الموسوعة الفقهية الكويتية

سُفُورٌ

انْظُرْ: تَبَرُّج

سَفِير

انْظُرْ: إِرْسَال
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 172، والمبدع 8 / 300، تكملة المجموع 13 / 381، والخرشي 5 / 295.

(25/74)


سَفِينَة
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّفِينَةُ مَعْرُوفَةٌ، وَتُسَمَّى الْفُلْكَ، سُمِّيَتْ سَفِينَةً لأَِنَّهَا تَسْفِنُ وَجْهَ الْمَاءِ؛ أَيْ تَقْشِرُهُ، فَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ، وَقِيل: إِنَّمَا سُمِّيَتْ سَفِينَةً لأَِنَّهَا تَسْفِنُ الرَّمْل إِذَا قَل الْمَاءُ. وَقِيل: لأَِنَّهَا تَسْفِنُ عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ؛ أَيْ تَلْزَقُ بِهَا. وَالْجَمْعُ سَفَائِنُ وَسُفُنٌ وَسَفِينٌ (1) .
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ هَذَا اللَّفْظَ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ نَفْسِهِ، وَيَشْمَل اسْمُ السَّفِينَةِ عِنْدَهُمْ كُل مَا يُرْكَبُ بِهِ الْبَحْرُ، كَالزَّوْرَقِ وَالْقَارِبِ وَالْبَاخِرَةِ وَالْبَارِجَةِ وَالْغَوَّاصَةِ (2) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسَّفِينَةِ:
اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي السَّفِينَةِ:
2 - يَجِبُ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ عَلَى مَنْ يُصَلِّي فَرْضًا
__________
(1) لسان العرب والمعجم الوسيط ومتن اللغة مادة (سفن) .
(2) مغني المحتاج 1 / 144.

(25/74)


فِي السَّفِينَةِ، فَإِنْ هَبَّتِ الرِّيحُ وَحَوَّلَتِ السَّفِينَةَ فَتَحَوَّل وَجْهُهُ عَنِ الْقِبْلَةِ وَجَبَ رَدُّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ وَيَبْنِي عَلَى صَلاَتِهِ؛ لأَِنَّ التَّوَجُّهَ فَرْضٌ عِنْدَ الْقُدْرَةِ وَهَذَا قَادِرٌ. بِهَذَا قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (1) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ أَنْ يَدُورَ الْمُفْتَرِضُ إِلَى الْقِبْلَةِ كُلَّمَا دَارَتِ السَّفِينَةُ كَالْمُتَنَفِّل (2) .
هَذَا وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْمَلاَّحَ لاَ يَلْزَمُهُ الدَّوَرَانُ إِلَى الْقِبْلَةِ إِذَا دَارَتِ السَّفِينَةُ عَنْهَا وَذَلِكَ لِحَاجَتِهِ لِتَسْيِيرِ السَّفِينَةِ (3) . وَلِلتَّفْصِيل فِي الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَوْضُوعِ وَاسْتِقْبَال الْمُتَنَفِّل عَلَى السَّفِينَةِ (ر: صَلاَة. نَفْل) .

الْقِيَامُ فِي الصَّلاَةِ فِي السَّفِينَةِ: 3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِمَنْ يُصَلِّي الْفَرِيضَةَ فِي السَّفِينَةِ تَرْكُ الْقِيَامِ مَعَ الْقُدْرَةِ كَمَا لَوْ كَانَ فِي الْبَرِّ.
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 144، والمجموع 3 / 242، والقوانين الفقهية ص 60، والدسوقي 1 / 226، ومراقي الفلاح ص 223، وكشاف القناع 1 / 304.
(2) تصحيح الفروع 1 / 380.
(3) كشاف القناع 1 / 304.

(25/75)


وَيَسْتَدِلُّونَ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا (1) وَهَذَا مُسْتَطِيعٌ لِلْقِيَامِ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الْحَبَشَةِ أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي السَّفِينَةِ قَائِمًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَ الْغَرَقَ (2) وَلأَِنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ فِي الصَّلاَةِ فَلاَ يَسْقُطُ إِلاَّ بِعُذْرٍ وَلَمْ يُوجَدْ (3) .
وَيَقُول أَبُو حَنِيفَةَ بِصِحَّةِ صَلاَةِ مَنْ صَلَّى فِي السَّفِينَةِ السَّائِرَةِ قَاعِدًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ أَوْ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الشَّطِّ، وَفِي الْمُضْمَرَاتِ وَالْبَحْرِ عَنِ الْبَدَائِعِ: أَنَّ فِيهِ إِسَاءَةَ أَدَبٍ.
وَيُحْتَجُّ لأَِبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بِمَا يَأْتِي:
(1) رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَال: صَلَّيْنَا
__________
(1) حديث: " فإن لم تستطع فقاعدا ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 587 - ط السلفية) من حديث عمران بن حصين.
(2) حديث: لما بعث جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة أمره أن يصلي في السفينة. أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 163 - ط القدسي) وقال: " رواه البزار وفيه رجل لم يسم وبقية رجاله ثقات، وإسناده متصل ".
(3) مراقي الفلاح ص 223، وبدائع الصنائع 1 / 109، والمجموع 3 / 242، والمغني 2 / 144، والحطاب 2 / 515.

(25/75)


مَعَ أَنَسٍ فِي السَّفِينَةِ قُعُودًا وَلَوْ شِئْنَا لَخَرَجْنَا إِلَى الْجِدِّ (1) .
(2) قَال مُجَاهِدٌ: صَلَّيْنَا مَعَ جُنَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي السَّفِينَةِ قُعُودًا وَلَوْ شِئْنَا لَقُمْنَا.
(3) ذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ فِي كِتَابِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ عُقْلَةَ أَنَّهُ قَال: سَأَلْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ الصَّلاَةِ فِي السَّفِينَةِ. فَقَالاَ: إِنْ كَانَتْ جَارِيَةً يُصَلِّي قَاعِدًا، وَإِنْ كَانَتْ رَاسِيَةً يُصَلِّي قَائِمًا. مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إِذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ أَوْ لاَ.
(4) أَنَّ سَيْرَ السَّفِينَةِ سَبَبٌ لِدَوَرَانِ الرَّأْسِ غَالِبًا، وَالسَّبَبُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ إِذَا كَانَ فِي الْوُقُوفِ عَلَى الْمُسَبَّبِ حَرَجٌ، أَوْ كَانَ الْمُسَبَّبُ بِحَالٍ يَكُونُ عَدَمُهُ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ، فَأَلْحَقُوا النَّادِرَ بِالْعَدَمِ؛ إِذْ لاَ عِبْرَةَ بِالنَّادِرِ، وَهَاهُنَا عَدَمُ دَوَرَانِ الرَّأْسِ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ وَصَارَ كَالرَّاكِبِ عَلَى الدَّابَّةِ وَهِيَ تَسِيرُ أَنَّهُ يَسْقُطُ الْقِيَامُ لِتَعَذُّرِ الْقِيَامِ عَلَيْهَا غَالِبًا، كَذَا هَذَا (2) .
__________
(1) الجدّ - بكسر الجيم وتشديد الدال - الشاطئ (حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 223) .
(2) بدائع الصنائع 1 / 109، 110، ومراقي الفلاح ص 223.

(25/76)


الاِقْتِدَاءُ فِي السُّفُنِ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَأْتَمَّ رَجُلٌ مِنْ أَهْل السَّفِينَةِ بِإِمَامٍ فِي سَفِينَةٍ أُخْرَى؛ لأَِنَّ بَيْنَهُمَا طَائِفَةً مِنَ النَّهْرِ أَوِ الْبَحْرِ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَقْرُونَتَيْنِ، فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ لأَِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مَا يَمْنَعُ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُمَا فِي سَفِينَةٍ وَاحِدَةٍ لأَِنَّ السَّفِينَتَيْنِ الْمَقْرُونَتَيْنِ فِي مَعْنَى أَلْوَاحِ سَفِينَةٍ وَاحِدَةٍ (1) .
وَالْمُرَادُ بِالاِقْتِرَانِ الْمُمَاسَّةُ بَيْنَ السَّفِينَتَيْنِ مُدَّةَ الصَّلاَةِ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ رَبْطٍ. وَهَذَا مَا اسْتَظْهَرَهُ الطَّحْطَاوِيُّ. وَقِيل: الْمُرَادُ بِالاِقْتِرَانِ رَبْطُهُمَا بِنَحْوِ حَبْلٍ (2) .
وَمَحَل عَدَمِ صِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَوْنُ الإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِ فِي غَيْرِ شِدَّةِ خَوْفٍ، وَأَمَّا فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ فَيَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ لِلْحَاجَةِ (3) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ جَوَازَ اقْتِدَاءِ ذَوِي سُفُنٍ مُتَقَارِبَةٍ بِإِمَامٍ وَاحِدٍ يَسْمَعُونَ تَكْبِيرَهُ أَوْ يَرَوْنَ أَفْعَالَهُ أَوْ مَنْ يَسْمَعُ عِنْدَهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الإِْمَامُ فِي السَّفِينَةِ الَّتِي تَلِي الْقِبْلَةَ (4) .
__________
(1) المبسوط للسرخسي 2 / 3، ومطالب أولي النهى 1 / 694.
(2) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 160.
(3) مطالب أولي النهى 1 / 694.
(4) حاشية الدسوقي 1 / 336.

(25/76)


وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَانَ الإِْمَامُ وَالْمَأْمُومُ فِي سَفِينَتَيْنِ مَكْشُوفَتَيْنِ فِي الْبَحْرِ فَكَالْفَضَاءِ، فَيَصِحُّ اقْتِدَاءُ أَحَدِهِمَا بِالآْخَرِ وَإِنْ لَمْ تُشَدَّ إِحْدَاهُمَا إِلَى الأُْخْرَى، بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَزِيدَ مَا بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلاَثِمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَإِنْ كَانَتَا مُسَقَّفَتَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا فَقَطْ فَكَالْبَيْتَيْنِ فِي اشْتِرَاطِ قَدْرِ الْمَسَافَةِ وَعَدَمِ الْحَائِل وَوُجُودِ الْوَاقِفِ بِالْمَنْفَذِ إِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَنْفَذٌ (1) .

التَّطَوُّعُ فِي السَّفِينَةِ بِالإِْيمَاءِ:
5 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ الْمُعَوَّل عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَتَطَوَّعَ فِي السَّفِينَةِ بِالإِْيمَاءِ بِخِلاَفِ رَاكِبِ الدَّابَّةِ فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ لِوُرُودِ النَّصِّ بِهِ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لأَِنَّ رَاكِبَ الدَّابَّةِ لَيْسَ لَهُ مَوْضِعُ قَرَارٍ عَلَى الأَْرْضِ وَرَاكِبُ السَّفِينَةِ لَهُ فِيهَا قَرَارٌ عَلَى الأَْرْضِ، فَالسَّفِينَةُ فِي حَقِّهِ كَالْبَيْتِ (2) .
هَذَا وَلَمْ نَجِدْ لِلشَّافِعِيَّةِ تَصْرِيحًا فِي مَسْأَلَةِ التَّطَوُّعِ بِالإِْيمَاءِ فِي السَّفِينَةِ (3) .

التَّعَاقُدُ عَلَى ظَهْرِ السَّفِينَةِ:
6 - إِذَا تَعَاقَدَ شَخْصَانِ عَلَى ظَهْرِ سَفِينَةٍ
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 225.
(2) المبسوط 2 / 2، والشرح الصغير 1 / 300، وكشاف القناع 1 / 3.
(3) أسنى المطالب 1 / 225، 248، وروضة الطالبين 1 / 239، ونهاية المحتاج 1 / 452.

(25/77)


انْعَقَدَ الْعَقْدُ سَوَاءٌ أَكَانَتِ السَّفِينَةُ وَاقِفَةً أَمْ جَارِيَةً.
قَال الْكَاسَانِيُّ: لَوْ تَبَايَعَا وَهُمَا فِي سَفِينَةٍ يَنْعَقِدُ سَوَاءٌ كَانَتْ وَاقِفَةً أَوْ جَارِيَةً (1) .
وَعَلَّل ابْنُ الْهُمَامِ عَدَمَ تَبَدُّل مَجْلِسِ الْعَقْدِ بِجَرَيَانِ السَّفِينَةِ بِقَوْلِهِ: السَّفِينَةُ كَالْبَيْتِ فَلَوْ عَقَدَا وَهِيَ تَجْرِي فَأَجَابَ الآْخَرُ لاَ يَنْقَطِعُ الْمَجْلِسُ بِجَرَيَانِهَا لأَِنَّهُمَا لاَ يَمْلِكَانِ إِيقَافَهَا (2) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: اتِّحَاد الْمَجْلِسِ، صِيغَة، عَقْد، مَجْلِس) .

الشُّفْعَةُ فِي السُّفُنِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ عَقَارًا أَوْ مَا هُوَ بِمَعْنَاهُ، فَالشُّفْعَةُ لاَ تَثْبُتُ عِنْدَهُمْ فِي السُّفُنِ.
وَنُقِل عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَقُول بِثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِي السُّفُنِ، وَهَذَا مُقْتَضَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ قَوْل أَهْل مَكَّةَ (3)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: شُفْعَة) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 137.
(2) فتح القدير 5 / 78 - 79 ط بولاق.
(3) بدائع الصنائع 5 / 12، وتبيين الحقائق 5 / 252، ومغني المحتاج 2 / 296، والمغني 5 / 213، ومطالب أولي النهى 4 / 109، # إعلام الموقعين 2 / 140، نشر دار الجيل.

(25/77)


انْتِهَاءُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ فِي السَّفِينَةِ:
8 - يَعْتَبِرُ الْقَائِلُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ التَّفَرُّقَ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ انْتِهَاءِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَالْمَرْجِعُ فِي التَّفَرُّقِ إِلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَتِهِمْ فِيمَا يَعُدُّونَهُ تَفَرُّقًا؛ لأَِنَّ الشَّارِعَ عَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمًا وَلَمْ يُبَيِّنْهُ فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ، فَلَوْ كَانَ الْعَاقِدَانِ فِي سَفِينَةٍ كَبِيرَةٍ فَالنُّزُول إِلَى الطَّبَقَةِ التَّحْتَانِيَّةِ تَفَرُّقٌ كَالصُّعُودِ إِلَى الْفَوْقَانِيَّةِ.
أَمَّا لَوْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ صَغِيرَةٍ فَالتَّفَرُّقُ يَحْصُل بِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا مِنْهَا (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (خِيَار الْمَجْلِسِ) .

اصْطِدَامُ السَّفِينَتَيْنِ:
9 - إِنِ اصْطَدَمَتْ سَفِينَتَانِ بِتَفْرِيطٍ مِنْ مُجْرِيَيْهِمَا فَغَرِقَتَا ضَمِنَ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْرِيَيْنِ سَفِينَةَ الآْخَرِ وَمَا فِيهَا مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ، لأَِنَّ التَّلَفَ حَصَل بِسَبَبِ فِعْلَيْهِمَا فَوَجَبَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِسَبَبِ فِعْلِهِ كَالْفَارِسَيْنِ إِذَا اصْطَدَمَا. بِهَذَا قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ. وَيَرَى
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 45، والأنوار لأعمال الأبرار 1 / 338، والمجموع 9 / 180، والمغني 3 / 565.

(25/78)


الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يَلْزَمُ كُلًّا مِنَ الْمُجْرِيَيْنِ لِلآْخَرِ نِصْفُ بَدَل سَفِينَتِهِ وَنِصْفُ مَا فِيهَا (1) .
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفَاصِيل تُنْظَرُ فِي (إِتْلاَف، قَتْل، قِصَاص، ضَمَان) .

إِنْقَاذُ السَّفِينَةِ بِإِتْلاَفِ الأَْمْتِعَةِ:
10 - إِذَا أَشْرَفَتِ السَّفِينَةُ عَلَى الْغَرَقِ جَازَ إِلْقَاءُ بَعْضِ أَمْتِعَتِهَا فِي الْبَحْرِ، وَيَجِبُ الإِْلْقَاءُ رَجَاءَ نَجَاةِ الرَّاكِبَيْنِ إِذَا خِيفَ الْهَلاَكُ، وَيَجِبُ إِلْقَاءُ مَا لاَ رُوحَ فِيهِ لِتَخْلِيصِ ذِي الرُّوحِ. وَلاَ يَجُوزُ إِلْقَاءُ الدَّوَابِّ إِذَا أَمْكَنَ دَفْعُ الْغَرَقِ بِغَيْرِ الْحَيَوَانِ، وَإِذَا مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى إِلْقَاءِ الدَّوَابِّ أُلْقِيَتْ لإِِبْقَاءِ الآْدَمِيِّينَ، وَلاَ سَبِيل لِطَرْحِ الآْدَمِيِّ بِحَالٍ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا (2) .
وَفِي بَعْضِ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (إِتْلاَف، ضَمَان) .

الاِمْتِنَاعُ عَنْ إِنْقَاذِ السَّفِينَةِ مِنْ الْغَرَقِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ إعَانَةِ الْغَرِيقِ عَلَى النَّجَاةِ مِنَ الْغَرَقِ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا وَلَمْ
__________
(1) الحطاب 6 / 243، وكشاف القناع 4 / 130، وتكملة فتح القدير 8 / 348 والاختيار 5 / 49، والمبسوط 26 / 190، وأسنى المطالب 4 / 79.
(2) روضة الطالبين 9 / 338، مطالب أولي النهى 4 / 95، والدسوقي 4 / 27، وابن عابدين 5 / 172.

(25/78)


يُوجَدُ غَيْرُهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّ غَيْرُهُ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا كِفَائِيًّا عَلَى الْقَادِرِينَ، فَإِنْ قَامَ بِهِ أَحَدٌ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ وَإِلاَّ أَثِمُوا جَمِيعًا (1) .
(ر: إِعَانَة) ف 5 (5 196) .
قَال الْحَصْكَفِيُّ: يَجِبُ قَطْعُ الصَّلاَةِ لإِِغَاثَةِ مَلْهُوفٍ وَغَرِيقٍ وَحَرِيقٍ (2) .
يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: الْمُصَلِّي مَتَى سَمِعَ أَحَدًا يَسْتَغِيثُ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ بِالنِّدَاءِ أَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا حَل بِهِ، أَوْ عَلِمَ وَكَانَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إغَاثَتِهِ وَتَخْلِيصِهِ - وَجَبَ عَلَيْهِ إغَاثَتُهُ وَقَطْعُ الصَّلاَةِ، فَرْضًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ (3) . فَتَبَيَّنَ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّ مَنْ رَأَى سَفِينَةً مُشْرِفَةً عَلَى الْغَرَقِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِنْقَاذِهَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِذَلِكَ. وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي تَضْمِينِ مَنْ أَمْكَنَهُ إِنْقَاذُ السَّفِينَةِ مِنَ الْغَرَقِ فَلَمْ يَفْعَل.
بِتَتَبُّعِ آرَاءِ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ فِي مَسْأَلَةِ الاِمْتِنَاعِ مِنْ إغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ وَنَجْدَةِ الْغَرِيقِ وَإِطْعَامِ الْمُضْطَرِّ حَتَّى يَهْلِكُوا، يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ لاَ يُرَتِّبُونَ الضَّمَانَ عَلَى الاِمْتِنَاعِ مِنْ إِنْقَاذِ سَفِينَةٍ مُشْرِفَةٍ
__________
(1) الاختيار 4 / 175، والمغني 8 / 602.
(2) الدر المختار 1 / 440.
(3) ابن عابدين 1 / 478.

(25/79)


عَلَى الْغَرَقِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَرَوْنَ التَّأْثِيمَ فِيهِ دِيَانَةً.
وَيُعَلَّل عَدَمُ تَضْمِينِ الْمُمْتَنِعِ عِنْدَهُمْ بِأَنَّهُ لَمْ يُهْلِكْ أَهْل السَّفِينَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا فِي غَرَقِهِمْ فَلَمْ يَضْمَنْهُمْ كَمَا لَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِمْ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ مَعَ الْقُدْرَةِ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ لأَِنَّهُ لَمْ يُنْجِ أَهْل السَّفِينَةِ مِنَ الْهَلاَكِ مَعَ إِمْكَانِهِ فَيَضْمَنُهُمْ (1) .
(ر: تَرْك ف 14 ج 11 204) .

سَفِيه

انْظُرْ: سَفَه
__________
(1) المغني 7 / 834، والدسوقي 4 / 242، 2 / 112، ومغني المحتاج 4 / 309، وحاشية الجمل 5 / 7، والاختيار 4 / 175، وبدائع الصنائع 7 / 234، 235.

(25/79)


سِقْط
التَّعْرِيفُ:
1 - السِّقْطُ لُغَةً: الْوَلَدُ - ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى - يَسْقُطُ قَبْل تَمَامِهِ وَهُوَ مُسْتَبِينُ الْخَلْقِ، يُقَال: سَقَطَ الْوَلَدُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ سُقُوطًا فَهُوَ سِقْطٌ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .

مَا يَتَعَلَّقُ بِالسِّقْطِ مِنْ أَحْكَامٍ:
حُكْمُ تَغْسِيلِهِ وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَهَل الْمَوْلُودُ غُسِّل وَصُلِّيَ عَلَيْهِ إِجْمَاعًا، وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ خِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (جَنِين، تَغْسِيل) .
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب والقاموس المحيط.
(2) مغني المحتاج 1 / 349، والخرشي 2 / 142.

(25/80)


مَا يَتَعَلَّقُ بِالسِّقْطِ مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةُ وَالْعِدَّةُ
3 - إِذَا نَزَل السِّقْطُ تَامَّ الْخِلْقَةِ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الْوِلاَدَةِ مِنْ حَيْثُ أَحْكَامُ النِّفَاسِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَوُقُوعِ الطَّلاَقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى الْوِلاَدَةِ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَلْقَتْ مُضْغَةً تَبَيَّنَ فِيهِ خَلْقُ إِنْسَانٍ، وَأَمَّا إِذَا أَلْقَتْ مُضْغَةً لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهَا التَّخَلُّقُ أَوْ أَلْقَتْ عَلَقَةً فَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي (إِجْهَاض ف 170) .

نُزُول السِّقْطِ نَتِيجَةَ الْجِنَايَةِ عَلَى أُمِّهِ:
4 - إِذَا اعْتُدِيَ عَلَى الْحَامِل فَأَسْقَطَتْ جَنِينَهَا حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَفِيهِ دِيَةُ النَّفْسِ، فَإِنْ أَسْقَطَتْهُ مَيِّتًا وَقَدْ تَبَيَّنَ فِيهِ خَلْقُ الإِْنْسَانِ فَفِيهِ غُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، فَإِنْ فُقِدَا فَنِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِجْهَاض 130) (وَدِيَة ف 33) وَحُكْمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الإِْجْهَاضِ فِي مُصْطَلَحِ (كَفَّارَة) .

مِيرَاثُ السِّقْطِ:
5 - لاَ يَرِثُ السِّقْطُ إِلاَّ إِذَا اسْتَهَل، بِدَلِيل قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا اسْتَهَل الصَّبِيُّ وَرِثَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ (1) هَذَا مَعَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَكُونُ
__________
(1) حديث: " إذا استهل الصبي ورث وصلي عليه ". أخرجه الترمذي (3 / 341 - ط الحلبي) والحاكم (4 / 349 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث جابر، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، واللفظ للحاكم.

(25/80)


بِهِ الاِسْتِهْلاَل. فَإِذَا نَزَل السِّقْطُ مَيِّتًا فَلاَ يَرِثُ.
وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِرْث ف 112) ، وَمُصْطَلَحِ (اسْتِهْلاَل) .

(25/81)


سُقُوطٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - السُّقُوطُ مَصْدَرُ سَقَطَ، يُقَال: سَقَطَ الشَّيْءُ؛ أَيْ وَقَعَ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَل، وَأَسْقَطَهُ إِسْقَاطًا فَسَقَطَ، فَالسُّقُوطُ أَثَرُ الإِْسْقَاطِ، وَالسَّقَطُ - بِفَتْحَتَيْنِ - رَدِيءُ الْمَتَاعِ، وَالْخَطَأُ مِنَ الْقَوْل وَالْفِعْل.
يُقَال: لِكُل سَاقِطَةٍ لاَقِطَةٌ؛ أَيْ: لِكُل نَادَّةٍ مِنَ الْكَلاَمِ مَنْ يَحْمِلُهَا وَيُذِيعُهَا، وَيُضْرَبُ مَثَلاً لِنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَوْل الْفُقَهَاءِ: سَقَطَ الْفَرْضُ: مَعْنَاهُ سَقَطَ طَلَبُهُ وَالأَْمْرُ بِهِ (1) .
وَالسِّقْطُ (بِتَثْلِيثِ السِّينِ) : الْجَنِينُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، يَسْقُطُ قَبْل تَمَامِهِ، وَهُوَ مُسْتَبِينُ الْخَلْقِ. وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَى السُّقُوطِ الاِصْطِلاَحِيِّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) لسان العرب والقاموس المحيط والمصباح المنير ومختار الصحاح مادة: (سقط) .

(25/81)


مَا يَقْبَل السُّقُوطَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ:
سُقُوطُ الصَّلاَةِ عَنْ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَسْقُطُ عَنْ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ، وَهُوَ مَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً يَتَطَهَّرُ بِهِ وَلاَ تُرَابًا يَتَيَمَّمُ بِهِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ بِلاَ طَهُورٍ. وَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُ، وَتَجِبُ الإِْعَادَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ إِعَادَتَهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ الصَّلاَةِ عَنْهُ أَدَاءً وَقَضَاءً.
وَلِلتَّفْصِيل ر: مُصْطَلَحَ (تَيَمُّم ف 41، وَصَلاَة) .

سُقُوطُ الْجَبِيرَةِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُوجِبُهُ سُقُوطُ الْجَبِيرَةِ عَنْ بُرْءٍ، وَفِيمَا يُوجِبُهُ سُقُوطُهَا لاَ عَنْ بُرْءٍ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (جَبِيرَة ف 7) .

سُقُوطُ الصَّلاَةِ عَنِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّلاَةَ تَسْقُطُ عَنِ الْمَرْأَةِ أَثْنَاءَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ. وَلاَ تُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلاَةِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلِلتَّفْصِيل ر: مُصْطَلَحَ (صَلاَة، وَحَيْض، وَنِفَاس) .

(25/82)


سُقُوطُ الصَّلاَةِ عَنِ الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَجْنُونَ لاَ يَقْضِي الصَّلاَةَ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ مِنَ الْجُنُونِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِل أَوْ يُفِيقَ (1) . وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِسُقُوطِ الصَّلاَةِ عَنْهُ أَنْ يَمْضِيَ عَلَى جُنُونِهِ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ (2) فَيَقْضِي مَا كَانَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ أَوْ أَقَل.
وَأَمَّا الْمُغْمَى عَلَيْهِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) إِلَى أَنَّهُ لاَ يَقْضِي مَا فَاتَهُ أَثْنَاءَ إغْمَائِهِ. إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اشْتَرَطُوا مُضِيَّ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ يَقْضِي جَمِيعَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي كَانَتْ فِي حَال إِغْمَائِهِ (3) .
وَكَذَا تَسْقُطُ الصَّلاَةُ عَنِ الْمُبَرْسَمِ (4) وَالْمَعْتُوهِ
__________
(1) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 658 - ط الحلبي) والحاكم (2 / 59 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عائشة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) ابن عابدين 1 / 512، والشرح الصغير 1 / 364، ومغني المحتاج 1 / 131، والمغني 1 / 400.
(3) المراجع السابقة.
(4) البرسام علة عقلية ينشأ عنها الهذيان شبيهة بالجنون، انظر تاج العروس والمصباح وحاشية ابن عابدين (2 / 426) .

(25/82)


وَالسَّكْرَانِ بِلاَ تَعَدٍّ، عَلَى خِلاَفٍ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَة) .

إِسْقَاطُ الصَّلاَةِ بِالإِْطْعَامِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَسْقُطُ عَنِ الْمَيِّتِ بِالإِْطْعَامِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمَرِيضُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَدَاءِ الصَّلاَةِ بِالإِْيمَاءِ بِرَأْسِهِ لاَ يَلْزَمُهُ الإِْيصَاءُ بِهَا.
أَمَّا إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الصَّلاَةِ وَلَوْ بِالإِْيمَاءِ وَفَاتَتْهُ الصَّلاَةُ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَزِمَهُ الإِْيصَاءُ بِالْكَفَّارَةِ عَنْهَا، فَيُخْرِجُ عَنْهُ وَلِيُّهُ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ لِكُل صَلاَةِ مَفْرُوضَةٍ، وَكَذَا الْوِتْرُ لأَِنَّهُ فَرْضٌ عَمَلِيٌّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ فِي الصِّيَامِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَكِنْ يُطْعِمُ عَنْهُ (1) وَالصَّلاَةُ كَالصِّيَامِ بِاسْتِحْسَانِ الْمَشَايِخِ لِكَوْنِهَا أَهَمَّ.
وَالصَّحِيحُ: اعْتِبَارُ كُل صَلاَةٍ بِصَوْمِ يَوْمٍ، فَيَكُونُ عَلَى كُل صَلاَةٍ فِدْيَةٌ، وَهِيَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ دَقِيقِهِ أَوْ سَوِيقِهِ، أَوْ صَاعُ تَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ قِيمَتُهُ، وَهِيَ أَفْضَل لِتَنَوُّعِ حَاجَاتِ الْفَقِيرِ.
__________
(1) حديث: " ولكن يطعم عنه ". يأتي بنصه في فقرة رقم (9) ويأتي تخريجه.

(25/83)


وَإِنْ لَمْ يُوصِ وَتَبَرَّعَ عَنْهُ وَلِيُّهُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ جَازَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَحْدَهُ لأَِنَّهُ قَال فِي تَبَرُّعِ الْوَارِثِ بِالإِْطْعَامِ فِي الصَّوْمِ يَجْزِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ. وَفِي إِيصَائِهِ بِهِ جَزَمَ الْحَنَفِيَّةُ بِالإِْجْزَاءِ (1) . وَلِلتَّفْصِيل يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (صَلاَة وَصَوْم) .

سُقُوطُ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ:
7 - مِمَّا تَسْقُطُ بِهِ صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ الْحَبْسُ وَالْمَرَضُ الَّذِي يَشُقُّ مَعَهُ الْحُضُورُ، وَإِذَا خَافَ ضَرَرًا فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ عِرْضِهِ، وَالْمَطَرُ وَالْوَحْل وَالْبَرْدُ الشَّدِيدُ وَالْحَرُّ الشَّدِيدُ ظُهْرًا وَالرِّيحُ الشَّدِيدَةُ فِي اللَّيْل، وَمُدَافَعَةُ الأَْخْبَثَيْنِ، وَأَكْل نَتِنٍ نِيءٍ إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إِزَالَتُهُ.
وَتَفْصِيل هَذَا فِي (صَلاَة الْجَمَاعَةِ، وَصَلاَة الْجُمُعَةِ) .

سُقُوطُ تَرْتِيبِ الْفَوَائِتِ:
8 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الْفَوَائِتِ وَالْحَاضِرَةِ يَسْقُطُ إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 492 وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 237 - 239.

(25/83)


عَنْهُمَا جَمِيعًا، فَيُقَدِّمُ عِنْدَئِذٍ الْحَاضِرَةَ ثُمَّ يَقْضِي الْفَوَائِتَ عَلَى التَّرْتِيبِ (1) .
وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَرْتِيب)

سُقُوطُ الصِّيَامِ:
9 - يَسْقُطُ الصِّيَامُ عَنِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لاَ يَقْوَى عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ عَنْ كُل يَوْمٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (صِيَام) .
وَأَمَّا مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ مِنْ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ لاَ يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَمُوتَ قَبْل إِمْكَانِ الصِّيَامِ، إِمَّا لِضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ عَجْزٍ عَنِ الصَّوْمِ، فَهَذَا لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، (وَيَسْقُطُ عَنْهُ الصِّيَامُ) وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَقَتَادَةَ يَجِبُ الإِْطْعَامُ عَنْهُ، لأَِنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ سَقَطَ بِالْعَجْزِ عَنْهُ فَوَجَبَ الإِْطْعَامُ عَنْهُ، كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ إِذَا تَرَكَ الصِّيَامَ لِعَجْزِهِ عَنْهُ.
الْحَال الثَّانِي: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ إِمْكَانِ
__________
(1) مراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي (ص 162 و 163) والقوانين الفقهية (48، 55) ومغني المحتاج (1 / 234 و1 / 276) والمغني 1 / 630 وما بعدها.

(25/84)


الْقَضَاءِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ لِكُل يَوْمٍ مِسْكِينٌ، وَهَذَا قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، رُوِي ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَأَبِي عُبَيْدٍ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُمْ.
وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرٍ فَلْيُطْعَمْ عَنْهُ مَكَانَ كُل يَوْمٍ مِسْكِينًا (1) .
وَقَال أَبُو ثَوْرٍ: وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ: يُصَامُ عَنْهُ.
قَال النَّوَوِيُّ: قُلْتُ: الْقَدِيمُ هُنَا أَظْهَرُ (2) وَذَلِكَ لِلأَْخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ كَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (صَوْم) .
__________
(1) حديث: " من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه كل يوم مسكينا ". أخرجه الترمذي (3 / 87 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر مرفوعا، وصوب وقفه على ابن عمر. وكذا صوب وقفه الدارقطني والبيهقي كما في التلخيص لابن حجر (2 / 209 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) فتح القدير 2 / 280، والقوانين الفقهية ص 82 ط دار القلم، ومغني المحتاج 1 / 439، والمغني 3 / 142 - 144.
(3) حديث: من مات وعليه صيام صام عنه وليه. أخرجه البخاري (الفتح 4 / 192 - ط السلفية) ومسلم (2 / 803 - ط الحلبي) من حديث عائشة.

(25/84)


سُقُوطُ الزَّكَاةِ:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لاَ تَسْقُطُ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَال، وَتُخْرَجُ مِنْ مَالِهِ، وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةَ وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لاَ يَجِبُ إِخْرَاجُهَا مِنَ التَّرِكَةِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ، فَإِنْ أَوْصَى بِالأَْدَاءِ وَجَبَ إِخْرَاجُهَا مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ وَحُمَيْدٌ الطَّوِيل وَالْمُثَنَّى وَالثَّوْرِيُّ.
وَقَال الأَْوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ: تُؤْخَذُ مِنَ الثُّلُثِ مُقَدَّمَةً عَلَى الْوَصَايَا وَلاَ يُجَاوِزُ الثُّلُثَ.
وَتَسْقُطُ الزَّكَاةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا بِهَلاَكِ النِّصَابِ بَعْدَ الْحَوْل وَقَبْل التَّمَكُّنِ مِنَ الأَْدَاءِ بَعْدَهُ، وَبِالرِّدَّةِ (1) . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَرِكَة ف 26) .
__________
(1) البدائع 2 / 52 - 53 والمجموع 6 / 188، والمغني 2 / 683 - 684، وحاشية الدسوقي 4 / 458.

(25/85)


سُقُوطُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ:
11 - يَسْقُطُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ وَلَوْ بِظَنِّ الْفِعْل.
ر: مُصْطَلَحَ (إِسْقَاط وَفَرْض) .

سُقُوطُ التَّحْرِيمِ لِلضَّرُورَةِ:
12 - يَسْقُطُ التَّحْرِيمُ لِلضَّرُورَةِ كَأَكْل الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ وَإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ بِالْخَمْرِ، وَإِبَاحَةِ نَظَرِ الْعَوْرَةِ لِلطَّبِيبِ.
ر: مُصْطَلَحَ (إِسْقَاط) وَتُنْظَرُ أَيْضًا فِي مُصْطَلَحِ (اضْطِرَار، خَمْر، عَوْرَة) .

حُقُوقُ الْعِبَادِ:
13 - الأَْصْل أَنَّ مَنْ لَهُ حَقٌّ إِذَا أَسْقَطَهُ - وَهُوَ مِنْ أَهْل الإِْسْقَاطِ وَالْمَحَل قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ، سَقَطَ هَذَا الْحَقُّ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِسْقَاط) .
وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ مَا هُوَ مَحَلٌّ لِلسُّقُوطِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ:

سُقُوطُ الْمَهْرِ:
14 - أ - يَسْقُطُ الْمَهْرُ كُلُّهُ عَنِ الزَّوْجِ بِعِدَّةِ أَسْبَابٍ:
(1) الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلاَقٍ قَبْل الدُّخُول بِالْمَرْأَةِ إِذَا كَانَتْ بِطَلَبٍ مِنَ الزَّوْجَةِ أَوْ بِسَبَبِهَا.

(25/85)


(2) الإِْبْرَاءُ عَنْ كُل الْمَهْرِ قَبْل الدُّخُول وَبَعْدَهُ إِذَا كَانَ الْمَهْرُ دَيْنًا؛ لأَِنَّ الإِْبْرَاءَ إِسْقَاطٌ وَالإِْسْقَاطُ مِمَّنْ هُوَ أَهْل الإِْسْقَاطِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلسُّقُوطِ يُوجِبُ السُّقُوطَ.
(3) الْخُلْعُ عَلَى الْمَهْرِ قَبْل الدُّخُول وَبَعْدَهُ.
(4) هِبَةُ كُل الْمَهْرِ قَبْل الْقَبْضِ عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا وَبَعْدَهُ إِذَا كَانَ عَيْنًا.

15 - ب - مَا يَسْقُطُ بِهِ نِصْفُ الْمَهْرِ.
يَسْقُطُ نِصْفُ الْمَهْرِ بِالطَّلاَقِ قَبْل الدُّخُول فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ، وَالْمَهْرُ دَيْنٌ لَمْ يُقْبَضْ بَعْدُ (1) .
وَفِيمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (مَهْر، خُلْع، هِبَة، مُتْعَة، طَلاَق) .

سُقُوطُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ:
16 - تَسْقُطُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ بِالنُّشُوزِ (الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ الزَّوْجِ) وَبِالإِْبْرَاءِ مِنَ النَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (نُشُوز، نَفَقَة) .
__________
(1) البدائع 2 / 295 - 296، 303، والقوانين الفقهية ص207، والشرح الصغير 2 / 437، ومغني المحتاج 3 / 334، وكشاف القناع 5 / 157 - 158، 163.
(2) البدائع 4 / 22، 29، والقوانين الفقهية ص 227، ومغني المحتاج 3 / 436 وما بعدها والمغني 7 / 610 وما بعدها.

(25/86)


سُقُوطُ نَفَقَةِ الأَْقَارِبِ:
17 - تَسْقُطُ نَفَقَةُ الأَْقَارِبِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ (1) .
عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَة) .

سُقُوطُ الْحَضَانَةِ:
18 - إِذَا اخْتَل شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْحَضَانَةِ، أَوْ وُجِدَ مَانِعٌ سَقَطَتْ، وَكَذَا لَوْ سَافَرَ الْوَلِيُّ أَوِ الْحَاضِنُ لِلنُّقْلَةِ وَالاِنْقِطَاعِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَضَانَة) ف 18 (ج 17 310) .

سُقُوطُ الْخَرَاجِ:
19 - يَسْقُطُ الْخَرَاجُ بِانْعِدَامِ صَلاَحِيَّةِ الأَْرْضِ لِلزِّرَاعَةِ وَتَعْطِيلِهَا عَنِ الزِّرَاعَةِ، وَبِهَلاَكِ الزَّرْعِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَبِإِسْقَاطِ الإِْمَامِ لِلْخَرَاجِ عَمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (خَرَاج ف 57 وَمَا بَعْدَهَا) .

سُقُوطُ الْحُدُودِ:
20 - تَسْقُطُ الْحُدُودُ بِمَا يَلِي:
__________
(1) البدائع 4 / 38، والقوانين الفقهية ص 228، والمهذب 2 / 167، وشرح منتهى الإرادات 3 / 256.

(25/86)


أ - بِالشُّبُهَاتِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ (1) .
ب - بِالرُّجُوعِ عَنِ الإِْقْرَارِ، وَاسْتَثْنَوْا حَدَّ الْقَذْفِ.
ج - بِمَوْتِ الشُّهُودِ.
د - بِالتَّكْذِيبِ، كَتَكْذِيبِ الْمَزْنِيِّ بِهَا لِلْمُقِرِّ بِالزِّنَى قَبْل إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ.
ر: مُصْطَلَحَ (حُدُود ف 13، 14، 15، 16 وَزِنًى، وَقَذْف) .
هـ - بِالتَّوْبَةِ: وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعُقُوبَةَ تَسْقُطُ عَنْ قَاطِعِ الطَّرِيقِ (الْمُحَارِبِ) بِالتَّوْبَةِ قَبْل الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْل أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (2) } هَذَا فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ حَقًّا لِلَّهِ، أَمَّا حُقُوقُ الآْدَمِيِّينَ فَلاَ تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (حِرَابَة ف 24) .
__________
(1) حديث: " ادرؤوا الحدود بالشبهات ". أخرجه السمعاني كما في المقاصد الحسنة للسخاوي (ص30 - ط السعادة) ونقل عن ابن حجر أنه قال: " في سنده من لا يعرف ".
(2) سورة المائدة / 34.

(25/87)


وَإِنْ تَابَ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ مِنْ غَيْرِ الْمُحَارِبِينَ وَأَصْلَحَ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ لاَ يَسْقُطُ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (1) } وَهَذَا عَامٌّ فِي التَّائِبِينَ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَال تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا (2) } وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ وَقَطَعَ الَّذِي أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ، وَقَدْ جَاءُوا تَائِبِينَ يَطْلُبُونَ التَّطْهِيرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ. وَقَدْ سَمَّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلَهُمْ تَوْبَةً، فَقَال فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ: لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ عَلَى سَبْعِينَ مِنْ أَهْل الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ (3) وَجَاءَ عَمْرُو بْنُ سَمُرَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي سَرَقْتُ جَمَلاً لِبَنِي فُلاَنٍ فَطَهِّرْنِي (4) وَقَدْ أَقَامَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدَّ عَلَى هَؤُلاَءِ وَلأَِنَّ الْحَدَّ كَفَّارَةٌ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالتَّوْبَةِ
__________
(1) سورة النور / 2.
(2) سورة المائدة / 38.
(3) حديث: لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم. أخرجه مسلم (3 / 1324 - ط الحلبي) من حديث عمران بن حصين.
(4) حديث: جاء عمرو بن سمرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:. أخرجه ابن ماجه (2 / 863 - ط الحلبي) من حديث ثعلبة الأنصاري، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 75 - ط دار الحنان) .

(25/87)


كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالْقَتْل، وَلأَِنَّهُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ بِالتَّوْبَةِ كَالْمُحَارِبِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لأَِحْمَدَ: يَسْقُطُ الْحَدُّ بِالتَّوْبَةِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَاَللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا (1) } وَذَكَرَ حَدَّ السَّارِقِ فَقَال: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ (2) } وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ (3) وَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ لاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَقَال فِي مَاعِزٍ لَمَّا أُخْبِرَ بِهَرَبِهِ: هَلاَّ تَرَكْتُمُوهُ يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ (4) وَلأَِنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ كَحَدِّ الْمُحَارِبِ (5) .
__________
(1) سورة النساء / 16.
(2) سورة المائدة / 39.
(3) حديث: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. أخرجه ابن ماجه (2 / 1420 - ط الحلبي) من حديث ابن مسعود وحسنه ابن حجر لشواهده كما في المقاصد الحسنة للسخاوي (ص 249 - ط دار الكتاب العربي) .
(4) حديث: هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه. أخرجه أبو داود (4 / 541 - تحقيق عزت عبيد دعاس) مختصرا، والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (9 / 34 - ط بمبى +) ، وحسن إسناده ابن حجر في التلخيص (4 / 58 - شركة الطباعة الفنية) .
(5) البدائع 7 / 96، والفروق للقرافي 4 / 181، والقوانين الفقهية ص 357، والقليوبي 4 / 200 - 201، ومغني المحتاج 4 / 184، وأسنى المطالب 4 / 156، والمغني 8 / 296 وغاية المنتهى 3 / 345 - 346.

(25/88)


وَهَل يَتَقَيَّدُ سُقُوطُ التَّوْبَةِ، وَبِكَوْنِهِ قَبْل الرَّفْعِ إِلَى الْحَاكِمِ أَمْ لاَ؟ وَبِكَوْنِهِ حَقًّا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لاَ؟ .
يُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حُدُود ف 12) وَتَوْبَة (18 وَ 19) .

سُقُوطُ الْجِزْيَةِ:
21 - تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ بِالإِْسْلاَمِ أَوْ بِتَدَاخُل الْجِزَى أَوْ بِطُرُوءِ الإِْعْسَارِ أَوِ التَّرَهُّبِ وَالاِنْعِزَال عَنِ النَّاسِ، أَوْ بِالْجُنُونِ، أَوْ بِالْعَمَى، وَالزَّمَانَةِ، وَالشَّيْخُوخَةِ، أَوْ عَجْزِ الدَّوْلَةِ عَنْ حِمَايَتِهِمْ أَوْ بِاشْتِرَاكِ الذِّمِّيِّينَ فِي الْقِتَال مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بِالْمَوْتِ.
وَفِي بَعْضِ تِلْكَ الأُْمُورِ خِلاَفٌ يُرْجَعُ تَفْصِيلُهُ إِلَى مُصْطَلَحِ (جِزْيَة ف 69 - 79) .

(25/88)


سَكَّاء

التَّعْرِيفُ:
1 - السَّكَكُ: صِغَرُ الأُْذُنِ وَلَزُوقُهَا بِالرَّأْسِ وَقِلَّةُ إِشْرَافِهَا، وَقِيل: قِصَرُهَا.
قَال ابْنُ الأَْعْرَابِيِّ: يُقَال لِلْقَطَاةِ: حَذَّاءُ، لِقِصَرِ ذَنَبِهَا، وَسَكَّاءُ؛ لأَِنَّهُ لاَ أُذُنَ لَهَا.
وَأَصْل السَّكَكِ: الصَّمَمُ، وَأُذُنٌ سَكَّاءُ؛ أَيْ: صَغِيرَةٌ
وَيُقَال: كُل سَكَّاءَ تَبِيضُ، وَكُل شَرْفَاءَ تَلِدُ.
فَالسَّكَّاءُ الَّتِي لاَ أُذُنَ لَهَا، وَالشَّرْفَاءُ الَّتِي لَهَا أُذُنَ وَإِنْ كَانَتْ مَشْقُوقَةً.
وَيُقَال لِلسَّكَّاءِ أَيْضًا صَمْعَاءُ، وَالصَّمَعُ لُصُوقُ الأُْذُنَيْنِ وَصِغَرُهُمَا (1) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَفْسِيرِ السَّكَّاءِ فَفَسَّرَهَا
__________
(1) لسان العرب (سكك) ، والمصباح المنير مادة (صمع) .

(25/89)


الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا الَّتِي خُلِقَتْ بِغَيْرِ أُذُنَيْنِ، وَهُوَ مَا جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ، لَكِنْ الْكَاسَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ ذَكَرَ فِي الْبَدَائِعِ أَنَّ السَّكَّاءَ هِيَ صَغِيرَةُ الأُْذُنِ (1) .
وَفِي الْمِصْبَاحِ: السَّكَكُ: صِغَرُ الأُْذُنَيْنِ. وَفِي الْمُغْرِبِ: السَّكَكُ: صِغَرُ الأُْذُنِ، ثُمَّ قَال: وَهِيَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ الَّتِي لاَ أُذُنَ لَهَا (2) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - يَتَحَدَّثُ الْفُقَهَاءُ عَنْ حُكْمِ السَّكَّاءِ أَوِ الصَّمْعَاءِ فِي بَابِ الأُْضْحِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا يُجْزِئُ مِنَ النَّعَمِ وَمَا لاَ يُجْزِئُ. وَالْمَدَارُ فِي الإِْجْزَاءِ وَعَدَمِهِ عَلَى مَا كَانَ مِنَ النَّعَمِ صَغِيرَ الأُْذُنَيْنِ وَمَا خُلِقَ بِلاَ أُذُنَيْنِ.
وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ صَغِيرَةَ الأُْذُنَيْنِ تُجْزِئُ فِي الأُْضْحِيَّةِ (سَوَاءٌ سُمِّيَتْ سَكَّاءَ أَوْ صَمْعَاءَ) .
لَكِنْ قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَتِ الأُْذُنُ صَغِيرَةً جِدًّا بِحَيْثُ تَقْبُحُ بِهِ الْخِلْقَةُ فَلاَ تُجْزِئُ.
__________
(1) الدسوقي 2 / 120، والمواق 3 / 241 والدر المختار 5 / 206، والبدائع 5 / 75.
(2) المصباح والمغرب مادة (سكك) .

(25/89)


أَمَّا الَّتِي خُلِقَتْ بِلاَ أُذُنَيْنِ فَلاَ تُجْزِئُ فِي الأُْضْحِيَّةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - وَتُجْزِئُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يُخِل.
وَمَا يُقَال فِي الأُْضْحِيَّةِ يُقَال فِي الْهَدْيِ (1) .
__________
(1) البدائع 5 / 75 والدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 206 والمواق 3 / 241، والدسوقي 2 / 120 والشبراملسي بهامش نهاية المحتاج 8 / 128، وكشاف القناع 3 / 6، والمغني 8 / 625.

