الموسوعة الفقهية الكويتية

سِرْقِينٌ

انْظُرْ: زِبْل.
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 442، تبصرة الحكام 2 / 353، شرح الزرقاني 8 / 107 - 108، القوانين الفقهية ص 361.
(2) القليوبي وعميرة 4 / 198، المهذب 2 / 284، كشاف القناع 6 / 149، المغني والشرح الكبير 10 / 279، الجامع لأحكام القرآن 6 / 165، أحكام القرآن لابن العربي 2 / 609.
(3) حديث: " على اليد ما أخذت. . . " سبق تخريجه ف 79.

(24/347)


سِرْوَالٌ

انْظُرْ: لِبَاس.

سَرِيَّةٌ

انْظُرْ: تَسَرِّي.

(24/347)


سَرِيَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - فِي اللُّغَةِ: السَّرِيَّةُ - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ -: قِطْعَةٌ مِنَ الْجَيْشِ.
فَعَيْلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ. مِنْ سَرَى فِي اللَّيْل وَأَسْرَى: إِذَا ذَهَبَ فِيهِ.
وَالْجَمْعُ سَرَايَا، وَسَرِيَّاتٌ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: فِرْقَةٌ مِنَ الْجَيْشِ أَقْصَاهَا أَرْبَعُمِائَةٍ، يَبْعَثُهَا الأَْمِيرُ لِقِتَال الْعَدُوِّ، أَوِ التَّجَسُّسِ عَلَى الأَْعْدَاءِ، وَسُمِّيَتْ سَرِيَّةً لأَِنَّهُمْ يُسِرُّونَ بِاللَّيْل وَيَكْمُنُونَ بِالنَّهَارِ لِقِلَّةِ عَدَدِهِمْ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْجَيْشُ، وَنَحْوُهُ:
2 - الْجَيْشُ مَا زَادَ عَلَى ثَمَانِمِائَةٍ، وَالْجَحْفَل: مَا زَادَ
__________
(1) المصباح المنير.
(2)) نهاية المحتاج 8 / 61، حاشية الجمل 5 / 292، حاشية القليوبي 4 / 217، السير الكبير 1 / 68.

(24/348)


عَلَى أَرْبَعَةِ آلاَفٍ، وَالْخَمِيسُ: هُوَ الْجَيْشُ الْعَظِيمُ، وَالْبَعْثُ: هُوَ مَا تَفَرَّعَ عَنِ السَّرِيَّةِ، وَالْكَتِيبَةُ: هِيَ مَا اجْتَمَعَ، وَلَمْ يَنْتَشِرْ (1) .

الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ:
3 - خُرُوجُ الْمُجَاهِدِينَ لإِِعْزَازِ الدِّينِ، وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنِ الْعِبَادِ وَحِمَايَةِ الْبَيْضَةِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، وَمِنْ أَفْضَل الْقُرُبَاتِ إِلَى اللَّهِ. وَقَدْ حَثَّ الْقُرْآنُ عَلَى الْخُرُوجِ فِي سَبِيل اللَّهِ، فَقَال عَزَّ مَنْ قَائِلٍ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيل لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيل اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَْرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآْخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآْخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِل قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) .
وَقَال جَل شَأْنُهُ: {مَا كَانَ لأَِهْل الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَْعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُول اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيل اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (3) . وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الآْيَاتِ.
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 61، أسنى المطالب 4 / 192، حاشية القليوبي 4 / 217، مطالب أولي النهى 2 / 537.
(2) سورة التوبة / 38 - 39.
(3) سورة التوبة / 120.

(24/348)


وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِلَيْلَةٍ أَفْضَل مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ: حَارِسٌ حَرَسَ فِي أَرْضِ خَوْفٍ لَعَلَّهُ أَنْ لاَ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ (1) وَدَاوَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعْثِ السَّرَايَا حَتَّى بَلَغَتْ سَرَايَاهُ الَّتِي بَعَثَهَا سَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَرِيَّةً (2) .
وَأَمْرُ بَعْثِ السَّرَايَا مَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ الإِْمَامِ، وَإِلَى مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ مِنْ أُمَرَاءِ الْجَيْشِ.

أَقَل السَّرِيَّةِ وَأَكْثَرُهَا:
4 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ أَكْثَرَ السَّرِيَّةِ: أَرْبَعُمِائَةٍ، أَوْ خَمْسُمِائَةٍ، وَأَقَلُّهَا مِائَةٌ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا: بِحَدِيثِ: خَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُ مِائَةٍ، وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلاَفٍ، وَلَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ (4) .
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إِنَّهُ لاَ بَأْسَ أَنْ يَبْعَثَ
__________
(1) حديث: " ألا أنبئكم بليلة أفضل من ليلة القدر؟ ". أخرجه الحاكم (2 / 81 - ط دائرة المعارف العثمانية) .
(2) يراجع في ذلك كتب السيرة كابن هشام وجزء المغازي من تاريخ الإسلام للذهبي.
(3)) نهاية المحتاج 8 / 161، أسنى المطالب 4 / 192، حاشية القليوبي 4 / 217.
(4) حديث: " خير الصحابة أربعة. . . " أخرجه أبو داود (3 / 82 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 443 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(24/349)


الإِْمَامُ الرَّجُل الْوَاحِدَ سَرِيَّةً، أَوِ الاِثْنَيْنِ أَوِ الثَّلاَثَةَ، حَسَبَ الْحَاجَةِ، وَقَال: لَمْ يُرِدِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالأَْرْبَعِمِائَةِ أَنَّ مَا دُونَهَا لاَ يَكُونُ سَرِيَّةً، إِنَّمَا كَانَ مُرَادُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُمْ إِذَا بَلَغُوا هَذَا الْعَدَدَ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ مِنْ بِلاَدِ الْعَدُوِّ قَبْل نَيْل الْمُرَادِ (1) . بِدَلِيل أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ فِي أَيَّامِ الْخَنْدَقِ سَرِيَّةً وَحْدَهُ (2) . وَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ سَرِيَّةً وَحْدَهُ (3) ، وَبَعَثَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ سَرِيَّةً وَحْدَهُ (4) . وَبَعَثَ ابْنَ مَسْعُودٍ وَخَبَّابًا سَرِيَّةً (5) .
قَال السَّرَخْسِيُّ: أَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ
__________
(1) شرح السير الكبير 1 / 67 - 70.
(2) حديث: " بعث النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان في أيام الخندق سرية وحده ". ذكره ابن جرير الطبري في تاريخه (2 / 579 - ط المعارف) .
(3) حديث: " بعث عبد الله بن أنيس سرية وحده ". أخرجه أحمد (3 / 496 - ط الميمنية) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6 / 203 - ط القدسي) وعزاه إلى أحمد وأبي يعلى وقال: " فيه راو لم يسم، وهو ابن عبد الله بن أنيس، وبقية رجاله ثقات ".
(4) حديث: " بعث دحية الكلبي سرية وحده ". أخرجه أحمد (3 / 441 ط. الميمنية) من حديث التنوخي رسول هرقل. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (8 / 236 ط القدسي) وعزاه إلى أحمد وأبي يعلى وقال: رجاله ثقات.
(5) حديث: " بعث ابن مسعود وخبابًا سرية " ذكره محمد بن الحسن الشيباني في السير الكبير (1 / 67 - 70) ولم نعثر عليه في المصادر الحديثية، وكتب السير.

(24/349)


النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُبْعَثَ سَرِيَّةٌ دُونَ ثَلاَثَةِ نَفَرٍ (1) . فَتَأْوِيلُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الإِْشْفَاقِ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا فِي الدِّينِ، أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَيَانَ أَنَّ الأَْفْضَل: أَلاَّ يَخْرُجَ أَقَل مِنْ ثَلاَثَةٍ لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ أَدَاءِ الصَّلاَةِ بِالْجَمَاعَةِ عَلَى هَيْئَاتِهَا بِأَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمْ، وَيَصْطَفَّ الاِثْنَانِ خَلْفَهُ.
وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى: فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ بَعْثِ السَّرَايَا الْقِتَال فَقَطْ، بَل تَارَةً يَكُونُ الْمَقْصُودُ أَنْ تَتَحَسَّسَ خَبَرَ الأَْعْدَاءِ فَتَأْتِيَهُ بِمَا عَزَمُوا عَلَيْهِ فِي السِّرِّ، وَتَمَكُّنُ الْوَاحِدِ مِنَ الدُّخُول بَيْنَهُمْ لِتَحْصِيل هَذَا الْمَقْصُودِ أَظْهَرُ مِنْ تَمَكُّنِ الثَّلاَثَةِ.
وَقَدْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدُهُمَا بِالْخَبَرِ، وَيَمْكُثَ الآْخَرُ بَيْنَ الأَْعْدَاءِ لِيَقِفَ عَلَى مَا يَتَجَدَّدُ لَهُمْ مِنَ الرَّأْيِ بَعْدَ ذَهَابِ الْوَاحِدِ عَنْهُمْ، وَهُنَا يَتِمُّ الْغَرَضُ بِالْمُثَنَّى.
وَقَدْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ الْقِتَال، أَوِ التَّوَصُّل إِلَى قَتْل الْمُبَارِزِينَ مِنْهُمْ غِيلَةً، فَيَحْصُل هَذَا الْمَقْصُودُ بِالثَّلاَثَةِ فَصَاعِدًا، لِهَذَا كَانَ الرَّأْيُ فِي تَحْدِيدِ السَّرِيَّةِ إِلَى الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ يُنْظَرُ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ (2) .
__________
(1) حديث: " نهى أن تبعث سرية دون ثلاثة نفر ". ذكره محمد بن الحسن الشيباني في السير الكبير (1 / 67 - 70) ولم نعثر عليه في المصادر الحديثية وكتب السير.
(2) شرح السير الكبير 1 / 65 وما بعده.

(24/350)


خُرُوجُ السَّرِيَّةِ:
5 - يَحْرُمُ خُرُوجُ سَرِيَّةٍ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ؛ لأَِنَّهُ أَعْرَفُ بِمَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، وَالْحَاجَةُ الدَّاعِيَةُ إِلَى خُرُوجِهَا، إِذَا كَانَتْ أَفْرَادًا مِنْ أَهْل الدِّيوَانِ، لأَِنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الأُْجَرَاءِ لِغَرَضٍ مُهِمٍّ يُرْسِل إِلَيْهِ فَلاَ يَجُوزُ لَهُمُ الاِسْتِقْلاَل بِأَمْرِ الْخُرُوجِ، أَمَّا إِذَا كَانُوا مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ الَّذِينَ إِذَا نَشِطُوا غَزَوْا وَلَيْسُوا مِنْ أَهْل الدِّيوَانِ فَيُكْرَهُ خُرُوجُهُمْ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ (1) .
وَيَنْبَغِي لِلإِْمَامِ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً، أَنْ يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ.
قَال السَّرَخْسِيُّ: وَإِنَّمَا يَجِبُ هَذَا اقْتِدَاءً بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ دَاوَمَ بَعْثَ السَّرَايَا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ فِي كُل مَرَّةٍ، وَلَوْ جَازَ تَرْكُهُ لَفَعَلَهُ مَرَّةً تَعْلِيمًا لِلْجَوَازِ، وَلأَِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَى اجْتِمَاعِ الرَّأْيِ وَالْكَلِمَةِ. وَلاَ يَحْصُل ذَلِكَ إِلاَّ إِذَا أَمَّرَ عَلَيْهِمْ بَعْضَهُمْ، فَيُطِيعُونَهُ، فَالطَّاعَةُ فِي الْحَرْبِ أَنْفَعُ مِنْ بَعْضِ الْقِتَال. ثُمَّ اسْتَدَل مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا خَرَجَ ثَلاَثَةُ مُسْلِمِينَ فِي سَفَرٍ فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْثَرُهُمْ قُرْآنًا وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَهُمْ (2) . وَإِنَّمَا قَدَّمَهُ لأَِنَّهُ أَفْضَلُهُمْ، ثُمَّ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 61، حاشية القليوبي 4 / 217، مواهب الجليل 3 / 349، مطالب أولي النهى 2 / 542.
(2) حديث: " إذا خرج ثلاثة مسلمين في سفر فليؤمهم أكثرهم قرآنًا وإن كان أصغرهم ". أخرجه ابن أبي شيبة (1 / 344 - ط الدار السلفية) من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن مرسلا.

(24/350)


قَال: إِذَا أَمَّهُمْ فَهُوَ أَمِيرُهُمْ، فَذَلِكَ أَمِيرٌ أَمَّرَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّأْمِيرَ سُنَّةٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ (2) .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ بَصِيرًا بِأَمْرِ الْحَرْبِ وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ، لَيْسَ مِمَّنْ يُقْحِمُهُمْ فِي الْمَهَالِكِ، وَلاَ مِمَّنْ يُفَوِّتُ عَلَيْهِمُ الْفُرْصَةَ إِذَا رَأَوْهَا، وَيُسَنُّ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُوثَقُ بِدِينِهِ، مُجْتَهِدًا فِي الأَْحْكَامِ الدِّينِيَّةِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ ثُمَّ طَاعَةِ الأَْمِيرِ وَيُوصِيهِ بِهِمْ، وَيَأْخُذُ الْبَيْعَةَ عَلَيْهِمْ بِالثَّبَاتِ عَلَى الْجِهَادِ، وَعَدَمِ الْفِرَارِ. وَيُسْتَحَبُّ خُرُوجُهُمْ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَأَوَّل النَّهَارِ (3) . لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُِمَّتِي فِي بُكُورِهَا (4) .

مَا تَغْنَمُهُ السَّرِيَّةُ:
6 - إِذَا بَعَثَ الإِْمَامُ سَرِيَّةً مِنَ الْجَيْشِ وَهُوَ مِنْ
__________
(1) شرح السير الكبير لمحمد بن الحسن 1 / 60.
(2) نهاية المحتاج 8 / 60، والقليوبي 4 / 217، وأسنى المطالب 4 / 192.
(3) شرح السير الكبير 1 / 61 - 62 وما بعده، ونهاية المحتاج 8 / 61 - 62، وأسنى المطالب 4 / 192، وروضة الطالبين 10 / 238.
(4) حديث: " اللهم بارك لأمتي في بكورها. . . " إلخ. أخرجه الترمذي (3 / 508 - ط الحلبي) من حديث صخر الغامدي، وقال: حديث حسن.

(24/351)


أَرْضِ الْعَدُوِّ فَغَنِمَتْ شَارَكَهُمْ جَيْشُ الإِْمَامِ فِيمَا غَنِمَتْ، وَإِنْ غَنِمَ الْجَيْشُ فِي غَيْبَةِ السَّرِيَّةِ شَارَكَتْهُ.
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا غَزَا هَوَازِنَ بَعَثَ سَرِيَّةً مِنَ الْجَيْشِ قِبَل أَوْطَاسٍ فَغَنِمَتِ السَّرِيَّةُ فَأَشْرَكَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجَيْشِ (1) . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيَرُدُّ سَرَايَاهُمْ عَلَى قَعْدَتِهِمْ (2) (مَنْ لَمْ يَخْرُجُوا مَعَ السَّرِيَّةِ) وَفِي تَنْفِيل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبُدَاءَةِ بِالرُّبُعِ، وَفِي الرَّجْعَةِ بِالثُّلُثِ (3) دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاكِهِمْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُمْ لَوِ اخْتَصُّوا بِمَا غَنِمُوهُ لَمَا كَانَ ثُلُثُهُ نَفْلاً. وَلأَِنَّهُمْ جَيْشٌ وَاحِدٌ، وَكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ رِدْءٌ لِلآْخَرِ فَيَشْتَرِكُونَ كَمَا لَوْ غَنِمَ أَحَدُ جَانِبَيِ الْجَيْشِ.
وَإِنْ بَعَثَ سَرِيَّةً إِلَى دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ بِبَلْدَةٍ فَغَنِمَتْ لَمْ يُشَارِكْهَا الإِْمَامُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجَيْشِ
__________
(1) حديث: " لما غزا هوازن بعث سرية من الجيش قبل أوطاس ". ذكره ابن كثير في البداية والنهاية (4 / 336 نشر دار الكتب العلمية) ، عن ابن إسحاق.
(2) حديث: " يرد سراياهم على قعدتهم " أخرجه البيهقي (9 / 51 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عمرو.
(3) حديث: " تنفيل النبي صلى الله عليه وسلم في البداءة الربع ". أخرجه الترمذي (4 / 130 - ط الحلبي) من حديث عبادة بن الصامت بلفظ " كان ينفل في البداءة الربع وفي القفول الثلث " وقال: حديث حسن. وبنحوه أخرجه أبو داود (3 / 183. تحقيق عزت عبيد الدعاس) من حديث حبيب بن مسلمة.

(24/351)


وَإِنْ كَانَتْ دَارُ الْحَرْبِ قَرِيبَةً، حَتَّى لَوْ بَعَثَ سَرِيَّةً وَقَصَدَ الْخُرُوجَ وَرَاءَهَا فَغَنِمَتْ قَبْل خُرُوجِهِ لَمْ يُشَارِكْهَا وَإِنْ قَرُبَتْ دَارُ الْحَرْبِ؛ لأَِنَّ الْغَنِيمَةَ لِلْمُجَاهِدِينَ، وَهُمْ قَبْل الْخُرُوجِ لَيْسُوا مُجَاهِدِينَ.
وَإِنْ بَعَثَ سَرِيَّتَيْنِ إِلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ لَمْ تُشَارِكْ إِحْدَاهُمَا الأُْخْرَى فِيمَا غَنِمَتْ.
وَإِنْ أَوْغَلَتَا فِي بِلاَدِ الْعَدُوِّ وَالْتَقَتَا فِي مَوْضِعٍ اشْتَرَكَتَا فِيمَا غَنِمَتَا بَعْدَ الاِجْتِمَاعِ.
وَإِنْ بَعَثَهُمَا إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَانَ أَمِيرُهُمَا وَاحِدًا، أَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا قَرِيبَةً مِنَ الأُْخْرَى اشْتَرَكَتَا فِي الْغَنِيمَةِ (1) . وَالتَّفْصِيل فِي (غَنِيمَةٍ) .

التَّنْفِيل لِلسَّرِيَّةِ:
7 - يَجُوزُ لِلإِْمَامِ إِذَا دَخَل دَارَ الْحَرْبِ غَازِيًا وَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ سَرِيَّةً تُغِيرُ عَلَى الْعَدُوِّ أَنْ يَجْعَل لَهُمُ الرُّبْعَ بَعْدَ الْخُمُسِ تَنْفِيلاً.
فَيَخْرُجُ الْخُمُسُ ثُمَّ يُعْطِي السَّرِيَّةَ مَا جُعِل لَهُمْ وَهُوَ رُبُعُ الْبَاقِي، ثُمَّ يُقْسِمُ مَا بَقِيَ فِي الْجَيْشِ وَالسَّرِيَّةِ مَعَهُ. وَإِنْ بَعَثَ سَرِيَّةً بَعْدَ قُفُولِهِ جَعَل
__________
(1) روضة الطالبين 6 / 379، المغني 8 / 442، وشرح السير الكبير 2 / 625.

(24/352)


لَهُمُ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ، فَمَا قَدِمَتْ بِهِ السَّرِيَّةُ أَخْرَجَ خُمُسَهُ ثُمَّ أَعْطَى السَّرِيَّةَ ثُلُثَ مَا بَقِيَ، ثُمَّ قَسَّمَ سَائِرَهُ عَلَى الْجَيْشِ وَالسَّرِيَّةُ مَعَهُ (1) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَنْفِيل) .
__________
(1) شرح السير الكبير 2 / 620 وما بعده، فتح القدير 5 / 249، ابن عابدين 3 / 238، الزرقاني 3 / 128، جواهر الإكليل 1 / 261، المغني 8 / 379.

(24/352)


سِعَايَة
التَّعْرِيفُ:
1 - السِّعَايَةُ فِي الأَْصْل مِنَ السَّعْيِ، وَهُوَ التَّصَرُّفُ فِي كُل عَمَلٍ، خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا، وَفِي التَّنْزِيل: {لِتُجْزَى كُل نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} (1) {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (2) . فَيُقَال: سَعَى عَلَى الصَّدَقَةِ سَعْيًا وَسِعَايَةً: عَمِل فِي أَخْذِهَا، وَسَعَى الْعَبْدُ فِي فَكِّ رَقَبَتِهِ سِعَايَةً. وَسَعَى بِهِ سِعَايَةً إِلَى الْوَالِي: وَشَى (3) .
وَمَعْنَاهَا الاِصْطِلاَحِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) سورة طه آية / 15.
(2) سورة النجم / 39.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، والقاموس ومختار الصحاح، والمعجم الوسيط.

(25/5)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعِتْقُ:
2 - الْعِتْقُ فِي الاِصْطِلاَحِ إِزَالَةُ الرِّقِّ عَنْ الآْدَمِيِّ لاَ إِلَى مَالِكٍ، بَل تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَوَجْهُ الصِّلَةِ أَنَّ السِّعَايَةَ مِنَ الْوَسَائِل الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْعِتْقِ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسِّعَايَةِ:
السِّعَايَةُ إِلَى الْوَالِي:
3 - السِّعَايَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَالسِّعَايَةُ بِحَقٍّ كَمَنْ يَسْعَى إِلَى السُّلْطَانِ بِمَنْ يُؤْذِيهِ، وَالْحَال أَنَّهُ لاَ يُدْفَعُ بِلاَ رَفْعٍ إِلَى السُّلْطَانِ، أَوْ سَعَى بِمَنْ يُبَاشِرُ الْفِسْقَ وَلاَ يَمْتَنِعُ بِنَهْيِهِ، فَهَذَا لاَ شَيْءَ فِيهِ وَلَوْ غَرَّمَ السُّلْطَانُ الْمَسْعِيَّ بِهِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَى السَّاعِي.
وَأَمَّا السِّعَايَةُ بِالنَّاسِ إِلَى الْوَالِي بِغَيْرِ حَقٍّ أَيِ الْوِشَايَةُ بِهِمْ فَهِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ الْمُفَسِّقَةِ الَّتِي تُرَدُّ بِهَا شَهَادَةُ صَاحِبِهَا، وَلاَ تُقْبَل عِنْدَ الْقَاضِي، وَيُعَزَّرُ السَّاعِي بِهَا زَجْرًا لَهُ وَدَفْعًا لِلْفَسَادِ، وَإِذَا غَرَّمَهُ السُّلْطَانُ شَيْئًا ضَمِنَ السَّاعِي (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 123، ابن عابدين 5 / 135، وروضة الطالبين 11 / 223، والقليوبي 4 / 319.

(25/5)


وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (ضَمَان) .

السِّعَايَةُ فِي أَخْذِ الصَّدَقَةِ:
4 - يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ بَعْثُ السُّعَاةِ لأَِخْذِ الزَّكَاةِ وَتَفْرِيقِهَا وَهُمُ الْعَامِلُونَ عَلَى الزَّكَاةِ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ؛ وَلِمَا فِي ذَلِكَ السَّعْيِ مِنْ إِيصَال الْحُقُوقِ إِلَى أَهْلِهَا؛ وَلأَِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لاَ يَعْرِفُونَ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ فِي الزَّكَاةِ.
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ السَّاعِي عَدْلاً فَقِيهًا بِأَبْوَابِ الزَّكَاةِ يَعْرِفُ مَا يَأْخُذُهُ وَمَنْ يَدْفَعُ إِلَيْهِ (1) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاة) .

السِّعَايَةُ فِي الْعِتْقِ:
5 - وَهُوَ: أَنْ يَعْتِقَ بَعْضُ عَبْدٍ، وَيَبْقَى بَعْضُهُ الآْخَرُ فِي الرِّقِّ، فَيَعْمَل الْعَبْدُ وَيَكْسِبَ، وَيَصْرِفَ ثَمَنَ كَسْبِهِ إِلَى مَوْلاَهُ فَسُمِّيَ كَسْبُهُ لِهَذَا الْغَرَضِ سِعَايَةً. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ السِّعَايَةِ: فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِذَا أَعْتَقَ بَعْضَ مَمْلُوكِهِ فَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِهِ غَيْرَ مُشْتَرَكٍ عَتَقَ
__________
(1) شرح روض الطالب 1 / 360، وحاشية القليوبي 3 / 309.

(25/6)


الْبَعْضُ الْمُعْتَقِ، ثُمَّ يَسْرِي إِلَى بَاقِيهِ وَلَوْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِقِيمَةِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهُ، عَتَقَ نَصِيبُهُ ثُمَّ سَرَى الْعِتْقُ إِلَى بَاقِيهِ، وَعَلَيْهِ لِشَرِيكِهِ قِيمَةُ مَا أَعْتَقَ مِنْ نَصِيبِهِ يَوْمَ الإِْعْتَاقِ. وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بَقِيَ نَصِيبُ الشَّرِيكِ فِي الرِّقِّ، وَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ سِعَايَةٌ، وَلاَ لِلشَّرِيكِ اسْتِسْعَاءُ الْعَبْدِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِخَبَرِ: مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا مِنْ مَمْلُوكِهِ فَعَلَيْهِ خَلاَصُهُ فِي مَالِهِ (2) وَخَبَرِ: مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ (3) وَخَبَرِ: إِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَعْتَقَ
__________
(1) روضة الطالبين 12 / 110، والمغني 9 / 336، والحطاب 6 / 336، وبدائع الصنائع 4 / 86، وفتح القدير 4 / 255.
(2) حديث: (من أعتق شقيصا. .) . أخرجه البخاري (الفتح 5 / 133 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1140 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة واللفظ للبخاري.
(3) حديث: (من أعتق شركا له في عبد. .) . أخرجه البخاري (الفتح 5 / 151 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1139 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر.

(25/6)


أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا يُقَوَّمُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ لاَ وَكْسَ وَلاَ شَطَطَ ثُمَّ يَعْتِقُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ: كُلٌّ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ يُبْطِل الاِسْتِسْعَاءَ فِي كُل حَالٍ، وَيَتَّفِقَانِ فِي ثَلاَثَةِ مَعَانٍ:
(1) إِبْطَال الاِسْتِسْعَاءِ.
(2) ثُبُوتُ الرِّقِّ فِي حَال عُسْرِ الْمُعْتِقِ.
(3) نَفَاذُ الْعِتْقُ إِنْ كَانَ مُوسِرًا (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ السِّعَايَةَ ثَابِتَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَاسْتَدَلُّوا لِثُبُوتِهَا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا مِنْ مَمْلُوكِهِ فَعَلَيْهِ خَلاَصُهُ فِي مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ قُوِّمَ الْمَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ اسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ (3) .
وَقَالُوا: فَقَدْ دَل هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ السِّعَايَةَ ثَابِتَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَضَمَانُ السِّعَايَةِ لَيْسَ ضَمَانَ إِتْلاَفٍ، وَلاَ ضَمَانَ فِي تَمَلُّكٍ بَل
__________
(1) حديث: (إذا كان العبد بين اثنين. . .) . أخرجه أبو داود (4 / 258 - 259 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث ابن عمر، وهو في مسلم (3 / 1281 - ط الحلبي) بلفظ: " من أعتق عبدا بينه وبين آخر. . ".
(2) كتاب الأم 8 / 5.
(3) حديث: (من أعتق شقيصا من مملوكه. . .) . أخرجه البخاري (الفتح 5 / 2492 - ط السلفية) .

(25/7)


ضَمَانُ احْتِبَاسٍ، وَضَمَانُ سَلاَمَةِ النَّفْسِ وَالرَّقَبَةِ حُصُول الْمَنْفَعَةِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِيمَنْ يَحِقُّ لَهُ خِيَارُ الاِسْتِسْعَاءِ، وَمَتَى؟ .
فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَثْبُتُ حَقُّ خِيَارِ الاِسْتِسْعَاءِ لِمَنْ أَعْتَقَ جُزْءًا مِنْ مَمْلُوكِهِ أَوْ شِقْصًا مِنْ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ.
فَإِنْ أَعْتَقَ بَعْضَ مَمْلُوكِهِ صَحَّ، وَيَسْعَى فِيمَا بَقِيَ وَإِنْ شَاءَ حَرَّرَهُ.
وَقَال الصَّاحِبَانِ: عَتَقَ كُلُّهُ.
وَإِنْ أَعْتَقَ شَرِيكٌ نَصِيبَهُ، فَلِشَرِيكِهِ خِيَارَاتٌ ثَلاَثَةٌ:
أَنْ يُحَرِّرَ نَصِيبَهُ أَيْضًا، أَوْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ الأَْوَّل وَيَرْجِعَ الْمُعْتِقُ عَلَى الْعَبْدِ، أَوْ أَنْ يُسْتَسْعَى الْعَبْدُ، وَالاِسْتِسْعَاءُ أَنْ يُؤَجِّرَهُ حَتَّى يَأْخُذَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لأَِنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ إِتْلاَفًا لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ، بَل بَقِيَ مُحْتَبِسًا عِنْدَ الْعَبْدِ بِحَقِّهِ بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ اسْتِخْلاَصُهُ مِنْهُ، وَهُوَ يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَهَذَا لاَ يَقْتَضِي الْفَصْل بَيْنَ الْيَسَارِ وَالإِْعْسَارِ فَيَثْبُتُ خِيَارُ السِّعَايَةِ فِي الْحَالَتَيْنِ.

(25/7)


وَقَال صَاحِبَاهُ: لاَ يَثْبُتُ الاِسْتِسْعَاءُ إِلاَّ فِي حَالَةِ إِعْسَارِ الشَّرِيكِ الْمُعْتِقِ نَصِيبَهُ.
أَمَّا إِنْ أَعْتَقَ جُزْءًا مِنْ مَمْلُوكِهِ غَيْرِ الْمُشْتَرَكِ أَوْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ فِي مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَهُوَ مُوسِرٌ فَلاَ سِعَايَةَ؛ لأَِنَّ الإِْعْتَاقَ لاَ يَتَجَزَّأُ فَكَانَ الْمُعْتِقُ مُتْلِفًا نَصِيبَ شَرِيكِهِ، فَوَجَبَ الضَّمَانُ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتْلِفِ يَمْنَعُ السِّعَايَةَ، وَكَانَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَلاَّ تَجِبَ السِّعَايَةُ حَال الإِْعْسَارِ أَيْضًا، وَأَلاَّ يَكُونَ الْوَاجِبُ إِلاَّ الضَّمَانَ فِي الْحَالَيْنِ؛ لأَِنَّ ضَمَانَ الْمُتْلَفَاتِ لاَ يَخْتَلِفُ بِالإِْعْسَارِ وَالْيَسَارِ، وَلَكِنْ عُدِل عَنْهَا لِلنَّصِّ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي حَال الإِْعْسَارِ. قَالُوا: وَلاَ يَجُوزُ فِي الْعَبْدِ الْمُسْتَسْعَى التَّصَرُّفَاتُ النَّاقِلَةُ لِلْمِلْكِ، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَلاَ يُورَثُ، وَهُوَ أَحَقُّ بِمَكَاسِبِهِ، وَيَخْرُجُ إِلَى الْحُرِّيَّةِ بِالسِّعَايَةِ أَوْ الإِْعْتَاقِ، وَلاَ يَعُودُ إِلَى الْعُبُودِيَّةِ مُطْلَقًا وَإِنْ عَجَزَ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 15، 16 (وبدائع الصنائع) 4 / 86 - 88.

(25/8)


سِعْر

التَّعْرِيفُ:
1 - السِّعْرُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الَّذِي يُقَوَّمُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، وَجَمْعُهُ أَسْعَارٌ، وَقَدْ أَسْعَرُوا وَسَعَّرُوا: اتَّفَقُوا عَلَى سِعْرٍ.
يُقَال: شَيْءٌ لَهُ سِعْرٌ: إِذَا زَادَتْ قِيمَتُهُ، وَلَيْسَ لَهُ سِعْرٌ: إِذَا أَفْرَطَ رُخْصُهُ (1) .
وَسِعْرُ السُّوقِ: مَا يُمْكِنُ أَنْ تُشْتَرَى بِهَا الْوَحْدَةُ أَوْ مَا شَابَهَهَا فِي وَقْتٍ مَا (2) .
وَالتَّسْعِيرُ: تَقْدِيرُ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ لِلنَّاسِ سِعْرًا، وَإِجْبَارُهُمْ عَلَى التَّبَايُعِ بِمَا قَدَّرَهُ. وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَسْعِير) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) قواعد الفقه للبركتي (321) وانظر الموسوعة 15 / 25.
(3) مطالب أولي النهى 3 / 62 وأسنى المطالب 2 / 38 وانظر الموسوعة 11 / 31.

(25/8)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الثَّمَنُ:
2 - الثَّمَنُ لُغَةً: مَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الشَّيْءُ. وَاصْطِلاَحًا: هُوَ مَا يَكُونُ بَدَلاً لِلْمَبِيعِ وَيَتَعَيَّنُ فِي الذِّمَّةِ. ر: مُصْطَلَحَ (ثَمَن) .
وَتَقَدَّمَ فِي مُصْطَلَحِ (ثَمَن) أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الثَّمَنِ وَالسِّعْرِ: أَنَّ السِّعْرَ هُوَ مَا يَطْلُبُهُ الْبَائِعُ. أَمَّا الثَّمَنُ فَهُوَ مَا يَتَرَاضَى عَلَيْهِ الْعَاقِدَانِ.

ب - الْقِيمَةُ
3 - الْقِيمَةُ لُغَةً: الثَّمَنُ الَّذِي يُقَوَّمُ بِهِ الْمَتَاعُ؛ أَيْ: يَقُومُ مَقَامَهُ، وَالْجَمْعُ: الْقِيَمُ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: هِيَ الثَّمَنُ الْحَقِيقِيُّ لِلشَّيْءِ (2) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ السِّعْرِ: أَنَّ السِّعْرَ مَا يَطْلُبُهُ الْبَائِعُ ثَمَنًا لِسِلْعَتِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُسَاوِيًا لِلثَّمَنِ الْحَقِيقِيِّ أَوْ أَزْيَدَ مِنْهُ أَوْ أَقَل.
__________
(1) المصباح المنير مادة (قوم) وانظر قواعد الفقه للبركتي 438 فإنه قال: القيمة الثمن الذي يقاوم المتاع، أي يقوم مقامه.
(2) المجلة م (154) .

