الموسوعة
الفقهية الكويتية شُفْعَةٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الشُّفْعَةُ بِضَمِّ الشِّينِ وَسُكُونِ الْفَاءِ اسْمُ مَصْدَرٍ
بِمَعْنَى التَّمَلُّكِ، وَتَأْتِي أَيْضًا اسْمًا لِلْمِلْكِ الْمَشْفُوعِ
كَمَا قَال الْفَيُّومِيُّ. وَهِيَ مِنَ الشَّفْعِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ
الْوَتْرِ، لِمَا فِيهِ مِنْ ضَمِّ عَدَدٍ إِلَى عَدَدٍ أَوْ شَيْءٍ إِلَى
شَيْءٍ، يُقَال: شَفَعَ الرَّجُل الرَّجُل شَفْعًا إِذَا كَانَ فَرْدًا
فَصَارَ لَهُ ثَانِيًا وَشَفَعَ الشَّيْءَ شَفْعًا ضَمَّ مِثْلَهُ إِلَيْهِ
وَجَعَلَهُ زَوْجًا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا: " تَمْلِيكُ
الْبُقْعَةِ جَبْرًا عَلَى الْمُشْتَرِي بِمَا قَامَ عَلَيْهِ. أَوْ هِيَ
حَقُّ تَمَلُّكٍ قَهْرِيٍّ يَثْبُتُ لِلشَّرِيكِ الْقَدِيمِ عَلَى
الْحَادِثِ فِيمَا مُلِكَ بِعِوَضٍ (2) "
__________
(1) القاموس، والمعجم الوسيط، والمصباح، مادة: (شفع) .
(2) حاشية رد المحتار على الدر المختار 5 / 142، ونهاية المحتاج إلى شرح
المنهاج 5 / 192، وحاشية سعدي حلبي بهامش فتح القدير 6 / 406، والتاج
والإكليل لمختصر خليل 4 / 310، والخرشي على مختصر خليل 6 / 161.
(26/136)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَيْعُ الْجَبْرِيُّ:
2 - الْبَيْعُ الْجَبْرِيُّ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: الْبَيْعُ
الْحَاصِل مِنْ مُكْرَهٍ بِحَقٍّ، أَوِ الْبَيْعُ عَلَيْهِ نِيَابَةً
عَنْهُ، لإِِيفَاءِ حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ، أَوْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ، أَوْ
لِتَحْقِيقِ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ (1) . فَالْبَيْعُ الْجَبْرِيُّ أَعَمُّ
مِنَ الشُّفْعَةِ.
ب - التَّوْلِيَةُ:
3 - التَّوْلِيَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ هِيَ: بَيْعُ مَا مَلَكَهُ بِمِثْل
مَا قَامَ عَلَيْهِ، وَكُلٌّ مِنْ بَيْعِ التَّوْلِيَةِ وَالشُّفْعَةِ
بَيْعٌ بِمِثْل مَا اشْتَرَى وَيَخْتَلِفَانِ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الشُّفْعَةُ حَقٌّ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ وَلِصَاحِبِهِ
الْمُطَالَبَةُ بِهِ أَوْ تَرْكُهُ (2) ، لَكِنْ قَال الشَّبْرَامَلِّسِيُّ
- مِنَ الشَّافِعِيَّةِ - إِنْ تَرَتَّبَ عَلَى تَرْكِ الشُّفْعَةِ
مَعْصِيَةٌ - كَأَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي مَشْهُورًا بِالْفِسْقِ
وَالْفُجُورِ - فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الأَْخْذُ بِهَا مُسْتَحَبًّا بَل
وَاجِبًا إِنْ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِدَفْعِ مَا يُرِيدُهُ الْمُشْتَرِي
مِنَ الْفُجُورِ (3) .
__________
(1) المصباح المنير مادة جبر، وأسنى المطالب 2 / 2، وهذا التعريف مستخلص من
أمثلة البيع الجبري من كتب الفقه، وانظر الموسوعة الفقهية 9 / 70.
(2) شرح الكنز للزيلعي 5 / 239، ونهاية المحتاج 5 / 192، حاشية البجيرمي 3
/ 133، والمغني 5 / 459 - 460.
(3) نهاية المحتاج مع حاشية الشبراملسي 5 / 193.
(26/136)
وَاسْتَدَلُّوا مِنَ السُّنَّةِ بِحَدِيثِ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - 43 - قَال: قَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِي كُل مَا لَمْ يُقْسَمْ،
فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ، وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ، فَلاَ شُفْعَةَ (1)
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَال جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَضَى
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِي كُل
شَرِكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ، لاَ يَحِل لَهُ أَنْ
يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ
تَرَكَ، فَإِذَا بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ (2) . وَعَنْ
سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: جَارُ
الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ (3) .
وَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى إِثْبَاتِ
الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يُقَاسِمْ فِيمَا بِيعَ مِنْ أَرْضٍ
أَوْ دَارٍ أَوْ حَائِطٍ (4) . حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الشُّفْعَةِ:
5 - لَمَّا كَانَتِ الشَّرِكَةُ مَنْشَأَ الضَّرَرِ فِي الْغَالِبِ وَكَانَ
الْخُلَطَاءُ كَثِيرًا مَا يَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى
__________
(1) حديث جابر: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة " أخرجه
البخاري (4 / 436 - ط. السلفية) .
(2) حديث جابر: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة "
أخرجه مسلم (3 / 1229 - ط. الحلبي) .
(3) حديث: " جار الدار أحق بالدار " أخرجه الترمذي (3 / 641 - ط. الحلبي)
وقال: " حديث حسن صحيح ".
(4) المغني 5 / 460، وانظر أيضًا مغني المحتاج 2 / 296.
(26/137)
بَعْضٍ شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى رَفْعَ هَذَا الضَّرَرِ بِأَحَدِ طَرِيقَيْنِ:
(1) بِالْقِسْمَةِ تَارَةً وَانْفِرَادِ كُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ
بِنَصِيبِهِ
(2) وَبِالشُّفْعَةِ تَارَةً أُخْرَى وَانْفِرَادِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ
بِالْجُمْلَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الآْخَرِ ضَرَرٌ فِي ذَلِكَ.
فَإِذَا أَرَادَ بَيْعَ نَصِيبِهِ وَأَخْذَ عِوَضِهِ كَانَ شَرِيكُهُ
أَحَقَّ بِهِ مِنَ الأَْجْنَبِيِّ وَهُوَ يَصِل إِلَى غَرَضِهِ مِنَ
الْعِوَضِ مِنْ أَيِّهِمَا كَانَ فَكَانَ الشَّرِيكُ أَحَقَّ بِدَفْعِ
الْعِوَضِ مِنَ الأَْجْنَبِيِّ وَيَزُول عَنْهُ ضَرَرُ الشَّرِكَةِ وَلاَ
يَتَضَرَّرُ الْبَائِعُ لأَِنَّهُ يَصِل إِلَى حَقِّهِ مِنَ الثَّمَنِ
وَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْعَدْل وَأَحْسَنِ الأَْحْكَامِ
الْمُطَابِقَةِ لِلْعُقُول وَالْفِطَرِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ. كَمَا قَال
ابْنُ الْقَيِّمِ (1) .
وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الشُّفْعَةِ كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ،
دَفْعُ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ وَاسْتِحْدَاثِ الْمَرَافِقِ
وَغَيْرِهَا كَمِنْوَرٍ وَمِصْعَدٍ وَبَالُوعَةٍ فِي الْحِصَّةِ
الصَّائِرَةِ إِلَيْهِ، وَقِيل ضَرَرِ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ (2) .
__________
(1) أعلام الموقعين 2 / 247.
(2) نهاية المحتاج 5 / 192، حاشية البجيرمي 3 / 134، وانظر المبسوط للسرخسي
14 / 91، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 5 / 239، ابن عابدين 5 / 142.
(26/137)
أَسْبَابُ الشُّفْعَةِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ الَّذِي
لَهُ حِصَّةٌ شَائِعَةٌ فِي نَفْسِ الْعَقَارِ الْمَبِيعِ مَا لَمْ
يُقْسَمْ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الاِتِّصَال بِالْجِوَارِ وَحُقُوقِ الْمَبِيعِ
فَاعْتَبَرَهُمَا الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَسْبَابِ الشُّفْعَةِ خِلاَفًا
لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
الشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ عَلَى الشُّيُوعِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ الَّذِي
لَهُ حِصَّةٌ شَائِعَةٌ فِي ذَاتِ الْعَقَارِ الْمَبِيعِ مَا دَامَ لَمْ
يُقَاسِمْ (1) . وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ السَّابِقِ ف / 4
الشَّرِكَةُ الَّتِي تَكُونُ مَحَلًّا لِلشُّفْعَةِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الشَّرِكَةِ الَّتِي تَكُونُ مَحَلًّا
لِلشُّفْعَةِ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الأَْوَّل: ذَهَبَ مَالِكٌ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي
الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ كُل مَا
لاَ يَنْقَسِمُ - كَالْبِئْرِ، وَالْحَمَّامِ الصَّغِيرِ، وَالطَّرِيقِ -
لاَ شُفْعَةَ فِيهِ (2) .
__________
(1) البدائع 6 / 2681، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 5 / 252، حاشية
الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 474، نهاية المحتاج 5 / 195، حاشية البجيرمي
3 / 136، المغني 5 / 461، منتهى الإرادات 1 / 527.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 476، الخرشي 6 / 163، بلغة السالك لأقرب المسالك
ومعها الشرح الصغير 2 / 228، نهاية المحتاج 5 / 195، مغني المحتاج 2 / 297،
الأم 2 / 4، المغني 5 / 461، منتهى الإرادات 1 / 557، المقنع 2 / 258.
(26/138)
لأَِنَّ إِثْبَاتَ الشُّفْعَةِ فِيمَا لاَ
يَنْقَسِمُ يَضُرُّ بِالْبَائِعِ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ أَنْ
يَتَخَلَّصَ مِنْ إِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ فِي نَصِيبِهِ بِالْقِسْمَةِ
وَقَدْ يَمْتَنِعُ الْمُشْتَرِي لأَِجْل الشَّفِيعِ فَيَتَضَرَّرُ
الْبَائِعُ وَقَدْ يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ فَتَسْقُطُ الشُّفْعَةُ فَيُؤَدِّي
إِثْبَاتُهَا إِلَى نَفْيِهَا (1) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَمَالِكٌ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ،
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى
أَنَّ الشُّفْعَةَ تَجِبُ فِي الْعَقَارِ سَوَاءٌ قَبِل الْقِسْمَةَ أَمْ
لَمْ يَقْبَلْهَا.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِعُمُومِ حَدِيثِ جَابِرٍ قَال: قَضَى رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِي كُل مَا لَمْ
يُقْسَمْ (2) .
وَلأَِنَّ الشُّفْعَةَ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ اللاَّحِقِ
بِالشَّرِكَةِ فَتَجُوزُ فِيمَا لاَ يَنْقَسِمُ، فَإِذَا كَانَا
شَرِيكَيْنِ فِي عَيْنٍ مِنَ الأَْعْيَانِ، لَمْ يَكُنْ دَفْعُ ضَرَرِ
أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ دَفْعِ ضَرَرِ الآْخَرِ فَإِذَا بَاعَ
نَصِيبَهُ كَانَ شَرِيكُهُ أَحَقَّ بِهِ مِنَ الأَْجْنَبِيِّ، إِذْ فِي
ذَلِكَ إِزَالَةُ ضَرَرِهِ مَعَ عَدَمِ
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 5 / 466.
(2) حديث: " قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالشفعة في كل ما لم
يقسم " سبق تخريجه ف 4.
(26/138)
تَضَرُّرِ صَاحِبِهِ، فَإِنَّهُ يَصِل
إِلَى حَقِّهِ مِنَ الثَّمَنِ وَيَصِل هَذَا إِلَى اسْتِبْدَادِهِ
بِالْمَبِيعِ فَيَزُول الضَّرَرُ عَنْهُمَا جَمِيعًا (1) .
وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّ الضَّرَرَ بِالشَّرِكَةِ فِيمَا لاَ يَنْقَسِمُ
أَبْلَغُ مِنَ الضَّرَرِ بِالْعَقَارِ الَّذِي يَقْبَل الْقِسْمَةَ،
فَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ مُرِيدًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ الأَْدْنَى
فَالأَْعْلَى أَوْلَى بِالدَّفْعِ، وَلَوْ كَانَتِ الأَْحَادِيثُ
مُخْتَصَّةً بِالْعَقَارَاتِ الْمَقْسُومَةِ فَإِثْبَاتُ الشُّفْعَةِ
فِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى ثُبُوتِهَا فِيمَا لاَ يَقْبَل الْقِسْمَةَ (2) .
الشَّفْعَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ:
10 - الشَّرِكَةُ الْمُجِيزَةُ لِلشُّفْعَةِ هِيَ الشَّرِكَةُ فِي
الْمِلْكِ فَقَطْ، فَتَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ فِي رَقَبَةِ
الْعَقَارِ.
أَمَّا الشَّرِكَةُ فِي مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ فَلاَ تَثْبُتُ فِيهَا
الشُّفْعَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفِي قَوْلٍ لِمَالِكٍ لِلشَّرِيكِ فِي
الْمَنْفَعَةِ الْمُطَالَبَةُ بِالشُّفْعَةِ أَيْضًا. قَال الشَّيْخُ
عُلَيْشٌ: (لاَ شُفْعَةَ لِشَرِيكٍ فِي كِرَاءٍ، فَإِنِ اكْتَرَى شَخْصَانِ
دَارًا مَثَلاً ثُمَّ أَكْرَى أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ مَنْفَعَتِهَا
فَلاَ شُفْعَةَ فِيهِ لِشَرِيكِهِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ مَالِكٍ، وَلَهُ
__________
(1) البدائع 6 / 2686، بشرح الكنز 5 / 252، ابن عابدين 6 / 217، المبسوط 14
/ 93، وحاشية الدسوقي 3 / 476 وما بعدها، بلغة السالك لأقرب المسالك 2 /
228، الخرشي 6 / 170.
(2) المراجع السابقة، وأعلام الموقعين 2 / 139 وما بعدها و 249 وما بعدها.
(26/139)
الشُّفْعَةُ فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ
الآْخَرِ) .
وَاشْتَرَطَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لِلشُّفْعَةِ فِي الْكِرَاءِ أَنْ
يَكُونَ مِمَّا يَنْقَسِمُ وَأَنْ يَشْفَعَ لِيَسْكُنَ (1) .
شُفْعَةُ الْجَارِ الْمَالِكِ وَالشَّرِيكِ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ
الْمَبِيعِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ كَمَا سَبَقَ عَلَى ثُبُوتِ شُفْعَةٍ
لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَهُ حِصَّةٌ شَائِعَةٌ فِي ذَاتِ الْمَبِيعِ مَا
دَامَ لَمْ يُقَاسِمْ.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِهَا لِلْجَارِ الْمُلاَصِقِ
وَالشَّرِيكِ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْمَبِيعِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ
اتِّجَاهَانِ.
الأَْوَّل: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ
إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ وَلاَ لِلشَّرِيكِ فِي حُقُوقِ
الْبَيْعِ، وَبِهِ قَال: أَهْل الْمَدِينَةِ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعُمَرُ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ
يَسَارٍ وَالزُّهْرِيُّ وَيَحْيَى الأَْنْصَارِيُّ وَأَبُو الزِّنَادِ
وَرَبِيعَةُ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالأَْوْزَاعِيُّ
وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ (2) .
__________
(1) المبسوط 14 / 95، فتح العزيز 11 / 392، ومغني المحتاج 2 / 297، ومنتهى
الإرادات 1 / 531، شرح منح الجليل 2 / 586، وانظر حاشية الدسوقي 3 / 474 -
475، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 5 / 312، 213، الخرشي 6 / 163.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 474، والشرح الصغير 2 / 228، ومغني المحتاج 2 / 297،
حاشية البجيرمي 3 / 136، وفتح العزيز شرح الوجيز 11 / 392، والمغني 5 /
461، والمقنع 2 / 258.
(26/139)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ
جَابِرٍ وَفِيهِ: فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ
شُفْعَةَ (1) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ فِي صَدْرِهِ
إِثْبَاتَ الشُّفْعَةِ فِي غَيْرِ الْمَقْسُومِ وَنَفْيَهَا فِي
الْمَقْسُومِ؛ لأَِنَّ كَلِمَةَ إِنَّمَا لإِِثْبَاتِ الْمَذْكُورِ
وَنَفْيِ مَا عَدَاهُ، وَآخِرُهُ نَفْيُ الشُّفْعَةِ عِنْدَ وُقُوعِ
الْحُدُودِ وَصَرْفِ الطُّرُقِ، وَالْحُدُودُ بَيْنَ الْجَارَيْنِ
وَاقِعَةٌ وَالطُّرُقُ مَصْرُوفَةٌ فَكَانَتِ الشُّفْعَةُ مَنْفِيَّةً فِي
هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَقَالُوا: إِذَا كَانَ الشَّارِعُ يَقْصِدُ رَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ
الْجَارِ فَهُوَ أَيْضًا يَقْصِدُ رَفْعَهُ عَنِ الْمُشْتَرِي. وَلاَ
يُدْفَعُ ضَرَرُ الْجَارِ بِإِدْخَال الضَّرَرِ عَلَى الْمُشْتَرِي،
فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي حَاجَةٍ إِلَى دَارٍ يَسْكُنُهَا هُوَ
وَعِيَالُهُ، فَإِذَا سُلِّطَ الْجَارُ عَلَى انْتِزَاعِ دَارِهِ مِنْهُ
أَضَرَّ بِهِ ضَرَرًا بَيِّنًا، وَأَيُّ دَارٍ اشْتَرَاهَا وَلَهُ جَارٌ
فَحَالُهُ مَعَهُ هَكَذَا. وَتَطَلُّبُهُ دَارًا لاَ جَارَ لَهَا
كَالْمُتَعَذَّرِ عَلَيْهِ، فَكَانَ مِنْ تَمَامِ حِكْمَةِ الشَّارِعِ أَنْ
أَسْقَطَ الشُّفْعَةَ بِوُقُوعِ الْحُدُودِ وَتَصْرِيفِ الطُّرُقِ لِئَلاَّ
يَضُرَّ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَتَعَذَّرُ عَلَى مَنْ أَرَادَ
شِرَاءَ دَارٍ لَهَا جَارٌ أَنْ يَتِمَّ لَهُ مَقْصُودُهُ (2) .
__________
(1) حديث: " فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة " تقدم تخريجه ف 4.
(2) أعلام الموقعين لابن القيم 2 / 259 وما بعدها.
(26/140)
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ
أَبِي لَيْلَى إِلَى إِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ الْمُلاَصِقِ
وَالشَّرِيكِ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْمَبِيعِ، فَسَبَبُ وُجُوبِ
الشُّفْعَةِ عِنْدَهُمْ أَحَدُ شَيْئَيْنِ: الشَّرِكَةُ أَوِ الْجِوَارُ.
ثُمَّ الشَّرِكَةُ نَوْعَانِ:
أ - شَرِكَةٌ فِي مِلْكِ الْمَبِيعِ.
ب - شَرِكَةٌ فِي حُقُوقِهِ، كَالشِّرْبِ وَالطَّرِيقِ.
قَال الْمَرْغِينَانِيُّ: " الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ لِلْخَلِيطِ فِي نَفْسِ
الْمَبِيعِ، ثُمَّ لِلْخَلِيطِ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ كَالشِّرْبِ
وَالطَّرِيقِ، ثُمَّ لِلْجَارِ (1) ".
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ قَال: " وَقَفْتُ
عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَجَاءَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ
فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى إِحْدَى مَنْكِبَيَّ إِذْ جَاءَ أَبُو رَافِعٍ
مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا سَعْدُ،
ابْتَعْ مِنِّي بَيْتِي فِي دَارِكَ. فَقَال سَعْدٌ: وَاللَّهِ مَا
أَبْتَاعُهُمَا فَقَال الْمِسْوَرُ: وَاللَّهِ لَتَبْتَاعَنَّهُمَا، فَقَال
سَعْدٌ: وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُكَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلاَفٍ مُنَجَّمَةً أَوْ
مُقَطَّعَةً، قَال أَبُو رَافِعٍ: لَقَدْ أُعْطِيتُ بِهَا خَمْسَمِائَةِ
دِينَارٍ وَلَوْلاَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ مَا
أَعْطَيْتُكَهَا بِأَرْبَعَةِ آلاَفٍ وَأَنَا
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2681، تبيين الحقائق 5 / 239، المبسوط 14 / 93 - 94،
والهداية مع الفتح 9 / 369 وما بعدها.
(26/140)
أُعْطَى بِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ
فَأَعْطَاهَا إِيَّاهُ ". (1)
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ تُسْتَحَقُّ
بِسَبَبِ الْجِوَارِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ قَال: قَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْجَارُ أَحَقُّ
بِشُفْعَتِهِ يُنْتَظَرُ بِهِ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا، إِذَا كَانَ
طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا (2) .
عَنِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٌ قَال: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ: أَرْضِي
لَيْسَ لأَِحَدٍ فِيهَا شَرِكَةٌ وَلاَ قِسْمَةٌ إِلاَّ الْجِوَارُ،
فَقَال: الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ. (3)
اسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُول بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْحُكْمُ
بِالشُّفْعَةِ ثَبَتَ فِي الشَّرِكَةِ لإِِفْضَائِهَا إِلَى ضَرَرِ
الْمُجَاوَرَةِ فَحَقِيقَةُ الْمُجَاوَرَةِ أَوْلَى بِالثُّبُوتِ فِيهَا،
وَهَذَا لأَِنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ ضَرَرِ الْمُتَأَذِّي بِسُوءِ
الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَضَرَرُ التَّأَذِّي بِسُوءِ
الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ بِاتِّصَال أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ
بِالآْخَرِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَتَأَتَّى الْفَصْل فِيهِ.
وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْمُجَاوَرَةِ حَتَّى يُرْغَبُ فِي
مُجَاوَرَةِ بَعْضِ النَّاسِ لِحُسْنِ خُلُقِهِ وَيُرْغَبُ
__________
(1) حديث عمرو بن الشريد: " وقفت على سعد بن أبي وقاص. . . " أخرجه البخاري
(الفتح 4 / 437 - ط السلفية) .
(2) حديث: " الجار أحق بشفعته. . . " أخرجه الترمذي (3 / 642 - ط. الحلبي)
وقال: " حديث حسن غريب ".
(3) حديث الشريد بن سويد: " أرضي ليس لأحد فيها. . . " أخرجه النسائي (7 /
320 - ط المكتبة التجارية) وإسناده حسن.
(26/141)
عَنْ جِوَارِ الْبَعْضِ لِسُوءِ خُلُقِهِ،
فَلَمَّا كَانَ الْجَارُ الْقَدِيمُ يَتَأَذَّى بِالْجَارِ الْحَادِثِ
عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْمِلْكِ بِالشُّفْعَةِ دَفْعًا
لِهَذَا الضَّرَرِ (1) .
شُرُوطُ الشُّفْعَةِ بِالْجِوَارِ:
13 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْجِوَارَ سَبَبٌ لِلشُّفْعَةِ
وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا بِالْجِوَارِ عَلَى عُمُومِهِ، بَل
اشْتَرَطُوا لِذَلِكَ أَنْ تَتَحَقَّقَ الْمُلاَصَقَةُ فِي أَيِّ جُزْءٍ
مِنْ أَيِّ حَدٍّ مِنَ الْحُدُودِ، سَوَاءٌ امْتَدَّ مَكَانُ
الْمُلاَصَقَةِ حَتَّى عَمَّ الْحَدَّ أَمْ قَصُرَ حَتَّى لَوْ لَمْ
يَتَجَاوَزْ.
فَالْمُلاَصِقُ لِلْمَنْزِل وَالْمُلاَصِقُ لأَِقْصَى الدَّارِ سَوَاءٌ فِي
اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ لأَِنَّ مِلْكَ كُل حَدٍّ مِنْهُمْ مُتَّصِلٌ
بِالْبَيْعِ.
أَمَّا الْجَارُ الْمُحَاذِي فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ بِالْمُجَاوَرَةِ سَوَاءٌ
أَكَانَ أَقْرَبَ بَابًا أَمْ أَبْعَدَ؛ لأَِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي
الشُّفْعَةِ هُوَ الْقُرْبُ وَاتِّصَال أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ بِالآْخَرِ
وَذَلِكَ فِي الْجَارِ الْمُلاَصِقِ دُونَ الْجَارِ الْمُحَاذِي فَإِنَّ
بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ طَرِيقًا نَافِذًا (2)
وَقَال شُرَيْحٌ (3) : الشُّفْعَةُ بِالأَْبْوَابِ، فَأَقْرَبُ
الأَْبْوَابِ إِلَى الدَّارِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ. لِمَا
__________
(1) المبسوط للسرخسي 14 / 95، والبدائع للكاساني 6 / 2682.
(2) المبسوط 14 / 93، 94، البدائع 6 / 2691، ابن عابدين 5 / 165، وشرح
الكنز للزيلعي 5 / 241، الهداية مع فتح القدير 9 / 376.
(3) المبسوط 14 / 93.
(26/141)
وَرَدَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى
أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَال: إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكَ بَابًا (1) .
وَلاَ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِلْجَارِ
الْمُقَابِل. لأَِنَّ سُوءَ الْمُجَاوَرَةِ لاَ يَتَحَقَّقُ إِذَا لَمْ
يَكُنْ مِلْكُ أَحَدِهِمَا مُتَّصِلاً بِمِلْكِ الآْخَرِ وَلاَ شَرِكَةَ
بَيْنَهُمَا فِي حُقُوقِ الْمِلْكِ.
وَحَقُّ الشُّفْعَةِ يَثْبُتُ لِلْجَارِ الْمُلاَصِقِ لِيُتَرَفَّقَ بِهِ
مِنْ حَيْثُ تَوَسُّعُ الْمِلْكِ وَالْمَرَافِقِ، وَهَذَا فِي الْجَارِ
الْمُلاَصِقِ يَتَحَقَّقُ لاَمِكَانِ جَعْل إِحْدَى الدَّارَيْنِ مِنْ
مَرَافِقِ الدَّارِ الأُْخْرَى.
وَلاَ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْجَارِ الْمُقَابِل لِعَدَمِ إِمْكَانِ
جَعْل إِحْدَى الدَّارَيْنِ مِنْ مَرَافِقِ الدَّارِ الأُْخْرَى بِطَرِيقٍ
نَافِذٍ بَيْنَهُمَا.
وَلَكِنْ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِلْجَارِ الْمُقَابِل إِذَا كَانَتِ
الدُّورُ كُلُّهَا فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ، لإِِمْكَانِ جَعْل
بَعْضِهَا مِنْ مَرَافِقِ الْبَعْضِ بِأَنْ تُجْعَل الدُّورُ كُلُّهَا
دَارًا وَاحِدَةً.
وَلاَ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ إِلاَّ لِلْجَارِ الْمَالِكِ، فَلاَ تَثْبُتُ
لِجَارِ السُّكْنَى، كَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ، لأَِنَّ
الْمَقْصُودَ دَفْعُ ضَرَرِ التَّأَذِّي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى
الدَّوَامِ وَجِوَارُ السُّكْنَى لَيْسَ بِمُسْتَدَامٍ، وَضَرَرُ
التَّأَذِّي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ، بِاتِّصَال أَحَدِ
الْمِلْكَيْنِ بِالآْخَرِ عَلَى وَجْهٍ لاَ
__________
(1) حديث عائشة: " إن لي جارين. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 438 - ط.
السلفية) .
(26/142)
يَتَأَتَّى الْفَصْل فِيهِ (1) .
الشُّفْعَةُ بَيْنَ مُلاَّكِ الطَّبَقَاتِ:
13 م - مُلاَّكُ الطَّبَقَاتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُتَجَاوِرُونَ
فَيَحِقُّ لَهُمُ الأَْخْذُ بِالشُّفْعَةِ بِسَبَبِ الْجِوَارِ (2) .
وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ صَاحِبُ الْعُلُوِّ السُّفْل بِالشُّفْعَةِ حَتَّى
انْهَدَمَ الْعُلُوُّ فَعَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ بَطَلَتِ الشُّفْعَةُ -
لأَِنَّ الاِتِّصَال بِالْجِوَارِ قَدْ زَال، كَمَا لَوْ بَاعَ الَّتِي
يَشْفَعُ بِهَا قَبْل الأَْخْذِ.
وَعَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ تَجِبُ الشُّفْعَةُ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ بِسَبَبِ
الْبِنَاءِ بَل بِالْقَرَارِ وَحَقُّ الْقَرَارِ بَاقٍ.
وَإِنْ كَانَتْ ثَلاَثَةَ أَبْيَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَبَابُ كُلٍّ
إِلَى السِّكَّةِ فَبِيعَ الأَْوْسَطُ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِلأَْعْلَى
وَالأَْسْفَل وَإِنْ بِيعَ الأَْسْفَل أَوِ الأَْعْلَى، فَالأَْوْسَطُ
أَوْلَى، بِمَا لَهُ مِنْ حَقِّ الْقَرَارِ؛ لأَِنَّ حَقَّ التَّعَلِّي
يَبْقَى عَلَى الدَّوَامِ، وَهُوَ غَيْرُ مَنْقُولٍ فَتُسْتَحَقُّ بِهِ
الشُّفْعَةُ كَالْعَقَارِ (3) .
وَلَوْ كَانَ سُفْلٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِ عُلُوٌّ لأَِحَدِهِمَا
مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَبَاعَ هُوَ السُّفْل وَالْعُلُوَّ
كَانَ الْعُلُوُّ لِشَرِيكِهِ فِي الْعُلُوِّ
__________
(1) المبسوط 14 / 95، 96.
(2) مرشد الحيران محمد قدري باشا م 101، والمجلة م 1011.
(3) ابن عابدين 5 / 143.
(26/142)
وَالسُّفْل لِشَرِيكِهِ فِي السُّفْل،
لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرِيكٌ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ فِي حَقِّهِ
وَجَارٌ فِي حَقِّ الآْخَرِ أَوْ شَرِيكٌ فِي الْحَقِّ إِذَا كَانَ
طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا.
وَلَوْ كَانَ السُّفْل لِرَجُلٍ وَالْعُلُوُّ لآِخَرَ فَبِيعَتْ دَارٌ
بِجَنْبِهَا فَالشُّفْعَةُ لَهُمَا (1) .
أَرْكَانُ الشُّفْعَةِ:
14 - أَرْكَانُ الشُّفْعَةِ ثَلاَثَةٌ (2) :
(1) الشَّفِيعُ: وَهُوَ الآْخِذُ.
(2) وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُ: وَهُوَ الْمُشْتَرِي الَّذِي يَكُونُ
الْعَقَارُ فِي حِيَازَتِهِ.
(3) الْمَشْفُوعُ فِيهِ: وَهُوَ الْعَقَارُ الْمَأْخُوذُ أَيْ مَحَل
الشُّفْعَةِ.
وَلِكُل رُكْنٍ مِنْ هَذِهِ الأَْرْكَانِ شُرُوطٌ وَأَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ
بِهَا كَمَا سَيَأْتِي.
الشُّرُوطُ الْوَاجِبُ تَوَافُرُهَا فِي الشَّفِيعِ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: مِلْكِيَّةُ الشَّفِيعِ لِمَا يَشْفَعُ بِهِ:
15 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِلأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ أَنْ يَكُونَ
الشَّفِيعُ مَالِكًا لِلْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ بِهِ وَقْتَ شِرَاءِ
الْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ. لأَِنَّ سَبَبَ الاِسْتِحْقَاقِ جَوَازُ
الْمِلْكِ، وَالسَّبَبُ إِنَّمَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ
الشَّرْطِ، وَالاِنْعِقَادُ أَمْرٌ
__________
(1) شرح الكنز للزيلعي 5 / 241، والفتاوى الهندية 5 / 164.
(2) مغني المحتاج 2 / 296.
(26/143)
زَائِدٌ عَلَى الْوُجُودِ (1) .
قَال الْكَاسَانِيُّ: لاَ شُفْعَةَ لَهُ بِدَارٍ يَسْكُنُهَا
بِالإِْجَارَةِ وَالإِْعَارَةِ وَلاَ بِدَارٍ بَاعَهَا قَبْل الشِّرَاءِ
وَلاَ بِدَارٍ جَعَلَهَا مَسْجِدًا وَلاَ بِدَارٍ جَعَلَهَا وَقْفًا (2) .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ جَوَازُ الشُّفْعَةِ فِي الْكِرَاءِ كَمَا
سَبَقَ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: بَقَاءُ الْمِلْكِيَّةِ لِحِينِ الأَْخْذِ
بِالشُّفْعَةِ:
16 - يَجِبُ أَنْ يَبْقَى الشَّفِيعُ مَالِكًا لِلْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ
بِهِ حَتَّى يَمْتَلِكَ الْعَقَارَ الْمَشْفُوعَ فِيهِ بِالرِّضَاءِ أَوْ
بِحُكْمِ الْقَضَاءِ لِيَتَحَقَّقَ الاِتِّصَال وَقْتَ الْبَيْعِ (3) .
الشُّفْعَةُ لِلْوَقْفِ:
17 - لاَ شُفْعَةَ لِلْوَقْفِ لاَ بِشَرِكَةٍ وَلاَ بِجِوَارٍ.
فَإِذَا بِيعَ عَقَارٌ مُجَاوِرٌ لِوَقْفٍ، أَوْ كَانَ الْمَبِيعُ بَعْضُهُ
مِلْكٌ وَبَعْضُهُ وَقْفٌ وَبِيعَ الْمِلْكُ فَلاَ شُفْعَةَ لِلْوَقْفِ،
لاَ لِقَيِّمِهِ وَلاَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ (4) .
__________
(1) البدائع 6 / 2703) ، المبسوط 14 / 95، وشرح الكنز للزيلعي 5 / 252،
حاشية الدسوقي 3 / 476، مغني المحتاج 2 / 298، نهاية المحتاج 5 / 198،
منتهى الإرادات 1 / 530.
(2) البدائع 6 / 2703.
(3) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي مع حاشية الشلبي 5 / 225، ط 1
سنة 1315 هـ.
(4) البدائع 6 / 2703، حاشية ابن عابدين 6 / 233، الخرشي 6 / 163، مغني
المحتاج 2 / 297، فتح العزيز 11 / 392، شرح منتهى الإرادات 2 / 441.
(26/143)
وَاشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ جَمِيعًا أَلاَّ
يَتَضَمَّنَ التَّمَلُّكُ بِالشُّفْعَةِ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ لأَِنَّ
الشُّفْعَةَ لاَ تَقْبَل التَّجْزِئَةَ. وَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ
إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ قِطْعَةً وَاحِدَةً وَالْمُشْتَرِي وَاحِدًا فَلاَ
يَجُوزُ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَطْلُبَ بَعْضَ الْمَبِيعِ وَيَتْرُكَ الْبَعْضَ
الآْخَرَ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْقِطْعَةُ وَاحِدَةً، وَكَانَ
الْمُشْتَرِي مُتَعَدِّدًا فَيَجُوزُ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَطْلُبَ نَصِيبَ
وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ يَطْلُبَ الْكُل، وَلاَ يُعْتَبَرُ هَذَا
تَجْزِئَةً لِلشُّفْعَةِ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ
مُسْتَقِلٌّ بِمِلْكِيَّةِ نَصِيبِهِ تَمَامَ الاِسْتِقْلاَل. وَإِذَا
كَانَتِ الْقِطَعُ مُتَعَدِّدَةً وَالْمُشْتَرِي وَاحِدًا أَخَذَ كُل
شَفِيعٍ الْقِطْعَةَ الَّتِي يَشْفَعُ فِيهَا، فَإِنْ تَعَدَّدَ
الْمُشْتَرُونَ أَيْضًا فَلِكُل شَفِيعٍ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ بَعْضِهِمْ
أَوْ يَأْخُذَ الْكُل وَيُقَدِّرَ لِكُل قِطْعَةٍ مَا يُنَاسِبُهَا مِنَ
الثَّمَنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا فِي الْعَقْدِ (1) .
الْمَشْفُوعُ مِنْهُ:
18 - وَتَجُوزُ الشُّفْعَةُ عَلَى أَيِّ مُشْتَرٍ لِلْعَقَارِ الْمَبِيعِ
سَوَاءٌ أَكَانَ قَرِيبًا لِلْبَائِعِ أَمْ كَانَ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ.
لِعُمُومِ النُّصُوصِ الْمُثَبِّتَةِ لِلشُّفْعَةِ.
التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا الشُّفْعَةُ:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّصَرُّفَ الْمُجِيزَ
__________
(1) المبسوط 14 / 104، البدائع 6 / 2729، حاشية الدسوقي 3 / 490، القليوبي
3 / 49، 50، المغني 5 / 483، منتهى الإرادات 1 / 529، المقنع 2 / 263.
(26/144)
لِلشُّفْعَةِ هُوَ عَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ،
وَهُوَ الْبَيْعُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ. فَلاَ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فِي
الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ لأَِنَّ الأَْخْذَ
بِالشُّفْعَةِ يَكُونُ بِمِثْل مَا مَلَكَ فَإِذَا انْعَدَمَتِ
الْمُعَاوَضَةُ تَعَذَّرَ الأَْخْذُ بِالشُّفْعَةِ.
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ فِي كُل
مِلْكٍ انْتَقَل بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْهِبَةِ لِغَيْرِ
الثَّوَابِ، وَالصَّدَقَةِ، مَا عَدَا الْمِيرَاثَ فَإِنَّهُ لاَ شُفْعَةَ
فِيهِ بِاتِّفَاقٍ. وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهَا اعْتَبَرَتِ
الضَّرَرَ فَقَطْ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَهْرِ وَأَرْشِ الْجِنَايَاتِ
وَالصُّلْحِ وَبَدَل الْخُلْعِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا فَذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ صَحَّحَهَا الْمِرْدَاوِيُّ
إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِي هَذِهِ الأَْمْوَال لأَِنَّ النَّصَّ
وَرَدَ فِي الْبَيْعِ فَقَطْ وَلَيْسَتْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ بِمَعْنَى
الْبَيْعِ؛ وَلاِسْتِحَالَةِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الشَّفِيعُ بِمِثْل مَا
تَمَلَّكَ بِهِ هَؤُلاَءِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي
رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ
قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ بِجَامِعِ الاِشْتِرَاكِ فِي الْمُعَاوَضَةِ مَعَ
لُحُوقِ الضَّرَرِ ثُمَّ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ
عِنْدَهُمْ أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ فِي هَذِهِ الْحَال
فَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِقِيمَتِهِ وَفِي قَوْلٍ: بِقِيمَةِ مُقَابِلِهِ
(1) .
__________
(1) الهداية مع الفتح 9 / 379، 381، 405، الزيلعي 5 / 252، 253، ابن عابدين
6 / 231، 236، والبدائع 6 / 2696، 2698، 2699، والمبسوط 14 / 141، 145،
وبداية المجتهد 2 / 255، والدسوقي 3 / 476، ومغني المحتاج 2 / 296، ونهاية
المحتاج 5 / 199، وفتح العزيز 11 / 425، والمغني 5 / 467، منتهى الإرادات 1
/ 527، والمقنع 2 / 258، وتصحيح الفروع 4 / 536، 537.
(26/144)
الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ
20 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ
إِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ، فَإِنْ تَقَابَضَا وَجَبَتِ
الشُّفْعَةُ؛ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ عِنْدَ التَّقَابُضِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَرَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَإِنْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا
دُونَ الآْخَرِ فَلاَ شُفْعَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ زُفَرَ تَجِبُ الشُّفْعَةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ
وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
الشُّفْعَةُ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ:
21 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْخِيَارُ
لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ أَوْ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مَعًا فَلاَ
شُفْعَةَ حَتَّى يَجِبَ الْبَيْعُ؛ لأَِنَّهُمْ اشْتَرَطُوا لِجَوَازِ
__________
(1) البدائع 6 / 2696، 2701، المبسوط 14 / 141، الهداية 9 / 407، وشرح
الكنز 5 / 253، ابن عابدين 6 / 237، 238، والدسوقي 2 / 475، 482، وما
بعدها، بداية المجتهد 2 / 256، والخرشي 6 / 170، ومغني المحتاج 1 / 298،
299، وفتح العزيز 11 / 408، 425، ونهاية المحتاج 5 / 198، والمغني 5 / 468،
471، والمقنع 2 / 258 و 272 - 274.
(26/145)
الشُّفْعَةِ زَوَال مِلْكِ الْبَائِعِ عَنِ
الْمَبِيعِ (1) .
وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تَجِبُ
الشُّفْعَةُ لأَِنَّ خِيَارَهُ لاَ يَمْنَعُ زَوَال الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِ
الْبَائِعِ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ يَقِفُ عَلَيْهِ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - لاَ تَجِبُ الشُّفْعَةُ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ
لاَزِمٍ. لأَِنَّ بَيْعَ الْخِيَارِ مُنْحَلٌّ عَلَى الْمَشْهُورِ، إِلاَّ
بَعْدَ مُضِيِّهِ وَلُزُومِهِ فَتَكُونُ الشُّفْعَةُ (3) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: إِنْ شَرَطَ الْخِيَارَ
لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ فَعَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ فَفِي
أَخْذِهِ بِالشُّفْعَةِ قَوْلاَنِ:
الأَْوَّل: الْمَنْعُ، لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَرْضَ بِلُزُومِ
الْعَقْدِ وَفِي الأَْخْذِ إِلْزَامٌ وَإِثْبَاتٌ لِلْعُهْدَةِ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الأَْظْهَرُ - يُؤْخَذُ؛ لأَِنَّهُ لاَ حَقَّ فِيهِ
إِلاَّ لِلْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعُ سُلِّطَ عَلَيْهِ بَعْدَ لُزُومِ
الْمِلْكِ وَاسْتِقْرَارِهِ فَقَبْلَهُ أَوْلَى (4) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ قَبْل انْقِضَاءِ
الْخِيَارِ كَمَا قَال الْمَالِكِيَّةُ (5) .
__________
(1) البدائع 6 / 2071، الخرشي 6 / 170، مغني المحتاج 2 / 299، وما بعدها،
نهاية المحتاج 5 / 198، المغني 5 / 471، والمقنع 20 / 273 وما بعدها.
(2) البدائع 6 / 2701.
(3) حاشية الدسوقي 3 / 483 وما بعدها، الخرشي 6 / 170، بداية المجتهد 2 /
256.
(4) فتح العزيز 11 / 408، وما بعدها، الأم 4 / 4.
(5) المغني 5 / 471.
(26/145)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ شَرَطَ
الْبَائِعُ الْخِيَارَ لِلشَّفِيعِ فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ، لأَِنَّ شَرْطَ
الْخِيَارِ لِلشَّفِيعِ شَرْطٌ لِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ
الشُّفْعَةِ، فَإِنْ أَجَازَ الشَّفِيعُ الْبَيْعَ جَازَ وَلاَ شُفْعَةَ؛
لأَِنَّ الْبَيْعَ تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَ
ابْتِدَاءً. وَإِنْ فُسِخَ الْبَيْعُ فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ لأَِنَّ مِلْكَ
الْبَائِعِ لَمْ يَزُل، وَالْحِيلَةُ لِلشَّفِيعِ فِي ذَلِكَ أَلاَّ
يَفْسَخَ وَلاَ يُجِيزَ حَتَّى يُجِيزَ الْبَائِعُ أَوْ يُجَوِّزَ
الْبَيْعَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فَتَكُونُ لَهُ الشُّفْعَةُ (1) .
الشُّفْعَةُ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الْبُيُوعِ:
أ - الْبَيْعُ بِالْمَزَادِ الْعَلَنِيِّ:
22 - إِذَا بِيعَ الْعَقَارُ بِالْمَزَادِ الْعَلَنِيِّ فَمُقْتَضَى صِيَغِ
الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ لاَ يَمْنَعُونَ الشُّفْعَةَ فِيهِ لأَِنَّهُمْ
ذَكَرُوا شُرُوطًا لِلشُّفْعَةِ إِذَا تَحَقَّقَتْ ثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ
لِلشَّفِيعِ وَلَمْ يَسْتَثْنُوا الْبَيْعَ بِالْمُزَايَدَةِ.
ب - مَا بِيعَ لِيُجْعَل مَسْجِدًا:
23 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْل أَبِي بَكْرٍ
مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اتَّخَذَ الْمُشْتَرِي الدَّارَ
مَسْجِدًا ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْمَسْجِدَ
وَيَأْخُذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ
الْمَسْجِدَ يَتَحَرَّرُ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ
إِعْتَاقِ الْعَبْدِ. وَحَقُّ الشَّفِيعِ لاَ يَكُونُ
__________
(1) البدائع 6 / 2701 وما بعدها.
(26/146)
أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ثُمَّ
حَقُّ الْمُرْتَهِنِ لاَ يَمْنَعُ حَقَّ الرَّاهِنِ فَكَذَلِكَ حَقُّ
الشَّفِيعِ لاَ يَمْنَعُ صِحَّةَ جَعْل الدَّارِ مَسْجِدًا.
وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ لِلشَّفِيعِ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ
حَقًّا مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ
جَعْلِهِ مَسْجِدًا، لأَِنَّ الْمَسْجِدَ يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى
خَالِصًا، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَعَل جُزْءًا شَائِعًا مِنْ دَارِهِ
مَسْجِدًا أَوْ جَعَل وَسَطَ دَارِهِ مَسْجِدًا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ،
لأَِنَّهُ لَمْ يَصِرْ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى فَكَذَلِكَ مَا فِيهِ
حَقُّ الشُّفْعَةِ إِذَا جَعَلَهُ مَسْجِدًا، وَهَذَا لأَِنَّهُ فِي
مَعْنَى مَسْجِدِ الضِّرَارِ لأَِنَّهُ قَصَدَ الأَْضْرَارَ بِالشَّفِيعِ
مِنْ حَيْثُ إِبْطَال حَقِّهِ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ كَانَ
لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ وَيَرْفَعَ الْمُشْتَرِي
بِنَاءَهُ الْمُحْدَثَ (1) .
الْمَال الَّذِي تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ:
24 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَقَارَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ
مِنَ الأَْمْوَال الثَّابِتَةِ تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ (2) . وَأَمَّا
الأَْمْوَال الْمَنْقُولَةُ فَفِيهَا خِلاَفٌ يَأْتِي بَيَانُهُ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِي الْعَقَارِ وَنَحْوِهِ
بِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) المبسوط 14 / 113 - 114، والبدائع 6 / 2702، وابن عابدين 6 / 233، ط 2،
والخرشي 6 / 174، وحاشية الدسوقي 3 / 487، والفروع 4 / 550.
(2) البدائع 6 / 2700، تبيين الحقائق 5 / 252، حاشية ابن عابدين 6 / 236،
المبسوط 14 / 98.
(26/146)
قَال: قَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِي كُل شَرِكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ رَبْعَةٍ
أَوْ حَائِطٍ (1) .
وَبِأَنَّ الشُّفْعَةَ فِي الْعَقَارِ مَا وَجَبَتْ لِكَوْنِهِ: مَسْكَنًا،
وَإِنَّمَا وَجَبَتْ لِخَوْفِ أَذَى الدَّخِيل وَضَرَرِهِ عَلَى سَبِيل
الدَّوَامِ وَذَلِكَ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ فِي الْعَقَارِ (2) .
وَتَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الْعَقَارِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ
الْعُلُوُّ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَقَارُ مِمَّا يَحْتَمِل الْقِسْمَةَ أَوْ
مِمَّا لاَ يَحْتَمِلُهَا كَالْحَمَّامِ وَالرَّحَى وَالْبِئْرِ،
وَالنَّهْرِ، وَالْعَيْنِ، وَالدُّورِ الصِّغَارِ. وَكُل مَا يَتَعَلَّقُ
بِالْعَقَارِ مِمَّا لَهُ ثَبَاتٌ وَاتِّصَالٌ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدَّمِ
ذِكْرُهَا (3) .
25 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِي الْمَنْقُول
عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ تَثْبُتُ فِي الْمَنْقُول وَهُوَ قَوْل
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبَيِ
الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (4) . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ.
بِحَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ ` صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِي كُل
__________
(1) حديث جابر: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم " تقدم تخريجه ف 4.
(2) شرح العناية على الهداية 9 / 403، والبدائع 6 / 2700.
(3) البدائع 6 / 2700، تبيين الحقائق 5 / 252، شرح العناية على الهداية 9 /
403، مع فتح القدير.
(4) المبسوط 14 / 95، البدائع 6 / 2700، شرح الكنز 5 / 252، وفتح العزيز 11
/ 364، ونهاية المحتاج 5 / 193، مغني المحتاج 2 / 296، والمغني 5 / 463 -
465.
(26/147)
مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ
الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ (1) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ وُقُوعَ الْحُدُودِ
وَتَصْرِيفَ الطُّرُقِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْعَقَارِ دُونَ الْمَنْقُول.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ شُفْعَةَ إِلاَّ فِي دَارٍ
أَوْ عَقَارٍ (2) .، وَهَذَا يَقْتَضِي نَفْيَهَا عَنْ غَيْرِ الدَّارِ
وَالْعَقَارِ مِمَّا لاَ يَتْبَعُهُمَا وَهُوَ الْمَنْقُول، وَأَمَّا مَا
يَتْبَعُهُمَا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِهَا (3) .
قَالُوا: وَلأَِنَّ الشُّفْعَةَ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ،
وَالضَّرَرُ فِي الْعَقَارِ يَكْثُرُ جِدًّا فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ
الشَّرِيكُ إِلَى إِحْدَاثِ الْمَرَافِقِ، وَتَغْيِيرِ الأَْبْنِيَةِ
وَتَضْيِيقِ الْوَاسِعِ وَتَخْرِيبِ الْعَامِرِ وَسُوءِ الْجِوَارِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْعَقَارِ بِخِلاَفِ الْمَنْقُول.
وَقَالُوا أَيْضًا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنْقُول وَغَيْرِهِ أَنَّ
الضَّرَرَ فِي غَيْرِ الْمَنْقُول يَتَأَبَّدُ بِتَأَبُّدِهِ وَفِي
الْمَنْقُول لاَ يَتَأَبَّدُ فَهُوَ ضَرَرٌ عَارِضٌ فَهُوَ كَالْمَكِيل
وَالْمَوْزُونِ (4) .
__________
(1) حديث: " قضى بالشفعة. . . . " تقدم تخريجه ف 4.
(2) حديث: " لا شفعة إلا في دار أو عقار " أخرجه البيهقي (6 / 109 - ط.
دائرة المعارف العثمانية) وقال: " الإسناد ضعيف ".
(3) إعلام الموقعين 2 / 251.
(4) إعلام الموقعين 2 / 251.
(26/147)
26 - الْقَوْل الثَّانِي: تَثْبُتُ
الشُّفْعَةُ فِي الْمَنْقُول وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ (1)
. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِي كُل مَا لَمْ يُقْسَمْ (2) .
قَالُوا: إِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
أَثْبَتَ الشُّفْعَةَ فِي كُل مَا لَمْ يُقْسَمْ وَهَذَا يَتَنَاوَل
الْعَقَارَ وَالْمَنْقُول. لأَِنَّ " مَا " مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ
فَتَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فِي الْمَنْقُول كَمَا هِيَ ثَابِتَةٌ فِي
الْعَقَارِ.
وَقَالُوا: وَلأَِنَّ الضَّرَرَ بِالشَّرِكَةِ فِيمَا لاَ يَنْقَسِمُ
أَبْلَغُ مِنَ الضَّرَرِ بِالْعَقَارِ الَّذِي يَقْبَل الْقِسْمَةَ فَإِذَا
كَانَ الشَّارِعُ مُرِيدًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ الأَْدْنَى فَالأَْعْلَى
أَوْلَى بِالدَّفْعِ (3) .
مَرَاحِل طَلَبِ الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ:
27 - عَلَى الشَّفِيعِ أَنْ يُظْهِرَ رَغْبَتَهُ بِمُجَرَّدِ عِلْمِهِ
بِالْبَيْعِ بِمَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ طَلَبَ الْمُوَاثَبَةِ، ثُمَّ
يُؤَكِّدَ هَذِهِ الرَّغْبَةَ وَيُعْلِنَهَا وَيُسَمَّى هَذَا طَلَبَ
التَّقْرِيرِ وَالإِْشْهَادِ، فَإِذَا لَمْ تَتِمَّ لَهُ الشُّفْعَةُ
تَقَدَّمَ لِلْقَضَاءِ بِمَا يُسَمَّى بِطَلَبِ الْخُصُومَةِ
وَالتَّمَلُّكِ (4) .
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) حديث: " قضى بالشفعة. . . " تقدم تخريجه ف 4.
(3) إعلام الموقعين 2 / 250.
(4) تبيين الحقائق 5 / 242، والبدائع 6 / 2710، الهداية مع فتح القدير 9 /
382، المبسوط 14 / 92، ابن عابدين 6 / 224 - 225، تكملة المجموع 14 / 144،
المغني 5 / 477، منتهى الإرادات 1 / 528، المقنع 2 / 260.
(26/148)
أ - طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ
28 - وَقْتُ هَذَا الطَّلَبِ هُوَ وَقْتُ عِلْمِ الشَّفِيعِ بِالْبَيْعِ،
وَعِلْمُهُ بِالْبَيْعِ قَدْ يَحْصُل بِسَمَاعِهِ بِالْبَيْعِ بِنَفْسِهِ،
وَقَدْ يَحْصُل بِإِخْبَارِ غَيْرِهِ لَهُ.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ فِي
الْمُخْبِرِ.
فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يُشْتَرَطُ أَحَدُ هَذَيْنِ إِمَّا الْعَدَدُ فِي
الْمُخْبِرِ وَهُوَ رَجُلاَنِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَإِمَّا
الْعَدَالَةُ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ وَلاَ
الْعَدَالَةُ، فَلَوْ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ بِالشُّفْعَةِ عَدْلاً كَانَ أَوْ
فَاسِقًا، فَسَكَتَ وَلَمْ يَطْلُبْ عَلَى فَوْرِ الْخَبَرِ عَلَى
رِوَايَةِ الأَْصْل أَوْ لَمْ يَطْلُبْ فِي الْمَجْلِسِ عَلَى رِوَايَةِ
مُحَمَّدٍ. بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ عِنْدَهُمَا إِذَا ظَهَرَ كَوْنُ الْخَبَرِ
صَادِقًا. وَذَلِكَ لأَِنَّ الْعَدَدَ وَالْعَدَالَةَ لاَ يُعْتَبَرَانِ
شَرْعًا فِي الْمُعَامَلاَتِ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَةِ فَلاَ
يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ وَلاَ الْعَدَالَةُ.
وَوَجْهُ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ فِيهِ مَعْنَى
الإِْلْزَامِ. أَلاَ تَرَى أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ يَبْطُل لَوْ لَمْ
يَطْلُبْ بَعْدَ الْخَبَرِ فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ
أَحَدُ شَرْطَيِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْعَدَدُ أَوِ الْعَدَالَةُ (1) .
__________
(1) البدائع 6 / 2710، الهداية مع فتح القدير 9 / 384.
(26/148)
29 - وَشَرْطُ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ أَنْ
يَكُونَ مِنْ فَوْرِ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ (1) . إِذَا كَانَ قَادِرًا
عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ عَلِمَ بِالْبَيْعِ وَسَكَتَ عَنِ الطَّلَبِ مَعَ
الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَطَل حَقُّ الشُّفْعَةِ فِي رِوَايَةِ الأَْصْل.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَخِيَارِ
الْمُخَيَّرَةِ وَخِيَارِ الْقَبُول مَا لَمْ يَقُمْ عَنِ الْمَجْلِسِ أَوْ
يَتَشَاغَل عَنِ الطَّلَبِ بِعَمَلٍ آخَرَ لاَ تَبْطُل شُفْعَتُهُ وَلَهُ
أَنْ يَطْلُبَ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هَذَا أَصَحُّ
الرِّوَايَتَيْنِ، وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ
ثَبَتَ نَظَرًا لِلشَّفِيعِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى
التَّأَمُّل أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ هَل تَصْلُحُ بِمِثْل هَذَا الثَّمَنِ
وَأَنَّهُ هَل يَتَضَرَّرُ بِجِوَارِ هَذَا الْمُشْتَرِي فَيَأْخُذُ
بِالشُّفْعَةِ، أَمْ لاَ يَتَضَرَّرُ بِهِ فَيَتْرُكُ. وَهَذَا لاَ يَصِحُّ
بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى التَّأَمُّل شَرْطُ
الْمَجْلِسِ فِي جَانِبِ الْمُخَيَّرَةِ، وَالْقَبُول، كَذَا هَاهُنَا.
وَوَجْهُ رِوَايَةِ الأَْصْل مَا رُوِيَ أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الشُّفْعَةُ كَحَل الْعِقَال (2) وَلأَِنَّهُ
حَقٌّ يَثْبُتُ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ، إِذِ الأَْخْذُ بِالشُّفْعَةِ
تَمَلُّكُ مَالٍ مَعْصُومٍ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ لِخَوْفِ ضَرَرٍ
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 243، ابن عابدين 6 / 224 - 225، منتهى الإرادات 1 /
528، المقنع 2 / 260.
(2) حديث: " الشفعة كحل العقال " أخرجه ابن ماجه (2 / 835 - ط. الحلبي) من
حديث ابن عمر، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 62 - ط دار
الجنان) ، وانظر سبل السلام 3 / 76.
(26/149)
يَحْتَمِل الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ فَلاَ
يَسْتَقِرُّ إِلاَّ بِالطَّلَبِ عَلَى الْمُوَاثَبَةِ (1) .
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْمُوَاثَبَةِ
حَالاَتٍ يُعْذَرُ فِيهَا بِالتَّأْخِيرِ كَمَا إِذَا سَمِعَ بِالْبَيْعِ
فِي حَال سَمَاعِهِ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ أَوْ سَلَّمَ عَلَى الْمُشْتَرِي
قَبْل طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) .
وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ هُنَاكَ حَائِلٌ بِأَنْ كَانَ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ
مَخُوفٌ، أَوْ أَرْضٌ مَسْبَعَةٌ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَانِعِ،
لاَ تَبْطُل شُفْعَتُهُ بِتَرْكِ الْمُوَاثَبَةِ إِلَى أَنْ يَزُول
الْحَائِل (3) .
30 - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ لَيْسَتْ عَلَى
الْفَوْرِ بَل وَقْتُ وُجُوبِهَا مُتَّسِعٌ، وَاخْتَلَفَ قَوْل مَالِكٍ فِي
هَذَا الْوَقْتِ هَل هُوَ مَحْدُودٌ أَمْ لاَ؟ فَمَرَّةً قَال: هُوَ غَيْرُ
مَحْدُودٍ وَأَنَّهَا لاَ تَنْقَطِعُ أَبَدًا، إِلاَّ أَنْ يُحْدِثَ
الْمُبْتَاعُ بِنَاءً أَوْ تَغْيِيرًا كَثِيرًا بِمَعْرِفَتِهِ وَهُوَ
حَاضِرٌ عَالِمٌ سَاكِتٌ، وَمَرَّةً حَدَّدَ هَذَا الْوَقْتَ بِسَنَةٍ،
وَهُوَ الأَْشْهَرُ كَمَا يَقُول ابْنُ رُشْدٍ وَقِيل أَكْثَرُ مِنَ
السَّنَةِ وَقَدْ قِيل عَنْهُ إِنَّ الْخَمْسَةَ الأَْعْوَامَ لاَ
تَنْقَطِعُ فِيهَا الشُّفْعَةُ (4) .
31 - وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الشُّفْعَةَ يَجِبُ
طَلَبُهَا عَلَى الْفَوْرِ لأَِنَّهَا حَقٌّ ثَبَتَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ
__________
(1) البدائع 6 / 2711، الهداية مع فتح القدير 9 / 382.
(2) ابن عابدين 6 / 224، 225.
(3) البدائع 6 / 2713، الهداية مع الفتح 9 / 384، والزيلعي 5 / 242.
(4) بداية المجتهد لابن رشد 2 / 263 وما بعدها، والدسوقي على الشرح الكبير
3 / 484.
(26/149)
فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ كَالرَّدِّ
بِالْعَيْبِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ الأَْصْل وَالصَّحِيحُ مِنْ
مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مُؤَقَّتٌ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ
الْمُكْنَةِ، فَإِنْ طَلَبَهَا إِلَى ثَلاَثٍ كَانَ عَلَى حَقِّهِ، وَإِنْ
مَضَتِ الثَّلاَثُ قَبْل طَلَبِهِ بَطَلَتْ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: تَمْتَدُّ مُدَّةً تَسَعُ التَّأَمُّل فِي مِثْل
ذَلِكَ الشِّقْصِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مُمْتَدٌّ عَلَى التَّأْبِيدِ مَا
لَمْ يُسْقِطْهُ أَوْ يُعَرِّضْ بِإِسْقَاطِهِ (1) .
وَقَدِ اسْتَثْنَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَشْرَ صُوَرٍ لاَ يُشْتَرَطُ
فِيهَا الْفَوْرُ هِيَ:
(1) لَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ أَوْ لَهُمَا فَإِنَّهُ لاَ
يُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ مَا دَامَ الْخِيَارُ بَاقِيًا.
(2) إِنَّ لَهُ التَّأْخِيرَ لاِنْتِظَارِ إِدْرَاكِ الزَّرْعِ حَصَادَهُ
عَلَى الأَْصَحِّ.
(3) إِذَا أُخْبِرَ بِالْبَيْعِ عَلَى غَيْرِ مَا وَقَعَ مِنْ زِيَادَةٍ
فِي الثَّمَنِ فَتَرَكَ ثُمَّ تَبَيَّنَ خِلاَفُهُ فَحَقُّهُ بَاقٍ.
(4) إِذَا كَانَ أَحَدُ الشَّفِيعَيْنِ غَائِبًا فَلِلْحَاضِرِ
انْتِظَارُهُ وَتَأْخِيرُ الأَْخْذِ إِلَى حُضُورِهِ.
(5) إِذَا اشْتَرَى بِمُؤَجَّلٍ.
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 307، ونهاية المحتاج 5 / 213.
(26/150)
(6) لَوْ قَال: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ لِي
الشُّفْعَةَ وَهُوَ مِمَّنْ - يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ.
(7) لَوْ قَال الْعَامِّيُّ. لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ الشُّفْعَةَ عَلَى
الْفَوْرِ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ هُنَا وَفِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ قَبُول
قَوْلِهِ.
(8) لَوْ كَانَ الشِّقْصُ الَّذِي يَأْخُذُ بِسَبَبِهِ مَغْصُوبًا كَمَا
نَصَّ عَلَيْهِ الْبُوَيْطِيُّ فَقَال: وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ
شِقْصٌ مِنْ دَارٍ فَغَصَبَ عَلَى نَصِيبِهِ ثُمَّ بَاعَ الآْخَرُ
نَصِيبَهُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَلَهُ الشُّفْعَةُ سَاعَةَ رُجُوعِهِ
إِلَيْهِ، نَقَلَهُ الْبُلْقِينِيُّ.
(9) الشُّفْعَةُ الَّتِي يَأْخُذُهَا الْوَلِيُّ لِلْيَتِيمِ لَيْسَتْ
عَلَى الْفَوْرِ، بَل حَقُّ الْوَلِيِّ عَلَى التَّرَاخِي قَطْعًا، حَتَّى
لَوْ أَخَّرَهَا أَوْ عَفَا عَنْهَا لَمْ يَسْقُطْ لأَِجْل الْيَتِيمِ.
(10) لَوْ بَلَغَهُ الشِّرَاءُ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ فَأَخَّرَ لِيَعْلَمَ
لاَ يَبْطُل، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ (1) .
32 - وَالصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ - أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ
عَلَى الْفَوْرِ إِنْ طَالَبَ بِهَا سَاعَةَ يَعْلَمُ بِالْبَيْعِ وَإِلاَّ
بَطَلَتْ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، وَحُكِيَ
عَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنَّ الشُّفْعَةَ عَلَى التَّرَاخِي لاَ
تَسْقُطُ مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يَدُل عَلَى الرِّضَى مِنْ عَفْوٍ
أَوْ مُطَالَبَةٍ بِقِسْمَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 307.
(2) المغني 5 / 477، وما بعدها، منتهى الإرادات 1 / 528، المقنع 2 / 260.
(26/150)
وَإِنْ كَانَ لِلشَّفِيعِ عُذْرٌ
يَمْنَعُهُ الطَّلَبَ مِثْل أَنْ لاَ يَعْلَمَ بِالْبَيْعِ فَأَخَّرَ إِلَى
أَنْ عَلِمَ وَطَالَبَ سَاعَةَ عَلِمَ أَوْ عَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ
لَيْلاً فَأَخَّرَ الطَّلَبَ إِلَى الصُّبْحِ أَوْ أَخَّرَ الطَّلَبَ
لِشِدَّةِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ حَتَّى يَأْكُل وَيَشْرَبَ، أَوْ أَخَّرَ
الطَّلَبَ مُحْدِثٌ لِطَهَارَةٍ أَوْ إِغْلاَقِ بَابٍ أَوْ لِيَخْرُجَ مِنَ
الْحَمَّامِ أَوْ لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ، أَوْ لِيُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ
وَيَأْتِيَ بِالصَّلاَةِ بِسُنَنِهَا، أَوْ لِيَشْهَدَهَا فِي جَمَاعَةٍ
يَخَافُ فَوْتَهَا وَنَحْوِهِ، كَمَنْ عَلِمَ وَقَدْ ضَاعَ مِنْهُ مَالٌ
فَأَخَّرَ الطَّلَبَ يَلْتَمِسُ مَا سَقَطَ مِنْهُ لَمْ تَسْقُطِ
الشُّفْعَةُ، لأَِنَّ الْعَادَةَ تَقْدِيمُ هَذِهِ الْحَوَائِجِ
وَنَحْوِهَا عَلَى غَيْرِهَا فَلاَ يَكُونُ الاِشْتِغَال بِهَا رِضًا
بِتَرْكِ الشُّفْعَةِ، كَمَا لَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُسْرِعَ فِي مَشْيِهِ
أَوْ يُحَرِّكَ دَابَّتَهُ فَلَمْ يَفْعَل وَمَضَى عَلَى حَسَبِ عَادَتِهِ،
وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنِ الْمُشْتَرِي حَاضِرًا عِنْدَ الشَّفِيعِ فِي
هَذِهِ الأَْحْوَال، فَتَسْقُطُ بِتَأْخِيرِهِ؛ لأَِنَّهُ مَعَ حُضُورِهِ
يُمْكِنُهُ مُطَالَبَتُهُ مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالٍ عَنْ أَشْغَالِهِ إِلاَّ
الصَّلاَةَ فَلاَ تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِتَأْخِيرِ الطَّلَبِ لِلصَّلاَةِ
وَسُنَنِهَا، وَلَوْ مَعَ حُضُورِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الشَّفِيعِ؛ لأَِنَّ
الْعَادَةَ تَأْخِيرُ الْكَلاَمِ عَنِ الصَّلاَةِ، وَلَيْسَ عَلَى
الشَّفِيعِ تَخْفِيفُ الصَّلاَةِ - وَلاَ الاِقْتِصَارُ عَلَى أَقَل مَا
يُجْزِئُ فِي الصَّلاَةِ (1) .
__________
(1) كشاف القناع 4 / 141، 142.
(26/151)
الإِْشْهَادُ عَلَى طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ:
33 - الإِْشْهَادُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ فَلَوْ
لَمْ يُشْهِدْ صَحَّ طَلَبُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ،
وَإِنَّمَا الإِْشْهَادُ لِلإِْظْهَارِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ عَلَى
تَقْدِيرِ الإِْنْكَارِ؛ لأَِنَّ مِنَ الْجَائِزِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لاَ
يُصَدِّقُ الشَّفِيعَ فِي الطَّلَبِ أَوْ لاَ يُصَدِّقُهُ فِي الْفَوْرِ
وَيَكُونُ الْقَوْل قَوْلَهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى الإِْظْهَارِ
بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ الْقَاضِي عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ التَّصْدِيقِ، لاَ
أَنَّهُ شَرْطُ صِحَّةِ الطَّلَبِ، هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ. قَال الشَّافِعِيَّةُ إِنْ كَانَ لِلشَّفِيعِ عُذْرٌ
يَمْنَعُ الْمُطَالَبَةَ، فَلْيُوَكِّل فِي الْمُطَالَبَةِ أَوْ يُشْهِدْ
عَلَى طَلَبِ الشُّفْعَةِ، فَإِنْ تَرَكَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ مِنْهَا
بَطَل حَقُّهُ فِي الأَْظْهَرِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِسَيْرِهِ إِلَى
الْمُشْتَرِي فِي طَلَبِهَا بِلاَ إِشْهَادٍ، وَلاَ تَسْقُطُ إِنْ أَخَّرَ
طَلَبَهُ بَعْدَ الإِْشْهَادِ، أَيْ إِنَّ الْحَنَابِلَةَ يَشْتَرِطُونَ
الإِْشْهَادَ لِصِحَّةِ الطَّلَبِ (2) . وَيَصِحُّ الطَّلَبُ بِكُل لَفْظٍ
يُفْهَمُ مِنْهُ طَلَبُ الشُّفْعَةِ كَمَا لَوْ قَال: طَلَبْتُ الشُّفْعَةَ
أَوْ أَطْلُبُهَا أَوْ أَنَا طَالِبُهَا، لأَِنَّ الاِعْتِبَارَ
لِلْمَعْنَى (3) .
__________
(1) البدائع 6 / 2711، الهداية مع فتح القدير 9 / 383، ومغني المحتاج 2 /
307.
(2) منتهى الإرادات 1 / 528، المقنع 2 / 260 - 261.
(3) الهداية مع فتح القدير 9 / 383، تبيين الحقائق 5 / 243، ابن عابدين 6 /
225، ومنتهى الإرادات 1 / 528.
(26/151)
ب - طَلَبُ التَّقْرِيرِ وَالإِْشْهَادِ:
34 - هَذِهِ الْمَرْحَلَةُ مِنَ الْمُطَالَبَةِ اخْتَصَّ بِذِكْرِهَا
الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: يَجِبُ عَلَى الشَّفِيعِ بَعْدَ طَلَبِ
الْمُوَاثَبَةِ أَنْ يُشْهِدَ وَيَطْلُبَ التَّقْرِيرَ (1) وَطَلَبُ
التَّقْرِيرِ هُوَ أَنْ يُشْهِدَ الشَّفِيعُ عَلَى الْبَائِعِ إِنْ كَانَ
الْعَقَارُ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ، أَوْ عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ
يَكُنِ الْعَقَارُ فِي يَدِهِ، أَوْ عِنْدَ الْمَبِيعِ بِأَنَّهُ طَلَبَ
وَيَطْلُبُ فِيهِ الشُّفْعَةَ الآْنَ.
وَالشَّفِيعُ مُحْتَاجٌ إِلَى الإِْشْهَادِ لإِِثْبَاتِهِ عِنْدَ الْقَاضِي
وَلاَ يُمْكِنُهُ الإِْشْهَادُ ظَاهِرًا عَلَى طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ
لأَِنَّهُ عَلَى فَوْرِ الْعِلْمِ بِالشِّرَاءِ - عِنْدَ الْبَعْضِ -
فَيَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى طَلَبِ الإِْشْهَادِ وَالتَّقْرِيرِ (2) .
35 - وَلِبَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ نَقُول: الْمَبِيعُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ
فِي يَدِ الْبَائِعِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ
كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ طَلَبَ
مِنَ الْبَائِعِ، وَإِنْ شَاءَ طَلَبَ مِنَ الْمُشْتَرِي وَإِنْ شَاءَ
طَلَبَ عِنْدَ الْمَبِيعِ.
أَمَّا الطَّلَبُ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَلأَِنَّ كُل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا خَصْمٌ، الْبَائِعُ بِالْيَدِ وَالْمُشْتَرِي بِالْمِلْكِ،
فَصَحَّ الطَّلَبُ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَأَمَّا الطَّلَبُ عِنْدَ الْمَبِيعِ فَلأَِنَّ الْحَقَّ مُتَعَلِّقٌ
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 244، حاشية ابن عابدين 6 / 225.
(2) الهداية مع فتح القدير 9 / 383.
(26/152)
بِهِ، فَإِنْ سَكَتَ عَنِ الطَّلَبِ مِنْ
أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَعِنْدَ الْمَبِيعِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ
بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ لأَِنَّهُ فَرَّطَ فِي الطَّلَبِ.
وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ شَاءَ طَلَبَ مِنَ الْمُشْتَرِي
وَإِنْ شَاءَ عِنْدَ الْمَبِيعِ، وَلاَ يَطْلُبُ مِنَ الْبَائِعِ لأَِنَّهُ
خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا لِزَوَال يَدِهِ وَلاَ مِلْكَ لَهُ
فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الأَْجْنَبِيِّ.
هَذَا إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الطَّلَبِ مِنَ الْمُشْتَرِي أَوِ
الْبَائِعِ أَوْ عِنْدَ الْمَبِيعِ (1) .
وَالإِْشْهَادُ عَلَى طَلَبِ التَّقْرِيرِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّتِهِ
وَإِنَّمَا هُوَ لِتَوْثِيقِهِ عَلَى تَقْدِيرِ الإِْنْكَارِ كَمَا فِي
طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ. وَتَسْمِيَةُ الْمَبِيعِ وَتَحْدِيدُهُ لَيْسَتْ
بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الطَّلَبِ وَالإِْشْهَادِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ،
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ شَرْطٌ؛ لأَِنَّ الطَّلَبَ لاَ
يَصِحُّ إِلاَّ بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْعَقَارُ لاَ يَصِيرُ مَعْلُومًا
إِلاَّ بِالتَّحْدِيدِ فَلاَ يَصِحُّ الطَّلَبُ وَالإِْشْهَادُ بِدُونِهِ
(2) .
36 - وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَلْفَاظِ
الطَّلَبِ، وَصَحَّحَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِلَفْظٍ يَدُل
عَلَى الطَّلَبِ أَيَّ لَفْظٍ كَانَ يَكْفِي، نَحْوُ أَنْ يَقُول:
ادَّعَيْتُ الشُّفْعَةَ أَوْ سَأَلْتُ الشُّفْعَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا
يَدُل عَلَى الطَّلَبِ، قَال
__________
(1) البدائع 6 / 2713، الهداية مع فتح القدير 9 / 384، الزيلعي شرح الكنز 5
/ 242.
(2) البدائع 6 / 714 م والهداية مع فتح القدير 9 / 385.
(26/152)
الْكَاسَانِيُّ: لأَِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى
الطَّلَبِ، وَمَعْنَى الطَّلَبِ يَتَأَدَّى بِكُل لَفْظٍ يَدُل عَلَيْهِ،
سَوَاءٌ أَكَانَ بِلَفْظِ الطَّلَبِ أَمْ بِغَيْرِهِ، وَمِنْ صُوَرِ هَذَا
الطَّلَبِ مَا ذُكِرَ فِي الْهِدَايَةِ وَالْكَنْزِ، وَهِيَ أَنْ يَقُول
الشَّفِيعُ: إِنَّ فُلاَنًا اشْتَرَى هَذِهِ الدَّارَ وَأَنَا شَفِيعُهَا،
وَقَدْ كُنْتُ طَلَبْتُ الشُّفْعَةَ وَأَطْلُبُهَا الآْنَ فَاشْهَدُوا
عَلَى ذَلِكَ (1) .
37 - وَأَمَّا حُكْمُ هَذَا الطَّلَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَهُوَ
اسْتِقْرَارُ الْحَقِّ، فَالشَّفِيعُ إِذَا أَتَى بِطَلَبَيْنِ صَحِيحَيْنِ
(طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ وَطَلَبِ التَّقْرِيرِ) اسْتَقَرَّ الْحَقُّ عَلَى
وَجْهٍ لاَ يَبْطُل بِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ أَمَامَ الْقَاضِي
بِالأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ أَبَدًا حَتَّى يُسْقِطَهَا بِلِسَانِهِ، وَهُوَ
قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ،
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَال: إِذَا تَرَكَ الْمُخَاصَمَةَ إِلَى
الْقَاضِي فِي زَمَانٍ يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ بَطَلَتْ
شُفْعَتُهُ، وَلَمْ يُؤَقِّتْ فِيهِ وَقْتًا، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ
قَدَّرَهُ بِمَا يَرَاهُ الْقَاضِي، وَقَال مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ، إِذَا
مَضَى شَهْرٌ بَعْدَ الطَّلَبِ وَلَمْ يَطْلُبْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ
بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا وَبِهِ
أَخَذَتِ الْمَجَلَّةُ (2) . وَجْهُ قَوْل مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ: أَنَّ حَقَّ
الشُّفْعَةِ ثَبَتَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الشَّفِيعِ وَلاَ يَجُوزُ
دَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ
__________
(1) البدائع 6 / 2714، والهداية مع فتح القدير 9 / 385، والزيلعي 5 / 244.
(2) مجلة الأحكام العدلية م (1034) .
(26/153)
الإِْنْسَانِ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ
الإِْضْرَارَ بِغَيْرِهِ، وَفِي إِبْقَاءِ هَذَا الْحَقِّ بَعْدَ تَأْخِيرِ
الْخُصُومَةِ أَبَدًا إِضْرَارٌ بِالْمُشْتَرِي؛ لأَِنَّهُ لاَ يَبْنِي
وَلاَ يَغْرِسُ خَوْفًا مِنَ النَّقْضِ وَالْقَلْعِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ،
فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّقْدِيرِ بِزَمَانٍ، وَقُدِّرَ بِالشَّهْرِ لأَِنَّهُ
أَدْنَى الآْجَال، فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ وَلَمْ يَطْلُبْ مِنْ غَيْرِ
عُذْرٍ فَقَدْ فَرَّطَ فِي الطَّلَبِ فَتَبْطُل شُفْعَتُهُ.
وَوَجْهُ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّ الْحَقَّ لِلشَّفِيعِ قَدْ ثَبَتَ
بِالطَّلَبَيْنِ وَالأَْصْل أَنَّ الْحَقَّ مَتَى ثَبَتَ لإِِنْسَانٍ لاَ
يَبْطُل إِلاَّ بِإِبْطَالِهِ وَلَمْ يُوجَدْ لأَِنَّ تَأْخِيرَ
الْمُطَالَبَةِ مِنْهُ لاَ يَكُونُ إِبْطَالاً، كَتَأْخِيرِ اسْتِيفَاءِ
الْقِصَاصِ وَسَائِرِ الدُّيُونِ (1) .
ج - طَلَبُ الْخُصُومَةِ وَالتَّمَلُّكِ:
38 - طَلَبُ الْخُصُومَةِ وَالتَّمَلُّكِ هُوَ طَلَبُ الْمُخَاصَمَةِ
عِنْدَ الْقَاضِي، فَيَلْزَمُ أَنْ يَطْلُبَ الشَّفِيعُ وَيُدْعَى فِي
حُضُورِ الْحَاكِمِ بَعْدَ طَلَبِ التَّقْرِيرِ وَالإِْشْهَادِ.
وَلاَ تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِتَأْخِيرِ هَذَا الطَّلَبِ عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَقَال مُحَمَّدٌ
وَزُفَرُ إِنْ تَرَكَهَا شَهْرًا بَعْدَ الإِْشْهَادِ بَطَلَتْ.
وَلاَ فَرْقَ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَلَوْ
عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ قَاضٍ لاَ تَبْطُل شُفْعَتُهُ
بِالتَّأْخِيرِ بِالاِتِّفَاقِ. لأَِنَّهُ لاَ
__________
(1) البدائع 6 / 2714 وما بعدها، تبيين الحقائق 5 / 244.
(26/153)
يَتَمَكَّنُ مِنَ الْخُصُومَةِ إِلاَّ
عِنْدَ الْقَاضِي فَكَانَ عُذْرًا.
وَإِذَا تَقَدَّمَ الشَّفِيعُ إِلَى الْقَاضِي فَادَّعَى الشِّرَاءَ
وَطَلَبَ الشُّفْعَةَ سَأَلَهُ الْقَاضِي فَإِنِ اعْتَرَفَ بِمِلْكِهِ
الَّذِي يَشْفَعُ بِهِ، وَإِلاَّ كَلَّفَهُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ؛
لأَِنَّ الْيَدَ ظَاهِرٌ مُحْتَمَلٌ فَلاَ تَكْفِي لإِِثْبَاتِ
الاِسْتِحْقَاقِ (1) .
فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْبَيِّنَةِ اسْتَحْلَفَ الْمُشْتَرِيَ بِاللَّهِ مَا
يَعْلَمُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ مَالِكٌ لِلَّذِي ذَكَرَهُ مِمَّا يَشْفَعُ
بِهِ، فَإِنْ نَكَل أَوْ قَامَتْ لِلشَّفِيعِ بَيِّنَةٌ ثَبَتَ حَقُّهُ فِي
الْمُطَالَبَةِ، فَبَعْدَ ذَلِكَ يَسْأَل الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
هَل ابْتَاعَ أَمْ لاَ؟ فَإِنْ أَنْكَرَ الاِبْتِيَاعَ قِيل لِلشَّفِيعِ:
أَقِمِ الْبَيِّنَةَ لأَِنَّ الشُّفْعَةَ لاَ تَجِبُ إِلاَّ بَعْدَ ثُبُوتِ
الْبَيْعِ وَثُبُوتُهُ بِالْحُجَّةِ - فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا اسْتَحْلَفَ
الْمُشْتَرِيَ بِاللَّهِ مَا ابْتَاعَ أَوْ بِاللَّهِ مَا اسْتَحَقَّ
عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ شُفْعَةً مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ.
وَلاَ يَلْزَمُ الشَّفِيعَ إِحْضَارُ الثَّمَنِ وَقْتَ الدَّعْوَى بَل
بَعْدَ الْقَضَاءِ، فَيَجُوزُ لَهُ الْمُنَازَعَةُ وَإِنْ لَمْ يُحْضِرِ
الثَّمَنَ إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ (2) .
__________
(1) الهداية مع فتح القدير 9 / 385، وانظر شرح الكنز 5 / 245، وابن عابدين
6 / 226.
(2) الهداية 9 / 386، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 5 / 245.
(26/154)
الشُّفْعَةُ لِلذِّمِّيِّ عَلَى
الْمُسْلِمِ:
39 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلْمُسْلِمِ عَلَى
الذِّمِّيِّ، وَلِلذِّمِّيِّ عَلَى الذِّمِّيِّ، وَاخْتَلَفُوا فِي
ثُبُوتِهَا لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلاَنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ،
وَالشَّافِعِيَّةُ، إِلَى ثُبُوتِهَا لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ
أَيْضًا (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الشُّفْعَةِ
الَّتِي سَبَقَتْ كَحَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِي كُل
شَرِكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ، رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ لاَ يَحِل لَهُ أَنْ
يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ
تَرَكَ فَإِذَا بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ (2) .
