الموسوعة
الفقهية الكويتية سَبٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّبُّ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: الشَّتْمُ، وَهُوَ مُشَافَهَةُ
الْغَيْرِ بِمَا يَكْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَدٌّ، كَيَا
أَحْمَقُ، وَيَا ظَالِمُ. (1)
قَال الدُّسُوقِيُّ: هُوَ كُل كَلاَمٍ قَبِيحٍ، وَحِينَئِذٍ فَالْقَذْفُ،
وَالاِسْتِخْفَافُ، وَإِلْحَاقُ النَّقْصِ، كُل ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي
السَّبِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَيْبُ:
2 - الْعَيْبُ خِلاَفُ الْمُسْتَحْسَنِ عَقْلاً، أَوْ شَرْعًا، أَوْ
عُرْفًا، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ السَّبِّ. (3)
قَال الزَّرْقَانِيُّ: فَإِنَّ مَنْ قَال: فُلاَنٌ أَعْلَمُ مِنَ
__________
(1) تاج العروس، وإعانة الطالبين 2 / 250، ومنح الجليل 4 / 476، والخرشي 8
/ 70، والزرقاني على المواهب 5 / 318، والدسوقي 4 / 309.
(2) الدسوقي 4 / 309.
(3) تحفة المحتاج مع حواشي الشرواني وابن قاسم العبادي 8 / 96، منح الجليل
4 / 476، والدسوقي 4 / 309.
(24/133)
الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَدْ عَابَهُ، وَلَمْ يَسُبَّهُ (1) .
ب - اللَّعْنُ:
3 - اللَّعْنُ: هُوَ الطَّرْدُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، (2)
لَكِنَّهُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ السَّبُّ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ
الرَّجُل وَالِدَيْهِ، قِيل: يَا رَسُول اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ
الرَّجُل وَالِدَيْهِ؟ قَال: يَسُبُّ الرَّجُل أَبَ الرَّجُل فَيَسُبُّ
أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ. (3)
وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ: مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُل
وَالِدَيْهِ قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ وَهَل يَشْتُمُ الرَّجُل
وَالِدَيْهِ؟ قَال: نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَ الرَّجُل فَيَسُبُّ أَبَاهُ،
وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ. (4)
فَسَّرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّعْنَ
بِالشَّتْمِ.
وَقَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: اللَّعْنُ أَبْلَغُ فِي الْقُبْحِ مِنَ
السَّبِّ الْمُطْلَقِ. (5)
__________
(1) الزرقاني على المواهب اللدنية 5 / 315.
(2) إعانة الطالبين 2 / 283، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام 1 / 20،
والفتاوى البزازية 4 / 291، ففيها: حلف لا يشتم فلانًا، وحلف عليه ثم قال:
لا أنت ولا ولدك ولا مالك ولا أهلك، هذا لعن واللعن شتم.
(3) حديث: " إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه ". أخرجه البخاري
(الفتح 10 / 403 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عمرو.
(4) حديث: " من أكبر الكبائر أن يشتم الرجل والديه. . . " أخرجه مسلم (1 /
92 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو.
(5) قواعد الأحكام 1 / 20.
(24/134)
ج - الْقَذْفُ:
4 - يُطْلَقُ السَّبُّ وَيُرَادُ بِهِ الْقَذْفُ، وَهُوَ الرَّمْيُ
بِالزِّنَى فِي مَعْرِضِ التَّعْيِيرِ، (1) كَمَا يُطْلَقُ الْقَذْفُ
وَيُرَادُ بِهِ السَّبُّ. (2)
وَهَذَا إِذَا ذُكِرَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا.
فَإِذَا ذُكِرَا مَعًا لَمْ يَدُل أَحَدُهُمَا عَلَى الآْخَرِ، (3) كَمَا
فِي حَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَدْرُونَ
مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ
وَلاَ مَتَاعَ. قَال: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ
الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا،
وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَل مَال هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا،
فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ
فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْل أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ
خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ. (4)
وَعِنْدَ التَّغَايُرِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْقَذْفِ مَا يُوجِبُ
الْحَدَّ، وَبِالسَّبِّ مَا يُوجِبُ التَّعْزِيرَ إِنْ كَانَ السَّبُّ
غَيْرَ مُكَفِّرٍ.
__________
(1) الجمل على المنهج 5 / 122، أسهل المدارك 3 / 192، ابن عابدين 4 / 237،
إعانة الطالبين 4 / 150، تبصرة ابن فرحون 2 / 287.
(2) فتح القدير 4 / 213، وتبصرة ابن فرحون 2 / 286 - 287.
(3) إعانة الطالبين 4 / 295.
(4) حديث: " أتدرون ما المفلس؟ . . . " أخرجه مسلم (4 / 1997 - ط الحلبي)
من حديث أبي هريرة.
(24/134)
حُكْمُ السَّبِّ:
5 - الْمُسْتَقْرِئُ لِصُوَرِ السَّبِّ يَجِدُ أَنَّهُ تَعْتَرِيهِ
الأَْحْكَامُ الآْتِيَةُ:
أَوَّلاً: الْحُرْمَةُ: وَهِيَ أَغْلَبُ أَحْكَامِ السَّبِّ وَقَدْ
يَكْفُرُ السَّابُّ، كَالَّذِي يَسُبُّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ يَسُبُّ
الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الْمَلاَئِكَةَ.
ثَانِيًا: الْكَرَاهَةُ: كَسَبِّ الْحُمَّى.
ثَالِثًا: خِلاَفُ الأَْوْلَى: وَذَلِكَ إِذَا سَبَّ الْمَشْتُومُ
شَاتِمَهُ بِقَدْرِ مَا سَبَّهُ بِهِ، عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.
رَابِعًا: الْجَوَازُ: نَحْوَ سَبِّ الأَْشْرَارِ، وَسَبِّ السَّابِّ
بِقَدْرِ مَا سَبَّ بِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ (1) .
أَلْفَاظُ السَّبِّ:
6 - مِنْ أَلْفَاظِ السَّبِّ قَوْلُهُ: كَافِرٌ، سَارِقٌ، فَاسِقٌ،
مُنَافِقٌ، فَاجِرٌ، خَبِيثٌ، أَعْوَرُ، أَقْطَعُ، ابْنُ الزَّمِنِ،
الأَْعْمَى، الأَْعْرَجُ، كَاذِبٌ، نَمَّامٌ. (2)
وَمِنْ أَلْفَاظِ السَّبِّ مَا يُحْكَمُ بِكُفْرِ قَائِلِهِ، نَحْوَ سَبِّ
اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ أَحَدِ أَنْبِيَائِهِ الْمُجْمَعِ عَلَى
__________
(1) الأذكار ص 323، وانظر تفسير القرطبي عند قوله تعالى: (والذين إذا
أصابهم البغي هم ينتصرون) الآية (39) من سورة الشورى، وقوله: (لا يحب الله
الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) الآية (148) من سورة النساء.
(2) المغني 8 / 220.
(24/135)
نُبُوَّتِهِمْ، أَوْ مَلاَئِكَتِهِ، أَوْ
دِينِ الإِْسْلاَمِ، وَيُنْظَرُ حُكْمُهُ فِي (رِدَّةٍ) .
وَمِنْهَا مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَهُوَ لَفْظُ السَّبِّ بِالزِّنَا، وَهُوَ
الْقَذْفُ، وَيُنْظَرُ حُكْمُهُ فِي (قَذْفٍ) .
وَمِنْهُ مَا يَقْتَضِي التَّعْزِيرَ، وَمِنْهُ مَا لاَ يَقْتَضِي
تَعْزِيرًا كَسَبِّ الْوَالِدِ وَلَدَهُ.
إِثْبَاتُ السَّبِّ الْمُقْتَضِي لِلتَّعْزِيرِ:
7 - يَثْبُتُ السَّبُّ الْمُقْتَضِي لِلتَّعْزِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
بِشَاهِدَيْنِ، أَوْ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، أَوْ شَاهِدَيْنِ عَلَى
شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، وَكَذَلِكَ يَجْرِي فِيهِ الْيَمِينُ وَيُقْضَى
فِيهِ بِالنُّكُول. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَكْفِي شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ، أَوْ لَفِيفٌ
مِنَ النَّاسِ.
وَاللَّفِيفُ: الْمُرَادُ بِهِ الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ لَمْ تَثْبُتْ
عَدَالَتُهُمْ. (2)
حُكْمُ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى:
8 - سَبُّ اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا أَنْ يَقَعَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ
كَافِرٍ.
فَإِنْ وَقَعَ مِنْ مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا حَلاَل الدَّمِ.
(3)
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 167، وفتح القدير 4 / 213.
(2) الخرشي 8 / 74.
(3) تبصرة ابن فرحون 2 / 284 - ط بيروت، ابن عابدين على الدر 4 / 238،
الفتاوى البزازية هامش الهندية 6 / 321، التحفة مع حاشيتي الشرواني وابن
قاسم العبادي 9 / 69، مغني ابن قدامة 8 / 150 - ط الرياض، الإنصاف في معرفة
الراجح من الخلاف 10 / 356 - ط إحياء التراث الإسلامي، شرح منتهى الإرادات
3 / 390.
(24/135)
وَلاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا
الْخِلاَفُ فَقَطْ فِي اسْتِتَابَتِهِ.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رِدَّةٍ) .
التَّعْرِيضُ بِسَبِّ اللَّهِ تَعَالَى:
9 - التَّعْرِيضُ بِالسَّبِّ كَالسَّبِّ، صَرَّحَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ
الْعُلَمَاءِ، نَقَل حَنْبَلٌ: مَنْ عَرَّضَ بِشَيْءٍ مِنْ ذِكْرِ الرَّبِّ
فَعَلَيْهِ الْقَتْل مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا. (1)
سَبُّ الذِّمِّيِّ لِلَّهِ تَعَالَى:
10 - لاَ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي سَبِّ الذِّمِّيِّ لِلَّهِ تَعَالَى
عَنْ سَبِّهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا
يَأْتِي مِنْ حَيْثُ الْقَتْل، وَنَقْضُ الْعَهْدِ، وَيَتَّضِحُ الْحُكْمُ
عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ سَبِّ الذِّمِّيِّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
__________
(1) الشرواني على تحفة المحتاج 9 / 177، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف
10 / 333، نهاية المحتاج 8 / 20.
(2) أسنى المطالب شرح روض الطالب 4 / 223، فتح القدير 4 / 11، الزرقاني على
المواهب 5 / 317، 319.
(24/136)
حُكْمُ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
سَبُّ الْمُسْلِمِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
11 - إِذَا سَبَّ مُسْلِمٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَإِنَّهُ يَكُونُ مُرْتَدًّا. (1) وَفِي اسْتِتَابَتِهِ خِلاَفٌ (2)
يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رِدَّةٍ) .
سَبُّ الذِّمِّيِّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
12 - لِلْعُلَمَاءِ عِدَّةُ أَقْوَالٍ فِي حُكْمِ الذِّمِّيِّ إِذَا سَبَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقِيل: إِنَّهُ يُنْقَضُ أَمَانُهُ بِذَلِكَ إِنْ لَمْ يُسْلِمْ، وَقِيل
غَيْرُ ذَلِكَ. (3) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَهْل الذِّمَّةِ) .
وَيُقْتَل وُجُوبًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِهَذَا السَّبِّ إِنْ لَمْ
يُسْلِمْ، فَإِنْ أَسْلَمَ إِسْلاَمًا غَيْرَ فَارٍّ بِهِ مِنَ الْقَتْل
لَمْ
__________
(1) الفتاوى البزازية 6 / 321 - 322، فتاوى عليش 2 / 25، تبصرة ابن فرحون 2
/ 286، الجمل على المنهج 5 / 130، التحفة مع حاشيتي الشرواني وابن قاسم
العبادي 8 / 96، مغني ابن قدامة 8 / 150، الإنصاف في معرفة الراجح من
الخلاف 10 / 326، 332، الزرقاني على المواهب 5 / 318، 319 - ط دار المعرفة.
(2) الفتاوى البزازية 6 / 322، والزرقاني على المواهب 5 / 321، منح الجليل
4 / 477، فتح العلي المالك 2 / 25، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 10 /
332.
(3) فتح القدير 4 / 381، 407، منح الجليل 4 / 477، الزرقاني على خليل 3 /
147، الخرشي 4 / 149، المغني لابن قدامة 8 / 233، 525، الإنصاف 10 / 333.
(24/136)
يُقْتَل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل
لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} .
(1)
قَالُوا: وَإِنَّمَا لَمْ يُقْتَل إِذَا أَسْلَمَ مَعَ أَنَّ الْمُسْلِمَ
الأَْصْلِيَّ يُقْتَل بِسَبِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلاَ
تُقْبَل تَوْبَتُهُ مِنْ أَجْل حَقِّ الآْدَمِيِّ، لأَِنَّا نَعْلَمُ
بَاطِنَهُ فِي بُغْضِهِ وَتَنْقِيصِهِ بِقَلْبِهِ لَكِنَّا مَنَعْنَاهُ
مِنْ إِظْهَارِهِ، فَلَمْ يَزِدْنَا مَا أَظْهَرَهُ إِلاَّ مُخَالَفَتَهُ
لِلأَْمْرِ، وَنَقْضًا لِلْعَهْدِ، فَإِذَا رَجَعَ إِلَى الإِْسْلاَمِ
سَقَطَ مَا قَبْلَهُ، بِخِلاَفِ الْمُسْلِمِ فَإِنَّا ظَنَنَّا بَاطِنَهُ
بِخِلاَفِ مَا بَدَا مِنْهُ الآْنَ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنِ اشْتَرَطَ عَلَيْهِمُ انْتِقَاضَ الْعَهْدِ
بِمِثْل ذَلِكَ، انْتَقَضَ عَهْدُ السَّابِّ وَيُخَيَّرُ الإِْمَامُ فِيهِ
بَيْنَ الْقَتْل وَالاِسْتِرْقَاقِ وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ إِنْ لَمْ
يَسْأَل الذِّمِّيُّ تَجْدِيدَ الْعَقْدِ. (3)
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ نَبِيٍّ وَغَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الأَْنْبِيَاءِ،
وَكَذَا الرُّسُل إِذِ النَّبِيُّ أَعَمُّ مِنَ الرَّسُول عَلَى
الْمَشْهُورِ. (4)
وَالأَْنْبِيَاءُ الَّذِينَ تَخُصُّهُمْ هَذِهِ الأَْحْكَامُ هُمُ
الْمُتَّفَقُ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ، أَمَّا مَنْ لَمْ تَثْبُتْ
نُبُوَّتُهُمْ فَلَيْسَ
__________
(1) سورة الأنفال / 38.
(2) الزرقاني على خليل 3 / 147، الخرشي 4 / 149.
(3) الجمل على المنهج 5 / 227، شرح روض الطالب 4 / 223.
(4) تبصرة الحكام ص 192 - 193، وتبصرة ابن فرحون 2 / 288، إعانة الطالبين 4
/ 136، الهندية 2 / 263، الزرقاني على خليل 3 / 147.
(24/137)
حُكْمُ مَنْ سَبَّهُمْ كَذَلِكَ. وَلَكِنْ
يُزْجَرُ مَنْ تَنَقَّصَهُمْ أَوْ آذَاهُمْ، وَيُؤَدَّبُ بِقَدْرِ حَال
الْقَوْل فِيهِمْ، لاَ سِيَّمَا مَنْ عُرِفَتْ صِدِّيقِيَّتُهُ وَفَضْلُهُ
مِنْهُمْ كَمَرْيَمَ، وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ نُبُوَّتُهُ، وَلاَ عِبْرَةَ
بِاخْتِلاَفِ غَيْرِنَا فِي نُبُوَّةِ نَبِيٍّ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ،
كَنَفْيِ الْيَهُودِ نُبُوَّةَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ.
التَّعْرِيضُ بِسَبِّ الأَْنْبِيَاءِ:
13 - التَّعْرِيضُ بِسَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَالتَّصْرِيحِ، ذَكَرَ ذَلِكَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ. (1)
وَيُقَابِلُهُ عِنْدَهُمْ أَنَّ التَّعْرِيضَ لَيْسَ كَالتَّصْرِيحِ. (2)
وَقَدْ ذَكَرَ عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ
وَأَئِمَّةَ الْفَتْوَى مِنْ لَدُنِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى
أَنَّ التَّلْوِيحَ كَالتَّصْرِيحِ.
سَبُّ السَّكْرَانِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
14 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ السَّكْرَانِ إِذَا سَبَّ فِي
سُكْرِهِ نَبِيًّا مِنَ الأَْنْبِيَاءِ، هَل يَكُونُ مُرْتَدًّا
__________
(1) الزرقاني على المواهب 5 / 315، منح الجليل 4 / 476، 478، شرح روض
الطالب 4 / 122، شرح منتهى الإرادات 3 / 386، 390، الإنصاف 10 / 333، معين
الحكام ص 192، إعانة الطالبين 4 / 139، الدسوقي 4 / 309.
(2) تبصرة ابن فرحون 2 / 286.
(24/137)
بِذَلِكَ؟ وَهَل يُقْتَل؟ وَيُنْظَرُ
تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (سُكْرٍ) .
الإِْكْرَاهُ عَلَى سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى، أَوِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
15 - الإِْكْرَاهُ عَلَى سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ سَبِّ رَسُولِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ إِكْرَاهًا
عَلَى الْكُفْرِ، وَيَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ فِيهِ غَالِبًا فِي بَابِ
الرِّدَّةِ أَوِ الإِْكْرَاهِ.
وَتَفْصِيل الْقَوْل فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَقِيَّةٍ،
رِدَّةٍ، إِكْرَاهٍ) .
سَبُّ الْمَلاَئِكَةِ:
16 - حُكْمُ سَبِّ الْمَلاَئِكَةِ لاَ يَخْتَلِفُ عَنْ حُكْمِ سَبِّ
الأَْنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
قَال عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذَا فِيمَنْ حَقَّقْنَا
كَوْنَهُ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ كَجِبْرِيل وَمِيكَائِيل وَخَزَنَةِ
الْجَنَّةِ وَخَزَنَةِ النَّارِ وَالزَّبَانِيَةِ وَحَمَلَةِ الْعَرْشِ،
وَكَعِزْرَائِيل، وَإِسْرَافِيل وَرِضْوَانَ، وَالْحَفَظَةِ، وَمُنْكَرٍ
وَنَكِيرٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا غَيْرُ الْمُتَّفَقِ عَلَى كَوْنِهِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ فَلَيْسَ
الْحُكْمُ فِي سَابِّهِمْ وَالْكَافِرِ بِهِمْ كَالْحُكْمِ فِيمَنْ
قَدَّمْنَاهُ إِذْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ تِلْكَ الْحُرْمَةُ، وَلَكِنْ
يُزْجَرُ مَنْ تَنَقَّصَهُمْ وَآذَاهُمْ، وَيُؤَدَّبُ حَسَبَ حَال
الْمَقُول فِيهِمْ.
وَحَكَى الزَّرْقَانِيُّ عَنِ الْقَرَافِيِّ أَنَّهُ يُقْتَل مَنْ
(24/138)
سَبَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِمْ. (1)
قَتْل الْقَرِيبِ الْكَافِرِ إِذَا سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوِ الرَّسُول
أَوِ الدِّينَ:
17 - الأَْصْل أَنَّهُ يُكْرَهُ قَتْل الْقَرِيبِ الْكَافِرِ حَتَّى فِي
الْغَزْوِ. لَكِنَّهُ إِنْ سَبَّ الإِْسْلاَمَ أَوْ سَبَّ اللَّهَ
تَعَالَى، أَوْ نَبِيًّا مِنَ الأَْنْبِيَاءِ يُبَاحُ لَهُ قَتْلُهُ؛
لأَِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
قَتَل أَبَاهُ، (2) وَقَال لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: سَمِعْتُهُ يَسُبُّكَ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ.
(3) وَوَرَدَ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنِّي سَمِعْتُ أَبِي يَقُول فِيكَ قَوْلاً
قَبِيحًا فَقَتَلْتُهُ، فَلَمْ يَشُقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (4)
__________
(1) ابن عابدين 4 / 234 ط مصطفى الحلبي الثانية، معين الحكام ص 192 - 193،
منح الجليل 4 / 476، الزرقاني على المواهب 5 / 315، الجمل على المنهج 5 /
12، شرح منتهى الإرادات 3 / 386.
(2) المهذب 2 / 223، الطحطاوي على الدر 2 / 443، الزرقاني على المواهب 5 /
321.
(3) حديث: " أن أبا عبيدة ابن الجراح قتل أباه ". أخرجه البيهقي (9 / 27 -
ط دائرة المعارف العثمانية) بمعناه من حديث عبد الله بن شودنب مرسلاً، وقال
البيهقي: " هذا منقطع ". وقال ابن حجر في التلخيص (4 / 102 - ط شركة
الطباعة الفنية) : " معضل، وكان الواقدي ينكره، ويقول: مات والد أبي عبيدة
قبل الإسلام ".
(4) حديث: " أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سمعت أبي
يقول. . . . " أورده الزرقاني في شرح المواهب (5 / 321 - ط المطبعة
الأزهرية) وعزاه إلى ابن قانع.
(24/138)
سَبُّ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
18 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ سَبَّ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا مِمَّا بَرَّأَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ
كُفْرٌ؛ لأَِنَّ السَّابَّ بِذَلِكَ كَذَّبَ اللَّهَ تَعَالَى فِي أَنَّهَا
مُحْصَنَةٌ.
أَمَّا إِنْ قَذَفَ سَائِرَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِمِثْل ذَلِكَ فَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ
حُكْمَهُ كَحُكْمِ قَذْفِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا.
أَمَّا إِنْ كَانَ السَّبُّ بِغَيْرِ الْقَذْفِ لِعَائِشَةَ أَوْ غَيْرِهَا
مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ صَرَّحَ الزَّرْقَانِيُّ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ السَّابَّ يُؤَدَّبُ، وَكَذَا الْبُهُوتِيُّ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ فَرَّقَ بَيْنَ الْقَذْفِ وَبَيْنَ السَّبِّ بِغَيْرِ
الْقَذْفِ وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلاَمِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنْ
لَمْ يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ لأَِنَّهُمْ يُقَيِّدُونَ السَّبَّ الْمُكَفِّرَ
بِأَنَّهُ السَّبُّ بِمَا بَرَّأَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ. وَمَنْ
صَرَّحَ بِالْقَتْل بِالسَّبِّ فَإِنَّ عِبَارَتَهُ يُفْهَمُ مِنْهَا
أَنَّهُ سَبٌّ هُوَ قَذْفٌ. (1)
سَبُّ الدِّينِ وَالْمِلَّةِ:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ مِلَّةَ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 416، الجمل على المنهج 5 / 122، إعانة الطالبين 4 /
292، ابن عابدين 4 / 237، أسنى المدارك 3 / 192، الإنصاف 10 / 222،
والزرقاني على خليل 8 / 74 ط دار الفكر، شرح منتهى الإرادات 3 / 356، وتحفة
المحتاج مع حواشي الشرواني وابن قاسم 8 / 123، ومعين الحكام ص 192، تبصرة
ابن فرحون 2 / 287، شرح روض الطالب 4 / 117، الصارم المسلول ص 567.
(24/139)
الإِْسْلاَمِ أَوْ دِينَ الْمُسْلِمِينَ
يَكُونُ كَافِرًا، أَمَّا مَنْ شَتَمَ دِينَ مُسْلِمٍ فَقَدْ قَال
الْحَنَفِيَّةُ كَمَا جَاءَ فِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ: يَنْبَغِي أَنْ
يَكْفُرَ مَنْ شَتَمَ دِينَ مُسْلِمٍ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ التَّأْوِيل
بِأَنَّ الْمُرَادَ أَخْلاَقُهُ الرَّدِيئَةُ وَمُعَامَلَتُهُ الْقَبِيحَةُ
لاَ حَقِيقَةَ دِينِ الإِْسْلاَمِ فَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يَكْفُرَ
حِينَئِذٍ. (1)
قَال الْعَلاَّمَةُ عُلَيْشٌ: يَقَعُ كَثِيرًا مِنْ بَعْضِ شِغْلَةِ
الْعَوَامِّ كَالْحَمَّارَةِ وَالْجَمَّالَةِ وَالْخَدَّامِينَ سَبُّ
الْمِلَّةِ أَوِ الدِّينِ، وَرُبَّمَا وَقَعَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ
أَنَّهُ إِنْ قَصَدَ الشَّرِيعَةَ الْمُطَهَّرَةَ، وَالأَْحْكَامَ الَّتِي
شَرَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَافِرٌ قَطْعًا، ثُمَّ إِنْ أَظْهَرَ
ذَلِكَ فَهُوَ مُرْتَدٌّ. (2)
فَإِنْ وَقَعَ السَّبُّ مِنَ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ حُكْمَ سَبِّ
اللَّهِ أَوِ النَّبِيِّ، ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ. (3)
نُقِل عَنْ عَصْمَاءَ بِنْتِ مَرْوَانَ الْيَهُودِيَّةِ أَنَّهَا كَانَتْ
تَعِيبُ الإِْسْلاَمَ، وَتُؤْذِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَتُحَرِّضُ عَلَيْهِ فَقَتَلَهَا عَمْرُو بْنُ عَدِيٍّ
الْخِطْمِيُّ.
قَالُوا: فَاجْتَمَعَ فِيهَا مُوجِبَاتُ الْقَتْل إِجْمَاعًا.
وَهَذَا عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ
قَالُوا: يَجُوزُ قَتْلُهُ وَيُنْقَضُ عَهْدُهُ إِنْ طَعَنَ فِي
__________
(1) ابن عابدين 4 / 230، فتاوى الرملي هامش الفتاوى الكبرى الفقهية 4 / 20،
وفتح العلي المالك 2 / 347.
(2) فتح العلي المالك 2 / 6، 347، 348.
(3) الجمل على المنهج 5 / 227.
(24/139)
الإِْسْلاَمِ طَعْنًا ظَاهِرًا (1) .
سَبُّ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ:
20 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّهُ يَحْرُمُ سَبُّ
الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ
أَنْفَقَ مِثْل أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ
نَصِيفَهُ. (2)
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ فَاسِقٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ
يُكَفِّرُهُ، فَإِنْ وَقَعَ السَّبُّ مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ
فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهِ مَذْهَبَانِ:
الأَْوَّل: وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا، قَال
بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ إِنْ شَتَمَهُمْ بِمَا
يَشْتُمُ بِهِ النَّاسُ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِلًّا، نَقَل عَبْدُ
اللَّهِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِل فِيمَنْ شَتَمَ صَحَابِيًّا الْقَتْل؟
فَقَال: أَجَبْنَ عَنْهُ، وَيُضْرَبُ. مَا أَرَاهُ عَلَى الإِْسْلاَمِ.
الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، نَقَلَهُ
الْبَزَّازِيُّ عَنِ الْخُلاَصَةِ: إِنْ كَانَ السَّبُّ لِلشَّيْخَيْنِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 230، وتبيين الحقائق 4 / 281 ط بولاق الأولى، الزرقاني
على المواهب 5 / 321، الجمل على المنهج 5 / 227، كشف الأسرار 4 / 355، دار
الكتاب العربي، الطحطاوي على الدر 4 / 77 دار المعرفة.
(2) حديث: " لا تسبوا أصحابي. . . " أخرجه البخاري (الفتح 7 / 21 - ط
السلفية) ومسلم (4 / 1968 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري، واللفظ
للبخاري.
(24/140)
يَكْفُرُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّهُ
مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْمُتُونِ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ إِنْ قَال
فِيهِمْ: كَانُوا عَلَى ضَلاَلٍ وَكُفْرٍ، وَقَصَرَ سَحْنُونٌ الْكُفْرَ
عَلَى مَنْ سَبَّ الأَْرْبَعَةَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ
وَعَلِيًّا، وَهُوَ مُقَابِل الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
ضَعَّفَهُ الْقَاضِي وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ
مُسْتَحِلًّا، وَقِيل: وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِل. (1)
سَبُّ الإِْمَامِ:
21 - يَحْرُمُ سَبُّ الإِْمَامِ، وَيُعَزَّرُ مَنْ سَبَّهُ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَسْتَوْفِي الإِْمَامُ التَّعْزِيرَ بِنَفْسِهِ.
وَصَرَّحَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ بِأَنَّ
التَّعْرِيضَ بِالسَّبِّ كَالتَّصْرِيحِ (2) .
سَبُّ الْوَالِدِ:
22 - يَحْرُمُ سَبُّ الاِبْنِ وَالِدَهُ، أَوِ التَّسَبُّبُ فِي سَبِّهِ،
جَاءَ فِي الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 237، تبصرة الحكام لابن فرحون 2 / 286، معالم السنين 4
/ 308، الجمل على المنهج 5 / 122، القليوبي 4 / 175، إعانة الطالبين 4 /
292، نهاية المحتاج 7 / 416، الإنصاف 10 / 324، شرح منتهى الإرادات 3 /
260، الفتاوى البزازية 6 / 319.
(2) العناية على الهداية هامش الفتح 4 / 262، وتبصرة الحكام 2 / 308،
ونهاية المحتاج 8 / 20، والتحفة مع حواشي الشرواني وابن قاسم 9 / 177،
والمغني 8 / 111، والإنصاف 10 / 322.
(24/140)
أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، رَوَى
الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ
يَلْعَنَ الرَّجُل وَالِدَيْهِ، قِيل: يَا رَسُول اللَّهِ، وَكَيْفَ
يَلْعَنُ الرَّجُل وَالِدَيْهِ؟ ، قَال: يَسُبُّ الرَّجُل أَبَ الرَّجُل
فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ. (1)
وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يُصَرِّحُ بِهَذِهِ الْكَبِيرَةِ وَالْبَعْضُ لاَ
يَذْكُرُهَا وَلَعَلَّهُ اعْتِمَادًا عَلَى وُرُودِهَا فِي السُّنَّةِ.
وَيُعَزَّرُ الْوَلَدُ فِي سَبِّ أَبِيهِ. (2)
سَبُّ الاِبْنِ:
23 - لاَ يُعَزَّرُ مَنْ سَبَّ وَلَدَهُ، وَذَكَرَ الإِْمَامُ
الْغَزَالِيُّ أَنَّ دَوَامَ سَبِّ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ بِحُكْمِ
الْغَضَبِ يَجْرِي مَجْرَى الْفَلَتَاتِ فِي غَيْرِهِ وَلاَ يَقْدَحُ فِي
عَدَالَةِ الْوَالِدِ. (3)
هَذَا عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّ الْوَالِدَ لاَ يُحَدُّ فِي
الْقَذْفِ، فَمِنْ بَابِ أَوْلَى لاَ يُعَزَّرُ فِي الشَّتْمِ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ الدُّرِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْوَالِدَ يُعَزَّرُ
فِي شَتْمِ وَلَدِهِ. (4)
__________
(1) حديث: " إن من أكبر الكبائر أن يلعن. . . . " تقدم تخريجه ف / 3.
(2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1 / 20، إعانة الطالبين 4 / 383، وفتح
القدير للشوكاني 2 / 151، والإنصاف 10 / 240.
(3) الموافقات في أصول الشريعة 1 / 137، تبصرة ابن فرحون 2 / 307، وشرح
منتهى الإرادات 2 / 361، الأحكام السلطانية للماوردي ص 238.
(4) الطحطاوي على الدر 2 / 2412.
(24/141)
سَبُّ الْمُسْلِمِ:
24 - سَبُّ الْمُسْلِمِ مَعْصِيَةٌ، وَصَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ
بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ. قَال النَّوَوِيُّ: يَحْرُمُ سَبُّ الْمُسْلِمِ مِنْ
غَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ يُجَوِّزُ ذَلِكَ. رَوَيْنَا فِي صَحِيحَيِ
الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: سِبَابُ
الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، (1) وَإِذَا سَبَّ الْمُسْلِمَ فَفِيهِ التَّعْزِيرُ،
وَحَكَى بَعْضُهُمُ الاِتِّفَاقَ عَلَيْهِ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: وَالتَّعْرِيضُ كَالسَّبِّ،
وَهَذَا إِذَا وَقَعَ السَّبُّ بِشُرُوطِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ. (2)
سَبُّ الذِّمِّيِّ:
25 - سَبُّ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ مَعْصِيَةٌ، وَيُعَزَّرُ الْمُسْلِمُ
إِنْ سَبَّ الْكَافِرَ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: سَوَاءٌ أَكَانَ حَيًّا، أَوْ مَيِّتًا، يَعْلَمُ
مَوْتَهُ عَلَى الْكُفْرِ.
وَقَال الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: التَّعْزِيرُ لِحَقِّ اللَّهِ
تَعَالَى. (3)
__________
(1) حديث: " سباب المسلم فسوق ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 464 - ط
السلفية) ومسلم (1 / 81 - ط الحلبي) .
(2) فتح القدير 4 / 213، تبصرة ابن فرحون 2 / 310، أسهل المدارك 3 / 192،
فتح العلي المالك 2 / 347، إعانة الطالبين 4 / 283 - 284، المغني لابن
قدامة 8 / 11، 220، شرح منتهى الإرادات 3 / 547، 361، 385، التحفة مع
حاشيتي الشرواني وابن قاسم 9 / 177، الطحطاوي على الدر 2 / 415.
(3) شرح منتهى الإرادات 3 / 361، فتح القدير 4 / 218، البناني 10 / 250،
إعانة الطالبين 4 / 283، الطحطاوي على الدر 2 / 415، وشرح منتهى الإرادات 3
/ 361.
(24/141)
النَّهْيُ عَنْ سَبِّ آلِهَةِ
الْمُشْرِكِينَ:
26 - يَحْرُمُ سَبُّ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:
{وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا
اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} . (1)
قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى
الآْيَةِ لاَ تَسُبُّوا آلِهَةَ الْكُفَّارِ فَيَسُبُّوا إِلَهَكُمْ (2) .
سَبُّ السَّابِّ قِصَاصًا:
27 - أَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لِمَنْ سَبَّهُ أَحَدٌ أَنْ يَسُبَّهُ
بِقَدْرِ مَا سَبَّهُ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكُونَ كَاذِبًا، وَلاَ
قَاذِفًا، نَحْوُ: يَا أَحْمَقُ، وَيَا ظَالِمُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَخْلُو
أَحَدٌ عَنْهُمَا، قَالُوا: وَعَلَى الأَْوَّل إِثْمُ الاِبْتِدَاءِ.
صَرَّحَ بِهَذَا فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ
الْقِصَاصَ بِأَنْ لاَ يَكُونَ فِيهِ فِرْيَةٌ أَيْ قَذْفٌ.
وَلاَ يُخَالِفُ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ، قَالُوا: لاَ تَأْدِيبَ إِذَا
كَانَ فِي مُشَاتَمَةٍ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ نَال مِنْ
صَاحِبِهِ.
وَجَعَل الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ خِلاَفَ الأَْوْلَى. (3)
__________
(1) سورة الأنعام / 108.
(2) الشوكاني 2 / 154، أحكام القرآن للجصاص 3 / 5 ط دار الكتاب، تبصرة ابن
فرحون 2 / 377، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 43 ط دار المعرفة.
(3) التحفة مع حواشي الشرواني وابن قاسم 9 / 123، 177، فتاوى ابن زياد
وهامش بغية المسترشدين ص 249، الإنصاف 10 / 250، والقليوبي 4 / 185، وتبصرة
ابن فرحون 2 / 306، وفتح القدير 4 / 218، والهندية 3 / 169، وأحكام القرآن
لابن العربي 3 / 824.
(24/142)
اسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ
بِخَبَرِ أَبِي دَاوُدَ: أَنَّ زَيْنَبَ لَمَّا سَبَّتْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَال لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سُبِّيهَا. (1)
وَيَشْهَدُ لِقَوْل الْحَنَفِيَّةِ مَا وَرَدَ عَنْ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ
قَال: رَأَيْتُ رَجُلاً يَصْدُرُ النَّاسُ عَنْ رَأْيِهِ لاَ يَقُول
شَيْئًا إِلاَّ صَدَرُوا عَنْهُ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: عَلَيْكَ
السَّلاَمُ يَا رَسُول اللَّهِ مَرَّتَيْنِ، قَال: لاَ تَقُل: عَلَيْكَ
السَّلاَمُ فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلاَمُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ، قُل:
السَّلاَمُ عَلَيْكَ قَال. قُلْتُ: أَنْتَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَال: أَنَا رَسُول اللَّهِ الَّذِي إِذَا أَصَابَكَ
ضُرٌّ فَدَعَوْتَهُ كَشَفَهُ عَنْكَ، وَإِنْ أَصَابَكَ عَامُ سَنَةٍ
فَدَعَوْتَهُ أَنْبَتَهَا لَكَ، وَإِذَا كُنْتَ بِأَرْضٍ قَفْرَاءَ أَوْ
فَلاَةٍ فَضَلَّتْ رَاحِلَتُكَ فَدَعَوْتَهُ رَدَّهَا عَلَيْكَ قَال
قُلْتُ: اعْهَدْ إِلَيَّ، قَال: لاَ تَسُبَّنَّ أَحَدًا قَال: فَمَا
سَبَبْتُ بَعْدَهُ حُرًّا وَلاَ عَبْدًا وَلاَ بَعِيرًا وَلاَ شَاةً، قَال:
وَلاَ تَحْقِرَنَّ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَأَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ
وَأَنْتَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ
__________
(1) حديث: " قوله لعائشة: سبيها ". أخرجه أبو داود (5 / 206 - تحقيق عزت
عبيد دعاس) وأعله المنذري بتضعيف راو فيه، وبجهالة الراوية عن عائشة، كذا
في مختصر السنن (7 / 223 - نشر دار المعرفة) .
(24/142)
وَجْهُكَ، إِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْرُوفِ،
وَارْفَعْ إِزَارَكَ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِلَى
الْكَعْبَيْنِ، وَإِيَّاكَ وَإِسْبَال الإِْزَارِ فَإِنَّهَا مِنَ
الْمَخِيلَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ، وَإِنِ امْرُؤٌ
شَتَمَكَ وَعَيَّرَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ فَلاَ تُعَيِّرْهُ بِمَا
تَعْلَمُ فِيهِ، فَإِنَّمَا وَبَال ذَلِكَ عَلَيْهِ. (1)
28 - وَيُسْتَثْنَى مِمَّا تَقَدَّمَ عِدَّةُ صُوَرٍ أَهَمُّهَا:
1 - سَبُّ الاِبْنِ: فَلاَ يُقْتَصُّ مِنْ أَبِيهِ إِذَا سَبَّهُ.
2 - الإِْمَامُ الأَْعْظَمُ: إِذَا سُبَّ فَلاَ يَقْتَصُّ بِنَفْسِهِ.
3 - الصَّائِمُ: إِذَا سَبَّهُ أَحَدٌ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسُبَّهُ،
فَالسَّبُّ يُحْبِطُ أَجْرَ الصِّيَامِ. (2)
يَقُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا
كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَل، فَإِنِ امْرُؤٌ
قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ، فَلْيَقُل إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ. (3)
سَبُّ الأَْمْوَاتِ:
29 - قَال الْعُلَمَاءُ يَحْرُمُ سَبُّ مَيِّتٍ مُسْلِمٍ لَمْ يَكُنْ
مُعْلِنًا بِفِسْقِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ
تَسُبُّوا الأَْمْوَاتَ
__________
(1) حديث جابر بن سليم: " رأيت رجلاً يصدر الناس في رأيه. . . " أخرجه أبو
داود (4 / 344 - 345 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده حسن.
(2) إعانة الطالبين 2 / 250، 4 / 383، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام 1 /
20، فتح القدير للشوكاني 2 / 151، الإنصاف 10 / 240، والعناية على الهداية
بهامش فتح القدير 4 / 212.
(3) حديث: " الصيام جنة ". أخرجه مالك (1 / 310 - ط الحلبي) من حديث أبي
هريرة، وهو في البخاري كذلك (الفتح 4 / 103 - ط السلفية) دون قوله: " فإذا
كان أحدكم صائمًا ".
(24/143)
فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا
قَدَّمُوا. (1)
وَأَمَّا الْكَافِرُ، وَالْمُسْلِمُ الْمُعْلِنُ بِفِسْقِهِ، فَفِيهِ
خِلاَفٌ لِلسَّلَفِ لِتَعَارُضِ النُّصُوصِ فِيهِ.
قَال ابْنُ بَطَّالٍ: سَبُّ الأَْمْوَاتِ يَجْرِي مَجْرَى الْغِيبَةِ،
فَإِنْ كَانَ أَغْلَبُ أَحْوَال الْمَرْءِ الْخَيْرَ وَقَدْ تَكُونُ مِنْهُ
الْفَلْتَةُ فَالاِغْتِيَابُ لَهُ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا
مُعْلِنًا فَلاَ غِيبَةَ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْمَيِّتُ. (2)
سَبُّ الدَّهْرِ:
30 - وَرَدَتْ فِي الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِالنَّهْيِ عَنْ سَبِّ
الدَّهْرِ، أَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ
تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَال: أَنَا الدَّهْرُ، الأَْيَّامُ
وَاللَّيَالِي لِي أُجَدِّدُهَا وَأُبْلِيهَا، وَآتِي بِمُلُوكٍ بَعْدَ
مُلُوكٍ. (3)
قَال ابْنُ حَجَرٍ وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ أَنَّ مَنِ
اعْتَقَدَ أَنَّهُ الْفَاعِل لِلْمَكْرُوهِ فَسَبُّهُ خَطَأٌ، فَإِنَّ
اللَّهَ هُوَ الْفَاعِل، فَإِذَا سَبَبْتُمْ مَنْ أَنْزَل ذَلِكَ بِكُمْ
رَجَعَ السَّبُّ إِلَى اللَّهِ. (4)
__________
(1) حديث: " لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا ". أخرجه
البخاري (الفتح 3 / 258 - ط السلفية) من حديث عائشة.
(2) الفتاوى الحديثية ص 110 ط الميمنية، والأذكار ص 141، نيل الأوطار 4 /
123 ط مصطفى الحلبي.
(3) حديث: " لا تسبوا الدهر ". أخرجه أحمد (2 / 496 - ط الميمنية) وأورده
الهيثمي في المجمع (8 / 71 - ط القدسي) ، وقال: رجاله رجال الصحيح.
(4) فتح الباري 10 / 466 - 467 ط دار المعرفة، الصارم المسلول ص 562.
(24/143)
سَبُّ الرِّيحِ:
31 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ
اللَّهِ تَعَالَى تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ، وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ فَإِذَا
رَأَيْتُمُوهَا فَلاَ تَسُبُّوهَا، وَسَلُوا اللَّهَ خَيْرَهَا،
وَاسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا. (1)
قَال الشَّافِعِيُّ: لاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ أَنْ يَسُبَّ الرِّيَاحَ،
فَإِنَّهَا خَلْقٌ لِلَّهِ تَعَالَى مُطِيعٌ، وَجُنْدٌ مِنْ أَجْنَادِهِ،
يَجْعَلُهَا رَحْمَةً وَنِعْمَةً إِذَا شَاءَ.
سَبُّ الْحُمَّى:
32 - قَال النَّوَوِيُّ: يُكْرَهُ سَبُّ الْحُمَّى، رُوِيَ فِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل عَلَى أُمِّ السَّائِبِ - أَوْ أُمِّ
الْمُسَيِّبِ - فَقَال مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ - أَوْ يَا أُمَّ
الْمُسَيِّبِ - تُزَفْزِفِينَ (2) قَالَتْ: الْحُمَّى، لاَ بَارَكَ اللَّهُ
فِيهَا فَقَال: لاَ تَسُبِّي الْحُمَّى فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي
آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ " (3) .
وَلأَِنَّهَا تُكَفِّرُ ذُنُوبَ الْمُؤْمِنِ، قَال ابْنُ الْقَيِّمِ فِي
حَدِيثٍ: الْحُمَّى حَظُّ الْمُؤْمِنِ مِنَ النَّارِ (4)
__________
(1) حديث: " الريح من روح الله ". أخرجه أبو داود (5 / 329 - تحقيق عزت
عبيد دعاس) ، والحاكم (4 / 285 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه، ووافقه
الذهبي.
(2) تزفزفين: أي: ترتعدين من الحمى (الأذكار) .
(3) حديث جابر: " أن رسول الله دخل على أم السائب ". أخرجه مسلم (4 / 1993
- ط الحلبي) .
(4) حديث: " الحمى حظ المؤمن من النار " أخرجه العقيلي في الضعفاء (4 / 448
- ط دار الكتب العلمية) من حديث عثمان بن عفان بلفظ: " الحمى حظ المؤمن في
الدنيا من النار يوم القيامة ". وقال: في إسناده نظر، ويروى من غير هذا
الوجه بإسناد أصلح من هذا، وله شاهد من ح أخرجه أحمد (2 / 440 - ط
الميمنية) ، والحاكم (1 / 345 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه، ووافقه
الذهبي.
(24/144)
فَالْحُمَّى لِلْمُؤْمِنِ تُكَفِّرُ
خَطَايَاهُ فَتُسَهِّل عَلَيْهِ الْوُرُودَ عَلَى النَّارِ فَيَنْجُو
مِنْهُ سَرِيعًا.
وَقَال الزَّيْدُ الْعِرَاقِيُّ: إِنَّمَا جُعِلَتْ حَظَّهُ مِنَ النَّارِ
لِمَا فِيهَا مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ الْمُغَيِّرِ لِلْجِسْمِ، وَهَذِهِ
صِفَةُ جَهَنَّمَ، فَهِيَ تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ فَتَمْنَعُهُ مِنْ دُخُول
النَّارِ. (1)
__________
(1) الأذكار ص 162، 323، والفتاوى الحديثية ص 103، والزرقاني على المواهب
اللدنية 7 / 140 - 141.
(24/144)
سَبَبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّبَبُ لُغَةً: الْحَبْل. (1)
ثُمَّ اسْتُعْمِل لِكُل شَيْءٍ يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى غَيْرِهِ،
وَالْجَمْعُ أَسْبَابٌ.
وَالسَّبَبُ فِي الاِصْطِلاَحِ: أَحَدُ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْوَضْعِيِّ.
وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ: بِأَنَّهُ مَا يَكُونُ طَرِيقًا إِلَى
الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ، أَيْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ
وُجُوبٌ وَلاَ وُجُودٌ، وَلاَ يُعْقَل فِيهِ مَعَانِي الْعِلَل، لَكِنْ
يَتَخَلَّل بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ عِلَّةٌ لاَ تُضَافُ إِلَى
السَّبَبِ.
وَاحْتَرَزَ بِقَيْدِ (كَوْنِهِ طَرِيقًا) عَنِ الْعَلاَمَةِ.
وَاحْتَرَزَ بِقَيْدِ (الْوُجُوبِ) عَنِ الْعِلَّةِ، إِذِ الْعِلَّةُ مَا
يُضَافُ إِلَيْهَا ثُبُوتُ الْحُكْمِ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ
بِقَوْلِهِمْ (وُجُوبٌ) .
__________
(1) المصباح المنير وكذا لسان العرب، مادة: (سبب)
.
(24/145)
وَاحْتَرَزَ بِقَيْدِ (وُجُودٍ) عَنِ
الْعِلَّةِ وَالشَّرْطِ؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إِلَى الْعِلَّةِ
وُجُودًا بِهَا، وَيُضَافُ إِلَى الشَّرْطِ وُجُودًا عِنْدَهُ.
وَاحْتَرَزَ بِقَيْدِ (وَلاَ يُعْقَل فِيهِ مَعَانِي الْعِلَل) عَنِ
السَّبَبِ الَّذِي لَهُ شُبْهَةُ الْعِلَّةِ، وَهُوَ مَا أَثَّرَ فِي
الْحُكْمِ بِوَاسِطَةٍ.
فَلاَ يُوجَدُ لِلسَّبَبِ الْحَقِيقِيِّ تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ
بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ. (1)
وَعَرَّفَ الشَّافِعِيَّةُ السَّبَبَ بِأَنَّهُ: كُل وَصْفٍ ظَاهِرٍ
مُنْضَبِطٍ دَل الدَّلِيل السَّمْعِيُّ عَلَى كَوْنِهِ مُعَرِّفًا لِحُكْمٍ
شَرْعِيٍّ.
وَاحْتَرَزَ بِالظَّاهِرِ عَنِ الْوَصْفِ الْخَفِيِّ كَعُلُوقِ النُّطْفَةِ
بِالرَّحِمِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ خَفِيٌّ لاَ يُعَلَّقُ عَلَيْهِ وُجُوبُ
الْعِدَّةِ، وَإِنَّمَا يُعَلَّقُ عَلَى وَصْفٍ ظَاهِرٍ وَهُوَ الطَّلاَقُ
مَثَلاً.
وَاحْتَرَزَ بِالْمُنْضَبِطِ عَنِ السَّبَبِ الْمُتَخَلِّفِ الَّذِي لاَ
يُوجَدُ دَائِمًا كَالْمَشَقَّةِ فَإِنَّهَا تَتَخَلَّفُ، وَلِذَا عَلَّقَ
سَبَبَ الْقَصْرِ عَلَى السَّفَرِ دُونَ الْمَشَقَّةِ. (2)
وَمِثَال السَّبَبِ: زَوَال الشَّمْسِ أَمَارَةُ مَعْرِفَةٍ لِوُجُوبِ
الصَّلاَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}
(3) وَكَجَعْل طُلُوعِ الْهِلاَل
__________
(1) فتح الغفار شرح المنار 3 / 64، والتلويح على التوضيح 2 / 137.
(2) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1 / 127، حاشية البناني على جمع
الجوامع 1 / 96.
(3) سورة الإسراء / 78.
(24/145)
أَمَارَةً عَلَى وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ
فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الشَّرْطُ:
2 - الشَّرْطُ وَصْفٌ يَلْزَمُ مِنَ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ
وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ الْحُكْمِ وَلاَ يَسْتَلْزِمُهُ.
وَمِثَالُهُ: الْحَوْل شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَعَدَمُهُ
يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ وُجُوبِهَا، وَوُجُودُهُ دُونَ وُجُودِ السَّبَبِ
الَّذِي هُوَ النِّصَابُ لاَ يَسْتَلْزِمُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ،
وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ
فَعَدَمُهَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ صِحَّتِهِ. (2)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالسَّبَبِ أَنَّ الأَْوَّل يَتَعَلَّقُ
بِوُجُودِهِ وُجُودُ الْحُكْمِ.
ب - الْعِلَّةُ:
3 - الْعِلَّةُ هِيَ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ وُجُوبُ الْحُكْمِ - أَيْ
ثُبُوتُهُ - ابْتِدَاءً.
فَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّبَبِ أَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ
بِالْعِلَّةِ بِلاَ وَاسِطَةٍ، فِي حِينِ لاَ يَثْبُتُ الْحُكْمُ
بِالسَّبَبِ إِلاَّ بِوَاسِطَةٍ.
وَلِذَا احْتَرَزَ عَنْهُ فِي التَّعْرِيفِ بِكَلِمَةِ (ابْتِدَاءً) .
كَمَا يَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ السَّبَبَ قَدْ يَتَأَخَّرُ
__________
(1) سورة البقرة / 185.
(2) كشف الأسرار 4 / 173، وإرشاد الفحول ص 7.
(24/146)
عَنْهُ حُكْمُهُ وَقَدْ يَتَخَلَّفُ
عَنْهُ، وَلاَ يُتَصَوَّرُ التَّأَخُّرُ وَالتَّخَلُّفُ فِي الْعِلَّةِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى الْعِلَّةِ بِدُونِ وَاسِطَةٍ
وَلاَ شَرْطٍ، وَتَرَتُّبُهُ عَلَى السَّبَبِ بِوَاسِطَةِ قَوْل الْقَائِل:
أَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ يَسْتَعْقِبُ الطَّلاَقَ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ
عَلَى شَرْطٍ، أَمَّا لَوْ قَال: إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ
سُمِّيَ سَبَبًا لِتَوَقُّفِ الْحُكْمِ عَلَى وَاسِطَةٍ وَهِيَ دُخُول
الدَّارِ (1) .
أَقْسَامُ السَّبَبِ:
4 - قَسَّمَ الأُْصُولِيُّونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ السَّبَبَ إِلَى
ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
أ - السَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ: وَهُوَ سَبَبٌ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى
الْعِلَّةِ. وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ غَيْرَ مُضَافَةٍ إِلَى
السَّبَبِ بِأَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِعْلاً اخْتِيَارِيًّا فَلاَ يُضَافُ
الْحُكْمُ إِلَيْهِ. مِثَالُهُ: أَنَّ الدَّال عَلَى مَال السَّرِقَةِ لاَ
يَضْمَنُ، وَلاَ يَشْتَرِكُ فِي الْغَنِيمَةِ الدَّال عَلَى حِصْنٍ فِي
دَارِ الْحَرْبِ؛ لأَِنَّهُ تَوَسَّطَ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْحُكْمِ
عِلَّةٌ هِيَ فِعْل فَاعِلٍ مُخْتَارٍ وَهُوَ السَّارِقُ وَالْغَازِي،
فَتَقْطَعُ هَذِهِ الْعِلَّةُ نِسْبَةَ الْحُكْمِ إِلَى السَّبَبِ.
ب - سَبَبٌ فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ: وَهُوَ مَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْحُكْمِ عِلَّةٌ وَكَانَتِ الْعِلَّةُ مُضَافَةً إِلَى
السَّبَبِ كَوَطْءِ الدَّابَّةِ شَيْئًا، فَإِنَّهُ عِلَّةٌ لِهَلاَكِهِ
وَهَذِهِ
__________
(1) كشف الأسرار 4 / 171، تخريج الفروع على الأصول (الزنجاني) ص 351.
(24/146)
الْعِلَّةُ مُضَافَةٌ إِلَى سَوْقِهَا
وَهُوَ السَّبَبُ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إِلَى السَّبَبِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ
بِسَوْقِ الدَّابَّةِ.
ج - سَبَبٌ مَجَازِيٌّ: كَالصِّيَغِ الدَّالَّةِ عَلَى تَعْلِيقِ
الطَّلاَقِ أَوِ النَّذْرِ فَإِنَّهَا قَبْل وُقُوعِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ
أَسْبَابٌ مَجَازِيَّةٌ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْجَزَاءِ
وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلاَقِ أَوْ لُزُومُ النَّذْرِ. وَلَمْ تُعْتَبَرْ
أَسْبَابًا حَقِيقِيَّةً إِذْ رُبَّمَا لاَ تُفْضِي إِلَى الْجَزَاءِ
بِأَنْ لاَ يَقَعَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ. وَيُطْلَقُ عَلَى هَذَا
النَّوْعِ مِنَ السَّبَبِ (سَبَبٌ لَهُ شُبْهَةُ الْعِلَّةِ (1)) .
مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّبَبِ:
5 - يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ السَّبَبَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أ - فِي مُقَابَلَةِ الْمُبَاشَرَةِ: فَيُقَال: إِنَّ حَافِرَ الْبِئْرِ
مَعَ الْمُرَدَّى فِيهِ صَاحِبُ سَبَبٍ وَالْمُرَدَّى صَاحِبُ عِلَّةٍ
فَإِنَّ الْهَلاَكَ حَصَل بِالتَّرْدِيَةِ لَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ
السَّبَبِ.
ب - عِلَّةُ الْعِلَّةِ: كَمَا فِي الرَّمْيِ سَبَبٌ لِلْقَتْل مِنْ حَيْثُ
إِنَّهُ سَبَبٌ لِلْعِلَّةِ فَالْمَوْتُ لَمْ يَحْصُل بِمُجَرَّدِ
الرَّمْيِ بَل بِالْوَاسِطَةِ فَأَشْبَهَ مَا لاَ يَحْصُل الْحُكْمُ إِلاَّ
بِهِ.
ج - ذَاتُ الْعِلَّةِ بِدُونِ شَرْطِهَا: كَقَوْلِهِمْ: الْكَفَّارَةُ
تَجِبُ بِالْيَمِينِ دُونَ الْحِنْثِ، فَالْيَمِينُ هُوَ السَّبَبُ سَوَاءٌ
وُجِدَ الْحِنْثُ أَمْ لَمْ يُوجَدْ.
وَكَقَوْلِهِمُ: الزَّكَاةُ تَجِبُ بِالْحَوْل فَإِنَّ مِلْكَ
__________
(1) التلويح على التوضيح 2 / 137 - 139.
(24/147)
النِّصَابِ هُوَ السَّبَبُ سَوَاءٌ وُجِدَ
الْحَوْل الَّذِي هُوَ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ أَمْ لَمْ يُوجَدْ.
وَيُرِيدُونَ بِهَذَا السَّبَبِ مَا تَحْسُنُ إِضَافَةُ الْحُكْمِ إِلَيْهِ
وَيُقَابِلُونَهُ بِالْمَحَل وَالشَّرْطِ فَيَقُولُونَ: مِلْكُ النِّصَابِ
سَبَبٌ وَالْحَوْل شَرْطٌ.
د - الْمُوجِبُ: وَالسَّبَبُ بِهَذَا الإِْطْلاَقِ يَكُونُ بِمَعْنَى
الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَالْعِلَل الشَّرْعِيَّةُ فِيهَا مَعْنَى
الْعَلاَمَاتِ الْمُظْهِرَةِ فَشَابَهَتِ الأَْسْبَابَ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ. (1)
قَال الزَّرْكَشِيُّ: الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ الْمَجْمُوعُ
الْمُرَكَّبُ مِنَ الْمُقْتَضِي وَالشَّرْطِ وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ
وَوُجُودِ الأَْهْل وَالْمَحَل (2) .
__________
(1) المستصفى 1 / 94.
(2) البحر المحيط للزركشي 1 / 307 طبع وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية
بالكويت.
(24/147)
سِبْطٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - السِّبْطُ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى وَلَدِ الاِبْنِ وَالاِبْنَةِ.
وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل السِّبْطُ فِي وَلَدِ الْبِنْتِ، وَمِنْهُ قِيل
لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ: سِبْطَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُطْلَقُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى وَلَدِ
الْبِنْتِ. (2) وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُطْلَقُ عَلَى وَلَدِ الاِبْنِ
وَالْبِنْتِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْحَفِيدُ:
2 - الْحَفِيدُ لُغَةً: وَلَدُ الْوَلَدِ. (4) وَيَسْتَعْمِل
الشَّافِعِيَّةُ هَذَا اللَّفْظَ بِنَفْسِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. (5)
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَقَعُ لَفْظُ الْحَفِيدِ عِنْدَهُمْ عَلَى وَلَدِ
الاِبْنِ وَالْبِنْتِ (6) . (ر: حَفِيدٌ) .
__________
(1) تاج العروس والمعجم الوسيط مادة: (سبط)
، والفروق في اللغة ص 234.
(2) القليوبي 3 / 242.
(3) مطالب أولي النهى 4 / 362.
(4) المعجم الوسيط.
(5) القليوبي 3 / 242.
(6) الإنصاف 7 / 83، ومطالب أولي النهى 4 / 362.
(24/148)
النَّافِلَةُ:
3 - النَّافِلَةُ: وَلَدُ الْوَلَدِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى (1) .
الْعَقِبُ:
4 - عَقِبُ الرَّجُل وَلَدُهُ الذُّكُورُ وَالإِْنَاثُ، وَوَلَدُ بَنِيهِ
مِنَ الذُّكُورِ وَالإِْنَاثِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ لاَ يُسَمُّونَ عَقِبًا
إِلاَّ بَعْدَ وَفَاتِهِ (2) .
الذُّرِّيَّةُ:
5 - الذُّرِّيَّةُ أَصْلُهَا الصِّغَارُ مِنَ الأَْوْلاَدِ مَهْمَا
نَزَلُوا، وَيَقَعُ عَلَى الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ مَعًا فِي التَّعَارُفِ
(3) .