(25/9)


أَحْكَامُ السِّعْرِ:
الْبَيْعُ بِمَا يَنْقَطِعُ بِهِ السِّعْرُ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - كَمَا قَال الْمِرْدَاوِيُّ - وَعَلَيْهِ الأَْصْحَابُ إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ بِسِعْرِ السُّوقِ الْيَوْمَ أَوْ بِمَا يَنْقَطِعُ بِهِ السِّعْرُ لاَ يَصِحُّ لِلْجَهَالَةِ، كَأَنْ يَقُول: بِعْتُكَ بِمَا يَظْهَرُ مِنَ السِّعْرِ بَيْنَ النَّاسِ الْيَوْمَ.
ثُمَّ قَال الْمِرْدَاوِيُّ: وَعَنْ أَحْمَدَ يَصِحُّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ وَقَال: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ بِمَا يَنْقَطِعُ بِهِ السِّعْرُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ الثَّمَنِ وَقْتَ الْعَقْدِ، وَصُورَتُهَا: الْبَيْعُ مِمَّنْ يُعَامِلُهُ مِنْ خَبَّازٍ أَوْ لَحَّامٍ أَوْ سَمَّانٍ أَوْ غَيْرِهِمْ. يَأْخُذُ مِنْهُ كُل يَوْمٍ شَيْئًا مَعْلُومًا، ثُمَّ يُحَاسِبُهُ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ أَوْ السَّنَةِ عَلَى الْجَمِيعِ وَيُعْطِيهِ ثَمَنَهُ، فَمَنَعَهُ الأَْكْثَرُونَ وَجَعَلُوا الْقَبْضَ بِهِ غَيْرَ نَاقِلٍ لِلْمِلْكِ، وَهُوَ قَبْضٌ فَاسِدٌ يَجْرِي مَجْرَى الْمَقْبُوضِ بِالْغَصْبِ؛ لأَِنَّهُ مَقْبُوضٌ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: جَوَازُ الْبَيْعِ بِمَا يَنْقَطِعُ بِهِ السِّعْرُ، وَهُوَ مَنْصُوصُ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا، وَسَمِعْتُهُ يَقُول: هُوَ أَطْيَبُ لِقَلْبِ الْمُشْتَرَى مِنَ الْمُسَاوَمَةِ، يَقُول: لِي أُسْوَةٌ بِالنَّاسِ آخُذُ بِمَا يَأْخُذُ بِهِ غَيْرِي.
قَال: وَقَدْ أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى صِحَّةِ

(25/9)


النِّكَاحِ بِمَهْرِ الْمِثْل، وَأَكْثَرُهُمْ يُجَوِّزُونَ عَقْدَ الإِْجَارَةِ بِأُجْرَةِ الْمِثْل، كَالْغَسَّال وَالْخَبَّازِ وَالْمَلاَّحِ وَقَيِّمِ الْحَمَّامِ وَالْمُكَارِي، وَالْبَيْعَ بِثَمَنِ الْمِثْل كَبَيْعِ مَاءِ الْحَمَّامِ.
فَغَايَةُ الْبَيْعِ بِالسِّعْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ بِثَمَنِ الْمِثْل فَيَجُوزُ. قَال: وَهُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ وَهُوَ عَمَل النَّاسِ فِي كُل عَصْرٍ وَمِصْرٍ (1) .
وَرَاجِعْ مُصْطَلَحَ (بَيْع الاِسْتِجْرَارِ) .

زِيَادَةُ السِّعْرِ بَعْدَ إِخْبَارِ الرُّكْبَانِ بِهِ:
5 - لَوِ اشْتَرَى شَخْصٌ مِنَ الرُّكْبَانِ بِغَيْرِ طَلَبِهِمْ مَتَاعًا قَبْل قُدُومِهِمْ الْبَلَدَ وَمَعْرِفَتِهِمُ السِّعْرَ بِأَقَل مِنْ سِعْرِ الْبَلَدِ، فَإِنَّهُمْ يُخَيَّرُونَ فَوْرًا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ لِلْغَبْنِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَلَقَّوُا الْجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ - أَيْ صَاحِبُهُ - السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ (2) . ر: مُصْطَلَحَ (بَيْع مَنْهِيّ عَنْهُ ف 130 وَمَا بَعْدَهَا) .

الإِْخْبَارُ بِالسِّعْرِ:
6 - قَال فِي مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى: يَجِبُ عَلَى
__________
(1) ابن عابدين 4 / 21 والدسوقي 3 / 15 ومغني المحتاج 2 / 16 ومطالب أولي النهى 3 / 40 وإعلام الموقعين 4 / 5 - 6.
(2) حديث: " لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه. . ". أخرجه مسلم (3 / 1157 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.

(25/10)


عَارِفٍ بِالسِّعْرِ إِخْبَارُ مُسْتَخْبِرٍ جَاهِلٍ بِهِ عَنْ سِعْرٍ جَهِلَهُ؛ لِوُجُوبِ نُصْحِ الْمُسْتَنْصِحِ (1) ، لِحَدِيثِ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ (2) .

نَقْصُ سِعْرِ الْمَغْصُوبِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ نَقْصِ قِيمَةِ الْعَيْنِ بِسَبَبِ تَغَيُّرِ الأَْسْعَارِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ يَضْمَنُ النَّقْصَ؛ لأَِنَّهُ يَضْمَنُ النَّقْصَ إِذَا تَلِفَتِ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ. فَكَذَلِكَ يَضْمَنُهُ إِذَا رَدَّ الْعَيْنَ الْمَغْصُوبَةَ بَعْدَمَا نَقَصَ سِعْرُهَا (3) . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (غَصْب) .

أَثَرُ غَلاَءِ الأَْسْعَارِ عَلَى نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ:
8 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ فُرِضَتِ النَّفَقَةُ لِلزَّوْجَةِ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ وَحَالِهَا ثُمَّ غَلاَ السِّعْرُ كَانَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِأَنْ يَزِيدَ فِي الْفَرْضِ، وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُنْقِصَ النَّفَقَةَ إِذَا رَخُصَتِ الأَْسْعَارُ (4) .
__________
(1) مطالب أولي النهى 3 / 57.
(2) حديث: " الدين النصيحة ". أخرجه مسلم (1 / 74 - ط الحلبي) من حديث تميم الداري.
(3) البدائع 7 / 155 والدسوقي 3 / 452 - 453 والقوانين الفقهية ص324 ومغني المحتاج 2 / 287 والمغني 5 / 260.
(4) فتح القدير 3 / 331 - 332.

(25/10)


نُقْصَانُ سِعْرِ الْمَسْرُوقِ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ذَكَرَهَا الطَّحَاوِيُّ، إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ بِقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ حِينَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحِرْزِ، وَبُلُوغِهِ نِصَابًا، فَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَسْقُطِ الْقَطْعُ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: قَال الْحَصْكَفِيُّ: تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ وَقْتَ السَّرِقَةِ وَوَقْتَ الْقَطْعِ وَمَكَانَهُ، بِتَقْوِيمِ عَدْلَيْنِ لَهُمَا مَعْرِفَةٌ بِالْقِيمَةِ، وَلاَ قَطْعَ عِنْدَ اخْتِلاَفِ الْمُقَوِّمِينَ.
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ نُقْصَانَ السِّعْرِ يُورِثُ شُبْهَةَ نُقْصَانٍ فِي الْمَسْرُوقِ وَقْتَ السَّرِقَةِ، لأَِنَّ الْعَيْنَ بِحَالِهَا قَائِمَةٌ لَمْ تَتَغَيَّرْ، وَتَغَيُّرُ السِّعْرِ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ عَلَى السَّارِقِ أَصْلاً، فَيُجْعَل النُّقْصَانُ الطَّارِئُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ السَّرِقَةِ (1) .

الْبَيْعُ بِالسِّعْرِ الْمَكْتُوبِ عَلَى السِّلْعَةِ:
10 - ذَهَبَ الأَْكْثَرُونَ إِلَى مَنْعِ الْبَيْعِ بِالسِّعْرِ الْمَكْتُوبِ عَلَى السِّلْعَةِ إِذَا جَهِلَهُ الْعَاقِدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا. وَأَجَازَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رَقْم) .
__________
(1) البدائع 7 / 79 وابن عابدين مع الدر 3 / 193 والمنتقى شرح الموطأ 7 / 158، والقوانين الفقهية ص 352 ومغني المحتاج 4 / 158 وكشاف القناع 6 / 132.

(25/11)


سَعْيٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّعْيُ لُغَةً: مِنْ سَعَى يَسْعَى سَعْيًا؛ أَيْ: قَصَدَ أَوْ عَمِل أَوْ مَشَى أَوْ عَدَا (1) ، وَيُسْتَعْمَل كَثِيرًا فِي الْمَشْيِ.
وَوَرَدَتِ الْمَادَّةُ فِي الْقُرْآنِ بِمَا يُفِيدُ مَعْنَى الْجِدِّ فِي الْمَشْيِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (2) وَقَال تَعَالَى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَال يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} (3) .
2 - وَالسَّعْيُ فِي الاِصْطِلاَحِ: قَطْعُ الْمَسَافَةِ الْكَائِنَةِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ ذَهَابًا وَإِيَابًا بَعْدَ طَوَافٍ فِي نُسُكِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الطَّوَافُ:
3 - الطَّوَافُ هُوَ الدَّوَرَانُ حَوْل الْكَعْبَةِ عَلَى
__________
(1) القاموس المحيط.
(2) سورة الجمعة / 9.
(3) سورة يس / 20.

(25/11)


الصِّفَةِ الْمَعْرُوفَةِ. وَاسْتُعْمِل أَيْضًا بِمَعْنَى السَّعْيِ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (1) . أَيْ: يَسْعَى.
وَفِي الأَْحَادِيثِ كَحَدِيثِ جَابِرٍ: حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عَلَى الْمَرْوَةِ (2) أَيْ: آخِرُ سَعْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَتَقَدُّمُ الطَّوَافِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ السَّعْيِ.

أَصْل السَّعْيِ:
4 - الأَْصْل فِي مَشْرُوعِيَّةِ السَّعْيِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآْيَةَ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعَى فِي حَجِّهِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَال: اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ (3) .
وَقَدْ وَضَعَتِ الشَّرِيعَةُ السَّعْيَ عَلَى مِثَال
__________
(1) سورة البقرة / 158.
(2) حديث جابر: حتى إذا كان آخر طوافه على المروة. أخرجه مسلم (2 / 888 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ". أخرجه الدارقطني (2 / 256 - ط دار المحاسن) من حديث صفية بنت أبي تجراة وصححه ابن عبد الهادي كما في نصب الراية (3 / 56 - ط المجلس العلمي) .

(25/12)


سَعْيِ السَّيِّدَةِ هَاجَرَ عِنْدَمَا سَعَتْ بَيْنَهُمَا سَبْعَ مَرَّاتٍ لِطَلَبِ الْمَاءِ لاِبْنِهَا كَمَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، وَفِي آخِرِهِ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا (1) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ السَّعْيَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، لاَ يَصِحَّانِ بِدُونِهِ. وَهُوَ قَوْل عَائِشَةَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ السَّعْيَ وَاجِبٌ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَلَيْسَ بِرُكْنٍ فِيهِمَا، فَمَنْ تَرَكَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ، وَإِنْ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ سُنَّةٌ لاَ يَجِبُ بِتَرْكِهِ دَمٌ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ سِيرِينَ (2) .
__________
(1) حديث سعي السيدة هاجر عندما سعت بين موضع الصفا والمروة. أخرجه البخاري (الفتح 6 / 396 - ط السلفية) .
(2) انظر المذاهب والأدلة في فتح القدير 2 / 157 - 158، والبدائع 2 / 133، 143، ورد المحتار 2 / 202 وشرح الرسالة 1 / 471 والشرح الكبير 2 / 34 وشرح المنهاج 2 / 126 - 127، المهذب والمجموع 8 / 71 - 72 و73 - 75، والمغني 3 / 388 - 389 والفروع 3 / 517، وفيه قول المرادي: " والصواب أنه واجب ". وانظر كشاف القناع 5 / 21.

(25/12)


وَسَبَبُ الْخِلاَفِ أَنَّ الآْيَةَ الْكَرِيمَةَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ. . .} لَمْ تُصَرِّحْ بِحُكْمِ السَّعْيِ، فَآل الْحُكْمُ إِلَى الاِسْتِدْلاَل بِالسُّنَّةِ وَبِحَدِيثِ: اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمِ السَّعْيَ (1) .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ فَقَال: بِمَا أَهْلَلْتَ؟ قُلْتُ: أَهْلَلْتُ بِإِهْلاَل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَال: هَل سُقْتَ مِنْ هَدْيٍ؟ قُلْتُ: لاَ. قَال: فَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حِل (2) .
فَاسْتَدَل بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ؛ لأَِنَّ " كَتَبَ " بِمَعْنَى فَرَضَ؛ وَلأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَبَا مُوسَى بِالسَّعْيِ وَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْحِل فَيَكُونُ فَرْضًا.
وَاسْتَدَل بِهِ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْوُجُوبِ؛ لأَِنَّهُ كَمَا قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: " مِثْلُهُ لاَ يَزِيدُ عَلَى إفَادَةِ
__________
(1) حديث: " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ". سبق تخريجه ف4.
(2) حديث أبي موسى: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالبطحاء. أخرجه البخاري (الفتح 3 / 416 - 559 - ط السلفية) ومسلم (2 / 895 - ط الحلبي) .

(25/13)


الْوُجُوبِ، وَقَدْ قُلْنَا بِهِ. أَمَّا الرُّكْنُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَنَا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ. فَإِثْبَاتُهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ إِثْبَاتٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ (1) ". يَعْنِي بِغَيْرِ دَلِيلٍ يَصْلُحُ لإِِثْبَاتِ الرُّكْنِيَّةِ. وَاسْتَدَل لِلْقَوْل بِالسُّنِّيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (2) . وَنَفْيُ الْحَرَجِ عَنْ فَاعِلِهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ، فَإِنَّ هَذَا رُتْبَةُ الْمُبَاحِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ سُنِّيَّتُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (3) .

صِفَةُ السَّعْيِ:
6 - بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحَاجِّ أَوِ الْمُعْتَمِرِ مِنَ الطَّوَافِ يَتَوَجَّهُ إِلَى الصَّفَا لِيَبْدَأَ السَّعْيَ مِنْهَا، فَيَرْقَى عَلَى الصَّفَا، وَيَسْتَقْبِل الْكَعْبَةَ الْمُشَرَّفَةَ، وَيُوَحِّدُ اللَّهَ وَيُكَبِّرُهُ، وَيَأْتِي بِالذِّكْرِ الْوَارِدِ، ثُمَّ يَسِيرُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَرْوَةِ، فَإِذَا حَاذَى الْمِيلَيْنِ (الْعَمُودَيْنِ) الأَْخْضَرَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي جِدَارِ الْمَسْعَى اشْتَدَّ وَأَسْرَعَ مَا اسْتَطَاعَ، وَهَكَذَا إِلَى الْعَمُودَيْنِ التَّالِيَيْنِ الأَْخْضَرَيْنِ، ثُمَّ يَمْشِي الْمَشْيَ الْمُعْتَادَ حَتَّى يَصِل إِلَى الْمَرْوَةِ فَيَصْعَدَ عَلَيْهَا. وَيُوَحِّدُ وَيُكَبِّرُ كَمَا فَعَل عَلَى الصَّفَا، وَهَذَا شَوْطٌ وَاحِدٌ.
__________
(1) فتح القدير 2 / 158.
(2) سورة البقرة / 158.
(3) المغني 3 / 389 والآية من سورة البقرة / 158.

(25/13)


ثُمَّ يَشْرَعُ فِي الشَّوْطِ الثَّانِي فَيَتَوَجَّهُ مِنَ الْمَرْوَةِ إِلَى الصَّفَا، حَتَّى إِذَا حَاذَى الْعَمُودَيْنِ الأَْخْضَرَيْنِ اشْتَدَّ وَأَسْرَعَ كَثِيرًا حَتَّى يَصِل إِلَى الْعَمُودَيْنِ التَّالِيَيْنِ، ثُمَّ يَمْشِي الْمَشْيَ الْمُعْتَادَ إِلَى أَنْ يَصِل إِلَى الصَّفَا فَيَرْقَى عَلَيْهَا، وَيَسْتَقْبِل الْكَعْبَةَ، وَيُوَحِّدَ اللَّهَ وَيُكَبِّرَهُ، وَيَدْعُوَ كَمَا فَعَل أَوَّلاً، وَهَذَا شَوْطٌ ثَانٍ، ثُمَّ يَعُودَ إِلَى الْمَرْوَةِ وَهَكَذَا حَتَّى يَعُدَّ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ يَنْتَهِي آخِرُهَا عِنْدَ الْمَرْوَةِ.
فَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا فَقَطْ أَوْ مُتَمَتِّعًا بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَقَدْ قَضَى عُمْرَتَهُ وَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ، وَيَتَحَلَّل التَّحَلُّل الْكَامِل. وَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا لِلْحَجِّ أَوْ قَارِنًا فَلاَ يَحْلِقُ وَلاَ يُقَصِّرُ، بَل يَظَل مُحْرِمًا حَتَّى يَتَحَلَّل بِأَعْمَال يَوْمِ النَّحْرِ.
(ر: إِحْرَام ف: 123 - 126 وَحَجّ ف 82) .

رُكْنُ السَّعْيِ:
7 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ السَّعْيَ رُكْنٌ فِي الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، قَالُوا: إِنَّ الْقَدْرَ الَّذِي لاَ يَتَحَقَّقُ السَّعْيُ بِدُونِهِ: سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ يَقْطَعُهَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، لِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلإِِجْمَاعِ الأُْمَّةِ سَلَفًا فَخَلَفًا عَلَى السَّعْيِ كَذَلِكَ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَكْفِي لإِِسْقَاطِ الْوَاجِبِ أَرْبَعَةُ أَشْوَاطٍ؛ لأَِنَّهَا أَكْثَرُ السَّعْيِ، وَلِلأَْكْثَرِ

(25/14)


حُكْمُ الْكُل، فَلَوْ سَعَى أَقَل مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ الْوَاجِبَ، أَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْعَوْدُ لأَِدَاءِ مَا نَقَصَ وَلَوْ كَانَ خُطْوَةً، وَلاَ يَتَحَلَّل مِنْ إِحْرَامِهِ إِلاَّ بِذَلِكَ.
وَيَحْصُل الرُّكْنُ بِكَوْنِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي الأَْشْوَاطِ الْمَفْرُوضَةِ، سَوَاءٌ كَانَ بِفِعْل نَفْسِهِ أَوْ بِفِعْل غَيْرِهِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الرُّقِيُّ عَلَيْهِمَا بَل يَكْفِي أَنْ يُلْصِقَ عَقِبَيْهِ بِهِمَا، وَكَذَا عَقِبَيْ حَافِرِ دَابَّتِهِ إِذَا كَانَ رَاكِبًا، وَهَذَا هُوَ الأَْحْوَطُ، أَوْ يُلْصِقُ عَقِبَيْهِ فِي الاِبْتِدَاءِ بِالصَّفَا وَأَصَابِعِ رِجْلَيْهِ بِالْمَرْوَةِ، وَفِي الرُّجُوعِ عَكْسُهُ، وَهَذَا هُوَ الأَْظْهَرُ.
لَكِنْ تَصْوِيرُهُمَا إِنَّمَا كَانَ يُتَصَوَّرُ فِي الْعَهْدِ الأَْوَّل حَيْثُ يُوجَدُ كُلٌّ مِنْ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مُرْتَفِعًا عَنِ الأَْرْضِ، وَأَمَّا فِي هَذَا الزَّمَانِ فَلِكَوْنِهِ قَدْ دُفِنَ كَثِيرٌ مِنْ أَجْزَائِهِمَا لاَ يُمْكِنُ حُصُول مَا ذُكِرَ فِيهِمَا، فَيَكْفِي الْمُرُورُ فَوْقَ أَوَائِلِهِمَا (1) .
__________
(1) انظر في أركان السعي مع المراجع السابقة: المسلك المتقسط ص117 - 118 و120 الشرطان الأول والسابع، وبدائع الصنائع 2 / 135، وشرح الرسالة 1 / 471 - 472، ومغني المحتاج 1 / 393 والمغني 3 / 386 - 387 والمحلى 7 / 196.

(25/14)


ثُمَّ هَذَا فَرْضٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ فِي تَحْقِيقِ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ فِي الأَْشْوَاطِ الأَْرْبَعَةِ الَّتِي هِيَ رُكْنُ الطَّوَافِ الْوَاجِبِ عِنْدَهُمْ (1) .

شُرُوطُ السَّعْيِ:
8 - أ - أَنْ يَكُونَ السَّعْيُ بَعْدَ طَوَافٍ صَحِيحٍ: وَلَوْ نَفْلاً، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَكَذَا الْمَالِكِيَّةُ، وَسَمَّوْا ذَلِكَ تَرْتِيبًا لِلسَّعْيِ.
لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ فَصَلُوا بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْوَاجِبِ فِي سَبْقِ الطَّوَافِ لِلسَّعْيِ، فَقَالُوا: يُشْتَرَطُ سَبْقُ الطَّوَافِ - أَيِّ طَوَافٍ وَلَوْ نَفْلاً - لِصِحَّةِ السَّعْيِ، لَكِنْ يَجِبُ فِي هَذَا السَّبْقِ أَنْ يَكُونَ الطَّوَافُ فَرْضًا (وَمِثْلُهُ الْوَاجِبُ) وَنَوَى فَرْضِيَّتَهُ أَوِ اعْتَقَدَهَا. وَطَوَافُ الْقُدُومِ وَاجِبٌ عِنْدَهُمْ فَيَصِحُّ تَقْدِيمُ السَّعْيِ عَلَى الْوُقُوفِ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ.
فَلَوْ سَعَى بَعْدَ طَوَافِ نَفْلٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَلَوْ كَانَ الطَّوَافُ نَفْلاً أَوْ نَوَى سُنِّيَّتَهُ، أَوْ أَطْلَقَ الطَّوَافَ وَلَمْ يَسْتَحْضِرْ
__________
(1) هكذا حقق القاري في الأشواط الركن عند الحنفية أنه لا بد فيها من قطع المسافة كاملة بين الصفا والمروة، وجعل السندي الحنفي (في متن المنسك المتوسط المعروف بلباب المناسك) قطع تمام المسافة بينهما واجبا. انظر المسلك المتقسط شرح المنسك المتوسط للقاري ص120.

(25/15)


شَيْئًا، أَوْ كَانَ يَعْتَقِدُ عَدَمَ وُجُوبِهِ لِجَهْلِهِ، فَإِنَّهُ يُعِيدُ الطَّوَافَ وَيَنْوِي فَرْضِيَّتَهُ أَوْ وُجُوبَهُ إِنْ كَانَ وَاجِبًا ثُمَّ يُعِيدُ السَّعْيَ (1) مَا دَامَ بِمَكَّةَ، أَمَّا إِذَا سَافَرَ إِلَى بَلَدِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ (2) .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ السَّعْيُ بَعْدَ طَوَافِ رُكْنٍ أَوْ قُدُومٍ، وَلاَ يُخِل الْفَصْل بَيْنَهُمَا، لَكِنْ بِحَيْثُ لاَ يَتَخَلَّل بَيْنَ طَوَافِ الْقُدُومِ وَالسَّعْيِ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، فَإِنْ تَخَلَّل بَيْنَهُمَا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ لَمْ يُجْزِهِ السَّعْيُ إِلاَّ بَعْدَ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ.
دَلِيل الْجَمِيعِ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَدْ سَعَى بَعْدَ الطَّوَافِ، وَوَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ (3) ، وَبِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ عَدَمُ اشْتِرَاطِ تَقَدُّمِ الطَّوَافِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: لَوْ سَعَى قَبْل الطَّوَافِ نَاسِيًا أَجْزَأَهُ (4) .
__________
(1) الشرح الكبير وحاشيته 2 / 34 - 35.
(2) الحطاب 3 / 86 التنبيه الأول وفيه مزيد من التفاصيل ص 85 - 87.
(3) حديث: " لتأخذوا مناسككم ". أخرجه مسلم (2 / 943 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(4) كشاف القناع 2 / 487.

(25/15)


ب - التَّرْتِيبُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بِأَنْ يَبْدَأَ بِالصَّفَا فَالْمَرْوَةِ، حَتَّى يَخْتِمَ سَعْيَهُ بِالْمَرْوَةِ، اتِّفَاقًا بَيْنَهُمْ.
فَلَوْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ لَغَا هَذَا الشَّوْطُ وَاحْتَسَبَ الأَْشْوَاطَ ابْتِدَاءً مِنْ الصَّفَا، وَذَلِكَ لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَبَقَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، وَقَوْلِهِ: أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ، فَبَدَأَ بِالصَّفَا، وَرُوِيَ الْحَدِيثُ بِصِيغَةِ الأَْمْرِ ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ (1) .

10 - ج - النِّيَّةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ خَاصَّةً، عَلَى مَا فِي الْمَذْهَبِ وَالْمُقَرَّرِ، وَصَوَّبَهُ الْمِرْدَاوِيُّ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ الأَْكْثَرِ خِلاَفُهُمَا كَمَا فِي الْفُرُوعِ (2) .

وَقْتُ السَّعْيِ الأَْصْلِيُّ:
11 - وَقْتُ السَّعْيِ الأَْصْلِيُّ هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ بَعْدَ
__________
(1) حديث: " أبدأ بما بدأ الله به ". أخرجه مسلم (2 / 888 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله. ورواية: " ابدأوا بما بدأ الله به ". أخرج هذه الرواية الدارقطني (2 / 254 - ط دار المحاسن) وأشار ابن دقيق العيد إلى شذوذها. كذا في التلخيص لابن حجر (2 / 250 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) انظر شروط السعي مع ما سبق في المسلك المتقسط ص117 - 120 وشرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 471 - 472 والشرح الكبير بحاشيته 2 / 34 - 35 ومغني المحتاج 1 / 493 - 495 والمجموع 8 / 77 - 83 والمغني 3 / 385 - 390 والفروع 3 / 505 - 506.

(25/16)


طَوَافِ الزِّيَارَةِ لاَ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ، وَالسَّعْيُ وَاجِبٌ، فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَل الْوَاجِبُ تَبَعًا لِلسُّنَّةِ، فَأَمَّا طَوَافُ الزِّيَارَةِ فَفَرْضٌ، وَالْوَاجِبُ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَل تَبَعًا لِلْفَرْضِ. إِلاَّ أَنَّهُ رُخِّصَ فِي السَّعْيِ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ، وَجُعِل ذَلِكَ وَقْتًا لَهُ تَرْفِيهًا لِلْحَاجِّ وَتَيْسِيرًا عَلَيْهِ، لاِزْدِحَامِ الاِشْتِغَال لَهُ يَوْمَ النَّحْرِ.
فَأَمَّا وَقْتُهُ الأَْصْلِيُّ فَيَوْمُ النَّحْرِ عَقِيبَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَتَقَدُّمُ طَوَافِ الْقُدُومِ لَيْسَ شَرْطًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، بَل الشَّرْطُ سَبْقُ السَّعْيِ بِالطَّوَافِ وَلَوْ نَفْلاً (1) .
وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ شَرَطُوا لِعَدَمِ وُجُوبِ الدَّمِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ طَوَافٍ وَاجِبٍ وَنَوَى وُجُوبَهُ، وَطَوَافُ الْقُدُومِ عِنْدَهُمْ وَاجِبٌ.
وَخَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَقْتَ السَّعْيِ أَنَّهُ بَعْدَ طَوَافِ رُكْنٍ أَوْ قُدُومٍ.
هَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَاجِّ الْمُفْرِدِ الآْفَاقِيِّ، فَإِنَّهُ يُشْرَعُ لَهُ طَوَافُ الْقُدُومِ. أَمَّا الْمَكِّيُّ الْمُفْرِدُ وَمِثْلُهُ الْمُتَمَتِّعُ الآْفَاقِيُّ فَلَيْسَ لَهُمَا طَوَافُ
__________
(1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 2 / 135، وانظر فتح القدير 2 / 156 والمسلك المتقسط ص118.

(25/16)


قُدُومٍ؛ لأَِنَّهُمَا يُحْرِمَانِ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ، فَلاَ يُقَدِّمَانِ السَّعْيَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، إِلاَّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَيُمْكِنُ لَهُمَا أَنْ يَطُوفَا نَفْلاً وَيَسْعَيَا بَعْدَهُ وَيَلْزَمُهُمَا دَمٌ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَيُمْكِنُ لَهُمَا أَنْ يَفْعَلاَ ذَلِكَ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمَا.

تَكَرُّرُ السَّعْيِ لِلْقَارِنِ:
12 - الْقَارِنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ. فَيَبْدَأُ بِطَوَافِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ سَعْيِهَا، ثُمَّ يَطُوفُ لِلْقُدُومِ وَيَسْعَى لِلْحَجِّ إِنْ أَرَادَ تَقْدِيمَ سَعْيِ الْحَجِّ عِنْدَهُمْ.
أَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَحُكْمُهُ كَالْمُفْرِدِ؛ لأَِنَّهُ يَطُوفُ طَوَافًا وَاحِدًا، وَيَسْعَى سَعْيًا وَاحِدًا يُجْزِئَانِ لِحَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ. وَاسْتَدَلُّوا بِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ الَّذِينَ كَانُوا قَارِنِينَ مَعَهُ فِي حَجَّتِهِ حَيْثُ إِنَّهُمْ سَعَوْا سَعْيًا وَاحِدًا (1) .

حُكْمُ تَأَخُّرِ السَّعْيِ عَنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ:
13 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَتَحَلَّل الْمُحْرِمُ مِنْ إِحْرَامِهِ إِلاَّ بِالْعَوْدِ لِلسَّعْيِ وَلَوْ نَقَصَ
__________
(1) حديث سعى النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته سعيا واحدا. ورد ضمن حديث جابر بن عبد الله. أخرجه مسلم (2 / 888 - ط الحلبي) .

(25/17)


خُطْوَةً وَاحِدَةً، وَيَظَل مُحْرِمًا فِي حَقِّ النِّسَاءِ حَتَّى يَرْجِعَ وَيَسْعَى مَهْمَا بَعُدَ مَكَانُهُ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِمْ بِرُكْنِيَّةِ السَّعْيِ. (ر: مُصْطَلَحَ حَجّ ف 56 و 125) . وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ بِتَأْخِيرِ السَّعْيِ مَهْمَا طَال الأَْمَدُ، وَيَرْجِعُ بِإِحْرَامِهِ الْمُتَبَقِّي دُونَ حَاجَةٍ لإِِحْرَامٍ جَدِيدٍ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا تَأَخَّرَ السَّعْيُ عَنْ وَقْتِهِ الأَْصْلِيِّ - وَهُوَ أَيَّامُ النَّحْرِ بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ - فَإِنْ كَانَ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى أَهْلِهِ فَإِنَّهُ يَسْعَى وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ أَتَى بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ بِالتَّأْخِيرِ شَيْءٌ؛ لأَِنَّهُ فَعَلَهُ فِي وَقْتِهِ الأَْصْلِيِّ وَهُوَ مَا بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ. وَلاَ يَضُرُّهُ إِنْ كَانَ قَدْ جَامَعَ؛ لِوُقُوعِ التَّحَلُّل الأَْكْبَرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ؛ إِذِ السَّعْيُ لَيْسَ بِرُكْنٍ حَتَّى يَمْنَعَ التَّحَلُّل، وَإِذَا صَارَ حَلاَلاً بِالطَّوَافِ فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَسْعَى قَبْل الْجِمَاعِ أَوْ بَعْدَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِمَكَّةَ يَسْعَى وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِهِ السَّعْيَ بِغَيْرِ عُذْرٍ. وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَكَّةَ فَإِنَّهُ يَعُودُ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ؛ لأَِنَّ إِحْرَامَهُ الأَْوَّل قَدِ ارْتَفَعَ بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ؛ لِوُقُوعِ التَّحَلُّل الأَْكْبَرِ بِهِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ الإِْحْرَامِ، وَإِذَا عَادَ وَسَعَى يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ لأَِنَّهُ تَدَارَكَ التَّرْكَ.
__________
(1) على التفصيل السابق في العود لطواف الزيارة في مصطلح حج (ف 56، 125) .

(25/17)


قَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: الدَّمُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الرُّجُوعِ؛ لأَِنَّ فِيهِ مَنْفَعَةَ الْفُقَرَاءِ، وَالنُّقْصَانُ لَيْسَ بِفَاحِشٍ (1) .
وَهَذَا الْمَذْكُورُ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ يَنْطَبِقُ عَلَى الْقَوْل بِالْوُجُوبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَاجِبَاتُ السَّعْيِ:
14 - أ - الْمَشْيُ بِنَفْسِهِ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ هُوَ سُنَّةٌ.
فَلَوْ سَعَى رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولاً أَوْ زَحْفًا بِغَيْرِ عُذْرٍ صَحَّ سَعْيُهُ بِاتِّفَاقِهِمْ جَمِيعًا، لَكِنْ عَلَيْهِ الدَّمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ؛ لِتَرْكِهِ الْمَشْيَ فِي السَّعْيِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَهُمْ، أَوْ إِعَادَةُ السَّعْيِ.
وَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَلَوْ مَشَى بِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لأَِنَّ الْمَشْيَ فِي السَّعْيِ سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ.
بَل صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الأَْفْضَل أَنْ لاَ يَرْكَبَ فِي سَعْيِهِ إِلاَّ لِعُذْرٍ كَمَا سَبَقَ فِي الطَّوَافِ؛ لأَِنَّ الْمَشْيَ أَشْبَهُ بِالتَّوَاضُعِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 135.

(25/18)


السَّعْيَ رَاكِبًا لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ لَكِنَّهُ خِلاَفُ الأَْفْضَل.
وَلَوْ سَعَى بِهِ غَيْرُهُ مَحْمُولاً جَازَ، لَكِنِ الأَْوْلَى سَعْيُهُ بِنَفْسِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَبِيًّا صَغِيرًا أَوْ لَهُ عُذْرٌ كَمَرَضٍ وَنَحْوِهِ (1) .
15 - ب - إِكْمَال الأَْشْوَاطِ الثَّلاَثَةِ الأَْخِيرَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الأَْقَل مِنَ السَّبْعَةِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَوْ تَرَكَ الأَْقَل وَهُوَ ثَلاَثَةُ أَشْوَاطٍ فَمَا دُونَ ذَلِكَ صَحَّ سَعْيُهُ وَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِكُل شَوْطٍ عِنْدَهُمْ. أَمَّا الْجُمْهُورُ فَكُل هَذِهِ الأَْشْوَاطِ السَّبْعَةِ رُكْنٌ عِنْدَهُمْ لاَ يَجُوزُ أَنْ تُنْقَصَ وَلَوْ خُطْوَةً (2) .

