَانَ فِيهِمْ أَبُو ذَرٍّ وَابْنُ مَسْعُودٍ
وَحُذَيْفَةُ، فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ. . . إِلَى أَنْ قَال: فَقَدَّمُونِي
وَأَنَا عَبْدٌ فَصَلَّيْتُ بِهِمْ.
ثُمَّ قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ تَنْزِيهًا تَقْدِيمُ الْعَبْدِ
لِلإِْمَامَةِ. قَالُوا: وَلَوِ اجْتَمَعَ الْحُرُّ وَالْمُعْتَقُ،
فَالْحُرُّ الأَْصْلِيُّ أَوْلَى.
ثُمَّ قَال الْحَنَابِلَةُ: الْحُرُّ أَوْلَى مِنَ الْعَبْدِ مَا لَمْ
يَكُنِ الْعَبْدُ إِمَامَ الْمَسْجِدِ فَالْحَقُّ لَهُ فِي التَّقَدُّمِ،
وَكَذَا لَوْ كَانَتِ الصَّلاَةُ بِبَيْتِهِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ
بِالإِْمَامَةِ مَا عَدَا سَيِّدَهُ (1) .
ج - صَلاَةُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ:
58 - صَلاَةُ الْجُمُعَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى الأَْحْرَارِ اتِّفَاقًا.
وَصَلاَةُ الْجَمَاعَةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ إِلاَّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
فَقَدْ قِيل - وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَقِيل:
شَرْطٌ (2) .
وَلاَ تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى الْعَبِيدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ
عَنْ أَحْمَدَ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِيمَا رَوَاهُ طَارِقُ بْنُ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 473، والمغني 2 / 206، 193، والمدونة للإمام مالك 1 /
84، والزرقاني 2 / 25، وفتح القدير 1 / 247، وابن عابدين 1 / 376، وروضة
الطالبين 1 / 353.
(2) المغني 2 / 176، وشرح المنهاج 1 / 220، وشرح الأشباه 2 / 152.
(23/42)
شِهَابٍ: الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى
كُل مُسْلِمٍ إِلاَّ أَرْبَعَةً: عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، أَوِ امْرَأَةٌ، أَوْ
صَبِيٌّ، أَوْ مَرِيضٌ (1) ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ
جَابِرٍ وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَلأَِنَّ الْجُمُعَةَ يَجِبُ السَّعْيُ
إِلَيْهَا وَلَوْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الْعَبْدِ
كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ، وَلأَِنَّ مَنْفَعَتَهُ مَمْلُوكَةٌ مَحْبُوسَةٌ
عَلَى السَّيِّدِ فَأَشْبَهَ الْمَحْبُوسَ فِي الدَّيْنِ، وَلأَِنَّهَا
لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَجَازَ لَهُ الْمُضِيُّ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ
إِذْنِ السَّيِّدِ، وَلَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِهِ مَنْعُهُ مِنْهَا كَسَائِرِ
الْفَرَائِضِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى إِلَى أَنَّهَا
تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ، وَلَكِنْ لاَ يَذْهَبُ إِلَيْهَا إِلاَّ بِإِذْنِ
سَيِّدِهِ، فَإِنْ مَنَعَهُ سَيِّدُهُ تَرَكَهَا.
وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّ الْعَبْدَ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ
ضَرِيبَةٌ مَعْلُومَةٌ يُؤَدِّيهَا إِلَى سَيِّدِهِ تَجِبُ عَلَيْهِ
الْجُمُعَةُ؛ لأَِنَّ حَقَّ سَيِّدِهِ عَلَيْهِ تَحَوَّل إِلَى الْمَال،
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ (2) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ
لِلْعَبْدِ حُضُورُ الْجُمُعَةِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ (3) .
وَاخْتَلَفَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، فَقَال بَعْضُهُمْ: إِنْ
__________
(1) حديث: " الجمعة حق واجب على كل مسلم ". أخرجه أبو داود (1 / 644 -
تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه النووي على شرط الشيخين، كذا في نصب الراية
للزيلعي (2 / 199 - ط المجلس العلمي) .
(2) المغني 2 / 339، وشرح المحلي على المنهاج 1 / 268.
(3) الزرقاني 2 / 61، وروضة الطالبين 2 / 34.
(23/42)
أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ وَجَبَ عَلَيْهِ
الْحُضُورُ. وَقِيل: لاَ؛ لأَِنَّ لَهَا بَدَلاً وَهُوَ الظُّهْرُ،
بِخِلاَفِ صَلاَةِ الْعِيدِ، فَتَجِبُ؛ لأَِنَّهَا لاَ بَدَل لَهَا.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَوْ حَضَرَ الْجُمُعَةَ
بِدُونِ إِذْنِ السَّيِّدِ أَجْزَأَتْ عَنْهُ (1) .
ثُمَّ قَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ بِالْعَبْدِ، أَيْ
فِي إِتْمَامِ الْعَدَدِ اللاَّزِمِ لاِنْعِقَادِ الْجُمُعَةِ (2) .
د - الرَّقِيقُ وَالزَّكَاةُ:
59 - لاَ زَكَاةَ عَلَى الرَّقِيقِ فِيمَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَال،
لأَِنَّهُ غَيْرُ تَامِّ الْمِلْكِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا إِلاَّ مَا وَرَدَ
عَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي ثَوْرٍ، مِنْ أَنَّ عَلَى الْعَبْدِ زَكَاةَ مَالِهِ
(3) .
60 - ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّهُ هَل يَجِبُ عَلَى
السَّيِّدِ زَكَاةُ مَال الْعَبْدِ أَمْ لاَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ
عَنْ أَحْمَدَ عَلَيْهَا الْمَذْهَبُ، وَسُفْيَانُ وَإِسْحَاقُ: إِلَى
أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُزَكِّيَ الْمَال الَّذِي بِيَدِ
عَبْدِهِ.
قَالُوا: لأَِنَّ الْعَبْدَ لاَ يَمْلِكُ وَلَوْ مَلَّكَهُ سَيِّدُهُ.
__________
(1) الحموي على الأشباه 2 / 152، وروضة الطالبين 11 / 25.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 193، وكشاف القناع 1 / 489، وابن عابدين 1
/ 384، والقليوبي 1 / 238.
(3) المغني 2 / 621، وفتح القدير 1 / 481.
(23/43)
فَمَا بِيَدِهِ مِنَ الْمَال مَمْلُوكٌ
عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْكَمَال لِلسَّيِّدِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاتُهُ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ
وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: إِلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي مَال الرَّقِيقِ
وَلاَ عَلَى سَيِّدِهِ. قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهَذَا مَرْوِيٌّ أَيْضًا
عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الرَّقِيقَ آدَمِيٌّ يَمْلِكُ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَلاَ
تَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ زَكَاةُ مَالِهِ؛ لأَِنَّ الْمَال لِلْعَبْدِ
وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ، وَلاَ تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ؛ لأَِنَّ مِلْكَهُ
لِمَالِهِ نَاقِصٌ، إِذْ يَسْتَطِيعُ السَّيِّدُ انْتِزَاعَ مَال رَقِيقِهِ
مَتَى شَاءَ، وَالزَّكَاةُ لاَ تَجِبُ إِلاَّ فِيمَا هُوَ مَمْلُوكٌ
مِلْكًا تَامًّا؛ وَلأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ تَمَامَ التَّصَرُّفِ فِي
ذَلِكَ الْمَال (1) .
هـ - زَكَاةُ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ:
61 - تَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ إِجْمَاعًا فِي الرَّقِيقِ مِنْ حَيْثُ
الْجُمْلَةُ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى
النَّاسِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى كُل حُرٍّ
أَوْ عَبْدٍ، ذَكَرٍ وَأُنْثَى، مِنَ الْمُسْلِمِينَ (2) .
وَالْمُطَالَبُ بِالزَّكَاةِ هُوَ السَّيِّدُ، وَلَيْسَ الرَّقِيقُ
__________
(1) المغني 2 / 625، وكشاف القناع 2 / 168، وفتح القدير 1 / 486، والزرقاني
2 / 144، وشرح المنهاج للمحلي 2 / 38.
(2) حديث: " فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر. . . " أخرجه
البخاري (الفتح 3 / 367 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 677 - ط الحلبي) واللفظ
لمسلم.
(23/43)
نَفْسُهُ. فَلَيْسَ عَلَى الرَّقِيقِ
فِطْرَةُ نَفْسِهِ. وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ، بِأَنَّ الْعَبْدَ لَوْ
أَخْرَجَ الزَّكَاةَ عَنْ نَفْسِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ لَمْ
يُجْزِئْهُ؛ لأَِنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مَال سَيِّدِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ (1)
.
و تَطَوُّعَاتُ الرَّقِيقِ:
62 - لَيْسَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُ رَقِيقِهِ مِنْ صَلاَةِ النَّفْل
وَالرَّوَاتِبِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْخِدْمَةِ، وَلاَ مِنْ صَوْمِ
التَّطَوُّعِ، أَوِ الذِّكْرِ، أَوْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، إِذْ لاَ ضَرَرَ
عَلَى السَّيِّدِ فِي ذَلِكَ، إِلاَّ أَنْ يُضْعِفَهُمْ ذَلِكَ عَنِ
الْعَمَل وَالْخِدْمَةِ.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ هَذَا السُّرِّيَّةَ الَّتِي يَحْتَاجُ
إِلَيْهَا سَيِّدُهَا (2) .
ز - صَوْمُ الرَّقِيقِ:
63 - يَجِبُ عَلَى الرَّقِيقِ صَوْمُ رَمَضَانَ، كَالأَْحْرَارِ،
اتِّفَاقًا، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ؛ لأَِنَّهُ يَجِبُ عَلَى
الْفَوْرِ. وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ قَضَاءَ رَمَضَانَ
كَذَلِكَ (3) .
وَأَمَّا الصَّوْمُ الَّذِي وَجَبَ بِالنَّذْرِ فَقَدْ قَال
الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَصُومُ الْعَبْدُ غَيْرَ فَرْضٍ إِلاَّ بِإِذْنِ
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 299، وكشاف القناع 1 / 251، وشرح الأشباه 2 / 153.
(2) روضة الطالبين 8 / 301 و11 / 25، والزرقاني 2 / 219، وكشاف القناع 1 /
424.
(3) روضة الطالبين 8 / 300، والزرقاني 2 / 219.
(23/44)
السَّيِّدِ، وَلاَ فَرْضًا وَجَبَ
بِإِيجَابِ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ (1) .
64 - وَأَمَّا صَوْمُ التَّطَوُّعِ، فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتٍ لاَ يَضُرُّ
بِالسَّيِّدِ فَلَيْسَ لَهُ الْمَنْعُ، " وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِهِ فَلَهُ
الْمَنْعُ. وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ السُّرِّيَّةَ الَّتِي يَحْتَاجُ
إِلَيْهَا سَيِّدُهَا، فَلاَ تَصُومُ تَطَوُّعًا إِلاَّ بِإِذْنِهِ،
قِيَاسًا عَلَى الزَّوْجَةِ (2) .
ح - اعْتِكَافُ الرَّقِيقِ:
65 - يَصِحُّ اعْتِكَافُ الرَّقِيقِ، وَلاَ يَجُوزُ اعْتِكَافُهُ إِلاَّ
بِإِذْنِ السَّيِّدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) لأَِنَّ مَنَافِعَهُ مَمْلُوكَةٌ
لِلسَّيِّدِ، وَالاِعْتِكَافُ يُفَوِّتُهَا وَيَمْنَعُ اسْتِيفَاءَهَا،
وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ بِالشَّرْعِ، فَإِنِ اعْتَكَفَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ
فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ لِلسَّيِّدِ
إِخْرَاجَهُ مِنِ اعْتِكَافِهِ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ ثُمَّ أَرَادَ
إِخْرَاجَهُ، فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَلَهُ إِخْرَاجُهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ
يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ النَّذْرِ
عَلَى مَا يَأْتِي (3) .
ط - حَجُّ الرَّقِيقِ:
66 - لاَ يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الرَّقِيقِ.
فَإِنْ حَجَّ فِي رِقِّهِ فَحَجَّتُهُ تَطَوُّعٌ. فَإِنْ عَتَقَ
__________
(1) شرح الأشباه 2 / 153.
(2) روضة الطالبين 8 / 300، والزرقاني 2 / 219، والمغني 8 / 755.
(3) روضة الطالبين 2 / 396، وكشاف القناع 2 / 349، وشرح الأشباه للحموي 2 /
153.
(23/44)
فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةَ
الإِْسْلاَمِ إِجْمَاعًا، إِذَا تَمَّتْ شَرَائِطُ الْوُجُوبِ، لِقَوْل
ابْنِ عَبَّاسٍ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَسْمِعُونِي مَا تَقُولُونَ،
وَلاَ تَخْرُجُوا تَقُولُونَ: قَال ابْنُ عَبَّاسٍ، " أَيُّمَا غُلاَمٍ
حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ فَمَاتَ فَقَدْ قَضَى حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ، فَإِنْ
أَدْرَكَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ
فَمَاتَ، فَقَدْ قَضَى حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ، فَإِنْ أَعْتَقَ فَعَلَيْهِ
الْحَجُّ (1) .
قَال ابْنُ الْهُمَامِ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَجِّ وَبَيْنَ الصَّلاَةِ
وَالصَّوْمِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ لاَ يَتَأَتَّى إِلاَّ بِالْمَال غَالِبًا،
بِخِلاَفِهِمَا، وَلاَ مِلْكَ لِلْعَبْدِ، فَلَمْ يَكُنْ أَهْلاً
لِلْوُجُوبِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى يَفُوتُ فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ،
وَحَقَّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ بِإِذْنِ الشَّرْعِ لاِفْتِقَارِ الْعَبْدِ
وَغِنَى اللَّهِ تَعَالَى، بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لاَ
يُحْرِجُ الْمَوْلَى فِي اسْتِثْنَاءِ مُدَّتِهِمَا (2) .
وَلاَ يُحْرِمُ الْعَبْدُ بِالْحَجِّ إِلاَّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، فَإِنْ
فَعَل انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ صَحِيحًا، لَكِنْ يَكُونُ لِسَيِّدِهِ
تَحْلِيلُهُ مِنْ إِحْرَامِهِ؛ لأَِنَّ فِي بَقَائِهِ عَلَى الإِْحْرَامِ
__________
(1) قول ابن عباس: " أيما غلام حج به أهله. . . " أخرجه الطحاوي في شرح
معاني الآثار (2 / 257 - ط مطبعة الأنوار المحمدية) ، وصحح ابن حجر إسناده
في الفتح (4 / 71 - ط السلفية) وقوله: " ولا تخرجوا تقولون: " قال ابن
عباس: " يشعر أنه مرفوع "
(2) فتح القدير 2 / 124، والزرقاني 2 / 232.
(23/45)
تَفْوِيتًا لِحَقِّهِ مِنْ مَنَافِعِهِ
بِغَيْرِ إِذْنِهِ. فَإِنْ حَلَّلَهُ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُحْصَرِ.
أَمَّا إِنْ أَحْرَمَ بِإِذْنِهِ فَلَيْسَ لَهُ تَحْلِيلُهُ عِنْدَ مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ ذَلِكَ.
فَإِنْ عَتَقَ الْعَبْدُ وَكَانَ بِعَرَفَةَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، ثُمَّ
أَحْرَمَ وَحَجَّ أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ. قَال ابْنُ
قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا.
وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ثُمَّ عَتَقَ بِعَرَفَةَ
أَوْ قَبْلَهَا وَأَتَمَّ مَنَاسِكَهُ أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ
الإِْسْلاَمِ؛ لِكَوْنِهِ أَتَى بِأَرْكَانِ الْحَجِّ كُلِّهَا.
وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ
السَّعْيِ إِنْ كَانَ قَدْ سَعَى بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لاَ يُجْزِئُهُمَا عَنْ حَجَّةِ
الإِْسْلاَمِ (1) . وَحُكْمُهُ فِي حَال إِتْيَانِهِ شَيْئًا مِنْ
مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ كَحُكْمِهِ فِي الْكَفَّارَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ،
فَيَفْدِي بِالصَّوْمِ لاَ غَيْرُ، وَيَصُومُ عَنِ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ،
وَفِي دَمِ الإِْحْصَارِ خِلاَفٌ (2) .
ثَانِيًا: الرَّقِيقُ وَأَحْكَامُ الأُْسْرَةِ:
الرَّقِيقُ وَالاِسْتِمْتَاعُ:
67 - الاِسْتِمْتَاعُ بِالْجَوَارِي لاَ يَكُونُ مَشْرُوعًا إِلاَّ أَنْ
يَكُونَ فِي مِلْكِ يَمِينٍ أَوْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ،
__________
(1) المغني 3 / 248، 250، وروضة الطالبين 3 / 123، والزرقاني 2 / 231.
(2) المغني 3 / 251، وروضة الطالبين 3 / 176، 177.
(23/45)
وَمَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ مُحَرَّمٌ
يَأْثَمُ فَاعِلُهُ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ
ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (1) .
الاِسْتِمْتَاعُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ:
68 - لَيْسَ لِلْمَالِكِ الذَّكَرِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمَمْلُوكِهِ
الذَّكَرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ دَاخِلاً فِيمَا أَبَاحَتْهُ الآْيَةُ
السَّابِقَةُ، بَل هُوَ لِوَاطَةٌ مُحَرَّمَةٌ تَدْخُل فِيمَا حَرَّمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عَمَل قَوْمِ لُوطٍ الَّذِي عُذِّبُوا بِهِ عَلَى
مَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ.
وَكَذَا إِنْ كَانَ الْمَالِكُ امْرَأَةً وَالْمُسْتَمْتَعُ بِهِ
الْمَمْلُوكَةَ الأُْنْثَى لاَ يَدْخُل فِيمَا أَبَاحَتْهُ الآْيَةُ
السَّابِقَةُ، بَل هُوَ مِنَ السِّحَاقِ الْمُحَرَّمِ.
وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْمَالِكُ امْرَأَةً وَالْمَمْلُوكُ ذَكَرًا
فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَسْتَمْتِعَ بِهِ، أَوْ أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ
الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَلاَ لَهُ أَنْ يَفْعَل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، بَل
هُوَ عَلَيْهَا حَرَامٌ، وَهِيَ عَلَيْهِ حَرَامٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ
خَلِيَّةً، أَوْ ذَاتَ زَوْجٍ. قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَعَلَى هَذَا
إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ. ا. هـ.
وَكَمَا لَوْ أَرَادَتْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَإِنَّهَا حَرَامٌ عَلَيْهِ
حُرْمَةً مُؤَقَّتَةً، أَيْ مَا دَامَ رَقِيقًا لَهَا، فَإِنْ أَعْتَقَتْهُ
أَوْ بَاعَتْهُ جَازَ لَهَا النِّكَاحُ بِشُرُوطِهِ. وَقَدْ نَقَل ابْنُ
الْمُنْذِرِ الإِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ الْمَرْأَةِ عَبْدَهَا
بَاطِلٌ.
__________
(1) سورة المؤمنون / 5 - 7.
(23/46)
وَسَوَاءٌ فِي هَذِهِ الأَْنْوَاعِ
الثَّلاَثَةِ السَّابِقَةِ الْوَطْءُ وَمُقَدِّمَاتُهُ مِنَ التَّقْبِيل،
وَالْمُبَاشَرَةِ، وَاللَّمْسِ، وَالنَّظَرِ بِشَهْوَةٍ، كُلُّهَا
مُحَرَّمَةٌ بِحَسَبِهَا.
وَوَجْهُ خُرُوجِ هَذِهِ الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ (اسْتِمْتَاعُ
الْمَالِكَةِ بِمَمْلُوكِهَا) مِنْ دَلاَلَةِ الآْيَةِ، أَنَّ الآْيَةَ
خَاطَبَتِ الأَْزْوَاجَ مِنَ الرِّجَال. قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مِنْ
غَرِيبِ الْقُرْآنِ، أَنَّ هَذِهِ الآْيَاتِ الْعَشْرِ مِنْ أَوَّل سُورَةِ
الْمُؤْمِنُونَ عَامَّةٌ فِي الرِّجَال وَالنِّسَاءِ، إِلاَّ قَوْله
تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (1) فَإِنَّمَا
خَاطَبَ بِهَا الرِّجَال خَاصَّةً دُونَ الزَّوْجَاتِ، بِدَلِيل قَوْلِهِ
{إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} (2)
وَإِنَّمَا عُرِفَ حِفْظُ الْمَرْأَةِ فَرْجَهَا مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى،
كَآيَاتِ الإِْحْصَانِ عُمُومًا وَخُصُوصًا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الأَْدِلَّةِ ". (3) وَنَقَل ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ
عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ امْرَأَةً اتَّخَذَتْ مَمْلُوكَهَا، وَقَالَتْ:
تَأَوَّلْتُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}
قَال: فَأُتِيَ بِهَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَضَرَبَ الْعَبْدَ،
وَجَزَّ رَأْسَهُ (4) وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ
امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى عُمَرَ بِالْجَابِيَةِ وَقَدْ نَكَحَتْ عَبْدَهَا،
فَانْتَهَرَهَا عُمَرُ، وَهَمَّ أَنْ يَرْجُمَهَا، وَقَال: لاَ يَحِل لَكِ
(5) .
__________
(1) سورة المؤمنون / 5.
(2) سورة المؤمنون / 6.
(3) القرطبي 12 / 105.
(4) تفسير ابن كثير 3 / 239.
(5) المغني 6 / 610.
(23/46)
فَالْوَطْءُ الْجَائِزُ بِمِلْكِ
الْيَمِينِ، هُوَ وَطْءُ الْمَالِكِ الذَّكَرِ لِمَمْلُوكَتِهِ الأُْنْثَى
خَاصَّةً، وَفِي هَذَا وَرَدَتِ الآْيَةُ السَّابِقَةُ.
وَطْءُ الرَّجُل الْحُرِّ لِمَمْلُوكَتِهِ:
69 - يَحِل لِلرَّجُل الْحُرِّ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِجَارِيَتِهِ
بِالْوَطْءِ، أَوْ بِمُقَدِّمَاتِهِ، بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً
لَهُ مِلْكًا كَامِلاً، وَهِيَ الَّتِي لَيْسَ لَهُ فِيهَا شَرِيكٌ، وَلاَ
لأَِحَدٍ فِيهَا شَرْطٌ أَوْ خِيَارٌ، وَبِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهَا
مَانِعٌ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا عَلَيْهِ، كَأَنْ تَكُونَ أُخْتَهُ مِنَ
الرَّضَاعَةِ، أَوْ بِنْتَ زَوْجَتِهِ، أَوْ مَوْطُوءَةَ فَرْعِهِ، أَوْ
أَصْلِهِ. أَوْ تَكُونَ مُزَوَّجَةً، أَوْ مُشْرِكَةً (1) . وَالْجَارِيَةُ
الَّتِي يَتَّخِذُهَا سَيِّدُهَا لِلْوَطْءِ تُسَمَّى سَرِيَّةً،
وَاِتِّخَاذُهَا لِذَلِكَ يُسَمَّى التَّسَرِّيَ. وَتُنْظَرُ الأَْحْكَامُ
التَّفْصِيلِيَّةُ لِذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَسَرٍّ) .
وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ الأَْحْكَامِ الَّتِي أُغْفِل ذِكْرُهَا هُنَاكَ،
أَوْ ذُكِرَتْ بِإِيجَازٍ، نَظَرًا إِلَى أَنَّ تَعَلُّقَهَا بِمُصْطَلَحِ
(رِقّ) أَظْهَرُ.
طَلاَقُ السُّرِّيَّةِ وَالظِّهَارُ مِنْهَا، وَتَحْرِيمُهَا،
وَالإِْيلاَءُ مِنْهَا:
70 - الطَّلاَقُ لاَ يَلْحَقُ السُّرِّيَّةَ وَلاَ أَثَرَ لَهُ اتِّفَاقًا.
وَأَمَّا الظِّهَارُ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ
__________
(1) الزرقاني 3 / 226، 5 / 130، وروضة الطالبين 5 / 130 و8 / 270، وكشاف
القناع 5 / 205.
(23/47)
(الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لَوْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ لَمْ يَكُنْ
مُظَاهِرًا، فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ
مِمَّا قَالَهُ، فَإِنَّهُ كَذِبٌ وَزُورٌ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ. . .} (1) فَهِيَ
ظَاهِرَةٌ فِي الزَّوْجَاتِ، وَالأَْمَةُ وَإِنْ صَحَّ إِطْلاَقُ لَفْظِ "
نِسَائِنَا " عَلَيْهَا لُغَةً لَكِنَّ صِحَّةَ الإِْطْلاَقِ لاَ
تَسْتَلْزِمُ الْحَقِيقَةَ، بَل يُقَال: هَؤُلاَءِ " جَوَارِيهِ لاَ
نِسَاؤُهُ ". وَلأَِنَّ الْحِل فِي الأَْمَةِ تَابِعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ
مِنَ الْعَقْدِ بَل يَصِحُّ الْعَقْدُ، وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ مَعَ عَدَمِ
حِل الْوَطْءِ، كَمَا فِي شِرَاءِ الأَْمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ. وَنُقِل
هَذَا الْقَوْل أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو
وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمُجَاهِدٍ وَالأَْوْزَاعِيِّ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْمَةَ يَلْحَقُهَا ظِهَارُ
سَيِّدِهَا، فَلَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا لَمْ يَحِل لَهُ أَنْ يَطَأَهَا بَعْدَ
ذَلِكَ حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةً تَامَّةً، لأَِنَّهَا مُحَلَّلَةٌ لَهُ
حِلًّا أَصْلِيًّا فَيَصِحُّ الظِّهَارُ مِنْهَا كَالزَّوْجَةِ، وَهُوَ
مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَعَمْرِو
بْنِ دِينَارٍ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ.
وَعَنِ الْحَسَنِ وَالأَْوْزَاعِيِّ إِنْ كَانَ يَطَؤُهَا فَهُوَ ظِهَارٌ
وَإِلاَّ فَلاَ.
وَقَال عَطَاءٌ: عَلَيْهِ نِصْفُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مِنَ الْحُرَّةِ؛
لأَِنَّ الأَْمَةَ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الْحُرَّةِ فِي الأَْحْكَامِ.
__________
(1) سورة المجادلة / 2.
(23/47)
وَلَوْ آلَى مِنْ أَمَتِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ
إِيلاَءً، فَلاَ يُطَالَبُ بِالْفَيْئَةِ، أَوِ التَّطْلِيقِ، وَعَلَيْهِ
الْكَفَّارَةُ إِنْ حَنِثَ.
وَكَذَا إِنْ حَرَّمَ أَمَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: " هِيَ عَلَيَّ
حَرَامٌ " فَلَيْسَ فِيهِ إِلاَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، لأَِنَّهُ
كَتَحْرِيمِ الطَّعَامِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ أَمَتَهُ فَنَزَل (1) . قَوْله
تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَل اللَّهُ
لَكَ. . .} إِلَى قَوْلِهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ
أَيْمَانِكُمْ} (2) .
اسْتِبْرَاءُ الأَْمَةِ إِذَا دَخَلَتْ فِي الْمِلْكِ:
71 - مَنِ اشْتَرَى أَمَةً فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا إِنْ كَانَتْ
حَامِلاً حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا إِجْمَاعًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا
حَمْلٌ بَيِّنٌ، فَلاَ يَطَؤُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، بِأَنْ تَحِيضَ
عِنْدَهُ حَيْضَةً؛ لِيَتَيَقَّنَ بَرَاءَةَ رَحِمِهَا مِنْ حَمْل
غَيْرِهِ، وَكَذَا مَنْ دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ بِأَيِّ سَبَبٍ، كَهِبَةٍ،
أَوْ مِيرَاثٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَدَلِيل ذَلِكَ قَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ: لاَ
تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلاَ غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ
حَيْضَةً (3) وَقَال: {
__________
(1) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم " حرم أمته ". أخرجه الحاكم (2 / 493
- ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أنس، وصححه ووافقه الذهبي.
(2) سورة التحريم / 1، 2.
(3) حديث: " لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى. . " أخرجه أبو داود
(2 / 614 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي سعيد الخدري، وحسن إسناده ابن
حجر في التلخيص (1 / 172 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(23/48)
لاَ يَحِل لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ (1) .
وَالتَّسَرِّي فِي هَذَا يَخْتَلِفُ عَنِ النِّكَاحِ، فَمَنْ نَكَحَ
حُرَّةً حَل لَهُ وَطْؤُهَا دُونَ اسْتِبْرَاءٍ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا إِلَى أَنَّ الرَّجُل إِذَا أَرَادَ
أَنْ يَبِيعَ أَمَةً كَانَ يَطَؤُهَا، أَوْ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا،
فَلاَ بُدَّ مِنِ اسْتِبْرَائِهَا قَبْل ذَلِكَ. وَالْعِلَّةُ فِي
الاِسْتِبْرَاءِ، أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ حَامِلاً مِنْ سَيِّدِهَا تَكُونُ
أُمَّ وَلَدٍ لَهُ إِذَا وَلَدَتْ، فَلاَ يَحِل لَهُ بَيْعُهَا، وَلاَ
يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَلاَ تَحِل لِلْمُشْتَرِي؛ وَلِئَلاَّ يُفْضِيَ إِلَى
اشْتِبَاهِ الأَْنْسَابِ. وَهَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ هُوَ فِي الْوَطْءِ.
أَمَّا دَوَاعِيهِ وَمُقَدِّمَاتُهُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا (2) .
وَتَفْصِيل الْقَوْل فِي الاِسْتِبْرَاءِ وَأَحْوَالِهِ يُنْظَرُ تَحْتَ
عُنْوَانِ (اسْتِبْرَاء) .
آثَارُ وَطْءِ الأَْمَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ:
72 - الآْثَارُ اللاَّحِقَةُ بِالْوَطْءِ مِنْ وُجُوبِ الْغُسْل
وَإِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ بِالصِّهْرِ، لاَحِقَةٌ بِالْوَطْءِ بِمِلْكِ
__________
(1) حديث: " لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي. . " أخرجه أبو
داود (2 / 615 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث رويفع بن ثابت، وإسناده حسن.
(&# x662 ;) المغني 7 /
506، 510، 511، والزرقاني 4 / 230، وفتح الباري 4 / 423، وروضة الطالبين 8
/ 431، والقليوبي 4 / 61، وابن عابدين 5 / 40، والعناية وتكملة فتح القدير
8 / 115.
(23/48)
الْيَمِينِ، وَيَفْتَرِقُ عَنِ الْوَطْءِ
فِي النِّكَاحِ بِأُمُورٍ مِنْهَا:
أَنَّ وَطْءَ الْحُرِّ الْحُرَّةَ فِي النِّكَاحِ يُحْصِنُ الرَّجُل
وَالْمَرْأَةَ، بِحَيْثُ لَوْ زَنَى أَحَدُهُمَا يَكُونُ حَدُّهُ
الرَّجْمَ. أَمَّا مَنْ وَطِئَ فِي مِلْكِ يَمِينٍ ثُمَّ زَنَى فَحَدُّهُ
الْجَلْدُ لاَ غَيْرُ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ
خِلاَفًا (1) .
نِكَاحُ الرَّقِيقِ:
73 - يَجُوزُ لِلرَّقِيقِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى أَنْ يَتَزَوَّجَ،
وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِذْنِ السَّيِّدِ إِجْمَاعًا؛ لأَِنَّ
رَقِيقَهُ مَالُهُ. وَقَدْ حَثَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى السَّادَةَ
عَلَى تَزْوِيجِ الْمَمَالِيكِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الصِّيَانَةِ
وَالإِْعْفَافِ، فَقَال تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَْيَامَى مِنْكُمْ
وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ
يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاَللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (2) . قَال
الْقُرْطُبِيُّ: الصَّلاَحُ هُنَا الإِْيمَانُ. وَالأَْمْرُ فِي الآْيَةِ
لِلتَّرْغِيبِ وَالاِسْتِحْبَابِ (3) .
وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يُجْبِرَ الأَْمَةَ عَلَى التَّزْوِيجِ بِمَنْ شَاءَ
السَّيِّدُ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مَعِيبًا
بِعَيْبٍ يُرَدُّ بِهِ فِي النِّكَاحِ فَلاَ يَجْبُرُهَا عَلَيْهِ،
وَأَمَّا
__________
(1) المغني 8 / 162.
(2) سورة النور / 32.
(3) تفسير القرطبي 12 / 240، 241، والمغني 6 / 504، 506، وشرح الأشباه 2 /
154.
(23/49)
إِجْبَارُهُ الْعَبْدَ عَلَى النِّكَاحِ
فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ
أَنَّ لَهُ ذَلِكَ أَيْضًا؛ لأَِنَّ مَصْلَحَتَهُ مَوْكُولَةٌ إِلَى
السَّيِّدِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْجَدِيدِ وَالْحَنَابِلَةُ
إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجْبُرُهُ؛ لأَِنَّ تَكْلِيفَهُ كَامِلٌ، وَلَيْسَ لَهُ
مَنْفَعَةُ بُضْعِهِ (1) . وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ وَلاَ لِلأَْمَةِ
التَّزَوُّجُ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ (2) . وَنِكَاحُ الرَّقِيقِ عَلَى
ثَلاَثَةِ أَنْحَاءٍ كُلُّهَا جَائِزَةٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.
الأَْوَّل: أَنْ يَنْكِحَ الْحُرُّ أَمَةً.
الثَّانِي: أَنْ يَنْكِحَ الْعَبْدُ أَمَةً.
الثَّالِثُ: أَنْ يَنْكِحَ الْعَبْدُ حُرَّةً.
وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ ذَلِكَ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: نِكَاحُ الْحُرِّ لِلأَْمَةِ:
74 - ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى زَوَاجَ الأَْحْرَارِ بِالإِْمَاءِ فِي
قَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ
الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ
فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ
بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ
مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ. . .} إِلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ
الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ
__________
(1) تفسير القرطبي 12 / 241، و5 / 141، وفتح القدير 2 / 482، 491، وروضة
الطالبين 7 / 102، 103.
(2) فتح القدير 2 / 487، و7 / 338، والمغني 6 / 504.
(23/49)
وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) . وَقَدْ
أَخَذَ الأَْئِمَّةُ أَكْثَرَ أَحْكَامِ هَذَا النِّكَاحِ مِنْ هَذِهِ
الآْيَةِ.
فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الأَْصْل تَحْرِيمُ
هَذَا النَّوْعِ مِنَ الزَّوَاجِ وَأَنَّهُ لاَ يَحِل، وَالْعَقْدُ فَاسِدٌ
مَا لَمْ تَجْتَمِعْ شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ تُفِيدُهَا الآْيَةُ. وَأَنَّ
الْجَوَازَ إِذَا اجْتَمَعَتِ الشُّرُوطُ هُوَ مِنْ بَابِ الرُّخْصَةِ.
وَقَالُوا فِي حِكْمَةِ هَذَا التَّحْرِيمِ: إِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ
الزَّوَاجِ يُؤَدِّي إِلَى رِقِّ الْوَلَدِ؛ لأَِنَّ الْوَلَدَ تَبَعٌ
لأُِمِّهِ حُرِّيَّةً وَرِقًّا، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْغَضَاضَةِ عَلَى
الْحُرِّ بِكَوْنِ زَوْجَتِهِ أَمَةً تُمْتَهَنُ فِي حَوَائِجِ سَيِّدِهَا
وَحَوَائِجِ أَهْلِهِ. وَلِذَا قَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
أَيُّمَا حُرٍّ تَزَوَّجَ أَمَةً فَقَدْ أَرَقَّ نِصْفَهُ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَلِي:
1 - أَنَّ الآْيَةَ جَعَلَتْ إِبَاحَةَ هَذَا النِّكَاحِ لِمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ طَوْل حُرَّةٍ، وَلِمَنْ خَافَ الْعَنَتَ، فَدَلَّتْ
بِمَفْهُومِهَا عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ هَذَانِ الشَّرْطَانِ فِيهِ،
فَلاَ يَكُونُ مُبَاحًا لَهُ.
2 - قَوْله تَعَالَى فِي آيَةٍ لاَحِقَةٍ مُشِيرًا إِلَى هَذَا النَّوْعِ
مِنَ النِّكَاحِ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ
الإِْنْسَانُ ضَعِيفًا} (3) فَدَل عَلَى أَنَّهُ رُخْصَةٌ، وَالأَْصْل
التَّحْرِيمُ.
__________
(1) سورة النساء / 25.
(2) تفسير القرطبي 5 / 136، 147، وفتح القدير 2 / 376.
(3) سورة النساء / 28.
(23/50)
فَأَمَّا إِنْ وُجِدَتِ الشُّرُوطُ
الْمُعْتَبَرَةُ فَإِنَّ نِكَاحَ الأَْمَةِ جَائِزٌ إِجْمَاعًا لِمَا
تَقَدَّمَ مِنَ الآْيَةِ (1) .
شُرُوطُ إِبَاحَةِ نِكَاحِ الْحُرِّ لِلأَْمَةِ:
يُشْتَرَطُ لإِِبَاحَةِ نِكَاحِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ لِلأَْمَةِ مَا
يَلِي:
الشَّرْطُ الأَْوَّل:
75 - أَنْ لاَ يَكُونَ عِنْدَهُ زَوْجَةٌ حُرَّةٌ يُمْكِنُهُ أَنْ
يَسْتَعِفَّ بِهَا. فَإِنْ وُجِدَتْ لَمْ يَجُزْ لَهُ نِكَاحُ الأَْمَةِ؛
لأَِنَّ الْحُرَّةَ طَوْلٌ، وَفِي الْحَدِيثِ تُنْكَحُ الْحُرَّةُ عَلَى
الأَْمَةِ، وَلاَ تُنْكَحُ الأَْمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ. (2) قَال ابْنُ
قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا (3) " لَكِنْ قَدْ نُقِل فِي
ذَلِكَ خِلاَفٌ عَنْ مَالِكٍ، قَال الْقُرْطُبِيُّ: اخْتَلَفَ قَوْل
مَالِكٍ فِي الْحُرَّةِ أَهِيَ طَوْلٌ أَمْ لاَ، فَقَال فِي
الْمُدَوَّنَةِ: لَيْسَتِ الْحُرَّةُ بِطَوْلٍ تَمْنَعُ نِكَاحَ الأَْمَةِ
إِذَا لَمْ يَجِدْ سَعَةً لأُِخْرَى وَخَافَ الْعَنَتَ، وَقَال فِي كِتَابِ
مُحَمَّدٍ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْحُرَّةَ بِمَثَابَةِ الطَّوْل. قَال
الْقُرْطُبِيُّ: فَيَقْتَضِي هَذَا أَنَّ مَنْ
__________
(1) المغني 6 / 597.
(2) حديث: " لا تنكح الأمة على الحرة، وتنكح الحرة على الأمة ". أخرجه
البيهقي (7 / 175 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث جابر بن عبد الله
موقوفًا عليه، وقال: " هذا إسناد صحيح ". وكذا صححه ابن حجر في التلخيص (3
/ 171 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) المغني 6 / 597، وفتح القدير 2 / 376، 377، وروضة الطالبين 7 / 129.
(23/50)
عِنْدَهُ حُرَّةٌ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ
نِكَاحُ الأَْمَةِ وَإِنْ عَدِمَ السَّعَةَ وَخَافَ الْعَنَتَ (1) .
وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ أَمَةٌ يَتَسَرَّاهَا لاَ يَحِل لَهُ نِكَاحُ
الأَْمَةِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى شِرَاءِ أَمَةٍ تَصْلُحُ
لِلْوَطْءِ (2) . وَيُعْتَبَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي الأَْصَحِّ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فِي الْحُرَّةِ الَّتِي يَمْنَعُ وُجُودُهَا
تَحْتَهُ صِحَّةَ نِكَاحِهِ لِلأَْمَةِ، أَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ يَحْصُل
بِهَا الإِْعْفَافُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ تَمْنَعْ نِكَاحَ
الأَْمَةِ، كَأَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً، أَوْ هَرِمَةً، أَوْ غَائِبَةً، أَوْ
مَرِيضَةً لاَ يُمْكِنُ وَطْؤُهَا. لأَِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ حُرَّةٍ
تُعِفُّهُ فَأَشْبَهَ مَنْ لاَ يَجِدُ شَيْئًا. وَفِي رَوْضَةِ
الطَّالِبِينَ: أَوْ كَانَتْ مَجْنُونَةً، أَوْ مَجْذُومَةً، أَوْ
بَرْصَاءَ، أَوْ رَتْقَاءَ، أَوْ مُضْنَاةً لاَ تَحْتَمِل الْجِمَاعَ (3) .
الشَّرْطُ الثَّانِي:
76 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ
حِل نِكَاحِ الأَْمَةِ أَنْ يَخَافَ أَنْ يَقَعَ فِي الزِّنَا إِنْ لَمْ
يَتَزَوَّجْ، وَشَقَّ عَلَيْهِ الصَّبْرُ عَنِ الْجِمَاعِ فَعَنِتَ
بِسَبَبِ ذَلِكَ، أَيْ وَقَعَ فِي الْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ (4) .
__________
(1) تفسير القرطبي 5 / 136، والزرقاني 3 / 220.
(2) روضة الطالبين 7 / 131.
(3) المغني 6 / 597.
(4) تفسير ابن كثير 1 / 478 القاهرة، ط عيسى الحلبي، والزرقاني 3 / 220.
(23/51)
قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَيْسَ
الْمُرَادُ بِالْخَوْفِ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْوُقُوعُ فِي
الزِّنَا، بَل أَنْ يَتَوَقَّعَهُ لاَ عَلَى النُّدُورِ. قَال
النَّوَوِيُّ: مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ وَضَعُفَتْ تَقْوَاهُ
فَهُوَ خَائِفٌ (1) . وَهَذَا الشَّرْطُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، إِذْ لَيْسَ زَوَاجُ الأَْمَةِ مَقْصُورًا عَلَى
الضَّرُورَةِ، أَخْذًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ
لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (2) وَقَوْلِهِ: {وَأُحِل لَكُمْ مَا وَرَاءَ
ذَلِكُمْ} (3) وَلَمْ يَرِدْ مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ، قَالُوا: وقَوْله
تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} (4) إِنَّمَا يَدُل
عَلَى الْمَنْعِ بِالْمَفْهُومِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ حُجَّةً عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَلَوْ سَلِمَ، لأََمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الْكَرَاهَةِ،
وَهِيَ لاَ تُنَافِي الصِّحَّةَ. وَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ
بِالْكَرَاهَةِ (5) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ:
77 - أَنْ لاَ يَقْدِرَ عَلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ، لِعَدَمِ وُجُودِ حُرَّةٍ،
أَوْ لِعَدَمِ وُجُودِ الطَّوْل وَهُوَ الصَّدَاقُ. وَقِيل: الصَّدَاقُ
وَالنَّفَقَةُ. وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُورِ (6) .
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 131.
(2) سورة النساء / 3.
(3) سورة النساء / 24.
(4) سورة النساء / 25.
(5) فتح القدير 2 / 376.
(6) روضة الطالبين 7 / 129، وتفسير القرطبي 5 / 137، والمغني 6 / 596،
والزرقاني 3 / 220.
(23/51)
الشَّرْطُ الرَّابِعُ:
78 - أَنْ لاَ تَكُونَ الأَْمَةُ مَمْلُوكَةً لَهُ، وَلاَ لِوَلَدِهِ.
فَلاَ يَتَزَوَّجُ السَّيِّدُ أَمَتَهُ الَّتِي يَمْلِكُهَا، قَال صَاحِبُ
الْهِدَايَةِ: لأَِنَّ النِّكَاحَ مَا شُرِعَ إِلاَّ مُثْمِرًا ثَمَرَاتٍ
مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُتَنَاكِحَيْنِ، وَالْمَمْلُوكِيَّةُ تُنَافِي
الْمَالِكِيَّةَ فَيَمْتَنِعُ وُقُوعُ الثَّمَرَةِ عَلَى الشَّرِكَةِ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: لأَِنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ يُفِيدُ مِلْكَ
الْمَنْفَعَةِ وَإِبَاحَةَ الْبُضْعِ، فَلاَ يَجْتَمِعُ مَعَهُ عَقْدٌ
أَضْعَفُ مِنْهُ.
وَلَوْ مَلَكَ زَوْجَتَهُ وَهِيَ أَمَةٌ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا (1) . وَلاَ يَجُوزُ
لِلرَّجُل أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةَ ابْنِهِ أَوْ بِنْتِهِ؛ لأَِنَّ لَهُ
فِيهَا شُبْهَةً، وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُورِ. لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتَ وَمَالُكَ لأَِبِيكَ (2) . وَقَال
الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةَ ابْنِهِ أَوْ
بِنْتِهِ. لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ وَلاَ تَعْتِقُ
بِإِعْتَاقِهِ (3) .
الشَّرْطُ الْخَامِسُ:
79 - أَنْ تَكُونَ الأَْمَةُ مُسْلِمَةً إِنْ كَانَ مَنْ يُرِيدُ
__________
(1) فتح القدير 2 / 371، والمغني 6 / 610، والقليوبي 3 / 247، والزرقاني 3
/ 208.
(2) حديث: " أنت ومالك لأبيك ". أخرجه ابن ماجه (2 / 769 - ط الحلبي) من
حديث جابر بن عبد الله، وصحح إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 25 - ط
دار الجنان) .
(3) المغني 6 / 610، والقليوبي 3 / 247.
(23/52)
الزَّوَاجَ بِهَا حُرًّا مُسْلِمًا، فَلَوْ
كَانَتْ كِتَابِيَّةً لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ، لِمَفْهُومِ قَوْلِهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ
فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} (1) وَهَذَا قَوْل الشَّافِعِيَّةِ،
وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ زَوَاجَ الأَْمَةِ لِلضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ
تَنْدَفِعُ بِزَوَاجِهِ بِأَمَةٍ مُسْلِمَةٍ، وَلأَِنَّهُ يَجْتَمِعُ
فِيهَا نَقْصُ الْكُفْرِ وَنَقْصُ الرِّقِّ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ،
أَخْذًا بِإِطْلاَقِ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ
النِّسَاءِ} (2) وَقَوْلِهِ {وَأُحِل لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (3)
قَالُوا: فَلاَ يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ إِلاَّ بِمَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ،
وَلَيْسَتِ الآْيَةُ السَّابِقَةُ مُوجِبَةً لِلتَّخْصِيصِ؛ لأَِنَّ
دَلاَلَتَهَا بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ، وَلَيْسَ هُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي أُصُول الْفِقْهِ. قَالُوا:
وَلأَِنَّ وَطْأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ جَائِزٌ، فَيَجُوزُ بِالنِّكَاحِ.
وَقَالُوا: إِنَّ زَوَاجَ الأَْمَةِ فِي تِلْكَ الْحَال يَكُونُ
مَكْرُوهًا، لاَ حَرَامًا (4) .
اسْتِدَامَةُ نِكَاحِ الأَْمَةِ عِنْدَ زَوَال بَعْضِ الشُّرُوطِ:
80 - لَوْ زَال بَعْضُ الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ بَعْدَ أَنْ نَكَحَ
__________
(1) سورة النساء / 25.
(2) سورة النساء / 3.
(3) سورة النساء / 24.
(4) فتح القدير 2 / 376، والمغني 6 / 596، وكشاف القناع 5 / 85.
(23/52)
الْحُرُّ الأَْمَةَ لَمْ يَنْفَسِخْ
نِكَاحُهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلاَقُ،
كَأَنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا حُرَّةً، أَوْ أَمْكَنَهُ التَّزَوُّجُ بِهَا
لِوُجُودِهَا، أَوْ كَانَ مُعْسِرًا لاَ يَجِدُ صَدَاقًا فَأَيْسَر، أَوْ
كَانَ يَخَافُ الْعَنَتَ ثُمَّ زَال ذَلِكَ الْخَوْفُ لأَِمْرٍ مَا،
وَذَلِكَ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُتَقَدِّمَةَ هِيَ شُرُوطُ ابْتِدَاءٍ، لاَ
شُرُوطُ دَوَامٍ.
وَفِي قَوْل الْمُزَنِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يَنْفَسِخُ نِكَاحُ
الأَْمَةِ بِذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) . وَلَوْ
كَانَ الزَّوْجُ قَدْ طَلَّقَ الأَْمَةَ ثُمَّ زَالَتْ بَعْضُ الشُّرُوطِ
بِأَنْ تَزَوَّجَ حُرَّةً مَثَلاً، صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ
يَحْرُمُ عَلَيْهِ مُرَاجَعَةُ الأَْمَةِ فِي عِدَّتِهَا (2) .
الْوِلاَيَةُ فِي تَزْوِيجِ الأَْمَةِ:
81 - لاَ تُزَوِّجُ الأَْمَةُ نَفْسَهَا، بَل وِلاَيَةُ تَزْوِيجِهَا
لِسَيِّدِهَا لأَِنَّهَا مَالُهُ. وَقَدْ قَال تَعَالَى {فَانْكِحُوهُنَّ
بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} (3) أَيْ بِوِلاَيَةِ أَرْبَابِهِنَّ
وَمَالِكِيهِنَّ.
فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ صَغِيرًا أَوْ سَفِيهًا فَلِوَلِيِّهِ فِي الْمَال
تَزْوِيجُهَا؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ مَالِيَّةٌ
لِلصَّغِيرِ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْصِيل مَهْرِهَا وَوَلَدِهَا،
وَكِفَايَةِ مُؤْنَتِهَا، وَصِيَانَتِهَا عَنِ الزِّنَا الْمُوجِبِ
لِلْحَدِّ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، إِلَى
__________
(1) الزرقاني على مختصر خليل 3 / 220.
(2) روضة الطالبين 7 / 133 و8 / 217، والمغني 6 / 599.
(3) سورة النساء / 25.
(23/53)
أَنَّ لِوَلِيِّ الصَّغِيرِ أَنْ يُزَوِّجَ
أَمَتَهُ إِذَا ظَهَرَتِ الْغِبْطَةُ (الْحَظُّ الْمَالِيُّ) .
وَإِنْ كَانَ مَالِكُ الأَْمَةِ امْرَأَةً فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ
رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ مَنْ يَتَوَلَّى تَزْوِيجَ الْمَرْأَةِ
يَتَوَلَّى تَزْوِيجَ أَمَتِهَا، وَلاَ يُزَوِّجُهَا إِلاَّ بِإِذْنِ
سَيِّدَتِهَا لأَِنَّهَا مَالُهَا، فَلاَ يَتَصَرَّفُ فِيهَا أَحَدٌ إِلاَّ
بِإِذْنِهَا (1) .
الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ وَالاِسْتِخْدَامُ:
82 - إِذَا زَوَّجَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ فَمَهْرُهَا لَهُ؛ لأَِنَّهَا
مِلْكُهُ ذَاتًا وَمَنْفَعَةً، وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُورِ. وَقَال
مَالِكٌ: مَهْرُهَا لَهَا، وَهِيَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ السَّيِّدِ،
لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ
وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (2) . هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ
عَنْهُ، وَفِي الزَّرْقَانِيِّ أَنَّ الْمَنْقُول عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ
فِيهِ خِلاَفٌ.
وَإِذَا زَوَّجَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ امْتَنَعَ عَلَيْهِ الاِسْتِمْتَاعُ
بِهَا، وَيَبْقَى لَهُ مَنْفَعَةُ اسْتِخْدَامِهَا، فَتَكُونُ عَلَى مَا
ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عِنْدَهُ نَهَارًا؛ لأَِنَّهُ
وَقْتُ الْخِدْمَةِ، وَتَكُونُ عِنْدَ زَوْجِهَا لَيْلاً؛ لأَِنَّهُ وَقْتُ
الاِسْتِمْتَاعِ، فَإِنْ تَبَرَّعَ السَّيِّدُ بِأَنْ تَكُونَ عِنْدَ
الزَّوْجِ لَيْلاً وَنَهَارًا كَانَتْ عِنْدَهُ. وَحَيْثُ كَانَتْ عِنْدَ
السَّيِّدِ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهَا فِي وَقْتِهِ، وَحَيْثُ كَانَتْ
__________
(1) المغني 6 / 467، 468، وتفسير القرطبي 5 / 141، وروضة الطالبين 7 / 105.
(2) تفسير القرطبي 5 / 142 والآية سورة النساء / 25.
(23/53)
عِنْدَ الزَّوْجِ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهَا
فِي وَقْتِهِ. هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ
لِلشَّافِعِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ نَفَقَةَ الأَْمَةِ الْمُزَوَّجَةِ
عَلَى زَوْجِهَا بِكُل حَالٍ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ
الأَْمَةِ عَلَى السَّيِّدِ عَلَى كُل حَالٍ؛ لأَِنَّهَا لاَ تَجِبُ إِلاَّ
بِالتَّمْكِينِ التَّامِّ، وَلَمْ يُوجَدْ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ
فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَوِّئَهَا بَيْتَ الزَّوْجِ، لَكِنَّهَا
تَخْدُمُ الْوَلِيَّ، وَيُقَال لِلزَّوْجِ: مَتَى ظَفِرْتَ بِهَا
وَطِئْتَهَا، فَإِنْ بَوَّأَهَا مَعَهُ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى،
وَإِلاَّ فَلاَ (1) .
أَوْلاَدُ الْحُرِّ مِنَ الأَْمَةِ:
83 - إِذَا تَزَوَّجَ الْحُرُّ أَمَةً فَأَوْلاَدُهُ مِنْهَا أَرِقَّاءُ
تَبَعًا لأُِمِّهِمْ، فَيُولَدُونَ عَلَى مِلْكِ السَّيِّدِ، وَقَدْ
صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ ذَلِكَ مَا لَمْ يَشْتَرِطِ الزَّوْجُ فِي
عَقْدِ النِّكَاحِ حُرِّيَّةَ أَوْلاَدِهِ مِنْهَا، فَإِنْ شَرَطَهُ صَحَّ
وَعَتَقَ جَمِيعُ أَوْلاَدِهِ مِنْهَا مِنْ ذَلِكَ النِّكَاحِ لأَِنَّهُ
فِي مَعْنَى تَعْلِيقِ الْحُرِّيَّةِ بِالْوِلاَدَةِ، ثُمَّ إِنْ مَاتَ
السَّيِّدُ أَوْ بَاعَ الأَْمَةَ الزَّوْجَةَ فَالصَّحِيحُ أَنَّ الشَّرْطَ
قَائِمٌ وَيَعْتِقُ مَنْ يُولَدُ بَعْدَ ذَلِكَ أَيْضًا.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَعْتَقَ السَّيِّدُ أَوْلاَدَ أَمَتِهِ
__________
(1) الهداية وفتح القدير 2 / 491، وحاشية ابن عابدين 2 / 276، والمغني 6 /
564، والقليوبي 3 / 272، وروضة الطالبين 5 / 186، 8 / 409 و9 / 79،
والزرقاني 3 / 221، وكشاف القناع 3 / 554، و5 / 187.
(23/54)
فَعَلَى الأَْبِ الْحُرِّ نَفَقَتُهُمْ،
قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِلاَّ أَنْ يَعْدَمَ أَوْ يَمُوتَ فَعَلَى
السَّيِّدِ؛ لأَِنَّ مَنْ أُعْتِقَ صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُنْفِقُ
عَلَيْهِ فَنَفَقَتُهُ عَلَى مُعْتِقِهِ، لأَِنَّهُ يُتَّهَمُ أَنَّهُ
إِنَّمَا أَعْتَقَهُ لِيُسْقِطَ عَنْ نَفْسِهِ نَفَقَتَهُ (1) .
وَلَوْ أَنَّ الزَّوْجَ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ الأَْمَةَ انْفَسَخَ نِكَاحُهُ
كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ كَانَتْ حَامِلاً مِنْهُ صَارَ الْحَمْل
مَحْكُومًا بِحُرِّيَّتِهِ؛ لأَِنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَوْ
كَانَ الْعُلُوقُ أَثْنَاءَ الرِّقِّ. صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقَلْيُوبِيُّ
مِنَ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
زَوَاجُ الْحُرَّةِ عَلَى الأَْمَةِ:
84 - مَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً بِشُرُوطِهَا، ثُمَّ أَمْكَنَهُ زَوَاجُ
الْحُرَّةِ فَتَزَوَّجَهَا، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لاَ يَنْفَسِخُ
نِكَاحُ الأَْمَةِ. وَيُثْبِتُ الْمَالِكِيَّةُ لِلْحُرَّةِ هُنَا الْحَقَّ
فِي فَسْخِ نَفْسِهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ عَلِمَتْ بِأَنَّهُ مُتَزَوِّجٌ
بِأَمَةٍ، قَالُوا: ذَلِكَ لِمَا يَلْحَقُهَا مِنَ الْمَعَرَّةِ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَيَكُونُ فَسْخُهَا بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ
بَائِنَةٍ، فَإِنْ أَوْقَعَتْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ لَمْ يَقَعْ إِلاَّ
وَاحِدَةٌ.
قَالُوا: وَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَ عَلَى الْحُرَّةِ أَمَةً يَكُونُ
لِلْحُرَّةِ الْخِيَارُ (3) .
__________
(1) الزرقاني 3 / 220 و4 / 253، وكشاف القناع 6 / 474، وحاشية ابن عابدين 2
/ 276.
(2) حاشية القليوبي على شرح المنهاج 4 / 354.
(3) الزرقاني 3 / 221.
(23/54)
الْعِشْرَةُ وَالْقَسْمُ:
85 - يَسْتَمْتِعُ الزَّوْجُ مِنْ زَوْجَتِهِ الأَْمَةِ بِمِثْل مَا
يَسْتَمْتِعُ بِهِ مِنْ الْحُرَّةِ، وَيَجْتَنِبُ الدُّبُرَ وَالْحَيْضَةَ،
لَكِنْ لاَ يَعْزِل عَنِ الْحُرَّةِ إِلاَّ بِرِضَاهَا، وَلاَ يَعْزِل عَنْ
زَوْجَتِهِ الأَْمَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ
إِلاَّ بِرِضَا سَيِّدِهَا لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُ فِي الْوَلَدِ. وَقَال
صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ: الْحَقُّ فِي الإِْذْنِ لَهَا خَاصَّةً؛ لأَِنَّ
الْوَطْءَ حَقُّهَا إِذْ تَثْبُتُ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ، وَفِي
الْعَزْل تَنْقِيصُ حَقِّهَا فَيُشْتَرَطُ رِضَاهَا كَالْحُرَّةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَعْزِل عَنْ زَوْجَتِهِ
الأَْمَةِ إِلاَّ بِإِذْنِ السَّيِّدِ وَإِذْنِهَا، لأَِنَّ الْعَزْل
يُنْقِصُ الاِسْتِمْتَاعَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَحْرُمُ الْعَزْل عَنِ الْحُرَّةِ
وَالأَْمَةِ، زَوْجَةً أَوْ سُرِّيَّةً، بِالإِْذْنِ وَغَيْرِ الإِْذْنِ
(1) .
وَالْحَقُّ فِي الاِسْتِمْتَاعِ لِلأَْمَةِ لاَ لِسَيِّدِهَا، فَلَوْ
تَنَازَلَتْ عَنْ حَقِّهَا فِي الْقَسْمِ صَحَّ، وَلَوْ رَضِيَتْ بِعَيْبِ
الزَّوْجِ فَلاَ فَسْخَ (2) .
وَلِلزَّوْجَةِ الأَْمَةِ الْحَقُّ فِي أَنْ يَقْسِمَ لَهَا، بِخِلاَفِ
السُّرِّيَّةِ.
وَلَهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ نِصْفُ
__________
(1) الزرقاني 3 / 224، وكشاف القناع 5 / 189، وروضة الطالبين 7 / 5، وفتح
القدير 2 / 495، وتكملته 8 / 110.
(2) روضة الطالبين 7 / 353، 9 / 79.
(23/55)
مَا يَقْسِمُ لِلْحُرَّةِ، فَلِلأَْمَةِ
لَيْلَةٌ مُقَابِل كُل لَيْلَتَيْنِ لِلْحُرَّةِ.
فَإِنْ كُنَّ إِمَاءً كُلَّهُنَّ وَجَبَ الْعَدْل بَيْنَهُنَّ، قَال
الْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ -: فَيَقْسِمُ
لَهُنَّ لَيْلَةً وَلَيْلَةً لاَ أَكْثَرُ، كَمَا لَوْ كُنَّ كُلُّهُنَّ
حَرَائِرَ، إِلاَّ أَنْ يَرْضَيْنَ بِالزِّيَادَةِ. قَالُوا: وَالْحَقُّ
فِي الْقَسْمِ لِلأَْمَةِ لاَ لِسَيِّدِهَا، فَلَهَا أَنْ تَهَبَ
لَيْلَتَهَا لِضَرَّتِهَا أَوْ لِزَوْجِهَا، وَلَيْسَ لِسَيِّدِهَا
الاِعْتِرَاضُ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ
الزَّوْجَةِ الْحُرَّةِ وَالزَّوْجَةِ الأَْمَةِ فِي الْقَسْمِ.
وَإِنْ تَزَوَّجَ أَمَةً بِكْرًا أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا ثُمَّ دَارَ،
وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاَثًا ثُمَّ دَارَ، كَمَا
يَفْعَل مَعَ الْحُرَّةِ (1) .
وَلَوْ تَبَيَّنَ الزَّوْجُ عِنِّينًا فَرَضِيَتْ بِهِ كَانَ لِسَيِّدِهَا
الْمُطَالَبَةُ بِالْفَسْخِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَال
الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ: الطَّلَبُ لَهَا (2) . وَهَذِهِ
الْمَسْأَلَةُ فَرْعٌ عَنْ مَسْأَلَةِ الْعَزْل وَقَدْ تَقَدَّمَتْ.
اسْتِبْرَاءُ الزَّوْجَةِ الأَْمَةِ:
86 - مَنِ اشْتَرَى أَمَةً لَمْ يَحِل لَهُ وَطْؤُهَا مِنْ غَيْرِ
اسْتِبْرَاءٍ، وَذَلِكَ لِيَتَحَقَّقَ بَرَاءَةَ رَحِمِهَا (ر:
اسْتِبْرَاء) .
__________
(1) كشاف القناع 5 / 207، والزرقاني 4 / 57، والمغني 7 / 35، وفتح القدير 2
/ 380، والأشباه والنظائر للسيوطي ص93.
(2) فتح القدير 3 / 264، وروضة الطالبين 9 / 79.
(23/55)
أَمَّا مَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً فَقَدِ
اخْتُلِفَ فِيهَا، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى
الزَّوْجِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى يَطَؤُهَا قَبْل
التَّزْوِيجِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ مَتَى صَحَّ
تَضَمَّنَ الْعِلْمَ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ شَرْعًا وَهُوَ الْمَقْصُودُ
مِنْ الاِسْتِبْرَاءِ، وَعَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا قَبْل أَنْ
يُزَوِّجَهَا.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْل الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ عَلَى
السَّيِّدِ أَنْ يَسْتَبْرِئَ مَوْطُوءَتَهُ إِنْ أَرَادَ تَزْوِيجَهَا
وَيُصَدَّقُ السَّيِّدُ إِنْ قَال: إِنَّهُ اسْتَبْرَأَهَا قَبْل
التَّزْوِيجِ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا
اسْتِحْسَانًا (1) .
النَّوْعُ الثَّانِي: زَوَاجُ الْعَبْدِ بِالأَْمَةِ:
87 - يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْعَبْدُ أَمَةً، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي
ذَلِكَ شَيْءٌ مِنَ الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِزَوَاجِ الْحُرِّ
بِالأَْمَةِ، وَلاَ يَصِحُّ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِذْنِ سَيِّدِ الْعَبْدِ
وَسَيِّدِ الأَْمَةِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَهُوَ
عَاهِرٌ (2) وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَكُونُ نِكَاحُهُ
مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ السَّيِّدِ.
إِذَا كَانَ لِلسَّيِّدِ عَبْدٌ وَأَمَةٌ فَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدَهُ
أَمَتَهُ، وَيُشْتَرَطُ إِذْنُ الْعَبْدِ عِنْدَ مَنْ لاَ يُجِيزُ
إِجْبَارَهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 240، والزرقاني 4 / 233.
(2) حديث: " أيما عبد تزوج بغير إذن سيده فهو عاهر ". أخرجه الترمذي (3 /
410 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله، وقال: " حديث حسن ".
(23/56)
عَلَى النِّكَاحِ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ.
وَإِذَا زَوَّجَ عَبْدَهُ مِنْ أَمَتِهِ فَلاَ مَهْرَ عِنْدَ مَنْ قَال:
إِنَّ مَهْرَ الأَْمَةِ لِسَيِّدِهَا (1) .
وَمَهْرُ زَوْجَةِ الْعَبْدِ فِي كَسْبِهِ هُوَ إِنْ كَانَ لَهُ كَسْبٌ فِي
قَوْل الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُنْفِقُ، يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِطَلَبِ
الزَّوْجَةِ، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ مِنَ الْكَسْبِ، ثُمَّ قَال
الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى زَوْجَتِهِ
إِلاَّ نَفَقَةَ الْمُعْسِرِينَ إِنْ كَثُرَ مَالُهُ؛ لِضَعْفِ مِلْكِهِ.
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى السَّيِّدِ
سَوَاءٌ ضَمِنَهَا أَوْ لَمْ يَضْمَنْهَا، وَسَوَاءٌ بَاشَرَ هُوَ
الْعَقْدَ أَوْ بَاشَرَهُ الْعَبْدُ بِإِذْنِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ
مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ تَعَلَّقَ
بِالْعَبْدِ بِرِضَا سَيِّدِهِ فَيَضْمَنُهُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ
السَّيِّدُ الْعَبْدَ أَوْ أَعْتَقَهُ لَمْ يَسْقُطِ الْمَهْرُ عَنِ
السَّيِّدِ (2) .
وَتُعْلَمُ غَالِبُ أَحْكَامِ هَذَا النَّوْعِ مِنِ النِّكَاحِ،
بِمُرَاجَعَةِ زَوَاجِ الْحُرِّ بِالأَْمَةِ السَّابِقِ ذِكْرُهُ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: زَوَاجُ الْعَبْدِ بِالْحُرَّةِ:
88 - لاَ يَمْتَنِعُ شَرْعًا أَنْ يَتَزَوَّجَ الْعَبْدُ حُرَّةً، وَلَهُ
أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ، وَلَكِنْ لاَ يَحِل لَهُ أَنْ
__________
(1) فتح القدير 2 / 488، والزرقاني والبناني 2 / 218 و3 / 196، 197.
(2) المغني 6 / 507، وكشاف القناع 5 / 56، وروضة الطالبين 9 / 40، 41، 79،
وشرح المنهاج 3 / 272.
(23/56)
يَتَزَوَّجَ سَيِّدَتَهُ؛ لأَِنَّ
أَحْكَامَ النِّكَاحِ تَتَنَافَى مَعَ أَحْكَامِ الْمِلْكِ، فَإِنَّ كُل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الطَّرَفُ الآْخَرُ بِحُكْمِهِ
يُسَافِرُ بِسَفَرِهِ وَيُقِيمُ بِإِقَامَتِهِ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ
فَيَتَنَافَيَانِ؛ وَلأَِنَّ مُقْتَضَى الزَّوْجِيَّةِ قِوَامَةُ الرَّجُل
عَلَى الْمَرْأَةِ بِالْحِفْظِ وَالصَّوْنِ وَالتَّأْدِيبِ،
وَالاِسْتِرْقَاقُ يَقْتَضِي قَهْرَ السَّادَاتِ لِلْعَبِيدِ
بِالاِسْتِيلاَءِ وَالاِسْتِهَانَةِ، فَيَتَعَذَّرُ أَنْ تَكُونَ سَيِّدَةً
لِعَبْدِهَا وَزَوْجَةً لَهُ.
وَلَوْ أَنَّ الزَّوْجَةَ الْحُرَّةَ مَلَكَتْ زَوْجَهَا الْعَبْدَ
انْفَسَخَ نِكَاحُهُمَا.
وَمِمَّا يَدُل لِصِحَّةِ زَوَاجِ الْعَبْدِ بِحُرَّةٍ مَا وَرَدَ فِي
قِصَّةِ بَرِيرَةَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةً لِعَبْدٍ اسْمُهُ مُغِيثٌ،
فَلَمَّا أُعْتِقَتْ، قَال لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَوْ رَاجَعْتِيهِ. فَقَالَتْ يَا رَسُول اللَّهِ أَتَأْمُرُنِي؟
قَال: إِنَّمَا أَنَا شَفِيعٌ. قَالَتْ: لاَ حَاجَةَ لِي فِيهِ (1) .
فَلاَ يَشْفَعُ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي أَنْ تَنْكِحَ عَبْدًا إِلاَّ وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ (2) .
وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْعَبْدُ غَيْرَ كُفْءٍ لِلْحُرَّةِ فَلاَ
تَتَزَوَّجُهُ إِلاَّ بِرِضَا أَوْلِيَائِهَا، فَإِنْ تَزَوَّجَتْهُ
فَلِمَنْ لَمْ يَرْضَ مِنْهُمُ الْفَسْخُ. وَهَذَا قَوْل مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْل الصَّاحِبَيْنِ، عَلَى أَنَّ
الْمَنْقُول
__________
(1) حديث: " قصة بريرة ومغيث ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 408 - ط السلفية)
من حديث ابن عباس.
(2) المغني 6 / 484، 610، 611 والعناية بهامش فتح القدير 2 / 371، وكشاف
القناع 5 / 897، والقليوبي 3 / 247.
(23/57)
عَنْهُمَا أَنَّ ذَلِكَ فِي الأَْوْلِيَاءِ
إِذَا تَسَاوَوْا فِي الدَّرَجَةِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ رَضِيَ بَعْضُهُمْ وَرَضِيَتِ الْمَرْأَةُ
لَمْ يَكُنْ لِبَاقِي الأَْوْلِيَاءِ الْفَسْخُ.