(25/90)


السُّكْر

التَّعْرِيفُ:
1 - السُّكْرُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ سَكِرَ فُلاَنٌ مِنَ الشَّرَابِ وَنَحْوِهِ، فَهُوَ ضِدُّ الصَّحْوِ، وَالسَّكَرُ - بِفَتْحَتَيْنِ - لُغَةً: كُل مَا يُسْكِرُ مِنْ خَمْرٍ وَشَرَابٍ، وَالسَّكَرُ أَيْضًا نَقِيعُ التَّمْرِ الَّذِي لَمْ تَمَسُّهُ النَّارُ، وَفِي التَّنْزِيل: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيل وَالأَْعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا (1) } قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ قَبْل تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَتَكُونُ مَنْسُوخَةً (2) . وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ السُّكْرِ:
فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: السُّكْرُ نَشْوَةٌ تُزِيل الْعَقْل، فَلاَ يَعْرِفُ السَّمَاءَ مِنَ الأَْرْضِ، وَلاَ الرَّجُل مِنَ الْمَرْأَةِ، وَصَرَّحَ
__________
(1) سورة النحل / 67.
(2) مختار الصحاح للشيخ محمد بن أبي بكر عبد القادر الرازي ـ الناشر دار الحديث ـ القاهرة. لسان العرب مادة (سكر) والمعجم الوسيط، وتفسير القرطبي 10 / 128.

(25/90)


ابْنُ الْهُمَامِ بِأَنَّ تَعْرِيفَ السُّكْرِ بِمَا مَرَّ إِنَّمَا هُوَ فِي السُّكْرِ الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ. وَأَمَّا تَعْرِيفُهُ فِي غَيْرِ وُجُوبِ الْحَدِّ فَهُوَ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ كُلِّهِمْ: اخْتِلاَطُ الْكَلاَمِ وَالْهَذَيَانُ. وَقَال الشَّافِعِيُّ: السَّكْرَانُ هُوَ الَّذِي اخْتَلَطَ كَلاَمُهُ الْمَنْظُومُ وَانْكَشَفَ سِرُّهُ الْمَكْتُومُ.
وَقِيل: السُّكْرُ حَالَةٌ تَعْرِضُ لِلإِْنْسَانِ مِنِ امْتِلاَءِ دِمَاغِهِ مِنَ الأَْبْخِرَةِ الْمُتَصَاعِدَةِ مِنَ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ، فَيَتَعَطَّل مَعَهُ الْعَقْل الْمُمَيِّزُ بَيْنَ الأُْمُورِ الْحَسَنَةِ وَالْقَبِيحَةِ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْجُنُونُ:
2 - الْجُنُونُ: اخْتِلاَل الْعَقْل بِحَيْثُ يَمْنَعُ جَرَيَانَ الأَْفْعَال وَالأَْقْوَال عَلَى نَهْجِهِ إِلاَّ نَادِرًا (2) . وَعُرِّفَ بِغَيْرِ ذَلِكَ (ر: جُنُون) .

الْعَتَهُ:
3 - الْعَتَهُ: آفَةٌ تُوجِبُ خَلَلاً فِي الْعَقْل فَيَصِيرُ صَاحِبُهُ مُخْتَلِطَ الْكَلاَمِ فَيُشْبِهُ بَعْضُ كَلاَمِهِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 423، وكشف الأسرار 4 / 263، والفروق للقرافي 1 / 217، الفرق 40، ورحمة الأمة في اختلاف الأئمة ص 287، والقليوبي 3 / 33، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 217.
(2) التعريفات للجرجاني.

(25/91)


كَلاَمَ الْعُقَلاَءِ وَبَعْضُهُ كَلاَمَ الْمَجَانِينِ وَكَذَا سَائِرُ أُمُورِهِ (1) .

4 - الصَّرْعُ: عِلَّةٌ تَمْنَعُ الدِّمَاغَ مِنْ فِعْلِهِ مَنْعًا غَيْرَ تَامٍّ فَتَتَشَنَّجُ الأَْعْضَاءُ (2) .

5 - الإِْغْمَاءُ: الإِْغْمَاءُ مَصْدَرُ أُغْمِيَ عَلَى الرَّجُل، وَفِعْلُهُ مُلاَزِمٌ لِلْبِنَاءِ لِلْمَفْعُول، وَهُوَ مَرَضٌ يُزِيل الْقُوَى وَيَسْتُرُ الْعَقْل، وَقِيل: هُوَ فُتُورٌ عَارِضٌ لاَ بِمُخَدَّرٍ يُزِيل عَمَل الْقُوَى (3) .

6 - الْخَدَرُ: اسْتِرْخَاءٌ يَغْشَى بَعْضَ الأَْعْضَاءِ أَوِ الْجِسْمَ كُلَّهُ، وَخَدَّرَ الْعُضْوَ تَخْدِيرًا: جَعَلَهُ خَدِرًا، أَوْ حَقَنَهُ بِمُخَدِّرٍ لإِِزَالَةِ إِحْسَاسِهِ (4) .

7 - التَّرْقِيدُ: الْمُرَقِّدُ شَيْءٌ يُشْرَبُ يُنَوِّمُ مَنْ شَرِبَهُ وَيُرَقِّدُهُ وَتَذْهَبُ مَعَهُ الْحَوَاسُّ (5) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
8 - السُّكْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَعَدٍّ بِشُرْبِ مُحَرَّمٍ مَعْلُومٍ لِلشَّارِبِ كَالْخَمْرِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُسْكِرَاتِ، وَهَذَا حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصَابُ وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ
__________
(1) كشف الأسرار 4 / 274، وابن عابدين 2 / 426.
(2) القاموس.
(3) المعجم الوسيط، والتعريفات للجرجاني.
(4) لسان العرب وتاج العروس.
(5) لسان العرب، والفروق للقرافي 1 / 217 الفرق الأربعون.

(25/91)


عَمَل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (1) } وَلِحَدِيثِ: كُل مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُل خَمْرٍ حَرَامٌ (2) .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ السُّكْرُ بِغَيْرِ تَعَدٍّ كَأَنْ يَشْرَبَ شَرَابًا مُسْكِرًا يَظُنُّهُ غَيْرَ مُسْكِرٍ. وَهَذَا لاَ إِثْمَ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ (3) } وَكَذَا لَوْ شَرِبَهُ مُضْطَرًّا كَأَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَوْ لِدَفْعِ غُصَّةٍ وَلَمْ يَحْضُرْهُ غَيْرُهُ.

ضَابِطُ السُّكْرِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَابِطِ السُّكْرِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ - إِلَى أَنَّ ضَابِطَ السُّكْرِ هُوَ مَنِ اخْتَلَطَ كَلاَمُهُ وَكَانَ غَالِبُهُ هَذَيَانًا، فَقَدْ قَال الشَّافِعِيُّ فِي حَدِّهِ: إِنَّهُ الَّذِي اخْتَل كَلاَمُهُ الْمَنْظُومُ وَانْكَشَفَ سِرُّهُ الْمَكْتُومُ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ السَّكْرَانَ هُوَ الَّذِي لاَ يَعْرِفُ الأَْرْضَ مِنَ السَّمَاءِ، وَالرَّجُل مِنَ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ قَوْل الْمُزَنِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
انْظُرْ: أَشْرِبَة (ج 5 ص 23 - 24) .
__________
(1) سورة المائدة / 90.
(2) حديث: " كل مسكر خمر، وكل خمر حرام ". أخرجه مسلم (3 / 1588 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر.
(3) سورة الأحزاب / 5.

(25/92)


وُجُوبُ الْحَدِّ بِشُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُسْكِرَاتِ:
10 - السُّكْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرَابِ الْخَمْرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الأَْشْرِبَةِ الأُْخْرَى، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ شَارِبِ الْخَمْرِ عَنْ حُكْمِ شَارِبِ الْمُسْكِرَاتِ الأُْخْرَى مِنَ الأَْنْبِذَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.

أَوَّلاً - الْخَمْرُ:
11 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ حَرَامٌ وَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَى شَارِبِهَا سَوَاءٌ أَكَانَ مَا شَرِبَهُ قَلِيلاً أَمْ كَثِيرًا وَسَوَاءٌ سَكِرَ مِنْهَا أَمْ لَمْ يَسْكَرْ (1) .
وَاسْتَدَل الْفُقَهَاءُ جَمِيعًا عَلَى ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصَابُ وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ
__________
(1) البدائع 7 / 39، ابن عابدين 4 / 37، 38، الهداية 2 / 110، المبسوط 24 / 2 - 3، حاشية الدسوقي 4 / 352، شرح منح الجليل 4 / 550، بداية المجتهد 2 / 477، مغني المحتاج 4 / 186، نهاية المحتاج 8 / 11 - 12، حاشية الجمل 5 / 157، المغني لابن قدامة 8 / 303، الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل لشرف الدين موسى الحجاوي 4 / 267، دار المعرفة ـ بيروت.

(25/92)


الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَل أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (1) } .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ ثَبَتَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ تَبْلُغُ فِي مَجْمُوعِهَا حَدَّ التَّوَاتُرِ (2) . فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَرِّضُ بِالْخَمْرِ وَلَعَل اللَّهَ سَيُنَزِّل فِيهَا أَمْرًا، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلْيَبِعْهُ وَلْيَنْتَفِعْ بِهِ. قَال: فَمَا لَبِثْنَا إِلاَّ يَسِيرًا حَتَّى قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ، فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الآْيَةُ وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلاَ يَشْرَبْ وَلاَ يَبِعْ، قَال: فَاسْتَقْبَل النَّاسُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْهَا فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ فَسَفَكُوهَا (3) .
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَال: كُل مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُل مُسْكِرٍ حَرَامٌ (4) .
__________
(1) سورة المائدة / 90، 91.
(2) نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار للشوكاني 10 / 126 وما بعدها ـ مكتبة الكليات الأزهرية 1398 هـ - 1978 م.
(3) حديث: " يا أيها الناس إن الله يعرض بالخمر ". أخرجه مسلم (3 / 1578 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري.
(4) حديث: " كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ". أخرجه مسلم (3 / 1578، 1588 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر.

(25/93)


وَفِي رِوَايَةٍ: كُل مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُل خَمْرٍ حَرَامٌ.
وَقَدْ أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِهِ (1) .

ثَانِيًا: الْمُسْكِرَاتُ الأُْخْرَى غَيْرُ الْخَمْرِ:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي الشُّرْبِ مِنَ الأَْنْبِذَةِ الأُْخْرَى الْمُسْكِرَةِ - غَيْرِ الْخَمْرِ -

الْقَوْل الأَْوَّل:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْخَمْرِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الْعِنَبِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الأَْنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ فِي تَحْرِيمِ الشُّرْبِ، فَيُسَمَّى جَمِيعُ ذَلِكَ خَمْرًا وَيَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ مِنْهَا سَوَاءٌ سَكِرَ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَسْكَرْ (2) .
وَقَدْ رُوِيَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَنَسٍ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَال
__________
(1) المبسوط 7 / 23، المغني لابن قدامة 8 / 303.
(2) شرح منح الجليل 4 / 549، بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2 / 477، مغني المحتاج 4 / 187، المجموع شرح المهذب 20 / 112، نهاية المحتاج 8 / 12، حاشية الجمل 5 / 158، المغني لابن قدامة 8 / 304، 305، منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح وزيادات لابن النجار 2 / 475 - الناشر عالم الكتب، المحرر في الفقه لأبي البركات 2 / 162 - الناشر دار الكتاب العربي، الإقناع 4 / 266.

(25/93)


عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْقَاسِمُ، وَقَتَادَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَإِسْحَاقُ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَال: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُل خَمْرٍ حَرَامٌ (2) .
وَحَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: سُئِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِتْعِ فَقَال: كُل شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ (3) .
وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى قَال: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ شَرَابًا يُصْنَعُ بِأَرْضِنَا يُقَال لَهُ الْمِزْرُ، مِنَ الشَّعِيرِ، وَشَرَابٌ يُقَال لَهُ الْبِتْعُ مِنَ الْعَسَل، فَقَال: كُل مُسْكِرٍ حَرَامٌ (4) .

الْقَوْل الثَّانِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَى مَنْ شَرِبَ سِوَى الْخَمْرِ مِنَ الأَْشْرِبَةِ الْمَعْهُودَةِ الْمُسْكِرَةِ إِلاَّ إِذَا سَكِرَ مِنْ شُرْبِهَا، كَنَقِيعِ الزَّبِيبِ وَالْمَطْبُوخِ
__________
(1) المغني 8 / 305.
(2) حديث: " كل مسكر خمر، وكل خمر حرام ". تقدم تخريجه.
(3) حديث: " كل شراب أسكر فهو حرام ". أخرجه مسلم (3 / 1586 - ط الحلبي) .
(4) حديث أبي موسى: قال: " بعثني النبي صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذ بن جبل إلى اليمن ". أخرجه مسلم (3 / 1586 - ط الحلبي) .

(25/94)


أَدْنَى طَبْخَةٍ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَوِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْمُثَلَّثِ، وَالأَْشْرِبَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالدَّخَنِ وَالذُّرَةِ وَالْعَسَل وَالتِّينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) .
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ: " حُرِّمَتِ الْخَمْرَةُ بِعَيْنِهَا، قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا، وَالسُّكْرُ مِنْ كُل شَرَابٍ (2)

حُكْمُ تَنَاوُل الْبَنْجِ وَالأَْفْيُونِ وَالْحَشِيشَةِ:
13 - يَحْرُمُ تَنَاوُل الْبَنْجِ وَالأَْفْيُونِ وَالْحَشِيشَةِ، وَلاَ يُحَدُّ شَارِبُهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بَل يُعَزَّرُ (3) .
وَقَال الْبَزْدَوِيُّ: يُحَدُّ بِالسُّكْرِ مِنَ الْبَنْجِ فِي زَمَانِنَا عَلَى الْمُفْتَى بِهِ.
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: يَجِبُ الْحَدُّ سَكِرَ أَوْ لَمْ يَسْكَرْ، وَمَنِ اسْتَحَل السُّكْرَ مِنْهَا وَزَعَمَ أَنَّهُ حَلاَلٌ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ (4) .
__________
(1) البدائع 7 / 39، ابن عابدين 4 / 38، الهداية 2 / 111، المبسوط 24 / 9، فتح القدير 5 / 305.
(2) قول ابن عباس: حرمت الخمرة بعينها قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب. أخرجه النسائي (8 / 321 - ط المكتبة التجارية) .
(3) ابن عابدين 5 / 294 - 295.
(4) الاختيارات 299 مجموعة فتاوى ابن تيمية 34 / 210 - 212.

(25/94)


خَلْطُ الْخَمْرِ بِغَيْرِهَا
14 - إِنْ ثَرَدَ فِي الْخَمْرِ أَوِ اصْطَبَغَ بِهِ (أَيِ ائْتَدَمَ) أَوْ طَبَخَ بِهِ لَحْمًا فَأَكَل مِنْ مَرَقَتِهِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ عَيْنَ الْخَمْرِ مَوْجُودَةٌ. وَكَذَلِكَ إِنْ لَتَّ بِهِ سَوِيقًا فَأَكَلَهُ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَإِنْ عَجَنَ بِهِ دَقِيقًا ثُمَّ خَبَزَهُ فَأَكَلَهُ لَمْ يُحَدَّ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ؛ لأَِنَّ النَّارَ أَكَلَتْ أَجْزَاءَ الْخَمْرِ فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَثَرُهُ (1) .
وَإِنِ احْتَقَنَ بِالْخَمْرِ لَمْ يُحَدَّ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا، وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِشُرْبٍ وَلاَ أَكْلٍ وَلأَِنَّهُ لَمْ يَصِل إِلَى حَلْقِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَاوَى بِهِ جُرْحَهُ (2) وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ عَلَى مَنِ احْتَقَنَ بِهِ الْحَدَّ، لأَِنَّهُ أَوْصَلَهُ إِلَى جَوْفِهِ، وَالأَْوَّل أَوْلَى عِنْدَهُمْ كَمَا يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ، وَرَجَّحَ الْمُتَأَخِّرُونَ الثَّانِيَ (3) .
وَإِنِ اسْتَعَطَ بِهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ. نَصَّ عَلَى
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 188، المغني لابن قدامة 8 / 306، منتهى الإرادات 2 / 476، الإقناع 4 / 267، المحرر في الفقه ص 163.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 352، مغني المحتاج 4 / 188، المغني 8 / 306، المبسوط 24 / 35.
(3) المغني لابن قدامة 8 / 307، كشاف القناع 6 / 198، المحرر في الفقه ص 163.

(25/95)


ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ؛ لأَِنَّهُ أَوْصَلَهُ إِلَى بَاطِنِهِ مِنْ حَلْقِهِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا اكْتَحَل بِهَا أَوِ اقْتَطَرَهَا فِي أُذُنِهِ أَوْ دَاوَى بِهَا جَائِفَةً أَوْ آمَّةً فَوَصَل إِلَى دِمَاغِهِ، لأَِنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ يَعْتَمِدُ شُرْبَ الْخَمْرِ، وَهُوَ بِهَذِهِ الأَْفْعَال لاَ يَصِيرُ شَارِبًا، وَلَيْسَ فِي طَبْعِهِ مَا يَدْعُوهُ إِلَى هَذِهِ الأَْفْعَال لِتَقَعَ الْحَاجَةُ إِلَى شَرْعِ الزَّجْرِ عَنْهُ (2) .
وَلَوْ خُلِطَتْ الْخَمْرُ بِالْمَاءِ، فَإِنْ كَانَتِ الْخَمْرُ غَالِبَةً حُدَّ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ غَالِبًا لاَ يُحَدُّ إِلاَّ إِذَا سَكِرَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ.
وَكَذَلِكَ يُحَدُّ إِذَا كَانَا سَوَاءً نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ؛ لأَِنَّ اسْمَ الْخَمْرِ بَاقٍ وَهِيَ عَادَةُ بَعْضِ الشَّرَبَةِ أَنَّهُمْ يَشْرَبُونَهَا مَمْزُوجَةً بِالْمَاءِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ خَلَطَ الْمُسْكِرَ بِمَاءٍ فَاسْتُهْلِكَ الْمُسْكِرُ فِيهِ فَشَرِبَهُ لَمْ يُحَدَّ.
وَقَالُوا: إِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لِعَطَشٍ وَكَانَتْ مَمْزُوجَةً بِمَا يَرْوِي مِنَ الْعَطَشِ أُبِيحَتْ لِدَفْعِ الْعَطَشِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَإِنْ شَرِبَهَا مَمْزُوجَةً
__________
(1) المغني 8 / 307، الإقناع 4 / 267.
(2) المبسوط 24 / 35.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 38، البدائع 7 / 40.

(25/95)


بِشَيْءٍ يَسِيرٍ لاَ يَرْوِي مِنَ الْعَطَشِ لَمْ تُبَحْ لِعَدَمِ حُصُول الْمَقْصُودِ بِهَا وَعَلَيْهِ الْحَدُّ (1) .
وَلَوْ عَجَنَ دَوَاءً بِخَمْرٍ أَوْ لَتَّهُ أَوْ جَعَلَهَا أَحَدَ أَخْلاَطِ الدَّوَاءِ ثُمَّ شَرِبَهَا وَالدَّوَاءُ هُوَ الْغَالِبُ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْخَمْرُ هِيَ الْغَالِبَةَ فَإِنَّهُ يُحَدُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
لأَِنَّ الْمَغْلُوبَ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا بِالْغَالِبِ إِذَا كَانَ مِنْ خِلاَفِ جِنْسِهِ وَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ (2) .

قَدْرُ حَدِّ السُّكْرِ وَحَدِّ الشُّرْبِ:
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ مُطْلَقًا؛ أَيْ سَوَاءٌ سَكِرَ مِنْهَا أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَا شَرِبَهُ مِنْهَا قَلِيلاً أَمْ كَثِيرًا.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَدْرِ الْحَدِّ الْوَاجِبِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْل الأَْوَّل:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، (3) وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ
__________
(1) كشاف القناع 6 / 117 - 118.
(2) المبسوط 24 / 35.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 41، البدائع 7 / 57، المبسوط 24 / 30، فتح القدير 5 / 310، حاشية الدسوقي 4 / 353، شرح منح الجليل 4 / 55، بداية المجتهد 2 / 477، المغني لابن قدامة 8 / 307، منتهى الإرادات 2 / 476، المحرر في الفقه ص 163، الإقناع 4 / 267.

(25/96)


عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ ثَمَانُونَ جَلْدَةً لاَ فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَ النَّاسَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ فَقَال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: اجْعَلْهُ كَأَخَفِّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ، فَضَرَبَ عُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكَتَبَ بِهِ إِلَى خَالِدٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بِالشَّامِ.
وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا قَال فِي الْمَشُورَةِ: إِنَّهُ إِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَعَلَى الْمُفْتَرِي ثَمَانِينَ (1) .

الْقَوْل الثَّانِي:
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو ثَوْرٍ (2) إِلَى أَنَّ قَدْرَ الْحَدِّ أَرْبَعُونَ فَقَطْ، وَلَوْ رَأَى الإِْمَامُ بُلُوغَهُ ثَمَانِينَ جَازَ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالزِّيَادَةُ عَلَى الأَْرْبَعِينَ تَكُونُ تَعْزِيرَاتٍ.
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ عَلِيًّا جَلَدَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ أَرْبَعِينَ ثُمَّ قَال: جَلَدَ النَّبِيُّ
__________
(1) أثر علي: إذا سكر هذي. . . أخرجه الدارقطني (3 / 157 - ط دار المحاسن) ، وأشار ابن حجر إلى الشك في ثبوته عن علي، كذا في التلخيص الحبير (4 / 75 - 76 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) مغني المحتاج 4 / 189، نهاية المحتاج 8 / 14، حاشية الجمل 5 / 160، المغني 8 / 307، المحرر في الفقه ص 163، بداية المجتهد 2 / 477.

(25/96)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ (1) .
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَال: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَدَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَال، ثُمَّ جَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ وَدَنَا النَّاسُ مِنَ الرِّيفِ وَالْقُرَى قَال: مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ الْخَمْرِ؟ فَقَال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا كَأَخَفِّ الْحُدُودِ. قَال: فَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ (2) .
قَالُوا: وَفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةٌ لاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ بِفِعْل غَيْرِهِ وَلاَ يَنْعَقِدُ الإِْجْمَاعُ عَلَى مَا خَالَفَ فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَتُحْمَل الزِّيَادَةُ مِنْ عُمَرَ عَلَى أَنَّهَا تَعْزِيرٌ يَجُوزُ فِعْلُهَا إِذَا رَأَى الإِْمَامُ ذَلِكَ.

شُرْبُ الْمُسْكِرِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ:
16 - إِذَا شَرِبَ إِنْسَانٌ مُسْكِرًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ يُحَدُّ لِلشُّرْبِ وَيُعَزَّرُ بِعِشْرِينَ سَوْطًا لإِِفْطَارِهِ فِي
__________
(1) حديث: أن عليا جلد الوليد بن عقبة. أخرجه مسلم (3 / 1332 - ط الحلبي) .
(2) حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال. أخرجه مسلم (3 / 1331 - ط الحلبي) .

(25/97)


شَهْرِ رَمَضَانَ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
وَذَلِكَ لأَِنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ مُلْزِمٌ لِلْحَدِّ، وَهَتْكُ حُرْمَةِ الشَّهْرِ وَالصَّوْمِ يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ وَلَكِنَّ الْحَدَّ أَقْوَى مِنَ التَّعْزِيرِ فَيُبْتَدَأُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ثُمَّ لاَ يُوَالَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّعْزِيرِ لِكَيْ لاَ يُؤَدِّيَ إِلَى الإِْتْلاَفِ.
وَالأَْصْل فِيهِ حَدِيثُ عَلِيٍّ أَنَّهُ أُتِيَ بِالنَّجَاشِيِّ الْحَارِثِيِّ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَحَدَّهُ ثُمَّ حَبَسَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ أَخْرَجَهُ فَضَرَبَهُ عِشْرِينَ سَوْطًا وَقَال: هَذَا لِجَرَاءَتِكَ عَلَى اللَّهِ وَإِفْطَارِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ (2) .

شُرُوطُ وُجُوبِ الْحَدِّ:

يُشْتَرَطُ لإِِيجَابِ الْحَدِّ مَا يَلِي:
17 - أَوَّلاً: التَّكْلِيفُ وَهُوَ هُنَا الْعَقْل وَالْبُلُوغُ، فَلاَ حَدَّ عَلَى الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ بِاتِّفَاقٍ (3) ؛ لأَِنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ فَتَسْتَدْعِي جِنَايَةً مَحْضَةً، وَفِعْل الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لاَ يُوصَفُ بِالْجِنَايَةِ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِمَا لِعَدَمِ الْجِنَايَةِ مِنْهُمَا.
__________
(1) المبسوط 24 / 32 - 33، منتهى الإرادات 2 / 478.
(2) المبسوط 24 / 33.
(3) البدائع 7 / 39، ابن عابدين 4 / 37، حاشية الدسوقي 4 / 352، شرح منح الجليل 4 / 549، مغني المحتاج 4 / 187، نهاية المحتاج 8 / 12، منتهى الإرادات 2 / 476، الإقناع 4 / 267.

(25/97)


وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ يُؤَدَّبُ لِلزَّجْرِ.
18 - ثَانِيًا: الإِْسْلاَمُ (1) : فَلاَ حَدَّ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ بِالشُّرْبِ وَلاَ بِالسُّكْرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
يَقُول الْكَاسَانِيُّ: وَشُرْبُ الْخَمْرِ مُبَاحٌ لأَِهْل الذِّمَّةِ عِنْدَ أَكْثَرِ مَشَايِخِنَا فَلاَ يَكُونُ جِنَايَةً، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا لَكِنَّنَا نُهِينَا عَنِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ، وَفِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ تَعَرُّضٌ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لأَِنَّنَا نَمْنَعُهُمْ مِنَ الشُّرْبِ.
وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُمْ إِذَا شَرِبُوا وَسَكِرُوا يُحَدُّونَ لأَِجْل السُّكْرِ لاَ لأَِجْل الشُّرْبِ لأَِنَّ السُّكْرَ حَرَامٌ فِي الأَْدْيَانِ كُلِّهَا. قَال الْكَاسَانِيُّ: وَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ حَسَنٌ (3) .
وَجَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: " إِنْ سَكِرَ الذِّمِّيُّ مِنَ الْحَرَامِ حُدَّ فِي الأَْصَحِّ لِحُرْمَةِ السُّكْرِ فِي كُل مِلَّةٍ " وَجَاءَ بِهَا أَيْضًا قَوْلُهُ: حُدَّ فِي الأَْصَحِّ أَفْتَى بِهِ الْحَسَنُ وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُ
__________
(1) البدائع 7 / 39، ابن عابدين 4 / 37، حاشية الدسوقي 4 / 352، شرح منح الجليل 4 / 549، مغني المحتاج 4 / 187، نهاية المحتاج 8 / 12، منتهى الإرادات 2 / 476، المحرر في الفقه ص 163، الإقناع 4 / 267.
(2) البدائع 7 / 39، المبسوط 24 / 31.
(3) البدائع 7 / 40.

(25/98)


الْمَشَايِخِ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ إِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ وَسَكِرَ مِنْهُ أَنَّهُ لاَ يُحَدُّ كَمَا فِي النَّهْرِ عَنْ فَتَاوَى قَارِئِ الْهِدَايَةِ (1)
وَقَال الْمَجْدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ: وَلاَ يُحَدُّ الذِّمِّيُّ بِشُرْبِهِ وَإِنْ سَكِرَ، وَعَنْهُ: يُحَدُّ، وَعِنْدِي: إِنْ سَكِرَ حُدَّ وَإِلاَّ فَلاَ (2) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الذِّمِّيَّ يُؤَدَّبُ بِالشُّرْبِ إِنْ أَظْهَرَهُ (3) .
19 - ثَالِثًا: عَدَمُ الضَّرُورَةِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، بِأَنْ يَشْرَبَهَا مُخْتَارًا لِشُرْبِهَا، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (4) . فَلاَ حَدَّ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِهَا وَذَلِكَ لِقَوْل الرَّسُول: رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (5) وَلأَِنَّ الْحَدَّ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 37.
(2) المحرر ص 163.
(3) الدسوقي 4 / 352، منح الجليل 4 / 549.
(4) البدائع 7 / 39، ابن عابدين 4 / 37، المبسوط 24 / 32، الهداية 2 / 111، حاشية الدسوقي 4 / 352، شرح منح الجليل 3 / 549، مغني المحتاج 4 / 187، نهاية المحتاج 8 / 12، حاشية الجمل 5 / 159، المغني 8 / 307، منتهى الإرادات 2 / 476، المحرر في الفقه ص 163، الإقناع 4 / 267.
(5) حديث: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان. ورد بلفظ، " إن الله وضع عن أمتي ". . الحديث، أخرجه ابن ماجه (1 / 659 - ط الحلبي) والحاكم (2 / 198 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(25/98)


عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ فَتَسْتَدْعِي جِنَايَةً مَحْضَةً وَالشُّرْبُ بِالإِْكْرَاهِ حَلاَلٌ فَلَمْ يَكُنْ جِنَايَةً فَلاَ حَدَّ وَلاَ إِثْمَ (1) .
وَسَوَاءٌ أُكْرِهَ بِالْوَعِيدِ وَالضَّرْبِ أَوْ أُلْجِئَ إِلَى شُرْبِهَا بِأَنْ يُفْتَحَ فُوهُ وَتُصَبُّ فِيهِ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ (2) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الإِْكْرَاهَ يَكُونُ بِالتَّهْدِيدِ بِالْقَتْل أَوْ بِالضَّرْبِ الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ أَوْ بِإِتْلاَفِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أَوْ بِالضَّرْبِ الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ؛ أَيْ بِقَيْدٍ أَوْ سَجْنٍ شَدِيدَيْنِ عَلَى أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ لِسَحْنُونٍ (3) .
وَكَذَلِكَ لاَ حَدَّ عَلَى مَنِ اضْطُرَّ إِلَيْهَا لِدَفْعِ غُصَّةٍ بِهَا إِذَا لَمْ يَجِدْ مَائِعًا سِوَاهَا، وَذَلِكَ لِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (4) .
وَلأَِنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ فَتَسْتَدْعِي جِنَايَةً مَحْضَةً وَالشُّرْبُ لِضَرُورَةِ الْغُصَّةِ حَلاَلٌ فَلَمْ يَكُنْ جِنَايَةً. وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (5) .
__________
(1) البدائع 17 / 39، المغني 8 / 307.
(2) المغني لابن قدامة 8 / 307، الإقناع 4 / 267.
(3) حاشية الدسوقي، 4 / 353، شرح منح الجليل، 4 / 552.
(4) سورة البقرة / 173.
(5) البدائع 7 / 39، حاشية الدسوقي 4 / 354، وجاء فيها خلافا لابن عرفة في عدم الجواز، شرح منح الجليل 4 / 552، مغني المحتاج 4 / 188، نهاية المحتاج 8 / 13، المغني 8 / 307، منتهى الإرادات 2 / 476، المحرر ص 162، الإقناع 4 / 266.

(25/99)


وَإِنْ شَرِبَهَا لِعَطَشٍ فَالْحَنَابِلَةُ (1) يَقُولُونَ: إِنْ كَانَتْ مَمْزُوجَةً بِمَا يَرْوِي مِنَ الْعَطَشِ أُبِيحَتْ لِدَفْعِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَمَا تُبَاحُ الْمَيْتَةُ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ وَكَإِبَاحَتِهَا لِدَفْعِ الْغُصَّةِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ أَنَّهُ أَسَرَهُ الرُّومُ، فَحَبَسَهُ طَاغِيَتُهُمْ فِي بَيْتٍ فِيهِ مَاءٌ مَمْزُوجٌ بِخَمْرٍ، وَلَحْمُ خِنْزِيرٍ مَشْوِيٌّ لِيَأْكُلَهُ وَيَشْرَبَ الْخَمْرَ، وَتَرَكَهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَلَمْ يَفْعَل، ثُمَّ أَخْرَجُوهُ حِينَ خَشُوا مَوْتَهُ فَقَال: وَاَللَّهِ لَقَدْ كَانَ اللَّهُ أَحَلَّهُ لِي فَإِنِّي مُضْطَرٌّ وَلَكِنْ لَمْ أَكُنْ لأُِشْمِتَكُمْ بِدِينِ الإِْسْلاَمِ (2) .
وَإِنْ شَرِبَهَا صِرْفًا أَوْ مَمْزُوجَةً بِشَيْءٍ يَسِيرٍ لاَ يَرْوِي مِنَ الْعَطَشِ لَمْ يُبَحْ لَهُ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ الْحَدُّ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) يَحِل شُرْبُهَا لِلْعَطَشِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (4) وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، الأَْصَحُّ تَحْرِيمُهَا لِعَطَشٍ
__________
(1) المغني 8 / 307، منتهى الإرادات 2 / 475، المحرر في الفقه ص 162.
(2) قصة عبد الله بن حذافة أوردها ابن حجر في الإصابة (2 / 296 - 297 - ط السعادة) وعزاها إلى البيهقي.
(3) المبسوط 24 / 28.
(4) سورة الأنعام / 119.

(25/99)


وَجُوعٍ وَلَكِنْ لاَ يُحَدُّ وَقَالُوا: إِنْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلاَكِ مِنْ عَطَشٍ جَازَ لَهُ شُرْبُهَا (1) .

شُرْبُ الْمُسْكِرِ لِلتَّدَاوِي:
20 - إِنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ لِلتَّدَاوِي (لَمْ يُبَحْ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) . وَيُحَدُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ إِبَاحَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ لِلتَّدَاوِي بِحَدِيثِ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ مِنْ أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ أَنَّهُ سَأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا فَقَال: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَال: إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ (3) .
وَلأَِنَّ الْمُسْكِرَ مُحَرَّمٌ لِعَيْنِهِ فَلَمْ يُبَحْ لِلتَّدَاوِي كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ إِلَى جَوَازِ التَّدَاوِي بِالْقَدْرِ الَّذِي لاَ يُسْكِرُ كَبَقِيَّةِ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 188، نهاية المحتاج 8 / 14، حاشية الجمل 5 / 158.
(2) المبسوط جـ24 ص9، حاشية الدسوقي 4 / 353 - 354، شرح منح الجليل 4 / 552، المغني 8 / 308 مغني المحتاج 20 / 188، نهاية المحتاج 8 / 14، حاشية الجمل 5 / 158.
(3) حديث وائل الحضرمي: " إنه ليس بدواء ". أخرجه مسلم (3 / 1573 - ط الحلبي) .

(25/100)


النَّجَاسَاتِ وَهَذَا فِي غَيْرِ حَال الضَّرُورَةِ، أَمَّا فِي حَال الضَّرُورَةِ بِأَنْ لَمْ يَجِدْ دَوَاءً آخَرَ فَفِي جَوَازِهِ خِلاَفٌ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (تَدَاوِي) .
21 - رَابِعًا: مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَدِّ أَيْضًا بَقَاءُ اسْمِ الْخَمْرِ لِلْمَشْرُوبِ وَقْتَ الشُّرْبِ.
نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (1) . لأَِنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالشُّرْبِ تَعَلَّقَ بِهِ حَتَّى لَوْ خُلِطَ الْخَمْرُ بِالْمَاءِ ثُمَّ شَرِبَ نُظِرَ فِيهِ: إِنْ كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلْمَاءِ لاَ حَدَّ عَلَيْهِ - لأَِنَّ اسْمَ الْخَمْرِ يَزُول عِنْدَ غَلَبَةِ الْمَاءِ، وَإِنْ كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلْخَمْرِ أَوْ كَانَا سَوَاءً يُحَدُّ؛ لأَِنَّ اسْمَ الْخَمْرِ بَاقٍ وَهِيَ عَادَةُ بَعْضِ الشَّرَبَةِ أَنَّهُمْ يَشْرَبُونَهَا مَمْزُوجَةً بِالْمَاءِ.
وَيُحَدُّ مَنْ شَرِبَ دُرْدِيَّ الْخَمْرِ (2) عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لأَِنَّهُ خَمْرٌ بِلاَ شَكٍّ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ شُرْبُهُ وَالاِنْتِفَاعُ بِهِ؛ لأَِنَّ الدُّرْدِيَّ مِنْ كُل شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ صَافِيهِ، وَالاِنْتِفَاعُ بِالْخَمْرِ حَرَامٌ فَكَذَلِكَ بِدُرْدِيِّهِ، وَهَذَا لأَِنَّ فِي الدُّرْدِيِّ أَجْزَاءَ الْخَمْرِ وَلَوْ وَقَعَتْ قَطْرَةٌ مِنْ خَمْرٍ فِي مَاءٍ لَمْ يَجُزْ شُرْبُهُ وَالاِنْتِفَاعُ بِهِ، فَالدُّرْدِيُّ أَوْلَى (3) .
__________
(1) البدائع 7 / 40.
(2) الدردى ما في أسفل وعاء الخمر من عكر لأنه منه.
(3) الموسوعة جـ5 ص 17 أشربة.

(25/100)


22 - خَامِسًا: وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا الْعِلْمُ بِأَنَّ كَثِيرَهَا يُسْكِرُ، فَالْحَدُّ إِنَّمَا يَلْزَمُ مَنْ شَرِبَهَا عَالِمًا بِأَنَّ كَثِيرَهَا يُسْكِرُ، فَأَمَّا غَيْرُهُ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْل عَامَّةِ أَهْل الْعِلْمِ، وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ إِلاَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ مَا شَرِبَهُ مُسْكِرًا (1) .
وَذَلِكَ لأَِنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِهَا وَلاَ قَاصِدٍ إِلَى ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ بِهَا فَأَشْبَهَ مَنْ زُفَّتْ إِلَيْهِ غَيْرُ زَوْجَتِهِ، وَلاَ حَدَّ عَلَى مَنْ شَرِبَهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِهَا أَيْضًا - لأَِنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالاَ: لاَ حَدَّ إِلاَّ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ - وَلأَِنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِالتَّحْرِيمِ أَشْبَهَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا خَمْرٌ، وَإِذَا ادَّعَى الْجَهْل بِتَحْرِيمِهَا نُظِرَ.
فَإِنْ كَانَ نَاشِئًا بِبَلَدِ الإِْسْلاَمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ تُقْبَل دَعْوَاهُ لأَِنَّ هَذَا لاَ يَكَادُ يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُهُ فَلاَ تُقْبَل دَعْوَاهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالإِْسْلاَمِ أَوْ نَاشِئًا بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْبُلْدَانِ قُبِل مِنْهُ، لأَِنَّهُ يَحْتَمِل مَا قَالَهُ.
__________
(1) الهداية 2 / 111، المبسوط 24 / 32، حاشية الدسوقي 4 / 352، شرح منح الجليل 4 / 550، مغني المحتاج 4 / 187، نهاية المحتاج 8 / 13، حاشية الجمل 5 / 159، المغني 8 / 308، منتهى الإرادات 2 / 476، المحرر في الفقه ص 163، الإقناع 4 / 267.

(25/101)


نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
23 - سَادِسًا: اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ النُّطْقَ فَلاَ يُحَدُّ الأَْخْرَسُ لِلشُّبْهَةِ (2) لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ نَاطِقًا يَحْتَمِل أَنْ يُخْبِرَ بِمَا لاَ يُحَدُّ بِهِ كَإِكْرَاهٍ أَوْ غَصٍّ بِلُقْمَةٍ.
وَلاَ تُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ وَلاَ الْحُرِّيَّةُ فَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَى كُلٍّ مِنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى وَالرَّقِيقِ إِلاَّ أَنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ يَكُونُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ (3) .

وُجُودُ رَائِحَةِ الْخَمْرِ:
24 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ تُوجَدُ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلاَنِ: الْقَوْل الأَْوَّل:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الرَّاجِحَةِ (4) إِلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَى مَنْ تُوجَدُ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ. وَذَلِكَ لأَِنَّ وُجُودَ
__________
(1) المبسوط 24 / 32، حاشية الدسوقي 4 / 352، مغني المحتاج 4 / 188، حاشية الجمل 5 / 159، المغني 8 / 308، 309، منتهى الإرادات 2 / 476.
(2) ابن عابدين 4 / 37.
(3) البدائع 7 / 40، شرح منح الجليل 4 / 549.
(4) البدائع 7 / 40، حاشية ابن عابدين 4 / 40، الهداية شرح بداية المبتدي 2 / 111، المبسوط 4 / 31، فتح القدير 5 / 308، مغني المحتاج 4 / 190، نهاية المحتاج 8 / 16، المغني لابن قدامة 8 / 309، منتهى الإرادات 2 / 476، الإقناع 4 / 267 وجاء فيه " ويعزر من وجد منه رائحتها " المحرر في الفقه ص 163.

(25/101)


رَائِحَةِ الْخَمْرِ لاَ يَدُل عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ لِجَوَازِ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ بِهَا وَلَمْ يَشْرَبْهَا، أَوْ شَرِبَهَا عَنْ إِكْرَاهٍ أَوْ غُصَّةٍ خَافَ مِنْهَا الْهَلاَكَ.

الْقَوْل الثَّانِي:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ (1) . إِلَى أَنَّهُ يُحَدُّ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ جَلَدَ رَجُلاً وَجَدَ مِنْهُ رَائِحَةَ الْخَمْرِ (2)
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَال: إِنِّي وَجَدْتُ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ رِيحَ الشَّرَابِ فَأَقَرَّ أَنَّهُ شَرِبَ الطِّلاَ، فَقَال عُمَرُ: إِنِّي سَائِلٌ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ (3) .
وَلأَِنَّ الرَّائِحَةَ تَدُل عَلَى شُرْبِهِ فَجَرَى مَجْرَى الإِْقْرَارِ (4) .

تَقَيُّؤُ الْخَمْرِ:
25 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِتَقَيُّؤِ الْخَمْرِ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلاَنِ:
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 353، شرح منح الجليل 2 / 552، بداية المجتهد 2 / 479، المغني 8 / 309 المحرر في الفقه ص 163.
(2) أثر ابن مسعود في جلده رجلا وجد منه رائحة الخمر. أخرجه البخاري (الفتح 9 / 47 - ط السلفية) ومسلم (1 / 551 - 552 - ط الحلبي) .
(3) أثر عمر: إن وجدت من عبيد الله ريح الشراب. . . أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9 / 288 - ط المجلس العلمي) .
(4) المغني 8 / 309.

(25/102)


الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ (1) . إِلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَى مَنْ تَقَيَّأَ الْخَمْرَ؛ لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا تُسْكِرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

الْقَوْل الثَّانِي:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ (2) إِلَى أَنَّهُ يُحَدُّ بِذَلِكَ، لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ شُرْبِهَا فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِشُرْبِهَا.
وَلِقَوْل الشَّعْبِيِّ لَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ قُدَامَةَ مَا كَانَ جَاءَ عَلْقَمَةُ الْخَصِيُّ فَقَال: أَشْهَدُ أَنِّي رَأَيْتُهُ يَتَقَيَّؤُهَا، فَقَال عُمَرُ: مَنْ قَاءَهَا فَقَدْ شَرِبَهَا، فَضَرَبَهُ الْحَدَّ (3) .
وَلِخَبَرِ عُثْمَانَ حِينَ أُتِيَ بِالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فَشَهِدَ عَلَيْهِ حُمْرَانُ وَرَجُلٌ آخَرُ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ رَآهُ شَرِبَهَا وَشَهِدَ الآْخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّؤُهَا فَقَال عُثْمَانُ: إِنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْ حَتَّى شَرِبَهَا، فَقَال:
__________
(1) البدائع 7 / 40، ابن عابدين 4 / 40، الهداية 2 / 111، المبسوط 24 / 31، فتح القدير 5 / 308، مغني المحتاج 4 / 190، نهاية المحتاج 8 / 16، المغني 8 / 309.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 353، المغني 8 / 309، الإقناع 4 / 268، منتهى الإرادات 2 / 476.
(3) أثر عمر: من قاءها فقد شربها. عزاه ابن قدامة إلى سعيد بن منصور في سننه، كذا في المغني (8 / 310 - ط الرياض) .

(25/102)


يَا عَلِيُّ قُمْ فَاجْلِدْهُ، فَأَمَرَ عَلِيٌّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ فَضَرَبَهُ، (1) وَهَذَا بِمَحْضَرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَسَادَتِهِمْ وَلَمْ يُنْكَرْ فَكَانَ إِجْمَاعًا.
وَلأَِنَّهُ يَكْفِي فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ أَنَّهُ شَرِبَهَا، وَلاَ يَتَقَيَّؤُهَا أَوْ لاَ يَسْكَرُ مِنْهَا حَتَّى يَشْرَبَهَا (2)
إِثْبَاتُ الْحَدِّ:
لاَ يَجِبُ الْحَدُّ حَتَّى يَثْبُتَ الشُّرْبُ أَوِ السُّكْرُ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ: الإِْقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ.

الْبَيِّنَةُ:
26 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشُّرْبَ - وَكَذَلِكَ السُّكْرُ - يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ - أَيْ شَهَادَةِ الشُّهُودِ - وَهِيَ شَهَادَةُ عَدْلَيْنِ (3) وَيُشْتَرَطُ فِيهِمَا مَا يَلِي:
(1) أَنْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ.
(2) الذُّكُورَةُ، فَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ النِّسَاءِ (4) .
__________
(1) أثر عثمان حين جلد الوليد بن عقبة. أخرجه مسلم (3 / 1331 - 1332 - ط الحلبي) .
(2) المغني 8 / 310.
(3) البدائع 7 / 46، وابن عابدين 4 / 40، الهداية 2 / 111، فتح القدير 5 / 312، حاشية الدسوقي 4 / 353، شرح منح الجليل 4 / 551، بداية المجتهد 2 / 479، مغني المحتاج 4 / 190، نهاية المحتاج 8 / 16، حاشية الجمل 5 / 161، المغني 8 / 310، منتهى الإرادات 2 / 476، المحرر في الفقه ص 163، الإقناع 4 / 267.
(4)) البدائع 7 / 46، ابن عابدين 4 / 40، الهداية 2 / 111، فتح القدير 5 / 312، مغني المحتاج 4 / 190، الإقناع 4 / 267.

(25/103)


(3) الأَْصَالَةُ فَلاَ تُقْبَل الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَلاَ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا؛ لِتَمَكُّنِ زِيَادَةِ شُبْهَةٍ فِيهَا وَالْحُدُودُ لاَ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ (1) .
(4) عَدَمُ التَّقَادُمِ (انْظُرْ شَهَادَة) (وَحُدُود) (وَتَقَادُم) ف 13
(5) وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَسْأَل الإِْمَامُ الشَّاهِدَيْنِ عَنْ مَاهِيَّةِ الْخَمْرِ وَكَيْفَ شَرِبَ؛ لاِحْتِمَال الإِْكْرَاهِ، وَمَتَى شَرِبَ لاِحْتِمَال التَّقَادُمِ، وَأَيْنَ شَرِبَ لاِحْتِمَال شُرْبِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ حَبَسَهُ حَتَّى يَسْأَل عَنْ عَدَالَتِهِمْ وَلاَ يَقْضِي بِظَاهِرِهَا (2) .
(6) قِيَامُ الرَّائِحَةِ وَقْتَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فِي حَدِّ الشُّرْبِ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَيْسَ بِشَرْطٍ (3) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا شَهِدَ عَدْلاَنِ بِشُرْبِهِ الْخَمْرَ، وَخَالَفَهُمَا غَيْرُهُمَا مِنَ الْعُدُول بِأَنْ قَالاَ: لَيْسَ رَائِحَتُهُ رَائِحَةَ خَمْرٍ بَل خَلٍّ
__________
(1) البدائع 7 / 46.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 40.
(3) البدائع 7 / 47، ابن عابدين 4 / 40.

(25/103)


مَثَلاً، فَلاَ تُعْتَبَرُ الْمُخَالَفَةُ وَيُحَدُّ؛ لأَِنَّ الْمُثْبِتَ يُقَدَّمُ عَلَى النَّافِي (1) .

الإِْقْرَارُ:
27 - يَثْبُتُ الشُّرْبُ أَيْضًا بِإِقْرَارِ الشَّارِبِ نَفْسِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَانْظُرْ (حُدُود) ، إِثْبَاتٌ (2) .

شُرُوطُ إقَامَةِ الْحَدِّ:
28 - يُشْتَرَطُ لإِِقَامَةِ حَدِّ الشُّرْبِ وَالسُّكْرِ شُرُوطٌ، مِنْهَا:
(1) الإِْمَامَةُ. اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الَّذِي يُقِيمُ الْحَدَّ هُوَ الإِْمَامُ أَوْ مَنْ وَلاَّهُ الإِْمَامُ (3) انْظُرْ (حُدُود) .
(2) أَهْلِيَّةُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِلشُّهُودِ عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ (4) انْظُرْ (حُدُود)
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 353، شرح منح الجليل 4 / 552.
(2) البدائع 7 / 49، ابن عابدين 4 / 41، الهداية 2 / 111، فتح القدير 5 / 312، حاشية الدسوقي 4 / 353، شرح منح الجليل 4 / 551، بداية المجتهد 2 / 479، مغني المحتاج 4 / 190، حاشية الجمل 5 / 161، نهاية المحتاج 8 / 16، المغني 8 / 301، منتهى الإرادات،2 / 476، المحرر في الفقه ص 163، الإقناع 4 / 267.
(3) البدائع 7 / 57، بداية المجتهد 2 / 478، المحرر في الفقه ص 164.
(4) البدائع 7 / 59.

(25/104)


(3) أَنْ لاَ يَكُونَ فِي تَنْفِيذِ حَدِّ الشُّرْبِ خَوْفُ الْهَلاَكِ لأَِنَّ هَذَا الْحَدَّ شُرِعَ زَاجِرًا لاَ مُهْلِكًا (1) انْظُرْ مُصْطَلَحَ جَلْد وَحُدُود وَزِنًى وَقَذْف.