سُنَنُ السَّعْيِ وَمُسْتَحَبَّاتُهُ:
16 - أ - الْمُوَالاَةُ بَيْنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ: فَلَوْ فَصَل بَيْنَهُمَا بِفَاصِلٍ طَوِيلٍ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ أَسَاءَ وَيُسَنُّ لَهُ الإِْعَادَةُ، وَلَوْ لَمْ يُعِدْ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا.
وَدَلِيل الْفُقَهَاءِ عَلَى ذَلِكَ الاِعْتِبَارُ بِتَأْخِيرِ الطَّوَافِ الرُّكْنِ عَنِ الْوُقُوفِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ
__________
(1) المجموع 8 / 84.
(2) البدائع 1 / 134 والمسلك المتقسط ص120 وشرح الرسالة 1 / 472 ومغني المحتاج 1 / 495 والمغني 3 / 396.

(25/18)


عَنْهُ سِنِينَ كَثِيرَةً وَلاَ آخِرَ لَهُ مَا دَامَ حَيًّا بِلاَ خِلاَفٍ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (ر: طَوَاف ف 9 وَحَجّ ف 140 - 142) .
وَمَلْحَظُهُمْ فِيهِ أَنَّهُ أَدَّاهُ فِي وَقْتِهِ الأَْصْلِيِّ، وَهُوَ مَا بَعْدَ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ.

17 - ب - النِّيَّةُ: هِيَ سُنَّةٌ فِي السَّعْيِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقِيل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ. خِلاَفًا لِلْحَنَابِلَةِ الْقَائِلِينَ بِاشْتِرَاطِهَا. قَال عَلِيٌّ الْقَارِي: " وَلَعَلَّهُمْ أَدْرَجُوا فِيهِ السَّعْيَ فِي ضِمْنِ الْتِزَامِ الإِْحْرَامِ بِجَمِيعِ أَفْعَال الْمُحْرِمِ بِهِ.
فَلَوْ مَشَى مِنْ الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَةِ هَارِبًا أَوْ بَائِعًا أَوْ مُتَنَزِّهًا أَوْ لَمْ يَدْرِ أَنَّهُ سَعَى، جَازَ سَعْيُهُ. وَهَذِهِ تَوْسِعَةٌ عَظِيمَةٌ، كَعَدَمِ شَرْطِ نِيَّةِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ (1) ".

18 - ج - أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ الأَْسْوَدَ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ قَبْل الذَّهَابِ إِلَى السَّعْيِ، إِنْ تَيَسَّرَ لَهُ اسْتِلاَمُ الْحَجَرِ، وَإِلاَّ أَشَارَ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ الاِسْتِلاَمُ بِمَثَابَةِ وَصْلَةٍ بَيْنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ (2) .
__________
(1) المسلك المتقسط ص121.
(2) المجموع 8 / 76.

(25/19)


19 - د - يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْعَى عَلَى طَهَارَةٍ مِنَ الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ وَالأَْكْبَرِ وَالنَّجَاسَةِ، وَلَوْ خَالَفَ صَحَّ سَعْيُهُ. فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهَا لَمَّا حَاضَتِ: افْعَلِي كَمَا يَفْعَل الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1) . وَهُوَ يَدُل دَلاَلَةً صَرِيحَةً عَلَى جَوَازِ السَّعْيِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ.

20 - هـ - أَنْ يَصْعَدَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ كُلَّمَا بَلَغَهُمَا فِي سَعْيِهِ بِحَيْثُ يَسْتَقْبِل الْكَعْبَةَ، وَقَدَّرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ بِقَدْرِ قَامَةٍ. وَهَذَا الصُّعُودُ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَخَصُّوا بِهِ الرِّجَال دُونَ النِّسَاءِ.

21 - و - الدُّعَاءُ: عِنْدَ صُعُودِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَفِي السَّعْيِ بَيْنَهُمَا، جَعَلَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْمُسْتَحَبَّاتِ. عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي.

22 - ز - السَّعْيُ الشَّدِيدُ بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الأَْخْضَرَيْنِ: وَهُمَا الْعَمُودَانِ الأَْخْضَرَانِ اللَّذَانِ فِي جِدَارِ الْمَسْعَى الآْنَ، وَهُوَ سُنَّةٌ فِي
__________
(1) حديث: " افعلي كما يفعل الحاج، غير أن. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 504 - ط السلفية) . ومسلم (2 / 873 - ط الحلبي) واللفظ للبخاري.

(25/19)


الأَْشْوَاطِ السَّبْعَةِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الرَّمَل وَدُونَ الْعَدْوِ. وَالسُّنَّةُ أَنْ يَمْشِيَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ. فَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْعَى بَطْنَ الْمَسِيل إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُسَنُّ الْخَبَبُ فِي الذَّهَابِ مِنَ الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَةِ فَقَطْ، وَلاَ يُسَنُّ فِي الإِْيَابِ.
وَسُنِّيَّةُ السَّعْيِ الشَّدِيدِ هَذِهِ تَخْتَصُّ بِالرِّجَال دُونَ النِّسَاءِ؛ لأَِنَّ مَبْنَى حَالِهِنَّ عَلَى السِّتْرِ، فَالسُّنَّةُ فِي حَقِّهِنَّ الْمَشْيُ فَقَطْ.

23 - ح - الْمُوَالاَةُ بَيْنَ أَشْوَاطِ السَّعْيِ:
وَسُنِّيَّتُهَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمُعْتَمَدِ، فَقَدْ جَعَلُوا الْمُوَالاَةَ بَيْنَ أَشْوَاطِ السَّعْيِ شَرْطًا لِصِحَّةِ السَّعْيِ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: (2) .
(1) إِنْ جَلَسَ فِي سَعْيِهِ وَكَانَ شَيْئًا خَفِيفًا أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ. وَإِنْ
__________
(1) حديث: كان صلى الله عليه وسلم يسعى بطن المسيل إذا طاف. . . . أخرجه البخاري (الفتح 3 / 502 - ط السلفية) . ومسلم (2 / 920 - ط الحلبي) ، من حديث ابن عمر.
(2) شرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 471 - 472، كشاف القناع 2 / 487.

(25/20)


طَال جُلُوسُهُ وَصَارَ كَالتَّارِكِ بِأَنْ كَثُرَ التَّفْرِيقُ، ابْتَدَأَ السَّعْيَ مِنْ جَدِيدٍ.
(2) لاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبِيعَ أَوْ يَشْتَرِيَ أَوْ يَقِفَ مَعَ أَحَدٍ وَيُحَدِّثَهُ، فَإِنْ فَعَل وَكَانَ خَفِيفًا لَمْ يَضُرَّ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا، فَإِنْ كَثُرَ ابْتَدَأَ السَّعْيَ مِنْ جَدِيدٍ.
(3) إِنْ أَصَابَهُ حَقْنٌ تَوَضَّأَ وَبَنَى عَلَى مَا سَبَقَ وَلَمْ يُعِدْ.
(4) إِنْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ تَمَادَى إِلاَّ أَنْ يَضِيقَ وَقْتُ الصَّلاَةِ فَلْيُصَل، ثُمَّ يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى لَهُ.
وَكُل ذَلِكَ لاَ يَضُرُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ قَل أَوْ كَثُرَ (1) ، لَكِنَّهُ يُكْرَهُ، وَيُسْتَثْنَى مِنَ الْكَرَاهَةِ أَنْ يَقْطَعَ السَّعْيَ لإِِقَامَةِ الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ بِالْجَمَاعَةِ، وَلِصَلاَةِ الْجِنَازَةِ، كَمَا فِي الطَّوَافِ، بَل هُوَ هُنَا أَوْلَى.

24 - ط - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى سُنِّيَّةِ الاِضْطِبَاعِ فِي السَّعْيِ قِيَاسًا عَلَى الطَّوَافِ.

25 - ي - اسْتَحَبَّ الْحَنَفِيَّةُ إِذَا فَرَغَ مِنَ السَّعْيِ أَنْ يَدْخُل الْمَسْجِدَ فَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ،
__________
(1) حتى قال النووي: وإن كان شهرا أو سنة أو أكثر، هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور. المجموع 8 / 81 - 82.

(25/20)


لِيَكُونَ خَتْمُ السَّعْيِ كَخَتْمِ الطَّوَافِ، كَمَا ثَبَتَ أَنَّ مَبْدَأَهُ بِالاِسْتِلاَمِ كَمَبْدَئِهِ (1) .
وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ فِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ. قَال الْجُوَيْنِيُّ: " حَسَنٌ وَزِيَادَةُ طَاعَةٍ ". وَقَال ابْنُ الصَّلاَحِ: " يَنْبَغِي أَنْ يُكْرَهَ ذَلِكَ لأَِنَّهُ ابْتِدَاعُ شِعَارٍ ". قَال النَّوَوِيُّ (2) : " وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ الصَّلاَحِ أَظْهَرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (3) ".

مُبَاحَاتُ السَّعْيِ:
26 - يُبَاحُ فِي السَّعْيِ مَا يُبَاحُ فِي الطَّوَافِ، بَل هُوَ أَوْلَى. وَمِنْ ذَلِكَ:
أ - الْكَلاَمُ الْمُبَاحُ الَّذِي لاَ يَشْغَلُهُ.
ب - الأَْكْل وَالشُّرْبُ.
ج - الْخُرُوجُ مِنْهُ لأَِدَاءِ مَكْتُوبَةٍ، أَوْ صَلاَةِ جِنَازَةٍ، عَلَى خِلاَفٍ لِلْمَالِكِيَّةِ (4) .

مَكْرُوهَاتُ السَّعْيِ:
27 - أ - الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْحَدِيثُ، إِذَا كَانَ
__________
(1) فتح القدير 2 / 156 - 157، ورد المحتار 2 / 235.
(2) المجموع 8 / 84 - 85.
(3) انظر سنن السعي في المسلك المتقسط ص120 - 121 وشرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 470 - 472 والمجموع 8 / 83 - 85 ومغني المحتاج 1 / 494 - 495 والمغني 3 / 394 - 398.
(4) المسلك المتقسط ص121.

(25/21)


شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى وَجْهٍ يَشْغَلُهُ عَنِ الْحُضُورِ، وَيَدْفَعُهُ عَنِ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، أَوْ يَمْنَعُهُ عَنِ الْمُوَالاَةِ.
28 - ب - تَأْخِيرُ السَّعْيِ عَنْ وَقْتِهِ الْمُخْتَارِ تَأْخِيرًا كَثِيرًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، بِإِبْعَادِهِ كَثِيرًا مِنَ الطَّوَافِ (1) .

وَوَرَدَتْ جُمْلَةٌ مِنَ الأَْدْعِيَةِ وَالأَْذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ فِي السَّعْيِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، مِنْهَا مَا يَلِي:
29 - أ - عِنْدَ التَّوَجُّهِ إِلَى الصَّفَا لِلسَّعْيِ يَذْهَبُ مِنْ أَيِّ بَابٍ يَتَيَسَّرُ لَهُ، وَيَقْرَأُ هَذِهِ الآْيَةَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} وَكَذَلِكَ عِنْدَمَا يَبْلُغُ الْمَرْوَةَ آخِرَ كُل شَوْطٍ.
لِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ (2) .
30 - ب - إِذَا صَعِدَ عَلَى الصَّفَا وَقَفَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَرَى الْكَعْبَةَ الْمُعَظَّمَةَ، وَكَذَلِكَ إِذَا صَعِدَ عَلَى الْمَرْوَةِ تَوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ وَذَكَرَ وَدَعَا كَمَا فَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُسَنُّ أَنْ يُطِيل الْقِيَامَ، وَيَقُول كَمَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ: فَاسْتَقْبَل الْقِبْلَةَ فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ، وَقَال: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ
__________
(1) المسلك المتقسط ص121 - 122.
(2) حديث قراءة} إن الصفا والمروة من شعائر الله {عند الصفا أخرجه مسلم (2 / 888 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله. سورة البقرة آية: 158.

(25/21)


الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَْحْزَابَ وَحْدَهُ. ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ، قَال مِثْل هَذَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. . . حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ فَفَعَل عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَل عَلَى الصَّفَا (1) .
31 - ج - وَرَدَ مِنَ الدُّعَاءِ عَلَى الصَّفَا: " اللَّهُمَّ إِنَّكَ قُلْتَ {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، وَإِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَإِنِّي أَسْأَلُكَ كَمَا هَدَيْتَنِي لِلإِْسْلاَمِ أَلاَّ تَنْزِعَهُ مِنِّي حَتَّى تَتَوَفَّانِي وَأَنَا مُسْلِمٌ " (2) .
" اللَّهُمَّ اعْصِمْنَا بِدِينِكَ وَطَوَاعِيَتِكَ، وَطَوَاعِيَةِ رَسُولِكَ، وَجَنِّبْنَا حُدُودَكَ. اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا نُحِبُّكَ وَنُحِبُّ مَلاَئِكَتَكَ وَأَنْبِيَاءَكَ وَرُسُلَكَ، وَنُحِبُّ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ. اللَّهُمَّ يَسِّرْنَا لِلْيُسْرَى وَجَنِّبْنَا الْعُسْرَى، وَاغْفِرْ لَنَا فِي الآْخِرَةِ وَالأُْولَى، وَاجْعَلْنَا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ " (3) .
__________
(1) حديث الذكر عند الصفا والمروة. أخرجه مسلم (2 / 888 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) حديث ذكر: اللهم إنك قلت ادعوني أستجب لكم. أخرجه مالك في الموطأ (1 / 372 - 373 - ط الحلبي) . موقوفا على ابن عمر
(3) دعاء: اللهم اعصمنا بدينك. أخرجه البيهقي (5 / 94 - ط دائرة المعارف العثمانية) موقوفا على ابن عمر.

(25/22)


32 - د - عِنْدَ الْهُبُوطِ مِنَ الصَّفَا وَرَدَ هَذَا الدُّعَاءُ: " اللَّهُمَّ أَحْيِنِي عَلَى سُنَّةِ نَبِيِّكَ، وَتَوَفَّنِي عَلَى مِلَّتِهِ، وَأَعِذْنِي مِنْ مُضِلاَّتِ الْفِتَنِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ " (1) .
33 - هـ - عِنْدَ السَّعْيِ الشَّدِيدِ بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الأَْخْضَرَيْنِ: " رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ، إِنَّكَ أَنْتَ الأَْعَزُّ الأَْكْرَمُ " (2) .
34 - و - عِنْدَ الاِقْتِرَابِ مِنَ الْمَرْوَةِ يَقْرَأُ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} . ثُمَّ يَرْقَى عَلَى الْمَرْوَةِ وَيَقِفُ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ وَيَأْتِي مِنَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ كَمَا عِنْدَ الصَّفَا، وَكَذَلِكَ عِنْدَمَا يَهْبِطُ مِنَ الْمَرْوَةِ يَدْعُو بِمَا سَبَقَ عِنْدَ الْهُبُوطِ مِنَ الصَّفَا؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَل عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَل عَلَى الصَّفَا (3) . كَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ.
وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَدِيثِ شَيْءٌ مِنَ الأَْدْعِيَةِ
__________
(1) فتح القدير 2 / 155. وحديث: ذكر اللهم أحيني على سنة نبيك. أخرجه البيهقي (5 / 95 - ط دائرة المعارف العثمانية) موقوفا على ابن عمر.
(2) ذكر: رب اغفر وارحم، إنك أنت الأعز الأكرم. أخرجه البيهقي (5 / 95 - ط دائرة المعارف العثمانية) موقوفا على ابن عمر وابن مسعود.
(3) حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل على المروة كما فعل على الصفا. سبق تخريجه ف 29.

(25/22)


وَالأَْذْكَارِ يُوَزَّعُ عَلَى أَشْوَاطِ السَّعْيِ وَيَخُصُّ كُل شَوْطٍ بِدُعَاءٍ، إِنَّمَا وَزَّعَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهَا أَدْعِيَةً مِنَ الْمَأْثُورِ فِي السَّعْيِ وَمِنْ غَيْرِهِ إِرْشَادًا لِلنَّاسِ، وَتَسْهِيلاً عَلَيْهِمْ لإِِحْصَاءِ أَشْوَاطِ السَّعْيِ. وَهُوَ سُنَّةٌ بِغَيْرِ تَحْدِيدٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَجَعَل الْحَنَفِيَّةُ الدُّعَاءَ فِي السَّعْيِ مِنَ الْمُسْتَحَبَّاتِ.
وَيَجْتَهِدُ فِي الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ بِأَنْوَاعِ الأَْذْكَارِ وَالأَْدْعِيَةِ فِي السَّعْيِ كُلِّهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَقْصُودٌ عَظِيمٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا جُعِل رَمْيُ الْجِمَارِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لإِِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ (1) .
__________
(1) حديث: " إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله ". أخرجه الترمذي (3 / 237 - ط الحلبي) من حديث عائشة، وفي إسناده راو متكلم فيه، وذكر الذهبي هذا الحديث من مناكيره، كذا في " ميزان الاعتدال " (3 / 8 - ط الحلبي) .

(25/23)


سَفْتَجَة.

التَّعْرِيفُ:
1 - السُّفْتَجَةُ بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِهَا، وَفَتْحِ التَّاءِ، فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ. قَال فِي الْقَامُوسِ: السُّفْتَجَةُ كَقُرْطَقَةٍ، أَنْ يُعْطِيَ شَخْصٌ مَالاً لآِخَرَ، وَلِلآْخَرِ مَالٌ فِي بَلَدِ الْمُعْطِي فَيُوَفِّيَهُ إِيَّاهُ ثَمَّ. فَيَسْتَفِيدُ أَمْنَ الطَّرِيقِ (1) .
وَالسُّفْتَجَةُ اصْطِلاَحًا كَمَا قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِقْرَاضٌ لِسُقُوطِ خَطَرِ الطَّرِيقِ.
وَفِي الدُّسُوقِيِّ: هِيَ الْكِتَابُ الَّذِي يُرْسِلُهُ الْمُقْتَرِضُ لِوَكِيلِهِ بِبَلَدٍ لِيَدْفَعَ لِلْمُقْرِضِ نَظِيرَ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ بِبَلَدِهِ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْبَالُوصَةِ (2) .
__________
(1) القاموس وفي الملحق بلسان العرب (قسم المصطلحات الفنية والعلمية) السفتجة: الكمبيالة، محرر صادر من دائن يكلف فيه مدينه دفع مبلغ معين في تاريخ معين لإذن شخص ثالث أو لإذن الدائن نفسه أو لإذن الحامل للمحرر.
(2) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 4 / 295، والدسوقي 3 / 225.

(25/23)


هَل السُّفْتَجَةُ قَرْضٌ أَوْ حَوَالَةٌ:؟
2 - السُّفْتَجَةُ تُشْبِهُ الْحَوَالَةَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ يُحِيل الْمُقْرِضَ إِلَى شَخْصٍ ثَالِثٍ فَكَأَنَّهُ نَقَل دَيْنَ الْمُقْرِضِ مِنْ ذِمَّتِهِ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَال عَلَيْهِ، وَالْحَوَالَةُ لاَ تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا نَقْل الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ.
لَكِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ وَبَعْضَ الْحَنَفِيَّةِ - اعْتَبَرُوهَا مِنْ بَابِ الْقَرْضِ؛ لأَِنَّ الْكَلاَمَ فِي الْقَرْضِ الَّذِي يَجُرُّ مَنْفَعَةً هَل هُوَ جَائِزٌ أَوْ غَيْرُ جَائِزٍ، أَمَّا الْحَوَالَةُ فَهِيَ فِي دَيْنٍ ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ فِعْلاً.
وَقَدْ ذَكَرَهَا بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ كَالْحَصْكَفِيِّ وَالْمَرْغِينَانِيِّ فِي آخِرِ بَابِ الْحَوَالَةِ مَعَ ذِكْرِهَا فِي بَابِ الْقَرْضِ أَيْضًا.
وَقَال ابْنُ الْهُمَامِ وَالْبَابَرْتِيُّ: أَوْرَدَ الْقُدُورِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ هُنَا لأَِنَّهَا مُعَامَلَةٌ فِي الدُّيُونِ كَالْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ، وَقَال الْكَرْمَانِيُّ: هِيَ فِي مَعْنَى الْحَوَالَةِ لأَِنَّهُ أَحَال الْخَطَرَ الْمُتَوَقَّعَ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ. وَهَذَا مَا قَالَهُ الْحَصْكَفِيُّ، قَال: السُّفْتَجَةُ: إِقْرَاضٌ لِسُقُوطِ خَطَرِ الطَّرِيقِ، فَكَأَنَّهُ أَحَال الْخَطَرَ الْمُتَوَقَّعَ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْحَوَالَةِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ وَفِي نَظْمِ الْكَنْزِ لاِبْنِ الْفَصِيحِ:

(25/24)


وَكُرِهَتْ سَفَاتِجُ الطَّرِيقِ وَهِيَ إِحَالَةٌ عَلَى التَّحْقِيقِ. قَال شَارِحُهُ الْمَقْدِسِيُّ: لأَِنَّهُ يُحِيل صَدِيقَهُ عَلَيْهِ أَوْ مَنْ يَكْتُبُ إِلَيْهِ (1) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - الْقَرْضُ مِنَ الْقُرَبِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهَا، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْمَعْرُوفِ، شُرِعَ لِلتَّعَاوُنِ بَيْنَ النَّاسِ وَتَفْرِيجِ كُرَبِ الْمُحْتَاجِينَ بِمَا يَبْذُلُهُ الْمُقْرِضُ لِلْمُسْتَقْرِضِ الْمُحْتَاجِ، وَهُوَ لاَ يَطْلُبُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ سِوَى الثَّوَابَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَإِذَا طَلَبَ الْمُقْرِضُ مِنْ وَرَاءِ إِقْرَاضِهِ نَفْعًا خَاصًّا لَهُ مِنَ الْمُسْتَقْرِضِ فَقَدْ خَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ مَوْضُوعِ الْقَرْضِ لأَِنَّهُ عَقْدُ إِرْفَاقٍ وَقُرْبَةٍ، وَلِذَلِكَ يَحْرُمُ إِذَا كَانَ يَجْلُبُ نَفْعًا لِلْمُقْرِضِ وَخَاصَّةً إِذَا شُرِطَ ذَلِكَ فِي عَقْدِ الْقَرْضِ، كَأَنْ يَشْتَرِطَ الْمُقْرِضُ زِيَادَةً عَمَّا أَقْرَضَ أَوْ أَجْوَدَ مِنْهُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الرِّبَا، وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْمَعْرُوفَةِ: أَنَّ كُل قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ حَرَامٌ، رَوَى ذَلِكَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ. قَال: حَدَّثَنَا خَالِدٌ الأَْحْمَرُ عَنْ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 174، 295، 296، وفتح القدير لابن الهمام وبهامشه العناية للبابر والكفاية للكرلاني 6 / 355، 356، دار إحياء التراث، والدسوقي 3 / 225، 226، والمهذب 1 / 311، والمغني 4 / 354 - 356.

(25/24)


حَجَّاجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَال: كَانُوا يَكْرَهُونَ كُل قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً.
وَمِنَ الصُّوَرِ الَّتِي قَدْ تَجْلِبُ نَفْعًا لِلْمُقْرِضِ مَا يُسَمَّى بِالسُّفْتَجَةِ وَصُورَتُهَا: أَنْ يُقْرِضَ شَخْصٌ غَيْرَهُ - تَاجِرًا أَوْ غَيْرَ تَاجِرٍ - فِي بَلَدٍ وَيَطْلُبَ مِنَ الْمُسْتَقْرِضِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا يَسْتَوْفِي بِمُوجِبِهِ بَدَل الْقَرْضِ فِي بَلَدٍ آخَرَ مِنْ شَرِيكِ الْمُقْتَرِضِ أَوْ وَكِيلِهِ.
وَالنَّفْعُ الْمُتَوَقَّعُ هُنَا هُوَ أَنْ يَسْتَفِيدَ الْمُقْرِضُ دَفْعَ خَطَرِ الطَّرِيقِ؛ إِذْ قَدْ يَخْشَى لَوْ سَافَرَ بِأَمْوَالِهِ أَنْ يَسْطُوَ عَلَيْهِ اللُّصُوصُ وَقُطَّاعُ الطُّرُقِ فَيَلْجَأُ إِلَى هَذِهِ الْحِيلَةِ لِيَسْتَفِيدَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْقَرْضِ دَفْعَ الْخَطَرِ الْمُتَوَقَّعِ فِي الطَّرِيقِ.
وَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ يَخْتَلِفُ؛ لأَِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ الَّذِي يَكْتُبُهُ الْمُسْتَقْرِضُ لِوَكِيلِهِ (وَهُوَ السُّفْتَجَةُ) مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الْقَرْضِ أَوْ غَيْرَ مَشْرُوطٍ.
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الْقَرْضِ فَهُوَ حَرَامٌ وَالْعَقْدُ فَاسِدٌ؛ لأَِنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ نَفْعًا فَيُشْبِهُ الرِّبَا؛ لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ فَضْلٌ لاَ يُقَابِلُهُ عِوَضٌ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ) وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ مَالِكًا كَرِهَ الْعَمَل

(25/25)


بِالسَّفَاتِجِ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا، وَأَجَازَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ، وَالأَْشْهَرُ عَنْهُ كَرَاهِيَتُهُ لَمَّا اسْتَعْمَلَهُ النَّاسُ مِنْ أَمْرِ السَّفَاتِجِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ جَوَازُهَا لِكَوْنِهَا مَصْلَحَةً لَهُمَا جَمِيعًا، وَقَال عَطَاءٌ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَأْخُذُ مِنْ قَوْمٍ بِمَكَّةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ يَكْتُبُ لَهُمْ بِهَا إِلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِالْعِرَاقِ فَيَأْخُذُونَهَا مِنْهُ، فَسُئِل عَنْ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا، وَمِمَّنْ لَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا: ابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ، رَوَاهُ كُلَّهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ لِلْوَصِيِّ قَرْضَ مَال الْيَتِيمِ فِي بَلَدٍ أُخْرَى لِيَرْبَحَ خَطَرَ الطَّرِيقِ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ، لأَِنَّهُ مَصْلَحَةٌ لَهُمَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَالشَّرْعُ لاَ يَرِدُ بِتَحْرِيمِ الْمَصَالِحِ الَّتِي لاَ مَضَرَّةَ فِيهَا بَل بِمَشْرُوعِيَّتِهَا، وَلأَِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَلاَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، فَوَجَبَ إِبْقَاؤُهُ عَلَى الإِْبَاحَةِ. غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مَا إِذَا عَمَّ الْخَوْفُ جَمِيعَ طُرُقِ الْمَحَل الَّتِي يَذْهَبُ الْمُقْرِضُ مِنْهَا إِلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ الْخَوْفُ عَلَى النَّفْسِ أَوِ الْمَال غَالِبًا لِخَطَرِ

(25/25)


الطَّرِيقِ فَلاَ حُرْمَةَ فِي الْعَمَل بِالسُّفْتَجَةِ بَل يُنْدَبُ ذَلِكَ تَقْدِيمًا لِمَصْلَحَةِ حِفْظِ النَّفْسِ وَالْمَال عَلَى مَضَرَّةِ سَلَفٍ جَرَّ نَفْعًا، كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ إِذَا كَانَ فِيهِ نَفْعٌ لِلْمُقْتَرِضِ أَوْ كَانَ الْمُتَسَلِّفُ هُوَ الَّذِي طَلَبَ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ الْمُقْتَرِضُ هُوَ الَّذِي كَتَبَ السُّفْتَجَةَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ مِنَ الْمُقْرِضِ بِذَلِكَ جَازَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ لأَِنَّهُ مِنْ حُسْنِ الْقَضَاءِ، وَقَدِ اسْتَسْلَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِل الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُل بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَال: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلاَّ خِيَارًا رُبَاعِيًّا، فَقَال: أَعْطِهِ إِيَّاهُ، إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً (1) .
وَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَمَكْحُولٌ وَقَتَادَةُ وَإِسْحَاقُ (2) .
__________
(1) حديث: " استسلف النبي صلى الله عليه وسلم من رجل بكرا. . ". أخرجه مسلم (3 / 1224 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) ابن عابدين 4 / 174، 295، 296، وتكملة فتح القدير 7 / 250 - 251 نشر دار الفكر بيروت، والبدائع 7 / 395، والدسوقي 3 / 225، 226، والحطاب والمواق بهامشه 4 / 547، والكافي لابن عبد البر 2 / 728، 729، والمهذب 1 / 311، ونهاية المحتاج 4 / 225، والمغني 4 / 354، 355، 356، وكشاف القناع 3 / 317

(25/26)


سَفَر

التَّعْرِيفُ:
1 - السَّفَرُ لُغَةً قَطْعُ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ. يُقَال ذَلِكَ إِذَا خَرَجَ لِلاِرْتِحَال.
قَال الْفَيُّومِيُّ: وَقَال بَعْضُ الْمُصَنَّفِينَ: أَقَل السَّفَرِ يَوْمٌ.
وَالْجَمْعُ أَسْفَارٌ، وَرَجُلٌ مُسَافِرٌ، وَقَوْمٌ سَفْرٌ وَأَسْفَارٌ وَسُفَّارٌ، وَأَصْل الْمَادَّةِ الْكَشْفُ.
وَسُمِّيَ السَّفَرُ سَفَرًا لأَِنَّهُ يُسْفِرُ عَنْ وُجُوهِ الْمُسَافِرِينَ وَأَخْلاَقِهِمْ فَيَظْهَرُ مَا كَانَ خَافِيًا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: السَّفَرُ هُوَ الْخُرُوجُ عَلَى قَصْدِ قَطْعِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ الشَّرْعِيَّةِ فَمَا فَوْقَهَا (2) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير وتاج العروس مادة (سفر) .
(2) التعريفات 157 دار الكتاب العربي 1985 م. الكليات 3 / 33، جامع العلوم في اصطلاحات الفنون 2 / 169 مؤسسة الأعلمي 1975 م.

(25/26)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَضَرُ:
2 - الْحَضَرُ بِفَتْحَتَيْنِ وَالْحَضْرَةُ وَالْحَاضِرَةُ خِلاَفُ الْبَادِيَةِ، وَهِيَ الْمُدُنُ وَالْقُرَى وَالرِّيفُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَِنَّ أَهْلَهَا حَضَرُوا الأَْمْصَارَ وَمَسَاكِنَ الدِّيَارِ الَّتِي يَكُونُ لَهُمْ بِهَا قَرَارٌ. وَالْحَضَرُ مِنَ النَّاسِ سَاكِنُو الْحَضَرِ، وَالْحَاضِرُ خِلاَفُ الْبَادِي، وَالْحَضَرُ مَنْ لاَ يَصْلُحُ لِلسَّفَرِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

ب - الإِْقَامَةُ:
3 - مِنْ مَعَانِي الإِْقَامَةِ: الثُّبُوتُ فِي الْمَكَانِ وَاِتِّخَاذُهُ وَطَنًا، وَهِيَ ضِدُّ السَّفَرِ (2) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ السَّفَرَ مِنْ حَيْثُ حُكْمُهُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: سَفَرُ طَاعَةٍ كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ، وَسَفَرٌ مُبَاحٌ كَالتِّجَارَةِ، وَسَفَرُ مَعْصِيَةٍ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَحَجِّ الْمَرْأَةِ بِلاَ مَحْرَمٍ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: السَّفَرُ عَلَى قِسْمَيْنِ: سَفَرُ طَلَبٍ، وَسَفَرُ هَرَبٍ. فَسَفَرُ الْهَرَبِ وَاجِبٌ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة (حضر) .
(2) المصباح المنير مادة (قوم) .

(25/27)


وَهُوَ إِذَا كَانَ فِي بَلَدٍ يَكْثُرُ فِيهِ الْحَرَامُ وَيَقِل فِيهِ الْحَلاَل فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ السَّفَرُ مِنْهُ إِلَى بَلَدٍ يَكْثُرُ فِيهِ الْحَلاَل. وَكَذَلِكَ يَجِبُ الْهُرُوبُ مِنْ مَوْضِعٍ يُشَاهَدُ فِيهِ الْمُنْكَرُ مِنْ شُرْبِ خَمْرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَى مَوْضِعٍ لاَ يُشْهَدُ فِيهِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْهَرَبُ مِنْ بَلَدٍ أَوْ مَوْضِعٍ يُذِل فِيهِ نَفْسَهُ إِلَى مَوْضِعٍ يُعِزُّ فِيهِ نَفْسَهُ؛ لأَِنَّ الْمُؤْمِنَ عَزِيزٌ لاَ يُذِل نَفْسَهُ. وَكَذَلِكَ يَجِبُ الْهُرُوبُ مِنْ بَلَدٍ لاَ عِلْمَ فِيهِ إِلَى بَلَدٍ فِيهِ الْعِلْمُ. وَكَذَلِكَ يَجِبُ الْهُرُوبُ مِنْ بَلَدٍ يُسْمَعُ فِيهِ سَبُّ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَلاَ يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ حَيْثُ لَمْ يُمْكِنِ الإِْنْسَانَ التَّغْيِيرُ وَالإِْصْلاَحُ.
وَأَمَّا سَفَرُ الطَّلَبِ فَهُوَ عَلَى أَقْسَامٍ - وَيُوَافِقُهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَيْهَا - وَاجِبٌ كَسَفَرِ حَجِّ الْفَرِيضَةِ وَالْجِهَادِ إِذَا تَعَيَّنَ.
وَمَنْدُوبٌ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالطَّاعَةِ قُرْبَةً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ كَالسَّفَرِ لِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ أَوْ لِصِلَةِ الرَّحِمِ أَوْ طَلَبِ الْعِلْمِ أَوْ لِلتَّفَكُّرِ فِي الْخَلْقِ، وَمُبَاحٌ وَهُوَ سَفَرُ التِّجَارَةِ، وَمَمْنُوعٌ وَهُوَ السَّفَرُ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَثَّل الشَّافِعِيَّةُ لِلسَّفَرِ الْمَكْرُوهِ بِاَلَّذِي يُسَافِرُ وَحْدَهُ، وَسَفَرُ الاِثْنَيْنِ أَخَفُّ كَرَاهَةً، وَذَلِكَ لِخَبَرِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ كَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْدَةَ فِي السَّفَرِ (1) وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الرَّاكِبُ
__________
(1) حديث: " كره النبي صلى الله عليه وسلم الوحدة في السفر ". ذكره صاحب نهاية المحتاج (2 / 248 - ط الحلبي) وعزاه إلى أحمد، ولم نره في المسند المطبوع.