وَبِالإِْجْمَاعِ لِمَا رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَضَى بِالشُّفْعَةِ
لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَجَازَهُ وَأَقَرَّهُ، وَكَانَ
ذَلِكَ فِي مَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ
__________
(1) المبسوط 14 / 93، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 5 / 249 - 250، وحاشية
الدسوقي 3 / 473، الخرشي 6 / 162، الشرح الصغير للدردير 2 / 227، مواهب
الجليل 5 / 310، منح الجليل على مختصر خليل 3 / 583، ونهاية المحتاج 5 /
196، مغني المحتاج 2 / 298، فتح العزيز 11 / 392.
(2) حديث جابر: " قضى بالشفعة " تقدم تخريجه ف 4.
(26/154)
يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَيْهِ فَكَانَ
ذَلِكَ إِجْمَاعًا (1) .
وَلأَِنَّ الذِّمِّيَّ كَالْمُسْلِمِ فِي السَّبَبِ وَالْحِكْمَةِ وَهُمَا
اتِّصَال الْمِلْكِ بِالشَّرِكَةِ أَوِ الْجِوَارِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ
عَنِ الشَّرِيكِ أَوِ الْجَارِ، فَكَمَا جَازَتِ الشُّفْعَةُ لِلْمُسْلِمِ
عَلَى الْمُسْلِمِ فَكَذَلِكَ تَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ (2)
.
الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِهَا
لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ (3) ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلَل عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَال: لاَ شُفْعَةَ لِنَصْرَانِيٍّ (4) .
وَبِأَنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا قَصَدَتْ مِنْ وَرَاءِ تَشْرِيعِ
الشُّفْعَةِ الرِّفْقَ بِالشَّفِيعِ، وَالرِّفْقُ لاَ يَسْتَحِقُّهُ إِلاَّ
مَنْ أَقَرَّ بِهَا وَعَمِل بِمُقْتَضَاهَا وَالذِّمِّيُّ لَمْ يُقِرَّ
بِهَا وَلَمْ يَعْمَل بِمُقْتَضَاهَا فَلاَ يَسْتَحِقُّ الرِّفْقَ
الْمَقْصُودَ بِتَشْرِيعِ الشُّفْعَةِ فَلاَ تَثْبُتُ لَهُ عَلَى
الْمُسْلِمِ.
وَبِأَنَّ فِي إِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ
تَسْلِيطًا لَهُ عَلَيْهِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ
بِالاِتِّفَاقِ (5) .
__________
(1) شرح الهداية 7 / 436، المبسوط 14 / 93.
(2) العناية 5 / 436، ومنح الجليل 3 / 583.
(3) المغني 5 / 551، منتهى الإرادات 1 / 535، المقنع 2 / 275.
(4) حديث: " لا شفعة لنصراني. . . " أخرجه البيهقي (6 / 108 - ط. دائرة
المعارف العثمانية) واستنكره، ونقل عن ابن عدي إعلاله.
(5) المغني 5 / 551.
(26/155)
تَعَدُّدُ الشُّفَعَاءِ وَتَزَاحُمُهُمْ:
أَوَّلاً. عِنْدَ اتِّحَادِ سَبَبِ الشُّفْعَةِ:
40 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْزِيعِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ
عَلَى الشُّفَعَاءِ عِنْدَ اتِّحَادِ سَبَبِ الشُّفْعَةِ لِكُلٍّ مِنْهُمْ
بِأَنْ كَانُوا جَمِيعًا مِنْ رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ - أَيْ شُرَكَاءَ مَثَلاً
-
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، فِي الأَْظْهَرِ،
وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا
تَعَدَّدَ الشُّفَعَاءُ وُزِّعَتِ الشُّفْعَةُ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ
الْحِصَصِ مِنَ الْمِلْكِ، لاَ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ
عِنْدَهُمْ، أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالْمِلْكِ فَقُسِّطَ عَلَى قَدْرِهِ
كَالأُْجْرَةِ وَالثَّمَنِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ: وَالْحَنَابِلَةُ
فِي قَوْلٍ، إِلَى أَنَّهَا تُقْسَمُ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ لاَ عَلَى
قَدْرِ الْمِلْكِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ السَّبَبَ فِي مَوْضُوعِ الشَّرِكَةِ أَصْل
الشَّرِكَةِ، وَقَدِ اسْتَوَيَا فِيهِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الاِسْتِحْقَاقِ
(2) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 486، وما بعدها، شرح منح الجليل 3 / 586، بلغة
السالك 2 / 233، الخرشي 6 / 173، مواهب الجليل 5 / 325، ومغني المحتاج 2 /
305، نهاية المحتاج 5 / 211، الأم 4 / 3، حاشية البجيرمي 3 / 143، والمغني
5 / 523، ومنتهى الإرادات 1 / 529.
(2) البدائع 6 / 2683، 2684، المبسوط 14 / 97، شرح العناية على الهداية 9 /
378، ابن عابدين 6 / 219، شرح الكنز للزيلعي 5 / 241، ونهاية المحتاج 5 /
213، تكملة المجموع 14 / 158، ومنتهى الإرادات 1 / 529، المقنع 2 / 263 -
264.
(26/155)
41 - وَكَمَا يُقْسَمُ الْمَشْفُوعُ فِيهِ
عَلَى الشُّرَكَاءِ بِالتَّسَاوِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، يُقْسَمُ أَيْضًا
عَلَى الْجِيرَانِ بِالتَّسَاوِي بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ مِقْدَارِ
الْمُجَاوَرَةِ، فَإِذَا كَانَ لِدَارٍ وَاحِدَةٍ شَفِيعَانِ جَارَانِ
جِوَارُهُمَا عَلَى التَّفَاوُتِ بِأَنْ كَانَ جِوَارُ أَحَدِهِمَا
بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ الدَّارِ وَجِوَارُ الآْخَرِ بِسُدُسِهَا، كَانَتِ
الشُّفْعَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لاِسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ
الاِسْتِحْقَاقِ، وَهُوَ أَصْل الْجِوَارِ.
فَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي
السَّبَبِ أَصْل الشَّرِكَةِ لاَ قَدْرُهَا، وَأَصْل الْجِوَارِ لاَ
قَدْرُهُ، وَهَذَا يَعُمُّ حَال انْفِرَادِ الأَْسْبَابِ وَاجْتِمَاعِهَا
(1) .
ثَانِيًا: عِنْدَ اخْتِلاَفِ سَبَبِ الشُّفْعَةِ:
42 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَسْبَابَ الشُّفْعَةِ إِذَا
اجْتَمَعَتْ يُرَاعَى فِيهَا التَّرْتِيبُ بَيْنَ الشُّفَعَاءِ فَيُقَدَّمُ
الأَْقْوَى فَالأَْقْوَى، فَيُقَدَّمُ الشَّرِيكُ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ
عَلَى الْخَلِيطِ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ، وَيُقَدَّمُ الْخَلِيطُ فِي حَقِّ
الْمَبِيعِ عَلَى الْجَارِ الْمُلاَصِقِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الشَّرِيكُ أَحَقُّ مِنَ
الْخَلِيطِ
__________
(1) البدائع 6 / 2683، 2684.
(26/156)
وَالْخَلِيطُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ (1)
وَلأَِنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ هُوَ دَفْعُ ضَرَرِ
الدَّخِيل وَأَذَاهُ، وَسَبَبُ وُصُول الضَّرَرِ وَالأَْذَى هُوَ
الاِتِّصَال، وَالاِتِّصَال عَلَى هَذِهِ الْمَرَاتِبِ، فَالاِتِّصَال
بِالشَّرِكَةِ فِي عَيْنِ الْمَبِيعِ أَقْوَى مِنَ الاِتِّصَال
بِالْخَلْطِ، وَالاِتِّصَال بِالْخَلْطِ أَقْوَى مِنَ الاِتِّصَال
بِالْجِوَارِ، وَالتَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ التَّأْثِيرِ تَرْجِيحٌ صَحِيحٌ.
فَإِنْ سَلَّمَ الشَّرِيكُ وَجَبَتْ لِلْخَلِيطِ.
وَإِنِ اجْتَمَعَ خَلِيطَانِ يُقَدَّمُ الأَْخَصُّ عَلَى الأَْعَمِّ،
وَإِنْ سَلَّمَ الْخَلِيطُ وَجَبَتْ لِلْجَارِ لِمَا قُلْنَا، وَهَذَا
عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إِذَا
سَلَّمَ الشَّرِيكُ فَلاَ شُفْعَةَ لِغَيْرِهِ (2) .
فَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَيْسَ لِلْمُتَأَخِّرِ حَقٌّ إِلاَّ إِذَا
سَلَّمَ الْمُتَقَدِّمُ، فَإِنْ سَلَّمَ فَلِلْمُتَأَخِّرِ أَنْ يَأْخُذَ
بِالشُّفْعَةِ؛ لأَِنَّ السَّبَبَ قَدْ تَقَرَّرَ فِي حَقِّ الْكُل
__________
(1) حديث: " الشريك أحق من الخليط. . . . " قال الزيلعي في نصب الراية (4 /
176 - ط. المجلس العلمي) : " غريب، وذكره ابن الجوزي في التحقيق وقال: إنه
حديث لا يعرف، وإنما المعروف ما رواه سعيد بن منصور. . ثم ذكر إسناده إلى
الشعبي قال: قال رسول الله صلى الل
(2) البدائع 6 / 2690، المبسوط 14 / 94 - 96، تكملة فتح القدير 9 / 375،
تبيين الحقائق 5 / 239، 240، ابن عابدين 6 / 219 وما بعدها.
(26/156)
إِلاَّ أَنَّ لِلشَّرِيكِ حَقَّ
التَّقَدُّمِ.
وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْجَارُ طَلَبَ الشُّفْعَةَ مَعَ
الشَّرِيكِ إِذَا عَلِمَ بِالْبَيْعِ لِيُمْكِنَهُ الأَْخْذُ إِذَا سَلَّمَ
الشَّرِيكُ، فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ حَتَّى سَلَّمَ الشَّرِيكُ فَلاَ يَحِقُّ
لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ (1) . وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لاَ
يُثْبِتُونَ الشُّفْعَةَ إِلاَّ لِلشَّرِيكِ فِي الْمِلْكِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يَتَأَتَّى التَّزَاحُمُ عِنْدَهُمْ
لأَِنَّهُمْ وَإِنْ وَافَقُوهُمْ فِي ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّهُمْ ذَهَبُوا
مَذْهَبًا آخَرَ فَجَعَلُوهَا لِلشُّرَكَاءِ فِي الْعَقَارِ دُونَ
تَرْتِيبٍ إِذَا مَا كَانُوا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا
يَكُونُ كُل شَرِيكٍ أَصْلاً فِي الشَّرِكَةِ لاَ خَلَفًا فِيهَا عَنْ
غَيْرِهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ بَعْضُهُمْ خَلَفًا فِي الشَّرِكَةِ عَنْ
غَيْرِهِ دُونَ بَعْضٍ فَلاَ تَكُونُ لَهُمْ عَلَى السَّوَاءِ وَإِنَّمَا
يُقَدَّمُ الشَّرِيكُ فِي السَّهْمِ الْمُبَاعِ بَعْضُهُ عَلَى الشَّرِيكِ
فِي أَصْل الْعَقَارِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي الْوَرَثَةِ، فَإِذَا كَانَتْ
دَارٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا عَنْ جَدَّتَيْنِ،
وَزَوْجَتَيْنِ، وَشَقِيقَتَيْنِ، فَبَاعَتْ إِحْدَى هَؤُلاَءِ حَظَّهَا
مِنَ الدَّارِ كَانَتِ الشُّفْعَةُ أَوَّلاً لِشَرِيكَتِهَا فِي السَّهْمِ
دُونَ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ وَالشَّرِيكِ الأَْجْنَبِيِّ، فَتَكُونُ
الْجَدَّةُ - مَثَلاً - أَوْلَى بِمَا تَبِيعُ صَاحِبَتُهَا (وَهِيَ
الْجَدَّةُ الأُْخْرَى) لاِشْتِرَاكِهِمَا
__________
(1) العناية على الهداية 9 / 376، والبدائع 6 / 2690، والمبسوط 14 / 96،
وتبيين الحقائق 5 / 240.
(26/157)
فِي السُّدُسِ، وَهَكَذَا (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا، إِنْ أَعَارَ شَخْصٌ أَرْضَهُ لِقَوْمٍ
يَبْنُونَ فِيهَا أَوْ يَغْرِسُونَ فِيهَا فَفَعَلُوا ثُمَّ بَاعَ
أَحَدَهُمْ حَظَّهُ مِنَ الْبِنَاءِ أَوِ الشَّجَرِ قُدِّمَ الشَّخْصُ
الْمُعِيرُ عَلَى شُرَكَاءِ الْبَائِعِ فِي أَخْذِ الْحَظِّ الْمَبِيعِ
بِقِيمَةِ نَقْضِهِ مَنْقُوضًا أَوْ بِثَمَنِهِ الَّذِي بِيعَ بِهِ
فَالْخِيَارُ لَهُ عِنْدَ ابْنِ الْحَاجِبِ، هَذَا فِي الإِْعَارَةِ
الْمُطْلَقَةِ، وَأَمَّا الْمُقَيَّدَةُ بِزَمَنٍ مَعْلُومٍ وَلَمْ
يُنْقَضْ فَقَال ابْنُ رُشْدٍ: إِنْ بَاعَ أَحَدُهُمْ حَظَّهُ قَبْل
انْقِضَاءِ أَمَدِ الإِْعَارَةِ عَلَى الْبَقَاءِ فَلِشَرِيكِهِ
الشُّفْعَةُ وَلاَ مَقَال لِرَبِّ الأَْرْضِ إِنْ بَاعَهُ عَلَى
الْبَقَاءِ، وَإِنْ بَاعَهُ عَلَى النَّقْضِ قُدِّمَ رَبُّ الأَْرْضِ.
فَإِذَا بَنَى رَجُلاَنِ فِي عَرْصَةِ رَجُلٍ بِإِذْنِهِ، ثُمَّ بَاعَ
أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنَ النَّقْضِ فَلِرَبِّ الأَْرْضِ أَخْذُهُ
بِالأَْقَل مِنْ قِيمَتِهِ مَقْلُوعًا أَوْ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي بَاعَهُ
بِهِ، فَإِنْ أَبَى فَلِشَرِيكِهِ الشُّفْعَةُ لِلضَّرَرِ إِذْ هُوَ أَصْل
الشُّفْعَةِ (2) .
ثَالِثًا: مُزَاحَمَةُ الْمُشْتَرِي الشَّفِيعَ لِغَيْرِهِ مِنَ
الشُّفَعَاءِ:
43 - إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي شَفِيعًا، فَإِنَّهُ يُزَاحِمُ
__________
(1) شرح منح الجليل على مختصر خليل 3 / 602، الخرشي 6 / 177 - 178، حاشية
الدسوقي 3 / 492 وما بعدها.
(2) شرح منح الجليل 3 / 592، مواهب الجليل 5 / 318، الخرشي 6 / 167 - 168.
(26/157)
غَيْرَهُ مِنَ الشُّفَعَاءِ بِقُوَّةِ
سَبَبِهِ وَيُزَاحِمُونَهُ كَذَلِكَ بِقُوَّةِ السَّبَبِ وَيُقَاسِمُهُمْ
وَيُقَاسِمُونَهُ إِذَا كَانُوا مِنْ دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ.
فَالْمُشْتَرِي الشَّفِيعُ يُقَدَّمُ عَلَى مَنْ دُونَهُ فِي سَبَبِ
الشُّفْعَةِ، وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ فِي السَّبَبِ
(1) .
وَعَلَى هَذَا إِذَا تَسَاوَى الْمُشْتَرِي مَعَ الشُّفَعَاءِ فِي
الرُّتْبَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ شَفِيعًا مِثْلَهُمْ فَيُشَارِكُهُمْ وَلاَ
يُقَدَّمُ أَحَدُهُمْ عَلَى الآْخَرِ بِشَيْءٍ وَيُقْسَمُ الْعَقَارُ
الْمَشْفُوعُ فِيهِ عَلَى قَدْرِ رُءُوسِهِمْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَعَلَى قَدْرِ أَمْلاَكِهِمْ عِنْدَ غَيْرِهِمْ كَمَا هُوَ أَصْل كُلٍّ
مِنْهُمْ فِي تَقْسِيمِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ عَلَى الشُّفَعَاءِ فِي حَالَةِ
مَا إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي أَجْنَبِيًّا (2) .
طَرِيقُ التَّمَلُّكِ بِالشُّفْعَةِ:
44 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّمَلُّكِ بِالشُّفْعَةِ،
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلشَّفِيعِ
إِلاَّ بِتَسْلِيمِ الْمُشْتَرِي بِالتَّرَاضِي، أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي.
أَمَّا التَّمَلُّكُ بِالتَّسْلِيمِ مِنَ الْمُشْتَرِي فَظَاهِرٌ؛ لأَِنَّ
الأَْخْذَ بِتَسْلِيمِ الْمُشْتَرِي بِرِضَاهُ
__________
(1) الهندية 5 / 178 - 488، حاشية ابن عابدين 6 / 239، شرح منح الجليل على
مختصر خليل 3 / 602، الخرشي 6 / 164.
(2) المراجع السابقة، والمغني 5 / 525 وما بعدها، وانظر منتهى الإرادات 1 /
530، المقنع 2 / 264.
(26/158)
بِبَدَلٍ يَبْذُلُهُ الشَّفِيعُ وَهُوَ
الثَّمَنُ يُفَسِّرُ الشِّرَاءَ وَالشِّرَاءُ تَمَلُّكٌ.
وَأَمَّا قَضَاءُ الْقَاضِي فَلأَِنَّهُ نَقْلٌ لِلْمِلْكِ عَنْ مَالِكِهِ
إِلَى غَيْرِهِ قَهْرًا، فَافْتَقَرَ إِلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ كَأَخْذِ
دَيْنِهِ. وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِالشُّفْعَةِ وَكَانَ الْمَبِيعُ فِي
يَدِ الْبَائِعِ، فَقَال بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ: الْبَيْعُ لاَ
يُنْتَقَضُ بَل تَتَحَوَّل الصَّفْقَةُ إِلَى الشَّفِيعِ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ الَّذِي جَرَى بَيْنَ الْبَائِعِ
وَالْمُشْتَرِي وَيَنْعَقِدُ لِلشَّفِيعِ بَيْعٌ آخَرُ، وَهُوَ
الْمَشْهُورُ وَوَجْهُ مَنْ قَال بِالتَّحَوُّل، أَنَّ الْبَيْعَ لَوِ
انْتَقَضَ لِتَعَذُّرِ الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ مِنْ
شَرَائِطِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ فَإِذَا انْتُقِضَ لَمْ يَجِبْ فَتَعَذَّرَ
الأَْخْذُ.
وَوَجْهُ مَنْ قَال إِنَّهُ يُنْتَقَضُ، نَصَّ كَلاَمِ مُحَمَّدٍ حَيْثُ
قَال: انْتُقِضَ الْبَيْعُ فِيمَا بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي
وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ.
وَمِنَ الْمَعْقُول أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا قَضَى بِالشُّفْعَةِ قَبْل
الْقَبْضِ فَقَدْ عَجَزَ الْمُشْتَرِي عَنْ قَبْضِ الْمَبِيعِ وَالْعَجْزُ
عَنْ قَبْضِهِ يُوجِبُ بُطْلاَنَ الْبَيْعِ لِخُلُوِّهِ عَنِ الْفَائِدَةِ،
كَمَا إِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْل الْقَبْضِ.
وَلأَِنَّ الْمِلْكَ قَبْل الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِلْمُشْتَرِي
لِوُجُودِ آثَارِ الْمِلْكِ فِي حَقِّهِ وَلَوْ تَحَوَّل الْمِلْكُ إِلَى
(26/158)
الشَّفِيعِ لَمْ يَثْبُتِ الْمِلْكُ
لِلْمُشْتَرِي (1) .
45 - وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي أَخَذَهُ مِنْهُ
وَدَفَعَ الثَّمَنَ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَالْبَيْعُ الأَْوَّل صَحِيحٌ؛
لأَِنَّ اسْتِحْقَاقَ التَّمَلُّكِ وَقَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي فَيُجْعَل
كَأَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ.
ثُمَّ إِذَا أَخَذَ الدَّارَ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ يَدْفَعُ الثَّمَنَ
إِلَى الْبَائِعِ وَكَانَتِ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ، وَيَسْتَرِدُّ
الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ مِنَ الْبَائِعِ إِنْ كَانَ قَدْ نَقَدَ.
وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي دَفَعَ الثَّمَنَ إِلَى
الْمُشْتَرِي، وَكَانَتِ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْعُهْدَةَ هِيَ
مِنَ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ عِنْدَ الاِسْتِحْقَاقِ فَيَكُونُ عَلَى مَنْ
قَبَضَهُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا كَانَ نَقَدَ
الثَّمَنَ وَلَمْ يَقْبِضِ الدَّارَ حَتَّى قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِمَحْضَرٍ
مِنْهُمَا أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الدَّارَ مِنَ الْبَائِعِ وَيَنْقُدُ
الثَّمَنَ لِلْمُشْتَرِي وَالْعُهْدَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ
لَمْ يَنْقُدْ دَفَعَ الشَّفِيعُ الثَّمَنَ إِلَى الْبَائِعِ،
وَالْعُهْدَةُ عَلَى الْبَائِعِ (2) .
46 - وَشَرْطُ جَوَازِ الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
حُضُورُ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لاَ
يَجُوزُ، فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَلاَ بُدَّ مِنْ
حُضُورِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي
__________
(1) البدائع 6 / 2724، وابن عابدين 6 / 219، وتبيين الحقائق 5 / 242.
(2) البدائع 6 / 2725، 2726 وما بعدها.
(26/159)
جَمِيعًا؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
خَصْمٌ، أَمَّا الْبَائِعُ فَبِالْيَدِ، وَأَمَّا الْمُشْتَرِي
فَبِالْمِلْكِ فَكَانَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْضِيًّا عَلَيْهِ
فَيُشْتَرَطُ حُضُورُهُمَا لِئَلاَّ يَكُونَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ مِنْ
غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَحُضُورُ الْبَائِعِ لَيْسَ
بِشَرْطٍ، وَيُكْتَفَى بِحُضُورِ الْمُشْتَرِي لأَِنَّ الْبَائِعَ خَرَجَ
مِنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا لِزَوَال مِلْكِهِ وَيَدِهِ عَنِ الْمَبِيعِ
فَصَارَ كَالأَْجْنَبِيِّ، وَكَذَا حُضُورُ الشَّفِيعِ أَوْ وَكِيلِهِ
شَرْطُ جَوَازِ الْقَضَاءِ لَهُ بِالشُّفْعَةِ، لأَِنَّ الْقَضَاءَ عَلَى
الْغَائِبِ كَمَا لاَ يَجُوزُ، فَالْقَضَاءُ لِلْغَائِبِ لاَ يَجُوزُ
أَيْضًا، ثُمَّ الْقَاضِي إِذَا قَضَى بِالشُّفْعَةِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ
لِلشَّفِيعِ وَلاَ يَقِفُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لَهُ عَلَى التَّسْلِيمِ؛
لأَِنَّ الْمِلْكَ لِلشَّفِيعِ يَثْبُتُ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ،
وَالشِّرَاءُ الصَّحِيحُ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ (1) .
47 - وَوَقْتُ الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ، هُوَ وَقْتُ الْمُنَازَعَةِ
وَالْمُطَالَبَةِ بِهَا فَإِذَا طَالَبَهُ بِهَا الشَّفِيعُ يَقْضِي لَهُ
الْقَاضِي بِالشُّفْعَةِ، سَوَاءٌ أَحْضَرَ الثَّمَنَ أَمْ لاَ فِي ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَحْبِسَ الدَّارَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ
الثَّمَنَ مِنَ الشَّفِيعِ وَلِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ
لاِسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَنْقُدَ حَبَسَهُ الْقَاضِي؛
لأَِنَّهُ ظَهَرَ
__________
(1) البدائع 6 / 2727، المبسوط 14 / 102، تبيين الحقائق على الكنز 5 / 245،
246.
(26/159)
ظُلْمُهُ بِالاِمْتِنَاعِ مِنْ إِيفَاءِ
حَقٍّ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، فَيَحْبِسُهُ وَلاَ يَنْقُضُ الشُّفْعَةَ، وَإِنْ
طَلَبَ أَجَلاً أَجَّلَهُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً؛
لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ النَّقْدُ لِلْحَال فَيَحْتَاجُ إِلَى مُدَّةٍ
يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنَ النَّقْدِ فَيُمْهِلُهُ وَلاَ يَحْبِسُهُ، فَإِنْ
مَضَى الأَْجَل وَلَمْ يَنْقُدْ حَبَسَهُ.
وَقَال مُحَمَّدٌ: لاَ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِالشُّفْعَةِ
حَتَّى يُحْضِرَ الشَّفِيعُ الْمَال، فَإِنْ طَلَبَ أَجَلاً أَجَّلَهُ
يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَمْ يَقْضِ لَهُ
بِالشُّفْعَةِ، فَإِنْ قَضَى بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ أَبَى الشَّفِيعُ أَنْ
يَنْقُدَ حَبَسَهُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشَّفِيعَ يَمْلِكُ الشِّقْصَ
بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلاَثَةٍ:
أ - حُكْمُ الْحَاكِمِ لَهُ.
ب - دَفْعُ ثَمَنٍ مِنَ الشَّفِيعِ لِلْمُشْتَرِي.
ج - الإِْشْهَادُ بِالأَْخْذِ وَلَوْ فِي غَيْبَةِ الْمُشْتَرِي، وَقِيل
لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِحُضُورِهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُشْتَرَطُ فِي التَّمَلُّكِ بِالشُّفْعَةِ
حُكْمُ الْحَاكِمِ، وَلاَ إِحْضَارُ الثَّمَنِ، وَلاَ حُضُورُ الْمُشْتَرِي
وَلاَ رِضَاهُ، وَلاَ بُدَّ مِنْ جِهَةِ الشَّفِيعِ مِنْ لَفْظٍ،
كَقَوْلِهِ: تَمَلَّكْتُ، أَوِ اخْتَرْتُ الأَْخْذَ بِالشُّفْعَةِ، أَوْ
__________
(1) البدائع 6 / 2728، الزيلعي 5 / 245.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 487، وما بعدها، الخرشي 6 / 174.
(26/160)
أَخَذْتُهُ بِالشُّفْعَةِ، وَمَا
أَشْبَهَهُ. وَإِلاَّ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُعَاطَاةِ. وَلَوْ قَال.
أَنَا مُطَالِبٌ بِالشُّفْعَةِ، لَمْ يَحْصُل بِهِ التَّمَلُّكُ عَلَى
الأَْصَحِّ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي. وَلِذَلِكَ قَالُوا: يُعْتَبَرُ
فِي التَّمَلُّكِ بِهَا، أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مَعْلُومًا لِلشَّفِيعِ،
وَلَمْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ فِي الطَّلَبِ. ثُمَّ لاَ يَمْلِكُ الشَّفِيعُ
بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ، بَل يُعْتَبَرُ مَعَهُ أَحَدُ أُمُورٍ.
الأَْوَّل: أَنْ يُسَلِّمَ الْعِوَضَ إِلَى الْمُشْتَرِي، فَيَمْلِكَ بِهِ
إِنِ اسْتَلَمَهُ، وَإِلاَّ فَيُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، أَوْ يَرْفَعَ
الأَْمْرَ إِلَى الْقَاضِي حَتَّى يُلْزِمَهُ التَّسْلِيمَ. قَال
النَّوَوِيُّ: أَوْ يَقْبِضُ عَنْهُ الْقَاضِي.
الثَّانِي: أَنْ يُسَلِّمَ الْمُشْتَرِي الشِّقْصَ وَيَرْضَى بِكَوْنِ
الثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ الشَّفِيعِ، إِلاَّ أَنْ يَبِيعَ، وَلَوْ رَضِيَ
بِكَوْنِ الثَّمَنِ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَمْ يُسَلِّمِ الشِّقْصَ،
فَوَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: لاَ يَحْصُل الْمِلْكُ؛ لأَِنَّ قَوْل الْمُشْتَرِي وَعْدٌ.
وَأَصَحُّهُمَا: الْحُصُول؛ لأَِنَّهُ مُعَاوَضَةٌ، وَالْمِلْكُ فِي
الْمُعَاوَضَاتِ لاَ يَقِفُ عَلَى الْقَبْضِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَ الْقَاضِي وَيُثْبِتَ حَقَّهُ
بِالشُّفْعَةِ، وَيَخْتَارَ التَّمَلُّكَ، فَيَقْضِيَ الْقَاضِي لَهُ
بِالشُّفْعَةِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لاَ يَحْصُل الْمِلْكُ حَتَّى
يَقْبِضَ عِوَضَهُ، أَوْ يَرْضَى بِتَأَخُّرِهِ، وَأَصَحُّهُمَا:
الْحُصُول.
(26/160)
وَإِذَا مَلَكَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ
بِغَيْرِ الطَّرِيقِ الأَْوَّل، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَسَلَّمَهُ
حَتَّى يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ، وَأَنْ يُسَلِّمَهُ الْمُشْتَرِي قَبْل
أَدَاءِ الثَّمَنِ وَلاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُؤَخِّرَ حَقَّهُ بِتَأْخِيرِ
الْبَائِعِ حَقَّهُ. وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ حَاضِرًا وَقْتَ
التَّمَلُّكِ، أُمْهِل ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ. فَإِنِ انْقَضَتْ وَلَمْ
يُحْضِرْهُ فَسَخَ الْحَاكِمُ تَمَلُّكَهُ، هَكَذَا قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ
وَالْجُمْهُورُ. وَقِيل: إِذَا قَصَّرَ فِي الأَْدَاءِ، بَطَل حَقُّهُ.
وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ، رُفِعَ الأَْمْرُ إِلَى الْحَاكِمِ وَفَسَخَ مِنْهُ
(1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الشَّفِيعَ يَمْلِكُ الشِّقْصَ
بِأَخْذِهِ بِكُل لَفْظٍ يَدُل عَلَى أَخْذِهِ، بِأَنْ يَقُول قَدْ
أَخَذْتُهُ بِالثَّمَنِ أَوْ تَمَلَّكْتُهُ بِالثَّمَنِ أَوِ اخْتَرْتُ
الأَْخْذَ بِالشُّفْعَةِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ
وَالشِّقْصُ مَعْلُومَيْنِ، وَلاَ يَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ.
وَقَال الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ: يَمْلِكُهُ بِالْمُطَالَبَةِ؛
لأَِنَّ الْبَيْعَ السَّابِقَ سَبَبٌ، فَإِذَا انْضَمَّتْ إِلَيْهِ
الْمُطَالَبَةُ كَانَ كَالإِْيجَابِ فِي الْبَيْعِ انْضَمَّ إِلَيْهِ
الْقَبُول.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ
وَالإِْجْمَاعِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ كَالرَّدِّ
بِالْعَيْبِ.
وَعَلَى هَذَا فَإِنَّهُ إِذَا قَال قَدْ أَخَذْتُ الشِّقْصَ
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 83 - 85.
(26/161)
بِالثَّمَنِ الَّذِي تَمَّ عَلَيْهِ
الْعَقْدُ، وَهُوَ عَالِمٌ بِقَدْرِهِ وَبِالْمَبِيعِ صَحَّ الأَْخْذُ،
وَمَلَكَ الشِّقْصَ وَلاَ خِيَارَ لِلشَّفِيعِ وَلاَ لِلْمُشْتَرِي؛
لأَِنَّ الشِّقْصَ يُؤْخَذُ قَهْرًا وَالْمَقْهُورُ لاَ خِيَارَ لَهُ.
وَالآْخِذُ قَهْرًا لاَ خِيَارَ لَهُ أَيْضًا.
وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَوِ الشِّقْصُ مَجْهُولاً لَمْ يَمْلِكْهُ
بِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ، فَيُعْتَبَرُ الْعِلْمُ
بِالْعِوَضَيْنِ كَسَائِرِ الْبُيُوعِ، وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ
بِالشُّفْعَةِ، ثُمَّ يَتَعَرَّفُ مِقْدَارَ الثَّمَنِ مِنَ الْمُشْتَرِي
أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَالْمَبِيعِ فَيَأْخُذُهُ بِثَمَنِهِ وَيَحْتَمِل
أَنَّ لَهُ الأَْخْذَ مَعَ جَهَالَةِ الشِّقْصِ بِنَاءً عَلَى بَيْعِ
الْغَائِبِ (1) .
الْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ فِي الْمَال الْمَشْفُوعِ فِيهِ:
48 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي فِي
الأَْرْضِ الْمَشْفُوعِ فِيهَا أَوْ غَرَسَ فِيهَا، ثُمَّ قُضِيَ
لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ، وَسَبَبُ الاِخْتِلاَفِ عَلَى مَا قَال ابْنُ
رُشْدٍ هُوَ تَرَدُّدُ تَصَرُّفِ الْمَشْفُوعِ عَلَيْهِ الْعَالِمِ
بِوُجُوبِ الشُّفْعَةِ عَلَيْهِ بَيْنَ شُبْهَةِ تَصَرُّفِ الْغَاصِبِ
وَتَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي الَّذِي يَطْرَأُ عَلَيْهِ الاِسْتِحْقَاقُ
وَقَدْ بَنَى فِي الأَْرْضِ وَغَرَسَ وَذَلِكَ أَنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَهُمَا.
فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شَبَهُ الاِسْتِحْقَاقِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ
يَأْخُذَ الْقِيمَةَ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شَبَهُ التَّعَدِّي كَانَ
لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِنَقْضِهِ أَوْ يُعْطِيَهُ
__________
(1) المغني 5 / 474، 475.
(26/161)
قِيمَتَهُ مَنْقُوضًا (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي فِي
الأَْرْضِ الْمَشْفُوعِ فِيهَا أَوْ غَرَسَ، ثُمَّ قُضِيَ لِلشَّفِيعِ
بِالشُّفْعَةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِالثَّمَنِ
وَالْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ بِقِيمَتِهِ مَقْلُوعًا، وَإِنْ شَاءَ أَجْبَرَ
الْمُشْتَرِيَ عَلَى قَلْعِهِمَا، فَيَأْخُذُ الأَْرْضَ فَارِغَةً. وَهَذَا
هُوَ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. أَنَّهُ بَنَى فِي مَحَلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ
حَقٌّ مُتَأَكِّدٌ لِلْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ
الْحَقُّ فَيُنْقَضُ كَالرَّاهِنِ إِذَا بَنَى فِي الْمَرْهُونِ، وَهَذَا
لأَِنَّ حَقَّهُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمُشْتَرِي؛ لأَِنَّهُ يَتَقَدَّمُ
عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يُنْقَضُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَتَصَرُّفَاتُهُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، أَنَّهُ لاَ يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى
الْقَلْعِ وَيُخَيَّرُ الشَّفِيعُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ
وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ
عِنْدَهُ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي الْبِنَاءِ؛ لأَِنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ
الدَّارَ مِلْكُهُ، وَالتَّكْلِيفُ بِالْقَلْعِ مِنْ أَحْكَامِ
الْعُدْوَانِ وَصَارَ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً
فَاسِدًا، وَكَمَا إِذَا زَرَعَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ لاَ يُكَلَّفُ
الْقَلْعَ، وَهَذَا لأَِنَّ فِي إِيجَابِ الْقِيمَةِ دَفْعَ أَعْلَى
الضَّرَرَيْنِ بِتَحَمُّل الأَْدْنَى فَيُصَارُ إِلَيْهِ (2) .
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 260.
(2) الهداية مع فتح القدير 9 / 398، البدائع 6 / 2739، ابن عابدين 6 / 232
- 233.
(26/162)
أَمَّا الزَّرْعُ فَالْقِيَاسُ قَلْعُهُ
وَلَكِنَّ الاِسْتِحْسَانَ عَدَمُ قَلْعِهِ، لأَِنَّ لَهُ نِهَايَةً
مَعْلُومَةً وَيَبْقَى بِالأَْجْرِ وَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَحْدَثَ الْمُشْتَرِي
بِنَاءً أَوْ غَرْسًا أَوْ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ فِي الشِّقْصِ قَبْل
قِيَامِ الشَّفِيعِ، ثُمَّ قَامَ الشَّفِيعُ بِطَلَبِ شُفْعَتِهِ فَلاَ
شُفْعَةَ إِلاَّ أَنْ يُعْطَى الْمُشْتَرِي قِيمَةَ مَا بَنَى وَمَا
غَرَسَ.
وَلِلْمُشْتَرِي الْغَلَّةُ إِلَى وَقْتِ الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ
لأَِنَّهُ فِي ضَمَانِهِ قَبْل الأَْخْذِ بِهَا وَالْغَلَّةُ بِالضَّمَانِ
(2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي أَوْ
غَرَسَ أَوْ زَرَعَ فِي الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ ثُمَّ عَلِمَ الشَّفِيعُ
فَلَهُ الأَْخْذُ بِالشُّفْعَةِ وَقَلْعُ بِنَائِهِ وَغَرْسِهِ وَزَرْعِهِ
مَجَّانًا لاَ بِحَقِّ الشُّفْعَةِ، وَلَكِنْ لأَِنَّهُ شَرِيكٌ وَأَحَدُ
الشَّرِيكَيْنِ إِذَا انْفَرَدَ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فِي الأَْرْضِ
الْمُشْتَرَكَةِ كَانَ لِلآْخَرِ أَنْ يَقْلَعَ مَجَّانًا.
وَإِنْ بَنَى الْمُشْتَرِي وَغَرَسَ فِي نَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ
وَالتَّمْيِيزِ ثُمَّ عَلِمَ الشَّفِيعُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَلْعُهُ
مَجَّانًا، لأَِنَّهُ بَنَى فِي مِلْكِهِ الَّذِي يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ
فِيهِ فَلاَ يُقْلَعُ مَجَّانًا.
__________
(1) الهداية مع فتح القدير 9 / 399.
(2) بداية المجتهد 2 / 260، الخرشي 6 / 168، 169، وحاشية الدسوقي 3 / 493.
(26/162)
فَإِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي قَلْعَ
الْبِنَاءِ أَوِ الْغِرَاسِ فَلَهُ ذَلِكَ وَلاَ يُكَلَّفُ تَسْوِيَةَ
الأَْرْضِ. لأَِنَّهُ كَانَ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِهِ، فَإِنْ حَدَثَ فِي
الأَْرْضِ نَقْصٌ فَالشَّفِيعُ إِمَّا أَنْ يَأْخُذَهُ عَلَى صِفَتِهِ،
وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَرِ الْمُشْتَرِي الْقَلْعَ،
فَلِلشَّفِيعِ الْخِيَارُ بَيْنَ إِبْقَاءِ مِلْكِهِ فِي الأَْرْضِ
بِأُجْرَةٍ وَبَيْنَ تَمَلُّكِهِ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ الأَْخْذِ، وَبَيْنَ
أَنْ يَنْقُضَهُ وَيَغْرَمَ أَرْشَ النَّقْصِ.
وَلَوْ كَانَ قَدْ زَرَعَ فَيَبْقَى زَرْعُهُ إِلَى أَنْ يُدْرِكَ
فَيَحْصُدَهُ، وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالأُْجْرَةِ عَلَى
الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي أَوْ
غَرَسَ أَعْطَاهُ الشَّفِيعُ قِيمَةَ بِنَائِهِ أَوْ غَرْسِهِ، إِلاَّ أَنْ
يَشَاءَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ بِنَاءَهُ وَغِرَاسَهُ، فَلَهُ ذَلِكَ
إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي أَخْذِهِ ضَرَرٌ. لأَِنَّهُ مَلَكَهُ، فَإِذَا
قَلَعَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الْحُفَرِ وَلاَ نَقْصُ الأَْرْضِ،
ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لأَِنَّهُ غَرَسَ وَبَنَى فِي مِلْكِهِ، وَمَا حَدَثَ
مِنَ النَّقْصِ إِنَّمَا حَدَثَ فِي مِلْكِهِ، وَذَلِكَ لاَ يُقَابِلُهُ
ثَمَنٌ.
وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ عَلَيْهِ ضَمَانَ النَّقْصِ
الْحَاصِل بِالْقَلْعِ؛ لأَِنَّهُ اشْتُرِطَ فِي قَلْعِ الْغَرْسِ
وَالْبِنَاءِ عَدَمُ الضَّرَرِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ نَقْصٌ دَخَل عَلَى
مِلْكِ غَيْرِهِ لأَِجْل تَخْلِيصِ مِلْكِهِ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ؛ لأَِنَّ
النَّقْصَ الْحَاصِل
__________
(1) فتح العزيز 11 / 463، ونهاية المحتاج 5 / 209.
(26/163)
بِالْقَلْعِ إِنَّمَا هُوَ فِي مِلْكِ
الشَّفِيعِ. فَأَمَّا نَقْصُ الأَْرْضِ الْحَاصِل بِالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ
فَلاَ يَضْمَنُهُ.
فَإِنْ لَمْ يَخْتَرِ الْمُشْتَرِي الْقَلْعَ فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ
بَيْنَ ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ:
أ - تَرْكِ الشُّفْعَةِ.
ب - دَفْعِ قِيمَةِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ فَيَمْلِكُهُ مَعَ الأَْرْضِ.
ج - قَلْعِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ وَيَضْمَنُ لَهُ مَا نَقَصَ بِالْقَلْعِ
(1) .
وَإِنْ زَرَعَ فِي الأَْرْضِ فَلِلشَّفِيعِ الأَْخْذُ بِالشُّفْعَةِ
وَيَبْقَى زَرْعُ الْمُشْتَرِي إِلَى أَوَانِ الْحَصَادِ، لأَِنَّ ضَرَرَهُ
لاَ يَبْقَى وَلاَ أُجْرَةَ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ زَرَعَهُ فِي مِلْكِهِ؛
وَلأَِنَّ الشَّفِيعَ اشْتَرَى الأَْرْضَ وَفِيهَا زَرْعٌ لِلْبَائِعِ
مُبْقًى إِلَى الْحَصَادِ بِلاَ أُجْرَةٍ كَغَيْرِ الْمَشْفُوعِ، وَإِنْ
كَانَ فِي الشَّجَرِ ثَمَرٌ ظَاهِرٌ أَثْمَرَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي
فَهُوَ لَهُ مُبْقًى إِلَى الْجُذَاذِ كَالزَّرْعِ (2) .
اسْتِحْقَاقُ الْمَشْفُوعِ فِيهِ لِلْغَيْرِ:
49 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عُهْدَةِ الشَّفِيعِ أَهِيَ عَلَى
الْمُشْتَرِي أَمْ عَلَى الْبَائِعِ. يَعْنِي إِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ
الشِّقْصَ فَظَهَرَ مُسْتَحَقًّا، فَعَلَى مَنْ يَرْجِعُ الثَّمَنُ؟
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
__________
(1) المغني 5 / 500، وما بعدها، ومنتهى الإرادات 1 / 532.
(2) المغني 5 / 502، والمقنع 2 / 269.
(26/163)
أَنَّهُ إِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ
فَظَهَرَ مُسْتَحَقًّا فَرُجُوعُهُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي،
وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِهِ.
وَإِنْ وَجَدَهُ مَعِيبًا فَلَهُ رَدُّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ أَخْذُ
أَرْشِهِ مِنْهُ، وَالْمُشْتَرِي يَرُدُّ عَلَى الْبَائِعِ أَوْ يَأْخُذُ
الأَْرْشَ مِنْهُ سَوَاءٌ قَبَضَ الشِّقْصَ مِنَ الْمُشْتَرِي أَوْ مِنَ
الْبَائِعِ فَالْعُهْدَةُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْمُشْتَرِي.
وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، أَنَّ الشُّفْعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ بَعْدَ
الشِّرَاءِ وَحُصُول الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ يَزُول الْمِلْكُ مِنَ
الْمُشْتَرِي إِلَى الشَّفِيعِ بِالثَّمَنِ فَكَانَتِ الْعُهْدَةُ
عَلَيْهِ؛ وَلأَِنَّهُ مَلَكَهُ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ
فَمَلَكَ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ كَالْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ
الأَْوَّل (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا قُضِيَ لِلشَّفِيعِ
بِالْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ فَأَدَّى ثَمَنَهُ ثُمَّ اسْتَحَقَّ
الْمَبِيعَ، فَإِنْ أَدَّاهُ لِلْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ سَوَاءٌ
اسْتُحِقَّ قَبْل تَسْلِيمِهِ إِلَيْهِ أَوْ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ
أَدَّاهُ لِلْبَائِعِ وَاسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ وَهُوَ فِي يَدِهِ
فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الثَّمَنِ لِلشَّفِيعِ.
وَيَرْجِعُ الشَّفِيعُ بِالثَّمَنِ فَقَطْ إِنْ بَنَى أَوْ غَرَسَ ثُمَّ
اسْتُحِقَّتِ الْعَيْنُ، وَلاَ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ
__________
(1) الخرشي 6 / 180، حاشية الدسوقي 3 / 493، بداية المجتهد 2 / 260، نهاية
المحتاج 5 / 217، والمغني 5 / 534، المقنع 2 / 274.
(26/164)
الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ عَلَى أَحَدٍ
لأَِنَّهُ لَيْسَ مُقَرَّرًا بِهِ (1) .
وَقَال ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: الْعُهْدَةُ عَلَى
الْبَائِعِ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ لَهُ بِإِيجَابِ الْبَائِعِ فَكَانَ
رُجُوعُهُ عَلَيْهِ كَالْمُشْتَرِي (2) .
تَبِعَةُ الْهَلاَكِ:
50 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا هَدَمَ الْمُشْتَرِي
بِنَاءَ الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ أَوْ هَدَمَهُ غَيْرُهُ أَوْ قَلَعَ
الأَْشْجَارَ الَّتِي كَانَتْ مَغْرُوسَةً فِي الأَْرْضِ الْمَشْفُوعَةِ
فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الْعَرْصَةَ أَوِ الأَْرْضَ بِحِصَّتِهَا مِنَ
الثَّمَنِ بِأَنْ يُقْسَمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْعَرْصَةِ أَوِ
الأَْرْضِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ أَوِ الشَّجَرِ وَمَا خَصَّ الْعَرْصَةَ
أَوِ الأَْرْضَ مِنْهُ يَدْفَعُهُ الشَّفِيعُ وَتَكُونُ الأَْنْقَاضُ
وَالأَْخْشَابُ لِلْمُشْتَرِي. وَإِذَا تَخَرَّبَتِ الدَّارُ
الْمَشْفُوعَةُ أَوْ جَفَّتْ أَشْجَارُ الْبُسْتَانِ الْمَشْفُوعِ بِلاَ
تَعَدِّي أَحَدٍ عَلَيْهَا يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِالثَّمَنِ
الْمُسَمَّى، فَإِنْ كَانَ بِهَا أَنْقَاضٌ أَوْ خَشَبٌ وَأَخَذَهُ
الْمُشْتَرِي تَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنَ الثَّمَنِ بِأَنْ يُقْسَمَ الثَّمَنُ
عَلَى قِيمَةِ الدَّارِ أَوِ الْبُسْتَانِ يَوْمَ الْعَقْدِ وَقِيمَةِ
الأَْنْقَاضِ وَالْخَشَبِ يَوْمَ الأَْخْذِ، وَإِذَا تَلِفَ بَعْضُ
الأَْرْضِ الْمَشْفُوعَةِ بِغَرَقٍ أَوْ نَحْوِهِ سَقَطَتْ حِصَّةُ
التَّالِفِ مِنْ أَصْل الثَّمَنِ،
__________
(1) الهداية 8 / 325، والزيلعي على الكنز 5 / 251، وابن عابدين 6 / 228.
(2) المغني 5 / 534.
(26/164)
وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الأَْرْضَ
مَعَ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ بِالثَّمَنِ الأَْوَّل إِذَا كَانَ مُتَّصِلاً،
فَأَمَّا إِذَا زَال الاِتِّصَال ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَلاَ سَبِيل
لِلشَّفِيعِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُهُ قَائِمَةً سَوَاءٌ أَكَانَ
الزَّوَال بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَمْ بِصُنْعِ الْمُشْتَرِي أَوِ
الأَْجْنَبِيِّ؛ لأَِنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ فِي هَذِهِ الأَْشْيَاءِ
إِنَّمَا ثَبَتَ مَعْدُولاً بِهِ عَنِ الْقِيَاسِ مَعْلُولاً
بِالتَّبَعِيَّةِ وَقَدْ زَالَتِ التَّبَعِيَّةُ بِزَوَال الاِتِّصَال
فَيُرَدُّ الْحُكْمُ فِيهِ إِلَى أَصْل الْقِيَاسِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يَضْمَنُ الْمُشْتَرِي نَقْصَ
الشِّقْصِ إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِلاَ سَبَبٍ مِنْهُ
وَإِنَّمَا بِسَبَبٍ سَمَاوِيٍّ أَوْ تَغَيُّرِ سُوقٍ أَوْ كَانَ بِسَبَبٍ
مِنْهُ وَلَكِنَّهُ فَعَلَهُ لِمَصْلَحَةٍ كَهَدْمٍ لِمَصْلَحَةٍ مِنْ
غَيْرِ بِنَاءٍ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّ لَهُ شَفِيعًا أَمْ لاَ. فَإِنْ
هَدَمَ لاَ لِمَصْلَحَةٍ ضَمِنَ، فَإِنْ هَدَمَ وَبَنَى فَلَهُ قِيمَتُهُ
عَلَى الشَّفِيعِ قَائِمًا لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ وَتُعْتَبَرُ يَوْمَ
الْمُطَالَبَةِ وَلَهُ قِيمَةُ النَّقْصِ الأَْوَّل مَنْقُوضًا يَوْمَ
الشِّرَاءِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَعَيَّبَتِ الدَّارُ
الْمُشْتَرَى بَعْضُهَا أَخَذَ الشَّفِيعُ بِكُل الثَّمَنِ أَوْ
__________
(1) البدائع 6 / 2736، 2739، المبسوط 14 / 1150، الهداية مع الفتح 9 / 402،
وتبيين الحقائق 5 / 251 - 252، وانظر ابن عابدين 6 / 233 وما بعدها.
(2) الشرح الصغير بهامش بلغة السالك 2 / 236، حاشية الدسوقي 3 / 494.
(26/165)
تَرَكَ كَتَعَيُّبِهَا بِيَدِ الْبَائِعِ،
وَكَذَا لَوِ انْهَدَمَتْ بِلاَ تَلَفٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا، فَإِنْ وَقَعَ
تَلَفٌ لِبَعْضِهَا فَبِالْحِصَّةِ مِنَ الثَّمَنِ يَأْخُذُ الْبَاقِيَ (1)
.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَلِفَ الشِّقْصُ أَوْ
بَعْضُهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ. لأَِنَّهُ مِلْكُهُ
تَلِفَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ إِنْ أَرَادَ الشَّفِيعُ الأَْخْذَ بَعْدَ تَلَفِ
بَعْضِهِ أَخَذَ الْمَوْجُودَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ سَوَاءٌ أَكَانَ
التَّلَفُ بِفِعْل اللَّهِ تَعَالَى أَمْ بِفِعْل آدَمِيٍّ، وَسَوَاءٌ
أَتَلِفَ بِاخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي كَنَقْضِهِ لِلْبِنَاءِ أَمْ بِغَيْرِ
اخْتِيَارِهِ مِثْل أَنِ انْهَدَمَ.
ثُمَّ إِنْ كَانَتِ الأَْنْقَاضُ مَوْجُودَةً أَخَذَهَا مَعَ الْعَرْصَةِ
بِالْحِصَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً أَخَذَ الْعَرْصَةَ وَمَا بَقِيَ
مِنَ الْبِنَاءِ وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيِّ وَالْعَنْبَرِيِّ، وَوَجْهُهُ
أَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَى الشَّفِيعِ أَخْذُ الْجَمِيعِ وَقَدَرَ عَلَى
أَخْذِ الْبَعْضِ فَكَانَ لَهُ بِالْحِصَّةِ مِنَ الثَّمَنِ كَمَا لَوْ
تَلِفَ بِفِعْل آدَمِيٍّ سِوَاهُ أَوْ لَوْ كَانَ لَهُ شَفِيعٌ آخَرُ. أَوْ
نَقُول: أَخَذَ بَعْضَ مَا دَخَل مَعَهُ فِي الْعَقْدِ، فَأَخَذَهُ
بِالْحِصَّةِ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ سَيْفٌ.
وَأَمَّا الضَّرَرُ فَإِنَّمَا حَصَل بِالتَّلَفِ وَلاَ صُنْعَ لِلشَّفِيعِ
فِيهِ وَالَّذِي يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ يُؤَدِّي ثَمَنَهُ فَلاَ
يَتَضَرَّرُ الْمُشْتَرِي بِأَخْذِهِ.
وَإِنَّمَا قَالُوا بِأَخْذِ الأَْنْقَاضِ وَإِنْ كَانَتْ
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 370.
(26/165)
مُنْفَصِلَةً لأَِنَّ اسْتِحْقَاقَهُ
لِلشُّفْعَةِ كَانَ حَال عَقْدِ الْبَيْعِ وَفِي تِلْكَ الْحَال كَانَ
مُتَّصِلاً اتِّصَالاً لَيْسَ مَآلُهُ إِلَى الاِنْفِصَال وَانْفِصَالُهُ
بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يُسْقِطُ حَقَّ الشُّفْعَةِ. وَإِنْ نُقِضَتِ الْقِيمَةُ
مَعَ بَقَاءِ صُورَةِ الْمَبِيعِ مِثْل انْشِقَاقِ الْحَائِطِ وَانْهِدَامِ
الْبِنَاءِ، وَشُعْثِ الشَّجَرِ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ الأَْخْذُ بِجَمِيعِ
الثَّمَنِ أَوِ التَّرْكُ. لأَِنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ لاَ يُقَابِلُهَا
الثَّمَنُ بِخِلاَفِ الأَْعْيَانِ (1) .
مِيرَاثُ الشُّفْعَةِ:
51 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِيرَاثِ حَقِّ الشُّفْعَةِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى
أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ يُورَثُ، فَإِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ يَنْتَقِل
حَقُّ الشُّفْعَةِ إِلَى وَرَثَتِهِ.
وَقَيَّدَهُ الْحَنَابِلَةُ بِمَا إِذَا كَانَ الشَّفِيعُ قَدْ طَالَبَ
بِالشُّفْعَةِ قَبْل مَوْتِهِ.
وَوَجْهُ الاِنْتِقَال عِنْدَهُمْ أَنَّهُ خِيَارٌ ثَابِتٌ لِدَفْعِ
الضَّرَرِ عَنِ الْمَال فَوُرِثَ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ
الْبَيْعِ وَقَبْل الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ حَقُّ
الأَْخْذِ بِهَا، فَتَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِمَوْتِ
__________
(1) المغني 5 / 503.
(2) بداية المجتهد 2 / 260، ونهاية المحتاج 5 / 217، والمغني 5 / 536 وما
بعدها، منتهى الإرادات 1 / 532.
(26/166)
الشَّفِيعِ وَلاَ تَنْتَقِل إِلَى
الْوَرَثَةِ لأَِنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَيْسَ بِمَالٍ وَإِنَّمَا
مُجَرَّدُ الرَّأْيِ وَالْمَشِيئَةِ وَهُمَا لاَ يَبْقَيَانِ بَعْدَ مَوْتِ
الشَّفِيعِ وَلأَِنَّ مِلْكَ الشَّفِيعِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الأَْخْذِ
بِالشُّفْعَةِ قَدْ زَال بِمَوْتِهِ. أَمَّا إِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ
قَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ بِالشُّفْعَةِ أَوْ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمُشْتَرِي
لَهُ بِهَا فَلِوَرَثَتِهِ أَخْذُهَا بِالشُّفْعَةِ (1) .
وَإِذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعُ حَيٌّ فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛
لأَِنَّ الْمُسْتَحِقَّ بَاقٍ، وَبِمَوْتِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ لَمْ
يَتَغَيَّرِ الاِسْتِحْقَاقُ (2) .
مُسْقِطَاتُ الشُّفْعَةِ:
52 - تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِمَا يَلِي:
أَوَّلاً: تَرْكُ أَحَدِ الطَّلَبَاتِ الثَّلاَثَةِ فِي وَقْتِهِ وَهِيَ
طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ، وَطَلَبُ التَّقْرِيرِ وَالإِْشْهَادِ، وَطَلَبُ
الْخُصُومَةِ وَالتَّمَلُّكِ إِذَا تُرِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ
(3) .
ثَانِيًا: إِذَا طَلَبَ الشَّفِيعُ بَعْضَ الْعَقَارِ الْمَبِيعِ وَكَانَ
قِطْعَةً وَاحِدَةً وَالْمُشْتَرِي وَاحِدًا،
__________
(1) العناية على الهداية مع فتح القدير 9 / 416، 417، المبسوط 14 / 116،
البدائع 6 / 2721، الزيلعي 5 / 257، ابن عابدين 6 / 241.
(2) المبسوط 14 / 116، والبدائع 6 / 2721.
(3) الهداية مع الفتح 9 / 417، والبدائع 6 / 2715، المبسوط 14 / 92، وشرح
الكنز 5 / 257، 258، ابن عابدين 6 / 240، 242، والخرشي 6 / 172، حاشية
الدسوقي 3 / 484، 486، ونهاية المحتاج ومغني المحتاج 2 / 308، 392، والمغني
5 / 477.
(26/166)
لأَِنَّ الشُّفْعَةَ لاَ تَقْبَل
التَّجْزِئَةَ (1) .
ثَالِثًا: مَوْتُ الشَّفِيعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَبْل الأَْخْذِ بِهَا
رِضَاءً أَوْ قَضَاءً سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَفَاةُ قَبْل الطَّلَبِ أَمْ
بَعْدَهُ. وَلاَ تُورَثُ عَنْهُ عِنْدَهُمْ (2) .
رَابِعًا: الإِْبْرَاءُ وَالتَّنَازُل عَنِ الشُّفْعَةِ: فَالإِْبْرَاءُ
الْعَامُّ مِنَ الشَّفِيعِ يُبْطِلُهَا قَضَاءً مُطْلَقًا لاَ دِيَانَةً
إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا (3) .
وَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّنَازُل عَنِ الشُّفْعَةِ
بِالتَّفْصِيل كَالتَّالِي:
53 - إِذَا تَنَازَل الشَّفِيعُ عَنْ حَقِّهِ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ
سَقَطَ حَقُّهُ فِي طَلَبِهَا، وَالتَّنَازُل هَذَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ
صَرِيحًا وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ ضِمْنِيًّا.
فَالتَّنَازُل الصَّرِيحُ نَحْوُ أَنْ يَقُول الشَّفِيعُ: أَبْطَلْتُ
الشُّفْعَةَ أَوْ أَسْقَطْتُهَا أَوْ أَبْرَأْتُكَ عَنْهَا وَنَحْوَ
ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الشُّفْعَةَ خَالِصُ حَقِّهِ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ
فِيهَا اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا كَالإِْبْرَاءِ عَنِ الدَّيْنِ
وَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ سَوَاءٌ عَلِمَ الشَّفِيعُ
بِالْبَيْعِ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْبَيْعِ.
أَمَّا التَّنَازُل الضِّمْنِيُّ فَهُوَ أَنْ يُوجَدَ مِنَ الشَّفِيعِ مَا
يَدُل عَلَى رِضَاهُ بِالْبَيْعِ وَثُبُوتِ الْمِلْكِ
__________
(1) المبسوط 14 / 104، البدائع 6 / 2729، حاشية الدسوقي 3 / 490، والمغني 5
/ 483، المقنع 2 / 263، منتهى الإرادات 1 / 529.
(2) الكنز مع الزيلعي 5 / 257، ابن عابدين 6 / 241.
(3) حاشية ابن عابدين 6 / 249 ط 2.
(26/167)
لِلْمُشْتَرِي؛ لأَِنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ
إِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمُشْتَرِي فَإِذَا رَضِيَ
بِالشِّرَاءِ أَوْ بِحُكْمِهِ فَقَدْ رَضِيَ بِضَرَرِ جِوَارِهِ فَلاَ
يَسْتَحِقُّ الدَّفْعَ بِالشُّفْعَةِ (1) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِسْقَاطٌ) .
التَّنَازُل عَنِ الشُّفْعَةِ قَبْل الْبَيْعِ:
54 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَازَل
الشَّفِيعُ عَنْ حَقِّهِ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ قَبْل بَيْعِ الْعَقَارِ
الْمَشْفُوعِ فِيهِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ فِي طَلَبِهَا بَعْدَ الْبَيْعِ؛
لأَِنَّ هَذَا التَّنَازُل إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ
قَبْل وُجُوبِهِ وَوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ مُحَالٌ (2) .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ تَسْقُطُ
بِالتَّنَازُل عَنْهَا قَبْل الْبَيْعِ - فَإِنَّ إِسْمَاعِيل بْنَ سَعِيدٍ
قَال: قُلْتُ لأَِحْمَدَ: مَا مَعْنَى قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ رَبْعَةٌ
فَأَرَادَ بَيْعَهَا فَلْيَعْرِضْهَا عَلَيْهِ (3) .
__________
(1) البدائع 6 / 2706، 2715، وما بعدها، شرح العناية على الهداية 9 / 417،
والشرح الصغير 2 / 231، والقليوبي 3 / 49، ومغني المحتاج 2 / 219، والمغني
5 / 482.
(2) البدائع 6 / 2715، والزيلعي 5 / 242 حاشية الدسوقي 3 / 488، شرح منح
الجليل 3 / 603، ومغني المحتاج 2 / 309، المغني 5 / 541.
(3) حديث: " من كان بينه وبين أخيه. . . " ورد بلفظ: " أيما قوم كانت بينهم
رباعة فأراد أحدهم أن يبيع نصيبه فليعرضه على شركائه، فإن أخذوه فهم أحق
بالثمن ". أخرجه أحمد (3 / 310 ط. الميمنية) من حديث جابر بن عبد الله، وفي
إسناده انقطاع.
(26/167)
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: وَلاَ يَحِل
لَهُ إِلاَّ أَنْ يَعْرِضَهَا عَلَيْهِ (1) إِذَا كَانَتِ الشُّفْعَةُ
ثَابِتَةً لَهُ؟ فَقَال. مَا هُوَ بِبَعِيدٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى
ذَلِكَ وَأَلاَّ تَكُونَ لَهُ الشُّفْعَةُ، وَهَذَا قَوْل الْحَكَمِ
وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي خَيْثَمَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ
أَهْل الْحَدِيثِ.
وَاحْتَجُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي رَبْعَةٍ أَوْ نَخْلٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ
حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَإِنْ رَضِيَ أَخَذَ وَإِنْ كَرِهَ تَرَكَ (2)
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِذَا بَاعَ وَلَمْ
يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ (3) ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِذَا بَاعَهُ
بِإِذْنِهِ لاَ حَقَّ لَهُ.
وَلأَِنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ فِي مَوْضِعِ الْوِفَاقِ عَلَى خِلاَفِ
الأَْصْل لِكَوْنِهِ يَأْخُذُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ رِضَائِهِ،
وَيُجْبِرُهُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ بِهِ لِدُخُولِهِ مَعَ الْبَائِعِ فِي
الْعَقْدِ الَّذِي أَسَاءَ فِيهِ بِإِدْخَال الضَّرَرِ عَلَى شَرِيكِهِ،
وَتَرْكِهِ الإِْحْسَانَ إِلَيْهِ فِي عَرْضِهِ عَلَيْهِ وَهَذَا
الْمَعْنَى مَعْدُومٌ هَاهُنَا فَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَهُ عَلَيْهِ،
وَامْتِنَاعُهُ مِنْ أَخْذِهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الضَّرَرِ فِي حَقِّهِ
بِبَيْعِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَهُوَ
__________
(1) حديث: " لا يحل له إلا أن يعرضها عليه: ورد بمعناه حديث جابر المتقدم
في فقرة (7) .
(2) حديث: " من كان له شريك في ربعة. . . " تقدم تخريجه ف 4.
(3) حديث: " فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به ". أخرجه مسلم (3 / 1229 - ط.
الحلبي) .
(26/168)
أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَلاَ
يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ كَمَا لَوْ أَخَّرَ الْمُطَالَبَةَ بَعْدَ
الْبَيْعِ (1) .
التَّنَازُل عَنِ الشُّفْعَةِ مُقَابِل تَعْوِيضٍ أَوْ صُلْحٍ عَنْهَا:
55 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ التَّنَازُل عَنِ الشُّفْعَةِ
مُقَابِل تَعْوِيضٍ يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، لاَ يَصِحُّ
الصُّلْحُ عَنِ الشُّفْعَةِ عَلَى مَالٍ، فَلَوْ صَالَحَ الْمُشْتَرِي
الشَّفِيعَ عَنِ الشُّفْعَةِ عَلَى مَالٍ لَمْ يَجُزِ الصُّلْحُ وَلَمْ
يَثْبُتِ الْعِوَضُ وَيَبْطُل حَقُّ الشُّفْعَةِ. قَال الشَّافِعِيَّةُ:
تَبْطُل شُفْعَتُهُ إِنْ عَلِمَ بِفَسَادِهِ.
أَمَّا بُطْلاَنُ الصُّلْحِ فَلاِنْعِدَامِ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي الْمَحَل
لأَِنَّ الثَّابِتَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ التَّمَلُّكِ، وَأَنَّهُ عِبَارَةٌ
عَنْ وِلاَيَةِ التَّمَلُّكِ وَأَنَّهَا مَعْنًى قَائِمٌ بِالشَّفِيعِ
فَلَمْ يَصِحَّ الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ فَبَطَل الصُّلْحُ وَلَمْ يَجِبِ
الْعِوَضُ.
وَأَمَّا بُطْلاَنُ حَقِّ الشَّفِيعِ فِي الشُّفْعَةِ؛ فَلأَِنَّهُ
أَسْقَطَهُ بِالصُّلْحِ فَالصُّلْحُ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَإِسْقَاطُ حَقِّ
الشُّفْعَةِ صَحِيحٌ، لأَِنَّ صِحَّتَهُ لاَ تَقِفُ عَلَى الْعِوَضِ بَل
هُوَ شَيْءٌ مِنَ الأَْمْوَال لاَ يَصْلُحُ عِوَضًا عَنْهُ فَالْتُحِقَ
ذِكْرُ الْعِوَضِ بِالْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنَّهُ سَلَّمَ بِلاَ عِوَضٍ (2)
.
__________
(1) المغني 5 / 541 وما بعدها.
(2) البدائع 6 / 2719، الهداية مع فتح القدير 9 / 414، ومغني المحتاج 2 /
309، والمغني 5 / 482.
(26/168)
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى جَوَازِ الصُّلْحِ
عَنِ الشُّفْعَةِ بِعِوَضٍ، لأَِنَّهُ عِوَضٌ عَنْ إِزَالَةِ الْمِلْكِ
فَجَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ.
وَقَال الْقَاضِي: مِنَ الْحَنَابِلَةِ. لاَ يَصِحُّ الصُّلْحُ وَلَكِنَّ
الشُّفْعَةَ لاَ تَسْقُطُ. لأَِنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِإِسْقَاطِهَا
وَإِنَّمَا رَضِيَ بِالْمُعَاوَضَةِ عَنْهَا وَلَمْ تَثْبُتِ
الْمُعَاوَضَةُ فَبَقِيَتِ الشُّفْعَةُ (1) .
التَّنَازُل عَنِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ طَلَبِهَا:
56 - يَجُوزُ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَتَنَازَل عَنْ حَقِّهِ فِي طَلَبِ
الشُّفْعَةِ بَعْدَ أَنْ طَلَبَهَا وَقَبْل رِضَى الْمُشْتَرِي أَوْ حُكْمِ
الْحَاكِمِ لَهُ بِهَا، فَإِنْ تَرَكَ الشَّفِيعُ طَلَبَ الشُّفْعَةِ أَوْ
بَاعَ حِصَّتَهُ الَّتِي يَشْفَعُ بِهَا بَعْدَ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَقَبْل
تَمَلُّكِهِ الْمَشْفُوعَ فِيهِ بِالْقَضَاءِ أَوِ الرِّضَا يَسْقُطُ
حَقُّهُ فِي الشُّفْعَةِ لأَِنَّهُ يُعَدُّ تَنَازُلاً مِنْهُ عَنْ حَقِّهِ
فِي طَلَبِهَا قَبْل الْحُكْمِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ التَّنَازُل بَعْدَ الْحُكْمِ لَهُ بِهَا أَوْ بَعْدَ
رِضَاءِ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ فَلَيْسَ لَهُ التَّنَازُل؛
لأَِنَّهُ بِذَلِكَ يَكُونُ مِلْكَ الْمَشْفُوعِ فِيهِ وَالْمِلْكُ لاَ
يَقْبَل الإِْسْقَاطَ (2) .
__________
(1) المغني 5 / 482.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 182.
(26/169)
مُسَاوَمَةُ الشَّفِيعِ لِلْمُشْتَرِي:
57 - الْمُسَاوَمَةُ تُعْتَبَرُ تَنَازُلاً عَنِ الشُّفْعَةِ فَإِذَا سَامَ
الشَّفِيعُ الدَّارَ مِنَ الْمُشْتَرِي سَقَطَ حَقُّهُ فِي الشُّفْعَةِ
لأَِنَّ الْمُسَاوَمَةَ طَلَبُ تَمْلِيكٍ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ وَهُوَ دَلِيل
الرِّضَا بِمِلْكِ الْمُتَمَلِّكِ.
وَلأَِنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مِمَّا يَبْطُل بِصَرِيحِ الرِّضَا فَيَبْطُل
بِدَلاَلَةِ الرِّضَا أَيْضًا، وَالْمُسَاوَمَةُ تُعْتَبَرُ تَنَازُلاً
بِطَرِيقِ الدَّلاَلَةِ (1) .
__________
(1) البدائع 6 / 2720، الشرح الصغير بهامش بلغة السالك 2 / 231
(26/169)
شَفَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّفَةُ فِي اللُّغَةِ وَاحِدَةُ الشَّفَتَيْنِ، وَهُمَا طَبَقَا
الْفَمِ مِنَ الإِْنْسَانِ، وَأَصْلُهَا شَفَهَةٌ، لأَِنَّ تَصْغِيرَهَا
شُفَيْهَةٌ. وَقِيل: أَصْلُهَا شَفْوٌ. قَال الْفَيُّومِيُّ نَقْلاً عَنِ
الأَْزْهَرِيِّ: تُجْمَعُ الشَّفَةُ عَلَى شَفَهَاتٍ وَشَفَوَاتٍ،
وَالْهَاءُ أَقْيَسُ، وَالْوَاوُ أَعَمُّ.
وَلاَ تَكُونُ الشَّفَةُ إِلاَّ مِنَ الإِْنْسَانِ، أَمَّا سَائِرُ
الْحَيَوَانَاتِ فَتُسْتَعْمَل فِيهَا كَلِمَاتٌ أُخْرَى، كَالْمِشْفَرِ
لِذِي الْخُفِّ، وَالْجَحْفَلَةِ لِذِي الْحَافِرِ، وَالْمِنْسَرِ
وَالْمِنْقَارِ لِذِي الْجَنَاحِ، وَهَكَذَا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ تُطْلَقُ الشَّفَةُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ، أَيْ: طَبَقَةُ الْفَمِ مِنَ
الإِْنْسَانِ، وَقَدْ حَدَّهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِهَذَا الْمَعْنَى
أَنَّهَا فِي عَرْضِ الْوَجْهِ إِلَى الشِّدْقَيْنِ، وَقِيل مَا يَرْتَفِعُ
عِنْدَ انْطِبَاقِ
__________
(1) متن اللغة والمصباح المنير ولسان العرب.
(26/170)
الْفَمِ. وَفِي الطُّول إِلَى مَا يَسْتُرُ
اللِّثَةَ (1) .
وَالثَّانِي: شِرْبُ بَنِي آدَمَ وَالْبَهَائِمِ بِالشِّفَاهِ دُونَ سَقْيِ
الزَّرْعِ (2) . قَال ابْنُ عَابِدِينَ: هَذَا أَصْلُهُ. وَالْمُرَادُ
اسْتِعْمَال بَنِي آدَمَ لِدَفْعِ الْعَطَشِ أَوْ لِلطَّبْخِ أَوِ
الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْل أَوْ غَسْل الثِّيَابِ، وَنَحْوِهَا،
وَالْمُرَادُ بِهِ فِي حَقِّ الْبَهَائِمِ الاِسْتِعْمَال لِلْعَطَشِ
وَنَحْوِهِ مِمَّا يُنَاسِبُهَا (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الشِّرْبُ:
2 - الشِّرْبُ لُغَةً: نَصِيبٌ مِنَ الْمَاءِ، وَشَرْعًا: نَوْبَةُ
الاِنْتِفَاعِ بِالْمَاءِ سَقْيًا لِلزِّرَاعَةِ وَالدَّوَابِّ، قَال
اللَّهُ تَعَالَى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} (4) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالشَّفَةُ أَخَصُّ مِنَ الشِّرْبِ لاِخْتِصَاصِهَا
بِالْحَيَوَانِ دُونَهُ (5) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً: حُكْمُ الشَّفَةِ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل: (عُضْوِ الإِْنْسَانِ)
:
3 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامًا تَتَعَلَّقُ بِالشَّفَةِ بِهَذَا
__________
(1) شرح المنهج مع حاشية الجمل 5 / 66، وانظر كشاف القناع 6 / 40.
(2) نتائج الأفكار والعناية على الهداية 8 / 144، وابن عابدين 5 / 281.
(3) رد المحتار على الدر المختار 5 / 281.
(4) سورة الشعراء / 155.
(5) الاختيار 3 / 69، وابن عابدين 5 / 281.
(26/170)
الْمَعْنَى فِي مَوْضُوعَيْنِ: غَسْلِهَا
حِينَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْل: وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهَا بِالْقَطْعِ أَوْ
إِذْهَابِ الْمَنَافِعِ.
أ - غَسْل الشَّفَتَيْنِ حِينَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْل:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الشَّفَتَيْنِ، أَيْ مَا
يَظْهَرُ عِنْدَ انْضِمَامِهِمَا ضَمًّا طَبِيعِيًّا بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ
جُزْءٌ مِنَ الْوَجْهِ، فَيَجِبُ غَسْلُهُمَا فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل
(1) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (2) .
أَمَّا مَا يَنْكَتِمُ عِنْدَ الاِنْضِمَامِ فَهُوَ تَبَعٌ لِلْفَمِ، فَلاَ
يَجِبُ غَسْلُهُ فِي الْوُضُوءِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ:
(الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ) بَل يُسَنُّ.
وَكَذَلِكَ فِي الْغُسْل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ، حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ غَسْل الْفَمِ
وَالأَْنْفِ فَرْضٌ فِي الْغُسْل (3) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْفَمَ وَالأَْنْفَ مِنَ
الْوَجْهِ فَتَجِبُ الْمَضْمَضَةُ وَالاِسْتِنْشَاقُ فِي الطَّهَارَتَيْنِ:
الصُّغْرَى (الْوُضُوءِ) وَالْكُبْرَى (الْغُسْل (4)) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (غُسْلٌ، مَضْمَضَةٌ، وُضُوءٌ)
.
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 4، جواهر الإكليل على مختصر خليل 1 / 14، والإقناع
1 / 38، وكشاف القناع 1 / 96.
(2) سورة المائدة / 6.
(3) ابن عابدين 1 / 102، والهندية 1 / 4، والدسوقي 1 / 97، 136، ونهاية
المحتاج 1 / 280.
(4) كشاف القناع 1 / 96، والمغني 1 / 118.
(26/171)
ب - الْجِنَايَةُ عَلَى الشَّفَتَيْنِ:
5 - الْجِنَايَةُ عَلَى الشَّفَتَيْنِ إِذَا كَانَتْ عَمْدًا يَجِبُ فِيهَا
الْقِصَاصُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِذَا تَحَقَّقَتْ شُرُوطُهُ
مِنَ الْمُمَاثَلَةِ وَالْمُسَاوَاةِ. (ر: قِصَاصٌ) .
أَمَّا إِذَا كَانَتْ خَطَأً فَفِي قَطْعِ كِلْتَا الشَّفَتَيْنِ دِيَةٌ
كَامِلَةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَفِي
الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ (1) .
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ فِي قَطْعِ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفَ
الدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ؛ لأَِنَّ الْعُضْوَيْنِ إِذَا وَجَبَتْ
فِيهِمَا دِيَةٌ فَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ كَالْيَدَيْنِ
وَالرِّجْلَيْنِ (2) .
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجِبُ فِي الشَّفَةِ الْعُلْيَا
ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي السُّفْلَى الثُّلُثَانِ؛ لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ
بِهَا أَعْظَمُ، لأَِنَّهَا هِيَ الَّتِي تَتَحَرَّكُ وَتَحْفَظُ الرِّيقَ
وَالطَّعَامَ (3) .
وَكَمَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي قَطْعِ الشَّفَتَيْنِ تَجِبُ كَذَلِكَ فِي
إِذْهَابِ مَنَافِعِهِمَا، بِأَنْ ضَرَبَ
__________
(1) حديث عمرو بن حزم: " وفي الشفتين الدية ". أخرجه النسائي (8 / 58 - 59
- ط. المكتبة التجارية) ، وخرجه ابن حجر في التلخيص (4 / 17 - 18 - ط. شركة
الطباعة الفنية) . وتكلم على أسانيده، ونقل تصحيحه عن جماعة من العلماء.
(2) الاختيار 5 / 31، والبدائع 7 / 308، وروضة الطالبين 9 / 182، والزيلعي
6 / 129، وكشاف القناع عن متن الإقناع 5 / 549.
(3) المغني لابن قدامة 8 / 14.
(26/171)
الشَّفَتَيْنِ فَأَشَلَّهُمَا، أَوْ
تَقَلَّصَتَا فَلَمْ تَنْطَبِقَا عَلَى الأَْسْنَانِ (1) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي: (دِيَاتٌ) .
ثَانِيًا: الشَّفَةُ بِمَعْنَى الشِّرْبِ:
6 - تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِحُكْمِ الشَّفَةِ بِمَعْنَى شِرْبِ
الإِْنْسَانِ وَالْبَهَائِمِ بِالشِّفَاهِ عِنْدَ بَيَانِ الْمَنَافِعِ
الْمُشْتَرَكَةِ، وَحُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ،
وَقَدْ قَسَمَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ الْمِيَاهَ بِاعْتِبَارِ الشِّرْبِ
إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، قَال الْمَوْصِلِيُّ الْحَنَفِيُّ:
الْمِيَاهُ أَنْوَاعٌ: الأَْوَّل مَاءُ الْبَحْرِ، وَهُوَ عَامٌّ لِجَمِيعِ
الْخَلْقِ الاِنْتِفَاعُ بِهِ بِالشَّفَةِ وَسَقْيِ الأَْرَاضِيِ وَشَقِّ
الأَْنْهَارِ، لاَ يُمْنَعُ أَحَدٌ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ
كَالاِنْتِفَاعِ بِالشَّمْسِ وَالْهَوَاءِ.
وَالثَّانِي: الأَْوْدِيَةُ وَالأَْنْهَارُ الْعِظَامُ كَجَيْحُونَ
وَسَيَحُونَ وَالنِّيل وَالْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ. فَالنَّاسُ مُشْتَرِكُونَ
فِيهِ فِي الشَّفَةِ وَسَقْيِ الأَْرَاضِيِ وَنَصْبِ الأَْرْحِيَّةِ
وَالدَّوَالِي إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِالْعَامَّةِ.
وَالثَّالِثُ: مَا يَجْرِي فِي نَهْرٍ خَاصٍّ لِقَرْيَةٍ، فَلِغَيْرِهِمْ
فِيهِ شَرِكَةٌ فِي الشَّفَةِ، وَهُوَ الشِّرْبُ وَالسَّقْيُ لِلدَّوَابِّ،
وَلَهُمْ أَخْذُ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ وَغَسْل الثِّيَابِ وَالطَّبْخِ لاَ
غَيْرُ. وَالْبِئْرُ وَالْحَوْضُ حُكْمُهُمَا حُكْمُ النَّهْرِ الْخَاصِّ.
__________
(1) المراجع السابقة، وكشاف القناع 6 / 40.
(26/172)
وَالرَّابِعُ: مَا أُحْرِزَ فِي جُبٍّ
وَنَحْوِهِ، فَلَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا بِدُونِ
إِذْنِ صَاحِبِهِ، وَلَهُ بَيْعُهُ؛ لأَِنَّهُ مَلَكَهُ بِالإِْحْرَازِ،
وَلَوْ كَانَتِ الْبِئْرُ أَوِ الْعَيْنُ أَوِ النَّهْرُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ
كَانَ لَهُ مَنْعُ مَنْ يُرِيدُ الشُّرْبَ مِنَ الدُّخُول فِي مِلْكِهِ
إِنْ كَانَ يَجِدُ غَيْرَهُ بِقُرْبِهِ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ. فَإِنْ لَمْ
يَجِدْ فَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَهُ يَأْخُذُ بِنَفْسِهِ، أَوْ يُخْرِجَ
الْمَاءَ إِلَيْهِ، فَإِنْ مَنَعَهُ وَهُوَ يَخَافُ الْعَطَشَ عَلَى
نَفْسِهِ أَوْ مَطِيَّتِهِ فَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِالسِّلاَحِ. وَفِي
الْمُحْرَزِ بِالإِْنَاءِ يُقَاتِلُهُ بِغَيْرِ سِلاَحٍ (1) .
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ مَعَ تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ
فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ (2) . يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (شِرْبٌ، وَمِيَاهٌ)
.
شَفِيعٌ
انْظُرْ: شُفْعَةً
شِقٌّ
انْظُرْ: قَبْرٌ
__________
(1) الاختيار للموصلي 3 / 70، 71.
(2) القوانين الفقهية ص 331، ومغني المحتاج 2 / 373، 375، وكشاف القناع 4 /
189، 190، 198، والقليوبي 3 / 95 - 97، وابن عابدين 5 / 281، 282، والمغني
5 / 583 - 590.
(26/172)
شُكْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشُّكْرُ: مَصْدَرُ شَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ أَشْكُرُ شُكْرًا
وَشُكُورًا وَشُكْرَانًا. وَهُوَ عِنْدَ أَهْل اللُّغَةِ: الاِعْتِرَافُ
بِالْمَعْرُوفِ الْمُسْدَى إِلَيْكَ وَنَشْرُهُ وَالثَّنَاءُ عَلَى
فَاعِلِهِ. وَلاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي مُقَابَلَةِ مَعْرُوفٍ وَنِعْمَةٍ (1)
. وَشُكْرُ النِّعْمَةِ مُقَابِل كُفْرِهَا. قَال اللَّهُ تَعَالَى فِي
حِكَايَةِ قَوْل لُقْمَانَ: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (2) .
وَالشُّكْرُ: هُوَ ظُهُورُ أَثَرِ النِّعْمَةِ عَلَى اللِّسَانِ
وَالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ بِأَنْ يَكُونَ اللِّسَانُ مُقِرًّا
بِالْمَعْرُوفِ مُثْنِيًا بِهِ، وَيَكُونَ الْقَلْبُ مُعْتَرِفًا
بِالنِّعْمَةِ، وَتَكُونَ الْجَوَارِحُ مُسْتَعْمَلَةً فِيمَا يَرْضَاهُ
الْمَشْكُورُ (3) . عَلَى حَدِّ قَوْل الشَّاعِرِ:
أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلاَثَةً
يَدَيَّ وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحَجَّبَا
__________
(1) لسان العرب، ومدارج السالكين 2 / 244، 246، والمجموع للنووي 1 / 74،
المطبعة المنيرية، ونهاية المحتاج 1 / 22. .