وَأَخَذَ الْعُلَمَاءُ مِنْ قِصَّةِ بَرِيرَةَ أَيْضًا أَنَّ الأَْمَةَ
إِذَا أُعْتِقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ يَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ
الْبَقَاءِ مَعَهُ وَبَيْنَ الْفَسْخِ. وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ
الْفَسْخَ يَقَعُ بِمُجَرَّدِ اخْتِيَارِهَا وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى
حُكْمِ الْقَاضِي لِظُهُورِهِ وَعَدَمِ الْخِلاَفِ فِيهِ (1) .
وَوَلَدُ الْعَبْدِ مِنْ زَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ أَحْرَارٌ؛ لأَِنَّ
الْوَلَدَ تَابِعٌ لأُِمِّهِ حُرِّيَّةً وَرِقًّا (2) .
إِنْفَاقُ الْعَبْدِ عَلَى أَوْلاَدِهِ:
89 - إِنْ كَانَ أَوْلاَدُ الْعَبْدِ أَحْرَارًا، كَأَنْ تَكُونَ أُمُّهُمْ
حُرَّةً، أَوْ يَكُونُوا مِنْ أَمَةٍ فَيُعْتِقُهُمُ السَّيِّدُ، فَلاَ
تَلْزَمُ أَبَاهُمُ الْعَبْدَ نَفَقَتُهُمْ، وَكَذَا لاَ تَلْزَمُهُ
نَفَقَةُ أَحَدٍ مِنْ أَقَارِبِهِ سِوَاهُمْ؛ لأَِنَّ نَفَقَةَ
الأَْقَارِبِ تَجِبُ عَلَى سَبِيل الْمُوَاسَاةِ وَلَيْسَ الْعَبْدُ
أَهْلَهَا. وَتَكُونُ النَّفَقَةُ عَلَى مَنْ يَلِيهِ مِنْ أَقَارِبِهِمْ
عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي بَابِ النَّفَقَاتِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ
تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ كَانَتْ فِي بَيْتِ الْمَال.
وَإِنْ كَانُوا أَرِقَّاءَ فَلَيْسَ عَلَى أَبِيهِمُ الْعَبْدِ
__________
(1) فتح القدير والعناية 2 / 408، 419، المغني 6 / 481، 484، وكشاف القناع
5 / 68، وروضة الطالبين 7 / 80، 84.
(2) البناني على الزرقاني 3 / 245، والأشباه للسيوطي 267.
(23/57)
نَفَقَتُهُمْ أَيْضًا، وَتَلْزَمُ
نَفَقَتُهُمْ سَيِّدَهُمْ (1) .
عَدَدُ زَوْجَاتِ الْعَبْدِ:
90 - اخْتُلِفَ فِي الْعَدَدِ الَّذِي يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَجْمَعَهُ
مِنَ النِّسَاءِ، فَقِيل: لاَ يَتَزَوَّجُ أَكْثَرَ مِنِ امْرَأَتَيْنِ،
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا
وَرَدَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي
ذَلِكَ. وَبِمَا رَوَى لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ
عُتَيْبَةَ أَنَّهُ قَال: أَجْمَعَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَنْكِحُ أَكْثَرَ مِنِ
اثْنَتَيْنِ، وَلِكَوْنِ أَحْكَامِ الرَّقِيقِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ
أَحْكَامِ الأَْحْرَارِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.
وَقِيل: لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا، وَهُوَ مَذْهَبُ
الْمَالِكِيَّةِ، قَالُوا: لِعُمُومِ آيَةِ: وَرُبَاعَ (2) لأَِنَّ
النِّكَاحَ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَالْعَبْدَ وَالْحُرَّ فِيهِمَا سَوَاءٌ
(3) .
أَحْكَامُ نِكَاحِ الْعَبْدِ:
91 - الأَْصْل أَنَّ أَحْكَامَ نِكَاحِ الْعَبْدِ كَأَحْكَامِ نِكَاحِ
الأَْحْرَارِ، إِلاَّ مَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ قَلِيلٌ،
وَمِنْهُ - غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ - أَنَّ الْعَبْدَ إِنْ وَطِئَ
__________
(1) المغني 7 / 599، وروضة الطالبين 9 / 96، والزرقاني 3 / 197.
(2) سورة النساء / 3.
(3) الزرقاني 3 / 207، وكشاف القناع 5 / 81، وفتح القدير 2 / 380.
(23/58)
الْحُرَّةَ فِي نِكَاحٍ لَمْ يُحْصِنْهَا،
كَمَا أَنَّ نِكَاحَ الأَْمَةِ لاَ يُحْصِنُ الْحُرَّ، فَلَوْ تَزَوَّجَتْ
عَبْدًا فَوَطِئَهَا ثُمَّ زَنَتْ حُدَّتْ حَدَّ الْبِكْرِ وَهُوَ مِائَةُ
جَلْدَةٍ وَلَمْ تُرْجَمْ؛ لِعَدَمِ إِحْصَانِهَا. وَهَذَا قَوْل جُمْهُورِ
الْعُلَمَاءِ.
وَقَال مَالِكٌ: إِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ حُرًّا وَالآْخَرُ
مَمْلُوكًا وَتَمَّ الْوَطْءُ فَالْحُرُّ مِنْهُمَا مُحْصَنٌ فَيُرْجَمُ
إِنْ زَنَى (1) .
الإِْيلاَءُ مِنَ الزَّوْجَةِ الأَْمَةِ، وَإِيلاَءُ الْعَبْدِ مِنْ
زَوْجَتِهِ:
92 - مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ
الإِْيلاَءَ مِنَ الزَّوْجَةِ الأَْمَةِ كَالإِْيلاَءِ مِنَ الزَّوْجَةِ
الْحُرَّةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا أَوْ حُرًّا، وَلِلأَْمَةِ
الْمُطَالَبَةُ بِالْوَطْءِ بَعْدَ الأَْشْهُرِ الأَْرْبَعَةِ وَإِنْ عَفَا
السَّيِّدُ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهَا فِي الاِسْتِمْتَاعِ، فَإِنْ تَرَكَتِ
الْمُطَالَبَةَ لَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِهَا الطَّلَبُ.
وَاحْتَجُّوا عَلَى الأَْشْهُرِ الأَْرْبَعَةِ بِعُمُومِ آيَةِ
الإِْيلاَءِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مُدَّةَ الإِْيلاَءِ إِنْ كَانَ
الزَّوْجُ عَبْدًا شَهْرَانِ وَلَوْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ حُرَّةً، فَإِنْ
كَانَ الْمَوْلَى حُرًّا فَالْمُدَّةُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَوْ كَانَتْ
زَوْجَتُهُ أَمَةً. وَاحْتَجُّوا بِالْقِيَاسِ قِيَاسًا عَلَى الْعِدَّةِ
(2) .
الْخُلْعُ:
__________
(1) المغني 8 / 163، والزرقاني 8 / 82.
(2) المغني 7 / 318، 323، وفتح القدير 3 / 195، وروضة الطالبين 8 / 230،
والزرقاني 4 / 152.
(23/58)
إنْ خَالَعَتِ الأَْمَةُ زَوْجَهَا عَلَى
مَالٍ فِي الذِّمَّةِ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ صَحَّ الْخُلْعُ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ وَلاَ يَلْزَمُ سَيِّدَهَا أَدَاءُ الْمَال، بَل يَكُونُ فِي
ذِمَّتِهَا تُؤَدِّيهِ إِنْ عَتَقَتْ، وَقِيل: يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهَا
فَتُبَاعُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ لَزِمَهُ وَتَعَلَّقَ
بِذِمَّتِهِ هُوَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَصِحُّ خُلْعُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ
السَّيِّدِ.
وَإِنْ خَالَعَ الْعَبْدُ زَوْجَتَهُ صَحَّ الْخُلْعُ؛ لأَِنَّهُ يَمْلِكُ
الطَّلاَقَ عَلَى غَيْرِ مَالٍ فَمَلَكَ الْخُلْعَ، وَهُوَ طَلاَقٌ أَوْ
فَسْخٌ عَلَى مَالٍ، وَالْحَقُّ فِي الْعِوَضِ لِلسَّيِّدِ.
فَإِنْ كَانَتِ الأَْمَةُ مَأْذُونًا لَهَا فِي التِّجَارَةِ، أَوْ
تَمْلِكُ شَيْئًا مِنَ الْمَال عِنْدَ مَنْ يَقُول بِأَنَّهَا تَمْلِكُ
الْمَال، لَزِمَهَا الْمَال (1) .
الظِّهَارُ وَالْكَفَّارَاتُ:
94 - إِذَا كَانَ الْمُظَاهِرُ عَبْدًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ
إِلاَّ بِالصِّيَامِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ الإِْعْتَاقَ وَلاَ
الإِْطْعَامَ، فَهُوَ كَالْحُرِّ الْمُعْسِرِ وَأَسْوَأُ مِنْهُ حَالاً.
لَكِنْ إِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي الإِْعْتَاقِ أَوِ الإِْطْعَامِ
فَفِي إِجْزَائِهِ قَوْلاَنِ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ لَوْ أَعْتَقَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ
سَيِّدُهُ
__________
(1) المغني 7 / 81، 82، 86، وكشاف القناع 5 / 125، وروضة الطالبين 7 / 384،
وفتح القدير 3 / 217، 205، والزرقاني 4 / 64.
(23/59)
فِي التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ، وَهَذَا
مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ،
وَذَلِكَ لأَِنَّهُ هُوَ مَمْلُوكٌ لاَ يَمْلِكُ، فَيَقَعُ تَكْفِيرُهُ
بِمَال غَيْرِهِ فَلَمْ يُجْزِئُهُ.
وَالثَّانِي: يُجْزِئُهُ الإِْطْعَامُ الْمَأْذُونُ فِيهِ دُونَ الْعِتْقِ
الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَهَذَا قَوْل مَالِكٍ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ؛
لأَِنَّ الْعِتْقَ يَقْتَضِي الْوَلاَءَ وَالْوِلاَيَةَ وَالإِْرْثَ،
وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلرَّقِيقِ.
وَالثَّالِثُ: إِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي التَّكْفِيرِ بِالْمَال
جَازَ سَوَاءٌ كَانَ إِطْعَامًا أَوْ عِتْقًا، وَهَذَا قَوْلٌ ثَانٍ
لِلشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْل الأَْوْزَاعِيِّ.
ثُمَّ قَال الشَّافِعِيَّةُ: فَإِنْ أَعْتَقَ فَالْوَلاَءُ مَوْقُوفٌ،
فَإِنْ عَتَقَ فَالْوَلاَءُ لَهُ، وَإِنْ دَامَ رِقُّهُ فَالْوَلاَءُ
لِسَيِّدِهِ.
وَلَوْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي الْعِتْقِ أَوِ الإِْطْعَامِ لَمْ يَجِبْ
عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُمَا حَتَّى عِنْدَ مَنْ يَقُول بِإِجْزَائِهِمَا؛
لأَِنَّ الصِّيَامَ فَرْضُهُ (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ
ثَالِثٍ لَهُمْ: بِأَنَّ لِلسَّيِّدِ مَعَ ذَلِكَ مَنْعَهُ مِنَ الصَّوْمِ
إِنْ أَضَرَّ بِخِدْمَتِهِ. قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَهَذَا فِي غَيْرِ
كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، أَمَّا فِيهَا فَلَيْسَ لَهُ الْمَنْعُ؛ لأَِنَّهُ
يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الزَّوْجَةِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَيْسَ لَهُ
أَنْ يَمْنَعَهُ وَلَوْ أَضَرَّ بِخِدْمَتِهِ؛ لأَِنَّهُ وَاجِبٌ لِحَقِّ
اللَّهِ تَعَالَى كَالصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ (2) .
__________
(1) المغني 7 / 380، والزرقاني 4 / 179، وكشاف القناع 6 / 244، وروضة
الطالبين 11 / 4.
(2) الزرقاني 4 / 179، والمغني 8 / 753، وروضة الطالبين 8 / 300.
(23/59)
وَمِمَّا تَقَدَّمَ يُعْلَمُ حُكْمُ
التَّكْفِيرِ فِي الْيَمِينِ أَوِ الْقَتْل إِذْ تَنْطَبِقُ عَلَيْهِمَا
الأَْحْكَامُ السَّابِقَةُ بِقَدْرِهِمَا (1) .
الطَّلاَقُ:
95 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَدَدِ الطَّلاَقِ فِي نِكَاحِ
الرَّقِيقِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ) ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ
وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ
إِلَى أَنَّ عَدَدَ الطَّلاَقِ مُعْتَبَرٌ بِالزَّوْجِ، فَإِنْ كَانَ
الزَّوْجُ حُرًّا فَإِنَّهُ يَمْلِكُ عَلَى زَوْجَتِهِ ثَلاَثَ
تَطْلِيقَاتٍ وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً.
وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا فَإِنَّهُ يَمْلِكُ تَطْلِيقَتَيْنِ لاَ
غَيْرُ، وَلَوْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ حُرَّةً، فَإِنْ طَلَّقَهَا
الثَّانِيَةَ بَانَتْ مِنْهُ وَلَمْ تَحِل لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ
عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
طَلاَقُ الْعَبْدِ تَطْلِيقَتَانِ وَلاَ تَحِل لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ
زَوْجًا. (2) وَبِأَنَّ
__________
(1) المغني 8 / 753، وكشاف القناع 6 / 66، 244 وشرح الأشباه 2 / 153.
(2) حديث: " طلاق العبد تطليقتان ولا تحل له حتى تنكح زوجًا ". أخرجه
الدارقطني (4 / 39 - ط دار المحاسن) من طريق القاسم بن محمد عن عائشة
مرفوعًا، ثم نقل عن أبي عاصم ـ الضحاك بن مخلد ـ أنه استنكره، وعن أبي بكر
النيسابوري أنه قال: " والصحيح عن القاسم خلاف هذا "
(23/60)
الرَّجُل هُوَ الْمُخَاطَبُ بِالطَّلاَقِ
فَكَانَ مُعْتَبَرًا بِهِ؛ وَلأَِنَّ الطَّلاَقَ خَالِصُ حَقِّ الزَّوْجِ،
وَهُوَ مِمَّا يَخْتَلِفُ بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ اتِّفَاقًا، فَكَانَ
اخْتِلاَفُهُ بِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الطَّلاَقَ مُعْتَبَرٌ بِالنِّسَاءِ،
فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ حُرَّةً فَطَلاَقُهَا ثَلاَثٌ وَلَوْ كَانَ
زَوْجُهَا عَبْدًا، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَطَلاَقُهَا اثْنَتَانِ وَإِنْ
كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ،
وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، وَعِكْرِمَةَ وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ،
وَمَسْرُوقٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ.
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ طَلاَقُ الأَْمَةِ اثْنَتَانِ وَعِدَّتُهَا
حَيْضَتَانِ (1) . وَلأَِنَّ الْمَرْأَةَ مَحَل الطَّلاَقِ فَهُوَ
مُعْتَبَرٌ بِهَا كَالْعِدَّةِ.
وَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى أَنَّ أَيَّهُمَا
رَقَّ نَقَصَ الطَّلاَقُ بِرِقِّهِ (2) .
وَإِنَّمَا ذَهَبُوا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ إِلَى نَقْصِ طَلاَقِ
الرَّقِيقِ عَنْ طَلاَقِ الأَْحْرَارِ قِيَاسًا عَلَى الْحَدِّ الَّذِي
قَال اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ
__________
(1) حديث: " طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان ". أخرجه الدارقطني (4 / 38 -
ط دار المحاسن) من حديث ابن عمر، وضعفه ولكنه صححه موقوفًا من قول ابن عمر،
ثم أسنده إليه بلفظ: " طلاق العبد الحرة تطليقتان، وعدتها ثلاثة قروء،
وطلاق الحر الأمة تطليقتان، وعدتها عدة الأمة حيضتان ".
(2) المغني 7 / 262، وكشف القناع 5 / 259، وفتح القدير 3 / 42، 174، وروضة
الطالبين 8 / 71.
(23/60)
أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ
مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (1) إِلاَّ أَنَّهُ لَمَّا
كَانَ التَّنْصِيفُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ طَلْقَةً وَنِصْفًا، وَلاَ
نِصْفَ لِلطَّلْقَةِ، حَتَّى لَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ
طُلِّقَتْ طَلْقَةً كَامِلَةً، فَلِذَا كَانَ طَلاَقُ الرَّقِيقِ
طَلْقَتَيْنِ عَلَى الْخِلاَفِ الْمُتَقَدِّمِ فِي مَنْ يُعْتَبَرُ بِهِ
الطَّلاَقُ مِنَ الزَّوْجَيْنِ.
ثُمَّ إِنْ طَلَّقَ الْعَبْدُ زَوْجَتَهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا عَلَى
الْخِلاَفِ الْمُتَقَدِّمِ لَمْ تَحِل لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ
زَوْجًا غَيْرَهُ، فَلَوْ لَمْ تَنْكِحْ زَوْجًا آخَرَ لَكِنْ أَصَابَهَا
سَيِّدُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ لَمْ تَحِل لِمُطَلِّقِهَا بِذَلِكَ
بِدَلاَلَةِ الآْيَةِ.
وَلَوْ أَنَّ زَوْجَهَا بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا كُل مَا يَمْلِكُهُ مِنَ
الطَّلاَقِ اشْتَرَاهَا لَمْ يَحِل لَهُ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ مَا
لَمْ تَنْكِحْ زَوْجًا آخَرَ (2) .
تَطْلِيقُ السَّيِّدِ عَلَى الْعَبْدِ:
96 - لَوْ طَلَّقَ السَّيِّدُ زَوْجَةَ عَبْدِهِ لَمْ يَقَعْ طَلاَقُهُ
سَوَاءٌ كَانَتِ الزَّوْجَةُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً، وَسَوَاءٌ كَانَتْ
أَمَةً لِلسَّيِّدِ أَمْ لِغَيْرِهِ.
وَقَدْ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَتَى النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ،
إِنَّ سَيِّدِي زَوَّجَنِي أَمَتَهُ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ
بَيْنِي وَبَيْنَهَا قَال: فَصَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَقَال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ
__________
(1) سورة النساء / 25.
(2) فتح القدير 3 / 43، 174، 177.
(23/61)
مَا بَال أَحَدِكُمْ يُزَوِّجُ عَبْدَهُ
أَمَتَهُ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا، إِنَّمَا الطَّلاَقُ
لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ.} (1)
وَحَقُّ الرَّجْعَةِ فِي الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ هُوَ لِلْعَبْدِ لاَ
لِسَيِّدِهِ، فَلَهُ الْمُرَاجَعَةُ وَلَوْ لَمْ يَأْذَنِ السَّيِّدُ.
وَالأَْمَةُ تَثْبُتُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ أَيْضًا وَلَوْ لَمْ يَرْضَ
سَيِّدُهَا (2) .
انْفِسَاخُ نِكَاحِ الأَْمَةِ بِمِلْكِ زَوْجِهَا لَهَا:
97 - صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِذَا مَلَكَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ
الأَْمَةَ انْفَسَخَ نِكَاحُهُ لَهَا بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ الْمِلْكُ،
سَوَاءٌ أَكَانَ بِشِرَاءٍ، أَوْ بِقَبُولِهَا هِبَةً، أَوْ وَصِيَّةً،
أَوْ بِالْمِيرَاثِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَلَوْ أَوْصَى السَّيِّدُ بِجَارِيَتِهِ لِزَوْجِهَا الْحُرِّ، وَمَاتَ،
فَقَبِل الزَّوْجُ الْوَصِيَّةَ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ
لاَ يَجْتَمِعُ مَعَ الْمِلْكِ، ثُمَّ مَنْ قَال بِأَنَّهُ تُمْلَكُ
الْوَصِيَّةُ بِالْقَبُول، فَحِينَئِذٍ يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ. وَمَنْ قَال
بِأَنَّهُ إِذَا قَبِل تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَلَكَ الْمُوصَى بِهِ مِنْ حِينِ
الْمَوْتِ يَقُول: إِنَّ الاِنْفِسَاخَ يَتَبَيَّنُ حُصُولُهُ بِالْمَوْتِ
(3) .
بَيْعُ الأَْمَةِ الْمُزَوَّجَةِ هَل يَكُونُ فَسْخًا لِنِكَاحِهَا:
98 - إِذَا بَاعَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ الْمُزَوَّجَةَ لِغَيْرِ زَوْجِهَا
فَلاَ
__________
(1) فتح القدير 3 / 43، والزرقاني 3 / 195. وحديث: " يا أيها الناس. . "
أخرجه ابن ماجه (1 / 671 - ط الحلبي) وضعفه البوصيري في مصباح الزجاجة (1 /
358 ط. دار الجنان) .
(2) روضة الطالبين 8 / 215، 217.
(3) المغني 6 / 19.
(23/61)
يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا عِنْدَ جُمْهُورِ
الْعُلَمَاءِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَجَابِرٍ وَأَنَسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، أَنَّ بَيْعَ الأَْمَةِ يَكُونُ طَلاَقًا لَهَا،
لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (1) وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَالتَّابِعِينَ، قَال ابْنُ حَجَرٍ: بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، وَذَكَرَ
مِنْهُمْ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنَ وَمُجَاهِدًا،
وَعِكْرِمَةَ، وَالشَّعْبِيَّ. اهـ.
وَنَقَل الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَيْعُهَا طَلاَقُهَا،
وَالصَّدَقَةُ بِهَا طَلاَقُهَا، وَأَنْ تُورَثَ طَلاَقُهَا وَاحْتَجَّ
الْجُمْهُورُ بِالْقِيَاسِ عَلَى بَيْعِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ: لاَ
تَنْفَسِخُ الإِْجَارَةُ بِالْبَيْعِ، فَكَذَا هُنَا، وَبِقِصَّةِ
بَرِيرَةَ، فَإِنَّهَا لَمَّا أُعْتِقَتْ خُيِّرَتْ، أَيْ فَلَمْ يَكُنْ
عِتْقُهَا طَلاَقًا، فَكَذَا بَيْعُهَا.
وَهَذَا بِخِلاَفِ سَبْيِ الْمَرْأَةِ الْكَافِرَةِ، فَإِنَّ الآْيَةَ
نَزَلَتْ فِيهَا، فَتَحِل لِمَنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ بَعْدَ
اسْتِبْرَائِهَا (2) .
عِدَّةُ الأَْمَةِ:
99 - تَنْتَهِي عِدَّةُ الأَْمَةِ إِنْ كَانَتْ حَامِلاً بِوَضْعِ الْحَمْل
كَالْحُرَّةِ.
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَامِلاً، وَكَانَتِ الْعِدَّةُ مِنْ وَفَاةٍ
__________
(1) سورة النساء / 24.
(2) روضة الطالبين 7 / 220، وفتح الباري 9 / 404، والقرطبي 5 / 122.
(23/62)
فَهِيَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ عِدَّةِ
الْحُرَّةِ، فَتَكُونُ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ.
فَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ مِنْ طَلاَقٍ وَكَانَتِ الأَْمَةُ مِمَّنْ
يَحِضْنَ كَانَتْ عِدَّتُهَا قُرْأَيْنِ، وَهُمَا حَيْضَتَانِ، أَوْ
طُهْرَانِ، عَلَى الْخِلاَفِ الْمَعْرُوفِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْءِ،
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طَلاَقُ الأَْمَةِ
اثْنَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ (1) .
وَهَذَا لأَِنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ، وَالْحَيْضَةُ لاَ تَتَجَزَّأُ،
فَأُكْمِلَتْ فَصَارَتْ قُرْأَيْنِ. . وَقَدْ أَشَارَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَوِ
اسْتَطَعْتُ أَنْ أَجْعَلَهَا حَيْضَةً وَنِصْفًا لَفَعَلْتُ.
وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لاَ يَحِضْنَ لِصِغَرٍ، أَوْ إِيَاسٍ، وَكَذَا
الَّتِي بَلَغَتْ بِالسِّنِّ وَلَمْ تَحِضْ، فَعِدَّتُهَا عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي الْقَوْل الأَْظْهَرِ لِلشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٍ
عَنْ أَحْمَدَ: شَهْرٌ وَنِصْفٌ، عَلَى النِّصْفِ مِنْ عِدَّةِ الْحُرَّةِ،
وَلَمْ يَكْمُل الشَّهْرُ الثَّانِي؛ لأَِنَّ الأَْشْهُرَ مُتَجَزِّئَةٌ،
فَأَمْكَنَ تَنْصِيفُهَا.
وَقِيل: تَكُونُ عِدَّتُهَا شَهْرَيْنِ، وَهَذَا قَوْلٌ ثَانٍ
لِلشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ عَنْ أَحْمَدَ عَلَيْهَا
الْمَذْهَبُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَإِسْحَاقَ؛
لأَِنَّ الأَْشْهُرَ بَدَلٌ مِنَ الْقُرُوءِ، وَعِدَّةُ الَّتِي تَحِيضُ
قُرْءَانِ، فَعِدَّةُ الَّتِي لاَ تَحِيضُ شَهْرَانِ.
وَقَال مَالِكٌ وَرَبِيعَةُ: تَكُونُ عِدَّتُهَا ثَلاَثَةَ
__________
(1) حديث: " طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان ". سبق تخريجه (ف95) .
(23/62)
أَشْهُرٍ، كَالْحُرَّةِ، وَلأَِنَّ
الْعِدَّةَ لِلْعِلْمِ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَذَلِكَ مَعْنًى لاَ
تَخْتَلِفُ فِيهِ الأَْمَةُ عَنِ الْحُرَّةِ، وَهَذَا أَيْضًا قَوْلٌ
ثَالِثٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ
مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَالنَّخَعِيِّ (1) .
حِدَادُ الأَْمَةِ عَلَى زَوْجِهَا، وَسُكْنَاهَا مُدَّةَ الْعِدَّةِ:
100 - يَجِبُ عَلَى الأَْمَةِ الإِْحْدَادُ عَلَى زَوْجِهَا الْمُتَوَفَّى
مُدَّةَ عِدَّتِهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّهَا مُخَاطَبَةٌ بِحُقُوقِ اللَّهِ
تَعَالَى فِيمَا لَيْسَ فِيهِ إِبْطَالٌ لِحَقِّ مَوْلاَهَا، وَلَيْسَ فِي
الإِْحْدَادِ إِبْطَالٌ لِحَقِّهِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهَا لاَ تُمْنَعُ مِنَ الْخُرُوجِ؛
لأَِنَّهُ لَوْ لَزِمَهَا فَاتَ حَقُّ السَّيِّدِ فِي اسْتِخْدَامِهَا.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحِدَادُ لِلطَّلاَقِ
الْبَائِنِ. وَلَكِنْ تَخْرُجُ فِي الْعِدَّةِ بِخِلاَفِ الْحُرَّةِ.
وَحَيْثُ اسْتَحَقَّتِ الأَْمَةُ الْمُزَوَّجَةُ السُّكْنَى فِي حَيَاةِ
زَوْجِهَا فَإِنَّهَا تَسْتَحِقُّهَا مُدَّةَ الْعِدَّةِ، عَلَى مَا
صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ (2) .
اللِّعَانُ:
101 - إِنْ قَذَفَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا وَأَحَدُهُمَا أَوْ
__________
(1) فتح القدير 3 / 272 - 274، والمغني 7 / 451 - 467، والأشباه والنظائر
للسيوطي ص 194، وروضة الطالبين 8 / 139، 371.
(2) فتح القدير 3 / 295، وشرح الأشباه للحموي 2 / 155، وروضة الطالبين 8 /
405، 409.
(23/63)
كِلاَهُمَا رَقِيقٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا:
فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَنْصُوصَةِ عَنْهُ
الَّتِي رَوَاهَا الْجَمَاعَةُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى صِحَّةِ اللِّعَانِ
بَيْنَهُمَا، سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَسَوَاءٌ
كَانَتِ الزَّوْجَةُ حُرَّةً أَوْ مَمْلُوكَةً.
وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ
يَسَارٍ، وَالْحَسَنِ، وَرَبِيعَةَ، وَإِسْحَاقَ. وَيُسْتَدَل لِهَذَا
الْقَوْل بِعُمُومِ آيَاتِ اللِّعَانِ؛ وَلأَِنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ فَلاَ
يَفْتَقِرُ إِلَى اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ؛ وَلأَِنَّ الزَّوْجَ إِذَا
كَانَ عَبْدًا يَحْتَاجُ إِلَى نَفْيِ الْوَلَدِ، فَيُشْرَعُ اللِّعَانُ
طَرِيقًا لَهُ إِلَى نَفْيِ الْوَلَدِ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى
أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ أَوْ كِلاَهُمَا مَمْلُوكًا فَلاَ
لِعَانَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنِ الزُّهْرِيِّ وَالثَّوْرِيِّ
وَالأَْوْزَاعِيِّ وَحَمَّادٍ، قَالُوا: لأَِنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ
عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، وَالرَّقِيقُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا.
وَفِي قَوْلٍ لِلْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُ إِذَا كَانَتِ
الْمَقْذُوفَةُ أَمَةً فَيَصِحُّ اللِّعَانُ لِنَفْيِ الْوَلَدِ خَاصَّةً،
وَلَيْسَ لَهُ لِعَانُهَا لإِِسْقَاطِ الْقَذْفِ وَالتَّعْزِيرِ؛ لأَِنَّ
الْحَدَّ لاَ يَجِبُ، وَاللِّعَانُ إِنَّمَا يُشْرَعُ لإِِسْقَاطِ حَدٍّ
أَوْ نَفْيِ وَلَدٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ امْتَنَعَ اللِّعَانُ (1)
.
__________
(1) المغني 7 / 392، وروضة الطالبين 8 / 332، 355، والزرقاني 4 / 187، وفتح
القدير 2 / 247.
(23/63)
النَّسَبُ:
102 - وَلَدُ الْحُرَّةِ مَنْسُوبٌ إِلَى زَوْجِهَا وَإِنْ كَانَ عَبْدًا
إِذَا أَتَتْ بِهِ تَامًّا لأَِقَل مُدَّةِ الْحَمْل مِنْ حِينَ عَقَدَ
عَلَيْهَا وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرُ، مَا لَمْ يَزِدْ عَنْ
أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَمْل مُنْذُ فَارَقَهَا.
وَوَلَدُ الأَْمَةِ إِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ لاَحِقٌ بِزَوْجِهَا، عَلَى
مَا ذُكِرَ فِي الْحُرَّةِ.
فَإِنْ كَانَتِ الأَْمَةُ غَيْرَ ذَاتِ زَوْجٍ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِمُدَّةِ
الإِْمْكَانِ، فَإِنْ كَانَ سَيِّدُهَا وَطِئَهَا وَثَبَتَ ذَلِكَ
بِاعْتِرَافِهِ، أَوْ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، فَأَتَتْ بِالْوَلَدِ بَعْدَ
سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْئِهِ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْعُلَمَاءِ مِنْ غَيْرِ اسْتِلْحَاقٍ وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَلَوْ
لَمْ يَسْتَلْحِقْهُ، وَلَوْ نَفَاهُ وَأَنْكَرَهُ مَا دَامَ مُقِرًّا
بِالْوَطْءِ أَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ. فَإِنْ نَفَاهُ
لَمْ يَنْتِفْ عَنْهُ، إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ اسْتَبْرَأَهَا
بِحَيْضَةٍ فَأَتَتْ بِالْوَلَدِ بَعْدَ أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ
مِنِ اسْتِبْرَائِهِ لَهَا. وَلاَ لِعَانَ بَيْنَ الأَْمَةِ وَسَيِّدِهَا،
وَقِيل: لَهُ اللِّعَانُ لِلنَّفْيِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ (1) وَقَدْ صَارَتِ الأَْمَةُ بِالْوَطْءِ فِرَاشًا.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
قَال: حَصِّنُوا هَذِهِ الْوَلاَئِدَ فَلاَ يَطَأُ رَجُلٌ وَلِيدَتَهُ
ثُمَّ يُنْكِرُ وَلَدَهَا إِلاَّ أَلْزَمْتُهُ إيَّاهُ وَقَال: مَا بَال
__________
(1) حديث: " الولد للفراش ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 292 - ط السلفية) من
حديث عائشة.
(23/64)
رِجَالٍ يَطَئُونَ وَلاَئِدَهُمْ ثُمَّ
يَعْزِلُونَهُنَّ، لاَ تَأْتِينِي وَلِيدَةٌ يَعْتَرِفُ سَيِّدُهَا أَنَّهُ
أَتَاهَا إِلاَّ أَلْحَقْتُ بِهِ وَلَدَهَا فَاعْزِلُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَوِ
اتْرُكُوا.
ثُمَّ إِنْ أَقَرَّ بِالْوَلَدِ فَلَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ،
وَكَذَا إِنْ هَنِئَ بِهِ فَسَكَتَ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: لاَ تَصِيرُ الأَْمَةُ بِالْوَطْءِ
فِرَاشًا، وَلاَ يَلْحَقُهُ وَلَدُهَا إِذَا تَرَكَ الاِعْتِرَافَ بِهِ
أَوْ سَكَتَ مَا لَمْ يُقِرَّ بِوَلَدِهَا، فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ لَحِقَهُ
ذَلِكَ الْوَلَدُ وَسَائِرُ أَوْلاَدِهَا بَعْدَ ذَلِكَ.
وَلَوْ وَطِئَهَا فِي الْفَرْجِ فَعَزَل عَنْهَا أَوْ وَطِئَهَا دُونَ
الْفَرْجِ لَمْ تَكُنْ بِذَلِكَ فِرَاشًا، وَلاَ يَلْحَقُهُ وَلَدُهَا
وَقِيل: بَلَى. وَلَوْ أَتَتْ بِوَلَدٍ مِنْ زِنًا لَمْ يَلْحَقْهُ.
وَحَيْثُ لاَ يَلْحَقُ الْوَلَدُ سَيِّدَهَا يَكُونُ عَبْدًا لَهُ، مَا
لَمْ يَكُنِ الْوَطْءُ بِشُبْهَةٍ (1) .
الْحَضَانَةُ:
103 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الْحَضَانَةَ لاَ تَثْبُتُ لِلرَّقِيقِ؛
لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ مَنَافِعَ نَفْسِهِ، وَالْحَضَانَةُ إِنَّمَا
تَحْصُل بِتِلْكَ الْمَنَافِعِ. وَلأَِنَّ الْحَضَانَةَ وِلاَيَةٌ، وَلاَ
وِلاَيَةَ لِرَقِيقٍ. وَعَلَى هَذَا فَلَوْ كَانَتْ أُمُّ الطِّفْل
مَمْلُوكَةً وَكَانَ وَلَدُهَا حُرًّا فَحَضَانَتُهُ لِمَنْ يَلِي الأُْمَّ
فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَضَانَةِ إِنْ كَانَ حُرًّا، وَكَذَا إِنْ كَانَ
__________
(1) المغني 9 / 534 - 537، وفتح القدير 3 / 261، 312، 313 و6 / 257 وما
بعدها، وفتح الباري 12 / 32 - 36 (ك. فرائض ب17) والزرقاني 4 / 197، 6 /
106، 113، وروضة الطالبين 8 / 440 و12 / 310 وما بعدها.
(23/64)
الأَْبُ عَبْدًا فَلاَ حَضَانَةَ لَهُ.
قَال صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ: فَإِنْ أَذِنَ السَّيِّدُ جَازَ؛
لاِنْتِفَاءِ الْمَانِعِ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ صُورَةً: وَهِيَ أَنْ تُسَلَّمَ أَمَةٌ
لِكَافِرٍ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ، فَحَضَانَتُهُ لَهَا، لأَِنَّهَا فَارِغَةٌ
إِذْ يُمْنَعُ سَيِّدُهَا مِنْ قُرْبَانِهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأُْمَّ الرَّقِيقَةَ أَحَقُّ
بِوَلَدِهَا الْحُرِّ؛ لأَِنَّهَا أُمٌّ مُشْفِقَةٌ فَأَشْبَهَتِ
الْحُرَّةَ.
قَالُوا: فَإِنْ بِيعَتِ الأَْمَةُ فَنُقِلَتْ كَانَ الأَْبُ أَحَقَّ بِهِ.
لَكِنْ قَالُوا: إِنْ تَسَرَّرَ بِهَا الزَّوْجُ بَعْدَ طَلاَقِهَا
تَسْقُطُ حَضَانَتُهَا، لأَِنَّهَا حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ
تَتَزَوَّجُ (1) .
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْوَلَدُ رَقِيقًا فَسَيِّدُهُ أَحَقُّ بِحَضَانَتِهِ
مِنْ أُمِّهِ وَأَبِيهِ وَلَوْ كَانَا حُرَّيْنِ؛ لأَِنَّهُ مَمْلُوكٌ
لَهُ، وَصُوَرُ رِقِّهِ مَعَ حُرِّيَّةِ الأُْمِّ مُتَعَدِّدَةٌ، مِنْهَا:
أَنْ يُولَدَ مِنْ رَقِيقَةٍ فَتَعْتِقُ هِيَ دُونَ وَلَدِهَا. لَكِنْ
لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّهِ، لِمَا وَرَدَ مِنَ
النَّهْيِ عَنِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا (2) .
الرَّضَاعُ:
104 - لِلأَْمَةِ إِرْضَاعُ وَلَدِهَا حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، وَيَجِبُ
عَلَى السَّيِّدِ تَمْكِينُهَا مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ أَنْ لاَ
يَسْتَرْضِعَ الأَْمَةَ لِغَيْرِ وَلَدِهَا؛ لأَِنَّ فِيهِ إِضْرَارًا
بِالْوَلَدِ لِلنَّقْصِ مِنْ كِفَايَتِهِ وَصَرْفِ اللَّبَنِ الْمَخْلُوقِ
__________
(1) المغني 7 / 613، والزرقاني 4 / 264، وكشاف القناع 4 / 235، والقليوبي 4
/ 90.
(2) فتح القدير 3 / 317.
(23/65)
لَهُ إِلَى غَيْرِهِ مَعَ حَاجَتِهِ
إِلَيْهِ، فَلاَ يَجُوزُ كَنَقْصِ الْكَبِيرِ عَنْ كِفَايَتِهِ.
فَإِنْ كَانَ فِي لَبَنِهَا فَضْلٌ عَنْ كِفَايَةِ وَلَدِهَا
فَلِسَيِّدِهَا التَّصَرُّفُ فِيهِ بِإِجَارَتِهَا لِلإِْرْضَاعِ، كَمَا
لَوْ مَاتَ وَلَدُهَا وَبَقِيَ لَبَنُهَا (1) .
الرَّقِيقُ وَالْوَصَايَا:
أ - وَصِيَّةُ الرَّقِيقِ:
105 - إِنْ وَصَّى الْعَبْدُ بِمَالٍ ثُمَّ مَاتَ عَلَى الرِّقِّ بَطَلَتْ
وَصِيَّتُهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ مَال لَهُ بَل مَا بِيَدِهِ لِسَيِّدِهِ.
أَمَّا إِنْ أُعْتِقَ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُغَيِّرْ وَصِيَّتَهُ فَإِنَّهَا
تَكُونُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ صَحِيحَةً
لأَِنَّ قَوْلَهُ صَحِيحٌ وَأَهْلِيَّتَهُ تَامَّةٌ؛ وَلأَِنَّ
الْوَصِيَّةَ يَصِحُّ صُدُورُهَا مِمَّنْ لاَ مَال لَهُ، كَمَا لَوْ
وَصَّى، الْفَقِيرُ الَّذِي لاَ مَال لَهُ ثُمَّ اسْتَغْنَى.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ: تَكُونُ
بَاطِلَةً أَيْضًا وَلَوْ أَذِنَ السَّيِّدُ؛ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ
الْمِلْكِ فِيهِ (2) .
ب - الْوَصِيَّةُ لِلرَّقِيقِ:
106 - إِنْ أَوْصَى السَّيِّدُ بِعِتْقِ عَبْدِهِ صَحَّتِ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 91، والزرقاني 4 / 259.
(2) المغني 6 / 103، وكشاف القناع 4 / 336، والزرقاني 8 / 175، والعناية
شرح الهداية بهامش فتح القدير 8 / 434، وروضة الطالبين 6 / 98، والقليوبي
على شرح المنهاج 3 / 157.
(23/65)
الْوَصِيَّةُ إِجْمَاعًا، بِشَرْطِهَا،
وَيَكُونُ تَدْبِيرًا (ر: تَدْبِير) وَإِنْ أَوْصَى السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ
بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ مَالِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ
ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ
إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِذَلِكَ صَحِيحَةٌ، وَتُصْرَفُ جَمِيعُهَا إِلَى
عِتْقِ الْعَبْدِ، فَإِنْ خَرَجَ الْعَبْدُ مِنَ الْوَصِيَّةِ عَتَقَ
وَاسْتَحَقَّ بَاقِيَهَا بَعْدَ قِيمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ عَتَقَ
مِنْهُ بِقَدْرِ الْوَصِيَّةِ. ثُمَّ قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُسْتَسْعَى
بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ عَلَى الرِّقِّ.
وَوَجْهُ الصِّحَّةِ: أَنَّ الْجُزْءَ الشَّائِعَ يَتَنَاوَل الْعَبْدَ
لأَِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الثُّلُثِ الشَّائِعِ. وَالْوَصِيَّةُ لَهُ
بِنَفْسِهِ تَصِحُّ وَيَعْتِقُ، وَمَا فَضَل يَسْتَحِقُّهُ لأَِنَّهُ
يَصِيرُ حُرًّا فَيَمْلِكُ بِالْوَصِيَّةِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَال:
أَعْتِقُوا عَبْدِي مِنْ ثُلُثِي وَأَعْطُوهُ مَا فَضَل مِنْهُ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَكُونُ لَهُ بِنِسْبَةِ
ذَلِكَ الْجُزْءِ مِنْ رَقَبَتِهِ وَمِنْ سَائِرِ التَّرِكَةِ.
وَإِنْ أَوْصَى لَهُ بِمُعَيَّنٍ كَثَوْبٍ أَوْ دَارٍ، أَوْ بِمِائَةِ
دِرْهَمٍ مَثَلاً، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ؛
لأَِنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ، فَمَا وَصَّى لَهُ بِهِ
يَكُونُ مِلْكًا لَهُمْ، فَكَأَنَّهُ أَوْصَى لِلْوَرَثَةِ بِمَا
يَرِثُونَهُ.
وَقَال مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: تَصِحُّ.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: الْوَصِيَّةُ لِلرَّقِيقِ بَاطِلَةٌ بِكُل
حَالٍ إِلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِعِتْقِهِ.
أَمَّا إِنْ أَوْصَى بِمَالٍ لِعَبْدِ غَيْرِهِ فَيَصِحُّ اتِّفَاقًا.
(23/66)
ثُمَّ إِنْ عَتَقَ فَالْمَال لَهُ. وَإِنْ
بَقِيَ عَلَى الرِّقِّ فَلِلسَّيِّدِ. وَلاَ يُشْتَرَطُ إِذْنُ السَّيِّدِ
فِي الْقَبُول عِنْدَ الْجُمْهُورِ لأَِنَّهُ كَسْبٌ، كَالاِحْتِطَابِ.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ خِلاَفِ الأَْصَحِّ: يَفْتَقِرُ إِلَى
إِذْنِ سَيِّدِهِ، كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ (1) .
ج - الإِْيصَاءُ إِلَى الرَّقِيقِ:
107 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الإِْيصَاءِ إِلَى الرَّقِيقِ: فَذَهَبَ
الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ الإِْيصَاءِ إِلَيْهِ
سَوَاءٌ أَكَانَ عَبْدَهُ أَمْ عَبْدَ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ
تَصِحُّ اسْتِنَابَتُهُ فِي الْحَيَاةِ فَصَحَّ أَنْ يُوصِيَ إِلَيْهِ
كَالْحُرِّ. ثُمَّ قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ
لِعَبْدِ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَتْ بِإِذْنِ السَّيِّدِ فِي الْقَبُول
فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ التَّصَرُّفُ بِغَيْرِ
إِذْنِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لاَ تَصِحُّ
الْوَصِيَّةُ إِلَى الرَّقِيقِ بِحَالٍ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَكُونُ وَلِيًّا
عَلَى ابْنِهِ بِالنَّسَبِ فَلاَ يَكُونُ وَصِيًّا عَلَى أَوْلاَدِ
غَيْرِهِ؛ وَلأَِنَّ فِي الإِْيصَاءِ إِلَيْهِ عَلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي
إِثْبَاتَ الْوِلاَيَةِ لِلْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ، وَهُوَ قَلْبٌ
لِلْمَشْرُوعِ.
وَقَال الأَْوْزَاعِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ:
__________
(1) المغني 6 / 109، 110، وروضة الطالبين 6 / 101، 103 والعناية وحاشية
سعدي جلبي على الهداية بهامش تكملة فتح القدير 8 / 51، والزرقاني 8 / 183.
(23/66)
يَصِحُّ الإِْيصَاءُ إِلَى عَبْدِ نَفْسِهِ
وَلاَ يَصِحُّ إِلَى عَبْدِ غَيْرِهِ (1) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ الإِْيصَاءُ إِلَى الرَّقِيقِ عَلَى
أَوْلاَدِ الْمُوصِي إِنْ كَانُوا صِغَارًا وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ رَشِيدٌ.
فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ كَبِيرٌ لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّ لِلْكَبِيرِ بَيْعَهُ
أَوْ بَيْعَ نَصِيبِهِ مِنْهُ فَيَعْجِزُ عَنِ الْقِيَامِ بِالْوِصَايَةِ.
أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ كَبِيرٌ فَتَصِحُّ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ
مُكَلَّفًا مُسْتَبِدًّا بِالتَّصَرُّفِ، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ عَلَيْهِ
وِلاَيَةٌ، فَإِنَّ الصِّغَارَ وَإِنْ كَانُوا مَالِكِينَ لَهُ لَكِنْ
لَمَّا أَقَامَهُ أَبُوهُمْ مَقَامَ نَفْسِهِ صَارَ مُسْتَبِدًّا
بِالتَّصَرُّفِ مِثْلَهُ بِلاَ وِلاَيَةٍ لَهُمْ عَلَيْهِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ أَيْضًا: لاَ يَصِحُّ الإِْيصَاءُ إِلَى عَبْدِ
الْغَيْرِ أَصْلاً، فَلَوْ أَوْصَى إِلَيْهِ ثُمَّ أُعْتِقَ لَمْ
يُخْرِجْهُ الْقَاضِي عَنِ الْوِصَايَةِ. أَمَّا إِنْ لَمْ يُعْتِقْ
فَيُخْرِجُهُ وَيُبَدِّلُهُ بِغَيْرِهِ.
إِرْثُ الرَّقِيقِ:
107 م - الرِّقُّ أَحَدُ مَوَانِعِ الإِْرْثِ، فَالرَّقِيقُ لاَ يَرِثُ
أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ، لأَِنَّهُ مَمْلُوكٌ يُورَثُ عَنْ مَالِكِهِ
فَلاَ يَرِثُ، وَذَلِكَ بِالإِْجْمَاعِ إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ
وَطَاوُوسٍ أَنَّهُ يَرِثُ، وَيَكُونُ مَا يَرِثُهُ لِسَيِّدِهِ كَسَائِرِ
كَسْبِهِ، وَالْمَمْلُوكُ لاَ يُورَثُ لأَِنَّهُ
__________
(1) المغني 6 / 138، والزرقاني 8 / 200، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي 3 /
177، وروضة الطالبين 6 / 311، وابن عابدين 5 / 488.
(23/67)
لاَ مَال لَهُ، وَعَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُ
يَمْلِكُ مِلْكًا ضَعِيفًا فَإِنَّ مَالَهُ يَئُول لِسَيِّدِهِ اتِّفَاقًا
(1) .
الرَّقِيقُ وَالتَّبَرُّعَاتُ:
108 - تَجُوزُ الْهِبَةُ مِنَ الرَّقِيقِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، لأَِنَّ
الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِحَقِّ سَيِّدِهِ، فَإِنْ أَذِنَهُ فِي الْهِبَةِ
انْفَكَّ حَجْرُهُ فِيهَا. فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ لَمْ يَجُزْ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيُّ وَهُوَ
الْمُقَدَّمُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّقِيقِ أَنْ
يَضْمَنَ أَحَدًا بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ وَلَوْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ
فِي التِّجَارَةِ، لأَِنَّهُ عَقْدٌ يَتَضَمَّنُ إِيجَابَ مَالِكٍ فَلَمْ
يَصِحَّ بِغَيْرِ إِذْنٍ كَالنِّكَاحِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَهُمْ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي احْتِمَالٍ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ ضَمَانُهُ؛
لأَِنَّهُ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ، وَلاَ ضَرَرَ فِيهِ عَلَى السَّيِّدِ،
وَيُتَّبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ.
فَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ أَنْ يَضْمَنَ لِيَكُونَ الْقَضَاءُ مِنَ
الْمَال الَّذِي بِيَدِهِ صَحَّ (2) .
قَبُول الرَّقِيقِ لِلتَّبَرُّعَاتِ:
109 - لِلرَّقِيقِ أَنْ يَقْبَل التَّبَرُّعَاتِ مِنْ هِبَةٍ أَوْ
__________
(1) المغني 6 / 266، وروضة الطالبين 6 / 30، والقليوبي 3 / 148.
(2) كشاف القناع 4 / 303، المغني 4 / 542، وروضة الطالبين 4 / 242.
(23/67)
هَدِيَّةٍ أَوْ عَطِيَّةٍ وَلَوْ بِغَيْرِ
إِذْنِ سَيِّدِهِ، لأَِنَّهُ تَحْصِيل مَنْفَعَةٍ كَالاِحْتِشَاشِ
وَالاِصْطِيَادِ، وَتَكُونُ لِسَيِّدِهِ لاَ لَهُ.
وَلَوْ أَبَى الْعَبْدُ قَبُول الْهِبَةِ فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ
عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ
يَجْبُرَهُ عَلَى قَبُولِهَا (1) .
الْحَجْرُ عَلَى الرَّقِيقِ:
110 - الرَّقِيقُ فِي الأَْصْل مَحْجُورٌ عَلَيْهِ شَرْعًا لِحَظِّ
سَيِّدِهِ. فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ أَوْ يَشْتَرِيَ بِعَيْنِ الْمَال،
أَوْ يَتَّجِرَ أَوْ يَسْتَأْجِرَ أَوْ يُؤَجِّرَ، وَلَوْ أَنْ يُؤَجِّرَ
نَفْسَهُ إِلاَّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، فَإِنْ فَعَل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ
دُونَ إِذْنٍ كَانَ تَصَرُّفُهُ بَاطِلاً أَوْ مَوْقُوفًا، عَلَى
الْخِلاَفِ فِي تَصَرُّفِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ. وَقِيل: يَصِحُّ
الشِّرَاءُ لأَِنَّ الثَّمَنَ يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ.
وَإِذَا لَزِمَ الرَّقِيقَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِغَيْرِ رِضَا
سَيِّدِهِ، كَأَنِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ أَوِ اقْتَرَضَ، فَقَدْ ذَهَبَ
الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ
يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ يَتَّبِعُهُ الْغَرِيمُ بِهِ إِذَا عَتَقَ
وَأَيْسَرَ، كَالْحُرِّ، وَكَالأَْمَةِ إِذَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا
بِغَيْرِ إِذْنٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ
بِرَقَبَتِهِ كَأَرْشِ جِنَايَتِهِ، فَإِنْ شَاءَ سَيِّدُهُ فَدَاهُ، وَلاَ
يَلْزَمُهُ
__________
(1) الزرقاني 3 / 218، وكشاف القناع 4 / 303.
(23/68)
فِدَاؤُهُ بِمَا يَزِيدُ عَنْ قِيمَتِهِ،
وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَهُ لِلدَّائِنِ عِوَضَ دَيْنِهِ (1) .
الرَّقِيقُ الْمَأْذُونُ:
111 - يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَأْذَنَ لِرَقِيقِهِ فِي التَّصَرُّفِ
وَالْمُتَاجَرَةِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: بِغَيْرِ خِلاَفٍ نَعْلَمُهُ؛
لأَِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ كَانَ لِحَقِّ سَيِّدِهِ، فَجَازَ لَهُ
التَّصَرُّفُ بِإِذْنِهِ (2) .
ثُمَّ قَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ
الإِْذْنَ يَتَحَدَّدُ بِقَدْرِ مَا أَذِنَ السَّيِّدُ، وَيَنْفَكُّ
عَنْهُ حَجْرُهُ بِقَدْرِ مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ، وَيَسْتَمِرُّ
الْحَجْرُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ، فَإِنْ
دَفَعَ إِلَيْهِ مَالاً يَتَّجِرُ بِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ
وَيَشْتَرِيَ وَيَتَّجِرَ فِيهِ، إِنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ فِي
ذِمَّتِهِ جَازَ. وَإِنْ عَيَّنَ لَهُ نَوْعًا مِنَ الْمَال يَتَّجِرُ
فِيهِ جَازَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الاِتِّجَارُ فِي غَيْرِهِ، وَلَمْ
يَجُزْ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ، وَلاَ أَنْ يُؤَجِّرَ مَال
التِّجَارَةِ كَدَوَابِّهَا، وَلاَ أَنْ يَتَوَكَّل لإِِنْسَانٍ؛
لأَِنَّ الإِْذْنَ لَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ. وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ
وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَتَصَرَّفُ الرَّقِيقُ الْمَأْذُونُ
بِالْوَكَالَةِ وَالنِّيَابَةِ عَنْ سَيِّدِهِ.
وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ
مَال التِّجَارَةِ - وَلَوْ يَسِيرًا - مَا لَمْ يَعْلَمْ بِرِضَا
سَيِّدِهِ
__________
(1) المغني 4 / 247 - 249 و5 / 77، والمنهاج وشرح المحلي بحاشية
القليوبي 2 / 242، والزرقاني 5 / 302.
(2) المغني 5 / 77.
(23/68)
بِذَلِكَ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي هَذَا
مِثْل قَوْل الْحَنَفِيَّةِ كَمَا يَأْتِي.
قَال الْجُمْهُورُ: وَلاَ بُدَّ مِنَ الإِْذْنِ بِالْقَوْل، فَلَوْ
رَأَى السَّيِّدُ عَبْدَهُ يَتَّجِرُ فَلَمْ يَنْهَهُ لَمْ يَصِرْ
بِذَلِكَ مَأْذُونًا (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرَّقِيقَ الْمَأْذُونَ
يَنْفَكُّ عَنْهُ الْحَجْرُ فِي مَا هُوَ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ.
قَالُوا: وَالإِْذْنُ هُنَا إِنَّمَا هُوَ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ،
وَلَيْسَ تَوْكِيلاً أَوْ إِنَابَةً، ثُمَّ يَتَصَرَّفُ الرَّقِيقُ
لِنَفْسِهِ بِمُقْتَضَى أَهْلِيَّتِهِ، فَلاَ يَتَوَقَّتُ بِوَقْتٍ
وَلاَ يَتَخَصَّصُ بِنَوْعٍ، فَلَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ يَوْمًا أَوْ
شَهْرًا صَارَ مَأْذُونًا مُطْلَقًا حَتَّى يُعِيدَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ
لأَِنَّ الإِْسْقَاطَ لاَ يَتَوَقَّتُ. وَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي نَوْعٍ
عَمَّ إِذْنُهُ الأَْنْوَاعَ كُلَّهَا وَلَوْ نَهَاهُ عَنْهَا
صَرِيحًا، كَأَنْ قَال: اشْتَرِ الْبَزَّ وَلاَ تَشْتَرِ غَيْرَهُ،
فَتَصِحُّ مِنْهُ كُل تِجَارَةٍ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَيَثْبُتُ الإِْذْنُ لِلْعَبْدِ فِي
التِّجَارَةِ دَلاَلَةً، فَلَوْ رَأَى السَّيِّدُ عَبْدَهُ يَبِيعُ
وَيَشْتَرِي مَا أَرَادَ فَسَكَتَ السَّيِّدُ صَارَ الْعَبْدُ بِذَلِكَ
مَأْذُونًا، إِلاَّ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا قُصِدَ بِهِ مِنَ
الإِْذْنِ الاِسْتِخْدَامُ، كَأَنْ يَطْلُبَ مِنْ عَبْدِهِ شِرَاءَ
شَيْءٍ لِحَاجَتِهِ، فَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ إِذْنًا فِي التِّجَارَةِ،
وَبَيْنَ مَا قُصِدَ بِهِ فَكُّ الْحَجْرِ.
قَالُوا: وَلِلْمَأْذُونِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ، وَيُوَكِّل
__________
(1) المغني4 / 249 و5 / 77، 78، وابن عابدين 5 / 99، وشرح المنهاج
بحاشية القليوبي 2 / 242 وما بعدها.
(23/69)
بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَيَرْهَنَ
وَيَرْتَهِنَ، وَيُعِيرَ الثَّوْبَ وَالدَّابَّةَ؛ لأَِنَّهُ مِنْ
عَادَةِ التُّجَّارِ، وَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْ قِصَاصٍ وَجَبَ عَلَى
عَبْدِهِ، وَتُقْبَل الشَّهَادَةُ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إِنْ
لَمْ يَحْضُرْ مَوْلاَهُ. وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الأَْرْضَ
إِجَارَةً أَوْ مُسَاقَاةً أَوْ مُزَارَعَةً، وَيُشَارِكَ عِنَانًا لاَ
مُفَاوَضَةً، وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ وَيُؤَجِّرَ، وَلَهُ أَنْ
يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ وَيُقِرَّ بِنَحْوِ وَدِيعَةٍ أَوْ غَصْبٍ،
وَيُهْدِي طَعَامًا يَسِيرًا بِمَا لاَ يُعَدُّ سَرَفًا، وَأَنْ
يُضِيفَ الضِّيَافَةَ الْيَسِيرَةَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ
عَبْدَهُ وَلَوْ عَلَى مَالٍ، وَلاَ أَنْ يُقْرِضَ أَوْ يَهَبَ وَلَوْ
بِعِوَضٍ، وَلاَ يَكْفُل بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ، وَلاَ يُصَالِحَ عَنْ
قِصَاصٍ وَجَبَ عَلَيْهِ (1) . وَفِي الْهِدَايَةِ: لاَ بَأْسَ
بِقَبُول هَدِيَّةِ الْعَبْدِ التَّاجِرِ وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ
وَاسْتِعَارَةِ دَابَّتِهِ بِخِلاَفِ هَدِيَّتِهِ الدَّرَاهِمَ
وَالدَّنَانِيرَ، اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ بُطْلاَنُهُ لأَِنَّهُ
تَبَرُّعٌ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَوَجْهُ
الاِسْتِحْسَانِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَبِل هَدِيَّةَ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ كَانَ عَبْدًا
(2) ، وَقَبِل هَدِيَّةَ بَرِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (3) .
وَأَجَابَ بَعْضُ
__________
(1) الدر المختار وابن عابدين 5 / 99 - 104.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدية سلمان رضي الله عنه
" أخرجه أحمد (5 / 443 - ط الميمنية) من حديث سلمان، وقال الهيثمي في
المجمع (9 / 336 - ط القدسي) : " رجاله رجال الصحيح غير محمد بن إسحاق
وقد صرح بالسماع ".
(3) حديث: " قبوله هدية بريرة ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 410 - ط
السلفية) من حديث عائشة.
(23/69)
الصَّحَابَةِ دَعْوَةَ مَوْلَى أَبِي
أُسَيْدٍ وَكَانَ عَبْدًا؛ وَلأَِنَّ فِي هَذِهِ الأَْشْيَاءِ
ضَرُورَةً لاَ يَجِدُ التَّاجِرُ مِنْهَا بُدًّا، بِخِلاَفِ نَحْوِ
الْكِسْوَةِ وَإِهْدَاءِ الدَّنَانِيرِ فَلاَ ضَرُورَةَ فِيهَا (1) .
وَقَوْل الْمَالِكِيَّةِ قَرِيبٌ مِنْ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، فَقَدْ
قَالُوا: إِنَّ السَّيِّدَ إِنْ أَذِنَ لِلْعَبْدِ فِي نَوْعٍ مِنَ
التِّجَارَةِ، كَالْبُرِّ مَثَلاً كَانَ كَوَكِيلٍ مُفَوَّضٍ فِيمَا
أُذِنَ لَهُ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ بَاقِي الأَْنْوَاعِ لأَِنَّهُ
أَقْعَدَهُ لِلنَّاسِ وَلاَ يَدْرُونَ لأَِيِّ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ
أَقْعَدَهُ. غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَسُوغُ لَهُ الإِْقْدَامُ عَلَى
غَيْرِ مَا عَيَّنَهُ لَهُ. فَإِنْ صَرَّحَ لَهُ بِمَنْعِهِ مِنْ
غَيْرِ النَّوْعِ مُنِعَ مِنْهُ أَيْضًا، ثُمَّ إِنْ أَشْهَرَ
الْمَنْعَ رَدَّ مَا أَجْرَاهُ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيمَا
أَشْهَرَهُ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِرْهُ مَضَى وَلَمْ يَرُدَّ.
قَالُوا: وَكَمَا يَحْصُل الإِْذْنُ بِقَوْلِهِ: أَذِنْتُكَ "
وَيَكُونُ إِذْنًا لَهُ مُطْلَقًا، كَذَلِكَ يَحْصُل بِالإِْذْنِ
الْحُكْمِيِّ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى لَهُ بِضَاعَةً وَوَضَعَهَا
بِحَانُوتٍ وَأَقْعَدَهُ فِيهِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.
قَالُوا: وَلِلْمَأْذُونِ أَنْ يَضَعَ مِنْ دَيْنٍ لَهُ عَلَى شَخْصٍ،
أَوْ يُؤَخِّرَ دَيْنَهُ الْحَال إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ إِنْ لَمْ
تَكْثُرِ الْوَضِيعَةُ، وَلَهُ أَنْ يُضِيفَ الضَّيْفَ
لِلاِسْتِئْلاَفِ عَلَى التِّجَارَةِ، وَلَهُ نَحْوُ الضِّيَافَةِ
كَالْعَقِيقَةِ لِوَلَدِهِ إِنِ اتَّسَعَ الْمَال وَلَمْ يَكْرَهْ
ذَلِكَ سَيِّدُهُ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ غَيْرِهِ مَالاً
مُضَارَبَةً لِيَعْمَل فِيهِ لأَِنَّهُ مِنَ التِّجَارَةِ، وَلَهُ أَنْ
يَتَسَرَّى
__________
(1) الهداية وشروحها 8 / 132.
(23/70)
وَيَقْبَل الْوَدِيعَةَ وَلاَ يَقْبَل
التَّوْكِيل، وَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا يُوهَبُ لَهُ بِبَيْعٍ
أَوْ شِرَاءٍ لاَ بِصَدَقَةٍ وَنَحْوِهَا وَلاَ بِهِبَةٍ إِلاَّ هِبَةَ
الثَّوَابِ (الْهِبَةُ بِعِوَضٍ) . وَيَجُوزُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ
لِلإِْفْلاَسِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَالْحُرِّ (1) .
اكْتِسَابُ الرَّقِيقِ مِنَ الْمُبَاحَاتِ وَالْتِقَاطُهُ:
112 - لِلرَّقِيقِ الاِكْتِسَابُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ كَالاِصْطِيَادِ
وَالاِحْتِطَابِ، وَيَكُونُ مَا يُحَصِّلُهُ لِسَيِّدِهِ (2) . وَكَذَا
لَوْ وَجَدَ رِكَازًا (3) .
وَإِنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلَهُ أَخْذُهَا وَهُوَ بِغَيْرِ إِذْنِ
سَيِّدِهِ، وَالْتِقَاطُهُ صَحِيحٌ، وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ
اللُّقَطَةِ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ. بِدَلاَلَةِ عُمُومِ
أَحَادِيثِ اللُّقَطَةِ، وَقِيَاسًا عَلَى الْتِقَاطِ الصَّبِيِّ
بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ؛ وَلأَِنَّ الاِلْتِقَاطَ تَخْلِيصُ مَالٍ
مِنَ الْهَلاَكِ فَجَازَ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، كَإِنْقَاذِ
الْغَرِيقِ وَالْمَغْصُوبِ. وَإِذَا الْتَقَطَ كَانَتِ اللُّقَطَةُ
أَمَانَةً فِي يَدِهِ، وَإِنْ عَرَّفَهَا حَوْلاً صَحَّ تَعْرِيفُهُ
فَإِذَا تَمَّ الْحَوْل مَلَكَهَا سَيِّدُهُ، وَلِلسَّيِّدِ
انْتِزَاعُهَا مِنْهُ أَثْنَاءَ الْحَوْل وَيُتَمِّمُ تَعْرِيفَهَا.
وَإِنْ تَمَلَّكَهَا الْعَبْدُ أَثْنَاءَ الْحَوْل أَوْ تَصَدَّقَ
بِهَا ضَمِنَهَا لِصَاحِبِهَا فِي رَقَبَتِهِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الأَْظْهَرُ، لاَ
يَصِحُّ
__________
(1) شرح الزرقاني 5 / 303.
(2) روضة الطالبين 5 / 393، والمغني 5 / 666، وشرح الأشباه 2 / 156.
(3) كشاف القناع 2 / 227.
(23/70)
الْتِقَاطُ الْعَبْدِ لأَِنَّ اللُّقَطَةَ
فِي الْحَوْل أَمَانَةٌ وَوِلاَيَةٌ وَبَعْدَهُ تَمَلُّكٌ، وَالْعَبْدُ
لَيْسَ مِنْ أَهْل الْوِلاَيَةِ وَلاَ مِنْ أَهْل الْمِلْكِ (1) .
الرَّقِيقُ وَالْجِنَايَاتُ:
الْقِصَاصُ بَيْنَ الأَْحْرَارِ وَالرَّقِيقِ:
113 - أ - إِذَا قَتَل الْحُرُّ الْمُسْلِمُ رَقِيقًا فَلاَ يُقْتَصُّ
مِنْهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ بَل يُعَزَّرُ، سَوَاءٌ كَانَ
الْقَاتِل سَيِّدًا لِلرَّقِيقِ أَوْ أَجْنَبِيًّا، لِمَا رَوَى عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يُقَادُ مَمْلُوكٌ مِنْ مَالِكٍ
(2) . وَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يُقْتَل حُرٌّ بِعَبْدٍ (3) .
وَيُجْلَدُ الْحُرُّ إِذَا قَتَل عَبْدًا مِائَةً عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ، لِمَا رَوَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ
رَجُلاً قَتَل عَبْدَهُ فَجَلَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَنَفَاهُ عَامًا وَمَحَا اسْمَهُ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ أَيْ مِنَ الْعَطَاءِ (4) ". وَلِمَفْهُومِ قَوْله
تَعَالَى
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 393 - 397، والمغني 5 / 666، وكشاف القناع 4 /
225، وجواهر الإكليل1 / 218، وشرح الأشباه 2 / 156.
(2) حديث: " لا يقاد مملوك من مالك ". أخرجه الحاكم (4 / 368 - ط دائرة
المعارف العثمانية) من حديث عمر بن الخطاب وضعفه الذهبي.
(3) حديث: " لا يقتل حر بعبد ". أخرجه البيهقي (8 / 35 - ط دائرة
المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس، وقال البيهقي: " في هذا الإسناد
ضعف ".
(4) حديث: " أن رجلاً قتل عبده فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ". ذكره
ابن قدامة في المغني (7 / 659 - ط الرياض) وقال: " رواه سعيد والخلال
وقال أحمد: ليس بشيء من قبل إسحاق بن أبي فروة ".
(23/71)
: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ
بِالْعَبْدِ} (1) وَلأَِنَّ الْعَبْدَ مَنْقُوصٌ بِالرِّقِّ فَلاَ
يُكَافِئُ الْحُرَّ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحُرَّ يُقْتَل بِالْعَبْدِ -
إِلاَّ عَبْدَ نَفْسِهِ فَلاَ يُقْتَل بِهِ، وَكَذَا عَبْدُ وَلَدِهِ -
لِعُمُومِ آيَاتِ الْقِصَاصِ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (2) وَقَوْلِهِ: {وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (3) ، وَلِعُمُومِ
الأَْحَادِيثِ نَحْوِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ (4) . وَقَوْلِهِ
النَّفْسُ بِالنَّفْسِ (5) .
وَنَقَل ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ النَّخَعِيَّ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْحُرَّ
يُقْتَل بِعَبْدِ نَفْسِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ لِقَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَل عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ
(6) .
__________
(1) سورة البقرة / 178.
(2) سورة البقرة / 178.
(3) سورة المائدة / 45.
(4) حديث: " المسلمون تتكافأ دماؤهم ". أخرجه أحمد (2 / 192 - ط
الميمنية) من حديث عبد الله بن عمر، وإسناده حسن.
(5) حديث: " النفس بالنفس ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 201 - ط
السلفية) من حديث ابن مسعود.
(6) المغني 7 / 658، 659، والزرقاني 8 / 3، وجواهر الإكليل 2 / 272،
وبداية المجتهد 2 / 364، 372، وحاشية ابن عابدين 5 / 343، 344. وحديث:
" من قتل عبده قتلناه ". أخرجه الترمذي (4 / 26 - ط الحلبي) من حديث
الحسن عن سمرة، وقال ابن حجر: " الحسن مختلف في سماعه من سمرة "، كذا
في التلخيص (3 / 53 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(23/71)
وَأَمَّا فِي الأَْطْرَافِ فَلاَ يُقْتَصُّ
مِنَ الْحُرِّ إِذَا قَطَعَ طَرَفَ رَقِيقٍ. وَنَقَل ابْنُ رُشْدٍ فِي
ذَلِكَ خِلاَفًا.
وَحَيْثُ وَجَبَ الْقِصَاصُ فَالْحَقُّ لِلسَّيِّدِ، لَهُ طَلَبُهُ،
وَلَهُ الْعَفْوُ عَنْهُ.
وَحَيْثُ لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ، يَجِبُ التَّعْزِيرُ، كَمَا فِي
الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ (1) .
114 - ب - وَأَمَّا إِذَا قَتَل الرَّقِيقُ حُرًّا سَوَاءٌ كَانَ
الْمَقْتُول سَيِّدَهُ أَوْ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ يُقْتَل بِهِ
اتِّفَاقًا إِذَا تَمَّتْ شُرُوطُ الْقِصَاصِ، وَذَلِكَ لِعُمُومِ
آيَاتِ الْقِصَاصِ، وَلأَِنَّهُ يُقْتَل بِالْعَبْدِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} (2) فَقَتْلُهُ بِالْحُرِّ
أَوْلَى لأَِنَّ الْحُرَّ أَكْمَل مِنَ الْعَبْدِ.
