الموسوعة الفقهية الكويتية

سِحَاقٌ.

التَّعْرِيفُ:
1 - السِّحَاقُ وَالْمُسَاحَقَةُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: أَنْ تَفْعَل الْمَرْأَةُ بِالْمَرْأَةِ مِثْل صُورَةِ مَا يَفْعَل بِهَا الرَّجُل (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الزِّنَى:
2 - الزِّنَى فِي اللُّغَةِ: الْفُجُورُ. يُقَال: زَنَى يَزْنِي زِنًى وَزِنَاءً - بِكَسْرِهَا -: إِذَا فَجَرَ.
وَاصْطِلاَحًا: إِيلاَجُ حَشَفَةٍ أَوْ قَدْرِهَا فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ لِعَيْنِهِ مُشْتَهًى طَبْعًا بِلاَ شُبْهَةٍ (2) .
__________
(1) لسان العرب والقاموس المحيط مادة: (سحق) . والمغرب 219 دار الكتاب العربي، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 316، دار الفكر، كشاف القناع 1 / 143 عالم الكتب 1983 م، الزواجر عن اقتراف الكبائر 2 / 119 - المطبعة الأزهرية المصرية - الطبعة الأولى 1325 هـ.
(2) لسان العرب والقاموس المحيط والمصباح المنير مادة (زنا) ، مغني المحتاج 4 / 143 دار إحياء التراث العربي.

(24/251)


فَالزِّنَى وَالسِّحَاقُ يَتَّفِقَانِ مِنْ حَيْثُ الْحُرْمَةُ حَيْثُ إِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا اسْتِمْتَاعٌ مُحَرَّمٌ، وَيَخْتَلِفَانِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَالْمَحَل وَالأَْثَرُ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ السِّحَاقَ حَرَامٌ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: السِّحَاقُ زِنَى النِّسَاءِ بَيْنَهُنَّ. (1) وَقَدْ عَدَّهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنَ الْكَبَائِرِ. (2)

أَثَرُ السِّحَاقِ عَلَى الْوُضُوءِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْضِ السِّحَاقِ لِلْوُضُوءِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَمَاسَّ الْفَرْجَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْقُبُل أَوِ الدُّبُرِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَلَوْ بِلاَ بَلَلٍ - وَهُوَ عِنْدَهُمْ نَاقِضٌ حُكْمِيٌّ - وَاشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ تَمَاسُّ الْفَرْجَيْنِ مِنْ شَخْصَيْنِ مُشْتَهِيَيْنِ وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: لَمْسُ امْرَأَةٍ لأُِخْرَى بِشَهْوَةٍ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَلْتَذُّ بِالأُْخْرَى. وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ نَقْضَ بِمَسِّ قُبُل امْرَأَةٍ لِقُبُل امْرَأَةٍ أُخْرَى أَوْ دُبُرِهَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ. (3)
__________
(1) حديث: " السحاق زنى النساء بينهن ". أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (9 / 30 - ط السعادة) من حديث واثلة بن الأسقع وأنس بن مالك، ثم أسند عن ابن معين والنسائي أنهما ضعفا أحد رواته.
(2) الزواجر عن اقتراف الكبائر 2 / 119 - المطبعة الأزهرية المصرية - الطبعة الأولى 1325 هـ.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 99 دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي 1 / 119 دار الفكر، شرح روض الطالب 1 / 57 - المكتبة الإسلامية، المجموع 2 / 40 - المكتبة السلفية، المدينة المنورة، كشاف القناع 1 / 129 عالم الكتب 1983 م، مطالب أولي النهى 1 / 145 المكتب الإسلامي 1961 م.

(24/251)


أَثَرُهُ عَلَى الْغُسْل:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْل إِذَا حَصَل إِنْزَالٌ بِالسِّحَاقِ، إِذْ أَنَّ خُرُوجَ الْمَنِيِّ مِنْ مُوجِبَاتِ الْغُسْل، أَمَّا إِذَا لَمْ يَحْصُل إِنْزَالٌ فَلاَ يَجِبُ الْغُسْل (1) .

أَثَرُهُ عَلَى الصَّوْمِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا حَصَل إِنْزَالٌ بِالسِّحَاقِ فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الصَّوْمَ وَيَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ أَنْزَلَتْ. إِذْ أَنَّ خُرُوجَ الْمَنِيِّ عَنْ شَهْوَةٍ بِالْمُبَاشَرَةِ مُفْسِدٌ لِلصَّوْمِ.
قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: وَعَمَل الْمَرْأَتَيْنِ أَيْضًا كَعَمَل الرِّجَال جِمَاعٌ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لاَ قَضَاءَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إِلاَّ إِذَا أَنْزَلَتْ وَلاَ كَفَّارَةَ مَعَ الإِْنْزَال.
وَأَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهَا حِينَئِذٍ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَحْصُل إِنْزَالٌ فَإِنَّ الصَّوْمَ صَحِيحٌ. (2)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 107، حاشية الدسوقي 1 / 126، شرح روض الطالب 1 / 65، كشاف القناع 1 / 143.
(2) ابن عابدين 2 / 100، فتح القدير 2 / 265 - دار إحياء التراث العربي، الفتاوى الهندية 1 / 205، المطبعة الأميرية 1310 هـ، حاشية الدسوقي 1 / 529، القليوبي وعميرة 2 / 70، كشاف القناع 2 / 326.

(24/252)


وَهَذَا فِي خُرُوجِ الْمَنِيِّ أَمَّا إِذَا حَصَل بِالسِّحَاقِ خُرُوجُ الْمَذْيِ فَقَطْ فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ خُرُوجَ الْمَذْيِ بِلَمْسٍ أَوْ قُبْلَةٍ أَوْ مُبَاشَرَةٍ مُفْسِدٍ لِلصَّوْمِ كَذَلِكَ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. (1) وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (صَوْمٍ) .

عُقُوبَةُ السِّحَاقِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ فِي السِّحَاقِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ زِنًى. وَإِنَّمَا يَجِبُ فِيهِ التَّعْزِيرُ؛ لأَِنَّهُ مَعْصِيَةٌ (2) وَيُنْظَرُ (تَعْزِيرٌ، زِنًى) .

نَظَرُ الْمُسَاحَقَةِ إِلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ:
8 - اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ فِي جَوَازِ نَظَرِ الْمَرْأَةِ الْمُسَاحَقَةِ إِلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ.
فَذَهَبَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ وَابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ وَعَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ إِلَى مَنْعِهِ وَحُرْمَةِ التَّكَشُّفِ لَهَا لأَِنَّهَا فَاسِقَةٌ، وَلاَ يُؤْمَنُ أَنْ تَحْكِيَ مَا تَرَاهُ.
وَذَهَبَ الْبُلْقِينِيُّ وَالرَّمْلِيُّ وَالْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ
__________
(1) فتح القدير 2 / 257، حاشية الدسوقي 1 / 523، تحفة المحتاج 3 / 409 دار صادر، وكشاف القناع 2 / 319 عام 1983 م، والفتاوى الهندية 1 / 205 المطبعة الأميرية 1310 هـ.
(2) فتح القدير 5 / 42 دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي 4 / 316 دار الفكر، روضة الطالبين 10 / 91 المكتب الإسلامي، شرح روض الطالب 4 / 126 المكتبة الإسلامية، كشاف القناع 6 / 95 عالم الكتب 1983 م.

(24/252)


إِلَى جَوَازِهِ؛ لأَِنَّهَا مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ، وَالْفِسْقُ لاَ يُخْرِجُهَا عَنْ ذَلِكَ. (1)

رَدُّ شَهَادَةِ الْمُسَاحَقَةِ:
9 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي قَبُول شَهَادَةِ الشَّاهِدِ أَنْ يَكُونَ عَدْلاً، فَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْفَاسِقِ. وَلَمَّا كَانَ فِعْل السِّحَاقِ مُفَسِّقًا وَمُسْقِطًا لِلْعَدَالَةِ فَإِنَّهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْمُسَاحَقَةِ. وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحِ الْفُقَهَاءُ بِرَدِّ الشَّهَادَةِ بِالسِّحَاقِ إِلاَّ أَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْ كَلاَمِهِمْ وَقَوَاعِدِهِمُ الْعَامَّةِ فِي قَبُول الشَّهَادَةِ وَرَدِّهَا. (2)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 238، حاشية الدسوقي 1 / 213، نهاية المحتاج 6 / 194، تحفة المحتاج 7 / 200، مغني المحتاج 3 / 132، القليوبي وعميرة 3 / 211، حاشية الجمل 4 / 124، شرح روض الطالب 3 / 111، كشاف القناع 5 / 15.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 377 وما بعدها، حاشية الدسوقي 4 / 165 وما بعدها، قليوبي وعميرة 4 / 318 وما بعدها، كشاف القناع 6 / 418 وما بعدها.

(24/253)


سَحْبٌ
.

التَّعْرِيفُ:
1 - السَّحْبُ فِي اللُّغَةِ: جَرُّكَ الشَّيْءَ عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ كَالثَّوْبِ وَغَيْرِهِ.
وَالسَّحْبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنْ يُعْطَى النَّقَاءُ الْمُتَخَلِّل بَيْنَ أَيَّامِ الْحَيْضِ حُكْمَ الْحَيْضِ، قَال الشِّرْوَانِيُّ: وَإِنَّمَا سَمَّوْهُ بِذَلِكَ لأَِنَّنَا سَحَبْنَا الْحُكْمَ بِالْحَيْضِ عَلَى النَّقَاءِ فَجَعَلْنَا الْكُل حَيْضًا (1) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - سَبَقَ أَنَّ السَّحْبَ يُرَادُ بِهِ الْحُكْمُ عَلَى النَّقَاءِ الْمُتَخَلِّل فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْقَوْل الرَّاجِحِ إِلَى أَنَّ أَيَّامَ الدَّمِ وَأَيَّامَ النَّقَاءِ كِلاَهُمَا حَيْضٌ بِشَرْطِ إِحَاطَةِ الدَّمِ لِطَرَفَيِ النَّقَاءِ الْمُتَخَلِّل.
__________
(1) لسان العرب والقاموس المحيط والمصباح المنير مادة: (سحب) وحاشية الشرواني على تحفة المحتاج 1 / 385.

(24/253)


وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ شَرْطَيْنِ آخَرَيْنِ وَهُمَا: أَنْ لاَ يُجَاوِزَ ذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَأَنْ لاَ تَنْقُصَ الدِّمَاءُ عَنْ أَقَل الْحَيْضِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلِهِمُ الثَّانِي وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ أَيَّامَ الدَّمِ حَيْضٌ، وَأَيَّامَ النَّقَاءِ طُهْرٌ، وَتُلَفَّقُ مِنْ أَيَّامِ الدَّمِ حَيْضَهَا. وَيُطْلِقُ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى هَذَا الْقَوْل (التَّلْفِيقَ) أَوِ (اللَّقْطَ) (1) . وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ تَلْفِيقٍ (13 / 286) .

3 - كَمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَقَطُّعِ دَمِ الْحَيْضِ وَمُجَاوَزَتِهِ أَكْثَرَ الْحَيْضِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى الْقَوْل بِالسَّحْبِ. فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُبْتَدَأَةَ حَيْضُهَا عَشْرَةُ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّل مَا تَرَى الدَّمَ، أَمَّا الْمُعْتَادَةُ فَإِنَّ عَادَتَهَا الْمَعْرُوفَةَ فِي الْحَيْضِ حَيْضٌ، وَعَادَتُهَا فِي الطُّهْرِ طُهْرٌ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ لِذَاتِ التَّقَطُّعِ أَرْبَعَةَ أَحْوَالٍ:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 192 دار إحياء التراث العربي، مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 78 دار سعادات 1325 هـ، الفتاوى الهندية 1 / 36 المطبعة الأميرية 1310 هـ، الكافي 1 / 186 الرياض 1978 م، حاشية الدسوقي 1 / 168 وما بعدها دار الفكر، الخرشي على مختصر خليل 1 / 204 المطبعة العامرة 1316 هـ، مغني المحتاج 1 / 119 دار إحياء التراث العربي، المجموع 2 / 501 المكتبة السلفية - المدينة المنورة، المبدع 1 / 285 المكتب الإسلامي 1980 م، الروض المربع 1 / 36 المطبعة السلفية 1380 هـ القاهرة، كشاف القناع 1 / 204 عالم الكتب 1983 م.

(24/254)


أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونُ مُمَيَّزَةً بِأَنْ تَرَى يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا أَسْوَدَ، ثُمَّ يَوْمًا وَلَيْلَةً نَقَاءً، ثُمَّ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَسْوَدَ، ثُمَّ يَوْمًا وَلَيْلَةً نَقَاءً، وَكَذَا مَرَّةٌ ثَالِثَةٌ وَرَابِعَةٌ وَخَامِسَةٌ ثُمَّ تَرَى بَعْدَ هَذِهِ الْعَشَرَةِ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا أَحْمَرَ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً نَقَاءً، ثُمَّ مَرَّةً ثَانِيَةً وَثَالِثَةً، وَتُجَاوِزُ خَمْسَةَ عَشَرَ مُتَقَطِّعًا كَذَلِكَ، أَوْ مُتَّصِلاً دَمًا أَحْمَرَ. فَهَذِهِ الْمُمَيَّزَةُ تُرَدُّ إِلَى التَّمْيِيزِ فَيَكُونُ الْعَاشِرُ فَمَا بَعْدَهُ طُهْرًا. وَالتِّسْعَةُ كُلُّهَا حَيْضٌ عَلَى قَوْل السَّحْبِ الرَّاجِحِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَدْخُل مَعَهَا الْعَاشِرُ؛ لأَِنَّ النَّقَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ حَيْضًا عَلَى قَوْل السَّحْبِ إِذَا كَانَ بَيْنَ دَمَيِ الْحَيْضِ. وَهَذَا يَجْرِي فِي الْمُبْتَدَأَةِ وَالْمُعْتَادَةِ الْمُمَيَّزَةِ.
الْحَال الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ ذَاتُ التَّقَطُّعِ مُعْتَادَةً غَيْرَ مُمَيَّزَةٍ وَهِيَ حَافِظَةٌ لِعَادَتِهَا، وَكَانَتْ عَادَتُهَا أَيَّامَهَا مُتَّصِلَةً لاَ تَقَطُّعَ فِيهَا فَتُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا. فَيَكُونُ كُل دَمٍ يَقَعُ فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ مَعَ النَّقَاءِ الْمُتَخَلِّل بَيْنَ الدَّمَيْنِ يَكُونُ جَمِيعُهُ حَيْضًا. فَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا مِنْ أَوَّل كُل شَهْرٍ خَمْسَةَ أَيَّامٍ فَتَقَطَّعَ دَمُهَا يَوْمًا وَيَوْمًا وَجَاوَزَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَحَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الأُْولَى دَمًا وَنَقَاءً.
الْحَال الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مُبْتَدَأَةً لاَ تَمْيِيزَ لَهَا. وَفِيهَا قَوْلاَنِ: أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهَا تُرَدُّ إِلَى أَقَل الْحَيْضِ وَهُوَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. وَالثَّانِي أَنَّهَا تُرَدُّ إِلَى غَالِبِ الْحَيْضِ وَهُوَ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ. وَإِنْ رَدَدْنَاهَا إِلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَحَيْضُهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ سَوَاءٌ سَحَبْنَا أَوْ لَقَطْنَا.

(24/254)


الْحَال الرَّابِعُ: النَّاسِيَةُ، وَهِيَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهَا: مَنْ نَسِيَتْ قَدْرَ عَادَتِهَا وَوَقْتِهَا وَهِيَ الْمُتَحَيِّرَةُ.
وَالثَّانِي: مَنْ نَسِيَتْ قَدْرَ عَادَتِهَا وَذَكَرَتْ وَقْتَهَا، أَوْ نَسِيَتِ الْوَقْتَ وَذَكَرَتِ الْقَدْرَ. وَالصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِيهِمَا: أَنَّهُ يَلْزَمُهَا الاِحْتِيَاطُ، فَتَحْتَاطُ فِي أَزْمِنَةِ الدَّمِ، وَأَزْمِنَةِ النَّقَاءِ أَيْضًا.
وَسَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مُتَحَيِّرَةٍ) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى الْقَوْل بِالتَّلْفِيقِ. فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تُلَفِّقُ الْمُبْتَدَأَةُ نِصْفَ شَهْرٍ، وَتُلَفِّقُ الْمُعْتَادَةُ عَادَتَهَا وَاسْتِظْهَارَهَا. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تُلَفِّقُ الْمُبْتَدَأَةُ أَقَل الْحَيْضِ. وَالْمُعْتَادَةُ عَادَتَهَا ثُمَّ هِيَ بَعْدَ أَيَّامِ التَّلْفِيقِ مُسْتَحَاضَةٌ. (1)
وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَلْفِيقٍ) (13 / 288) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 37، حاشية الدسوقي 1 / 170 دار الفكر، مواهب الجليل 1 / 69 دار الفكر 1978 م، المجموع 2 / 506 وما بعدها المكتبة السلفية - المدينة المنورة، كشاف القناع 1 / 214 عالم الكتب 1983 م.

(24/255)


سُحْتٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - السُّحْتُ لُغَةً: مَا خَبُثَ وَقَبُحَ مِنَ الْمَكَاسِبِ فَلَزِمَ عَنْهُ الْعَارُ وَقَبِيحُ الذِّكْرِ، وَهُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِهَا.
وَاصْطِلاَحًا: كُل مَالٍ حَرَامٍ لاَ يَحِل كَسْبُهُ وَلاَ أَكْلُهُ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لأَِنَّهُ يُسْحِتُ الطَّاعَاتِ أَيْ يُذْهِبُهَا.
وَقَدْ يَخُصُّ بِهِ الرِّشْوَةَ وَمَا يَأْخُذُهُ الشَّاهِدُ وَالْقَاضِي، وَالسَّحْتُ (بِفَتْحِ السِّينِ) وَالإِْسْحَاتُ: الاِسْتِئْصَال وَالإِْهْلاَكُ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} (1) أَيْ يَسْتَأْصِلَكُمْ.
وَمِنَ السُّحْتِ: الرِّبَا وَالرِّشْوَةُ وَالْغَصْبُ وَالْقِمَارُ وَالسَّرِقَةُ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ وَالْمَال الْمَأْكُول بِالْبَاطِل (2) .
__________
(1) سورة طه / 61.
(2) لسان العرب، المصباح المنير، تاج العروس، المعجم الوسيط، غريب القرآن مادة (سحت) ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6 / 182، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 432، وكفاية الطالب الرباني 2 / 332، وتفسير أبي السعود 2 / 29.

(24/255)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْغَصْبُ:
2 - الْغَصْبُ هُوَ فِي اللُّغَةِ: أَخْذُ الشَّيْءِ ظُلْمًا، وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الاِسْتِيلاَءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ عُدْوَانًا. (1)
فَالْغَصْبُ نَوْعٌ مِنَ السُّحْتِ، وَالسُّحْتُ أَشْمَل مِنْهُ لأَِنَّهُ كُل كَسْبٍ خَبِيثٍ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
يَنْقَسِمُ السُّحْتُ إِلَى أَنْوَاعٍ مِنْهَا:

الرِّشْوَةُ:
3 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّشْوَةَ - مَا يُعْطَى لإِِبْطَال حَقٍّ، أَوْ لإِِحْقَاقِ بَاطِلٍ - نَوْعٌ مِنَ السُّحْتِ لاَ خِلاَفَ فِي حُرْمَتِهِ وَأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ إِذَا اسْتَحَلَّهُ الآْخِذُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (2) أَيْ كَانُوا يَسْمَعُونَ الْكَذِبَ وَيَقْبَلُونَ الرِّشَا، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل لَحْمٍ أَنْبَتَهُ
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير مادة غصب، ابن عابدين 5 / 113، جواهر الإكليل 2 / 148، القوانين الفقهية ص 334، مغني المحتاج 2 / 275، كفاية الطالب 2 / 332، المغني لابن قدامة 5 / 238.
(2) سورة المائدة / 42.

(24/256)


السُّحْتُ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ قِيل: يَا رَسُول اللَّهِ وَمَا السُّحْتُ؟ قَال: الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ. (1)
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ الْهَدِيَّةُ لِلْحَاكِمِ أَوِ الْقَاضِي أَوْ صَاحِبِ الْجَاهِ، لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا أَخَذَ الْهَدِيَّةَ فَقَدْ أَكَل السُّحْتَ، وَإِذَا أَخَذَ الرِّشْوَةَ بَلَغَتْ بِهِ الْكُفْرَ. وَلِخَبَرِ: هَدَايَا الْعُمَّال سُحْتٌ (2) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَدَايَا الأُْمَرَاءِ سُحْتٌ.
(3) وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ (رِشْوَةٍ) .

كَسْبُ الْحَجَّامِ:
4 - مِنْ أَنْوَاعِ السُّحْتِ كَسْبُ الْحَجَّامِ: أَيْ
__________
(1) حديث: " كل لحم أنبته السحت ". أخرجه ابن جرير (10 / 323 - ط دار المعارف) من حديث عمر بن حمزة العمري مرسلا.
(2) حديث: " هدايا العمال سحت ". أخرجه ابن عدي في الكامل (1 / 281 - ط دار الفكر) من حديث جابر بن عبد الله، وقال عن راويه: " أحاديثه غير محفوظة "، وأورده الهيثمي في المجمع (4 / 151 - ط القدسي) بلفظ: " هدايا الأمراء غلول " وقال: " رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن ".
(3) تفسير القرطبي 6 / 182، أحكام القرآن للجصاص 2 / 232، تفسير الطبري 10 / 318، تفسير أبي السعود 2 / 29، نيل الأوطار 5 / 46، سبل السلام 3 / 80، 113، المغني لابن قدامة 4 / 232، 5 / 299، مغني المحتاج 2 / 10، 275، 3 / 399، نهاية المحتاج 8 / 242، كفاية الطالب 2 / 332. وحديث: " هدايا الأمراء من السحت ". أورده السيوطي في الدر المنثور (2 / 284 - ط الميمنية) من حديث جابر بن عبد الله، وعزاه إلى عبد الرزاق في تفسيره وابن مردويه.

(24/256)


أُجْرَتُهُ مِنَ الْحِجَامَةِ حَيْثُ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى حُرْمَةِ أُجْرَةِ الْحِجَامَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ (1) وَفِي رِوَايَةٍ: شَرُّ الْمَكْسَبِ مَهْرُ الْبَغِيِّ وَثَمَنُ الْكَلْبِ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ. (2) الْحَدِيثُ. وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنَ السُّحْتِ كَسْبَ الْحَجَّامِ. (3)
إِلاَّ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ يَرَى إِبَاحَةَ الاِسْتِئْجَارِ لِلْحِجَامَةِ، وَأَنَّ أَجْرَ الْحَجَّامِ مُبَاحٌ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ (4) .، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ، وَلَمْ يَكُنْ يَأْذَنُ أَنْ يُطْعَمَ بِهَا أَحَدٌ إِلاَّ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُجِيزِينَ يَرَى أَنَّ الْحِجَامَةَ مِنَ الْحِرَفِ الدَّنِيئَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ مُلاَبَسَةِ النَّجَاسَةِ كَالْكُنَاسَةِ فَيُكْرَهُ لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَحْتَرِفَ بِهَا، قَال الْقُرْطُبِيُّ: الصَّحِيحُ فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ أَنَّهُ طَيِّبٌ وَمَنْ أَخَذَ طَيِّبًا لاَ تَسْقُطُ مُرُوءَتُهُ
__________
(1) حديث: " كسب الحجام خبيث ". أخرجه مسلم (3 / 1199 - ط الحلبي) من حديث رافع بن خديج.
(2) حديث: " شر الكسب: مهر البغي، وثمن الكلب، وكسب الحجام ". أخرجه مسلم (3 / 1199 - ط الحلبي) من حديث رافع بن خديج.
(3) حديث: " من السحت كسب الحجام ". أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4 / 129 - ط مطبعة الأنوار المحمدية) من حديث أبي هريرة بإسنادين يقوي أحدهما الآخر.
(4) حديث: " احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 258 - ط السلفية) من حديث ابن عباس.

(24/257)


وَلاَ تَنْحَطُّ مَرْتَبَتُهُ، وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بَعْدَ مَا ذَكَرَ حَدِيثَ احْتِجَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ كَسْبَ الْحَجَّامِ طَيِّبٌ، لأَِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَجْعَل ثَمَنًا وَلاَ جُعْلاً عِوَضًا لِشَيْءٍ مِنَ الْبَاطِل (1) .
(ر: حِجَامَةٌ، أُجْرَةٌ، كَسْبٌ) .

مَهْرُ الْبَغِيِّ:
5 - مِنْ أَنْوَاعِ السُّحْتِ مَهْرُ الْبَغِيِّ، وَهُوَ مَا تَأْخُذُهُ الزَّانِيَةُ فِي مُقَابِل الزِّنَى، سُمِّيَ مَهْرًا مَجَازًا.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَتِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شَرُّ الْمَكَاسِبِ ثَمَنُ الْكَلْبِ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ (2) وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنَ السُّحْتِ مَهْرُ الْبَغِيِّ (3) الْحَدِيثُ.
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِمَهْرِ الزَّانِيَةِ لأَِنَّهُ كَسْبٌ خَبِيثٌ وَلاَ يُرَدُّ إِلَى الدَّافِعِ، لأَِنَّهُ دَفَعَهُ بِاخْتِيَارِهِ فِي مُقَابِل عِوَضٍ لاَ يُمْكِنُ لِصَاحِبِهِ اسْتِرْجَاعُهُ، وَلِكَيْ لاَ يُعَانَ صَاحِبُ الْمَعْصِيَةِ بِحُصُول غَرَضِهِ وَرُجُوعِ مَالِهِ (4) .
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (زِنًى، مَهْرٍ، أُجْرَةٍ) .
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) حديث: " شر الكسب ثمن الكلب. . . " تقدم ف / 4.
(3) حديث: " من السحت مهر البغي " تقدم ف / 4 ضمن حديث: شر الكسب.
(4) المصادر السابقة.

(24/257)


حُلْوَانُ الْكَاهِنِ:
6 - مِنْ أَنْوَاعِ السُّحْتِ كَذَلِكَ حُلْوَانُ الْكَاهِنِ، وَهُوَ مَا يَأْخُذُهُ الْكَاهِنُ مُقَابِل إِخْبَارِهِ عَمَّا سَيَكُونُ، وَمُطَالَعَةِ الْغَيْبِ فِي زَعْمِهِ، وَهُوَ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ.
لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَثَمَنِ الْكَلْبِ وَالاِسْتِعْجَال فِي الْقَضِيَّةِ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَعَسْبِ الْفَحْل وَالرِّشْوَةِ فِي الْحُكْمِ وَثَمَنِ الْخَمْرِ وَثَمَنِ الْمَيْتَةِ: مِنَ السُّحْتِ (1) .
وَلِمَا فِيهِ مِنْ أَخْذِ الْعِوَضِ عَلَى أَمْرٍ بَاطِلٍ. وَفِي مَعْنَاهُ التَّنْجِيمُ وَالضَّرْبُ بِالْحَصَى وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَاطَاهُ الْعَرَّافُونَ مِنَ اسْتِطْلاَعِ الْغَيْبِ (2) .
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (كِهَانَةٍ، عِرَافَةٍ) .

ثَمَنُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَمَا شَابَهَهَا:
7 - مِنْ أَنْوَاعِ السُّحْتِ ثَمَنُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ وَالأَْصْنَامِ.
__________
(1) تفسير الطبري 10 / 318، تفسير القرطبي 6 / 182، أحكام القرآن للجصاص 2 / 432، سبل السلام 3 / 7، 13، 80، مغني المحتاج 2 / 10، 275، 3 / 393، نهاية المحتاج 8 / 242، كفاية الطالب 2 / 332، المغني لابن قدامة 4 / 232، 5 / 299، تفسير أبي السعود 2 / 29.

(24/258)


وَهَذِهِ الأَْنْوَاعُ مُتَّفَقٌ عَلَى حُرْمَتِهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ (1) .
وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: مِنَ السُّحْتِ كَسْبُ الْحَجَّامِ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ وَثَمَنُ الْكَلْبِ وَثَمَنُ الْخَمْرِ وَثَمَنُ الْمَيْتَةِ. الْحَدِيثُ (2) . وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٍ، أُجْرَةٍ، ثَمَنٍ) .

مَا أُخِذَ بِالْحَيَاءِ:
8 - مِنْ أَنْوَاعِ السُّحْتِ مَا أُخِذَ بِالْحَيَاءِ وَلَيْسَ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ كَمَنْ يَطْلُبُ مِنْ غَيْرِهِ مَالاً بِحَضْرَةِ النَّاسِ فَيَدْفَعُ إِلَيْهِ الشَّخْصُ بِبَاعِثِ الْحَيَاءِ وَالْقَهْرِ (3) .
رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: حَيَاءٍ.

سَحَرٌ

انْظُرْ: تَهَجُّدٌ.
__________
(1) حديث: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 424 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1207 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(2)) المصادر السابقة. وأثر علي تقدم.
(3) المصادر السابقة.

(24/258)


سِحْرٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - السِّحْرُ لُغَةً: كُل مَا لَطُفَ مَأْخَذُهُ وَدَقَّ، وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا (1) وَسَحَرَهُ أَيْ خَدَعَهُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} (2) أَيِ الْمَخْدُوعِينَ.
وَيُطْلَقُ السِّحْرُ عَلَى أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ قَال الأَْزْهَرِيُّ: السِّحْرُ عَمَلٌ تُقُرِّبَ بِهِ إِلَى الشَّيْطَانِ وَبِمَعُونَةٍ مِنْهُ، كُل ذَلِكَ الأَْمْرِ كَيْنُونَةٌ لِلسِّحْرِ. قَال: وَأَصْل السِّحْرِ صَرْفُ الشَّيْءِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى غَيْرِهِ، فَكَأَنَّ السَّاحِرَ لَمَّا أَرَى الْبَاطِل فِي صُورَةِ الْحَقِّ، وَخَيَّل الشَّيْءَ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ، قَدْ سَحَرَ الشَّيْءَ عَنْ وَجْهِهِ، أَيْ صَرَفَهُ. اهـ. وَرَوَى شِمْرٌ: أَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا سَمَّتِ السِّحْرَ سِحْرًا
__________
(1) حديث: " إن من البيان لسحرًا ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 201 - ط السلفية) من حديث ابن عمر.
(2) سورة الشعراء / 153.

(24/259)


لأَِنَّهُ يُزِيل الصِّحَّةَ إِلَى الْمَرَضِ، وَالْبُغْضَ إِلَى الْحُبِّ (1) .
وَقَدْ يُسَمَّى السِّحْرُ طِبًّا، وَالْمَطْبُوبُ الْمَسْحُورُ، قَال أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ تَفَاؤُلاً بِالسَّلاَمَةِ، وَقِيل: إِنَّمَا سُمِّيَ السِّحْرُ طِبًّا؛ لأَِنَّ الطِّبَّ بِمَعْنَى الْحِذْقِ، فَلُوحِظَ حِذْقُ السَّاحِرِ فَسُمِّيَ عَمَلُهُ طِبًّا (2) . وَوَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لَفْظُ الْجِبْتِ، فَسَّرَهُ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالشَّعْبِيُّ بِالسِّحْرِ، وَقِيل: الْجِبْتُ أَعَمُّ مِنَ السِّحْرِ، فَيَصْدُقُ أَيْضًا عَلَى الْكِهَانَةِ وَالْعِرَافَةِ. وَالتَّنْجِيمِ (3) .
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَعْرِيفِهِ اخْتِلاَفًا وَاسِعًا، وَلَعَل مَرَدَّ الاِخْتِلاَفِ إِلَى خَفَاءِ طَبِيعَةِ السِّحْرِ وَآثَارِهِ. فَاخْتَلَفَتْ تَعْرِيفَاتُهُمْ لَهُ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِ تَصَوُّرِهِمْ لِحَقِيقَتِهِ.
فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَال الْبَيْضَاوِيُّ: الْمُرَادُ بِالسِّحْرِ مَا يُسْتَعَانُ فِي تَحْصِيلِهِ بِالتَّقَرُّبِ إِلَى الشَّيْطَانِ مِمَّا لاَ يَسْتَقِل بِهِ الإِْنْسَانُ، وَذَلِكَ لاَ يَحْصُل إِلاَّ لِمَنْ يُنَاسِبُهُ فِي الشَّرَارَةِ وَخُبْثِ النَّفْسِ.
__________
(1) لسان العرب، والجمل على شرح المنهج 5 / 110 القاهرة، الميمنية، 1305 هـ.
(2) لسان العرب - (طب) ، وكشاف اصطلاحات الفنون 3 / 648.
(3) لسان العرب (جبت) ، وتفسير القرطبي عند الآية 51 من سورة النساء.

(24/259)


قَال: وَأَمَّا مَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ كَمَا يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ الْحِيَل وَالآْلاَتِ وَالأَْدْوِيَةِ، أَوْ يُرِيهِ صَاحِبُ خِفَّةِ الْيَدِ فَغَيْرُ مَذْمُومٍ، وَتَسْمِيَتُهُ سِحْرًا هُوَ عَلَى سَبِيل التَّجَوُّزِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدِّقَّةِ؛ لأَِنَّ السِّحْرَ فِي الأَْصْل لِمَا خَفِيَ سَبَبُهُ (1) . اهـ.
وَنَقَل التَّهَانُوِيُّ عَنِ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ: السِّحْرُ نَوْعٌ يُسْتَفَادُ مِنَ الْعِلْمِ بِخَوَاصِّ الْجَوَاهِرِ وَبِأُمُورٍ حِسَابِيَّةٍ فِي مَطَالِعِ النُّجُومِ، فَيُتَّخَذُ مِنْ ذَلِكَ هَيْكَلاً عَلَى صُورَةِ الشَّخْصِ الْمَسْحُورِ، وَيَتَرَصَّدُ لَهُ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ فِي الْمَطَالِعِ، وَتُقْرَنُ بِهِ كَلِمَاتٌ يُتَلَفَّظُ بِهَا مِنَ الْكُفْرِ وَالْفُحْشِ الْمُخَالِفِ لِلشَّرْعِ، وَيُتَوَصَّل بِهَا إِلَى الاِسْتِعَانَةِ بِالشَّيَاطِينِ، وَيَحْصُل مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ أَحْوَالٌ غَرِيبَةٌ فِي الشَّخْصِ الْمَسْحُورِ (2) .
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: السِّحْرُ شَرْعًا مُزَاوَلَةُ النُّفُوسِ الْخَبِيثَةِ لأَِقْوَالٍ أَوْ أَفْعَالٍ يَنْشَأُ عَنْهَا أُمُورٌ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ (3) .
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: عُقَدٌ وَرُقًى وَكَلاَمٌ يُتَكَلَّمُ بِهِ، أَوْ يَكْتُبُهُ، أَوْ يَعْمَل شَيْئًا يُؤَثِّرُ فِي بَدَنِ
__________
(1) تفسير البيضاوي عند قوله تعالى: (يعلمون الناس السحر) الآية 102 من سورة البقرة، وكشاف اصطلاحات الفنون 3 / 648 بيروت، شركة خياط بالتصوير عن طبعة الهند.
(2) التهانوي: كشاف اصطلاحات الفنون 3 / 648.
(3) الجمل على شرح المنهج 5 / 110، والقليوبي 4 / 169، وحاشية الكازروني على تفسير البيضاوي عند الآية 51 من سورة البقرة.

(24/260)


الْمَسْحُورِ أَوْ قَلْبِهِ أَوْ عَقْلِهِ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ لَهُ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الشَّعْوَذَةُ:
2 - قَال فِي اللِّسَانِ: الشَّعْوَذَةُ خِفَّةٌ فِي الْيَدِ، وَأَخْذٌ كَالسِّحْرِ، يُرِي الشَّيْءَ عَلَى غَيْرِ مَا عَلَيْهِ أَصْلُهُ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ، وَقَالُوا: رَجُلٌ مُشَعْوِذٌ وَمُشَعْوِذَةٌ، وَقَدْ يُسَمَّى الشَّعْبَذَةَ (2) .

ب - النَّشْرَةُ:
3 - النَّشْرَةُ ضَرْبٌ مِنَ الرُّقْيَةِ وَالْعِلاَجِ يُعَالَجُ بِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ بِهِ مَسًّا مِنَ الْجِنِّ. سُمِّيَتْ نَشْرَةً لأَِنَّهُ يَنْشُرُ بِهَا مَا خَامَرَهُ مِنَ الدَّاءِ، أَيْ يُكْشَفُ وَيُزَال، قَال الْحَسَنُ: النَّشْرَةُ مِنَ السِّحْرِ (3) . وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ سُئِل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّشْرَةِ، فَقَال: هِيَ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ (4) .

ج - الْعَزِيمَةُ:
4 - الْعَزِيمَةُ مِنَ الرُّقَى الَّتِي كَانُوا يَعْزِمُونَ بِهَا
__________
(1) كشاف القناع آخر باب حد الردة 6 / 186، الرياض مكتبة النصر الحديثة، ومطالب أولي النهى 6 / 303 بيروت. المكتب الإسلامي.
(2) لسان العرب: (شعذ) .
(3) لسان العرب.
(4) حديث: " أنه سئل عن النشرة فقال: هي من عمل الشيطان ". أخرجه أحمد (3 / 294 - ط الميمنية) من حديث جابر بن عبد الله، وحسنه ابن حجر في الفتح (10 / 233 - ط السلفية) .

(24/260)


عَلَى الْجِنِّ، وَجَمْعُهَا الْعَزَائِمُ، يُقَال: عَزَمَ الرَّاقِي: كَأَنَّهُ أَقْسَمَ عَلَى الدَّاءِ، وَأَصْلُهَا فِيمَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ: الإِْقْسَامُ وَالتَّعْزِيمُ عَلَى أَسْمَاءٍ مُعَيَّنَةٍ زَعَمُوا أَنَّهَا أَسْمَاءُ مَلاَئِكَةٍ وَكَّلَهُمْ سُلَيْمَانُ بِقَبَائِل الْجَانِّ، فَإِذَا أَقْسَمَ عَلَى صَاحِبِ الاِسْمِ أَلْزَمَ الْجِنَّ بِمَا يُرِيدُ (1) .

د - الرُّقْيَةُ:
5 - الرُّقْيَةُ وَجَمْعُهَا الرُّقَى، وَهِيَ أَلْفَاظٌ خَاصَّةٌ يَحْدُثُ عِنْدَ قَوْلِهَا الشِّفَاءُ مِنَ الْمَرَضِ، إِذَا كَانَتْ مِنَ الأَْدْعِيَةِ الَّتِي يَتَعَوَّذُ بِهَا مِنَ الآْفَاتِ مِنَ الصَّرْعِ وَالْحُمَّى، وَفِي الْحَدِيثِ أَعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ (2) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ لاَ رُقْيَةَ إِلاَّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ (3) .
وَمِنَ الرُّقَى مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ كَرُقَى الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَهْل الْهِنْدِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَسْتَشْفُونَ بِهَا مِنَ الأَْسْقَامِ وَالأَْسْبَابِ الْمُهْلِكَةِ. قَال الْقَرَافِيُّ: الرُّقْيَةُ لِمَا يُطْلَبُ بِهِ النَّفْعُ، أَمَّا مَا يُطْلَبُ بِهِ الضَّرَرُ فَلاَ يُسَمَّى رُقْيَةً بَل هُوَ سِحْرٌ (4) . وَانْظُرْ (تَعْوِيذَةٌ) .
__________
(1) لسان العرب، والفروق للقرافي فرق (242) .
(2) حديث: " أعرضوا عليَّ رقابكم ". أخرجه مسلم (4 / 1727 - ط الحلبي) من حديث عوف بن مالك.
(3) حديث: " لا رقية إلا من عين أو حمة ". أخرجه أحمد (4 / 436 - ط الميمنية) من حديث عمران بن حصين، وإسناده صحيح.
(4) لسان العرب، والفروق للقرافي 4 / 147 الفرق (242) .

(24/261)


هـ - الطَّلْسَمُ:
6 - الطَّلْسَمَاتُ أَسْمَاءٌ خَاصَّةٌ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ لَهَا تَعَلُّقًا بِالْكَوَاكِبِ، تُجْعَل فِي أَجْسَامٍ مِنَ الْمَعَادِنِ أَوْ غَيْرِهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا تُحْدِثُ آثَارًا خَاصَّةً (1) .

و الأَْوْفَاقُ:
7 - الأَْوْفَاقُ هِيَ أَعْدَادٌ تُوضَعُ فِي أَشْكَالٍ هَنْدَسِيَّةٍ عَلَى شَكْلٍ مَخْصُوصٍ، كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ عَمِلَهُ فِي وَرَقٍ وَحَمَلَهُ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى تَيْسِيرِ الْوِلاَدَةِ، أَوْ نَصْرِ جَيْشٍ عَلَى جَيْشٍ، أَوْ إِخْرَاجِ مَسْجُونٍ مِنْ سِجْنٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) .

ز - التَّنْجِيمُ:
8 - التَّنْجِيمُ لُغَةً: النَّظَرُ فِي النُّجُومِ، اصْطِلاَحًا: مَا يُسْتَدَل بِالتَّشَكُّلاَتِ الْفَلَكِيَّةِ عَلَى الْحَوَادِثِ الأَْرْضِيَّةِ كَمَا يَزْعُمُونَ.

حَقِيقَةُ السِّحْرِ:
9 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ السِّحْرَ هَل لَهُ حَقِيقَةٌ وَوُجُودٌ وَتَأْثِيرٌ حَقِيقِيٌّ فِي قَلْبِ الأَْعْيَانِ، أَمْ هُوَ مُجَرَّدُ تَخْيِيلٍ.
فَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ الْحَنَفِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْجَصَّاصِ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الإِْسْتِرَابَاذِيُّ
__________
(1) الفروق للقرافي الفرق (242) 4 / 142.
(2) الفروق للقرافي 4 / 142 الفرق (242) .

(24/261)


وَالْبَغَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى إِنْكَارِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ السِّحْرِ وَأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ تَخْيِيلٌ مِنَ السَّاحِرِ عَلَى مَنْ يَرَاهُ، وَإِيهَامٌ لَهُ بِمَا هُوَ خِلاَفُ الْوَاقِعِ، وَأَنَّ السِّحْرَ لاَ يَضُرُّ إِلاَّ أَنْ يَسْتَعْمِل السَّاحِرُ سُمًّا أَوْ دُخَانًا يَصِل إِلَى بَدَنِ الْمَسْحُورِ فَيُؤْذِيهِ، وَنُقِل مِثْل هَذَا عَنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَنَّ السَّاحِرَ لاَ يَسْتَطِيعُ بِسِحْرِهِ قَلْبَ حَقَائِقِ الأَْشْيَاءِ، فَلاَ يُمْكِنُهُ قَلْبُ الْعَصَا حَيَّةً، وَلاَ قَلْبُ الإِْنْسَانِ حِمَارًا.
قَال الْجَصَّاصُ: السِّحْرُ مَتَى أُطْلِقَ فَهُوَ اسْمٌ لِكُل أَمْرٍ مُمَوَّهٍ بَاطِلٍ لاَ حَقِيقَةَ لَهُ وَلاَ ثَبَاتَ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} (1) يَعْنِي مَوَّهُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ تَسْعَى، وَقَال تَعَالَى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّل إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (2) فَأَخْبَرَ أَنَّ مَا ظَنُّوهُ سَعْيًا مِنْهَا لَمْ يَكُنْ سَعْيًا وَإِنَّمَا كَانَ تَخْيِيلاً، وَقَدْ قِيل: إِنَّهَا كَانَتْ عِصِيًّا مُجَوَّفَةً مَمْلُوءَةً زِئْبَقًا، وَكَذَلِكَ الْحِبَال كَانَتْ مَعْمُولَةً مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوَّةً زِئْبَقًا، فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُمَوَّهًا عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ (3) .
__________
(1) سورة الأعراف / 116.
(2) سورة الشعراء / 66.
(3) أحكام القرآن للجصاص عند الآية (102) من سورة البقرة 1 / 43 وما بعدها، وكشاف اصطلاحات الفنون 3 / 652، والجمل على شرح المنهج 5 / 100، وروضة الطالبين 9 / 128، 346.

(24/262)


وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْل السُّنَّةِ إِلَى أَنَّ السِّحْرَ قِسْمَانِ:
10 - قِسْمٌ هُوَ حِيَلٌ وَمُخْرَقَةٌ وَتَهْوِيلٌ وَشَعْوَذَةٌ، وَإِيهَامٌ لَيْسَ لَهُ حَقَائِقُ، أَوْ لَهُ حَقَائِقُ لَكِنْ لَطُفَ مَأْخَذُهَا، وَلَوْ كُشِفَ أَمْرُهَا لَعُلِمَ أَنَّهَا أَفْعَالٌ مُعْتَادَةٌ يُمْكِنُ لِمَنْ عَرَفَ وَجْهَهَا أَنْ يَفْعَل مِثْلَهَا، وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا يَنْبَنِي عَلَى مَعْرِفَةِ خَوَاصِّ الْمَوَادِّ وَالْحِيَل الْهَنْدَسِيَّةِ وَنَحْوِهَا، وَلاَ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ دَاخِلاً فِي مُسَمَّى السِّحْرِ، كَمَا قَال تَعَالَى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (1) وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنْ خَفَاءُ وَجْهِهِ ضَعِيفًا فَلاَ يُسَمَّى سِحْرًا اصْطِلاَحًا، وَقَدْ يُسَمَّى سِحْرًا لُغَةً، كَمَا قَالُوا: (سَحَرْتُ الصَّبِيَّ) بِمَعْنَى خَدَعْتُهُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَهُ حَقِيقَةٌ وَوُجُودٌ وَتَأْثِيرٌ فِي الأَْبْدَانِ. فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْقِسْمِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْهُمَامِ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2) .
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِتَأْثِيرِ السِّحْرِ وَإِحْدَاثِهِ الْمَرَضَ وَالضَّرَرَ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ:
مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {قُل أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ
__________
(1) سورة الأعراف / 116.
(2) الجمل على شرح المنهج 5 / 100، وحاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 7 / 379، وفتح القدير 4 / 408، والفروق للقرافي 4 / 149، 150، الفرق (242) ، وروضة الطالبين 9 / 346، والمغني 8 / 150.

(24/262)


شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} (1) وَالنَّفَّاثَاتُ فِي الْعُقَدِ: هُنَّ السَّوَاحِرُ مِنَ النِّسَاءِ، فَلَمَّا أُمِرَ بِالاِسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّهِنَّ عُلِمَ أَنَّ لَهُنَّ تَأْثِيرًا وَضَرَرًا.
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} (2) .
وَمِنْهَا مَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ حَتَّى أَنَّهُ لَيُخَيَّل إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَل الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ وَلِذَلِكَ قِصَّةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الصَّحِيحِ، وَفِيهَا أَنَّ الَّذِي سَحَرَهُ جَعَل سِحْرَهُ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ تَحْتَ رَاعُوفَةٍ (3) فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ، وَأَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَهُ عَلَى ذَلِكَ فَاسْتَخْرَجَهَا، وَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ الْمُعَوِّذَتَانِ فَمَا قَرَأَ عَلَى عُقْدَةٍ إِلاَّ انْحَلَّتْ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَفَاهُ. بِذَلِكَ (4) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
11 - عَمَل السِّحْرِ مُحَرَّمٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَقَدْ
__________
(1) سورة الفلق.
(2) سورة البقرة / 102.
(3) الراعوفة: صخرة تترك في أسفل البئر إذا احتفرت، تكون هناك ليجلس عليها المستقي حين تنقية البئر. (القاموس / رعف) .
(4) كشاف القناع 6 / 186، والمغني لابن قدامة 8 / 151. وحديث: " أنه صلى الله عليه وسلم سحر حتى إنه ليخيل إليه. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 - 221 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1719 - 1720 - ط الحلبي) من حديث عائشة.

(24/263)


نَقَل النَّوَوِيُّ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَأَدِلَّةُ تَحْرِيمِهِ كَثِيرَةٌ مِنْهَا:
أ - قَوْله تَعَالَى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (1) .
ب - قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} (2) فَجَعَلَهُ مِنْ تَعْلِيمِ الشَّيَاطِينِ وَقَال فِي آخِرِ الآْيَةِ: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ} فَأَثْبَتَ فِيهِ ضَرَرًا بِلاَ نَفْعٍ.
ج - قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (3) فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ رَغِبُوا إِلَى اللَّهِ فِي أَنْ يَغْفِرَ لَهُمُ السِّحْرَ، وَذَلِكَ يَدُل عَلَى أَنَّهُ ذَنْبٌ.
د - قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ. . . الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ. . . (4) . الْحَدِيثُ.
وَفَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ مَا كَانَ مِنَ السِّحْرِ تَمْوِيهًا وَحِيلَةً، وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَقَالُوا: إِنَّ الأَْوَّل
__________
(1) سورة طه / 69.
(2) سورة البقرة / 102.
(3) سورة هود / 73.
(4) حديث: " اجتنبوا السبع الموبقات. . . . الشرك بالله، والسحر. . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 393 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 92 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.

(24/263)


مُبَاحٌ؛ أَيْ لأَِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ اللَّهْوِ فَيُبَاحُ مَا لَمْ يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى مُحَرَّمٍ كَالإِْضْرَارِ بِالنَّاسِ وَإِرْهَابِهِمْ. قَال الْبَيْضَاوِيُّ: أَمَّا مَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ كَمَا يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ الْحِيَل بِمَعُونَةِ الآْلاَتِ وَالأَْدْوِيَةِ، أَوْ يُرِيهِ صَاحِبُ خِفَّةِ الْيَدِ فَغَيْرُ مَذْمُومٍ، وَتَسْمِيَتُهُ سِحْرًا عَلَى التَّجَوُّزِ، أَوْ لِمَا فِيهِ مِنَ الدِّقَّةِ (1) .