(2) سورة لقمان / 12.
(3) تفسير القرطبي 1 / 133 - ط. دار الكتب المصرية، ومدارج السالكين 2 /
244، 246.
(26/173)
وَالشُّكْرُ لِلَّهِ فِي الاِصْطِلاَحِ:
صَرْفُ الْعَبْدِ النِّعَمَ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ فِي
طَاعَتِهِ (1) .
أَوْ فِيمَا خُلِقَتْ لَهُ. وَشُكْرُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ
يَزْكُو عِنْدَهُ الْقَلِيل مِنَ الْعَمَل فَيُضَاعِفُ لِعَامِلِهِ
الْجَزَاءَ (2) . وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَجُلاً رَأَى كَلْبًا يَأْكُل
الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَأَخَذَ الرَّجُل خُفَّهُ فَجَعَل يَغْرِفُ لَهُ
بِهِ حَتَّى أَرْوَاهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ
(3) ، وَلِذَا كَانَ مِنْ أَوْصَافِهِ تَعَالَى: " الشَّكُورَ " كَمَا فِي
قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمَدْحُ:
2 - الْمَدْحُ لُغَةً: حُسْنُ الثَّنَاءِ. وَالْمَدْحُ يَكُونُ لِلْحَيِّ
وَغَيْرِهِ حَتَّى إِنَّ مَنْ رَأَى لُؤْلُؤَةً ذَاتَ حُسْنٍ فَوَصَفَهَا
بِالْحُسْنِ فَقَدْ مَدَحَهَا، وَالْمَدْحُ عَلَى الإِْحْسَانِ يَكُونُ
قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَلاَ يَكُونُ الشُّكْرُ إِلاَّ بَعْدَهُ (5) .
ب - الْحَمْدُ:
3 - الْحَمْدُ: هُوَ الثَّنَاءُ عَلَى الْمَحْمُودِ بِجَمِيل
__________
(1) نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي 1 / 22، وأسنى المطالب 1 / 3، وشرح
مسلم الثبوت 1 / 47.
(2) فتح الباري 1 / 278.
(3) حديث: " أن رجلاً رأى كلبًا يأكل الثرى. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1
/ 278 - ط. السلفية) ، ومسلم (4 / 1761 - ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة،
واللفظ للبخاري.
(4) سورة التغابن / 17.
(5) لسان العرب، وتفسير الرازي 1 / 219.
(26/173)
صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ عَلَى قَصْدِ
التَّعْظِيمِ، وَنَقِيضُ الْحَمْدِ الذَّمُّ. فَالْحَمْدُ أَعَمُّ مِنَ
الشُّكْرِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشُّكْرَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ عَلَى نِعْمَةٍ
أَسْدَاهَا الْمَشْكُورُ إِلَى الشَّاكِرِ خَاصَّةً، وَالْحَمْدُ يَكُونُ
فِي مُقَابَلَةِ الإِْنْعَامِ عَلَى الشَّاكِرِ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَكُونُ
فِي غَيْرِ مُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ أَصْلاً بَل لِمُجَرَّدِ اتِّصَافِ
الْمَحْمُودِ بِالأَْوْصَافِ الْحَسَنَةِ وَالْفَضَائِل. فَلاَ يُقَال:
شَكَرْنَا اللَّهَ عَلَى حِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ، وَيُقَال: حَمِدْنَاهُ
عَلَى ذَلِكَ، كَمَا هُوَ مَحْمُودٌ عَلَى إِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ،
وَالشُّكْرُ أَعَمُّ مِنَ الْحَمْدِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ
بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ، وَالْحَمْدَ لَيْسَ إِلاَّ
بِاللِّسَانِ، فَيَجْتَمِعُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ فِي الثَّنَاءِ
بِاللِّسَانِ عَلَى النِّعْمَةِ، وَيَنْفَرِدُ الْحَمْدُ فِي الثَّنَاءِ
بِاللِّسَانِ عَلَى الأَْوْصَافِ الذَّاتِيَّةِ وَنَحْوِهَا، وَيَنْفَرِدُ
الشُّكْرُ فِيمَا يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ (1) . وَقَدْ وَرَدَ
فِي الْحَدِيثِ: الْحَمْدُ رَأْسُ الشُّكْرِ فَمَنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ
لَمْ يَشْكُرْهُ (2) .
__________
(1) المجموع للنووي 1 / 74، وتفسير الرازي 1 / 219، ونهاية المحتاج 1 / 21،
ومدارج السالكين 2 / 246، وأسنى المطالب 1 / 3.
(2) حديث: " الحمد رأس الشكر. . . . ". أخرجه البيهقي في الشعب كما في فيض
القدير للمناوي (3 / 418 - ط. المكتبة التجارية) من حديث عبد الله بن عمرو
بن العاص، وأعل بالانقطاع بين عبد الله بن عمرو والراوي عنه.
(26/174)
أَحْكَامُ الشُّكْرِ:
4 - الشُّكْرُ نَوْعَانِ، شُكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَشُكْرٌ لِعِبَادِ
اللَّهِ.
أَوَّلاً: شُكْرُ اللَّهِ تَعَالَى:
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - شُكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ وَاجِبٌ شَرْعًا مِنْ حَيْثُ
الْجُمْلَةُ، فَلاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَدِ اسْتَدَل
الْحَلِيمِيُّ لِذَلِكَ بِالآْيَاتِ الَّتِي فِيهَا الأَْمْرُ، نَحْوِ
قَوْله تَعَالَى:
{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (1)
وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ} (2) .
ثُمَّ قَال الْحَلِيمِيُّ: فَثَبَتَ بِهَاتَيْنِ الآْيَتَيْنِ
وَنَحْوِهِمَا وُجُوبُ شُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ
لِنِعَمِهِ السَّابِغَةِ عَلَيْهِمْ (3) .
ثُمَّ احْتَجَّ لِلْوُجُوبِ أَيْضًا بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {ثُمَّ
لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (4) قَال: وَمَعْلُومٌ أَنَّ
الْمَسْأَلَةَ عَنِ النَّعِيمِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ عَنْ شُكْرِهِ (5) .
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَنَّ شُكْرَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ هَل
وَجَبَ بِالْعَقْل ثُمَّ جَاءَ الشَّرْعُ مُقَرِّرًا
__________
(1) سورة البقرة / 152.
(2) سورة الأعراف / 69.
(3) المنهاج في شعب الإيمان 2 / 545 ط. بيروت، دار الفكر 1399 هـ.
(4) سورة التكاثر / 8.
(5) المنهاج 2 / 555.
(26/174)
لِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَجِبْ إِلاَّ
بِالشَّرْعِ.؟ .
فَقَدْ ذَهَبَ إِلَى الأَْوَّل مُعْظَمُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ وَنَصَّ
صَدْرُ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِلَيْهِ
ذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ أَيْضًا.
وَذَهَبَ الأَْشْعَرِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِمُجَرَّدِ
الْعَقْل؛ لأَِنَّ الْعَقْل لاَ مَجَال لَهُ فِي أُمُورِ الآْخِرَةِ مِنْ
إِثْبَاتِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ (1) . وَتُنْظَرُ الْمَسْأَلَةُ فِي
الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
وَقَال الرَّازِيَّ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيل
إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (2) الْمُرَادُ مِنَ الشَّاكِرِ
الَّذِي يَكُونُ مُقِرًّا مُعْتَرِفًا بِوُجُوبِ الشُّكْرِ عَلَيْهِ،
وَمِنَ الْكَفُورِ الَّذِي لاَ يُقِرُّ بِذَلِكَ إِمَّا لأَِنَّهُ يُنْكِرُ
الْخَالِقَ أَوْ لأَِنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ شُكْرِهِ (3) .
وَالإِْكْثَارُ مِنَ الشُّكْرِ مُسْتَحَبٌّ. وَلِلشُّكْرِ مَوَاضِعُ
يُنْدَبُ فِيهَا كَحَمْدِ اللَّهِ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ
وَالْمَلْبَسِ. (وَانْظُرْ: تَحْمِيدٌ) .
فَضْل الشُّكْرِ:
6 - وَرَدَتِ الشَّرِيعَةُ بِإِثْبَاتِ فَضْل الشُّكْرِ مِنْ أَوْجُهٍ
كَثِيرَةٍ، مِنْهَا:
أ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْنَى فِي كِتَابِهِ عَلَى أَهْل الشُّكْرِ
وَوَصَفَ بِذَلِكَ بَعْضَ خَوَاصِّ خَلْقِهِ،
__________
(1) المستصفى للغزالي 1 / 61، وشرح مسلم الثبوت 1 / 47 مطبعة بولاق - 1322
هـ.
(2) سورة الإنسان / 3.
(3) تفسير الرازي 30 / 239.
(26/175)
فَقَال تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ
كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
شَاكِرًا لأَِنْعُمِهِ (1) } وَقَال عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
{إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (2) } .
ب - إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ الْهَدَفَ مِنْ تَفَضُّلِهِ بِالنِّعَمِ،
قَال تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ
تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَل لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَْبْصَارَ
وَالأَْفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (3) } وَقَال فِي شَأْنِ
تَسْخِيرِهِ الأَْنْعَامَ: {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (4) } .
ج - أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ الشَّاكِرِينَ بِأَحْسَنِ الْجَزَاءِ فَقَال:
{وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (5) } وَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ
يُحِبُّ الشَّاكِرِينَ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَعُودُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ
نَفْعِ شُكْرِهِمْ بَل نَفْعُهُ لَهُمْ، قَال تَعَالَى: {وَمَنْ يَشْكُرْ
فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ
حَمِيدٌ (6) } .
د - أَنَّهُ جَعَلَهُ سَبَبًا لِلْمَزِيدِ مِنَ النِّعَمِ، فَقَال: {وَإِذْ
تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ
__________
(1) سورة النحل / 120، 121.
(2) سورة الإسراء / 3.
(3) سورة النحل / 78.
(4) سورة الحج / 36.
(5) سورة آل عمران / 145.
(6) سورة لقمان / 12.
(26/175)
لأََزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ
إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (1) }
هـ - أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى نَفْسَهُ شَاكِرًا شَكُورًا، بِأَنْ يَقْبَل
الْعَمَل الْقَلِيل وَيُثْنِيَ عَلَى فَاعِلِهِ، قَال تَعَالَى: {وَمَنْ
تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (2) } .
وَقَال: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (3) } .
و قِلَّةُ الْمُتَّصِفِينَ بِكَثْرَةِ الشُّكْرِ، كَمَا قَال تَعَالَى:
{اعْمَلُوا آل دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ (4) }
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: قِلَّةُ أَهْل الشُّكْرِ فِي الْعَالَمِينَ يَدُل
عَلَى أَنَّهُمْ خَوَاصُّ اللَّهِ تَعَالَى.
ز - مَا وَرَدَ مِنْ دُعَاءِ الصَّالِحِينَ أَنْ يُلْهِمَهُمُ اللَّهُ
تَعَالَى شُكْرَ نِعَمِهِ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا كَقَوْل سُلَيْمَانَ: {رَبِّ
أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى
وَالِدَيَّ (5) } وَوَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا (6) وَأَوْصَى مَنْ
يُحِبُّهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاللَّهِ عَلَى شُكْرِهِ فَقَال: {
__________
(1) سورة إبراهيم / 7.
(2) سورة البقرة / 158.
(3) سورة الشورى / 23.
(4) سورة سبأ / 13.
(5) سورة النمل / 19.
(6) حديث: " رب اجعلني لك شكارًا ". أخرجه الترمذي (5 / 554 - ط. الحلبي)
من حديث ابن عباس، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(26/176)
يَا مُعَاذُ وَاللَّهِ إِنِّي لأَُحِبُّكَ.
. أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ، لاَ تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُل صَلاَةٍ تَقُول:
اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ (1) .
ح - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَنَ الشُّكْرَ بِالصَّبْرِ فَقَال: {إِنَّ
فِي ذَلِكَ لآِيَاتٍ لِكُل صَبَّارٍ شَكُورٍ (2) } فِي أَرْبَعَةِ
مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَالشُّكْرُ عَلَى النِّعَمِ أَوْ زَوَال
النِّقَمِ، وَالصَّبْرُ عِنْدَ زَوَال النِّعَمِ أَوْ حُلُول الْبَلاَءِ.
وَلأَِنَّ الصَّبْرَ عَلَى الطَّاعَةِ عَيْنُ الشُّكْرِ عَلَيْهَا (3) .
وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: الإِْيمَانُ نِصْفَانِ فَنِصْفٌ فِي
الصَّبْرِ وَنِصْفٌ فِي الشُّكْرِ (4) وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ
مَوْقُوفًا (5) .
مَا يَكُونُ عَلَيْهِ الشُّكْرُ:
وَهُوَ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
7 - الأَْوَّل: الشُّكْرُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ الَّتِي
__________
(1) حديث: " يا معاذ، والله إني لأحبك. . . . ". أخرجه أبو داود (2 / 181 -
تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (3 / 273 - 274 - ط. دائرة المعارف
العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) سورة إبراهيم / 5.
(3) مدارج السالكين 2 / 243.
(4) حديث: " الإيمان نصفان، فنصف في الصبر ونصف في الشكر ". أخرجه البيهقي
في الشعب كما في الجامع الصغير للسيوطي (3 / 188 - بشرحه الفيض، ط المكتبة
التجارية) ، وقال المناوي: " فيه يزيد الرقاشي، قال الذهبي وغيره: متروك ".
(5) تفسير القرطبي عند الآية (5) من سورة إبراهيم.
(26/176)
أَنْعَمَ بِهَا عَلَى الشَّاكِرِ،
وَالْعَبْدُ فِي كُل أَحْوَالِهِ إِنَّمَا هُوَ فِي نِعَمِ اللَّهِ
تَعَالَى، وَقَدْ نَبَّهَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَمَا بِكُمْ مِنْ
نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ (1) } وَكَثِيرٌ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَارِدَةٌ
فِي تَعْدَادِ تِلْكَ النِّعَمِ بِالتَّفْصِيل، وَفِي لَفْتِ الأَْنْظَارِ
إِلَى وُجُوهِ اللُّطْفِ فِيهَا، وَإِلَى الاِعْتِبَارِ بِهَا، وَبَيَانِ
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا وَضَعَهَا لِيَبْتَلِيَ بِهَا
الإِْنْسَانَ هَل يَشْكُرُ أَمْ يَكْفُرُ.
فَمِنْ ذَلِكَ نِعْمَةُ خَلْقِ الأَْرْضِ فِرَاشًا وَالسَّمَاءِ بِنَاءً
وَالشَّمْسِ ضِيَاءً وَالْقَمَرِ نُورًا وَتَقْدِيرِ الأَْقْوَاتِ فِي
الأَْرْضِ وَإِنْزَال الْمَطَرِ مِنَ السَّمَاءِ شَرَابًا وَإِنْبَاتِ
الزَّرْعِ فِيهَا وَسَائِرِ مَا يَصْلُحُ عَلَيْهِ بَدَنُ الإِْنْسَانِ،
وَخَلْقِ الأَْنْعَامِ وَمَا جَعَلَهُ فِيهَا لِلنَّاسِ مِنْ مَنَافِعَ
مِنْ لَحْمِهَا وَلَبَنِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا
وَرُكُوبِهَا وَالتَّجَمُّل بِهَا.
وَمِنْ ذَلِكَ نِعْمَةُ خَلْقِ الإِْنْسَانِ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ
وَخَلْقِ الأَْسْمَاعِ وَالأَْبْصَارِ وَالأَْفْئِدَةِ لِتَكُونَ وَسَائِل
لِلإِْدْرَاكِ، وَتَعْلِيمِ الإِْنْسَانِ الْبَيَانَ.
وَمِنْ ذَلِكَ نِعْمَةُ إِرْسَال الرُّسُل وَإِنْزَال الْكُتُبِ
وَالدَّلاَلَةِ عَلَى طُرُقِ الإِْيمَانِ. وَهَذِهِ كُلُّهَا نِعَمٌ
عَامَّةٌ لَمْ يُخَصَّ بِهَا مُؤْمِنٌ مِنْ كَافِرٍ (2) .
__________
(1) سورة النحل / 53.
(2) عقد كل من الحليمي والغزالي فصلاً لبيان النعم وتعداد أصنافها ووجوهها
كمقدمة لبيان أحكام الشكر، انظر المنهاج 2 / 519 - 544، والإحياء 4 / 96 -
119.
(26/177)
وَمِنْهَا نِعَمٌ خَاصَّةٌ وَأَعْظَمُهَا
التَّوْفِيقُ لِلإِْيمَانِ وَالاِهْتِدَاءُ لِلْحَقِّ وَالتَّيْسِيرُ
لِلْعَمَل الصَّالِحِ، لأَِنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِلْخَلاَصِ مِنَ الْعَذَابِ
فِي الآْخِرَةِ وَالتَّحْصِيل لِنِعَمِ اللَّهِ فِيهَا.
قَال الْحَلِيمِيُّ: وَأَوْلَى النِّعَمِ بِالشُّكْرِ نِعْمَةُ اللَّهِ
تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ بِالإِْيمَانِ وَالإِْرْشَادِ إِلَى الْحَقِّ،
وَالتَّوْفِيقِ لِقَبُولِهِ، لأَِنَّهُ هُوَ الْغَرَضُ الَّذِي لَيْسَ
بِتَابِعٍ لِمَا سِوَاهُ، وَكُل غَرَضٍ سِوَاهُ فَهُوَ تَابِعٌ لَهُ،
وَالتَّيْسِيرُ لَهُ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ تَقْتَضِي الشُّكْرَ لَهَا
بِالاِنْتِهَاءِ عَنِ الْمَعَاصِي وَإِتْبَاعِ الإِْيمَانِ حُقُوقَهُ؛
لأَِنَّ الإِْيمَانَ بِاللَّهِ عَهْدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ وَلِكُل
عَهْدٍ وَفَاءٌ. وَكُل عِبَادَةٍ تَتْلُو الإِْيمَانَ مِنْ فِعْل شَيْءٍ
فَهُوَ شُكْرٌ لِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّيْسِيرُ لِكُل شَيْءٍ
مِنْ ذَلِكَ نِعْمَةٌ يَجِبُ شُكْرُهَا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ (1) .
8 - النَّوْعُ الثَّانِي: الشُّكْرُ عَلَى دَفْعِ النِّقَمِ سَوَاءٌ
انْدَفَعَتْ عَنْهُ أَوْ عَنْ نَحْوِ وَلَدِهِ أَوْ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ
وَذَلِكَ كَذَهَابِ مَرَضٍ أَوِ انْحِسَارِ طَاعُونٍ أَوْ عَدُوٍّ،
وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يُخْشَى ضَرَرُهُ كَغَرَقٍ أَوْ حَرِيقٍ وَمِنْهُ
قَوْل أَهْل الْجَنَّةِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا
الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (2) } .
__________
(1) المنهاج في شعب الإيمان 2 / 554.
(2) سورة فاطر / 34.
(26/177)
وَاحْتَجَّ النَّوَوِيُّ لِذَلِكَ
بِحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ
أُسْرِيَ بِهِ أُتِيَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ فَنَظَرَ
إِلَيْهِمَا، فَأَخَذَ اللَّبَنَ، فَقَال لَهُ جِبْرِيل: الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ، لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ لَغَوَتْ أُمَّتُكَ
(1) .
وَإِذَا رَأَى السَّلِيمُ مُبْتَلًى فِي عَقْلِهِ وَبَدَنِهِ، سُنَّ أَنْ
يَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى الْعَافِيَةِ (2) ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ لِرُؤْيَةِ زَمِنٍ
(3) .
وَوَرَدَ أَنَّ السَّلِيمَ يَقُول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي
مِمَّا ابْتَلاَكَ بِهِ (4) .
النَّوْعُ الثَّالِثُ:
الشُّكْرُ عِنْدَ الْمَكْرُوهَاتِ مِنَ الْبَلْوَى وَالْمَصَائِبِ
وَالآْلاَمِ:
9 - وَهُوَ مَشْرُوعٌ، لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَال
اللَّهُ لِمَلاَئِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ:
نَعَمْ، فَيَقُول: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟ فَيَقُولُونَ:
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به أتي بقدحين من خمر
ولبن ". أخرجه البخاري (الفتح 8 / 391 - ط. السلفية) ومسلم (3 / 1592 - ط
الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) نهاية المحتاج 2 / 99، وأسنى المطالب 1 / 199، ومطالب أولي النهى 1 /
590، والأذكار للنووي ص 104.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد لرؤية زمن ". أخرجه البيهقي
(2 / 371 - ط. دائرة المعارف العثمانية) وأعله بالإرسال.
(4) حديث: " الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به ". أخرجه الترمذي (تحفة
الأحوذي 9 / 391 - 392 - ط. السلفية) من حديث أبي هريرة، وقال: " حديث حسن
غريب ".
(26/178)
نَعَمْ. فَيَقُول: مَاذَا قَال عَبْدِي؟
فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُول اللَّهُ: ابْنُوا
لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ (1) .
وَوَجْهُ الشُّكْرِ عَلَيْهَا مَا فِيهَا مِنْ تَكْفِيرِ الْخَطَايَا
وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، وَمَا فِي الصَّبْرِ عَلَيْهَا مِنَ الأَْجْرِ.
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ: يَكُونُ الشُّكْرُ كَظْمًا
لِلْغَيْظِ الَّذِي أَصَابَهُ، وَسَتْرًا لِلشَّكْوَى، وَرِعَايَةً
لِلأَْدَبِ، وَسُلُوكًا لِمَسْلَكِ الْعِلْمِ، لأَِنَّهُ شَاكِرٌ لِلَّهِ
شُكْرَ مَنْ رَضِيَ بِقَضَائِهِ (2) .
وَلِذَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمَرِيضِ إِنْ سُئِل
عَنْ حَالِهِ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ الشَّكْوَى
إِلَى طَبِيبٍ. قَالُوا: لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: إِذَا
كَانَ الشُّكْرُ قَبْل الشَّكْوَى فَلَيْسَ بِشَاكٍ (3) قَال
الْبُهُوتِيُّ: وَكَانَ
__________
(1) حديث: " إذا مات ولد العبد. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 332 - ط.
الحلبي) وقال: " حديث حسن غريب ".
(2) مدارج السالكين 2 / 254، وإحياء علوم الدين 4 / 125 - 129.
(3) حديث: " إذا كان الشكر قبل الشكوى فليس بشاك ". أورده القاضي ابن أبي
يعلى في طبقات الحنابلة (1 / 151 - 152 - ط. مطبعة الاعتدال بدمشق) من طريق
بشر بن الحارث الذي ذكره بإسناده.
(26/178)
أَحْمَدُ أَوَّلاً يَحْمَدُ اللَّهَ فَقَطْ
فَلَمَّا دَخَل عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ طَبِيبُ السُّنَّةِ
وَحَدَّثَهُ الْحَدِيثَ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ صَارَ إِذَا سَأَلَهُ
قَال: أَحْمَدُ اللَّهَ إِلَيْكَ، أَجِدُ كَذَا وَكَذَا (1) .
مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ شُكْرُ اللَّهِ تَعَالَى:
10 - يَتَحَقَّقُ شُكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى النِّعْمَةِ بِأُمُورٍ:
أَوَّلُهَا: مَعْرِفَةُ النِّعْمَةِ، بِأَنْ يَعْرِفَ أَنَّهَا نِعْمَةٌ،
وَيَعْرِفَ قَدْرَهَا وَيَعْرِفَ وَجْهَ كَوْنِهَا نِعْمَةً
وَيَسْتَحْضِرَهَا فِي الذِّهْنِ وَيُمَيِّزَهَا، إِذْ كَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ تُحْسِنُ إِلَيْهِ وَهُوَ لاَ يَدْرِي. وَقَدْ نَبَّهَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَعْرِفَةِ قَدْرِ النِّعَمِ
بِقَوْلِهِ: انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَل مِنْكُمْ وَلاَ تَنْظُرُوا
إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ (2) .
وَالثَّانِي: مَعْرِفَةُ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ لَمْ
يُقِرَّ بِاللَّهِ، أَوْ لَمْ يُقِرَّ بِأَنَّ النِّعَمَ مِنْهُ، لَمْ
يُتَصَوَّرْ شُكْرُهُ لَهُ، وَإِذَا عَرَفَ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ
أَحَبَّهُ عَلَيْهَا.
وَالثَّالِثُ: قَبُول النِّعْمَةِ بِإِظْهَارِ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ
إِلَيْهَا، وَمَعْرِفَةِ أَنَّ وُصُولَهَا إِلَيْهِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ
مِنَ الْعَبْدِ وَلاَ بَذْل ثَمَنٍ بَل
__________
(1) كشاف القناع 2 / 79.
(2) حديث: " انظروا إلى من هو أسفل منكم. . . ". أخرجه مسلم (4 / 2275 - ط.
الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(26/179)
بِمَحْضِ فَضْل اللَّهِ تَعَالَى.
وَالرَّابِعُ: الثَّنَاءُ عَلَى الْمُنْعِمِ بِهَا، وَعَدَمُ كِتْمَانِهَا
فَإِنَّ كِتْمَانَهَا كُفْرَانٌ لَهَا، وَالثَّنَاءُ إِمَّا عَامٌّ
كَوَصْفِهِ تَعَالَى بِالْجُودِ وَالْكَرَمِ وَالْبِرِّ وَالإِْحْسَانِ،
وَإِمَّا خَاصٌّ وَهُوَ التَّحَدُّثُ بِتِلْكَ النِّعْمَةِ وَإِسْنَادُ
التَّفَضُّل بِهَا إِلَى الْمُنْعِمِ بِهَا، وَحَمْدُهُ عَلَيْهَا، قَال
اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (1) } وَقَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ
اللَّهِ شُكْرٌ وَتَرْكُهَا كُفْرٌ (2) .
وَالْخَامِسُ: تَرْكُ اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا يَكْرَهُهُ الْمُنْعِمُ
بِهَا، وَالْعَمَل بِمَا يُرْضِيهِ فِيهَا (3) .
وَالسَّادِسُ: فِعْل الطَّاعَاتِ شُكْرًا عَلَى النِّعَمِ، كَمَا يُشِيرُ
إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
الَّذِي جَعَل لَكُمُ الأَْرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً. . .}
الآْيَةَ (4) وَوَرَدَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهُ.
فَقِيل يَا رَسُول اللَّهِ:
__________
(1) سورة الضحى / 11.
(2) حديث: " التحدث بنعمة الله شكر ". أخرجه أحمد (4 / 278 - ط. الميمنية)
من حديث النعمان بن بشير، وإسناده حسن.
(3) مدارج السالكين 2 / 244، 247 - 258، والمنهاج في شعب الإيمان 2 / 545،
546، وإحياء علوم الدين 4 / 79 نشر مصطفى الحلبي، 1358 هـ.
(4) سورة البقرة 21، 22.
(26/179)
أَتَتَكَلَّفُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ؟
قَال: أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا (1) ؟ .
11 - وَضِدُّ شُكْرِ النِّعَمِ الْكُفْرَانُ بِهَا، وَهُوَ غَيْرُ
الْكُفْرِ الْمُخْرِجِ عَنِ الْمِلَّةِ، وَيُسَمِّيهِ الْعُلَمَاءُ "
كُفْرُ النِّعْمَةِ ".
فَمِنْ وُجُوهِ الْكُفْرِ بِهَا أَنْ لاَ يَعْرِفَ النِّعْمَةَ، أَوْ أَنْ
يَبْخَسَهَا حَقَّهَا مِنَ التَّقْدِيرِ.
وَمِنْهَا أَنْ يُنْكِرَ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ يَنْسِبَهَا
إِلَى غَيْرِ الْمُتَفَضِّل بِهَا كَمَا يَفْعَل أَهْل الشِّرْكِ إِذْ
يَشْكُرُونَ أَنْدَادَهُمْ وَأَصْنَامَهُمْ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: مَنْ قَال
مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ (2)
.
وَمِنْهَا أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ حَصَّل مَا حَصَّل مِنَ النِّعَمِ
بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، أَوْ كَمَا قَال قَارُونُ {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ
عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي (3) } .
وَمِنْهَا أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ مَا حَصَل لَهُ مِنَ النِّعَمِ حَصَل
بِاسْتِحْقَاقٍ لَهُ عَلَى اللَّهِ، لاَ مِنْ فَضْل اللَّهِ عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا: تَرْكُ الثَّنَاءِ بِهَا عَلَى الْمُنْعِمِ بِهَا وَتَرْكُ
__________
(1) حديث: " أفلا أكون عبدًا شكورًا ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 14 - ط.
السلفية) ، ومسلم (4 / 2171 - ط. الحلبي) .
(2) الحديث القدسي: " من قال: مطرنا بنوء كذا. . . ". أخرجه البخاري (الفتح
2 / 522 - ط. السلفية) ، ومسلم (1 / 84 - ط. الحلبي) من حديث زيد بن خالد
الجهني.
(3) سورة القصص / 78.
(26/180)
التَّحَدُّثِ بِهَا، وَكَذَلِكَ
كِتْمَانُهَا بِحَيْثُ لاَ يَرَاهَا النَّاسُ لِحَدِيثِ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ (1) .
وَقَيَّدَ الْحَلِيمِيُّ هَذَا بِأَنْ لاَ يَكُونَ فِيهِ احْتِيَاطٌ
لِنَفْسِهِ.
وَمِنْهَا: التَّعَالِي بِهَا عَلَى سَائِرِ عِبَادِ اللَّهِ وَالزَّهْوُ
وَالْمُكَاثَرَةُ وَالْبَغْيُ وَالْمُفَاخَرَةُ.
وَمِنْهَا: اسْتِعْمَالُهَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْعُ
الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ الْوَاجِبَةِ فِيهَا (2) .
الشُّكْرُ عِنْدَ تَجَدُّدِ النِّعَمِ:
12 - يُسْتَحَبُّ تَجْدِيدُ الشُّكْرِ عِنْدَ تَجَدُّدِ النِّعَمِ لَفْظًا
بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ، لِمَا فِي الْحَدِيثِ إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى
عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُل الأَْكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ
يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا (3) وَفِيهِ الطَّاعِمُ
الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ (4) .
وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ اسْتِحْبَابُ أَذْكَارٍ بِصِيَغٍ
__________
(1) حديث: " أن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده " أخرجه الترمذي (5 /
124 - ط. الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو، وقال: " حديث حسن ".
(2) المنهاج في شعب الإيمان 2 / 546 - 547، وإحياء علوم الدين 4 / 87، 120.
(3) حديث: " إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة. . . . " أخرجه مسلم (4
/ 2905 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(4) حديث: " الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر ". أخرجه الترمذي (4 / 653
- ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة، وقال: " حديث حسن غريب ".
(26/180)
مُعَيَّنَةٍ فِيهَا التَّحْمِيدُ عِنْدَ
حُصُول نِعَمٍ مُعَيَّنَةٍ وَلِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ
(تَحْمِيدٌ) (وَذِكْرٌ) .
وَيَكُونُ الشُّكْرُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا بِفِعْل قُرْبَةٍ مِنَ
الْقُرَبِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ
يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ أَوْ يَتَصَدَّقَ مَعَ سُجُودِ الشُّكْرِ أَوْ
دُونَهُ (1) .
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ لاَ يَجُوزُ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ بِصَلاَةٍ
بِنِيَّةِ الشُّكْرِ (2) .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَذْبَحَ ذَبِيحَةً أَوْ يَصْنَعَ دَعْوَةً، وَقَدْ
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الدَّعَوَاتِ الَّتِي تُصْنَعُ لِمَا يَتَجَدَّدُ مِنَ
النِّعَمِ كَالْوَكِيرَةِ الَّتِي تُصْنَعُ لِلْمَسْكَنِ الْمُتَجَدِّدِ،
وَالنَّقِيعَةِ الَّتِي تُصْنَعُ لِقُدُومِ الْغَائِبِ، وَالْحُذَّاقِ
وَهُوَ مَا يُصْنَعُ عِنْدَ خَتْمِ الصَّبِيِّ الْقُرْآنَ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ مِنْ مَذْهَبِ
الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ مُسْتَحَبَّةٌ. قَال ابْنُ
قُدَامَةَ: وَلَيْسَ لِهَذِهِ الدَّعَوَاتِ - يَعْنِي مَا عَدَا وَلِيمَةَ
الْعُرْسِ وَالْعَقِيقَةَ - فَضِيلَةٌ تَخْتَصُّ بِهَا، وَلَكِنْ هِيَ
بِمَنْزِلَةِ الدَّعْوَةِ لِغَيْرِ سَبَبٍ حَادِثٍ، فَإِذَا قَصَدَ بِهَا
فَاعِلُهَا شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِطْعَامَ إِخْوَانِهِ،
وَبَذْل طَعَامِهِ، فَلَهُ أَجْرُ ذَلِكَ إِنْ
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 98، وأسنى المطالب 1 / 199، 72، وروضة الطالبين 1 /
325.
(2) حاشية شرح المنهاج 1 / 209.
(26/181)
شَاءَ اللَّهُ (1) . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ
(دَعْوَةٌ) .
وَإِذَا نَذَرَ الإِْنْسَانُ أَنْ يَصْنَعَ الْقُرْبَةَ عِنْدَ تَجَدُّدِ
النِّعْمَةِ وَانْدِفَاعِ النِّقْمَةِ فَذَلِكَ نَذْرُ تَبَرُّرٍ،
وَحُكْمُهُ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِهِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (نَذْرٌ (2)) .
وَمِمَّا يُسَنُّ عِنْدَ تَجَدُّدِ النِّعَمِ وَانْدِفَاعِ النِّقَمِ
مِمَّا لَهُ وَقْعٌ أَنْ يَسْجُدَ لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدَ حُصُول ذَلِكَ
مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ الإِْنْسَانُ وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُورِ
خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ
(سُجُودُ الشُّكْرِ) .
ثَانِيًا: شُكْرُ الْعِبَادِ عَلَى الْمَعْرُوفِ:
13 - شُكْرُ الْمُنْعِمِ أَمْرٌ لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُقَلاَءُ فِي
اسْتِحْسَانِهِ. وَكُل مُنْعَمٍ عَلَيْهِ يَنْبَغِي لَهُ الشُّكْرُ لِمَنْ
أَوْلاَهُ تِلْكَ النِّعْمَةَ وَلَوْ كَانَتْ قَلِيلَةً لِحَدِيثِ: مَنْ
لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيل لَمْ يَشْكُرِ الْكَثِيرَ وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ
النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ (3) وَحَدِيثِ: إِنَّ أَشْكَرَ النَّاسِ
لِلَّهِ أَشْكَرُهُمْ لِلنَّاسِ (4)
__________
(1) المغني 7 / 11، 12، وشرح المنهاج بهامش حاشية القليوبي 3 / 295.
(2) انظر مثلاً: الجمل على شرح المنهج 5 / 325، والمغني 9 / 2.
(3) حديث: " من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير " أخرجه أحمد (4 / 278 - ط.
الميمنية) من حديث النعمان بن بشير، وإسناده حسن.
(4) حديث: " إن أشكر الناس لله أشكرهم للناس ". أخرجه أحمد (5 / 212 - ط.
الميمنية) من حديث الأشعث بن قيس، وفي إسناده جهالة، ولكن له شواهد يتقوى
بها.
(26/181)
وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى شَكَرَ
الْمُحْسِنِينَ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ فَالْعَبْدُ أَوْلَى بِأَنْ
يَشْكُرَ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى
بِالشُّكْرِ لِلْوَالِدَيْنِ وَقَرَنَ ذَلِكَ بِالشُّكْرِ لَهُ لِعِظَمِ
فَضْلِهِمَا فَقَال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ (1) } وَالشُّكْرُ
بِالْفِعْل هُوَ الأَْصْل، بِأَنْ يَجْزِيَ بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوفًا،
قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أُولِيَ نِعْمَةً
فَلْيَشْكُرْهَا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلْيُظْهِرْ ثَنَاءً حَسَنًا (2) .
قَال الْحَلِيمِيُّ: وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ الشُّكْرَ الْمَذْكُورَ فِي
هَذَا الْحَدِيثِ أُرِيدَ بِهِ الشُّكْرُ بِالْفِعْل وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَمْ
يَقُل فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلْيُظْهِرْ ثَنَاءً حَسَنًا فَإِذَا كَانَتِ
النِّعْمَةُ فِعْلاً كَانَ الشُّكْرُ إِحْسَانًا مَكَانَ إِحْسَانٍ، فَإِنْ
لَمْ يَتَيَسَّرْ قَامَ الذِّكْرُ الْحَسَنُ وَالثَّنَاءُ وَالْبِشْرُ
مَقَامَهُ (3) .
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: إِنَّ نَاسًا مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، مَا رَأَيْنَا قَوْمًا
أَحْسَنَ مُوَاسَاةً فِي قَلِيلٍ وَلاَ أَحْسَنَ بَذْلاً مِنْ كَثِيرٍ
مِنْهُمْ، لَقَدْ كَفَوْنَا الْمُؤْنَةَ،
__________
(1) سورة لقمان / 14.
(2) حديث: " من أولي نعمة فليشكرها. . . " ورد بلفظ: " من أعطي عطاء فوجد
فليجز به، ومن لم يجد فليثن فإن من أثنى فقد شكر ومن كتم فقد كفر " أخرجه
الترمذي (4 / 379 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله، وقال: " حديث حسن
".
(3) المنهاج في شعب الإيمان 2 / 556.
(26/182)
وَأَشْرَكُونَا فِي الْمِهْنَةِ، لَقَدْ
خَشِينَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالأَْجْرِ كُلِّهِ، فَقَال: أَمَا مَا
دَعَوْتُهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ مُكَافَأَةً أَوْ شِبْهَ
الْمُكَافَأَةِ (1) .
وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَال لِفَاعِلِهِ:
جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ (2) .
وَمِثْلُهُ مَا فِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا
فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ
حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ (3) وَفِي رِوَايَةٍ: مَنْ
أُعْطِيَ عَطَاءً فَوَجَدَ فَلْيَجْزِ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُثْنِ
فَإِنَّ مَنْ أَثْنَى فَقَدْ شَكَرَ، وَمَنْ كَتَمَ فَقَدْ كَفَرَ (4) .
اسْتِدْعَاءُ الشُّكْرِ مِنَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ:
14 - إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الشُّكْرُ عَلَى الْمَعْرُوفِ مُسْتَحَبًّا
إِلاَّ أَنَّ طَلَبَ مُسْدِي الْمَعْرُوفِ أَنْ يُشْكَرَ عَلَيْهِ خِلاَفُ
الأَْوْلَى، وَخَاصَّةً فِيمَا مِنْ
__________
(1) حديث أنس: " أن ناسًا من المهاجرين. . . ". أخرجه البيهقي في شعب
الإيمان (6 / 513 - ط دار الكتب العلمية) وإسناده صحيح.
(2) حديث: " من صنع إليه معروف. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 380 - ط الحلبي)
من حديث أنس، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(3) حديث: " من صنع إليكم معروفًا فكافئوه. . . . " أخرجه أبو داود (2 /
310 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 218 - ط دائرة المعارف
العثمانية) من حديث عبد الله بن عمر.
(4) حديث: " من أعطي عطاء فوجد فليجز به " أخرجه الترمذي (4 / 379 - ط
الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله، وقال: " حديث حسن غريب ".
(26/182)
شَأْنِهِ أَنْ يُعْمَل لِلَّهِ، وَلِذَلِكَ
أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ يُحْسِنُ إِلَى الضُّعَفَاءِ دُونَ
أَنْ يَنْتَظِرَ مِنْهُمْ شُكْرًا أَوْ جَزَاءً قَال تَعَالَى:
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً
وَلاَ شُكُورًا (1) } قَال مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَمَا
وَاللَّهِ مَا قَالُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَكِنْ عَلِمَ اللَّهُ بِهِ
مِنْ قُلُوبِهِمْ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِهِ لِيَرْغَبَ فِي ذَلِكَ رَاغِبٌ
(2) وَلَوْ أَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ عَلَى الْمَعْرُوفِ لَمْ يَحْرُمْ.
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ شَهِدَ لأَِبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ
عِنْدِهِ قَال لَهُ: أَوَلاَ تَحْمَدُنِي عَلَى مَا شَهِدْتَ الْحَقَّ (3)
؟
قَال الرَّازِيَّ: الإِْحْسَانُ إِلَى الْغَيْرِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ
لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ
تَعَالَى، إِمَّا طَلَبًا لِمُكَافَأَةٍ، أَوْ طَلَبًا لِحَمْدٍ أَوْ
ثَنَاءٍ. وَتَارَةً يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِغَيْرِهِ.
وَالنَّوْعُ الأَْوَّل هُوَ الْمَقْبُول عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى،
وَالأَْخِيرُ هُوَ الشِّرْكُ. أهـ (4) .
وَلَيْسَ هُوَ الشِّرْكَ الْمُخْرِجَ عَنِ الْمِلَّةِ بَل هُوَ الشِّرْكُ
فِي الْقَصْدِ وَهُوَ يُحْبِطُ الْعَمَل الَّذِي
__________
(1) سورة الإنسان / 8، 9.
(2) تفسير ابن كثير 4 / 455، والقرطبي 19 / 130.
(3) تفسير ابن كثير 1 / 437.
(4) تفسير الرازي 30 / 246.
(26/183)
أَشْرَكَ بِهِ، دُونَ غَيْرِهِ، لأَِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى لاَ يَقْبَل إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا. وَأَمَّا
إِذَا عَمِلَهُ طَلَبًا لِلْمُكَافَأَةِ أَوِ الْحَمْدِ فَلَهُ مَا طَلَبَ،
وَلَيْسَ ذَلِكَ حَرَامًا إِلاَّ أَنْ يُظْهِرَ أَنَّهُ لِلَّهِ وَيُبْطِنَ
خِلاَفَ ذَلِكَ، لأَِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ رِيَاءً.
فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُشْكَرَ عَلَى مَا لَمْ يَفْعَل مِنَ الْخَيْرِ لَمْ
يَكُنْ ذَلِكَ حَرَامًا خِلاَفًا لِمَا يَتَبَادَرُ مِنْ قَوْل اللَّهِ
تَعَالَى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا
وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ
بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) } فَقَدْ
نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ (2) .
__________
(1) سورة آل عمران / 188.
(2) تفسير ابن كثير 1 / 437.
(26/183)
شَكٌّ
تَعْرِيفُهُ:
1 - الشَّكُّ لُغَةً: نَقِيضُ الْيَقِينِ وَجَمْعُهُ شُكُوكٌ. يُقَال شَكَّ
فِي الأَْمْرِ وَتَشَكَّكَ إِذَا تَرَدَّدَ فِيهِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ،
سَوَاءٌ اسْتَوَى طَرَفَاهُ أَوْ رَجَحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآْخَرِ (1) .
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ (2) } أَيْ غَيْرَ مُسْتَيْقِنٍ، وَهُوَ يَعُمُّ حَالَتَيِ
الاِسْتِوَاءِ وَالرُّجْحَانِ (3) . وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: نَحْنُ
أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ (4) قِيل: إِنَّ مُنَاسَبَتَهُ
تَرْجِعُ إِلَى وَقْتِ نُزُول قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ
رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَال أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَال
بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي (5) } . حَيْثُ قَال قَوْمٌ - إِذْ
ذَاكَ -
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: " شَكَّ "، والكليات 3 / 62 وزارة
الثقافة دمشق ونجعة الرائد 2 / 193 منشورات المكتبة البوليسية 1970.
(2) سورة يونس / 94.
(3) المراجع السابقة.
(4) حديث: " نحن أحق بالشك من إبراهيم "
أخرجه البخاري (الفتح 8 / 201 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 133 - ط الحلبي) .
(5) سورة البقرة / 260.
(26/184)
شَكَّ إِبْرَاهِيمُ وَلَمْ يَشُكَّ
نَبِيُّنَا، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
تَوَاضُعًا مِنْهُ وَتَقْدِيمًا لإِِبْرَاهِيمَ عَلَى نَفْسِهِ -: نَحْنُ
أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ أَيْ أَنَا لَمْ أَشُكَّ مَعَ
أَنَّنِي دُونَهُ فَكَيْفَ يَشُكُّ هُوَ؟ (1) .
وَالشَّكُّ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: اسْتُعْمِل فِي حَالَتَيِ
الاِسْتِوَاءِ وَالرُّجْحَانِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي اسْتُعْمِلَتْ فِيهِ
هَذِهِ الْكَلِمَةُ لُغَةً فَقَالُوا: مَنْ شَكَّ فِي الصَّلاَةِ، وَمَنْ
شَكَّ فِي الطَّلاَقِ، أَيْ مَنْ لَمْ يَسْتَيْقِنْ، بِقَطْعِ النَّظَرِ
عَنِ اسْتِوَاءِ الْجَانِبَيْنِ أَوْ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا (2) . وَمَعَ
هَذَا فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ فِي جُزْئِيَّاتٍ كَثِيرَةٍ
(3) . وَالشَّكُّ فِي اصْطِلاَحِ الأُْصُولِيِّينَ: هُوَ اسْتِوَاءُ
الطَّرَفَيْنِ الْمُتَقَابِلَيْنِ لِوُجُودِ أَمَارَتَيْنِ
مُتَكَافِئَتَيْنِ فِي الطَّرَفَيْنِ أَوْ لِعَدَمِ الأَْمَارَةِ فِيهِمَا
(4) .
__________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر 2 / 495، المكتبة الإسلامية، ولسان
العرب.
(2) المصادر السابقة وغمز عيون البصائر على الأشباه والنظائر لابن نجيم 1 /
193، 204، المكتبة العلمية، بيروت، ونهاية المحتاج 1 / 114، والموسوعة
الفقهية 4 / 295.
(3) المراجع السابقة.
(4) المحصول 1 / 101، لجنة البحوث بجامعة ابن سعود الإسلامية سنة 1399 هـ،
ونهاية السول في شرح منهاج الأصول للبيضاوي 1 / 40 (المطبعة السلفية
القاهرة 1343 هـ) ، والكليات للكفوي 3 / 62 - 63.
(26/184)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْيَقِينُ:
2 - الْيَقِينُ مَصْدَرُ يَقِنَ الأَْمْرُ يَيْقَنُ إِذَا ثَبَتَ وَوَضَحَ،
وَيُسْتَعْمَل مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ وَبِالْيَاءِ، وَيُطْلَقُ - لُغَةً
- عَلَى الْعِلْمِ الْحَاصِل عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلاَلٍ وَلِهَذَا لاَ
يُسَمَّى عِلْمُ اللَّهِ يَقِينًا (1) . وَهُوَ عِنْدَ عُلَمَاءِ
الأُْصُول: الاِعْتِقَادُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ الثَّابِتِ
(2) . فَالْيَقِينُ ضِدُّ الشَّكِّ (3) . فَيُقَال شَكَّ وَتَيَقَّنَ وَلاَ
يُقَال شَكَّ وَعَلِمَ لأَِنَّ الْعِلْمَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى مَا
هُوَ بِهِ عَلَى سَبِيل الثِّقَةِ.
ب - الاِشْتِبَاهُ:
3 - الاِشْتِبَاهُ هُوَ مَصْدَرُ اشْتَبَهَ، يُقَال: اشْتَبَهَ
الشَّيْئَانِ وَتَشَابَهَا، إِذَا أَشْبَهَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
الآْخَرَ، كَمَا يُقَال: اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الأَْمْرُ أَيِ اخْتَلَطَ
وَالْتَبَسَ لِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ أَهَمُّهَا الشَّكُّ،
فَالْعَلاَقَةُ بَيْنَهُمَا - إِذًا - سَبَبِيَّةٌ حَيْثُ يُعَدُّ الشَّكُّ
سَبَبًا هَامًّا مِنْ أَسْبَابِ الاِشْتِبَاهِ. كَمَا قَدْ يَكُونُ
الاِشْتِبَاهُ سَبَبًا لِلشَّكِّ (4) .
__________
(1) المصباح المنير، والقاموس المحيط (يقن) والفروق في اللغة ص 72، نشر
الدار العربية للكتاب، تونس 1983، والكليات للكفوي 5 / 116.
(2) المحصول 1 / 99 وما بعدها، ونهاية السول 1 / 39، 40.
(3) الفروق في اللغة ص 73، وشرح القواعد الفقهية ص 35.
(4) راجع مصطلح (اشتباه) بالموسوعة الفقهية 4 / 290 وما بعدها.
(26/185)
ج - الظَّنُّ:
4 - الظَّنُّ مَصْدَرُ ظَنَّ مِنْ بَابِ قَتَل وَهُوَ خِلاَفُ الْيَقِينِ،
وَيُطْلَقُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ عَلَى الطَّرَفِ الرَّاجِحِ مِنَ
الطَّرَفَيْنِ (1) . وَقَدْ يُسْتَعْمَل مَجَازًا بِمَعْنَى الْيَقِينِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ
(2) } وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ لاَ يُفَرِّقُونَ غَالِبًا
بَيْنَ الظَّنِّ وَالشَّكِّ.
د - الْوَهْمُ:
5 - الْوَهْمُ مَصْدَرُ وَهِمَ وَهُوَ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ طَرَفُ
الْمَرْجُوحِ مِنْ طَرَفَيِ الشَّكِّ (3) . وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ
الْحَمَوِيُّ - نَقْلاً عَنْ مُتَأَخِّرِي الأُْصُولِيِّينَ - حَيْثُ قَال:
الْوَهْمُ تَجْوِيزُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَضْعَفُ مِنَ الآْخَرِ (4) .
وَالْمُتَأَكِّدُ أَنَّهُ لاَ يَرْتَقِي لإِِحْدَاثِ اشْتِبَاهٍ (5) . "
إِذْ لاَ عِبْرَةَ لِلتَّوَهُّمِ (6) ". وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ ذَكَرَ
الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ اسْتِنَادًا
__________
(1) غمز عيون البصائر على الأشباه والنظائر 1 / 193، 204، والمحصول للرازي
1 / 101، ونهاية السول للأسنوي 1 / 40، والكليات للكفوي 3 / 63، والمصباح
المنير للفيومي.
(2) سورة البقرة / 46.
(3) المحصول 1 / 101، ونهاية السول 1 / 40، وغمز عيون البصائر على الأشباه
1 / 193، 204، والكليات 3 / 63، والمصباح المنير.
(4) غمز عيون البصائر شرح كتاب الأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 193.
(5) الموسوعة الفقهية 4 / 291.
(6) مجلة الأحكام العدلية المادة 74.
(26/185)
عَلَى وَهْمٍ، وَلاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُ
الشَّيْءِ الثَّابِتِ بِصُورَةٍ قَطْعِيَّةٍ بِوَهْمٍ طَارِئٍ (1) .
أَقْسَامُ الشَّكِّ بِاعْتِبَارِ حُكْمِ الأَْصْل الَّذِي طَرَأَ عَلَيْهِ:
6 - يَنْقَسِمُ الشَّكُّ - إِجْمَالاً - بِهَذَا الاِعْتِبَارِ إِلَى
ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ.
الْقِسْمُ الأَْوَّل: شَكٌّ طَرَأَ عَلَى أَصْلٍ حَرَامٍ مِثْل أَنْ يَجِدَ
الْمُسْلِمُ شَاةً مَذْبُوحَةً فِي بَلَدٍ يَقْطُنُهُ مُسْلِمُونَ
وَمَجُوسٌ فَلاَ يَحِل لَهُ الأَْكْل مِنْهَا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا
ذَكَاةُ مُسْلِمٍ، لأَِنَّ الأَْصْل فِيهَا الْحُرْمَةُ وَوَقَعَ الشَّكُّ
فِي الذَّكَاةِ الْمَطْلُوبَةِ شَرْعًا، فَلَوْ كَانَ مُعْظَمُ سُكَّانِ
الْبَلَدِ مُسْلِمِينَ جَازَ الإِْقْدَامُ عَلَيْهَا وَالأَْكْل مِنْهَا
عَمَلاً بِالْغَالِبِ الْمُفِيدِ لِلْحِلِّيَّةِ (2) .
الْقِسْمُ الثَّانِي: شَكٌّ طَرَأَ عَلَى أَصْلٍ مُبَاحٍ كَمَا لَوْ وَجَدَ
الْمُسْلِمُ مَاءً مُتَغَيِّرًا فَلَهُ أَنْ يَتَطَهَّرَ مِنْهُ مَعَ
احْتِمَال أَنْ يَكُونَ تَغَيَّرَ بِنَجَاسَةٍ، أَوْ طُول مُكْثٍ، أَوْ
كَثْرَةِ وُرُودِ السِّبَاعِ عَلَيْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ اسْتِنَادًا إِلَى
أَنَّ الأَْصْل طَهَارَةُ الْمِيَاهِ (3) . مَعَ
__________
(1) القواعد الفقهية ص 378 - دار القلم. دمشق ط 1 - 1406 هـ.
(2) غمز عيون البصائر على الأشباه والنظائر لابن نجيم جـ 1 ص 193، وحاشية
الطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 22. المطبعة الأزهرية. مصر سنة 1328 هـ.
(3) المصدرين السابقين، وانظر: بدائع الصنائع 1 / 73، دار الكتاب العربي
بيروت، ومواهب الجليل (بهامشه التاج والإكليل) 1 / 64 - 65 - 53.
(26/186)
الْعِلْمِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ
يُكَلِّفِ الْمُؤْمِنِينَ تَجَشُّمَ الْبَحْثِ لِلْكَشْفِ عَنْ طَهَارَتِهِ
أَوْ نَجَاسَتِهِ تَيْسِيرًا عَلَيْهِمْ، حَيْثُ وَرَدَ فِي الأَْثَرِ
أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - خَرَجَ
فِي رَكْبٍ فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
حَتَّى وَرَدُوا حَوْضًا فَقَال عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِصَاحِبِ
الْحَوْضِ: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ هَل تَرِدُ حَوْضَكَ السِّبَاعُ؟ فَقَال
عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ لاَ تُخْبِرْنَا، فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى
السِّبَاعِ، وَتَرِدُ عَلَيْنَا (1) .
وَفِيهِ أَيْضًا: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ نَفْسَهُ كَانَ مَارًّا
مَعَ صَاحِبٍ لَهُ فَسَقَطَ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ مِنْ مِيزَابٍ، فَقَال
صَاحِبُهُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ مَاؤُكَ طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ؟ فَقَال
عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ لاَ تُخْبِرْنَا، وَمَضَى (2) .
فَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَاءٌ طَاهِرٌ وَمَاءٌ نَجِسٌ تَحَرَّى، فَمَا
أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى طَهَارَتِهِ تَوَضَّأَ بِهِ (3) .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: شَكٌّ لاَ يُعْرَفُ أَصْلُهُ مِثْل التَّعَامُل مَعَ
شَخْصٍ أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامٌ دُونَ تَمْيِيزٍ
__________
(1) المنتقى 1 / 62، وإغاثة اللهفان ص 82، مصر سنة 1320 هـ. وأثر عمر بن
الخطاب: خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص. أخرجه مالك في الموطأ (1 / 23 - 24
- ط الحلبي) .
(2) المصدر السابق.
(3) حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء 1 / 86. دار القلم. عمان ط 1.
(26/186)
لِهَذَا مِنْ ذَاكَ لاِخْتِلاَطِ
النَّوْعَيْنِ مَعًا اخْتِلاَطًا يَصْعُبُ تَحْدِيدُهُ، فَمِثْل هَذَا
الشَّخْصِ لاَ تَحْرُمُ مُبَايَعَتُهُ وَلاَ التَّعَامُل مَعَهُ
لإِِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ الْمُقَابِل حَلاَلاً طَيِّبًا، وَلَكِنْ رَغْمَ
هَذَا الاِحْتِمَال فَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّعَامُل
مَعَهُ خَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ (1) . كَمَا نَصُّوا عَلَى
أَنَّ " الْمَشْكُوكَ فِي وُجُوبِهِ لاَ يَجِبُ فِعْلُهُ وَلاَ يُسْتَحَبُّ
تَرْكُهُ بَل يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ احْتِيَاطًا (2) ".
أَقْسَامُ الشَّكِّ بِحَسَبِ الإِْجْمَاعِ عَلَى اعْتِبَارِهِ
وَإِلْغَائِهِ:
7 - ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ الشَّكَّ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ يَنْقَسِمُ
أَيْضًا إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: مُجْمَعٌ عَلَى اعْتِبَارِهِ كَالشَّكِّ فِي
الْمُذَكَّاةِ وَالْمَيْتَةِ، فَالْحُكْمُ تَحْرِيمُهُمَا مَعًا.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مُجْمَعٌ عَلَى إِلْغَائِهِ، كَمَنْ شَكَّ هَل
طَلَّقَ أَمْ لاَ؟ فَلاَ شَيْءَ. عَلَيْهِ، وَشَكُّهُ يُعْتَبَرُ لَغْوًا.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَعْلِهِ سَبَبًا،
كَمَنْ شَكَّ هَل أَحْدَثَ أَمْ لاَ؟ فَقَدِ اعْتَبَرَهُ مَالِكٌ دُونَ
الشَّافِعِيِّ. وَمَنْ شَكَّ هَل طَلَّقَ ثَلاَثًا أَمِ اثْنَتَيْنِ؟
أَلْزَمَهُ مَالِكٌ الطَّلْقَةَ
__________
(1) غمز عيون البصائر على الأشباه والنظائر 1 / 193.
(2) وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 22، القواعد الفقهية للندوي ص
218.
(26/187)
الْمَشْكُوكَ فِيهَا خِلاَفًا
لِلشَّافِعِيِّ (1) وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
الشَّكُّ لاَ يُزِيل الْيَقِينَ، أَوِ " الْيَقِينُ لاَ يَزُول بِالشَّكِّ
" أَوْ " لاَ شَكَّ مَعَ الْيَقِينِ ":
8 - هَذِهِ الْقَاعِدَةُ - عَلَى اخْتِلاَفِ تَرَاكِيبِهَا - مِنْ
أُمَّهَاتِ الْقَوَاعِدِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الأَْحْكَامِ
الْفِقْهِيَّةِ وَقَدْ قِيل: إِنَّهَا تَدْخُل فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ
الْفِقْهِ، وَالْمَسَائِل الْمُخَرَّجَةُ عَنْهَا مِنْ عِبَادَاتٍ
وَمُعَامَلاَتٍ تَبْلُغُ ثَلاَثَةَ أَرْبَاعِ عِلْمِ الْفِقْهِ (2) .
الشَّكُّ فِي الْمِيرَاثِ:
9 - الْمِيرَاثُ اسْتِحْقَاقٌ وَكُل اسْتِحْقَاقٍ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ
بِثُبُوتِ أَسْبَابِهِ وَتَوَفُّرِ شُرُوطِهِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ،
وَهَذِهِ لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بِيَقِينٍ، فَلاَ يُتَصَوَّرُ مَثَلاً
ثُبُوتُ الاِسْتِحْقَاقِ بِالشَّكِّ فِي طَرِيقِهِ وَبِالتَّالِي لاَ
يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ الْمِيرَاثِ بِالشَّكِّ (3) .
الشَّكُّ فِي الأَْرْكَانِ:
10 - أَرْكَانُ الشَّيْءِ هِيَ أَجْزَاءُ مَاهِيَّتِهِ الَّتِي يَتَكَوَّنُ
مِنْهَا، وَهِيَ الَّتِي تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهَا عَلَى تَوَفُّرِ
شُرُوطِهَا (4) . وَأَرْكَانُ أَيِّ عِبَادَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ يُرَادُ
بِهَا فَرَائِضُهَا الَّتِي لاَ بُدَّ مِنْهَا إِذْ
__________
(1) الفروق 1 / 225، 226 (دار إحياء الكتب ط 1 س 1344 هـ) .
(2) غمز عيون البصائر على الأشباه 1 / 194.
(3) راجع: شرح السراجية للجرجاني 1 / 219. مطبعة الحلبي بمصر سنة 1363 هـ
1944 م.
(4) المصباح المنير.
(26/187)
لاَ فَرْقَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْفَرْضِ
إِلاَّ فِي الْحَجِّ حَيْثُ تَتَمَيَّزُ الأَْرْكَانُ فِيهِ عَلَى
الْوَاجِبَاتِ وَالْفُرُوضِ بِعَدَمِ جَبْرِهَا بِالدَّمِ (1) .
فَمَنْ شَكَّ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْعِبَادَةِ أَوْ فِي فَرْضٍ مِنْ
فَرَائِضِهَا، هَل أَتَى بِهِ أَمْ لاَ؟ فَإِنَّهُ يَبْنِي عَلَى
الْيَقِينِ الْمُحَقَّقِ عِنْدَهُ، وَيَأْتِي بِمَا شَكَّ فِيهِ،
وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلاَمِ سَجْدَتَيْنِ لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ قَدْ
فَعَل مَا شَكَّ فِيهِ، فَيَكُونَ مَا أَتَى بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَحْضُ
زِيَادَةٍ، وَقَال ابْنُ لُبَابَةَ: يَسْجُدُ قَبْل السَّلاَمِ، وَفِي
غَلَبَةِ الظَّنِّ هُنَا قَوْلاَنِ دَاخِل الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ:
مِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَهَا كَالشَّكِّ وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَهَا
كَالْيَقِينِ (2) .
وَفِيمَا تَقَدَّمَ يَقُول الشَّيْخُ ابْنُ عَاشِرٍ - صَاحِبُ الْمُرْشِدِ
الْمُعِينِ:
مَنْ شَكَّ فِي رُكْنٍ بَنَى عَلَى الْيَقِينْ
وَلْيَسْجُدُوا الْبَعْدِيَّ لَكِنْ قَدْ يَبِينْ (3)
.
قَال الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ مَيَّارَةَ: وَيُقَيَّدُ كَلاَمُ
صَاحِبِ هَذَا النَّظْمِ بِغَيْرِ الْمُوَسْوِسِ أَوْ كَالْمُسْتَنْكَحِ
لأَِنَّ هَذَا لاَ يَعْتَدُّ بِمَا شَكَّ فِيهِ،
__________
(1) الدر الثمين والمورد المعين في شرح المرشد المعين على الضروري من علوم
الدين (ميارة الكبرى) 2 / 114 (بهامشه: شرح خطط السداد) .
(2) ميارة الكبرى 2 / 32، 33، وميارة الصغرى ص 46 مطبعة التقدم بمصر ط 3
سنة 1332 هـ.
(3) المرشد المعين على الضروري من علوم الدين ص 14. (المطبعة العلمية بتونس
ط 4 سنة 1345 هـ) .
(26/188)
وَشَكُّهُ كَالْعَدَمِ وَيَسْجُدُ بَعْدَ
السَّلاَمِ، فَإِذَا شَكَّ هَل صَلَّى ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا بَنَى عَلَى
الأَْرْبَعِ وَسَجَدَ بَعْدَ السَّلاَمِ (1) .
وَإِجْمَالاً فَإِنَّ الشَّكَّ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُسْتَنْكِحٌ: أَيْ
يَعْتَرِي صَاحِبَهُ كَثِيرًا وَهُوَ كَالْعَدَمِ لَكِنَّهُ يَسْجُدُ لَهُ
بَعْدَ السَّلاَمِ، وَغَيْرُ مُسْتَنْكِحٍ: وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بَعْدَ
مُدَّةٍ وَحُكْمُهُ وُجُوبُ الْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ، وَأَنَّ
السَّهْوَ أَيْضًا عَلَى قِسْمَيْنِ: مُسْتَنْكِحٌ وَغَيْرُ مُسْتَنْكِحٍ
(2) .
رَاجِعْ مُصْطَلَحَ (سَهْوٌ) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ الْفِقْهِيَّةِ.
وَإِنَّ مَنْ شَكَّ فِي جُلُوسِهِ هَل كَانَ فِي الشَّفْعِ أَوْ فِي
الْوَتْرِ؟ فَإِنَّ الْمَنْصُوصَ لِمَالِكٍ أَنَّهُ يُسَلِّمُ وَيَسْجُدُ
لِسَهْوِهِ، ثُمَّ يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ أَضَافَ
رَكْعَةَ الْوَتْرِ إِلَى رَكْعَتَيِ الشَّفْعِ مِنْ غَيْرِ سَلاَمٍ
فَيَصِيرُ قَدْ صَلَّى الشَّفْعَ ثَلاَثًا، وَمِنْ هُنَا طُولِبَ
بِالسُّجُودِ بَعْدَ السَّلاَمِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ: أَيْ
مَسْأَلَةَ الشَّكِّ فِي الرُّكْنِ تَتَّفِقُ فِي الْحُكْمِ مَعَ
مَسْأَلَةِ التَّحَقُّقِ مِنَ الإِْخْلاَل بِرُكْنٍ فَفِي الأُْولَى
يُلْغَى الشَّكُّ وَيُبْنَى عَلَى الْيَقِينِ مَعَ السُّجُودِ بَعْدَ
السَّلاَمِ، وَفِي الثَّانِيَةِ يُجْبَرُ الرُّكْنُ وَيَقَعُ السُّجُودُ
بَعْدَ السَّلاَمِ (3) . وَإِنَّ الَّذِي يَجْمَعُ
__________
(1) ميارة الكبرى 2 / 32، وميارة الصغرى ص 46 (مختصر الدر الثمين) .
(2) ميارة الكبرى 2 / 33 (الدر الثمين) .
(3) ميارة الكبرى 2 / 33 (الدر الثمين) .
(26/188)
هَذَا كُلَّهُ هُوَ قَوْلُهُمُ: الشَّكُّ
فِي النُّقْصَانِ كَتَحَقُّقِهِ (1) . وَلِذَلِكَ قَال الْوَنْشَرِيسِيُّ
فِي شَرْحِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ: وَمِنْ ثَمَّ لَوْ شَكَّ أَصَلَّى
ثَلاَثًا أَمْ أَرْبَعًا؟ أَتَى بِرَابِعَةٍ أَوْ شَكَّ فِي بَعْضِ
أَشْوَاطِ الطَّوَافِ أَوِ السَّعْيِ أَوْ شَكَّ هَل أَتَى بِالثَّالِثَةِ
أَمْ لاَ؟ بَنَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى الْيَقِينِ (2) . وَتُتَمِّمُ
هَذِهِ الْقَاعِدَةَ قَاعِدَةٌ أُخْرَى نَصُّهَا: الشَّكُّ فِي
الزِّيَادَةِ كَتَحَقُّقِهَا (3) . كَالشَّكِّ فِي حُصُول التَّفَاضُل فِي
عُقُودِ الرِّبَا، وَالشَّكِّ فِي عَدَدِ الطَّلاَقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (4) .
الشَّكُّ فِي السَّبَبِ:
11 - السَّبَبُ لُغَةً: هُوَ الْحَبْل أَوِ الطَّرِيقُ ثُمَّ اسْتُعِيرَ
مِنَ الْحَبْل لِيَدُل عَلَى كُل مَا يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى شَيْءٍ،
كَقَوْلِهِ جَل ذِكْرُهُ: (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَْسْبَابُ (5)) أَيِ
الْعَلاَئِقُ الَّتِي ظَنُّوا أَنَّهَا سَتُوَصِّلُهُمْ إِلَى النَّعِيمِ،
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ: وَإِنْ كَانَ رِزْقُهُ فِي الأَْسْبَابِ
أَيْ فِي طُرُقِ السَّمَاءِ وَأَبْوَابِهَا (6) . وَهُوَ - فِي
__________
(1) إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك ص 197 - الرباط 1400 هـ - 1980 م.
(2) المصدر السابق 197، 198.
(3) نفس المصدر ص 201.
(4) المسالك إلى قواعد الإمام مالك للونشريسي ص 201، الفروق للقرافي 1 /
226 الفرق 44.
(5) سورة البقرة / 166.
(6) حديث: " وإن كان رزقه في الأسباب " أورده ابن الأثير في " النهاية (2 /
329 - ط الحلبي) ولم نهتد إليه في أي مصدر من المصادر الحديثية لدينا.
(26/189)
اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ
وَالأُْصُولِيِّينَ - الأَْمْرُ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّرْعُ أَمَارَةً
لِوُجُودِ الْحُكْمِ وَجَعَل انْتِفَاءَهُ أَمَارَةً عَلَى عَدَمِ
الْحُكْمِ (1) .
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا فَإِنَّ السَّبَبَ لاَ يَنْعَقِدُ إِلاَّ بِجَعْل
الْمُشَرِّعِ لَهُ كَذَلِكَ.
وَحَتَّى يَكُونَ السَّبَبُ وَاضِحَ التَّأْثِيرِ - بِجَعْل اللَّهِ -
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَيَقَّنًا إِذْ لاَ تَأْثِيرَ وَلاَ أَثَرَ
لِسَبَبٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، وَذَلِكَ كَالشَّكِّ فِي أَسْبَابِ الْمِيرَاثِ
بِأَنْوَاعِهَا (2) . فَإِنَّهُ مَانِعٌ مِنْ حُصُول الْمِيرَاثِ
بِالْفِعْل إِذْ لاَ مِيرَاثَ مَعَ الشَّكِّ فِي سَبَبِهِ كَمَا هُوَ
مُقَرَّرٌ (3) . شَأْنُهُ فِي ذَلِكَ شَأْنُ الشَّكِّ فِي دُخُول وَقْتِ
الظُّهْرِ أَوْ وَقْتِ الْعَصْرِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ أَسْبَابِ
الْعِبَادَاتِ (4) .
وَقَدْ خَصَّصَ الْقَرَافِيُّ فَرْقًا هَامًّا مَيَّزَ فِيهِ بَيْنَ
قَاعِدَةِ الشَّكِّ فِي السَّبَبِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ السَّبَبِ
__________
(1) الموافقات 1 / 187 وما بعدها.
(2) يتوقف الإرث على ثلاثة أمور: وجود أسبابه وشروطه وانتفاء موانعه، ولكن
منها مبحث خاص به، فأما أسبابه المتفق عليها فهي ثلاثة: القرابة والزوجية
والولاء. (التحقيقات المرضية في المباحث الفرضية ص 31 - 38 ط 3 سنة 1407
هـ. المملكة العربية السعودية) .
(3) بدائع الصنائع 3 / 217، 218، مواهب الجليل 6 / 623، 624، التاج
والإكليل 6 / 623 - 624.
(4) جواهر الإكليل شرح مختصر خليل 1 / 33، كشاف القناع 1 / 177، (بهامشه
منتهى الإرادات) - الإقناع في فقه أحمد ابن حنبل 1 / 84، 85.
(26/189)
فِي الشَّكِّ (1) . أَشَارَ فِي
بِدَايَتِهِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْمَوْضُوعَ قَدْ أَشْكَل أَمْرُهُ عَلَى
جَمِيعِ الْفُضَلاَءِ، وَانْبَنَى عَلَى عَدَمِ تَحْرِيرِهِ إِشْكَالٌ
آخَرُ فِي مَوَاضِعَ وَمَسَائِل كَثِيرَةٍ حَتَّى خَرَقَ بَعْضُهُمُ
الإِْجْمَاعَ فِيهَا (2) .
وَالْقَوْل الْفَصْل فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ حَسَبَ رَأْيِ الْقَرَافِيِّ:
" أَنَّ الشَّارِعَ شَرَعَ الأَْحْكَامَ وَشَرَعَ لَهَا أَسْبَابًا وَجَعَل
مِنْ جُمْلَةِ مَا شَرَعَهُ مِنَ الأَْسْبَابِ الشَّكَّ، فَشَرَعَهُ -
حَيْثُ شَاءَ - فِي صُوَرٍ عَدِيدَةٍ: فَإِذَا شَكَّ فِي الشَّاةِ
وَالْمَيْتَةِ حَرُمَتَا مَعًا، وَسَبَبُ التَّحْرِيمِ هُوَ الشَّكُّ،
وَإِذَا شَكَّ فِي الأَْجْنَبِيَّةِ وَأُخْتِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ
حَرُمَتَا مَعًا، وَسَبَبُ التَّحْرِيمِ هُوَ الشَّكُّ، وَإِذَا شَكَّ فِي
عَيْنِ الصَّلاَةِ الْمَنْسِيَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِ خَمْسُ صَلَوَاتٍ،
وَسَبَبُ وُجُوبِ الْخَمْسِ هُوَ الشَّكُّ، وَإِذَا شَكَّ هَل تَطَهَّرَ
أَمْ لاَ؟ وَجَبَ الْوُضُوءُ، وَسَبَبُ وُجُوبِهِ هُوَ الشَّكُّ،
وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ النَّظَائِرِ (3) .
" فَالشَّكُّ فِي السَّبَبِ غَيْرُ السَّبَبِ فِي الشَّكِّ: فَالأَْوَّل
يَمْنَعُ التَّقَرُّبَ وَلاَ يَتَقَرَّرُ مَعَهُ حُكْمٌ، وَالثَّانِي لاَ
يَمْنَعُ التَّقَرُّبَ وَتَتَقَرَّرُ مَعَهُ
__________
(1) الفروق 1 / 225 - تهذيب الفروق 1 / 227 (بهامش الفروق) .
(2) المصدرين السابقين.
(3) نفس المصدرين ص 225، 226 مع تصرف طفيف. وانظر أيضًا: إيضاح المسالك إلى
قواعد الإمام مالك للونشريسي ص 201.
(26/190)
الأَْحْكَامُ كَمَا هُوَ الْحَال فِي
النَّظَائِرِ السَّابِقَةِ " وَلاَ نَدَّعِي أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ
نَصَبَ الشَّكَّ سَبَبًا فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ بَل فِي بَعْضِ الصُّوَرِ
بِحَسَبِ مَا يَدُل عَلَيْهِ الإِْجْمَاعُ أَوِ النَّصُّ، وَقَدْ يُلْغِي
صَاحِبُ الشَّرْعِ الشَّكَّ فَلاَ يَجْعَل فِيهِ شَيْئًا: كَمَنْ شَكَّ هَل
طَلَّقَ أَمْ لاَ. فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالشَّكُّ لَغْوٌ، وَمَنْ شَكَّ
فِي صَلاَتِهِ هَل سَهَا أَمْ لاَ؟ . فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَالشَّكُّ
لَغْوٌ. فَهَذِهِ صُوَرٌ مِنَ الشَّكِّ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى عَدَمِ
اعْتِبَارِهِ فِيهَا، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى اعْتِبَارِهِ فِيمَا
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ.
وَقِسْمٌ ثَالِثٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نَصْبِهِ سَبَبًا: كَمَنْ
شَكَّ هَل أَحْدَثَ أَمْ لاَ؟ فَقَدِ اعْتَبَرَهُ مَالِكٌ خِلاَفًا
لِلشَّافِعِيِّ، وَمَنْ شَكَّ هَل طَلَّقَ ثَلاَثًا أَمِ اثْنَتَيْنِ؟
أَلْزَمَهُ مَالِكٌ الطَّلْقَةَ الْمَشْكُوكَ فِيهَا خِلاَفًا
لِلشَّافِعِيِّ، وَمَنْ حَلَفَ يَمِينًا وَشَكَّ مَا هِيَ؟ أَلْزَمَهُ
مَالِكٌ جَمِيعَ الأَْيْمَانِ (1) .
الشَّكُّ فِي الشَّرْطِ:
12 - الشَّرَطُ - بِفَتْحَتَيْنِ -: الْعَلاَمَةُ وَالْجَمْعُ أَشْرَاطٌ
مِثْل سَبَبٍ وَأَسْبَابٍ، وَمِنْهُ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ، أَيْ
عَلاَمَاتُهَا وَدَلاَئِلُهَا. وَالشَّرْطُ - بِسُكُونِ الرَّاءِ -
يُجْمَعُ عَلَى شُرُوطٍ. تَقُول:
__________
(1) المصادر السابقة والفروق ص 226 - 227، وتهذيب الفروق بهامش الفروق 1 /
228.
(26/190)
شَرَطَ عَلَيْهِ شَرْطًا وَاشْتَرَطْتُ
عَلَيْهِ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ عِنْدَ أَهْل اللُّغَةِ (1) .
أَمَّا الشَّرْطُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ: فَهُوَ مَا
جَعَلَهُ الشَّارِعُ مُكَمِّلاً لأَِمْرٍ شَرْعِيٍّ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ
بِوُجُودِهِ: كَالطَّهَارَةِ؛ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى مُكَمِّلَةً
لِلصَّلاَةِ فِيمَا يُقْصَدُ مِنْهَا مِنْ تَعْظِيمِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى إِذِ الْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيْهِ تَعَالَى مَعَ الطَّهَارَةِ
الشَّامِلَةِ لِلْبَدَنِ وَالثِّيَابِ وَالْمَكَانِ أَكْمَل فِي مَعْنَى
الاِحْتِرَامِ وَالتَّعْظِيمِ، وَبِهَذَا الْوَضْعِ لاَ تَتَحَقَّقُ
الصَّلاَةُ الشَّرْعِيَّةُ إِلاَّ بِهَا، فَالشَّرْطُ بِهَذَا
الاِعْتِبَارِ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْحُكْمِ وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ
الْمَشْرُوطِ، وَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ عَدَمُ الْحُكْمِ، وَلاَ يَلْزَمُ
مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ الْحُكْمِ وَلاَ عَدَمُهُ (2) .
" وَالشَّكُّ فِي الشَّرْطِ مَانِعٌ مِنْ تَرَتُّبِ الْمَشْرُوطِ (3) "
وَهُوَ كَذَلِكَ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي الْمَشْرُوطِ (4) . وَبِنَاءً عَلَى
ذَلِكَ وَجَبَ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي
الْحَدَثِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَامْتَنَعَ
الْقِصَاصُ مِنَ.
__________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 2 / 460.
(2) الفروق للقرافي 1 / 110، 111، والموافقات للشاطبي 1 / 262، ولباب
الفرائض ص 4، مطبعة الإرادة بتونس، والعذب الفائض شرح عمدة الفرائض 1 / 17
(مطبعة الحلبي. مصر. ط 1 سنة 1372 هـ) .
(3) قاعدة فقهية نص عليها الونشريسي في كتابه إيضاح المسالك إلى قواعد
الإمام مالك ص 192.
(4) قاعدة فقهية نص عليها القرافي في الفروق 1 / 111.
(26/191)
الأَْبِ فِي قَتْل ابْنِهِ (1) .
وَامْتَنَعَ الإِْرْثُ بِالشَّكِّ فِي مَوْتِ الْمُوَرِّثِ أَوْ حَيَاةِ
الْوَارِثِ، وَبِالشَّكِّ فِي انْتِفَاءِ الْمَانِعِ مِنَ الْمِيرَاثِ (2)
.
الشَّكُّ فِي الْمَانِعِ:
13 - الْمَانِعُ لُغَةً: الْحَائِل (3) .
أَمَّا الْمَانِعُ فِي الاِصْطِلاَحِ فَقَدْ عُرِّفَ بِقَوْلِهِمْ: هُوَ
مَا يَلْزَمُ مِنْ أَجْل وُجُودِهِ الْعَدَمُ - أَيْ عَدَمُ الْحُكْمِ -
وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ أَجْل عَدَمِهِ وُجُودٌ وَلاَ عَدَمٌ (4) . كَقَتْل
الْوَارِثِ لِمُوَرِّثِهِ عَمْدًا وَعُدْوَانًا فَإِنَّهُ يُعَدُّ مَانِعًا
مِنَ الْمِيرَاثِ، وَإِنْ تَحَقَّقَ سَبَبُهُ وَهُوَ الْقَرَابَةُ أَوِ
الزَّوْجِيَّةُ أَوْ غَيْرُهُمَا.
فَإِذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي الْمَانِعِ فَهَل يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي
الْحُكْمِ؟ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى أَنَّ " الشَّكَّ فِي الْمَانِعِ
لاَ أَثَرَ لَهُ (5) " أَيْ إِنَّ الشَّكَّ مُلْغًى بِالإِْجْمَاعِ (6) .
وَمِنْ ثَمَّ أُلْغِيَ الشَّكُّ الْحَاصِل فِي ارْتِدَادِ زَيْدٍ قَبْل
وَفَاتِهِ أَمْ لاَ؟ وَصَحَّ الإِْرْثُ مِنْهُ اسْتِصْحَابًا لِلأَْصْل
الَّذِي هُوَ الإِْسْلاَمُ (7) . كَمَا أُلْغِيَ الشَّكُّ فِي الطَّلاَقِ،
__________
(1) إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك 1 / 17.
(2) لباب الفرائض ص 4 - العذب الفائض 1 / 17، النهاية في غريب الحديث 4 /
365.
(3) الفروق 1 / 111، والأحكام للآمدي 1 / 67 - لباب الفرائض ص 4، العذب
الفائض 1 / 23.
(4) قاعدة فقهية ذكرها الونشريسي في إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك ص
193.
(5) القاعدة منقولة عن ابن العربي وذكرها المقري في قواعده ورقمها فيه 650،
انظر أيضًا المصدر السابق.
(6) الفروق للقرافي 1 / 111.
(26/191)
بِمَعْنَى شَكُّ الزَّوْجِ هَل حَصَل
مِنْهُ الطَّلاَقُ أَمْ لاَ؟ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الشَّكَّ هُنَا لاَ
تَأْثِيرَ لَهُ وَأَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِصْحَابُ الْعِصْمَةِ الثَّابِتَةِ
قَبْل الشَّكِّ، لأَِنَّ الشَّكَّ هُنَا كَانَ مِنْ قَبِيل الشَّكِّ فِي
حُصُول الْمَانِعِ وَهُوَ مُلْغًى (1) وَسَيَأْتِي التَّفْرِيقُ بَيْنَ
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الشَّكِّ فِي الْحَدَثِ عِنْدَ
تَنَاوُل الشَّكِّ فِي الطَّهَارَةِ.
وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ أَيْضًا أُلْغِيَ الشَّكُّ فِي الْعَتَاقِ
وَالظِّهَارِ وَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ وَمَا إِلَيْهَا (2) .
قَال الْخَطَّابِيُّ - فِي خُصُوصِ الرَّضَاعِ -: هُوَ مِنَ الْمَوَانِعِ
الَّتِي يَمْنَعُ وُجُودُهَا وُجُودَ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً،
فَهُوَ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ وَيَقْطَعُ اسْتِمْرَارَهُ - إِذَا
طَرَأَ عَلَيْهِ - فَإِذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي حُصُولِهِ لَمْ يُؤَثِّرْ
بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ " الشَّكُّ مُلْغًى " وَقَدْ يُقَال: إِنَّ
الأَْحْوَطَ التَّنَزُّهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ لاَ
يَنْبَغِي لِلشَّخْصِ أَنْ يُقْدِمَ إِلاَّ عَلَى فَرْجٍ مَقْطُوعٍ
بِحِلِّيَّتِهِ.
الشَّكُّ فِي الطَّهَارَةِ:
14 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ
فِي الطَّهَارَةِ يَحَبُّ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، وَإِعَادَةُ الصَّلاَةِ
إِنْ صَلَّى لأَِنَّ الذِّمَّةَ مَشْغُولَةٌ فَلاَ تَبْرَأُ إِلاَّ
بِيَقِينٍ، فَإِنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ فَلاَ
وُضُوءَ عَلَيْهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لأَِنَّ
__________
(1) إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك ص 193.