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي دُخُول أَوْلاَدِ الْبَنَاتِ فِي الذُّرِّيَّةِ
خِلاَفٌ (4) وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي (ذُرِّيَّةٍ) . وَ (وَلَدٍ)
(وَوَقْفٍ) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
دُخُول السِّبْطِ فِي الْوَقْفِ عَلَى قَوْمٍ وَأَوْلاَدِهِمْ
وَنَسْلِهِمْ:
6 - إِذَا وَقَفَ عَلَى قَوْمٍ وَأَوْلاَدِهِمْ أَوْ عَاقِبَتِهِمْ أَوْ
نَسْلِهِمْ دَخَل فِي الْوَقْفِ أَوْلاَدُ الْبَنِينَ بِغَيْرِ خِلاَفٍ.
__________
(1) لسان العرب مادة (نفل) ، والقليوبي 3 / 242، والقرطبي 10 / 305.
(2) الفروق في اللغة ص 234.
(3) المفردات في غريب القرآن.
(4) ابن عابدين 3 / 227، والإنصاف 7 / 81.
(24/148)
أَمَّا أَوْلاَدُ الْبَنَاتِ فَقَدِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دُخُولِهِمْ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو بَكْرٍ وَابْنُ حَامِدٍ
مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَدْخُل أَوْلاَدُ الْبَنَاتِ فِي
الْوَقْفِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ أَوِ النَّسْل أَوِ الْعَقِبِ أَوْ
أَوْلاَدِ الأَْوْلاَدِ؛ لأَِنَّ الْبَنَاتِ أَوْلاَدُهُ، وَأَوْلاَدُهُنَّ
أَوْلاَدٌ حَقِيقَةٌ، فَيَدْخُلُونَ فِي الْوَقْفِ لِتَنَاوُل اللَّفْظِ
لَهُمْ. وَقَدْ دَل عَلَى صِحَّةِ هَذَا قَوْل اللَّهِ تَعَالَى:
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا
هَدَيْنَا مِنْ قَبْل وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ
وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ
الصَّالِحِينَ} (1) وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ وَلَدِ الْبِنْتِ،
فَجَعَلَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّةَ
عِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَإِسْمَاعِيل وَإِدْرِيسَ. ثُمَّ قَال:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ
ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيل} (2) وَعِيسَى مَعَهُمْ. وَقَال النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَسَنِ: ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ
(3) وَهُوَ وَلَدُ بِنْتِهِ، وَلَمَّا قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَحَلاَئِل
أَبْنَائِكُمْ} (4) دَخَل فِي
__________
(1) سورة الأنعام / 84، 85.
(2) سورة مريم / 58.
(3) حديث: " ابني هذا سيد ". أخرجه البخاري (الفتح 7 / 94 - ط السلفية) من
حديث أبي بكرة.
(4) سورة النساء / 23.
(24/149)
التَّحْرِيمِ حَلاَئِل أَبْنَاءِ
الْبَنَاتِ، وَلَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَنَاتِ دَخَل فِي
التَّحْرِيمِ بَنَاتُهُنَّ. (1)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ أَوْلاَدَ الْبَنَاتِ لاَ
يَدْخُلُونَ فِي الْوَقْفِ الَّذِي عَلَى أَوْلاَدِهِ وَأَوْلاَدِ
أَوْلاَدِهِ، وَهَكَذَا إِذَا قَال عَلَى ذُرِّيَّتِهِ وَنَسْلِهِ. (2)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: وَقْفٌ) .
دُخُول السِّبْطِ فِي الاِسْتِئْمَانِ لِلأَْوْلاَدِ:
7 - إِذَا قَال الْحَرْبِيُّ: أَمِّنُونِي عَلَى أَوْلاَدِي فَأُجِيبَ
إِلَى ذَلِكَ دَخَل فِيهِ أَوْلاَدُهُ لِصُلْبِهِ وَأَوْلاَدِهِمْ مِنْ
قِبَل الذُّكُورِ دُونَ أَوْلاَدِ الْبَنَاتِ؛ لأَِنَّهُمْ لَيْسُوا
بِأَوْلاَدِهِ، هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ كَمَا نَقَل عَنْهُ
قَاضِي خَانْ وَابْنُ عَابِدِينَ (3) .
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ أَخَذَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ:
أَوْلاَدُنَا أَكْبَادُنَا. (4)
وَلَوْ قَال الْحَرْبِيُّ: أَمِّنُونِي عَلَى أَوْلاَدِ أَوْلاَدِي دَخَل
أَوْلاَدُ الْبَنَاتِ؛ لأَِنَّ اسْمَ وَلَدِ الْوَلَدِ حَقِيقَةٌ
__________
(1) المحلي على المنهاج 3 / 104، وفتاوى قاضيخان بهامش الهندية 3 / 320،
وابن عابدين 3 / 433، وانظر فتح القدير 5 / 451 - 452، والمغني 5 / 615.
(2) المغني 5 / 615، ومواهب الجليل 6 / 31.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 227، وفتاوى قاضيخان بهامش الهندية 3 / 319.
(4) حديث: " أولادنا أكبادنا ". ذكره العجلوني في كشف الخفاء (1 / 307 ط
الرسالة) معزوًا إلى السرخسي في شرح السير الكبير.
(24/149)
فِيمَنْ وَلَدَهُ وَلَدُكَ، وَابْنَتُكَ
وَلَدُكَ، فَمَا وَلَدَتْهُ ابْنَتُكَ يَكُونُ وَلَدَ وَلَدِكَ حَقِيقَةً.
(1)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
8 - لِلسِّبْطِ أَحْكَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ مُفَصَّلَةٌ تُنْظَرُ فِي
مَظَانِّهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ الإِْرْثُ
وَالْوَصِيَّةُ وَالنِّكَاحُ وَالْحَضَانَةُ وَالنَّفَقَةُ
وَالْجِنَايَاتُ. وَتُنْظَرُ كَذَلِكَ مُصْطَلَحَاتُ (ابْنُ الاِبْنِ،
وَابْنُ الْبِنْتِ، وَحَفِيدٌ)
سَبُعٌ
انْظُرْ: أَطْعِمَةٌ.
سَبْقٌ
انْظُرْ: سِبَاقٌ.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 227.
(24/150)
سَبْقُ الْحَدَثِ
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّبْقُ مَصْدَرُ سَبَقَ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْقَدَمَةُ فِي
الْجَرْيِ وَفِي كُل شَيْءٍ.
وَالْحَدَثُ مِنْ حَدَثَ الشَّيْءُ حُدُوثًا: أَيْ تَجَدَّدَ وَيَتَعَدَّى
بِالأَْلِفِ فَيُقَال: أَحْدَثَهُ، وَأَحْدَثَ الإِْنْسَانُ إِحْدَاثًا،
وَالاِسْمُ: الْحَدَثُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْحَالَةِ النَّاقِضَةِ
لِلطَّهَارَةِ، وَعَلَى الْحَادِثِ الْمُنْكَرِ الَّذِي لَيْسَ
بِمُعْتَادٍ، وَلاَ مَعْرُوفٍ فِي السُّنَّةِ. (1)
وَسَبْقُ الْحَدَثِ فِي الاِصْطِلاَحِ: خُرُوجُ شَيْءٍ مُبْطِلٍ
لِلطَّهَارَةِ مِنْ بَدَنِ الْمُصَلِّي (مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ) فِي أَثْنَاءِ
الصَّلاَةِ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الصَّلاَةَ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) بدائع الصنائع 1 / 220.
(24/150)
لاَ تَنْعَقِدُ إِنْ لَمْ يَكُنْ
مُتَطَهِّرًا عِنْدَ إِحْرَامِهِ، عَامِدًا كَانَ أَمْ سَاهِيًا، كَمَا لاَ
خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ الصَّلاَةَ تَبْطُل إِذَا أَحْرَمَ
مُتَطَهِّرًا ثُمَّ أَحْدَثَ عَمْدًا. وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَدَثِ الَّذِي
يَسْبِقُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِ الْمُصَلِّي:
مِنْ غَائِطٍ، أَوْ بَوْلٍ، أَوْ رِيحٍ، وَكَذَا الدَّمُ السَّائِل مِنْ
جُرْحٍ أَوْ دُمَّلٍ بِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ
حَدَثٌ يُفْسِدُ الطَّهَارَةَ.
3 - فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا سَبَقَ مِنْهُ شَيْءٌ
مِنْ هَذِهِ الأَْحْدَاثِ تَفْسُدُ طَهَارَتُهُ، وَلاَ تَبْطُل صَلاَتُهُ
فَيَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلاَتِهِ بَعْدَ
تَطَهُّرِهِ اسْتِحْسَانًا لاَ قِيَاسًا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلْسٌ أَوْ
مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ، فَلْيَتَوَضَّأْ، ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلاَتِهِ،
وَهُوَ فِي ذَلِكَ لاَ يَتَكَلَّمُ. (1)
وَلأَِنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ، وَالْعَبَادِلَةَ الثَّلاَثَةَ،
وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ،
قَالُوا بِالْبِنَاءِ عَلَى مَا مَضَى.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَبَقَهُ
الْحَدَثُ فِي الصَّلاَةِ فَتَوَضَّأَ وَبَنَى عَلَى صَلاَتِهِ.
__________
(1) حديث: " من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي، فلينصرف، فليتوضأ ثم ليبن
على صلاته، وهو في ذلك لا يتكلم ". أخرجه ابن ماجه (1 / 385 - 386 - ط
الحلبي) من حديث عائشة، وضعفه البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 223 - ط دار
الجنان) .
(24/151)
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ فَعَل ذَلِكَ
فَثَبَتَ الْبِنَاءُ عَنِ الصَّحَابَةِ قَوْلاً وَفِعْلاً.
قَالُوا: وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُل صَلاَتُهُ أَيْضًا
وَيَسْتَأْنِفَ الصَّلاَةَ بَعْدَ التَّطَهُّرِ؛ لأَِنَّ التَّحْرِيمَةَ
لاَ تَبْقَى مَعَ الْحَدَثِ، كَمَا لاَ تَنْعَقِدُ مَعَهُ، لِفَوَاتِ
أَهْلِيَّةِ أَدَاءِ الصَّلاَةِ فِي الْحَالَيْنِ بِفَوَاتِ الطَّهَارَةِ
فِيهِمَا؛ لأَِنَّ الشَّيْءَ لاَ يَبْقَى مَعَ عَدَمِ الأَْهْلِيَّةِ،
كَمَا لاَ يَنْعَقِدُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِيَّةٍ، فَلاَ تَبْقَى
التَّحْرِيمَةُ؛ لأَِنَّهَا شُرِعَتْ لأَِدَاءِ أَفْعَال الصَّلاَةِ،
وَلِهَذَا لاَ تَبْقَى مَعَ الْحَدَثِ الْعَمْدِ بِالاِتِّفَاقِ؛ وَلأَِنَّ
صَرْفَ الْوَجْهِ عَنِ الْقِبْلَةِ، وَالْمَشْيِ لِلطَّهَارَةِ فِي
الصَّلاَةِ مُنَافٍ لَهَا. وَلَكِنْ عَدَل عَنِ الْقِيَاسِ لِلنَّصِّ
وَالإِْجْمَاعِ.
وَهَذَا هُوَ الْقَوْل الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ
أَحْمَدَ (1) .
4 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْقَوْل الْجَدِيدُ لِلشَّافِعِيِّ
وَأَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ: تَبْطُل صَلاَتُهُ وَيَتَوَضَّأُ،
وَيَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُهَا، وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ،
وَالنَّخَعِيِّ، وَمَكْحُولٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: إِذَا فَسَا
أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيُعِدِ
الصَّلاَةَ. (2) وَحَدِيثُ عَلِيٍّ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 220، المبسوط 1 / 169 - 170، المغني 2 / 103، مغني
المحتاج 1 / 187، نهاية المحتاج 2 / 14.
(2) حديث: " إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف، فليتوضأ وليعد الصلاة ".
أخرجه أبو داود (1 / 141 - 142 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث علي بن أبي
طالب، وأعله ابن القطان بجهالة الراوي عن علي، كذا في نصب الراية للزيلعي
(1 / 62 - ط المجلس العلمي) .
(24/151)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَال: بَيْنَمَا
نَحْنُ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُصَلِّي
إِذِ انْصَرَفَ وَنَحْنُ قِيَامٌ ثُمَّ أَقْبَل وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ،
فَصَلَّى لَنَا الصَّلاَةَ ثُمَّ قَال: إِنِّي ذَكَرْتُ أَنِّي كُنْتُ
جُنُبًا حِينَ قُمْتُ إِلَى الصَّلاَةِ لَمْ أَغْتَسِل، فَمَنْ وَجَدَ
مِنْكُمْ فِي بَطْنِهِ رِزًّا (1) أَوْ كَانَ عَلَى مِثْل مَا كُنْتُ
عَلَيْهِ فَلْيَنْصَرِفْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ حَاجَتِهِ أَوْ غُسْلِهِ،
ثُمَّ يَعُودَ إِلَى صَلاَتِهِ. (2)
وَلأَِنَّهُ فَقَدَ شَرْطَ الصَّلاَةِ - وَهُوَ الطَّهَارَةُ عَنِ
الْحَدَثِ - فِي أَثْنَائِهَا عَلَى وَجْهٍ لاَ يَعُودُ إِلاَّ بَعْدَ
زَمَنٍ طَوِيلٍ وَعَمَلٍ كَثِيرٍ، فَفَسَدَتْ صَلاَتُهُ، كَمَا لَوْ
تَنَجَّسَ نَجَاسَةً يَحْتَاجُ فِي إِزَالَتِهَا إِلَى مِثْل ذَلِكَ. أَوِ
انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ، وَلَمْ يَجِدِ السُّتْرَةَ إِلاَّ بَعِيدَةً
مِنْهُ، أَوْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ، أَوِ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمَسْحِ عَلَى
الْخُفَّيْنِ وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ. (3)
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: إِنْ كَانَ الْحَدَثُ مِنَ
السَّبِيلَيْنِ ابْتَدَأَ الصَّلاَةَ وَلاَ يَبْنِي، أَمَّا إِنْ كَانَ
__________
(1) الرز بكسر الراء: غمز الحدث وحركته في البطن للخروج حتى يحتاج صاحبه
إلى دخول الخلاء كان بقرقرة أو بغير قرقرة، وأصل الرز الوجع يجده الرجل في
بطنه (لسان العرب) مادة: (رزز) .
(2) حديث: " ذكرت أني كنت جنبًا ". أخرجه أحمد (1 / 88 - ط الميمنية) ،
وقال الهيثمي: " مدار طرقه على ابن لهيعة وفيه كلام " أ. هـ. كذا في المجمع
(2 / 68 - ط القدسي) .
(3) المغني 2 / 103، مغني المحتاج 1 / 187، نهاية المحتاج 2 / 14، روضة
الطالبين 1 / 271، ومواهب الجليل 1 / 493.
(24/152)
مِنْ غَيْرِهِمَا بَنَى؛ لأَِنَّ نَجَاسَةَ
السَّبِيلَيْنِ أَغْلَظُ؛ وَلأَِنَّ الأَْثَرَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي
الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ فَلاَ يُلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي
مَعْنَاهُ. (1)
شُرُوطُ الْبِنَاءِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهِ:
يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ:
5 - أ - كَوْنُ السَّبْقِ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ، فَلاَ يَجُوزُ
الْبِنَاءُ إِذَا أَحْدَثَ عَمْدًا؛ لأَِنَّ جَوَازَ الْبِنَاءِ ثَبَتَ
مَعْدُولاً بِهِ عَنِ الْقِيَاسِ، لِلنَّصِّ وَالإِْجْمَاعِ، فَلاَ
يُلْحَقُ بِهِ إِلاَّ مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، وَالْمُجْمَعِ
عَلَيْهِ، وَالْحَدَثُ الْعَمْدُ لَيْسَ كَالْحَدَثِ الَّذِي يَسْبِقُ
لأَِنَّهُ مِمَّا يُبْتَلَى بِهِ الإِْنْسَانُ، فَلَوْ جُعِل مَانِعًا مِنَ
الْبِنَاءِ لأََدَّى إِلَى حَرَجٍ، وَلاَ حَرَجَ فِي الْحَدَثِ الْعَمْدِ.
وَلأَِنَّ الإِْنْسَانَ يَحْتَاجُ إِلَى الْبِنَاءِ فِي الْجُمَعِ
وَالأَْعْيَادِ لإِِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ، فَنَظَرَ الشَّرْعُ لَهُ
بِجَوَازِ الْبِنَاءِ صِيَانَةً لِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ مِنَ الْفَوَاتِ
عَلَيْهِ، وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلنَّظَرِ، لِحُصُول الْحَدَثِ مِنْ غَيْرِ
قَصْدٍ مِنْهُ، وَبِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ بِخِلاَفِ الْحَدَثِ الْعَمْدِ؛
لأَِنَّ مُتَعَمِّدَ الْحَدَثِ فِي الصَّلاَةِ جَانٍ، فَلاَ يَسْتَحِقُّ
النَّظَرَ.
ب - أَلاَّ يَأْتِي بَعْدَ الْحَدَثِ بِفِعْلٍ مُنَافٍ لِلصَّلاَةِ لَوْ
لَمْ يَكُنْ قَدْ أَحْدَثَ، إِلاَّ مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ، فَيَجِبُ
عَلَيْهِ تَقْلِيل الأَْفْعَال وَتَقْرِيبُ الْمَكَانِ بِحَسْبِ
الإِْمْكَانِ، وَلاَ يَتَكَلَّمُ إِلاَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي
تَحْصِيل الْمَاءِ
__________
(1) المغني 2 / 103.
(24/152)
وَنَحْوِهِ. فَإِنْ تَكَلَّمَ بَعْدَ
الْحَدَثِ بِلاَ حَاجَةٍ إِلَيْهِ، أَوْ ضَحِكَ أَوْ أَحْدَثَ حَدَثًا
آخَرَ عَمْدًا، أَوْ أَكَل أَوْ شَرِبَ فَلاَ يَبْنِي؛ لأَِنَّ هَذِهِ
الأَْفْعَال مُنَافِيَةٌ لِلصَّلاَةِ فِي الأَْصْل فَلاَ يَسْقُطُ
الْمُنَافِي لِلضَّرُورَةِ. (1)
عَوْدُهُ بَعْدَ التَّطَهُّرِ إِلَى مُصَلاَّهُ:
6 - إِنْ كَانَ الْمُصَلِّي مُنْفَرِدًا فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ فَهُوَ
بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَتَمَّ صَلاَتَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي
تَوَضَّأَ فِيهِ، وَإِنْ شَاءَ عَادَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي افْتَتَحَ
الصَّلاَةَ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ إِذَا أَتَمَّ الصَّلاَةَ حَيْثُ هُوَ فَقَدْ
سَلِمَتْ صَلاَتُهُ عَنِ الْحَرَكَةِ الْكَثِيرَةِ لَكِنَّهُ صَلَّى
صَلاَةً وَاحِدَةً فِي مَكَانَيْنِ. وَإِنْ عَادَ إِلَى مُصَلاَّهُ فَقَدْ
أَدَّى جَمِيعَ الصَّلاَةِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَلَكِنْ مَعَ زِيَادَةِ
مَشْيٍ فَاسْتَوَى الْوَجْهَانِ فَيَتَخَيَّرُ.
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: يُصَلِّي فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَوَضَّأَ
فِيهِ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ، وَهُوَ الْقَوْل الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ.
وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ، فَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ
إِمَامُهُ مِنَ الصَّلاَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ؛ لأَِنَّهُ فِي حُكْمِ
الْمُقْتَدِي، وَلَوْ لَمْ يَعُدْ وَأَتَمَّ بَقِيَّةَ صَلاَتِهِ فِي
مَكَانِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ، لأَِنَّهُ إِنْ صَلَّى مُقْتَدِيًا
بِإِمَامِهِ لَمْ يَصِحَّ لاِنْعِدَامِ شَرْطِ الاِقْتِدَاءِ، وَهُوَ
اتِّحَادُ الْبُقْعَةِ، وَإِنْ صَلَّى فِي مَكَانِهِ مُنْفَرِدًا فَسَدَتْ
صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّ الاِنْفِرَادَ فِي حَال وُجُوبِ الاِقْتِدَاءِ يُفْسِدُ
صَلاَتَهُ؛ لأَِنَّ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 220 - 221 - 222، المبسوط 1 / 169.
(24/153)
تَغَايُرًا، وَقَدْ تَرَكَ مَا كَانَ
عَلَيْهِ وَهُوَ الصَّلاَةُ مُقْتَدِيًا، وَمَا أَدَّى وَهُوَ الصَّلاَةُ
مُنْفَرِدًا لَمْ يُوجَدْ لَهُ ابْتِدَاءً تَحْرِيمَةٌ، وَهُوَ بَعْضُ
الصَّلاَةِ؛ لأَِنَّهُ صَارَ مُنْتَقِلاً عَمَّا كَانَ فِيهِ إِلَى هَذَا،
فَتَبْطُل. وَإِنْ كَانَ إِمَامًا يَسْتَخْلِفُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ
وَيَبْنِي عَلَى صَلاَتِهِ. (1)
هَذَا كُلُّهُ فِي حَدَثِ الرَّفَاهِيَةِ (أَيْ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ)
أَمَّا الْحَدَثُ الدَّائِمُ كَسَلَسِ الْبَوْل فَلاَ يَضُرُّ. (ر: حَدَثٌ)
(وَعُذْرٌ) .
7 - أَمَّا مَا سِوَى الْحَدَثِ مِنَ الأَْسْبَابِ النَّاقِضَةِ
لِلصَّلاَةِ إِذَا طَرَأَ فِيهَا أَبْطَل الصَّلاَةَ قَطْعًا، إِنْ كَانَ
بِاخْتِيَارِهِ، أَوْ طَرَأَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ إِذَا نُسِبَ إِلَيْهِ
تَقْصِيرٌ، كَمَنْ مَسَحَ خُفَّهُ فَانْقَضَتِ الْمُدَّةُ فِي الصَّلاَةِ،
أَوْ دَخَل الصَّلاَةَ وَهُوَ يُدَافِعُ الْحَدَثَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ
لاَ يَقْدِرُ عَلَى التَّمَاسُكِ إِلَى انْتِهَائِهَا. أَمَّا إِذَا طَرَأَ
نَاقِضٌ لِلصَّلاَةِ لاَ بِاخْتِيَارِهِ وَلاَ بِتَقْصِيرِهِ كَمَنِ
انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ فَسَتَرَهَا فِي الْحَال، أَوْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ
نَجَاسَةٌ يَابِسَةٌ فَنَفَضَهَا فِي الْحَال، أَوْ أَلْقَى الثَّوْبَ
الَّذِي وَقَعَتْ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ فِي الْحَال فَصَلاَتُهُ
صَحِيحَةٌ. (2)
(ر: صَلاَةٌ، نَجَاسَةٌ) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 224.
(2) نهاية المحتاج 2 / 14.
(24/153)
سَبْيٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّبْيُ وَالسِّبَاءُ لُغَةً: الأَْسْرُ، يُقَال: سَبَى الْعَدُوَّ
وَغَيْرَهُ سَبْيًا وَسِبَاءً: إِذَا أَسَرَهُ، فَهُوَ سَبِيٌّ عَلَى
وَزْنِ فَعِيلٌ لِلذَّكَرِ. وَالأُْنْثَى سَبْيٌ وَسَبِيَّةٌ
وَمَسْبِيَّةٌ، وَالنِّسْوَةُ سَبَايَا، وَلِلْغُلاَمِ سَبْيٌ وَمَسْبِيٌّ.
(1)
أَمَّا اصْطِلاَحًا: فَالْفُقَهَاءُ فِي الْغَالِبِ يَخُصُّونَ السَّبْيَ
بِالنِّسَاءِ وَالأَْطْفَال، وَالأَْسْرَ بِالرِّجَال. فَفِي الأَْحْكَامِ
السُّلْطَانِيَّةِ: الْغَنِيمَةُ تَشْتَمِل عَلَى أَقْسَامٍ: أَسْرَى،
وَسَبْيٍ، وَأَرَضِينَ، وَأَمْوَالٍ، فَأَمَّا الأَْسْرَى فَهُمُ الرِّجَال
الْمُقَاتِلُونَ مِنَ الْكُفَّارِ إِذَا ظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ بِهِمْ
أَحْيَاءً، وَأَمَّا السَّبْيُ فَهُمُ النِّسَاءُ وَالأَْطْفَال. (2) وَفِي
مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: الْمُرَادُ بِالسَّبْيِ: النِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ
(3) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 131، 134، والأحكام السلطانية لأبي يعلى
ص 141، 143، والبدائع 7 / 119.
(3) مغني المحتاج 4 / 227.
(24/154)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرَّهِينَةُ:
2 - الرَّهِينَةُ وَاحِدَةُ الرَّهَائِنِ، وَهِيَ كُل مَا احْتُبِسَ
بِشَيْءٍ، وَالسَّبْيُ وَالرَّهِينَةُ كِلاَهُمَا مُحْتَبَسٌ إِلاَّ أَنَّ
السَّبْيَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ إِنْسَانًا وَهُوَ مُحْتَبِسٌ
بِذَاتِهِ، أَمَّا الرَّهِينَةُ فَلِغَيْرِهَا لِلْوَفَاءِ بِالْتِزَامٍ.
(ر: أَسْرَى ف 3)
ب - الْحَبْسُ:
3 - الْحَبْسُ ضِدُّ التَّخْلِيَةِ، وَالْمَحْبُوسُ: الْمَمْنُوعُ عَنِ
التَّوَجُّهِ حَيْثُ يَشَاءُ، فَالْحَبْسُ أَعَمُّ مِنَ السَّبْيِ. (ر:
أَسْرَى ف 4) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - السَّبْيُ مَشْرُوعٌ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ
فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} (1) وَقَدْ سَبَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَسَّمَ السَّبْيَ بَيْنَ الْمُجَاهِدِينَ كَسْبِي
بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهَوَازِنَ (2) . وَسَبَى الصَّحَابَةُ مِنْ
بَعْدِهِ، كَمَا فَعَل أَبُو بَكْرٍ
__________
(1) سورة محمد / 4.
(2) حديث: " سبى النبي صلى الله عليه وسلم بني المصطلق وهوازن " ذكر سبيه
لبني المصطلق أخرجه البخاري (الفتح 7 / 129 - ط السلفية) من حديث أبي سعيد
الخدري، وحديث سبيه لهوازن أخرجه البخاري كذلك (الفتح 8 / 32 - 33 ط
السلفية) من حديث مروان والمسور بن مخرمة.
(24/154)
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حِينَ
اسْتَرَقَّ نِسَاءَ بَنِي حَنِيفَةَ وَذَرَارِيِّهِمْ، وَسَبَى عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بَنِي نَاجِيَةَ. (1)
وَكَانَ السَّبْيُ مَوْجُودًا قَبْل الإِْسْلاَمِ، فَقَيَّدَهُ
الإِْسْلاَمُ بِشُرُوطٍ، وَخَصَّهُ بِحَالَةِ الْحَرْبِ وَنَحْوِهَا عَلَى
مَا سَيَأْتِي فِي أَسْبَابِهِ.
أَسْبَابُ السَّبْيِ:
الأَْوَّل - الْقِتَال:
5 - شُرِعَ الْقِتَال فِي سَبِيل اللَّهِ تَعَالَى لإِِعْلاَءِ دِينِ
الْحَقِّ وَكَسْرِ شَوْكَةِ الأَْعْدَاءِ. وَالأَْصْل أَنَّ مَنْ لَمْ
يُشَارِكْ فِي الْقِتَال فَلاَ يُقْتَل، وَلِذَلِكَ يُمْنَعُ التَّعَرُّضُ
لِلنِّسَاءِ وَالأَْطْفَال وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْعَجَزَةِ الَّذِينَ لاَ
يُشَارِكُونَ فِي الْقِتَال لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ قَتْل النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. (2) قَال صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا وَلاَ طِفْلاً وَلاَ
امْرَأَةً. (3)
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا جَوَازُ قَتْل مَنْ يُشَارِكُ فِي الْقِتَال مِنَ
النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ أَوْ يُحَرِّضُ عَلَى
__________
(1) المهذب 2 / 236، والمغني 8 / 138، والخراج لأبي يوسف / 67.
(2) حديث: " نهى عن قتل النساء والصبيان ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 148 -
ط السلفية) ومسلم (3 / 1364 ط الحلبي) من حديث ابن عمر.
(3) حديث: " لا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا طفلاً ولا امرأة ". أخرجه أبو داود
(3 / 86 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أنس بن مالك، وإسناده حسن لغيره.
(24/155)
الْقِتَال، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (جِهَادٍ ف 29) .
وَإِذَا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ الْغَنَائِمَ فَإِنَّ مَنْ يُوجَدُ فِيهَا
مِنَ النِّسَاءِ وَالأَْطْفَال يُعْتَبَرُ سَبْيًا. (1)
الثَّانِي: النُّزُول عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ:
6 - لَوْ حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ حِصْنًا لِلْعَدُوِّ، وَطَلَبَ أَهْل
الْحِصْنِ النُّزُول عَلَى حُكْمِ فُلاَنٍ وَارْتَضَوْا حُكْمَ أَحَدِ
الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ، فَلَهُ الْحُكْمُ بِسَبْيِ نِسَائِهِمْ
وَذَرَارِيِّهِمْ. (2)
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمَّا حَاصَرَهُمْ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً نَزَلُوا
عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ،
فَحَكَمَ سَعْدُ أَنْ تُقَتَّل رِجَالُهُمْ وَتُقَسَّمَ أَمْوَالُهُمْ
وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ حَكَمْتَ بِمَا حَكَمَ الْمَلِكُ. (3)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (جِهَادٍ ف 24)
الثَّالِثُ - الرِّدَّةُ:
7 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) البدائع 7 / 101، 119، والدسوقي 2 / 176، 184، وأسنى المطالب 4 / 190 -
191، والمغني 8 / 372.
(2) البدائع 7 / 108، والدسوقي 2 / 185، والمغني 8 / 480 - 481.
(3) حديث: " لقد حكمت بما حكم الملك " أخرجه البخاري (الفتح 7 / 411، 11 /
49 - ط السلفية) من حديث أبي سعيد الخدري.
(24/155)
وَالْحَنَابِلَةُ - أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ
إِنِ اسْتُتِيبَتْ وَلَمْ تَتُبْ فَإِنَّهَا تُقْتَل، لِمَا رُوِيَ أَنَّ
امْرَأَةً يُقَال لَهَا أُمُّ رُومَانَ ارْتَدَّتْ عَنِ الإِْسْلاَمِ،
فَبَلَغَ أَمْرُهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ
أَنْ تُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَتْ وَإِلاَّ قُتِلَتْ. (1) وَلأَِنَّهَا
شَخْصٌ مُكَلَّفٌ بَدَّل دِينَ الْحَقِّ بِالْبَاطِل، فَيُقْتَل
كَالرَّجُل.
8 - وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تُحْبَسُ إِلَى أَنْ تَتُوبَ - إِلاَّ فِي
رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَى مَا سَيَأْتِي.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ
وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا ارْتَدَّتْ
فَإِنَّهَا تُسْبَى وَلاَ تُقْتَل، لأَِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ اسْتَرَقَّ نِسَاءَ بَنِي حَنِيفَةَ وَذَرَارِيَّهُمْ،
وَأَعْطَى عَلِيًّا مِنْهُمُ امْرَأَةً فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدَ بْنَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَكَانَ هَذَا بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ
رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النَّوَادِرِ قَال: إِنَّهَا
تُسْتَرَقُّ وَلَوْ كَانَتْ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، قِيل: لَوْ أَفْتَى
بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ لاَ بَأْسَ بِهِ فِيمَنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ
حَسْمًا لِتَوَصُّلِهَا لِلْفُرْقَةِ بِالرِّدَّةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - غَيْرُ رِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ - لاَ تُسْبَى
الْمَرْأَةُ إِلاَّ إِذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ
ارْتِدَادِهَا، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ سِبَاؤُهَا. (2)
__________
(1) حديث: " أن امرأة يقال لها أم رومان ارتدت ". أخرجه الدارقطني (3 / 118
- 119 ط دار المحاسن) من حديث جابر بن عبد الله، وضعف إسناده ابن حجر في
التلخيص الحبير (4 / 49 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 304، والبدائع 7 / 139، 140، والدسوقي 4 / 304،
والقوانين الفقهية / 356، والمهذب 2 / 223 - 225، والمغني 8 / 123.
(24/156)
9 - أَمَّا ذُرِّيَّةُ الْمُرْتَدِّ فَمَنْ
وُلِدَ بَعْدَ رِدَّةِ أَبَوَيْهِ فَإِنَّهُ مَحْكُومٌ بِكُفْرِهِ،
لأَِنَّهُ وُلِدَ بَيْنَ أَبَوَيْنِ كَافِرَيْنِ، وَيَجُوزُ سِبَاؤُهُ
حِينَئِذٍ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمُرْتَدٍّ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ،
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ قَوْلٌ
لِلشَّافِعِيَّةِ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُحْتَمَل أَنْ لاَ يَجُوزَ اسْتِرْقَاقُهُمْ؛
لأَِنَّ آبَاءَهُمْ لاَ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ؛ لأَِنَّهُمْ لاَ
يُقِرُّونَ بِدَفْعِ الْجِزْيَةِ فَلاَ يُقِرُّونَ بِالاِسْتِرْقَاقِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُسْبَى مَنْ وُلِدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ
لَحِقَ أَبَوَاهُ بِدَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ مَعَهُمَا، وَقَال
الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا قُتِل الْمُرْتَدُّ بَقِيَ وَلَدُهُ مُسْلِمًا
سَوَاءٌ وُلِدَ قَبْل الرِّدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا. (1)
10 - وَمَتَى ارْتَدَّ أَهْل بَلَدٍ وَجَرَتْ فِيهِ أَحْكَامُهُمْ صَارَ
دَارَ حَرْبٍ، فَإِذَا غَلَبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ كَانَ لَهُمْ
سَبْيُ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَالَّذِينَ وُلِدُوا بَعْدَ
الرِّدَّةِ، كَمَا سَبَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
ذَرَارِيَّ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ
وَغَيْرِهِمْ، وَكَمَا سَبَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ بَنِي نَاجِيَةَ مُوَافَقَةً لأَِبِي بَكْرٍ، وَهَذَا
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَصْبَغَ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 306، والبدائع 7 / 139 - 140، والخرشي 8 / 66، والمغني
8 / 137، والأحكام السلطانية للماوردي / 56.
(24/156)
مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - غَيْرِ أَصْبَغَ - لاَ تُسْبَى
نِسَاؤُهُمْ وَلاَ ذَرَارِيُّهُمْ. (1)
الرَّابِعُ: نَقْضُ الْعَهْدِ:
11 - أَهْل الذِّمَّةِ آمِنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ الْعَهْدِ،
فَإِذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ قَاتَلَهُمُ الإِْمَامُ وَأَسَرَ رِجَالَهُمْ،
أَمَّا نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ فَلاَ يُسْبَوْنَ لأَِنَّ أَمَانَهُمْ
لَمْ يَبْطُل بِنَقْضِ الْعَهْدِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَشْهَبَ
مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ غَيْرَ أَشْهَبَ وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ: يُنْتَقَضُ عَهْدُ الْجَمِيعِ وَتُسْبَى النِّسَاءُ
وَالذَّرَارِيُّ، قَال الْمَالِكِيَّةُ: هَذَا الَّذِي خَالَفَتْ فِيهِ
سِيرَةُ عُمَرَ سِيرَةَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا
فِي الَّذِينَ ارْتَدُّوا مِنَ الْعَرَبِ، سَارَ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ
سِيرَةَ النَّاقِضِينَ فَسَبَى النِّسَاءَ وَالصِّغَارَ وَجَرَتِ
الْمَقَاسِمُ فِي أَمْوَالِهِمْ. فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بَعْدَهُ نَقَضَ
ذَلِكَ وَسَارَ فِيهِمْ سِيرَةَ الْمُرْتَدِّينَ، أَخْرَجَهُمْ مِنَ
الرِّقِّ وَرَدَّهُمْ إِلَى عَشَائِرِهِمْ وَإِلَى الْجِزْيَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ وُلِدَ بَعْدَ نَقْضِ الْعَهْدِ فَإِنَّهُ
يُسْتَرَقُّ وَيُسْبَى. (2)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (أَهْل الذِّمَّةِ) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 269، والخراج لأبي يوسف / 67، والدسوقي 2 / 205،
والمواق 3 / 386، والمغني 8 / 138، والأحكام السلطانية للماوردي 56 - 57.
(2) ابن عابدين 3 / 277، والمواق بهامش الحطاب 3 / 386، ومغني المحتاج 4 /
259، وكشاف القناع 3 / 144، ومنح الجليل 1 / 765.
(24/157)
التَّصَرُّفُ فِي السَّبْيِ:
12 - يُعْتَبَرُ السَّبْيُ (النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ) مِنَ
الْغَنَائِمِ، وَالأَْصْل فِي أَسْرَى الْغَنَائِمِ أَنَّ الإِْمَامَ
مُخَيَّرٌ فِيهَا بِمَا هُوَ أَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَتْلٍ أَوْ
مَنٍّ أَوْ فِدَاءٍ أَوِ اسْتِرْقَاقٍ، إِلاَّ أَنَّ السَّبْيَ يَخْتَلِفُ
فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ عَنِ الأَْسْرَى مِنَ الرِّجَال الْمُقَاتِلِينَ
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - حُكْمُ قَتْلِهِمْ:
13 - إِذَا سُبِيَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فَلاَ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ؛
لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ أَثْنَاءَ الْقِتَال فَلاَ يَجُوزُ
قَتْلُهُمْ بَعْدَ السَّبْيِ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَقْتُلُوا امْرَأَةً وَلاَ وَلِيدًا. (1)
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى فِي بَعْضِ
غَزَوَاتِهِ امْرَأَةً مَقْتُولَةً فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَال صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَاهْ مَا أَرَاهَا قَاتَلَتْ فَلِمَ
قُتِلَتْ؟ وَنَهَى عَنْ قَتْل النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. (2) وَلأَِنَّ
هَؤُلاَءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْل الْقِتَال فَلاَ يُقْتَلُونَ، وَهَذَا
عَامٌّ فِي جَمِيعِ السَّبْيِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْحُكْمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَ
السَّبْيُ أَهْل كِتَابٍ، وَفِي الْوَثَنِيَّاتِ عِنْدَهُمْ خِلاَفٌ. (3)
__________
(1) حديث: " لا تقتلوا امرأة ولا وليدًا ". سبق تخريجه ف / 5.
(2) حديث: " نهى عن قتل النساء والصبيان ". تقدم تخريجه ف / 5.
(3) الأحكام السلطانية 134، وأسنى المطالب 4 / 193.
(24/157)
14 - وَالْحُكْمُ بِعَدَمِ قَتْل
النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَشْتَرِكُوا فِي
الْقِتَال فَإِنْ كَانُوا قَدِ اشْتَرَكُوا فِي الْقِتَال، وَحَمَلُوا
السِّلاَحَ وَقَاتَلُوا، جَازَ قَتْلُهُمْ بَعْدَ السَّبْيِ، وَقَدْ قَتَل
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ امْرَأَةً
أَلْقَتْ رَحًى عَلَى خَلاَّدِ بْنِ سُوَيْدٌ. (1) وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَال:
مَنْ قَتَل هَذِهِ؟ قَال رَجُلٌ: أَنَا يَا رَسُول اللَّهِ، قَال: وَلِمَ؟
قَال: نَازَعَتْنِي سَيْفِي. قَال: فَسَكَتَ. (2)
لَكِنْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يُقْتَل الصَّبِيُّ وَلَوْ شَارَكَ فِي
الْقِتَال لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْعُقُوبَةِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ
مَلِكًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُ؛ لأَِنَّ فِي قَتْل الْمَلِكِ كَسْرَ
شَوْكَةِ الأَْعْدَاءِ، كَمَا يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَتْل
الْمَرْأَةِ إِذَا كَانَتْ مَلِكَةً وَلَوْ لَمْ تُقَاتِل. (3)
__________
(1) حديث: " قتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة امرأة ألقت رحًى على
خلاد بن سويد ". أخرجه ابن إسحاق في سيرته كما في السيرة النبوية لابن كثير
(3 / 252 - نشر دار إحياء التراث العربي) .
(2) حديث ابن عباس: " مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة مقتولة يوم
الخندق ". أخرجه أحمد (1 / 256 - ط الميمنية) والطبراني في الكبير (11 /
388 - ط وزارة الأوقاف العراقية) واللفظ للطبراني، وأورده الهيثمي في
المجمع (5 / 316 - ط القدسي) وقال: " في إسنادهما الحجاج بن أرطاة وهو مدلس
".
(3) البدائع 7 / 101، 119، وحاشية ابن عابدين 3 / 255، 229، وجواهر الإكليل
1 / 252، 257، والأحكام السلطانية للماوردي / 134، وأسنى المطالب 4 / 193.
(24/158)
ب - الْمُفَادَاةُ:
15 - جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ
يُفَادَى بِنِسَاءٍ وَصِبْيَانٍ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ؛ لأَِنَّ الصِّبْيَانَ
يَبْلُغُونَ فَيُقَاتِلُونَ وَالنِّسَاءُ يَلِدْنَ فَيَكْثُرُ نَسْل
الْكُفَّارِ، لَكِنْ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَعَل الْمَنْعَ فِيمَا إِذَا
كَانَ الْبَدَل مَالاً وَإِلاَّ فَقَدْ جَوَّزُوا دَفْعَ أَسْرَاهُمْ
فِدَاءً لأَِسْرَانَا، مَعَ أَنَّهُمْ إِذَا ذَهَبُوا إِلَى دَارِهِمْ
يَتَنَاسَلُونَ. (1)
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: الصِّبْيَانُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا
سُبُوا وَمَعَهُمُ الآْبَاءُ وَالأُْمَّهَاتُ فَلاَ بَأْسَ بِالْمُفَادَاةِ
بِهِمْ، وَأَمَّا إِذَا سُبِيَ الصَّبِيُّ وَحْدَهُ، أَوْ خَرَجَ إِلَى
دَارِ الإِْسْلاَمِ فَلاَ تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ،
وَكَذَلِكَ إِنْ قُسِمَتِ الْغَنِيمَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَوَقَعَ فِي
سَهْمِ رَجُلٍ أَوْ بِيعَتِ الْغَنَائِمُ، فَقَدْ صَارَ الصَّبِيُّ
مَحْكُومًا لَهُ بِالإِْسْلاَمِ تَبَعًا لِمَنْ تَعَيَّنَ مِلْكُهُ فِيهِ
بِالْقَسَمِ أَوِ الشِّرَاءِ.
ثُمَّ فِي الْمُفَادَاةِ يُشْتَرَطُ رِضَا أَهْل الْعَسْكَرِ، فَلَوْ
أَبَوْا ذَلِكَ لَيْسَ لِلأَْمِيرِ أَنْ يُفَادِيَهُمْ. (2)
16 - وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْفِدَاءَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَ
بِمَالٍ أَمْ بِأَسْرَى. فَإِنْ كَانَ الْفِدَاءُ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ
الإِْمَامُ مِنَ الْكُفَّارِ وَيَضُمُّهُ لِلْغَنِيمَةِ. وَإِنْ حَصَل
الْفِدَاءُ بِرَدِّ الأَْسْرَى فَيُحْسَبُ الْقَدْرُ الَّذِي يَفُكُّ بِهِ
الأَْسْرَى مِنْ عِنْدِهِمْ مِنَ الْخُمُسِ. (3)
__________
(1) ابن عابدين 3 / 230.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 206 - 207.
(3) الدسوقي 2 / 184.
(24/158)
17 - وَالأَْصْل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
عَلَى مَا جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ أَنَّ الإِْمَامَ غَيْرُ
مُخَيَّرٍ فِي السَّبْيِ، وَيَتَعَيَّنُ الرِّقُّ فِيهِمْ بِمُجَرَّدِ
السَّبْيِ وَبِذَلِكَ يُمْتَنَعُ الْفِدَاءُ.
لَكِنْ قَال الْمَاوَرْدِيُّ فِي الأَْحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ: إِنْ
فَادَى السَّبْيَ عَلَى مَالٍ جَازَ؛ لأَِنَّ هَذَا الْفِدَاءَ بَيْعٌ
وَيَكُونُ مَال فِدَائِهِمْ مَغْنُومًا مَكَانَهُمْ، وَلاَ يَلْزَمُهُ
اسْتِطَابَةُ نُفُوسِ الْغَانِمِينَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُفَادَى بِهِمْ
عَنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَيْدِي قَوْمِهِمْ عَوَّضَ الْغَانِمِينَ
عَنْهُمْ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ. (1)
18 - وَالأَْصْل كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ النِّسَاءَ
وَالصِّبْيَانَ يَصِيرُونَ رَقِيقًا بِمُجَرَّدِ سَبْيِهِمْ، قَال ابْنُ
قُدَامَةَ: النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ يَصِيرُونَ رَقِيقًا بِالسَّبْيِ،
ثُمَّ قَال: وَمَنَعَ أَحْمَدُ مِنْ فِدَاءِ النِّسَاءِ بِالْمَال لأَِنَّ
فِي بَقَائِهِنَّ تَعْرِيضًا لَهُنَّ لِلإِْسْلاَمِ لِبَقَائِهِنَّ عِنْدَ
الْمُسْلِمِينَ، وَجَوَّزَ أَنْ يُفَادَى بِهِنَّ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ،
لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَادَى
بِالْمَرْأَةِ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَْكْوَعِ. (2)
وَلأَِنَّ فِي ذَلِكَ اسْتِنْقَاذَ مُسْلِمٍ مُتَحَقِّقٌ إِسْلاَمُهُ
فَاحْتُمِل تَفْوِيتُ مَا يُرْجَى مِنْ إِسْلاَمِهَا الْمَظْنُونِ، وَلاَ
يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ احْتِمَال فَوَاتِهَا لِتَحْصِيل الْمَال، فَأَمَّا
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 228، والأحكام السلطانية للماوردي / 134.
(2) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم فادى بالمرأة التي أخذها من سلمة بن
الأكوع ". أخرجه مسلم (3 / 1376 - ط الحلبي) من حديث سلمة بن الأكوع.
(24/159)
الصِّبْيَانُ فَقَال أَحْمَدُ: لاَ
يُفَادَى بِهِمْ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الصَّبِيَّ يَصِيرُ مُسْلِمًا
بِإِسْلاَمِ سَابِيهِ فَلاَ يَجُوزُ رَدُّهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ
كَانَ الصَّبِيُّ غَيْرَ مَحْكُومٍ بِإِسْلاَمِهِ كَالَّذِي سُبِيَ مَعَ
أَبَوَيْهِ لَمْ يَجُزْ فِدَاؤُهُ بِمَالٍ، وَهَل يَجُوزُ فِدَاؤُهُ
بِمُسْلِمٍ؟ يُحْتَمَل وَجْهَيْنِ. وَفِي الأَْحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ
لأَِبِي يَعْلَى: وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزِ الْفِدَاءُ لأَِنَّ حَقَّهُمْ
ثَابِتٌ فِي السَّبْيِ فَلَمْ تَجْرِ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ، وَلأَِنَّ
مِنْ أَصْلِنَا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ السَّبْيِ مِنْ أَهْل
الذِّمَّةِ، فَالْفِدَاءُ كَذَلِكَ لأَِنَّهُ مُعَاوَضَةٌ.
وَإِذَا فَادَى الإِْمَامُ بِالأُْسَارَى عَوَّضَ الْغَانِمِينَ مِنْ
سَهْمِ الْمَصَالِحِ (1) .
ج - الْمَنُّ:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْمَنِّ عَلَى السَّبْيِ مِنَ
النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَمَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ مَا جَاءَ
فِي أَغْلَبِ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
فَفِي شُرَّاحِ خَلِيلٍ مِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ كَالدُّسُوقِيِّ
وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلإِْمَامِ فِي النِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ
إِلاَّ الاِسْتِرْقَاقُ أَوِ الْفِدَاءُ، لَكِنْ قَال ابْنُ جُزَيٍّ:
وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فَيُخَيَّرُ الإِْمَامُ فِيهِمْ بَيْنَ
الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ وَالاِسْتِرْقَاقِ، وَمِثْل ذَلِكَ جَاءَ فِي
حَاشِيَةِ الْعَدَوِيِّ عَلَى كِفَايَةِ الطَّالِبِ الرَّبَّانِيِّ. (2)
__________
(1) المغني 8 / 372، 376، 377، والأحكام السلطانية لأبي يعلى / 144.
(2) ابن عابدين 3 / 229، والدسوقي 2 / 184، والقوانين الفقهية / 145، نشر
دار الكتاب العربي، وحاشية العدوي 2 / 6.
(24/159)
وَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ
نِسَاءَ الْكُفَّارِ وَصِبْيَانَهُمْ إِذَا أُسِرُوا رُقُّوا، وَأَنَّهُ
لاَ يَجُوزُ فِدَاؤُهُمْ أَوِ الْمَنُّ عَلَيْهِمْ. (1) لَكِنْ قَال
الْمَاوَرْدِيُّ: إِنْ أَرَادَ الإِْمَامُ الْمَنَّ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجُزْ
إِلاَّ بِاسْتِطَابَةِ نُفُوسِ الْغَانِمِينَ عَنْهُمْ، إِمَّا بِالْعَفْوِ
عَنْ حُقُوقِهِمْ مِنْهُمْ، وَإِمَّا بِمَالٍ يُعَوِّضُهُمْ عَنْهُمْ،
فَإِنْ كَانَ الْمَنُّ عَلَيْهِمْ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ جَازَ أَنْ
يُعَوِّضَهُمْ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ، وَإِنْ كَانَ لأَِمْرٍ يَخُصُّهُ
عَاوَضَ عَنْهُمْ مِنْ مَال نَفْسِهِ. وَمَنِ امْتَنَعَ مِنَ الْغَانِمِينَ
لَمْ يَسْتَنْزِل عَنْهُ إِجْبَارًا حَتَّى يَرْضَى، وَخَالَفَ ذَلِكَ
حُكْمُ الأَْسْرَى فَفِيهِمْ لاَ يَلْزَمُهُ اسْتِطَابَةُ نُفُوسِ
الْغَانِمِينَ لأَِنَّ قَتْل الرِّجَال مُبَاحٌ وَقَتْل السَّبْيِ
مَحْظُورٌ، فَصَارَ السَّبْيُ مَالاً مَغْنُومًا لاَ يَسْتَنْزِلُونَ
عَنْهُ إِلاَّ بِاسْتِطَابَةِ النُّفُوسِ. (2) فَإِنَّ هَوَازِنَ لَمَّا
سُبِيَتْ وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهَا بِحُنَيْنٍ اسْتَعْطَفَتِ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتَاهُ وُفُودُهَا وَقَدْ فَرَّقَ
الأَْمْوَال وَقَسَّمَ السَّبْيَ فَذَكَّرُوهُ حُرْمَةَ رَضَاعِهِ فِيهِمْ
مِنْ لَبَنِ حَلِيمَةَ وَطَلَبُوا أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ نِسَاءَهُمْ
وَأَبْنَاءَهُمْ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ
وَرَدَّتْ قُرَيْشٌ وَالأَْنْصَارُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُمْ وَأَبَى
غَيْرُهُمْ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا
مَنْ تَمَسَّكَ بِحَقِّهِ مِنْ هَذَا السَّبْيِ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 227 - 228، ونهاية المحتاج 8 / 65، وأسنى المطالب 4 /
193.
(2) الأحكام السلطانية / 134 - 135، والمهذب 2 / 236.
(24/160)
فَلَهُ بِكُل إِنْسَانٍ سِتُّ فَرَائِضَ {
(1) . فَرُدُّوا إِلَى النَّاسِ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ فَرَدُّوا.
(2)
وَفِي كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ كَذَلِكَ مَا يُفِيدُ عَدَمَ جَوَازِ الْمَنِّ
عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: الإِْمَامُ لاَ
يَمْلِكُ الْمَنَّ عَلَى الذُّرِّيَّةِ إِذَا سُبُوا، وَمَنْ سُبِيَ
فَإِنَّهُ يَصِيرُ رَقِيقًا بِنَفْسِ السَّبْيِ وَمِثْل ذَلِكَ فِي
غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ.
لَكِنْ قَال أَبُو يَعْلَى: إِنْ أَرَادَ الإِْمَامُ الْمَنَّ عَلَى
السَّبْيِ لَمْ يَجُزْ إِلاَّ بِاسْتِطَابَةِ نُفُوسِ الْغَانِمِينَ
بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ أَوْ بِمَالٍ يُعَوِّضُهُمْ مِنْ سَهْمِ
الْمَصَالِحِ، وَمَنِ امْتَنَعَ مِنَ الْغَانِمِينَ عَنْ تَرْكِ حَقِّهِ
لَمْ يُجْبَرْ. (3)
د - الاِسْتِرْقَاقُ:
20 - إِذَا سُبِيَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ صَارُوا رَقِيقًا بِنَفْسِ
السَّبْيِ كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَذَهَبَ
الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ فِي السَّبْيِ
بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُفَادَاةِ أَوِ الاِسْتِرْقَاقِ. وَيُعْرَفُ
ذَلِكَ
__________
(1) الفرائض: جمع فريضة، وهو البعير المأخوذ في الزكاة، وسمي فريضة لأنه
فرض واجب على رب المال، ثم اتسع فيه حتى سُمِّي البعير فريضة في غير
الزكاة. النهاية لابن الأثير (3 / 432 ط دار الفكر) .
(2) حديث: " أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم ". أخرجه ابن إسحاق في
السيرة كما في السيرة النبوية لابن كثير (3 / 667 - 669 - نشر دار إحياء
التراث العربي) وإسناده حسن.
(3) المغني 8 / 481، وكشاف القناع 3 / 54، والأحكام السلطانية لأبي يعلى /
144.
(24/160)
بِالْقَوْل أَوْ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِمْ
كَمَا يَتَصَرَّفُ فِي الرَّقِيقِ أَوْ بِدَلاَلَةِ الْحَال. (1)
التَّصَرُّفُ فِي السَّبْيِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ:
21 - السَّبْيُ يُعْتَبَرُ مِنَ الْغَنَائِمِ وَالإِْمَامُ مُخَيَّرٌ فِي
التَّصَرُّفِ فِيهِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ مِنْ جَوَازِ الْمَنِّ أَوِ
الْفِدَاءِ أَوِ الاِسْتِرْقَاقِ عَلَى الْخِلاَفِ الَّذِي سَبَقَ.
وَالسَّبْيُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ يَكُونُ مِلْكًا لِمَنْ وَقَعَ فِي
سَهْمِهِ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ.
أَمَّا قَبْل الْقِسْمَةِ فَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ لِلإِْمَامِ، وَالإِْمَامُ
مَنُوطٌ بِهِ التَّصَرُّفُ بِمَا فِيهِ الأَْصْلَحُ لِلْغَانِمِينَ. (2)
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (غُنَيْمَةٍ) .
التَّفْرِيقُ بَيْنَ الأُْمِّ وَوَلِيدِهَا الْمَسْبِيَّيْنِ:
22 - لاَ يَجُوزُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الأُْمِّ وَوَلِيدِهَا
الْمَسْبِيَّيْنِ فِي الْبَيْعِ أَوْ فِي قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ،
وَالأَْصْل فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ تُولَهُ وَالِدَةٌ عَنْ وَلَدِهَا. (3)
وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا تَوْلِيهٌ فَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَرَوَى
أَبُو أَيُّوبَ قَال: سَمِعْتُ
__________
(1) البدائع 7 / 119، وابن عابدين 3 / 230، والفتاوى الهندية 2 / 206 -
207، والدسوقي 2 / 184، ومغني المحتاج 4 / 228، والمغني 8 / 376، 481.
(2) المغني 8 / 445، 446، 447، والاختيار 4 / 126، ومنح الجليل 1 / 745 -
749.
(3) حديث: " لا توله والدة عن ولدها ". أخرجه البيهقي (8 / 5 - ط دائرة
المعارف العثمانية) من حديث أبي بكر، وضعف إسناده ابن حجر في التلخيص (3 /
15 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(24/161)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ
اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (1) وَقَدْ
رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً وَالِهَةً
فِي السَّبْيِ فَسَأَل عَنْ شَأْنِهَا فَقِيل قَدْ بِيعَ وَلَدُهَا
فَأَمَرَ بِالرَّدِّ. (2) وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ. (3) وَفِي الْمَوْضُوعِ
تَفْصِيلٌ مِنْ حَيْثُ شُمُول التَّفْرِيقِ لِغَيْرِ الأُْمِّ مِنْ ذَوِي
الأَْرْحَامِ، أَوْ لاَ، وَهَل يَخْتَصُّ التَّفْرِيقُ بِكَوْنِ الْوَلَدِ
صَغِيرًا أَوْ يَشْمَل ذَلِكَ حَالَةَ الْكِبَرِ أَيْضًا.
وَيُنْظَرُ هَذَا التَّفْصِيل فِي: (بَيْعٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ) (ف 101)
(وَرِقٌّ ف 39) .
أَثَرُ السَّبْيِ فِي الْحُكْمِ بِإِسْلاَمِ الْمَسْبِيِّ:
23 - إِذَا سُبِيَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ أَوْلاَدِ الْكُفَّارِ صَارَ
رَقِيقًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، أَمَّا الْحُكْمُ بِإِسْلاَمِ الصَّغِيرِ
الْمَسْبِيِّ فَلَهُ ثَلاَثَةُ أَحْوَالٍ:
الأَْوَّل: أَنْ يُسْبَى مُنْفَرِدًا عَنْ أَبَوَيْهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ
مُسْلِمًا؛ لأَِنَّ الدِّينَ إِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ تَبَعًا، وَقَدِ
انْقَطَعَتْ تَبَعِيَّتُهُ لأَِبَوَيْهِ لاِنْقِطَاعِهِ عَنْهُمَا
وَإِخْرَاجِهِ
__________
(1) حديث: " من فرق بين الوالدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم
القيامة ". أخرجه الترمذي (3 / 511 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن غريب ".
(2) حديث: " رأى في السبي امرأة والهة ". أورد الزيلعي في نصب الراية (4 /
24 - ط المجلس العلمي) حديثًا بمعناه. وعزاه إلى البيهقي في المعرفة.
(3) البدائع 5 / 228، والقوانين الفقهية / 145، 146، والمهذب 2 / 240،
والمغني 8 / 422.
(24/161)
عَنْ دَارِهِمَا، وَمَصِيرِهِ إِلَى دَارِ
الإِْسْلاَمِ تَبَعًا لِسَابِيهِ الْمُسْلِمِ فَكَانَ تَابِعًا لَهُ فِي
دِينِهِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَرِوَايَةُ أَهْل
الْمَدِينَةِ عَنْ مَالِكٍ، وَمُقَابِل ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ.
وَعِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ ظَاهِرُ
الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى كُفْرِهِ تَبَعًا
لأَِبِيهِ، وَلاَ يَتْبَعُ السَّابِي فِي الإِْسْلاَمِ؛ لأَِنَّ يَدَ
السَّابِي يَدُ مِلْكٍ فَلاَ تُوجِبُ إِسْلاَمَهُ كَيَدِ الْمُشْتَرِي.