كُفْرُ السَّاحِرِ بِفِعْل السِّحْرِ:
12 - لِلْفُقَهَاءِ اتِّجَاهَاتٌ فِي تَكْفِيرِ السَّاحِرِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ السَّاحِرَ يَكْفُرُ بِفِعْلِهِ سَوَاءٌ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ أَمْ لاَ. ثُمَّ قَال الْحَنَابِلَةُ: أَمَّا الَّذِي يَسْحَرُ بِأَدْوِيَةٍ وَتَدْخِينٍ وَسَقْيِ شَيْءٍ فَلَيْسَ كَافِرًا، وَكَذَلِكَ الَّذِي يَعْزِمُ عَلَى الْجِنِّ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يَجْمَعُهَا فَتُطِيعُهُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى تَكْفِيرِ السَّاحِرِ بِفِعْل السِّحْرِ إِنْ كَانَ سِحْرُهُ مُشْتَمِلاً عَلَى كُفْرٍ، أَوْ كَانَ سِحْرُهُ مِمَّا يُفَرِّقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ. وَأَضَافَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى حَالَةِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَالَةَ تَحْبِيبِ الرَّجُل إِلَى الْمَرْأَةِ وَهُوَ الْمُسَمَّى (التُّوَلَةُ) .
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 346، ومطالب أولي النهى 6 / 303، 304، وكشاف اصطلاحات الفنون 3 / 648، وتفسير البيضاوي 1 / 175 القاهرة المكتبة التجارية عند الآية 51 من سورة البقرة.

(24/264)


وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْعَمَل بِالسِّحْرِ حَرَامٌ وَلَيْسَ بِكُفْرٍ مِنْ حَيْثُ الأَْصْل، وَأَنَّ السَّاحِرَ لاَ يَكْفُرُ إِلاَّ فِي حَالَتَيْنِ هُمَا: أَنْ يَعْتَقِدَ مَا هُوَ كُفْرٌ، أَوْ أَنْ يَعْتَقِدَ إِبَاحَةَ السِّحْرِ. وَأَضَافَ ابْنُ الْهُمَامِ حَالَةً ثَالِثَةً هِيَ مَا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَفْعَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ.

حُكْمُ تَعَلُّمِ السِّحْرِ وَتَعْلِيمِهِ:
13 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَعَلُّمِ السِّحْرِ دُونَ الْعَمَل بِهِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ حَرَامٌ وَكُفْرٌ، وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَنِ اسْتَثْنَى أَحْوَالاً. فَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ ذَخِيرَةِ النَّاظِرِ أَنَّ تَعَلُّمَهُ لِرَدِّ فِعْل سَاحِرِ أَهْل الْحَرْبِ فَرْضٌ، وَأَنَّ تَعَلُّمَهُ لِيُوَفِّقَ بَيْنَ زَوْجَيْنِ جَائِزٌ، وَرَدَّهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتُّوَلَةَ شِرْكٌ (1) وَالتُّوَلَةُ شَيْءٌ كَانُوا يَصْنَعُونَهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يُحَبِّبُ الْمَرْأَةَ إِلَى زَوْجِهَا.
وَاسْتَدَل الطُّرْطُوشِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} (2) أَيْ بِتَعَلُّمِهِ،
__________
(1) حديث: " إن الرقى والتمائم والتولة شرك ". أخرجه الحاكم (4 / 217 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن مسعود وصححه، ووافقه الذهبي.
(2) سورة البقرة / 102.

(24/264)


وقَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} (1) وَلأَِنَّهُ لاَ يَتَأَتَّى إِلاَّ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ قَادِرٌ بِهِ عَلَى تَغْيِيرِ الأَْجْسَامِ، وَالْجَزْمُ بِذَلِكَ كُفْرٌ. قَال الْقَرَافِيُّ: أَيْ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ ظَاهِرًا؛ وَلأَِنَّ تَعْلِيمَهُ لاَ يَتَأَتَّى إِلاَّ بِمُبَاشَرَتِهِ، كَأَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى الْكَوْكَبِ وَيَخْضَعَ لَهُ، وَيَطْلُبَ مِنْهُ قَهْرَ السُّلْطَانِ.
ثُمَّ فَرَّقَ الْقَرَافِيُّ بَيْنَ مَنْ يَتَعَلَّمُ السِّحْرَ بِمُجَرَّدِ مَعْرِفَتِهِ لِمَا يَصْنَعُ السَّحَرَةُ كَأَنْ يَقْرَؤُهُ فِي كِتَابٍ، وَبَيْنَ أَنْ يُبَاشِرَ فِعْل السِّحْرِ لِيَتَعَلَّمَهُ فَلاَ يَكْفُرُ بِالنَّوْعِ الأَْوَّل، وَيَكْفُرُ بِالثَّانِي حَيْثُ كَانَ الْفِعْل مُكَفِّرًا (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَعْلِيمُهُ حَرَامٌ، إِلاَّ إِنْ كَانَ لِتَحْصِيل نَفْعٍ، أَوْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ، أَوْ لِلْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ (3) .
وَقَال الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: الْعِلْمُ بِالسِّحْرِ لَيْسَ بِقَبِيحٍ وَلاَ مَحْظُورٍ، قَال: وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْعِلْمَ لِذَاتِهِ شَرِيفٌ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل هَل يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (4) وَلأَِنَّ السِّحْرَ لَوْ لَمْ يَكُنْ يُعَلَّمُ لَمَا أَمْكَنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزِ، وَالْعِلْمُ بِكَوْنِ
__________
(1) سورة البقرة / 102.
(2) فتح القدير 4 / 408، وابن عابدين 1 / 31، وكشاف القناع 6 / 186، والفروق للقرافي 4 / 152، 153، 159، 165، الفرق 242.
(3) القليوبي على شرح المنهاج 4 / 169.
(4) سورة الزمر / 9.

(24/265)


الْمُعْجِزِ مُعْجِزًا وَاجِبٌ، وَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ فَهُوَ وَاجِبٌ. قَال: فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِالسِّحْرِ وَاجِبًا فَكَيْفَ يَكُونُ قَبِيحًا أَوْ حَرَامًا؟ (1) .

النَّشْرَةُ، أَوْ حَل السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ:
14 - يُحَل السِّحْرُ عَنِ الْمَسْحُورِ بِطَرِيقَتَيْنِ:
الأُْولَى: أَنْ يُحَل بِالرُّقَى الْمُبَاحَةِ وَالتَّعَوُّذِ الْمَشْرُوعِ، كَالْفَاتِحَةِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَالاِسْتِعَاذَاتِ الْمَأْثُورَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرِ الْمَأْثُورَةِ وَلَكِنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْمَأْثُورِ، فَهَذَا النَّوْعُ جَائِزٌ إِجْمَاعًا. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُحِرَ، اسْتَخْرَجَ الْمُشْطَ وَالْمِشَاطَةَ اللَّتَيْنِ سُحِرَ بِهِمَا، ثُمَّ كَانَ يَقْرَأُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ، فَشَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يُحَل السِّحْرُ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ. وَهَذَا النَّوْعُ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل - أَنَّهُ حَرَامٌ لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ سِحْرٌ وَتَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ تَحْرِيمِ السِّحْرِ الْمُتَقَدِّمُ بَيَانُهَا. وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ الْقَيِّمِ. وَتَوَقَّفَ فِيهِ أَحْمَدُ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ: لاَ يَحُل السِّحْرَ إِلاَّ سَاحِرٌ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ سُئِل عَنِ امْرَأَةٍ يُعَذِّبُهَا السَّحَرَةُ، فَقَال رَجُلٌ: أَخُطُّ خَطًّا عَلَيْهَا وَأَغْرِزُ السِّكِّينَ عِنْدَ مَجْمَعِ الْخَطِّ وَأَقْرَأُ الْقُرْآنَ. فَقَال مُحَمَّدٌ: مَا أَعْلَمُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بَأْسًا، وَلاَ أَدْرِي
__________
(1) تفسير الرازي 3 / 238.

(24/265)


مَا الْخَطُّ وَالسِّكِّينُ. وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: حَل السِّحْرِ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ، فَيَتَقَرَّبُ النَّاشِرُ وَالْمُنْتَشِرُ إِلَى الشَّيْطَانِ بِمَا يُحِبُّ فَيَبْطُل الْعَمَل عَنِ الْمَسْحُورِ.
الْقَوْل الثَّانِي - أَنَّ حَل السِّحْرِ بِسِحْرٍ لاَ كُفْرَ فِيهِ وَلاَ مَعْصِيَةَ جَائِزٌ، فَقَدْ نَقَل الْبُخَارِيُّ عَنْ قَتَادَةَ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ، أَوْ يُؤْخَذُ عَنِ امْرَأَتِهِ أَيُحَل عَنْهُ، أَوْ يُنْشَرُ؟ قَال: لاَ بَأْسَ، إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الإِْصْلاَحَ، فَإِنَّ مَا يَنْفَعُ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ.
وَالْقَوْلاَنِ أَيْضًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. قَال الرَّحِيبَانِيُّ: يَجُوزُ حَل السِّحْرِ بِسِحْرٍ لأَِجْل الضَّرُورَةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَقَال فِي الْمُغْنِي: تَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِي الْحِل، وَهُوَ إِلَى الْجَوَازِ أَمْيَل (1) .

عُقُوبَةُ السَّاحِرِ:
15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّاحِرَ يُقْتَل فِي حَالَيْنِ: الأَْوَّل أَنْ يَكُونَ سِحْرُهُ كُفْرًا، وَالثَّانِي إِذَا عُرِفَتْ مُزَاوَلَتُهُ لِلسِّحْرِ بِمَا فِيهِ إِضْرَارٌ وَإِفْسَادٌ وَلَوْ بِغَيْرِ كُفْرٍ.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَال: السَّاحِرُ إِذَا أَقَرَّ بِسِحْرِهِ أَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ يُقْتَل
__________
(1) المغني 8 / 154، ومطالب أولي النهى 6 / 305، وفتح المجيد ص 304، وتيسير العزيز الحميد ص 366، ومواهب الجليل للحطاب 6 / 256، وفتح الباري 10 / 236.

(24/266)


وَلاَ يُسْتَتَابُ، وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِي هَذَا سَوَاءٌ، وَقِيل: لاَ يُقْتَل إِنْ كَانَ ذِمِّيًّا.
وَيُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ ابْنِ الْهُمَامِ أَنَّ قَتْلَهُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيل التَّعْزِيرِ، لاَ بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي اعْتِقَادِهِ مَا يُوجِبُ كُفْرَهُ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: يَجِبُ قَتْل السَّاحِرِ وَلاَ يُسْتَتَابُ، وَذَلِكَ لِسَعْيِهِ فِي الأَْرْضِ بِالْفَسَادِ لاَ بِمُجَرَّدِ عَمَلِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي اعْتِقَادِهِ مَا يُوجِبُ كُفْرَهُ، لَكِنْ إِنْ جَاءَ تَائِبًا قَبْل أَنْ يُؤْخَذَ قُبِلَتْ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى قَتْل السَّاحِرِ، لَكِنْ قَالُوا: إِنَّمَا يُقْتَل إِذَا حُكِمَ بِكُفْرِهِ، وَثَبَتَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ لَدَى الإِْمَامِ، فَإِنْ كَانَ مُتَجَاهِرًا بِهِ قُتِل وَمَالُهُ فَيْءٌ إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ، وَإِنْ كَانَ يُخْفِيهِ فَهُوَ كَالزِّنْدِيقِ يُقْتَل وَلاَ يُسْتَتَابُ (2) ، وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ - أَيْضًا - السَّاحِرَ الذِّمِّيَّ، فَقَالُوا: لاَ يُقْتَل، بَل يُؤَدَّبُ. لَكِنْ قَالُوا: إِنْ أَدْخَل السَّاحِرُ الذِّمِّيُّ ضَرَرًا عَلَى مُسْلِمٍ فَيَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ، وَلاَ تُقْبَل مِنْهُ تَوْبَةٌ غَيْرَ الإِْسْلاَمِ، نَقَلَهُ الْبَاجِيُّ عَنْ مَالِكٍ. لَكِنْ قَال الزَّرْقَانِيُّ: الَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ انْتِقَاضَ عَهْدِهِ، فَيُخَيَّرُ الإِْمَامُ فِيهِ.
أَمَّا إِنْ أَدْخَل السَّاحِرُ الذِّمِّيُّ ضَرَرًا عَلَى أَحَدٍ
__________
(1) فتح القدير 4 / 408، وابن عابدين 1 / 31 و 3 / 295، 296.
(2) الزرقاني 8 / 63.

(24/266)


مِنْ أَهْل مِلَّتِهِ فَإِنَّهُ يُؤَدَّبُ مَا لَمْ يَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ قُتِل بِهِ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ كَانَ سِحْرُ السَّاحِرِ لَيْسَ مِنْ قَبِيل مَا يَكْفُرُ بِهِ، فَهُوَ فِسْقٌ لاَ يُقْتَل بِهِ مَا لَمْ يَقْتُل أَحَدًا وَيَثْبُتُ تَعَمُّدُهُ لِلْقَتْل بِهِ بِإِقْرَارِهِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السَّاحِرَ يُقْتَل حَدًّا وَلَوْ لَمْ يَقْتُل بِسِحْرِهِ أَحَدًا، لَكِنْ لاَ يُقْتَل إِلاَّ بِشَرْطَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ سِحْرُهُ مِمَّا يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ كُفْرًا مِثْل فِعْل لَبِيدِ بْنِ الأَْعْصَمِ، أَوْ يَعْتَقِدُ إِبَاحَةَ السِّحْرِ، بِخِلاَفِ مَا لاَ يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ كُفْرًا، كَمَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَجْمَعُ الْجِنَّ فَتُطِيعُهُ، أَوْ يَسْحَرُ بِأَدْوِيَةٍ وَتَدْخِينٍ، وَسَقْيِ شَيْءٍ لاَ يَضُرُّ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، فَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا لَمْ يُقْتَل؛ لأَِنَّهُ أُقِرَّ عَلَى شِرْكِهِ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنَ السِّحْرِ، وَلأَِنَّ لَبِيدَ بْنَ الأَْعْصَمِ الْيَهُودِيَّ سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْتُلْهُ، قَالُوا: وَالأَْخْبَارُ الَّتِي وَرَدَتْ بِقَتْل السَّاحِرِ إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي سَاحِرِ الْمُسْلِمِينَ لأَِنَّهُ يَكْفُرُ بِسِحْرِهِ.
وَالذِّمِّيُّ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ فَلاَ يُقْتَل بِهِ، لَكِنْ إِنْ قُتِل بِسِحْرٍ يَقْتُل غَالِبًا، قُتِل قِصَاصًا.
وَشَرْطٌ آخَرُ أَضَافَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي: وَهُوَ أَنْ يَعْمَل بِالسِّحْرِ، إِذْ لاَ يُقْتَل بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ بِهِ.
__________
(1) الزرقاني 8 / 68.
(2) تفسير الرازي 3 / 239، وروضة الطالبين 9 / 347.

(24/267)


ثُمَّ قَال بَعْضُهُمْ: وَيُعَاقَبُ بِالْقَتْل أَيْضًا مَنْ يَعْتَقِدُ حِل السِّحْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيُقْتَل كُفْرًا؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ قَدْ أَنْكَرَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.
وَاحْتَجُّوا لِقَتْل السَّاحِرِ بِمَا رَوَى جُنْدُبٌ مَرْفُوعًا حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ (1) .
وَبِمَا وَرَدَ عَنْ بَجَالَةَ بْنِ عَبَدَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ: أَنِ اقْتُلُوا كُل سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ (2) . وَبِأَنَّ حَفْصَةَ أَمَرَتْ بِقَتْل سَاحِرَةٍ سَحَرَتْهَا. وَأَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ قَبْل مَوْتِهِ بِسَنَةٍ: أَنِ اقْتُلُوا كُل سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ، وَقَتَل جُنْدُبُ بْنُ كَعْبٍ سَاحِرًا كَانَ يَسْحَرُ بَيْنَ يَدَيِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي عُقْبَةَ (3) .

حُكْمُ السَّاحِرِ إِذَا قَتَل بِسِحْرِهِ:
16 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْقَتْل بِالسِّحْرِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَمْدًا، وَفِيهِ
__________
(1) حديث: " حد الساحر ضربة بالسيف ". أخرجه الترمذي (4 / 60 - ط الحلبي) من حديث جندب مرفوعًا، وقال: " هذا حديث لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث، والصحيح عن جندب موقوفًا ".
(2) أثر عمر أنه كتب: " أن اقتلوا كل ساحر وساحرة " أخرجه أحمد (1 / 190 - 191 - ط الميمنية) وإسناده صحيح.
(3) كشاف القناع 6 / 187، والمغني 8 / 153، 154، وتيسير العزيز الحميد ص 342، ومطالب أولي النهى 6 / 304، 305.

(24/267)


الْقِصَاصُ. وَيَثْبُتُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الإِْقْرَارِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّاحِرَ إِنْ قَتَل بِسِحْرِهِ مَنْ هُوَ مُكَافِئٌ لَهُ فَفِيهِ الْقِصَاصُ إِنْ تَعَمَّدَ قَتْلَهُ بِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ بِإِقْرَارِ السَّاحِرِ بِهِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، كَقَوْلِهِ: قَتَلْتُهُ بِسِحْرِي، أَوْ قَوْلِهِ: قَتَلْتُهُ بِنَوْعِ كَذَا، وَيَشْهَدُ عَدْلاَنِ يَعْرِفَانِ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَا تَابَا، بِأَنَّ ذَلِكَ النَّوْعَ يَقْتُل غَالِبًا. فَإِنْ كَانَ لاَ يَقْتُل غَالِبًا فَيَكُونُ شِبْهَ عَمْدٍ. فَإِنْ قَال: أَخْطَأْتُ مِنَ اسْمِ غَيْرِهِ إِلَى اسْمِهِ فَخَطَأٌ.
وَلاَ يَثْبُتُ الْقَتْل الْعَمْدُ بِالسِّحْرِ بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِتَعَذُّرِ مُشَاهَدَةِ الشُّهُودِ قَصْدَ السَّاحِرِ وَتَأْثِيرَ سِحْرِهِ (1) .
قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ مِمَّنْ قَتَل بِسِحْرِهِ بِالسَّيْفِ وَلاَ يُسْتَوْفَى بِسِحْرٍ مِثْلِهِ، أَيْ لأَِنَّ السِّحْرَ مُحَرَّمٌ؛ وَلِعَدَمِ انْضِبَاطِهِ (2) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الذِّمِّيَّ إِنْ قَتَل بِسِحْرِهِ أَحَدًا مِنْ أَهْل مِلَّتِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَل بِهِ.
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 379، 380، والقليوبي 4 / 179، وروضة الطالبين 9 / 347، والزرقاني 8 / 29.
(2) نهاية المحتاج 7 / 290، والقليوبي وشرح المنهاج 4 / 124، ومواهب الجليل للحطاب 6 / 256، والزرقاني 8 / 29.

(24/268)


تَعْزِيرُ السَّاحِرِ الَّذِي لَمْ يَسْتَحِقَّ الْقَتْل:
17 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ السَّاحِرَ غَيْرُ الْمُسْتَحِقِّ لِلْقَتْل، بِأَنْ لَمْ يَكُنْ سِحْرُهُ كُفْرًا وَلَمْ يَقْتُل بِسِحْرِهِ أَحَدًا، إِذَا عَمِل بِسِحْرِهِ يُعَزَّرُ تَعْزِيرًا بَلِيغًا لِيَنْكَفَّ هُوَ وَمَنْ يَعْمَل مِثْل عَمَلِهِ، وَلَكِنْ بِحَيْثُ لاَ يَبْلُغُ بِتَعْزِيرِهِ الْقَتْل عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاِرْتِكَابِهِ مَعْصِيَةً. وَفِي قَوْلٍ لِلإِْمَامِ: تَعْزِيرُهُ بِالْقَتْل (1) .

الإِْجَارَةُ عَلَى فِعْل السَّحَرِ أَوْ تَعْلِيمِهِ:
18 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الاِسْتِئْجَارَ لِعَمَل السِّحْرِ لاَ يَحِل إِنْ كَانَ ذَلِكَ النَّوْعُ مِنَ السِّحْرِ حَرَامًا - عَلَى الْخِلاَفِ الْمُتَقَدِّمِ بَيْنَهُمْ فِي حُكْمِهِ - وَلاَ تَصِحُّ الإِْجَارَةُ، وَلاَ تَحِل إِعْطَاءُ الأُْجْرَةِ، وَلاَ يَحِل لآِخِذِهَا أَخْذُهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفْصِيلاَتِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنِ اسْتَأْجَرَ سَاحِرًا لِيَعْمَل لَهُ عَمَلاً هُوَ سِحْرٌ فَالإِْجَارَةُ حَرَامٌ وَلاَ تَصِحُّ، وَلاَ يُقْتَل الْمُسْتَأْجَرُ لأَِنَّ فِعْلَهُ ذَلِكَ لَيْسَ بِسِحْرٍ، حَتَّى لَوْ قَتَل السَّاحِرُ بِسِحْرِهِ ذَاكَ أَحَدًا، وَيُؤَدَّبُ الْمُسْتَأْجَرُ أَدَبًا شَدِيدًا، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مَنْ يَسْتَأْجِرُ لِحَل السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ، فَأَجَازُوا ذَلِكَ - أَيْ عَلَى الْقَوْل بِجَوَازِ حَل السِّحْرِ - لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ الْعِلاَجِ (2) ، وَكَذَا
__________
(1) مطالب أولي النهى 6 / 304، ومغني المحتاج 2 / 183.
(2) الزرقاني 8 / 63، والمواق بهامش مواهب الجليل 6 / 280، وابن عابدين 5 / 57.

(24/268)


أَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ الإِْجَارَةَ عَلَى إِزَالَةِ السِّحْرِ نَحْوَ مَا يَحْصُل لِلزَّوْجِ مِنَ الاِنْحِلاَل الْمُسَمَّى عِنْدَ الْعَامَّةِ بِالرَّبْطِ. قَالُوا: وَالأُْجْرَةُ عَلَى مَنِ الْتَزَمَ الْعِوَضَ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الرَّجُل نَفْسَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ أَوْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهَا أَوْ أَجْنَبِيًّا (1) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا بِأَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الاِسْتِئْجَارُ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ وَلاَ تُسْتَحَقُّ عَلَى تَعْلِيمِ السِّحْرِ أُجْرَةٌ (2) ، وَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ كُتُبِ السِّحْرِ وَيَجِبُ إِتْلاَفُهَا (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ تَصِحُّ الإِْجَارَةُ عَلَى السِّحْرِ إِنْ كَانَ مُحَرَّمًا، أَمَّا إِذَا كَانَ مُبَاحًا فَلاَ مَانِعَ مِنَ الاِسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ، كَتَعْلِيمِ رُقًى عَرَبِيَّةً لِيَحِل بِهَا السِّحْرَ (4) . وَلاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِكُتُبِ سِحْرٍ لأَِنَّهَا إِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ آلَةَ سِحْرٍ (5) . .
__________
(1) الشبراملسي على نهاية المحتاج 5 / 268.
(2) حاشية القليوبي على المنهاج 3 / 70.
(3) حاشية الشيخ عميرة على شرح المنهاج 2 / 158.
(4) مطالب أولي النهى 3 / 604.
(5) مطالب أولي النهى 4 / 98، 483.

(24/269)


سَحُورٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - السَّحُورُ لُغَةً: طَعَامُ السَّحَرِ وَشَرَابُهُ، قَال ابْنُ الأَْثِيرِ: هُوَ بِالْفَتْحِ اسْمُ مَا يُتَسَحَّرُ بِهِ وَقْتَ السَّحَرِ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، وَبِالضَّمِّ الْمَصْدَرُ وَالْفِعْل نَفْسُهُ، أَكْثَرُ مَا رُوِيَ بِالْفَتْحِ، وَقِيل: إِنَّ الصَّوَابَ بِالضَّمِّ، لأَِنَّهُ بِالْفَتْحِ الطَّعَامُ وَالْبَرَكَةُ، وَالأَْجْرُ وَالثَّوَابُ فِي الْفِعْل لاَ فِي الطَّعَامِ.
وَالسَّحَرُ بِفَتْحَتَيْنِ: آخِرُ اللَّيْل قُبَيْل الصُّبْحِ، الْجَمْعُ أَسْحَارٌ، وَقِيل: هُوَ مِنْ ثُلُثِ اللَّيْل الآْخَرِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الاِسْتِعْمَال الْفِقْهِيُّ لِلسُّحُورِ عَنْ ذَلِكَ (1) .
__________
(1) لسان العرب 2 / 107، والنهاية في غريب الحديث والأثر، والمصباح المنير، وتاج العروس، مادة: (سحر) ، والقواعد الفقهية 320، وفتح القدير 2 / 95 ط بولاق، الفواكه الدواني 1 / 354 ط دار المعرفة، بيروت، لبنان، ومغني المحتاج 1 / 435 ط مصطفى الحلبي.

(24/269)


الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - السُّحُورُ سُنَّةٌ لِلصَّائِمِ، وَقَدْ نَقَل ابْنُ الْمُنْذِرِ الإِْجْمَاعَ عَلَى كَوْنِهِ مَنْدُوبًا، لِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً (1) وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: فَصْل مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْل الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ (2) .
وَلأَِنَّهُ يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّدْبِ إِلَى السَّحُورِ فَقَال: اسْتَعِينُوا بِطَعَامِ السَّحَرِ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ وَبِالْقَيْلُولَةِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْل (3) .
وَكُل مَا حَصَل مِنْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ حَصَل بِهِ فَضِيلَةُ السَّحُورِ (4) لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَصْل مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْل الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ (5) وَعَنْ أَبِي
__________
(1) حديث: " تسحروا فإن في السحور بركة ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 139 - ط السلفية) ومسلم (2 / 770 ط - الحلبي) .
(2) حديث: " فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب ". أخرجه مسلم (2 / 770 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " استعينوا بطعام السحر ". أخرجه ابن ماجه (1 / 540 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 302 - ط دار الجنان) .
(4) مراقي الفلاح 373، ومواهب الجليل 2 / 401، وكشاف القناع 2 / 331، والمغني 3 / 170.
(5) تقدم تخريجه ف / 2.

(24/270)


سَعِيدٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: السَّحُورُ أَكْلُهُ بَرَكَةٌ فَلاَ تَدَعُوهُ وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جَرْعَةً مِنْ مَاءٍ فَإِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ (1) وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: نِعْمَ سَحُورُ الْمُؤْمِنِ التَّمْرُ (2)

وَقْتُ السَّحُورِ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ وَقْتَ السَّحُورِ مَا بَيْنَ نِصْفِ اللَّيْل الأَْخِيرِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: هُوَ مَا بَيْنَ السُّدُسِ الأَْخِيرِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ.
وَيُسَنُّ تَأْخِيرُ السَّحُورِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مَا لَمْ يَخْشَ طُلُوعَ الْفَجْرِ الثَّانِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَْبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَْسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (3) وَالْمُرَادُ بِالْفَجْرِ فِي الآْيَةِ الْفَجْرُ الثَّانِي، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلاَلٍ، وَلاَ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيل وَلَكِنَّ الْفَجْرَ الْمُسْتَطِيرَ فِي الأُْفُقِ (4) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَزَال أُمَّتِي بِخَيْرٍ
__________
(1) حديث: " السحور أكله بركة ". أخرجه أحمد (3 / 12 - ط الميمنية) من حديث أبي سعيد الخدري. وقواه المنذري في الترغيب والترهيب (2 / 139 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " نعم سحور المؤمن التمر ". أخرجه ابن حبان (5 / 197 - الإحسان - ط دار الكتب العلمية، من حديث أبي هريرة، وإسناده صحيح.
(3) سورة البقرة / 187.
(4) حديث: " لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ". أخرجه الترمذي (3 / 77 - ط الحلبي) من حديث سمرة بن جندب، وأصله في مسلم (2 / 867 - ط الحلبي) .

(24/270)


مَا أَخَّرُوا السَّحُورَ وَعَجَّلُوا الْفِطْرَ (1) وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِالسَّحُورِ التَّقَوِّي عَلَى الصَّوْمِ، وَمَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْفَجْرِ كَانَ أَعْوَنَ عَلَى الصَّوْمِ.
وَنَقَل الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ شَاسٍ أَنَّ تَأْخِيرَ السَّحُورِ مُسْتَحَبٌّ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (صَوْمٍ) .

تَأَخُّرُ السَّحُورِ إِلَى وَقْتِ الشَّكِّ:
4 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إِنَّهُ لاَ يُكْرَهُ الأَْكْل وَالشُّرْبُ مَعَ الشَّكِّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي، قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: إِذَا شَكَّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ يَأْكُل حَتَّى يَسْتَيْقِنَ طُلُوعَهُ، لأَِنَّ الأَْصْل بَقَاءُ اللَّيْل، قَال الآْجُرِّيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرُهُ: لَوْ قَال لِعَالِمَيْنِ: ارْقُبَا الْفَجْرَ، فَقَال أَحَدُهُمَا: طَلَعَ، وَقَال الآْخَرُ: لَمْ يَطْلُعْ، أَكَل حَتَّى يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهُ طَلَعَ. وَقَالَهُ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرُهُمْ (3) .
__________
(1) حديث: " لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور، وعجلوا الفطر ". أخرجه أحمد (5 / 172 - ط الميمنية) من حديث أبي ذر، وأورده الهيثمي في المجمع (3 / 154 - ط القدسي) وقال: " رواه أحمد، وفيه سليمان بن أبي عثمان، قال أبو حاتم: مجهول ".
(2) بدائع الصنائع 2 / 105، ومواهب الجليل 2 / 397 دار الفكر، بيروت، لبنان، ومغني المحتاج 1 / 435، ونهاية المحتاج 3 / 177، والمغني 3 / 169، كشاف القناع 2 / 331، وشرح منتهى الإرادات 1 / 455.
(3) بدائع الصنائع 2 / 105، والمجموع 6 / 360، وكشاف القناع 2 / 331، والإنصاف 3 / 330، والمغني 3 / 169.

(24/271)


وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْجِمَاعُ مَعَ الشَّكِّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي؛ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ؛ وَلأَِنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَتَقَوَّى بِهِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ شَكَّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لاَ يَأْكُل؛ لأَِنَّهُ يُحْتَمَل أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ، فَيَكُونُ الأَْكْل إِفْسَادًا لِلصَّوْمِ، فَيَتَحَرَّزُ عَنْهُ، قَال صَاحِبُ الْبَدَائِعِ: وَالأَْصْل فِيهِ مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْحَلاَل بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ. . . (2)
كَمَا قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ (3) وَلَوْ أَكَل وَهُوَ شَاكٌّ لاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ؛ لأَِنَّ فَسَادَ الصَّوْمِ مَشْكُوكٌ فِيهِ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ، مَعَ أَنَّ الأَْصْل هُوَ بَقَاءُ اللَّيْل، فَلاَ يَثْبُتُ النَّهَارُ بِالشَّكِّ (4) .
وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: إِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ
__________
(1) كشاف القناع 2 / 331، والإنصاف 3 / 330.
(2) حديث: " الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 290 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1219 - ط الحلبي) من حديث النعمان بن بشير واللفظ للبخاري.
(3) حديث: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ". أخرجه الترمذي (4 / 668 - ط الحلبي) من حديث الحسن بن علي، وقال: حديث حسن صحيح.
(4) مراقي الفلاح 373، وبدائع الصنائع 2 / 105، ومواهب الجليل 2 / 397، ومغني المحتاج 1 / 435، ونهاية المحتاج 3 / 177، والمجموع 6 / 360.

(24/271)


تَسَحَّرَ وَالْفَجْرُ طَالِعٌ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ عَمَلاً بِغَالِبِ الرَّأْيِ وَفِيهِ الاِحْتِيَاطُ، وَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ، هَذَا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ شَيْءٌ، وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ أَكَل وَالْفَجْرُ طَالِعٌ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ (1) .
5 - وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الأَْكْل وَالشُّرْبَ مَعَ الشَّكِّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مَكْرُوهٌ. وَنَقَل الْكَاسَانِيُّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكْرَهُ، وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِذَا شَكَّ فَلاَ يَأْكُل، وَإِنْ أَكَل فَقَدْ أَسَاءَ، لِمَا وَرَدَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْل الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُل مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ (2) وَالَّذِي يَأْكُل مَعَ الشَّكِّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ يَحُومُ حَوْل الْحِمَى فَيُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، فَكَانَ بِالأَْكْل مُعَرِّضًا صَوْمَهُ لِلْفَسَادِ فَيُكْرَهُ ذَلِكَ (3) .
وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ مَنْ أَكَل مَعَ الشَّكِّ فِي الْفَجْرِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مَعَ الْحُرْمَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، إِلاَّ أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ الأَْكْل كَانَ قَبْل الْفَجْرِ، وَإِنْ كَانَ الأَْصْل بَقَاءَ اللَّيْل، وَهَذَا
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 200، وفتح القدير 2 / 93.
(2) حديث: " من وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 126 - ط السلفية) من حديث النعمان بن بشير.
(3) بدائع الصنائع 2 / 105، والدسوقي 1 / 526.

(24/272)


بِالنِّسْبَةِ لِصَوْمِ الْفَرْضِ، وَأَمَّا فِي النَّفْل فَلاَ قَضَاءَ فِيهِ اتِّفَاقًا، لأَِنَّ أَكْلَهُ لَيْسَ مِنَ الْعَمْدِ الْحَرَامِ، وَلاَ كَفَّارَةَ فِيمَنْ أَكَل شَاكًّا فِي الْفَجْرِ اتِّفَاقًا، وَمَنْ أَكَل مُعْتَقِدًا بَقَاءَ اللَّيْل ثُمَّ طَرَأَ الشَّكُّ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِلاَ حُرْمَةٍ، وَلَوْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِالْفِطْرِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إِلْقَاءُ مَا فِي فَمِهِ (1) .
وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحَ: (صَوْمٍ)

السَّحُورُ بِالتَّحَرِّي وَغَيْرِهِ:
6 - لَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَسَحَّرَ فَلَهُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ بِحَالٍ لاَ يُمْكِنُهُ مُطَالَعَةُ الْفَجْرِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَذَكَرَ شَمْسُ الأَْئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ أَنَّ مَنْ تَسَحَّرَ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ لاَ بَأْسَ بِهِ، إِذَا كَانَ الرَّجُل مِمَّنْ لاَ يُخْفَى عَلَيْهِ مِثْل ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُخْفَى عَلَيْهِ فَسَبِيلُهُ أَنْ يَدَعَ الأَْكْل، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَسَحَّرَ بِصَوْتِ الطَّبْل السِّحْرِيِّ فَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ الصَّوْتُ مِنْ كُل جَانِبٍ وَفِي جَمِيعِ أَطْرَافِ الْبَلْدَةِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْمَعُ صَوْتًا وَاحِدًا فَإِنْ عَلِمَ عَدَالَتَهُ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ يَحْتَاطُ وَلاَ يَأْكُل، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَمِدَ بِصِيَاحِ الدِّيكِ فَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ بَأْسَ بِهِ إِذَا كَانَ قَدْ جَرَّبَهُ مِرَارًا، وَظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ يُصِيبُ الْوَقْتَ (2) .
__________
(1) الدسوقي 1 / 526، والفواكه الدواني 1 / 355، وكفاية الطالب 1 / 338 ط مصطفى الحلبي، وحاشية العدوي 1 / 390، ط دار المعرفة، بيروت، لبنان.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 195.

(24/272)


سُخْرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - السُّخْرَةُ لُغَةً: مَا سَخَّرْتَهُ مِنْ دَابَّةٍ أَوْ رَجُلٍ بِلاَ أَجْرٍ وَلاَ ثَمَنٍ، وَيُقَال: لِلْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ. يُقَال سَخَّرَهُ سُخْرًا أَوْ سُخْرِيًّا: أَيْ كَلَّفَهُ مَا لاَ يُرِيدُ وَقَهَرَهُ، وَالسُّخْرَةُ أَيْضًا: مَنْ يَسْخَرُ مِنْهُ النَّاسُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلسُّخْرَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْجَارَةُ:
2 - الإِْجَارَةُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَلَى تَمْلِيكِ مَنْفَعَةٍ
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير مادة: (سخر) ، القاموس والمعجم الوسيط، شرح منتهى الإرادات 2 / 540، كشاف القناع 4 / 78، حاشية الدسوقي 3 / 454، الخرشي 6 / 143، نهاية المحتاج 5 / 169، روضة الطالبين 5 / 14، حاشية ابن عابدين 5 / 114، البحر الرائق 8 / 123.

(24/273)


بِعِوَضٍ. وَالأُْجْرَةُ مَا يَلْتَزِمُ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ قَبْل الْمُؤَجِّرِ عِوَضًا عَنِ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي يَتَمَلَّكُهَا. وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِجَارَةٍ) لِبَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَبِالأُْجْرَةِ مِنَ الأَْحْكَامِ.

ب - الْعُمَالَةُ:
3 - الْعُمَالَةُ - بِضَمِّ الْعَيْنِ - هِيَ أُجْرَةُ الْعَامِل، يُقَال اسْتَعْمَلْتُهُ: أَيْ جَعَلْتُهُ عَامِلاً (1) .

ج - الْجَعَالَةُ:
4 - الْجَعَالَةُ الْتِزَامُ عِوَضٍ مَعْلُومٍ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ أَوْ مَجْهُولٍ يَعْسُرُ ضَبْطُهُ، وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (جَعَالَةٍ) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَسْخِيرِ الْعَامِل دُونَ أَجْرٍ، وَلاَ يَجُوزُ إِجْبَارُهُ أَوْ إِكْرَاهُهُ عَلَى قَبُول عَمَلٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَاعْتَبَرَهُ الْفُقَهَاءُ مِنَ التَّعَدِّي الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ. فَمَنْ قَهَرَ عَامِلاً وَسَخَّرَهُ فِي عَمَلٍ ضَمِنَ أُجْرَتَهُ لاِسْتِيفَائِهِ مَنَافِعَهُ الْمُتَقَوِّمَةَ؛ لأَِنَّ مَنْفَعَةَ الْعَامِل مَالٌ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ فَضُمِنَتْ بِالتَّعَدِّي، وَالأُْجْرَةُ فِي مُقَابِل الْعَمَل مِنْ مُقَوِّمَاتِ عَقْدِ الإِْجَارَةِ، وَمَعْلُومِيَّتُهَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، فَإِنْ خَلاَ مِنْهَا، أَوْ فَسَدَ الْعَقْدُ، أَوْ
__________
(1) المصباح المنير مادة: (عمل) .

(24/273)


سَمَّى مَا لاَ يَصِحُّ أُجْرَةً وَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى أَجْرِ الْمِثْل. هَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَتَفْصِيلُهُ فِي (إِجَارَةٍ) .
6 - وَالأَْصْل أَنَّ الاِنْتِفَاعَ بِعَمَل الإِْنْسَانِ أَنْ يَكُونَ بِرِضَاهُ، سَوَاءٌ كَانَ بِعِوَضٍ كَالإِْجَارَةِ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَأَنْ يَتَطَوَّعَ بِمَعُونَةِ شَخْصٍ أَوْ خِدْمَتِهِ، وَمَا يَنْطَبِقُ عَلَى الأَْفْرَادِ فِيمَا بَيْنَهُمْ يَنْطَبِقُ عَلَى الدَّوْلَةِ فِيمَنْ تَسْتَعْمِلُهُمْ مِنْ عُمَّالٍ، إِلاَّ أَنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يُسَخِّرَ بَعْضَ النَّاسِ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ تَقْتَضِيهَا مَصْلَحَةُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ يَجُوزُ تَسْخِيرُهُمْ بِدُونِ أَجْرٍ، وَتُلْزَمُ الدَّوْلَةُ بِإِجْرَاءِ أُجُورِهِمْ فِي مُقَابِل مَا يَعْمَلُونَ مِنْ أَعْمَالٍ.
7 - وَيَشْهَدُ لِهَذَا الأَْصْل جُمْلَةٌ مِنَ الْمَسَائِل الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ:
مِنْهَا: أَنَّ لِلْعَامِل فِي الدَّوْلَةِ أَجْرًا يُجْرِيهِ لَهُ وَلِيُّ الأَْمْرِ، وَلاَ يَخْلُو هَذَا الأَْجْرُ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْوَالٍ:
الْحَال الأَْوَّل: أَنْ يُسَمِّيَ الْوَالِي لِلْعَامِل أَجْرًا مَعْلُومًا: يَسْتَحِقُّ الْعَامِل الأَْجْرَ إِذَا وَفَّى الْعِمَالَةَ حَقَّهَا، فَإِنْ قَصَّرَ رُوعِيَ تَقْصِيرُهُ، فَإِنْ كَانَ التَّقْصِيرُ فِي تَرْكِ بَعْضِ الْعَمَل لَمْ يَسْتَحِقَّ جَارِي مَا قَابَلَهُ، وَإِنْ كَانَ خِيَانَةً مَعَ اسْتِيفَاءِ الْعَمَل اسْتَكْمَل جَارِيهِ وَاسْتَرْجَعَ مِنْهُ مَا خَانَ فِيهِ، وَإِنْ زَادَ فِي الْعَمَل رُوعِيَتِ الزِّيَادَةُ فِي الأَْجْرِ.
الْحَال الثَّانِي: أَنْ يُسَمِّيَ لِلْعَامِل أَجْرًا مَجْهُولاً: فَيَسْتَحِقُّ الْعَامِل أَجْرَ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِل، فَإِنْ كَانَ جَارِي الْعَمَل مُقَدَّرًا فِي الدِّيوَانِ وَعَمِل

(24/274)


بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُمَّال صَارَ ذَلِكَ الْقَدْرُ هُوَ جَارِي الْمِثْل.
الْحَال الثَّالِثُ: أَنْ لاَ يُسَمِّيَ لَهُ أَجْرًا مَعْلُومًا وَلاَ مَجْهُولاً.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ لاَ جَارِيَ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ، وَيَكُونُ مُتَطَوِّعًا بِهِ؛ لِخُلُوِّ عَمَلِهِ مِنْ عِوَضٍ. وَذَهَبَ الْمُزَنِيُّ إِلَى أَنَّ لَهُ جَارِيَ مِثْلِهِ لاِسْتِيفَاءِ عَمَلِهِ عَنْ إِذْنِهِ. وَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِأَخْذِ الْجَارِي عَلَى عَمَلِهِ فَلَهُ جَارِي مِثْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يُشْتَهَرْ فَلاَ جَارِيَ لَهُ.
وَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِلَى أَنَّهُ إِنْ دُعِيَ إِلَى الْعَمَل فِي الاِبْتِدَاءِ أَوْ أُمِرَ بِهِ فَلَهُ جَارِي مِثْلِهِ فَإِنِ ابْتَدَأَ بِالطَّلَبِ فَأَذِنَ لَهُ فِي الْعَمَل فَلاَ جَارِيَ لَهُ (1) .
وَنَظِيرُ هَذَا الْخِلاَفِ مَا تَقَدَّمَ فِي مُصْطَلَحِ (جَعَالَةٍ) فِي مَسْأَلَةِ الْخِلاَفِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعَامِل الْجُعْل فِي حَالَةِ الإِْذْنِ لَهُ بِالْعَمَل أَوْ عَدَمِ الإِْذْنِ حَيْثُ اسْتُوفِيَتِ الْمَذَاهِبُ فِي الْمَسْأَلَةِ. فَلْتُرَاجَعْ فِي مُصْطَلَحِ: (جَعَالَةٍ ف 31 - 34)
8 - وَمِنَ الْمَسَائِل الْمُتَعَلِّقَةِ بِاسْتِعْمَال الدَّوْلَةِ لِلْعُمَّال بِأَجْرٍ، مَا قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: إِذَا احْتَاجَ النَّاسُ إِلَى صِنَاعَةٍ مِنَ الصِّنَاعَاتِ كَالْفِلاَحَةِ وَالنِّسَاجَةِ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 211.

(24/274)


وَالْبِنَاءِ فَلِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يُلْزِمَهُمْ بِالْعَمَل بِأُجْرَةِ مِثْلِهِمْ مُرَاعَاةً لِمَصَالِحِ النَّاسِ حَيْثُ صَارَتْ هَذِهِ الأَْعْمَال مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِمْ وَلاَ يُمَكِّنُهُمْ مِنْ مُطَالَبَةِ النَّاسِ بِزِيَادَةٍ عَنْ عِوَضِ الْمِثْل، وَلاَ يُمَكِّنُ النَّاسَ مِنْ ظُلْمِهِمْ بِأَنْ يُعْطُوهُمْ دُونَ حَقِّهِمْ. كَمَا إِذَا احْتَاجَ الْجُنْدُ الْمُرْصِدُونَ لِلْجِهَادِ إِلَى فِلاَحَةِ أَرْضِهِمْ، وَأَلْزَمَ مَنْ صِنَاعَتُهُ الْفِلاَحَةَ أَنْ يَقُومَ بِهَا: أُلْزِمَ الْجُنْدُ بِأَلاَّ يَظْلِمُوا الْفَلاَّحَ، كَمَا يُلْزِمُ الْفَلاَّحَ بِأَنْ يُفَلِّحَ.
9 - وَمِنَ الْمَسَائِل كَذَلِكَ: أَنَّ أَوْجُهَ اخْتِصَاصِ وَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يَنْظُرَ فِي تَظَلُّمِ الْمُسْتَرْزِقَةِ مِنْ نَقْصِ أَرْزَاقِهِمْ أَوْ تَأَخُّرِهَا عَنْهُمْ، أَوْ إِجْحَافِ النَّظَرِ بِهِمْ فَيَرُدُّ إِلَيْهِمْ أَرْزَاقَهُمْ وَيَضْبِطُ هَذَا فِي دِيوَانِهِ (1) .
وَالدَّلِيل مِنَ السُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ وَفَاءِ الدَّوْلَةِ بِأُجُورِ عُمَّالِهَا حَدِيثُ بُرَيْدَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ (2) .
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّعْدِيِّ قَال: اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْهَا
__________
(1) الطرق الحكمية ص 289 - 290، وبدائع السالك 1 / 219، والأحكام السلطانية ص 81.
(2) حديث: " من استعملناه على عمل فرزقناه ". أخرجه أبو داود (3 / 353 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 406 ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.

(24/275)


وَأَدَّيْتُهَا إِلَيْهِ أَمَرَ لِي بِعُمَالَةٍ فَقُلْتُ: إِنَّمَا عَمِلْتُ لِلَّهِ وَأَجْرِي عَلَى اللَّهِ، فَقَال: خُذْ مَا أُعْطِيتَ فَإِنِّي عَمِلْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَمِلَنِي (1) .
وَعَمِلَنِي: أَيْ أَعْطَانِي أُجْرَةَ عَمَلِي. وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ، فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَال وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَإِلاَّ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ (2) .

سُخْرِيَةٌ

انْظُرْ: قَذْفٌ، سَبٌّ.
__________
(1) حديث عبد الله بن السعدي: " استعملني عمر على الصدقة. . . . " أخرجه مسلم (2 / 723 - 724 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " خذه فتموله. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 13 - 150 - ط السلفية) من حديث عمر بن الخطاب.

(24/275)


سَدُّ الذَّرَائِعِ
.

التَّعْرِيفُ:
1 - السَّدُّ فِي اللُّغَةِ: إِغْلاَقُ الْخَلَل. وَالذَّرِيعَةُ: الْوَسِيلَةُ إِلَى الشَّيْءِ يُقَال: تَذَرَّعَ فُلاَنٌ بِذَرِيعَةٍ أَيْ تَوَسَّل بِهَا إِلَى مَقْصِدِهِ، وَالْجَمْعُ ذَرَائِعُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ الأَْشْيَاءُ الَّتِي ظَاهِرُهَا الإِْبَاحَةُ وَيُتَوَصَّل بِهَا إِلَى فِعْلٍ مَحْظُورٍ. وَمَعْنَى سَدِّ الذَّرِيعَةِ: حَسْمُ مَادَّةِ وَسَائِل الْفَسَادِ دَفْعًا لَهَا إِذَا كَانَ الْفِعْل السَّالِمُ مِنَ الْمَفْسَدَةِ وَسِيلَةً إِلَى مَفْسَدَةٍ (1) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ سَدِّ الذَّرَائِعِ وَاعْتِبَارِهَا مِنْ أَدِلَّةِ الْفِقْهِ:
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، مادة: (ذرع، وسدد) ، تبصرة الحكام 2 / 327، حاشية العطار على جمع الجوامع 2 / 198، الفروق للقرافي 2 / 32.

(24/276)


فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا مِنْ أَدِلَّةِ الْفِقْهِ. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَأْتِي:
1 - قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1) ، قَالُوا: نَهَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْ سَبِّ آلِهَةِ الْكُفَّارِ لِئَلاَّ يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ كَلِمَةِ (رَاعِنَا) بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} (2) لِئَلاَّ يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً لِلْيَهُودِ إِلَى سَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِنَّ كَلِمَةَ (رَاعِنَا) فِي لُغَتِهِمْ سَبٌّ لِلْمُخَاطَبِ.
2 - قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ (3) .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَلاَل بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الْمُشَبَّهَاتِ كَانَ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْل الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ. أَلاَ وَإِنَّ لِكُل مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ (4) .
__________
(1) سورة الأنعام / 108.
(2) سورة البقرة / 104.
(3) حديث: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ". أخرجه الترمذي (4 / 668 - ط الحلبي) من حديث الحسن بن علي، وقال: حديث حسن صحيح.
(4) حديث: " الحلال بين والحرام بين ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 126 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1219 - ط الحلبي) من حديث النعمان بن بشير واللفظ للبخاري.

(24/276)


وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: إِنَّ أَبْوَابَ الذَّرَائِعِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَطُول ذِكْرُهَا وَلاَ يُمْكِنُ حَصْرُهَا.
3 - إِنَّ إِبَاحَةَ الْوَسَائِل إِلَى الشَّيْءِ الْمُحَرَّمِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهِ نَقْضٌ لِلتَّحْرِيمِ، وَإِغْرَاءٌ لِلنُّفُوسِ بِهِ، وَحِكْمَةُ الشَّارِعِ وَعِلْمُهُ يَأْبَى ذَلِكَ كُل الإِْبَاءِ، بَل سِيَاسَةُ مُلُوكِ الدُّنْيَا تَأْبَى ذَلِكَ، فَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَوْ مَنَعَ جُنْدَهُ أَوْ رَعِيَّتَهُ مِنْ شَيْءٍ، ثُمَّ أَبَاحَ لَهُمُ الطُّرُقَ وَالْوَسَائِل إِلَيْهِ، لَعُدَّ مُتَنَاقِضًا، وَلَحَصَل مِنْ جُنْدِهِ وَرَعِيَّتِهِ خِلاَفُ مَقْصُودِهِ. وَكَذَلِكَ الأَْطِبَّاءُ إِذَا أَرَادُوا حَسْمَ الدَّاءِ مَنَعُوا صَاحِبَهُ مِنَ الطُّرُقِ وَالذَّرَائِعِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ، وَإِلاَّ فَسَدَ عَلَيْهِمْ مَا يَرُومُونَ إِصْلاَحَهُ (1) .
4 - اسْتِقْرَاءُ مَوَارِدِ التَّحْرِيمِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَظْهَرُ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ تَحْرِيمَ الْمَقَاصِدِ، كَتَحْرِيمِ الشِّرْكِ وَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَتْل الْعُدْوَانِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ تَحْرِيمٌ لِلْوَسَائِل وَالذَّرَائِعِ الْمُوَصِّلَةِ لِذَلِكَ وَالْمُسَهِّلَةِ لَهُ. اسْتَقْرَى ذَلِكَ ابْنُ الْقَيِّمِ فَذَكَرَ لِتَحْرِيمِ الذَّرَائِعِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ مِثَالاً مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (2) .
فَمِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ إِلَى الزِّنَى: تَحْرِيمُ النَّظَرِ الْمَقْصُودِ إِلَى الْمَرْأَةِ، وَتَحْرِيمُ الْخَلْوَةِ بِهَا، وَتَحْرِيمُ
__________
(1) إعلام الموقعين لابن القيم 3 / 135، والموافقات للشاطبي 4 / 198 - 200، القاهرة المكتبة التجارية.
(2) تبصرة الحكام 2 / 368، والمقدمات لابن رشد 2 / 200.