(2) إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك ص 193.
(26/192)
الْوُضُوءَ لاَ يُنْقَضُ بِالشَّكِّ
عِنْدَهُمْ (1) لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَال: شُكِيَ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُل يُخَيَّل إِلَيْهِ
أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاَةِ؟ فَقَال - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لاَ يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ
رِيحًا (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ - فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ -: مَنْ
تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ ثُمَّ شَكَّ فِي الْحَدَثِ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ
وُجُوبًا - وَقِيل: اسْتِحْبَابًا - لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الشَّكَّ
فِي أَحَدِ الْمُتَقَابِلَيْنِ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي الآْخَرِ، إِلاَّ أَنْ
يَكُونَ مُسْتَنْكِحًا (3) ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَل الْحَدِيثُ (4) .
وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْضًا أَنَّ مَنْ تَيَقَّنَ
الطَّهَارَةَ وَالْحَدَثَ مَعًا وَشَكَّ فِي السَّابِقِ مِنْهُمَا
فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْمَل بِضِدِّ مَا قَبْلَهُمَا: فَإِنْ كَانَ قَبْل
ذَلِكَ مُحْدَثًا فَهُوَ الآْنَ مُتَطَهِّرٌ؛ لأَِنَّهُ تَيَقَّنَ
الطَّهَارَةَ بَعْدَ ذَلِكَ الْحَدَثِ وَشَكَّ فِي
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 1 / 139. بولاق. المطبعة الأميرية ط 3 سنة
1329 هـ، التمهيد لابن عبد البر 5 / 27، نيل الأوطار للشوكاني 1 / 203 مصر
سنة 1357 هـ، ونهاية المحتاج 1 / 114، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 226،
وحلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء 1 / 155 - 156.
(2) حديث عبد الله بن زيد قال: شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أخرجه
البخاري (الفتح 1 / 237 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 276 - ط الحلبي) .
(3) المستنكح هو الذي يشك في كل وضوء وصلاة أو يطرأ عليه ذلك في اليوم مرة
أو مرتين (مواهب الجليل 1 / 300) .
(4) المدونة الكبرى 1 / 13، 14 - مواهب الجليل 1 / 300، التاج والإكليل 1 /
301، التمهيد 5 / 27، المعيار 1 / 10، 11.
(26/192)
انْتِقَاضِهَا، حَيْثُ لاَ يَدْرِي هَل
الْحَدَثُ الثَّانِي قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا؟ ، وَإِنْ كَانَ
مُتَطَهِّرًا وَكَانَ يَعْتَادُ التَّجْدِيدَ فَهُوَ الآْنَ مُحْدِثٌ
لأَِنَّهُ مُتَيَقِّنٌ حَدَثًا بَعْدَ تِلْكَ الطَّهَارَةِ وَشَكَّ فِي
زَوَالِهِ حَيْثُ لاَ يَدْرِي هَل الطَّهَارَةُ الثَّانِيَةُ مُتَأَخِّرَةٌ
عَنْهُ أَمْ لاَ؟ (1) .
قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابِهِ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُ
الْبِنَاءُ عَلَى الأَْصْل حَدَثًا كَانَ أَوْ طَهَارَةً، وَهُوَ قَوْل
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَالطَّبَرِيِّ،
وَقَال مَالِكٌ: إِنْ عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ كَثِيرًا فَهُوَ عَلَى وُضُوئِهِ،
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مَنْ أَيْقَنَ بِالْحَدَثِ وَشَكَّ فِي
الْوُضُوءِ فَإِنَّ شَكَّهُ لاَ يُفِيدُ فَائِدَةً وَأَنَّ عَلَيْهِ
الْوُضُوءَ فَرْضًا وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ الشَّكَّ عِنْدَهُمْ
مُلْغًى، وَأَنَّ الْعَمَل عِنْدَهُمْ عَلَى الْيَقِينِ، وَهَذَا أَصْلٌ
كَبِيرٌ فِي الْفِقْهِ فَتَدَبَّرْهُ وَقِفْ عَلَيْهِ (2) .
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل مَا جَاءَ عَنِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَنَّ
الْمَرْأَةَ إِذَا رَأَتْ دَمَ الْحَيْضِ وَلَمْ تَدْرِ وَقْتَ حُصُولِهِ
فَإِنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ مَنْ رَأَى مَنِيًّا فِي ثَوْبِهِ وَلَمْ
يَعْلَمْ وَقْتَ حُصُولِهِ، أَيْ عَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِل وَتُعِيدَ
الصَّلاَةَ مِنْ آخِرِ نَوْمَةٍ، وَهَذَا
__________
(1) الموسوعة الفقهية 4 / 295، والتاج والإكليل 1 / 301، والمغني مع الشرح
الكبير 1 / 227.
(2) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 5 / 27.
(26/193)
أَقَل الأَْقْوَال تَعْقِيدًا
وَأَكْثَرُهَا وُضُوحًا (1) . وَضَابِطُهُ مَا قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ
مِنْ أَنَّ حُكْمَ الْحَيْضِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ كَحُكْمِ الْحَيْضِ
الْمُتَيَقَّنِ فِي تَرْكِ الْعِبَادَاتِ (2)
وَالْمُرَادُ بِالشَّكِّ - فِي هَذَا الْمَوْضِعِ - مُطْلَقُ التَّرَدُّدِ
- كَمَا سَبَقَ فِي مَفْهُومِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى
السَّوَاءِ أَمْ كَانَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ أَرْجَحَ (3) .
الشَّكُّ فِي الصَّلاَةِ:
أ - الشَّكُّ فِي الْقِبْلَةِ:
15 - مَنْ شَكَّ فِي جِهَةِ الْكَعْبَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْأَل عَنْهَا
الْعَالِمِينَ بِهَا مِنْ أَهْل الْمَكَانِ إِنْ وُجِدُوا وَإِلاَّ
فَعَلَيْهِ بِالتَّحَرِّي وَالاِجْتِهَادِ لِمَا رَوَاهُ عَامِرُ بْنُ
رَبِيعَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: كُنَّا مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فِي لَيْلَةٍ
مُظْلِمَةٍ فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ، فَصَلَّى كُل رَجُلٍ مِنَّا
عَلَى حِيَالِهِ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَل {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ
اللَّهِ (4) } . وَقِبْلَةُ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 132 - 133، والبحر الرائق شرح كنز
الدقائق لابن نجيم 1 / 219 - 220، ومواهب الجليل 1 / 312، والمغني مع الشرح
الكبير 1 / 373، والمهذب للشيرازي 1 / 42، 43.
(2) المغني مع الشرح الكبير 1 / 375.
(3) الموسوعة الفقهية 4 / 295، نهاية المحتاج 1 / 114.
(4) حديث عامر بن ربيعة: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة
مظلمة. أخرجه الترمذي (2 / 176 - ط الحلبي) وضعف إسناده، وذكر ابن كثير في
تفسيره (1 / 278 - ط. دار الأندلس) أسانيده، وقال: " وهذه الأسانيد فيها
ضعف، ولعله يشد بعضها بعضًا ".
(26/193)
الْمُتَحَرِّي - كَمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هِيَ جِهَةُ قَصْدِهِ (1) .
وَالصَّلاَةُ الْوَاحِدَةُ لِجِهَةِ الْقَصْدِ هَذِهِ تُجْزِئُ
الْمُصَلِّيَ وَتُسْقِطُ عَنْهُ الطَّلَبَ لِعَجْزِهِ، وَيَرَى ابْنُ
عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَّ الأَْفْضَل لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ لِكُل جِهَةٍ مِنَ
الْجِهَاتِ الأَْرْبَعِ أَخْذًا بِالأَْحْوَطِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ
شَكُّهُ دَائِرًا بَيْنَهَا أَمَّا إِذَا انْحَصَرَ شَكُّهُ فِي ثَلاَثِ
جِهَاتٍ فَقَطْ مَثَلاً فَإِنَّ الرَّابِعَةَ لاَ يُصَلِّي إِلَيْهَا،
وَقَدِ اخْتَارَ اللَّخْمِيُّ مَا فَضَّلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ،
وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ الأَْوَّل عِنْدَ جُمْهُورِ الْمَالِكِيَّةِ
وَغَيْرِهِمْ (2) .
ب - الشَّكُّ فِي دُخُول الْوَقْتِ:
16 - مَنْ شَكَّ فِي دُخُول الْوَقْتِ لَمْ يُصَل حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى
ظَنِّهِ دُخُولُهُ لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ دُخُولِهِ، فَإِنْ صَلَّى مَعَ
الشَّكِّ فَعَلَيْهِ الإِْعَادَةُ وَإِنْ وَافَقَ الْوَقْتَ، لِعَدَمِ
صِحَّةِ صَلاَتِهِ مِثْلَمَا هُوَ الأَْمْرُ فِيمَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ
الْقِبْلَةُ فَصَلَّى مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ (3) .
__________
(1) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (1 / 101) ، بدائع الصنائع (1 / 118) .
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1 / 227) ، ونهاية المحتاج للرملي (1
/ 419 - 424) ، وبدائع الصنائع 1 / 118.
(3) جواهر الإكليل شرح مختصر خليل 1 / 33، كشاف القناع (بهامشه منتهى
الإرادات) 1 / 177، الإقناع في فقه أحمد بن حنبل 1 / 84، 85 (المطبعة
المصرية بالأزهر سنة 1351 هـ) .
(26/194)
ج - الشَّكُّ فِي الصَّلاَةِ الْفَائِتَةِ:
17 - مَنْ فَاتَتْهُ صَلاَةٌ مِنْ يَوْمٍ مَا، وَلاَ يَدْرِي أَيَّ صَلاَةٍ
هِيَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ صَلاَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ حَتَّى يَخْرُجَ
مِنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ بِيَقِينٍ لاَ بِشَكٍّ (1) .
د - الشَّكُّ فِي رَكْعَةٍ مِنْ رَكَعَاتِ الصَّلاَةِ:
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ شَكَّ فِي صَلاَتِهِ فَلَمْ يَدْرِ
أَوَاحِدَةً صَلَّى أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا؟ وَقَال
مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ وَلاَ يُجْزِئُهُ
التَّحَرِّي، وَرُوِيَ مِثْل ذَلِكَ عَنِ الثَّوْرِيِّ وَالطَّبَرِيِّ،
وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ:
أَوَّلاً: بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ
فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى أَثْلاَثًا أَمْ أَرْبَعًا؟ فَلْيَطْرَحِ
الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ
قَبْل أَنْ يُسَلِّمَ. فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا، شَفَعْنَ لَهُ
صَلاَتَهُ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى إِتْمَامًا لأَِرْبَعٍ كَانَتَا تَرْغِيمًا
لِلشَّيْطَانِ (2) .
وَثَانِيًا: بِالْقَاعِدَتَيْنِ الْفِقْهِيَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ فِي
مَعْنَى الأَْحَادِيثِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا وَغَيْرِهَا مِمَّا يُوجِبُ
الْبِنَاءَ عَلَى الْيَقِينِ (3) . وَهُمَا:
__________
(1) البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم 2 / 87.
(2) حديث: " إذا شك أحدكم في صلاته. . . . " أخرجه مسلم (1 / 400 - ط
الحلبي) .
(3) التمهيد 5 / 25، الفروق 1 / 227، إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك
للونشريسي ص 197.
(26/194)
الْقَاعِدَةُ الأُْولَى: " الْيَقِينُ لاَ
يُزِيلُهُ الشَّكُّ ". وَالثَّانِيَةُ: " وَالشَّكُّ فِي النُّقْصَانِ
كَتَحَقُّقِهِ ".
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ إِذَا كَانَ الشَّكُّ يَحْدُثُ لَهُ لأَِوَّل
مَرَّةٍ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ وَلَمْ يَتَحَرَّ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِل
صَلاَةً جَدِيدَةً.
وَإِنْ كَانَ الشَّكُّ يَعْتَادُهُ وَيَتَكَرَّرُ لَهُ يَبْنِي عَلَى
غَالِبِ ظَنِّهِ بِحُكْمِ التَّحَرِّي وَيَقْعُدُ وَيَتَشَهَّدُ بَعْدَ كُل
رَكْعَةٍ يَظُنُّهَا آخِرَ صَلاَتِهِ لِئَلاَّ يَصِيرَ تَارِكًا فَرْضَ
الْقَعْدَةِ، فَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ ظَنٌّ بَنَى عَلَى الأَْقَل، وَقَال
الثَّوْرِيُّ - فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ - يَتَحَرَّى سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ
أَوَّل مَرَّةٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
وَقَال الأَْوْزَاعِيُّ: يَتَحَرَّى، قَال: وَإِنْ نَامَ فِي صَلاَتِهِ
فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى؟ اسْتَأْنَفَ.
وَقَال اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: إِنْ كَانَ هَذَا شَيْئًا يَلْزَمُهُ وَلاَ
يَزَال يَشُكُّ أَجْزَأَهُ سَجْدَتَا السَّهْوِ عَنِ التَّحَرِّي، وَعَنِ
الْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا يَلْزَمُهُ
اسْتَأْنَفَ تِلْكَ الرَّكْعَةَ بِسَجْدَتَيْهَا.
وَقَال أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: الشَّكُّ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْيَقِينُ
وَالتَّحَرِّي، فَمَنْ رَجَعَ إِلَى الْيَقِينِ أَلْغَى الشَّكَّ وَسَجَدَ
سَجْدَتَيِ السَّهْوِ قَبْل السَّلاَمِ، وَإِذَا رَجَعَ إِلَى التَّحَرِّي
سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلاَمِ (1) . وَدَلِيلُهُ
__________
(1) حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء 2 / 137، التمهيد 5 / 36، ومراقي
الفلاح 259.
(26/195)
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي جَاءَ الشَّيْطَانُ فَلَبَّسَ
عَلَيْهِ حَتَّى لاَ يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ
أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ (1)
وَحُجَّةُ مَنْ قَال بِالتَّحَرِّي فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ حَدِيثُ ابْنِ
مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ
فَلْيَتَحَرَّ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ الصَّوَابُ ثُمَّ - يَعْنِي -
يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ (2) .
الشَّكُّ فِي الزَّكَاةِ:
أ - الشَّكُّ فِي تَأْدِيَتِهَا:
19 - لَوْ شَكَّ رَجُلٌ فِي الزَّكَاةِ فَلَمْ يَدْرِ أَزَكَّى أَمْ لاَ؟
فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا لأَِنَّ الْعُمُرَ كُلَّهُ وَقْتٌ
لأَِدَائِهَا، وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ صَاحِبِ هَذِهِ
الْحَالَةِ وَبَيْنَ مَنْ شَكَّ فِي الصَّلاَةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ
أَصَلَّى أَمْ لاَ؟ حَيْثُ ذَكَرُوا - كَمَا تَقَدَّمَ - إِعْفَاءَهُ مِنَ
الإِْعَادَةِ لأَِنَّهَا مُؤَقَّتَةٌ وَالزَّكَاةُ بِخِلاَفِهَا (3) .
__________
(1) حديث: " إن أحدكم إذا قام يصلي جاء الشيطان. . . . " أخرجه البخاري
(الفتح 3 / 104 - ط السلفية) ومسلم (1 / 398 - ط الحلبي) .
(2) حديث ابن مسعود: " إذا شك أحدكم في صلاته. . . " أخرجه النسائي (3 / 28
- ط المكتبة التجارية) ، وإسناده صحيح.
(3) الفروق للقرافي 1 / 225، وغمز عيون البصائر على الأشباه (1 / 223، 2 /
55) ، ونزهة النواظر على الأشباه والنظائر ص 67، 199.
(26/195)
ب - الشَّكُّ فِي تَأْدِيَةِ كُل
الزَّكَاةِ أَوْ بَعْضِهَا:
20 - ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ أَنَّ حَادِثَةً وَقَعَتْ مُفَادُهَا: أَنَّ
رَجُلاً شَكَّ هَل أَدَّى جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ أَوْ لاَ؟
حَيْثُ كَانَ يُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مُتَفَرِّقًا مِنْ غَيْرِ ضَبْطٍ،
فَتَمَّ إِفْتَاؤُهُ بِلُزُومِ الإِْعَادَةِ حَيْثُ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى
ظَنِّهِ دَفْعُ قَدْرٍ مُعَيَّنٍ، وَهَذَا الْحُكْمُ هُوَ مُقْتَضَى
الْقَوَاعِدِ لأَِنَّ الزَّكَاةَ ثَابِتَةٌ فِي ذِمَّتِهِ بِيَقِينٍ فَلاَ
يَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِالشَّكِّ (1) .
ج - الشَّكُّ فِي مَصْرِفِ الزَّكَاةِ:
21 - إِذَا دَفَعَ الْمُزَكِّي الزَّكَاةَ وَهُوَ شَاكٌّ فِي أَنَّ مَنْ
دُفِعَتْ إِلَيْهِ مَصْرِفٌ مِنْ مَصَارِفِهَا وَلَمْ يَتَحَرَّ، أَوْ
تَحَرَّى وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ أَنَّهُ مَصْرِفٌ، فَهُوَ عَلَى الْفَسَادِ
إِلاَّ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مَصْرِفٌ (2) . بِخِلاَفِ مَا إِذَا
دُفِعَتْ بِاجْتِهَادٍ وَتَحَرٍّ لِغَيْرِ مُسْتَحِقٍّ فِي الْوَاقِعِ
كَالْغَنِيِّ وَالْكَافِرِ (3) . فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحِ زَكَاةٌ (ف 188 - 189 ج 23 233) .
__________
(1) المصادر السابقة والحموي 1 / 210، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق 2 /
228.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 501، 502، والفتاوى الهندية 1 /
190، المطبعة الأميرية. مصر سنة 1310 هـ، بدائع الصنائع 2 / 50.
(3) المصادر السابقة، والتاج والإكليل 2 / 359، ومواهب الجليل 2 / 359.
(26/196)
الشَّكُّ فِي الصِّيَامِ:
أ - الشَّكُّ فِي دُخُول رَمَضَانَ:
22 - إِذَا شَكَّ الْمُسْلِمُ فِي دُخُول رَمَضَانَ فِي الْيَوْمِ
الْمُوَالِي لِيَوْمِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ يَبْنِي عَلَيْهِ مِثْل
أَنْ يَكُونَ لَيْلَةَ الثَّلاَثِينَ مِنْ شَعْبَانَ وَلَمْ يَحُل دُونَ
رُؤْيَةِ الْهِلاَل سُحُبٌ وَلاَ غُيُومٌ وَمَعَ ذَلِكَ عَزَمَ أَنْ
يَصُومَ غَدًا بِاعْتِبَارِهِ أَوَّل يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ تَصِحَّ
نِيَّتُهُ وَلاَ يُجْزِئُهُ صِيَامُ ذَلِكَ الْيَوْمِ لأَِنَّ النِّيَّةَ
قَصْدٌ تَابِعٌ لِلْعِلْمِ الْحَاصِل بِطُرُقِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَحَيْثُ
انْتَفَى ذَلِكَ فَلاَ يَصِحُّ قَصْدُهُ وَهُوَ رَأْيُ حَمَّادٍ
وَرَبِيعَةَ وَمَالِكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ الْمُنْذِرِ لأَِنَّ
الصَّائِمَ لَمْ يَجْزِمِ النِّيَّةَ بِصَوْمِهِ مِنْ رَمَضَانَ فَلَمْ
يَصِحَّ كَمَا لَوْ لَمْ يَعْلَمْ إِلاَّ بَعْدَ خُرُوجِهِ. وَكَذَلِكَ
لَوْ بَنَى عَلَى قَوْل الْمُنَجِّمِينَ وَأَهْل الْمَعْرِفَةِ
بِالْحِسَابِ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ وَإِنْ كَثُرَتْ إِصَابَتُهُمْ
لأَِنَّهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَجُوزُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ فَكَانَ
وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. وَقَال الثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ: يَصِحُّ
إِذَا نَوَاهُ مِنَ اللَّيْل - وَكَانَ الأَْمْرُ كَمَا قَصَدَ - لأَِنَّهُ
نَوَى الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْل فَصَحَّ كَالْيَوْمِ الثَّانِي - وَرُوِيَ
عَنِ الشَّافِعِيِّ مَا يُوَافِقُ الْمَذْهَبَيْنِ (1) .
ب الشَّكُّ فِي دُخُول شَوَّالٍ:
23 - تَصِحُّ النِّيَّةُ لَيْلَةَ الثَّلاَثِينَ مِنْ رَمَضَانَ
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 3 / 24، 25. وحلية العلماء في معرفة مذاهب
الفقهاء 4 / 148، ونهاية المحتاج 3 / 159، ونيل الأوطار 4 / 192، 193.
(26/196)
رَغْمَ أَنَّ هُنَاكَ احْتِمَالاً فِي أَنْ
يَكُونَ مِنْ شَوَّالٍ، لأَِنَّ الأَْصْل بَقَاءُ رَمَضَانَ وَقَدْ
أُمِرْنَا بِصَوْمِهِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لَكِنْ إِذَا قَال
الْمُكَلَّفُ: إِنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَأَنَا صَائِمٌ وَإِنْ
كَانَ مِنْ شَوَّالٍ فَأَنَا مُفْطِرٌ فَلاَ يَصِحُّ صَوْمُهُ عَلَى رَأْيِ
بَعْضِهِمْ لأَِنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِنِيَّةِ الصِّيَامِ وَالنِّيَّةُ
قَصْدٌ جَازِمٌ، وَقِيل: تَصِحُّ نِيَّتُهُ لأَِنَّ هَذَا شَرْطٌ وَاقِعٌ
وَالأَْصْل بَقَاءُ رَمَضَانَ (1) .
ج - الشَّكُّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ:
24 - إِذَا شَكَّ الصَّائِمُ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ فَالْمُسْتَحَبُّ
أَلاَّ يَأْكُل لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ الْفَجْرُ قَدْ طَلَعَ، فَيَكُونُ
الأَْكْل إِفْسَادًا لِلصَّوْمِ وَلِذَلِكَ كَانَ مَدْعُوًّا لِلأَْخْذِ
بِالأَْحْوَطِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْ مَا
يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ (2) . وَلَوْ أَكَل وَهُوَ شَاكٌّ،
فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ فَسَادَ الصَّوْمِ مَحَل شَكٍّ وَالأَْصْل
اسْتِصْحَابُ اللَّيْل حَتَّى يَثْبُتَ النَّهَارُ وَهَذَا لاَ يَثْبُتُ
بِالشَّكِّ (3) .
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 3 / 25، 26، وحلية العلماء في معرفة مذاهب
الفقهاء 3 / 149، ونهاية المحتاج 3 / 159.
(2) حديث: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " أخرجه الترمذي (4 / 668 - ط.
الحلبي) ، والحاكم (4 / 99 - ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث الحسن بن
علي. وقال الذهبي: " سنده قوي ".
(3) بدائع الصنائع 2 / 105، ونهاية المحتاج 3 / 171، والإقناع في فقه
الإمام أحمد 1 / 316 - دار المعرفة لبنان.
(26/197)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ أَكَل
شَاكًّا فِي الْفَجْرِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مَعَ الْحُرْمَةِ رَغْمَ
أَنَّ الأَْصْل بَقَاءُ اللَّيْل، هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِصَوْمِ الْفَرْضِ،
أَمَّا صَوْمُ النَّفْل فَقَدْ سَوَّى بَعْضُهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْفَرْضِ فِي الْقَضَاءِ وَالْحُرْمَةِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا جَمَاعَةٌ
فِي الْحُرْمَةِ حَيْثُ قَالُوا بِالْكَرَاهِيَةِ (1) .
د - الشَّكُّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ:
25 - لَوْ شَكَّ الصَّائِمُ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ لاَ يَصِحُّ لَهُ أَنْ
يُفْطِرَ مَعَ الشَّكِّ لأَِنَّ الأَْصْل بَقَاءُ النَّهَارِ، وَلَوْ
أَفْطَرَ عَلَى شَكِّهِ دُونَ أَنْ يَتَبَيَّنَ الْحَال بَعْدَ ذَلِكَ
فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ اتِّفَاقًا (2) . وَالْحُرْمَةُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا
كَذَلِكَ.
وَعَدَمُ الْكَفَّارَةِ فِي الأَْكْل مَعَ الشَّكِّ فِي الْفَجْرِ
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، أَمَّا الأَْكْل مَعَ الشَّكِّ فِي الْغُرُوبِ
فَمُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ، وَالْمَشْهُورُ عَدَمُهَا،
فَإِنْ أَفْطَرَ مُعْتَقِدًا بَقَاءَ اللَّيْل أَوْ حُصُول الْغُرُوبِ
ثُمَّ طَرَأَ الشَّكُّ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِلاَ حُرْمَةٍ (3) .
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 526، وما بعدها، وحلية العلماء في
معرفة مذاهب الفقهاء 3 / 161.
(2) بدائع الصنائع 2 / 105، وحاشية الدسوقي 1 / 526، وما بعدها، ونهاية
المحتاج 3 / 171، والإقناع في فقه الإمام أحمد 1 / 312، 315، وحلية العلماء
3 / 161.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 526، وما بعدها، وحلية العلماء 3 /
161.
(26/197)
الشَّكُّ فِي الْحَجِّ:
أ - الشَّكُّ فِي نَوْعِ الإِْحْرَامِ:
26 - إِذَا شَكَّ الْحَاجُّ هَل أَحْرَمَ بِالإِْفْرَادِ أَوْ
بِالتَّمَتُّعِ أَوْ بِالْقِرَانِ وَكُل ذَلِكَ قَبْل الطَّوَافِ فَعِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ يَصْرِفُهُ إِلَى الْقِرَانِ لِجَمْعِهِ بَيْنَ
النُّسُكَيْنِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَهُ صَرْفُهُ إِلَى أَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ
الإِْحْرَامِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ جَعْلُهُ
عُمْرَةً عَلَى سَبِيل الاِسْتِحْبَابِ، وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي
الْقَدِيمِ: يَتَحَرَّى فَيَبْنِي عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ لأَِنَّهُ مِنْ
شَرَائِطِ الْعِبَادَةِ فَيَدْخُلُهُ التَّحَرِّي كَالْقِبْلَةِ.
وَسَبَبُ الْخِلاَفِ مَوَاقِفُ الأَْئِمَّةِ مِنْ فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى
الْعُمْرَةِ، فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ
عِنْدَ غَيْرِهِمْ (1) .
وَأَمَّا إِنْ شَكَّ بَعْدَ الطَّوَافِ فَإِنَّ صَرْفَهُ لاَ يَجُوزُ
إِلاَّ إِلَى الْعُمْرَةِ لأَِنَّ إِدْخَال الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ
بَعْدَ الطَّوَافِ مَعَ رَكْعَتَيْهِ غَيْرُ جَائِزٍ (2) .
ب - الشَّكُّ فِي دُخُول ذِي الْحِجَّةِ:
27 - لَوْ شَكَّ النَّاسُ فِي هِلاَل ذِي الْحِجَّةِ
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 3 / 254، 255، التاج والإكليل (بهامش مواهب
الجليل) 3 / 47، مواهب الجليل 3 / 47، جواهر الإكليل 1 / 171، المهذب
للشيرازي 1 / 205، 206، نيل الأوطار 4 / 324.
(2) المصادر السابقة.
(26/198)
فَوَقَفُوا بِعَرَفَةَ إِنْ أَكْمَلُوا
عِدَّةَ ذِي الْقِعْدَةِ ثَلاَثِينَ يَوْمًا ثُمَّ شَهِدَ الشُّهُودُ
أَنَّهُمْ رَأَوْا الْهِلاَل لَيْلَةَ كَذَا، وَتَبَيَّنَ أَنْ يَوْمَ
وُقُوفِهِمْ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ فَوُقُوفُهُمْ صَحِيحٌ وَحَجَّتُهُمْ
تَامَّةٌ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ (1) .
وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَال:
الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالأَْضْحَى
يَوْمَ تُضَحُّونَ (2) .
وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ الْمُتَمَثِّل فِي
صِحَّةِ الْوُقُوفِ كَانَ اسْتِحْسَانًا لاَ قِيَاسًا (3) . أَمَّا إِذَا
تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ وَقَفُوا فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ فَلاَ يُجْزِيهِمْ
وُقُوفُهُمْ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ
وَاللَّيْثِ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ: أَنَّ الَّذِينَ وَقَفُوا يَوْمَ
النَّحْرِ فَعَلُوا مَا تَعَبَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ
نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِكْمَال الْعِدَّةِ
دُونَ اجْتِهَادٍ بِخِلاَفِ الَّذِينَ وَقَفُوا فِي الثَّامِنِ فَإِنَّ
ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِمْ وَقَبُولِهِمْ شَهَادَةَ مَنْ لاَ يُوثَقُ بِهِ
(4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 126، بلغة السالك لأقرب المسالك للدردير 1 / 259،
نهاية المحتاج 3 / 290، المغني مع الشرح الكبير 3 / 370.
(2) حديث: " الصوم يوم تصومون " أخرجه الترمذي (3 / 71 - ط الحلبي) من حديث
أبي هريرة، وقال: " حديث حسن غريب ".
(3) بدائع الصنائع 2 / 126.
(4) مواهب الجليل مع التاج والإكليل 3 / 95.
(26/198)
ج - الشَّكُّ فِي الطَّوَافِ:
28 - إِذَا شَكَّ الْحَاجُّ فِي عَدَدِ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ بَنَى عَلَى
الْيَقِينِ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَعَلَى هَذَا أَجْمَعَ كُل مَنْ
نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ مَتَى شَكَّ
فِيهَا وَهُوَ فِيهَا بَنَى عَلَى الْيَقِينِ كَالصَّلاَةِ (1) . وَلأَِنَّ
الشَّكَّ فِي النُّقْصَانِ كَتَحَقُّقِهِ (2) . وَإِنْ أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ
بَعْدَ طَوَافِهِ رَجَعَ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ عَدْلاً، وَإِنْ شَكَّ فِي
ذَلِكَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الطَّوَافِ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ كَمَا
لَوْ شَكَّ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلاَةِ (3)
.
وَفِي الْمُوَطَّأِ: مَنْ شَكَّ فِي طَوَافِهِ بَعْدَ مَا رَكَعَ
رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ فَلْيُعِدْ لِيَتِمَّ طَوَافُهُ عَلَى الْيَقِينِ
ثُمَّ لِيُعِدَ الرَّكْعَتَيْنِ لأَِنَّهُ لاَ صَلاَةَ لِطَوَافٍ إِلاَّ
بَعْدَ إِكْمَال السَّبْعِ (4) . وَإِذَا شَكَّ فِي الطَّهَارَةِ وَهُوَ
فِي الطَّوَافِ لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ ذَلِكَ لأَِنَّهُ شَكَّ فِي شَرْطِ
الْعِبَادَةِ قَبْل الْفَرَاغِ مِنْهَا فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَكَّ فِي
الطَّهَارَةِ أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ (5) .
الشَّكُّ فِي الذَّبَائِحِ:
29 - مَنِ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْمُذَكَّاةُ بِالْمَيْتَةِ حَرُمَتَا
مَعًا لِحُصُول سَبَبِ التَّحْرِيمِ الَّذِي هُوَ
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 3 / 398.
(2) إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك ص 197. المطبعة المغربية.
(3) المغني مع الشرح الكبير 3 / 398.
(4) المنتقى للباجي 2 / 289.
(5) حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء 3 / 280، المغني مع الشرح الكبير
3 / 398.
(26/199)
الشَّكُّ (1) . وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى
الْمُسْلِمُ طَرِيدَةً بِآلَةِ صَيْدٍ فَسَقَطَتْ فِي مَاءٍ وَمَاتَتْ
وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ أَمْرُهَا، فَلاَ تُؤْكَل لِلشَّكِّ فِي الْمُبِيحِ
(2) . وَلَوْ وُجِدَتْ شَاةٌ مَذْبُوحَةٌ بِبَلَدٍ فِيهِ مَنْ تَحِل
ذَبِيحَتُهُ وَمَنْ لاَ تَحِل ذَبِيحَتُهُ وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي
ذَابِحِهَا لاَ تَحِل إِلاَّ إِذَا غَلَبَ عَلَى أَهْل الْبَلَدِ مَنْ
تَحِل ذَبِيحَتُهُمْ (3) .
الشَّكُّ فِي الطَّلاَقِ:
30 - شَكُّ الزَّوْجِ فِي الطَّلاَقِ لاَ يَخْلُو مِنْ ثَلاَثِ حَالاَتٍ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ فِي وُقُوعِ أَصْل
التَّطْلِيقِ، أَيْ شَكَّ هَل طَلَّقَهَا أَمْ لاَ؟ فَلاَ يَقَعُ
الطَّلاَقُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِإِجْمَاعِ الأُْمَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا
لِذَلِكَ بِأَنَّ النِّكَاحَ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ فَلاَ يَزُول بِالشَّكِّ
(4) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (5) }
.
__________
(1) الفروق 1 / 226.
(2) بلغة السالك لأقرب المسالك للصاوي 1 / 295، المكتبة التجارية الكبرى -
بمصر 1223 هـ. ومواهب الجليل للحطاب 3 / 217.
(3) نهاية المحتاج 8 / 107، وغمز عيون البصائر على الأشباه والنظائر 1 /
193.
(4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 401، الفروق 1 / 126، قواعد
المقري: القاعدة رقم (650) ، المهذب 2 / 100، مغني المحتاج إلى معرفة معاني
المنهاج 3 / 281، بدائع الصنائع 3 / 126، المغني مع الشرح الكبير 8 / 423،
والقوانين الفقهية لابن جزي ص 153. دار القلم. بيروت.
(5) سورة الإسراء / 36.
(26/199)
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقَعَ
الشَّكُّ فِي عَدَدِ الطَّلاَقِ - مَعَ تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ - هَل
طَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا؟ لَمْ تَحِل لَهُ -
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ
الشَّافِعِيَّةِ - إِلاَّ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ لاِحْتِمَال كَوْنِهِ
ثَلاَثًا (1) . عَمَلاً بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: دَعْ
مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ (2) وَيُحْكَمُ بِالأَْقَل عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، فَإِذَا رَاجَعَهَا حَلَّتْ
لَهُ عَلَى رَأْيِ هَؤُلاَءِ (3) .
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقَعَ الشَّكُّ فِي صِفَةِ الطَّلاَقِ
كَأَنْ يَتَرَدَّدَ مَثَلاً فِي كَوْنِهَا بَائِنَةً أَوْ رَجْعِيَّةً،
وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُحْكَمُ بِالرَّجْعِيَّةِ لأَِنَّهَا أَضْعَفُ
الطَّلاَقَيْنِ فَكَانَ مُتَيَقِّنًا بِهَا (4) .
وَذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ - فِي هَذَا الْمَعْنَى - أَنَّ الرَّجُل لَوْ
قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَقْبَحَ طَلاَقٍ فَهُوَ رَجْعِيٌّ
عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لأَِنَّ قَوْلَهُ: أَقْبَحَ طَلاَقٍ يَحْتَمِل
الْقُبْحَ الشَّرْعِيَّ وَهُوَ الْكَرَاهِيَةُ الشَّرْعِيَّةُ، وَيَحْتَمِل
الْقُبْحَ الطَّبِيعِيَّ وَهُوَ الْكَرَاهِيَةُ الطَّبِيعِيَّةُ،
وَالْمُرَادُ بِهَا أَنْ يُطَلِّقَهَا
__________
(1) المدونة الكبرى 3 / 13، الشرح الكبير بحاشية الدسوقي 2 / 402، الفروق 1
/ 626، القوانين الفقهية ص 153، المغني 8 / 424.
(2) حديث: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " سبق تخريجه ف / 24.
(3) البدائع 3 / 126، مغني المحتاج 3 / 281، المغني مع الشرح الكبير 8 /
424.
(4) بدائع الصنائع 3 / 126.
(26/200)
فِي وَقْتٍ يُكْرَهُ الطَّلاَقُ فِيهِ
طَبْعًا، فَلاَ تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ فِيهِ بِالشَّكِّ، وَهُوَ بَائِنٌ
عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ لأَِنَّ الْمُطَلِّقَ
قَدْ وَصَفَ الطَّلاَقَ بِالْقُبْحِ، وَالطَّلاَقُ الْقَبِيحُ هُوَ
الطَّلاَقُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ الْبَائِنُ، وَلِذَلِكَ يَقَعُ
بَائِنًا (1) .
الشَّكُّ فِي الرَّضَاعِ:
31 - الاِحْتِيَاطُ لِنَفْيِ الرِّيبَةِ فِي الأَْبْضَاعِ مُتَأَكِّدٌ
وَيَزْدَادُ الأَْمْرُ تَأْكِيدًا إِذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِالْمَحَارِمِ
(2) .
فَلَوْ شَكَّ فِي وُجُودِ الرَّضَاعِ أَوْ فِي عَدَدِهِ بَنَى عَلَى
الْيَقِينِ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الرَّضَاعِ فِي الصُّورَةِ الأُْولَى
وَعَدَمُ حُصُول الْمِقْدَارِ الْمُحَرِّمِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ
إِلاَّ أَنَّهَا تَكُونُ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَتَرْكُهَا أَوْلَى لِقَوْلِهِ
- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: مَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ
اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ (3) .
وَيَرَى الْقَرَافِيُّ أَنَّ الشَّكَّ فِيمَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا
الْمَوْضُوعِ وَمَا نَاظَرَهُ قَدْ يُعَدُّ - فِي بَعْضِ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 124.
(2) نهاية المحتاج 7 / 167، كشاف القناع عن متن الإقناع 3 / 293، الإقناع
في فقه أحمد 4 / 133، البحر الرائق شرح كنز الدقائق 3 / 238، والقوانين
الفقهية ص 225، 226.
(3) حديث: " من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " أخرجه البخاري
(الفتح 1 / 126 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1220 - ط الحلبي) من حديث النعمان
بن بشير.
(26/200)
الْحَالاَتِ - مِنَ الأَْسْبَابِ الَّتِي
تَدْعُو إِلَى الْحُكْمِ بِالتَّحْرِيمِ، مِنْ ذَلِكَ مَثَلاً مَا لَوْ
شَكَّ الرَّجُل فِي أَجْنَبِيَّةٍ وَأُخْتِهِ مِنَ الرَّضَاعِ حَرُمَتَا
عَلَيْهِ مَعًا (1) .
الشَّكُّ فِي الْيَمِينِ
32 - إِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ فِي أَصْل الْيَمِينِ هَل وَقَعَتْ أَوْ
لاَ: كَشَكِّهِ فِي وُقُوعِ الْحَلِفِ أَوِ الْحَلِفِ وَالْحِنْثِ، فَلاَ
شَيْءَ عَلَى الشَّاكِّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لأَِنَّ الأَْصْل بَرَاءَةُ
الذِّمَّةِ وَالْيَقِينُ لاَ يَزُول بِالشَّكِّ (2) .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ فِي الْمَحْلُوفِ بِهِ كَمَا إِذَا حَلَفَ
وَحَنِثَ، وَشَكَّ هَل حَلَفَ بِطَلاَقٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ مَشْيٍ إِلَى
بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ صَدَقَةٍ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ وَمَا مَاثَلَهَا - عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - طَلاَقُ نِسَائِهِ
وَعِتْقُ رَقِيقِهِ وَالْمَشْيُ إِلَى مَكَّةَ وَالتَّصَدُّقُ بِثُلُثِ
مَالِهِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى وَجْهِ الإِْفْتَاءِ لاَ
عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ إِذِ الْحَالِفُ - فِي رَأْيِهِمْ - يُؤْمَرُ
بِإِنْفَاذِ الأَْيْمَانِ الْمَشْكُوكِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ (3) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الشَّاكَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لاَ
__________
(1) الفروق 1 / 225، 226، وإيضاح المسالك ص 193، وانظر أيضًا: الموسوعة
الفقهية (رضاع) .
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير مع تقريرات الشيخ عليش (2 / 40 وما
بعدها) .
(3) المصدر السابق، والمدونة الكبرى 3 / 14، دار صادر، بيروت.
(26/201)
شَيْءَ عَلَيْهِ لأَِنَّ الطَّلاَقَ
وَالْعَتَاقَ لاَ يَقَعَانِ بِالشَّكِّ؛ وَلأَِنَّ الْكَفَّارَةَ
الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى الْحَلِفِ بِاللَّهِ لاَ تَجِبُ مَعَ الشَّكِّ
أَيْضًا إِذِ الأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ (1) .
وَيُضِيفُونَ إِلَى هَذَا الْحَلِفَ إِذَا كَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ
مَعْلُومٍ مَعَ الشَّكِّ فِي الْقَسَمِ هَل كَانَ بِاللَّهِ إِذَا
تَحَقَّقَ الشَّرْطُ وَكَانَ الْحَالِفُ مُسْلِمًا؛ لأَِنَّ الْحَلِفَ
بِالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَيَجِبُ حَمْل الْمُسْلِمِ
عَلَى الإِْتْيَانِ بِالْمَشْرُوعِ دُونَ الْمَحْظُورِ (2) .
الشَّكُّ فِي النَّذْرِ:
33 - لَوْ شَكَّ النَّاذِرُ فِي نَوْعِ الْمَنْذُورِ هَل هُوَ صَلاَةٌ أَوْ
صِيَامٌ أَوْ صَدَقَةٌ أَوْ عِتْقٌ؟ تَلْزَمُهُ - عِنْدَ جُمْهُورِ
الأَْئِمَّةِ - كَفَّارَةُ يَمِينٍ، لأَِنَّ الشَّكَّ فِي الْمَنْذُورِ
كَعَدَمِ تَسْمِيَتِهِ (3) .
الشَّكُّ فِي الْوَصِيَّةِ:
34 - قَال أَبُو حَنِيفَةَ - فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ
مُسَمًّى وَأَخْبَرَ أَنَّ ثُلُثَ مَالِهِ أَلْفٌ مَثَلاً فَإِذَا ثُلُثُ
مَالِهِ أَكْثَرُ مِمَّا ذُكِرَ -: إِنَّ لَهُ
__________
(1) غمز عيون البصائر على الأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 211، ونزهة
النواظر لابن عابدين على الأشباه والنظائر ص 68.
(2) غمز عيون البصائر على الأشباه والنظائر 1 / 211.
(3) غمز عيون البصائر على الأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 211، نزهة
النواظر على الأشباه والنظائر ص 68، حاشية العدوي على شرح أبي الحسن لرسالة
ابن أبي زيد 2 / 26 دار المعرفة. بيروت.
(26/201)
الثُّلُثَ مِنْ جَمِيعِ الْمَال
وَالتَّسْمِيَةُ الَّتِي سَمَّى بَاطِلَةٌ لأَِنَّهَا خَطَأٌ. وَالْخَطَأُ
لاَ يَنْقُضُ الْوَصِيَّةَ وَلاَ يَكُونُ رُجُوعًا فِيهَا، وَوَافَقَهُ
أَبُو يُوسُفَ فِي هَذَا الرَّأْيِ لأَِنَّهُ لَمَّا أَوْصَى بِثُلُثِ
مَالِهِ فَقَدْ أَتَى بِوَصِيَّةٍ صَحِيحَةٍ حَيْثُ إِنَّ صِحَّتَهَا لاَ
تَتَوَقَّفُ عَلَى بَيَانِ الْمِقْدَارِ الْمُوصَى بِهِ فَتَقَعُ
الْوَصِيَّةُ صَحِيحَةً بِدُونِهِ (1) .
الشَّكُّ فِي الدَّعْوَى، أَوْ مَحَلِّهَا، أَوْ مَحَل الشَّهَادَةِ:
35 - أ - لَوِ ادَّعَى شَخْصٌ دَيْنًا عَلَى آخَرَ وَشَكَّ الْمَدِينُ فِي
قَدْرِهِ يَنْبَغِي لُزُومُ إِخْرَاجِ الْقَدْرِ الْمُتَيَقَّنِ. قَال
الْحَمَوِيُّ: قِيل: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى سَبِيل الْوُجُوبِ
وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيل التَّوَرُّعِ وَالأَْخْذِ بِالأَْحْوَطِ
لأَِنَّ الأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ (2) .
وَالْمُرَادُ بِالْقَدْرِ الْمُتَيَقَّنِ - فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَمَا
مَاثَلَهَا - هُوَ أَكْثَرُ الْمَبْلَغَيْنِ: فَإِذَا كَانَ الشَّكُّ
دَائِرًا بَيْنَ عَشَرَةٍ وَخَمْسَةٍ فَالْمُتَيَقَّنُ الْعَشَرَةُ
لِدُخُول الْخَمْسَةِ فِيهَا، وَبِهَذَا الاِعْتِبَارِ يَكُونُ الأَْكْثَرُ
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الأَْقَل مُتَيَقَّنًا دَائِمًا رَغْمَ وُقُوعِ
الشَّكِّ فِيهِمَا (3) .
وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ الْمَدِينَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ
عَلَيْهِ أَنْ يُرْضِيَ خَصْمَهُ وَلاَ يَحْلِفَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 381.
(2) الحموي على الأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 210.
(3) بدائع الصنائع 7 / 381.
(26/202)
خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ فِي الْحَرَامِ،
وَإِنْ أَصَرَّ خَصْمُهُ عَلَى إِحْلاَفِهِ حَلَفَ إِنْ كَانَ أَكْبَرُ
ظَنِّهِ أَنَّهُ مُبْطِلٌ، أَمَّا إِذَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ أَنَّ صَاحِبَ
الدَّعْوَى مُحِقٌّ فَإِنَّهُ لاَ يَحْلِفُ (1) .
ب - لَوِ اشْتَرَى أَحَدٌ حَيَوَانًا أَوْ مَتَاعًا ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ
بِهِ عَيْبًا وَأَرَادَ رَدَّهُ وَاخْتَلَفَ أَهْل الْخِبْرَةِ فَقَال
بَعْضُهُمْ: هُوَ عَيْبٌ وَقَال بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِعَيْبٍ، فَلَيْسَ
لِلْمُشْتَرِي الرَّدُّ لأَِنَّ السَّلاَمَةَ هِيَ الأَْصْل الْمُتَيَقَّنُ
فَلاَ يَثْبُتُ الْعَيْبُ بِالشَّكِّ (2) .
ج - لَوِ ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ عَدَمَ وُصُول النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ
الْمُقَرَّرَتَيْنِ لَهَا فِي مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ فَالْقَوْل لَهَا،
لأَِنَّ الأَْصْل الْمُتَيَقَّنُ بَقَاؤُهَا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ
وَأَمَّا دَعْوَاهُ فَمَشْكُوكٌ فِيهَا وَلاَ يَزُول يَقِينٌ بِشَكٍّ (3) .
د - إِذَا كَانَ إِنْسَانٌ يَعْلَمُ أَنَّ عَلِيًّا مَدِينٌ لِعُمَرَ
بِأَلْفِ دِينَارٍ مَثَلاً فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى
عَلِيٍّ، وَإِنْ خَامَرَهُ الشَّكُّ فِي وَفَائِهَا أَوْ فِي الإِْبْرَاءِ
عَنْهَا إِذْ لاَ عِبْرَةَ بِالشَّكِّ فِي جَانِبِ الْيَقِينِ السَّابِقِ
(4) .
الشَّكُّ فِي الشَّهَادَةِ:
36 - لَوْ قَال الشَّاهِدُ: أَشْهَدُ بِأَنَّ لِفُلاَنٍ عَلَى
__________
(1) الحموي على الأشباه والنظائر 1 / 210.
(2) المصادر السابقة.
(3) الحموي على الأشباه والنظائر 1 / 201.
(4) شرح القواعد الفقهية ص 38.
(26/202)
فُلاَنٍ مِائَةَ دِينَارٍ - مَثَلاً -
فِيمَا أَعْلَمُ أَوْ فِيمَا أَظُنُّ، أَوْ حَسَبَ ظَنِّي لَمْ تُقْبَل
شَهَادَتُهُ لِلشَّكِّ الَّذِي دَاخَلَهَا مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى
لَفْظِهَا؛ لأَِنَّ رُكْنَ الشَّهَادَةِ لَفْظُ أَشْهَدُ لاَ غَيْرُ
لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَالْقَسَمُ وَالإِْخْبَارُ لِلْحَال
فَكَأَنَّهُ يَقُول: أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدِ اطَّلَعْتُ عَلَى ذَلِكَ
وَأَنَا أُخْبِرُ بِهِ، وَمِنْ أَجْل ذَلِكَ تَعَيَّنَ لَفْظُ أَشْهَدُ (1)
.
وَقَدْ بَيَّنَ سَحْنُونٌ - مِنَ الْمَالِكِيَّةِ - أَنَّ الشُّهُودَ لَوْ
شَهِدُوا عَلَى امْرَأَةٍ بِنِكَاحٍ أَوْ إِقْرَارٍ أَوْ إِبْرَاءٍ وَسَأَل
الْخَصْمُ إِدْخَالَهَا فِي نِسَاءٍ لِلتَّعَرُّفِ عَلَيْهَا مِنْ
بَيْنِهِنَّ فَقَالُوا: شَهِدْنَا عَلَيْهَا عَنْ مَعْرِفَتِهَا
بِعَيْنِهَا وَنَسَبِهَا وَلاَ نَدْرِي هَل نَعْرِفُهَا الْيَوْمَ وَقَدْ
تَغَيَّرَتْ حَالُهَا فَلاَ نَتَكَلَّفُ ذَلِكَ، فَلاَ بُدَّ وَالْحَالَةُ
هَذِهِ - مِنَ التَّعَرُّفِ عَلَيْهَا وَإِلاَّ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ
لِلشَّكِّ، أَمَّا لَوْ قَالُوا: نَخَافُ أَنْ تَكُونَ تَغَيَّرَتْ،
فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَال لَهُمْ: إِنْ شَكَكْتُمْ وَقَدْ أَيْقَنْتُمْ
أَنَّهَا ابْنَةُ فُلاَنٍ وَلَيْسَ لِفُلاَنٍ هَذَا إِلاَّ بِنْتٌ
وَاحِدَةٌ مِنْ حِينِ شَهِدُوا عَلَيْهَا إِلَى الْيَوْمِ جَازَتِ
الشَّهَادَةُ - فِي هَذِهِ الْحَالَةِ - وَقُبِلَتْ (2) .
وَمِمَّا تَجْدُرُ الإِْشَارَةُ إِلَيْهِ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَرَوْنَ
أَنَّ الشَّهَادَةَ مَعَ الشَّكِّ تَسْلُبُ صِفَةَ الْعَدَالَةِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 4 / 513.
(2) التاج والإكليل (بهامش مواهب الجليل) 6 / 190.
(26/203)
لِلشَّاهِدِ (1) . وَمِنْ أَجْل ذَلِكَ
وَغَيْرِهِ أَكَّدَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ لاَ
تَثْبُتُ بِالشَّكِّ (2) . وَوَضَعُوا قُيُودًا لِقَبُول شَهَادَةِ
السَّمَاعِ لِلشَّكِّ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُدَاخِلَهَا (3) .
الشَّكُّ فِي النَّسَبِ:
37 - أ - كُل مُطَلَّقَةٍ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فَنَسَبُ وَلَدِهَا
يَثْبُتُ مِنَ الزَّوْجِ إِلاَّ إِذَا عُلِمَ يَقِينًا أَنَّهُ لَيْسَ
مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ تَجِيءَ بِهِ لأَِكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَإِنَّمَا
كَانَ كَذَلِكَ لأَِنَّ الطَّلاَقَ قَبْل الدُّخُول يُوجِبُ انْقِطَاعَ
النِّكَاحِ بِجَمِيعِ عَلاَئِقِهِ فَكَانَ النِّكَاحُ مِنْ كُل وَجْهٍ
زَائِلاً بِيَقِينٍ وَمَا زَال بِيَقِينٍ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِيَقِينٍ
مِثْلِهِ فَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لأَِقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ
يَوْمِ الطَّلاَقِ فَقَدْ تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ وُجِدَ فِي حَال
الْفِرَاشِ وَإِنَّهُ وَطِئَهَا وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ إِذْ لاَ يَحْتَمِل
أَنْ يَكُونَ بِوَطْءٍ بَعْدَ الطَّلاَقِ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تَلِدُ
لأَِقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَكَانَ مِنْ وَطْءٍ وُجِدَ عَلَى فِرَاشِ
الزَّوْجِ وَكَوْنُ الْعُلُوقِ فِي فِرَاشِهِ يُوجِبُ ثُبُوتَ النَّسَبِ
مِنْهُ. فَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ
يَسْتَيْقِنْ بِكَوْنِهِ مَوْلُودًا عَلَى الْفِرَاشِ لاِحْتِمَال أَنْ
يَكُونَ بِوَطْءٍ بَعْدَ الطَّلاَقِ وَالْفِرَاشُ كَانَ زَائِلاً بِيَقِينٍ
فَلاَ يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ (4) .
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 206.
(2) بدائع الصنائع 6 / 233.
(3) راجع مصطلح (شهادة) من الموسوعة الفقهية.
(4) المغني مع الشرح الكبير 6 / 400، ونهاية المحتاج للرملي 8 / 352 (مطبعة
الحلبي بمصر سنة 1357 هـ) .
(26/203)
ب - إِذَا ادَّعَى إِنْسَانٌ نَسَبَ
لَقِيطٍ أُلْحِقَ بِهِ؛ لاِنْفِرَادِهِ بِالدَّعْوَى، فَإِذَا جَاءَ آخَرُ
بَعْدَ ذَلِكَ وَادَّعَاهُ فَلَمْ يَزُل نَسَبُهُ عَنِ الأَْوَّل - رَغْمَ
الشَّكِّ الَّذِي أَحْدَثَتْهُ دَعْوَى الثَّانِي - لأَِنَّهُ حُكِمَ لَهُ
بِهِ فَلاَ يَزُول بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، إِلاَّ إِذَا شَهِدَ
الْقَائِفُونَ بِأَنَّهُ لِلثَّانِي فَالْقَوْل قَوْلُهُمْ لأَِنَّ
الْقِيَافَةَ تُعْتَبَرُ بَيِّنَةً فِي إِلْحَاقِ النَّسَبِ (1) . وَإِذَا
ادَّعَى اللَّقِيطَ اثْنَانِ فَأَلْحَقَهُ الْقَائِفُونَ بِهِمَا صَحَّ
ذَلِكَ شَرْعًا وَكَانَ ابْنَهُمَا يَرِثُهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ
وَيَرِثَانِهِ مِيرَاثَ أَبٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا الرَّأْيُ يُرْوَى عَنْ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ قَوْل أَبِي
ثَوْرٍ (2) .
وَقَال أَصْحَابُ الرَّأْيِ يُلْحَقُ بِهِمَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى
لِلآْثَارِ الْكَثِيرَةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ.
الشَّكُّ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُتَّهَمُ:
38 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ: تُدْرَأُ الْحُدُودُ
بِالشُّبُهَاتِ (3) . وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ - قَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ
__________
(1) نهاية المحتاج للرملي 8 / 352، مطبعة الحلبي بمصر سنة 1357 هـ.
(2) تراجع في: مصطلح نسب من الموسوعة الفقهية، والمغني مع الشرح الكبير 6 /
400.
(3) غمز عيون البصائر على الأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 379، نزهة
النواظر على الأشباه والنظائر ص 142.
(26/204)
الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ
كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ فَإِنَّ الإِْمَامَ أَنْ يُخْطِئَ
فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ (1) ، وَفِي
حَدِيثٍ آخَرَ: ادْفَعُوا الْحُدُودَ مَا وَجَدْتُمْ لَهَا مَدْفَعًا (2)
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا
بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ (3) وَهَذِهِ
الْقَاعِدَةُ تُوجِبُ أَوَّلاً: اعْتِمَادَ الْيَقِينِ - مَا أَمْكَنَ -
فِي نِسْبَةِ الْجَرِيمَةِ إِلَى الْمُتَّهَمِ، وَثَانِيًا: أَنَّ الشَّكَّ
- مَهْمَا كَانَتْ نِسْبَتُهُ وَمَهْمَا كَانَ مَحَلُّهُ وَمَهْمَا كَانَ
طَرِيقُهُ - يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُتَّهَمُ فَيَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ،
يَقُول الشَّاطِبِيُّ: فَإِنَّ الدَّلِيل يَقُومُ - هُنَاكَ - مُفِيدًا
لِلظَّنِّ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِذَا عَارَضَتْهُ
شُبْهَةٌ
__________
(1) حديث عائشة - رضي الله عنها -: " ادرؤوا الحدود عن المسلمين " أخرجه
الترمذي (4 / 33 - ط الحلبي) وضعفه ابن حجر في التلخيص (4 / 56 - ط شركة
الطباعة الفنية) .
(2) حديث: " ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعًا " أخرجه ابن ماجه (2 / 850
- ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2
/ 70 - ط دار الجنان) .
(3) أمر بالعفو وهو التجاوز عن الذنب أي: أسقطوا الحدود فيما بينكم ولا
ترفعوها إلَيَّ؛ فإني متى علمتها أقمتها. (جامع الأصول 4 / 410) ،،هو يدل
على القاعدة المذكورة بالدعوة إلى التخفيف والتجاوز عمومًا. وحديث: "
تعافوا الحدود فيما بينكم " أخرجه أبو داود (4 / 540 - تحقيق عزت عبيد
دعاس) والحاكم (4 / 383 - ط. دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه
الذهبي.
(26/204)
وَإِنْ ضَعُفَتْ - غَلَبَ - حُكْمُهَا
وَدَخَل صَاحِبُهَا فِي مَرْتَبَةِ الْعَفْوِ (1) .
وَثَالِثًا: الْخَطَأُ فِي الْعَفْوِ أَفْضَل شَرْعًا مِنَ الْخَطَأِ فِي
الْعُقُوبَةِ حَيْثُ إِنَّ تَبْرِئَةَ الْمُجْرِمِ فِعْلاً أَحَبُّ إِلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ مُعَاقَبَةِ الْبَرِيءِ. وَهَذَا الْمَبْدَأُ
نَجِدُ تَطْبِيقَاتِهِ مَبْثُوثَةً فِي أَقْضِيَةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ - وَأَقْضِيَةِ التَّابِعِينَ وَفَتَاوَى
الْمُجْتَهِدِينَ، مِنْ ذَلِكَ مَا حَكَمَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي قَضِيَّةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ
شُعْبَةَ وَالِي الْبَصْرَةِ الَّذِي اتُّهِمَ بِالزِّنَا مَعَ امْرَأَةٍ
أَرْمَلَةٍ كَانَ يُحْسِنُ إِلَيْهَا، فَاسْتَدْعَى الْخَلِيفَةُ
الْوَالِيَ وَشُهُودَ التُّهْمَةِ فَشَهِدَ ثَلاَثَةٌ بِرُؤْيَةِ تَنْفِيذِ
الْجَرِيمَةِ، وَلَكِنَّ الشَّاهِدَ الرَّابِعَ الَّذِي يَكْتَمِل بِهِ
النِّصَابُ قَال: لَمْ أَرَ مَا قَال هَؤُلاَءِ بَل رَأَيْتُ رِيبَةً
وَسَمِعْتُ نَفَسًا عَالِيًا، وَلاَ أَعْرِفُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ،
فَأَسْقَطَ عُمَرُ التُّهْمَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ وَحَفِظَ لَهُ
بَرَاءَتَهُ وَطَهَارَتَهُ، وَعَاقَبَ الشُّهُودَ الثَّلاَثَةَ عُقُوبَةَ
الْقَذْفِ (2) .
وَعُمَرُ نَفْسُهُ لَمْ يُقِمْ حَدَّ السَّرِقَةِ عَامَ الرَّمَادَةِ
لأَِنَّهُ جَعَل مِنَ الْمَجَاعَةِ الْعَامَّةِ قَرِينَةً عَلَى
الاِضْطِرَارِ، وَالاِضْطِرَارُ شُبْهَةٌ فِي السَّرِقَةِ تَمْنَعُ
الْحَدَّ عَنِ السَّارِقِ بَل تُبِيحُ لَهُ السَّرِقَةَ فِي حُدُودِ
الضَّرُورَةِ.
__________
(1) الموافقات 1 / 172.
(2) تاريخ الأمم والملوك للطبري 4 / 70 - 71.
(26/205)
وَقَدْ ذَكَرَ الأَْئِمَّةُ أَنَّ مَنْ
أَخَذَ مِنْ مَال أَبِيهِ خُفْيَةً ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ
ذَلِكَ لاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَنْ جَامَعَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلاَثًا
فِي الْعِدَّةِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ يُبَاحُ لَهُ لاَ حَدَّ
عَلَيْهِ أَيْضًا (1) .
وَنُقِل عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْل بِأَنَّ مَا يُعْرَفُ بِشُبْهَةِ
الْعَقْدِ يُدْرَأُ الْحَدُّ بِهَا، فَلاَ حَدَّ - فِي رَأْيِهِ - عَلَى
مَنْ وَطِئَ مُحَرَّمَةً بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ عَالِمًا
بِالْحُرْمَةِ: كَوَطْءِ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا بِلاَ شُهُودٍ مَثَلاً،
وَفِي رَأْيِ الصَّاحِبِينَ عَلَيْهِ الْحَدُّ - إِذَا كَانَ عَالِمًا
بِالْحُرْمَةِ - وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ (2) .
الشَّكُّ لاَ تُنَاطُ بِهِ الرُّخَصُ: أَوِ الرُّخَصُ لاَ تُنَاطُ
بِالشَّكِّ:
39 - هُوَ لَفْظُ قَاعِدَةٍ فِقْهِيَّةٍ ذَكَرَهَا السُّيُوطِيُّ نَقْلاً
عَنْ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ فَرَّعُوا عَلَيْهَا الْفُرُوعَ
التَّالِيَةَ:
أ - وُجُوبُ غَسْل الْقَدَمَيْنِ لِمَنْ شَكَّ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى
الْخُفَّيْنِ أَوْ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ.
ب - مَنْ شَكَّ فِي غَسْل إِحْدَى رِجْلَيْهِ وَأَدْخَلَهُمَا فِي
الْخُفَّيْنِ - مَعَ ذَلِكَ - لاَ يُبَاحُ لَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا.
__________
(1) الحموي على الأشباه والنظائر 1 / 380.
(2) الحموي على الأشباه 1 / 381 - ابن عابدين على الأشباه 143.
(26/205)
ج - وُجُوبُ الإِْتْمَامِ لِمَنْ شَكَّ فِي
جَوَازِ الْقَصْرِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي صُوَرٍ عَدِيدَةٍ
(1)
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي: القاعدة الخامسة عشرة ص 141 - (دار الكتب
العلمية بيروت ط 1 سنة 1403 هـ) .
(26/206)
شَلَلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّلَل لُغَةً: مَصْدَرُ شُل الْعُضْوُ يُشَل شَلَلاً أَيْ أُصِيبَ
بِالشَّلَل أَوْ يَبِسَ فَبَطَلَتْ حَرَكَتُهُ، أَوْ ذَهَبَتْ، وَذَلِكَ
إِذَا فَسَدَتْ عُرُوقُهُ أَوْ ضَعُفَتْ.
وَيُقَال: شُل فُلاَنٌ. وَيُقَال فِي الدُّعَاءِ لِلرَّجُل. لاَ شُلَّتْ
يَمِينُكَ. وَفِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِ: شُلَّتْ يَمِينُهُ، فَهُوَ أَشَل،
وَهِيَ شَلاَّءُ، وَالْجَمْعُ شُلٌّ (1) .
وَالشَّلَل فِي الاِصْطِلاَحِ: فَسَادُ الْعُضْوِ وَذَهَابُ حَرَكَتِهِ،
وَيَكُونُ الْعُضْوُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ فَاسِدَ الْمَنْفَعَةِ (2) .
وَلاَ يُشْتَرَطُ زَوَال الْحِسِّ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنَّمَا الشَّلَل
بُطْلاَنُ الْعَمَل
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشَّلَل:
يَتَعَلَّقُ بِالشَّلَل جُمْلَةُ أَحْكَامٍ:
أ - الْوُضُوءُ:
2 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ خِلاَفًا
لِلْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ لَمْسَ الرَّجُل الْمَرْأَةَ يَنْقُضُ
__________
(1) المعجم الوسيط.
(2) مطالب أولي النهى 6 / 68، والجمل على شرح المنهاج 5 / 35 / 112، وروضة
الطالبين 9 / 193.
(26/206)
الْوُضُوءَ، وَقَدَّرَهُ الْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنْ يَكُونَ اللَّمْسُ لِشَهْوَةٍ. وَكَذَا عِنْدَهُمْ
يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ الْفَرْجِ. وَسَوَّوْا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ
الْعُضْوُ الْمَلْمُوسُ أَوِ الْمَلْمُوسُ بِهِ صَحِيحًا أَوْ أَشَل (1) .
عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حَدَثٌ) .
ب - صَلاَةُ الأَْشَل:
3 - يَأْتِي الْمَرِيضُ أَوِ الْمُصَابُ بِالشَّلَل بِأَرْكَانِ الصَّلاَةِ
الَّتِي يَسْتَطِيعُهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لأَِنَّ الْعَاجِزَ
عَنِ الْفِعْل لاَ يُكَلَّفُ بِهِ. فَإِذَا عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ
يُصَلِّي قَاعِدًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ صَلَّى
قَاعِدًا بِالإِْيمَاءِ. وَيَجْعَل السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ،
فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْقُعُودِ يَسْتَلْقِي وَيُومِئُ إِيمَاءً لأَِنَّ
سُقُوطَ الرُّكْنِ لِمَكَانِ الْعُذْرِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْعُذْرِ.
وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أَنَّهُ قَال: مَرِضْتُ فَعَادَنِي رَسُول اللَّهِ فَقَال: صَل قَائِمًا،
فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ،
تُومِئُ إِيمَاءً (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني 1 / 29، وجواهر الإكليل 1 / 21، القليوبي
وعميرة 1 / 34، وكشاف القناع للبهوتي 1 / 129، وروضة الطالبين 1 / 74، 75.
(2) حديث: " صلي قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا. . . " أخرجه البخاري (الفتح
2 / 587 - ط السلفية) دون قوله: " تومئ إيماء " ولكن ورد حديث جابر
مرفوعًا: " إن استطعت أن تسجد على الأرض فاسجد وإلا فأومئ إيماء واجعل
السجود أخفض من الركوع " أورده الهيثمي في المجمع (2 / 148 - ط القدسي)
وقال: " رواه البزار وأبو يعلى، ورجال البزار رجال الصحيح ".
(26/207)
وَقَال قَاضِيخَانُ: تَسْقُطُ عَنِ
الْمَرِيضِ الْعَاجِزِ عَنِ الإِْيمَاءِ بِالرَّأْسِ (1) . (ر: صَلاَةُ
الْمَرِيضِ) .
ج - الْجِنَايَةُ الَّتِي تُسَبِّبُ الشَّلَل:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الشَّلَل
النَّاشِئِ عَنِ الاِعْتِدَاءِ بِالضَّرْبِ أَوِ الْجُرْحِ حَيْثُ زَالَتِ
الْمَنْفَعَةُ مَعَ بَقَاءِ الْعُضْوِ قَائِمًا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ف
36) .
د - أَخْذُ الْعُضْوِ الصَّحِيحِ بِالأَْشَل:
5 - إِذَا جَنَى جَانٍ صَحِيحُ الْيَدِ عَلَى يَدٍ شَلاَّءَ فَقَطَعَهَا
فَلاَ تُقْطَعُ الصَّحِيحَةُ بِالشَّلاَّءِ وَكَذَا إِذَا كَانَ
الْمَقْطُوعُ رِجْلاً أَوْ لِسَانًا أَشَل لِعَدَمِ التَّمَاثُل وَإِنْ
رَضِيَ الْجَانِي فَتَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ إِلاَّ إِذَا كَانَ
الْمَقْطُوعُ أُذُنًا أَوْ أَنْفًا أَشَل فَتَجِبُ دِيَةُ الْعُضْوِ
كَامِلَةً. لأَِنَّ الْيَدَ أَوِ الرِّجْل الشَّلاَّءَ لاَ نَفْعَ فِيهَا
سِوَى الْجَمَال فَلاَ يُؤْخَذُ بِهَا مَا فِيهِ نَفْعٌ كَالصَّحِيحَةِ (2)
.
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 106، وابن عابدين 1 / 508، وجواهر الإكليل 1 / 57،
والقليوبي وعميرة 1 / 145، 146، 207، والمغني 2 / 148.
(2) ابن عابدين 5 / 357، وجواهر الإكليل 2 / 259 / 31، وقليوبي وعميرة 4 /
117، والمغني 7 / 733.
(26/207)
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (دِيَاتٌ ف 43)
.
هـ - أَخْذُ الْعُضْوِ الأَْشَل بِالصَّحِيحِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُؤْخَذُ الْعُضْوُ الصَّحِيحُ
بِالصَّحِيحِ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ الْعُضْوِ الأَْشَل بِالصَّحِيحِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ
الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ، وَذَلِكَ لَهُ،
وَلاَ شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا، وَأَخَذَ الدِّيَةَ.
وَلاَ تُقْطَعُ إِلاَّ إِنْ قَال أَهْل الْخِبْرَةِ وَالْبَصَرِ: بِأَنَّهُ
يَنْقَطِعُ الدَّمُ بِالْحَسْمِ، أَمَّا إِنْ قَالُوا: إِنَّ الدَّمَ لاَ
يَنْقَطِعُ فَلاَ قِصَاصَ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ، وَتَجِبُ دِيَةُ يَدِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ تُقْطَعُ يَدُ الْجَانِي إِذَا كَانَتْ
شَلاَّءَ بِالْيَدِ الصَّحِيحَةِ، لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ، وَعَلَيْهِ
الْعَقْل أَيِ: الدِّيَةُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَدَا زُفَرَ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ
الشَّلاَّءَ لاَ تُقْطَعُ بِالشَّلاَّءِ؛ لأَِنَّ الشَّلَل عِلَّةٌ،
وَالْعِلَل يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهَا فِي الْبَدَنِ.
وَعَلَّل الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ: بِأَنَّ بَعْضَ الشَّلَل فِي يَدَيْهِمَا
يُوجِبُ اخْتِلاَفَ أَرْشَيْهِمَا، وَذَلِكَ
__________
(1) البدائع 7 / 298، روضة الطالبين 9 / 194، 202، وكشاف القناع 5 / 556 -
557، 5 / 557 - 535، وشرح الزرقاني 8 / 16 - 19.
(26/208)
يُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ، فَلاَ
تُعْرَفُ الْمُمَاثَلَةُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
إِلَى أَنَّهُ تُقْطَعُ الشَّلاَّءُ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ بِشَلاَّءَ
وَلَكِنَّ مَحَلَّهُ إِذَا اسْتَوَيَا فِي الشَّل، أَوْ كَانَ شَلَل
الْجَانِي أَكْثَرَ وَلَمْ يُخَفْ نَزْفُ الدَّمِ، وَإِلاَّ فَلاَ تُقْطَعُ
(1) .
إِلاَّ أَنَّ زُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ قَال: إِنْ كَانَا سَوَاءً
فَفِيهِمَا الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ
أَقَلَّهُمَا شَلَلاً فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ قَطَعَ وَإِنْ شَاءَ
ضَمَّنَهُ الأَْرْشَ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ شَلَلاً، فَلاَ قِصَاصَ
وَلَهُ أَرْشُ يَدِهِ (2) .
وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل ر: الْمَوْسُوعَةُ الْفِقْهِيَّةُ: جِنَايَةٌ
عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ - فِقْرَةُ (15 16 70 - 71) .
و نِكَاحُ الأَْشَل:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ عِنِّينًا
فَلِلزَّوْجَةِ الْخِيَارُ. وَعَلَيْهِ إِنْ كَانَ الشَّل فِي غَيْرِ
عُضْوِ الذَّكَرِ فَلاَ يُعَدُّ مِنْ عُيُوبِ النِّكَاحِ؛ لأَِنَّهُ لاَ
يُفَوِّتُ الاِسْتِمْتَاعَ وَلاَ يُخْشَى تَعَدِّيهِ قَال ابْنُ قُدَامَةَ:
فَلَمْ يُفْسَخْ بِهِ النِّكَاحُ كَالْعَمَى وَالْعَرَجِ؛ وَلأَِنَّ
الْفَسْخَ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِنَصٍّ أَوْ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 33، وكشاف القناع 5 / 557، والبدائع 7 / 303.
(2) البدائع 7 / 303.
(26/208)
إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ وَلاَ شَيْءَ هُنَا
(1) .
وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل فِي مَسْأَلَةِ الْعِنِّينِ رَاجِعْ
مُصْطَلَحَ (عِنِّينٌ وَنِكَاحٌ) .
شِمَالٌ
انْظُرْ: يَمِينٌ
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 3 / 115، وجواهر الإكليل 1 / 299، القليوبي
وعميرة 3 / 261 - 262، المغني 6 / 650 - 651 - 652.
(26/209)
شَمٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّمُّ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ شَمَمْتُهُ أَشَمُّهُ، وَشَمَمْتُهُ
أَشُمُّهُ شَمًّا. وَالشَّمُّ: حِسُّ الأَْنْفِ، وَإِدْرَاكُ الرَّوَائِحِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: تَشَمَّمَ الشَّيْءَ وَاشْتَمَّهُ: أَدْنَاهُ مِنْ
أَنْفِهِ لِيَجْتَذِبَ رَائِحَتَهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَى اللَّفْظِ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِنْكَاهُ:
2 - جَاءَ فِي اللِّسَانِ: اسْتَنْكَهَهُ: شَمَّ رَائِحَةَ فَمِهِ،
وَالاِسْمُ: النَّكْهَةُ. وَنَكَهْتُهُ: شَمَمْتُ رِيحَهُ، وَفِي حَدِيثِ
قِصَّةِ مَاعِزٍ الأَْسْلَمِيِّ: فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهَ (2) :
أَيْ شَمَّ نَكْهَتَهُ وَرَائِحَةَ فَمِهِ (3)
. الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - الشَّمُّ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا وَذَلِكَ فِي حَقِّ
__________
(1) لسان العرب والمعجم الوسيط ومغني المحتاج 4 / 71.
(2) حديث قصة ماعز الأسلمي: " فقام رجل فاستنكهه " أخرجه مسلم (3 / 1322 -
ط الحلبي) من حديث بريدة.
(3) لسان العرب.
(26/209)
الشُّهُودِ الْمَأْمُورِينَ بِالشَّمِّ
لأَِجْل الْخُصُومَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي رَوَائِحِ الْمَشْمُومِ حَيْثُ
يُقْصَدُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ أَوْ يُقْصَدُ مَنْعُ الرَّدِّ إِذَا حَدَثَ
الْعَيْبُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي (1) .
وَكَمَا فِي شَمِّ الشُّهُودِ فَمَ السَّكْرَانِ لِمَعْرِفَةِ رَائِحَةِ
الْخَمْرِ (2) .
وَقَدْ يَكُونُ الشَّمُّ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا كَشَمِّ الطِّيبِ
لِلْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُونَ بِذَلِكَ
(3) .
وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا كَشَمِّ الزُّهُورِ وَالرَّيَاحِينِ الْمُبَاحَةِ
وَالطِّيبِ الْمُبَاحِ. إِلاَّ إِذَا كَانَ طِيبًا تَطَيَّبَتْ بِهِ
امْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ فَيَحْرُمُ تَعَمُّدُ شَمِّهِ. (4) .
شَمُّ الصَّائِمِ الطِّيبَ وَنَحْوَهُ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَدْخَل
الصَّائِمُ إِلَى حَلْقِهِ الْبَخُورَ وَشَمَّ رَائِحَتَهُ أَفْطَرَ
لإِِمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ. وَإِذَا لَمْ يَصِل إِلَى حَلْقِهِ لاَ
يُفْطِرُ. أَمَّا لَوْ شَمَّ هَوَاءً فِيهِ رَائِحَةُ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ
مِمَّا لاَ جِسْمَ لَهُ فَلاَ يُفْطِرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَكَرِهَهُ
الْمَالِكِيَّةُ.
كَمَا يُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ شَمُّ الرَّيَاحِينِ وَنَحْوِهَا
نَهَارًا لِلصَّائِمِ لأَِنَّهُ مِنَ التَّرَفُّهِ وَلِذَلِكَ يُسَنُّ لَهُ
تَرْكُهُ.
__________
(1) المنثور 2 / 87.
(2) المواق بهامش الحطاب 6 / 317.
(3) المغني 3 / 323، والمنثور 2 / 87، والبدائع 2 / 191.
(4) المنثور 2 / 87
(26/210)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ
الطِّيبُ مَسْحُوقًا كُرِهَ شَمُّهُ لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ مِنْ شَمِّهِ
أَنْ يَجْذِبَهُ نَفْسَهُ لِلْحَلْقِ، وَلِذَلِكَ لاَ يُكْرَهُ شَمُّ
الْوَرْدِ وَالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ غَيْرِ الْمَسْحُوقِ (1) .
شَمُّ الْمُحْرِمِ الطِّيبَ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ شَمِّ
الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ. وَلاَ فَرْقَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بَيْنَ
الطِّيبِ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ (2) . وَهُوَ مَذْهَبُ
الْمُدَوَّنَةِ، وَقَال الْبَاجِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَحْرُمُ شَمُّ
الطِّيبِ الْمُؤَنَّثِ (3) .
كَذَلِكَ يُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ شَمُّ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ (4)
، لَكِنْ يُؤْخَذُ مِمَّا جَاءَ فِي الْمُهَذَّبِ وَشَرْحِهِ الْمَجْمُوعِ
أَنَّهُ يَحْرُمُ شَمُّ مَا يُعْتَبَرُ طِيبًا كَالْوَرْدِ وَالْمِسْكِ
وَالْكَافُورِ. وَاخْتُلِفَ فِي الرَّيْحَانِ الْفَارِسِيِّ وَالنَّرْجِسِ
وَالنَّيْلُوفَرِ وَنَحْوِهِ. وَفِيهِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ شَمُّهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِل عَنِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 97، 113، وأسهل المدارك 1 / 419، وجواهر الإكليل 1 /
149، وحاشية الدسوقي 1 / 525، وأسنى المطالب 1 / 422، والجمل على شرح
المنهج 2 / 329، وشرح منتهى الإرادات 1 / 454.
(2) الطيب المذكر هو ما له رائحة ذكية ولا يتعلق أثره بماسه كياسمين وورد
والطيب المؤنث هو ما له رائحة ذكية ويتعلق بماسه تعلقًا شديدًا كالزبد
والمسك والزعفران (منح الجليل 1 / 510) .
(3) ابن عابدين 2 / 201، والبدائع 2 / 191، ومنح الجليل 1 / 510.
(4) الجمل على المنهج 2 / 509.
(26/210)
الْمُحْرِمِ: يَدْخُل الْبُسْتَانَ؟
فَقَال: نَعَمْ وَيَشُمُّ الرَّيْحَانَ؛ وَلأَِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ
لَهَا رَائِحَةٌ إِذَا كَانَتْ رَطْبَةً فَإِذَا جَفَّتْ لَمْ يَكُنْ لَهَا
رَائِحَةٌ.
وَالثَّانِي: لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ يُرَادُ لِلرَّائِحَةِ فَهُوَ
كَالْوَرْدِ وَالزَّعْفَرَانِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا لِلْمُحْرِمِ بِشَمِّ
الرَّيْحَانِ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَكْسَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
وَجَابِرٍ فَرَوَى بِإِسْنَادَيْنِ صَحِيحَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنِ ابْنِ
عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ شَمَّ الرَّيْحَانِ لِلْمُحْرِمِ،
وَالثَّانِي عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَسْأَل عَنِ
الرَّيْحَانِ أَيَشَمُّهُ الْمُحْرِمُ، وَالطِّيبِ وَالدُّهْنِ فَقَال:
لاَ.
وَأَمَّا مَا يُطْلَبُ لِلأَْكْل وَالتَّدَاوِي غَالِبًا كَالْقَرَنْفُل
وَالدَّارَصِينِيَّ وَالْفَوَاكِهِ كَالتُّفَّاحِ وَالْمِشْمِشِ فَيَجُوزُ
أَكْلُهُ وَشَمُّهُ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ.
وَيَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْجُلُوسُ عِنْدَ
الْعَطَّارِ وَفِي مَوْضِعٍ يُبَخَّرُ لأَِنَّ فِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ
مَشَقَّةً وَلأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِتَطَيُّبٍ مَقْصُودٍ وَالْمُسْتَحَبُّ
أَنْ يُتَوَقَّى ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ قُرْبَةٍ
كَالْجُلُوسِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَهِيَ تُجَمَّرُ، فَلاَ يُكْرَهُ ذَلِكَ
لأَِنَّ الْجُلُوسَ عِنْدَهَا قُرْبَةٌ (1) .
وَفَصَّل الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: النَّبَاتُ الَّذِي
__________
(1) الجمل على المنهج 2 / 509، والمجموع 7 / 248 إلى 252.
(26/211)
تُسْتَطَابُ رَائِحَتُهُ عَلَى ثَلاَثَةِ
أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: مَا لاَ يَنْبُتُ لِلطِّيبِ وَلاَ يُتَّخَذُ مِنْهُ كَنَبَاتِ
الصَّحْرَاءِ مِنَ الشِّيحِ وَالْقَيْصُومِ وَالْخُزَامَى وَالْفَوَاكِهِ
كُلِّهَا مِنَ الأُْتْرُجِّ وَالتُّفَّاحِ، وَمَا يُنْبِتُهُ
الآْدَمِيُّونَ لِغَيْرِ قَصْدِ الطِّيبِ كَالْحِنَّاءِ وَالْعُصْفُرِ
فَمُبَاحٌ شَمُّهُ وَلاَ فِدْيَةَ فِيهِ وَلاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا
إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ
أَنْ يَشُمَّ شَيْئًا مِنْ نَبَاتِ الأَْرْضِ.
الثَّانِي: مَا يُنْبِتُهُ الآْدَمِيُّونَ لِلطِّيبِ وَلاَ يُتَّخَذُ
مِنْهُ طِيبٌ كَالرَّيْحَانِ الْفَارِسِيِّ وَالنَّرْجِسِ فَفِيهِ
وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يُبَاحُ بِغَيْرِ فِدْيَةٍ، قَالَهُ عُثْمَانُ بْنُ
عَفَّانَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَإِسْحَاقُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ. وَالآْخَرُ يَحْرُمُ شَمُّهُ، فَإِنْ فَعَل فَعَلَيْهِ
الْفِدْيَةُ، وَهُوَ قَوْل جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي ثَوْرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ لأَِنَّهُ يُتَّخَذُ لِلطِّيبِ فَأَشْبَهَ الْوَرْدَ
وَكَلاَمُ أَحْمَدَ يَحْتَمِل أَنَّهُ يُكْرَهُ وَلاَ يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ.
الثَّالِثُ: مَا يَنْبُتُ لِلطِّيبِ وَيُتَّخَذُ مِنْهُ طِيبٌ كَالْوَرْدِ
وَالْبَنَفْسَجِ فَفِي شَمِّهِ الْفِدْيَةُ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ
أُخْرَى فِي الْوَرْدِ أَنَّهُ لاَ فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِي شَمِّهِ
لأَِنَّهُ زَهْرٌ فَشَمُّهُ كَشَمِّ زَهْرِ سَائِرِ الشَّجَرِ (1) .
