الموسوعة الفقهية الكويتية

صَائِلٌ
انْظُرْ: (صِيَالٌ) .

(26/292)


صَابِئَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّابِئَةُ لُغَةً: جَمْعُ الصَّابِئِ. وَالصَّابِئُ: مَنْ خَرَجَ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ. يُقَال: صَبَأَ فُلاَنٌ يَصْبَأُ: إِذَا خَرَجَ مِنْ دِينِهِ، وَتَقُول الْعَرَبُ: صَبَأَتِ النُّجُومُ إِذَا طَلَعَتْ (1) .
وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الصَّابِئَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مَعَ أَهْل الْمِلَل فِي ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ، مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَعَمِل صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (2) .
2 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْرِيفِ الصَّابِئَةِ عَلَى أَقْوَالٍ هِيَ:
أ - أَنَّهُمْ قَوْمٌ كَانُوا عَلَى دِينِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ
__________
(1) لسان العرب - صبأ. ومن هذا المعنى ما كانت قريش تقوله للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه صابئ، أي: خرج عن دينها. ونقل ابن القيم: أنها كانت تقول ذلك لما رأته من الشبه بين الدين الذي أتى به صلى الله عليه وسلم ودين الصابئة، فإنهم كانوا يقولون لا إله إلا الله (أحكام أهل الذمة ص 92) .
(2) سورة البقرة / 62.

(26/293)


- نَقَلَهُ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ (1) .
وَنَقَل ابْنُ مَنْظُورٍ عَنِ اللَّيْثِ: هُمْ قَوْمٌ يُشْبِهُ دِينُهُمْ دِينَ النَّصَارَى، إِلاَّ أَنَّ قِبْلَتَهُمْ نَحْوَ مَهَبِّ الْجَنُوبِ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِ نُوحٍ وَهُمْ كَاذِبُونَ. وَنَقَل قَرِيبًا مِنْهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْخَلِيل (2) .
ب - أَنَّهُمْ صِنْفٌ مِنَ النَّصَارَى أَلْيَنُ مِنْهُمْ قَوْلاً. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَبِهِ قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ (3) .
ج - وَقَال السُّدِّيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: هُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ لأَِنَّهُمْ يَقْرَءُونَ الزَّبُورَ، وَبِهِ قَال أَبُو حَنِيفَةَ.
د - قَال مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي نُجَيْحٍ: هُمْ قَوْمٌ تَرَكَّبَ دِينُهُمْ بَيْنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ (4) .
هـ - وَقِيل: هُمْ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
و وَقَال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُمْ قَوْمٌ بَيْنَ النَّصَارَى وَالْمَجُوسِ (5) .
ز - وَقَال الْحَسَنُ أَيْضًا وَقَتَادَةَ: هُمْ قَوْمٌ
__________
(1) المفردات - صبا يصبو.
(2) لسان العرب - صبأ.
(3) المغني 6 / 591، وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص 74 المطبعة المنيرية.
(4) تفسير القرطبي عند الآية 62 من سورة البقرة 1 / 434.
(5) تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 74 المطبعة المنيرية.

(26/293)


يَعْبُدُونَ الْمَلاَئِكَةَ، وَيُصَلُّونَ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَيَقْرَءُونَ الزَّبُورَ، وَيُصَلُّونَ الْخَمْسَ. رَآهُمْ زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فَأَرَادَ وَضْعَ الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ حِينَ عَرَفَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلاَئِكَةَ، وَنَقَل الْقُرْطُبِيُّ: أَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ يَعْتَقِدُونَ تَأْثِيرَ النُّجُومِ (1) .
ح - وَقِيل: إِنَّهُمْ قَوْمٌ كَانُوا يَقُولُونَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَلَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ وَلاَ كِتَابٌ وَلاَ نَبِيٌّ (2) .
ط - وَقَال الصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْل الْكِتَابِ؛ لأَِنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، وَعَابِدُ الْكَوْكَبِ كَعَابِدِ الْوَثَنِ (3) .
ى - وَقَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ: إِنَّهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ؛ لأَِنَّهُمْ يَسْبِتُونَ (4) .

مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِي حَقِيقَةِ الصَّابِئَةِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِيقَةِ دِينِ الصَّابِئَةِ أَهُمْ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ أَمْ لاَ، عَلَى أَقْوَالٍ:

3 - الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّهُمْ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ، وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، وَقَدْ جَعَلَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ، لأَِنَّهُمْ يَقْرَءُونَ الزَّبُورَ، وَلاَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، وَلَكِنْ
__________
(1) تفسير القرطبي عند الآية 62 من سورة البقرة 1 / 434.
(2) تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 74.
(3) بدائع الصنائع 9 / 4330، الخراج لأبي يوسف 122.
(4) المبدع 3 / 404.

(26/294)


يُعَظِّمُونَهَا كَتَعْظِيمِ الْمُسْلِمِينَ لِلْكَعْبَةِ فِي الاِسْتِقْبَال إِلَيْهَا.
وَأَمَّا أَحْمَدُ فَقَال فِي رِوَايَةٍ: هُمْ مِنَ النَّصَارَى؛ لأَِنَّهُمْ يَدِينُونَ بِالإِْنْجِيل وَاسْتَدَل لِذَلِكَ بِمَا نُقِل عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَقَال فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: هُمْ مِنَ الْيَهُودِ لأَِنَّهُمْ يَسْبِتُونَ، وَاسْتَدَل لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَال: إِنَّهُمْ يَسْبِتُونَ (1) .

الْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْل الْكِتَابِ. قَال الْقُرْطُبِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: الَّذِي تَحَصَّل مِنْ مَذْهَبِهِمْ فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: أَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ، يَعْتَقِدُونَ تَأْثِيرَ النُّجُومِ، وَأَنَّهَا فَعَّالَةٌ، قَال: وَلِهَذَا أَفْتَى أَبُو سَعِيدٍ الإِْصْطَخْرِيُّ، الْقَاهِرَ بِاللَّهِ بِكُفْرِهِمْ، حِينَ سَأَلَهُ عَنْهُمْ (2) ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِيهِمْ؛ لأَِنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، وَعَابِدُ الْكَوَاكِبِ كَعَابِدِ الْوَثَنِ (3) .