كَيْفِيَّةُ الضَّرْبِ فِي حَدِّ الشُّرْبِ:
29 - لِلضَّرْبِ فِي حَدِّ الشُّرْبِ كَيْفِيَّةٌ خَاصَّةٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (جَلْد وَحُدُود)
سُقُوطُ الْحَدِّ بَعْدَ وُجُوبِهِ:
30 - يَسْقُطُ حَدُّ الشُّرْبِ بَعْدَ وُجُوبِهِ بِأُمُورٍ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حُدُود) (وَسُقُوط) .

سَكْرَان
انْظُرْ: سُكْر
__________
(1) البدائع 7 / 59، ابن عابدين 4 / 40، الهداية 2 / 111، نهاية المحتاج 8 / 17.

(25/104)


سِكَّة

التَّعْرِيفُ:
1 - تُطْلَقُ السِّكَّةُ (بِالْكَسْرِ) لُغَةً عَلَى الزُّقَاقِ أَوِ الطَّرِيقِ الْمُصْطَفَّةِ مِنَ النَّخِيل، كَمَا تُطْلَقُ عَلَى حَدِيدَةٍ مَنْقُوشَةٍ تُطْبَعُ بِهَا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ.
وَتُطْلَقُ كَذَلِكَ عَلَى سِكَّةِ الْمِحْرَاثِ وَهِيَ الْحَدِيدَةُ الَّتِي تُحْرَثُ بِهَا الأَْرْضُ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: اسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ السِّكَّةَ بِمَعْنَى الْحَدِيدَةِ الْمَنْقُوشَةِ الَّتِي تُطْبَعُ بِهَا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَاسْتَعْمَلُوهَا أَيْضًا بِمَعْنَى الْمَسْكُوكِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَاسْتَعْمَلُوهَا كَذَلِكَ فِي الطَّرِيقِ الْمُسْتَوِي وَفِي الزُّقَاقِ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - مَا يَتَعَلَّقُ بِالسِّكَّةِ بِمَعْنَى الْمَسْكُوكِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ قَدْ تَقَدَّمَ بَحْثُ أَحْكَامِهَا فِي مُصْطَلَحَاتِ (دَرَاهِم وَدَنَانِير وَذَهَب) .
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب مادة (سكك) .

(25/105)


وَيُرَاجَعُ كَذَلِكَ مُصْطَلَحَاتُ (فُلُوس) (وَنُقُود) .
3 - وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالسِّكَّةِ بِمَعْنَى الزُّقَاقِ أَوِ الطَّرِيقِ فَقَدْ بَحَثَهُ الْفُقَهَاءُ فِي مَبَاحِثِ الْجِوَارِ وَالشُّفْعَةِ وَالْقِسْمَةِ، وَيَأْتِي تَفْصِيلاً فِي مُصْطَلَحِ " طَرِيق ".
4 - أَمَّا السِّكَّةُ بِمَعْنَى الْحَدِيدَةِ الَّتِي تُطْبَعُ بِهَا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ فَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لإِِمَامِ الْمُسْلِمِينَ وِلاَيَةَ ضَرْبِ الْفُلُوسِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِلنَّاسِ فِي دَارِ الضَّرْبِ وَأَنْ تَكُونَ بِقِيمَةِ الْعَدْل فِي مُعَامَلاَتِهِمْ تَسْهِيلاً عَلَيْهِمْ وَتَيْسِيرًا لِمَعَاشِهِمْ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَضْرِبَ الْمَغْشُوشَ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا (1) كَمَا لاَ يَجُوزُ لِغَيْرِ الإِْمَامِ أَنْ يَضْرِبَ لأَِنَّهُ مِنَ الاِفْتِيَاتِ عَلَيْهِ وَلأَِنَّهُ مَظِنَّةٌ لِلْغِشِّ وَالإِْفْسَادِ بِتَغَيُّرِ قِيَمِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَمَقَادِيرِهَا.
وَلاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَتَّجِرَ فِي الْفُلُوسِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ نُحَاسًا فَيَضْرِبَهُ فَيَتَّجِرَ فِيهِ، وَيُحَرِّمَ عَلَى النَّاسِ الْفُلُوسَ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ وَيَضْرِبَ لَهُمْ غَيْرَهَا لأَِنَّهُ إِضْرَارٌ بِالنَّاسِ وَخُسْرَانٌ عَلَيْهِمْ، بَل
__________
(1) حديث: " من غشنا فليس منا ". أخرجه مسلم (1 / 99 ط. عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا.

(25/105)


يَضْرِبُ النُّحَاسَ فُلُوسًا بِقِيمَتِهَا مِنْ غَيْرِ رِبْحٍ فِيهَا لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ وَيُعْطِي أُجْرَةَ الصُّنَّاعِ مِنْ بَيْتِ الْمَال، فَإِنَّ التِّجَارَةَ فِيهَا مِنْ قَبِيل أَكْل أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِل؛ لأَِنَّهُ إِنْ حَرَّمَ الْمُعَامَلَةَ بِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ صَارَتْ عَرَضًا وَسِلْعَةً وَإِذَا ضَرَبَ لَهُمْ فُلُوسًا أُخْرَى أَفْسَدَ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الأَْمْوَال بِنَقْصِ أَسْعَارِهَا فَيَظْلِمُهُمْ بِمَا ضَرَبَهُ بِإِغْلاَءِ سِعْرِهَا.
وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ كَسْرِ سِكَّةِ الْمُسْلِمِينَ النَّافِقَةِ فِي مُعَامَلاَتِهِمْ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ زَائِفَةً أَوْ دَخَلَهَا الْغِشُّ. يَدُل عَلَيْهِ حَدِيثُ: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُكْسَرَ سِكَّةُ الْمُسْلِمِينَ الْجَائِزَةُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ مِنْ بَأْسٍ (1) .
وَعِلَّةُ النَّهْيِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرِضُونَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَيَأْخُذُونَ أَطْرَافَهَا فَيُخْرِجُونَهَا عَنِ السِّعْرِ الَّذِي يَأْخُذُونَهَا بِهِ وَيَجْمَعُونَ مِنْ تِلْكَ الْقِرَاضَةِ شَيْئًا كَثِيرًا بِالسَّبْكِ فَيَكُونُ كَسْرُهَا بَخْسًا وَتَطْفِيفًا.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ عَنْ كَسْرِ السِّكَّةِ أَنْ لاَ تُعَادَ تِبْرًا وَلِتَبْقَى عَلَى
__________
(1) حديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس ". أخرجه أبو داود (3 / 730 ط. عزت عبيد دعاس) وإسناده ضعيف (جامع الأصول 11 / 792 ط - الملاح) .

(25/106)


حَالِهَا مُرْصَدَةً لِلنَّفَقَةِ. وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَل فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأََنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (1) .
فَقَدْ كَانَ قَوْمُ شُعَيْبٍ يَكْسِرُونَ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ. يَقُول ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ لِهَذِهِ الآْيَةِ: " وَكَسْرُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ ذَنْبٌ عَظِيمٌ لأَِنَّهَا الْوَاسِطَةُ فِي تَقْدِيرِ قِيَمِ الأَْشْيَاءِ وَالسَّبِيل إِلَى مَعْرِفَةِ كَمْيَّةِ الأَْمْوَال وَتَنْزِيلِهَا فِي الْمُعَاوَضَاتِ (2) ".
__________
(1) سورة هود / 78.
(2) كشاف القناع 2 / 232 - 233، المجموع 6 / 10، 11، الأحكام السلطانية (الماوردي) ص 155 - 156، عون المعبود 9 / 318، وأحكام القرآن (ابن العربي) 3 / 23 ط - الدار العلمية بيروت.

(25/106)


السُّكْنَى

التَّعْرِيفُ:
1 - السُّكْنَى اسْمُ مَصْدَرٍ مِنَ السَّكَنِ، وَهُوَ الْقَرَارُ فِي الْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِذَلِكَ، وَالْمَسْكَنُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِهَا، الْمَنْزِل أَوِ الْبَيْتُ، وَالْجَمْعُ مَسَاكِنُ. وَالسُّكُونُ ضِدُّ الْحَرَكَةِ، يُقَال: سَكَنَ بِمَعْنَى هَدَأَ وَسَكَتَ (1) .
وَاصْطِلاَحًا هِيَ الْمُكْثُ فِي مَكَانٍ عَلَى سَبِيل الاِسْتِقْرَارِ وَالدَّوَامِ (2) .

طَبِيعَةُ حَقِّ السُّكْنَى:
2 - مِنَ الْمُسَلَّمِ بِهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ السُّكْنَى
__________
(1) القاموس، والمصباح، ولسان العرب.
(2) المبسوط لشمس الأئمة السرخسي 8 / 160 طبع مطبعة دار المعرفة للطباعة والنشر بدائع الصنائع للكاساني 4 / 1728 طبع مطبعة الإمام بمصر، مواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب 3 / 303 وما بعدها، حاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب 4 / 296 طبع المطبعة الأميرية ببولاق مصر، كشاف القناع على متن الإقناع 4 ص 2154.

(25/107)


مَنْفَعَةٌ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ عَرَضِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِالْعَيْنِ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَا، وَأَنَّ السُّكْنَى لَهَا وُجُودٌ وَإِنْ كَانَ لاَ يَسْتَمِرُّ زَمَنًا طَوِيلاً.
وَعَلَى ذَلِكَ فَحَقُّ السُّكْنَى - لِكَوْنِهِ حَقَّ مَنْفَعَةٍ - أَعَمُّ وَأَشْمَل مِنْ حَقِّ الاِنْتِفَاعِ، وَأَنَّ الْمِلْكَ فِي حَقِّ السُّكْنَى يَنْشَأُ عَنْ عَقْدٍ مُمَلِّكٍ، كَالْوَقْفِ وَالإِْجَارَةِ وَالإِْعَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَنَافِعِ، فَهُوَ حَقٌّ يُمَكِّنُ صَاحِبَهُ مِنْ مُبَاشَرَتِهِ وَالاِنْتِفَاعِ، بِنَفْسِهِ أَوْ تَمْكِينِ غَيْرِهِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِعِوَضٍ. بِخِلاَفِ حَقِّ الاِنْتِفَاعِ، فَإِنَّهُ يَنْشَأُ عَنْ عَقْدٍ، كَهِبَةِ الدَّارِ لِلسُّكْنَى، أَوْ إِذْنٍ وَإِبَاحَةٍ فَقَطْ مِنَ الْمَالِكِ، فَلاَ يَصِحُّ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُمَكِّنَ أَحَدًا غَيْرَهُ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهِ.

حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ فِي السُّكْنَى:
3 - يَتَمَثَّل حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي السُّكْنَى فِي كُل مَا لاَ يَكُونُ لِلْعَبْدِ إِسْقَاطُهُ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
(1) حَقُّ السُّكْنَى لِلْمُطَلَّقَةِ رَجْعِيًّا، لاَ يَجُوزُ إِسْقَاطُهُ، فَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ إِسْكَانُهَا فِي مَكَانٍ تَقْضِي فِيهِ عِدَّتَهَا، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي وَجَبَتِ الْعِدَّةُ فِيهِ.
وَفِي الْمُطَلَّقَاتِ الْبَائِنَاتِ، وَالْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ يَكُونُ حَقُّ السُّكْنَى حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدَ بَعْضِ

(25/107)


الْفُقَهَاءِ، أَوْ حَقًّا لِلْعَبْدِ عِنْدَ فَرِيقٍ آخَرَ مِنْهُمْ، لَكِنِ الْجَمِيعُ يَتَّفِقُونَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْكَنِ الَّذِي أَلْزَمَتْ نَفْسَهَا بِالْقَرَارِ فِيهِ.
(2) وَفِي الْمُخْتَلِعَاتِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِّ السُّكْنَى، فَيَرَى الْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ الْمُخَالِعُ الْبَرَاءَةَ مِنَ السُّكْنَى لَمْ يَجُزِ الشَّرْطُ؛ إِذِ السُّكْنَى فِي بَيْتِ الزَّوْجِ فِي الْعِدَّةِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ إِسْقَاطُهُ، لاَ بِعِوَضٍ وَلاَ غَيْرِهِ
وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ وَقَالُوا بِجَوَازِ أَنْ يُخَالِعَ الرَّجُل امْرَأَتَهُ الْحَامِل عَلَى سُكْنَاهَا وَنَفَقَتِهَا، وَيَبْرَأَ مِنْهَا (1) .
وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فِي السُّكْنَى فَيَتَمَثَّل فِي كُل تَصَرُّفٍ يَكُونُ الْقَصْدُ مِنْهُ مَصْلَحَةَ الْعَبْدِ، كَهِبَةِ السُّكْنَى أَوْ بَيْعِهَا أَوْ إجَارَتِهَا، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَرَيَانُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مُتَّفِقًا مَعَ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُنَظِّمَةِ لَهَا؛ لأَِنَّ تَنْظِيمَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى.
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين 3 / 611، جامع الفصولين لابن قاضي شحاده 1 / 200، 201 شرح الخرشي على مختصر خليل 3 / 155، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 6 / 398، وإعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزية 4 / 37.

(25/108)


الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسُّكْنَى:
أَوَّلاً: السُّكْنَى كَحَقٍّ عَلَى الْغَيْرِ:
سُكْنَى الزَّوْجَةِ:
4 - السُّكْنَى لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا وَاجِبَةٌ، وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَل لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ السُّكْنَى عَلَى زَوْجِهَا. قَال تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (1) فَوُجُوبُ السُّكْنَى لِلَّتِي هِيَ فِي صُلْبِ النِّكَاحِ أَوْلَى. وَلأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْمُعَاشَرَةَ بَيْنَ الأَْزْوَاجِ بِالْمَعْرُوفِ، قَال تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) وَمِنَ الْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَنْ يُسْكِنَهَا فِي مَسْكَنٍ تَأْمَنُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا، كَمَا أَنَّ الزَّوْجَةَ لاَ تَسْتَغْنِي عَنِ الْمَسْكَنِ؛ لِلاِسْتِتَارِ عَنِ الْعُيُونِ وَالاِسْتِمْتَاعِ وَحِفْظِ الْمَتَاعِ. فَلِذَلِكَ كَانَتِ السُّكْنَى حَقًّا لَهَا عَلَى زَوْجِهَا، وَهُوَ حَقٌّ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعِ أَهْل الْعِلْمِ (3) .

الْجَمْعُ بَيْنَ زَوْجَتَيْنِ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي دَارٍ لِكُل وَاحِدَةٍ بَيْتٌ فِيهِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ
__________
(1) سورة الطلاق / 6.
(2) سورة النساء / 19.
(3) بدائع الصنائع 4 / 15، المجموع شرح المهذب ص 256، تحفة المحتاج 7 / 443. مع حاشية الشرواني، والشرح الكبير للدردير 2 / 509، الفروع لابن مفلح 5 / 577.

(25/108)


امْرَأَتَيْنِ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْخُصُومَةِ الَّتِي نَهَى الشَّارِعُ عَنْهَا، وَمَنْعُ الْجَمْعِ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ حَقٌّ خَالِصٌ لَهُمَا فَيَسْقُطُ بِرِضَاهُمَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَذَهَبَ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحَقَّ لاَ يَسْقُطُ وَلَوْ رَضِيَتِ الزَّوْجَةُ بِهِ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي دَارٍ لِكُل وَاحِدَةٍ مِنَ الزَّوْجَتَيْنِ بَيْتٌ فِيهَا فَذَهَبَ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْقَوْل الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَاشْتَرَطَ الْجُمْهُورُ لِصِحَّةِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لِكُل بَيْتٍ مَرَافِقُهُ الْخَاصَّةُ بِهِ، وَغَلْقٌ يُغْلَقُ بِهِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ رِضَاهُمَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا (1) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ (وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي مَذْهَبِهِمْ) إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ الدَّارِ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا. فَإِنْ أَبَيْنَ مِنْهُ أَوْ كَرِهَتْهُ إِحْدَاهُمَا فَلاَ يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.

الْجَمْعُ بَيْنَ الزَّوْجَةِ وَأَقَارِبِ الزَّوْجِ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ:
6 - الْمُرَادُ بِأَقَارِبِ الزَّوْجِ هُنَا الْوَالِدَانِ وَوَلَدُ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجَةِ.
__________
(1) مجمع الأنهر 1 / 493 فتح القدير 4 / 207، نهاية المحتاج 7 / 186، كشاف القناع 5 / 196، الفروع 5 / 324، مواهب الجليل 4 / 13، الشرح الكبير 2 / 316.

(25/109)


فَالْجَمْعُ بَيْنَ الأَْبَوَيْنِ وَالزَّوْجَةِ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ لاَ يَجُوزُ (وَكَذَا غَيْرُهُمَا مِنَ الأَْقَارِبِ) وَلِذَلِكَ يَكُونُ لِلزَّوْجَةِ الاِمْتِنَاعُ عَنِ السُّكْنَى مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لأَِنَّ الاِنْفِرَادَ بِمَسْكَنٍ تَأْمَنُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا حَقُّهَا، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ جَبْرُهَا عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَةِ الشَّرِيفَةِ وَالْوَضِيعَةِ، وَقَالُوا بِعَدَمِ جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الزَّوْجَةِ الشَّرِيفَةِ وَالْوَالِدَيْنِ، وَبِجَوَازِ ذَلِكَ مَعَ الزَّوْجَةِ الْوَضِيعَةِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْوَضِيعَةِ وَالْوَالِدَيْنِ ضَرَرٌ عَلَيْهَا.
وَإِذَا اشْتَرَطَ الزَّوْجُ عَلَى زَوْجَتِهِ السُّكْنَى مَعَ الأَْبَوَيْنِ فَسَكَنَتْ، ثُمَّ طَلَبَتْ الاِنْفِرَادَ بِمَسْكَنٍ، فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ إِذَا أَثْبَتَتِ الضَّرَرَ مِنَ السَّكَنِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ عَاجِزًا لاَ يَلْزَمُهُ إِجَابَةُ طَلَبِهَا، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا يَلْزَمُهُ. وَقِيل: لاَ يَلْزَمُهُ غَيْرُ مَا شَرَطَتْهُ عَلَيْهِ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 2213، بستان العارفين للإمام النووي ص 34، كشاف القناع 3 / 53، الشرح الكبير 2 / 474.

(25/109)


وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الزَّوْجَةِ وَوَلَدِ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِهَا فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ، فَلاَ يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ إِذَا كَانَ وَلَدُ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِهَا كَبِيرًا يَفْهَمُ الْجِمَاعَ؛ لأَِنَّ السُّكْنَى مَعَهُ فِيهَا إِضْرَارٌ بِالزَّوْجَةِ، وَهَذَا حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ فَيَسْقُطُ بِرِضَاهَا.
وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ صَغِيرًا لاَ يَفْهَمُ الْجِمَاعَ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ إِسْكَانَهُ مَعَهَا جَائِزٌ، وَلَيْسَ لَهَا الْحَقُّ فِي الاِمْتِنَاعِ مِنَ السُّكْنَى مَعَهُ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الزَّوْجَةَ لاَ يَجُوزُ لَهَا الاِمْتِنَاعُ مِنَ السُّكْنَى مَعَ وَلَدِ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِهَا إِذَا كَانَتْ تَعْلَمُ بِهِ حَال الْبِنَاءِ. فَإِنْ كَانَتْ لاَ تَعْلَمُ بِهِ عِنْدَ الْبِنَاءِ بِهَا وَكَانَ لَهُ حَاضِنَةٌ، فَلِلزَّوْجَةِ الْحَقُّ فِي الاِمْتِنَاعِ مِنَ السُّكْنَى مَعَهُ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِهَا حَاضِنَةٌ غَيْرُ أَبِيهِ فَلَيْسَ لَهَا الاِمْتِنَاعُ عَنِ السُّكْنَى مَعَهُ (1) .

خُلُوُّ الْمَسْكَنِ مِنْ أَهْل الزَّوْجَةِ:
7 - الْمُرَادُ بِالأَْهْل هُنَا الأَْبَوَانِ أَوْ غَيْرُهُمَا مِنْ مَحَارِمِهَا وَوَلَدِهَا مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ. فَإِذَا أَرَادَتِ الزَّوْجَةُ أَنْ تُسْكِنَ أَحَدًا مِنَ الأَْهْل غَيْرِ وَلَدِهَا مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ. وَلِلزَّوْجِ
__________
(1) البحر الرائق 4 / 210، فتح القدير 3 / 335، العقود الدرية 1 / 71، الشرح الصغير 1 / 581، حاشية الدسوقي 2 / 474.

(25/110)


مَنْعُ الزَّوْجَةِ مِنْ إِسْكَانِهَا أَحَدًا مِنْ أَهْلِهَا مَعَهَا؛ لأَِنَّ الْمَنْزِل إِمَّا مِلْكُهُ أَوْ لَهُ حَقُّ الاِنْتِفَاعِ بِهِ، وَحَقُّ الزَّوْجِ فِي زَوْجَتِهِ مِنْ إِسْكَانِ أَقَارِبِهَا مَعَهَا يَسْقُطُ بِرِضَاهُ، فَإِذَا رَضِيَ الزَّوْجُ بِسُكْنَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِهَا مَعَهَا فَلاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ.
يَقُول الزَّيْلَعِيُّ: " وَهَذَا لأَِنَّهُمَا يَتَضَرَّرَانِ بِالسُّكْنَى مَعَ النَّاسِ، فَإِنَّهُمَا لاَ يَأْمَنَانِ عَلَى مَتَاعِهِمَا، وَيَمْنَعُهُمَا ذَلِكَ مِنْ كَمَال الاِسْتِمْتَاعِ وَالْمُعَاشَرَةِ، إِلاَّ أَنْ يَخْتَارَا ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، فَلَهُمَا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَيْهِ ".
وَإِذَا كَانَ الْمَسْكَنُ مِلْكًا لَهُمَا فَلاَ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ مَنْعُ أَهْلِهَا مِنَ السُّكْنَى مَعَهَا إِذَا أَرَادَتْ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَتْ تُرِيدُ إِسْكَانَ وَلَدِهَا مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهَا إِسْكَانُهُ إِلاَّ بِرِضَا الزَّوْجِ، فَإِنْ لَمْ يَرْضَ فَلاَ يَجُوزُ لَهَا إِسْكَانُهُ مَعَهُمَا. وَلَمْ يُفَرِّقِ الْجُمْهُورُ بَيْنَ عِلْمِ الزَّوْجِ بِوُجُودِ وَلَدٍ لَهَا وَقْتَ الْبِنَاءِ وَعَدَمِ عِلْمِهِ، أَوْ بَيْنَ وُجُودِ حَاضِنَةٍ لِلْوَلَدِ أَمْ لاَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ إِسْكَانِ وَلَدِهَا مِنْ غَيْرِهِ إِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِهِ وَقْتَ الْبِنَاءِ، أَوْ كَانَ لاَ يَعْلَمُ بِهِ وَلاَ

(25/110)


حَاضِنَ لَهُ، فَإِنْ كَانَ لاَ يَعْلَمُ بِهِ وَلَهُ حَاضِنٌ فَلَيْسَ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُسْكِنَهُ مَعَهَا عِنْدَهُمْ (1) .

زِيَارَةُ الأَْبَوَيْنِ أَوِ الْمَحَارِمِ لِلزَّوْجَةِ فِي مَسْكَنِهَا:
8 - يَجُوزُ لأَِبَوَيِ الزَّوْجَةِ وَوَلَدِهَا الْكَبِيرِ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ زِيَارَتُهَا فِي مَسْكَنِهَا الَّذِي يُسْكِنُهَا فِيهِ الزَّوْجُ فِي كُل جُمُعَةٍ مَرَّةً. وَأَمَّا وَلَدُهَا الصَّغِيرُ فَلَهُ حَقُّ الدُّخُول فِي كُل يَوْمٍ لِتَتَفَقَّدَ حَالَهُ، وَأَمَّا غَيْرُ الأَْبَوَيْنِ مِنَ الْمَحَارِمِ فَلَهُمْ حَقُّ زِيَارَتِهَا فِي كُل شَهْرٍ مَرَّةً. وَقِيل: فِي كُل عَامٍ مَرَّةً، وَهَذَا قَوْل الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: لِلزَّوْجِ مَنْعُ أَقَارِبِ الْمَرْأَةِ مِنَ الدُّخُول عَلَيْهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُ أَبَوَيْهَا مِنْ زِيَارَتِهَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، لَكِنْ إِنْ عَرَفَ بِقَرَائِنِ الْحَال حُدُوثَ ضَرَرٍ بِزِيَارَتِهِمَا، أَوْ زِيَارَةِ أَحَدِهِمَا فَلَهُ الْمَنْعُ (2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (زِيَارَة) .
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 58، البحر الرائق 4 / 210، نهاية المحتاج 7 / 597، كشاف القناع 3 / 117، البهجة شرح التحفة 1 / 412.
(2) قال الدسوقي في حاشيته معلقا على هذا التعبير: وهذا إذا كان الزوج يتضرر من دخولهم لها فإن كان لا يتضرر فليس لها منعهم من الدخول لها 2 / 473، الشرح الكبير مع الدسوقي عليه 2 / 473 البحر الرائق 2 / 412، والفتاوى الهندية 1 / 557، فتاوى خانية 1 / 429 مع الفتاوى الهندية، مغني المحتاج 3 / 432، كشاف القناع 2 / 117، ورد المحتار 3 / 664، شرح منتهى الإرادات 3 / 99.

(25/111)


الْمَسْكَنُ الشَّرْعِيُّ لِلزَّوْجَةِ:
9 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْمَسْكَنِ الشَّرْعِيِّ لِلزَّوْجَةِ هُوَ سَعَةُ الزَّوْجِ وَحَال الزَّوْجَةِ، قِيَاسًا عَلَى النَّفَقَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حَقٌّ مُتَرَتِّبٌ عَلَى عَقْدِ الزَّوَاجِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي النَّفَقَةِ هُوَ حَال الزَّوْجَيْنِ فَكَذَلِكَ السُّكْنَى وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (نَفَقَة) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - غَيْرَ الشِّيرَازِيِّ - إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْمَسْكَنِ الشَّرْعِيِّ هُوَ حَال الزَّوْجَةِ فَقَطْ. عَلَى خِلاَفِ قَوْلِهِمْ فِي النَّفَقَةِ؛ لأَِنَّ الزَّوْجَةَ مُلْزَمَةٌ بِمُلاَزَمَةِ الْمَسْكَنِ، فَلاَ يُمْكِنُهَا إِبْدَالُهُ، فَإِذَا لَمْ يُعْتَبَرْ حَالُهَا فَذَلِكَ إِضْرَارٌ بِهَا، وَالضَّرَرُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا. أَمَّا النَّفَقَةُ فَيُمْكِنُهَا إِبْدَالُهَا.
وَذَهَبَ الشِّيرَازِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي تَقْدِيرِ الْمَسْكَنِ هُوَ سَعَةُ الزَّوْجِ فَقَطْ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (1) وقَوْله تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ
__________
(1) سورة الطلاق / 6.

(25/111)


رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (1) وَهَاتَانِ الآْيَتَانِ فِي الْمُطَلَّقَةِ، فَالزَّوْجَةُ أَوْلَى.
قَال: إِنَّ النَّفَقَةَ يُفَرَّقُ فِيهَا بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ، وَالْوَاجِبُ يَكُونُ بِقَدْرِ حَال الْمُنْفِقِ يُسْرًا وَعُسْرًا وَتَوَسُّطًا، كَمَا جَاءَ فِي الآْيَةِ، كَذَلِكَ السُّكْنَى تَكُونُ عَلَى قَدْرِ يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ وَتَوَسُّطِهِ (2) .

اخْتِيَارُ مَكَانِ السُّكْنَى:
10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ السُّكْنَى بِزَوْجَتِهِ حَيْثُ شَاءَ، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَنُصُّونَ عَلَى أَنْ تَكُونَ السُّكْنَى بَيْنَ جِيرَانٍ.
وَقَال الْفُقَهَاءُ: وَإِذَا اشْتَكَتِ الزَّوْجَةُ مِنْ إِضْرَارِ الزَّوْجِ بِهَا يُسْكِنُهَا الْحَاكِمُ بَيْنَ قَوْمٍ صَالِحِينَ؛ لِيَعْلَمُوا صِحَّةَ دَعْوَاهَا (3) .

سُكْنَى الْمُؤْنِسَةِ:
11 - الْمُؤْنِسَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: هِيَ الَّتِي تُؤْنِسُ
__________
(1) سورة الطلاق / 7.
(2) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 8 / 229، شرح منهج الطلاب 2 / 102 مع البجيرمي عليه، ومغني المحتاج 3 / 432.
(3) البحر الرائق 4 / 211، التاج والإكليل 4 / 16 مع مواهب الجليل، تحفة المحتاج بشرح المنهاج 7 / 456 مع حواشي الشرواني وابن قاسم العبادي عليها، كشاف القناع 3 / 125، شرح منتهى الإرادات للبهوتي 3 / 183.

(25/112)


الزَّوْجَةَ إِذَا خَرَجَ الزَّوْجُ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا أَحَدٌ. وَالْمُؤْنِسَةُ وَاجِبَةٌ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا عِنْدَمَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ، كَخَوْفِ مَكَانِهَا أَوْ خَوْفِهَا عَلَى نَفْسِهَا مِنْ عَدُوٍّ يَتَرَبَّصُ بِهَا.
هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ (1) . وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ إِلْزَامَ الزَّوْجَةِ بِالإِْقَامَةِ بِمَكَانٍ لاَ تَأْمَنُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهَا، وَلاَ يُوجَدُ مَعَهَا فِيهِ مُؤْنِسٌ مِنَ الْمُضَارَّةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} (2) كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ الْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورُ بِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (3) .
وَحَمَل صَاحِبُ هَذَا الْقَوْل مِنَ الْحَنَفِيَّةِ قَوْل مَنْ قَال بِعَدَمِ اللُّزُومِ عَلَى مَا إِذَا أَسْكَنَهَا بَيْنَ جِيرَانٍ صَالِحِينَ، وَعَلَى عَدَمِ الاِسْتِيحَاشِ.
قَال الشُّرُنْبُلاَلِيُّ: قَال فِي النَّهْرِ: لَمْ نَجِدْ مِنْ كَلاَمِهِمْ ذِكْرَ الْمُؤْنِسَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُسْكِنُهَا بَيْنَ قَوْمٍ صَالِحِينَ بِحَيْثُ لاَ تَسْتَوْحِشُ. وَهَذَا ظَاهِرٌ مِنْ وُجُوبِهَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْبَيْتُ خَالِيًا مِنَ الْجِيرَانِ، وَلاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ تَخْشَى عَلَى عَقْلِهَا مِنْ سَعَتِهِ.
__________
(1) البحر الرائق 4 / 211، رد المحتار على الدر المختار 2 / 914، كشاف القناع 3 / 300.
(2) سورة الطلاق / 6.
(3) سورة النساء / 19.

(25/112)


وَالْمُقَرَّرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبِهِ قَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، أَنَّ الْمُؤْنِسَةَ لَيْسَتْ بِلاَزِمَةٍ عَلَى الزَّوْجِ (1) .

سُكْنَى الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ:
12 - الْمُعْتَدَّةُ عَنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ تُعْتَبَرُ زَوْجَةً؛ لأَِنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ قَائِمٌ، فَكَانَ الْحَال بَعْدَ الطَّلاَقِ كَالْحَال قَبْلَهُ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَهْل الْعِلْمِ جَمِيعًا عَلَى وُجُوبِ السُّكْنَى فِيهَا (2) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (3) .

سُكْنَى الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ:
13 - إِنْ كَانَتِ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ حَامِلاً فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ السُّكْنَى لَهَا. وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ وَغَيْرُهُ أَنَّ هُنَاكَ إِجْمَاعًا بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ السُّكْنَى لَهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (4)
قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَطْلَقَ اللَّهُ تَعَالَى السُّكْنَى لِكُل مُطَلَّقَةٍ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، فَكَانَتْ حَقًّا لَهُنَّ؛ لأَِنَّهُ لَوْ أَرَادَ غَيْرَ ذَلِكَ لَقَيَّدَ كَمَا فَعَل
__________
(1) عينة ذوي الأحكام هامش درر الحكام 1 / 416.
(2) بداية المجتهد لابن رشد 2 / 65.
(3) سورة الطلاق / 6.
(4) سورة الطلاق / 6.

(25/113)


فِي النَّفَقَةِ إِذْ قَيَّدَهَا بِالْحَمْل فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفَقُوا عَلَيْهِنَّ} (1) وَإِذَا كَانَتِ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ غَيْرَ حَامِلٍ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وُجُوبَ السُّكْنَى لَهَا، وَهُوَ رَأْيُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ.
وَالآْيَةُ السَّابِقَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْمُطَلَّقَاتِ، لأَِنَّهَا ذُكِرَتْ بَعْدَ قَوْله تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2) وَهَذِهِ انْتَظَمَتِ الرَّجْعِيَّةَ وَالْبَائِنَ. بِدَلِيل أَنَّ مَنْ بَقِيَ مِنْ طَلاَقِهَا وَاحِدَةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلْعِدَّةِ إِذَا أَرَادَ طَلاَقَهَا بِالآْيَةِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ - لَمَّا أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ طَلَّقَ زَوْجَهُ وَهِيَ حَائِضٌ: لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلاً (3) وَلَمْ
__________
(1) سورة الطلاق / 6.
(2) سورة الطلاق / 1.
(3) حديث: " ليطلقها طاهرا أو حاملا ". أخرجه مسلم (2 / 1093 ط. الحلبي) من حديث ابن عمر.

(25/113)


يُفَرِّقْ بَيْنَ التَّطْلِيقَةِ الأُْولَى وَالثَّانِيَةِ، فَإِذَنْ يَكُونُ قَوْله تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قَدْ تَضَمَّنَ الْبَائِنَ وَالرَّجْعِيَّ (1) .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا (2) بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، وَفِيهِ: فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ (3) . وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِسْقَاطَ السُّكْنَى، فَبَقِيَ عَلَى عُمُومِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} (4) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ عَنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ غَيْرَ حَامِلٍ، لاَ سُكْنَى لَهَا. وَبِهَذَا قَال ابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٌ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُوسٌ، وَالْحَسَنُ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ، لَكِنْ إِنْ أَرَادَ الْمُطَلِّقُ إِسْكَانَ الْبَائِنِ فِي مَنْزِلِهِ، أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يَصْلُحُ لَهَا تَحْصِينًا لِفِرَاشِهِ وَلاَ مَحْذُورَ
__________
(1) قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي ص 251، بدائع الصنائع 2 / 238، وأحكام القرآن 3 / 459، 4 / 2038، التاج والإكليل 4 / 162 مع مواهب الجليل، مغني المحتاج 3 / 401، المغني لابن قدامة 7 / 528.
(2) القائلين بوجوب السكن لها.
(3) حديث: " ليس لك عليه نفقة ". أخرجه مسلم (2 / 1114 ط الحلبي) من حديث فاطمة بنت قيس.
(4) سورة الطلاق / 6.

(25/114)


فِيهِ، لَزِمَهَا ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُ فِيهِ. وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّهُ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَنْفَقَ عَلَيْهَا نَفَقَةَ دُونٍ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ قَالَتْ: وَاَللَّهِ لأَُعْلِمَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَ لِي نَفَقَةٌ أَخَذْتُ الَّذِي يُصْلِحُنِي، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِي نَفَقَةٌ لَمْ آخُذْ مِنْهُ شَيْئًا. قَالَتْ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: لاَ نَفَقَةَ لَكِ وَلاَ سُكْنَى (1) .

سُكْنَى الْمُعْتَدَّةِ عَنْ وَفَاةٍ:
14 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ السُّكْنَى فِي مَال الْمُتَوَفَّى أَيَّامَ عِدَّتِهَا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ خِلاَفُ الأَْظْهَرِ - إِلَى أَنَّهُ لاَ سُكْنَى لَهَا عَلَى الْمُتَوَفَّى مِنْ مَالِهِ، وَهُوَ قَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأُمِّ سَلَمَةَ. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّمَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى لِلْمَرْأَةِ إِذَا كَانَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ (2) . وَيَقُول ابْنُ عَبَّاسٍ
__________
(1) موطأ مالك بشرح الزرقاني 3 / 63، كشاف القناع 3 / 301.
(2) حديث: " إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة ". أخرجه أحمد (6 / 373 ط الميمنية) والنسائي (6 / 143 - 144 ط. المكتبة التجارية) من حديث فاطمة بنت قيس أصل الحديث في الصحيحين من غير هذه الزيادة وقد ضعفها الزيلعي (نصب الراية 3 / 272 ط المجلس العلمي) .

(25/114)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَِزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْل غَيْرَ إِخْرَاجٍ} (1) نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الْمِيرَاثِ، بِمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُنَّ مِنَ الرُّبُعِ وَالثُّمُنِ، وَنُسِخَ أَجَل الْحَوْل بِأَنْ جَعَل أَجَلَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا (2) . وَقَالُوا: إِنَّ الْمَنْزِل الَّذِي تَرَكَهُ الْمَيِّتُ لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِلْمَيِّتِ، أَوْ مِلْكًا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِغَيْرِهِ لِكَوْنِهِ مُسْتَأْجَرًا أَوْ مُعَارًا فَقَدْ بَطَل الْعَقْدُ بِمَوْتِهِ فَلاَ يَحِل لأَِحَدٍ سُكْنَاهُ، إِلاَّ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ وَطِيبِ نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ (3) . وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِلْمَيِّتِ فَقَدْ صَارَ لِلْغُرَمَاءِ، أَوْ لِلْوَرَثَةِ، أَوْ لِلْوَصِيَّةِ، وَلاَ يَحِل لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مَال الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُمْ، لِلْحَدِيثِ الَّذِي تَقَدَّمَ. وَعَلَى ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهَا إِلاَّ مِقْدَارُ مِيرَاثِهَا إِنْ كَانَتْ وَارِثَةً فَقَطْ (4) .
__________
(1) سورة البقرة / 240.
(2) كشاف القناع ط الرياض 5 / 434، المغني لابن قدامة 7 / 528، نيل الأوطار للشوكاني 6 / 340.
(3) صحيح البخاري 2 / 226 (باب الخطبة) وحديث: " فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام " أخرجه البخاري (فتح - 3 / 574 ط السلفية) من حديث ابن عباس وأبي بكرة، ومسلم (2 / 889 ط الحلبي) من حديث جابر، واللفظ للبخاري.
(4) بدائع الصنائع 1 / 2042.

(25/115)


وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْظْهَرِ أَنَّ لَهَا السُّكْنَى وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ بِشَرْطَيْنِ: الشَّرْطُ الأَْوَّل أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ قَدْ دَخَل بِهَا، الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَسْكَنُ لِلْمَيِّتِ إِمَّا بِمِلْكٍ أَوْ بِمَنْفَعَةٍ مُؤَقَّتَةٍ، أَوْ بِإِجَارَةٍ وَقَدْ نَقَدَ كِرَاءَهُ قَبْل مَوْتِهِ. فَإِنْ كَانَ نَقَدَ الْبَعْضَ فَلَهَا السُّكْنَى بِقَدْرِ مَا نَقَدَ فَقَطْ.
وَقَال عَبْدُ الْحَقِّ مِنْهُمْ: إِنْ كَانَ أَكْرَاهَا سَنَةً مُعَيَّنَةً فَهِيَ أَحَقُّ بِالسُّكْنَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَقَدَ.
وَقَدْ حَكَى هَذَا الْقَوْل مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (1) . وَلِحَدِيثِ الْفُرَيْعَةِ بِنْتِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادَتِ التَّحَوُّل إِلَى أَهْلِهَا وَإِخْوَتِهَا قَال لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ (2) .
__________
(1) سورة البقرة / 234.
(2) حديث: " امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب ". أخرجه أبو داود (2 / 723 - 724 تحقيق عزت عبيد الدعاس) والترمذي (3 / 508 - 509 ط الحلبي) من حديث زينب بنت كعب قال الحافظ: (وأعله عبد الحق تبعا لابن حزم بجهالة حال زينب) التلخيص الحبير (3 / 240 ط شركة الطباعة الفنية) .

(25/115)


وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ سُكْنَى لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِنْ كَانَتْ حَائِلاً رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلاً فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ (1) .

سُكْنَى الْمُعْتَدَّةِ عَنْ فَسْخٍ:
15 - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الرَّاجِحِ فِي مَذْهَبِهِمْ - إِلَى أَنَّ لِلْمُعْتَدَّةِ عَنْ فَسْخٍ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ السُّكْنَى. وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْفَسْخُ بِسَبَبِهَا أَوْ بِسَبَبِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ السَّبَبُ الَّذِي تَرَتَّبَ الْفَسْخُ عَلَيْهِ مَعْصِيَةً مِنْهَا أَمْ غَيْرَ مَعْصِيَةٍ؛ لأَِنَّ الْقَرَارَ مِنَ الْبَيْتِ مُسْتَحَقٌّ لَهَا، وَلأَِنَّهَا مُعْتَدَّةٌ عَنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ بِفُرْقَةٍ فِي الْحَيَاةِ، فَأَشْبَهَتِ الْمُطَلَّقَةَ تَحْصِينًا لِلْمَاءِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ فَسْخٍ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءِ شُبْهَةٍ فَلاَ سُكْنَى لَهَا؛ لأَِنَّهُ لاَ سُكْنَى فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، فَحَال الْعَقْدِ كَحَال النِّكَاحِ، فَلاَ سُكْنَى لَهَا عَلَى الْوَاطِئِ أَوِ الزَّوْجِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ عَنْ فَسْخٍ لَهَا
__________
(1) التاج والإكليل مختصر خليل 4 / 162 من مواهب الجليل، المدونة الكبرى 5 / 157، شرح أبي عبد الله محمد الخرشي (4 / 156، مغني المحتاج 3 / 402، حاشية ابن عابدين 3 / 622، زاد المعاد 4 / 218، 219، نيل الأوطار للشوكاني 6 / 336، المغني 7 / 532.

(25/116)


السُّكْنَى فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَسَوَاءٌ اطَّلَعَ عَلَى مُوجِبِ الْفَسْخِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَمَاتِهِ، فَمَتَى كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَحْبُوسَةً عَنِ النِّكَاحِ بِسَبَبِهِ فَلَهَا السُّكْنَى.
وَقَالُوا: إِنَّ الْمَوْطُوءَةَ بِشُبْهَةٍ لَهَا السُّكْنَى فِي صُورَتَيْنِ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ، أَوْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ وَلَمْ يَدْخُل بِهَا. وَلَهَا السُّكْنَى عَلَى الزَّوْجِ إِذَا دَخَل بِهَا، سَوَاءٌ حَمَلَتْ مِنَ الْغَالِطِ أَمْ لَمْ تَحْمِل، إِلاَّ إِذَا نَفَى الزَّوْجُ حَمْلَهَا بِلِعَانٍ وَالْتَحَقَ الْحَمْل بِالْغَالِطِ، فَإِنَّ السُّكْنَى تَكُونُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلْمُعْتَدَّةِ عَنْ فَسْخٍ السُّكْنَى إِذَا كَانَتْ حَامِلاً. أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلاً فَلاَ سُكْنَى لَهَا. وَلَوْ وُطِئَتِ الرَّجْعِيَّةُ بِشُبْهَةٍ، أَوْ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ، ثُمَّ بَانَ بِهَا حَمْلٌ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الزَّوْجِ أَوْ مِنَ الْوَاطِئِ فَعَلَيْهِمَا الأُْجْرَةُ حَتَّى تَضَعَ، وَالنَّفَقَةُ بَعْدَ الْوَضْعِ حَتَّى يَنْكَشِفَ الأَْبُ مِنْهُمَا، فَيَرْجِعَ مَنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ عَلَى الآْخَرِ بِمَا أَنْفَعَهُ؛ لأَِنَّهُ أَدَّى عَنْهُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ (1) .
__________
(1) فتح القدير 3 / 342، بدائع الصنائع 4 / 2041، 2042، نهاية المحتاج 7 / 145، 146، شرح التحرير 2 / 347 من حاشية الشرقاوي. حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 452، حاشية الشيخ علي العدوي على الإمام أبي الحسن 2 / 105، كشاف القناع 3 / 301، 5 / 466 ط الرياض.

(25/116)


السُّكْنَى مَعَ الْمُعْتَدَّةِ:
16 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلرَّجُل الْمُطَلِّقِ مُسَاكَنَةُ الْمُعْتَدَّةِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّجْعِيَّةِ وَالْبَائِنِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الدَّارُ لَهُمَا وَمَعَهُمَا مَحْرَمٌ، يُشْتَرَطُ فِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا بَصِيرًا، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى.
فَإِنْ كَانَ الَّذِي مَعَهُمَا مَحْرَمًا لَهُ، فَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ أُنْثَى، وَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمَا مَحْرَمٌ لَهُ إِنْ كَانَ ذَكَرًا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ لِلرَّجُل الدُّخُول عَلَى مُطَلَّقَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ وَلَوْ كَانَ مَعَهَا مَنْ يَحْفَظُهَا، وَلاَ يُبَاحُ لَهُ السَّكَنُ مَعَهَا فِي دَارٍ جَامِعَةٍ لَهَا وَلِلنَّاسِ. وَحُجَّتُهُمْ فِي تَحْرِيمِ الاِخْتِلاَءِ بِهَا أَنَّ الطَّلاَقَ مُضَادٌّ لِلنِّكَاحِ الَّذِي قَدْ سَبَّبَ الإِْبَاحَةَ وَالإِْبْقَاءَ لِلضِّدِّ مَعَ وُجُودِ ضِدِّهِ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا وَجَبَ الاِعْتِدَادُ فِي مَنْزِل الزَّوْجِ فَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَسْكُنَا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ الْمُطَلِّقُ عَدْلاً، سَوَاءٌ كَانَ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا أَوْ ثَلاَثًا. وَالأَْفْضَل أَنْ يُحَال بَيْنَهُمَا فِي الْبَيْنُونَةِ بِسِتْرٍ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ فَاسِقًا
__________
(1) ` زاد المعاد 4 / 219، البجيرمي 4 / 85، كشاف القناع 3 / 276.

(25/117)


فَيُحَال بَيْنَهُمَا بِامْرَأَةٍ ثِقَةٍ تَقْدِرُ عَلَى الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ تَعَذَّرَ فَلْتَخْرُجْ هِيَ وَتَعْتَدَّ فِي مَنْزِلٍ آخَرَ. وَكَذَا لَوْ ضَاقَ الْبَيْتُ. وَإِنْ خَرَجَ هُوَ كَانَ أَوْلَى، وَلَهُمَا أَنْ يَسْكُنَا بَعْدَ الثَّلاَثِ، إِذَا لَمْ يَلْتَقِيَا الْتِقَاءَ الأَْزْوَاجِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ خَوْفُ فِتْنَةٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا يَظْهَرُ مِنْ كَلاَمِهِمْ أَنَّ لِلْمُطَلِّقِ السُّكْنَى مَعَ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ، كَمَا أَنَّ لَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ لَهُ، وَلاَ تَحْصُل الرَّجْعَةُ بِمُبَاشَرَتِهَا مِنَ الْقُبْلَةِ وَنَحْوِهَا، لَكِنْ تَحْصُل بِالْوَطْءِ، وَأَمَّا الْبَائِنُ فَلاَ سُكْنَى لَهَا، وَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ. فَلَوْ كَانَتْ دَارُ الْمُطَلِّقِ مُتَّسَعَةً لَهُمَا، وَأَمْكَنَهَا السُّكْنَى فِي غُرْفَةٍ مُنْفَرِدَةٍ، وَبَيْنَهُمَا بَابٌ مُغْلَقٌ (أَيْ بِمَرَافِقِهَا) وَسَكَنَ الزَّوْجُ فِي الْبَاقِي جَازَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا بَابٌ مُغْلَقٌ وَوُجِدَ مَعَهَا مَحْرَمٌ تَتَحَفَّظُ بِهِ جَازَ، وَإِلاَّ لَمْ يَجُزْ (1) .

سَكَنُ الْحَاضِنَةِ:
17 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُكْنَى الْحَاضِنَةِ، إِذَا لَمْ تَكُنْ هِيَ الأُْمَّ فِي حَال كَوْنِهَا فِي عِصْمَةِ الأَْبِ.
فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ لَهَا السُّكْنَى فِي مَال الْمَحْضُونِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلاَّ فَعَلَى مَنْ
__________
(1) البحر الرائق 4 / 168، تبيين الحقائق للزيلعي 3 / 37، الخرشي 4 / 85، 86، كشاف القناع ط الرياض 5 / 343، 434، المبسوط للسرخسي 5 / 209، البحر الرائق 4 / 220.

(25/117)


تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ. وَقَال آخَرُونَ: لاَ سُكْنَى لَهَا عَلَى مَنْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ، وَلَيْسَ لَهَا إِلاَّ أُجْرَةُ الْحَضَانَةِ (1) .
وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (حَضَانَة) .

سُكْنَى الْقَرِيبِ:
18 - تَجِبُ سُكْنَى الْقَرِيبِ الْمُعْسِرِ الْعَاجِزِ عَنِ الْكَسْبِ حَيْثُ تَجِبُ نَفَقَتُهُ بِشُرُوطٍ.
وَتَفْصِيلُهُ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَفَقَة) .