__________
(1) المغني 3 / 315 - 316.
(26/211)
الإِْجَارَةُ لِلشَّمِّ:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ
إِجَارَةِ الشَّيْءِ كَالتُّفَّاحِ مَثَلاً لِشَمِّهِ لأَِنَّ الرَّائِحَةَ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَنْفَعَةٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ. وَقَال
الْمَالِكِيَّةُ: لأَِنَّهَا لاَ قِيمَةَ لَهَا شَرْعًا (1) .
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ اسْتِئْجَارَ الْمِسْكِ وَالرَّيَاحِينِ
لِلشَّمِّ لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ مُتَقَوَّمَةٌ.
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ مَا تَتْلَفُ عَيْنُهُ وَمَا لاَ
تَتْلَفُ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ مَا يَبْقَى مِنَ الطِّيبِ
وَالصَّنْدَل وَقِطَعِ الْكَافُورِ وَالنِّدِّ لِتَشُمَّهُ الْمَرْضَى
وَغَيْرُهُمْ مُدَّةً ثُمَّ يَرُدَّهَا، لأَِنَّهَا مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ
فَأَشْبَهَتِ الْوَزْنَ وَالتَّحَلِّي. ثُمَّ قَال: وَلاَ يَصِحُّ
اسْتِئْجَارُ مَا لاَ يَبْقَى مِنَ الرَّيَاحِينِ كَالْوَرْدِ
وَالْبَنَفْسَجِ وَالرَّيْحَانِ الْفَارِسِيِّ وَأَشْبَاهِهِ لِشَمِّهَا،
لأَِنَّهَا تَتْلَفُ عَنْ قُرْبٍ فَأَشْبَهَتِ الْمَطْعُومَاتِ (2) .
الْجِنَايَةُ عَلَى حَاسَّةِ الشَّمِّ:
7 - الْجِنَايَةُ عَلَى حَاسَّةِ الشَّمِّ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَمْدًا
أَوْ خَطَأً. فَإِنْ كَانَ عَمْدًا كَمَنْ شَجَّ إِنْسَانًا فَذَهَبَ
شَمُّهُ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنَ الْجَانِي بِمِثْل مَا فَعَل، فَإِنْ
ذَهَبَ بِذَلِكَ شَمُّهُ فَقَدِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 21، والدسوقي 4 / 20، ومنح الجليل 3 / 776.
(2) أسنى المطالب 2 / 406، والمغني 5 / 548، 549.
(26/212)
اسْتَوْفَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حَقَّهُ،
وَإِنْ لَمْ يَذْهَبِ الشَّمُّ فُعِل بِالْجَانِي مَا يُذْهِبُ الشَّمَّ
بِوَاسِطَةِ أَهْل الْخِبْرَةِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إِذْهَابُ
الشَّمِّ إِلاَّ بِجِنَايَةٍ سَقَطَ الْقَوَدُ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ.
وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَجِبُ الدِّيَةُ لأَِنَّهُ لاَ
يُمْكِنُ أَنْ يُضْرَبَ الْجَانِي ضَرْبًا يَذْهَبُ بِهِ حَاسَّةُ الشَّمِّ
فَلَمْ يَكُنِ اسْتِيفَاءُ الْمِثْل مُمْكِنًا فَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ
وَتَجِبُ الدِّيَةُ. وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
(1) .
وَإِنْ كَانَ إِبْطَال حَاسَّةِ الشَّمِّ نَتِيجَةَ ضَرْبٍ أَوْ جُرْحٍ
وَقَعَ خَطَأً، أَوْ كَانَ الضَّرْبُ عَمْدًا لَكِنْ كَانَ الْجُرْحُ
مِمَّا لاَ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةً إِذَا
كَانَ إِبْطَال الشَّمِّ مِنَ الْمَنْخِرَيْنِ؛ لأَِنَّهُ حَاسَّةٌ
تَخْتَصُّ بِمَنْفَعَةٍ فَكَانَ فِيهَا الدِّيَةُ كَسَائِرِ الْحَوَاسِّ،
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا وَلأَِنَّ فِي
كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: وَفِي الْمَشَامِّ الدِّيَةُ (2) .
__________
(1) البدائع 7 / 309، وشرح الزرقاني 8 / 17، وجواهر الإكليل 2 / 260،
والحطاب 6 / 248، ومغني المحتاج 4 / 29، وروضة الطالبين 9 / 186، وشرح
منتهى الإرادات 3 / 292، وكشاف القناع 5 / 552 - 553.
(2) حديث: " في المشام الدية " ذكره الشربيني في مغني المحتاج (4 / 71 -
نشر دار الفكر) وقال: " غريب " وقال ابن حجر في التلخيص (4 / 29 - ط شركة
الطباعة الفنية) : " لم أجده ".
(26/212)
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ. وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَجِبُ
فِيهِ حُكُومَةٌ لأَِنَّهُ ضَعِيفُ النَّفْعِ.
وَإِذَا زَال الشَّمُّ مِنْ أَحَدِ الْمَنْخِرَيْنِ فَفِيهِ نِصْفُ
الدِّيَةِ. وَإِنْ نَقَصَ الشَّمُّ وَجَبَ بِقِسْطِهِ مِنَ الدِّيَةِ إِذَا
أَمْكَنَ مَعْرِفَتُهُ وَإِلاَّ فَحُكُومَةٌ يُقَدِّرُهَا الْحَاكِمُ
بِالاِجْتِهَادِ (1) .
وَمَنِ ادَّعَى زَوَال الشَّمِّ امْتُحِنَ فِي غَفَلاَتِهِ بِالرَّوَائِحِ
الْحَادَّةِ الطَّيِّبَةِ وَالْمُنْتِنَةِ - فَإِنْ هَشَّ لِلطَّيِّبِ
وَعَبَسَ لِغَيْرِهِ فَالْقَوْل قَوْل الْجَانِي بِيَمِينِهِ لِظُهُورِ
كَذِبِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ.
وَإِنْ لَمْ يَتَأَثَّرْ بِالرَّوَائِحِ الْحَادَّةِ وَلَمْ يَبِنْ مِنْهُ
ذَلِكَ، فَالْقَوْل قَوْل الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ.
زَادَ الشَّافِعِيَّةُ: وَيَحْلُفُ لِظُهُورِ صِدْقِهِ، وَلاَ يُعْرَفُ
إِلاَّ مِنْ قِبَلِهِ.
وَإِنِ ادَّعَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ نَقْصَ شَمِّهِ فَالْقَوْل قَوْلُهُ
مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لأَِنَّهُ لاَ
يُتَوَصَّل إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إِلاَّ مِنْ جِهَتِهِ فَقُبِل قَوْلُهُ
فِيهِ، وَيَجِبُ لَهُ مِنَ الدِّيَةِ مَا تُخْرِجُهُ الْحُكُومَةُ.
وَإِنْ ذَهَبَ شَمُّهُ ثُمَّ عَادَ قَبْل أَخْذِ الدِّيَةِ
__________
(1) البدائع 7 / 312، وابن عابدين 5 / 369 وجواهر الإكليل 2 / 268 - 269،
والقوانين الفقهية ص 345 نشر دار الكتاب العربي، ومغني المحتاج 4 / 71،
والمغني لابن قدامة 8 / 11 - 12.
(26/213)
سَقَطَتْ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَخْذِهَا
رَدَّهَا لأَِنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَهَبَ. وَإِنْ رُجِيَ
عَوْدُ شَمِّهِ إِلَى مُدَّةٍ انْتُظِرَ إِلَيْهَا (1) .
هَذَا إِذَا ذَهَبَ الشَّمُّ وَحْدَهُ.
أَمَّا إِنْ قَطَعَ أَنْفَهُ فَذَهَبَ بِذَلِكَ شَمُّهُ فَعَلَيْهِ
دِيَتَانِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لأَِنَّ
الشَّمَّ فِي غَيْرِ الأَْنْفِ فَلاَ تَدْخُل أَحَدُهُمَا فِي الآْخَرِ (2)
.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فِيهِمَا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فَيَنْدَرِجُ الشَّمُّ
فِي الأَْنْفِ كَالْبَصَرِ مَعَ الْعَيْنِ (3) .
إِثْبَاتُ شُرْبِ الْمُسْكِرِ بِشَمِّ الرَّائِحَةِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِثْبَاتِ الشُّرْبِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ
الْحَدُّ بِشَمِّ رَائِحَةِ الْخَمْرِ فِي فَمِ الشَّارِبِ (4) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (أَشْرِبَةٌ) .
شِنْدَاخٌ
انْظُرْ: إِمْلاَكٌ، دَعْوَةٌ
__________
(1) المغني 8 / 12، ومغني المحتاج 4 / 71، وكشاف القناع 6 / 39.
(2) مغني المحتاج 4 / 62، والمغني 8 / 14، وكشاف القناع 6 / 39.
(3) جواهر الإكليل 2 / 270.
(4) البدائع 7 / 40 - 51، وجواهر الإكليل 2 / 296، وأسهل المدارك 3 / 176،
ومغني المحتاج 4 / 190، والمغني 8 / 39، والمواق 6 / 317.
(26/213)
شَهَادَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الشَّهَادَةِ فِي اللُّغَةِ: الْخَبَرُ الْقَاطِعُ،
وَالْحُضُورُ وَالْمُعَايَنَةُ وَالْعَلاَنِيَةُ، وَالْقَسَمُ،
وَالإِْقْرَارُ، وَكَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، وَالْمَوْتُ فِي سَبِيل اللَّهِ.
يُقَال: شَهِدَ بِكَذَا إِذَا أَخْبَرَ بِهِ وَشَهِدَ كَذَا إِذَا
حَضَرَهُ، أَوْ عَايَنَهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ يُعَدَّى الْفِعْل (شَهِدَ) بِالْهَمْزَةِ، فَيُقَال: أَشْهَدْتُهُ
الشَّيْءَ إِشْهَادًا، أَوْ بِالأَْلِفِ، فَقَال: شَاهَدْتُهُ مُشَاهَدَةً،
مِثْل عَايَنْتُهُ وَزْنًا وَمَعْنًى (1) .
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْحُضُورِ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ
شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (2) } .
قَال الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآْيَةِ: " وَشَهِدَ بِمَعْنَى
حَضَرَ (3) ".
__________
(1) انظر مادة (شهد) في الصحاح، والقاموس، والتاج، واللسان، والمصباح
المنير، ومعجم مقاييس اللغة، ومادة (هشد) في العين 3 / 397 - 398، وتهذيب
اللغة: 6 / 72 - 77، ومادة (دشه) في جمهرة اللغة 2 / 270، والمفردات في
غريب القرآن للأصفهاني.
(2) سورة البقرة / 185.
(3) الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي 2
/ 299 (ط 3 دار القلم بالقاهرة 1387 هـ / 1967 م) وفيه أن الشهر ليس بمفعول
وإنما هو ظرف زمان.
(26/214)
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى
الْمُعَايَنَةِ: قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ
هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ
شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (1) } .
قَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ مَعْنَاهَا: " وَقَوْلُهُ:
{أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} ، يَعْنِي مُشَاهَدَةَ الْبَصَرِ (2) ".
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْقَسَمِ أَوِ الْيَمِينِ: قَوْله
تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ
لَمِنَ الصَّادِقِينَ (3) } .
قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: " الشَّهَادَةُ مَعْنَاهَا الْيَمِينُ هَاهُنَا (4)
".
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْخَبَرِ الْقَاطِعِ: قَوْله تَعَالَى:
{وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا (5) } .
وَاسْتِعْمَالُهَا بِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ.
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الإِْقْرَارِ: قَوْله تَعَالَى: {شَاهِدِينَ
عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ (6) }
__________
(1) سورة الزخرف / 19.
(2) المفردات ص 269.
(3) سورة النور / 6.
(4) اللسان مادة (شهد) .
(5) سورة يوسف / 81.
(6) سورة التوبة / 17.
(26/214)
أَيْ مُقِرِّينَ (1) فَإِنَّ الشَّهَادَةَ
عَلَى النَّفْسِ هِيَ الإِْقْرَارُ.
وَتُطْلَقُ الشَّهَادَةُ أَيْضًا عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ. (وَهِيَ
قَوْلُنَا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) وَتُسَمَّى الْعِبَارَةُ (أَشْهَدُ
أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ) بِالشَّهَادَتَيْنِ.
وَمَعْنَاهُمَا هُنَا مُتَفَرِّعٌ عَنْ مَجْمُوعِ الْمَعْنَيَيْنِ
(الإِْخْبَارُ وَالإِْقْرَارُ) ، فَإِنْ مَعْنَى الشَّهَادَةِ هُنَا هُوَ
الإِْعْلاَمُ وَالْبَيَانُ لأَِمْرٍ قَدْ عُلِمَ وَالإِْقْرَارُ
الاِعْتِرَافُ بِهِ، وَقَدْ نَصَّ ابْنُ الأَْنْبَارِيِّ عَلَى أَنَّ
الْمَعْنَى هُوَ: " أَعْلَمُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. وَأُبَيِّنُ
أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَعْلَمُ وَأُبَيِّنُ أَنَّ مُحَمَّدًا
مُبَلِّغٌ لِلأَْخْبَارِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل (2) " وَسُمِّيَ
النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِالتَّشَهُّدِ، وَهُوَ صِيغَةُ (تَفَعَّل)
مِنَ الشَّهَادَةِ.
وَقَدْ يُطْلَقُ (التَّشَهُّدُ) عَلَى (التَّحِيَّاتِ) الَّتِي تُقْرَأُ
فِي آخِرِ الصَّلاَةِ.
جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ النَّبِيَّ. صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُهُمُ التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ
الْقُرْآنَ (3) .
__________
(1) المفردات (مادة: شهد) : 269.
(2) الزاهر في معاني كلمات الناس أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، تحقيق
الدكتور حاتم الضامن 1 / 125 (ط 1 دار الرشيد) وزارة الثقافة والإعلام في
الجمهورية العراقية 1399 هـ / 1979 م، وانظر: لسان العرب (مادة شهد) وقد
نقل هذا المعنى عن ابن الأنباري.
(3) حديث " ابن مسعود أنه كان يعلمهم التشهد " أخرجه البخاري (الفتح 11 /
56 - ط السلفية) .
(26/215)
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى
الْعَلاَنِيَةِ: قَوْله تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ (1) }
أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَال فِي
مَعْنَى هَذِهِ الآْيَةِ: " السِّرُّ وَالْعَلاَنِيَةُ (2) ".
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْمَوْتِ فِي سَبِيل اللَّهِ: قَوْله
تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ (3) } .
فَهُوَ شَهِيدٌ قَدْ رَزَقَهُ اللَّهُ الشَّهَادَةَ، جَمْعُهُ شُهَدَاءُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: اسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ لَفْظَ
الشَّهَادَةِ فِي الإِْخْبَارِ بِحَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى النَّفْسِ،
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِقْرَارٌ) .
وَاسْتَعْمَلُوا اللَّفْظَ فِي الْمَوْتِ فِي سَبِيل اللَّهِ وَبَيَانُهُ
فِي مُصْطَلَحِ (شَهِيدٌ) .
وَاسْتَعْمَلُوهُ فِي الْقَسَمِ كَمَا فِي اللِّعَانِ، (وَبَيَانُهُ فِي
اللِّعَانِ) .
كَمَا اسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الشَّهَادَةِ فِي الإِْخْبَارِ
بِحَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ فِي مَجْلِسِ
__________
(1) سورة الأنعام / 73.
(2) نقل ذلك السيوطي عنه في الدر المنثور في التفسير بالمأثور 3 / 23، 4 /
46، تفسير الآية 73 من الأنعام وفي تفسير الآية 9 من الرعد.
(3) سورة النساء / 69.
(26/215)
الْقَضَاءِ، وَهُوَ مَوْضُوعُ الْبَحْثِ
فِي هَذَا الْمُصْطَلَحِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِ الشَّهَادَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى.
فَعَرَّفَهَا الْكَمَال مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا: إِخْبَارُ صِدْقٍ
لإِِثْبَاتِ حَقٍّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ.
وَعَرَّفَهَا الدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: بِأَنَّهَا إِخْبَارُ
حَاكِمٍ مِنْ عِلْمٍ لِيَقْضِيَ بِمُقْتَضَاهُ.
وَعَرَّفَهَا الْجَمَل مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهَا: إِخْبَارٌ بِحَقٍّ
لِلْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ بِلَفْظِ أَشْهَدُ.
وَعَرَّفَهَا الشَّيْبَانِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهَا:
الإِْخْبَارُ بِمَا عَلِمَهُ بِلَفْظِ أَشْهَدُ أَوْ شَهِدْتُ (1) .
وَتَسْمِيَتُهَا بِالشَّهَادَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ
الْمُشَاهَدَةِ الْمُتَيَقَّنَةِ، لأَِنَّ الشَّاهِدَ يُخْبِرُ عَنْ مَا
شَاهَدَهُ وَالإِْشَارَةُ إِلَيْهَا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: ذُكِرَ عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُل يَشْهَدُ بِشَهَادَةٍ، فَقَال لِي: يَا ابْنَ
عَبَّاسٍ لاَ تَشْهَدْ إِلاَّ عَلَى مَا يُضِيءُ لَكَ كَضِيَاءِ هَذِهِ
الشَّمْسِ وَأَوْمَأَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِيَدِهِ إِلَى الشَّمْسِ (2) .
__________
(1) فتح القدير 6 / 2، الشرح الكبير للدردير 4 / 164، حاشية الجمل 5 / 377،
نيل المآرب بشرح دليل الطالب بتحقيق د. محمد الأشقر 2 / 470.
(2) حديث ابن عباس: ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يشهد
بشهادة " أخرجه الحاكم (4 / 98 - 99 - ط دائرة المعارف العثمانية) ،
والبيهقي (10 / 156 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال البيهقي في أحد
رواته: " تكلم فيه الحميدي ولم يرو عن وجه يعتمد عليه " وقال الذهبي: " واه
".
(26/216)
وَتُسَمَّى " بَيِّنَةً " أَيْضًا؛
لأَِنَّهَا تُبَيِّنُ مَا الْتَبَسَ وَتَكْشِفُ الْحَقَّ فِي مَا اخْتُلِفَ
فِيهِ (1) .
وَهِيَ إِحْدَى الْحُجَجِ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا الدَّعْوَى.
أَلْفَاظٌ ذَاتُ صِلَةٍ:
الإِْقْرَارُ:
2 - الإِْقْرَارُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الإِْخْبَارُ عَنْ
ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْمُخْبِرِ.
الدَّعْوَى:
3 - الدَّعْوَى: قَوْلٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْقَاضِي يُقْصَدُ بِهِ طَلَبُ
حَقٍّ قِبَل الْغَيْرِ أَوْ دُفْعُ الْخَصْمِ عَنْ حَقِّ نَفْسِهِ.
فَيَجْمَعُ كُلًّا مِنَ الإِْقْرَارِ وَالدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ،
أَنَّهَا إِخْبَارَاتٌ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا: أَنَّ الإِْخْبَارَ إِنْ كَانَ عَنْ حَقٍّ سَابِقٍ
عَلَى الْمُخْبِرِ، وَيَقْتَصِرُ حُكْمُهُ عَلَيْهِ فَإِقْرَارٌ، وَإِنْ
لَمْ يَقْتَصِرْ، فَإِمَّا أَنْ لاَ يَكُونَ لِلْمُخْبِرِ فِيهِ نَفْعٌ،
وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ حَقٍّ لِغَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ
الشَّهَادَةُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُخْبِرِ نَفْعٌ فِيهِ لأَِنَّهُ
إِخْبَارٌ بِحَقٍّ لَهُ فَهُوَ
__________
(1) المغني 12 / 4، الشرح الكبير (على هامش المغني) 12 / 3.
(26/216)
الدَّعْوَى، انْظُرْ: الْمَوْسُوعَةَ
الْفِقْهِيَّةَ مُصْطَلَحَ (إِقْرَارٌ) (6 67) .
الْبَيِّنَةُ:
4 - الْبَيِّنَةُ: عَرَّفَهَا الرَّاغِبُ بِأَنَّهَا: الدَّلاَلَةُ
الْوَاضِحَةُ عَقْلِيَّةً أَوْ مَحْسُوسَةً (1) . وَعَرَّفَهَا
الْمَجْدَوِيُّ الْبَرَكَتِيُّ بِأَنَّهَا: الْحُجَّةُ الْقَوِيَّةُ
وَالدَّلِيل (2) . وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: الْبَيِّنَةُ فِي الشَّرْعِ:
اسْمٌ لِمَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَيُظْهِرُهُ. وَهِيَ تَارَةً تَكُونُ
أَرْبَعَةَ شُهُودٍ، وَتَارَةً ثَلاَثَةً بِالنَّصِّ فِي بَيِّنَةِ
الْمُفَلِّسِ، وَتَارَةً شَاهِدَيْنِ وَشَاهِدًا وَاحِدًا وَامْرَأَةً
وَاحِدَةً وَنُكُولاً وَيَمِينًا أَوْ خَمْسِينَ يَمِينًا أَوْ أَرْبَعَةَ
أَيْمَانٍ، وَتَكُونُ شَاهِدَ الْحَال (أَيِ الْقَرَائِنَ) فِي صُوَرٍ
كَثِيرَةٍ (3) .
وَبِذَلِكَ تَكُونُ الْبَيِّنَةُ عَلَى هَذَا أَعَمَّ مِنَ الشَّهَادَةِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ.
5 - تَحَمُّل الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا (4) } .
وقَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ (5) } وَقَوْلُهُ:
{وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ
قَلْبُهُ (6) } .
__________
(1) المفردات في غريب القرآن (ص 68) .
(2) قواعد الفقه (216) .
(3) الطرق الحكمية (24) .
(4) سورة البقرة / 282.
(5) سورة الطلاق / 2.
(6) سورة البقرة / 283.
(26/217)
وَلأَِنَّ الشَّهَادَةَ أَمَانَةٌ فَلَزِمَ
أَدَاؤُهَا كَسَائِرِ الأَْمَانَاتِ (1) . فَإِذَا قَامَ بِهَا الْعَدَدُ
الْكَافِي (كَمَا سَيَأْتِي) سَقَطَ الإِْثْمُ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَإِنِ
امْتَنَعَ الْجَمِيعُ أَثِمُوا كُلُّهُمْ.
وَإِنَّمَا يَأْثَمُ الْمُمْتَنِعُ إِذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِالشَّهَادَةِ،
وَكَانَتْ شَهَادَتُهُ تَنْفَعُ.
فَإِذَا تَضَرَّرَ فِي التَّحَمُّل أَوِ الأَْدَاءِ، أَوْ كَانَتْ
شَهَادَتُهُ لاَ تَنْفَعُ، بِأَنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ،
أَوْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى التَّبَذُّل فِي التَّزْكِيَةِ وَنَحْوِهَا،
لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ
وَلاَ شَهِيدٌ (2) } . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ
ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (3) .
وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؛
لأَِنَّ مَقْصُودَ الشَّهَادَةِ لاَ يَحْصُل مِنْهُ. وَقَدْ يَكُونُ
تَحَمُّلُهَا وَأَدَاؤُهَا أَوْ أَحَدُهُمَا فَرْضًا عَيْنِيًّا إِذَا لَمْ
يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُ ذَلِكَ الْعَدَدِ مِنَ الشُّهُودِ الَّذِي يَحْصُل
بِهِ الْحُكْمُ، وَخِيفَ ضَيَاعُ الْحَقِّ (4) .
__________
(1) المغني 12 / 3، والشرح الكبير في هامش الموضع نفسه.
(2) سورة البقرة / 282.
(3) حديث: " لا ضرر ولا ضرار " أخرجه ابن ماجه (2 / 784 - ط الحلبي) من
حديث عبادة بن الصامت، وأعله البوصيري بالانقطاع كذا في مصباح الزجاجة (2 /
33 - ط دار الجنان) ، ولكنه له شواهد يتقوى بها ذكرها ابن رجب الحنبلي في
جامع العلوم والحكم (ص 286 - 287 ط الحلبي) .
(4) الشرح الكبير مع المغني (12 / 3، 4) ، وانظر القوانين الفقهية (205) ،
والدر المختار (4 / 369) ، ومغني المحتاج (4 / 450) .
(26/217)
وَهَذَا الْحُكْمُ هُوَ فِي الشَّهَادَةِ
عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ، أَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ فَتُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحِ أَدَاءٌ ف 26 ح 2 ص 340 لِبَيَانِ الْخِلاَفِ فِي أَفْضَلِيَّةِ
الشَّهَادَةِ أَوِ السَّتْرِ.
مَشْرُوعِيَّةُ الشَّهَادَةِ:
6 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الشَّهَادَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَالإِْجْمَاعِ وَالْمَعْقُول.
أَمَّا الْكِتَابُ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ
مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ
مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ (1) } .
وَقَوْلُهُ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ (2) } .
وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ (3) } .
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ وَائِل بْنِ
حُجْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهُ: شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ (4) .
وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْبَيِّنَةُ
عَلَى
__________
(1) سورة البقرة / 282.
(2) سورة الطلاق / 2.
(3) سورة البقرة / 283.
(4) حديث: " شاهداك أو يمينه "، أخرجه مسلم (1 / 122 - ط الحلبي) .
(26/218)
الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (1) . . وَالْبَيِّنَةُ هِيَ الشَّهَادَةُ.
" قَدِ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا لإِِثْبَاتِ
الدَّعَاوَى.
أَمَّا الْمَعْقُول: فَلأَِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهَا لِحُصُول
التَّجَاحُدِ بَيْنَ النَّاسِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا (2) .
أَرْكَانُ الشَّهَادَةِ:
7 - أَرْكَانُ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خَمْسَةُ أُمُورٍ:
الشَّاهِدُ، وَالْمَشْهُودُ لَهُ، وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَالْمَشْهُودُ
بِهِ، وَالصِّيغَةُ (3) .
وَرُكْنُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: اللَّفْظُ الْخَاصُّ، وَهُوَ لَفْظُ
(أَشْهَدُ) عِنْدَهُمْ (4) .
سَبَبُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ:
8 - سَبَبُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ طَلَبُ الْمُدَّعِي الشَّهَادَةَ مِنَ
الشَّاهِدِ، أَوْ خَوْفُ فَوْتِ حَقِّ الْمُدَّعِي إِذَا لَمْ يَعْلَمِ
الْمُدَّعِي كَوْنَهُ شَاهِدًا.
حُجِّيَّةُ الشَّهَادَةِ:
9 - الشَّهَادَةُ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ تُظْهِرُ الْحَقَّ
__________
(1) حديث: " البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه " أخرجه البيهقي
(10 / 252 - ط دائرة المعارف العثمانية) وإسناده صحيح.
(2) المغني 12 / 3، وانظر في حاشية الشرح الكبير في الموضع نفسه.
(3) مغني المحتاج 4 / 426، والجمل على شرح المنهج 5 / 377، ونهاية المحتاج
8 / 277.
(4) فتح القدير 6 / 2، وتبيين الحقائق 4 / 207.
(26/218)
وَلاَ تُوجِبُهُ (1) . وَلَكِنْ تُوجِبُ
عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِمُقْتَضَاهَا (2) . لأَِنَّهَا إِذَا
اسْتَوْفَتْ شُرُوطَهَا مُظْهِرَةٌ لِلْحَقِّ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ
بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ.
(شُرُوطُ الشَّهَادَةِ:
10 - لِلشَّهَادَةِ نَوْعَانِ مِنَ الشُّرُوطِ:
شُرُوطُ تَحَمُّلٍ.
وَشُرُوطُ أَدَاءً.
فَأَمَّا شُرُوطُ التَّحَمُّل: فَمِنْهَا:
11 - أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ عَاقِلاً وَقْتَ التَّحَمُّل، فَلاَ يَصِحُّ
تَحَمُّلُهَا مِنْ مَجْنُونٍ وَصَبِيٍّ لاَ يَعْقِل؛ لأَِنَّ تَحَمُّل
الشَّهَادَةِ عِبَارَةٌ عَنْ فَهْمِ الْحَادِثَةِ وَضَبْطِهَا، وَلاَ
يَحْصُل ذَلِكَ إِلاَّ بِآلَةِ الْفَهْمِ وَالضَّبْطِ، وَهِيَ الْعَقْل.
12 - أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا، فَلاَ يَصِحُّ التَّحَمُّل مِنَ الأَْعْمَى
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى صِحَّةِ تَحَمُّلِهِ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ
__________
(1) الإقناع 4 / 430، ومنتهى الإرادات 2 / 647، الإنصاف في معرفة الراجح من
الخلاف على مذهب الإمام أحمد 12 / 3.
(2) فتح القدير 6 / 2، والبدائع 6 / 282، البناية في شرح الهداية 7 / 120،
الفتاوى الهندية 3 / 450، شرح منح الجليل على مختصر العلامة خليل 4 / 215.
(3) مختصر الطحاوي: 332، تحفة الفقهاء للسمرقندي 3 / 527، روضة القضاة
للسمناني 1 / 263، بدائع الصنائع 9 / 4023.
(26/219)
التَّسَامُعُ إِذَا تَيَقَّنَ الصَّوْتَ
وَقَطَعَ بِأَنَّهُ صَوْتُ فُلاَنٍ (1) .
13 - أَنْ يَكُونَ التَّحَمُّل عَنْ عِلْمٍ، أَوْ عَنْ مُعَايَنَةٍ
لِلشَّيْءِ الْمَشْهُودِ بِهِ بِنَفْسِهِ لاَ بِغَيْرِهِ: لِحَدِيثِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: ذُكِرَ عَنْ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُل يَشْهَدُ بِشَهَادَةٍ، فَقَال
لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، لاَ تَشْهَدْ إِلاَّ عَلَى مَا يُضِيءُ لَكَ
كَضِيَاءِ هَذِهِ الشَّمْسِ وَأَوْمَأَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّمْسِ (2) .
وَلاَ يَتِمُّ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْعِلْمِ، أَوِ الْمُعَايَنَةِ، إِلاَّ
فِيمَا تَصِحُّ فِيهِ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ، كَالنِّكَاحِ،
وَالنَّسَبِ، وَالْمَوْتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ
الْفُقَهَاءُ (3) . أَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَتُشْتَرَطُ فِيهِ
الْمُعَايَنَةُ.
وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ
بِمَا رَآهُ مِنْ خَطِّ نَفْسِهِ إِلاَّ إِذَا تَذَكَّرَ ذَلِكَ
وَتَيَقَّنَ مِنْهُ، لأَِنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ، وَالْخَتْمَ
يُشْبِهُ الْخَتْمَ، كَثِيرًا مَا يَقَعُ التَّزْوِيرُ، فَلاَ مُعَوَّل
إِلاَّ عَلَى التَّذَكُّرِ.
__________
(1) الهداية 3 / 121 وشرحها فتح القدير 6 / 27، والبناية 7 / 160، وتبيين
الحقائق 4 / 217، تبصرة الحكام 2 / 80، المهذب 2 / 336، المغني 12 / 61، 62
والشرح الكبير 12 / 67.
(2) حديث ابن عباس - تقدم تخريجه في ف1.
(3) البدائع 9 / 4024، الفتاوى الهندية 3 / 450، والدر المختار 4 / 370،
والمهذب 2 / 335.
(26/219)
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى
جَوَازِ شَهَادَتِهِ عَلَى مَا يَجِدُهُ مِنْ خَطِّ نَفْسِهِ (1) . وَعَنْ
أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ (2) .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْقَاضِي يَجِدُ فِي
دِيوَانِهِ شَيْئًا لاَ يَحْفَظُهُ، كَإِقْرَارِ رَجُلٍ أَوْ شَهَادَةِ
شُهُودٍ، أَوْ صُدُورِ حُكْمٍ مِنْهُ وَقَدْ خُتِمَ بِخَتْمِهِ، فَإِنَّهُ
لاَ يَقْضِي بِذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَقْضِي بِهِ
(3) .
14 - وَلاَ يُشْتَرَطُ لِلتَّحَمُّل: الْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ،
وَالإِْسْلاَمُ، وَالْعَدَالَةُ، حَتَّى لَوْ كَانَ الشَّاهِدُ وَقْتَ
التَّحَمُّل صَبِيًّا عَاقِلاً، أَوْ عَبْدًا، أَوْ كَافِرًا، أَوْ
فَاسِقًا، ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ، وَأُعْتِقَ الْعَبْدُ، وَأَسْلَمَ
الْكَافِرُ، وَتَابَ الْفَاسِقُ، فَشَهِدُوا عِنْدَ الْقَاضِي قُبِلَتْ
شَهَادَتُهُمْ (4) .
15 - وَأَمَّا شُرُوطُ الأَْدَاءِ: فَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى
الشَّاهِدِ.
وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الشَّهَادَةِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 9 / 4038، 4048، الفتاوى الهندية 3 / 450.
(2) الشرح الكبير 12 / 10، المغني 12 / 22.
(3) شرح أدب القاضي للخصاف تأليف برهان الأئمة حسام الدين عمر بن عبد
العزيز ابن مازة البخاري الحنفي المعروف بالصدر الشهيد 3 / 97، 105.
(4) تبيين الحقائق 4 / 218، الفتاوى الهندية 3 / 450، والقوانين الفقهية
(203) ، تبصرة الحكام 1 / 216، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 12 / 57،
الإقناع 4 / 440، والمغني مع الشرح الكبير 12 / 84.
(26/220)
وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمَشْهُودِ
بِهِ.
وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى النِّصَابِ (أَيْ عَدَدِ الشُّهُودِ) .
أَوَّلاً: مَا يَرْجِعُ إِلَى الشَّاهِدِ:
أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ أَهْلاً لِلشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ بِتَوَفُّرِ
شُرُوطِهَا فِيهِ. وَمِنْ تِلْكَ الشُّرُوطِ:
(1) - الْبُلُوغُ:
16 - فَلاَ تَصِحُّ شَهَادَةُ الأَْطْفَال وَالصِّبْيَانِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ
يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} (1) .
وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنَ الرِّجَال لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى
يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ
حَتَّى يَعْقِل أَوْ يُفِيقَ (2) . وَلأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يُؤْمَنْ عَلَى
حِفْظِ أَمْوَالِهِ، فَلأََنْ لاَ يُؤْمَنَ عَلَى حِفْظِ حُقُوقِ غَيْرِهِ
أَوْلَى (3) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ
شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي الْجِرَاحِ وَالْقَتْل قَبْل
أَنْ يَتَفَرَّقُوا، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: أَنْ
__________
(1) سورة البقرة 282.
(2) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة ". أخرجه ابن ماجه (1 / 658 - ط الحلبي)
والحاكم (2 / 59 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عائشة وصححه الحاكم
ووافقه الذهبي.
(3) المهذب 2 / 325.
(26/220)
يَتَّفِقُوا فِي شَهَادَتِهِمْ، وَأَنْ لاَ
يَدْخُل بَيْنَهُمْ كَبِيرٌ، وَاخْتُلِفَ فِي إِنَاثِهِمْ (1) .
(2) - الْعَقْل:
17 - فَلاَ تَصِحُّ شَهَادَةُ غَيْرِ الْعَاقِل إِجْمَاعًا، لأَِنَّهُ لاَ
يَعْقِل مَا يَقُولُهُ وَلاَ يَصِفُهُ (2) .
وَسَوَاءٌ أَذَهَبَ عَقْلُهُ بِجُنُونٍ أَوْ سُكْرٍ وَذَلِكَ لأَِنَّهُ
لَيْسَ بِمُحَصِّلٍ وَلاَ تَحْصُل الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ: وَلأَِنَّهُ لاَ
يَأْثَمُ بِكَذِبِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلاَ يُتَحَرَّزُ مِنْهُ (3) "
(3) - الْحُرِّيَّةُ:
18 - فَلاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ مَنْ فِيهِ رِقٌّ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ، كَسَائِرِ الْوِلاَيَاتِ، إِذْ فِي، الشَّهَادَاتِ نُفُوذُ
قَوْلٍ عَلَى الْغَيْرِ، وَهُوَ نَوْعُ وِلاَيَةٍ؛ وَلأَِنَّ مَنْ فِيهِ
رِقٌّ مُشْتَغِلٌ بِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ فَلاَ يَتَفَرَّغُ لأَِدَاءِ
الشَّهَادَةِ (4) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى قَبُول شَهَادَتِهِ فِي كُل شَيْءٍ إِلاَّ
فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ (5) .
(وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: رِقٌّ ج 23 ص 81) .
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 7، الخرشي 7 / 196، والقوانين الفقهية (202) ،
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 12 / 37.
(2) شرح منح الجليل 4 / 217.
(3) المغني 12 / 27.
(4) أسني المطالب 5 / 939.
(5) الشرح الكبير 12 / 65، منتهى الإرادات 2 / 662، الإنصاف 12 / 60.
(26/221)
(4) - الْبَصَرُ:
19 - فَلاَ تَصِحُّ شَهَادَةُ الأَْعْمَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُطْلَقًا
(1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ شَهَادَةُ الأَْعْمَى
فِي الأَْفْعَال؛ لأَِنَّ طَرِيقَ الْعِلْمِ بِهَا الْبَصَرُ، وَكَذَا فِي
الأَْقْوَال إِلاَّ فِيمَا يَثْبُتُ بِالاِسْتِفَاضَةِ؛ لأَِنَّهَا
مُسْتَنَدُهَا السَّمَاعُ وَلَيْسَ الرُّؤْيَةَ، وَإِلاَّ فِي
التَّرْجَمَةِ بِحَضْرَةِ الْقَاضِي لأَِنَّهُ يُفَسِّرُ مَا سَمِعَهُ (2)
.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ فِي الأَْقْوَال دُونَ
الأَْفْعَال فِيمَا لاَ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ مِنَ الأَْقْوَال إِذَا كَانَ
فَطِنًا، وَلاَ تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الأَْصْوَاتُ، وَتَيَقَّنَ
الْمَشْهُودَ لَهُ، وَالْمَشْهُودَ عَلَيْهِ، فَإِنْ شَكَّ فِي شَيْءٍ
مِنْهَا فَلاَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ (3) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَجُوزُ شَهَادَةُ الأَْعْمَى إِذَا تَيَقَّنَ
الصَّوْتَ لأَِنَّهُ رَجُلٌ عَدْلٌ مَقْبُول الرِّوَايَةِ فَقُبِلَتْ
شَهَادَتُهُ كَالْبَصِيرِ؛ وَلأَِنَّ السَّمْعَ أَحَدُ الْحَوَاسِّ الَّتِي
يَحْصُل بِهَا الْيَقِينُ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَنْ
أَلِفَهُ الأَْعْمَى، وَكَثُرَتْ صُحْبَتُهُ لَهُ، وَعَرَفَ صَوْتَهُ
يَقِينًا، فَيَجِبُ أَنْ تُقْبَل شَهَادَتُهُ، فِيمَا تَيَقَّنَهُ
كَالْبَصِيرِ، وَلاَ سَبِيل
__________
(1) البدائع 9 / 4023، فتح القدير 6 / 27، الفتاوى الهندية 3 / 464 - 465.
(2) المهذب 2 / 336.
(3) الخرشي 7 / 179، شرح منح الجليل 4 / 221.
(26/221)
إِلَى إِنْكَارِ حُصُول الْيَقِينِ فِي
بَعْضِ الأَْحْوَال (1) .
وَذَهَبَ زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ) إِلَى قَبُول شَهَادَتِهِ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُعُ؛
لأَِنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ إِلَى السَّمَاعِ، وَلاَ خَلَل فِيهِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ
الأَْعْمَى لَوْ تَحَمَّل شَهَادَةً تَحْتَاجُ إِلَى الْبَصَرِ، وَهُوَ
بَصِيرٌ، ثُمَّ عَمِيَ فَإِنْ تَحَمَّل عَلَى رَجُلٍ مَعْرُوفٍ بِالاِسْمِ
وَالنَّسَبِ يُقِرُّ لِرَجُلٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَلَهُ أَنْ يَشْهَدَ
بَعْدَمَا عَمِيَ، وَتُقْبَل شَهَادَتُهُ لِحُصُول الْعِلْمِ، وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ تُقْبَل.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ تَيَقَّنَ صَوْتَهُ لِكَثْرَةِ
إِلْفِهِ لَهُ صَحَّ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِنْ شَهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَهُوَ بَصِيرٌ،
ثُمَّ عَمِيَ قَبْل الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ، جَازَ الْحُكْمُ بِهَا
عِنْدَهُمْ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَلِكَ
لأَِنَّهُ مَعْنًى طَرَأَ بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَلاَ يُمْنَعُ
الْحُكْمُ بِهَا، كَمَا لَوْ مَاتَ الشَّاهِدَانِ أَوْ غَابَا بَعْدَ
أَدَاءِ الشَّهَادَةِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى عَدَمِ قَبُول
__________
(1) المغني والشرح الكبير 12 / 61.
(2) الهداية 3 / 121، وشرحها فتح القدير 6 / 27، البناية 7 / 160، تبيين
الحقائق 4 / 217، المبسوط 16 / 129.
(26/222)
شَهَادَتِهِ فِي الْحَالَتَيْنِ
السَّابِقَتَيْنِ؛ لأَِنَّ قِيَامَ الأَْهْلِيَّةِ شَرْطٌ وَقْتَ
الْقَضَاءِ لِتَصِيرَ حُجَّةً (1) .
(5) - الإِْسْلاَمُ:
20 - الأَْصْل أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ مُسْلِمًا فَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ
الْكُفَّارِ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى مُسْلِمٍ أَمْ عَلَى
غَيْرِ مُسْلِمٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجَالِكُمْ} (2) . وَقَوْلُهُ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (3)
. وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِعَدْلٍ وَلَيْسَ مِنَّا وَلأَِنَّهُ أَفْسَقُ
الْفُسَّاقِ وَيَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يُؤْمَنُ مِنْهُ
الْكَذِبُ عَلَى خَلْقِهِ.
وَعَلَى هَذَا الأَْصْل جَرَى مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَحْمَدَ (4) .
لَكِنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا الأَْصْل شَهَادَةَ الْكَافِرِ عَلَى
الْمُسْلِمِ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ فَقَدْ أَجَازُوهَا عَمَلاً
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ
بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ
ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ
ضَرَبْتُمْ فِي الأَْرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} (5) .
__________
(1) تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 4 / 218، ومنح الجليل 4 / 221، وروضة
الطالبين 12 / 260، والمغني 12 / 62 و63.
(2) سورة البقرة / 282.
(3) سورة الطلاق / 2.
(4) مواهب الجليل 6 / 150، وأسني المطالب 4 / 339، ومغني المحتاج 4 / 427،
والمغني 12 / 53.
(5) سورة المائدة / 106.
(26/222)
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ شَهَادَةَ
الذِّمِّيِّينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ،
وَشَهَادَةَ الْحَرْبِيِّينَ عَلَى أَمْثَالِهِمْ.
وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَلاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ مُطْلَقًا (1) .
(6) - النُّطْقُ:
21 - فَلاَ تَصِحُّ شَهَادَةُ الأَْخْرَسِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى صِحَّةِ شَهَادَتِهِ إِذَا عُرِفَتْ إِشَارَتُهُ
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ قَبُول شَهَادَةِ الأَْخْرَسِ إِذَا أَدَّاهَا
بِخَطِّهِ (2) .
(7) - الْعَدَالَةُ:
22 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (3) .
وَلِهَذَا لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْفَاسِقِ.
وَالْعَدَالَةُ عَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِالْمُحَافَظَةِ الدِّينِيَّةِ
عَلَى اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَتَوَقِّي الصَّغَائِرِ وَأَدَاءِ
الأَْمَانَةِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَأَنْ يَكُونَ صَلاَحُهُ أَكْثَرَ
مِنْ فَسَادِهِ وَهِيَ شَرْطُ وُجُوبِ الْقَبُول.
وَعَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ بِالصَّلاَحِ فِي الدِّينِ وَهُوَ: أَدَاءُ
الْفَرَائِضِ بِرَوَاتِبِهَا، وَاجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ وَعَدَمُ
الإِْصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ، وَيُعْتَبَرُ فِيهَا أَيْضًا
__________
(1) البحر الرائق 7 / 102، 104، المبسوط 16 / 133، 135.
(2) أقرب المسالك 176، التاج والإكليل 6 / 154، مواهب الجليل للحطاب 6 /
154، وروضة الطالبين 11 / 245، وشرح منتهى الإرادات 3 / 545.
(3) سورة الطلاق / 2.
(26/223)
اسْتِعْمَال الْمُرُوءَةِ بِفِعْل مَا
يُجَمِّلُهُ وَيُزَيِّنُهُ، وَتَرْكِ مَا يُدَلِّسُهُ وَيَشِينُهُ.
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ الْمُرُوءَةَ شَرْطًا مُسْتَقِلًّا.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَدَالَةٌ)
وَالْعَدَالَةُ شَرْطُ وُجُوبِ الْقَبُول عَلَى الْقَاضِي لاَ جَوَازِهِ
(1) . فَإِذَا تَوَفَّرَتْ فِي الشَّاهِدِ وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ
يَأْخُذَ بِشَهَادَتِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ: إِذَا كَانَ الأَْغْلَبُ عَلَى الرَّجُل
وَالأَْظْهَرُ مِنْ أَمْرِهِ الطَّاعَةُ وَالْمُرُوءَةُ قُبِلَتْ
شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَانَ الأَْغْلَبُ عَلَى الرَّجُل وَالأَْظْهَرُ مِنْ
أَمْرِهِ الْمَعْصِيَةَ وَخِلاَفَ الْمُرُوءَةِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ (2) .
(8) - التَّيَقُّظُ: أَوِ الضَّبْطُ:
23 - لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ مُغَفَّلٍ لاَ يَضْبِطُ أَصْلاً أَوْ غَالِبًا
لِعَدَمِ التَّوَثُّقِ بِقَوْلِهِ، أَمَّا مَنْ لاَ يَضْبِطُ نَادِرًا
وَالأَْغْلَبُ فِيهِ الْحِفْظُ وَالضَّبْطُ فَتُقْبَل قَطْعًا؛ لأَِنَّ
أَحَدًا لاَ يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ (3) .
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 150، وشرح منتهى الإرادات 3 / 546، ومغني المحتاج 4 /
427، شرح أدب القاضي للخصاف تأليف حسام الدين الصدر الشهيد بن مازة البخاري
3 / 8ف 545 وأحكام القرآن للجصاص 1 / 503 - 504، الفتاوى الهندية 3 / 450.
(2) مختصر المزني من كلام الشافعي 5 / 256، الأم 7 48.
(3) القوانين الفقهية (303) ط. بيروت دار الكتاب وتبصرة الحكام 1 / 172،
ومغني المحتاج 4 / 436، والمغني مع الشرح الكبير 12 / 30.
(26/223)
(9) - أَلاَّ يَكُونَ مَحْدُودًا فِي
قَذْفٍ:
24 - وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ
جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ} (1) .
فَإِنْ تَابَ وَأَصْلَحَ:
فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى قَبُول شَهَادَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
بَعْدَ الآْيَةِ السَّابِقَةِ مُبَاشَرَةً: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ
بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ قَبُول شَهَادَتِهِ وَلَوْ تَابَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِيمَا حُدَّ
فِيهِ وَتُقْبَل فِيمَا عَدَاهُ إِنْ تَابَ (3) .
وَمَنَاطُ الْخِلاَفِ فِي هَذِهِ الآْيَةِ فِي وُرُودِ الاِسْتِثْنَاءِ
بَعْدَ مَذْكُورِينَ أَيَشْمَلُهُمْ كُلَّهُمْ أَمْ يَعُودُ إِلَى أَقْرَبِ
مَذْكُورٍ؟
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ يَعُودُ إِلَى الأَْخِيرِ
وَهُوَ هُنَا التَّوْبَةُ مِنَ الْفِسْقِ فَقَطْ.
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يَعُودُ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ.
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِقَوْل عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
- لِمَنْ جَلَدَهُ فِي شَهَادَتِهِ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ
بِقَوْلِهِ: تُبْ أَقْبَل شَهَادَتَكَ.
__________
(1) سورة النور / 4.
(2) سورة النور / 5.
(3) الفتاوى الهندية 3 / 450، والحطاب 6 / 161.
(26/224)
وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ
مَعْرُوفَةٌ (1) .
(10) - الذُّكُورَةُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ:
يُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ
25 - لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: " مَضَتِ السُّنَّةُ بِأَنْ
لاَ شَهَادَةَ لِلنِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ".
(11) - عَدَمُ التُّهْمَةِ:
26 - لِلتُّهْمَةِ أَسْبَابٌ مِنْهَا:
أ - أَنْ يَجُرَّ بِشَهَادَتِهِ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا أَوْ يَدْفَعَ
ضُرًّا، فَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْوَارِثِ لِمُوَرِّثِهِ بِجُرْحٍ قَبْل
انْدِمَالِهِ، وَلاَ الضَّامِنِ لِلْمَضْمُونِ عَنْهُ بِالأَْدَاءِ، وَلاَ
الإِْبْرَاءِ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَل
شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلآْخَرِ وَخَالَفَ فِي هَذَا
الشَّافِعِيَّةُ. ب - الْبَعْضِيَّةُ: فَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ أَصْلٍ
لِفَرْعِهِ، وَلاَ فَرْعٍ لأَِصْلِهِ، وَتُقْبَل شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا
عَلَى الآْخَرِ.
ح - الْعَدَاوَةُ: فَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ عَدُوٍّ عَلَى عَدُوِّهِ،
وَالْمُرَادُ بِالْعَدَاوَةِ هُنَا، الْعَدَاوَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ لاَ
الدِّينِيَّةُ، فَتُقْبَل شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ،
وَالسُّنِّيُّ عَلَى الْمُبْتَدِعِ، وَكَذَا مَنْ
__________
(1) المستصفي 2 / 174، وفواتح الرحموت (بهامش المستصفي) 1 / 332، الإحكام
في أصول الأحكام للآمدي (طبعة محمد علي صبيح) 2 / 135.
(26/224)
أَبْغَضَ الْفَاسِقَ لِفِسْقِهِ لاَ
تُرَدُّ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ وَالْعَدَاوَةُ الَّتِي تُرَدُّ بِهَا
الشَّهَادَةُ أَنْ تَبْلُغَ حَدًّا يَتَمَنَّى زَوَال نِعْمَتِهِ
وَيَفْرَحُ لِمُصِيبَتِهِ، وَيَحْزَنُ لِمَسَرَّتِهِ، وَذَلِكَ قَدْ
يَكُونُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَيُخَصُّ
بِرَدِّ شَهَادَتِهِ عَلَى الآْخَرِ، وَتُقْبَل شَهَادَةُ الْعَدُوِّ
لِعَدُوِّهِ إِذْ لاَ تُهْمَةَ.
د - أَنْ يَدْفَعَ بِالشَّهَادَةِ عَنْ نَفْسِهِ عَارَ الْكَذِبِ، فَإِنْ
شَهِدَ فَاسِقٌ وَرَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ ثُمَّ تَابَ بِشُرُوطِ
التَّوْبَةِ فَشَهَادَتُهُ الْمُسْتَأْنَفَةُ مَقْبُولَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ،
وَلَوْ أَعَادَ تِلْكَ الشَّهَادَةَ الَّتِي رُدَّتْ لَمْ تُقْبَل.
هـ - الْحِرْصُ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالْمُبَادَرَةِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ
دَعْوَى، وَذَلِكَ فِي غَيْرِ شَهَادَةِ الْحِسْبَةِ (1) .
و الْعَصَبِيَّةُ، فَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ مَنْ عُرِفَ بِهَا
وَبِالإِْفْرَاطِ فِي الْحَمِيَّةِ كَتَعَصُّبِ قَبِيلَةٍ عَلَى قَبِيلَةٍ
وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ رُتْبَةَ الْعَدَاوَةِ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ
الْحَنَابِلَةُ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا لاِشْتِرَاطِ عَدَمِ التُّهْمَةِ (3) بِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلاَ
خَائِنَةٍ وَلاَ
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 223، والشرح الصغير 4 / 246، والقوانين الفقهية
(303، 304) ط. دار الكتاب العربي، وتبصرة الحكام 1 / 154، وروضة الطالبين
11 / 234 - 242، والمهذب 2 / 331، ومغني المحتاج 4 / 433، والمغني 12 / 55
وما بعدها، ومنتهى الإرادات 3 / 555.
(2) منتهى الإرادات 3 / 555.
(3) المهذب 2 / 330.
(26/225)
ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ، وَلاَ تَجُوزُ
شَهَادَةُ الْقَانِعِ لأَِهْل الْبَيْتِ (1) .
ثَانِيًا: مَا يَرْجِعُ مِنْ شُرُوطِ الأَْدَاءِ إِلَى الشَّهَادَةِ
نَفْسِهَا وَمِنْ ذَلِكَ:
27 - (1) - اشْتِرَاطُ وُجُودِ الدَّعْوَى فِي الشَّهَادَةِ عَلَى حُقُوقِ
الْعِبَادِ مِنَ الْمُدَّعِي أَوْ نَائِبِهِ. أَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى
حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا وُجُودُ الدَّعْوَى
عَلَى رَأْيِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (2) .
(2) - مُوَافَقَتُهَا لِلدَّعْوَى (كَمَا سَيَرِدُ تَفْصِيلُهُ) .
(3) - الْعَدَدُ فِي الشَّهَادَةِ فِيمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَال.
(4) - اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ (كَمَا سَيَرِدُ تَفْصِيلُهُ) .
(5) - تَعَذُّرُ حُضُورِ الأَْصْل (وَهَذَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى
الشَّهَادَةِ) كَمَا سَيَأْتِي.
(6) - أَنْ تُؤَدَّى بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ. بِأَنْ يَقُول: أَشْهَدُ
بِكَذَا وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُورِ، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
أَنَّهُ يَكْفِي مَا يَدُل عَلَى
__________
(1) حديث: " لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ". أخرجه أحمد (2 / 204 - ط،
الميمنية) من حديث عبد الله بن عمرو، قوى إسناده ابن حجر في التلخيص (2 /
198 -. ط. شركة الطباعة الفنية) . وذو الغمر: ذو الحقد، والقانع: الخادم
الذي انقطع لخدمة أهل البيت.
(2) الدر المختار 4 / 370.
(26/225)
حُصُول عِلْمِ الشَّاهِدِ كَأَنْ يَقُول:
رَأَيْتُ كَذَا أَوْ سَمِعْتُ كَذَا وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُول:
أَشْهَدُ. (1)
ثَالِثًا: مَا يَرْجِعُ مِنْ شُرُوطِ الأَْدَاءِ إِلَى الْمَشْهُودِ بِهِ:
يُشْتَرَطُ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ:
(28) - (1) - أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، فَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ
بِمَجْهُولٍ فَلاَ تُقْبَل. وَذَلِكَ لأَِنَّ شَرْطَ صِحَّةِ قَضَاءِ
الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِهِ مَعْلُومًا.
(2) - كَوْنُ الْمَشْهُودِ بِهِ مَالاً أَوْ مَنْفَعَةً فَلاَ بُدَّ أَنْ
يَكُونَ مُتَقَوِّمًا شَرْعًا.
رَابِعًا: مَا يَرْجِعُ مِنْ شُرُوطِ الأَْدَاءِ إِلَى نِصَابِ
الشَّهَادَةِ:
29 - يَخْتَلِفُ عَدَدُ الشُّهُودِ فِي الشَّهَادَاتِ بِحَسَبِ
الْمَوْضُوعِ الْمَشْهُودِ بِهِ:
أ - مِنَ الشَّهَادَاتِ مَا لاَ يُقْبَل فِيهِ أَقَل مِنْ أَرْبَعَةِ
رِجَالٍ، لاَ امْرَأَةَ بَيْنَهُمْ وَذَلِكَ فِي الزِّنَا، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ. .} (2) الآْيَةَ.
وقَوْله تَعَالَى: {لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ. . .}
(3) الآْيَةَ. وقَوْله تَعَالَى
__________
(1) البدائع 6 / 273، والشرح الصغير 2 / 348 ط. الحلبي، والمغني 9 / 216،
الطبعة الثالثة، والجمل على شرح المنهج 5 / 377.
(2) سورة النور / 4.
(3) سورة النور / 13.
(26/226)
: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ
مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} . (1)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَال يَا رَسُول
اللَّهِ إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلاً أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ قَال: نَعَمْ. (2)
ب - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى مَنْ عُرِفَ بِغِنًى
أَنَّهُ فَقِيرٌ لأَِخْذِ زَكَاةٍ فَلاَ بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ ثَلاَثَةِ
رِجَالٍ، يَشْهَدُونَ لَهُ. (3)
لِحَدِيثِ قَبِيصَةَ حَتَّى يَقُومَ ثَلاَثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ
قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلاَنًا فَاقَةٌ. (4)
ج - وَمِنْهَا مَا يُقْبَل فِيهِ شَاهِدَانِ لاَ امْرَأَةَ فِيهِمَا،
وَهُوَ مَا سِوَى الزِّنَى مِنَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، كَالْقَطْعِ فِي
السَّرِقَةِ، وَحَدِّ الْحِرَابَةِ، وَالْجَلْدِ فِي الْخَمْرِ، وَهَذَا
بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ
الرِّجَال غَالِبًا، مِمَّا لَيْسَ بِمَالٍ وَلاَ يُقْصَدُ مِنْهُ مَالٌ:
كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلاَقِ، وَالرَّجْعَةِ، وَالإِْيلاَءِ، وَالظِّهَارِ،
وَالنَّسَبِ، وَالإِْسْلاَمِ،
__________
(1) سورة النساء / 15.
(2) حديث أبي هريرة أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله إن وجدت. . " أخرجه
مسلم (2 / 1135 ط الحلبي) .
(3) شرح منتهى الإرادات 3 / 556.
(4) حديث قبيصة: " حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا. . " أخرجه مسلم (2 / 722 -
ط الحلبي) .
(26/226)
وَالرِّدَّةِ، وَالْجَرْحِ، وَالتَّعْدِيل،
وَالْمَوْتِ وَالإِْعْسَارِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالْوِصَايَةِ،
وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ
عِنْدَهُمْ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ لاَ امْرَأَةَ فِيهِمَا. (1)
وَدَلِيلُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى شَهَادَةِ
الرَّجُلَيْنِ فِي الطَّلاَقِ وَالرَّجْعَةِ وَالْوَصِيَّةِ.
فَأَمَّا الطَّلاَقُ وَالرَّجْعَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ
مِنْكُمْ} . (2)
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ فَقَوْلُهُ: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} . (3)
وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي
النِّكَاحِ: لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ. (4)
وَرَوَى مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَال: " مَضَتِ السُّنَّةُ
بِأَنَّهُ لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَلاَ فِي
النِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ.
__________
(1) الشرح الكبير 12 / 84، تبصرة الحكام 1 / 265، روضة الطالبين للنووي 11
/ 253، والمغني 12 / 6.
(2) سورة الطلاق / 2.
(3) سورة المائدة / 106.
(4) حديث: " لا نكاح إلا بولي ". أخرجه البيهقي (7 / 125 - ط. دائرة
المعارف العثمانية) من حديث عائشة، وإسناده صحيح.
(26/227)
وَقِيسَ عَلَيْهَا مَا شَارَكَهَا فِي
الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ. (1)
د - وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مَا يُقْبَل فِيهِ شَاهِدَانِ، أَوْ شَاهِدٌ
وَامْرَأَتَانِ هُوَ مَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ سَوَاءٌ أَكَانَ
الْحَقُّ مَالاً أَمْ غَيْرَ مَالٍ، كَالنِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ
وَالْعَتَاقِ وَالْوَكَالَةِ وَالْوِصَايَةِ. (2)
وَدَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ
مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} . (3) وَقَصَرَ الْجُمْهُورُ قَبُول
شَهَادَةِ الرَّجُلَيْنِ أَوِ الرَّجُل وَالْمَرْأَتَيْنِ عَلَى مَا هُوَ
مَالٌ أَوْ بِمَعْنَى الْمَال، كَالْبَيْعِ، وَالإِْقَالَةِ،
وَالْحَوَالَةِ، وَالضَّمَانِ، وَالْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، كَالْخِيَارِ،
وَالأَْجَل، وَغَيْرِ ذَلِكَ. (4)
وَأَجَازُوا فِيهِ أَنْ يَثْبُتَ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي.
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 442، نهاية المحتاج 8 / 295.
(2) الهداية 3 / 117، فتح القدير 6 / 7، الفتاوى الهندية 3 / 451، المبسوط
16 / 115.
(3) سورة البقرة / 282.
(4) الشرح الكبير 12 / 90، حاشية الدسوقي 4 / 87، حاشية الخرشي 4 / 201،
مغني المحتاج 4 / 41 نهاية المحتاج 8 / 294 - 295، روضة الطالبين 11 / 254،
278، المغني 12 / 9.
(26/227)
وَدَلِيلُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ. (1)
وَلَمْ يُجِزِ الْحَنَفِيَّةُ الْقَضَاءَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ
وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا قَضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ
لاَ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ؛ لأَِنَّ الآْثَارَ الَّتِي وَرَدَتْ فِي هَذَا
الشَّأْنِ لاَ تَثْبُتُ عِنْدَهُمْ (2) .
هـ - وَمِنْهَا مَا تُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ،
وَهُوَ الْوِلاَدَةُ وَالاِسْتِهْلاَل وَالرَّضَاعُ، وَمَا لاَ يَجُوزُ
أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ الرِّجَال الأَْجَانِبُ مِنَ الْعُيُوبِ
الْمَسْتُورَةِ.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَثْبُتُ بِهِ هَذِهِ
الأُْمُورُ مِنَ النِّسَاءِ. (3) عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ تُقْبَل فِي
الْوِلاَدَةِ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ وَحْدَهَا، وَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ
غَيْرِ الْقَابِلَةِ إِلاَّ مَعَ غَيْرِهَا.
__________
(1) حديث: " قضى بيمين وشاهد ". أخرجه مسلم (3 / 1337 - ط الحلبي) من حديث
ابن عباس.
(2) انظر شرح أدب القاضي للخصاف تأليف حسام الدين الصدر الشهيد 4 / 455.
الفقرة 1499.
(3) انظر هذه المذاهب في كتاب الشهادات من الحاوي للماوردي الفقرة 3877
وانظر المغني: 12 / 16 - 17، والشرح الكبير 12 / 97 - 98، والمبسوط 16 /
142 - 144، جواهر العقود 2 / 438، معين الحكام: 94 - 95، سنن البيهقي 10 /
151، بداية المجتهد 2 / 454، شرح الزرقاني على موطأ مالك 4 / 380.
(26/228)
وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (1) .
الثَّانِي: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ تُقْبَل فِي ذَلِكَ
شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ مُسْلِمَةٍ حُرَّةٍ عَدْلَةٍ قَابِلَةً
كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا، إِلاَّ وِلاَدَةَ الْمُطَلَّقَةِ فَلاَ تُقْبَل
فِيهَا شَهَادَةُ الْوَاحِدَةِ (2) اسْتِدْلاَلاً بِمَا رُوِيَ عَنْ
حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ. (3)
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا
- أَنَّهُمَا أَجَازَا شَهَادَتَهَا (4) .
الثَّالِثُ: ذَهَبَ مَالِكٌ، وَالْحَكَمُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَابْنُ
أَبِي لَيْلَى، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ إِلَى أَنَّهُ
تُقْبَل فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ وَلاَ يُشْتَرَطُ أَكْثَرُ
مِنْ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُنَّ لَمَّا قُمْنَ فِي انْفِرَادِهِنَّ مَقَامَ
الرِّجَال، وَجَبَ أَنْ يَقُمْنَ فِي الْعَدَدِ مَقَامَ الرِّجَال،
وَأَكْثَرُ عَدَدِ الرِّجَال اثْنَانِ، فَاقْتَضَى أَنْ
__________
(1) المغني 12 / 16 - 17، الشرح الكبير 12 / 98، الإنصاف 12 / 86.
(2) الهداية 3 / 117، المبسوط 16 / 143، معين الحكام: 94، الفتاوى الهندية
3 / 451.
(3) حديث حذيفة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة ".
أخرجه الدارقطني (4 / 233 - ط دار المحاسن) والبيهقي (10 / 151 - ط. دائرة
المعارف العثمانية) وأعله بالانقطاع.
(4) روى ذلك عبد الرزاق عن عمر (المصنف: 8 / 334 الحديث 15429) ورواه
الدارقطني عن علي موقوفا (سنن الدارقطني 4 / 233) وانظره في السنن الكبرى
(10 / 151 وفي إسناده مقال (نصب الراية 4 / 80) والدراية (2 / 171 ضمن
الحديث 827) .
(26/228)
يَكُونَ أَكْثَرُ عَدَدِ النِّسَاءِ
اثْنَتَيْنِ (1)
الرَّابِعُ: هُوَ مَا حُكِيَ عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ أَنَّهُ تُقْبَل
ثَلاَثُ نِسْوَةٍ، وَلاَ يُقْبَل أَقَل مِنْهُنَّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ
أَنَسٍ. وَاسْتُدِل لِذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ ضَمَّ شَهَادَةَ
الْمَرْأَتَيْنِ إِلَى الرَّجُل فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لاَ يَنْفَرِدْنَ
فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَبْدَل الرَّجُل بِالْمَرْأَةِ فِي الْمَوْضِعِ
الَّذِي يَنْفَرِدْنَ فِيهِ فَيَصِرْنَ ثَلاَثًا. (2)
الْخَامِسُ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَعَطَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْبَل فِي
ذَلِكَ أَقَل مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ. (3)
قَال الشَّافِعِيُّ: لأَِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل حَيْثُ أَجَازَ
الشَّهَادَةَ انْتَهَى بِأَقَلِّهَا إِلَى شَاهِدَيْنِ، أَوْ شَاهِدٍ
وَامْرَأَتَيْنِ، فَأَقَامَ الثِّنْتَيْنِ مَقَامَ رَجُلٍ، حَيْثُ
أَجَازَهُمَا فَإِذَا أَجَازَ الْمُسْلِمُونَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِيمَا
يَغِيبُ عَنِ الرِّجَال لَمْ يَجُزْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يُجِيزُوهَا
إِلاَّ عَلَى أَصْل حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل فِي الشَّهَادَاتِ،
فَيَجْعَلُونَ كُل امْرَأَتَيْنِ تَقُومَانِ مَقَامَ رَجُلٍ، وَإِذَا
فَعَلُوا لَمْ يَجُزْ إِلاَّ أَرْبَعٌ، وَهَكَذَا
__________
(1) المدونة الكبرى 5 / 158، تبصرة الحكام 1 / 295، والقوانين الفقهية 315
ط. تونس. تنوير الحوالك 2 / 110، وانظر المغني 12 / 17.
(2) كتاب الشهادات من الحاوي للماوردي الفقرة 3877، والمغني 12 / 17،
والشرح الكبير 12 / 98.
(3) الأم 6 / 267، 7 / 43، مختصر المزني 5 / 248، كتاب الشهادات من الحاوي
الكبير: الفقرة 3877، السنن الكبرى 10 / 151، مغني المحتاج 4 / 442، نهاية
المحتاج 8 / 296، المهذب 2 / 335.
(26/229)
الْمَعْنَى فِي كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ
ذِكْرُهُ - وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ. (1)
و وَمِنْهَا مَا تُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، فَتُقْبَل
شَهَادَةُ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ الْعَدْل بِمُفْرَدِهِ فِي إِثْبَاتِ
رُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ اسْتِدْلاَلاً بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلاَل، فَأَخْبَرْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَهُ
وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ. (2)
وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَال:
جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَال: إِنِّي رَأَيْتُ الْهِلاَل، فَقَال: أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ؟ وَأَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ؟ قَال:
نَعَمْ، قَال: يَا بِلاَل أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنْ يَصُومُوا غَدًا. (3)
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ،
وَبِهِ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ مِنْ غَيْمٍ
أَوْ غُبَارٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ تُقْبَل شَهَادَةُ
الطَّبِيبِ الْوَاحِدِ فِي الشِّجَاجِ، وَالْبَيْطَارِ فِي عُيُوبِ
الدَّوَابِّ.
__________
(1) الأم 6 / 267.
(2) حديث ابن عمر: " تراءى الناس الهلال ". أخرجه أبو داود (2 / 756 - 757
- تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 423 - ط دائرة المعارف العثمانية)
وصححه ووافقه الذهبي.
(3) حديث: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه الترمذي (3
/ 65 - ط الحلبي) والنسائي (4 / 132 - ط المكتبة التجارية) ورجحا إرساله.
(26/229)
وَقَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِمَا إِذَا
كَانَ بِتَكْلِيفٍ مِنَ الإِْمَامِ.
وَقَيَّدَهُ الْحَنَابِلَةُ بِمَا إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ. (1)
حُكْمُ الإِْشْهَادِ:
30 - فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الإِْشْهَادِ عَلَى الْعُقُودِ
بَيْنَ عُقُودِ النِّكَاحِ وَغَيْرِهَا: فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى
أَنَّ الإِْشْهَادَ عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ وَاجِبٌ وَشَرْطٌ فِي
صِحَّتِهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ نِكَاحَ
إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ. (2)
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الإِْشْهَادَ غَيْرُ وَاجِبٍ إِذَا تَمَّ
الإِْعْلاَنُ. (3)
أَمَّا عُقُودُ الْبُيُوعِ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو مُوسَى الأَْشْعَرِيُّ،
وَابْنُ عُمَرَ، وَالضَّحَّاكُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَجَابِرُ
بْنُ زَيْدٍ، وَمُجَاهِدٌ إِلَى أَنَّ الإِْشْهَادَ وَاجِبٌ. (4)
قَال عَطَاءٌ: أَشْهِدْ إِذَا بِعْتَ وَإِذَا
__________
(1) الأم 2 / 80 ونجد رأيه الثاني في الموضع نفسه أنه لا يجوز إلا شاهدان.
وانظر مختصر المزني 2 / 3، وانظر نهاية المحتاج 3 / 149، مغني المحتاج 1 /
420 - 421، حاشية البجيرمي على الخطيب 2 / 324، تبصرة الحكام 1 / 229،
والمغني مع الشرح الكبير 3 / 8، وشرح منتهى الإرادات 3 / 557، الهداية 1 /
121 وشروحها: فتح القدير 2 / 59، البناية 3 / 288.
(2) الحديث تقدم تخريجه ف29.
(3) المدونة الكبرى المجلد الثاني ص192، تبصرة الحكام 1 / 209.
(4) انظر تفسير القرطبي 3 / 402، جواهر العقد 2 / 428، بداية المجتهد 2 /
452، الشهادات من الحاوي الفقرة 3809
(26/230)
اشْتَرَيْتَ بِدِرْهَمٍ أَوْ نِصْفِ
دِرْهَمٍ أَوْ ثُلُثِ دِرْهَمٍ أَوْ أَقَل مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ
عَزَّ وَجَل يَقُول: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (1) .
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَجُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ، إِلَى أَنَّ الأَْمْرَ فِي قَوْله
تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} لِلنَّدْبِ وَلَيْسَ
لِلْوُجُوبِ، لِوُرُودِ الآْيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ:
{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ
أَمَانَتَهُ} (2) . فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الأَْمْرَ فِيهَا مَحْمُولٌ
عَلَى الاِسْتِحْبَابِ. (3)
وَلِمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّهُ بَاعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَلَهُ وَاسْتَثْنَى ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ (4)
.
فَدَل ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يُشْهِدْ.
وَقَدْ بَاعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشْهَدَ،
وَبَاعَ فِي أَحْيَانٍ أُخْرَى وَاشْتَرَى، وَرَهَنَ دِرْعَهُ عِنْدَ
يَهُودِيٍّ، (5) وَلَمْ يُشْهِدْ.
__________
(1) سورة البقرة / 282.
(2) سورة البقرة / 283.
(3) المبسوط 16 / 112، تبصرة الحكام 1 / 209، الأم 3 / 76 - 77، مختصر
المزني 5 / 246، المهذب 2 / 324، نهاية المحتاج 8 / 277، سنن البيهقي 10 /
145، تفسير القرطبي 3 / 402، تفسير ابن كثير 1 / 336.
(4) حديث جابر: أنه باع النبي صلى الله عليه وسلم جمله واستثنى ظهره إلى
المدينة. أخرجه البخاري (الفتح 4 / 485 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1222 - ط.
الحلبي) .
(5) حديث " رهن درعه عند يهودي " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 142 - ط
السلفية) ، ومسلم (3 / 1226 - ط الحلبي) من حديث عائشة
(26/230)
وَلَوْ كَانَ الإِْشْهَادُ أَمْرًا
وَاجِبًا لَوَجَبَ مَعَ الرَّهْنِ لِخَوْفِ الْمُنَازَعَةِ. (1)
قَال ابْنُ عَطِيَّةَ: (وَالْوُجُوبُ فِي ذَلِكَ قَلِقٌ، أَمَّا فِي
الدَّقَائِقِ فَصَعْبٌ شَاقٌّ، وَأَمَّا مَا كَثُرَ فَرُبَّمَا يَقْصِدُ
التَّاجِرُ الاِسْتِئْلاَفَ بِتَرْكِ الإِْشْهَادِ، وَقَدْ يَكُونُ عَادَةً
فِي بَعْضِ الْبِلاَدِ، وَقَدْ يُسْتَحَى مِنَ الْعَالِمِ وَالرَّجُل
الْكَبِيرِ الْمُوَقَّرِ فَلاَ يُشْهِدُ عَلَيْهِ، فَيَدْخُل ذَلِكَ
كُلُّهُ فِي الاِئْتِمَانِ، وَيَبْقَى الأَْمْرُ بِالإِْشْهَادِ نَدْبًا
لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي الأَْغْلَبِ مَا لَمْ يَقَعْ عُذْرٌ
يَمْنَعُ مِنْهُ) (2)
مُسْتَنَدُ عِلْمِ الشَّاهِدِ:
31 - الأَْصْل فِي الشَّهَادَةِ أَنْ تَكُونَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ وَعِيَانٍ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
. (3)
وقَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: {وَمَا شَهِدْنَا
إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} . (4)
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الشَّهَادَةَ تَكُونُ
بِالْعِلْمِ، وَلاَ تَصِحُّ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ.
وَيُسْتَدَل لِذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
- قَال: ذُكِرَ عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الرَّجُل يَشْهَدُ بِشَهَادَةٍ، فَقَال لِي: يَا ابْنَ
__________
(1) تفسير القرطبي 3 / 403.
(2) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (طبعة القاهرة) 2 / 298، وانظر
تفسير القرطبي 3 / 403
(3) سورة الزخرف / 86
(4) سورة يوسف / 81
(26/231)
عَبَّاسٍ لاَ تَشْهَدْ إِلاَّ عَلَى مَا
يُضِيءُ لَكَ كَضِيَاءِ هَذِهِ الشَّمْسِ وَأَوْمَأَ رَسُول اللَّهِ
بِيَدِهِ إِلَى الشَّمْسِ. (1)
وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهَا
أَقْوَى أَسْبَابِ الْعِلْمِ وَهِيَ الْمُشَاهَدَةُ وَالْعِلْمُ
الْيَقِينِيُّ.
لَكِنَّ الأُْمُورَ الْمَشْهُودَ بِهَا قَدْ تَتَفَاوَتُ فِيمَا بَيْنَهَا
فِي تَحْصِيل الْعِلْمِ بِهَا:
فَمِنْهَا مَا شَأْنُهُ أَنْ يُعَايِنَهُ الشَّاهِدُ كَالْقَتْل،
وَالسَّرِقَةِ، وَالْغَصْبِ، وَالرَّضَاعِ، وَالزِّنَى، وَشُرْبِ
الْخَمْرِ.
فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ الشَّاهِدُ هَذِهِ الأُْمُورَ إِلاَّ
بِالْمُعَايَنَةِ بِبَصَرِهِ.
فَمِنْهَا أُمُورٌ لاَ يَصِحُّ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا إِلاَّ
بِالسَّمَاعِ وَالْمُعَايَنَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ فِي
عُقُودِ النِّكَاحِ، وَالْبُيُوعِ، وَالإِْجَارَاتِ، وَالطَّلاَقِ؛ لأَِنَّ
الأَْصْوَاتَ قَدْ تَشْتَبِهُ، وَيَكْتَفِي الْحَنَابِلَةُ فِيهَا
بِالسَّمَاعِ إِذَا عَرَفَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَقِينًا وَتَيَقَّنَ
أَنَّهُ كَلاَمُهُمَا. (2)
وَمِنْهَا مَا يَحْصُل عِلْمُهُ بِهَا عَنْ طَرِيقِ سَمَاعِ الأَْخْبَارِ
الشَّائِعَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْمُسْتَفِيضَةِ،
__________
(1) الحديث تقدم تخريجه.
(2) الدر المختار 4 / 375، والقوانين الفقهية (205) ط دار القلم بيروت،
روضة الطالبين 11 / 259، والمغني مع الشرح الكبير 12 / 19
(26/231)
الْمَرْتَبَةِ السَّابِقَةِ يَكُونُ
مَصْدَرُهَا سَمَاعًا مُسْتَفِيضًا لَمْ يَبْلُغْ فِي اسْتِفَاضَتِهِ حَدَّ
الأُْولَى، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ الْمَقْصُودُ بِكَلاَمِ
الْفُقَهَاءِ عِنْدَ إِطْلاَقِهِمُ الْحَدِيثَ عَلَى شَهَادَةِ السَّمَاعِ،
أَوِ الشَّهَادَةِ بِالسَّمَاعِ، أَوْ بِالتَّسَامُعِ. (1) وَهِيَ الَّتِي
قَالُوا فِي تَعْرِيفِهَا: " إِنَّهَا لَقَبٌ لِمَا يُصَرِّحُ الشَّاهِدُ
فِيهِ بِاسْتِنَادِ شَهَادَتِهِ لِسَمَاعٍ مِنْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ
فَتَخْرُجُ - بِذَلِكَ - شَهَادَةُ الْبَتِّ وَالنَّقْل. (2) وَقَدِ
اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ اعْتِمَادِهَا قَضَاءً لِلضَّرُورَةِ، أَوِ
الْحَاجَةِ فِي حَالاَتٍ خَاصَّةٍ اخْتَلَفَتْ كَمَا بِاخْتِلاَفِ
الْمَذَاهِبِ فِي تَحْدِيدِ مَوَاضِعِ الْحَاجَةِ، وَضَبْطِ الْقُيُودِ
الَّتِي تَعُودُ إِلَيْهَا، وَالثَّابِتُ عِنْدَ الدَّارِسِينَ أَنَّ
أَكْثَرَ الْمَذَاهِبِ الإِْسْلاَمِيَّةِ تَسَامُحًا فِي الأَْخْذِ بِهَا
هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَالِكِيُّ. (3)
وَأَفَاضَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْقَوْل فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ،
حَيْثُ بَيَّنَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّ النَّظَرَ فِي شَهَادَةِ
السَّامِعِ يَتَنَاوَل الْجَوَانِبَ التَّالِيَةَ:
الأَْوَّل: الصِّفَةُ الَّتِي تُؤَدَّى بِهَا:
32 - الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُعَوَّل
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 346، 347، التاودي والتسولي على التحفة 1 / 132.
(2) الحدود بشرح الرصاع ص455، المطبعة التونسية س. 1350هـ. مواهب الجليل مع
التاج والإكليل 6 / 191، 192، جواهر الإكليل 2 / 242، التاودي والتسولي على
التحفة 1 / 132.
(3) الفروق للقرافي 4 / 55، دار إحياء الكتب العربية ط 1 / س 1346هـ.
(26/232)
أَنْ يَقُول الشُّهُودُ - عِنْدَ
تَأْدِيَتِهَا - " سَمِعْنَا سَمَاعًا فَاشِيًا مِنْ أَهْل الْعَدَالَةِ
وَغَيْرِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ - مَثَلاً - صَدَقَةٌ عَلَى بَنِي
فُلاَنٍ "، أَيْ: لاَ بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْعُدُول، وَغَيْرِ
الْعُدُول فِي الْمَنْقُول عَنْهُمْ. (1) وَيَرَى بَعْضُهُمْ أَنَّ
عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا: " إِنَّا لَمْ نَزَل نَسْمَعُ مِنَ الثِّقَاتِ،
أَوْ سَمِعْنَا سَمَاعًا فَاشِيًا مِنْ أَهْل الْعَدْل ". (2) وَهُوَ
رَأْيٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَهُمْ؛ لأَِنَّ حَصْرَ مَصْدَرِ سَمَاعِهِمْ فِي
الثِّقَاتِ وَالْعُدُول يُخْرِجُهَا مِنَ السَّمَاعِ إِلَى النَّقْل وَهُوَ
مَوْضُوعٌ آخَرُ. (3)
قَال ابْنُ فَرْحُونَ: وَلاَ يَكُونُ السَّمَاعُ بِأَنْ يَقُولُوا: "
سَمِعْنَا مِنْ أَقْوَامٍ بِأَعْيَانِهِمْ " يُسَمُّونَهُمْ أَوْ
يَعْرِفُونَهُمْ، إِذْ لَيْسَتْ - حِينَئِذٍ - شَهَادَةَ تَسَامُعٍ بَل
هِيَ شَهَادَةٌ عَلَى شَهَادَةٍ، فَتَخْرُجُ عَنْ حَدِّ شَهَادَةِ
السَّمَاعِ. (4)
وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ الاِكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِمْ: " سَمِعْنَا
سَمَاعًا فَاشِيًا ". (5) دُونَ احْتِيَاجٍ إِلَى إِضَافَةٍ " مِنَ
الثِّقَاتِ وَغَيْرِهِمْ " حَيْثُ لاَ عِبْرَةَ بِذِكْرٍ
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 347، مواهب الجليل مع التاج والإكليل 6 / 191 - 192،
جواهر الإكليل 2 / 242، التاودي والتسولي على تحفة ابن عاصم 1 / 132.
(2) المصادر السابقة.
(3) نفس المصادر المذكورة سابقا - شرح حدود ابن عرفة للرصاع ص455.
(4) تبصرة الحكام 1 / 347.
(5) انظر شهادة السماع في الأحباس والمواريث من المدونة الكبرى 5 / 171،
دار صادر - بيروت.
(26/232)
كَالنَّسَبِ، وَالْمِلْكِ، وَالْمَوْتِ،
وَالْوَقْفِ.
فَيَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا مُعْتَمِدًا عَلَى
التَّسَامُعِ.
الشَّهَادَةُ بِالسَّمَاعِ وَالتَّسَامُعِ:
الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلاَثِ
مَرَاتِبَ بِاعْتِبَارِ دَرَجَةِ الْعِلْمِ الْحَاصِل بِهَا:
الْمَرْتَبَةُ الأُْولَى:
33 - تُفِيدُ عِلْمًا جَازِمًا مَقْطُوعًا بِهِ وَهِيَ الْمُعَبَّرُ
عَنْهَا: بِشَهَادَةِ السَّمَاعِ الْمُتَوَاتِرِ كَالسَّمَاعِ بِوُجُودِ
مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَبَغْدَادَ وَالْقَاهِرَةِ وَالْقَيْرَوَانِ
وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُدُنِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي ثَبَتَ الْقَطْعُ
بِوُجُودِهَا سَمَاعًا عِنْدَ كُل مَنْ لَمْ يُشَاهِدْهَا مُشَاهَدَةً
مُبَاشَرَةً فَهَذِهِ عِنْدَ حُصُولِهَا تَكُونُ - مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ
الْقَبُول وَالاِعْتِبَارِ - بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ إِجْمَاعًا (1) .
الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ:
34 - تُفِيدُ ظَنًّا قَوِيًّا يَقْرُبُ مِنَ الْقَطْعِ وَهِيَ الْمُعَبَّرُ
عَنْهَا: بِالاِسْتِفَاضَةِ مِنَ الْخَلْقِ الْغَفِيرِ: كَالشَّهَادَةِ
بِأَنَّ نَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ وَأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ
الْقَاسِمِ مِنْ أَوْثَقِ مَنْ أَخَذَ عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ، وَأَنَّ
أَبَا يُوسُفَ يُعْتَبَرُ الصَّاحِبَ الأَْوَّل لأَِبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 345، 346، البهجة في شرح التحفة 1 / 132، مطبعة حجازي
بالقاهرة، حلي المعاصم لبنت فكر ابن عاصم 1 / 132 بهامش البهجة.
(26/233)
قَبُول هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ وَوُجُوبِ
الْعَمَل بِمُقْتَضَاهَا مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: إِذَا رُئِيَ الْهِلاَل
رُؤْيَةً مُسْتَفِيضَةً مِنْ جَمٍّ غَفِيرٍ وَشَاعَ أَمْرُهُ بَيْنَ أَهْل
الْبَلَدِ لَزِمَ الْفِطْرُ أَوِ الصَّوْمُ مَنْ رَآهُ، وَمَنْ لَمْ يَرَهُ
دُونَ احْتِيَاجٍ إِلَى شَهَادَةٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَدُونَ تَوَقُّفٍ
عَلَى إِثْبَاتِ تَعْدِيل نَقَلَتِهِ. (1)
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل أَيْضًا اسْتِفَاضَةُ التَّعْدِيل وَالتَّجْرِيحِ
عِنْدَ الْحُكَّامِ، وَالْمَحْكُومِينَ:
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لاَ يَحْتَاجُ الْحَاكِمُ إِلَى السُّؤَال عَنْهُ
لاِسْتِفَاضَةِ عَدَالَتِهِ عِنْدَهُ سَمَاعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ
يَسْأَل عَنْهُ لاِشْتِهَارِ جُرْحَتِهِ، وَإِنَّمَا يُطَالَبُ بِالْكَشْفِ
عَمَّنْ لَمْ يَشْتَهِرْ لاَ بِهَذِهِ وَلاَ بِتِلْكَ. (2)
وَقَدْ تَنَاقَل الْفُقَهَاءُ، وَأَصْحَابُ التَّرَاجِمِ، أَنَّ ابْنَ
أَبِي حَازِمٍ شَهِدَ عِنْدَ قَاضِي الْمَدِينَةِ فَقَال لَهُ الْقَاضِي:
أَمَّا الاِسْمُ فَاسْمُ عَدْلٍ وَلَكِنْ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّكَ ابْنَ
أَبِي حَازِمٍ؟ فَدَل هَذَا عَلَى أَنَّ عَدَالَةَ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ لاَ
تَحْتَاجُ إِلَى السُّؤَال عَنْهَا، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ الْقَاضِي
وَغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ مَعَ أَنَّهُ لاَ يُعْرَفُ شَخْصُهُ. (3)
الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ:
35 - تُفِيدُ ظَنًّا قَوِيًّا دُونَ الظَّنِّ الْمَذْكُورِ فِي
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) تبصرة الحكام 1 / 346، 347. التاودي على التحفة 1 / 132.
(3) طبقات الفقهاء للشيرازي ص146، دار الرائد العربي بيروت، المدارك لعياض
3 / 9 - 12 الطبعة المغربية.
(26/233)
الْعُدُول فِي الْمَنْقُول عَنْهُمْ
خِلاَفًا لِمَا يَرَاهُ مُطَرِّفٌ وَابْنُ مَاجِشُونَ (1) .
وَالثَّانِي: شُرُوطُ قَبُولِهَا:
36 - وَأَهَمُّهَا بِاخْتِصَارٍ:
(1) أَنْ تَكُونَ مِنْ عَدْلَيْنِ فَأَكْثَرَ وَيُكْتَفَى بِهِمَا عَلَى
الْمَشْهُورِ، خِلاَفًا لِمَنْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُكْتَفَى فِيهَا
إِلاَّ بِأَرْبَعَةٍ عُدُولٍ. (2)
(2) السَّلاَمَةُ مِنَ الرِّيَبِ: فَإِنْ شَهِدَ ثَلاَثَةٌ عُدُولٌ مَثَلاً
عَلَى السَّمَاعِ وَفِي الْحَيِّ أَوْ فِي الْقَبِيلَةِ مِائَةُ رَجُلٍ فِي
مِثْل سِنِّهِمْ لاَ يَعْرِفُونَ شَيْئًا عَنِ الْمَشْهُودِ فِيهِ، فَإِنَّ
شَهَادَتَهُمْ تُرَدُّ لِلرِّيبَةِ الَّتِي حُفَّتْ بِهَا، فَإِذَا
انْتَفَتِ الرِّيبَةُ قُبِلَتْ، كَمَا إِذَا شَهِدَ عَلَى أَمْرٍ مَا،
شَيْخَانِ قَدِ انْقَرَضَ جِيلُهُمَا، فَلاَ تُرَدُّ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ
بِذَلِكَ غَيْرُهُمَا مِنْ أَهْل الْبَلَدِ وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ
عَدْلاَنِ طَارِئَانِ بِاسْتِفَاضَةِ مَوْتٍ، أَوْ وِلاَيَةٍ، أَوْ عَزْلٍ،
قَدْ حَدَثَ بِبَلَدِهِمَا وَلَيْسَ مَعَهُمَا - فِي الْغُرْبَةِ -
غَيْرُهُمَا، فَإِنَّ شَهَادَتَهُمَا مَقْبُولَةٌ لِلْغَرَضِ نَفْسِهِ. (3)
(3) أَنْ يَكُونَ السَّمَاعُ فَاشِيًا مُسْتَفِيضًا، وَهَذَا الْقَدْرُ
مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ دَاخِل الْمَذْهَبِ
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 192، التاج والإكليل 6 / 192، تبصرة الحكام 1 / 347.
(2) تبصرة الحكام 1 / 347، 348، التاودي والتسولي على تحفة ابن عاصم 1 /
138.
(3) تبصرة الحكام 1 / 348، التاودي والتسولي على تحفة ابن عاصم 1 / 137.
(26/234)
الْمَالِكِيِّ وَخَارِجَهُ. (1) إِلاَّ
أَنَّهُمْ قَدِ اخْتَلَفُوا كَمَا تَقَدَّمَ فِي إِضَافَةِ: " مِنَ
الثِّقَاتِ وَغَيْرِهِمْ " أَوْ " مِنَ الثِّقَاتِ " فَقَطْ، أَوْ عَدَمِ
إِضَافَتِهِمَا. (2)
(4) أَنْ يَحْلِفَ الْمَشْهُودُ لَهُ: فَلاَ يَقْضِي الْقَاضِي لأَِحَدٍ
بِالشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ إِلاَّ بَعْدَ يَمِينِهِ، لاِحْتِمَال أَنْ
يَكُونَ أَصْل السَّمَاعِ الَّذِي فَشَا وَانْتَشَرَ مَنْقُولاً عَنْ
وَاحِدٍ، وَالشَّاهِدُ الْوَاحِدُ لاَ بُدَّ مَعَهُ مِنَ الْيَمِينِ فِي
الدَّعَاوَى الْمَالِيَّةِ. (3)
الثَّالِثُ: مَحَالُّهَا: أَيِ: الْمَوَاضِعُ الَّتِي تُقْبَل فِيهَا
شَهَادَةُ السَّمَاعِ.
37 - سَلَكَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ بِالْخُصُوصِ - لِتَحْدِيدِ هَذِهِ
الْمَحَال الْمَرْوِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ - ثَلاَثَ طُرُقٍ:
أَحَدُهَا: لِلْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ الَّذِي يَرْوِي أَنَّهَا
مُخْتَصَّةٌ بِمَا لاَ يَتَغَيَّرُ حَالُهُ، وَلاَ يَنْتَقِل الْمِلْكُ
فِيهِ، كَالْمَوْتِ، وَالنَّسَبِ، وَالْوَقْفِ، وَنَصَّ عَلَى قَوْلَيْنِ
فِي النِّكَاحِ. (4)
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 12 / 24، تبصرة الحكام 1 / 348، 349، مواهب
الجليل 6 / 191، 192.
(2) انظر: المدونة الكبرى 5 / 171، البيان والتحصيل 1 / 153، 154، جواهر
الإكليل 2 / 241، الكافي في فقه أهل المدينة 2 / 903، وما بعدها لابن عبد
البر، مكتبة الرياض الحديثة بالرياض ط1 س 1398هـ = 1978م.
(3) البهجة شرح التحفة 1 / 138، تبصرة الحكام 1 / 348.
(4) تهذيب الفروق 4 / 101 بهامش الفروق للقرافي.
(26/234)
الثَّانِيَةُ: لاِبْنِ رُشْدٍ الْجَدِّ:
حَكَى فِيهَا أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ: تُقْبَل فِي كُل شَيْءٍ، لاَ تُقْبَل
فِي شَيْءٍ، تُقْبَل فِي كُل شَيْءٍ مَا عَدَا النَّسَبَ، وَالْقَضَاءَ
وَالنِّكَاحَ وَالْمَوْتَ، إِذْ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَسْتَفِيضَ
اسْتِفَاضَةً يَحْصُل بِهَا الْقَطْعُ لاَ الظَّنُّ، وَرَابِعُ الأَْقْوَال
عَكْسُ السَّابِقِ، لاَ تُقْبَل إِلاَّ فِي النَّسَبِ وَالْقَضَاءِ،
وَالنِّكَاحِ وَالْمَوْتِ. (1)
وَالثَّالِثَةُ: لاِبْنِ شَاسٍ، وَابْنِ الْحَاجِبِ، وَجُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ قَالُوا: إِنَّهَا تَجُوزُ فِي مَسَائِل مَعْدُودَةٍ،
أَوْصَلَهَا بَعْضُهُمْ إِلَى عِشْرِينَ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى إِحْدَى
وَعِشْرِينَ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى اثْنَتَيْنِ وَثَلاَثِينَ وَأَنْهَاهَا
أَحَدُهُمْ إِلَى تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ. (2)
مِنْهَا: النِّكَاحُ، وَالْحَمْل، وَالْوِلاَدَةُ، وَالرَّضَاعُ،
وَالنَّسَبُ، وَالْمَوْتُ، وَالْوَلاَءُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالأَْحْبَاسُ،
وَالضَّرَرُ، وَتَوْلِيَةُ الْقَاضِي وَعَزْلُهُ، وَتَرْشِيدُ السَّفِيهِ،
وَالْوَصِيَّةُ، وَفِي الصَّدَقَاتِ، وَالأَْحْبَاسِ الَّتِي تَقَادَمَ
أَمْرُهَا، وَطَال زَمَانُهَا، وَفِي الإِْسْلاَمِ وَالرِّدَّةِ،
وَالْعَدَالَةِ، وَالتَّجْرِيحِ، وَالْمِلْكِ لِلْحَائِزِ. (3)
__________
(1) البيان والتحصيل 10 / 153، 154.
(2) المصدر السابق ص101، 102.
(3) القوانين الفقهية لابن جزي ص205 دار القلم بيروت ط1 س1977م، تبصرة
الحكام 1 / 349، الكافي لابن عبد البر 2 / 903 - 906 مواهب الجليل 6 / 192
- 194 مع التاج والإكليل، تهذيب الفروق 4 / 101 - 102، جواهر الإكليل 2 /
242، 243، التاودي مع التسولي على تحفة ابن عاصم جـ1 ص132 - 137.
(26/235)
أَمَّا بَقِيَّةُ الأَْئِمَّةِ فَقَدْ
أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّةِ شَهَادَةِ التَّسَامُعِ فِي النَّسَبِ
وَالْوِلاَدَةِ لِلضَّرُورَةِ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَمَّا النَّسَبُ،
فَلاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْل الْعِلْمِ مَنَعَ مِنْهُ، وَلَوْ مُنِعَ
ذَلِكَ لاَسْتَحَالَتْ مَعْرِفَةُ الشَّهَادَةِ بِهِ، إِذْ لاَ سَبِيل
إِلَى مَعْرِفَتِهِ قَطْعًا بِغَيْرِهِ وَلاَ تُمْكِنُ الْمُشَاهَدَةُ
فِيهِ، وَلَوِ اعْتُبِرَتِ الْمُشَاهَدَةُ لَمَا عَرَفَ أَحَدٌ أَبَاهُ
وَلاَ أُمَّهُ وَلاَ أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ. (1)
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ: فَقَال الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: تَجُوزُ - بِالإِْضَافَةِ إِلَى
الْمَسْأَلَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ - فِي تِسْعَةِ أَشْيَاءَ: النِّكَاحِ،
وَالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، وَالْوَقْفِ وَمَصْرِفِهِ، وَالْمَوْتِ،
وَالْعِتْقِ، وَالْوَلاَءِ، وَالْوِلاَيَةِ، وَالْعَزْل، مُعَلِّلِينَ
رَأْيَهُمْ بِأَنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ تَتَعَذَّرُ الشَّهَادَةُ
عَلَيْهَا غَالِبًا بِمُشَاهَدَتِهَا أَوْ مُشَاهَدَةِ أَسْبَابِهَا،
فَلَوْ لَمْ تُقْبَل فِيهَا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ لأََدَّى ذَلِكَ
إِلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، وَتَعْطِيل الأَْحْكَامِ وَضَيَاعِ
الْحُقُوقِ. (2)
وَيَرَى الْبَعْضُ الآْخَرُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا لاَ
تُقْبَل فِي الْوَقْفِ، وَالْوَلاَءِ، وَالْعِتْقِ وَالزَّوْجِيَّةِ؛
لأَِنَّ الشَّهَادَةَ مُمْكِنَةٌ فِيهَا
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 2ا / 24.
(2) المغني مع الشرح الكبير 12 / 24.
(26/235)
بِالْقَطْعِ حَيْثُ إِنَّهَا شَهَادَةٌ
عَلَى عَقْدٍ كَبَقِيَّةِ الْعُقُودِ. (1)
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ تَصِحُّ إِلاَّ فِي النِّكَاحِ وَالْمَوْتِ
وَالنَّسَبِ، وَلاَ تُقْبَل فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ؛ لأَِنَّ
الشَّهَادَةَ فِيهِ لاَ تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا شَهَادَةً بِمَالٍ، وَمَا
دَامَ الأَْمْرُ كَذَلِكَ فَهُوَ شَبِيهٌ بِالدَّيْنِ، وَالدَّيْنُ لاَ
تُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ السَّمَاعِ، وَأَمَّا صَاحِبَاهُ فَقَدْ نَصَّا
عَلَى قَبُولِهَا فِي الْوَلاَءِ مِثْل عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ
(2) .
شَهَادَةُ التَّوَسُّمِ:
38 - قَال ابْنُ فَرْحُونَ: التَّوَسُّمُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَسْمِ وَهُوَ
التَّأْثِيرُ بِحَدِيدَةٍ فِي جِلْدِ الْبَعِيرِ يَكُونُ عَلاَمَةً
يُسْتَدَل بِهَا. قَال ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ قَال لِي مُطَرِّفٌ
وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: فِي الْقَوَافِل وَالرِّفَاقِ تَمُرُّ بِأُمَّهَاتِ
الْقُرَى وَالْمَدَائِنِ فَتَقَعُ بَيْنَهُمُ الْخُصُومَةُ عِنْدَ حَاكِمِ
الْقَرْيَةِ أَوِ الْمَدِينَةِ الَّتِي حَلُّوا بِهَا، أَوْ مَرُّوا بِهَا،
فَإِنَّ مَالِكًا وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ أَجَازُوا شَهَادَةَ مَنْ شَهِدَ
مِنْهُمْ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، مِمَّنْ جَمَعَهُ ذَلِكَ السَّفَرُ،
وَوُجْهَةُ تِلْكَ الْمُرَافَقَةِ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفُوا بِعَدَالَةٍ
وَلاَ سَخْطَةٍ إِلاَّ عَلَى التَّوَسُّمِ لَهُمْ بِالْحُرِّيَّةِ
وَالْعَدَالَةِ وَذَلِكَ فِيمَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُعَامَلاَتِ
فِي ذَلِكَ السَّفَرِ خَاصَّةً مِنَ الأَْسْلاَفِ
__________
(1) نفس المصدر السابق.
(2) بدائع الصنائع 6 / 266، 267، المغني مع الشرح الكبير 12 / 24.
(26/236)
وَالأَْكْرِيَةِ، وَالْبُيُوعِ،
وَالأَْشْرِبَةِ، كَانُوا مِنْ أَهْل بَلَدٍ وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ أَهْل
بَلَدَيْنِ مَتَى كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَالْمَشْهُودُ لَهُ مِنْ
أَهْل الْقَرْيَةِ، أَوِ الْمَدِينَةِ الَّتِي اخْتَصَمُوا فِيهَا، أَوْ
مَعْرُوفًا مِنْ غَيْرِهَا إِذَا كَانَ مِمَّنْ جَمَعَهُ وَإِيَّاهُمْ
ذَلِكَ السَّفَرُ، وَكَذَلِكَ تَجُوزُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ عَلَى
كَرْيِهِمْ فِي كُل مَا عَمِلُوهُ بِهِ وَفِيهِ وَعَلَيْهِ فِي ذَلِكَ
السَّفَرِ قَالاَ (أَيْ: مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ) : وَإِنَّمَا
أُجِيزَتْ شَهَادَةُ التَّوَسُّمِ عَلَى وَجْهِ الاِضْطِرَارِ مِثْل مَا
أُجِيزَتْ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ فِيمَا لاَ يَحْضُرُهُ
الرِّجَال، مِثْل مَا أُجِيزَتْ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ بَيْنَهُمْ فِي
الْجِرَاحَاتِ. قَالاَ: وَلاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ التَّوَسُّمِ فِي كُل
حَقٍّ كَانَ ثَابِتًا فِي دَعْوَاهُمْ قَبْل سَفَرِهِمْ، إِلاَّ
بِالْمَعْرِفَةِ وَالْعَدَالَةِ.
قَال ابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَلاَ يُمَكَّنُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِنْ
تَجْرِيحِ هَؤُلاَءِ الشُّهُودِ، لأَِنَّهُمْ إِنَّمَا أُجِيزُوا عَلَى
التَّوَسُّمِ فَلَيْسَ فِيهِمْ جُرْحَةٌ إِلاَّ أَنْ يَسْتَرِيبَ
الْحَاكِمُ فِيهِمْ قَبْل حُكْمِهِ بِشَهَادَتِهِمْ بِسَبَبِ قَطْعِ يَدٍ،
أَوْ جَلْدٍ فِي ظَهْرٍ فَلْيَتَثَبَّتْ فِي تَوَسُّمِهِ، فَإِنْ ظَهَرَ
لَهُ انْتِفَاءُ تِلْكَ الرِّيبَةِ، وَإِلاَّ أَسْقَطَهُمْ. قَال: وَلَوْ
شَهِدَ شَاهِدٌ وَامْرَأَةٌ، أَوْ عَدْلٌ، وَتَوَسَّمَ فِيهِمْ أَنَّ
هَؤُلاَءِ الَّذِينَ قُبِلُوا بِالتَّوَسُّمِ عَبِيدٌ أَوْ مَسْخُوطُونَ،
فَإِنْ كَانَ قَبْل الْحُكْمِ تَثَبَّتَ فِي ذَلِكَ: وَإِنْ كَانَ بَعْدَ
الْحُكْمِ بِهِمْ فَلاَ يُرَدُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ
(26/236)
أَنْ يَشْهَدَ عَدْلاَنِ: أَنَّهُمَا
كَانَا عَبْدَيْنِ أَوْ مَسْخُوطَيْنِ قَال: وَلاَ يُقْبَل بَعْضُهُمْ
عَلَى بَعْضٍ فِي سَرِقَةٍ، وَلاَ زِنًا، وَلاَ غَصْبٍ، وَلاَ تَلَصُّصٍ،
وَلاَ مُشَاتَمَةٍ، وَإِنَّمَا أُجِيزَتْ فِي الْمَال فِي السَّفَرِ
لِلضَّرُورَةِ.
قَال ابْنُ الْفَرَسِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَحَكَى ابْنُ حَبِيبٍ
ذَلِكَ يَعْنِي شَهَادَةَ التَّوَسُّمِ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ
خِلاَفُ ظَاهِرِ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ، وَرِوَايَتُهُ عَنْ مَالِكٍ
أَنَّهُ، لَمْ يُجِزْ شَهَادَةَ الْغُرَبَاءِ دُونَ أَنْ تُعْرَفَ
عَدَالَتُهُمْ. انْتَهَى.
ثُمَّ قَال ابْنُ فَرْحُونَ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ
الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْغُرَبَاءِ حَيْثُ لاَ تَكُونُ
ضَرُورَةٌ مِثْل شَهَادَتِهِمْ فِي الْحَضَرِ (1)
أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ:
39 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ: لاَ يَحِل لِلشَّاهِدِ
أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى أَدَائِهِ الشَّهَادَةَ إِذَا تَعَيَّنَتْ
عَلَيْهِ (2) لأَِنَّ إِقَامَتَهَا فَرْضٌ، قَال تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا
الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} . (3)
أَمَّا إِذَا لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، وَكَانَ مُحْتَاجًا، وَكَانَ
أَدَاؤُهَا يَسْتَدْعِي تَرْكَ عَمَلِهِ وَتَحَمُّل
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 5 - 6.
(2) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 12 / 6، الشرح الكبير 12 / 5،
المغني 12 / 9، أدب القضاء لابن أبي الدم الشافعي 2 / 4.
(3) سورة الطلاق / 2.
(26/237)
الْمَشَقَّةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ إِلَى: عَدَمِ جَوَازِ أَخْذِ الأُْجْرَةِ عَلَيْهَا، لَكِنْ
لَهُ أُجْرَةُ الرُّكُوبِ إِلَى مَوْضِعِ الأَْدَاءِ. (1) قَال تَعَالَى:
{وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} . (2)
وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى: الْجَوَازِ؛
وَذَلِكَ لأَِنَّ إِنْفَاقَ الإِْنْسَانِ عَلَى عِيَالِهِ فَرْضُ عَيْنٍ،
وَالشَّهَادَةَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَلاَ يُشْتَغَل عَنْ فَرْضِ الْعَيْنِ
بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، فَإِذَا أَخَذَ الرِّزْقَ جَمَعَ بَيْنَ
الأَْمْرَيْنِ. وَلأَِنَّ الشَّهَادَةَ وَهِيَ لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ
يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا أُجْرَةً كَمَا يَجُوزُ عَلَى كَتْبِ
الْوَثِيقَةِ. (3)
تَعْدِيل الشُّهُودِ:
40 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي
الشَّاهِدِ، وَلاَ فِي اعْتِبَارِ الْعَدَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ
الْحَاصِلَةِ بِالسُّؤَال وَالتَّزْكِيَةِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي
الاِكْتِفَاءِ بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ. (4)
وَفِي تَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَزْكِيَةٌ) .
تَحْلِيفُ الشَّاهِدِ الْيَمِينَ:
41 - قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: حُكِيَ عَنِ ابْنِ وَضَّاحٍ، وَقَاضِي
الْجَمَاعَةِ بِقُرْطُبَةَ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ: أَنَّهُ حَلَّفَ
شُهُودًا فِي تَرِكَةٍ " بِاللَّهِ إِنَّ مَا شَهِدُوا بِهِ
__________
(1) المراجع المذكورة، والدر المختار 4 / 370، وحاشية الدسوقي 4 / 199،
والشرح الصغير 4 / 285.
(2) سورة البقرة / 282.
(3) المغني 12 / 19، والمهذب 2 / 325. -
(4) الهداية 3 / 118، فتح القدير 6 / 12، الفتاوى الهندية 3 / 527.
(26/237)
لَحَقٌّ ". وَعَنِ ابْنِ وَضَّاحٍ أَنَّهُ
قَال: أَرَى لِفَسَادِ النَّاسِ أَنْ يُحَلِّفَ الْحَاكِمُ الشُّهُودَ.
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهَذَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ. وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ تَحْلِيفَ الشَّاهِدَيْنِ إِذَا كَانَا مِنْ غَيْرِ أَهْل
الْمِلَّةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ وَكَذَا. قَال ابْنُ عَبَّاسٍ
بِتَحْلِيفِ الْمَرْأَةِ إِذَا شَهِدَتْ فِي الرَّضَاعِ وَهُوَ إِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ.
قَال الْقَاضِي: لاَ يَحْلِفُ الشَّاهِدُ عَلَى أَصْلِنَا إِلاَّ فِي
مَوْضِعَيْنِ وَذَكَرَ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ، ثُمَّ قَال: (قَال
شَيْخُنَا يَعْنِي ابْنَ تَيْمِيَّةَ) هَذَانِ الْمَوْضِعَانِ قُبِل
فِيهِمَا الْكَافِرُ وَالْمَرْأَةُ وَحْدَهَا لِلضَّرُورَةِ، فَقِيَاسُهُ
أَنَّ كُل مَنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لِلضَّرُورَةِ اسْتُحْلِفَ (قَال
ابْنُ الْقَيِّمِ) : وَإِذَا كَانَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُفَرِّقَ الشُّهُودَ
إِذَا ارْتَابَ بِهِمْ فَأَوْلَى أَنْ يُخَلِّفَهُمْ إِذَا ارْتَابَ
بِهِمْ. (1)
الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ:
42 - قَدْ لاَ يَسْتَطِيعُ الشَّاهِدُ الْمَقْبُول الشَّهَادَةِ أَنْ
يُؤَدِّيَ الشَّهَادَةَ بِنَفْسِهِ أَمَامَ الْقَضَاءِ، لِسَفَرٍ، أَوْ
مَرَضٍ، أَوْ عُذْرٍ مِنَ الأَْعْذَارِ، فَيُشْهِدُ عَلَى شَهَادَتِهِ
شَاهِدَيْنِ تَتَوَفَّرُ فِيهِمَا الصِّفَاتُ الَّتِي تُؤَهِّلُهُمَا
لِلشَّهَادَةِ، وَيَطْلَبُ مِنْهُمَا تَحَمُّلَهَا وَالإِْدْلاَءَ بِهَا
أَمَامَ الْقَضَاءِ، فَيَقُومُ هَذَانِ الشَّاهِدَانِ مَقَامَهُ، فِي نَقْل
تِلْكَ الشَّهَادَةِ إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بِلَفْظِهَا
__________
(1) الطرق الحكمية ص125.
(26/238)
الْمَخْصُوصِ فِي التَّحَمُّل
وَالأَْدَاءِ؛ لأَِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ فَلاَ تُقْبَل
الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ إِلاَّ عِنْدَ تَعَذُّرِ شُهُودِ الأَْصْل
بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَيَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ دَوَامَ تَعَذُّرِ شُهُودِ
الأَْصْل إِلَى حِينِ صُدُورِ الْحُكْمِ، فَمَتَى أَمْكَنَتْ شَهَادَةُ
الأُْصُول قَبْل الْحُكْمِ وُقِفَ الْحُكْمُ عَلَى سَمَاعِهَا، وَلَوْ
بَعْدَ سَمَاعِ شَهَادَةِ الْفُرُوعِ؛ لأَِنَّهُ قَدَرَ عَلَى الأَْصْل
فَلاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْبَدَل.
وَمِمَّا يُجِيزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ أَنْ
يَخَافَ الْمَوْتَ فَيَضِيعَ الْحَقُّ.
هَذَا عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ، وَإِنْ كَانَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ
مُتَبَايِنَةً فِيمَا يَجُوزُ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَمَا
لاَ يَجُوزُ.
فَقَدْ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ
الشَّافِعِيِّ: إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ جَائِزَةٌ فِي
سَائِرِ الأُْمُورِ مَالاً أَوْ عُقُوبَةً. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا: جَائِزَةٌ فِي
كُل حَقٍّ لاَ يَسْقُطُ بِشُبْهَةٍ، فَلاَ تُقْبَل فِيمَا يَنْدَرِئُ
بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ. (2)
قَال الْحَنَفِيَّةُ وَإِنَّمَا قُلْنَا بِذَلِكَ اسْتِحْسَانًا.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَلَيْسَتْ حَقًّا
__________
(1) المدونة الكبرى 5 / 159، تبصرة الحكام (على هامش فتح العلي المالك) 1 /
353، والمهذب 2 / 339، ومنتهى الإرادات 3 / 560.
(2) الهداية 3 / 129، 130، الفتاوى الهندية 3 / 523، المغني 12 / 87، الشرح
الكبير 12 / 102.
(26/238)
لِلْمَشْهُودِ لَهُ وَالنِّيَابَةُ لاَ
تُجْزِئُ فِي الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ، وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ أَنَّ
الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إِلَيْهَا، إِذْ شَاهِدُ الأَْصْل قَدْ يَعْجِزُ عَنْ
أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِمَرَضٍ أَوْ مَوْتٍ أَوْ بُعْدِ مَسَافَةٍ، فَلَوْ
لَمْ تَجُزِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ أَدَّى إِلَى ضَيَاعِ
الْحُقُوقِ، وَصَارَ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى: جَوَازِ تَحَمُّل الشَّهَادَةِ عَلَى
الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا، وَإِلَى قَبُول الشَّهَادَةِ عَلَى
الشَّهَادَةِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ
مِنْكُمْ} وَلأَِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهَا؛ لأَِنَّ الأَْصْل قَدْ
يَتَعَذَّرُ؛ وَلأَِنَّ الشَّهَادَةَ حَقٌّ لاَزِمٌ، فَيَشْهَدُ عَلَيْهَا
كَسَائِرِ الْحُقُوقِ؛ وَلأَِنَّهَا طَرِيقٌ يُظْهِرُ الْحَقَّ
كَالإِْقْرَارِ فَيُشْهِدُ عَلَيْهَا، لَكِنَّهَا إِنَّمَا تُقْبَل فِي
غَيْرِ عُقُوبَةٍ مُسْتَحَقَّةٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَغَيْرِ إِحْصَانٍ،
كَالأَْقَارِيرِ، وَالْعُقُودِ، وَالنُّسُوخِ، وَالرَّضَاعِ،
وَالْوِلاَدَةِ، وَعُيُوبِ النِّسَاءِ. سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حَقُّ
الآْدَمِيِّ وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ، وَتُقْبَل فِي
إِثْبَاتِ عُقُوبَةِ الآْدَمِيِّ عَلَى الْمَذْهَبِ كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ
الْقَذْفِ. أَمَّا الْعُقُوبَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ لِلَّهِ تَعَالَى
كَالزِّنَى، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَلاَ تُقْبَل فِيهَا الشَّهَادَةُ عَلَى
الشَّهَادَةِ عَلَى الأَْظْهَرِ. (2)
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 238.
(2) مغني المحتاج 4 / 452، 453، وانظر مختصر المزني 5 / 258، المهذب 2 /
338، مغني المحتاج 4 / 453.
(26/239)
46 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ
إِلَى أَنَّهُ: إِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ أَحَدِ
الشَّاهِدَيْنِ، وَشَهِدَ آخَرُ عَلَى شَهَادَةِ الشَّاهِدِ الثَّانِي،
لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ إِثْبَاتُ قَوْلٍ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ.
خِلاَفًا لِلْحَنَابِلَةِ فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ الشَّهَادَةَ عَلَى
هَذِهِ الصُّورَةِ. (1)
وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدٍ، ثُمَّ شَهِدَا عَلَى
شَهَادَةِ الشَّاهِدِ الثَّانِي فِي الْقَضِيَّةِ نَفْسِهَا، فَقَدْ ذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ -
إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ. (2)
مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْل عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: " لاَ
يَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ إِلاَّ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ (3) .
وَالْقَوْل الثَّانِي: عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِكُلٍّ
مِنَ الأَْصْلَيْنِ اثْنَانِ؛ لأَِنَّ شَهَادَتَهُمَا عَلَى وَاحِدٍ
قَائِمَةٌ مَقَامَ شَهَادَتِهِ، فَلاَ تَقُومُ مَقَامَ شَهَادَةِ غَيْرِهِ.
43 - وَلاَ يَصِحُّ تَحَمُّل شَهَادَةِ مَرْدُودِ الشَّهَادَةِ؛
لِسُقُوطِهَا.
__________
(1) المهذب 2 / 338، شرح منتهى الإرادات 3 / 560، وتبيين الحقائق للزيلعي 4
/ 237، 238، تبصرة الحكام 1 / 282.
(2) الهداية 3 / 130، المبسوط 16 / 138، فتاوى قاضيخان (مطبوعة على هامش
الفتاوى الهندية) 2 / 485، المغني 12 / 95 - 96.
(3) قول علي رواه عبد الرزاق في المصنف (المصنف: 8 / 339 الحديث. 1545)
وانظره في نصب الراية 4 / 87، والدراية 2 / 173، ضمن تخريج الحديث 835.
(26/239)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
إِلَى أَنَّهُ: لاَ يَصِحُّ تَحَمُّل النِّسْوَةِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى
الشَّهَادَةِ، لأَِنَّ شَهَادَةَ الْفَرْعِ تُثْبِتُ الأَْصْل لاَ مَا
شَهِدَ بِهِ؛ وَلأَِنَّ التَّحَمُّل لَيْسَ بِمَالٍ وَلاَ الْمَقْصُودُ
مِنْهُ الْمَال، وَهُوَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَال فَلَمْ
يُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ كَالنِّكَاحِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ عَلَى
شَهَادَةِ غَيْرِهِنَّ، فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَتُهُنَّ، إِنْ كَانَ
مَعَهُنَّ رَجُلٌ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَشْهَبُ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ
مُطْلَقًا، وَأَجَازَ أَصْبَغُ نَقْل امْرَأَتَيْنِ عَنِ امْرَأَتَيْنِ
فِيمَا يَنْفَرِدْنَ بِهِ. قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ:
لاَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ إِلاَّ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَلاَ تُجْزِئُ
فِيهِ النِّسَاءُ، وَلاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ عَلَى شَهَادَةِ
رَجُلٍ، وَلَوْ كُنَّ أَلْفًا، إِلاَّ مَعَ رَجُلٍ؛ لأَِنَّ الشَّهَادَةَ
لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بِرَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى صِحَّةِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ، حَيْثُ
يُقْبَلْنَ فِي أَصْلٍ وَفَرْعٍ، وَفَرْعِ فَرْعٍ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ
إِثْبَاتُ مَا يَشْهَدُ بِهِ الأُْصُول فَدَخَل فِيهِ النِّسَاءُ،
فَيُقْبَل رَجُلاَنِ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَيُقْبَل
رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى مِثْلِهِمْ أَوْ رَجُلَيْنِ أَصْلَيْنِ أَوْ
فَرْعَيْنِ فِي الْمَال وَمَا يُقْصَدُ بِهِ، وَتُقْبَل امْرَأَةٌ عَلَى
امْرَأَةٍ فِيمَا تُقْبَل فِيهِ الْمَرْأَةُ. (1)
__________
(1) تبيين الحقائق 2 / 238، مغني المحتاج 4 / 454، المهذب 2 / 388، تبصرة
الحكام / 283 ط: دار الكتب العلمية - لبنان، وشرح منتهى الإرادات 3 / 560،
561
(26/240)
48 - وَإِذَا فَسَقَ الشَّاهِدُ الأَْصِيل
أَوِ ارْتَدَّ، أَوْ نَشَأَتْ عِنْدَهُ عَدَاوَةٌ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ
امْتَنَعَ الْقَاضِي مِنْ قَبُول شَهَادَةِ الْفَرْعِ؛ لِسُقُوطِ شَهَادَةِ
الأَْصْل. (1) وَلَوْ حَدَثَ الْفِسْقُ أَوِ الرِّدَّةُ بَعْدَ
الشَّهَادَةِ وَقَبْل الْحُكْمِ امْتَنَعَ الْحُكْمُ.
الاِسْتِرْعَاءُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ:
44 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الاِسْتِرْعَاءُ فِي
الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَالاِسْتِرْعَاءُ هُوَ: طَلَبُ
الْحِفْظِ، أَيْ: بِأَنْ يَقُول شَاهِدُ الأَْصْل لِشَاهِدِ الْفَرْعِ:
اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي وَاحْفَظْهَا، فَلِلْفَرْعِ وَلِمَنْ سَمِعَهُ
يَقُول ذَلِكَ، أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَلَوْ لَمْ يَخُصَّهُ
بِالاِسْتِرْعَاءِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا سَمِعَ شَاهِدُ
الْفَرْعِ الأَْصْل شَهَادَةَ الشَّاهِدِ الأَْصْل أَمَامَ الْقَاضِي،
فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَإِنْ لَمْ
يَسْتَرْعِهِ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَيْضًا مَا إِذَا سَمِعَ
الْفَرْعُ الأَْصْل يَذْكُرُ سَبَبَ الْحَقِّ بِأَنْ يَقُول: أَشْهَدُ
أَنَّ لِفُلاَنٍ عَلَى فُلاَنٍ أَلْفًا مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ كَقَرْضٍ
أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
__________
(1) انظر المبسوط 16 / 139، الفتاوى الهندية 3 / 252، وفتاوى قاضيخان 2 /
485، الفتاوى البزازية (على هامش الفتاوى الهندية) 5 / 295، تبصرة الحكام 1
/ 354، ومغني المحتاج 4 / 454، وشرح منتهى الإرادات 3 / 560
(26/240)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ
اشْتِرَاطِهِ؛ لأَِنَّ مَنْ سَمِعَ إِقْرَارَ غَيْرِهِ حَل لَهُ
الشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَقُل لَهُ اشْهَدْ. (1)
45 - وَيُؤَدِّي شَاهِدُ الْفَرْعِ شَهَادَتَهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي
تَحَمَّلَهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلاَ نَقْصٍ، فَإِنْ سَمِعَهُ
يَشْهَدُ بِحَقٍّ مُضَافٍ إِلَى سَبَبٍ يُوجِبُ الْحَقَّ ذَكَرَهُ، وَإِنْ
سَمِعَهُ يَشْهَدُ عِنْدَ الْحَاكِمِ ذَكَرَهُ، وَإِنْ أَشْهَدَهُ شَاهِدُ
الأَْصْل عَلَى شَهَادَتِهِ أَوِ اسْتَرْعَاهُ، قَال: أَشْهَدُ أَنَّ
فُلاَنًا يَشْهَدُ أَنَّ لِفُلاَنٍ عَلَى فُلاَنٍ كَذَا وَأَشْهَدَنِي
عَلَى شَهَادَتِهِ وَهَكَذَا.
وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُومَ شَاهِدُ الْفَرْعِ بِتَعْدِيل شَاهِدِ
الأَْصْل، وَيَقُومُ الْقَاضِي بِالْبَحْثِ عَنِ الْعَدَالَةِ، فَإِنْ
عَدَّلَهُ الْفَرْعُ وَهُوَ أَهْلٌ لِلتَّعْدِيل جَازَ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، إِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ
الْفَرْعِ مَا لَمْ يُعَدِّل شَاهِدَ الأَْصْل، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ
عَدَالَتَهُ لَمْ يَنْقُل الشَّهَادَةَ عَنْهُ. (2)
وَإِنْ أَنْكَرَ شُهُودُ الأَْصْل الشَّهَادَةَ لَمْ تُقْبَل شَهَادَةُ
شُهُودِ الْفَرْعِ؛ لأَِنَّ التَّحْمِيل لَمْ يَثْبُتْ، لِلتَّعَارُضِ
بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ. (3)
__________
(1) الهداية 2 / 130، والمهذب 2 / 339، وتبصرة الحكام 1 / 353
(2) الهداية 3 / 131، وتبيين الحقائق 4 / 240، وتبصرة الحكام 1 / 283،
ومغني المحتاج 4 / 456، وشرح منتهى الإرادات 3 / 560
(3) الهداية 3 / 131، الفتاوى الهندية 3 / 525، وشرح منتهى الإرادات 3 /
561
(26/241)
46 - أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْقَضَاءَ
بِشَهَادَةِ الاِسْتِرْعَاءِ عَلَى بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَقُومُ
بِهَا الإِْنْسَانُ اضْطِرَارًا، كَالطَّلاَقِ وَالْوَقْفِ وَالْهِبَةِ،
وَالتَّزْوِيجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَصُورَتُهَا أَنْ يَكْتُبَ
الْمُسْتَرْعَى كِتَابًا سِرًّا؛ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَل هَذَا
التَّصَرُّفَ لأَِمْرٍ يَتَخَوَّفُهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ مَالِهِ،
وَأَنَّهُ يَرْجِعُ فِيمَا عَقَدَ عِنْدَ أَمْنِهِ مِمَّا يَتَخَوَّفُهُ
وَيَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ شُهُودُ الاِسْتِرْعَاءِ. (1) وَقَدْ أَوْرَدَ
صَاحِبُ تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ أَمْثِلَةً لِمَا يَقُولُهُ
الْمُسْتَرْعِي، فِي وَثِيقَةِ الاِسْتِرْعَاءِ فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ
شَهَادَةُ الاِسْتِرْعَاءِ. فَقَال نَقْلاً عَنِ ابْنِ الْعَطَّارِ:
يُصَدَّقُ الْمُسْتَرْعَى فِي الْحَبْسِ (يَعْنِي الْوَقْفَ) فِيمَا
يَذْكُرُهُ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي يَتَوَقَّعُهَا وَيَكْتُبُ فِي ذَلِكَ:
" أَشْهَدَ فُلاَنٌ شُهُودَ هَذَا الْكِتَابِ بِشَهَادَةِ اسْتِرْعَاءٍ،
وَاسْتِخْفَاءٍ لِلشَّهَادَةِ: أَنَّهُ مَتَى عَقَدَ فِي دَارِهِ
بِمَوْضِعِ كَذَا تَحْبِيسًا عَلَى بَنِيهِ أَوْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ
النَّاسِ فَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ لأَِمْرٍ يَتَوَقَّعُهُ عَلَى نَفْسِهِ،
أَوْ عَلَى مَالِهِ الْمَذْكُورِ، وَلِيُمْسِكَهُ عَلَى نَفْسِهِ
وَيَرْجِعَ فِيمَا عَقَدَ فِيهِ عِنْدَ أَمْنِهِ مِمَّا تَخَوَّفَهُ،
وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِمَا عَقَدَهُ فِيهِ وَجْهَ الْقُرْبَةِ، وَلاَ
وَجْهَ الْحَبْسِ بَل لِمَا يَخْشَاهُ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ لِمَا
يَعْقِدُهُ فِيهِ مِنَ التَّحْبِيسِ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فِي
تَارِيخِ كَذَا وَكَذَا. (2)
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 2
(2) المصدر السابق
(26/241)
وَمِمَّا ذَكَرُوهُ أَيْضًا أَنَّهُ إِذَا
خَطَبَ مَنْ هُوَ قَاهِرٌ لِشَخْصٍ بَعْضَ بَنَاتِهِ فَأَنْكَحَهُ
الْمَخْطُوبُ إِلَيْهِ، وَأَشْهَدَ شُهُودَ الاِسْتِرْعَاءِ سِرًّا: أَنِّي
إِنَّمَا أَفْعَلُهُ خَوْفًا مِنْهُ وَهُوَ مِمَّنْ يُخَافُ عَدَاوَتُهُ.
وَأَنَّهُ إِنْ شَاءَ اخْتَارَهَا لِنَفْسِهِ لِغَيْرِ نِكَاحٍ
فَأَنْكَحَهُ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ نِكَاحٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا.
وَإِذَا بَنَى ظَالِمٌ أَوْ مَنْ يُخَافُ شَرُّهُ غُرْفَةً مُحْدَثَةً
بِإِزَاءِ دَارِ رَجُلٍ وَفَتَحَ بَابًا يَطَّلِعُ مِنْهُ عَلَى مَا فِي
دَارِهِ عَلَى وَجْهِ الاِسْتِطَالَةِ لِقُدْرَتِهِ، وَجَاهِهِ، فَيُشْهِدُ
الرَّجُل أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْهُ لِخَوْفِهِ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ
يَضُرَّهُ أَوْ يُؤْذِيَهُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِذَلِكَ وَأَنَّهُ
قَائِمٌ عَلَيْهِ بِحَقِّهِ مَتَى أَمْكَنَهُ، وَتَشْهَدُ الْبَيِّنَةُ
لِمَعْرِفَتِهِمْ وَأَنَّ الْمُحْدِثَ لِذَلِكَ مِمَّنْ يُتَّقَى شَرُّهُ،
وَيَنْفَعُهُ ذَلِكَ مَتَى قَامَ بِطَلَبِ حَقِّهِ. (1)
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ: " مَنْ لَهُ دَارٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
أَخِيهِ فَبَاعَ أَخُوهُ جَمِيعَهَا مِمَّنْ يَعْلَمُ اشْتِرَاكَهُمَا
فِيهَا وَلَهُ سُلْطَانٌ، وَقُدْرَةٌ، وَخَافَ ضَرَرَهُ إِذَا تَكَلَّمَ
فِي ذَلِكَ، فَاسْتَرْعَى أَنَّ سُكُوتَهُ عَنِ الْكَلاَمِ فِي نَصِيبِهِ
وَفِي الشُّفْعَةِ فِي نَصِيبِ أَخِيهِ لِمَا يَتَوَقَّعُهُ مِنْ تَحَامُل
الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ، وَإِضْرَارِهِ بِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ تَارِكٍ
لِطَلَبِهِ مَتَى أَمْكَنَهُ. فَإِذَا ذَهَبَتِ التَّقِيَّةُ، وَقَامَ مِنْ
فَوْرِهِ بِهَذِهِ الْوَثِيقَةِ أَثْبَتَهَا، وَأَثْبَتَ الْمِلْكَ،
__________
(1) المصدر السابق
(26/242)
وَالاِشْتِرَاكَ، وَأَعْذَرَ إِلَى أَخِيهِ
وَإِلَى الْمُشْتَرِي، قُضِيَ لَهُ بِحَقِّهِ وَبِالشُّفْعَةِ. (1)
مَا يَجُوزُ الاِسْتِرْعَاءُ فِيهِ:
47 - قَال ابْنُ فَرْحُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ الاِسْتِرْعَاءُ
فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ بَابِ التَّطَوُّعِ: كَالطَّلاَقِ،
وَالتَّحْبِيسِ وَالْهِبَةِ، قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَلاَ يَلْزَمُهُ أَنْ
يَفْعَل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمِ السَّبَبُ إِلاَّ
بِقَوْلِهِ، مِثْل أَنْ يُشْهِدَ أَنِّي إِنْ طَلَّقْتُ فَإِنِّي أُطَلِّقُ
خَوْفًا مِنْ أَمْرٍ أَتَوَقَّعُهُ مِنْ جِهَةِ كَذَا، أَوْ حَلَفَ
بِالطَّلاَقِ وَكَانَ أَشْهَدَ أَنِّي إِنْ حَلَفْتُ بِالطَّلاَقِ
فَإِنَّمَا هُوَ لأَِجْل إِكْرَاهٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا وَمَا
ذَكَرْنَاهُ مَعَهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا مَعْرِفَةُ الشُّهُودِ
وَالسَّبَبِ الْمَذْكُورِ. وَلاَ يَجُوزُ الاِسْتِرْعَاءُ فِي الْبُيُوعِ
مِثْل أَنْ يُشْهِدَ قَبْل الْبَيْعِ أَنَّهُ رَاجِعٌ فِي الْبَيْعِ
وَأَنَّ بَيْعَهُ لأَِمْرٍ يَتَوَقَّعُهُ؛ لأَِنَّ الْمُبَايَعَةَ خِلاَفُ
مَا تَطَوَّعَ بِهِ. وَقَدْ أَخَذَ الْبَائِعُ فِيهِ ثَمَنًا، وَفِي ذَلِكَ
حَقٌّ لِلْمُبْتَاعِ إِلاَّ أَنْ يَعْرِفَ الشُّهُودُ الإِْكْرَاهَ عَلَى
الْبَيْعِ أَوِ الإِْخَافَةَ فَيَجُوزُ الاِسْتِرْعَاءُ إِذَا انْعَقَدَ
قَبْل الْبَيْعِ وَتَضَمَّنَ الْعَقْدُ شَهَادَةَ مَنْ يَعْرِفُ
الإِْخَافَةَ وَالتَّوَقُّعَ الَّذِي ذَكَرَهُ. (2)
الرُّجُوعُ عَنِ الشَّهَادَةِ:
48 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ إِنْ
__________
(1) المصدر السابق
(2) تبصرة الحكام بهامش فتح العلي المالك 1 / 336 ط المكتبة التجارية
الكبرى
(26/242)
رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا، فَلاَ
يَخْلُو رُجُوعُهُمَا أَنْ يَكُونَ قَبْل قَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بَعْدَهُ،
فَإِنْ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا قَبْل الْحُكْمِ سَقَطَتْ
شَهَادَتُهُمَا، لأَِنَّ الْحَقَّ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَضَاءِ،
وَالْقَاضِيَ لاَ يَقْضِي بِكَلاَمٍ مُتَنَاقِضٍ، وَلاَ ضَمَانَ
عَلَيْهِمَا، لأَِنَّهُمَا لَمْ يُتْلِفَا شَيْئًا عَلَى الْمُدَّعِي،
وَلاَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
49 - وَإِنْ رَجَعَا بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَبْل التَّنْفِيذِ: فَإِنْ كَانَ
فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ لَمْ يَجُزِ الاِسْتِيفَاءُ وَالتَّنْفِيذُ؛
لأَِنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَالرُّجُوعُ شُبْهَةٌ
ظَاهِرَةٌ، فَلَمْ يَجُزِ الاِسْتِيفَاءُ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ. (1)
وَإِنْ كَانَ مَالاً أَوْ عَقْدًا اسْتَوْفَى الْمَال لأَِنَّ الْقَضَاءَ
قَدْ تَمَّ، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ حَتَّى
يَتَأَثَّرَ بِالرُّجُوعِ؛ فَلاَ يُنْتَقَضُ الْحُكْمُ. وَعَلَى الشُّهُودِ
ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ لإِِقْرَارِهِمْ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ الضَّمَانِ، وَلاَ يَرْجِعُونَ عَلَى الْمَحْكُومِ
لَهُ. (2)
50 - أَمَّا إِنْ رَجَعَ الشُّهُودُ بَعْدَ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ: فَإِنَّهُ
لاَ يُنْقَضُ الْحُكْمُ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ رَدُّ مَا
أَخَذَهُ، لأَِنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُونَا
__________
(1) الدر المختار 4 / 396، ومنح الجليل 4 / 288، والمغني 12 / 137، والمهذب
2 / 341
(2) المهذب 2 / 341، ومغني المحتاج 4 / 456، الهداية 3 / 132، والفتاوى
الهندية 3 / 535، الشرح الكبير 12 / 113، الخرشي 4 / 220، شرح منح الجليل 4
/ 284، 289 - 290
(26/243)
صَادِقَيْنِ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونَا
كَاذِبَيْنِ، وَقَدِ اقْتَرَنَ الْحُكْمُ وَالاِسْتِيفَاءُ بِأَحَدِ
الاِحْتِمَالَيْنِ؛ فَلاَ يُنْقَضُ بِرُجُوعٍ مُحْتَمَلٍ، (1) وَعَلَى
الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَضْمَنَا مَا أَتْلَفَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا. (2)
فَإِنْ كَانَ مَا شَهِدَا بِهِ يُوجِبُ الْقَتْل، أَوِ الْحَدَّ، أَوِ
الْقِصَاصَ: نُظِرَ، فَإِنْ قَالاَ تَعَمَّدْنَا لِيُقْتَل بِشَهَادَتِنَا:
وَجَبَ عَلَيْهِمَا الْقَوَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَبِهِ قَال ابْنُ أَبِي لَيْلَى
وَالأَْوْزَاعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ شُبْرُمَةَ (3) .
لِمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ فَقَطَعَهُ، ثُمَّ
أَتَيَاهُ بِرَجُلٍ آخَرَ فَقَالاَ: إِنَّا أَخْطَأْنَا بِالأَْوَّل،
وَهَذَا السَّارِقُ، فَأَبْطَل شَهَادَتَهُمَا عَلَى الآْخَرِ،
وَضَمَّنَهُمَا دِيَةَ يَدِ الأَْوَّل، وَقَال: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكُمَا
تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا (4) .
وَلأَِنَّهُمَا أَلْجَآهُ إِلَى قَتْلِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَزِمَهُمَا
__________
(1) المهذب 2 / 341، المغني 12 / 138
(2) الهداية 3 / 132
(3) حاشية الدسوقي 4 / 207، المهذب 2 / 341، المغني 12 / 136، 138، الشرح
الكبير 12 / 117
(4) خبر الشعبي أن رجلين شهدا عند علي. . . . . رواه الإمام الشافعي (الأم:
7 / 49) والطحاوي (اختلاف الفقهاء: 216) ومحمد بن الحسن في كتاب الرجوع عن
الشهادة (المبسوط 16 / 178) والبيهقي (السنن الكبرى 10 / 251)
(26/243)
الْقَوَدُ كَمَا لَوْ أَكْرَهَاهُ عَلَى
قَتْلِهِ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَجُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ لاَ
قَوَدَ عَلَيْهِمَا، لأَِنَّهُمَا لَمْ يُبَاشِرَا الإِْتْلاَفَ،
فَأَشْبَهَا حَافِرَ الْبِئْرِ، وَنَاصِبَ السِّكِّينِ، إِذَا تَلِفَ
بِهِمَا شَيْءٌ، وَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ. (2)
وَإِنْ قَال الشُّهُودُ: أَخْطَأْنَا، أَوْ جَهِلْنَا كَانَتْ عَلَيْهِمُ
الدِّيَةُ فِي أَمْوَالِهِمْ مُخَفَّفَةً مُؤَجَّلَةً، وَلاَ تَتَحَمَّل
الْعَاقِلَةُ عَنْهُمَا شَيْئًا؛ لأَِنَّ الْعَاقِلَةَ لاَ تَحْمِل
الاِعْتِرَافَ.
وَإِنْ قَالُوا: تَعَمَّدْنَا الشَّهَادَةَ وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ
يُقْتَل وَهُمْ يَجْهَلُونَ قَتْلَهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ دِيَةٌ
مُغَلَّظَةٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْعَمْدِ، وَمُؤَجَّلَةٌ لِمَا فِيهِ مِنَ
الْخَطَأِ.
فَإِنْ قَالُوا: أَخْطَأْنَا، وَجَبَتْ دِيَةٌ مُخَفَّفَةٌ؛ لأَِنَّهُ
خَطَأٌ وَلاَ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ لأَِنَّهَا وَجَبَتْ
بِاعْتِرَافِهِمْ.
فَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ تَعَمَّدَ وَبَعْضَهُمْ أَخْطَأَ
وَجَبَ عَلَى الْمُخْطِئِ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ الْمُخَفَّفَةِ، وَعَلَى
الْمُتَعَمِّدِ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ، وَلاَ يَجِبُ
عَلَيْهِمُ الْقَوَدُ لِمُشَارَكَةِ الْمُخْطِئِ.
__________
(1) المهذب 2 / 341
(2) شرح أدب القاضي للحصاف تأليف ابن مازة 4 / 508 الفقرة: 1559، وبدائع
الصنائع 9 / 4066، الفتاوى الهندية 3 / 555، شرح منح الجليل 4 / 289 - 290
(26/244)
وَإِنْ اخْتَلَفُوا، فَقَال بَعْضُهُمْ:
تَعَمَّدْنَا كُلُّنَا، وَقَال بَعْضُهُمْ أَخْطَأْنَا كُلُّنَا، وَجَبَ
عَلَى الْمُقِرِّ بِعَمْدِ الْجَمِيعِ الْقَوَدُ، وَعَلَى الْمُقِرِّ
بِخَطَأِ الْجَمِيعِ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ الْمُخَفَّفَةِ. (1)
(رُجُوعُ بَعْضِ الشُّهُودِ:
51 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (2) : إِلَى أَنَّهُ إِذَا رَجَعَ
أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بَعْدَ الْحُكْمِ وَبَعْدَ اسْتِيفَائِهِ فِي
شَهَادَةٍ نِصَابُهَا شَاهِدَانِ ضَمِنَ نِصْفَ الْمَال أَوْ نِصْفَ
الدِّيَةِ، وَالْعِبْرَةُ لِمَنْ بَقِيَ لاَ لِمَنْ رَجَعَ.
وَلَوْ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ أَصْل أَرْبَعَةِ شُهُودٍ فِي شَهَادَةٍ
نِصَابُهَا شَاهِدَانِ أَيْضًا، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِبَقَاءِ نِصَابِ
الشَّهَادَةِ قَائِمًا.
وَكَذَا لَوْ رَجَعَ اثْنَانِ مِنْهُمْ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمَا،
لِبَقَاءِ النِّصَابِ.
وَلَوْ رَجَعَ ثَلاَثَةٌ مِنْهُمْ فَعَلَيْهِمْ نِصْفُ الْمَال، لِبَقَاءِ
شَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ شَطْرُ الشَّهَادَةِ فَيَتَحَمَّلُونَ شَطْرَ
الْمَال.
وَلَوْ رَجَعَتِ امْرَأَةٌ وَكَانَ النِّصَابُ رَجُلاً وَامْرَأَتَيْنِ
غَرِمَتِ الرَّاجِعَةُ رُبُعَ الْمَال.
__________
(1) المهذب 2 / 341
(2) بدائع الصنائع 9 / 4072 - 4073، تبيين الحقائق 4 / 245، الفتاوى
الهندية 3 / 525، شرح منح الجليل 4 / 292، الخرشي 4 / 221، الهداية 3 /
133، الجمل على شرح المنهج 5 / 406 - 407، نهاية المحتاج 8 / 313
(26/244)
وَلَوْ شَهِدَ عَشْرُ نِسْوَةٍ وَرَجُلٌ
وَاحِدٌ، فَرَجَعَ ثَمَانٍ مِنْهُنَّ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِنَّ، لِبَقَاءِ
نِصَابِ الشَّهَادَةِ.
وَلَوْ رَجَعَ تِسْعٌ مِنْهُنَّ غَرِمْنَ رُبُعَ الْمَال. .
وَهَكَذَا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ كُل مَوْضِعٍ وَجَبَ الضَّمَانُ
فِيهِ عَلَى الشُّهُودِ بِالرُّجُوعِ وَجَبَ أَنْ يُوَزَّعَ بَيْنَهُمْ
عَلَى عَدَدِهِمْ قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا.
قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْهُ:
إِنَّهُ إِذَا شَهِدَ بِشَهَادَةٍ ثُمَّ رَجَعَ وَقَدْ أَتْلَفَ مَالاً
فَإِنَّهُ ضَامِنٌ بِقَدْرِ مَا كَانُوا فِي الشَّهَادَةِ، فَإِنْ كَانُوا
اثْنَيْنِ فَعَلَيْهِ النِّصْفُ، وَإِنْ كَانُوا ثَلاَثَةً فَعَلَيْهِ
الثُّلُثُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانُوا عَشَرَةً فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ،
وَسَوَاءٌ رَجَعَ وَحْدَهُ أَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا، وَسَوَاءٌ رَجَعَ
الزَّائِدُ عَنِ الْقَدْرِ الْكَافِي فِي الشَّهَادَةِ أَوْ مَنْ لَيْسَ
بِزَائِدٍ، فَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِالْقِصَاصِ، فَرَجَعَ وَاحِدٌ
مِنْهُمْ، وَقَال: عَمَدْنَا إِلَى قَتْلِهِ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ،
وَإِنْ قَال: أَخْطَأْنَا فَعَلَيْهِ رُبُعُ الدِّيَةِ، وَإِنْ رَجَعَ
اثْنَانِ فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ، أَوْ نِصْفُ الدِّيَةِ.
وَإِنْ شَهِدَ سِتَّةٌ بِالزِّنَى عَلَى مُحْصَنٍ فَرُجِمَ بِشَهَادَتِهِمْ
ثُمَّ رَجَعَ وَاحِدٌ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ أَوْ سُدُسُ الدِّيَةِ، وَإِنْ
رَجَعَ اثْنَانِ فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ أَوْ ثُلُثُ الدِّيَةِ. (1)
__________
(1) المغني 12 / 144، الشرح الكبير 12 / 120
(26/245)
الاِخْتِلاَفُ فِي الشَّهَادَةِ:
52 - الشَّهَادَةُ إِذَا وَافَقَتِ الدَّعْوَى قُبِلَتْ، وَإِنْ
خَالَفَتْهَا لَمْ تُقْبَل؛ لأَِنَّ تَقَدُّمَ الدَّعْوَى فِي حُقُوقِ
الْعِبَادِ شَرْطُ قَبُول الشَّهَادَةِ، وَقَدْ وُجِدَتْ فِيمَا
يُوَافِقُهَا وَانْعَدَمَتْ فِيمَا يُخَالِفُهَا.
وَيَنْبَغِي اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُمَا لِتَكْمُل
الشَّهَادَةُ.
فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ دِينَارًا، وَشَهِدَ الآْخَرُ
أَنَّهُ غَصَبَهُ ثَوْبًا: فَلاَ تَكْمُل الشَّهَادَةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ
هَذَيْنِ. (1)
53 - وَيُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَذَهَبَ صَاحِبَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِلَى أَنَّ الاِتِّفَاقَ
فِي الْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ. (2)
فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ وَالآْخَرُ بِأَلْفَيْنِ
لَمْ تُقْبَل الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ، لأَِنَّهُمَا اخْتَلَفَا لَفْظًا،
وَذَلِكَ يَدُل عَلَى اخْتِلاَفِ الْمَعْنَى لأَِنَّهُ يُسْتَفَادُ
بِاللَّفْظِ، وَهَذَا لأَِنَّ الأَْلْفَ لاَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ
الأَْلْفَيْنِ، بَل هُمَا جُمْلَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ فَحَصَل عَلَى
كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدٌ وَاحِدٌ، فَصَارَ كَمَا إِذَا اخْتَلَفَ
جِنْسُ الْمَال. (3)
__________
(1) المغني 12 / 131
(2) الهداية 3 / 136، تبيين الحقائق 4 / 229، الفتاوى الهندية 3 / 503
(3) الهداية 3 / 136
(26/245)
وَعِنْدَهُمَا تُقْبَل عَلَى الأَْلْفِ
إِذَا كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي الأَْلْفَيْنِ.
وَهُوَ رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. (1)
لأَِنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الأَْلْفِ، وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا
بِالزِّيَادَةِ فَيَثْبُتُ مَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ دُونَ مَا تَفَرَّدَ
بِهِ أَحَدُهُمَا، فَصَارَ كَالأَْلْفِ وَالأَْلْفِ وَالْخَمْسِمِائَةِ.
أَمَّا إِذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالآْخَرُ بِأَلْفٍ
وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ: قُبِلَتِ
الشَّهَادَةُ عَلَى الأَْلْفِ عِنْدَ الْجَمِيعِ حَتَّى عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ لاِتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهَا لَفْظًا وَمَعْنًى؛
لأَِنَّ الأَْلْفَ وَالْخَمْسَمِائَةِ جُمْلَتَانِ عُطِفَتْ إِحْدَاهُمَا
عَلَى الأُْخْرَى وَالْعَطْفُ يُقَرِّرُ الأَْوَّل. (2)
54 - وَمَتَى كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى فِعْلٍ فَاخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ
فِي زَمَنِهِ، أَوْ مَكَانِهِ، أَوْ صِفَةٍ لَهُ تَدُل عَلَى تَغَايُرِ
الْفِعْلَيْنِ لَمْ تَكْمُل شَهَادَتُهُمَا.
مِثْل أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ دِينَارًا يَوْمَ
السَّبْتِ، وَيَشْهَدَ الآْخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ دِينَارًا يَوْمَ
الْجُمُعَةِ، أَوْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ بِدِمَشْقَ،
وَيَشْهَدَ الآْخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ بِمِصْرَ، أَوْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا
أَنَّهُ غَصَبَهُ ثَوْبًا أَبْيَضَ وَيَشْهَدَ الآْخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ
ثَوْبًا أَسْوَدَ: فَلاَ تَكْمُل
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 345، المهذب 2 / 339، والشرح الكبير 12 / 26
(2) الهداية 2 / 137
(26/246)
الشَّهَادَةُ؛ لأَِنَّ كُل فِعْلٍ لَمْ
يَشْهَدْ بِهِ شَاهِدَانِ. (1)
تَعَارُضُ الشَّهَادَاتِ:
55 - قَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنَ الْخَصْمَيْنِ مُدَّعِيًا وَيُقِيمُ عَلَى
دَعْوَاهُ بَيِّنَةً (شَهَادَةً) كَامِلَةً، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ
الدَّعْوَى فِي مِلْكٍ مُطْلَقٍ أَوْ فِي مِلْكٍ مُقَيَّدٍ بِذِكْرِ سَبَبِ
التَّمَلُّكِ.
فَإِنْ كَانَتَا فِي مِلْكٍ مُطْلَقٍ، لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ سَبَبُ
التَّمَلُّكِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الدَّعْوَى تَارِيخًا عَلَى مَا
ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْمُدَّعَى
بِهِ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا أَوْ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا أَوْ فِي يَدِهِمَا
مَعًا.
56 - أ - فَإِنْ كَانَ الشَّيْءُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا: فَبَيِّنَةُ
الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ (2) عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَحْمَدَ (3) لِقَوْلِهِ:
الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
(4)
وَلأَِنَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ الَّذِي يَدَّعِي مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ وَذُو
الْيَدِ مُدَّعًى عَلَيْهِ، فَجَعَل جِنْسَ الْبَيِّنَةِ
__________
(1) المغني 12 / 131
(2) ذو اليد: هو الذي وضع يده على عين بالفعل أو الذي ثبت تصرفه تصرف
الملاك. والخارج هنا هو المدعي، أو هو البريء عن وضع اليد، والتصرف على
الوجه المشروع - كما في المجلة (م 1757)
(3) الهداية 3 / 157، الإختيار لتعليل المختار 2 / 116، 117، ومجلة الأحكام
العدلية المادة (1757 و 1679، 1680) ، المغني 12 / 167، 168.
(4) الحديث تقدم تخريجه ف6
(26/246)
فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي، وَهُوَ الَّذِي
يَدَّعِي مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ، وَهُوَ الْخَارِجُ، فَتُقْبَل بَيِّنَتُهُ
وَتُرَدُّ بَيِّنَةُ الْيَدِ؛ وَلأَِنَّهَا أَكْثَرُ إِثْبَاتًا،
لأَِنَّهَا تُثْبِتُ الْمِلْكَ لِلْخَارِجِ، وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ لاَ
تُثْبِتُهُ، لأَِنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ لَهُ بِالْيَدِ، وَإِذَا كَانَتْ
أَكْثَرَ إِثْبَاتًا كَانَتْ أَقْوَى.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (1) وَالشَّافِعِيَّةُ (2) : إِلَى تَرْجِيحِ
بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ؛ لأَِنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ مُتَعَارِضَتَانِ،
فَتَبْقَى الْيَدُ دَلِيلاً عَلَى الْمِلْكِ، وَدَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ
مَا رُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَصَمَ
إِلَيْهِ رَجُلاَنِ فِي دَابَّةٍ أَوْ بَعِيرٍ، فَأَقَامَ كُل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ بِأَنَّهَا لَهُ نَتْجُهَا، فَقَضَى بِهَا رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ. (3)
57 - ب - أَمَّا إِذَا كَانَ الشَّيْءُ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا:
فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (4) إِلَى أَنَّهُ يُنْظَرُ: إِنْ: لَمْ
يُؤَرِّخَا وَقْتًا: قُضِيَ بِالشَّيْءِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ
لاِسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ، وَكَذَا إِذَا أَرَّخَا وَقْتًا
بِعَيْنِهِ. وَإِذَا أُرِّخَتْ إِحْدَاهُمَا تَارِيخًا أَسْبَقَ مِنَ
الثَّانِيَةِ: فَالأَْسْبَقُ أَوْلَى، لأَِنَّهُمَا يُعْتَبَرَانِ
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 309، والشرح الصغير 4 / 307، والمغني 12 / 168
(2) المهذب 2 / 312، مختصر المزني 5 / 261
(3) حديث " أن النبي صلى الله عليه وسلم اختصم إليه رجلان في دابة أو بعير.
. . " أخرجه الدارقطني (4 / 209 - ط دار المحاسن) من حديث جابر، وضعف
إسناده ابن حجر في التلخيص (4 / 210 - ط شركة الطباعة الفنية)
(4) الاختيار2 / 118
(26/247)
خَارِجَيْنِ، لِوُجُودِهَا عِنْدَ
غَيْرِهِمَا، فَيَنْطَبِقُ عَلَيْهِمَا وَصْفُ (الْمُدَّعِي) فَتُسْمَعُ
بَيِّنَتُهُمَا، وَيُحْكَمُ لِلأَْسْبَقِ؛ لأَِنَّ الأَْسْبَقَ يُثْبِتُ
الْمِلْكِيَّةَ فِي وَقْتٍ لاَ يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: إِنْ تَعَذَّرَ تَرْجِيحُ إِحْدَى
الْبَيِّنَتَيْنِ بِوَجْهٍ مِنَ الْمُرَجِّحَاتِ، وَالْحَال؛ أَنَّ
الْمُتَنَازَعَ فِيهِ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا: سَقَطَتَا؛ لِتَعَارُضِهِمَا،
وَبَقِيَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ بِيَدِ حَائِزِهِ. وَفِي ذَلِكَ صُوَرٌ
مُتَعَدِّدَةٌ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى كُلٌّ مِنْهُمَا
عَيْنًا وَهِيَ فِي يَدِ ثَالِثٍ، وَهُوَ مُنْكِرٌ وَلَمْ يَنْسِبْهَا
لأَِحَدِهِمَا، وَأَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً، وَكَانَتَا
مُطَلَّقَتِي التَّارِيخِ أَوْ مُتَّفِقَتَيْهِ، أَوْ إِحْدَاهُمَا
مُطْلَقَةً وَالأُْخْرَى مُؤَرَّخَةً: سَقَطَتِ الْبَيِّنَتَانِ،
لِتَنَاقُضِ مُوجِبِيهِمَا وَلاَ مُرَجِّحَ، وَيَحْلِفُ صَاحِبُ الْيَدِ
لِكُلٍّ مِنْهُمَا يَمِينًا.
وَفِي قَوْلٍ: تُسْتَعْمَل الْبَيِّنَتَانِ، وَتُنْزَعُ الْعَيْنُ مِمَّنْ
هِيَ فِي يَدِهِ، وَعَلَى هَذَا تُقْسَمُ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ
مُنَاصَفَةً فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا،
وَيُرَجَّحُ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ.
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ: تُوقَفُ حَتَّى يَبِينَ الأَْمْرُ أَوْ يَصْطَلِحَا
عَلَى شَيْءٍ.
(2) وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَنْكَرَ الثَّالِثُ
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 309
(2) مغني المحتاج 4 / 480
(26/247)
دَعْوَى الْمُدَّعِيَيْنِ، فَقَال:
لَيْسَتْ لَهُمَا وَلاَ لأَِحَدِهِمَا: أُقْرِعَ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ،
وَإِنْ كَانَ لأَِحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ: حُكِمَ لَهُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ
لِكُلٍّ مِنَ الْمُدَّعِيَيْنِ بَيِّنَةٌ: تَعَارَضَتَا لِتَسَاوِيهِمَا
فِي عَدَمِ الْيَدِ، فَتَسْقُطَانِ لِعَدَمِ إِمْكَانِ الْعَمَل
بِإِحْدَاهُمَا. (1)
58 - ج - أَمَّا إِذَا كَانَ الشَّيْءُ فِي يَدِهِمَا مَعًا:
فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (2) إِلَى التَّفْصِيل:
فَإِنْ لَمْ تُؤَرَّخَا تَارِيخًا، وَكَذَا إِذَا أُرِّخَتَا تَارِيخًا
مُعَيَّنًا وَكَانَ تَارِيخُهُمَا سَوَاءً: قُضِيَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
بِالنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ الآْخَرِ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ بِالنِّسْبَةِ
لِهَذَا النِّصْفِ خَارِجٌ فَهُوَ مُدَّعٍ وَالْبَيِّنَةُ لِلْمُدَّعِي.
وَإِنْ أُرِّخَتْ إِحْدَاهُمَا دُونَ الأُْخْرَى: قُضِيَ بَيْنَهُمَا
نِصْفَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَلاَ عِبْرَةَ
بِالتَّارِيخِ لِلاِحْتِمَال، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ لِصَاحِبِ
التَّارِيخِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ فِي أَيْدِيهِمَا كَمَا
كَانَتْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ تَسَاقُطُ الْبَيِّنَتَيْنِ، إِذْ لَيْسَ
أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى بِهَا مِنَ الآْخَرِ، وَقِيل: تُجْعَل بَيْنَهُمَا
عَلَى قَوْل الْقِسْمَةِ،
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 3 / 526، 527.
(2) انظر المصادر السابقة، وانظر نهاية المحتاج 8 / 339، ومغني المحتاج 4 /
480.
(26/248)
وَلاَ يَجِيءُ الْقَوْل بِالْوَقْفِ، إِذْ
لاَ مَعْنَى لَهُ، وَفِي الْقُرْعَةِ وَجْهَانِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ الْمُتَنَازِعَيْنِ إِنْ كَانَ
لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ وَتَسَاوَتِ الْبَيِّنَتَانِ مِنْ كُل وَجْهٍ:
تَعَارَضَتَا وَتَسَاقَطَتَا؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَنْفِي مَا
تُثْبِتُهُ الأُْخْرَى، فَلاَ يُمْكِنُ الْعَمَل بِهِمَا، وَلاَ
بِإِحْدَاهُمَا فَتَتَسَاقَطَانِ، وَيَصِيرُ الْمُتَنَازِعَانِ كَمَنْ لاَ
بَيِّنَةَ لَهُ، فَيَتَحَالَفَانِ، وَيَتَنَاصَفَانِ مَا بِأَيْدِيهِمَا.
(1)
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى تَرْجِيحِ إِحْدَاهُمَا
بِزِيَادَةِ الْعَدَالَةِ فِي الْبَيِّنَةِ الأَْصْلِيَّةِ لاَ
الْمُزَكِّيَةِ، وَفِي رَأْيِ بَعْضِهِمْ تُرَجَّحُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ
إِذَا أَفَادَتِ الْكَثْرَةُ الْعِلْمَ، بِحَيْثُ تَكُونُ الْكَثْرَةُ
جَمْعًا يَسْتَحِيل تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ.
59 - وَإِنْ كَانَتَا فِي مِلْكٍ مُقَيَّدٍ بِسَبَبِهِ:
وَذَلِكَ بِأَنْ يُذْكَرَ الْمِلْكُ عَنْ طَرِيقِ الإِْرْثِ مَثَلاً أَوْ
عَنْ طَرِيقِ الشِّرَاءِ أَوِ النِّتَاجِ.
فَفِي الإِْرْثِ يُقْضَى بِهِ لِلْخَارِجِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ
إِحْدَاهُمَا أَسْبَقَ، فَيُقْضَى بِهِ لِلأَْسْبَقِ.
أَمَّا إِذَا كَانَا خَارِجَيْنِ، بِأَنْ كَانَ الشَّيْءُ عِنْدَ
غَيْرِهِمَا: فَيُقْسَمُ الشَّيْءُ بَيْنَهُمَا، أَوْ يُقْضَى بِهِ
لِلأَْسْبَقِ إِذَا ذَكَرَا تَارِيخًا.
وَفِي الشِّرَاءِ: إِذَا ادَّعَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 3 / 523
(26/248)
الشِّرَاءَ مِنْ صَاحِبِهِ وَلاَ تَارِيخَ
لَهُمَا، وَكَذَا إِنْ أَرَّخَا وَتَارِيخُهُمَا سَوَاءٌ، تَعَارَضَتَا
وَسَقَطَتَا، وَيُتْرَكُ الشَّيْءُ لِلَّذِي فِي يَدِهِ. (1)
أَمَّا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ: فَإِنَّهُ يُقْضَى لَهُ، وَإِذَا
ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ شَخْصٍ آخَرَ يُقْضَى لَهُمَا بِالشَّيْءِ
نِصْفَيْنِ.
وَفِي النِّتَاجِ: بِأَنْ يَذْكُرَ أَنَّ هَذِهِ النَّاقَةَ نَتَجَتْ
عِنْدَهُ، أَيْ: وَلَدَتْ فِي مِلْكِهِ، فَيَكُونُ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى
إِذَا لَمْ يُؤَرِّخَا، أَوْ أَرَّخَا وَقْتًا وَاحِدًا؛ لأَِنَّ
النِّتَاجَ لاَ يَتَكَرَّرُ.
لِمَا رُوِيَ: أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي نَاقَةٍ، فَقَال. كُل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا: نَتَجَتْ هَذِهِ النَّاقَةُ عِنْدِي. وَأَقَامَا
بَيِّنَةً فَقَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ. (2)
أَمَّا مَا يَتَكَرَّرُ سَبَبُهُ، كَالْبِنَاءِ، وَالنَّسْجِ، وَالصُّنْعِ،
وَالْغَرْسِ: فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى. أَمَّا إِذَا ذَكَرَ
أَحَدُهُمَا الْمِلْكَ وَالآْخَرُ النِّتَاجَ: فَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ
أَوْلَى لأَِنَّهَا تُثْبِتُ أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ لِصَاحِبِهِ.
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 309
(2) حديث أن رجلين اختصما في ناقة. . . رواه الدارقطني من حديث جابر (سنن
الدارقطني 4 / 209 الحديث 21) ، والبيهقي (السنن الكبرى 10 / 256) ، وانظر
الدر المختار ورد المحتار (4 / 438 ـ 440) ، ومجلة الأحكام العدلية المادة
1758، وانظر نهاية المحتاج 8 / 339، ومصطلح (تعارض ف: 9) ، والمغني 12 /
187
(26/249)
وَجَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ
الْعَدْلِيَّةِ مَا يَلِي:
أ - إِذَا ادَّعَى أَحَدُ الشَّخْصَيْنِ الْمِلْكَ بِالاِسْتِقْلاَل
وَادَّعَى الآْخَرُ الْمِلْكَ بِالاِشْتِرَاكِ فِي مَالٍ، وَالْحَال أَنَّ
كُلًّا مِنْهُمَا مُتَصَرِّفٌ أَيْ ذُو يَدٍ: فَبَيِّنَةُ الاِسْتِقْلاَل
أَوْلَى.
ب - تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ التَّمْلِيكِ عَلَى بَيِّنَةِ الْعَارِيَّةُ.
ج - تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْبَيْعِ عَلَى بَيِّنَةِ الْهِبَةِ وَالرَّهْنِ
وَالإِْجَارَةِ وَتُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الإِْجَارَةِ عَلَى بَيِّنَةِ
الرَّهْنِ.
د - تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الصِّحَّةِ عَلَى بَيِّنَةِ مَرَضِ الْمَوْتِ.
هـ - تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْعَقْل عَلَى بَيِّنَةِ الْجُنُونِ أَوِ
الْعَتَهِ.
و تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْحُدُوثِ عَلَى بَيِّنَةِ الْقِدَمِ. (1)
كَثْرَةُ الْعَدَدِ وَقُوَّةُ عَدَالَةِ الشَّاهِدِ:
60 - إِذَا أَقَامَ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ بَيِّنَةً عَلَى
مَا ادَّعَاهُ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ مِنَ الْمُرَجِّحَاتِ
سِوَى كَثْرَةِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى بِأَنْ كَانَتِ الأُْولَى
عَشَرَةَ شُهُودٍ وَكَانَتِ الثَّانِيَةُ شَاهِدَيْنِ فَقَطْ، أَوْ
تَرَجَّحَتْ إِحْدَاهُمَا بِزِيَادَةِ الْعَدَالَةِ بِأَنْ كَانَتْ
أَظْهَرَ زُهْدًا وَأَوْفَرَ تَحَرُّجًا مِنَ الأُْخْرَى.
__________
(1) انظر مجلة الأحكام العدلية (المادة 1756 وما بعدها)
(26/249)
فَهَل تَتَرَجَّحُ إِحْدَاهُمَا عَلَى
الأُْخْرَى؟ .
ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (1) إِلَى تَرْجِيحِهَا
بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ وَقُوَّةِ الْعَدَالَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (2) وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ (3) ، وَقَوْل جُمْهُورِ الْمَالِكِيَّةِ (4) : إِلَى
أَنَّهُ لاَ يُغَلَّبُ الْحُكْمُ بِالْبَيِّنَةِ الزَّائِدَةِ فِي
الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ وَإِنَّمَا هُمَا سَوَاءٌ؛ لأَِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى نَصَّ عَلَى عَدَدِ الشَّهَادَةِ بِقَوْلِهِ: {وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (5)
وَبِقَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} . (6)
فَمَنَعَ النَّصُّ مِنَ الاِجْتِهَادِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ؛
وَلأَِنَّهُ لَمَّا جَازَ الاِقْتِصَارُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ مَعَ وُجُودِ
مَنْ هُوَ أَكْثَرُ، وَعَلَى قَبُول الْعَدْل مَعَ مَنْ هُوَ أَعْدَل، دَل
عَلَى أَنَّهُ لاَ تَأْثِيرَ لِزِيَادَةِ الْعَدَدِ وَقُوَّةِ
الْعَدَالَةِ. (7)
__________
(1) انظر حاشية الدسوقي 4 / 177، وتبصرة الحكام 1 / 309
(2) الهداية 3 / 173، نتائج الأفكار (تكملة فتح القدير) 6 / 243، والدر
المختار 4 / 440، والمغني 12 / 176
(3) مختصر المزني: 5 / 261، الأم 6 / 251 ـ 252، الشهادات من الحاوي
للماوردي الفقرة 5044 ـ 5045
(4) المدونة الكبرى 5 / 188، تبصرة الحكام 1 / 309
(5) سورة البقرة / 282
(6) سورة الطلاق / 2
(7) الشهادات من الحاوي للماوردي الفقرة: 5050
(26/250)
شَهَادَةُ الأَْبْدَادِ:
61 - الأَْبْدَادُ: هُمُ الْمُتَفَرِّقُونَ، وَاحِدُهُمْ بُدٌّ، مِنَ
التَّبْدِيدِ؛ لأَِنَّ الشُّهُودَ شَهِدُوا فِي ذَلِكَ مُتَفَرِّقِينَ،
وَاحِدٌ هُنَا وَآخَرُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَوَاحِدٌ الْيَوْمَ وَوَاحِدٌ
غَدًا، وَوَاحِدٌ عَلَى مَعْنًى، وَوَاحِدٌ عَلَى مَعْنًى آخَرَ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: الَّذِينَ انْفَرَدُوا بِبَيَانِ أَحْكَامِ هَذِهِ
الشَّهَادَةِ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الأَْبْدَادِ فِي النِّكَاحِ، وَهِيَ أَنْ
لاَ يَجْتَمِعَ الشُّهُودُ عَلَى شَهَادَةِ الْوَلِيِّ وَالزَّوْجِ، بَل
إِنَّمَا عَقَدُوا وَتَفَرَّقُوا، وَقَال كُل وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ:
(أَشْهِدْ مَنْ لَقِيتَ) هَكَذَا فَسَّرُوهُ بِنَاءً عَلَى الْمَشْهُورِ
مِنَ الْمَذْهَبِ، أَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ
الْعَقْدِ.