4 - الْقَوْل الثَّالِثُ: وَهُوَ لِلشَّافِعِيَّةِ، فَقَدْ تَرَدَّدُوا فِيهِمْ. قَال النَّوَوِيُّ: الْمَذْهَبُ أَنَّهُمْ إِنْ خَالَفُوا النَّصَارَى فِي أَصْل دِينِهِمْ فَلَيْسُوا
__________
(1) بدائع الصنائع 9 / 4330، وفتح القدير لابن الهمام 5 / 191، 2 / 374، وحاشية ابن عابدين 3 / 268، ومجمع الأنهر / 670، والمغني لابن قدامة 8 / 496، وكشاف القناع 3 / 118، والمبدع 3 / 404، وتفسير القرطبي 1 / 435.
(2) تفسير القرطبي عند سورة البقرة 62، 1 / 434.
(3) كتاب الخراج ص 122، والرتاج 2 / 96، والمراجع السابقة للحنفية.

(26/294)


مِنْهُمْ، وَإِلاَّ فَهُمْ مِنْهُمْ. قَال: وَهَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ (أَيْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ) ، وَقِيل: فِيهِمْ قَوْلاَنِ: قَال: وَهَذَا إِذَا لَمْ يُكَفِّرْهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَإِنْ كَفَّرُوهُمْ لَمْ يُقَرُّوا قَطْعًا. أَيْ: لأَِنَّهُمْ لاَ يَكُونُونَ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ.
وَالْمُرَادُ بِأَصْل دِينِهِمْ عَلَى مَا فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ لِلْمَحَلِّيِّ: عِيسَى وَالإِْنْجِيل، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فُرُوعٌ، أَيْ: إِنْ كَانُوا يَتَّبِعُونَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَيُؤْمِنُونَ بِالإِْنْجِيل فَهُمْ مِنَ النَّصَارَى وَلَوْ خَالَفُوا النَّصَارَى فِي الْفُرُوعِ، مَا لَمْ تُكَفِّرْهُمُ النَّصَارَى بِالْمُخَالَفَةِ فِي الْفُرُوعِ فَإِنْ كَفَّرُوهُمْ فَلَيْسُوا مِنْهُمْ.
وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: لَوْ خَالَفُوا النَّصَارَى فِي أَصْل دِينِهِمْ وَلَوِ احْتِمَالاً كَأَنْ نَفَوْا الصَّانِعَ أَوْ عَبَدُوا كَوْكَبًا حَرُمَ نِسَاؤُهُمْ عَلَيْنَا (1) .

5 - الْقَوْل الرَّابِعُ: أَنَّ الصَّابِئَةَ فِرْقَتَانِ مُتَمَيِّزَتَانِ لاَ تَدْخُل إِحْدَاهُمَا فِي الأُْخْرَى وَإِنْ تَوَافَقَتَا فِي الاِسْمِ.
أ - الْفِرْقَةُ الأُْولَى: هُمُ الصَّابِئَةُ الْحَرَّانِيُّونَ (وَسَمَّاهُمُ ابْنُ النَّدِيمِ وَالشَّهْرَسْتَانِيُّ: الْحَرْنَانِيِّينَ) وَهُمْ: قَوْمٌ أَقْدَمُ مِنَ النَّصَارَى كَانُوا فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَعْبُدُونَ
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 305، 306، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي 3 / 252، ونهاية المحتاج 6 / 288.

(26/295)


الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ، وَيُضِيفُونَ التَّأْثِيرَ إِلَيْهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْفَلَكَ حَيٌّ نَاطِقٌ. قَال الْجَصَّاصُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ تَسَمَّتْ بِالصَّابِئَةِ، وَهُمُ الْفَلاَسِفَةُ الْحَرَّانِيُّونَ الَّذِينَ بِنَاحِيَةِ حَرَّانَ (1) . وَهُمْ عَبَدَةُ أَوْثَانٍ، وَلاَ يَنْتَمُونَ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ، وَلاَ يَنْتَحِلُونَ شَيْئًا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ، فَهَؤُلاَءِ لَيْسُوا أَهْل كِتَابٍ. وَذَكَرَهُمُ الْمَسْعُودِيُّ وَأَنَّ لَهُمْ سَبْعَةَ هَيَاكِل بِأَسْمَاءِ الزَّهْرَةِ وَالْمِرِّيخِ وَالْمُشْتَرَى وَزُحَل وَغَيْرِهِمَا. وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ فِي زَمَانِهِ.
وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُمُ الشَّهْرِسْتَانِيُّ وَأَطْنَبَ فِي بَيَانِ اعْتِقَادَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ. وَذَكَرَهُمُ ابْنُ النَّدِيمِ فِي فَهْرَسَتِهِ، وَذَكَرَ قُرَاهُمْ وَأَحْوَالَهُمْ وَمَعَابِدَهُمْ، وَنَقَل عَنِ الْمُؤَلِّفِينَ النَّصَارَى: أَنَّهُمْ لَمْ يَكُنِ اسْمُهُمْ الصَّابِئَةَ، وَأَنَّ الْمَأْمُونَ مَرَّ بِدِيَارِ مُضَرَ فَتَلَقَّاهُ النَّاسُ، وَفِيهِمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَرْنَانِيِّينَ، فَأَنْكَرَ الْمَأْمُونُ زِيَّهُمْ. فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا يَهُودًا وَلاَ نَصَارَى وَلاَ مَجُوسًا أَنْظَرَهُمْ إِلَى رُجُوعِهِ مِنْ سَفْرَتِهِ، وَقَال: إِنْ أَنْتُمْ دَخَلْتُمْ فِي الإِْسْلاَمِ، أَوْ فِي دِينٍ مِنْ هَذِهِ الأَْدْيَانِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَإِلاَّ أَمَرْتُ بِقَتْلِكُمْ. وَرَحَل عَنْهُمْ إِلَى أَرْضِ الرُّومِ، وَهِيَ رِحْلَتُهُ الَّتِي مَاتَ فِيهَا.
__________
(1) حران بلد بديار مضر بينها وبين الرقة يومان وهي على الطريق بين الموصل والشام (معجم البلدان 2 / 235) .