السُّكْنَى بِاعْتِبَارِهَا مُتَرَتِّبَةً عَلَى تَصَرُّفٍ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ:
19 - (1) إجَارَةُ السُّكْنَى.
(2) بَيَانُ مَحِل السُّكْنَى.
السُّكْنَى مَنْفَعَةٌ مِنَ الْمَنَافِعِ لاَ بُدَّ لَهَا مِنْ مَحَلٍّ تُسْتَوْفَى مِنْهُ. وَهَذَا الْمَحَل هُوَ الدُّورُ، وَبَيَانُ الْمَحَل شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الإِْجَارَةِ.
وَيَتَحَقَّقُ بَيَانُهُ بِبَيَانِ الْعَيْنِ الَّتِي وَقَعَتِ الإِْجَارَةُ عَلَى مَنْفَعَتِهَا، كَمَا إِذَا قَال: اسْتَأْجَرْتُ هَذِهِ الدَّارَ لِلسُّكْنَى، أَوْ يَقُول الْمُؤَجِّرُ: أَجَّرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ. فَلَوْ قَال: أَجَّرْتُكَ إِحْدَى هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ
__________
(1) مواهب الجليل 2 / 220، 4 / 40، ورد المحتار مع حاشية ابن عابدين 2 / 877، والفتاوى الكبرى لابن حجر المكي 4 / 216.

(25/118)


لِلسُّكْنَى، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ؛ لِجَهَالَةِ مَحَل الْعَقْدِ جَهَالَةً مُفْضِيَةً لِلنِّزَاعِ (1) .
وَلاَ يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَنْ يَسْكُنُهَا، وَلاَ مَا سَيَعْمَل فِيهَا؛ لأَِنَّ الْعُرْفَ كَافٍ فِي ذَلِكَ. وَلأَِنَّ مَنَافِعَ السُّكْنَى غَيْرُ مُتَفَاوِتَةٍ، وَالتَّفَاوُتُ فِيهَا مُتَسَامَحٌ فِيهِ عُرْفًا.
يَقُول الْكَاسَانِيُّ: وَلَمْ يُشْتَرَطْ بَيَانُ مَا يُعْمَل فِيهِ؛ لأَِنَّ الإِْجَارَةَ شُرِعَتْ لِلاِنْتِفَاعِ، وَالدُّورُ وَالْمَنَازِل وَالْبُيُوتُ وَنَحْوُهَا مُعَدَّةٌ لِلاِنْتِفَاعِ بِهَا لِلسُّكْنَى، وَمَنَافِعُ الْعَقَارِ الْمُعَدِّ لِلسُّكْنَى مُتَقَارِبَةٌ؛ لأَِنَّ النَّاسَ لاَ يَتَفَاوَتُونَ فِي السُّكْنَى، فَكَانَتْ مَعْلُومَةً مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ، وَكَذَا الْمَنْفَعَةُ لاَ تَتَفَاوَتُ بِكَثْرَةِ السُّكَّانِ وَقِلَّتِهِمْ إِلاَّ تَفَاوُتًا يَسِيرًا، وَإِنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ، وَكَذَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُسْكِنَ نَفْسَهُ وَأَنْ يُسْكِنَ غَيْرَهُ (2) .
وَتُرَاعَى فِي ذَلِكَ أَحْكَامُ الإِْجَارَةِ، انْظُرْ (إِجَارَة) .

الْوَصِيَّةُ بِالسُّكْنَى:
20 - الْوَصِيَّةُ بِالسُّكْنَى نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَصِيَّةِ، وَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً عَنِ الْوَقْتِ أَوْ مُقَيَّدَةً
__________
(1) البدائع 5 / 2569، الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 20، حاشية الرشيدي 2 / 12، والمقنع 2 / 202.
(2) البدائع المرجع السابق.

(25/118)


بِوَقْتٍ، وَفِي كُلٍّ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِمُعَيَّنٍ كَزَيْدٍ، أَوْ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ كَفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالسُّكْنَى مُطْلَقَةً وَهِيَ لِمُعَيَّنٍ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ لِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِسُكْنَى الدَّارِ مَا عَاشَ، فَإِذَا مَاتَ انْتَقَلَتِ السُّكْنَى إِلَى مِلْكِ صَاحِبِ الْعَيْنِ - وَهُمْ وَرَثَةُ الْمُوصِي - لِبُطْلاَنِهَا بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ.
وَيُشْتَرَطُ لاِنْتِفَاعِ الْمُوصَى لَهُ بِالسُّكْنَى أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْمُوصَى بِسُكْنَاهَا تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَال الْمُوصِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَى هَذِهِ الدَّارِ الْمُوصَى بِسُكْنَاهَا، فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ يَسْكُنُ ثُلُثَهَا وَوَرَثَةُ الْمُوصِي يَسْكُنُونَ ثُلُثَيْهَا، مَا دَامَ الْمُوصَى لَهُ حَيًّا، فَإِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ تُرَدُّ إِلَيْهِمِ الْمَنْفَعَةُ كَامِلَةً. وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالسُّكْنَى مُطْلَقَةً وَلِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَفِي جَوَازِهَا خِلاَفٌ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ، فَأَبُو حَنِيفَةَ يَرَى عَدَمَ جَوَازِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ، وَيَرَى صَاحِبَاهُ جَوَازَهَا.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالسُّكْنَى مُؤَقَّتَةً بِمُدَّةٍ مُحَدَّدَةٍ كَسَنَةٍ مَثَلاً، فَيُنْظَرُ: هَل لِلْمُوصِي مَالٌ آخَرُ غَيْرُ هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي أَوْصَى بِسُكْنَاهَا سَنَةً مُعَيَّنَةً؟ فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ سُلِّمَتِ الدَّارُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ لِيَسْكُنَهَا السَّنَةَ الْمَذْكُورَةَ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهَا الْوَرَثَةُ قُسِمَتْ سُكْنَى الدَّارِ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةِ أَثْلاَثًا، ثُلُثُهَا لِلْمُوصَى لَهُ، وَثُلُثَاهَا لِوَرَثَةِ الْمُوصَى. وَإِنْ

(25/119)


أَوْصَى بِسُكْنَاهَا سَنَةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ فَإِنَّ الدَّارَ تُسَلَّمُ لِلْمُوصَى لَهُ لِيَسْكُنَهَا إِذَا أَجَازَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ، فَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهَا قُسِمَتِ الدَّارُ أَثْلاَثًا يَسْكُنُ الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَهَا لِمُدَّةِ ثَلاَثِ سَنَوَاتٍ.
فَإِذَا انْتَهَتِ الْمُدَّةُ الْمَذْكُورَةُ رَدَّ الثَّلاَثَ إِلَى الْوَرَثَةِ، وَتَكُونُ بِذَلِكَ الدَّارُ جَمِيعُهَا لِلْوَرَثَةِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهَا، فَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ يَسَعُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ سُلِّمَتِ الدَّارُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ لِيَسْكُنَهَا السَّنَةَ الْمُحَدَّدَةَ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ لاَ يَسَعُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ فَإِنْ أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ سُلِّمَتِ الدَّارُ لِلْمُوصَى لَهُ لِيَسْكُنَهَا السَّنَةَ الْمُحَدَّدَةَ وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهَا فَإِنَّهُ يَسْكُنُ بِمِقْدَارِ الثُّلُثِ حَسَبَ التَّفْصِيل الْمُتَقَدِّمِ.
وَإِنْ عَيَّنَ الْمُوصِي السَّنَةَ الَّتِي أَوْصَى بِسُكْنَاهَا فَمَضَتْ تِلْكَ السَّنَةُ قَبْل وَفَاةِ الْمُوصِي، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَبْطُل بِفَوَاتِهَا؛ لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ لاَ تُنْتِجُ أَثَرَهَا إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي. وَإِذَا مَاتَ فِي أَثْنَاءِ تِلْكَ السَّنَةِ الْمُعَيَّنَةِ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَبْطُل فِيمَا مَضَى قَبْل وَفَاتِهِ. أَمَّا مَا يَبْقَى مِنَ السَّنَةِ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوصِي فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ الْحَقُّ فِي سُكْنَى هَذِهِ الْعَيْنِ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 4888، وما بعدها، تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 201 - 203، المبسوط 27 / 182، البحر الرائق 8 / 513، 514، الفتاوى الهندية 6 / 122.

(25/119)


وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالسُّكْنَى لِدَارٍ مُعَيَّنَةٍ إِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ يَسْتَحِقُّ الثُّلُثَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُؤَقَّتَةً فَيُنْظَرُ إِنْ كَانَ يَحْمِل الثُّلُثُ قِيمَتَهَا فَيَتَعَيَّنُ تَسْلِيمُ الْمُوصَى بِهِ إِلَى الْمُوصَى لَهُ لِيَسْكُنَهُ. وَإِنْ لَمْ يَحْمِل الثُّلُثُ قِيمَةَ الْعَيْنِ الْمُوصَى بِسُكْنَاهَا خُيِّرَ الْوَارِثُ بَيْنَ أَنْ يُجِيزَ الْوَصِيَّةَ أَوْ يَخْلَعَ ثُلُثَ جَمِيعِ التَّرِكَةِ مِنَ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ عِوَضًا أَوْ عَيْنًا أَوْ غَيْرَهُمَا، وَيُعْطِيَهُ لِلْمُوصَى لَهُ، وَبِهَذَا يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ جَمِيعِ مَا تَرَكَهُ الْمُوصِي (1) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ (2) أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلسُّكْنَى مُطْلَقَةً عَنِ التَّأْقِيتِ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ يَمْلِكُ سَكَنَ الدَّارِ، وَلَهُ حَقُّ تَأْجِيرِهَا وَإِعَارَتِهَا لِغَيْرِهِ وَالإِْيصَاءِ بِمَنْفَعَتِهَا وَتُورَثُ عَنْهُ مَنْفَعَتُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ. وَإِذَا كَانَتْ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، كَسَنَةٍ أَوْ كَحَيَاةِ الْمُوصَى لَهُ، فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ يَنْتَفِعُ بِالسُّكْنَى بِنَفْسِهِ الْمُدَّةَ الْمُعَيَّنَةَ أَوْ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ أَوْ أَنْ يُعِيرَ، وَلاَ تُورَثُ عَنْهُ إِذَا مَاتَ، لأَِنَّ
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب 6 / 384، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 412، الصاوي على الشرح الصغير 2 / 433.
(2) نهاية المحتاج 6 / 83، حاشية الشرواني وابن قاسم العبادي على تحفة المحتاج 7 / 562.

(25/120)


الْوَصِيَّةَ بِالسُّكْنَى هُنَا مِنْ قَبِيل الإِْبَاحَةِ وَلَيْسَتْ تَمْلِيكًا.
وَالْقَوْل بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُوصَى لَهُ تَأْجِيرُ الْمُوصَى بِهِ إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُقَيَّدَةً بِالاِسْتِعْمَال كَالسُّكْنَى؛ هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا؛ وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمِلْكَ هُنَا بِالْمَجَّانِ وَالتَّمْلِيكُ بِالإِْجَارَةِ تَمْلِيكٌ بِعِوَضٍ، وَهَذَا أَقْوَى مِنَ التَّمْلِيكِ مَجَّانًا، وَمَنْ مَلَكَ الأَْضْعَفَ لاَ يَمْلِكُ الأَْقْوَى (1) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَقُولُونَ: إِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِسُكْنَى الدَّارِ تُسَلَّمُ لَهُ الدَّارُ لِيَسْكُنَهَا، وَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ يَسَعُهَا الثُّلُثُ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُطْلَقَةً أَمْ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً بِمُدَّةٍ مُحَدَّدَةٍ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لاَ يَسَعُهَا الثُّلُثُ فَإِنَّ الَّذِي يَجُوزُ مِنْهَا هُوَ مَا يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ فَقَطْ.
وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ لِلْمُوصَى لَهُ بِسُكْنَى الدَّارِ أَنْ يُؤَجِّرَ مَا لَهُ حَقُّ السُّكْنَى فِيهِ (2) .

هِبَةُ السُّكْنَى:
21 - هِبَةُ الدَّارِ لِلسُّكْنَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ الإِْيجَابُ فِيهَا بِلَفْظٍ مُطْلَقٍ، كَقَوْل الْوَاهِبِ
__________
(1) الدر المختار 5 / 607.
(2) المقنع مع حاشيته 2 / 380.

(25/120)


لِشَخْصٍ آخَرَ: وَهَبْتُ لَكَ دَارِي لِلسُّكْنَى، أَوْ: مَلَّكْتُكَ سُكْنَى عِمَارَتِي. فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَكُونُ سُكْنَى الدَّارِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ إِذَا تَمَّتِ الْهِبَةُ مُسْتَوْفِيَةً لِلشُّرُوطِ وَالأَْرْكَانِ اللاَّزِمِ تَوَافُرُهَا فِيهَا. وَيَجُوزُ لَهُ كَذَلِكَ أَنْ يُسْكِنَهَا لِغَيْرِهِ بِالإِْجَارَةِ أَوْ بِالإِْعَارَةِ (1) . وَمَلَكِيَّةُ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَال لِلْهِبَةِ غَيْرُ لاَزِمَةٍ، فَيَجُوزُ لِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الإِْيجَابُ مُقَيَّدًا فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (هِبَة، وَعُمْرَى، وَرُقْبَى) . وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَجُوزُ لِلْوَاهِبِ اسْتِرْجَاعُ السُّكْنَى فِيهِ إِذَا لَمْ يُقَيِّدْ بِوَقْتٍ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (2) فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَاهِبِ اسْتِرْجَاعُ الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ لِلسُّكْنَى أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ، وَلاَ تَتَقَيَّدُ فِي الرُّجُوعِ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ؛ لأَِنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ قَبِيل الْعَارِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (3) فِي قَوْلِهِمُ الثَّانِي إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْوَاهِبِ هِبَةَ السُّكْنَى
__________
(1) تحفة المحتاج 6 / 296.
(2) بدائع الصنائع للكاساني 8 / 3673، المقنع لابن قدامة المقدسي 2 / 336، مغني المحتاج 2 / 2399.
(3) مواهب الجليل للحطاب 6 / 61، 62، مغني المحتاج 4 / 399.

(25/121)


أَنْ يَسْتَرْجِعَ السُّكْنَى إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ. فَإِذَا مَاتَ (الْوَاهِبُ) قَبْل مَوْتِ (الْمَوْهُوبِ لَهُ) فَإِنَّ الْمَسْكَنَ يَرْجِعُ إِلَى الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِ (الْمَوْهُوبِ لَهُ) . وَأَصْحَابُ هَذَا الرَّأْيِ يَعْتَبِرُونَ الْمَسْكَنَ كَالْمُعَمَّرِ.

حِيَازَةُ الدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ:
22 - الْمِلْكِيَّةُ لِلدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ تَثْبُتُ بِالْقَبْضِ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) ، وَتَثْبُتُ الْمِلْكِيَّةُ (2) عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ لِتَمَامِ الْعَقْدِ الْحِيَازَةَ لِلدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا وَهَبَ شَخْصٌ لآِخَرَ دَارًا فَإِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ تَثْبُتُ لَهُ مَلَكِيَّةُ الدَّارِ، وَتُصْبِحُ نَافِذَةً عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ بِحِيَازَةِ هَذِهِ الدَّارِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بَالِغًا رَشِيدًا.
فَإِذَا كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَيَقُومُ وَلِيُّهُ مَقَامَهُ نِيَابَةً عَنْهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ الْوَاهِبَ. فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ هُوَ الْوَاهِبَ فَإِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقُولُونَ تُخْلَى الدَّارُ الْمَوْهُوبَةُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَلاَ يَسْكُنُهَا الْوَلِيُّ، فَإِنْ سَكَنَهَا بَطَلَتِ الْهِبَةُ (3) .
__________
(1) المبسوط 12 / 48، مغني المحتاج 2 / 400، المقنع 2 / 332.
(2) كفاية الطالب الرباني 2 / 215، الخرشي 7 / 105.
(3) التاج والإكليل للمواق هامش مواهب الجليل للحطاب 6 / 60.

(25/121)


وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الأَْبَ لَوْ وَهَبَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ الدَّارَ الَّتِي يَسْكُنُهَا، وَكَانَتْ مَشْغُولَةً بِمَتَاعِهِ (أَيِ الْوَاهِبِ) فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ لَهُ، وَلاَ يَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ الْهِبَةِ. لَكِنْ لَوْ أَسْكَنَهَا الأَْبُ لِغَيْرِهِ بِأَجْرٍ فَإِنَّ هَذَا لاَ يَجُوزُ. وَلَوْ أَسْكَنَهَا لِغَيْرِهِ بِدُونِ أَجْرٍ جَازَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ (1) .
وَاتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ وَهَبَتْ دَارَهَا لِزَوْجِهَا وَهِيَ سَاكِنَةٌ فِيهَا وَلَهَا أَمْتِعَةٌ فِيهَا، وَالزَّوْجُ سَاكِنٌ مَعَهَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْهِبَةَ صَحِيحَةٌ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَهَبَ الزَّوْجُ دَارَ سُكْنَاهُ لِزَوْجَتِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ؛ لأَِنَّ السُّكْنَى لِلرَّجُل لاَ لِلْمَرْأَةِ، فَإِنَّهَا تَبَعٌ لِزَوْجِهَا (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ خُلُوِّ الدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ مِنْ أَمْتِعَةِ غَيْرِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَإِنْ كَانَتْ مَشْغُولَةً بِهَا، وَاسْتَمَرَّتْ فِيهَا فَإِنَّ الْهِبَةَ لاَ تَصِحُّ. وَلاَ فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْهِبَةِ لِلأَْجْنَبِيِّ أَوْ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَيَقُولُونَ بِجَوَازِ أَنْ يَسْكُنَ الأَْبُ فِي دَارِ سُكْنَاهُ الْمَوْهُوبَةِ لِوَلَدِهِ الْمَشْمُول بِوِلاَيَتِهِ، وَعَلَيْهِ الأُْجْرَةُ بَعْدَ تَمَامِ الْهِبَةِ (3) .
__________
(1) منحة الخالق على البحر الرائق 7 / 288.
(2) انظر الخرشي 7 / 110، 111، منحة الخالق على البحر الرائق 7 / 288.
(3) الفتاوى الكبرى لابن حجر 7 / 362.

(25/122)


وَقْفُ الْعَيْنِ لِلسُّكْنَى:
23 - الْوَقْفُ مَشْرُوعٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ جَائِزٌ لاَزِمٌ إِنْ وَقَعَ، وَوَقْفُ السُّكْنَى مُخْتَلَفٌ فِيهِ عِنْدَهُمْ؛ لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي وَقْفِ الْمَنَافِعِ.
فَيَرَى الْجُمْهُورُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَمَنْ قَال بِجَوَازِ الْوَقْفِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ وَقْفَ الْمَنَافِعِ دُونَ الذَّاتِ لاَ يَصِحُّ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ وَقْفَ السُّكْنَى بِاعْتِبَارِهَا مَنْفَعَةً مِنَ الْمَنَافِعِ جَائِزٌ وَصَحِيحٌ شَرْعًا.
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَقْفِ الْخُلُوِّ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى صِحَّةِ وَقْفِهِ وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ وَقْفِهِ (1) .
وَانْظُرْ بَحْثَ (خُلُوف 22) (وَوَقْف) .

سُكْنَى الْمُرْتَهِنِ لِلْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ:
24 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لاَ يَحِل لَهُ سُكْنَى الدَّارِ الْمَرْهُونَةِ إِذَا لَمْ يَأْذَنِ الرَّاهِنُ؛ لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ إِنَّمَا تُمْلَكُ بِمِلْكِ الأَْصْل، وَالأَْصْل
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 259، شرح منتهى الإرادات 2 / 478، المبسوط 12 / 27 وما بعدها، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 71، فتح العلي المالك 4 / 250، 251، حاشية الشيخ علي العدوي على الخرشي 7 / 79.

(25/122)


مَمْلُوكٌ لِلرَّاهِنِ، فَالْمَنْفَعَةُ تَكُونُ عَلَى مِلْكِهِ، وَلاَ يَسْتَوْفِيهَا غَيْرُهُ إِلاَّ بِإِيجَابِهَا لَهُ. وَعَقْدُ الرَّهْنِ لاَ يَتَضَمَّنُ إِلاَّ مِلْكَ الْيَدِ لِلْمُرْتَهِنِ لاَ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ مَالُهُ فِي الاِنْتِفَاعِ بَعْدَ عَقْدِ الرَّاهِنِ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ.
وَهَذَا إِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الرَّاهِنُ، فَإِنْ أَذِنَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ بِالسُّكْنَى فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي سُكْنَى الرَّاهِنِ لِلدَّارِ الْمَرْهُونَةِ (1) . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (رَهْن) .

غَصْبُ السُّكْنَى:
25 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْغَصْبَ يَقَعُ عَلَى السُّكْنَى؛ لأَِنَّهَا مَنْفَعَةُ عَقَارٍ وَغَصْبُ الْعَقَارِ مُمْكِنٌ، فَمَنْ مَنَعَ آخَرَ مِنْ سُكْنَى دَارِهِ يَكُونُ غَاصِبًا لِلسُّكْنَى، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ ظَلَمَ قَيْدَ شِبْرٍ مِنَ الأَْرْضِ طَوَّقَهُ اللَّهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ وَفِي لَفْظٍ: مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنَ الأَْرْضِ (2) .
__________
(1) الشرح الكبير للدردير 3 / 208، 218، وحاشية الدسوقي عليه، المبسوط 21 / 106، تحفة المحتاج 5 / 76 كشاف القناع 2 / 155، والمغني 4 / 434، ومجمع الضمانات ص 604، 609.
(2) حديث: " من ظلم قيد شبر من الأرض ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 292، 293 ط - السلفية) ومسلم (3 / 1231 - 1232 ط الحلبي) من حديث عائشة.

(25/123)


فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُل بِمَنْطُوقِهِ عَلَى إِمْكَانِ وُقُوعِ الْغَصْبِ عَلَى الْعَقَارِ؛ لأَِنَّهُ أَسْنَدَ الْغَصْبَ إِلَى الأَْرْضِ، وَالإِْسْنَادُ دَلِيل الْوُقُوعِ وَإِمْكَانُهُ فَإِذَا ثَبَتَ وُقُوعُ الْغَصْبِ عَلَى الْعَقَارِ فَيَثْبُتُ عَلَى مَنَافِعِهِ الَّتِي مِنْهَا سُكْنَى الدُّورِ.
وَلأَِنَّ الْغَصْبَ يَتَحَقَّقُ بِإِثْبَاتِ يَدِ الْغَاصِبِ وَإِزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي الدَّارِ وَالْعَقَارِ. فَالْغَاصِبُ يُثْبِتُ يَدَهُ الْمُعْتَدِيَةَ وَيُزِيل يَدَ الْمَالِكِ الْمُحِقَّةَ، وَالْيَدُ هِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّصَرُّفِ، وَعَدَمُهَا يَتَمَثَّل فِي عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ. فَإِنْ أَثْبَتَ الْغَاصِبُ يَدَهُ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ السُّكْنَى لاَ يَتَحَقَّقُ فِيهَا الْغَصْبُ؛ لأَِنَّهَا مَنْفَعَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَالٍ، وَالْغَصْبُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي الْمَال. فَلَوْ غَصَبَ دَارًا لَمْ يَضْمَنْ مَنَافِعَهَا بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ. وَاسْتَثْنَوْا صُوَرًا، مِنْهَا: الْوَقْفُ، وَدَارُ الْيَتِيمِ، وَالْمُعَدُّ لِلاِسْتِغْلاَل (1) . وَانْظُرْ (ضَمَان) (وَغَصْب) .

مَتَى يَتَحَقَّقُ الْغَصْبُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ:
26 - الْمَالِكِيَّةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الاِسْتِيلاَءِ عَلَى الذَّاتِ وَالاِسْتِيلاَءِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ. وَتَرَتَّبَ عَلَى
__________
(1) بداية المجتهد لابن رشد ص 342، نهاية المحتاج 4 ص 109، كشاف القناع 2 / 340، رد المحتار على الدر المختار 5 / 162.

(25/123)


ذَلِكَ أَنَّ الْغَاصِبَ لِلدَّارِ لاَ يَضْمَنُ الأُْجْرَةَ إِلاَّ إِذَا سَكَنَ بِالْفِعْل أَوْ أَسْكَنَهَا لِغَيْرِهِ. أَمَّا الْمُتَعَدِّي (وَهُوَ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي شَيْءٍ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ دُونَ قَصْدِ التَّمَلُّكِ (1)) فَيَجِبُ عَلَيْهِ الأُْجْرَةُ فِي جَمِيعِ الْحَالاَتِ لِمَالِكِ الْمَنْفَعَةِ (2) .
وَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ الْغَصْبَ يَقَعُ بِدُخُول الدَّارِ، وَإِزْعَاجِ سُكَّانِهَا، سَوَاءٌ كَانَ عِنْدَهُ نِيَّةٌ فِي الاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهَا وَالْحِيَازَةِ لِمَنَافِعِهَا أَمْ لَمْ يَكُنْ.
وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ بِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ عِنْدَ إِثْبَاتِ الْيَدِ الْمُتَعَدِّيَةِ. وَدَلِيل ثُبُوتِ الْيَدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّهُ لَوْ تَنَازَعَ الْخَارِجُ وَالدَّاخِل فِيهَا حُكِمَ لِمَنْ هُوَ فِيهَا دُونَ الْخَارِجِ عَنْهَا (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْغَصْبَ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِالدُّخُول لِلدَّارِ بِقَصْدِ الاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهَا، أَمَّا الدُّخُول بِدُونِ هَذِهِ النِّيَّةِ فَلاَ يُسَمَّى غَصْبًا، وَلِهَذَا قَالُوا فِي كُتُبِهِمْ: " لاَ يَحْصُل الْغَصْبُ مِنْ غَيْرِ اسْتِيلاَءٍ، فَلَوْ دَخَل أَرْضَ إِنْسَانٍ أَوْ دَارَهُ لَمْ يَضْمَنْهَا بِدُخُولِهِ، سَوَاءٌ دَخَلَهَا بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبُهَا فِيهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ (4) ".
__________
(1) فتح العلي المالك 2 / 185.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 414.
(3) مغني المحتاج 2 / 276.
(4) كشاف القناع 4 / 77 ط الرياض.

(25/124)


الصُّلْحُ عَلَى السُّكْنَى عَنْ دَعْوَى غَيْرِ مَنْفَعَةٍ:
27 - يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْ دَعْوَى الْمَال عَلَى السُّكْنَى، وَهَذَا الصُّلْحُ إجَارَةٌ لِلْمَصَالِحِ بِهِ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا شُرُوطُهَا؛ لأَِنَّ الْعَيْنَ الْمُدَّعَى بِهَا أُجْرَةٌ لِلسُّكْنَى (سَوَاءٌ أَكَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ أَمْ عَنْ إِنْكَارٍ أَمْ عَنْ سُكُوتِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) .
وَمِثَالُهُ: أَنْ يَقُول: صَالَحْتُكَ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ عَلَى سُكْنَى دَارٍ أُخْرَى مُدَّةً مَعْلُومَةً.
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُدَّعِي يَتْرُكُ الدَّارَ الْمُدَّعَى بِهَا وَيَسْكُنُ الدَّارَ الْمُصَالَحَ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِصِحَّةِ الصُّلْحِ عَلَى السُّكْنَى عِدَّةَ شُرُوطٍ ذُكِرَتْ عِنْدَهُمْ فِي الصُّلْحِ عَلَى الْمَنَافِعِ، مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى بِهِ مُعَيَّنًا حَاضِرًا، كَأَنْ يَدَّعِيَ بِهَذَا الْعَبْدِ أَوْ هَذَا الْكِتَابِ وَهُوَ بِيَدِهِ، فَيُصَالِحَهُ بِسُكْنَى دَارِهِ.
فَلَوْ كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ كَدَرَاهِمَ، فَلاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَيْهَا بِالسُّكْنَى لأَِنَّهُ فَسْخُ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ (1) .
وَذَهَبَ الْمُتَيْطِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ
__________
(1) ويظهر من شرط المالكية لصحة الصلح على السكنى أن الصلح بالسكن عن السكنى لا يصلح عندهم، انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 280، 281.

(25/124)


الصُّلْحِ عَلَى سُكْنَى دَارٍ (1) . وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَلاَّ يَكُونَ الصُّلْحُ عَلَى سُكْنَى الْعَيْنِ الْمُدَّعَى بِهَا، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِلَى الْمُدَّعِي. وَعَلَيْهِ فَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي فِي يَدِهِ الدَّارَ سَنَةً فِيهَا. ثُمَّ يَدْفَعَهَا إِلَى الْمُدَّعِي لَمْ يَجُزْ؛ لأَِنَّ الْعَيْنَ وَمَنَافِعَهَا مِلْكٌ لِلْمُقَرِّ لَهُ. فَكَيْفَ يَتَعَوَّضُ مِنْ مِلْكِهِ أَوْ مَنْفَعَتِهِ. فَإِذَا أَسْكَنَ الْمُدَّعِي الْمُقِرُّ - الْمُدَّعَى عَلَيْهِ - فَيَكُونُ هَذَا تَبَرُّعًا مِنْ صَاحِبِ الْبَيْتِ بِمَنَافِعِهِ لَهُ، فَلَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ الدَّارِ مَتَى شَاءَ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي فِي يَدِهِ الدَّارُ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَل بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ مَعْلُومَةً.
وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ لِنَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ الْمَشْرُوطَةِ، فَكَانَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فِي زَعْمِهِ، فَيَجُوزُ (3) .

الصُّلْحُ عَنِ السُّكْنَى:
28 - يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنِ السُّكْنَى عَلَى مَالٍ، أَوْ
__________
(1) التاج والإكليل 5 / 81.
(2) حاشية الشرقاوي على التحرير 4 / 66 مع الشرح المذكور، كشاف القناع 2 / 191.
(3) البدائع 7 / 3511.

(25/125)


عَلَى خِدْمَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ إِذَا كَانَا مُخْتَلِفَيِ الْجِنْسِ (1) .
وَأَمَّا الصُّلْحُ عَنِ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى فَفِيهَا خِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (صُلْح) .

سُكْنَى أَهْل الذِّمَّةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ:
29 - سُكْنَى أَهْل الذِّمَّةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إِنْ كَانَتْ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَلاَ تَجُوزُ بِاتِّفَاقٍ (2) .
لَمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: أَوْصَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ، قَال: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوُفُودَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ، وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثِ (3) ، وَلِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَبْقَيَنَّ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ (4) .
__________
(1) حاشية العلامة محمد أبي السعود 3 / 179، وبدائع الصنائع 7 / 3528، وكشاف القناع 2 / 192.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 29، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 201، الأم 4 / 100، (طبع كتاب الشعب) ، والمغني لابن قدامة 8 / 527.
(3) حديث: " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ". أخرجه البخاري (فتح60 / 170 - ط السلفية) من حديث ابن عباس.
(4) حديث: " لا يبقين دينان في جزيرة العرب ". أخرجه مالك في الموطأ (2 / 892 - ط الحلبي) ومن طريق البيهقي (9 / 208 ط دائرة المعارف الهندية) عن عمر بن عبد العزيز مرسلا.

(25/125)


وَهَذَا الْحُكْمُ وَإِنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْخِلاَفَ وَقَعَ فِي الْمُرَادِ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ.
وَأَمَّا سُكْنَى أَهْل الذِّمَّةِ فِي غَيْرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَهِيَ جَائِزَةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ الْمَذْكُورِينَ، نَظِيرُ مَا يَدْفَعُونَهُ مِنْ جِزْيَةٍ، عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:

أَوَّلاً: مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:
30 - إِذَا أَرَادَ الذِّمِّيُّ السُّكْنَى مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ سُكْنَاهُ بِالشِّرَاءِ لِدَارٍ، أَوْ بِاسْتِئْجَارِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
فَإِذَا أَرَادَ الذِّمِّيُّ أَنْ يَشْتَرِيَ دَارًا فِي الْمِصْرِ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ تُبَاعَ مِنْهُ، وَإِنِ اشْتَرَاهَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا مِنْ مُسْلِمٍ، وَقِيل: لاَ يُجْبَرُ.
وَقَال السَّرَخْسِيُّ: إِنْ مَصَّرَ الإِْمَامُ فِي أَرَاضِيهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ - كَمَا مَصَّرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْبَصْرَةَ وَالْكُوفَةَ - فَاشْتَرَى بِهَا أَهْل الذِّمَّةِ دُورًا وَسَكَنُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يُمْنَعُوا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّا قَبِلْنَا مِنْهُمْ عَقْدَ الذِّمَّةِ لِيَقِفُوا عَلَى مَحَاسِنِ الدِّينِ، فَعَسَى أَنْ يُؤْمِنُوا، وَاخْتِلاَطُهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ وَالسَّكَنُ مَعَهُمْ يُحَقِّقُ هَذَا الْمَعْنَى.
وَقَيَّدَ شَمْسُ الأَْئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ جَوَازَ السُّكْنَى بِقَوْلِهِ: هَذَا إِذَا قَلُّوا وَكَانُوا بِحَيْثُ لاَ تَتَعَطَّل

(25/126)


جَمَاعَاتُ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ تَتَقَلَّل الْجَمَاعَةُ بِسُكْنَاهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. فَأَمَّا إِذَا كَثُرُوا عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إِلَى تَعْطِيل بَعْضِ الْجَمَاعَاتِ أَوْ تَقْلِيلِهَا مُنِعُوا مِنَ السُّكْنَى وَأُمِرُوا أَنْ يَسْكُنُوا نَاحِيَةً لَيْسَ فِيهَا لِلْمُسْلِمِينَ جَمَاعَةٌ. قَال: وَهَذَا مَحْفُوظٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الأَْمَالِي.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: قَال الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ: إِنَّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعَوَّل عَلَيْهِ التَّفْصِيل، فَلاَ نَقُول بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا، وَلاَ بِعَدَمِهِ مُطْلَقًا، بَل يَدُورُ الْحُكْمُ عَلَى الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَالضَّرَرِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ.
وَإِذَا تَكَارَى أَهْل الذِّمَّةِ دُورًا فِي الْمِصْرِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَسْكُنُوا فِيهَا جَازَ؛ لِعَوْدِ نَفْعِهِ إِلَيْنَا؛ وَلِيَرَوْا أَفْعَالَنَا فَيُسْلِمُوا. وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْكِرَاءِ وَالشِّرَاءِ، فَكُل مَا قِيل فِي الشِّرَاءِ يَأْتِي هُنَا فِي الْكِرَاءِ (1) .
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِصِحَّةِ سُكْنَى الذِّمِّيِّ أَنْ تَكُونَ حَيْثُ يَنَالُهُ حُكْمُ الإِْسْلاَمِ، وَلاَ يَسْكُنُ الذِّمِّيُّ حَيْثُ يُخْشَى مِنْهُ أَنْ يَنْكُثَ. فَإِذَا سَكَنَ فِي أَمَاكِنَ بِحَيْثُ لاَ تَنَالُهُ أَحْكَامُنَا، فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالاِنْتِقَال. فَإِنْ أَبَوْا قُوتِلُوا.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 209، 210.

(25/126)


وَنَقَل الْحَطَّابُ قَوْل بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ أَهْل جِهَةٍ، وَخِفْنَا عَلَيْهِمُ الاِرْتِدَادَ إِذَا فُقِدَ الْجَيْشُ، فَإِنَّهُمْ يُؤْمَرُونَ بِالاِنْتِقَال (1) .

بَيْعُ مَكَانِ سُكْنَى الْمُفْلِسِ لِحَقِّ غُرَمَائِهِ:
31 - إِذَا كَانَ لِلْمُفْلِسِ دَارٌ فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنْ تُبَاعَ فِي دَيْنِهِ وَيُكْتَرَى لَهُ بَدَلُهَا، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا لاَ تُبَاعُ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ نَفِيسَةً، فَتُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِبَعْضِ ثَمَنِهَا مَسْكَنٌ، وَيُصْرَفُ الْبَاقِي إِلَى الْغُرَمَاءِ. وَانْظُرْ بَحْثَ (إِفْلاَس) ف 49.

حُكْمُ بَيْعِ مَحَل السُّكْنَى لِلْحَجِّ:
32 - الْحَجُّ فَرْضٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ حُرٍّ بِشَرْطِ الاِسْتِطَاعَةِ، وَهِيَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ مَعَ الرُّفْقَةِ الآْمِنَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَهَل يَكُونُ مَنْ كَانَ لَهُ بَيْتٌ يَسْكُنُهُ قَادِرًا عَلَى الْحَجِّ بِأَنْ يَبِيعَهُ وَيَحُجَّ بِثَمَنِهِ؟ .
قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْقَوْل الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ السَّكَنَ إِذَا كَانَ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ، بِأَنْ كَانَ لاَ بُدَّ مِنْهُ لِسُكْنَاهُ أَوْ لِسُكْنَى مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِسْكَانُهُ، لاَ يُبَاعُ لِلْحَجِّ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَسْكَنُ فَاضِلاً عَنْ حَاجَتِهِ، أَوْ
__________
(1) الحطاب مع التاج والإكليل 3 / 381، ونهاية المحتاج 8 / 81، 85، المغني لابن قدامة 8 / 527.

(25/127)


كَانَ نَفِيسًا، وَلَوْ أَبْدَلَهُ لَوَفَّى التَّفَاوُتُ بِنَفَقَةِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ بَيْعُ الْفَاضِل، أَوِ اسْتِبْدَال النَّفِيسِ بِمَسْكَنٍ يَلِيقُ بِمِثْلِهِ لِلْحَجِّ. وَالرَّأْيُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَالْمُؤْنَةِ فَاضِلاً عَنْ مَسْكَنِهِ اللاَّئِقِ الْمُسْتَغْرِقِ لِحَاجَتِهِ. وَلِهَذَا قَالُوا بِبَيْعِ الْمَسْكَنِ لِلْحَجِّ، قِيَاسًا عَلَى بَيْعِهِ فِي الدَّيْنِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَلْزَمُهُ بَيْعُ مَسْكَنِهِ لأَِجْل الْحَجِّ مُطْلَقًا (1) .

حُرْمَةُ مَحَل السُّكْنَى:
33 - جَعَل اللَّهُ لِلْمَسْكَنِ حُرْمَةً، فَلاَ يَجُوزُ الدُّخُول فِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ. يَقُول اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (2) . وَيَقُول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اطَّلَعَ فِي دَارِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَفَقَأُوا عَيْنَهُ فَقَدْ أُهْدِرَتْ عَيْنُهُ (3) .
__________
(1) الدر المختار شرح تنوير الأبصار بحاشية ابن عابدين 2 / 196، والحطاب وبهامشه التاج والإكليل 2 / 504، ومغني المحتاج لمعرفة ألفاظ المنهاج 1 / 449، المغني لابن قدامة 3 / 172.
(2) سورة النور / 27.
(3) حديث: " من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فقد هدرت عينه ". أخرجه أبو داود (5 / 366 - تحقيق عزت عبيد الدعاس) وبنحوه أخرجه مسلم (3 / 1699 - ط الحلبي) والنسائي (8 / 61 - ط المكتبة التجارية) من حديث أبي هريرة.

(25/127)


وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الاِسْتِئْذَانُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ فَادْخُل وَإِلاَّ فَارْجِعْ (1) . فَالسُّنَّةُ فِي الاِسْتِئْذَانِ ثَلاَثُ مَرَّاتٍ لاَ يُزَادُ عَلَيْهَا، قَال مَالِكٌ: الاِسْتِئْذَانُ ثَلاَثٌ لاَ أُحِبُّ أَنْ يَزِيدَ أَحَدٌ عَلَيْهِ، إِلاَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ، فَلاَ أَرَى بَأْسًا أَنْ يَزِيدَ إِذَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ.
وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِئْذَان) .

حُكْمُ دُخُول مَحَل سُكْنَى الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ:
34 - مَنْ دَخَل دَارَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ؛ لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِدُخُول مِلْكِ غَيْرِهِ دُونَ إِذْنٍ، فَكَانَ لِصَاحِبِ الدَّارِ مُطَالَبَتُهُ بِتَرْكِ التَّعَدِّي. كَمَا لَوْ غَصَبَ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنْ خَرَجَ بِالأَْمْرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ضَرْبُهُ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ إِخْرَاجُهُ وَإِزَالَةُ الْعُدْوَانِ بِغَيْرِ الْقَتْل. كَمَا لَوْ غَصَبَ مِنْهُ شَيْئًا فَأَمْكَنَ أَخْذُهُ بِغَيْرِ الْقَتْل. فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِالأَْمْرِ كَانَ لَهُ دَفْعُهُ بِأَسْهَل مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَنْدَفِعُ بِهِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُهُ، فَإِذَا انْدَفَعَ بِقَلِيلٍ فَلاَ حَاجَةَ إِلَى أَكْثَرَ مِنْهُ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَخْرُجُ بِالْعَصَا لَمْ يَكُنْ لَهُ
__________
(1) حديث: " الاستئذان ثلاث فإن أذن لك فادخل وإلا فارجع ". أخرجه البخاري (فتح 11 / 26 - 27 ط السلفية) ومسلم (3 / 1694 - ط الحلبي) والطحاوي في مشكل الآثار (1 / 499 - ط دائرة المعارف العثمانية) واللفظ له وجميعهم من حديث أبي سعيد الخدري.

(25/128)


ضَرْبُهُ بِالْحَدِيدِ؛ لأَِنَّ الْحَدِيدَ آلَةٌ لِلْقَتْل بِخِلاَفِ الْعَصَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهُ إِلاَّ بِالْقَتْل أَوْ خَافَ أَنْ يَبْدُرَهُ بِالْقَتْل إِنْ لَمْ يَقْتُلْهُ، فَلَهُ دَفْعُهُ بِمَا يَقْتُلُهُ أَوْ يَقْطَعُ طَرَفَهُ، وَمَا أَتْلَفَ مِنْهُ فَهُوَ هَدَرٌ إِنْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ الدَّاخِل كَابَرَ صَاحِبَ الدَّارِ وَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ دَفْعَهُ إِلاَّ بِذَلِكَ (1) . وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ.
35 - وَإِذَا كَانَ الأَْصْل عَدَمَ جَوَازِ دُخُول بَيْتِ الْغَيْرِ إِلاَّ بِإِذْنٍ، فَإِنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ الأَْحْوَال الْخَاصَّةِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الدُّخُول بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَال الْحَنَفِيَّةُ:
أ - حَالَةُ الْغَزْوِ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ مُشْرِفًا عَلَى الْعَدُوِّ فَلِلْغُزَاةِ دُخُولُهُ لِيُقَاتِلُوا الْعَدُوَّ مِنْهُ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى إِذْنِ صَاحِبِ الْبَيْتِ.
ب - مَنْ نَهَبَ مِنْ غَيْرِهِ ثَوْبًا، وَدَخَل النَّاهِبُ دَارَهُ جَازَ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يَدْخُل دُونَ إِذْنٍ لأَِخْذِ حَقِّهِ (2) .
ج - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ عَلِمَ أَنَّ بَيْتًا يُشْرَبُ فِيهِ الْخَمْرُ أَوْ يُضْرَبُ فِيهِ الطُّنْبُورُ فَلَهُ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 351، العدوي على الخرشي 8 / 112، ونهاية المحتاج 8 / 24، ومغني المحتاج 4 / 199، والمهذب 2 / 227، والمغني 8 / 329 - 330.
(2) ابن عابدين 5 / 126 - 127.

(25/128)


الْهُجُومُ عَلَيْهِ وَإِزَالَةُ الْمُنْكَرِ وَلَوْ بِالْقِتَال، وَهَذَا عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ (1) .

حُكْمُ النَّظَرِ فِي مَحَل سُكْنَى الْغَيْرِ دُونَ إِذْنٍ:
36 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ - دُونَ إِذْنٍ - مِنْ ثَقْبٍ أَوْ كُوَّةٍ فَرَمَاهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ بِحَصَاةٍ أَوْ طَعَنَهُ بِعُودٍ فَقَلَعَ عَيْنَهُ، لَمْ يَضْمَنْهَا. وَكَذَا لَوْ أَصَابَ قُرْبَ عَيْنِهِ فَجَرَحَهُ، فَسَرَى الْجُرْحُ فَمَاتَ فَهَدَرٌ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ الْمَرْفُوعِ: لَوِ اطَّلَعَ أَحَدٌ فِي بَيْتِكَ وَلَمْ تَأْذَنْ لَهُ فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْكَ جُنَاحٌ (2) .
وَعَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَجُلاً اطَّلَعَ فِي جُحْرٍ مِنْ بَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحُكُّ رَأْسَهُ بِمِدْرَى فِي يَدِهِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْتَظِرُنِي لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنَيْكَ (3) وَإِنْ تَرَكَ النَّاظِرُ الاِطِّلاَعَ وَانْصَرَفَ لَمْ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 24.
(2) حديث: " لو اطلع في بيتك أحد ولم تأذن له حذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح ". أخرجه البخاري (فتح12 / 216 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1699 - ط الحلبي) واللفظ للبخاري من حديث أبي هريرة
(3) حديث: " لو أعلم أنك تنتظرني لطعنت به في عينيك ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 243 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1698 - ط الحلبي) واللفظ لهما من حديث سهل بن سعد الساعدي.

(25/129)


يَجُزْ رَمْيُهُ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَطْعَنِ الَّذِي اطَّلَعَ ثُمَّ انْصَرَفَ؛ لأَِنَّهُ تَرَكَ الْجِنَايَةَ.
وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّارِ رَمْيُ النَّاظِرِ بِمَا يَقْتُلُهُ ابْتِدَاءً. فَإِنْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ يَقْتُلُهُ أَوْ حَدِيدَةٍ ثَقِيلَةٍ ضَمِنَهُ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا لَهُ مَا يَقْلَعُ بِهِ الْعَيْنَ الْمُبْصِرَةَ الَّتِي حَصَل الأَْذَى مِنْهَا، دُونَ مَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهَا، فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعِ الْمُطَّلِعُ بِرَمْيِهِ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ جَازَ رَمْيُهُ بِأَكْثَرَ مِنْهُ وَلَوْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ. وَعَلَى صَاحِبِ الدَّارِ ابْتِدَاءً أَنْ يَدْفَعَهُ بِأَسْهَل مَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ، بِأَنْ يَقُول لَهُ انْصَرِفْ، أَوْ يُخَوِّفَهُ أَوْ يَصِيحَ عَلَيْهِ صَيْحَةً مُزْعِجَةً. فَإِنْ لَمْ يَنْصَرِفْ أَشَارَ إِلَيْهِ يُوهِمُهُ أَنَّهُ يَحْذِفُهُ. فَإِنْ لَمْ يَنْصَرِفْ فَلَهُ حَذْفُهُ حِينَئِذٍ.
وَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ فِي هَذَا أَنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ إِلاَّ بِذَلِكَ؛ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ أَوْلَى.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلاَ يَجُوزُ رَمْيُ مَنْ نَظَرَ مِنَ الْبَابِ الْمَفْتُوحِ؛ لأَِنَّ التَّفْرِيطَ مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ بِفَتْحِهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ وَالأَْوْلَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْبَابَ الْمَفْتُوحَ كَالْكُوَّةِ، وَالْكُوَّةُ الْكَبِيرَةُ كَالْبَابِ الْمَفْتُوحِ، وَفِي مَعْنَاهَا الشُّبَّاكُ الْوَاسِعُ، فَلاَ يَجُوزُ رَمْيُهُ مِنْهُ؛ لِتَقْصِيرِ صَاحِبِ الدَّارِ إِلاَّ أَنْ يُنْذِرَهُ فَيَرْمِيَهُ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

(25/129)


أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: يَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ الثُّقْبُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، أَوْ كَانَ الشَّقُّ وَاسِعًا فَلِصَاحِبِ الدَّارِ رَمْيُهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ نِسَاءٌ، وَكَانَ فِيهَا صَاحِبُ الْبَيْتِ وَحْدَهُ فَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ رَمْيُ النَّاظِرِ إِلاَّ إِذَا كَانَ صَاحِبُ الدَّارِ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ، فَلَهُ الرَّمْيُ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لِصَاحِبِ الدَّارِ رَمْيُ النَّاظِرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الدَّارِ نِسَاءٌ أَمْ لَمْ يَكُنْ لأَِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ كَانَ فِي الدَّارِ الَّتِي اطَّلَعَ فِيهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءٌ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَحَذَفْتَهُ. . (1) . عَامٌّ فِي الدَّارِ الَّتِي فِيهَا نِسَاءٌ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الأَْذْرَعِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مَا إِذَا كَانَ النَّاظِرُ أَحَدَ أُصُول صَاحِبِ الدَّارِ الَّذِينَ لاَ قِصَاصَ عَلَيْهِمْ وَلاَ حَدَّ قَذْفٍ، فَلاَ يَجُوزُ رَمْيُهُ، فَإِنْ رَمَاهُ ضَمِنَ.
وَاسْتَثْنَوْا كَذَلِكَ مَا إِذَا كَانَ النَّظَرُ مُبَاحًا لِلنَّاظِرِ لِخُطْبَةٍ وَنَحْوِهَا.
وَحُكْمُ نَظَرِ النَّاظِرِ مِنْ سَطْحِ نَفْسِهِ وَنَظَرِ الْمُؤَذِّنِ مِنَ الْمَنَارَةِ كَالنَّظَرِ
__________
(1) حديث: " لو أن امرأ اطلع عليك ". أخرجه البخاري (فتح12 / 243 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1699 ط الحلبي) واللفظ للبخاري من حديث أبي هريرة.