(24/277)


إِظْهَارِهَا لِلزِّينَةِ الْخَفِيَّةِ، وَتَحْرِيمُ سَفَرِهَا وَحْدَهَا سَفَرًا بَعِيدًا وَلَوْ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ، وَتَحْرِيمُ النَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَاتِ، وَوُجُوبُ الاِسْتِئْذَانِ عِنْدَ الدُّخُول إِلَى الْبُيُوتِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الأَْحْكَامِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ.
وَمِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ إِلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ: تَحْرِيمُ الْقَلِيل مِنْهُ وَلَوْ قَطْرَةً، كَمَا فِي الْحَدِيثِ لَوْ رَخَّصْتُ لَكُمْ فِي هَذِهِ لأَُوشِكُ أَنْ تَجْعَلُوهَا مِثْل هَذِهِ (1) .
وَالنَّهْيُ عَنِ الْخَلِيطَيْنِ، وَالنَّهْيُ عَنْ شُرْبِ الْعَصِيرِ بَعْدَ ثَلاَثٍ، وَالنَّهْيُ عَنِ الاِنْتِبَاذِ فِي بَعْضِ الأَْوْعِيَةِ الَّتِي يُسْرِعُ التَّخَمُّرُ إِلَى مَا يُنْتَبَذُ فِيهَا. وَمِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ إِلَى الْقَتْل: النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ السِّلاَحِ فِي الْفِتْنَةِ، وَالنَّهْيُ عَنْ تَعَاطِي السَّيْفِ مَسْلُولاً، وَإِيجَابُ الْقِصَاصِ دَرْءًا لِلتَّهَاوُنِ بِالْقَتْل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (2) .
وَكَثِيرٌ مِنْ مَنْهِيَّاتِ الصَّلاَةِ وَمَكْرُوهَاتِهَا مَرْجِعُهَا إِلَى هَذَا الأَْصْل، كَالنَّهْيِ عَنِ الصَّلاَةِ عِنْدَ شُرُوقِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ زَوَالِهَا وَعِنْدَ غُرُوبِهَا،
__________
(1) حديث: " لو رخصت لكم في هذه. . . ". أورده ابن القيم في إعلام الموقعين (2 / 139 - نشر دار الجيل - بيروت) ولم يعزه إلى أي مصدر، ولم نهتد إليه في المصادر الموجودة لدينا.
(2) سورة البقرة / 179.

(24/277)


وَكَرَاهَةِ الصَّلاَةِ إِلَى الصُّورَةِ، أَوِ النَّارِ، أَوْ وَجْهِ إِنْسَانٍ.
وَكَالنَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ بَعْدَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ وَسِيلَةٌ إِلَى التَّخَلُّفِ عَنِ الْجُمُعَةِ أَوْ فَوَاتِ بَعْضِهَا. وَفِي فَسْخِ الْبَيْعِ إِنْ وَقَعَ فِي وَقْتِ النَّهْيِ خِلاَفٌ (1) .
3 - وَأَنْكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ.
وَقَالُوا: إِنَّ سَدَّ الذَّرَائِعِ لَيْسَ مِنْ أَدِلَّةِ الْفِقْهِ؛ لأَِنَّ الذَّرَائِعَ هِيَ الْوَسَائِل، وَالْوَسَائِل مُضْطَرِبَةٌ اضْطِرَابًا شَدِيدًا، فَقَدْ تَكُونُ حَرَامًا، وَقَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً، وَقَدْ تَكُونُ مَكْرُوهَةً، أَوْ مَنْدُوبَةً، أَوْ مُبَاحَةً.
وَتَخْتَلِفُ مَعَ مَقَاصِدِهَا حَسَبَ قُوَّةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَضَعْفِهَا، وَخَفَاءِ الْوَسِيلَةِ، وَظُهُورِهَا، فَلاَ يُمْكِنُ ادِّعَاءُ دَعْوَى كُلِّيَّةٍ بِاعْتِبَارِهَا وَلاَ بِإِلْغَائِهَا، وَمَنْ تَتَبَّعَ فُرُوعَهَا الْفِقْهِيَّةَ ظَهَرَ لَهُ هَذَا، وَيُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ غَيْرُ كَافِيَةٍ فِي الاِعْتِبَارِ. إِذْ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لاَعْتُبِرَتْ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ. بَل لاَ بُدَّ مِنْ فَضْلٍ خَاصٍّ يَقْتَضِي اعْتِبَارَهَا أَوْ إِلْغَاءَهَا (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ الشَّرْعَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ، كَمَا قَدْ أَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى قَوْمٍ
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 268.
(2) المجموع شرح المهذب 10 / 160.

(24/278)


يُظْهِرُونَ الإِْسْلاَمَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ، وَلَمْ يَجْعَل لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا بِخِلاَفِ مَا أَظْهَرُوا. وَحَكَمَ فِي الْمُتَلاَعِنَيْنِ بِدَرْءِ الْحَدِّ مَعَ وُجُودِ عَلاَمَةِ الزِّنَى، وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ أَتَتْ بِالْوَلَدِ عَلَى الْوَصْفِ الْمَكْرُوهِ. قَال الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا يُبْطِل حُكْمَ الدَّلاَلَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنَ الذَّرَائِعِ، فَإِذَا أُبْطِل الأَْقْوَى مِنَ الدَّلاَئِل أُبْطِل الأَْضْعَفُ مِنَ الذَّرَائِعِ كُلِّهَا (1) .
4 - وَقَدْ قَسَّمَ الْقَرَافِيُّ: الذَّرَائِعَ إِلَى الْفَسَادِ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى سَدِّهِ وَمَنْعِهِ وَحَسْمِهِ، كَحَفْرِ الآْبَارِ فِي طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى إِهْلاَكِهِمْ فِيهَا، وَكَذَلِكَ إِلْقَاءُ السُّمِّ فِي أَطْعِمَتِهِمْ، وَسَبِّ الأَْصْنَامِ عِنْدَ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا، وَيُعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَسُبُّ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ سَبِّهَا. وَقِسْمٌ أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى عَدَمِ مَنْعِهِ، وَأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ لاَ تُسَدُّ، وَوَسِيلَةٌ لاَ تُحْسَمُ، كَالْمَنْعِ مِنْ زِرَاعَةِ الْعِنَبِ خَشْيَةَ أَنْ تُعْصَرَ مِنْهُ الْخَمْرُ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُل بِهِ أَحَدٌ، وَكَالْمَنْعِ مِنَ الْمُجَاوَرَةِ فِي الْبُيُوتِ خَشْيَةَ الزِّنَى.
وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ هَل يُسَدُّ أَمْ لاَ، كَبُيُوعِ الآْجَال عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، كَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً إِلَى
__________
(1) الأم للشافعي 7 / 270 قبيل باب إبطال الاستحسان من كتاب الاستحسان.

(24/278)


شَهْرٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا نَقْدًا بِخَمْسَةٍ قَبْل آخِرِ الشَّهْرِ.
فَمَالِكٌ يَقُول: إِنَّهُ أَخْرَجَ مِنْ يَدِهِ خَمْسَةً الآْنَ وَأَخَذَ عَشْرَةً آخِرَ الشَّهْرِ، فَهَذِهِ وَسِيلَةٌ لِسَلَفِ خَمْسَةٍ بِعَشْرَةٍ إِلَى أَجَلٍ تَوَسُّلاً بِإِظْهَارِ صُورَةِ الْبَيْعِ لِذَلِكَ. وَالشَّافِعِيُّ يَقُول: يُنْظَرُ إِلَى صُورَةِ الْبَيْعِ وَيُحْمَل الأَْمْرُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ، قَال الْقَرَافِيُّ: وَهَذِهِ الْبُيُوعُ تَصِل إِلَى أَلْفِ مَسْأَلَةٍ اخْتَصَّ بِهَا مَالِكٌ وَخَالَفَهُ فِيهَا الشَّافِعِيُّ (1) .
5 - أَمَّا الْقِسْمُ الأَْوَّل الَّذِي أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَيْهِ، فَهُوَ مَا كَانَ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ قَطْعِيًّا، فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ يُسَدُّ، وَلَكِنَّ التَّقِيَّ السُّبْكِيَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ قَال: لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ، بَل هُوَ مِنْ تَحْرِيمِ الْوَسَائِل، وَالْوَسَائِل تَسْتَلْزِمُ الْمُتَوَسَّل إِلَيْهِ، وَلاَ نِزَاعَ فِي هَذَا، كَمَنْ حَبَسَ شَخْصًا وَمَنَعَهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فَهَذَا قَاتِلٌ لَهُ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ سَدِّ الذَّرَائِعِ فِي شَيْءٍ. وَالنِّزَاعُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ لَيْسَ فِي الذَّرَائِعِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي سَدِّهَا. وَقَال التَّاجُ بْنُ السُّبْكِيِّ: وَلَمْ يُصِبْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَاعِدَةَ سَدِّ الذَّرَائِعِ يَقُول بِهَا كُل أَحَدٍ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ لاَ يَقُول بِشَيْءٍ مِنْهَا (2) .
__________
(1) الفروق 2 / 32.
(2) شرح الشربيني ومعه حاشية العطار على جمع الجوامع في آخر الكتاب الخامس 2 / 399 نشر دار الكتب العلمية. وانظر: أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي للدكتور مصطفى البغا ص 579، دمشق، دار الإمام البخاري.

(24/279)


وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِمَذْهَبِهِ فِي ذَلِكَ فَقَال: لاَ يَفْسُدُ عَقْدٌ أَبَدًا إِلاَّ بِالْعَقْدِ نَفْسِهِ، وَلاَ يَفْسُدُ بِشَيْءٍ تَقَدَّمَهُ وَلاَ تَأَخَّرَهُ، وَلاَ بِتَوَهُّمٍ، وَلاَ تَفْسُدُ الْعُقُودُ بِأَنْ يُقَال: هَذِهِ ذَرِيعَةٌ، وَهَذِهِ نِيَّةُ سُوءٍ، أَلاَ تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلاً اشْتَرَى سَيْفًا، وَنَوَى بِشِرَائِهِ أَنْ يَقْتُل بِهِ، كَانَ الشِّرَاءُ حَلاَلاً، وَكَانَتْ نِيَّةُ الْقَتْل غَيْرَ جَائِزَةٍ، وَلَمْ يَبْطُل بِهَا الْبَيْعُ. قَال: وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ الْبَائِعُ سَيْفًا مِنْ رَجُلٍ لاَ يَرَاهُ أَنَّهُ يَقْتُل بِهِ رَجُلاً كَانَ هَكَذَا (1) .
6 - وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُسَدُّ فَهُوَ مَا كَانَ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ قَلِيلاً أَوْ نَادِرًا. وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ الذَّرِيعَةَ إِلَى الْفَسَادِ تُسَدُّ سَوَاءٌ قَصَدَ الْفَاعِل التَّوَصُّل بِهَا إِلَى الْفَسَادِ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ.
7 - وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي اخْتُلِفَ فِيهِ فَهُوَ مَا كَانَ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ كَثِيرًا لَكِنَّهُ لَيْسَ غَالِبًا، فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلاَفِ.
وَالْخِلاَفُ مِنْ ذَلِكَ جَارٍ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ سَدُّهُ مِنَ الذَّرَائِعِ، أَمَّا مَا جَاءَ النَّصُّ بِسَدِّهِ مِنْهَا فِي النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ الثَّابِتَةِ فَلاَ خِلاَفَ فِي الأَْخْذِ بِذَلِكَ، كَالنَّهْيِ عَنْ سَبِّ
__________
(1) الأم للشافعي: كتاب إبطال الاستحسان من الأم 7 / 267 ط بولاق، وانظر أيضًا: الأم 4 / 41 و 3 / 43.

(24/279)


آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ لِئَلاَّ يَسُبُّوا اللَّهَ تَعَالَى، وَكَالنَّهْيِ عَنِ الصَّلاَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا. وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِي جَوَازِ حُكْمِ الْمُجْتَهِدِ بِتَحْرِيمِ الْوَسِيلَةِ الْمُبَاحَةِ إِنْ كَانَتْ تُفْضِي إِلَى الْمَفْسَدَةِ لاَ عَلَى سَبِيل الْقَطْعِ أَوِ الْغَلَبَةِ.

وَفِيمَا يَلِي فُرُوعٌ تَنْبَنِي عَلَى هَذَا الأَْصْل.
8 - أ - بُيُوعُ الآْجَال: وَهِيَ بُيُوعٌ ظَاهِرُهَا الْجَوَازُ، لَكِنْ مَنَعَ مِنْهَا مَالِكٌ مَا كَثُرَ قَصْدُ النَّاسِ لَهُ تَوَصُّلاً لِلرِّبَا الْمَمْنُوعِ فَيُمْنَعُ وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ الْعَاقِدُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، فَإِنْ قَل قَصْدُ النَّاسِ لَهُ لَمْ يُمْنَعْ. فَمِمَّا يُمْنَعُ مِنْهَا الْبَيْعُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى سَلَفٍ بِمَنْفَعَةٍ، كَمَا لَوْ بَاعَ سِلْعَةً بِعَشْرَةٍ إِلَى سَنَةٍ ثُمَّ يَشْتَرِيهَا بِخَمْسَةٍ نَقْدًا، فَآل أَمْرُهُ لِدَفْعِ خَمْسَةٍ نَقْدًا يَأْخُذُ عَنْهَا بَعْدَ الأَْجَل عَشْرَةً (1) .

9 - ب - وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ تَأْجِيل الصَّدَاقِ: فَيُكْرَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَأْجِيل الصَّدَاقِ وَلَوْ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ كَسَنَةٍ مَثَلاً إِنْ كَانَ الْمُؤَجَّل الصَّدَاقَ كُلَّهُ، لِئَلاَّ يَتَذَرَّعَ النَّاسُ إِلَى النِّكَاحِ بِغَيْرِ صَدَاقٍ وَيُظْهِرُوا أَنَّ هُنَاكَ صَدَاقًا مُؤَجَّلاً (2) .

10 - ج - إِذَا اشْتَرَى ثَمَرًا عَلَى رُءُوسِ الشَّجَرِ قَبْل بُدُوِّ صَلاَحِهِ جَازَ إِنْ شَرَطَا الْقَطْعَ فِي الْحَال، فَإِنْ شَرَطَا ذَلِكَ ثُمَّ تُرِكَ عَلَى الشَّجَرِ حَتَّى بَدَا صَلاَحُهُ، فَإِنْ كَانَ قَاصِدًا لِتَرْكِهِ حَال الْعَقْدِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ عِنْدَ أَحْمَدَ، أَمَّا إِنْ تَرَكَهُ وَلَمْ يَكُنْ قَاصِدًا لِذَلِكَ حِينَ الْعَقْدِ فَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ: أَصَحُّهُمَا: يَبْطُل أَيْضًا؛ لأَِنَّ تَصْحِيحَ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَكُونُ ذَرِيعَةً إِلَى شِرَاءِ الثَّمَرَةِ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 76، والمقدمات لابن رشد 2 / 200 - 202. وقد ذكر تفصيلاً موسعًا للمالكية في بيوع الآجال وأحكامها التي بنوها على قاعدة سد الذرائع. وانظر بداية المجتهد 2 / 127 نشر المكتبة التجارية.
(2) الشرح الكبير 2 / 309.

(24/280)


قَبْل بُدُوِّ صَلاَحِهَا ثُمَّ تُتْرَكُ إِلَى أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، فَيَكُونَ ذَرِيعَةً إِلَى الْحَرَامِ، فَيَكُونَ حَرَامًا.
وَلاَ يَبْطُل الْبَيْعُ بِذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ (1) .

11 - د - صِيَامُ يَوْمِ الشَّكِّ وَالسِّتِّ مِنْ شَوَّالٍ:
جَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ نَقْلاً عَنْ تُحْفَةِ الْفُقَهَاءِ:
يُكْرَهُ الصَّوْمُ قَبْل رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلاَ يَوْمَيْنِ، إِلاَّ أَنْ يُوَافِقَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ (2) قَال: وَإِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِئَلاَّ يُظَنُّ أَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ إِذَا اعْتَادُوا ذَلِكَ، وَعَنْ هَذَا قَال أَبُو يُوسُفَ: يُكْرَهُ وَصْل رَمَضَانَ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ. قَال: وَلاَ يُكْرَهُ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 85.
(2) حديث: " لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين. . . " أخرجه مسلم (2 / 762 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.

(24/280)


تَطَوُّعًا إِنْ كَانَ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَعْلَمُ بِهِ الْعَوَامُّ لِئَلاَّ يَعْتَادُوا صَوْمَهُ فَيَظُنُّهُ الْجُهَّال زِيَادَةً فِي رَمَضَانَ (1) . وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي صِيَامِ السِّتِّ مِنْ شَوَّالٍ. قَال ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: كَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يُلْحَقَ بِرَمَضَانَ صِيَامُ سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ مَخَافَةَ أَنْ يَلْحَقَ بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْهُ أَهْل الْجَهَالَةِ وَالْجَفَاءِ، وَأَمَّا الرَّجُل فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ فَلاَ يُكْرَهُ لَهُ صِيَامُهَا. وَقَال فِي الذَّخِيرَةِ: وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ (2) الْحَدِيثُ. قَال: وَاسْتَحَبَّ مَالِكٌ صِيَامَهَا فِي غَيْرِهِ خَوْفًا مِنْ إِلْحَاقِهَا بِرَمَضَانَ عِنْدَ الْجُهَّال. وَإِنَّمَا عَيَّنَهُ الشَّرْعُ مِنْ شَوَّالٍ لِلْخِفَّةِ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِقُرْبِهِ مِنَ الصَّوْمِ، وَإِلاَّ فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ مِنْ غَيْرِهِ فَيَشْرَعُ التَّأْخِيرُ جَمْعًا بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ (3) . اهـ. وَإِتْبَاعُ صَوْمِ السِّتِّ مِنْ شَوَّالٍ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (4) .

12 - هـ - قَضَاءُ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى مَنْعِ ذَلِكَ فِي الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا سَوَاءٌ عَلِمَهُ قَبْل وِلاَيَتِهِ أَوْ بَعْدَهَا، وَهُوَ
__________
(1) فتح القدير 2 / 54 - ط بولاق.
(2) حديث: " من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال ". أخرجه مسلم (2 / 822 - ط. الحلبي) من حديث أبي أيوب الأنصاري.
(3) مواهب الجليل للحطاب 2 / 414.
(4) المغني لابن قدامة 3 / 172.

(24/281)


أَيْضًا رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ لِهَذَا الْقَوْل أَنَّ تَجْوِيزَ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى تُهْمَةِ الْقَاضِي، وَالْحُكْمُ بِمَا اشْتَهَى وَيُحِيلُهُ عَلَى عِلْمِهِ.
وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْحُدُودِ الَّتِي لِلَّهِ تَعَالَى لأَِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى السِّتْرِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا فِي حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ الَّتِي عَلِمَهَا قَبْل وِلاَيَتِهِ، لاَ فِيمَا عَلِمَهُ مِنْهَا بَعْدَ وِلاَيَتِهِ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ (1) .

فَتْحُ الذَّرَائِعِ:
13 - الْمُرَادُ بِفَتْحِ الذَّرَائِعِ تَيْسِيرُ السُّبُل إِلَى مَصَالِحِ الْبَشَرِ قَال الْقَرَافِيُّ الْمَالِكِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الذَّرِيعَةَ كَمَا يَجِبُ سَدُّهَا يَجِبُ فَتْحُهَا، وَتُكْرَهُ وَتُنْدَبُ وَتُبَاحُ، فَإِنَّ الذَّرِيعَةَ هِيَ الْوَسِيلَةُ، فَكَمَا أَنَّ وَسِيلَةَ الْمُحَرَّمِ مُحَرَّمَةٌ فَوَسِيلَةُ الْوَاجِبِ وَاجِبَةٌ كَالسَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ. وَالْوَسِيلَةُ إِلَى أَفْضَل الْمَقَاصِدِ أَفْضَل الْوَسَائِل، وَإِلَى أَقْبَحِ الْمَقَاصِدِ أَقْبَحُ الْوَسَائِل، وَإِلَى مَا يُتَوَسَّطُ مُتَوَسِّطَةٌ. وَمِمَّا يَدُل عَلَى حُسْنِ الْوَسَائِل الْحَسَنَةِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ
__________
(1) المغني 9 / 54، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي 4 / 304، وجواهر الإكليل 2 / 230، وتبصرة الحكام 2 / 45، وابن عابدين 4 / 355.

(24/281)


وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيل اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} (1) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ عَلَى الظَّمَأِ وَالنَّصَبِ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ فِعْلِهِمْ لأَِنَّهُمَا حَصَلاَ لَهُمْ بِسَبَبِ التَّوَسُّل إِلَى الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةٌ لإِِعْزَازِ الدِّينِ وَصَوْنِ الْمُسْلِمِينَ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ أَمْثِلَةً مِنْ ذَلِكَ، مِنْهَا التَّوَسُّل إِلَى فِدَاءِ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، بِدَفْعِ الْمَال لِلْكُفَّارِ الَّذِي هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَمِنْهَا دَفْعُ مَالٍ لِرَجُلٍ يَأْكُلُهُ حَرَامًا حَتَّى لاَ يَزْنِيَ بِامْرَأَةٍ إِذَا عَجَزَ عَنْ دَفْعِهِ عَنْهَا إِلاَّ بِذَلِكَ، وَكَدَفْعِ الْمَال لِلْمُحَارِبِ حَتَّى لاَ يَقَعَ الْقَتْل بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ الْمَال عِنْدَ مَالِكٍ، وَلَكِنَّهُ اشْتَرَطَ فِي الْمَال أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا. قَال: فَهَذِهِ الصُّوَرُ كُلُّهَا الدَّفْعُ فِيهَا وَسِيلَةٌ إِلَى الْمَعْصِيَةِ بِأَكْل الْمَال وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ، لِرُجْحَانِ مَا يَحْصُل مِنَ الْمَصْلَحَةِ مَعَ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ (2) .
__________
(1) سورة التوبة / 120.
(2) الفروق للقرافي، الفرق الثامن والخمسون 2 / 33.

(24/282)


سَدُّ الرَّمَقِ
.

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُصْطَلَحُ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ:
الأُْولَى: سَدٌّ، وَهُوَ إِغْلاَقُ الْخَلَل وَرَدْمُ الثَّلْمِ، وَمَعْنَى سَدَّدَهُ أَصْلَحَهُ. يُقَال: سَدَادٌ مِنْ عَوَزٍ وَسَدَادٌ مِنْ عَيْشٍ لِمَا تُسَدُّ بِهِ الْحَاجَةُ وَيُرْمَقُ بِهِ الْعَيْشُ.
وَالثَّانِيَةُ: الرَّمَقُ، وَهِيَ تُطْلَقُ عَلَى بَقِيَّةِ الرُّوحِ وَعَلَى الْقُوَّةِ.
وَسَدُّ الرَّمَقِ مَعْنَاهُ: الْحِفَاظُ عَلَى الْقُوَّةِ وَالإِْبْقَاءُ عَلَى الرُّوحِ (1) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ - وَهُوَ مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ عَدَمِ الأَْكْل مَوْتًا، أَوْ
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير مادة: " سد " و " رمق "، والخرشي 3 / 28.

(24/282)


مَرَضًا مَخُوفًا، أَوْ زِيَادَتُهُ، أَوْ طُول مُدَّتِهِ، أَوْ خَافَ الاِنْقِطَاعَ عَنْ رُفْقَتِهِ، أَوْ ضَعُفَ عَنْ مَشْيٍ، أَوْ رُكُوبٍ، وَلَمْ يَجِدْ حَلاَلاً يَأْكُلُهُ - أَنْ يَأْكُل مِنْ لَحْمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُل طَعَامَ الْغَيْرِ دُونَ إِذْنِهِ.
وَالأَْصْل فِي هَذَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِل بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (1) وقَوْله تَعَالَى: {قُل لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) .
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُل مِنَ الْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الأُْخْرَى الَّتِي ذَكَرَتْهَا الآْيَاتُ الْمَذْكُورَةُ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ وَيَأْمَنُ مَعَهُ الْمَوْتَ بِجُوعٍ أَوْ عَطَشٍ، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَكْل مَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ لأَِنَّهُ تَوَسُّعٌ فِيمَا لَمْ يُبَحْ إِلاَّ لِلضَّرُورَةِ (3) .
__________
(1) سورة البقرة / 173.
(2) سورة الأنعام / 145.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 215، أحكام القرآن للجصاص 1 / 126، المجموع للإمام النووي 9 / 39، مغني المحتاج 4 / 306، الخرشي 3 / 28، القوانين الفقهية ص 178، روضة الطالبين 3 / 282، المغني لابن قدامة 8 / 595.

(24/283)


وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الشِّبَعِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ. عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ، وَالْحَسَنُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ الشِّبَعُ، بَل يَكْتَفِي بِمَا يَسُدُّ الرَّمَقَ بِحَيْثُ يَصِيرُ إِلَى حَالَةٍ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا فِي الاِبْتِدَاءِ لَمَا جَازَ لَهُ أَكْل الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا، لأَِنَّ الضَّرُورَةَ تَزُول بِهَذَا الْقَدْرِ، وَالتَّمَادِي فِي أَكْل الْحَرَامِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ مُمْتَنَعٌ.
قَال الْحَسَنُ: يَأْكُل قَدْرَ مَا يُقِيمُهُ؛ لأَِنَّ الآْيَةَ دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا وَاسْتُثْنِيَ مَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ، فَإِذَا انْدَفَعَتِ الضَّرُورَةُ لَمْ يَحِل لَهُ الأَْكْل؛ لأَِنَّهُ بَعْدَ سَدِّ الرَّمَقِ أَصْبَحَ كَمَا كَانَ قَبْل أَنْ يَضْطَرَّ فَلَمْ يُبَحْ لَهُ الأَْكْل؛ وَلأَِنَّ الضَّرُورَةَ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي رِوَايَةٍ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِلَى جَوَازِ الشِّبَعِ لَهُ مِنْ لَحْمِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا؛ لأَِنَّ الآْيَاتِ الَّتِي أَبَاحَتْ ذَلِكَ أَطْلَقَتْ وَلَمْ تُقَيِّدْهُ بِسَدِّ الرَّمَقِ، وَلأَِنَّ لَهُ تَنَاوُل قَلِيلِهِ فَجَازَ لَهُ الشِّبَعُ مِنْهُ.
وَفَرَّقَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ الضَّرُورَةُ مُسْتَمِرَّةً كَأَنْ يَكُونَ بَعِيدًا عَنِ الْعُمْرَانِ وَخَافَ إِنْ تَرَكَ الشِّبَعَ أَنْ يَهْلَكَ فَيَجُوزُ لِهَذَا وَأَمْثَالِهِ الشِّبَعُ، لأَِنَّهُ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ عَادَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ عَنْ قُرْبٍ.
وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ الضَّرُورَةُ مَرْجُوَّةَ الزَّوَال، كَأَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ وَيَتَوَقَّعَ الْحُصُول عَلَى طَعَامٍ

(24/283)


حَلاَلٍ قَبْل عَوْدِ الضَّرُورَةِ، فَيَجِبُ عَلَى مَنْ هَذَا حَالُهُ الاِقْتِصَارُ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ الشِّبَعُ (1) .
وَهُنَاكَ مَسَائِل مِنْهَا: هَل يَجُوزُ لَهُ التَّزَوُّدُ مِنْ لَحْمِ الْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَأَمْثَالِهِمَا؟ وَهَل يَجُوزُ لَهُ أَكْل أَوْ شُرْبُ الْمُسْكِرَاتِ؟ وَهَل يَجُوزُ لَهُ أَكْل لَحْمِ آدَمِيٍّ؟
وَإِذَا وَجَدَ طَائِفَةً مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ كَلَحْمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَال الْغَيْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَل يَتَخَيَّرُ بَيْنَهَا أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّرْتِيبُ؟ وَإِذَا وَجَبَ التَّرْتِيبُ فَمَاذَا يُقَدِّمُ؟ وَهَل هَذِهِ الرُّخْصَةُ خَاصَّةٌ بِالْمُسَافِرِ أَوِ الْمُقِيمِ الْمُضْطَرِّ أَيْضًا؟ وَهَل يَجُوزُ لِلْعَاصِي الْمُضْطَرِّ أَكْل مَا ذُكِرَ؟ وَمَا حُكْمُ أَكْل الْمُضْطَرِّ هَل يَجِبُ عَلَيْهِ أَمْ يُبَاحُ لَهُ؟ تَفَاصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَرُورَةٍ) .

سِرَارٌ

انْظُرْ: إِسْرَارٌ.
__________
(1) المجموع 9 / 39، الخرشي 3 / 28، روضة الطالبين 3 / 282، المغني لابن قدامة 8 / 595، القوانين الفقهية ص 178، مغني المحتاج 4 / 306، حاشية ابن عابدين 5 / 215.

(24/284)


سِرَايَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - السِّرَايَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِلسَّيْرِ فِي اللَّيْل، يُقَال: سَرَيْتُ بِاللَّيْل، وَسَرَيْتُ اللَّيْل سَرِيًّا إِذَا قَطَعْتُهُ بِالسَّيْرِ، وَالاِسْمُ سِرَايَةٌ. وَقَدْ تُسْتَعْمَل فِي الْمَعَانِي تَشْبِيهًا لَهَا بِالأَْجْسَامِ، فَيُقَال: سَرَى فِيهِ السُّمُّ وَالْخَمْرُ، وَيُقَال فِي الإِْنْسَانِ: سَرَى فِيهِ عِرْقُ السُّوءِ.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل قَوْل الْفُقَهَاءِ: سَرَى الْجُرْحُ مِنَ الْعُضْوِ إِلَى النَّفْسِ، أَيْ دَامَ أَلَمُهُ حَتَّى حَدَثَ مِنْهُ الْمَوْتُ، وَقَوْلُهُمْ: قَطَعَ كَفَّهُ فَسَرَى إِلَى سَاعِدِهِ، أَيْ تَعَدَّى أَثَرُ الْجُرْحِ إِلَيْهِ، كَمَا يُقَال: سَرَى التَّحْرِيمُ مِنَ الأَْصْل إِلَى فُرُوعِهِ. وَسَرَى الْعِتْقُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ السِّرَايَةُ هِيَ: النُّفُوذُ فِي الْمُضَافِ إِلَيْهِ ثُمَّ التَّعَدِّي إِلَى بَاقِيهِ (2) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) المنثور للزركشي 2 / 200.

(24/284)


الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - يَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ " سِرَايَةٍ " فِي الْمَوْضُوعَاتِ الآْتِيَةِ:
1 - الْعِتْقُ.
2 - الْجِرَاحَاتُ.
3 - الطَّلاَقُ.

السِّرَايَةُ فِي الْعِتْقِ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ فِي عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُعْتِقُ نَصِيبَهُ مِنَ الْعَبْدِ وَيَسْرِي الْعِتْقُ إِلَى الْبَاقِي إِذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا. وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (رِقٍّ) ف 139
سِرَايَةُ الْجِنَايَةِ:
4 - سِرَايَةُ الْجِنَايَةِ مَضْمُونَةٌ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لأَِنَّهَا أَثَرُ الْجِنَايَةِ، وَالْجِنَايَةُ مَضْمُونَةٌ، وَكَذَلِكَ أَثَرُهَا، ثُمَّ إِنْ سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ كَأَنْ يَجْرَحَ شَخْصًا عَمْدًا فَصَارَ ذَا فِرَاشٍ (أَيْ مُلاَزِمًا لِفِرَاشِ الْمَرَضِ) حَتَّى يَحْدُثَ الْمَوْتُ، أَوْ سَرَتْ إِلَى مَا لاَ يُمْكِنُ مُبَاشَرَتُهُ بِالإِْتْلاَفِ، كَأَنْ يَجْنِيَ عَلَى عُضْوٍ عَمْدًا فَيَذْهَبَ أَحَدُ الْمَعَانِي: كَالْبَصَرِ، وَالسَّمْعِ وَنَحْوِهِمَا، وَجَبَ الْقِصَاصُ بِلاَ خِلاَفٍ (1) .
__________
(1) المغني 7 / 727، روضة الطالبين 9 / 187، أسنى المطالب 4 / 3 - 25، مواهب الجليل 6 / 242، البناية شرح الهداية 10 / 175.

(24/285)


وَإِنْ سَرَتْ إِلَى مَا يُمْكِنُ مُبَاشَرَتُهُ بِالإِْتْلاَفِ بِأَنْ يَقْطَعَ أُصْبُعًا فَسَرَتْ إِلَى الْكَفِّ حَتَّى يَسْقُطَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِ.
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالصَّاحِبَانِ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الأُْصْبُعِ، وَدِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ فِي الْكَفِّ، وَقَالُوا: إِنَّ مَا يُمْكِنُ مُبَاشَرَتُهُ بِالْجِنَايَةِ لاَ يَجِبُ فِيهِ الْقَوَدُ بِالسِّرَايَةِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ، وَقَالُوا: إِنَّ مَا وَجَبَ فِيهِ الْقَوَدُ بِالْجِنَايَةِ وَجَبَ فِيهِ أَيْضًا بِالسِّرَايَةِ كَالنَّفْسِ وَضَوْءِ الْعَيْنِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَطَعَ أُصْبُعًا فَشُلَّتْ إِلَى جَنْبِهَا أُخْرَى: لاَ قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ دِيَتُهُمَا (2) . وَإِنْ كَانَتِ الْجِرَاحَةُ خَطَأً فَسَرَتْ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ فَلاَ يَجِبُ غَيْرُ الدِّيَةِ، وَالتَّفْصِيل فِي (قِصَاصٍ)

سِرَايَةُ الْقَوَدِ:
5 - سِرَايَةُ الْقَوَدِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، فَإِذَا قَطَعَ طَرَفًا يَجِبُ الْقَوَدُ فِيهِ فَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ثُمَّ مَاتَ الْجَانِي بِسِرَايَةِ الاِسْتِيفَاءِ لَمْ يَلْزَمِ الْمُسْتَوْفِي شَيْءٌ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) المغني 7 / 727، البناية في شرح الهداية 10 / 175.

(24/285)


الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالُوا: لأَِنَّهُ قَطْعٌ مُسْتَحَقٌّ مُقَدَّرٌ فَلاَ تُضْمَنُ سِرَايَتُهُ كَقَطْعِ السَّارِقِ، وَلاَ يُمْكِنُ التَّقْيِيدُ بِسَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ لِمَا فِيهِ سَدُّ بَابِ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ بِالْقِصَاصِ، وَالاِحْتِرَازُ عَنِ السِّرَايَةِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَضْمَنُ دِيَةَ النَّفْسِ؛ لأَِنَّهُ قَتْلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ لأَِنَّ حَقَّهُ فِي الْقَطْعِ وَهُوَ وَقَعَ قَتْلاً، وَلَوْ وَقَعَ هَذَا الْقَطْعُ ظُلْمًا فِي غَيْرِ قِصَاصٍ وَسَرَى إِلَى النَّفْسِ، كَانَ قَتْلاً مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ؛ وَلأَِنَّهُ جُرْحٌ أَفْضَى إِلَى فَوَاتِ الْحَيَاةِ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ، وَهُوَ مُسَمَّى الْقَتْل إِلاَّ أَنَّ الْقِصَاصَ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَوَجَبَ الْمَال (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي " قِصَاصٍ ".
وَالْعِبْرَةُ فِي الضَّمَانِ وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ بِوَقْتِ الْجِنَايَةِ لاَ بِوَقْتِ السِّرَايَةِ، فَإِنْ جَرَحَ مُسْلِمٌ حَرْبِيًّا أَوْ مُرْتَدًّا فَأَسْلَمَا ثُمَّ مَاتَا بِالسِّرَايَةِ فَلاَ ضَمَانَ، كَعَكْسِهِ، بِأَنْ جَرَحَ حَرْبِيٌّ مُسْلِمًا فَأَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ ثُمَّ مَاتَ الْمُسْلِمُ؛ لأَِنَّهُ جُرْحٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَسِرَايَتُهُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ.
وَإِنْ جَرَحَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ الْمَجْرُوحُ فَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ فَلِوَلِيِّهِ الْقِصَاصُ بِالْجُرْحِ،
__________
(1) المغني 7 / 727، المحلي على القليوبي 4 / 125، البناية في شرح الهداية 10 / 104، ابن عابدين 5 / 362.

(24/286)


لاَ بِالنَّفْسِ. وَإِنْ تَخَلَّل الْمُهْدَرُ بَيْنَ الْجُرْحِ وَالْمَوْتِ بِالسِّرَايَةِ كَأَنْ يَجْرَحَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا، ثُمَّ ارْتَدَّ الْمَجْرُوحُ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ فَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ لِتَخَلُّل حَالَةِ الإِْهْدَارِ بَيْنَ الْجِنَايَةِ وَالْمَوْتِ بِالسِّرَايَةِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ لِوُقُوعِ الْجِنَايَةِ وَالْمَوْتِ بِالسِّرَايَةِ فِي حَالَةِ الْعِصْمَةِ.
وَإِنْ جَرَحَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا فَأَسْلَمَ وَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ فَلاَ قِصَاصَ عِنْدَ مَنْ يَرَى عَدَمَ قَتْل الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِجِنَايَتِهِ مَنْ يُكَافِئُهُ، وَتَجِبُ دِيَةُ مُسْلِمٍ؛ لأَِنَّهُ فِي الاِبْتِدَاءِ مَضْمُونٌ وَفِي الاِنْتِهَاءِ حُرٌّ مُسْلِمٌ.
وَالْقَاعِدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ هِيَ:
1 - أَنَّ كُل جُرْحٍ غَيْرُ مَضْمُونٍ لاَ يَنْقَلِبُ مَضْمُونًا بِتَغَيُّرِ الْحَال فِي الاِنْتِهَاءِ.
2 - وَكُل جُرْحٍ مَضْمُونٌ فِي الْحَالَيْنِ، فَالْعِبْرَةُ فِي قَدْرِ الضَّمَانِ بِالاِنْتِهَاءِ.
3 - وَكُل جُرْحٍ مَضْمُونٍ لاَ يَنْقَلِبُ غَيْرَ مَضْمُونٍ بِتَغَيُّرِ الْحَال (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي (قِصَاصٍ) .

سِرَايَةُ الطَّلاَقِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَضَافَ
__________
(1) القليوبي 4 / 11 - 112، أسنى المطالب 4 / 19، روضة الطالبين 9 / 169، كشاف القناع 5 / 522، حاشية الدسوقي 4 / 238.

(24/286)


الطَّلاَقَ إِلَى جُزْءٍ شَائِعٍ مِنَ الْمَرْأَةِ، كَأَنْ يَقُول: نِصْفُكِ، أَوْ رُبُعُكِ، أَوْ جُزْؤُكِ طَالِقٌ، أَوْ أَضَافَهُ إِلَى مُعَيَّنٍ مِنْهَا كَأَنْ يَقُول: يَدُكِ أَوْ رِجْلُكِ طَالِقٌ، وَقَعَ الطَّلاَقُ بِطَرِيقِ السِّرَايَةِ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ إِلَى الْبَاقِي كَمَا يَسْرِي فِي الْعِتْقِ؛ لأَِنَّهُ أَضَافَ الطَّلاَقَ إِلَى جُزْءٍ ثَابِتٍ اسْتَبَاحَهُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَأَشْبَهَ الْجُزْءَ الشَّائِعَ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ أَضَافَ الطَّلاَقَ إِلَى مَا لاَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْجُمْلَةِ كَالْيَدِ، وَالرِّجْل وَنَحْوِهِ لَمْ يَقَعِ الطَّلاَقُ، وَبِالتَّالِي لاَ سِرَايَةَ لأَِنَّهُ أَضَافَ الطَّلاَقَ إِلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ فَيَلْغُو (2) .
__________
(1) المحلي على حاشية القليوبي 3 / 334، كشاف القناع 5 / 265، حاشية الدسوقي 2 / 388.
(2) فتح القدير 3 / 359 وما بعده.

(24/287)


سِرٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي السِّرِّ لُغَةً: مَا يُكْتَمُ فِي النَّفْسِ، وَالْجَمْعُ أَسْرَارٌ وَسَرَائِرُ. وَأَسَرَّ الشَّيْءَ: كَتَمَهُ وَأَظْهَرَهُ فَهُوَ مِنَ الأَْضْدَادِ (1) . قَال الرَّاغِبُ: الإِْسْرَارُ خِلاَفُ الإِْعْلاَنِ، وَيُسْتَعْمَل فِي الأَْعْيَانِ وَالْمَعَانِي (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
النَّجْوَى:
2 - النَّجْوَى اسْمٌ لِلْكَلاَمِ الْخَفِيِّ الَّذِي تُنَاجِي بِهِ
__________
(1) متن اللغة، الصحاح ولسان العرب والكليات 3 / 38.
(2) المفردات للراغب الأصفهاني.
(3) القليوبي وعميرة 3 / 305، ومطالب أولي النهى 6 / 442، والحطاب 2 / 26.

(24/287)


صَاحِبَكَ كَأَنَّك تَرْفَعُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَصْل الْكَلِمَةِ: الرِّفْعَةُ، وَمِنْهُ: النَّجْوَةُ مِنَ الأَْرْضِ، وَالسِّرُّ أَعَمُّ مِنَ النَّجْوَى، لأَِنَّ السِّرَّ قَدْ يَكُونُ فِي غَيْرِ الْمَعَانِي مَجَازًا. يُقَال: فَعَل هَذَا سِرًّا، وَقَدْ أَسَرَّ الأَْمْرَ، وَالنَّجْوَى لاَ تَكُونُ إِلاَّ كَلاَمًا (1) .

أَنْوَاعُ السِّرِّ:
3 - يَتَنَوَّعُ السِّرُّ إِلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ:
1 - مَا أَمَرَ الشَّرْعُ بِكِتْمَانِهِ.
2 - مَا طَلَبَ صَاحِبُهُ كِتْمَانَهُ.
3 - مَا مِنْ شَأْنِهِ الْكِتْمَانُ، وَاطُّلِعَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْخُلْطَةِ أَوِ الْمِهْنَةِ.
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَنْوَاعِ السِّرِّ وَحُكْمِ كُل نَوْعٍ (ر: إِفْشَاءُ السِّرِّ) (2) .

الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ إِظْهَارِ الأَْعْمَال وَالإِْسْرَارِ بِهَا:
4 - إِنَّ فِي إِسْرَارِ الأَْعْمَال فَائِدَةَ الإِْخْلاَصِ وَالنَّجَاةِ مِنَ الرِّيَاءِ، وَفِي إِظْهَارِهَا فَائِدَةُ الاِقْتِدَاءِ وَتَرْغِيبُ النَّاسِ فِي الْخَيْرِ، وَلَكِنْ فِيهِ آفَةُ الرِّيَاءِ. قَال الْحَسَنُ: قَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ السِّرَّ أَحْرَزُ الْعَمَلَيْنِ، وَلَكِنْ فِي الإِْظْهَارِ أَيْضًا فَائِدَةٌ، وَلِذَلِكَ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى السِّرِّ وَالْعَلاَنِيَةِ فَقَال: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا
__________
(1) الفروق في اللغة ص 48.
(2) الموسوعة الفقهية جـ 5 ص 292 وما بعدها.

(24/288)


الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (1) .
وَضَابِطُ أَفْضَلِيَّةِ إِظْهَارِ الأَْعْمَال أَوْ إِسْرَارِهَا: هُوَ أَنَّ كُل عَمَلٍ لاَ يُمْكِنُ إِسْرَارُهُ كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْجُمُعَةِ فَالأَْفْضَل الْمُبَادَرَةُ إِلَيْهِ وَإِظْهَارُ الرَّغْبَةِ فِيهِ لِلتَّحْرِيضِ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهِ شَوَائِبُ الرِّيَاءِ، وَأَمَّا مَا يُمْكِنُ إِسْرَارُهُ كَالصَّدَقَةِ وَالصَّلاَةِ فَإِنْ كَانَ إِظْهَارُ الصَّدَقَةِ يُؤْذِي الْمُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ يُرَغِّبُ النَّاسَ فِي الصَّدَقَةِ فَالسِّرُّ أَفْضَل؛ لأَِنَّ الإِْيذَاءَ حَرَامٌ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِيذَاءٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الأَْفْضَل. فَقَال قَوْمٌ: السِّرُّ أَفْضَل مِنَ الْعَلاَنِيَةِ وَإِنْ كَانَ فِي الْعَلاَنِيَةِ قُدْوَةٌ. وَقَال قَوْمٌ:
السِّرُّ أَفْضَل مِنْ عَلاَنِيَةٍ لاَ قُدْوَةَ فِيهَا، أَمَّا الْعَلاَنِيَةُ لِلْقُدْوَةِ فَأَفْضَل مِنَ السِّرِّ، وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل أَمَرَ الأَْنْبِيَاءَ بِإِظْهَارِ الْعَمَل لِلاِقْتِدَاءِ بِهِمْ وَخَصَّهُمْ بِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ أَنَّهُمْ حُرِمُوا أَفْضَل الْعَمَلَيْنِ (2) .
هَذَا فِي عَامَّةِ الأَْعْمَال، أَمَّا فِي التَّطَوُّعِ فَالإِْخْفَاءُ فِيهِ أَفْضَل مِنَ الإِْظْهَارِ لاِنْتِفَاءِ الرِّيَاءِ عَنْهُ (3) .
وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ بَعْضَ النَّوَافِل الَّتِي يَكُونُ الإِْسْرَارُ بِهَا أَفْضَل مِنْ إِظْهَارِهَا.
__________
(1) سورة البقرة / 271.
(2) إحياء علوم الدين 3 / 308 - 309 ط الحلبي.
(3) تفسير القرطبي 3 / 332، وعمدة القاري 5 / 180، وكشاف القناع 1 / 435.

(24/288)


أ - التَّطَوُّعُ فِي الْبَيْتِ:
5 - التَّطَوُّعُ فِي الْبَيْتِ أَفْضَل، لِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَل صَلاَةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ (1) .
وَلأَِنَّ الصَّلاَةَ فِي الْبَيْتِ أَقْرَبُ إِلَى الإِْخْلاَصِ وَأَبْعَدُ مِنَ الرِّيَاءِ، وَهُوَ مِنْ عَمَل السِّرِّ وَفِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ عَلاَنِيَةً وَالسِّرُّ أَفْضَل (2) .

ب - دَفْعُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ سِرًّا:
6 - صَدَقَةُ السِّرِّ أَفْضَل مِنْ صَدَقَةِ الْعَلاَنِيَةِ (3) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} (4) .
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِل إِلاَّ ظِلُّهُ. . . وَذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلاً تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ (5) . وَرُوِيَ عَنِ
__________
(1) حديث: " صلوا أيها الناس في بيوتكم ". أخرجه النسائي (3 / 198 - ط المكتبة التجارية) من حديث زيد بن ثابت، وجود إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (1 / 280 - ط الحلبي) .
(2) المغني 2 / 141، والمجموع 3 / 490 - 491، والفتاوى الهندية 1 / 113.
(3) المغني 3 / 82، وروضة الطالبين 3 / 341.
(4) سورة البقرة / 271.
(5) حديث: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 143 - ط السلفية) .

(24/289)


النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ (1) .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَعَل اللَّهُ صَدَقَةَ السِّرِّ فِي التَّطَوُّعِ تَفْضُل عَلاَنِيَتَهَا يُقَال بِسَبْعِينَ ضِعْفًا، وَجَعَل صَدَقَةَ الْفَرِيضَةِ عَلاَنِيَتَهَا تَفْضُل إِسْرَارَهَا يُقَال بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ضِعْفًا. وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِل فِي الأَْشْيَاءِ كُلِّهَا. وَقَال سُفْيَانُ: هُوَ سِوَى الزَّكَاةِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: صَدَقَةٌ) .

نِكَاحُ السِّرِّ:
7 - أَجْمَعَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ إِعْلاَنَ النِّكَاحِ مُسْتَحَبٌّ، (ر: مُصْطَلَحُ إِعْلاَنٍ، وَنِكَاحٍ) (3)

تَزْكِيَةُ الشُّهُودِ سِرًّا:
8 - إِذَا طَعَنَ فِي الشُّهُودِ مِنْ طَرَفِ الْخَصْمِ فَتَجِبُ تَزْكِيَتُهُمْ بِلاَ خِلاَفٍ وَيَكُونُ الْحُكْمُ بِدُونِ التَّزْكِيَةِ غَيْرَ صَحِيحٍ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَطْعَنِ الْخَصْمُ فِي الشُّهُودِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي لُزُومِ التَّزْكِيَةِ.
__________
(1) حديث: " صدقة السر تطفئ غضب الرب ". أخرجه الحاكم (3 / 568 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن جعفر وضعف إسناده الذهبي. ولكن له شواهد كثيرة يتقوى بها أوردها العجلوني في كشف الخفاء (2 / 29 - ط الرسالة) .
(2) عمدة القاري 8 / 284.
(3) الموسوعة الفقهية جـ 5 ص 262.