(25/27)


شَيْطَانٌ وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلاَثَةُ رَكْبٌ (1) . وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ السَّفَرَ لِرُؤْيَةِ الْبِلاَدِ وَالتَّنَزُّهِ فِيهَا مُبَاحٌ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ السِّيَاحَةَ لِغَيْرِ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ مَكْرُوهٌ (2) .

السَّفَرُ مِنْ عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ:
5 - السَّفَرُ مِنْ عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ الْمُكْتَسَبَةِ، وَهُوَ لاَ يُنَافِي شَيْئًا مِنْ أَهْلِيَّةِ الأَْحْكَامِ وُجُوبًا وَأَدَاءً مِنَ الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا. فَلاَ يَمْنَعُ وُجُوبَ شَيْءٍ مِنَ الأَْحْكَامِ نَحْوِ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ لِبَقَاءِ الْقُدْرَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ بِكَمَالِهَا. لَكِنَّهُ جُعِل فِي الشَّرْعِ مِنْ أَسْبَابِ التَّخْفِيفِ بِنَفْسِهِ مُطْلَقًا - يَعْنِي مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى كَوْنِهِ مُوجِبًا لِلْمَشَقَّةِ أَوْ غَيْرَ مُوجِبٍ لَهَا - لأَِنَّ السَّفَرَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَشَقَّةِ فِي الْغَالِبِ. فَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ
__________
(1) حديث: " الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب ". أخرجه الترمذي (4 / 193 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو، وقال: " حديث حسن ".
(2) العناية على الهداية بهامش القدير 2 / 19 دار إحياء التراث العربي، مواهب الجليل 2 / 139 دار الفكر 1978م، نهاية المحتاج 2 / 248 ط. مصطفى الحلبي 1967م. حاشية الجمل 1 / 589 دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 1 / 503 عالم الكتب 1983م.

(25/28)


نَفْسُ السَّفَرِ سَبَبًا لِلرُّخَصِ وَأُقِيمَ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

شُرُوطُ السَّفَرِ:
6 - يُشْتَرَطُ فِي السَّفَرِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الأَْحْكَامُ، مَا يَلِي:

أ - أَنْ يَبْلُغَ الْمَسَافَةَ الْمُحَدَّدَةَ شَرْعًا:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسَافَةِ السَّفَرِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الأَْحْكَامُ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ مَسَافَةَ السَّفَرِ الَّتِي تَتَغَيَّرُ بِهَا الأَْحْكَامُ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يَا أَهْل مَكَّةَ لاَ تَقْصُرُوا فِي أَقَل مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ (2) وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَقْصُرَانِ وَيُفْطِرَانِ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ. وَذَلِكَ إِنَّمَا يُفْعَل عَنْ تَوْقِيفٍ. وَكُل بَرِيدٍ أَرْبَعَةُ
__________
(1) تيسير التحرير 2 / 258، 303 ط مصطفى الحلبي 1350 هـ، كشف الأسرار 4 / 376 دار الكتاب العربي 1974م.
(2) حديث: " يا أهل مكة، لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان ". أخرجه الدارقطني (1 / 387 - ط دار المحاسن) ، وقال ابن حجر: " إسناده ضعيف والصحيح عن ابن عباس من قوله " كذا في التلخيص الحبير (2 / 46 - ط شركة الطباعة الفنية) .

(25/28)


فَرَاسِخَ، وَالْفَرْسَخُ ثَلاَثَةُ أَمْيَالٍ هَاشِمِيَّةٍ.
فَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلاً، وَالْفَرْسَخُ بِأَمْيَال بَنَى أُمَيَّةَ مِيلاَنِ وَنِصْفٌ، فَالْمَسَافَةُ عَلَى هَذَا أَرْبَعُونَ مِيلاً.
وَالتَّقْدِيرُ بِثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلاً هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (1) وَعِنْدَهُمْ أَقْوَالٌ ضَعِيفَةٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَلاَ تُحْسَبُ مِنْ هَذِهِ الْمَسَافَةِ مُدَّةُ الرُّجُوعِ اتِّفَاقًا.
فَلَوْ كَانَتْ مُلَفَّقَةً مِنَ الذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ لَمْ تَتَغَيَّرِ الأَْحْكَامُ. وَهِيَ بِاعْتِبَارِ الزَّمَانِ مَرْحَلَتَانِ، وَهُمَا سَيْرُ يَوْمَيْنِ مُعْتَدِلَيْنِ أَوْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بِسَيْرِ الإِْبِل الْمُثْقَلَةِ بِالأَْحْمَال عَلَى الْمُعْتَادِ، مَعَ النُّزُول الْمُعْتَادِ لِنَحْوِ اسْتِرَاحَةٍ وَأَكْلٍ وَصَلاَةٍ. قَال الأَْثْرَمُ: قِيل لأَِبِي عَبْدِ اللَّهِ: فِي كَمْ تُقْصَرُ الصَّلاَةُ؟ قَال: فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ. قِيل لَهُ: مَسِيرَةُ يَوْمٍ تَامٍّ؟ قَال: لاَ، أَرْبَعَةُ بُرُدٍ، سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: وَقَدْ قَدَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنْ عُسْفَانَ إِلَى مَكَّةَ، وَمِنَ الطَّائِفِ إِلَى مَكَّةَ، وَمِنْ جَدَّةَ إِلَى مَكَّةَ. وَقَدْ صَرَّحَ
__________
(1) الميل مقياس للطول قدر قديما بأربعة آلاف ذراع، وهو الميل الهاشمي. ويقدر الآن بما يساوي 1609 من الأمتار وعليه تكون المسافة المبيحة للقصر حوالي 77 كيلو مترا وينظر مصطلح (مقادير) .

(25/29)


الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْيَوْمَ يُعْتَبَرُ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ لأَِنَّهُ الْمُعْتَادُ لِلسَّيْرِ غَالِبًا لاَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَأَنَّ الْبَحْرَ كَالْبَرِّ فِي اشْتِرَاطِ الْمَسَافَةِ الْمَذْكُورَةِ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: إِنَّ الْبَحْرَ لاَ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَسَافَةُ بَل الزَّمَانُ وَهُوَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَقِيل بِاعْتِبَارِهَا فِيهِ كَالْبَرِّ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَعَلَيْهِ إِذَا سَافَرَ وَبَعْضُ سَفَرِهِ فِي الْبَرِّ وَبَعْضُ سَفَرِهِ فِي الْبَحْرِ، فَقِيل: يُلَفِّقُ مَسَافَةَ أَحَدِهِمَا لِمَسَافَةِ الآْخَرِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ. وَقِيل: لاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّفْصِيل عَلَى مَا مَرَّ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ يَضُرُّ قَطْعُ الْمَسَافَةِ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ، فَلَوْ قَطَعَ الأَْمْيَال فِي سَاعَةٍ مَثَلاً لِشِدَّةِ جَرْيِ السَّفِينَةِ بِالْهَوَاءِ وَنَحْوِهِ، أَوْ قَطَعَهَا فِي الْبَرِّ فِي بَعْضِ يَوْمٍ عَلَى مَرْكُوبٍ جَوَادٍ تَغَيَّرَتِ الأَْحْكَامُ فِي حَقِّهِ لِوُجُودِ الْمَسَافَةِ الصَّالِحَةِ لِتَغَيُّرِ الأَْحْكَامِ؛ وَلأَِنَّهُ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَافَرَ أَرْبَعَةَ بُرُدٍ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَسَافَةَ السَّفَرِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الأَْحْكَامُ هُوَ مَسِيرَةُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ،
__________
(1) مواهب الجليل 2 / 140 دار الفكر 1978م، حاشية الدسوقي1 / 358 دار الفكر، نهاية المحتاج 2 / 257 مطبعة مصطفى الحلبي 1967م القليوبي وعميرة 1 / 259 عيسى الحلبي، كشاف القناع 1 / 504 عالم الكتب 1983م.

(25/29)


وَقَدَّرَهَا بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ بِأَقْصَرِ أَيَّامِ السَّنَةِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْحِلْيَةِ: الظَّاهِرُ إِبْقَاؤُهَا عَلَى إِطْلاَقِهَا بِحَسَبِ مَا يُصَادِفُهُ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهَا طُولاً وَقِصَرًا وَاعْتِدَالاً إِنْ لَمْ تُقَدَّرْ بِالْمُعْتَدِلَةِ الَّتِي هِيَ الْوَسَطُ. وَلاَ اعْتِبَارَ عِنْدَهُمْ بِالْفَرَاسِخِ عَلَى الْمَذْهَبِ. قَال فِي الْهِدَايَةِ: هُوَ الصَّحِيحُ، احْتِرَازًا عَنْ قَوْل عَامَّةِ الْمَشَايِخِ فِي تَقْدِيرِهَا بِالْفَرَاسِخِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقِيل: وَاحِدٌ وَعِشْرُونَ، وَقِيل: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَقِيل: خَمْسَةَ عَشَرَ، وَالْفَتْوَى عَلَى الثَّانِي؛ لأَِنَّهُ الأَْوْسَطُ، وَفِي الْمُجْتَبَى: فَتْوَى أَئِمَّةِ خُوَارِزْمَ عَلَى الثَّالِثِ.
ثُمَّ إِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ سَفَرُ كُل يَوْمٍ إِلَى اللَّيْل بَل يَكْفِي إِلَى الزَّوَال، وَالْمُعْتَبَرُ السَّيْرُ الْوَسَطُ.
قَالُوا: وَيُعْتَبَرُ فِي الْجَبَل بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنَ السَّيْرِ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ صُعُودًا وَهُبُوطًا مَضِيقًا وَوَعِرًا فَيَكُونُ مَشْيُ الإِْبِل وَالأَْقْدَامِ فِيهِ دُونَ سَيْرِهَا فِي السَّهْل. وَفِي الْبَحْرِ يُعْتَبَرُ اعْتِدَال الرِّيحِ عَلَى الْمُضِيِّ بِهِ، فَيُعْتَبَرُ فِي كُل ذَلِكَ السَّيْرُ الْمُعْتَادُ فِيهِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ فَيُرْجَعُ إِلَيْهِمْ عِنْدَ الاِشْتِبَاهِ. /. / 50 وَخَرَجَ سَيْرُ الْبَقَرِ يَجُرُّ الْعَجَلَةَ وَنَحْوُهُ؛ لأَِنَّهُ أَبْطَأُ السَّيْرِ، كَمَا أَنَّ أَسْرَعَهُ سَيْرُ الْفَرَسِ وَالْبَرِيدِ، حَتَّى لَوْ كَانَتِ الْمَسَافَةُ ثَلاَثًا بِالسَّيْرِ الْمُعْتَادِ فَسَارَ إِلَيْهَا عَلَى

(25/30)


الْفَرَسِ جَرْيًا حَثِيثًا فَوَصَل فِي يَوْمَيْنِ أَوْ أَقَل قَصَرَ (1) .

ب - الْقَصْدُ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي السَّفَرِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الأَْحْكَامُ قَصْدُ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّفَرِ، فَلاَ قَصْرَ وَلاَ فِطْرَ لِهَائِمٍ عَلَى وَجْهِهِ لاَ يَدْرِي أَيْنَ يَتَوَجَّهُ، وَلاَ لِتَائِهٍ ضَال الطَّرِيقِ، وَلاَ لِسَائِحٍ لاَ يَقْصِدُ مَكَانًا مُعَيَّنًا. وَكَذَا لَوْ خَرَجَ أَمِيرٌ مَعَ جَيْشِهِ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ وَلَمْ يَعْلَمْ أَيْنَ يُدْرِكُهُمْ، فَإِنَّهُ يُتِمُّ وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ أَوِ الْمُكْثُ، وَمِثْلُهُ طَالِبُ غَرِيمٍ وَآبِقٍ يَرْجِعُ مَتَى وَجَدَهُ وَلاَ يَعْلَمُ مَوْضِعَهُ، وَإِنْ طَال سَفَرُهُ (2) .
وَهَذَا فِيمَنْ كَانَ مُسْتَقِلًّا بِرَأْيِهِ، أَمَّا التَّابِعُ لِغَيْرِهِ كَالزَّوْجَةِ مَعَ زَوْجِهَا، وَالْجُنْدِيِّ مَعَ الأَْمِيرِ فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (صَلاَة الْمُسَافِرِ) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 526، 527 دار إحياء التراث العربي، الفتاوى الهندية 1 / 138 المطبعة الأميرية 1310 هـ.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 526، حاشية الدسوقي 1 / 362، القليوبي وعميرة 1 / 260، كشاف القناع 1 / 506.

(25/30)


ج - مُفَارَقَةُ مَحِل الإِْقَامَةِ:
9 - يُشْتَرَطُ فِي السَّفَرِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الأَْحْكَامُ مُفَارَقَةُ بُيُوتِ الْمِصْرِ فَلاَ يَصِيرُ مُسَافِرًا قَبْل الْمُفَارَقَةِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَيُشْتَرَطُ مُفَارَقَةُ مَا كَانَ مِنْ تَوَابِعِ مَوْضِعِ الإِْقَامَةِ كَرُبَضِ الْمِصْرِ. وَهُوَ مَا حَوْل الْمَدِينَةِ مِنْ بُيُوتٍ وَمَسَاكِنَ فَإِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمِصْرِ. وَكَذَا الْقُرَى الْمُتَّصِلَةُ بِالرُّبَضِ فِي الصَّحِيحِ، بِخِلاَفِ الْبَسَاتِينِ وَلَوْ مُتَّصِلَةً بِالْبِنَاءِ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْبَلْدَةِ، وَلَوْ سَكَنَهَا أَهْل الْبَلْدَةِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ أَوْ بَعْضِهَا، كَمَا أَنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ سُكْنَى الْحَفَظَةِ وَالأَْكَرَةِ اتِّفَاقًا.
وَأَمَّا الْفِنَاءُ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِمَصَالِحِ الْبَلَدِ كَرَكْضِ الدَّوَابِّ وَدَفْنِ الْمَوْتَى وَإِلْقَاءِ التُّرَابِ، فَإِنِ اتَّصَل بِالْمِصْرِ اعْتُبِرَتْ مُجَاوَزَتُهُ لاَ إِنِ انْفَصَل بِمَزْرَعَةٍ بِقَدْرِ ثَلاَثِمِائَةِ إِلَى أَرْبَعِمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَالْقَرْيَةُ الْمُتَّصِلَةُ بِالْفِنَاءِ دُونَ الرُّبَضِ لاَ تُعْتَبَرُ مُجَاوَزَتُهَا عَلَى الصَّحِيحِ.
وَالْمُعْتَبَرُ الْمُجَاوَزَةُ مِنَ الْجَانِبِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى لَوْ جَاوَزَ عُمْرَانَ الْمِصْرِ قَصَرَ، وَإِنْ كَانَ بِحِذَائِهِ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ أَبْنِيَةٌ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ مُجَاوَزَةَ الْبَسَاتِينِ إِذَا سَافَرَ مِنْ نَاحِيَتِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ نَاحِيَتِهَا وَإِنْ مُحَاذِيًا لَهَا، وَإِلاَّ فَيَقْصُرُ بِمُجَرَّدِ مُجَاوَزَةِ الْبُيُوتِ.

(25/31)


وَقَال الْبُنَانِيُّ: لاَ يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَةُ الْبَسَاتِينِ إِلاَّ إِذَا سَافَرَ مِنْ نَاحِيَتِهَا، وَإِنْ سَافَرَ مِنْ غَيْرِ نَاحِيَتِهَا فَلاَ تُشْتَرَطُ مُجَاوَزَتُهَا وَلَوْ كَانَ مُحَاذِيًا لَهَا إِذْ غَايَةُ الْبَسَاتِينِ أَنْ تَكُونَ كَجُزْءٍ مِنَ الْبَلَدِ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: مِثْل الْبَسَاتِينِ الْمَسْكُونَةِ الْقَرْيَتَانِ اللَّتَانِ يَرْتَفِقُ أَهْل أَحَدِهِمَا بِأَهْل الأُْخْرَى بِالْفِعْل، وَإِلاَّ فَكُل قَرْيَةٍ تُعْتَبَرُ بِمُفْرَدِهَا، وَإِذَا كَانَ بَعْضُ سَاكِنِيهَا يَرْتَفِقُ بِالْبَلَدِ الأُْخْرَى كَالْجَانِبِ الأَْيْمَنِ دُونَ الآْخَرِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَهَا كُلَّهَا كَحُكْمِ الْمُتَّصِلَةِ. ثُمَّ إِنَّ الْعِبْرَةَ عِنْدَهُمْ بِالْبَسَاتِينِ الْمُتَّصِلَةِ وَلَوْ حُكْمًا بِأَنْ يَرْتَفِقَ سُكَّانُهَا بِالْبَلَدِ الْمَسْكُونَةِ بِالأَْهْل وَلَوْ فِي بَعْضِ الْعَامِّ ارْتِفَاقَ الاِتِّصَال، مِنْ نَارٍ وَطَبْخٍ وَخَبْزٍ.
أَمَّا الْبَسَاتِينُ الْمُنْفَصِلَةُ أَوْ غَيْرُ الْمَسْكُونَةِ فَلاَ عِبْرَةَ بِهَا، وَلاَ عِبْرَةَ أَيْضًا بِالْحَارِسِ وَالْعَامِل فِيهَا.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِلْبَلَدِ سُورٌ فَأَوَّل سَفَرِهِ مُجَاوَزَةُ سُورِهَا، وَلَوْ مُتَعَدِّدًا أَوْ كَانَ دَاخِلَهُ مَزَارِعُ أَوْ خَرَابٌ؛ إِذْ مَا فِي دَاخِل السُّورِ مَعْدُودٌ مِنْ نَفْسِ الْبَلَدِ مَحْسُوبٌ مِنْ مَوْضِعِ الإِْقَامَةِ. وَإِنْ كَانَ لَهَا بَعْضُ سُورٌ وَهُوَ صَوْبُ مَقْصِدِهِ اشْتُرِطَتْ مُجَاوَزَتُهُ، وَلَوْ كَانَ السُّورُ مُتَهَدِّمًا وَبَقِيَتْ لَهُ بَقَايَا اشْتُرِطَتْ مُجَاوَزَتُهُ أَيْضًا وَإِلاَّ فَلاَ. وَالْخَنْدَقُ فِي الْبَلْدَةِ

(25/31)


الَّتِي لاَ سُورَ لَهَا كَالسُّورِ، وَبَعْضُهُ كَبَعْضِهِ، وَلاَ أَثَرَ لَهُ مَعَ وُجُودِ السُّورِ. وَيَلْحَقُ بِالسُّورِ تَحْوِيطَةُ أَهْل الْقُرَى عَلَيْهَا بِتُرَابٍ وَنَحْوِهِ. وَلاَ تُشْتَرَطُ مُجَاوَزَةُ الْعِمَارَةِ وَرَاءَ السُّورِ فِي الأَْصَحِّ لِعَدَمِ عَدِّهَا مِنَ الْبَلَدِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْبَلَدِ سُوْرٌ أَصْلاً، أَوْ فِي جِهَةِ مَقْصِدِهِ، أَوْ كَانَ لَهَا سُورٌ غَيْرُ خَاصٍّ بِهَا، وَكَقُرَى مُتَفَاصِلَةٍ جَمَعَهَا سُورٌ وَلَوْ مَعَ التَّقَارُبِ، فَأَوَّل سَفَرِهِ مُجَاوَزَةُ الْعُمْرَانِ. وَلَوْ تَخَلَّلَهُ خَرَابٌ لاَ أُصُول أَبْنِيَةٍ بِهِ أَوْ نَهْرٌ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَتُهُ لِكَوْنِهِ مَحَل الإِْقَامَةِ، أَمَّا الْخَرَابُ خَارِجَ الْعُمْرَانِ الَّذِي لَمْ تَبْقَ أُصُولُهُ أَوْ هَجَرُوهُ بِالتَّحْوِيطِ عَلَيْهِ أَوِ اتَّخَذُوهُ مَزَارِعَ فَلاَ تُشْتَرَطُ مُجَاوَزَتُهُ، كَمَا لاَ تُشْتَرَطُ مُجَاوَزَةُ الْبَسَاتِينِ وَالْمَزَارِعِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَإِنِ اتَّصَلَتْ بِمَا سَافَرَ مِنْهُ أَوْ كَانَتْ مَحُوطَةً لأَِنَّهَا لاَ تُتَّخَذُ لِلإِْقَامَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ بِهَا قُصُورٌ أَمْ دُورٌ تُسْكَنُ فِي بَعْضِ فُصُول السَّنَةِ أَوْ لاَ. وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْقَرْيَتَيْنِ الْمُتَّصِلَتَيْنِ عُرْفًا كَبَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنِ اخْتَلَفَ اسْمُهُمَا وَإِلاَّ اكْتَفَى بِمُجَاوَزَةِ قَرْيَةِ الْمُسَافِرِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ تُشْتَرَطُ مُفَارَقَةُ بُيُوتِ قَرْيَتِهِ الْعَامِرَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ دَاخِل السُّورِ أَوْ خَارِجَهُ، فَيَقْصُرُ إِذَا فَارَقَهَا بِمَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُفَارَقَةِ بِنَوْعِ الْبُعْدِ عُرْفًا؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَبَاحَ الْقَصْرَ لِمَنْ ضَرَبَ فِي الأَْرْضِ. وَقَبْل

(25/32)


مُفَارَقَتِهِ مَا ذُكِرَ لاَ يَكُونُ ضَارِبًا فِيهَا وَلاَ مُسَافِرًا؛ وَلأَِنَّ ذَلِكَ أَحَدُ طَرَفَيِ السَّفَرِ أَشْبَهَ حَالَةَ الاِنْتِهَاءِ.
وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَ يَقْصُرُ إِذَا ارْتَحَل، وَلاَ تُعْتَبَرُ مُفَارَقَةُ الْخَرَابِ وَإِنْ كَانَتْ حِيطَانُهُ قَائِمَةً إِنْ لَمْ يَلِهِ عَامِرٌ فَإِنْ وَلِيَهُ عَامِرٌ اعْتُبِرَتْ مُفَارَقَةُ الْجَمِيعِ. وَكَذَا لَوْ جُعِل الْخَرَابُ مَزَارِعَ وَبَسَاتِينَ يَسْكُنُهُ أَهْلُهُ وَلَوْ فِي فَصْل النُّزْهَةِ فَلاَ يَقْصُرُ حَتَّى يُفَارِقَهُ. وَلَوْ كَانَتْ قَرْيَتَانِ مُتَدَانِيَتَيْنِ وَاتَّصَل بِنَاءُ إِحْدَاهُمَا بِالأُْخْرَى فَهُمَا كَالْوَاحِدَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِل فَلِكُل قَرْيَةٍ حُكْمُ نَفْسِهَا.
وَأَمَّا مَسَاكِنُ الْخِيَامِ فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ أَوَّل سَفَرِهِ مُجَاوَزَةُ حِلَّتِهِ. قَال الشَّافِعِيَّةُ الْحِلَّةُ بُيُوتٌ مُجْتَمَعَةٌ أَوْ مُتَفَرِّقَةٌ بِحَيْثُ يَجْتَمِعُ أَهْلُهَا لِلسَّمَرِ فِي نَادٍ وَاحِدٍ، وَيَسْتَعِيرُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْحِلَّةُ مَنْزِل قَوْمِهِ، فَالْحِلَّةُ وَالْمَنْزِل بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَمَذْهَبُهُمْ أَنَّهُ تُشْتَرَطُ مُفَارَقَةُ بُيُوتِ الْحِلَّةِ وَلَوْ تَفَرَّقَتْ، حَيْثُ جَمَعَهُمُ اسْمُ الْحَيِّ وَالدَّارِ أَوِ الدَّارِ فَقَطْ، بِمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا جَمَعَهُمُ اسْمُ الْحَيِّ وَالدَّارِ أَوِ الدَّارِ فَقَطْ فَإِنَّهُ لاَ يَقْصُرُ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ إِلاَّ إِذَا جَاوَزَ جَمِيعَ

(25/32)


الْبُيُوتِ. وَأَمَّا لَوْ جَمَعَهُمُ اسْمُ الْحَيِّ فَقَطْ دُونَ الدَّارِ بِأَنْ كَانَتْ كُل فِرْقَةٍ فِي دَارٍ فَإِنَّهَا تُعْتَبَرُ كُل دَارٍ عَلَى حِدَتِهَا حَيْثُ كَانَ لاَ يَرْتَفِقُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَإِلاَّ فَهُمْ كَأَهْل الدَّارِ الْوَاحِدَةِ. وَكَذَا إِذَا لَمْ يَجْمَعْهُمُ اسْمُ الْحَيِّ وَالدَّارِ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ إِذَا جَاوَزَ بُيُوتَ حِلَّتِهِ هُوَ. وَالْمُرَادُ بِالْحَيِّ عِنْدَهُمُ الْقَبِيلَةُ، وَبِالدَّارِ الْمَنْزِل الَّذِي يَنْزِلُونَ فِيهِ. وَمَحَل مُجَاوَزَةِ الْحِلَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ كَانَ بِمُسْتَوٍ.
فَإِنْ كَانَتْ بَوَادٍ وَمُسَافِرٌ فِي عَرْضِهِ، أَوْ بِرَبْوَةٍ أَوْ وَحْدَةٍ، اشْتُرِطَتْ مُجَاوَزَةُ الْعَرْضِ وَمَحَل الصُّعُودِ وَالْهُبُوطِ إِنْ كَانَتِ الثَّلاَثَةُ مُعْتَدِلَةً، وَإِلاَّ بِأَنْ أَفْرَطَتْ سَعَتُهَا أَوْ كَانَتْ بِبَعْضِ الْعَرْضِ اكْتُفِيَ بِمُجَاوَزَةِ الْحِلَّةِ. قَالُوا: وَلاَ بُدَّ مِنْ مُجَاوَزَةِ مَرَافِقِهَا أَيْضًا كَمَلْعَبِ صِبْيَانٍ وَنَادٍ وَمَطْرَحِ رَمَادٍ وَمَعْطِنِ إِبِلٍ، وَكَذَا مَاءٌ وَحَطَبٌ اخْتَصَّا بِهَا.
وَأَمَّا سَاكِنُ الْجِبَال وَمَنْ نَزَل بِمَحَلٍّ فِي بَادِيَةٍ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي سَفَرِهِ مُجَاوَزَةُ مَحَلِّهِ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ سُكَّانَ الْبَسَاتِينِ وَنَحْوَهُمْ كَأَهْل الْعِزَبِ يُشْتَرَطُ فِي سَفَرِهِمِ الاِنْفِصَال عَنْ مَسَاكِنِهِمْ.

(25/33)


قَال الْمَالِكِيَّةُ: سَوَاءٌ أَكَانَتْ تِلْكَ الْبَسَاتِينُ مُتَّصِلَةً بِالْبَلَدِ أَمْ مُنْفَصِلَةً عَنْهَا. وَاعْتَبَرَ الْحَنَابِلَةُ الْعُرْفَ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: لِيَصِيرُوا مُسَافِرِينَ لاَ بُدَّ مِنْ مُفَارَقَةِ مَا نُسِبُوا إِلَيْهِ بِمَا يُعَدُّ مُفَارَقَةً عُرْفًا.
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي سَفَرِ الْبَحْرِ الْمُتَّصِل سَاحِلُهُ بِالْبَلَدِ جَرْيُ السَّفِينَةِ أَوِ الزَّوْرَقِ إِلَيْهَا. قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَإِنْ كَانَ فِي هَوَاءِ الْعُمْرَانِ كَمَا اقْتَضَاهُ إِطْلاَقُهُمْ (1) .

د - أَلاَّ يَكُونَ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ:
10 - اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الرَّاجِحِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي السَّفَرِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الأَْحْكَامُ أَلاَّ يَكُونَ الْمُسَافِرُ عَاصِيًا بِسَفَرِهِ كَقَاطِعِ طَرِيقٍ وَنَاشِزَةٍ وَعَاقٍّ وَمُسَافِرٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ قَادِرٌ عَلَى وَفَائِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ غَرِيمِهِ.
إِذْ مَشْرُوعِيَّةُ التَّرَخُّصِ فِي السَّفَرِ لِلإِْعَانَةِ.
وَالْعَاصِي لاَ يُعَانُ؛ لأَِنَّ الرُّخَصَ لاَ تُنَاطُ بِالْمَعَاصِي، وَمِثْلُهُ مَا إِذَا انْتَقَل مِنْ سَفَرِهِ الْمُبَاحِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 525 دار إحياء التراث العربي، الفتاوى الهندية 1 / 139 المطبعة الأميرية 1310 هـ، حاشية الدسوقي 1 / 359 دار الفكر، نهاية المحتاج 2 / 252 ط مصطفى الحلبي 1967م. كشاف القناع 1 / 507 عالم الكتب.

(25/33)


إِلَى سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ بِأَنْ أَنْشَأَ سَفَرًا مُبَاحًا ثُمَّ قَصَدَ سَفَرًا مُحَرَّمًا.
وَالْمُرَادُ بِالْمُسَافِرِ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ أَوْ سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ أَنْ يَكُونَ الْحَامِل عَلَى السَّفَرِ نَفْسَ الْمَعْصِيَةِ كَمَا فِي الأَْمْثِلَةِ السَّابِقَةِ. وَقَدْ أَلْحَقَ الْحَنَابِلَةُ بِسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ السَّفَرَ الْمَكْرُوهَ فَلاَ يَتَرَخَّصُ الْمُسَافِرُ عِنْدَهُمْ إِذَا كَانَ مُسَافِرًا لِفِعْلٍ مَكْرُوهٍ، وَفِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ خِلاَفٌ فِي التَّرَخُّصِ فِي السَّفَرِ الْمَكْرُوهِ فَقِيل بِالْمَنْعِ وَقِيل بِالْجَوَازِ. قَال ابْنُ شَعْبَانَ: إِنْ قَصَرَ لَمْ يُعِدْ لِلاِخْتِلاَفِ فِيهِ.
ثُمَّ إِنَّهُ مَتَى تَابَ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ فِي أَثْنَائِهِ فَإِنَّهُ يَتَرَخَّصُ بِسَفَرِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مَعْصِيَةٌ. وَيَكُونُ أَوَّل سَفَرِهِ مِنْ حِينِ التَّوْبَةِ.
وَعَلَى هَذَا فَإِنْ كَانَ بَيْنَ مَحَل التَّوْبَةِ وَمَقْصِدِهِ مَرْحَلَتَانِ قَصَرَ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دُونَهَا فَلاَ قَصْرَ. وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْمَالِكِيَّةُ لِذِكْرِ الْمَسَافَةِ فِي حَال التَّوْبَةِ.
وَعِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ التَّرَخُّصُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ، فَلِلْمُسَافِرِ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ أَنْ يَتَرَخَّصَ بِرُخَصِ السَّفَرِ

(25/34)


كُلِّهَا لإِِطْلاَقِ نُصُوصِ الرُّخَصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلاَةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ (2) قَالُوا: وَلأَِنَّ الْقَبِيحَ الْمُجَاوِرَ - أَيِ الْمَعْصِيَةَ - لاَ يُعْدِمُ الْمَشْرُوعِيَّةَ، بِخِلاَفِ الْقَبِيحِ لِعَيْنِهِ وَضْعًا كَالْكُفْرِ، أَوْ شَرْعًا كَبَيْعِ الْحُرِّ، فَإِنَّهُ يُعْدِمُ الْمَشْرُوعِيَّةَ.
كَمَا أَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَيْسَتْ سَبَبًا لِلرُّخْصَةِ وَالسَّبَبُ هُوَ السَّفَرُ، وَالْمَعْصِيَةُ لَيْسَتْ عَيْنَ السَّفَرِ، وَقَدْ وُجِدَ السَّفَرُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الرُّخْصَةِ.
وَأَمَّا الْعَاصِي فِي سَفَرِهِ وَهُوَ مَنْ يَقْصِدُ سَفَرًا مُبَاحًا ثُمَّ تَطْرَأُ عَلَيْهِ مَعْصِيَةٌ يَرْتَكِبُهَا فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَتَرَخَّصُ فِي سَفَرِهِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ السَّفَرَ لِلْمَعْصِيَةِ وَلأَِنَّ سَبَبَ تَرَخُّصِهِ - وَهُوَ السَّفَرُ - مُبَاحٌ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا (3) .
__________
(1) سورة البقرة / 184.
(2) حديث ابن عباس: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع ركعات وفي السفر ركعتين. أخرجه مسلم (1 / 479 - ط الحلبي) .
(3) تيسير التحرير 2 / 304 ط مصطفى الحلبي 1350 هـ حاشية ابن عابدين 1 / 527، دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي 1 / 358 دار الفكر، مواهب الجليل 2 / 140 دار الفكر، نهاية المحتاج 2 / 263 ط مصطفى الحلبي 1967م. كشاف القناع 1 / 505، 506، عالم الكتب 1983.

(25/34)


الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَغَيَّرُ فِي السَّفَرِ:
الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَغَيَّرُ فِي السَّفَرِ مِنْهَا مَا يَكُونُ لِلتَّخْفِيفِ عَنِ الْمُسَافِرِ، وَمِنْهَا مَا لاَ يَكُونُ كَذَلِكَ.

أَوَّلاً: مَا يَكُونُ لِلتَّخْفِيفِ عَنِ الْمُسَافِرِ:
أ - امْتِدَادُ مُدَّةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ:
11 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ السَّفَرَ يَمُدُّ مُدَّةَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ.
لِمَا رَوَى شُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ قَال: سَأَلْتُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَتْ: سَل عَلِيًّا، فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلْتُهُ فَقَال: جَعَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ (1) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْمُسَافِرَ الْعَاصِيَ بِسَفَرِهِ يَمْسَحُ مُدَّةَ الْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً؛ لأَِنَّهُ مُقِيمٌ حُكْمًا. وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ الْمَسْحَ ثَلاَثَةَ
__________
(1) حديث: " جعل رسول الله ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم ". أخرجه مسلم (1 / 232 - ط الحلبي) .