الثَّانِي: أَنْ يُسْبَى مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ، فَعِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ -
يُعْتَبَرُ كَافِرًا تَبَعًا لأَِبِيهِ أَوْ أُمِّهِ فِي الْكُفْرِ؛
لأَِنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ عَنْ أَحَدِ أَبَوَيْهِ فَلَمْ يُحْكَمْ
بِإِسْلاَمِهِ وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
كُل مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ
يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُحْكَمُ بِإِسْلاَمِهِ، وَبِهَذَا قَال
الأَْوْزَاعِيُّ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
كُل مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، الْحَدِيثُ، فَمَفْهُومُهُ
أَنَّهُ لاَ يَتْبَعُ أَحَدَهُمَا؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ مَتَى عُلِّقَ
بِشَيْئَيْنِ لاَ يَثْبُتُ بِأَحَدِهِمَا؛ وَلأَِنَّهُ يَتْبَعُ سَابِيهِ
مُنْفَرِدًا فَيَتْبَعُهُ مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ
أَسْلَمَ أَحَدُ الأَْبَوَيْنِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُسْبَى مَعَ أَبَوَيْهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى
دِينِهِمَا لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ
__________
(1) حديث: " كل مولود يولد على الفطرة ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 246 - ط
السلفية) من حديث أبي هريرة.
(24/162)
أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، وَهُمَا مَعَهُ
وَمِلْكُ السَّابِي لَهُ لاَ يَمْنَعُ اتِّبَاعَهُ لأَِبَوَيْهِ بِدَلِيل
مَا لَوْ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ مِنْ عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ الْكَافِرَيْنِ.
وَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُ الأَْبَوَيْنِ فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا لَهُ
لأَِنَّ الإِْسْلاَمَ أَعْلَى، فَكَانَ إِلْحَاقُهُ بِالْمُسْلِمِ
مِنْهُمَا أَوْلَى.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هُوَ عَلَى دِينِ أَبِيهِ وَلاَ عِبْرَةَ
بِإِسْلاَمِ أُمِّهِ أَوْ جَدِّهِ. (1)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي بَحْثِ: (إِسْلاَمٍ ف 25) (4 270)
أَثَرُ السَّبْيِ فِي النِّكَاحِ:
سَبْيُ الْمُتَزَوِّجَاتِ مِنَ الْكُفَّارِ لاَ يَخْلُو مِنْ ثَلاَثَةِ
أَحْوَالٍ:
24 - أَحَدُهَا: أَنْ يُسْبَى الزَّوْجَانِ مَعًا، فَعِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يَنْفَسِخُ نِكَاحُهُمَا، وَهُوَ قَوْل
الثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَأَبِي ثَوْرٍ، كَمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَصَابُوا سَبْيًا يَوْمَ
أَوْطَاسٍ لَهُنَّ أَزْوَاجٌ فَتَخَوَّفُوا فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (2)
فَحَرَّمَ الْمُتَزَوِّجَاتِ إِلاَّ الْمَمْلُوكَاتِ
__________
(1) البدائع 7 / 104، والكافي لابن عبد البر 1 / 467 - 468، الدسوقي 4 /
305، والمهذب 2 / 240، والمغني 8 / 426.
(2) سورة النساء / 24. وحديث أبي سعيد: " أصابوا سبيًا يوم أوطاس ". أخرجه
مسلم (2 / 1080 - ط الحلبي) .
(24/162)
بِالسَّبْيِ فَدَل عَلَى ارْتِفَاعِ
النِّكَاحِ، قَال الشَّافِعِيُّ: سَبَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْطَاسَ وَبَنِيَّ الْمُصْطَلِقِ وَقَسَّمَ
الْفَيْءَ، وَأَمَرَ أَلاَّ تُوطَأَ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلاَ حَائِلٌ
حَتَّى تَحِيضَ، وَلَمْ يَسْأَل عَنْ ذَاتِ زَوْجٍ وَلاَ غَيْرِهَا (1)
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَإِنْ كَانَ الزَّوْجَانِ مَمْلُوكَيْنِ فَسُبِيَا
فَلاَ نَصَّ فِيهِ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ لاَ
يَنْفَسِخَ النِّكَاحُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ بِالسَّبْيِ رِقٌّ،
وَإِنَّمَا حَدَثَ انْتِقَال الْمِلْكِ فَلَمْ يَنْفَسِخِ النِّكَاحُ كَمَا
لَوِ انْتَقَل الْمِلْكُ فِيهِمَا بِالْبَيْعِ، قَال أَبُو إِسْحَاقَ
الشِّيرَازِيُّ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَال: يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ؛
لأَِنَّهُ حَدَثَ سَبْيٌ يُوجِبُ الاِسْتِرْقَاقَ وَإِنْ صَادَفَ رِقًّا
كَمَا أَنَّ الزِّنَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَإِنْ صَادَفَ حَدًّا. (2)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ يَنْفَسِخُ نِكَاحُهُمَا
بِالسَّبْيِ مَعًا. قَال الْحَنَفِيَّةُ: لِعَدَمِ اخْتِلاَفِ
الدَّارَيْنِ، فَسَبَبُ الْبَيْنُونَةِ هُوَ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ دُونَ
السَّبْيِ؛ لأَِنَّ مَصَالِحَ النِّكَاحِ لاَ تَحْصُل مَعَ التَّبَايُنِ
حَقِيقَةً وَحُكْمًا؛ لأَِنَّ مَصَالِحَهُ إِنَّمَا تَحْصُل
بِالاِجْتِمَاعِ، وَالتَّبَايُنُ مَانِعٌ مِنْهُ، أَمَّا السَّبْيُ
فَإِنَّهُ يَقْتَضِي مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَذَلِكَ لاَ يُنَافِي النِّكَاحَ
ابْتِدَاءً
__________
(1) حديث: " أمر ألا توطأ حامل حتى تضع. . . " أخرجه أبو داود (2 / 614 -
تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي سعيد الخدري، وحسنه ابن حجر في التلخيص
(1 / 172 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) الدسوقي 2 / 200، والمهذب 2 / 241.
(24/163)
فَكَذَا بَقَاءً. وَقَال الْحَنَابِلَةُ:
إِنَّ الرِّقَّ مَعْنًى لاَ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ فَلاَ يَقْطَعُ
اسْتِدَامَتَهُ كَالْعِتْقِ، وقَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، (1) نَزَلَتْ فِي
سَبَايَا أَوْطَاسٍ، وَكَانُوا أَخَذُوا النِّسَاءَ دُونَ أَزْوَاجِهِنَّ،
وَعُمُومُ الآْيَةِ مَخْصُوصٌ بِالْمَمْلُوكَةِ الْمُزَوَّجَةِ فِي دَارِ
الإِْسْلاَمِ فَيَخُصُّ مِنْهُ مَحَل النِّزَاعِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ.
(2)
25 - الثَّانِي: أَنْ تُسْبَى الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا فَيَنْفَسِخَ
النِّكَاحُ بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَالآْيَةُ دَالَّةٌ
عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَهُوَ
الْحَدِيثُ السَّابِقُ، وَتَعْلِيل الْفَسْخِ وَسَبَبُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ هُوَ السَّبْيُ، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَهُوَ
اخْتِلاَفُ الدَّارِ. (3)
26 - الثَّالِثُ: أَنْ يُسْبَى الرَّجُل وَحْدَهُ فَعِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَأَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ - يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ
لاِخْتِلاَفِ الدَّارِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلِلسَّبْيِ عِنْدَ
غَيْرِهِمْ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - غَيْرِ أَبِي الْخَطَّابِ - لاَ يَنْفَسِخُ
النِّكَاحُ لأَِنَّهُ لاَ نَصَّ فِيهِ، وَلاَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِيهِ.
وَقَدْ سَبَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعِينَ مِنَ
الْكُفَّارِ يَوْمَ بَدْرٍ فَمَنَّ عَلَى بَعْضِهِمْ وَفَادَى بَعْضًا. (4)
وَلَمْ يَحْكُمْ
__________
(1) سورة النساء / 24.
(2) الاختيار 3 / 113، والبدائع 2 / 339، والمغني 8 / 427.
(3) الاختيار 3 / 113، والبدائع 2 / 339، والدسوقي 2 / 200، والمهذب 2 /
241، والمغني 8 / 427.
(4) حديث: " سبى النبي صلى الله عليه وسلم سبعين من الكفار يوم بدر " أخرجه
البخاري (الفتح 7 / 307 - ط السلفية) من حديث البراء بن عازب. وأما فداء
بعضهم فقد ورد من حديث ابن عباس. أخرجه أبو داود (3 / 139 - تحقيق عزت عبيد
دعاس) .
(24/163)
عَلَيْهِمْ بِفَسْخِ أَنْكِحَتِهِمْ،
وَلأَِنَّنَا إِذَا لَمْ نَحْكُمْ بِفَسْخِ النِّكَاحِ فِيمَا إِذَا
سُبِيَا مَعًا مَعَ الاِسْتِيلاَءِ عَلَى مَحَل حَقِّهِ، فَلأََنْ لاَ
يَنْفَسِخَ نِكَاحُهُ مَعَ عَدَمِ الاِسْتِيلاَءِ أَوْلَى (1) . (ر:
نِكَاحٌ) .
الزَّوَاجُ بِالْمَسْبِيَّةِ:
27 - السَّبَايَا مِنَ النِّسَاءِ يُعْتَبَرْنَ مِنَ الْغَنَائِمِ إِلَى
أَنْ تَتِمَّ قِسْمَةُ الْغَنِيمَةِ، فَإِذَا قُسِّمَتْ بَيْنَ
الْغَانِمِينَ فَكُل مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ سَبِيَّةٌ مَلَكَهَا
وَصَارَتْ أَمَةً لَهُ، وَيَحِل لَهُ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ بَعْدَ
اسْتِبْرَائِهَا لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . (2) وَقَدْ نَزَلَتْ فِي
سَبَايَا أَوْطَاسَ عَلَى مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ (3) .
أَمَّا حِل نِكَاحِهَا فَهُوَ مَحَل اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ
نِكَاحِ الأَْمَةِ، وَمَا يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل
الْقَوْل فِي ذَلِكَ فِي بَحْثِ: (رِقٍّ: ف 74 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) سورة النساء / 24.
(3) ينظر البدائع 2 / 271، 339، والمغني 6 / 596 - 597، 8 / 427، والأحكام
السلطانية للماوردي / 54.
(24/164)
سَبِيكَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّبِيكَةُ الْقِطْعَةُ الْمُسْتَطِيلَةُ مِنَ الذَّهَبِ،
وَالْجَمْعُ سَبَائِكُ، وَرُبَّمَا أُطْلِقَتْ عَلَى كُل قِطْعَةٍ
مُتَطَاوِلَةٍ مِنْ أَيِّ مَعْدِنٍ كَانَ، وَرُبَّمَا أُطْلِقَتْ عَلَى
الْقِطْعَةِ الْمَذُوبَةْ مِنَ الْمَعْدِنِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ
مُتَطَاوِلَةً، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ سَبَكْتُ الذَّهَبَ أَوِ
الْفِضَّةَ سَبْكًا مِنْ بَابِ قَتَل إِذَا أَذَبْتُهُ وَخَلَّصْتُهُ مِنْ
خَبَثِهِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التِّبْرُ:
2 - مِنْ مَعَانِي التِّبْرِ فِي اللُّغَةِ مَا كَانَ مِنَ الذَّهَبِ
غَيْرَ مَضْرُوبٍ، فَإِذَا ضُرِبَ دَنَانِيرَ فَهُوَ عَيْنٌ، وَلاَ يُقَال
تِبْرٌ إِلاَّ لِلذَّهَبِ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُهُ لِلْفِضَّةِ أَيْضًا.
وَقَدْ يُطْلَقُ التِّبْرُ عَلَى غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنَ
الْمَعَادِنِ.
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ اسْمٌ لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
قَبْل ضَرْبِهِمَا، أَوْ لِلذَّهَبِ فَقَطْ، وَهُوَ تَعْرِيفٌ
لِلْمَالِكِيَّةِ (2) .
__________
(1) المصباح والمغرب مادة: (سبك) .
(2) الصحاح واللسان والمصباح مادة: (تبر) ، وابن عابدين 2 / 44 - ط
المصرية، وجواهر الإكليل 2 / 171 - ط دار المعرفة، وحاشية القليوبي 3 / 52
- ط الحلبي.
(24/164)
تُرَابُ الصَّاغَةِ:
3 - عَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ هُوَ الرَّمَادُ الَّذِي يُوجَدُ
فِي حَوَانِيتِ الصَّاغَةِ وَلاَ يُدْرَى مَا فِيهِ. انْظُرْ مُصْطَلَحَ:
(تُرَابِ الصَّاغَةِ: ف 1) (11 / 145) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسَّبَائِكِ:
أ - الزَّكَاةُ فِي سَبَائِكِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:
4 - الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلاَ فَرْقَ فِي
ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَا مَضْرُوبَيْنِ أَوْ غَيْرَ مَضْرُوبَيْنِ
إِذَا بَلَغَ كُلٌّ مِنْهُمَا نِصَابًا، وَحَال عَلَيْهِ الْحَوْل (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةٍ) .
وَأَمَّا السَّبَائِكُ الْمُسْتَخْرَجَةُ مِنَ الأَْرْضِ فَالزَّكَاةُ
وَاجِبَةٌ فِيهَا أَيْضًا، وَفِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ إِخْرَاجُهُ مِنْهَا
خِلاَفٌ فِي كَوْنِهِ الْخُمُسَ أَوْ رُبُعَ الْعُشْرِ. (2)
انْظُرْ: (رِكَازٌ، وَمَعْدِنٌ، وَزَكَاةٌ) .
__________
(1) فتح الباري 3 / 210، وانظر تفسير القرطبي والطبري، وأحكام القرآن
للجصاص كلهم في تفسير الآيتين 34، 35 من سورة التوبة.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 44 - 46 - ط المصرية، جواهر الإكليل 1 / 137 ط
المعرفة، شرح الزرقاني 2 / 169 - 171 - ط الفكر، حاشية القليوبي 2 / 25 -
26 - ط الحلبي، ونيل الأوطار 4 / 147 - 148 - ط / 3، والمغني 3 / 18 - 23 -
ط الرياض.
(24/165)
ب - تَحْرِيمُ الرِّبَا فِي سَبَائِكِ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:
5 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، يَدًا
بِيَدٍ، لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ
تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ
إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ
تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ. (1)
وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمَصُوغِ مِنْهُمَا وَغَيْرِهِ. (2)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (رِبًا) .
ج - جَعْل السَّبِيكَةِ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ لاَ
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ مَال الشَّرِكَةِ سَبَائِكَ. وَيَجُوزُ عِنْدَ
بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ جَعْل السَّبَائِكِ رَأْسَ مَالٍ فِي شَرِكَةِ
الْمُفَاوَضَةِ إِنْ جَرَى التَّعَامُل بِهَا، فَيَنْزِل التَّعَامُل
__________
(1) حديث أبي سعيد الخدري: " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل. . . "
أخرجه البخاري (الفتح 4 / 380 - ط السلفية) .
(2) فتح الباري 4 / 380 - ط السلفية، صحيح مسلم 3 / 1208، 1210، 1212 - ط
الحلبي، سنن أبي داود 3 / 644 - 646، والاختيار 2 / 39 - ط المعرفة، بداية
المجتهد 2 / 138 - 139، شرح روض الطالب 2 / 122 - ط الريان، المغني 4 / 10
- 11 ط الرياض.
(24/165)
حِينَئِذٍ مَنْزِلَةَ الضَّرْبِ، فَيَكُونُ
ثَمَنًا، وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ. (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شَرِكَةٍ) .
أَمَّا التِّبْرُ وَالْحُلِيُّ وَالسَّبَائِكُ فَأَطْلَقُوا مَنْعَ
الشَّرِكَةِ فِيهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُبْنَى عَلَى أَنَّ التِّبْرَ
مِثْلِيٌّ أَمْ لاَ؟ وَفِيهِ خِلاَفٌ. (2)
د - قَطْعُ يَدِ سَارِقِ السَّبِيكَةِ:
7 - تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِذَا كَانَ مُكَلَّفًا، وَأَخَذَ مَالاً
خِلْسَةً لاَ شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ حِرْزِهِ، وَبَلَغَ
ذَلِكَ الْمَال نِصَابًا.
وَالْقَوْل الرَّاجِحُ فِي قَدْرِ ذَلِكَ النِّصَابِ هُوَ رُبْعُ دِينَارٍ،
وَفِي الاِعْتِبَارِ بِذَلِكَ بِالذَّهَبِ الْمَضْرُوبِ أَوْ بِغَيْرِهِ
خِلاَفٌ.
فَعَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الاِعْتِبَارَ بِالذَّهَبِ الْمَضْرُوبِ
فَإِنَّهُ لاَ قَطْعَ بِسَرِقَةِ سَبِيكَةٍ أَوْ حُلِيٍّ لاَ تَبْلُغُ
قِيمَتُهُمَا رُبُعَ دِينَارٍ عَلَى وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي: (سَرِقَةٍ) .
__________
(1) الاختيار 3 / 15 - ط المعرفة، تبيين الحقائق 3 / 316 - ط الأميرية، فتح
القدير 5 / 14 - 16 ط الأميرية.
(2) روضة الطالبين 4 / 276 - ط المكتب الإسلامي، الإقناع 2 / 41 - ط
الحلبي.
(24/166)
سَبِيل اللَّهِ
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّبِيل هُوَ الطَّرِيقُ، يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. قَال اللَّهُ
تَعَالَى: {قُل هَذِهِ سَبِيلِي} . (1)
وَسَبِيل اللَّهِ فِي أَصْل الْوَضْعِ هُوَ: الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلَةُ
إِلَيْهِ تَعَالَى، فَيَدْخُل فِيهِ كُل سَعْيٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَفِي
سَبِيل الْخَيْرِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ الْجِهَادُ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَعَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ: سَبِيل
اللَّهِ وَضْعًا هُوَ الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى اللَّهِ، وَيَشْمَل
جَمِيعَ الْقُرَبِ إِلَى اللَّهِ، إِلاَّ أَنَّهُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ
يَنْصَرِفُ إِلَى الْجِهَادِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ فِي
الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيل اللَّهِ
الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} (3) وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
__________
(1) سورة يوسف / 108.
(2) مختار الصحاح وبدائع الصنائع 2 / 45 - 46، وفتح القدير 2 / 250، وابن
عابدين 2 / 60، ونهاية المحتاج 6 / 158، والقليوبي 3 / 198، وروض الطالب 2
/ 398، والمغني 6 / 435، وكشاف القناع 2 / 283.
(3) سورة البقرة / 190.
(24/166)
الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ
صَفًّا} . (1)
وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ " سَبِيل اللَّهِ " إِنَّمَا أُرِيدَ
بِهِ الْجِهَادُ إِلاَّ الْيَسِيرَ مِنْهُ فَيُحْمَل عَلَيْهِ.
وَلأَِنَّ الْجِهَادَ هُوَ سَبَبُ الشَّهَادَةِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى
اللَّهِ، (وَسَبِيل اللَّهِ) فِي مَصَارِفِ الزَّكَاةِ يُعْطَى لِلْغُزَاةِ
الْمُتَطَوِّعِينَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ سَهْمٌ فِي دِيوَانِ الْجُنْدِ
لِفَضْلِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ؛ لأَِنَّهُمْ جَاهَدُوا مِنْ غَيْرِ
أَرْزَاقٍ مُرَتَّبَةٍ لَهُمْ. (2) فَيُعْطُونَ مَا يَشْتَرُونَ بِهِ
الدَّوَابَّ وَالسِّلاَحَ، وَمَا يُنْفِقُونَ بِهِ عَلَى الْعَدُوِّ إِنْ
كَانُوا أَغْنِيَاءَ، وَبِهَذَا قَال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ
بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ
الْمُنْذِرِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ
تَحِل الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلاَّ لِخَمْسَةٍ: لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أَوْ
رَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ غَارِمٍ، أَوْ غَازٍ فِي سَبِيل
اللَّهِ، أَوْ مِسْكِينٍ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ مِنْهَا فَأَهْدَى مِنْهَا
لِغَنِيٍّ. (3)
وَقَالُوا: وَلأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَل الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ
صِنْفَيْنِ، وَعَدَّ بَعْدَهُمَا سِتَّةَ أَصْنَافٍ فَلاَ يَلْزَمُ وُجُودُ
صِفَةِ الصِّنْفَيْنِ فِي بَقِيَّةِ الأَْصْنَافِ كَمَا
__________
(1) سورة الصف / 4.
(2) المصادر السابقة.
(3) حديث: " لا تحل الصدقة إلا لخمسة. . . " أخرجه أحمد (3 / 56 - ط
الميمنية) وأخرج شطرًا منه الحاكم (1 / 407 - 408 - ط دائرة المعارف
العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(24/167)
لاَ يَلْزَمُ صِفَةُ الأَْصْنَافِ
فِيهِمَا. (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تُدْفَعُ إِلاَّ لِمَنْ كَانَ مُحْتَاجًا
إِلَيْهَا، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ بَعْثِ
الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ إِلَى
الْيَمَنِ وَفِيهِ: أَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ
صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ.
(2)
فَقَدْ جَعَل النَّاسَ قِسْمَيْنِ: قِسْمًا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ، وَقِسْمًا
يُصْرَفُ إِلَيْهِمْ، فَلَوْ جَازَ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إِلَى الْغَنِيِّ
لَبَطَل الْقِسْمَةُ، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ. (3)
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَفِي
سَبِيل اللَّهِ} الْحَاجُّ الْمُنْقَطِعُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً
جَعَل بَعِيرًا لَهُ فِي سَبِيل اللَّهِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ يَحْمِل عَلَيْهِ الْحُجَّاجَ (4)
وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ رَجُلاً جَعَل جَمَلاً لَهُ فِي سَبِيل اللَّهِ
فَأَرَادَتِ امْرَأَتُهُ الْحَجَّ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَهَلاَّ
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) حديث ابن عباس: " أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة. . . " أخرجه
البخاري (الفتح 3 / 357 - ط السلفية) .
(3) بدائع الصنائع 2 / 46، وابن عابدين 2 / 60، وفتح القدير 2 / 205.
(4) حديث: " أن رجلاً جعل بعيرًا له في سبيل الله ". استشهد به الكاساني في
بدائع الصنائع (2 / 46 - نشر دار الكتاب العربي) ، وذكره الزيلعي في نصب
الراية (2 / 395 - ط المجلس العلمي) ولم يعزه إلى أي مصدر حديثي، وإنما
أشار إلى الحديث الذي يليه في هذا البحث.
(24/167)
خَرَجَتْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْحَجَّ فِي
سَبِيل اللَّهِ. (1) وَعَنْ أَبِي طَلِيقٍ: قَال: طَلَبَتْ مِنِّي أُمُّ
طَلِيقٍ جَمَلاً تَحُجُّ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: قَدْ جَعَلْتُهُ فِي سَبِيل
اللَّهِ، فَسَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَال: صَدَقْتَ، لَوْ أَعْطَيْتَهَا كَانَ فِي سَبِيل اللَّهِ. (2)
وَيُؤْثَرُ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ أَنَّهُمَا قَالاَ: سَبِيل اللَّهِ:
الْحَجُّ، وَقَال ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: سَبِيل اللَّهِ
الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ.
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: سَبِيل اللَّهِ طَلَبَةُ الْعِلْمِ. وَقَال
الْفَخْرُ الرَّازِيَّ فِي تَفْسِيرِهِ: " ظَاهِرُ اللَّفْظِ فِي قَوْله
تَعَالَى: {وَفِي سَبِيل اللَّهِ} لاَ يُوجِبُ الْقَصْرَ عَلَى الْغُزَاةِ،
فَلِهَذَا نَقَل الْقَفَّال فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ
أَنَّهُمْ أَجَازُوا صَرْفَ الصَّدَقَاتِ إِلَى جَمِيعِ وُجُوهِ الْخَيْرِ
مِنْ تَكْفِينِ الْمَوْتَى، وَبِنَاءِ الْحُصُونِ، وَعِمَارَةِ
الْمَسَاجِدِ؛ لأَِنَّ سَبِيل اللَّهِ عَامٌّ فِي الْكُل. (3)
وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ عَنْ مَصْرِفِ سَبِيل اللَّهِ فِي (زَكَاةٍ: ف 172)
__________
(1) حديث: " فهلا خرجت عليه، فإن الحج في سبيل الله ". أخرجه أبو داود (2 /
504 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وأعله الشوكاني بجهالة راو فيه، وبالاضطراب في
سنده. كذا في نيل الأوطار (4 / 191 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " أبي طليق قال: طلبت. . . " أخرجه البزار (كشف الأستار 2 / 38 -
39 - ط الرسالة) وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، مجمع الزوائد (3 / 280 -
ط القدسي) .
(3) ابن عابدين 2 / 60، وتفسير الرازي.
(24/168)
سَتْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّتْرُ لُغَةً: تَغْطِيَةُ الشَّيْءِ، وَسَتَرَ الشَّيْءَ
يَسْتُرُهُ سَتْرًا أَيْ أَخْفَاهُ، وَتَسَتَّرَ أَيْ تَغَطَّى، وَفِي
الْحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ
وَالسَّتْرَ. (1) أَيْ مِنْ شَأْنِهِ وَإِرَادَتِهِ حُبُّ السَّتْرِ
وَالصَّوْنِ لِعِبَادِهِ.
وَيُقَال: رَجُلٌ سُتُورٌ وَسِتِّيرٌ، أَيْ عَفِيفٌ.
وَالسَّتْرُ مَا يُسْتَتَرُ بِهِ، وَالاِسْتِتَارُ: الاِخْتِفَاءُ،
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ
عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ} (2)
وَالسُّتْرَةُ مَا اسْتَتَرْتَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ كَائِنًا مَا كَانَ. (3)
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) حديث: " إن الله حيي ستير يحب الحياء والستر
". أخرجه أبو داود (4 / 302 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث يعلى بن أمية
وإسناده صحيح.
(2) سورة فصلت / 22.
(3) لسان العرب، غريب القرآن للأصفهاني.
(24/168)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ
بِالسَّتْرِ:
أ - سَتْرُ عُيُوبِ الْمُؤْمِنِ:
2 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ أَوْ
ذَنْبٍ أَوْ فُجُورٍ لِمُؤْمِنٍ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ أَوْ نَحْوِهِمْ
مِمَّنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالشَّرِّ وَالأَْذَى وَلَمْ يُشْتَهَرْ
بِالْفَسَادِ، وَلَمْ يَكُنْ دَاعِيًا إِلَيْهِ، كَأَنْ يَشْرَبَ مُسْكِرًا
أَوْ يَزْنِيَ أَوْ يَفْجُرَ مُتَخَوِّفًا مُتَخَفِّيًا غَيْرَ مُتَهَتِّكٍ
وَلاَ مُجَاهِرٍ يُنْدَبُ لَهُ أَنْ يَسْتُرَهُ، وَلاَ يَكْشِفَهُ
لِلْعَامَّةِ أَوِ الْخَاصَّةِ، وَلاَ لِلْحَاكِمِ أَوْ غَيْرِ الْحَاكِمِ،
لِلأَْحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْحَثِّ عَلَى سَتْرِ
عَوْرَةِ الْمُسْلِمِ وَالْحَذَرِ مِنْ تَتَبُّعِ زَلاَّتِهِ، وَمِنْ
هَذِهِ الأَْحَادِيثِ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي رِوَايَةٍ
سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ (1) " وَقَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ.
(2)
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ
أَخِيهِ الْمُسْلِمِ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
وَمَنْ كَشَفَ عَوْرَةَ أَخِيهِ
__________
(1) حديث: " من ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة " وفي رواية: " ستره الله
في. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 97 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1996 - ط
الحلبي) في حديث ابن عمر. والرواية الأخرى أخرجها الترمذي (5 / 195 - ط
الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم ". أخرجه أبو داود (4 / 540 -
تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عائشة: وضعف المنذري أحد رواته، ونقل عن ابن
عدي أنه استنكر الحديث بهذا الإسناد. وقال: روي هذا الحديث من أوجه أخرى،
ليس منها شيء يثبت. كذا في مختصر السنن (6 / 213 - نشر دار المعرفة) .
(24/169)
الْمُسْلِمِ كَشَفَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ
حَتَّى يَفْضَحَهُ بِهَا فِي بَيْتِهِ. (1)
وَلأَِنَّ كَشْفَ هَذِهِ الْعَوْرَاتِ، وَالْعُيُوبِ وَالتَّحَدُّثَ بِمَا
وَقَعَ مِنْهُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى غِيبَةٍ مُحَرَّمَةٍ وَإِشَاعَةٍ
لِلْفَاحِشَةِ.
قَال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: اجْتَهِدْ أَنْ تَسْتُرَ الْعُصَاةَ، فَإِنَّ
ظُهُورَ مَعَاصِيهِمْ عَيْبٌ فِي أَهْل الإِْسْلاَمِ، وَأَوْلَى الأُْمُورِ
سَتْرُ الْعُيُوبِ. قَال الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ: الْمُؤْمِنُ يَسْتُرُ
وَيَنْصَحُ، وَالْفَاجِرُ يَهْتِكُ وَيُعَيِّرُ.
أَمَّا مَنْ عُرِفَ بِالأَْذَى وَالْفَسَادِ وَالْمُجَاهَرَةِ بِالْفِسْقِ
وَعَدَمِ الْمُبَالاَةِ بِمَا يَرْتَكِبُ، وَلاَ يَكْتَرِثُ لِمَا يُقَال
عَنْهُ فَيُنْدَبُ كَشْفُ حَالِهِ لِلنَّاسِ وَإِشَاعَةُ أَمْرِهِ
بَيْنَهُمْ حَتَّى يَتَوَقَّوْهُ وَيَحْذَرُوا شَرَّهُ، بَل تُرْفَعُ
قِصَّتُهُ إِلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ إِنْ لَمْ يَخَفْ مَفْسَدَةً أَكْبَرَ؛
لأَِنَّ السَّتْرَ عَلَى هَذَا يُطْمِعُهُ فِي الإِْيذَاءِ وَالْفَسَادِ
وَانْتِهَاكِ الْحُرُمَاتِ وَجَسَارَةِ غَيْرِهِ عَلَى مِثْل فِعْلِهِ.
فَإِنِ اشْتَدَّ فِسْقُهُ وَلَمْ يَرْتَدِعْ مِنَ النَّاسِ فَيَجِبُ أَنْ
لاَ يَسْتُرَ عَلَيْهِ بَل يَرْفَعَ إِلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ حَتَّى
يُؤَدِّبَهُ وَيُقِيمَ عَلَيْهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى فَسَادِهِ شَرْعًا
مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ مَا لَمْ يَخْشَ مَفْسَدَةً أَكْبَرَ. وَهَذَا
كُلُّهُ فِي سَتْرِ مَعْصِيَةٍ وَقَعَتْ فِي الْمَاضِي
__________
(1) حديث: " من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة ". أخرجه
ابن ماجه (2 / 850 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس، وضعف إسناده البوصيري في
مصباح الزجاجة (2 / 70 - ط دار الجنان) .
(24/169)
وَانْقَضَتْ. أَمَّا الْمَعْصِيَةُ الَّتِي
رَآهُ عَلَيْهَا وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهَا فَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ
بِإِنْكَارِهَا وَمَنْعِهِ مِنْهَا عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، فَلاَ
يَحِل تَأْخِيرُهُ وَلاَ السُّكُوتُ عَنْهَا، فَإِنْ عَجَزَ لَزِمَهُ
رَفْعُهَا إِلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ
مَفْسَدَةٌ أَكْبَرُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ
الإِْيمَانِ. (1)
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْل الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ
أَنْ يَتَجَسَّسَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ يَتَتَبَّعَ
عَوْرَاتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَجَسَّسُوا} (2) الآْيَةَ.
وَلِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ
النَّهْيِ عَنِ التَّجَسُّسِ (3) النهي عن التجسس. ورد من حديث أبي هريرة،
أخرجه مسلم (4 / 1985 - ط الحلبي) . وَالتَّحَسُّسِ عَلَى عَوْرَاتِ
الْمُسْلِمِينَ.
إِلاَّ أَنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِجَرْحِ
الرُّوَاةِ، وَالشُّهُودِ، وَالأُْمَنَاءِ عَلَى الصَّدَقَاتِ،
وَالأَْوْقَافِ، وَالأَْيْتَامِ، وَنَحْوِهِمْ، فَيَجِبُ جُرْحُهُمْ عِنْدَ
الْحَاجَةِ، وَلاَ يَحِل السَّتْرُ عَلَيْهِمْ إِذَا رَأَى مِنْهُمْ مَا
يَقْدَحُ فِي أَهْلِيَّتِهِمْ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْغِيبَةِ
الْمُحَرَّمَةِ، بَل هُوَ مِنَ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ بِإِجْمَاعِ
__________
(1) حديث: " من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده. . . " أخرجه مسلم (1 / 69 -
ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري.
(2) سورة الحجرات / 12.
(3) حديث:
(24/170)
الْعُلَمَاءِ.
كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ رَفَعَ مَنْ يُنْدَبُ السَّتْرُ
عَلَيْهِ إِلَى السُّلْطَانِ فَلاَ إِثْمَ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ السَّتْرَ
عَلَيْهِ أَوْلَى (1) .
سَتْرُ الْمُؤْمِنِ عَلَى نَفْسِهِ:
3 - يُنْدَبُ لِلْمُسْلِمِ إِذَا وَقَعَتْ مِنْهُ هَفْوَةٌ أَوْ زَلَّةٌ
أَنْ يَسْتُرَ عَلَى نَفْسِهِ وَيَتُوبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ
وَجَل وَأَنْ لاَ يَرْفَعَ أَمْرَهُ إِلَى السُّلْطَانِ، وَلاَ يَكْشِفَهُ
لأَِحَدٍ كَائِنًا مَا كَانَ؛ لأَِنَّ هَذَا مِنْ إِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ
الَّتِي تَوَعَّدَ عَلَى فَاعِلِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ
يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ} (2) وَلأَِنَّهُ هَتْكٌ
لِسَتْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمُجَاهَرَةٌ بِالْمَعْصِيَةِ
(3) . قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْتَنِبُوا
هَذِهِ الْقَاذُورَةَ، فَمَنْ أَلَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللَّهِ
وَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ
عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ. (4)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 143، الآداب الشرعية 1 / 263، دليل الفالحين شرح
رياض الصالحين 2 / 15، روضة الطالبين 8 / 328، القوانين الفقهية ص 433.
(2) سورة النور / 19.
(3)) دليل الفالحين 2 / 29، الآداب الشرعية 1 / 267، الأذكار للإمام النووي
ص 567، جواهر الإكليل 2 / 289، مغني المحتاج 4 / 150.
(4) حديث: " اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى الله عنها ". أخرجه الحاكم (4 /
244 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عمر. وصححه ووافقه الذهبي.
(24/170)
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
كُل أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ
الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَل الرَّجُل بِاللَّيْل عَمَلاً ثُمَّ يُصْبِحَ
وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَيَقُول: يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ
كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ
سِتْرَ اللَّهِ عَلَيْهِ. (1)
سَتْرُ السُّلْطَانِ عَلَى الْعَاصِي:
4 - يُنْدَبُ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ إِذَا رَفَعَ الْعَاصِي أَمْرَهُ
إِلَيْهِ مِمَّا فِيهِ حَدٌّ أَوْ تَعْزِيرٌ فِي شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ
اللَّهِ تَعَالَى مُعْلِنًا تَوْبَتَهُ أَنْ يَتَجَاهَلَهُ وَأَنْ لاَ
يَسْتَفْسِرَهُ، بَل يَأْمُرَهُ بِالسِّتْرِ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَأْمُرَ
غَيْرَهُ بِالسِّتْرِ عَلَيْهِ، وَيُحَاوِل أَنْ يَصْرِفَهُ عَنِ
الإِْقْرَارِ، وَلاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالصَّلاَحِ
وَالاِسْتِقَامَةِ أَوْ كَانَ مَسْتُورَ الْحَال.
لِمَا رَوَاهُ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ:
أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ قَال: وَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَصَلَّى
مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَضَى
الصَّلاَةَ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْ فِي
كِتَابَ اللَّهِ قَال: هَل حَضَرْتَ الصَّلاَةَ مَعَنَا؟ قَال: نَعَمْ:
قَال: قَدْ غُفِرَ لَكَ. (2)
__________
(1) حديث: " كل أمتي معافى إلا المجاهرين ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 486
- ط السلفية) ومسلم (4 / 2291 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، واللفظ
للبخاري
(2) حديث أنس: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله.
. . " أخرجه مسلم (4 / 2117 - ط الحلبي) .
(24/171)
سِتْرُ الْمَظْلُومِ عَنِ الظَّالِمِ:
5 - قَال الْعُلَمَاءُ: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتُرَ
أَخَاهُ الْمُسْلِمَ إِذَا سَأَلَهُ عَنْهُ إِنْسَانٌ ظَالِمٌ يُرِيدُ
قَتْلَهُ أَوْ أَخْذَ مَالِهِ ظُلْمًا، وَكَذَا لَوْ كَانَ عِنْدَهُ أَوْ
عِنْدَ غَيْرِهِ وَدِيعَةٌ وَسَأَل عَنْهَا ظَالِمٌ يُرِيدُ أَخْذَهَا
يَجِبُ عَلَيْهِ سِتْرُهَا وَإِخْفَاؤُهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ
بِإِخْفَاءِ ذَلِكَ، وَلَوِ اسْتَحْلَفَهُ عَلَيْهَا لَزِمَهُ أَنْ
يَحْلِفَ، وَلَكِنَّ الأَْحْوَطَ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنْ يُوَرِّيَ، وَلَوْ
تَرَكَ التَّوْرِيَةَ وَأَطْلَقَ عِبَارَةَ الْكَذِبِ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ
فِي هَذِهِ الْحَال (1) وَاسْتَدَلُّوا بِجَوَازِ الْكَذِبِ فِي هَذِهِ
الْحَال بِحَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا
سَمِعَتْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: لَيْسَ
الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ
يَقُول خَيْرًا. (2)
سِتْرُ الأَْسْرَارِ:
6 - يُنْدَبُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتُرَ أَسْرَارَ إِخْوَانِهِ الَّتِي
عَلِمَ بِهَا، وَأَنْ لاَ يُفْشِيَهَا لأَِحَدٍ كَائِنًا مَا كَانَ، حَتَّى
وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ مِنْهُ ذَلِكَ لأَِنَّ إِفْشَاءَ السِّرِّ يُعْتَبَرُ
خِيَانَةً لِلأَْمَانَةِ، وَيُسْتَدَل لِهَذَا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا:
(1) قَوْله تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ
مَسْئُولاً} . (3)
__________
(1) القوانين الفقهية ص 434، دليل الفالحين 4 / 382، الأذكار للإمام النووي
ص 580.
(2) حديث: " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس. . . " أخرجه مسلم (4 / 2011 -
2012 - ط الحلبي) .
(3) سورة الإسراء / 34.
(24/171)
وَقَوْل أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ حِينَ
عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أُرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا، قَال عُمَرُ:
فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَال " فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ
إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ عَلَيَّ إِلاَّ أَنِّي كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرَهَا، فَلَمْ
أَكُنْ لأُِفْشِيَ سِرَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَوْ تَرَكَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَقَبِلْتُهَا (1)
(3) وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَتَى عَلَيَّ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ،
فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، فَبَعَثَنِي فِي حَاجَةٍ فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي
فَلَمَّا جِئْتُ قَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟ قُلْتُ: بَعَثَنِي رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَةٍ. قَالَتْ: مَا حَاجَتُهُ؟
قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ. قَالَتْ: لاَ تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُول اللَّهِ
أَحَدًا (2) .
(4) وَقَوْل السَّيِّدَةِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لأُِمِّ
الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عِنْدَمَا سَأَلَتْهَا
مَا قَال لَكِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا
كُنْتُ لأُِفْشِيَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سِرَّهُ (3) .
(5) وَقَدْ جَاءَ فِي الأَْثَرِ: إِذَا حَدَّثَ الرَّجُل
__________
(1) قول أبي بكر - رضي الله عنه - لعمر - رضي الله عنه -: " لعلك وجدت. . .
" أخرجه البخاري (الفتح 9 / 176 - ط السلفية) .
(2) حديث أنس: " أتى عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب. . . "
أخرجه مسلم (4 / 1429 - ط الحلبي) .
(3) قول السيدة فاطمة: " ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم
سره ". أخرجه البخاري (الفتح 11 / 80 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1905 - ط
الحلبي) من حديث عائشة.
(24/172)
الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ
أَمَانَةٌ. (1)
وَيَدْخُل فِي هَذَا الْبَابِ حِفْظُ الأَْسْرَارِ الزَّوْجِيَّةِ، حَيْثُ
يَجِبُ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَسْتُرَ سِرَّ الآْخِرِ
سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ تَفَاصِيل مَا يَقَعُ حَال الْجِمَاعِ وَقَبْلَهُ
مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْسْرَارِ الْبَيْتِيَّةِ
(2) . لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ أَشَرِّ
النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُل يُفْضِي
إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرَ سِرَّهَا. (3)
وَلأَِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَل عَلَى
صَفِّ الرِّجَال بَعْدَ الصَّلاَةِ فَقَال لَهُمْ: هَل مِنْكُمْ إِذَا
أَتَى عَلَى أَهْلِهِ أَرْخَى بَابَهُ وَأَرْخَى سِتْرَهُ ثُمَّ يَخْرُجُ
فَيُحَدِّثُ فَيَقُول: فَعَلْتُ بِأَهْلِي كَذَا وَفَعَلْتُ بِأَهْلِي
كَذَا؟ فَسَكَتُوا. فَأَقْبَل عَلَى النِّسَاءِ. فَقَال: هَل مِنْكُنَّ
مَنْ تُحَدِّثُ؟ فَقَالَتْ فَتَاةٌ مِنْهُنَّ: وَاللَّهِ إِنَّهُمْ
لَيُحَدِّثُونَ وَإِنَّهُنَّ لَيُحَدِّثْنَ. فَقَال: هَل تَدْرُونَ مَا
مَثَل مَنْ فَعَل ذَلِكَ؟ إِنَّ مَثَل مَنْ فَعَل ذَلِكَ مَثَل شَيْطَانٍ
وَشَيْطَانَةٍ، لَقِيَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ
__________
(1) دليل الفالحين 3 / 148، القوانين الفقهية ص 435. وحديث: " إذا حدث
الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة ". أخرجه الترمذي (4 / 301 - ط دار الكتب
العلمية) من حديث جابر بن عبد الله، وقال: حديث حسن.
(2) كشاف القناع 5 / 194، دليل الفالحين 3 / 149.
(3) حديث: " إن من أشر الناس عند الله منزلة ". أخرجه مسلم (2 / 1060 - ط
الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري.
(24/172)
بِالسِّكَّةِ قَضَى حَاجَتَهُ مِنْهَا
وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمَا. (1)
__________
(1) حديث: " هل منكم إذا أتى على أهله. . . " أخرجه أحمد (2 / 541 - ط
الحلبي) من حديث أبي هريرة، وهو حسن لشواهده.
(24/173)
سَتْرُ الْعَوْرَةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّتْرُ لُغَةً: مَا يُسْتَرُ بِهِ، وَجَمْعُهُ سُتُورٌ،
وَالسُّتْرَةُ - بِضَمِّ السِّينِ - مِثْلُهُ.
قَال ابْنُ فَارِسٍ: السُّتْرَةُ مَا اسْتَتَرْتَ بِهِ كَائِنًا مَا كَانَ،
وَالسِّتَارَةُ مِثْلُهُ، وَسَتَرْتُ الشَّيْءَ سَتْرًا مِنْ بَابِ قَتَل.
وَالْعَوْرَةُ لُغَةً: الْخَلَل فِي الثَّغْرِ وَفِي غَيْرِهِ، قَال
الأَْزْهَرِيُّ: الْعَوْرَةُ فِي الثُّغُورِ وَفِي الْحَرْبِ خَلَلٌ
يُتَخَوَّفُ مِنْهُ الْقَتْل، وَالْعَوْرَةُ كُل مَكْمَنٍ لِلسَّتْرِ،
وَعَوْرَةُ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ سَوْأَتُهُمَا.
وَيَقُول الْفُقَهَاءُ: مَا يَحْرُمُ كَشْفُهُ مِنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ
فَهُوَ عَوْرَةٌ.
وَفِي الْمِصْبَاحِ: كُل شَيْءٍ يَسْتُرُهُ الإِْنْسَانُ أَنَفَةً
وَحَيَاءً فَهُوَ عَوْرَةٌ (1) .
وَسِتْرُ الْعَوْرَةِ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: تَغْطِيَةُ
الإِْنْسَانِ مَا يَقْبُحُ ظُهُورُهُ وَيُسْتَحَى مِنْهُ، ذَكَرًا كَانَ
أَوْ أُنْثَى أَوْ خُنْثَى عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ (2) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) كشاف القناع 1 / 246، ومغني المحتاج 1 / 185.
(24/173)
مَا يَتَعَلَّقُ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ مِنْ
أَحْكَامٍ:
أَوَّلاً - سَتْرُ الْعَوْرَةِ عَمَّنْ لاَ يَحِل لَهُ النَّظَرُ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ مِنَ الرَّجُل
وَالْمَرْأَةِ وَاجِبٌ عَمَّنْ لاَ يَحِل لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا.
وَمَا يَجِبُ سَتْرُهُ فِي الْجُمْلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ جَمِيعُ
جَسَدِهَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ
لِلأَْجْنَبِيِّ.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَحَارِمِهَا مِنَ الرِّجَال فَعَوْرَتُهَا عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالأَْطْرَافَ
(الرَّأْسَ وَالْعُنُقَ) . وَضَبَطَ الْحَنَابِلَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ مَا
يُسْتَتَرُ غَالِبًا وَهُوَ مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالرَّأْسَ وَالرَّقَبَةَ
وَالْيَدَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مَا
عَدَا الصَّدْرَ أَيْضًا. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَا بَيْنَ السُّرَّةِ
وَالرُّكْبَةِ، كَمَا أَنَّ عَوْرَةَ الْمَرْأَةِ الَّتِي يَجِبُ سَتْرُهَا
بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ هِيَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ
وَالرُّكْبَةِ.
أَمَّا عَوْرَةُ الرَّجُل فَهِيَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ (1)
.
وَفِي كُل ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَةٍ)
وَالدَّلِيل عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى:
{قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا
فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
__________
(1) المغني 6 / 554، وكشاف القناع 5 / 11، الدسوقي 1 / 214، مغني المحتاج 1
/ 185، 3 / 131، حاشية ابن عابدين 1 / 271.
(24/174)
يَصْنَعُونَ وَقُل لِلْمُؤْمِنَاتِ
يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} . (1)
وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأََسْمَاءَ بِنْتِ
أَبِي بَكْرٍ: يَا أَسْمَاءُ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ
لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلاَّ هَذَا وَهَذَا وَأَشَارَ إِلَى
وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ (2) ، وَوَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنِّسْبَةِ لِعَوْرَةِ الرِّجَال أَنَّهَا مَا
بَيْنَ السُّرَّةِ إِلَى الرُّكْبَةِ (3) .
3 - وَيُشْتَرَطُ فِي السَّاتِرِ أَنْ لاَ يَكُونَ رَقِيقًا يَصِفُ مَا
تَحْتَهُ بَل يَكُونُ كَثِيفًا لاَ يُرَى مِنْهُ لَوْنُ الْبَشَرَةِ
وَيُشْتَرَطُ كَذَلِكَ أَنْ لاَ يَكُونَ مُهَلْهَلاً تُرَى مِنْهُ
أَجْزَاءُ الْجِسْمِ لأَِنَّ مَقْصُودَ السِّتْرِ لاَ يَحْصُل بِذَلِكَ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ سِتْرَ الْعَوْرَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ بَيْنَ
الرَّجُل وَزَوْجَتِهِ، إِذْ كَشْفُ الْعَوْرَةِ مُبَاحٌ بَيْنَهُمَا،
فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْفَظْ
عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ
__________
(1)) سورة النور / 29، 30.
(2) حديث: " يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض ". أخرجه أبو داود (4 /
358 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عائشة، وأعله بالانقطاع.
(3) ورد في ذلك حديث: " إذا أنكح أحدكم عبده أو أجيره فلا ينظرن إلى شيء من
عورته، فإن ما أسفل من سرته إلى ركبتيه من عورته ". أخرجه أحمد (2 / 187 -
ط الميمنية) من حديث عبد الله بن عمرو، وإسناده حسن. وفي رواية البيهقي 2 /
226: " إذا زوج أحدكم عبده أمته أو أجيره فلا ينظرن إلى عورتها " وعلى هذه
الرواية لا يكون الحديث دليلاً على حد عورة الرجل.
(24/174)
زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ.
(1)
4 - وَالصَّغِيرَةُ إِنْ كَانَتْ كَبِنْتِ سَبْعِ سِنِينَ إِلَى تِسْعٍ
فَعَوْرَتُهَا الَّتِي يَجِبُ سَتْرُهَا هِيَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ
وَالرُّكْبَةِ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَل مِنْ سَبْعِ سِنِينَ فَلاَ حُكْمَ
لِعَوْرَتِهَا - وَهَذَا كَمَا يَقُول الْحَنَابِلَةُ - وَيُنْظَرُ
تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: " عَوْرَةٍ ".
وَالْمُرَاهِقُ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا يَجِبُ
عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَسْتُرَ عَوْرَتَهَا عَنْهُ، أَمَّا إِنْ كَانَ
لاَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا فَلاَ بَأْسَ مِنْ إِبْدَاءِ
مَوَاضِعِ الزِّينَةِ أَمَامَهُ (2) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُل
لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ
وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ
لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ
أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ
بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ
مِنَ الرِّجَال أَوِ الطِّفْل الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ
النِّسَاءِ} . (3)
__________
(1) حديث: " احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك ". أخرجه الترمذي (5
/ 97 - 98 ط الحلبي) وقال: حديث حسن.
(2) ابن عابدين 1 / 270 وما بعدها، 5 / 233 وما بعدها، والفواكه الدواني 2
/ 367، 407، 409، 410، ونهاية المحتاج 6 / 184 إلى 196، والقليوبي 1 / 177،
والمهذب 2 / 35، والمغني 6 / 553 - 560، وشرح منتهى الإرادات 3 / 4 - 7،
ومغني المحتاج 1 / 185.
(3) سورة النور / 31.
(24/175)
وَيُسْتَثْنَى مِنْ وُجُوبِ سَتْرِ
الْعَوْرَةِ مَا كَانَ لِضَرُورَةٍ، كَعِلاَجٍ وَشَهَادَةٍ، جَاءَ فِي
الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: يَجِبُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ عَمَّنْ يَحْرُمُ
النَّظَرُ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ الزَّوْجَةِ وَالأَْمَةِ إِلاَّ
لِضَرُورَةٍ فَلاَ يَحْرُمُ بَل قَدْ يَجِبُ، وَإِذَا كَشَفَ لِلضَّرُورَةِ
كَالطَّبِيبِ يُبْقَرُ لَهُ ثَوْبٌ عَلَى قَدْرِ مَوْضِعِ الْعِلَّةِ (1) .
سَتْرُ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلاَةِ:
5 - سَتْرُ الْعَوْرَةِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُل مَسْجِدٍ} (2) وَالآْيَةُ إِنْ
كَانَتْ نَزَلَتْ بِسَبَبٍ خَاصٍّ فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لاَ
بِخُصُوصِ السَّبَبِ، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
الْمُرَادُ بِالزِّينَةِ فِي الآْيَةِ: الثِّيَابُ فِي الصَّلاَةِ،
وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَقْبَل
اللَّهُ صَلاَةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ. (3)
وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى فَسَادِ صَلاَةِ مَنْ تَرَكَ ثَوْبَهُ
وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الاِسْتِتَارِ بِهِ وَصَلَّى عُرْيَانًا.
وَيُشْتَرَطُ فِي السَّاتِرِ أَنَّهُ يَمْنَعُ إِدْرَاكَ لَوْنِ
الْبَشَرَةِ.
وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ ثَوْبًا نَجَسًا أَوْ ثَوْبًا مِنَ الْحَرِيرِ
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 736، وابن عابدين 5 / 237، ومغني المحتاج 3 / 134،
وكشاف القناع 5 / 13.
(2) سورة الأعراف / 31.
(3) حديث: " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ". أخرجه أبو داود (1 / 421
- تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (1 / 215 - ط الحلبي) من حديث عائشة
واللفظ لأبي داود، وحسنه الترمذي.
(24/175)
صَلَّى بِهِ وَلاَ يُصَلِّي عُرْيَانًا؛
لأَِنَّ فَرْضَ السَّتْرِ أَقْوَى مِنْ مَنْعِ النَّجَسِ وَالْحَرِيرِ فِي
هَذِهِ الْحَالَةِ (1) . عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحِ: (صَلاَةٍ) .
هَذَا وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ الْعَوْرَةِ الْوَاجِبِ
سَتْرُهَا فِي الصَّلاَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (عَوْرَةٍ) .
ثَانِيًا: سَتْرُ الْعَوْرَةِ فِي الْخَلْوَةِ:
6 - كَمَا يَجِبُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ يَجِبُ
كَذَلِكَ سَتْرُهَا وَلَوْ كَانَ الإِْنْسَانُ فِي خَلْوَةٍ، أَيْ فِي
مَكَانٍ خَالٍ مِنَ النَّاسِ. وَالْقَوْل بِالْوُجُوبِ هُوَ مَذْهَبُ
الْحَنَفِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ
فِي الْخَلْوَةِ.
وَالسَّتْرُ فِي الْخَلْوَةِ مَطْلُوبٌ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى
وَمَلاَئِكَتِهِ، وَالْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ قَالُوا: إِنَّمَا وَجَبَ
لإِِطْلاَقِ الأَْمْرِ بِالسَّتْرِ؛ وَلأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَقُّ
أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ، وَفِي حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ جَدِّهِ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي
مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَال: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ
أَوْ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، فَقَال: الرَّجُل يَكُونُ مَعَ الرَّجُل؟
قَال: إِنِ اسْتَطَعْتَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 270 وما بعدها، والدسوقي 1 / 216 - 217، ومغني المحتاج
1 / 184 - 186، وكشاف القناع 1 / 263.
(24/176)
أَنْ لاَ يَرَاهَا أَحَدٌ فَافْعَل،
قُلْتُ: وَالرَّجُل يَكُونُ خَالِيًا؟ قَال: فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ
يُسْتَحْيَا مِنْهُ. (1)
وَالسَّتْرُ فِي الْخَلْوَةِ مَطْلُوبٌ إِلاَّ لِحَاجَةٍ، كَاغْتِسَالٍ
وَتَبَرُّدٍ وَنَحْوِهِ (2) .
__________
(1) حديث: " احفظ عورتك إلا من زوجتك ". أخرجه الترمذي (5 / 97 - 98 ط
الحلبي) وقال: هذا حديث حسن.
(2) ابن عابدين 1 / 270، والفواكه الدواني 2 / 407، ومنح الجليل 1 / 134 -
135، ومغني المحتاج 1 / 185، وكشاف القناع 1 / 264.
(24/176)
سُتْرَةُ الْمُصَلِّي
التَّعْرِيفُ:
1 - السُّتْرَةُ بِالضَّمِّ مَأْخُوذَةٌ مِنَ السَّتْرِ، وَهِيَ فِي
اللُّغَةِ مَا اسْتَتَرْتَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ كَائِنًا مَا كَانَ، وَكَذَا
السِّتَارُ وَالسِّتَارَةُ، وَالْجَمْعُ: السَّتَائِرُ وَالسُّتُرُ،
وَيُقَال: سَتَرَهُ سَتْرًا وَسِتْرًا: أَخْفَاهُ (1) . وَسُتْرَةُ
الْمُصَلِّي فِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ مَا يُغْرَزُ أَوْ يُنْصَبُ أَمَامَ
الْمُصَلِّي مِنْ عَصَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (2) ، أَوْ مَا يَجْعَلُهُ
الْمُصَلِّي أَمَامَهُ لِمَنْعِ الْمَارِّينَ بَيْنَ يَدَيْهِ (3) .
وَعَرَّفَهَا الْبُهُوتِيُّ: بِأَنَّهَا مَا يُسْتَتَرُ بِهِ مِنْ جِدَارٍ
أَوْ شَيْءٍ شَاخِصٍ. . . أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يُصَلَّى إِلَيْهِ (4) .
وَجَمِيعُ هَذِهِ التَّعْرِيفَاتِ مُتَقَارِبَةٌ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي إِذَا كَانَ فَذًّا (مُنْفَرِدًا) أَوْ إِمَامًا
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب ومتن اللغة مادة: (ستر) .
(2) قواعد الفقه للبركتي ص 319.
(3) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 200، والشرح الصغير للدردير 1 /
334.
(4) حاشية مراقي الفلاح ص 200، 201، وجواهر الإكليل 1 / 50، ومغني المحتاج
1 / 200، وكشاف القناع 1 / 382.
(24/177)
أَنْ يَتَّخِذَ أَمَامُهُ سُتْرَةً
تَمْنَعُ الْمُرُورَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتُمَكِّنُهُ مِنَ الْخُشُوعِ فِي
أَفْعَال الصَّلاَةِ، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُصَل إِلَى
سُتْرَةٍ، وَلْيَدْنُ مِنْهَا، وَلاَ يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ
يَدَيْهِ. (1)
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِيَسْتَتِرْ أَحَدُكُمْ
فِي صَلاَتِهِ وَلَوْ بِسَهْمٍ (2) ، وَهَذَا يَشْمَل السَّفَرَ
وَالْحَضَرَ، كَمَا يَشْمَل الْفَرْضَ وَالنَّفْل.
وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا كَفُّ بَصَرِ الْمُصَلِّي عَمَّا وَرَاءَهَا،
وَجَمْعُ الْخَاطِرِ بِرَبْطِ خَيَالِهِ كَيْ لاَ يَنْتَشِرَ، وَمَنْعُ
الْمَارِّ كَيْ لاَ يَرْتَكِبَ الإِْثْمَ بِالْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ.
(3)
وَالأَْمْرُ فِي الْحَدِيثِ لِلاِسْتِحْبَابِ لاَ لِلْوُجُوبِ، قَال ابْنُ
عَابِدِينَ (4) : صَرَّحَ فِي الْمُنْيَةِ بِكَرَاهَةِ تَرْكِهَا، وَهِيَ
تَنْزِيهِيَّةٌ، وَالصَّارِفُ لِلأَْمْرِ عَنْ حَقِيقَتِهِ مَا رَوَاهُ
أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْفَضْل بْنِ الْعَبَّاسِ
__________
(1) حديث: " إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها، ولا يدع أحدًا يمر
بين يديه ". أخرجه ابن ماجه (1 / 307 - ط الحلبي) وأصله في البخاري (الفتح
1 / 582 ط السلفية) ومسلم (1 / 363 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " ليستتر أحدكم في صلاته ولو بسهم ". أخرجه أحمد (3 / 404 - ط
الميمنية) ، والطبراني في المعجم الكبير (7 / 134 - ط وزارة الأوقاف
العراقية) واللفظ له، من حديث سبرة بن معبد، وقال الهيثمي في المجمع (2 /
58 - ط القدسي) : رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح.
(3) المراجع السابقة.
(4) رد المحتار 1 / 428.
(24/177)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَال أَتَانَا
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي بَادِيَةٍ
لَنَا فَصَلَّى فِي صَحْرَاءَ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ. (1)
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ قَال الْبُهُوتِيُّ (2) : وَلَيْسَ
ذَلِكَ بِوَاجِبٍ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي فَضَاءٍ لَيْسَ
بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ (3) هَذَا، وَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ، لِلإِْمَامِ
وَالْمُنْفَرِدِ إِذَا ظَنَّ مُرُورًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَإِلاَّ فَلاَ
تُسَنُّ السُّتْرَةُ لَهُمَا (4) . وَنُقِل عَنْ مَالِكٍ الأَْمْرُ بِهَا
مُطْلَقًا، وَبِهِ قَال ابْنُ حَبِيبٍ وَاخْتَارَهُ اللَّخْمِيُّ (5) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَأَطْلَقُوا الْقَوْل بِأَنَّهَا سُنَّةٌ، وَلَمْ
يَذْكُرُوا قَيْدًا (6) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تُسَنُّ السُّتْرَةُ لِلإِْمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ
وَلَوْ لَمْ يَخْشَ مَارًّا (7) .