(25/130)


مِنَ الْكُوَّةِ عَلَى الأَْصَحِّ كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ؛ إِذْ لاَ تَفْرِيطَ مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: مَنْ قَصَدَ عَيْنَ النَّاظِرِ بِرَمْيِهَا بِحَصَاةٍ أَوْ نَخَسَهَا بِعُودٍ فَفَقَأَهَا، فَالْقِصَاصُ مِنْ عَيْنِ الْمَنْظُورِ لَهُ حَقٌّ لِلنَّاظِرِ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ عَيْنَ الْمَنْظُورِ بِأَنْ قَصَدَ مُجَرَّدَ زَجْرِهِ فَصَادَفَ عَيْنَهُ، فَلاَ قَوَدَ عَلَى الْمَنْظُورِ. وَفِي غَيْرِ النَّاظِرِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَنْظُورِ. وَيُحْمَل حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمْيِ النَّاظِرِ عَلَى أَنَّهُ يَرْمِيهِ لِيُنَبِّهَهُ عَلَى أَنَّهُ فَطِنَ بِهِ، أَوْ لِيَدْفَعَهُ عَنْ ذَلِكَ غَيْرَ قَاصِدٍ فَقْءَ عَيْنِهِ فَانْفَقَأَتْ عَيْنُهُ خَطَأً فَالْجُنَاحُ مُنْتَفٍ، وَهُوَ الَّذِي نُفِيَ فِي الْحَدِيثِ.
وَلأَِنَّهُ لَوْ نَظَرَ إِنْسَانٌ إِلَى عَوْرَةِ آخَرَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلاَ يَسْتَبِيحُ فَقْءَ عَيْنِهِ فَالنَّظَرُ إِلَيْهِ فِي بَيْتِهِ أَوْلَى أَنْ لاَ يُسْتَبَاحَ بِهِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ نَظَرَ فِي بَيْتِ إِنْسَانٍ فَفَقَأَ صَاحِبُ الْبَيْتِ عَيْنَهُ لاَ يَضْمَنُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَنْحِيَتُهُ مِنْ غَيْرِ فَقْئِهَا، وَإِنْ أَمْكَنَ ضَمِنَ. وَلَوْ أَدْخَل رَأْسَهُ فَرَمَاهُ بِحَجَرٍ فَفَقَأَهَا لاَ يَضْمَنُ إِجْمَاعًا، لأَِنَّهُ شَغَل مِلْكَهُ كَمَا لَوْ قَصَدَ أَخْذَ ثِيَابِهِ فَدَفَعَهُ حَتَّى قَتَلَهُ لَمْ يَضْمَنْ (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 197 - 199، والمغني 8 / 335 - 336.
(2) منح الجليل 4 / 560 - 561، وجواهر الإكليل 2 / 297.
(3) ابن عابدين 5 / 353.

(25/130)


سُكُوت

التَّعْرِيفُ:
1 - السُّكُوتُ خِلاَفُ النُّطْقِ، وَهُمَا مَصْدَرَانِ. يُقَال: سَكَتَ الصَّائِتُ سُكُوتًا: إِذَا صَمَتَ.
وَالاِسْمُ السُّكْتَةُ وَالسِّكْتَةُ (1) . يَقُول الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: السُّكُوتُ مُخْتَصٌّ بِتَرْكِ الْكَلاَمِ.
وَرَجُلٌ سِكِّيتٌ: كَثِيرُ السُّكُوتِ (2) .
وَفِي النِّهَايَةِ لاِبْنِ الأَْثِيرِ: تَكَلَّمَ الرَّجُل ثُمَّ سَكَتَ، بِغَيْرِ أَلِفٍ، فَإِذَا انْقَطَعَ كَلاَمُهُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ قِيل: أَسْكَتَ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: (سكت) .
(2) المفردات للراغب في المادة.
(3) ابن عابدين 2 / 135.

(25/131)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصَّمْتُ:
2 - الصَّمْتُ هُوَ السُّكُوتُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَلاَمِ أَمْ لاَ. وَجَاءَ فِي الْمُغْرِبِ أَنَّ الصَّمْتَ هُوَ السُّكُوتُ الطَّوِيل. وَمِثْلُهُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ النَّهْرِ حَيْثُ قَال: السُّكُوتُ ضَمُّ الشَّفَتَيْنِ، فَإِنْ طَال يُسَمَّى صَمْتًا (1) .
وَفِي الْحَدِيثِ: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ صُمَاتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْل (2) .

ب - الإِْنْصَاتُ:
3 - الإِْنْصَاتُ هُوَ السُّكُوتُ لِلاِسْتِمَاعِ، يُقَال: أَنْصَتَ: إِذَا سَكَتَ سُكُوتَ مُسْتَمِعٍ.
وَأَنْصَتَهُ: إِذَا أَسْكَتَهُ، فَهُوَ لاَزِمٌ وَمُتَعَدٍّ (3) . يَقُول الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (4) الإِْنْصَاتُ هُوَ السُّكُوتُ لِلاِسْتِمَاعِ، وَالإِْصْغَاءُ وَالْمُرَاعَاةُ (5) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ السُّكُوتِ.
__________
(1) ابن عابدين 2 / 135.
(2) حديث: " لا صمات يوم إلى الليل ". أخرجه أبو داود (3 / 294 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث علي بن أبي طالب وفي إسناده. مقال كذا في فيض القدير للمناوي (6 / 444 - ط المكتبة التجارية) .
(3) لسان العرب مادة: (نصت) .
(4) سورة الأعراف / 204.
(5) تفسير القرطبي 7 / 354.

(25/131)


حُكْمُ السُّكُوتِ:
4 - تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ وَالأُْصُولِيُّونَ لِحُكْمِ السُّكُوتِ فِي مُخْتَلَفِ الْمَسَائِل: وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ أَحْكَامَهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، بَادِئِينَ بِالْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ، ثُمَّ حُكْمِ السُّكُوتِ وَأَثَرِهِ فِي الْمُعَامَلاَتِ وَالْعُقُودِ وَالدَّعَاوَى وَالْبَيِّنَاتِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ نُبَيِّنُ مَا ذَكَرَهُ الأُْصُولِيُّونَ إِجْمَالاً مَعَ التَّعَرُّضِ لِحُكْمِ الإِْجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - السُّكُوتُ مُبَاحٌ غَالِبًا، وَتَعْتَرِيهِ الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الأُْخْرَى حَسَبَ الأَْحْوَال، وَقَدْ تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِحُكْمِ السُّكُوتِ التَّكْلِيفِيِّ فِي مَسَائِل، مِنْهَا:

سُكُوتُ الْمُقْتَدِي:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ السُّكُوتُ عَلَى الْمُقْتَدِي عِنْدَ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا، فَيَسْتَمِعُ إِذَا جَهَرَ الإِْمَامُ، وَيُنْصِتُ إِذَا أَسَرَّ. فَإِنْ قَرَأَ كُرِهَ تَحْرِيمًا، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الآْيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الصَّلاَةِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا نَقْرَأُ خَلْفَ الإِْمَامِ
__________
(1) سورة الأعراف / 204.

(25/132)


فَنَزَل {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ الْبَحْرِ: الْمَطْلُوبُ بِالآْيَةِ أَمْرَانِ: الاِسْتِمَاعُ وَالسُّكُوتُ، فَيُعْمَل بِكُلٍّ مِنْهُمَا. وَالأَْوَّل يَخُصُّ الْجَهْرِيَّةَ، وَالثَّانِي لاَ، فَيُجْرَى عَلَى إِطْلاَقِهِ، فَيَجِبُ السُّكُوتُ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا (1) . اهـ. وَقَال الْكَاسَانِيُّ: الاِسْتِمَاعُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا عِنْدَ الْمُخَافَتَةِ بِالْقِرَاءَةِ فَالإِْنْصَاتُ مُمْكِنٌ عِنْدَ الْمُخَافَتَةِ بِالْقِرَاءَةِ، فَيَجِبُ بِظَاهِرِ النَّصِّ. وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ مَشْهُورٍ: إِنَّمَا جُعِل الإِْمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلاَ تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ. فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا (2) . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الإِْمَامِ قِرَاءَةٌ لَهُ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ تَجِبُ عَلَى الْمُقْتَدِي الْقِرَاءَةُ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الصَّلاَةُ جَهْرِيَّةً أَمْ سَرِيَّةً، لَكِنَّهُمْ قَالُوا بِاسْتِحْبَابِ الْقِرَاءَةِ فِيمَا لاَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 366، والبدائع 1 / 111.
(2) حديث: " إنما جعل الإمام ليؤتم به. . . ". كذا أورده الكاساني، وهو عند مسلم بلفظ: " إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا. . إلى أن قال في رواية: وإذا قرأ فأنصتوا ". مسلم (1 / 303 - 304 - ط الحلبي) من حديث أبي موسى الأشعري.
(3) البدائع 1 / 111. وحديث: " من كان له إمام فقراءة. . أخرجه ابن ماجه (1 / 277 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 175 - ط دار الجنان) .

(25/132)


يُجْهَرُ فِيهِ (1) . كَمَا أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا بِاسْتِحْبَابِهَا لِلْمُقْتَدِي فِي الْجَهْرِيَّةِ عِنْدَ سَكَتَاتِ الإِْمَامِ (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: يَجِبُ عَلَى الْمُقْتَدِي قِرَاءَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي الصَّلاَةِ السِّرِّيَّةِ قَوْلاً وَاحِدًا؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ (3) .
أَمَّا فِيمَا يُجْهَرُ فِيهَا فَفِيهِ قَوْلاَنِ: الْقَدِيمُ أَنَّهُ لاَ يَقْرَأُ بَل يُنْصِتُ، وَذَلِكَ لِلآْيَةِ وَالأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ. وَفِي الْجَدِيدِ: تَتَعَيَّنُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ، حِفْظًا أَوْ نَظَرًا فِي مُصْحَفٍ، أَوْ تَلْقِينًا، فِي كُل رَكْعَةٍ، لِكُلٍّ مِنَ الإِْمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ وَالْمُقْتَدِي، سَرِيَّةً كَانَتِ الصَّلاَةُ أَوْ جَهْرِيَّةً، وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ (4) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (قِرَاءَة) .

السُّكُوتُ لاِسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةُ
__________
(1) الدسوقي 1 / 236، 237، والمغني 1 / 562 - 565، 556.
(2) المغني 1 / 565، 566، 567.
(3) حديث: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 237 - ط السلفية) . ومسلم (1 / 295 - ط الحلبي) من حديث عبادة بن الصامت.
(4) المهذب 1 / 79، ومغني المحتاج 1 / 156، 157.

(25/133)


وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ) إِلَى أَنَّ السُّكُوتَ وَالإِْنْصَاتَ لاِسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ وَاجِبٌ، فَيَحْرُمُ الْكَلاَمُ إِلاَّ لِلْخَطِيبِ أَوْ لِمَنْ يُكَلِّمُهُ الْخَطِيبُ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (1) . وَلِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ، وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ (2) .
وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ تَحْذِيرَ مَنْ خِيفَ هَلاَكُهُ؛ لأَِنَّهُ يَجِبُ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَالإِْنْصَاتُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ (3) . وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ قَلِيل الذِّكْرِ سِرًّا، كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيل وَالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يُشِيرَ بِرَأْسِهِ، أَوْ يَدِهِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ مُنْكَرًا (4) .
وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ وُجُوبَ السُّكُوتِ بِمَا إِذَا كَانَ الإِْمَامُ قَرِيبًا، بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ؛ لأَِنَّ وُجُوبَ
__________
(1) سورة الأعراف / 204.
(2) حديث: " إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة. . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 414 - ط السلفية) ومسلم (2 / 583 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) ابن عابدين 1 / 551، والبدائع 1 / 263، وحاشية الدسوقي 1 / 387، ونهاية المحتاج 2 / 308، وكشاف القناع 1 / 47.
(4) نفس المراجع.

(25/133)


الإِْنْصَاتِ لِلاِسْتِمَاعِ، وَالْبَعِيدُ لَيْسَ بِمُسْتَمِعٍ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا بِوُجُوبِ السُّكُوتِ حِينَ الْخُطْبَةِ بِلاَ فَرْقٍ بَيْنَ قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ، فِي الأَْصَحِّ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ: لاَ يَجِبُ الإِْنْصَاتُ، وَلاَ يَحْرُمُ الْكَلاَمُ حِينَ الْخُطْبَةِ؛ لِمَا صَحَّ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَال لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلَكَ الْمَال وَجَاعَ الْعِيَال فَادْعُ لَنَا. فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَدَعَا (2) وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ مَوْعِدِ السَّاعَةِ، فَأَوْمَأَ النَّاسُ إِلَيْهِ بِالسُّكُوتِ، فَلَمْ يَقْبَل، وَأَعَادَ الْكَلاَمَ (3) ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا. وَالأَْمْرُ فِي الآْيَةِ لِلنَّدْبِ، فَيُسَنُّ السُّكُوتُ وَالإِْنْصَاتُ وَيُكْرَهُ الْكَلاَمُ، وَذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الأَْدِلَّةِ (4) .

سَكَتَاتُ الإِْمَامِ:
8 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَسْكُتَ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَالتَّأْمِينِ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 47.
(2) حديث أن أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: هلك المال. . . . أخرجه البخاري (الفتح 2 / 413 - ط السلفية) . ومسلم (2 / 614 - ط الحلبي) من حديث أنس.
(3) حديث: " سأله رجل عن موعد الساعة. . ". أخرجه البيهقي (3 / 221 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أنس بن مالك وصححه النووي كما في المجموع (4 / 525 - ط المنيرية) .
(4) نهاية المحتاج 2 / 307، 308.

(25/134)


قَدْرَ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ الْفَاتِحَةَ. وَذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ الْجَهْرِيَّةِ؛ لِيَتَمَكَّنَ الْمَأْمُومُ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ مَعَ الإِْنْصَاتِ لِقِرَاءَةِ الإِْمَامِ (1) .
قَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ لِلإِْمَامِ حِينَئِذٍ أَنْ يَشْتَغِل بِالذِّكْرِ أَوِ الدُّعَاءِ أَوْ الْقِرَاءَةِ سِرًّا؛ لأَِنَّ الصَّلاَةَ لَيْسَ فِيهَا سُكُوتٌ حَقِيقِيٌّ لِلإِْمَامِ.
وَقَالُوا: إِنَّ السَّكَتَاتِ الْمَنْدُوبَةَ فِي الصَّلاَةِ أَرْبَعٌ: سَكْتَةٌ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ يَفْتَتِحُ فِيهَا، وَسَكْتَةٌ بَيْنَ: وَلاَ الضَّالِّينَ وَآمِينَ، وَسَكْتَةٌ لِلإِْمَامِ بَعْدَ التَّأْمِينِ فِي الْجَهْرِيَّةِ بِقَدْرِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَسَكْتَةٌ قَبْل تَكْبِيرِ الرُّكُوعِ (2) .
وَجَاءَ فِي الْمُغْنِي: قَال أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لِلإِْمَامِ سَكْتَتَانِ، فَاغْتَنِمُوا فِيهِمَا الْقِرَاءَةَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ: إِذَا دَخَل فِي الصَّلاَةِ، وَإِذَا قَال: {وَلاَ الضَّالِّينَ} .
وَقَال عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَمَّا أَنَا فَأَغْتَنِمُ مِنَ الإِْمَامِ اثْنَتَيْنِ: إِذَا قَال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} فَأَقْرَأُ عِنْدَهَا، وَحِينَ يَخْتِمُ السُّورَةَ، فَأَقْرَأُ قَبْل أَنْ يَرْكَعَ (3) .
وَلاَ يَقُول بِاسْتِحْبَابِ هَذِهِ السَّكَتَاتِ
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 150، وكشاف القناع 1 / 339.
(2) أسنى المطالب 1 / 150، ونهاية المحتاج 1 / 474.
(3) المغني لابن قدامة 1 / 566.

(25/134)


الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ. وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَة، وَقِرَاءَة) .

السُّكُوتُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ:
9 - الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ - أَيْ مَا عُرِفَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ وَالإِْحْسَانِ إِلَى النَّاسِ - وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ مَا فِيهِ غَضَبُ اللَّهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ - أَصْلٌ مِنْ أُصُول الدِّينِ كَمَا يَقُول الْغَزَالِيُّ، وَهُوَ وَاجِبٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ وَابْنُ حَزْمٍ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ. فَالسُّكُوتُ عِنْدَ رُؤْيَةِ ارْتِكَابِ الْمُنْكَرِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِهِ حَرَامٌ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ حِينَ تَوَفُّرِ شُرُوطِهِ وَالْمَرَاتِبِ وَالْوَسَائِل الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِْيمَانِ (1) وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَفِي بَيَانِ شُرُوطِهِ وَأَرْكَانِهِ وَمَرَاتِبِهِ، وَالْوَسَائِل الَّتِي يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ اتِّخَاذُهَا فِي الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهَل هُوَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 353، وجواهر الإكليل 1 / 251، ومواهب الجليل للحطاب 3 / 48، والأحكام السلطانية للماوردي ص 241، والزواجر 2 / 161، وشرح النووي على مسلم 2 / 22، وإحياء علوم الدين 2 / 391، والآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 183.

(25/135)


فَرْضُ عَيْنٍ أَوْ كِفَايَةٍ - تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ، يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (الأَْمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ الْمُنْكَرِ) ف 3 - 5 (6 248 - 250) .

السُّكُوتُ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ:
10 - تَحَمُّل الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَيَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ بِالطَّلَبِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ. وَهَذَا إِذَا عَلِمَ الشَّاهِدُ بِقَبُول شَهَادَتِهِ، وَكَانَ الْقَاضِي عَادِلاً، وَيَكُونُ الْمَكَانُ قَرِيبًا، وَلاَ يَعْلَمُ بُطْلاَنَ الشُّهُودِ بِهِ، وَلاَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ خَوْفًا.
فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ يَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ السُّكُوتُ؛ لأَِنَّ فِي سُكُوتِهِ تَضْيِيعًا لِلْحَقِّ وَهُوَ مُحَرَّمٌ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (1) وَهَذَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ.
أَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، كَالطَّلاَقِ وَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالرَّضَاعِ فَيَجِبُ الأَْدَاءُ حِسْبَةً بِلاَ طَلَبٍ.
إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: يُخَيَّرُ فِي الْحُدُودِ، وَسَتْرُهَا فِي بَعْضِ الْحُدُودِ أَبَرُّ، فَالأَْوْلَى فِيهَا الْكِتْمَانُ إِلاَّ لِمُتَهَتِّكٍ وَمَنِ اشْتُهِرَ بِالْفِسْقِ وَالْمَعَاصِي.
__________
(1) سورة البقرة / 283.

(25/135)


هَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ (1) وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى، مَعَ تَفْصِيلٍ فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ، وَخِلاَفٍ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَة) .

حُكْمُ السُّكُوتِ فِي الْمُعَامَلاَتِ وَالْعُقُودِ:
11 - الْمُعَامَلاَتُ وَالْعُقُودُ أَسَاسُهَا الرِّضَا الَّذِي يَتَحَقَّقُ غَالِبًا بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول الْقَوْلِيِّ.
وَالأَْصْل أَنَّ السُّكُوتَ لاَ يُعْتَبَرُ رِضًا فَالْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ تَقُول: (لاَ يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ (3)) وَلِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ وَالسُّيُوطِيُّ فِي أَشْبَاهِهِمَا مِنْ أَنَّ الثَّيِّبَ لَوْ سَكَتَتْ عِنْدَ الاِسْتِئْذَانِ فِي النِّكَاحِ لَمْ يَقُمْ مَقَامَ الإِْذْنِ. وَلَوْ رَأَى أَجْنَبِيًّا يَبِيعُ مَالَهُ فَسَكَتَ وَلَمْ يَنْهَهُ عَنِ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ وَكِيلاً بِسُكُوتِ الْمُوَكِّل، وَلَوْ سَكَتَ عَنْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْهُ أَوْ إِتْلاَفِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَنْعِ لَمْ يَسْقُطْ ضَمَانُهُ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَ كُفْءٍ فَسُكُوتُ الْوَلِيِّ عَنْ مُطَالَبَةِ التَّفْرِيقِ لَيْسَ بِرِضًا مَا لَمْ تَلِدْ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 370، 371.
(2) جواهر الإكليل 2 / 242، 236، وحاشية القليوبي على شرح المنهاج 4 / 329 - 331، والمغني لابن قدامة 9 / 146 وما بعدها.
(3) مجلة الأحكام العدلية م (67) والأشباه والنظائر للسيوطي.
(4) الأشباه والنظائر لابن نجيم مع حاشية الحموي ص 184 وما بعدها، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 142، والمنثور للزركشي 2 / 205.

(25/136)


وَسَيَأْتِي تَفْصِيل بَعْضِ هَذِهِ الْفُرُوعِ وَنَظَائِرِهَا فِيمَا بَعْدُ مَعَ الأَْدِلَّةِ. هَذَا هُوَ الأَْصْل.
لَكِنْ قَدْ يَتَحَقَّقُ الرِّضَا بِالْفِعْل وَالتَّعَاطِي، أَوِ الْقَوْل مِنْ طَرَفٍ وَالْفِعْل مِنْ طَرَفٍ آخَرَ، أَوِ الْقَوْل مِنْ جَانِبٍ وَالسُّكُوتِ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ يَدُل عَلَى الرِّضَا، كَمَا فُصِّل فِي مُصْطَلَحِ (عَقْد)
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَمْثِلَةً لِمَا يَدُل السُّكُوتُ فِيهَا عَلَى الرِّضَا وَالإِْذْنِ وَفْقًا لِقَاعِدَةِ: إِنَّ السُّكُوتَ فِي مَعْرِضِ الْحَاجَةِ بَيَانٌ، كَمَا ذَكَرُوا أَمْثِلَةً لِمَا لاَ يَدُل فِيهِ السُّكُوتُ عَلَى الرِّضَا بِنَاءً عَلَى الأَْصْل.
وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ أَهَمَّ هَذِهِ الْمَسَائِل بِالتَّفْصِيل:

أ - سُكُوتُ الْمَالِكِ عِنْدَ تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ (1) :
12 - إِذَا تَصَرَّفَ الْفُضُولِيُّ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِبَيْعٍ فِي حُضُورِ الْمَالِكِ، فَسَكَتَ فِي حَال كَوْنِهِ أَهْلاً لِلتَّصَرُّفِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ الْبَيْعِ، فَهَل يُعْتَبَرُ
__________
(1) الفضولي هو من لا يكون أصيلا ولا وليا ولا وكيلا في العقد.

(25/136)


سُكُوتُهُ رِضًا وَإِذْنًا بِالْبَيْعِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يُعْتَبَرُ هَذَا السُّكُوتُ إِذْنًا وَلاَ يَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ، وَذَلِكَ لِقَاعِدَةِ: لاَ يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ (1) . وَعَلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ الْبَيْعُ صَحِيحًا، لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ الصَّرِيحَةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ بِيعَ مَالُهُ بِحَضْرَتِهِ وَهُوَ سَاكِتٌ لَزِمَهُ الْبَيْعُ، وَلاَ يُعْذَرُ بِسُكُوتِهِ إِذَا ادَّعَاهُ. فَإِنْ مَضَى عَامٌ وَهُوَ سَاكِتٌ سَقَطَ حَقُّهُ فِي الثَّمَنِ أَيْضًا (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَلاَ يَصِحُّ عِنْدَهُمْ بَيْعُ الْفُضُولِيِّ أَصْلاً، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ بَاعَ مَال غَيْرِهِ بِحَضْرَتِهِ وَهُوَ سَاكِتٌ لَمْ يَصِحَّ قَطْعًا (3) وَمِثْلُهُ مَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَال الْبُهُوتِيُّ: إِنْ بَاعَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَلَوْ بِحَضْرَتِهِ وَسُكُوتِهِ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ وَلَوْ أَجَازَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ (4) ، أَيِ الْمِلْكِ وَالإِْذْنِ.
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم مع حاشية الحموي ص 184، 185.
(2) الزرقاني 5 / 19، والشرح الصغير للدردير 3 / 26.
(3) نهاية المحتاج 3 / 391.
(4) كشاف القناع 3 / 157

(25/137)


أَمَّا شِرَاءُ الْفُضُولِيِّ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (فُضُولِيّ) .

ب - سُكُوتُ الْوَلِيِّ عِنْدَ بَيْعِ أَوْ شِرَاءِ مَنْ تَحْتَ وِلاَيَتِهِ:
13 - إِذَا رَأَى الْوَلِيُّ مُوَلِّيَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ التَّصَرُّفِ يُعْتَبَرُ سُكُوتُهُ رِضًا وَإِذْنًا فِي التِّجَارَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. قَال الْمُوصِلِيُّ: لأَِنَّ سُكُوتَهُ عَنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ دَلِيل رِضًا، كَسُكُوتِ الشَّفِيعِ عِنْدَ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ؛ لأَِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْهُ يَتَصَرَّفُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَالْوَلِيُّ سَاكِتٌ، يَعْتَقِدُونَ رِضَاهُ بِذَلِكَ، وَإِلاَّ لَمَنَعَهُ، فَيُعَامِلُونَهُ مُعَامَلَةَ الْمَأْذُونِ. فَلَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ سُكُوتُهُ رِضًا يُفْضِي ذَلِكَ إِلَى الإِْضْرَارِ بِهِمْ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ: السُّكُوتُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يُعْتَبَرُ رِضًا؛ لأَِنَّهُ يَحْتَمِل الرِّضَا وَالسَّخَطَ، فَلاَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلاً لِلإِْذْنِ عِنْدَ الاِحْتِمَال (2) .
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ سُكُوتَ الْقَاضِي فَقَالُوا: إِذَا رَأَى الْقَاضِي الصَّبِيَّ أَوِ
__________
(1) الاختيار للموصلي 2 / 100، والبهجة شرح التحفة 2 / 295.
(2) مغني المحتاج 2 / 100، والمغني لابن قدامة 5 / 85.

(25/137)


الْمَعْتُوهَ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ، لاَ يَكُونُ سُكُوتُهُ إِذْنًا فِي التِّجَارَةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ حَقَّ لَهُ فِي مَال الْغَيْرِ حَتَّى يَكُونَ الإِْذْنُ إِسْقَاطًا لِحَقِّهِ (1) .

ج - سُكُوتُ الشَّفِيعِ:
14 - سُكُوتُ الشَّفِيعِ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ وَالثَّمَنِ يُعْتَبَرُ رِضًا بِالْعَقْدِ وَإِقْرَارًا بِالتَّنَازُل عَنِ الشُّفْعَةِ، فَيَسْقُطُ حَقُّهُ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) . فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ الشَّفِيعَ أَنْ يَقُول كَلاَمًا يَدُل عَلَى طَلَبِ الشُّفْعَةِ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي سَمِعَ فِيهِ عَقْدَ الْبَيْعِ فِي الْحَال، ثُمَّ يَطْلُبُ طَلَبَ التَّقْرِيرِ وَالإِْشْهَادِ، فَإِنْ سَكَتَ وَأَخَّرَ الطَّلَبَ يَسْقُطُ حَقُّ شُفْعَتِهِ (2) .
وَمِثْلُهُ مَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، قَال الْخَطِيبُ: الأَْظْهَرُ أَنَّ الشُّفْعَةَ عَلَى الْفَوْرِ، لأَِنَّهَا حَقٌّ ثَبَتَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ كَرَدِّ الْمَبِيعِ، وَإِذَا كَانَ مَرِيضًا أَوْ غَائِبًا أَوْ خَائِفًا مِنْ عَدُوٍّ فَلْيُوَكِّل إِنْ قَدَرَ، وَإِلاَّ فَلْيُشْهِدْ عَلَى الطَّلَبِ. وَإِلاَّ بَطَل حَقُّهُ فِي الأَْظْهَرِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 111.
(2) مجلة الأحكام العدلية م 1029 - 132، والبدائع 5 / 18.

(25/138)


لِتَقْصِيرِهِ، وَلإِِشْعَارِ السُّكُوتِ - مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الإِْشْهَادِ - بِالرِّضَا (1) .
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: إِنِ اشْتَغَل بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ بِكَلاَمٍ آخَرَ، أَوْ سَلَّمَ عَلَى الْمُشْتَرِي، ثُمَّ سَكَتَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ (2) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمُ الطَّلَبُ فَوْرًا، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ سَكَتَ الشَّفِيعُ مَعَ عِلْمِهِ بِهَدْمٍ أَوْ بِنَاءٍ فِي الأَْرْضِ مِنْ قِبَل الْمُشْتَرِي، وَلَوْ لإِِصْلاَحٍ، أَوْ سَكَتَ بِلاَ مَانِعٍ شَهْرَيْنِ، إِنْ حَضَرَ الْعَقْدُ تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ.
وَإِلاَّ فَتَسْقُطُ بِحُضُورِهِ سَاكِتًا بِلاَ عُذْرٍ سَنَةً.
فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ وَهُوَ حَاضِرٌ فِي الْبَلَدِ سَاكِتٌ بِلاَ مَانِعٍ فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ (3) .

د - السُّكُوتُ فِي الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ:
15 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْوَدِيعَةَ كَمَا تَنْعَقِدُ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول صَرَاحَةً تَنْعَقِدُ كَذَلِكَ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول دَلاَلَةً. فَإِذَا وَضَعَ رَجُلٌ مَالَهُ فِي دُكَّانٍ مَثَلاً، فَرَآهُ صَاحِبُ الدُّكَّانِ وَسَكَتَ، ثُمَّ تَرَكَ الرَّجُل ذَلِكَ الْمَال وَانْصَرَفَ صَارَ ذَلِكَ الْمَال عِنْدَ صَاحِبِ الدُّكَّانِ وَدِيعَةً،
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 307، 308.
(2) كشاف القناع 4 / 140 - 142.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 484، 485.

(25/138)


لأَِنَّ سُكُوتَ صَاحِبِ الدُّكَّانِ حِينَ وَضَعَ الْمَال يَدُل عَلَى قَبُول حِفْظِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا فَرَّطَ فِي حِفْظِهِ يَكُونُ ضَامِنًا كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الأَْمَانَاتِ (1) .
أَمَّا السُّكُوتُ فِي الْعَارِيَّةِ فَلاَ يُعْتَبَرُ رِضًا وَإِذْنًا مِنَ الْمُعِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَوْ طَلَبَ شَخْصٌ مِنْ آخَرَ إعَارَةَ شَيْءٍ، فَسَكَتَ صَاحِبُ ذَلِكَ الشَّيْءِ ثُمَّ أَخَذَهُ الْمُسْتَعِيرُ كَانَ غَاصِبًا.
وَهَذَا هُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا حَيْثُ قَالُوا: الأَْصَحُّ فِي النَّاطِقِ اشْتِرَاطُ لَفْظٍ يُشْعِرُ بِالإِْذْنِ أَوْ بِطَلَبِهِ، كَأَعَرْتُكَ هَذَا وَنَحْوَهُ. وَفِي مُقَابِل الأَْصَحِّ لاَ يُشْتَرَطُ اللَّفْظُ (2) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحَيْ: (وَدِيعَة، عَارِيَّةً) .

هـ - الصُّلْحُ عَلَى السُّكُوتِ:
16 - الصُّلْحُ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ، وَهُوَ انْتِقَالٌ عَنْ حَقٍّ أَوْ دَعْوَى بِعِوَضٍ لِرَفْعِ نِزَاعٍ، أَوْ خَوْفِ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم مع حاشية الحموي 184، والمادة (773) من مجلة الأحكام العدلية، والزرقاني 6 / 114، وحاشية الدسوقي 3 / 419.
(2) مجلة الأحكام العدلية م (805) ، مغني المحتاج 2 / 266، 267.

(25/139)


وُقُوعِهِ، كَمَا عَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ، أَوْ عَقْدٌ يَرْفَعُ النِّزَاعَ بِالتَّرَاضِي، كَمَا قَال الْحَنَفِيَّةُ (1) .
وَقَدْ قَسَّمَهُ الْفُقَهَاءُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ، وَالصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ وَالصُّلْحُ عَنْ سُكُوتٍ، بِأَنْ يَسْكُتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ إِجَابَةِ دَعْوَى الْمُدَّعِي فَيُصَالِحَهُ بِدَفْعِ شَيْءٍ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ الْمُدَّعِي الدَّعْوَى (2) .
وَحُكْمُ الصُّلْحِ عَلَى السُّكُوتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ هُوَ حُكْمُ الصُّلْحِ عَلَى الإِْنْكَارِ (3) .
قَال الْبُهُوتِيُّ: إِنِ ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِهِ أَوْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، فَيُنْكِرُهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ يَسْكُتُ وَهُوَ يَجْهَلُهُ، ثُمَّ يُصَالِحُ عَلَى مَالٍ، يَصِحُّ الصُّلْحُ، وَيَكُونُ الْمَال الْمُصَالَحُ بِهِ بَيْعًا فِي حَقِّ الْمُدَّعِي وَإِبْرَاءً فِي حَقِّ الْمُنْكِرِ (4) .
وَنَظِيرُهُ مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ حَيْثُ نَصُّوا بِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الإِْنْكَارِ أَوِ السُّكُوتِ هُوَ فِي حَقِّ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 102، ومجلة الأحكام العدلية م (1531) .
(2) مجلة الأحكام العدلية م (1535) ، والدسوقي 3 / 311، وجواهر الإكليل 2 / 103، ونهاية المحتاج 4 / 375.
(3) نهاية المحتاج 4 / 375، وكشاف القناع 3 / 397.
(4) كشاف القناع 3 / 397، 398.

(25/139)


الْمُدَّعِي مُعَاوَضَةٌ، وَفِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَلاَصٌ مِنَ الْيَمِينِ وَقَطْعٌ لِلْمُنَازَعَةِ (1) .
أَمَّا الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَحُكْمُ السُّكُوتِ فِي الصُّلْحِ حُكْمُ الإِْقْرَارِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ وَتَجْرِي فِيهِ الصُّوَرُ الَّتِي تَجْرِي فِي الإِْقْرَارِ، مِنْ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ هِبَةٍ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صُلْح) .

سُكُوتُ الْمَرْأَةِ عِنْدَ اسْتِئْذَانِهَا لِلنِّكَاحِ:
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ سُكُوتَ الْبِكْرِ عِنْدَ اسْتِئْذَانِهَا لِلنِّكَاحِ يُعْتَبَرُ رِضًا وَإِذْنًا، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: اسْتَأْمِرُوا النِّسَاءَ فِي أَبْضَاعِهِنَّ، قِيل: إِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي وَتَسْكُتُ، قَال: هُوَ إِذْنُهَا (3) . وَفِي رِوَايَةٍ: الْبِكْرُ رِضَاهَا صُمَاتُهَا (4) . وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهَا إِنْ
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية م (1535، 1549) .
(2) الدسوقي 3 / 309، 311، وجواهر الإكليل 2 / 102.
(3) حديث: " استأمروا النساء في أبضاعهن ". أخرجه النسائي (6 / 68 - ط المكتبة التجارية) من حديث عائشة، ومعناه في البخاري (الفتح 12 / 319 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1037 - ط الحلبي) .
(4) حديث: " رواية: البكر رضاها صماتها ". أخرجها البخاري (الفتح 9 / 191 - ط السلفية) .

(25/140)


بَكَتْ بِغَيْرِ صَوْتٍ أَوْ ضَحِكَتْ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ سُكُوتِهَا (1) .
لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: سُكُوتُ الْبِكْرِ فِي النِّكَاحِ إِذْنٌ لِلأَْبِ وَالْجَدِّ قَطْعًا، أَمَّا لِسَائِرِ الْعَصَبَةِ وَالْحَاكِمِ فَقَوْلاَنِ: الأَْصَحُّ أَنَّهُ إِذْنٌ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ لاَ بُدَّ مِنَ الْكَلاَمِ كَالثَّيِّبِ (2) .
أَمَّا الثَّيِّبُ فَسُكُوتُهَا عِنْدَ الاِسْتِئْذَانِ فِي النِّكَاحِ لاَ يُعْتَبَرُ إِذْنًا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، بَل لاَ بُدَّ مِنَ الإِْذْنِ الصَّرِيحِ بِالْكَلاَمِ (3) . قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ خِلاَفًا فِي أَنَّ إِذْنَهَا الْكَلاَمُ (4) ، لِخَبَرِ: الثَّيِّبُ تُعْرِبُ عَنْ نَفْسِهَا (5) . اهـ. وَلأَِنَّ السُّكُوتَ إِنَّمَا جُعِل إِذْنًا فِي الْبِكْرِ لِمَكَانِ الْحَيَاءِ الْمَانِعِ مِنَ النُّطْقِ الْمُخْتَصِّ بِالأَْبْكَارِ، لأَِنَّ الْحَيَاءَ يَكُونُ فِيهِنَّ
__________
(1) الاختيار 3 / 92، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 61، والكافي 2 / 524 والمغني لابن قدامة 6 / 494، والأشباه للسيوطي ص 142، ومغني المحتاج 2 / 147.
(2) مغني المحتاج 2 / 147، والأشباه للسيوطي ص 142.
(3) المراجع السابقة.
(4) المغني لابن قدامة 6 / 493، 494.
(5) حديث: " الثيب تعرب عن نفسها ". أخرجه ابن ماجه (1 / 602 - ط الحلبي) من حديث عدي الكندي، وأعله البوصيري بالانقطاع بين عدي والراوي عنه وهو ابنه، ولكن له ذكر أن له شاهدا من حديث ابن عباس في مسلم وغيره. كذا في مصباح الزجاجة (1 / 330 - ط دار الجنان) .

(25/140)


أَكْثَر، فَلاَ يُقَاسُ عَلَيْهِ الثَّيِّبُ، كَمَا قَال الْمُوصِلِيُّ (1) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاح، وَاسْتِئْذَان) .

سُكُوتُ الزَّوْجِ عِنْدَ وِلاَدَةِ الْمَرْأَةِ:
18 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي بَحْثِ اللِّعَانِ أَنَّهُ لَوْ نَفَى الْوَلَدَ فِي مُدَّةِ التَّهْنِئَةِ، أَوْ عِنْدَ شِرَاءِ آلَةِ الْوِلاَدَةِ كَالْمَهْدِ وَنَحْوِهِ، صَحَّ نَفْيُهُ. أَمَّا بَعْدَ التَّهْنِئَةِ أَوْ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّتِهَا فَلاَ يَصِحُّ؛ لأَِنَّ سُكُوتَهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ دَلِيلٌ عَلَى رِضَاهُ وَإِقْرَارٌ عَلَى النَّسَبِ، فَلاَ يَصِحُّ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ التَّهْنِئَةِ: فَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ سَبْعَةُ أَيَّامٍ، وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَهَا بِمُدَّةِ النِّفَاسِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ أَخَّرَ الزَّوْجُ نَفْيَ الْحَمْل يَوْمًا بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْوَضْعِ أَوِ الْحَمْل بِلاَ عُذْرٍ، امْتَنَعَ لِعَانُهُ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ (3) . وَمِثْلُهُ مَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ، حَيْثُ قَالُوا: يُشْتَرَطُ النَّفْيُ عَلَى الْفَوْرِ، فَلَوْ سَكَتَ مُدَّةً مَعَ إِمْكَانِ
__________
(1) الاختيار 2 / 92، 93.
(2) ابن عابدين 2 / 591.
(3) جواهر الإكليل 1 / 382.

(25/141)


الرَّدِّ يُعْتَبَرُ سُكُوتُهُ رِضًا وَإِقْرَارًا، كَحَقِّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَخِيَارِ الشُّفْعَةِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ سَمِعَ إِنْسَانًا يُقِرُّ بِنَسَبٍ، وَسَكَتَ الْمُقَرُّ لَهُ جَازَ لِلسَّامِعِ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِهِ؛ لأَِنَّ السُّكُوتَ فِي النَّسَبِ إِقْرَارٌ، لأَِنَّ مَنْ بُشِّرَ بِوَلَدٍ فَسَكَتَ لَحِقَهُ كَمَا لَوْ كَانَ أَقَرَّ بِهِ (2) . وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحَيْ: (لِعَان وَنَسَب) .

19 - هَذَا، وَقَدْ تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِحُكْمِ السُّكُوتِ فِي مَسَائِل أُخْرَى، وَذَكَرُوا أَنَّ السُّكُوتَ فِيهَا وَأَمْثَالِهَا يُعْتَبَرُ رِضًا وَإِذْنًا، كَالْقَبُول بِالسُّكُوتِ فِي الإِْجَارَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالإِْذْنِ بِالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ، وَسُكُوتِ الْمُحْرِمِ حِينَ حَلَقَ رَأْسَهُ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَسَائِل. فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ السُّكُوتَ فِي الإِْجَارَةِ يُعَدُّ قَبُولاً وَرِضًا، فَإِذَا قَال صَاحِبُ الدَّارِ: اسْكُنْ بِكَذَا وَإِلاَّ فَاخْرُجْ، فَسَكَتَ وَسَكَنَ، كَانَ مُسْتَأْجَرًا بِالْمُسَمَّى بِسُكْنَاهُ وَسُكُوتِهِ. كَذَلِكَ لَوْ قَال صَاحِبُ الدَّارِ: اسْكُنْ بِمِائَةٍ، وَقَال الْمُسْتَأْجِرُ: ثَمَانِينَ، فَسَكَتَ الْمَالِكُ وَأَبْقَى الْمُسْتَأْجِرَ سَاكِنًا يَلْزَمُ ثَمَانُونَ؛ لأَِنَّ السُّكُوتَ مِنْ قِبَل الْمَالِكِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُعَدُّ قَبُولاً (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 380، 381.
(2) مطالب أولي النهى 6 / 591.
(3) مجلة الأحكام العدلية م (438) .

(25/141)


وَكَذَا لَوْ قَال الرَّاعِي لِلْمَالِكِ: لاَ أَرْضَى بِمَا سَمَّيْتَ وَإِنَّمَا أَرْضَى بِكَذَا، فَسَكَتَ الْمَالِكُ فَرَعَى الرَّاعِي لَزِمَ الْمَالِكَ مَا سَمَّاهُ الرَّاعِي بِسُكُوتِ الْمَالِكِ (1) .
وَقَالُوا: سُكُوتُ الْوَكِيل قَبُولٌ وَيَرْتَدُّ بِرَدِّهِ (2) . وَسُكُوتُ الْبَائِعِ الَّذِي لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حِينَ رَأَى الْمُشْتَرِيَ قَبَضَ الْمَبِيعَ إِذْنٌ بِقَبْضِهِ. وَإِذَا رَأَى الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ يَبِيعُ الرَّهْنَ فَسَكَتَ يَكُونُ رِضًا مِنَ الْمُرْتَهِنِ، وَيَبْطُل الرَّهْنُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَلَقَ الْحَلاَّقُ رَأْسَ مُحْرِمٍ وَهُوَ سَاكِتٌ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ إِذْنًا، قَال الشَّافِعِيَّةُ: الأَْصَحُّ أَنَّهُ كَمَا لَوْ حَلَقَ بِأَمْرِهِ فَتَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ (4) .
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل الْقِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ وَهُوَ سَاكِتٌ، فَإِنَّهَا تَنْزِل مَنْزِلَةَ النُّطْقِ. وَاشْتَرَطَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّهُ لَوْ عَرَضَ مِنَ الْقَارِئِ تَصْحِيفٌ وَتَحْرِيفٌ لَرَدَّهُ الشَّيْخُ، فَسُكُوتُهُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ قِرَاءَتِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم مع حاشية الحموي ص 1 / 184، 185.
(2) نفس المرجع.
(3) نفس المرجع ص 1 / 185، 186.
(4) نفس المرجع، والمنثور للزركشي 2 / 207.

(25/142)


نُجَيْمٍ فِي أَشْبَاهِهِ، وَالْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ، وَابْنُ عَابِدِينَ وَالزَّرْكَشِيُّ فُرُوعًا أُخْرَى يَنْزِل فِيهَا السُّكُوتُ مَنْزِلَةَ النُّطْقِ وَالإِْذْنِ.
كَمَا ذَكَرُوا أَمْثِلَةً أُخْرَى لاَ يَدُل السُّكُوتُ فِيهَا عَلَى الرِّضَا وَالإِْذْنِ وَفْقًا لِقَاعِدَةِ: (لاَ يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ) وَمِنْ هَذِهِ الأَْمْثِلَةِ:
لَوْ سَكَتَ عَنْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْهُ فَلاَ يَسْقُطُ ضَمَانُهُ. وَلَوْ سَكَتَ عَنْ إِتْلاَفِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الدَّفْعِ لَمْ يَسْقُطْ ضَمَانُهُ. وَلَوْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَ كُفْءٍ فَسَكَتَ الْوَلِيُّ عَنْ مُطَالَبَةِ التَّفْرِيقِ لاَ يُعَدُّ رِضًا مَا لَمْ تَلِدْ، وَكَذَا سُكُوتُ امْرَأَةِ الْعِنِّينِ لَيْسَ بِرِضًا وَلَوْ أَقَامَتْ مَعَهُ سِنِينَ. وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَسَائِل خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا وَفِي مَظَانِّهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ (1)

السُّكُوتُ فِي الدَّعَاوَى:
20 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا كُلِّفَ بِالْيَمِينِ فَنَكَل صَرَاحَةً، كَأَنْ قَال: لاَ
__________
(1) فتح القدير لابن الهمام مع الهداية 3 / 206، 207، وحاشية ابن عابدين 3 / 445، وما بعدها، والمنثور للزركشي 2 / 207، وما بعدها، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 142، ولابن نجيم مع حاشية الحموي ص 1 / 184، 186.

(25/142)


أَحْلِفُ، أَوْ حُكْمًا كَأَنْ سَكَتَ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَمِنْ غَيْرِ آفَةٍ (كَخَرَسٍ وَطَرَشٍ) يُعْتَبَرُ سُكُوتُهُ نُكُولاً يَحْكُمُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ (1) .
وَإِذَا قَال: لاَ أُقِرُّ وَلاَ أُنْكِرُ، لاَ يُسْتَحْلَفُ بَل يُحْبَسُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، وَكَذَا لَوْ لَزِمَ السُّكُوتَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْبَدَائِعِ أَنَّ الأَْشْبَهَ أَنَّ هَذَا السُّكُوتَ إِنْكَارٌ فَيُسْتَحْلَفُ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا سَكَتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ قَال: لاَ أُخَاصِمُهُ، قَال لَهُ الْقَاضِي: إِمَّا خَاصَمْتَ وَإِمَّا أَحَلَفْتُ هَذَا الْمُدَّعِيَ عَلَى دَعْوَاهُ وَحَكَمْتُ لَهُ. فَإِنْ تَكَلَّمَ وَإِلاَّ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ بَعْدَ يَمِينِ الْمُدَّعِي. وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَشْهَبَ وَجَرَى بِهَا الْعَمَل: إِنْ قَال: لاَ أُقِرُّ وَلاَ أُنْكِرُ، لَمْ يَتْرُكْهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ. فَإِنْ تَمَادَى فِي امْتِنَاعِهِ حَكَمَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَصَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى السُّكُوتِ عَنْ جَوَابِ الْمُدَّعِي لِغَيْرِ دَهْشَةٍ أَوْ غَبَاوَةٍ جُعِل حُكْمُهُ كَمُنْكِرٍ لِلْمُدَّعَى بِهِ نَاكِلٌ عَنِ الْيَمِينِ، وَحِينَئِذٍ فَتُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى
__________
(1) ابن عابدين 4 / 224.
(2) ابن عابدين 4 / 223.
(3) تبصرة الحكام 1 / 241.

(25/143)


الْمُدَّعِي بَعْدَ أَنْ يَقُول لَهُ الْقَاضِي: أَجِبْ عَنْ دَعْوَاهُ وَإِلاَّ جَعَلْتُكَ نَاكِلاً، فَإِنْ كَانَ سُكُوتُهُ لِدَهْشَةٍ أَوْ جَهَالَةٍ أَوْ غَبَاوَةٍ شَرَحَ لَهُ ثُمَّ حَكَمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَسُكُوتُ الأَْخْرَسِ عَنِ الإِْشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ لِلْجَوَابِ كَسُكُوتِ النَّاطِقِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي اعْتِبَارِ سُكُوتِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ نُكُولاً رِوَايَتَانِ: فَقَدْ جَاءَ فِي الْمُغْنِي أَنَّهُ إِنْ سَكَتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ جَوَابِ الدَّعْوَى حَبَسَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يُجِيبَ، وَلاَ يَجْعَلُهُ بِذَلِكَ نَاكِلاً. ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ (2) .
وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ قَوْلاً آخَرَ مُوَافِقًا لِمَا قَالَهُ الْبُهُوتِيُّ مِنْ أَنَّهُ إِنْ سَكَتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَمْ يُقِرَّ وَلَمْ يُنْكِرْ أَوْ قَال: لاَ أُقِرُّ وَلاَ أُنْكِرُ، أَوْ قَال: لاَ أَعْلَمُ قَدْرَ حَقِّهِ: قَال لَهُ الْقَاضِي: احْلِفْ وَإِلاَّ جَعَلْتُكَ نَاكِلاً وَقَضَيْتُ عَلَيْكَ. وَإِنْ لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَال لَهُ: إِنْ حَلَفْتَ وَإِلاَّ قَضَيْتُ عَلَيْكَ بِالنُّكُول وَيُكَرِّرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَجَابَ وَإِلاَّ جَعَلَهُ نَاكِلاً وَحَكَمَ عَلَيْهِ (3) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاء) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 468، والقليوبي 4 / 342.
(2) المغني لابن قدامة 9 / 90.
(3) كشاف القناع 6 / 340، والمغني لابن قدامة 9 / 90.