(24/289)


فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى وُجُوبِ التَّزْكِيَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلاَ يَصِحُّ الْحُكْمُ - عِنْدَهُمْ - بِدُونِهَا؛ لأَِنَّ الْقَضَاءَ يَنْبَنِي عَلَى الْحُجَّةِ، وَلاَ تَقَعُ الْحُجَّةُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ الْعُدُول.
وَالتَّزْكِيَةُ نَوْعَانِ: تَزْكِيَةُ السِّرِّ، وَتَزْكِيَةُ الْعَلاَنِيَةِ.
وَسَبَبُ التَّزْكِيَةِ سِرًّا أَنَّهُ إِذَا كَانَ الشُّهُودُ غَيْرَ عُدُولٍ فَيُمْكِنُ أَنْ لاَ يَقْدِرَ الْمُزَكِّي عَلَى الْجُرْحِ عَلَنًا لِبَعْضِ أَسْبَابٍ، كَخَوْفِ الْمُزَكِّي عَلَى نَفْسِهِ فَلِذَلِكَ كَانَتِ التَّزْكِيَةُ السِّرِّيَّةُ حَتَّى يَكُونَ الْمُزَكِّي قَادِرًا عَلَى الْجُرْحِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي حُكْمِ التَّزْكِيَةِ، وَأَقْسَامِهَا، وَوَقْتِ سُقُوطِهَا، وَشُرُوطِ مَنْ تُقْبَل تَزْكِيَتُهُ، وَعَدَدُ مَنْ يُقْبَل فِيهَا (ر: تَزْكِيَةٌ، شَهَادَةٌ) .
__________
(1) درر الحكام 4 / 391، وبدائع الصنائع 6 / 270، والشرح الصغير 4 / 259 - 260، والقليوبي وعميرة 4 / 306، والمغني 9 / 64.

(24/290)


سُرَرٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - السُّرَرُ لُغَةً: اللَّيْلَةُ الَّتِي يُسْتَسَرُّ فِيهَا الْقَمَرُ، وَيُقَال فِيهَا أَيْضًا السُّرَرُ، وَالسِّرَارُ، وَالسَّرَارُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ: اسْتَسَرَّ الْقَمَرُ، أَيْ خَفِيَ لَيْلَةَ السِّرَارِ، فَرُبَّمَا كَانَ لَيْلَتَيْنِ.
وَأَصْل السُّرَرِ الْخَفَاءُ فَنَقُول: أُسِرُّ الْحَدِيثَ إِسْرَارًا إِذَا أَخْفَيْتُهُ أَوْ نَسَبْتُهُ إِلَى السِّرِّ، وَأَسْرَرْتُهُ أَيْضًا أَظْهَرْتُهُ فَهُوَ مِنَ الأَْضْدَادِ (1) .
أَمَّا مَعْنَاهُ اصْطِلاَحًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُرَادُ مِنَ السُّرَرِ، هَل هُوَ آخِرُ الشَّهْرِ، أَمْ أَوَّلُهُ، أَمْ أَوْسَطُهُ، فَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَهُمْ جُمْهُورُ أَهْل اللُّغَةِ وَالْحَدِيثِ وَالْغَرِيبِ: إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ السُّرَرِ هُوَ آخِرُ الشَّهْرِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لاِسْتِسْرَارِ الْقَمَرِ. وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ السُّرَرَ الْوَسَطُ، فَسَرَارَةُ الْوَادِي وَسَطُهُ وَخِيَارُهُ، وَسِرَارُ الأَْرْضِ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير، أساس البلاغة ص 293.

(24/290)


أَكْرَمُهَا وَأَوْسَطُهَا، وَيُؤَيِّدُهُ النَّدْبُ إِلَى صِيَامِ الْبِيضِ، وَهِيَ وَسَطُ الشَّهْرِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي صِيَامِ آخِرِ الشَّهْرِ نَدْبٌ، وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْل النَّوَوِيُّ (1) .
وَذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى أَنَّ السُّرَرَ أَوَّل الشَّهْرِ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أَيَّامُ الْبِيضِ:
2 - أَيَّامُ الْبِيضِ: هِيَ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ كُل شَهْرٍ، وَأَصْلُهَا أَيَّامُ اللَّيَالِيَ الْبِيضِ. وَهِيَ لَيْلَةُ ثَلاَثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَلَيْلَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ اللَّيَالِي بِالْبِيضِ لاِسْتِنَارَةِ جَمِيعِهَا بِالْقَمَرِ (2) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
اخْتِلاَفُ الْفُقَهَاءِ فِي مَعْنَى السُّرَرِ اصْطِلاَحًا يَقْتَضِي بَيَانَ الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ لِلسُّرَرِ بِشَتَّى الْمَعَانِي:
3 - صِيَامُ أَوَّل الشَّهْرِ: ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ أَوَّل مَطْلَعِ كُل شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَقَدْ رَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري 4 / 230 - 231، عمدة القاري للعيني 11 / 101.
(2) المصباح المنير (بيض) .

(24/291)


كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ مِنْ غُرَّةِ كُل شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ (1) . (ر: مُصْطَلَحُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ) .

4 - صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ: وَهُوَ يَوْمُ الثَّلاَثِينَ مِنْ شَعْبَانَ إِذَا تَرَدَّدَ النَّاسُ فِي كَوْنِهِ مِنْ رَمَضَانَ، لِلْفُقَهَاءِ عِبَارَاتٌ مُتَقَارِبَةٌ فِي تَحْدِيدِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى عَدَمِ الْكَرَاهَةِ وَإِبَاحَةِ صَوْمِهِ إِنْ صَادَفَ عَادَةً لِلْمُسْلِمِ بِصَوْمِ تَطَوُّعٍ كَيَوْمِ الاِثْنَيْنِ أَوِ الْخَمِيسِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلاَ يَوْمَيْنِ إِلاَّ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ (2) . وَلِقَوْل عَمَّارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) (ر: التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ.

صِيَامُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى جَوَازِ صِيَامِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَمَا بَعْدَهُ، لِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يَا فُلاَنُ أَمَا صُمْتَ سُرَرَ هَذَا الشَّهْرِ؟ قَال الرَّجُل: لاَ يَا رَسُول اللَّهِ، قَال: فَإِذَا أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ مِنْ سُرَرِ شَعْبَانَ (3) ،
__________
(1) حديث ابن مسعود: " كان صلى الله عليه وسلم يصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام ". أخرجه الترمذي (3 / 109 - ط الحلبي) ، وقال: حديث حسن غريب.
(2) حديث: " لا تقدموا رمضان بصوم يوم. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 128 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 762 - ط الحلبي) لمسلم.
(3) حديث: " يا فلان أما صمت سرر هذا الشهر ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 230 - ط السلفية) ومسلم (2 / 818 - ط الحلبي) والسياق للبخاري.

(24/291)


وَهَذَا عَلَى قَوْل مَنْ فَسَّرَ السُّرَرَ بِالْوَسَطِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهِيَةِ صِيَامِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ، فَلاَ تَصُومُوا (1) وَحَرَّمَهُ الشَّافِعِيَّةُ لِحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ صِيَامِ النِّصْفِ؛ وَلأَِنَّهُ رُبَّمَا أَضْعَفَ الصَّائِمَ عَنْ صِيَامِ رَمَضَانَ، وَجَمَعَ الطَّحَاوِيُّ بَيْنَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ النَّهْيُ، وَحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ تَقَدُّمِ رَمَضَانَ بِالصِّيَامِ إِلاَّ إِذَا كَانَ صَوْمًا يَصُومُهُ، بِأَنَّ الْحَدِيثَ الأَْوَّل مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يُضْعِفُهُ الصَّوْمُ، وَالثَّانِي مَخْصُوصٌ بِمَنْ يَحْتَاطُ بِزَعْمِهِ لِرَمَضَانَ، وَحَسَّنَ الْجَمْعَ ابْنُ حَجَرٍ (2) .
ر: التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَيْ: (صَوْمٍ) ، (وَصَوْمِ التَّطَوُّعِ) .

سَرَفٌ

انْظُرْ: إِسْرَافٌ.
__________
(1) حديث: " إذا انتصف شعبان فلا تصوموا ". أخرجه أبو داود (2 / 751 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وأخرجه الترمذي (3 / 106 - ط الحلبي) بلفظ: " إذا بقي نصف من شعبان فلا تصوموا ". وقال: حديث حسن صحيح.
(2) كتاب الفروع 3 / 118، حلية العلماء 3 / 213، فتح الباري 4 / 230 - 231، بدائع الصنائع 2 / 979.

(24/292)


سَرِقَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - فِي اللُّغَةِ: السَّرِقَةُ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنَ الْغَيْرِ خُفْيَةً. يُقَال: سَرَقَ مِنْهُ مَالاً، وَسَرَقَهُ مَالاً يَسْرِقُهُ سَرَقًا وَسَرِقَةً: أَخَذَ مَالَهُ خُفْيَةً، فَهُوَ سَارِقٌ. وَيُقَال: سَرَقَ أَوِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ وَالنَّظَرَ: سَمِعَ أَوْ نَظَرَ مُسْتَخْفِيًا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ أَخْذُ الْعَاقِل الْبَالِغِ نِصَابًا مُحْرَزًا، أَوْ مَا قِيمَتُهُ نِصَابٌ، مِلْكًا لِلْغَيْرِ، لاَ شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: أَخْذُ مُكَلَّفٍ طِفْلاً حُرًّا لاَ يَعْقِل لِصِغَرِهِ (2) .
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات ولسان العرب ومختار الصحاح والمصباح المنير والمعجم الوسيط.
(2) الاختيار لتعليل المختار 4 / 102، وفتح القدير 4 / 219، والفتاوى الهندية 2 / 170. وانظر لابن نجيم تعريفًا مفصلاً في البحر الرائق 5 / 55، وشرح الخرشي 8 / 91، وبداية المجتهد 2 / 372، والمهذب للشيرازي 2 / 277، وقريب منه: نهاية المحتاج 7 / 439، والقليوبي وعميرة 4 / 186، والإقناع 4 / 274، وكشاف القناع 6 / 129.

(24/292)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِخْتِلاَسُ:
2 - يُقَال خَلَسَ الشَّيْءَ أَوِ اخْتَلَسَهُ، أَيْ: اسْتَلَبَهُ فِي نُهْزَةٍ وَمُخَاتَلَةٍ (1) .
وَالْمُخْتَلِسُ: هُوَ الَّذِي يَأْخُذُ الْمَال جَهْرَةً مُعْتَمِدًا عَلَى السُّرْعَةِ فِي الْهَرَبِ (2) .
فَالْفَرْقُ بَيْنَ السَّرِقَةِ وَالاِخْتِلاَسِ: أَنَّ الأُْولَى عِمَادُهَا الْخُفْيَةُ، وَالاِخْتِلاَسُ يَعْتَمِدُ الْمُجَاهَرَةَ.
وَلِذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلاَ مُنْتَهِبٍ وَلاَ مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ (3) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (اخْتِلاَسٍ) .

ب - جَحْدُ الأَْمَانَةِ، أَوْ خِيَانَتُهَا:
3 - الْجَحْدُ أَوِ الْجُحُودُ: الإِْنْكَارُ، وَلاَ يَكُونُ إِلاَّ عَلَى عِلْمٍ مِنَ الْجَاحِدِ بِهِ (4) . وَالْجَاحِدُ أَوِ الْخَائِنُ: هُوَ الَّذِي يُؤْتَمَنُ عَلَى شَيْءٍ بِطَرِيقِ الْعَارِيَّةِ أَوِ الْوَدِيعَةِ فَيَأْخُذُهُ وَيَدَّعِي ضَيَاعَهُ، أَوْ يُنْكِرُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ أَوْ عَارِيَّةٌ.
فَالْفَرْقُ بَيْنَ السَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ يَرْجِعُ إِلَى قُصُورٍ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير والمعجم الوسيط.
(2) المبسوط 9 / 160، وبداية المجتهد 2 / 436، ونهاية المحتاج 7 / 346، والمغني 10 / 239.
(3) حديث: " ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع ". أخرجه أبو داود (4 / 552 - تحقيق عزت عبيد الدعاس) والترمذي (4 / 52 - ط الحلبي) من حديث جابر. وقال: حديث حسن صحيح.
(4) لسان العرب (جحد) ، المصباح المنير.

(24/293)


فِي الْحِرْزِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِنْكَارٍ) .

ج - الْحِرَابَةُ:
4 - الْحِرَابَةُ: الْبُرُوزُ لأَِخْذِ مَالٍ أَوْ لِقَتْلٍ أَوْ لإِِرْعَابٍ عَلَى سَبِيل الْمُجَاهَرَةِ مُكَابَرَةً اعْتِمَادًا عَلَى الْقُوَّةِ مَعَ الْبُعْدِ عَنِ الْغَوْثِ، وَتُسَمَّى قَطْعَ الطَّرِيقِ، وَالسَّرِقَةَ الْكُبْرَى (2) .
وَيُفَرَّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّرِقَةِ بِأَنَّ الْحِرَابَةَ هِيَ الْبُرُوزُ لأَِخْذِ مَالٍ أَوْ لِقَتْلٍ أَوْ إِرْعَابٍ مُكَابَرَةً اعْتِمَادًا عَلَى الشَّوْكَةِ مَعَ الْبُعْدِ عَنِ الْغَوْثِ، أَمَّا السَّرِقَةُ فَهِيَ أَخْذُ الْمَال خُفْيَةً. فَالْحِرَابَةُ تَكْتَمِل بِالْخُرُوجِ عَلَى سَبِيل الْمُغَالَبَةِ وَإِنْ لَمْ يُؤْخَذْ مَالٌ، أَمَّا السَّرِقَةُ فَلاَ بُدَّ فِيهَا مِنْ أَخْذِ الْمَال عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ (3) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (حِرَابَةٍ) .

د - الْغَصْبُ:
5 - الْغَصْبُ فِي اللُّغَةِ: أَخْذُ الشَّيْءِ ظُلْمًا مُجَاهَرَةً.
__________
(1) فتح القدير 5 / 373، وبداية المجتهد 2 / 436، ونهاية المحتاج 7 / 436، وكشاف القناع 6 / 104، 105.
(2) بدائع الصنائع 7 / 90، روض الطالب 4 / 154، الإقناع لحل ألفاظ أبي شجاع 2 / 238، والمغني 8 / 287.
(3) نهاية المحتاج 8 / 2 وما بعدها، وشرح فتح القدير 4 / 268.

(24/293)


وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الاِسْتِيلاَءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ عُدْوَانًا. فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ: أَنَّ الأَْوَّل يَتَحَقَّقُ بِالْمُجَاهَرَةِ، فِي حِينِ يُشْتَرَطُ فِي السَّرِقَةِ أَنْ يَكُونَ الأَْخْذُ سِرًّا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ (1) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (غَصْبٍ) .

هـ - النَّبْشُ:
6 - يُقَال: نَبَشْتُهُ نَبْشًا، أَيِ اسْتَخْرَجْتُهُ مِنَ الأَْرْضِ، وَنَبَشْتُ الأَْرْضَ: كَشَفْتُهَا. وَمِنْهُ: نَبَشَ الرَّجُل الْقَبْرَ (2) .
وَالنَّبَّاشُ: هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ أَكْفَانَ الْمَوْتَى بَعْدَ دَفْنِهِمْ فِي قُبُورِهِمْ (3) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ وَفِي اعْتِبَارِهِ سَارِقًا، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ) مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى اعْتِبَارِ النَّبَّاشِ سَارِقًا؛ لاِنْطِبَاقِ حَدِّ السَّرِقَةِ عَلَيْهِ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ نَبَشَ قَطَّعْنَاهُ (4) .
__________
(1) كفاية الأخيار 1 / 182، وحاشية الدسوقي 3 / 242.
(2) المصباح المنير.
(3) البحر الرائق 5 / 60.
(4) حديث: " من حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه، ومن نبش قطعناه ". أخرجه البيهقي (8 / 43 - ط دائرة المعارف العثمانية) عن البراء. وقال ابن حجر: " وفي الإسناد بعض من يجهل " كذا في التلخيص الحبير (4 / 19 - ط شركة الطباعة الفنية) .

(24/294)


وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ النَّبَّاشِ سَارِقًا لأَِنَّهُ يَأْخُذُ مَا لاَ مَالِكَ لَهُ وَلَيْسَ مَرْغُوبًا فِيهِ، وَاشْتِرَاطُ الْخُفْيَةِ وَالْحِرْزِ لاَ يَجْعَل هَذَا النَّوْعَ مِنَ الأَْخْذِ سَرِقَةً (1) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (نَبْشٍ) .

- وَالنَّشْل:
7 - نَشَل الشَّيْءَ نَشْلاً: أَسْرَعَ نَزْعَهُ. يُقَال: نَشَل اللَّحْمَ مِنَ الْقِدْرِ، وَنَشَل الْخَاتَمَ مِنَ الْيَدِ. وَالنَّشَّال: الْمُخْتَلِسُ الْخَفِيفُ الْيَدِ مِنَ اللُّصُوصِ، يَشُقُّ ثَوْبَ الرَّجُل وَيَسُل مَا فِيهِ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْ صَاحِبِهِ. وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالطَّرَّارِ، مِنْ طَرَرْتُهُ طَرًّا: إِذَا شَقَقْتُهُ (2) .
وَلاَ يَخْتَلِفُ اصْطِلاَحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَالطَّرَّارُ أَوِ النَّشَّال هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ النَّاسَ فِي يَقَظَتِهِمْ بِنَوْعٍ مِنَ الْمَهَارَةِ وَخِفَّةِ الْيَدِ (3) .
فَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّشْل أَوِ الطَّرِّ بَيْنَ السَّرِقَةِ يَتَمَثَّل فِي تَمَامِ الْحِرْزِ. وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَطْبِيقِ حَدِّ السَّرِقَةِ عَلَى النَّشَّال فَجُمْهُورُهُمْ يُسَوِّي بَيْنَ السَّارِقِ وَالطَّرَّارِ سَوَاءٌ شَقَّ الْكُمَّ أَوِ الْقَمِيصَ
__________
(1) المبسوط 9 / 156 - 160، وفتح القدير 5 / 374 - 375، وحاشية الدسوقي 4 / 340، وتكملة المجموع 18 / 321، وكشاف القناع 6 / 138 - 139.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(3) طلبة الطلبة ص 78، وشرح فتح القدير 5 / 390.

(24/294)


وَأَخَذَ مِنْهَا مَا يَبْلُغُ النِّصَابَ، أَوْ أَدْخَل يَدَهُ فَأَخَذَ دُونَ شَقٍّ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ يُعْتَبَرُ حِرْزًا لِكُل مَا يَلْبَسُهُ أَوْ يَحْمِلُهُ مِنْ نُقُودٍ وَغَيْرِهَا. وَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّهُ إِذَا أَدْخَل يَدَهُ فِي الْكُمِّ أَوْ فِي الْجَيْبِ فَأَخَذَ مِنْ غَيْرِ شَقٍّ، أَوْ شَقَّ غَيْرَهُمَا مِثْل الصُّرَّةِ، فَلاَ يُطَبَّقُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ؛ لِعَدَمِ اكْتِمَال الأَْخْذِ مِنَ الْحِرْزِ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (نَشْلٍ) .

ز - النَّهْبُ:
8 - نَهَبَ الشَّيْءَ نَهْبًا: أَخَذَهُ قَهْرًا. وَالنَّهْبُ: الْغَارَةُ وَالْغَنِيمَةُ وَالشَّيْءُ الْمَنْهُوبُ وَهُوَ الْغَلَبَةُ عَلَى الْمَال وَالْقَهْرُ. قَال الأَْزْهَرِيُّ: وَالنَّهْبُ مَا انْتُهِبَ مِنَ الْمَال بِلاَ عِوَضٍ، يُقَال: أَنْهَبَ فُلاَنٌ مَالَهُ: إِذَا أَبَاحَهُ لِمَنْ أَخَذَهُ، وَلاَ يَكُونُ نَهْبًا حَتَّى تَنْتَهِبَهُ الْجَمَاعَةُ، فَيَأْخُذُ كُل وَاحِدٍ شَيْئًا، وَهِيَ النُّهْبَةُ (2) .
وَمِنْ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّهْبِ وَالسَّرِقَةِ يَعُودُ إِلَى شِبْهِ الْخُفْيَةِ، وَهُوَ لاَ يَتَوَافَرُ فِي النَّهْبِ وَلِهَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلاَ مُنْتَهِبٍ وَلاَ مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ (3) .
__________
(1) رحمة الأمة في اختلاف الأئمة ص 182، أحكام القرآن للقرطبي 6 / 170، المغني 8 / 256، والمبسوط 9 / 161، فتح القدير 5 / 391، بدائع الصنائع 7 / 76.
(2) لسان العرب، المصباح المنير، المعجم الوسيط، والزاهر ص 431.
(3) حديث: " ليس على خائن ولا منتهب ولا. . . ". تقدم تخريجه ف / 2.

(24/295)


وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (نَهْبٍ) .

أَرْكَانُ السَّرِقَةِ:
9 - لِلسَّرِقَةِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ: السَّارِقُ، وَالْمَسْرُوقُ مِنْهُ، وَالْمَال الْمَسْرُوقُ، وَالأَْخْذُ خُفْيَةً.

الرُّكْنُ الأَْوَّل: السَّارِقُ:
10 - يَجِبُ - لإِِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ - أَنْ تَتَوَافَرَ فِي السَّارِقِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا، وَأَنْ يَقْصِدَ فِعْل السَّرِقَةِ، وَأَلاَّ يَكُونَ مُضْطَرًّا إِلَى الأَْخْذِ، وَأَنْ تَنْتَفِيَ الْجُزْئِيَّةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَأَلاَّ تَكُونَ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ فِي اسْتِحْقَاقِهِ مَا أَخَذَ.

الشَّرْطُ الأَْوَّل: التَّكْلِيفُ:
11 - لاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى إِلاَّ إِذَا كَانَ مُكَلَّفًا، أَوْ بَالِغًا عَاقِلاً (1) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (تَكْلِيفٍ) .
أ - وَيُعْتَبَرُ الشَّخْصُ بَالِغًا إِذَا تَوَافَرَتْ فِيهِ إِحْدَى عَلاَمَاتِ الْبُلُوغِ.
يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (بُلُوغٍ) .
أَمَّا مَنْ كَانَ دُونَ الْبُلُوغِ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ لِقَوْل
__________
(1) ابن عابدين 3 / 265، وبداية المجتهد 2 / 437، الأحكام السلطانية للماوردي ص 228، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 268.

(24/295)


النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَبْرَأَ وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ (1) . وَلِذَا قَال ابْنُ حَجَرٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الاِحْتِلاَمَ فِي الرِّجَال وَالنِّسَاءِ يَلْزَمُ بِهِ الْعِبَادَاتُ وَالْحُدُودُ وَسَائِرُ الأَْحْكَامِ (2) .
ب - وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَقْل لإِِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ، إِذْ أَنَّهُ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ (3) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِل. هَذَا إِنْ كَانَ الْمَجْنُونُ مُطْبَقًا، فَأَمَّا إِنْ كَانَ غَيْرَ مُطْبَقٍ وَجَبَ الْحَدُّ إِنْ سَرَقَ فِي حَال الإِْفَاقَةِ، وَلاَ يَجِبُ إِنْ سَرَقَ فِي حَال الْجُنُونِ. انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (جُنُونٍ) .
ج - وَقَدْ أَلْحَقَ الْفُقَهَاءُ الْمَعْتُوهَ بِالْمَجْنُونِ؛ لأَِنَّ الْعَتَهَ نَوْعُ جُنُونٍ فَيَمْنَعُ أَدَاءَ الْحُقُوقِ (4) . انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (عَتَهٍ) .
__________
(1) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يكبر ". أخرجه أبو داود (4 / 558 - تحقيق عزت عبيد الدعاس) والحاكم (2 / 59 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
(2) فتح الباري 5 / 277. وانظر: بدائع الصنائع 7 / 67، والدسوقي على الشرح الكبير 4 / 332، 344، ونهاية المحتاج 7 / 421، وكشاف القناع 6 / 129.
(3) نفس المراجع السابقة.
(4) ابن عابدين 2 / 426 - 427، والموسوعة الفقهية 16 / 99 ف 3.

(24/296)


د - وَلاَ يَجِبُ إِقَامَةُ الْحَدِّ إِذَا صَدَرَتِ السَّرِقَةُ مِنَ النَّائِمِ (1) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ. انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (نَوْمٍ) .
هـ - كَذَلِكَ لاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ إِذَا سَرَقَ حَال إِغْمَائِهِ (2) . انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِغْمَاءٍ) .
و أَمَّا مَنْ يَسْرِقُ وَهُوَ سَكْرَانُ (3) ، فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِي حُكْمِهِ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ:
فَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّ عَقْلَهُ غَيْرُ حَاضِرٍ، فَلاَ يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مُطْلَقًا إِلاَّ حَدَّ السُّكْرِ. سَوَاءٌ أَكَانَ مُتَعَدِّيًا بِسُكْرِهِ أَمْ كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِهِ (4) . غَيْرَ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ يُفَرِّقُ بَيْنَ حَالَتَيْنِ: إِذَا كَانَ السَّكْرَانُ قَدْ تَعَدَّى بِسُكْرِهِ، فَإِنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ يُقَامُ عَلَيْهِ، سَدًّا لِلذَّرَائِعِ، حَتَّى لاَ يَقْصِدَ مَنْ يُرِيدُ ارْتِكَابَ جَرِيمَةٍ إِلَى الشُّرْبِ دَرْءًا لإِِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا بِالسُّكْرِ فَيَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لِقِيَامِ عُذْرِهِ وَانْتِفَاءِ قَصْدِهِ (5) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (سُكْرٍ) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 67، وشرح منتهى الإرادات 3 / 336.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 228، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 260.
(3) انظر في تعريف السكر: الموسوعة الفقهية 16 / 100 ف 5.
(4) المهذب 2 / 277، والمغني 8 / 195.
(5) حاشية ابن عابدين 3 / 192، والخرشي 8 / 101، والمهذب 2 / 78 و278، والمغني 8 / 195.

(24/296)


ز - وَمِمَّا يَلْتَحِقُ بِمَسْأَلَةِ التَّكْلِيفِ: اشْتِرَاطُ كَوْنِ السَّارِقِ مُلْتَزِمًا أَحْكَامَ الإِْسْلاَمِ حَتَّى تَثْبُتَ وِلاَيَةُ الإِْمَامِ عَلَيْهِ. وَلِذَا لاَ يُقَامُ حَدُّ السَّرِقَةِ عَلَى الْحَرْبِيِّ غَيْرِ الْمُسْتَأْمَنِ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ أَحْكَامَ الإِْسْلاَمِ، وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الذِّمِّيِّ لأَِنَّهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ يَلْتَزِمُ بِأَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ وَتَثْبُتُ وِلاَيَةُ الإِْمَامِ عَلَيْهِ (1) . انْظُرْ مُصْطَلَحَيْ: (أَهْل الْحَرْبِ، وَأَهْل الذِّمَّةِ) .
12 - أَمَّا الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ: فَإِنْ سَرَقَ مِنْ مُسْتَأْمَنٍ آخَرَ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعَدَمِ الْتِزَامِ أَيٍّ مِنْهُمَا أَحْكَامَ الإِْسْلاَمِ. وَإِنْ سَرَقَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَفِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ:
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ) إِلَى وُجُوبِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ لأَِنَّ دُخُولَهُ فِي الأَْمَانِ يَجْعَلُهُ مُلْتَزِمًا الأَْحْكَامَ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ بِأَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ، قَال تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ} (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 67، والمدونة 16 / 270، ونهاية المحتاج 7 / 440، وكشاف القناع 3 / 116، وأحكام أهل الذمة لابن القيم 2 / 475.
(2) سورة التوبة / 6.

(24/297)


وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: أَظْهَرُهَا: أَنَّهُ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ كَالْحَرْبِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ كَالذِّمِّيِّ. وَالثَّالِثُ: يُفَصَّل بِالنَّظَرِ إِلَى عَقْدِ الأَْمَانِ: فَإِنْ شَرَطَ فِيهِ إِقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَيْهِ وَجَبَ الْقَطْعُ، وَإِلاَّ فَلاَ حَدَّ وَلاَ قَطْعَ (1) .

الشَّرْطُ الثَّانِي: الْقَصْدُ:
13 - لاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ إِلاَّ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ بِتَحْرِيمِ السَّرِقَةِ، وَأَنَّهُ يَأْخُذُ مَالاً مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ دُونَ عِلْمِ مَالِكِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَأَنْ تَنْصَرِفَ نِيَّتُهُ إِلَى تَمَلُّكِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا فِيمَا فَعَل، وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل ذَلِكَ.
أ - أَنْ يَعْلَمَ السَّارِقُ بِتَحْرِيمِ الْفِعْل الَّذِي اقْتَرَفَهُ، فَالْجَهَالَةُ بِالتَّحْرِيمِ مِمَّنْ يُعْذَرُ بِالْجَهْل شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لاَ حَدَّ إِلاَّ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ. أَمَّا عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْعُقُوبَةِ فَلاَ يُعَدُّ مِنَ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تَدْرَأُ الْحَدَّ (2) .
ب - أَنْ يَعْلَمَ السَّارِقُ أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ مَمْلُوكٌ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 266، وفتح القدير 4 / 104، والمدونة 6 / 291، والمغني 10 / 276، ومغني المحتاج 4 / 175، والقليوبي وعميرة 4 / 196.
(2) بدائع الصنائع 7 / 80، والجامع لأحكام القرآن 6 / 399، والقليوبي وعميرة 4 / 196، وكشاف القناع 6 / 135، وحاشية البجيرمي على شرح المنهج 4 / 234.

(24/297)


لِغَيْرِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ أَخَذَهُ دُونَ عِلْمِ مَالِكِهِ وَدُونَ رِضَاهُ. وَعَلَى ذَلِكَ لاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ أَخَذَ مَالاً وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ أَوْ مَتْرُوكٌ. وَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمُؤَجِّرِ الَّذِي يَأْخُذُ الْعَيْنَ الَّتِي آجَرَهَا، وَلاَ عَلَى الْمُودِعِ الَّذِي يَأْخُذُ الْوَدِيعَةَ دُونَ رِضَا الْوَدِيعِ (1) .
ج - أَنْ تَنْصَرِفَ نِيَّةُ الآْخِذِ إِلَى تَمَلُّكِ مَا أَخَذَهُ، وَلِهَذَا لاَ يُقَامُ حَدُّ السَّرِقَةِ عَلَى مَنْ أَخَذَ مَالاً مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ دُونَ أَنْ يَقْصِدَ تَمَلُّكَهُ، كَأَنْ أَخَذَهُ لِيَسْتَعْمِلَهُ ثُمَّ يَرُدَّهُ، أَوْ أَخَذَهُ عَلَى سَبِيل الدُّعَابَةِ، أَوْ أَخَذَهُ لِمُجَرَّدِ الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ، أَوْ أَخَذَهُ مُعْتَقِدًا أَنَّ مَالِكَهُ يَرْضَى بِأَخْذِهِ، مَا دَامَتِ الْقَرَائِنُ تَدُل عَلَى ذَلِكَ، وَمِنَ الْقَرَائِنِ الَّتِي تَدُل عَلَى نِيَّةِ التَّمَلُّكِ، إِخْرَاجُ الْمَال مِنَ الْحِرْزِ لِغَيْرِ مَا سَبَقَ، بِحَيْثُ يُعْتَبَرُ سَارِقًا لِتَوَافُرِ قَصْدِ التَّمَلُّكِ حِينَئِذٍ وَلَوْ أَتْلَفَهُ بِمُجَرَّدِ إِخْرَاجِهِ - أَمَّا لَوْ أُتْلِفَ دَاخِل الْحِرْزِ فَلاَ تَظْهَرُ نِيَّةُ التَّمَلُّكِ، وَلِهَذَا لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ (2) .
د - لاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ إِلاَّ إِذَا كَانَ مُخْتَارًا فِيمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا انْعَدَمَ الْقَصْدُ وَسَقَطَ الْحَدُّ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ السَّرِقَةَ تُبَاحُ بِالإِْكْرَاهِ؛ لأَِنَّ الإِْكْرَاهَ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ
__________
(1) فتح القدير 4 / 231، والقوانين الفقهية ص 360، والمهذب 2 / 277، والمغني 9 / 83.
(2) فتح القدير 4 / 230 وما بعدها، وتبصرة الحكام 2 / 353، المهذب 2 / 277، ومنتهى الإرادات 2 / 480.

(24/298)


بِالشُّبُهَاتِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (1) . وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الإِْكْرَاهَ الَّذِي يَرْفَعُ الإِْثْمَ وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ هُوَ مَا يَكُونُ فِي جَانِبِ الأَْقْوَال (2) ، وَأَمَّا الإِْكْرَاهُ عَلَى الأَْفْعَال فَفِي حُكْمِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِكْرَاهٍ) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ 6 98 - 112

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: عَدَمُ الاِضْطِرَارِ أَوِ الْحَاجَةِ:
14 - أ - الاِضْطِرَارُ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ، وَالضَّرُورَةُ تُبِيحُ لِلآْدَمِيِّ أَنْ يَتَنَاوَل مِنْ مَال الْغَيْرِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ لِيَدْفَعَ الْهَلاَكَ عَنْ نَفْسِهِ (3) ، فَمَنْ سَرَقَ لِيَرُدَّ جُوعًا أَوْ عَطَشًا مُهْلِكًا فَلاَ عِقَابَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (4) ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ قَطْعَ فِي زَمَنِ الْمَجَاعِ (5) .
__________
(1) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 659 - ط الحلبي) والحاكم (2 / 198 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس واللفظ لابن ماجه. وصحح الحاكم إسناده ووافقه الذهبي.
(2) بدائع الصنائع 7 / 179، وحاشية الدسوقي 4 / 344، ونهاية المحتاج 7 / 440، والمغني 8 / 217، وأحكام القرآن لابن العربي 3 / 117، والمهذب 2 / 177، وزاد المعاد 4 / 38.
(3) المبسوط 9 / 140، والمهذب 2 / 282.
(4) سورة البقرة / 173.
(5)) المبسوط 9 / 140. وحديث: " لا قطع في زمن المجاع " أخرجه الخطيب في تاريخه (6 / 261 ط السعادة بمصر) من حديث أبي أمامة، وضعفه السيوطي في الجامع الصغير (فيض القدير. ط التجارية الكبرى) .

(24/298)


ب - وَالْحَاجَةُ أَقَل مِنَ الضَّرُورَةِ، فَهِيَ كُل حَالَةٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حَرَجٌ شَدِيدٌ وَضِيقٌ بَيِّنٌ، وَلِذَا فَإِنَّهَا تَصْلُحُ شُبْهَةً لِدَرْءِ الْحَدِّ، وَلَكِنَّهَا لاَ تَمْنَعُ الضَّمَانَ وَالتَّعْزِيرَ.
مِنْ أَجْل ذَلِكَ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ قَطْعَ بِالسَّرِقَةِ عَامَ الْمَجَاعَةِ (1) ، وَفِي ذَلِكَ يَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: " وَهَذِهِ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنِ الْمُحْتَاجِ، وَهِيَ أَقْوَى مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الشُّبَهِ الَّتِي يَذْكُرُهَا كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، لاَ سِيَّمَا وَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي مُغَالَبَةِ صَاحِبِ الْمَال عَلَى أَخْذِ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ. وَعَامُ الْمَجَاعَةِ يَكْثُرُ فِيهِ الْمَحَاوِيجُ وَالْمُضْطَرُّونَ، وَلاَ يَتَمَيَّزُ الْمُسْتَغْنِي مِنْهُمْ وَالسَّارِقُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ مِنْ غَيْرِهِ، فَاشْتَبَهَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِمَنْ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ فَدُرِئَ " (2) .
وَقَدْ حَدَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِقْدَارَ الَّذِي يَكْفِي حَاجَةَ الْمُضْطَرِّ بِقَوْلِهِ: كُل وَلاَ تَحْمِل، وَاشْرَبْ وَلاَ تَحْمِل (3) ، وَذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الرَّدِّ عَلَى مَنْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 176، والقليوبي وعميرة 4 / 162، والمغني 9 / 4.
(2) إعلام الموقعين 3 / 23.
(3) حديث: " كل ولا تحمل، واشرب ولا تحمل ". أخرجه ابن ماجه (2 / 773 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وضعفه البوصيري في الزوائد 3 / 39 ط دار العربية.

(24/299)


سَأَل أَرَأَيْتَ إِنِ احْتَجَّنَا إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؟

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: انْتِفَاءُ الْقَرَابَةِ بَيْنَ السَّارِقِ وَالْمَسْرُوقِ مِنْهُ:
15 - قَدْ يَكُونُ السَّارِقُ أَصْلاً لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ، كَمَا قَدْ يَكُونُ فَرْعًا لَهُ، وَقَدْ تَقُومُ بَيْنَهُمَا صِلَةُ قَرَابَةٍ أُخْرَى، وَقَدْ تَرْبِطُ بَيْنَهُمَا رَابِطَةُ الزَّوْجِيَّةِ، وَحُكْمُ إِقَامَةِ الْحَدِّ يَخْتَلِفُ فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْحَالاَتِ:
أ - سَرِقَةُ الأَْصْل مِنَ الْفَرْعِ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْوَالِدِ مِنْ مَال وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَل؛ لأَِنَّ لِلسَّارِقِ شُبْهَةَ حَقٍّ فِي مَال الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَدُرِئَ الْحَدُّ. وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ جَاءَ يَشْتَكِي أَبَاهُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالَهُ: أَنْتَ وَمَالُكَ لأَِبِيكَ (1) ، وَاللاَّمُ هُنَا لِلإِْبَاحَةِ لاَ لِلتَّمْلِيكِ. فَإِنَّ مَال الْوَلَدِ لَهُ، وَزَكَاتَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَوْرُوثٌ عَنْهُ (2) .
ب - سَرِقَةُ الْفَرْعِ مِنَ الأَْصْل: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لاَ قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْوَلَدِ مِنْ مَال أَبِيهِ وَإِنْ عَلاَ،
__________
(1) حديث: " أنت ومالك لأبيك ". أخرجه ابن ماجه (2 / 769 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله. وقال البوصيري في " الزوائد ": إسناده صحيح، ورجاله ثقات على شرط البخاري.
(2) بدائع الصنائع 7 / 70، وبداية المجتهد 2 / 490، والقليوبي وعميرة 4 / 188، وكشاف القناع 6 / 114، ونيل الأوطار 6 / 14 - 15.

(24/299)


لِوُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ فِي مَال وَالِدِهِ؛ وَلأَِنَّهُ يَرِثُ مَالَهُ، وَلَهُ حَقُّ دُخُول بَيْتِهِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا شُبُهَاتٌ تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ لاَ يَرَوْنَ فِي عَلاَقَةِ الاِبْنِ بِأَبِيهِ شُبْهَةً تَدْرَأُ عَنْهُ حَدَّ السَّرِقَةِ، وَلِذَلِكَ يُوجِبُونَ إِقَامَةَ الْحَدِّ فِي سَرِقَةِ الْفُرُوعِ مِنَ الأُْصُول (1) .
ج - سَرِقَةُ الأَْقَارِبِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ:
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ سَرِقَةَ الأَْقَارِبِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ لَيْسَتْ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنِ السَّارِقِ، وَلِهَذَا أَوْجَبُوا الْقَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ مَال أَخِيهِ أَوْ أُخْتِهِ أَوْ عَمِّهِ أَوْ عَمَّتِهِ أَوْ خَالِهِ أَوْ خَالَتِهِ، أَوِ ابْنِ أَوْ بِنْتِ أَحَدِهِمْ، أَوْ أُمِّهِ أَوْ أُخْتِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَوِ امْرَأَةِ أَبِيهِ أَوْ زَوْجِ أُمِّهِ، أَوِ ابْنِ امْرَأَتِهِ أَوْ بِنْتِهَا أَوْ أُمِّهَا، حَيْثُ لاَ يُبَاحُ الاِطِّلاَعُ عَلَى الْحِرْزِ، وَلاَ تُرَدُّ شَهَادَةُ بَعْضِ هَؤُلاَءِ لِلْبَعْضِ الآْخَرِ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لاَ قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، كَالأَْخِ وَالأُْخْتِ وَالْعَمِّ وَالْعَمَّةِ وَالْخَال وَالْخَالَةِ؛ لأَِنَّ دُخُول بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ دُونَ إِذْنٍ عَادَةً يُعْتَبَرُ شُبْهَةً تُسْقِطُ الْحَدَّ؛ وَلأَِنَّ
__________
(1) فتح القدير 4 / 238، والفتاوى الهندية 2 / 181، والخرشي على خليل 8 / 96، والدسوقي 4 / 337، وشرح الزرقاني 8 / 98، والمدونة 6 / 276، ومغني المحتاج 4 / 162، والمهذب 2 / 166، ونهاية المحتاج 7 / 23، وشرح منتهى الإرادات 3 / 371، وكشاف القناع 6 / 114، والمغني 10 / 286.

(24/300)


قَطْعَ أَحَدِهِمْ بِسَبَبِ سَرِقَتِهِ مِنَ الآْخَرِ يُفْضِي إِلَى قَطْعِ الرَّحِمِ وَهُوَ حَرَامٌ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ: مَا أَفْضَى إِلَى الْحَرَامِ فَهُوَ حَرَامٌ. أَمَّا مَنْ سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ غَيْرِ مَحْرَمٍ كَابْنِ الْعَمِّ أَوْ بِنْتِ الْعَمِّ، وَابْنِ الْعَمَّةِ أَوْ بِنْتِ الْعَمَّةِ، وَابْنِ الْخَال أَوْ بِنْتِ الْخَال، وَابْنِ الْخَالَةِ أَوْ بِنْتِ الْخَالَةِ، فَيُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ لأَِنَّهُمْ لاَ يَدْخُل بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ عَادَةً، فَالْحِرْزُ كَامِلٌ فِي حَقِّهِمْ. وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي سَرِقَةِ الْمَحَارِمِ غَيْرِ ذَوِي الرَّحِمِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ كَالأُْمِّ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَالأُْخْتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ، أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَلاَ يَرَى أَنْ يُقَامَ الْحَدُّ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ مَال أُمِّهِ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ؛ لأَِنَّهُ يَدْخُل بَيْتَهَا دُونَ إِذْنٍ عَادَةً، فَلَمْ يَكْتَمِل الْحِرْزُ (1) .
د - السَّرِقَةُ بَيْنَ الأَْزْوَاجِ: اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ إِذَا سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ مَال الآْخَرِ وَكَانَتِ السَّرِقَةُ مِنْ حِرْزٍ قَدِ اشْتَرَكَا فِي سُكْنَاهُ، لاِخْتِلاَل شَرْطِ الْحِرْزِ، وَلِلاِنْبِسَاطِ بَيْنَهُمَا فِي الأَْمْوَال عَادَةً؛ وَلأَِنَّ بَيْنَهُمَا سَبَبًا يُوجِبُ التَّوَارُثَ بِغَيْرِ حَجْبٍ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 75، والفتاوى الهندية 2 / 181، وفتح القدير 4 / 239.
(2) بدائع الصنائع 5 / 75، والشرح الكبير للدردير 4 / 340، والزرقاني 8 / 98، والقليوبي وعميرة 4 / 188، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 268، وكشاف القناع 6 / 114، ورحمة الأمة ص 144.

(24/300)


16 - أَمَّا إِذَا كَانَتِ السَّرِقَةُ مِنْ حِرْزٍ لَمْ يَشْتَرِكَا فِي سُكْنَاهُ، أَوِ اشْتَرَكَا فِي سُكْنَاهُ وَلَكِنَّ أَحَدَهُمَا مَنَعَ مِنَ الآْخَرِ مَالاً أَوْ حَجَبَهُ عَنْهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ السَّرِقَةِ مِنْهُ: فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الرَّاجِحَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِمَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الاِنْبِسَاطِ فِي الأَْمْوَال عَادَةً وَدَلاَلَةً، وَقِيَاسًا عَلَى الأُْصُول وَالْفُرُوعِ لأَِنَّ بَيْنَهُمَا سَبَبًا يُوجِبُ التَّوَارُثَ مِنْ غَيْرِ حَجْبٍ (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَإِنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْحَدَّ عَلَى السَّارِقِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لِعُمُومِ آيَةِ السَّرِقَةِ؛ لأَِنَّ الْحِرْزَ هُنَا تَامٌّ، وَرُبَّمَا لاَ يَبْسُطُ أَحَدُهُمَا لِلآْخَرِ فِي مَالِهِ، فَأَشْبَهَ سَرِقَةَ الأَْجْنَبِيِّ.
وَهُنَاكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ: وُجُوبُ قَطْعِ الزَّوْجِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَال زَوْجَتِهِ مَا هُوَ مُحْرَزٌ عَنْهُ وَلاَ تُقْطَعُ الزَّوْجَةُ إِذَا سَرَقَتْ مِنْ مَال زَوْجِهَا وَلَوْ كَانَ مُحْرَزًا عَنْهَا، لأَِنَّ الزَّوْجَةَ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ عَلَى زَوْجِهَا، فَصَارَ لَهَا شُبْهَةٌ تَدْرَأُ عَنْهَا الْحَدَّ، بِخِلاَفِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 75، وفتح القدير 4 / 239 - 240، والفتاوى الهندية 2 / 181، والمدونة الكبرى 16 / 76 - 77، وشرح الزرقاني 8 / 100، وبداية المجتهد 2 / 377، والقليوبي وعميرة 4 / 188، ومغني المحتاج 4 / 162، ونهاية المحتاج 7 / 424، ومختصر المزني بهامش الأم 5 / 172، والمهذب 2 / 281، وشرح منتهى الإرادات 3 / 371، والمغني 10 / 287.

(24/301)


الزَّوْجِ فَلاَ تَقُومُ بِهِ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِهَا الْمُحْرَزِ عَنْهُ.
17 - هَذَا هُوَ حُكْمُ السَّرِقَةِ بَيْنَ الأَْزْوَاجِ مَا دَامَتِ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً. فَلَوْ وَقَعَ الطَّلاَقُ وَانْقَضَتِ الْعِدَّةُ صَارَا أَجْنَبِيَّيْنِ وَوَجَبَ قَطْعُ السَّارِقِ. أَمَّا السَّرِقَةُ أَثْنَاءَ الْعِدَّةِ مِنَ الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ فَتَأْخُذُ حُكْمَ السَّرِقَةِ بَيْنَ الأَْزْوَاجِ؛ لِبَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ الْعِدَّةُ. فَإِنْ وَقَعَتِ السَّرِقَةُ أَثْنَاءَ الْعِدَّةِ مِنَ الطَّلاَقِ الْبَائِنِ أُقِيمَ الْحَدُّ، عَلَى رَأْيِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لاِنْتِهَاءِ الزَّوْجِيَّةِ. وَلَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَذْهَبُ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى أَيٍّ مِنْهُمَا بِسَرِقَةِ مَال الآْخَرِ؛ لِبَقَاءِ الْحَبْسِ فِي الْعِدَّةِ وَوُجُوبِ السُّكْنَى، فَبَقِيَ أَثَرُ النِّكَاحِ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ.
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ قِيَامَ الزَّوْجِيَّةِ بَعْدَ السَّرِقَةِ لاَ أَثَرَ لَهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَدِّ؛ لأَِنَّ السَّرِقَةَ تَمَّتْ بَيْنَ أَجْنَبِيَّيْنِ. وَلاَ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ إِلاَّ الْحَنَفِيَّةُ، فَعِنْدَهُمْ: لَوْ سَرَقَ مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْل أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ الزَّوَاجَ مَانِعٌ طَرَأَ عَلَى الْحَدِّ، وَالْمَانِعُ الطَّارِئُ لَهُ حُكْمُ الْمَانِعِ الْمُقَارِنِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْحَدِّ وَقَبْل تَنْفِيذِهِ؛ لأَِنَّ الإِْمْضَاءَ فِي الْحُدُودِ مِنْ تَمَامِ الْقَضَاءِ، فَكَانَتِ الشُّبْهَةُ مَانِعَةً مِنَ الإِْمْضَاءِ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 76، فتح القدير 4 / 240، والفتاوى الهندية 2 / 182.

(24/301)


الشَّرْطُ الْخَامِسُ: انْتِفَاءُ شُبْهَةِ اسْتِحْقَاقِهِ الْمَال:
18 - إِذَا كَانَ لِلسَّارِقِ شُبْهَةُ مِلْكٍ أَوِ اسْتِحْقَاقٍ فِي الْمَال الْمَسْرُوقِ، فَلاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ كَانَ شَرِيكًا فِي الْمَال الْمَسْرُوقِ، أَوْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَال، أَوْ مِنْ مَالٍ مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، أَوْ سَرَقَ مِنْ مَال مَدِينِهِ، أَوْ مَا شَابَهَ ذَلِكَ.
19 - أ - سَرِقَةُ الشَّرِيكِ مِنْ مَال الشَّرِكَةِ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ سَرِقَةِ الشَّرِيكِ مِنَ الْمَال الْمُشْتَرَكِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ؛ لأَِنَّ لِلسَّارِقِ حَقًّا فِي هَذَا الْمَال، فَكَانَ هَذَا الْحَقُّ شُبْهَةً تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى إِيجَابِ الْقَطْعِ إِنْ تَحَقَّقَ شَرْطَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَال فِي غَيْرِ الْحِرْزِ الْمُشْتَرَكِ، كَأَنْ يَكُونَ الشَّرِيكَانِ قَدْ أَوْدَعَاهُ عِنْدَ غَيْرِهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَال مَحْجُوبًا عَنْهُمَا وَسَرَقَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ فَلاَ يَجُوزُ الْقَطْعُ.
وَالشَّرْطُ الآْخَرُ: أَنْ يَكُونَ فِيمَا سَرَقَ مِنْ حِصَّةِ صَاحِبِهِ فَضْلٌ عَنْ جَمِيعِ حِصَّتِهِ رُبُعُ دِينَارٍ فَصَاعِدًا.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي سَرِقَةِ الشَّرِيكِ مِنْ مَال الشَّرِكَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 76، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 3 / 18.