__________
(1) حديث: " الفضل بن العباس ". أخرجه أبو داود (1 / 459 - 460 - تحقيق عزت
عبيد دعاس) وفي إسناده مقال كما في مختصر السنن للمنذري (1 / 350 - نشر دار
المعرفة) .
(2) كشاف القناع 1 / 382، ونحوه ما ذكره الطحطاوي الحنفي في حاشيته على
الدر (1 / 269) .
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في فضاء ليس بين يديه شيء ".
أخرجه أحمد (1 / 224 - ط الميمنية) ، وإسناده صحيح.
(4) مراقي الفلاح 1 / 200، وابن عابدين 1 / 428، وجواهر الإكليل 1 / 50.
(5) جواهر الإكليل 1 / 50.
(6) مغني المحتاج 1 / 200.
(7) كشاف القناع 1 / 382.
(24/178)
أَمَّا الْمَأْمُومُ فَلاَ يُسْتَحَبُّ
لَهُ اتِّخَاذُ السُّتْرَةِ اتِّفَاقًا؛ لأَِنَّ سُتْرَةَ الإِْمَامِ
سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ، أَوْ لأَِنَّ الإِْمَامَ سُتْرَةٌ لَهُ، عَلَى
اخْتِلاَفٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ (1) . وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
مَا يُجْعَل سُتْرَةً:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَسْتَتِرَ
الْمُصَلِّي بِكُل مَا انْتَصَبَ مِنَ الأَْشْيَاءِ كَالْجِدَارِ
وَالشَّجَرِ وَالأُْسْطُوَانَةِ وَالْعَمُودِ، أَوْ بِمَا غُرِزَ
كَالْعَصَا وَالرُّمْحِ وَالسَّهْمِ وَمَا شَاكَلَهَا، وَيَنْبَغِي أَنْ
يَكُونَ ثَابِتًا غَيْرَ شَاغِلٍ لِلْمُصَلِّي عَنِ الْخُشُوعِ (2) .
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ الاِسْتِتَارَ بِحَجَرٍ وَاحِدٍ وَقَالُوا:
يُكْرَهُ بِهِ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ لِشَبَهِهِ بِعِبَادَةِ الصَّنَمِ،
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ جَازَ، كَمَا يَجُوزُ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ
(3) .
أَمَّا الاِسْتِتَارُ بِالآْدَمِيِّ أَوِ الدَّابَّةِ أَوِ الْخَطِّ أَوْ
نَحْوِهَا فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ، وَبَيَانُهُ
فِيمَا يَلِي:
أ - الاِسْتِتَارُ بِالآْدَمِيِّ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
__________
(1) مراقي الفلاح 1 / 201، وجواهر الإكليل 1 / 50، وكشاف القناع 1 / 383.
(2) مراقي الفلاح 1 / 200، 201، وجواهر الإكليل 1 / 50، والحطاب 1 / 524،
533، ومغني المحتاج 1 / 200، 201، كشاف القناع 1 / 383، 384.
(3) جواهر الإكليل 1 / 50.
(24/178)
وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ إِلَى صِحَّةِ الاِسْتِتَارِ بِالآْدَمِيِّ فِي الصَّلاَةِ
(1) ، وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي
التَّفَاصِيل.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: يَصِحُّ أَنْ يَسْتَتِرَ
بِظَهْرِ كُل رَجُلٍ قَائِمٍ أَوْ قَاعِدٍ، لاَ بِوَجْهِهِ، وَلاَ
بِنَائِمٍ، وَمَنَعُوا الاِسْتِتَارَ بِالْمَرْأَةِ غَيْرِ الْمَحْرَمِ.
أَمَّا ظَهْرُ الْمَرْأَةِ الْمَحْرَمِ فَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي
جَوَازِ الاِسْتِتَارِ بِهِ، كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ فِيهِ
قَوْلَيْنِ أَرْجَحُهُمَا عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْجَوَازُ (2) .
وَالأَْوْجَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ الاِكْتِفَاءِ بِالسُّتْرَةِ
بِالآْدَمِيِّ، وَلِهَذَا قَرَّرُوا أَنَّ بَعْضَ الصُّفُوفِ - لاَ يَكُونُ
سُتْرَةً لِبَعْضٍ آخَرَ (3) .
وَفَصَّل بَعْضُهُمْ فَقَالُوا: لَوْ كَانَتِ السُّتْرَةُ آدَمِيًّا أَوْ
بَهِيمَةً وَلَمْ يَحْصُل بِسَبَبِ ذَلِكَ اشْتِغَالٌ يُنَافِي خُشُوعَهُ
فَقِيل يَكْفِي، وَإِنْ حَصَل لَهُ الاِشْتِغَال لاَ يُعْتَدُّ بِتِلْكَ
السُّتْرَةِ (4) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ أَطْلَقُوا جَوَازَ الاِسْتِتَارِ بِآدَمِيٍّ
غَيْرِ كَافِرٍ (5) .
وَأَمَّا الصَّلاَةُ إِلَى وَجْهِ الإِْنْسَانِ فَتُكْرَهُ عِنْدَ
__________
(1) حاشية مراقي الفلاح 1 / 201، والدسوقي 1 / 246، ونهاية المحتاج 2 / 52،
وما بعدها.
(2) جواهر الإكليل 1 / 50، وحاشية الدسوقي 1 / 446، وحاشية الطحطاوي على
مراقي الفلاح 1 / 201.
(3) نهاية المحتاج 2 / 52.
(4) نفس المرجع السابق.
(5) كشاف القناع 1 / 382، 383.
(24/179)
الْجَمِيعِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَسَطَ السَّرِيرِ وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، تَكُونُ لِيَ الْحَاجَةُ فَأَكْرَهُ أَنْ أَقُومَ
فَأَسْتَقْبِلَهُ، فَأَنْسَل انْسِلاَلاً. (1) وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَدَّبَ عَلَى ذَلِكَ (2) .
ب - الاِسْتِتَارُ بِالدَّابَّةِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ الاِسْتِتَارِ
بِالدَّابَّةِ مُطْلَقًا (3) ، قَال الْمَقْدِسِيُّ فِي الشَّرْحِ
الْكَبِيرِ عَلَى الْمُقْنِعِ (4) : لاَ بَأْسَ أَنْ يَسْتَتِرَ بِبَعِيرٍ
أَوْ حَيَوَانٍ، فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمَا، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى إِلَى بَعِيرٍ.
(5)
وَمَنَعَ الْمَالِكِيَّةُ الاِسْتِتَارَ بِالدَّابَّةِ، إِمَّا لِنَجَاسَةِ
فَضْلَتِهَا كَالْبَغْل وَالْحِمَارِ وَنَحْوِهِمَا، وَإِمَّا لِعَدَمِ
ثَبَاتِهَا كَالشَّاةِ، وَإِمَّا لِكِلْتَا الْعِلَّتَيْنِ كَالْفَرَسِ.
__________
(1) حديث عائشة: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وسط السرير ". أخرجه
البخاري (الفتح 11 / 67 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 366 - ط الحلبي) واللفظ
للبخاري.
(2) المراجع السابقة، والشرح الكبير مع المغني 1 / 624.
(3) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 201.
(4) الشرح الكبير مع المغني 1 / 624.
(5) حديث ابن عمر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بعير ". أخرجه
البخاري (الفتح 1 / 580 - ط السلفية) بلفظ: " كان يعرض راحلته فيصلي إليها
". وأخرجه مسلم (1 / 359 - 340 ط الحلبي) بلفظ: " صلى إلى بعير ".
(24/179)
وَقَالُوا: إِنْ كَانَتْ فَضْلَتُهَا
طَاهِرَةً وَرُبِطَتْ جَازَ الاِسْتِتَارُ بِهَا (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالأَْوْجَهُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
الاِسْتِتَارُ بِالدَّابَّةِ كَمَا لاَ يَجُوزُ بِالإِْنْسَانِ.
وَلأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يَشْتَغِل بِهِ فَيَتَغَافَل عَنْ صَلاَتِهِ
(2) .
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: يَجُوزُ الاِسْتِتَارُ بِالْبَهِيمَةِ. قَال
مُحَمَّدٌ الرَّمْلِيُّ: أَمَّا الدَّابَّةُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُهُ،
وَكَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغِ الشَّافِعِيَّ، وَيَتَعَيَّنُ الْعَمَل بِهِ،
وَحَمَل بَعْضُهُمُ الْمَنْعَ عَلَى غَيْرِ الْبَعِيرِ (3) .
ج - التَّسَتُّرُ بِالْخَطِّ:
6 - إِنْ لَمْ يَجِدِ الْمُصَلِّي مَا يَنْصِبُهُ أَمَامَهُ فَلْيَخُطَّ
خَطًّا، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ) لِمَا
وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا
صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَل تِلْقَاءَ وَجْهِهِ شَيْئًا فَإِنْ لَمْ
يَجِدْ فَلْيَنْصِبْ عَصًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَصًا فَلْيَخُطَّ
خَطًّا، ثُمَّ لاَ يَضُرُّهُ مَا مَرَّ أَمَامَهُ. (4)
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 50.
(2) نهاية المحتاج 2 / 52، وحاشية الرملي على شرح الروض 1 / 184.
(3) حاشية الرملي على أسنى المطالب 1 / 184.
(4) حديث: " إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئًا ". أخرجه أبو داود (1 /
433 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة، وضعفه الشافعي والبغوي كما
في التلخيص لابن حجر (1 / 286 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(24/180)
وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ جَمْعُ الْخَاطِرِ
بِرَبْطِ الْخَيَال كَيْ لاَ يَنْتَشِرَ، وَهُوَ يَحْصُل بِالْخَطِّ.
وَرَجَّحَ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ صِحَّةَ
التَّسَتُّرِ بِالْخَطِّ وَقَال: لأَِنَّ السُّنَّةَ أَوْلَى
بِالاِتِّبَاعِ (1) .
وَقَاسَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْخَطِّ الْمُصَلَّى،
كَسَجَّادَةٍ مَفْرُوشَةٍ، قَال الطَّحْطَاوِيُّ: وَهُوَ قِيَاسٌ أَوْلَى؛
لأَِنَّ الْمُصَلَّى أَبْلَغُ فِي دَفْعِ الْمَارِّ مِنَ الْخَطِّ (2) .
وَلِهَذَا قَدَّمَ الشَّافِعِيَّةُ الْمُصَلَّى عَلَى الْخَطِّ وَقَالُوا:
قُدِّمَ عَلَى الْخَطِّ لأَِنَّهُ أَظْهَرُ فِي الْمُرَادِ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَصِحُّ التَّسَتُّرُ بِخَطٍّ يَخُطُّهُ فِي
الأَْرْضِ، وَهَذَا قَوْل مُتَقَدِّمِي الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا
وَاخْتَارَهُ فِي الْهِدَايَةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَحْصُل بِهِ الْمَقْصُودُ،
إِذْ لاَ يَظْهَرُ مِنْ بَعِيدٍ (4) .
التَّرْتِيبُ فِيمَا يُجْعَل سُتْرَةً:
7 - ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ لاِتِّخَاذِ السُّتْرَةِ أَرْبَعَ مَرَاتِبَ
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 201، وفتح القدير مع الهداية 1 /
354، 355، ومغني المحتاج 1 / 200، 201، وكشاف القناع 1 / 382، 383.
(2) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 101.
(3) مغني المحتاج 1 / 200.
(4) ابن عابدين 1 / 428، والهداية مع الفتح 1 / 354، 355.
(24/180)
وَقَالُوا: لَوْ عَدَل إِلَى مَرْتَبَةٍ
وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا لَمْ تَحْصُل سُنَّةُ الاِسْتِتَارِ.
فَيُسَنُّ عِنْدَهُمْ أَوَّلاً التَّسَتُّرُ بِجِدَارٍ أَوْ سَارِيَةٍ،
ثُمَّ إِذَا عَجَزَ عَنْهَا فَإِلَى نَحْوِ عَصًا مَغْرُوزَةٍ، وَعِنْدَ
عَجْزِهِ عَنْهَا يَبْسُطُ مُصَلَّى كَسَجَّادَةٍ، وَإِذَا عَجَزَ عَنْهَا
يَخُطُّ قُبَالَتَهُ خَطًّا طُولاً، وَذَلِكَ أَخْذًا بِنَصِّ الْحَدِيثِ
الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَل تِلْقَاءَ وَجْهِهِ
شَيْئًا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَنْصِبْ عَصًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ
عَصًا فَلْيَخُطَّ خَطًّا، ثُمَّ لاَ يَضُرُّهُ مَا مَرَّ أَمَامَهُ (1)
وَقَالُوا: الْمُرَادُ بِالْعَجْزِ عَدَمُ السُّهُولَةِ (2) .
وَهَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِالْمَرَاتِبِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِهِمْ أَنَّهُ عِنْدَ
إِمْكَانِ الْغَرْزِ لاَ يَكْفِي الْوَضْعُ، وَعِنْدَ إِمْكَانِ الْوَضْعِ
لاَ يَكْفِي الْخَطُّ (3) .
وَعِبَارَةُ الْحَنَابِلَةِ تُفِيدُ ذَلِكَ حَيْثُ قَالُوا: فَإِنْ لَمْ
يَجِدْ شَاخِصًا وَتَعَذَّرَ غَرْزُ عَصًا وَنَحْوِهَا، وَضَعَهَا
بِالأَْرْضِ، وَيَكْفِي خَيْطٌ وَنَحْوُهُ. . فَإِنْ لَمْ يَجِدْ خَطَّ
خَطًّا.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ لاَ يُجِيزُونَ
الْخَطَّ (4) .
__________
(1) حديث: " إذا صلى أحدكم. . . " تقدم ف / 6.
(2) الجمل على شرح المنهج 1 / 436، ومغني المحتاج 1 / 200 وما بعدها، وأسنى
المطالب 1 / 184.
(3) ابن عابدين 1 / 428.
(4) كشاف القناع 1 / 382، 383، ومطالب أولي النهى 1 / 488، 489.
(24/181)
مِقْدَارُ السُّتْرَةِ وَصِفَتُهَا:
8 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا صَلَّى فِي
الصَّحْرَاءِ أَوْ فِيمَا يُخْشَى الْمُرُورُ بَيْنَ يَدَيْهِ يُسْتَحَبُّ
لَهُ أَنْ يَغْرِزَ سُتْرَةً بِطُول ذِرَاعٍ فَصَاعِدًا. قَال
الْحَنَفِيَّةُ: فِي الاِعْتِدَادِ بِأَقَل مِنَ الذِّرَاعِ خِلاَفٌ (1) .
وَالْمُرَادُ بِالذِّرَاعِ ذِرَاعُ الْيَدِ، وَهُوَ شِبْرَانِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: طُول السُّتْرَةِ يَكُونُ ثُلُثَيْ ذِرَاعٍ
فَأَكْثَرَ تَقْرِيبًا (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ فِي فَضَاءٍ صَلَّى إِلَى سُتْرَةٍ
بَيْنَ يَدَيْهِ مُرْتَفِعَةً قَدْرَ ذِرَاعٍ فَأَقَل (4) .
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ حَدِيثُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: إِذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْل
مُؤَخَّرَةِ الرَّحْل فَلْيُصَل وَلاَ يُبَال مَنْ مَرَّ وَرَاءَ ذَلِكَ.
(5)
وَمُؤَخِّرَةُ الرَّحْل هِيَ الْعُودُ الَّذِي فِي آخِرِ الرَّحْل يُحَاذِي
رَأْسَ الرَّاكِبِ عَلَى الْبَعِيرِ. قَال الْحَنَفِيَّةُ: فُسِّرَتْ
بِأَنَّهَا ذِرَاعٌ فَمَا فَوْقَهُ (6) . وَقَال
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 201، وجواهر الإكليل 1 / 50.
(2) ابن عابدين 1 / 428.
(3) مغني المحتاج 1 / 200.
(4) شرح منتهى الإرادات 1 / 202.
(5) حديث: " إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل ". أخرجه مسلم (1 /
358 - ط الحلبي) .
(6) الطحطاوي ص 201.
(24/181)
الْحَنَابِلَةُ: تَخْتَلِفُ، فَتَارَةً
تَكُونُ ذِرَاعًا وَتَارَةً تَكُونُ دُونَهُ (1) .
وَأَمَّا قَدْرُهَا فِي الْغِلَظِ فَلَمْ يُحَدِّدْهُ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ، فَقَدْ تَكُونُ غَلِيظَةً كَالْحَائِطِ وَالْبَعِيرِ،
أَوْ رَقِيقَةً كَالسَّهْمِ، لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
صَلَّى إِلَى حَرْبَةٍ وَإِلَى بَعِيرٍ (2) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا فِي أَكْثَرِ الْمُتُونِ بِأَنْ
تَكُونَ السُّتْرَةُ بِغِلَظِ الأُْصْبُعِ، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ لأَِنَّ مَا
دُونَهُ رُبَّمَا لاَ يَظْهَرُ لِلنَّاظِرِ فَلاَ يَحْصُل الْمَقْصُودُ
مِنْهَا (3) . لَكِنْ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: جَعَل فِي الْبَدَائِعِ
بَيَانَ الْغِلَظِ قَوْلاً ضَعِيفًا، وَأَنَّهُ لاَ اعْتِبَارَ
بِالْعُرْضِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ (4) . وَيُؤَيِّدُهُ مَا
وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يُجْزِئُ مِنَ
السُّتْرَةِ قَدْرُ مُؤَخِّرَةِ الرَّحْل وَلَوْ بِدِقَّةِ شَعْرَةٍ. (5)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَكُونُ غِلَظُهَا غِلَظَ رُمْحٍ عَلَى الأَْقَل،
فَلاَ يَكْفِي أَدَقُّ مِنْهُ، وَنُقِل عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّهُ قَال:
لاَ بَأْسَ أَنْ تَكُونَ السُّتْرَةُ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 1 / 202.
(2) مغني المحتاج 1 / 200، وكشاف القناع 1 / 382.
(3) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 201، وابن عابدين 1 / 428.
(4) الرد المحتار على الدر المختار 1 / 428.
(5) حديث: " يجزئ من السترة قدر مؤخرة الرحل ولو بدقة شعرة ". أخرجه ابن
عدي في " الكامل " (6 / 2254 - ط دار الفكر) وفي إسناده راو ضعيف، ذكره
الذهبي في الميزان (4 / 11 - ط الحلبي) وذكر من منكراته هذا الحديث
(24/182)
دُونَ مُؤَخَّرَةِ الرَّحْل فِي الطُّول
وَدُونَ الرُّمْحِ فِي الْغِلَظِ (1) .
كَيْفِيَّةُ نَصْبِ أَوْ وَضْعِ السُّتْرَةِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِي السُّتْرَةِ أَنْ
تُنْصَبَ أَوْ تُغْرَزَ أَمَامَ الْمُصَلِّي، وَتُجْعَل عَلَى جِهَةِ
أَحَدِ حَاجِبَيْهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ غَرْزُهَا مُمْكِنًا، وَإِلاَّ
بِأَنْ كَانَتِ الأَْرْضُ صُلْبَةً مَثَلاً، فَهَل يَكْفِي وَضْعُ
السُّتْرَةِ أَمَامَ الْمُصَلِّي طُولاً أَوْ عَرْضًا؟ اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُلْقِي مَا مَعَهُ مِنْ
عَصًا أَوْ غَيْرِهَا طُولاً، كَأَنَّهُ غَرَزَ ثُمَّ سَقَطَ، وَهَذَا
اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ، وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لاَ
يُجْزِئُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَنْصِبُهُ فَلْيَخُطَّ خَطًّا
بِالْعُرْضِ مِثْل الْهِلاَل، أَوْ يَجْعَلُهُ طُولاً بِمَنْزِلَةِ
الْخَشَبَةِ الْمَغْرُوزَةِ أَمَامَهُ (2) . فَيَصِيرُ شِبْهَ ظِل
الْعَصَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (3) .
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، يَقُول
الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: إِذَا عَجَزَ عَنْ غَيْرِهِ فَلْيَخُطَّ
أَمَامَهُ خَطًّا طُولاً (4) . وَفِي حَاشِيَةِ الْجَمَل: هَذَا هُوَ
الأَْكْمَل وَيَحْصُل أَصْل السُّنَّةِ بِجَعْلِهِ عَرْضًا (5) .
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 201.
(2) جواهر الإكليل 1 / 50، الحطاب مع المواق 1 / 532، 533.
(3) نفس المرجع السابق.
(4) مغني المحتاج 1 / 200.
(5) حاشية الجمل 1 / 436، وانظر نهاية المحتاج 2 / 50.
(24/182)
وَعِبَارَةُ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ
تَعَذَّرَ غَرْزُ عَصًا وَنَحْوِهَا يَكْفِي وَضْعُهَا بِالأَْرْضِ. .
وَوَضْعُهَا عَرْضًا أَعْجَبُ إِلَى أَحْمَدَ مِنَ الطُّول. فَإِنْ لَمْ
يَجِدْ خَطَّ خَطًّا كَالْهِلاَل لاَ طُولاً. لَكِنْ نَقَل الْبُهُوتِيُّ
عَنِ الشَّرْحِ: وَكَيْفَمَا خَطَّ أَجْزَأَهُ (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَاشْتَرَطُوا أَنْ تَكُونَ السُّتْرَةُ ثَابِتَةً
وَلاَ يُجِيزُونَ الْخَطَّ أَصْلاً (2) .
مَوْقِفُ الْمُصَلِّي مِنَ السُّتْرَةِ:
10 - يُسَنُّ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى سُتْرَةٍ أَنْ يَقْرَبَ
مِنْهَا نَحْوَ ثَلاَثَةِ أَذْرُعٍ مِنْ قَدَمَيْهِ وَلاَ يَزِيدُ عَلَى
ذَلِكَ. لِحَدِيثِ سَهْل بْنِ أَبِي حَثْمَةَ مَرْفُوعًا: إِذَا صَلَّى
أَحَدُكُمْ إِلَى سُتْرَةٍ فَلْيَدْنُ مِنْهَا، لاَ يَقْطَعُ الشَّيْطَانُ
عَلَيْهِ صَلاَتَهُ. (3)
وَعَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ قَال: كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْجِدَارِ مَمَرُّ الشَّاةِ.
(4) وَوَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى
فِي الْكَعْبَةِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 1 / 202، وكشاف القناع 1 / 383.
(2) جواهر الإكليل 1 / 50.
(3) حديث: " إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها ". أخرجه أبو داود (1 / 446
- تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 251 - 252 - ط دائرة المعارف
العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(4) حديث: " كان بين مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الجدار ممر
الشاة ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 574 - ط السلفية) .
(24/183)
ثَلاَثَةُ أَذْرُعٍ. (1) وَهَذَا عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) .،
وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ لأَِنَّ الْفَاصِل
بَيْنَ الْمُصَلِّي وَالسُّتْرَةِ يَكُونُ بِمِقْدَارِ مَا يَحْتَاجُهُ
لِقِيَامِهِ وَرُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ؛ لأَِنَّ الأَْرْجَحَ عِنْدَهُمْ
أَنَّ حَرِيمَ الْمُصَلِّي هُوَ هَذَا الْمِقْدَارُ، سَوَاءٌ أَصَلَّى
إِلَى سُتْرَةٍ أَمْ لاَ. (3)
وَيُسَنُّ انْحِرَافُ الْمُصَلِّي عَنِ السُّتْرَةِ يَسِيرًا، بِأَنْ
يَجْعَلَهَا عَلَى جِهَةِ أَحَدِ حَاجِبَيْهِ، وَلاَ يَصْمُدُ إِلَيْهَا
صَمْدًا أَيْ لاَ يُقَابِلُهَا مُسْتَوِيًا مُسْتَقِيمًا، لِمَا رُوِيَ
عَنِ الْمِقْدَادِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: مَا رَأَيْتُ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إِلَى عُودٍ
وَلاَ عَمُودٍ وَلاَ شَجَرَةٍ إِلاَّ جَعَلَهُ عَلَى حَاجِبَيْهِ
الأَْيْمَنِ أَوِ الأَْيْسَرِ، وَلاَ يَصْمُدُ لَهُ صَمْدًا (4) . وَهَذَا
إِذَا كَانَتِ السُّتْرَةُ نَحْوَ عَصًا مَنْصُوبَةٍ أَوْ حَجَرٍ بِخِلاَفِ
الْجِدَارِ الْعَرِيضِ وَنَحْوِهِ، وَبِخِلاَفِ
__________
(1) حديث: " صلى في الكعبة وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع ". أخرجه البخاري
(الفتح 1 / 579 - ط السلفية) من حديث بلال.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 202، 203، ومراقي الفلاح ص 101، والقليوبي 1 /
192، ونهاية المحتاج 2 / 50.
(3) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 246.
(4) حديث: " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى عمود ولا شجرة
". أخرجه أبو داود (1 / 445 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وأعله ابن القطان
بجهالة بعض رواته. كذا في نصب الراية (2 / 84 - ط المجلس العلمي) .
(24/183)
الصَّلاَةِ عَلَى السَّجَّادَةِ؛ لأَِنَّ
الصَّلاَةَ تَكُونُ عَلَيْهَا لاَ إِلَيْهَا (1) .
سُتْرَةُ الإِْمَامِ سُتْرَةٌ لِلْمَأْمُومِينَ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ سُتْرَةَ الإِْمَامِ تَكْفِي
الْمَأْمُومِينَ سَوَاءٌ أَصَلَّوْا خَلْفَهُ أَمْ بِجَانِبَيْهِ. فَلاَ
يُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَتَّخِذَ سُتْرَةً (2) . وَذَلِكَ لِمَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
صَلَّى بِالأَْبْطُحِ إِلَى عَنَزَةٍ رُكِزَتْ لَهُ وَلَمْ يَكُنْ
لِلْقَوْمِ سُتْرَةٌ. (3)
وَاخْتَلَفُوا: هَل سُتْرَةُ الإِْمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ، أَوْ
هِيَ سُتْرَةٌ لَهُ خَاصَّةً وَهُوَ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ، فَفِي
أَكْثَرِ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ سُتْرَةَ
الإِْمَامِ سُتْرَةٌ
__________
(1) مراقي الفلاح والطحطاوي عليها ص 201، ومغني المحتاج 1 / 200، نهاية
المحتاج 2 / 50، والدسوقي 1 / 246 وما بعدها، والقليوبي 1 / 192، وشرح
منتهى الإرادات 1 / 202 وما بعدها.
(2) مراقي الفلاح ص 201، وابن عابدين 1 / 428، والدسوقي 1 / 245، وكشاف
القناع 1 / 383، 384، وشرح منتهى الإرادات 1 / 202، 203.
(3) حديث: " صلى بالأبطح إلى عنزة ركزت له ولم يكن للقوم سترة ". ورد عن
أبي جحيفة قال: " إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم بالبطحاء وبين يديه
عنزة - الظهر ركعتين والعصر ركعتين - تمر بين يديه المرأة والحمار ". أخرجه
البخاري (الفتح 1 / 573 - ط السلفية) ومسلم (1 / 361 - ط الحلبي) . وقال
العيني في البناية (2 / 439 - ط دار الفكر) : (قوله: ولم يكن للقوم سترة،
ليس هذا في الحديث) . والعنزة: عصا أقصر من الرمح ولها زج أي حديدة في
أسفلها.
(24/184)
لِمَنْ خَلْفَهُ. وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ
وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ الْخِلاَفَ فِي ذَلِكَ (1) . قَال بَعْضُهُمْ:
الْخِلاَفُ لَفْظِيٌّ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقَال آخَرُونَ: الْخِلاَفُ
حَقِيقِيٌّ وَلَهُ ثَمَرَةٌ، فَإِنْ قُلْنَا: الإِْمَامُ سُتْرَةٌ لِمَنْ
خَلْفَهُ كَمَا نُقِل عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ يُمْتَنَعُ الْمُرُورُ
بَيْنَ الإِْمَامِ وَبَيْنَ الصَّفِّ الَّذِي خَلْفَهُ كَمَا يُمْنَعُ
الْمُرُورُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُتْرَتِهِ؛ لأَِنَّهُ مُرُورٌ بَيْنَ
الْمُصَلِّي وَسُتْرَتِهِ فِيهِمَا، وَيَجُوزُ الْمُرُورُ بَيْنَ الصَّفِّ
الَّذِي خَلْفَهُ وَالصَّفِّ الَّذِي بَعْدَهُ لأَِنَّهُ قَدْ حَال
بَيْنَهُمَا حَائِلٌ وَهُوَ الصَّفُّ الأَْوَّل، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ
سُتْرَةَ الإِْمَامِ سُتْرَةٌ لَهُمْ كَمَا يَقُول عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرُهُ فَيَجُوزُ الْمُرُورُ بَيْنَ الصَّفِّ
الأَْوَّل وَالإِْمَامِ لِوُجُودِ الْحَائِل وَهُوَ الإِْمَامُ. قَال
الدُّسُوقِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّ الْخِلاَفَ حَقِيقِيٌّ وَالْمُعْتَمَدُ
قَوْل مَالِكٍ (2) .
الْمُرُورُ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَالسُّتْرَةِ:
12 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُرُورَ وَرَاءَ
السُّتْرَةِ لاَ يَضُرُّ، وَأَنَّ الْمُرُورَ بَيْنَ الْمُصَلِّي
وَسُتْرَتِهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَيَأْثَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْهِ،
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ
بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ مِنَ الإِْثْمِ لَكَانَ أَنْ
يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ
__________
(1) الشرح الصغير للدردير 1 / 334، والطحطاوي ص 201، وكشاف القناع 1 / 383،
384.
(2) الدسوقي 1 / 245، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي 1 / 334، 335، والحطاب
1 / 533، 535، وانظر المغني 2 / 237، 238.
(24/184)
يَدَيْهِ. (1)
وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّ الْمَارَّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي آثِمٌ وَلَوْ
لَمْ يُصَل إِلَى سُتْرَةٍ (2) . وَذَلِكَ إِذَا مَرَّ قَرِيبًا مِنْهُ،
وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْقُرْبِ. قَال بَعْضُهُمْ: ثَلاَثَةُ أَذْرُعٍ
فَأَقَل (3) . أَوْ مَا يَحْتَاجُ لَهُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ (4) .
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَحْدِيدُ ذَلِكَ بِمَا إِذَا مَشَى
إِلَيْهِ، وَدَفْعُ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْهِ لاَ تُبْطِل صَلاَتَهِ (5) .
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْمُرُورُ مِنْ مَوْضِعِ
قَدَمِهِ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ قَدْرُ مَا
يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى الْمَارِّ لَوْ صَلَّى بِخُشُوعٍ، أَيْ رَامِيًا
بِبَصَرِهِ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ (6) .
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ الإِْثْمَ بِمَا إِذَا مَرَّ فِي حَرِيمِ
الْمُصَلِّي مَنْ كَانَتْ لَهُ مَنْدُوحَةٌ أَيْ سَعَةُ الْمُرُورِ
بَعِيدًا عَنْ حَرِيمِ الْمُصَلِّي، وَإِلاَّ فَلاَ إِثْمَ، وَكَذَا لَوْ
كَانَ يُصَلِّي بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ مَنْ
يَطُوفُ
__________
(1) حديث: " لو يعلم المار بين يدي المصلي. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 /
584 - ط السلفية) ومسلم (1 / 363 - ط الحلبي) من حديث أبي جهيم، وقوله: "
من الإثم " ورد في إحدى [روايات] البخاري كما قال ابن حجر في شرحه (1 /
585) .
(2) ابن عابدين 1 / 428، وجواهر الإكليل 1 / 50، والمغني 2 / 245، 253.
(3) مغني المحتاج 1 / 200، 201، وكشاف القناع 1 / 383، ونهاية المحتاج 2 /
53.
(4) جواهر الإكليل 1 / 50، وابن عابدين 1 / 426، نهاية المحتاج 2 / 53.
(5) المغني 2 / 254.
(6) ابن عابدين 1 / 426.
(24/185)
بِالْبَيْتِ وَقَالُوا: يَأْثَمُ مُصَلٍّ
تَعَرَّضَ بِصَلاَتِهِ مِنْ غَيْرِ سُتْرَةٍ فِي مَحَلٍّ يَظُنُّ بِهِ
الْمُرُورَ، وَمَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ أَحَدٌ (1) .
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ هُنَا صُوَرًا
أَرْبَعًا:
الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ لِلْمَارِّ مَنْدُوحَةٌ عَنِ الْمُرُورِ بَيْنِ
يَدَيِ الْمُصَلِّي وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْمُصَلِّي لِذَلِكَ فَيَخْتَصُّ
الْمَارُّ بِالإِْثْمِ إِنْ مَرَّ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي تَعَرَّضَ لِلْمُرُورِ وَالْمَارُّ
لَيْسَ لَهُ مَنْدُوحَةٌ عَنِ الْمُرُورِ، فَيَخْتَصُّ الْمُصَلِّي
بِالإِْثْمِ دُونَ الْمَارِّ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَعَرَّضَ الْمُصَلِّي لِلْمُرُورِ وَيَكُونَ
لِلْمَارِّ مَنْدُوحَةٌ، فَيَأْثَمَانِ مَعًا، أَمَّا الْمُصَلِّي
فَلِتَعَرُّضِهِ، وَأَمَّا الْمَارُّ فَلِمُرُورِهِ مَعَ إِمْكَانِ أَنْ
لاَ يَفْعَل.
الرَّابِعَةُ: أَنْ لاَ يَتَعَرَّضَ الْمُصَلِّي وَلاَ يَكُونَ لِلْمَارِّ
مَنْدُوحَةٌ، فَلاَ يَأْثَمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا (2) .
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ (3) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِحُرْمَةِ الْمُرُورِ بَيْنَ
يَدَيِ الْمُصَلِّي إِذَا صَلَّى إِلَى سُتْرَةٍ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ
الْمَارُّ سَبِيلاً آخَرَ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَتَعَدَّ الْمُصَلِّي
بِصَلاَتِهِ فِي الْمَكَانِ، وَإِلاَّ كَأَنْ وَقَفَ بِقَارِعَةِ
الطَّرِيقِ أَوِ اسْتَتَرَ بِسُتْرَةٍ فِي مَكَانٍ مَغْصُوبٍ فَلاَ
حُرْمَةَ وَلاَ كَرَاهَةَ. وَلَوْ صَلَّى بِلاَ سُتْرَةٍ، أَوْ تَبَاعَدَ
عَنْهَا،
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 336، 337، والدسوقي 1 / 246.
(2) ابن عابدين 1 / 427.
(3) الشرح الصغير 1 / 337.
(24/185)
أَوْ لَمْ تَكُنِ السُّتْرَةُ بِالصِّفَةِ
الْمَذْكُورَةِ فَلاَ يَحْرُمُ الْمُرُورُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ
دَفْعُ الْمَارِّ لِتَعَدِّيهِ بِصَلاَتِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ (1) .
هَذَا وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنَ الإِْثْمِ الْمُرُورَ بَيْنَ يَدَيِ
الْمُصَلِّي لِلطَّائِفِ أَوْ لِسَدِّ فُرْجَةٍ فِي صَفٍّ أَوْ لِغُسْل
رُعَافٍ أَوْ مَا شَاكَل ذَلِكَ (2) .
أَثَرُ الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي فِي قَطْعِ الصَّلاَةِ:
13 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى
أَنَّ مُرُورَ شَيْءٍ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَالسُّتْرَةِ لاَ يَقْطَعُ
الصَّلاَةَ وَلاَ يُفْسِدُهَا، أَيًّا كَانَ، وَلَوْ كَانَ بِالصِّفَةِ
الَّتِي تُوجِبُ الإِْثْمَ عَلَى الْمَارِّ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَقْطَعُ الصَّلاَةَ شَيْءٌ وَادْرَءُوا
مَا اسْتَطَعْتُمْ (3)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ مِثْل ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اسْتَثْنَوُا
الْكَلْبَ الأَْسْوَدَ الْبَهِيمَ فَرَأَوْا أَنَّهُ يَقْطَعُ الصَّلاَةَ
(4) .
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 52، 53، ومغني المحتاج 1 / 200.
(2) ابن عابدين 1 / 427، وجواهر الإكليل 1 / 50، ومغني المحتاج 1 / 200.
(3) حديث: " لا يقطع الصلاة شيء وادرؤوا ما استطعتم ". أخرجه أبو داود (1 /
460 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي سعيد الخدري، وقال الزيلعي عن
راويه مجالد بن سعيد: " فيه مقال " كذا في نصب الراية (2 / 76 - ط المجلس
العلمي) .
(4) مغني المحتاج 1 / 101، وسبل السلام 1 / 296، وحاشية ابن عابدين على
الدر المختار 1 / 426 - 428، والحطاب 1 / 532 - 534، والمغني لابن قدامة 2
/ 249، وكشاف القناع 1 / 383.
(24/186)
دَفْعُ الْمَارِّ بَيْنَ الْمُصَلِّي
وَالسُّتْرَةِ:
14 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ لِلْمُصَلِّي أَنْ
يَدْفَعَ الْمَارَّ مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ بَهِيمَةٍ إِذَا مَرَّ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ سُتْرَتِهِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، لِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ
أَحَادِيثَ مِنْهَا. مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ
فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ
أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ. (1) قَال
الصَّنْعَانِيُّ: أَيْ فِعْلُهُ فِعْل الشَّيْطَانِ فِي إِرَادَةِ
التَّشْوِيشِ عَلَى الْمُصَلِّي، وَقِيل: الْمُرَادُ بِأَنَّ الْحَامِل
لَهُ عَلَى ذَلِكَ شَيْطَانٌ، وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ مَا فِي رِوَايَةِ
مُسْلِمٍ: فَإِنَّ مَعَهُ الْقَرِينَ أَيْ شَيْطَانٌ، وَالْحَدِيثُ دَالٌّ
بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُصَلِّي سُتْرَةٌ
فَلَيْسَ لَهُ دَفْعُ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْهِ. اهـ. (2) وَهُوَ كَذَلِكَ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (3) .
15 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الدَّفْعَ لَيْسَ وَاجِبًا،
وَكَأَنَّ الصَّارِفَ لِلْحَدِيثِ عَنِ الْوُجُوبِ شِدَّةُ مُنَافَاتِهِ
مَقْصُودَ الصَّلاَةِ مِنَ الْخُشُوعِ وَالتَّدَبُّرِ، وَأَيْضًا
لِلاِخْتِلاَفِ فِي تَحْرِيمِ الْمُرُورِ كَمَا وَجَّهَهُ
__________
(1) حديث: " إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس. . . " أخرجه البخاري
(الفتح 1 / 582 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 363 - ط الحلبي) .
(2) سبل السلام 1 / 299.
(3) مغني المحتاج 1 / 200.
(24/186)
الشِّرْبِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ (1)
. وَمِثْلُهُ مَا فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (2) .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَفْضَلِيَّةِ الدَّفْعِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ:
رُخِّصَ لِلْمُصَلِّي الدَّفْعُ، وَالأَْوْلَى تَرْكُ الدَّفْعِ لأَِنَّ
مَبْنَى الصَّلاَةِ عَلَى السُّكُونِ وَالْخُشُوعِ، وَالأَْمْرُ
بِالدَّرْءِ لِبَيَانِ الرُّخْصَةِ، كَالأَْمْرِ بِقَتْل الأَْسْوَدَيْنِ
(الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ) فِي الصَّلاَةِ (3) .
وَقَرِيبٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا:
لِلْمُصَلِّي دَفْعُ ذَلِكَ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْهِ دَفْعًا خَفِيفًا
لاَ يَشْغَلُهُ (4) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: يُسَنُّ ذَلِكَ لِلْمُصَلِّي إِذَا
صَلَّى إِلَى سُتْرَةٍ مِنْ جِدَارٍ أَوْ سَارِيَةٍ أَوْ عَصًا أَوْ
نَحْوِهَا، لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ الْمُتَقَدِّمِ نَصُّهُ (5) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَرُدَّ مَا مَرَّ بَيْنَ
يَدَيْهِ مِنْ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ وَبَهِيمَةٍ (6) ، لِمَا وَرَدَ أَنَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ
وَزَيْنَبَ وَهُمَا صَغِيرَانِ. (7)
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 200، 201.
(2) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 201، والدسوقي 1 / 246، والشرح الصغير
للدردير 1 / 334، 335.
(3) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 201.
(4) الدسوقي 1 / 246.
(5) مغني المحتاج 1 / 200، 201.
(6) المغني 2 / 246.
(7) حديث: " ورد أنه صلى الله عليه وسلم رد عمر بن أبي سلمة وزينب وهما
صغيران ". أخرجه ابن ماجه (1 / 305 - ط الحلبي) من حديث أم سلمة، وضعف
إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 187 - ط دار الجنان) .
(24/187)
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فَمَرَّتْ
شَاةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَسَاعَاهَا إِلَى الْقِبْلَةِ حَتَّى أَلْزَقَ
بَطْنَهُ بِالْقِبْلَةِ. (1)
كَيْفِيَّةُ دَفْعِ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي وَالسُّتْرَةِ:
16 - اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي كَيْفِيَّةِ الدَّفْعِ وَمَا
يَنْشَأُ عَنْهُ مِنْ ضَمَانٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَكُونَ دَفْعٌ
بِالتَّدْرِيجِ، وَيُرَاعَى فِيهِ الأَْسْهَل فَالأَْسْهَل (2) .
قَال النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ
اسْتِحْبَابُ التَّسْبِيحِ لِلرَّجُل وَالتَّصْفِيقِ لِلْمَرْأَةِ، وَبِهِ
قَال أَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقَال مَالِكٌ: تُسَبِّحُ الْمَرْأَةُ
أَيْضًا. أهـ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَدْفَعُهُ بِالإِْشَارَةِ أَوِ التَّسْبِيحِ،
وَكُرِهَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَيَدْفَعُهُ الرَّجُل بِرَفْعِ الصَّوْتِ
بِالْقِرَاءَةِ، وَتَدْفَعُهُ الْمَرْأَةُ بِالإِْشَارَةِ أَوِ
التَّصْفِيقِ بِظَهْرِ أَصَابِعِ الْيُمْنَى عَلَى صَفْحَةِ كَفِّ
الْيُسْرَى وَلاَ تَرْفَعُ صَوْتَهَا؛ لأَِنَّهُ فِتْنَةٌ، وَلاَ يُقَاتَل
الْمَارُّ، وَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْحَدِيثِ مُؤَوَّلٌ بِأَنَّهُ كَانَ
جَوَازُ مُقَاتَلَتِهِ فِي ابْتِدَاءِ الإِْسْلاَمِ وَقَدْ نُسِخَ. وَلاَ
يَجُوزُ لَهُ الْمَشْيُ مِنْ مَوْضِعِهِ لِيَرُدَّهُ، وَإِنَّمَا
يَدْفَعُهُ وَيَرُدُّهُ مِنْ
__________
(1) حديث ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فمرت شاة ".
أخرجه الحاكم (1 / 254 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه، ووافقه الذهبي.
(2) كشاف القناع 1 / 375، 376، والمغني لابن قدامة 2 / 246.
(3) المجموع 4 / 82.
(24/187)
مَوْضِعِهِ؛ لأَِنَّ مَفْسَدَةَ الْمَشْيِ
أَعْظَمُ مِنْ مُرُورِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ (1) .
وَقَرِيبٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا:
لِلْمُصَلِّي دَفْعُ ذَلِكَ الْمَارِّ دَفْعًا خَفِيفًا لاَ يَشْغَلُهُ
عَنِ الصَّلاَةِ. فَإِنْ كَثُرَ أَبْطَل صَلاَتَهُ (2) .
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 201، 202.
(2) الدسوقي 1 / 241.
(24/188)
سَتُّوقَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّتُّوقَةُ - بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّهَا مَعَ تَشْدِيدِ التَّاءِ
-: مَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْغِشُّ مِنَ الدَّرَاهِمِ (1) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْفَتْحِ: السَّتُّوقَةُ هِيَ
الْمَغْشُوشَةُ غِشًّا زَائِدًا، وَهِيَ تَعْرِيبُ " سي توقه " أَيْ
ثَلاَثُ طَبَقَاتٍ، طَبَقَتَا الْوَجْهَيْنِ فِضَّةً وَمَا بَيْنَهُمَا
نُحَاسٌ وَنَحْوُهُ (2) .
وَفِي التتارخانية: أَنَّ السَّتُّوقَةَ هِيَ مَا يَكُونُ الطَّاقُ
الأَْعْلَى فِضَّةً وَالأَْسْفَل كَذَلِكَ وَبَيْنَهُمَا صُفْرٌ، وَلَيْسَ
لَهَا حُكْمُ الدَّرَاهِمِ (3) .
وَالْحَنَفِيَّةُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ اسْتِعْمَالاً لِهَذَا اللَّفْظِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الدَّرَاهِمُ الْجِيَادُ:
2 - الدَّرَاهِمُ الْجِيَادُ فِضَّةٌ خَالِصَةٌ تَرُوجُ فِي التِّجَارَاتِ
وَتُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَال.
__________
(1) التعريفات للجرجاني، والمغرب، ومتن اللغة، والقاموس.
(2) ابن عابدين 3 / 133.
(3) ابن عابدين 4 / 218.
(24/188)
ب - الزُّيُوفُ:
3 - الزُّيُوفُ النُّقُودُ الرَّدِيئَةُ، يَرُدُّهَا بَيْتُ الْمَال،
وَلَكِنْ يَأْخُذُهَا التُّجَّارُ.
وَكَذَلِكَ النَّبَهْرَجُ وَالْبَهْرَجُ: الرَّدِيءُ مِنَ الشَّيْءِ،
وَدِرْهَمٌ نُبَهْرَجٌ أَوْ بَهْرَجٌ أَوْ مُبَهْرَجٌ أَيْ رَدِيءُ
الْفِضَّةِ، وَهُوَ مَا يَرُدُّهُ التُّجَّارُ، وَقِيل: هُوَ مَا ضُرِبَ
فِي غَيْرِ دَارِ السُّلْطَانِ.
وَالزُّيُوفُ أَجْوَدُ، وَبَعْدَهَا النَّبَهْرَجَةُ، وَبَعْدَهُمَا
السَّتُّوقَةُ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الزَّغْل الَّتِي نُحَاسُهَا أَكْثَرُ
مِنْ فِضَّتِهَا (1) .
الْمُعَامَلَةُ بِالسَّتُّوقَةِ:
4 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى
أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ
جَوَازَ الْمُعَامَلَةِ بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ. وَيَشْتَرِطُ
الْمَالِكِيَّةُ لِجَوَازِ بَيْعِ الْمَغْشُوشِ أَنْ يُبَاعَ لِمَنْ
يَكْسِرُهُ أَوْ لاَ يَغُشُّ بِهِ بَل يَتَصَرَّفُ بِهِ بِوَجْهٍ جَائِزٍ،
كَتَحْلِيَةٍ أَوْ تَصْفِيَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَيُكْرَهُ بَيْعُ الْمَغْشُوشِ عِنْدَهُمْ لِمَنْ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ
يَغُشَّ بِهِ بِأَنْ شَكَّ فِي غِشِّهِ، وَيَفْسَخُ بَيْعُهُ مِمَّنْ
يَعْلَمُ أَنَّهُ يَغُشُّ بِهِ، فَيَجِبُ رَدُّهُ عَلَى بَائِعِهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، وَالْحَنَابِلَةُ فِي
__________
(1) ابن عابدين 4 / 218.
(2) الدسوقي 3 / 43، وتكملة المجموع 10 / 106، وروضة الطالبين 2 / 258،
والمغني 4 / 58.
(24/189)
الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: بِتَحْرِيمِ
الْمُعَامَلَةِ بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ
مِنَّا (1) وَبِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ
نُفَايَةِ بَيْتِ الْمَال، وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِ مَجْهُولٌ
أَشْبَهَ تُرَابَ الصَّاغَةِ (2) .
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ - وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْل مَالِكٍ - إِلَى
كَرَاهَةِ الْمُعَامَلَةِ بِالسَّتُّوقَةِ لأَِنَّ الْمُعَامَلَةَ بِهَا
دَاعِيَةٌ إِلَى إِدْخَال الْغِشِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ كَانَ
عُمَرُ يَفْعَل بِاللَّبَنِ أَنَّهُ إِذَا غُشَّ طَرَحَهُ فِي الأَْرْضِ
أَدَبًا لِصَاحِبِهِ، فَإِجَازَةُ الْمُعَامَلَةِ بِالسَّتُّوقَةِ
إِجَازَةٌ لِغِشِّ الدَّرَاهِمِ وَإِفْسَادٍ لأَِسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: يَنْبَغِي أَنْ يُعَاقِبَ صَاحِبَ الدِّرْهَمِ
السَّتُّوقِ إِذَا أَنْفَقَهُ وَهُوَ يَعْرِفُهُ. وَقَال الْكَاسَانِيُّ:
هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ - أَبُو يُوسُفَ - احْتِسَابٌ حَسَنٌ فِي
الشَّرِيعَةِ (3) .
بَيْعُ السَّتُّوقَةِ بِالْجِيَادِ:
5 - لاَ يَجُوزُ بَيْعُ السَّتُّوقَةِ بِالْجِيَادِ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا كَانَتِ
الْجِيَادُ أَكْثَرَ مِنَ الْفِضَّةِ فِي السَّتُّوقَةِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ جَوَازَ بَيْعِ مَغْشُوشٍ
بِخَالِصٍ. أَمَّا عَلَى الأَْظْهَرِ فَهُمْ
__________
(1) حديث: " من غشنا فليس منا ". أخرجه مسلم (1 / 99 - ط الحلبي) من حديث
أبي هريرة.
(2) روضة الطالبين 2 / 258، والمغني 4 / 57، 58.
(3) بدائع الصنائع 7 / 395، والمدونة 4 / 444.
(24/189)
لاَ يُجِيزُونَ بَيْعَ الْمَغْشُوشِ
بِخَالِصٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: صَرْفٌ) .
أَخْذُ السَّتُّوقَةِ فِي الْجِزْيَةِ:
6 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الإِْمَامِ أَخْذُ
السَّتُّوقَةِ فِي الْجِزْيَةِ، لأَِنَّ فِي ذَلِكَ تَضْيِيعَ حَقِّ بَيْتِ
الْمَال (2) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 219، والدسوقي 3 / 43، وتكملة المجموع 10 / 83،
والمغني 4 / 10.
(2) ابن عابدين 3 / 133.
(24/190)
سِجِلٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - السِّجِل فِي اللُّغَةِ: الْكِتَابُ يُدَوَّنُ فِيهِ مَا يُرَادُ
حِفْظُهُ. وَمِنْهُ كِتَابُ الْقَاضِي، وَكِتَابُ الْعَهْدِ، وَنَحْوُ
ذَلِكَ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ
السِّجِل لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّل خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا
عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} . (1) أَيْ: كَطَيِّ الصَّحِيفَةِ
عَلَى مَا فِيهَا. وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَاخْتَارَهُ
الطَّبَرِيُّ، وَأَخَذَ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ (2) .
__________
(1)) سورة الأنبياء / 104.
(2) جامع البيان في تفسير القرآن للطبري 17 / 78 - 79 - دارالمعرفة -
بيروت، ومعاني القرآن للفراء 2 / 213، عالم الكتب - بيروت - ط 3 / 1403 هـ
- 1983 م، والكشاف للزمخشري 2 / 585 - دار المعرفة - بيروت، وتفسير القرآن
العظيم لابن كثير 3 / 200 - دار إحياء التراث العربي - بيروت - ط 1388 هـ -
1969 م، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 11 / 347 - دار الكتاب العربي - ط 3
- 1387 هـ - 1967 م، وتفسير النسفي 3 / 90 - دار الكتاب العربي - ط 1402 هـ
- 1982 م، وتفسير غرائب القرآن للنيسابوري 17 / 60 مطبوع على هامش تفسير
الطبري.
(24/190)
وَالْجَمْعُ سِجِلاَّتٌ. وَهُوَ أَحَدُ
الأَْسْمَاءِ الْمُذَكَّرَةِ النَّادِرَةِ الَّتِي تُجْمَعُ بِالتَّاءِ،
وَلَيْسَ لَهَا جَمْعُ تَكْسِيرٍ.
وَيُقَال: سَجَّل تَسْجِيلاً إِذَا كَتَبَ السِّجِل.
وَسَجَّل الْقَاضِي عَلَيْهِ: قَضَى، وَأَثْبَتَ حُكْمَهُ فِي السِّجِل.
وَسَجَّل الْعَقْدَ وَنَحْوَهُ: قَيَّدَهُ فِي سِجِلٍّ (1) . وَفِي
الاِصْطِلاَحِ: يُطْلَقُ السِّجِل عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي الَّذِي فِيهِ
حُكْمُهُ، وَيَشْمَل فِي عُرْفِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مَا كَانَ مُوَجَّهًا
إِلَى قَاضٍ آخَرَ (2) .
ثُمَّ أَصْبَحَ يُطْلَقُ فِي عُرْفِهِمْ كَذَلِكَ عَلَى " الْكِتَابِ
الْكَبِيرِ الَّذِي تُضْبَطُ فِيهِ وَقَائِعُ النَّاسِ (3) ".
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ أَنَّ السِّجِل فِي عُرْفِ أَهْل زَمَانِهِ:
هُوَ مَا كَتَبَهُ الشَّاهِدَانِ فِي الْوَاقِعَةِ وَبَقِيَ عِنْدَ
الْقَاضِي، وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطُّ الْقَاضِي (4) .
وَرُبَّمَا خَصَّ الْحَنَابِلَةُ السِّجِل بِمَا تَضَمَّنَ الْحُكْمَ
الْمُسْتَنِدَ إِلَى الْبَيِّنَةِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي
__________
(1) الصحاح، والقاموس، والمغرب، واللسان، والمصباح، ومفردات الراغب،
والمعجم الوسيط.
(2) الدر المختار للحصكفي 5 / 433 - البابي الحلبي - مصر، وشرح أدب القاضي
للخصاف - للصدر الشهيد - تحقيق محيي الدين هلال السرحان 1 / 259 - مطبعة
الإرشاد - بغداد.
(3) الدر المختار 5 / 433، والبحر الرائق 7 / 3، ومجمع الأنهر من شرح ملتقى
الأبحر للداماد 2 / 164 - دار الطباعة العامرة - مصر - 1316 هـ، ومطالب
أولي النهى 6 / 546، وكشاف القناع 6 / 362.
(4) البحر الرائق 6 / 299.
(24/191)
الْمَذْهَبِ. وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ
أَطْلَقَ السِّجِل عَلَى الْمَحْضَرِ. غَيْرَ أَنَّ الْمَاوَرْدِيُّ يَرَى
وُجُوبَ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ السِّجِل وَالْمَحْضَرَ عَلَى جَمِيعِ مَا
يُكْتَبُ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمَحْضَرُ:
2 - الْمَحْضَرُ: هُوَ الصَّحِيفَةُ الَّتِي كُتِبَ فِيهَا مَا جَرَى
بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ مِنْ إِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ
إِنْكَارِهِ، أَوْ بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي، أَوْ نُكُول الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ عَنِ الْيَمِينِ عَلَى وَجْهٍ يَرْفَعُ الاِشْتِبَاهَ (2) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ السِّجِل وَالْمَحْضَرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ
أَنَّ الأَْوَّل يَتَضَمَّنُ النَّصَّ عَلَى الْحُكْمِ، إِنْفَاذُهُ،
خِلاَفُ الثَّانِي.
فَلَوْ أَنَّ الْقَاضِيَ زَادَ فِي الْمَحْضَرِ مَا يُفِيدُ إِنْفَاذَ
حُكْمِهِ، وَإِمْضَاءَهُ، بَعْدَ إِمْهَال الْخَصْمِ بِمَا يَدْفَعُ بِهِ
دَعْوَى الْمُدَّعِي، جَازَ (3) .
__________
(1) المحرر في الفقه 2 / 213، والإنصاف 11 / 332، شرح أدب القاضي للخصاف 1
/ 259 (الحاشية) ، ودرر الحكام 2 / 511، والبحر الرائق 6 / 299، وحاشية ابن
عابدين 4 / 369، ومغني المحتاج 4 / 389، وشرح منتهى الطلاب للأنصاري 4 /
351.
(2) درر الحكام 2 / 508، وشرح أدب القاضي للخصاف 1 / 259 (الحاشية) ،
والبحر الرائق 6 / 299، وحاشية ابن عابدين 4 / 369.
(3) أدب القاضي للماوردي 2 / 73، 304 (ف / 2132، 3199) .
(24/191)
وَعِنْدَئِذٍ يُصْبِحُ الْمَحْضَرُ
وَالسِّجِل سَوَاءً، وَلاَ فَرْقَ.
ب - الصَّكُّ:
3 - الصَّكُّ هُوَ مَا كُتِبَ فِيهِ الْبَيْعُ، وَالرَّهْنُ،
وَالإِْقْرَارُ وَغَيْرُهَا.
وَعَرَّفَهُ السَّرَخْسِيُّ بِأَنَّهُ: اسْمٌ خَالِصٌ لَمَا هُوَ وَثِيقَةٌ
بِالْحَقِّ الْوَاجِبِ.
وَيُطْلَقُ الصَّكُّ أَيْضًا عَلَى مَا يَكْتُبُهُ الْقَاضِي عِنْدَ
إِقْرَاضِ مَال الْيَتِيمِ.
وَرُبَّمَا أَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ الصَّكَّ عَلَى الْمَحْضَرِ (1) .
ج - الْمُسْتَنَدُ وَالسَّنَدُ:
4 - هُوَ كُل مَا يُسْتَنَدُ إِلَيْهِ، وَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ مِنْ
حَائِطٍ، وَغَيْرِهِ. وَمُسْتَنَدُ الْحُكْمِ: مَا يَقُومُ عَلَيْهِ. .
وَأُطْلِقَ عَلَى صَكِّ الدَّيْنِ وَنَحْوِهِ (2) .
د - الْوَثِيقَةُ:
5 - تُطْلَقُ الْوَثِيقَةُ عَلَى السِّجِل، وَالْمَحْضَرِ، وَالصَّكِّ (3)
.
__________
(1) البحر الرائق 6 / 299، وحاشية ابن عابدين 5 / 369، والمبسوط للسرخسي 18
/ 94 دار المعرفة - بيروت - ط 3، وفتح القدير 5 / 497، ومطالب أولي النهى 6
/ 545، وكشاف القناع 6 / 361.
(2) تاج العروس، والمعجم الوسيط، وتعريفات الجرجاني.
(3) البحر الرائق 6 / 299، والمغني 10 / 131.
(24/192)
هـ - الدِّيوَانُ:
6 - يَتَعَيَّنُ الْفَصْل بَيْنَ الدِّيوَانِ الْعَامِّ، وَدِيوَانِ
الْقَضَاءِ.
أ - أَمَّا الدِّيوَانُ الْعَامُّ: فَهُوَ مَوْضِعٌ لِحِفْظِ مَا
يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ السَّلْطَنَةِ مِنَ الأَْعْمَال، وَالأَْمْوَال،
وَمَنْ يَقُومُ بِهَا مِنَ الْجُيُوشِ، وَالْعُمَّال (1) .
ب - أَمَّا دِيوَانُ الْقَضَاءِ: فَهُوَ هَذِهِ السِّجِلاَّتُ وَغَيْرُهَا
مِنَ الْمَحَاضِرِ، وَالصُّكُوكِ، وَكُتُبِ نَصْبِ الأَْوْصِيَاءِ،
وَقِوَامِ الأَْوْقَافِ، وَالْوَدَائِعِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) .