فَتَتِمُّ عِنْدَهُمْ بِشَهَادَةِ سِتَّةِ شُهُودٍ: مِنْهُمُ اثْنَانِ
عَلَى الْوَلِيِّ، وَاثْنَانِ عَلَى الزَّوْجِ، وَاثْنَانِ عَلَى
الزَّوْجَةِ إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا. وَفِي الْبِكْرِ ذَاتَ الأَْبِ تَتِمُّ
بِأَرْبَعَةٍ: مِنْهُمْ شَاهِدَانِ عَلَى الزَّوْجِ وَشَاهِدَانِ عَلَى
الْوَلِيِّ.
وَأَمَّا إِنْ أَشْهَدَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمُ الشُّهُودَ الَّذِينَ
أَشْهَدَهُمْ صَاحِبُهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَلَيْسَتْ شَهَادَةَ
أَبْدَادٍ.
قَال ابْنُ الْهِنْدِيِّ: شَهَادَةُ الأَْبْدَادِ لاَ تَعْمَل شَيْئًا،
إِذَا شَهِدَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِغَيْرِ نَصٍّ مَا شَهِدَ بِهِ
صَاحِبُهُ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَى جَمِيعِ
(26/250)
شَهَادَاتِهِمْ وَاحِدًا، حَتَّى يَتَّفِقَ
مِنْهُمْ شَاهِدَانِ عَلَى نَصٍّ وَاحِدٍ.
لَكِنْ فِي الْمَذْهَبِ خِلاَفٌ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ الْهِنْدِيِّ، فَفِي
أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ سُئِل مَالِكٌ عَنْ شَاهِدَيْنِ شَهِدَ أَحَدُهُمَا
فِي مَنْزِلٍ أَنَّهُ مَسْكَنُ هَذَا، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ حَيْزُهُ،
فَقَال خَصْمُهُ: قَدِ اخْتَلَفَتْ شَهَادَتُهُمَا. فَقَال مَالِكٌ:
مَسْكَنُهُ وَحَيْزُهُ شَهَادَةٌ وَاحِدَةٌ لاَ تَفْتَرِقُ. (1)
شَهَادَةُ الاِسْتِخْفَاءِ أَوِ الاِسْتِغْفَال:
62 - الْمُسْتَخْفِي هُوَ الَّذِي يُخْفِي نَفْسَهُ عَنِ الْمَشْهُودِ
عَلَيْهِ لِيُسْمَعَ قَرَارُهُ وَلاَ يُعْلَمَ بِهِ، كَأَنْ يَجْحَدَ
الْحَقَّ عَلاَنِيَةً وَيُقِرَّ بِهِ سِرًّا، فَيَخْتَبِئُ شَاهِدَانِ فِي
مَوْضِعٍ لاَ يَعْلَمُ بِهِمَا الْمُقِرُّ لِيَسْمَعَا إِقْرَارَهُ،
وَلِيَشْهَدَا بِهِ مِنْ بُعْدٍ، فَشَهَادَتُهُمَا مَقْبُولَةٌ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَقَيَّدَهُ
الْمَالِكِيَّةُ بِمَا إِذَا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ غَيْرَ مَخْدُوعٍ
وَلاَ خَائِنٍ لأَِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ:
إِلَى أَنَّهُ لاَ تُسْمَعُ شَهَادَةُ الْمُسْتَخْفِي؛ (2) لأَِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَقُول: {وَلاَ تَجَسَّسُوا} (3)
__________
(1) تبصرة الحكام بهامش فتح العلي المالك 1 / 338
(2) الشرح الكبير 12 / 18، المغني 12 / 101، والإنصاف في معرفة الراجح من
الخلاف 12 / 22، روضة الطالبين للنووي 11 / 243، تبصرة الحكام 1 / 378
وسماها (شهادة الإستغفال) البيان والتحصيل 10 / 56.
(3) سورة الحجرات / 12
(26/251)
شَهَادَةُ الزُّورِ:
63 - شَهَادَةُ الزُّورِ مِنَ الْكَبَائِرِ. (1) وَلاَ يَجُوزُ الْعَمَل
بِهَا وَلاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ فِيمَا بَعْدُ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ
قَال: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ
أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلاَثًا قَالُوا: بَلَى يَا رَسُول
اللَّهِ. قَال: الإِْشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ -
وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا - فَقَال: أَلاَ وَقَوْل الزُّورِ. قَال:
فَمَا زَال يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. (2)
وَلأَِنَّ فِيهَا رَفْعَ الْعَدْل، وَتَحْقِيقَ الْجَوْرِ.
فَإِذَا أَقَرَّ شَخْصٌ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ أَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ
عَلَى ذَلِكَ، قَال أَبُو حَنِيفَةَ (3) : يُشَهَّرُ بِهِ فِي السُّوقِ،
إِنْ كَانَ مِنْ أَهْل السُّوقِ أَوْ فِي قَوْمِهِ أَوْ مَحَلَّتِهِ بَعْدَ
صَلاَةِ الْعَصْرِ فِي مَكَانٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ النَّاسُ، وَيُقَال:
إِنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ وَحَذِّرُوا النَّاسَ
مِنْهُ. (4)
__________
(1) انظر كتاب (الكبائر) للذهبي وقد جعل فيه
شهادة الزور الكبيرة الثامنة عشرة فيه (ص 86)
(2) حديث " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 261
ـ ط السلفية) ومسلم (1 / 91) ـ ط الحلبي)
(3) الهداية 3 / 132، فتح القدير 6 / 83
(4) قوله " ويقال إنا وجدنا هذا شاهد زور. . " أصل ذلك ما ورد عن الصحابة
والتابعين أنهم كانوا يفعلون ذلك انظر أخبار القضاة لوكيع 2 / 19، 3 / 89،
المصنف لعبد الرزاق الصنعاني 8 / 325 ـ 326 الأحاديث 15388 ـ 15390، جامع
مسانيد الإمام الأعظم 2 / 274، المبسوط 16 / 145، سنن البيهقي الكبرى 10 /
141 ـ 142، الدراية 2 / 172
(26/251)
وَلاَ يُحْبَسُ وَلاَ يُعَزَّرُ
بِالضَّرْبِ لِتَحَقُّقِ الْقَصْدِ وَهُوَ الاِنْزِجَارُ.
وَكَانَ شُرَيْحٌ يُشَهِّرُهُ وَلاَ يَضْرِبُهُ. (1)
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: نُوجِعُهُ ضَرْبًا وَنَحْبِسُهُ. (2)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لِلإِْمَامِ أَنْ يُعَزِّرَ شَاهِدَ الزُّورِ
بِالضَّرْبِ أَوِ الْحَبْسِ أَوِ الزَّجْرِ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يُشَهِّرَ
أَمْرَهُ فَعَل (3) لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أَنَّهُ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَسَخَّمَ وَجْهَهُ
(4) أَيْ: سَوَّدَهُ.
وَلأَِنَّ هَذِهِ كَبِيرَةٌ يَتَعَدَّى ضَرَرُهَا إِلَى الْعِبَادِ،
وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزَّرُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (5) وَالْحَنَابِلَةُ (6) : إِلَى تَعْزِيرِهِ
وَضَرْبِهِ وَأَنْ يُطَافَ بِهِ فِي الْمَجَالِسِ.
وَعَلَى كُل حَالٍ إِذَا ثَبَتَ زُورُهُ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَنُبِّهَ
النَّاسُ عَلَى حَقِيقَتِهِ.
وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَبْنِيَّ عَلَى شَهَادَتِهِ كَانَ
__________
(1) انظر ذلك في أخبار القضاة 3 / 219 ـ 220، المبسوط 16 / 145
(2) الهداية 3 / 132، فتح القدير 6 / 83.
(3) المهذب 2 / 330
(4) قوله " لما روي عن عمر أنه ضرب شاهد الزور. . " رواه البيهقي في السنن
الكبرى 10 / 142، بسنده عن مكحول عن عمر
(5) المدونة الكبرى 5 / 203، تبصرة الحكام 2 / 314.
(6) منتهى الإرادات: 678، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 12 / 107،
المغني 12 / 153، الشرح الكبير 12 / 131
(26/252)
بَاطِلاً (1) لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اذْكُرُوا الْفَاسِقَ بِمَا فِيهِ لِيَحْذَرَهُ
النَّاسُ (2)
وَالْمُسْلِمُونَ وَأَهْل الذِّمَّةِ فِي حُكْمِ شَهَادَةِ الزُّورِ
سَوَاءٌ، لِقِيَامِ الأَْهْلِيَّةِ فِي حَقِّهِمْ جَمِيعًا فِيمَا
تَعَلَّقَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ. (3)
وَإِذَا تَابَ شَاهِدُ الزُّورِ وَمَضَتْ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةٌ ظَهَرَتْ
فِيهَا تَوْبَتُهُ، وَتَبَيَّنَ صِدْقُهُ وَعَدَالَتُهُ: قُبِلَتْ
شَهَادَتُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (4) وَبِهِ قَال أَبُو حَنِيفَةَ (5)
وَالشَّافِعِيُّ (6) .
وَقَال مَالِكٌ (7) : لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ أَبَدًا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ
يُؤْمَنُ مِنْهُ.
شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ:
64 - يُقْصَدُ بِهَا أَنْ يُؤَدِّيَ الشَّاهِدُ شَهَادَةً تَحَمَّلَهَا
ابْتِدَاءً لاَ بِطَلَبِ طَالِبٍ وَلاَ بِتَقَدُّمِ دَعْوَى.
وَمَعْنَى (حِسْبَةً) أَيِ احْتِسَابًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى.
__________
(1) الشرح الكبير 12 / 133
(2) حديث " اذكروا الفاسق بما فيه. . . " رواه ابن أبي الدنيا، وابن عدي،
والخطيب من حديث معاوية بن حيدة، ورواه بعضهم عن عائشة: (كشف الخفاء 1 /
114 الحديث 205)
(3) المبسوط 16 / 146
(4) الشرح الكبير 12 / 133
(5) المبسوط 16 / 146، فتح القدير 6 / 84
(6) المهذب 1 / 329، المجموع 2 / 249، روضة الطالبين 11 / 249
(7) المدونة الكبرى 5 / 203
(26/252)
وَتُقْبَل شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ فِي كُل
مَا تَمَحَّضَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، كَالزِّنَى، وَالشُّرْبِ
وَالسَّرِقَةِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْكَفَّارَةِ،
وَالطَّلاَقِ، وَالاِسْتِيلاَدِ، وَالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ
وَعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُْمُورِ الْعَامَّةِ.
(انْظُرْ: حِسْبَةٌ) .
2025 شَهَادَةُ الاِسْتِرْعَاءِ
انْظُرْ: اسْتِرْعَاءٌ
(26/253)
شَهَادَةُ الزُّورِ
التَّعْرِيفُ:
1 - شَهَادَةُ الزُّورِ: مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ يَتَكَوَّنُ مِنْ
كَلِمَتَيْنِ هُمَا: الشَّهَادَةُ، وَالزُّورُ.
أَمَّا الشَّهَادَةُ فِي اللُّغَةِ، فَمِنْ مَعَانِيهَا: الْبَيَانُ،
وَالإِْظْهَارُ، وَالْحُضُورُ، وَمُسْتَنَدُهَا الْمُشَاهَدَةُ إِمَّا
بِالْبَصَرِ أَوْ بِالْبَصِيرَةِ.
وَأَمَّا الزُّورُ فَهُوَ الْكَذِبُ وَالْبَاطِل، وَقِيل: هُوَ شَهَادَةُ
الْبَاطِل، يُقَال: رَجُلٌ زُورٌ وَقَوْمٌ زُورٌ: أَيْ مُمَوِّهٌ بِكَذِبٍ
(1) .
وَشَهَادَةُ الزُّورِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: هِيَ الشَّهَادَةُ بِالْكَذِبِ
لِيُتَوَصَّل بِهَا إِلَى الْبَاطِل مِنْ إِتْلاَفِ نَفْسٍ، أَوْ أَخْذِ
مَالٍ، أَوْ تَحْلِيل حَرَامٍ أَوْ تَحْرِيمِ حَلاَلٍ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ
__________
(1) المفردات في غريب القرآن، ولسان العرب، ومختار الصحاح، والمصباح المنير
مادة " شهد ".
(2) حاشية الطحطاوي على الدر المختار (3 / 260) ط دار المعرفة، بيروت،
والعناية بهامش فتح القدير (3 / 226) ، ط بولاق، ومواهب الجليل 6 / 122 ط
دار الفكر بيروت، وفتح الباري (10 / 412) ط الرياض الحديثة، والقرطبي 12 /
55 ط الكتب سنة 1964.
(26/253)
مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَأَنَّهَا
مُحَرَّمَةٌ شَرْعًا، قَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فِي كِتَابِهِ
مَعَ نَهْيِهِ عَنِ الأَْوْثَانِ فَقَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الأَْوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْل الزُّورِ} ، (1) وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ الأَْسَدِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلاَةَ الصُّبْحِ فَلَمَّا انْصَرَفَ
قَامَ قَائِمًا، فَقَال: عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الإِْشْرَاكَ
بِاللَّهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآْيَةَ: {وَاجْتَنِبُوا
قَوْل الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} (2) .
وَرَوَى أَبُو بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ
الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُول اللَّهِ، قَال ثَلاَثًا:
الإِْشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ - وَكَانَ مُتَّكِئًا -
فَقَال: أَلاَ وَقَوْل الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، أَلاَ وَقَوْل
الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ فَمَا زَال يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ: لاَ
يَسْكُتُ. (3)
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لَنْ تَزُول قَدَمَا
شَاهِدِ الزُّورِ حَتَّى يُوجِبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ. (4)
__________
(1) سورة الحج 30 - 31.
(2) حديث: " عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ". أخرجه ابن ماجه (2 / 794 -
ط الحلبي) وأعله ابن حجر في التلخيص (4 / 90 - ط شركة الطباعة الفنية)
بقوله: " إسناده مجهول ".
(3) حديث: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 10 /
405 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 91 - ط الحلبي) .
(4) حديث: " لن تزول قدما شاهد الزور ". أخرجه ابن ماجه (2 / 974 - ط
الحلبي) وقال البوصيري: " إسناده ضعيف " كذا في مصباح الزجاجة (2 / 38 - ط
دار الجنان) .
(26/254)
فَمَتَى ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي أَوِ
الْحَاكِمِ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ عَمْدًا عَزَّرَهُ
بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي كَيْفِيَّةِ
التَّعْزِيرِ، (1) وَسَيَأْتِي آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِيهَا.
بِمَ تَثْبُتُ شَهَادَةُ الزُّورِ؟
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ لاَ
تَثْبُتُ إِلاَّ بِالإِْقْرَارِ؛ لأَِنَّهُ لاَ تَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ
الْكَذِبِ فِي إِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ بِأَنْ يَشْهَدَ بِمَا
يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ: بِأَنْ يَشْهَدَ عَلَى رَجُلٍ بِفِعْلٍ فِي الشَّامِ
فِي وَقْتٍ، وَيَعْلَمَ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ
فِي الْعِرَاقِ، أَوْ يَشْهَدَ بِقَتْل رَجُلٍ وَهُوَ حَيٌّ، أَوْ أَنَّ
هَذِهِ الْبَهِيمَةَ فِي يَدِ هَذَا مُنْذُ ثَلاَثَةِ أَعْوَامٍ وَسِنُّهَا
أَقَل مِنْ ذَلِكَ، أَوْ يَشْهَدَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ فَعَل شَيْئًا فِي
وَقْتٍ وَقَدْ مَاتَ قَبْل ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يُولَدْ إِلاَّ بَعْدَهُ
وَأَشْبَاهِ هَذَا مِمَّا يُتَيَقَّنُ بِكَذِبِهِ وَيُعْلَمُ تَعَمُّدُهُ
لِذَلِكَ.
__________
(1) العناية بهامش فتح القدير 6 / 84 ط بولاق، والمبسوط للسرخسي 16 / 145،
ط دار المعرفة بيروت، وبدائع الصنائع 6 / 289 - 290 ط دار الكتاب العربي،
وأحكام القرآن للجصاص 3 / 41، وتبيين الحقائق 4 / 223 ط دار المعرفة بيروت،
والشرح الصغير 4 / 744 ط دار المعارف بمصر، والقرطبي 12 / 55 ط الكتاب،
وروضة الطالبين 11 / 145 ط المكتب الإسلامي، والمهذب 2 / 329 ط دار
المعرفة. بيروت، والقليوبي وعميرة 4 / 319 ط عيسى الحلبي، والمغني 9 / 260
ط الرياض، وأعلام الموقعين 1 / 119) ط دار الجيل.
(26/254)
4 - وَلاَ تَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ؛
لأَِنَّهَا نَفْيٌ لِشَهَادَتِهِ، وَالْبَيِّنَةُ حُجَّةٌ لِلإِْثْبَاتِ
دُونَ النَّفْيِ، وَقَدْ تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ فَلاَ يُعَزَّرُ فِي
تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ، أَوْ ظُهُورِ فِسْقِهِ أَوْ غَلَطِهِ فِي
الشَّهَادَةِ، لأَِنَّ الْفِسْقَ لاَ يَمْنَعُ الصِّدْقَ، وَالتَّعَارُضُ
لاَ يُعْلَمُ بِهِ كَذِبُ إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ بِعَيْنِهَا،
وَالْغَلَطُ قَدْ يَعْرِضُ لِلصَّادِقِ الْعَدْل وَلاَ يَتَعَمَّدُهُ
فَيُعْفَى عَنْهُ. (1) وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} .
(2)
قَال الشِّيرَازِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ فَرْحُونَ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ: تَثْبُتُ شَهَادَةُ الزُّورِ مِنْ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُقِرَّ أَنَّهُ شَاهِدُ زُورٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ شَاهِدُ زُورٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَشْهَدَ مَا يَقْطَعُ بِكَذِبِهِ.
وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ فَعَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ سَوَاءٌ
أَكَانَ ذَلِكَ قَبْل الْحُكْمِ أَمْ بَعْدَهُ. (3)
كَيْفِيَّةُ عُقُوبَةِ شَاهِدِ الزُّورِ:
5 - لَمَّا كَانَتِ الشَّرِيعَةُ لَمْ تُقَدِّرْ عُقُوبَةً مُحَدَّدَةً
__________
(1) المبسوط للسرخسي 16 / 145، وفتح القدير 6 / 83، وتبيين الحقائق 4 / 241
ومواهب الجليل 6 / 122، وروضة الطالبين 11 / 145، وأسنى المطالب 4 / 358،
والمغني 9 / 262.
(2) سورة الأحزاب آية: 33.
(3) المهذب 2 / 329 ط دار المعرفة بيروت، وتبصرة الحكام 2 / 52.
(26/255)
لِشَاهِدِ الزُّورِ فَإِنَّ هَذِهِ
الْعُقُوبَةَ هِيَ التَّعْزِيرُ، قَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي
عُقُوبَةِ شَاهِدِ الزُّورِ مِنْ حَيْثُ تَفْصِيلاَتُ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ
لاَ مِنْ حَيْثُ مَبْدَأُ عِقَابِ شَاهِدِ الزُّورِ بِالتَّعْزِيرِ، إِذْ
أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْزِيرِهِ. إِذَا ثَبَتَ
عِنْدَ الْحَاكِمِ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ عَمْدًا عَزَّرَهُ
وُجُوبًا وَشَهَّرَ بِهِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - وَبِهِ قَال شُرَيْحٌ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
وَالأَْوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ
التَّعْزِيرِ، فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ
الْمَالِكِيَّةِ: تَأْدِيبُ شَاهِدِ الزُّورِ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ
الْحَاكِمِ إِنْ رَأَى تَعْزِيرَهُ بِالْجَلْدِ جَلَدَهُ، وَإِنْ رَأَى
أَنْ يَحْبِسَهُ، أَوْ كَشْفَ رَأْسِهِ وَإِهَانَتَهُ وَتَوْبِيخَهُ فَعَل
ذَلِكَ، وَلاَ يَزِيدُ فِي جَلْدِهِ عَلَى عَشْرِ جَلَدَاتٍ، وَقَال
الشَّافِعِيُّ: لاَ يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا. وَأَمَّا
كَيْفِيَّةُ التَّشْهِيرِ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ: فَإِنَّ الْحَاكِمَ
يُوقِفُهُ فِي السُّوقِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْل السُّوقِ، أَوْ مَحَلَّةِ
قَبِيلَتِهِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْقَبَائِل، أَوْ فِي مَسْجِدِهِ إِنْ
كَانَ مِنْ أَهْل الْمَسَاجِدِ، وَيَقُول الْمُوَكَّل بِهِ: إِنَّ
الْحَاكِمَ يَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلاَمَ وَيَقُول: هَذَا شَاهِدُ زُورٍ
فَاعْرِفُوهُ.
6 - وَلاَ يُسَخَّمُ وَجْهٌ (أَيْ يُسَوِّدُهُ) لأَِنَّهُ مُثْلَةٌ، وَقَدْ
نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُثْلَةِ، (1)
وَلاَ يُرْكِبُهُ
__________
(1) حديث: " نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة ". أخرجه البخاري
(الفتح 5 / 119 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن يزيد.
(26/255)
مَقْلُوبًا، وَلاَ يُكَلِّفُ الشَّاهِدَ
أَنْ يُنَادِيَ عَلَى نَفْسِهِ، وَفِي الْجُمْلَةِ لَيْسَ فِي هَذَا
تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَفْعَل مِمَّا يَرَاهُ - مَا لَمْ
يَخْرُجْ إِلَى مُخَالَفَةِ نَصٍّ أَوْ مَعْنَى نَصٍّ. (1)
7 - وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا
ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي أَوِ الْحَاكِمِ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ شَهِدَ
بِالزُّورِ عُوقِبَ بِالسِّجْنِ وَالضَّرْبِ، وَيُطَافُ بِهِ فِي
الْمَجَالِسِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ
ضَرَبَ شَاهِدَ زُورٍ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَسَخَّمَ وَجْهَهُ. وَعَنِ
الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي مَالِكٍ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ
إِلَى عُمَّالِهِ بِالشَّامِ: إِذَا أَخَذْتُمْ شَاهِدَ الزُّورِ
فَاجْلِدُوهُ بِضَرْبِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا، وَسَخِّمُوا وَجْهَهُ
وَطَوِّفُوا بِهِ حَتَّى يَعْرِفَهُ النَّاسُ، وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ
وَيُطَال حَبْسُهُ؛ لأَِنَّهُ أَتَى كَبِيرَةً مِنَ الْكَبَائِرِ
لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.
وَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ شَهَادَةِ الزُّورِ وَبَيْنَ
الشِّرْكِ، فَقَال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَْوْثَانِ
وَاجْتَنِبُوا قَوْل الزُّورِ} (2) ، وَلأَِنَّ هَذِهِ
__________
(1) المدونة 6 / 203 ط دار صادر بيروت، وتبصرة الحكام 2 / 213 ط دار الكتب
العلمية، والشرح الصغير 4 / 206 ط دار المعارف بمصر، والمهذب 2 / 330،
وروضة الطالبين 11 / 144 - 145، المغني 9 / 260 - 262 ط الرياض.
(2) سورة الحج / آية: 30.
(26/256)
الْكَبِيرَةَ يَتَعَدَّى ضَرَرُهَا إِلَى
الْعِبَادِ بِإِتْلاَفِ أَنْفُسِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. (1)
7 م - وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا أَقَرَّ الشَّاهِدُ أَنَّهُ شَهِدَ
زُورًا: يُشَهَّرُ بِهِ فِي الأَْسْوَاقِ إِنْ كَانَ سُوقِيًّا، أَوْ
بَيْنَ قَوْمِهِ إِنْ كَانَ غَيْرَ سُوقِيٍّ، وَذَلِكَ بَعْدَ صَلاَةِ
الْعَصْرِ فِي مَكَانِ تَجَمُّعِ النَّاسِ، وَيَقُول الْمُرْسَل مَعَهُ:
إِنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ، وَحَذِّرُوهُ
النَّاسَ، وَلاَ يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ أَوِ الْحَبْسِ؛ لأَِنَّ شُرَيْحًا
كَانَ يُشَهِّرُ شَاهِدَ الزُّورِ وَلاَ يُعَزِّرُهُ، وَكَانَ قَضَايَاهُ
لاَ تَخْفَى عَنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ؛ وَلأَِنَّ
الْمَقْصُودَ هُوَ التَّوَصُّل إِلَى الاِنْزِجَارِ؛ وَهُوَ يَحْصُل
بِالتَّشْهِيرِ، بَل رُبَّمَا يَكُونُ أَعْظَمَ عِنْدَ النَّاسِ مِنَ
الضَّرْبِ، فَيُكْتَفَى بِهِ، وَالضَّرْبُ وَإِنْ كَانَ مُبَالَغَةً فِي
الزَّجْرِ لَكِنَّهُ يَقَعُ مَانِعًا عَنِ الرُّجُوعِ فَوَجَبَ
التَّخْفِيفُ نَظَرًا إِلَى هَذَا الْوَجْهِ. (2)
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 289 - 290، وفتح القدير 6 / 83، والبحر الرائق 7 /
125، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 241، وتبيين الحقائق 4 / 242، وشرح العناية
بهامش فتح القدير 4 / 84، وابن عابدين 4 / 395، والشرح الصغير 4 / 206،
والقوانين الفقهية ص 203 ط دار القلم بيروت، وتبصرة الحكام 2 / 213.
(2) البحر الرائق 7 / 125 - 126، وتبيين الحقائق 4 / 242، والعناية بهامش
فتح القدير 4 / 84، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار 3 / 260، والبدائع 6
/ 289 - 290.
(26/256)
وَذَكَرَ الزَّيْلَعِيُّ نَقْلاً عَنِ
الْحَاكِمِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْكَاتِبِ: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى
ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَرْجِعَ عَلَى سَبِيل التَّوْبَةِ
وَالنَّدَامَةِ، فَإِنَّهُ لاَ يُعَزَّرُ بِإِجْمَاعِ أَئِمَّةِ
الْحَنَفِيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَرْجِعَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، وَهُوَ
مُصِرٌّ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ بِإِجْمَاعِهِمْ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ لاَ يُعْلَمَ رُجُوعُهُ بِأَيِّ سَبَبٍ فَإِنَّهُ عَلَى
الاِخْتِلاَفِ الَّذِي ذَكَرْنَا. (1)
الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ: إِلَى أَنَّ قَضَاءَ
الْحَاكِمِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا لاَ بَاطِنًا؛ لأَِنَّ
شَهَادَةَ الزُّورِ حُجَّةٌ ظَاهِرًا لاَ بَاطِنًا فَيَنْفُذُ الْقَضَاءُ
كَذَلِكَ لأَِنَّ الْقَضَاءَ يَنْفُذُ بِقَدْرِ الْحُجَّةِ، وَلاَ يُزِيل
شَيْئًا عَنْ صِفَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ، سَوَاءٌ الْعُقُودُ مِنَ النِّكَاحِ
وَغَيْرِهِ وَالْفُسُوخُ، فَلاَ يَحِل لِلْمَقْضِيِّ لَهُ بِشَهَادَةِ
الزُّورِ مَا حُكِمَ لَهُ بِهِ مِنْ مَالٍ أَوْ بُضْعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا،
(2) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ،
وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَل بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ
أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا
أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 242.
(2) ابن عابدين 4 / 333، والشرح الصغير 4 / 295، وروضة الطالبين 11 / 152،
والقليوبي 4 / 304، والمهذب 2 / 343، والمغني 9 / 60.
(26/257)
لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلاَ
يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ. (1)
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: يَنْفُذُ قَضَاءٌ
بِشَهَادَةِ الزُّورِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ
حَيْثُ كَانَ الْمَحَل قَابِلاً، وَالْقَاضِي غَيْرَ عَالِمٍ بِزُورِهِمْ،
لِقَوْل عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لاِمْرَأَةٍ أَقَامَ عَلَيْهَا
رَجُلٌ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، فَأَنْكَرَتْ فَقَضَى لَهُ
عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَتْ لَهُ: لِمَ تُزَوِّجُنِي؟
أَمَا وَقَدْ قَضَيْتَ عَلَيَّ فَجَدِّدْ نِكَاحِي، فَقَال: لاَ أُجَدِّدُ
نِكَاحَكَ، الشَّاهِدَانِ زَوَّجَاكَ؛ فَلَوْ لَمْ يَنْعَقِدِ النِّكَاحُ
بَيْنَهُمَا بَاطِنًا بِالْقَضَاءِ لَمَا امْتَنَعَ مِنْ تَجْدِيدِ
الْعَقْدِ عِنْدَ طَلَبِهَا.
9 - وَأَمَّا فِي الأَْمْلاَكِ الْمُرْسَلَةِ (أَيِ الَّتِي لَمْ يُذْكَرْ
لَهَا سَبَبٌ مُعَيَّنٌ) فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ
يَنْفُذُ ظَاهِرًا لاَ بَاطِنًا؛ لأَِنَّ الْمِلْكَ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ
سَبَبٍ وَلَيْسَ بَعْضُ الأَْسْبَابِ بِأَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ
لِتَزَاحُمِهَا فَلاَ يُمْكِنُ إِثْبَاتُ السَّبَبِ سَابِقًا عَلَى
الْقَضَاءِ بِطَرِيقِ الاِقْتِضَاءِ. (2)
تَضْمِينُ شُهُودِ الزُّورِ:
10 - مَتَى عُلِمَ أَنَّ الشُّهُودَ شَهِدُوا بِالزُّورِ: تَبَيَّنَ أَنَّ
الْحُكْمَ كَانَ بَاطِلاً، وَلَزِمَ نَقْضُهُ وَبُطْلاَنُ
__________
(1) حديث: " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي. . . ". أخرجه البخاري (الفتح
12 / 339 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1337 - ط الحلبي) من حديث أم سلمة.
(2) ابن عابدين 4 / 333، والمغني 9 / 60.
(26/257)
مَا حُكِمَ بِهِ، وَيَضْمَنُ شُهُودُ
الزُّورِ مَا تَرَتَّبَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ مِنْ ضَمَانٍ. فَإِنْ كَانَ
الْمَحْكُومُ بِهِ مَالاً: رُدَّ إِلَى صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ
إِتْلاَفًا: فَعَلَى الشُّهُودِ ضَمَانُهُ؛ لأَِنَّهُمْ سَبَبُ
إِتْلاَفِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَشْهَبُ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى شُهُودِ الزُّورِ إِذَا
شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ، كَأَنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ
بِقَتْلٍ عَمْدٍ عُدْوَانٍ أَوْ بِرِدَّةٍ أَوْ بِزِنًى وَهُوَ مُحْصَنٌ،
فَقُتِل الرَّجُل بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا وَأَقَرَّا بِتَعَمُّدِ
قَتْلِهِ، وَقَالاَ: تَعَمَّدْنَا الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ بِالزُّورِ
لِيُقْتَل أَوْ يُقْطَعَ: فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا، لِتَعَمُّدِ
الْقَتْل بِتَزْوِيرِ الشَّهَادَةِ، لِمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ: أَنَّ
رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى رَجُلٍ
بِالسَّرِقَةِ فَقَطَعَهُ ثُمَّ عَادَا فَقَالاَ: أَخْطَأْنَا، لَيْسَ
هَذَا هُوَ السَّارِقَ، فَقَال عَلِيٌّ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا
تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعَتْكُمَا، وَلاَ مُخَالِفَ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ
فَيَكُونُ إِجْمَاعًا، وَإِنَّهُمَا تَسَبَّبَا إِلَى قَتْلِهِ أَوْ
قَطْعِهِ بِمَا يُفْضِي إِلَيْهِ غَالِبًا فَلَزِمَهُمَا كَالْمُكْرَهِ.
وَبِهِ قَال ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالأَْوْزَاعِيُّ،
وَأَبُو عُبَيْدٍ.
11 - وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا شَهِدُوا زُورًا بِمَا يُوجِبُ الْقَطْعَ
قِصَاصًا، فَقُطِعَ أَوْ فِي سَرِقَةٍ لَزِمَهُمَا الْقَطْعُ، وَإِذَا
سَرَى أَثَرُ الْقَطْعِ إِلَى
(26/258)
النَّفْسِ فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ فِي
النَّفْسِ، كَمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاضِي إِذَا قَضَى زُورًا
بِالْقِصَاصِ، وَكَانَ يَعْلَمُ بِكَذِبِ الشُّهُودِ.
وَتَجِبُ عَلَيْهِمَا الدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ إِذَا قَالاَ: تَعَمَّدْنَا
الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ، وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ يُقْتَل بِهَذَا، وَكَانَا
مِمَّا يَحْتَمِل أَنْ يَجْهَلاَ ذَلِكَ. وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي
أَمْوَالِهِمَا لأَِنَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ وَلاَ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ؛
لأَِنَّهُ ثَبَتَ بِاعْتِرَافِهِمَا وَالْعَاقِلَةُ لاَ تَحْمِل
الاِعْتِرَافَ. (1)
12 - وَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الْقِصَاصِ أَوْ شُهُودُ الْحَدِّ بَعْدَ
الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ وَقَبْل الاِسْتِيفَاءِ، لَمْ يُسْتَوْفَ
الْقَوَدُ وَلاَ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ عُقُوبَةٌ لاَ سَبِيل
إِلَى جَبْرِهَا إِذَا اسْتُوْفِيَتْ بِخِلاَفِ الْمَال، وَلأَِنَّ رُجُوعَ
الشُّهُودِ شُبْهَةٌ لاِحْتِمَال صِدْقِهِمْ، وَالْقَوَدُ وَالْحَدُّ
يُدْرَآنِ بِالشُّبْهَةِ، فَيُنْقَضُ الْحُكْمُ، وَلاَ غُرْمَ عَلَى
الشُّهُودِ بَل يُعَزَّرُونَ.
وَوَجَبَتْ دِيَةُ قَوَدٍ لِلْمَشْهُودِ لَهُ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ
بِالْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ وَقَدْ سَقَطَ أَحَدُهُمَا فَتَعَيَّنَ
الآْخَرُ، وَيَرْجِعُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِمَا غَرِمَهُ مِنَ الدِّيَةِ
عَلَى الشُّهُودِ. (2)
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 99 - 300، ونهاية المحتاج 8 / 211، والمهذب 2 /
341، والمغني 9 / 245 - 247، 251، 255، 262، 7 / 645 - 646، وكشاف القناع 6
/ 443، والشرح الصغير 4 / 295 ط دار المعارف بمصر.
(2) المراجع السابقة.
(26/258)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
عَدَا أَشْهَبَ: إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الدِّيَةُ لاَ الْقِصَاصُ؛
لأَِنَّ الْقَتْل بِشَهَادَةِ الزُّورِ قَتْلٌ بِالسَّبَبِ، وَالْقَتْل
تَسَبُّبًا لاَ يُسَاوِي الْقَتْل مُبَاشَرَةً، وَلِذَا قَصُرَ أَثَرُهُ،
فَوَجَبَتْ بِهِ الدِّيَةُ لاَ الْقِصَاصُ. (1)
12 م - وَيَجِبُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى شُهُودِ الزُّورِ إِذَا شَهِدُوا
بِالزِّنَى وَيُقَامُ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ سَوَاءٌ تَبَيَّنَ كَذِبُهُمْ
قَبْل الاِسْتِيفَاءِ أَوْ بَعْدَهُ. وَيُحَدُّونَ فِي الشَّهَادَةِ
بِالزِّنَى حَدَّ الْقَذْفِ أَوَّلاً. ثُمَّ يُقْتَلُونَ إِذَا تَبَيَّنَ
كَذِبُهُمْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ بِالرَّجْمِ.
وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا
بِالتَّدَاخُل فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ:
فَإِنْ كَانَ فِي الْحُدُودِ قَتْلٌ فَإِنَّهُ يُكْتَفَى بِهِ، لِقَوْل
ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " مَا كَانَتْ حُدُودٌ فِيهَا
قَتْلٌ إِلاَّ أَحَاطَ الْقَتْل بِذَلِكَ كُلِّهِ وَلأَِنَّهُ لاَ حَاجَةَ
مَعَهُ إِلَى الزَّجْرِ بِغَيْرِهِ، وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ
ذَلِكَ حَدَّ الْقَذْفِ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ لاَ يَدْخُل فِي الْقَتْل،
بَل لاَ بُدَّ مِنَ اسْتِيفَائِهِ قَبْلَهُ. (2)
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 285، والشرح الصغير 4 / 295.
(2) فتح القدير 4 / 208،209 ط بولاق، والدسوقي (4 / 347) ط دار الفكر،
وروضة الطالبين 10 / 164 ط المكتب الإسلامي، والمغني 8 / 213، 214 ط
الرياض.
(26/259)
تَوْبَةُ شَاهِدِ الزُّورِ:
13 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو
ثَوْرٍ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَابَ شَاهِدُ الزُّورِ وَأَتَتْ عَلَى ذَلِكَ
مُدَّةٌ تَظْهَرُ فِيهَا تَوْبَتُهُ، وَتَبَيَّنَ صِدْقُهُ فِيهَا
وَعَدَالَتُهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ
الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} . (1)
وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: التَّائِبُ
مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ. (2)
وَلأَِنَّهُ تَائِبٌ مِنْ ذَنْبِهِ؛ فَقُبِلَتْ تَوْبَتُهُ كَسَائِرِ
التَّائِبِينَ.
وَمُدَّةُ ظُهُورِ التَّوْبَةِ عِنْدَهُمْ سَنَةٌ؛ لأَِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ
صِحَّةُ التَّوْبَةِ فِي مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ، فَكَانَتْ أَوْلَى الْمُدَدِ
بِالتَّقْدِيرِ سَنَةً؛ لأَِنَّهُ تَمُرُّ فِيهَا الْفُصُول الأَْرْبَعَةُ
الَّتِي تَهِيجُ فِيهَا الطَّبَائِعُ وَتَتَغَيَّرُ فِيهَا الأَْحْوَال.
(3)
وَقَال الْبَابَرْتِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: مُدَّةُ ظُهُورِ التَّوْبَةِ
عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، ثُمَّ
__________
(1) سورة آل عمران آية: 89.
(2) حديث: " التائب من الذنب كمن لا ذنب له ". أخرجه ابن ماجه (2 / 1420 -
ط الحلبي) من حديث ابن مسعود، وفي إسناده مقال، ولكن حسنه ابن حجر لشواهده،
كذا في المقاصد الحسنة للسخاوي (ص - 152 - ط الخانجي) .
(3) شرح العناية بهامش فتح القدير 6 / 84، وروضة الطالبين 11 / 245، 248،
والمهذب 2 / 332، والمغني 9 / 202.
(26/259)
قَال: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُفَوَّضٌ
إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ ظَاهِرَ الصَّلاَحِ حِينَ شَهِدَ
بِالزُّورِ لاَ تُقْبَل لَهُ شَهَادَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ لاِحْتِمَال
بَقَائِهِ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ
مُظْهِرٍ لِلصَّلاَحِ حِينَ الشَّهَادَةِ فَفِي قَبُولِهَا بَعْدَ ذَلِكَ
إِذَا ظَهَرَتْ تَوْبَتُهُ قَوْلاَنِ. (2)
شَهَادَتَانِ
انْظُرْ: إِسْلاَمٌ، تَلْقِينٌ
__________
(1) شرح العناية بهامش فتح القدير 6 / 84.
(2) الشرح الصغير 4 / 206.
(26/260)
شَهْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّهْرُ: الْهِلاَل، سُمِّيَ بِهِ لِشُهْرَتِهِ وَوُضُوحِهِ، ثُمَّ
سُمِّيَتِ الأَْيَّامُ بِهِ. وَجَمْعُهُ: شُهُورٌ وَأَشْهُرٌ، وَهُوَ
مَأْخُوذٌ مِنَ الشُّهْرَةِ وَهِيَ: الاِنْتِشَارُ وَوُضُوحُ الأَْمْرِ،
وَمِنْهُ شَهَرْتُ الأَْمْرَ أُشْهِرُهُ شَهْرًا وَشُهْرَةً فَاشْتَهَرَ
أَيْ: وَضَحَ، وَكَذَلِكَ أَشْهَرْتُهُ وَشَهَّرْتُهُ تَشْهِيرًا. (1)
وَأَوَّل الشَّهْرِ: مِنَ الْيَوْمِ الأَْوَّل إِلَى السَّادِسَ عَشَرَ.
وَآخِرُ الشَّهْرِ مِنْهُ إِلَى الآْخِرِ إِلاَّ إِذَا كَانَ تِسْعَةً
وَعِشْرِينَ يَوْمًا، فَإِنَّ أَوَّلَهُ حِينَئِذٍ إِلَى وَقْتِ الزَّوَال
مِنَ الْخَامِسَ عَشَرَ، وَمَا بَعْدَهُ آخِرُ الشَّهْرِ. وَرَأْسُ
الشَّهْرِ: اللَّيْلَةُ الأُْولَى مَعَ الْيَوْمِ. وَغُرَّةُ الشَّهْرِ:
إِلَى انْقِضَاءِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْهِلاَل فَقِيل:
إِنَّهُ كَالْغُرَّةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَوَّل يَوْمٍ، وَإِنْ خَفِيَ
فَالثَّانِي. وَسَلْخُ الشَّهْرِ: الْيَوْمُ الأَْخِيرُ مِنْهُ. (2)
__________
(1) الصحاح والمصباح المنير.
(2) الكليات 5 / 120.
(26/260)
وَفِي الشَّرْعِ: الْمُرَادُ بِالشَّهْرِ
عِنْدَ الإِْطْلاَقِ: الشَّهْرُ الْهِلاَلِيُّ. (1) قَال اللَّهُ تَعَالَى:
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي
كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضَ مِنْهَا
أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} (2)
. وَلَمْ يَخْتَلِفِ النَّاسُ فِي أَنَّ الأَْشْهُرَ الْحُرُمَ
مُعْتَبَرَةٌ بِالأَْهِلَّةِ.
قَال الْقُرْطُبِيُّ: هَذِهِ الآْيَةُ تَدُل عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ
تَعْلِيقُ الأَْحْكَامِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا، إِنَّمَا يَكُونُ
بِالشُّهُورِ وَالسِّنِينَ الَّتِي تَعْرِفُهَا الْعَرَبُ، دُونَ
الشُّهُورِ الَّتِي تَعْتَبِرُهَا الْعَجَمُ وَالرُّومُ وَالْقِبْطُ،
وَإِنْ لَمْ تَزِدْ (شُهُورُ سَنَوَاتِهِمْ) عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا
لأَِنَّهَا مُخْتَلِفَةُ الأَْعْدَادِ: مِنْهَا مَا يَزِيدُ عَلَى
ثَلاَثِينَ يَوْمًا، وَمِنْهَا مَا يَنْقُصُ. وَشُهُورُ الْعَرَبِ لاَ
تَزِيدُ عَلَى ثَلاَثِينَ يَوْمًا، وَإِنْ كَانَ مِنْهَا مَا يَنْقُصُ.
وَالَّذِي يَنْقُصُ لَيْسَ يَتَعَيَّنُ لَهُ شَهْرٌ، وَإِنَّمَا
تَفَاوُتُهَا فِي النُّقْصَانِ وَالتَّمَامِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلاَفِ
سَيْرِ الْقَمَرِ فِي الْبُرُوجِ. (3)
وَوَرَدَ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ هَذَا الأَْصْل فِي
بَعْضِ الْمَسَائِل، كَالأَْشْهُرِ السِّتَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي أَقَل
الْحَمْل، يُرِيدُونَ بِالشَّهْرِ فِيهَا
__________
(1) شرح التحرير بحاشية الشرقاوي 1 / 155، والمغني 7 / 458.
(2) سورة التوبة / 36.
(3) القرطبي 8 / 133.
(26/261)
ثَلاَثِينَ يَوْمًا وَلاَ يَعْنُونَ بِهِ
الشَّهْرَ الْهِلاَلِيَّ. (1)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشَّهْرِ:
أَشْهُرُ الْحَجِّ:
2 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ هِيَ: شَوَّالٌ،
وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ هِيَ: شَوَّالٌ
وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ. وَلِلتَّفْصِيل ر: (أَشْهُرُ الْحَجِّ
ف 1 - 4 ج 5 49) .
الأَْشْهُرُ الْحُرُمُ:
3 - الأَْشْهُرُ الْحُرُمُ: هِيَ الَّتِي وَرَدَ ذِكْرُهَا فِي قَوْل
اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ
شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضَ
مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} وَالْمُرَادُ بِهَا: رَجَبُ مُضَرَ، وَذُو
الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ: (الأَْشْهُرُ الْحُرُمُ ف 1 - 6 ج 5 50) .
الْعِدَّةُ بِالشُّهُورِ:
4 - إِذَا لَمْ تَكُنْ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ذَاتَ قُرْءٍ
لِصِغَرٍ أَوْ يَأْسٍ، فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ، لِقَوْل اللَّهِ
تَعَالَى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ
ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ
__________
(1) شرح التحرير بحاشية الشرقاوي 1 / 154، وروضة الطالبين 1 / 153.
(26/261)
أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} . (1)
وَذَاتُ الْقُرْءِ إِذَا ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لاَ تَدْرِي مَا رَفَعَهُ
اعْتَدَّتْ بِالأَْشْهُرِ. وَالآْيِسَةُ، وَكُل مَنْ تُوُفِّيَ عَنْهَا
زَوْجُهَا وَلاَ حَمْل بِهَا قَبْل الدُّخُول أَوْ بَعْدَهُ حُرَّةً أَوْ
أَمَةً عِدَّتُهَا بِالشُّهُورِ؛ (2) لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى:
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} . (3)
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ بِالأَْشْهُرِ،
وَعِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَانْتِقَال الْعِدَّةِ مِنَ
الأَْشْهُرِ إِلَى الأَْقْرَاءِ، وَانْتِقَالُهَا مِنَ الأَْقْرَاءِ إِلَى
الأَْشْهُرِ: يُنْظَرُ فِي (عِدَّةٌ) .
الإِْجَارَةُ مُشَاهَرَةً:
5 - إِذَا قَال الْمُؤَجِّرُ: آجَرْتُكَ دَارِي عِشْرِينَ شَهْرًا كُل
شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ مَثَلاً جَازَ الْعَقْدُ بِغَيْرِ خِلاَفٍ؛ لأَِنَّ
الْمُدَّةَ مَعْلُومَةٌ وَأَجْرُهَا مَعْلُومٌ وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنَ
الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ حَقُّ الْفَسْخِ بِحَالٍ، لأَِنَّهَا
مُدَّةٌ وَاحِدَةٌ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَال: آجَرْتُكَ عِشْرِينَ شَهْرًا
بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا. (4)
__________
(1) سورة الطلاق / 4.
(2) المغني 7 / 449 ط الرياض، وبدائع الصنائع 3 / 195، وفتح القدير 3 / 29،
والقوانين الفقهية ص 235 نشر دار الكتاب العربي، ومغني المحتاج 3 / 386،
395، وروضة الطالبين 8 / 370.
(3) سورة البقرة / 234.
(4) المغني مع الشرح الكبير 6 / 19 - 20، وتكملة فتح القدير 7 / 176 ط
بولاق، والتاج والإكليل 5 / 440.
(26/262)
أَمَّا إِذَا قَال الْمُؤَجِّرُ: آجَرْتُكَ
هَذَا كُل شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ. فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ
الإِْجَارَةِ حَسَبَ الاِتِّجَاهَاتِ التَّالِيَةِ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَأَبُو
ثَوْرٍ إِلَى: أَنَّ الإِْجَارَةَ صَحِيحَةٌ إِلاَّ أَنَّ الشَّهْرَ
الأَْوَّل تَلْزَمُ الإِْجَارَةُ فِيهِ بِإِطْلاَقِ الْعَقْدِ، وَمَا
بَعْدَهُ مِنَ الشُّهُورِ يَلْزَمُ الْعَقْدُ فِيهِ بِالتَّلَبُّسِ بِهِ،
وَهُوَ السُّكْنَى فِي الدَّارِ. وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَقَى لِرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ كُل دَلْوٍ
بِتَمْرَةٍ، وَجَاءَ بِالتَّمْرِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَأْكُل مِنْهُ، (1) قَال عَلِيٌّ: كُنْتُ أَدْلُو الدَّلْوَ
وَأَشْتَرِطُهَا جَلْدَةً (2) . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلاً
مِنَ الأَْنْصَارِ قَال لِيَهُودِيٍّ: أَسْقِي نَخْلَكَ؟ قَال: كُل دَلْوٍ
بِتَمْرَةٍ. وَاشْتَرَطَ الأَْنْصَارِيُّ أَنْ لاَ يَأْخُذَهَا خَدِرَةً
عَفِنَةً وَلاَ تَارِزَةً يَابِسَةً وَلاَ حَشَفَةً. وَلاَ يَأْخُذَ إِلاَّ
جَلْدَةً
__________
(1) حديث: " أن عليا استقى لرجل من اليهود ". أخرجه ابن ماجه (2 / 818 - ط
الحلبي) من حديث ابن عباس، وقال البوصيري: " هذا إسناد ضعيف " كذا في مصباح
الزجاجة (2 / 53 - ط دار الجنان) وقال ابن حجر: " رواه أحمد من طريق علي
بإسناد جيد " كذا في التلخيص الحبير (3 / 61 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حديث علي: " كنت أدلو الدلو. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 818 - ط
الحلبي) وقال البوصيري: " هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات موقوفًا ". كذا في
مصباح الزجاجة (2 / 53 - ط دار الجنان) .
(26/262)
فَاسْتَقَى بِنَحْوٍ مِنْ صَاعَيْنِ،
فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (1)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهُوَ نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا؛ وَلأَِنَّ شُرُوعَهُ
فِي كُل شَهْرٍ مَعَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْعَقْدِ مِنَ الاِتِّفَاقِ عَلَى
تَقْدِيرِ أَجْرِهِ وَالرِّضَا بِبَذْلِهِ بِهِ جَرَى مَجْرَى ابْتِدَاءِ
الْعَقْدِ عَلَيْهِ وَصَارَ كَالْبَيْعِ بِالْمُعَاطَاةِ. (2)
وَالْمَالِكِيَّةُ وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ بِصِحَّةِ الإِْجَارَةِ فِي
هَذِهِ الْحَالَةِ إِلاَّ أَنَّهُمْ لاَ يَعْتَبِرُونَ الإِْجَارَةَ
لاَزِمَةً فَلِكُلٍّ مِنَ الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ عِنْدَهُمْ حَل
الْعَقْدِ عَنْ نَفْسِهِ مَتَى شَاءَ، وَلاَ كَلاَمَ لِلآْخَرِ. (3)
وَالْقَوْل الصَّحِيحُ لِلشَّافِعِيَّةِ وَلأَِبِي بَكْرٍ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ جَعْفَرٍ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ لأَِنَّ " كُل " اسْمٌ
لِلْعَدَدِ، فَإِذَا لَمْ يُقَدِّرْهُ كَانَ مُبْهَمًا مَجْهُولاً
فَيَكُونُ فَاسِدًا كَمَا لَوْ قَال: آجَرْتُكَ مُدَّةً أَوْ شَهْرًا. (4)
قَال فِي الإِْمْلاَءِ - وَهُوَ الْقَوْل الْمُقَابِل لِلصَّحِيحِ
لِلشَّافِعِيَّةِ -: تَصِحُّ الإِْجَارَةُ فِي
__________
(1) حديث أبي هريرة: أن رجلا من الأنصار قال ليهودي: أسقي نخلك. أخرجه ابن
ماجه (2 / 818 - 819 - ط الحلبي) وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2
/ 53 - ط دار الجنان) .
(2) المغني مع الشرح الكبير 6 / 18 - 19.
(3) الشرح الصغير 4 / 60.
(4) المهذب 1 / 403 نشر دار المعرفة، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 18.
(26/263)
الشَّهْرِ الأَْوَّل، وَتَبْطُل فِيمَا
زَادَ؛ لأَِنَّ الشَّهْرَ الأَْوَّل مَعْلُومٌ وَمَا زَادَ مَجْهُولٌ،
فَصَحَّ فِي الْمَعْلُومِ وَبَطَل فِي الْمَجْهُول، كَمَا لَوْ قَال:
آجَرْتُكَ هَذَا الشَّهْرَ بِدِينَارٍ وَمَا زَادَ بِحِسَابِهِ (1) .
الْمُرَادُ بِالشَّهْرِ فِي الإِْجَارَةِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ عَقْدَ الإِْجَارَةِ إِذَا
انْطَبَقَ عَلَى أَوَّل الشَّهْرِ كَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ وَمَا بَعْدَهُ
بِالأَْهِلَّةِ (2) .
وَإِنْ لَمْ يَنْطَبِقِ الْعَقْدُ عَلَى أَوَّل الشَّهْرِ تَمَّمَ
الْمُنْكَسِرَ بِالْعَدَدِ مِنَ الأَْخِيرِ، وَيُحْسَبُ الثَّانِي
بِالأَْهِلَّةِ. بِهَذَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَا
يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ فِي بَابِ الْعِدَّةِ (3) .
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةٍ - نَقَلَهَا عَنْهُ
ابْنُ قُدَامَةَ - وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ يُسْتَوْفَى
الْجَمِيعُ بِالْعَدَدِ؛ لأَِنَّ الشَّهْرَ الأَْوَّل يَكْمُل
بِالأَْيَّامِ مِنَ الثَّانِي، فَيَصِيرُ أَوَّل الثَّانِي
__________
(1) المهذب 1 / 403.
(2) فتح القدير 3 / 30 ط بولاق، وابن عابدين 5 / 32، ومطالب أولي النهى 3 /
622، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 5، والمهذب 1 / 403.
(3) المغني مع الشرح الكبير 6 / 5، ومطالب أولي النهى 3 / 622، وفتح القدير
3 / 30، والمهذب 1 / 403، وروضة الطالبين 5 / 197، والقوانين الفقهية ص
236، والشرح الصغير 2 / 673.
(26/263)
بِالأَْيَّامِ، فَيَكْمُل بِالثَّالِثِ
وَهَكَذَا (1) .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْخِلاَفَ يَجْرِي فِي كُل مَا يُعْتَبَرُ
بِالأَْشْهُرِ، كَعِدَّةِ وَفَاةٍ، وَصَوْمِ شَهْرَيْ كَفَّارَةٍ،
وَمُدَّةِ خِيَارٍ، وَأَجَل ثَمَنٍ وَسَلَمٍ لأَِنَّ هَذِهِ الْمَسَائِل
تُسَاوِي مَا تَقَدَّمَ مَعْنًى (2) .
الشَّهْرُ الْحَرَامُ
انْظُرْ: الأَْشْهُرُ الْحُرُمُ
شَهْرُ رَمَضَانَ
انْظُرْ: رَمَضَانُ
شُهْرَةٌ
انْظُرْ: تَسَامُحٌ، أَلْبِسَةٌ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 32، وفتح القدير 3 / 30، والمغني مع الشرح الكبير 6 /
5.
(2) مطالب أولي النهى 3 / 622، وفتح القدير 3 / 30 ط. بولاق.
(26/264)
شَهْوَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّهْوَةُ لُغَةً: اشْتِيَاقُ النَّفْسِ إِلَى الشَّيْءِ،
وَالْجَمْعُ: شَهَوَاتٌ. وَشَيْءٌ شَهِيٌّ، مِثْل لَذِيذٍ، وَزْنًا
وَمَعْنًى. وَاشْتَهَاهُ وَتَشَهَّاهُ: أَحَبَّهُ وَرَغِبَ فِيهِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَوَقَانُ النَّفْسِ إِلَى الْمُسْتَلَذَّاتِ (2) .
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: الشَّهَوَاتُ عِبَارَةٌ عَمَّا يُوَافِقُ
الإِْنْسَانَ وَيَشْتَهِيهِ وَيُلاَئِمُهُ وَلاَ يَتَّقِيهِ (3) .
وَفِي إِعْطَاءِ النَّفْسِ حَظَّهَا مِنَ الشَّهَوَاتِ الْمُبَاحَةِ
مَذَاهِبُ حَكَاهَا الْمَاوَرْدِيُّ.
أَحَدُهَا: مَنْعُهَا وَقَهْرُهَا كَيْ لاَ تَطْغَى.
وَالثَّانِي: إِعْطَاؤُهَا تَحَيُّلاً عَلَى نَشَاطِهَا وَبَعْثًا
لِرُوحَانِيَّتِهَا.
وَالثَّالِثُ: قَال - وَهُوَ الأَْشْبَهُ -:
__________
(1) ترتيب القاموس المحيط والمصباح المنير.
(2) التعريفات وكشاف اصطلاح الفنون 3 / 788.
(3) تفسير القرطبي 11 / 125.
(26/264)
التَّوَسُّطُ؛ لأَِنَّ فِي إِعْطَاءِ
الْكُل سَلاَطَةً، وَفِي الْمَنْعِ بَلاَدَةً (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشَّهْوَةِ:
نَقْضُ الْوُضُوءِ بِاللَّمْسِ بِشَهْوَةٍ:
2 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى: أَنَّ لَمْسَ الْمَرْأَةِ غَيْرِ
الْمَحْرَمِ بِشَهْوَةٍ أَوْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ غَيْرُ نَاقِضٍ
لِلْوُضُوءِ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى: أَنَّهُ
يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِمُبَاشَرَةِ فَاحِشَةٍ اسْتِحْسَانًا. وَهِيَ
مَسُّ فَرْجٍ أَوْ دُبُرٍ بِذَكَرٍ مُنْتَصِبٍ بِلاَ حَائِلٍ يَمْنَعُ
حَرَارَةَ الْجَسَدِ، أَوْ مَعَ وُجُودِ حَائِلٍ رَقِيقٍ لاَ يَمْنَعُ
الْحَرَارَةَ.
وَكَمَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُ الرَّجُل يُنْتَقَضُ وُضُوءُ الْمَرْأَةِ كَمَا
فِي الْقُنْيَةِ.
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لاَ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ إِلاَّ
بِخُرُوجِ الْمَذْيِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ.
وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ: أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ الْفَاحِشَةَ لاَ تَخْلُو
عَنْ خُرُوجِ الْمَذْيِ غَالِبًا، وَالْغَالِبُ كَالْمُتَحَقِّقِ.
وَفِي مَجْمَعِ الأَْنْهُرِ: قَوْلُهُ: (أَيْ مُحَمَّدٍ) :
__________
(1) عميرة علي شرح المنهاج 4 / 264، ونهاية المحتاج 8 / 154، وحاشية الجمل
5 / 279.
(26/265)
أَقْيَسُ، وَقَوْلُهُمَا: أَحْوَطُ (1) .
3 - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّ لَمْسَ الْمُتَوَضِّئِ
الْبَالِغِ لِشَخْصٍ يُلْتَذُّ بِمِثْلِهِ عَادَةً - مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثَى - يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَلَوْ كَانَ الْمَلْمُوسُ غَيْرَ بَالِغٍ،
أَوْ كَانَ اللَّمْسُ لِظُفُرٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ مِنْ فَوْقِ حَائِلٍ
كَثَوْبٍ، وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَائِل خَفِيفًا
يُحِسُّ اللاَّمِسُ مَعَهُ بِطَرَاوَةِ الْبَدَنِ، أَمْ كَانَ كَثِيفًا،
وَتَأَوَّلَهَا بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِالْخَفِيفِ، وَمَحَل الْخِلاَفِ
بَيْنَ الْخَفِيفِ وَالْكَثِيفِ مَا لَمْ يَقْبِضْ، فَإِنْ قَبَضَ عَلَى
شَيْءٍ مِنَ الْجِسْمِ نُقِضَ اتِّفَاقًا
وَمَحَل النَّقْضِ: إِنْ قَصَدَ التَّلَذُّذَ بِلَمْسِهِ، وَإِنْ لَمْ
تَحْصُل لَهُ لَذَّةٌ حَال لَمْسِهِ، أَوْ وَجَدَهَا حَال اللَّمْسِ وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا لَهَا ابْتِدَاءً. فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ وَلَمْ
تَحْصُل لَهُ لَذَّةٌ فَلاَ نَقْضَ وَلَوْ وَجَدَهَا بَعْدَ اللَّمْسِ.
وَالْمَلْمُوسُ - إِنْ بَلَغَ وَوَجَدَ اللَّذَّةَ أَوْ قَصَدَهَا - بِأَنْ
مَالَتْ نَفْسُهُ لأََنْ يَلْمِسَهُ غَيْرُهُ فَلَمَسَهُ: انْتُقِضَ
وُضُوءُهُ؛ لأَِنَّهُ صَارَ فِي الْحَقِيقَةِ لاَمِسًا وَمَلْمُوسًا،
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا فَلاَ نَقْضَ، وَلَوْ قَصَدَ وَوَجَدَ.
وَأَمَّا الْقُبْلَةُ فِي الْفَمِ فَتَنْقُضُ الْوُضُوءَ مُطْلَقًا،
سَوَاءٌ قَصَدَ الْمُقَبِّل اللَّذَّةَ أَوْ وَجَدَهَا،
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 51، وابن عابدين 1 / 99، وتبيين
الحقائق 1 / 12.
(26/265)
أَمْ لاَ؛ لأَِنَّهَا مَظِنَّةُ اللَّذَّةِ
بِخِلاَفِهَا فِي غَيْرِ الْفَمِ. وَسَوَاءٌ فِي النَّقْضِ: الْمُقَبِّل
وَالْمُقَبَّل، وَلَوْ وَقَعَتْ بِإِكْرَاهٍ أَوِ اسْتِغْفَالٍ.
وَلاَ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِلَذَّةٍ مِنْ نَظَرٍ أَوْ فِكْرٍ وَلَوْ
أَنْعَظَ، وَلاَ بِلَمْسِ صَغِيرَةٍ لاَ تُشْتَهَى أَوْ بَهِيمَةٍ (1) .
4 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْتِقَاءَ بَشَرَتَيِ الرَّجُل
وَالْمَرْأَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ
يَكُونَ بِشَهْوَةٍ أَوْ إِكْرَاهٍ، أَوْ نِسْيَانٍ، أَوْ يَكُونَ الرَّجُل
مَمْسُوحَ الذَّكَرِ، أَوْ خَصِيًّا، أَوْ عِنِّينًا، أَوِ الْمَرْأَةُ
عَجُوزًا شَوْهَاءَ أَوْ كَافِرَةً.
وَاللَّمْسُ عِنْدَهُمُ: الْحِسُّ بِالْيَدِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ
مَظِنَّةُ ثَوَرَانِ الشَّهْوَةِ، وَمِثْلُهُ فِي ذَلِكَ بَاقِي صُوَرِ
الاِلْتِقَاءِ فَأُلْحِقَتْ بِهِ، بِخِلاَفِ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ
الْفَرْجِ، فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِبَطْنِ الْكَفِّ لأَِنَّ الْمَسَّ
إِنَّمَا يُثِيرُ الشَّهْوَةَ بِبَطْنِ الْكَفِّ، وَاللَّمْسُ يُثِيرُهَا
بِهِ وَبِغَيْرِهِ.
وَالْمُرَادُ بِالرَّجُل: الذَّكَرُ إِذَا بَلَغَ حَدًّا يَشْتَهِي لاَ
الْبَالِغُ.
وَبِالْمَرْأَةِ: الأُْنْثَى إِذَا صَارَتْ مُشْتَهَاةً لاَ الْبَالِغَةُ.
وَلاَ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِلَمْسِ الْمَحْرَمِ لَهُ بِنَسَبٍ أَوْ
رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ، وَلَوْ بِشَهْوَةٍ فِي
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 142 - 144.
(26/266)
الأَْظْهَرِ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ
مَظِنَّةَ الشَّهْوَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، كَالرَّجُل. وَمُقَابِل
الأَْظْهَرِ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ
لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} (1) .
وَالْمَلْمُوسُ رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً كَاللاَّمِسِ فِي نَقْضِ
وُضُوئِهِ فِي الأَْظْهَرِ؛ لاِسْتِوَائِهِمَا فِي لَذَّةِ اللَّمْسِ.
وَلاَ نَقْضَ بِلَمْسِ الصَّغِيرَةِ أَوِ الصَّغِيرِ إِذَا لَمْ يَبْلُغْ
كُلٌّ مِنْهُمَا حَدًّا يُشْتَهَى عُرْفًا. وَلاَ بِلَمْسِ الشَّعْرِ أَوِ
السِّنِّ أَوِ الظُّفُرِ فِي الأَْصَحِّ (2) .
5 - وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى. أَنَّ مِنَ النَّوَاقِضِ لِلْوُضُوءِ
مَسُّ بَشَرَةِ الذَّكَرِ بَشَرَةَ أُنْثَى لِشَهْوَةٍ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} .
وَأَمَّا كَوْنُ اللَّمْسِ لاَ يَنْقُضُ إِلاَّ إِذَا كَانَ لِشَهْوَةٍ
فَلِلْجَمْعِ بَيْنَ الآْيَةِ وَالأَْخْبَارِ. لأَِنَّهُ رُوِيَ عَنْ
عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: فَقَدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ،
فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا
مَنْصُوبَتَانِ (3) . وَنَصْبُهُمَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي،
وَرُوِيَ عَنْهَا أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيِ
__________
(1) سورة النساء / 43.
(2) مغني المحتاج 1 / 34 - 35.
(3) حديث عائشة: " فقدت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش. . . ".
أخرجه مسلم: (1 / 352 - ط. الحلبي) .
(26/266)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَرِجْلاَيَ فِي قِبْلَتِهِ فَإِذَا سَجَدَ. غَمَزَنِي
فَقَبَضْتُ رِجْلِي (1) .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ غَمْزَهُ رِجْلَيْهَا كَانَ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ.
وَلأَِنَّ الْمَسَّ لَيْسَ بِحَدَثٍ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ دَاعٍ
إِلَى الْحَدَثِ، فَاعْتُبِرَتِ الْحَالَةُ الَّتِي يَدْعُو فِيهَا إِلَى
الْحَدَثِ، وَهِيَ حَالَةُ الشَّهْوَةِ.
وَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ مَسُّ بَشَرَتِهَا بَشَرَتَهُ لِشَهْوَةٍ؛
لأَِنَّهَا مُلاَمَسَةٌ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ فَاسْتَوَى فِيهَا الذَّكَرُ
وَالأُْنْثَى كَالْجِمَاعِ.
وَيُشْتَرَطُ فِي الْمَسِّ النَّاقِضِ لِلْوُضُوءِ: أَنْ يَكُونَ مِنْ
غَيْرِ حَائِلٍ؛ لأَِنَّهُ مَعَ الْحَائِل لَمْ يَلْمِسْ بَشَرَتَهَا،
أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمَسَ ثِيَابَهَا لِشَهْوَةٍ، وَالشَّهْوَةُ لاَ
تُوجِبُ الْوُضُوءَ بِمُجَرَّدِهَا. وَلاَ يَنْقُضُ مَسُّ الرَّجُل
الطِّفْلَةَ، وَلاَ مَسُّ الْمَرْأَةِ الطِّفْل. أَيْ: مِنْ دُونِ سَبْعِ
سَنَوَاتٍ، وَلاَ يُنْتَقَضُ وُضُوءُ مَلْمُوسِ بَدَنِهِ وَلَوْ وَجَدَ
مِنْهُ شَهْوَةً؛ لأَِنَّهُ لاَ نَصَّ فِيهِ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُنْتَقَضُ وُضُوءُ الْمَلْمُوسِ إِذَا وُجِدَتْ
مِنْهُ الشَّهْوَةُ؛ لأَِنَّ مَا يُنْتَقَضُ بِالْتِقَاءِ الْبَشَرَتَيْنِ
لاَ فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ اللاَّمِسِ وَالْمَلْمُوسِ (2) .
__________
(1) حديث عائشة: " كنت أنام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم. . . ".
أخرجه البخاري، (الفتح 3 / 80 ط. السلفية) ومسلم (1 / 367 - ط. الحلبي) .
(2) المغني لابن قدامة 1 / 195 طبعة الرياض.
(26/267)
وَلاَ يُنْتَقَضُ وُضُوءٌ بِانْتِشَارِ
ذَكَرٍ عَنْ فِكْرٍ وَتَكْرَارِ نَظَرٍ، وَلاَ بِلَمْسِ شَعْرٍ وَظُفُرٍ
وَسِنٍّ وَلاَ الْمَسِّ بِهِ؛ لأَِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُنْفَصِل، وَلاَ
مَسِّ عُضْوٍ مَقْطُوعٍ لِزَوَال حُرْمَتِهِ، وَلاَ يُنْتَقَضُ وُضُوءُ
رَجُلٍ مَسَّ أَمْرَدَ (1) . وَلَوْ بِشَهْوَةٍ، لِعَدَمِ تَنَاوُل
الآْيَةِ لَهُ. وَلأَِنَّهُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلشَّهْوَةِ شَرْعًا.
وَلاَ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ الرَّجُل الرَّجُل، وَلاَ بِمَسِّ
الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ وَلَوْ بِشَهْوَةٍ (2) .
وَتَفْصِيل مَا تَقَدَّمَ فِي مُصْطَلَحِ (وُضُوءٌ) .
الشَّهْوَةُ وَأَثَرُهَا فِي الصَّوْمِ:
أ - الإِْنْزَال بِنَظَرٍ أَوْ فِكْرٍ:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى: أَنَّ إِنْزَال
الْمَنِيِّ أَوِ الْمَذْيِ عَنْ نَظَرٍ وَفِكْرٍ لاَ يُبْطِل الصِّيَامَ،
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ: إِذَا اعْتَادَ
الإِْنْزَال بِالنَّظَرِ، أَوْ كَرَّرَ النَّظَرَ فَأَنْزَل يَفْسُدُ
الصِّيَامُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّ إِنْزَال
الْمَنِيِّ بِالنَّظَرِ الْمُسْتَدِيمِ يُفْسِدُ الصَّوْمَ؛ لأَِنَّهُ
إِنْزَالٌ بِفِعْلٍ يُتَلَذَّذُ بِهِ، وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ.
وَأَمَّا الإِْنْزَال عَنْ فِكْرٍ فَيُفْسِدُ الصَّوْمَ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يُفْسِدُهُ لأَِنَّهُ لاَ
يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ.
__________
(1) الأمرد: الشاب طرّ شاربه ولم تنبت لحيته. القاموس.
(2) كشاف القناع 1 / 128 - 129.
(26/267)
ب - الإِْنْزَال عَنْ قُبْلَةٍ أَوْ مَسٍّ
أَوْ مُعَانَقَةٍ.
7 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ إِنْزَال الْمَنِيِّ
بِاللَّمْسِ أَوِ الْمُعَانَقَةِ أَوِ الْقُبْلَةِ يُفْسِدُ الصَّوْمَ؛
لأَِنَّهُ إِنْزَالٌ بِمُبَاشَرَةٍ فَأَشْبَهَ الإِْنْزَال بِالْجِمَاعِ
دُونَ الْفَرْجِ. أَمَّا إِذَا حَصَل مِنَ الْقُبْلَةِ وَالْمُعَانَقَةِ
وَاللَّمْسِ إِنْزَال مَذْيٍ فَلاَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَيُفْسِدُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُ خَارِجٌ تَخَلَّلَهُ الشَّهْوَةُ خَرَجَ
بِالْمُبَاشَرَةِ فَأَفْسَدَ الصَّوْمَ كَالْمَنِيِّ (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (صَوْمٌ) .
الشَّهْوَةُ وَأَثَرُهَا فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ:
أ - الْجِمَاعُ:
8 - إِذَا وَقَعَ الْجِمَاعُ قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَ حَجُّهُ
بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ وَإِذَا وَقَعَ الْجِمَاعُ بَعْدَ الْوُقُوفِ
بِعَرَفَةَ وَقَبْل التَّحَلُّل الأَْوَّل فَسَدَ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ
بَدَنَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، (الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى
عَدَمِ فَسَادِ الْحَجِّ وَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ بَدَنَةً.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ إِذَا وَقَعَ بَعْدَ
التَّحَلُّل الأَْوَّل لاَ يُفْسِدُ الْحَجَّ.
وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ: الْمَوْسُوعَةُ 2
191 - 193) .
__________
(1) مراقي الفلاح ص 362، وابن عابدين 2 / 112. والقوانين الفقهية ص 118،
ومغني المحتاج 1 / 430 - 431 والمغني 3 / 111 - 312 وما بعدها.
(26/268)
ب - مُقَدِّمَاتُ الْجِمَاعِ:
9 - اللَّمْسُ بِشَهْوَةٍ وَالتَّقْبِيل وَالْمُبَاشَرَةُ بِغَيْرِ
جِمَاعٍ، يَجِبُ عَلَى مَنْ فَعَل شَيْئًا مِنْهَا الدَّمُ، سَوَاءٌ
أَنْزَل أَمْ لَمْ يُنْزِل، وَحَجُّهُ صَحِيحٌ عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ
سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ: الْمَوْسُوعَةُ 2 192 - 193) .
ج - النَّظَرُ وَالتَّفَكُّرُ:
10 - النَّظَرُ أَوِ التَّفَكُّرُ بِشَهْوَةٍ إِذَا أَدَّى إِلَى
الإِْنْزَال لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَتَفْصِيل الْخِلاَفِ فِيهِ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ:
الْمَوْسُوعَةُ 2 193) .
النَّظَرُ بِشَهْوَةٍ:
نَظَرُ الرَّجُل لِلْمَرْأَةِ:
11 - أ - إِذَا كَانَتْ زَوْجَةً جَازَ لِلزَّوْجِ النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ
جَسَدِهَا بِشَهْوَةٍ:
ب - إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ ذَاتَ مَحْرَمٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجُوزُ نَظَرُ الْبَالِغِ بِلاَ شَهْوَةٍ مِنْ
مَحْرَمِهِ الأُْنْثَى. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى مَا يَظْهَرُ غَالِبًا كَالرَّقَبَةِ وَالرَّأْسِ
وَالْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، وَلَمْ يُجِزِ الْحَنَابِلَةُ النَّظَرَ
إِلَى مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ.
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ النَّظَرِ إِلَى الصَّدْرِ وَالسَّاقَيْنِ
وَالْعَضُدَيْنِ، وَلَمْ يُجِيزُوا النَّظَرَ إِلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا؛
لأَِنَّهُ أَدْعَى لِلشَّهْوَةِ.
(26/268)
وَتَوَسَّعَ الشَّافِعِيَّةُ فَأَجَازُوا
النَّظَرَ إِلَى جَمِيعِ جَسَدِهَا إِلاَّ مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا
وَرُكْبَتِهَا، وَأَجَازُوا النَّظَرَ إِلَى السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ؛
لأَِنَّهُمَا لَيْسَتَا بِعَوْرَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِنَظَرِ الْمَحْرَمِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يُجِيزُوا النَّظَرَ إِلاَّ إِلَى وَجْهِهَا
وَيَدَيْهَا دُونَ سَائِرِ جَسَدِهَا. هَذَا وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى
حُرْمَةِ النَّظَرِ بِشَهْوَةٍ إِلَى مَحْرَمِهِ الأُْنْثَى.
ج - إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ أَجْنَبِيَّةً حُرَّةً فَلاَ يَجُوزُ
النَّظَرُ إِلَيْهَا بِشَهْوَةٍ مُطْلَقًا، أَوْ مَعَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ
بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ نَظَرُ الأَْجْنَبِيِّ
إِلَى سَائِرِ بَدَنِ الأَْجْنَبِيَّةِ الْحُرَّةِ إِلاَّ الْوَجْهَ
وَالْكَفَّيْنِ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {قُل لِلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (1) . إِلاَّ أَنَّ النَّظَرَ إِلَى
مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَهِيَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ خُصَّ
فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا} (2) وَالْمُرَادُ مِنَ الزِّينَةِ مَوَاضِعُهَا،
وَمَوَاضِعُ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ: الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ، فَالْكُحْل
زِينَةُ الْوَجْهِ وَالْخَاتَمُ زِينَةُ الْكَفِّ؛ وَلأَِنَّهَا تَحْتَاجُ
إِلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالأَْخْذِ وَالْعَطَاءِ، وَلاَ يُمْكِنُهَا
ذَلِكَ عَادَةً إِلاَّ بِكَشْفِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، فَيَحِل لَهَا
الْكَشْفُ، وَهَذَا
__________
(1) سورة النور / 30.
(2) سورة النور / 31.
(26/269)
قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، وَرَوَى الْحَسَنُ
عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَحِل النَّظَرُ إِلَى الْقَدَمَيْنِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ كَالْحَنَفِيَّةِ فِي جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ
الأَْجْنَبِيَّةِ وَكَفَّيْهَا. أَمَّا النَّظَرُ إِلَى الْقَدَمَيْنِ
فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ نَظَرُ بَالِغٍ عَاقِلٍ
مُخْتَارٍ، وَلَوْ شَيْخًا أَوْ عَاجِزًا عَنِ الْوَطْءِ أَوْ مُخَنَّثًا -
وَهُوَ الْمُتَشَبِّهُ بِالنِّسَاءِ - إِلَى عَوْرَةِ أَجْنَبِيَّةٍ
حُرَّةٍ كَبِيرَةٍ - وَهِيَ مَنْ بَلَغَتْ حَدًّا تُشْتَهَى فِيهِ
لِلنَّاظِرِ بِلاَ خِلاَفٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل لِلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} وَالْمُرَادُ بِالْعَوْرَةِ: مَا عَدَا
الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ.
وَكَذَا يَحْرُمُ عِنْدَهُمْ: النَّظَرُ إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ
عِنْدَ خَوْفِ فِتْنَةٍ تَدْعُو إِلَى الاِخْتِلاَءِ بِهَا لِجِمَاعٍ أَوْ
مُقَدِّمَاتِهِ بِالإِْجْمَاعِ كَمَا قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ.
وَكَذَا يَحْرُمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ النَّظَرُ إِلَى الْوَجْهِ
وَالْكَفَّيْنِ عِنْدَ الأَْمْنِ مِنَ الْفِتْنَةِ فِيمَا يَظْهَرُ لَهُ
مِنْ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ، كَذَا فِي
الْمِنْهَاجِ لِلنَّوَوِيِّ.
وَوَجَّهَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى
مَنْعِ النِّسَاءِ مِنَ الْخُرُوجِ سَافِرَاتِ الْوُجُوهِ، وَبِأَنَّ
النَّظَرَ مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ وَمُحَرِّكٌ لِلشَّهْوَةِ، وَقَدْ قَال
تَعَالَى: {قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}
وَاللاَّئِقُ بِمَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ سَدُّ
(26/269)
الْبَابِ وَالإِْعْرَاضُ عَنْ تَفَاصِيل
الأَْحْوَال كَالْخَلْوَةِ بِالأَْجْنَبِيَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ،
وَنَسَبَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ لِجُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ، وَنَسَبَهُ
الشَّيْخَانِ لِلأَْكْثَرِينَ، وَقَال الإِْسْنَوِيُّ فِي الْمُهِمَّاتِ:
إِنَّهُ الصَّوَابُ لِكَوْنِ الأَْكْثَرِينَ عَلَيْهِ، وَقَال
الْبُلْقِينِيُّ: التَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ الْمُدْرَكِ، وَالْفَتْوَى عَلَى
مَا فِي الْمِنْهَاجِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى تَحْرِيمِ نَظَرِ الرَّجُل إِلَى جَمِيعِ
بَدَنِ الأَْجْنَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فِي ظَاهِرِ كَلاَمِ أَحْمَدَ.
وَقَال الْقَاضِي: يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظَرُ إِلَى مَا عَدَا الْوَجْهَ
وَالْكَفَّيْنِ؛ لأَِنَّهُ عَوْرَةٌ، وَيُبَاحُ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِمَا
مَعَ الْكَرَاهَةِ إِذَا أَمِنَ الْفِتْنَةَ وَنَظَرَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ.
هَذَا وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ إِلَى
الْمَرْأَةِ بِشَهْوَةٍ حَرَامٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَحْرَمًا أَمْ
أَجْنَبِيَّةً عَدَا زَوْجَتَهُ وَمَنْ تَحِل لَهُ.
وَكَذَا يَحْرُمُ نَظَرُ الأَْجْنَبِيَّةِ إِلَى الأَْجْنَبِيِّ إِذَا
كَانَ بِشَهْوَةٍ (1) .
اللَّمْسُ بِشَهْوَةٍ:
12 - مَتَى حَرُمَ النَّظَرُ حَرُمَ الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ؛ لأَِنَّ الْمَسَّ
أَبْلَغُ مِنَ النَّظَرِ فِي إِثَارَةِ الشَّهْوَةِ، وَمَا
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 119 - 124، والشرح الكبير 2 / 215، ومغني المحتاج 3
/ 128 - 129، والمغني 6 / 552 - 560.
(26/270)
حَل نَظَرُهُ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى حَل
لَمْسُهُ إِذَا أَمِنَ الشَّهْوَةَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهَا، وَإِنْ
لَمْ يَأْمَنْ ذَلِكَ أَوْ شَكَّ فَلاَ يَحِل لَهُ النَّظَرُ وَاللَّمْسُ.
أَمَّا الأَْجْنَبِيَّةُ فَلاَ يَحِل مَسُّ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا وَإِنْ
أَمِنَ الشَّهْوَةَ؛ لأَِنَّهُ أَغْلَظُ مِنَ النَّظَرِ (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (لَمْسٌ وَمَسٌّ) .
أَثَرُ الشَّهْوَةِ فِي النِّكَاحِ:
13 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّ حُرْمَةَ
الْمُصَاهَرَةِ تَثْبُتُ بِالزِّنَى.
وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ اللِّوَاطَ فِي رِوَايَةٍ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّ اللِّوَاطَ لاَ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ؛
لأَِنَّ الْمُحَرَّمَاتِ بِاللِّوَاطِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِنَّ فِي
التَّحْرِيمِ، فَيَدْخُلْنَ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِل لَكُمْ
مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى: أَنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ كَمَا
تَثْبُتُ بِالزِّنَى تَثْبُتُ بِالْمَسِّ وَالنَّظَرِ بِشَهْوَةٍ.
فَيَحْرُمُ أَصْل مَمْسُوسَةٍ بِشَهْوَةٍ وَلَوْ لِشَعْرٍ عَلَى الرَّأْسِ
بِحَائِلٍ لاَ يَمْنَعُ الْحَرَارَةَ، وَكَذَا يَحْرُمُ أَصْل مَا
مَسَّتْهُ.
وَيَحْرُمُ أَيْضًا نِكَاحُ أَصْل النَّاظِرَةِ بِشَهْوَةٍ إِلَى ذَكَرٍ،
وَأَصْل الْمَنْظُورِ إِلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي
مُصْطَلَحِ (زِنًى، لِوَاطٌ،
__________
(1) ابن عابدين 5 / 235، ومغني المحتاج 3 / 132 - 133، وكشاف القناع 5 / 15
- (ط. دار الفكر.)
(2) سور النساء / 24.
(26/270)
نَظَرٌ، نِكَاحٌ) وَالْعِبْرَةُ
لِلشَّهْوَةِ عِنْدَ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ لاَ بَعْدَهُمَا (1) .