(25/143)


السُّكُوتُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
تَعَرَّضَ الأُْصُولِيُّونَ لِحُكْمِ السُّكُوتِ فِي مَوْضِعَيْنِ: الأَْوَّل عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ أَقْسَامِ الْبَيَانِ وَمِنْهَا بَيَانُ الضَّرُورَةِ، وَالثَّانِي عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الإِْجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ. وَفِيمَا يَلِي إِجْمَال مَا قَالُوا:
21 - أَوَّلاً: مِنْ أَقْسَامِ الْبَيَانِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ بَيَانُ الضَّرُورَةِ وَهُوَ الْبَيَانُ الَّذِي يَقَعُ بِسَبَبِ الضَّرُورَةِ بِمَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ وَهُوَ السُّكُوتُ، فَيَقَعُ السُّكُوتُ فِيهِ مَقَامَ الْكَلاَمِ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:
(الأَْوَّل) : مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمَنْطُوقِ مِثْل قَوْله تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ} (1) فَإِنَّهُ يَدُل عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ لِلأَْبِ، فَصَارَ بَيَانًا لِقَدْرِ نَصِيبِهِ بِدَلاَلَةِ صَدْرِ الْكَلاَمِ، لاَ بِمَحْضِ السُّكُوتِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ الْمُضَارَبَةُ فَإِنَّ بَيَانَ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ وَالسُّكُوتَ عَنْ نَصِيبِ رَبِّ الْمَال صَحِيحٌ لِلاِسْتِغْنَاءِ عَنِ الْبَيَانِ. كَذَلِكَ بَيَانُ نَصِيبِ رَبِّ الْمَال وَالسُّكُوتُ عَنْ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ وَعَلَى هَذَا حُكْمُ الْمُزَارَعَةِ.
(الثَّانِي) : مَا يَثْبُتُ بِدَلاَلَةِ حَال الْمُتَكَلِّمِ
__________
(1) سورة النساء آية: 11.

(25/144)


كَسُكُوتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ أَمْرٍ يُعَايِنُهُ عَنِ التَّغْيِيرِ، فَإِنَّهُ يَدُل عَلَى كَوْنِهِ حَقًّا، مِثْل مَا شَاهَدَ مِنْ بِيَاعَاتٍ وَمُعَامَلاَتٍ كَانَ النَّاسُ يَتَعَامَلُونَهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَمَآكِل وَمَشَارِبَ وَمَلاَبِسَ كَانُوا يَسْتَدِيمُونَ مُبَاشَرَتَهَا، فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُنْكِرْهَا عَلَيْهِمْ، فَدَل أَنَّ جَمِيعَهَا مُبَاحٌ فِي الشَّرْعِ، إِذْ لاَ يَجُوزُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقِرَّ النَّاسَ عَلَى مُنْكَرٍ مَحْظُورٍ، فَكَانَ سُكُوتُهُ بَيَانًا (1) . وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ سُكُوتُ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ فِي النِّكَاحِ يُجْعَل بَيَانًا لِحَالِهَا الَّتِي تُوجِبُ ذَلِكَ، وَهُوَ الْحَيَاءُ، فَجُعِل سُكُوتُهَا دَلِيلاً عَلَى الإِْجَازَةِ وَالرِّضَا. وَكَذَلِكَ النُّكُول جُعِل بَيَانًا لِحَال النَّاكِل، وَهُوَ امْتِنَاعُهُ عَنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَيَدُل ذَلِكَ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْمُدَّعَى.
(الثَّالِثُ) : مَا جُعِل بَيَانًا لِضَرُورَةِ دَفْعِ الْغُرُورِ، كَسُكُوتِ الْمَوْلَى حِينَ يَرَى عَبْدَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي، فَجُعِل هَذَا السُّكُوتُ إِذْنًا؛ دَفْعًا لِلْغُرُورِ عَنِ النَّاسِ.
وَكَذَا سُكُوتُ الشَّفِيعِ، جُعِل رَدًّا لِهَذَا الْمَعْنَى
__________
(1) كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي 3 / 147، 148، والتلويح والتوضيح 2 / 39، 40 مطبعة محمد علي صبيح وأولاده.

(25/144)


وَهُوَ دَفْعُ الْغُرُورِ عَنِ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا لَمْ يُجْعَل سُكُوتُ الشَّفِيعِ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ إِسْقَاطًا لَهَا فَإِمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ الْمُشْتَرِي عَنِ التَّصَرُّفِ أَوْ تَصَرَّفَ ثُمَّ يَنْقُضُ الشَّفِيعُ عَلَيْهِ تَصَرُّفَهُ، وَكِلاَهُمَا ضَرَرٌ عَلَى الْمُشْتَرِي.
(الرَّابِعُ) : مَا ثَبَتَ لِضَرُورَةِ الْكَلاَمِ، كَمَا لَوْ قَال: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَدِرْهَمٌ، أَوْ أَلْفٌ وَدِينَارٌ أَوْ مِائَةٌ وَقَفِيزُ حِنْطَةٍ، فَإِنَّ الْعَطْفَ جُعِل بَيَانًا لِلأَْوَّل، فَجُعِل الأَْوَّل مِنْ جِنْسِ الْمَعْطُوفِ (1) .

ثَانِيًا: الإِْجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ:
22 - الإِْجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ هُوَ أَنْ يَقُول بَعْضُ أَهْل الاِجْتِهَادِ بِقَوْلٍ وَيَنْتَشِرَ ذَلِكَ فِي الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَهْل ذَلِكَ الْعَصْرِ فَيَسْكُتُونَ، وَلاَ يَظْهَرُ مِنْهُمْ تَصْرِيحٌ بِالْقَوْل وَلاَ الإِْنْكَارِ (2) .
وَشُرُوطُ الإِْجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ الَّذِي اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ وَالأُْصُولِيُّونَ فِي حُكْمِهِ هِيَ:
(1) أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ مُجَرَّدًا عَنْ أَمَارَةِ الرِّضَا وَالسَّخَطِ، فَإِذَا كَانَ السُّكُوتُ مُقْتَرِنًا
__________
(1) كشف الأسرار 3 / 151، 153، والتلويح مع التوضيح 2 / 40.
(2) إرشاد الفحول ص 79 وما بعدها، ومسلم الثبوت 2 / 232.

(25/145)


بِالرِّضَا فَإِنَّهُ إِجْمَاعٌ قَطْعًا، أَوْ بِالسَّخَطِ فَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ قَطْعًا.
(2) أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ قَدْ بَلَغَتْ كُل الْمُجْتَهِدِينَ فِي أَهْل ذَلِكَ الْعَصْرِ.
(3) أَنْ يَكُونَ قَدْ مَضَى عَلَى الْحُكْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ زَمَنُ مُهْلَةِ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّل عَادَةً، وَلاَ تَقِيَّةَ هُنَاكَ لِخَوْفٍ أَوْ مَهَابَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا.
(4) أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مَحَل الاِجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ وَلاَ تَكُونَ قَطْعِيَّةً، وَإِلاَّ فَلاَ يَكُونُ مِنْ مَحَل الإِْجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي حُجِّيَّتِهِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ قَالُوا: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ؛ لأَِنَّهُ لَوْ شُرِطَ قَوْل كُلٍّ فِي انْعِقَادِ الإِْجْمَاعِ لَمْ يَتَحَقَّقْ إِجْمَاعٌ أَصْلاً، لأَِنَّ الْعَادَةَ فِي كُل عَصْرٍ إِفْتَاءُ الأَْكَابِرِ وَسُكُوتُ الأَْصَاغِرِ تَسْلِيمًا (2) . قَال الْجَلاَل الْمَحَلِّيُّ: سُكُوتُ الْعُلَمَاءِ فِي مِثْل ذَلِكَ يُظَنُّ مِنْهُ الْمُوَافَقَةُ عَادَةً (3) .
وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، أَخْذًا مِنْ قَاعِدَةِ: (لاَ يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ)
__________
(1) مسلم الثبوت بهامش المستصفى 2 / 232، وجمع الجوامع 2 / 191، 193.
(2) مسلم الثبوت 2 / 233.
(3) جمع الجوامع 2 / 188.

(25/145)


وَلاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ لِغَيْرِ الْمُوَافَقَةِ، كَالْخَوْفِ وَالْمَهَابَةِ وَالتَّرَدُّدِ فِي الْمَسْأَلَةِ (1) .
وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ فِي الْفُتْيَا فَقَطْ أَمَّا الْقَضَاءُ فَلاَ إِجْمَاعَ فِيهِ أَصْلاً (2) .
وَقِيل: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ إِذَا كَثُرَ السُّكُوتُ وَتَكَرَّرَ فِيمَا يَعُمُّ فِيهِ الْبَلْوَى. وَذَهَبَ الآْمِدِيُّ وَالْكَرْخِيُّ إِلَى أَنَّهُ إِجْمَاعٌ ظَنِّيٌّ (3) .
قَال ابْنُ السُّبْكِيِّ بَعْدَمَا نَقَل أَقْوَال وَآرَاءَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حُجَّةٌ مُطْلَقًا (4) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) جمع الجوامع 2 / 189، ومسلم الثبوت 2 / 232، 233.
(2) مسلم الثبوت 2 / 232.
(3) نفس المراجع. وانظر رسالة إجمال الإصابة في أقوال الصحابة للعلائي. نشر مركز المخطوطات والتراث التابع لجمعية التراث الإسلامي بالكويت 1407 هـ.
(4) جمع الجوامع مع حاشية البناني 2 / 179، وانظر التلويح مع التوضيح 2 / 42.

(25/146)


سِلاَحٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - السِّلاَحُ: اسْمٌ جَامِعٌ لآِلَةِ الْحَرْبِ؛ أَيْ: كُل مَا يُقَاتَل بِهِ، وَجَمْعُهُ أَسْلِحَةٌ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} (1) . وَخَصَّ بَعْضُهُمُ السِّلاَحَ بِمَا كَانَ مِنَ الْحَدِيدِ وَرُبَّمَا خَصَّ بِهِ السَّيْفَ، قَال الأَْزْهَرِيُّ: السَّيْفُ وَحْدَهُ يُسَمَّى سِلاَحًا (2) . وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمُعَانَى اللُّغَوِيَّةِ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسِّلاَحِ:
إِعْدَادُ السِّلاَحِ لِلْجِهَادِ وَالتَّدَرُّبِ عَلَيْهِ:
2 - ذَهَبَ الْعُلَمَاءُ إِلَى أَنَّ الاِسْتِعْدَادَ لِلْجِهَادِ بِإِعْدَادِ السِّلاَحِ وَالتَّدَرُّبِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ وَعَلَى الرَّمْيِ فَرِيضَةٌ تَقْتَضِيهَا فَرِيضَةُ الْجِهَادِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى
__________
(1) سورة النساء / 102.
(2) لسان العرب، والمفردات للراغب، ومتن اللغة مادة (سلح) ونهاية المحتاج 3 / 378، والفتح الرباني 16 / 6.

(25/146)


{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (1) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ: إِنَّ الآْيَةَ تَدُل عَلَى أَنَّ الاِسْتِعْدَادَ لِلْجِهَادِ بِالسِّلاَحِ فَرِيضَةٌ، إِلاَّ أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ (2) .
فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُسْلِمِينَ بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ لِلأَْعْدَاءِ. وَقَدْ وَرَدَ لَفْظُ الْقُوَّةِ فِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ مُطْلَقًا بِغَيْرِ تَحْدِيدٍ وَلاَ تَقْيِيدٍ، فَهُوَ يَتَّسِعُ لِيَشْمَل كُل عَنَاصِرِ الْقُوَّةِ مَادِّيًّا وَمَعْنَوِيًّا، وَمَا يُتَقَوَّى بِهِ عَلَى حَرْبِ الْعَدُوِّ، وَكُل مَا هُوَ آلَةٌ لِلْغَزْوِ وَالْجِهَادِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْقُوَّةِ. وَقَدْ تَرَكَتِ الآْيَةُ الْكَرِيمَةُ تَحْدِيدَ الْقُوَّةِ الْمَطْلُوبَةِ؛ لأَِنَّهَا تَتَطَوَّرُ تَبَعًا لِلزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَحَتَّى يَلْتَزِمَ الْمُسْلِمُونَ بِإِعْدَادِ مَا يُنَاسِبُ ظُرُوفَهُمْ مِنْ قُوَّةٍ يَسْتَطِيعُونَ بِهَا إِرْهَابَ الْعَدُوِّ (3) .
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ
__________
(1) سورة الأنفال / 60.
(2) تفسير القرطبي 8 / 35 ط دار الكتب المصرية، والتفسير الكبير 15 / 185 الطبعة الأولى.
(3) تفسير القرطبي 8 / 35، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 85 ط البهية المصرية، وتفسير الرازي 15 / 185، وفتح الباري 6 / 91 ط السلفية.

(25/147)


يَقُول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ، أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ (1) . كَرَّرَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّرْغِيبِ فِي تَعَلُّمِهِ وَإِعْدَادِ آلاَتِ الْحَرْبِ، وَقَدْ فَسَّرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُوَّةَ بِالرَّمْيِ وَهُوَ أَهَمُّ فُنُونِ الْقِتَال، حَيْثُ إِنَّ الرَّمْيَ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ فِي اسْتِعْمَال السِّلاَحِ (2) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّمَا فَسَّرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُوَّةَ بِالرَّمْيِ - وَإِنْ كَانَتِ الْقُوَّةُ تَظْهَرُ بِإِعْدَادِ غَيْرِهِ مِنْ آلاَتِ الْحَرْبِ - لِكَوْنِ الرَّمْيِ أَشَدَّ نِكَايَةً فِي الْعَدُوِّ وَأَسْهَل مُؤْنَةً، لأَِنَّهُ قَدْ يَرْمِي رَأْسَ الْكَتِيبَةِ فَيَهْزِمَ مَنْ خَلْفَهُ (3) .
وَلأَِبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَل - يُدْخِل بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلاَثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، وَالرَّامِيَ بِهِ، وَمُنْبِلَهُ، (4) وَارْمُوا
__________
(1) حديث: " ألا إن القوى الرمي. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 91 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1522 - ط الحلبي) .
(2) فتح الباري (6 / 91 ط السلفية، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 85 ط البهية المصرية، والقرطبي 8 / 35 - ط دار الكتاب المصرية، والفروسية لابن القيم ص 9.
(3) القرطبي 8 / 35، وانظر المراجع السابقة.
(4) النبل السهام ومنبله أي: مناول النبل.

(25/147)


وَارْكَبُوا، وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا، لَيْسَ مِنَ اللَّهْوِ إِلاَّ ثَلاَثٌ: تَأْدِيبُ الرَّجُل فَرَسَهُ، وَمُلاَعَبَتُهُ أَهْلَهُ، وَرَمْيُهُ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ بَعْدَمَا عَلِمَهُ رَغْبَةً عَنْهُ، فَإِنَّهَا نِعْمَةٌ تَرَكَهَا. أَوْ قَال: كَفَرَهَا (1) .
قَال الْخَطَّابِيُّ: أَيْ: لَيْسَ مِنَ اللَّهْوِ الْمُبَاحِ إِلاَّ ثَلاَثٌ. وَقِيل فِي مَعْنَاهُ أَيْضًا: لَيْسَ مِنَ اللَّهْوِ الْمُسْتَحَبِّ إِلاَّ هَذِهِ الثَّلاَثُ.
يُبَيِّنُ الْحَدِيثُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدْخِل الْجَنَّةَ صَانِعَ النَّبْل وَالرَّامِيَ بِهِ، وَمُنَاوِل النَّبْل، إِذَا كَانُوا يَقْصِدُونَ فِي عَمَلِهِمْ إِعْلاَءَ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَجِهَادَ الْكُفَّارِ، وَلَيْسَ مِنَ اللَّهْوِ الْمُسْتَحَبِّ إِلاَّ تَدْرِيبُ الرَّجُل فَرَسَهُ بِالرَّكْضِ وَالْجَوَلاَنِ عَلَى نِيَّةِ الْغَزْوِ، وَكَذَلِكَ الرَّمْيُ (2) .

تَزْيِينُ السِّلاَحِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَزْيِينِ آلاَتِ الْحَرْبِ
__________
(1) حديث: " إن الله - عز وجل - يدخل بالسهم الواحد ثلاثة. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 28 - 29 تحقيق عزت عبيد الدعاس) ، والترمذي (4 / 174 - ط الحلبي) من حديث عقبة بن عامر. وقال الترمذي: " حسن صحيح ".
(2) عون المعبود شرح سنن أبي داود 7 / 189 - 191 ط دار الفكر، وسنن الترمذي 1637، وسنن ابن ماجه: 2811، وسنن النسائي 6 / 223، ومسند أحمد بن حنبل 4 / 46، 148، والفروسية لابن القيم ص9

(25/148)


بِالذَّهَبِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَجُوزُ تَزْيِينُ آلاَتِ الْحَرْبِ بِالذَّهَبِ لِلرِّجَال؛ لأَِنَّ الأَْصْل أَنَّ التَّحَلِّيَ بِالذَّهَبِ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَال، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي (1) إِلاَّ مَا خَصَّهُ الدَّلِيل، وَلَمْ يَثْبُتْ مَا يَدُل عَلَى الْجَوَازِ؛ وَلأَِنَّ فِيهِ زِيَادَةَ إِسْرَافٍ وَخُيَلاَءَ (2) .
وَقِيل عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يُبَاحُ الذَّهَبُ فِي السِّلاَحِ، وَاخْتَارَهُ الآْمِدِيُّ مِنْهُمْ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ (3) . وَأَمَّا تَحْلِيَةُ آلاَتِ الْحَرْبِ بِالْفِضَّةِ فَيَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
قَال النَّوَوِيُّ: يَحِل لِلرَّجُل مِنَ الْفِضَّةِ الْخَاتَمُ وَحِلْيَةُ آلاَتِ الْحَرْبِ، كَالسَّيْفِ وَالرُّمْحِ
__________
(1) حديث: " إن هذين حرام على ذكور أمتي ". أخرجه أبو داود (4 / 330 - تحقيق عزت عبيد الدعاس) ، والنسائي (8 / 160 - ط البشائر) من حديث علي بن أبي طالب وأخرجه الترمذي (4 / 217 - ط الحلبي) من حديث أبي موسى الأشعري بنحوه، وقال: حسن صحيح.
(2) بدائع الصنائع 5 / 132 - 133 ط دار الكتاب العربي، وحاشية ابن عابدين 5 / 229 ط بولاق، واللباب شرح الكتاب 3 / 285 ط دار الفكر، والخرشي 1 / 99، والدسوقي 1 / 63 ط دار الفكر، والمحلي على المنهاج مع القليوبي وعميرة 2 / 24 ط عيسى الحلبي، والإنصاف 3 / 149 ط دار إحياء التراث العربي، وشرح منتهى الإرادات 1 / 406 ط دار الفكر، وكشاف القناع 2 / 237 ط عالم الكتب.
(3) الإنصاف 3 / 149 ط دار إحياء التراث العربي.

(25/148)


وَالْمِنْطَقَةِ وَالدِّرْعِ وَالْخُفِّ وَأَطْرَافِ السِّهَامِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَغِيظُ الْكُفَّارَ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ التَّحْلِيَةُ بِالْفِضَّةِ؛ لأَِنَّهَا فِي مَعْنَى التَّحْلِيَةِ بِالذَّهَبِ (2) . وَأَمَّا السَّيْفُ فَيَجُوزُ تَزْيِينُهُ بِالْفِضَّةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَتْ قَبِيعَةُ سَيْفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِضَّةً (3) ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْمَسْعُودِيِّ قَال: " رَأَيْتُ فِي بَيْتِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَيْفًا قَبِيعَتُهُ فِضَّةٌ، فَقُلْتُ: سَيْفُ مَنْ هَذَا؟ قَال: سَيْفُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ سَيْفَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ كَانَا مُحَلَّيَيْنِ بِالْفِضَّةِ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ تَحْلِيَةُ السَّيْفِ بِالْفِضَّةِ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَوْضِعِ الْفِضَّةِ. وَأَمَّا تَحْلِيَتُهُ بِالذَّهَبِ فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ؛ لِحُرْمَةِ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ
__________
(1) القليوبي وعميرة 2 / 24، وشرح منتهى الإرادات 1 / 406، وكشاف القناع 2 / 237، والمبدع 2 / 371.
(2) البناية شرح الهداية 9 / 238 ط دار الفكر، والخرشي 1 / 99، والدسوقي 1 / 63.
(3) حديث: " كانت قبيعة سيف النبي صلى الله عليه وسلم فضة ". أخرجه الترمذي (4 / 201 - ط الحلبي) . من حديث أنس بن مالك. وحسنه.

(25/149)


لِلرِّجَال؛ وَلأَِنَّ فِيهِ زِيَادَةَ إِسْرَافٍ وَخُيَلاَءَ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ تَحْلِيَةُ السَّيْفِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، سَوَاءٌ اتَّصَلَتِ الْحِلْيَةُ بِهِ كَقَبْضَتِهِ، أَوِ انْفَصَلَتْ كَغِمْدِهِ، وَذَلِكَ لِلرِّجَال، أَمَّا سَيْفُ الْمَرْأَةِ فَلاَ يَجُوزُ تَحْلِيَتُهُ عِنْدَهُمْ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (2) .

حَمْل السِّلاَحِ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى اسْتِحْبَابِ حَمْل السِّلاَحِ لِلْخَائِفِ فِي الصَّلاَةِ يَدْفَعُ بِهِ الْعَدُوَّ عَنْ نَفْسِهِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} (3) ؛ وَلأَِنَّهُمْ لاَ يَأْمَنُونَ أَنْ يَفْجَأَهُمْ عَدُوُّهُمْ، فَيَمِيلُوا عَلَيْهِمْ. كَمَا قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} (4) . وَالْمُسْتَحَبُّ مِنْ ذَلِكَ مَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ كَالسَّيْفِ وَالسِّكِّينِ، وَلاَ
__________
(1) البناية شرح الهداية 9 / 228 - 230، والخرشي 1 / 99. وحاشية الدسوقي 1 / 63، والأم للإمام الشافعي 2 / 35، وشرح منتهى الإرادات 1 / 406، وكشاف القناع 2 / 237، والمغني 3 / 15.
(2) الخرشي 1 / 99، وحاشية الدسوقي 1 / 63، وشرح منتهى الإرادات 1 / 406، وكشاف القناع 2 / 237 - 238.
(3) سورة النساء / 102.
(4) سورة النساء / 102.

(25/149)


يَثْقُلُهُ كَالْجَوْشَنِ (الدِّرْعِ) ، وَلاَ يَمْنَعُ مِنْ كَمَال السُّجُودِ كَالْمِغْفَرِ (1) . وَلاَ يُؤْذِي غَيْرَهُ كَالرُّمْحِ الْمُتَوَسِّطِ وَالْكَبِيرِ، وَلاَ يَجُوزُ حَمْل نَجَسٍ، وَلاَ مَا يُخِل بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ إِلاَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ (2) .
وَلَيْسَ النَّصُّ لِلإِْيجَابِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لأَِنَّ الأَْمْرَ بِهِ لِلرِّفْقِ بِهِمْ وَالصِّيَانَةِ لَهُمْ فَلَمْ يَكُنْ لِلإِْيجَابِ (3) .
وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ حَمْل السِّلاَحِ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ وَاجِبٌ؛ لأَِنَّ ظَاهِرَ الأَْمْرِ الْوُجُوبُ، وَقَدِ اقْتَرَنَ بِالنَّصِّ مَا يَدُل عَلَى إِرَادَةِ الإِْيجَابِ بِهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} (4) وَنَفْيُ الْحَرَجِ مَشْرُوطًا بِالأَْذَى دَلِيلٌ عَلَى لُزُومِهِ عِنْدَ عَدَمِهِ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ بِهِمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ مَرَضٍ فَلاَ يَجِبُ بِغَيْرِ خِلاَفٍ، بِتَصْرِيحِ النَّصِّ بِنَفْيِ الْحَرَجِ فِيهِ (5) .
__________
(1) المغفر: زرد من الدرع يلبس تحت القلنسوة.
(2) البدائع 1 / 245 ط دار الكتاب العربي، والبناية شرح الهداية 2 / 940، وروضة الطالبين 2 / 59 ط المكتب الإسلامي، ومغني المحتاج 1 / 304 ط مصطفى الحلبي، والمهذب 1 / 114 ط دار المعرفة، والمغني 2 / 412 ط الرياض، وكشاف القناع 2 / 17 ط عالم الكتب، وتفسير القرطبي 5 / 371.
(3) المراجع السابقة.
(4) سورة النساء / 102.
(5) المهذب 1 / 114، ومغني المحتاج 1 / 304، وروضة الطالبين 2 / 59، والمغني 2 / 412.

(25/150)


نَزْعُ السِّلاَحِ عَنِ الشَّهِيدِ:
5 - يُنْزَعُ السِّلاَحُ عَنِ الشَّهِيدِ، لِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمُ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ، وَأَنْ يُدْفَنُوا بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ (1) . قَال الْبَغَوِيُّ: هَذَا هُوَ السُّنَّةُ فِي الشَّهِيدِ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُ الأَْسْلِحَةُ وَالْجُلُودُ وَالْخِفَافُ وَالْفِرَاءُ، وَيُدْفَنَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ ثِيَابِ الْعَامَّةِ؛ وَلأَِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ الَّتِي أُمِرَ بِنَزْعِهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْكَفَنِ؛ وَلأَِنَّ الدَّفْنَ بِالسِّلاَحِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ كَانَ مِنْ عَادَةِ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدْفِنُونَ أَبْطَالَهُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنَ الأَْسْلِحَةِ، وَقَدْ نُهِينَا عَنِ التَّشَبُّهِ بِهِمْ (2) .

زَكَاةُ السِّلاَحِ:
6 - لَيْسَ فِي سِلاَحِ الاِسْتِعْمَال - كَدَوَابِّ الرُّكُوبِ وَثِيَابِ الْبَدَنِ وَأَثَاثِ الْمَنْزِل - زَكَاةٌ؛ لأَِنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ الأَْصْلِيَّةِ، وَلَيْسَتْ بِنَامِيَةٍ.
__________
(1) حديث: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 497 - 498 تحقيق عزت عبيد الدعاس) وضعفه ابن حجر في التلخيص الحبير (2 / 118 ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) بدائع الصنائع 1 / 324، والمبسوط 2 / 50، وشرح منح الجليل 1 / 312، والدسوقي 1 / 425، ومغني المحتاج 1 / 351، وشرح التحرير بحاشية الشرقاوي 1 / 337، وروضة الطالبين 2 / 120، وكشاف القناع 2 / 99، ومنتهى الإرادات 1 / 155.

(25/150)


وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنِ السِّلاَحُ وَنَحْوُهُ لِلتِّجَارَةِ (1) .

حَمْل السِّلاَحِ لِلْمُحْرِمِ:
7 - يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَقَلَّدَ السَّيْفَ لِلْحَاجَةِ، لِمَا رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: ( {لَمَّا صَالَحَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْل الْحُدَيْبِيَةِ صَالَحَهُمْ أَنْ لاَ يَدْخُلَهَا إِلاَّ بِجُلْبَانِ السِّلاَحِ: الْقِرَابِ بِمَا فِيهِ.) (2) وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي إِبَاحَةِ حَمْلِهِ فِي الْحَرَمِ عِنْدَ الْحَاجَةِ؛ لأَِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَأْمَنُونَ أَهْل مَكَّةَ أَنْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَلَّدَ السَّيْفَ وَغَيْرَهُ مِنَ الأَْسْلِحَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ؛ لِقَوْل ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: (لاَ يَحِل لِمُحْرِمٍ السِّلاَحُ فِي الْحَرَمِ) قَال ابْنُ قُدَامَةَ: الْقِيَاسُ يَقْتَضِي إِبَاحَتَهُ، لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى اللُّبْسِ، كَمَا لَوْ حَمَل قِرْبَةً فِي عُنُقِهِ (3) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 487، وابن عابدين 2 / 6، وشرح الزرقاني 2 / 145، وكشاف القناع 2 / 167.
(2) حديث: " لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية ". أخرجه البخاري (فتح5 / 303 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1409 - 1410 - ط. الحلبي) .
(3) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 1 / 288، وجواهر الإكليل 1 / 186، وحاشية الدسوقي 2 / 55، وإعلام المساجد في أحكام المساجد ص 169، وكشاف القناع 2 / 428.

(25/151)


حَمْل السِّلاَحِ بِمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ:
8 - لاَ يَجُوزُ حَمْل السِّلاَحِ بِمَكَّةَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ؛ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: لاَ يَحِل لأَِحَدِكُمْ أَنْ يَحْمِل بِمَكَّةَ السِّلاَحَ (1) . وَقَال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لاَ يَحِل لأَِحَدٍ أَنْ يَحْمِل السِّلاَحَ بِمَكَّةَ؛ لأَِنَّ الْقِتَال فِيهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلاَ يَحِل مَا يُسَبِّبُهُ.
قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى حَمْل السِّلاَحِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ. فَإِنْ كَانَتْ حَاجَةٌ جَازَ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل عَامَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ بِمَا اشْتَرَطَهُ مِنَ السِّلاَحِ فِي الْقِرَابِ (2) ، وَلِدُخُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ مُتَأَهِّبًا لِلْقِتَال (3) .

حَمْل السِّلاَحِ عَلَى الْغَيْرِ:
9 - مَنْ حَمَل السِّلاَحَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلاَ تَأْوِيلٍ وَلاَ اسْتِحْلاَلٍ فَهُوَ عَاصٍ، وَلاَ يَكْفُرُ بِذَلِكَ، فَإِنِ اسْتَحَلَّهُ كَفَرَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1) حديث: " لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح ". أخرجه مسلم (2 / 989 ط. الحلبي) .
(2) حديث: " إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عام عمرة القضاء. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 303 ط السلفية) ومسلم (3 / 1410 ط عيسى الحلبي) من حديث البراء.
(3) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 1 / 288، وجواهر الإكليل 1 / 186، وإعلام المساجد ص 169، وكشاف القناع 2 / 428.

(25/151)


مَنْ حَمَل عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا (1) . وَقَال ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي شَرْحِ قَوْلِهِ فَلَيْسَ مِنَّا أَيْ: لَيْسَ مُتَّبِعًا لِطَرِيقَتِنَا؛ لأَِنَّ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَنْصُرَهُ وَيُقَاتِل دُونَهُ، لاَ أَنْ يُرْعِبَهُ بِحَمْل السِّلاَحِ عَلَيْهِ لإِِرَادَةِ قِتَالِهِ أَوْ قَتْلِهِ. وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ لاَ يَسْتَحِل ذَلِكَ، فَأَمَّا مَنْ يَسْتَحِلُّهُ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ بِاسْتِحْلاَل الْمُحَرَّمِ بِشَرْطِهِ، لاَ بِمُجَرَّدِ حَمْل السِّلاَحِ. وَالأَْوْلَى عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ إِطْلاَقُ لَفْظِ الْخَبَرِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِتَأْوِيلِهِ؛ لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ، وَأَبْلَغَ فِي الزَّجْرِ.
وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَصْرِفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ (2) .
وَالْمُرَادُ بِحَمْل السِّلاَحِ شَهْرُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالصِّيَال عَلَيْهِمْ. وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (صِيَال) .

بَيْعُ السِّلاَحِ لأَِهْل الْحَرْبِ وَأَهْل الْفِتْنَةِ:
10 - يَحْرُمُ بَيْعُ السِّلاَحِ لأَِهْل الْحَرْبِ وَلِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ قَطْعَ الطَّرِيقِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ
__________
(1) حديث: " من حمل علينا السلاح فليس منا ". أخرجه البخاري (فتح12 / 192 ط السلفية) ومسلم (1 / 98 ط. الحلبي) من حديث ابن عمر.
(2) فتح الباري 13 / 20 ط مكتبة الرياض الحديثة والفتح الرباني 16 / 6 ط الأولى، وشرح مسلم للنووي 2 / 108 المطبعة المصرية.

(25/152)


إِثَارَةَ الْفِتْنَةِ بَيْنَهُمْ، وَقَال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لاَ يَحِل لِمُسْلِمٍ أَنْ يَحْمِل إِلَى عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ سِلاَحًا يُقَوِّيهِمْ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ كُرَاعًا، وَلاَ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى السِّلاَحِ وَالْكُرَاعِ؛ لأَِنَّ فِي بَيْعِ السِّلاَحِ لأَِهْل الْحَرْبِ تَقْوِيَةً لَهُمْ عَلَى قِتَال الْمُسْلِمِينَ، وَبَاعِثًا لَهُمْ عَلَى شَنِّ الْحُرُوبِ وَمُوَاصَلَةِ الْقِتَال؛ لاِسْتِعَانَتِهِمْ بِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ (1) .
وَيَحْرُمُ أَيْضًا بَيْعُ السِّلاَحِ لِلْبُغَاةِ وَأَهْل الْفِتْنَةِ (2) ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (3) . وَلِمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّلاَحِ فِي الْفِتْنَةِ (4) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْفِتْنَةُ
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 125، وبدائع الصنائع 4 / 189، والسير الكبير 4 / 141، والخراج لأبي يوسف ص 190، والحطاب 4 / 254، وجواهر الإكليل 2 / 3 و145، ومغني المحتاج 4 / 228، ونهاية المحتاج 5 / 122، والقليوبي 3 / 19، وإعلام الموقعين 3 / 158.
(2) بدائع الصنائع 4 / 189، وتبيين الحقائق 3 / 296، والحطاب 4 / 254، ونهاية المحتاج 3 / 455، والمغني 4 / 246، وإعلام الموقعين 3 / 158.
(3) سورة المائدة / 2.
(4) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع. . . ". أخرجه البيهقي (5 / 327 ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث عمران بن حصين وضعفه.

(25/152)


نَائِمَةٌ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَيْقَظَهَا (1) ؛ وَلأَِنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَهْل الْحَرْبِ) (وَبُغَاة) .
وَأَمَّا بَيْعُ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ السِّلاَحُ، كَالْحَدِيدِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ أَيْضًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمِنْهُمُ الصَّاحِبَانِ خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ. وَتَفْصِيلُهُ فِي (بَيْع مَنْهِيّ عَنْهُ) ف 116 (ج 9 212) .

اشْتِرَاطُ حَمْل السِّلاَحِ لِحَدِّ الْحِرَابَةِ (قَطْعُ الطَّرِيقِ) :
11 - يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَارِبِ الَّذِي يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ قَطْعِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنْ يَكُونَ مَعَهُ سِلاَحٌ، وَالْحِجَارَةُ وَالْعَصَا سِلاَحٌ هُنَا، فَإِنْ تَعَرَّضُوا لِلنَّاسِ بِالْعِصِيِّ وَالأَْحْجَارِ فَهُمْ مُحَارِبُونَ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَحْمِلُوا شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ فَلَيْسُوا بِمُحَارِبِينَ (2) .
وَلاَ يَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ حَمْل السِّلاَحِ
__________
(1) حديث: " الفتنة نائمة لعن الله. . . ". عزاه صاحب كنز العمال (11 / 127 ط. الرسالة) والسيوطي (فيض القدير 4 / 461 ط. المكتبة التجارية) للرافعي عن أنس. وضعفه.
(2) ابن عابدين 3 / 212، والمغني 8 / 288.

(25/153)


بَل يَكْفِي عِنْدَهُمُ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ وَأَخْذُ الْمَال وَلَوْ بِالْكَسْرِ وَالضَّرْبِ بِجَمْعِ الْكَفِّ، أَيْ: بِالْكَفِّ مَقْبُوضَةً (1) .
__________
(1) المدونة الكبرى 6 / 303، وروضة الطالبين 10 / 156، وشرح روض الطالب 4 / 154.

(25/153)


سُلاَمَى

التَّعْرِيفُ:
1 - السُّلاَمَى لُغَةً: وَاحِدُ السُّلاَمَيَاتِ بِفَتْحِ الْمِيمِ، هِيَ عِظَامُ الأَْصَابِعِ، وَالسُّلاَمَى اسْمٌ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ أَيْضًا، وَقَال ابْنُ الأَْثِيرِ: السُّلاَمَى جَمْعُ سُلاَمِيَةٍ، وَهِيَ الأُْنْمُلَةُ مِنَ الأَْصَابِعِ (1) .
وَفِي الْحَدِيثِ: كُل سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُل يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ (2) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِي الأَْطْرَافِ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَْنْفَ بِالأَْنْفِ وَالأُْذُنَ بِالأُْذُنِ
__________
(1) اللسان، والمصباح، والنهاية، ومختار الصحاح.
(2) حديث: " كل سلامي من الناس عليه صدقة ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 309 ط. السلفية) ومسلم (2 / 699 ط. عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا.

(25/154)


وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (1) .
وَيُشْتَرَطُ لِجَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِيهَا شُرُوطٌ، مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ مِنَ الْمَفْصِل، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ فَلاَ قِصَاصَ فِيهِ مِنْ مَوْضِعِ الْقَطْعِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ: أَنَّ رَجُلاً ضَرَبَ رَجُلاً عَلَى سَاعِدِهِ بِالسَّيْفِ، فَقَطَعَهَا مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ، فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ لَهُ بِالدِّيَةِ. قَال: إِنِّي أُرِيدُ الْقِصَاصَ قَال: خُذِ الدِّيَةَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا (2) وَلَمْ يَقْضِ لَهُ بِالْقِصَاصِ (3) . . .
قَالُوا: وَأَصَابِعُ كُلٍّ مِنَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ عَشْرٌ، فَفِي كُل أُصْبُعٍ عُشْرُ الدِّيَةِ، وَدِيَةُ كُل أُصْبُعٍ مَقْسُومَةٌ عَلَى أَنَامِلِهَا؛ أَيْ: (سُلاَمَيَاتِهَا) فَفِي كُل أُنْمُلَةٍ مِنْهَا غَيْرِ الإِْبْهَامِ: ثُلُثُ دِيَةِ الأُْصْبُعِ؛ لأَِنَّ لِكُل أُصْبُعٍ: ثَلاَثَ أَنَامِل. إِلاَّ الإِْبْهَامَ: فَلَهُ أُنْمُلَتَانِ. فَفِي كُل أُنْمُلَةٍ مِنْهُ: نِصْفُ دِيَةِ الأُْصْبُعِ. عَمَلاً بِقِسْطِ وَاجِبِ الأُْصْبُعِ (4) .
__________
(1) سورة المائدة / 45.
(2) حديث جابر: " أن رجلا ضرب رجلا على ساعده. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 880 ط عيسى الحلبي) وقال البوصيري في الزوائد: في إسناده دهثم بن قران اليماني ضعفه أبو داود.
(3) المغني 7 / 707.
(4) مغني المحتاج 6 / 131، جواهر الإكليل 2 / 270، الزيلعي 6 / 131.

(25/154)


مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - يَتَنَاوَل الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ السُّلاَمَى مُعَبِّرِينَ عَنْهَا بِالأَْنَامِل تَارَةً، وَبِالْمَفَاصِل مِنْ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ تَارَةً أُخْرَى، فِي مَبَاحِثِ الْجِنَايَاتِ، عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى الْقِصَاصِ وَدِيَاتِ الأَْطْرَافِ. وَفِي الْجَنَائِزِ، عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ تَلْيِينِ مَفَاصِل الْمَيِّتِ، وَفِي الْوُضُوءِ، عِنْدَ غَسْل الْمَفَاصِل، وَفِي اسْتِعْمَال الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، لِبَيَانِ حُكْمِ اتِّخَاذِ الأَْنَامِل مِنْهُمَا.

(25/155)


سَلاَم

التَّعْرِيفُ:
1 - السَّلاَمُ - بِفَتْحِ السِّينِ - اسْمُ مَصْدَرِ سَلَّمَ؛ أَيْ: أَلْقَى السَّلاَمَ، وَمِنْ مَعَانِي السَّلاَمِ السَّلاَمَةُ وَالأَْمْنُ وَالتَّحِيَّةُ، وَلِذَلِكَ قِيل لِلْجَنَّةِ: دَارُ السَّلاَمِ لأَِنَّهَا دَارُ السَّلاَمَةِ مِنَ الآْفَاتِ كَالْهَرَمِ وَالأَْسْقَامِ وَالْمَوْتِ. قَال تَعَالَى: {لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (1) .
وَالسَّلاَمُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى (2) .
2 - وَالسَّلاَمُ يُطْلَقُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أُمُورٍ، مِنْهَا: التَّحِيَّةُ الَّتِي يُحَيِّي بِهَا الْمُسْلِمُونَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا، وَاَلَّتِي أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَا فِي كِتَابِهِ حَيْثُ قَال: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (3) وقَوْله تَعَالَى
__________
(1) سورة الأنعام / 127.
(2) اللسان والصحاح والمصباح مادة (سلم) .
(3) سورة النساء / 86، وتفسير القرطبي 5 / 297 ط الأولى

(25/155)


{فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيْبَةً} (1) ذَلِكَ أَنَّ لِلْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ تَحِيَّاتٍ خَاصَّةً بِهِمْ، فَلَمَّا جَاءَ الإِْسْلاَمُ دَعَا الْمُؤْمِنِينَ إِلَى التَّحِيَّةِ الْخَاصَّةِ، وَهِيَ قَوْل: (السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ) ، وَقَصَرَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُمْ بِإِفْشَائِهِ.
وَالسَّلاَمُ أَيْضًا تَحِيَّةُ أَهْل الْجَنَّةِ. قَال سُبْحَانَهُ: {وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُل بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَّرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (2) .
وَقَدِ اخْتِيرَ هَذَا اللَّفْظُ دُونَ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ مَعْنَاهُ الدُّعَاءُ بِالسَّلاَمَةِ مِنَ الآْفَاتِ فِي الدِّينِ وَالنَّفْسِ؛ وَلأَِنَّ فِي تَحِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِهَذَا اللَّفْظِ عَهْدًا بَيْنَهُمْ عَلَى صِيَانَةِ دِمَائِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّحِيَّةُ:
3 - التَّحِيَّةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ حَيَّاهُ يُحَيِّيهِ تَحِيَّةً، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ بِالْحَيَاةِ، وَمِنْهُ
__________
(1) سورة النور / 61، وتفسير القرطبي 12 / 318 ط الأولى، روح المعاني 18 / 222 ط المنيرية.
(2) سورة الرعد / 23 - 24.
(3) لسان العرب والمصباح مادة (سلم) .

(25/156)


(التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ) (1) . أَيْ: الْبَقَاءُ، وَقِيل: الْمُلْكُ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اسْتُعْمِل فِي مَا يُحَيَّا بِهِ مِنْ سَلاَمٍ وَنَحْوِهِ (2) . فَهِيَ أَعَمُّ مِنَ السَّلاَمِ فَتَشْمَل السَّلاَمَ وَالتَّقْبِيل وَالْمُصَافَحَةَ وَالْمُعَانَقَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ عَلَى مَا سَيَأْتِي.

ب - التَّقْبِيل:
4 - التَّقْبِيل فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ قَبَّل، وَالاِسْمُ مِنْهُ الْقُبْلَةُ، وَالْجَمْعُ الْقُبَل (3) . وَالتَّقْبِيل صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ التَّحِيَّةِ.

ج - الْمُصَافَحَةُ:
5 - الْمُصَافَحَةُ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ: الإِْفْضَاءُ بِالْيَدِ إِلَى الْيَدِ، وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ الْمُصَافَحَةَ إِلْصَاقُ صَفْحَةِ الْكَفِّ بِالْكَفِّ، وَإِقْبَال الْوَجْهِ بِالْوَجْهِ. فَأَخْذُ الأَْصَابِعِ لَيْسَ بِمُصَافَحَةٍ، خِلاَفًا لِلرَّوَافِضِ. وَالسُّنَّةُ أَنْ تَكُونَ بِكِلْتَا يَدَيْهِ بِغَيْرِ حَائِلٍ، مِنْ ثَوْبٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَعِنْدَ اللِّقَاءِ وَبَعْدَ السَّلاَمِ، وَأَنْ يَأْخُذَ الإِْبْهَامَ، فَإِنَّ فِيهِ عِرْقًا يُنْبِتُ الْمَحَبَّةَ، وَقَدْ تَحْرُمُ كَمُصَافَحَةِ الأَْمْرَدِ. وَقَدْ تُكْرَهُ كَمُصَافَحَةِ ذِي عَاهَةٍ، مِنْ بَرَصٍ وَجُذَامٍ،
__________
(1) حديث: " التحيات لله ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 311 - ط السلفية) ومسلم (1 / 301 - ط الحلبي) من حديث ابن مسعود.
(2) اللسان والمصباح مادة (حيا) ، تفسير القرطبي 5 / 297 - 298 ط الأولى.
(3) المصباح واللسان وتاج العروس مادة (قبل) .

(25/156)


وَتُسَنُّ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ خُصُوصًا لِنَحْوِ قُدُومِ سَفَرٍ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مُصَافَحَة) .

د - الْمُعَانَقَةُ:
6 - الْمُعَانَقَةُ فِي اللُّغَةِ: الضَّمُّ وَالاِلْتِزَامُ وَاعْتَنَقْتُ الأَْمْرَ: أَخَذْتُهُ بِجَدٍّ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي أَنَّ الْمُعَانَقَةَ هِيَ جَعْل الرَّجُل عُنُقَهُ عَلَى عُنُقِ صَاحِبِهِ.
وَقَدْ كَرِهَهَا مَالِكٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ لأَِنَّهَا مِنْ فِعْل الأَْعَاجِمِ.
قَال الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ: كَرِهَ مَالِكٌ الْمُعَانَقَةَ، لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ فَعَلَهَا إِلاَّ مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا رَجَعَ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَلَمْ يَصْحَبْهَا الْعَمَل مِنَ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ.
وَأَمَّا غَيْرُ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ، كَالْحَنَابِلَةِ فَقَالُوا بِجَوَازِهَا، فَفِي الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ لاِبْنِ مُفْلِحٍ إِبَاحَةُ الْمُعَانَقَةِ. وَمِثْلُهَا تَقْبِيل الْيَدِ وَالرَّأْسِ تَدَيُّنًا وَإِكْرَامًا وَاحْتِرَامًا مَعَ أَمْنِ الشَّهْوَةِ؛
__________
(1) المصباح مادة (صفح) ، وابن عابدين 5 / 242 المصرية، الفواكه الدواني 2 / 424 ط حلب، حاشية القليوبي 3 / 213 ط حلب.

(25/157)


لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَانَقَهُ (1) . قَال إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الرَّجُل يَلْقَى الرَّجُل، يُعَانِقُهُ؟ قَال: نَعَمْ فَعَلَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ.
وَمُعَانَقَةُ الأَْجْنَبِيَّةِ وَالأَْمْرَدِ حَرَامٌ، كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَمُعَانَقَةُ الرَّجُل زَوْجَتَهُ مَكْرُوهَةٌ فِي الصَّوْمِ، وَكَذَا مُعَانَقَةُ ذَوِي الْعَاهَاتِ مِنْ بَرَصٍ وَجُذَامٍ؛ أَيْ: مَكْرُوهَةٌ. وَأَمَّا الْمُعَانَقَةُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ، كَمُعَانَقَةِ الرَّجُل لِلرَّجُل فَهِيَ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ خَاصَّةً عِنْدَ الْقُدُومِ مِنَ السَّفَرِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحِ (مُعَانَقَة) .

صِيغَةُ السَّلاَمِ وَصِيغَةُ الرَّدِّ:
7 - صِيغَةُ السَّلاَمِ وَصِفَتُهُ الْكَامِلَةُ أَنْ يَقُول الْمُسْلِمُ: " السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ " بِالتَّعْرِيفِ وَبِالْجَمْعِ. سَوَاءٌ كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا
__________
(1) حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم عانق أبا ذر أخرجه أبو داود (5 / 389 - 390 تحقيق عزت عبيد دعاس) وأعله ابن مفلح بجهالة الراوي عن أبي ذر، كذا في الآداب الشرعية (2 / 275 - ط المنار) .
(2) المصباح مادة (عنق) ، ابن عابدين 2 / 282 - 283، 5 / 244 ط المصرية، الفواكه الدواني 2 / 425 ط حلب، حاشية عميرة 2 / 58 ط حلب، حاشية القليوبي 3 / 213 ط حلب، الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 270، 272 ط الرياض.

(25/157)


أَوْ جَمَاعَةً؛ لأَِنَّ الْوَاحِدَ مَعَهُ الْحَفَظَةُ كَالْجَمْعِ مِنَ الآْدَمِيِّينَ وَهَذِهِ الصِّيغَةُ هِيَ الْمَرْوِيَّةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَقُول: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ، بِالتَّنْكِيرِ، إِلاَّ أَنَّ التَّعْرِيفَ أَفْضَل؛ لأَِنَّهُ تَحِيَّةُ أَهْل الدُّنْيَا. فَأَمَّا " سَلاَمٌ " بِالتَّنْكِيرِ فَتَحِيَّةُ أَهْل الْجَنَّةِ. كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (1) .
8 - وَالأَْكْمَل أَنْ يَقُول: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، بِتَأْخِيرِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، فَلَوْ قَال: عَلَيْكُمُ السَّلاَمُ، أَوْ: عَلَيْكَ السَّلاَمُ، كَانَ مُخَالِفًا لِلأَْكْمَل؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ قَال: لَقِيتُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلاَمُ يَا رَسُول اللَّهِ، فَقَال: لاَ تَقُل عَلَيْكَ السَّلاَمُ، فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلاَمُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ وَلَكِنْ قُل: السَّلاَمُ عَلَيْكَ (2) قَال الْقُرْطُبِيُّ: لَمَّا جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ بِتَقْدِيمِ اسْمِ الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ فِي الشَّرِّ كَقَوْلِهِمْ (عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَغَضَبُ اللَّهِ) نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، لاَ أَنَّ ذَاكَ هُوَ اللَّفْظُ الْمَشْرُوعُ فِي حَقِّ الْمَوْتَى؛ لأَِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى الْمَوْتَى، كَمَا سَلَّمَ عَلَى الأَْحْيَاءِ فَقَال
__________
(1) سورة الرعد / 24.
(2) حديث: " لا تقل عليك السلام ". أخرجه أبو داود (4 / 344 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث جابر بن سليم، وأخرجه كذلك الترمذي (5 / 72 - ط الحلبي) وقال: / " حديث صحيح ".