(26/295)


فَمِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَنَصَّرَ، وَبَقِيَ مِنْهُمْ شِرْذِمَةٌ عَلَى دِينِهِمْ، احْتَالُوا بِأَنْ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ الصَّابِئَةَ، لِيَسْلَمُوا وَيَبْقَوْا فِي الذِّمَّةِ (1)
. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ لَمْ يَكُنِ اسْمُهُمُ الصَّابِئَةَ أَوَّلاً، وَأَنَّهُمْ تَسَمَّوْا بِذَلِكَ فِي آخِرِ عَهْدِ الْمَأْمُونِ.
وَأَفَادَ الْبَيْرُونِيُّ: أَنَّ هَذِهِ النِّحْلَةَ هِيَ نِحْلَةُ فَلاَسِفَةِ الْيُونَانِيِّينَ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قَبْل النَّصْرَانِيَّةِ، وَأَنَّ مِنْ فَلاَسِفَتِهَا: فِيثَاغُورْسُ، وَأَغَاذِيمُونُ، وَوَالِيسُ، وَهُرْمُسُ، وَكَانَتْ لَهُمْ هَيَاكِل بِأَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ، وَأَنَّ الْيُونَانِيِّينَ، وَمِنْ بَعْدِهِمُ الرُّومَانُ، كَانُوا عَلَى هَذِهِ النِّحْلَةِ، ثُمَّ لَمَّا غَلَبَتِ النَّصْرَانِيَّةُ عَلَى بِلاَدِ الرُّومِ وَالْيُونَانِ وَتَنَصَّرَ أَهْل هَذِهِ النِّحْلَةِ: بَقِيَ عَلَيْهَا مِنْ أَهْل الْمَشْرِقِ بَقَايَا، وَلَمْ يَكُنِ اسْمُهُمُ الصَّابِئَةَ، وَإِنَّمَا تَسَمَّوْا بِذَلِكَ فِي عَصْرِ الْمَأْمُونِ سَنَةَ 228 هـ (2) وَهُمْ لَيْسُوا مِنَ الصَّابِئَةِ فِي الْحَقِيقَةِ، بَل حَقِيقَةُ الصَّابِئَةِ هُمُ الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ.
ب - وَالْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ: هُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ لَهُمْ شَبَهٌ بِالنَّصَارَى.
قَال الْجَصَّاصُ: وَهَؤُلاَءِ بِنَوَاحِي كَسْكَرَ
__________
(1) الفهرست لابن النديم ص 444 - 446.
(2) كذا في كتاب البيروني المطبوع والصواب: 218 هـ وهي السنة التي توفي فيها المأمون.

(26/296)


وَالْبَطَائِحِ (مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ) وَهُمْ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنَ النَّصَارَى إِلاَّ أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لَهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ دِيَانَتِهِمْ؛ لأَِنَّ النَّصَارَى فِرَقٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهُمُ: الْمَرْقُونِيُّونَ، والآْرْيُوسِيَّةُ، وَالْمَارُونِيَّةُ. وَالْفِرَقُ الثَّلاَثُ مِنَ النَّسْطُورِيَّةِ، وَالْمَلْكِيَّةِ، وَالْيَعْقُوبِيَّةِ يَبْرَءُونَ مِنْهُمْ وَيُجَرِّمُونَهُمْ. وَهُمْ يَنْتَمُونَ إِلَى يَحْيَى وَشِيثٍ. قَال: وَالنَّصَارَى تُسَمِّيهِمْ يُوحَانِسِيَّةَ. أهـ. قَال الْجَصَّاصُ: فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي جَعْلِهِ الصَّابِئَةَ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ مَحْمُولٌ عَلَى هَؤُلاَءِ.
وَأَمَّا الْبَيْرُونِيُّ فَيَرَى: أَنَّ هَذِهِ الْفِرْقَةَ الثَّانِيَةَ أَصْلُهَا الْيَهُودُ الَّذِينَ أَسَرَهُمْ بُخْتَ نَصَّرَ، وَأَجْلاَهُمْ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ إِلَى بَابِل مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ، فَلَمَّا أَذِنَ لَهُمْ كُورَشُ بِالْعَوْدَةِ إِلَى فِلَسْطِينَ تَخَلَّفَ بِالْعِرَاقِ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ وَآثَرُوا الإِْقَامَةَ فِي بَابِل، وَلَمْ يَكُونُوا فِي دِينِهِمْ بِمَكَانٍ مُعْتَمَدٍ، فَسَمِعُوا أَقَاوِيل الْمَجُوسِ وَصَبَوْا إِلَى بَعْضِهَا، فَامْتَزَجَ مَذْهَبُهُمْ مِنَ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْيَهُودِيَّةِ. قَال: وَهَؤُلاَءِ هُمُ الصَّابِئُونَ بِالْحَقِيقَةِ، وَإِنْ كَانَ الاِسْمُ أَشْهَرُ بِالْفِرْقَةِ الأُْولَى، وَكَذَا مَيَّزَ بَيْنَ الْفِرْقَتَيْنِ الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَابْنُ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَابْنُ الْقَيِّمِ، وَقَال ابْنُ الْهُمَامِ: قِيل: فِي الصَّابِئَةِ الطَّائِفَتَانِ، وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي قَال الْبَعْضُ إِنَّهُمْ مِنَ النَّصَارَى يُسَمَّوْنَ (الْمَنْدَائِيِّينَ) وَمِنْهُمُ الآْنَ بَقَايَا فِي جَنُوبِ

(26/296)


الْعِرَاقِ، وَقَدْ صَدَرَتْ عَنْهُمْ دِرَاسَاتٌ حَدِيثَةٌ كَشَفَتْ بَعْضَ مَا عِنْدَهُمْ، وَمِنْهَا مَا كَتَبَهُ بَعْضُ كُتَّابِهِمْ، وَبَعْضُ مَنْ يُعَايِشُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتُرْجِمَتْ بَعْضُ كِتَابَاتِهِمُ الدِّينِيَّةِ إِلَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَفِيهَا: أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ، وَبِالْمَلاَئِكَةِ، وَبِبَعْضِ الأَْنْبِيَاءِ، مِنْهُمْ: آدَمُ، وَشِيثُ، وَنُوحٌ، وَزَكَرِيَّا، وَيَحْيَى - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِمُوسَى، وَلاَ بِالْمَسِيحِ، وَلاَ التَّوْرَاةِ، وَلاَ الإِْنْجِيل، وَيُؤْمِنُونَ بِالتَّعْمِيدِ. وَلَهُمْ عِبَادَاتٌ يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِهَا: مِنْ صَلَوَاتٍ، وَزَكَاةٍ، وَصَوْمٍ، وَأَعْيَادٍ دِينِيَّةٍ، وَيَغْتَسِلُونَ كُل يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاَثًا، وَلِذَلِكَ قَدْ يُسَمَّوْنَ الْمُغْتَسِلَةَ، وَيُسَمُّونَ اللَّهَ عَلَى الذَّبَائِحِ (1) .
وَأَضَافَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِرْقَةً ثَالِثَةً، كَانَتْ قَبْل التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل، كَانُوا مُوَحِّدِينَ؛ قَال: فَهَؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَعَمِل صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} قَال: فَهَؤُلاَءِ كَالْمُتَّبِعِينَ لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِمَامِ الْحُنَفَاءِ قَبْل نُزُول التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل، هُمُ
__________
(1) انظر مثلاً كتاب (مفاهيم صابئية مندائية) للباحثة الصابئية ناجية مراني، بغداد 1981 م.