وَكَذَا يُؤْخَذُ طَرَفُ الْعَبْدِ بِطَرَفِ الْحُرِّ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى
أَنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنَ الْعَبْدِ لِلْحُرِّ فِي الْجِرَاحِ
وَالأَْعْضَاءِ، قَال الزَّرْقَانِيُّ: لأَِنَّهُ كَجِنَايَةِ الْيَدِ
الشَّلاَّءِ عَلَى الْيَدِ الصَّحِيحَةِ. وَنَقَل ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ
فِي ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَيْنِ (4) .
__________
(1) المغني 7 / 658، 659، والزرقاني 8 / 3، وجواهر الإكليل 2 / 272،
وبداية المجتهد 2 / 364، 372، وحاشية ابن عابدين 5 / 343، 344.
(2) سورة البقرة / 178.
(3) المغني 7 / 659، والزرقاني 8 / 2، 7.
(4) الزرقاني 8 / 14، وبداية المجتهد 2 / 372، وحاشية ابن عابدين 5 /
356، والهداية مع العناية 8 / 355.
(23/72)
115 - ج - وَكَذَلِكَ يُقْتَل الرَّقِيقُ
بِالرَّقِيقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، سَوَاءٌ اتَّحَدَتْ
قِيمَةُ الْقَاتِل وَقِيمَةُ الْمَقْتُول أَوِ اخْتَلَفَتَا،
وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ آيَاتِ الْقِصَاصِ، وَبِالنَّصِّ عَلَيْهِ
فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} (1) وَلأَِنَّ
تَفَاوُتَ الْقِيمَةِ فِي الرَّقِيقِ كَتَفَاوُتِ الْفَضَائِل فِي
الأَْحْرَارِ، كَالْعِلْمِ وَالشَّرَفِ وَالذُّكُورَةِ وَالأُْنُوثَةِ،
فَكَمَا أُهْدِرَ هَذَا التَّفَاوُتُ بَيْنَ الأَْحْرَارِ فَوَجَبَ
الْقِصَاصُ مَعَ وُجُودِهِ، فَكَذَا تَفَاوُتُ الْقِيَمِ فِي
الرَّقِيقِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِصَاصِ
أَنْ لاَ تَكُونَ قِيمَةُ الْقَاتِل أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ
الْمَقْتُول.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَ بَيْنَ الْعَبِيدِ قِصَاصٌ فِي
نَفْسٍ وَلاَ جُرْحٍ لأَِنَّهُمْ أَمْوَالٌ، وَنَقَلَهُ ابْنُ رُشْدٍ
عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَجَمَاعَةٍ.
وَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الْعَبِيدِ فِي الأَْطْرَافِ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - نَقَلَهُ
ابْنُ رُشْدٍ - وَقَوْل عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيِّ
وَقَتَادَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، لِعُمُومِ قَوْله
تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَْنْفَ بِالأَْنْفِ وَالأُْذُنَ
بِالأُْذُنِ} الآْيَةَ (2) .
__________
(1) سورة البقرة / 178.
(2) سورة المائدة / 45.
(23/72)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ
وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: لاَ يَجْرِي الْقِصَاصُ
بَيْنَهُمْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ. وَهُوَ قَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ
وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ؛ لأَِنَّ الأَْطْرَافَ
مِنَ الْعَبِيدِ مَالٌ فَلاَ يَجْرِي الْقِصَاصُ فِيهَا؛ وَلأَِنَّ
التَّسَاوِيَ فِي الأَْطْرَافِ مُعْتَبَرٌ، فَلاَ تُؤْخَذُ
الصَّحِيحَةُ بِالشَّلاَّءِ، وَلاَ كَامِلَةُ الأَْصَابِعِ
بِنَاقِصَتِهَا، وَأَطْرَافُ الْعَبِيدِ لاَ تَتَسَاوَى.
وَحَيْثُ يَجْرِي الْقِصَاصُ فِي طَرَفِ الْعَبْدِ فَاسْتِيفَاؤُهُ
لَهُ وَلَهُ الْعَفْوُ عَنْهُ (1) .
الدِّيَةُ وَالأَْرْشُ:
116 - أ - إِذَا قَتَل الْحُرُّ عَبْدًا، أَوْ عَكْسُهُ، أَوْ
قَطَعَهُ، أَوْ فَعَل ذَلِكَ عَبْدٌ بِعَبْدٍ، خَطَأً، أَوْ عَمْدًا
وَلَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ، ثَبَتَ الْمَال، وَهُوَ فِي الْحُرِّ دِيَةُ
النَّفْسِ أَوِ الْعُضْوِ أَوِ الْحُكُومَةِ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ
فِي بَابِ الدِّيَاتِ.
وَفِي الْعَبْدِ قِيمَتُهُ إِذَا قَتَل، مَهْمَا كَانَتْ، قَلِيلَةً
أَوْ كَثِيرَةً، حَتَّى لَوْ كَانَتْ تَبْلُغُ دِيَةَ الْحُرِّ أَوْ
تَزِيدُ عَلَيْهَا أَضْعَافًا، وَهَذَا قَوْل الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ
مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، وَعُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ
قَالُوا: لأَِنَّهُ مَالٌ
__________
(1) المغني 7 / 660، 761، والزرقاني 8 / 7، وبداية المجتهد 2 / 372،
نشر المكتبة التجارية الكبرى، وحاشية ابن عابدين 5 / 356.
(23/73)
مُتَقَوِّمٌ أَتْلَفَهُ - سَوَاءٌ عَمْدُهُ
وَخَطَؤُهُ - فَيَضْمَنُهُ بِكَمَال قِيمَتِهِ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَلاَ مَدْخَل لِلتَّغْلِيظِ فِي بَدَل الرَّقِيقِ.
اهـ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: إِنْ ضَمِنَ بِالْجِنَايَةِ
يَضْمَنُ بِقِيمَتِهِ، لَكِنْ لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ
دِيَةِ حُرٍّ أَوْ مِثْلَهَا يَنْتَقِصُ عَنْ دِيَةِ الْحُرِّ
دِينَارًا أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يُقْطَعُ
بِهِ السَّارِقُ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَعَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ
الْعَبْدِ، إِلاَّ نِصْفَ دِينَارٍ.
وَإِنْ ضَمِنَ بِالْيَدِ، بِأَنْ غَصَبَهُ فَمَاتَ فِي يَدِهِ فَإِنَّ
الْوَاجِبَ قِيمَتُهُ وَإِنْ زَادَ عَنْ دِيَةٍ أَوْ دِيَاتٍ.
وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا بِأَنَّ فِي الْعَبْدِ الآْدَمِيَّةَ
وَالْمَالِيَّةَ، وَالآْدَمِيَّةُ أَعْلاَهُمَا، فَيَجِبُ
اعْتِبَارُهَا بِإِهْدَارِ الأَْدْنَى عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ
بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ فِي حَال الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ بِدَلِيل
ثُبُوتِ الْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ، وَالْكَفَّارَةِ فِي الْخَطَأِ،
وَالْقِيمَةُ بَدَلٌ عَنِ الدِّيَةِ فِي قَلِيل الْقِيمَةِ
بِالرَّأْيِ، وَتَنْقُصُ فِيمَا زَادَ عَنِ الدِّيَةِ لِنَقْصِ
رُتْبَةِ الْعَبْدِ عَنِ الْحُرِّ، وَضَمَانُ الْغَصْبِ بِمُقَابَلَةِ
الْمَالِيَّةِ، فَيَضْمَنُ بِكَامِل قِيمَتِهِ فِي حَالَةِ تَلَفِهِ
مَغْصُوبًا إِذِ الْغَصْبُ لاَ يَرِدُ إِلاَّ عَلَى الْمَال.
وَإِنَّمَا حَدَّدُوا النَّقْصَ فِي الْحَالَةِ الأُْولَى بِدِينَارٍ
أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ لأَِثَرٍ وَرَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ. وَنَقَل ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْل
الْكُوفَةِ
(23/73)
قَالُوا: فِي نَفْسِ الْعَبْدِ الدِّيَةُ
كَالْحُرِّ، لَكِنْ يُنْقَصُ مِنْهَا شَيْءٌ (1) .
الْعَاقِلَةُ وَجِنَايَةُ الْعَبْدِ وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ:
117 - لاَ تَحْمِل الْعَاقِلَةُ جِنَايَةَ الْعَبْدِ لأَِنَّهُ لاَ
عَاقِلَةَ لَهُ.
وَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ
مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْلٌ
لِلشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْل الشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ
وَاللَّيْثِ إِلَى أَنَّ الَّذِي يَتَحَمَّل قِيمَةَ الْعَبْدِ هُوَ
الْقَاتِل نَفْسُهُ إِنْ كَانَ حُرًّا وَلَيْسَ عَاقِلَتُهُ وَلَوْ
كَانَ الْقَتْل خَطَأً، لِحَدِيثِ: لاَ تَحْمِل الْعَاقِلَةُ لاَ
عَمْدًا وَلاَ صُلْحًا وَلاَ اعْتِرَافًا وَلاَ مَا جَنَى الْمَمْلُوكُ
(2) وَلأَِنَّ الْوَاجِبَ الْقِيمَةُ لاَ الدِّيَةُ إِذِ الْعَبْدُ
مَالٌ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَقَوْل عَطَاءٍ
وَالزُّهْرِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ: تَحْمِل الْعَاقِلَةُ نَفْسَ
الْعَبْدِ كَمَا تَحْمِل الْحُرَّ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلاَ تَحْمِل
مَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الْعَبْدِ لأَِنَّ الأَْطْرَافَ
__________
(1) المغني 7 / 682، وكشاف القناع 6 / 21، وبداية المجتهد 2 / 378،
والزرقاني 8 / 31 و6 / 163، والدسوقي 4 / 268، وروضة الطالبين 9 / 257،
311، والهداية مع العناية وتكملة فتح القدير 8 / 369.
(2) حديث: " لا تحمل العاقلة عمدًا ولا صلحًا ولا اعترافًا ولا ما جنى
المملوك ". أخرجه البيهقي (8 / 104 - ط دائرة المعارف العثمانية) من
حديث ابن عباس موقوفًا عليه، وإسناده حسن.
(23/74)
تُعَامَل كَالْمَال (1) .
118 - ب - وَأَمَّا أُرُوشُ جِرَاحِ الْعَبْدِ وَأَعْضَائِهِ فَقَدِ
اخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ (هُوَ قَدِيمُ قَوْلَيِ
الشَّافِعِيِّ) وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ،
قَوَّاهَا ابْنُ قُدَامَةَ إِلَى أَنَّ السَّيِّدَ يَسْتَحِقُّ عَلَى
الْجَانِي مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ، فَلَوْ كَانَتْ
قِيمَتُهُ أَلْفًا، فَلَمَّا قَطَعَ يَدَهُ أَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً
أَوْ غَيْرَهَا صَارَتْ قِيمَتُهُ ثَمَانَمِائَةٍ فَإِنَّ الأَْرْشَ
يَكُونُ مِائَتَيْنِ، وَلَوْ جَبَّهُ وَخَصَاهُ فَلَمْ تَنْقُصْ
قِيمَتُهُ أَوْ زَادَتْ، فَلاَ شَيْءَ لِلسَّيِّدِ. وَاحْتَجُّوا
لِهَذَا الْقَوْل بِأَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ، فَيُجْرَى فِي ضَمَانِ
الإِْتْلاَفِ فِيهِ عَلَى قَاعِدَةِ إِتْلاَفِ الأَْمْوَال الأُْخْرَى.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ
فِي رِوَايَةٍ عَلَيْهَا الْمَذْهَبُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ
جِنَايَةٍ لَيْسَ لَهَا فِي الْحُرِّ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، فَيَكُونُ
أَرْشُهَا مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ
كَمَا تَقَدَّمَ، وَبَيْنَ جِنَايَةٍ لَهَا فِي الْحُرِّ دِيَةٌ
مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا، فَيَكُونُ أَرْشُهَا بِنِسْبَةِ ذَلِكَ مِنْ
قِيمَتِهِ، فَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفًا فَقَطَعَ يَدَهُ فَفِيهَا
خَمْسُمِائَةٍ، أَوْ قَطَعَ أَنْفَهُ فَفِيهِ قِيمَتُهُ كَامِلَةٌ،
مَعَ بَقَاءِ الْعَبْدِ عَلَى مِلْكِ السَّيِّدِ، وَلَوْ جَبَّهُ ثُمَّ
خَصَاهُ فَفِيهِ قِيمَتُهُ مَرَّتَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، مَعَ
بَقَاءِ مِلْكِيَّتِهِ لِلسَّيِّدِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ
__________
(1) المغني 7 / 775، وروضة الطالبين 9 / 359، والزرقاني 8 / 44، وتكملة
فتح القدير مع الهداية 8 / 413.
(23/74)
فِي مِثْل الْحَالَةِ الأَْخِيرَةِ: لَهُ
قِيمَتُهُ كَامِلَةً لِلْجَبِّ، وَقِيمَتُهُ بَعْدَ الْجَبِّ
لِلْخِصَاءِ.
وَاحْتُجَّ لِهَذَا الْقَوْل بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ سَعِيدٍ، وَابْنِ سِيرِينَ وَعُمَرَ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى التَّقْدِيرِ فِي
الْحُرِّ، لأَِنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِمَالٍ مِنْ كُل وَجْهٍ، بِدَلِيل
أَنَّ فِي قَتْلِهِ الْقِصَاصَ وَالْكَفَّارَةَ بِخِلاَفِ سَائِرِ
الأَْمْوَال (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى اعْتِبَارِ التَّقْدِيرِ بِالنِّسْبَةِ،
كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْقَوْل الثَّانِي، لَكِنْ قَالُوا: إِنَّهُ لاَ
يُزَادُ عَنْ دِيَةِ مِثْل ذَلِكَ الْعُضْوِ مِنَ الْحُرِّ، فَلَوْ
قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ فَفِيهَا نِصْفُ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ
أَلْفَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ
عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ، كَدِيَةِ الْحُرِّ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ
ذَلِكَ مَهْمَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ، فَإِنَّ أَرْشَ يَدِهِ خَمْسَةُ
آلاَفٍ إِلاَّ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ لاَ يُزَادُ عَلَيْهَا.
قَالُوا: لأَِنَّ الْيَدَ مِنَ الآْدَمِيِّ نِصْفُهُ فَتُعْتَبَرُ
بِكُلِّهِ، وَيَنْقُصُ هَذَا الْمِقْدَارُ إِظْهَارًا لاِنْحِطَاطِ
رُتْبَتِهِ عَنْ رُتْبَةِ الْحُرِّ. وَكُل مَا يُقَدَّرُ مِنْ دِيَةِ
الْحُرِّ فَهُوَ مُقَدَّرٌ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لأَِنَّ الْقِيمَةَ
فِي الْعَبْدِ كَالدِّيَةِ فِي الْحُرِّ إِذْ هُوَ بَدَل الدَّمِ.
قَالُوا: وَمَنْ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ فَقَدْ فَوَّتَ جِنْسَ
الْمَنْفَعَةِ فَإِنْ شَاءَ الْوَلِيُّ دَفَعَ عَبْدَهُ إِلَى
الْجَانِي وَأَخَذَ قِيمَتَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ وَلاَ شَيْءَ
لَهُ مِنَ
__________
(1) المغني 8 / 60، وكشاف القناع 6 / 22، وشرح المنهاج 4 / 144، 145،
وروضة الطالبين 9 / 312.
(23/75)
النُّقْصَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَقَال الصَّاحِبَانِ: بَل يَكُونُ لَهُ إِنْ أَمْسَكَهُ أَخْذُ مَا
نَقَصَهُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ فِي الضَّمَانِ بَيْنَ
جِرَاحَاتِ الْعَبْدِ وَبَيْنَ قَطْعِ طَرَفٍ أَوْ عُضْوٍ، فَفِي
الْجِرَاحَاتِ الَّتِي لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فِي الْحُرِّ يَضْمَنُ
بِنِسْبَتِهَا مِنْ كَامِل قِيمَتِهِ، فَفِي الْجَائِفَةِ أَوِ
الآْمَّةِ ثُلُثُ قِيمَتِهِ، وَفِي مُوضِحَتِهِ نِصْفُ عُشُرِ
قِيمَتِهِ، وَفِي مُنَقِّلَتِهِ عُشُرُ قِيمَتِهِ وَنِصْفُ عُشُرِهَا.
وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْجِرَاحِ وَهُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ
مُقَدَّرٌ، يُقَدَّرُ نَقْصُ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَيُدْفَعُ كَامِلاً
مَهْمَا بَلَغَ. فَإِنْ بَرِئَ بِلاَ شَيْنٍ فَلاَ شَيْءَ فِيهِ سِوَى
الأَْدَبِ فِي الْعَمْدِ.
وَكَذَا قَطْعُ الأَْعْضَاءِ فِيهَا مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ
بِسَبَبِ ذَلِكَ (2) . وَقَدْ يُفْهَمُ مِنْ مَتْنِ خَلِيلٍ
وَشُرَّاحِهِ أَنَّ الضَّمَانَ فِي الأَْعْضَاءِ بِنِسْبَتِهَا مِنَ
الْقِيمَةِ (3) .
الْجِنَايَةُ عَلَى جَنِينِ الأَْمَةِ:
119 - لَوْ جَنَى عَلَى أَمَةٍ فَأَسْقَطَتْ جَنِينًا حَيًّا ثُمَّ
مَاتَ، وَكَانَ مَحْكُومًا بِرِقِّهِ، فَفِيهِ قِيمَتُهُ عَلَى
__________
(1) الهداية وتكملة فتح القدير 8 / 370، 374.
(2) المدونة 6 / 333، والمغني لابن قدامة 8 / 60، والزرقاني 8 / 37، 35
و6 / 147.
(3) الدسوقي 4 / 271، والحطاب 6 / 261، والزرقاني 8 / 35، والفواكه
الدواني 2 / 272، والعدوي على كفاية الطالب 2 / 283.
(23/75)
مَا تَقَدَّمَ. أَمَّا إِنْ أَسْقَطَتْهُ
مَيِّتًا بَعْدَ تَخَلُّقِهِ أَوْ نَفْخِ الرُّوحِ، فَفِيهِ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عُشُرُ قِيمَةِ أُمِّهِ ذَكَرًا
كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْجِنَايَةِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ أُنْثَى فَفِيهِ عُشُرُ قِيمَتِهِ
لَوْ كَانَ حَيًّا، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَفِيهِ نِصْفُ عُشُرِ
قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: فِيهِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ أُمِّهِ (1) .
جِنَايَاتُ الرَّقِيقِ:
120 - إِنْ كَانَ الْقَاتِل رَقِيقًا فَمَا وَجَبَ بِجِنَايَتِهِ مِنَ
الْمَال سَوَاءٌ أَكَانَ دِيَةَ نَفْسِ حُرٍّ أَوْ طَرَفَهُ، أَوْ
قِيمَةَ عَبْدٍ أَوْ قِيمَةَ طَرَفِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْجِنَايَةُ
عَمْدًا فَلَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ، أَوْ كَانَتْ خَطَأً فَعُفِيَ
عَنْهَا عَلَى مَالٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَجِبُ فِي رَقَبَتِهِ،
وَلاَ تَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ وَلاَ بِذِمَّةِ سَيِّدِهِ وَهَكَذَا
جَمِيعُ الدُّيُونِ الَّتِي تَلْزَمُهُ بِسَبَبِ الإِْتْلاَفَاتِ،
سَوَاءٌ أَكَانَ مَأْذُونًا لَهُ بِالتِّجَارَةِ أَوْ غَيْرَ
مَأْذُونٍ. وَهَذَا قَوْل الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
قَالُوا: وَلَمْ تَتَعَلَّقْ هَذِهِ الدُّيُونُ بِذِمَّتِهِ لأَِنَّهُ
يُفْضِي إِلَى إِلْغَائِهَا أَوْ تَأْخِيرِ حَقِّ الْمَجْنِيِّ
عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِ غَايَةٍ، وَلَمْ تَتَعَلَّقْ بِذِمَّةِ
السَّيِّدِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَجْنِ،
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 378، وبداية المجتهد 2 / 380
وفيه بعض اختلاف عما ذكره الدر عن أبي حنيفة.
(23/76)
فَتَعَيَّنَ تَعَلُّقُهَا بِرَقَبَةِ
الْعَبْدِ لأَِنَّ الضَّمَانَ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ فَتَعَلَّقَ
بِرَقَبَتِهِ كَالْقِصَاصِ.
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَتَعَلَّقُ أَيْضًا بِذِمَّةِ
الْعَبْدِ.
ثُمَّ إنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْعَبْدِ
الْجَانِي أَوْ أَقَل، فَالسَّيِّدُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ
أَرْشَ الْجِنَايَةِ أَوْ يُسَلِّمَ الْعَبْدَ إِلَى وَلِيِّ
الْجِنَايَةِ لِلْبَيْعِ؛ لأَِنَّهُ إِنْ دَفَعَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ
فَقَدْ تَأَدَّى الْحَقُّ، وَإِنْ سَلَّمَ الْعَبْدَ فَقَدْ أَدَّى
الْمَحَل الَّذِي تَعَلَّقَ الْحَقُّ بِهِ، وَحَقُّ الْمَجْنِيِّ
عَلَيْهِ لاَ يَتَعَلَّقُ بِأَكْثَرَ مِنَ الرَّقَبَةِ، وَقَدْ
أَدَّاهَا، فَلاَ يَكُونُ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ. وَالْخِيَارُ إِلَى
السَّيِّدِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الْعَبْدِ إِنْ أَدَّى
الأَْرْشَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الأَْرْشُ إِنْ سَلَّمَ الْعَبْدَ.
وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَفِي
قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: يُخَيَّرُ سَيِّدُهُ
بَيْنَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِقِيمَتِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَهُ. وَقَال
الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ
أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ مَا لَمْ يَفْدِهِ
بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ لأَِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ
يَرْغَبَ فِيهِ رَاغِبٌ فَيَشْتَرِيَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ،
فَإِذَا مَنَعَ تَسْلِيمَهُ لِلْبَيْعِ لَزِمَهُ جَمِيعُ الأَْرْشِ
لِتَفْوِيتِهِ ذَلِكَ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةَ خَطَأٍ
بِقَتْل نَفْسٍ قِيل لِمَوْلاَهُ: إِمَّا أَنْ تَدْفَعَهُ بَدَلَهَا
أَوْ
__________
(1) المغني 7 / 781 و4 / 248، وكشاف القناع 6 / 34، 473، والزرقاني 8 /
5، وروضة الطالبين 9 / 362، وشرح المنهاج 4 / 158.
(23/76)
تَفْدِيَهُ لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: إِذَا جَنَى
الْعَبْدُ فَإِنْ شَاءَ دَفَعَهُ وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ. وَلأَِنَّ
الأَْصْل فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الآْدَمِيِّ فِي حَالَةِ الْخَطَأِ
أَنْ تَتَبَاعَدَ عَنِ الْجَانِي تَحَرُّزًا عَنِ اسْتِئْصَالِهِ
وَالإِْجْحَافِ بِهِ، إِذْ هُوَ مَعْذُورٌ فِيهِ حَيْثُ لَمْ
يَتَعَمَّدِ الْجِنَايَةَ، وَتَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي إِذَا
كَانَ لَهُ عَاقِلَةٌ، وَالسَّيِّدُ عَاقِلَةُ عَبْدِهِ؛ لأَِنَّ
الْعَبْدَ يَسْتَنْصِرُ بِهِ - وَالأَْصْل فِي الْعَاقِلَةِ
النُّصْرَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - فَتَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ صِيَانَةً
لِلدَّمِ عَنِ الإِْهْدَارِ.
وَهَذَا عِنْدَهُمْ بِخِلاَفِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْمَال
لأَِنَّ الْعَوَاقِل لاَ تَحْمِل الْمَال. وَالْوَاجِبُ الأَْصْلِيُّ
مِنَ الأَْمْرَيْنِ عِنْدَهُمْ دَفْعُ الْعَبْدِ الْجَانِي إِلَى
الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ
لِفَوَاتِ مَحَل الْوَاجِبِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ النَّقْل إِلَى
الأَْمْرِ الثَّانِي وَهُوَ الْفِدَاءُ بِالأَْرْشِ.
قَالُوا: فَإِنْ دَفَعَهُ مَالِكُهُ مَلَكَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ،
وَإِنْ فَدَاهُ فَدَاهُ بِأَرْشِهَا، وَكُلٌّ مِنَ الأَْمْرَيْنِ
يَلْزَمُ حَالاً، أَمَّا الدَّفْعُ فَلأَِنَّ التَّأْجِيل فِي
الأَْعْيَانِ بَاطِلٌ، وَأَمَّا الْفِدَاءُ فَلأَِنَّهُ جُعِل بَدَلاً،
فَيَقُومُ مَقَامَهُ وَيَأْخُذُ حُكْمَهُ فَيَجِبُ حَالاً.
وَأَيُّهُمَا اخْتَارَهُ وَفَعَلَهُ فَلاَ شَيْءَ لِوَلِيِّ
الْجِنَايَةِ غَيْرُهُ.
فَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ شَيْئًا حَتَّى مَاتَ الْعَبْدُ بَطَل حَقُّ
الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِفَوَاتِ مَحَل الْحَقِّ، وَإِنْ مَاتَ
بَعْدَمَا اخْتَارَ الْوَلِيُّ الْفِدَاءَ لَمْ يَبْرَأْ لِتَحَوُّل
الْحَقِّ مِنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ إِلَى ذِمَّةِ الْمَوْلَى.
(23/77)
وَالاِخْتِيَارُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْل،
وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْل فَلَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ مَعَ
عِلْمِهِ بِالْجِنَايَةِ لَزِمَهُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ وَكَذَا كُل مَا
يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ كُلًّا أَوْ بَعْضًا، كَأَنْ يَبِيعَ الْعَبْدَ
أَوْ يَهَبَهُ أَوْ يُدَبِّرَهُ، أَوْ يَسْتَوْلِدَ الأَْمَةَ
الثَّيِّبَ، أَوْ يَطَأَ الْبِكْرَ.
وَأَمَّا إِذَا قَتَل الْعَبْدُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا فَالْوَاجِبُ
عِنْدَهُمُ الْقِصَاصُ كَمَا تَقَدَّمَ (1) .
الْكَفَّارَةُ فِي قَتْل الرَّقِيقِ:
121 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّ فِي قَتْل الرَّقِيقِ - بِالإِْضَافَةِ إِلَى قِيمَتِهِ
الْوَاجِبَةِ لِسَيِّدِهِ - الْكَفَّارَةَ وَلَوْ قَتَل عَبْدَ
نَفْسِهِ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ كَذَلِكَ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى:
{وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (2)
. الآْيَةَ، وَلأَِنَّهُ مُؤْمِنٌ فَأَشْبَهَ الْحُرَّ، وَهِيَ
كَكَفَّارَةِ قَتْل الْحُرِّ سَوَاءٌ، عَلَى التَّفْصِيل وَالْخِلاَفِ
فِي ذَلِكَ (ر: كَفَّارَة) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجِبُ كَفَّارَةٌ فِي
قَتْل الْعَبْدِ لأَِنَّهُ مَالٌ، وَيُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ، فَلاَ
كَفَّارَةَ فِيهِ، كَمَا لاَ كَفَّارَةَ فِي إِتْلاَفِ سَائِرِ
الْمُمْتَلَكَاتِ. وَالتَّكْفِيرُ مَعَ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ. قَال
الْمَالِكِيَّةُ: وَحُكْمُ الرَّقِيقِ فِي التَّكْفِيرِ إِذَا قَتَل
حُرًّا أَوْ عَبْدًا حُكْمُ الْحُرِّ مِنْ حَيْثُ أَصْل التَّكْفِيرِ
(3) .
__________
(1) الهداية 8 / 355 - 360 وتكملة فتح القدير.
(2) سورة النساء / 92.
(3) المغني 8 / 93، وجواهر الإكليل 2 / 272، والقليوبي وعميرة 4 / 162.
(23/77)
وَأَمَّا مَا يُكَفِّرُ بِهِ الْعَبْدُ
فَقَدْ ذُكِرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
غَصْبُ الرَّقِيقِ:
122 - مَنْ غَصَبَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ
الْغَصْبِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ (ر: غَصْب) .
وَذَلِكَ لأَِنَّ الرَّقِيقَ مَالٌ فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ غَصْبِ
سَائِرِ الأَْمْوَال مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَمَنْ غَصَبَ جَارِيَةً
لَمْ تَثْبُتْ يَدُهُ عَلَى بُضْعِهَا وَهُوَ الْجِمَاعُ، فَيَصِحُّ
تَزْوِيجُ السَّيِّدِ لَهَا، وَلاَ يَضْمَنُ الْغَاصِبُ مَهْرَهَا لَوْ
حَبَسَهَا عَنِ النِّكَاحِ حَتَّى فَاتَ نِكَاحُهَا بِالْكِبَرِ.
وَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ الْغَصْبِ فَهُوَ زِنًا لأَِنَّهَا لَيْسَتْ
زَوْجَتَهُ وَلاَ مِلْكَ يَمِينِهِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ الْحَدُّ
بِشُرُوطِهِ، وَيَلْزَمُهُ مَهْرُ مِثْلِهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ
مُطَاوِعَةً اتِّفَاقًا.
أَمَّا إِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي
الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّهُ لاَ مَهْرَ لَهَا، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ (1) . وَقَال
الْبُخَارِيُّ: وَلَيْسَ فِي الأَْمَةِ الثَّيِّبِ فِي قَضَاءِ
الأَْئِمَّةِ غُرْمٌ وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ الْمَهْرُ وَيَكُونُ لِسَيِّدِهَا
__________
(1) حديث: " نهى عن مهر البغي ". أخرجه مسلم (3 / 1198 - ط الحلبي) من
حديث أبي مسعود الأنصاري.
(23/78)
لأَِنَّهُ حَقُّهُ، فَلاَ يَسْقُطُ
بِمُطَاوَعَتِهَا كَأَجْرِ مَنَافِعِهَا (1) .
الرَّقِيقُ وَالْحُدُودُ:
حَدُّ الزِّنَا:
123 - إِذَا زَنَى الرَّقِيقُ يُجْلَدُ خَمْسِينَ جَلْدَةً ذَكَرًا
كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَلاَ يُرْجَمُ، اتِّفَاقًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ
مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (2) فَيَنْصَرِفُ
التَّنْصِيفُ إِلَى الْجَلْدِ دُونَ الرَّجْمِ لِوَجْهَيْنِ: أَنَّ
الْجَلْدَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ دُونَ الرَّجْمِ، وَأَنَّ
الرَّجْمَ لاَ يَتَنَصَّفُ بَل الَّذِي يَتَنَصَّفُ هُوَ الْجَلْدُ،
لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ الأَْمَةِ
إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنُ فَقَال إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا،
ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا،
ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ (3) وَالْعَبْدُ كَالأَْمَةِ
لِعَدَمِ الْفَرْقِ. قَال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا أَيُّهَا
النَّاسُ، أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمُ الْحَدَّ،
__________
(1) المغني 5 / 247، 248، وكشاف القناع 4 / 77، 97، والقليوبي 3 / 33،
41، وفتح القدير 7 / 390، 392، والعناية 7 / 371، والدر المختار وابن
عابدين 5 / 130، والزرقاني 6 / 151.
(2) سورة النساء / 25.
(3) حديث: " إذا زنت فاجلدوها ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 162 - ط
السلفية) ومسلم (3 / 1329 - ط الحلبي) .
(23/78)
مَنْ أُحْصِنَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ
يُحْصَنْ (1) .
السَّرِقَةُ:
الْمَمْلُوكُ السَّارِقُ:
124 - ذَهَبَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ سَرَقَ
الْمَمْلُوكُ مَا فِيهِ الْحَدُّ وَتَمَّتْ شُرُوطُ الْحَدِّ وَجَبَ
قَطْعُهُ، لِعُمُومِ آيَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ
رَقِيقًا لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ سَرَقُوا نَاقَةً لِرَجُلٍ
مِنْ مُزَيْنَةَ فَنَحَرُوهَا، فَأَمَرَ بِهِمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنْ تُقْطَعَ أَيْدِيهِمْ. ثُمَّ قَال عُمَرُ: وَاَللَّهِ
إِنِّي لأََرَاكَ تُجِيعُهُمْ، وَلَكِنْ لأَُغَرِّمَنَّكَ غُرْمًا
يَشُقُّ عَلَيْكَ. ثُمَّ قَال لِلْمُزَنِيِّ: كَمْ ثَمَنُ نَاقَتِكَ؟
قَال: أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ. قَال: أَعْطِهِ ثَمَانَمِائَةِ
دِرْهَمٍ. وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدًا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ عِنْدَ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَطَعَهُ (2) .
وَإِنْ سَرَقَ الرَّقِيقُ مَال سَيِّدِهِ أَوْ مَال رَقِيقٍ آخَرَ
لِسَيِّدِهِ لَمْ يُقْطَعْ لِخَبَرِ عُمَرَ: عَبْدُكُمْ سَرَقَ
مَتَاعَكُمْ؛ وَلِشُبْهَةِ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ؛
وَلأَِنَّ الْعَبْدَ وَمَا مَلَكَتْ يَدَاهُ لِسَيِّدِهِ فَكَأَنَّهُ
لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ حِرْزِهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ يُقْطَعُ الْعَبْدُ
بِسَرِقَتِهِ مِمَّنْ لَوْ سَرَقَ مِنْهُ السَّيِّدُ لَمْ يُقْطَعْ،
وَذَلِكَ كَزَوْجِ
__________
(1) مقالة علي: " يا أيها الناس، أقيموا على أرقائكم الحد ". أخرجها
مسلم (3 / 1330 - ط الحلبي) .
(2) المغني 8 / 267، 268، وابن عابدين 3 / 192، والزرقاني 8 / 92.
(23/79)
السَّيِّدَةِ أَوْ زَوْجَةِ السَّيِّدِ،
أَوْ أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ أَوِ ابْنِهِ أَوْ بِنْتِهِ (1) .
حَدُّ الْقَذْفِ:
أ - إِيقَاعُ الْحَدِّ عَلَى الرَّقِيقِ إِذَا قَذَفَ مُحْصَنًا أَوْ
مُحْصَنَةً:
125 - إِذَا قَذَفَ الرَّقِيقُ الْمُكَلَّفُ مُحْصَنًا أَوْ مُحْصَنَةً
بِالزِّنَا وَلَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ
إِجْمَاعًا إِذَا تَمَّتْ شُرُوطُهُ لِعُمُومِ آيَةِ الْقَذْفِ،
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ نِصْفُ حَدِّ
الْحُرِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ حَدُّ الْقَذْفِ الْجَلْدَ
فَهُوَ يَتَنَصَّفُ، فَوَجَبَ تَنْصِيفُهُ، كَحَدِّ الْجَلْدِ فِي
الزِّنَا، وَقَدْ قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ:
أَدْرَكْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ
الْخُلَفَاءِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَضْرِبُونَ الْمَمْلُوكَ إِذَا قَذَفَ
إِلاَّ أَرْبَعِينَ (2) .
ب - قَذْفُ الرَّقِيقِ:
126 - مَنْ قَذَفَ رَقِيقًا فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، سَوَاءٌ
كَانَ الْقَاذِفُ سَيِّدَ الرَّقِيقِ أَوْ غَيْرَ سَيِّدِهِ.
__________
(1) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 4 / 188، وروضة الطالبين 10 / 12،
وابن عابدين 3 / 202، والدسوقي 4 / 345، والزرقاني 8 / 106، 108، وكشاف
القناع 6 / 141.
(2) المغني 8 / 219، وشرح المنهاج 4 / 184، روضة الطالبين 8 / 321،
والدر المختار مع حاشية ابن عابدين 3 / 167، والزرقاني 8 / 88.
(23/79)
وَاسْتَثْنَى مَالِكٌ مَنْ قَذَفَ أَمَةً
حَامِلاً مِنْ سَيِّدِهَا الْحُرِّ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَنَّهَا حَامِلٌ
مِنْ زِنًا. وَدَلِيل عَدَمِ حَدِّ قَاذِفِ الرَّقِيقِ قَوْله
تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (1)
فَجَعَلَتِ الآْيَةُ: الْحَدَّ لِقَاذِفِ الْمُحْصَنَةِ، وَشَرْطُ
الإِْحْصَانِ الْحُرِّيَّةُ (2) . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَى
الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ قَذَفَ
مَمْلُوكَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا قَال جُلِدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
إِلاَّ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَال (3) . وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ قَذَفَ
مَمْلُوكَهُ كَانَ لِلَّهِ فِي ظَهْرِهِ حَدٌّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (4)
قَال ابْنُ حَجَرٍ: فَدَل الْحَدِيثُ عَلَى ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ لَوْ
وَجَبَ عَلَى السَّيِّدِ الْحَدُّ فِي الدُّنْيَا لَذَكَرَهُ كَمَا
ذَكَرَهُ فِي الآْخِرَةِ (5) .
وَحَيْثُ انْتَفَى الْحَدُّ شُرِعَ التَّعْزِيرُ (6) ، وَلِلْعَبْدِ
إِنْ قَذَفَهُ سَيِّدُهُ أَوْ غَيْرُهُ أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَى
الْحَاكِمِ
__________
(1) سورة النور / 4.
(2) المغني 8 / 216، والزرقاني 8 / 85، 86.
(3) حديث: " من قذف مملوكه وهو بريء ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 185
- ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1282 - ط الحلبي) واللفظ للبخاري.
(4) حديث: " من قذف مملوكه كان لله. . . " أورده ابن حجر في الفتح (12
/ 185 - ط السلفية) وعزاه إلى النسائي، وسكت عليه.
(5) فتح الباري 12 / 185 (ك الحدود - ب 45 قذف العبيد) .
(6) كشف القناع 6 / 104، 105، والدر المختار بهامش حاشية ابن عابدين 3
/ 168.
(23/80)
لِيُعَزِّرَهُ، وَالْحَقُّ فِي الْعَفْوِ
لِلْعَبْدِ لاَ لِلسَّيِّدِ، فَإِنْ مَاتَ فَلِلسَّيِّدِ
الْمُطَالَبَةُ (1) .
حَدُّ شُرْبِ الْمُسْكِرِ:
127 - يُحَدُّ الرَّقِيقُ إِذَا شَرِبَ الْمُسْكِرَ بِالتَّفْصِيل
الَّذِي يُذْكَرُ فِي حَدِّ الْحُرِّ، إِلاَّ أَنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ
نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ، فَمَنْ قَال: إِنَّ الْحُرَّ يُحَدُّ
ثَمَانِينَ جَلْدَةً جَعَل حَدَّ الْعَبْدِ أَرْبَعِينَ، وَمَنْ قَال
حَدُّ الْحُرِّ أَرْبَعُونَ قَال: إِنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ عِشْرُونَ
جَلْدَةً (2) .
الرَّقِيقُ وَالْوِلاَيَاتُ:
128 - الرَّقِيقُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْوِلاَيَاتِ، مِنْ حَيْثُ
الْجُمْلَةُ؛ لأَِنَّ الرِّقَّ عَجْزٌ حُكْمِيٌّ سَبَبُهُ فِي الأَْصْل
الْكُفْرُ؛ وَلأَِنَّ الرَّقِيقَ مُوَلًّى عَلَيْهِ مَشْغُولٌ
بِحُقُوقِ سَيِّدِهِ وَتَلْزَمُهُ طَاعَتُهُ فَلاَ يَكُونُ وَالِيًا.
قَال ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى أَنَّ الإِْمَامَةَ
الْعُظْمَى لاَ تَكُونُ فِي الْعَبِيدِ إِذَا كَانَ بِطَرِيقِ
الاِخْتِيَارِ. قَال ابْنُ حَجَرٍ بَعْدَ أَنْ نَقَل ذَلِكَ: أَمَّا
لَوْ تَغَلَّبَ عَبْدٌ حَقِيقَةً بِطَرِيقِ الشَّوْكَةِ فَإِنَّ
طَاعَتَهُ تَجِبُ إِخْمَادًا لِلْفِتْنَةِ مَا لَمْ يَأْمُرْ
بِمَعْصِيَةٍ. اهـ.
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 327، 10 / 105.
(2) بدائع الصنائع 7 / 40، رد المختار 3 / 164، والزرقاني 8 / 113،
مغني المحتاج 4 / 189، والمغني 8 / 316، وكشاف القناع 6 / 118.
(23/80)
قَال ابْنُ حَجَرٍ: أَمَّا لَوِ اسْتُعْمِل
الْعَبْدُ عَلَى إِمَارَةِ بَلَدٍ مَثَلاً وَجَبَتْ طَاعَتُهُ.
وَحُمِل عَلَى ذَلِكَ مَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ
أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا
وَإِنِ اسْتُعْمِل عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ
زَبِيبَةٌ. (1)
وَفُسِّرَ اسْتِعْمَال الْعَبْدِ فِي الْحَدِيثِ بِأَنْ يُجْعَل
عَامِلاً فَيُؤَمَّرُ إِمَارَةً عَامَّةً عَلَى بَلَدٍ مَثَلاً، أَوْ
يُوَلَّى فِيهَا وِلاَيَةً خَاصَّةً كَإِمَامَةِ الصَّلاَةِ، أَوْ
جِبَايَةِ الْخَرَاجِ أَوْ مُبَاشَرَةِ الْحَرْبِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْعَبْدُ لاَ يَلِي أَمْرًا عَامًّا، إِلاَّ
نِيَابَةً عَنِ الإِْمَامِ الأَْعْظَمِ فَلَهُ نَصْبُ الْقَاضِي
نِيَابَةً عَنِ السُّلْطَانِ وَلَكِنْ لاَ يَقْضِي هُوَ (3) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْعَبْدَ لاَ يُوَلَّى تَقْرِيرَ
الْفَيْءِ وَلاَ جِبَايَةَ أَمْوَالِهِ بَعْدَ تَقْرِيرِهَا.
وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَجُوزُ شَرْعًا أَنْ
يَكُونَ قَاضِيًا لِنَقْصِهِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: الْعَبْدُ لاَ يَكُونُ
قَاضِيًا، وَلاَ قَاسِمًا، وَلاَ مُقَوِّمًا، وَلاَ قَائِفًا وَلاَ
مُتَرْجِمًا، وَلاَ كَاتِبَ حَاكِمٍ، وَلاَ أَمِينًا لِحَاكِمٍ،
__________
(1) حديث: " اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي ". أخرجه
البخاري (الفتح 13 / 121 - ط السلفية) .
(2) فتح الباري 13 / 122 (ك الأحكام ب4: السمع والطاعة للإمام) .
(3) شرح الأشباه 2 / 153.
(23/81)
وَلاَ وَلِيًّا فِي نِكَاحٍ أَوْ قَوَدٍ،
وَأَضَافَ ابْنُ نُجَيْمٍ: وَلاَ مُزَكِّيًا عَلاَنِيَةً، وَلاَ
عَاشِرًا، وَأَضَافَ السُّيُوطِيُّ: وَلاَ خَارِصًا، وَلاَ يَكُونُ
عَامِلاً فِي الزَّكَاةِ إِلاَّ إِذَا عَيَّنَ لَهُ الإِْمَامُ قَوْمًا
يَأْخُذُ مِنْهُمْ قَدْرًا مُعَيَّنًا (1) .
شَهَادَةُ الرَّقِيقِ:
128 م - مِنْ شَرْطِ الشَّاهِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا، فَلاَ
تُقْبَل شَهَادَةُ الْعَبْدِ. قَال عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ: لأَِنَّ
الْمُخَاطَبَ بِالآْيَةِ (يَعْنِي آيَةَ الدَّيْنِ) الأَْحْرَارَ،
بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ} لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (2) وَإِنَّمَا يُرْتَضَى
الأَْحْرَارُ، قَال: وَأَيْضًا نُفُوذُ الْقَوْل عَلَى الْغَيْرِ
نَوْعُ وِلاَيَةٍ. يَعْنِي وَالرَّقِيقُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَمَال
ابْنُ الْهُمَامِ إِلَى قَبُول شَهَادَتِهِ لأَِنَّ عَدَمَ وِلاَيَتِهِ
هُوَ لِحَقِّ الْمَوْلَى لاَ لِنَقْصٍ فِي الْعَبْدِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ
عَلَى الأَْحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ،
وَنَقَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ وَابْنُ الْهُمَامِ عَنْ أَنَسٍ وَعَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، إِلاَّ أَنَّ ابْنَ الْهُمَامِ قَال إِنَّ
عَلِيًّا
__________
(1) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 4 / 296، والأشباه والنظائر للسيوطي ص
193، 195، وجواهر الإكليل 2 / 221، وشرح الأشباه 2 / 153، والمغني 9 /
39، والدر المختار وابن عابدين 4 / 299، وأدب القضاء لابن أبي الدم ص
21.
(2) سورة البقرة / 282.
(23/81)
كَانَ يَقُول: تُقْبَل عَلَى الْعَبِيدِ
دُونَ الأَْحْرَارِ.
وَمِمَّنْ نُقِل عَنْهُ قَبُول شَهَادَةِ الْعَبِيدِ عُرْوَةُ
وَشُرَيْحٌ وَإِيَاسٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ
الْمُنْذِرِ.
قَال أَنَسٌ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَدَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ.
وَوَجَّهَهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّ الْعَبِيدَ مِنْ رِجَالِنَا
فَدَخَل فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ
مِنْ رِجَالِكُمْ} (1) وَلأَِنَّهُ إِنْ كَانَ عَدْلاً غَيْرَ
مُتَّهَمٍ تُقْبَل رِوَايَتُهُ وَفُتْيَاهُ وَأَخْبَارُهُ
الدِّينِيَّةُ، فَتُقْبَل شَهَادَتُهُ كَالْحُرِّ، وَلأَِنَّ
الشَّهَادَةَ تَعْتَمِدُ الْمُرُوءَةَ، وَالْعَبِيدُ مِنْهُمْ مَنْ
لَهُ مُرُوءَةٌ وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُمُ الأُْمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ
وَالصَّالِحُونَ وَالأَْتْقِيَاءُ. وَلأَِنَّ مَنْ أُعْتِقَ مِنْهُمْ
قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ اتِّفَاقًا، وَالْحُرِّيَّةُ لاَ تُغَيِّرُ
طَبْعًا وَلاَ تُحْدِثُ عِلْمًا وَلاَ مُرُوءَةً (2) .
وَأَمَّا شَهَادَةُ الْعَبْدِ فِي الْحُدُودِ فَلاَ تَجُوزُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ؛ لأَِنَّ الْحُدُودَ تَسْقُطُ
بِالشُّبُهَاتِ، وَالاِخْتِلاَفُ فِي قَبُول رِوَايَتِهِ فِي
الأَْمْوَال يُورِثُ شُبْهَةً.
وَأَمَّا فِي الْقِصَاصِ فَتُقْبَل شَهَادَتُهُ عِنْدَهُمْ فِي أَحَدِ
الْوَجْهَيْنِ لأَِنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ فَأَشْبَهَ الأَْمْوَال.
قَالُوا: وَتُقْبَل شَهَادَةُ الأَْمَةِ فِيمَا تُقْبَل فِيهِ
شَهَادَةُ
__________
(1) سورة البقرة / 282.
(2) الدر وحاشية ابن عابدين 4 / 370، والمغني 9 / 195، وشرح المنهاج
بحاشية القليوبي وعميرة 4 / 318، وفتح القدير 6 / 28، وجواهر الإكليل 2
/ 232.
(23/82)
الْحُرَّةِ، وَذَلِكَ فِي الْمَال (1) .
وَهَذَا إِنْ شَهِدَ الْعَبْدُ أَوِ الأَْمَةُ لِغَيْرِ سَيِّدِهِ.
أَمَّا لَوْ شَهِدَ لِسَيِّدِهِ فَلاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ اتِّفَاقًا
لأَِنَّهُ يَتَبَسَّطُ فِي مَال سَيِّدِهِ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ،
وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ، وَتَجِبُ نَفَقَتُهُ مِنْهُ، وَلاَ يُقْطَعُ
بِسَرِقَتِهِ مِنْهُ فَلاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَهُ، كَالاِبْنِ مَعَ
أَبِيهِ.
وَكَذَا لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ اتِّفَاقًا كَمَا
لاَ يُقْبَل قَضَاؤُهُ لَهُ لأَِنَّ مَال الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ،
فَشَهَادَتُهُ لَهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ فِي الْمَال. وَكَذَا لاَ
تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَهُ بِنِكَاحٍ، وَلاَ لأَِمَتِهِ بِطَلاَقٍ
لأَِنَّ فِي طَلاَقِ أَمَتِهِ تَخْلِيصَهَا مِنْ زَوْجِهَا
وَإِبَاحَتَهَا لِلسَّيِّدِ، وَفِي نِكَاحِ الْعَبْدِ نَفْعٌ لَهُ (2)
.
وَبَعْضُ الَّذِينَ لَمْ يَقْبَلُوا شَهَادَةَ الْعَبْدِ اسْتَثْنَوْا
الشَّهَادَةَ عَلَى رُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ مِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ
وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. فَقَالُوا: تُقْبَل شَهَادَةُ
الْعَبْدِ وَالأَْمَةِ عَلَى ذَلِكَ كَالأَْحْرَارِ لأَِنَّهُ أَمْرٌ
دِينِيٌّ فَأَشْبَهَ رِوَايَةَ الأَْخْبَارِ، وَلِهَذَا لاَ يَخْتَصُّ
بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ (3) .
رِوَايَةُ الْعَبْدِ وَأَخْبَارُهُ:
129 - رِوَايَةُ الْعَبْدِ وَالأَْمَةِ لِلْحَدِيثِ وَأَخْبَارُهُمَا
مَقْبُولَةٌ اتِّفَاقًا حَتَّى فِي أُمُورِ الدِّينِ كَالْقِبْلَةِ،
__________
(1) المغني 9 / 196، وفتح الباري 5 / 267، وروضة الطالبين 11 / 234.
(2) المغني 9 / 193، والقليوبي 4 / 303.
(3) فتح الباري 5 / 257، وروضة الطالبين 2 / 345، وفتح القدير 2 / 59.
(23/82)
وَالطَّهَارَةِ، أَوِ النَّجَاسَةِ،
وَكَحِل اللَّحْمِ وَحُرْمَتِهِ إِنْ كَانَا عَدْلَيْنِ، وَذَلِكَ
لأَِنَّ بَابَ الرِّوَايَةِ وَاسِعٌ بِخِلاَفِ الشَّهَادَةِ (1) .
وَيُقْبَل قَوْل الْعَبْدِ وَالأَْمَةِ فِي الْهَدِيَّةِ وَالإِْذْنِ،
لأَِنَّ الْهَدَايَا تُبْعَثُ عَادَةً عَلَى أَيْدِي هَؤُلاَءِ، فَلَوْ
لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُمْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْحَرَجِ، حَتَّى لَقَدْ
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَالَتْ جَارِيَةٌ لِرَجُلٍ: بَعَثَنِي
مَوْلاَيَ هَدِيَّةً إِلَيْكَ، وَسِعَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا، لأَِنَّهُ
لاَ فَرْقَ بَيْنَ مَا إِذَا أَخْبَرَتْ بِإِهْدَاءِ الْمَوْلَى
غَيْرَهَا أَوْ نَفْسَهَا (2) .
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي التَّقْرِيبِ: يُقْبَل تَعْدِيل الْعَبْدِ
الْعَارِفِ. وَنَقَل السُّيُوطِيُّ مِثْل ذَلِكَ عَنِ الْخَطِيبِ
الْبَغْدَادِيِّ وَالرَّازِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ
الْبَاقِلاَّنِيِّ (3) .
الرَّقِيقُ وَالْجِهَادُ:
130 - الْجِهَادُ لاَ يَجِبُ عَلَى الرَّقِيقِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُبَايِعُ
الْحُرَّ عَلَى الإِْسْلاَمِ وَالْجِهَادِ، وَيُبَايِعُ الْعَبْدَ
عَلَى الإِْسْلاَمِ دُونَ الْجِهَادِ (4) . وَلأَِنَّ الْجِهَادَ
عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 294.
(2) الهداية وفتح القدير والعناية 8 / 84، 86.
(3) تدريب الراوي ص 213، 214، المدينة المنورة ط المكتبة العلمية محمد
نمنكاني، 1379 هـ.
(4) حديث: " كان يبايع الحر على الإسلام والجهاد، ويبايع العبد على
الإسلام دون الجهاد ". يؤخذ من حديث جابر بن عبد الله: جاء عبد فبايع
النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة، ولم يشعر أنه عبد، فجاء سيده
يريده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بعنيه، فاشتر
(23/83)
مَسَافَةٍ فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الْعَبْدِ
كَالْحَجِّ (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: لاَ جِهَادَ عَلَى رَقِيقٍ وَإِنْ أَمَرَهُ
سَيِّدُهُ، إِذْ لَيْسَ الْقِتَال مِنْ الاِسْتِخْدَامِ الْمُسْتَحَقِّ
لِلسَّيِّدِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الذَّبُّ عَنْ سَيِّدِهِ عِنْدَ
خَوْفِهِ عَلَى رُوحِهِ إِذَا لَمْ نُوجِبِ الدَّفْعَ عَنِ الْغَيْرِ،
بَل السَّيِّدُ فِي ذَلِكَ كَالأَْجْنَبِيِّ، وَلِلسَّيِّدِ
اسْتِصْحَابُهُ فِي سَفَرِ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ لِيَخْدُمَهُ
وَيَسُوسَ دَوَابَّهُ. اهـ (2) .
لَكِنْ إِنْ فَاجَأَ الْعَدُوُّ بَلَدًا بِنُزُولِهِ عَلَيْهَا
بَغْتَةً، فَيَلْزَمُ كُل أَحَدٍ بِهِ طَاقَةٌ عَلَى الْقِتَال
الْخُرُوجُ لِدَفْعِ الْعَدُوِّ حَتَّى الْمَرْأَةَ وَالْعَبْدَ،
وَلَوْ لَمْ يَأْذَنِ الزَّوْجُ أَوِ السَّيِّدُ، وَكَذَا يَلْزَمُ
الْخُرُوجُ الصَّبِيَّ وَالْمُطِيقَ لِلْقِتَال، وَمِنْ هُنَا قَال
الْمَالِكِيَّةُ: يُسْهَمُ لِهَؤُلاَءِ مِمَّا يُغْنَمُ مِنَ
الْعَدُوِّ فِي هَذِهِ الْحَال، لِكَوْنِ الْقِتَال وَاجِبًا
عَلَيْهِمْ (3) .
وَلاَ يُسْهَمُ لِلْعَبْدِ إِذَا حَضَرَ الْوَقْعَةَ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْعُلَمَاءِ، لِمَا رَوَى عُمَيْرٌ مَوْلَى أَبِي اللَّحْمِ أَنَّهُ
قَال: شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي، فَكَلَّمُوا فِيَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَنِي، فَقُلِّدْتُ
سَيْفًا، فَإِذَا أَنَا
__________
(1) المغني 8 / 347، وروضة الطالبين 10 / 214.
(2) روضة الطالبين 10 / 210.
(3) الزرقاني والبناني 3 / 1110.
(23/83)
أَجُرُّهُ، فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ
فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ (1) الْمَتَاعِ (2) . وَقَال
ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَمْلُوكُ وَالْمَرْأَةُ يَحْذِيَانِ مِنَ
الْغَنِيمَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ سَهْمٌ.
وَقَال أَبُو ثَوْرٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنُ
وَالنَّخَعِيُّ: يُسْهَمُ لِلْعَبِيدِ كَالأَْحْرَارِ، لِمَا رَوَى
الأَْسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّهُ شَهِدَ فَتْحَ الْقَادِسِيَّةِ
عَبِيدٌ فَضُرِبَتْ لَهُمْ سِهَامُهُمْ، وَلأَِنَّ حُرْمَةَ الْعَبْدِ
فِي الدِّينِ كَحُرْمَةِ الْحُرِّ.
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِلْقَوْل الأَْوَّل أَنَّهُ لَوِ
انْفَرَدَ الْعَبِيدُ بِالاِغْتِنَامِ قُسِمَتْ عَلَيْهِمُ
الْغَنِيمَةُ بَعْدَ تَخْمِيسِهَا (3) .
وَلَوْ قَتَل الْعَبْدُ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ، وَهَذَا هُوَ
الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (4) .
وَلَوْ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ رَقِيقِ الْكُفَّارِ الْحَرْبِيِّينَ
إِلَيْنَا مُسْلِمًا مُرَاغِمًا لَهُمْ فَهُوَ حُرٌّ إِنْ فَارَقَهُمْ
ثُمَّ أَسْلَمَ، وَإِنْ كَانَتْ رَقِيقَةً لَمْ تُرَدَّ عَلَى
سَيِّدِهَا وَلاَ زَوْجِهَا وَتَكُونُ حُرَّةً؛ لأَِنَّهَا مَلَكَتْ
نَفْسَهَا بِقَهْرِهَا لَهُمْ عَلَى نَفْسِهَا (5) .
__________
(1) الخرثّي: أردأ الغنيمة.
(2) حديث عمير مولى أبي اللحم: " شهدت خيبر مع سادتي. . " أخرجه أبو
داود (3 / 171 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (4 / 127 - ط الحلبي)
والسياق لأبي داود، ورواية الترمذي مختصرة، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(3) المغني 8 / 411، وروضة الطالبين 6 / 370، 371.
(4) روضة الطالبين 6 / 374.
(5) روضة الطالبين 10 / 342.
(23/84)
حَقُّ الْعَبِيدِ فِي الْفَيْءِ:
131 - قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ
الْيَوْمَ خِلاَفًا فِي أَنَّ الْعَبِيدَ لاَ حَقَّ لَهُمْ فِي
الْفَيْءِ. اهـ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ فَقَدْ قَال: مَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ لَهُ فِي هَذَا الْمَال نَصِيبٌ إِلاَّ
الْعَبِيدَ فَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ شَيْءٌ (1) .
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَوَّى بَيْنَ
النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ وَأَدْخَل فِيهِ الْعَبِيدَ. . فَلَمَّا
وَلِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاضَل بَيْنَهُمْ وَأَخْرَجَ
الْعَبِيدَ، فَلَمَّا وَلِيَ عَلِيٌّ سَوَّى بَيْنَهُمْ وَأَخْرَجَ
الْعَبِيدَ (2) .
وَمِنْ هُنَا قَال النَّوَوِيُّ: لاَ تُثْبَتُ فِي الدِّيوَانِ
أَسْمَاءُ الْعَبِيدِ، وَإِنَّمَا هُمْ تَبَعٌ لِلْمُقَاتِل، يُعْطِي
لَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يُثْبَتُ فِي الدِّيوَانِ أَسْمَاءُ
الرِّجَال الْمُكَلَّفِينَ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلْغَزْوِ (3) .
نَظَرُ الْعَبْدِ إِلَى سَيِّدَتِهِ:
132 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ عَوْرَةَ الْحُرَّةِ
بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَبْدِهَا لاَ تَخْتَلِفُ عَنْ عَوْرَتِهَا
بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الرِّجَال الأَْجَانِبِ، وَهِيَ مَا
عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ، وَلَكِنْ قَال الْحَنَفِيَّةُ:
يَدْخُل الْعَبْدُ عَلَى مَوْلاَتِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ (4) .
__________
(1) المغني 6 / 414.
(2) المغني 6 / 416.
(3) روضة الطالبين 6 / 362.
(4) الفتاوى الخانية 3 / 407.
(23/84)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: عَبْدُ
الْمَرْأَةِ مَحْرَمٌ لَهَا عَلَى الأَْصَحِّ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ
عَنِ الشَّافِعِيِّ قَال النَّوَوِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ (1) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ
فِي آبَائِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلاَ مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ (2) } . وَحَدِيثَ: إِنَّمَا هُوَ أَبُوكِ
وَغُلاَمُكِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لِلْعَبْدِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ مَوْلاَتِهِ
الرَّأْسَ وَالرَّقَبَةَ وَالذِّرَاعَ وَالسَّاقَ، وَلاَ يَكُونُ
مَحْرَمًا لَهَا فِي السَّفَرِ (4) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا
سَفَرُ الْمَرْأَةِ مَعَ عَبْدِهَا ضَيْعَةٌ (5) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ: فَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَهُ
مَنْظَرٌ، كُرِهَ لَهُ أَنْ يَرَى مِنْ سَيِّدَتِهِ مَا عَدَا
وَجْهَهَا، فَإِنْ كَانَ وَغْدًا (أَيْ بِخِلاَفِ ذَلِكَ) جَازَ أَنْ
يَرَى مِنْهَا مَا يَرَاهُ الْمَحْرَمُ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ
أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا (6) .
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 23.
(2) سورة الأحزاب / 55.
(3) حديث: " إنما هو أبوك وغلامك ". أخرجه أبو داود (4 / 359 - تحقيق
عزت عبيد دعاس) من حديث أنس بن مالك، وإسناده صحيح.
(4) كشاف القناع 2 / 395، 5 / 12.
(5) حديث: " سفر المرأة مع عبدها ضيعة ". أورده الهيثمي في المجمع (3 /
214 - ط القدسي) وقال: رواه البزار والطبراني في الأوسط وفيه بزيع بن
عبد الرحمن، وضعفه أبو حاتم، وبقية رجاله ثقات.
(6) الزرقاني والبناني بهامشه 3 / 221.
(23/85)
ذَبِيحَةُ الرَّقِيقِ وَتَضْحِيَتُهُ:
133 - يَمْلِكُ الرَّقِيقُ أَنْ يَذْبَحَ، وَذَبِيحَتُهُ حَلاَلٌ،
لِمَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ
مَالِكٍ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِسِلَعٍ، فَأُصِيبَتْ شَاةٌ مِنْهَا،
فَأَدْرَكَتْهَا فَذَبَحَتْهَا بِحَجَرٍ، فَسُئِل النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: كُلُوهَا (1) .
قَال عُبَيْدُ اللَّهِ رَاوِي الْحَدِيثِ: فَيُعْجِبُنِي أَنَّهَا
أَمَةٌ وَأَنَّهَا ذَبَحَتْ.
وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ رَوَى
عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَتَهُ أَيْ مِنْ حَيْثُ هِيَ امْرَأَةٌ، وَفِي
وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ يُكْرَهُ ذَبْحُ الْمَرْأَةِ الأُْضْحِيَّةَ،
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ مَالِكٍ جَوَازُهُ (2) .
(ر: ذَبَائِح) .
قَال النَّوَوِيُّ: وَالْعَبْدُ لاَ يَجُوزُ لَهُ التَّضْحِيَةُ إِنْ
قُلْنَا: إِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ فَإِنْ أَذِنَ
السَّيِّدُ، وَقَعَتِ التَّضْحِيَةُ عَنِ السَّيِّدِ، فَإِنْ قُلْنَا:
إِنَّهُمْ يَمْلِكُونَ بِالتَّمْلِيكِ وَإِذْنِ السَّيِّدِ وَقَعَتِ
التَّضْحِيَةُ عَنِ الْعَبْدِ (3) . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعٌ
مِنْ فُرُوعِ مَسْأَلَةِ مِلْكِ الْعَبْدِ بِالتَّمْلِيكِ، وَقَدْ
تَقَدَّمَتْ.
__________
(1) حديث: " إن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنمًا. . . " أخرجه
البخاري (الفتح 4 / 482، 9 / 632 - ط السلفية) .
(2) فتح الباري 4 / 482، 9 / 632، وكشاف القناع 6 / 204.
(3) روضة الطالبين 3 / 201.
(23/85)
النَّوْعُ الثَّانِي
أَحْكَامُ الرَّقِيقِ الْقِنِّ الْمُشْتَرَكِ
134 - قَدْ يَكُونُ الرَّقِيقُ مَمْلُوكًا لأَِكْثَرَ مِنْ شَخْصٍ
وَاحِدٍ. وَيَنْشَأُ الاِشْتِرَاكُ كَمَا فِي سَائِرِ الأَْمْوَال،
نَحْوُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدَ شَخْصَانِ فَأَكْثَرُ، أَوْ
يَرِثَاهُ أَوْ يَقْبَلاَهُ هِبَةً أَوْ وَصِيَّةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ،
أَوْ أَنْ يَبِيعَ السَّيِّدُ جُزْءًا شَائِعًا مِنْ عَبْدِهِ أَوْ
أَمَتِهِ.
وَقَدْ يَشْتَرِي الشُّرَكَاءُ فِي شَرِكَةِ الْعُقُودِ عَبْدًا
لِلتِّجَارَةِ، فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا أَيْضًا.
وَأَحْكَامُ الرَّقِيقِ الْمُشْتَرَكِ هِيَ أَحْكَامُ الرَّقِيقِ
غَيْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، لأَِنَّهُ قِنٌّ
مِثْلُهُ، لَكِنْ يَخْتَصُّ الرَّقِيقُ الْمُشْتَرَكُ بِأَحْكَامٍ
تَقْتَضِيهَا الشَّرِكَةُ مِنْهَا:
135 - لَيْسَ لأَِيِّ الشَّرِيكَيْنِ أَوِ الشُّرَكَاءِ وَطْءُ
الأَْمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ؛ لأَِنَّ الْوَطْءَ لاَ
يَحِل إِلاَّ أَنْ يَمْلِكَهَا الْوَاطِئُ مِلْكًا تَامًّا (ر:
تَسَرٍّ) لَكِنْ إِنْ وَطِئَهَا أَحَدُ الشُّرَكَاءِ فَيُعَزَّرُ وَلاَ
يُحَدُّ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ إِجْمَاعًا، إِلاَّ مَا نُقِل عَنْ أَبِي
ثَوْرٍ، فَإِنْ لَمْ تَلِدْ مِنْهُ كَانَ لَهُمْ بِقَدْرِ
أَنْصِبَائِهِمْ فِيهَا مِنْ مَهْرِ الْمِثْل وَأَرْشِ الْبَكَارَةِ
إِنْ كَانَتْ بِكْرًا عَلَى الْخِلاَفِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنْ
وَلَدَتْ مِنْهُ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَيَضْمَنُ لِشُرَكَائِهِ
قِيمَةَ أَنْصِبَائِهِمْ مِنْهَا؛ لأَِنَّهُ أَخْرَجَهَا عَنْ
مِلْكِهِمْ، فَلَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا.
(23/86)
وَيَكُونُ وَلَدُهُ حُرًّا، وَاخْتُلِفَ
هَل يَلْزَمُهُ لِشُرَكَائِهِ قِيمَةُ نَصِيبِهِمْ مِنْهُ أَمْ لاَ.
(1)
وَأَمَّا فِي النَّظَرِ وَالْعَوْرَةِ فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ، بِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُشْتَرَكَ مَعَ سَيِّدَتِهِ
كَالأَْجْنَبِيِّ، وَالأَْمَةَ الْمُشْتَرَكَةَ مَعَ سَيِّدِهَا
كَالْمَحْرَمِ، وَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا (2) .
136 - وَمِنْهَا أَنَّ الإِْنْفَاقَ عَلَى الرَّقِيقِ الْمُشْتَرَكِ
وَاجِبٌ عَلَى الشُّرَكَاءِ جَمِيعًا بِنِسْبَةِ أَنْصِبَائِهِمْ فِي
مِلْكِيَّتِهِ، وَكَذَا فِطْرَتُهُ (3) .
137 - وَمِنْهَا الْوِلاَيَةُ عَلَى الرَّقِيقِ الْمُشْتَرَكِ، وَهِيَ
مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْمَالِكِينَ، فَإِنْ كَانَ الرَّقِيقُ أَمَةً
فَلَيْسَ لأَِحَدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ
الآْخَرِينَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَأَتَّى تَزْوِيجُ نَصِيبِهِ وَحْدَهُ.
ثُمَّ إِنِ اشْتَجَرَ الْمَالِكُونَ فِي تَزْوِيجِهَا لَمْ يَكُنْ
لِلسُّلْطَانِ وِلاَيَةُ تَزْوِيجِهَا؛ لأَِنَّهَا مَمْلُوكَةٌ
لِمُكَلَّفٍ رَشِيدٍ بَالِغٍ حَاضِرٍ لاَ وِلاَيَةَ عَلَيْهِ لأَِحَدٍ،
وَهَذَا بِخِلاَفِ أَوْلِيَاءِ الْحُرَّةِ إِنِ اشْتَجَرُوا (4) .
وَالاِشْتِجَارُ فِي شُؤُونِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ فِي تَزْوِيجِهِ،
أَوِ الإِْذْنِ لَهُ بِتِجَارَةٍ، أَوْ عَمَلٍ، أَوْ سَفَرٍ، أَوْ
غَيْرِ ذَلِكَ يَجْعَلُهُ فِي نَصَبٍ وَلاَ يَرْضَى مِنْهُ
الْمُشْتَرِكُونَ غَالِبًا، لاِخْتِلاَفِ أَهْوَائِهِمْ
__________
(1) المغني 9 / 352، 353، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي 3 / 210.
(2) شرح المنهاج 3 / 210.
(3) كشاف القناع 2 / 250.
(4) كشاف القناع5 / 52.
(23/86)
وَإِرَادَاتِهِمْ، وَلِذَا ضَرَبَ اللَّهُ
الْمَثَل بِهِ لِلْمُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ فَقَال: {ضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا
لِرَجُلٍ هَل يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَل
أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (1) } . وَقُرِئَ فِي السَّبْعِ
(سَالِمًا لِرَجُلٍ) .
وَالْمُهَايَأَةُ طَرِيقَةٌ لِتَقْلِيل نِزَاعِ الشُّرَكَاءِ فِي
الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ كَمَا يَأْتِي.