و الْحُجَّةُ:
7 - الْحُجَّةُ تُطْلَقُ عَلَى السِّجِل وَعَلَى الْوَثِيقَةِ. فَهِيَ
أَعَمُّ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ تُطْلَقُ عَلَى السِّجِل، وَالْمَحْضَرِ،
وَالصَّكِّ. ثُمَّ أُطْلِقَتْ فِي الْعُرْفِ عَلَى مَا نُقِل مِنَ السِّجِل
مِنَ الْوَاقِعَةِ، وَعَلَيْهِ عَلاَمَةُ الْقَاضِي أَعْلاَهُ، وَخَطُّ
الشَّاهِدَيْنِ أَسْفَلُهُ، وَأُعْطِيَ لِلْخَصْمِ.
وَخَصَّ الْحَنَابِلَةُ الْحُجَّةَ بِالْحُكْمِ الْقَائِمِ عَلَى
الْبَيِّنَةِ (3) .
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 199، والأحكام السلطانية للفراء ص 220.
(2) أدب القاضي للماوردي 1 / 220 (ف 287) ، وشرح أدب القاضي للخصاف 1 / 259
(ف 128) ، والبحر الرائق 6 / 299، وحاشية ابن عابدين 5 / 369، والمغني 10 /
131، ومطالب أولي النهى 6 / 474، وكشاف القناع 6 / 306.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 369، 376، والبحر الرائق 6 / 699، وحاشية
الباجوري 2 / 402، ومطالب أولي النهى 6 / 545.
(24/192)
اتِّخَاذُ السِّجِلاَّتِ:
8 - يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَّخِذَ سِجِلًّا حَتَّى لاَ يَنْسَى
وَاقِعَةَ الدَّعْوَى إِذَا طَال الزَّمَنُ، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ مُذَكِّرًا
لَهُ وَمُعِينًا عَلَى وُصُول الْمَحْكُومِ لَهُ إِلَى حَقِّهِ إِذَا
جَحَدَهُ الْخَصْمُ (1) .
وَيَكْتُبُ فِي السِّجِل وَقَائِعَ الدَّعْوَى، وَأَدِلَّتَهَا، وَمَا
انْتَهَى إِلَيْهِ الْقَاضِي مِنَ الْحُكْمِ فِي مَوْضُوعِهَا؛ لأَِنَّهُ
مُكَلَّفٌ بِحِفْظِ الْحُقُوقِ، وَبِغَيْرِ الْكِتَابَةِ لاَ يُمْكِنُ أَنْ
تُحْفَظَ.
وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الْوَاجِبُ بِطَلَبِ الْمَحْكُومِ لَهُ، فَإِنْ لَمْ
يَطْلُبْهُ كَانَتِ الْكِتَابَةُ عَلَى سَبِيل النَّدْبِ، لِتَبْقَى
الدَّعْوَى بِكُل مَا تَمَّ فِيهَا مَحْفُوظَةً فِي الدِّيوَانِ،
فَرُبَّمَا احْتَاجَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ لِمُرَاجَعَتِهَا،
وَاسْتِخْرَاجِ الْحُكْمِ (2) .
وَلاَ يَلْزَمُ الْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ
__________
(1) منحة الخالق على البحر الرائق لابن عابدين 7 / 3 مطبوع مع البحر
الرائق.
(2)) تبصرة الحكام 1 / 97، وإحكام الأحكام على تحفة الحكام للكافي 22 - 54
مطبعة الشرق - مصر - 1348 هـ، والبهجة في شرح التحفة للتسولي 1 / 82 مطبوع
مع حلى المعاصم، وأدب القاضي للماوردي 2 / 301 - 302 (ف 3187 - 3191) ،
ومغني المحتاج 4 / 394، والمغني 10 / 158، وكشاف القناع 6 / 160.
(24/193)
مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ أَوْ حَكَمَ بِهِ،
وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ (1) .
غَيْرَ أَنَّهُ إِنْ طَلَبَ مِنَ الْقَاضِي تَسْجِيل الْحُكْمِ بِالْحَقِّ
الَّذِي ثَبَتَ عَلَيْهِ، أَوِ الَّذِي أَوْفَاهُ، أَوْ ثَبَتَتْ
بَرَاءَتُهُ مِنْهُ، حَتَّى لاَ يُطَالِبَهُ الْمُدَّعِي بِهِ مَرَّةً
أُخْرَى، فَعَلَى الْقَاضِي إِجَابَتُهُ لِمَا طَلَبَ (2) .
وَإِنْ كَانَتِ الْخُصُومَةُ مُتَعَلِّقَةً بِنَاقِصِ الأَْهْلِيَّةِ أَوْ
عَدِيمِهَا، كَالصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، فَإِنَّ تَسْجِيل الْحُكْمِ
وَاجِبٌ، وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ ذَلِكَ أَحَدٌ، سَوَاءٌ كَانَ مَحْكُومًا
لَهُ، أَوْ عَلَيْهِ (3) .
وَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى مُتَعَلِّقَةً بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ
تَعَالَى، كَالْحُدُودِ، أَوْ كَانَ الْحَقُّ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ
كَالْوَقْفِ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْفُقَرَاءِ، وَلِجِهَاتِ الْخَيْرِ،
فَإِنَّ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ ذَلِكَ، وَيَحْكُمَ بِهِ دُونَ
حَاجَةٍ لِطَلَبٍ مِنْ أَحَدٍ (4) .
وَعَلَى كُل حَالٍ، فَإِنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ الْخُصُومَةَ،
وَيُسَجِّل الْحُكْمَ ابْتِدَاءً، وَقَبْل أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ أَحَدٌ
ذَلِكَ (5) .
كَيْفِيَّةُ الْكِتَابَةِ فِي السِّجِلاَّتِ:
9 - لاَ يَكْفِي فِي الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلاَّتِ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 450، وتحفة المحتاج 10 / 142، 268.
(2) البهجة 1 / 82، والمغني 10 / 159، 177، وكشاف القناع 6 / 360.
(3) مغني المحتاج 4 / 394، وتحفة المحتاج 10 / 142.
(4) البهجة 1 / 82، وحلى المعاصم 1 / 80، وإحكام الأحكام 24، وتحفة المحتاج
10 / 142، وكشاف القناع 6 / 328.
(5) حلى المعاصم 1 / 80، والبهجة 1 / 82، وإحكام الأحكام 24.
(24/193)
الاِخْتِصَارُ وَالإِْجْمَال. بَل لاَ
بُدَّ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّصْرِيحِ وَالْبَيَانِ.
فَفِي الْمَحَاضِرِ يَجِبُ عَلَى الْكَاتِبِ أَنْ يَكْتُبَ بَعْدَ
الْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، اسْمَ الْمُدَّعِي،
وَاسْمَ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، وَكُنْيَتَهُ، وَصِنَاعَتَهُ، وَقَبِيلَتَهُ،
وَمَسْكَنَهُ، وَمُصَلاَّهُ (أَيِ الْمَسْجِدَ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ
عَادَةً) وَكُل مَا يُؤَدِّي إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى شَخْصِهِ.
وَيَذْكُرُ حُضُورَهُ، وَالإِْشَارَةَ إِلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ يَفْعَل بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الشُّهُودُ، فَيَتِمُّ تَعْرِيفُهُمْ عَلَى الْوَجْهِ السَّابِقِ،
وَإِضَافَةُ مَحَل إِقَامَتِهِمْ (1) .
وَلاَ بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ الْكَاتِبُ مَوْضُوعَ الدَّعْوَى، وَمَا جَرَى
فِي الْمُحَاكَمَةِ مِنْ إِقْرَارٍ، أَوْ إِنْكَارٍ وَيَمِينٍ، أَوْ
نُكُولٍ، أَوْ سَمَاعِ بَيِّنَةٍ.
وَعَلَى الْكَاتِبِ أَنْ يَذْكُرَ الشَّهَادَةَ بِأَلْفَاظِهَا، وَذَلِكَ
عَقِيبَ دَعْوَى الْمُدَّعِي.
وَيَتَضَمَّنُ الْمَحْضَرُ اسْمَ الْقَاضِي، وَالْمَحْكَمَةَ وَعَلاَمَتَهُ
الَّتِي عُرِفَ بِهَا، وَتَارِيخَ تَنْظِيمِ الْمَحْضَرِ.
وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مُنَابًا عَنْ قَاضٍ آخَرَ،
__________
(1) الفتاوى الهندية 6 / 261، 273، وتبصرة الحكام 1 / 39، وأدب القاضي
للماوردي 2 / 75، 76 (ف 2137، 2140) ، وكتاب القضاء لابن أبي الدم 272 (ف
260) ، والمغني 1 / 159 - 161، وكشاف القناع 6 / 361.
(24/194)
فَلاَ بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ صِفَتَهُ،
وَأَنْ يَكُونَ مَنِ اسْتَنَابَهُ مَأْذُونًا لَهُ بِذَلِكَ.
وَإِنْ أَشْهَدَ عَلَى الْمَحْضَرِ كَانَ أَوْكَدَ وَأَحْوَطَ.
وَيَنْبَغِي فِي كِتَابَةِ الْمَحْضَرِ أَنْ تَكُونَ عَلَى عَادَةِ
الْبَلَدِ وَأَعْرَافِهِ، وَمُصْطَلَحَاتِهِ. وَيُرَاعَى فِيهَا
مُتَطَلَّبَاتُ كُل عَصْرٍ (1) .
10 - وَفِي السِّجِل يَذْكُرُ الْمَحْضَرَ بِكُل مَا فِيهِ (2) ، وَيُضَافُ
إِلَيْهِ مَا يَلِي:
أ - النَّصُّ عَلَى تَمْكِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ إِبْدَاءِ
دُفُوعِهِ، وَإِمْهَالِهِ. فَإِنْ أَحْضَرَ دَفْعًا ذَكَرَهُ الْقَاضِي،
وَذَكَرَ مُؤَيَّدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِدَفْعِ نَصٍّ عَلَى ذَلِكَ.
ب - وَإِنْ ذَكَرَ فِي السِّجِل أَنَّهُ ثَبَتَ الْحَقُّ عَلَى الْوَجْهِ
الَّذِي تَثْبُتُ بِهِ الْحُقُوقُ، دُونَ ذِكْرِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ
بِتَمَامِهَا، فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
ج - وَقَدْ يُضَافُ إِلَى السِّجِل بَعْدَ عَرْضِ أَقْوَال الشُّهُودِ،
أَنَّ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَاتِ قَدْ عُرِضَتْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 6 / 161، 229، وتبصرة الحكام 1 / 127، وأدب القاضي
للماوردي 2 / 76 (ف 2140) وكتاب القضاء لابن أبي الدم 272 - 273 - 554 (ف
261 - 689) ، والمغني 10 / 159، 160، وكشاف القناع 6 / 361، 362.
(2) الفتاوى الهندية 6 / 163، وأدب القاضي للماوردي 2 / 302 (ف 3192) ،
وكتاب القضاء لابن أبي الدم 554 (ف 690) ، والمحرر ص 214، ومطالب أولي
النهى 6 / 47، وكشاف القناع 6 / 362.
(24/194)
عَلَى الْعُلَمَاءِ، فَأَفْتَوْا
بِصِحَّتِهَا، وَجَوَازِ الْقَضَاءِ بِهَا.
د - وَلاَ بُدَّ فِي السِّجِل مِنْ ذِكْرِ سَبَبِ الْحُكْمِ،
وَمُسْتَنَدِهِ، مِنْ إِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
هـ - وَيَتَضَمَّنُ السِّجِل صُدُورَ الْحُكْمِ عَلَنًا، وَالإِْشْهَادَ
عَلَيْهِ، وَتَوْقِيعَ الْقَاضِي، وَالنَّصَّ عَلَى أَنَّهُ حُرِّرَ
بِأَمْرِ الْقَاضِي وَفِيهِ حُكْمُهُ، وَقَضَاؤُهُ، وَأَنَّهُ حُجَّةٌ
لِلْمَحْكُومِ لَهُ.
وَلاَ بُدَّ مِنْ عَرْضِ نُسْخَةِ السِّجِل عَلَى الْقَاضِي،
لِتَدْقِيقِهَا حَتَّى لاَ يَكُونَ فِيهَا أَيُّ خَلَلٍ (1) .
حِفْظُ السِّجِلاَّتِ:
11 - إِنَّ أَوَّل مَا يَبْدَأُ بِهِ الْقَاضِي إِذَا تَقَلَّدَ عَمَلَهُ
هُوَ وَضْعُ يَدِهِ عَلَى مَا فِي الدِّيوَانِ مِنْ وَثَائِقَ،
وَوَدَائِعَ، وَأَمْوَالٍ.
وَلاَ يَتِمُّ ذَلِكَ إِلاَّ بَعْدَ جَرْدِهِ بِمَعْرِفَةِ أَمِينَيْنِ
أَوْ أَمِينٍ وَاحِدٍ، وَبِحُضُورِ الْقَاضِي السَّابِقِ، أَوْ أَمِينِهِ.
ثُمَّ يُوضَعُ كُل نَوْعٍ مُسْتَقِلًّا عَمَّا سِوَاهُ، لِسُهُولَةِ
الرُّجُوعِ إِلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَيَضَعُ عَلَيْهِ خَتْمَهُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 6 / 162 - 164، وأدب القاضي للماوردي 2 / 64، 76، 303،
والمحرر ص 214، ومطالب أولي النهى 6 / 483، 547، وحاشية الدسوقي على الشرح
الكبير 4 / 139، والمغني 10 / 160، وكشاف القناع 6 / 361 - 363.
(24/195)
خَوْفَ الزِّيَادَةِ، وَالنُّقْصَانِ (1) .
وَبِهَذَا يُحْفَظُ مَا فِي الدِّيوَانِ مَهْمَا تَعَاقَبَ الْقُضَاةُ.
وَمَا يُنَظِّمُهُ الْقَاضِي أَوْ كَاتِبُهُ مِنَ الْمَحَاضِرِ،
وَالسِّجِلاَّتِ، وَالْوَثَائِقِ الأُْخْرَى يُكْتَبُ عَلَيْهِ نَوْعُهُ،
وَاسْمُ صَاحِبِهِ فَيَقُول: مَحْضَرُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ فِي
خُصُومَتِهِ مَعَ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ.
وَيَخْتِمُهُ بِخَاتَمِهِ، وَمَا اجْتَمَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ، أَوْ
أُسْبُوعٍ فَإِنَّهُ يُفْرِدُهُ، وَيَضُمُّهُ فِي إِضْبَارَةٍ وَاحِدَةٍ،
وَيَكْتُبُ عَلَى ظَاهِرِهَا مَحَاضِرُ يَوْمِ كَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا،
مِنْ سَنَةِ كَذَا. . وَيَفْعَل ذَلِكَ فِي كُل مَا يَجْتَمِعُ عِنْدَهُ
فِي الشَّهْرِ، وَفِي السَّنَةِ. وَيَضَعُ عَلَى ذَلِكَ خَاتَمَهُ،
وَيَحْفَظُهُ فِي خِزَانَتِهِ وَتَحْتَ مُرَاقَبَتِهِ، بِحَيْثُ لاَ
يَسْتَخْرِجُ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ بِمَعْرِفَتِهِ،
وَمُشَاهَدَتِهِ (2) .
__________
(1) كنز الدقائق مع البحر الرائق 6 / 299، 300، والهداية مع فتح القدير،
وشرح العناية 5 / 462 - 463، والبناية 7 / 17 - 18، وشرح أدب القاضي للخصاف
1 / 258 - 263 (ف 127، 129، 131، 134) ومجمع الأنهر 2 / 156، ودرر الحكام 2
/ 461، 500، والفتاوى الهندية 5 / 346، وحاشية الرملي 2 / 239، وحاشية ابن
عابدين 5 / 369، 370، وأدب القاضي للماوردي 1 / 220 (ف 287) ، والتنبيه 251
- 252، والمحرر 20 / 204، والمغني 10 / 131، ومطالب أولي النهى 6 / 74،
وكشاف القناع 6 / 306.
(2) المبسوط 16 / 90 - 91، وتحفة الفقهاء للسمرقندي 3 / 540 - 541 تحقيق
محمد المنتصر الكتاني ووهبه الزحيلي - دار الفكر - دمشق، وفتاوى قاضيخان 2
/ 365 - مطبوعة مع الفتاوى الهندية، والكافي لابن عبد البر ص 954 مكتبة
الرياض الحديثة - الرياض - ط 2 - 1400 هـ - 1980 م، والأم 6 / 211، ومختصر
المزني 8 / 300 مطبوع مع الأم وأدب القاضي للماوردي 2 / 77 - 78 (ف 2143 -
2146) ، وكتاب القضاء لابن أبي الدم 122 - 23 (ف 63) ، والتنبيه ص 257،
وحاشية الشرواني 10 / 144، ومغني المحتاج 4 / 396، والمحرر 2 / 214،
والمغني 10 / 160، وكشاف القناع 6 / 313، 363.
(24/195)
وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَقَّقَ مَا
سَبَقَ بَيَانُهُ إِلاَّ إِذَا أَشْرَفَ الْقَاضِي عَلَى الدِّيوَانِ،
وَرَاقَبَ كُتَّابَهُ، وَأُمَنَاءَهُ، وَمَا يَجْرِي عَلَى أَيْدِيهِمْ،
وَبِمَعْرِفَتِهِمْ (1) .
تَعَدُّدُ نُسَخِ السِّجِل:
12 - تُكْتَبُ الْمَحَاضِرُ، وَالسِّجِلاَّتُ، وَالْوَثَائِقُ عَلَى
نُسْخَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: تُحْفَظُ فِي دِيوَانِ الْمَحْكَمَةِ، وَعَلَيْهَا اسْمُ
الْخَصْمَيْنِ، أَوْ صَاحِبُ الْوَثِيقَةِ، وَخَاتَمُ الْقَاضِي، وَتَكُونُ
مُسْتَنَدًا لِلرُّجُوعِ إِلَيْهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ.
وَالأُْخْرَى: تُعْطَى لِلْمَحْكُومِ لَهُ، أَوْ صَاحِبِ الْوَثِيقَةِ،
لِتَكُونَ حُجَّةً بِالْحَقِّ، وَهِيَ غَيْرُ مَخْتُومَةٍ. وَيَجْرِي
ذَلِكَ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ.
ثُمَّ أَصْبَحَتِ الْوَثَائِقُ تُكْتَبُ مُرَتَّبَةً فِي كِتَابٍ
__________
(1) شرح أدب القاضي للخصاف 3 / 73 (ف 616) .
(24/196)
يَجْمَعُهَا، وَبِحَسَبِ مَا يَسَعُ
مِنْهَا، وَيُحْفَظُ فِي الدِّيوَانِ، وَهُوَ أَكْثَرُ حِفْظًا، وَأَحْوَطُ
(1) .
فَإِنْ ضَاعَتِ النُّسْخَةُ الَّتِي فِي يَدِ ذِي الشَّأْنِ، وَطَلَبَ مِنَ
الْقَاضِي نُسْخَةً أُخْرَى، أَسْعَفَ طَلَبَهُ، وَكَتَبَ عَلَيْهَا مَا
ادَّعَاهُ مِنَ الْفِقْدَانِ، وَتَارِيخِهَا، حَتَّى لاَ يُسْتَوْفَى
الْحَقُّ الْوَارِدُ فِيهَا مَرَّتَيْنِ (2) .
عَمَل الْقَاضِي بِمَا يَجِدُهُ فِي سِجِلِّهِ:
13 - إِذَا وَجَدَ الْقَاضِي فِي دِيوَانِهِ مَحْضَرًا كَانَ قَدْ كَتَبَهُ
بِإِقْرَارٍ، أَوْ شَهَادَةٍ بِحَقٍّ مِنَ الْحُقُوقِ، أَوْ وَجَدَ حُكْمًا
مِنْ أَحْكَامِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَأْخُذُ بِهِ، وَلاَ يُنْفِذُهُ مَا لَمْ
يَتَذَكَّرْهُ. وَبِهَذَا قَال أَبُو حَنِيفَةُ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ إِلَى جَوَازِ الأَْخْذِ بِكُل
ذَلِكَ، وَاعْتِمَادِهِ، وَتَنْفِيذِهِ، وَلَوْ لَمْ يَتَذَكَّرْهُ؛
لِعَجْزِ الْقَاضِي عَنْ حِفْظِ الْحَادِثَةِ؛ وَلأَِنَّ وُجُودَ
__________
(1) شرح أدب القاضي للخصاف 1 / 259، 4 / 122 (ف 128، 1132) ، ومجمع الأنهر
2 / 156، ودرر الحكام 2 / 500، وأدب القاضي للماوردي 2 / 65، 76، 303 (ف
2088، 2139، 3195) ، ومغني المحتاج 4 / 395، والسراج الوهاج ص 593، وتحفة
المحتاج 10 / 144، وشرح المحلي 4 / 304، وحاشية البجيرمي 4 / 354، والمغني
10 / 160، والمحرر ص 214، ومطالب أولي النهى 6 / 545، 547، وكشاف القناع 6
/ 361، 363.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 392، وأدب القاضي للماوردي 2 / 21 (ف 2323) .
(24/196)
هَذِهِ الْوَثَائِقِ فِي الدِّيوَانِ
دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى صِحَّتِهَا، وَبُعْدِهَا عَنِ التَّزْوِيرِ،
وَالتَّحْرِيفِ.
وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَال ابْنُ
أَبِي لَيْلَى، وَعَلَيْهِ عُرْفُ الْقُضَاةِ مِنَ الْقَرْنِ الْخَامِسِ
الْهِجْرِيِّ (1) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ قَوْلاَنِ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ مِنْهُمْ
مُوَافِقٌ لِقَوْل أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي أَخَذَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ
فِي الْوَجْهِ الأَْصَحِّ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَعِنْدَهُمْ رِوَايَتَانِ. وَلَكِنِ الَّذِي
عَلَيْهِ الْعَمَل مُتَّفِقٌ مَعَ قَوْل الصَّاحِبَيْنِ (2) .
__________
(1) المبسوط 16 / 92 - 93 و 18 / 174، والكنز 7 / 72، وشرح أدب القاضي
للخصاف 3 / 105 (ف 636) ، ودرر الحكام 2 / 461، والدر المنتقى 2 / 156،
191، 192، وفتح القدير 6 / 19، ومعين الحكام 119، ومجمع الأنهر 2 / 192،
والبناية 7 / 149، والبحر الرائق 7 / 72، والفتاوى البزازية 5 / 184،
والفتاوى الهندية 3 / 340، والأشباه والنظائر لابن نجيم 405 - 406، وحاشية
ابن عابدين 5 / 437، وأدب القاضي للماوردي 2 / 79 (ف 2155، 2156) ، والأم 7
/ 152، والمغني 10 / 161.
(2)) تبصرة الحكام 2 / 39، 43، 49، وحلى المعاصم 1 / 102، 103، والبهجة 1 /
102، 103، وإحكام الأحكام 32، والأم 7 / 152، 153، 211، وأدب القاضي
للماوردي 1 / 221، 2 / 78 (ف 289، 2149) ، ومغني المحتاج 4 / 399، والسراج
الوهاج 593، وشرح المحلي 4 / 304 - 305، وتحفة المحتاج مع حاشية الشرواني
10 / 149، وأدب القضاء لابن أبي الدم 123 (ف 65) ، وشرح منهج الطلاب 4 /
355، والأشباه والنظائر للسيوطي 337 - البابي الحلبي - مصر، والمحرر 2 /
211، والمغني 10 / 161، والإنصاف 11 / 307، ومطالب أولي النهى 6 / 532،
والطرق الحكمية لابن القيم 204، 205 - تحقيق محمد حامد الفقي - السنة
المحمدية - مصر - 1372 هـ - 1953 م، وفي الترغيب: أن رواية عدم التنفيذ هي
الأشهر (الإنصاف 11 / 307) .
(24/197)
وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرِ الْقَاضِي،
فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ تُسْمَعُ لإِِثْبَاتِ صِحَّةِ مَا فِي الدِّيوَانِ
مِنَ الْوَثَائِقِ فِي الْقَوْل الأَْصَحِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَفِي
رِوَايَةٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا لاَ تُسْمَعُ، وَهُوَ قَوْل
الشَّافِعِيَّةِ. وَجُمْهُورُ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى خِلاَفِهِ.
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ وَثِيقَةٌ، وَادَّعَى أَحَدٌ أَنَّ الْقَاضِيَ
قَدْ حَكَمَ لَهُ بِكَذَا، فَإِنْ تَذَكَّرَ الْقَاضِي قَضَاءَهُ
أَمْضَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَقْبَل
بَيِّنَةَ صَاحِبِ الْحَقِّ عَلَى مَا كَانَ قَدْ قَضَى بِهِ، وَلاَ
يَأْخُذُ بِهَا فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَرِوَايَةٍ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَبِهِ قَال الشَّافِعِيَّةُ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى،
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى
قَبُول الْبَيِّنَةِ، وَإِمْضَاءِ الْقَضَاءِ.
وَلَوْ ضَاعَ سِجِلٌّ مِنْ دِيوَانِ الْقَاضِي، فَشَهِدَ كَاتِبَاهُ عَلَى
مَا فِيهِ، تَعَيَّنَ قَبُول هَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَاعْتِمَادُهَا (1) .
__________
(1) فتح القدير 6 / 20، والبناية 7 / 150، والبحر الرائق 7 / 51، 72،
والكافي 955، وكتاب القضاء لابن أبي الدم 124 (ف 66) ، والمغني 10 / 161،
والمبسوط 16 / 94، والفتاوى الخانية 2 / 474، والفتاوى الهندية 3 / 341.
(24/197)
عَمَل الْقَاضِي بِمَا يَجِدُهُ فِي سِجِل
قَاضٍ سَابِقٍ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَأْخُذُ بِمَا
يُوجَدُ فِي دِيوَانِهِ مِنْ سِجِلاَّتِ الْقُضَاةِ السَّابِقِينَ
وَمَحَاضِرِهِمْ، وَلاَ يَعْتَمِدُهَا، وَلَوْ كَانَتْ مَخْتُومَةً، إِلاَّ
أَنْ يَشْهَدَ بِمَا وَرَدَ فِيهَا شَاهِدَانِ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ مَا فِي الدِّيوَانِ مِنْ رُسُومٍ
تَضَمَّنَتْ أَوْقَافًا فِي أَيْدِي الأُْمَنَاءِ، وَلَمْ يَحْمِلْهُمْ
عَلَيْهِ إِلاَّ الْخَوْفُ مِنْ ضَيَاعِ حُقُوقِ الْوَقْفِ عِنْدَ
تَقَادُمِ الزَّمَانِ، وَلِذَا كَانَ قَوْلُهُمْ هَذَا اسْتِحْسَانًا.
وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ وَجَدَ الْقَاضِي حُكْمَ سَلَفِهِ مَكْتُوبًا
بِخَطِّهِ لَمْ يَجُزْ إِنْفَاذُهُ بِالإِْجْمَاعِ.
وَأَمَّا مَا يُوجَدُ فِي الدِّيوَانِ الْعَامِّ مِنْ وَثَائِقَ تُحَدِّدُ
حُقُوقَ الدَّوْلَةِ، وَحُقُوقَ الأَْفْرَادِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ
اعْتِمَادُهَا، وَإِنْفَاذُهَا.
وَكَذَلِكَ خَطُّ الْمُفْتِي، وَكُتُبُ الْفِقْهِ الْمَوْثُوقَةُ،
وَكِتَابُ أَهْل الْحَرْبِ بِطَلَبِ الأَْمَانِ، وَقَرَارَاتُ الدَّوْلَةِ،
وَمَا فِي دَفْتَرِ الصَّرَّافِ وَالسِّمْسَارِ وَالتَّاجِرِ وَنَحْوِهِمْ،
فِيمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الأَْخْذُ بِكُل ذَلِكَ،
وَاعْتِمَادُهُ مِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ عَلَى صِحَّةِ مَضْمُونِهِ،
وَمُحْتَوَاهُ (1) .
__________
(1) الدر المنتقى 2 / 156، 192، وشرح أدب القاضي للخصاف 3 / 98، 107،
والبحر الرائق 7 / 72، والفتاوى البزازية 5 / 161، والفتاوى الهندية 3 /
341، 350، والمدونة المجلد الخامس ص 145، وتبصرة الحكام 1 / 55، 61، ومواهب
الجليل 6 / 106، وأدب القاضي للماوردي 1 / 221 (ف 289) ، والتنبيه 257،
والمغني 10 / 161، ومطالب أولي النهى 6 / 532، والأشباه والنظائر لابن نجيم
257، 405، والعقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية لابن عابدين 2 / 19 -
المطبعة الميمنية - مصر - 1310 هـ، وحاشية ابن عابدين 4 / 413، و5 / 370،
435، 437، والأحكام السلطانية للماوردي 215، والأحكام السلطانية للفراء
238، والطرق الحكمية 205، وحاشية البجيرمي 4 / 356، وتحفة المحتاج 10 /
150، والمبسوط 16 / 92، 93، ومجمع الأنهر 2 / 192، والكنز 7 / 3، والبناية
7 / 149 - 150، وتنوير الأبصار 5 / 435 - 436، ومعين الحكام 123.
(24/198)
نَقْصُ مَا فِي السِّجِل مِنْ أَحْكَامٍ:
15 - إِنَّ كُل نَقْصٍ مِنْ مُقَوِّمَاتِ السِّجِل الَّتِي سَبَقَتْ
يُعْتَبَرُ خَلَلاً مُؤَثِّرًا فِي صِحَّتِهِ. وَذَلِكَ يَظْهَرُ مِنَ
الأَْمْثِلَةِ الآْتِيَةِ:
أ - إِذَا خَلاَ السِّجِل مِنَ الإِْشَارَةِ إِلَى الْمُتَخَاصِمَيْنِ
فَإِنَّهُ لاَ يُفْتَى بِصِحَّتِهِ. كَمَا لَوْ كَتَبَ فِيهِ: حَضَرَ
فُلاَنٌ مَجْلِسَ الْحُكْمِ، وَأَحْضَرَ مَعَهُ فُلاَنًا، فَادَّعَى هَذَا
الَّذِي حَضَرَ، عَلَيْهِ. . وَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ: (عَلَى هَذَا
الَّذِي أَحْضَرَ مَعَهُ) . بَدَلاً مِنْ (عَلَيْهِ) .
وَكَذَا عِنْدَ ذِكْرِ الْخَصْمَيْنِ فِي أَثْنَاءِ السِّجِل لاَ بُدَّ
مِنْ ذِكْرِ ضَمِيرِ الإِْشَارَةِ، فَيَكْتُبُ: الْمُدَّعِي هَذَا،
وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَذَا.
ب - وَلَوْ لَمْ يَنُصَّ فِي السِّجِل عَلَى حُضُورِ الْمُدَّعِي
وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ
(24/198)
خَلَلٌ فِي السِّجِل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
الَّذِينَ لاَ يَرَوْنَ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ خَلاَ مِنَ النَّصِّ عَلَى سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ بِحُضُورِ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَصُدُورِ الْحُكْمِ بِحَضْرَةِ الْخَصْمَيْنِ (1) .
ج - وَإِنْ كَانَ لأَِحَدِ الْخَصْمَيْنِ وَكِيلٌ وَكَتَبَ فِي السِّجِل
ثُبُوتَ الْوَكَالَةِ دُونَ كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِهَا: هَل هُوَ
الْبَيِّنَةُ، أَوِ الْمُشَافَهَةُ بِحَضْرَةِ الْقَاضِي وَمَعْرِفَتِهِ
بِالْوَكِيل وَالْمُوَكِّل، فَإِنَّ ذَلِكَ خَلَلٌ فِي السِّجِل.
وَأَمَّا الْغَلَطُ بِاسْمِ الْوَكِيل وَجَعْلُهُ مَحَل الْمُوَكِّل،
وَجَعْل الْمُوَكِّل مَحَل الْوَكِيل، فَذَلِكَ لاَ يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ
السِّجِل، إِلاَّ عَلَى قَوْل بَعْضِ الْمَشَايِخِ (2) .
د - وَفِي دَعْوَى الْوَصِيِّ مِنْ جِهَةِ الأَْبِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ
الْقَاضِي، إِذَا خَلاَ السِّجِل مِنْ ثُبُوتِ مَوْتِ الأَْبِ،
وَالإِْيصَاءِ، وَمِنَ الإِْذْنِ الْحُكْمِيِّ مِنَ الْقَاضِي، وَالإِْذْنِ
بِالْقَبْضِ، فَإِنَّ هَذَا يُوجِبُ رَدَّهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْهُ
لإِِثْبَاتِ صِحَّةِ الْخُصُومَةِ (3) .
هـ - وَكُل سِجِلٍّ خَلاَ مِنْ سَبَبِ الدَّعْوَى، فَإِنَّهُ
__________
(1) جامع الفصولين 1 / 86، 261، و 2 / 246، 254، ودرر الحكام 2 / 512،
ومعين الحكام 133، والفتاوى الهندية 6 / 238.
(2) جامع الفصولين 2 / 258، 259، 261، والفتاوى الهندية 6 / 247.
(3) جامع الفصولين 2 / 239 - 240، والفتاوى الهندية 6 / 216.
(24/199)
مَرْدُودٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
(1) .
وَلَوْ أَنَّ السِّجِل خَلاَ مِنْ أَسْمَاءِ الشُّهُودِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ
الْقُضَاةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ صَارُوا لاَ يَرَوْنَ ذَلِكَ خَلَلاً،
وَهُوَ الْقَوْل الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ
الْعَمَل عِنْدَهُمْ عَلَى وُجُوبِ ذِكْرِ أَسْمَائِهِمْ فِي الْحُكْمِ
عَلَى الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ، وَلاَ حَاجَةَ لِذَلِكَ فِي الْحُكْمِ
عَلَى الْحَاضِرِ.
وَتَرْكُ لَفْظِ الشَّهَادَةِ خَلَلٌ فِي مَحْضَرِ الدَّعْوَى. وَأَمَّا
فِي السِّجِل، فَلَوْ كَتَبَ فِيهِ: وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى مُوَافَقَةِ
الدَّعْوَى، دُونَ لَفْظِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ لاَ يُفْتَى
بِصِحَّتِهِ. وَمِنَ الْمَشَايِخِ مَنْ أَفْتَى بِالصِّحَّةِ، وَهُوَ
الْمُخْتَارُ (2) .
و وَكَذَلِكَ لَوْ كَتَبَ فِي السِّجِل عَلَى وَجْهِ الإِْيجَازِ: ثَبَتَ
عِنْدِي مِنَ الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنَّهُ لاَ يُفْتَى بِصِحَّةِ
السِّجِل مَا لَمْ يُبَيِّنْ وَسِيلَةَ الإِْثْبَاتِ. وَقِيل يُفْتَى
بِصِحَّتِهِ (3) .
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 259.
(2) شرح أدب القاضي للخصاف 2 / 82 (ف 624) ، وتبصرة الحكام 1 / 69 - 97،
والتاج والإكليل 6 / 144، والعقد المنظم للحكام 2 / 202 - 203، والبهجة 1 /
74، 82، وجامع الفصولين 1 / 86، 2 / 258، ومعين الحكام 134، وحاشية الرملي
1 / 86، والفتاوى الهندية 6 / 160، 247.
(3) جامع الفصولين 1 / 87، ومعين الحكام 134، وحاشية الرملي 1 / 86،
والأشباه والنظائر لابن نجيم 117 - 118.
(24/199)
فَإِنْ كَتَبَ: حَكَمْتُ بِثُبُوتِ
السِّجِل بِشَرَائِطِهِ، أَوْ حَكَمْتُ وَفْقَ الدَّعْوَى، فَإِنَّ ذَلِكَ
خَلَلٌ فِي السِّجِل؛ لأَِنَّ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ
بِالتَّفْصِيل (1) .
ز - وَإِذَا كَتَبَ فِي الْمَحْضَرِ عِنْدَ ذِكْرِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ:
وَأَشَارُوا إِلَى الْمُتَدَاعِينَ، فَإِنَّهُ لاَ يُفْتَى بِصِحَّتِهِ.
إِذْ لاَ بُدَّ مِنَ النَّصِّ عَلَى الإِْشَارَةِ إِلَى الْمُدَّعِي عِنْدَ
الْحَاجَةِ، وَإِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَهَذِهِ
هِيَ الإِْشَارَةُ الْمُعْتَبَرَةُ الَّتِي لاَ بُدَّ مِنْ بَيَانِهَا
أَبْلَغَ بَيَانٍ (2) .
ح - وَلَوْ لَمْ يَتَضَمَّنِ السِّجِل فِي آخِرِهِ أَنَّ الْقَاضِيَ حَكَمَ
اسْتِنَادًا لِشَهَادَاتِ الشُّهُودِ، أَوْ أَيُّ دَلِيلٍ آخَرَ، فَإِنَّ
الْقَضَاءَ لاَ يَجُوزُ (3) .
ط - وَلَوْ أَنَّ الْقَاضِيَ الْمُنَابَ حَكَمَ بِالدَّعْوَى، وَجَعَل
حُكْمَهُ مَوْقُوفًا عَلَى إِمْضَاءِ الْقَاضِي الْمُنِيبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ
خَلَلٌ قَوِيٌّ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ حُكْمًا (4) .
ي - وَفِي دَعْوَى الْوَقْفِ، لَوْ كَتَبَ الْقَاضِي فِي السِّجِل:
حَكَمْتُ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ، فَذَلِكَ خَلَلٌ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ
بِقَضَاءٍ فِي مَحَلِّهِ، إِذِ الْوَقْفُ صَحِيحٌ جَائِزٌ وِفَاقًا،
وَالْخِلاَفُ فِي اللُّزُومِ (5) .
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 254، والفتاوى الهندية 6 / 238.
(2) جامع الفصولين 1 / 86، ودرر الحكام 2 / 512.
(3) جامع الفصولين 2 / 254، والفتاوى الهندية 6 / 238.
(4) جامع الفصولين 2 / 253.
(5) جامع الفصولين 2 / 261.
(24/200)
تَخْصِيصُ كَاتِبٍ لِلسِّجِل، وَمَا
يُشْتَرَطُ فِيهِ:
16 - عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَخْتَارَ كَاتِبًا يَسْتَعِينُ بِهِ فِي
كِتَابَةِ مَا يَجْرِي فِي الْمُحَاكَمَةِ؛ لأَِنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ
أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ (1) .
وَيَجِبُ أَنْ يَتَّصِفَ كَاتِبُ الْقَاضِي بِمَا يَتَّصِفُ بِهِ
الْقَاضِي؛ لأَِنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْمَحْكَمَةِ؛ وَلأَِنَّ الْكِتَابَةَ
مِنْ جِنْسِ الْقَضَاءِ. وَلِهَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكَاتِبُ
مُسْلِمًا، مُكَلَّفًا، عَدْلاً، وَرِعًا، عَفِيفًا (2) . وَانْظُرِ
التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٍ) .
__________
(1) معين الحكام 15، وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني 7 / 12 -
المطبعة الجمالية - مصر - ط 1 - 1328 هـ - 1910 م، وتبصرة الحكام 1 / 24،
والشرح الكبير 4 / 138، وحاشية الدسوقي 4 / 138، والمنهاج 4 / 388، وتحفة
المحتاج 10 / 133، وشرح المحلي 4 / 301، وحاشية البجيرمي 4 / 351، وحاشية
الباجوري 2 / 402، والمغني 10 / 157، والإنصاف 11 / 216، ومطالب أولي النهى
6 / 482، وكشاف القناع 6 / 313.
(2) المبسوط 16 / 90 شرح أدب القاضي للخصاف 1 / 243 - 244 (ف 111) ، والبحر
الرائق 6 / 304، ومجمع الأنهر 2 / 158، وتحفة الفقهاء 3 / 450، ومعين
الحكام 16، والكافي 954، ومواهب الجليل مع التاج والإكليل 6 / 115، وتبصرة
الحكام 1 / 24، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 138، والأم 6 / 210،
وأدب القاضي للماوردي 2 / 58 (2062) ، ومغني المحتاج 4 / 388، 389، وتحفة
المحتاج 10 / 133، والسراج الوهاج 591، والتنبيه 252، وحاشية البجيرمي 4 /
351، وكتاب القضاء لابن أبي الدم 109، 568 (ف 42، 713) ، وحاشية الباجوري 2
/ 402، والمحرر 2 / 404، والمغني 10 / 157، والإنصاف 11 / 215، وكشاف
القناع 6 / 313، ومطالب أولي النهى 6 / 482.
(24/200)
سُجُودٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - السُّجُودُ لُغَةً: الْخُضُوعُ وَالتَّطَامُنُ وَالتَّذَلُّل
وَالْمَيْل وَوَضْعُ الْجَبْهَةِ بِالأَْرْضِ، وَكُل مَنْ تَذَلَّل
وَخَضَعَ فَقَدْ سَجَدَ، وَيُقَال: سَجَدَ الْبَعِيرُ إِذَا خَفَضَ
رَأْسَهُ لِيُرْكَبَ، وَسَجَدَتِ النَّخْلَةُ إِذَا مَالَتْ مِنْ كَثْرَةِ
حَمْلِهَا، وَسَجَدَ الرَّجُل إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ وَانْحَنَى،
وَمِنْهُ سُجُودُ الصَّلاَةِ وَهُوَ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الأَْرْضِ،
وَالاِسْمُ السَّجْدَةُ.
وَالْمَسْجِدُ بَيْتُ الصَّلاَةِ الَّذِي يُتَعَبَّدُ فِيهِ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جُعِلَتْ لِيَ الأَْرْضُ
مَسْجِدًا وَطَهُورًا. (1)
وَجَمْعُهُ مَسَاجِدُ، وَالْمَسْجَدُ - بِفَتْحِ الْجِيمِ - مَوْضِعُ
السُّجُودِ مِنْ بَدَنِ الإِْنْسَانِ، وَجَمْعُهُ كَذَلِكَ مَسَاجِدُ،
وَهِيَ جَبْهَتُهُ وَأَنْفُهُ وَيَدَاهُ وَرُكْبَتَاهُ وَقَدَمَاهُ.
__________
(1) حديث: " جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1
/ 435 - 436 - ط السلفية) ومسلم (1 / 370 - 371 ط عيسى الحلبي) .
(24/201)
وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُمْ: وَيُجْعَل
الْكَافُورُ فِي مَسَاجِدِهِ: أَيِ الْمَيِّتِ.
الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: السُّجُودُ لِلَّهِ عَامٌّ فِي
الإِْنْسَانِ، وَالْحَيَوَانَاتِ، وَالْجَمَادَاتِ وَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
الأَْوَّل: سُجُودٌ بِاخْتِيَارٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ لِلإِْنْسَانِ،
وَبِهِ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاسْجُدُوا
لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} . (1)
الثَّانِي: سُجُودُ تَسْخِيرٍ، وَهُوَ لِلإِْنْسَانِ وَالْحَيَوَانَاتِ
وَالنَّبَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْله تَعَالَى:
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا
وَظِلاَلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآْصَال} (2) وقَوْله تَعَالَى:
{يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِل سُجَّدًا لِلَّهِ} .
(3)
فَهَذَا سُجُودُ تَسْخِيرٍ، وَهُوَ الدَّلاَلَةُ الصَّامِتَةُ النَّاطِقَةُ
الْمُنَبِّهَةُ عَلَى كَوْنِهَا مَخْلُوقَةً، وَأَنَّهَا خَلْقُ فَاعِلٍ
حَكِيمٍ، وَخَصَّ السُّجُودَ فِي الشَّرِيعَةِ بِالرُّكْنِ الْمَعْرُوفِ
مِنَ الصَّلاَةِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ
وَسُجُودِ الشُّكْرِ (4) .
__________
(1) سورة النجم / 62.
(2) سورة الرعد / 15.
(3) سورة النحل / 48.
(4) لسان العرب، المعجم الوسيط، المصباح المنير، ترتيب التعريب، مختار
الصحاح، غريب القرآن للأصفهاني مادة: (سجد) ، ابن عابدين 1 / 300، 312،
جواهر الإكليل 1 / 48، المجموع 3 / 420.
(24/201)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
أَوَّلاً: سُجُودُ الصَّلاَةِ:
2 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى فَرْضِيَّةِ السُّجُودِ فِي الصَّلاَةِ
وَأَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ بِنَصِّ الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . (1)
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْهَا حَدِيثُ الْمُسِيءِ صَلاَتِهِ قَال فِيهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ
سَاجِدًا. (2)
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنَّ أَسْجُدَ
عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ. (3)
كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ سَجْدَتَيْنِ فِي كُل رَكْعَةٍ مِنْ
رَكَعَاتِ الصَّلاَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الصَّلاَةُ فَرْضًا أَوْ
سُنَّةً (4) .
3 - وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَكْمَل السُّجُودِ هُوَ أَنْ يَسْجُدَ
الْمُصَلِّي عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ، وَهِيَ الْجَبْهَةُ مَعَ
__________
(1) سورة الحج / 77.
(2) حديث: " المسيء صلاته ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 276 - 277 - ط
السلفية) ، ومسلم (1 / 354 - ط عيسى الحلبي) واللفظ له.
(3) حديث: " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 /
295 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 354 - ط عيسى الحلبي) .
(4) لبدائع 1 / 105، حاشية ابن عابدين 1 / 300 - 320، جواهر الإكليل 1 /
48، روضة الطالبين 1 / 255، مغني المحتاج 1 / 168، المغني لابن قدامة 1 /
514.
(24/202)
الأَْنْفِ، وَالْيَدَانِ،
وَالرُّكْبَتَانِ، وَالْقَدَمَانِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ عَلَى
الْجَبْهَةِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَنْفِهِ - وَالرِّجْلَيْنِ
وَالرُّكْبَتَيْنِ وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ. (1) وَفِي رِوَايَةٍ:
أُمِرْتُ بِالسُّجُودِ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ الْيَدَيْنِ،
وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالْقَدَمَيْنِ، وَالْجَبْهَةِ. (2)
وَمِنْ كَمَال السُّجُودِ أَنْ تَرْتَفِعَ أَسَافِلُهُ عَلَى أَعَالِيهِ
كَاشِفًا وَجْهَهُ لِيُبَاشِرَ بِهِ الأَْرْضَ.
وَأَنْ يَطْمَئِنَّ سَاجِدًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِلْمُسِيءِ صَلاَتِهِ: ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا (3)
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا سَجَدْتَ فَأَمْكِنْ
وَجْهَكَ مِنَ السُّجُودِ كُلِّهِ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا وَلاَ
تَنْقُرْ نَقْرًا. (4) لِمَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَال: لَمَّا نَزَلَتْ {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ
__________
(1) حديث: " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2
/ 297 - ط السلفية) ومسلم (1 / 354 - ط عيسى الحلبي) .
(2) حديث: " أمرت بالسجود. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 295 ط السلفية)
ومسلم (1 / 354 - ط عيسى الحلبي) .
(3) حديث: " المسيء صلاته ". سبق تخريجه ف / 2.
(4) حديث: " إذا سجدت فأمكن وجهك. . . " أخرجه البزار وفيه إسماعيل بن رافع
وهو ضعيف (مجمع الزوائد 3 / 276) ، وأخرجه الترمذي بلفظ: " أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الأرض. . . " وقال: حديث
حسن صحيح (سنن الترمذي 2 / 59 - 60 بتحقيق أحمد شاكر) .
(24/202)
الْعَظِيمِ} (1) قَال رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ. فَلَمَّا
نَزَلَتْ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكِ الأَْعْلَى} (2) قَال: اجْعَلُوهَا فِي
سُجُودِكُمْ. (3)
وَأَنْ يَعْتَدِل فِي سُجُودِهِ وَيَرْفَعَ ذِرَاعَيْهِ عَنِ الأَْرْضِ،
وَلاَ يَفْتَرِشَهُمَا، وَيَنْصِبَ الْقَدَمَيْنِ وَيُوَجِّهَ أَصَابِعَ
الرِّجْلَيْنِ وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْقِبْلَةِ، لِمَا رَوَاهُ أَنَسُ بْنُ
مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ وَلاَ يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ
ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ. (4) وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْهَى
أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُل ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ (5) وَعَنْ
أَبِي حُمَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا
سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلاَ قَابِضِهُمَا وَاسْتَقْبَل
بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ. (6) وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) سورة الواقعة / 74.
(2) سورة الأعلى / 1.
(3) حديث: " لما نزلت (فسبح باسم ربك العظيم) قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: اجعلوها في ركوعكم. . . " أخرجه أبو داود (1 / 542 - ط إستانبول)
وإسناده حسن (الفتوحات الربانية 2 / 241) .
(4) حديث: " اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب " أخرجه
البخاري (الفتح 2 / 301 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 355 - ط عيسى الحلبي) .
(5) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى أن يفترش الرجل ذراعيه.
. . " أخرجه مسلم (1 / 358 - ط عيسى الحلبي) .
(6) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا
قابضهما واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة ". أخرجه البخاري (الفتح 2 /
305 - ط السلفية) .
(24/203)
قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَعْتَدِل وَلاَ
يَفْتَرِشْ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ الْكَلْبِ. (1) وَعَنْ وَائِل بْنِ
حُجْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: كَانَ إِذَا سَجَدَ ضَمَّ أَصَابِعَهُ وَجَعَل يَدَيْهِ حَذْوَ
مَنْكِبَيْهِ. (2)
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال:
إِذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ كُل عُضْوٍ مِنْهُ فَلْيُوَجِّهْ مِنْ
أَعْضَائِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ مَا اسْتَطَاعَ (3)
وَأَنْ يُجَافِيَ مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ لِمَا رَوَى أَحْمَرُ بْنُ
جَزْءٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
إِذَا سَجَدَ جَافَى عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ حَتَّى نَأْوِيَ (4) لَهُ.
(5) وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَجَدَ لَوْ شَاءَتْ بَهْمَةٌ أَنْ
تَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ
__________
(1) حديث: " إذا سجد أحدكم فليعتدل ولا يفترش ذراعيه افتراش. . . " أخرجه
الترمذي (سنن الترمذي 2 / 65 - 66 - ط دار الكتب العلمية) وقال: حديث حسن
صحيح.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد ضم أصابعه. . . . "
أخرجه البيهقي من حديث وائل بن حجر (سنن البيهقي 2 / 112) .
(3) حديث: " إذا سجد العبد سجد. . . . " أورده الزيلعي في نصب الراية (1 /
387) وقال: غريب.
(4) نأوي له: نرثي له ونشفق عليه (النهاية 1 / 82 ط الحلبي) .
(5) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد جافى عضديه ".
أخرجه أبو داود (1 / 555 - ط إستانبول) ، وصحح النووي إسناده (المجموع 3 /
429، 430) .
(24/203)
لَمَرَّتْ. (1)
وَأَنْ يَرْفَعَ بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ لِمَا رَوَاهُ أَبُو حُمَيْدٍ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ إِذَا سَجَدَ
فَرَّجَ بَيْنَ فَخِذَيْهِ غَيْرَ حَامِلٍ بَطْنَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ
فَخِذَيْهِ. (2)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: أَتَيْتُ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَلْفِهِ فَرَأَيْتُ
بَيَاضَ بَطْنِهِ وَهُوَ مُجَخٍّ، قَدْ فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَأَنْ يُفَرِّجَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَيْ بَيْنَ قَدَمَيْهِ وَفَخِذَيْهِ
وَرُكْبَتَيْهِ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو حُمَيْدٍ فِي وَصْفِ صَلاَةِ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا سَجَدَ فَرَّجَ
بَيْنَ رِجْلَيْهِ.
__________
(1) حديث: " كان إذا سجد لو شاءت بهمة أن تمر بين يديه لمرت ". أخرجه مسلم
(1 / 357 - ط عيسى الحلبي) .
(2) حديث: " كان إذا سجد فرج بين فخذيه. . . " أخرجه أبو داود من حديث أبي
حميد وسكت عنه المنذري (مختصر سنن أبي داود للمنذري 1 / 358 وسنن أبي داود
1 / 471 - ط إستانبول) ، ونيل الأوطار (2 / 257 ط العثمانية) .
(24/204)
وَأَنْ يَضَعَ رَاحَتَيْهِ عَلَى الأَْرْضِ
مَبْسُوطَتَيْنِ مَضْمُومَتَيِ الأَْصَابِعِ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ
مُسْتَقْبِلاً بِهِمَا الْقِبْلَةَ، وَيَضَعُهُمَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ،
لِقَوْل أَبِي حُمَيْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَضَعَ كَفَّيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ. وَقَال بَعْضُهُمْ:
يَضَعُهُمَا بِحِذَاءِ أُذُنَيْهِ، لِمَا رَوَاهُ وَائِل بْنُ حُجْرٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَجَدَ فَجَعَل كَفَّيْهِ بِحِذَاءِ أُذُنَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ:
ثُمَّ سَجَدَ وَوَضَعَ وَجْهَهُ بَيْنَ كَفَّيْهِ.
وَأَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى رَاحَتَيْهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِذَا
سَجَدْتَ فَاعْتَمِدْ عَلَى رَاحَتَيْكَ.
(24/204)
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَضُمُّ بَعْضَهَا
إِلَى بَعْضٍ فِي سُجُودِهَا فَتُلْصِقُ بَطْنَهَا بِفَخِذَيْهَا،
وَمِرْفَقَيْهَا بِجَنْبَيْهَا، وَتَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْهَا وَتَنْخَفِضُ،
وَلاَ تَنْتَصِبُ كَانْتِصَابِ الرِّجَال، وَلاَ تُفَرِّقُ بَيْنَ
رِجْلَيْهَا. قَال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مِثْل الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ
الْخُنْثَى لأَِنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا، وَأَحْوَطُ لَهُ.
أَحْكَامُ السُّجُودِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسَائِل مِنْ أَحْكَامِ السُّجُودِ مِنْهَا:
وَضْعُ الرُّكْبَتَيْنِ قَبْل الْيَدَيْنِ أَوْ عَكْسُهُ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجَمْعٌ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ
كَالنَّخَعِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَمُسْلِمِ بْنِ
يَسَارٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْمُسْتَحَبِّ أَنْ
يَضَعَ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَدَيْهِ، ثُمَّ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ، فَإِنْ
وَضَعَ يَدَيْهِ قَبْل رُكْبَتَيْهِ أَجْزَأَهُ إِلاَّ أَنَّهُ تَرَكَ
الاِسْتِحْبَابَ، لِمَا رَوَاهُ وَائِل بْنُ حُجْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ
وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْل يَدَيْهِ، وَإِذَا
(24/205)
نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْل
رُكْبَتَيْهِ.
وَرَوَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا
نَضَعُ الْيَدَيْنِ قَبْل الرُّكْبَتَيْنِ فَأُمِرْنَا بِوَضْعِ
الرُّكْبَتَيْنِ قَبْل الْيَدَيْنِ وَقَدْ رَوَى الأَْثْرَمُ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ: " إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِرُكْبَتَيْهِ قَبْل
يَدَيْهِ وَلاَ يَبْرُكْ بُرُوكَ الْجَمَل. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ
وَالأَْوْزَاعِيُّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ يُقَدِّمُ
يَدَيْهِ قَبْل رُكْبَتَيْهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ
الْبَعِيرُ، وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْل رُكْبَتَيْهِ.
(24/205)
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ السَّاجِدَ
لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ أَيَّهُمَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ تَفْضِيلٍ بَيْنَهُمَا؛
لِعَدَمِ ظُهُورِ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ عَلَى الآْخَرِ.
السُّجُودُ عَلَى الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ
وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى السَّاجِدِ
وَضْعُ يَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَقَدَمَيْهِ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ
عَلَيْهِ هُوَ السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ - وَهِيَ مِنْ مُسْتَدِيرِ مَا
بَيْنَ الْحَاجِبَيْنِ إِلَى النَّاصِيَةِ - لأَِنَّ الأَْمْرَ
بِالسُّجُودِ وَرَدَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ عُضْوٍ، ثُمَّ
انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى تَعْيِينِ بَعْضِ الْوَجْهِ، فَلاَ يَجُوزُ
تَعْيِينُ غَيْرِهِ - زَادَ الْحَنَفِيَّةُ - وَلاَ يَجُوزُ تَقْيِيدُ
مُطْلَقِ الْكِتَابِ - وَهُوَ هُنَا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} - بِخَبَرِ الْوَاحِدِ،
وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ
السُّجُودِ} ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا
سَجَدْتَ فَمَكِّنْ جَبْهَتَكَ فَإِفْرَادُهَا بِالذِّكْرِ دَلِيلٌ عَلَى
مُخَالَفَتِهَا لِغَيْرِهَا مِنَ
(24/206)
الأَْعْضَاءِ الأُْخْرَى؛ وَلأَِنَّ
الْمَقْصُودَ مِنَ السُّجُودِ وَضْعُ أَشْرَفِ الأَْعْضَاءِ عَلَى
مَوَاطِئِ الأَْقْدَامِ، وَهُوَ خِصِّيصٌ بِالْجَبْهَةِ؛ وَلأَِنَّهُ لَوْ
كَانَ وَضْعُ الأَْعْضَاءِ الأُْخْرَى وَاجِبًا لَوَجَبَ الإِْيمَاءُ بِهَا
عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ وَضْعِهَا كَالْجَبْهَةِ.
فَإِذَا سَجَدَ عَلَى جَبْهَتِهِ أَوْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا دُونَ مَا
سِوَاهَا مِنَ الأَْعْضَاءِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ
لَدَى الشَّافِعِيَّةِ وَطَاوُسٍ وَإِسْحَاقَ إِلَى وُجُوبِ السُّجُودِ
عَلَى الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ بِالسُّجُودِ عَلَى سَبْعَةِ
أَعْظُمٍ: الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ وَالْجَبْهَةِ
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ الْيَدَيْنِ
يَسْجُدَانِ كَمَا يَسْجُدُ الْوَجْهُ، فَإِذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ
فَلْيَضَعْ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَهُ فَلْيَرْفَعْهُمَا. وَقَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ مَعَهُ
سَبْعَةُ آرَابٍ: وَجْهُهُ وَكَفَّاهُ وَرُكْبَتَاهُ وَقَدَمَاهُ وَيَكْفِي
(24/206)
وَضْعُ جُزْءٍ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنْ
هَذِهِ الأَْعْضَاءِ إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ
الْعِبْرَةَ فِي الْيَدَيْنِ بِبَطْنِ الْكَفِّ سَوَاءٌ الأَْصَابِعُ أَوِ
الرَّاحَةُ، وَفِي الْقَدَمَيْنِ بِبَطْنِ الأَْصَابِعِ فَلاَ تُجْزِئُ
الظَّهْرُ مِنْهَا وَلاَ الْحَرْفُ، أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ
أَنَّ وَضْعَ بَعْضِ كُل عُضْوٍ مِنَ الأَْعْضَاءِ السِّتَّةِ
الْمَذْكُورَةِ يُجْزِئُ سَوَاءٌ كَانَ ظَاهِرُهُ أَوْ بَاطِنُهُ، لأَِنَّ
الأَْحَادِيثَ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ بَاطِنِ الْعُضْوِ وَظَاهِرِهِ.
وَضْعُ الأَْنْفِ عَلَى الأَْرْضِ فِي السُّجُودِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ،
وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو
ثَوْرٍ وَالثَّوْرِيُّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، إِلَى أَنَّهُ لاَ
يَجِبُ السُّجُودُ عَلَى الأَْنْفِ مَعَ الْجَبْهَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ
أَعْظُمٍ. وَلَمْ يَذْكُرِ الأَْنْفَ فِيهِ، وَلِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَجَدَ بِأَعْلَى جَبْهَتِهِ عَلَى قِصَاصِ الشَّعْرِ.