(25/35)


أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ مِنَ الزَّمَنِ مَا لَمْ يَخْلَعْهُ أَوْ يَحْدُثْ لَهُ مَا يُوجِبُ الْغُسْل، وَنَحْوُهُ اخْتِيَارُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُسَافِرِ الَّذِي يَشُقُّ اشْتِغَالُهُ بِالْخَلْعِ وَاللُّبْسِ، كَالْبَرِيدِ الْمُجَهَّزِ فِي مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مَسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ) .

ب - قَصْرُ الصَّلاَةِ وَجَمْعُهَا:
12 - أَجْمَعُ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ قَصْرِ الصَّلاَةِ فِي السَّفَرِ (2) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (3) وَلِمَا رَوَى يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 180 دار إحياء التراث العربي، الفتاوى الهندية 1 / 33 المطبعة الأميرية 1310 هـ مواهب الجليل 1 / 320 دار الفكر 1978 وانظر القوانين الفقهية ص (30) ، كفاية الطالب الرباني 1 / 207 دار المعرفة، القليوبي وعميرة 1 / 57 ط عيسى الحلبي، كشاف القناع 1 / 114 عالم الكتب 1983م. والاختيارات للبعلي ص (15) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 527، حاشية الدسوقي 1 / 360، قليوبي وعميرة 1 / 255، كشاف القناع 1 / 3.
(3) سورة النساء / 101.

(25/35)


قَال: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ. قَال. عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَال: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ (1) . وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ السَّفَرَ مِنَ الأَْعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِجَمْعِ الصَّلَوَاتِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ فَرِيضَتَيْنِ إِلاَّ فِي عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ. فَيُجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِعَرَفَةَ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَة الْمُسَافِرِ) .

ج - سُقُوطُ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الإِْقَامَةَ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ، وَعَلَى هَذَا فَلاَ تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى الْمُسَافِرِ لِقَوْل النَّبِيِّ: مَنْ كَانَ
__________
(1) حديث: " صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته ". أخرجه مسلم (1 / 478 - ط الحلبي) .
(2) بدائع الصنائع 1 / 126، حاشية الدسوقي 1 / 368، القليوبي وعميرة 1 / 264 كشاف القناع 2 / 5.

(25/36)


يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، إِلاَّ مَرِيضٌ أَوْ مُسَافِرٌ أَوِ امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيٌّ أَوْ مَمْلُوكٌ (1) وَلأَِنَّ النَّبِيَّ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُسَافِرُونَ فِي الْجَمْعِ وَغَيْرِهِ فَلَمْ يُصَل أَحَدٌ مِنْهُمُ الْجُمُعَةَ فِيهِ مَعَ اجْتِمَاعِ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ، وَلأَِنَّ الْمُسَافِرَ يُحْرَجُ فِي حُضُورِ الْجُمُعَةِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَة الْجُمُعَةِ) .

د - التَّنَفُّل عَلَى الرَّاحِلَةِ:
14 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ التَّنَفُّل عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ (3) (4) ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَطَوُّع) .
__________
(1) حديث: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة ". أخرجه الدارقطني (2 / 3 - ط دار المحاسن) من حديث جابر بن عبد الله وفي إسناده مقال، ولكن له شواهد يتقوى بها أوردها ابن حجر في التلخيص (2 / 65 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) البحر الرائق 2 / 163 دار المعرفة الطبعة الثانية، كفاية الطالب الرباني 1 / 333 دار المعرفة، قليوبي وعميرة 1 / ط عيسى الحلبي، نهاية المحتاج 2 / 285 ط مصطفى الحلبي 1967م، كشاف القناع 2 / 23 عالم الكتب 1983م.
(3) فتح القدير 2 / 272، حاشية الدسوقي 1 / 534، شرح روض الطالب 1 / 422، كشاف القناع 2 / 311.
(4) حديث: " كان يوتر على البعير ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 488 - ط السلفية) ومسلم (1 / 487 - ط الحلبي) .

(25/36)


هـ - جَوَازُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ:
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ بِشُرُوطِهِ السَّابِقَةِ هُوَ مِنَ الأَْعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِلْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ، فَيَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُفْطِرَ فِي رَمَضَانَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَوْم) .

ثَانِيًا: أَحْكَامُ السَّفَرِ لِغَيْرِ التَّخْفِيفِ:
أ - حُكْمُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِالْمُسَافِرِ:
16 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ الاِسْتِيطَانَ، فَلاَ تَصِحُّ الْجُمُعَةُ بِالْمُسَافِرِ وَلاَ تَنْعَقِدُ بِهِ، أَيْ لاَ يَكْمُل بِهِ نِصَابُهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِالْمُسَافِرِ (3) .
__________
(1) سورة البقرة / 185.
(2) حديث: " ليس من البر الصوم في السفر ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 183 - ط السلفية) ومسلم (2 / 786 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله واللفظ للبخاري.
(3) ابن عابدين 1 / 548، كفاية الطالب الرباني 1 / 329، نهاية المحتاج 2 / 306، كشاف القناع 2 / 27.

(25/37)


وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةِ الْجُمُعَةِ) .

ب - تَحْرِيمُ السَّفَرِ عَلَى الْمَرْأَةِ إِلاَّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ:
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تُسَافِرَ بِمُفْرَدِهَا، وَأَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ وُجُودِ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ مَعَهَا (1) . لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ (2) ، وَلِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا: لاَ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، وَلاَ يَدْخُل عَلَيْهَا رَجُلٌ إِلاَّ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ، فَقَال رَجُلٌ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ فِي جَيْشِ كَذَا وَكَذَا، وَامْرَأَتِي تُرِيدُ الْحَجَّ. قَال: اخْرُجْ مَعَهَا (3) .
18 - وَيُسْتَثْنَى مِنْ مَنْعِ سَفَرِ الْمَرْأَةِ بِدُونِ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ. الْمُهَاجِرَةُ وَالأَْسِيرَةُ. فَقَدِ اتَّفَقَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 146 دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي 2 / 9 دار الفكر، نهاية المحتاج 3 / 250 ط مصطفى الحلبي 1967م، كشاف القناع 2 / 394 عالم الكتب 1983م.
(2) حديث: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر. . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 566 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث: " لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 72 - ط السلفية) .

(25/37)


الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَزِمَهَا الْخُرُوجُ مِنْهَا إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَكَذَا إِذَا أَسَرَهَا الْكُفَّارُ وَأَمْكَنَهَا أَنْ تَهْرُبَ مِنْهُمْ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ، وَلاَ يَعْتَبِرُ الْحَنَفِيَّةُ خُرُوجَ الْمَرْأَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ سَفَرًا. قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: لأَِنَّهَا لاَ تَقْصِدُ مَكَانًا مُعَيَّنًا بَل النَّجَاةَ خَوْفًا مِنَ الْفِتْنَةِ، فَقَطْعُهَا الْمَسَافَةَ كَقَطْعِ السَّائِحِ.
وَلِذَا إِذَا وَجَدَتْ مَأْمَنًا كَعَسْكَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ أَنْ تُقِرَّ وَلاَ تُسَافِرَ إِلاَّ بِزَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ. عَلَى أَنَّهَا لَوْ قَصَدَتْ مَكَانًا مُعَيَّنًا لاَ يُعْتَبَرُ قَصْدُهَا وَلاَ يَثْبُتُ السَّفَرُ بِهِ؛ لأَِنَّ حَالَهَا - وَهُوَ ظَاهِرُ قَصْدِ مُجَرَّدِ التَّخَلُّصِ - يُبْطِل تَحْرِيمَتَهَا.
قَال الدُّسُوقِيُّ: إِنْ كَانَ يَحْصُل لَهَا ضَرَرٌ بِكُلٍّ مِنْ إقَامَتِهَا وَخُرُوجِهَا دُونَ رُفْقَةٍ مَأْمُونَةٍ، خُيِّرَتْ إِنْ تَسَاوَى الضَّرَرَانِ (1) .
كَمَا أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُسَافِرَ لِلْحَجِّ الْوَاجِبِ مَعَ الرُّفْقَةِ الْمَأْمُونَةِ.
وَلَمْ يَقُل بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ رُفْقَة ف 9
__________
(1) فتح القدير 2 / 331، مواهب الجليل 2 / 522، حاشية الدسوقي 2 / 9، مغني المحتاج 1 / 467.

(25/38)


(22 299) وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ بِالْحَجِّ سَفَرَهَا الْوَاجِبَ، فَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ مَعَ الرُّفْقَةِ الْمَأْمُونَةِ مِنَ النِّسَاءِ الثِّقَاتِ فِي كُل سَفَرٍ يَجِبُ عَلَيْهَا.
قَال الْبَاجِيُّ: وَلَعَل هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِنَّمَا هُوَ فِي الاِنْفِرَادِ وَالْعَدَدِ الْيَسِيرِ، فَأَمَّا فِي الْقَوَافِل الْعَظِيمَةِ وَالطُّرُقِ الْمُشْتَرَكَةِ الْعَامِرَةِ الْمَأْمُونَةِ فَإِنَّهَا عِنْدِي مِثْل الْبِلاَدِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الأَْسْوَاقُ وَالتُّجَّارُ فَإِنَّ الأَْمْنَ يَحْصُل لَهَا دُونَ ذِي مَحْرَمٍ وَلاَ امْرَأَةٍ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ الأَْوْزَاعِيِّ. قَال الْحَطَّابُ: وَذَكَرَهُ الزَّنَاتِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ عَلَى أَنَّهُ الْمَذْهَبُ فَيُقَيَّدُ بِهِ كَلاَمُ غَيْرِهِ. أَمَّا سَفَرُهَا فِي التَّطَوُّعِ فَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ (1) .
كَمَا أَجَازَ الْفُقَهَاءُ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فِي سَفَرِهَا أَنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ فِي السَّفَرِ، فَإِنْ كَانَ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا فَإِنَّهَا تَتْبَعُ زَوْجَهَا حَيْثُ مَضَى لأَِنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ، وَإِنْ كَانَ بَائِنًا أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ كُلٍّ مِنْ مِصْرِهَا وَمَقْصِدِهَا أَقَل مِنَ السَّفَرِ، فَإِنْ شَاءَتْ مَضَتْ
__________
(1) مواهب الجليل 2 / 524، المنتقى شرح الموطأ للباجي 3 / 82 - 83.

(25/38)


إِلَى الْمَقْصِدِ وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي مِصْرٍ أَوْ لاَ، مَعَهَا مَحْرَمٌ أَوْ لاَ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إنْشَاءُ سَفَرٍ، وَخُرُوجُ الْمُطَلَّقَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مَا دُونَ السَّفَرِ مُبَاحٌ إِذَا مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ بِمَحْرَمٍ وَبِغَيْرِهِ، إِلاَّ أَنَّ الرُّجُوعَ أَوْلَى لِيَكُونَ الاِعْتِدَادُ فِي مَنْزِل الزَّوْجِ. فَإِنْ كَانَتْ مَسَافَةُ أَحَدِهِمَا أَقَل تَعَيَّنَ، وَنَحْوُهُ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مُضِيَّهَا فِي سَفَرِهَا لاَ يَجُوزُ إِلاَّ إِذَا كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ، لَكِنْ إِنْ كَانَ فِي رُجُوعِهَا خَوْفٌ أَوْ ضَرَرٌ فَلَهَا الْمُضِيُّ فِي سَفَرِهَا.
وَأَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَيْهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلِهَا إِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنَ الْعِدَّةِ وَلَكِنْ مَعَ ثِقَةٍ وَلَوْ غَيْرَ مَحْرَمٍ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الأَْفْضَل عَوْدُ الْمَرْأَةِ إِلَى بَيْتِهَا وَلاَ يَلْزَمُهَا ذَلِكَ إِنْ مَاتَ زَوْجُهَا وَهُمَا فِي السَّفَرِ (1) .

حُكْمُ السَّفَرِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ السَّفَرِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الزَّوَال لِمَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ؛ لأَِنَّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 146، فتح القدير 4 / 168، حاشية الدسوقي 2 / 485، شرح الروض الطالب 3 / 404.

(25/39)


وُجُوبَهَا تَعَلَّقَ بِهِ بِمُجَرَّدِ دُخُول الْوَقْتِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ تَفْوِيتُهُ. وَالْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِيَّةُ، وَحَدَّدُوا ذَلِكَ بِالنِّدَاءِ الأَْوَّل. وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا تَمَكَّنَ الْمُسَافِرُ مِنْ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ فِي طَرِيقِهِ أَوْ مَقْصِدِهِ، فَلاَ يَحْرُمُ حِينَئِذٍ لِحُصُول الْمَقْصُودِ بِذَلِكَ. كَمَا اسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ التَّضَرُّرَ مِنْ فَوْتِ الرُّفْقَةِ، فَلاَ يَحْرُمُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ.
وَأَمَّا السَّفَرُ قَبْل الزَّوَال، فَهُوَ مَحَل خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ السَّفَرِ قَبْل الزَّوَال؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ سَافَرَ مِنْ دَارِ إقَامَةٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دَعَتْ عَلَيْهِ الْمَلاَئِكَةُ أَنْ لاَ يُصْحَبَ فِي سَفَرِهِ، وَلاَ يُعَانَ فِي حَاجَتِهِ (1)
قَال الْمَالِكِيَّةُ: بَعْدَ فَجْرِ يَوْمِهَا عَلَى الْمَشْهُورِ خِلاَفًا لِمَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ بِإِبَاحَتِهِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَبْل
__________
(1) حديث: " من سافر من دار إقامة يوم الجمعة دعت عليه الملائكة. . ". أخرجه ابن النجار كما في كنز العمال (6 / 715 - ط الرسالة) وذكره بلفظ مقارب ابن حجر في التلخيص (2 / 66 - ط شركة الطباعة) وعزاه إلى الدارقطني في الإفراد ولمح إلى تضعيفه.

(25/39)


الزَّوَال إِلاَّ إِذَا أَتَى بِهَا فِي طَرِيقِهِ فَلاَ يُكْرَهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ السَّفَرِ قَبْل الزَّوَال بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ، وَكَذَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى تَحْرِيمِ السَّفَرِ قَبْل الزَّوَال أَيْضًا - وَأَوَّلُهُ الْفَجْرُ - لِوُجُوبِ السَّعْيِ عَلَى بَعِيدِ الْمَنْزِل قَبْلَهُ، وَالْجُمُعَةُ مُضَافَةٌ إِلَى الْيَوْمِ. فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْجُمُعَةُ فِي طَرِيقِهِ أَوْ تَضَرَّرَ بِتَخَلُّفِهِ جَازَ وَإِلاَّ فَلاَ. وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ مُبَاحًا أَوْ طَاعَةً فِي الأَْصَحِّ (1) .
كَمَا يُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ السَّفَرُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِخَبَرِ مَنْ سَافَرَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ دَعَا عَلَيْهِ مَلَكَاهُ (2) .

سَفَرُ الْمَدِينِ:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ - فِي الْجُمْلَةِ - عَلَى أَنَّهُ
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح 283 حاشية ابن عابدين 1 / 553، حاشية الدسوقي 1 / 387، نهاية المحتاج 2 / 291، مغني المحتاج 1 / 278، كشاف القناع 2 / 25.
(2) حديث: " من سافر ليلة الجمعة دعا عليه ملكاه ". قال العراقي: " رواه الخطيب في الرواة عن مالك من حديث أبي هريرة بسند ضعيف جدا: (إتحاف السادة المتقين 3 / 302) .

(25/40)


لَيْسَ لِمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ أَنْ يُسَافِرَ بِغَيْرِ إِذْنِ دَائِنِهِ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ لِلدَّائِنِ أَنْ يَمْنَعَ الْمَدِينَ مِنَ السَّفَرِ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّل إِلاَّ إِذَا كَانَ سَفَرُهُ طَوِيلاً وَيَحِل الدَّيْنُ فِي أَثْنَائِهِ.
وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ أَجَازُوا لَهُ السَّفَرَ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا وَلَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ السَّفَرَ إِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلاً مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَ الأَْجَل قَرِيبًا أَمْ بَعِيدًا (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (غَرِيم) (وَدَيْن) .

آدَابُ السَّفَرِ:
21 - لِلسَّفَرِ آدَابٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا:
(1) إِذَا اسْتَقَرَّ عَزْمُ الْمُسَافِرِ عَلَى السَّفَرِ لِحَجٍّ أَوْ غَزْوٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ بِالتَّوْبَةِ مِنْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 318، حاشية الدسوقي 2 / 175، مواهب الجليل 3 / 349، روضة الطالبين 4 / 136، 10 / 210 كشاف القناع 3 / 44.

(25/40)


جَمِيعِ الْمَعَاصِي، وَيَخْرُجَ مِنْ مَظَالِمِ الْخَلْقِ، وَيَقْضِيَ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ دُيُونِهِمْ، وَيَرُدَّ الْوَدَائِعَ، وَيَسْتَحِل كُل مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مُعَامَلَةٌ فِي شَيْءٍ أَوْ مُصَاحَبَةٌ، وَيَكْتُبَ وَصِيَّتَهُ وَيُشْهِدَ عَلَيْهَا، وَيُوَكِّل مَنْ يَقْضِي مَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ قَضَائِهِ مِنْ دُيُونِهِ، وَيَتْرُكَ نَفَقَةً لأَِهْلِهِ وَمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ إِلَى حِينِ رُجُوعِهِ.
وَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَسْتَخِيرَ اللَّهَ تَعَالَى فَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ غَيْرَ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ يَدْعُوَ بِدُعَاءِ الاِسْتِخَارَةِ يُنْظَرُ (اسْتِخَارَة) وَيَنْبَغِي إِرْضَاءُ وَالِدَيْهِ وَمَنْ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ بِرُّهُ وَطَاعَتُهُ.

(2) يُسْتَحَبُّ أَنْ يُرَافِقَ فِي سَفَرِهِ مَنْ هُوَ مُوَافِقٌ رَاغِبٌ فِي الْخَيْرِ كَارِهًا لِلشَّرِّ، إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُرَافِقَ فِي سَفَرِهِ جَمَاعَةً؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: " قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أَنَّ النَّاسَ يَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مِنَ الْوَحْدَةِ مَا سَرَى رَاكِبٌ بِلَيْلٍ. يَعْنِي وَحْدَهُ (1) .

(3) يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ سَفَرُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَإِنْ فَاتَهُ فَيَوْمَ الاِثْنَيْنِ، وَأَنْ يَكُونَ بَاكِرًا، وَدَلِيل
__________
(1) حديث: " لو أن الناس يعلمون ما أعلم في الوحدة ". أخرجه الترمذي (4 / 193 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح ".

(25/41)


الْخَمِيسِ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ (1) وَفِي رِوَايَةٍ: أَقَل مَا كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ إِلاَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَدَلِيل يَوْمِ الاِثْنَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ (2) وَدَلِيل الْبُكُورِ حَدِيثُ صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُِمَّتِي فِي بُكُورِهَا. قَال: وَكَانَ إِذَا بَعَثَ جَيْشًا أَوْ سَرِيَّةً بَعَثَهُمْ أَوَّل النَّهَارِ، وَكَانَ صَخْرٌ تَاجِرًا وَكَانَ إِذَا بَعَثَ تُجَّارَهُ بَعَثَهُمْ أَوَّل النَّهَارِ، فَأَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ (3) .
وَيُسْتَحَبُّ السُّرَى فِي آخِرِ اللَّيْل لِحَدِيثِ أَنَسٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْكُمْ بِالدُّلْجَةِ فَإِنَّ الأَْرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْل (4) .
__________
(1) حديث: " كان يحب أن يخرج يوم الخميس ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 113 - ط السلفية) من حديث كعب بن مالك.
(2) حديث: " هاجر من مكة يوم الإثنين ". أخرجه أحمد (1 / 277 - ط الميمنية) والطبراني في الكبير (12 / 237 - ط الوطن العربي) من حديث ابن عباس، وقال الهيثمي: " وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف، وبقية رجاله ثقات من أهل الصحيح (مجمع الزوائد 1 / 196: نشر دار الكتاب العربي) .
(3) حديث صخر الغامدي: " اللهم بارك لأمتي في بكورها ". أخرجه الترمذي (3 / 508 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن ".
(4) حديث: " عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل ". أخرجه الحاكم (1 / 445 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أنس بن مالك، وصححه ووافقه الذهبي.

(25/41)


وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُسَافِرِ إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَنْزِلِهِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِي الأُْولَى {قُل يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَفِي الثَّانِيَةِ {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا خَلَّفَ عَبْدٌ عَلَى أَهْلِهِ أَفْضَل مِنْ رَكْعَتَيْنِ يَرْكَعُهُمَا عِنْدَهُمْ حِينَ يُرِيدُ السَّفَرَ (1) وَعَنْ أَنَسٍ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَنْزِل مَنْزِلاً إِلاَّ وَدَّعَهُ بِرَكْعَتَيْنِ (2)

(5) يُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَدِّعَ أَهْلَهُ وَجِيرَانَهُ وَأَصْدِقَاءَهُ وَسَائِرَ أَحْبَابِهِ وَأَنْ يُوَدِّعُوهُ، وَيَقُول كُل وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ: أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ، زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى وَغَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ وَيَسَّرَ الْخَيْرَ لَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ. لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقُول لِلرَّجُل إِذَا أَرَادَ سَفَرًا: هَلُمَّ أُوَدِّعُكَ كَمَا وَدَّعَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ
__________
(1) حديث: " كان لا ينزل منزلا إلا ودعه بركعتين ". أخرجه الحاكم (1 / 315 - 316 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أنس بن مالك، ولمح الذهبي إلى تضعيفه لراو مضعف في إسناده.

(25/42)


عَمَلِكَ (1) وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخِطْمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوَدِّعَ الْجَيْشَ قَال: أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكُمْ وَأَمَانَتَكُمْ وَخَوَاتِيمَ أَعْمَالِكُمْ (2) .
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ سَفَرًا فَزَوِّدْنِي. فَقَال: زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى، فَقَال: زِدْنِي، فَقَال: وَغَفَرَ ذَنْبَكَ، قَال: زِدْنِي. قَال: وَيَسَّرَ لَكَ الْخَيْرَ حَيْثُمَا كُنْتَ (3) .

(6) يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَمِّرَ الرُّفْقَةُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَفْضَلَهُمْ وَأَجْوَدَهُمْ رَأْيًا وَيُطِيعُونَهُ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالاَ: " قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث ابن عمر: استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك. أخرجه أبو داود (3 / 76 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (5 / 500 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح ".
(2) حديث عبد الله بن يزيد الخطمي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يودع الجيش. . . . أخرجه أبو داود (3 / 77 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه النووي في رياض الصالحين (ص 307 - ط المكتب الإسلامي) .
(3) حديث: " زودك الله التقوى. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 500 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن ".

(25/42)


إِذَا خَرَجَ ثَلاَثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ (1) .

(7) يُسْتَحَبُّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُكَبِّرَ إِذَا صَعِدَ الثَّنَايَا وَشَبَهَهَا، وَيُسَبِّحَ إِذَا هَبَطَ الأَْوْدِيَةَ وَنَحْوَهَا، وَيُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ قَال كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا (2) وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُنَّا إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرْنَا ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا. فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّهُ مَعَكُمْ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (3) وَيُسْتَحَبُّ إِذَا أَشْرَفَ عَلَى قَرْيَةٍ يُرِيدُ دُخُولَهَا أَوْ مَنْزِلٍ أَنْ يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ أَهْلِهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا.
لِحَدِيثِ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرَ قَرْيَةً يُرِيدُ دُخُولَهَا إِلاَّ قَال حِينَ يَرَاهَا: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ وَرَبَّ
__________
(1) حديث: " إذا خرج ثلاثة في سفر ". أخرجه أبو داود (3 / 81 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وحسنه النووي في رياض الصالحين (ص 376 - ط المكتب الإسلامي) .
(2) حديث جابر: كنا إذا صعدنا كبرنا. أخرجه البخاري (الفتح 6 / 135 - ط السلفية) .
(3) حديث أبي موسى: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم. . . . أخرجه البخاري (الفتح 6 / 153 - ط السلفية) .

(25/43)


الأَْرَضِينَ السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَمَا أَذْرَيْنَ، فَإِنَّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَخَيْرَ أَهْلِهَا. وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا (1) .

(8) يُسْتَحَبُّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَدْعُوَ فِي سَفَرِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَْوْقَاتِ لأَِنَّ دَعْوَتَهُ مُجَابَةٌ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ (2) .

(9) السُّنَّةُ لِلْمُسَافِرِ إِذَا قَضَى حَاجَتَهُ أَنْ يُعَجِّل الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّل إِلَى أَهْلِهِ (3) وَيُكْرَهُ أَنْ يَطْرُقَ أَهْلَهُ طُرُوقًا بِغَيْرِ
__________
(1) حديث صهيب: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها. أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (ص 367 - ط الرسالة) وحسنه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية (5 / 154 - ط (المنيرية) .
(2) حديث: " ثلاث دعوات مستجابات ". أخرجه الترمذي (5 / 502 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وقال: " حديث حسن ".
(3) حديث: " السفر قطعة من العذاب ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 139 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1526 - ط الحلبي) .

(25/43)


عُذْرٍ، وَهُوَ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِمْ فِي اللَّيْل، بَل السُّنَّةُ أَنْ يَقْدَمَ أَوَّل النَّهَارِ وَإِلاَّ فَفِي آخِرِهِ لِحَدِيثِ أَنَسٍ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَطْرُقُ أَهْلَهُ وَكَانَ لاَ يَدْخُل إِلاَّ غُدْوَةً أَوْ عَشِيَّةً (1) وَقَدْ أَوْصَل النَّوَوِيُّ آدَابَ السَّفَرِ إِلَى اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ أَدَبًا فَصَّلَهَا فِي كِتَابِهِ الْمَجْمُوعِ (2) .
__________
(1) حديث: " كان لا يطرق أهله ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 619 - ط السلفية) .
(2) المجموع 4 / 385 وما بعدها المكتبة السلفية المدينة المنورة، القوانين الفقهية 290 دار القلم 1977م.

(25/44)


سُفْل

التَّعْرِيفُ:
1 - السُّفْل بِضَمِّ السِّينِ وَكَسْرِهَا لُغَةً: ضِدُّ الْعُلْوِ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا، وَالأَْسْفَل ضِدُّ الأَْعْلَى (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، إِذْ قَالُوا: السُّفْل اسْمٌ لِمَبْنًى مُسَقَّفٍ (2) . وَالْمُرَادُ بِالسُّفْل السُّفْل النِّسْبِيُّ لاَ الْمُلاَصِقُ لِلأَْرْضِ لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ طِبَاقًا مُتَعَدِّدَةً، فَكُل مَا نَزَل عَنِ الْعُلْوِ فَهُوَ سُفْلٌ (3) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسُّفْل:

هَدْمُ السُّفْل وَانْهِدَامُهُ:
2 - إِذَا هَدَمَ صَاحِبُ السُّفْل سُفْلَهُ مِنْ غَيْرِ
__________
(1) المصباح المنير والمفردات للراغب الأصفهاني ولسان العرب.
(2) شرح المجلة للأتاسي 4 / 137، وحاشية خير الدين الرملي على جامع الفصولين 2 / 209.
(3) الزرقاني 6 / 60.

(25/44)


حَاجَةٍ حَتَّى انْهَدَمَ، يُجْبَرُ عَلَى إِعَادَتِهِ. بِهَذَا يَقُول جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ صَاحِبَ السُّفْل أَتْلَفَ حَقَّ صَاحِبِ الْعُلْوِ بِإِتْلاَفِ مَحَلِّهِ وَيُمْكِنُ جَبْرُهُ بِالإِْعَادَةِ، فَتَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَتُهُ (1) . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوِ انْهَدَمَ السُّفْل وَلَوْ بِهَدْمِ مَالِكِهِ تَعَدِّيًا لَمْ يُجْبِرْهُ صَاحِبُ الْعُلْوِ عَلَى إِعَادَتِهِ لأَِجْل بِنَائِهِ عَلَيْهِ (2) .
أَمَّا لَوِ انْهَدَمَ السُّفْل بِلاَ صُنْعِ صَاحِبِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى بِنَائِهِ لِعَدَمِ التَّعَدِّي. بِهَذَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ (3) .
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَلِصَاحِبِ الْعُلْوِ أَنْ يَبْنِيَ السُّفْل مِنْ مَال نَفْسِهِ، ثُمَّ يَرْجِعَ بِمَا أَنْفَقَ إِنْ بَنَى بِإِذْنِ صَاحِبِ السُّفْل أَوْ إِذْنِ الْقَاضِي وَإِلاَّ فَبِقِيمَةِ الْبِنَاءِ يَوْمَ بَنَى؛ لأَِنَّ الْبِنَاءَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَكِنْ فِيهِ ضَرُورَةٌ؛ لأَِنَّ صَاحِبَ الْعُلْوِ لاَ يُمْكِنُهُ الاِنْتِفَاعُ بِمِلْكِ نَفْسِهِ إِلاَّ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَصَارَ مُطْلَقًا لَهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 264، وابن عابدين 4 / 358، والزرقاني 6 / 60، 61، والمغني 4 / 569، وكشاف القناع 3 / 415.
(2) القليوبي وعميرة 2 / 316.
(3) بدائع الصنائع 6 / 264، وابن عابدين 4 / 358، وأسنى المطالب 2 / 224، والمغني 4 / 565، 568.

(25/45)


شَرْعًا، وَلَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا؛ لأَِنَّ الْبِنَاءَ مِلْكُهُ لِحُصُولِهِ بِإِذْنِ الشَّرْعِ وَإِطْلاَقِهِ لَهُ فَلَهُ أَنْ لاَ يُمَكِّنَهُ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ إِلاَّ بِبَدَلٍ يَعْدِلُهُ وَهُوَ الْقِيمَةُ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ صَاحِبَ السُّفْل يُجْبَرُ عَلَى الْبِنَاءِ لِيَتَمَكَّنَ صَاحِبُ الْعُلْوِ مِنِ انْتِفَاعِهِ بِهِ (2) .

التَّنَازُعُ فِي السَّقْفِ
3 - لَوْ كَانَ السُّفْل لِوَاحِدٍ وَالْعُلْوُ لآِخَرَ وَتَنَازَعَا فِي السَّقْفِ وَلاَ بَيِّنَةَ فَالسَّقْفُ لِلأَْسْفَل عِنْدَ التَّنَازُعِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} (3) .
فَأَضَافَ السَّقْفَ لِلْبَيْتِ وَالْبَيْتُ لِلأَْسْفَل؛ وَلأَِنَّ يَدَ رَبِّ السُّفْل أَسْبَقُ فَشَهِدَ الظَّاهِرُ لَهُ - بِهَذَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ (4) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: السَّقْفُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ سُفْل أَحَدِهِمَا وَعُلْوِ الآْخَرِ كَالْجِدَارِ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا، فَإِذَا تَدَاعَيَاهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِحْدَاثُهُ بَعْدَ بِنَاءِ الْعُلْوِ كَالأَْزَجِ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ عَقْدُهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 264، وانظر ابن عابدين 4 / 358.
(2) الشرح الصغير 3 / 480، والقوانين الفقهية ص 346، والمغني 4 / 468، وكشاف القناع 3 / 415.
(3) سورة الزخرف / 33.
(4) جامع الفصولين 2 / 210، والزرقاني 6 / 60، 61.

(25/45)


عَلَى وَسَطِ الْجِدَارِ بَعْدَ امْتِدَادِهِ فِي الْعُلْوِ جُعِل فِي يَدِ صَاحِبِ السُّفْل؛ لاِتِّصَالِهِ بِبِنَائِهِ عَلَى سَبِيل التَّرْصِيفِ، وَإِنْ أَمْكَنَ بِأَنْ يَكُونَ السَّقْفُ عَالِيًا فَيَثْقُبَ وَسَطَ الْجِدَارِ وَتُوضَعَ رُءُوسُ الْجُذُوعِ فِي الثُّقْبِ فَيَصِيرَ الْبَيْتُ بَيْتَيْنِ، فَهُوَ فِي أَيْدِيهِمَا لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي الاِنْتِفَاعِ بِهِ (1) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ السَّقْفَ بَيْنَهُمَا؛ لاِنْتِفَاعِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِهِ، لاَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ وَحْدَهُ (2) .