138 - وَمِنْهَا الاِنْتِفَاعُ بِالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ
وَاسْتِخْدَامُهُ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِطُرُقٍ مِنْهَا،
الْمُهَايَأَةُ عَلَى الاِسْتِخْدَامِ فِي الزَّمَانِ، بِأَنْ
يَسْتَخْدِمَهُ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ
أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ أَنْصِبَائِهِمْ فِيهِ، فَإِذَا
تَهَايَآهُ اخْتَصَّ كُلٌّ مِنَ الشُّرَكَاءِ بِنَفَقَتِهِ الْعَامَّةِ
وَكَسْبِهِ الْعَامِّ فِي مُدَّتِهِ لِيَحْصُل مَقْصُودُ الْقِسْمَةِ.
أَمَّا النَّفَقَاتُ النَّادِرَةُ كَأُجْرَةِ الْحَجَّامِ وَالطَّبِيبِ
وَالأَْكْسَابِ النَّادِرَةِ كَاللُّقَطَةِ وَالْهِبَةِ وَالرِّكَازِ،
أَيْ إِذَا وَجَدَهُ الْعَبْدُ فَلاَ يَخْتَصُّ بِهِ مَنْ هُوَ فِي
نَوْبَتِهِ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْوَجْهُ الآْخَرُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ
الْفَرِيقَيْنِ تَكُونُ مُشْتَرَكَةً كَالنَّفَقَةِ الْعَامَّةِ
وَالْكَسْبِ الْعَامِّ (2) .
وَكَذَا تَجُوزُ الْمُهَايَأَةُ فِي خِدْمَةِ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ
عِنْدَ
__________
(1) سورة الزمر / 29.
(2) روضة الطالبين 11 / 219، وشرح المنهاج 3 / 117، وكشاف القناع 6 /
374.
(23/87)
الْحَنَفِيَّةِ فِي الزَّمَانِ اتِّفَاقًا
لِلضَّرُورَةِ، وَقَالُوا: يُقْرَعُ فِي الْبِدَايَةِ، أَيْ يُعَيَّنُ
بِالْقُرْعَةِ مِنْ يَكُونُ لَهُ الْيَوْمُ الأَْوَّل مِنَ الْخِدْمَةِ
نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ. قَالُوا: وَلَوْ كَانَ عَبْدَانِ بَيْنَ
اثْنَيْنِ جَازَ أَنْ يَتَهَايَآ عَلَى الْخِدْمَةِ فِيهِمَا، عَلَى
أَنْ يَخْدُمَ هَذَا الشَّرِيكَ هَذَا الْعَبْدُ، وَالآْخَرَ الآْخَرُ.
وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ
جَبْرًا إِذَا طَلَبَهُ أَحَدُهُمَا؛ لأَِنَّ الْمَنَافِعَ قَلَّمَا
تَتَفَاوَتُ بِخِلاَفِ الأَْعْيَانِ. قَالُوا: وَلَوْ تَهَايَآ
فِيهِمَا عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ كُل عَبْدٍ عَلَى مَنْ يَأْخُذُهُ جَازَ
اسْتِحْسَانًا لِلْمُسَامَحَةِ فِي إِطْعَامِ الْمَمَالِيكِ بِخِلاَفِ
شَرْطِ الْكِسْوَةِ فَإِنَّهَا لاَ يُسَامَحُ فِيهَا.
وَأَمَّا التَّهَايُؤُ فِي اسْتِغْلاَل الْعَبْدِ الْوَاحِدِ فَقَدْ
مَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ، بِخِلاَفِ التَّهَايُؤِ فِي اسْتِغْلاَل
الدَّارِ مَثَلاً، قَالُوا: لأَِنَّ الاِسْتِغْلاَل إِنَّمَا يَكُونُ
بِالاِسْتِعْمَال، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَمَلَهُ فِي الزَّمَانِ
الثَّانِي لاَ يَكُونُ كَمَا كَانَ فِي الزَّمَانِ الأَْوَّل. فَلَوْ
فَعَلاَ فَزَادَتِ الْغَلَّةُ لأَِحَدِهِمَا عَنِ الآْخَرِ
يَشْتَرِكَانِ فِي الزِّيَادَةِ لِيَتَحَقَّقَ التَّعْدِيل، وَلأَِنَّ
الْغَلَّةَ يُمْكِنُ بِهِ قِسْمَتُهَا فَلاَ ضَرُورَةَ إِلَى
التَّهَايُؤِ فِيهَا، بِخِلاَفِ الْخِدْمَةِ، وَأَمَّا فِي
الْعَبْدَيْنِ فِي الاِسْتِغْلاَل فَجَائِزٌ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ،
لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الإِْفْرَازِ وَالتَّمْيِيزِ، خِلاَفًا
لأَِبِي حَنِيفَةَ الَّذِي رَأَى أَنَّ الْمَنْعَ فِي صُورَةِ
الْعَبْدَيْنِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ فِي صُورَةِ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ،
وَلأَِنَّ التَّفَاوُتَ فِي الاِسْتِغْلاَل يَكْثُرُ؛ وَلأَِنَّ
الظَّاهِرَ التَّسَامُحُ فِي الْخِدْمَةِ وَالاِسْتِقْصَاءُ فِي
(23/87)
الاِسْتِغْلاَل (1) .
وَكَذَا قَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ تَهَايُؤُ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ
وَتَهَايُؤُ الْعَبْدَيْنِ (عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ
كَيْفِيَّتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) عَلَى سَبِيل الاِنْتِفَاعِ
وَالاِسْتِخْدَامِ، وَلاَ يَجُوزُ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ
وَالْعَبْدَيْنِ عَلَى سَبِيل الاِسْتِغْلاَل. وَحَيْثُ جَازَ
قَيَّدُوا بِأَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عِنْدَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ
يَوْمًا فَأَكْثَرَ إِلَى شَهْرٍ لاَ أَكْثَرَ، ثُمَّ يَكُونُ عِنْدَ
الآْخَرِ كَذَلِكَ (2) .
النَّوْعُ الثَّالِثُ
الرَّقِيقُ الْمُبَعَّضُ
وَهُوَ الَّذِي بَعْضُهُ رَقِيقٌ وَبَعْضُهُ حُرٌّ.
وَيَنْشَأُ التَّبْعِيضُ فِي الرَّقِيقِ فِي صُوَرٍ، مِنْهَا:
139 - أ - أَنْ يُعْتِقَ مَالِكُ الرَّقِيقِ جُزْءًا مِنْهُ سَوَاءٌ
كَانَ شَائِعًا كَرُبُعِهِ، أَوْ مُعَيَّنًا كَيَدِهِ، فَقَدْ ذَهَبَ
أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ مَا أَعْتَقَهُ يَكُونُ حُرًّا، وَمَا
لَمْ يُعْتِقْهُ يَبْقَى عَلَى الرِّقِّ، وَيُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي
قِيمَةِ جُزْئِهِ الَّذِي لَمْ يُعْتَقْ، كَالْمُكَاتَبِ، إِلاَّ
أَنَّهُ لاَ يُرَدُّ إِلَى الرِّقِّ لَوْ عَجَزَ عَنِ الأَْدَاءِ،
وَمَا لَمْ يُؤَدِّ فَهُوَ مُبَعَّضٌ، فَإِنْ أَدَّى عَتَقَ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ
مَنْ أَعْتَقَ جُزْءًا مِنْ عَبْدِهِ مُعَيَّنًا كَيَدِهِ أَوْ
شَائِعًا كَرُبُعِهِ سَرَى الْعِتْقُ إِلَى بَاقِيهِ فَيَعْتِقُ
كُلُّهُ، قَالُوا:
__________
(1) الهداية وشروحها 8 / 29 - 32.
(2) الزرقاني والبناني 6 / 194.
(23/88)
لأَِنَّ زَوَال الرِّقِّ لاَ يَتَجَزَّأُ،
وَقِيَاسًا عَلَى سِرَايَةِ الْعِتْقِ فِيمَا لَوْ أَعْتَقَ شِرْكًا
لَهُ فِي الْعَبْدِ، كَمَا يَأْتِي (وَانْظُرْ: تَبْعِيض ف 40) .
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ الْمُعْتِقُ
غَيْرَ سَفِيهٍ (1) .
ب - أَنْ يَكُونَ الرَّقِيقُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ مَالِكَيْنِ
فَأَكْثَرَ، فَيُعْتِقُ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ، فَإِنَّ بَاقِيَهُ
يَبْقَى رَقِيقًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا، وَلِشَرِيكِ
الْمُعْتِقِ إِمَّا أَنْ يُحَرِّرَ نَصِيبَهُ، أَوْ يُدَبِّرَهُ، أَوْ
يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ إِنْ كَانَ الْعِتْقُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَوْ
يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ فِي تَحْصِيل قِيمَةِ بَاقِيهِ لِيَتَحَرَّرَ،
فَإِنِ امْتَنَعَ آجَرَهُ جَبْرًا.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمُ الصَّاحِبَانِ، إِلَى أَنَّ
الشَّرِيكَ إِنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَكَانَ مُوسِرًا سَرَى الْعِتْقُ
إِلَى الْبَاقِي فَصَارَ كُل الْعَبْدِ حُرًّا، وَيَكُونُ عَلَى مَنْ
بَدَأَ بِالْعِتْقِ قِيمَةُ أَنْصِبَاءِ شُرَكَائِهِ، وَالْوَلاَءُ
لَهُ دُونَهُمْ، فَإِنْ أَعْتَقَ الثَّانِيَ بَعْدَ الأَْوَّل وَقَبْل
أَخْذِ الْقِيمَةِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ
لِلثَّانِي عِتْقٌ، لأَِنَّ الْعَبْدَ قَدْ صَارَ حُرًّا بِعِتْقِ
الأَْوَّل. وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ آخَرَ: إِلَى
أَنَّهُ لاَ يَعْتِقُ بِعِتْقِ الأَْوَّل مَا لَمْ يَأْخُذِ
الْقِيمَةَ، أَمَّا قَبْل أَخْذِ الْقِيمَةِ فَبَاقِي الْعَبْدِ
مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهِ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِالْعِتْقِ، وَلاَ
يَنْفُذُ بِغَيْرِهِ.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 15، وشرح المنهاج 4 / 351، وروضة الطالبين 12 /
110، والزرقاني 8 / 132.
(23/88)
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لِلشَّافِعِيِّ:
إِنَّ الْعِتْقَ مُرَاعًى، فَإِنْ دَفَعَ الْقِيمَةَ تَبَيَّنَّا
أَنَّهُ كَانَ عَتَقَ مِنْ حِينَ أَعْتَقَ الأَْوَّل نَصِيبَهُ، وَإِنْ
لَمْ يَدْفَعْ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَتَقَ.
أَمَّا إِنْ كَانَ مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مُعْسِرًا فَلاَ يَسْرِي
الْعِتْقُ، وَيَكُونُ الْعَبْدُ مُبَعَّضًا.
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ مَنْ أَعْتَقَ
شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ
قُوِّمَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ
حِصَصَهُمْ (1) . وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلاَّ فَقَدْ عَتَقَ
مِنْهُ مَا عَتَقَ (2) . (وَانْظُرْ تَبْعِيض ف 41) .
وَعَلَى مِثْل هَذَا التَّفْصِيل مَا لَوْ عَتَقَ عَلَى الْمَالِكِ
سَهْمُهُ مِنْ عَبْدٍ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، كَمَنْ مَلَكَ سَهْمًا مِنْ
ذِي مَحْرَمٍ بِاخْتِيَارِهِ، أَمَّا إِنْ مَلَكَ بِغَيْرِ
اخْتِيَارِهِ، كَمَنْ وَرِثَ جُزْءًا مِنِ ابْنِهِ، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ
عَلَيْهِ وَلاَ يَسْرِي إِلَى بَاقِيهِ اتِّفَاقًا، بَل يَبْقَى
مُبَعَّضًا؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ مَا يُتْلِفُ بِهِ نَصِيبَ
شَرِيكِهِ (3) .
ج - أَنْ تَلِدَ الْمُبَعَّضَةُ وَلَدًا مِنْ زَوْجٍ أَوْ زِنًا،
فَمُقْتَضَى تَبَعِيَّةِ الْوَلَدِ لأُِمِّهِ فِي الرِّقِّ
وَالْحُرِّيَّةِ أَنْ
__________
(1) حديث: " من أعتق شركًا له في عبد فكان له. . . " أخرجه البخاري
(الفتح 5 / 151 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1139 - ط الحلبي) من حديث ابن
عمر.
(2) المغني 9 / 334 - 338، وابن عابدين 3 / 15، 16 والزرقاني 8 / 132،
وشرح المنهاج 4 / 352.
(3) المغني 9 / 355، وشرح المنهاج 4 / 354.
(23/89)
يَكُونَ وَلَدُهَا مُبَعَّضًا كَذَلِكَ (1)
.
د - وَلَدُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ مِنْ وَطْءِ الشَّرِيكِ
الْمُعْسِرِ، فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2)
هـ - أَنْ يَضْرِبَ الإِْمَامُ الرِّقَّ عَلَى بَعْضِ الأَْسِيرِ
لِعِتْقِ بَعْضِهِ، فَيَكُونُ مُبَعَّضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي
الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَذَلِكَ (3) .
وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ صُوَرًا
أُخْرَى نَادِرَةً.
أَحْكَامُ الرَّقِيقِ الْمُبَعَّضِ:
140 - لَمَّا كَانَ الْمُبَعَّضُ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ مَمْلُوكٌ،
فَإِنَّهُ يَكُونُ شَبِيهًا بِالرَّقِيقِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ وَجْهٍ؛
لأَِنَّ سَيِّدَهُ لاَ يَمْلِكُ كُلَّهُ بَل يَمْلِكُ جُزْءًا مِنْهُ،
وَشَبِيهًا بِالْحُرِّ مِنْ وَجْهٍ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَدَ لأَِحَدٍ عَلَى
ذَلِكَ الْجُزْءِ الْحُرِّ مِنْهُ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ أَحْكَامَ الْمُبَعَّضِ
كَأَحْكَامِ الْقِنِّ فِيمَا عَدَا وَطْءَ السَّيِّدِ أَمَتَهُ
الْمُبَعَّضَةَ فَلاَ يَجُوزُ (4) .
وَفِي تُحْفَةِ الطُّلاَّبِ لِزَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيِّ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُبَعَّضَ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ
كَالْقِنِّ، وَفِي بَعْضِهَا كَالْحُرِّ، وَفِي بَعْضٍ آخَرَ هُوَ
كَالْحُرِّ
__________
(1) الأشباه للسيوطي 199.
(2) الأشباه للسيوطي 199.
(3) الأشباه للسيوطي 200، والدر المختار 3 / 15.
(4) الزرقاني 8 / 135، 4 / 260.
(23/89)
وَكَالْعَبْدِ بِاعْتِبَارَيْنِ (1) .
وَبِاسْتِقْرَاءِ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ فِي فُرُوعِ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ كَالشَّافِعِيَّةِ
وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ.
التَّصَرُّفُ فِيهِ:
141 - لِلسَّيِّدِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْجُزْءِ الْمَمْلُوكِ
بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ كَالْمُشْتَرَكِ، فَلَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ، أَوْ
يَقِفَهُ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ رَهْنَ الْمَشَاعِ أَوْ وَقْفَهُ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يُبَاعُ الْمُبَعَّضُ، وَلَكِنْ يَجُوزُ
لِسَيِّدِهِ أَنْ يُؤَجِّرَهُ لِيَأْخُذَ قِيمَةَ بَاقِيهِ مِنْ
أُجْرَتِهِ (2) .
كَسْبُ الْمُبَعَّضِ
142 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ
الْمُبَعَّضَ لَوْ كَسَبَ شَيْئًا مِنَ الْمُبَاحَاتِ كَالاِحْتِشَاشِ
وَالاِحْتِطَابِ وَالاِلْتِقَاطِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُشْتَرَكًا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ، فَلِسَيِّدِهِ نِسْبَةُ مِلْكِهِ فِيهِ،
وَالْبَاقِي لَهُ، كَمَا فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ، وَهَذَا إِنْ
لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ مُهَايَأَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ
فَلِصَاحِبِ النَّوْبَةِ مِنْهُ أَوْ مِنْ سَيِّدِهِ، عَلَى
التَّفْصِيل وَالْخِلاَفِ الْمُتَقَدِّمِ فِي مَسَائِل الْعَبْدِ
الْمُشْتَرَكِ (3) .
__________
(1) شرح المنهاج بحاشية القليوبي 2 / 270، وابن عابدين 3 / 15.
(2) حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب بشرح تحرير تنقيح اللباب 2 / 530 -
532.
(3) شرح المنهاج 3 / 117، وروضة الطالبين 11 / 219، وكشاف القناع 6 /
374.
(23/90)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ
الْمُبَعَّضَ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ كُلِّهِ إِلَى أَنْ يُؤَدِّيَ قِيمَةَ
بَاقِيهِ الْمَمْلُوكِ مِنْ مَكَاسِبِهِ أَوْ يَعْتِقَ (1) .
الْحُدُودُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُبَعَّضِ:
143 - لاَ يُرْجَمُ الْمُبَعَّضُ فِي الزِّنَا لِعَدَمِ تَمَامِ
إِحْصَانِهِ، وَحَدُّ الْمُبَعَّضِ كَحَدِّ الرَّقِيقِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ، فَهُوَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ
الْحُرِّ فِي الزِّنَا، وَالْقَذْفِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ. وَقَال
الْحَنَابِلَةُ: يُحَدُّ بِنِسْبَةِ حُرِّيَّتِهِ وَرِقِّهِ،
فَالْمُنَصَّفُ يُجْلَدُ فِي الزِّنَا خَمْسًا وَسَبْعِينَ جَلْدَةً،
وَلاَ يُحَدُّ قَاذِفُ الْمُبَعَّضِ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، كَمَا لاَ يُحَدُّ قَاذِفُ الرَّقِيقِ، بَل يُعَزَّرُ
(2) .
وَلاَ يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ مَال سَيِّدِهِ، كَمَا لاَ يُقْطَعُ
سَيِّدُهُ بِسَرِقَتِهِ مِنْ مَال الْمُبَعَّضِ، وَلَوْ كَانَ
الْمَسْرُوقُ مِمَّا مَلَكَهُ الْمُبَعَّضُ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ عَلَى
أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
جِنَايَاتُ الْمُبَعَّضِ:
144 - لَوْ قَتَل الْمُبَعَّضُ حُرًّا فَيَجِبُ الْقِصَاصُ إِذَا
تَمَّتْ شُرُوطُهُ؛ لأَِنَّهُ يُقْتَل بِالْحُرِّ الْحُرُّ الْكَامِل
الْحُرِّيَّةِ، فَلأََنْ يُقْتَل بِهِ الْمُبَعَّضُ الَّذِي
حُرِّيَّتُهُ نَاقِصَةٌ أَوْلَى.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 15.
(2) الشرقاوي على شرح التحرير 2 / 530 القاهرة، مصطفى الحلبي 1360 هـ،
والأشباه ص 198، وكشاف القناع 6 / 93.
(23/90)
وَلَوْ قَتَل الْمُبَعَّضُ مُبَعَّضًا
آخَرَ فَلاَ قِصَاصَ عَلَى الْقَوْل الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُقْتَل جُزْءُ الرِّقِّ بِجُزْءِ
الرِّقِّ، بَل يُقْتَل جَمِيعُهُ بِجَمِيعِهِ حُرِّيَّةً وَرِقًّا
شَائِعًا، فَلَوْ قُتِل بِهِ يَلْزَمُ قَتْل جُزْءِ حُرِّيَّةٍ
بِجُزْءِ رِقٍّ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى
أَنَّهُ يُقْتَل بِهِ إِنْ لَمْ تَزِدْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِل عَلَى
حُرِّيَّةِ الْمَقْتُول، بِأَنْ كَانَتْ بِقَدْرِهَا أَوْ أَقَل؛
لأَِنَّ الْمَقْتُول حِينَئِذٍ مُسَاوٍ لِلْقَاتِل أَوْ يَزِيدُ عَنْهُ
حُرِّيَّةً، فَلَمْ يَفْضُل الْقَاتِل الْمَقْتُول بِشَيْءٍ، فَلاَ
يَمْتَنِعُ الْقِصَاصُ.
وَلَوْ قَتَل الْحُرُّ مُبَعَّضًا لَمْ يُقْتَل بِهِ عِنْدَ مَنْ لاَ
يَقْتُل الْحُرَّ بِالْعَبْدِ - وَهُمْ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ
مَعَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ - لِنَقْصِهِ بِرِقِّ بَعْضِهِ، وَكَذَا لَوْ
قَتَل الْمُبَعَّضُ قِنًّا لَمْ يُقْتَل بِهِ، وَلَوْ قَتَل الْقِنُّ
مُبَعَّضًا قُتِل بِهِ. (2)
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَلَوْ قَتَل الْمُبَعَّضُ عَمْدًا،
فَإِنْ كَانَ تَرَكَ مَالاً يَفِي بِبَاقِي قِيمَتِهِ فَهُوَ حُرٌّ
وَيَثْبُتُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَلاَ قِصَاصَ
لِلاِخْتِلاَفِ فِي أَنَّهُ يَعْتِقُ كُلُّهُ أَوْ لاَ، فَالسَّبَبُ
فِي عَدَمِ ثُبُوتِ الْقِصَاصِ جَهْل الْمُسْتَحِقِّ، إِذْ هُوَ
دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ السَّيِّدَ أَوِ الْقَرِيبَ (3) .
__________
(1) الأشباه ص 197.
(2) شرح المنهاج 4 / 106، وشرح الشرقاوي على شرح التحرير 2 / 531.
(3) ابن عابدين 3 / 15.
(23/91)
الدِّيَاتُ
145 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ
الْمُبَعَّضَ إِذَا قَتَل وَوَجَبَ ضَمَانُهُ، فَإِنَّ فِيهِ مِنْ
دِيَةِ الْحُرِّ بِنِسْبَةِ حُرِّيَّتِهِ، وَمِنْ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ
كُلُّهُ رَقِيقًا بِنِسْبَةِ رِقِّهِ. فَمُبَعَّضٌ نِصْفُهُ حُرٌّ
نِصْفُ دِيَةِ حُرٍّ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَنِصْفُ قِيمَتِهِ لَوْ
كَانَ عَبْدًا، فِي مَال الْجَانِي (1) . وَإِنْ قَطَعَ إِحْدَى
يَدَيْهِ فَرُبُعُ الدِّيَةِ وَرُبُعُ الْقِيمَةِ، وَكُلُّهَا فِي مَال
الْجَانِي. وَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ مِمَّا لاَ مُقَدَّرَ لَهُ
يُقَوَّمُ كُلُّهُ رَقِيقًا سَلِيمًا بِلاَ جُرْحٍ، ثُمَّ رَقِيقًا
وَبِهِ الْجُرْحُ، وَيَضْمَنُ الْجَانِي النَّقْصَ، لَكِنْ يَكُونُ
نِصْفُ ذَلِكَ النَّقْصِ (أَيْ فِي الرَّقِيقِ الْمُنَصَّفِ) دِيَةً
(أَيْ أَرْشًا) لِجُزْئِهِ الْحُرِّ.
وَالنِّصْفُ الآْخَرُ قِيمَةً لِمَا نَقَصَ مِنْ جُزْئِهِ الرَّقِيقِ
(2) .
إِرْثُ مَال الْمُبَعَّضِ عَنْهُ:
146 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي
الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ الْمُبَعَّضَ لاَ يُورَثُ عَنْهُ مَالُهُ بَل
يَكُونُ كُل مَا تَرَكَهُ لِمَالِكِ جُزْئِهِ الْمَمْلُوكِ. وَفِي
وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْقَدِيمِ: يَكُونُ لِبَيْتِ
الْمَال.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الْجَدِيدِ - وَهُوَ الأَْظْهَرُ
وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ مَا كَسَبَهُ بِجُزْئِهِ
الْحُرِّ
__________
(1) القليوبي 4 / 145، والشرقاوي 2 / 532، وكشاف القناع 6 / 22.
(2) القليوبي 4 / 145.
(23/91)
وَبَيْنَ غَيْرِهِ. وَاَلَّذِي كَسَبَهُ
بِجُزْئِهِ الْحُرِّ مِثْل أَنْ يَكُونَ قَدْ وَرِثَ شَيْئًا عَنْ
قَرِيبٍ لَهُ مَثَلاً؛ لأَِنَّهُ لاَ يَرِثُ إِلاَّ بِجُزْئِهِ
الْحُرِّ، أَوْ يَكُونَ قَدْ هَايَأَ سَيِّدَهُ فَكَسَبَ ذَلِكَ
الْمَال فِي الأَْيَّامِ الْمُخَصَّصَةِ لَهُ (أَيْ لِلْمُبَعَّضِ)
أَوْ كَانَ قَدْ قَاسَمَ سَيِّدَهُ قَبْل الْمَوْتِ وَأَخَذَ
السَّيِّدُ حَقَّهُ، فَيَكُونُ الَّذِي بَقِيَ لِجُزْئِهِ الْحُرِّ.
قَالُوا: فَيُورَثُ عَنْهُ ذَلِكَ، يَرِثُهُ قَرِيبُهُ وَزَوْجَتُهُ
وَمُعْتَقُهُ. وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ كَسَبَهُ بِجُزْئِهِ
الْحُرِّ، وَلاَ قَاسَمَ سَيِّدَهُ فِي حَيَاتِهِ، فَمَا تَرَكَهُ مِنَ
الْمَال يَكُونُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ، فَلِسَيِّدِهِ
بِنِسْبَةِ مِلْكِهِ. وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ (1) .
إِرْثُ الْمُبَعَّضِ مِنْ غَيْرِهِ:
147 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، إِلَى أَنَّ الْمُبَعَّضَ
كَالْقِنِّ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ، فَلاَ يَرِثُ، كَمَا لاَ يُورَثُ،
وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَكَذَا قَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ الَّذِي
قَطَعَ بِهِ الأَْصْحَابُ: لاَ يَرِثُ الْمُبَعَّضُ مِنْ أَقَارِبِهِ
وَغَيْرِهِمْ شَيْئًا، وَلاَ يَحْجُبُ أَحَدًا مِنَ الْوَرَثَةِ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 489، والزرقاني 8 / 227، 135، وشرح المنهاج 3 /
148، والروضة 6 / 30، والمغني 6 / 269، والعذب الفائض 1 / 24.
(2) بيّن صاحب العذب الفائض طريقة العمل وضرب أمثلة أخرى فليرجع إليه
من أراد التوسع.
(23/92)
وَقَال أَحْمَدُ، وَالْمُزَنِيُّ، وَابْنُ
سُرَيْجٍ، مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ
وَابْنِ مَسْعُودٍ: يَرِثُ، وَيَحْجُبُ بِقَدْرِ جُزْئِهِ الْحُرِّ،
فَجُزْؤُهُ الْحُرُّ يُعَامَل مُعَامَلَةَ الأَْحْرَارِ، وَجُزْؤُهُ
الْمَمْلُوكُ يُعَامَل مُعَامَلَةَ الْعَبِيدِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا
رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال فِي الْعَبْدِ يَعْتِقُ بَعْضُهُ: يَرِثُ وَيُورَثُ
بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ (1) .
وَمَثَّل لَهُ فِي الْعَذْبِ الْفَائِضِ بِامْرَأَةٍ مَاتَتْ عَنْ
زَوْجٍ، وَأَخٍ شَقِيقٍ حُرَّيْنِ، وَابْنٍ لَهَا نِصْفُهُ حُرٌّ،
فَيَكُونُ لِلاِبْنِ الرُّبُعُ وَالثُّمُنُ، وَهُوَ نِصْفُ مَا
يَأْخُذُهُ لَوْ كَانَ كَامِل الْحُرِّيَّةِ، وَلِلزَّوْجِ الرُّبُعُ
وَالثُّمُنُ كَذَلِكَ، وَلِلأَْخِ الرُّبُعُ، لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ
الاِبْنُ رَقِيقًا كَانَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلأَْخِ النِّصْفُ
وَلاَ شَيْءَ لِلاِبْنِ، وَلَوْ كَانَ كَامِل الْحُرِّيَّةِ كَانَ
لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ وَالْبَاقِي لِلاِبْنِ وَهُوَ نِصْفٌ وَرُبُعٌ،
وَلاَ شَيْءَ لِلأَْخِ، فَيَأْخُذُ كُلٌّ مِنْهُمْ نِصْفَ مَا
يَأْخُذُهُ فِي مَجْمُوعِ الْمَسْأَلَتَيْنِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْحَسَنُ وَجَابِرٌ
وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَالثَّوْرِيُّ: هُوَ كَالْحُرِّ فِي
جَمِيعِ أَحْكَامِهِ فَيَرِثُ وَيَحْجُبُ كَالْحُرِّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. قَال ابْنُ عَابِدِينَ:
هُوَ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ حُرٌّ مَدْيُونٌ - أَيْ لأَِنَّهُ
__________
(1) حديث ابن عباس: " في العبد يعتق بعضه " أورده ابن قدامة في المغني
(6 / 270 - ط الرياض) وعزاه إلى عبد الله بن أحمد، وفيه انقطاع في
سنده.
(23/92)
يُسْتَسْعَى فِي فِكَاكِ بَاقِيهِ -
فَيَرِثُ وَيَحْجُبُ (1) .
انْقِضَاءُ الرِّقِّ:
148 - يَنْقَضِي الرِّقُّ فِي الرَّقِيقِ بِأُمُورٍ:
الأَْوَّل: أَنْ يُعْتِقَهُ مَالِكُهُ، سَوَاءٌ بَادَرَ بِعِتْقِهِ
مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، أَوْ أَعْتَقَهُ عَنْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةِ
يَمِينٍ، أَوْ ظِهَارٍ، أَوْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ
كَانَ عِتْقُهُ عَلَى مَالٍ يَلْتَزِمُهُ الْعَبْدُ كَمَا فِي
الْكِتَابَةِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ (ر: عِتْق) .
الثَّانِي: أَنْ يَعْتِقَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ
السَّيِّدُ، أَوْ خَصَاهُ، أَوْ ضَرَبَهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا عَلَى
خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ، وَكَمَا لَوْ وَلَدَتِ الأَْمَةُ مِنْ سَيِّدِهَا
ثُمَّ مَاتَ السَّيِّدُ (ر: اسْتِيلاَد) وَكَمَا لَوِ اشْتَرَى
الرَّجُل قَرِيبَهُ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُوصِيَ بِعِتْقِهِ يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ وَقَدْ
تَقَدَّمَ.
الرَّابِعُ: أَنْ يُدَبِّرَهُ: أَيْ يُعَلِّقَ السَّيِّدُ عِتْقَ
الْعَبْدِ عَلَى مَوْتِهِ أَيْ مَوْتِ السَّيِّدِ، فَإِنْ مَاتَ
السَّيِّدُ يَكُونُ الْعَبْدُ عَتِيقًا، وَكَذَا لَوْ كَاتَبَهُ
وَأَدَّى الْكِتَابَةَ (ر: تَدْبِير، عِتْق) .
__________
(1) شرح المنهاج 3 / 148، والروضة 6 / 30، والعذب الفائض 1 / 23، 24،
والمغني 6 / 269 وما بعدها، والزرقاني 8 / 227، 135، وابن عابدين 5 /
489، 3 / 15.
(23/93)
رَقْم
التَّعْرِيفِ:
1 - لُغَةً: الرَّقْمُ فِي الأَْصْل مَصْدَرٌ، يُقَال: رَقَمْتُ
الثَّوْبَ رَقْمًا أَيْ وَشَّيْتُهُ، فَهُوَ مَرْقُومٌ، وَرَقَمْتُ
الْكِتَابَ: كَتَبْتُهُ فَهُوَ مَرْقُومٌ.
وَالرَّقْمُ: الْخَطُّ وَالْكِتَابَةُ وَالْخَتْمُ. وَالرَّقْمُ: خَزٌّ
مُوَشًّى، وَكُل ثَوْبٍ وُشِّيَ فَهُوَ رَقْمٌ.
وَرَقَمْتُ الشَّيْءَ: أَعْلَمْتُهُ بِعَلاَمَةٍ تُمَيِّزُهُ عَنْ
غَيْرِهِ كَالْكِتَابَةِ وَنَحْوِهَا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَلاَمَةٌ يُعْرَفُ بِهَا مِقْدَارُ مَا يَقَعُ
بِهِ الْبَيْعُ، أَوْ هُوَ الثَّمَنُ الْمَكْتُوبُ عَلَى الثَّوْبِ (2)
. وَفِي الْحَدِيثِ: كَانَ يَزِيدُ فِي الرَّقْمِ (3) أَيْ مَا
يُكْتَبُ عَلَى الثِّيَابِ مِنْ أَثْمَانِهَا لِتَقَعَ الْمُرَابَحَةُ
عَلَيْهِ، أَوْ يَغْتَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير والمقاييس في اللغة 2 / 425.
(2) كشاف اصطلاحات الفنون 3 / 590، وابن عابدين 4 / 29، والمغني 4 /
207، والمجموع 9 / 323 - 324 تحقيق المطيعي، والموسوعة 7 / 70، 8 / 79.
(3) حديث: " كان يزيد في الرقم "
أورده ابن الأثير في النهاية (2 / 253 - ط الحلبي) .
(23/93)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَرْنَامَجُ:
2 - الْبَرْنَامَجُ: الْوَرَقَةُ الْجَامِعَةُ لِلْحِسَابِ، وَهُوَ
مُعَرَّبُ (برنامه) .
وَفِي الْمُغْرِبِ: هِيَ النُّسْخَةُ الْمَكْتُوبُ فِيهَا عَدَدُ
الثِّيَابِ وَالأَْمْتِعَةِ وَأَنْوَاعِهَا الْمَبْعُوثِ بِهَا مِنْ
إِنْسَانٍ لآِخَرَ، فَتِلْكَ النُّسْخَةُ الَّتِي فِيهَا مِقْدَارُ
الْمَبْعُوثِ هِيَ الْبَرْنَامَجُ (1) .
وَنَصَّ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْبَرْنَامَجَ هُوَ
الدَّفْتَرُ الْمَكْتُوبُ فِيهِ أَوْصَافُ مَا فِي الْعَدْل مِنَ
الثِّيَابِ الْمَبِيعَةِ لِتُشْتَرَى عَلَى تِلْكَ الصَّنْعَةِ
لِلضَّرُورَةِ (2) .
ب - الأُْنْمُوذَجُ:
3 - الأُْنْمُوذَجُ: مَا يَدُل عَلَى صِفَةِ الشَّيْءِ، وَهُوَ
مُعَرَّبٌ، وَفِي لُغَةٍ: نَمُوذَجٌ، قَال الصَّغَانِيُّ:
النَّمُوذَجُ: مِثَال الشَّيْءِ الَّذِي يُعْمَل عَلَيْهِ (3) .
ج - النَّقْشُ، وَالْوَشْيُ، وَالنَّمْنَمَةُ، وَالتَّزْوِيقُ:
4 - هَذِهِ الأَْلْفَاظُ تَكَادُ تَكُونُ مُتَّفِقَةَ الْمَعْنَى
وَهِيَ تَشْتَرِكُ مَعَ (الرَّقْمِ) فِي مَعْنَى التَّجْمِيل،
وَالتَّزْيِينِ (4) .
__________
(1) تاج العروس والمغرب مادة (برنامج) .
(2) الدسوقي 3 / 24.
(3) المصباح المنير.
(4) لسان العرب المواد (زوق - نقش - نمنم - وشي) .
(23/94)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّقْمِ مِنْ
أَحْكَامٍ:
الْبَيْعُ بِالرَّقْمِ:
5 - مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ الْعِلْمُ بِالثَّمَنِ، فَلَوْ
كَانَ الثَّمَنُ مَرْقُومًا عَلَى السِّلْعَةِ (أَيْ مَكْتُوبًا
عَلَيْهَا) ، وَتَمَّ الْبَيْعُ بِالرَّقْمِ بِأَنْ قَال الْبَائِعُ
لِلْمُشْتَرِي: بِعْتُكَ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِرَقْمِهَا، أَيْ
بِالثَّمَنِ الَّذِي هُوَ مَرْقُومٌ عَلَيْهَا. فَإِنْ كَانَ
الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي عَالِمَيْنِ بِقَدْرِهِ صَحَّ الْبَيْعُ
بِاتِّفَاقٍ.
وَإِنْ كَانَا جَاهِلَيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا جَاهِلاً وَتَمَّ
الْبَيْعُ عَلَى ذَلِكَ وَافْتَرَقَا فَسَدَ الْبَيْعُ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ
الْمَفْهُومُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ) وَذَلِكَ لِجَهَالَةِ
الثَّمَنِ، وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ وَاخْتَارَ
هَذِهِ الرِّوَايَةَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَهُوَ وَجْهٌ حَكَاهُ
الرَّافِعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ مَعْرِفَةِ
الثَّمَنِ، نَظِيرُهُ مَا لَوْ قَال: بِعْتُ هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُل
صَاعٍ بِدِرْهَمٍ يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَإِنْ كَانَتْ جُمْلَةُ
الثَّمَنِ فِي الْحَال مَجْهُولَةً، لَكِنْ قَال النَّوَوِيُّ عَمَّا
حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ: هَذَا ضَعِيفٌ شَاذٌّ.
وَإِنْ عَلِمَ الْجَاهِل بِالثَّمَنِ - قَدْرَ الرَّقْمِ - فِي
الْمَجْلِسِ (أَيْ قَبْل الاِفْتِرَاقِ) فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ؛ لأَِنَّ
الْمَانِعَ كَانَ هُوَ جَهَالَةُ الثَّمَنِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَقَدْ
زَالَتْ فِي الْمَجْلِسِ، وَيَصِيرُ كَتَأْخِيرِ الْقَبُول إِلَى
(23/94)
آخِرِ الْمَجْلِسِ، وَهَذَا عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ حَكَاهُ
الْفُورَانِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ، وَهُوَ مَفْهُومُ مَذْهَبِ
الْمَالِكِيَّةِ.
وَقَال الْبَعْضُ الآْخَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الْبَيْعُ فَاسِدٌ؛
لأَِنَّ فِيهِ زِيَادَةَ جَهَالَةٍ تَمَكَّنَتْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ
وَهِيَ جَهَالَةُ الثَّمَنِ بِسَبَبِ الرَّقْمِ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ
الْقِمَارِ لِلْخَطَرِ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُ سَيَظْهَرُ كَذَا وَكَذَا
لأَِنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ يُبَيِّنَ الْبَائِعُ قَدْرَ الرَّقْمِ
بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَل.
لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَجُوزُ الْبَيْعُ مَعَ الْعِلْمِ فِي
الْمَجْلِسِ لَكِنْ بِعَقْدٍ آخَرَ هُوَ التَّعَاطِي أَوِ التَّرَاضِي.
وَعَنْ هَذَا قَال شَمْسُ الأَْئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: وَإِنْ عَلِمَ
بِالرَّقْمِ فِي الْمَجْلِسِ لاَ يَنْقَلِبُ ذَلِكَ الْعَقْدُ
جَائِزًا، وَلَكِنْ إِنْ كَانَ الْبَائِعُ دَائِمًا عَلَى الرِّضَا
فَرَضِيَ بِهِ الْمُشْتَرِي يَنْعَقِدُ بَيْنَهُمَا عَقْدَ ابْتِدَاءٍ
بِالتَّرَاضِي (1) . وَتَفْصِيلُهُ فِي بَحْثِ (ثَمَن ج 15 ص 35)
الرَّقْمُ بِمَعْنَى النَّقْشِ وَالتَّصْوِيرِ:
6 - الأَْصْل فِي هَذَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 11 - 12، 29، وفتح القدير مع الكفاية والعناية 5 /
472 - 473 - 474، وبدائع الصنائع 5 / 158، والدسوقي 3 / 15 - 16،
والمجموع 9 / 323 - 324 تحقيق المطيعي، والمغني 4 / 207، 211، والإنصاف
4 / 310 والاختيارات الفقهية لابن تيمية ص 121.
(23/95)
ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَال: أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ
فَاطِمَةَ فَلَمْ يَدْخُل عَلَيْهَا، وَجَاءَ عَلِيٌّ فَذَكَرَتْ لَهُ
ذَلِكَ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: إِنِّي رَأَيْتُ عَلَى بَابِهَا سِتْرًا مَوْشِيًّا، فَقَال: مَا
لِي وَلِلدُّنْيَا، فَأَتَاهَا عَلِيٌّ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا
فَقَالَتْ: لِيَأْمُرْنِي فِيهِ بِمَا شَاءَ، قَال: تُرْسِلِي بِهِ
إِلَى فُلاَنٍ، أَهْل بَيْتٍ فِيهِمْ حَاجَةٌ (1) .
قَال ابْنُ حَجَرٍ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا
لِي وَلِلدُّنْيَا، زَادَ ابْنُ نُمَيْرٍ: مَا لِي وَلِلرَّقْمِ (2) .
وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ
خَالِدٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ صَاحِبِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُل بَيْتًا
فِيهِ صُورَةٌ قَال بُسْرٌ: ثُمَّ اشْتَكَى زَيْدٌ بَعْدُ فَعُدْنَاهُ،
فَإِذَا عَلَى بَابِهِ سِتْرٌ فِيهِ صُورَةٌ، قَال: فَقُلْتُ
لِعُبَيْدِ اللَّهِ الْخَوْلاَنِيِّ رَبِيبِ مَيْمُونَةَ زَوْجِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَمْ يُخْبِرْنَا
زَيْدٌ عَنِ الصُّوَرِ يَوْمَ الأَْوَّل؟ فَقَال عُبَيْدُ اللَّهِ:
أَلَمْ تَسْمَعْهُ حِينَ قَال: إِلاَّ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ (3) .
__________
(1) حديث ابن عمر: " أتى النبي صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة " أخرجه
البخاري (الفتح 5 / 228 - ط السلفية) .
(2) فتح الباري 5 / 228 - 229 وينظر 10 / 384 وما بعدها.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 14 / 85، والأبي 5 / 394 وحديث: " إن
الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة ". أخرجه مسلم (3 / 1665 - ط الحلبي)
.
(23/95)
أَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي
ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ التَّصْوِيرُ وَالاِسْتِعْمَال فَيُنْظَرُ فِي
بَحْثِ تَصْوِير (12 / 92) وَمُصْطَلَحِ (نَقْش) .
رَقِيب
انْظُرْ: حِرَاسَة، رَبِيئَة
(23/96)
رُقْيَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّقْيَةُ لُغَةً: اسْمٌ مِنَ الرَّقْيِ يُقَال رَقَى الرَّاقِي
الْمَرِيضَ يَرْقِيهِ.
قَال ابْنُ الأَْثِيرِ: الرُّقْيَةُ الْعَوْذَةُ الَّتِي يُرْقَى بِهَا
صَاحِبُ الآْفَةِ كَالْحُمَّى وَالصَّرْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الآْفَاتِ لأَِنَّهُ يُعَاذُ بِهَا، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَقِيل
مَنْ رَاقٍ (1) } أَيْ مَنْ يَرْقِيهِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لاَ
رَاقِيَ يَرْقِيهِ فَيَحْمِيهِ، وَرَقَيْتُهُ رُقْيَةً أَيْ
عَوَّذْتُهُ بِاَللَّهِ، وَالاِسْمُ الرُّقْيَا، وَالْمَرَّةُ
رُقْيَةٌ، وَالْجَمْعُ: رُقًى (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اصْطِلاَحُ الْفُقَهَاءِ لِلرُّقْيَةِ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ.
وَالرُّقْيَةُ قَدْ تَكُونُ بِكِتَابَةِ شَيْءٍ وَتَعْلِيقِهِ، وَقَدْ
تَكُونُ بِقِرَاءَةِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْمُعَوِّذَاتِ
وَالأَْدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ (3) .
__________
(1) سورة القيامة / 27.
(2) لسان العرب، المصباح المنير، المفردات لغريب القرآن مادة: (رقى) ،
حاشية العدوي 2 / 2 - 453، الفواكه الدواني 2 / 439 - 442، حاشية ابن
عابدين 5 / 232، دليل الفالحين 3 / 370.
(3) قواعد الفقه للمجددي.
(23/96)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الرُّقَى.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ الرَّقْيِ مِنْ كُل دَاءٍ يُصِيبُ
الإِْنْسَانَ بِشُرُوطٍ ثَلاَثَةٍ:
أَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ بِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ
بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.
ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ أَوْ بِمَا
يُعْرَفُ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِهِ.
ثَالِثُهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الرُّقْيَةَ لاَ تُؤَثِّرُ
بِذَاتِهَا بَل بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ لِمَا رَوَى
عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا نَرْقِي فِي
الْجَاهِلِيَّةِ فَقُلْنَا: يَا رَسُول اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي
ذَلِكَ؟ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعْرِضُوا عَلَيَّ
رُقَاكُمْ، لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ (1) .
وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّقَى فَجَاءَ آل عَمْرِو
بْنِ حَزْمٍ فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا
رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنَ الْعَقْرَبِ وَإِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ
الرُّقَى، قَال: فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ. فَقَال: مَا أَرَى بَأْسًا،
مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ (2) .
وَقَال الرَّبِيعُ: سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ عَنِ الرُّقَى
__________
(1) حديث عوف بن مالك: " كنا نرقي في الجاهلية ". أخرجه مسلم (4 / 1727
- ط الحلبي) .
(2) حديث جابر: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى ". أخرجه
مسلم (4 / 1726 - 1727 - ط الحلبي) .
(23/97)
فَقَال: لاَ بَأْسَ إِنْ رُقِيَ بِكِتَابِ
اللَّهِ أَوْ بِمَا يُعْرَفُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
وَسُئِل مَالِكٌ عَنِ الرُّقَى بِالأَْسْمَاءِ الْعَجَمِيَّةِ فَقَال:
وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا كُفْرٌ؟ وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ مَا جُهِل
مَعْنَاهُ لاَ يَجُوزُ الرُّقْيَةُ بِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ
كُفْرٌ أَوْ سِحْرٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَقَال قَوْمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: لاَ تَجُوزُ الرُّقْيَةُ إِلاَّ مِنَ
الْعَيْنِ وَاللَّدْغَةِ لِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا: لاَ رُقْيَةَ إِلاَّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ (1) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ الرُّقَى حَتَّى
وَإِنْ كَانَتْ بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ
لأَِنَّهَا قَادِحَةٌ فِي التَّوَكُّل عَلَى اللَّهِ، وَاسْتَدَلُّوا
بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا
ذَكَرَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ: هُمُ
الَّذِينَ لاَ يَتَطَيَّرُونَ وَلاَ يَكْتَوُونَ وَلاَ يَسْتَرْقُونَ
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) .
وَمِنْ هَؤُلاَءِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى كَرَاهَةِ الرَّقْيِ إِلاَّ
بِالْمُعَوِّذَاتِ.
وَفَرَّقَ قَوْمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ الرَّقْيِ قَبْل وُقُوعِ
الْبَلاَءِ وَبَعْدَ وُقُوعِهِ، فَقَالُوا: الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مِنَ
الرَّقْيِ
__________
(1) حديث: " لا رقية إلا من عين أو حمة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10
/ 155 - ط السلفية) .
(2) حديث: " هم الذين لا يتطيرون ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 211 - ط
السلفية) من حديث ابن عباس.
(23/97)
هُوَ مَا يَكُونُ قَبْل وُقُوعِ
الْبَلاَءِ، وَالْمَأْذُونُ فِيهِ مَا كَانَ بَعْدَ وُقُوعِهِ (1) .
أَخْذُ الْجُعْل عَلَى الرَّقْيِ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الْجُعْل عَلَى
الرَّقْيِ عَلَى تَفْصِيلٍ (سَبَقَ فِي بَحْثِ تَعْوِيذ مِنَ
الْمَوْسُوعَةِ 13 / 34) .
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري 10 / 156، 195، 211، دليل الفالحين 3
/ 372، القوانين الفقهية ص 453، الفواكه الدواني 2 / 442، حاشية العدوي
2 / 453، مغني المحتاج 1 / 37، المغني لابن قدامة 2 / 449، حاشية ابن
عابدين 5 / 232، والموسوعة 11 / 123 - 124 فقرة 13 و13 / 21 وما بعدها.
(23/98)
رِكَاز
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّكَازُ لُغَةً بِمَعْنَى الْمَرْكُوزِ وَهُوَ مِنَ الرَّكْزِ
أَيِ: الإِْثْبَاتِ، وَهُوَ الْمَدْفُونُ فِي الأَْرْضِ إِذَا خَفِيَ.
يُقَال: رَكَزَ الرُّمْحَ إِذَا غَرَزَ أَسْفَلَهُ فِي الأَْرْضِ،
وَشَيْءٌ رَاكِزٌ أَيْ: ثَابِتٌ.
وَالرِّكْزُ هُوَ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ (1) . قَال اللَّهُ تَعَالَى:
{أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (2) } .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الرِّكَازَ هُوَ مَا
دَفَنَهُ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ.
وَيُطْلَقُ عَلَى كُل مَا كَانَ مَالاً عَلَى اخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهِ.
إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ خَصُّوا إِطْلاَقَهُ عَلَى الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الأَْمْوَال.
وَأَمَّا الرِّكَازُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَيُطْلَقُ عَلَى أَعَمَّ
مِنْ كَوْنِ رَاكِزِهِ الْخَالِقَ أَوِ الْمَخْلُوقَ فَيَشْمَل عَلَى
هَذَا الْمَعَادِنَ وَالْكُنُوزَ (3) . عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي.
__________
(1) المصباح المنير، والمغرب، والمفردات للراغب.
(2) سورة مريم / 98.
(3) ابن عابدين 2 / 43 - 44، والمجموع 6 / 38، والحطاب 2 / 339،
والمغني 3 / 18.
(23/98)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمَعْدِنُ:
2 - الْمَعْدِنُ لُغَةً: هُوَ بِفَتْحِ الدَّال وَكَسْرِهَا اسْمٌ
لِلْمَحَل وَلِمَا يَخْرُجُ، مُشْتَقٌّ مِنْ عَدَنَ بِالْمَكَانِ
يَعْدِنُ إِذَا أَقَامَ بِهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ جَنَّةُ عَدْنٍ
لأَِنَّهَا دَارُ إِقَامَةٍ وَخُلُودٍ. وَمِنْهُ الْمَعْدِنُ
لِمُسْتَقَرِّ الْجَوَاهِرِ (1) .
وَأَصْل الْمَعْدِنِ الْمَكَانُ بِقَيْدِ الاِسْتِقْرَارِ فِيهِ، ثُمَّ
اشْتُهِرَ فِي نَفْسِ الأَْجْزَاءِ الْمُسْتَقِرَّةِ الَّتِي
رَكَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الأَْرْضِ يَوْمَ خَلَقَ الأَْرْضَ،
حَتَّى صَارَ الاِنْتِقَال مِنَ اللَّفْظِ إِلَيْهِ ابْتِدَاءً بِلاَ
قَرِينَةٍ (2) .
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ كُل مَا خَرَجَ مِنَ الأَْرْضِ مِمَّا يُخْلَقُ
فِيهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا مِمَّا لَهُ قِيمَةٌ وَيُحْتَاجُ فِي
إِخْرَاجِهِ إِلَى اسْتِنْبَاطٍ.
قَال أَحْمَدُ: الْمَعَادِنُ هِيَ الَّتِي تُسْتَنْبَطُ، لَيْسَ هُوَ
شَيْءٌ دُفِنَ.
وَالْمَعَادِنُ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
1 - جَامِدٌ يَذُوبُ وَيَنْطَبِعُ بِالنَّارِ كَالنَّقْدَيْنِ
(الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) ، وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالصُّفْرِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ.
2 - جَامِدٌ لاَ يَنْطَبِعُ بِالنَّارِ كَالْجِصِّ وَالنُّورَةِ
وَالزِّرْنِيخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
3 - مَا لَيْسَ بِجَامِدٍ كَالْمَاءِ وَالْقِيرِ وَالنَّفْطِ
وَالزِّئْبَقِ.
وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الرِّكَازَ مُبَايِنٌ
لِلْمَعْدِنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
__________
(1) المصباح المنير، والمفردات للراغب.
(2) ابن عابدين 2 / 44.
(23/99)
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّ
الرِّكَازَ أَعَمُّ مِنَ الْمَعْدِنِ، حَيْثُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ
وَعَلَى الْكَنْزِ.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (مَعْدِن)
ب - الْكَنْزُ:
3 - الْكَنْزُ لُغَةً: الْمَال الْمَجْمُوعُ الْمُدَّخَرُ، يُقَال:
كَنَزْتُ الْمَال كَنْزًا إِذَا جَمَعْتَهُ وَادَّخَرْتَهُ،
وَالْكَنْزُ فِي بَابِ الزَّكَاةِ: الْمَال الْمَدْفُونُ تَسْمِيَةً
بِالْمَصْدَرِ، وَالْجَمْعُ كُنُوزٌ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْكَنْزُ فِي الأَْصْل
اسْمٌ لِلْمُثْبَتِ فِي الأَْرْضِ بِفِعْل إِنْسَانٍ، وَالإِْنْسَانُ
يَشْمَل الْمُؤْمِنَ أَيْضًا لَكِنْ خَصَّهُ الشَّارِعُ بِالْكَافِرِ
لأَِنَّ كَنْزَهُ هُوَ الَّذِي يُخَمَّسُ، وَأَمَّا كَنْزُ الْمُسْلِمِ
فَلُقَطَةٌ، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ (2) ،
وَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ (كَنْز) .
وَالْكَنْزُ أَعَمُّ مِنَ الرِّكَازِ؛ لأَِنَّ الرِّكَازَ دَفِينُ
الْجَاهِلِيَّةِ فَقَطْ، وَالْكَنْزُ دَفِينُ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَهْل
الإِْسْلاَمِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الأَْحْكَامِ.
ج - الدَّفِينُ:
4 - الدَّفِينُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ مَا أُخْفِيَ تَحْتَ أَطْبَاقِ
__________
(1) المصباح المنير مادة (كنز) .
(2) ابن عابدين 2 / 44، والفواكه الدواني 1 / 349، والمجموع 6 / 43،
والمغني 3 / 19.
(23/99)
التُّرَابِ، وَنَحْوِهِ مَدْفُونٌ (1)
وَدَفِينٌ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ فَالدَّفِينُ أَعَمُّ مِنَ الرِّكَازِ.
أَحْكَامُ الرِّكَازِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّكَازَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ (2)
يَتَنَاوَل دَفِينَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
سَوَاءٌ كَانَ مَضْرُوبًا أَوْ غَيْرَهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ النَّقْدَيْنِ مِنْ دَفِينِ الْجَاهِلِيَّةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ الرِّكَازَ يَتَنَاوَل كُل
مَا كَانَ مَالاً مَدْفُونًا عَلَى اخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهِ،
كَالْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ، وَالصُّفْرِ، وَالرُّخَامِ
وَالأَْعْمِدَةِ، وَالآْنِيَةِ وَالْعُرُوضِ وَالْمِسْكِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ حَدِيثِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ إِذِ
الْحَدِيثُ لاَ يَخُصُّ مَدْفُونًا دُونَ غَيْرِهِ، بَل هُوَ عَامٌّ
فِي جَمِيعِ مَا دَفَنَهُ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ خَالَفُوا جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ
فَعَمَّمُوا إِطْلاَقَ الرِّكَازِ عَلَى الْمَعَادِنِ الْخِلْقِيَّةِ
أَيْضًا لَكِنْ لَيْسَ جَمِيعَهَا، بَل قَصَرُوا ذَلِكَ عَلَى كُل
مَعْدِنٍ جَامِدٍ يَنْطَبِعُ - أَيْ يَلِينُ - بِالنَّارِ كَالذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
__________
(1) المصباح المنير مادة (دفن) .
(2) حديث: " وفي الركاز الخمس ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 364 - ط
السلفية) من حديث أبي هريرة.
(23/100)
وَأَلْحَقُوا بِمَا تَقَدَّمَ الْمَعَادِنَ
السَّائِلَةَ الزِّئْبَقَ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
لأَِنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِالْعِلاَجِ مِنْ عَيْنِهِ وَطُبِعَ مَعَ
غَيْرِهِ فَكَانَ كَالْفِضَّةِ، فَإِنَّ الْفِضَّةَ لاَ تَنْطَبِعُ مَا
لَمْ يُخَالِطْهَا شَيْءٌ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ النَّهْرِ: وَالْخِلاَفُ - أَيْ:
فِي الزِّئْبَقِ - فِي الْمُصَابِ فِي مَعْدِنِهِ، أَمَّا الْمَوْجُودُ
فِي خَزَائِنِ الْكُفَّارِ فَفِيهِ الْخُمُسُ اتِّفَاقًا لأَِنَّهُ
مَالٌ.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا فَإِنَّ الرِّكَازَ أَعَمُّ مِنَ الْمَعْدِنِ
وَمِنَ الْكَنْزِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْ: يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ حَدِيثِ: وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ لأَِنَّ
كُلًّا مِنَ الْمَعْدِنِ وَالْكَنْزِ مَرْكُوزٌ فِي الأَْرْضِ إِنِ
اخْتَلَفَ الرَّاكِزُ.
وَظَاهِرُهُ أَنَّ الرِّكَازَ حَقِيقَةً فِيهِمَا مُشْتَرَكٌ
اشْتِرَاكًا مَعْنَوِيًّا وَلَيْسَ خَاصًّا بِالدَّفِينِ (1) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَصَرُوا إِطْلاَقَ الرِّكَازِ عَلَى
مَا وُجِدَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ
الأَْمْوَال وَالْمَعَادِنِ؛ لأَِنَّ الرِّكَازَ مَالٌ مُسْتَفَادٌ
مِنَ الأَْرْضِ فَاخْتُصَّ بِمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ قَدْرًا
وَنَوْعًا (2) .
دَفِينُ الْجَاهِلِيَّةِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ دَفِينَ
الْجَاهِلِيَّةِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 44، والشرح الصغير 1 / 486، والدسوقي 1 / 489،
والمغني 3 / 21.
(2) المجموع 6 / 44 - 47، ومغني المحتاج 1 / 395 - 396.
(23/100)
رِكَازٌ، وَيُسْتَدَل عَلَى كَوْنِهِ مِنْ
دَفِينِ الْجَاهِلِيَّةِ بِوُجُودِهِ فِي قُبُورِهِمْ أَوْ
خَزَائِنِهِمْ أَوْ قِلاَعِهِمْ. فَإِنْ وُجِدَ فِي مَوَاتٍ فَيُعْرَفُ
بِأَنْ تُرَى عَلَيْهِ عَلاَمَاتُهُمْ كَأَسْمَاءِ مُلُوكِهِمْ
وَصُوَرِهِمْ وَصُلُبِهِمْ وَصُوَرِ أَصْنَامِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ عَلَى بَعْضِهِ عَلاَمَةُ كُفْرٍ وَبَعْضُهُ لاَ
عَلاَمَةَ فِيهِ فَرِكَازٌ. أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ بِالْكَنْزِ
عَلاَمَةٌ يُسْتَدَل بِهَا عَلَى كَوْنِهِ مِنْ دَفِينِ
الْجَاهِلِيَّةِ أَوِ الإِْسْلاَمِ أَوِ اشْتَبَهَ، فَالْجُمْهُورُ
(الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ
الشَّافِعِيَّةِ) عَلَى أَنَّهُ رِكَازٌ؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ فِي
الدَّفْنِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ - إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ
بِرِكَازٍ بَل هُوَ لُقَطَةٌ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلاَ
يُسْتَبَاحُ إِلاَّ بِيَقِينٍ.
وَفِي الْمَجْمُوعِ: قَال الرَّافِعِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ
مُدَارٌ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ دَفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ لاَ أَنَّهُ مِنْ
ضَرْبِهِمْ، فَقَدْ يَكُونُ مِنْ ضَرْبِهِمْ وَيَدْفِنُهُ مُسْلِمٌ
بَعْدَ أَنْ وَجَدَهُ وَأَخَذَهُ وَمَلَكَهُ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ
الرَّافِعِيُّ تَفْرِيعٌ عَلَى الأَْصَحِّ مِنْ هَذَيْنِ
الْقَوْلَيْنِ: أَنَّ الْكَنْزَ الَّذِي لاَ عَلاَمَةَ فِيهِ يَكُونُ
لُقَطَةً. فَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِالْقَوْل الآْخَرِ أَنَّهُ
رِكَازٌ، فَالْحُكْمُ مُدَارٌ عَلَى ضَرْبِ الْجَاهِلِيَّةِ (1)
__________
(1) ابن عابدين 2 / 47، والخرشي 2 / 210، والمجموع 6 / 44، والقليوبي 2
/ 27، والمغني 3 / 19، وشرح منتهى الإرادات 1 / 399 - 400.
(23/101)
الْمُرَادُ بِالْجَاهِلِيَّةِ:
7 - الْمُرَادُ بِالْجَاهِلِيَّةِ: مَا قَبْل الإِْسْلاَمِ، أَيْ قَبْل
مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُمُّوا
بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ جَهَالاَتِهِمْ، أَوْ مَنْ كَانَ بَعْدَ
مَبْعَثِهِ وَلَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ.
وَعَلَى هَذَا فَلَفْظُ الْجَاهِلِيَّةِ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ لاَ دِينَ
لَهُ قَبْل الإِْسْلاَمِ أَوْ كَانَ لَهُ دِينٌ كَأَهْل الْكِتَابِ.
قَال الشِّرْبِينِيُّ: وَيُعْتَبَرُ فِي كَوْنِ الدَّفِينِ
الْجَاهِلِيِّ رِكَازًا كَمَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ
أَنْ لاَ يُعْلَمَ أَنَّ مَالِكَهُ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ، فَإِنْ
عُلِمَ أَنَّهُ بَلَغَتْهُ وَعَانَدَ وَوُجِدَ فِي بِنَائِهِ أَوْ
بَلَدِهِ الَّتِي أَنْشَأَهَا كَنْزٌ فَلَيْسَ بِرِكَازٍ بَل فَيْءٌ،
حَكَاهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ جَمَاعَةٍ وَأَقَرَّهُ.
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَنْ كَانَ لَهُ كِتَابٌ هَل يُقَال:
إِنَّهُ جَاهِلِيٌّ؟
قَال الدُّسُوقِيُّ: الْجَاهِلِيَّةُ كَمَا فِي التَّوْضِيحِ مَا عَدَا
الإِْسْلاَمَ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ أَمْ لاَ.
وَقَال أَبُو الْحَسَنِ: اصْطِلاَحُهُمْ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ أَهْل
الْفَتْرَةِ الَّذِينَ لاَ كِتَابَ لَهُمْ. وَأَمَّا أَهْل الْكِتَابِ
قَبْل الإِْسْلاَمِ فَلاَ يُقَال لَهُمْ: جَاهِلِيَّةٌ. وَعَلَى كُل
حَالٍ دَفْنُهُمْ جَمِيعِهِمْ رِكَازٌ (1) .
هَذَا وَأَخْرَجَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الرِّكَازِ دَفِينَ أَهْل
الذِّمَّةِ.
__________
(1) ابن عابدين 2 / 44، 46، والدسوقي 1 / 489، والشرح الصغير 1 / 486 -
487، ومغني المحتاج 1 / 396، والمغني 3 / 18، 20.
(23/101)
فَفِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: إِنَّمَا
كَانَ مَال الذِّمِّيِّ كَالْمُسْلِمِ لأَِنَّهُ مُحْتَرَمٌ بِحُرْمَةِ
الإِْسْلاَمِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ (1) .
اشْتِرَاطُ الدَّفْنِ فِي الرِّكَازِ:
8 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ كُل مَا دَفَنَهُ أَهْل
الْجَاهِلِيَّةِ يُعْتَبَرُ رِكَازًا. وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي
اشْتِرَاطِ الدَّفْنِ فِي الرِّكَازِ.
فَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ مَا وُجِدَ عَلَى
ظَهْرِ الأَْرْضِ مِنْ أَمْوَال الْجَاهِلِيَّةِ يُعْتَبَرُ رِكَازًا
أَيْضًا، جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: مَا وُجِدَ عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ
مِنْ مَالٍ جَاهِلِيٍّ، أَوْ بِسَاحِل الْبَحْرِ مِنْ تَصَاوِيرِ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلِوَاجِدِهِ مُخَمَّسًا. قَال الصَّاوِيُّ:
وَاقْتَصَرَ عَلَى الدَّفْنِ لأَِنَّهُ الْغَالِبُ، هَذَا إِذَا
تَحَقَّقَ أَنَّهُ مَالٌ جَاهِلِيٌّ. وَفِي مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ:
وَيَلْحَقُ بِالدَّفْنِ مَا وُجِدَ عَلَى وَجْهِ أَرْضٍ.
وَقَدْ فَصَّل الشَّافِعِيَّةُ هُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ مَتَى
يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ رِكَازًا؟ فَقِيل: بِدَفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ،
وَقِيل: بِضَرْبِهِمْ.
قَال السُّبْكِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ
بِكَوْنِهِ مِنْ دَفْنِهِمْ فَإِنَّهُ لاَ سَبِيل إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا
يُكْتَفَى بِعَلاَمَةٍ تَدُل عَلَيْهِ مِنْ ضَرْبٍ أَوْ غَيْرِهِ. اهـ.
وَهَذَا أَوْلَى، وَالتَّقْيِيدُ بِدَفْنِ الْجَاهِلِيِّ يَقْتَضِي
أَنَّ مَا وُجِدَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 44، 46، والدسوقي 1 / 489، والشرح الصغير 1 / 486 -
487، ومغني المحتاج 1 / 396، والمغني 3 / 18، 20، والفواكه الدواني 1 /
349.
(23/102)
فِي الصَّحَارَى مِنْ دَفِينِ
الْحَرْبِيِّينَ الَّذِينَ عَاصَرُوا الإِْسْلاَمَ لاَ يَكُونُ
رِكَازًا بَل فَيْئًا، وَيُشْتَرَطُ فِي كَوْنِهِ رِكَازًا أَيْضًا
أَنْ يَكُونَ مَدْفُونًا، فَإِنْ وَجَدَهُ ظَاهِرًا فَإِنْ عَلِمَ
أَنَّ السَّيْل أَظْهَرَهُ فَرِكَازٌ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ ظَاهِرًا
فَلُقَطَةٌ، وَإِنْ شَكَّ فَكَمَا لَوْ شَكَّ فِي أَنَّهُ ضَرْبُ
الْجَاهِلِيَّةِ أَوِ الإِْسْلاَمِ. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ (1) .
وَلَمْ نَرَ لِلْحَنَفِيَّةِ تَصْرِيحًا فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ.
دَفِينُ أَهْل الإِْسْلاَمِ:
9 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ دَفِينَ أَهْل
الإِْسْلاَمِ لُقَطَةٌ.
وَيُعْرَفُ بِأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ عَلاَمَةُ الإِْسْلاَمِ أَوِ اسْمُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَحَدُ خُلَفَاءِ
الْمُسْلِمِينَ أَوْ وَالٍ لَهُمْ، أَوْ آيَةٌ مِنْ قُرْآنٍ أَوْ
نَحْوُ ذَلِكَ.
وَتَفْصِيل حُكْمِ اللُّقَطَةِ فِي مُصْطَلَحِ (لُقَطَة) .
قَال فِي الْمُغْنِي: وَإِنْ كَانَ عَلَى بَعْضِهِ عَلاَمَةُ
الإِْسْلاَمِ، وَعَلَى بَعْضِهِ عَلاَمَةُ الْكُفْرِ فَكَذَلِكَ (أَيْ:
لُقَطَةٌ) ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ؛
لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ صَارَ إِلَى مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُعْلَمْ
زَوَالُهُ عَنْ مِلْكِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ
عَلَى جَمِيعِهِ عَلاَمَةُ الْمُسْلِمِينَ.
وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ
وَحْدَهُمْ بَل هُوَ قَوْل بَقِيَّةِ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا كَمَا
يَظْهَرُ مِنْ كَلاَمِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ دَفِينِ الْجَاهِلِيَّةِ.
__________
(1) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 486، ومغني المحتاج 1 / 396،
وشرح منتهى الإرادات. 1 / 399
(23/102)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ
عَلِيٍّ الْقَارِيِّ: وَأَمَّا مَعَ اخْتِلاَطِ دَرَاهِمِ الْكُفَّارِ
مَعَ دَرَاهِمِ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُشَخَّصِ الْمُسْتَعْمَل فِي
زَمَانِنَا، فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خِلاَفٌ فِي كَوْنِهِ
إِسْلاَمِيًّا (1) .
الْوَاجِبُ فِي الرِّكَازِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الرِّكَازِ
الْخُمُسُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ (2) .
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: لاَ نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ إِلاَّ الْحَسَنَ فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ مَا يُوجَدُ فِي
أَرْضِ الْحَرْبِ وَأَرْضِ الْعَرَبِ، فَقَال: فِيمَا يُوجَدُ فِي
أَرْضِ الْحَرْبِ الْخُمُسُ، وَفِيمَا يُوجَدُ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ
الزَّكَاةُ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: مَحَل تَخْمِيسِهِ مَا لَمْ يَحْتَجْ لِنَفَقَةٍ
كَبِيرَةٍ وَإِلاَّ فَيُزَكَّى.
قَال مَالِكٌ: الأَْمْرُ الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ عِنْدَنَا،
وَاَلَّذِي سَمِعْتُهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ يَقُولُونَ: إِنَّ
الرِّكَازَ إِنَّمَا هُوَ دَفْنٌ يُوجَدُ مِنْ دَفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ
مَا لَمْ يُطْلَبْ بِمَالٍ. وَأَمَّا مَا طُلِبَ بِمَالٍ كَثِيرٍ
فَلَيْسَ بِرِكَازٍ، إِنَّمَا فِيهِ الزَّكَاةُ بَعْدَ وُجُودِ شُرُوطِ
الزَّكَاةِ حَيْثُ اسْتَأْجَرَ عَلَى الْعَمَل، لاَ إِنْ عَمِل
بِنَفْسِهِ أَوْ عَبِيدِهِ فَلاَ يَخْرُجُ عَنِ الرِّكَازِ.
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) حديث: " العجماء جبار، وفي الركاز الخمس ". أخرجه البخاري (الفتح 3
/ 364 - ط السلفية) .