(26/297)


الَّذِينَ أَثْنَى عَلَيْهِمُ اللَّهُ تَعَالَى (1) .
عَلَى أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ لِلصَّابِئَةِ إِلَى فِرْقَتَيْنِ، وَدَعْوَى أَنَّ الْحَرَّانِيِّينَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُونُوا يَتَسَمَّوْنَ الصَّابِئَةَ حَتَّى كَانَ عَهْدُ الْمَأْمُونِ، دَعْوَى هِيَ مَوْضُوعُ شَكٍّ - وَإِنْ دَرَجَ عَلَيْهَا بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ - فَإِنَّ كُتُبَ الْحَنَفِيَّةِ، تَنْسُبُ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الصَّابِئَةَ الَّذِينَ يُعَظِّمُونَ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ لَيْسُوا مُشْرِكِينَ؛ بَل هُمْ أَهْل الْكِتَابِ؛ لأَِنَّهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ تِلْكَ الْكَوَاكِبَ، بَل يُعَظِّمُونَهَا كَتَعْظِيمِ الْمُسْلِمِينَ الْكَعْبَةَ، وَأَنَّ صَاحِبَيْهِ قَالاَ: بَل هُمْ كَعُبَّادِ الأَْوْثَانِ (2) وَأَبُو حَنِيفَةَ كَانَ قَبْل الْمَأْمُونِ فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ 150 وَالْمَأْمُونُ سَنَةَ 218 هـ. وَكَلاَمُهُ وَكَلاَمُ صَاحِبَيْهِ مُنْصَبٌّ عَلَى الْحَرَّانِيِّينَ؛ فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ، مِمَّا يَدُل عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَانِهِ مُسَمَّيْنَ بِاسْمِ الصَّابِئَةِ. وَنُصُوصُ الْمُؤَرِّخِينَ مُضْطَرِبَةٌ،
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3 / 91، ونهاية المحتاج شرح المنهاج 6 / 288، والرد على المنطقيين لابن تيمية 287 - 289، 654 - 656، ومروج الذهب للمسعودي 1 / 378 نشر عبد الرحمن محمد 1346هـ. والملل والنحل للشهرستاني 2 / 224 - 230 والفهرست لابن النديم ص 444، وفتح القدير 2 / 374، وأحكام أهل الذمة لابن القيم 1 / 92، والآثار الباقية عن القرون الخالية للبيروني ص 204، 205.
(2) انظر فتح القدير 4 / 370.

(26/297)


بَعْضُهَا يَدُل عَلَى أَنَّهُمْ فِرْقَتَانِ، وَبَعْضُهَا عَلَى أَنَّهُمْ فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصَّابِئَةِ:
6 - يَنْطَبِقُ عَلَى الصَّابِئَةِ الأَْحْكَامُ الَّتِي تَنْطَبِقُ عَلَى الْكُفَّارِ عَامَّةً: كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الصَّابِئِ لِلْمُسْلِمَةِ، وَكَعَدِمِ صِحَّةِ الْعِبَادَةِ مِنْهُمْ، وَعَدَمِ إِقَامَتِهِمْ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ.
وَأَمَّا الأَْحْكَامُ الَّتِي تَخْتَصُّ بِأَهْل الْكِتَابِ: كَجَوَازِ عَقْدِ الذِّمَّةِ لَهُمْ، وَأَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ مِنْ نِسَائِهِمْ، وَأَنْ يَأْكُل مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِجْرَائِهَا عَلَيْهِمْ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي حَقِيقَةِ دِينِهِمْ، فَمَنِ اعْتَبَرَهُمْ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ، أَوْ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ: أَجْرَى عَلَيْهِمُ الأَْحْكَامَ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْكِتَابِيِّ، أَوْ مَنْ لَهُ شُبْهَةُ كِتَابٍ. وَمَنِ اعْتَبَرَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْل الْكِتَابِ، وَلَيْسَ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ: أَجْرَى عَلَيْهِمُ الأَْحْكَامَ الَّتِي تَنْطَبِقُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ: (أَهْل الْكِتَابِ، أَرْضُ الْعَرَبِ، جِزْيَةٌ) (1) .

إِقْرَارُ الصَّابِئَةِ فِي بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ وَضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ:
7 - أَمَّا جَزِيرَةُ الْعَرَبِ: فَلاَ يَجُوزُ إِقْرَارُ
__________
(1) حديث: " لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب " أخرجه مسلم (3 / 1388 - ط. الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب.

(26/298)


الصَّابِئِينَ فِيهَا، كَسَائِرِ الْكُفَّارِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْل الْكِتَابِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأَُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، حَتَّى لاَ أَدَعَ إِلاَّ مُسْلِمًا وَحَدِيثِ عَائِشَةَ. آخِرُ مَا عَهِدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُتْرَكُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ (1) وَفِي الْمُرَادِ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ خِلاَفٌ، وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَرْضُ الْعَرَبِ) .
وَأَمَّا فِي خَارِجِ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ سَائِرِ بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ: فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِقْرَارِ الصَّابِئَةِ فِيهَا عَلَى أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى جَوَازِ إِقْرَارِهِمْ فِيهَا، وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ نَصَارَى، وَأَنَّ تَعْظِيمَهُمْ لِلْكَوَاكِبِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْعِبَادَةِ لَهَا.
وَقَال صَاحِبَاهُ: لاَ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ لأَِنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ كَعِبَادَةِ الْمُشْرِكِينَ لِلأَْصْنَامِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: بِجَوَازِ إِقْرَارِهِمْ كَذَلِكَ بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ يَجُوزُ أَنْ تُضْرَبَ عَلَى كُل كَافِرٍ، كِتَابِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ (3) .
__________
(1) حديث عائشة: " آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه أحمد (6 / 275 - ط الميمنية) وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (5 / 325 - ط القدسي) : رجاله " رجال الصحيح ".
(2) فتح القدير 4 / 370، وفي كتاب الخراج خلاف هذا عن أبي يوسف، الرتاج 2 / 96.
(3) جواهر الإكليل 1 / 266، وتفسير القرطبي 1 / 435.