إِشْرَافُ الْجَارِ الأَْعْلَى عَلَى دَارِ الْجَارِ الأَْسْفَل:
4 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - إِلَى أَنَّهُ يُقْضَى عَلَى مَنْ أَحْدَثَ كُوَّةً أَوْ بَابًا أَوْ غُرْفَةً مِنْ دَارِهِ يُشْرِفُ مِنْهَا عَلَى جَارِهِ أَنْ يَسُدَّ جَمِيعَهَا (3) .
وَأَمَّا الْكُوَّةُ الْقَدِيمَةُ فَلاَ يُقْضَى بِسَدِّهَا وَيُقَال لِلْجَارِ: اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ إِنْ شِئْتَ (4) .
وَقَال الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ، حَيْثُ كَانَتِ الْعِلَّةُ الضَّرَرَ الْبَيِّنَ لِوُجُودِهَا فِيهِمَا (5) .
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 226.
(2) كشاف القناع 3 / 416، والمغني 4 / 564.
(3) الخرشي 6 / 59، 60 والدسوقي 3 / 369، وابن عابدين 4 / 361، ومغني المحتاج 2 / 186.
(4) الدسوقي 3 / 369.
(5) ابن عابدين 4 / 361

(25/46)


وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ - وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ - أَنَّ مَنْ أَحْدَثَ شُبَّاكًا أَوْ بِنَاءً جَدِيدًا وَجَعَل لَهُ شُبَّاكًا عَلَى الْمَحَل الَّذِي هُوَ مَقَرٌّ لِنِسَاءِ جَارِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُلاَصِقًا أَوْ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ فَاصِلٌ، فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِرَفْعِ الضَّرَرِ، وَيُجْبَرُ عَلَى رَفْعِهِ بِصُورَةٍ تَمْنَعُ وُقُوعَ النَّظَرِ إِمَّا بِبِنَاءِ حَائِطٍ أَوْ وَضْعِ طَبْلَةٍ، لَكِنْ لاَ يُجْبَرُ عَلَى سَتْرِ الشُّبَّاكِ بِالْكُلِّيَّةِ (1) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَالِكِ فَتْحُ كُوَّاتٍ وَشَبَابِيكَ فِي مِلْكِهِ وَلَوْ لِغَيْرِ الاِسْتِضَاءَةِ؛ لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِهِ. وَقَيَّدَ الْجُرْجَانِيُّ جَوَازَ فَتْحِ الْكُوَّاتِ بِمَا إِذَا كَانَتْ عَالِيَةً لاَ يَقَعُ النَّظَرُ مِنْهَا إِلَى دَارِ جَارِهِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ صَرَّحَ بِجَوَازِ فَتْحِ كُوَّةٍ فِي مِلْكِهِ مُشْرِفَةٍ عَلَى جَارِهِ وَعَلَى حَرِيمِهِ، وَلَيْسَ لِلْجَارِ مَنْعُهُ، لأَِنَّهُ لَوْ أَرَادَ رَفْعَ جَمِيعِ الْحَائِطِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ، فَإِذَا رَفَعَ بَعْضَهُ لَمْ يُمْنَعْ.
وَقَال بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ: يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنِ الْجَارِ بِأَنْ يَبْنِيَ فِي مِلْكِهِ جِدَارًا يُقَابِل الْكُوَّةَ وَيَسُدُّ ضَوْأَهَا وَرُؤْيَتَهَا فَإِنَّهُ لاَ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ (2) .
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية المادة (1202) والبزازية بهامش الهندية 6 / 414، وكشاف القناع 3 / 413، والمغني4 / 573، ومطالب أولي النهى # 3 / 358.
(2) مغني المحتاج 2 / 186، 187، وأسنى المطالب وحاشية الرملي عليه 2 / 222 - 223.

(25/46)


وَصَرَّحَ الْبُجَيْرِمِيُّ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الشَّخْصِ فَتْحُ كُوَّةٍ فِي جِدَارِهِ يَطَّلِعُ مِنْهَا عَلَى عَوْرَاتِ جَارِهِ (1) .
__________
(1) بجيرمي على الخطيب 3 / 84 نشر دار المعرفة.

(25/47)


سَفَه
.

التَّعْرِيفُ:
1 - السَّفَهُ وَالسَّفَاهُ وَالسَّفَاهَةُ: ضِدُّ الْحِلْمِ، وَهِيَ مَصَادِرُ سَفِهَ يَسْفَهُ، مِنْ بَابِ تَعِبَ، وَهُوَ نَقْصٌ فِي الْعَقْل أَصْلُهُ الْخِفَّةُ وَالْحَرَكَةُ.
يُقَال: تَسَفَّهَتِ الرِّيحُ الشَّجَرَ؛ أَيْ مَالَتْ بِهِ، وَسَفُهَ بِالضَّمِّ، وَسَفِهَ بِالْكَسْرِ؛ أَيْ صَارَ سَفِيهًا، وَالْجَمْعُ سُفَهَاءُ وَسُفَّهٌ وَسِفَاهٌ.
وَالْمُؤَنَّثُ مِنْهُ سَفِيهَةٌ، وَالْجَمْعُ سَفَائِهُ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ التَّبْذِيرُ فِي الْمَال وَالإِْسْرَافُ فِيهِ وَلاَ أَثَرَ لِلْفِسْقِ وَالْعَدَالَةِ فِيهِ.
وَيُقَابِلُهُ الرُّشْدُ: وَهُوَ إِصْلاَحُ الْمَال وَتَنْمِيَتُهُ وَعَدَمُ تَبْذِيرِهِ.
وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ (أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَمَالِكٍ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْمَرْجُوحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل
__________
(1) الصحاح والمصباح المنير.

(25/47)


الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالسُّدِّيِّ، وَالضَّحَّاكِ) .
وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ: التَّبْذِيرُ فِي الْمَال وَالْفَسَادُ فِيهِ وَفِي الدِّينِ مَعًا. وَهُوَ قَوْلٌ لأَِحْمَدَ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَجْرُ:
2 - هُوَ مَصْدَرُ قَوْلِكَ حَجَرَ عَلَيْهِ الْقَاضِي يَحْجُرُ حَجْرًا: إِذَا مَنَعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ. وَالسَّفَهُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْحَجْرِ (2) .

ب - الْعَتَهُ:
3 - الْعَتَهُ نَقْصٌ فِي الْعَقْل مِنْ غَيْرِ جُنُونٍ أَوْ دَهَشٍ، وَالْمَعْتُوهُ: النَّاقِصُ الْعَقْل. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّفَهِ أَنَّ الْعَتَهَ عِبَارَةٌ عَنْ آفَةٍ نَاشِئَةٍ عَنِ الذَّاتِ تُوجِبُ خَلَلاً فِي الْعَقْل فَيَصِيرُ
__________
(1) لا فرق بين الذكر والأنثى في الرشد عند الجمهور، أما عند مالك ورأي مرجوح للإمام أحمد فلا بد لرشد المرأة بعد بلوغها من أن تتزوج ويدخل بها الزوج. انظر رحمة الأمة في اختلاف الأئمة ص 198 لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الدمشقي العثماني الشافعي من علماء القرن اوالمغني لابن قدامة 4 / 517، والمجموع 13 / 367، والمبدع 4 / 334، ونيل الأوطار 5 / 370.
(2) الصحاح والمصباح المنير.

(25/48)


صَاحِبُهُ مُخْتَلِطَ الْعَقْل فَيُشْبِهُ بَعْضُ كَلاَمِهِ كَلاَمَ الْعُقَلاَءِ، وَبَعْضُهُ كَلاَمَ الْمَجَانِينِ بِخِلاَفِ السَّفَهِ فَإِنَّهُ خِفَّةٌ تَعْرِضُ لِلإِْنْسَانِ وَلَيْسَتِ السَّفَهَ فِي ذَاتِهِ (1) .

ج - الرُّشْدُ:
4 - الرُّشْدُ: الصَّلاَحُ فِي الْمَال عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الصَّلاَحُ فِي الْمَال وَالدِّينِ جَمِيعًا، فَهُوَ ضِدُّ السَّفَهِ. (ر: رُشْد) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسَّفَهِ:
أَوَّلاً: أَحْوَال السَّفَهِ:
4 م - لِلسَّفَهِ حَالَتَانِ:
الأُْولَى: اسْتِمْرَارُ السَّفَهِ بَعْدَ بُلُوغِ الإِْنْسَانِ أَوْ إِفَاقَتِهِ مِنَ الْجُنُونِ.
الثَّانِيَةُ: طُرُوءُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ.
أَمَّا الأُْولَى: فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَمِنْهُمْ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى اسْتِمْرَارِ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ بِمَنْعِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، إِذِ الْحَجْرُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ وَهُمَا مُبَذِّرَانِ
__________
(1) التعريفات للجرجاني ص 119، 147.

(25/48)


لِمَالِهِمَا اسْتَمَرَّ الْحَجْرُ عَلَيْهِمَا وَمُنِعَا مِنَ التَّصَرُّفِ (1) .
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ لاَ يَحْجُرُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَلَوْ بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ إِلاَّ أَنَّهُ يَمْنَعُ وَلِيَّهُ مِنْ دَفْعِ مَالِهِ إِلَيْهِ، وَلاَ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِمَالِهِ بِبَيْعٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، وَلاَ يَدْفَعُ إِلَيْهِ مَالَهُ إِلاَّ أَنْ يَبْلُغَ عُمْرُهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَإِذَا بَلَغَهَا دَفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ سَفِهَ أَوْ رَشَدَ (2) .
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ (3) الْقَائِلُونَ بِالْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ بِالسَّفَهِ الْمُسْتَمِرِّ بَعْدَ بُلُوغِ الصَّبِيِّ وَإِفَاقَةِ الْمَجْنُونِ، أَوِ الَّذِي حَصَل بَعْدَ بُلُوغِهِ وَإِفَاقَتِهِ رَشِيدًا، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (4) . وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِهَا - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِدَفْعِ أَمْوَال
__________
(1) الاختيار 2 / 96 وبلغة السالك 2 / 128 وبداية المجتهد 2 / 210 ومغني المحتاج 2 / 166 والمبدع 4 / 334.
(2) شرح المنار لابن ملك 2 / 989 وتيسير التحرير 2 / 300 والهداية بأعلى فتح القدير 4 / 196 والاختيار 2 / 95 ومغني المحتاج 2 / 170 والمبدع 4 / 342 ونيل الأوطار 5 / 368 وبلغة السالك 2 / 131.
(3) والمجموع 13 / 368 وشرح المنار 2 / 989، وتيسير التحرير 2 / 300، فتح القدير 4 / 196، والاختيار 2 / 95، تفسير القرطبي 5 / 37، نيل الأوطار 5 / 368.
(4) سورة النساء / 6.

(25/49)


الْيَتَامَى بَعْدَ الْبُلُوغِ مَعَ إِينَاسِ الرُّشْدِ، لاَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَال.
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَل اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا} (1) .
وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِهَا أَنَّ اللَّهَ يَنْهَى عَنْ إِيتَاءِ الْمَال السُّفَهَاءَ وَلَمْ يُرَخِّصْ لِلأَْوْلِيَاءِ إِلاَّ بِرِزْقِهِمْ مِنْهَا أَكْلاً وَلُبْسًا. وَيَدُل عَلَى أَنَّ إِضَافَةَ الْمَال إِلَى الأَْوْلِيَاءِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَال الْوَلِيِّ بَل مَال السَّفِيهِ:
قَوْله تَعَالَى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} لأَِنَّهُ لاَ يُرْزَقُ وَلاَ يُكْسَى إِلاَّ مِنْ مَالِهِ.
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِل هُوَ فَلْيُمْلِل وَلِيُّهُ بِالْعَدْل} (2) . وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِهَا أَنَّهُ جَعَل عِبَارَةَ السَّفِيهِ كَعِبَارَةِ مَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ التَّعْبِيرَ وَجَعَل عِبَارَةَ وَلِيِّهِ تَقُومُ مَقَامَ عِبَارَتِهِ وَأَوْجَبَ الْوِلاَيَةَ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ هِيَ أَمَارَاتُ الْحَجْرِ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ
__________
(1) سورة النساء / 5.
(2) سورة البقرة / 282.

(25/49)


ثَلاَثًا: قِيل وَقَال، وَإِضَاعَةَ الْمَال، وَكَثْرَةَ السُّؤَال (1) . وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِهِ: أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، وَهُنَا يَدُل النَّهْيُ عَلَى وُجُوبِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمَال، وَإِبْقَاؤُهُ بِيَدِ السَّفِيهِ الْمُبَذِّرِ لَهُ مُخَالِفٌ لِلأَْمْرِ، فَيَجِبُ حَجْرُهُ عَنْهُ.
وَبِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَال: خُذُوا عَلَى يَدِ سُفَهَائِكُمْ (2) .
وَبِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَال: ابْتَاعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بَيْعًا فَقَال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لآَتِيَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلأَْحْجُرَنَّ عَلَيْكَ، فَأَعْلَمَ ذَلِكَ ابْنُ جَعْفَرٍ لِلزُّبَيْرِ فَقَال: أَنَا شَرِيكُكَ فِي بَيْعِكَ، فَأَتَى عَلِيٌّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَال: احْجُرْ عَلَى هَذَا، فَقَال الزُّبَيْرُ: أَنَا شَرِيكُهُ، فَقَال عُثْمَانُ: أَحْجُرُ عَلَى رَجُلٍ شَرِيكُهُ الزُّبَيْرُ؟ (3) ؟
__________
(1) حديث: " إن الله كره لكم ثلاثا. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 340 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1341 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " خذوا على يد سفهائكم ". أخرجه الطبراني في معجمه الكبير من حديث النعمان بن بشير كما في الجامع الصغير للسيوطي (3 / 435 - بشرحه الفيض - ط - المكتبة التجارية) وأشار إليه بعلامة الضعف.
(3) مسند الشافعي (2 / 191 - 192 - بترتيبه بدائع المنن - ط دار الأنوار) .

(25/50)


وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِهِ: أَنَّ عَلِيًّا وَعُثْمَانَ وَالزُّبَيْرَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ لَمْ يَحْصُل مِنْهُمْ إِنْكَارٌ لِلْحَجْرِ، بَل عَلِيٌّ طَلَبَهُ وَالآْخَرُونَ لَمْ يُنْكِرُوهُ فَاحْتَال الزُّبَيْرُ بِحِيلَةِ الشَّرِكَةِ حَتَّى لاَ يُعَدَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ مَغْبُونًا فِي ذَلِكَ.
وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَقُولَةِ: أَنَّهُ مُبَذِّرٌ فِي مَالِهِ فَيَكُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ كَالصَّبِيِّ بَل أَوْلَى، لأَِنَّ الصَّبِيَّ إِنَّمَا يَكُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِتَوَهُّمِ التَّبْذِيرِ مِنْهُ، وَقَدْ تَحَقَّقَ التَّبْذِيرُ وَالإِْسْرَافُ هُنَا، فَلأََنْ يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْلَى (1) .
وَاسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي عَدَمِ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَلَكِنْ لاَ يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْخَامِسَةَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ عُمْرِهِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} (2) .
وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِهَا - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى الْوَلِيَّ عَنِ الإِْسْرَافِ فِي مَال الْيَتِيمِ مَخَافَةَ أَنْ يَكْبَرَ فَلاَ يَبْقَى لَهُ عَلَيْهِ وِلاَيَةٌ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى زَوَال وِلاَيَتِهِ عَنْهُ بَعْدَ الْكِبَرِ يَكُونُ تَنْصِيصًا
__________
(1) المبسوط 24 / 158 لشمس الأئمة. السرخسي أول طبعة مطبعة السعادة بجوار محافظة مصر.
(2) سورة النساء / 6.

(25/50)


عَلَى زَوَال الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْكِبَرِ؛ لأَِنَّ الْوِلاَيَةَ عَلَيْهِ لِلْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا تَنْعَدِمُ الْحَاجَةُ إِذَا صَارَ هُوَ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ الأَْنْصَارِيِّ: أَنَّهُ كَانَ يُغْبَنُ فِي الْبِيَاعَاتِ لآِفَةٍ أَصَابَتْ رَأْسَهُ فَسَأَل أَهْلُهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ، فَقَال: إِنِّي لاَ أَصْبِرُ عَنِ الْبَيْعِ. فَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِذَا بِعْتَ فَقُل: لاَ خِلاَبَةَ، وَجَعَل لَهُ الْخِيَارَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ (2) .
وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ طَلَبِ أَهْلِهِ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ الْحَجْرُ مَشْرُوعًا عَلَى مَنْ يُغْبَنُ لَحَجَرَ عَلَيْهِ.
وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُول بِأَنَّ السَّفِيهَ حُرٌّ مُخَاطَبٌ فَيَكُونُ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ كَالرَّشِيدِ، وَهَذَا لأَِنَّ وُجُودَ التَّصَرُّفِ حَقِيقَةً يَكُونُ بِوُجُودِ رُكْنِهِ، وَوُجُودُهُ شَرْعًا يَكُونُ بِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَحُلُولِهِ فِي مَحَلِّهِ، وَقَدْ وُجِدَ
__________
(1) المبسوط 24 / 159، والبدائع 7 / 170، والتلويح على التوضيح 2 / 192.
(2) حديث: " إذا بعت فقل: لا خلابة ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 337 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1165 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر، قوله: " إذا بعت فقل لا خلابة ". وذكر الخيار أخرجه الدارقطني (3 / 54 - 55 - ط دار المحاسن) .

(25/51)


ذَلِكَ كُلُّهُ فِي تَصَرُّفِ السَّفِيهِ فِي مَالِهِ (1) .
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَهِيَ أَنْ يَبْلُغَ الصَّبِيُّ أَوْ يُفِيقَ الْمَجْنُونُ رَشِيدَيْنِ، ثُمَّ يَطْرَأَ السَّفَهُ عَلَيْهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَل يُحْجَرُ عَلَيْهِمَا؟ .
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
(1) فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى لُزُومِ الْحَجْرِ بِالسَّفَهِ الطَّارِئِ، وَكَذَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي الأُْمُورِ الَّتِي يُبْطِلُهَا الْهَزْل لاَ الأُْمُورُ الَّتِي لاَ يُبْطِلُهَا الْهَزْل؛ لأَِنَّ السَّفِيهَ عِنْدَهُمَا فِي مَعْنَى الْهَازِل يَخْرُجُ كَلاَمُهُ عَنْ نَهْجِ كَلاَمِ الْعُقَلاَءِ لاِتِّبَاعِ الْهَوَى وَمُكَابَرَةِ الْعَقْل لاَ لِنُقْصَانٍ فِي عَقْلِهِ، فَكَذَلِكَ السَّفِيهَ.
وَمِمَّنْ قَال بِالْحَجْرِ بِالسَّفَهِ الطَّارِئِ: عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَالزُّبَيْرُ، وَعَائِشَةُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَشُرَيْحٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ.
(2) وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَمَنْعِهِ مِنْ مَالِهِ، وَهُوَ رَأْيُ زُفَرَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ (2) .
__________
(1) المبسوط 24 / 159 - 160.
(2) تكملة المجموع 13 / 368، وتيسير التحرير 2 / 300 وفتح القدير 4 / 196.

(25/51)


هَل يُشْتَرَطُ حُكْمُ قَاضٍ بِالْحَجْرِ لِتَرَتُّبِ أَحْكَامِهِ عَلَيْهِ؟ .
5 - السَّفَهُ - كَمَا تَقَدَّمَ - عَلَى نَوْعَيْنِ:
(1) سَفَهٌ يَعْقُبُ الصِّبَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَبْلُغَ سَفِيهًا.
(2) وَسَفَهٌ يَطْرَأُ بَعْدَ بُلُوغِ الصَّبِيِّ رَشِيدًا.
فَالأَْوَّل: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي افْتِقَارِهِ إِلَى قَضَاءِ الْقَاضِي عَلَى رَأْيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى قَضَاءِ قَاضٍ؛ لأَِنَّ الْحَجْرَ سَيَدُومُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ دَفْعَ أَمْوَالِهِمْ إِلَيْهِمْ عَلَى إِينَاسِ الرُّشْدِ مِنْهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهُمْ فَهُمْ مَحْجُورُونَ، وَالْحَجْرُ عَلَيْهِمْ بِقَضَاءٍ تَحْصِيل الْحَاصِل.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ.
وَثَانِيهِمَا: افْتِقَارُهُ إِلَى قَضَاءِ قَاضٍ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَرَأْيُ أَبِي يُوسُفَ.
وَلِذَلِكَ أَجَازَ مَالِكٌ تَصَرُّفَاتِهِ قَبْل الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالسَّفِيهِ الْمُهْمَل؛ لأَِنَّ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ، وَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ النَّظَرِ وَالضَّرَرِ، فَفِي إِبْقَاءِ الْمِلْكِ لَهُ نَظَرٌ، وَفِي إِهْدَارِ قَوْلِهِ ضَرَرٌ، وَبِمِثْل هَذَا لاَ يَتَرَجَّحُ أَحَدُ

(25/52)


الْجَانِبَيْنِ مِنْهُ إِلاَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي (1) .
وَأَمَّا الثَّانِي: فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى ثَلاَثَةِ آرَاءٍ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: لاَ يَكُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ إِلاَّ بَعْدَ قَضَاءِ قَاضٍ بِذَلِكَ؛ لِلْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذُوا عَلَى يَدِ سُفَهَائِكُمْ (2) .
وَلِقَوْل عَلِيٍّ فِي الأَْثَرِ الَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ: " لآَتِيَنَّ عُثْمَانَ لِيَحْجُرَ عَلَيْكَ ".
وَلأَِنَّ التَّبْذِيرَ يَخْتَلِفُ فَيَحْتَاجُ إِلَى الاِجْتِهَادِ وَإِذَا افْتَقَرَ السَّبَبُ إِلَى الاِجْتِهَادِ لَمْ يَثْبُتْ إِلاَّ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ كَالْحَجْرِ عَلَى الْمُفْلِسِ.
وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَبِهِ قَال أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ مَا عَدَا مُحَمَّدَ بْنَ الْقَاسِمِ (3) .
وَلاَ يَحْجُرُ عَلَيْهِ إِلاَّ الْحَاكِمُ، فَإِذَا أَرَادَ الْوَالِدُ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 170 والمبدع 4 / 331 وبلغة السالك 2 / 130 و140 ومواهب الجليل 5 / 64 وبدائع الصنائع 7 / 169 لأبي بكر بن مسعود الكاساني المتوفى 587 هـ الطبعة الأولى 1328 هـ والمبسوط 24 / 163.
(2) حديث: " خذوا على يد سفهائكم ". تقدم تخريجه ف / 4م.
(3) انظر المراجع السابقة.

(25/52)


أَنْ يَحْجُرَ عَلَى وَلَدِهِ أَتَى الإِْمَامَ لِيَحْجُرَ عَلَيْهِ (1) .
الرَّأْيُ الثَّانِي: لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى قَضَاءِ قَاضٍ، لأَِنَّهُ يَكُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مُبَذِّرًا، كَمَا أَنَّ إِصْلاَحَهُ لِمَالِهِ يُطْلِقُهُ مِنَ الْحَجْرِ نَظَرًا لِوُجُودِ الْمُوجِبِ وَزَوَالِهِ فَأَشْبَهَ الْمَجْنُونَ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمَرْجُوحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: التَّفْصِيل وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ زَال عَنْهُ الْحَجْرُ بِرُشْدِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِلاَ حُكْمِ حَاكِمٍ ثُمَّ سَفِهَ عَادَ بِلاَ حُكْمِ حَاكِمٍ، وَإِنْ زَال عَنْهُ بِحُكْمِ حَاكِمٍ فَلاَ بُدَّ مِنْ قَضَاءِ الْقَاضِي بِعَوْدَتِهِ، وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ.
وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَمَا رُفِعَ بِقَضَاءٍ فَلاَ يَعُودُ إِلاَّ بِقَضَاءٍ (3) .

إِشْهَادُ الْقَاضِي عَلَى حَجْرِهِ أَوْ إِعْلاَنُهُ:
6 - ذَهَبَ مَنْ قَال: إِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ قَضَاءِ قَاضٍ لِلْحَجْرِ عَلَيْهِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي
__________
(1) مواهب الجليل5 / 64.
(2) مغني المحتاج 2 / 170 والمبدع 4 / 331 والمبسوط 24 / 163 وبلغة السالك 2 / 130، 140 ومواهب الجليل 5 / 64 وبدائع الصنائع 7 / 169.
(3) المبدع 4 / 342.

(25/53)


أَنْ يُشْهِدَ عَلَى حَجْرِهِ وَأَنْ يُظْهِرَ ذَلِكَ وَيُعْلِنَهُ وَيُشْهِرَهُ فِي الأَْسْوَاقِ وَالْجَامِعِ؛ لِيَعْلَمَ النَّاسُ بِحَالِهِ، وَلِيَتَجَنَّبُوا مُعَامَلَتَهُ وَيُعْلِمَهُمْ أَنَّ مَنْ عَامَلَهُ فَقَدْ ضَيَّعَ مَالَهُ.
وَإِنْ رَأَى الْقَاضِي النِّدَاءَ بِذَلِكَ جَعَل مَنْ يُنَادِي بِالنَّاسِ بِحَجْرِهِ، وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (1) .
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْخِلاَفِ فِي اشْتِرَاطِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ مِنْ قِبَل الْقَاضِي وَعَدَمِهِ مَا يَلِي:
إِذَا عَامَل السَّفِيهَ شَخْصٌ - عَلِمَ بِسَفَهِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ - بِشِرَاءٍ أَوْ إِقْرَاضٍ ثُمَّ تَلِفَ الشَّيْءُ الْمُشْتَرَى أَوْ ضَاعَ حَقُّ الْمُقْرِضِ، فَهَل يَضْمَنُ هُوَ أَوْ الضَّمَانُ عَلَى الشَّخْصِ الْمُتَعَامِل مَعَهُ؟
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ مَرْدُودٌ وَلَوْ حَسُنَ تَصَرُّفُهُ، مَا لَمْ يَحْصُل الْفَكُّ عَنْهُ.
وَإِنْ تَعَامَل مَعَهُ أَحَدٌ وَهُوَ يَجْهَل فَأَفْعَالُهُ لاَ تُرَدُّ بِاتِّفَاقِ فُقَهَائِهِمْ.
وَإِنْ عَلِمَ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ حَجَرَ عَلَيْهِ بِأَنْ كَانَ مُهْمَلاً لاَ وَلِيَّ لَهُ: فَتَصَرُّفُهُ مَاضٍ وَلاَزِمٌ، فَلاَ يُرَدُّ، وَلَوْ كَانَ بِدُونِ عِوَضٍ كَعِتْقٍ، لأَِنَّ عِلَّةَ الرَّدِّ الْحَجْرُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَفْقُودٌ، وَهَذَا
__________
(1) مواهب الجليل 5 / 64، تكملة المجموع 13 / 379، والمبدع 4 / 343.

(25/53)


قَوْل مَالِكٍ وَكُبَرَاءِ أَصْحَابِهِ - وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ.
أَمَّا ابْنُ الْقَاسِمِ فَإِنَّهُ قَال: لاَ يَمْضِي؛ لأَِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِلْحَجْرِ الْقَضَاءُ، وَعَلَى مَنْ يَتَوَلَّى عَلَيْهِ مِنْ حَاكِمٍ أَوْ مُقَدَّمٍ الرَّدُّ، وَكَذَا لَهُ هُوَ الرَّدُّ بَعْدَ الرُّشْدِ.
أَمَّا بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ - فَإِنَّهُ مَرْدُودٌ وَلَوْ حَسُنَ تَصَرُّفُهُ مَا لَمْ يَحْصُل الْفَكُّ عَنْهُ مِنْ وَصِيٍّ أَوْ حَاكِمٍ أَوْ مُقَدَّمٍ، وَهَذَا أَيْضًا عِنْدَ مَالِكٍ وَجُل أَصْحَابِهِ؛ لِوُجُودِ عِلَّةِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ - وَهُوَ السَّفَهُ.
وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ: إِذَا رَشَدَ فَتَصَرُّفُهُ مَاضٍ قَبْل الْفَكِّ؛ لأَِنَّ الْعِلَّةَ مُجَرَّدُ السَّفَهِ وَقَدْ زَال بِرُشْدِهِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَكُونُ مَحْجُورًا إِلاَّ بَعْدَ قَضَاءِ قَاضٍ، وَلِهَذَا قَالُوا: لَوْ أَقْرَضَهُ شَخْصٌ مَالاً - بَعْدَ الْحَجْرِ - أَوْ بَاعَ مِنْهُ مَتَاعًا لَمْ يَمْلِكْهُ؛ لأَِنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الرُّشْدِ، فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ بَاقِيَةً رُدَّتْ، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً لَمْ يَضْمَنْهَا. عَلِمَ بِحَالِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَلاَ يَضْمَنُ قَبْل فَكِّ الْحَجْرِ وَلاَ بَعْدَهُ لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِحَالِهِ فَقَدْ
__________
(1) المواق ومواهب الجليل 5 / 66، وبلغة السالك 2 / 130.

(25/54)


تَعَامَل مَعَهُ عَلَى بَصِيرَةٍ وَأَنَّ مَالَهُ سَيَضِيعُ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَقَدْ فَرَّطَ حِينَ تَرَكَ اسْتِظْهَارَ أَمْرِهِ وَدَخَل فِي مُعَامَلَتِهِ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ وَعَدَمُ ضَمَانِهِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، هُوَ إِجْمَاعُ الشَّافِعِيَّةِ.
7 - وَهَل يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ بَاطِنًا؛ أَيْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؟
اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
الْوَجْهُ الأَْوَّل: يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ، وَبِهِ قَال الصَّيْدَلاَنِيُّ وَالْعِمْرَانِيُّ، وَهُوَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ الْحَجْرَ لاَ يُبِيحُ لَهُ مَال غَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: لاَ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ وَالنَّوَوِيِّ.
وَالتَّفْصِيل السَّابِقُ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا قَبَضَ السَّفِيهُ الْمَال مِنْ رَشِيدٍ بِإِذْنِهِ وَتَلِفَ الْمَقْبُوضُ قَبْل مُطَالَبَةِ صَاحِبِهِ بِهِ.
أَمَّا لَوْ قَبَضَهُ مِنْ غَيْرِ رَشِيدٍ أَوْ مِنْ رَشِيدٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَوْ تَلِفَ بَعْدَ مُطَالَبَتِهِ صَاحِبَهُ بِهِ فَإِنَّ السَّفِيهَ يَضْمَنُ دُونَ خِلاَفٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ مَنْ عَامَل السَّفِيهَ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ مِنْ قِبَل الْقَاضِي وَأَتْلَفَ السَّفِيهُ الْمَال فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَالضَّمَانُ عَلَى مَنْ

(25/54)


عَامَلَهُ عَلِمَ بِالْحَجْرِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ - كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ - وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمُعَامِل هُوَ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَيْهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ السَّفِيهُ هُوَ الَّذِي تَسَلَّطَ عَلَيْهِ دُونَ إِذْنِ صَاحِبِهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانَ إِنْ أَتْلَفَهُ أَوْ تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِ لأَِنَّهُ لاَ تَفْرِيطَ مِنْ مَالِكِهِ (1) .

نَقْضُ قَرَارِ الْقَاضِي بِالْحَجْرِ بِقَرَارِ قَاضٍ آخَرَ:
7 م - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا حَجَرَ قَاضٍ عَلَى سَفِيهٍ، ثُمَّ رُفِعَ الْقَرَارُ إِلَى قَاضٍ آخَرَ فَأَطْلَقَ حَجْرَهُ وَأَجَازَ مَا كَانَ بَاعَهُ أَوِ اشْتَرَاهُ أَوْ تَصَرَّفَ بِهِ حَالَةَ الْحَجْرِ وَلَمْ يَرَ حَجْرَ الأَْوَّل شَيْئًا جَازَ إِطْلاَقُهُ وَإِبْطَال حَجْرِهِ.
لأَِنَّهُ لَوْ تَحَوَّل رَأْيُ الأَْوَّل فَأَطْلَقَ عَنْهُ الْحَجْرَ جَازَ فَكَذَلِكَ الثَّانِي، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ.
ثُمَّ الْحَجْرُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ قَضَاءً مِنَ الْقَاضِي؛ لأَِنَّ الْقَضَاءَ يَسْتَدْعِي مَقْضِيًّا لَهُ وَمَقْضِيًّا عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ نَظَرًا مِنْهُ، وَقَدْ رَأَى الآْخَرُ النَّظَرَ لَهُ فِي إِطْلاَقِهِ فَيَنْفُذُ ذَلِكَ مِنْهُ (2) .
__________
(1) انظر تكملة المجموع 3 / 380 ومغني المحتاج 2 / 171. والمغني 4 / 520.
(2) المبسوط 24 / 184.

(25/55)


فَكُّ الْحَجْرِ عَنْ السَّفِيهِ:
8 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَمِنْهُمُ الصَّاحِبَانِ الْقَائِلُونَ بِالْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ يَرَوْنَ أَنَّهُ لاَ يُفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ إِلاَّ بَعْدَ إِينَاسِ الرُّشْدِ مِنْهُ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقَائِل بِأَنَّهُ لاَ يُحْجَرُ عَلَى الْبَالِغِ إِلاَّ أَنَّهُ يُمْنَعُ الْوَلِيُّ مِنْ دَفْعِ مَالِهِ إِلَيْهِ إِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ عَامًا مِنْ عُمْرِهِ، فَإِذَا بَلَغَ هَذِهِ السِّنَّ دَفَعَ إِلَيْهِ أَمْوَالَهُ رَشَدَ أَمْ لَمْ يَرْشُدْ.
وَاسْتَدَل: بِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ عَاقِلٌ فَلاَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِالرَّشِيدِ.
وَبِأَنَّ فِي الْحَجْرِ سَلْبَ وِلاَيَتِهِ وَإِهْدَارَ آدَمِيَّتِهِ وَإِلْحَاقَهُ بِالْبَهَائِمِ، وَهُوَ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنَ التَّبْذِيرِ.
فَلاَ يُحْتَمَل الضَّرَرُ الأَْعْلَى لِدَفْعِ الأَْدْنَى؛ وَلأَِنَّ الْغَالِبَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ إِينَاسُ الرُّشْدِ، لأَِنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَدًّا فِيهَا وَلِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّهُ يَنْتَهِي لُبُّ الرَّجُل إِلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً (1) . وَقَدْ فُسِّرَ الأَْشُدُّ بِذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ (2) } .
__________
(1) الاختيار 2 / 97 والهداية بأعلى فتح القدير 8 / 193 ومغني المحتاج 2 / 170 والمغني لابن قدامة 4 / 518 وبلغة السالك 2 / 128 ونيل الأوطار 5 / 368.
(2) سورة الأنعام / 152.

(25/55)


مَنْ يَفُكُّ حَجْرَ السَّفِيهِ:
9 - السَّفَهُ - كَمَا تَقَدَّمَ - نَوْعَانِ: نَوْعٌ اسْتَمَرَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَآخَرُ طَرَأَ بَعْدَ بُلُوغِهِ رَشِيدًا.
أَمَّا إِذَا كَانَ قَدِ اسْتَمَرَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَوَال الْحَجْرِ عَنْهُ عَلَى ثَلاَثَةِ آرَاءٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُ يَزُول بَعْدَ زَوَال السَّفَهِ وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، أَوْ فَكِّ وَلِيٍّ، أَوْ إِذْنِ زَوْجٍ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْل مَنْ لاَ يَرَى لُزُومَ حُكْمِ الْحَاكِمِ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ.
وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ ثَبَتَ بِدُونِ حُكْمِ حَاكِمٍ فَيَزُول بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ كَالْحَجَرِ عَلَى الْمَجْنُونِ (1) .
وَثَانِيهَا: لاَ بُدَّ مِنْ حُكْمِ حَاكِمٍ فِي زَوَالِهِ، وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّ الرُّشْدَ يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ.
وَعُلِّل ذَلِكَ بِأَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ حَجْرِ الْقَاضِي عَلَيْهِ فَلاَ يُفَكُّ إِلاَّ بِقَرَارٍ مِنْهُ.
وَثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ وَلِيُّهُ الْوَصِيَّ أَوْ مُقَدَّمَ الْقَاضِي
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 170 والمبدع 4 / 331 والمبسوط 24 / 163 وبلغة السالك 2 / 130.