(23/103)
وَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ
فَلِوَاجِدِهِ (1) . وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَصْرِفِ الْخُمُسِ
الْوَاجِبِ إِخْرَاجُهُ ف 22
مَا يَلْحَقُ بِمَا يُخَمَّسُ:
11 - أَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ بِالرِّكَازِ النَّدْرَةَ: وَهِيَ
قِطْعَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ الَّتِي لاَ تَحْتَاجُ
إِلَى تَصْفِيَةٍ، وَاَلَّتِي تُوجَدُ فِي الأَْرْضِ مِنْ أَصْل
خِلْقَتِهَا لاَ بِوَضْعِ وَاضِعٍ لَهَا فِي الأَْرْضِ. وَفِيهَا
الْخُمُسُ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ
أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلاَّ الزَّكَاةُ وَإِنَّمَا الْخُمُسُ فِي
الرِّكَازِ (2) .
نَبْشُ الْقَبْرِ لاِسْتِخْرَاجِ الْمَال:
12 - صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مَا يُوجَدُ فِي قَبْرِ
الْجَاهِلِيِّ رِكَازٌ. وَأَمَّا مَا يُوجَدُ فِي قَبْرِ الْمُسْلِمِ
فَفِي حُكْمِ اللُّقَطَةِ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قَبْر، وَلُقَطَة) .
النِّصَابُ فِي الرِّكَازِ:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ) إِلَى أَنَّهُ لاَ
يُشْتَرَطُ النِّصَابُ فِي الرِّكَازِ، بَل يَجِبُ الْخُمُسُ فِي
قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ.
وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ إِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ
وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَقَال: وَبِهِ قَال أَكْثَرُ أَهْل
__________
(1) ابن عابدين 2 / 46، والفواكه الدواني 1 / 395، والمجموع 6 / 45،
والمغني 3 / 21 - 22.
(2) الدسوقي 1 / 489، والخرشي مع حاشية العدوي 2 / 209.
(3) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 486 - 487.
(23/103)
الْعِلْمِ، وَهُوَ أَوْلَى بِظَاهِرِ
الْحَدِيثِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الْمَذْهَبِ - إِلَى اشْتِرَاطِ
النِّصَابِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ الْمَأْخُوذَ مِنَ
الرِّكَازِ زَكَاةٌ.
قَال النَّوَوِيُّ: اتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالأَْصْحَابِ
عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ مِنَ الرِّكَازِ
مِائَةَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ وَجَدَ مِائَةً أُخْرَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ
الْخُمُسُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، بَل يَنْعَقِدُ الْحَوْل
عَلَيْهِمَا مِنْ حِينِ كَمُل النِّصَابُ، فَإِذَا تَمَّ لَزِمَهُ
رُبُعُ الْعُشْرِ كَسَائِرِ النُّقُودِ الَّتِي يَمْلِكُهَا، وَهَذَا
تَفْرِيعٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ اشْتِرَاطُ النِّصَابِ فِي
الرِّكَازِ.
ثُمَّ قَال: إِذَا وَجَدَ مِنَ الرِّكَازِ دُونَ النِّصَابِ، وَلَهُ
دَيْنٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ يَبْلُغُ بِهِ نِصَابًا، وَجَبَ خُمُسُ
الرِّكَازِ فِي الْحَال. فَإِنْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا أَوْ
مَدْفُونًا أَوْ وَدِيعَةً أَوْ دَيْنًا - وَالرِّكَازُ نَاقِصٌ - لَمْ
يُخَمِّسْ حَتَّى يَعْلَمَ سَلاَمَةَ مَالِهِ، وَحِينَئِذٍ يُخَمِّسُ
الرِّكَازَ النَّاقِصَ عَنِ النِّصَابِ سَوَاءٌ أَبَقِيَ الْمَال أَمْ
تَلِفَ إِذَا عَلِمَ وُجُودَهُ يَوْمَ حُصُول الرِّكَازِ (1) .
الْحَوْل فِي الرِّكَازِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الْحَوْل فِي
الرِّكَازِ؛ لأَِنَّ الْحَوْل يُعْتَبَرُ لِتَكَامُل النَّمَاءِ
وَهَذَا
__________
(1) ابن عابدين 2 / 44 ومابعدها، والخرشي 2 / 210، والمجموع مع المهذب
6 / 33، 45 - 47، ومغني المحتاج 1 / 394 - 395، والمغني 3 / 18 - 19،
وشرح منتهى الإرادات. 1 / 400
(23/104)
لاَ يَتَوَجَّهُ فِي الرِّكَازِ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَنَقَل الْمَاوَرْدِيُّ فِيهِ الإِْجْمَاعَ (1)
مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُمُسُ:
15 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُمُسُ هُوَ
كُل مَنْ وَجَدَ الرِّكَازَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ صَغِيرٍ أَوْ
كَبِيرٍ، عَاقِلٍ أَوْ مَجْنُونٍ. فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ
مَجْنُونًا فَهُوَ لَهُمَا، وَيُخْرِجُ الْخُمُسَ عَنْهُمَا
وَلِيُّهُمَا. وَهَذَا قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل
الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي الرِّكَازِ يَجِدُهُ:
الْخُمُسَ، قَالَهُ أَهْل الْمَدِينَةِ وَالثَّوْرِيُّ
وَالأَْوْزَاعِيُّ وَأَهْل الْعِرَاقِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ
وَغَيْرُهُمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْخُمُسُ إِلاَّ
عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلاً أَوِ
امْرَأَةً، رَشِيدًا أَوْ سَفِيهًا، أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا.
وَيُمْنَعُ الذِّمِّيُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ أَخْذِ
الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ، كَمَا يُمْنَعُ مِنَ
الإِْحْيَاءِ بِهَا؛ لأَِنَّ الدَّارَ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ دَخِيلٌ
فِيهَا (2) .
وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ فَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الدُّرِّ
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُسْتَرَدُّ مِنْهُ مَا أَخَذَ إِلاَّ
إِذَا عَمِل بِإِذْنِ الإِْمَامِ عَلَى شَرْطٍ فَلَهُ الْمَشْرُوطُ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ عَمِل
__________
(1) المجموع مع المهذب 6 / 45، وانظر المراجع السابقة.
(2) مغني المحتاج 1 / 395.
(23/104)
رَجُلاَنِ فِي طَلَبِ الرِّكَازِ فَهُوَ
لِلْوَاجِدِ، وَإِنْ كَانَا مُسْتَأْجَرَيْنِ لِطَلَبِهِ فَهُوَ
لِلْمُسْتَأْجِرِ؛ لأَِنَّ الْوَاجِدَ نَائِبُهُ فِيهِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (حَرْبِيّ، شَرِكَة، إِجَارَة،
خُمُس) .
مَوْضِعُ الرِّكَازِ:
أَوَّلاً: فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ:
16 - أ - أَنْ يَجِدَهُ فِي مَوَاتٍ أَوْ مَا لاَ يُعْلَمُ لَهُ
مَالِكٌ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِي عَهْدٍ، كَالأَْبْنِيَةِ الْقَدِيمَةِ،
وَالتُّلُول، وَجُدْرَانِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقُبُورِهِمْ، فَهَذَا
فِيهِ الْخُمُسُ بِلاَ خِلاَفٍ سِوَى مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ.
وَعِبَارَةُ الْحَنَفِيَّةِ: فِي أَرْضٍ خَرَاجِيَّةٍ أَوْ
عُشْرِيَّةٍ، وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لأَِحَدٍ
أَوْ لاَ، صَالِحَةٍ لِلزِّرَاعَةِ أَوْ لاَ. فَيَدْخُل فِيهِ
الْمَفَاوِزُ وَأَرْضُ الْمَوَاتِ، فَإِنَّهَا إِذَا جُعِلَتْ
صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ كَانَتْ عُشْرِيَّةً أَوْ خَرَاجِيَّةً (2) .
وَقَال فِي الْمُغْنِي: لَوْ وَجَدَهُ فِي هَذِهِ الأَْرْضِ عَلَى
وَجْهِهَا أَوْ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ مَسْلُوكٍ، أَوْ قَرْيَةٍ خَرَابٍ
فَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ، لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَال: سُئِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللُّقَطَةِ؟ فَقَال: مَا كَانَ فِي طَرِيقٍ
مَأْتِيٍّ أَوْ قَرْيَةٍ عَامِرَةٍ فَعَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ
صَاحِبُهَا وَإِلاَّ فَلَكَ، وَمَا لَمْ يَكُنْ فِي طَرِيقٍ مَأْتِيٍّ
وَلاَ فِي قَرْيَةٍ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 44، 47، والخرشي 2 / 210، والمغني 3 / 23، وشرح
منتهى الإرادات. 1 / 400
(2) ابن عابدين 2 / 44 - 45.
(23/105)
عَامِرَةٍ فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ
الْخُمُسُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَخْرُجُ خُمُسُ الرِّكَازِ وَالْبَاقِي
لِوَاجِدِهِ حَيْثُ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ لاَ مَالِكَ لَهَا، كَمَوَاتِ
أَرْضِ الإِْسْلاَمِ، أَوْ فَيَافِي الْعَرَبِ الَّتِي لَمْ تُفْتَحْ
عَنْوَةً وَلاَ أَسْلَمَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا، وَأَمَّا لَوْ وُجِدَ
الرِّكَازُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَيَكُونُ مَا فِيهِ لِمَالِكِ
الأَْرْضِ.
وَشَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَجِدَهُ فِي أَرْضٍ لَمْ تَبْلُغْهَا
الدَّعْوَةُ.
قَال النَّوَوِيُّ: إِذَا بَنَى كَافِرٌ بِنَاءً وَكَنَزَ فِيهِ
كَنْزًا وَبَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ وَعَانَدَ فَلَمْ يُسْلِمْ ثُمَّ
هَلَكَ وَبَادَ أَهْلُهُ فَوُجِدَ ذَلِكَ الْكَنْزُ كَانَ فَيْئًا لاَ
رِكَازًا، لأَِنَّ الرِّكَازَ إِنَّمَا هُوَ أَمْوَال الْجَاهِلِيَّةِ
الْعَادِيَّةُ الَّذِينَ لاَ يُعْرَفُ هَل بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةٌ أَمْ
لاَ؟ فَأَمَّا مَنْ بَلَغَتْهُمْ فَمَا لَهُمْ فَيْءٌ، فَخُمُسُهُ
لأَِهْل الْخُمُسِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ (2)
فَإِنْ وُجِدَ الرِّكَازُ فِي شَارِعٍ أَوْ طَرِيقٍ مَسْلُوكٍ
فَلُقَطَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ رِكَازٌ (3) .
__________
(1) حديث: " ما كان في طريق مأتي أو في قرية عامرة. . . " أخرجه
النسائي (5 / 44 - ط المكتبة التجارية) وإسناده حسن.
(2) الفواكه الدواني 1 / 395، والقوانين الفقهية ص 102، والمجموع 6 /
38، 41، والمغني 3 / 19، وشرح منتهى الإرادات. 1 / 400
(3) المجموع 6 / 38 - 39، وشرح منتهى الإرادات 1 / 400، والفواكه
الدواني 1 / 349.
(23/105)
ب - أَنْ يَجِدَ الرِّكَازَ فِي مِلْكِهِ:
17 - الْمِلْكُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَحْيَاهُ أَوِ انْتَقَل
إِلَيْهِ.
1 - أَنْ يَكُونَ مَالِكُهُ هُوَ الَّذِي أَحْيَاهُ، فَإِذَا وَجَدَ
فِيهِ رِكَازًا فَهُوَ لَهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُخَمِّسَهُ، وَزَادَ
الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الإِْحْيَاءِ الإِْرْثَ، وَزَادَ
الشَّافِعِيَّةُ إِقْطَاعَ السُّلْطَانِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَعْنُونَ بِمَالِك الأَْرْضِ أَنْ يَكُونَ
قَدْ مَلَكَهَا أَوَّل الْفَتْحِ، وَهُوَ مَنْ خَصَّهُ الإِْمَامُ
بِتَمْلِيكِ الأَْرْضِ حِينَ فَتْحِ الْبَلَدِ.
2 - أَنْ يَجِدَ الرِّكَازَ فِي مِلْكِهِ الْمُنْتَقِل إِلَيْهِ:
18 - إِذَا انْتَقَل الْمِلْكُ عَنْ طَرِيقِ الإِْرْثِ وَوَجَدَ فِيهِ
رِكَازًا فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لِوَرَثَتِهِ.
أَمَّا لَوِ انْتَقَل إِلَيْهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ وَوَجَدَ فِيهِ
رِكَازًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَنْ يَكُونُ لَهُ
الرِّكَازُ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ) إِلَى
أَنَّهُ لِلْمَالِكِ الأَْوَّل أَوْ لِوَارِثِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا؛
لأَِنَّهُ كَانَتْ يَدُهُ عَلَى الدَّارِ فَكَانَتْ عَلَى مَا فِيهَا.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْبَحْرِ: إِنَّ الْكَنْزَ
مُودَعٌ فِي الأَْرْضِ فَلَمَّا مَلَكَهَا الأَْوَّل مَلَكَ مَا
فِيهَا، وَلاَ يَخْرُجُ مَا فِيهَا عَنْ مِلْكِهِ بِبَيْعِهَا
كَالسَّمَكَةِ فِي جَوْفِهَا دُرَّةٌ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ
يُعْرَفِ الْمَالِكُ الأَْوَّل وَلاَ وَرَثَتُهُ فَيُوضَعُ الرِّكَازُ
فِي بَيْتِ الْمَال عَلَى الأَْوْجَهِ. وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ.
(23/106)
قَال فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: وَهُوَ
الظَّاهِرُ بَل الْمُتَعَيِّنُ. وَالْقَوْل الثَّانِي
لِلْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لُقَطَةٌ. وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ
- وَأَبُو يُوسُفَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الرِّكَازَ
الْبَاقِيَ بَعْدَ الْخُمُسِ لِلْمَالِكِ الأَْخِيرِ، لأَِنَّهُ مَال
كَافِرٍ مَظْهُورٌ عَلَيْهِ فِي الإِْسْلاَمِ، فَكَانَ لِمَنْ ظَهَرَ
عَلَيْهِ كَالْغَنَائِمِ؛ وَلأَِنَّ الرِّكَازَ لاَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ
الأَْرْضِ لأَِنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا، وَإِنَّمَا يُمْلَكُ بِالظُّهُورِ
عَلَيْهِ، وَهَذَا قَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَهُ.
وَقَدْ صَحَّحَ فِي الْمُغْنِي هَذِهِ الرِّوَايَةَ، ثُمَّ قَال:
لأَِنَّ الرِّكَازَ لاَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الدَّارِ لأَِنَّهُ لَيْسَ
مِنْ أَجْزَائِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ مُودَعٌ فِيهَا، فَيُنَزَّل
مَنْزِلَةَ الْمُبَاحَاتِ مِنَ الْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ وَالصَّيْدِ
يَجِدُهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ فَيَأْخُذُهُ فَيَكُونُ أَحَقَّ بِهِ.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: قَال أَبُو يُوسُفَ: الْبَاقِي لِلْوَاجِدِ
كَمَا فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَبِهِ
قَال أَبُو ثَوْرٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ الْوَرَثَةُ
فَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ لِمُورِثِهِمْ وَلَمْ يُنْكِرْهُ
الْبَاقُونَ، فَحُكْمُ مَنْ أَنْكَرَ فِي نَصِيبِهِ حُكْمُ الْمَالِكِ
الَّذِي لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ، وَحُكْمُ الْمُعْتَرِفِينَ حُكْمُ
الْمَالِكِ الْمُعْتَرِفِ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 45 - 47، والخرشي 2 / 211، والصاوي على الشرح
الصغير 1 / 487، والمجموع 6 / 40 - 42، 47، والمغني 3 / 19، 20، وشرح
منتهى الإرادات. 1 / 400
(23/106)
ج - أَنْ يَجِدَ الرِّكَازَ فِي مِلْكِ
غَيْرِهِ:
19 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الرِّكَازَ الْمَوْجُودَ
فِي دَارٍ أَوْ أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ يَكُونُ لِصَاحِبِ الدَّارِ وَفِي
رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لِوَاجِدِهِ.
وَنُقِل عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل أَنَّهُ لِوَاجِدِهِ. لأَِنَّهُ قَال
فِي مَسْأَلَةِ مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَحْفِرَ لَهُ فِي دَارِهِ
فَأَصَابَ فِي الدَّارِ كَنْزًا: فَهُوَ لِلأَْجِيرِ. نَقَل ذَلِكَ
عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّال، قَال الْقَاضِي: هُوَ
الصَّحِيحُ، وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ الرِّكَازَ لِوَاجِدِهِ، وَهُوَ
قَوْل أَبِي ثَوْرٍ، وَاسْتَحْسَنَهُ أَبُو يُوسُفَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ
الْكَنْزَ لاَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الدَّارِ، فَيَكُونُ لِمَنْ وَجَدَهُ،
لَكِنْ إِنِ ادَّعَاهُ الْمَالِكُ فَالْقَوْل قَوْلُهُ، وَإِنْ لَمْ
يَدَّعِهِ فَهُوَ لِوَاجِدِهِ (1) .
ثَانِيًا: أَنْ يُوجَدُ الرِّكَازُ فِي دَارِ الصُّلْحِ:
20 - صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ دَفِينَ الْمُصَالَحِينَ لَهُمْ
وَلَوْ كَانَ الدَّافِنُ غَيْرَهُمْ، فَمَا وُجِدَ مِنَ الرِّكَازِ
مَدْفُونًا فِي أَرْضِ الصُّلْحِ، سَوَاءٌ كَانُوا هُمُ الَّذِينَ
دَفَنُوهُ أَوْ دَفَنَهُ غَيْرُهُمْ فَهُوَ لِلَّذِينَ صَالَحُوا عَلَى
تِلْكَ الأَْرْضِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لاَ يُخَمَّسُ، فَإِنْ
وَجَدَهُ أَحَدُ الْمُصَالَحِينَ فِي دَارِهِ فَهُوَ لَهُ بِمُفْرَدِهِ
سَوَاءٌ وَجَدَهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرِّكَازَ الْمَوْجُودَ فِي
__________
(1) المصادر السابقة، والمغني 3 / 20 - 21.
(23/107)
مَوَاتِ دَارِ أَهْل الْعَهْدِ يَمْلِكُهُ
وَاجِدُهُ كَمَوَاتِ دَارِ الإِْسْلاَمِ (1) .
ثَالِثًا: أَنْ يُوجَدَ الرِّكَازُ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
21 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الرِّكَازِ الْمَوْجُودِ فِي دَارِ
الْحَرْبِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرِّكَازَ الْمَوْجُودَ فِي
دَارِ الْحَرْبِ إِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِغَيْرِ
مُسْتَأْمَنٍ فَالْكُل لِلْوَاجِدِ وَإِلاَّ وَجَبَ رَدُّهُ
لِلْمَالِكِ، وَأَمَّا الْمَوْجُودُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ أَصْلاً
فَالْكُل لِلْوَاجِدِ بِلاَ فَرْقٍ بَيْنَ الْمُسْتَأْمَنِ وَغَيْرِهِ؛
لأَِنَّ مَا فِي صَحْرَائِهِمْ لَيْسَ فِي يَدِ أَحَدٍ عَلَى
الْخُصُوصِ فَلاَ يُعَدُّ غَدْرًا.
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْرْضِ الْمَمْلُوكَةِ بَيْنَ أَنْ
يُؤْخَذَ الرِّكَازُ بِقَهْرٍ وَقِتَالٍ فَهُوَ غَنِيمَةٌ، كَأَخْذِ
أَمْوَالِهِمْ وَنُقُودِهِمْ مِنْ بُيُوتِهِمْ فَيَكُونُ خُمُسُهُ
لأَِهْل خُمُسِ الْغَنِيمَةِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِوَاجِدِهِ،
وَبَيْنَ أَنْ يُؤْخَذَ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلاَ قَهْرٍ فَهُوَ فَيْءٌ
وَمُسْتَحِقُّهُ أَهْل الْفَيْءِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَذُبُّوا عَنْهُ
فَهُوَ كَمَوَاتِ دَارِ الإِْسْلاَمِ - بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ -
وَهُوَ رِكَازٌ.
وَهَذَا مَحْمُولٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَا
إِذَا دَخَل دَارَ الْحَرْبِ بِغَيْرِ أَمَانٍ. أَمَّا إِذَا دَخَل
بِأَمَانٍ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْكَنْزِ لاَ بِقِتَالٍ وَلاَ
بِغَيْرِهِ.
__________
(1) الخرشي 2 / 211 - 212، والمجموع 6 / 47.
(23/107)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ
إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَهُوَ لِوَاجِدِهِ، حُكْمُهُ حُكْمُ
مَا لَوْ وَجَدَهُ فِي مَوَاتِ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ
يُفَرِّقِ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَوَاتِ بَيْنَ مَا يُذَبُّ عَنْهُ
وَبَيْنَ مَا لاَ يُذَبُّ عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ لِمَوْضِعِهِ
مَالِكٌ مُحْتَرَمٌ أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهُ (1) .
مَصْرِفُ خُمُسِ الرِّكَازِ:
22 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَبِهِ قَال الْمُزَنِيُّ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّ خُمُسَ الرِّكَازِ يُصْرَفُ مَصَارِفَ
الْغَنِيمَةِ وَلَيْسَ زَكَاةً.
وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّهُ حَلاَلٌ لِلأَْغْنِيَاءِ وَلاَ يَخْتَصُّ
بِالْفُقَرَاءِ، وَهُوَ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ يَخْتَصُّ
بِالأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَصْرِفُهُ مَصْرِفُ الْفَيْءِ، وَهَذِهِ
الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ أَصَحُّ مِمَّا سَيَأْتِي وَأَقْيَسُ عَلَى
مَذْهَبِهِ، لِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ
رَجُلاً وَجَدَ أَلْفَ دِينَارٍ مَدْفُونَةً خَارِجًا مِنَ
الْمَدِينَةِ، فَأَتَى بِهَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَأَخَذَ
مِنْهَا الْخُمُسَ مِائَتَيْ دِينَارٍ، وَدَفَعَ إِلَى الرَّجُل
بَقِيَّتَهَا، وَجَعَل عُمَرُ يَقْسِمُ الْمِائَتَيْنِ بَيْنَ مَنْ
حَضَرَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلَى أَنْ أَفْضَل مِنْهَا فَضْلَةً،
فَقَال: أَيْنَ صَاحِبُ الدَّنَانِيرِ؟ فَقَامَ إِلَيْهِ، فَقَال
عُمَرُ:
__________
(1) ابن عابدين 2 / 47 - 48، والقوانين الفقهية ص 102، والمجموع 6 / 40
- 41، والمغني 3 / 21.
(23/108)
خُذْ هَذِهِ الدَّنَانِيرَ فَهِيَ لَكَ.
وَلَوْ كَانَ الْمَأْخُوذُ زَكَاةً لَخَصَّ بِهِ أَهْلَهَا وَلَمْ
يَرُدَّهُ عَلَى وَاجِدِهِ؛ وَلأَِنَّهُ مَالٌ مَخْمُوسٌ زَالَتْ
عَنْهُ يَدُ الْكَافِرِ، أَشْبَهَ خُمُسَ الْغَنِيمَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى
أَنَّهُ يَجِبُ صَرْفُ خُمُسِ الرِّكَازِ مَصْرِفَ الزَّكَاةِ.
قَال النَّوَوِيُّ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ (1) .
وَلِتَفْصِيل تَوْزِيعِ الْخُمُسِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (خَمَس،
غَنِيمَة، فَيْء) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 43، 48، والخرشي مع حاشية العدوي 2 / 209، وحاشية
الصاوي على الشرح الصغير 1 / 485 - 486، والمجموع 6 / 47، ومغني
المحتاج 1 / 395، والمغني 3 / 22 - 24، وشرح منتهى الإرادات 1 / 400.
(23/108)
رُكْن
التَّعْرِيفِ:
1 - الرُّكْنُ فِي اللُّغَةِ: الْجَانِبُ الأَْقْوَى وَالأَْمْرُ
الْعَظِيمُ، وَمَا يُقْوَّى بِهِ مِنْ مَلِكٍ وَجُنْدٍ وَغَيْرِهِمَا،
وَالْعِزُّ، وَالْمَنَعَةُ.
وَالأَْرْكَانُ: الْجَوَارِحُ، وَفِي حَدِيثِ الْحِسَابِ: يُقَال
لأَِرْكَانِهِ: انْطِقِي (1) أَيْ جَوَارِحِهِ، وَأَرْكَانُ كُل شَيْءٍ
جَوَانِبُهُ الَّتِي يَسْتَنِدُ إِلَيْهَا وَيَقُومُ بِهَا (2) .
وَرُكْنُ الشَّيْءِ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا لاَ وُجُودَ لِذَلِكَ
الشَّيْءِ إِلاَّ بِهِ.
وَهُوَ " الْجُزْءُ الذَّاتِيُّ الَّذِي تَتَرَكَّبُ الْمَاهِيَّةُ
مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ بِحَيْثُ يَتَوَقَّفُ تَقَوُّمُهَا عَلَيْهِ
(3) ".
__________
(1) حديث: " الحساب: يقال. . . " أخرجه مسلم (4 / 2280 - 2281 ط
الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(2) القاموس المحيط ولسان العرب مادة: (ركن)
.
(3) التعريفات 99 - ط مطبعة مصطفى
البابي الحلبي، الكليات 2 / 395 منشورات وزارة الثقافة والإرشاد
القومي، دمشق الطبعة الثانية، حاشية ابن عابدين 1 / 61 - 64، دار إحياء
التراث العربي، الكفاية على الهداية بذيل شرح فتح القدير 1 / 239 دار
إحياء التراث العربي، حاشية الجمل 1 / 328 دار إحياء التراث العربي،
شرح روض الطالب 1 / 140 المكتبة الإسلامية.
(23/109)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
أ - الشَّرْطُ:
2 - الشَّرْطُ فِي اللُّغَةِ إِلْزَامُ الشَّيْءِ وَالْتِزَامُهُ،
وَكَذَلِكَ الشَّرِيطَةُ، وَالْجَمْعُ شُرُوطٌ وَشَرَائِطُ
وَبِالتَّحْرِيكِ الْعَلاَمَةُ، وَجَمْعُهُ أَشْرَاطٌ (1) .
وَاصْطِلاَحًا عَرَّفَهُ ابْنُ السُّبْكِيِّ بِقَوْلِهِ: مَا يَلْزَمُ
مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلاَ
عَدَمٌ لِذَاتِهِ ".
وَاخْتَارَ ابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّ الشَّرْطَ " مَا اسْتَلْزَمَ
نَفْيُهُ نَفْيَ أَمْرٍ عَلَى غَيْرِ جِهَةِ السَّبَبِيَّةِ ".
وَهُوَ اخْتِيَارُ شَارِحِ التَّحْرِيرِ الْعَلاَّمَةِ أَمِيرِ بَادْ
شَاهْ (2) .
قَال الإِْمَامُ الْكَاسَانِيُّ مُفَرِّقًا بَيْنَ الرُّكْنِ
وَالشَّرْطِ: وَالأَْصْل أَنَّ كُل مُتَرَكِّبٍ مِنْ مَعَانٍ
مُتَغَايِرَةٍ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْمُرَكَّبِ عَلَيْهَا عِنْدَ
اجْتِمَاعِهَا، كَانَ كُل مَعْنًى مِنْهَا رُكْنًا لِلْمُرَكَّبِ،
__________
(1) لسان العرب والقاموس المحيط والمصباح المنير مادة: (شرط) .
(2) حاشية البناني على جمع الجوامع 2 / 20 ط مصطفى البابي الحلبي،
الفروق 1 / 62 مطبعة دار إحياء الكتب العربية الطبعة الأولى 1344 هـ،
فتح الغفار شرح المنار 3 / 73 مصطفى البابي الحلبي، التلويح على
التوضيح 1 / 120، 145 ط محمد علي صبيح وأولاده، حاشية التفتازاني على
شرح مختصر المنتهى 2 / 12 الناشر جامعة السيد محمد بن علي السنوسي
الإسلامية، ليبيا 1968م، تيسير التحرير 2 / 120، 148، مصطفى البابي
الحلبي 1350 هـ، وحاشية الحموي على الأشباه 2 / 224، والمنثور في
القواعد 1 / 370.
(23/109)
كَأَرْكَانِ الْبَيْتِ فِي
الْمَحْسُوسَاتِ، وَالإِْيجَابِ وَالْقَبُول فِي بَابِ الْبَيْعِ فِي
الْمَشْرُوعَاتِ، وَكُل مَا يَتَغَيَّرُ الشَّيْءُ بِهِ وَلاَ
يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ كَانَ شَرْطًا،
كَالشُّهُودِ فِي بَابِ النِّكَاحِ (1) .
وَعَلَى هَذَا فَكُلٌّ مِنَ الرُّكْنِ وَالشَّرْطِ لاَ بُدَّ مِنْهُ
لِتَحَقُّقِ الْمُسَمَّى شَرْعًا، غَيْرَ أَنَّ الرُّكْنَ يَكُونُ
دَاخِلاً فِي حَقِيقَةِ الْمُسَمَّى، فَهُوَ جُزْؤُهُ، بِخِلاَفِ
الشَّرْطِ فَإِنَّهُ يَكُونُ خَارِجًا عَنِ الْمُسَمَّى.
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّيْخُ مُحِبُّ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الشَّكُورِ
بِأَنَّ الأَْرْكَانَ تَوْقِيفِيَّةٌ، قَال: وَإِنَّ جَعْل بَعْضِ
الأُْمُورِ رُكْنًا وَبَعْضِهَا شَرْطًا تَوْقِيفِيٌّ لاَ يُدْرَكُ
بِالْعَقْل (2) .
ب - الْفَرْضُ:
3 - الْفَرْضُ فِي اللُّغَةِ: الْقَطْعُ وَالتَّوْقِيتُ، وَالْحَزُّ
فِي الشَّيْءِ، وَمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالسُّنَّةُ،
يُقَال: فَرَضَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَيْ: سَنَّ (3) .
وَاصْطِلاَحًا: خِطَابُ اللَّهِ الْمُقْتَضِي لِلْفِعْل اقْتِضَاءً
جَازِمًا. وَهُوَ تَعْرِيفُ الْوَاجِبِ أَيْضًا،
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 105 دار الكتاب العربي.
(2) التلويح على التوضيح 2 / 130 ط محمد علي صبيح وأولاده، فتح الغفار
بشرح المنار 3 / 73 مصطفى البابي الحلبي، شرح المنار لابن ملك ص 921
المطبعة العثمانية 1315 هـ، فواتح الرحموت بذيل المستصفى 1 / 400، 402
دار صادر.
(3) لسان العرب والقاموس المحيط مادة: (فرض) .
(23/110)
حَيْثُ إِنَّ الْجُمْهُورَ لاَ
يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا، فَهُمَا مِنَ التَّرَادُفِ عِنْدَهُمْ.
وَقَال الْعَضُدُ فِي تَعْرِيفِ الإِْيجَابِ: هُوَ خِطَابٌ بِطَلَبِ
فِعْلٍ غَيْرِ كَفٍّ يَنْتَهِضُ تَرْكُهُ فِي جَمِيعِ وَقْتِهِ سَبَبًا
لِلْعِقَابِ. وَالْوَاجِبُ هُوَ الْفِعْل الْمُتَعَلِّقُ
بِالإِْيجَابِ، فَهُوَ فِعْلٌ غَيْرُ كَفٍّ تَعَلَّقَ بِهِ خِطَابٌ
بِطَلَبٍ بِحَيْثُ يَنْتَهِضُ تَرْكُهُ فِي جَمِيعِ وَقْتِهِ سَبَبًا
لِلْعِقَابِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَفْتَرِقُ الْفَرْضُ وَالْوَاجِبُ بِالظَّنِّ
وَالْقَطْعِ، فَإِنْ كَانَ مَا ذُكِرَ ثَبَتَ بِقَطْعِيٍّ فَفَرْضٌ،
وَإِنْ ثَبَتَ بِظَنِّيٍّ فَهُوَ الْوَاجِبُ (1) .
ثُمَّ إِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدْ يُطْلِقُونَ الْفَرْضَ عَلَى الرُّكْنِ،
كَمَا صَنَعَ التُّمُرْتَاشِيُّ فِي تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ، فَقَال
فِي بَابِ صِفَةِ الصَّلاَةِ: مِنْ فَرَائِضِهَا التَّحْرِيمَةُ.
وَقَال خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي بَابِ الْوُضُوءِ: فَرَائِضُ
الْوُضُوءِ. . وَقَال فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ: فَرَائِضُ الصَّلاَةِ. .
قَال الدَّرْدِيرُ: أَيْ: أَرْكَانُهَا وَأَجْزَاؤُهَا
الْمُتَرَكِّبَةُ هِيَ مِنْهَا. وَالنَّوَوِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ.
فَقَال فِي بَابِ الْوُضُوءِ: فَرْضُهُ سِتَّةٌ.
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: الْفَرْضُ وَالْوَاجِبُ
__________
(1) حاشية البناني على جمع الجوامع 1 / 86 مصطفى البابي الحلبي، شرح
العضد على مختصر المنتهى بهامش حاشية التفتازاني 1 / 232، جامعة
السنوسي الإسلامية، ليبيا 1968م، التلويح على التوضيح 2 / 123 محمد علي
صبيح وأولاده، فتح الغفار شرح المنار 2 / 62، مصطفى البابي الحلبي
1936م، المستصفى 1 / 28 دار صادر.
(23/110)
بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا
الرُّكْنُ لاَ الْمَحْدُودُ فِي كُتُبِ أُصُول الْفِقْهِ.
وَالشَّيْخُ أَبُو النَّجَا الْحَجَّاوِيُّ فِي الإِْقْنَاعِ، فَقَال
فِي بَابِ الْوُضُوءِ: فَرْضُهُ سِتَّةٌ (1) . . لَكِنَّ الْفَرْضَ
عِنْدَهُمْ أَعَمُّ مِنَ الرُّكْنِ. وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ
الْحَصْكَفِيُّ فَقَال: ثُمَّ الرُّكْنُ مَا يَكُونُ فَرْضًا دَاخِل
الْمَاهِيَّةِ، وَأَمَّا الشَّرْطُ فَمَا يَكُونُ خَارِجَهَا،
فَالْفَرْضُ أَعَمُّ مِنْهَا وَهُوَ مَا قُطِعَ بِلُزُومِهِ حَتَّى
يَكْفُرَ جَاحِدُهُ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - الرُّكْنُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جُزْءَ مَاهِيَّةِ الْحَقِيقَةِ
الشَّرْعِيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ، كَالْقِيَامِ فِي الصَّلاَةِ
وَالإِْمْسَاكِ فِي الصَّوْمِ، وَفِي الْعُقُودِ كَالإِْيجَابِ
وَالْقَبُول فِي عَقْدِ الْبَيْعِ. أَوْ جُزْءَ مَاهِيَّةِ
الأَْشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ كَأَرْكَانِ الْبَيْتِ.
الرُّكْنُ وَالْوَاجِبُ:
5 - يُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْوَاجِبِ فِي بَابَيِ
الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَالصَّلاَةِ، أَمَّا بَابُ الْحَجِّ
وَالْعُمْرَةِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 297، دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي
1 / 85، 231 دار الفكر، مغني المحتاج 1 / 47 دار إحياء التراث العربي،
كشاف القناع 1 / 83 عالم الكتب.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 64، 297، دار إحياء التراث العربي.
(23/111)
فَبِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ
فَيَنُصُّونَ أَنَّ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَرْكَانًا، وَوَاجِبَاتٍ،
وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فِي التَّرْكِ، فَمَنْ
تَرَكَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ لَمْ يَتِمَّ
نُسُكُهُ إِلاَّ بِهِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الإِْتْيَانُ أَتَى بِهِ،
وَذَلِكَ كَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الإِْتْيَانُ
بِهِ كَمَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ بِأَنْ طَلَعَ عَلَيْهِ
فَجْرُ يَوْمِ النَّحْرِ وَلَمْ يَقِفْ فَإِنَّهُ يَفُوتُهُ الْحَجُّ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَيَتَحَلَّل بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ
مِنْ قَابِلٍ. وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَاهِيَّةَ لاَ تَحْصُل إِلاَّ
بِجَمِيعِ الأَْرْكَانِ. وَانْظُرْ (حَجّ: ف 123)
وَمَنْ تَرَكَ وَاجِبًا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَيَكُونُ حَجُّهُ تَامًّا
صَحِيحًا، فَالْوَاجِبُ يُمْكِنُ جَبْرُهُ بِالدَّمِ بِخِلاَفِ
الرُّكْنِ (1) .
وَأَمَّا بَابُ الصَّلاَةِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
فَقَطْ فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لِلصَّلاَةِ أَرْكَانًا وَوَاجِبَاتٍ.
وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فِي التَّرْكِ أَيْضًا.
فَتَرْكُ الرُّكْنِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بُطْلاَنُ الصَّلاَةِ إِنْ
كَانَ تَرْكُهُ عَمْدًا. أَمَّا إِنْ تَرَكَهُ سَهْوًا أَوْ جَهْلاً
فَلاَ تَصِحُّ صَلاَتُهُ إِلاَّ إِنْ أَمْكَنَ التَّدَارُكُ، وَفِي
كَيْفِيَّتِهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (سُجُودِ
السَّهْوِ) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 219، 237 المطبعة الأميرية الطبعة الثانية،
الفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية 1 / 298، المطبعة الأميرية
الطبعة الثانية، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 398 المطبعة
العثمانية، حاشية الدسوقي 2 / 21 دار الفكر، مغني المحتاج 1 / 513 دار
إحياء التراث العربي، كشاف القناع 2 / 521 عالم الكتب.
(23/111)
وَأَمَّا تَرْكُ الْوَاجِبِ فَإِنَّ
الصَّلاَةَ لاَ تَبْطُل بِتَرْكِهِ سَهْوًا، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ
جَبْرًا لَهُ، وَتَرْكُهُ عَمْدًا يُبْطِل الصَّلاَةَ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: عَلَيْهِ إِعَادَةُ الصَّلاَةِ
وُجُوبًا إِنْ تَرَكَهُ عَمْدًا جَبْرًا لِنُقْصَانِهِ، وَكَذَا لَوْ
تَرَكَهُ سَهْوًا وَلَمْ يَسْجُدْ لِلسَّهْوِ (1) .
الرُّكْنُ فِي الْعِبَادَاتِ:
تَخْتَلِفُ أَرْكَانُ الْعِبَادَاتِ بِاخْتِلاَفِهَا:
أ - أَرْكَانُ الْوُضُوءِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَرْكَانِ الْوُضُوءِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ، غَسْل
الْوَجْهِ، وَغَسْل الْيَدَيْنِ، وَمَسْحُ رُبُعِ الرَّأْسِ وَغَسْل
الرِّجْلَيْنِ. وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَيْهَا النِّيَّةَ
وَالتَّرْتِيبَ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ الْمُوَالاَةَ، إِلاَّ
أَنَّهُمُ اعْتَبَرُوا النِّيَّةَ شَرْطًا لاَ رُكْنًا. وَزَادَ
الْمَالِكِيَّةُ الدَّلْكَ (2) .
ب - أَرْكَانُ التَّيَمُّمِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَرْكَانِ التَّيَمُّمِ.
7 - فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلتَّيَمُّمِ رُكْنَيْنِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 297، 306 دار إحياء التراث العربي، الفتاوى
الهندية 1 / 126 المطبعة الأميرية، الطبعة الثانية، كشاف القناع 1 /
385، 389 عالم الكتب.
(2) بدائع الصنائع 1 / 3 وما بعدها، حاشية الدسوقي 1 / 85 وما بعدها،
مغني المحتاج 1 / 47، وما بعدها، كشاف القناع 1 / 83.
(23/112)
الضَّرْبَتَانِ، وَالْمَسْحُ، وَالنِّيَّةُ
شَرْطٌ عِنْدَهُمْ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: أَرْكَانُهُ خَمْسَةٌ: النِّيَّةُ، وَضَرْبَةٌ
وَاحِدَةٌ، وَتَعْمِيمُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْكُوعَيْنِ
بِالْمَسْحِ، وَالصَّعِيدُ الطَّاهِرُ، وَالْمُوَالاَةُ.
كَمَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَهُ خَمْسَةٌ
وَهِيَ: نَقْل التُّرَابِ، وَنِيَّةُ اسْتِبَاحَةِ الصَّلاَةِ،
وَمَسْحُ الْوَجْهِ، وَمَسْحُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ،
وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: أَرْكَانُهُ أَرْبَعَةٌ: مَسْحُ جَمِيعِ
الْوَجْهِ، وَمَسْحُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْكُوعَيْنِ، وَالتَّرْتِيبُ،
وَالْمُوَالاَةُ فِي غَيْرِ الْحَدَثِ الأَْكْبَرِ، وَأَمَّا
النِّيَّةُ فَهِيَ شَرْطٌ عِنْدَهُمْ (1) .
ج - أَرْكَانُ الصَّلاَةِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَرْكَانِ الصَّلاَةِ، فَذَهَبَ
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ الصَّلاَةِ هِيَ:
النِّيَّةُ، وَاعْتَبَرَهَا الْحَنَابِلَةُ شَرْطًا، وَتَكْبِيرَةُ
الإِْحْرَامِ، وَالْقِيَامُ، وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي كُل
رَكْعَةٍ، وَالرُّكُوعُ، وَالاِعْتِدَال بَعْدَهُ، وَالسُّجُودُ،
وَالْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَالْجُلُوسُ لِلتَّشَهُّدِ
الأَْخِيرِ، وَالتَّشَهُّدُ الأَْخِيرُ. (وَقَال الْمَالِكِيَّةُ:
التَّشَهُّدُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 153، 154 - الشرح الصغير 1 / 193 ط دار
المعارف بمصر، مغني المحتاج 1 / 97 وما بعدها، كشاف القناع 1 / 174.
(23/112)
الأَْخِيرُ لَيْسَ بِرُكْنٍ وَأَمَّا
الْجُلُوسُ فَإِنَّهُ رُكْنٌ لَكِنَّهُ لِلسَّلاَمِ) وَالسَّلاَمُ،
وَالتَّرْتِيبُ، وَالطُّمَأْنِينَةُ. وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ
الرَّفْعَ مِنَ الرُّكُوعِ، وَالرَّفْعَ مِنَ السُّجُودِ، قَال
الدَّرْدِيرُ: الصَّلاَةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ
فَجَمِيعُ أَقْوَالِهَا لَيْسَتْ بِفَرَائِضَ إِلاَّ ثَلاَثَةً:
تَكْبِيرَةَ الإِْحْرَامِ، وَالْفَاتِحَةَ، وَالسَّلاَمَ، وَجَمِيعُ
أَفْعَالِهَا فَرَائِضُ إِلاَّ ثَلاَثَةً رَفْعَ الْيَدَيْنِ عِنْدَ
تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، وَالْجُلُوسَ لِلتَّشَهُّدِ، وَالتَّيَامُنَ
بِالسَّلاَمِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الصَّلاَةَ عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ، كَمَا
قَال الْحَنَابِلَةُ بِرُكْنِيَّةِ التَّسْلِيمَتَيْنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ الصَّلاَةِ هِيَ:
الْقِيَامُ، وَالرُّكُوعُ، وَالسُّجُودُ، وَالْقِرَاءَةُ،
وَالْقَعْدَةُ الأَْخِيرَةُ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ، وَتَرْتِيبُ
الأَْرْكَانِ، وَإِتْمَامُ الصَّلاَةِ، وَالاِنْتِقَال مِنْ رُكْنٍ
إِلَى رُكْنٍ. وَالنِّيَّةُ عِنْدَهُمْ شَرْطٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ
وَكَذَا التَّحْرِيمَةُ (1) .
د - أَرْكَانُ الصِّيَامِ:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلصَّوْمِ
رُكْنًا وَاحِدًا وَهُوَ الإِْمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ، وَأَمَّا
النِّيَّةُ فَهِيَ شَرْطٌ عِنْدَهُمْ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 277، 297، بدائع الصنائع 1 / 105، حاشية
الدسوقي 1 / 231، مغني المحتاج 1 / 148، كشاف القناع 1 / 313، 385.
(23/113)
وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ النِّيَّةَ رُكْنًا، فَلِلصَّوْمِ رُكْنَانِ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ هُمَا النِّيَّةُ وَالإِْمْسَاكُ، وَزَادَ
الشَّافِعِيَّةُ ثَالِثًا وَهُوَ الصَّائِمُ (1) .
هـ - أَرْكَانُ الاِعْتِكَافِ:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلاِعْتِكَافِ رُكْنًا
وَاحِدًا وَهُوَ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: أَرْكَانُهُ أَرْبَعَةٌ: النِّيَّةُ،
وَالْمُعْتَكِفُ، وَاللُّبْثُ، وَالْمَسْجِدُ (2) .
و أَرْكَانُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ:
11 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْحَجِّ رُكْنَيْنِ،
الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَمُعْظَمُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ (أَرْبَعَةُ
أَشْوَاطٍ) . وَأَمَّا الإِْحْرَامُ فَهُوَ شَرْطٌ ابْتِدَاءً، رُكْنٌ
انْتِهَاءً.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ الْحَجِّ أَرْبَعَةٌ:
الإِْحْرَامُ، وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَالطَّوَافُ اتِّفَاقًا
وَالسَّعْيُ عَلَى الْمَشْهُورِ خِلاَفًا لاِبْنِ الْقَصَّارِ. وَزَادَ
ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي الأَْرْكَانِ: الْوُقُوفَ بِالْمَشْعَرِ
الْحَرَامِ وَرَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ قَوْلاً بِرُكْنِيَّةِ طَوَافِ الْقُدُومِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 80، 81، حاشية الدسوقي 1 / 509، مغني المحتاج
1 / 420، 423، نيل المآرب 1 / 273، 274، مكتبة الفلاح 1983م.
(2) ابن عابدين 2 / 129، مغني المحتاج 1 / 450.
(23/113)
قَال الدُّسُوقِيُّ: وَالْمَشْهُورُ أَنَّ
الْوُقُوفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَرَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ
غَيْرُ رُكْنَيْنِ، بَل الأَْوَّل مُسْتَحَبٌّ، وَالثَّانِي وَاجِبٌ
يُجْبَرُ بِالدَّمِ. وَأَمَّا الْقَوْل بِرُكْنِيَّةِ طَوَافِ
الْقُدُومِ فَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ بَل الْمَذْهَبُ أَنَّهُ وَاجِبٌ
يُجْبَرُ بِالدَّمِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: أَرْكَانُ الْحَجِّ سِتَّةٌ: الإِْحْرَامُ،
وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ، وَالْحَلْقُ أَوِ
التَّقْصِيرُ، وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَ الأَْرْكَانِ.
كَمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَرْكَانِ الْعُمْرَةِ. فَقَال
الْحَنَفِيَّةُ: لَهَا رُكْنٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الطَّوَافُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَرْكَانُهَا ثَلاَثَةٌ:
الإِْحْرَامُ، وَالطَّوَافُ، وَالسَّعْيُ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: الْحَلْقَ أَوِ التَّقْصِيرَ، وَالتَّرْتِيبَ
(1) .
الرُّكْنُ فِي الْعُقُودِ:
12 - هُنَاكَ اتِّجَاهَانِ فِي تَحْدِيدِ الرُّكْنِ فِي الْعُقُودِ:
الأَْوَّل: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ لِكُل عَقْدٍ
ثَلاَثَةَ أَرْكَانٍ هِيَ: الصِّيغَةُ، وَالْعَاقِدَانِ،
وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الثَّلاَثَةُ تَئُول فِي
الْحَقِيقَةِ إِلَى سِتَّةٍ، فَمَثَلاً فِي الْبَيْعِ: الصِّيغَةُ
عِبَارَةٌ عَنِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 147، بدائع الصنائع 2 / 125، 227، حاشية
الدسوقي 2 / 21، مغني المحتاج 1 / 513، كشاف القناع 2 / 521.
(23/114)
وَالْعَاقِدَانِ هُمَا الْبَائِعُ
وَالْمُشْتَرِي. وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ الْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ.
الثَّانِي: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِكُل عَقْدٍ رُكْنًا
وَاحِدًا فَقَطْ وَهُوَ الصِّيغَةُ (الإِْيجَابُ وَالْقَبُول (1)) .
أَقْسَامُ الرُّكْنِ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَقْسِيمِ الرُّكْنِ فِي الصَّلاَةِ
إِلَى فِعْلِيٍّ وَقَوْلِيٍّ (2) . وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ هَذَا
التَّقْسِيمِ فِي التَّكْرَارِ.
وَانْفَرَدَ الْحَنَفِيَّةُ بِتَقْسِيمِ الرُّكْنِ فِي الصَّلاَةِ
إِلَى رُكْنٍ أَصْلِيٍّ وَرُكْنٍ زَائِدٍ، فَالْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ
وَالسُّجُودُ أَرْكَانٌ أَصْلِيَّةٌ، وَالْقِرَاءَةُ وَالْقُعُودُ
الأَْخِيرُ رُكْنَانِ زَائِدَانِ.
وَالرُّكْنُ الزَّائِدُ عِنْدَهُمْ هُوَ مَا يَسْقُطُ فِي بَعْضِ
الصُّوَرِ مِنْ غَيْرِ تَحَقُّقِ ضَرُورَةٍ بِلاَ خَلَفٍ، كَسُقُوطِ
الْقِرَاءَةِ بِالاِقْتِدَاءِ. وَالرُّكْنُ الأَْصْلِيُّ مَا لاَ
يَسْقُطُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ.
وَمَعْنَى كَوْنِ الرُّكْنِ زَائِدًا أَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ حَيْثُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 5، بدائع الصنائع 5 / 133، فتح القدير 5 /
455، حاشية الدسوقي 3 / 2، مغني المحتاج 2 / 3، 117، 128، كشاف القناع
3 / 146.
(2) بدائع الصنائع 1 / 167 دار الكتاب العربي، حاشية الدسوقي 1 / 231
دار الفكر، شرح روض الطالب 1 / 187 المكتبة الإسلامية، كشاف القناع 1 /
332 عالم الكتب.
(23/114)
قِيَامِ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِهِ فِي
حَالَةٍ، وَانْتِفَاؤُهُ بِانْتِفَائِهِ، وَزَائِدٌ مِنْ حَيْثُ
قِيَامُهُ بِدُونِهِ فِي حَالَةٍ أُخْرَى، فَالصَّلاَةُ مَاهِيَّةٌ
اعْتِبَارِيَّةٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَعْتَبِرَهَا الشَّارِعُ تَارَةً
بِأَرْكَانٍ وَأُخْرَى بِأَقَل مِنْهَا. ثُمَّ إِنَّ اعْتِبَارَ
الْقِرَاءَةِ، وَالْقُعُودِ الأَْخِيرِ رُكْنَيْنِ زَائِدَيْنِ لَيْسَ
مُتَّفَقًا عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحَل
خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ. أَمَّا الْقِرَاءَةُ فَالأَْكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا
رُكْنٌ زَائِدٌ.
كَمَا انْفَرَدَ الشَّافِعِيَّةُ بِتَقْسِيمِ الرُّكْنِ فِي الصَّلاَةِ
إِلَى رُكْنٍ طَوِيلٍ وَرُكْنٍ قَصِيرٍ، فَالْقَصِيرُ عِنْدَهُمْ
رُكْنَانِ: الاِعْتِدَال بَعْدَ الرُّكُوعِ، وَالْجُلُوسُ بَيْنَ
السَّجْدَتَيْنِ، وَمَا عَدَاهُمَا طَوِيلٌ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ عِنْدَهُمْ أَنَّ تَطْوِيل
الرُّكْنِ الْقَصِيرِ عَمْدًا بِسُكُوتٍ أَوْ ذِكْرٍ لَمْ يُشْرَعْ
فِيهِ يُبْطِل الصَّلاَةَ؛ لأَِنَّ تَطْوِيلَهُ تَغْيِيرٌ لِوَضْعِهِ،
وَيُخِل بِالْمُوَالاَةِ؛ وَلأَِنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ بَل
لِلْفَصْل بَيْنَ الأَْرْكَانِ، وَأَمَّا تَطْوِيلُهُ سَهْوًا فَلاَ
يُبْطِل الصَّلاَةَ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ.
وَمِقْدَارُ التَّطْوِيل عِنْدَهُمْ أَنْ يُلْحَقَ الاِعْتِدَال بَعْدَ
الرُّكُوعِ بِالْقِيَامِ لِلْقِرَاءَةِ، وَالْجُلُوسُ بَيْنَ
السَّجْدَتَيْنِ بِالْجُلُوسِ لِلتَّشَهُّدِ، وَالْمُرَادُ قِرَاءَةُ
الْوَاجِبِ فَقَطْ لاَ قِرَاءَتُهُ مَعَ الْمَنْدُوبِ أَيِ
الْفَاتِحَةِ وَأَقَل التَّشَهُّدِ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 113 دار الكتاب العربي، حاشية ابن عابدين 1 /
300 دار إحياء التراث العربي، تيسير التحرير 2 / 129، مصطفى البابي
الحلبي 1350 هـ، ونهاية المحتاج 2 / 71 ط مصطفى البابي الحلبي 1967م -
1386 هـ، ومغني المحتاج 1 / 206 دار إحياء التراث العربي.
(23/115)
أَقَل الرُّكْنِ وَأَكْمَلُهُ:
14 - قَدْ يَكُونُ لِلرُّكْنِ كَيْفِيَّتَانِ يَتَحَقَّقُ بِهِمَا،
إِحْدَاهُمَا: كَيْفِيَّةُ الإِْجْزَاءِ وَيُطْلِقُ عَلَيْهَا بَعْضُ
الْفُقَهَاءِ كَالشَّافِعِيَّةِ أَقَل الرُّكْنِ، وَالثَّانِيَةُ:
كَيْفِيَّةُ الْكَمَال، وَهِيَ الْكَيْفِيَّةُ الَّتِي تُوَافِقُ
السُّنَّةَ.
وَمِنْ تِلْكَ الأَْرْكَانِ فِي بَابِ الصَّلاَةِ الرُّكُوعُ
وَالسُّجُودُ، فَيَنُصُّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لَهُمَا
كَيْفِيَّتَيْنِ فَأَقَل الرُّكُوعِ وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُجْزِئُ
مِنْهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنْ يَنْحَنِيَ حَتَّى تَقْتَرِبَ فِيهِ
رَاحَتَا كَفَّيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: هُوَ خَفْضُ الرَّأْسِ مَعَ انْحِنَاءِ
الظَّهْرِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ الْمَفْهُومُ مِنْ مَوْضُوعِ اللُّغَةِ
فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {ارْكَعُوا} ، وَقَدْ نَصَّ
الشَّافِعِيَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ الاِقْتِصَارِ عَلَى الأَْقَل.
وَأَكْمَل الرُّكُوعِ أَنْ يُسَوِّيَ ظَهْرَهُ وَعُنُقَهُ، وَيُمَكِّنَ
يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ مُفَرِّقًا أَصَابِعَهُ وَنَاصِبًا
لِرُكْبَتَيْهِ. وَأَقَل السُّجُودِ مُبَاشَرَةُ بَعْضِ جَبْهَتِهِ
مُصَلاَّهُ، وَهُنَاكَ خِلاَفٌ فِي بَقِيَّةِ الأَْعْضَاءِ بَيْنَ
الْمَذَاهِبِ وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا:
(رُكُوع، سُجُود) .
وَأَكْمَل السُّجُودِ أَنْ يَضَعَ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَدَيْهِ ثُمَّ
جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ، وَيَضَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ،
وَيَنْشُرَ أَصَابِعَهُ مَضْمُومَةً لِلْقِبْلَةِ، وَيُفَرِّقَ
رُكْبَتَيْهِ، وَيَرْفَعَ
(23/115)
بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ، وَمِرْفَقَيْهِ
عَنْ جَنْبَيْهِ، وَهَذَا فِي الرَّجُل. أَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا
تَضُمُّ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ (1) .
وَفِي بَابِ الْحَجِّ: الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَأَقَلُّهُ أَنْ يَحْصُل
بِعَرَفَةَ فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ وَلَوْ لَحْظَةً، وَلَوْ مَارًّا
بِهَا، أَوْ نَائِمًا أَوْ جَاهِلاً بِهَا، فَمَنْ حَصَلَتْ لَهُ
هَذِهِ اللَّحْظَةُ فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ صَارَ مُدْرِكًا لِلْحَجِّ،
وَلاَ يَجْرِي عَلَيْهِ الْفَسَادُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَوَقْتُ الْوُقُوفِ مِنْ زَوَال يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى طُلُوعِ فَجْرِ
يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَمِنَ الْغُرُوبِ إِلَى
طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ مَالِكٍ، فَالرُّكْنُ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ الاِسْتِقْرَارُ لَحْظَةً فِي عَرَفَةَ بَعْدَ
الْغُرُوبِ، أَمَّا الْوُقُوفُ نَهَارًا بَعْدَ الزَّوَال فَوَاجِبٌ
يَنْجَبِرُ بِالدَّمِ.
وَأَكْمَلُهُ أَنْ يَجْمَعَ فِي الْوُقُوفِ بَيْنَ اللَّيْل
وَالنَّهَارِ لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِتَأْخُذُوا
مَنَاسِكَكُمْ (2) .
وَقَدْ عَدَّ الْحَنَابِلَةُ الْجَمْعَ بَيْنَ اللَّيْل وَالنَّهَارِ
وَاجِبًا يَجِبُ فِي تَرْكِهِ دَمٌ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 300 دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي
1 / 239 دار الفكر، مواهب الجليل 1 / 519، 520 دار الفكر، مغني المحتاج
1 / 164، 168، 170 دار إحياء التراث العربي، شرح روض الطالب 1 / 156،
160 وما بعدها المكتبة الإسلامية، كشاف القناع 1 / 347، 350 عالم
الكتب.
(2) حديث: " لتأخذوا مناسككم ". أخرجه مسلم (2 / 943 - الحلبي) من حديث
جابر بن عبد الله.
(23/116)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَكُونُ الْجَمْعُ
وَاجِبًا فِيمَا إِذَا وَقَفَ نَهَارًا، أَمَّا إِذَا وَقَفَ لَيْلاً
فَلاَ وَاجِبَ عَلَيْهِ.
وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيَّةُ إِرَاقَةَ الدَّمِ حِينَئِذٍ خُرُوجًا
مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهُ (1) .
تَرْكُ الرُّكْنِ وَتَكْرَارُهُ:
15 - لِتَرْكِ الرُّكْنِ آثَارٌ وَصُوَرٌ فِي الْعِبَادَاتِ
وَالْمُعَامَلاَتِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ كَيْفِيَّةِ التَّرْكِ
عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا أَوْ جَهْلاً، وَفِي كُل حَالَةٍ تَفْصِيلٌ
وَخِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مَظَانِّهِ مِنَ الْمَوْسُوعَةِ. كَمَا أَنَّ
تَكْرَارَ الرُّكْنِ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا يَجْرِي عَلَى التَّرْكِ
مَعَ ضَوَابِطَ وَتَفْصِيلاَتٍ تُنْظَرُ فِي مَظَانِّهَا.
تَرْكُ الرُّكْنِ فِي الْعُقُودِ:
16 - تَرْكُ الرُّكْنِ فِي الْعُقُودِ يُوجِبُ بُطْلاَنَهَا، وَذَلِكَ
لاِنْعِدَامِ الأُْمُورِ الَّتِي لاَ بُدَّ مِنْهَا لِيَتَحَقَّقَ
الْعَقْدُ فِي الْخَارِجِ.
فَمَنْ تَرَكَ الإِْيجَابَ أَوِ الْقَبُول فِي جَمِيعِ صُوَرِهِمَا فِي
أَيِّ عَقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ فَعَقْدُهُ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ كَمَنْ
بَاعَ أَوِ اشْتَرَى مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ أَوْ قَبُولٍ وَلَمْ
__________
(1) فتح القدير 2 / 373 دار إحياء التراث العربي، الفتاوى الهندية 1 /
229 المطبعة الأميرية ببولاق الطبعة الثانية، حاشية الدسوقي 2 / 36 دار
الفكر، مغني المحتاج 1 / 498 دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 2 /
494 عالم الكتب.
(23/116)
يَقَعْ عَلَى سَبِيل التَّعَاطِي فَيَكُونُ
بَيْعُهُ حِينَئِذٍ بَاطِلاً (1) .
ثُمَّ إِنْ تَخَلَّفَ الرُّكْنُ فِي الْعُقُودِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
يَدْخُل فِي حَالَةِ الْبُطْلاَنِ، وَاَلَّتِي يُفَرِّقُونَ بَيْنَهَا
وَبَيْنَ حَالَةِ الْفَسَادِ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي
مُصْطَلَحِ (بُطْلاَن (2)) .
وَأَمَّا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى بُطْلاَنِ الْعُقُودِ فَيُنْظَرُ
تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (بُطْلاَن (3)) .
الرُّكْنُ بِمَعْنَى جُزْءِ الْمَاهِيَّةِ الْمَحْسُوسَةِ:
اسْتِلاَمُ الأَْرْكَانِ فِي الطَّوَافِ:
17 - اسْتَحَبَّ الْفُقَهَاءُ اسْتِلاَمَ رُكْنَيْنِ مِنْ أَرْكَانِ
الْبَيْتِ.
الأَْوَّل: الْحَجَرُ الأَْسْوَدُ، وَيُسَنُّ تَقْبِيلُهُ لِحَدِيثِ
ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اسْتَقْبَل النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَرَ، ثُمَّ وَضَعَ شَفَتَيْهِ
عَلَيْهِ يَبْكِي طَوِيلاً، ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ يَبْكِي، فَقَال: يَا عُمَرُ، هَاهُنَا تُسْكَبُ
الْعَبَرَاتُ (4) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 5، 99، حاشية الصاوي على الشرح الصغير 2 / 3
ط مصطفى الحلبي، شرح المحلي بهامش قليوبي وعميرة 2 / 152 ط عيسى البابي
الحلبي، حاشية الجمل 3 / 5 ط دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 3 /
146 ط عالم الكتب.
(2) الموسوعة الفقهية 8 / 110.
(3) الموسوعة الفقهية 8 / 119.
(4) حديث: " يا عمر، هاهنا تسكب العبرات ". أخرجه ابن ماجه (2 / 982 -
ط الحلبي) ، وضعف إسناده البوصيري كما في مصباح الزجاجة (2 / 134 - ط
دار الجنان) .
(23/117)
وَعَنْ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ
فَقَبَّلَهُ، وَقَال: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ
وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ (1) .
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
بِأَنْ تَكُونَ الْقُبْلَةُ بِلاَ صَوْتٍ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
فِي الصَّوْتِ بِالتَّقْبِيل قَوْلاَنِ: الْكَرَاهَةُ وَالإِْبَاحَةُ.
قَال الشَّيْخُ الْحَطَّابُ نَقْلاً عَنِ الشَّيْخِ زَرُّوقٍ فِي
شَرْحِ الإِْرْشَادِ: وَرَجَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ الْجَوَازَ، وَنَقَلَهُ
أَيْضًا الشَّيْخُ دُسُوقِيٌّ عَنِ الْحَطَّابِ. وَزَادَ
الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنْ يَسْجُدَ
عَلَيْهِ.
قَال الْحَنَابِلَةُ: فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ،
وَأَنْكَرَ الإِْمَامُ مَالِكٌ وَضْعَ الْخَدَّيْنِ عَلَى الْحَجَرِ
الأَْسْوَدِ، قَال فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَهُوَ بِدْعَةٌ، قَال
الشَّيْخُ الدَّرْدِيرُ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: وَكَرِهَ مَالِكٌ
السُّجُودَ وَتَمْرِيغَ الْوَجْهِ عَلَيْهِ، قَال الْحَطَّابُ: قَال
بَعْضُ شُيُوخِنَا: وَكَانَ مَالِكٌ يَفْعَلُهُ إِذَا خَلاَ بِهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يُسَنُّ أَنْ يَكُونَ
التَّقْبِيل وَالسُّجُودُ ثَلاَثًا. فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ
تَقْبِيلِهِ اسْتَلَمَهُ بِيَدِهِ وَقَبَّل يَدَهُ، لِحَدِيثِ ابْنِ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَلَمَهُ وَقَبَّل يَدَهُ (2) . وَلِمَا رَوَى
مُسْلِمٌ عَنْ نَافِعٍ قَال: رَأَيْتُ
__________
(1) حديث عابس بن ربيعة: " في تقبيل عمر للحجر ". أخرجه البخاري (الفتح
3 / 462 - ط السلفية) .
(2) حديث ابن عمر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الحجر الأسود
وقبل يده. . . " أخرجه مسلم (2 / 924 - ط الحلبي) .
(23/117)
ابْنَ عُمَرَ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ
بِيَدِهِ ثُمَّ قَبَّل يَدَهُ. وَقَال: مَا تَرَكْتُهُ مُنْذُ رَأَيْتُ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ (1)
وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ
أَنَّهُ لاَ يُقَبِّل يَدَهُ بَل يَضَعُهَا عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ
تَقْبِيلٍ، وَعِنْدَهُمْ رِوَايَةٌ أَنَّهُ يُقَبِّل يَدَهُ كَمَا
يُقَبِّل الْحَجَرَ، وَالأَْوَّل هُوَ الْمَشْهُورُ، وَحُجَّتُهُ أَنَّ
التَّقْبِيل فِي الْحَجَرِ تَعَبُّدٌ وَلَيْسَتِ الْيَدُ بِالْحَجَرِ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: وَيُسَنُّ أَنْ تَكُونَ يَدَهُ
الْيُمْنَى، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَيْهِ ثُمَّ
يُقَبِّلُهَا أَوْ يَضَعُ إِحْدَاهُمَا، وَالأَْوْلَى أَنْ تَكُونَ
الْيُمْنَى لأَِنَّهَا الْمُسْتَعْمَلَةُ فِيمَا فِيهِ شَرَفٌ.
فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنِ اسْتِلاَمِهِ بِيَدِهِ اسْتَلَمَهُ
بِشَيْءٍ كَعَصًا، ثُمَّ يُقَبِّل مَا اسْتَلَمَهُ بِهِ لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ
فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (2) وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ،
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَضَعُ الْعَصَا عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ
تَقْبِيلٍ.
18 - فَإِنْ عَجَزَ عَنْ كُل ذَلِكَ لِشِدَّةِ الزِّحَامِ أَشَارَ
إِلَيْهِ بِيَدِهِ أَوْ شَيْءٍ فِيهَا مِنْ بَعِيدٍ وَلاَ يُزَاحِمُ
النَّاسَ فَيُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِعُمَرَ: يَا عُمَرُ إِنَّكَ رَجُلٌ
قَوِيٌّ، لاَ تُزَاحِمْ عَلَى الْحَجَرِ
__________
(1) حديث نافع قال: " رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده ". أخرجه مسلم (2
/ 924 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " إذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم ". أخرجه البخاري
(الفتح 13 / 251 - ط السلفية) ومسلم (2 / 975 - ط الحلبي) من حديث أبي
هريرة.
(23/118)
فَتُؤْذِي الضَّعِيفَ، إِنْ وَجَدْتَ
خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ، وَإِلاَّ فَاسْتَقْبِلْهُ فَهَلِّل وَكَبِّرْ
(1) . وَلأَِنَّ الاِسْتِلاَمَ سُنَّةٌ، وَإِيذَاءُ الْمُسْلِمِ
حَرَامٌ، وَتَرْكُ الْحَرَامِ أَوْلَى مِنَ الإِْتْيَانِ بِالسُّنَّةِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: طَافَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ عَلَى
بَعِيرٍ كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ
عِنْدَهُ وَكَبَّرَ (2) . قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُشِيرُ إِلَيْهِ
بِبَاطِنِ كَفَّيْهِ كَأَنَّهُ وَاضِعُهَا عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِأَنْ
يَرْفَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ وَيَجْعَل بَاطِنَهُمَا نَحْوَ
الْحَجَرِ مُشِيرًا بِهِمَا إِلَيْهِ وَظَاهِرَهُمَا نَحْوَ وَجْهِهِ،
وَصَرَّحُوا بِتَقْبِيل كَفَّيْهِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي
التَّقْبِيل كَمَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ إِنَّهُمْ صَرَّحُوا
بِتَقْبِيل مَا أَشَارَ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الإِْشَارَةُ بِيَدِهِ
أَوْ غَيْرِهَا. وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ يُقَبِّل
الْمُشَارَ بِهِ قَالُوا: لِعَدَمِ وُرُودِهِ. وَذَهَبَ
الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ تَعَذَّرَ اسْتِلاَمُهُ يُكَبِّرُ فَقَطْ
إِذَا حَاذَاهُ مِنْ غَيْرِ إِشَارَةٍ بِيَدِهِ وَلاَ رَفْعٍ، وَصِفَةُ
الاِسْتِلاَمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى
الْحَجَرِ وَيَضَعَ فَمَه بَيْنَ كَفَّيْهِ وَيُقَبِّلَهُ، وَعِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) حديث: " يا عمر إنك رجل قوي ". أخرجه أحمد (1 / 28 - ط الميمنية)
وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (3 / 241 - ط القدسي) وقال: " رواه
أحمد وفيه راو لم يسم " وبين الشافعي في روايته لهذا الحديث أن المبهم
هو عبد الرحمن بن نافع بن الحارث، وهذا لم يسمع من عمر بن الخطاب ففيه
انقطاع، لكن رواه البيهقي بإسناد آخر عن سعيد بن المسيب مرسلاً، فهو
مما يقوي هذا الطريق، يراجع سنن البيهقي (5 / 80 - ط دائرة المعارف
العثمانية) .
(2) حديث ابن عباس: " طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعير
كلما أتى. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 476 - ط السلفية) .
(23/118)
أَنْ يَلْمِسَهُ بِيَدِهِ، وَقَال
الْحَنَابِلَةُ: يَمْسَحُهُ بِيَدِهِ.
الثَّانِي: الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ، فَيُسَنُّ اسْتِلاَمُ الرُّكْنِ
الْيَمَانِيِّ فِي الطَّوَافِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ، لِحَدِيثِ ابْنِ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ لاَ يَسْتَلِمُ إِلاَّ الْحَجَرَ وَالرُّكْنَ
الْيَمَانِيَّ (1) .