(26/298)


وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الصَّابِئَةَ يَجُوزُ أَنْ تُعْقَدَ لَهُمُ الذِّمَّةُ بِالْجِزْيَةِ، عَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُمْ مِنَ النَّصَارَى، إِنْ وَافَقُوهُمْ فِي أَصْل دِينِهِمْ، وَلَوْ خَالَفُوهُمْ فِي فُرُوعِهِ، وَلَمْ تُكَفِّرْهُمُ النَّصَارَى. أَمَّا إِنْ كَفَّرَتْهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِمُخَالَفَتِهِمْ فِي الْفُرُوعِ، فَقَدْ قِيل: يَجُوزُ أَنْ يُقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ وَإِنْ لَمْ تَجُزْ مُنَاكَحَتُهُمْ، لأَِنَّ مَبْنَى تَحْرِيمِ النِّكَاحِ، الاِحْتِيَاطُ، بِخِلاَفِ الْجِزْيَةِ (1) .
وَهَذَا التَّرَدُّدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِنَّمَا هُوَ فِي الصَّابِئَةِ الْمُشَابِهَةِ لِلنَّصَارَى (وَهُمُ الْمُسَمَّوْنَ الْمَنْدَائِيِّينَ) ، أَمَّا الصَّابِئَةُ عُبَّادُ الْكَوَاكِبِ: فَقَدْ جَزَمَ الرَّمْلِيُّ بِأَنَّ الْخِلاَفَ لاَ يَجْرِي فِيهِمْ، وَأَنَّهُمْ لاَ يُقَرُّونَ بِبِلاَدِ الإِْسْلاَمِ. قَال: وَلِذَلِكَ أَفْتَى الإِْصْطَخْرِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ - الْخَلِيفَةَ الْقَاهِرَ - بِقَتْلِهِمْ، لَمَّا اسْتَفْتَى فِيهِمُ الْفُقَهَاءَ، فَبَذَلُوا لَهُ مَالاً كَثِيرًا فَتَرَكَهُمْ (2) .
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ، لِنَصِّ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُمْ جِنْسٌ مِنَ النَّصَارَى: وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّهُمْ جِنْسٌ مِنَ الْيَهُودِ، قَالُوا: وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْفَلَكَ حَيٌّ نَاطِقٌ، وَإِنَّ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ آلِهَةٌ فَهُمْ كَعَبَدَةِ الأَْوْثَانِ، أَيْ:
__________
(1) الجمل على المنهج 5 / 213، والأحكام السلطانية 143، والقليوبي 3 / 253 ومغني المحتاج 4 / 244.
(2) نهاية المحتاج 6 / 288، وأحكام أهل الذمة لابن القيم 1 / 92، وطبقات الشافعية للسبكي 2 / 193.

(26/299)


فَلاَ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ (1) .
وَرَجَّحَ ابْنُ الْقَيِّمِ الْقَوْل الأَْوَّل، قَال: هَذِهِ الأُْمَّةُ - يَعْنِي الصَّابِئَةَ - فِيهِمُ: الْمُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ، وَفِيهِمُ الْكَافِرُ، وَفِيهِمُ الآْخِذُ مِنْ دِينِ الرُّسُل مَا وَافَقَ عُقُولَهُمْ، وَاسْتَحْسَنُوهُ فَدَانُوا بِهِ وَرَضُوهُ لأَِنْفُسِهِمْ، وَعَقْدُ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ بِمَحَاسِنِ مَا عِنْدَ أَهْل الشَّرَائِعِ بِزَعْمِهِمْ، وَلاَ يَتَعَصَّبُونَ لِمِلَّةٍ عَلَى مِلَّةٍ، وَالْمِلَل عِنْدَهُمْ نَوَامِيسُ لِمَصَالِحِ الْعَالَمِ، فَلاَ مَعْنَى لِمُحَارَبَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، بَل يُؤْخَذُ بِمَحَاسِنِهَا وَمَا تَكْمُل بِهِ النُّفُوسُ، وَتَتَهَذَّبُ بِهِ الأَْخْلاَقُ. قَال: وَبِالْجُمْلَةِ فَالصَّابِئَةُ أَحْسَنُ حَالاً مِنَ الْمَجُوسِ. فَأَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَخْذِهَا مِنَ الصَّابِئَةِ بِطَرِيقِ الأَْوْلَى، فَإِنَّ الْمَجُوسَ مِنْ أَخْبَثِ الأُْمَمِ دِينًا وَمَذْهَبًا، وَلاَ يَتَمَسَّكُونَ بِكِتَابٍ وَلاَ يَنْتَمُونَ إِلَى مِلَّةٍ، فَشِرْكُ الصَّابِئَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَخَفَّ مِنْهُ فَلَيْسَ بِأَعْظَمَ مِنْهُ. اهـ (2) .

دِيَةُ الصَّابِئِ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ، كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ سَوَاءٌ، وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ الصَّابِئَةُ إِنْ كَانُوا أَهْل ذِمَّةٍ (3) .
__________
(1) كشاف القناع 3 / 118.
(2) أحكام أهل الذمة 1 / 98.
(3) الهداية وتكملة فتح القدير 8 / 307.

(26/299)


وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ دِيَةَ الصَّابِئِ كَدِيَةِ النَّصْرَانِيِّ، وَمِقْدَارُهَا ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَهَذَا إِنْ وَافَقَ الصَّابِئُ النَّصَارَى فِي أَصْل دِينِهِمْ وَلَوْ خَالَفَهُ فِي الْفُرُوعِ، مَا لَمْ يُكَفِّرْهُ النَّصَارَى (1) .
وَلَمْ يُصَرِّحِ الْحَنَابِلَةُ بِحُكْمِهِمْ فِي مِقْدَارِ الدِّيَةِ، لَكِنَّ مُقْتَضَى الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَهَبَتْ إِلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ أَنْ تَكُونَ دِيَةُ الصَّابِئِ نِصْفَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَفِي رِوَايَةٍ: الثُّلُثَ (2) .
وَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَهَبَتْ إِلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْل الْكِتَابِ: أَنْ تَكُونَ دِيَتُهُ ثَمَانَمِائَةِ دِرْهَمٍ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ نَجِدْ لَدَيْهِمُ التَّصْرِيحَ بِمِقْدَارِ دِيَاتِ الصَّابِئَةِ، وَحَيْثُ إِنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوهُمْ كَالنَّصَارَى فِي الذَّبَائِحِ وَنَحْوِهَا، فَلِذَا يَظْهَرُ أَنَّ دِيَاتِهِمْ كَدِيَةِ الْمَجُوسِ، وَهِيَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ لِلرَّجُل، وَأَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ لِلْمَرْأَةِ (3) .

حُكْمُ ذَبَائِحِ الصَّابِئَةِ،
وَحُكْمُ تَزَوُّجِ نِسَائِهِمْ:
9 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ: لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَأْكُل مِنْ ذَبَائِحِ الصَّابِئَةِ، وَأَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ نِسَائِهِمْ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 258.
(2) الفروع 6 / 19.
(3) التاج والإكليل للمواق بهامش الحطاب 6 / 257.