(25/158)


: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ.
وَهَذَا لَيْسَ عَلَى سَبِيل التَّحْرِيمِ، بَل هُوَ خِلاَفُ الأَْكْمَل أَوْ مَكْرُوهٌ كَمَا قَال الْغَزَالِيُّ. وَعَلَى كُل حَالٍ فَيَجِبُ رَدُّ السَّلاَمِ (1) .
ثُمَّ إِنَّ أَكْثَرَ مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ السَّلاَمُ إِلَى الْبَرَكَةِ فَتَقُول: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَل، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَجُلاً سَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَال: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَال عُرْوَةُ: مَا تَرَكَ لَنَا فَضْلاً، إِنَّ السَّلاَمَ قَدِ انْتَهَى إِلَى: وَبَرَكَاتُهُ. وَذَلِكَ كَمَا فِي رُوحُ الْمَعَانِي؛ لاِنْتِظَامِ تِلْكَ التَّحِيَّةِ لِجَمِيعِ فُنُونِ الْمَطَالِبِ الَّتِي هِيَ السَّلاَمَةُ عَنِ الْمَضَارِّ، وَنَيْل الْمَنَافِعِ وَدَوَامُهَا وَنَمَاؤُهَا.
وَقِيل: يَزِيدُ الْمُحَيَّى إِذَا جَمَعَ الْمُحَيِّي الثَّلاَثَةَ لَهُ وَهِيَ السَّلاَمُ وَالرَّحْمَةُ وَالْبَرَكَةُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ سَالِمٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا قَال: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا سَلَّمَ
__________
(1) حاشية العدوي على الرسالة 2 / 435 ط المعرفة، القرطبي 5 / 300 - 301 ط الأولى، الأذكار للنووي 390 ط الأولى، والفتوحات الربانية شرح الأذكار 5 / 322 والحديث: " السلام عليكم دار قوم مؤمنين " أخرجه مسلم (1 / 218 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.

(25/158)


عَلَيْهِ فَرَدَّ زَادَ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، فَقَال: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ أَتَيْتُهُ مَرَّةً أُخْرَى فَقُلْتُ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَبَرَكَاتُهُ، فَقَال: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَبَرَكَاتُهُ وَطَيِّبُ صَلَوَاتِهِ. وَلاَ يَتَعَيَّنُ مَا ذُكِرَ لِلزِّيَادَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ زِيَادَةُ: وَمَغْفِرَتُهُ (1) .

صِيغَةُ رَدِّ السَّلاَمِ:
9 - صِيغَةُ الرَّدِّ أَنْ يَقُول الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ (وَعَلَيْكُمُ السَّلاَمُ) بِتَقْدِيمِ الْخَبَرِ وَبِالْوَاوِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَقُول: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ. بِتَنْكِيرِ السَّلاَمِ وَتَقْدِيمِهِ، وَبِدُونِ وَاوٍ، لَكِنِ الأَْفْضَل بِالْوَاوِ لِصَيْرُورَةِ الْكَلاَمِ بِهَا جُمْلَتَيْنِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: عَلَيَّ السَّلاَمُ وَعَلَيْكُمْ، فَيَصِيرُ الرَّادُّ مُسَلِّمًا عَلَى نَفْسِهِ مَرَّتَيْنِ: الأُْولَى مِنَ الْمُبْتَدِئِ وَالثَّانِيَةُ مِنْ نَفْسِ الرَّادِّ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا تَرَكَ الْوَاوَ، فَإِنَّ الْكَلاَمَ حِينَئِذٍ يَصِيرُ جُمْلَةً وَاحِدَةً تَخُصُّ الْمُسَلِّمَ وَحْدَهُ.
وَالأَْصْل فِي صِيغَةِ الرَّدِّ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى الْبَرَكَةِ فَتَقُول: وَعَلَيْكُمُ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَإِذَا قَال الْمُسَلِّمُ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ تَكُونُ وَاجِبَةً، فَلَوِ اقْتَصَرَ الْمُسَلِّمُ عَلَى لَفْظِ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، كَانَتْ
__________
(1) روح المعاني 5 / 99 ط المنيرية.

(25/159)


الزِّيَادَةُ مُسْتَحَبَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (1) .

السَّلاَمُ أَوْ رَدُّهُ بِالإِْشَارَةِ:
10 - يُكْرَهُ السَّلاَمُ أَوْ رَدُّهُ بِالإِْشَارَةِ بِالرَّدِّ بِالْيَدِ أَوْ بِالرَّأْسِ بِغَيْرِ نُطْقٍ بِالسَّلاَمِ مَعَ الْقُدْرَةِ وَقُرْبِ الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَل أَهْل الْكِتَابِ: الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا، لاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَلاَ بِالنَّصَارَى، فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْيَهُودِ الإِْشَارَةُ بِالأَْصَابِعِ، وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الإِْشَارَةُ بِالأَْكُفِّ (2) . فَإِنْ كَانَتِ الإِْشَارَةُ مَقْرُونَةً بِالنُّطْقِ، بِحَيْثُ وَقَعَ التَّسْلِيمُ أَوِ الرَّدُّ بِاللِّسَانِ مَعَ الإِْشَارَةِ، أَوْ كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ بَعِيدًا عَنِ الْمُسَلِّمِ، بِحَيْثُ لاَ يَسْمَعُ صَوْتَهُ فَيُشِيرُ إِلَيْهِ بِالسَّلاَمِ بِيَدِهِ أَوْ رَأْسِهِ لِيُعْلِمَهُ أَنَّهُ يُسَلِّمُ، فَلاَ كَرَاهَةَ (3) .
__________
(1) سورة النساء / 86 - وانظر روح المعاني 5 / 99 ط المنيرية، القرطبي 5 / 299 ط الأولى، العدوي على الرسالة 2 / 435 ط المعرفة، الأذكار للنووي / 391 - 392 ط الأولى.
(2) حديث: " ليس منا من تشبه بغيرنا ". أخرجه الترمذي (5 / 56 - 57 ط الحلبي) .
(3) الفواكه الدواني 2 / 422 - 423 ط حلب، الأذكار للنووي / 393 - 394 ط الأولى.

(25/159)


وَتَكْفِي الإِْشَارَةُ فِي السَّلاَمِ عَلَى أَصَمَّ أَوْ أَخْرَسَ، أَوِ الرَّدِّ عَلَى سَلاَمِهِ، خِلاَفًا لِمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الأَْذْكَارِ عَنِ الْمُتَوَلِّي حَيْثُ قَال: إِذَا سَلَّمَ عَلَى أَصَمَّ لاَ يَسْمَعُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَلَفَّظَ بِلَفْظِ السَّلاَمِ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَيُشِيرُ بِالْيَدِ حَتَّى يَحْصُل الإِْفْهَامُ وَيَسْتَحِقَّ الْجَوَابَ، فَلَوْ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا لاَ يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ قَال: وَكَذَا لَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَصَمُّ وَأَرَادَ الرَّدَّ فَيَتَلَفَّظُ بِاللِّسَانِ وَيُشِيرُ بِالْجَوَابِ لِيَحْصُل بِهِ الإِْفْهَامُ وَيَسْقُطَ عَنْهُ فَرْضُ الْجَوَابِ. قَال: وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى أَخْرَسَ فَأَشَارَ الأَْخْرَسُ بِالْيَدِ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ؛ لأَِنَّ إِشَارَتَهُ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْعِبَارَةِ. وَكَذَا لَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَخْرَسُ بِالإِْشَارَةِ يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ مَعَ الْعِبَارَةِ (1) .

السَّلاَمُ بِوَسَاطَةِ الرَّسُول أَوِ الْكِتَابِ:
11 - السَّلاَمُ بِوَاسِطَةِ الرَّسُول أَوِ الْكِتَابِ كَالسَّلاَمِ مُشَافَهَةً، فَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي كِتَابِهِ الأَْذْكَارِ عَنْ أَبِي سَعْدٍ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرِهِ فِيمَا إِذَا نَادَى إِنْسَانٌ إِنْسَانًا مِنْ خَلْفِ سِتْرٍ أَوْ حَائِطٍ فَقَال: السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا فُلاَنُ، أَوْ كَتَبَ كِتَابًا فِيهِ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا فُلاَنُ، أَوِ: السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ، أَوْ: أَرْسَل رَسُولاً وَقَال: سَلِّمْ عَلَى فُلاَنٍ، فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ أَوِ الرَّسُول وَجَبَ عَلَيْهِ
__________
(1) الأذكار للنووي / 396 ط الأولى ودليل الفالحين 5 / 310، والآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 419.

(25/160)


أَنْ يَرُدَّ السَّلاَمَ. صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، قَال النَّوَوِيُّ: قَال أَصْحَابُنَا: وَهَذَا الرَّدُّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ، وَكَذَا لَوْ بَلَغَهُ سَلاَمٌ فِي وَرَقَةٍ مِنْ غَائِبٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ السَّلاَمَ بِاللَّفْظِ عَلَى الْفَوْرِ إِذَا قَرَأَهُ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَال لِي رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا جِبْرِيل يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلاَمَ، قَالَتْ: قُلْتُ: وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ (1) . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الْمُبَلِّغِ أَيْضًا بِأَنْ يَقُول: وَعَلَيْكَ وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ (2) .

السَّلاَمُ وَرَدُّهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ:
12 - السَّلاَمُ وَرَدُّهُ بِالْعَجَمِيَّةِ كَالسَّلاَمِ وَرَدِّهِ بِالْعَرَبِيَّةِ، لأَِنَّ الْغَرَضَ مِنَ السَّلاَمِ التَّأْمِينُ وَالدُّعَاءُ بِالسَّلاَمَةِ وَالتَّحِيَّةُ، فَيَحْصُل ذَلِكَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، كَمَا يَحْصُل بِهَا. وَهَذَا فِي السَّلاَمِ خَارِجَ الصَّلاَةِ، إِذِ السَّلاَمُ فِي الصَّلاَةِ لاَ يُجْزِئُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
__________
(1) حديث: " هذا جبريل يقرأ عليك السلام ". أخرجه البخاري (الفتح 11 / 38 ط. السلفية) ومسلم (4 / 1895 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
(2) روح المعاني 5 / 100 - 101 ط المنيرية - القرطبي 5 / 300 - 301 ط. الأولى، التفسير الكبير للرازي 10 / 213، 215 ط. الأولى، الأذكار للنووي / 395 - 396 ط. الأولى.

(25/160)


عَلَى قَوْلٍ. وَلاَ يَكْفِيهِ الْخُرُوجُ مِنْهَا بِالنِّيَّةِ. فَإِنْ أَتَى بِالسَّلاَمِ بِالْعَجَمِيَّةِ فَإِنَّ الصَّلاَةَ تَبْطُل عَلَى قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَاسْتَظْهَرَ بَعْضُ أَشْيَاخِهِمُ الصِّحَّةَ قِيَاسًا عَلَى الدُّعَاءِ بِالْعَجَمِيَّةِ لِلْقَادِرِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ. هَذَا وَجَمِيعُ أَذْكَارِ الصَّلاَةِ تَصِحُّ بِالْعَجَمِيَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُطْلَقًا خِلاَفًا لِلصَّاحِبَيْنِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُذْكَرُ فِي (صَلاَة (1)) .

حُكْمُ الْبَدْءِ بِالسَّلاَمِ وَحُكْمُ الرَّدِّ:
13 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السَّلاَمَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهُوَ سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إِنْ كَانَ الْمُسَلِّمُونَ جَمَاعَةً بِحَيْثُ يَكْفِي سَلاَمُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَوْ سَلَّمُوا كُلُّهُمْ كَانَ أَفْضَل.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلٌ مُقَابِلٌ لِلْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - إِلَى أَنَّ الاِبْتِدَاءَ بِالسَّلاَمِ وَاجِبٌ. لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ، قِيل: مَا هُنَّ يَا رَسُول اللَّهِ؟
__________
(1) ابن عابدين 1 / 350 ط. المصرية - حاشية الدسوقي 1 / 241 ط. الفكر، الشرح الصغير 1 / 125 ط. الثالثة. روضة الطالبين 1 / 167 - 169 ط. المكتب الإسلامي، حاشية القليوبي 1 / 169 ط. حلب، كشاف القناع 1 / 361 ط. النصر، المغني 1 / 551 ط. الرياض.

(25/161)


قَال: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ (1) .

14 - وَأَمَّا رَدُّ السَّلاَمِ فَإِنْ كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الرَّدُّ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً كَانَ رَدُّ السَّلاَمِ فَرْضَ كِفَايَةٍ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ رَدَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنْ تَرَكُوهُ كُلُّهُمْ أَثِمُوا كُلُّهُمْ، وَإِنْ رَدُّوا كُلُّهُمْ فَهُوَ النِّهَايَةُ فِي الْكَمَال وَالْفَضِيلَةِ، فَلَوْ رَدَّ غَيْرُهُمْ لَمْ يَسْقُطِ الرَّدُّ عَنْهُمْ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرُدُّوا، فَإِنِ اقْتَصَرُوا عَلَى رَدِّ ذَلِكَ الأَْجْنَبِيِّ أَثِمُوا.
هَذَا وَالأَْمْرُ بِالسَّلاَمِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِفِعْل الصَّحَابَةِ، فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} (2) وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (3) .
وَمِنَ السُّنَّةِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلاً سَأَل
__________
(1) حديث: " حق المسلم ". أخرجه مسلم (4 / 1705 - ط الحلبي) .
(2) سورة النور / 61.
(3) سورة النساء / 86.

(25/161)


النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الإِْسْلاَمِ خَيْرٌ؟ قَال: تُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَعَلَى مَنْ لَمْ تَعْرِفْ (1) .
وَمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَال: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ - نَفَرٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ جُلُوسٍ - فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقَال: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللَّهِ (2) .
وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عِمَارَةَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: أَمَرَنَا رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَبْعٍ: بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَنَصْرِ الضَّعِيفِ، وَعَوْنِ الْمَظْلُومِ، وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ (3) . وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: يُجْزِئُ عَنِ الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا أَنْ
__________
(1) حديث: " أي الإسلام خير ". أخرجه البخاري (الفتح 11 / 21 - ط السلفية) ومسلم (1 / 65 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " خلق الله آدم ". أخرجه البخاري (الفتح 11 / 3 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2183 - 2184 ط السلفية) .
(3) حديث البراء: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ". أخرجه البخاري (الفتح 11 / 18 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1635 - ط الحلبي) .

(25/162)


يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ، وَيُجْزِئُ عَنِ الْجُلُوسِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ (1) .
وَمِنْ فِعْل الصَّحَابَةِ مَا رُوِيَ عَنِ الطُّفَيْل بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَيَغْدُو مَعَهُ إِلَى السُّوقِ قَال: فَإِذَا غَدَوْنَا إِلَى السُّوقِ لَمْ يَمُرَّ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى سِقَاطٍ، وَلاَ صَاحِبِ بَيْعَةٍ، وَلاَ مِسْكِينٍ، وَلاَ أَحَدٍ، إِلاَّ سَلَّمَ عَلَيْهِ، قَال الطُّفَيْل: فَجِئْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَوْمًا فَاسْتَتْبَعَنِي إِلَى السُّوقِ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا تَصْنَعُ بِالسُّوقِ وَأَنْتَ لاَ تَقِفُ عَلَى الْبَيْعِ، وَلاَ تَسْأَل عَنِ السِّلَعِ، وَلاَ تَسُومُ بِهَا، وَلاَ تَجْلِسُ فِي مَجَالِسِ السُّوقِ؟ وَأَقُول: اجْلِسْ بِنَا هَاهُنَا نَتَحَدَّثُ، فَقَال: يَا أَبْطَنُ - وَكَانَ الطُّفَيْل ذَا بَطْنٍ - إِنَّمَا نَغْدُو مِنْ أَجَل السَّلاَمِ، نُسَلِّمُ عَلَى مَنْ لَقِينَاهُ (2) .

وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمِ السَّلاَمِ وَالرَّدِّ خَاصٌّ
__________
(1) حديث: " يجزئ عن الجماعة ". أخرجه أبو داود (5 / 387 - 388 تحقيق عزت عبيد دعاس) وذكر المنذري تضعيف أحد رواته في مختصر السنن (8 / 78 - نشر دار المعرفة) إلا أن له شواهد تقويه ذكر بعضها الزيلعي في نصب الراية.
(2) فتح القدير 5 / 469 ط. الأميرية، مراقي الفلاح 105، حاشية ابن عابدين 1 / 260، حاشية العدوي على الرسالة 2 / 434 - 436 - ط المعرفة، حاشية القليوبي 4 / 215 - 216، الأذكار للنووي / 394 - 395 ط. الأولى، رياض الصالحين / 343 - 344 ط. دار الكتاب العربي، الآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 374.

(25/162)


بِالْمُسَلِّمِ الَّذِي لَمْ يَنْشَغِل بِالأَْذَانِ أَوِ الصَّلاَةِ أَوْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوْ بِتَلْبِيَةِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ بِالأَْكْل أَوْ بِالشُّرْبِ، أَوْ قَضَاءِ حَاجَةٍ وَغَيْرِهَا، إِذِ السَّلاَمُ عَلَى الْمُنْشَغِل بِمَا ذُكِرَ لَيْسَ كَالسَّلاَمِ عَلَى غَيْرِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَا يَلِي:

أ - السَّلاَمُ عَلَى مَنْ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ:
15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ حُكْمَ رَدِّ السَّلاَمِ مِنَ الْمُؤَذِّنِ الْكَرَاهَةُ؛ لأَِنَّ الْفَصْل بَيْنَ جُمَل الأَْذَانِ عِنْدَهُمْ مَكْرُوهَةٌ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْفَصْل بِإِشَارَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ، فَلَهُ الرَّدُّ بِالإِْشَارَةِ، وَيُكْرَهُ السَّلاَمُ أَيْضًا عِنْدَهُمْ عَلَى الْمُلَبِّي بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ لِنَفْسِ الْعِلَّةِ.
وَيُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ السَّلاَمُ عَلَى الْمُؤَذِّنِ وَالْمُقِيمِ لاِنْشِغَالِهِمْ بِالأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُسَنُّ السَّلاَمُ عَلَى مَنْ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ، بَل يَجُوزُ بِالْكَلاَمِ وَلاَ يُبْطِل الأَْذَانَ أَوِ الإِْقَامَةَ (1) .

ب - السَّلاَمُ عَلَى الْمُصَلِّي وَرَدُّهُ السَّلاَمَ:
16 - السَّلاَمُ عَلَى الْمُصَلِّي سُنَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 260 ط. بولاق، جواهر الإكليل 1 / 36 - 37. ط المعرفة تحفة المحتاج 9 / 227 - 228 ط، دار صادر، المغني 2 / 60 - 61 ط. الرياض.

(25/163)


جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَقَدْ سُئِل أَحْمَدُ عَنِ الرَّجُل يَدْخُل عَلَى الْقَوْمِ وَهُمْ يُصَلُّونَ أَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ؟ قَال: نَعَمْ (1) . وَأَمَّا رَدُّ السَّلاَمِ مِنَ الْمُصَلِّي فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ - كَمَا فِي الْهِدَايَةِ - أَنْ لاَ يَرُدَّ السَّلاَمَ بِلِسَانِهِ؛ لأَِنَّهُ كَلاَمٌ، وَلاَ بِيَدِهِ؛ لأَِنَّهُ سَلاَمٌ مَعْنًى، حَتَّى لَوْ صَافَحَ بِنِيَّةِ التَّسْلِيمِ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ فَتْحِ الْقَدِيرِ أَنَّ رَدَّ الْمُصَلِّي السَّلاَمَ بِالإِْشَارَةِ مَكْرُوهٌ وَبِالْمُصَافَحَةِ مُفْسِدٌ. ثُمَّ إِنَّ الْمُصَلِّيَ لاَ يَلْزَمُهُ رَدُّ السَّلاَمِ لَفْظًا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلاَةِ، بَل يَرُدُّ فِي نَفْسِهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّهُ يَرُدُّ بَعْدَ الْفَرَاغِ، إِلاَّ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ قَال: تَأْوِيلُهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ فِي الصَّلاَةِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَرُدُّ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لاَ يَرُدُّ، لاَ قَبْل الْفَرَاغِ وَلاَ بَعْدَهُ فِي نَفْسِهِ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْمُصَلِّيَ لاَ يَرُدُّ السَّلاَمَ بِاللَّفْظِ، فَإِنْ رَدَّ عَمْدًا أَوْ جَهْلاً بَطَل. وَرَدُّهُ بِاللَّفْظِ سَهْوًا يَقْتَضِي سُجُودَ السَّهْوِ، بَل يَجِبُ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 251 ط. المعرفة، المغني 2 / 60 - 61 ط. الرياض كشاف القناع 1 / 241.

(25/163)


عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ السَّلاَمَ بِالإِْشَارَةِ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ وُجُوبِ الرَّدِّ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ رَدَّ الْمُصَلِّي السَّلاَمَ بِالْكَلاَمِ عَمْدًا يُبْطِل الصَّلاَةَ.
وَرَدُّ الْمُصَلِّي السَّلاَمَ بِالإِْشَارَةِ مَشْرُوعٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَأَمَّا ابْتِدَاءُ الْمُصَلِّي السَّلاَمَ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ بِالإِْشَارَةِ بِيَدٍ أَوْ رَأْسٍ فَيَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَطْ، وَلاَ يَلْزَمُهُ السُّجُودُ لِذَلِكَ (1) .

ج - السَّلاَمُ عَلَى الْمُنْشَغِل بِالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالتَّلْبِيَةِ وَالأَْكْل، وَعَلَى قَاضِي الْحَاجَةِ وَعَلَى مَنْ فِي الْحَمَّامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
17 - الأَْوْلَى تَرْكُ السَّلاَمِ عَلَى الْمُنْشَغِل بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَإِنْ سَلَّمَ كَفَاهُ الرَّدُّ بِالإِْشَارَةِ، وَإِنْ رَدَّ بِاللَّفْظِ اسْتَأْنَفَ الاِسْتِعَاذَةَ ثُمَّ يَقْرَأُ، وَاخْتَارَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ لَفْظًا.
وَأَمَّا السَّلاَمُ عَلَى الْمُنْشَغِل بِالذِّكْرِ مِنْ دُعَاءٍ وَتَدَبُّرٍ فَهُوَ كَالسَّلاَمِ عَلَى الْمُنْشَغِل بِالْقِرَاءَةِ،
__________
(1) الهداية وفتح القدير 1 / 173، 291 - 292 ط. الأميرية، ابن عابدين 1 / 414 ط. المصرية، جواهر الإكليل 1 / 63 ط. المعرفة، تحفة المحتاج 9 / 228 ط. دار صادر. المغني 2 / 60 - 61 ط. الرياض، كشاف القناع 1 / 399.

(25/164)


وَالأَْظْهَرُ كَمَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُسْتَغْرِقًا بِالدُّعَاءِ مُجْمِعَ الْقَلْبِ عَلَيْهِ فَالسَّلاَمُ عَلَيْهِ مَكْرُوهٌ، لِلْمَشَقَّةِ الَّتِي تَلْحَقُهُ مِنَ الرَّدِّ، وَاَلَّتِي تَقْطَعُهُ عَنِ الاِسْتِغْرَاقِ بِالدُّعَاءِ، وَهِيَ أَكْثَرُ مِنَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي تَلْحَقُ الآْكِل إِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ وَرَدَّ فِي حَال أَكْلِهِ، وَأَمَّا الْمُلَبِّي فِي الإِْحْرَامِ فَيُكْرَهُ السَّلاَمُ عَلَيْهِ، وَلَوْ سَلَّمَ رَدَّ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ.
وَأَمَّا السَّلاَمُ فِي حَال خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ فَيُكْرَهُ الاِبْتِدَاءُ بِهِ لأَِنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالإِْنْصَاتِ لِلْخُطْبَةِ، فَإِنْ سَلَّمَ لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ لِتَقْصِيرِهِ، وَقِيل: إِنْ كَانَ الإِْنْصَاتُ وَاجِبًا لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ سُنَّةً رَدَّ عَلَيْهِ، وَلاَ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ عَلَى كُل وَجْهٍ.
وَلاَ يُسَلِّمُ عَلَى مَنْ كَانَ مُنْشَغِلاً بِالأَْكْل وَاللُّقْمَةُ فِي فَمِهِ، فَإِنْ سَلَّمَ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْجَوَابَ، أَمَّا إِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبَلْعِ أَوْ قَبْل وَضْعِ اللُّقْمَةِ فِي فَمِهِ فَلاَ يَتَوَجَّهُ الْمَنْعُ وَيَجِبُ الْجَوَابُ، وَيُسَلِّمُ فِي حَال الْبَيْعِ وَسَائِرِ الْمُعَامَلاَتِ وَيَجِبُ الْجَوَابُ.
وَأَمَّا السَّلاَمُ عَلَى قَاضِي الْحَاجَةِ وَنَحْوِهِ كَالْمُجَامِعِ وَعَلَى مَنْ فِي الْحَمَّامِ وَالنَّائِمِ وَالْغَائِبِ خَلْفَ جِدَارٍ، فَحُكْمُهُ الْكَرَاهَةُ. وَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْجَوَابَ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. أَنَّ رَجُلاً مَرَّ وَرَسُول اللَّهِ

(25/164)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبُول، فَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ (1) .
وَمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلاً مَرَّ وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبُول، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَال النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا رَأَيْتَنِي عَلَى مِثْل هَذِهِ الْحَال فَلاَ تُسَلِّمْ عَلَيَّ. فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَمْ أَرُدَّ عَلَيْكَ (2) .
وَأَمَّا حُكْمُ الرَّدِّ مِنْهُمْ فَهُوَ الْكَرَاهَةُ مِنْ قَاضِي الْحَاجَةِ وَالْمُجَامِعِ، وَأَمَّا مَنْ فِي الْحَمَّامِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ الرَّدُّ، كَمَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ (3) .

أَحْكَامٌ أُخْرَى لِلسَّلاَمِ:
السَّلاَمُ عَلَى الصَّبِيِّ:
18 - السَّلاَمُ عَلَى الصَّبِيِّ أَفْضَل مِنْ تَرْكِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مَشْرُوعٌ،
__________
(1) حديث ابن عمر: أن رجلا مر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبول. . . أخرجه مسلم (1 / 281 - ط الحلبي) .
(2) حديث جابر: أن رجلا مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول. . . أخرجه ابن ماجه (1 / 126 - ط الحلبي) وحسن إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 102 - ط دار الحنان) .
(3) فتح القدير 1 / 173 ط. الأميرية، ابن عابدين 1 / 411 - 415 ط. المصرية جواهر الإكليل 1 / 37، 251 ط. المعرفة، الزرقاني 3 / 109 ط. الفكر. الخرشي 3 / 110 ط. بولاق، تحفة المحتاج 9 / 227 - 228 ط. دار صادر. الروضة 10 / 232 ط. المكتب الإسلامي، حاشية الجمل على المنهج 5 / 188 - 189 ط. التراث، الأذكار / 401 - 402 ط. الأولى. المغني 1 / 167 ط. الرياض.

(25/165)


وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَذَكَرَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهُ جَائِزٌ لِتَأْدِيبِهِمْ، وَهُوَ مَعْنَى كَلاَمِ ابْنِ عَقِيلٍ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَصَاحِبُ عُيُونِ الْمَسَائِل وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَقَال: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ (1) .
وَأَمَّا جَوَابُ السَّلاَمِ مِنَ الصَّبِيِّ فَغَيْرُ وَاجِبٍ؛ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ، كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَيَسْقُطُ رَدُّ السَّلاَمِ بِرَدِّهِ عَنِ الْبَاقِينَ إِنْ كَانَ عَاقِلاً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ مِنْ أَهْل الْفَرْضِ فِي الْجُمْلَةِ، بِدَلِيل حِل ذَبِيحَتِهِ مَعَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ فِيهَا فَرْضٌ عِنْدَهُمْ.
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا الأَُجْهُورِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّاشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، قِيَاسًا عَلَى أَذَانِهِ لِلرِّجَال. وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ سُقُوطِ فَرْضِ رَدِّ السَّلاَمِ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِرَدِّ الصَّبِيِّ، وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي وَالْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَدْ تَوَقَّفَ فِي الاِكْتِفَاءِ بِرَدِّ الصَّبِيِّ عَنِ الْجَمَاعَةِ صَاحِبُ الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، حَيْثُ قَال: وَلَنَا فِيهِ وَقْفَةٌ؛ لأَِنَّ الرَّدَّ فَرْضٌ
__________
(1) حديث أنس أنه مر على صبيان فسلم عليهم. أخرجه البخاري (الفتح 11 / 32 - ط السلفية) .

(25/165)


عَلَى الْبَالِغِينَ، وَرَدُّ الصَّبِيِّ غَيْرُ فَرْضٍ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَكْفِي عَنِ الْفَرْضِ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ؟ فَلَعَل الأَْظْهَرَ عَدَمُ الاِكْتِفَاءِ بِرَدِّهِ عَنِ الْبَالِغِينَ.
ثُمَّ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَجْهَيْنِ فِي رَدِّ السَّلاَمِ مِنَ الْبَالِغِ عَلَى سَلاَمِ الصَّبِيِّ، بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ إِسْلاَمِهِ - أَيْ الصَّبِيِّ - وَصَحَّحَ النَّوَوِيُّ وُجُوبَ الرَّدِّ (1) .

السَّلاَمُ عَلَى النِّسَاءِ:
19 - سَلاَمُ الْمَرْأَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ يُسَنُّ كَسَلاَمِ الرَّجُل عَلَى الرَّجُل، وَرَدُّ السَّلاَمِ مِنَ الْمَرْأَةِ عَلَى مِثْلِهَا كَالرَّدِّ مِنَ الرَّجُل عَلَى سَلاَمِ الرَّجُل.
وَأَمَّا سَلاَمُ الرَّجُل عَلَى الْمَرْأَةِ؛ فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ زَوْجَةً أَوْ أَمَةً أَوْ مِنَ الْمَحَارِمِ فَسَلاَمُهُ عَلَيْهَا سُنَّةٌ، وَرَدُّ السَّلاَمِ مِنْهَا عَلَيْهِ وَاجِبٌ، بَل يُسَنُّ أَنْ يُسَلِّمَ الرَّجُل عَلَى أَهْل بَيْتِهِ وَمَحَارِمِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ أَجْنَبِيَّةً فَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا أَوِ امْرَأَةً لاَ تُشْتَهَى فَالسَّلاَمُ عَلَيْهَا سُنَّةٌ،
__________
(1) ابن عابدين 5 / 265 ط. المصرية، الفواكه الدواني 2 / 422 ط. الثانية القرطبي 5 / 302 ط. الأولى، الروضة 10 / 229 ط. المكتب الإسلامي، نهاية المحتاج 8 / 47 ط. المكتبة الإسلامية، تحفة المحتاج 9 / 223 ط. دار صادر، الأذكار / 396 - 397 ط. الأولى، الآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 380 ط. المنار.

(25/166)


وَرَدُّ السَّلاَمِ مِنْهَا عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهَا لَفْظًا وَاجِبٌ. وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ شَابَّةً يُخْشَى الاِفْتِتَانُ بِهَا، أَوْ يُخْشَى افْتِتَانُهَا هِيَ أَيْضًا بِمَنْ سَلَّمَ عَلَيْهَا فَالسَّلاَمُ عَلَيْهَا وَجَوَابُ السَّلاَمِ مِنْهَا حُكْمُهُ الْكَرَاهَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الرَّجُل يَرُدُّ عَلَى سَلاَمِ الْمَرْأَةِ فِي نَفْسِهِ إِنْ سَلَّمَتْ هِيَ عَلَيْهِ، وَتَرُدُّ هِيَ أَيْضًا فِي نَفْسِهَا إِنْ سَلَّمَ هُوَ عَلَيْهَا، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِحُرْمَةِ رَدِّهَا عَلَيْهِ.
وَأَمَّا سَلاَمُ الرَّجُل عَلَى جَمَاعَةِ النِّسَاءِ فَجَائِزٌ، وَكَذَا سَلاَمُ الرِّجَال عَلَى الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ. وَمِمَّا يَدُل عَلَى جَوَازِ سَلاَمِ الرَّجُل عَلَى جَمَاعَةِ النِّسَاءِ مَا رُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَرَّ عَلَيْنَا رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نِسْوَةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا (1) .
وَمِمَّا يَدُل عَلَى جَوَازِ السَّلاَمِ عَلَى الْمَرْأَةِ الْعَجُوزِ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تُرْسِل إِلَيَّ بِضَاعَةَ نَخْلٍ بِالْمَدِينَةِ فَتَأْخُذُ مِنْ
__________
(1) حديث أسماء بنت يزيد: مر علينا النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة. أخرجه أبو داود (5 / 383 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (5 / 58 - ط الحلبي) ، واللفظ لأبي داود، وحسنه الترمذي.

(25/166)


أُصُول السَّلْقِ فَتَطْرَحُهُ فِي قِدْرٍ، وَتُكَرْكِرُ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ، فَإِذَا صَلَّيْنَا الْجُمُعَةَ انْصَرَفْنَا وَنُسَلِّمُ عَلَيْهَا فَتُقَدِّمُهُ إِلَيْنَا (1) ، وَمَعْنَى تُكَرْكِرُ؛ أَيْ: تَطْحَنُ (2) .

السَّلاَمُ عَلَى الْفُسَّاقِ وَأَرْبَابِ الْمَعَاصِي:
20 - ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ السَّلاَمَ عَلَى الْفَاسِقِ الْمُجَاهِرِ بِفِسْقِهِ مَكْرُوهٌ وَإِلاَّ فَلاَ، وَمِثْل الْفَاسِقِ فِي هَذَا لاَعِبُ الْقِمَارِ وَشَارِبُ الْخَمْرِ وَمُطَيِّرُ الْحَمَامِ وَالْمُغَنِّي وَالْمُغْتَابُ حَال تَلَبُّسِهِمْ بِذَلِكَ، نُقِل عَنْ فُصُول الْعَلاَّمِيِّ أَنَّهُ لاَ يُسَلِّمُ، وَيُسَلِّمُ عَلَى قَوْمٍ فِي مَعْصِيَةٍ وَعَلَى مَنْ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ نَاوِيًا أَنْ يُشْغِلَهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكُرِهَ عِنْدَهُمَا تَحْقِيرًا لَهُمَا (3) .
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ ابْتِدَاءَ السَّلاَمِ عَلَى أَهْل
__________
(1) حديث سهل بن سعد: كانت لنا عجوز. أخرجه البخاري (الفتح 11 / 33 - ط السلفية) .
(2) ابن عابدين 5 / 236 ط المصرية، روح المعاني 5 / 99 ط. المنيرية، القرطبي 5 / 302 ط. الأولى، الفواكه الدواني 2 / 422 ط. الثالثة، شرح الزرقاني 3 / 110 ط دار الفكر، روضة الطالبين 10 / 229 - 230 ط. المكتب الإسلامي، الأذكار للنووي / 402 - 403 ط. الأولى، تحفة المحتاج 9 / 223 ط دار صادر، التفسير الكبير للرازي 10 / 214 - 215 ط الأولى - الآداب الشرعية 1 / 374 - 375 ط الأولى.
(3) ابن عابدين 1 / 414 - 5 / 267 ط. المصرية. الفواكه الدواني 2 / 426 ط. الثالثة.

(25/167)


الأَْهْوَاءِ مَكْرُوهٌ، كَابْتِدَائِهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى (1) .
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ وَجْهَيْنِ فِي اسْتِحْبَابِ السَّلاَمِ عَلَى الْفُسَّاقِ وَفِي وُجُوبِ الرَّدِّ عَلَى الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ إِذَا سَلَّمَا. وَذَكَرَ فِي الأَْذْكَارِ أَنَّ الْمُبْتَدِعَ وَمَنِ اقْتَرَفَ ذَنْبًا عَظِيمًا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهُ يَنْبَغِي أَنْ لاَ يُسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَلاَ يُرَدَّ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ.
مُحْتَجًّا بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ قِصَّةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ هُوَ وَرَفِيقَانِ لَهُ فَقَال: وَنَهَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كَلاَمِنَا. قَال: وَكُنْتُ آتِي رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَأَقُول: هَل حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلاَمِ أَمْ لاَ؟ (2) وَبِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي الأَْدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَال: (لاَ تُسَلِّمُوا عَلَى شُرَّابِ الْخَمْرِ) (3) .
قَال النَّوَوِيُّ: فَإِنِ اضْطُرَّ إِلَى السَّلاَمِ عَلَى
__________
(1) حاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 438، والفواكه الدواني 2 / 426.
(2) حديث قصة كعب بن مالك. أخرجه البخاري (الفتح 3 / 115 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2124 - ط. الحلبي) .
(3) قول عبد الله بن عمرو: لا تسلموا على شراب الخمر. أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص 263 - ط السلفية) .

(25/167)


الظَّلَمَةِ، بِأَنْ دَخَل عَلَيْهِمْ وَخَافَ تَرَتُّبَ مَفْسَدَةٍ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ أَوْ غَيْرِهِمَا إِنْ لَمْ يُسَلِّمْ، سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَذَكَرَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ يُسَلِّمُ وَيَنْوِي أَنَّ السَّلاَمَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ الْمَعْنَى اللَّهُ عَلَيْكُمْ رَقِيبٌ (1) .
وَذَكَرَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِكُل مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى مَنْ يَلْعَبُ النَّرْدَ أَوِ الشِّطْرَنْجَ، وَكَذَا مُجَالَسَتُهُ لإِِظْهَارِهِ الْمَعْصِيَةَ، وَقَال أَحْمَدُ فِيمَنْ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ: مَا هُوَ أَهْلٌ أَنْ يُسَلَّمَ عَلَيْهِ، كَمَا لاَ يُسَلَّمُ عَلَى الْمُتَلَبِّسِينَ بِالْمَعَاصِي، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ إِنْ سَلَّمُوا إِلاَّ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ انْزِجَارُهُمْ بِتَرْكِ الرَّدِّ.
قَال أَبُو دَاوُدَ: قُلْتُ لأَِحْمَدَ: أَمُرُّ بِالْقَوْمِ يَتَقَاذَفُونَ، أُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ؟ قَال: هَؤُلاَءِ قَوْمٌ سُفَهَاءُ، وَالسَّلاَمُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، قُلْتُ لأَِحْمَدَ: أُسَلِّمُ عَلَى الْمُخَنَّثِ؟ قَال: لاَ أَدْرِي، السَّلاَمُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ جَل (2) .
وَأَمَّا رَدُّ السَّلاَمِ عَلَى الْفَاسِقِ أَوِ الْمُبْتَدِعِ فَلاَ يَجِبُ زَجْرًا لَهُمَا كَمَا فِي رُوحِ الْمَعَانِي (3) .
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 230 ط. المكتب الإسلامي، الأذكار / 407 ط. الأولى الأدب المفرد بشرحه 2 / 472 ط. السلفية.
(2) الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 389 ط. الأولى.
(3) روح المعاني 5 / 101 ط المنيرية.

(25/168)


السَّلاَمُ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ:
21 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّلاَمَ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ، وَلاَ بَأْسَ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الذِّمِّيِّ إِنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَهُ حَاجَةٌ؛ لأَِنَّ السَّلاَمَ حِينَئِذٍ لأَِجْل الْحَاجَةِ لاَ لِتَعْظِيمِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُول: السَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (1) . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا إِلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَسَائِرِ فِرَقِ الضَّلاَل بِالسَّلاَمِ مَكْرُوهٌ؛ لأَِنَّ السَّلاَمَ تَحِيَّةٌ وَالْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا (2) .
وَيَحْرُمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بُدَاءَةُ الذِّمِّيِّ بِالسَّلاَمِ، وَلَهُ أَنْ يُحَيِّيَهُ بِغَيْرِ السَّلاَمِ بِأَنْ يَقُول: هَدَاكَ اللَّهُ، أَوْ: أَنْعَمَ اللَّهُ صَبَاحَكَ، إِنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَهُ حَاجَةٌ، وَإِلاَّ فَلاَ يَبْتَدِئُهُ بِشَيْءٍ مِنَ الإِْكْرَامِ أَصْلاً؛ لأَِنَّ ذَلِكَ بَسْطٌ لَهُ وَإِينَاسٌ وَإِظْهَارُ وُدٍّ (3) . وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 264 - 265 ط. المصرية، الاختيار 4 / 165 ط. المعرفة روح المعاني 5 / 100 ط. المنيرية.
(2) الفواكه الدواني 2 / 425 - 426 ط. الثالثة، حاشية العدوي على الخرشي 3 / 110 ط بولاق، القرطبي 5 / 303 ط الأولى.
(3) نهاية المحتاج 8 / 49 ط. المكتبة الإسلامية، تحفة المحتاج 9 / 226 ط. دار صادر، روضة الطالبين 10 / 230 - 231 ط. المكتب الإسلامي.

(25/168)


تَجِدُ قَوْمًا يُومَنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي الأَْذْكَارِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَهْل الذِّمَّةِ، فَقَطَعَ الأَْكْثَرُونَ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُمْ بِالسَّلاَمِ، وَقَال آخَرُونَ: لَيْسَ هُوَ بِحَرَامٍ بَل هُوَ مَكْرُوهٌ.
حَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَجْهًا لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا؛ أَنَّهُ يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُ بِالسَّلاَمِ، وَلَكِنْ يَقْتَصِرُ الْمُسَلِّمُ عَلَى قَوْلِهِ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ، وَلاَ يَذْكُرُهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، إِلاَّ أَنَّ النَّوَوِيَّ وَصَفَ هَذَا الْوَجْهَ بِأَنَّهُ شَاذٌّ.
وَبُدَاءَةُ أَهْل الذِّمَّةِ بِالسَّلاَمِ لاَ تَجُوزُ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، كَمَا لاَ يَجُوزُ أَنْ نُحَيِّيَهُمْ بِتَحِيَّةٍ أُخْرَى غَيْرِ السَّلاَمِ. قَال أَبُو دَاوُدَ: قُلْتُ لأَِبِي عَبْدِ اللَّهِ: تَكْرَهُ أَنْ يَقُول الرَّجُل لِلذِّمِّيِّ كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ أَوْ: كَيْفَ حَالُكَ؟ أَوْ: كَيْفَ أَنْتَ؟ أَوْ نَحْوَ هَذَا؟ قَال: نَعَمْ، هَذَا عِنْدِي أَكْثَرُ مِنَ السَّلاَمِ.
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ قَال لِلذِّمِّيِّ: أَطَال اللَّهُ بَقَاءَكَ، جَازَ، إِنْ نَوَى أَنَّهُ يُطِيلُهُ لِيُسْلِمَ أَوْ
__________
(1) سورة المجادلة / 22.

(25/169)


لِيُؤَدِّيَ الْجِزْيَةَ لأَِنَّهُ دُعَاءٌ بِالإِْسْلاَمِ، وَإِلاَّ فَلاَ يَجُوزُ (1) .
وَدَلِيل كَرَاهَةِ الْبُدَاءَةِ بِالسَّلاَمِ قَوْل رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاَ تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلاَ النَّصَارَى بِالسَّلاَمِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ (2) .
وَالاِسْتِقَالَةُ أَنْ يَقُول لَهُ: رُدَّ سَلاَمِي الَّذِي سَلَّمْتُهُ عَلَيْكَ؛ لأَِنِّي لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ كَافِرٌ مَا سَلَّمْتُ عَلَيْكَ. وَيُسْتَحَبُّ لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ سَلَّمَ عَلَى مَنْ يَظُنُّهُ مُسْلِمًا فَبَانَ ذِمِّيًّا أَنْ يَسْتَقِيلَهُ بِأَنْ يَقُول لَهُ: رُدَّ سَلاَمِي الَّذِي سَلَّمْتُهُ عَلَيْكَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (أَنَّهُ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقِيل: إِنَّهُ كَافِرٌ، فَقَال: رُدَّ عَلَيَّ مَا سَلَّمْتُ عَلَيْكَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَقَال أَكْثَرَ اللَّهُ مَالَكَ وَوَلَدَكَ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَال: أَكْثَرُ لِلْجِزْيَةِ) . وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَسْتَقِيلُهُ.
وَإِذَا كَتَبَ إِلَى الذِّمِّيِّ كِتَابًا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ فِيهِ: السَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، اقْتِدَاءً
__________
(1) الاختيار 4 / 165 ط. المعرفة، الأذكار ص / 404 - 406 ط. الأولى. المغني 8 / 536 ط. الرياض، كشاف القناع 3 / 129 ط،. النصر، الكافي 4 / 359 ط الثانية.
(2) حديث: " لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام ". أخرجه مسلم (4 / 1707 ط. الحلبي) .

(25/169)


بِرَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى ذَلِكَ حِينَ كَتَبَ إِلَى هِرَقْل مَلِكِ الرُّومِ.
وَإِذَا مَرَّ وَاحِدٌ عَلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمْ مُسْلِمُونَ - وَلَوْ وَاحِدًا - وَكُفَّارٌ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ وَيَقْصِدَ الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْمُسْلِمَ. لِمَا رَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى مَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلاَطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَْوْثَانِ وَالْيَهُودِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .

رَدُّ السَّلاَمِ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ:
22 - وَأَمَّا رَدُّ السَّلاَمِ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلاَ يَجِبُ إِلاَّ إِذَا تَحَقَّقَ الْمُسْلِمُ مِنْ لَفْظِ السَّلاَمِ مِنَ الذِّمِّيِّ، وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَيَقْتَصِرُ فِي الرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِ: وَعَلَيْكُمْ، بِالْوَاوِ وَالْجَمْعِ، أَوْ: وَعَلَيْكَ، بِالْوَاوِ دُونَ الْجَمْعِ عِنْدَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 264 - 265 ط المصرية، الفواكه الدواني 2 / 425 - 426 ط الثالثة - نهاية المحتاج 8 / 49 ط. المكتبة الإسلامية، تحفة المحتاج 9 / 226 ط. دار صادر، الأذكار / 405 - 406 ط. الأولى، روضة الطالبين 10 / 231 ط. المغني 8 / 536 ط. الرياض.

(25/170)


الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِكَثْرَةِ الأَْخْبَارِ فِي ذَلِكَ (1) .
فَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْل الْكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ (2) وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ الْيَهُودُ فَإِنَّمَا يَقُول أَحَدُهُمْ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقُل: وَعَلَيْكَ (3) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَقُول فِي الرَّدِّ: عَلَيْكَ، بِغَيْرِ وَاوٍ بِالإِْفْرَادِ أَوِ الْجَمْعِ (4) . لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ الْيَهُودَ إِذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ يَقُول أَحَدُهُمُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقُل: عَلَيْكَ (5) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُ
__________
(1) الاختيار 4 / 165 ط. المعرفة، الفواكه الدواني 2 / 425 - ذ42 ط. الثالثة، نهاية المحتاج 8 / 49 ط. المكتبة الإسلامية، كشاف القناع 3 / 130 ط. النصر.
(2) " إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 42 ط. السلفية) ومسلم (4 / 1705 ط. الحلبي) .
(3) حديث: " إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم. . . ". أخرجه البخاري (11 / 42 ط. السلفية) .
(4) رياض الصالحين / 349 ط. دار الكتاب العربي، صحيح مسلم بشرح النووي 14 / 144 ط. الأولى، الأذكار / 404، 405 ط الأولى.
(5) حديث: " إن اليهود إذا سلموا عليكم ". أخرجه مسلم (4 / 1706 ط. الحلبي) .

(25/170)


قَال: عَلَيْكُمْ. بِالْجَمْعِ وَبِغَيْرِ وَاوٍ.
وَنَقَل النَّفْرَاوِيُّ عَنِ الأَُجْهُورِيُّ قَوْلَهُ: إِنْ تَحَقَّقَ الْمُسْلِمُ أَنَّ الذِّمِّيَّ نَطَقَ بِالسَّلاَمِ بِفَتْحِ السِّينِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجِبُ الرَّدُّ عَلَيْهِ؛ لاِحْتِمَال أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الدُّعَاءَ.

مَنْ يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ:
23 - يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيل عَلَى الْكَثِيرِ، وَالصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ.
لِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ وَالْقَلِيل عَلَى الْكَثِيرِ (1) وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ زِيَادَةُ: الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ (2) وَهَذَا الْمَذْكُورُ هُوَ السُّنَّةُ، فَلَوْ خَالَفُوا فَسَلَّمَ الْمَاشِي عَلَى الرَّاكِبِ، أَوِ الْجَالِسُ عَلَيْهِمَا لَمْ يُكْرَهْ، وَعَلَى مُقْتَضَى هَذَا لاَ يُكْرَهُ ابْتِدَاءُ الْكَثِيرِينَ بِالسَّلاَمِ عَلَى الْقَلِيل، وَالْكَبِيرِ عَلَى الصَّغِيرِ، وَيَكُونُ هَذَا تَرْكًا لِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ سَلاَمِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا فِيمَا إِذَا تَلاَقَى الاِثْنَانِ فِي طَرِيقٍ، أَمَّا إِذَا وَرَدَ عَلَى قُعُودٍ أَوْ قَاعِدٍ،
__________
(1) يسلم الراكب على الماشي. أخرجه البخاري (الفتح 11 / 15 - ط. السلفية) .
(2) رواية: " الصغير على الكبير " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 14 - ط. السلفية) .