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ تَقْبِيلُهُ،
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا اسْتَلَمَهُ بِيَدِهِ وَضَعَهَا عَلَى
فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ
يُقَبِّل مَا اسْتَلَمَهُ بِهِ.
وَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنِ اسْتِلاَمِهِ أَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، قَال الشَّافِعِيَّةُ:
لأَِنَّهَا بَدَلٌ عَنْهُ لِتَرَتُّبِهَا عَلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ
فِي الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ فَكَذَا هُنَا، وَمُقْتَضَى الْقِيَاسِ
أَنَّهُ يُقَبِّل مَا أَشَارَ بِهِ، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ:
وَهُوَ كَذَلِكَ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى
أَنَّهُ لاَ يُشِيرُ عِنْدَ الزِّحَامِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
أَنَّهُ يُكَبِّرُ إِذَا حَاذَاهُ.
19 - وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَحْكَامِ اسْتِلاَمِ الرُّكْنَيْنِ يُرَاعَى
فِي كُل طَوْفَةٍ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لاَ يَدَعُ أَنْ
يَسْتَلِمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَالْحَجَرَ الأَْسْوَدَ فِي كُل
طَوْفَةٍ (2) . وَهَذَا مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
وَأَمَّا اسْتِلاَمُ الرُّكْنَيْنِ
__________
(1) حديث ابن عمر: " أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر
والركن اليماني ". أخرجه مسلم (2 / 924 - ط الحلبي) .
(2) حديث ابن عمر: " أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أن يستلم الركن
اليماني في كل طوفة ". أخرجه أبو داود (2 / 440 - 441 - تحقيق عزت عبيد
دعاس) .
(23/119)
الآْخَرَيْنِ - الشَّامِيِّ
وَالْعِرَاقِيِّ - فَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فِي الْجُمْلَةِ. قَال
الْبُهُوتِيُّ: وَلاَ يَسْتَلِمُ وَلاَ يُقَبِّل الرُّكْنَيْنِ
الآْخَرَيْنِ، لِقَوْل ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمْ
أَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ مِنَ
الْبَيْتِ إِلاَّ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ (1) .
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِكَرَاهَةِ
اسْتِلاَمِ الرُّكْنَيْنِ الْعِرَاقِيِّ وَالشَّامِيِّ - وَهِيَ
كَرَاهَةٌ تَنْزِيهِيَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - قَالُوا:
لأَِنَّهُمَا لَيْسَا رُكْنَيْنِ حَقِيقَةً بَل مِنْ وَسَطِ الْبَيْتِ؛
لأَِنَّ بَعْضَ الْحَطِيمِ مِنَ الْبَيْتِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُسَنُّ اسْتِلاَمُ الرُّكْنَيْنِ وَلاَ
تَقْبِيلُهُمَا. قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَالْمُرَادُ
بِعَدَمِ تَقْبِيل الأَْرْكَانِ الثَّلاَثَةِ إِنَّمَا هُوَ نَفْيُ
كَوْنِهِ سُنَّةً، فَلَوْ قَبَّلَهُنَّ أَوْ غَيْرَهُنَّ مِنَ
الْبَيْتِ لَمْ يَكُنْ مَكْرُوهًا وَلاَ خِلاَفَ الأَْوْلَى، بَل
يَكُونُ حَسَنًا، كَمَا نَقَلَهُ فِي الاِسْتِقْصَاءِ عَنْ نَصِّ
الشَّافِعِيِّ قَال: وَأَيُّ الْبَيْتِ قَبَّل فَحَسَنٌ غَيْرَ أَنَّا
نُؤْمَرُ بِالاِتِّبَاعِ. قَال الإِْسْنَوِيُّ: فَتَفَطَّنْ لَهُ،
فَإِنَّهُ أَمْرٌ مُهِمٌّ.
20 - وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلاَفِ الأَْرْكَانِ فِي هَذِهِ الأَْحْكَامِ
أَنَّ الرُّكْنَ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ الأَْسْوَدُ فِيهِ
فَضِيلَتَانِ: كَوْنُ الْحَجَرِ فِيهِ، وَكَوْنُهُ عَلَى قَوَاعِدِ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْيَمَانِيُّ فِيهِ فَضِيلَةٌ
وَاحِدَةٌ، وَهُوَ كَوْنُهُ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ.
__________
(1) حديث ابن عمر: " لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يمسح من البيت إلا
الركنين اليمانيين ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 473 - ط السلفية) ،
ومسلم (2 / 924 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.
(23/119)
وَأَمَّا الشَّامِيَّانِ فَلَيْسَ لَهُمَا
شَيْءٌ مِنَ الْفَضِيلَتَيْنِ (1) . قَال ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: مَا أَرَاهُ - يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - تَرَكَ اسْتِلاَمَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ
الْحَجَرَ إِلاَّ أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يَتِمَّ عَلَى قَوَاعِدِ
إِبْرَاهِيمَ، وَلاَ طَافَ النَّاسُ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ إِلاَّ
لِذَلِكَ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 166، 169 دار إحياء التراث العربي، بدائع
الصنائع 2 / 146 دار الكتاب العربي، حاشية الدسوقي 2 / 40، 42 دار
الفكر، مواهب الجليل 3 / 107 دار الفكر، حاشية العدوي على الرسالة 1 /
465، 469 دار المعرفة، مغني المحتاج 1 / 487 دار إحياء التراث العربي،
شرح روض الطالب 1 / 480 المكتبة الإسلامية، كشاف القناع 2 / 478، 479،
485 عالم الكتب.
(2) أثر ابن عمر: " ما أراه صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين
اللذين. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 407 - ط السلفية) دون قوله: "
ولا طاف الناس. . . " الخ. فقد أخرجه أبو داود (2 / 440 - تحقيق عزت
عبيد دعاس) .
(23/120)
رُكُوب
التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّكُوبُ لُغَةً: مَصْدَرُ رَكِبَ.
يُقَال: رَكِبَ الدَّابَّةَ يَرْكَبُهَا أَيْ عَلاَ عَلَيْهَا، وَكُل
مَا عُلِيَ عَلَيْهِ فَقَدْ رُكِبَ. وَقِيل: هُوَ خَاصٌّ بِالإِْبِل
(1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الرُّكُوبُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنْ ذَلِكَ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
أ - صَلاَةُ التَّطَوُّعِ رَاكِبًا:
2 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي إِبَاحَةِ صَلاَةِ
التَّطَوُّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فِي السَّفَرِ الطَّوِيل - وَهُوَ
مَا يَجُوزُ فِيهِ قَصْرُ الصَّلاَةِ - وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ:
أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِكُل مَنْ سَافَرَ سَفَرًا يَقْصُرُ
فِيهِ الصَّلاَةَ أَنْ يَتَطَوَّعَ عَلَى دَابَّتِهِ حَيْثُمَا
تَوَجَّهَتْ، أَمَّا السَّفَرُ الْقَصِيرُ وَهُوَ مَا لاَ يُبَاحُ
فِيهِ الْقَصْرُ فَإِنَّهُ يُبَاحُ فِيهِ الصَّلاَةُ عَلَى
الرَّاحِلَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (2) وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ
__________
(1) لسان العرب ومتن اللغة.
(2) ابن عابدين 1 / 470، ونهاية المحتاج 1 / 429، والمغني 1 / 434.
(23/120)
اللَّهِ (1) } وَبِالصَّلاَةِ عَلَى
الرَّاحِلَةِ فُسِّرَتِ الآْيَةُ، وَقَال ابْنُ عُمَرَ: نَزَلَتْ
هَذِهِ الآْيَةُ فِي التَّطَوُّعِ خَاصَّةً، أَيْ حَيْثُ تَوَجَّهَ
بِكَ بَعِيرُكَ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَال: كَانَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُصَلِّي فِي
السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ يُومِئُ، وَذَكَرَ
عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يَفْعَلُهُ (2) .
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال: كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى
رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ يُومِئُ إِيمَاءَ صَلاَةِ
اللَّيْل إِلاَّ الْفَرَائِضَ وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ (3) .
وَلِمُسْلِمٍ: غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ،
وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ قَصِيرِ السَّفَرِ وَطَوِيلِهِ؛ وَلأَِنَّ
إِبَاحَةَ الصَّلاَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ تَخْفِيفٌ فِي التَّطَوُّعِ
كَيْ لاَ يُؤَدِّيَ إِلَى قَطْعِهَا وَتَقْلِيلِهَا، وَهَذَا يَسْتَوِي
فِيهِ الطَّوِيل وَالْقَصِيرُ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ
أَنْ يَكُونَ سَفَرَ قَصْرٍ، أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ سَفَرَ قَصْرٍ
فَلاَ يَتَنَفَّل عَلَى الدَّابَّةِ (4) .
__________
(1) سورة البقرة / 115.
(2) حديث: " كان يصلي في السفر على راحلته أينما توجهت يومئ ". أخرجه
البخاري (الفتح 2 / 574 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 486 - ط الحلبي) من
حديث ابن عمر.
(3) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر على راحلته
حيث توجهت ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 489 - ط السلفية) .
(4) ابن عابدين 1 / 470، ومواهب الجليل 1 / 509، ونهاية المحتاج 1 /
429، والمغني 1 / 434.
(23/121)
شُرُوطُ جَوَازِ التَّنَفُّل عَلَى
الرَّاحِلَةِ:
3 - يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ التَّنَفُّل عَلَى الرَّاحِلَةِ مَا يَأْتِي:
1 - تَرْكُ الأَْفْعَال الْكَثِيرَةِ بِلاَ عُذْرٍ كَالرَّكْضِ.
2 - دَوَامُ السَّفَرِ إِلَى انْتِهَاءِ الصَّلاَةِ.
فَلَوْ صَارَ مُقِيمًا فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ عَلَيْهَا وَجَبَ
إِتْمَامُهَا عَلَى الأَْرْضِ مُسْتَقْبِلاً الْقِبْلَةَ، وَإِلَى
هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ
وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُتِمَّ الصَّلاَةَ
عَلَيْهَا (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي الصَّلاَةِ، وَصَلاَةِ التَّطَوُّعِ.
اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ:
4 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَمْكَنَ اسْتِقْبَال
الْقِبْلَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَإِتْمَامُ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ
كَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ
فَلاَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سَافَرَ،
فَأَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ اسْتَقْبَل بِنَاقَتِهِ الْقِبْلَةَ
فَكَبَّرَ ثُمَّ صَلَّى حَيْثُ وَجَّهَهُ رِكَابُهُ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 470، نهاية المحتاج 1 / 433، ومواهب الجليل 1 /
509، المغني 1 / 438.
(2) حديث أنس: " كان إذا سافر فأراد أن يتطوع. . . " أخرجه أبو داود (2
/ 21 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وحسنه المنذري كما في مختصره لأبي داود
(2 / 59 - نشر دار المعرفة) .
(23/121)
وَيَخْتَصُّ وُجُوبُ الاِسْتِقْبَال
بِتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، فَلاَ يَجِبُ فِيمَا سِوَاهُ؛ لِوُقُوعِ
أَوَّل الصَّلاَةِ بِالشَّرْطِ، ثُمَّ يُجْعَل مَا بَعْدَهُ تَابِعًا
لَهُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَلْزَمُهُ
الاِسْتِقْبَال وَإِنْ أَمْكَنَهُ، وَلَوْ فِي تَكْبِيرَةِ
الإِْحْرَامِ (2)
أَمَّا رَاكِبُ السَّفِينَةِ وَنَحْوِهَا كَالْعِمَارِيَّةِ وَهِيَ
نَوْعٌ مِنَ السُّفُنِ يَدُورُ فِيهَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَيَتَمَكَّنُ
مِنَ الصَّلاَةِ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَال
الْقِبْلَةِ فِي صَلاَتِهِ (3) .
قِبْلَةُ الرَّاكِبِ وَجِهَتُهُ:
5 - قِبْلَةُ الْمُصَلِّي عَلَى الرَّاحِلَةِ حَيْثُ وَجَّهَتْهُ،
فَإِنْ عَدَل عَنْهَا لاَ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَسَدَتْ
صَلاَتُهُ، لأَِنَّهُ تَرَكَ قِبْلَتَهُ عَمْدًا.
فَإِنْ عَدَل إِلَى الْقِبْلَةِ فَلاَ تَبْطُل صَلاَتُهُ، لأَِنَّهَا
الأَْصْل، وَإِنَّمَا جَازَ تَرْكُهَا لِلْعُذْرِ (4) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِقْبَال) .
أَدَاءُ صَلاَةِ الْفَرْضِ رَاكِبًا:
6 - يَجُوزُ أَدَاءُ صَلاَةِ الْفَرْضِ رَاكِبًا فِي السَّفِينَةِ
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 430، والمغني 1 / 436.
(2) ابن عابدين 1 / 469، ومواهب الجليل 1 / 509.
(3) المصادر السابقة.
(4) المصادر السابقة.
(23/122)
وَنَحْوِهَا كَالْمِحَفَّةِ
وَالْعِمَارِيَّةِ مِمَّا يُمْكِنُ مَعَهُ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ
وَإِتْمَامُ أَرْكَانِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّاحِلَةِ: فَقَال
الْجُمْهُورُ: لاَ يَجُوزُ أَدَاؤُهَا عَلَى دَابَّةٍ، سَوَاءٌ
أَكَانَتْ وَاقِفَةً أَمْ سَائِرَةً إِلاَّ لِعُذْرٍ كَخَوْفٍ (1) .
فَإِنْ صَلَّى عَلَى رَاحِلَتِهِ لِعُذْرٍ لَمْ تَلْزَمْهُ
الإِْعَادَةُ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَتْ وَاقِفَةً
وَتَوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ وَأَتَمَّ الْفَرْضَ جَازَ وَإِنْ لَمْ
تَكُنْ مَعْقُولَةً، لاِسْتِقْرَارِهِ فِي نَفْسِهِ. أَمَّا إِنْ
كَانَتْ سَائِرَةً، أَوْ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَى الْقِبْلَةِ، أَوْ
لَمْ يُتِمَّ أَرْكَانَهَا فَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ لِعُذْرٍ؛ لأَِنَّ
سَيْرَ الدَّابَّةِ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ، وَيُعِيدُ الصَّلاَةَ فِي
حَالَةِ الْعُذْرِ (2) .
اتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ رَاكِبًا:
7 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي
لِمُشَيِّعِ الْجِنَازَةِ أَنْ لاَ يَتْبَعَهَا رَاكِبًا إِلاَّ
لِعُذْرٍ كَمَرَضٍ أَوْ ضَعْفٍ. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى أُنَاسًا رُكْبَانًا فِي جِنَازَةٍ
فَقَال: أَلاَ تَسْتَحْيُونَ؟ إِنَّ مَلاَئِكَةَ اللَّهِ يَمْشُونَ
عَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَأَنْتُمْ عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ (3) .
وَإِذَا اتَّبَعَهَا رَاكِبًا يَكُونُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 470، ومواهب الجليل 1 / 509، وكشاف القناع 1 / 304.
(2) الجمل على شرح المنهج 1 / 319، ونهاية المحتاج 1 / 434.
(3) حديث: " ألا تستحيون؟ إن ملائكة الله يمشون على أقدامهم ". أخرجه
الترمذي (3 / 324 - ط الحلبي) من حديث ثوبان، ثم نقل عن البخاري أنه
صحح وقفه.
(23/122)
خَلْفَ الْجِنَازَةِ. أَمَّا الرُّكُوبُ
فِي الرُّجُوعِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ (1) .
وَلاَ بَأْسَ بِاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ رَاكِبًا عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْمَشْيَ أَفْضَل مِنْهُ؛ لأَِنَّهُ
أَقْرَبُ إِلَى الْخُشُوعِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الرَّاكِبُ
الْجِنَازَةَ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يَخْلُو عَنْ إِضْرَارٍ بِالنَّاسِ
(2) .
صَلاَةُ الْمُجَاهِدِ رَاكِبًا:
8 - يَجُوزُ لِلْمُجَاهِدِ أَنْ يُصَلِّيَ رَاكِبًا إِذَا الْتَحَمَ
الْقِتَال وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَرْكِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا (3) } .
وَالتَّفْصِيل فِي (صَلاَةِ الْخَوْفِ) .
الْحَجُّ رَاكِبًا:
9 - الْحَجُّ رَاكِبًا عَلَى الدَّوَابِّ، وَنَحْوِهَا أَفْضَل مِنَ
الْحَجِّ مَاشِيًا، لأَِنَّ ذَلِكَ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (4) ، وَلأَِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الشُّكْرِ، وَإِلَى هَذَا
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (5) ،
وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَابِلَةِ تَصْرِيحًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
__________
(1) قليوبي 1 / 330، المغني 2 / 474 - 475، روضة الطالبين 2 / 116.
(2) بدائع الصنائع 1 / 315، وأسنى المطالب 1 / 134، ورد المحتار 1 /
469، والفروع 1 / 380.
(3) سورة البقرة / 239.
(4) حديث: " حجه صلى الله عليه وسلم راكبًا ". أخرجه البخاري (الفتح 3
/ 380 - ط السلفية) .
(5) مواهب الجليل 2 / 540، وابن عابدين 2 / 143، وأسنى المطالب 1 /
445.
(23/123)
الطَّوَافُ رَاكِبًا:
10 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ طَوَافِ الرَّاكِبِ
إِذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا، قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَشْتَكِي فَقَال: طُوفِي مِنْ وَرَاءِ
النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الطَّوَافِ رَاكِبًا بِلاَ عُذْرٍ فَذَهَبَ
الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ (2) لِحَدِيثِ
ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى
بَعِيرٍ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ (3) . وَقَال جَابِر: طَافَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ
بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ (4) ". وَلأَِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّوَافِ مُطْلَقًا فَكَيْفَمَا أَتَى بِهِ
أَجْزَأَهُ، وَلاَ يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ،
وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، إِلَى
أَنَّ
__________
(1) حديث: " طوفي من وراء الناس وأنت راكبة ". أخرجه البخاري (الفتح 3
/ 480 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 927 - ط الحلبي) .
(2) قليوبي 2 / 105، نهاية المحتاج 2 / 283، وأسنى المطالب 1 / 480.
(3) حديث ابن عباس: " طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن ".
أخرجه البخاري (الفتح 3 / 472 - 473 - ط السلفية) ومسلم (2 / 926 - ط
الحلبي)
(4) حديث: " طاف النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته بالبيت وبين
الصفا والمروة " أخرجه مسلم (2 / 927 - ط الحلبي) .
(23/123)
الْمَشْيَ فِي الطَّوَافِ مِنْ وَاجِبَاتِ
الطَّوَافِ، فَإِنْ طَافَ رَاكِبًا بِلاَ عُذْرٍ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى
الْمَشْيِ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ: بِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الطَّوَافُ
بِالْبَيْتِ بِمَنْزِلَةِ الصَّلاَةِ (1) . وَلأَِنَّ الطَّوَافَ
عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْبَيْتِ فَلَمْ يَجُزْ فِعْلُهَا رَاكِبًا
لِغَيْرِ عُذْرٍ كَالصَّلاَةِ، وَلأَِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالطَّوَافِ
بِقَوْلِهِ: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2) ،
وَالرَّاكِبُ لَيْسَ بِطَائِفٍ حَقِيقَةً، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ نَقْصًا
فِيهِ فَوَجَبَ جَبْرُهُ بِالدَّمِ، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ
كَانَ بِمَكَّةَ فَعَلَيْهِ الإِْعَادَةُ، وَإِنْ عَادَ إِلَى
بِلاَدِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (طَوَاف) .
أَمَّا السَّعْيُ رَاكِبًا فَيُجْزِئُهُ لِعُذْرٍ، وَلِغَيْرِ عُذْرٍ
بِالاِتِّفَاقِ (3) .
ضَمَانُ الرَّاكِبِ مَا تَجْنِيهِ الدَّابَّةُ:
11 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّ
الرَّاكِبَ يَضْمَنُ مَا تُتْلِفُهُ الدَّابَّةُ بِيَدِهَا حَال
رُكُوبِهِ مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي ضَمَانِ مَا تَجْنِيهِ بِرِجْلِهَا، فَقَال
__________
(1) حديث: " الطواف بالبيت بمنزلة الصلاة ". أخرجه الحاكم (2 / 267 - ط
دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس. وصححه الحاكم ووافقه
الذهبي.
(2) سورة الحج / 29.
(3) بدائع الصنائع 2 / 128، والمغني 3 / 397، ومواهب الجليل 2 / 540.
(23/124)
الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي
رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: إِنَّ الرَّاكِبَ لاَ يَضْمَنُ مَا جَنَتْهُ
دَابَّتُهُ بِرِجْلِهَا؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ حِفْظُ رِجْلِهَا
عَنِ الْجِنَايَةِ فَلاَ يَضْمَنُهَا كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ يَدُهُ
عَلَيْهَا، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ:
يَضْمَنُ الرَّاكِبُ مَا تَجْنِيهِ الدَّابَّةُ فِي حَال رُكُوبِهِ
مُطْلَقًا. سَوَاءٌ جَنَتْ بِيَدِهَا، أَمْ بِرِجْلِهَا، أَمْ
بِرَأْسِهَا، لأَِنَّهَا فِي يَدِهِ، وَعَلَيْهِ تَعَهُّدُهَا
وَحِفْظُهَا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَضْمَنُ الرَّاكِبُ مَا تُعْطِبُهُ
الدَّابَّةُ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا أَوْ ذَنَبِهَا، إِلاَّ أَنْ
يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَعَلَهُ بِهَا (2) . وَالتَّفْصِيل فِي
(ضَمَان، وَإِتْلاَف) .
مَا يَقُولُهُ الرَّاكِبُ إِذَا رَكِبَ دَابَّتَهُ:
12 - يُسَنُّ لِلرَّاكِبِ إِذَا اسْتَوَى عَلَى دَابَّتِهِ أَنْ
يُكَبِّرَ ثَلاَثًا ثُمَّ يَقْرَأَ آيَةَ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ
لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا
لَمُنْقَلِبُونَ} (3) .
وَيَدْعُوَ بِالدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَال: شَهِدْتُ
عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا،
فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 204، وابن عابدين 5 / 386 - 387، والمغني لابن
قدامة 8 / 338 - 339.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 357 - 358.
(3) سورة الزخرف / 13 و14.
(23/124)
قَال: بِسْمِ اللَّهِ، فَلَمَّا اسْتَوَى
عَلَى ظَهْرِهَا قَال: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا
كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} .
ثُمَّ قَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَال: اللَّهُ
أَكْبَرُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَال: سُبْحَانَكَ إِنِّي ظَلَمْتُ
نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ
أَنْتَ، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقِيل: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَيِّ
شَيْءٍ ضَحِكْتَ؟ قَال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَعَل مِثْل مَا فَعَلْتُ ثُمَّ ضَحِكَ، فَقُلْتُ: يَا
رَسُول اللَّهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ؟ قَال: إِنَّ رَبَّكَ
سُبْحَانَهُ يَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَال: اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي،
يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِي (1) .
وَإِذَا رَكِبَ لِلسَّفَرِ دَعَا بِمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ:
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا
اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلاَثًا
ثُمَّ قَال: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ
مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} ، اللَّهُمَّ
إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ
الْعَمَل مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا،
وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ،
وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَْهْل. اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ
__________
(1) حديث: " علي بن أبي طالب مع علي بن ربيعة. . . " أخرجه أبو داود (3
/ 77 - تحقيق عزت عبيد دعاس) . والترمذي (5 / 501 - ط الحلبي) وقال: "
حديث حسن صحيح ".
(23/125)
وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ
وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَال وَالأَْهْل (1) .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا رَكِبَ أَيَّ نَوْعٍ مِنْ وَسَائِل
الرُّكُوبِ.
__________
(1) حديث: " كان إذا استوى على بعيره خارجًا إلى سفر ". أخرجه مسلم (2
/ 978 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.
(23/125)
رُكُوع
التَّعْرِيفُ
1 - الرُّكُوعُ لُغَةً: الاِنْحِنَاءُ، يُقَال: رَكَعَ يَرْكَعُ
رُكُوعًا وَرَكْعًا، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ أَوْ حَنَى ظَهْرَهُ،
وَقَال بَعْضُهُمُ: الرُّكُوعُ هُوَ الْخُضُوعُ، وَيُقَال: رَكَعَ
الرَّجُل إِذَا افْتَقَرَ بَعْدَ غِنًى وَانْحَطَّتْ حَالُهُ، وَرَكَعَ
الشَّيْخُ: انْحَنَى ظَهْرُهُ مِنَ الْكِبَرِ.
وَالرَّاكِعُ: الْمُنْحَنِي، وَكُل شَيْءٍ يَنْكَبُّ لِوَجْهِهِ
فَتَمَسُّ رُكْبَتُهُ الأَْرْضَ أَوْ لاَ تَمَسُّهَا بَعْدَ أَنْ
يَنْخَفِضَ رَأْسُهُ فَهُوَ رَاكِعٌ، وَجَمْعُ الرَّاكِعِ رُكَّعٌ
وَرُكُوعٌ (1) .
وَرُكُوعُ الصَّلاَةِ فِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ طَأْطَأَةُ الرَّأْسِ
أَيْ خَفْضُهُ، لَكِنْ مَعَ انْحِنَاءٍ فِي الظَّهْرِ عَلَى هَيْئَةٍ
مَخْصُوصَةٍ فِي الصَّلاَةِ. وَهِيَ أَنْ يَنْحَنِيَ الْمُصَلِّي
بِحَيْثُ تَنَال رَاحَتَاهُ رُكْبَتَيْهِ مَعَ اعْتِدَال
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، غريب القرآن للأصفهاني مادة: (ركع) .
(23/126)
خِلْقَتِهِ وَسَلاَمَةِ يَدَيْهِ
وَرُكْبَتَيْهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْقَوْمَةِ الَّتِي فِيهَا
الْقِرَاءَةُ (1) .
أَمَّا فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ فَهُوَ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخُضُوعُ.
2 - الْخُضُوعُ لُغَةً: الذُّل وَالاِسْتِكَانَةُ وَالاِنْقِيَادُ
وَالْمُطَاوَعَةُ، وَيُقَال: رَجُلٌ أَخْضَعُ، وَامْرَأَةٌ خَضْعَاءُ
وَهُمَا: الرَّاضِيَانِ بِالذُّل.
وَخَضَعَ الإِْنْسَانُ: أَمَال رَأْسَهُ إِلَى الأَْرْضِ أَوْ دَنَا
مِنْهَا، وَهُوَ تَطَامُنُ الْعُنُقِ وَدُنُوُّ الرَّأْسِ مِنَ
الأَْرْضِ، وَالْخُضُوعُ: التَّوَاضُعُ وَالتَّطَامُنُ، وَهُوَ قَرِيبٌ
مِنَ الْخُشُوعِ يُسْتَعْمَل فِي الصَّوْتِ، وَالْخُضُوعُ يُسْتَعْمَل
لِلأَْعْنَاقِ (2) .
وَالْخُضُوعُ أَعَمُّ مِنَ الرُّكُوعِ، إِذِ الرُّكُوعُ هَيْئَةٌ
خَاصَّةٌ.
ب - السُّجُودُ:
3 - السُّجُودُ لُغَةً: مَصْدَرُ سَجَدَ، وَأَصْل السُّجُودِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 300، الفواكه الدواني 1 / 207، حاشية العدوي
1 / 231، حاشية الجمل على شرح المنهاج 1 / 370، تحفة المحتاج 2 / 58،
روضة الطالبين 1 / 249، مغني المحتاج 1 / 164، نهاية المحتاج 1 / 448،
والمغني لابن قدامة 1 / 499، كشاف القناع 1 / 346.
(2) لسان العرب والمصباح المنير، مادة: (خضع) .
(23/126)
التَّطَامُنُ وَالْخُضُوعُ وَالتَّذَلُّل،
يُقَال: سَجَدَ الْبَعِيرُ إِذَا خَفَضَ رَأْسَهُ عِنْدَ رُكُوبِهِ،
وَسَجَدَ الرَّجُل إِذَا وَضَعَ جَبْهَتَهُ عَلَى الأَْرْضِ (1) .
وَالسُّجُودُ فِي الاِصْطِلاَحِ: وَضْعُ الْجَبْهَةِ أَوْ بَعْضِهَا
عَلَى الأَْرْضِ، أَوْ مَا اتَّصَل بِهَا مِنْ ثَابِتٍ مُسْتَقِرٍّ
عَلَى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ فِي الصَّلاَةِ (2) .
فَفِي كُلٍّ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ نُزُولٌ مِنْ قِيَامٍ،
لَكِنَّ النُّزُول فِي السُّجُودِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الرُّكُوعِ.
أَوَّلاً: الرُّكُوعُ فِي الصَّلاَةِ:
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى أَنَّ الرُّكُوعَ رُكْنٌ مِنْ
أَرْكَانِ الصَّلاَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (3) الآْيَةَ، وَلِلأَْحَادِيثِ
الثَّابِتَةِ، مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلاَتَهُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل الْمَسْجِدَ، فَدَخَل
رَجُلٌ فَصَلَّى، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَرَدَّ، وَقَال: ارْجِعْ فَصَل، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَل،
فَرَجَعَ يُصَلِّي كَمَا صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: ارْجِعْ فَصَل
فَإِنَّكَ لَمْ تُصَل - ثَلاَثًا - فَقَال: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ
بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، فَقَال: إِذَا قُمْتَ
إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) رد المحتار 1 / 300، وجواهر الإكليل 1 / 48.
(3) سورة الحج / 77.
(23/127)
مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ
حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْدِل قَائِمًا،
ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى
تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وَافْعَل ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا (1) .
الطُّمَأْنِينَةُ فِي الرُّكُوعِ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) إِلَى أَنَّ
الطُّمَأْنِينَةَ فِي الرُّكُوعِ بِقَدْرِ تَسْبِيحَةِ فَرْضٍ، لاَ
تَصِحُّ الصَّلاَةُ بِدُونِهَا.
وَمِنْ أَدِلَّةِ الْجُمْهُورِ عَلَى وُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ:
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ الْمُسِيءِ
صَلاَتَهُ: ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا (2) .
الْحَدِيثَ.
وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسْوَأُ
النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلاَتِهِ، قَالُوا: يَا
رَسُول اللَّهِ، وَكَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلاَتِهِ؟ قَال: لاَ يُتِمُّ
رُكُوعَهَا وَلاَ سُجُودَهَا (3) . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَكَعَ اسْتَوَى،
فَلَوْ صُبَّ عَلَى ظَهْرِهِ الْمَاءُ لاَسْتَقَرَّ،
__________
(1) حديث: " المسيء صلاته ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 237 - ط
السلفية) ، ومسلم (1 / 298 - ط الحلبي) .
(2) سبق تخريجه ف / 4.
(3) حدث: " أسوأ الناس سرقة الذي يسرق. . . " أخرجه أحمد (5 / 310 ط
الميمنية) ، والحاكم (1 / 229 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث
أبي قتادة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(23/127)
وَذَلِكَ لاِسْتِوَاءِ ظَهْرِهِ
وَلاِطْمِئْنَانِهِ فِيهِ (1) .
وَحَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:
قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُجْزِئُ
صَلاَةُ الرَّجُل حَتَّى يُقِيمَ ظَهْرَهُ فِي الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لاَ تُجْزِئُ صَلاَةٌ لاَ يُقِيمُ الرَّجُل فِيهَا
صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ (2) .
قَال التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَل عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْل الْعِلْمِ
مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ.
وَقَدْ رَأَى أَبُو حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلاً لاَ
يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَقَال: مَا صَلَّيْتَ، وَلَوْ مِتَّ
مِتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) فَإِذَا رَفَعَ
رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ ثُمَّ شَكَّ هَل أَتَى بِقَدْرِ الإِْجْزَاءِ
أَوْ لاَ، لاَ يَعْتَدُّ بِهِ وَيَلْزَمُهُ إِعَادَةُ الرُّكُوعِ،
لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ مَا شَكَّ فِيهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ فِي الرُّكُوعِ
__________
(1) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع استوى، فلو صب على
ظهره الماء لاستقر ". أورده الهيثمي في المجمع (2 / 123 - ط القدسي)
وقال: " رواه الطبراني في الكبير وأبو يعلى، ورجاله موثقون ".
(2) حديث: " لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود ".
أخرجه أبو داود (1 / 534 - تحقيق عزت عبيد دعاس) . وحديث: لا تجزئ صلاة
لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود ". أخرجه الترمذي (2 / 51 -
ط الحلبي) ، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(3) حديث حذيفة: " رأى رجلاً لا يتم الركوع والسجود ". أخرجه البخاري
(الفتح 2 / 274 - 275 ط السلفية) .
(23/128)
لَيْسَتْ فَرْضًا، وَأَنَّ الصَّلاَةَ
تَصِحُّ بِدُونِهَا؛ لأَِنَّ الْمَفْرُوضَ مِنَ الرُّكُوعِ أَصْل
الاِنْحِنَاءِ وَالْمَيْل، فَإِذَا أَتَى بِأَصْل الاِنْحِنَاءِ فَقَدِ
امْتَثَل، لإِِتْيَانِهِ بِمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الاِسْمُ
الْوَارِدُ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} (1) . الآْيَةَ.
أَمَّا الطُّمَأْنِينَةُ فَدَوَامٌ عَلَى أَصْل الْفِعْل، وَالأَْمْرُ
بِالْفِعْل لاَ يَقْتَضِي الدَّوَامَ.
وَهِيَ عِنْدَهُمْ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ، وَلِهَذَا يُكْرَهُ
تَرْكُهَا عَمْدًا، وَيَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ إِذَا تَرَكَهَا
سَاهِيًا، وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ أَنَّهَا
سُنَّةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلاَ يَلْزَمُ
بِتَرْكِهَا سُجُودُ السَّهْوِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ فِيمَنْ لَمْ يُقِمْ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ، إِنْ كَانَ
إِلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى تَمَامِ الرُّكُوعِ لَمْ
يَجْزِهِ، وَإِنْ كَانَ إِلَى تَمَامِ الرُّكُوعِ أَقْرَبَ مِنْهُ
إِلَى الْقِيَامِ أَجْزَأَهُ، إِقَامَةً لِلأَْكْثَرِ مَقَامَ الْكُل
(2) .
هَيْئَةُ الرُّكُوعِ:
6 - الْهَيْئَةُ الْمُجْزِئَةُ فِي الرُّكُوعِ أَنْ يَنْحَنِيَ
انْحِنَاءً
__________
(1) سورة الحج / 77.
(2) البدائع 1 / 105، 162، حاشية ابن عابدين 1 / 300، 312، الفواكه
الدواني 1 / 207، حاشية العدوي 1 / 231، 234، روضة الطالبين 1 / 249،
المجموع للإمام النووي 3 / 406 - 411، مغني المحتاج 1 / 163، المغني
لابن قدامة 1 / 497، كشاف القناع 1 / 346، الفروع 1 / 432، الإنصاف 2 /
59.
(23/128)
خَالِصًا قَدْرَ بُلُوغِ رَاحَتَيْهِ
رُكْبَتَيْهِ بِطُمَأْنِينَةٍ، بِحَيْثُ يَنْفَصِل رَفْعُهُ مِنَ
الرُّكُوعِ عَنْ هُوِيِّهِ، عَلَى أَنْ يَقْصِدَ مِنْ هُوِيِّهِ
الرُّكُوعَ، وَهَذَا فِي مُعْتَدِل الْخِلْقَةِ مِنَ النَّاسِ لاَ
طَوِيل الْيَدَيْنِ وَلاَ قَصِيرِهِمَا، فَلَوْ طَالَتْ يَدَاهُ أَوْ
قَصُرَتَا أَوْ قُطِعَ شَيْءٌ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا لَمْ
يُعْتَبَرْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى تَسْوِيَةِ ظَهْرِهِ، فَإِنْ
لَمْ تَقْرُبْ رَاحَتَاهُ مِنْ رُكْبَتَيْهِ بِالْحَيْثِيَّةِ
الْمَذْكُورَةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رُكُوعًا، وَلَمْ تُخْرِجْهُ عَنْ
حَدِّ الْقِيَامِ إِلَى الرُّكُوعِ، وَكَذَا إِنْ قَصَدَ مِنْ
هُبُوطِهِ غَيْرَ الرُّكُوعِ. وَالْعَاجِزُ يَنْحَنِي قَدْرَ
إِمْكَانِهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الاِنْحِنَاءِ أَصْلاً أَوْمَأَ
بِرَأْسِهِ ثُمَّ بِطَرَفِهِ، وَلَوْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ وَصَلَّى
قَاعِدًا يَنْحَنِي لِرُكُوعِهِ بِحَيْثُ تُحَاذِي جَبْهَتُهُ مَا
قُدَّامَ رُكْبَتَيْهِ مِنَ الأَْرْضِ، وَالأَْكْمَل أَنْ تُحَاذِيَ
جَبْهَتُهُ مَوْضِعَ سُجُودِهِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَكْمَل هَيْئَاتِ
الرُّكُوعِ أَنْ يَنْحَنِيَ الْمُصَلِّي بِحَيْثُ يَسْتَوِي ظَهْرُهُ
وَعُنُقُهُ، وَيَمُدَّهُمَا كَالصَّحِيفَةِ، وَلاَ يَخْفِضُ ظَهْرَهُ
عَنْ عُنُقِهِ وَلاَ يَرْفَعُهُ، وَيَنْصِبُ سَاقَيْهِ إِلَى
الْحَقْوِ، وَلاَ يَثْنِي رُكْبَتَيْهِ، وَيَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى
رُكْبَتَيْهِ، وَيَأْخُذُ رُكْبَتَيْهِ بِيَدَيْهِ، وَيُفَرِّقُ
أَصَابِعَهُ حِينَئِذٍ، فَإِنْ كَانَتْ إِحْدَى يَدَيْهِ مَقْطُوعَةً
أَوْ عَلِيلَةً، فَعَل بِالأُْخْرَى مَا ذَكَرْنَا، وَفَعَل
بِالْعَلِيلَةِ الْمُمْكِنَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ وَضْعُ
الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ أَرْسَلَهُمَا، وَيُجَافِي الرَّجُل
مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَضُمُّ بَعْضَهَا
إِلَى بَعْضٍ، وَلَوْ لَمْ يَضَعْ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ
(23/129)
وَلَكِنْ بَلَغَ ذَلِكَ الْقَدْرَ
أَجْزَأَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّطْبِيقُ فِي الرُّكُوعِ،
وَهُوَ أَنْ يَجْعَل الْمُصَلِّي إِحْدَى كَفَّيْهِ عَلَى الأُْخْرَى
ثُمَّ يَجْعَلَهُمَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ أَوْ فَخِذَيْهِ إِذَا
رَكَعَ.
وَالتَّطْبِيقُ كَانَ مَشْرُوعًا فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ ثُمَّ
نُسِخَ، قَال مُصْعَبُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي فَطَبَّقْتُ بَيْنَ كَفَّيَّ،
ثُمَّ وَضَعْتُهُمَا بَيْنَ فَخِذَيَّ، فَنَهَانِي أَبِي وَقَال:
كُنَّا نَفْعَلُهُ فَنُهِينَا عَنْهُ، وَأُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ
أَيْدِيَنَا عَلَى الرُّكَبِ (1) .
وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:
أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِصَلاَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالُوا: فَاعْرِضْ، فَقَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ اعْتَدَل
قَائِمًا وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ،
فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ
بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ قَال: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَرَكَعَ، ثُمَّ
اعْتَدَل، فَلَمْ يُصَوِّبْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُقْنِعْ، وَوَضَعَ
يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ (2) . الْحَدِيثَ. قَالُوا - أَيِ
الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: صَدَقْتَ، هَكَذَا صَلَّى
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَكَرَ أَبُو
حُمَيْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ
__________
(1) حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص: " صليت إلى جنب أبي. . . " أخرجه
البخاري (الفتح 2 / 273 - ط السلفية) .
(2) حديث أبي حميد الساعدي. أخرجه الترمذي (2 / 105 - 106 ط الحلبي)
وقال: " حديث حسن صحيح " والشطر الثاني منه عنده (2 / 46) ، وبعضه في
صحيح البخاري (الفتح 2 / 305 - ط السلفية) .
(23/129)
يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ كَأَنَّهُ
قَابِضٌ عَلَيْهِمَا.
وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَنَّ التَّطْبِيقَ فِي
الرُّكُوعِ سُنَّةٌ لِمَا رَوَاهُ مِنْ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ (1) .
رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرِ الرُّكُوعِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ إِلَى أَنَّ رَفْعَ
الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ الرَّفْعِ مِنْهُ
سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ، فَيَرْفَعُ يَدَيْهِ إِلَى حَذْوِ مَنْكِبَيْهِ
كَفِعْلِهِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، أَيْ يَبْدَأُ رَفْعَ
يَدَيْهِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ تَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ وَيَنْتَهِي عِنْدَ
انْتِهَائِهَا، لِتَضَافُرِ الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِكَ،
مِنْهَا مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ أَنَّهُ سَمِعَ
أَبَا حُمَيْدٍ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدُهُمْ أَبُو قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَال: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِصَلاَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ صِفَةَ صَلاَتِهِ، وَفِيهِ
أَنَّهُ رَفَعَ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ.
وَقَال الْبُخَارِيُّ: قَال الْحَسَنُ وَحُمَيْدُ بْنُ هِلاَلٍ: كَانَ
أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَرْفَعُونَ
__________
(1) المغني لابن قدامة 1 / 499، المجموع للإمام النووي 3 / 407، 411،
كشاف القناع 1 / 346، حاشية ابن عابدين 1 / 320، البدائع 1 / 208،
الفواكه الدواني 1 / 208، حاشية العدوي 1 / 231، جواهر الإكليل 1 / 48.
(23/130)
أَيْدِيَهُمْ - يَعْنِي عِنْدَ الرُّكُوعِ
- (1) .
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ وَعُلَمَاءُ الْحِجَازِ
وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى
وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ: إِنَّ
الْمُصَلِّيَ لاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِلاَّ لِتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ
(2) .
لأَِدِلَّةٍ مِنْهَا: قَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: لأَُصَلِّيَنَّ بِكُمْ صَلاَةَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ إِلاَّ فِي
أَوَّل مَرَّةٍ (3) .
وَقَوْل الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا افْتَتَحَ
الصَّلاَةَ رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ أُذُنَيْهِ ثُمَّ لاَ
يَعُودُ (4) .
__________
(1) جزء رفع اليدين للبخاري (ص 26 ط. دائرة العلوم الأثرية) .
(2) المجموع للإمام النووي 3 / 399 - 401، المغني لابن قدامة 1 / 497،
حاشية ابن عابدين 1 / 324، البدائع 1 / 207، حاشية العدوي 1 / 228.
(3) (3) حديث ابن مسعود: " لأصلين بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه
وسلم ". أخرجه الترمذي (2 / 40 - ط الحلبي) وأبو داود (1 / 477 - 478
تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال: " ليس هو بصحيح على هذا اللفظ ". وذكر ابن
حجر في التلخيص (1 / 222 - ط شركة الطباعة الفنية) تضعيفه عن ابن
المبارك وأبي حاتم والبخاري وغيرهم.
(4) حديث البراء: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة
". أخرجه أبو داود (1 / 478 - 479 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال: " هذا
الحديث ليس بصحيح ". وقال ابن حجر في التلخيص: (1 / 221 - ط شركة
الطباعة الفنية) : اتفق الحفاظ على أن قوله: " ثم لم يعد " مدرج في
الخبر.
(23/130)
وَقَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَلَمْ
يَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ إِلاَّ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلاَةِ (1) .
التَّكْبِيرُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الرُّكُوعِ:
8 - ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى
أَنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَبْتَدِئَ الرُّكُوعَ بِالتَّكْبِيرِ
لِلأَْحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ مِنْهَا:
(1) مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى
الصَّلاَةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ،
ثُمَّ يَقُول: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ
مِنَ الرَّكْعَةِ (2) . الْحَدِيثَ.
(2) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ
يُصَلِّي بِهِمْ فَكَبَّرَ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ، فَإِذَا
انْصَرَفَ قَال: إِنِّي لأََشْبَهُكُمْ صَلاَةً بِرَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) .
(3) وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَبِّرُ فِي كُل خَفْضٍ،
وَرَفْعٍ،
__________
(1) حديث ابن مسعود: " صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم ". أخرجه
الدارقطني (1 / 295 - ط دار المحاسن) وقال: " تفرد به محمد بن جابر
وكان ضعيفًا.
(2) حديث أبي هريرة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى
الصلاة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 272 - ط السلفية) .
(3) حديث أبي هريرة: كان يصلي بهم. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 /
269 - ط السلفية) .
(23/131)
وَقِيَامٍ، وَقُعُودٍ، وَأَبُو بَكْرٍ
وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (1) .
(4) وَلأَِنَّهُ شُرُوعٌ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ
فَشُرِعَ فِيهِ التَّكْبِيرُ كَحَالَةِ ابْتِدَاءِ الصَّلاَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ تَكْبِيرَةَ الرُّكُوعِ
كَغَيْرِهَا مِنْ تَكْبِيرَاتِ الاِنْتِقَال مِنْ وَاجِبَاتِ
الصَّلاَةِ الَّتِي تَبْطُل الصَّلاَةُ بِتَرْكِهَا عَمْدًا،
وَتَسْقُطُ إِذَا تُرِكَتْ سَهْوًا أَوْ جَهْلاً، وَلَكِنَّهَا
تُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (2) وَثَبَتَ
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَانَ يَبْتَدِئُ
الرُّكُوعَ بِالتَّكْبِيرِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ إِسْحَاقُ بْنُ
رَاهَوَيْهِ.
وَيُسَنُّ لِلإِْمَامِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَالْحَنَابِلَةِ مَعًا
أَنْ يَجْهَرَ بِهَذِهِ التَّكْبِيرَةِ، لِيَعْلَمَ الْمَأْمُومُ
انْتِقَالَهُ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ بَلَّغَ
عَنْهُ الْمُؤَذِّنُ أَوْ غَيْرُهُ (3) .
__________
(1) حديث ابن مسعود: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في كل
خفض ". أخرجه الطحاوي في شرح المعاني (1 / 220 - ط مطبعة الأنوار
المحمدية) .
(2) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 111 -
ط السلفية) من حديث مالك بن الحويرث.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 330، حاشية العدوي 1 / 230، المجموع للإمام
النووي 3 / 397، 414، مغني المحتاج 1 / 164، المغني لابن قدامة 1 /
495، 502، كشاف القناع 1 / 346، الفروع 1 / 465، روضة الطالبين 1 /
250، الفواكه الدواني 1 / 358، الإنصاف 2 / 59.
(23/131)
التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّسْبِيحِ فِي
الرُّكُوعِ لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَال: لَمَّا نَزَلَتْ
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (1) قَال رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ (2) .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الأَْحْكَامِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ التَّسْبِيحَ فِي الرُّكُوعِ سُنَّةٌ،
وَأَقَلُّهُ ثَلاَثٌ، فَإِنْ تُرِكَ التَّسْبِيحُ أَوْ نَقَصَ عَنِ
الثَّلاَثِ كُرِهَ تَنْزِيهًا. وَالزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلاَثِ
لِلْمُفْرَدِ أَفْضَل بَعْدَ أَنْ يَخْتِمَ عَلَى وِتْرٍ، وَلاَ
يَزِيدُ الإِْمَامُ عَلَى وَجْهٍ يَمَل بِهِ الْقَوْمُ.
وَقِيل: إِنَّ تَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَاجِبَاتٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ فِي الرُّكُوعِ
مَنْدُوبٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ، وَالأَْوْلَى سُبْحَانَ رَبِّيَ
الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، وَقِيل: إِنَّهُ سُنَّةٌ، وَالتَّسْبِيحُ لاَ
يَتَحَدَّدُ بِعَدَدٍ بِحَيْثُ إِذَا نَقَصَ عَنْهُ يَفُوتُهُ
الثَّوَابُ، بَل إِذَا سَبَّحَ مَرَّةً يَحْصُل لَهُ الثَّوَابُ،
وَإِنْ كَانَ يُزَادُ الثَّوَابُ بِزِيَادَتِهِ.
وَيُنْهَى عَنِ الطُّول الْمُفْرِطِ فِي الْفَرِيضَةِ،
__________
(1) سورة الواقعة / 96.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 330، حاشية العدوي 1 / 230، المجموع للإمام
النووي 3 / 397، 414، مغني المحتاج 1 / 164، المغني لابن قدامة 1 /
495، 502، كشاف القناع 1 / 346، الفروع 1 / 465، روضة الطالبين 1 /
250، الفواكه الدواني 1 / 358، الإنصاف 2 / 59.
(23/132)
بِخِلاَفِ النَّفْل؛ لأَِنَّ الْمَطْلُوبَ
فِي حَقِّ الإِْمَامِ التَّخْفِيفُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ،
وَيَحْصُل أَصْل السُّنَّةِ بِتَسْبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَقَلُّهُ
سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوْ سُبْحَانَ رَبِّي، وَأَدْنَى الْكَمَال
سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ ثَلاَثًا، وَلِلْكَمَال
دَرَجَاتٌ. فَبَعْدَ الثَّلاَثِ خَمْسٌ، ثُمَّ سَبْعٌ، ثُمَّ تِسْعٌ،
ثُمَّ إِحْدَى عَشْرَةَ، وَهُوَ الأَْكْمَل، وَلاَ يَزِيدُ الإِْمَامُ
عَلَى الثَّلاَثِ، أَيْ يُكْرَه لَهُ ذَلِكَ؛ تَخْفِيفًا عَلَى
الْمَأْمُومِينَ.
وَيَزِيدُ الْمُنْفَرِدُ وَإِمَامُ قَوْمٍ مَحْصُورِينَ رَاضِينَ
بِالتَّطْوِيل: اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ
أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي، وَمَا
اسْتَقَلَّتْ بِهِ قَدَمِي.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ لِلْمُصَلِّي أَنْ
يَقُول فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، وَهُوَ أَدْنَى
الْكَمَال، وَالْوَاجِبُ مَرَّةٌ، وَالسُّنَّةُ ثَلاَثٌ، وَهُوَ
أَدْنَى الْكَمَال، وَالأَْفْضَل الاِقْتِصَارُ عَلَى سُبْحَانَ
رَبِّيَ الْعَظِيمِ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ (وَبِحَمْدِهِ) .
وَلاَ يُسْتَحَبُّ لِلإِْمَامِ التَّطْوِيل، وَلاَ الزِّيَادَةُ عَلَى
ثَلاَثٍ كَيْ لاَ يَشُقَّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ.
وَهَذَا إِذَا لَمْ يَرْضَوْا بِالتَّطْوِيل (1) .
__________
(1) الدر المختار 1 / 332، ومراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه 144
و145، وجواهر الإكليل 1 / 51، والفواكه الدواني 1 / 209، ومغني المحتاج
1 / 164، 165، والمجموع 3 / 411، 412، وكشاف القناع 1 / 347، والمغني 1
/ 501، 503.
(23/132)
قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي
الرُّكُوعِ (1) لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:
نَهَانِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَأَنَا رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ (2) .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَلاَ وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ
أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ
فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي
الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ (3) وَلأَِنَّ
الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ حَال ذُلٍّ وَانْخِفَاضٍ، وَالْقُرْآنُ
أَشْرَفُ الْكَلاَمِ.
الدُّعَاءُ فِي الرُّكُوعِ:
11 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ الدُّعَاءِ فِي
الرُّكُوعِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ
فِي الرُّكُوعِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يَكْثُرُ أَنْ يَقُول فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ
اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي (4) .
__________
(1) المجموع للإمام النووي 3 / 414، المغني لابن قدامة 1 / 503، مغني
المحتاج 1 / 165، البدائع 1 / 218.
(2) حديث علي: " نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن
وأنا راكع أو ساجد ". أخرجه مسلم (1 / 349 - ط الحلبي) .
(3) حديث ابن عباس: " ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا ". أخرجه
مسلم (1 / 348 - ط الحلبي) .
(4) حديث: " كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا
وبحمدك ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 281 - ط السلفية) ومسلم (1 / 350 -
ط الحلبي) من حديث عائشة.
(23/133)
وَلِمَا رَوَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
إِذَا رَكَعَ قَال: اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَلَكَ خَشَعْتُ وَبِكَ
آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي
وَعَظْمِي وَعَصَبِي (1) .
إِدْرَاكُ الرَّكْعَةِ بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ مَعَ الإِْمَامِ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الإِْمَامَ فِي
الرُّكُوعِ فَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ فَقَدْ أَدْرَكَ
الرَّكْعَةَ (2) وَلأَِنَّهُ لَمْ يَفُتْهُ مِنَ الأَْرْكَانِ إِلاَّ
الْقِيَامُ، وَهُوَ يَأْتِي بِهِ مَعَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، ثُمَّ
يُدْرِكُ مَعَ الإِْمَامِ بَقِيَّةَ الرَّكْعَةِ، وَهَذَا إِذَا
أَدْرَكَ فِي طُمَأْنِينَةٍ الرُّكُوعَ أَوِ انْتَهَى إِلَى قَدْرِ
الإِْجْزَاءِ مِنَ الرُّكُوعِ قَبْل أَنْ يَزُول الإِْمَامُ عَنْ
قَدْرِ الإِْجْزَاءِ.
وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالتَّكْبِيرَةِ مُنْتَصِبًا، فَإِنْ أَتَى
بِهَا بَعْدَ أَنِ انْتَهَى فِي الاِنْحِنَاءِ إِلَى قَدْرِ الرُّكُوعِ
أَوْ بِبَعْضِهَا لاَ تَنْعَقِدُ؛ لأَِنَّهُ أَتَى بِهَا فِي غَيْرِ
مَحَلِّهَا
__________
(1) (1) المجموع للإمام النووي 3 / 411، مغني المحتاج 1 / 165، البدائع
1 / 208. وحديث علي: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع قال:
اللهم لك ركعت ". أخرجه مسلم (1 / 535 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة ". ورد بلفظ " من أدرك
ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 57 - ط
السلفية) من حديث أبي هريرة واللفظ للبخاري، ومسلم (1 / 424 - ط
الحلبي) .
(23/133)
قَال بَعْضُهُمْ: إِلاَّ النَّافِلَةَ -
ثُمَّ يَأْتِي بِتَكْبِيرَةٍ أُخْرَى لِلرُّكُوعِ فِي انْحِطَاطٍ
إِلَيْهِ، فَالأُْولَى رُكْنٌ لاَ تَسْقُطُ بِحَالٍ، وَالثَّانِيَةُ
لَيْسَتْ بِرُكْنٍ، وَقَدْ تَسْقُطُ فِي مِثْل هَذِهِ الْحَالَةِ (1) .
إِطَالَةُ الرُّكُوعِ لِيُدْرِكَ الدَّاخِل الرَّكْعَةَ:
13 - لَوْ أَحَسَّ الإِْمَامُ وَهُوَ فِي الرُّكُوعِ بِدَاخِلٍ يُرِيدُ
الصَّلاَةَ مَعَهُ هَل يَجُوزُ لَهُ الاِنْتِظَارُ بِتَطْوِيل
الرُّكُوعِ لِيَلْحَقَهُ أَمْ لاَ؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ
يَنْتَظِرُهُ؛ لأَِنَّ انْتِظَارَهُ فِيهِ تَشْرِيكٌ فِي الْعِبَادَةِ
بَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل وَبَيْنَ الْخَلْقِ، قَال اللَّهُ
تَعَالَى: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (2) .
وَلأَِنَّ الإِْمَامَ مَأْمُورٌ بِالتَّخْفِيفِ رِفْقًا
بِالْمُصَلِّينَ. فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:
قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا صَلَّى
أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ
وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ
فَلْيُطَوِّل مَا شَاءَ (3) .
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 323، والفواكه الدواني 1 / 240، والمجموع 4 / 229،
والمغني 1 / 504.
(2) سورة الكهف / 110.
(3) حديث: " إذا صلى أحدكم للناس فليخفف ". أخرجه البخاري (الفتح 2 /
199 - ط السلفية) . وأخرجه مسلم (1 / 341 - ط الحلبي) دون قوله: " وإذا
صلى أحدكم. . الخ " وزاد: " وذا الحاجة ".
(23/134)
الْمُنْذِرِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ يَعْرِفُ
الدَّاخِل، أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ فَلاَ بَأْسَ
بِالاِنْتِظَارِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ أَرَادَ التَّقَرُّبَ
إِلَى اللَّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَخَالَجَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ سِوَى
اللَّهِ لَمْ يُكْرَهِ اتِّفَاقًا لَكِنَّهُ نَادِرٌ، وَتُسَمَّى
مَسْأَلَةَ الرِّيَاءِ، فَيَنْبَغِي التَّحَرُّزُ عَنْهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ أَحَدُ الأَْقْوَال عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ الاِنْتِظَارُ إِذَا كَانَ
يَشُقُّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ، لأَِنَّ الَّذِينَ مَعَهُ أَعْظَمُ
حُرْمَةً مِنَ الدَّاخِل، وَإِنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِمْ لِكَوْنِهِ
يَسِيرًا يَنْتَظِرُهُ، لأَِنَّهُ يَنْفَعُ الدَّاخِل وَلاَ يَشُقُّ
عَلَى الْمَأْمُومِينَ.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو مِجْلَزٍ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ،
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى
اسْتِحْبَابِ الاِنْتِظَارِ بِشُرُوطٍ هِيَ:
أ - أَنْ يَكُونَ الْمَسْبُوقُ دَاخِل الْمَسْجِدِ حِينَ
الاِنْتِظَارِ.
ب - أَنْ لاَ يَفْحُشَ طُول الاِنْتِظَارِ.
ج - أَنْ يَقْصِدَ بِهِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ لاَ التَّوَدُّدَ
إِلَى الدَّاخِل أَوِ اسْتِمَالَةَ قَلْبِهِ.
د - أَنْ لاَ يُمَيِّزَ بَيْنَ دَاخِلٍ وَدَاخِلٍ، لِشَرَفِ
الْمُنْتَظَرِ، أَوْ صَدَاقَتِهِ، أَوْ سِيَادَتِهِ، أَوْ نَحْوِ
ذَلِكَ، لأَِنَّ الاِنْتِظَارَ بِدُونِ تَمْيِيزٍ إِعَانَةٌ لِلدَّاخِل
عَلَى إِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ.
أَمَّا إِذَا أَحَسَّ بِقَادِمٍ لِلصَّلاَةِ خَارِجٍ عَنْ مَحَلِّهَا،
أَوْ بَالَغَ فِي الاِنْتِظَارَ كَأَنْ يُطَوِّلَهُ تَطْوِيلاً لَوْ
(23/134)
وُزِّعَ عَلَى جَمِيعِ الصَّلاَةِ لَظَهَرَ
أَثَرُهُ، أَوْ لَمْ يَكُنِ انْتِظَارُهُ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ
فَرَّقَ بَيْنَ الدَّاخِلِينَ لِلأَْسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ، فَلاَ
يُسْتَحَبُّ الاِنْتِظَارُ قَطْعًا بَل يُكْرَهُ، فَإِنِ انْتَظَرَ
لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، وَحُكِيَ عَنْ
بَعْضِهِمْ بُطْلاَنُ الصَّلاَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ غَرِيبٌ (1) .
ثَانِيًا - الرُّكُوعُ لِغَيْرِ اللَّهِ:
14 - قَال الْعُلَمَاءُ: مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ خَفْضِ
الرَّأْسِ وَالاِنْحِنَاءِ إِلَى حَدٍّ لاَ يَصِل بِهِ إِلَى أَقَل
الرُّكُوعِ - عِنْدَ اللِّقَاءِ - لاَ كُفْرَ بِهِ وَلاَ حُرْمَةَ
كَذَلِكَ، لَكِنْ يَنْبَغِي كَرَاهَتُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِمَنْ قَال لَهُ: يَا رَسُول اللَّهِ، الرَّجُل
مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَال: لاَ،
قَال: أَفَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ؟ قَال: لاَ، قَال: أَفَيَأْخُذُ
بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ؟ قَال: نَعَمْ (2) . الْحَدِيثَ.
أَمَّا إِذَا انْحَنَى وَوَصَل انْحِنَاؤُهُ إِلَى حَدِّ الرُّكُوعِ
فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَقْصِدْ
تَعْظِيمَ ذَلِكَ الْغَيْرِ كَتَعْظِيمِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ كُفْرًا
وَلاَ حَرَامًا، وَلَكِنْ يُكْرَهُ أَشَدَّ الْكَرَاهَةِ لأَِنَّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 332، البدائع 1 / 218، والفواكه الدواني 1 /
240، مغني المحتاج 1 / 233، المجموع للإمام النووي 4 / 229، المغني
لابن قدامة 1 / 504، 2 / 236.
(2) حديث: " سؤال الصحابي: يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه
". أخرجه الترمذي (5 / 75 ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك، وقال: " حديث
حسن ".
(23/135)
صُورَتَهُ تَقَعُ فِي الْعَادَةِ
لِلْمَخْلُوقِ كَثِيرًا.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى حُرْمَةِ ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ
لِتَعْظِيمِ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ، لأَِنَّ صُورَةَ هَيْئَةِ الرُّكُوعِ
لَمْ تُعْهَدْ إِلاَّ لِعِبَادَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. قَال ابْنُ
عَلاَّنَ الصِّدِّيقِيُّ: مِنَ الْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ الاِنْحِنَاءُ
عِنْدَ اللِّقَاءِ بِهَيْئَةِ الرُّكُوعِ، أَمَّا إِذَا وَصَل
انْحِنَاؤُهُ لِلْمَخْلُوقِ إِلَى حَدِّ الرُّكُوعِ قَاصِدًا بِهِ
تَعْظِيمَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ كَمَا يُعَظِّمُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى، فَلاَ شَكَّ أَنَّ صَاحِبَهُ يَرْتَدُّ عَنِ الإِْسْلاَمِ
وَيَكُونُ كَافِرًا بِذَلِكَ، كَمَا لَوْ سَجَدَ لِذَلِكَ الْمَخْلُوقِ
(1) .
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 425، دليل الفالحين 3 / 356، تحفة المحتاج 9 /
90، نهاية المحتاج 7 / 396، مغني المحتاج 3 / 135، الجمل على شرح
المنهاج 5 / 124.
(23/135)
رُكُون
التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّكُونُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ رَكَنَ إِلَى الشَّيْءِ يَرْكَنُ،
وَيَرْكُنُ: مَال وَسَكَنَ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: الْمَيْل إِلَى الْخَاطِبِ،
وَظُهُورُ الرِّضَا بِهِ مِنَ الْمَرْأَةِ أَوْ مِنْ ذَوِيهَا (2) .
وَالرُّكُونُ يَشْمَل الْمُوَافَقَةَ الصَّرِيحَةَ وَظُهُورَ الرِّضَا
بِوَجْهٍ يُفْهَمُ مِنْهُ إِذْعَانُ كُل وَاحِدٍ لِشَرْطِ صَاحِبِهِ
وَإِرَادَةُ الْعَقْدِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - يُبَاحُ لِلْوَلِيِّ وَلِلْمَرْأَةِ الرُّجُوعُ عَنِ الرُّكُونِ
فِي الْخِطْبَةِ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ؛ لأَِنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لِلزَّوَاجِ
الَّذِي هُوَ عَقْدٌ عُمْرِيٌّ يَدُومُ ضَرَرُهُ، فَكَانَ لَهَا
الاِحْتِيَاطُ لِنَفْسِهَا، وَالنَّظَرُ فِي حَظِّهَا، وَالْوَلِيُّ
قَائِمٌ مَقَامَهَا فِي ذَلِكَ.
أَمَّا الرُّجُوعُ عَنِ الرُّكُونِ بِلاَ غَرَضٍ صَحِيحٍ
__________
(1) لسان العرب المحيط.
(2) مواهب الجليل 3 / 410 - 411، والفواكه الدواني 2 / 31.
(23/136)
فَهُوَ مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ
إِخْلاَفِ الْوَعْدِ، وَالرُّجُوعِ عَنِ الْقَوْل، وَلَمْ يَحْرُمْ
لأَِنَّ الْحَقَّ لَمْ يَلْزَمْ بَعْدُ، كَمَنْ سَاوَمَ لِسِلْعَةٍ
ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ لاَ يَبِيعَهَا.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (خِطْبَة ج 19
ص 195)
(23/136)
رَمَاد
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّمَادُ فِي اللُّغَةِ: دُقَاقُ الْفَحْمِ مِنْ حُرَاقَةِ
النَّارِ، وَالْجَمْعُ: أَرْمِدَةٌ وَأَرْمِدَاءُ، وَأَصْل الْمَادَّةِ
يُنْبِئُ عَنِ الْهَلاَكِ وَالْمَحْقِ، يُقَال: رَمِدَ رَمَدًا
وَرَمَادَةً وَرُمُودَةً: هَلَكَ، وَلَمْ تَبْقَ فِيهِ بَقِيَّةٌ، قَال
اللَّهُ تَعَالَى: {مَثَل الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ}
(1) . ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لأَِعْمَال الْكُفَّارِ فِي أَنَّهُ
يَمْحَقُهَا كَمَا تَمْحَقُ الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ الرَّمَادَ فِي
يَوْمٍ عَاصِفٍ (2) .
وَيُقَال: فُلاَنٌ " عَظِيمُ الرَّمَادِ "، كِنَايَةً عَنِ الْكَرَمِ،
كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ (3) .
وَالرَّمَادُ فِي الاِصْطِلاَحِ يُسْتَعْمَل فِي الْمَعْنَى
__________
(1) سورة إبراهيم / 18.
(2) متن اللغة، ولسان العرب، والمعجم الوسيط مادة: (رمد) ، والقرطبي 9
/ 353.
(3) قوله: " عظيم الرماد ". ورد من
حديث عائشة في حديث أم زرع. أخرجه البخاري (الفتح 9 / 255 ط السلفية) .
وانظر فتح الباري 9 / 265.
(23/137)
اللُّغَوِيِّ نَفْسِهِ، وَهُوَ مَا بَقِيَ
بَعْدَ احْتِرَاقِ الشَّيْءِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التُّرَابُ وَالصَّعِيدُ:
2 - التُّرَابُ مَا نَعُمَ مِنْ أَدِيمِ الأَْرْضِ، وَهُوَ اسْمُ
جِنْسٍ، وَالطَّائِفَةُ مِنْهُ تُرْبَةٌ، وَهِيَ ظَاهِرُ الأَْرْضِ،
وَجَمْعُ التُّرَابِ أَتْرِبَةٌ وَتِرْبَانٌ (2) .
وَالصَّعِيدُ وَجْهُ الأَْرْضِ تُرَابًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، قَال
الأَْزْهَرِيُّ: وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الصَّعِيدَ
فِي قَوْله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (3) هُوَ
التُّرَابُ الطَّاهِرُ الَّذِي عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ (4) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرَّمَادِ:
طَهَارَةُ الرَّمَادِ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الرَّمَادَ الْحَاصِل
مِنِ احْتِرَاقِ الشَّيْءِ الطَّاهِرِ طَاهِرٌ مَا لَمْ تَعْتَرِهِ
النَّجَاسَةُ؛ لأَِنَّ حَرْقَ الشَّيْءِ لاَ يُنَجِّسُهُ، بَل هُوَ
سَبَبُ التَّطْهِيرِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي
الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمَّا جُرِحَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ،
__________
(1) القرطبي 9 / 353.
(2) المصباح المنير، ولسان العرب، والمعجم الوسيط مادة (ترب) .
(3) سورة النساء / 43.
(4) المصباح المنير ولسان العرب في مادة (صعد) ، وابن عابدين 1 / 161،
والدسوقي 1 / 155.
(23/137)
أَخَذَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
حَصِيرًا فَأَحْرَقَتْهُ حَتَّى صَارَ رَمَادًا، ثُمَّ أَلْزَقَتْهُ
فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ (1) . مَعَ مَنْعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنِ التَّدَاوِي بِالنَّجِسِ وَالْحَرَامِ.
أَمَّا الرَّمَادُ الْحَاصِل مِنْ أَصْلٍ نَجِسٍ بَعْدَ احْتِرَاقِهِ
فَاخْتَلَفُوا فِيهِ:
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُخْتَارُ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ اللَّخْمِيِّ
وَالتُّونُسِيِّ وَابْنِ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَخِلاَفُ
الظَّاهِرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الرَّمَادَ الْحَاصِل
مِنِ احْتِرَاقِ شَيْءٍ نَجِسٍ أَوْ مُتَنَجِّسٍ طَاهِرٌ، وَالْحَرْقُ
كَالْغَسْل فِي التَّطْهِيرِ (2) . قَال فِي الدُّرِّ: (وَإِلاَّ
لَزِمَ نَجَاسَةُ الْخُبْزِ فِي سَائِرِ الأَْمْصَارِ) أَيْ لأَِنَّهُ
كَانَ يُخْبَزُ بِالرَّوْثِ النَّجِسِ، وَيَعْلَقُ بِهِ شَيْءٌ مِنَ
الرَّمَادِ، وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْحَطَّابُ (3) .
وَلأَِنَّ النَّارَ تَأْكُل مَا فِيهِ مِنَ النَّجَاسَةِ، أَوْ
تُحِيلُهُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، فَيَطْهُرُ بِالاِسْتِحَالَةِ
وَالاِنْقِلاَبِ، كَالْخَمْرِ إِذَا تَخَلَّلَتْ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْمَخْبُوزُ بِالرَّوْثِ النَّجِسِ طَاهِرٌ
__________
(1) حديث: " لما جرح وجه النبي صلى الله عليه وسلم ". أخرجه البخاري
(الفتح 6 / 97 - ط السلفية) من حديث سهل بن سعد.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 217، وبدائع الصنائع للكاساني 1 / 85، وحاشية
الدسوقي 1 / 57، 58، ونهاية المحتاج 1 / 230، وأسنى المطالب 1 / 19،
والمغني 1 / 72، وكشاف القناع 1 / 186، 187.