(26/300)


الْكَوَاكِبَ، وَإِنَّمَا يُعَظِّمُونَهَا كَتَعْظِيمِ الْمُسْلِمِينَ لِلْكَعْبَةِ.
وَقَال صَاحِبَاهُ: هُمْ مِنَ الزَّنَادِقَةِ وَالْمُشْرِكِينَ، فَلاَ تَحِل نِسَاؤُهُمْ وَلاَ ذَبَائِحُهُمْ.
قَال ابْنُ الْهُمَامِ: الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْل بِحَقِيقَةِ أَمْرِهِمْ، فَلَوِ اتَّفَقَ عَلَى تَفْسِيرِهِمُ اتَّفَقَ الْحُكْمُ فِيهِمْ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى تَحْرِيمِ ذَبَائِحِ الصَّابِئَةِ لِشِدَّةِ مُخَالَفَتِهِمْ لِلنَّصَارَى (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ خَالَفَ الصَّابِئَةُ النَّصَارَى فِي أَصْل دِينِهِمْ (أَيِ الإِْيمَانِ بِعِيسَى وَالإِْنْجِيل) حَرُمَتْ ذَبَائِحُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَمَّا إِنْ لَمْ يُخَالِفُوهُمْ فِي ذَلِكَ فَلاَ تَحْرُمُ ذَبَائِحُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ عَلَيْنَا، مَا لَمْ تُكَفِّرْهُمُ النَّصَارَى، فَإِنْ كَفَّرَهُمُ النَّصَارَى حَرُمَتْ نِسَاؤُهُمْ وَذَبَائِحُهُمْ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ ذَبِيحَةُ الْمُبْتَدِعِ إِنْ كَانَتْ بِدْعَتُهُ مُكَفِّرَةً. وَهَذَا الْحُكْمُ الْمُتَرَدَّدُ فِيهِ هُوَ غَيْرُ الصَّابِئَةِ عُبَّادِ الْكَوَاكِبِ، وَهُمُ الْحَرَّانِيَّةُ؛ فَإِنَّ هَؤُلاَءِ مَجْزُومٌ بِكُفْرِهِمْ؛ فَلاَ تَحِل مُنَاكَحَتُهُمْ
__________
(1) فتح القدير 2 / 374، وابن عابدين 5 / 188، والبدائع 2 / 271 و 5 / 46.
(2) الخرشي على مختصر خليل وحاشية العدوي 2 / 303 المطبعة الشرقية 1316 هـ.

(26/300)


وَلاَ ذَبَائِحُهُمْ قَوْلاً وَاحِدًا، وَلاَ يَجْرِي فِيهِمُ الْخِلاَفُ الْمُتَقَدِّمُ (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الصَّابِئَةُ مِنَ الْيَهُودِ، وَفِي أُخْرَى: هُمْ مِنَ النَّصَارَى. فَعَلَى هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ: يَجُوزُ أَكْل ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحُ نِسَائِهِمْ. وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ: أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ؛ فَهُمْ كَعَبَدَةِ الأَْوْثَانِ (2) .

وَقْفُ الصَّابِئَةِ:
10 - قَال ابْنُ الْهُمَامِ: الصَّابِئَةُ إِنْ كَانُوا دَهْرِيَّةً أَيْ: يَقُولُونَ: {مَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} فَهُمْ صِنْفٌ مِنَ الزَّنَادِقَةِ، وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ: بِقَوْل أَهْل الْكِتَابِ صَحَّ مِنْ أَوْقَافِهِمْ مَا يَصِحُّ مِنْ أَوْقَافِ أَهْل الذِّمَّةِ، وَالَّذِي يَصِحُّ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ فَيَصِحُّ عَلَى الْفُقَرَاءِ لاَ عَلَى بِيَعِهِمْ مَثَلاً (3)
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 288 وحاشية القليوبي 3 / 252، 4 / 240 وكشاف القناع 4 / 240.
(2) المغني 6 / 591.
(3) فتح القدير 5 / 38.

(26/301)


صَابُونٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّابُونُ: هُوَ الَّذِي يُغْسَل بِهِ الثِّيَابُ مَعْرُوفٌ (1) .
وَنُقِل عَنِ ابْنِ دُرَيْدٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلاَمِ الْعَرَبِ (2) وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَحْمَاضٍ دُهْنِيَّةٍ وَبَعْضِ الْقَلَوِيَّاتِ، وَتُسْتَعْمَل رَغْوَتُهُ فِي التَّنْظِيفِ وَالْغَسْل (3)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّابُونِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوَّلاً - اسْتِعْمَال الصَّابُونِ الْمَعْمُول مِنْ زِيتِ نَجِسٍ:
2 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي الْقَوْل الْمُخْتَارِ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الصَّابُونَ الْمَصْنُوعَ مِنَ الزَّيْتِ النَّجِسِ أَوِ الْمُتَنَجِّسِ طَاهِرٌ، فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ وَالْمُعَامَلَةُ بِهِ، قَال فِي الدُّرِّ: وَيَطْهُرُ زَيْتٌ تَنَجَّسَ بِجَعْلِهِ صَابُونًا، بِهِ يُفْتَى لِلْبَلْوَى، كَتَنُّورٍ رُشَّ بِمَاءٍ نَجِسٍ لاَ بَأْسَ بِالْخَبْزِ فِيهِ، وَكَطِينٍ تَنَجَّسَ فَجُعِل مِنْهُ كُوزٌ بَعْدَ جَعْلِهِ عَلَى النَّارِ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ فَرَّعُوهَا
__________
(1) لسان العرب.
(2) المصباح المنير، ولسان العرب.
(3) الصحاح وتجديده للمرعشلي، والمعجم الوسيط.

(26/301)


عَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لِلْبَلْوَى، وَاخْتَارَهُ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ. وَالْعِلَّةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هِيَ التَّغَيُّرُ وَانْقِلاَبُ الْحَقِيقَةِ، وَمُقْتَضَاهُ عَدَمُ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِالصَّابُونِ، فَيَدْخُل فِيهِ كُل مَا كَانَ فِيهِ تَغَيُّرٌ وَانْقِلاَبُ حَقِيقَةٍ (1) وَمِثْلُهُ مَا فِي الْفَتْحِ لاِبْنِ الْهُمَامِ (2) .
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ كَذَلِكَ الاِنْتِفَاعَ بِالصَّابُونِ الْمَعْمُول مِنْ زَيْتِ نَجِسٍ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِطَهَارَتِهِ، فَقَدْ جَاءَ فِي أَسْنَى الْمَطَالِبِ نَقْلاً عَنِ الْمَجْمُوعِ: يَجُوزُ اتِّخَاذُ الصَّابُونِ مِنَ الزَّيْتِ النَّجِسِ (3) قَال الرَّمْلِيُّ: وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي بَدَنِهِ وَثَوْبِهِ، كَمَا صَرَّحُوا بِذَلِكَ. ثُمَّ قَال: ثُمَّ يُطَهِّرُهُمَا (4) وَيُفْهَمُ مِنْهُ: أَنَّهُ مَا زَال نَجِسًا؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ الأَْصْل عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يَطْهُرُ مِنْ نَجِسِ الْعَيْنِ إِلاَّ شَيْئَانِ: خَمْرٌ تَخَلَّلَتْ، وَجِلْدٌ نَجُسَ بِالْمَوْتِ إِذَا دُبِغَ (5) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ النَّجِسِ وَالْمُتَنَجِّسِ فَقَالُوا: بِجَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِمُتَنَجِّسٍ، لاَ بِنَجِسٍ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ وَأَكْل آدَمِيٍّ، فَيُسْتَصْبَحُ عِنْدَهُمْ بِالزَّيْتِ الْمُتَنَجِّسِ
__________
(1) ابن عابدين وبهامشه الدر المختار 1 / 210.
(2) فتح القدير 1 / 176.
(3) أسنى المطالب 1 / 278.
(4) حاشية الرملي على أسنى المطالب 1 / 278، ونهاية المحتاج 2 / 278.
(5) نهاية المحتاج 2 / 230،232.

(26/302)


فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، وَيُعْمَل مِنْهُ الصَّابُونُ، وَيُنْتَفَعُ بِهِ فِي سَائِرِ وُجُوهِ الاِنْتِفَاعِ.
وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِهِمْ: عَدَمُ جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِالصَّابُونِ الْمَعْمُول مِنَ النَّجِسِ كَشَحْمِ الْمَيْتَةِ، وَإِنْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِجَوَازِ الاِسْتِصْبَاحِ بِشَحْمِ الْمَيْتَةِ إِذَا تُحُفِّظَ مِنْهُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ تَطْهُرُ نَجَاسَةٌ بِاسْتِحَالَةٍ وَلاَ بِنَارٍ، فَالصَّابُونُ الْمَعْمُول مِنْ زَيْتِ نَجِسٍ نَجِسٌ، وَدُخَانُ النَّجَاسَةِ وَغُبَارُهَا نَجِسٌ (2) . وَهَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُسْتَخْرَجُ أَنْ تَطْهُرَ النَّجَاسَاتُ بِالاِسْتِحَالَةِ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ إِذَا انْقَلَبَتْ، وَجُلُودِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَتْ (3) .

ثَانِيًا - الْوُضُوءُ بِمَاءِ الصَّابُونِ:
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ مَاءَ الصَّابُونِ إِذَا ذَهَبَتْ رِقَّتُهُ وَصَارَ ثَخِينًا لاَ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ، وَإِذَا بَقِيَتْ رِقَّتُهُ وَلَطَافَتُهُ جَازَ (4) قَال ابْنُ الْهُمَامِ فِي تَعْلِيل الْجَوَازِ: الْمُخَالِطُ الْمَغْلُوبُ لاَ يَسْلُبُ الإِْطْلاَقَ، فَوَجَبَ تَرْتِيبُ حُكْمِ الْمُطْلَقِ عَلَى
__________
(1) الزرقاني مع حاشية البناني 1 / 34، الحطاب 1 / 117، وفيه أن المتنجس ما كان طاهرًا في الأصل وأصابته نجاسة كالزيت والسمن ونحوه تقع فيه فأرة أو نجاسة، والنجس ما كانت عينه نجسة كالميتة والدم.
(2) كشاف القناع 1 / 186.
(3) المغني لابن قدامة 2 / 72
(4) الفتاوى الهندية 1 / 21، والخانية بهامش الهندية 1 / 16.

(26/302)


الْمَاءِ الَّذِي هُوَ كَذَلِكَ، أَيْ: جَوَازُ الْوُضُوءِ بِهِ. وَقَدِ اغْتَسَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ مِنْ قَصْعَةٍ فِيهَا أَثَرُ الْعَجِينِ، وَالْمَاءُ بِذَلِكَ يَتَغَيَّرُ، وَلَمْ يُعْتَبَرَ الْمَغْلُوبِيَّةُ (1) .
وَالأَْصْل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ شَيْءٌ يُمْكِنُ حِفْظُهُ مِنْهُ - غَيْرُ التُّرَابِ وَالْمِلْحِ - كَالزَّعْفَرَانِ، وَالتَّمْرِ، وَالدَّقِيقِ، فَتَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ؛ لأَِنَّهُ زَال عَنْهُ إِطْلاَقُ اسْمِ الْمَاءِ. لَكِنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي صِفَةِ التَّغَيُّرِ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَسِيرًا، بِأَنْ وَقَعَ فِيهِ قَلِيلٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ، فَاصْفَرَّ قَلِيلاً أَوْ صَابُونٍ أَوْ دَقِيقٍ فَابْيَضَّ قَلِيلاً، بِحَيْثُ لاَ يُضَافُ إِلَيْهِ فَوَجْهَانِ: الصَّحِيحُ مِنْهُمَا: أَنَّهُ طَهُورٌ لِبَقَاءِ اسْمِ الْمَاءِ، قَال النَّوَوِيُّ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ (2) .
وَمِثْلُهُ مَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ حَيْثُ قَالُوا: وَمَا سَقَطَ فِي الْمَاءِ مِنَ الْبَاقِلاَّ، وَالْحِمَّصِ، وَالْوَرْدِ، وَالزَّعْفَرَانِ وَغَيْرِهِ مِنَ الطَّاهِرَاتِ، وَكَانَ يَسِيرًا، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ طَعْمٌ وَلاَ لَوْنٌ وَلاَ
__________
(1) حديث: " اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في قصعة فيها أثر العجين " أخرجه النسائي (1 / 202 - 203 - ط. المكتبة التجارية) من حديث أم هانئ.
(2) المجموع للنووي 1 / 102، 104 والقليوبي 1 / 18 - 19.