(24/302)


قَوْلاَنِ: الرَّاجِحُ مِنْهُمَا أَنْ لاَ قَطْعَ، وَالْقَوْل الآْخَرُ إِيجَابُ الْقَطْعِ؛ لأَِنَّهُ لاَ حَقَّ لِلشَّرِيكِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ، فَإِذَا سَرَقَ نِصْفَ دِينَارٍ مِنَ الْمَال الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ كَانَ سَارِقًا لِنِصَابٍ مِنْ مَال شَرِيكِهِ فَيُقْطَعُ بِهِ (1) .
20 - ب - السَّرِقَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَال: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَال، إِذَا كَانَ السَّارِقُ مُسْلِمًا، غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا؛ لأَِنَّ لِكُل مُسْلِمٍ حَقًّا فِي بَيْتِ الْمَال، فَيَكُونُ هَذَا الْحَقُّ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنْهُ، كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ مَالٍ لَهُ فِيهِ شَرِكَةٌ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَسْأَلُهُ عَمَّنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَال، فَقَال: أَرْسِلْهُ، فَمَا مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَلَهُ فِي هَذَا الْمَال حَقٌّ.
وَيُوجِبُ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الرَّأْيُ الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ مِنْ بَيْتِ الْمَال، لِعُمُومِ نَصِّ الآْيَةِ، وَضَعْفِ الشُّبْهَةِ، لأَِنَّهُ سَرَقَ مَالاً مِنْ حِرْزٍ لاَ شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ فِي عَيْنِهِ، وَلاَ حَقَّ لَهُ فِيهِ قَبْل حَاجَتِهِ إِلَيْهِ.
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ لِلسَّرِقَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَال بَيْنَ أَنْوَاعٍ ثَلاَثَةٍ (2) :
__________
(1)) المدونة 4 / 418، والقليوبي وعميرة 4 / 188، وكشاف القناع 6 / 142، وشرح منتهى الإرادات 2 / 286.
(2) ابن عابدين 3 / 208، والمبسوط 9 / 188، وفتح القدير 5 / 376، وبداية المجتهد 2 / 413، وحاشية الدسوقي 4 / 337، وشرح الخرشي 8 / 96، والمدونة 6 / 295، والقليوبي وعميرة 4 / 188، ومغني المحتاج 4 / 163، والمهذب 2 / 281.

(24/302)


1 - إِنْ كَانَ الْمَال مُحْرَزًا لِطَائِفَةٍ هُوَ مِنْهَا أَوْ أَحَدُ أُصُولِهِ أَوْ فُرُوعِهِ مِنْهَا، فَلاَ قَطْعَ لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ، حَتَّى وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سَهْمٌ مُقَدَّرٌ.
2 - وَإِنْ كَانَ الْمَال مُحْرَزًا لِطَائِفَةٍ لَيْسَ هُوَ وَلاَ أَحَدُ أُصُولِهِ أَوْ فُرُوعِهِ مِنْهَا، وَجَبَ قَطْعُهُ لِعَدَمِ الشُّبْهَةِ الدَّارِئَةِ لِلْحَدِّ.
3 - وَإِنْ كَانَ الْمَال غَيْرَ مُحْرَزٍ لِطَائِفَةٍ بِعَيْنِهَا، فَالأَْصَحُّ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ فِي الْمَسْرُوقِ، كَمَال الْمُصَالِحِ وَمَال الصَّدَقَةِ وَهُوَ فَقِيرٌ أَوْ فِي حُكْمِهِ كَالْغَارِمِ وَالْغَازِي وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، فَلاَ قَطْعَ لِلشُّبْهَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ قُطِعَ؛ لاِنْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ (1) .
21 - ج - السَّرِقَةُ مِنَ الْمَال الْمَوْقُوفِ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ سَرِقَةِ الْمَال الْمَوْقُوفِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنَ الْمَال الْمَوْقُوفِ؛ لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ وَقْفًا عَامًّا فَإِنَّهُ يَأْخُذُ حُكْمَ بَيْتِ الْمَال، وَإِنْ كَانَ وَقْفًا خَاصًّا عَلَى قَوْمٍ مَحْصُورِينَ فَلِعَدَمِ الْمَالِكِ حَقِيقَةً، سَوَاءٌ كَانَ السَّارِقُ مِنْهُمْ أَوْ لاَ. وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ السَّارِقَ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَاخِلاً فِيمَنْ وُقِفَ الْمَال
__________
(1) كشاف القناع 6 / 142، وشرح منتهى الإرادات 3 / 371، والقواعد الكبرى لابن رجب ص 312، والمغني والشرح الكبير 10 / 287.

(24/303)


عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بِطَلَبِ مُتَوَلِّي الْوَقْفِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ الْوَقْفَ يَبْقَى عِنْدَهُمْ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ حَقِيقَةً.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنَ الْمَال الْمَوْقُوفِ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَقْفُ عَامًّا أَوْ خَاصًّا، سَوَاءٌ أَكَانَ السَّارِقُ مِمَّنْ وُقِفَ الْمَال عَلَيْهِمْ أَمْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ لأَِنَّ تَحْرِيمَ بَيْعِ مَال الْوَقْفِ يُقَوِّي جَانِبَ الْمِلْكِ فِيهِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْوَقْفِ الْعَامِّ فَلاَ يُقْطَعُ سَارِقُهُ، وَبَيْنَ الْوَقْفِ الْخَاصِّ، فَلاَ يُقْطَعُ سَارِقُهُ إِنْ كَانَ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِهِ.
وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ فَعِنْدَهُمْ آرَاءٌ ثَلاَثَةٌ (1) :
1 - ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ يُقْطَعُ؛ لأَِنَّ تَحْرِيمَ بَيْعِهِ يُقَوِّي جَانِبَ الْمِلْكِ فِيهِ.
2 - لاَ يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ هَذَا الْمَال؛ لأَِنَّهُ لاَ مَالِكَ لَهُ.
3 - إِنْ قِيل: إِنَّ الْمَوْقُوفَ مَمْلُوكُ الرَّقَبَةِ، قُطِعَ سَارِقُهُ. وَإِنْ قِيل: إِنَّهَا لاَ تُمْلَكُ، فَلاَ قَطْعَ؛ لأَِنَّ مَا لاَ يُمْلَكُ فِي حُكْمِ الْمُبَاحِ وَإِنْ لَمْ يُسْتَبَحْ.
وَيَذْهَبُ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنَ الْوَقْفِ الْعَامِّ، أَوْ مَنْ يَسْرِقُ مِنَ الْوَقْفِ الْخَاصِّ إِذَا كَانَ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِهِ، لِوُجُودِ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 206، والمنتقى بشرح الموطأ 7 / 163، ومغني المحتاج 4 / 163، 164، ونهاية المحتاج 7 / 447.

(24/303)


شُبْهَةٍ تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنْهُ. أَمَّا مَنْ يَسْرِقُ مِنْ مَال الْوَقْفِ الْخَاصِّ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ، فَفِي حُكْمِهِ رِوَايَتَانِ: أَشْهَرُهُمَا: إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ لِبَقَاءِ الْوَقْفِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ. وَالأُْخْرَى: لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْمٍ مَحْصُورِينَ لَيْسَ لَهُ مَالِكٌ حَقِيقَةً (1) .
22 - د - السَّرِقَةُ مِنْ مَال الْمَدِينِ: إِذَا سَرَقَ الدَّائِنُ مِنْ مَال مَدِينِهِ فَفِي وُجُوبِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
يُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ حَالَتَيْنِ: أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ.
1 - فَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، فَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ؛ لأَِنَّ لِلدَّائِنِ أَنْ يَأْخُذَ جِنْسَ دَيْنِهِ مِنْ مَال الْمَدِينِ، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا أَمْ مُؤَجَّلاً، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَدِينُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ بَاذِلاً لَهُ، أَمْ كَانَ جَاحِدًا لَهُ مُمَاطِلاً فِيهِ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، إِذْ أَطْلَقَ الْقَطْعَ بِسَرِقَةِ مَال الْغَرِيمِ؛ لأَِنَّ السَّارِقَ يَأْخُذُ مَالاً لاَ يَمْلِكُهُ، وَالْغَرِيمُ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
2 - وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسْرُوقُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، بِأَنْ كَانَ الدَّيْنُ دَنَانِيرَ فَسَرَقَ عُرُوضًا، وَجَبَ إِقَامَةُ
__________
(1) الروض المربع 3 / 328، والمغني والشرح الكبير 10 / 288.

(24/304)


الْحَدِّ؛ لِضَرُورَةِ التَّرَاضِي فِي الْمُعَاوَضَاتِ؛ وَلاِخْتِلاَفِ الْقِيَمِ بِاخْتِلاَفِ الأَْغْرَاضِ. إِلاَّ إِذَا ادَّعَى السَّارِقُ أَنَّهُ أَخَذَهُ رَهْنًا بِحَقِّهِ، فَلاَ يُقْطَعُ، لِوُجُودِ شُبْهَةٍ تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ، حَيْثُ إِنَّهُ اعْتَبَرَ الْمَعْنَى - وَهِيَ الْمَالِيَّةُ لاَ الصُّورَةُ - وَالأَْمْوَال كُلُّهَا فِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ مُتَجَانِسَةً، فَكَانَ أَخْذًا عَنْ تَأْوِيلٍ فَلاَ يُقْطَعُ.
وَيُفَرِّقُ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ حَالَتَيْنِ:
1 - أَنْ يَكُونَ الْمَدِينُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ عَنْ أَدَائِهِ مَتَى حَل أَجَلُهُ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الدَّائِنِ إِذَا سَرَقَ مِقْدَارَ دَيْنِهِ أَوْ أَكْثَرَ لِعَدَمِ وُجُودِ شُبْهَةٍ، إِذْ إِنَّهُ يَسْتَطِيعُ الْحُصُول عَلَى حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْرِقَ.
2 - أَنْ يَكُونَ الْمَدِينُ جَاحِدًا لِلدَّيْنِ أَوْ مُمَاطِلاً فِيهِ: فَلاَ قَطْعَ عَلَى الدَّائِنِ إِنْ سَرَقَ قَدْرَ دَيْنِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ جِنْسِهِ أَمْ لاَ. فَإِنْ أَخَذَ أَكْثَرَ مِنْ دَيْنِهِ بِمَا يَبْلُغُ نِصَابًا، قُطِعَ (1) لِتَعَدِّيهِ بِأَخْذِ مَا لَيْسَ مِنْ حَقِّهِ.
وَيَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ:
1 - إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ إِذَا كَانَ الْمَدِينُ مَلِيئًا غَيْرَ جَاحِدٍ لِلدَّيْنِ، أَوْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلاً وَلَمْ يَحِل أَجَلُهُ، إِذْ لاَ شُبْهَةَ لَهُ حِينَئِذٍ.
2 - عَدَمُ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الدَّائِنِ إِذَا كَانَ الْمَدِينُ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 72، وفتح القدير 5 / 377، وابن عابدين 4 / 94، 95، وحاشية الدسوقي 4 / 337، والزرقاني 2 / 98، ومنح الجليل 4 / 526.

(24/304)


جَاحِدًا أَوْ مُمَاطِلاً وَالدَّيْنُ حَالٌّ، سَوَاءٌ أَخَذَ الدَّائِنُ مِقْدَارَ دَيْنِهِ أَوْ أَكْثَرَ؛ لأَِنَّهُ إِنْ أَخَذَ مِقْدَارَ دَيْنِهِ فَهُوَ مَأْذُونٌ فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، وَإِنْ أَخَذَ أَكْثَرَ لاَ يَقْطَعُ؛ لأَِنَّ الْمَال لَمْ يَبْقَ مُحْرَزًا عَنْهُ مَا دَامَ قَدْ أُبِيحَ لَهُ الدُّخُول لاِسْتِيفَاءِ حَقِّهِ.
وَيُفَرِّقُ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ ثَلاَثِ حَالاَتٍ:
1 - إِنْ كَانَ الْمَدِينُ بَاذِلاً غَيْرَ مُمْتَنِعٍ عَنْ أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ، ثُمَّ تَرَكَ الدَّائِنُ مُطَالَبَتَهُ، وَعَمَدَ إِلَى سَرِقَةِ حَقِّهِ، وَجَبَ قَطْعُهُ إِنْ بَلَغَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا، إِذْ لاَ شُبْهَةَ لَهُ فِي الأَْخْذِ مَا دَامَ الْوُصُول إِلَى حَقِّهِ مَيْسُورًا.
2 - وَإِنْ عَجَزَ الدَّائِنُ عَنِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فَسَرَقَ قَدْرَ دَيْنِهِ فَلاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لأَِنَّ اخْتِلاَفَ الْفُقَهَاءِ فِي إِبَاحَةِ أَخْذِهِ حَقَّهُ يُورِثُ شُبْهَةً تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ، كَالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ.
3 - وَإِنْ عَجَزَ رَبُّ الدَّيْنِ عَنِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فَأَخَذَ مِنْ مَال مَدِينِهِ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ، وَبَلَغَتِ الزِّيَادَةُ نِصَابًا: فَإِنْ أَخَذَ الزَّائِدَ مِنْ نَفْسِ الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ مَالُهُ، فَلاَ قَطْعَ؛ لأَِنَّ هَتْكَ الْحِرْزِ لأَِخْذِ مَالِهِ جَعَل الْمَكَانَ غَيْرَ مُحْرَزٍ بِالنِّسْبَةِ لِكُل مَا فِيهِ. وَإِنْ أَخَذَ الزَّائِدَ مِنْ غَيْرِ الْحِرْزِ الَّذِي فِيهِ مَالُهُ وَجَبَ الْقَطْعُ؛ لِعَدَمِ الشُّبْهَةِ (1) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 162، والمهذب 2 / 282، وشرح منتهى الإرادات 3 / 371، وكشاف القناع 6 / 143.

(24/305)


الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمَسْرُوقُ مِنْهُ:
23 - الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ السَّرِقَةِ وُجُودُ مَسْرُوقٍ مِنْهُ؛ لأَِنَّ الْمَسْرُوقَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا، بِأَنْ كَانَ مُبَاحًا أَوْ مَتْرُوكًا، فَلاَ يُعَاقَبُ مَنْ يَأْخُذُهُ. وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يَشْتَرِطُونَ فِي الْمَسْرُوقِ مِنْهُ لِكَيْ تَكْتَمِل السَّرِقَةُ: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وَأَنْ تَكُونَ يَدُهُ صَحِيحَةً عَلَى الْمَال الْمَسْرُوقِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْصُومَ الْمَال، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ هَذِهِ الشُّرُوطِ:

الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مَعْلُومًا:
23 م - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) (1) إِلَى دَرْءِ الْحَدِّ عَنِ السَّارِقِ إِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مَجْهُولاً، بِأَنْ ثَبَتَتِ السَّرِقَةُ وَلَمْ يُعْرَفْ مَنْ هُوَ صَاحِبُ الْمَال الْمَسْرُوقِ؛ لأَِنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ تَتَوَقَّفُ عَلَى دَعْوَى الْمَالِكِ أَوْ مَنْ فِي حُكْمِهِ، وَلاَ تَتَحَقَّقُ الدَّعْوَى مَعَ الْجَهَالَةِ. غَيْرَ أَنَّ هَذَا لاَ يَمْنَعُ مِنْ حَبْسِ السَّارِقِ حَتَّى يَحْضُرَ مَنْ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ وَيَدَّعِيَ مِلْكِيَّةَ الْمَال.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ مَتَى ثَبَتَتِ السَّرِقَةُ، دُونَ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولاً؛ لأَِنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ
__________
(1) البحر الرائق 5 / 68، وبدائع الصنائع 7 / 81، والأم 6 / 141، وحاشية البجيرمي على شرح المنهج 4 / 236، وشرح منتهى الإرادات 3 / 372، وكشاف القناع 6 / 118.

(24/305)


عِنْدَهُمْ لاَ تَتَوَقَّفُ عَلَى خُصُومَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ (1) .

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ عَلَى الْمَسْرُوقِ:
24 - بِأَنْ يَكُونَ مَالِكًا لَهُ أَوْ وَكِيل الْمَالِكِ أَوْ مُضَارِبًا أَوْ مُودِعًا أَوْ مُسْتَعِيرًا أَوْ دَائِنًا مُرْتَهِنًا أَوْ مُسْتَأْجِرًا أَوْ عَامِل قِرَاضٍ أَوْ قَابِضًا عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، لأَِنَّ هَؤُلاَءِ يَنُوبُونَ مَنَابَ الْمَالِكِ فِي حِفْظِ الْمَال وَإِحْرَازِهِ، وَأَيْدِيهِمْ كَيَدِهِ.
فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ يَدُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ غَيْرَ صَحِيحَةٍ عَلَى الْمَال الْمَسْرُوقِ، كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ غَاصِبٍ أَوْ سَارِقٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ السَّارِقِ مِنَ الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ مِنَ السَّارِقِ. فَقَالُوا بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ مِنَ الْغَاصِبِ؛ لأَِنَّ يَدَهُ يَدُ ضَمَانٍ، فَهِيَ يَدٌ صَحِيحَةٌ، وَعَدَمُ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ مِنَ السَّارِقِ لأَِنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ يَدَ مِلْكٍ وَلاَ يَدَ أَمَانَةٍ وَلاَ يَدَ ضَمَانٍ، فَلاَ تَكُونُ يَدًا صَحِيحَةً.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ رَأْيٌ مَرْجُوحٌ لِلشَّافِعِيَّةِ - إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ مِنَ الْغَاصِبِ أَوِ السَّارِقِ
__________
(1) الأم 6 / 141، وبدائع الصنائع 7 / 81، والزيلعي 3 / 267، والمدونة الكبرى 16 / 68، وشرح الزرقاني 8 / 106.

(24/306)


مِنَ السَّارِقِ؛ لأَِنَّهُ سَرَقَ مَالاً مُحْرَزًا لاَ شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، ذَلِكَ أَنَّ يَدَ الْمَالِكِ لِهَذَا الْمَال لاَ تَزَال بَاقِيَةً عَلَيْهِ رَغْمَ سَرِقَتِهِ أَوْ غَصْبِهِ، أَمَّا يَدُ السَّارِقِ الأَْوَّل وَيَدُ الْغَاصِبِ فَلَيْسَ لَهُمَا أَيُّ أَثَرٍ (1) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ مِنَ الْغَاصِبِ، وَلاَ عَلَى السَّارِقِ مِنَ السَّارِقِ؛ لأَِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ لِتَمَامِ السَّرِقَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَال الْمَسْرُوقُ بِيَدِ الْمَالِكِ أَوْ نَائِبِهِ، وَمَنْ يَأْخُذُ مِنْ يَدٍ أُخْرَى فَكَأَنَّهُ وَجَدَ مَالاً ضَائِعًا فَأَخَذَهُ (2) .

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مَعْصُومَ الْمَال:
25 - بِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مُسْتَأْمَنًا أَوْ حَرْبِيًّا فَلاَ يُقْطَعُ سَارِقُهُ (3) ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
1 - سَرِقَةُ مَال الْمُسْلِمِ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَال الْمُسْلِمِ مَعْصُومٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لاِمْرِئٍ مِنْ مَال أَخِيهِ شَيْءٌ إِلاَّ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 71، وفتح القدير 4 / 242، وبداية المجتهد 2 / 415، وشرح الزرقاني 8 / 96، والمدونة 6 / 19، والمهذب 2 / 299، وأسنى المطالب 4 / 138، والمغني 9 / 188.
(2) كشاف القناع 6 / 140، والمغني 10 / 257.
(3) بدائع الصنائع 7 / 69، والمبسوط 6 / 181، والمدونة 6 / 270، والمهذب 2 / 256، والمغني والشرح الكبير 10 / 76.

(24/306)


مِنْهُ (1) . وَلِهَذَا وَجَبَ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى سَارِقِ مَال الْمُسْلِمِ سَوَاءٌ أَكَانَ السَّارِقُ مُسْلِمًا أَمْ ذِمِّيًّا. وَأَمَّا إِذَا كَانَ السَّارِقُ مُسْتَأْمَنًا فَفِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ آرَاءٌ سَبَقَ عَرْضُهَا (2) .
2 - سَرِقَةُ مَال الذِّمِّيِّ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الذِّمِّيِّ الَّذِي يَسْرِقُ مَال ذِمِّيٍّ آخَرَ؛ لأَِنَّ مَالَهُ مَعْصُومٌ إِزَاءَهُ. وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِقَامَةَ الْحَدِّ كَذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَال الذِّمِّيِّ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَهُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْنَا (3)
أَمَّا إِذَا كَانَ السَّارِقُ مُسْتَأْمَنًا فَفِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ آرَاءٌ سَبَقَ عَرْضُهَا (4) .
3 - سَرِقَةُ مَال الْمُسْتَأْمَنِ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - عَدَا زُفَرَ - وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْمُسْلِمِ إِذَا
__________
(1) حديث: " لا يحل لامرئ من مال أخيه شيء، إلا بطيب نفس منه ". أخرجه أحمد (3 / 423 ط الميمنية) والدارقطني (3 / 25 - 26 ط دار المحاسن) من حديث عمرو بن يثربي، وقال الهيثمي (مجمع الزوائد 4 / 171 نشر دار الكتاب العربي) : رواه أحمد وابنه من زياداته أيضًا، والطبراني في الكبير والأوسط، ورجال أحمد ثقات.
(2) انظر فيما سبق ف / 12.
(3) حديث: " لهم ما لنا وعليهم ما علينا ". أخرجه أبو عبيد (الأموال ص 31 ط دار الفكر) وابن زنجويه في كتاب الأموال (1288 ط مركز الملك فيصل للبحوث) مرسلاً عن عروة بن الزبير.
(4) انظر فيما سبق ف / 12.

(24/307)


سَرَقَ مِنْ مَال الْمُسْتَأْمَنِ؛ لأَِنَّ فِي مَالِهِ شُبْهَةَ الإِْبَاحَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَتِ الْعِصْمَةُ بِعَارِضِ أَمَانٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَال، أَيْ مُشْرِفٍ عَلَى الزَّوَال بِانْتِهَاءِ الأَْمَانِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِلَى أَنَّ مَال الْمُسْتَأْمَنِ مَعْصُومٌ، فَإِذَا سَرَقَ مِنْهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ.
4 - سَرِقَةُ مَال الْحَرْبِيِّ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَال الْحَرْبِيِّ هَدَرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، وَلِهَذَا لاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى أَيٍّ مِنْهُمَا إِذَا سَرَقَ مِنْ هَذَا الْمَال.

الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمَال الْمَسْرُوقُ:
26 - لاَ يُقَامُ حَدُّ السَّرِقَةِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمَال الْمَسْرُوقُ مُتَقَوِّمًا، وَأَنْ يَبْلُغَ نِصَابًا، وَأَنْ يَكُونَ مُحْرَزًا.
1 - أَنْ يَكُونَ مَالاً مُتَقَوِّمًا:
27 - لِلْفُقَهَاءِ فِي تَحْدِيدِ مَالِيَّةِ الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ آرَاءٌ تَتَّضِحُ فِيمَا يَأْتِي:
أ - الْحَنَفِيَّةُ:
28 - يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ، لإِِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ، أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَالاً، مُتَقَوِّمًا، مُتَمَوِّلاً، غَيْرَ مُبَاحِ الأَْصْل.
1 - أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَالاً: فَلَوْ سَرَقَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، كَالإِْنْسَانِ الْحُرِّ، فَلاَ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَسْرُوقُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا،

(24/307)


حَتَّى لَوْ كَانَ يَرْتَدِي ثِيَابًا غَالِيَةَ الثَّمَنِ أَوْ يَحْمِل حِلْيَةً تُسَاوِي نِصَابًا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ تَابِعٌ لِلصَّبِيِّ وَلاَ يَنْفَرِدُ بِحُكْمٍ خَاصٍّ.
وَخَالَفَ فِي هَذَا الْحُكْمِ أَبُو يُوسُفَ: فَإِنَّهُ يَرَى إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى سَارِقِ الصَّبِيِّ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ حُلِيٌّ أَوْ ثِيَابٌ تَبْلُغُ نِصَابًا؛ لأَِنَّهُ يَقْطَعُ بِسَرِقَةِ النِّصَابِ مُنْفَرِدًا، فَكَذَا إِذَا كَانَ مَعَ غَيْرِهِ.
2 - أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مُتَقَوِّمًا، أَيْ لَهُ قِيمَةٌ يَضْمَنُهَا مَنْ يُتْلِفُهُ: فَلَوْ سَرَقَ مَا لاَ قِيمَةَ لَهُ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ، كَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَآلاَتِ اللَّهْوِ وَالْكُتُبِ الْمُحَرَّمَةِ وَالصَّلِيبِ وَالصَّنَمِ، فَلاَ قَطْعَ عَلَيْهِ. وَخَالَفَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَرَى إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَنْ سَرَقَ صَلِيبًا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصَابًا إِذَا كَانَ فِي حِرْزِهِ كَمَا يَرَى إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَنْ سَرَقَ آنِيَةً فِيهَا خَمْرٌ، إِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الإِْنَاءِ وَحْدَهُ نِصَابًا.
3 - أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مُتَمَوَّلاً، بِأَنْ يَكُونَ غَيْرَ تَافِهٍ وَيُمْكِنُ ادِّخَارُهُ: فَأَمَّا إِنْ كَانَ تَافِهًا لاَ يَتَمَوَّلُهُ النَّاسُ لِعَدَمِ عِزَّتِهِ وَقِلَّةِ خَطَرِهِ، كَالتُّرَابِ وَالطِّينِ وَالتِّبْنِ وَالْقَصَبِ وَالْحَطَبِ وَنَحْوِهَا، فَلاَ قَطْعَ فِيهِ لأَِنَّ النَّاسَ لاَ يَضَنُّونَ بِهِ عَادَةً، إِلاَّ إِذَا أَخْرَجَتْهُ الصِّنَاعَةُ عَنْ تَفَاهَتِهِ، كَالْقَصَبِ يُصْنَعُ مِنْهُ النُّشَّابُ، فَفِي سَرِقَتِهِ الْقَطْعُ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 67 - 69، البحر الرائق 5 / 58، 59، فتح القدير 4 / 230 - 232، والفتاوى الهندية 2 / 177، 178.

(24/308)


وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ، فَإِنَّهُ يَرَى إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَنْ سَرَقَ مَالاً مُحْرَزًا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصَابًا، سَوَاءٌ أَكَانَ تَافِهًا أَمْ عَزِيزًا، إِلاَّ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ وَالطِّينَ وَالْجِصَّ وَالْمَعَازِفَ؛ لأَِنَّ كُل مَا جَازَ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ وَوَجَبَ ضَمَانُ غَصْبِهِ يُقْطَعُ سَارِقُهُ (1) .
وَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ كَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ ادِّخَارُهُ، بِأَنْ كَانَ مِمَّا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ فَأَوْجَبَ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، قِيَاسًا لِمَا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ عَلَى مَا لاَ يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُتَمَوَّل عَادَةً وَيُرْغَبُ فِيهِ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لاَ حَدَّ فِي سَرِقَةِ الثِّمَارِ الْمُعَلَّقَةِ فِي أَشْجَارِهَا، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الأَْشْجَارُ مُحَاطَةً بِمَا يَحْفَظُهَا مِنْ أَيْدِي الْغَيْرِ؛ لأَِنَّ الثَّمَرَ مَا دَامَ فِي شَجَرِهِ يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ.
أَمَّا إِذَا قُطِعَ الثَّمَرُ وَوُضِعَ فِي جَرِينٍ، ثُمَّ سُرِقَ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَحْكَمَ جَفَافُهُ فَفِيهِ الْقَطْعُ؛ لأَِنَّهُ صَارَ مُدَّخَرًا وَلاَ يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدِ اسْتَحْكَمَ جَفَافُهُ فَلاَ حَدَّ عَلَى مَنْ سَرَقَهُ، لأَِنَّهُ لاَ يَقْبَل الاِدِّخَارَ حَيْثُ يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ (2) .
__________
(1) فتح القدير 4 / 227.
(2) بدائع الصنائع 7 / 69، الفتاوى الهندية 2 / 175، 176، حاشية ابن عابدين 3 / 273، المبسوط 9 / 152، 153، وفتح القدير 4 / 227 - 228.

(24/308)


وَلاَ يَجِبُ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْمُصْحَفَ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ حِلْيَةٌ تَبْلُغُ النِّصَابَ، وَلاَ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ كُتُبَ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ؛ لأَِنَّ آخِذَهَا يَتَأَوَّل فِي أَخْذِهِ الْقِرَاءَةَ وَالتَّعَلُّمَ. وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى قَطْعِ سَارِقِ الْمُصْحَفِ أَوْ أَيِّ كِتَابٍ نَافِعٍ، إِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا؛ لأَِنَّ النَّاسَ يَعُدُّونَهُ مِنْ نَفَائِسِ الأَْمْوَال (1) .
4 - أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ غَيْرَ مُبَاحِ الأَْصْل بِأَلاَّ يَكُونَ جِنْسُهُ مُبَاحًا: فَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى سَارِقِ الْمَاءِ أَوِ الْكَلأَِ أَوِ النَّارِ أَوِ الصَّيْدِ، بَرِّيًّا كَانَ أَوْ بَحْرِيًّا، وَلَوْ دَخَلَتْ فِي مِلْكِ مَالِكٍ وَأَحْرَزَهَا؛ لأَِنَّهَا: إِمَّا شَرِكَةٌ بَيْنَ النَّاسِ وَإِمَّا تَافِهَةٌ أَوْ عَلَى وَشْكِ الاِنْفِلاَتِ. وَخَالَفَهُمْ أَبُو يُوسُفَ فَأَوْجَبَ الْحَدَّ فِي كُل ذَلِكَ (2) .
عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُبَاحَ الأَْصْل ذَا قِيمَةٍ تَدْعُو مَنْ أَحْرَزَهَا إِلَى الْحِفَاظِ عَلَيْهَا وَالتَّعَلُّقِ بِهَا، فَإِنَّ الْحَدَّ يُقَامُ عَلَى سَارِقِهَا مَتَى بَلَغَتْ نِصَابًا، وَذَلِكَ مِثْل: الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالأَْبَنُوسِ وَالصَّنْدَل وَالزَّبَرْجَدِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ وَنَحْوِهَا (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 68، ابن عابدين 3 / 275، فتح القدير 4 / 229، الفتاوى الهندية 4 / 177، المبسوط 9 / 152.
(2) بدائع الصنائع 7 / 68، فتح القدير 4 / 233.
(3) ابن عابدين 3 / 273، بدائع الصنائع 7 / 68، شرح فتح القدير 4 / 232، الفتاوى الهندية 2 / 175.

(24/309)


ب - الْمَالِكِيَّةُ:
29 - يَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لإِِقَامَةِ الْحَدِّ أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَالاً مُحْتَرَمًا شَرْعًا.
وَرَغْمَ اشْتِرَاطِهِمُ الْمَالِيَّةَ، فَقَدْ أَوْجَبُوا الْقَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ حُرًّا صَغِيرًا غَيْرَ مُمَيَّزٍ، إِذَا أَخَذَهُ مِنْ حِرْزٍ، بِأَنْ كَانَ فِي بَيْتٍ مُغْلَقٍ مَثَلاً، سَوَاءٌ أَكَانَتْ ثِيَابُهُ رَثَّةً أَمْ جَدِيدَةً، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ عَلَيْهِ حُلْمِيَّةً أَمْ لاَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ يَسْرِقُ الصِّبْيَانَ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيَبِيعُهُمْ فِي أَرْضٍ أُخْرَى، فَأَمَرَ بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ (1) .
وَلاِشْتِرَاطِهِمْ فِي الْمَال الْمَسْرُوقِ أَنْ يَكُونَ مُحْتَرَمًا شَرْعًا، لاَ يُقِيمُونَ الْحَدَّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْخَمْرَ أَوِ الْخِنْزِيرَ، وَلَوْ كَانَا لِغَيْرِ مُسْلِمٍ، وَلاَ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْكَلْبَ وَلَوْ مُعَلَّمًا، أَوْ كَلْبَ حِرَاسَةٍ، لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَمَنِهِ. وَلاَ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ آلاَتِ اللَّهْوِ كَالدُّفِّ وَالطَّبْل وَالْمِزْمَارِ، أَوْ أَدَوَاتِ الْقِمَارِ كَالنَّرْدِ أَوْ مَا يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ كَالصَّلِيبِ وَالصَّنَمِ وَنَحْوِهَا. وَلَكِنَّهُ لَوْ كَسَرَهَا دَاخِل الْحِرْزِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ مَكْسِرِهَا مَا قِيمَتُهُ نِصَابٌ، أُقِمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِسَرِقَتِهِ نِصَابًا مُحْرَزًا.
__________
(1)) حديث: " أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل يسرق الصبيان ". أخرجه الدارقطني (3 / 202 - ط دار المحاسن) ، والبيهقي (8 / 268 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عائشة وضعفه الدارقطني. وانظر: تبصرة الحكام 2 / 352، شرح الزرقاني 8 / 94، 103، المدونة 6 / 286.

(24/309)


وَلَوْ سَرَقَ آنِيَةً فِيهَا خَمْرٌ، وَكَانَتْ قِيمَةُ الآْنِيَةِ بِدُونِ الْخَمْرِ تَبْلُغُ النِّصَابَ، أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَكِنَّهُ لَوْ سَرَقَ كُتُبًا غَيْرَ مُحْتَرَمَةٍ شَرْعًا، كَكُتُبِ السِّحْرِ وَالزَّنْدَقَةِ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْوَرَقِ وَالْجِلْدِ تَبْلُغُ نِصَابًا.
وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَدَّ يُقَامُ عَلَى مَنْ سَرَقَ مَالاً مُحْتَرَمًا شَرْعًا، سَوَاءٌ أَكَانَ تَافِهًا أَمْ ثَمِينًا، يُمْكِنُ ادِّخَارُهُ أَوْ لاَ، مُبَاحَ الأَْصْل أَوْ غَيْرَ مُبَاحٍ. كَمَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ سَرَقَ الْمُصْحَفَ أَوِ الْكُتُبَ النَّافِعَةَ، مَا دَامَتْ قِيمَتُهَا تَبْلُغُ النِّصَابَ (1) .
وَلاَ يَرَى الْمَالِكِيَّةُ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنَ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فِي شَجَرِهِ، أَوْ مِنَ الزَّرْعِ قَبْل حَصْدِهِ، فَإِذَا قُطِعَ الثَّمَرُ وَحُصِدَ الزَّرْعُ وَلَمْ يَصِل إِلَى الْجَرِينِ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: الْقَطْعُ سَوَاءٌ ضُمَّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ أَمْ لاَ.
الثَّانِي: لاَ يُقْطَعُ مُطْلَقًا.
الثَّالِثُ: إِذَا سُرِقَ قَبْل ضَمِّ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ لاَ يُقْطَعُ فَإِذَا ضُمَّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ قُطِعَ.
وَهَذَا الاِخْتِلاَفُ مَحَلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَارِسٌ وَإِلاَّ فَلاَ خِلاَفَ فِي قَطْعِ سَارِقِهِ وَكَذَا إِذَا وَصَل إِلَى
__________
(1) المدونة الكبرى 16 / 77، 78، الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 336، الخرشي على خليل 8 / 96، شرح الزرقاني 8 / 97.

(24/310)


الْجَرِينِ. وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلاَ كَثَرٍ، فَإِذَا آوَاهُ الْجَرِينُ قُطِعَ (1) . وَإِذَا كَانَتِ الثِّمَارُ مُعَلَّقَةً فِي أَشْجَارِهَا، وَالزَّرْعُ لَمْ يُحْصَدْ، وَلَكِنَّهُ فِي بُسْتَانٍ عَلَيْهِ حَائِطٌ وَلَهُ غَلْقٌ، أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنْهُ نِصَابًا - فِي رَأْيٍ - وَلاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي رَأْيٍ آخَرَ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ. أَمَّا إِذَا كَانَتِ الأَْشْجَارُ الْمُثْمِرَةُ دَاخِل الدَّارِ، فَلاَ خِلاَفَ عِنْدَهُمْ فِي قَطْعِ مَنْ يَسْرِقُ مِنْهَا مَا قِيمَتُهُ نِصَابٌ، لِتَمَامِ الْحِرْزِ (2) .
ج - الشَّافِعِيَّةُ:
30 - يَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ، لإِِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ، أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَالاً مُحْتَرَمًا شَرْعًا. وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُقِيمُونَ الْحَدَّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْحُرَّ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ. فَأَمَّا إِنْ سَرَقَ صَغِيرًا لاَ يُمَيِّزُ أَوْ مَجْنُونًا أَوْ أَعْجَمِيًّا أَوْ أَعْمَى، وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ أَوْ حِلْيَةٌ أَوْ مَعَهُ مَالٌ يَلِيقُ بِمِثْلِهِ، فَلاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ - فِي الأَْصَحِّ - لأَِنَّ
__________
(1) حديث: " لا قطع في ثمر ولا كثر ". أخرجه أحمد (3 / 463 - ط الميمنية) وأبو داود (4 / 550 - ط عزت عبيد الدعاس) من حديث رافع بن خديج (وقال ابن حجر: وقال الطحاوي: هذا الحديث تلقت العلماء متنه بالقبول) . كذا في التلخيص الحبير (4 / 65 - ط شركة الطباعة الفنية) . ونيل الأوطار 2 / 143، وانظر: شرح الزرقاني 8 / 105. والكثر: بفتحتين: جُمّار النخل وهو شحمه الذي وسط النخلة (النهاية لابن الأثير 4 / 152) .
(2) بداية المجتهد 2 / 376، شرح الزرقاني 8 / 105، الدسوقي 4 / 144.

(24/310)


لِلْحُرِّ يَدًا عَلَى مَا مَعَهُ فَصَارَ كَمَنْ سَرَقَ جَمَلاً وَصَاحِبُهُ رَاكِبُهُ، وَالرَّأْيُ الآْخَرُ فِي الْمَذْهَبِ يَرَى إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ إِنْ بَلَغَ مَا مَعَهُ نِصَابًا؛ لأَِنَّهُ سَرَقَ لأَِجْل مَا مَعَهُ. فَإِنْ كَانَ مَا مَعَهُ مِنْ مَالٍ أَوْ مَا عَلَيْهِ مِنْ ثِيَابٍ أَوْ حِلْيَةٍ فَوْقَ مَا يَلِيقُ بِهِ. وَأَخَذَ السَّارِقُ مِنْهُ نِصَابًا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ، أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَلاِشْتِرَاطِهِمْ أَنْ يَكُونَ الْمَال الْمَسْرُوقُ مُحْتَرَمًا شَرْعًا، لاَ يُقِيمُونَ الْحَدَّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْخَمْرَ أَوِ الْخِنْزِيرَ أَوِ الْكَلْبَ أَوْ جِلْدَ الْمَيْتَةِ قَبْل دَبْغِهِ. فَأَمَّا إِذَا سَرَقَ آلاَتِ اللَّهْوِ أَوْ أَدَوَاتِ الْقِمَارِ أَوْ آنِيَةِ. الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَوِ الصَّنَمَ أَوِ الصَّلِيبَ أَوِ الْكُتُبَ غَيْرَ الْمُحْتَرَمَةِ شَرْعًا، فَلاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِلاَّ إِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ مَا سَرَقَهُ نِصَابًا بَعْدَ كَسْرِهِ أَوْ إِفْسَادِهِ (1) .
وَيُقَامُ الْحَدُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْمُصْحَفَ أَوِ الْكُتُبَ الْمُبَاحَةَ إِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا وَيُقَامُ الْحَدُّ أَيْضًا إِذَا سَرَقَ مَالاً قَطَعَ فِيهِ، وَكَانَ مُتَّصِلاً بِمَا فِيهِ الْقَطْعُ، كَإِنَاءٍ فِيهِ خَمْرٌ أَوْ آلَةِ لَهْوٍ عَلَيْهَا حِلْيَةٌ، مَا دَامَتْ قِيمَةُ مَا فِيهِ الْقَطْعُ تَبْلُغُ النِّصَابَ.
وَلاَ حَدَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي سَرِقَةِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فِي
__________
(1) القليوبي وعميرة 4 / 195، مغني المحتاج 4 / 173، أسنى المطالب 4 / 139، نهاية المحتاج 7 / 421.

(24/311)


شَجَرِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَارِسٌ، وَلَمْ يَتَّصِل بِجِيرَانٍ يُلاَحِظُونَهُ، فَإِذَا آوَاهُ الْجَرِينُ أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنْهُ نِصَابًا.
وَإِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ نِصَابًا مُحْرَزًا مِنْ مَالٍ مُحْتَرَمٍ شَرْعًا، لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى صِفَةِ الْمَال، فَلاَ فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ التَّافِهِ وَغَيْرِهِ، وَلاَ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ ادِّخَارُهُ أَوْ لاَ، وَلاَ بَيْنَ مُبَاحِ الأَْصْل أَوْ غَيْرِ مُبَاحِهِ (1) .
د - الْحَنَابِلَةُ:
31 - يَشْتَرِطُ الْحَنَابِلَةُ، لإِِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ، أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَالاً مُحْتَرَمًا شَرْعًا، وَعَلَى ذَلِكَ: فَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى سَارِقِ الْحُرِّ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَالٌ أَوْ عَلَيْهِ ثِيَابٌ أَوْ حِلْيَةٌ تَبْلُغُ النِّصَابَ، فَعِنْدَهُمْ رِوَايَتَانِ: الأُْولَى: إِيجَابُ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ لأَِنَّهُ قَصَدَ الْمَال، وَالأُْخْرَى: عَدَمُ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ مَا مَعَهُ تَابِعٌ لِمَا لاَ قَطْعَ فِيهِ.
وَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ عِنْدَهُمْ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ شَيْئًا مُحَرَّمًا، كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْلِمًا أَمْ ذِمِّيًّا، وَلاَ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ آلاَتِ اللَّهْوِ أَوْ أَدَوَاتِ الْقِمَارِ وَإِنْ بَلَغَتْ بَعْدَ إِتْلاَفِهَا نِصَابًا؛ لأَِنَّهَا تُعِينُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَكَانَ لَهُ الْحَقُّ فِي أَخْذِهَا
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 139، 141، نهاية المحتاج 7 / 421، مغني المحتاج 4 / 173، المهذب 2 / 278.

(24/311)


وَكَسْرِهَا، وَفِي ذَلِكَ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ، أَمَّا إِذَا كَانَ عَلَيْهَا حِلْيَةٌ تَبْلُغُ نِصَابًا فَفِي إِقَامَةِ الْحَدِّ بِسَرِقَتِهَا رِوَايَتَانِ. وَإِذَا سَرَقَ صَلِيبًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةٍ، وَفِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى يُقَامُ الْحَدُّ إِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا بَعْدَ كَسْرِهِ. وَمَنْ يَسْرِقُ آنِيَةَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهَا نِصَابًا بَعْدَ كَسْرِهَا. وَإِذَا اتَّصَل مَا لاَ قَطْعَ فِيهِ بِمَا فِيهِ الْقَطْعُ، كَإِنَاءٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ النِّصَابَ وَفِيهِ خَمْرٌ، فَفِي الْمَذْهَبِ رِوَايَتَانِ، الأُْولَى: لاَ قَطْعَ لِتَبَعِيَّتِهِ، وَالأُْخْرَى: وُجُوبُ إِقَامَةِ الْحَدِّ (1) .
وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ يُوجِبُونَ إِقَامَةَ الْحَدِّ فِي سَرِقَةِ الْمُصْحَفِ؛ لأَِنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لاَ قَطْعَ بِسَرِقَتِهِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَا فِيهِ مِنْ كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مِمَّا لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، وَالْمُصْحَفُ الْمُحَلَّى بِحِلْيَةٍ تَبْلُغُ نِصَابًا فِيهِ الْخِلاَفُ السَّابِقُ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لاَ قَطْعَ؛ لاِتِّصَال الْحِلْيَةِ بِمَا لاَ قَطْعَ فِيهِ، وَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ، كَمَا لَوْ سَرَقَ الْحِلْيَةَ وَحْدَهَا. وَلاَ خِلاَفَ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ بِسَرِقَةِ كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، إِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا (2) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 3 / 364، المغني 10 / 245، 283، 284، كشاف القناع 6 / 78، 130.
(2) شرح منتهى الإرادات 3 / 364، المغني 10 / 249، كشاف القناع 6 / 106.

(24/312)


وَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى سَرِقَةِ الثِّمَارِ الْمُعَلَّقَةِ أَوِ الْكَثَرِ، وَلَوْ كَانَتْ فِي بُسْتَانٍ مُحَاطٍ بِسُوَرٍ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلاَ فِي كَثَرٍ (1) . فَأَمَّا إِذَا كَانَ النَّخْل أَوِ الشَّجَرُ دَاخِل دَارٍ مُحْرَزَةٍ، فَفِيمَا يُسْرَقُ الْقَطْعُ إِنْ بَلَغَ نِصَابًا (2) .
وَإِقَامَةُ الْحَدِّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى صِفَةِ الْمَال مِنْ كَوْنِهِ تَافِهًا أَوْ لاَ، مُبَاحَ الأَْصْل أَوْ غَيْرَ مُبَاحٍ، مُعَرَّضًا لِلتَّلَفِ أَوْ لَيْسَ مُعَرَّضًا. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَسْتَثْنُونَ الْمَاءَ وَالْمِلْحَ وَالْكَلأََ وَالثَّلْجَ وَالسِّرْجِينَ، فَلاَ قَطْعَ فِي سَرِقَتِهَا؛ لاِشْتِرَاكِ النَّاسِ فِي بَعْضِهَا بِنَصِّ الْحَدِيثِ (3) ، وَلِعَدَمِ تَمَوُّل الْبَعْضِ الآْخَرِ عَادَةً (4) .

2 - أَنْ يَبْلُغَ الْمَسْرُوقُ نِصَابًا.
32 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ إِلاَّ إِذَا بَلَغَ الْمَال الْمَسْرُوقُ نِصَابًا (5) .
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ مِقْدَارِ النِّصَابِ،
__________
(1) حديث: " لا قطع في ثمر ولا في كثر ". تقدم تخريجه ف 29.
(2) المغني 10 / 262، 263.
(3) الحديث: " المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار ". أخرجه أبو داود (3 / 751 - تحقيق عزت عبيد الدعاس) عن رجل من المهاجرين. وصحح إسناده الأرناؤوط جامع الأصول (1 / 486 - ط الملاح) .
(4) شرح منتهى الإرادات 3 / 364، المغني 10 / 247.
(5) ذهب بعض الفقهاء - ومنهم الحسن البصري - إلى عدم اشتراط النصاب لإقامة حد السرقة، فيقطع عندهم في القليل والكثير؛ لإطلاق قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: " لعن الله السارق. يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل (الفتح 12 / 81 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة. وبداية المجتهد 2 / 437، والمغني 10 / 41.

(24/312)


وَفِي وَقْتِ هَذَا التَّحْدِيدِ، وَفِي أَثَرِ اخْتِلاَفِ الْمُقَوِّمِينَ لِمَا يُسْرَقُ، وَفِي وُجُوبِ عِلْمِ السَّارِقِ بِقِيمَةِ الْمَال الْمَسْرُوقِ.

أ - الْحَنَفِيَّةُ:
1 - تَحْدِيدُ مِقْدَارِ النِّصَابِ:
33 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ النِّصَابَ الَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ هُوَ عَشْرَةُ دَارَهُمْ مَضْرُوبَةً، أَوْ مَا قِيمَتُهُ عَشْرَةٌ، فَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ عِنْدَهُمْ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ أَقَل مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى لَوْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ رُبُعَ دِينَارٍ (1) . وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُقْطَعُ الْيَدُ إِلاَّ فِي دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ (2) . وَلِقَوْلِهِ أَيْضًا: {
__________
(1) الدينار: نقد من الذهب، كان وزنه في الدولة الإسلامية يعادل 4. 25 جرامًا. والدرهم: نقد من الفضة، كان وزنه في الدولة الإسلامية يعادل 2. 975 جرامًا.
(2) حديث: " لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم ". أخرجه عبد الرزاق (10 / 233 ط المجلس العلمي) وهو موقوف على ابن مسعود وفيه انقطاع. نصب الراية للزيلعي (3 / 360 - ط المجلس العلمي) .

(24/313)


لاَ تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِيمَا دُونَ ثَمَنِ الْمِجَنِّ (1) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ ثَمَنِ الْمِجَنِّ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِأَرْبَعَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِخَمْسَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِعَشْرَةٍ (2) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الأَْخْذَ بِالأَْكْثَرِ أَوْلَى؛ لأَِنَّ فِي الأَْقَل احْتِمَالاً يُورِثُ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ (3) .

2 - وَقْتُ تَحْدِيدِ النِّصَابِ:
الْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ. فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ أَقَل مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، ثُمَّ زَادَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلاَ عِبْرَةَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَمِنْ ثَمَّ لاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ. أَمَّا إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ نَقَصَتْ هَذِهِ الْقِيمَةُ بَعْدَ الإِْخْرَاجِ وَقَبْل الْحُكْمِ فَفِي الْمَسْأَلَةِ
__________
(1) حديث: " لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن ". أخرجه الدارقطني (3 / 193 - ط دار المحاسن) من حديث عبد الله بن عمرو. وصححه الزيلعي (نصب الراية 3 / 359 - ط المجلس العلمي) .
(2) فتح الباري 12 / 88، ونيل الأوطار 7 / 298.
(3) بدائع الصنائع 7 / 77 - 78، فتح القدير 4 / 220، الدر المختار 3 / 199، المبسوط 9 / 137 - 138، الفتاوى الهندية 2 / 170.

(24/313)


تَفْصِيلٌ: إِنْ كَانَ النُّقْصَانُ فِي عَيْنِ الْمَسْرُوقِ بِأَنْ هَلَكَ بَعْضُهُ فِي يَدِ السَّارِقِ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ، فَلاَ عِبْرَةَ بِهَذَا النَّقْصِ؛ لأَِنَّ هَلاَكَ الْكُل لاَ يَمْنَعُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ، فَهَلاَكُ الْبَعْضِ أَوْلَى بِأَلاَّ يَمْنَعَ مِنْ إِقَامَتِهِ، وَلِذَلِكَ تُطَبَّقُ قَاعِدَةُ: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ. أَمَّا إِنْ كَانَ سَبَبُ نُقْصَانِ الْقِيمَةِ يَرْجِعُ إِلَى تَغَيُّرِ سِعْرِهِ، فَفِي الْمَذْهَبِ رِوَايَتَانِ: رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرَجَّحَهَا الطَّحَاوِيُّ، أَنَّ الاِعْتِبَارَ لَقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ، فَتُطَبَّقُ الْقَاعِدَةُ السَّابِقَةُ. وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَمَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ: أَنَّ الاِعْتِبَارَ بِقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ، وَقْتَ الإِْخْرَاجِ مِنَ الْحِرْزِ وَوَقْتَ الْحُكْمِ مَعًا، فَإِذَا تَغَيَّرَتِ الأَْسْعَارُ، بِأَنْ نَقَصَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ عَنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ قَبْل الْحُكْمِ، فَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ؛ لأَِنَّهُ لاَ دَخْل لِلسَّارِقِ فِي ذَلِكَ؛ وَلأَِنَّ النَّقْصَ عِنْدَ الْحُكْمِ يُورِثُ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ.
وَإِذَا وَقَعَتِ السَّرِقَةُ فِي مَكَانٍ، وَضُبِطَ الْمَسْرُوقُ فِي مَكَانٍ آخَرَ، كَانَتِ الْعِبْرَةُ - فِي رَأْيٍ - بِقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ فِي مَحَل السَّرِقَةِ، وَفِي رَأْيٍ آخَرَ: تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي مَحَل ضَبْطِهِ (1) .