حَدُّ الشَّهْوَةِ:
14 - حَدُّ الشَّهْوَةِ فِي النَّظَرِ وَالْمَسِّ تَحَرُّكُ الآْلَةِ أَوْ
زِيَادَةُ التَّحَرُّكِ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَهَا، وَبِهِ يُفْتَى
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (لِوَاطٌ، وَنِكَاحٌ) .
أَثَرُ الشَّهْوَةِ فِي الرَّجْعَةِ:
15 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّ الرَّجْعَةَ تَحْصُل بِالْقَوْل وَالْفِعْل،
وَيَقْصِدُونَ بِالْفِعْل: الْوَطْءَ وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَمُقَدَّمَاتُ
الْوَطْءِ لاَ تَخْلُو عَنْ مَسٍّ بِشَهْوَةٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ لاَ تَحْصُل بِالْفِعْل
كَالْوَطْءِ وَمُقَدِّمَاتِهِ (3) . بَل لاَ بُدَّ فِيهَا مِنَ الْقَوْل
قِيَاسًا عَلَى عَقْدِ الزَّوَاجِ فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِالْقَوْل
الدَّال عَلَيْهِ.
وَتَفْصِيل الْخِلاَفِ فِيهِ فِي مُصْطَلَحِ (رَجْعَةٌ) .
__________
(1) البدائع 2 / 260 - 261، والمغني 6 / 577.
(2) ابن عابدين 2 / 280.
(3) ابن عابدين 2 / 530، والشرح الصغير 2 / 606، والقوانين الفقهية ص 239
ومغني المحتاج 3 / 337، وكشاف القناع 5 / 343
(26/271)
كَسْرُ الشَّهْوَةِ:
16 - مَنْ أَرَادَ الزَّوَاجَ وَلَمْ يَسْتَطِعْ، يَكْسِرْ شَهْوَتَهُ
بِالصَّوْمِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: يَا مَعْشَرَ
الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ
لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ
بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ (1) .
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أُهْبَةَ النِّكَاحِ يَكْسِرْهَا بِالصَّوْمِ، وَلاَ
يَكْسِرْهَا بِنَحْوِ كَافُورٍ بَل يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ وَيُكْرَهُ أَنْ
يَحْتَال فِي قَطْعِ شَهْوَتِهِ؛ لأَِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْخِصَاءِ، إِنْ
غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لاَ يَقْطَعُ الشَّهْوَةَ بِالْكُلِّيَّةِ
بَل يُفَتِّرُهَا فِي الْحَال، وَلَوْ أَرَادَ إِعَادَتَهَا بِاسْتِعْمَال
ضِدِّ الأَْدْوِيَةِ لأََمْكَنَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ يَقْطَعُ
الشَّهْوَةَ حَرُمَ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاحٌ) .
__________
(1) حديث: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة ". أخرجه البخاري (الفتح
9 / 112 - ط. السلفية) ومسلم (2 / 1018 - ط. الحلبي) من حديث عبد الله بن
مسعود.
(2) نهاية المحتاج 6 / 179، 8 / 416 - 417، والجمل 5 / 491، وأسنى المطالب
3 / 107، ومطالب أولي النهى 5 / 5.
(26/271)
شَهِيدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّهِيدُ لُغَةً: الْحَاضِرُ. وَالشَّاهِدُ، الْعَالِمُ الَّذِي
يُبَيِّنُ مَا عَلِمَهُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ
إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} . (1) وَالشَّهِيدُ مِنْ أَسْمَاءِ
اللَّهِ تَعَالَى - وَمَعْنَاهُ الأَْمِينُ فِي شَهَادَتِهِ وَالْحَاضِرُ.
وَالشَّهِيدُ الْمَقْتُول فِي سَبِيل اللَّهِ، وَالْجَمْعُ شُهَدَاءُ. قَال
ابْنُ الأَْنْبَارِيِّ سُمِّيَ الشَّهِيدُ شَهِيدًا لأَِنَّ اللَّهَ
وَمَلاَئِكَتَهُ شَهِدُوا لَهُ بِالْجَنَّةِ (2) . وَقِيل: لأَِنَّهُ
يَكُونُ شَهِيدًا عَلَى النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ (3) .
وَالشَّهِيدُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
فِي قِتَال الْكُفَّارِ وَبِسَبَبِهِ (4) .
وَيُلْحَقُ بِهِ فِي أُمُورِ الآْخِرَةِ أَنْوَاعٌ يَأْتِي بَيَانُهَا.
مَنْزِلَةُ الشَّهِيدِ:
2 - الشَّهِيدُ لَهُ مَنْزِلَةٌ عَالِيَةٌ عِنْدَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ
__________
(1) سورة المائدة / 106.
(2) لسان العرب.
(3) القرطبي 4 / 218.
(4) مغني المحتاج 1 / 350، وانظر ابن عابدين 1 / 607،608.
(26/272)
وَتَعَالَى - يَشْهَدُ بِهَا الْقُرْآنُ
الْكَرِيمُ فِي عَدَدٍ مِنَ الآْيَاتِ مِنْهَا:
قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيل
اللَّهِ أَمْوَاتًا بَل أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ
بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ
يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ
يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ
اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} . (1)
وقَوْله تَعَالَى: {فَلْيُقَاتِل فِي سَبِيل اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآْخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِل فِي سَبِيل اللَّهِ
فَيُقْتَل أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} . (2)
وَيَشْهَدُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الأَْحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مِنْهَا:
مَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: مَا أَحَدٌ يَدْخُل الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ
إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الأَْرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ
الشَّهِيدَ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَل عَشْرَ
مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ (3) .
وَمَا رَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ
__________
(1) سورة آل عمران 170 - 171.
(2) سورة النساء / 74.
(3) حديث: " ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا. . . " أخرجه
البخاري (الفتح 6 / 32 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1498 - ط. الحلبي) .
(26/272)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: يَشْفَعُ الشَّهِيدُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْل بَيْتِهِ
(1) .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ، يُغْفَرُ
لَهُ فِي أَوَّل دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُجَارُ
مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الْفَزَعِ الأَْكْبَرِ، وَيُوضَعُ
عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ
الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً
مِنَ الْحُورِ، وَيَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ (2) .
أَقْسَامُ الشَّهِيدِ:
3 - الشَّهِيدُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: الأَْوَّل شَهِيدُ الدُّنْيَا
وَالآْخِرَةِ، وَالثَّانِي شَهِيدُ الدُّنْيَا، وَالثَّالِثُ شَهِيدُ
الآْخِرَةِ (3) .
فَشَهِيدُ الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ هُوَ الَّذِي يُقْتَل فِي قِتَالٍ مَعَ
الْكُفَّارِ، مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ، لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ
الْعُلْيَا، وَكَلِمَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا
__________
(1) حديث: " يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته " أخرجه أبو داود (2 / 34 -
تحقيق عزت عبيد دعاس) وابن حبان (الإحسان 7 / 84 ط. دار الكتب العلمية)
واللفظ لأبي داود، وصححه ابن حبان.
(2) حديث: " للشهيد عند الله ست خصال ". أخرجه الترمذي (4 / 187 - 188 - ط.
الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح ".
(3) مغني المحتاج 1 / 350، نشر المكتبة الإسلامية. حاشية رد المحتار 2 /
252 الطبعة الثانية. حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 425 طبع دار إحياء
الكتب العربية. المغني لابن قدامة 2 / 393 - 399، نشر مكتبة القاهرة.
(26/273)
هِيَ السُّفْلَى، دُونَ غَرَضٍ مِنْ
أَغْرَاضِ الدُّنْيَا (1) .
فَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: إِنَّ
رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال
مُسْتَفْهِمًا: الرَّجُل يُقَاتِل لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُل يُقَاتِل
لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُل يُقَاتِل لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيل
اللَّهِ؟ قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ قَاتَل لِتَكُونَ
كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيل اللَّهِ (2) .
أَمَّا شَهِيدُ الدُّنْيَا: فَهُوَ مَنْ قُتِل فِي قِتَالٍ مَعَ
الْكُفَّارِ وَقَدْ غَل فِي الْغَنِيمَةِ، أَوْ قَاتَل رِيَاءً، أَوْ
لِغَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا.
وَأَمَّا شَهِيدُ الآْخِرَةِ: فَهُوَ الْمَقْتُول ظُلْمًا مِنْ غَيْرِ
قِتَالٍ، وَكَالْمَيِّتِ بِدَاءِ الْبَطْنِ، أَوْ بِالطَّاعُونِ، أَوْ
بِالْغَرَقِ، وَكَالْمَيِّتِ فِي الْغُرْبَةِ، وَكَطَالِبِ الْعِلْمِ إِذَا
مَاتَ فِي طَلَبِهِ، وَالنُّفَسَاءِ الَّتِي تَمُوتُ فِي طَلْقِهَا،
وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاسْتُثْنِيَ مِنَ الْغَرِيبِ الْعَاصِي بِغُرْبَتِهِ،
وَمِنَ الْغَرِيقِ الْعَاصِي بِرُكُوبِهِ الْبَحْرَ كَأَنْ كَانَ
الْغَالِبُ فِيهِ عَدَمَ السَّلاَمَةِ، أَوْ رُكُوبُهُ لإِِتْيَانِ
مَعْصِيَةٍ مِنْ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 350.
(2) حديث: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله. . . "
أخرجه البخاري (الفتح 6 / 28 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1512 - 1513 ط.
الحلبي) .
(26/273)
الْمَعَاصِي، وَمِنَ الطَّلْقِ الْحَامِل
بِزِنًى (1) .
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ:
الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ،
وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيل اللَّهِ (2) . وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُل مُسْلِمٍ (3) . وَفِي حَدِيثٍ
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ قُتِل
دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ (4) .
غُسْل الشَّهِيدِ وَالصَّلاَةُ عَلَيْهِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّ شَهِيدَ الْمُعْتَرَكِ لاَ
يُغَسَّل، خِلاَفًا لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ،
وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، إِذْ قَالاَ بِغُسْلِهِ (5) .
أَمَّا الصَّلاَةُ عَلَيْهِ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وُجُوبَهَا (6)
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 350.
(2) حديث: " الشهداء خمسة: المبطون. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 144 ط.
السلفية) ومسلم (3 / 1521 ط. الحلبي) .
(3) حديث: " الطاعون شهادة لكل مسلم " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 180 - ط
السلفية) ومسلم (3 / 1522 - ط. الحلبي) .
(4) حديث: " من قتل دون ماله فهو شهيد " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 123 - ط
السلفية) ومسلم (1 / 125 - ط. الحلبي) .
(5) المغني لابن قدامة 2 / 393، بداية المجتهد 1 / 232، نشر مكتبة الكليات
الأزهرية.
(6) تبيين الحقائق 1 / 247.
(26/274)
وَهُوَ مَا قَال بِهِ الْخَلاَّل
وَالثَّوْرِيُّ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ الْقَوْل
بِاسْتِحْبَابِهَا (1) .
وَيَسْتَدِل الْحَنَفِيَّةُ لِلُزُومِ الصَّلاَةِ بِمَا رَوَى ابْنُ
عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
صَلَّى عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ، وَكَانَ يُؤْتَى بِتِسْعَةٍ تِسْعَةٍ،
وَحَمْزَةُ عَاشِرُهُمْ، فَيُصَلِّي عَلَيْهِمْ. وَقَالُوا: إِنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى غَيْرِهِمْ (2) .
وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَْعْرَابِ جَاءَ
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَ بِهِ
وَاتَّبَعَهُ ثُمَّ قَال: أُهَاجِرُ مَعَكَ. فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ
غَزْوَةٌ، غَنِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيًا
فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قُسِمَ لَهُ، وَكَانَ
يَرْعَى ظَهْرَهُمْ. فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ فَقَال: مَا هَذَا؟
قَالُوا: قَسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: مَا هَذَا؟ قَال: قَسَمْتُهُ لَكَ، قَال: مَا
عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى
إِلَى هَاهُنَا، وَأَشَارَ إِلَى
__________
(1) المغني 2 / 393.
(2) حديث ابن عباس وابن الزبير أنه عليه الصلاة والسلام صلى على شهداء أحد.
أخرجهما الطحاوي في شرح المعاني (1 / 503 - ط مطبعة الأنوار المحمدية)
وإسناد حديث ابن الزبير حسن، وحديث ابن عباس قال ابن حجر عن أحد رواته: "
فيه ضعف يسير " كذا في التلخيص (2 / 117 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(26/274)
حَلْقِهِ، بِسَهْمٍ فَأَمُوتَ فَأَدْخُل
الْجَنَّةَ. فَقَال: إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ. فَلَبِثُوا
قَلِيلاً ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَال الْعَدُوِّ فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْمَل قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ
أَشَارَ. فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَهُوَ
هُوَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَال: صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ. ثُمَّ كَفَّنَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جُبَّةِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ
فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلاَتِهِ: اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ
مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ فَقُتِل شَهِيدًا، أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ
(1) .
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
قَال: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْل
أُحُدٍ صَلاَتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ (2)
. وَقَالُوا: إِنَّ الصَّلاَةَ عَلَى الْمَيِّتِ شُرِعَتْ إِكْرَامًا لَهُ،
وَالطَّاهِرُ مِنَ الذَّنْبِ لاَ يَسْتَغْنِي عَنْهَا، كَالنَّبِيِّ
وَالصَّبِيِّ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ عَدَمَ غُسْلِهِ وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ،
وَنَصَّ بَعْضُهُمْ عَلَى تَحْرِيمِهِمَا (3) .
__________
(1) حديث شداد بن الهاد: أن رجلا من الأعراب. أخرجه النسائي (4 / 60 - 61 ط
المكتبة التجارية) وإسناده صحيح.
(2) حديث عقبة بن عامر: أنه خرج يومًا فصلى على أهل أحد. أخرجه البخاري
(الفتح 3 / 209 - ط السلفية) ومسلم (4 / 1795 - ط. الحلبي) .
(3) شرح الخرشي 2 / 140، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 425، شرح منح
الجليل على مختصر خليل للشيخ محمد عليش 1 / 312.
(26/275)
قَال الشَّافِعِيَّةُ (1) : يَحْرُمُ غُسْل
الشَّهِيدِ وَالصَّلاَةُ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ حَيٌّ بِنَصِّ الْقُرْآنِ،
وَلِمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَرَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ بِدَفْنِهِمْ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا
وَلَمْ يُصَل عَلَيْهِمْ (2) . وَجَاءَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَوَاتِرَةٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَل عَلَيْهِمْ
وَقَال فِي قَتْلَى أُحُدٍ: زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ (3) .
وَلَعَل تَرْكَ الْغُسْل وَالصَّلاَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ جَمَاعَةُ
الْمُشْرِكِينَ إِرَادَةُ أَنْ يَلْقَوْا اللَّهَ جَل وَعَزَّ
بِكُلُومِهِمْ لِمَا جَاءَ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّ رِيحَ الْكَلِمِ رِيحُ الْمِسْكِ وَاللَّوْنُ لَوْنُ
الدَّمِ (4) وَاسْتَغْنَوْا بِكَرَامَةِ اللَّهِ جَل وَعَزَّ عَنِ
الصَّلاَةِ لَهُمْ مَعَ التَّخْفِيفِ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ لِمَا يَكُونُ فِيمَنْ قَاتَل بِالزَّحْفِ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْجِرَاحِ وَخَوْفِ عَوْدَةِ الْعَدُوِّ وَرَجَاءِ
طَلَبِهِمْ وَهَمِّهِمْ بِأَهْلِيهِمْ وَهَمِّ أَهْلِيهِمْ بِهِمْ.
وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ إِبْقَاءُ أَثَرِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 349.
(2) حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في قتلى أحد بدفنهم. . .
أخرجه البخاري (الفتح 3 / 209 - ط السلفية) .
(3) حديث: " زملوهم بدمائهم. . . ". أخرجه النسائي (4 / 78 - ط. المكتبة
التجارية) من حديث عبد الله بن ثعلبة، وإسناده صحيح.
(4) ما ورد أن ريح الكلْم ريح المسك. أخرجه البخاري (الفتح 6 / 20 - ط
السلفية) ومسلم (3 / 1498 - 1499، ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(26/275)
وَالتَّعْظِيمُ لَهُمْ بِاسْتِغْنَائِهِمْ
عَنْ دُعَاءِ الْقَوْمِ (1) .
وَوَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال:
لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ وَأَثَرَيْنِ
قَطْرَةٍ مِنْ دُمُوعٍ فِي خَشْيَةِ اللَّهِ، وَقَطْرَةِ دَمٍ تُهْرَاقُ
فِي سَبِيل اللَّهِ، أَمَّا الأَْثَرَانِ فَأَثَرٌ فِي سَبِيل اللَّهِ،
وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ (2) .
وَجُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ يَرَوْنَ حُرْمَةَ غُسْلِهِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ
عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، غَيْرَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى كَرَاهَتَهُ،
أَمَّا الصَّلاَةُ فَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ
لَدَيْهِمْ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَهُمْ تَجِبُ الصَّلاَةُ عَلَيْهِ،
وَمَال إِلَى هَذَا بَعْضُ عُلَمَائِهِمْ مِنْهُمُ الْخَلاَّل، وَأَبُو
الْخَطَّابِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي التَّنْبِيهِ (3) .
ضَابِطُ الشَّهِيدِ الَّذِي لاَ يُغَسَّل وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ: مَنْ قَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ فِي
الْقِتَال، أَوْ وُجِدَ مَيِّتًا فِي مَكَانِ الْمَعْرَكَةِ وَبِهِ أَثَرُ
جِرَاحَةٍ أَوْ دَمٍ، لاَ يُغَسَّل لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ: زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ
__________
(1) الأم 1 / 337، ومغني المحتاج 1 / 349،350.
(2) حديث: " ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين. . . " أخرجه الترمذي (4 / 190
- ط. الحلبي) من حديث أبي أمامة، وقال: " حديث حسن غريب ".
(3) الإنصاف في مسائل الخلاف للمرداوي 1 / 399،500 الطبعة الأولى، والمغني
2 / 393.
(26/276)
وَلاَ تُغَسِّلُوهُمْ (1) ، وَلَمْ يُنْقَل
خِلاَفٌ فِي هَذَا إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ (2) . وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ مَنْ ذُكِرَ، فَذَهَبَ
الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى: أَنَّ كُل مُسْلِمٍ مَاتَ
بِسَبَبِ قِتَال الْكُفَّارِ حَال قِيَامِ الْقِتَال لاَ يُغَسَّل، سَوَاءٌ
قَتَلَهُ كَافِرٌ، أَوْ أَصَابَهُ سِلاَحُ مُسْلِمٍ خَطَأً، أَوْ عَادَ
إِلَيْهِ سِلاَحُهُ، أَوْ سَقَطَ عَنْ دَابَّتِهِ، أَوْ رَمَحَتْهُ
دَابَّةٌ فَمَاتَ، أَوْ وُجِدَ قَتِيلاً بَعْدَ الْمَعْرَكَةِ وَلَمْ
يُعْلَمْ سَبَبُ مَوْتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ أَثَرُ دَمٍ أَمْ لاَ،
وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، وَالْحُرِّ
وَالْعَبْدِ، وَالْبَالِغِ وَالصَّبِيِّ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُغَسَّل كُل مُسْلِمٍ قُتِل بِالْحَدِيدِ ظُلْمًا
وَهُوَ طَاهِرٌ بَالِغٌ، وَلَمْ يَجِبْ عِوَضٌ مَالِيٌّ فِي قَتْلِهِ،
فَإِنْ كَانَ جُنُبًا أَوْ صَبِيًّا، أَوْ وَجَبَ فِي قَتْلِهِ قِصَاصٌ،
فَإِنَّهُ يُغَسَّل، وَإِنْ وُجِدَ قَتِيلاً فِي مَكَانِ الْمَعْرَكَةِ،
فَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ أَثَرٌ لِجِرَاحَةٍ، أَوْ دَمٍ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ
مُعْتَادٍ كَالْعَيْنِ فَلاَ يُغَسَّل.
وَلَوْ خَرَجَ الدَّمُ مِنْ مَوْضِعٍ يَخْرُجُ الدَّمُ عَادَةً
__________
(1) حديث: " زملوهم. . . ". سبق تخريجه ف 4.
(2) فتح القدير 2 / 102، الفتاوى الهندية 1 / 167، مواهب الجليل 2 / 246،
وروضة الطالبين 2 / 118، المجموع 5 / 260، المغني 2 / 528، الإنصاف 2 /
498.
(3) المجموع 5 / 260، روضة الطالبين 2 / 118، مواهب الجليل 2 / 246 - 247.
(26/276)
مِنْهُ بِغَيْرِ آفَةٍ فِي الْغَالِبِ
كَالأَْنْفِ، وَالدُّبُرِ وَالذَّكَرِ فَيُغَسَّل. وَالأَْصْل عِنْدَهُمْ
فِي غُسْل الشَّهِيدِ: أَنَّ كُل مَنْ صَارَ مَقْتُولاً فِي قِتَال أَهْل
الْحَرْبِ أَوِ الْبُغَاةِ، أَوْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، بِمَعْنًى مُضَافٍ
إِلَى الْعَدُوِّ كَانَ شَهِيدًا، سَوَاءٌ بِالْمُبَاشَرَةِ أَوِ
التَّسَبُّبِ، وَكُل مَنْ صَارَ مَقْتُولاً بِمَعْنًى غَيْرِ مُضَافٍ إِلَى
الْعَدُوِّ لاَ يَكُونُ شَهِيدًا. فَإِنْ سَقَطَ مِنْ دَابَّتِهِ مِنْ
غَيْرِ تَنْفِيرٍ مِنَ الْعَدُوِّ أَوِ انْفَلَتَتْ دَابَّةُ مُشْرِكٍ
وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَحَدٌ فَوَطِئَتْ مُسْلِمًا، أَوْ رَمَى مُسْلِمٌ
إِلَى الْعَدُوِّ فَأَصَابَ مُسْلِمًا، أَوْ هَرَبَ الْمُسْلِمُونَ
فَأَلْجَأَهُمُ الْعَدُوُّ إِلَى خَنْدَقٍ، أَوْ نَارٍ، أَوْ جَعَل
الْمُسْلِمُونَ الْحَسَكَ (1) حَوْلَهُمْ، فَمَشَوْا عَلَيْهَا، فِي
فِرَارِهِمْ، أَوْ هُجُومِهِمْ عَلَى الْكُفَّارِ فَمَاتُوا يُغَسَّلُونَ،
وَكَذَا إِنْ صَعِدَ مُسْلِمٌ حِصْنًا لِلْعَدُوِّ لِيَفْتَحَ الْبَابَ
لِلْمُسْلِمِينَ، فَزَلَّتْ رِجْلُهُ فَمَاتَ، يُغَسَّل (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُغَسَّل الشَّهِيدُ سَوَاءٌ كَانَ مُكَلَّفًا
أَوْ غَيْرَهُ إِلاَّ إِنْ كَانَ جُنُبًا أَوِ امْرَأَةً حَائِضًا أَوْ
نُفَسَاءَ طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا، أَوْ نِفَاسِهَا، وَإِنْ سَقَطَ مِنْ
دَابَّتِهِ أَوْ وُجِدَ مَيِّتًا وَلاَ أَثَرَ بِهِ، أَوْ سَقَطَ مِنْ
شَاهِقٍ فِي الْقِتَال أَوْ رَفَسَتْهُ دَابَّةٌ فَمَاتَ مِنْهَا، أَوْ
عَادَ إِلَيْهِ سَهْمُهُ
__________
(1) الحسك: ما يعمل من الحديد على مثال الشوك ويلقى حول العسكر ويبث في
ممرات الخيل فينشب في حوافرها.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 167.
(26/277)
فِيهَا، فَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ فِي
ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّهُ: يُغَسَّل، إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ فِعْل
الْعَدُوِّ، وَمَنْ قُتِل مَظْلُومًا، بِأَيِّ سِلاَحٍ قُتِل، كَقَتِيل
اللُّصُوصِ وَنَحْوِهِ يُلْحَقُ بِشَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ، فَلاَ يُغَسَّل
فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ: يُغَسَّل مَنْ قَتَلَهُ
اللُّصُوصُ أَوِ الْبُغَاةُ.
أَمَّا مَنْ مَاتَ فِي غَيْرِ مَا ذُكِرَ مِنَ الَّذِينَ وَرَدَ فِيهِمْ
أَنَّهُمْ شُهَدَاءُ: كَالْغَرِيقِ، وَالْمَبْطُونِ، وَالْمَرْأَةِ الَّتِي
مَاتَتْ فِي الْوِلاَدَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ شُهَدَاءُ فِي
الآْخِرَةِ، وَلَكِنَّهُمْ يُغَسَّلُونَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (2) .
إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ عَنِ الشَّهِيدِ:
6 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى:
أَنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَى الشَّهِيدِ نَجَاسَةٌ غَيْرُ دَمِ الشَّهَادَةِ
تُغْسَل عَنْهُ، وَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى إِزَالَةِ دَمِ الشَّهَادَةِ؛
لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَثَرِ الْعِبَادَةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَلاَ تُغْسَل النَّجَاسَةُ إِذَا كَانَتْ تُؤَدِّي إِلَى
إِزَالَةِ دَمِ الشَّهَادَةِ (3) .
وَسَبَقَ أَنَّ النَّجَاسَةَ تُغْسَل عَنِ الشَّهِيدِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ.
__________
(1) الإنصاف 2 / 501،502 وما بعده.
(2) المجموع 5 / 260، وروضة الطالبين 2 / 118، ومواهب الجليل 2 / 246.
(3) أسنى المطالب 1 / 315، روضة الطالبين 2 / 120، الإنصاف 2 / 499، مواهب
الجليل 2 / 249.
(26/277)
مَوْتُ الشَّهِيدِ بِجِرَاحِهِ فِي
الْمَعْرَكَةِ:
7 - الْمُرْتَثُّ: وَهُوَ مَنْ جُرِحَ فِي الْقِتَال، وَقَدْ بَقِيَتْ
فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ ثُمَّ مَاتَ يُغَسَّل وَإِنْ قُطِعَ أَنَّ
جِرَاحَتَهُ سَتُؤَدِّي إِلَى مَوْتِهِ (1) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (ارْتِثَاثٌ 3 9) .
تَكْفِينُ الشَّهِيدِ:
8 - شَهِيدُ الْقِتَال مَعَ الْكُفَّارِ لاَ يُكَفَّنُ كَسَائِرِ
الْمَوْتَى بَل يُدْفَنُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ فِي
الْمَعْرَكَةِ بَعْدَ نَزْعِ آلَةِ الْحَرْبِ عَنْهُ. لِحَدِيثِ:
زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي ثِيَابِهِمْ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَكْفِينٌ ف 14) .
دَفْنُ الشَّهِيدِ:
9 - مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُدْفَنَ الشُّهَدَاءُ فِي مَصَارِعِهِمْ، وَلاَ
يُنْقَلُونَ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، فَإِنَّ قَوْمًا مِنَ الصَّحَابَةِ
نَقَلُوا قَتْلاَهُمْ فِي وَاقِعَةِ أُحُدٍ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَنَادَى
مُنَادِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالأَْمْرِ
بِرَدِّ الْقَتْلَى إِلَى مَصَارِعِهِمْ (2) .
فَقَدْ قَال جَابِرٌ: فَبَيْنَمَا أَنَا فِي النَّظَّارِينَ إِذْ جَاءَتْ
عَمَّتِي بِأَبِي وَخَالِي عَادَلَتْهُمَا عَلَى نَاضِحٍ، فَدَخَلَتْ
بِهِمَا الْمَدِينَةَ لِتَدْفِنَهُمَا فِي مَقَابِرِنَا، إِذْ لَحِقَ
رَجُلٌ يُنَادِي، أَلاَ
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 315، الإنصاف 2 / 502، رد المحتار 1 / 610، مواهب
الجليل 2 / 248.
(2) البدائع 1 / 344، ابن عابدين 1 / 610، وجواهر الإكليل 1 / 111،
والقليوبي 1 / 139، وروضة الطالبين 2 / 120، 131، والمغني 2 / 509، 531،
532.
(26/278)
إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَرْجِعُوا بِالْقَتْلَى فَتَدْفِنُوهَا فِي
مَصَارِعِهَا حَيْثُ قُتِلَتْ: فَرَجَعْنَا بِهِمَا فَدَفَنَّاهُمَا حَيْثُ
قُتِلاَ. . (1) .
دَفْنُ أَكْثَرَ مِنْ شَهِيدٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ:
10 - يَجُوزُ دَفْنُ الرَّجُلَيْنِ أَوِ الثَّلاَثَةِ فِي الْقَبْرِ
الْوَاحِدِ، فَإِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي قَبْرٍ
وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُول: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا
أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ، وَقَال: أَنَا
شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي
دِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُصَل عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ (2) .
وَدَفَنَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ وَعَمْرَو بْنَ جَمُوحٍ
فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، لِمَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَحَبَّةِ، إِذْ قَال
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ادْفِنُوا هَذَيْنِ الْمُتَحَابَّيْنِ
فِي الدُّنْيَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ (3) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (دَفْنٌ ف 14) .
__________
(1) حديث جابر: بينا أنا في النظارين أخرجه أحمد 3 / 398 - ط الميمنية)
وإسناده حسن.
(2) حديث: " أيهم أكثرهم أخذًا في القرآن. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 /
212 - 217 - ط. السلفية) .
(3) زاد المعاد في هدي خير العباد 2 / 109، طبع سنة 1390 هـ - 1970م
والبدائع 1 / 319، وابن عابدين 1 / 598، والدسوقي 1 / 422، وجواهر الإكليل
1 / 114، والروضة 2 / 138، وكشاف القناع 2 / 143، والمغني 2 / 563، وحديث:
" ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا " أخرجه ابن سعد في الطبقات (3 / 562 -
ط. بيروت) وإسناده حسن.
(26/278)
شُورَى
التَّعْرِيفُ:
1 - الشُّورَى لُغَةً: يُقَال: شَاوَرْتُهُ فِي الأَْمْرِ وَاسْتَشَرْتُهُ:
رَاجَعْتُهُ لأََرَى رَأْيَهُ فِيهِ وَاسْتَشَارَهُ: طَلَبَ مِنْهُ
الْمَشُورَةَ. وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالرَّأْيِ. وَأَشَارَ يُشِيرُ إِذَا
وَجَّهَ الرَّأْيَ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ بِالْيَدِ: أَوْمَأَ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرَّأْيُ:
2 - الرَّأْيُ: الْعَقْل وَالتَّدْبِيرُ وَالاِعْتِقَادُ، وَرَجُلٌ ذُو
رَأْيٍ أَيْ: بَصِيرَةٍ وَحِذْقٍ بِالأُْمُورِ (2)
ب - النَّصِيحَةُ:
3 - النَّصِيحَةُ: الإِْخْلاَصُ وَالصِّدْقُ وَالْمَشُورَةُ وَالْعَمَل.
نَصَحْتُ لِزَيْدٍ، أَنْصَحُ نُصْحًا وَنَصِيحَةً، هَذِهِ اللُّغَةُ
الْفَصِيحَةُ (3) .
وَفِي الْحَدِيثِ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ قَالُوا: لِمَنْ؟ قَال: لِلَّهِ
وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَِئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ
(4) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير - مادة (شور) .
(2) لسان العرب مادة (رأى) والمصباح المنير مادة (روى) .
(3) لسان العرب والمصباح المنير مادة (نصح) .
(4) حديث: " الدين النصيحة. . " أخرجه
مسلم (1 / 74 - ط الحلبي) من حديث تميم الداري.
(26/279)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - لِلْعُلَمَاءِ فِي حُكْمِ الشُّورَى - مِنْ حَيْثُ هِيَ - رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: الْوُجُوبُ: وَيُنْسَبُ هَذَا الْقَوْل لِلنَّوَوِيِّ، وَابْنِ
عَطِيَّةَ، وَابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ، وَالرَّازِيِّ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَْمْرِ فَإِذَا
عَزَمْتَ فَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُتَوَكِّلِينَ} (1) وَظَاهِرُ الأَْمْرِ فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَشَاوِرْهُمْ} يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَالأَْمْرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُشَاوَرَةِ، أَمْرٌ لأُِمَّتِهِ
لِتَقْتَدِيَ بِهِ وَلاَ تَرَاهَا مَنْقَصَةً، كَمَا مَدَحَهُمْ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}
(2) .
قَال ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: وَاجِبٌ عَلَى الْوُلاَةِ مُشَاوَرَةُ
الْعُلَمَاءِ فِيمَا لاَ يَعْلَمُونَ، وَمَا أَشْكَل عَلَيْهِمْ مِنْ
أُمُورِ الدِّينِ، وَوُجُوهِ الْجَيْشِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَرْبِ،
وَوُجُوهِ النَّاسِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ، وَوُجُوهِ
الْكُتَّابِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْعُمَّال، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ
الْبِلاَدِ وَعِمَارَتِهَا.
قَال ابْنُ عَطِيَّةَ: " وَالشُّورَى مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ،
وَعَزَائِمِ الأَْحْكَامِ، وَمَنْ لاَ يَسْتَشِيرُ
__________
(1) سورة آل عمران / 159.
(2) سورة الشورى / 38.
(26/279)
أَهْل الْعِلْمِ وَالدِّينِ فَعَزْلُهُ
وَاجِبٌ وَهَذَا مِمَّا لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ (1) ".
وَلاَ يَصِحُّ اعْتِبَارُ الأَْمْرِ بِالشُّورَى لِمُجَرَّدِ تَطْيِيبِ
نُفُوسِ الصَّحَابَةِ، وَلِرَفْعِ أَقْدَارِهِمْ؛ لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ
مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ أَنَّ مَشُورَتَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَغَيْرُ
مَعْمُولٍ عَلَيْهَا مَعَ اسْتِفْرَاغِهِمْ لِلْجَهْدِ فِي اسْتِنْبَاطِ
مَا شُوِرُوا فِيهِ، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَطْيِيبٌ لِنُفُوسِهِمْ وَلاَ
رَفْعٌ لأَِقْدَارِهِمْ، بَل فِيهِ إِيحَاشُهُمْ وَإِعْلاَمُهُمْ بِعَدَمِ
قَبُول مَشُورَتِهِمْ (2) .
الثَّانِي: النَّدْبُ. وَيُنْسَبُ هَذَا الْقَوْل لِقَتَادَةَ، وَابْنِ
إِسْحَاقَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالرَّبِيعِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أُمِرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُشَاوِرَ أَصْحَابَهُ
فِي مَكَائِدِ الْحُرُوبِ، وَعِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، هُوَ تَطْيِيبٌ
لِنُفُوسِهِمْ، وَرَفْعٌ لأَِقْدَارِهِمْ، وَتَأَلُّفُهُمْ عَلَى دِينِهِمْ
- وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ أَغْنَاهُ عَنْ رَأْيِهِمْ بِوَحْيِهِ.
وَلَقَدْ كَانَتْ سَادَاتُ الْعَرَبِ إِذَا لَمْ يُشَاوَرُوا فِي الأَْمْرِ
شَقَّ عَلَيْهِمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُشَاوِرَهُمْ لِيَعْرِفُوا إِكْرَامَهُ لَهُمْ
فَتَذْهَبَ أَضْغَانُهُمْ. فَالأَْمْرُ فِي الآْيَةِ مَحْمُولٌ عَلَى
النَّدْبِ
__________
(1) تفسير القرطبي 4 / 249، أحكام القرآن للجصاص 2 / 48، تفسير الفخر
الرازي 9 / 67، مواهب الجليل 3 / 395 - 396، بدائع السلك في طبائع الملك 1
/ 295.
(2) أحكام القرآن للجصاص 2 / 49.
(26/280)
كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ (1) وَلَوْ أَجْبَرَهَا
الأَْبُ عَلَى النِّكَاحِ جَازَ. لَكِنَّ الأَْوْلَى أَنْ يَسْتَأْمِرَهَا،
وَيَسْتَشِيرَهَا تَطْيِيبًا لِنَفْسِهَا؛ فَكَذَا هَاهُنَا (2) .
حُكْمُ الشُّورَى فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
5 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي سِيَاقِ عَدِّهِمْ لِخَصَائِصِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِنَ الْخَصَائِصِ الْوَاجِبَةِ
فِي حَقِّهِ الْمُشَاوَرَةَ فِي الأَْمْرِ مَعَ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَْمْرِ} (3) وَوَجْهُ
اخْتِصَاصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوُجُوبِ الْمُشَاوَرَةِ
- مَعَ كَوْنِهَا وَاجِبَةً عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أُولِي الأَْمْرِ -
أَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ مَعَ كَمَال عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ.
وَالْحِكْمَةُ فِي مَشُورَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لأَِصْحَابِهِ: أَنْ يَسْتَنَّ بِهَا الْحُكَّامُ بَعْدَهُ، لاَ
لِيَسْتَفِيدَ مِنْهُمْ عِلْمًا أَوْ حُكْمًا. فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنِيًّا عَنْ مَشُورَتِهِمْ
بِالْوَحْيِ، كَمَا أَنَّ فِي اسْتِشَارَتِهِمْ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ،
وَرَفْعًا لأَِقْدَارِهِمْ، وَتَأَلُّفًا لَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ. قَال
أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ
أَحَدًا أَكْثَرَ مَشُورَةً لأَِصْحَابِهِ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) .
__________
(1) حديث: " البكر تستأمر " أخرجه مسلم (2 / 1037 - ط الحلبي) من حديث ابن
عباس.
(2) تفسير الفخر الرازي 9 / 67، وتفسير القرطبي 4 / 250، وأحكام القرآن
للجصاص 2 / 48.
(3) سورة آل عمران / 159.
(4) حديث أبي هريرة: ما رأيت من الناس أحدًا أكثر مشورة لأصحابه من رسول
الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور للسيوطي
(2 / 359 - ط. دار الفكر) .
(26/280)
6 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ
مَحَل مُشَاوَرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَكُونُ فِيمَا
وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ؛ إِذِ التَّشَاوُرُ نَوْعٌ مِنَ الاِجْتِهَادِ وَلاَ
اجْتِهَادَ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ.
أَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ: فَإِنَّ مَحَل مُشَاوَرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هُوَ فِي أَخْذِ الرَّأْيِ فِي الْحُرُوبِ
وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُهِمَّاتِ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ بَيْنَ
النَّاسِ، وَأَمَّا مَا فِيهِ حُكْمٌ بَيْنَ النَّاسِ فَلاَ يُشَاوِرُ
فِيهِ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا يُلْتَمَسُ الْعِلْمُ مِنْهُ، وَلاَ يَنْبَغِي
لأَِحَدٍ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ مِنْهُ، بِمَا أُنْزِل عَلَيْهِ لأَِنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّل إِلَيْهِمْ} (1) .
أَمَّا فِي غَيْرِ الأَْحْكَامِ فَرُبَّمَا بَلَغَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ
مِمَّا شَاهَدُوهُ أَوْ سَمِعُوهُ مَا لَمْ يَبْلُغِ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ صَحَّ فِي حَوَادِثَ كَثِيرَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِي مُهِمَّاتِ الأُْمُورِ
مِمَّا لَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ. وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ شَاوَرَ أَصْحَابَهُ فِي أَمْرِ الأَْذَانِ وَهُوَ مِنْ أُمُورِ
الدِّينِ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: كَانَ
الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ
فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلاَةَ لَيْسَ يُنَادَى لَهَا، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا
فِي ذَلِكَ، فَقَال بَعْضُهُمُ اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْل نَاقُوسِ
النَّصَارَى، وَقَال بَعْضُهُمْ: بَل
__________
(1) سورة النحل / 44.
(26/281)
بُوقًا مِثْل قَرْنِ الْيَهُودِ، فَقَال
عُمَرُ: أَوَلاَ تَبْعَثُونَ رَجُلاً يُنَادِي بِالصَّلاَةِ؟ فَقَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا بِلاَل قُمْ فَنَادِ
بِالصَّلاَةِ (1)
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ مُصَالَحَةَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ
الْفَزَارِيَّ وَالْحَارِثَ بْنَ عَوْفٍ الْمُرِّيَّ، حِينَ حَصَرَهُ
الأَْحْزَابُ فِي الْخَنْدَقِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ ثُلُثَ ثِمَارِ
الْمَدِينَةِ، وَيَرْجِعَا بِمَنْ مَعَهُمَا مِنْ غَطَفَانَ عَنْهُ،
فَاسْتَشَارَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، فَقَالاَ
لَهُ: يَا رَسُول اللَّهِ أَمْرًا تُحِبُّهُ فَنَصْنَعُهُ أَمْ شَيْئًا
أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ لاَ بُدَّ لَنَا مِنَ الْعَمَل بِهِ أَمْ شَيْئًا
تَصْنَعُهُ لَنَا؟ قَال: بَل شَيْءٌ أَصْنَعُهُ لَكُمْ، فَأَشَارَا
عَلَيْهِ أَلاَّ يُعْطِيَهُمَا فَلَمْ يُعْطِهِمَا شَيْئًا (2) .
كَمَا اسْتَشَارَ فِي أَسَارَى بَدْرٍ، فَأَشَارَ أَبُو بَكْرٍ:
بِالْفِدَاءِ، وَأَشَارَ عُمَرُ بِالْقَتْل، فَعَمِل النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
(3) وَكَانَ هَذَا قَبْل نُزُول آيَةِ الأَْنْفَال: {مَا كَانَ
__________
(1) حديث ابن عمر: " كان المسلمون حين قدموا المدينة. . . " أخرجه البخاري
(الفتح 2 / 77 - ط السلفية) .
(2) حديث: " أنه أراد مصالحة عيينة بن حصن الفزاري والحارث ابن عوف المري.
. . ". أخرجه ابن إسحاق في السيرة من حديث الزهري مرسلا، كذا في البداية
والنهاية لابن كثير (4 / 104 - 105 ط مطبعة السعادة) .
(3) حديث: " استشار في أسارى بدر. . . ". أخرجه مسلم (1385 - ط الحلبي) من
حديث عمر بن الخطاب.
(26/281)
لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى
حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَْرْضِ} . (1)
وَلَمَّا نَزَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلَهُ
بِبَدْرٍ قَال لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: يَا رَسُول اللَّهِ
أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِل؟ أَمَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ
لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ وَلاَ نَتَأَخَّرَ عَنْهُ؟ أَمْ هُوَ الرَّأْيُ
وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ فَقَال: بَل هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ
وَالْمَكِيدَةُ، قَال: إِنَّ هَذَا لَيْسَ لَنَا بِمَنْزِلٍ، فَانْهَضْ
بِالنَّاسِ، حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَنْزِلٍ مِنَ الْقَوْمِ فَنَنْزِلَهُ
ثُمَّ نَغُورَ مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْقُلُبِ، وَنَبْنِيَ لَكَ حَوْضًا
فَنَمْلأََهُ مَاءً، ثُمَّ نُقَاتِل النَّاسَ، فَنَشْرَبَ وَلاَ
يَشْرَبُونَ. فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ أَشَرْتَ
بِالرَّأْيِ (2) .
كَمَا شَاوَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا
وَأُسَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قِصَّةِ الإِْفْكِ. وَجَاءَ
فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
- وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ - مَا تُشِيرُونَ عَلَيَّ فِي قَوْمٍ
يَسُبُّونَ أَهْلِي؟ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِمْ إِلاَّ خَيْرًا (3) وَكَانَ
هَذَا قَبْل نُزُول بَرَاءَةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي
سُورَةِ النُّورِ (4) .
__________
(1) سورة الأنفال / 67.
(2) حديث: " نزول منزله ببدر واستشارته الحباب. . . ". أورده ابن هشام في
السيرة (2 / 620 - ط الحلبي) نقلا عن ابن إسحاق بإسناد فيه انقطاع.
(3) حديث: " ما تشيرون علي في قوم يسبون أهلي. . . ". أخرجه البخاري (الفتح
13 / 340 - ط السلفية) .
(4) مطالب أولي النهى 5 / 31، الخصائص للسيوطي 3 / 256، حاشية الدسوقي 2 /
212، أحكام القرآن للجصاص 2 / 49 - 50، تهذيب الرياسة وترتيب السياسة
للقلعي 178 - 181، نهاية المحتاج 6 / 175 روضة الطالبين 7 / 3، الحطاب 3 /
395، الخرشي 3 / 158.
(26/282)
الشُّورَى فِي الْقَضَاءِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْقَاضِي
أَنْ يَسْتَشِيرَ فِيمَا يَعْرِضُ عَلَيْهِ مِنَ الْوَقَائِعِ الَّتِي
يُشْكِل عَلَيْهِ أَمْرُهَا إِذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ فِيهَا الْحُكْمُ.
وَمَحَل الشُّورَى فِي الْقَضَاءِ هُوَ فِيمَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَقْوَال
الْفُقَهَاءِ، وَتَعَارَضَتْ فِيهِ آرَاؤُهُمْ فِي الْمَسَائِل
الدَّاخِلَةِ فِي الاِجْتِهَادِ.
أَمَّا الْحُكْمُ الْمَعْلُومُ بِنَصٍّ، أَوْ إِجْمَاعٍ، أَوْ قِيَاسٍ
جَلِيٍّ، فَلاَ مَدْخَل لِلْمُشَاوَرَةِ فِيهِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْقَاضِيَ يُؤْمَرُ بِأَلاَّ
يَقْضِيَ فِيمَا سَبِيلُهُ الاِجْتِهَادُ إِلاَّ بَعْدَ مَشُورَةِ مَنْ
يَسُوغُ لَهُ الاِجْتِهَادُ؛ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْقَاضِي مِنْ أَهْل
الاِجْتِهَادِ.
وَعَلَى الْقَوْل بِالنَّدْبِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لاَ يُلْزَمُ
بِمَشُورَةِ مُسْتَشَارِيهِ فَإِذَا حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ فَلَيْسَ
لأَِحَدٍ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ افْتِيَاتًا
عَلَيْهِ وَإِنْ خَالَفَ اجْتِهَادَهُ، إِلاَّ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا
يُخَالِفُ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، أَوْ إِجْمَاعًا، وَذَلِكَ
لِوُجُوبِ نَقْضِ حُكْمِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَيُشَاوِرُ الْقَاضِي
الْمُوَافِقِينَ وَالْمُخَالِفِينَ مِنَ
(26/282)
الْفُقَهَاءِ، وَيَسْأَلُهُمْ عَنْ
حُجَجِهِمْ لِيَقِفَ عَلَى أَدِلَّةِ كُل فَرِيقٍ فَيَكُونَ اجْتِهَادُهُ
أَقْرَبَ إِلَى الصَّوَابِ (1) .
فَإِذَا لَمْ يَقَعِ اجْتِهَادُ الْقَاضِي عَلَى شَيْءٍ، وَبَقِيَتِ
الْحَادِثَةُ مُخْتَلِفَةً وَمُشْكِلَةً: كَتَبَ إِلَى: فُقَهَاءِ غَيْرِ
مِصْرِهِ، فَالْمُشَاوَرَةُ بِالْكِتَابِ سُنَّةٌ قَدِيمَةٌ فِي
الْحَوَادِثِ الشَّرْعِيَّةِ (2)
مَا يَلْزَمُ الْمُسْتَشَارَ فِي مَشُورَتِهِ:
8 - عَلَى مَنِ اسْتُشِيرَ أَنْ يَصْدُقَ فِي مَشُورَتِهِ لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ
(3) وَلِقَوْلِهِ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ (4) .
وَسَوَاءٌ اسْتُشِيرَ فِي أَمْرِ نَفْسِهِ أَمْ فِي أَمْرِ غَيْرِهِ،
فَيَذْكُرُ الْمَحَاسِنَ وَالْمَسَاوِئَ كَمَا يَذْكُرُ الْعُيُوبَ
الشَّرْعِيَّةَ وَالْعُيُوبَ الْعُرْفِيَّةَ.
وَلاَ يَكُونُ ذِكْرُ الْمَسَاوِئِ مِنَ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ إِنْ
قَصَدَ بِذِكْرِهَا النَّصِيحَةَ.
وَهَذَا الْحُكْمُ شَامِلٌ فِي كُل مَا أُرِيدَ الاِجْتِمَاعُ عَلَيْهِ،
كَالنِّكَاحِ، وَالسَّفَرِ،
__________
(1) حاشية الجمل 5 / 347، الشرقاوي على التحرير 2 / 494، حاشية القليوبي 4
/ 302، مواهب الجليل 6 / 93، كشاف القناع 6 / 315، مطالب أولي النهى 6 /
478، حاشية ابن عابدين 4 / 303.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 303.
(3) حديث: " المستشار مؤتمن " أخرجه الترمذي (4 / 585 - ط الحلبي) والحاكم
(4 / 131 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة، وصححه الحاكم
ووافقه الذهبي.
(4) تقدم تخريجه ف 3.
(26/283)
وَالشَّرِكَةِ، وَالْمُجَاوَرَةِ،
وَإِيدَاعِ الأَْمَانَةِ، وَالرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَالْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ
(1) .
وَلِفُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ تَفْصِيلٌ فِي حُكْمِ ذِكْرِ الْمَسَاوِئِ،
وَفِيمَا يَلِي بَيَانُهُ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ
لِمَنِ اسْتَشَارَهُ الزَّوْجُ فِي التَّزَوُّجِ بِفُلاَنَةَ أَنْ يَذْكُرَ
لَهُ مَا يَعْلَمُهُ فِيهَا مِنَ الْعُيُوبِ لِيُحَذِّرَهُ مِنْهَا،
وَيَجُوزُ لِمَنِ اسْتَشَارَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي التَّزَوُّجِ بِفُلاَنٍ
أَنْ يَذْكُرَ لَهَا مَا يَعْلَمُهُ فِيهِ مِنَ الْعُيُوبِ لِتَحْذَرَ
مِنْهُ.
وَمَحَل جَوَازِ ذِكْرِ الْمَسَاوِئِ لِلْمُسْتَشَارِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ
مَنْ يَعْرِفُ حَال الْمَسْئُول عَنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ الْمُسْتَشَارِ،
وَإِلاَّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْبَيَانُ؛ لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ النَّصِيحَةِ
لأَِخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: يَجِبُ عَلَيْهِ ذِكْرُ
الْمَسَاوِئِ مُطْلَقًا، كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَعْرِفُ تِلْكَ الْمَسَاوِئَ
غَيْرَهُ، أَمْ لاَ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ ذِكْرِ الْمَسَاوِئِ سَوَاءٌ
اسْتُشِيرَ أَوْ لَمْ يُسْتَشَرْ فِي النِّكَاحِ وَالْمَبِيعِ
وَغَيْرِهِمَا لَكِنْ بِشَرْطِ سَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ، بِأَنْ يَأْمَنَ
الذَّاكِرُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَعِرْضِهِ.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ مَنِ اسْتُشِيرَ فِي أَمْرِ نَفْسِهِ
وَجَبَ ذِكْرُ الْعَيْبِ إِنْ كَانَ مِمَّا يَثْبُتُ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 220، حاشية ابن عابدين 5 / 262، مطالب أولي النهى 5
/ 11، القليوبي وعميرة 3 / 214، حواشي تحفة المحتاج 7 / 213.
(2) الشرح الصغير 2 / 348 ط. 7 / 213 (دار المعارف بمصر) .
(26/283)
بِهِ الْخِيَارُ كَالْعُنَّةِ وَإِلاَّ
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً كَبُخْلٍ فَيُسَنُّ ذِكْرُهُ، وَإِلاَّ
وَجَبَ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْهُ، وَسَتْرُ نَفْسِهِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: عَلَى مَنِ اسْتُشِيرَ فِي خَاطِبٍ أَوْ
مَخْطُوبَةٍ أَنْ يَذْكُرَ مَا فِيهِ مِنْ مَسَاوِئَ أَيْ عُيُوبٍ
وَغَيْرِهَا، وَلاَ يَكُونُ ذِكْرُ الْمَسَاوِئِ غِيبَةً مُحَرَّمَةً مَعَ
قَصْدِهِ بِذِكْرِ ذَلِكَ النَّصِيحَةَ لِحَدِيثِ: الْمُسْتَشَارُ
مُؤْتَمَنٌ وَحَدِيثِ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ وَإِنِ اسْتُشِيرَ فِي أَمْرِ
نَفْسِهِ بَيَّنَهُ وُجُوبًا كَقَوْلِهِ: عِنْدِي شُحٌّ وَخُلُقِي شَدِيدٌ
وَنَحْوِهِمَا (2) .
الشُّورَى فِي عَقْدِ الإِْمَامَةِ الْكُبْرَى:
9 - يَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَجْعَل الْخِلاَفَةَ مِنْ بَعْدِهِ شُورَى
بَيْنَ عَدَدٍ مَحْصُورٍ يُعَيِّنُهُمْ فَيَرْتَضُونَ بَعْدَ مَوْتِهِ -
أَوْ فِي حَيَاتِهِ بِإِذْنِهِ - أَحَدَهُمْ كَمَا جَعَل عُمَرُ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - الأَْمْرَ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ
وَهُمْ: عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَعُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَطَلْحَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
- وَارْتَضَوْا بِالتَّشَاوُرِ بَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْخِلاَفَةُ
لِعُثْمَانِ مِنْ بَيْنِهِمْ.
وَعَقْدُ الإِْمَامَةِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ دَاخِلٌ فِي الاِسْتِخْلاَفِ
إِلاَّ أَنَّهُ يَكُونُ لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، وَهُنَا
__________
(1) حواشي تحفة المحتاج 7 / 213، القليوبي وعميرة 3 / 214
(2) مطالب أولي النهى 5 / 11.
(26/284)
يَكُونُ فِي عَدَدٍ مَحْصُورٍ يُعَيَّنُ
الْخَلِيفَةُ مِنْ بَيْنِهِمْ بِالتَّشَاوُرِ.
وَالشُّورَى لَيْسَتْ شَرْطًا فِي عَقْدِ الإِْمَامَةِ. وَيَجُوزُ
لِلإِْمَامِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لِمَنْ أَدَّاهُ
اجْتِهَادُهُ إِلَى صَلاَحِيَّتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ وَالِدًا وَلاَ
وَلَدًا.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اشْتِرَاطِ رِضَا أَهْل الاِخْتِيَارِ بِهِ:
فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ رِضَا أَهْل الاِخْتِيَارِ
شَرْطٌ فِي لُزُومِ بَيْعَتِهِ لأَِنَّهَا حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالأُْمَّةِ
فَلَمْ تَلْزَمْهُمْ بَيْعَتُهُ إِلاَّ بِرِضَا أَهْل الاِخْتِيَارِ
مِنْهُمْ.
وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ رِضَا أَهْل
الاِخْتِيَارِ، لأَِنَّ بَيْعَةَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ
تَتَوَقَّفْ عَلَى رِضَا الصَّحَابَةِ؛ وَلأَِنَّ الإِْمَامَ أَحَقُّ
بِهَا؛ فَكَانَ اخْتِيَارُهُ فِيهَا أَمْضَى.
أَمَّا إِذَا كَانَ وَلَدًا أَوْ وَالِدًا فَلِلْعُلَمَاءِ فِي انْفِرَادِ
الإِْمَامِ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لَهُ دُونَ اسْتِشَارَةٍ ثَلاَثَةُ
مَذَاهِبَ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل:
لاَ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لأَِحَدِهِمَا حَتَّى
يُشَاوِرَ فِيهِ أَهْل الاِخْتِيَارِ، فَإِذَا رَأَوْهُ أَهْلاً صَحَّ
مِنْهُ حِينَئِذٍ عَقْدُ الْبَيْعَةِ لَهُ؛ لأَِنَّ عَقْدَ الْبَيْعَةِ
تَزْكِيَةٌ تَجْرِي مَجْرَى الشَّهَادَةِ، وَتَقْلِيدُهُ عَلَى الأُْمَّةِ
يَجْرِي مَجْرَى الْحُكْمِ؛ وَهُوَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لِوَالِدٍ
وَلاَ لِوَلَدٍ، وَلاَ يَحْكُمَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا
(26/284)
لِلتُّهْمَةِ الْعَائِدَةِ إِلَيْهِ بِمَا
جُبِل مِنَ الْمَيْل إِلَيْهِ.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي:
يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّ أَمْرَهُ نَافِذٌ لِلأُْمَّةِ
فَيَغْلِبُ حُكْمُ الْمَنْصِبِ عَلَى حُكْمِ النَّسَبِ، وَلاَ تَجِدُ
التُّهْمَةُ طَرِيقًا لِلطَّعْنِ فِي أَمَانَتِهِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ
عَهِدَ بِالإِْمَامَةِ إِلَى غَيْرِ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ.
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ:
يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لِوَالِدِهِ وَلاَ يَجُوزُ
لِوَلَدِهِ لأَِنَّ الْمَيْل إِلَى الْوَلَدِ أَكْثَرُ وَأَقْوَى مِنَ
الْمِيل إِلَى الْوَالِدِ (1) .
__________
(1) حاشية الجمل 5 / 120، كشاف القناع 6 / 159، الغياثي للجويني ص 55،
الأحكام السلطانية للماوردي 7، 10، حاشية ابن عابدين 3 / 310.
(26/285)
شَوْرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّوْرَةُ فِي اللُّغَةِ: الْحُسْنُ وَالْجَمَال، وَالْهَيْئَةُ،
وَاللِّبَاسُ. وَقِيل: الشُّورَةُ بِالضَّمِّ: الْهَيْئَةُ وَالْجَمَال،
وَالشَّوْرَةُ بِالْفَتْحِ: اللِّبَاسُ، فَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّهُ أَقْبَل
رَجُلٌ وَعَلَيْهِ شَوْرَةٌ حَسَنَةٌ (1) .
قَال ابْنُ الأَْثِيرِ: الشُّورَةُ بِالضَّمِّ: الْجَمَال وَالْحُسْنُ،
كَأَنَّهُ مِنَ الشَّوْرِ وَهُوَ عَرْضُ الشَّيْءِ وَإِظْهَارُهُ. وَيُقَال
لَهَا أَيْضًا: الشَّارَةُ وَهِيَ الْهَيْئَةُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ
اللُّتْبِيَّةِ أَنَّهُ جَاءَ بِشُوَارٍ كَثِيرٍ (2) قَال ابْنُ
الأَْثِيرِ: الشُّوَارُ مَتَاعُ الْبَيْتِ (3) وَفِي الاِصْطِلاَحِ:
الشُّورَةُ مَتَاعُ
__________
(1) حديث: " أقبل رجل وعليه شورة حسنة "
أخرجه البخاري (الفتح 6 / 476 - ط السلفية) ومسلم (4 / 1977 - ط الحلبي) من
حديث أبي هريرة إلا أنه عندهما: " شارة ".
(2) حديث ابن اللتبية أنه جاء بشوار كثير. أخرج أصل الحديث البخاري (13 /
164 - الفتح ط السلفية) ومسلم (2 / 1464 - ط الحلبي) من حديث أبي حميد
الساعدي وليس فيهما هذا اللفظ المذكور، وفي مسلم: " فجاء بسواد كثير " وذكر
هذه اللفظ ابن الأثير في " النهاية " (2 / 508 - ط الحلبي) ولم يعزها إلى
أي مصدر كعادته.
(3) لسان العرب، ونهاية ابن الأثير.
(26/285)
الْبَيْتِ؛ مِنْ فِرَاشٍ وَغِطَاءٍ،
وَلِبَاسٍ (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْجِهَازُ:
2 - الْجِهَازُ هُوَ: مَا تُزَفُّ بِهِ الْمَرْأَةُ إِلَى بَيْتِ
الزَّوْجِيَّةِ مِنْ مَتَاعٍ، أَوْ يُمَلِّكُهَا إِيَّاهُ زَوْجُهَا (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - يَجِبُ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا كُل مَا تَقُومُ بِهِ حَيَاةُ
الإِْنْسَانِ: مِنْ نَفَقَةٍ، وَكِسْوَةٍ، وَسَائِرِ مَا يَحْتَاجُ
إِلَيْهِ الإِْنْسَانُ فِي حَيَاتِهِ مِنَ الْمَتَاعِ: كَالْفِرَاشِ،
وَالْغِطَاءِ، وَسَائِرِ الأَْدَوَاتِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَيْهَا:
كَآلَةِ الطَّحْنِ، وَالطَّبْخِ كَالْقِدْرِ، وَآنِيَةِ الشُّرْبِ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يَسْتَغْنِي عَنْهُ الإِْنْسَانُ، وَهُوَ مَا
عَبَّرَ عَنْهُ الْمَالِكِيَّةُ بِالشَّوْرَةِ. وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ
بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (3) .
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (4) .
__________
(1) شرح الزرقاني 4 / 244 - 247.
(2) لسان العرب بتصرف.
(3) نهاية المحتاج 7 / 193 - 194 وشرح الزرقاني 4 / 244 - 245 وما بعده،
المغني 7 / 568، وابن عابدين 2 / 652.
(4) سورة البقرة / 233.
(26/286)
وَالآْيَةُ فِي الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ،
وَيُقَاسُ عَلَيْهِمَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَتَاعِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (نَفَقَةٌ) .
انْتِفَاعُ الزَّوْجِ بِشَوْرَةِ زَوْجَتِهِ:
4 - قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: لَيْسَ لِلزَّوْجِ الاِنْتِفَاعُ بِمَا
تَمْلِكُهُ الزَّوْجَةُ مِنْ مَتَاعٍ كَالْفِرَاشِ، وَالأَْوَانِي،
وَغَيْرِهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا، سَوَاءٌ مَلَّكَهَا إِيَّاهُ هُوَ، أَمْ
مَلَكَتْهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، وَسَوَاءٌ قَبَضَتِ الصَّدَاقَ، أَمْ لَمْ
تَقْبِضْهُ (1) .
وَلَهَا حَقُّ التَّصَرُّفِ فِيمَا تَمْلِكُهُ بِمَا أَحَبَّتْ مِنَ
الصَّدَقَةِ، وَالْهِبَةِ، وَالْمُعَاوَضَةِ، مَا لَمْ يَعُدْ ذَلِكَ
عَلَيْهَا بِضَرَرٍ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ قَبَضَتِ الزَّوْجَةُ صَدَاقَهَا
فَلِلزَّوْجِ التَّمَتُّعُ بِشَوْرَتِهَا فَيَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ مَا
يَجُوزُ لَهُ لُبْسُهُ، وَلَهُ النَّوْمُ عَلَى فِرَاشِهَا،
وَالاِنْتِفَاعُ بِسَائِرِ الأَْدَوَاتِ الَّتِي تَمْلِكُهَا، وَلَوْ
بِغَيْرِ رِضَاهَا. سَوَاءٌ تَمَتَّعَ بِالشَّوْرَةِ مَعَهَا أَوْ وَحْدَهُ
وَتَمَتُّعُهُ بِشَوْرَتِهَا حَقٌّ لَهُ، فَلَهُ مَنْعُهَا مِنَ
التَّصَرُّفِ بِهَا بِمَا يُزِيل الْمِلْكَ، كَالْمُعَاوَضَةِ، وَالْهِبَةِ
وَالصَّدَقَةِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُفَوِّتَ عَلَيْهِ
حَقَّ التَّمَتُّعِ بِهَا.
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) القليوبي 4 / 576، نهاية المحتاج 7 / 199، والمغني 7 / 569، وابن
عابدين 2 / 652.
(26/286)
أَمَّا إِذَا لَمْ تَقْبِضْ صَدَاقَهَا
وَإِنَّمَا تَجَهَّزَتْ مِنْ مَالِهَا فَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا إِلاَّ
الْحَجْرُ عَنِ التَّصَرُّفِ بِمَا يُزِيل الْمِلْكَ، فَلَهُ أَنْ
يَمْنَعَهَا مِنْ بَيْعِهَا، وَهِبَتِهَا، وَالتَّصَدُّقِ بِهَا،
وَالتَّبَرُّعِ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ (1) وَالتَّفْصِيل فِي:
(نَفَقَةٌ) .
شَوْطٌ
انْظُرْ: طَوَافٌ، سَعْيٌ
__________
(1) شرح الزرقاني 4 / 247.
(26/287)
شَوَّالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - شَوَّالٌ، وَيُقَال: الشَّوَّال: هُوَ أَحَدُ شُهُورِ السَّنَةِ
الْقَمَرِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، الَّذِي يَلِي رَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرُ
عِيدِ الْفِطْرِ (1) ، وَأَوَّل أَشْهُرِ الْحَجِّ الْمَذْكُورَةِ فِي
قَوْله تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِشَوَّالٍ:
صِيَامُ السِّتِّ مِنْ شَوَّالٍ:
2 - ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ صِيَامَ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ
شَوَّالٍ سُنَّةٌ (3) لِحَدِيثِ: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ
سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ (4) .
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ لِئَلاَّ يُلْحِقَ الْعَامَّةُ
بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْهُ (5) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) سورة البقرة / 197.
(3) روضة الطالبين 2 / 387، نهاية المحتاج 3 / 208، كشاف القناع 2 / 337 -
338، أسنى المطالب 1 / 413.
(4) حديث: " من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال.
. . " أخرجه مسلم (2 / 822 ط الحلبي) من حديث أبي أيوب الأنصاري.
(5) الفتاوى الهندية 1 / 201، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 351،
مواهب الجليل 2 / 414، وحاشية الزرقاني 2 / 199.
(26/287)
وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ:
(صَوْمُ التَّطَوُّعِ) .
مَا تَثْبُتُ بِهِ رُؤْيَةُ هِلاَل شَوَّالٍ:
3 - يَثْبُتُ هِلاَل شَوَّالٍ بِإِكْمَال عِدَّةِ رَمَضَانَ، وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي مَا يَثْبُتُ بِهِ هِلاَل شَوَّالٍ بِغَيْرِ ذَلِكَ
فَذَهَبَ الأَْكْثَرُونَ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ بِأَقَل مِنْ
شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، وَقَال آخَرُونَ: يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ
وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَال الْبَعْضُ: يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ.
وَإِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً فَقَدْ رَأَى الْبَعْضُ أَنَّهُ لاَ
بُدَّ مِنَ الرُّؤْيَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ، وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ:
(رَوِيَّةُ الْهِلاَل) (1) .
الْمُنْفَرِدُ بِرُؤْيَةِ هِلاَل شَوَّالٍ:
4 - إِذَا انْفَرَدَ وَاحِدٌ بِرُؤْيَةِ هِلاَل شَوَّالٍ، لَمْ يَجُزْ لَهُ
الْفِطْرُ إِلاَّ أَنْ يَحْصُل لَهُ عُذْرٌ يُبِيحُ الإِْفْطَارَ
كَالسَّفَرِ، أَوِ الْمَرَضِ، أَوِ الْحَيْضِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
يَرْفَعُهُ: الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ،
وَالأَْضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ (2) وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا - قَالَتْ: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ
__________
(1) كشاف القناع 2 / 302، نهاية المحتاج 2 / 151، القليوبي 2 / 50، روضة
الطالبين 2 / 348، كتاب الكافي ص 334، مواهب الجليل 2 / 382.
(2) حديث: " الصوم يوم تصومون. . . " أخرجه الترمذي (3 / 71 - ط الحلبي)
وقال: " حديث حسن غريب ".
(26/288)
النَّاسُ، وَالأَْضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي
النَّاسُ (1) وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ
الْيَوْمِ بِلاَ كَفَّارَةٍ، وَإِنْ كَانَ الرَّائِي الإِْمَامَ أَوِ
الْقَاضِيَ، لاَ يَخْرُجُ إِلَى الْمُصَلَّى، وَلاَ يَأْمُرُ النَّاسَ
بِالْخُرُوجِ، وَلاَ يُفْطِرُ الرَّائِي سِرًّا وَلاَ جَهْرًا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ بِمَفَازَةٍ لَيْسَ
بِقُرْبِهِ بَلَدٌ وَلَيْسَ فِي جَمَاعَةٍ: يَبْنِي عَلَى يَقِينِ
رُؤْيَتِهِ فَيُفْطِرُ، لأَِنَّهُ لاَ يَتَيَقَّنُ مُخَالَفَةَ
الْجَمَاعَةِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا رَأَى شَخْصٌ هِلاَل شَوَّالٍ وَحْدَهُ
لَزِمَهُ الْفِطْرُ، وَيُنْدَبُ أَنْ يَكُونَ سِرًّا (3) لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ (4) .
شَيْبٌ
انْظُرْ: شَعْرٌ، اخْتِضَابٌ
شَيْطَانٌ
انْظُرْ: جِنٌّ
__________
(1) حديث: " الفطر يوم يفطر الناس ". أخرجه الترمذي (3 / 156 - ط الحلبي)
وقال: " حديث حسن غريب ".
(2) الفتاوى الهندية 1 / 198، الدسوقي 1 / 512، ومواهب الجليل 2 / 389.
(3) حاشية الجمل 2 / 308.
(4) حديث: " وأفطروا لرؤيته " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 119 - ط السلفية)
ومسلم (2 / 762 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(26/288)
شُيُوعٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الشُّيُوعُ مَصْدَرُ شَاعَ - يُقَال: شَاعَ يَشِيعُ شَيْعًا،
وَشَيَعَانًا وَشُيُوعًا: إِذَا ظَهَرَ وَانْتَشَرَ. يُقَال: شَاعَ
الْخَبَرُ شُيُوعًا فَهُوَ شَائِعٌ إِذَا: ذَاعَ، وَانْتَشَرَ، وَأَشَاعَهُ
إِشَاعَةً أَطَارَهُ وَأَذَاعَهُ وَأَظْهَرَهُ.
وَفِي هَذَا قَوْلُهُمْ: نَصِيبُ فُلاَنٍ شَائِعٌ فِي جَمِيعِ الدَّارِ،
أَيْ: مُتَّصِلٌ بِكُل جُزْءٍ مِنْهَا وَمُشَاعٌ فِيهَا لَيْسَ بِمَقْسُومٍ
(1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
(1) الْخَلْطُ:
2 - الْخَلْطُ: تَدَاخُل الأَْشْيَاءِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ، وَقَدْ
يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَعْدَ ذَلِكَ كَالْحَيَوَانِ، وَقَدْ لاَ يُمْكِنُ
كَالْمَائِعَاتِ فَيَكُونُ مَزْجًا (2) .
(2) الشَّرِكَةُ:
3 - وَهِيَ لُغَةً: الاِخْتِلاَطُ عَلَى الشُّيُوعِ،
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير.
(2) المصباح المنير، لسان العرب.
(26/289)
وَشَرْعًا: ثُبُوتُ الْحَقِّ فِي الشَّيْءِ
الْوَاحِدِ لِشَخْصَيْنِ فَأَكْثَرَ عَلَى وَجْهِ الشُّيُوعِ. وَعَبَّرَ
عَنْهَا صَاحِبُ الْمُغْنِي بِأَنَّهَا اجْتِمَاعٌ فِي اسْتِحْقَاقٍ أَوْ
تَصَرُّفٍ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - أ - يَحْرُمُ إِشَاعَةُ أَسْرَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَأُمُورِهِمُ
الدَّاخِلِيَّةِ مِمَّا يَمَسُّ أَمْنَهُمْ وَاسْتِقْرَارَهُمْ، حَتَّى لاَ
يَعْلَمَ الأَْعْدَاءُ مَوَاضِعَ الضَّعْفِ فِيهِمْ، فَيَسْتَغِلُّوهَا
أَوْ قُوَّتِهِمْ فَيَتَحَصَّنُوا مِنْهُمْ.
ب - كَمَا يَحْرُمُ إِشَاعَةُ مَا يَمَسُّ أَعْرَاضَ النَّاسِ
وَأَسْرَارَهُمْ الْخَاصَّةَ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ
يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ} (2) .
انْظُرْ: (إِشَاعَةٌ، وَإِفْشَاءُ السِّرِّ) .
حُكْمُ ثُبُوتِ الْجَرِيمَةِ بِالشُّيُوعِ فِي النَّاسِ:
5 - إِنْ شَاعَ فِي النَّاسِ: أَنَّ فُلاَنًا سَرَقَ مَتَاعَ فُلاَنٍ، أَوْ
زَنَى بِفُلاَنَةٍ، لاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الشُّيُوعِ،
بَل لاَ بُدَّ مِنَ الإِْثْبَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (حُدُودٌ، وَإِثْبَاتٌ) .
__________
(1) حاشية القليوبي 2 / 332، والمغني 5 / 3.
(2) سورة النور / 19.
(26/289)
الشُّيُوعُ فِي اللَّوْثِ:
6 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الشُّيُوعَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْخَاصَّةِ
وَالْعَامَّةِ، بِأَنَّ فُلاَنًا الَّذِي جُهِل قَاتِلُهُ، قَتَلَهُ
فُلاَنٌ هُوَ لَوْثٌ، فَيَجُوزُ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَحْلِفُوا أَيْمَانَ
الْقَسَامَةِ عَلَى مَنْ قَتَل مُوَرِّثَهُمُ اسْتِنَادًا إِلَى شُيُوعِ
ذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ (1) .
بَيْعُ الْمُشَاعِ:
7 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ بَيْعِ جُزْءٍ مُشَاعٍ
فِي دَارٍ كَالثُّلُثِ وَنَحْوِهِ، وَبَيْعِ صَاعٍ مِنْ صُبْرَةٍ
مُتَسَاوِيَةِ الأَْجْزَاءِ، وَبَيْعِ عَشَرَةِ أَسْهُمٍ مِنْ مِائَةِ
سَهْمٍ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٌ) (2) .
قِسْمَةُ الْمُشَاعِ:
8 - يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ قِسْمَةُ الْمِلْكِ الْمُشَاعِ بِطَلَبِ
الشُّرَكَاءِ، أَوْ بِطَلَبِ بَعْضِهِمْ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنَ
الشُّرَكَاءِ مُنْتَفِعٌ قَبْل الْقِسْمَةِ بِنَصِيبِ غَيْرِهِ، فَإِذَا
طَلَبَ مِنَ الْحَاكِمِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ،
وَيَمْنَعَ الْغَيْرَ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهِ، يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ
إِجَابَةُ طَلَبِهِ، إِلاَّ إِذَا بَطَلَتِ الْمَنْفَعَةُ الْمَقْصُودَةُ
فِي الْمَقْسُومِ بِالْقِسْمَةِ.
فَإِنْ كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهُ تَفُوتُ
__________
(1) القليوبي 4 / 165، نهاية المحتاج 7 / 390.
(2) كشاف القناع 3 / 170، ابن عابدين 4 / 32، أسنى المطالب 2 / 14.
(26/290)
بِالْقِسْمَةِ، فَلاَ يُجَابُ طَلَبُهُمُ
الْقِسْمَةَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلاَ يُمَكَّنُونَ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ
تَرَاضَيَا عَلَيْهِ إِذَا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ تَبْطُل كُلِّيَّةً؛
لأَِنَّهُ سَفَهٌ، وَإِتْلاَفُ مَالٍ بِلاَ ضَرُورَةٍ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنِ اقْتَسَمُوا بِالتَّرَاضِي لاَ يَمْنَعُ
الْقَاضِي مِنْ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَمْنَعُ مَنْ أَقْدَمَ
عَلَى إِتْلاَفِ مَالِهِ بِالْحُكْمِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (قِسْمَةٌ) .
زَكَاةُ الْمُشَاعِ:
9 - إِذَا مَلَكَ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ مِنْ أَهْل الزَّكَاةِ نِصَابَ مَالٍ
مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِلْكًا مُشَاعًا كَأَنْ وَرِثَاهُ، أَوِ
اشْتَرَيَاهُ، زَكَّيَاهُ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَالتَّفْصِيل فِي: (خُلْطَةٌ، زَكَاةٌ) .
رَهْنُ الْمُشَاعِ:
10 - يَصِحُّ رَهْنُ الْمُشَاعِ، مِنْ عَقَارٍ وَحَيَوَانٍ، كَمَا يَصِحُّ
بَيْعُهُ، وَهِبَتُهُ، وَوَقْفُهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَاقِي لِلرَّاهِنِ
أَوْ لِغَيْرِهِ، إِذْ لاَ ضَرَرَ عَلَى الشَّرِيكِ؛ لأَِنَّهُ يَتَعَامَل
مَعَ الْمُرْتَهِنِ كَمَا كَانَ يَتَعَامَل مَعَ الرَّاهِنِ، وَقَبْضُهُ
بِقَبْضِ الْجَمِيعِ، فَيَكُونُ بِالتَّخْلِيَةِ فِي غَيْرِ الْمَنْقُول،
وَبِالنَّقْل فِي الْمَنْقُول، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2) .
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 203، نهاية المحتاج 8 / 285، حاشية الدسوقي 3 /
507، ابن عابدين 5 / 165.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 235، روضة الطالبين 4 / 38 - 39، نهاية المحتاج 4 /
239، كشاف القناع 3 / 326.
(26/290)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَصِحُّ رَهْنُ
الْمُشَاعِ، لِعَدَمِ كَوْنِهِ مُمَيَّزًا، وَمُوجِبُ الرَّهْنِ: الْحَبْسُ
الدَّائِمُ مَا بَقِيَ الدَّيْنُ، وَبِالْمُشَاعِ يَفُوتُ الدَّوَامُ؛
لأَِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ الْمُهَايَأَةِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَال:
رَهَنْتُكَ يَوْمًا دُونَ يَوْمٍ. وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ
الشُّيُوعُ مُقَارِنًا أَوْ طَارِئًا، رَهَنَ مِنْ شَرِيكِهِ أَوْ مِنْ
غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ الشَّرِيكَ يُمْسِكُهُ يَوْمًا رَهْنًا، وَيَوْمًا
يَسْتَخْدِمُهُ (1) . انْظُرْ: (رَهْنٌ) .
هِبَةُ الْمُشَاعِ:
11 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى جَوَازِ هِبَةِ الْمُشَاعِ
سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا أَمْكَنَ قِسْمَتُهُ، وَمَا لَمْ يُمْكِنْ
قِسْمَتُهُ، وَسَوَاءٌ وَهَبَهُ لِشَرِيكِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ هِبَةُ مُشَاعٍ شُيُوعًا مُقَارِنًا
لِلْعَقْدِ فِيمَا يَنْقَسِمُ وَلأَِنَّهُ مَا مِنْ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ
الْمُشَاعِ إِلاَّ وَلِلشَّرِيكِ فِيهِ مِلْكٌ، فَلاَ تَصِحُّ هِبَتُهُ؛
لأَِنَّ الْقَبْضَ الْكَامِل غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَقِيل يَجُوزُ هِبَتُهُ
لِشَرِيكِهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُشَاعُ غَيْرَ قَابِلٍ لِلْقِسْمَةِ،
بِحَيْثُ لاَ يَبْقَى مُنْتَفَعًا بِهِ إِذَا قُسِمَ تَجُوزُ هِبَتُهُ (3)
. وَانْظُرْ: (هِبَةٌ) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 315
(2) روضة الطالبين 5 / 373، المغني 5 / 655، حاشية الدسوقي 3 / 235.
(3) الدر المختار وحاشيته 4 / 510 - 511.
(26/291)
إِجَارَةُ الْمُشَاعِ:
12 - يَجُوزُ إِجَارَةُ الْمُشَاعِ لِلشَّرِيكِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ،
أَمَّا إِجَارَتُهُ لِغَيْرِ الشَّرِيكِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي
صِحَّتِهِ. فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِلَى صِحَّةِ
إِجَارَةِ الْمُشَاعِ، وَهُوَ قَوْل الصَّاحِبَيْنِ: (أَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ) ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، لأَِنَّ الإِْجَارَةَ أَحَدُ
نَوْعَيِ الْبَيْعِ، فَتَجُوزُ فِي الْمُشَاعِ، كَمَا تَجُوزُ فِي بَيْعِ
الأَْعْيَانِ، وَالْمُشَاعُ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ بِالْمُهَايَأَةِ؛
وَلأَِنَّهُ عَقْدٌ فِي مِلْكِهِ، يَجُوزُ مَعَ شَرِيكِهِ فَجَازَ مَعَ
غَيْرِهِ كَالْبَيْعِ؛ وَلأَِنَّهُ يَجُوزُ إِذَا فَعَلَهُ الشَّرِيكَانِ
مَعًا فَجَازَ لأَِحَدِهِمَا فِعْلُهُ فِي نَصِيبِهِ مُنْفَرِدًا
كَالْبَيْعِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ، وَهُوَ الْقَوْل الرَّاجِحُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ: لاَ تَجُوزُ إِجَارَةُ الْمُشَاعِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُقْدَرُ
عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَمْ تَصِحَّ إِجَارَتُهُ كَالْمَغْصُوبِ.
وَلأَِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إِلاَّ بِتَسْلِيمِ نَصِيبِ
شَرِيكِهِ، وَلاَ وِلاَيَةَ لَهُ عَلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ (1) .
وَانْظُرْ: (إِجَارَةٌ) .
وَقْفُ الْمُشَاعِ:
13 - يَجُوزُ وَقْفُ الْمُشَاعِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
__________
(1) المغني 4 / 553، الفتاوى الهندية 4 / 447، ابن عابدين 5 / 29، أسنى
المطالب 2 / 409، الشرح الصغير 4 / 59 - 60.
(26/291)
وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ،
وَأَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَصَابَ أَرْضًا
بِخَيْبَرِ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ
أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ،
فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟ قَال: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ
بِهَا. قَال: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ، وَلاَ
يُوهَبُ، وَلاَ يُورَثُ، وَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ، وَفِي
الْقُرْبَى، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيل اللَّهِ، وَابْنِ السَّبِيل،
وَالضَّيْفِ (1) .
وَلأَِنَّهُ عَقْدٌ يَجُوزُ عَلَى بَعْضِ الْجُمْلَةِ مُفْرِزًا فَجَازَ
عَلَيْهِ مُشَاعًا كَالْبَيْعِ، وَكَالْعَرْصَةِ يَجُوزُ بَيْعُهَا فَجَازَ
وَقْفُهَا كَالْمُفْرَزَةِ؛ وَلأَِنَّ الْوَقْفَ تَحْبِيسُ الأَْصْل،
وَتَسْبِيل الْمَنْفَعَةِ، وَهَذَا يَحْصُل فِي الْمُشَاعِ كَحُصُولِهِ فِي
الْمُفْرَزِ (2) .
وَقَال مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَصِحُّ وَقْفُ الْمُشَاعِ
فِيمَا يَقْبَل الْقِسْمَةَ، أَمَّا مَا لاَ يَقْبَل الْقِسْمَةَ فَيَصِحُّ
وَقْفُهُ اتِّفَاقًا (3) .
انْظُرْ: (وَقْفٌ) .
__________
(1) حديث ابن عمر: " أن عمر بن الخطاب أصاب أرضا بخيبر ". أخرجه البخاري
(الفتح 5 / 354 - 355 - ط. السلفية) .
(2) المغني 5 / 643، أسنى المطالب 2 / 457.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 364.
(26/292)
الْمِلْكُ الْمُشَاعُ فِي عَقَارٍ:
14 - إِذَا مَلَكَ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ عَقَارًا مِلْكًا مُشَاعًا، وَبَاعَ
أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ لأَِجْنَبِيٍّ، ثَبَتَ لِلآْخَرِ حَقُّ الشُّفْعَةِ،
وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
انْظُرْ: (شُفْعَةٌ) . |