(24/207)
وَإِذَا سَجَدَ بِأَعْلَى جَبْهَتِهِ لَمْ
يَسْجُدْ عَلَى الأَْنْفِ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِذَا سَجَدْتَ فَمَكِّنْ جَبْهَتَكَ مِنَ الأَْرْضِ وَلاَ تَنْقُرْ
نَقْرًا. وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ هَؤُلاَءِ السُّجُودُ عَلَى الأَْنْفِ مَعَ
الْجَبْهَةِ لِلأَْحَادِيثِ الَّتِي تَدُل عَلَى ذَلِكَ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَسَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ وَإِسْحَاقُ وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو خَيْثَمَةَ وَابْنُ
أَبِي شَيْبَةَ: إِلَى وُجُوبِ السُّجُودِ عَلَى الأَْنْفِ مَعَ
الْجَبْهَةِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أُمِرْتُ أَنْ
أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: الْجَبْهَةِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى
أَنْفِهِ - وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ
الْجَبْهَةِ وَالأَْنْفِ. الْحَدِيثُ.
وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: كَانَ إِذَا سَجَدَ
(24/207)
أَمْكَنَ أَنْفَهُ وَجَبْهَتَهُ مِنَ
الأَْرْضِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي لاَ
يُصِيبُ أَنْفُهُ الأَْرْضَ فَقَال: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ يُصِيبُ
أَنْفُهُ مِنَ الأَْرْضِ مَا يُصِيبُ الْجَبِينُ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ السُّجُودِ،
عَلَى الْجَبْهَةِ وَبَيْنَ السُّجُودِ عَلَى الأَْنْفِ، وَأَنَّ
الْوَاجِبَ هُوَ السُّجُودُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَلَوْ وَضَعَ أَحَدَهُمَا
فِي حَالَةِ الاِخْتِيَارِ جَازَ، غَيْرَ أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ الْجَبْهَةَ
وَحْدَهَا جَازَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ وَلَوْ وَضَعَ الأَْنْفَ وَحْدَهُ
جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: لاَ يُحْفَظُ أَنَّ أَحَدًا سَبَقَهُ إِلَى هَذَا
الْقَوْل، وَلَعَلَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْجَبْهَةَ وَالأَْنْفَ عُضْوٌ
وَاحِدٌ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا
ذَكَرَ الْجَبْهَةَ أَشَارَ إِلَى أَنْفِهِ. وَالْعُضْوُ الْوَاحِدُ
يُجْزِئُ السُّجُودُ
(24/208)
عَلَى بَعْضِهِ.
كَشْفُ الْجَبْهَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَعْضَاءِ السُّجُودِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَجَمْعٌ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ،
كَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ
إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ كَشْفِ الْجَبْهَةِ وَالْيَدَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ
فِي السُّجُودِ، وَلاَ تَجِبُ مُبَاشَرَةُ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَْعْضَاءِ
بِالْمُصَلَّى بَل يَجُوزُ السُّجُودُ عَلَى كُمِّهِ وَذَيْلِهِ وَيَدِهِ
وَكَوْرِ عِمَامَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُتَّصِلٌ بِالْمُصَلِّي
فِي الْحَرِّ أَوْ فِي الْبَرْدِ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ
يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنَ الأَْرْضِ يَبْسُطُ ثَوْبَهُ فَيَسْجُدُ
عَلَيْهِ. وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَال: " لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ وَهُوَ يَتَّقِي الطِّينَ إِذَا سَجَدَ بِكِسَاءٍ
عَلَيْهِ
(24/208)
يَجْعَلُهُ دُونَ يَدَيْهِ إِلَى الأَْرْضِ
إِذَا سَجَدَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَنَّهُ سَجَدَ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ.
وَعَنِ الْحَسَنِ قَال: كَانَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُونَ وَأَيْدِيهِمْ فِي ثِيَابِهِمْ وَيَسْجُدُ
الرَّجُل عَلَى عِمَامَتِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ الْقَوْمُ يَسْجُدُونَ
عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَيَدُهُ فِي كُمِّهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى وُجُوبِ
كَشْفِ الْجَبْهَةِ وَمُبَاشَرَتِهَا بِالْمُصَلَّى وَعَدَمِ جَوَازِ
السُّجُودِ عَلَى كُمِّهِ وَذَيْلِهِ وَيَدِهِ وَكَوْرِ عِمَامَتِهِ
(24/209)
أَوْ قَلَنْسُوَتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ
مِمَّا هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ وَيَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا سَجَدْتَ فَمَكِّنْ جَبْهَتَكَ مِنَ
الأَْرْضِ الْحَدِيثُ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَْرَتِّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: شَكَوْنَا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّ الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِنَا
وَأَكُفِّنَا فَلَمْ يُشْكِنَا وَفِي رِوَايَةٍ: فَمَا أَشْكَانَا.
الطُّمَأْنِينَةُ فِي السُّجُودِ:
8 - الطُّمَأْنِينَةُ فِي السُّجُودِ هِيَ أَنْ يَسْتَقِرَّ كُل عُضْوٍ فِي
مَكَانِهِ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِزَمَنِ مَنْ يَقُول فِيهِ: "
سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَْعْلَى " مَرَّةً وَاحِدَةً وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ
يَهْوِيَ لِلسُّجُودِ مُكَبِّرًا.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى فَرْضِيَّةِ الطُّمَأْنِينَةِ خِلاَفًا
لأَِبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَهِيَ لَيْسَتْ فَرْضًا بَل وَاجِبٌ
يُجْبَرُ تَرْكُهُ بِسُجُودِ السَّهْوِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي (صَلاَةٍ) وَفِي
(طُمَأْنِينَةٍ) .
(24/209)
التَّكْبِيرُ لِلسُّجُودِ وَالتَّسْبِيحُ
فِيهِ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى
أَنَّ التَّكْبِيرَ وَالتَّسْبِيحَ وَسَائِرَ الأَْذْكَارِ وَالأَْدْعِيَةَ
الْوَارِدَةَ فِي السُّجُودِ سُنَّةٌ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، فَلَوْ
تَرَكَهَا الْمُصَلِّي عَمْدًا لَمْ يَأْثَمْ وَصَلاَتُهُ صَحِيحَةٌ،
سَوَاءٌ تَرَكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، وَلَكِنْ يُكْرَهُ تَرْكُهَا
عَمْدًا لِحَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلاَتِهِ حَيْثُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا عَلَّمَهُ فُرُوضَ الصَّلاَةِ لَمْ
يُعَلِّمْهُ هَذِهِ الأَْذْكَارَ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَعَلَّمَهُ
إِيَّاهَا، وَتُحْمَل الأَْحَادِيثُ الْوَارِدَةُ بِهَذِهِ الأَْذْكَارِ
عَلَى الاِسْتِحْبَابِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَإِسْحَاقُ إِلَى وُجُوبِ التَّكْبِيرِ
وَالتَّسْبِيحِ فِي السُّجُودِ فَإِنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا عَمْدًا
بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، وَإِنْ تَرَكَ نِسْيَانًا لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ بَل
يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَعَلَهُ وَأَمَرَ بِهِ. وَأَمْرُهُ لِلْوُجُوبِ، وَقَال صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي
وَلِمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ
تَتِمُّ صَلاَةٌ لأَِحَدٍ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ - إِلَى أَنْ
قَال -: ثُمَّ يَقُول: اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يَسْجُدُ، حَتَّى
تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ
(24/210)
وَقَدْ جَرَى خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ
فِي زِيَادَةِ لَفْظِ " وَبِحَمْدِهِ " بَعْدَ قَوْلِهِ: " سُبْحَانَ
رَبِّيَ الأَْعْلَى "، وَهَل قَوْل: " سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَْعْلَى " هُوَ
الْمُتَعَيَّنُ أَمْ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَخْتَارَ مَا شَاءَ مِنْ أَلْفَاظِ
التَّسْبِيحِ؟ وَهَل مِنَ الْمُسْتَحَبِّ أَنْ يُكَرِّرَهَا ثَلاَثَ
مَرَّاتٍ أَوْ أَكْثَرَ مَعَ اعْتِبَارِ حَال الْمُصَلِّي إِذَا كَانَ
مُنْفَرِدًا، أَوْ إِمَامًا، أَوْ مَأْمُومًا؟ وَيُنْظَرُ مِثْل هَذِهِ
التَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: " رُكُوعٍ " حَيْثُ إِنَّ التَّكْبِيرَ
وَالتَّسْبِيحَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ حُكْمُهَا وَاحِدٌ لاَ
يَخْتَلِفُ.
قَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُول فِي سُجُودِهِ بَعْدَ
التَّسْبِيحِ: " اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ
أَسْلَمْتُ سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ
وَبَصَرَهُ تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ "، كَمَا يُسْتَحَبُّ
الدُّعَاءُ فِيهِ. وَمِنْ بَيْنِ الأَْدْعِيَةِ الْوَارِدَةِ: " اللَّهُمَّ
اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ،
وَعَلاَنِيَتَهُ وَسِرَّهُ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ
سَخَطِكَ، وَبِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لاَ
أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ ".
قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي السُّجُودِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي
السُّجُودِ، لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَهَانِي
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قِرَاءَةِ
الْقُرْآنِ وَأَنَا رَاكِعٌ
(24/210)
أَوْ سَاجِدٌ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَلاَ وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ
أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ
فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي
الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ.
فَإِنْ قَرَأَ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ فِي السُّجُودِ لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ،
وَإِنْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا لاَ تَبْطُل
كَذَلِكَ.
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا تَبْطُل؛ لأَِنَّهُ نَقَل
رُكْنًا إِلَى غَيْرِ مَوْضِعِهِ كَمَا لَوْ رَكَعَ أَوْ سَجَدَ فِي غَيْرِ
مَوْضِعِهِ.
وَسُجُودُ التِّلاَوَةِ، وَسُجُودُ السَّهْوِ، وَسُجُودُ الشُّكْرِ
تَفَاصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
ثَانِيًا: السُّجُودُ لِغَيْرِ اللَّهِ:
11 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ لِلصَّنَمِ أَوْ
لِلشَّمْسِ أَوْ نَحْوِهِمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ كُفْرٌ يَخْرُجُ
السَّاجِدُ بِهِ عَنِ الْمِلَّةِ إِذَا كَانَ عَاقِلاً بَالِغًا
مُخْتَارًا،
(24/211)
سَوَاءٌ كَانَ عَامِدًا أَوْ هَازِلاً.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَسْجُدْ لِلصَّنَمِ أَوْ
لِلشَّمْسِ عَلَى سَبِيل التَّعْظِيمِ وَاعْتِقَادِ الأُْلُوهِيَّةِ، بَل
سَجَدَ لَهَا وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ يَجْرِي عَلَيْهِ
حُكْمُ الْكُفَّارِ فِي الظَّاهِرِ، وَلاَ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ فِيمَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَإِنْ دَلَّتْ قَرِينَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى
عَدَمِ دَلاَلَةِ الْفِعْل عَلَى الاِسْتِخْفَافِ، كَسُجُودِ أَسِيرٍ فِي
دَارِ الْحَرْبِ بِحَضْرَةِ كَافِرٍ خَشْيَةً مِنْهُ فَلاَ يَكْفُرُ.
12 - كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ السُّجُودَ لِغَيْرِ صَنَمٍ وَنَحْوِهِ،
كَأَحَدِ الْجَبَابِرَةِ أَوِ الْمُلُوكِ أَوْ أَيِّ مَخْلُوقٍ آخَرَ هُوَ
مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَكَبِيرَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، فَإِنْ
أَرَادَ السَّاجِدُ بِسُجُودِهِ عِبَادَةَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ كَفَرَ
وَخَرَجَ عَنِ الْمِلَّةِ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ
بِهَا عِبَادَةً فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فَقَال بَعْضُ
الْحَنَفِيَّةِ: يَكْفُرُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَتْ لَهُ إِرَادَةٌ أَوْ
لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ، وَقَال آخَرُونَ مِنْهُمْ: إِذَا أَرَادَ
بِهَا التَّحِيَّةَ لَمْ يَكْفُرْ بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ
إِرَادَةٌ كَفَرَ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ.
(24/211)
سُجُودُ التِّلاَوَةِ
.
التَّعْرِيفُ:
1 - السُّجُودُ لُغَةً: مَصْدَرُ سَجَدَ، وَأَصْل السُّجُودِ التَّطَامُنُ
وَالْخُضُوعُ وَالتَّذَلُّل.
وَالسُّجُودُ فِي الاِصْطِلاَحِ: وَضْعُ الْجَبْهَةِ أَوْ بَعْضِهَا عَلَى
الأَْرْضِ أَوْ مَا اتَّصَل بِهَا مِنْ ثَابِتٍ مُسْتَقِرٍّ عَلَى هَيْئَةٍ
مَخْصُوصَةٍ.
وَالتِّلاَوَةُ: مَصْدَرُ تَلاَ يَتْلُو، يُقَال: تَلَوْتُ الْقُرْآنَ
تِلاَوَةً إِذَا قَرَأْتُهُ، وَعَمَّ بَعْضُهُمْ بِهِ كُل كَلاَمٍ.
وَسُجُودُ التِّلاَوَةِ: هُوَ الَّذِي سَبَبُ وُجُوبِهِ - أَوْ نَدْبِهِ -
تِلاَوَةُ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ السُّجُودِ.
(24/212)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ سُجُودِ التِّلاَوَةِ،
لِلآْيَاتِ وَالأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِيهِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا
فِي صِفَةِ مَشْرُوعِيَّتِهِ أَوَاجِبٌ هُوَ أَوْ مَنْدُوبٌ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ سُجُودَ
التِّلاَوَةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عَقِبَ تِلاَوَةِ آيَةِ السَّجْدَةِ
لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ
قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَْذْقَانِ سُجَّدًا
وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً
وَيَخِرُّونَ لِلأَْذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} وَلِمَا
وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا قَرَأَ ابْنُ
آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ، اعْتَزَل الشَّيْطَانُ يَبْكِي، يَقُول: يَا
وَيْلِي، وَفِي رِوَايَةٍ يَا وَيْلَهُ - أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ
فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ
النَّارُ. وَلِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُمَا قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَيْنَا السُّورَةَ فِيهَا السَّجْدَةُ فَيَسْجُدُ
وَنَسْجُدُ.
وَلَيْسَ سُجُودُ التِّلاَوَةِ بِوَاجِبٍ - عِنْدَهُمْ - لأَِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَهُ، وَقَدْ قُرِئَتْ
عَلَيْهِ سُورَةُ
(24/212)
وَالنَّجْمِ. . .) وَفِيهَا سَجْدَةٌ،
رَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَرَأْتُ
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّجْمِ فَلَمْ
يَسْجُدْ فِيهَا، وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَمْ يَسْجُدْ مِنَّا أَحَدٌ وَرَوَى
الْبُخَارِيُّ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَرَأَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ سُورَةَ النَّحْل حَتَّى إِذَا جَاءَ
السَّجْدَةَ نَزَل فَسَجَدَ، فَسَجَدَ النَّاسُ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ
الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ
قَال: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ، فَمَنْ
سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ،
وَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَرَوَاهُ مَالِكٌ
فِي الْمُوَطَّأِ وَقَال فِيهِ: عَلَى رِسْلِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ لَمْ
يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إِلاَّ أَنْ نَشَاءَ، فَلَمْ يَسْجُدْ، وَمَنَعَهُمْ
أَنْ يَسْجُدُوا، وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْكِرُوا
عَلَيْهِ فَكَانَ إِجْمَاعًا.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الأَْعْرَابِيِّ مِنْ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي
الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ قَال: هَل عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَال: لاَ، إِلاَّ
أَنْ تَتَطَوَّعَ. وَبِأَنَّ الأَْصْل عَدَمُ الْوُجُوبِ حَتَّى
(24/213)
يَثْبُتَ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي الأَْمْرِ
بِهِ وَلاَ مُعَارِضَ لَهُ وَلَمْ يَثْبُتْ، وَبِأَنَّهُ يَجُوزُ سُجُودُ
التِّلاَوَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ بِالاِتِّفَاقِ فِي السَّفَرِ وَلَوْ
كَانَ وَاجِبًا لَمْ يَجُزْ كَسُجُودِ صَلاَةِ الْفَرْضِ.
وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فِي حُكْمِ سُجُودِ التِّلاَوَةِ،
هَل هُوَ سُنَّةٌ غَيْرُ مُؤَكَّدَةٍ أَوْ فَضِيلَةٌ، وَالْقَوْل
بِالسُّنِّيَّةِ شَهَرَهُ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ وَابْنُ الْفَاكِهَانِيِّ
وَعَلَيْهِ الأَْكْثَرُ، وَالْقَوْل بِأَنَّهُ فَضِيلَةٌ هُوَ قَوْل
الْبَاجِيِّ وَابْنِ الْكَاتِبِ وَصَدَرَ بِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَمِنْ
قَاعِدَتِهِ تَشْهِيرُ مَا صَدَرَ بِهِ، وَهَذَا الْخِلاَفُ فِي حَقِّ
الْمُكَلَّفِ. أَمَّا الصَّبِيُّ فَيُنْدَبُ لَهُ فَقَطْ، وَفَائِدَةُ
الْخِلاَفِ كَثْرَةُ الثَّوَابِ وَقِلَّتُهُ، وَأَمَّا السُّجُودُ فِي
الصَّلاَةِ وَلَوْ فَرْضًا فَمَطْلُوبٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَقَال ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: وَسُجُودُ التِّلاَوَةِ وَاجِبٌ وُجُوبَ سُنَّةٍ لاَ
يَأْثَمُ مَنْ تَرَكَهُ عَامِدًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ سُجُودَ التِّلاَوَةِ أَوْ بَدَلَهُ
كَالإِْيمَاءِ وَاجِبٌ لِحَدِيثِ: السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا. . .
وَعَلَى لِلْوُجُوبِ، وَلِحَدِيثِ
(24/213)
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُ: إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَل
الشَّيْطَانُ يَبْكِي، يَقُول: يَا وَيْلَهُ أُمِرَ ابْنُ آدَمَ
بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ
فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ.
شُرُوطُ سُجُودِ التِّلاَوَةِ:
الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ:
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ سُجُودِ
التِّلاَوَةِ الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ فِي الْبَدَنِ
وَالثَّوْبِ وَالْمَكَانِ؛ لِكَوْنِ سُجُودِ التِّلاَوَةِ صَلاَةً أَوْ
جُزْءًا مِنَ الصَّلاَةِ أَوْ فِي مَعْنَى الصَّلاَةِ، فَيُشْتَرَطُ
لِصِحَّتِهِ الطَّهَارَةُ الَّتِي شُرِطَتْ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ،
وَالَّتِي لاَ تُقْبَل الصَّلاَةُ إِلاَّ بِهَا، لِمَا رَوَى عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تُقْبَل صَلاَةٌ بِغَيْرِ
طَهُورٍ فَيَدْخُل فِي عُمُومِهِ سُجُودُ التِّلاَوَةِ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: يُشْتَرَطُ لِسُجُودِ التِّلاَوَةِ
(24/214)
مَا يُشْتَرَطُ لِصَلاَةِ النَّافِلَةِ
مِنَ الطَّهَارَتَيْنِ مِنَ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ. . . وَلاَ نَعْلَمُ
فِيهِ خِلاَفًا إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الْحَائِضِ تَسْمَعُ السَّجْدَةَ: تُومِئُ
بِرَأْسِهَا، وَبِهِ قَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ قَال: وَيَقُول:
اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ فِيمَنْ سَمِعَ السَّجْدَةَ
عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ: يَسْجُدُ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ.
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ سُجُودَ الْقُرْآنِ
يَحْتَاجُ إِلَى مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الصَّلاَةُ مِنْ طَهَارَةِ حَدَثٍ
وَنَجَسٍ. . إِلاَّ مَا ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ عَلَى
غَيْرِ طَهَارَةٍ. وَذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ لِسُجُودِ
التِّلاَوَةِ خِلاَفُهُ لِلنَّاصِرِ اللَّقَانِيِّ.
قَال أَبُو الْعَبَّاسِ: وَالَّذِي تَبَيَّنَ لِي أَنَّ سُجُودَ
التِّلاَوَةِ وَاجِبٌ مُطْلَقًا فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا. وَهُوَ
رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَمَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ،
(24/214)
وَلاَ يُشْرَعُ فِيهِ تَحْرِيمٌ وَلاَ
تَحْلِيلٌ. هَذَا هُوَ السُّنَّةُ الْمَعْرُوفَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهَا عَامَّةُ السَّلَفِ. وَعَلَى هَذَا
فَلَيْسَ هُوَ صَلاَةً، فَلاَ يُشْتَرَطُ لَهُ شُرُوطُ الصَّلاَةِ، بَل
يَجُوزُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ. كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ
طَهَارَةٍ. وَاخْتَارَهَا الْبُخَارِيُّ. لَكِنَّ السُّجُودَ بِشُرُوطِ
الصَّلاَةِ أَفْضَل، وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُخِل بِذَلِكَ إِلاَّ لِعُذْرٍ.
فَالسُّجُودُ بِلاَ طَهَارَةٍ خَيْرٌ مِنَ الإِْخْلاَل بِهِ، لَكِنْ قَدْ
يُقَال: إِنَّهُ لاَ يَجِبُ فِي هَذِهِ الْحَال كَمَا لاَ يَجِبُ عَلَى
السَّامِعِ إِذَا لَمْ يَسْجُدْ قَارِئُ السُّجُودِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ
السُّجُودُ جَائِزًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وَأَمَّا سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ وَالنِّيَّةُ
فَهِيَ شُرُوطٌ لِصِحَّةِ سُجُودِ التِّلاَوَةِ عَلَى التَّفْصِيل
الْمُبَيَّنِ فِي مُصْطَلَحِ: " صَلاَةٍ " وَ " عَوْرَةٍ " عَلَى أَنَّ
الشَّافِعِيَّةَ اعْتَبَرُوا النِّيَّةَ رُكْنًا.
دُخُول الْوَقْتِ:
4 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ سُجُودِ التِّلاَوَةِ دُخُول وَقْتِ السُّجُودِ،
وَيَحْصُل ذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بِقِرَاءَةِ جَمِيعِ آيَةِ
السَّجْدَةِ أَوْ سَمَاعِهَا، فَلَوْ سَجَدَ قَبْل الاِنْتِهَاءِ إِلَى
آخِرِ الآْيَةِ وَلَوْ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ لَمْ يَصِحَّ السُّجُودُ؛
لأَِنَّهُ يَكُونُ قَدْ سَجَدَ قَبْل دُخُول وَقْتِ السُّجُودِ فَلاَ
يَصِحُّ، كَمَا لاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ قَبْل دُخُول وَقْتِهَا.
(24/215)
وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا يَجِبُ
بِهِ سُجُودُ التِّلاَوَةِ، فَقَال الْحَصْكَفِيُّ: يَجِبُ سُجُودُ
التِّلاَوَةِ بِسَبَبِ تِلاَوَةِ آيَةٍ، أَيْ أَكْثَرِهَا مَعَ حَرْفِ
السَّجْدَةِ.
وَعَقَّبَ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: هَذَا خِلاَفُ
الصَّحِيحِ الَّذِي جَزَمَ بِهِ فِي نُورِ الإِْيضَاحِ.
الْكَفُّ عَنْ مُفْسِدَاتِ الصَّلاَةِ:
5 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ سُجُودِ التِّلاَوَةِ الْكَفُّ عَنْ كُل مَا
يُفْسِدُ الصَّلاَةَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ؛ لأَِنَّ سُجُودَ
التِّلاَوَةِ صَلاَةٌ أَوْ فِي مَعْنَى الصَّلاَةِ.
وَاشْتَرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ شُرُوطًا أُخْرَى لِصِحَّةِ سُجُودِ
التِّلاَوَةِ، مِنْهَا: مَا اشْتَرَطَهُ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ كَوْنِ
الْقِرَاءَةِ مَقْصُودَةً وَمَشْرُوعَةً، وَعَدَمِ الْفَصْل الطَّوِيل
بَيْنَ قِرَاءَةِ آخِرِ آيَةِ السَّجْدَةِ وَالسُّجُودِ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ مِنْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ
لِسُجُودِ الْمُسْتَمِعِ أَنْ يَكُونَ التَّالِي مِمَّنْ يَصْلُحُ أَنْ
يَكُونَ إِمَامًا لَهُ، وَأَنْ يَسْجُدَ التَّالِي.
مُوَاضِعُ سُجُودِ التِّلاَوَةِ:
6 - مَوَاضِعُ سُجُودِ التِّلاَوَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
(24/215)
خَمْسَةَ عَشْرَ، بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَقِيل سِتَّ عَشْرَةَ
بِزِيَادَةِ سَجْدَةٍ عِنْدَ آيَةِ الْحِجْرِ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك
وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} . خِلاَفًا لِجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ.
مَوَاضِعُ السُّجُودِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى سُجُودِ التِّلاَوَةِ فِي عَشْرَةِ
مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
1 - سُورَةُ الأَْعْرَافِ: وَهِيَ آخِرُ آيَةٍ فِيهَا ". . .
{وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} .
2 - سُورَةُ الرَّعْدِ: عِنْدَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى:. . .
{وَظِلاَلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآْصَال} مِنَ الآْيَةِ الْخَامِسَةَ
عَشْرَ.
3 - سُورَةُ النَّحْل عِنْدَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى:. . . {وَيَفْعَلُونَ
مَا يُؤْمَرُونَ} مِنَ الآْيَةِ الْخَمْسِينَ.
4 - سُورَةُ الإِْسْرَاءِ: عِنْدَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى:. . .
{وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} مِنَ الآْيَةِ التَّاسِعَةِ بَعْدَ الْمِائَةِ.
5 - سُورَةُ مَرْيَمَ: عِنْدَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى:. . . {خَرُّوا
سُجَّدًا وَبُكِيًّا} مِنَ الآْيَةِ الثَّامِنَةِ وَالْخَمْسِينَ.
6 - سُورَةُ الْحَجِّ: عِنْدَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى:. . . {إِنَّ اللَّهَ
يَفْعَل مَا يَشَاءُ} مِنَ الآْيَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَ.
(24/216)
7 - سُورَةُ النَّمْل: عِنْدَ قَوْل
اللَّهِ تَعَالَى:. . . {رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} مِنَ الآْيَةِ
السَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ.
8 - سُورَةُ السَّجْدَةِ {الم تَنْزِيل} . . . عِنْدَ قَوْل اللَّهِ
تَعَالَى: {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} مِنَ الآْيَةِ الْخَامِسَةَ
عَشْرَ.
9 - سُورَةُ الْفُرْقَانِ: عِنْدَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى:. . .
{وَزَادَهُمْ نُفُورًا} مِنَ الآْيَةِ السِّتِّينَ.
10 - سُورَةُ حم السَّجْدَةُ " فُصِّلَتْ ". عِنْدَ قَوْل اللَّهِ
تَعَالَى:. . {وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ} مِنَ الآْيَةِ الثَّامِنَةِ
وَالثَّلاَثِينَ.
هَذَا عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ لِفِعْل ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقِيل: إِنَّ السُّجُودَ يَكُونُ عِنْدَ قَوْله
تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} عِنْدَ تَمَّامِ الآْيَةِ
السَّابِعَةِ وَالثَّلاَثِينَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ.
مَوَاضِعُ السُّجُودِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُجُودِ التِّلاَوَةِ عِنْدَ خَمْسَةِ
مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ هِيَ:
1 - السَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي السُّجُودِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى:
(24/216)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا
وَاسْجُدُوا} . . . إِلَخْ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِي سُورَةِ
الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي الْمُتَّفَقِ
عَلَيْهِ، وَالأُْخْرَى عِنْدَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا
وَاسْجُدُوا} وَهِيَ الآْيَةُ السَّابِعَةُ وَالسَّبْعُونَ.
لِمَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
قَال: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ: فُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ بِأَنَّ
فِيهَا سَجْدَتَيْنِ؟ قَال: نَعَمْ، مَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلاَ
يَقْرَأْهُمَا (1) وَلأَِنَّهُ قَوْل عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ،
وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَزِرِّ
بْنِ حُبَيْشٍ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي
عَصْرِهِمْ، وَقَدْ قَال أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ التَّابِعِيُّ
الْكَبِيرُ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً يَسْجُدُونَ فِي
الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ، وَقَال ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمَا: لَوْ كُنْتُ تَارِكًا إِحْدَاهُمَا لَتَرَكْتُ الأُْولَى،
وَذَلِكَ لأَِنَّهَا إِخْبَارٌ، وَالثَّانِيَةُ أَمْرٌ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ سُجُودَ فِي
هَذَا الْمَوْطِنِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ
__________
(1) حديث عقبة بن عامر: " فضلت سورة الحج ". أخرجه الترمذي (2 / 471 - ط
الحلبي) وقال: " هذا حديث ليس إسناده بذاك القوي ".
(2) المجموع 4 / 62، والقليوبي 1 / 206، والمغني 1 / 618 - 619.
(24/217)
كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
أَنَّهُ عَدَّ السَّجَدَاتِ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدَّ فِي الْحَجِّ سَجْدَةً وَاحِدَةً.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَالاَ: سَجْدَةُ التِّلاَوَةِ فِي الْحَجِّ
هِيَ الأُْولَى، وَالثَّانِيَةُ سَجْدَةُ الصَّلاَةِ؛ وَلأَِنَّ
السَّجْدَةَ مَتَى قُرِنَتْ بِالرُّكُوعِ كَانَتْ عِبَارَةً عَنْ سَجْدَةِ
الصَّلاَةِ كَمَا فِي قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي
لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (1) وَلِعَدَمِ
سُجُودِ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَقُرَّائِهِمْ فِيهَا. (2)
2 - سَجْدَةُ سُورَةِ (ص) :
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ
السُّجُودِ لِلتِّلاَوَةِ فِي سُورَةِ (ص) ، لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ
قَالُوا فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ: إِنَّ السُّجُودَ عِنْدَ قَوْل اللَّهِ
تَعَالَى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى
وَحُسْنَ مَآبٍ} . (3)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: السُّجُودُ عِنْدَ قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل:. .
. {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ
رَاكِعًا وَأَنَابَ} (4) وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ خِلاَفًا
لِمَنْ قَال السُّجُودُ عِنْدَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى:
__________
(1) الآية 43 من سورة آل عمران.
(2) بدائع الصنائع 1 / 193، وفتح القدير 1 / 381، وجواهر الإكليل 1 / 71
(3) الآية 25 من سورة (ص) .
(4) من الآية 24 من سورة (ص) .
(24/217)
{وَحُسْنَ مَآبٍ} ، وَمِنَ الْمَالِكِيَّةِ
مَنِ اخْتَارَ السُّجُودَ فِي الأَْخِيرِ فِي كُل مَوْضِعٍ مُخْتَلَفٍ
فِيهِ لِيَخْرُجَ مِنَ الْخِلاَفِ.
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ لِمَذْهَبِهِمْ، بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِي ص (1) . وَبِمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: رَأَيْتُ رُؤْيَا وَأَنَا
أَكْتُبُ سُورَةَ ص فَلَمَّا بَلَغْتُ السَّجْدَةَ رَأَيْتُ الدَّوَاةَ
وَالْقَلَمَ وَكُل شَيْءٍ بِحَضْرَتِي انْقَلَبَ سَاجِدًا، فَقَصَصْتُهَا
عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَزَل
يَسْجُدُ بِهَا. (2) قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ فِي الاِسْتِدْلاَل
بِالْحَدِيثِ: فَأَفَادَ أَنَّ الأَْمْرَ صَارَ إِلَى الْمُوَاظَبَةِ
عَلَيْهَا كَغَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ.
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ فِي الصَّلاَةِ سُورَةَ (ص) وَسَجَدَ
وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ،
وَلَوْ لَمْ تَكُنِ السَّجْدَةُ وَاجِبَةً لَمَا جَازَ إِدْخَالُهَا فِي
الصَّلاَةِ.
وَقَالُوا: كَوْنُ سَبَبِ السُّجُودِ فِي حَقِّنَا الشُّكْرَ لاَ يُنَافِي
الْوُجُوبَ، فَكُل الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ إِنَّمَا وَجَبَتْ
__________
(1) حديث ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في (ص) ". أخرجه
البخاري (الفتح 2 / 552 - ط السلفية) .
(2) حديث أبي سعيد: " رأيت رؤيا ". أخرجه أحمد (3 / 76، 84 - ط الميمنية)
وأورده الهيثمي في المجمع (2 / 284 - ط القدسي) وقال: رجاله رجال الصحيح.
(24/218)
شُكْرًا لِتَوَالِي النِّعَمِ، وَنَحْنُ
نَسْجُدُ شُكْرًا. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَنْصُوصِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ
جُمْهُورُهُمْ - وَالْحَنَابِلَةُ - فِي الْمَشْهُورِ فِي الْمَذْهَبِ -
إِلَى أَنَّ سَجْدَةَ (ص) لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، أَيْ
لَيْسَتْ مِنْ مُتَأَكِّدَاتِهِ - فَلَيْسَتْ سَجْدَةَ تِلاَوَةٍ
وَلَكِنَّهَا سَجْدَةُ شُكْرٍ، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَرَأَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ (ص) ،
فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَل فَسَجَدَ، وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ،
فَلَمَّا كَانَ يَوْمٌ آخَرُ قَرَأَهَا فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ
تَشَزَّنَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ - أَيْ تَأَهَّبُوا لَهُ - فَقَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ
نَبِيٍّ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُكُمْ تَشَزَّنْتُمْ لِلسُّجُودِ فَنَزَل
فَسَجَدَ وَسَجَدُوا، (2) وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِي (ص) وَقَال: سَجَدَهَا دَاوُدُ تَوْبَةً،
وَنَسْجُدُهَا شُكْرًا. (3)
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمَا قَال: (ص) لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ. (4)
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 193، وفتح القدير 1 / 381، وجواهر الإكليل 1 / 71
(2) حديث: " إنما هي توبة نبي ". أخرجه أبو داود (2 / 124 - تحقيق عزت عبيد
دعاس) وإسناده حسن.
(3) حديث: " سجدها داود توبة، ونسجدها شكرًا ". أخرجه النسائي (2 / 159 - ط
المكتبة التجارية) .
(4) حديث ابن عباس: " (ص) ليست من عزائم السجود ". أخرجه البخاري (الفتح 2
/ 552 - ط السلفية) .
(24/218)
وَقَالُوا: إِذَا قَرَأَ (ص) مِنْ غَيْرِ
الصَّلاَةِ اسْتُحِبَّ أَنْ يَسْجُدَ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَإِنْ قَرَأَهَا فِي
الصَّلاَةِ يَنْبَغِي أَلاَّ يَسْجُدَ، فَإِنْ خَالَفَ وَسَجَدَ نَاسِيًا
أَوْ جَاهِلاً لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَإِنْ
سَجَدَهَا عَامِدًا عَالِمًا بِتَحْرِيمِهَا فِي الصَّلاَةِ بَطَلَتْ
صَلاَتُهُ عَلَى الأَْصَحِّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ، لأَِنَّهَا سَجْدَةُ
شُكْرٍ، فَبَطَلَتْ بِهَا الصَّلاَةُ كَالسُّجُودِ فِي الصَّلاَةِ عِنْدَ
تَجَدُّدِ نِعْمَةٍ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: لاَ تَبْطُل لأَِنَّهَا
تَتَعَلَّقُ بِالتِّلاَوَةِ فَهِيَ كَسَائِرِ سَجَدَاتِ التِّلاَوَةِ،
وَلَوْ سَجَدَ إِمَامُهُ فِي (ص) لِكَوْنِهِ يَعْتَقِدُهَا فَثَلاَثَةُ
أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا: لاَ يُتَابِعُهُ بَل إِنْ شَاءَ نَوَى مُفَارَقَتَهُ
لأَِنَّهُ مَعْذُورٌ، وَإِنْ شَاءَ يَنْتَظِرُهُ قَائِمًا كَمَا لَوْ قَامَ
إِلَى خَامِسَةٍ، فَإِنِ انْتَظَرَهُ لَمْ يَسْجُدْ لِلسَّهْوِ لأَِنَّ
الْمَأْمُومَ لاَ سَهْوَ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي: لاَ يُتَابِعُهُ أَيْضًا،
وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْمُفَارَقَةِ وَالاِنْتِظَارِ، فَإِنِ انْتَظَرَهُ
سَجَدَ لِلسَّهْوِ بَعْدَ سَلاَمِ الإِْمَامِ؛ لأَِنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ
إِمَامَهُ زَادَ فِي صَلاَتِهِ جَاهِلاً، وَإِنَّ لِسُجُودِ السَّهْوِ
تَوَجُّهًا عَلَيْهِمَا فَإِذَا أَخَل بِهِ الإِْمَامُ سَجَدَ
الْمَأْمُومُ، وَالثَّالِثُ: يُتَابِعُهُ فِي سُجُودِهِ فِي (ص)
لِتَأَكُّدِ مُتَابَعَةِ الإِْمَامِ.
وَمُقَابِل الْمَنْصُوصِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ
وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ
سَجْدَةَ (ص) سَجْدَةُ تِلاَوَةٍ مِنْ عَزَائِمِ
(24/219)
السُّجُودِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي
الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ، يَسْجُدُ
مَنْ تَلاَهَا أَوْ سَمِعَهَا (1) وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ أَبُو مُوسَى
وَأَبُو سَعِيدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمْ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ
فِيهَا. (2)
وَيُنْظَرُ حُكْمُ السُّجُودِ فِي الصَّلاَةِ مِنْ آيَةِ السَّجْدَةِ فِي
سُورَةِ (ص) فِي بَحْثِ: (سُجُودِ الشُّكْرِ) .
3 - سَجَدَاتُ الْمُفَصَّل:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ فِي الْمُفَصَّل ثَلاَثَ
سَجَدَاتٍ - الْمُفَصَّل مِنْ أَوَّل سُورَةِ (ق) إِلَى آخِرِ الْمُصْحَفِ
- أَحَدُهَا فِي آخِرِ النَّجْمِ، وَالثَّانِيَةُ فِي الآْيَةِ
الْحَادِيَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ سُورَةِ الاِنْشِقَاقِ، وَالثَّالِثَةُ
فِي آخِرِ سُورَةِ الْعَلَقِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً مِنْهَا ثَلاَثٌ
فِي الْمُفَصَّل. (3) وَلِمَا رَوَى
__________
(1) المجموع 4 / 60 - 61، نهاية المحتاج 2 / 88، المغني 1 / 618.
(2) حديث أبي سعيد وابن عباس تقدم تخريجهما آنفًا. وأما حديث أبي موسى
فأورده ابن الهمام في فتح القدير (1 / 381 - ط بولاق) وعزاه إلى مسند أبي
حنيفة للحارثي.
(3) حديث عمرو بن العاص: " أن رسول الله أقرأه خمس عشرة سجدة ". أخرجه أبو
داود (2 / 120 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وضعفه عبد الحق الأشبيلي وابن
القطان، كذا في التلخيص لابن حجر (2 / 9 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(24/219)
أَبُو رَافِعٍ قَال: صَلَّيْتُ خَلْفَ
أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}
فَسَجَدَ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ السَّجْدَةُ؟ فَقَال: سَجَدْتُ بِهَا
خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ أَزَال
أَسْجُدُ فِيهَا حَتَّى أَلْقَاهُ (1) . وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: سَجَدْنَا مَعَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي {إِذَا السَّمَاءُ
انْشَقَّتْ} وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (2) وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ فَسَجَدَ بِهَا، وَمَا بَقِيَ
أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ إِلاَّ سَجَدَ. (3) وَلأَِنَّ آيَةَ سُورَةِ
النَّجْمِ: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} وَآيَةَ آخِرِ سُورَةِ
الْعَلَقِ: {كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} وَكِلْتَا
الآْيَتَيْنِ أَمْرٌ بِالسُّجُودِ. (4)
وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ لاَ سُجُودَ فِي شَيْءٍ مِنَ
الْمُفَصَّل، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَرَأْتُ عَلَى
__________
(1) حديث أبي رافع: " صليت خلف أبي هريرة العتمة ". أخرجه البخاري (الفتح 2
/ 559 - ط السلفية) ومسلم (1 / 407 - ط الحلبي) .
(2) حديث أبي هريرة: " سجدنا مع رسول الله في (إذا السماء انشقت) " أخرجه
مسلم (1 / 406 - ط الحلبي) .
(3) حديث عبد الله بن مسعود: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم
". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 553 - ط السلفية) ومسلم (1 / 405 - ط الحلبي)
.
(4) مجموع 4 / 62 - 63، بدائع الصنائع 1 / 193، والمغني 1 / 617.
(24/220)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ النَّجْمَ فَلَمْ يَسْجُدْ (1) وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَالاَ: لَيْسَ
فِي الْمُفَصَّل سَجْدَةٌ، وَبِمَا أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي
الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: سَجَدْتُ مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً
لَيْسَ فِيهَا مِنَ الْمُفَصَّل شَيْءٌ: الأَْعْرَافِ، وَالرَّعْدِ،
وَالنَّحْل، وَبَنِي إِسْرَائِيل، وَمَرْيَمَ، وَالْحَجِّ، وَسَجْدَةَ
الْفُرْقَانِ، وَسُورَةِ النَّمْل، وَالسَّجْدَةِ، وَفِي ص وَسَجْدَةِ
الْحَوَامِيمِ، (2) وَلِعَمَل أَهْل الْمَدِينَةِ لِعَدَمِ سُجُودِ
فُقَهَائِهَا وَقُرَّائِهَا فِي النَّجْمِ وَالاِنْشِقَاقِ (3) .
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا سَجَدَ
لِلتِّلاَوَةِ فِي ثَانِيَةِ الْحَجِّ أَوْ فِي سَجَدَاتِ الْمُفَصَّل لَمْ
تَبْطُل صَلاَتُهُ لِلْخِلاَفِ فِيهَا، وَقِيل: تَبْطُل صَلاَتُهُ إِلاَّ
أَنْ يَكُونَ مُقْتَدِيًا بِمَنْ يَسْجُدُهَا فَيَسْجُدُ مَعَهُ، فَإِنْ
تَرَكَ اتِّبَاعَهُ أَسَاءَ وَصَحَّتْ صَلاَتُهُ، وَلَوْ سَجَدَ دُونَ
إِمَامِهِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ. وَنَقَل الزَّرْقَانِيُّ اتِّجَاهَاتِ
الْمَالِكِيَّةِ فِي اعْتِبَارِ
__________
(1) حديث زيد بن ثابت: " قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم النجم فلم يسجد
". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 554 - ط السلفية) ومسلم (1 / 406 - ط الحلبي)
.
(2) حديث أبي الدرداء: " سجدت مع النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة
". أخرجه ابن ماجه (1 / 335 - ط الحلبي) وضعف إسناده البوصيري في مصباح
الزجاجة (1 / 201 - ط دار الجنان) .
(3) تفسير القرطبي 7 / 357، جواهر الإكليل 1 / 71، والدسوقي 1 / 308.
(24/220)
الْخِلاَفِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ السُّجُودِ
فِي ثَانِيَةِ الْحَجِّ وَسَجَدَاتِ الْمُفَصَّل الثَّلاَثِ حَقِيقِيًّا
أَوْ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ، فَقَال: جُمْهُورُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى أَنَّ
هَذَا الْخِلاَفَ حَقِيقِيٌّ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُصَنِّفِ خَلِيلٍ -
وَعَلَيْهِ فَيُمْنَعُ أَنْ يَسْجُدَهَا فِي الصَّلاَةِ، قَال سَنَدٌ:
لأَِنَّهُ يَزِيدُ فِيهَا فِعْلاً تَبْطُل بِمِثْلِهِ، وَسُمِّيَتِ
الإِْحْدَى عَشْرَةَ عَزَائِمَ مُبَالَغَةً فِي فِعْل السُّجُودِ مَخَافَةَ
أَنْ تُتْرَكَ. وَقِيل: إِنَّ الْخِلاَفَ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ وَالسُّجُودُ
فِي جَمِيعِهَا، إِلاَّ أَنَّهُ فِي الإِْحْدَى عَشْرَةَ آكَدُ، وَيَشْهَدُ
لَهُ قَوْل الْمُوَطَّأِ: عَزَائِمُ السُّجُودِ إِحْدَى عَشْرَةَ أَيِ
الْمُتَأَكِّدُ مِنْهَا. (1)
كَيْفِيَّةُ سُجُودِ التِّلاَوَةِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ سُجُودَ التِّلاَوَةِ يَحْصُل
بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ، وَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ السَّجْدَةَ
لِلتِّلاَوَةِ تَكُونُ بَيْنَ تَكْبِيرَتَيْنِ، وَأَنَّهُ يُشْتَرَطُ
فِيهَا وَيُسْتَحَبُّ لَهَا مَا يُشْتَرَطُ وَيُسْتَحَبُّ لِسَجْدَةِ
الصَّلاَةِ مِنْ كَشْفِ الْجَبْهَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ بِهَا بِالْيَدَيْنِ
وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ وَالأَْنْفِ، وَمُجَافَاةِ
الْمِرْفَقَيْنِ مِنَ الْجَنْبَيْنِ وَالْبَطْنِ عَنِ الْفَخِذَيْنِ،
وَرَفْعِ السَّاجِدِ أَسَافِلَهُ عَنْ أَعَالِيهِ وَتَوْجِيهِ أَصَابِعِهِ
إِلَى الْقِبْلَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَفْصِيل كَيْفِيَّةِ أَدَاءِ السُّجُودِ
__________
(1) الدسوقي 1 / 308، الزرقاني 1 / 273.
(24/221)
لِلتِّلاَوَةِ اخْتِلاَفًا يَحْسُنُ مَعَهُ
إِفْرَادُ أَقْوَال كُل مَذْهَبٍ بِبَيَانٍ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُكْنَ سَجْدَةِ التِّلاَوَةِ
السُّجُودُ أَوْ بَدَلُهُ مِمَّا يَقُومُ مَقَامَهُ كَرُكُوعِ مُصَلٍّ
وَإِيمَاءِ مَرِيضٍ وَرَاكِبٍ.
وَقَالُوا: إِنَّ سُجُودَ التِّلاَوَةِ سَجْدَةٌ بَيْنَ تَكْبِيرَتَيْنِ
مَسْنُونَتَيْنِ جَهْرًا، وَاسْتَحَبُّوا لَهُ الْخُرُورَ لَهُ مِنْ
قِيَامٍ، فَمَنْ أَرَادَ السُّجُودَ كَبَّرَ وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ
وَسَجَدَ ثُمَّ كَبَّرَ وَرَفَعَ رَأْسَهُ اعْتِبَارًا بِسَجْدَةِ
الصَّلاَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَال لِلتَّالِي: إِذَا قَرَأْتَ سَجْدَةً
فَكَبِّرْ وَاسْجُدْ وَإِذَا رَفَعْتَ رَأْسَك فَكَبِّرْ،
وَالتَّكْبِيرَتَانِ عِنْدَ الْهُوِيِّ لِلسُّجُودِ وَعِنْدَ الرَّفْعِ
مِنْهُ مَنْدُوبَتَانِ لاَ وَاجِبَتَانِ، فَلاَ يَرْفَعُ السَّاجِدُ
فِيهِمَا يَدَيْهِ؛ لأَِنَّ الرَّفْعَ لِلتَّحْرِيمِ، وَلاَ تَحْرِيمَ
لِسُجُودِ التِّلاَوَةِ، وَقَدِ اشْتُرِطَتِ التَّحْرِيمَةُ فِي الصَّلاَةِ
لِتَوْحِيدِ الأَْفْعَال الْمُخْتَلِفَةِ فِيهَا مِنْ قِيَامٍ وَقِرَاءَةٍ
وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، وَبِالتَّحْرِيمَةِ صَارَتْ فِعْلاً وَاحِدًا،
وَأَمَّا سَجْدَةُ التِّلاَوَةِ فَمَاهِيَّتُهَا فِعْلٌ وَاحِدٌ
فَاسْتَغْنَتْ عَنِ التَّحْرِيمَةِ؛ وَلأَِنَّ السُّجُودَ وَجَبَ
تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى وَخُضُوعًا لَهُ عَزَّ وَجَل.
وَتُؤَدَّى سَجْدَةُ التِّلاَوَةِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - فِي
الصَّلاَةِ بِسُجُودٍ أَوْ رُكُوعٍ غَيْرِ رُكُوعِ الصَّلاَةِ
وَسُجُودِهَا، وَتُؤَدَّى بِرُكُوعِ الصَّلاَةِ إِذَا كَانَ الرُّكُوعُ
عَلَى الْفَوْرِ مِنْ قِرَاءَةِ آيَةٍ أَوْ آيَتَيْنِ وَكَذَا الثَّلاَثُ
عَلَى الظَّاهِرِ، وَكَانَ الْمُصَلِّي قَدْ نَوَى كَوْنَ
(24/221)
الرُّكُوعِ لِسُجُودِ التِّلاَوَةِ عَلَى
الرَّاجِحِ، وَتُؤَدَّى بِسُجُودِ الصَّلاَةِ عَلَى الْفَوْرِ وَإِنْ لَمْ
يَنْوِ، وَلَوْ نَوَاهَا الإِْمَامُ فِي رُكُوعِهِ وَلَمْ يَنْوِهَا
الْمُؤْتَمُّ لَمْ تُجْزِهِ، وَيَسْجُدُ إِذَا سَلَّمَ الإِْمَامُ
وَيُعِيدُ الْقَعْدَةَ، وَلَوْ تَرَكَهَا فَسَدَتْ صَلاَتُهُ، وَذَلِكَ فِي
الْجَهْرِيَّةِ، وَالأَْصْل فِي أَدَائِهَا السُّجُودُ، وَهُوَ أَفْضَل،
وَلَوْ رَكَعَ الْمُصَلِّي لَهَا عَلَى الْفَوْرِ جَازَ، وَإِنْ فَاتَ
الْفَوْرُ لاَ يَصِحُّ أَنْ يَرْكَعَ لَهَا وَلَوْ فِي حُرْمَةِ
الصَّلاَةِ، فَلاَ بُدَّ لَهَا مِنْ سُجُودٍ خَاصٍّ بِهَا مَا دَامَ فِي
حُرْمَةِ الصَّلاَةِ؛ لأَِنَّ سَجْدَةَ التِّلاَوَةِ صَارَتْ دَيْنًا
وَالدَّيْنُ يُقْضَى بِمَا لَهُ لاَ بِمَا عَلَيْهِ، وَالرُّكُوعُ
وَالسُّجُودُ عَلَيْهِ فَلاَ يَتَأَدَّى بِهِ الدَّيْنُ، وَإِذَا سَجَدَ
لِلتِّلاَوَةِ أَوْ رَكَعَ لَهَا عَلَى حِدَةٍ فَوْرًا يَعُودُ إِلَى
الْقِيَامِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ يُعْقِبَهُ بِالرُّكُوعِ بَل يَقْرَأَ
بَعْدَ قِيَامِهِ آيَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا فَصَاعِدًا ثُمَّ يَرْكَعَ،
وَإِنْ كَانَتِ السَّجْدَةُ مِنْ آخِرِ السُّورَةِ يَقْرَأُ مِنْ سُورَةٍ
أُخْرَى ثُمَّ يَرْكَعُ.
أَمَّا فِي خَارِجِ الصَّلاَةِ فَلاَ يُجْزِئُ الرُّكُوعُ عَنْ سُجُودِ
التِّلاَوَةِ لاَ قِيَاسًا وَلاَ اسْتِحْسَانًا كَمَا فِي الْبَدَائِعِ،
وَهُوَ الْمَرْوِيُّ فِي الظَّاهِرِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ سَجْدَةَ التِّلاَوَةِ شَابَهَتِ
الصَّلاَةَ، وَلِذَا شُرِطَ لَهَا مَا شُرِطَ لِلصَّلاَةِ مِنَ
الطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا، وَشَابَهَتِ الْقِرَاءَةَ لأَِنَّهَا مِنْ
تَوَابِعِهَا، وَلِذَا تُؤَدَّى - كَالْقِرَاءَةِ - بِلاَ إِحْرَامٍ، أَيْ
__________
(1) رد المحتار 1 / 515 - 518، فتح القدير 1 / 380، 391، 392، بدائع
الصنائع 1 / 192.
(24/222)
بِغَيْرِ تَكْبِيرٍ لِلإِْحْرَامِ مَعَ
رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَهُ زِيَادَةً عَلَى التَّكْبِيرِ لِلْهُوِيِّ
وَالرَّفْعِ، وَبِلاَ سَلاَمٍ عَلَى الْمَشْهُورِ.
وَعَدَمُ مَشْرُوعِيَّةِ التَّسْلِيمِ فِي سَجْدَةِ التِّلاَوَةِ لاَ
يَعْنِي عَدَمَ النِّيَّةِ لَهَا؛ لأَِنَّ سَجْدَةَ التِّلاَوَةِ صَلاَةٌ
وَالنِّيَّةُ لاَ بُدَّ مِنْهَا فِي الصَّلاَةِ بِلاَ نِزَاعٍ،
وَالنِّيَّةُ لِسَجْدَةِ التِّلاَوَةِ هِيَ أَنْ يَنْوِيَ أَدَاءَ هَذِهِ
السُّنَّةِ الَّتِي هِيَ السَّجْدَةُ، قَال الزَّرْقَانِيُّ: وَيُكْرَهُ
الإِْحْرَامُ وَالسَّلاَمُ، لَكِنْ يَبْعُدُ أَوْ يُمْنَعُ أَنْ
يُتَصَوَّرَ هُوِيُّهُ لِسَجْدَةِ التِّلاَوَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْضَارِ
نِيَّةٍ لِتِلْكَ السَّجْدَةِ.
وَقَالُوا: وَيَنْحَطُّ السَّاجِدُ لِسَجْدَةِ التِّلاَوَةِ مِنْ قِيَامٍ،
وَلاَ يَجْلِسُ لِيَأْتِيَ بِهَا مِنْهُ، وَيَنْزِل الرَّاكِبُ،
وَيُكَبِّرُ لِخَفْضِهِ فِي سُجُودِهِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ إِذَا كَانَ
بِصَلاَةٍ، بَل لَوْ بِغَيْرِ صَلاَةٍ، خِلاَفًا لِمَنْ قَال: إِنَّ مَنْ
سَجَدَ لِلتِّلاَوَةِ بِغَيْرِ صَلاَةٍ لاَ يُكَبِّرُ لِخَفْضٍ وَلاَ
لِرَفْعٍ، وَقَال بَعْضُ الشُّرَّاحِ: الظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَ هَذَا
التَّكْبِيرِ السُّنِّيَّةُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ سَجْدَةَ التِّلاَوَةِ
فِي الصَّلاَةِ مِنْ جُمْلَةِ الصَّلاَةِ وَالتَّكْبِيرُ فِيهَا سُنَّةٌ،
وَقَال غَيْرُهُمْ: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَلاَ يَكْفِي عَنْ سَجْدَةِ
التِّلاَوَةِ - عِنْدَهُمْ - رُكُوعٌ، أَيْ لاَ يَجْعَل الرُّكُوعَ
بَدَلَهَا أَوْ عِوَضًا عَنْهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي صَلاَةٍ أَمْ لاَ.
وَإِنْ تَرَكَ سَجْدَةَ التِّلاَوَةِ عَمْدًا وَقَصَدَ الرُّكُوعَ
الرُّكْنِيَّ صَحَّ رُكُوعُهُ وَكُرِهَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ تَرَكَهَا
سَهْوًا عَنْهَا وَرَكَعَ قَاصِدًا الرُّكُوعَ مِنْ أَوَّل الأَْمْرِ
(24/222)
فَذَكَرَهَا وَهُوَ رَاكِعٌ اعْتُدَّ
بِرُكُوعِهِ فَيَمْضِي عَلَيْهِ وَيَرْفَعُ لِرَكْعَتِهِ عِنْدَ مَالِكٍ
مِنْ رِوَايَةِ أَشْهَبَ، لاَ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ فَيَخِرُّ سَاجِدًا،
ثُمَّ يَقُومُ فَيَقْرَأُ شَيْئًا وَيَرْكَعُ، وَيَسْجُدُ بَعْدَ
السَّلاَمِ إِنْ كَانَ قَدِ اطْمَأَنَّ بِرُكُوعِهِ الَّذِي تَذَكَّرَ
فِيهِ تَرْكَهَا لِزِيَادَةِ الرُّكُوعِ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: السَّاجِدُ لِلتِّلاَوَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي
الصَّلاَةِ أَوْ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ:
أ - فِي الصَّلاَةِ:
مَنْ أَرَادَ السُّجُودَ لِلتِّلاَوَةِ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ، إِمَامًا
كَانَ أَوْ مُنْفَرِدًا أَوْ مَأْمُومًا، نَوَى السُّجُودَ بِالْقَلْبِ
مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ وَلاَ تَكْبِيرٍ لِلاِفْتِتَاحِ لأَِنَّهُ
مُتَحَرِّمٌ بِالصَّلاَةِ، فَإِنْ تَلَفَّظَ بِالنِّيَّةِ بَطَلَتْ
صَلاَتُهُ، كَمَا لَوْ كَبَّرَ بِقَصْدِ الإِْحْرَامِ، وَالنِّيَّةُ
وَاجِبَةٌ فِي حَقِّ الإِْمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ وَمَنْدُوبَةٌ فِي حَقِّ
الْمَأْمُومِ لِحَدِيثِ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ. (2)
وَقَال ابْنُ الرِّفْعَةِ وَالْخَطِيبُ (لَعَلَّهُ الشِّرْبِينِيُّ) : لاَ
يَحْتَاجُ فِي هَذَا السُّجُودِ إِلَى نِيَّةٍ؛ لأَِنَّ نِيَّةَ الصَّلاَةِ
تَنْسَحِبُ عَلَيْهِ وَتَشْمَلُهُ بِوَاسِطَةِ شُمُولِهَا لِلْقِرَاءَةِ.
__________
(1) شرح الزرقاني وحاشية البناني 1 / 271 - 273، وجواهر الإكليل 1 / 71،
الدسوقي 1 / 312.
(2) حديث: " إنما الأعمال بالنيات ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 9 - ط
السلفية) ومسلم (3 / 1515 - ط الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب ولفظ مسلم: "
بالنية ".
(24/223)
وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُكَبِّرَ فِي
الْهُوِيِّ إِلَى السُّجُودِ وَلاَ يَرْفَعَ الْيَدَ؛ لأَِنَّ الْيَدَ لاَ
تُرْفَعُ فِي الْهُوِيِّ إِلَى السُّجُودِ فِي الصَّلاَةِ، وَيُكَبِّرُ
عِنْدَ رَفْعِهِ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ كَمَا يَفْعَل فِي سَجَدَاتِ
الصَّلاَةِ.
وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ قَامَ وَلاَ يَجْلِسُ
لِلاِسْتِرَاحَةِ، فَإِذَا قَامَ اسْتُحِبَّ أَنْ يَقْرَأَ شَيْئًا ثُمَّ
يَرْكَعَ، فَإِنِ انْتَصَبَ قَائِمًا ثُمَّ رَكَعَ بِلاَ قِرَاءَةٍ جَازَ
إِذَا كَانَ قَدْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ قَبْل سُجُودِهِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي
وُجُوبِ الاِنْتِصَابِ قَائِمًا، لأَِنَّ الْهُوِيَّ إِلَى الرُّكُوعِ مِنَ
الْقِيَامِ وَاجِبٌ. قَال النَّوَوِيُّ: وَفِي الإِْبَانَةِ وَالْبَيَانِ
وَجْهٌ أَنَّهُ لَوْ رَفَعَ مِنْ سُجُودِ التِّلاَوَةِ إِلَى الرُّكُوعِ
وَلَمْ يَنْتَصِبْ أَجْزَأَهُ الرُّكُوعُ، وَهُوَ غَلَطٌ نَبَّهْتُ
عَلَيْهِ لِئَلاَّ يُغْتَرَّ بِهِ. (1)
ب - فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ:
مَنْ أَرَادَ السُّجُودَ لِلتِّلاَوَةِ وَهُوَ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ نَوَى
السُّجُودَ، لِحَدِيثِ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَاسْتُحِبَّ
لَهُ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ، ثُمَّ كَبَّرَ لِلإِْحْرَامِ رَافِعًا
يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ كَمَا يَفْعَل فِي تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ
فِي الصَّلاَةِ، ثُمَّ كَبَّرَ لِلْهُوِيِّ لِلسُّجُودِ بِلاَ رَفْعٍ
لِيَدَيْهِ، وَسَجَدَ سَجْدَةً وَاحِدَةً كَسَجْدَةِ الصَّلاَةِ، وَرَفَعَ
رَأْسَهُ مُكَبِّرًا، وَجَلَسَ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَشَهُّدٍ
كَتَسْلِيمِ الصَّلاَةِ.