3 - اخْتِلاَفُ الْمُقَوِّمِينَ فِي تَحْدِيدِ قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ الْمُقَوِّمُونَ فِي
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 79.

(24/314)


تَحْدِيدِ قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ، فَقَدَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَقَدَّرَهَا الْبَعْضُ الآْخَرُ بِأَقَل مِنْ عَشْرَةٍ، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ تَكُونُ بِالأَْقَل؛ لأَِنَّ هَذَا الاِخْتِلاَفَ يُورِثُ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَمَّ بِقَطْعِ يَدِ سَارِقٍ، فَقَال لَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ مَا سَرَقَهُ لاَ يُسَاوِي نِصَابًا، فَدَرَأَ عَنْهُ الْحَدَّ (1) .

4 - عِلْمُ السَّارِقِ بِقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ:
ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى الاِكْتِفَاءِ بِقَصْدِ السَّرِقَةِ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ، مَا دَامَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ تَبْلُغُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ حَتَّى وَلَوْ كَانَ السَّارِقُ يَعْتَقِدُ أَنَّ قِيمَتَهُ أَقَل مِنْ ذَلِكَ، بِأَنْ سَرَقَ ثَوْبًا لاَ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ النِّصَابَ، فَوَجَدَ فِي جَيْبِهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ.
وَذَهَبَ الْبَعْضُ الآْخَرُ إِلَى اشْتِرَاطِ عِلْمِ السَّارِقِ بِقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ، بِأَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ فِي جَيْبِ الثَّوْبِ نِصَابًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ فَلاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّهُ قَصَدَ سَرِقَةَ الثَّوْبِ وَحْدَهُ وَهُوَ لاَ يَبْلُغُ النِّصَابَ. بِخِلاَفِ مَا لَوْ سَرَقَ جِرَابًا أَوْ صُنْدُوقًا، وَكَانَ بِهِ مَالٌ كَثِيرٌ لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَتَهُ، فَلاَ خِلاَفَ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ قَصَدَ الْمَظْرُوفَ لاَ الظَّرْفَ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 77 - 79.
(2) بدائع الصنائع 7 / 79 - 80.

(24/314)


ب - الْمَالِكِيَّةُ:
1 - تَحْدِيدُ مِقْدَارِ النِّصَابِ:
34 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ النِّصَابَ الَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ هُوَ رُبُعُ دِينَارٍ أَوْ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ شَرْعِيَّةً خَالِصَةً مِنَ الْغِشِّ أَوْ نَاقِصَةً تَرُوجُ رَوَاجَ الْكَامِلَةِ، أَوْ مَا قِيمَتُهُ ذَلِكَ. فَالْقَاعِدَةُ عِنْدَهُمْ: أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ قُوِّمَ بِالدَّرَاهِمِ، فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ ثَلاَثَةَ دَرَاهِمَ وَلَمْ تَبْلُغْ رُبُعَ دِينَارٍ أُقِيمَ الْحَدُّ، أَمَّا إِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ رُبُعَ دِينَارٍ وَلَمْ تَبْلُغْ ثَلاَثَةَ دَرَاهِمَ فَلاَ حَدَّ (1) .
وَدَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلاَثَةَ دَرَاهِمَ (2) . وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلاَّ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا (3) . فَأَخَذُوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنَ الذَّهَبِ، وَبِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ فِضَّةً أَوْ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 333 - 334، المدونة 6 / 266.
(2) حديث: " قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 97 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1313 - ط الحلبي) واللفظ للبخاري، من حديث ابن عمر.
(3) حديث: " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 96 ط السلفية) ومسلم (3 / 1312 ط الحلبي) .

(24/315)


2 - وَقْتُ تَحْدِيدِ النِّصَابِ: الْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قِيمَةُ النِّصَابِ وَوَقْتُ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ أَقَل مِنْ ثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ حِينَ السَّرِقَةِ ثُمَّ بَلَغَتِ الثَّلاَثَةُ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ، فَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ. وَعَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ: إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ ثَلاَثَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ نَقَصَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أُقِيمَ الْحَدُّ، سَوَاءٌ أَكَانَ النَّقْصُ فِي عَيْنِ الْمَسْرُوقِ أَمْ كَانَ بِسَبَبِ تَغَيُّرِ الأَْسْعَارِ.
وَإِذَا وَقَعَتِ السَّرِقَةُ بِمَكَانٍ، وَضُبِطَ الْمَسْرُوقُ فِي مَكَانٍ آخَرَ، فَالْعِبْرَةُ بِمَحَل السَّرِقَةِ.
3 - اخْتِلاَفُ الْمُقَوِّمِينَ فِي تَحْدِيدِ قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ: الْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَقْدِيمُ الْمُثْبَتِ عَلَى النَّافِي، فَإِذَا شَهِدَ عَدْلاَنِ بِأَنَّ قِيمَةَ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا، أُخِذَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَأُقِيمَ الْحَدُّ، وَلَوْ عَارَضَتْهَا شَهَادَاتٌ أُخْرَى.
4 - عِلْمُ السَّارِقِ بِقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ: يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِقَصْدِ السَّرِقَةِ، لاَ بِظَنِّ السَّارِقِ، إِلاَّ إِذَا صَدَّقَ الْعُرْفُ ظَنَّهُ. فَلَوْ سَرَقَ ثَوْبًا لاَ يُسَاوِي نِصَابًا، وَلَكِنْ كَانَ فِي جَيْبِهِ مَالٌ يَبْلُغُ النِّصَابَ، أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ بِمَا فِي الْجَيْبِ، لأَِنَّ الْعُرْفَ جَرَى عَلَى وَضْعِ النُّقُودِ فِي جُيُوبِ الثِّيَابِ. أَمَّا إِذَا سَرَقَ قِطْعَةَ خَشَبٍ، لاَ يَعْلَمُ حَقِيقَتَهَا، فَوَجَدَهَا مُجَوَّفَةً وَبِهَا مَالٌ يَبْلُغُ النِّصَابَ، فَلاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لأَِنَّ الْعُرْفَ لَمْ يَجْرِ

(24/315)


عَلَى حِفْظِ النُّقُودِ بِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ (1) .

ج - الشَّافِعِيَّةُ:
1 - تَحْدِيدُ مِقْدَارِ النِّصَابِ:
35 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى تَحْدِيدِ مِقْدَارِ النِّصَابِ بِرُبُعِ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ، أَوْ مَا قِيمَتُهُ ذَلِكَ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي تَقْوِيمِ الأَْشْيَاءِ: الذَّهَبُ. وَعَلَى ذَلِكَ لاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ ثَلاَثَةَ دَرَاهِمَ أَوْ مَا قِيمَتُهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ، إِذَا قَلَّتْ قِيمَتُهَا عَنْ رُبُعِ دِينَارٍ مِنْ غَالِبِ الدَّنَانِيرِ الْجَيِّدَةِ (2) .
وَدَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لاَ تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلاَّ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا (3) .
2 - وَقْتُ تَحْدِيدِ النِّصَابِ: يَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قِيمَةُ النِّصَابِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ تَقِل عَنْ رُبُعِ دِينَارٍ حِينَ السَّرِقَةِ، ثُمَّ بَلَغَتْ رُبُعَ دِينَارٍ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ، فَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ. أَمَّا إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ رُبُعَ دِينَارٍ، ثُمَّ نَقَصَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أُقِيمَ الْحَدُّ، سَوَاءٌ أَكَانَ النَّقْصُ بِفِعْل السَّارِقِ، كَأَنْ أَكَل بَعْضَهُ، أَمْ كَانَ السَّبَبُ
__________
(1) المدونة الكبرى 16 / 90، شرح الزرقاني 8 / 94 - 95.
(2) أسنى المطالب 4 / 137، القليوبي وعميرة 4 / 186، مغني المحتاج 4 / 158، المهذب 2 / 294، نهاية المحتاج 7 / 419.
(3) حديث: " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا ". تقدم تخريجه ف 34.

(24/316)


تَغَيُّرَ الأَْسْعَارِ. وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ فِي مَكَانِ السَّرِقَةِ، لاَ فِي مَكَانٍ آخَرَ.
3 - اخْتِلاَفُ الْمُقَوِّمِينَ فِي تَحْدِيدِ قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ: الْقَاعِدَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ شَهَادَةَ الْمُقَوِّمِينَ إِنْ قَامَتْ عَلَى أَسَاسِ الْقَطْعِ أُخِذَ بِهَا، وَإِنْ قَامَتْ عَلَى أَسَاسِ الظَّنِّ أُخِذَ بِالتَّحْدِيدِ الأَْقَل، وَذَلِكَ لِتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ.
4 - عِلْمُ السَّارِقِ بِقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ: لاَ يَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَعْلَمَ السَّارِقُ قِيمَةَ مَا سَرَقَ، بَل يَكْفِي عِنْدَهُمْ أَنْ يَقْصِدَ السَّرِقَةَ. وَعَلَى ذَلِكَ: لَوْ قَصَدَ سَرِقَةَ ثَوْبٍ لاَ يُسَاوِي رُبُعَ دِينَارٍ، وَكَانَ فِي جَيْبِهِ مَا قِيمَتُهُ رُبُعُ دِينَارٍ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَلَكِنَّهُ لَوْ قَصَدَ سَرِقَةَ صُنْدُوقٍ بِهِ دَنَانِيرُ، فَوَجَدَهُ فَارِغًا، وَالصُّنْدُوقُ لاَ يُسَاوِي رُبُعَ دِينَارٍ، فَلاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ (1) .

د - الْحَنَابِلَةُ:
1 - تَحْدِيدُ مِقْدَارِ النِّصَابِ:
36 - اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَحْمَدَ فِي مِقْدَارِ النِّصَابِ الَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ. فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى تَحْدِيدِهِ بِثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ رُبُعِ دِينَارٍ، أَوْ عَرْضٍ قِيمَتُهُ كَأَحَدِهِمَا.
وَتُحَدِّدُ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى النِّصَابَ بِرُبُعِ دِينَارٍ،
__________
(1)) أسنى المطالب 4 / 137 - 138، نهاية المحتاج 7 / 420.

(24/316)


إِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ ذَهَبًا، وَبِثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ إِنْ كَانَ: الْمَسْرُوقُ مِنَ الْفِضَّةِ، وَبِمَا قِيمَتُهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ، إِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْ غَيْرِهِمَا (1) .
2 - وَقْتُ تَحْدِيدِ النِّصَابِ: الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ وَفِي مَكَانِ السَّرِقَةِ، وَلاَ عِبْرَةَ بِتَغَيُّرِ هَذِهِ الْقِيمَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لأَِيِّ سَبَبٍ كَانَ.
3 - اخْتِلاَفُ الْمُقَوِّمِينَ فِي تَحْدِيدِ قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ: إِذَا قَدَّرَ بَعْضُ الْمُقَوِّمِينَ قِيمَةَ الْمَسْرُوقِ بِنِصَابٍ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِأَقَل مِنْ نِصَابٍ، فَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ؛ لأَِنَّهُ فِي حَالَةِ تَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ فِي الْقِيمَةِ يُؤْخَذُ بِالأَْقَل.
4 - عِلْمُ السَّارِقِ بِقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ: يَشْتَرِطُ الْحَنَابِلَةُ، لإِِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ، أَنْ يَعْلَمَ السَّارِقُ بِأَنَّ مَا سَرَقَهُ يُسَاوِي نِصَابًا. وَعَلَى ذَلِكَ: لاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْدِيلاً، لاَ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ النِّصَابَ، وَقَدْ شُدَّ عَلَيْهِ دِينَارٌ، مَا دَامَ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ. فَأَمَّا إِنْ عَلِمَ بِوُجُودِ الدِّينَارِ، أُقِيمَ عَلَيْهِ. حَدُّ السَّرِقَةِ (2) .

3 - أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مُحْرَزًا:
37 - الْحِرْزُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: الْمَوْضِعُ الْحَصِينُ الَّذِي
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 3 / 364، كشاف القناع 4 / 78، المغني 10 / 242، 278.
(2) كشاف القناع 4 / 78 - 237، المغني 10 / 278.

(24/317)


يُحْفَظُ فِيهِ الْمَال عَادَةً، بِحَيْثُ لاَ يُعَدُّ صَاحِبُهُ مُضَيِّعًا لَهُ بِوَضْعِهِ فِيهِ (1) .
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لاَ يُقَامُ إِلاَّ إِذَا أَخَذَ السَّارِقُ النِّصَابَ مِنْ حِرْزِهِ؛ لأَِنَّ الْمَال غَيْرُ الْمُحْرِزِ ضَائِعٌ بِتَقْصِيرٍ مِنْ صَاحِبِهِ (2) .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَال: سَمِعْتُ رَجُلاً مِنْ مُزَيْنَةَ يَسْأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحَرِيسَةِ (3) الَّتِي تُوجَدُ فِي مَرَاتِعِهَا، فَقَال: فِيهَا ثَمَنُهَا مَرَّتَيْنِ، وَضَرْبُ نَكَالٍ، وَمَا أُخِذَ مِنْ عَطَنِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ إِذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ: فَالثِّمَارُ وَمَا أُخِذَ مِنْهَا فِي أَكْمَامِهَا؟ قَال: مَنْ أَخَذَ بِفَمِهِ وَلَمْ يَتَّخِذْ خُبْنَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَمَنِ احْتَمَل فَعَلَيْهِ ثَمَنُهُ مَرَّتَيْنِ، وَضَرْبُ نَكَالٍ، وَمَا أُخِذَ مِنْ أَجْرَانِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ، إِذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ (4)
__________
(1) فتح القدير 5 / 380، الخرشي على خليل 8 / 97، القليوبي وعميرة 4 / 190، كشاف القناع 6 / 110.
(2) ابن عابدين 3 / 267، البدائع 7 / 66، المبسوط 9 / 136، بداية المجتهد 2 / 439، الشرح الكبير للدردير 4 / 338، القليوبي وعميرة 4 / 190، مغني المحتاج 4 / 164، المهذب 2 / 94، شرح منتهى الإرادات 3 / 367، كشاف القناع 6 / 110.
(3) حريسة الجبل: الشاة يدركها الليل قبل رجوعها إلى مأواها فتسرق من الجبل (المصباح المنير) .
(4) حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: " سمعت رجلاً من مزينة يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحريسة التي توجد. . . " أخرجه أحمد (2 / 203 ط الميمنية) من حديث عبد الله بن عمرو، وصححه أحمد شاكر (6891 ط دار المعارف) ، وبداية المجتهد 2 / 301، 439، المغني 10 / 250. والعطن: الموضع الذي يترك فيه الإبل على الماء. والمجن: الترس. والخبنة: ما يحمله الشخص في حضنه. انظر: الزاهر، والصحاح.

(24/317)


وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْل الْحَدِيثِ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْحِرْزِ لإِِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (1) .
وَالْحِرْزُ نَوْعَانِ:
1 - حِرْزٌ بِنَفْسِهِ، وَيُسَمَّى حِرْزًا بِالْمَكَانِ: وَهُوَ كُل بُقْعَةٍ مُعَدَّةٍ لِلإِْحْرَازِ، يَمْنَعُ الدُّخُول فِيهَا إِلاَّ بِإِذْنٍ، كَالدَّارِ وَالْبَيْتِ.
2 - وَحِرْزٌ بِغَيْرِهِ، وَيُسَمَّى حِرْزًا بِالْحَافِظِ: وَهُوَ كُل مَكَانٍ غَيْرُ مُعَدٍّ لِلإِْحْرَازِ، لاَ يَمْنَعُ أَحَدٌ مِنْ دُخُولِهِ، كَالْمَسْجِدِ وَالسُّوقِ (2) . وَلَمَّا كَانَ ضَابِطُ الْحِرْزِ وَتَحْدِيدُ مَفْهُومِهِ يَرْجِعُ إِلَى الْعُرْفِ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَنَوْعِ الْمَال الْمُرَادِ حِفْظُهُ، وَبِاخْتِلاَفِ حَال السُّلْطَانِ مِنَ الْعَدْل أَوِ الْجَوْرِ، وَمِنَ الْقُوَّةِ أَوِ الضَّعْفِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الشُّرُوطِ الْوَاجِبِ تَوَافُرُهَا لِيَكُونَ الْحِرْزُ تَامًّا، وَبِالتَّالِي يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنْهُ.
__________
(1) سورة المائدة / 38.
(2) بدائع الصنائع 7 / 73، الخرشي 8 / 117، القليوبي وعميرة 4 / 190 وما بعدها، المغني 10 / 251، وما بعدها.

(24/318)


38 - أ - فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحِرْزَ نَفْسَهُ: كُل بُقْعَةٍ مُعَدَّةٍ لِلإِْحْرَازِ بِمَنْعِ دُخُولِهَا إِلاَّ بِإِذْنٍ، كَالدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ وَالْخِيَمِ وَالْخَزَائِنِ وَالصَّنَادِيقِ وَالْجُرْنِ وَحَظَائِرِ الْمَاشِيَةِ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا أَوْ مَفْتُوحًا، أَوْ لاَ بَابَ لَهَا؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْبْنِيَةَ قُصِدَ بِهَا الإِْحْرَازُ كَيْفَمَا كَانَ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي الْحِرْزِ بِنَفْسِهِ عِنْدَهُمْ وُجُودُ الْحَافِظِ، وَلَوْ وُجِدَ فَلاَ عِبْرَةَ بِوُجُودِهِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ الْحِرْزَ بِنَفْسِهِ إِذَا اخْتَل، بِأَنْ أَذِنَ لِلسَّارِقِ فِي دُخُولِهِ، فَلاَ يُقَامُ حَدُّ السَّرِقَةِ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ حَافِظٌ. وَعَلَى هَذَا: لاَ يُقَامُ حَدُّ السَّرِقَةِ عَلَى الضَّيْفِ، لأَِنَّ الإِْذْنَ لَهُ بِالدُّخُول أَحْدَثَ خَلَلاً فِي الْحِرْزِ، وَلاَ عَلَى الْخَادِمِ؛ لأَِنَّ فِعْلَهُ يُوصَفُ بِالْخِيَانَةِ، وَلَيْسَ عَلَى الْخَائِنِ قَطْعٌ، وَلاَ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنَ الْحَوَانِيتِ فِي فَتَرَاتِ الإِْذْنِ بِالدُّخُول، بِخِلاَفِ مَا لَوْ سَرَقَ فِي وَقْتٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ.
وَالسَّرِقَةُ مِنَ الْحِرْزِ بِنَفْسِهِ لاَ تَشْمَل سَرِقَةَ الْحِرْزِ نَفْسِهِ؛ لأَِنَّ السَّرِقَةَ تَقْتَضِي الإِْخْرَاجَ مِنَ الْحِرْزِ، وَنَفْسُ الْحِرْزِ لَيْسَ فِي الْحِرْزِ، فَلاَ إِخْرَاجَ. وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: لَوْ سَرَقَ بَابَ الدَّارِ، أَوْ حَائِطَ الْحَانُوتِ، أَوِ الْخَيْمَةَ الْمَضْرُوبَةَ، فَلاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ سَرَقَ نَفْسَ الْحِرْزِ، وَلَمْ يَسْرِقْ مِنَ الْحِرْزِ.
أَمَّا الْحِرْزُ بِغَيْرِهِ: فَهُوَ كُل مَكَانٍ غَيْرُ مُعَدٍّ

(24/318)


لِلإِْحْرَازِ، يَدْخُل إِلَيْهِ بِدُونِ إِذْنٍ وَلاَ يُمْنَعُ مِنْهُ، كَالْمَسَاجِدِ وَالطُّرُقِ وَالأَْسْوَاقِ، وَهِيَ لاَ تُعْتَبَرُ حِرْزًا إِلاَّ إِذَا كَانَ عَلَيْهَا حَافِظٌ (1) ، أَيْ شَخْصٌ لَيْسَ لَهُ مِنْ مَقْصِدٍ سِوَى الْحِرَاسَةِ وَالْحِفْظِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَقْصِدٌ آخَرُ فَلاَ يَكُونُ الْمَال مُحْرَزًا بِهِ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: لاَ يُقَامُ الْحَدُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْمَاشِيَةَ مِنَ الْمَرْعَى، وَلَوْ كَانَ الرَّاعِي مَعَهَا؛ لأَِنَّ عَمَل الرَّاعِي هُوَ الرَّعْيُ، وَالْحِرَاسَةُ تَحْصُل تَبَعًا لَهُ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ كَانَ مَعَ الرَّاعِي حَافِظٌ يَخْتَصُّ بِالْحِرَاسَةِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَكُونُ الْمَاشِيَةُ مُحْرَزَةً بِالْحَافِظِ، فَيُقَامُ الْحَدُّ.
وَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ سَرَقَ مَتَاعًا تَرَكَهُ صَاحِبُهُ فِي الْمَسْجِدِ؛ لأَِنَّ الْمَسْجِدَ لاَ يُعْتَبَرُ مِنَ الأَْمَاكِنِ الْمُعَدَّةِ لِحِفْظِ الأَْمْوَال، وَيَدْخُل إِلَيْهِ بِلاَ إِذْنٍ، فَأَمَّا إِذَا سَرَقَ الْمَتَاعَ حَالَةَ وُجُودِ الْحَافِظِ، فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ يَدَ سَارِقِ خَمِيصَةِ صَفْوَانَ، وَكَانَ نَائِمًا عَلَيْهَا فِي الْمَسْجِدِ (2) . وَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْحِرْزَ بِالْحَافِظِ: كَمَنْ يَسْرِقُ بَعِيرًا،
__________
(1)) بدائع الصنائع 7 / 73 - 74، فتح القدير 4 / 240 - 246، الفتاوى الهندية 2 / 179.
(2) نيل الأوطار 7 / 143. وحديث: " قطع يد سارق خميصة صفوان ". أخرجه أبو داود (4 / 553 - تحقيق عزت عبيد الدعاس) ، والنسائي (8 / 69 - ط دار البشائر) والحاكم (4 / 380 - ط دائرة المعارف العثمانية) . وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

(24/319)


وَرَاكِبُهُ نَائِمٌ فَوْقَهُ؛ لأَِنَّ الْبَعِيرَ مُحْرَزٌ بِالْحَافِظِ، فَإِذَا أَخَذَهُمَا جَمِيعًا صَارَ كَمَنْ يَسْرِقُ نَفْسَ الْحِرْزِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُعْتَبَرُ الْمَكَانُ مُحْرَزًا بِالْحَافِظِ كُلَّمَا كَانَ الشَّيْءُ وَاقِعًا تَحْتَ بَصَرِهِ، مُمَيَّزًا أَمْ غَيْرَ مُمَيَّزٍ؛ لأَِنَّهُ وُجِدَ لِلْحِفْظِ وَيَقْصِدُهُ. وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِنَّ مَا يَلْبَسُهُ الإِْنْسَانُ أَوْ يَحْمِلُهُ أَوْ يَرْكَبُهُ أَوْ يَقَعُ تَحْتَ بَصَرِهِ مِنْ مَتَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ، يُعْتَبَرُ مُحْرَزًا بِحَافِظٍ، يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنْهُ مَا يَبْلُغُ النِّصَابَ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمَسْجِدَ يُعْتَبَرُ حِرْزًا بِالْحَافِظِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ حَارِسٌ وَسَرَقَ شَخْصٌ شَيْئًا مِمَّا يَلْزَمُ الْمَسْجِدَ ضَرُورَةً، كَالْحُصْرِ وَالْقَنَادِيل، أَوْ لِلزِّينَةِ كَالْعَلَمِ وَالْمِشْكَاةِ، أَوْ لِلاِنْتِفَاعِ بِهِ كَالْمُصْحَفِ وَكُتُبِ الْعِلْمِ، فَلاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لاِنْعِدَامِ الْحِرْزِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ كَانَ لِلْمَسْجِدِ حَارِسٌ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُحْرَزًا بِهِ (1) .
39 - ب - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحِرْزَ بِنَفْسِهِ: كُل مَكَانٍ اتَّخَذَهُ صَاحِبُهُ مُسْتَقَرًّا لَهُ، أَوِ اعْتَادَ النَّاسُ وَضْعَ أَمْتِعَتِهِمْ بِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُحَاطًا أَمْ غَيْرَ مُحَاطٍ، كَالْبُيُوتِ وَالْحَوَانِيتِ وَالْخَزَائِنِ، وَكَالْجَرِينِ الَّذِي يُجْمَعُ فِيهِ الْحَبُّ وَالتَّمْرُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ بَابٌ وَلاَ حَائِطٌ وَلاَ غَلْقٌ، وَكَالأَْمَاكِنِ الَّتِي يَضَعُ التُّجَّارُ بَضَائِعَهُمْ فِيهَا، فِي السُّوقِ أَوْ فِي
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 74 - 76، فتح القدير 4 / 242، 245 - 246.

(24/319)


الطَّرِيقِ دُونَ تَحْصِينٍ، وَكَالأَْمَاكِنِ الَّتِي تُرَاحُ فِيهَا الدَّوَابُّ دُونَ بِنَاءٍ، أَوِ الَّتِي تُنَاخُ فِيهَا الإِْبِل لِلْكِرَاءِ (1) .
وَلاَ يَرَى الْمَالِكِيَّةُ مَا يَمْنَعُ مِنَ اعْتِبَارِ الْحِرْزِ بِنَفْسِهِ حِرْزًا بِالْحَافِظِ، بِحَيْثُ إِنَّهُ إِذَا اخْتَل الْحِرْزُ بِنَفْسِهِ، بِأَنْ أَذِنَ لِلسَّارِقِ فِي دُخُولِهِ، صَارَ حِرْزًا بِالْحَافِظِ إِنْ كَانَ بِهِ مَنْ يَحْفَظُهُ. وَعَلَى ذَلِكَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الضَّيْفِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَنْزِل مُضِيفِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُضِيفُ نَائِمًا أَوْ مُسْتَيْقِظًا، مَا دَامَ الشَّيْءُ الْمَسْرُوقُ يَقَعُ تَحْتَ بَصَرِهِ. كَمَا يَرَوْنَ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنْ أَفْنِيَةِ الْحَوَانِيتِ وَقْتَ الإِْذْنِ بِدُخُولِهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا حَافِظٌ؛ لأَِنَّهَا تُحْفَظُ عَادَةً بِأَعْيُنِ الْجِيرَانِ وَمُلاَحَظَتِهِمْ.
وَيُقَامُ الْحَدُّ عِنْدَهُمْ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْحِرْزَ نَفْسَهُ؛ لأَِنَّ نَفْسَ الْحِرْزِ يُعْتَبَرُ مُحْرَزًا بِإِقَامَتِهِ، فَالْحَائِطُ مُحْرَزٌ بِبِنَائِهِ، وَالْبَابُ مُحْرَزٌ بِتَثْبِيتِهِ، وَالْفُسْطَاطُ مُحْرَزٌ بِإِقَامَتِهِ.
أَمَّا الْحِرْزُ بِغَيْرِهِ فَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْهُ صَاحِبُهُ مُسْتَقَرًّا لَهُ، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِوَضْعِ الأَْمْتِعَةِ فِيهِ، كَالطَّرِيقِ وَالصَّحْرَاءِ. وَهُوَ يَكُونُ حِرْزًا بِصَاحِبِ الْمَتَاعِ إِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ مَتَاعِهِ عُرْفًا، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ حَيًّا عَاقِلاً مُمَيِّزًا. وَلِذَا لاَ يُقَامُ
__________
(1)) الدسوقي 4 / 331، الخرشي 8 / 117، المدونة 16 / 79، المنتقى شرح الموطأ 7 / 159: " إذا آوى الماشية المراح ففيها القطع، وإن كان في غير دور ولا تحظير ولا غلق، وأهلها في مدنهم ".

(24/320)


الْحَدُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مَتَاعًا بِحَضْرَةِ مَيِّتٍ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ صَبِيٍّ غَيْرِ مُمَيِّزٍ.
وَيَسْتَثْنِي الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ سَرِقَةَ الْغَنَمِ فِي الْمَرْعَى، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا رَاعِيهَا فَلاَ قَطْعَ عَلَى سَارِقِهَا؛ لِتَشَتُّتِ الْغَنَمِ وَعَدَمِ ضَبْطِهَا أَثْنَاءَ الرَّعْيِ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ، وَلاَ فِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ (1) . وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ: سَرِقَةُ الثِّيَابِ الْمَنْشُورَةِ وَلَوْ بِحَضْرَةِ الْحَافِظِ؛ لأَِنَّ آخِذَهُ خَائِنٌ أَوْ مُخْتَلِسٌ.
وَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مَتَاعًا وَضَعَهُ صَاحِبُهُ فِي الْمَسْجِدِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُعَدَّ لِحِفْظِ الْمَال أَصْلاً، إِلاَّ إِذَا كَانَ هُنَاكَ حَارِسٌ يُلاَحِظُهُ؛ لأَِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَصِيرُ حِرْزًا بِالْحَافِظِ. وَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ كَذَلِكَ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْحِرْزَ بِالْحَافِظِ، كَمَنْ يَسْرِقُ بَعِيرًا وَرَاكِبُهُ نَائِمٌ فَوْقَهُ؛ لأَِنَّ يَدَ الْحَافِظِ لَمْ تَزُل عَنِ الْبَعِيرِ، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ الرَّاكِبُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ الْفِعْل اخْتِلاَسًا إِذَا أُزِيلَتْ يَدُهُ عَنِ الْبَعِيرِ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ رِوَايَتَانِ فِي حُكْمِ سَارِقِ
__________
(1) حديث: " لا قطع في ثمر معلق، ولا في حريسة جبل ". أخرجه مالك في الموطأ (2 / 831 - ط الحلبي) من حديث عبد الله المكي مرسلاً. قال ابن عبد البر: " لم تختلف رواة الموطأ في إرساله ويتصل معناه من حديث عبد الله بن عمر وغيره ". اهـ.
(2) شرح الزرقاني 8 / 99 - 104، شرح الخرشي 8 / 119، مواهب الجليل 6 / 309.

(24/320)


الْمَسْجِدِ: تَذْهَبُ الأُْولَى إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، كَالْحَائِطِ أَوِ الْبَابِ أَوِ السَّقْفِ، وَعَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنْ أَدَوَاتِهِ الْمُعَدَّةِ لِلاِسْتِعْمَال فِيهِ كَالْحُصْرِ أَوِ الْبُسُطِ أَوِ الْقَنَادِيل، لأَِنَّهَا مُحْرَزَةٌ بِنَفْسِهَا.
أَمَّا الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى فَتُفَرَّقُ فِي أَدَوَاتِ الْمَسْجِدِ بَيْنَ مَا هُوَ مُثَبَّتٌ كَالْبَلاَطِ. أَوْ مَا هُوَ مُسَمَّرٌ كَالْقَنَادِيل الْمَشْدُودَةِ بِالسَّلاَسِل، أَوْ مَا شُدَّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ كَالْبُسُطِ الْمُخَيَّطِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ، وَهَذِهِ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى سَارِقِهَا، وَبَيْنَ غَيْرِ الْمُثَبَّتِ أَوِ الْمُسَمَّرِ أَوِ الْمَشْدُودِ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ فَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى سَارِقِهَا (1) .
40 - ج - وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يَكُونُ حِرْزًا بِنَفْسِهِ إِلاَّ الْمَكَانُ الْمُغْلَقُ الْمُعَدُّ لِحِفْظِ الْمَال دَاخِل الْعُمْرَانِ، كَالْبُيُوتِ وَالْحَوَانِيتِ وَحَظَائِرِ الْمَاشِيَةِ. فَإِنْ كَانَ الْمَكَانُ غَيْرَ مُغْلَقٍ، بِأَنْ كَانَ بَابُهُ مَفْتُوحًا، أَوْ لَيْسَ لَهُ بَابٌ، أَوْ كَانَ حَائِطُهُ مُتَهَدِّمًا أَوْ بِهِ نَقْبٌ، فَلاَ يَكُونُ حِرْزًا بِنَفْسِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمَكَانُ غَيْرَ مُعَدٍّ لِحِفْظِ الْمَال كَالسُّوقِ وَالْمَسْجِدِ وَالطَّرِيقِ، فَإِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ حِرْزًا بِنَفْسِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمَكَانُ خَارِجَ الْعُمْرَانِ، بِأَنْ كَانَ مُنْفَصِلاً عَنْ مَبَانِي الْقَرْيَةِ أَوِ الْبَلْدَةِ وَلَوْ بِبُسْتَانٍ، فَلاَ يَكُونُ حِرْزًا بِنَفْسِهِ. وَلاَ يَرَى الشَّافِعِيَّةُ مَا يَمْنَعُ مِنَ اعْتِبَارِ الْحِرْزِ بِنَفْسِهِ حِرْزًا بِالْحَافِظِ إِذَا
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 309، 313.

(24/321)


اخْتَل الْحِرْزُ بِالْمَكَانِ، بِأَنْ أَذِنَ لِلسَّارِقِ بِالدُّخُول، أَوْ فَتْحِ الْبَابِ، أَوْ أَحْدَثَ بِهِ نَقْبٌ وَعَلَى ذَلِكَ: يُقَامُ الْحَدُّ عِنْدَهُمْ عَلَى الضَّيْفِ إِذَا سَرَقَ مِنْ غَيْرِ الْمَكَانِ الَّذِي نَزَل بِهِ، لأَِنَّهُ سَرَقَ مَالاً مُحْرَزًا لاَ شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ سَرَقَ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي نَزَل بِهِ، لاِخْتِلاَل الْحِرْزِ بِالإِْذْنِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ بِالْمَكَانِ الَّذِي نَزَل فِيهِ حَافِظٌ يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمَكَانَ يُعْتَبَرُ حِرْزًا بِالْحَافِظِ، وَلَوْ كَانَ الْحَافِظُ نَائِمًا اخْتَل الْحِرْزُ، إِلاَّ إِذَا سَرَقَ الضَّيْفُ شَيْئًا يَلْبَسُهُ النَّائِمُ، أَوْ يَتَوَسَّدُهُ، أَوْ يَتَّكِئُ عَلَيْهِ، أَوْ يَلْتَفُّ بِهِ، فَيُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ. وَيُقَامُ الْحَدُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ نَفْسَ الْحِرْزِ؛ لأَِنَّهُ مُحْرَزٌ بِإِقَامَتِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ يُقْطَعُ مَنْ يَسْرِقُ حِجَارَةَ الْحَائِطِ أَوْ بَابَ الْبَيْتِ أَوْ خَشَبَ السَّقْفِ.
أَمَّا الْحِرْزُ بِغَيْرِهِ: فَهُوَ كُل مَكَانٍ لَمْ يُعَدَّ لِحِفْظِ الْمَال، أَوْ كَانَ خَارِجَ الْعُمْرَانِ، أَوْ غَيْرَ مُغْلَقٍ (1) . وَهُوَ لاَ يَكُونُ حِرْزًا إِلاَّ بِمُلاَحِظٍ يَقُومُ بِحِرَاسَةِ الْمَال بِحَيْثُ لاَ يَعْتَبِرُ الْعُرْفُ صَاحِبَهُ مُقَصِّرًا عِنْدَ سَرِقَتِهِ. فَالْمُلاَحَظَةُ يَخْتَلِفُ مَدَاهَا بِاخْتِلاَفِ نَوْعِ الْحِرْزِ:
1 - فَإِنْ كَانَ الْمَال فِي مَكَانٍ لاَ حَصَانَةَ لَهُ،
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 141 - 142، القليوبي وعميرة 4 / 192، المهذب 2 / 280، مغني المحتاج 4 / 165.

(24/321)


كَصَحْرَاءَ أَوْ مَسْجِدٍ أَوْ شَارِعٍ، اشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ لاِعْتِبَارِهِ مُحْرَزًا دَوَامَ مُلاَحَظَتِهِ مِنَ الْمَالِكِ أَوْ مِمَّنِ اسْتَحْفَظَهُ الْمَالِكُ، وَلاَ يَقْطَعُ هَذَا الدَّوَامُ الْفَتَرَاتِ الْعَارِضَةَ فِي الْعَادَةِ الَّتِي يَغْفُل فِيهَا الْمُلاَحَظُ، فَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ أَثْنَاءَهَا. وَلِذَلِكَ لاَ يُعْتَبَرُ هَذَا الْمَكَانُ حِرْزًا، إِذَا كَانَ الْمُلاَحِظُ بَعِيدًا عُرْفًا عَنِ الْمَال، أَوْ كَانَ نَائِمًا أَوْ أَعْطَاهُ ظَهْرَهُ، أَوْ كَانَ ثَمَّةَ ازْدِحَامٍ يَحُول بَيْنَ الْمُلاَحِظِ وَبَيْنَ الْمَال.
وَدَوَامُ الْمُلاَحَظَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُلاَحِظُ قَادِرًا عَلَى مَنْعِ السَّارِقِ مِنَ السَّرِقَةِ بِقُوَّةٍ مِنْ نَفْسِهِ، أَوْ بِقُوَّةٍ مِنْ غَيْرِهِ كَاسْتِغَاثَةٍ، فَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ السَّارِقِ، وَالْمَوْضُوعُ بَعِيدٌ عَنِ الْغَوْثِ، فَإِنَّ الْمَال لاَ يُعْتَبَرُ مُحْرَزًا بِهِ. وَيُعْتَبَرُ الْمَرْعَى مِنَ الأَْمَاكِنِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى لِحَاظٍ دَائِمٍ، فَلاَ يُعْتَبَرُ حِرْزًا لِلْمَاشِيَةِ إِلاَّ إِذَا كَانَ مَعَهَا حَافِظٌ يَرَاهَا وَيَسْمَعُ صَوْتَهَا إِذَا بَعُدَتْ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَتِ الْمَاشِيَةُ مَقْطُورَةً يَقُودُهَا قَائِدٌ، فَلاَ تَكُونُ مُحْرَزَةً بِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا كُل سَاعَةٍ بِحَيْثُ يَرَاهَا، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَقْطُورَةٍ، أَوْ كَانَ الْقَائِدُ لاَ يَسْتَطِيعُ رُؤْيَةَ بَعْضِهَا لِحَائِلٍ، اخْتَل الْحِرْزُ، وَيُدْرَأُ الْحَدُّ عَنِ السَّارِقِ.
2 - وَإِنْ كَانَ الْمَال فِي مَكَانٍ مُحْصَنٍ، كَدَارٍ وَحَانُوتٍ وَإِصْطَبْلٍ، كَفَى لِحَاظٌ مُعْتَادٌ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَكَانُ مُتَّصِلاً بِالْعُمْرَانِ، وَلَهُ بَابٌ مُغْلَقٌ، اعْتُبِرَ حِرْزًا، سَوَاءٌ كَانَ الْحَافِظُ قَوِيًّا أَوْ ضَعِيفًا،

(24/322)


نَائِمًا أَوْ يَقِظًا، فِي النَّهَارِ أَوْ فِي اللَّيْل، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الزَّمَنُ زَمَنَ أَمْنٍ، أَمْ كَانَ زَمَنَ خَوْفٍ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ حَافِظٌ، فَلاَ يُعْتَبَرُ حِرْزًا إِلاَّ إِذَا كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا وَالْوَقْتُ نَهَارًا وَالزَّمَنُ زَمَنَ أَمْنٍ، وَإِلاَّ فَلاَ (1) .
وَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَكَانُ بَعِيدًا عَنِ الْعُمْرَانِ، وَبِهِ حَافِظٌ قَوِيٌّ يَقْظَانُ، اعْتُبِرَ حِرْزًا سَوَاءٌ كَانَ الْبَابُ مَفْتُوحًا أَوْ مُغْلَقًا، وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَكُونُ حِرْزًا إِذَا كَانَ بِهِ شَخْصٌ قَوِيٌّ نَائِمٌ، وَالْبَابُ مُغْلَقٌ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْمَكَانِ أَحَدٌ، أَوْ كَانَ بِهِ شَخْصٌ ضَعِيفٌ، فَلاَ يُعْتَبَرُ حِرْزًا لِمَا فِيهِ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا.
وَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْمَسْجِدَ يُعْتَبَرُ حِرْزًا بِنَفْسِهِ فِيمَا جُعِل لِعِمَارَتِهِ كَالْبِنَاءِ وَالسَّقْفِ، أَوْ لِتَحْصِينِهِ كَالأَْبْوَابِ وَالشَّبَابِيكِ، أَوْ لِزِينَتِهِ كَالسَّتَائِرِ وَالْقَنَادِيل الْمُعَلَّقَةِ لِلزِّينَةِ.
فَأَمَّا مَا أُعِدَّ لاِنْتِفَاعِ النَّاسِ بِهِ كَالْحُصْرِ وَالْقَنَادِيل الَّتِي تُسْرَجُ فِيهِ وَالْمَصَاحِفِ، فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى سَارِقِهَا إِذَا كَانَ لَهُ حَقُّ الاِنْتِفَاعِ، لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ. وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: وُجُوبُ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى سَارِقِ الْحُصْرِ وَالْقَنَادِيل (2) .
__________
(1)) القليوبي وعميرة 4 / 192، مغني المحتاج 4 / 166، نهاية المحتاج 7 / 428، 450، 452.
(2) أسنى المطالب 4 / 142، القليوبي وعميرة 4 / 192، المهذب 2 / 273، نهاية المحتاج 7 / 425.

(24/322)


41 - د - وَيَتَّفِقُ الْحَنَابِلَةُ مَعَ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَنَّ الْحِرْزَ بِنَفْسِهِ: هُوَ كُل مَوْضِعٍ مُغْلَقٍ مُعَدٍّ لِحِفْظِ الْمَال دَاخِل الْعُمْرَانِ كَالْبُيُوتِ وَالْحَوَانِيتِ وَحَظَائِرِ الْمَاشِيَةِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُغْلَقًا: بِأَنْ كَانَ بَابُهُ مَفْتُوحًا أَوْ بِهِ نَقْبٌ، فَلاَ يُعْتَبَرُ حِرْزًا بِنَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَدًّا لِحِفْظِ الْمَال كَالسُّوقِ وَالْمَسْجِدِ، فَلاَ يُعْتَبَرُ حِرْزًا بِنَفْسِهِ. وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الْعُمْرَانِ فَلاَ يُعْتَبَرُ حِرْزًا بِنَفْسِهِ. وَلاَ يَرَى الْحَنَابِلَةُ مَانِعًا مِنَ اعْتِبَارِ الْحِرْزِ بِنَفْسِهِ حِرْزًا بِالْحَافِظِ إِذَا اخْتَل الْحِرْزُ بِالْمَكَانِ بِأَنْ أَذِنَ لِلسَّارِقِ بِالدُّخُول، أَوْ كَانَ الْبَابُ مَفْتُوحًا، أَوْ أَحْدَثَ بِالْمَكَانِ نَقْبٌ. وَلِهَذَا لاَ يُقَامُ الْحَدُّ عِنْدَهُمْ عَلَى الضَّيْفِ إِذَا سَرَقَ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ بِدُخُولِهِ لاِخْتِلاَل الْحِرْزِ بِالإِْذْنِ.
فَأَمَّا إِذَا سَرَقَ مِنْ مَوْضِعٍ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بِدُخُولِهِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ مُعَامَلَةِ الضَّيْفِ: فَإِنْ كَانَ الْمُضِيفُ قَدْ مَنَعَهُ قِرَاهُ فَسَرَقَ بِقَدْرِهِ لاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنَعَهُ قِرَاهُ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ.
وَيَذْهَبُ الْحَنَابِلَةُ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ نَفْسَ الْحِرْزِ، لأَِنَّهُ مُحْرَزٌ بِإِقَامَتِهِ. وَعَلَى ذَلِكَ يُقْطَعُ مَنْ يَسْرِقُ حِجَارَةً مِنْ حَائِطِ الدَّارِ، أَوْ بَابِهِ، أَوْ نَحْوِهِ.
أَمَّا الْحِرْزُ بِغَيْرِهِ: فَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي لَمْ يُعَدَّ

(24/323)


لِحِفْظِ الْمَال دُونَ حَافِظٍ فِي الْعَادَةِ، كَالْخِيَامِ وَالْمَضَارِبِ، أَوِ الْمَوْضِعِ الْمُنْفَصِل عَنِ الْعُمْرَانِ، كَالْبُيُوتِ فِي الْبَسَاتِينِ وَالطُّرُقِ وَالصَّحْرَاءِ، مُغْلَقَةً كَانَتْ أَوْ مَفْتُوحَةً، فَلاَ تَكُونُ حِرْزًا إِلاَّ بِحَافِظٍ أَيًّا كَانَ: صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، قَوِيًّا أَوْ ضَعِيفًا، مَا دَامَ لَمْ يُفَرِّطْ فِي الْحِفْظِ بِنَحْوِ نَوْمٍ، أَوْ يَشْتَغِل عَنِ الْمُلاَحَظَةِ بِنَحْوِ لَهْوٍ. وَعَلَى ذَلِكَ تُحْرَزُ الْمَاشِيَةُ فِي الْمَرْعَى بِمُلاَحَظَةِ الرَّاعِي لَهَا، بِأَنْ يَرَاهَا وَيَبْلُغَهَا صَوْتُهُ. فَإِنْ نَامَ أَوْ غَفَل عَنْهَا أَوِ اسْتَتَرَ بَعْضُهَا عَنْهُ فَلاَ تَكُونُ مُحْرَزَةً. أَمَّا الإِْبِل فَإِنَّهَا تُحْرَزُ وَهِيَ بَارِكَةٌ إِذَا عُقِلَتْ وَكَانَ مَعَهَا حَافِظٌ وَلَوْ نَائِمًا (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رَأْيَانِ فِي حُكْمِ السَّرِقَةِ مِنَ الْمَسْجِدِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَسْجِدَ لَيْسَ حِرْزًا بِنَفْسِهِ إِلاَّ فِيمَا جُعِل لِعِمَارَتِهِ أَوْ لِزِينَتِهِ، كَالسَّقْفِ وَالأَْبْوَابِ وَنَحْوِهَا، فَأَمَّا مَا أُعِدَّ لاِنْتِفَاعِ النَّاسِ بِهِ، كَالْحُصْرِ أَوِ الْبُسُطِ أَوْ قَنَادِيل الإِْضَاءَةِ، فَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى سَارِقِهَا، وَلَوْ كَانَتْ مُحْرَزَةً بِحَافِظٍ؛ لأَِنَّ حَقَّ السَّارِقِ فِي الاِنْتِفَاعِ بِهَا يُعْتَبَرُ شُبْهَةً تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ. وَالرَّأْيُ الآْخَرُ: لاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنَ الْمَسْجِدِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَسْرُوقُ لِعِمَارَتِهِ وَزِينَتِهِ، أَوْ كَانَ مُعَدًّا لاِنْتِفَاعِ النَّاسِ بِهِ؛ لأَِنَّ الْمَسْجِدَ لاَ مَالِكَ لَهُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ؛ وَلأَِنَّهُ مُعَدٌّ لاِنْتِفَاعِ الْمُسْلِمِينَ بِهِ،
__________
(1) كشاف القناع 4 / 81، وما بعدها، المغني والشرح الكبير 10 / 250، 257.

(24/323)


فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ، سَوَاءٌ اعْتُبِرَتِ السَّرِقَةُ مِنْ حِرْزٍ بِنَفْسِهِ أَوْ مِنْ حِرْزٍ بِالْحَافِظِ (1) .

الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الأَْخْذُ خُفْيَةً:
42 - يُشْتَرَطُ لإِِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ أَنْ يَأْخُذَ السَّارِقُ الْمَسْرُوقَ خُفْيَةً، وَأَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ الْحِرْزِ.
فَإِذَا شَرَعَ فِي الأَْخْذِ وَلَمْ يُتِمَّهُ، فَلاَ يُقْطَعُ، بَل يُعَزَّرُ. وَقَدْ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الشَّرِيكِ إِذَا بَلَغَ فِعْلُهُ حَدًّا يُمْكِنُ مَعَهُ نِسْبَةُ السَّرِقَةِ إِلَيْهِ.

1 - الأَْخْذُ:
43 - لاَ يُعْتَبَرُ مُجَرَّدُ الأَْخْذِ سَرِقَةً عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ إِذَا نَتَجَ عَنْ هَتْكِ الْحِرْزِ، كَأَنْ يَفْتَحَ السَّارِقُ إِغْلاَقَهُ وَيَدْخُل، أَوْ يَكْسِرَ بَابَهُ أَوْ شُبَّاكَهُ، أَوْ يَنْقُبَ فِي سَطْحِهِ أَوْ جِدَارِهِ، أَوْ يُدْخِل يَدَهُ فِي الْجَيْبِ لأَِخْذِ مَا بِهِ، أَوْ يَأْخُذَ ثَوْبًا تَوَسَّدَهُ شَخْصٌ نَائِمٌ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى طَرِيقَةِ الأَْخْذِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - إِلاَّ أَبَا يُوسُفَ - إِلَى أَنَّ الأَْخْذَ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ إِذَا كَانَ هَتْكُ الْحِرْزِ هَتْكًا كَامِلاً تَحَرُّزًا عَنْ شُبْهَةِ الْعَدَمِ، بِأَنْ يَدْخُل الْحِرْزَ فِعْلاً، إِذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ دُخُولُهُ، كَبَيْتٍ وَحَانُوتٍ، فَإِذَا
__________
(1) كشاف القناع 4 / 83، المغني والشرح الكبير 10 / 254.