(25/56)


فَلاَ يَحْتَاجُ فَكُّهُمَا الْحَجْرَ عَنْهُ إِلَى إِذْنِ الْقَاضِي بَل هُمَا يَفُكَّانِهِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ الأَْبُ فَإِنَّهُ يَفُكُّ عَنْهُ بِرُشْدِهِ، إِلاَّ إِذَا حَجَرَ عَلَيْهِ قَبْل الرُّشْدِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَإِنْ طَرَأَ بَعْدَ بُلُوغِهِ رَشِيدًا فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُشْتَرَطُ لِفَكِّهِ قَضَاءُ قَاضٍ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَبِهِ قَال أَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَبِهِ قَال الشَّافِعِيَّةُ، وَجَمِيعُ مَنْ يُشْتَرَطُ لِحَجْرِهِ حُكْمُ حَاكِمٍ.
وَعَلَّلُوا ذَلِكَ: بِأَنَّهُ ثَبَتَ بِحُكْمِ حَاكِمٍ فَلاَ يَزُول إِلاَّ بِحُكْمِ حَاكِمٍ (2) .
وَثَانِيهِمَا: لاَ يُشْتَرَطُ قَضَاءُ الْقَاضِي لِزَوَالِهِ بَل يَكْفِي انْتِفَاءُ السَّفَهِ عَنْهُ لاِعْتِبَارِهِ رَشِيدًا وَهُوَ قَوْل أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُ حَجْرٌ سَبَبُهُ السَّفَهُ وَقَدْ زَال كَالصِّغَرِ وَالْجُنُونِ (3) .
__________
(1) الدسوقي 3 / 296 ومواهب الجليل 5 / 65.
(2) المبدع 4 / 342 والدر المختار مع حاشية ابن عابدين 6 / 152 ومغني المحتاج 2 / 170 تكملة المجموع 13 / 382.
(3) المبدع 4 / 342.

(25/56)


ادِّعَاءُ الرُّشْدِ أَوِ السَّفَهِ وَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ:
10 - إِذَا ادَّعَى الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَنَّهُ قَدْ رَشَدَ وَأَقَامَ الْوَلِيُّ أَوِ الْوَصِيُّ بَيِّنَةً أُخْرَى بِالسَّفَهِ أَوْ بِاسْتِمْرَارِهِ.
فَإِنْ ذَكَرَتِ الْبَيِّنَتَانِ التَّارِيخَ وَاخْتَلَفَ أُخِذَ بِذَاتِ التَّارِيخِ الْمُتَأَخِّرِ.
وَإِنْ جَاءَتَا مُقَيَّدَتَيْنِ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَاسْتَوَتَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ السَّفَهِ.
وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ؛ لأَِنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ - وَهُوَ اسْتِصْحَابُ الأَْصْل. إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ اشْتَرَطُوا لِقَبُول شَهَادَةِ السَّفَهِ وَالرُّشْدِ بَيَانُ سَبَبِهِمَا؛ إِذْ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ بَعْضَ الصَّرْفِ هُوَ نَوْعٌ مِنَ السَّرَفِ - كَأَنْ يَأْكُل وَيَلْبَسَ الأَْشْيَاءَ النَّفِيسَةَ اللاَّئِقَةَ بِأَمْثَالِهِ - وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ لَيْسَ بِسَرَفٍ، وَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ إِصْلاَحَ نَوْعٍ مِنَ التَّصَرُّفِ هُوَ رُشْدٌ، لِذَلِكَ لاَ بُدَّ مِنْ بَيَانِ سَبَبِ السَّفَهِ وَالرُّشْدِ.
أَمَّا إِذَا جَاءَتْ مُطْلَقَةً عَنِ التَّوْقِيتِ فَقَدْ قَال الشَّافِعِيَّةُ: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الرُّشْدِ (1) .
__________
(1) انظر تكملة المجموع 13 / 370 ومغني المحتاج 2 / 177 وحاشية ابن عابدين مع الدر المختار 6 / 152.

(25/57)


الْوِلاَيَةُ عَلَى مَال السَّفِيهِ:
11 - تَقَدَّمَ أَنَّ السَّفَهَ قِسْمَانِ: مُسْتَمِرٌّ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَطَارِئٌ بَعْدَ بُلُوغِهِ رَشِيدًا.
(1) فَإِنْ كَانَ الأَْوَّل: فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الأَْوْلَى بِالْوِلاَيَةِ الأَْبُ ثُمَّ وَصِيُّهُ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ لَمْ يُوصِ الأَْبُ فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يُقِيمَ أَمِينًا فِي النَّظَرِ فِي أَقْوَالِهِ وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ.
ثُمَّ بَعْدَ وَصِيِّ الأَْبِ الْحَاكِمُ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ لَمْ يُوجَدِ الْحَاكِمُ فَأَمِينٌ يَقُومُ بِهِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الأَْبُ، ثُمَّ وَصِيُّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، ثُمَّ وَصِيُّ وَصِيِّهِ، ثُمَّ الْجَدُّ الصَّحِيحُ وَإِنْ عَلاَ، ثُمَّ وَصِيُّهُ ثُمَّ وَصِيُّ وَصِيِّهِ ثُمَّ الْقَاضِي أَوْ وَصِيُّهُ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الأَْوْلَى الأَْبُ ثُمَّ الْجَدُّ؛ لأَِنَّهُمَا أَشْفَقُ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْقَاضِي أَوْ السُّلْطَانُ (3) .
وَقَدِ اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْوِلاَيَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِلسُّلْطَانِ أَوْ لِلْقَاضِي
__________
(1) الخرشي 5 / 297 وكشاف القناع 3 / 434، 440.
(2) حاشية ابن عابدين 6 / 174.
(3) مغني المحتاج 2 / 170، والقليوبي 2 / 304.

(25/57)


فَقَطْ؛ لأَِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُعِيدُ عَلَيْهِ الْحَجْرَ وَيَفُكُّهُ، إِذْ وِلاَيَةُ الأَْبِ وَنَحْوِهِ قَدْ زَالَتْ فَيَنْظُرُ لَهُ مَنْ لَهُ النَّظَرُ الْعَامُّ وَهُوَ الرَّاجِحُ مِنْ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقِيل: هُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ.
أَمَّا الرَّأْيُ الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالاِسْتِحْسَانُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - وَقِيل: هُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ - فَالأَْوْلَى بِذَلِكَ هُوَ مَنْ ذُكِرَ فِي السَّفَهِ الاِسْتِمْرَارِيِّ (1) .
(2) وَإِنْ كَانَ الثَّانِي: فَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ إِطْلاَقِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ السَّفَهِ الاِسْتِمْرَارِيِّ وَالطَّارِئِ فِي الْوِلاَيَةِ، فَالأَْحَقُّ الأَْبُ ثُمَّ وَصِيُّهُ ثُمَّ الْحَاكِمُ (2) .
وَلاَ وِلاَيَةَ لِلأُْمِّ إِلاَّ عَلَى قَوْل الأَْثْرَمِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: حَيْثُ تَجُوزُ وِلاَيَةُ الأُْمِّ إِنْ لَمْ يَكُنْ وَصِيٌّ.
كَمَا لاَ وِلاَيَةَ لِلْجَدِّ وَالْعَصَبَاتِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَتَعْلِيل مَنْ لَمْ يَجْعَل لِلْجَدِّ وَالْعَصَبَاتِ وِلاَيَةً عَلَى الْمَال دُونَ النِّكَاحِ: أَنَّ الْمَال مَحَل
__________
(1) كشاف القناع 3 / 435، 440، ومغني المحتاج 2 / 870 وحاشية ابن عابدين 6 / 174.
(2) الخرشي 5 / 297.

(25/58)


الْخِيَانَةِ، وَغَيْرُ الأَْبِ وَوَصِيِّهِ وَالْقَاضِي قَاصِرٌ عَنْهَا غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى الْمَال.
وَشُرُوطُ الْوَلِيِّ وَوَاجِبَاتُهُ وَمَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ أَوْ لاَ يَجُوزُ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (وِلاَيَة) .

أَثَرُ السَّفَهِ فِي الأَْحْكَامِ. الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ اللَّهِ:
12 - لاَ يُوجِبُ السَّفَهُ خَلَلاً فِي أَهْلِيَّةِ الْخِطَابِ وَلاَ يَمْنَعُ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مِنَ الْوُجُوبِ عَلَى السَّفِيهِ أَوْ لَهُ، فَيَكُونُ مُطَالَبًا بِالأَْحْكَامِ كُلِّهَا.
وَلِهَذَا لاَ تَنْعَدِمُ الأَْهْلِيَّةُ بِسَبَبِ السَّفَهِ وَلاَ يُجْعَل السَّفَهُ عُذْرًا فِي إِسْقَاطِ الْخِطَابِ عَنْهُ بِشَيْءٍ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَلاَ فِي إِهْدَارِ عِبَارَتِهِ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الأَْسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ (1) .

أَثَرُ السَّفَهِ فِي الزَّكَاةِ:
12 م - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي مَال السَّفِيهِ - فَهُوَ فِي وُجُوبِهَا عَلَيْهِ كَالرَّشِيدِ؛ لأَِنَّهَا تَصَرُّفٌ لاَ يَحْتَمِل الْفَسْخَ وَالنَّقْضَ وَلأَِنَّ مَنْ عَدَا الْحَنَفِيَّةَ أَوْجَبُوهَا فِي مَال الصَّغِيرِ
__________
(1) المبسوط 24 / 157 وشرح المنار لابن ملك 2 / 988، 989.

(25/58)


وَالْمَجْنُونِ فَوُجُوبُهَا عَلَى السَّفِيهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
وَلَكِنْ حَصَل الْخِلاَفُ فِي مَنْ يَدْفَعُهَا هَل هُوَ أَمْ وَلِيُّهُ؟
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَدْفَعُهَا عَنْهُ وَلِيُّهُ كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ الْمَالِيَّةِ؛ لأَِنَّهَا وِلاَيَةٌ وَتَصَرُّفٌ مَالِيٌّ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ يُفَرِّقُ الزَّكَاةَ بِنَفْسِهِ لَكِنْ إِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ وَعَيَّنَ لَهُ الْمَدْفُوعَ إِلَيْهِ صَحَّ صَرْفُهُ، وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْوَلِيِّ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ يَدْفَعُهَا إِلَيْهِ وَلِيُّهُ لِيَصْرِفَهَا بِنَفْسِهِ؛ لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ فَلاَ بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ فِيهَا، وَلَكِنْ يَبْعَثُ مَعَهُ أَمِينًا كَيْ لاَ يَصْرِفَهَا فِي غَيْرِ وَجْهِهَا (1) .

زَكَاةُ الْفِطْرِ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى السَّفِيهِ وَمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مُسْلِمٌ
__________
(1) الهداية مع فتح القدير 8 / 699، وبدائع الصنائع 7 / 671 ومغني المحتاج 2 / 172 وكشاف القناع 3 / 442 للإمام العلامة منصور بن إدريس البهوتي المولود سنة 1000 المتوفى بالقاهرة 1051 هـ مطبعة الحكومة بمكة 1394 هـ وبلغة السالك 1 / 193 حيث أوجبها المالكية في مال الصغير والمجنون فالسفيه من باب أولى.

(25/59)


مُكَلَّفٌ حُرٌّ، وَالسَّفَهُ فِيهِ لاَ يُعَارِضُ أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ.
إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي مَنْ يَدْفَعُهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ.
وَإِذَا قَصَّرَ الْوَلِيُّ فِي دَفْعِهَا أَخْرَجَهَا هُوَ بَعْدَ رَفْعِ الْحَجْرِ عَنْهُ.

صَدَقَةُ النَّفْل:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِالْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ إِلَى مَنْعِهِ مِنْ صَدَقَةِ النَّفْل (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ جَوَّزُوهَا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ؛ لأَِنَّهُمْ يَمْنَعُونَ تَصَرُّفَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.

أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الأَْيْمَانِ وَكَفَّارَتِهَا:
14 - إِذَا حَلَفَ السَّفِيهُ بِاَللَّهِ أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ انْعَقَدَ يَمِينُهُ اتِّفَاقًا
أَمَّا كَفَّارَتُهُ: فَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ السَّفِيهَ يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ لاَ غَيْرُ كَابْنِ السَّبِيل الْمُنْقَطِعِ عَنْ مَالِهِ، وَلاَ يُكَفِّرُ بِالْعِتْقِ أَوْ بِالإِْطْعَامِ أَوْ بِالْكِسْوَةِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ لَبَذَّرَ
__________
(1) الإفصاح عن معاني الصحاح لأبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة الحنبلي المتوفى سنة 560 هـ نشر وطبع المؤسسة السعيدية بالرياض، وحاشية ابن عابدين 6 / 149 ومغني المحتاج 1 / 409 وبدائع الصنائع 7 / 171، والمبدع 4 / 330 وبداية المجتهد 2 / 213 والإقناع على أبي شجاع شرح الشربيني 3 / 71.

(25/59)


أَمْوَالَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَلَوْ كَفَّرَ بِهَا لَمْ يُجْزِئْهُ لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ مَالِيٌّ فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ التَّكْفِيرَ بِغَيْرِ الصَّوْمِ إِذَا أَذِنَ الْوَلِيُّ وَعَيَّنَ الْمَصْرِفَ وَكَانَ بِحَضْرَتِهِ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ كَالزَّكَاةِ (1) .
إِلاَّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا قَالاَ: لَوْ أَعْتَقَ عَنْ يَمِينِهِ صَحَّ الْعِتْقُ وَيَسْعَى (2) الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ، وَلاَ يُجْزِئُ عِتْقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ؛ لأَِنَّهُ عِتْقٌ بِعِوَضٍ فَلاَ يَقَعُ التَّحْرِيرُ تَكْفِيرًا.
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: فَبَعْدَ الْخَامِسَةِ وَالْعِشْرِينَ يُكَفِّرُ كَالرَّشِيدِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، وَكَذَا قَبْلَهَا لِعُمُومِ آيَةِ الْيَمِينِ.
وَلَوْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ، وَفِي أَثْنَائِهِ فُكَّ حَجْرُهُ أَوِ انْتَهَى، بَطَل تَكْفِيرُهُ بِالصَّوْمِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ كَالرَّشِيدِ، لِزَوَال الْحَجْرِ عَنْهُ، أَمَّا لَوْ فُكَّ عَنْهُ الْحَجْرَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الصِّيَامِ فَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِلْكَفَّارَةِ (3) .
__________
(1) المجموع 13 / 181 وبدائع الصنائع 7 / 170 ومغني المحتاج 2 / 171، 173 والمواق 5 / 65 وكشاف القناع 3 / 413.
(2) السعاية: هو أن يكلف العبد المعتوق بالكسب وجمع المال ليدفع قيمته إلى سيده بدلا من عتقه.
(3) المبسوط 24 / 170، والاختيار 2 / 68 وكشاف القناع 3 / 443، والمبدع 4 / 344.

(25/60)


أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى النَّذْرِ:
15 - إِنْ نَذَرَ السَّفِيهُ عِبَادَةً بَدَنِيَّةً وَجَبَتِ اتِّفَاقًا، لأَِنَّهُ مَحْجُورٌ عَنْ صَرْفِ أَمْوَالِهِ وَعَنِ التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَالْعِبَادَةُ الْبَدَنِيَّةُ لاَ تَعَلُّقَ لَهَا بِالْمَال.
وَإِنْ نَذَرَ عِبَادَةً مَالِيَّةً - فَقَدْ حَصَل الْخِلاَفُ فِي صِحَّتِهَا عَلَى ثَلاَثَةِ آرَاءٍ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: تَلْزَمُهُ بِذِمَّتِهِ لاَ بِعَيْنِ مَالِهِ فَيَثْبُتُ الْمَنْذُورُ بِهِ فِي ذِمَّتِهِ، وَيَفِي بِهِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ، وَهُوَ رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
الرَّأْيُ الثَّانِي: لاَ تَلْزَمُهُ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) .
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: تَلْزَمُهُ وَلَكِنْ مِنْ حَقِّ الْوَلِيِّ إِبْطَالُهُ، وَهُوَ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ (3) .

أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ:
16 - أَمَّا حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ - وَهِيَ حَجُّ الْفَرْضِ أَدَاءً أَوْ قَضَاءً.
فَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى السَّفِيهِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 173.
(2) المبسوط 24 / 170، وشرح العناية على الهداية 8 / 199، وكشاف القناع 3 / 143.
(3) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 323.

(25/60)


وَعَلَى صِحَّتِهَا مِنْهُ، وَلاَ يَحِقُّ لِوَلِيِّهِ حَجْرُهُ عَنْهَا؛ لأَِنَّهَا وَجَبَتْ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتُدْفَعُ النَّفَقَةُ إِلَى ثِقَةٍ يُنْفِقُ عَلَيْهِ حَتَّى الْعَوْدَةِ (1) .
أَمَّا الْحَجُّ الْمَنْذُورُ - فَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لُزُومُهُ، فَقَدْ صَرَّحُوا بِلُزُومِ النَّذْرِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ (2) .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لاَ يَلْزَمُ السَّفِيهَ حَجُّ النَّذْرِ (3) .
وَأَمَّا حَجُّ النَّفْل فَيُمْنَعُ مِنْهُ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِهِ بَعْدَ الْحَجْرِ صَحَّ وَتُدْفَعُ إِلَيْهِ نَفَقَتُهُ الْمَعْهُودَةُ - وَهِيَ مِقْدَارُ مَا كَانَ يُنْفِقُهُ لَوْ كَانَ فِي مَنْزِلِهِ (4) .
17 - أَمَّا الْعُمْرَةُ لأَِوَّل مَرَّةٍ فَمَنْ قَال بِوُجُوبِهَا وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا بِصِحَّةِ إِحْرَامِهِ بِهَا، وَتُدْفَعُ نَفَقَاتُهُ إِلَى ثِقَةٍ يُنْفِقُ عَلَيْهِ حَتَّى الْعَوْدَةِ، كَمَا سَبَقَ فِي الْقَوْل بِالْحَجِّ.
وَبِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا - أَيْ: لاَ يُمْنَعُ
__________
(1) فتح القدير على الهداية 8 / 199، ومغني المحتاج 2 / 173، وكشاف القناع 3 / 442، وبلغة السالك 1 / 244.
(2) مغني المحتاج 2 / 173، والصاوي 1 / 323، وكشاف القناع 3 / 143.
(3) المبسوط 24 / 171.
(4) الهداية مع فتح القدير 8 / 199، وابن عابدين 6 / 149، ومغني المحتاج 2 / 173، وكشاف القناع 3 / 442.

(25/61)


مِنْ أَدَاءِ الْعُمْرَةِ - فَإِنَّهُمْ وَإِنْ قَالُوا بِسُنِّيَّتِهَا إِلاَّ أَنَّهُمْ أَجَازُوهَا مِنْهُ؛ لاِخْتِلاَفِ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِهَا.
حَتَّى إِنَّهُمْ قَالُوا: لاَ يُمْنَعُ الْحَاجُّ مِنَ الْقِرَانِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْنَعُ مِنْ إِفْرَادِ السَّفَرِ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلاَ يُمْنَعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَلَمْ نَجِدْ تَصْرِيحًا لَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (1) .

جِنَايَتُهُ فِي الإِْحْرَامِ:
18 - إِذَا أَحْرَمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَحَصَلَتْ مِنْهُ جِنَايَةٌ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُجْزِئُ فِي كَفَّارَتِهِ الصِّيَامُ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ لاَ غَيْرُ. وَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مِنَ الدَّمِ يُؤَخَّرُ إِلَى مَا بَعْدَ رُشْدِهِ - كَالْفَقِيرِ الَّذِي لاَ يَجِدُ الْمَال، وَكَذَا لَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ تَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ مُصْلِحًا (2) .
أَيْ: رَاشِدًا.

أَثَرُ السَّفَهِ فِي الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ:
19 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: السَّفِيهُ مِثْل الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ إِلاَّ فِي الطَّلاَقِ وَاسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ وَنَفْيِهِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 173، وانظر الخلاف في سنيتها ووجوبها في الخرشي 2 / 281.
(2) الهداية مع الفتح 8 / 199.

(25/61)


وَالْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ، وَالإِْقْرَارِ بِمُوجِبِ عُقُوبَةٍ (1) .

أَوَّلاً: أَثَرُهُ فِي النِّكَاحِ.

أ - زَوَال وِلاَيَةِ النِّكَاحِ بِالسَّفَهِ:
20 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَوَال وِلاَيَةِ السَّفِيهِ وَبَقَائِهَا إِلَى مَذْهَبَيْنِ نَظَرًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي اشْتِرَاطِ الرُّشْدِ فِي الْوَلِيِّ وَعَدَمِهِ.
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: تَزُول وِلاَيَةُ الْوَلِيِّ بِالسَّفَهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَصْلُحُ لأَِمْرِ نَفْسِهِ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ لأَِمْرِ غَيْرِهِ، فَلاَ يَصِحُّ إِيجَابُهُ أَصَالَةً وَلاَ وَكَالَةً، أَذِنَ الْوَلِيُّ أَمْ لَمْ يَأْذَنْ، أَمَّا الْقَبُول فَتَصِحُّ وَكَالَتُهُ فِيهِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٌ لِمَالِكٍ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: بَقَاءُ الْوِلاَيَةِ لَهُ؛ لأَِنَّ رُشْدَ الْمَال غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي النِّكَاحِ وَأَنَّهُ كَامِل النَّظَرِ فِي أَمْرِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا حُجِرَ عَلَيْهِ لِحِفْظِ مَالِهِ.
وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالرَّأْيُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ (2) .
__________
(1) بلغة السالك 2 / 139.
(2) كشاف القناع 5 / 55، وبدائع الصنائع 7 / 171، وبداية المجتهد 2 / 9، ومغني المحتاج 2 / 171، 3 / 154.

(25/62)


ب - تَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ السَّفِيهَةِ نَفْسَهَا:
21 - مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ لِلْمَرْأَةِ الرَّشِيدَةِ تَزْوِيجَ نَفْسِهَا لَمْ يُجَوِّزْهُ لِلسَّفِيهَةِ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
وَأَمَّا مَنْ جَوَّزَ إِنْكَاحَ الرَّشِيدَةِ نَفْسَهَا كَأَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَمُحَمَّدٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَأَبِي يُوسُفَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي إِنْكَاحِ السَّفِيهَةِ نَفْسَهَا، فَأَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ لاَ يَرَوْنَ الْحَجْرَ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لاَ يَقُول بِهِ.
فَلِلسَّفِيهَةِ عِنْدَهُ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا.
وَأَمَّا غَيْرُهُ مِمَّنْ لاَ يَشْتَرِطُ الْوَلِيَّ فَقَال مُحَمَّدٌ: يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا وَلاَ يَنْفُذُ إِلاَّ بِإِجَازَةِ الْوَلِيِّ (1) .

ج - أَثَرُ السَّفَهِ فِي النِّكَاحِ:
22 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ نِكَاحِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِلسَّفَهِ وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ إِذْنِ الْوَلِيِّ لِصِحَّتِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ - إِلَى صِحَّةِ نِكَاحِهِ أَذِنَ الْوَلِيُّ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ؛ وعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ مَالِيٍّ وَلُزُومُ الْمَال فِيهِ
__________
(1) انظر نيل الأوطار 6 / 251، والاختيار 3 / 90، وبداية المجتهد 2 / 7، والمبسوط 24 / 478، 479 والمغني 6 / 419.

(25/62)


ضِمْنِيٌّ؛ وَلأَِنَّهُ يَصِحُّ مَعَ الْهَزْل؛ وَلأَِنَّهُ مِنَ الْحَوَائِجِ الأَْصْلِيَّةِ لِلإِْنْسَانِ.
وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَابِلَةِ: يَصِحُّ بِشَرْطِ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ، وَقَالُوا: لأَِنَّهُ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ وَالنِّكَاحُ لَمْ يُشْرَعْ لِقَصْدِ الْمَال، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْحَاجَةُ لِلْمُتْعَةِ أَمْ لِلْخِدْمَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو ثَوْرٍ: إِلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ، لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ يَجِبُ بِهِ الْمَال فَلَمْ يَصِحَّ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ كَالشِّرَاءِ، وَقَدْ جَعَلُوا الْخِيَارَ لِلْوَلِيِّ: إِنْ شَاءَ زَوَّجَهُ بِنَفْسِهِ وَإِنْ شَاءَ أَذِنَ لَهُ لِيَعْقِدَ بِنَفْسِهِ (1) .
فَإِذَا تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ فَلاَ شَيْءَ لِلزَّوْجَةِ إِنْ لَمْ يَدْخُل بِهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَإِنْ دَخَل بِهَا فَلاَ حَدَّ لِلشُّبْهَةِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ - كَمَا لَوِ اشْتَرَى شَيْئًا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ وَأَتْلَفَهُ، وَالْقَوْل الثَّانِي: يَلْزَمُهُ مَهْرُ الْمِثْل - كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى غَيْرِهِ، وَالثَّالِثُ: يَلْزَمُهُ أَقَل شَيْءٍ يُتَمَوَّل.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ نِكَاحِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، وَيَكُونُ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ، وَإِنْ رَدَّهُ بَطَل وَلاَ شَيْءَ لِلزَّوْجَةِ، وَهَل يَحِقُّ لِلْوَلِيِّ إِجْبَارُ السَّفِيهِ عَلَى النِّكَاحِ؟ .
__________
(1) الهداية على فتح القدير 8 / 198، وبدائع الصنائع 7 / 171، والمبدع 4 / 343، وكشاف القناع 3 / 441، تكملة المجموع 13 / 381، والمغني 2 / 523.

(25/63)


جَوَّزَ الْحَنَابِلَةُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ السَّفِيهُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ - بِأَنْ كَانَ زَمِنًا أَوْ ضَعِيفًا يَحْتَاجُ إِلَى امْرَأَةٍ تَخْدُمُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ فَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ ذَلِكَ، وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .

22 م - أَمَّا الْمَهْرُ فَأَبُو حَنِيفَةَ يُثْبِتُ لِمَنْ نَكَحَهَا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ الْمَهْرَ الْمُسَمَّى؛ لأَِنَّهُ لاَ يَرَى الْحَجْرَ عَلَيْهِ.
وَقَال غَيْرُهُ: يَتَقَيَّدُ بِمَهْرِ الْمِثْل، وَلاَ تَصِحُّ الزِّيَادَةُ وَلَوْ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ؛ لأَِنَّهَا تَبَرُّعٌ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ اعْتَبَرُوا الزِّيَادَةَ لاَزِمَةً إِذَا أَذِنَ بِهَا الْوَلِيُّ (2) .

أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الطَّلاَقِ وَالْخُلْعِ وَالظِّهَارِ وَالإِْيلاَءِ:
23 - ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ إِلَى وُقُوعِ الطَّلاَقِ مِنَ السَّفِيهِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَالْحَجْرُ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ. وَالطَّلاَقُ لَيْسَ بِتَصَرُّفٍ فِي الْمَال فَلاَ يُمْنَعُ كَالإِْقْرَارِ بِالْحَدِّ، بِدَلِيل أَنَّهُ يَصِحُّ مِنَ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ مَعَ مَنْعِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَال.
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 99، تكملة المجموع 3 / 381، والتاج والإكليل للمواق 3 / 457، وكشاف القناع 5 / 45، ومغني المحتاج 2 / 171.
(2) الهداية مع فتح القدير 8 / 198، والمبدع 4 / 343.

(25/63)


وَقَال ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ: لاَ يَقَعُ طَلاَقُهُ؛ لأَِنَّ الْبُضْعَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَال، بِدَلِيل أَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِمَالٍ وَيَصِحُّ أَنْ يَزُول مِلْكُهُ عَنْهُ بِمَالٍ فَلَمْ يَمْلِكِ التَّصَرُّفَ فِيهِ كَالْمَال (1) .
وَأَمَّا خُلْعُهُ فَيَصِحُّ، إِلاَّ أَنَّهَا لاَ تُسَلِّمُ بَدَل الْخُلْعِ إِلَيْهِ بَل إِلَى وَلِيِّهِ، فَإِنْ سَلَّمَتْهُ إِلَيْهِ فَتَلِفَ فِي يَدِهِ أَوْ أَتْلَفَهُ وَجَبَ عَلَيْهَا الضَّمَانُ - كَمَا فِي الْبَيْعِ.
وَلَوْ دَفَعَتْهُ إِلَيْهِ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَبْرَأُ كَمَا لَوْ سَلَّمَتْهُ إِلَى الْعَبْدِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ.
وَثَانِيهِمَا: لاَ تَبْرَأُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْقَبْضِ.
وَأَمَّا الرَّجْعَةُ: فَتَصِحُّ مِنْهُ وَلَوْ لَمْ يَأْذَنْ وَلِيُّهُ (2) .
وَيَقَعُ ظِهَارُ السَّفِيهِ وَإِيلاَؤُهُ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ لاَ بِالْعِتْقِ وَالإِْطْعَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَإِنْ كَفَّرَ بِالْعِتْقِ لَمْ يَنْفُذْ، وَإِنْ كَفَّرَ بِالإِْطْعَامِ لَمْ يَجُزْ؛ لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ مَالِيٌّ، فَإِنْ فُكَّ
__________
(1) المبسوط 24 / 171، بدائع الصنائع 7 / 171، ومغني المحتاج 3 / 279، 2 / 172، وتكملة المجموع 13 / 380، وكشاف القناع 3 / 442، والمغني 4 / 521 والخرشي 5 / 265، والمواق 5 / 65.
(2) تكملة المجموع 14 / 380، والمبدع 4 / 343، ومغني المحتاج 3 / 336، وبلغة السالك 1 / 439.

(25/64)


عَنْهُ الْحَجْرُ قَبْل الصَّوْمِ كَفَّرَ كَالرَّشِيدِ لاَ إِنْ فُكَّ بَعْدَ الصَّوْمِ (1) .
وَلَوْ طَلَبَتِ السَّفِيهَةُ الْخُلْعَ.
فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، إِذَا بَلَغَتْ رَشِيدَةً وَحُجِرَ عَلَيْهَا لَمْ يَصِحَّ خُلْعُهَا، وَلَوْ خَالَعَهَا بِلَفْظِ الْخُلْعِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُول طَلُقَتْ رَجْعِيًّا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ طَلُقَتْ بَائِنًا وَلاَ مَال لَهُ. وَلَغَا ذِكْرُ الْمَال؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْل الْتِزَامِهِ وَإِنْ أَذِنَ لَهَا الْوَلِيُّ. وَإِنْ لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهَا يَصِحُّ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَقَالُوا: لاَ يَصِحُّ الْخُلْعُ إِنْ طَلَبَتْهُ السَّفِيهَةُ وَبَذَلَتْ مِنْهَا الْمَال بِدُونِ إِذْنِ وَلِيِّهَا، وَإِنْ بَذَلَهُ غَيْرُهَا أَوْ هِيَ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ صَحَّ، وَإِلاَّ بَانَتْ مِنْهُ بِدُونِ عِوَضٍ (2) .

أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَضَانَةِ:
24 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ السَّفَهِ مَانِعًا الْمَرْأَةَ مِنَ الْحَضَانَةِ أَوْ مُسْقِطًا لَهَا.
فَذَهَبَ مَنِ اشْتَرَطَ فِي الْحَاضِنَةِ الرُّشْدَ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّفَهَ مَانِعٌ مِنْهَا
__________
(1) الخرشي 5 / 295، والمبدع 4 / 343، والمبسوط 24 / 170، ومغني المحتاج 32 / 352، والسيل الجرار 2 / 413.
(2) مغني المحتاج 3 / 264، والمبسوط 24 / 174، والفروع 5 / 344، وبلغة السالك 1 / 410.

(25/64)


وَمُسْقِطٌ لَهَا، فَلَيْسَ لِلسَّفِيهِ أَوْلَوِيَّةُ الْحَضَانَةِ بِالصَّبِيِّ وَالصَّبِيَّةِ.
وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ مُبَذِّرٌ فَلَرُبَّمَا يُتْلِفُ مَال الْمَحْضُونِ أَوْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْهُ مَا لاَ يَلِيقُ بِهِ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِي الْحَاضِنَةِ الرُّشْدَ لَدَى ذِكْرِهِمْ شُرُوطَ الْحَاضِنَةِ، لِذَا فَإِنَّ السَّفَهَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي إِسْقَاطِ الْحَضَانَةِ عِنْدَهُمْ (1) .

نَفَقَةُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ:
25 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُنْفَقُ عَلَى السَّفِيهِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، وَكَذَا يُنْفَقُ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَيَتَوَلَّى ذَلِكَ وَلِيُّهُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّفَقَةَ مِنْ حَوَائِجِهِ وَلأَِنَّهَا حَقُّ أَقْرِبَائِهِ عَلَيْهِ، وَالسَّفَهُ لاَ يُبْطِل حَقَّ اللَّهِ وَلاَ حَقَّ النَّاسِ (2) .

أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ:
26 - إِنْ بَاعَ السَّفِيهُ أَوِ اشْتَرَى شَيْئًا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ لاَ يَنْعَقِدُ بَيْعُهُ وَلاَ شِرَاؤُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 456، وبلغة السالك 1 / 491، وفتح القدير 4 / 184، والمبدع 4 / 234.
(2) بدائع الصنائع 7 / 171، ومجمع الأنهر 2 / 44، وكشاف القناع 3 / 441، ومغني المحتاج 3 / 428، 2 / 176، وبلغة السالك 1 / 481.