(25/171)


فَإِنَّ الْوَارِدَ يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ عَلَى كُل حَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَانَ كَبِيرًا، قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا.
وَإِذَا لَقِيَ رَجُلٌ جَمَاعَةً فَأَرَادَ أَنْ يَخُصَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ بِالسَّلاَمِ كُرِهَ؛ لأَِنَّ الْقَصْدَ مِنَ السَّلاَمِ الْمُؤَانَسَةُ وَالأُْلْفَةُ، وَفِي تَخْصِيصِ الْبَعْضِ إِيحَاشٌ لِلْبَاقِينَ، وَرُبَّمَا صَارَ سَبَبًا لِلْعَدَاوَةِ، وَإِذَا مَشَى فِي السُّوقِ أَوِ الشَّوَارِعِ الْمَطْرُوقَةِ كَثِيرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ فِيهِ الْمُتَلاَقُونَ، فَقَدْ ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ السَّلاَمَ هُنَا إِنَّمَا يَكُونُ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ. قَال: لأَِنَّهُ لَوْ سَلَّمَ عَلَى كُل مَنْ لَقِيَ لَتَشَاغَل بِهِ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمْ، وَلَخَرَجَ بِهِ عَنْ الْعُرْفِ.

اسْتِحْبَابُ السَّلاَمِ عِنْدَ دُخُول بَيْتٍ أَوْ مَسْجِدٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ:
24 - يُسْتَحَبُّ إِذَا دَخَل بَيْتَهُ أَنْ يُسَلِّمَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ وَلْيَقُل: السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ (1) . وَكَذَا إِذَا دَخَل مَسْجِدًا، أَوْ بَيْتًا لِغَيْرِهِ فِيهِ أَحَدٌ، يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَلِّمَ وَأَنْ يَقُول: السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَهْل الْبَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ (2) .
__________
(1) قال الإمام مالك في الموطأ (2 / 962 - ط. الحلبي) . أنه بلغه: إذا دخل البيت غير المسكون يقال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
(2) استدل على ذلك بقوله تعالى:} فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة { (النور / 61) .

(25/171)


السَّلاَمُ عِنْدَ مُفَارَقَةِ الْمَجْلِسِ:
25 - إِذَا كَانَ جَالِسًا مَعَ قَوْمٍ ثُمَّ قَامَ لِيُفَارِقَهُمْ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ؛ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى مَجْلِسٍ فَلْيُسَلِّمْ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ، ثُمَّ إِذَا قَامَ فَلْيُسَلِّمْ، فَلَيْسَتْ الأُْولَى بِأَحَقَّ مِنَ الآْخِرَةِ (1)

إِلْقَاءُ السَّلاَمِ عَلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ لاَ يَرُدُّ السَّلاَمَ:
26 - قَال النَّوَوِيُّ: إِذَا مَرَّ عَلَى وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ لاَ يَرُدُّ عَلَيْهِ، إِمَّا لِتَكَبُّرٍ الْمَمْرُورِ عَلَيْهِ وَإِمَّا لإِِهْمَالِهِ الْمَارَّ أَوِ السَّلاَمَ، وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُسَلِّمَ وَلاَ يَتْرُكَهُ لِهَذَا الظَّنِّ، فَإِنَّ السَّلاَمَ مَأْمُورٌ بِهِ، وَاَلَّذِي أُمِرَ بِهِ الْمَارُّ أَنْ يُسَلِّمَ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِأَنْ يُحَصِّل الرَّدَّ، مَعَ أَنَّ الْمَمْرُورَ عَلَيْهِ قَدْ يُخْطِئُ الظَّنُّ فِيهِ وَيَرُدُّ.
ثُمَّ قَال النَّوَوِيُّ: وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ سَلَّمَ عَلَى إِنْسَانٍ وَأَسْمَعَهُ سَلاَمَهُ وَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ الرَّدُّ بِشُرُوطِهِ فَلَمْ يَرُدَّ، أَنْ يُحَلِّلَهُ مِنْ ذَلِكَ
__________
(1) حديث: " إذا انتهى أحدكم إلى مجلس ". أخرجه الترمذي (5 / 62 - 63 - ط. الحلبي) وقال: " حديث حسن ".

(25/172)


فَيَقُول: أَبْرَأْتُهُ مِنْ حَقِّي فِي رَدِّ السَّلاَمِ، أَوْ: جَعَلْتُهُ فِي حِلٍّ مِنْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَيَلْفِظُ بِهَذَا، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ هَذَا الآْدَمِيِّ.
وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ سَلَّمَ عَلَى إِنْسَانٍ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقُول لَهُ بِعِبَارَةٍ لَطِيفَةٍ: رَدُّ السَّلاَمِ وَاجِبٌ، فَيَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَرُدَّ عَلَيَّ لِيَسْقُطَ عَنْكَ فَرْضُ الرَّدِّ (1) .

السَّلاَمُ عِنْدَ زِيَارَةِ الْمَوْتَى:
أ - السَّلاَمُ عِنْدَ زِيَارَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَاحِبَيْهِ:
27 - يُنْدَبُ لِكُل حَاجٍّ زِيَارَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ، فَإِنَّ زِيَارَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ وَأَهَمِّهَا وَأَرْبَحِ الْمَسَاعِي وَأَفْضَل الطِّلْبَاتِ، وَانْظُرْ بَحْثَ (زِيَارَة) .
وَإِذَا أَتَى الزَّائِرُ الْمَسْجِدَ صَلَّى تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ ثُمَّ أَتَى الْقَبْرَ الْكَرِيمَ، فَاسْتَقْبَلَهُ وَاسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ عَلَى نَحْوِ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ مِنْ جِدَارِ الْقَبْرِ وَسَلَّمَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُول: (السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُول اللَّهِ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا خِيرَةَ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا حَبِيبَ اللَّهِ،
__________
(1) روح المعاني 5 / 102 ط. المنيرية - تفسير القرطبي 5 / 301 - 302 ط. الأولى، التفسير الكبير للرازي 10 / 213 - ط. الأولى، الأذكار / 408 - 412 ط. الأولى.

(25/172)


السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَأَصْحَابِكَ وَأَهْل بَيْتِكَ وَعَلَى النَّبِيِّينَ وَسَائِرِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنَّكَ بَلَّغْتَ الرِّسَالَةَ وَأَدَّيْتَ الأَْمَانَةَ وَنَصَحْتَ الأُْمَّةَ، فَجَزَاكَ اللَّهُ عَنَّا أَفْضَل مَا جَزَى رَسُولاً عَنْ أُمَّتِهِ) وَلاَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ قَدْ أَوْصَاهُ أَحَدٌ بِالسَّلاَمِ عَلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: " السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُول اللَّهِ مِنْ فُلاَنِ ابْنِ فُلاَنٍ. ثُمَّ يَتَأَخَّرُ قَدْرَ ذِرَاعٍ إِلَى جِهَةِ يَمِينِهِ فَيُسَلِّمُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَقُول: " السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا خَلِيفَةَ رَسُول اللَّهِ السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا صِدِّيقَ رَسُول اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّكَ جَاهَدْتَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، جَزَاكَ اللَّهُ عَنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ خَيْرًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَأَرْضَاكَ وَجَعَل الْجَنَّةَ مُتَقَلَّبَكَ وَمَثْوَاكَ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ كُل الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ ".
ثُمَّ يَتَأَخَّرُ ذِرَاعًا لِلسَّلاَمِ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَقُول: " السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا صَاحِبَ رَسُول اللَّهِ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ الْفَارُوقَ، أَشْهَدُ أَنَّكَ جَاهَدْتَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، جَزَاكَ اللَّهُ عَنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ خَيْرًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَأَرْضَاكَ وَجَعَل الْجَنَّةَ مُتَقَلَّبُكَ وَمَثْوَاكَ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ كُل

(25/173)


الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ " ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى مَوْقِفِهِ الأَْوَّل قُبَالَةَ وَجْهِ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .

السَّلاَمُ عِنْدَ زِيَارَةِ الْقُبُورِ:
28 - قَال الْقُرْطُبِيُّ: زِيَارَةُ الْقُبُورِ مِنْ أَعْظَمِ الدَّوَاءِ لِلْقَلْبِ الْقَاسِي؛ لأَِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ وَالآْخِرَةَ. وَذَلِكَ يَحْمِل عَلَى قِصَرِ الأَْمَل وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَتَرْكِ الرَّغْبَةِ فِيهَا (2) . وَتَذْكُرُ كُتُبُ السُّنَّةِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَزُورُ الْقُبُورَ وَيُسَلِّمُ عَلَى سَاكِنِيهَا، وَيُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ ذَلِكَ.
فَعَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْمَقَابِرِ، فَكَانَ قَائِلُهُمْ يَقُول: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَهْل الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلاَحِقُونَ، وَأَسْأَل اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ (3) .
__________
(1) فتح القدير 2 / 337 ط - الأميرية، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 71 - 72 ط. المعرفة، حاشية القليوبي 2 / 126 - ط. الحلبي، الأذكار / 333 - 334 - ط. الأولى، المغني 3 / 558 ط. الرياض، كشاف القناع 2 / 515 - 517 ط. النصر.
(2) تفسير القرطبي 20 / 170 - ط. الأولى.
(3) حديث بريدة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر. أخرجه مسلم (1 / 669 - ط. الحلبي) وانظر النسائي 4 / 94 ط. التجارية، ابن ماجه: 1547 وزاد بعد قوله للاحقون " أنتم لنا فرط، ونحن لكم تبع " ونيل الأوطار 4 / 166 - ط. الجيل، رياض الصالحين / 260 - ط. دار الكتاب العربي، الأذكار / 282 - ط. الأولى.

(25/173)


وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتَهَا مِنْ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْل إِلَى الْبَقِيعِ فَيَقُول: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا مُؤَجَّلُونَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَِهْل بَقِيعِ الْغَرْقَدِ (1) .

قَوْل: " عَلَيْهِ السَّلَامُ " عِنْدَ ذِكْرِ نَبِيٍّ أَوْ رَجُلٍ مِنَ الصَّالِحِينَ:
29 - السَّلاَمُ عَلَى مَنْ ذُكِرَ فِي الْغَيْبَةِ مَقْصُورٌ عَلَى الأَْنْبِيَاءِ وَالْمَلاَئِكَةِ عِنْدَ ذِكْرِهِمْ، مِثْل قَوْلِكَ: نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ تَأَسِّيًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} (2) وَقَوْلِهِ: {سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (3) وَقَوْلِهِ: {سَلاَمٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} (4) وَقَوْلِهِ: {سَلاَمٌ عَلَى إِل يَاسِينَ} (5) نَعَمْ يَجُوزُ السَّلاَمُ عَلَى آلِهِمْ وَأَصْحَابِهِمْ تَبَعًا لَهُمْ دُونَ اسْتِقْلاَلٍ.
__________
(1) حديث عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها. أخرجه مسلم (1 / 669 - ط. الحلبي) .
(2) سورة الصافات / 79.
(3) سورة الصافات / 109.
(4) سورة الصافات / 120.
(5) سورة الصافات / 130.

(25/174)


30 - وَأَمَّا السَّلاَمُ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ اسْتِقْلاَلاً فَمَنَعَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَال بِأَنَّ السَّلاَمَ هُوَ فِي مَعْنَى الصَّلاَةِ فَلاَ يُسْتَعْمَل فِي الْغَائِبِ، فَلاَ يُفْرَدُ بِهِ غَيْرُ الأَْنْبِيَاءِ، فَلاَ يُقَال: أَبُو بَكْرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلاَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الأَْحْيَاءُ وَالأَْمْوَاتُ، وَأَمَّا الْحَاضِرُ فَيُخَاطَبُ بِهِ فَيُقَال: سَلاَمٌ عَلَيْكَ أَوْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ أَوِ السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَوْ عَلَيْكُمْ.
وَفَرَّقَ آخَرُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاَةِ بِأَنَّ السَّلاَمَ يُشْرَعُ فِي حَقِّ كُل مُؤْمِنٍ مِنْ حَيٍّ وَمَيِّتٍ وَغَائِبٍ وَحَاضِرٍ، وَهُوَ تَحِيَّةُ أَهْل الإِْسْلاَمِ، بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ فَإِنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلِهِ - وَلِهَذَا يَقُول الْمُصَلِّي: السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَلاَ يَقُول: الصَّلاَةُ عَلَيْنَا (1) .

السَّلاَمُ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الصَّلاَةِ:
31 - الْخُرُوجُ مِنَ الصَّلاَةِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالسَّلاَمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ السَّلاَمَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ عِنْدَهُمْ - لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِفْتَاحُ الصَّلاَةِ الطَّهُورُ
__________
(1) الأذكار / 210 - ط. الأولى، القول البديع للسخاوي / 57 ط. الثالثة، جلاء الأفهام لابن القيم / 345 ط. الأولى.

(25/174)


وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ (1) . أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَالسَّلاَمُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ رُكْنًا بَل هُوَ وَاجِبٌ، لأَِنَّ الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُعَلِّمْهُ الْمُسِيءَ صَلاَتَهُ، وَلَوْ كَانَ فَرْضًا لأََمَرَ بِهِ؛ إِذْ لاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ. فَالْخُرُوجُ مِنَ الصَّلاَةِ عِنْدَهُمْ يَكُونُ بِالسَّلاَمِ، وَيَكُونُ بِغَيْرِهِ مِنْ كُل عَمَلٍ أَوْ قَوْلٍ مُنَافٍ لِلصَّلاَةِ. وَقَدْ تَمَّتْ صَلاَتُهُ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى سَلاَمٍ (2) . وَتَفْصِيلُهُ فِي (تَسْلِيم) .
هَذَا وَالسَّلاَمُ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ مِنْ صَلاَةِ
__________
(1) حديث: " مفتاح الصلاة الطهور. . . . ". أخرجه الترمذي (1 / 9 - ط. الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله، وإسناده حسن.
(2) ابن عابدين 1 / 314 - 315 ط. المصرية، فتح القدير 1 / 225 - 226 ط. الأولى، الاختيار 1 / 54 ط. الثالثة، تبيين الحقائق 1 / 125 - 126 ط. الأولى بولاق، الفتاوى الهندية 1 / 76 - 77 ط. الثانية بولاق، جواهر الإكليل 1 / 48 - 49 ط. المعرفة، حاشية الدسوقي 1 / 240 - 241 ط الفكر، حاشية العدوي على الرسالة 1 / 245 - 247 ط المعرفة، شرح الزرقاني 1 / 202 ط. الفكر، الخرشي 1 / 273 - 274 ط. بولاق. حاشية القليوبي 1 / 169 - 170 ط حلب، الروضة 1 / 267 - 269 ط. المكتب الإسلامي، المهذب للشيرازي 2 / 87 ط. الثانية - نهاية المحتاج 1 / 514 - 515 ط. المكتبة الإسلامية، المجموع 3 / 473 - 484 ط. السلفية، كشاف القناع 1 / 361 ط. النصر، الإنصاف 2 / 82 - 83 ط. الثانية، المغني 1 / 551 - 552 ط. الرياض.

(25/175)


الْجِنَازَةِ يَكُونُ بَعْدَ آخِرِ تَكْبِيرَةٍ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي (صَلاَة الْجِنَازَةِ (1))
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 241 ط. الأميرية، ابن عابدين 1 / 585 ط. المصرية، الاختيار 1 / 95 ط. المعرفة، جواهر الإكليل 1 / 108 ط المعرفة، حاشية الدسوقي 1 / 413 ط. الفكر، الخرشي 2 / 117 - 119 ط. بولاق، حاشية العدوي على الرسالة 1 / 375 ط. الفكر، حاشية القليوبي 1 / 331 ط. حلب، المهذب 1 / 141 ط حلب، روضة الطالبين 2 / 127 ط. المكتب الإسلامي، نهاية المحتاج 2 / 463 - 664 ط. المكتبة الإسلامية، كشاف القناع 2 / 116 ط. النصر، الإنصاف 2 / 523 ط. التراث، المغني 2 / 491 - 492 ط. الرياض.

(25/175)


سَلَبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّلَبُ مَا يَأْخُذُهُ أَحَدُ الْقِرْنَيْنِ فِي الْحَرْبِ مِنْ قِرْنِهِ، مِمَّا يَكُونُ عَلَيْهِ وَمَعَهُ مِنْ ثِيَابٍ وَسِلاَحٍ وَدَابَّةٍ، وَهُوَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ؛ أَيْ: مَسْلُوبٍ.
وَيُقَال: أَخَذَ سَلَبَ الْقَتِيل وَأَسْلاَبَ الْقَتْلَى.
وَالْمَصْدَرُ السَّلْبُ، وَمَعْنَاهُ: الاِنْتِزَاعُ قَهْرًا. وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرَّضْخُ:
2 - الرَّضْخُ لُغَةً: هُوَ الْعَطَاءُ الْقَلِيل. وَيُقَال: رَضَخْتُ لَهُ رَضَخًا؛ أَيْ أَعْطَيْتُهُ شَيْئًا لَيْسَ بِالْكَثِيرِ.
وَشَرْعًا: هُوَ مَالٌ يُعْطِيهِ الإِْمَامُ مِنَ
__________
(1) لسان العرب، وأساس البلاغة، المغرب في ترتيب المعرب، المعجم الوسيط، مادة: سلب.

(25/176)


الْخُمُسِ، كَالنَّفْل، مَتْرُوكٌ قَدْرُهُ لاِجْتِهَادِهِ. وَعَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ شَيْءٌ دُونَ سَهْمِ الرَّاجِل، يَجْتَهِدُ الإِْمَامُ فِي قَدْرِهِ، وَهُوَ مِنَ الأَْرْبَاعِ الْخَمْسَةِ، وَقِيل: مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ (1) .

ب - الْغَنِيمَةُ:
3 - الْغَنِيمَةُ: فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، مِنَ الْغُنْمِ، وَهُوَ لُغَةً: الرِّبْحُ وَالْفَضْل، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَِنَّهَا فَائِدَةٌ مَحْضَةٌ.
وَشَرْعًا: مَالٌ حَصَل لَنَا مِنْ كُفَّارٍ أَصْلِيِّينَ حَرْبِيِّينَ بِقِتَالٍ مِنَّا، وَمَا أُلْحِقَ بِهِ مِنْ إِيجَافِ خَيْلٍ وَنَحْوِهِ. زَادَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ إِعْلاَءُ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَيَدْخُل فِيهِ السَّلَبُ وَالرَّضْخُ وَالنَّفَل (2) .

ج - الأَْنْفَال:
4 - الأَْنْفَال: هِيَ أَمْوَال الْحَرْبِيِّينَ الَّتِي آلَتْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ بِقِتَالٍ، كَالْغَنِيمَةِ أَوْ بِغَيْرِ قِتَالٍ كَالْفَيْءِ، وَتُطْلَقُ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى السَّهْمِ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: رضخ: ابن عابدين 3 / 235، الفواكه الدواني 1 / 172، مغني المحتاج 3 / 105، التعريفات للجرجاني.
(2) لسان العرب، المصباح المنير، المعجم الوسيط مادة (غنم) ، المغني لابن قدامة 6 / 402، مغني المحتاج 3 / 99، ابن عابدين 3 / 228، التعريفات للجرجاني.

(25/176)


لِمَصْلَحَةٍ، وَهُوَ مَا يُجْعَل لِمَنْ عَمِل عَمَلاً زَائِدًا فِي الْحَرْبِ ذَا أَثَرٍ وَنَفْعٍ (1) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُمْ: الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا قَتَل أَحَدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْمَعْرَكَةِ مُقْبِلاً عَلَى الْقِتَال فَلَهُ سَلَبُهُ، قَال ذَلِكَ الإِْمَامُ أَوْ لَمْ يَقُل؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَل كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ (2) . وَلِقَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ: " اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي رَجُلاً شَدِيدًا، إِلَى أَنْ قَال: حَتَّى أَقْتُلَهُ وَآخُذَ سَلَبَهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَاتِل لاَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ إِلاَّ إِذَا اشْتَرَطَ لَهُ الإِْمَامُ ذَلِكَ. كَأَنْ يَقُول قَبْل إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ، وَقَبْل أَنْ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا: مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ. وَإِلاَّ كَانَ السَّلَبُ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ.
وَقَال الطَّحَاوِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: أَمْرُ السَّلَبِ مَوْكُولٌ لِلإِْمَامِ فَيَرَى فِيهِ رَأْيَهُ؛ لِمَا رَوَى عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ مَدَدِيًّا اتَّبَعَهُمْ فَقَتَل عِلْجًا، فَأَخَذَ خَالِدٌ بَعْضَ سَلَبِهِ، وَأَعْطَاهُ بَعْضَهُ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 86، وغريب القرآن للأصفهاني
(2) حديث: " من قتل كافرا فله سلبه ". أخرجه أبو داود (3 / 162 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (3 / 353 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أنس بن مالك. وصححه ووافقه الذهبي.

(25/177)


فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: لاَ تَرُدُّهُ عَلَيْهِ يَا خَالِدُ (1) وَلِمَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ قَتْل أَبِي جَهْلٍ، حَيْثُ أَعْطَى سَلَبُهُ لِمُعَاذِ ابْنِ عَفْرَاءَ مَعَ قَوْلِهِ: كِلاَكُمَا قَتَلَهُ (2) . .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ الْقَاتِل لاَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ إِلاَّ أَنْ يَقُول لَهُ الإِْمَامُ ذَلِكَ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَقُول الإِْمَامُ ذَلِكَ إِلاَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ، حَتَّى لاَ يُشَوِّشَ نِيَّتَهُ، وَلاَ يَصْرِفَهَا لِقِتَال الدُّنْيَا؛ لأَِنَّ السَّلَبَ عِنْدَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ النَّفْل فَيُعْطِيهِ الإِْمَامُ لِلْمَصْلَحَةِ حَسَبَ اجْتِهَادِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْمُتَقَدِّمِ.
كَمَا رُوِيَ عَنْ شُبَّرِ بْنِ عَلْقَمَةَ قَال: بَارَزْتُ رَجُلاً يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ فَقَتَلْتُهُ، وَأَخَذْتُ سَلَبَهُ، فَأَتَيْتُ بِهِ سَعْدًا، فَخَطَبَ سَعْدٌ أَصْحَابَهُ وَقَال: إِنَّ هَذَا سَلَبُ شُبَّرٍ خَيْرٌ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَإِنَّا قَدْ نَفَّلْنَاهُ إِيَّاهُ (3) .
__________
(1) حديث عوف بن مالك أخرجه أحمد (6 / 26 - ط الميمنية) أصله في مسلم (3 / 1373 - ط الحلبي) .
(2) قصة قتل أبي جهل: أخرجها البخاري (الفتح 6 / 246 - 247 - ط. السلفية) ومسلم (3 / 1372 - ط الحلبي) من حديث عبد الرحمن بن عوف.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 238، حاشية العدوي 2 / 14، الشرح الصغير 2 / 176، القوانين الفقهية ص 99، روضة الطالبين 6 / 372، مغني المحتاج 3 / 99، المغني لابن قدامة 8 / 392، سبل السلام 4 / 52، المهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 238.

(25/177)


مَنْ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ:؟
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ مِنَ الْمُقَاتِلِينَ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَهُمْ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ السَّلَبَ لِكُل قَاتِلٍ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ أَوِ الرَّضْخَ كَالْعَبْدِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالصَّبِيِّ، وَالتَّاجِرِ، وَالذِّمِّيِّ، لِعُمُومِ الْحَدِيثِ: مَنْ قَتَل قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ (1) وَلِمَا رَوَاهُ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِل (2) . وَهُوَ حُكْمٌ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِشَيْءٍ مِنَ الأَْشْيَاءِ.
إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَسْتَثْنُونَ الذِّمِّيَّ فَيَرَوْنَ أَنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ وَإِنْ حَضَرَ الْقِتَال بِإِذْنِ الإِْمَامِ، أَمَّا إِذَا حَضَرَ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ فَلاَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ بِاتِّفَاقٍ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْمَرْأَةَ وَالذِّمِّيَّ وَالصَّبِيَّ وَكُل مَنْ لاَ يُسْهَمُ لَهُ لاَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ. هَذَا الْقَوْل الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
__________
(1) حديث: " من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 247 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1371 ط. الحلبي) .
(2) حديث: أن رسول الله صلى الله عليه سلم قضى بالسلب للقاتل. أخرجه أبو داود (3 / 165 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عوف بن مالك وخالد بن الوليد، وقال ابن حجر في التلخيص (3 / 105 - ط شركة الطباعة الفنية) وهو ثابت في صحيح مسلم من حديث طويل، وهو في صحيح مسلم (3 / 1373 - ط الحلبي) .

(25/178)


قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِلاَّ إِذَا أَجَازَ الإِْمَامُ لَهُمْ، أَوْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمُ الْجِهَادُ بِدُخُول الْكُفَّارِ إِلَى بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَيَأْخُذُونَ السَّلَبَ عِنْدَ ذَلِكَ. أَمَّا الَّذِي لاَ يَسْتَحِقُّ سَهْمًا وَلاَ رَضْخًا كَالْمُرْجِفِ وَالْمُخَذِّل وَالْخَائِنِ وَالْمُعِينِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوِهِ فَلاَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (1) .

7 - وَمِنْ شُرُوطِ اسْتِحْقَاقِ السَّلَبِ أَنْ يُغَرِّرَ الْقَاتِل بِنَفْسِهِ فِي قَتْل الْكَافِرِ؛ أَيْ يُخَاطِرَ بِحَيَاتِهِ وَيُوَاجِهَ احْتِمَال الْمَوْتِ، فَإِنْ رَمَاهُ بِسَهْمٍ أَوْ نَحْوِهِ مِنْ صَفِّ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ حِصْنٍ يَتَحَصَّنُ فِيهِ فَلاَ سَلَبَ لَهُ.
وَإِنِ اشْتَرَكَ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي قَتْل الْكَافِرِ حَال الْحَرْبِ، فَالسَّلَبُ لَهُمْ جَمِيعًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ حَيْثُ يَتَنَاوَل الْوَاحِدَ وَالاِثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةَ؛ وَلأَِنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي السَّبَبِ - وَهُوَ الْقَتْل - فَيَجِبُ أَنْ يَشْتَرِكُوا فِي السَّلَبِ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ بَيْنَ جَمَاعَةٍ لاَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 239، سبل السلام 4 / 52، الخرشي 3 / 130، الشرح الصغير 2 / 177، جواهر الإكليل 1 / 261، مغني المحتاج 3 / 99، روضة الطالبين 6 / 374، المغني لابن قدامة 8 / 387، حاشية العدوي 2 / 14، فتح القدير 5 / 249، كشاف القناع 3 / 71.

(25/178)


يُرْجَى نَجَاتُهُ مِنْهُمْ لَمْ يَخْتَصَّ قَاتِلُهُ بِسَلَبِهِ لأَِنَّهُ لَمْ يُغَرِّرْ بِنَفْسِهِ، وَلأَِنَّ شَرَّ الْكَافِرِ زَال بِالْوُقُوعِ بَيْنَهُمْ. وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لَوْ حَمَل جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْكَافِرِينَ، فَقَتَلُوهُ فَسَلَبُهُ لَيْسَ لَهُمْ. بَل يَكُونُ غَنِيمَةً؛ لأَِنَّهُمْ لَمْ يُغَرِّرُوا بِأَنْفُسِهِمْ فِي قَتْلِهِ، وَكَذَا لَوِ اشْتَرَكَ فِي قَتْلِهِ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَبْلَغَ فِي قَتْلِهِ مِنَ الآْخَرِ؛ لأَِنَّ السَّلَبَ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالْمُخَاطَرَةِ فِي قَتْلِهِ، وَلاَ يَحْصُل ذَلِكَ بِقَتْل الاِثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ فَلَمْ يُسْتَحَقَّ بِهِ السَّلَبُ. قَالُوا: وَلأَِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَكَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي سَلَبٍ، وَلأَِنَّ أَبَا جَهْلٍ ضَرَبَهُ مُعَاذُ ابْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ فَقَال: كِلاَكُمَا قَتَلَهُ، وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ الْجَمُوحِ (1) .

8 - وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَقْتُول الَّذِي يَأْخُذُ قَاتِلُهُ سَلَبَهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُقَاتِلِينَ الَّذِينَ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ شَرْعًا، أَمَّا إِذَا قَتَل امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا أَوْ شَيْخًا فَانِيًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ رَاهِبًا مُنْعَزِلاً فِي صَوْمَعَتِهِ أَوْ نَحْوَهُمْ مِمَّنْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِهِمْ، فَلاَ يَسْتَحِقُّ قَاتِلُهُ السَّلَبَ مَا لَمْ يَشْتَرِكْ فِي الْقِتَال. فَإِنِ اشْتَرَكَ أَحَدٌ مِنْ
__________
(1) سبق تخريجه ف5.

(25/179)


هَؤُلاَءِ فِي الْقِتَال اسْتَحَقَّ قَاتِلُهُ سَلَبَهُ، لِجَوَازِ قَتْلِهِ حِينَئِذٍ.

9 - وَمِنْ شُرُوطِ اسْتِحْقَاقِ السَّلَبِ أَنْ يَقْتُلَهُ أَوْ يُثْخِنَهُ بِجِرَاحٍ تَجْعَلُهُ فِي حُكْمِ الْمَقْتُول، بِحَيْثُ يَكُونُ قَدْ كَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُ وَأَزَال امْتِنَاعَهُ كُلِّيًّا؛ كَأَنْ يَفْقَأَ عَيْنَيْهِ أَوْ يُعْمِيَ بَصَرَهُ أَوْ يَقْطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ. قَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ: وَكَذَا لَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ أَوْ أَسَرَهُ أَوْ قَطَعَ يَدًا وَرِجْلاً لِضَعْفِ حَرَكَتِهِ فِي الْقَطْعِ؛ وَلأَِنَّ الأَْسْرَ أَبْلَغُ فِي الْقَهْرِ وَأَصْعَبُ مِنَ الْقَتْل؛ وَلأَِنَّ الإِْمَامَ يَتَخَيَّرُ فِي الأَْسِيرِ بَيْنَ الْقَتْل وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ وَنَحْوِهَا.
قَال مَكْحُولٌ: لاَ يَكُونُ السَّلَبُ إِلاَّ لِمَنْ أَسَرَ عِلْجًا (1) أَوْ قَتَلَهُ، وَقَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا أَسَرَ رَجُلاً فَقَتَلَهُ الإِْمَامُ صَبْرًا فَسَلَبُهُ لِمَنْ أَسَرَهُ، وَإِنِ اسْتَبَقَاهُ الإِْمَامُ كَانَ لَهُ فِدَاؤُهُ أَوْ رَقَبَتُهُ وَسَلَبُهُ لأَِنَّهُ كَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَمِنْ بَيْنِهِمُ السُّبْكِيُّ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ إِلاَّ الْقَاتِل لِظَاهِرِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ (2) وَلأَِنَّ غَيْرَ الْقَتْل لاَ يُزِيل الاِمْتِنَاعَ،
__________
(1) الرجل الضخم من كفار العجم.
(2) سبق تخريجه ف5.

(25/179)


فَرُبَّ أَعْمَى شَرٌّ مِنَ الْبَصِيرِ، وَمَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ يَحْتَال عَلَى الأَْخْذِ بِثَأْرِ نَفْسِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقَاطِعَ لِلرِّجْلَيْنِ أَوِ الْيَدَيْنِ أَوِ الْيَدِ وَالرِّجْل لاَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ لأَِنَّهُ لَمْ يَكُفَّ شَرَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ.
وَكَذَا إِنْ أَسَرَهُ؛ لأَِنَّ الَّذِي أَسَرَهُ لَمْ يَقْتُلْهُ سَوَاءٌ قَتَلَهُ الإِْمَامُ أَوِ اسْتَبَقَاهُ بِرِقٍّ أَوْ فِدَاءٍ أَوْ مَنٍّ، وَيَكُونُ سَلَبُهُ وَفِدَاؤُهُ إِنْ فُدِيَ، وَرِقُّهُ إِنْ رُقَّ، غَنِيمَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لأَِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَسَرُوا أَسْرَى بَدْرٍ، فَقَتَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَاسْتَبْقَى سَائِرَهُمْ (1) . فَلَمْ يُعْطِ مَنْ أَسَرَهُمْ أَسْلاَبَهُمْ وَلاَ فِدَاءَهُمْ، بَل كَانَ فِدَاؤُهُمْ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ.
وَإِنْ عَانَقَ رَجُلاً فَقَتَلَهُ آخَرُ فَسَلَبُهُ لِلْقَاتِل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ وَلأَِنَّهُ كَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرًّا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُعَانِقْهُ الآْخَرُ.
وَذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّ سَلَبَهُ لِلْمُعَانِقِ. وَمِثْلُهُ لَوْ كَانَ الْكَافِرُ مُقْبِلاً عَلَى رَجُلٍ يُقَاتِلُهُ
__________
(1) قصة أسرى بدر ومقتل عقبة والنضر أوردها ابن كثير في السيرة النبوية (2 / 473 - نشر دار إحياء التراث العربي) وعزاها إلى ابن إسحاق في سيرته.

(25/180)


فَجَاءَ آخَرُ مِنْ وَرَائِهِ، فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ فَسَلَبُهُ لِقَاتِلِهِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، فَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلاَ رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَدَرْتُ إِلَيْهِ حَتَّى أَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ فَضَرَبْتُهُ عَلَى حَبْل عَاتِقِهِ ضَرْبَةً، وَأَقْبَل عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رَائِحَةَ الْمَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ. . . ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَجَعُوا وَجَلَسَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: مَنْ قَتَل قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ، قَال: فَقُمْتُ فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ . . . إِلَى أَنْ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ؟ فَاقْتَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ. فَقَال رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: صَدَقَ يَا رَسُول اللَّهِ، سَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيل عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنْ حَقِّهِ، فَقَال أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: لاَهَا اللَّهِ إِذًا لاَ يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ تَعَالَى يُقَاتِل عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ فَيُعْطِيكَ سَلَبَهُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ فَأَعْطِهِ إِيَّاهُ، قَال: فَأَعْطَانِيهِ (1) .
قَال أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ أَمْسَكَهُ وَاحِدٌ وَقَتَلَهُ آخَرُ فَالسَّلَبُ بَيْنَهُمَا
__________
(1) حديث أبي قتادة: أخرجه البخاري (الفتح 6 / 247 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1370 - 1371 - ط. الحلبي) .

(25/180)


لاِنْدِفَاعِ شَرِّهِ بِهِمَا. وَهَذَا فِيمَا إِذَا مَنَعَهُ الْهَرَبَ وَلَمْ يَضْبِطْهُ. فَأَمَّا الإِْمْسَاكُ الضَّابِطُ فَهُوَ أَسْرٌ. وَقَتْل الأَْسِيرِ لاَ يُسْتَحَقُّ بِهِ السَّلَبُ (1) .

10 - وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا فِي اسْتِحْقَاقِ السَّلْبِ: أَنْ يَقْتُل الْكَافِرَ وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَى الْقِتَال وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ. فَإِذَا انْهَزَمَ جَيْشُ الْمُشْرِكِينَ وَاتَّبَعَهُمْ فَقَتَل كَافِرًا مِنْهُمْ فَلاَ يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ لأَِنَّ بِهَزِيمَتِهِمُ انْدَفَعَ شَرُّهُمْ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَل كَافِرًا وَهُوَ أَسِيرٌ فِي يَدِهِ، أَوْ وَهُوَ نَائِمٌ أَوْ مَشْغُولٌ بِأَكْلٍ أَوْ نَحْوِهِ أَوْ مُثْخَنٌ زَائِل الاِمْتِنَاعِ؛ لأَِنَّ الْقَاتِل لَمْ يُغَرِّرُ بِنَفْسِهِ فِي قَتْلِهِ وَلَمْ يَكُفَّ الْمُسْلِمِينَ شَرَّ الْمَقْتُول.
وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعْطِ ابْنَ مَسْعُودٍ سَلَبَ أَبِي جَهْلٍ لأَِنَّهُ ذَبَحَهُ بَعْدَ أَنْ أَثْخَنَهُ مُعَاذُ بْنُ الْجَمُوحِ، (2) وَأَمَرَ بِقَتْل عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ مِنْ أُسَارَى بَدْرٍ صَبْرًا، وَلَمْ يُعْطِ سَلَبَهُمَا مَنْ قَتَلَهُمَا، (3) وَقَتَل رِجَال بَنِي قُرَيْظَةَ صَبْرًا فَلَمْ يُعْطِ مَنْ قَتَلَهُمْ سِلاَبَهُمْ (4) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 386، روضة الطالبين 6 / 263، مغني المحتاج 3 / 100، كشاف القناع 3 / 71، سبل السلام 4 / 53.
(2) الحديث سبق تخريجه ف5.
(3) الحديث سبق تخريجه ف9.
(4) قصة مقتل رجال بني قريظة صبرا. أوردها ابن كثير في السيرة (3 / 248 - 242 - نشر دار إحياء التراث العربي) نقلا عن ابن إسحاق في سيرته.

(25/181)


وَذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّ السَّلَبَ يَسْتَحِقُّهُ كُل مَنْ قَتَل كَافِرًا لِعُمُومِ حَدِيثِ: مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ (1)
وَلأَِنَّ سَلَمَةَ بْنَ الأَْكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتَل طَلِيعَةً لِلْكُفَّارِ، وَهُوَ مُنْهَزِمٌ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَتَلَهُ؟ قَالُوا: سَلَمَةُ بْنُ الأَْكْوَعِ، قَال: لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ (2) .
أَمَّا إِذَا انْهَزَمَ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ، وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، فَسَلَبُهُ لِقَاتِلِهِ لأَِنَّ الْحَرْبَ فَرٌّ وَكَرٌّ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَهُ مُقْبِلاً أَوْ مُدْبِرًا مَا دَامَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً، فَالشَّرُّ مُتَوَقَّعٌ وَالْمُوَلِّي لاَ تُؤْمَنُ كَرَّتُهُ.
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ الْقَاتِل فِي الصُّفُوفِ الْمُلْتَحِمَةِ يَسْتَحِقُّ سَلَبَ مَنْ قَتَلَهُ لِعُمُومِ خَبَرِ: مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ وَلِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ السَّابِقِ قَال فِيهِ: فَلَمَّا الْتَقَيْنَا رَأَيْتُ رَجُلاً مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلاَ رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْحَدِيثَ، وَلِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَتَل يَوْمَ هَوَازِنَ عِشْرِينَ رَجُلاً وَأَخَذَ أَسْلاَبَهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْتِقَاءِ الزَّحْفَيْنِ (3) وَلِحَدِيثِ عَوْفِ
__________
(1) الحديث سبق تخريجه ف5.
(2) حديث: قتل سلمة بن الأكوع رجلا من طليعة الكفار. أخرجه مسلم (3 / 1375 - ط. الحلبي) .
(3) حديث أنس. أن أبا طلحة قتل يوم هوازن عشرين رجلا. تقدم بعضه ف (5) وتقدم تخريجه.

(25/181)


بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ الْمَدَدِيِّ الَّذِي قَتَل رَجُلاً مِنْ الرُّومِ، حَيْثُ قَال فِيهِ: فَقَضَى لَنَا أَنَّا لَقِينَا عَدُوَّنَا فَقَاتَلُونَا قِتَالاً شَدِيدًا (1) . الْحَدِيثَ. وَمَعَ ذَلِكَ أَخَذَ الْمَدَدِيُّ سَلَبَ الرَّجُل الَّذِي قَتَلَهُ.
وَذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ وَمَسْرُوقٌ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ إِلَى أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِل مَا لَمْ يَلْتَقِ الزَّحْفَانِ، وَلَمْ تَمْتَدَّ الصُّفُوفُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلاَ سَلَبَ لأَِحَدٍ.
وَهَل يُشْتَرَطُ إِذْنُ الإِْمَامِ؟ قَال أَحْمَدُ وَالأَْوْزَاعِيُّ: لاَ يُعْجِبُنِي أَنْ يَأْخُذَ الْقَاتِل السَّلَبَ إِلاَّ بِإِذْنِ الإِْمَامِ؛ لأَِنَّهُ فِعْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَلَمْ يَنْفُذْ أَمْرُهُ فِيهِ إِلاَّ بِإِذْنِ الإِْمَامِ بِأَخْذِ سَهْمِهِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ أَحْمَدَ عَلَى سَبِيل الاِسْتِحْبَابِ لاَ عَلَى سَبِيل الإِْيجَابِ، لِيَخْرُجَ مِنَ الْخِلاَفِ. فَعَلَى هَذَا إِنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ يَكُونُ قَدْ تَرَكَ الْفَضِيلَةَ وَلَهُ أَخْذُهُ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَهُ أَخْذُ السَّلَبِ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ؛ لأَِنَّهُ اسْتَحَقَّهُ بِجَعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ ذَلِكَ، وَلاَ يُؤْمَنُ إِنْ أَظْهَرَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يُعْطِيَهُ (3) .
__________
(1) حديث عوف بن مالك تقدم تخريجه ف (5) .
(2) المغني لابن قدامة 8 / 388.
(3) المصدر نفسه.

(25/182)


هَل تَلْزَمُ الْبَيِّنَةُ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّلَبِ؟
11 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَل الدَّعْوَى فِي اسْتِحْقَاقِ السَّلَبِ إِلاَّ بِشَهَادَةٍ، لِوُرُودِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ: مَنْ قَتَل قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ (1) . وَقَال مَالِكٌ وَالأَْوْزَاعِيُّ: يُعْطَى السَّلَبَ إِذَا قَال: أَنَا قَتَلْتُهُ، وَلاَ يُسْأَل عَنْ بَيِّنَةٍ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ قَبِل قَوْل أَبِي قَتَادَةَ وَمُعَاذِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْجُمُوحِ وَغَيْرِهِمَا وَأَعْطَاهُمُ السَّلَبَ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ شَهَادَةٍ وَلاَ حَلِفٍ. وَيَرَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ اشْتَرَطُوا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لاَ تُقْبَل إِلاَّ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ؛ لأَِنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَ الْبَيِّنَةَ، وَإِطْلاَقُهَا يَنْصَرِفُ إِلَى شَاهِدَيْنِ. وَلأَِنَّهَا كَشَهَادَةِ الْقَتْل الْعَمْدِ، وَمِنْ بَيْنِ هَؤُلاَءِ أَحْمَدُ. وَذَهَبَ الْبَعْضُ الآْخَرُ إِلَى قَبُول شَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَيَمِينٍ؛ لأَِنَّهَا دَعْوَى فِي الْمَال فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ كَسَائِرِ الأَْمْوَال. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْل الْحَدِيثِ (2) . وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى قَبُول شَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، لأَِنَّ النَّبِيَّ قَبِل قَوْل الَّذِي شَهِدَ لأَِبِي قَتَادَةَ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ (3) .
__________
(1) الحديث تقدم ف6.
(2) سبل السلام 4 / 53، كشاف القناع 3 / 72، المغني لابن قدامة 8 / 396.
(3) المغني لابن قدامة 8 / 396، كشاف القناع 3 / 72، سبل السلام 4 / 53.

(25/182)


هَل يُخَمَّسُ السَّلَبُ؟
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَخْمِيسِ السَّلَبِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ جَرِيرٍ إِلَى أَنَّ السَّلَبَ لاَ يُخَمَّسُ، لَمَا رَوَاهُ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِل وَلَمْ يُخَمِّسِ السَّلَبَ (1) . وَلِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (إِنَّا كُنَّا لاَ نُخَمِّسُ السَّلَبَ) .
وَذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ وَمَكْحُولٌ - وَهُوَ مُقَابِل الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى أَنَّ السَّلَبَ يُخَمَّسُ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول} (2) . الآْيَةَ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَال إِسْحَاقُ: إِنِ اسْتَكْثَرَ الإِْمَامُ السَّلَبَ خَمَّسَهُ وَذَلِكَ إِلَيْهِ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ سِيرِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَارَزَ مَرْزُبَانَ الزَّارَةِ بِالْبَحْرَيْنِ فَطَعَنَهُ فَدَقَّ صُلْبَهُ وَأَخَذَ سِوَارَيْهِ وَسَلَبَهُ، فَلَمَّا صَلَّى الظُّهْرَ أَتَى أَبَا طَلْحَةَ فِي دَارِهِ فَقَال: إِنَّا كُنَّا لاَ نُخَمِّسُ السَّلَبَ، وَإِنَّ سَلَبَ الْبَرَاءِ قَدْ بَلَغَ مَالاً، وَأَنَا خَامِسٌ، فَكَانَ أَوَّل سَلَبٍ خُمِّسَ فِي الإِْسْلاَمِ
__________
(1) الحديث تقدم ف (6) .
(2) سورة الأنفال / 41.

(25/183)


سَلَبَ الْبَرَاءِ، وَقَدْ بَلَغَ سَلَبُهُ ثَلاَثِينَ أَلْفًا (1) .
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ سَلَبَ الْمَقْتُول كَسَائِرِ الْغَنِيمَةِ، لاَ يَخْتَصُّ بِهِ الْقَاتِل وَأَنَّ الْقَاتِل وَغَيْرَهُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَيُنَفِّلُهُ الإِْمَامُ. وَمَحَل التَّنْفِيل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الأَْرْبَعَةُ الأَْخْمَاسِ قَبْل الإِْحْرَازِ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ، وَمِنَ الْخُمُسِ بَعْدَ الأَْحْرَازِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَكُونُ مِنَ الْخُمُسِ يُنَفِّلُهُ الإِْمَامُ لِلْمُقَاتِل إِنْ رَأَى مَصْلَحَةً فِي ذَلِكَ (2) .

السَّلَبُ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْقَاتِل:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السَّلَبَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْقَاتِل هُوَ مَا عَلَى الْقَتِيل مِنْ ثِيَابٍ وَعِمَامَةٍ وَقَلَنْسُوَةٍ وَخُفٍّ وَرَانٍ (3) وَطَيْلَسَانٍ، وَكَذَا مَا عَلَيْهِ مِنْ سِلاَحٍ وَآلاَتِ حَرْبٍ كَالدِّرْعِ وَالْمِغْفَرِ وَالرُّمْحِ وَالسِّكِّينِ، وَالسَّيْفِ واللَّسْتِ وَالْقَوْسِ وَالنُّشَّابِ وَنَحْوِهَا، وَمَا عَلَى دَابَّتِهِ مِنْ سَرْجٍ وَلِجَامٍ وَمِقْوَدٍ وَنَحْوِهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ
__________
(1) المصادر السابقة، مغني المحتاج 3 / 101، روضة الطالبين 6 / 375، فتح القدير 5 / 249.
(2) فتح القدير 5 / 249، القوانين الفقهية ص 99، سبل السلام 4 / 58.
(3) الران كالخف إلا أنه لا قدم له (القاموس) .

(25/183)


وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مِنَ السَّلَبِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الشَّرَفِيَّةِ كَالتَّاجِ وَالسِّوَارِ وَالْخَاتَمِ وَالطَّوْقِ وَالْمِنْطَقَةِ وَلَوْ مُذَهَّبَةً، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَذَا الْهِمْيَانُ (1) الَّذِي لِلنَّفَقَةِ وَمَا فِيهِ مِنَ النَّفَقَةِ؛ لأَِنَّهُ يَدْخُل فِي عُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ، وَلِحَدِيثِ الْبَرَاءِ الْمُتَقَدِّمِ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي السَّلَبِ سِوَارُهُ وَمِنْطَقَتُهُ. وَمِنَ السَّلَبِ الدَّابَّةُ الَّتِي يَرْكَبُهَا، لِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْمَدَدِيِّ أَنَّهُ قَتَل عِلْجًا فَحَازَ فَرَسَهُ وَسِلاَحَهُ (2) . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ وَمَكْحُولٌ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: وَكَذَا الدَّابَّةُ الَّتِي يُمْسِكُهَا هُوَ بِيَدِهِ أَوْ بِيَدِ غُلاَمِهِ لِلْقِتَال، وَخَالَفَهُمْ فِي هَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِذْ قَالُوا: إِنَّ الدَّابَّةَ الَّتِي يُمْسِكُهَا غُلاَمُهُ، أَوْ مَا تُسَمَّى بِالْجَنِيبَةِ، وَهِيَ الَّتِي تُقَادُ مَعَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ أَمَامَهُ أَمْ خَلْفَهُ أَمْ بِجَنْبِهِ، لاَ تَدْخُل فِي السَّلَبِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الدَّابَّةَ الَّتِي يَرْكَبُهَا لَيْسَتْ مِنَ السَّلَبِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ؛ لأَِنَّ السَّلَبَ مَا كَانَ عَلَى بَدَنِهِ، وَالدَّابَّةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَأَمَّا الدَّابَّةُ الَّتِي فِي مَنْزِلِهِ، أَوْ فِي خَيْمَتِهِ، أَوْ كَانَتْ مُنْفَلِتَةً فَلَيْسَتْ مِنَ السَّلَبِ بِاتِّفَاقٍ.
__________
(1) الهميان: كيس للنفقة يشد في الوسط
(2) الحديث سبق تخريجه ف (10) .

(25/184)


وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ التَّاجَ وَالطَّوْقَ وَالسِّوَارَ وَالْقُرْطَ الَّذِي فِي الأُْذُنِ، وَالْخَاتَمَ وَالْعَيْنَ وَالصَّلِيبَ وَالْهِمْيَانَ وَمَا فِيهِ مِنَ النَّفَقَةِ، لَيْسَتْ مِنَ السَّلَبِ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ لَيْسَتْ مِمَّا يُسْتَعَانُ بِهَا فِي الْحَرْبِ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَا يَحْمِل مَعَهُ مِنَ الْمَال الْمَوْجُودِ فِي حَقِيبَتِهِ وَخَرِيطَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ السَّلَبِ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ لِبَاسِهِ، وَلاَ مِنْ حُلِيِّهِ وَلاَ حِلْيَةِ فَرَسِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا مِنَ السَّلَبِ وَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوءَةً مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، وَعَلَيْهِ ذَهَبَ السُّبْكِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ لأَِنَّهُ حَمَلَهَا لِتَوَقُّعِ الاِحْتِيَاجِ إِلَيْهَا (1) .