(24/324)


كَانَ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ دُخُولُهُ، كَصُنْدُوقٍ وَجَيْبٍ، فَلاَ يُشْتَرَطُ الدُّخُول (1) .
وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ: مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَال: اللِّصُّ إِذَا كَانَ ظَرِيفًا لاَ يُقْطَعُ. قِيل: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَال: أَنْ يَنْقُبَ الْبَيْتَ فَيُدْخِل يَدَهُ وَيُخْرِجَ الْمَتَاعَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَهُ (2) .
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ دُخُول الْحِرْزِ لَيْسَ شَرْطًا لِتَحَقُّقِ الأَْخْذِ وَهَتْكِ الْحِرْزِ، فَدُخُول الْحِرْزِ لَيْسَ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ، بَل لأَِخْذِ الْمَال، فَإِذَا تَحَقَّقَ الْمَقْصُودُ بِمَدِّ الْيَدِ دَاخِل الْحِرْزِ وَإِخْرَاجِ الْمَال، كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي هَتْكِ الْحِرْزِ وَأَخْذِ الْمَال (3) .
وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ: مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ رَجُلاً كَانَ يَسْرِقُ الْحُجَّاجَ بِمِحْجَنِهِ، فَقِيل لَهُ: أَتَسْرِقُ مَتَاعَ الْحُجَّاجِ؟ قَال: لَسْتُ أَسْرِقُ، وَإِنَّمَا يَسْرِقُ الْمِحْجَنُ. فَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: رَأَيْتُهُ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ. يَعْنِي: أَمْعَاءَهُ، لِمَا كَانَ يَتَنَاوَل مِنْ مَال الْحُجَّاجِ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 66، الهداية 2 / 93.
(2) المبسوط 9 / 147.
(3) فتح القدير 4 / 245، مواهب الجليل 6 / 310، المهذب 2 / 297، المغني 10 / 259.
(4) حديث المحجن أخرجه مسلم (2 / 623 - ط الحلبي) من حديث جابر بلفظ: " حتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر قصبه في النار، وكان يسرق الحاج بمحجنه، فإن فطن له قال: إنما تعلق بمحجني، وإن غفل عنه ذهب به ". والمحجن: كل معوج الرأس كالصولجان.

(24/324)


الْخُفْيَةُ:
44 - يُشْتَرَطُ لإِِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ أَنْ يُؤْخَذَ الشَّيْءُ خُفْيَةً وَاسْتِتَارًا، بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دُونَ عِلْمِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَدُونَ رِضَاهُ. فَإِنْ أَخَذَ الشَّيْءَ عَلَى سَبِيل الْمُجَاهَرَةِ، سُمِّيَ: مُغَالَبَةً أَوْ نَهْبًا أَوْ خِلْسَةً أَوِ اغْتِصَابًا أَوِ انْتِهَابًا، لاَ سَرِقَةً. وَإِنْ حَدَثَ الأَْخْذُ دُونَ عِلْمِ الْمَالِكِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، ثُمَّ رَضِيَ، فَلاَ سَرِقَةَ. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ حُكْمِ الأَْخْذِ فِي: الاِخْتِلاَسِ، وَجَحْدِ الأَْمَانَةِ، وَالْحِرَابَةِ، وَالْغَصْبِ، وَالنَّبْشِ، وَالنَّشْل، وَالنَّهْبِ (1) .

3 - الإِْخْرَاجُ:
45 - لاَ تَكْتَمِل صُورَةُ الأَْخْذِ خُفْيَةً إِلاَّ إِذَا أَخْرَجَ السَّارِقُ الشَّيْءَ الْمَسْرُوقَ مِنْ حِرْزِهِ، وَمِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَأَدْخَلَهُ فِي حِيَازَةِ نَفْسِهِ.

أ - الإِْخْرَاجُ مِنَ الْحِرْزِ:
46 - اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى وُجُوبِ إِخْرَاجِ الْمَسْرُوقِ (2) مِنَ الْحِرْزِ لِكَيْ يُقَامَ حَدُّ السَّرِقَةِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 64 - 65، بداية المجتهد 2 / 436، القليوبي وعميرة 4 / 186، شرح منتهى الإرادات 3 / 362. وانظر: استعراض الألفاظ ذات الصلة في أول هذا البحث.
(2) البحر الرائق 5 / 55، الخرشي على خليل 8 / 97، القليوبي وعميرة 4 / 190، شرح منتهى الإرادات 3 / 367.

(24/325)


فَإِنْ كَانَتِ السَّرِقَةُ مِنْ حِرْزٍ بِالْحَافِظِ فَيَكْفِي مُجَرَّدُ الأَْخْذِ، حَيْثُ لاَ اعْتِبَارَ لِلْمَكَانِ فِي الْحِرْزِ بِالْحَافِظِ. وَإِنْ كَانَتِ السَّرِقَةُ مِنْ حِرْزٍ بِنَفْسِهِ فَلاَ بُدَّ مِنْ إِخْرَاجِ الْمَسْرُوقِ مِنَ الْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِحِفْظِهِ، فَإِذَا ضُبِطَ السَّارِقُ دَاخِل الْحِرْزِ، قَبْل أَنْ يَخْرُجَ بِمَا سَرَقَهُ، فَلاَ يُقْطَعُ بَل يُعَزَّرُ (1) .
وَالإِْخْرَاجُ مِنَ الْحِرْزِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَاشِرًا، بِأَنْ يَقُومَ السَّارِقُ بِأَخْذِ الْمَسْرُوقِ خُفْيَةً مِنَ الْحِرْزِ وَيَخْرُجَ بِهِ مِنْهُ، أَوْ بِأَنْ يُؤَدِّيَ فِعْلُهُ مُبَاشَرَةً إِلَى إِخْرَاجِهِ، كَأَنْ يَدْخُل الْحِرْزَ وَيَأْخُذَ الْمَسْرُوقَ ثُمَّ يَرْمِيَ بِهِ خَارِجَ الْحِرْزِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُبَاشِرٍ وَيُطْلِقُ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ الأَْخْذُ بِالتَّسَبُّبِ، بِأَنْ يُؤَدِّيَ فِعْل السَّارِقِ - بِطَرِيقٍ غَيْرِ مُبَاشِرٍ - إِلَى إِخْرَاجِ الْمَسْرُوقِ مِنَ الْحِرْزِ، كَأَنْ يَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِ دَابَّةٍ وَيَقُودَهَا خَارِجَ الْحِرْزِ، أَوْ يُلْقِيَهُ فِي مَاءٍ رَاكِدٍ ثُمَّ يَفْتَحَ مَصْدَرَ الْمَاءِ فَيُخْرِجَهُ التَّيَّارُ مِنَ الْحِرْزِ. وَسَوَاءٌ كَانَ الإِْخْرَاجُ مُبَاشِرًا أَوْ غَيْرَ مُبَاشِرٍ فَإِنَّ شُرُوطَ الأَْخْذِ خُفْيَةً تَكُونُ تَامَّةً وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ لأَِنَّهُ هُوَ الْمُخْرِجُ لِلشَّيْءِ: إِمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِآلَتِهِ. غَيْرَ أَنَّ بَعْضَ صُوَرِ الإِْخْرَاجِ كَانَتْ مَحَلًّا لاِخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ، تَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي مَفْهُومِ الأَْخْذِ التَّامِّ. فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَهْتِكَ
__________
(1) البحر الرائق 5 / 64 - 65، بدائع الصنائع 7 / 65، شرح الزرقاني 8 / 98، المهذب 2 / 295 وما بعدها، كشاف القناع 4 / 79.

(24/325)


السَّارِقُ الْحِرْزَ، وَيَدْخُلَهُ، وَيَأْخُذَ الشَّيْءَ خُفْيَةً، ثُمَّ يَرْمِيَ بِهِ خَارِجَ الْحِرْزِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَخْرُجُ فَيَأْخُذُهُ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَتَّفِقُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ الأَْخْذَ تَامٌّ فَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ، وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ زُفَرُ، حَيْثُ يَرَى أَنَّ الأَْخْذَ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِالإِْخْرَاجِ، وَالرَّمْيُ لَيْسَ بِإِخْرَاجٍ، وَالأَْخْذُ مِنَ الْخَارِجِ لاَ يُعْتَبَرُ أَخْذًا مِنَ الْحِرْزِ (1) .

ب - إِخْرَاجُ الْمَسْرُوقِ مِنْ حِيَازَةِ مَالِكِهِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ:
46 م - يَتَرَتَّبُ عَلَى إِخْرَاجِ الْمَسْرُوقِ مِنَ الْحِرْزِ أَنْ يَخْرُجَ كَذَلِكَ مِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، ذَلِكَ أَنَّ السَّارِقَ إِذَا أَخْرَجَ الْمَسْرُوقَ مِنَ الْبَيْتِ أَوِ الْحَانُوتِ أَوِ الْحَظِيرَةِ أَوِ الْجَيْبِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ قَدْ أَخْرَجَهُ مِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، حَيْثُ إِنَّهُ قَدْ أَزَال يَدَ الْحَائِزِ عَنِ الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ. وَلَكِنَّ إِخْرَاجَ الْمَسْرُوقِ مِنْ حِيَازَةِ مَالِكِهِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى خُرُوجِ السَّارِقِ بِهِ مِنَ الْحِرْزِ، فَقَدْ تَزُول يَدُ الْحَائِزِ عَنِ الْمَسْرُوقِ رَغْمَ بَقَاءِ السَّارِقِ فِي الْحِرْزِ وَعَدَمِ إِخْرَاجِ الْمَسْرُوقِ مِنْ ذَلِكَ الْحِرْزِ، كَمَا إِذَا ابْتَلَعَ السَّارِقُ مَا سَرَقَهُ دُونَ
__________
(1) فتح القدير 4 / 244، المبسوط 9 / 148، الهداية 2 / 93، بدائع الصنائع 7 / 65، مواهب الجليل 6 / 308، نهاية المحتاج 7 / 437، المغني والشرح الكبير 10 / 259، الفتاوى الهندية 2 / 179.

(24/326)


أَنْ يُغَادِرَ الْحِرْزَ، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَنَحْوِهَا يَخْرُجُ الْمَسْرُوقُ مِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْرُجَ بِهِ السَّارِقُ مِنَ الْحِرْزِ.

ج - دُخُول الْمَسْرُوقِ فِي حِيَازَةِ السَّارِقِ:
47 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ إِخْرَاجَ الْمَسْرُوقِ مِنْ حِرْزِهِ، وَمِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، لاَ يَسْتَتْبِعُ حَتْمًا دُخُولَهُ فِي حِيَازَةِ السَّارِقِ، وَمِنْ ثَمَّ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. مِثَال ذَلِكَ: أَنْ يَهْتِكَ السَّارِقُ الْحِرْزَ، وَيَدْخُلَهُ، وَيَأْخُذَ الشَّيْءَ خُفْيَةً، ثُمَّ يَرْمِيَ بِهِ خَارِجَ الْحِرْزِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ لاَ يَتَمَكَّنُ مِنَ الْخُرُوجِ لأَِخْذِهِ، أَوْ يَخْرُجَ مِنَ الْحِرْزِ لِيَأْخُذَهُ فَيَجِدَ غَيْرَهُ قَدْ عَثَرَ عَلَيْهِ وَأَخَذَهُ. وَهُنَا يُعْتَبَرُ الْمَسْرُوقُ قَدْ أَخْرَجَ مِنَ الْحِرْزِ، وَمِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَدْخُل فِي حِيَازَةِ السَّارِقِ. لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْخُرُوجِ فَلاَ تَثْبُتُ يَدُهُ عَلَى الْمَسْرُوقِ وَلاَ يُعْتَبَرُ فِي حِيَازَتِهِ فِعْلاً. وَإِنْ خَرَجَ وَلَمْ يَجِدِ الْمَسْرُوقَ، تَكُونُ يَدُ الآْخِذِ قَدِ اعْتَرَضَتْ يَدَ السَّارِقِ، فَدَخَل الْمَسْرُوقُ فِي حِيَازَةِ مَنْ أَخَذَهُ، وَلَمْ يَدْخُل فِي حِيَازَةِ مَنْ سَرَقَهُ، وَحِينَئِذٍ تَحُول هَذِهِ " الْيَدُ الْمُعْتَرِضَةُ " دُونَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ، وَإِنْ كَانَ يُعَزَّرُ (1) . وَيَنْطَبِقُ نَفْسُ الْحُكْمِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - عَلَى مَنْ يَهْتِكُ الْحِرْزَ، وَيَدْخُلُهُ،
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 65، فتح القدير 4 / 244، المبسوط 9 / 148.

(24/326)


وَيَأْخُذُ الشَّيْءَ خُفْيَةً وَلَكِنَّهُ يُتْلِفُهُ وَهُوَ دَاخِل الْحِرْزِ؛ لأَِنَّهُ إِنْ أَتْلَفَ مَا يَفْسُدُ بِالإِْتْلاَفِ كَأَنْ أَكَل الطَّعَامَ، أَوْ أَحْرَقَ الْمَتَاعَ، أَوْ مَزَّقَ الثَّوْبَ، أَوْ كَسَرَ الآْنِيَةَ، فَلاَ يُعَدُّ سَارِقًا، بَل مُتْلِفًا، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ وَالتَّعْزِيرُ. أَمَّا إِنْ أَتْلَفَ بَعْضَهُ وَأَخْرَجَ الْبَعْضَ الآْخَرَ، وَكَانَتْ قِيمَةُ مَا أَخْرَجَهُ تُسَاوِي نِصَابًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ سَارِقًا، لِتَحَقُّقِ تَمَامِ الأَْخْذِ بِالْهَتْكِ وَالإِْخْرَاجِ، وَخَالَفَهُمْ أَبُو يُوسُفَ؛ لأَِنَّ السَّارِقَ إِذَا أَتْلَفَ الْبَعْضَ يَصِيرُ ضَامِنًا، وَالْمَضْمُونَاتُ تُمْلَكُ بِالضَّمَانِ، فَيَكُونُ سَبَبُ الْمِلْكِ قَدِ انْعَقَدَ لَهُ قَبْل الإِْخْرَاجِ، وَلاَ يُقْطَعُ أَحَدٌ فِي مَال نَفْسِهِ. وَإِنْ كَانَ مَا أَتْلَفَهُ - وَهُوَ دَاخِل الْحِرْزِ - لاَ يَفْسُدُ بِالإِْتْلاَفِ، كَأَنْ يَبْتَلِعَ جَوْهَرَةً أَوْ دِينَارًا فَإِنَّهُ لاَ يُعَدُّ سَارِقًا أَيْضًا، حَتَّى لَوْ خَرَجَ بِمَا ابْتَلَعَهُ؛ لأَِنَّ الاِبْتِلاَعَ يُعْتَبَرُ اسْتِهْلاَكًا لِلشَّيْءِ، فَهُوَ مِنْ قَبِيل الإِْتْلاَفِ، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ (1) .
أَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ إِخْرَاجَ الْمَسْرُوقِ مِنْ حِرْزِهِ وَمِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ يَسْتَتْبِعُ حَتْمًا إِدْخَالَهُ فِي حِيَازَةِ السَّارِقِ إِدْخَالاً فِعْلِيًّا أَوْ حُكْمِيًّا. وَعَلَى ذَلِكَ: فَلَوْ دَخَل السَّارِقُ الْحِرْزَ، وَأَخَذَ الشَّيْءَ خُفْيَةً، وَرَمَى بِهِ خَارِجَ الْحِرْزِ، فَإِنَّ الْحَدَّ يُقَامُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ حِينَ أَخْرَجَ الشَّيْءَ مِنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 70، 71 - 84، فتح القدير 4 / 264، المبسوط 9 / 164، حاشية ابن عابدين 3 / 199.

(24/327)


حِرْزِهِ وَمِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، يَكُونُ أَدْخَلَهُ حُكْمًا فِي حِيَازَةِ نَفْسِهِ، فَإِذَا خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَخَذَهُ، فَإِنَّ وَضْعَ الْيَدِ الْفِعْلِيِّ عَلَى الْمَسْرُوقِ يَنْضَمُّ إِلَى الْحِيَازَةِ الْحُكْمِيَّةِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُوجِبُ الْحَدَّ بِمُفْرَدِهِ. وَكَذَلِكَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْحِرْزِ فَوَجَدَ أَنَّ غَيْرَهُ قَدْ أَخَذَ الشَّيْءَ الْمَسْرُوقَ، لأَِنَّ هَذَا الشَّيْءَ دَخَل فِي حِيَازَةِ السَّارِقِ حُكْمًا، وَلَوْ لَمْ يَضَعْ يَدَهُ عَلَيْهِ فِعْلاً، وَصَاحِبُ الْيَدِ الْمُعْتَرَضَةِ لاَ يُغَيِّرُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ - عِنْدَهُمْ - لأَِنَّ الْيَدَ الْمُعْتَرِضَةَ لاَ تُجَوِّزُ الْمَسْرُوقَ إِلاَّ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي حِيَازَةِ السَّارِقِ.
وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ أَيْضًا - عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - إِذَا رَمَى الشَّيْءَ الْمَسْرُوقَ خَارِجَ الْحِرْزِ، ثُمَّ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ لأَِخْذِهِ، بِأَنْ تَمَّ ضَبْطُهُ دَاخِل الْحِرْزِ أَوْ مُنِعَ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْهُ؛ لأَِنَّهُ دَخَل فِي حِيَازَتِهِ حُكْمًا بِمُجَرَّدِ خُرُوجِهِ مِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَالْحِيَازَةُ الْحُكْمِيَّةُ تَكْفِي لاِعْتِبَارِ الأَْخْذِ تَامًّا كَالْحِيَازَةِ الْفِعْلِيَّةِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ.
وَلَئِنْ كَانَ مَالِكٌ تَرَدَّدَ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ إِذَا ضُبِطَ فِي الْحِرْزِ، بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ الْمَسْرُوقَ وَقَبْل أَنْ يَخْرُجَ لأَِخْذِهِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَذْهَبَ عَلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ كَمَا قَال ابْنُ عَرَفَةَ (1) : وَالْمَدَارُ فِي الْقَطْعِ عَلَى
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 308، المهذب 2 / 297، المغني والشرح الكبير 10 / 259، شرح الزرقاني 8 / 98، أسنى المطالب 4 / 138، 147، حاشية الدسوقي 4 / 338.

(24/327)


إِخْرَاجِ النِّصَابِ مِنَ الْحِرْزِ، خَرَجَ مِنْهُ السَّارِقُ إِذَا دَخَل أَمْ لاَ، حَتَّى إِنَّ السَّارِقَ لَوْ أَخْرَجَ النِّصَابَ مِنَ الْحِرْزِ، ثُمَّ عَادَ بِهِ فَأَدْخَلَهُ، قُطِعَ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مَعَ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ مَنْ يَهْتِكُ الْحِرْزَ وَيَدْخُلُهُ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا يَفْسُدُ بِالإِْتْلاَفِ، ثُمَّ يُتْلِفُهُ وَهُوَ دَاخِل الْحِرْزِ، فَلاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ فِعْلَهُ هَذَا يُعْتَبَرُ اسْتِهْلاَكًا، لاَ سَرِقَةً، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ وَالتَّعْزِيرُ. أَمَّا إِذَا أَتْلَفَ بَعْضَهُ دَاخِل الْحِرْزِ، وَأَخْرَجَ الْبَعْضَ الآْخَرَ مِنْهُ، وَكَانَتْ قِيمَةُ مَا أَخْرَجَ تُسَاوِي النِّصَابَ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ سَارِقًا وَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِتَحَقُّقِ الأَْخْذِ بِهَتْكِ الْحِرْزِ وَإِخْرَاجِ النِّصَابِ مِنْهُ. وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ مَنْ يُتْلِفُ وَهُوَ دَاخِل الْحِرْزِ شَيْئًا لاَ يَفْسُدُ بِالإِْتْلاَفِ، كَأَنْ يَبْتَلِعَ دِينَارًا أَوْ جَوْهَرَةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ الْحِرْزِ. فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الاِبْتِلاَعَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُعْتَبَرُ أَخْذًا تَامًّا، كَأَنَّهُ وَضَعَ الْمَسْرُوقَ فِي وِعَاءٍ وَخَرَجَ بِهِ، وَلِهَذَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، قَوْلاً وَاحِدًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى اعْتِبَارِ الْفِعْل إِتْلاَفًا، إِذَا لَمْ يَخْرُجِ الْمَسْرُوقُ مِنْ

(24/328)


جَوْفِهِ بَعْدَ ابْتِلاَعِهِ، وَمِنْ ثَمَّ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ دَاخِل الْحِرْزِ، فَصَارَ كَأَكْل الطَّعَامِ. أَمَّا إِذَا خَرَجَ الْمَسْرُوقُ مِنْ جَوْفِهِ بَعْدَ ابْتِلاَعِهِ، فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ؛ لأَِنَّ الْمَسْرُوقَ بَاقٍ بِحَالِهِ لَمْ يَفْسُدْ، فَأَشْبَهَ مَا إِذَا أَخْرَجَهُ فِي فِيهِ أَوْ فِي وِعَاءٍ.
وَلَدَى الْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ: أَوَّلُهُمَا: يُعْتَبَرُ الْفِعْل إِتْلاَفًا فِي كُل حَالٍ، فَلاَ قَطْعَ، بَل يَجِبُ الضَّمَانُ، وَالآْخَرُ: يُعْتَبَرُ الْفِعْل إِتْلاَفًا إِذَا لَمْ يَخْرُجِ الْمَسْرُوقُ مِنْ جَوْفِ مَنِ ابْتَلَعَهُ، وَمِنْ ثَمَّ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَيَعْتَبِرُهُ سَرِقَةً إِذَا خَرَجَ مِنْ جَوْفِهِ بَعْدَ الاِبْتِلاَعِ، وَكَأَنَّهُ أَخْرَجَهُ فِي جَيْبِهِ، وَمِنْ ثَمَّ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ (1) .

د - الشُّرُوعُ فِي الأَْخْذِ:
48 - يُعْتَبَرُ شُرُوعًا فِي السَّرِقَةِ كُل فِعْلٍ يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى سَرِقَةٍ، وَلَكِنَّ السَّرِقَةَ لَمْ تَكْتَمِل مَعَهُ، وَذَلِكَ كَالْوَسَائِل الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى هَتْكِ الْحِرْزِ، أَوْ أَخْذِ الشَّيْءِ دُونَ عِلْمِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَرِضَاهُ، أَوْ إِخْرَاجِ الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ مِنْ حِرْزِهِ، وَمِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، دُونَ أَنْ يَدْخُل فِي حِيَازَةِ الآْخِذِ، أَوْ إِخْرَاجِ مَا دُونَ النِّصَابِ. أَمَّا إِذَا تَمَّتِ السَّرِقَةُ فَإِنَّ الْحَدَّ يُقَامُ عَلَى السَّارِقِ بِاعْتِبَارِهِ قَدِ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً مُوجِبَةً لِلْحَدِّ شَرْعًا، وَذَلِكَ دُونَ نَظَرٍ إِلَى كُل فِعْلٍ بِمُفْرَدِهِ مِنَ الأَْفْعَال الَّتِي كَوَّنَتِ السَّرِقَةَ.
__________
(1) شرح الخرشي 8 / 97، شرح الزرقاني 8 / 99، الشرح الكبير للدردير 4 / 338، أسنى المطالب 4 / 184، المهذب 2 / 297، مغني المحتاج 4 / 173، روضة الطالبين 10 / 136، المغني والشرح الكبير 10 / 261.

(24/328)


حُكْمُ الشُّرُوعِ فِي السَّرِقَةِ:
49 - مِنَ الْمُقَرَّرِ فِي الشَّرْعِ الإِْسْلاَمِيِّ: أَنَّ كُل مَعْصِيَةٍ يَنْجُمُ عَنْهَا عُدْوَانٌ عَلَى حَقِّ إِنْسَانٍ أَوْ عَلَى حَقِّ الأُْمَّةِ فَإِنَّ مُرْتَكِبَهَا يَخْضَعُ لِلْحَدِّ أَوْ لِلتَّعْزِيرِ أَوْ لِلْكَفَّارَةِ، وَحَيْثُ إِنَّ الْحُدُودَ وَالْكَفَّارَاتِ مُحَدَّدَةٌ شَرْعًا، فَكُل مَعْصِيَةٍ لاَ حَدَّ فِيهَا وَلاَ كَفَّارَةَ يُمْكِنُ أَنْ يُعَاقَبَ مُرْتَكِبُهَا عَلَى وَجْهِ التَّعْزِيرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَتَى جَرِيمَةً كَامِلَةً، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ فِعْلِهِ يُعْتَبَرُ شُرُوعًا فِي جَرِيمَةٍ أُخْرَى (1) . انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (تَعْزِير) .
وَعَلَى ذَلِكَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، فَإِنَّهُمْ يَمْنَعُونَ إِقَامَةَ الْحَدِّ إِذَا لَمْ تَتِمَّ السَّرِقَةُ، وَلَكِنَّهُمْ يُوجِبُونَ التَّعْزِيرَ عَلَى مَنْ يَبْدَأُ فِي الأَْفْعَال الَّتِي تُكَوِّنُ بِمَجْمُوعِهَا جَرِيمَةَ السَّرِقَةِ. لَيْسَ بِاعْتِبَارِهِ شَارِعًا فِي السَّرِقَةِ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِهِ مُرْتَكِبًا لِمَعْصِيَةٍ تَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ (2) . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: أَنَّ سَارِقًا نَقَبَ خِزَانَةَ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ، فَوُجِدَ بِهَا، قَدْ جَمَعَ الْمَتَاعَ وَلَمْ يَخْرُجْ بِهِ. فَأُتِيَ بِهِ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَجَلَدَهُ، وَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْطَعَ. فَمَرَّ بِابْنِ عُمَرَ، فَسَأَل فَأُخْبِرَ، فَأَتَى ابْنَ
__________
(1) المبسوط 9 / 36، مواهب الجليل 6 / 320، القليوبي وعميرة 4 / 205، كشاف القناع 4 / 72.
(2) المبسوط 9 / 147، حاشية الدسوقي 4 / 306، الأحكام السلطانية للماوردي ص 237، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 281.

(24/329)


الزُّبَيْرِ، فَقَال: أَمَرْتَ بِهِ أَنْ يُقْطَعَ؟ فَقَال: نَعَمْ، فَقَال: فَمَا شَأْنُ الْجَلْدِ؟ قَال: غَضِبْتُ، فَقَال ابْنُ عُمَرَ: لَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْبَيْتِ، أَرَأَيْتَ لَوْ رَأَيْتَ رَجُلاً بَيْنَ رِجْلَيِ امْرَأَةٍ لَمْ يُصِبْهَا، أَأَنْتَ حَادُّهُ؟ قَال: لاَ (1) .
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: عَلَى أَنَّ الشُّرُوعَ فِي السَّرِقَةِ لَيْسَ لَهُ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ، وَإِنَّمَا تُطَبَّقُ فِيهِ الْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ لِلتَّعْزِيرِ (2) .

الاِشْتِرَاكُ فِي الأَْخْذِ:
50 - يُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ فِي مَسَائِل الاِشْتِرَاكِ فِي السَّرِقَةِ بَيْنَ الشَّرِيكِ الْمُبَاشِرِ وَالشَّرِيكِ بِالتَّسَبُّبِ (3) ، فَأَمَّا الشَّرِيكُ الْمُبَاشِرُ فَهُوَ الَّذِي يُبَاشِرُ أَحَدَ الأَْفْعَال الَّتِي تُكَوِّنُ الأَْخْذَ التَّامَّ، وَهِيَ: إِخْرَاجُ الْمَسْرُوقِ مِنْ حِرْزِهِ وَمِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَإِدْخَالُهُ فِي حِيَازَةِ السَّارِقِ.
وَأَمَّا الشَّرِيكُ بِالتَّسَبُّبِ فَهُوَ الَّذِي لاَ يُبَاشِرُ أَحَدَ هَذِهِ الأَْفْعَال الْمُكَوِّنَةِ لِلأَْخْذِ الْمُتَكَامِل، وَإِنَّمَا تَقْتَصِرُ فِعْلُهُ عَلَى مَدِّ يَدِ الْعَوْنِ لِلسَّارِقِ، بِأَنْ يُرْشِدَهُ إِلَى مَكَانِ الْمَسْرُوقَاتِ، أَوْ بِأَنْ يَقِفَ خَارِجَ الْحِرْزِ لِيَمْنَعَ اسْتِغَاثَةَ الْجِيرَانِ، أَوْ لِيَنْقُل الْمَسْرُوقَاتِ بَعْدَ أَنْ يُخْرِجَهَا السَّارِقُ مِنَ الْحِرْزِ.
__________
(1) أورده ابن حزم في المحلى 11 / 320.
(2) الأحكام السلطانية ص 237، 281.
(3) بدائع الصنائع 7 / 66، شرح الزرقاني 8 / 96، نهاية المحتاج 7 / 421، كشاف القناع 4 / 79.

(24/329)


وَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ إِلاَّ عَلَى الْمُبَاشِرِ، أَمَّا الْمُتَسَبِّبُ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ (1) .
وَيَبْدُو مِنْ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ فِي الاِشْتِرَاكِ: أَنَّهُمْ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الشَّرِيكِ وَالْمُعَيَّنِ فَيَعْتَبِرُونَ الشَّرِيكَ هُوَ الَّذِي يَقُومُ مَعَ غَيْرِهِ بِعَمَلٍ مِنَ الأَْعْمَال الْمُكَوِّنَةِ لِلسَّرِقَةِ، وَخَاصَّةً: هَتْكُ الْحِرْزِ، وَإِخْرَاجُ الْمَسْرُوقِ مِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَإِدْخَالُهُ فِي حِيَازَةِ السَّارِقِ، أَمَّا الْمُعَيَّنُ فَهُوَ مَنْ يُسَاعِدُ السَّارِقَ، فِي دَاخِل الْحِرْزِ أَوْ فِي خَارِجِهِ، وَلَكِنْ عَمَلُهُ لاَ يَصِل إِلَى دَرَجَةٍ يُمْكِنُ مَعَهَا نِسْبَةُ السَّرِقَةِ إِلَيْهِ
وَكَانَ هَذَا أَسَاسَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي تَطْبِيقِ الْحَدِّ عَلَى بَعْضِ الشُّرَكَاءِ دُونَ الْبَعْضِ، وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي:

1 - الْحَنَفِيَّةُ:
51 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ كُل مَنْ دَخَل الْحِرْزَ يُعْتَبَرُ شَرِيكًا فِي السَّرِقَةِ سَوَاءٌ قَامَ بِعَمَلٍ مَادِّيٍّ، كَأَنْ وَضَعَ الْمَسْرُوقَ عَلَى ظَهْرِ زَمِيلِهِ فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحِرْزِ، أَوْ قَامَ بِعَمَلٍ مَعْنَوِيٍّ، كَأَنْ وَقَفَ لِلْمُرَاقَبَةِ أَوْ لِلإِْشْرَافِ عَلَى نَقْل الْمَسْرُوقِ مِنَ الْحِرْزِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْجَمِيعِ إِذَا بَلَغَ
__________
(1) القليوبي وعميرة 4 / 194: " الحد إنما يجب بالمباشرة، دون السبب ".

(24/330)


نَصِيبُ كُلٍّ مِنْهُمْ نِصَابًا، أَمَّا إِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ لاَ تَكْفِي لِيُصِيبَ كُل وَاحِدٍ نِصَابًا، فَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ، بَل يَنْتَقِل إِلَى التَّعْزِيرِ. وَيَنْطَبِقُ نَفْسُ الْحُكْمِ عَلَى الشُّرَكَاءِ إِذَا أَخْرَجَ بَعْضُهُمْ مَا قِيمَتُهُ نِصَابًا فَأَكْثَرَ، وَأَخْرَجَ الْبَعْضُ الآْخَرُ مَا قِيمَتُهُ دُونَ النِّصَابِ، فَإِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ مَا يَكْفِي لأََنْ يَخُصَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابٌ، قُطِعُوا جَمِيعًا، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ حَظُّ كُل وَاحِدٍ نِصَابًا، قُطِعَ مَنْ أَخْرَجَ نِصَابًا، وَعُزِّرَ الآْخَرُونَ (1) .
أَمَّا إِذَا دَخَل الْحِرْزَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، وَبَقِيَ الآْخَرُ خَارِجَهُ، ثُمَّ أَخْرَجَ مَنْ بِالدَّاخِل يَدَهُ بِالْمَسْرُوقِ إِلَى خَارِجِ الْحِرْزِ فَتَنَاوَلَهَا شَرِيكُهُ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى أَنَّ الأَْخْذَ غَيْرُ تَامٍّ بِالنِّسْبَةِ لِلدَّاخِل، لأَِنَّهُ أَخْرَجَ الْمَسْرُوقَ مِنَ الْحِرْزِ وَمِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُدْخِلْهُ فِي حِيَازَةِ نَفْسِهِ، بَل فِي حِيَازَةِ الْخَارِجِ، فَلاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَيَرَى كَذَلِكَ أَنَّ الأَْخْذَ غَيْرُ تَامٍّ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَارِجِ؛ لأَِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ دَخَل فِي حِيَازَتِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ لاَ مِنْ حِرْزِهِ وَلاَ مِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، فَلاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَيْضًا.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الأَْخْذَ تَامٌّ بِالنِّسْبَةِ لِلدَّاخِل دُونَ الْخَارِجِ؛ لأَِنَّ الْمَسْرُوقَ دَخَل فِي حِيَازَتِهِ، حَيْثُ أَقَامَ شَرِيكَهُ الْخَارِجَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 66، 78، فتح القدير 4 / 225، الفتاوى الهندية 2 / 171، المبسوط 9 / 143.

(24/330)


مَقَامَهُ عِنْدَمَا سَلَّمَهُ الْمَسْرُوقَ (1) . وَتَفْصِيل الْحُكْمِ فِي الصُّوَرِ الَّتِي يُمْكِنُ حُدُوثُهَا يُبْنَى عَلَى مَسْأَلَةِ الْهَتْكِ الْمُتَكَامِل وَمَسْأَلَةِ " الْيَدِ الْمُعْتَرِضَةِ " الَّتِي سَبَقَ بَيَانُهُمَا. فِي ف 43، 47.

2 - الْمَالِكِيَّةُ:
52 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ صِفَةَ الشَّرِيكِ تُطْلَقُ عَلَى مَنْ يُعِينُ السَّارِقَ إِذَا قَامَ بِعَمَلٍ مَادِّيٍّ لاَ بُدَّ مِنْهُ لإِِخْرَاجِ الْمَسْرُوقِ مِنَ الْحِرْزِ، سَوَاءٌ حَدَثَتِ الإِْعَانَةُ وَهُوَ فِي دَاخِل الْحِرْزِ، بِأَنْ وَضَعَ الْمَسْرُوقَ عَلَى ظَهْرِ زَمِيلِهِ، فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحِرْزِ، أَوْ حَدَثَتْ وَهُوَ فِي خَارِجِ الْحِرْزِ، بِأَنْ مَدَّ يَدَهُ دَاخِل الْحِرْزِ وَأَخَذَ الْمَسْرُوقَ مِنْ يَدِ زَمِيلِهِ الَّذِي فِي الدَّاخِل، بِحَيْثُ تُصَاحِبُ فِعْلاَهُمَا فِي حَال الإِْخْرَاجِ، أَوْ بِأَنْ يَرْبِطَ الدَّاخِل الْمَسْرُوقَ بِحَبْلٍ وَنَحْوِهِ فَيَجُرُّهُ الْخَارِجُ، بِحَيْثُ لاَ يُعْتَبَرُ الدَّاخِل مُسْتَقِلًّا بِالإِْخْرَاجِ. أَمَّا إِذَا كَانَتِ الإِْعَانَةُ بِأَمْرٍ مَعْنَوِيٍّ كَأَنْ يَدْخُل الْحِرْزَ أَوْ يَبْقَى خَارِجَهُ لِيَحْمِيَ السَّارِقَ أَوْ يُرْشِدَهُ إِلَى مَكَانِ الْمَسْرُوقِ، فَلاَ يُعْتَبَرُ شَرِيكًا فِي السَّرِقَةِ، وَمِنْ ثَمَّ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، بَل يُعَزَّرُ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَسْرُوقَ لَمْ يَخْرُجْ إِلاَّ بِعَمَلٍ جَمَاعِيٍّ، وَجَبَ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى كُل مَنْ شَارَكَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 65، فتح القدير 4 / 243، مواهب الجليل 6 / 310، المهذب 2 / 297، كشاف القناع 4 / 10.

(24/331)


فِي هَذَا الْعَمَل، إِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا وَاحِدًا، سَوَاءٌ بَاشَرَ السَّرِقَةَ، بِأَنْ تَعَاوَنَ مَعَ زَمِيلِهِ فِي حَمْل الْمَسْرُوقِ حَتَّى خَرَجَا بِهِ مِنَ الْحِرْزِ، أَوْ لَمْ يُبَاشِرِ السَّرِقَةَ، بِأَنْ وَضَعَ الْمَسْرُوقَ عَلَى ظَهْرِ صَاحِبِهِ فَخَرَجَ بِهِ وَحْدَهُ، مَا دَامَ كُل وَاحِدٍ لاَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَقِل بِإِخْرَاجِ الْمَسْرُوقِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَحْصُل تَعَاوُنٌ بِأَنِ اسْتَقَل كُل وَاحِدٍ بِإِخْرَاجِ بَعْضِ الْمَسْرُوقِ، فَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ إِلاَّ عَلَى مَنْ أَخْرَجَ نِصَابًا كَامِلاً، وَذَلِكَ لِعَدَمِ ظُهُورِ التَّعَاوُنِ الَّذِي لاَ بُدَّ مِنْهُ لإِِثْبَاتِ الاِشْتِرَاكِ فِي السَّرِقَةِ (1) .

3 - الشَّافِعِيَّةُ:
53 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ صِفَةَ الشَّرِيكِ لاَ تُطْلَقُ إِلاَّ عَلَى مَنْ قَامَ بِفِعْلٍ مُبَاشِرٍ مَعَ غَيْرِهِ، تَرَتَّبَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ الْمَسْرُوقِ مِنَ الْحِرْزِ، كَأَنْ يَتَعَاوَنَ السَّارِقُونَ فِي حَمْل شَيْءٍ ثَقِيلٍ وَيُخْرِجُونَهُ مِنَ الْحِرْزِ، أَوْ يَحْمِل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا وَيَخْرُجَ بِهِ. وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَنْطَبِقُ وَصْفُ السَّارِقِ عَلَى كُل وَاحِدٍ، وَلَكِنْ يَظْهَرُ أَثَرُ الاِشْتِرَاكِ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا إِذَا خَصَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ
__________
(1) شرح الزرقاني 8 / 96، 106، المدونة 16 / 68 - 69 - 73، الموطأ 2 / 837 بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط. الحلبي، تفسير القرطبي 3 / 163، بداية المجتهد 2 / 448.

(24/331)


نِصَابٌ مِنْ قِيمَةِ مَا أَخْرَجُوهُ، دُونَ نَظَرٍ إِلَى قِيمَةِ مَا أَخْرَجَهُ كُلٌّ مِنْهُمْ. أَمَّا إِذَا كَانَ كُل سَارِقٍ يَسْتَقِل بِفِعْلِهِ وَقَصْدِهِ عَنِ الآْخَرِينَ، فَلاَ اشْتَرَاكَ بَيْنَهُمْ، وَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ إِلاَّ عَلَى مَنْ يَخْرُجُ نِصَابًا كَامِلاً، وَيُعَزَّرُ الآْخَرُونَ.
وَلاَ يُعْتَبَرُ شَرِيكًا - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - مَنْ يُعِينُ السَّارِقَ، سَوَاءٌ قَامَ بِعَمَلٍ مَادِّيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ، وَسَوَاءٌ حَدَثَتِ الإِْعَانَةُ مِنْ دَاخِل الْحِرْزِ أَوْ مِنْ خَارِجِهِ، فَلاَ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ، بَل يُعَزَّرُ (1) .

4 - الْحَنَابِلَةُ:
54 - يَرَى الْحَنَابِلَةُ إِطْلاَقَ صِفَةِ الشَّرِيكِ عَلَى مَنْ يُعِينُ السَّارِقَ بِفِعْلٍ مَادِّيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ، قَامَ بِهِ وَهُوَ دَاخِل الْحِرْزِ أَوْ كَانَ خَارِجَهُ، فَإِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا وَاحِدًا، أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى كُل مَنِ اشْتَرَكَ فِي السَّرِقَةِ، سَوَاءٌ كَانَ الاِشْتِرَاكُ فِي الإِْخْرَاجِ، أَوْ كَانَ بِإِخْرَاجِ الْبَعْضِ وَإِعَانَةِ الْبَعْضِ الآْخَرِ، وَسَوَاءٌ حَدَثَتِ الإِْعَانَةُ مِنَ الدَّاخِل أَوْ مِنَ الْخَارِجِ، بِفِعْلٍ مَادِّيٍّ كَالإِْعَانَةِ عَلَى حَمْل الْمَسْرُوقِ، أَوْ بِفِعْلٍ مَعْنَوِيٍّ كَالإِْرْشَادِ إِلَى مَكَانِ الْمَسْرُوقِ، أَوْ لَمْ يَأْتِ بِعَمَلٍ مَا، كَمَنْ دَخَل الْحِرْزَ مَعَ السَّارِقِ لِتَنْبِيهِهِ إِذَا انْكَشَفَ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 160، المهذب 2 / 249، 297، أسنى المطالب 4 / 138، نهاية المحتاج 7 / 421، 458.

(24/332)


أَمْرُهُ. لأَِنَّ فِعْل السَّرِقَةِ يُضَافُ إِلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ (1) .

إِثْبَاتُ السَّرِقَةِ:
55 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السَّرِقَةَ تَثْبُتُ بِالإِْقْرَارِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ (2) . وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ أَنَّ السَّرِقَةَ تَثْبُتُ بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ (3) وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ يَجُوزُ إِثْبَاتُهَا بِالْقَرَائِنِ (4) .

أَوَّلاً - الإِْقْرَارُ (5) :
56 - تَثْبُتُ السَّرِقَةُ بِإِقْرَارِ السَّارِقِ إِذَا كَانَ مُكَلَّفًا بِأَنْ كَانَ بَالِغًا عَاقِلاً، عَلَى التَّفْصِيل الَّذِي سَبَقَ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ السَّارِقَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا فِي إِقْرَارِهِ، فَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الإِْقْرَارِ بِحَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، فَلاَ يُعْتَدُّ بِهَذَا
__________
(1) كشاف القناع 4 / 79، المغني 10 / 295، 296، الإفصاح لابن هبيرة ص 363.
(2) بدائع الصنائع 7 / 46، 81، فتح القدير 4 / 219، مواهب الجليل 6 / 306، بداية المجتهد 2 / 444، مغني المحتاج 4 / 175، 176، نهاية المحتاج 7 / 418، كشاف القناع 6 / 117، المغني والشرح الكبير 10 / 289، 290.
(3) القليوبي وعميرة 4 / 196، نهاية المحتاج 7 / 441.
(4) الطرق الحكمية 3، 17.
(5) انظر في تعريف الإقرار، وحكمه، وأثره، وحجيته، وأركانه، وشروط كل ركن، وفي الرجوع عنه: مصطلح: (إقرار) 6 / 46 - 79.

(24/332)


الإِْقْرَارِ. وَقَدْ أَفْتَى بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ بِصِحَّةِ إِقْرَارِ السَّارِقِ مَعَ الإِْكْرَاهِ لأَِنَّ السُّرَّاقَ قَدْ غَدَوْا لاَ يُقِرُّونَ طَائِعِينَ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُعْمَل بِإِقْرَارِ الْمُتَّهَمِ مَعَ الإِْكْرَاهِ إِنْ ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّهُ مِنْ أَهْل التُّهَمِ.
وَيَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ بِالسَّرِقَةِ نَاطِقًا، وَلِهَذَا فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْتَدُّونَ بِإِشَارَةِ الأَْخْرَسِ، وَلَوْ كَانَتْ مُفْهِمَةً؛ لاِحْتِمَال إِشَارَتِهِ الإِْقْرَارَ وَغَيْرَهُ، وَهَذَا يُورِثُ شُبْهَةً تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ. وَيَرَى الْجُمْهُورُ صِحَّةَ إِقْرَارِهِ، إِنْ كَانَتْ إِشَارَتُهُ مُفْهِمَةً قَبْل هَذَا الإِْقْرَارِ (1) .
وَلاَ يَكُونُ الإِْقْرَارُ كَافِيًا لإِِقَامَةِ الْحَدِّ، إِلاَّ إِذَا كَانَ صَرِيحًا وَتَبَيَّنَ الْقَاضِي مِنْهُ تَوَافُرَ أَرْكَانِ السَّرِقَةِ، بِحَيْثُ لاَ تَبْقَى مَعَهُ أَيُّ شُبْهَةٍ (2) .
وَاشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَصْدُرَ الإِْقْرَارُ عِنْدَ مَنْ لَهُ وِلاَيَةُ إِقَامَةِ الْحَدِّ، فَلاَ يُعْتَدُّ بِالإِْقْرَارِ الصَّادِرِ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَلاَ بِالإِْقْرَارِ قَبْل الدَّعْوَى (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 49، فتح القدير 5 / 218، المبسوط 9 / 184، 185، مواهب الجليل 5 / 216، القليوبي وعميرة 4 / 196، نيل المآرب 2 / 280، الدسوقي 4 / 345، المغني 8 / 195، 196.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 171، شرح الزرقاني 8 / 97، أسنى المطالب 4 / 150، كشاف القناع 6 / 117.
(3) ابن عابدين 3 / 196، بدائع الصنائع 6 / 277.

(24/333)


57 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَدَدِ مَرَّاتِ الإِْقْرَارِ الَّتِي تُوجِبُ إِقَامَةَ حَدِّ السَّرِقَةِ: فَالْحَنَفِيَّةُ - مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ - وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، يَكْتَفُونَ بِإِقْرَارِ السَّارِقِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ سَارِقَ خَمِيصَةِ صَفْوَانَ وَسَارِقَ الْمِجَنِّ (1) ، وَلَمْ يُنْقَل أَنَّ أَحَدَهُمَا تَكَرَّرَ مِنْهُ الإِْقْرَارُ؛ وَلأَِنَّ الإِْقْرَارَ بِالْحُقُوقِ يَكْتَفِي بِإِيرَادِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ وَلأَِنَّ الإِْقْرَارَ إِخْبَارٌ تَرَجَّحَ فِيهِ جَانِبُ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ، فَلَنْ يَزِيدَهُ التَّكْرَارُ رُجْحَانًا. أَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ، وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَالْحَنَابِلَةُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، فَإِنَّهُمْ يُوجِبُونَ صُدُورَ الإِْقْرَارِ مَرَّتَيْنِ، فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَإِنْ أَقَرَّ السَّارِقُ مَرَّةً وَاحِدَةً، لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنَّمَا يُعَزَّرُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ. لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلِصٍّ قَدِ اعْتَرَفَ، وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَخَالُكَ سَرَقْتَ فَقَال: بَلَى يَا رَسُول اللَّهِ، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، وَلَمْ يَقْطَعْهُ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ تَكَرَّرَ إِقْرَارُهُ، فَلَوْ كَانَ الْقَطْعُ يَجِبُ بِالإِْقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً لَمَا أَخَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
58 - وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْخُصُومَةِ مَعَ
__________
(1) حديث: " لأن النبي صلى الله عليه وسلم قطع سارق خميصة صفوان ". أخرجه أبو داود (4 / 553 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والنسائي (8 / 69 - ط دار البشائر) والحاكم (4 / 380 ط دار المعارف العثمانية) وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.

(24/333)


الإِْقْرَارِ: فَالْحَنَفِيَّةُ - مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ - وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، يَشْتَرِطُونَ لِقَبُول الإِْقْرَارِ مُطَالَبَةَ مَنْ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالْمَسْرُوقِ؛ لأَِنَّ عَدَمَ مُطَالَبَتِهِ يُورِثُ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: لاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مَالٍ مِنْ مَجْهُولٍ أَوْ مِنْ غَائِبٍ (1) .
وَيَرَى أَبُو يُوسُفَ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى عَدَمَ تَوَقُّفِ إِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ عَلَى دَعْوَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، لِعُمُومِ آيَةِ السَّرِقَةِ، وَعَدَمِ وُجُودِ مَا يَصْلُحُ مُخَصِّصًا لِهَذَا الْعُمُومِ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يُقِرُّ بِسَرِقَةِ نِصَابٍ مِنْ مَجْهُولٍ أَوْ غَائِبٍ إِذَا ثَبَتَتِ السَّرِقَةُ؛ لأَِنَّ الْمُقِرَّ لاَ يُتَّهَمُ فِي الإِْقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ (2) .

ثَانِيًا - الْبَيِّنَةُ:
59 - تَثْبُتُ السَّرِقَةُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ تَتَوَافَرُ فِيهِمَا شُرُوطُ تَحَمُّل الشَّهَادَةِ وَشُرُوطُ أَدَائِهَا (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 81 - 82، شرح الزرقاني 8 / 106، القليوبي وعميرة 4 / 196، المغني 10 / 291، أسنى المطالب 4 / 152، كشاف القناع 6 / 117 - 118، نيل الأوطار 7 / 150 - 151.
(2) المبسوط 9 / 144، شرح الزرقاني 8 / 106، المغني 10 / 299، شرح الهروي على الكنز 1 / 290.
(3) يرجع في تفصيل أحكام الشهادة إلى مصطلح: (شهادة) وانظر: فتح القدير 6 / 11، الدسوقي والشرح الكبير 4 / 146، حاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 377، كشاف القناع 6 / 328، المغني 10 / 289 - 290.

(24/334)


وَعَلَى ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ وَقْتَ الأَْدَاءِ ذَكَرًا، مُسْلِمًا، بَالِغًا، عَاقِلاً، حُرًّا بَصِيرًا، عَدْلاً، مُخْتَارًا.
فَلاَ يُقَامُ حَدُّ السَّرِقَةِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ أَوْ مَعَ رِجَالٍ، وَلاَ بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، فَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَلَوْ مَعَ يَمِينِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ (1) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَة) .
إِذَا تَوَافَرَتِ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ، أَدَّى الشَّاهِدُ شَهَادَتَهُ عَلَى السَّرِقَةِ بِدُونِ يَمِينٍ؛ لأَِنَّ لَفْظَ الشَّهَادَةِ يَتَضَمَّنُ الْيَمِينَ؛ وَلأَِنَّ تَحْلِيفَ الشَّاهِدِ يَتَنَافَى مَعَ إِكْرَامِهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَكْرِمُوا الشُّهُودَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِي بِهِمُ الْحُقُوقَ (2) . وَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ضَرُورَةَ تَحْلِيفِ الشَّاهِدِ الْيَمِينَ لِلتَّأَكُّدِ مِنْ صِدْقِهِ؛ وَلِمَا فِيهِ مِنْ عُمُومِ الْمَصْلَحَةِ، وَتَحْلِيفُ الشَّاهِدِ لاَ يَتَعَارَضُ مَعَ أَمْرِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِكْرَامِهِ؛ لأَِنَّهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 81، ابن عابدين 3 / 196، شرح الزرقاني 8 / 106، القليوبي وعميرة 4 / 197، المغني والشرح الكبير 10 / 289، بداية المجتهد 2 / 444، نهاية المحتاج 7 / 443، كشاف القناع 6 / 117.
(2) حديث: " أكرموا الشهود. . . " أخرجه الخطيب في تاريخه (6 / 138 ط. السعادة) من حديث ابن عباس. قال ابن حجر: قال العقيلي: هذا الحديث غير محفوظ، وصرح الصغاني بأنه موضوع. (التلخيص الحبير 4 / 198 ط شركة الطباعة الفنية) .