(3) الدر المختار 1 / 217، ومواهب الجليل للحطاب 1 / 107.
(23/138)
وَلَوْ تَعَلَّقَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ
رَمَادِهِ، وَتَصِحُّ الصَّلاَةُ بِهِ قَبْل غَسْل الْفَمِ مِنْ
أَكْلِهِ، وَيَجُوزُ حَمْلُهُ فِي الصَّلاَةِ، كَمَا ذَكَرَهُ
الدُّسُوقِيُّ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِل الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَقَوْل أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِِلَى أَنَّ الرَّمَادَ
الْحَاصِل مِنِ احْتِرَاقِ النَّجِسِ نَجِسٌ؛ لأَِنَّ أَجْزَاءَ
النَّجَاسَةِ قَائِمَةٌ، وَالإِْحْرَاقُ لاَ يَجْعَل مَا يَتَخَلَّفُ
مِنْهُ شَيْئًا آخَرَ، فَلاَ تَثْبُتُ الطَّهَارَةُ مَعَ بَقَاءِ
الْعَيْنِ النَّجِسَةِ (2) .
قَال الْبُهُوتِيُّ: لاَ تَطْهُرُ نَجَاسَةٌ بِاسْتِحَالَةٍ، وَلاَ
بِنَارٍ، فَالرَّمَادُ مِنَ الرَّوْثِ النَّجِسِ نَجِسٌ (3) .
التَّيَمُّمُ بِالرَّمَادِ:
4 - الأَْصْل فِي مَشْرُوعِيَّةِ التَّيَمُّمِ قَوْله تَعَالَى:
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (4) قَال الْحَنَفِيَّةُ (عَدَا
أَبِي يُوسُفَ) وَالْمَالِكِيَّةُ: الصَّعِيدُ مَا صَعِدَ أَيْ ظَهَرَ
مِنْ أَجْزَاءِ الأَْرْضِ، فَهُوَ ظَاهِرُ الأَْرْضِ، فَيَجُوزُ
التَّيَمُّمُ بِكُل مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الأَْرْضِ، كَمَا يُؤَيِّدُهُ
حَدِيثُ: جُعِلَتْ لِيَ الأَْرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا (5) . وَكُل
مَا يَحْتَرِقُ بِالنَّارِ فَيَصِيرُ رَمَادًا،
__________
(1) المراجع السابقة، وحاشية ابن عابدين 5 / 469.
(2) المراجع السابقة.
(3) كشاف القناع 1 / 186.
(4) سورة النساء / 43.
(5) حديث: " جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا ". أخرجه البخاري (1 / 533 -
ط السلفية) من حديث جابر بن عبد الله.
(23/138)
كَالشَّجَرِ وَالْحَشِيشِ فَلَيْسَ مِنْ
جِنْسِ الأَْرْضِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الصَّعِيدُ هُوَ التُّرَابُ،
كَمَا نُقِل عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: (الصَّعِيدُ: تُرَابُ
الْحَرْثِ، وَالطَّيِّبُ: الطَّاهِرُ) وَالْمُرَادُ بِالْحَرْثِ أَرْضُ
الزِّرَاعَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالرَّمَادِ
وَلَوْ كَانَ طَاهِرًا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ
بِتُرَابٍ وَلاَ مِنْ جِنْسِ الأَْرْضِ (1) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ إِنْ دُقَّ الْخَزَفُ أَوِ الطِّينُ
الْمُحْرَقُ لَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ بِهِ كَذَلِكَ، كَمَا لاَ
يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِأَجْزَاءِ الأَْرْضِ الْمَحْرُوقَةِ لأَِنَّ
الطَّبْخَ أَخْرَجَهَا عَنْ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهَا اسْمُ التُّرَابِ
(2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أُحْرِقَ تُرَابُ الأَْرْضِ مِنْ غَيْرِ
مُخَالِطٍ حَتَّى صَارَ أَسْوَدَ جَازَ التَّيَمُّمُ بِهِ، لأَِنَّ
الْمُتَغَيِّرَ لَوْنُ التُّرَابِ لاَ ذَاتُهُ، كَمَا صَرَّحُوا
بِأَنَّ الرَّمَادَ إِذَا كَانَ مِنَ الْحَطَبِ لاَ يَجُوزُ بِهِ
التَّيَمُّمُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْحَجَرِ يَجُوزُ (3) .
مَالِيَّةُ الرَّمَادِ وَتَقَوُّمُهُ:
5 - الْمَال مَا يَمِيل إِلَيْهِ الطَّبْعُ، وَيَجْرِي فِيهِ الْبَذْل
__________
(1) ابن عابدين 1 / 159، 161، والدسوقي 1 / 155، ومغني المحتاج 1 / 96،
والمغني لابن قدامة 1 / 249، وكشاف القناع 1 / 172.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 156، والمغني لابن قدامة 1 / 249، ومغني المحتاج
1 / 96.
(3) مراقي الفلاح 1 / 64، وحاشية ابن عابدين 1 / 161.
(23/139)
وَالْمَنْعُ، وَالْمُتَقَوِّمُ مَا يُبَاحُ
الاِنْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا (1) . وَكُل طَاهِرٍ ذِي نَفْعٍ غَيْرُ
مُحَرَّمٍ شَرْعًا مَالٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ مُتَقَوِّمٌ
بِتَعْبِيرِ الْحَنَفِيَّةِ (2) . وَعَلَى ذَلِكَ فَالرَّمَادُ
الطَّاهِرُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ عِنْدَ
الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّهُ مِمَّا يُبَاحُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا،
وَقَدْ ثَبَتَ الاِنْتِفَاعُ بِهِ فِي التَّدَاوِي فِي حَدِيثِ
فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الْمُتَقَدِّمِ ف / 3.
فَالْعُرْفُ جَارٍ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ خَالِصًا وَمَخْلُوطًا
بِإِلْقَائِهِ فِي الأَْرْضِ لاِسْتِكْثَارِ الرِّيعِ فِي
الزِّرَاعَةِ، وَنَحْوِهَا. وَلَمْ يَرِدِ النَّصُّ بِالنَّهْيِ عَنِ
اسْتِعْمَالِهِ، فَكَانَ مُتَمَوَّلاً مُنْتَفَعًا بِهِ عِنْدَ
النَّاسِ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ.
كَذَلِكَ الرَّمَادُ الْحَاصِل مِنْ حَرْقِ النَّجِسِ أَوِ
الْمُتَنَجِّسِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِطَهَارَتِهِ وَهُمُ
الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ، فَإِنَّ الرَّمَادَ الْحَاصِل مِنِ احْتِرَاقِ
النَّجِسِ طَاهِرٌ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ عِنْدَهُمْ (3) .
أَمَّا مَنْ يَقُول بِبَقَائِهِ نَجِسًا، وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ
وَمَنْ مَعَهُمْ فَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلاَفِ أَصْل الرَّمَادِ.
فَإِنْ كَانَ أَصْل الرَّمَادِ قَبْل احْتِرَاقِهِ نَجِسًا بِحَيْثُ
لاَ يُعْتَبَرُ مَالاً مُتَقَوِّمًا فِي الشَّرْعِ، كَالْخَمْرِ
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية م126، 127، وابن عابدين 4 / 100.
(2) الزيلعي 4 / 126، والدسوقي 3 / 10، والقليوبي 2 / 157، وكشاف
القناع 3 / 152.
(3) المراجع السابقة، والبناية على الهداية 9 / 328.
(23/139)
وَالْخِنْزِيرِ، وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ
الْمَسْفُوحِ، وَرَجِيعِ الآْدَمِيِّ وَنَحْوِهَا، وَكَالْكَلْبِ
وَالْحَشَرَاتِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ
الَّتِي لاَ نَفْعَ فِيهَا عِنْدَ الْبَعْضِ مَعَ تَفْصِيلٍ فِيهَا،
فَمَا يَتَخَلَّفُ مِنْ حَرْقِ هَذِهِ الأَْشْيَاءِ مِنَ الرَّمَادِ
بَاقٍ عَلَى حَالِهِ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَلاَ يُعْتَبَرُ مَالاً
مُتَقَوِّمًا عِنْدَهُمْ لأَِنَّ الْمُتَخَلِّفَ مِنَ النَّجَاسَةِ
جُزْءٌ مِنْهَا، وَالْحَرْقُ لاَ يَجْعَلُهُ شَيْئًا آخَرَ (1) .
قَال الدَّرْدِيرُ: النَّجَاسَةُ إِذَا تَغَيَّرَتْ أَعْرَاضُهَا لاَ
تَتَغَيَّرُ عَنِ الْحُكْمِ الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ عَمَلاً
بِالاِسْتِصْحَابِ (2) . (ر: بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ف 7 - 12) .
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 230، وابن عابدين 4 / 103، والبدائع 1 / 85، 5 /
140، وجواهر الإكليل 1 / 9، والدسوقي 1 / 57، 58، وحاشية القليوبي 2 /
257، والمغني لابن قدامة 1 / 72، وكشاف القناع 1 / 186، 3 / 156.
(2) الشرح الكبير مع الدسوقي 1 / 57، 58.
(23/140)
رَمَضَان
التَّعْرِيفُ:
1 - رَمَضَانُ اسْمٌ لِلشَّهْرِ الْمَعْرُوفِ، قِيل فِي تَسْمِيَتِهِ:
إِنَّهُمْ لَمَّا نَقَلُوا أَسْمَاءَ الشُّهُورِ مِنَ اللُّغَةِ
الْقَدِيمَةِ سَمَّوْهَا بِالأَْزْمِنَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا،
فَوَافَقَ هَذَا الشَّهْرُ أَيَّامَ رَمْضِ الْحَرِّ، فَسُمِّيَ
بِذَلِكَ (1) .
ثُبُوتُ شَهْرِ رَمَضَانَ:
2 - يَثْبُتُ شَهْرُ رَمَضَانَ بِرُؤْيَةِ هِلاَلِهِ، فَإِنْ
تَعَذَّرَتْ يَثْبُتُ بِإِكْمَال عِدَّةِ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ
يَوْمًا.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَقَل مَنْ تَثْبُتُ الرُّؤْيَةُ
بِشَهَادَتِهِمْ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى
ثُبُوتِ شَهْرِ رَمَضَانَ بِرُؤْيَةِ عَدْلٍ وَاحِدٍ.
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ اعْتِبَارَ رُؤْيَةِ عَدْلٍ وَاحِدٍ بِكَوْنِ
السَّمَاءِ غَيْرَ مُصْحِيَةٍ، بِأَنْ يَكُونَ فِيهَا عِلَّةٌ مِنْ
غَيْمٍ أَوْ غُبَارٍ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّمَاءِ عِلَّةٌ
فَلاَ تَثْبُتُ الرُّؤْيَةُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ جَمْعٍ يَقَعُ
الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ.
__________
(1) المصباح المنير، مختار الصحاح مادة (رمض) .
(23/140)
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِثُبُوتِ
الشَّهْرِ بِرُؤْيَةِ الْعَدْل، بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلاَل،
فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي
رَأَيْتُهُ فَصَامَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَال: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنِّي رَأَيْتُ الْهِلاَل - يَعْنِي
رَمَضَانَ - قَال: أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟
أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: نَعَمْ. قَال: يَا
بِلاَل، أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنْ يَصُومُوا غَدًا (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى
أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ شَهْرُ رَمَضَانَ إِلاَّ بِرُؤْيَةِ عَدْلَيْنِ
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَارِثِ الْجَدَلِيِّ
قَال: إِنَّ أَمِيرَ مَكَّةَ - الْحَارِثَ بْنَ حَاطِبٍ - قَال: عَهِدَ
إِلَيْنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
نَنْسُكَ لِلرُّؤْيَةِ، فَإِنْ لَمْ نَرَهُ وَشَهِدَ شَاهِدَا عَدْلٍ
نَسَكْنَا بِشَهَادَتِهِمَا (3) . وَالإِْخْبَارُ بِرُؤْيَةِ هِلاَل
رَمَضَانَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ كَوْنِهِ
__________
(1) حديث ابن عمر: " تراءى الناس الهلال ". أخرجه أبو داود (2 / 756 -
757 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 423 - ط دائرة المعارف
العثمانية) وصححه، ووافقه الذهبي. .
(2) حديث ابن عباس: " جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم " أخرجه
الترمذي (3 / 65 - ط الحلبي) والنسائي (4 / 132 - ط المكتبة التجارية)
ورجحا إرساله.
(3) حديث: " الحارث بن حاطب ". أخرجه الدارقطني (2 / 167 - ط دار
المحاسن) وصححه.
(23/141)
رِوَايَةً أَوْ شَهَادَةً، فَمَنِ
اعْتَبَرَهُ رِوَايَةً وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ
قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قُبِل فِيهِ قَوْل الْمَرْأَةِ. وَمَنِ
اعْتَبَرَهُ شَهَادَةً وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَمْ يُقْبَل فِيهِ قَوْل الْمَرْأَةِ.
فَإِنْ لَمْ تُمْكِنْ رُؤْيَةُ الْهِلاَل وَجَبَ اسْتِكْمَال عِدَّةِ
شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا، وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُورِ -
الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَرِوَايَةٌ فِي
مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ - وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ،
فَإِنْ حَال بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سَحَابَةٌ، فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ
وَلاَ تَسْتَقْبِلُوا الشَّهْرَ اسْتِقْبَالاً (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ: لاَ تَصُومُوا قَبْل رَمَضَانَ، صُومُوا لِلرُّؤْيَةِ
وَأَفْطِرُوا لِلرُّؤْيَةِ، فَإِنْ حَالَتْ دُونَهُ غَيَايَةٌ
فَأَكْمِلُوا ثَلاَثِينَ (2) .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى هِيَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً وَلَمْ يُرَ الْهِلاَل
لَيْلَةَ الثَّلاَثِينَ أُكْمِلَتْ عِدَّةُ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ
يَوْمًا، فَإِذَا كَانَ فِي السَّمَاءِ قَتَرٌ أَوْ غَيْمٌ وَلَمْ يُرَ
الْهِلاَل، قُدِّرَ شَعْبَانُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَصِيمَ
يَوْمُ الثَّلاَثِينَ (يَوْمُ الشَّكِّ) احْتِيَاطًا بِنِيَّةِ
رَمَضَانَ، وَاسْتَدَلُّوا
__________
(1) حديث ابن عباس: " صوموا لرؤيته ". أخرجه النسائي (4 / 136 - ط
المكتبة التجارية) والحاكم (1 / 425 - ط دائرة المعارف العثمانية)
واللفظ للنسائي، وصححه الحاكم. ووافقه الذهبي.
(2) حديث: " لا تصوموا قبل رمضان، صوموا للرؤية. . " أخرجه النسائي (4
/ 136 - ط المكتبة التجارية) والترمذي (3 / 63 - ط الحلبي) وقال: "
حديث حسن صحيح ".
(23/141)
بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُول: إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا
رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ
(1) وَفَسَّرُوا قَوْلَهُ: فَاقْدُرُوا لَهُ أَيْ ضَيِّقُوا لَهُ،
وَهُوَ أَنْ يُجْعَل شَعْبَانُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا.
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْحِسَابِ فِي
إِثْبَاتِ شَهْرِ رَمَضَانَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّنَا لَمْ نُتَعَبَّدْ
إِلاَّ بِالرُّؤْيَةِ.
وَخَالَفَ فِي هَذَا بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ. وَانْظُرِ التَّفْصِيل
فِي مُصْطَلَحِ: (رُؤْيَةُ الْهِلاَل، وَتَنْجِيم) .
اخْتِلاَفُ مَطَالِعِ هِلاَل رَمَضَانَ:
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ
قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ اخْتِلاَفِ
الْمَطَالِعِ فِي إِثْبَاتِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَإِذَا ثَبَتَ رُؤْيَةُ
هِلاَل رَمَضَانَ فِي بَلَدٍ لَزِمَ الصَّوْمُ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ
فِي جَمِيعِ الْبِلاَدِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ (2) وَهُوَ خِطَابٌ لِلأُْمَّةِ
كَافَّةً.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اعْتِبَارُ اخْتِلاَفِ
__________
(1) حديث: " إذا رأيتموه فصوموا ". أخرجه مسلم (2 / 760 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " صوموا لرؤيته ". تقدم تخريجه ف2.
(23/142)
الْمَطَالِعِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي
مُصْطَلَحَيْ: (رُؤْيَةِ الْهِلاَل، وَمَطَالِعَ) .
4 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ
فِي رُؤْيَةِ هِلاَل شَوَّالٍ، وَبِهِ يَنْتَهِي رَمَضَانُ، وَلَمْ
يُخَالِفْ فِي هَذَا إِلاَّ أَبُو ثَوْرٍ، فَقَال: يُقْبَل قَوْل
الْوَاحِدِ. وَدَلِيل اعْتِبَارِ شَهَادَةِ الْعَدْلَيْنِ حَدِيثُ
ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى
رُؤْيَةِ الْهِلاَل - هِلاَل رَمَضَانَ - وَكَانَ لاَ يُجِيزُ عَلَى
شَهَادَةِ الإِْفْطَارِ إِلاَّ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ (1) .
وَقِيَاسًا عَلَى بَاقِي الشَّهَادَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ مَالاً، وَلاَ
يُقْصَدُ مِنْهَا الْمَال، كَالْقِصَاصِ وَاَلَّتِي يَطَّلِعُ
عَلَيْهَا الرِّجَال غَالِبًا، وَلأَِنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى هِلاَلٍ
لاَ يَدْخُل بِهَا فِي الْعِبَادَةِ، فَلَمْ تُقْبَل فِيهَا إِلاَّ
شَهَادَةُ اثْنَيْنِ كَسَائِرِ الشُّهُودِ (2) .
خَصَائِصُ شَهْرِ رَمَضَانَ:
يَخْتَصُّ شَهْرُ رَمَضَانَ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ بِجُمْلَةٍ
مِنَ الأَْحْكَامِ وَالْفَضَائِل:
__________
(1) حديث ابن عمر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة رجل واحد
". أخرجه الدارقطني (2 / 156 - ط دار المحاسن) وقال: تفرد به حفص بن
عمر الأبلي أبو إسماعيل، وهو ضعيف الحديث.
(2) الاختيار 1 / 129 - 130، كشاف القناع 2 / 301 - 305، المغني 3 /
159، المجموع 6 / 273، 277 - 280، حاشية ابن عابدين 2 / 92، حاشية
الدسوقي 1 / 509 - 512، الخرشي 2 / 234.
(23/142)
الأُْولَى: نُزُول الْقُرْآنِ فِيهِ:
5 - نَزَل الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ
إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ فِي
شَهْرِ رَمَضَانَ، وَفِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْهُ عَلَى
التَّعْيِينِ. ثُمَّ نَزَل مُفَصَّلاً بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ فِي
ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. كَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِل فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ
وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (1) وَقَوْلُهُ
سُبْحَانَهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}
(2) .
وَقَدْ جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ مُجَاهِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- قَوْلُهُ: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} ، لَيْسَ
فِي تِلْكَ الشُّهُورِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ ". وَوَرَدَ مِثْلُهُ عَنْ
قَتَادَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ
جَرِيرٍ وَابْنِ كَثِيرٍ (3) .
الثَّانِيَةُ: وُجُوبُ صَوْمِهِ:
6 - صَوْمُ رَمَضَانَ أَحَدُ أَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ الْخَمْسَةِ كَمَا
جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: بُنِيَ
الإِْسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ،
وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ
الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ،
__________
(1) سورة البقرة / 185.
(2) سورة القدر / 1.
(3) تفسير ابن كثير 1 / 380، 7 / 332 - ط دار الأندلسي / بيروت.
(23/143)
وَصَوْمِ رَمَضَانَ (1) . وَدَل الْكِتَابُ
الْكَرِيمُ عَلَى وُجُوبِ صَوْمِهِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ
عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) وقَوْله
تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِل فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى
لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (3) . الآْيَةَ. وَفَرْضِيَّةُ
صَوْمِهِ مِمَّا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الأُْمَّةُ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْم) .
الثَّالِثَةُ: فَضْل الصَّدَقَةِ فِيهِ:
7 - دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ فِي رَمَضَانَ أَفْضَل
مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ، مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ
النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ
حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيل، وَكَانَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ
يَلْقَاهُ كُل لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ
عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ،
فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَجْوَدَ
بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ (4) . قَال ابْنُ حَجَرٍ
__________
(1) حديث: " بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله. . . "
أخرجه البخاري (الفتح 1 / 49 - ط السلفية) ومسلم (1 / 45 - ط الحلبي) .
(2) سورة البقرة / 183
(3) سورة البقرة / 185.
(4) حديث: " كان أجود الناس بالخير ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 116 -
ط السلفية) .
(23/143)
وَالْجُودُ فِي الشَّرْعِ إِعْطَاءُ مَا
يَنْبَغِي لِمَنْ يَنْبَغِي، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الصَّدَقَةِ،
وَأَيْضًا رَمَضَانُ مَوْسِمُ الْخَيْرَاتِ، لأَِنَّ نِعَمَ اللَّهِ
عَلَى عِبَادِهِ فِيهِ زَائِدَةٌ عَلَى غَيْرِهِ، فَكَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْثِرُ مُتَابَعَةَ سُنَّةِ
اللَّهِ فِي عِبَادِهِ (1) .
الرَّابِعَةُ: أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ:
8 - فَضَّل اللَّهُ تَعَالَى رَمَضَانَ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَفِي
بَيَانِ مَنْزِلَةِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ نَزَلَتْ
سُورَةُ الْقَدْرِ وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: حَدِيثُ
أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ
مُبَارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ
فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ،
وَتُغَل فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ
مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ.
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَامَ
لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِهِ (2) ".
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ) .
__________
(1) فتح الباري 1 / 31، 4 / 116.
(2) حديث: " من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا. . . " أخرجه البخاري
(الفتح 4 / 115 - ط السلفية) .
(23/144)
الْخَامِسَةُ: صَلاَةُ التَّرَاوِيحِ:
9 - أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى سُنِّيَّةِ قِيَامِ لَيَالِيِ
رَمَضَانَ، وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِقِيَامِ
رَمَضَانَ صَلاَةُ التَّرَاوِيحِ يَعْنِي أَنَّهُ يَحْصُل الْمَقْصُودُ
مِنَ الْقِيَامِ بِصَلاَةِ التَّرَاوِيحِ (1) . وَقَدْ جَاءَ فِي فَضْل
قِيَامِ لَيَالِيِ رَمَضَانَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ
مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ (2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْيَاءِ اللَّيْل)
وَمُصْطَلَحِ: (صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ) .
السَّادِسَةُ: الاِعْتِكَافُ فِيهِ:
10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الاِعْتِكَافَ فِي الْعَشْرِ
الأَْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، لِمُوَاظَبَةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، كَمَا جَاءَ
فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ
الأَْوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى،
ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ (3) .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ
فِي الْعَشْرِ الأَْوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ، فَاعْتَكَفَ عَامًا حَتَّى
إِذَا
__________
(1) فتح الباري 4 / 251.
(2) حديث: " من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا. . . " أخرجه البخاري
(الفتح 4 / 250 - ط السلفية) ومسلم (1 / 523 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان " أخرجه البخاري (الفتح
4 / 271 - ط السلفية) ومسلم (2 / 831 - ط الحلبي) .
(23/144)
كَانَ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَهِيَ
اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنِ اعْتِكَافِهِ
قَال: مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ
الأَْوَاخِرَ. الْحَدِيثَ (1) .
وَيُرَاجَعُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (اعْتِكَاف 5 / 207) .
السَّابِعَةُ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي رَمَضَانَ
وَالذِّكْرُ:
11 - يُسْتَحَبُّ فِي رَمَضَانَ اسْتِحْبَابًا مُؤَكَّدًا مُدَارَسَةُ
الْقُرْآنِ وَكَثْرَةُ تِلاَوَتِهِ، وَتَكُونُ مُدَارَسَةُ الْقُرْآنِ
بِأَنْ يَقْرَأَ عَلَى غَيْرِهِ وَيَقْرَأَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ،
وَدَلِيل الاِسْتِحْبَابِ أَنَّ جِبْرِيل كَانَ يَلْقَى النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُل لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ
فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ (2) .
وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مُسْتَحَبَّةٌ مُطْلَقًا، وَلَكِنَّهَا فِي
رَمَضَانَ آكَدُ (3) .
الثَّامِنَةُ: مُضَاعَفَةُ ثَوَابِ الأَْعْمَال الصَّالِحَةِ فِي
رَمَضَانَ:
12 - تَتَأَكَّدُ الصَّدَقَةُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، لِحَدِيثِ
__________
(1) حديث أبي سعيد: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر
الأوسط من رمضان ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 271 - ط السلفية) .
(2) حديث: " أن جبريل كان يلقى النبي صلى الله عليه وسلم في كل ليلة من
رمضان ". تقدم تخريجه ف / 7.
(3) روضة الطالبين 2 / 368، أسنى المطالب 1 / 420، كشاف القناع 2 /
332.
(23/145)
ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ؛ لأَِنَّهُ
أَفْضَل الشُّهُورِ؛ وَلأَِنَّ النَّاسَ فِيهِ مَشْغُولُونَ
بِالطَّاعَةِ فَلاَ يَتَفَرَّغُونَ لِمَكَاسِبِهِمْ، فَتَكُونُ
الْحَاجَةُ فِيهِ أَشَدَّ، وَلِتَضَاعُفِ الْحَسَنَاتِ بِهِ.
قَال إِبْرَاهِيمُ: تَسْبِيحَةٌ فِي رَمَضَانَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ
تَسْبِيحَةٍ فِيمَا سِوَاهُ (1) .
التَّاسِعَةُ: تَفْطِيرُ الصَّائِمِ:
13 - لِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْل أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ
يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا (2) .
الْعَاشِرَةُ: فَضْل الْعُمْرَةِ فِي رَمَضَانَ:
14 - الْعُمْرَةُ فِي رَمَضَانَ أَفْضَل مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ
(3) لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِل حَجَّةً
(4) .
__________
(1) كشاف القناع 2 / 332، أسنى المطالب 1 / 406
(2) حديث: " من فطر صائمًا. . . " أخرجه الترمذي (3 / 162 - ط الحلبي)
من حديث زيد بن خالد الجهني، وقال: " حسن صحيح ".
(3) كشاف القناع 2 / 520، حاشية ابن عابدين 2 / 151، أسنى المطالب 1 /
458.
(4) حديث: " عمرة في رمضان تعدل حجة ". أخرجه أحمد (1 / 308 ط المكتب
الإسلامي) عن ابن عباس وأصله في الصحيحين.
(23/145)
تَرْكُ التَّكَسُّبِ فِي رَمَضَانَ
لِلتَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ:
15 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الاِكْتِسَابَ فَرْضٌ
لِلْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ بِقَدْرِ مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيُّهُمَا أَفْضَل: الاِشْتِغَال
بِالْكَسْبِ أَفْضَل، أَمِ التَّفَرُّغُ لِلْعِبَادَةِ؟ .
فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّ الاِشْتِغَال بِالْكَسْبِ أَفْضَل؛
لأَِنَّ مَنْفَعَةَ الاِكْتِسَابِ أَعَمُّ، فَمَنِ اشْتَغَل
بِالزِّرَاعَةِ - مَثَلاً - عَمَّ نَفْعُ عَمَلِهِ جَمَاعَةَ
الْمُسْلِمِينَ، وَمَنِ اشْتَغَل بِالْعِبَادَةِ نَفَعَ نَفْسَهُ
فَقَطْ.
وَبِالْكَسْبِ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ
كَالْجِهَادِ وَالْحَجِّ وَالصَّدَقَةِ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ
وَصِلَةِ الأَْرْحَامِ وَالإِْحْسَانِ إِلَى الأَْقَارِبِ
وَالأَْجَانِبِ، وَفِي التَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ لاَ يَتَمَكَّنُ
إِلاَّ مِنْ أَدَاءِ بَعْضِ الأَْنْوَاعِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ.
وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الاِشْتِغَال بِالْعِبَادَةِ أَفْضَل
احْتَجَّ بِأَنَّ الأَْنْبِيَاءَ وَالرُّسُل عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ مَا اشْتَغَلُوا بِالْكَسْبِ فِي عَامَّةِ الأَْوْقَاتِ،
وَكَانَ اشْتِغَالُهُمْ بِالْعِبَادَةِ أَكْثَرُ، فَيَدُل هَذَا عَلَى
أَفْضَلِيَّةِ الاِشْتِغَال بِالْعِبَادَةِ؛ لأَِنَّهُمْ عَلَيْهِمْ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانُوا يَخْتَارُونَ لأَِنْفُسِهِمْ أَعْلَى
الدَّرَجَاتِ.
وَعَلَيْهِ فَمَنْ مَلَكَ مَا يَكْفِي حَاجَتَهُ فِي رَمَضَانَ كَانَ
الأَْفْضَل فِي حَقِّهِ التَّفَرُّغَ لِلْعِبَادَةِ طَلَبًا لِلْفَضْل
فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَإِلاَّ كَانَ الأَْفْضَل فِي حَقِّهِ
التَّكَسُّبَ حَتَّى لاَ يَتْرُكَ مَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ مِنْ
تَحْصِيل مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ.
(23/146)
وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ
عَنْ وَهْبِ بْنِ جَابِرٍ الْخَيْوَانِيِّ قَال: شَهِدْتُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَتَاهُ مَوْلًى لَهُ
فَقَال: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُقِيمَ هَذَا الشَّهْرَ هَاهُنَا -
يَعْنِي رَمَضَانَ - قَال لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: هَل تَرَكْتَ
لأَِهْلِكَ مَا يَقُوتُهُمْ؟ قَال: لاَ، قَال: أَمَا لاَ، فَارْجِعْ
فَدَعْ لَهُمْ مَا يَقُوتُهُمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا
أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ (1) وَقَدْ تَرْجَمَ الْخَطِيبُ فِي
كِتَابِهِ الْجَامِعِ لأَِخْلاَقِ الرَّاوِي وَآدَابِ السَّامِعِ
لِهَذَا الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: ذِكْرُ مَا يَجِبُ عَلَى طَالِبِ
الْحَدِيثِ مِنْ الاِحْتِرَافِ لِلْعِيَال وَاكْتِسَابِ الْحَلاَل (2)
.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (اكْتِسَاب) .
__________
(1) حديث: " كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت ". أخرجه أحمد (2 / 195
- ط الميمنية) والخطيب البغدادي في الجامع (1 / 97 - ط مكتبة المعارف)
والسياق للخطيب، وذكر الذهبي في الميزان (4 / 350 - ط الحلبي) أن راويه
عن عبد الله بن عمرو فيه جهالة، ولكن الحديث صحيح بلفظ: " كفى بالمرء
إثمًا أن يحبس عمن يملك قوته ". أخرجه مسلم (2 / 692 - ط الحلبي) .
(2) الجامع للخطيب البغدادي 1 / 97، الكسب للشيباني ص44، 48.
(23/146)
رَمَق
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّمَقُ: لُغَةً بَقِيَّةُ الرُّوحِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ
الْقُوَّةُ، وَقِيل: هُوَ آخِرُ النَّفَسِ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَتَيْتُ أَبَا جَهْلٍ وَبِهِ رَمَقٌ
(1) .
وَرَمَقَهُ يَرْمُقُهُ رَمَقًا: أَيْ أَطَال النَّظَرَ إِلَيْهِ،
وَالرُّمْقَةُ الْقَلِيل مِنَ الْعَيْشِ الَّذِي يَمْسِكُ الرَّمَقَ،
وَعَيْشٌ مُرْمَقٌ أَيْ قَلِيلٌ، وَأَرْمَقَ الْعَيْشُ أَيْ ضَعُفَ،
وَمِنْ كَلاَمِهِمْ: مَوْتٌ لاَ يَجُرُّ إِلَى عَارٍ خَيْرٌ مِنْ
عَيْشٍ فِي رَمَاقٍ، وَيُطْلَقُ الرَّمَقُ عَلَى الْقُوَّةِ وَمِنْهُ
قَوْلُهُمْ: يَأْكُل الْمُضْطَرُّ مِنْ لَحْمِ الْمَيْتَةِ مَا يَسُدُّ
بِهِ رَمَقَهُ أَيْ مَا يَمْسِكُ بِهِ قُوَّتَهُ وَيَحْفَظُهَا،
وَالْمُرَامِقُ: الَّذِي لَمْ يَبْقَ فِيهِ إِلاَّ الرَّمَقُ (2) .
وَلاَ يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ
اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) حديث: " أتيت أبا جهل وبه رمق
". أخرجه البخاري (الفتح 7 / 293 - ط السلفية) .
(2) لسان العرب والمصباح المنير، مادة (رمق) .
(23/147)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ
بِالرَّمَقِ:
أ - التَّوْبَةُ فِي الرَّمَقِ الأَْخِيرِ:
2 - بَحَثَ الْفُقَهَاءُ حُكْمَ تَوْبَةِ مَنْ كَانَ فِي الرَّمَقِ
الأَْخِيرِ مِنْ حَيَاتِهِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَل تَوْبَةُ مَنْ
حَضَرَهُ الْمَوْتُ، وَشَاهَدَ الأَْحْوَال الَّتِي لاَ يُمْكِنُ
مَعَهَا الرُّجُوعُ إِلَى الدُّنْيَا، وَعَايَنَ مَلَكَ الْمَوْتِ
وَانْقَطَعَ حَبْل الرَّجَاءِ مِنْهُ؛ لأَِنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ
أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالآْخِرَةِ.
وَلأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ التَّوْبَةِ عَزْمُهُ عَلَى أَلاَّ يَعُودَ،
وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَعَ تَمَكُّنِ التَّائِبِ مِنَ
الذَّنْبِ وَبَقَاءِ أَوَانِ الاِخْتِيَارِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى:
{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى
إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَال إِنِّي تُبْتُ الآْنَ وَلاَ
الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} (1) .
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل
يَقْبَل تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ (2) . وَقَال
بَعْضُهُمْ: تَصْلُحُ تَوْبَتُهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ لأَِنَّ
الرَّجَاءَ بَاقٍ وَيَصِحُّ مِنْهُ النَّدَمُ وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ
الْفِعْل (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ
__________
(1) سورة النساء / 18.
(2) حديث: " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ". أخرجه الترمذي (5
/ 547 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر، وقال: " حديث حسن غريب ".
(3) انظر تفسير القرطبي 5 / 93، 7 / 148، وروح المعاني 2 / 239، 3 /
63، والفواكه الدواني 1 / 88، ودليل الفالحين 1 / 88، مغني المحتاج 4 /
12.
(23/147)
الَّذِي يَقْبَل التَّوْبَةَ عَنْ
عِبَادِهِ} (1) الآْيَةَ وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَوْبَة،
إِيَاس)
ب - الْقَوَدُ عَلَى مَنْ قَتَل شَخْصًا فِي الرَّمَقِ الأَْخِيرِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَتْ جِنَايَةٌ مِنْ
شَخْصٍ، فَأَوْصَل إِنْسَانًا إِلَى حَرَكَةِ مَذْبُوحٍ بِأَنْ لَمْ
يَبْقَ لَهُ إِبْصَارٌ وَنُطْقٌ وَحَرَكَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ، ثُمَّ
جَنَى عَلَيْهِ آخَرُ بِفِعْلٍ مُزْهِقٍ، فَالْقَاتِل هُوَ الأَْوَّل،
وَيُعَزَّرُ الثَّانِي لأَِنَّهُ اعْتَدَى عَلَى حُرْمَةِ الْمَيِّتِ،
وَإِنْ جَنَى الثَّانِي قَبْل وُصُول الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِلَى
حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ بِفِعْلٍ مُزْهِقٍ كَحَزِّ رَقَبَةٍ،
فَالْقَاتِل هُوَ الثَّانِي، وَعَلَى الأَْوَّل قِصَاصُ الْعُضْوِ أَوْ
دِيَتُهُ.
وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَرْحُ الأَْوَّل يُفْضِي إِلَى الْمَوْتِ لاَ
مَحَالَةَ إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَصِل إِلَى الرَّمَقِ الأَْخِيرِ،
وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ، فَضَرَبَ الثَّانِي
عُنُقَهُ، فَالْقَاتِل هُوَ الثَّانِي أَيْضًا لأَِنَّهُ فَوَّتَ
حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً، بِدَلِيل: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
لَمَّا جُرِحَ دَخَل عَلَيْهِ الطَّبِيبُ فَسَقَاهُ لَبَنًا فَخَرَجَ
صَلْدًا أَبْيَضَ (أَيْ يَنْصَبُّ) فَعَلِمَ الطَّبِيبُ أَنَّهُ
مَيِّتٌ فَقَال: اعْهَدْ إِلَى النَّاسِ، فَعَهِدَ إِلَيْهِمْ
وَأَوْصَى وَجَعَل الْخِلاَفَةَ إِلَى أَهْل الشُّورَى، فَقَبِل
الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَهْدَهُ وَأَجْمَعُوا عَلَى
قَبُول وَصَايَاهُ (2) .
__________
(1) سورة الشورى / 25.
(2) حديث: " مقتل عمر " أخرجه البخاري (الفتح 7 / 61 - ط السلفية) ،
وأحمد (1 / 42 ط الميمنية) وهو ملفق منهما.
(23/148)
أَمَّا لَوْ كَانَ وُصُول الْمَجْنِيِّ
عَلَيْهِ إِلَى الرَّمَقِ الأَْخِيرِ بِسَبَبِ مَرَضٍ لاَ بِسَبَبِ
جِنَايَةٍ، بِأَنْ كَانَ فِي حَالَةِ النَّزْعِ وَعَيْشُهُ عَيْشُ
مَذْبُوحٍ، أَوْ بَدَتْ عَلَيْهِ مَخَايِل الْمَوْتِ، أَوْ قُتِل
مَرِيضًا لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِل
لأَِنَّ هَذِهِ الأُْمُورَ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهَا، وَقَدْ يُظَنُّ
ذَلِكَ ثُمَّ يُشْفَى. وَلأَِنَّ الْمَرِيضَ لَمْ يَسْبِقْ فِيهِ
فِعْلٌ يُحَال الْقَتْل وَأَحْكَامُهُ عَلَيْهِ حَتَّى يُهْدَرَ
الْفِعْل الثَّانِي (1) .
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاص، دِيَة، وَقَتْل)
ج - سَدُّ الرَّمَقِ بِأَكْل مَا هُوَ مُحَرَّمٌ:
4 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُل
مِنْ لَحْمِ الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ
الْمُحَرَّمَاتِ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ، وَيَحْفَظُ بِهِ قُوَّتَهُ
وَصِحَّتَهُ وَحَيَاتَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِل
بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ
إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) وقَوْله تَعَالَى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ
وَمَا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ
وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَل السَّبُعُ إِلاَّ مَا
ذَكَّيْتُمْ} - إِلَى أَنْ قَال - {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ
غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3)
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 12، والمغني لابن قدامة 7 / 683.
(2) سورة البقرة / 173.
(3) سورة المائدة / 3.
(23/148)
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ أَكْل هَذِهِ
الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مَوْتًا أَوْ ضَرَرًا
كَبِيرًا مِنْ عَدَمِ الأَْكْل، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ
الَّذِي يَأْكُل مِنْهُ هَل يَكْتَفِي بِسَدِّ الرَّمَقِ أَمْ يَشْبَعُ
مِنْهُ، وَهَل هُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ أَمْ
لاَ؟ (1)
وَتَفَاصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَرُورَة) .
د - ذَبْحُ الْحَيَوَانِ الَّذِي وَصَل إِلَى الرَّمَقِ الأَْخِيرِ:
5 - الْحَيَاةُ الْمُسْتَقِرَّةُ عِنْدَ الذَّبْحِ شَرْطٌ لِحِل أَكْل
الْمَذْبُوحِ سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْحَيَاةُ حَقِيقِيَّةً أَوْ
مَظْنُونَةً بِعَلاَمَاتٍ وَقَرَائِنَ.
فَإِنْ مَرِضَ الْحَيَوَانُ أَوْ جَاعَ فَذُبِحَ وَقَدْ صَارَ فِي
آخِرِ رَمَقٍ مِنَ الْحَيَاةِ حَل أَكْلُهُ لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ
سَبَبٌ يُحَال عَلَيْهِ الْهَلاَكُ، وَلَوْ مَرِضَ بِأَكْل نَبَاتٍ
مُضِرٍّ حَتَّى صَارَ فِي آخِرِ رَمَقٍ فَذَبَحَهُ لَمْ يَحِل أَكْلُهُ
لِكَوْنِ هَذَا سَبَبًا يُحَال عَلَيْهِ الْهَلاَكُ (2) .
وَتَفَاصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (ذَبَائِح) .
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 277، ومغني المحتاج 4 / 306، والمغني لابن
قدامة 8 / 595.
(2) البدائع 5 / 50، ومغني المحتاج 4 / 271.
(23/149)
رَمَل
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّمَل - بِتَحْرِيكِ الْمِيمِ -: الْهَرْوَلَةُ. رَمَل يَرْمُل
رَمَلاً وَرَمَلاَنًا. كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَغَيْرِهِ.
وَأَحْسَنُ بَيَانٍ لِمَعْنَى الرَّمَل قَوْل صَاحِبِ النِّهَايَةِ:
رَمَل يَرْمُل رَمَلاً وَرَمَلاَنًا: إِذَا أَسْرَعَ فِي الْمَشْيِ
وَهَزَّ كَتِفَيْهِ (1) ".
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - الرَّمَل سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الطَّوَافِ، يُسَنُّ فِي
الأَْشْوَاطِ الثَّلاَثَةِ الأُْولَى مِنْ كُل طَوَافٍ بَعْدَهُ
سَعْيٌ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَسُنِّيَّةُ الرَّمَل
هَذِهِ خَاصَّةٌ بِالرِّجَال فَقَطْ دُونَ النِّسَاءِ (2) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (طَوَاف) .
رَمْي
__________
(1) انظر مادة (رمل) في النهاية في
غريب الحديث لابن الأثير الجزري، والقاموس المحيط للفيروزآبادي، ومختار
الصحاح للرازي وغيرها.
(2) انظر المراجع الفقهية والمسلك المتقسط للقاري شرح لباب المناسك
للسندي طبع مصر ص 108، ومختصر خليل بشرحه منح الجليل للشيخ محمد عليش
تصوير بيروت 1 / 484، ومغني المحتاج شرح المنهاج للشربيني الخطيب تصوير
بيروت 1 / 487، والمغني لابن قدامة طبع دار المنار سنة 1367 هـ ج3 ص
374 - 376.
(23/149)
رَمْي
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّمْيُ لُغَةً: يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْقَذْفِ، وَبِمَعْنَى
الإِْلْقَاءِ، يُقَال: رَمَيْتُ الشَّيْءَ وَبِالشَّيْءِ، إِذَا
قَذَفْتَهُ، وَرَمَيْتُ الشَّيْءَ مِنْ يَدَيَّ أَيْ: أَلْقَيْتُهُ
فَارْتَمَى، وَرَمَى بِالشَّيْءِ أَيْضًا أَلْقَاهُ، كَأَرْمَى،
يُقَال: أَرْمَى الْفَرَسُ بِرَاكِبِهِ إِذَا أَلْقَاهُ.
وَرَمَى السَّهْمَ عَنِ الْقَوْسِ وَعَلَيْهَا، لاَ بِهَا، رَمْيًا
وَرِمَايَةً. وَلاَ يُقَال: رَمَيْتُ بِالْقَوْسِ إِلاَّ إِذَا
أَلْقَيْتَهَا مِنْ يَدِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ بِمَعْنَى
رَمَيْتُ عَنْهَا. وَرَمَى فُلاَنٌ فُلاَنًا، أَيْ قَذَفَهُ
بِالْفَاحِشَةِ (1)
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}
(2) .
الرَّمْيُ اصْطِلاَحًا:
2 - اسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ الرَّمْيَ فِي الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ
السَّابِقَةِ وَمِنْهَا رَمْيُ الْجِمَارِ الَّذِي هُوَ مَنْسَكٌ
وَاجِبٌ
__________
(1) تهذيب اللغة للأزهري، والصحاح للجوهري، والقاموس المحيط
للفيروزآبادي، ولسان العرب لابن منظور.
(2) سورة النور / 4.
(23/150)
مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ. وَالرَّمْيُ
بِالسِّهَامِ وَنَحْوِهَا، وَالرَّمْيُ بِمَعْنَى الْقَذْفِ.
(أَوَّلاً)
رَمْيُ الْجِمَارِ
3 - رَمْيُ الْجِمَارِ، هُوَ رَمْيُ الْحَصَيَاتِ الْمُعَيَّنَةِ
الْعَدَدِ فِي الأَْمَاكِنِ الْخَاصَّةِ بِالرَّمْيِ فِي مِنًى
(الْجَمَرَاتِ) .
وَلَيْسَتِ الْجَمْرَةُ هِيَ الشَّاخِصُ (الْعَمُودُ) الَّذِي يُوجَدُ
فِي مُنْتَصَفِ الْمَرْمَى، بَل الْجَمْرَةُ هِيَ الْمَرْمَى
الْمُحِيطُ بِذَلِكَ الشَّاخِصِ، فَلْيُتَنَبَّهْ لِذَلِكَ.
4 - وَالْجَمَرَاتُ الَّتِي تُرْمَى ثَلاَثَةٌ، هِيَ:
أ - الْجَمْرَةُ الأُْولَى: وَتُسَمَّى الصُّغْرَى، أَوِ الدُّنْيَا،
وَهِيَ أَوَّل جَمْرَةٍ بَعْدَ مَسْجِدِ الْخَيْفِ بِمِنًى، سُمِّيَتْ
" دُنْيَا " مِنَ الدُّنُوِّ؛ لأَِنَّهَا أَقْرَبُ الْجَمَرَاتِ إِلَى
مَسْجِدِ الْخَيْفِ.
ب - الْجَمْرَةُ الثَّانِيَةُ: وَتُسَمَّى الْوُسْطَى، بَعْدَ
الْجَمْرَةِ الأُْولَى، وَقَبْل جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ.
ج - جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ: وَهِيَ الثَّالِثَةُ، وَتُسَمَّى أَيْضًا "
الْجَمْرَةُ الْكُبْرَى " وَتَقَعُ فِي آخِرِ مِنًى تُجَاهَ مَكَّةَ،
وَلَيْسَتْ مِنْ مِنًى. (ر: مِنًى) .
وَتُرْمَى هَذِهِ الْجَمَرَاتُ كُلُّهَا مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِرَمْيِ الْجِمَارِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ وَاجِبٌ مِنْ
وَاجِبَاتِ الْحَجِّ. (ر: حَجّ ف 153 - 165) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ.
(23/150)
أَمَّا السُّنَّةُ فَالأَْحَادِيثُ
كَثِيرَةٌ مِنْهَا:
حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ فِي حَجَّةِ
الْوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَال:
لَمْ أَشْعُرْ، فَحَلَقْتُ قَبْل أَنْ أَذْبَحَ؟ قَال: اذْبَحْ وَلاَ
حَرَجَ فَجَاءَ آخَرُ فَقَال: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْل أَنْ
أَرْمِيَ؟ قَال: ارْمِ وَلاَ حَرَجَ (1) الْحَدِيثَ، فَقَدْ أَمَرَ
بِالرَّمْيِ، وَالأَْمْرُ لِلْوُجُوبِ.
وَكَذَلِكَ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ثَبَتَ
عَنْهُ فِي الأَْحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الصَّحِيحَةِ (2) ، وَقَدْ
قَال: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ (3) .
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَقَوْل الْكَاسَانِيِّ: إِنَّ الأُْمَّةَ
أَجْمَعَتْ عَلَى وُجُوبِهِ، فَيَكُونُ وَاجِبًا (4) .
وَمَا رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ مِنْ أَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ
الْحَجِّ فَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لإِِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ،
وَقَدْ بَيَّنَ الْعُلَمَاءُ بُطْلاَنَهُ.
شُرُوطُ صِحَّةِ رَمْيِ الْجِمَارِ:
6 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ رَمْيِ الْجِمَارِ شُرُوطٌ هِيَ:
__________
(1) حديث: " ارم ولا حرج ". أخرجه البخاري (الفتح1 / 180 - ط السلفية)
. ومسلم (2 / 948 - ط الحلبي) .
(2) منها حديث جابر الطويل: " في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم ".
أخرجه مسلم في الحج (باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم) (2 / 886 - 892
- ط الحلبي) ومنها حديث ابن عمر المتفق عليه الآتي.
(3) حديث: " خذوا عني مناسككم ". أخرجه مسلم (2 / 943 - ط الحلبي)
بلفظ: " لتأخذوا مناسككم ".
(4) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الدين الكاساني 2 / 136 طبع
شركة المطبوعات العلمية سنة 1327 هـ.
(23/151)
أ - سَبْقُ الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ:
لأَِنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ كُل أَعْمَال الْحَجِّ.
ب - سَبْقُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ:
لأَِنَّهُ رُكْنٌ إِذَا فَاتَ فَاتَ الْحَجُّ، وَالرَّمْيُ مُرَتَّبٌ
عَلَيْهِ.
ج - أَنْ يَكُون الْمَرْمِيُّ حَجَرًا:
فَلاَ يَصِحُّ الرَّمْيُ بِالطِّينِ، وَالْمَعَادِنِ، وَالتُّرَابِ
عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ) وَيَصِحُّ بِالْمَرْمَرِ، وَحَجَرِ النُّورَةِ أَيِ
الْجِصِّ قَبْل طَبْخِهِ، وَيُجْزِئُ حَجَرُ الْحَدِيدِ عَلَى
الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لأَِنَّهُ حَجَرٌ فِي هَذِهِ
الْحَال، إِلاَّ أَنَّ فِيهِ حَدِيدًا كَامِنًا يُسْتَخْرَجُ
بِالْعِلاَجِ، وَفِيمَا يُتَّخَذُ مِنْهُ الْفُصُوصُ كَالْفَيْرُوزَجِ،
وَالْيَاقُوتِ، وَالْعَقِيقِ، وَالزُّمُرُّدِ، وَالْبِلَّوْرِ،
وَالزَّبَرْجَدِ وَجْهَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَصَحُّهُمَا
الإِْجْزَاءُ لأَِنَّهَا أَحْجَارٌ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشَّرْطَ فِي الْمَرْمِيِّ أَنْ
__________
(1) الإيضاح في مناسك الحج للنووي بحاشية الهيثمي ص 360 طبع دار بنه
للطباعة بمصر، والمجموع شرح المهذب للنووي 8 / 143 طبع مطبعة العاصمة
وصرح ص 145 بكراهة الرمي بالحجر المأخوذ من الحلي، ونهاية المحتاج 2 /
433 - 434، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 50، وشرح الرسالة لأبي الحسن
وحاشية العدوي 1 / 478 طبع دار إحياء الكتب العربية، ومواهب الجليل
لشرح مختصر خليل للحطاب والتاج والإكليل للمواق بهامشه 3 / 133 - 134،
والمغني لابن قدامة 3 / 425 طبع دار المنار، والفروع لابن مفلح 3 / 510
- 511 تصوير عالم الكتب بيروت.
(23/151)
يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الأَْرْضِ، فَيَصِحُّ
عِنْدَهُمُ الرَّمْيُ بِالتُّرَابِ، وَالطِّينِ، وَالْجِصِّ،
وَالْكُحْل، وَالْكِبْرِيتِ، وَالزَّبَرْجَدِ، وَالزُّمُرُّدِ،
وَالْبِلَّوْرِ، وَالْعَقِيقِ، وَلاَ يَصِحُّ بِالْمَعَادِنِ،
وَالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الرَّمْيِ
بِالْفَيْرُوزَجِ وَالْيَاقُوتِ: مَنَعَهُ الشَّارِحُونَ وَغَيْرُهُمْ،
بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الرَّمْيِ بِالرَّمْيِ بِهِ
اسْتِهَانَةً.
وَأَجَازَهُ غَيْرُهُمْ بِنَاءً عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ الاِشْتِرَاطِ (1)
.
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِمَا ثَبَتَ مِنْ فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ يَصِفُ رَمْيَ
جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ: فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ - يُكَبِّرُ مَعَ
كُل حَصَاةٍ مِنْهَا - مِثْل حَصَى الْخَذْفِ (2) .
__________
(1) الهداية وفتح القدير للكمال بن الهمام والعناية للبابرتي2 / 177
طبع مصطفى محمد، والبدائع 2 / 157 - 158، وشرح اللباب ص 166، والدر
المختار وشروحه 2 / 246 - 247 طبع إستانبول دار الطباعة العامرة. أما
ما ذكره بعض الحنفية من جواز الرمي بالبعرة إهانة للشيطان فهو خلاف
المذهب كما نبهوا عليه. انظر شرح اللباب والدر بشرحه والحاشية ص 247،
فهذا القول مخالف للإجماع، كذلك ما تفعله العامة من قذف النعال
والأحذية وما شابه ذلك باطل مخالف للإجماع.
(2) حديث جابر: " في صفة رمي جمرة العقبة ". أخرجه مسلم (2 / 892 - ط
الحلبي) .
(23/152)
وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ: ارْمُوا الْجِمَارَ بِمِثْل حَصَى
الْخَذْفِ وَفِي عَدَدٍ مِنْهَا أَنَّهُ قَال ذَلِكَ وَهُوَ وَاضِعٌ
أُصْبُعَيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى (1) .
قَال النَّوَوِيُّ: فَأَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْحَصَى، فَلاَ يَجُوزُ الْعُدُول عَنْهُ، وَالأَْحَادِيثُ
الْمُطْلَقَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى (2) ".
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِالأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الأَْمْرِ
بِالرَّمْيِ مُطْلَقَةً عَنْ صِفَةٍ مُقَيِّدَةٍ، كَقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْمِ وَلاَ حَرَجَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(3) .
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَالرَّمْيُ بِالْحَصَى مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
مَحْمُولٌ عَلَى الأَْفْضَلِيَّةِ، تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلاَئِل،
لِمَا صَحَّ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمُطْلَقَ لاَ يُحْمَل
عَلَى الْمُقَيَّدِ، بَل يَجْرِي الْمُطْلَقُ عَلَى إِطْلاَقِهِ،
وَالْمُقَيَّدُ عَلَى تَقْيِيدِهِ مَا أَمْكَنَ، وَهَاهُنَا أَمْكَنَ
بِأَنْ يُحْمَل الْمُطْلَقُ عَلَى الْجَوَازِ، وَالْمُقَيَّدُ عَلَى
الأَْفْضَلِيَّةِ (4) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا: إِنَّ الْمَقْصُودَ فِعْل الرَّمْيِ،
وَذَلِكَ يَحْصُل بِالطِّينِ، كَمَا يَحْصُل بِالْحَجَرِ، بِخِلاَفِ
مَا إِذَا رَمَى بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ؛ لأَِنَّهُ يُسَمَّى
نَثْرًا لاَ رَمْيًا (5) .
__________
(1) حديث: " ارموا الجمار بمثل حصى الخذف ". أخرجه أحمد (4 / 343 - ط
الميمنية) من سنان بن سنة، وقال الهيثمي: " رجاله ثقات " مجمع الزوائد
(3 / 258 - ط القدسي) .
(2) المجموع 8 / 151.
(3) حديث: " ارم ولا حرج ". سبق تخريجه ف / 5.
(4) بدائع الصنائع 2 / 158.
(5) الهداية 2 / 177.
(23/152)
وَلاَ يَخْفَى أَنَّ الأَْحْوَطَ فِي
ذَلِكَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: إِنَّ
أَكْثَرَ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّهَا أُمُورٌ تَعَبُّدِيَّةٌ، لاَ
يُشْتَغَل بِالْمَعْنَى فِيهَا - أَيْ بِالْعِلَّةِ - وَالْحَاصِل
أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُلاَحَظَ مُجَرَّدُ الرَّمْيِ، أَوْ مَعَ
الاِسْتِهَانَةِ، أَوْ خُصُوصُ مَا وَقَعَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ، وَالأَْوَّل يَسْتَلْزِمُ الْجَوَازَ بِالْجَوَاهِرِ،
وَالثَّانِي بِالْبَعْرَةِ وَالْخَشَبَةِ الَّتِي لاَ قِيمَةَ لَهَا،
وَالثَّالِثُ بِالْحَجَرِ خُصُوصًا، فَلْيَكُنْ هَذَا أَوْلَى،
لِكَوْنِهِ أَسْلَمَ، وَلِكَوْنِهِ الأَْصْل فِي أَعْمَال هَذِهِ
الْمَوَاطِنِ، إِلاَّ مَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَعْيِينِهِ (1)
.
أَمَّا صِفَةُ الْمَرْمِيِّ بِهِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الأَْحَادِيثِ
أَنَّهُ مِثْل حَصَى الْخَذْفِ وَحَصَى الْخَذْفِ هِيَ الَّتِي
يُخْذَفُ بِهَا، أَيْ تُرْمَى بِهَا الطُّيُورُ وَالْعَصَافِيرُ،
بِوَضْعِ الْحَصَاةِ بَيْنَ أُصْبُعَيِ السَّبَّابَةِ وَالإِْبْهَامِ
وَقَذْفِهَا.
وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي الرَّمْيِ أَنْ يَكُونَ
بِمِثْل حَصَى الْخَذْفِ، فَوْقَ الْحِمَّصَةِ، وَدُونَ الْبُنْدُقَةِ،
وَكَرِهُوا الرَّمْيَ بِالْحَجَرِ الْكَبِيرِ، وَأَجَازَ
الشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - الرَّمْيَ
بِالْحَجَرِ الصَّغِيرِ الَّذِي كَالْحِمَّصَةِ، مَعَ مُخَالَفَتِهِ
السُّنَّةَ؛ لأَِنَّهُ رَمْيٌ بِالْحَجَرِ فَيُجْزِئُهُ. وَلَمْ يُجِزْ
ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ، بَل لاَ بُدَّ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ
أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ.
__________
(1) فتح القدير الموضع السابق، وفيه توسع في مدلول الرمي والنثر.
(23/153)
وَقِيل: لاَ يُجْزِئُ الرَّمْيُ إِلاَّ
بِحَصًى كَحَصَى الْخَذْفِ، لاَ أَصْغَرَ وَلاَ أَكْبَرَ. وَهُوَ
مَرْوِيٌّ عَنْ أَحْمَدَ، وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهَذَا الْقَدْرِ، وَنَهَى عَنْ
تَجَاوُزِهِ، وَالأَْمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي
الْفَسَادَ (1) .
د - أَنْ يَرْمِيَ الْجَمْرَةَ بِالْحَصَيَاتِ السَّبْعِ
مُتَفَرِّقَاتٍ:
وَاحِدَةً فَوَاحِدَةً، فَلَوْ رَمَى حَصَاتَيْنِ مَعًا أَوِ السَّبْعَ
جُمْلَةً، فَهِيَ حَصَاةٌ وَاحِدَةٌ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَرْمِيَ
بِسِتٍّ سِوَاهَا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذَاهِبِ.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ تَفْرِيقُ
الأَْفْعَال فَيَتَقَيَّدُ بِالتَّفْرِيقِ الْوَارِدِ فِي السُّنَّةِ
(2) .
هـ - وُقُوعُ الْحَصَى فِي الْجَمْرَةِ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا
الْحَصَى:
وَذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ) قَال الشَّافِعِيُّ: الْجَمْرَةُ مُجْتَمَعُ
الْحَصَى، لاَ مَا سَال مِنَ الْحَصَى، فَمَنْ أَصَابَ مُجْتَمَعَهُ
أَجْزَأَهُ، وَمَنْ أَصَابَ سَائِلَهُ لَمْ يُجْزِهِ (3) .
__________
(1) المغني 3 / 425.
(2) شروح الهداية 2 / 176، ولباب المناسك وشرحه ص 164، ورد المحتار 2 /
246، وحاشية الدسوقي 2 / 50، وشرح الرسالة 1 / 478، والمغني 3 / 430،
والفروع 3 / 512.
(3) المجموع 8 / 147، ونهاية المحتاج 2 / 434، ومغني المحتاج 1 / 507،
والشرح الكبير 2 / 50، ومواهب الجليل 3 / 133 - 134، والمغني 3 / 429،
والفروع 3 / 512.
(23/153)
وَتَوَسَّعَ الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا:
لَوْ رَمَاهَا فَوَقَعَتْ قَرِيبًا مِنَ الْجَمْرَةِ يَكْفِيهِ؛
لأَِنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ،
وَلَوْ وَقَعَتْ بَعِيدًا مِنْهَا لاَ يُجْزِيهِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ
يُعْرَفْ قُرْبُهُ إِلاَّ فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ. قَال الْكَاسَانِيُّ:
لأَِنَّ مَا يَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ كَانَ فِي حُكْمِهِ،
لِكَوْنِهِ تَبَعًا لَهُ (1) .
وَأَمَّا مِقْدَارُ الْمَسَافَةِ الْقَرِيبَةِ، فَقِيل: ثَلاَثَةُ
أَذْرُعٍ فَمَا دُونَ، وَقِيل: ذِرَاعٌ فَأَقَل، وَهُوَ الَّذِي
فَسَّرَهُ بِهِ الْمُحَقِّقُ كَمَال الدِّينِ بْنُ الْهُمَامِ، وَهُوَ
أَحْوَطُ (2) .
و أَنْ يَقْصِدَ الْمَرْمَى وَيَقَعَ الْحَصَى فِيهِ بِفِعْلِهِ
اتِّفَاقًا فِي ذَلِكَ:
فَلَوْ ضَرَبَ شَخْصٌ يَدَهُ فَطَارَتْ الْحَصَاةُ إِلَى الْمَرْمَى
وَأَصَابَتْهُ لَمْ يَصِحَّ. كَذَلِكَ لَوْ رَمَى فِي الْهَوَاءِ
فَوَقَعَ الْحَجَرُ فِي الْمَرْمَى لَمْ يَصِحَّ.
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ رَمَى الْحَصَاةَ فَانْصَدَمَتْ
بِالأَْرْضِ خَارِجَ الْجَمْرَةِ، أَوْ بِمَحْمَلٍ فِي الطَّرِيقِ أَوْ
ثَوْبِ إِنْسَانٍ مَثَلاً ثُمَّ ارْتَدَّتْ فَوَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى
اعْتَدَّ بِهَا لِوُقُوعِهَا فِي الْمَرْمَى بِفِعْلِهِ مِنْ غَيْرِ
مُعَاوَنَةٍ. وَلَوْ حَرَّكَ صَاحِبُ الْمَحْمِل أَوِ الثَّوْبِ
__________
(1) الهداية 2 / 176، وشرح اللباب ص 164، والبدائع 2 / 138.
(2) فتح القدير 2 / 176، وانظر شرح اللباب الصفحة السابقة.
(23/154)
فَنَفَضَهَا فَوَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى
لَمْ يَعْتَدَّ بِهَا (1) .
وَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ (2) :
لَيْسَ لَهَا إِلاَّ وَجْهٌ وَاحِدٌ، وَرَمْيُ كَثِيرِينَ مِنْ
أَعْلاَهَا بَاطِلٌ، هُوَ خِلاَفُ كَلاَمِ الشَّافِعِيِّ نَفْسِهِ،
وَنَصُّهُ فِي الأُْمِّ: وَيَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ
الْوَادِي، وَمِنْ حَيْثُ رَمَاهَا أَجْزَأَهُ (3) .
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ رَمْيُ خَلْقٍ كَثِيرٍ فِي
زَمَنِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَعْلاَهَا، وَلَمْ يَأْمُرُوهُمْ
بِالإِْعَادَةِ، وَلاَ أَعْلَنُوا بِالنِّدَاءِ بِذَلِكَ فِي النَّاسِ،
وَكَأَنَّ وَجْهَ اخْتِيَارِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لِلرَّمْيِ مِنَ الْوَادِي أَنَّهُ يَتَوَقَّعُ الأَْذَى لِمَنْ فِي
أَسْفَلِهَا إِذَا رَمَوْا مِنْ أَعْلاَهَا، فَإِنَّهُ لاَ يَخْلُو
مِنَ النَّاسِ، فَيُصِيبُهُمُ الْحَصَى (4) .
__________
(1) على ذلك فلا معنى لتحرج البعض من الرمي من الطابق العلوي فإنه أولى
بالجواز من هذه الصور التي ذكروها. كذلك الشأن في جمرة العقبة، فقد
كانت ترمى من بطن الوادي المواجه لها اتباعًا للوارد، وكان كثير من
الناس يرميها من فوق العقبة أي المرتفع الصخري الذي تستند إ والشرح
الكبير وحاشيته 2 / 50، والإيضاح ص 357 - 358، والمجموع 8 / 146،
والمغني 3 / 430، والفروع 3 / 511 و512، والهداية 1 / 174، وشرح
الرسالة 1 / 478.
(2) كما نقل عنهم في نهاية المحتاج 2 / 434، ومغني المحتاج 1 / 508.
(3) الأم 2 / 213.
(4) فتح القدير 2 / 175.
(23/154)
ز - تَرْتِيبُ الْجَمَرَاتِ فِي رَمْيِ
أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْجَمْرَةِ الصُّغْرَى الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ
الْخَيْفِ، ثُمَّ الْوُسْطَى، ثُمَّ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ.
وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ) فَهَذَا التَّرْتِيبُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الرَّمْيِ.
فَلَوْ عَكَسَ التَّرْتِيبَ فَبَدَأَ مِنَ الْعَقَبَةِ ثُمَّ
الْوُسْطَى ثُمَّ الصُّغْرَى وَجَبَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ رَمْيِ
الْوُسْطَى وَالْعَقَبَةِ عِنْدَهُمْ لِيَتَحَقَّقَ التَّرْتِيبُ (1) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ سُنَّةٌ، إِذَا
أَخَل بِهِ يُسَنُّ لَهُ الإِْعَادَةُ. وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ
وَعَطَاءٍ (2) .
اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَتَّبَهَا كَذَلِكَ، كَمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ
حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُل حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ
حَتَّى يُسْهِل (3) ، فَيَقُومَ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ، فَيَقُومُ
طَوِيلاً وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الْوُسْطَى،
ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَال فَيَسْتَهِل وَيَقُومُ مُسْتَقْبِل
الْقِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلاً، وَيَدْعُو، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ
وَيَقُومُ طَوِيلاً، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشيته 2 / 51، ومواهب الجليل 3 / 134، والإيضاح ص
405، ونهاية المحتاج 2 / 433، والمغني 3 / 452 - 453، والفروع 3 / 518.
(2) على ما اختاره أكثرهم ومحققوهم، بدائع الصنائع 2 / 139، وفتح
القدير 2 / 183، وشرح اللباب ص 167، وانظر رواية القول بالوجوب في
المبسوط 4 / 65 - 66، والمغني 3 / 452.
(3) . فَاسْتَدَل بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِ تَرْتِيبِ
الْجَمَرَاتِ، كَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
وَفَسَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ عَلَى سَبِيل السُّنِّيَّةِ، لاَ
الْوُجُوبِ، وَاسْتَدَل لَهُمْ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ قَدَّمَ مِنْ
نُسُكِهِ شَيْئًا أَوْ أَخَّرَهُ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ (1) .
ح - الْوَقْتُ:
فَلِلرَّمْيِ أَوْقَاتٌ يُشْتَرَطُ مُرَاعَاتُهَا، فِي رَمْيِ
الْعَدَدِ الْوَاجِبِ فِي كُلٍّ مِنْهَا. تَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي:
وَقْتُ الرَّمْيِ وَعَدَدُهُ:
7 - وَقْتُ رَمْيِ الْجِمَارِ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ لِمَنْ لَمْ
يَتَعَجَّل هِيَ: يَوْمُ النَّحْرِ " وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ،
وَتُسَمَّى " أَيَّامَ التَّشْرِيقِ ". سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَِنَّ
لُحُومَ الْهَدَايَا تُشَرَّقُ فِيهَا، أَيْ تُعَرَّضُ لِلشَّمْسِ
لِتَجْفِيفِهَا.
أ - الرَّمْيُ يَوْمَ النَّحْرِ:
8 - يَجِبُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ
وَحْدَهَا فَقَطْ، يَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ.
__________
(1) حديث: " من قدم من نسكه شيئًا ". أخرجه البيهقي في السنن (5 / 143
- 144 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس.
(23/155)
وَأَوَّل وَقْتِ الرَّمْيِ لِيَوْمِ
النَّحْرِ يَبْدَأُ مِنْ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ (1) .
وَهَذَا الْوَقْتُ عِنْدَهُمْ أَقْسَامٌ: مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ
مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقْتَ الْجَوَازِ مَعَ
الإِْسَاءَةِ، وَمَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الزَّوَال وَقْتٌ
مَسْنُونٌ، وَمَا بَعْدَ الزَّوَال إِلَى الْغُرُوبِ وَقْتُ الْجَوَازِ
بِلاَ إِسَاءَةٍ، وَاللَّيْل وَقْتُ الْجَوَازِ مَعَ الإِْسَاءَةِ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَطْ وَلاَ جَزَاءَ فِيهِ.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَيَنْتَهِي الْوَقْتُ بِغُرُوبِ
الشَّمْسِ، وَمَا بَعْدَهُ قَضَاءٌ يَلْزَمُ فِيهِ الدَّمُ.
وَتَحْدِيدُ الْوَقْتِ الْمَسْنُونِ مَأْخُوذٌ مِنْ فِعْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ رَمَى فِي ذَلِكَ
الْوَقْتِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَوَّل وَقْتِ
جَوَازِ الرَّمْيِ يَوْمُ النَّحْرِ إِذَا انْتَصَفَتْ لَيْلَةُ يَوْمِ
النَّحْرِ لِمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَهُ.
وَهَذَا الْوَقْتُ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ: وَقْتُ فَضِيلَةٍ إِلَى
الزَّوَال، وَوَقْتُ اخْتِيَارٍ إِلَى الْغُرُوبِ، وَوَقْتُ جَوَازٍ
إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (2) .
__________
(1) الهداية 2 / 185، والبدائع 2 / 137، وشرح اللباب ص 157 - 158،
والشرح الكبير 2 / 48، وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 477 و480،
والمغني 3 / 429 والفروع 3 / 513.