وَقَالُوا: أَرْكَانُ السُّجُودِ لِلتِّلاَوَةِ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ
__________
(1) المجموع 4 / 63 - 64، القليوبي وعميرة 1 / 208.
(24/223)
أَرْبَعَةٌ: النِّيَّةُ، وَتَكْبِيرَةُ
الإِْحْرَامِ، وَالسَّجْدَةُ، وَالسَّلاَمُ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ أَرَادَ السُّجُودَ لِلتِّلاَوَةِ يُكَبِّرُ
لِلْهُوِيِّ لاَ لِلإِْحْرَامِ وَلَوْ خَارِجَ الصَّلاَةِ، خِلاَفًا
لأَِبِي الْخَطَّابِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمَا: كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَيْنَا
الْقُرْآنَ فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ كَبَّرَ وَسَجَدَ وَسَجَدْنَا
مَعَهُ. (2) وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَبَّرَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَيُكَبِّرُ
السَّاجِدُ لِلتِّلاَوَةِ إِذَا رَفَعَ مِنَ السُّجُودِ لأَِنَّهُ سُجُودٌ
مُفْرَدٌ فَشُرِعَ التَّكْبِيرُ فِي ابْتِدَائِهِ وَفِي الرَّفْعِ مِنْهُ
كَسُجُودِ السَّهْوِ وَصُلْبِ الصَّلاَةِ، وَيَجْلِسُ فِي غَيْرِ
الصَّلاَةِ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ؛ لأَِنَّ السَّلاَمَ
يَعْقُبُهُ فَشُرِعَ لِيَكُونَ سَلاَمُهُ فِي حَال جُلُوسِهِ، بِخِلاَفِ
مَا إِذَا كَانَ فِي الصَّلاَةِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً
عَنْ يَمِينِهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ
التَّسْلِيمَ رُكْنٌ. (3)
الْقِيَامُ لِسُجُودِ التِّلاَوَةِ:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ السُّجُودَ
لِلتِّلاَوَةِ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ، هَل يَقُومُ
__________
(1) المجموع 4 / 64 - 65، نهاية المحتاج 2 / 95، القليوبي 1 / 207.
(2) حديث ابن عمر: " كان صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن، فإذا مر
بالسجدة كبر وسجد ". أخرجه أبو داود (2 / 126 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وضعف
ابن حجر أحد رواته كما في التلخيص (2 / 9 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) كشاف القناع 1 / 448، الإنصاف 2 / 198.
(24/224)
فَيَسْتَوِي قَائِمًا ثُمَّ يُكَبِّرُ
وَيَهْوِي لِلسُّجُودِ، أَمْ لاَ:
ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ
السُّجُودَ أَنْ يَقُومَ فَيَسْتَوِيَ ثُمَّ يُكَبِّرَ وَيَخِرَّ سَاجِدًا؛
لأَِنَّ الْخُرُورَ سُقُوطٌ مِنْ قِيَامٍ، وَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَرَدَ
بِهِ فِي قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ
لِلأَْذْقَانِ سُجَّدًا} . (1)
وَلِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا " أَنَّهَا
كَانَتْ تَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ، فَإِذَا مَرَّتْ بِالسَّجْدَةِ قَامَتْ
فَسَجَدَتْ (2) وَتَشْبِيهًا لِسَجْدَةِ التِّلاَوَةِ بِصَلاَةِ النَّفْل.
وَالأَْصَحُّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ
يُسْتَحَبُّ لِمَنْ يُرِيدُ السُّجُودَ لِلتِّلاَوَةِ أَنْ يَقُومَ
فَيَسْتَوِيَ ثُمَّ يُكَبِّرَ ثُمَّ يَهْوِيَ لِلسُّجُودِ، وَهُوَ
اخْتِيَارُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْمُحَقِّقِينَ، قَال الإِْمَامُ:
وَلَمْ أَرَ لِهَذَا الْقِيَامِ ذِكْرًا وَلاَ أَصْلاً، وَقَال
النَّوَوِيُّ: لَمْ يَذْكُرِ الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ الأَْصْحَابِ هَذَا
الْقِيَامَ وَلاَ ثَبَتَ فِيهِ شَيْءٌ يُعْتَمَدُ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ،
فَالاِخْتِيَارُ تَرْكُهُ؛ لأَِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحْدَثَاتِ، وَقَدْ
تَظَاهَرَتِ الأَْحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنِ
الْمُحْدَثَاتِ (3) .
__________
(1) من الآية 107 من سورة الإسراء.
(2) أثر عائشة: " أنها كانت تقرأ في المصحف ". أخرجه ابن أبي شيبة 2 / 499
- ط مطبعة العلوم الشرفية - حيدر أباد) وضعفه النووي في المجموع (3 / 518 -
ط المنيرية) .
(3) بدائع الصنائع 1 / 192، المجموع 4 / 65، مطالب أولي النهى 1 / 586.
(24/224)
التَّسْبِيحُ وَالدُّعَاءُ فِي سُجُودِ
التِّلاَوَةِ:
13 - مَنْ يَسْجُدُ لِلتِّلاَوَةِ إِنْ قَال فِي سُجُودِهِ لِلتِّلاَوَةِ
مَا يَقُولُهُ فِي سُجُودِ الصَّلاَةِ جَازَ وَكَانَ حَسَنًا، وَسَوَاءٌ
فِيهِ التَّسْبِيحُ وَالدُّعَاءُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُول فِي سُجُودِهِ
مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول فِي سُجُودِ
الْقُرْآنِ: سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ
بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ (1) وَإِنْ قَال: اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا
عِنْدَكَ أَجْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا، وَضَعْ عَنِّي بِهَا
وِزْرًا، وَاقْبَلْهَا مِنِّي كَمَا قَبِلْتهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ حَسَنٌ (2) لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنِّي
رَأَيْتُنِي اللَّيْلَةَ وَأَنَا نَائِمٌ كَأَنِّي أُصَلِّي خَلْفَ
شَجَرَةٍ فَسَجَدْتُ، فَسَجَدَتِ الشَّجَرَةُ لِسُجُودِي فَسَمِعْتُهَا
وَهِيَ تَقُول: اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا، وَضَعْ
عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا، وَتَقَبَّلْهَا
مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ:
فَقَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجْدَةً ثُمَّ
سَجَدَ
__________
(1) حديث عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجود القرآن
". أخرجه الترمذي (2 / 474 - ط الحلبي) وقال: حديث حسن صحيح.
(2) أي: كما قبلت من داود - عليه السلام - السجدة لا بوصف سجدة التلاوة؛
لأن سجدته كانت شكرًا لله تعالى أن أراه الحق في الزوجة ببعث الملكين
يختصمان. شرح الزرقاني 1 / 272.
(24/225)
فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ سَاجِدُ يَقُول مِثْل
مَا أَخْبَرَهُ الرَّجُل عَنْ قَوْل الشَّجَرَةِ، (1) وَنُقِل عَنِ
الشَّافِعِيِّ أَنَّ اخْتِيَارَهُ أَنْ يَقُول السَّاجِدُ فِي سُجُودِ
التِّلاَوَةِ: {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا
لَمَفْعُولاً} قَال النَّوَوِيُّ: وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي مَدْحَ
هَذَا فَهُوَ حَسَنٌ، وَقَال الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ: وَيُسَنُّ أَنْ يَدْعُوَ بَعْدَ التَّسْبِيحِ. (2)
التَّسْلِيمُ مِنْ سُجُودِ التِّلاَوَةِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ تَسْلِيمَ مِنْ سُجُودِ
التِّلاَوَةِ إِذَا كَانَ فِي الصَّلاَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّسْلِيمِ
مِنْهُ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ
الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْقَوْل الْمُقَابِل لِلأَْصَحِّ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمُقَابِل الْمُخْتَارِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ،
إِلَى أَنَّهُ لاَ تَسْلِيمَ مِنْ سُجُودِ التِّلاَوَةِ فِي غَيْرِ
الصَّلاَةِ، كَمَا لاَ يُسَلِّمُ مِنْهُ فِي الصَّلاَةِ؛ وَلأَِنَّ
التَّسْلِيمَ تَحْلِيلٌ مِنَ التَّحْرِيمِ لِلصَّلاَةِ، وَلاَ تَحْرِيمَةَ
لَهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ، فَلاَ يُعْقَل
التَّحْلِيل بِالتَّسْلِيمِ.
وَالأَْصَحُّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمُخْتَارُ
__________
(1) حديث ابن عباس: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول
الله، إني رأيتني الليلة ". أخرجه الترمذي (2 / 473 - ط الحلبي) ، وحسنه
ابن حجر كما في الفتوحات لابن علان (2 / 276 - ط المنيرية) .
(2) شرح الزرقاني 1 / 272، المجموع 4 / 64 - 65، أسنى المطالب 1 / 198،
كشاف القناع 1 / 449.
(24/225)
مِنَ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ، وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ
يَجِبُ التَّسْلِيمُ مِنْ سُجُودِ التِّلاَوَةِ لأَِنَّهُ صَلاَةٌ ذَاتُ
إِحْرَامٍ فَافْتَقَرَتْ إِلَى السَّلاَمِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ (1)
لِحَدِيثِ: مِفْتَاحُ الصَّلاَةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ
وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ. (2)
السُّجُودُ لِلتِّلاَوَةِ خَلْفَ التَّالِي:
15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَرَأَ الرَّجُل فِي
غَيْرِ صَلاَةٍ آيَةَ السَّجْدَةِ وَمَعَهُ قَوْمٌ، فَالسُّنَّةُ فِي
أَدَاءِ سَجْدَةِ التِّلاَوَةِ أَنْ يَتَقَدَّمَ التَّالِي وَيَصُفَّ
السَّامِعُونَ خَلْفَهُ، فَيَسْجُدَ التَّالِي ثُمَّ يَسْجُدَ
السَّامِعُونَ، لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْوَضْعِ وَلاَ بِالرَّفْعِ؛ لأَِنَّ
التَّالِيَ إِمَامُ السَّامِعِينَ، لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَلاَ عَلَى الْمِنْبَرِ سَجْدَةً
فَنَزَل وَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ (3) وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّ السَّامِعَ يَتْبَعُ التَّالِيَ فِي السَّجْدَةِ، وَلِمَا رُوِيَ
عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَال لِلتَّالِي:
كُنْتَ إِمَامَنَا لَوْ سَجَدْتَ لَسَجَدْنَا مَعَكَ، وَلَيْسَ هَذَا
اقْتِدَاءً حَقِيقَةً بَل صُورَةً، وَلِذَا يُسْتَحَبُّ أَلاَّ يَسْبِقُوهُ
بِالْوَضْعِ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 192، شرح الزرقاني 1 / 271، المجموع 4 / 64 - 65،
تفسير القرطبي 1 / 358، كشاف القناع 1 / 448.
(2) حديث: " مفتاح الصلاة الطهور ". أخرجه الترمذي (1 / 9 - ط الحلبي) من
حديث علي بن أبي طالب، وإسناده حسن.
(3) تقدم تخريجه (ف / 9) .
(24/226)
وَلاَ بِالرَّفْعِ، فَلَوْ كَانَ حَقِيقَةَ
ائْتِمَامٍ لَوَجَبَ ذَلِكَ، وَلَوْ تَقَدَّمَ السَّامِعُونَ عَلَى
التَّالِي أَوْ سَبَقُوهُ بِالْوَضْعِ أَوْ بِالرَّفْعِ أَجْزَأَهُمُ
السُّجُودُ لِلتِّلاَوَةِ لأَِنَّهُ مُشَارَكَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي
الْحَقِيقَةِ، وَلِذَا لَوْ فَسَدَتْ سَجْدَةُ التَّالِي بِسَبَبٍ مِنَ
الأَْسْبَابِ لاَ يَتَعَدَّى الْفَسَادُ إِلَى الْبَاقِينَ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُسَنُّ أَنْ يَسْجُدَ لِلتِّلاَوَةِ الْقَارِئُ
مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَصَلَحَ لِلإِْمَامَةِ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَجَلَسَ
لِيُسْمِعَ النَّاسَ حُسْنَ قِرَاءَتِهِ أَمْ لاَ.
وَيَسْجُدُ قَاصِدُ السَّمَاعِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، فَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ
السَّمَاعَ فَلاَ يَسْجُدْ.
وَيُشْتَرَطُ لِسُجُودِ الْمُسْتَمِعِ أَنْ يَجْلِسَ لِيَتَعَلَّمَ مِنَ
الْقَارِئِ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، أَوْ أَحْكَامَهُ وَمَخَارِجَ
حُرُوفِهِ، فَإِنْ جَلَسَ الْمُسْتَمِعُ لِمُجَرَّدِ الثَّوَابِ أَوْ
لِلتَّدَبُّرِ وَالاِتِّعَاظِ، أَوِ السُّجُودِ فَقَطْ، فَلاَ يَجِبُ
السُّجُودُ عَلَيْهِ. كَمَا يَلْزَمُ السَّامِعَ السُّجُودُ وَلَوْ تَرَكَ
الْقَارِئُ السَّجْدَةَ سَهْوًا؛ لأَِنَّ تَرْكَهُ لاَ يُسْقِطُ طَلَبَهُ
مِنَ الآْخَرِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا وَتَرَكَهُ، فَيَتَّبِعُهُ
مَأْمُومُهُ. وَسُجُودُ الْقَارِئِ لَيْسَ شَرْطًا فِي سُجُودِ
الْمُسْتَمِعِ إِنْ صَلَحَ الْقَارِئُ لِيَؤُمَّ. (2)
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 192 - 193، فتح القدير 1 / 392.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 307.
(24/226)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا سَجَدَ
الْمُسْتَمِعُ فِي غَيْرِ صَلاَةٍ مَعَ الْقَارِئِ لاَ يَرْتَبِطُ بِهِ
وَلاَ يَنْوِي الاِقْتِدَاءَ بِهِ وَلَهُ الرَّفْعُ مِنَ السُّجُودِ
قَبْلَهُ، قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ مَنْعُ الاِقْتِدَاءِ
بِهِ، لَكِنَّ قَضِيَّةَ كَلاَمِ الْقَاضِي وَالْبَغَوِيِّ جَوَازُهُ،
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: لاَ يَتَوَقَّفُ سُجُودُ أَحَدِهِمَا عَلَى
سُجُودِ الآْخَرِ، وَلاَ يُسَنُّ الاِقْتِدَاءُ وَلاَ يَضُرُّ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: شَرَطَ لاِسْتِحْبَابِ السُّجُودِ أَيْ فِي غَيْرِ
الصَّلاَةِ كَوْنَ الْقَارِئِ يَصْلُحُ إِمَامًا لِلْمُسْتَمِعِ فَلاَ
يَسْجُدُ مُسْتَمِعٌ إِنْ لَمْ يَسْجُدِ التَّالِي وَلاَ قُدَّامَهُ أَوْ
عَنْ يَسَارِهِ مَعَ خُلُوِّ يَمِينِهِ لِعَدَمِ صِحَّةِ الاِئْتِمَامِ
بِهِ إِذَنْ، وَلاَ يَسْجُدُ رَجُلٌ بِتِلاَوَةِ امْرَأَةٍ وَخُنْثَى
لِعَدَمِ صِحَّةِ ائْتِمَامِهِ بِهِمَا، وَلاَ يَضُرُّ رَفْعُ رَأْسِ
مُسْتَمِعٍ قَبْل رَأْسِ قَارِئٍ، وَكَذَا لاَ يَضُرُّ سَلاَمُهُ قَبْل
سَلاَمِ الْقَارِئِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ إِمَامًا لَهُ حَقِيقَةً بَل
بِمَنْزِلَتِهِ وَإِلاَّ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فِي
الصَّلاَةِ فَلاَ يَرْفَعُ قَبْل إِمَامِهِ كَسُجُودِ الصُّلْبِ. (2)
مَا يَقُومُ مَقَامَ سُجُودِ التِّلاَوَةِ:
16 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ حَال الْقُدْرَةِ
وَالاِخْتِيَارِ - عَنِ السُّجُودِ لِلتِّلاَوَةِ فِي غَيْرِ
__________
(1) المجموع 4 / 72، روضة الطالبين 1 / 323، أسنى المطالب 1 / 198،
القليوبي 1 / 207.
(2) مطالب أولي النهى 1 / 582 - 584.
(24/227)
صَلاَةِ رُكُوعٍ أَوْ نَحْوِهِ. عَلَى
تَفْصِيلٍ مَرَّ فِي كَيْفِيَّةِ سُجُودٍ.
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يَقُومُ مَقَامَ السُّجُودِ
لِلتِّلاَوَةِ أَوِ الشُّكْرِ مَا يَقُومُ مَقَامَ التَّحِيَّةِ لِمَنْ
لَمْ يُرِدْ فِعْلَهَا وَلَوْ مُتَطَهِّرًا وَهُوَ: سُبْحَانَ اللَّهِ
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ التتارخانية أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلتَّالِي
أَوِ السَّامِعِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ السُّجُودُ أَنْ يَقُول: سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
قَال الشَّبْرامَلِّسِي: سُئِل ابْنُ حَجَرٍ عَنْ قَوْل الشَّخْصِ:
{سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} ،
عِنْدَ تَرْكِ السُّجُودِ لآِيَةِ السَّجْدَةِ لِحَدَثٍ أَوْ عَجْزٍ عَنِ
السُّجُودِ كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ عِنْدَنَا هَل يَقُومُ
الإِْتْيَانُ بِهَا مَقَامَ السُّجُودِ كَمَا قَالُوا بِذَلِكَ فِي دَاخِل
الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ أَنَّهُ يَقُول: سُبْحَانَ اللَّهِ
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. .
إِلَخْ. فَإِنَّهَا تَعْدِل رَكْعَتَيْنِ كَمَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ
زَكَرِيَّا فِي شَرْحِ الرَّوْضِ عَنِ الإِْحْيَاءِ، فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ:
إِنَّ ذَلِكَ لاَ أَصْل لَهُ فَلاَ يَقُومُ مَقَامَ السَّجْدَةِ بَل
يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ إِنْ قَصَدَ الْقِرَاءَةَ وَلاَ يَتَمَسَّكُ بِمَا
فِي الإِْحْيَاءِ. أَمَّا أَوَّلاً فَلأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ
وَإِنَّمَا قَال الْغَزَالِيُّ: إِنَّهُ يُقَال: إِنَّ ذَلِكَ يَعْدِل
رَكْعَتَيْنِ فِي الْفَضْل. وَقَال غَيْرُهُ: إِنَّ ذَلِكَ رُوِيَ عَنْ
بَعْضِ السَّلَفِ، وَمِثْل هَذَا لاَ حُجَّةَ فِيهِ بِفَرْضِ صِحَّتِهِ
(24/227)
فَكَيْفَ مَعَ عَدَمِ صِحَّتِهِ. وَأَمَّا
ثَانِيًا فَمِثْل ذَلِكَ لَوْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لِلْقِيَاسِ فِيهِ مَسَاغٌ؛ لأَِنَّ قِيَامَ لَفْظٍ
مَفْضُولٍ مَقَامَ فِعْلٍ فَاضِلٍ مَحْضُ فَضْلٍ، فَإِذَا صَحَّ فِي
صُورَةٍ لَمْ يَجُزْ قِيَاسُ غَيْرِهَا عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا
ثَالِثًا فَلأَِنَّ الأَْلْفَاظَ الَّتِي ذَكَرُوهَا فِي التَّحِيَّةِ
فِيهَا فَضَائِل وَخُصُوصِيَّاتٌ لاَ تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا. اهـ. وَهُوَ
يَقْتَضِي أَنَّ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. . إِلَخْ. لاَ
يَقُومُ مَقَامَ السُّجُودِ وَإِنْ قِيل بِهِ فِي التَّحِيَّةِ لِمَا
ذَكَرَهُ. (1)
سُجُودُ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ لِلتِّلاَوَةِ:
17 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ
السُّجُودَ يُجْزِئُهُ فِي سُجُودِ التِّلاَوَةِ الإِْيمَاءُ بِالسُّجُودِ
لِعُذْرِهِ.
وَقَالُوا: إِنَّ الْمُسَافِرَ الَّذِي يَسْجُدُ لِلتِّلاَوَةِ فِي
صَلاَتِهِ عَلَى الرَّاحِلَةِ يُجْزِئُهُ الإِْيمَاءُ عَلَى الرَّاحِلَةِ
تَبَعًا لِلصَّلاَةِ.
أَمَّا الْمُسَافِرُ الَّذِي يُرِيدُ السُّجُودَ لِلتِّلاَوَةِ عَلَى
الرَّاحِلَةِ فِي غَيْرِ صَلاَةٍ فَفِيهِ خِلاَفٌ: ذَهَبَ جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُومِئُ بِالسُّجُودِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ،
لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَرَأَ
__________
(1) رد المحتار 1 / 517 - 518، بدائع الصنائع 1 / 188، الدسوقي 1 / 312،
المجموع 4 / 72، كشاف القناع 1 / 447، القليوبي 1 / 206، ونقل رده
الشبراملسي (2 / 94 نهاية المحتاج) .
(24/228)
عَامَ الْفَتْحِ سَجْدَةً فَسَجَدَ
النَّاسُ كُلُّهُمْ، مِنْهُمُ الرَّاكِبُ وَالسَّاجِدُ فِي الأَْرْضِ
حَتَّى إِنَّ الرَّاكِبَ لَيَسْجُدُ عَلَى يَدِهِ. (1) وَلأَِنَّ
السُّجُودَ لِلتِّلاَوَةِ أَمْرٌ دَائِمٌ بِمَنْزِلَةِ التَّطَوُّعِ،
وَصَلاَةُ التَّطَوُّعِ تُؤَدَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَقَدْ رَوَى
الشَّيْخَانِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يُسَبِّحُ (يَسْجُدُ) عَلَى بَعِيرِهِ إِلاَّ الْفَرَائِضَ (2) وَسُومِحَ
فِيهَا لِمَشَقَّةِ النُّزُول وَإِنْ أَذْهَبَ الإِْيمَاءُ أَظْهَرَ
أَرْكَانَ السُّجُودِ وَهُوَ تَمْكِينُ الْجَبْهَةِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْل بِشْرٍ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ الإِْيمَاءُ عَلَى الرَّاحِلَةِ
لِفَوَاتِ أَعْظَمِ أَرْكَانِ سُجُودِ التِّلاَوَةِ وَهُوَ إِلْصَاقُ
الْجَبْهَةِ مِنْ مَوْضِعِ السُّجُودِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَرْقَدٍ
وَأَتَمَّ سُجُودَهُ جَازَ. وَالْمُسَافِرُ الَّذِي يَقْرَأُ آيَةَ
السَّجْدَةِ أَوْ يَسْمَعُهَا وَهُوَ مَاشٍ لاَ يَكْفِيهِ الإِْيمَاءُ بَل
يَسْجُدُ عَلَى الأَْرْضِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَرُوِيَ عَنْ
بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يُومِئُ. (3)
__________
(1) حديث ابن عمر: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ عام الفتح سجدة
". أخرجه أبو داود (2 / 125 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وأورده المنذري في
مختصره (2 / 119 - نشر دار المعرفة) وأشار إلى ضعف أحد رواته.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسبح على بعيره ". ورد من
حديث ابن عمر، أخرجه البخاري (2 / 575 ط السلفية) ومسلم (1 / 487 ط الحلبي)
.
(3) بدائع الصنائع 1 / 187 - 188، الدسوقي 1 / 307، المجموع 4 / 73، نهاية
المحتاج 2 / 100، المغني 1 / 626 - 627، 437.
(24/228)
قِرَاءَةُ آيَةِ السَّجْدَةِ لِلسُّجُودِ:
18 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي الْجُمْلَةِ الاِقْتِصَارُ عَلَى قِرَاءَةِ آيَةِ
السَّجْدَةِ وَحْدَهَا دُونَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا بِقَصْدِ
السُّجُودِ فَقَطْ. وَإِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لأَِنَّهُ قَصَدَ السَّجْدَةَ
لاَ التِّلاَوَةَ وَهُوَ خِلاَفُ الْعَمَل، وَحَيْثُ كُرِهَ الاِقْتِصَارُ
لاَ يَسْجُدُ.
وَلَوْ قَرَأَ فِي الصَّلاَةِ لاَ بِقَصْدِ السُّجُودِ فَلاَ كَرَاهَةَ،
وَكَذَا لَوْ قَرَأَ السَّجْدَةَ فِي صُبْحِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَخَصَّ
الرَّمْلِيُّ الْقِرَاءَةَ لِسَجْدَةِ: {أَلَم تَنْزِيل} فِي صُبْحِ
الْجُمُعَةِ، فَلَوْ قَرَأَ غَيْرَهَا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ إِنْ كَانَ
عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ لأَِنَّهُ كَزِيَادَةِ سُجُودٍ فِي الصَّلاَةِ
عَمْدًا. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَقْرَأَ آيَةَ
السَّجْدَةِ وَيَدَعَ مَا سِوَاهَا؛ لأَِنَّهُ مُبَادَرَةٌ إِلَيْهَا؛
وَلأَِنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَةُ مَا هُوَ مِنَ الْقُرْآنِ
طَاعَةٌ كَقِرَاءَةِ سُورَةٍ مِنْ بَيْنِ السُّوَرِ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ
يَقْرَأَ مَعَهَا آيَاتٍ دَفْعًا لِوَهْمِ تَفْضِيل آيِ السَّجْدَةِ عَلَى
غَيْرِهَا. (2)
__________
(1) شرح الزرقاني 1 / 276 - 277، وجواهر الإكليل 1 / 72، حاشية العدوي 1 /
309، وروضة الطالبين 1 / 323 - 324، ونهاية المحتاج 2 / 92، والقليوبي 1 /
206، وتحفة المحتاج 2 / 211، وأسنى المطالب 1 / 198.
(2) بدائع الصنائع 1 / 192، فتح القدير 1 / 392.
(24/229)
مُجَاوَزَةُ آيَةِ السَّجْدَةِ:
19 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلرَّجُل أَنْ
يَقْرَأَ السُّورَةَ أَوِ الآْيَاتِ فِي الصَّلاَةِ أَوْ غَيْرِهَا يَدَعُ
آيَةَ السَّجْدَةِ حَتَّى لاَ يَسْجُدَهَا، لأَِنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنِ
السَّلَفِ بَل نُقِلَتْ كَرَاهَتُهُ، وَلأَِنَّهُ يُشْبِهُ
الاِسْتِنْكَافَ؛ لأَِنَّهُ قَطْعٌ لِنَظْمِ الْقُرْآنِ وَتَغْيِيرٌ
لِتَأْلِيفِهِ، وَاتِّبَاعُ النَّظْمِ وَالتَّأْلِيفِ مَأْمُورٌ بِهِ، قَال
تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} . (1) أَيْ
تَأْلِيفَهُ، فَكَانَ التَّغْيِيرُ مَكْرُوهًا؛ وَلأَِنَّهُ فِي صُورَةِ
الْفِرَارِ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالإِْعْرَاضِ عَنْ تَحْصِيلِهَا بِالْفِعْل
وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَكَذَا فِيهِ صُورَةُ هَجْرِ آيَةِ السَّجْدَةِ
وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآن مَهْجُورًا. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ مُجَاوَزَةُ مَحَل السَّجْدَةِ بِلاَ
سُجُودٍ عِنْدَهُ لِمُتَطَهِّرٍ طَهَارَةً صُغْرَى وَقْتَ جَوَازٍ لَهَا،
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَطَهِّرًا أَوْ كَانَ الْوَقْتُ وَقْتَ نَهْيٍ
فَالصَّوَابُ أَنْ يُجَاوِزَ الآْيَةَ بِتَمَامِهَا لِئَلاَّ يُغَيِّرَ
الْمَعْنَى فَيَتْرُكَ تِلاَوَتَهَا بِلِسَانِهِ وَيَسْتَحْضِرَهَا
بِقَلْبِهِ مُرَاعَاةً لِنِظَامِ التِّلاَوَةِ (3) .
سُجُودُ التِّلاَوَةِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلاَةِ:
20 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ -
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي رِوَايَةِ الأَْثْرَمِ عَنْ
أَحْمَدَ - إِلَى أَنَّهُ
__________
(1) سورة القيامة / 18.
(2) فتح القدير 1 / 391 - 392، وبدائع الصنائع 1 / 192، كشاف القناع 1 /
449، مطالب أولي النهى 1 / 584.
(3) جواهر الإكليل 1 / 72، حاشية الدسوقي 1 / 309.
(24/229)
لاَ سُجُودَ لِلتِّلاَوَةِ فِي
الأَْوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْ صَلاَةِ التَّطَوُّعِ فِيهَا لِعُمُومِ
قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ صَلاَةَ بَعْدَ
الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ، وَلاَ صَلاَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ
حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ. (1)
وَعِنْدَهُمْ بَعْدَ هَذَا الْقَدْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ تَفْصِيلٌ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ تَلاَ شَخْصٌ آيَةَ السَّجْدَةِ أَوْ سَمِعَهَا
فِي وَقْتٍ غَيْرِ مَكْرُوهٍ فَأَدَّاهَا فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ لاَ
تُجْزِئُهُ؛ لأَِنَّهَا وَجَبَتْ كَامِلَةً فَلاَ تَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ
كَالصَّلاَةِ، وَلَوْ تَلاَهَا فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ وَسَجَدَهَا فِيهِ
أَجْزَأَهُ؛ لأَِنَّهُ أَدَّاهَا كَمَا وَجَبَتْ، وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْهَا
فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَسَجَدَهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ مَكْرُوهٍ جَازَ
أَيْضًا؛ لأَِنَّهُ أَدَّاهَا كَمَا وَجَبَتْ لأَِنَّهَا وَجَبَتْ
نَاقِصَةً وَأَدَّاهَا نَاقِصَةً. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُجَاوِزُ الْقَارِئُ آيَةَ السَّجْدَةِ إِنْ
كَانَ يَقْرَأُ وَقْتَ النَّهْيِ - كَوَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ
غُرُوبِهَا أَوْ خُطْبَةِ جُمُعَةٍ - وَلاَ يَسْجُدُ - عَلَى الْخِلاَفِ
عِنْدَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ - مَا لَمْ يَكُنْ فِي صَلاَةِ
فَرْضٍ، فَإِنْ كَانَ فِي صَلاَةِ فَرْضٍ قَرَأَ وَسَجَدَ قَوْلاً وَاحِدًا
بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ لأَِنَّ السُّجُودَ تَبَعٌ لِلْفَرْضِ (3) .
__________
(1) حديث: " لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس ". أخرجه البخاري (الفتح 2
/ 61 - ط السلفية) ومسلم (1 / 567 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري،
والسياق للبخاري.
(2) بدائع الصنائع 1 / 192، 296 - 297.
(3) جواهر الإكليل 1 / 72، العدوي على كفاية الطالب 1 / 309.
(24/230)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَسْجُدُ فِي
الأَْوْقَاتِ الَّتِي لاَ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهَا تَطَوُّعًا، قَال
الأَْثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَل عَمَّنْ قَرَأَ
سُجُودَ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ أَيَسْجُدُ؟ قَال:
لاَ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَسْجُدُ. وَاسْتَدَلُّوا
لِلرَّاجِحِ - رِوَايَةِ الأَْثْرَمِ - بِعُمُومِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ،
وَبِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ قَال:
كُنْتُ أَقُصُّ (أَغَطُّ) بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ فَأَسْجُدُ فَنَهَانِي
ابْنُ عُمَرَ، فَلَمْ أَنْتَهِ، ثَلاَثَ مِرَارٍ ثُمَّ عَادَ فَقَال:
إِنِّي صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَلَمْ
يَسْجُدُوا حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ (1) وَرَوَى الأَْثْرَمُ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ أَنْ قَاصًّا كَانَ يَقْرَأُ السَّجْدَةَ بَعْدَ
الْعَصْرِ فَيَسْجُدُ فَنَهَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَقَال: إِنَّهُمْ لاَ
يَعْقِلُونَ.
وَقَالُوا: لاَ يَنْعَقِدُ السُّجُودُ لِلتِّلاَوَةِ إِنِ ابْتَدَأَهُ
مُصَلٍّ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَلَوْ كَانَ جَاهِلاً بِالْحُكْمِ أَوْ
بِكَوْنِهِ وَقْتَ نَهْيٍ لأَِنَّ النَّهْيَ فِي الْعِبَادَاتِ يَقْتَضِي
الْفَسَادَ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ سُجُودُ التِّلاَوَةِ
__________
(1) حديث أبي تميمة الهجيمي: " كنت أقص بعد صلاة الصبح ". أخرجه أبو داود
(2 / 127 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وأورده المنذري في مختصره (2 / 120 - نشر
دار المعرفة) وقال: " في إسناده أبو بحر البكراوي، لا يحتج بحديثه ".
(2) مطالب أولي النهى 1 / 594، المغني 1 / 623.
(24/230)
فِي وَقْتِ الْكَرَاهَةِ لأَِنَّهُ مِنْ
ذَوَاتِ الأَْسْبَابِ، قَال النَّوَوِيُّ: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لاَ
يُكْرَهُ سُجُودُ التِّلاَوَةِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلاَةِ.
(1)
تِلاَوَةُ آيَةِ السَّجْدَةِ فِي الْخُطْبَةِ:
21 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ تَلاَ الإِْمَامُ آيَةَ
السَّجْدَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَجَدَهَا وَسَجَدَ
مَعَهُ مَنْ سَمِعَهَا (2) . لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلاَ سَجْدَةً عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَل وَسَجَدَ
وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ. (3)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي خُطْبَةِ
جُمُعَةٍ أَوْ غَيْرِهَا لاَ يَسْجُدُ، وَهَل يُكْرَهُ السُّجُودُ أَوْ
يَحْرُمُ، خِلاَفٌ عِنْدَهُمْ وَالظَّاهِرُ الْكَرَاهَةُ. (4)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ تَرْكُهَا لِلْخَطِيبِ إِذَا قَرَأَ
آيَتَهَا عَلَى الْمِنْبَرِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ السُّجُودُ مَكَانَهُ
لِكُلْفَةِ النُّزُول وَالصُّعُودِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ سَجَدَ
مَكَانَهُ إِنْ خَشِيَ طُول الْفَصْل، وَإِلاَّ نَزَل وَسَجَدَ إِنْ لَمْ
يَكُنْ فِيهِ كُلْفَةٌ (5) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ قَرَأَ سَجْدَةً فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ،
فَإِنْ شَاءَ نَزَل عَنِ الْمِنْبَرِ فَسَجَدَ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ
السُّجُودُ عَلَى الْمِنْبَرِ سَجَدَ عَلَيْهِ
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 193، والمجموع 4 / 72.
(2) رد المحتار 1 / 525، بدائع الصنائع 1 / 277
(3) الحديث تقدم (ف / 9) .
(4) جواهر الإكليل 1 / 72.
(5) روضة الطالبين 1 / 324، أسنى المطالب 1 / 198.
(24/231)
اسْتِحْبَابًا، وَإِنْ تَرَكَ السُّجُودَ
فَلاَ حَرَجَ لأَِنَّهُ سُنَّةٌ لاَ وَاجِبٌ (1) .
قِرَاءَةُ الإِْمَامِ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي صَلاَةِ السِّرِّ:
22 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ
لِلإِْمَامِ أَنْ يَقْرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي صَلاَةٍ يُخَافِتُ فِيهَا
بِالْقِرَاءَةِ، لأَِنَّ هَذَا لاَ يَنْفَكُّ عَنْ أَمْرٍ مَكْرُوهٍ،
لأَِنَّهُ إِذَا تَلاَ آيَةَ السَّجْدَةِ وَلَمْ يَسْجُدْ فَقَدْ تَرَكَ
الْوَاجِبَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالسُّنَّةَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ،
وَإِنْ سَجَدَ فَقَدْ لَبَّسَ عَلَى الْقَوْمِ لأَِنَّهُمْ يَظُنُّونَ
أَنَّهُ سَهَا عَنِ الرُّكُوعِ وَاشْتَغَل بِالسَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ
فَيُسَبِّحُونَ وَلاَ يُتَابِعُونَهُ، وَذَا مَكْرُوهٌ، وَمَا لاَ
يَنْفَكُّ عَنْ مَكْرُوهٍ كَانَ مَكْرُوهًا، وَتَرْكُ السَّبَبِ الْمُفْضِي
إِلَى ذَلِكَ أَوْلَى، وَفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ فَلَمْ يَكُنْ مَكْرُوهًا.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ تَلاَهَا مَعَ ذَلِكَ سَجَدَ بِهَا
لِتَقَرُّرِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ التِّلاَوَةُ، وَسَجَدَ
الْقَوْمُ مَعَهُ لِوُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ عَلَيْهِمْ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ لِلإِْمَامِ سُجُودٌ لِقِرَاءَةِ سَجْدَةٍ
فِي صَلاَةِ سِرٍّ؛ لأَِنَّهُ يَخْلِطُ عَلَى الْمَأْمُومِينَ فَإِنْ
سَجَدَ خُيِّرَ الْمَأْمُومُونَ بَيْنَ الْمُتَابَعَةِ لِلإِْمَامِ فِي
سُجُودِهِ وَتَرْكِهَا لأَِنَّهُمْ لَيْسُوا تَالِينَ وَلاَ مُسْتَمِعِينَ،
وَالأَْوْلَى السُّجُودُ مُتَابَعَةً لِلإِْمَامِ، (2) لِعُمُومِ
__________
(1) كشاف القناع 2 / 37.
(2) بدائع الصنائع 1 / 192، كشاف القناع 1 / 449، مطالب أولي النهى 1 /
588.
(24/231)
الْحَدِيثِ:. . . وَإِذَا سَجَدَ
فَاسْجُدُوا. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ إِنْ قَرَأَ سُورَةَ
سَجْدَةٍ فِي صَلاَةٍ سِرِّيَّةٍ اسْتُحِبَّ لَهُ تَرْكُ قِرَاءَةِ آيَةِ
السَّجْدَةِ، فَإِنْ قَرَأَهَا جَهَرَ بِهَا نَدْبًا، فَيَعْلَمُ
الْمَأْمُومُونَ سَبَبَ سُجُودِهِ وَيَتْبَعُونَهُ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ
يَجْهَرْ بِقِرَاءَةِ آيَةِ السَّجْدَةِ وَسَجَدَ لِلتِّلاَوَةِ اتَّبَعَ
الْمَأْمُومُونَ الإِْمَامَ فِي سُجُودِهِ وُجُوبًا غَيْرَ شَرْطٍ. .
عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ سَهْوِ الإِْمَامِ،
وَعِنْدَ سَحْنُونٍ: يُمْتَنَعُ أَنْ يَتْبَعُوهُ لاِحْتِمَال سَهْوِهِ،
فَإِنْ لَمْ يَتْبَعُوهُ صَحَّتْ صَلاَتُهُمْ؛ لأَِنَّ سُجُودَ
التِّلاَوَةِ لَيْسَ مِنَ الأَْفْعَال الْمُقْتَدَى بِهِ فِيهَا أَصَالَةً،
وَتَرْكُ الْوَاجِبِ الَّذِي لَيْسَ شَرْطًا لاَ يَقْتَضِي الْبُطْلاَنَ
(2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ لِلإِْمَامِ
قِرَاءَةُ آيَةِ السَّجْدَةِ وَلَوْ فِي صَلاَةٍ سِرِّيَّةٍ، لَكِنْ
يُسْتَحَبُّ لَهُ تَأْخِيرُ السُّجُودِ لِلتِّلاَوَةِ إِلَى الْفَرَاغِ
مِنَ الصَّلاَةِ السِّرِّيَّةِ لِئَلاَّ يُشَوِّشَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ،
وَمَحَلُّهُ إِنْ قَصُرَ الْفَصْل. قَال الرَّمْلِيُّ: وَيُؤْخَذُ مِنَ
التَّعْلِيل أَنَّ الْجَهْرِيَّةَ كَذَلِكَ إِذَا بَعُدَ بَعْضُ
الْمَأْمُومِينَ عَنِ الإِْمَامِ بِحَيْثُ لاَ يَسْمَعُونَ قِرَاءَتَهُ
وَلاَ يُشَاهِدُونَ أَفْعَالَهُ، أَوْ أَخْفَى جَهْرَهُ، أَوْ وُجِدَ
حَائِلٌ أَوْ صَمَمٌ
__________
(1) حديث: ". . . وإذا سجد فاسجدوا ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 216 - ط
السلفية) ومسلم (1 / 308 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(2) شرح الزرقاني 1 / 277، جواهر الإكليل 1 / 72، ومواهب الجليل 2 / 65.
(24/232)
أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ
جِهَةِ الْمَعْنَى، وَلَوْ تَرَكَ الإِْمَامُ السُّجُودَ لِلتِّلاَوَةِ
سُنَّ لِلْمَأْمُومِ السُّجُودُ بَعْدَ السَّلاَمِ إِنْ قَصُرَ الْفَصْل،
وَمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
سَجَدَ فِي صَلاَةِ الظُّهْرِ لِلتِّلاَوَةِ يُحْمَل عَلَى أَنَّهُ كَانَ
يُسْمِعُهُمْ أَحْيَانًا الآْيَةَ، فَلَعَلَّهُ أَسْمَعَهُمْ آيَتَهَا مَعَ
قِلَّتِهِمْ فَأَمِنَ عَلَيْهِمُ التَّشْوِيشَ، أَوْ قَصَدَ بَيَانَ
جَوَازِ ذَلِكَ (1) .
وَقْتُ أَدَاءِ سُجُودِ التِّلاَوَةِ:
23 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: سَجْدَةُ التِّلاَوَةِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ
خَارِجَ الصَّلاَةِ أَوْ فِي الصَّلاَةِ: فَإِنْ كَانَتْ خَارِجَ
الصَّلاَةِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيل التَّرَاخِي عَلَى الْمُخْتَارِ
عِنْدَهُمْ؛ لأَِنَّ دَلاَئِل الْوُجُوبِ - أَيْ وُجُوبِ السَّجْدَةِ -
مُطْلَقَةٌ عَنْ تَعْيِينِ الْوَقْتِ فَتَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنَ الْوَقْتِ
غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِتَعْيِينِهِ فِعْلاً، وَإِنَّمَا
يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ كَمَا فِي سَائِرِ
الْوَاجِبَاتِ الْمُوَسَّعَةِ، وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُهَا تَنْزِيهًا، إِلاَّ
إِذَا كَانَ الْوَقْتُ مَكْرُوهًا، لأَِنَّهُ بِطُول الزَّمَانِ قَدْ
يَنْسَاهَا، وَعِنْدَمَا يُؤَدِّيهَا بَعْدَ وَقْتِ الْقِرَاءَةِ يَكْفِيهِ
أَنْ يَسْجُدَ عَدَدَ مَا عَلَيْهِ دُونَ تَعْيِينٍ وَيَكُونُ مُؤَدِّيًا.
أَمَّا إِنْ كَانَتْ فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيل
التَّضْيِيقِ - أَيْ عَلَى الْفَوْرِ - لِقِيَامِ دَلِيلِهِ وَهُوَ
أَنَّهَا وَجَبَتْ بِمَا هُوَ مِنْ أَفْعَال الصَّلاَةِ وَهُوَ
الْقِرَاءَةُ
__________
(1) المجموع 4 / 72، نهاية المحتاج 2 / 95.
(24/232)
فَالْتَحَقَتْ بِأَفْعَال الصَّلاَةِ
وَصَارَتْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهَا، وَلِذَا يَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي
الصَّلاَةِ مُضَيَّقًا كَسَائِرِ أَفْعَال الصَّلاَةِ، وَمُقْتَضَى
التَّضْيِيقِ فِي أَدَائِهَا حَال كَوْنِهَا فِي الصَّلاَةِ أَلاَّ تَطُول
الْمُدَّةُ بَيْنَ التِّلاَوَةِ وَالسَّجْدَةِ، فَإِذَا مَا طَالَتْ فَقَدْ
دَخَلَتْ فِي حَيِّزِ الْقَضَاءِ وَصَارَ آثِمًا بِالتَّفْوِيتِ عَنِ
الْوَقْتِ.
وَكُل سَجْدَةٍ وَجَبَتْ فِي الصَّلاَةِ وَلَمْ تُؤَدَّ فِيهَا سَقَطَتْ
وَلَمْ يَبْقَ السُّجُودُ لَهَا مَشْرُوعًا لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ، وَأَثِمَ
مَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَتَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ، وَذَلِكَ إِذَا تَرَكَهَا
عَمْدًا حَتَّى سَلَّمَ وَخَرَجَ مِنْ حُرْمَةِ الصَّلاَةِ، أَمَّا لَوْ
تَرَكَهَا سَهْوًا وَتَذَكَّرَهَا وَلَوْ بَعْدَ السَّلاَمِ قَبْل أَنْ
يَفْعَل مُنَافِيًا فَإِنَّهُ يَأْتِي بِهَا وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ. (1)
قَال الزَّرْقَانِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُتَطَهِّرَ وَقْتَ جَوَازٍ
إِذَا قَرَأَهَا وَلَمْ يَسْجُدْهَا يُطَالَبُ بِسُجُودِهَا مَا دَامَ
عَلَى طَهَارَتِهِ وَفِي وَقْتِ الْجَوَازِ، وَإِلاَّ لَمْ يُطَالَبْ
بِقَضَائِهَا لأَِنَّهُ مِنْ شَعَائِرِ الْفَرَائِضِ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدَ عَقِبَ قِرَاءَةِ آيَةِ
السَّجْدَةِ أَوِ اسْتِمَاعِهَا، فَإِنْ أَخَّرَ وَقَصُرَ الْفَصْل سَجَدَ،
وَإِنْ طَال فَاتَتْ، وَهَل تُقْضَى؟ قَوْلاَنِ: أَظْهَرُهُمَا لاَ
تُقْضَى؛ لأَِنَّهَا تُفْعَل لِعَارِضٍ فَأَشْبَهَتْ صَلاَةَ الْكُسُوفِ،
وَضَبْطُ طُول الْفَصْل أَوْ قِصَرِهِ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 180 - 192، الدر المختار ورد المحتار 1 / 517 - 518.
(2) شرح الزرقاني 1 / 276.
(24/233)
بِالْعُرْفِ. وَلَوْ قَرَأَ سَجْدَةً فِي
صَلاَتِهِ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا سَجَدَ بَعْدَ سَلاَمِهِ إِنْ قَصُرَ
الْفَصْل، فَإِنْ طَال فَفِيهِ الْخِلاَفُ، وَلَوْ كَانَ الْقَارِئُ أَوِ
الْمُسْتَمِعُ مُحْدِثًا حَال الْقِرَاءَةِ فَإِنْ تَطَهَّرَ عَنْ قُرْبٍ
سَجَدَ، وَإِلاَّ فَالْقَضَاءُ عَلَى الْخِلاَفِ، وَلَوْ كَانَ يُصَلِّي
فَقَرَأَ قَارِئٌ السَّجْدَةَ وَسَمِعَهُ فَلاَ يَسْجُدُ، فَإِنْ سَجَدَ
بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، فَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ وَفَرَغَ مِنْ صَلاَتِهِ فَقَدِ
اخْتَلَفُوا فِي سُجُودِهِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لاَ يَسْجُدُ لأَِنَّ
قِرَاءَةَ غَيْرِ إِمَامِهِ لاَ تَقْتَضِي سُجُودَهُ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُل
مَا يَقْتَضِي السُّجُودَ أَدَاءً فَالْقَضَاءُ بَعِيدٌ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُسَنُّ السُّجُودُ لِلْقَارِئِ وَالْمُسْتَمِعِ
لَهُ وَلَوْ كَانَ السُّجُودُ بَعْدَ التِّلاَوَةِ وَالاِسْتِمَاعِ مَعَ
قِصَرِ فَصْلٍ بَيْنَ السُّجُودِ وَسَبَبِهِ، فَإِنْ طَال الْفَصْل لَمْ
يَسْجُدْ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ، وَيَتَيَمَّمُ مُحْدِثٌ وَيَسْجُدُ مَعَ
قِصَرِ الْفَصْل (2) .
تَكْرَارُ سُجُودِ التِّلاَوَةِ:
24 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَكْرَارِ سُجُودِ التِّلاَوَةِ
بِتَكْرَارِ التِّلاَوَةِ أَوِ الاِسْتِمَاعِ أَوْ عَدَمِ تَكْرَارِهِ
بِتَكْرَارِهِمَا. . وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَدَاخُلٍ) ف 11 ج 11 / 86
__________
(1) المجموع 4 / 71 - 72، روضة الطالبين 1 / 323.
(2) كشاف القناع 1 / 445.
(24/233)
سُجُودُ السَّهْوِ
.
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّهْوُ لُغَةً: نِسْيَانُ الشَّيْءِ وَالْغَفْلَةُ عَنْهُ. (1)
وَسُجُودُ السَّهْوِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: هُوَ مَا يَكُونُ فِي آخِرِ
الصَّلاَةِ أَوْ بَعْدَهَا لِجَبْرِ خَلَلٍ، بِتَرْكِ بَعْضِ مَأْمُورٍ
بِهِ أَوْ فِعْل بَعْضِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ دُونَ تَعَمُّدٍ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ
إِلَى وُجُوبِ سُجُودِ السَّهْوِ.
قَال الْحَنَابِلَةُ: سُجُودُ السَّهْوِ لِمَا يُبْطِل عَمْدُهُ الصَّلاَةَ
وَاجِبٌ، وَدَلِيلُهُمْ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَال:
صَلَّى بِنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسًا،
فَلَمَّا انْفَتَل تَوَشْوَشَ الْقَوْمُ بَيْنَهُمْ فَقَال: مَا
شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ هَل زِيدَ فِي الصَّلاَةِ؟ قَال:
لاَ، قَالُوا: فَإِنَّك قَدْ
__________
(1) لسان العرب مادة: (سها) .
(2) الإقناع للشربيني الخطيب 2 / 89.
(24/234)
صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَانْفَتَل ثُمَّ
سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَال: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ
فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِذَا زَادَ الرَّجُل أَوْ
نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ (1) وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ فَلَمْ
يَدْرِ كَمْ صَلَّى، أَثَلاَثًا أَمْ أَرْبَعًا؟ فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ
وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْل أَنْ
يُسَلِّمَ، فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لَهُ صَلاَتَهُ، وَإِنْ
كَانَ صَلَّى إِتْمَامًا لأَِرْبَعٍ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ.
(2)
وَجْهُ الدَّلاَلَةِ فِي الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُمَا اشْتَمَلاَ عَلَى
الأَْمْرِ الْمُقْتَضِي لِلْوُجُوبِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ سُنَّةٌ سَوَاءٌ
كَانَ قَبْلِيًّا أَمْ بَعْدِيًّا وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ،
وَقِيل: بِوُجُوبِ الْقَبْلِيِّ، قَال صَاحِبُ الشَّامِل: وَهُوَ مُقْتَضَى
الْمَذْهَبِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى
أَنَّهُ سُنَّةٌ (3) . لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
كَانَتِ الرَّكْعَةُ نَافِلَةً
__________
(1) حديث: " إنما أنا بشر مثلكم ". أخرجه مسلم (1 / 402 - 403 - ط الحلبي)
.
(2) حديث: " إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ". أخرجه مسلم (1 / 402
- ط الحلبي) .
(3) الفتاوى الهندية 1 / 125، حاشية الدسوقي 1 / 273، نهاية المحتاج 2 /
62، المغني 2 / 36، وكشاف القناع 1 / 408.
(24/234)
وَالسَّجْدَتَانِ (1) .
أَسْبَابُ سُجُودِ السَّهْوِ:
أ - الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَمَّدَ
الْمُصَلِّي أَنْ يَزِيدَ فِي صَلاَتِهِ قِيَامًا أَوْ قُعُودًا أَوْ
رُكُوعًا أَوْ سُجُودًا، أَوْ يَنْقُصَ مِنْ أَرْكَانِهَا شَيْئًا،
بَطَلَتْ صَلاَتُهُ. لأَِنَّ السُّجُودَ يُضَافُ إِلَى السَّهْوِ فَيَدُل
عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ، وَالشَّرْعُ إِنَّمَا وَرَدَ بِهِ فِي السَّهْوِ
قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ
فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ. (2)
فَإِذَا زَادَ الْمُصَلِّي أَوْ نَقَصَ لِغَفْلَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ فَقَدِ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ قَضَائِهِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ
يَأْتِي فِي ثَنَايَا الْبَحْثِ. (3)
__________
(1) حديث: " كانت الركعة نافلة والسجدتان " جزء من حديث طويل أخرجه أبو
داود (1 / 621 - 622 - تحقيق عزت عبيد دعاس) بلفظ " إذا شك أحدكم في صلاته
فليلق الشك وليبن على اليقين، فإذا استيقن التمام سجد سجدتين، فإن كانت
صلاته تامة كانت الركعة نافلة والسجدتان، وإن ك وأصله في مسلم كما تقدم.
(2) حديث: " إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين ". أخرجه مسلم (1 / 402 - ط
الحلبي) من حديث ابن مسعود.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 126، نهاية المحتاج 2 / 67، المغني لابن قدامة 2 /
34، حاشية الدسوقي 1 / 288 - 289.
(24/235)
ب - الشَّكُّ:
4 - إِذَا شَكَّ الْمُصَلِّي فِي صَلاَتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى
أَثَلاَثًا أَمْ أَرْبَعًا، أَوْ شَكَّ فِي سَجْدَةٍ فَلَمْ يَدْرِ
أَسَجَدَهَا أَمْ لاَ، فَإِنَّ الْجُمْهُورَ (الْمَالِكِيَّةَ
وَالشَّافِعِيَّةَ وَرِوَايَةً لِلْحَنَابِلَةِ) ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ
يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ وَهُوَ الأَْقَل، وَيَأْتِي بِمَا شَكَّ فِيهِ
وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ. وَدَلِيلُهُمْ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا سَهَا أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ فَلَمْ يَدْرِ
وَاحِدَةً صَلَّى أَوْ ثِنْتَيْنِ فَلْيَبْنِ عَلَى وَاحِدَةٍ، فَإِنْ لَمْ
يَدْرِ ثِنْتَيْنِ صَلَّى أَوْ ثَلاَثًا فَلْيَبْنِ عَلَى ثِنْتَيْنِ،
فَإِنْ لَمْ يَدْرِ ثَلاَثًا صَلَّى أَوْ أَرْبَعًا فَلْيَبْنِ عَلَى
ثَلاَثٍ، وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْل أَنْ يُسَلِّمَ (1) وَلِحَدِيثِ
إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ فَلْيُلْقِ الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ
عَلَى الْيَقِينِ، فَإِذَا اسْتَيْقَنَ التَّمَامَ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ،
فَإِنْ كَانَتْ صَلاَتُهُ تَامَّةً كَانَتِ الرَّكْعَةُ نَافِلَةً
وَالسَّجْدَتَانِ، وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً كَانَتِ الرَّكْعَةُ تَمَامًا
لِصَلاَتِهِ، وَكَانَتِ السَّجْدَتَانِ مُرْغِمَتَيِ الشَّيْطَانِ.
(2) وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا شَكَّ فِي
صَلاَتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ أَثَلاَثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا وَذَلِكَ
__________
(1) حديث: " إذا سها أحدكم في صلاته ". أخرجه الترمذي (2 / 245 - ط الحلبي)
من حديث عبد الرحمن بن عوف، وقال: حديث حسن صحيح.
(2) حديث: " إذا شك أحدكم في صلاته ". تقدم تخريجه ف / 2.
(24/235)
أَوَّل مَا عَرَضَ لَهُ اسْتَأْنَفَ،
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي
صَلاَتِهِ أَنَّهُ كَمْ صَلَّى فَلْيَسْتَقْبِل الصَّلاَةَ. (1) وَإِنْ
كَانَ يَعْرِضُ لَهُ كَثِيرًا بَنَى عَلَى أَكْبَرِ رَأْيِهِ، لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ
فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ (2) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ بَنَى عَلَى
الْيَقِينِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِذَا سَهَا
أَحَدُكُمْ فَلَمْ يَدْرِ وَاحِدَةً صَلَّى أَوْ ثِنْتَيْنِ فَلْيَبْنِ
عَلَى وَاحِدَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَدْرِ ثِنْتَيْنِ صَلَّى أَوْ ثَلاَثًا
فَلْيَبْنِ عَلَى ثِنْتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَدْرِ ثَلاَثًا صَلَّى أَوْ
أَرْبَعًا فَلْيَبْنِ عَلَى ثَلاَثٍ، وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْل أَنْ
يُسَلِّمَ. (3)
وَالاِسْتِقْبَال لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الصَّلاَةِ
وَذَلِكَ بِالسَّلاَمِ أَوِ الْكَلاَمِ أَوْ عَمَلٍ آخَرَ مِمَّا يُنَافِي
الصَّلاَةَ، وَالْخُرُوجُ بِالسَّلاَمِ قَاعِدًا أَوْلَى؛ لأَِنَّ
السَّلاَمَ عُرِفَ مُحَلِّلاً دُونَ الْكَلاَمِ، وَلاَ يَصِحُّ الْخُرُوجُ
بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ بَل يَلْغُو، وَلاَ يَخْرُجُ بِذَلِكَ
__________
(1) حديث: " إذا شك أحدكم في صلاته أنه كم صلى فليستقبل الصلاة " قال
الزيلعي في نصب الراية (2 / 173 - ط المجلس العلمي) : حديث غريب، يعني أنه
لا أصل له كما نص في مقدمة كتابه، ثم قال: وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن
ابن عمر قال في الذي لا يدري كم صلى أثلاثًا أو أربعًا؟ قال: يعيد حتى
يحفظ.
(2) حديث: " إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب ". أخرجه البخاري (الفتح
1 / 504 - ط السلفية) ومسلم (1 / 401 - ط الحلبي) من حديث ابن مسعود.
(3) الحديث تقدم تخريجه في نفس الفقرة.
(24/236)
مِنَ الصَّلاَةِ، وَعِنْدَ الْبِنَاءِ
عَلَى الأَْقَل يَقْعُدُ فِي كُل مَوْضِعٍ يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ آخِرَ
الصَّلاَةِ تَحَرُّزًا عَنْ تَرْكِ فَرْضِ الْقَعْدَةِ الأَْخِيرَةِ وَهِيَ
رُكْنٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى الْبِنَاءِ عَلَى غَالِبِ
الظَّنِّ، وَيُتِمُّ صَلاَتَهُ، وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلاَمِ،
وَدَلِيلُهُمْ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ السَّابِقُ: إِذَا
شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ
عَلَيْهِ، ثُمَّ لْيُسَلِّمْ، ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ (1) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَاخْتَارَ الْخِرَقِيُّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ
الإِْمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ. فَجَعَل الإِْمَامُ يَبْنِي عَلَى الظَّنِّ
وَالْمُنْفَرِدُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ. وَهُوَ الظَّاهِرُ فِي
الْمَذْهَبِ نَقَلَهُ عَنْ أَحْمَدَ وَالأَْثْرَمِ وَغَيْرِهِ.
وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ: الْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ فِي حَقِّ
الْمُنْفَرِدِ؛ لأَِنَّ الإِْمَامَ لَهُ مَنْ يُنَبِّهُهُ وَيُذَكِّرُهُ
إِذَا أَخْطَأَ الصَّوَابَ، فَلْيَعْمَل بِالأَْظْهَرِ عِنْدَهُ، فَإِنْ
أَصَابَ أَقَرَّهُ الْمَأْمُومُونَ، فَيَتَأَكَّدُ عِنْدَهُ صَوَابُ
نَفْسِهِ، وَإِنْ أَخْطَأَ سَبَّحُوا بِهِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ فَيَحْصُل
لَهُ الصَّوَابُ عَلَى كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ
الْمُنْفَرِدُ، إِذْ لَيْسَ لَهُ مَنْ يُذَكِّرُهُ فَيَبْنِي عَلَى
الْيَقِينِ، لِيَحْصُل لَهُ إِتْمَامُ صَلاَتِهِ وَلاَ يَكُونُ مَغْرُورًا
__________
(1) حديث: " إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب ". أخرجه البخاري (الفتح
1 / 504 - ط السلفية) ومسلم (1 / 401 - ط الحلبي) من حديث ابن مسعود،
واللفظ للبخاري.
(24/236)
بِهَا (1) . وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ غِرَارَ فِي الصَّلاَةِ. (2)
فَإِنِ اسْتَوَى الأَْمْرَانِ عِنْدَ الإِْمَامِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ
أَيْضًا.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِسُجُودِ السَّهْوِ:
5 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ
نَقْلاً عَنِ التتارخانية الأَْصْل أَنَّ الْمَتْرُوكَ ثَلاَثَةُ
أَنْوَاعٍ: فَرْضٌ، وَسُنَّةٌ، وَوَاجِبٌ، فَفِي الْفَرْضِ إِنْ أَمْكَنَهُ
التَّدَارُكُ بِالْقَضَاءِ يَقْضِي وَإِلاَّ فَسَدَتْ صَلاَتُهُ، وَفِي
السُّنَّةِ لاَ تَفْسُدُ، لأَِنَّ قِيَامَ الصَّلاَةِ بِأَرْكَانِهَا
وَقَدْ وُجِدَتْ، وَلاَ يُجْبَرُ تَرْكُ السُّنَّةِ بِسَجْدَتَيِ
السَّهْوِ، وَفِي الْوَاجِبِ إِنْ تَرَكَ سَاهِيًا يُجْبَرُ بِسَجْدَتَيِ
السَّهْوِ، وَإِنْ تَرَكَ عَامِدًا لاَ. وَنُقِل عَنِ الْبَحْرِ الرَّائِقِ
أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ رَكْعَةٍ فَتَذَكَّرَهَا فِي آخِرِ
الصَّلاَةِ سَجَدَهَا وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ لِتَرْكِ التَّرْتِيبِ فِيهِ،
وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ مَا قَبْلَهَا، وَلَوْ قَدَّمَ الرُّكُوعَ
عَلَى الْقِرَاءَةِ لَزِمَهُ السُّجُودُ لَكِنْ لاَ يُعْتَدُّ بِالرُّكُوعِ
فَيُفْرَضُ إِعَادَتُهُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 130، البناية 3 / 680، وشرح الزرقاني 1 / 236 -
237، الشرح الصغير 1 / 380، الجمل على شرح المنهج 1 / 454، المجموع للنووي
4 / 106، كشاف القناع 1 / 406، الكافي 1 / 167 - 168.
(2) حديث: " لا غرار في الصلاة ". أخرجه أحمد (2 / 461 - ط الميمنية)
والحاكم (1 / 264 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة، وصححه
الحاكم ووافقه الذهبي، واللفظ لأحمد.
(24/237)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ
تَرْكَ الرُّكْنِ إِنْ أَمْكَنَهُ تَدَارُكَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ
التَّدَارُكُ مَعَ سُجُودِ السَّهْوِ وَذَلِكَ إِذَا أَتَى بِهِ فِي
الرَّكْعَةِ نَفْسِهَا إِلَى مَا قَبْل عَقْدِ رَكْعَةٍ أُخْرَى
بِالرُّكُوعِ لَهَا، فَإِنْ كَانَ تَرَكَ الرُّكْنَ فِي الرَّكْعَةِ
الأَْخِيرَةِ ثُمَّ سَلَّمَ لَمْ يُمْكِنْهُ التَّدَارُكُ بِأَدَاءِ
الْمَتْرُوكِ بَل عَلَيْهِ الإِْتْيَانُ بِرَكْعَةٍ أُخْرَى مَا لَمْ يَطُل
الْفَصْل أَوْ يَخْرُجْ مِنَ الْمَسْجِدِ فَعَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ
الصَّلاَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ تَرَكَ رُكْنًا سَهْوًا لَمْ يُعْتَدَّ بِمَا
فَعَلَهُ بَعْدَ الْمَتْرُوكِ حَتَّى يَأْتِيَ بِمَا تَرَكَهُ، فَإِنْ
تَذَكَّرَ السَّهْوَ قَبْل فِعْل مِثْل الْمَتْرُوكِ اشْتَغَل عِنْدَ
الذِّكْرِ بِالْمَتْرُوكِ، وَإِنْ تَذَكَّرَ بَعْدَ فِعْل مِثْلِهِ فِي
رَكْعَةٍ أُخْرَى تَمَّتِ الرَّكْعَةُ السَّابِقَةُ بِهِ وَلَغَا مَا
بَيْنَهُمَا. فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ عَيْنَ الْمَتْرُوكِ أَخَذَ بِأَدْنَى
الْمُمْكِنِ وَأَتَى بِالْبَاقِي. وَفِي الأَْحْوَال كُلِّهَا سَجَدَ
لِلسَّهْوِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مَنْ نَسِيَ رُكْنًا غَيْرَ التَّحْرِيمَةِ
فَذَكَرَهُ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي قِرَاءَةِ الرَّكْعَةِ الَّتِي بَعْدَهَا
بَطَلَتِ الرَّكْعَةُ الَّتِي تَرَكَهُ مِنْهَا فَقَطْ؛ لأَِنَّهُ تَرَكَ
رُكْنًا وَلَمْ يُمْكِنِ اسْتِدْرَاكُهُ فَصَارَتِ الَّتِي شَرَعَ فِيهَا
عِوَضًا عَنْهَا، وَإِنْ ذَكَرَ الرُّكْنَ الْمَنْسِيَّ قَبْل شُرُوعِهِ
فِي قِرَاءَةِ الرَّكْعَةِ الَّتِي بَعْدَهَا عَادَ لُزُومًا فَأَتَى بِهِ
وَبِمَا بَعْدَهُ. (1)
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 126، بدائع الصنائع 1 / 449، المبسوط 1 / 189،
الدسوقي 1 / 293، الشرح الصغير 1 / 160، الروضة 1 / 300، المجموع للنووي 4
/ 116، كشاف القناع 1 / 402، المغني لابن قدامة 2 / 6.
(24/237)
الْوَاجِبَاتُ وَالسُّنَنُ الَّتِي يَجِبُ
بِتَرْكِهَا سُجُودُ السَّهْوِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي: فِيمَا يُطْلَبُ لَهُ سُجُودُ السَّهْوِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ سُجُودِ السَّهْوِ بِتَرْكِ وَاجِبٍ
مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ سَهْوًا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ إِذَا
لَمْ يَسْجُدْ لِلسَّهْوِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لاَ تَفْسُدُ
بِتَرْكِهَا وَتُعَادُ وُجُوبًا فِي الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ إِنْ لَمْ
يَسْجُدْ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْهَا يَكُونُ فَاسِقًا آثِمًا.
وَمِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ عِنْدَهُمُ: الْقَعْدَةُ الأُْولَى مِنَ
الصَّلاَةِ الرُّبَاعِيَّةِ، وَدُعَاءُ الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ،
وَتَكْبِيرَاتُ الْعِيدَيْنِ وَغَيْرِهَا. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَسَّمُوا الصَّلاَةَ إِلَى فَرَائِضَ وَسُنَنٍ.
فَالْمَالِكِيَّةُ يُسْجَدُ عِنْدَهُمْ لِسُجُودِ السَّهْوِ لِثَمَانِيَةٍ
مِنَ السُّنَنِ وَهِيَ: السُّورَةُ، وَالْجَهْرُ، وَالإِْسْرَارُ،
وَالتَّكْبِيرُ، وَالتَّحْمِيدُ، وَالتَّشَهُّدَانِ، وَالْجُلُوسُ لَهُمَا.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالسُّنَّةُ عِنْدَهُمْ نَوْعَانِ: أَبْعَاضٌ
وَهَيْئَاتٌ، وَالأَْبْعَاضُ هِيَ الَّتِي يُجْبَرُ تَرْكُهَا بِسُجُودِ
السَّهْوِ، فَمِنْهَا التَّشَهُّدُ الأَْوَّل وَالْقُعُودُ لَهُ،
وَالصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
التَّشَهُّدِ الأَْوَّل، وَالصَّلاَةُ عَلَى الآْل فِي التَّشَهُّدِ
الأَْخِيرِ، وَالْقُنُوتُ الرَّاتِبُ فِي الصُّبْحِ، وَوِتْرُ النِّصْفِ
الأَْخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَقِيَامُهُ، وَالصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُنُوتِ.
(24/238)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَا
لَيْسَ بِرُكْنٍ نَوْعَانِ: وَاجِبَاتٌ وَسُنَنٌ، فَالْوَاجِبَاتُ تَبْطُل
الصَّلاَةُ بِتَرْكِهَا عَمْدًا، وَتَسْقُطُ سَهْوًا أَوْ جَهْلاً،
وَيُجْبَرُ تَرْكُهَا سَهْوًا بِسُجُودِ السَّهْوِ كَالتَّكْبِيرِ، لأَِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكَبِّرُ كَذَلِكَ،
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي
أُصَلِّي. (1) وَالتَّسْمِيعُ لِلإِْمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ دُونَ
الْمَأْمُومِ، وَالتَّحْمِيدُ وَغَيْرُهَا. (2)
مَوْضِعُ سُجُودِ السَّهْوِ:
7 - لَمْ يَتَّفِقِ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَوْضِعِ سُجُودِ السَّهْوِ: فَقَدْ
رَأَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مَوْضِعَ سُجُودِ السَّهْوِ بَعْدَ
التَّسْلِيمِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ فِي الزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ، أَيْ
أَنَّهُ يَتَشَهَّدُ ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً عَلَى
الأَْصَحِّ ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ ثُمَّ يُسَلِّمُ
كَذَلِكَ، فَإِنْ سَلَّمَ تَسْلِيمَتَيْنِ سَقَطَ السُّجُودُ لِحَدِيثِ
ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: لِكُل سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَمَا يُسَلِّمُ. (3)
__________
(1) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 111 - ط
السلفية) من حديث مالك بن الحويرث.
(2) الفتاوى الهندية (1 / 71 - 72) حاشية ابن عابدين 1 / 306، الشرح الصغير
(1 / 303 - 322 ط. دار المعارف) ، القوانين الفقهية ص 55 - 58، كشاف القناع
1 / 408 - 410، مغني المحتاج 1 / 148 وما بعدها.
(3) حديث: " لكل سهو سجدتان بعدما يسلم ". أخرجه أبو داود (1 / 630 - تحقيق
عزت عبيد دعاس) ، والبيهقي (2 / 337 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث
ثوبان، وأعله البيهقي.
(24/238)
وَيُرْوَى نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ
وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمَّارٍ وَابْنِ
عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَأَنَسٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ
الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَإِنْ وَقَعَ السَّهْوُ بِالنَّقْصِ فِي
الصَّلاَةِ فَالسُّجُودُ يَكُونُ قَبْل السَّلاَمِ. وَدَلِيلُهُمْ حَدِيثُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ بُحَيْنَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ مِنَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وَلَمْ
يَجْلِسْ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ. (1)
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلاَمِ لِحَدِيثِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: صَلَّى بِنَا رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسًا فَقُلْنَا: يَا رَسُول
اللَّهِ، أَزِيدَ فِي الصَّلاَةِ؟ قَال: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: صَلَّيْتَ
خَمْسًا! " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَذْكُرُ كَمَا تَذْكُرُونَ،
وَأَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ "، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ (2)
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَال: كُل شَيْءٍ شَكَكْتَ فِيهِ
مِنْ صَلاَتِكَ مِنْ نُقْصَانٍ مِنْ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ أَوْ غَيْرِ
ذَلِكَ، فَاسْتَقْبِل أَكْثَرَ ظَنِّكَ، وَاجْعَل سَجْدَتَيِ السَّهْوِ
مِنْ
__________
(1) حديث عبد الله بن مالك بن بحينة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قام من اثنتين من الظهر ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 92 - ط السلفية) ،
ومسلم (1 / 399 - ط الحلبي) والسياق للبخاري.
(2) حديث عبد الله بن مسعود: " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسًا
". أخرجه مسلم (1 / 402 - ط الحلبي) .
(24/239)
هَذَا النَّحْوِ قَبْل التَّسْلِيمِ،
فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ السَّهْوِ فَاجْعَلْهُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ.
وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ زِيَادَةٍ وَنَقْصٍ فَيَسْجُدُ قَبْل السَّلاَمِ
تَرْجِيحًا لِجَانِبِ النَّقْصِ.
وَالْجَدِيدُ وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ
عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَبْل السَّلاَمِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ وَمَكْحُولٍ وَالزُّهْرِيِّ وَيَحْيَى الأَْنْصَارِيِّ.
وَدَلِيلُهُمْ حَدِيثُ ابْنِ بُحَيْنَةَ وَأُبَيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَجَدَ قَبْل السَّلاَمِ.
كَمَا سَبَقَ؛ وَلأَِنَّهُ يُفْعَل لإِِصْلاَحِ الصَّلاَةِ، فَكَانَ قَبْل
السَّلاَمِ كَمَا لَوْ نَسِيَ سَجْدَةً مِنَ الصَّلاَةِ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَذَهَبُوا فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّ
السُّجُودَ كُلَّهُ قَبْل السَّلاَمِ، إِلاَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ
اللَّذَيْنِ وَرَدَ النَّصُّ بِسُجُودِهِمَا بَعْدَ السَّلاَمِ. وَهُمَا
إِذَا سَلَّمَ مِنْ نَقْصِ رَكْعَةٍ فَأَكْثَرَ، كَمَا فِي حَدِيثِ ذِي
الْيَدَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَّمَ مِنْ
رَكْعَتَيْنِ فَسَجَدَ بَعْدَ السَّلاَمِ. (1) وَحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ
حُصَيْنٍ أَنَّهُ سَلَّمَ مِنْ ثَلاَثٍ فَسَجَدَ بَعْدَ السَّلاَمِ. (2)
وَالثَّانِي إِذَا تَحَرَّى الإِْمَامُ فَبَنَى عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ
كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَمَا تَحَرَّى فَسَجَدَ بَعْدَ
السَّلاَمِ.
__________
(1) حديث ذي اليدين: " أنه سلم من ركعتين فسجد بعد السلام ". أخرجه البخاري
(الفتح 3 / 98 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث عمران بن حصين: " أنه سلم من ثلاث فسجد بعد السلام ". أخرجه مسلم
(1 / 405 - ط الحلبي) .
(24/239)
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ: يَتَخَيَّرُ إِنْ شَاءَ قَبْل السَّلاَمِ وَإِنْ شَاءَ
بَعْدَهُ. (1)
تَكْرَارُ السَّهْوِ فِي نَفْسِ الصَّلاَةِ:
8 - إِذَا تَكَرَّرَ السَّهْوُ لِلْمُصَلِّي فِي الصَّلاَةِ، لاَ
يَلْزَمُهُ إِلاَّ سَجْدَتَانِ؛ لأَِنَّ تَكْرَارَهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ،
وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ مِنَ
اثْنَتَيْنِ، وَكَلَّمَ ذَا الْيَدَيْنِ. (2)
وَلأَِنَّهُ لَوْ لَمْ تَتَدَاخَل لَسَجَدَ عَقِبَ السَّهْوِ فَلَمَّا
أَخَّرَ إِلَى آخِرِ صَلاَتِهِ دَل عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَخَّرَ
لِيَجْمَعَ كُل سَهْوٍ فِي الصَّلاَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ. (3)
نِسْيَانُ سُجُودِ السَّهْوِ:
9 - إِذَا سَهَا الْمُصَلِّي عَنْ سُجُودِ السَّهْوِ فَانْصَرَفَ مِنَ
الصَّلاَةِ دُونَ سُجُودٍ فَإِنَّهُ يَعُودُ إِلَيْهِ وَيُؤَدِّيهِ عَلَى
التَّفْصِيل التَّالِي:
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 1 / 495 - 496، البناية للعيني 2 / 645 -
647، الشرح الصغير 1 / 378 - 379، الروضة للنووي 1 / 315 - 316، المغني
لابن قدامة 2 / 22 - 23، الكافي لابن قدامة 1 / 168 - 169، مغني المحتاج 1
/ 209.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين وكلم ذا اليدين ".
أخرجه البخاري (الفتح 3 / 99 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(3) رد المحتار 1 / 497، مواهب الجليل 2 / 15، شرح المنهاج 1 / 204، المغني
لابن قدامة 2 / 39 - 40.
(24/240)
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ
يَسْجُدُ إِنْ سَلَّمَ بِنِيَّةِ الْقَطْعِ مَعَ التَّحَوُّل عَنِ
الْقِبْلَةِ أَوِ الْكَلاَمِ أَوِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ، لَكِنْ
إِنْ سَلَّمَ نَاسِيًا السَّهْوَ سَجَدَ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ؛
لأَِنَّ الْمَسْجِدَ فِي حُكْمِ مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَلِذَا صَحَّ
الاِقْتِدَاءُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فُرْجَةٌ، وَأَمَّا إِذَا
كَانَ فِي الصَّحْرَاءِ فَإِنْ تَذَكَّرَ قَبْل أَنْ يُجَاوِزَ الصُّفُوفَ
مِنْ خَلْفِهِ أَوْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ أَوْ يَتَقَدَّمَ عَلَى
مَوْضِعِ سُتْرَتِهِ أَوْ سُجُودِهِ سَجَدَ لِلسَّهْوِ. (1)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ السُّجُودِ
الْقَبْلِيِّ وَالْبَعْدِيِّ، فَإِنْ تَرَكَ السُّجُودَ الْبَعْدِيَّ
يَقْضِيهِ مَتَى ذَكَرَهُ، وَلَوْ بَعْدَ سِنِينَ، وَلاَ يَسْقُطُ بِطُول
الزَّمَانِ سَوَاءٌ تَرَكَهُ عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا؛ لأَِنَّ
الْمَقْصُودَ (تَرْغِيمُ الشَّيْطَانِ) كَمَا فِي الْحَدِيثِ. وَأَمَّا
السُّجُودُ الْقَبْلِيُّ فَإِنَّهُمْ قَيَّدُوهُ بِعَدَمِ خُرُوجِهِ مِنَ
الْمَسْجِدِ وَلَمْ يَطُل الزَّمَانُ، وَهُوَ فِي مَكَانِهِ أَوْ قُرْبِهِ.
(2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ سَلَّمَ سَهْوًا أَوْ طَال الْفَصْل بِحَسَبِ
الْعُرْفِ فَإِنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يَسْقُطُ عَلَى الْمَذْهَبِ
الْجَدِيدِ لِفَوَاتِ الْمَحَل بِالسَّلاَمِ وَتَعَذُّرِ الْبِنَاءِ
بِالطُّول. (3)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ نَسِيَ سُجُودَ السَّهْوِ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 1 / 505.
(2) مواهب الجليل 2 / 20، الشرح الصغير 1 / 387 - 389، شرح المنهاج 1 /
202، المجموع 4 / 153.
(3) مغني المحتاج 1 / 213، القليوبي 1 / 205، المجموع 4 / 157.
(24/240)
الَّذِي قَبْل السَّلاَمِ أَوْ بَعْدَهُ
أَتَى بِهِ وَلَوْ تَكَلَّمَ، إِلاَّ بِطُول الْفَصْل (وَيُرْجَعُ فِيهِ
إِلَى الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ بِمُدَّةٍ) أَوْ
بِانْتِقَاضِ الْوُضُوءِ، أَوْ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَإِنْ
حَصَل شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ اسْتَأْنَفَ الصَّلاَةَ، لأَِنَّهَا صَلاَةٌ
وَاحِدَةٌ لَمْ يَجُزْ بِنَاءُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ مَعَ طُول الْفَصْل،
كَمَا لَوِ انْتَقَضَ وُضُوءَهُ (1)
وَإِنْ سَجَدَ لِلسَّهْوِ ثُمَّ شَكَّ هَل سَجَدَ أَمْ لاَ؟ فَعِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ يَتَحَرَّى، وَلَكِنْ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ السُّجُودُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا شَكَّ هَل سَجَدَ سَجْدَةً وَاحِدَةً أَوِ
اثْنَتَيْنِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ وَأَتَى بِالثَّانِيَةِ وَلاَ سُجُودَ
عَلَيْهِ ثَانِيًا لِهَذَا الشَّكِّ. وَكَذَلِكَ لَوْ شَكَّ هَل سَجَدَ
السَّجْدَتَيْنِ أَوْ لاَ، فَيَسْجُدُهُمَا وَلاَ سَهْوَ عَلَيْهِ،
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ،
وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ
يُعِيدُهُ. (2)
سَهْوُ الإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِ:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ تَنْبِيهِ الْمَأْمُومِ
لِلإِْمَامِ إِذَا سَهَا فِي صَلاَتِهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَابَهُ
__________
(1) المغني لابن قدامة 2 / 14، 15.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 130، الشرح الكبير 1 / 278 - 279، المجموع للنووي
4 / 140 - 141، كشاف القناع 1 / 407.
(24/241)
شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَقُل: سُبْحَانَ
اللَّهِ. (1)
وَفَرَّقَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ بَيْنَ تَنْبِيهِ الرِّجَال وَتَنْبِيهِ النِّسَاءِ.
فَالرِّجَال يُسَبِّحُونَ لِسَهْوِ إِمَامِهِمْ، وَالنِّسَاءُ يُصَفِّقْنَ
بِضَرْبِ بَطْنِ كَفٍّ عَلَى ظَهْرِ الأُْخْرَى. لِحَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّسْبِيحُ لِلرِّجَال وَالتَّصْفِيقُ
لِلنِّسَاءِ (2) وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِذَا
نَابَكُمْ أَمْرٌ فَلْيُسَبِّحِ الرِّجَال وَلْيَصْفَحِ (يَعْنِي
لِيُصَفِّقِ) النِّسَاءُ. (3)
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ تَنْبِيهِ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ
فَالْجَمِيعُ يُسَبِّحُ (4) لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَقُل: سُبْحَانَ
اللَّهِ.
وَيُكْرَهُ عِنْدَهُمْ تَصْفِيقُ النِّسَاءِ فِي الصَّلاَةِ.
__________
(1) حديث: " من نابه شيء في صلاته فليقل: سبحان الله ". أخرجه البخاري
(الفتح 3 / 107 - ط السلفية) من حديث سهل بن سعد.
(2) حديث: " التسبيح للرجال والتصفيق للنساء ". أخرجه البخاري (الفتح 3 /
77 - ط السلفية) ومسلم (1 / 318 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " إذا نابكم أمر فليسبح الرجال ". أخرجه البخاري (الفتح 13 / 182
- ط السلفية) من حديث سهل بن سعد. وأخرجه الدارمي (1 / 317 - ط دار السنة
النبوية) بلفظ: " إذا نابكم شيء في صلاتكم، فليسبح الرجال ولتصفق النساء ".
(4) فتح القدير 1 / 356، البناية 2 / 423، مواهب الجليل 2 / 29، الشرح
الصغير 1 / 342، نهاية المحتاج 2 / 44 - 45، المغني 2 / 19.
(24/241)
اسْتِجَابَةُ الإِْمَامِ لِتَنْبِيهِ
الْمَأْمُومِينَ وَمُتَابَعَتِهِمْ:
11 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا زَادَ فِي صَلاَتِهِ وَكَانَ
الإِْمَامُ عَلَى يَقِينٍ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُصِيبٌ،
حَيْثُ إِنَّهُ يَرَى أَنَّهُ فِي الرَّابِعَةِ، وَالْمَأْمُومُونَ
يَرَوْنَ أَنَّهُ فِي الْخَامِسَةِ لَمْ يَسْتَجِبْ لَهُمْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَثُرَ عَدَدُهُمْ بِحَيْثُ
يُفِيدُ عَدَدُهُمُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ فَيَتْرُكُ يَقِينَهُ
وَيَرْجِعُ لَهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوهُ بِهِ مِنْ نَقْصٍ أَوْ كَمَالٍ،
وَإِلاَّ لَمْ يَعُدْ. (1)
وَهَذَا إِذَا كَانَ الإِْمَامُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ نَفْسِهِ، أَمَّا إِذَا
شَكَّ وَلَمْ يَغْلِبْ ظَنُّهُ عَلَى أَمْرٍ عَادَ لِقَوْل الْمَأْمُومِينَ
إِذَا كَانُوا ثِقَاتٍ أَوْ كَثُرَ عَدَدُهُمْ. لِحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ
عِنْدَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَل
الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ فَأَجَابُوهُ (2) .
وَهَذَا قَوْل جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ إِلاَّ الشَّافِعِيَّةَ، فَإِنَّهُمْ
ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا شَكَّ أَصَلَّى ثَلاَثًا أَمْ
أَرْبَعًا أَتَى بِرَكْعَةٍ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ إِتْيَانِهِ بِهَا
وَلاَ يَرْجِعُ لِظَنِّهِ وَلاَ لِقَوْل غَيْرِهِ أَوْ فِعْلِهِ وَإِنْ
كَانَ جَمْعًا كَثِيرًا، إِلاَّ أَنْ يَبْلُغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ
بِقَرِينَةٍ. وَحَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ مَحْمُولٌ
__________
(1) رد المحتار 1 / 507، حاشية الطحطاوي (ص 259) نهاية المحتاج 2 / 75،
روضة الطالبين 1 / 308، الخرشي على مختصر خليل 1 / 322، المغني لابن قدامة
2 / 18 - 20.
(2) حديث " ذي اليدين ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 98 - ط السلفية) .
(24/242)
عَلَى تَذَكُّرِهِ بَعْدَ مُرَاجَعَتِهِ،
أَوْ أَنَّهُمْ بَلَغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ. (1)
سُجُودُ الإِْمَامِ لِلسَّهْوِ:
12 - إِذَا سَهَا الإِْمَامُ فِي صَلاَتِهِ ثُمَّ سَجَدَ لِلسَّهْوِ
فَعَلَى الْمَأْمُومِ مُتَابَعَتُهُ فِي السُّجُودِ سَوَاءٌ سَهَا مَعَهُ
أَوِ انْفَرَدَ الإِْمَامُ بِالسَّهْوِ. قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ
كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ
قَبْل السَّلاَمِ أَوْ بَعْدَ السَّلاَمِ. لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا جُعِل الإِْمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ.
. . وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا (2) وَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - لَيْسَ عَلَى مَنْ خَلْفَ الإِْمَامِ سَهْوٌ، فَإِنْ
سَهَا الإِْمَامُ فَعَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ السَّهْوُ (3)
وَلأَِنَّ الْمَأْمُومَ تَابِعٌ لِلإِْمَامِ وَحُكْمُهُ حُكْمُهُ إِذَا
سَهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَسْهُ (4) .
__________
(1) رد المحتار 1 / 507، نهاية المحتاج 2 / 75، الخرشي على مختصر خليل 1 /
322، المغني لابن قدامة 2 / 20.
(2) حديث: " إنما جعل الإمام ليؤتم به. . . وإذا سجد فاسجدوا ". أخرجه
البخاري (الفتح 2 / 216 - ط السلفية) ومسلم (1 / 308 - ط الحلبي) من حديث
أبي هريرة.
(3) حديث: " ليس على من خلف الإمام سهو ". أخرجه الدارقطني (1 / 377 - ط
دار المحاسن) وعلقه البيهقي (2 / 352 - ط دائرة المعارف العثمانية) وضعفه.
(4) رد المحتار 1 / 499، الخرشي على مختصر خليل 1 / 331 - 332، روضة
الطالبين 1 / 312، المغني لابن قدامة 1 / 41 - 42.
(24/242)
أَمَّا إِذَا لَمْ يَسْجُدِ الإِْمَامُ
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يَسْجُدُ
الْمَأْمُومُ لأَِنَّهُ يَصِيرُ مُخَالِفًا، وَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ
فَإِنْ سَهَا الإِْمَامُ فَعَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ السَّهْوُ
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ
عِنْدَهُمْ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ
الْمَأْمُومَ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ إِذَا لَمْ يَسْجُدِ الإِْمَامُ،
لأَِنَّهُ لَمَّا سَهَا دَخَل النَّقْصُ عَلَى صَلاَتِهِ بِالسَّهْوِ
فَإِذَا لَمْ يَجْبُرِ الإِْمَامُ صَلاَتَهُ جَبَرَ الْمَأْمُومُ
صَلاَتَهُ. وَبِهِ قَال الأَْوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَبُو ثَوْرٍ،
وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ (1) .
سُجُودُ الْمَسْبُوقِ لِلسَّهْوِ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ مُتَابَعَةِ الْمَسْبُوقِ
لإِِمَامِهِ فِي سُجُودِ السَّهْوِ إِذَا سَبَقَهُ فِي بَعْضِ الصَّلاَةِ،
وَلَكِنَّ الْخِلاَفَ وَقَعَ فِي مِقْدَارِ الإِْدْرَاكِ مِنَ الصَّلاَةِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا أَدْرَكَ مَعَ إِمَامِهِ
أَيَّ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ قَبْل سُجُودِ السَّهْوِ وَجَبَ
__________
(1) رد المحتار 1 / 499، البناية للعيني 2 / 661 - 662، الخرشي على مختصر
خليل 1 / 331 - 332، روضة الطالبين 1 / 162، المجموع للنووي 4 / 143 - 147،
المغني لابن قدامة 1 / 41 - 42، الكافي للحنابلة 1 / 170.
(24/243)
عَلَيْهِ مُتَابَعَةُ إِمَامِهِ فِي
سُجُودِهِ لِلسَّهْوِ، وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا السَّهْوُ قَبْل
الاِقْتِدَاءِ أَوْ بَعْدَهُ. لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنَّمَا جُعِل الإِْمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ (1) وَلِقَوْلِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا
فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا (2) وَإِنِ اقْتَدَى بِهِ بَعْدَ السَّجْدَةِ
الثَّانِيَةِ مِنَ السَّهْوِ فَلاَ سُجُودَ عَلَيْهِ.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوِ اقْتَدَى الْمَسْبُوقُ بِالإِْمَامِ
بَعْدَ السَّجْدَةِ الأُْولَى هَل يَقْضِيهَا أَمْ لاَ؟ فَذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ بَل تَكْفِيهِ
السَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ نَصًّا إِلَى أَنَّهُ يَقْضِي
الأُْولَى بَعْدَ أَنْ يُسَلِّمَ الإِْمَامُ، يَسْجُدُهَا ثُمَّ يَقْضِي
مَا فَاتَهُ (3) . لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا
فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ
أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُدْرِكِ الْمَسْبُوقُ مَعَ الإِْمَامِ
رَكْعَةً مِنَ الصَّلاَةِ فَلاَ سُجُودَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ
السُّجُودُ بَعْدِيًّا أَوْ قَبْلِيًّا. وَإِذَا سَجَدَ مَعَ إِمَامِهِ
بَطَلَتْ صَلاَتُهُ عَامِدًا أَوْ جَاهِلاً؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مَأْمُومٍ
حَقِيقَةً، لِذَا لاَ يَسْجُدُ بَعْدَ تَمَامِ صَلاَتِهِ، وَأَمَّا
الْبَعْدِيُّ
__________
(1) حديث: " إنما جعل الإمام ليؤتم به ". تقدم تخريجه ف / 12.
(2) حديث: " فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ". أخرجه البخاري (الفتح 2
/ 116 - ط السلفية) من حديث أبي قتادة.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 499، روضة الطالبين 1 / 314، المجموع للنووي 4 /
147، المغني لابن قدامة 1 / 41 - 42، كشاف القناع 1 / 408.
(24/243)
فَتَبْطُل بِسُجُودِهِ وَلَوْ لَحِقَ
رَكْعَةً. قَال الْخَرَشِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ الصَّوَابُ. (1)
سَهْوُ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الإِْمَامِ:
14 - قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ لَيْسَ عَلَى مَنْ
سَهَا خَلَفَ الإِْمَامِ سُجُودٌ. (2)
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
لَيْسَ عَلَى مَنْ خَلْفَ الإِْمَامِ سَهْوٌ، فَإِنْ سَهَا الإِْمَامُ
فَعَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ السَّهْوُ (3) وَلأَِنَّ الْمَأْمُومَ
تَابِعٌ لإِِمَامِهِ، فَلَزِمَهُ مُتَابَعَتُهُ فِي السُّجُودِ وَتَرْكُهُ.
(4)
سَهْوُ الإِْمَامِ أَوِ الْمُنْفَرِدِ عَنِ التَّشَهُّدِ الأَْوَّل:
15 - مَنْ سَهَا عَنِ التَّشَهُّدِ الأَْوَّل، فَسَبَّحَ لَهُ
الْمَأْمُومُونَ أَوْ تَذَكَّرَ قَبْل انْتِصَابِهِ قَائِمًا لَزِمَهُ
الرُّجُوعُ، وَإِنِ اسْتَتَمَّ قَائِمًا لاَ يَعُودُ لِلتَّشَهُّدِ
لأَِنَّهُ تَلَبَّسَ بِرُكْنٍ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ. لِحَدِيثِ
الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا قَامَ الإِْمَامُ فِي
الرَّكْعَتَيْنِ، فَإِنْ ذَكَرَ قَبْل أَنْ يَسْتَوِيَ قَائِمًا
فَلْيَجْلِسْ، فَإِنِ
__________
(1) الخرشي على مختصر خليل (1 / 331 - 332) .
(2) الإجماع لابن المنذر (ص 40) .
(3) حديث: " ليس على من خلف الإمام سهو. . . " تقدم تخريجه ف / 12.
(4) رد المحتار على الدر المختار (1 / 500) ، البناية (2 / 664) ، الخرشي
على مختصر خليل 1 / 332، روضة الطالبين 1 / 311، المغني لابن قدامة 2 / 40
- 41.
(24/244)
اسْتَوَى قَائِمًا فَلاَ يَجْلِسْ،
وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ. (1) وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
بُحَيْنَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى
فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَسَبَّحُوا، فَمَضَى، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ
صَلاَتِهِ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ (2)
وَهَذَا قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (3) .
وَلَكِنَّ الْخِلاَفَ وَقَعَ فِيمَا لَوْ عَادَ بَعْدَ أَنِ اسْتَتَمَّ
قَائِمًا، هَل تَبْطُل صَلاَتُهُ أَمْ لاَ؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ
وَسَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَوْ عَادَ
إِلَى التَّشَهُّدِ الأَْوَّل بَطَلَتْ صَلاَتُهُ. لِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ
الَّذِي فِيهِ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَعُودَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذَا
اسْتَوَى قَائِمًا فَلاَ يَجْلِسْ. وَلأَِنَّهُ تَلَبَّسَ بِفَرْضٍ فَلاَ
يَجُوزُ تَرْكُهُ لِوَاجِبٍ أَوْ مَسْنُونٍ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ
عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الْمَذْهَبِ،
__________
(1) حديث: " إذا قام الإمام في الركعتين ". أخرجه أبو داود (1 / 629 -
تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال: " ليس في كتابي عن جابر الجعفي إلا هذا الحديث
". وقال ابن حجر في التلخيص (2 / 4 - ط شركة الطباعة الفنية) : وهو ضعيف
جدًا. ولكن له متابعان يتقوى بهما، أخرجهما الطحاوي في شرح معاني الآثار (1
/ 440 - ط مطبعة الأنوار المحمدية) .
(2) حديث عبد الله بن بحينة تقدم تخريجه ف / 7.
(3) فتح القدير 1 / 443 - 444، مواهب الجليل 2 / 46 - 67، روضة الطالبين 1
/ 303 - 304، كشاف القناع 1 / 404 - 405.
(24/244)
وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الأَْوْلَى
أَنْ لاَ يَعُودَ لِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَإِذَا اسْتَوَى
فَلاَ يَجْلِسْ وَلاَ تَبْطُل صَلاَتُهُ إِنْ عَادَ وَلَكِنَّهُ أَسَاءَ،
وَكُرِهَ خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَ الْمُضِيَّ لِظَاهِرِ
الْحَدِيثِ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مَا لَوْ شَرَعَ الإِْمَامُ فِي الْقِرَاءَةِ
فَإِنَّ صَلاَتَهُ تَبْطُل إِنْ عَادَ؛ لأَِنَّهُ شَرَعَ فِي رُكْنٍ
مَقْصُودٍ، كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي الرُّكُوعِ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا عَادَ لِلتَّشَهُّدِ
بَعْدَ أَنِ اسْتَتَمَّ قَائِمًا نَاسِيًا أَوْ جَاهِلاً مِنْ غَيْرِ
عَمْدٍ فَإِنَّ صَلاَتَهُ لاَ تَبْطُل. (1) لِلْحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ
وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا
عَلَيْهِ. (2)
__________
(1) رد المحتار 1 / 499 - 501، مواهب الجليل 2 / 46 - 47، روضة الطالبين 1
/ 303 - 304، المغني لابن قدامة 2 / 24 - 26، كشاف القناع 1 / 404 - 405.
(2) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان ". أخرجه ابن ماجه (1 /
659 - ط الحلبي) والحاكم (2 / 198 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث
ابن عباس، واللفظ لابن ماجه، وصحح الحاكم إسناده ووافقه الذهبي.
(24/245)
سُجُودُ الشُّكْرِ
. التَّعْرِيفُ:
1 - السُّجُودُ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَالشُّكْرُ لُغَةً: هُوَ
الاِعْتِرَافُ بِالْمَعْرُوفِ الْمُسْدَى إِلَيْكَ، وَنَشْرُهُ،
وَالثَّنَاءُ عَلَى فَاعِلِهِ، وَضِدُّهُ الْكُفْرَانُ، قَال تَعَالَى:
{وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ
اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (1) وَحَقِيقَةُ الشُّكْرِ: ظُهُورُ أَثَرِ
النِّعْمَةِ عَلَى اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ، بِأَنْ يَكُونَ
اللِّسَانُ مُقِرًّا بِالْمَعْرُوفِ مُثْنِيًا بِهِ، وَيَكُونُ الْقَلْبُ
مُعْتَرِفًا بِالنِّعْمَةِ، وَتَكُونُ الْجَوَارِحُ مُسْتَعْمَلَةً فِيمَا
يَرْضَاهُ الْمَشْكُورُ. (2)
وَالشُّكْرُ لِلَّهِ فِي الاِصْطِلاَحِ: صَرْفُ الْعَبْدِ النِّعَمَ
الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ فِي طَاعَتِهِ. (3)
__________
(1) سورة لقمان / 12.
(2) لسان العرب، ومدارج السالكين 2 / 244، والمجموع للنووي 1 / 74، ونهاية
المحتاج 1 / 22 ط. مصطفى الحلبي، وتفسير القرطبي 1 / 133 ط. دار الكتب
المصرية.
(3) نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي 1 / 22، وأسنى المطالب 1 / 3، وشرح
مسلم الثبوت 1 / 47.
(24/245)
وَسُجُودُ الشُّكْرِ شَرْعًا: هُوَ
سَجْدَةٌ يَفْعَلُهَا الإِْنْسَانُ عِنْدَ هُجُومِ نِعْمَةٍ، أَوِ
انْدِفَاعِ نِقْمَةٍ (1) .
مَشْرُوعِيَّةُ سُجُودِ الشُّكْرِ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ السُّجُودِ لِلشُّكْرِ،
فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ
الْمُنْذِرِ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَهُوَ
قَوْل ابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَعَزَاهُ ابْنُ الْقَصَّارِ
إِلَى مَالِكٍ وَصَحَّحَهُ الْبُنَانِيُّ إِلَى أَنَّهُ مَشْرُوعٌ. لِمَا
وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَتَاهُ أَمْرُ
سُرُورٍ - أَوْ: بُشِّرَ بِهِ - خَرَّ سَاجِدًا شَاكِرًا لِلَّهِ. (2)
وَسَجَدَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ فَتَحَ
الْيَمَامَةَ حِينَ جَاءَهُ خَبَرُ قَتْل مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ.
وَسَجَدَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ وَجَدَ ذَا الثُّدَيَّةِ
بَيْنَ قَتْلَى الْخَوَارِجِ، وَرُوِيَ السُّجُودُ لِلشُّكْرِ عَنْ
جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
وَرَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ جِبْرِيل قَال لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ صَلَّى
__________
(1) شرح المنهاج وحاشية القليوبي وعميرة 1 / 208.
(2) حديث أبي بكرة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر سرور
". أخرجه أبو داود (3 / 216 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (4 / 145 - ط
الحلبي) واللفظ لأبي داود، وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
(24/246)
عَلَيْكَ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ، وَمَنْ
سَلَّمَ عَلَيْكَ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَسَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُكْرًا لِلَّهِ. (1) وَذَكَرَ الْحَاكِمُ أَنَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ لِرُؤْيَةِ زَمِنٍ، وَأُخْرَى
لِرُؤْيَةِ قَرَدٍ، وَأُخْرَى لِرُؤْيَةِ نُغَاشِيٍّ. (2) قَال
الْحَجَّاوِيُّ: النُّغَاشِيُّ قِيل: هُوَ نَاقِصُ الْخِلْقَةِ، وَقِيل:
هُوَ الْمُبْتَلَى، وَقِيل: مُخْتَلِطُ الْعَقْل. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا
بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَجْدَةِ (ص) : سَجَدَهَا
دَاوُدُ تَوْبَةً، وَأَسْجُدُهَا شُكْرًا، (3) وَبِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ
مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ
__________
(1) حديث عبد الرحمن بن عوف: " أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم:
يقول الله: من صلى عليك صليت عليه ". أخرجه أحمد (1 / 191 - ط الميمنية) ،
وفي إسناده مقال، ولكن ذكر له ابن القيم طرقًا أخرى وشواهد يتقوى بها، في "
جلاء الأفهام " (ص 62 - 65 - ط دار ابن كثير) .
(2) مقالة الحاكم في ذكر حالات سجود الشكر وردت في " المستدرك " (1 / 276 -
ط دائرة المعارف العثمانية) . فحديث " سجوده عند رؤيته نغاشيًّا " أخرجه
الدارقطني (1 / 410 - ط دار المحاسن) من حديث أبي جعفر مرسلا، والراوي عنه
ضعيف كذلك. وحديث سجوده لرؤية الزمن: أخرجه البيهقي (2 / 371 - ط دائرة
المعارف العثمانية) من حديث عرفجة مرسلا، كذا قال البيهقي. وأما ذكر سجوده
لرؤية القرد فلم نهتد إليه.
(3) حديث ابن عباس: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في سجدة (ص) :
سجدها داود توبة. . . " أخرجه النسائي (2 / 159 ط المكتبة التجارية) من
حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - وصححه ابن السكن. كذا في التلخيص لابن
حجر (2 / 9 ط شركة الطباعة الفنية) .
(24/246)
الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ " لَمَّا بُشِّرَ
بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ خَرَّ سَاجِدًا (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ عَلَى الْمَشْهُورِ عَنْهُ،
وَالنَّخَعِيُّ عَلَى مَا حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّ
السُّجُودَ لِلشُّكْرِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ.
قَال الْبُنَانِيُّ: وَجْهُ الْمَشْهُورِ عَنْ مَالِكٍ عَمَل أَهْل
الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ لِمَا فِي الْعُتْبِيَّةِ أَنَّهُ قِيل لِمَالِكٍ:
إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ سَجَدَ فِي فَتْحِ الْيَمَامَةِ شُكْرًا،
قَال: مَا سَمِعْتُ ذَلِكَ، وَأَرَى أَنَّهُمْ كَذَبُوا عَلَى أَبِي
بَكْرٍ، وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ فَمَا سَمِعْتُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ
سَجَدَ. (2)
وَاحْتَجَّ ابْنُ الْمُنْذِرِ لأَِصْحَابِ هَذَا الْقَوْل بِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكَا إِلَيْهِ رَجُلٌ
الْقَحْطَ وَهُوَ يَخْطُبُ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَدَعَا، فَسُقُوا فِي
الْحَال وَدَامَ الْمَطَرُ إِلَى الْجُمُعَةِ الأُْخْرَى، فَقَال رَجُلٌ:
يَا رَسُول اللَّهِ، تَهَدَّمَتِ الْبُيُوتُ وَتَقَطَّعَتِ السُّبُل
فَادْعُ اللَّهَ يَرْفَعْهُ عَنَّا، فَدَعَا فَرَفَعَهُ فِي الْحَال (3)
قَال: فَلَمْ يَسْجُدِ
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 324، دمشق، المكتب الإسلامي، والمغني لابن قدامة 1 /
627 ط 3 القاهرة، دار المنار، 1367 هـ، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 308
ط عيسى الحلبي، والزرقاني على خليل والبناني بهامشه 1 / 274، والفتاوى
الهندية 1 / 135 ط بولاق، وكشاف القناع 1 / 449، 450 الرياض مكتبة النصر
الحديثة. وحديث كعب بن مالك - رضي الله عنه -. أخرجه البخاري (الفتح 8 /
115 - 116 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2126 ط الحلبي) .
(2) البناني على الزرقاني 1 / 274
(3) حديث: " شكا إليه رجل القحط وهو يخطب. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 /
509 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 612 - 613 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(24/247)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِتَجَدُّدِ نِعْمَةِ الْمَطَرِ أَوَّلاً، وَلاَ لِرَفْعِ
نِقْمَتِهِ آخِرًا.
وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِأَنَّ الإِْنْسَانَ لاَ يَخْلُو مِنْ نِعْمَةٍ،
فَإِنْ كَلَّفَهُ لَزِمَ الْحَرَجُ. (1)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي حُكْمِ سُجُودِ
الشُّكْرِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ أَنَّهُ سُنَّةٌ، لِمَا وَرَدَ مِنَ
الأَْحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُهُ.
وَقَدْ أَفَادَ الزَّرْقَانِيُّ - عَلَى الْقَوْل بِمَشْرُوعِيَّتِهِ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - أَنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْل غَيْرُ مَطْلُوبٍ،
أَيْ لَيْسَ مُسْتَحَبًّا، وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ فَقَطْ.
وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ سُجُودَ الشُّكْرِ مَكْرُوهٌ،
وَهُوَ نَصُّ مَالِكٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا عِنْدَهُ كَرَاهَةُ
تَحْرِيمٍ.
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ الْكَرَاهَةُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا
بِمَا يَدُل عَلَى أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ، فَعِبَارَةُ الْفَتَاوَى
الْهِنْدِيَّةِ: سَجْدَةُ الشُّكْرِ لاَ عِبْرَةَ بِهَا، وَهِيَ
مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ يُثَابُ عَلَيْهَا، وَتَرْكُهَا
أَوْلَى. (2) .
__________
(1) المجموع للنووي 4 / 70.
(2) روضة الطالبين للنووي 1 / 324، والمغني 1 / 628، كشاف القناع 1 / 449،
والمطالب 1 / 589، الفتاوى الهندية 1 / 135.
(24/247)
أَسْبَابُ سُجُودِ الشُّكْرِ:
4 - يُشْرَعُ سُجُودُ الشُّكْرِ عِنْدَ مَنْ قَال بِهِ لِطُرُوءِ نِعْمَةٍ
ظَاهِرَةٍ، كَأَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ وَلَدًا بَعْدَ الْيَأْسِ، أَوْ
لاِنْدِفَاعِ نِقْمَةٍ كَأَنْ شُفِيَ لَهُ مَرِيضٌ، أَوْ وَجَدَ ضَالَّةً،
أَوْ نَجَا هُوَ أَوْ مَالُهُ مِنْ غَرَقٍ أَوْ حَرِيقٍ. أَوْ لِرُؤْيَةِ
مُبْتَلًى أَوْ عَاصٍ أَيْ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى سَلاَمَتِهِ
هُوَ مِنْ مِثْل ذَلِكَ الْبَلاَءِ وَتِلْكَ الْمَعْصِيَةِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُسَنُّ السُّجُودُ
سَوَاءٌ كَانَتِ النِّعْمَةُ الْحَاصِلَةُ أَوِ النِّقْمَةُ
الْمُنْدَفِعَةُ خَاصَّةً بِهِ أَوْ بِنَحْوِ وَلَدِهِ، أَوْ عَامَّةً
لِلْمُسْلِمِينَ، كَالنَّصْرِ عَلَى الأَْعْدَاءِ، أَوْ زَوَال طَاعُونٍ
وَنَحْوِهِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَسْجُدُ لِنِعْمَةٍ عَامَّةٍ وَلاَ
يَسْجُدُ لِنِعْمَةٍ خَاصَّةٍ، قَدَّمَهُ ابْنُ حَمْدَانَ فِي الرِّعَايَةِ
الْكُبْرَى. (1)
ثُمَّ إِنَّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لاَ يُشْرَعُ
السُّجُودُ لاِسْتِمْرَارِ النِّعَمِ لأَِنَّهَا لاَ تَنْقَطِعُ. (2)
وَلأَِنَّ الْعُقَلاَءَ يُهَنِّئُونَ بِالسَّلاَمَةِ مِنَ الأَْمْرِ
الْعَارِضِ وَلاَ يَفْعَلُونَهُ كُل سَاعَةٍ. (3)
قَال الرَّمْلِيُّ: وَتَفُوتُ سَجْدَةُ الشُّكْرِ بِطُول الْفَصْل
بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَبَبِهَا (4) .
__________
(1) السراج الوهاج شرح المنهاج ص 63، والفروع لابن مفلح 1 / 504 ط 3،
والفتاوى الهندية 1 / 136.
(2) المجموع شرح المهذب 4 / 68، وكشاف القناع 1 / 449، 450.
(3) مطالب أولي النهى 1 / 950.
(4) نهاية المحتاج 2 / 100.
(24/248)
شُرُوطُ سُجُودِ الشُّكْرِ:
5 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ سُجُودَ الشُّكْرِ
يُشْتَرَطُ لَهُ مَا يُشْتَرَطُ لِلصَّلاَةِ، أَيْ مِنَ الطَّهَارَةِ،
وَاسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ، وَسِتْرِ الْعَوْرَةِ، وَاجْتِنَابِ
النَّجَاسَةِ.
وَعَلَى هَذَا فَمَنْ كَانَ فَاقِدَ الطَّهُورَيْنِ لَيْسَ لَهُ أَنْ
يَسْجُدَ لِلشُّكْرِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّرْقَاوِيُّ.
وَعَلَى الْقَوْل بِجَوَازِ سُجُودِ الشُّكْرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى طَهَارَةٍ عَلَى ظَاهِرِ
الْمَذْهَبِ، وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَدَمَ افْتِقَارِهِ إِلَى
ذَلِكَ، قَال الْحَطَّابُ: لأَِنَّ سِرَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُؤْتَى
بِالسُّجُودِ لأَِجْلِهِ يَزُول لَوْ تَرَاخَى حَتَّى يَتَطَهَّرَ.
وَاخْتَارَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ
لِسُجُودِ الشُّكْرِ. (1)
كَيْفِيَّةُ سُجُودِ الشُّكْرِ:
6 - يُصَرِّحُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ سُجُودَ الشُّكْرِ
تُعْتَبَرُ فِي صِفَاتِهِ صِفَاتُ سُجُودِ التِّلاَوَةِ خَارِجَ
الصَّلاَةِ، (2) وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ لِلشُّكْرِ لِلَّهِ
تَعَالَى يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ وَيُكَبِّرُ وَيَسْجُدُ سَجْدَةً
يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا وَيُسَبِّحُهُ.
__________
(1) الزرقاني 1 / 274، وروضة الطالبين 1 / 324، والشرقاوي على التحرير 1 /
85 القاهرة، مصطفى الحلبي، ومطالب أولي النهى 153 و 585، والاختيارات
للبعلي 60، والفروع 1 / 505.
(2) المجموع للنووي 4 / 68، وكشاف القناع 1 / 450.
(24/248)
ثُمَّ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً أُخْرَى
وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ. قَال فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: كَمَا فِي
سُجُودِ التِّلاَوَةِ، وَقَدْ قَال فِي سُجُودِ التِّلاَوَةِ: يُكَبِّرُ
لِلسُّجُودِ وَلاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ. وَإِذَا رَفَعَ مِنَ السُّجُودِ
فَلاَ تَشَهُّدَ عَلَيْهِ وَلاَ سَلاَمَ. (1)
غَيْرَ أَنَّ فِي التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ
سُجُودِ الشُّكْرِ بَعْدَ الرَّفْعِ ثَلاَثَةَ أَقْوَالٍ أَصَحُّهَا:
أَنَّهُ يُسَلِّمُ وَلاَ يَتَشَهَّدُ. (2)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ اخْتِلاَفٌ فِي سُجُودِ التِّلاَوَةِ هَل يَرْفَعُ
يَدَيْهِ عِنْدَ تَكْبِيرَتِهَا الأُْولَى أَمْ لاَ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ
جَرَيَانُ الْخِلاَفِ فِي مِثْل ذَلِكَ فِي سَجْدَةِ الشُّكْرِ،
وَيُسَلِّمُ، وَلاَ تَشَهُّدَ عَلَيْهِ. (3)
وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي سُجُودِ الشُّكْرِ
السُّجُودُ عَلَى الأَْعْضَاءِ السَّبْعَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ رُكْنٌ فِيهِ،
وَيَجِبُ فِيهِ التَّكْبِيرُ وَالتَّسْبِيحُ، إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ
تَشَهُّدٌ وَلاَ جُلُوسَ لَهُ، وَأَنَّهُ تُجْزِئُ فِيهِ تَسْلِيمَةٌ
وَاحِدَةٌ. (4)
سُجُودُ الشُّكْرِ فِي الصَّلاَةِ:
7 - يُصَرِّحُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ
يَسْجُدَ لِلشُّكْرِ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ، لأَِنَّ سَبَبَهَا خَارِجٌ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 135، 136، والمجموع للنووي 4 / 64.
(2) المجموع 4 / 68.
(3) كشاف القناع 1 / 450.
(4) مطالب أولي النهى 1 / 586، 590، 500.
(24/249)
عَنِ الصَّلاَةِ، فَإِنْ سَجَدَ فِي
الصَّلاَةِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ. قَالُوا: إِلاَّ أَنْ يَكُونَ جَاهِلاً
أَوْ نَاسِيًا فَلاَ تَبْطُل، كَمَا لَوْ زَادَ فِي الصَّلاَةِ سَجْدَةً
نِسْيَانًا. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ بَأْسَ بِسُجُودِ
الشُّكْرِ فِي الصَّلاَةِ. (1)
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَجْدَةِ سُورَةِ (ص) فَقِيل: هِيَ لِلشُّكْرِ،
وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِمَا رَوَى
الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَال: (ص) لَيْسَتْ مِنْ
عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِيهَا (2) . وَرَوَى النَّسَائِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: سَجَدَهَا دَاوُدُ تَوْبَةً،
وَنَسْجُدُهَا شُكْرًا. (3) وَقِيل: هِيَ لِلتِّلاَوَةِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ.
مِنْ أَجْل ذَلِكَ فَلَوْ سَجَدَ عِنْدَ سَجْدَةِ سُورَةِ (ص) فِي
الصَّلاَةِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَا لَمْ يَكُنْ جَاهِلاً أَوْ نَاسِيًا.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَلاَ تَبْطُل، وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى
ذَلِكَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ
لِلشُّكْرِ إِلاَّ أَنَّ لَهَا تَعَلُّقًا بِالصَّلاَةِ، فَهِيَ لَيْسَتْ
__________
(1) المجموع 4 / 68، وروضة الطالبين 1 / 325، ونهاية المحتاج 2 / 97، 90،
والفروع 1 / 505.
(2) قول ابن عباس: " هي ليست من عزائم السجود ". أخرجه البخاري (الفتح 2 /
552 - ط السلفية) .
(3) حديث: " سجدها داود توبة ". أخرجه النسائي (2 / 159 - ط المكتبة
التجارية) من حديث ابن عباس، وصححه ابن السكن كذا في التلخيص لابن حجر (2 /
9 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(24/249)
لِمَحْضِ الشُّكْرِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ كَمَا فِي الْمُغْنِي.
قَال الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ
جَاهِلاً لاَ تَبْطُل صَلاَتُهُ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَالْعَالِمُ
بِحُكْمِهَا لَوْ سَجَدَ إِمَامُهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ مُتَابَعَتُهُ بَل
يَتَخَيَّرُ بَيْنَ انْتِظَارِهِ وَمُفَارَقَتِهِ، وَانْتِظَارُهُ أَفْضَل.
(1)
سُجُودُ الشُّكْرِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ:
8 - يُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَسْجُدَ لِلشُّكْرِ فِي
الْوَقْتِ الَّذِي يُكْرَهُ فِيهِ النَّفْل. (2) وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
لاَ يَنْعَقِدُ فِي تِلْكَ الأَْوْقَاتِ تَطَوُّعٌ وَإِنْ كَانَ لَهُ
سَبَبٌ كَسُجُودِ شُكْرٍ. (3) وَلاَ يَسْجُدُ لِلشُّكْرِ أَثْنَاءَ
اسْتِمَاعِهِ لِخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ (4) .
إِظْهَارُ سُجُودِ الشُّكْرِ وَإِخْفَاؤُهُ:
9 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ مَنْ سَجَدَ لِنِعْمَةٍ أَوِ
انْدِفَاعِ نِقْمَةٍ لاَ تَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ السَّاجِدِ يُسْتَحَبُّ
إِظْهَارُ السُّجُودِ، وَإِنْ سَجَدَ لِبَلِيَّةٍ فِي غَيْرِهِ
وَصَاحِبُهَا غَيْرُ مَعْذُورٍ كَالْفَاسِقِ، يُظْهِرُ السُّجُودَ
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 89، ومطالب أولي النهى 1 / 585، والمغني 9 / 628.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 136.
(3) مطالب أولي النهى 1 / 594.
(4) حاشية الرملي على أسنى المطالب 1 / 259 نشر المكتبة الإسلامية.
(24/250)
فَلَعَلَّهُ يَتُوبُ، وَإِنْ كَانَ
مَعْذُورًا كَالزَّمِنِ وَنَحْوِهِ أَخْفَاهُ لِئَلاَّ يَتَأَذَّى بِهِ،
وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ السُّجُودَ لِرُؤْيَةِ
الْمُبْتَلَى إِنْ كَانَ مُبْتَلًى فِي دِينِهِ سَجَدَ بِحُضُورِهِ أَوْ
بِغَيْرِ حُضُورِهِ، وَقَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا
ابْتَلاَكَ بِهِ. وَإِنْ كَانَ الْبَلاَءُ فِي بَدَنِهِ سَجَدَ وَقَال
ذَلِكَ، وَكَتَمَهُ عَنْهُ، وَيَسْأَل اللَّهَ الْعَافِيَةَ، وَقَدْ قَال
إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْأَلُوا اللَّهَ
الْعَافِيَةَ بِحَضْرَةِ الْمُبْتَلَى (1) .
__________
(1) المجموع 4 / 68 وما بعدها، وكشاف القناع 1 / 450، ومطالب أولي النهى 1
/ 590، والفروع 1 / 505.
(24/250)
|