(24/334)


لاَ يَنْطَوِي عَلَى إِهَانَةٍ لَهُ (1) .

ثَالِثًا: الْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ:
60 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لاَ يُقَامُ بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ، فَإِنِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ سَرِقَةً يَجِبُ فِيهَا الْقَطْعُ، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ السَّرِقَةَ، فَطَلَبَ الْمُدَّعِي مِنْهُ أَنْ يَحْلِفَ لإِِثْبَاتِ بَرَاءَتِهِ، فَنَكَل عَنِ الْيَمِينِ، رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِنْ حَلَفَ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَرَقَ مَا ادَّعَاهُ، ثَبَتَ الْمَال الْمَسْرُوقُ بِهَذِهِ الْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ، وَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ إِلاَّ بِالإِْقْرَارِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّ السَّرِقَةَ تَثْبُتُ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي الْمَرْدُودَةِ، فَيَثْبُتُ الْمَال وَيُقَامُ الْحَدُّ، لأَِنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ كَالْبَيِّنَةِ أَوْ كَإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِلاَ خِلاَفٍ. وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: أَنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ يَثْبُتُ بِهَا الْمَال، وَلاَ يُقَامُ بِهَا الْحَدُّ؛ لأَِنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِالإِْقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ. وَمُقَابِل الأَْصَحِّ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ، كَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ وَالرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 196، فتح القدير 4 / 162، المدونة 6 / 286، مغني المحتاج 4 / 151، المغني والشرح الكبير 10 / 187، الطرق الحكمية ص 142، 143.

(24/335)


الْكَبِيرِ وَصَاحِبُ الْحَاوِي الصَّغِيرِ، وَقَال الأَْذْرَعِيُّ: إِنَّهُ الْمَذْهَبُ وَالصَّوَابُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ جُمْهُورُ الأَْصْحَابِ. وَقَال الْبُلْقِينِيُّ: إِنَّهُ الْمُعْتَمَدُ، لِنَصِّ الأُْمِّ، وَفِي الْمُخْتَصَرِ: لاَ يَثْبُتُ الْقَطْعُ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ أَوْ إِقْرَارِ السَّارِقِ (1) .

رَابِعًا - الْقَرَائِنُ:
61 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِالإِْقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ. وَيَرَى بَعْضُهُمْ جَوَازَ ثُبُوتِ السَّرِقَةِ، وَمِنْ ثَمَّ إِقَامَةُ الْحَدِّ وَضَمَانُ الْمَال، بِالْقَرَائِنِ وَالأَْمَارَاتِ إِذَا كَانَتْ ظَاهِرَةَ الدَّلاَلَةِ بِاعْتِبَارِهَا مِنَ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ، الَّتِي تُخْرِجُ الْحَقَّ مِنَ الظَّالِمِ الْفَاجِرِ. قَال ابْنُ الْقَيِّمِ (2) : " لَمْ يَزَل الأَْئِمَّةُ وَالْخُلَفَاءُ يَحْكُمُونَ بِالْقَطْعِ إِذَا وُجِدَ الْمَال الْمَسْرُوقُ مَعَ الْمُتَّهَمِ، وَهَذِهِ الْقَرِينَةُ أَقْوَى مِنَ الْبَيِّنَةِ وَالإِْقْرَارِ فَإِنَّهُمَا خَبَرَانِ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمَا الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ وَوُجُودُ الْمَال مَعَهُ نَصٌّ صَرِيحٌ لاَ تَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ شُبْهَةٌ ".

حَدُّ السَّرِقَةِ:
62 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ السَّارِقِ قَطْعُ
__________
(1) البحر الرائق 7 / 240، تبصرة الحكام 1 / 272، المغني والشرح الكبير 12 / 124 وما بعدها، القليوبي وعميرة 4 / 196، نهاية المحتاج 7 / 441، أسنى المطالب 4 / 150، حاشية البجيرمي على حاشية المنهج 4 / 235، روضة الطالبين 10 / 143، مغني المحتاج 4 / 175.
(2) الطرق الحكمية ص 8.

(24/335)


يَدِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) . وَهُوَ الْحَدُّ الَّذِي أَقَامَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ سَرَقَ فِي عَهْدِهِ، كَمَا تَوَاتَرَتِ الأَْخْبَارُ بِذَلِكَ (2) . وَجَرَى عَلَيْهِ عَمَل الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ دُونَ اعْتِرَاضٍ عَلَيْهِمْ (3) . وَأَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الأُْمَّةُ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أُمُورٍ تَتَعَلَّقُ بِمَحَل الْقَطْعِ، وَمِقْدَارِهِ، وَكَيْفِيَّتِهِ، وَتَكَرُّرِهِ، مَعَ تَكَرُّرِ السَّرِقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

1 - مَحَل الْقَطْعِ:
63 - مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ - عِنْدَ الْفُقَهَاءِ - وُجُوبُ قَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى، إِذَا ثَبَتَتِ السَّرِقَةُ الأُْولَى. لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ الْيَدَ الْيُمْنَى، وَكَذَلِكَ فَعَل الأَْئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ، وَلِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: " فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا (4) . وَهِيَ قِرَاءَةٌ مَشْهُورَةٌ عَنْهُ، وَلَمْ يُجْمَعْ عَلَى أَنَّهَا قُرْآنٌ لِمُخَالَفَتِهَا لِلْمُصْحَفِ الإِْمَامِ، فَكَانَتْ خَبَرًا
__________
(1) سورة المائدة / 38.
(2) أول سارق قطع في الإسلام: الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف " تفسير القرطبي 6 / 160 " وقطع المخزومية التي شفع فيها أسامة بن زيد فأغضب بشفاعته النبي صلى الله عليه وسلم " البخاري ومسلم " وقطع سارق رداء صفوان بن أمية " رواه الخمسة إلا الترمذي ".
(3) طرح التثريب بشرح التقريب 8 / 23.
(4) سورة المائدة / 38.

(24/336)


مَشْهُورًا، فَيُقَيِّدُ إِطْلاَقَ النَّصِّ (1) . وَلَوْ كَانَ الإِْطْلاَقُ مُرَادًا، وَالاِمْتِثَال لِلأَْمْرِ فِي الآْيَةِ يَحْصُل بِقَطْعِ الْيَمِينِ أَوِ الشِّمَال، لَمَا قَطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ الْيَسَارَ عَلَى عَادَتِهِ مِنْ طَلَبِ الأَْيْسَرِ لَهُمْ مَا أَمْكَنَ جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي: أَنَّهُ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا (2) .
فَإِذَا كَانَتْ يَدُ السَّارِقِ الْيُمْنَى غَيْرَ صَحِيحَةٍ، بِأَنْ كَانَتْ شَلاَّءَ أَوْ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصَابِعِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَحَل الْقَطْعِ.
فَالْحَنَفِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ الْقَطْعَ يَتَعَلَّقُ أَوَّلاً بِالْيَدِ الْيُمْنَى، لِعُمُومِ آيَةِ السَّرِقَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ الصَّحِيحَةِ وَغَيْرِهَا. لأَِنَّهُ إِذَا تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالسَّلِيمَةِ فَإِنَّهَا تُقْطَعُ، فَلأََنْ تُقْطَعَ الْمَعِيبَةُ مِنْ بَابِ أَوْلَى (3) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ قَطْعَ الْمَعِيبَةِ لاَ يُجْزِئُ؛ لأَِنَّ مَقْصُودَ الْحَدِّ إِزَالَةُ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 86، فتح القدير 4 / 247، الخرشي على خليل 8 / 92، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 332، المهذب 2 / 300، مغني المحتاج 4 / 177، نهاية المحتاج 7 / 443، كشاف القناع 6 / 118، المغني والشرح الكبير 10 / 264، الجامع لأحكام القرآن 6 / 160، تفسير الطبري 6 / 228.
(2) حديث: " ما خير بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 86 - ط السلفية) ومسلم (4 / 1813 - ط الحلبي) .
(3) بدائع الصنائع 7 / 87، حاشية ابن عابدين 3 / 285.

(24/336)


السَّرِقَةِ، وَالشَّلاَّءُ وَمَا فِي حُكْمِهَا لاَ نَفْعَ فِيهَا فَلاَ يَتَحَقَّقُ مَقْصُودُ الشَّرْعِ بِقَطْعِهَا؛ لأَِنَّ مَنْفَعَتَهَا الَّتِي يُرَادُ إِبْطَالُهَا بَاطِلَةٌ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ. وَلِذَلِكَ يَنْتَقِل الْقَطْعُ إِلَى الرِّجْل الْيُسْرَى (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يُفَصِّلُونَ الْقَوْل فِي قَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى إِذَا كَانَتْ مَعِيبَةً عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
يُجْزِئُ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ قَطْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى إِذَا كَانَتْ شَلاَّءَ إِلاَّ إِذَا خِيفَ مِنْ قَطْعِهَا أَلاَّ يَكُفَّ الدَّمُ، فَلَوْ قَرَّرَ أَهْل الْخِبْرَةِ أَنَّ عُرُوقَهَا لَنْ تَنْسَدَّ وَأَنَّ دَمَهَا لَنْ يَجِفَّ فَلاَ تُقْطَعُ، وَيُنْتَقَل بِالْقَطْعِ إِلَى الرِّجْل الْيُسْرَى، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْيَدُ الْيُمْنَى قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَصَابِعِهَا، فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ قَطْعُهَا، وَلَوْ كَانَ بِهَا أُصْبُعٌ وَاحِدٌ. فَإِذَا نَقَصَتِ الأَْصَابِعُ كُلُّهَا، فَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ: الاِكْتِفَاءُ بِقَطْعِهَا؛ لأَِنَّ اسْمَ الْيَدِ يُطْلَقُ عَلَيْهَا مَعَ نُقْصَانِ الأَْصَابِعِ كُلِّهَا. وَالْقَوْل الثَّانِي فِي نَاقِصَةِ الْخَمْسِ: أَنَّهَا لاَ تُجْزِئُ فِي تَمَامِ الْحَدِّ، فَلاَ تُقْطَعُ، وَيُنْتَقَل إِلَى الرِّجْل الْيُسْرَى (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ: تَكْتَفِي أُولاَهُمَا بِقَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى وَلَوْ كَانَتْ شَلاَّءَ، إِذَا رَأَى أَهْل الْخِبْرَةِ أَنَّهَا لَوْ قُطِعَتْ رَقَأَ دَمُهَا وَانْحَسَمَتْ عُرُوقُهَا. وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى: يُمْنَعُ قَطْعُ الْيَدِ الشَّلاَّءِ؛ لأَِنَّهَا لاَ نَفْعَ فِيهَا وَلاَ جَمَال لَهَا، وَيَنْتَقِل
__________
(1) شرح الزرقاني 8 / 92 - 93.
(2) أسنى المطالب 4 / 152 - 153، المهذب 2 / 283.

(24/337)


الْقَطْعُ إِلَى الرِّجْل الْيُسْرَى. وَإِذَا كَانَتِ الْيَدُ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةَ الأَْصَابِعِ فَفِي الْمَذْهَبِ رَأْيَانِ
أُوَلُهُمَا: الاِكْتِفَاءُ بِقَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى وَلَوْ ذَهَبَتْ كُل أَصَابِعِهَا.
وَالثَّانِي: عَدَمُ الاِكْتِفَاءِ بِقَطْعِ الْيُمْنَى إِذَا ذَهَبَ مُعْظَمُ نَفْعِهَا، لأَِنَّهَا تَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومَةِ وَيَنْتَقِل الْقَطْعُ إِلَى الرِّجْل الْيُسْرَى (1) .

64 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا لَوْ تَعَلَّقَ الْقَطْعُ بِالْيَدِ الْيُمْنَى، وَكَانَتِ الْيَدُ الْيُسْرَى قَدْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهَا، أَوْ كَانَتْ مَقْطُوعَةً فِي قِصَاصٍ أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ تُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى؛ لأَِنَّ قَطْعَهَا يُؤَدِّي إِلَى تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ كُلِّيَّةً، وَالْحَدُّ إِنَّمَا شُرِعَ زَاجِرًا لاَ مُهْلِكًا. وَبِهَذَا قَال أَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى تَتَّفِقُ مَعَ مَا قَال بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (2) مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لأَِنَّ الْيَدَ الْيُسْرَى مَحَلٌّ لِلْقَطْعِ أَيْضًا إِذَا تَكَرَّرَتِ السَّرِقَةُ. وَلاَ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ إِذَا تَعَلَّقَ الْقَطْعُ بِالرِّجْل الْيُسْرَى، وَكَانَتِ الرِّجْل الْيُمْنَى قَدْ قُطِعَتْ أَوْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهَا.

65 - وَاخْتَلَفُوا كَذَلِكَ فِيمَا لَوْ تَعَلَّقَ الْقَطْعُ بِالْيَدِ الْيُمْنَى، وَكَانَتْ مَقْطُوعَةً: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى
__________
(1) كشاف القناع 4 / 87 - 88، المغني 10 / 268، 269.
(2) بدائع الصنائع 7 / 87، شرح الزرقاني 8 / 92، 93، أسنى المطالب 4 / 152 - 153، الإقناع 4 / 286

(24/337)


انْتِقَال الْقَطْعِ إِلَى الرِّجْل الْيُسْرَى إِذَا كَانَ ذَهَابُ الْيَدِ الْيُمْنَى قَدْ حَدَثَ قَبْل السَّرِقَةِ، أَوْ بَعْدَهَا وَقَبْل الْمُخَاصَمَةِ؛ لأَِنَّ الْحَدَّ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْعُضْوِ الذَّاهِبِ، فَلاَ يَسْقُطُ بِذَهَابِهِ. بِخِلاَفِ مَا لَوْ ذَهَبَتِ الْيَدُ الْيُمْنَى بَعْدَ الْمُخَاصَمَةِ وَقَبْل الْقَضَاءِ، أَوْ بَعْدَ الْمُخَاصَمَةِ وَالْقَضَاءِ، فَلاَ يَنْتَقِل الْحَدُّ إِلَى الرِّجْل الْيُسْرَى، بَل يَسْقُطُ؛ لأَِنَّ الْمُخَاصَمَةَ تُؤَدِّي إِلَى تَعَلُّقِ الْقَطْعِ بِالْيَدِ الْيُمْنَى، فَإِذَا ذَهَبَتْ سَقَطَ الْحَدُّ لِذَهَابِ مَحَلِّهِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) إِلَى انْتِقَال الْقَطْعِ إِلَى الرِّجْل الْيُسْرَى إِذَا ذَهَبَتِ الْيَدُ الْيُمْنَى قَبْل السَّرِقَةِ. وَإِلَى سُقُوطِ الْحَدِّ إِذَا ذَهَبَتْ بَعْدَ السَّرِقَةِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَهَابُهَا قَبْل الْخُصُومَةِ أَوْ بَعْدَهَا، وَقَبْل الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ، بِآفَةٍ أَوْ جِنَايَةٍ، أَوْ قِصَاصٍ لأَِنَّهُ بِمُجَرَّدِ السَّرِقَةِ تَعَلَّقَ الْقَطْعُ بِالْيَدِ الْيُمْنَى، فَإِذَا ذَهَبَتْ زَال مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْقَطْعُ فَسَقَطَ.

2 - مَوْضِعُ الْقَطْعِ وَمِقْدَارُهُ:
66 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّ قَطْعَ الْيَدِ يَكُونُ مِنَ الْكُوعِ، وَهُوَ مَفْصِل الْكَفِّ، لأَِنَّ {
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 88، حاشية الدسوقي 4 / 374، شرح الزرقاني 8 / 108، أسنى المطالب 4 / 153، مغني المحتاج 4 / 179، كشاف القناع 4 / 148، المغني 10 / 269.

(24/338)


النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ مِنَ الْكُوعِ (1) . وَلِقَوْل أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَمِينَهُ مِنَ الْكُوعِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ مِنَ الْيَدِ: الْمَنْكِبُ؛ لأَِنَّ الْيَدَ اسْمٌ لِلْعُضْوِ مِنْ أَطْرَافِ الأَْصَابِعِ إِلَى الْمَنْكِبِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ: مَفَاصِل الأَْصَابِعِ الَّتِي تَلِي الْكَفَّ (2) .
وَمَوْضِعُ قَطْعِ الرِّجْل هُوَ مَفْصِل الْكَعْبِ مِنَ السَّاقِ، فَعَل ذَلِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْهُ أَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ: أُصُول أَصَابِعِ الرِّجْل وَبِهَذَا قَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقْطَعُ مِنْ شَطْرِ الْقَدَمِ، وَيَتْرُكُ لِلسَّارِقِ عَقِبَهُ يَمْشِي عَلَيْهَا (3) .
__________
(1) حديث: " قطع يد السارق من الكوع ". أخرجه البيهقي (8 / 271 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عمر وقال: " قطع النبي صلى الله عليه وسلم سارقًا من المفصل ". وفي إسناده مقال، ولكن أورد قبله شاهدًا من حديث جابر بن عبد الله يتقوى به.
(2) المبسوط 9 / 133، ابن عابدين 3 / 285، حاشية الدسوقي 4 / 332، بداية المجتهد 2 / 443.
(3) المهذب 2 / 301، كشاف القناع 6 / 118، البحر الرائق 5 / 66، شرح الزرقاني 8 / 92 - 93، أسنى المطالب 4 / 152، المغني 10 / 266، أحكام القرآن للجصاص 4 / 70 - 71، شرح منتهى الإرادات 3 / 272، فتح الباري 15 / 104، المهذب 2 / 301.

(24/338)


كَيْفِيَّةُ الْقَطْعِ. 67 - مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ مُرَاعَاةُ الإِْحْسَانِ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ (1) وَعَلَى ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَخَيَّرَ الْحَاكِمُ الْوَقْتَ الْمُلاَئِمَ لِلْقَطْعِ، بِحَيْثُ يَجْتَنِبُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ الشَّدِيدَيْنِ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الإِْضْرَارِ بِالسَّارِقِ، وَلاَ يُقِيمُ الْحَدَّ أَثْنَاءَ مَرَضٍ يُرْجَى زَوَالُهُ، وَلاَ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى الْحَامِل أَوِ النُّفَسَاءِ، وَلاَ عَلَى الْعَائِدِ فِي السَّرِقَةِ قَبْل أَنْ يَنْدَمِل الْجُرْحُ السَّابِقُ. كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَاقَ السَّارِقُ إِلَى مَكَانِ الْقَطْعِ سُوقًا رَفِيقًا، فَلاَ يُعَنَّفُ بِهِ، وَلاَ يُعَيَّرُ، وَلاَ يُسَبُّ. فَإِذَا وَصَل إِلَى مَكَانِ الْقَطْعِ (يَجْلِسُ، وَيُضْبَطُ لِئَلاَّ يَتَحَرَّكَ فَيَجْنِي عَلَى نَفْسِهِ، وَتُشَدُّ يَدُهُ بِحَبْلٍ وَيُجَرُّ حَتَّى يَبِينَ مَفْصِل الذِّرَاعِ، ثُمَّ تُوضَعُ بَيْنَهُمَا سِكِّينٌ حَادَّةٌ، وَيُدَقُّ فَوْقَهَا بِقُوَّةٍ لِيَقْطَعَ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ تُوضَعُ عَلَى الْمَفْصِل وَتُمَدُّ مَدَّةً وَاحِدَةً، وَإِنْ عَلِمَ قَطْعَ أَوْحَى مِنْ ذَلِكَ - أَيْ أَسْرَعَ - قَطَعَ بِهِ) . (2)
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى حَسْمِ مَوْضِعِ الْقَطْعِ، وَذَلِكَ بِاسْتِعْمَال مَا يَسُدُّ الْعُرُوقَ وَيُوقِفُ نَزْفَ الدَّمِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنْ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ السَّرِقَةُ: {
__________
(1) حديث: " لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 75 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(2) المغني والشرح الكبير 10 / 266 وما بعدها.

(24/339)


اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ، ثُمَّ احْسِمُوهُ (1) . وَلَكِنَّ الْخِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي حُكْمِ الْحَسْمِ: فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَيْنِيٌّ عَلَى مَنْ قَامَ بِالْقَطْعِ؛ لأَِنَّ صِيغَةَ الأَْمْرِ فِي الْحَدِيثِ تُفِيدُ الْوُجُوبَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ - فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمْ - إِلَى أَنَّ الْحَسْمَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَلاَ يَلْزَمُ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ، فَإِذَا قَامَ بِهِ الْقَاطِعُ أَوِ الْمَقْطُوعُ أَوْ غَيْرُهُمَا فَقَدْ حَصَل الْمَطْلُوبُ. وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الأَْمْرَ بِالْحَسْمِ يُحْمَل عَلَى النَّدْبِ، لاَ الْوُجُوبِ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ لِلْمَقْطُوعِ، لاَ لِتَمَامِ الْحَدِّ، فَيَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَتْرُكَهُ. وَحِينَئِذٍ يُنْدَبُ لِلإِْمَامِ وَلِغَيْرِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ السَّارِقِ وَحِفْظُهُ مِنَ الْهَلاَكِ. وَلاَ يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوبِهِ عَلَى السَّارِقِ إِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ أَحَدٌ، فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْمَقْطُوعِ فِعْل الْحَسْمِ، لإِِغْمَاءٍ وَنَحْوِهِ وَتَرَتَّبَ عَلَى تَرْكِهِ تَلَفٌ مُحَقَّقٌ، فَلاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ إِهْمَالُهُ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ، كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ. وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الْحَسْمَ تَتِمَّةٌ لِلْحَدِّ، فَيَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ فِعْلُهُ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُهْمِلَهُ (2) .

68 - وَيُسَنُّ - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - تَعْلِيقُ
__________
(1) حديث: " اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ". أخرجه الدارقطني (3 / 102 - ط دار المحاسن) من حديث أبي هريرة، ثم أشار إلى إعلاله بأنه روي مرسلا.
(2) ابن عابدين 3 / 285، الفتاوى الهندية 2 / 182، كشاف القناع 6 / 119، المغني والشرح الكبير 10 / 266، الخرشي على خليل 8 / 92، القليوبي وعميرة 4 / 198، مغني المحتاج 4 / 178.

(24/339)


الْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ فِي عُنُقِ السَّارِقِ، رَدْعًا لِلنَّاسِ، اسْتِنَادًا إِلَى مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُلِّقَتْ فِي عُنُقِهِ (1) . وَقَدْ حَدَّدَ الشَّافِعِيَّةُ مُدَّةَ التَّعْلِيقِ بِسَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَمْ يُحَدِّدُوا مُدَّةَ التَّعْلِيقِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الْيَدِ لاَ يُسَنُّ، بَل يُتْرَكُ الأَْمْرُ لِلإِْمَامِ، إِنْ رَأَى فِيهِ مَصْلَحَةً فَعَلَهُ، وَإِلاَّ فَلاَ (2) . وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَالِكِيَّةُ شَيْئًا عَنْ تَعْلِيقِ الْيَدِ.

4 - تَكَرُّرُ الْقَطْعِ بِتَكَرُّرِ السَّرِقَةِ:

تَدَاخُل الْحَدِّ:
69 - مِنَ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ الَّتِي اسْتَقَرَّتْ فِي الْفِقْهِ الإِْسْلاَمِيِّ عَلَى اخْتِلاَفِ مَذَاهِبِهِ: أَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ عَلَى التَّدَاخُل، إِذَا اتَّحَدَ مُوجِبُهَا وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْحَدِّ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ. وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: إِذَا تَكَرَّرَتِ السَّرِقَةُ، قَبْل إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَكَانَتْ فِي كُل مَرَّةٍ تُوجِبُ الْقَطْعَ، قُطِعَ السَّارِقُ لِجَمِيعِهَا قَطْعًا وَاحِدًا؛ لأَِنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ فَيَتَدَاخَل بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ؛ وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الرَّدْعُ
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه ". أخرجه النسائي (8 / 92 - ط. المكتبة التجارية) من حديث فضالة بن عبيد، ثم ذكر تضعيف أحد رواته.
(2) ابن عابدين 3 / 285، ابن نجيم 5 / 66، أسنى المطالب 4 / 153، المهذب 2 / 301، كشاف القناع 6 / 119، المغني 10 / 267.

(24/340)


وَالزَّجْرُ، وَذَلِكَ يَحْصُل بِإِقَامَةِ الْحَدِّ الْوَاحِدِ (1) .

السَّرِقَةُ بَعْدَ الْقَطْعِ:
70 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ السَّارِقِ، إِذَا قُطِعَتْ يَمِينُهُ ثُمَّ عَادَ لِلسَّرِقَةِ، عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
ذَهَبَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ إِلَى أَنَّ: مَنْ قُطِعَتْ يَمِينُهُ فِي السَّرِقَةِ الأُْولَى، ثُمَّ سَرَقَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُضْرَبُ وَيُحْبَسُ، إِذْ لاَ قَطْعَ إِلاَّ فِي السَّرِقَةِ الأُْولَى. لِقَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (2) أَيِ الْيَدَ الْيُمْنَى، كَمَا جَاءَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأََمَرَ بِقَطْعِ الرِّجْل {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (3)
وَذَهَبَ رَبِيعَةُ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ: مَنْ قُطِعَتْ يَمِينُهُ فِي السَّرِقَةِ الأُْولَى، ثُمَّ سَرَقَ مَرَّةً ثَانِيَةً، تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ عَادَ إِلَى السَّرِقَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ، بَل يُعَزَّرُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِقَطْعِ الأَْيْدِي، وَهِيَ تَشْمَل الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى، وَإِدْخَال الأَْرْجُل فِي الْقَطْعِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ (4) .
__________
(1) المبسوط 9 / 177، شرح الزرقاني 8 / 108، نهاية المحتاج 7 / 467، المغني والشرح الكبير 10 / 268.
(2) سورة المائدة / 38.
(3) سورة مريم / 64.
(4)) أحكام القرآن لابن العربي 2 / 613، المحلى 11 / 354، المغني 10 / 265، فتح الباري 15 / 105 - 106.

(24/340)


وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهِيَ الْمَذْهَبُ إِلَى أَنَّ مَنْ سَرَقَ بَعْدَ أَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى، تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى. فَإِنْ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ، بَل يُحْبَسُ وَيُضْرَبُ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ أَوْ يَمُوتَ. وَنُقِل هَذَا عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَحَمَّادٍ (1) لِمَا رُوِيَ مِنْ قَوْل عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: إِذَا سَرَقَ الرَّجُل قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى، فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ عَادَ ضَمَّنْتُهُ السِّجْنَ حَتَّى يُحْدِثَ خَيْرًا. إِنِّي لأََسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ أَنْ أَدَعَهُ لَيْسَ لَهُ يَدٌ يَأْكُل بِهَا وَيَسْتَنْجِيَ بِهَا، وَرِجْلٌ يَمْشِي عَلَيْهَا (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى: إِلَى أَنَّ مَنْ سَرَقَ، بَعْدَ أَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى فِي السَّرِقَةِ الأُْولَى، تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ عَادَ لِلْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ سَرَقَ مَرَّةً رَابِعَةً قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى، فَإِنْ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ حُبِسَ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ أَوْ يَمُوتَ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ،
__________
(1) ابن عابدين 3 / 285، بدائع الصنائع 7 / 1086، المبسوط 9 / 16، كشاف القناع 6 / 119، المغني والشرح الكبير 10 / 271، فتح الباري 15 / 105 - 106، المحلى 11 / 354.
(2) سنن البيهقي 8 / 273، سنن الدارقطني 3 / 103.

(24/341)


فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ (1) .
وَقَدْ فَعَل ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَال بِهِ إِسْحَاقُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ (2) .
رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ: أَنَّ مَنْ سَرَقَ - بَعْدَ قَطْعِ أَطْرَافِهِ الأَْرْبَعَةِ - يُقْتَل حَدًّا، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ. وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْل سَارِقٍ - فِي الْمَرَّةِ الْخَامِسَةِ - قَال جَابِرٌ: فَانْطَلَقْنَا بِهِ، ثُمَّ اجْتَرَرْنَاهُ، فَأَلْقَيْنَاهُ فِي بِئْرٍ، وَرَمَيْنَا عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ (3) .
__________
(1) حديث: " إذا سرق السارق فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله ". أخرجه الدارقطني (3 / 181 ط دار المحاسن) وضعف إسناده ابن حجر في التلخيص (4 / 68 - ط شركة الطباعة الفنية) وأورد له ما يقويه.
(2) الخرشي على خليل 8 / 93، القوانين الفقهية ص 361، أسنى المطالب 4 / 152، القليوبي وعميرة 4 / 198، المهذب 2 / 300، شرح الزرقاني على الموطأ 8 / 92 - 93، فتح الباري 15 / 106، الجامع لأحكام القرآن 6 / 160، سنن الدارقطني 2 / 364، بداية المجتهد 2 / 413 - 414، فتح الباري 15 / 105 - 106، المحلى 11 / 356، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 266.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل سارق في المرة الخامسة ". أخرجه الدارقطني (3 / 181 - ط دار المحاسن) من حديث جابر بن عبد الله، وضعف إسناده ابن حجر في التلخيص (4 / 68 - ط شركة الطباعة الفنية) ولكن ذكر الدارقطني أسانيد أخرى له يتقوى بها.

(24/341)


قَال الْخَطَّابِيُّ: وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ وَقَدْ عَارَضَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَحِل دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: كُفْرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ وَزِنًى بَعْدَ إِحْصَانٍ أَوْ قَتْل نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ (1) . قَال: وَلاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْفُقَهَاءِ يُبِيحُ دَمَ السَّارِقِ (2) .

سُقُوطُ الْحَدِّ.
71 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ مَا يُسْقِطُ الْحَدَّ، سَوَاءٌ مَا يَتَّصِل بِالْمَسْرُوقِ مِنْهُ أَمْ بِغَيْرِهِ: كَالْعَفْوِ وَالشَّفَاعَةِ. وَمِنْهَا مَا يَتَّصِل بِالسَّارِقِ: كَالتَّوْبَةِ، وَالرُّجُوعِ عَنِ الإِْقْرَارِ، وَاشْتِرَاكِهِ مَعَ مَنْ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْرُوقِ: كَطُرُوءِ مِلْكِ السَّارِقِ عَلَى مَا سَرَقَ. وَقَدْ يَسْقُطُ الْحَدُّ نَتِيجَةً لِلتَّقَادُمِ.

1 - الشَّفَاعَةُ وَالْعَفْوُ:
72 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِجَازَةِ الشَّفَاعَةِ بَعْدَ السَّرِقَةِ وَقَبْل أَنْ يَصِل الأَْمْرُ إِلَى الْحَاكِمِ، إِذَا كَانَ
__________
(1) حديث: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ". أخرجه الترمذي (4 / 460 - 461 ط الحلبي) من حديث عثمان بن عفان بلفظ مقارب، وقال: حديث حسن.
(2) فتح القدير 5 / 596، المغني والشرح الكبير 10 / 271، تبصرة الحكام 2 / 353، ومعالم السنن 3 / 313 - 314، مغني المحتاج 4 / 178، النهاية في شرح الغاية 3 / 57.

(24/342)


السَّارِقُ لَمْ يُعْرَفْ بِشَرٍّ، سِتْرًا لَهُ وَإِعَانَةً عَلَى التَّوْبَةِ (1) . فَأَمَّا إِذَا وَصَل الأَْمْرُ إِلَى الْحَاكِمِ، فَالشَّفَاعَةُ فِيهِ حَرَامٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأُِسَامَةَ - حِينَمَا شَفَعَ فِي الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ -: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ (2) وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَقِيَ رَجُلاً قَدْ أَخَذَ سَارِقًا، فَشَفَعَ فِيهِ، فَقَال: لاَ، حَتَّى أَبْلُغَ بِهِ الإِْمَامُ، فَقَال الزُّبَيْرُ: إِذَا بَلَغَ الإِْمَامَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفِّعَ (3) .
وَيَنْطَبِقُ نَفْسُ الْحُكْمِ عَلَى الْعَفْوِ عَنِ السَّارِقِ: فَإِنَّهُ يَجُوزُ إِذَا لَمْ يُرْفَعِ الأَْمْرُ إِلَى الْحَاكِمِ، فَإِنْ رُفِعَ إِلَيْهِ، لاَ يُقْبَل فِيهِ الْعَفْوُ. وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ (4) .
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَفْوَانَ - لَمَّا تَصَدَّقَ بِرِدَائِهِ عَلَى سَارِقِهِ -: فَهَلاَّ قَبْل أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ (5) .
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 5 / 295، نيل الأوطار 7 / 311.
(2) حديث: " أتشفع في حد من حدود الله ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 87 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1315 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
(3) المنتقى شرح الموطأ 7 / 163.
(4) حديث: " تعافوا الحدود فيما بينكم ". أخرجه النسائي (8 / 70 - ط المكتبة التجارية) من حديث عبد الله بن عمرو، وإسناده حسن.
(5) المبسوط 7 / 111، المنتقى 7 / 162 وما بعدها، تكملة المجموع 18 / 333، المغني والشرح الكبير 10 / 294، نيل الأوطار 7 / 153. والحديث: " فهلا قبل أن تأتيني به ". أخرجه الحاكم (4 / 380 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس، وصححه ووافقه الذهبي.

(24/342)


التَّوْبَةُ:
73 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ، أَيِ النَّدَمَ الَّذِي يُورِثُ عَزْمًا عَلَى إِرَادَةِ التَّرْكِ تُسْقِطُ عَذَابَ الآْخِرَةِ عَنِ السَّارِقِ (1) ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أَثَرِ التَّوْبَةِ عَلَى إِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَعَطَاءٌ، وَجَمَاعَةٌ: إِلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لاَ تُسْقِطُ حَدَّ السَّرِقَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} (2) مِنْ غَيْرِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ تَائِبٍ وَغَيْرِهِ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى عَمْرِو بْنِ سَمُرَةَ، حِينَ أَتَاهُ تَائِبًا يَطْلُبُ التَّطْهِيرَ مِنْ سَرِقَتِهِ جَمَلاً (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ - وَالْحَنَابِلَةُ - فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى - إِلَى أَنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ حَدَّ السَّرِقَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى - بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ جَزَاءَ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ -: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ
__________
(1) إحياء علوم الدين 4 / 20، معالم السنن 3 / 301.
(2)) سورة المائدة / 38.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الحد على عمرو بن سمرة ". أخرجه ابن ماجه (2 / 863 - ط الحلبي) من حديث ثعلبة الأنصاري، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 75 - ط دار الجنان) .

(24/343)


فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) وَهُوَ يَدُل عَلَى أَنَّ التَّائِبَ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، إِذْ لَوْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بَعْدَ التَّوْبَةِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِهَا فَائِدَةٌ (2) .

3 - الرُّجُوعُ عَنِ الإِْقْرَارِ:
74 - اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ السَّارِقَ إِذَا رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ، قَبْل الْقَطْعِ، سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ الرُّجُوعَ عَنِ الإِْقْرَارِ يُورِثُ شُبْهَةً (3) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ رُجُوعَ السَّارِقِ فِي إِقْرَارِهِ لاَ يُقْبَل مِنْهُ، وَلاَ يُسْقِطُ عَنْهُ الْحَدَّ؛ لأَِنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لآِدَمِيٍّ بِقِصَاصٍ أَوْ بِحَقٍّ لَمْ يُقْبَل رُجُوعُهُ عَنْهُمَا، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ (4) .

4 - الاِشْتِرَاكُ مَعَ مَنْ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ:
75 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - إِلاَّ أَبَا يُوسُفَ - وَالْحَنَابِلَةُ فِي
__________
(1) سورة المائدة / 39.
(2) فتح القدير 5 / 429، الخرشي والعدوي 8 / 103، المهذب 2 / 285، المغني 8 / 281، 296 ط. مكتبة القاهرة، المحلى 11 / 129، القليوبي وعميرة 4 / 201، نيل الأوطار 7 / 106، فتح الباري 15 / 117.
(3) ابن عابدين 3 / 290، حاشية الدسوقي 4 / 345، القليوبي وعميرة 4 / 196، كشاف القناع 6 / 117 - 118، الخراج ص 191.
(4) نهاية المحتاج 7 / 441، المغني والشرح الكبير 10 / 293.

(24/343)


أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ إِلَى أَنَّهُ: إِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي سَرِقَةٍ وَكَانَ بَيْنَهُمْ مَنْ لاَ يَتَعَلَّقُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ، كَصَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ، فَإِنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ عَنِ الشُّرَكَاءِ كُلِّهِمْ؛ لأَِنَّ السَّرِقَةَ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ حَصَلَتْ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ وَمِمَّنْ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ، فَيَسْقُطُ الْقَطْعُ عَنِ الْجَمِيعِ، قِيَاسًا عَلَى اشْتَرَاكِ الْعَامِدِ مَعَ الْمُخْطِئِ فِي الْقَتْل، فَإِنَّ الْقِصَاصَ يَسْقُطُ عَنْهُمَا.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ لاَ يَسْقُطُ إِلاَّ إِذَا كَانَ الصَّبِيُّ أَوِ الْمَجْنُونُ هُوَ الَّذِي وَلِيَ الأَْخْذَ وَالإِْخْرَاجَ؛ لأَِنَّ الإِْخْرَاجَ أَصْلٌ وَالإِْعَانَةَ كَالتَّابِعِ، فَإِذَا سَقَطَ الْقَطْعُ عَنِ الأَْصْل وَجَبَ سُقُوطُهُ عَنِ التَّابِعِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الآْخِذُ وَالْمُخْرِجُ مُكَلَّفًا فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ قَامَ بِالأَْصْل، فَلاَ يَسْقُطُ الْقَطْعُ عَنْهُ، وَإِنْ سَقَطَ عَنِ الصَّبِيِّ أَوِ الْمَجْنُونِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي الْوَجْهِ الآْخَرِ - إِلَى أَنَّ اشْتِرَاكَ مَنْ لاَ يَجِبُ قَطْعُهُ فِي السَّرِقَةِ لاَ يَسْقُطُ عَنْ سَائِرِ الشُّرَكَاءِ لأَِنَّ سَبَبَ امْتِنَاعِ قَطْعِهِ خَاصٌّ بِهِ، فَلاَ يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ (1) .
__________
(1)) بدائع الصنائع 7 / 67، المبسوط 9 / 151، تبصرة الحكام 2 / 352، شرح الزرقاني 8 / 95، أسنى المطالب 4 / 138 - 139، مغني المحتاج 4 / 160، المغني والشرح الكبير 10 / 296 - 297.

(24/344)


5 - طُرُوءُ الْمِلْكِ قَبْل الْحُكْمِ:
76 - إِذَا تَمَلَّكَ السَّارِقُ الْمَسْرُوقَ قَبْل الْقَضَاءِ بِأَنِ اشْتَرَاهُ أَوْ وُهِبَ لَهُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْقَطْعَ يَسْقُطُ عَنْهُ - عِنْدَ الْجُمْهُورِ - لأَِنَّ الْمُطَالَبَةَ شَرْطٌ لِلْحُكْمِ بِالْقَطْعِ، فَإِذَا تَمَلَّكَهُ السَّارِقُ قَبْل الْقَضَاءِ امْتَنَعَتِ الْمُطَالَبَةُ، وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي هَذَا الْحُكْمِ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِمْ الْمُطَالَبَةَ، فَالْعِبْرَةُ بِوُجُوبِ الْحَدِّ أَوْ سُقُوطِهِ بِحَال السَّرِقَةِ، دُونَ انْتِقَال الْمِلْكِ بَعْدَهَا.
فَأَمَّا إِذَا حَدَثَ الْمِلْكُ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَقَبْل الْقَطْعِ، فَإِنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ وَزُفَرَ -: (لأَِنَّ الْقَضَاءَ فِي بَابِ الْحُدُودِ إِمْضَاؤُهَا فَمَا لَمْ تَمْضِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْضِ) ، وَلأَِنَّ (الْمُعْتَرِضَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، قَبْل الاِسْتِيفَاءِ، كَالْمُقْتَرِنِ بِأَصْل السَّبَبِ) ؛ وَلأَِنَّ (التَّمَلُّكَ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ حَقًّا وَقْتَ السَّرِقَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ أَوْجَدَ شُبْهَةً عِنْدَ التَّنْفِيذِ وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ تَمْنَعُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ) .
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ لاَ أَثَرَ لِتَمَلُّكِ الْمَسْرُوقِ بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَى وُجُوبِ الْقَطْعِ، (لأَِنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ حُكْمٌ مُعَلَّقٌ بِوُجُودِ السَّرِقَةِ، وَقَدْ تَمَّتِ السَّرِقَةُ، وَوَقَعَتْ مُوجِبَةً لِلْقَطْعِ لاِسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، فَطُرُوءُ الْمِلْكِ بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يُوجِبُ خَلَلاً فِي السَّرِقَةِ الْمَوْجُودَةِ، فَبَقِيَ الْقَطْعُ وَاجِبًا) ، وَلأَِنَّ مَا حَدَثَ - بَعْدَ وُجُوبِ الْحَدِّ - لَمْ

(24/344)


يُوجَدْ شُبْهَةٌ فِي الْوُجُوبِ، (فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْحَدِّ) ، وَلَوْ كَانَ حُدُوثُ الْمِلْكِ - بَعْدَ الْقَضَاءِ - يُسْقِطُ الْحَدَّ، لَمَا قَطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَارِقَ رِدَاءِ صَفْوَانَ، بَعْدَ أَنْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ، بَل قَال لَهُ: فَهَلاَّ قَبْل أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ (1) .

6 - تَقَادُمُ الْحَدِّ:
77 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ لاَ يَسْقُطُ بِالتَّقَادُمِ؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَصْدُرْ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَتِ السَّرِقَةُ، فَوَجَبَ تَنْفِيذُهُ مَهْمَا طَال الزَّمَنُ، وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُرُوبُ الْجَانِي أَوْ تَرَاخِي التَّنْفِيذِ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْحَدِّ، وَإِلاَّ كَانَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى تَعْطِيل حُدُودِ اللَّهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - مَا عَدَا زُفَرَ - إِلَى أَنَّ تَقَادُمَ التَّنْفِيذِ بَعْدَ الْقَضَاءِ، يُسْقِطُ الْقَطْعَ، لأَِنَّ الْقَضَاءَ فِي بَابِ الْحُدُودِ إِمْضَاؤُهَا، فَمَا لَمْ تَمْضِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْضِ، وَلأَِنَّ التَّقَادُمَ فِي التَّنْفِيذِ كَالتَّقَادُمِ فِي الإِْثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِذَا حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ بِشُهُودٍ فِي السَّرِقَةِ، ثُمَّ انْفَلَتَ، فَأُخِذَ بَعْدَ زَمَانٍ، لَمْ يُقْطَعْ؛ لأَِنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لاَ يُقَامُ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ، وَالْعَارِضُ فِي الْحُدُودِ بَعْدَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 88 - 89، المبسوط 9 / 187، شرح الزرقاني 8 / 89، المهذب 2 / 264 - 282، والمغني والشرح الكبير 10 / 277، معالم السنن 3 / 300.

(24/345)


الْقَضَاءِ قَبْل الاِسْتِيفَاءِ كَالْعَارِضِ قَبْل الْقَضَاءِ (1) .

التَّعْزِيرُ:
78 - تَجُوزُ الْعُقُوبَةُ بِالتَّعْزِيرِ عَلَى كُل سَرِقَةٍ لَمْ تَكْتَمِل أَرْكَانُهَا، أَوْ لَمْ تَسْتَوْفِ شُرُوطُهَا؛ لِعَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ فِيهَا. وَعَلَى كُل سَرِقَةٍ دَرْءُ الْحَدِّ فِيهَا لِوُجُودِ شُبْهَةٍ. وَكَذَلِكَ تَجُوزُ الْعُقُوبَةُ بِالتَّعْزِيرِ عَلَى السَّرِقَةِ الَّتِي سَقَطَ فِيهَا الْقَطْعُ، عَلَى التَّفْصِيل الَّذِي سَبَقَ بَيَانُهُ (2) .

الضَّمَانُ:
79 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ رَدِّ الْمَسْرُوقِ إِنْ كَانَ قَائِمًا، إِلَى مَنْ سُرِقَ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ السَّارِقُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا، وَسَوَاءٌ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَوْ لَمْ يُقَمْ، وَسَوَاءٌ وُجِدَ الْمَسْرُوقُ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ عَلَى صَفْوَانَ رِدَاءَهُ، وَقَطَعَ سَارِقَهُ، وَقَدْ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 89، المبسوط 9 / 176، فتح القدير 4 / 164، تبصرة الحكام 2 / 352، مغني المحتاج 4 / 151، المغني والشرح الكبير 10 / 205 - 206.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 236، معالم السنن 3 / 313، المغني 10 / 271، وانظر مصطلح: (تعزير) .

(24/345)


تُؤَدِّيَ (1) ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ كَذَلِكَ فِي وُجُوبِ ضَمَانِ الْمَسْرُوقِ إِذَا تَلِفَ، وَلَمْ يُقَمِ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ، لِسَبَبٍ يَمْنَعُ الْقَطْعَ، كَأَخْذِ الْمَال مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، أَوْ كَانَ دُونَ النِّصَابِ، أَوْ قَامَتْ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى السَّارِقِ أَنْ يَرُدَّ مِثْل الْمَسْرُوقِ - إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا - وَقِيمَتَهُ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا (2) .

80 - وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ، إِذَا تَلِفَ الْمَسْرُوقُ وَقَدْ قُطِعَ فِيهِ سَارِقُهُ، عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ تَلِفَ الْمَسْرُوقُ بِهَلاَكٍ أَوْ بِاسْتِهْلاَكٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِهِ قَال عَطَاءٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَغَيْرُهُمْ (3) .
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
__________
(1) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي. ". أخرجه أبو داود (3 / 822 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث الحسن عن سمرة، وقال ابن حجر في التلخيص (3 / 53 - ط شركة الطباعة الفنية) : والحسن مختلف في سماعه من سمرة.
(2) المبسوط 9 / 156، بداية المجتهد 2 / 442، أسنى المطالب 4 / 152، المغني والشرح الكبير 10 / 279، البيهقي 8 / 277.
(3) بدائع الصنائع 7 / 84 - 85، فتح القدير 5 / 413، أحكام القرآن للجصاص 4 / 84، بداية المجتهد 2 / 442.

(24/346)


أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} (1) فَقَدْ سَمَّى " الْقَطْعَ " جَزَاءً، وَالْجَزَاءُ يُبْنَى عَلَى الْكِفَايَةِ، فَلَوْ ضُمَّ إِلَيْهِ الضَّمَانُ لَمْ يَكُنِ الْقَطْعُ كَافِيًا، فَلَمْ يَكُنْ جَزَاءً، وَقَدْ جَعَل الْقَطْعَ كُل الْجَزَاءِ، لأَِنَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - ذَكَرَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ لَصَارَ الْقَطْعُ بَعْضَ الْجَزَاءِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُغَرَّمُ صَاحِبُ سَرِقَةٍ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ (2) ، فَالْحَدِيثُ يَنُصُّ صَرَاحَةً عَلَى نَفْيِ الضَّمَانِ إِذَا قَطَعَ السَّارِقُ. وَمِنْ هُنَا قَالُوا: لاَ يَجْتَمِعُ حَدٌّ وَضَمَانٌ؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ بِالضَّمَانِ يَجْعَل الْمَسْرُوقَ مَمْلُوكًا لِلسَّارِقِ، مُسْتَنِدًا إِلَى وَقْتِ الأَْخْذِ، فَلاَ يَجُوزُ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَقْطَعُ أَحَدٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ (3) .
وَالثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى ضَمَانِ الْمَسْرُوقِ - إِنْ تَلِفَ - بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ السَّارِقُ مُوسِرًا، مِنْ وَقْتِ السَّرِقَةِ إِلَى وَقْتِ الْقَطْعِ، لأَِنَّ الْيَسَارَ الْمُتَّصِل كَالْمَال الْقَائِمِ بِعَيْنِهِ، فَلاَ تَجْتَمِعُ عَلَى السَّارِقِ عُقُوبَتَانِ. فَإِنْ كَانَ السَّارِقُ مُوسِرًا وَقْتَ السَّرِقَةِ، ثُمَّ أَعْسَرَ بَعْدَهَا، أَوْ كَانَ مُعْسِرًا وَقْتَ السَّرِقَةِ، ثُمَّ أَيْسَرَ بَعْدَهَا، فَلاَ ضَمَانَ؛ لِئَلاَّ
__________
(1) سورة المائدة / 38.
(2) حديث: " لا يغرم صاحب سرقة إذا أقيم عليه الحد ". أخرجه النسائي (8 / 93 - ط المكتبة التجارية) وقال: هذا مرسل، وليس بثابت.
(3) أحكام القرآن للجصاص 4 / 84، فتح القدير 5 / 414، وبدائع الصنائع 7 / 84، والمبسوط 9 / 157.

(24/346)


تَجْتَمِعَ عَلَيْهِ عُقُوبَتَانِ: قَطْعُ يَدِهِ وَإِتْبَاعُ ذِمَّتِهِ (1) .
وَالثَّالِثُ: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَالْبَتِّيُّ وَاللَّيْثُ، وَبِهِ قَال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَإِسْحَاقُ (2) إِلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ السَّارِقُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا، وَسَوَاءٌ تَلِفَ الْمَسْرُوقُ بِهَلاَكٍ أَوِ اسْتِهْلاَكٍ، وَسَوَاءٌ أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ أَوْ لَمْ يُقَمْ، فَالْقَطْعُ وَالضَّمَانُ يَجْتَمِعَانِ؛ لأَِنَّ الْقَطْعَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالضَّمَانَ لِحَقِّ الْعَبْدِ، وَقَدْ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ (3) .
أَمَّا وَقْتُ تَقْدِيرِ الْقِيمَةِ - إِذَا حَكَمَ بِضَمَانِ الْمَسْرُوقِ - فَيُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَمَان) .