(2) الإيضاح ص 354، والنهاية 2 / 429، والمغني والفروع ونهاية المحتاج
عن الرافعي 2 / 430، وقوله " إلى الزوال " أي من بعد طلوع الشمس.
(23/156)
اسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِحَدِيثِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ
فِي الثَّقَل وَقَال: لاَ تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تُصْبِحُوا (1)
.
فَأَثْبَتُوا جَوَازَ الرَّمْيِ ابْتِدَاءً مِنَ الْفَجْرِ بِهَذَا
الْحَدِيثِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كَانَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَدِّمُ ضُعَفَاءَ
أَهْلِهِ بِغَلَسٍ، وَيَأْمُرُهُمْ يَعْنِي لاَ يَرْمُونَ الْجَمْرَةَ
حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ (2) .
فَأَثْبَتُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ الْوَقْتَ الْمَسْنُونَ.
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَرْسَل بِأُمِّ سَلَمَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ، فَرَمَتْ
قَبْل الْفَجْرِ، ثُمَّ مَضَتْ فَأَفَاضَتْ (3) .
وَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّهُ عَلَّقَ الرَّمْيَ بِمَا قَبْل
الْفَجْرِ، وَهُوَ تَعْبِيرٌ صَالِحٌ لِجَمِيعِ اللَّيْل، فَجَعَل
__________
(1) حديث: " لا ترموا الجمرة حتى تصبحوا ". أخرجه الطحاوي في شرح معاني
الآثار (2 / 217 - ط مطبعة الأنوار المحمدية) .
(2) حديث ابن عباس: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم ضعفاء. .
. " أخرجه أبو داود (2 / 4781 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (3 /
231 - ط الحلبي) وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ".
(3) حديث عائشة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أم سلمة ليلة
النحر ". أخرجه أبو داود (2 / 481 تحقيق عزت عبيد دعاس) . وقال ابن
حجر: " إسناده على شرط مسلم ". كما في بلوغ المرام (2 / 417 - شرحه سبل
السلام ط دار الكتب العلمية) .
(23/156)
النِّصْفَ ضَابِطًا لَهُ؛ لأَِنَّهُ
أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ مِمَّا قَبْل النِّصْفِ.
أَمَّا آخِرُ وَقْتِ الرَّمْيِ يَوْمَ النَّحْرِ فَهُوَ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ إِلَى فَجْرِ الْيَوْمِ التَّالِي، فَإِذَا أَخَّرَهُ
عَنْهُ بِلاَ عُذْرٍ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ فِي الْيَوْمِ التَّالِي،
وَعَلَيْهِ دَمٌ لِلتَّأْخِيرِ، وَيَمْتَدُّ وَقْتُ الْقَضَاءِ إِلَى
آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: آخِرُ وَقْتِ الرَّمْيِ إِلَى الْمَغْرِبِ،
وَمَا بَعْدَهُ قَضَاءٌ، وَيَجِبُ الدَّمُ إِنْ أَخَّرَهُ إِلَى
الْمَغْرِبِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ (2) .
وَآخِرُ وَقْتِ الرَّمْيِ أَدَاءً عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ يَمْتَدُّ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛
لأَِنَّهَا كُلُّهَا أَيَّامُ رَمْيٍ (3) .
وَاسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ رَجُلٌ قَال: رَمَيْتُ بَعْدَمَا
أَمْسَيْتُ؟ فَقَال: لاَ حَرَجَ (4) .
وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلرُّعَاةِ أَنْ يَرْمُوا لَيْلاً (5) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 137، وشرح اللباب ص 161.
(2) الشرح الكبير 2 / 50، وشرح الرسالة 1 / 477.
(3) المراجع الشافعية والحنابلة السابقة.
(4) حديث ابن عباس: " سأله رجل قال: رميت بعدما أمسيت. . . " أخرجه
البخاري (الفتح 3 / 568 - ط السلفية) .
(5) حديث ابن عباس: " رخص للرعاة أن يرموا ليلاً ". أورده الهيثمي في
المجمع (3 / 260 - ط القدسي) وقال: " رواه الطبراني في الكبير وفيه
إسحاق بن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وهو متروك ".
(23/157)
وَهُوَ يَدُل عَلَى أَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ
فِي اللَّيْل جَائِزٌ، وَفَائِدَةُ الرُّخْصَةِ زَوَال الإِْسَاءَةِ
عَنْهُمْ تَيْسِيرًا عَلَيْهِمْ، وَلَوْ كَانَ الرَّمْيُ وَاجِبًا
قَبْل الْمَغْرِبِ لأََلْزَمَهُمْ بِهِ؛ لأَِنَّهُمْ يَسْتَطِيعُونَ
إِنَابَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى الرَّعْيِ.
ب - الرَّمْيُ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل وَالثَّانِي مِنْ أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ:
9 - وَهُمَا الْيَوْمَانِ الثَّانِي وَالثَّالِثُ مِنْ أَيَّامِ
النَّحْرِ: يَجِبُ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ رَمْيُ الْجِمَارِ
الثَّلاَثِ عَلَى التَّرْتِيبِ: يَرْمِي أَوَّلاً الْجَمْرَةَ
الصُّغْرَى الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ، ثُمَّ الْوُسْطَى، ثُمَّ
يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، يَرْمِي كُل جَمْرَةٍ بِسَبْعِ
حَصَيَاتٍ.
1 - يَبْدَأُ وَقْتُ الرَّمْيِ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل وَالثَّانِي
مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ الزَّوَال، وَلاَ يَجُوزُ الرَّمْيُ
فِيهِمَا قَبْل الزَّوَال عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْهُمُ
الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ
الظَّاهِرَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 137 - 138 والهداية وشرحها 2 / 183 ولم يذكرا
غير هذه الرواية في اليوم الأول من أيام التشريق، وقارن بشرح اللباب ص
158 - 159 ورد المحتار 2 / 253 - 254، وانظر الشرح الكبير 2 / 48 و50،
وشرح الرسالة 1 / 480، والإيضاح ص 405، ونهاية المحتاج 2 / 433، ومغني
المحتاج 1 / 507، والمغني 3 / 452، والفروع 3 / 518.
(23/157)
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ
الأَْفْضَل أَنْ يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ - أَيْ
مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ - بَعْدَ الزَّوَال فَإِنْ رَمَى قَبْلَهُ
جَازَ، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ
أَنْ يَتَعَجَّل فِي النَّفْرِ الأَْوَّل فَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَرْمِيَ
فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ قَبْل الزَّوَال، وَإِنْ رَمَى بَعْدَهُ
فَهُوَ أَفْضَل، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ قَصْدِهِ لاَ يَجُوزُ
أَنْ يَرْمِيَ إِلاَّ بَعْدَ الزَّوَال، وَذَلِكَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ؛
لأَِنَّهُ إِذَا نَفَرَ بَعْدَ الزَّوَال لاَ يَصِل إِلَى مَكَّةَ
إِلاَّ بِاللَّيْل فَيَحْرَجُ فِي تَحْصِيل مَوْضِعِ النُّزُول (2) .
وَهَذَا رِوَايَةٌ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ، لَكِنَّهُ قَال: يَنْفِرُ
بَعْدَ الزَّوَال (3) .
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ.
فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كُنَّا
__________
(1) الهداية وشرحها 2 / 184، والبدائع 2 / 137 - 138، وشرح اللباب ص
158 - 161 وفيه وفي التعليق عليه تحقيق مطول حول هذه الرواية، وانظر
النقل عن بعض الحنابلة في الفروع 3 / 518.
(2) المراجع السابقة في الفقه الحنفي.
(3) الفروع 3 / 518 - 520.
(23/158)
نَتَحَيَّنُ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ
رَمَيْنَا (1) .
وَعَنْ جَابِرٍ قَال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَمَى الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَأَمَّا بَعْدَ
ذَلِكَ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ (2) .
وَهَذَا بَابٌ لاَ يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ، بَل بِالتَّوْقِيتِ مِنَ
الشَّارِعِ، فَلاَ يَجُوزُ الْعُدُول عَنْهُ.
وَاسْتُدِل لِلرِّوَايَةِ بِجَوَازِ الرَّمْيِ قَبْل الزَّوَال
بِقِيَاسِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَلَى يَوْمِ النَّحْرِ؛ لأَِنَّ
الْكُل أَيَّامُ نَحْرٍ، وَيَكُونُ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَحْمُولاً عَلَى السُّنِّيَّةِ.
وَاسْتُدِل لِجَوَازِ الرَّمْيِ ثَانِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ قَبْل
الزَّوَال لِمَنْ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ النَّفْرُ إِلَى مَكَّةَ بِمَا
ذَكَرُوا أَنَّهُ لِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَصِل
إِلاَّ بِاللَّيْل، وَقَدْ قَوَّى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ تَوْفِيقًا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ
عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَالأَْخْذُ بِهَذَا مُنَاسِبٌ لِمَنْ خَشِيَ الزِّحَامَ وَدَعَتْهُ
إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، لاَ سِيَّمَا فِي زَمَنِنَا (3) .
2 - وَأَمَّا نِهَايَةُ وَقْتِ الرَّمْيِ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل
وَالثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
__________
(1) حديث ابن عمر: " كنا نتحين فإذا زالت الشمس. . . " أخرجه البخاري
(الفتح 3 / 579 - ط السلفية) .
(2) حديث جابر: " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النحر
ضحى ". أخرجه مسلم (2 / 945 - ط الحلبي) .
(3) قال في البحر العميق: " فهو قول مختار يعمل به بلا ريب، وعليه عمل
الناس، وبه جزم بعض الشافعي حتى زعم الأسنوي أنه المذهب ". كذا في
إرشاد الساري إلى مناسك الملا علي قاري ص 161.
(23/158)
فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ آخِرَ الْوَقْتِ بِغُرُوبِ شَمْسِ
الْيَوْمِ الرَّابِعِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ الثَّلاَثِ، فَمَنْ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ
تَدَارَكَهُ فِيمَا يَلِيهِ مِنَ الزَّمَنِ، وَالْمُتَدَارَكُ أَدَاءٌ
عَلَى الْقَوْل الأَْصَحِّ الَّذِي اخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ
وَاقْتَضَاهُ نَصُّ الشَّافِعِيَّةِ
وَهَكَذَا لَوْ تَرَكَ رَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ
فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ يَتَدَارَكُهُ فِي اللَّيْل وَفِي أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ.
وَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّرْتِيبُ فَيُقَدِّمُهُ عَلَى رَمْيِ أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ. كَذَلِكَ أَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
التَّرْتِيبَ فِي الْقَضَاءِ. وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِوُجُوبِ
تَرْتِيبِهِ فِي الْقَضَاءِ بِالنِّيَّةِ.
وَإِنْ لَمْ يَتَدَارَكِ الرَّمْيَ حَتَّى غَرَبَتْ شَمْسُ الْيَوْمِ
الرَّابِعِ فَقَدْ فَاتَهُ الرَّمْيُ وَعَلَيْهِ الْفِدَاءُ (1) .
وَدَلِيلُهُمْ: أَنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَقْتٌ لِلرَّمْيِ،
فَإِذَا أَخَّرَهُ مِنْ أَوَّل وَقْتِهِ إِلَى آخِرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ
شَيْءٌ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَقَيَّدُوا رَمْيَ كُل
يَوْمٍ بِيَوْمِهِ، ثُمَّ فَصَّلُوا: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى
أَنَّهُ يَنْتَهِي رَمْيُ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ
بِطُلُوعِ فَجْرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَرَمْيُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ
بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنَ الْيَوْمِ الرَّابِعِ. فَمَنْ أَخَّرَ
الرَّمْيَ إِلَى مَا بَعْدَ وَقْتِهِ
__________
(1) الأم 2 / 214، والإيضاح ص 407، ونهاية المحتاج 2 / 435، 436 ومغني
المحتاج 1 / 508 - 509، والمغني 3 / 455 - 456، والفروع 3 / 518 - 519.
(23/159)
فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، وَعَلَيْهِ دَمٌ
عِنْدَهُمْ (1) .
وَالدَّلِيل عَلَى جَوَازِ الرَّمْيِ بَعْدَ مَغْرِبِ نَهَارِ
الرَّمْيِ حَدِيثُ الإِْذْنِ لِلرِّعَاءِ بِالرَّمْيِ لَيْلاً.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَنْتَهِي الأَْدَاءُ إِلَى
غُرُوبِ كُل يَوْمٍ، وَمَا بَعْدَهُ قَضَاءٌ لَهُ، وَيَفُوتُ الرَّمْيُ
بِغُرُوبِ الرَّابِعِ، وَيَلْزَمُهُ دَمٌ فِي تَرْكِ حَصَاةٍ أَوْ فِي
تَرْكِ الْجَمِيعِ، وَكَذَا يَلْزَمُهُ دَمٌ إِذَا أَخَّرَ شَيْئًا
مِنْهَا إِلَى اللَّيْل (2) .
ج - الرَّمْيُ ثَالِثَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
10 - يَجِبُ هَذَا الرَّمْيُ عَلَى مَنْ تَأَخَّرَ وَلَمْ يَنْفِرْ
مِنْ مِنًى بَعْدَ رَمْيِ ثَانِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَلَى مَا
نُفَصِّلُهُ وَهَذَا الرَّمْيُ آخِرُ مَنَاسِكِ مِنًى.
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّمْيَ فِي هَذَا الْيَوْمِ
بَعْدَ الزَّوَال رَمْيٌ فِي الْوَقْتِ، كَمَا رَمَى فِي الْيَوْمَيْنِ
قَبْلَهُ، اقْتِدَاءً بِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَقْدِيمِهِ:
فَذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ وَالصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّهُ لاَ
يَصِحُّ الرَّمْيُ قَبْل الزَّوَال، اسْتِدْلاَلاً بِفِعْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيَاسًا لِرَمْيِ هَذَا
الْيَوْمِ عَلَى الْيَوْمَيْنِ السَّابِقَيْنِ، فَكَمَا لاَ يَصِحُّ
الرَّمْيُ فِيهِمَا قَبْل
__________
(1) شرح اللباب ص 161، وانظر المبسوط 4 / 68 ولفظه: " الليالي هنا
تابعة للأيام الماضية ".
(2) الشرح الكبير 2 / 51، وانظر شرح الرسالة بحاشيته 1 / 477 و480 -
481.
(23/159)
الزَّوَال، كَذَلِكَ لاَ يَصِحُّ قَبْل
زَوَال الْيَوْمِ الأَْخِيرِ (1) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: الْوَقْتُ الْمُسْتَحَبُّ لِلرَّمْيِ فِي
هَذَا الْيَوْمِ بَعْدَ الزَّوَال، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّمَ الرَّمْيُ
فِي هَذَا الْيَوْمِ قَبْل الزَّوَال، بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ.
قَال فِي الْهِدَايَةِ: وَمَذْهَبُهُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ وَلأَِنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ أَثَرُ
التَّخْفِيفِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فِي حَقِّ التَّرْكِ، فَلأََنْ
يَظْهَرَ فِي جَوَازِهِ - أَيِ الرَّمْيِ - فِي الأَْوْقَاتِ كُلِّهَا
أَوْلَى (2) .
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الرَّمْيِ فِي هَذَا الْيَوْمِ
غُرُوبُ الشَّمْسِ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ
لِهَذَا الْيَوْمِ وَلِلأَْيَّامِ الْمَاضِيَةِ لَوْ أَخَّرَهُ أَوْ
شَيْئًا مِنْهُ يَخْرُجُ بِغُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، فَلاَ
قَضَاءَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَجِبُ فِي تَرْكِهِ الْفِدَاءُ.
وَذَلِكَ " لِخُرُوجِ وَقْتِ الْمَنَاسِكِ بِغُرُوبِ شَمْسِهِ (3) .
شُرُوطُ الرَّمْيِ:
10 م - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ رَمْيِ الْجِمَارِ مَا يَلِي:
__________
(1) المراجع السابقة في رمي أيام التشريق.
(2) الهداية 2 / 185، وانظر الاستدلال بأوسع من هذا في البدائع 2 /
138، والفتوى في المذهب الحنفي على قول الإمام، وقد اقتصر عليه صاحب
البدائع في بيانه صفة الرمي ص 159.
(3) كما قال الرملي في نهاية المحتاج 2 / 433، ووقع في شرح الكنز
للهروي ص (74) التعبير بقوله: " قبل الزوال بعد طلوع الشمس " وهو موهم
خلاف المعروف في المذهب الحنفي: أنه يبدأ الرمي آخر يوم بعد الفجر.
(23/160)
أ - أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ قَذْفٌ
لِلْحَصَاةِ وَلَوْ خَفِيفًا.
فَكَيْفَمَا حَصَل أَجْزَأَهُ، حَتَّى قَال النَّوَوِيُّ: وَلاَ
يُشْتَرَطُ وُقُوفُ الرَّامِي خَارِجَ الْمَرْمَى، فَلَوْ وَقَفَ فِي
طَرَفِ الْمَرْمَى وَرَمَى إِلَى طَرَفِهِ الآْخَرِ أَجْزَأَهُ ".
وَلَوْ طَرَحَ الْحَصَيَاتِ طَرْحًا أَجْزَأَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ الرَّمْيَ قَدْ وُجِدَ بِهَذَا الطَّرْحِ،
إِلاَّ أَنَّهُ رَمْيٌ خَفِيفٌ، فَيُجْزِئُ مَعَ الإِْسَاءَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ
يُجْزِئُهُ الطَّرْحُ بَتَاتًا.
أَمَّا لَوْ وَضَعَهَا وَضْعًا فَلاَ يَصِحُّ اتِّفَاقًا؛ لأَِنَّهُ
لَيْسَ بِرَمْيٍ.
ب - الْعَدَدُ الْمَخْصُوصُ:
وَهُوَ سَبْعُ حَصَيَاتٍ لِكُل جَمْرَةٍ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ رَمْيَ
حَصَاةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ كَمَنْ تَرَكَ السَّبْعَ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ تَيْسِيرٌ بِقَبُول صَدَقَةٍ
فِي تَرْكِ الْقَلِيل مِنَ الْحَصَيَاتِ، اخْتَلَفَتْ فِيهِ
اجْتِهَادَاتُهُمْ (ر: حَجّ ف / 273)
وَاجِبُ الرَّمْيِ:
11 - يَجِبُ تَرْتِيبُ رَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ بِحَسَبِ تَرْتِيبِ
أَعْمَال يَوْمِ النَّحْرِ، وَهِيَ هَكَذَا: رَمْيُ جَمْرَةِ
الْعَقَبَةِ، فَالذَّبْحُ، فَالْحَلْقُ، فَطَوَافُ الإِْفَاضَةِ،
وَذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّ
تَرْتِيبَهَا سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ تَفْصِيلٌ
وَاخْتِلاَفٌ فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّرْتِيبِ (انْظُرْ مُصْطَلَحَ:
حَجّ
(23/160)
ف 195 - 196) وَسَبَقَ الْحُكْمُ فِي
تَرْتِيبِ رَمْيِ الْجَمَرَاتِ الثَّلاَثِ (ف 6)
سُنَنُ الرَّمْيِ:
12 - يُسَنُّ فِي الرَّمْيِ مَا يَلِي:
أ - أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الرَّامِي وَبَيْنَ الْجَمْرَةِ خَمْسَةُ
أَذْرُعٍ فَأَكْثَرُ، كَمَا نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ؛ لأَِنَّ مَا دُونَ
ذَلِكَ يَكُونُ طَرْحًا، وَلَوْ طَرَحَهَا طَرْحًا أَجْزَأَهُ إِلاَّ
أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ.
ب - الْمُوَالاَةُ بَيْنَ الرَّمَيَاتِ السَّبْعِ، بِحَيْثُ لاَ
يَزِيدُ الْفَصْل بَيْنَهَا عَنِ الذِّكْرِ الْوَارِدِ.
ج - لَقْطُ الْحَصَيَاتِ دُونَ كَسْرِهَا، وَلَهُ أَخْذُهَا مِنْ
مَنْزِلِهِ بِمِنًى.
د - طَهَارَةُ الْحَصَيَاتِ، فَيُكْرَهُ الرَّمْيُ بِحَصًى نَجِسٍ،
وَيُنْدَبُ إِعَادَتُهُ بِطَاهِرٍ، وَفِي وَجْهٍ اخْتَارَهُ بَعْضُ
الْحَنَابِلَةِ: لاَ يُجْزِئُ الرَّمْيُ بِنَجِسٍ، وَيَجِبُ
إِعَادَتُهُ بِطَاهِرٍ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ فِي مَذْهَبِهِمْ
الإِْجْزَاءُ مَعَ الْكَرَاهَةِ (1) .
هـ - أَلاَّ يَكُونَ الْحَصَى مِمَّا رُمِيَ بِهِ، فَلَوْ خَالَفَ
وَرَمَى بِهَا كُرِهَ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا رَمَى بِهِ هُوَ أَوْ
غَيْرُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ (2) : لاَ يُجْزِئُ، وَمَذْهَبُ
__________
(1) الفروع وحاشية تصحيح الفروع 3 / 511.
(2) وهواللخمي كما نقل عنه الحطاب 3 / 139، وجعله الكاساني في البدائع
2 / 156 قول مالك: وهو خلاف المنصوص في المصادر أنه يكره، وانظر الشرح
الكبير 2 / 54.
(23/161)
الْحَنَابِلَةِ: إِنْ رَمَى بِحَجَرٍ
أَخَذَهُ مِنَ الْمَرْمَى لَمْ يَجْزِهِ (1) .
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِعُمُومِ لَفْظِ الْحَصَى الْوَارِدِ فِي
الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي تَعْلِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّمْيَ، وَذَلِكَ يُفِيدُ صِحَّةَ الرَّمْيِ
بِمَا رُمِيَ بِهِ وَلَوْ أُخِذَ مِنَ الْمَرْمَى.
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَخَذَ مِنْ غَيْرِ الْمَرْمَى، وَقَال: خُذُوا عَنِّي
مَنَاسِكَكُمْ وَلأَِنَّهُ لَوْ جَازَ الرَّمْيُ بِمَا رُمِيَ بِهِ،
لَمَا احْتَاجَ أَحَدٌ إِلَى أَخْذِ الْحَصَى مِنْ غَيْرِ مَكَانِهِ
وَلاَ تَكْسِيرِهِ، وَالإِْجْمَاعُ عَلَى خِلاَفِهِ.
و التَّكْبِيرُ مَعَ كُل حَصَاةٍ، وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ
أَوَّل حَصَاةٍ يَرْمِي بِهَا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ
عِنْدَ الْجُمْهُورِ (2) .
وَيُنْظَرُ الْخِلاَفُ وَالتَّفْصِيل فِي بَحْثِ: (تَلْبِيَة) .
ز - الْوُقُوفُ لِلدُّعَاءِ: وَذَلِكَ إِثْرَ كُل رَمْيٍ بَعْدَهُ
رَمْيٌ آخَرُ، فَيَقِفُ بَيْنَ الرَّمْيَيْنِ مُدَّةً وَيُطِيل
الْوُقُوفَ يَدْعُو، وَقُدِّرَ ذَلِكَ بِمُدَّةِ ثَلاَثَةِ أَرْبَاعِ
الْجُزْءِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَدْنَاهُ قَدْرُ عِشْرِينَ آيَةً.
فَيُسَنُّ أَنْ يَقِفَ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ الصُّغْرَى وَبَعْدَ
الْوُسْطَى،
__________
(1) انظر المغني 3 / 426، والفروع 3 / 511.
(2) الهداية 2 / 175، والبدائع 2 / 156، والأم 2 / 205، ومغني المحتاج
1 / 501، والفروع 3 / 347، والمغني 3 / 430.
(23/161)
لأَِنَّهُ فِي وَسَطِ الْعِبَادَةِ،
فَيَأْتِي بِالدُّعَاءِ فِيهِ، وَكُل رَمْيٍ لَيْسَ بَعْدَهُ رَمْيٌ
لاَ يَقِفُ فِيهِ لِلدُّعَاءِ؛ لأَِنَّ الْعِبَادَةَ قَدِ انْتَهَتْ،
فَلاَ يَقِفُ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ،
وَلاَ بَعْدَ رَمْيِهَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ أَيْضًا.
وَدَلِيل هَذِهِ السُّنَّةِ فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقِ
(1) .
مَكْرُوهَاتُ الرَّمْيِ:
13 - يُكْرَهُ فِي الرَّمْيِ مَا يَلِي:
أ - الرَّمْيُ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَبَعْدَ زَوَالِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، قَال
السَّرَخْسِيُّ: فَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَقْتُهُ إِلَى غُرُوبِ
الشَّمْسِ، وَلَكِنَّهُ لَوْ رَمَى بِاللَّيْل لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ
(2) ".
ب - الرَّمْيُ بِالْحَجَرِ الْكَبِيرِ، سَوَاءٌ رَمَى بِهِ كَبِيرًا،
أَوْ رَمَى بِهِ مَكْسُورًا.
ج - الرَّمْيُ بِحَصَى الْمَسْجِدِ، فَلاَ يَأْخُذُهُ مِنْ
__________
(1) الهداية وشروحها 2 / 174 - 176، 183 - 185، وشرح اللباب 158 - 159،
162 - 163، ونهاية المحتاج 2 / 426 - 434، ومغني المحتاج 1 / 500، و501
و506، و508، وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 478، وعبر عنها بشروط
الكمال، وأدرج بعض المندوبات فيها وانظر ص 480، والمغني 3 / 426، 450.
(2) المبسوط 4 / 64، شرح اللباب ص 167، ومواهب الجليل 3 / 136، وقال
الشلبي في حاشيته على الزيلعي: 2 / 31: " ولو أخر الرمي إلى الليل
رماها ولا شيء عليه ".
(23/162)
مَسْجِدِ الْخَيْفِ؛ لأَِنَّ الْحَصَى
تَابِعٌ لِلْمَسْجِدِ، فَلاَ يَخْرُجُ مِنْهُ.
د - الرَّمْيُ بِالْحَصَى النَّجِسِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقِيل: لاَ
يُجْزِئُ الرَّمْيُ بِالْحَصَى النَّجِسِ.
هـ - الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَدَدِ، أَيِ السَّبْعِ، فِي رَمْيِ كُل
جَمْرَةٍ مِنَ الْجَمَرَاتِ (1) .
صِفَةُ الرَّمْيِ الْمُسْتَحَبَّةُ:
14 - يَسْتَعِدُّ الْحَاجُّ لِرَمْيِ الْجَمَرَاتِ فَيَرْفَعُ الْحَصَى
قَبْل الْوُصُول إِلَى الْجَمْرَةِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ مِنَ
الْمُزْدَلِفَةِ سَبْعَ حَصَيَاتٍ مِثْل حَصَى الْخَذْفِ، فَوْقَ
الْحِمَّصَةِ وَدُونَ الْبُنْدُقَةِ لِيَرْمِيَ بِهَا جَمْرَةَ
الْعَقَبَةِ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل مِنْ أَيَّامِ الرَّمْيِ، وَهُوَ
يَوْمُ عِيدِ النَّحْرِ، وَإِنْ رَفَعَ سَبْعِينَ حَصَاةً مِنَ
الْمُزْدَلِفَةِ أَوْ مِنْ طَرِيقِ مُزْدَلِفَةَ فَهُوَ جَائِزٌ،
وَقِيل: مُسْتَحَبٌّ، وَهَذَا هُوَ عَدَدُ الْحَصَى الَّذِي يُرْمَى
فِي كُل أَيَّامِ الرَّمْيِ، وَيَجُوزُ أَخْذُ الْحَصَيَاتِ مِنْ كُل
مَوْضِعٍ بِلاَ كَرَاهَةٍ، إِلاَّ مِنْ عِنْدِ الْجَمْرَةِ، فَإِنَّهُ
مَكْرُوهٌ، وَيُكْرَهُ أَخْذُهَا مِنْ مَسْجِدِ الْخَيْفِ، لأَِنَّ
حَصَى الْمَسْجِدِ تَابِعٌ لَهُ فَيَصِيرُ مُحْتَرَمًا، وَيُنْدَبُ
غَسْل الْحَصَى مُطْلَقًا، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ نَجِسَةً عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
ثُمَّ يَأْتِي الْحَاجُّ مِنًى يَوْمَ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي
__________
(1) انظر عن مكروهات الرمي في شرح اللباب ص 167، وانظر الأم 2 / 213 -
214.
(23/162)
الْحِجَّةِ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ،
وَعَلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَرْبَعَةُ أَعْمَالٍ عَلَى هَذَا
التَّرْتِيبِ: رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ ذَبْحُ الْهَدْيِ
وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ، ثُمَّ يَحْلِقُ
أَوْ يُقَصِّرُ، ثُمَّ يَطُوفُ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ، وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ قَدَّمَ السَّعْيَ عِنْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ فَإِنَّهُ يَسْعَى
بَعْدَ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ، وَيَتَوَجَّهُ الْحَاجُّ فَوْرَ
وُصُولِهِ مِنًى إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَتَقَعُ آخِرَ مِنًى
تُجَاهَ مَكَّةَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَغِل بِشَيْءٍ آخَرَ قَبْل
رَمْيِهَا، فَيَرْمِيهَا بَعْدَ دُخُول وَقْتِهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ
مِنْ أَيِّ جِهَةٍ يَرْمِيهَا وَاحِدَةً فَوَاحِدَةً يُكَبِّرُ مَعَ
كُل حَصَاةٍ وَيَدْعُو، وَكَيْفَمَا أَمْسَكَ الْحَصَاةَ وَرَمَاهَا
صَحَّ، دُونَ تَقْيِيدٍ بِهَيْئَةٍ، لَكِنْ لاَ يَجُوزُ وَضْعُ
الْحَصَاةِ فِي الْمَرْمَى وَضْعًا، وَيُسَنُّ أَنْ يَرْمِيَ بَعْدَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَيَمْتَدُّ وَقْتُ السُّنَّةِ إِلَى الزَّوَال،
وَيُبَاحُ بَعْدَهُ إِلَى الْمَغْرِبِ.
15 - أَمَّا كَيْفِيَّةُ الرَّمْيِ فَهِيَ أَنْ يَبْعُدَ عَنِ
الْجَمْرَةِ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا الْحَصَى قَدْرَ خَمْسَةِ
أَذْرُعٍ فَأَكْثَرَ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَيُمْسِكَ
بِالْحَصَاةِ بِطَرَفَيْ إِبْهَامِ وَمُسَبِّحَةِ يَدِهِ الْيُمْنَى،
وَيَرْفَعَ يَدَهُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبِطَيْهِ، وَيَقْذِفَهَا
وَيُكَبِّرَ. وَقِيل: يَضَعُ الْحَصَاةَ عَلَى ظَهْرِ إِبْهَامِهِ
الْيُمْنَى وَيَسْتَعِينُ بِالْمُسَبِّحَةِ، وَقِيل: يُسْتَحَبُّ أَنْ
يَضَعَ الْحَصَاةَ بَيْنَ سَبَّابَتَيْ يَدَيْهِ الْيُمْنَى
وَالْيُسْرَى وَيَرْمِيَ بِهَا (1) .
16 - أَمَّا صِيغَةُ التَّكْبِيرِ فَقَدْ جَاءَتْ فِي الْحَدِيثِ
__________
(1) ولتفصيل من أين يلتقط الحصى، تنظر الموسوعة 5 / 218.
(23/163)
مُطْلَقَةً " يُكَبِّرُ مَعَ كُل حَصَاةٍ "
(1) . فَيَجُوزُ بِأَيِّ صِيغَةٍ مِنْ صِيَغِ التَّكْبِيرِ.
وَاخْتَارَ الْعُلَمَاءُ نَحْوَ هَذِهِ الصِّيغَةِ: بِسْمِ اللَّهِ
وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، رَغْمًا لِلشَّيْطَانِ وَرِضًا لِلرَّحْمَنِ،
اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا وَسَعْيًا مَشْكُورًا،
وَذَنْبًا مَغْفُورًا وَالْمُسْتَنَدُ فِي ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ
الآْثَارِ الْكَثِيرَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ (2) .
وَلَوْ رَمَى وَتَرَكَ الذِّكْرَ فَلَمْ يُكَبِّرْ وَلَمْ يَأْتِ
بِأَيِّ ذِكْرٍ جَازَ، وَقَدْ أَسَاءَ لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ.
وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ أَوَّل حَصَاةٍ يَرْمِيهَا وَيَشْتَغِل
بِالتَّكْبِيرِ.
وَيَنْصَرِفُ مِنَ الرَّمْيِ وَهُوَ يَقُول: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ
حَجًّا مَبْرُورًا، وَسَعْيًا مَشْكُورًا وَذَنْبًا مَغْفُورًا.
وَوَقْتُ الرَّمْيِ فِي هَذِهِ الأَْيَّامِ بَعْدَ الزَّوَال،
وَيُنْدَبُ تَقْدِيمُ الرَّمْيِ قَبْل صَلاَةِ الظُّهْرِ فِي
الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُقَدِّمُ صَلاَةَ
الظُّهْرِ عَلَى الرَّمْيِ (3) .
__________
(1) حديث: " يكبر مع كل حصاة ". تقدم تخريجه ف / 6. وانظر فتح القدير 2
/ 174.
(2) انظر طائفة منها في المغني 3 / 427 - 428، وقال الحنفية: " لو سبح
مكان التكبير أو ذكر الله أو حمده أو وحده أجزأه، لأن المقصود من
تكبيره صلى الله عليه وسلم الذكر ". الهداية 2 / 75، وانظر تحقيق
الكمال بن الهمام وتعليقه على هذا في شرحه عليها.
(3) الشرح الكبير 2 / 52، والمجموع 8 / 179 (وقارن بمغني المحتاج 1 /
507) ، والفروع 8 / 518، ولباب المناسك بشرحه ص 162.
(23/163)
17 - وَقَدْ بَحَثُوا فِي أَفْضَلِيَّةِ
الرُّكُوبِ أَوِ الْمَشْيِ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ، وَاخْتَلَفُوا فِي
ذَلِكَ وَكَانُوا يَرْكَبُونَ الدَّوَابَّ فَكَانَ الرَّمْيُ
لِلرَّاكِبِ مُمْكِنًا.
فَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
إِلَى أَنَّهُ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ رَاكِبًا وَغَيْرَهَا
مَاشِيًا فِي جَمِيعِ أَيَّامِ الرَّمْيِ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٌ: الرَّمْيُ كُلُّهُ رَاكِبًا أَفْضَل.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ
النَّحْرِ كَيْفَمَا كَانَ وَغَيْرَهَا مَاشِيًا.
وَقَال الشَّافِعِيُّ: يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ
رَاكِبًا، وَكَذَلِكَ يَرْمِيهَا يَوْمَ النَّفْرِ رَاكِبًا، وَيَمْشِي
فِي الْيَوْمَيْنِ الآْخَرَيْنِ أَحَبُّ إِلَيَّ "، وَاخْتَارَ صَاحِبُ
الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةَ الْحَنَفِيُّ اسْتِحْبَابَ الْمَشْيِ
إِلَى الْجِمَارِ مُطْلَقًا، وَهُوَ الأَْكْثَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
(1) .
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي
الْجِمَارَ فِي الأَْيَّامِ الثَّلاَثَةِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ
مَاشِيًا ذَاهِبًا وَرَاجِعًا، وَيُخْبِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَل ذَلِكَ.
ثُمَّ إِذَا فَرَغَ مِنَ الرَّمْيِ ثَانِيَ أَيَّامِ الْعِيدِ وَهُوَ
أَوَّل أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ فِي مِنًى،
وَيَبِيتُ
__________
(1) شرح اللباب ص163، الأم 2 / 213، وانظر المجموع 8 / 183، الفروع 3 /
512، وقارن بالمغني 3 / 428.
(23/164)
تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِيهَا، فَإِذَا كَانَ
مِنَ الْغَدِ وَهُوَ ثَانِيَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ، وَثَالِثُ
أَيَّامِ النَّحْرِ، وَثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رَمَى الْجِمَارَ
الثَّلاَثَةَ بَعْدَ الزَّوَال عَلَى كَيْفِيَّةِ رَمْيِ الْيَوْمِ
السَّابِقِ.
ثُمَّ إِذَا رَمَى فِي هَذَا الْيَوْمِ فَلَهُ أَنْ يَنْفِرَ أَيْ
يَرْحَل، بِلاَ كَرَاهَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّل فِي
يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (1) .
وَيَسْقُطُ عَنْهُ رَمْيُ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، لِذَلِكَ يُسَمَّى
هَذَا الْيَوْمُ يَوْمَ النَّفْرِ الأَْوَّل.
18 - وَإِنْ لَمْ يَنْفِرْ لَزِمَهُ رَمْيُ الْيَوْمِ الرَّابِعِ،
وَهُوَ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، ثَالِثُ أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ، يَرْمِي فِيهِ الْجَمَرَاتِ الثَّلاَثَ عَلَى
الْكَيْفِيَّةِ السَّابِقَةِ فِي ثَانِي يَوْمٍ أَيْضًا، لَكِنْ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ يَصِحُّ الرَّمْيُ فِي هَذَا الْيَوْمِ مِنَ الْفَجْرِ
مَعَ الْكَرَاهَةِ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ، وَيَنْتَهِي وَقْتُ
الرَّمْيِ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ أَدَاءً وَقَضَاءً،
فَإِنْ لَمْ يَرْمِ حَتَّى غَرَبَتْ شَمْسُ الْيَوْمِ فَاتَ الرَّمْيُ
وَتَعَيَّنَ الدَّمُ فِدَاءً عَنِ الْوَاجِبِ الَّذِي تَرَكَهُ،
وَيَرْحَل بَعْدَ الرَّمْيِ، وَلاَ يُسَنُّ الْمُكْثُ فِي مِنًى
بَعْدَهُ، وَيُسَمَّى هَذَا النَّفْرَ الثَّانِيَ، وَهَذَا الْيَوْمُ
يَوْمَ النَّفْرِ الثَّانِي.
وَالأَْفْضَل أَنْ يَتَأَخَّرَ بِمِنًى وَيَرْمِيَ الْيَوْمَ
الرَّابِعَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ
عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} (2) وَاتِّبَاعًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكْمِيلاً لِلْعِبَادَةِ.
__________
(1) سورة البقرة / 203.
(2) سورة البقرة / 203.
(23/164)
أَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ رُكُوبِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّمْيِ فَأُجِيبَ عَنْهُ
بِأَنَّهُ " مَحْمُولٌ عَلَى رَمْيٍ لاَ رَمْيَ بَعْدَهُ، أَوْ عَلَى
التَّعْلِيمِ لِيَرَاهُ النَّاسُ فَيَتَعَلَّمُوا مِنْهُ مَنَاسِكَ
الْحَجِّ " وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَوْلَى وَأَقْوَى، يَدُل عَلَيْهِ
قَوْلُهُ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل وَهُوَ رَاكِبٌ: لِتَأْخُذُوا عَنِّي
مَنَاسِكَكُمْ.
آثَارُ الرَّمْيِ:
يَتَرَتَّبُ عَلَى رَمْيِ الْجِمَارِ أَحْكَامٌ هَامَّةٌ فِي الْحَجِّ،
سِوَى بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْ وُجُوبِهِ، وَهَذِهِ الآْثَارُ هِيَ:
أ - أَثَرُ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ:
19 - يَتَرَتَّبُ عَلَى رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ
التَّحَلُّل الأَْوَّل مِنْ إِحْرَامِ الْحَجِّ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، خِلاَفًا
لِلْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ التَّحَلُّل الأَْوَّل
يَكُونُ بِالْحَلْقِ، وَعَلَى تَفْصِيلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ (ر: مُصْطَلَحَ إحْرَام ف 122 - 125) .
ب - أَثَرُ رَمْيِ الْجِمَارِ يَوْمَيِ التَّشْرِيقِ: النَّفْرُ
الأَْوَّل:
20 - إِذَا رَمَى الْحَاجُّ الْجِمَارَ أَوَّل وَثَانِيَ أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ، أَيْ يَرْحَل إِنْ أَحَبَّ
التَّعَجُّل فِي الاِنْصِرَافِ مِنْ مِنًى، هَذَا هُوَ النَّفْرُ
الأَْوَّل، وَبِهَذَا النَّفْرِ يَسْقُطُ رَمْيُ الْيَوْمِ الأَْخِيرِ،
(23/165)
وَهُوَ قَوْل عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّل فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ
عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} (1)
.
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ الدِّيلِيِّ
الصَّحِيحِ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَيَّامُ مِنًى ثَلاَثَةٌ: فَمَنْ تَعَجَّل فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ
إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ (2) .
ج - أَثَرُ الرَّمْيِ ثَالِثَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: النَّفْرُ
الثَّانِي:
21 - إِذَا رَمَى الْحَاجُّ الْجِمَارَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ
أَيَّامِ التَّشْرِيقِ انْصَرَفَ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ، وَلاَ
يُقِيمُ بِمِنًى بَعْدَ رَمْيِهِ هَذَا الْيَوْمَ، وَيُسَمَّى هَذَا
النَّفْرُ النَّفْرَ الثَّانِيَ، وَالْيَوْمُ يَوْمَ النَّفْرِ
الثَّانِي، وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَبِهِ يَنْتَهِي
وَقْتُ رَمْيِ الْجِمَارِ، وَيَفُوتُ عَلَى مَنْ لاَ يَتَدَارَكُهُ
قَبْل غُرُوبِ شَمْسِ هَذَا الْيَوْمِ، وَبِهِ تَنْتَهِي مَنَاسِكُ
مِنًى.
حُكْمُ تَرْكِ الرَّمْيِ:
22 - يَلْزَمُ مَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ بِغَيْرِ عُذْرٍ الإِْثْمُ
وَوُجُوبُ الدَّمِ، وَإِنْ تَرَكَهُ بِعُذْرٍ لاَ يَأْثَمُ، لَكِنْ لاَ
يَسْقُطُ الدَّمُ عَنْهُ، وَلَوْ تَرَكَ حَصَاةً وَاحِدَةً عِنْدَ
__________
(1) سورة البقرة / 203.
(2) حديث: " أيام منى ثلاثة " أخرجه أحمد (4 / 309 - ط الميمنية)
والحاكم (1 / 464 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الذهبي.
(23/165)
الْمَالِكِيَّةِ، وَيُجْزِئُهُ شَاةٌ عَنْ
تَرْكِ الرَّمْيِ كُلِّهِ، أَوْ عَنْ تَرْكِ رَمْيِ يَوْمٍ.
وَتَسَامَحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي حَصَاةٍ
وَحَصَاتَيْنِ فَجَعَلُوا فِي ذَلِكَ صَدَقَةً، وَأَنْزَل
الْحَنَفِيَّةُ الأَْكْثَرَ مَنْزِلَةَ الْكُل مَعَ وُجُوبِ جَزَاءٍ
عَنِ النَّاقِصِ.
(انْظُرْ تَفْصِيل أَحْوَال تَرْكِ الرَّمْيِ فِي مُصْطَلَحِ: حَجّ ف /
273) .
النِّيَابَةُ فِي الرَّمْيِ:
23 - وَهِيَ رُخْصَةٌ خَاصَّةٌ بِالْمَعْذُورِ، تَفْصِيل حُكْمِهَا
فِيمَا يَلِي:
أ - الْمَعْذُورُ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الرَّمْيَ بِنَفْسِهِ،
كَالْمَرِيضِ، يَجِبُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَرْمِيَ عَنْهُ،
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النَّائِبُ قَدْ رَمَى عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ
لَمْ يَكُنْ رَمَى عَنْ نَفْسِهِ فَلْيَرْمِ عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلاً
الرَّمْيَ كُلَّهُ، ثُمَّ يَرْمِي عَمَّنِ اسْتَنَابَهُ، وَيُجْزِئُ
هَذَا الرَّمْيُ عَنِ الأَْصِيل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ
وَالْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: لَوْ رَمَى حَصَاةً عَنْ نَفْسِهِ
وَأُخْرَى عَنِ الآْخَرِ جَازَ وَيُكْرَهُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الإِْنَابَةَ خَاصَّةٌ بِمَنْ بِهِ
عِلَّةٌ لاَ يُرْجَى زَوَالُهَا قَبْل انْتِهَاءِ أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ كَمَرِيضٍ أَوْ مَحْبُوسٍ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ: أَنَّهُ يَرْمِي حَصَيَاتِ كُل
جَمْرَةٍ عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلاً، ثُمَّ يَرْمِيهَا عَنِ الْمَرِيضِ
(23/166)
الَّذِي أَنَابَهُ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ
مِنَ الرَّمْيِ، وَهُوَ مَخْلَصٌ حَسَنٌ لِمَنْ خَشِيَ خَطَرَ
الزِّحَامِ.
ب - مَنْ عَجَزَ عَنْ الاِسْتِنَابَةِ كَالصَّبِيِّ الصَّغِيرِ،
وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَيَرْمِي عَنِ الصَّبِيِّ وَلِيُّهُ
اتِّفَاقًا، وَعَنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ رِفَاقُهُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَلاَ فِدْيَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَرْمِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فَائِدَةُ الاِسْتِنَابَةِ أَنْ يَسْقُطَ
الإِْثْمُ عَنْهُ إِنِ اسْتَنَابَ وَقْتَ الأَْدَاءِ وَإِلاَّ
فَالدَّمُ عَلَيْهِ، اسْتَنَابَ، أَمْ لاَ، إِلاَّ الصَّغِيرَ وَمَنْ
أُلْحِقَ بِهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ دُونَ الصَّغِيرِ
وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ الْمُخَاطَبُ
بِسَائِرِ الأَْرْكَانِ (1) .
(ثَانِيًا)
الرَّمْيُ فِي الصَّيْدِ الصَّيْدُ بِالرَّمْيِ بِالْمُحَدَّدِ:
24 - يَجُوزُ الصَّيْدُ بِالرَّمْيِ بِالسِّهَامِ الْمُحَدَّدَةِ
لِلأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالإِْجْمَاعِ، فَإِنْ رَمَى
__________
(1) انظر مذهب الحنفية في المبسوط 4 / 69، وبدائع الصنائع 2 / 132،
وحاشية شلبي على شرح الكنز 4 / 34، والمسلك المتقسط شرح اللباب ص 166،
والفتاوى الهندية 1 / 221، ومذهب الشافعية في الأم 2 / 214، والمجموع 8
/ 184 - 186، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي 2 / 122 - 123، ونهاية
المحتاج 2 / 435، ومغني المحتاج 1 / 508، وانظر المغني في فقه الحنابلة
3 / 491، وانظر شرح الزرقاني على مختصر خليل وحاشية البناني 3 / 282،
والشرح الكبير بحاشيته 2 / 47 - 48 و52.
(23/166)
الصَّيْدَ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلتَّذْكِيَةِ
مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كِتَابِيٍّ فَقَتَلَهُ بِحَدِّ مَا رَمَاهُ بِهِ
كَالسَّهْمِ الَّذِي لَهُ نَصْلٌ مُحَدَّدٌ، وَالسَّيْفِ،
وَالسِّكِّينِ، وَالسِّنَانِ، وَالْحَجَرِ الْمُحَدَّدِ وَالْخَشَبَةِ
الْمُحَدَّدَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَدَّدَاتِ حَل أَكْلُهُ
بِشُرُوطٍ ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ لِحِل مَا يُصَادُ بِالرَّمْيِ (1) .
الصَّيْدُ بِالرَّمْيِ بِالْمُثَقَّل:
25 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ يَحِل مَا صِيدَ
بِالْمُثَقَّل وَيُعْتَبَرُ وَقِيذًا (2) . فَلاَ يَحِل مَا أَصَابَهُ
الرَّامِي بِمَا لاَ حَدَّ لَهُ فَقَتَلَهُ كَالْحَجَرِ، وَخَشَبَةٍ
لاَ حَدَّ لَهَا، أَوْ رَمَاهُ بِمُحَدِّدٍ فَقَتَلَهُ بِعُرْضِهِ لاَ
بِحَدِّهِ لِمَا رَوَى عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال: سَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
صَيْدِ الْمِعْرَاضِ قَال: إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُل، فَإِذَا
أَصَابَ بِعُرْضِهِ فَقَتَل فَلاَ تَأْكُل فَإِنَّهُ وَقِيذٌ (3) .
وَلِمَا وَرَدَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
__________
(1) تبيين الحقائق 6 / 56، وابن عابدين 5 / 301 وما بعدها، والمنتقى 3
/ 118، 119، والمجموع 9 / 110، 111، والمغني 8 / 559، تبيين الحقائق 6
/ 56، وابن عابدين 5 / 301 وما بعدها، والمنتقى 3 / 118، 119، والمجموع
9 / 110، 111، والمغني 8 / 559، 569 لقد اشترط الحنفية لحل الصيد
بالرمي التسمية والجرح، وعدم القعود عن طلب الصيد عند غيابه. (ابن
عابدين 5 / 301، 302)
(2) ابن عابدين 5 / 304، والزيلعي 6 / 58، والمغني 8 / 558، 559، 569،
والمجموع 9 / 110، 111، والمنتقى 3 / 118، وسبل السلام 4 / 130، 131
نشر المكتبة التجارية
(3) حديث: " إذا حسدت فاستغفر، وإذا ظننت. . . " أورده الهيثمي في
المجمع (8 / 78 - ط القدسي) وقال: رواه الطبراني وفيه إسماعيل بن قيس
الأنصاري، وهو ضعيف
(23/167)
نَهَى عَنِ الْخَذْفِ وَقَال: إِنَّهُ لاَ
يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ وَلاَ يُنْكَأُ بِهِ عَدُوٌّ، وَلَكِنَّهَا قَدْ
تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ (1) . وَالْخَذْفُ: الرَّمْيُ
بِحَصًى صِغَارٍ بِطَرِيقَةٍ مَخْصُوصَةٍ بَيْنَ الأَْصَابِعِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي بَحْثِ (خَذْف) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا أَصَابَ
الصَّيْدَ بِمَا لاَ حَدَّ لَهُ لاَ يَحِل وَإِنْ جَرَحَهُ (2) .
وَذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ وَمَكْحُولٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ عُلَمَاءِ
الشَّامِ إِلَى أَنَّهُ يَحِل صَيْدُ الْمِعْرَاضِ مُطْلَقًا فَيُبَاحُ
مَا قَتَلَهُ بِحَدِّهِ وَعُرْضِهِ (3) .
قَال النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ إِذَا كَانَ الرَّمْيُ بِالْبَنَادِقِ
وَبِالْخَذْفِ (بِالْمُثَقَّل) إِنَّمَا هُوَ لِتَحْصِيل الصَّيْدِ،
وَكَانَ الْغَالِبُ فِيهِ عَدَمَ قَتْلِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ
إِذَا أَدْرَكَهُ الصَّائِدُ وَذَكَّاهُ، كَرَمْيِ الطُّيُورِ
الْكِبَارِ بِالْبَنَادِقِ (4) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: صَيْد) وَالْمُرَادُ بِالْبُنْدُقِ فِي كَلاَمِ
النَّوَوِيِّ وَمَنْ عَهِدَهُ: كُرَاتٌ مِنَ الطِّينِ بِحَجْمِ حَبَّةِ
الْبُنْدُقَةِ.
__________
(1) حديث: " نهى عن الخذف ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 607 - ط
السلفية) ، ومسلم (3 / 1547، 1548 ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مغفل،
واللفظ للبخاري
(2) ابن عابدين 5 / 304، والمجموع 9 / 111، والزيلعي6 / 58، 59
(3) سبل السلام 4 / 131 ط المكتبة التجارية، والمغني 8 / 559
(4) سبل السلام 4 / 133، وصحيح مسلم بشرح النووي 13 / 106
(23/167)
اتِّخَاذُ الْحَيَوَانِ هَدَفًا يُرْمَى
إِلَيْهِ:
26 - يَحْرُمُ اتِّخَاذُ شَيْءٍ فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا. فَقَدْ قَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَتَّخِذُوا
شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا (1) . أَيْ لاَ تَتَّخِذُوا
الْحَيَوَانَ الْحَيَّ غَرَضًا تَرْمُونَ إِلَيْهِ كَالْغَرَضِ مِنَ
الْجُلُودِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ لأَِنَّهُ
أَصْلُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ مَرَّ بِنَفَرٍ
قَدْ نَصَبُوا دَجَاجَةً يَتَرَامَوْنَهَا، فَلَمَّا رَأَوُا ابْنَ
عُمَرَ تَفَرَّقُوا عَنْهَا. فَقَال ابْنُ عُمَرَ: مَنْ فَعَل هَذَا؟
إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنْ
فَعَل هَذَا (2)
وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ أَنَّهُ قَال: دَخَلْتُ مَعَ جَدِّي أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ دَارَ
الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ فَإِذَا قَوْمٌ قَدْ نَصَبُوا دَجَاجَةً
يَرْمُونَهَا. قَال: فَقَال أَنَسٌ: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ (3) .
قَال الْعُلَمَاءُ: صَبْرُ الْبَهَائِمِ أَنْ تُحْبَسَ وَهِيَ حَيَّةٌ
لِتُقْتَل بِالرَّمْيِ وَنَحْوِهِ.
__________
(1) حديث: " لا تتخذوا شيئًا فيه الروح غرضًا ". أخرجه مسلم (2 / 1549
- ط الحلبي) من حديث ابن عباس
(2) حديث ابن عمر: " أنه مر بنفر قد نصبوا دجاجة يترامونها، فلما رأوا
ابن عمر تفرقوا عنها. فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم لعن من فعل هذا ". أخرجه مسلم (3 / 1550 - ط الحلبي)
(3) حديث: " نهى أن تصبر البهائم ". أخرجه مسلم (3 / 1549 - ط الحلبي)
(23/168)
قَال الصَّنْعَانِيُّ وَغَيْرُهُ فِي
وَجْهِ حِكْمَةِ النَّهْيِ: إِنَّ فِيهِ إِيلاَمًا لِلْحَيَوَانِ،
وَتَضْيِيعًا لِمَالِيَّتِهِ، وَتَفْوِيتًا لِذَكَاتِهِ إِنْ كَانَ
مِمَّا يُذَكَّى، وَلِمَنْفَعَتِهِ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُذَكًّى (1) .
وَيُنْظَرُ بَحْثُ: (تَعْذِيب) .
(ثَالِثًا)
الرَّمْيُ فِي الْجِهَادِ
تَعَلُّمُ الرَّمْيِ:
27 - حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ
عَلَى الرَّمْيِ وَحَضَّهُمْ عَلَى مُوَاصَلَةِ التَّدَرُّبِ عَلَيْهِ،
وَحَذَّرَ مَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ فَتَرَكَهُ، رَوَى سَلَمَةُ بْنُ
الأَْكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مَرَّ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ
فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْمُوا بَنِي
إِسْمَاعِيل فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، ارْمُوا، وَأَنَا مَعَ
بَنِي فُلاَنٍ. قَال: فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ،
فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَكُمْ
لاَ تَرْمُونَ؟ قَالُوا: كَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهُمْ؟ فَقَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْمُوا فَأَنَا
مَعَكُمْ كُلُّكُمْ (2) .
وَفَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُوَّةَ
الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا فِي قَوْله تَعَالَى
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 13 / 107، 108، وسبل السلام 4 / 133، ونيل
الأوطار 8 / 249 نشر دار الجيل، وعمدة القاري 21 / 124
(2) حديث: " ارموا بني إسماعيل ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 91 - ط
السلفية)
(23/168)
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ قُوَّةٍ} (1) بِالرَّمْيِ، كَمَا فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ
عَامِرٍ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُول: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلاَ
إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ (2) .
وَعَنْ خَالِدِ بْنِ زَيْدٍ قَال: كُنْتُ رَامِيًا أُرَامِي عُقْبَةَ
بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ، فَمَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَال يَا خَالِدُ:
اخْرُجْ بِنَا نَرْمِي، فَأَبْطَأْتُ عَلَيْهِ فَقَال: يَا خَالِدُ:
تَعَال أُحَدِّثُكَ مَا حَدَّثَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقُول لَكَ كَمَا قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِل بِالسَّهْمِ
الْوَاحِدِ ثَلاَثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ: صَانِعَهُ الَّذِي احْتَسَبَ
فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، وَمُنَبِّلَهُ، وَالرَّامِيَ بِهِ، ارْمُوا
وَارْكَبُوا، وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا،
وَلَيْسَ مِنَ اللَّهْوِ إِلاَّ ثَلاَثٌ: تَأْدِيبُ الرَّجُل فَرَسَهُ،
وَمُلاَعَبَتُهُ زَوْجَتَهُ، وَرَمْيُهُ بِنَبْلِهِ عَنْ قَوْسِهِ،
وَمَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَهِيَ نِعْمَةٌ كَفَرَهَا (3)
.
وَهُنَاكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى تَدُل عَلَى فَضْل الرَّمْيِ
وَالتَّحْرِيضِ عَلَيْهِ (4) مِنْهَا مَا رَوَى أَبُو نَجِيحٍ
__________
(1) سورة الأنفال / 60
(2) حديث: " ألا إن القوة الرمي ". أخرجه مسلم (3 / 1522 - ط الحلبي)
(3) حديث: " إن الله يدخل بالسهم الواحد ". أخرجه الحاكم (2 / 95 - ط
دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي
(4) المغني 8 / 652، وعمدة القاري 14 / 182
(23/169)
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيل اللَّهِ
فَهُوَ لَهُ عَدْل مُحَرَّرٍ.
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الأَْحَادِيثِ الَّتِي
ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ فِي فَضْل الرَّمْيِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ: فِي
هَذِهِ الأَْحَادِيثِ فَضِيلَةُ الرَّمْيِ وَالْمُنَاضَلَةِ،
وَالاِعْتِنَاءُ بِذَلِكَ بِنِيَّةِ الْجِهَادِ فِي سَبِيل اللَّهِ
تَعَالَى، وَكَذَلِكَ الْمُشَاجَعَةُ، وَسَائِرُ أَنْوَاعِ اسْتِعْمَال
السِّلاَحِ، وَكَذَا الْمُسَابَقَةُ بِالْخَيْل وَغَيْرِهَا،
وَالْمُرَادُ بِهَذَا كُلِّهِ التَّمَرُّنُ عَلَى الْقِتَال،
وَالتَّدَرُّبُ، وَالتَّحَذُّقُ فِيهِ، وَرِيَاضَةُ الأَْعْضَاءِ
بِذَلِكَ (1) .
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: فَضْل الرَّمْيِ عَظِيمٌ، وَمَنْفَعَتُهُ
عَظِيمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَنِكَايَتُهُ شَدِيدَةٌ عَلَى
الْكَافِرِينَ، قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا بَنِي
إِسْمَاعِيل ارْمُوا فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا (2) وَتَعَلُّمُ
الْفُرُوسِيَّةِ وَاسْتِعْمَال الأَْسْلِحَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَقَدْ
يَتَعَيَّنُ (3) .
الْمُنَاضَلَةُ:
28 - الْمُنَاضَلَةُ هِيَ الْمُسَابِقَةُ فِي الرَّمْيِ بِالسِّهَامِ،
وَالْمُنَاضَلَةُ مَصْدَرُ نَاضَلْتُهُ نِضَالاً وَمُنَاضَلَةً،
وَسُمِّيَ الرَّمْيُ نِضَالاً لأَِنَّ السَّهْمَ التَّامَّ يُسَمَّى
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 13 / 64
(2) حديث: " يا بني إسماعيل ارموا. . . " سبق تخريجه ف / 26
(3) تفسير القرطبي 8 / 36
(23/169)
نَضْلاً، فَالرَّمْيُ بِهِ عَمَلٌ
بِالنَّضْل فَسُمِّيَ نِضَالاً وَمُنَاضَلَةً (1) .
وَتَصِحُّ الْمُنَاضَلَةُ عَلَى الرَّمْيِ بِالسِّهَامِ بِالاِتِّفَاقِ
(2) . وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ الْمُنَاضَلَةَ - بِجَانِبِ مَا
تَقَدَّمَ - عَلَى رِمَاحٍ، وَعَلَى رَمْيٍ بِأَحْجَارٍ بِمِقْلاَعٍ،
أَوْ بِيَدٍ، وَرَمْيٍ بِمَنْجَنِيقٍ، وَكُل نَافِعٍ فِي الْحَرْبِ
بِمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ كَالرَّمْيِ بِالْمِسَلاَّتِ، وَالإِْبَرِ،
وَالتَّرَدُّدِ بِالسُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ.
وَقَدْ تَجِبُ الْمُنَاضَلَةُ إِذَا تَعَيَّنَتْ طَرِيقًا لِقِتَال
الْكُفَّارِ، وَقَدْ يُكْرَهُ أَوْ يَحْرُمُ - حَسَبَ اخْتِلاَفِ
الْمَذَاهِبِ - إِذَا كَانَ سَبَبًا فِي قِتَال قَرِيبٍ كَافِرٍ لَمْ
يَسُبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَبِذَلِكَ تَعْتَرِي الْمُنَاضَلَةَ
الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْخَمْسَةُ (3) .
(رَابِعًا)
الرَّمْيُ فِي الْقَذْفِ
الرَّمْيُ بِالزِّنَا:
29 - الرَّمْيُ بِالزِّنَا لاَ فِي مَعْرِضِ الشَّهَادَةِ يُوجِبُ
حَدَّ الْقَذْفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
فَاجْلِدُوهُمْ
__________
(1) المغني 8 / 661
(2) ابن عابدين 5 / 257، وبدائع الصنائع 6 / 206، والمغني 8 / 652 -
653 والإقناع 2 / 247، وجواهر الإكليل 1 / 271
(3) الإقناع وحاشية الباجوري عليه 2 / 247، والموسوعة الفقهية 16 / 150
(23/170)
ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (1) وَالْمُرَادُ:
الرَّمْيُ بِالزِّنَا بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ.
وَأَمَّا الرَّمْيُ فِي مَعْرِضِ الشَّهَادَةِ فَيُنْظَرُ: إِنْ تَمَّ
عَدَدُ الشُّهُودِ أَرْبَعَةً وَثَبَتُوا عَلَى شَهَادَتِهِمْ أُقِيمَ
حَدُّ الزِّنَا عَلَى الْمَرْمِيِّ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ
لَمْ يَتِمَّ الْعَدَدُ، بِأَنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ
فَعَلَيْهِمْ حَدُّ الْقَذْفِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الْمُقَابِل لِلأَْظْهَرِ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: أَنَّ الشُّهُودَ -
عِنْدَ عَدَمِ تَمَامِ الْعَدَدِ - لاَ حَدَّ عَلَيْهِمْ لأَِنَّهُمْ
شُهُودٌ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ كَمَا لَوْ كَانُوا
أَرْبَعَةً أَحَدُهُمْ فَاسِقٌ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: قَذْف) .
رَمْيُ الْجِمَارِ
انْظُرْ: رَمْي
__________
(1) سورة النور / 4
(2) البناية 5 / 443، وروضة الطالبين 10 / 107، 108، والمغني مع الشرح
الكبير 10 / 179، والشرح الصغير 4 / 265
(23/170)
رِهَان
التَّعْرِيفُ:
يَأْتِي الرِّهَانُ عَلَى مَعَانٍ مِنْهَا:
1 - الْمُخَاطَرَةُ: جَاءَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الرِّهَانُ
وَالْمُرَاهَنَةُ: الْمُخَاطَرَةُ. يُقَال: رَاهَنَهُ فِي كَذَا،
وَهُمْ يَتَرَاهَنُونَ، وَأَرْهَنُوا بَيْنَهُمْ خَطَرًا، وَصُورَةُ
هَذَا الْمَعْنَى مِنْ مَعَانِي الرِّهَانِ: أَنْ يَتَرَاهَنَ
شَخْصَانِ أَوْ حِزْبَانِ عَلَى شَيْءٍ يُمْكِنُ حُصُولُهُ كَمَا
يُمْكِنُ عَدَمُ حُصُولِهِ بِدُونِهِ، كَأَنْ يَقُولاَ مَثَلاً: إِنْ
لَمْ تُمْطِرِ السَّمَاءُ غَدًا فَلَكَ عَلَيَّ كَذَا مِنَ الْمَال،
وَإِلاَّ فَلِي عَلَيْكَ مِثْلُهُ مِنَ الْمَال، وَالرِّهَانُ بِهَذَا
الْمَعْنَى حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الْمُلْتَزِمِينَ
بِأَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالذِّمِّيِّينَ؛
لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَغْنَمَ أَوْ
يَغْرَمَ، وَهُوَ صُورَةُ الْقِمَارِ الْمُحَرَّمِ (1) .
وَأَمَّا الرِّهَانُ بَيْنَ الْمُلْتَزِمِ وَبَيْنَ الْحَرْبِيِّ
فَقَدِ
__________
(1) القليوبي 4 / 266، نهاية المحتاج 8 / 168، المغني 8 / 654، فتح
القدير 6 / 178
(23/171)
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاء فِي تَحْرِيمِهِ،
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ
(ر: مَيْسِر، رِبًا) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: الرِّهَانُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُلْتَزِمِ
وَالْحَرْبِيِّ، لأَِنَّ مَالَهُمْ مُبَاحٌ فِي دَارِهِمْ، فَبِأَيِّ
طَرِيقَةٍ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُ أَخَذَ مَالاً مُبَاحًا إِذَا لَمْ
يَكُنْ غَدْرًا، وَاسْتَدَل بِقِصَّةِ أَبِي بَكْرٍ مَعَ قُرَيْشٍ فِي
مَكَّةَ قَبْل الْهِجْرَةِ، لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ {أَلَمْ غُلِبَتِ
الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَْرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ
سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَْمْرُ مِنْ قَبْل وَمِنْ
بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ
يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} فَقَالَتْ
قُرَيْشٌ لأَِبِي بَكْرٍ: تَرَوْنَ أَنَّ الرُّومَ تَغْلِبُ فَارِسًا
قَال: نَعَمْ، فَقَالُوا: أَتُخَاطِرُنَا عَلَى ذَلِكَ؟ فَخَاطَرَهُمْ،
فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: اذْهَبْ إِلَيْهِمْ فَزِدْ فِي
الْخَطَرِ فَفَعَل، وَغَلَبَتِ الرُّومُ فَارِسًا، فَأَخَذَ أَبُو
بَكْرٍ خَطَرَهُ، فَأَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ذَلِكَ (1) . قَال ابْنُ الْهُمَامِ: وَهَذَا هُوَ
الْقِمَارُ بِعَيْنِهِ (2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (مَيْسِر) .
2 - وَيَأْتِي الرِّهَانُ بِمَعْنَى الْمُسَابَقَةِ بِالْخَيْل أَوِ
الرَّمْيِ، وَهَذَا جَائِزٌ بِشُرُوطِهِ - (ر: مُسَابَقَة) .
__________
(1) حديث: " نزول آية الروم ورهان أبي بكر مع قريش ". أخرجه الترمذي (5
/ 344 - ط الحلبي) بلفظ مقارب، وقال: " حديث حسن صحيح "
(2) فتح القدير 6 / 178
(23/171)
3 - وَيَأْتِي بِمَعْنَى: رَهْنٍ،
وَالرِّهَانُ جَمْعُهُ، وَهُوَ جَعْل مَالٍ وَثِيقَةً بِدَيْنٍ
يُسْتَوْفَى مِنْهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ وَفَائِهِ. (ر: رَهْن) .
4 - وَيُطْلَقُ الرِّهَانُ عَلَى الْمَال الْمَشْرُوطِ فِي سِبَاقِ
الْخَيْل وَنَحْوِهِ، جَاءَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: السَّبَقُ -
بِفَتْحِ الْبَاءِ - الْخَطَرُ الَّذِي يُوضَعُ فِي الرِّهَانِ عَلَى
الْخَيْل وَالنِّضَال، وَالرِّهَانُ بِهَذَا الْمَعْنَى مَشْرُوعٌ
بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، بَل هُوَ مُسْتَحَبٌّ إِذَا قُصِدَ بِهِ
التَّأَهُّبُ لِلْجِهَادِ.
5 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ الرِّهَانُ مِنَ
الْحَيَوَانِ فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَكُونُ فِي الْخَيْل،
وَالإِْبِل، وَالْفِيل، وَالْبَغْل، وَالْحِمَارِ فِي الْقَوْل
الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ إِلاَّ
فِي الْخَيْل وَالإِْبِل، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ فِي الْخَيْل
وَالإِْبِل وَعَلَى الأَْرْجُل.
شُرُوطُ جَوَازِ الرِّهَانِ فِي السِّبَاقِ:
6 - يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ الرِّهَانِ عَلَى مَا ذُكِرَ: عِلْمُ
الْمَوْقِفِ الَّذِي يَجْرِيَانِ مِنْهُ، وَالْغَايَةِ الَّتِي
يَجْرِيَانِ إِلَيْهَا، وَتَسَاوِيهِمَا فِيهِمَا، وَالْعِلْمُ
بِالْمَشْرُوطِ، وَتَعْيِينُ الْفَرَسَيْنِ وَنَحْوِهِمَا، وَإِمْكَانُ
سَبْقِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيَجُوزُ الْمَال مِنْ غَيْرِهِمَا
وَمِنْ أَحَدِهِمَا، فَيَقُول: إِنْ سَبَقْتَنِي فَلَكَ عَلَيَّ كَذَا،
وَإِنْ سَبَقْتُكَ فَلاَ شَيْءَ لِي عَلَيْكَ، وَإِنْ شَرَطَ أَنَّ
مَنْ سَبَقَ مِنْهُمَا فَلَهُ عَلَى الآْخَرِ كَذَا لَمْ يَصِحَّ؛
لأَِنَّ
(23/172)
كُلًّا مِنْهُمَا مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ
يَغْنَمَ وَأَنْ يَغْرَمَ، وَهُوَ صُورَةُ الْقِمَارِ الْمُحَرَّمِ،
إِلاَّ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مُحَلِّلٌ فَرَسُهُ كُفْءٌ
لِفَرَسَيْهِمَا، إِنْ سَبَقَ أَخَذَ مَالَهُمَا، وَإِنْ سَبَقَ لَمْ
يَغْرَمْ شَيْئًا (1) .
وَالتَّفْصِيل وَأَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي (مُسَابَقَة) .
__________
(1) القليوبي 4 / 265 - 266، مواهب الجليل 3 / 390، ابن عابدين 5 / 479
(23/172)
|