(25/65)


يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ وَالْقَاضِي، فَإِنْ رَأَى فِي ذَلِكَ خَيْرًا أَجَازَهُ، وَإِنْ رَأَى فِيهِ مَضَرَّةً رَدَّهُ.
وَذَلِكَ لأَِنَّ تَصَرُّفَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ يُفْضِي إِلَى ضَيَاعِ مَالِهِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ.
وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَنْفُذُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ - وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْوَجْهِ الآْخَرِ - إِلَى صِحَّةِ عَقْدِهِ، وَمَحَل الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا عَيَّنَ لَهُ الْوَلِيُّ قَدْرَ الثَّمَنِ وَإِلاَّ لَمْ يَصِحَّ جَزْمًا، وَمَحَلُّهُمَا أَيْضًا فِيمَا إِذَا كَانَ التَّصَرُّفُ بِعِوَضٍ كَالْبَيْعِ، فَإِنْ كَانَ خَالِيًا عَنْهُ كَهِبَةٍ لَمْ يَصِحَّ جَزْمًا (1) .

أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الْهِبَةِ:
أَوَّلاً: هِبَةُ السَّفِيهِ لِلْغَيْرِ:
27 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِالْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ - فِي عَدَمِ صِحَّةِ هِبَتِهِ إِذَا كَانَتْ بِدُونِ عِوَضٍ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ.
لأَِنَّهَا تَبَرُّعٌ مَالِيٌّ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ؛ وَلأَِنَّهَا مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَحْتَمِل النَّقْضَ
__________
(1) تكملة المجموع 13 / 381، ومغني المحتاج 2 / 171، و172، والمغني 4 / 525، والمبدع 4 / 330، والشرح الصغير 3 / 384، وبدائع الصنائع 7 / 171.

(25/65)


وَالْفَسْخَ، وَلأَِنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى الإِْيجَابِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتْ بِعِوَضٍ - فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِصِحَّتِهَا إِنْ أَذِنَ وَلِيُّهُ بِهَا.

ثَانِيًا: الْهِبَةُ لَهُ:
تَصِحُّ الْهِبَةُ لَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ تَفْوِيتَ مَالٍ بَل تَحْصِيلُهُ (1) .

أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الْوَقْفِ:
28 - بِمَا أَنَّ الْوَقْفَ نَوْعٌ مِنَ التَّبَرُّعِ الْمَالِيِّ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لِحِفْظِ مَالِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلاً لِلتَّبَرُّعِ فَلاَ يَصِحُّ مِنْهُ الْوَقْفُ (2) .

أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الْوَكَالَةِ:

أَوَّلاً: كَوْنُ السَّفِيهِ وَكِيلاً:
29 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ كُل مَا جَازَ لَهُ أَنْ يَعْقِدَهُ بِنَفْسِهِ جَازَ كَوْنُهُ وَكِيلاً فِيهِ، كُل مَا لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ لاَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وَكِيلاً فِيهِ، إِلاَّ قَبُول النِّكَاحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ لَهُ أَنْ يَكُونَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 171، والاختيار 3 / 48، ومغني المحتاج 2 / 171 و397، والمبدع 5 / 365، وكشاف القناع 3 / 441، وبلغة السالك 3 / 289، وبداية المجتهد 2 / 213، والسيل الجرار 1 / 293 - 294.
(2) المبدع 4 / 344، وكشاف القناع 3 / 441، وبداية المجتهد 2 / 213، وبلغة السالك 2 / 276، والاختيار 3 / 45، ومغني المحتاج 2 / 377.

(25/66)


وَكِيلاً فِي قَبُولِهِ لاَ فِي إِيجَابِهِ؛ لأَِنَّ الإِْيجَابَ وِلاَيَةٌ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْوَلِيُّ، وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ صِحَّةُ وَكَالَةِ السَّفِيهِ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ (1) .

ثَانِيًا: تَوْكِيلُهُ لِلْغَيْرِ:
30 - لاَ يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ لِغَيْرِهِ فِي كُل مَا لاَ يَصِحُّ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا مَا يَصِحُّ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِنَفْسِهِ كَالطَّلاَقِ وَالْخُلْعِ وَطَلَبِ الْقِصَاصِ وَنَحْوِهِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّل غَيْرَهُ عَنْهُ؛ لأَِنَّ الْوَكِيل يَقُومُ مَقَامَ الأَْصِيل فِي الإِْيجَابِ وَالْقَبُول، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهِمَا.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ النِّكَاحَ فَإِنَّهُ وَإِنْ صَحَّ لَهُ أَنْ يَعْقِدَهُ لِنَفْسِهِ إِنْ أَذِنَ لَهُ بِهِ فَإِنَّهُ لاَ يُوَكِّل بِهِ غَيْرَهُ (2) .

أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الشَّهَادَةِ:
31 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُول شَهَادَةِ السَّفِيهِ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الأَْوَّل: قَبُولُهَا إِنْ كَانَ عَدْلاً - وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةُ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ الَّذِي
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 217، والاختيار 2 / 156، والمغني لابن قدامة 5 / 87 - 88 والمبدع 4 / 356، وبداية المجتهد 2 / 226.
(2) نفس المراجع.

(25/66)


يَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ حَيْثُ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي الشَّاهِدِ الرُّشْدَ.
وَالثَّانِي: عَدَمُ قَبُولِهَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ مَالِكٍ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ فِي أَصْل الرَّوْضَةِ عَنْ الصَّيْمَرِيِّ (1) .

أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الْوَصِيَّةِ:
32 - إِذَا أَوْصَى السَّفِيهُ فَهَل تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ أَمْ لاَ؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى ثَلاَثَةِ آرَاءٍ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل - صِحَّتُهَا فِيمَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الثُّلُثِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ اسْتِحْسَانًا وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَبِهِ قَال الْمَالِكِيَّةُ إِذَا لَمْ يَحْصُل فِيهَا تَخْلِيطٌ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَلِكَ لِصِحَّةِ عِبَارَتِهِ لأَِنَّهُ عَاقِلٌ مُكَلَّفٌ، وَلأَِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِحِفْظِ مَالِهِ وَلَيْسَ فِي الْوَصِيَّةِ إِضَاعَةٌ لِمَالِهِ، لأَِنَّهُ إِنْ عَاشَ كَانَ مَالُهُ لَهُ وَإِنْ مَاتَ فَلَهُ ثَوَابُهُ وَهُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ.
وَيَقُول ابْنُ رُشْدٍ: لاَ أَعْلَمُ خِلاَفًا فِي نُفُوذِهَا.
الرَّأْيُ الثَّانِي - عَدَمُ صِحَّتِهَا مِنْهُ لأَِنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ، وَهُوَ خِلاَفُ
__________
(1) المواق 5 / 66، والمبسوط 8 / 145، وبلغة السالك 2 / 323، ومغني المحتاج 4 / 427.

(25/67)


الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ حُجِرَ عَلَيْهِ، وَتَصِحُّ قَبْل الْحَجْرِ عَلَيْهِ.
وَالرَّأْيُ الثَّالِثُ - عَدَمُ صِحَّتِهَا إِذَا حَصَل تَخْلِيطٌ - وَهُوَ أَنْ يُوصِيَ بِمَا لَيْسَ بِقُرَبٍ أَوْ أَنْ لاَ يَعْرِفَ فِي نِهَايَةِ كَلاَمِهِ مَا ابْتَدَأَ بِهِ لِخَرَفِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُوَلًّى عَلَيْهِ أَمْ لاَ، وَهَذَا رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ (1) .

الإِْيصَاءُ لَهُ وَقَبُولُهُ الْوَصِيَّةَ:
33 - لاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ الإِْيصَاءِ لِلسَّفِيهِ وَلَكِنِ الْخِلاَفُ فِي صِحَّةِ قَبُولِهِ الْوَصِيَّةَ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ قَبُولِهِ لَهَا؛ لأَِنَّهَا تَمَلُّكٌ، وَلأَِنَّهَا تَصَرُّفٌ مَالِيٌّ، وَهُوَ مَا اقْتَضَاهُ كَلاَمُ أَصْل الرَّوْضَةِ (2) .
وَجَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَالْجُرْجَانِيُّ بِصِحَّةِ قَبُولِهِ لَهَا كَالْهِبَةِ.
أَمَّا الإِْيصَاءُ إِلَيْهِ - أَيْ: جَعْلُهُ وَصِيًّا فَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِالْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الإِْيصَاءُ إِلَيْهِ؛ لِعَدَمِ هِدَايَتِهِ إِلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمُوصَى بِهِ، إِذْ لاَ مَصْلَحَةَ فِي
__________
(1) شرح العناية 8 / 200، ومغني المحتاج 3 / 39، وبلغة السالك 2 / 212، 431، وبداية المجتهد 2 / 112.
(2) مغني المحتاج 2 / 171.

(25/67)


تَوْلِيَةِ مَنْ هَذَا حَالُهُ، وَكَذَلِكَ اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ كَوْنَ الْوَصِيِّ رَشِيدًا (1) .

أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الْقَرْضِ:
34 - لَمْ يَخْتَلِفِ الْقَائِلُونَ بِالْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ فِي عَدَمِ جَوَازِ إِقْرَاضِهِ لِغَيْرِهِ؛ لأَِنَّ الْقَرْضَ فِيهِ نَوْعُ تَبَرُّعٍ فَلاَ يَصِحُّ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ فَإِنَّ الإِْقْرَاضَ يَتَنَافَى مَعَ حَجْرِهِ عَنْ مَالِهِ، أَمَّا اسْتِقْرَاضُهُ مِنَ الْغَيْرِ فَلاَ يَحِقُّ لِلسَّفِيهِ الاِسْتِقْرَاضُ وَلاَ يَمْلِكُ الْمَال الَّذِي اسْتَقْرَضَهُ، لأَِنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الرُّشْدِ، فَإِنْ كَانَ الْمَال الْمُسْتَقْرَضُ بَاقِيًا رَدَّهُ وَلِيُّ السَّفِيهِ إِلَى الْمُقْرِضِ.
وَإِنْ تَلِفَ لَمْ يَضْمَنْهُ السَّفِيهُ؛ لأَِنَّ الْمَالِكَ مُقَصِّرٌ، لأَِنَّهُ هُوَ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَيْهِ بِرِضَاهُ وَسَوَاءٌ عَلِمَ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ، إِذْ هُوَ مُفَرِّطٌ فِي مَالِهِ.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مِنْ مَنْعِهِ مِنَ الاِسْتِقْرَاضِ مَا يَلِي:
أ - إِذَا اسْتَقْرَضَ لِدَفْعِ صَدَاقِ الْمِثْل؛ لأَِنَّهُ إِسْقَاطٌ لَهُ عَنْ ذِمَّتِهِ، فَإِنِ اسْتَقْرَضَ لِلْمَهْرِ وَصَرَفَهُ فِي حَاجَاتِهِ الأُْخْرَى لَمْ يَكُنْ لِلْمُقْرِضِ شَيْءٌ عَلَيْهِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 171، والمغني 6 / 25، 141، وبلغة السالك 2 / 432، 474.

(25/68)


ب - إِذَا اسْتَقْرَضَ لِنَفَقَةِ نَفْسِهِ نَفَقَةَ الْمِثْل إِذَا لَمْ يَكُنِ الْقَاضِي صَرَفَ لَهُ نَفَقَتَهُ لِتِلْكَ الْمُدَّةِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُلْزَمُ الْقَاضِي بِقَضَاءِ الْقَرْضِ؛ لأَِنَّهُ لاَ فَسَادَ فِي صَنِيعِهِ هَذَا.
أَمَّا إِذَا صَرَفَ لَهُ نَفَقَتَهُ فَلاَ يَصِحُّ اسْتِقْرَاضُهُ.
وَإِنِ اسْتَقْرَضَ مَا فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى نَفَقَةِ مِثْلِهِ قَضَى عَنْهُ نَفَقَةَ الْمِثْل لِتِلْكَ الْمُدَّةِ وَأَبْطَل الزِّيَادَةَ؛ لأَِنَّ فِي الزَّائِدِ مَعْنَى الْفَسَادِ وَالإِْسْرَافِ (1) .

أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الإِْيدَاعِ:
35 - إيدَاعُ السَّفِيهِ مَالَهُ نَوْعُ تَصَرُّفٍ مِنْهُ بِالْمَال وَهُوَ مَحْجُورٌ عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الإِْيدَاعُ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يُشْبِهُ الْوَكِيل فَلاَ بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ جَائِزَ التَّصَرُّفِ، وَالسَّفِيهُ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ، وَإِذَا أَوْدَعَ شَخْصٌ لَدَيْهِ مَالاً فَأَتْلَفَهُ فَهَل يَضْمَنُهُ؟ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لاَ يَجِبُ ضَمَانُهُ؛ لأَِنَّ الْمُودَعَ قَدْ فَرَّطَ فِي التَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ يَضْمَنُ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ وَلِيُّهُ.
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 118، والمبدع 4 / 205، وكشاف القناع 3 / 300، والمبسوط 24 / 176، والمجموع 13 / 374، والمغني 4 / 520.

(25/68)


ثَانِيهِمَا: يَجِبُ ضَمَانُهُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِالإِْتْلاَفِ (1) .

أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى غَصْبِ مَال الْغَيْرِ وَإِتْلاَفِهِ:
36 - إِذَا غَصَبَ السَّفِيهُ مَال غَيْرِهِ أَعَادَهُ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا، وَإِنْ تَلِفَ الْمَغْصُوبُ أَوْ أَتْلَفَ مَال إِنْسَانٍ ضَمِنَهُ؛ لأَِنَّ الْعَبْدَ وَالصَّبِيَّ يَضْمَنَانِ الْمَال الْمُتْلَفَ وَهُمَا أَشَدُّ حَجْرًا مِنْهُ، فَهُوَ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَلأَِنَّهُ لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ مِنْ قِبَل صَاحِبِهِ كَالْوَدِيعَةِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ أُخِذَ مِنْ مَالِهِ قِيمَةُ الْمَغْصُوبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أُتْبِعَ بِهِ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى وُجُودِ الْمَال.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مَا إِذَا أَخَذَهُ مِنْهُ وَلِيُّهُ لِيَحْفَظَهُ لِرَبِّهِ فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُ فِي الأَْصَحِّ (2) .

أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الشَّرِكَةِ:
اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي الشَّرِيكِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْل التَّصَرُّفِ كَالْبَيْعِ - وَهُوَ الْحُرُّ الْبَالِغُ الرَّشِيدُ، وَأَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ أَهْل التَّوَكُّل وَالتَّوْكِيل، وَلِذَا لاَ تَصِحُّ الشَّرِكَةُ مِنَ السَّفِيهِ إِلاَّ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَصَرُّفَاتِهِ بِإِذْنِ
__________
(1) انظر بلغة السالك 2 / 184، والمجموع 1 / 375، والمبدع 5 / 233، ومغني المحتاج 3 / 80، والمبسوط 24 / 177.
(2) بلغة السالك 2 / 129، 184، المجموع 3 / 375، والمبدع 4 / 330.

(25/69)


وَلِيِّهِ؛ لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَنْهُ (1) .

أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ:
37 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ كَفَالَةِ السَّفِيهِ لأَِنَّ شَرْطَ صِحَّتِهَا أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَصْلُحُ تَبَرُّعُهُ وَتَصَرُّفُهُ، لأَِنَّهَا الْتِزَامٌ.
وَذَهَبَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ ضَمَانِ السَّفِيهِ، لأَِنَّ إِقْرَارَهُ صَحِيحٌ يُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ فَكِّ حَجْرِهِ، فَكَذَا ضَمَانُهُ يُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ فَكِّ حَجْرِهِ.
أَمَّا الْكَفَالَةُ فَإِنَّهُ مَنَعَهَا مُطْلَقًا.
وَالأَْذْرَعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ صَحَّحَ كَفَالَتَهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ فِي الرَّأْيِ الأَْظْهَرِ.
وَقَدْ جَوَّزَهَا الْمَالِكِيَّةُ إِذَا كَانَتْ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ.
أَمَّا كَوْنُهُ مَكْفُولاً عَنْهُ فَقَدْ جَوَّزَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ كَفَالَةَ شَخْصٍ لِلسَّفِيهِ؛ لأَِنَّ رِضَا الْمَكْفُول عَنْهُ لَيْسَ شَرْطًا عِنْدَهُمْ، وَكَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَصِحُّ ضَمَانُهُ، لأَِنَّ قَضَاءَ دَيْنِ الْغَيْرِ جَائِزٌ دُونَ إِذْنِهِ فَالْتِزَامُ قَضَائِهِ أَوْلَى، أَمَّا كَفَالَتُهُ فَتَصِحُّ، فَإِنْ خَلاَ عَنْ تَفْوِيتِ مَالٍ فَيُعْتَبَرُ إِذْنُهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَفْوِيتُ مَالٍ، كَأَنِ احْتَاجَ
__________
(1) الاختيار 3 / 16 - 18، والمبدع 5 / 3 وبلغة السالك 2 / 154، ومغني المحتاج 2 / 213، وكشاف القناع 3 / 542، والمغني 4 / 598.

(25/69)


إِلَى مُؤْنَةِ سَفَرٍ لإِِحْضَارِهِ فَالْمُعْتَبَرُ إِذْنُ الْوَلِيِّ.
وَجَوَّزَ الْمَالِكِيَّةُ كَفَالَتَهُ فِي الأَْرْجَحِ فِيمَا لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ صَرْفِهِ وَبِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا أَخَذَهُ السَّفِيهُ أَوِ اقْتَرَضَهُ أَوْ بَاعَ بِهِ شَيْئًا مِنْ مَتَاعِهِ يَرْجِعُ الضَّامِنُ فِي مَالِهِ إِذَا أَدَّى عَنْهُ (1) .

أَثَرُهُ عَلَى الْحَوَالَةِ:
38 - السَّفِيهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُحِيلاً أَوْ مُحْتَالاً أَوْ مُحَالاً إِلَيْهِ.
فَإِنْ كَانَ مُحِيلاً: لاَ تَصِحُّ إِحَالَتُهُ، لأَِنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ مَالِيٌّ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَلأَِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ رِضَاهُ، وَرِضَاهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ؛ لأَِنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِالْقَوْل، وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ.
وَإِنْ كَانَ مُحَالاً فَمَنِ اشْتَرَطَ رِضَاهُ - وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - لاَ تَصِحُّ إِحَالَتُهُ عِنْدَهُمْ؛ لأَِنَّ رِضَاهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي قَبْضِ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ مَدِينِهِ فَلاَ تَصِحُّ إِحَالَتُهُ إِلاَّ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ أُحِيل عَلَى مَلِيءٍ لاَ يُشْتَرَطُ رِضَاهُ (2) .
__________
(1) كشاف القناع 3 / 442 و350 و362، ومواهب الجليل والمواق 5 / 96، وبلغة السالك 2 / 144، ومغني المحتاج 2 / 198، و200، والاختيار 2 / 156، والمغني 4 / 598، وحاشية البجيرمي على الخطيب 3 / 102.
(2) الاختيار 3 / 4، وبلغة السالك 2 / 142، ومغني المحتاج 2 / 193، والإنصاف 5 / 227، 228.

(25/70)


وَإِنْ كَانَ مُحَالاً عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ عَلَى السَّفِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
(1) فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى صِحَّةِ الْحَوَالَةِ عَلَيْهِ، وَهَذَا مُقْتَضَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِمْ رِضَا الْمُحَال عَلَيْهِ لِصِحَّتِهَا، وَيَدْفَعُ عَنْهُ وَلِيُّهُ أَوْ وَصِيُّهُ.
(2) وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْحَوَالَةِ عَلَى السَّفِيهِ، وَهَذَا مَا يَقْتَضِيهِ اشْتِرَاطُهُمْ رِضَا الْمُحَال عَلَيْهِ لِصِحَّةِ الْحَوَالَةِ، وَالسَّفِيهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الرِّضَا وَالتَّصَرُّفِ. أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ عَدَمِ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ فَإِنَّ رِضَاهُ مُعْتَبَرٌ، فَالْحَوَالَةُ عَلَيْهِ صَحِيحَةٌ (1) .

أَثَرُهُ عَلَى الإِْعَارَةِ:
39 - إِذَا أَعَارَ السَّفِيهُ شَيْئًا أَوِ اسْتَعَارَ لاَ يَصِحُّ؛ لأَِنَّهُ تُشْتَرَطُ فِي الْمُعِيرِ وَالْمُسْتَعِيرِ أَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ وَأَنْ يَكُونَ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ، وَالسَّفِيهُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَهَل يَضْمَنُ إِذَا اسْتَعَارَ شَيْئًا فَتَلِفَ؟ ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَوْضُوعِ وَجْهَيْنِ:
__________
(1) فتح القدير على الهداية 5 / 444، الإنصاف 5 / 227، 228، المغني 4 / 505، بلغة السالك 153، بداية المجتهد 2 / 299، مغني المحتاج 2 / 149.

(25/70)


أَحَدُهُمَا: لاَ يَضْمَنُ؛ لأَِنَّهُ أَخَذَهُ بِاخْتِيَارِ مَالِكِهِ.
وَثَانِيهِمَا: يَضْمَنُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَعِيرَ (1) .

أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الرَّهْنِ وَالاِرْتِهَانِ:
40 - لاَ يَجُوزُ لِلسَّفِيهِ أَنْ يَرْهَنَ شَيْئًا عِنْدَ آخَرَ، وَلاَ أَنْ يَرْتَهِنَ شَيْئًا؛ لأَِنَّ الْفُقَهَاءَ مِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَ كَوْنَ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْل التَّبَرُّعِ، وَالسَّفِيهُ لَيْسَ أَهْلاً لِذَلِكَ، وَكَذَا لاَ يَصِحُّ لِوَلِيِّهِ الرَّهْنُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ أَوْ غِبْطَةٍ - وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - وَمِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَ لَهُ الإِْيجَابَ وَالْقَبُول، وَأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ، لِذَا لاَ يَصِحُّ مِنْهُ، وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ (2) .

أَثَرُهُ عَلَى الصُّلْحِ:
41 - لاَ يَصِحُّ مِنَ السَّفِيهِ أَنْ يُصَالِحَ؛ لأَِنَّ الصُّلْحَ عَقْدٌ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَمَعْنَى التَّبَرُّعِ، وَالسَّفِيهُ لَيْسَ أَهْلاً لِذَلِكَ. انْظُرْ مُصْطَلَحَ (صُلْح (3)) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 264، والمبدع 4 / 330، وبلغة السالك 2 / 19.
(2) الاختيار 2 / 63، ومغني المحتاج 2 / 122، والمبدع 4 / 214، وبلغة السالك 2 / 108.
(3) الاختيار 3 / 5، والمبدع 4 / 279، ومغني المحتاج 2 / 177، وبلغة السالك 2 / 136.

(25/71)


أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الإِْجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ:
42 - لاَ يَصِحُّ مِنَ السَّفِيهِ أَنْ يُؤَجِّرَ وَلاَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ وَلاَ أَنْ يُسَاقِيَ عَلَى بُسْتَانِهِ إِلاَّ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ؛ لأَِنَّهَا مُعَامَلَةٌ تَحْتَمِل النَّقْضَ وَالْفَسْخَ فَلاَ تَصِحُّ إِلاَّ مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَلَكِنِ الْمَالِكِيَّةُ جَوَّزُوا لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ إِلاَّ إِذَا حَابَى فِي الأُْجْرَةِ (1) .

أَثَرُهُ عَلَى اللُّقَطَةِ وَاللَّقِيطِ:
43 - إِنِ الْتَقَطَ السَّفِيهُ لُقَطَةً أَوْ وَجَدَ لَقِيطًا صَحَّ الْتِقَاطُهُ، وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ الْوَلِيُّ مِنْهُ لِحَقِّ اللَّقِيطِ وَحَقِّ مَالِكِ اللُّقَطَةِ، وَيَقُومُ بِتَعْرِيفِ اللُّقَطَةِ لأَِنَّ اللاَّقِطَ لَيْسَ مِنْ أَهْل التَّعْرِيفِ وَهُوَ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي مَالِهِ، فَكَذَا فِي لُقَطَتِهِ (2) .

أَثَرُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ:
44 - لاَ يَصِحُّ مِنَ السَّفِيهِ أَنْ يُضَارِبَ آخَرَ أَوْ أَنْ يَأْخُذَ هُوَ مَالاً مُضَارَبَةً؛ لأَِنَّهَا نَوْعٌ مِنَ الشَّرِكَةِ، وَأَنَّ الْعَامِل وَكِيل رَبِّ الْمَال، وَالشَّرْطُ فِي الشَّرِيكِ أَنْ يَكُونَ جَائِزَ التَّصَرُّفِ؛ لأَِنَّهَا عَقْدٌ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَال، فَلاَ تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ جَائِزِ التَّصَرُّفِ، وَكَذَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَكِيل (3) .
__________
(1) المبدع 5 / 63، وبلغة السالك 2 / 244، وبدائع الصنائع 7 / 171، ومغني المحتاج 2 / 332.
(2) مغني المحتاج 2 / 418، والمبدع 5 / 290 - 296.
(3) الاختيار 3 / 19، ومغني المحتاج 2 / 313 - 314، والمبدع 5 / 2، وبلغة السالك 2 / 124 و226.

(25/71)


أَثَرُ السَّفَهِ عَلَى الإِْقْرَارِ:

أَوَّلاً: الإِْقْرَارُ بِمَالٍ أَوْ بِدَيْنٍ أَوْ غَيْرِهِ:
45 - إِذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ أَوْ إِتْلاَفِ مَالٍ، أَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ، فَهَل يَصِحُّ إِقْرَارُهُ قَضَاءً؟
فِي الْمَسْأَلَةِ آرَاءٌ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: عَدَمُ صِحَّةِ إِقْرَارِهِ سَوَاءٌ أَسْنَدَ وُجُوبَ الْمَال إِلَى مَا قَبْل الْحَجْرِ أَمْ إِلَى مَا بَعْدَهُ كَالصَّبِيِّ؛ إِذْ إِنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لِحِفْظِ مَالِهِ.
فَلَوْ قُلْنَا بِصِحَّةِ إِقْرَارِهِ تَوَصَّل بِالإِْقْرَارِ إِلَى إِبْطَال مَعْنَى الْحَجْرِ، وَمَا لاَ يَلْزَمُهُ بِالإِْقْرَارِ وَالاِبْتِيَاعِ لاَ يَلْزَمُهُ إِذَا فُكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ؛ لأَِنَّا أَسْقَطْنَا حُكْمَ الإِْقْرَارِ وَالاِبْتِيَاعِ لِحِفْظِ الْمَال، فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِذَا فُكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ لَمْ يُؤَثِّرِ الْحَجْرُ فِي حِفْظِ الْمَال.
وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لَكِنِ الْحَنَفِيَّةُ قَالُوا: بَعْدَ صَلاَحِهِ إِنْ سُئِل عَمَّا أَقَرَّ بِهِ وَقَال: كَانَ حَقًّا، أُخِذَ بِهِ بَعْدَ رَفْعِ الْحَجْرِ عَنْهُ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَهُمْ قَوْلاَنِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ الأَْصَحُّ عَدَمُ إِلْزَامِهِ بِهِ؛ لأَِنَّ الْمَنْعَ مِنْ نُفُوذِ إِقْرَارِهِ فِي حَال الْحَجْرِ عَلَيْهِ لِحِفْظِ مَالِهِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ، فَنُفُوذُهُ بَعْدَ فَكِّهِ عَنْهُ لاَ يُفِيدُ

(25/72)


إِلاَّ تَأْخِيرَ الضَّرَرِ عَلَيْهِ إِلَى أَكْمَل حَالَتَيْهِ.
وَالرَّأْيُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ بَعْدَ فِكَاكِ حَجْرِهِ، لأَِنَّهُ مُكَلَّفٌ فَيَلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ عِنْدَ زَوَال الْحَجْرِ كَالرَّاهِنِ وَالْمُفْلِسِ.
وَالرَّأْيُ الثَّالِثُ: يُقْبَل قَوْلُهُ؛ لأَِنَّهُ إِذَا بَاشَرَ الإِْتْلاَفَ يَضْمَنُ، فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ قُبِل قَضَاءً وَهُوَ الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَمَّا دِيَانَةً، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي إِقْرَارِهِ لَزِمَهُ رَدُّهُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ (1) .

ثَانِيًا: إِقْرَارُهُ بِاسْتِهْلاَكِ الْوَدِيعَةِ:
46 - إِذَا أَقَرَّ بِأَنَّ الْوَدِيعَةَ الَّتِي أَوْدَعَهَا إِيَّاهُ رَجُلٌ قَدْ هَلَكَتْ، لاَ يُصَدَّقُ فِي إِقْرَارِهِ وَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، لأَِنَّ إِقْرَارَهُ غَيْرُ مُلْزِمٍ لَهُ بِالْمَال مَا دَامَ مَحْجُورًا كَالصَّبِيِّ (2) .

ثَالِثًا: إِقْرَارُهُ بِالنِّكَاحِ:
47 - لَوْ أَقَرَّ السَّفِيهُ بِالنِّكَاحِ فَإِنَّهُ تَابِعٌ لِلْقَوْل بِصِحَّتِهِ مِنْهُ، فَمَنْ أَجَازَ إنْشَاءَهُ مِنْهُ قَال بِصِحَّةِ إِقْرَارِهِ بِهِ كَالْحَنَفِيَّةِ، وَمَنْ قَال لاَ بُدَّ مِنْ إِذْنِ وَلِيِّهِ لَمْ يَعْتَبِرْ إِقْرَارُهُ بِهِ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ. أَمَّا السَّفِيهَةُ فَيُقْبَل إِقْرَارُهَا لِمَنْ صَدَّقَهَا كَالرَّشِيدَةِ.
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 172، والمبسوط 24 / 177، والمبدع 4 / 344، 345، وكشاف القناع 3 / 443، وبلغة السالك 2 / 190.
(2) لمبسوط 24 / 177.

(25/72)


إِذْ لاَ أَثَرَ لِلسَّفَهِ مِنْ جَانِبِهَا؛ لأَِنَّ إِقْرَارَهَا يَحْصُل بِهِ الْمَال وَهُوَ الْمَهْرُ، وَإِقْرَارُهُ يَفُوتُ بِهِ الْمَال (1) .

رَابِعًا: إِقْرَارُهُ بِالنَّسَبِ وَنَفْيُهُ:
48 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِقْرَارَ السَّفِيهِ بِالنَّسَبِ يَصِحُّ مِنْهُ وَيُلْحَقُ الْمُقَرُّ بِهِ بِنَسَبِهِ؛ إِذْ لاَ يُؤَثِّرُ عَلَيْهِ السَّفَهُ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، فَيُقْبَل إِقْرَارُهُ كَالْحَدِّ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أُنْفِقَ عَلَى الْمُلْحَقِ مِنْ بَيْتِ الْمَال.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: هُوَ إِجْمَاعُ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ (2) .

خَامِسًا: إِقْرَارُهُ بِالْقِصَاصِ أَوْ بِحَدٍّ مِنَ الْحُدُودِ:
49 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الإِْقْرَارِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَبِمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: هُوَ إِجْمَاعُ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي نَفْسِهِ، وَلِعَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِالْمَال، وَعَلَيْهِ أَرْشُ جِنَايَتِهِ؛ لأَِنَّهُ تَفْرِيطٌ مِنَ الْمَالِكِ، وَالإِْتْلاَفُ يَسْتَوِي فِيهِ جَائِزُ التَّصَرُّفِ وَغَيْرُهُ.
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 172، 239، والمبسوط 24 / 171.
(2) المبدع 4 / 344، 4 / 173، والمبسوط 24 / 169، وبلغة السالك 2 / 176 - 180، تكملة المجموع 13 / 381.

(25/73)


فَإِنْ عَفَا عَنْهُ الْمُقَرُّ لَهُ فَهَل يَسْقُطُ أَمْ لاَ؟ ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَصَحُّهُمَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَلاَ يَجِبُ الْمَال فِي الْحَال؛ لأَِنَّ السَّفِيهَ وَالْمُقَرَّ لَهُ قَدْ يَتَوَاطَآنِ عَلَى ذَلِكَ، وَيَجِبُ عِنْدَهُمْ إِذَا انْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ. وَيَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لأَِنَّهُ تَعَلَّقَ بِاخْتِيَارِ غَيْرِهِ لاَ بِإِقْرَارِهِ.
أَمَّا إِقْرَارُهُ بِمَا يُوجِبُ الْمَال فَلاَ يَلْزَمُهُ كَجِنَايَةِ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ (1) .

أَثَرُ السَّفَهِ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْجِنَايَةِ أَوِ الْقِصَاصِ الثَّابِتِ لَهُ:
50 - إِذَا جَنَى عَلَيْهِ أَحَدٌ جِنَايَةَ عَمْدٍ فِي بَدَنِهِ أَوْ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْقِصَاصِ بِقَتْل مُوَرِّثِهِ وَأَرَادَ الْعَفْوَ عَنِ الْجَانِي، فَهَل يَصِحُّ أَمْ لاَ؟ .
إِنْ وَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ؛ لأَِنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ التَّشَفِّي، وَإِنْ عَفَا عَنْهُ عَلَى مَالٍ كَانَ الأَْمْرُ لَهُ.
وَإِنْ عَفَا مُطْلَقًا أَوْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ فَعَلَى الْقَوْل بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ لاَ غَيْرُ صَحَّ عَفْوُهُ، وَعَلَى الْقَوْل: إِنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ الأَْمْرَيْنِ، يَصِحُّ عَفْوُهُ عَلَى مَالٍ.
وَهَل يَصِحُّ عَفْوُهُ عَنِ الدِّيَةِ؟ لاَ يَصِحُّ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 172، وبدائع الصنائع 7 / 171، والخرشي 5 / 295، وكشاف القناع 3 / 441، 442، والمبدع 4 / 344.

(25/73)


عَفْوُهُ عَنْهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ: يَصِحُّ الْعَفْوُ بِدُونِ مَالٍ؛ إِذْ لَيْسَ فِيهِ إِلاَّ الْعَفْوُ مَجَّانًا أَوِ الْقِصَاصُ.
وَلاَ يَصِحُّ عَفْوُهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا عَنْ جِرَاحِ الْخَطَأِ لأَِنَّهَا مَالٌ، فَإِنْ أَدَّى جُرْحُهُ إِلَى إِتْلاَفِ نَفْسِهِ وَعَفَا عَنْ ذَلِكَ عِنْدَ مَوْتِهِ كَانَ مِنْ ثُلُثِهِ كَالْوَصَايَا.
وَفِي مَعْنَى الْخَطَأِ الْعَمْدُ الَّذِي لاَ قِصَاصَ فِيهِ - كَالْجَائِفَةِ (1) .