(26/303)


رَائِحَةٌ كَثِيرَةٌ حَتَّى يُنْسَبَ الْمَاءُ إِلَيْهِ تَوَضَّأَ بِهِ (1) .
وَهَذَا إِذَا كَانَ الصَّابُونُ مَعْمُولاً مِنْ زَيْتِ طَاهِرٍ. أَمَّا إِذَا كَانَ مَصْنُوعًا مِنْ غَيْرِ طَاهِرٍ، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِطَهَارَتِهِ كَالْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُمْ، أَمَّا مَنْ يَقُول: إِنَّ النَّجِسَ لاَ يَطْهُرُ بِاسْتِحَالَتِهِ فَلاَ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ (ر: ف 2)
وَالظَّاهِرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُمْ لاَ يُجَوِّزُونَ التَّوَضُّؤَ بِمَاءِ الصَّابُونِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ طَاهِرًا أَوْ نَجِسًا (2) . حَيْثُ قَالُوا: مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ، فَذَلِكَ الْمَاءُ طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُطَهِّرٍ لِغَيْرِهِ، فَلاَ يُتَوَضَّأُ بِهِ، وَيُسْتَعْمَل فِي الْعَادَاتِ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (طَهَارَةٌ وَمِيَاهٌ)

ثَالِثًا: اسْتِعْمَال الْمُحْرِمِ لِلصَّابُونِ:
4 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ: بِأَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِاسْتِعْمَال الْمُحْرِمِ الصَّابُونَ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْفَتْحِ: لَوْ غَسَل بِالصَّابُونِ وَالْحُرْضِ (4) لاَ رِوَايَةَ فِيهِ، وَقَالُوا: لاَ شَيْءَ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ وَلاَ يَقْتُل (أَيِ الْهَوَامَّ) ثُمَّ قَال:
__________
(1) كشاف القناع 1 / 26، والمغني 1 / 14.
(2) الحطاب 1 / 58،59.
(3) الفواكه الدواني 1 / 145.
(4) قال في القاموس: الحرض - بضمة وبضمتين - كالأشنان (وهو نبت يغسل به) .

(26/303)


وَمُقْتَضَى التَّعْلِيل عَدَمُ وُجُوبِ الدَّمِ وَالصَّدَقَةِ اتِّفَاقًا، وَلِذَا قَال فِي الظَّهِيرِيَّةِ: وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ (1) .
وَهَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ فِي الصَّابُونِ الْعَادِيِّ، الَّذِي لاَ يُعْتَبَرُ طِيبًا؛ لأَِنَّ الْمُحْرِمَ إِنَّمَا يُمْنَعُ مِنَ اسْتِعْمَال الطِّيبِ، وَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ نَصًّا فِي الْمَوْضُوعِ.
وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (تَطَيُّبٌ وَإِحْرَامٌ) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 2 / 163، فتح القدير 2 / 228.

(26/304)


صَاعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّاعُ وَالصُّوَاعُ (بِالْكَسْرِ وَبِالضَّمِّ) لُغَةً: مِكْيَالٌ يُكَال بِهِ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ.
وَقَال الدَّاوُدِيُّ: مِعْيَارُهُ لاَ يَخْتَلِفُ أَرْبَعُ حَفَنَاتٍ بِكَفَّيِ الرَّجُل الَّذِي لَيْسَ بِعَظِيمِ الْكَفَّيْنِ وَلاَ صَغِيرِهَا. وَقِيل: هُوَ إِنَاءٌ يُشْرَبُ فِيهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اصْطِلاَحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُدُّ:
2 - الْمُدُّ بِالضَّمِّ: كَيْلٌ، وَهُوَ رِطْلاَنِ عِنْدَ
__________
(1) القاموس المحيط، وتاج العروس، والنهاية في غريب الحديث والأثر، ومختار الصحاح.
(2) تبيين الحقائق 1 / 309 ط. دار المعرفة، وبدائع الصنائع 2 / 73 ط. دار الكتاب العربي، والشرح الصغير 1 / 608 ط. دار المعارف بمصر، والدسوقي 1 / 504 - 505 ط. دار الفكر، وروضة الطالبين 2 / 302 ط. المكتب الإسلامي، وحاشية الجمل 2 / 241 ط. دار إحياء التراث العربي، وكشاف القناع 1 / 156 ط. عالم الكتب، ومطالب أولي النهى 2 / 112.

(26/304)


أَهْل الْعِرَاقِ، وَرِطْلٌ وَثُلُثٌ عِنْدَ أَهْل الْحِجَازِ.
وَقَال الْفَيْرُوزُ آبَادِي: قِيل: الْمُدُّ هُوَ مِلْءُ كَفَّيِ الإِْنْسَانِ الْمُتَوَسِّطِ إِذَا مَلأََهُمَا وَمَدَّ يَدَهُ بِهِمَا، وَبِهِ سُمِّيَ مُدًّا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُدَّ يُسَاوِي رُبُعَ الصَّاعِ، فَالْمُدُّ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّاعِ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُدَّ وَالصَّاعَ مِنْ وِحْدَاتِ الأَْكْيَال الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الأَْحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ (2)

ب - الْوَسْقُ:
3 - الْوَسْقُ وَالْوِسْقُ: مَكِيلَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَهُوَ سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْوَسْقُ عَلَى هَذَا الْحِسَابِ مِائَةٌ وَسِتُّونَ مَنًّا (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (4) .
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير، والنهاية، وتاج العروس، ولسان العرب مادة (مدد) .
(2) فتح القدير 2 / 40 ط بولاق، وابن عابدين 2 / 76 ط بولاق، والشرح الصغير 1 / 608، والمغني 1 / 222، وكشاف القناع 1 / 155، والأموال لأبي عبيد ص (207) وشرح روض الطالب 1 / 71.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، وتاج العروس مادة (وسق) .
(4) الشرح الصغير 1 / 608، والقليوبي 1 / 24، والمغني 2 / 700، وجواهر الإكليل 1 / 124، والنهاية في غريب الحديث والأثر 4 / 210.

(26/305)


ج - الْمَنُّ:
4 - الْمَنُّ بِالْفَتْحِ وَالتَّشْدِيدِ مِعْيَارٌ قَدِيمٌ، كَانَ يُكَال بِهِ أَوْ يُوزَنُ، وَقَدْرُهُ إِذْ ذَاكَ رِطْلاَنِ بَغْدَادِيَّانِ (1) ، وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ

د - الْفَرَقُ:
5 - الْفَرَقُ بِفَتْحَتَيْنِ أَوْ بِسُكُونِ الرَّاءِ: مِكْيَالٌ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلاً، وَالْجَمْعُ فُرْقَانٌ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال أَبُو عُبَيْدٍ: لاَ اخْتِلاَفَ بَيْنَ النَّاسِ أَعْلَمُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفَرَقَ ثَلاَثَةُ آصُعٍ، وَهِيَ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلاً (3)

هـ - الرِّطْل:
6 - الرِّطْل: مِعْيَارٌ يُوزَنُ بِهِ، وَهُوَ بِالْبَغْدَادِيِّ اثْنَتَا عَشْرَةَ أُوقِيَّةً، فَيُسَاوِي مِثْقَالاً (4) .
قَال الرَّافِعِيُّ: قَال الْفُقَهَاءُ: وَإِذَا أُطْلِقَ الرِّطْل فِي الْفُرُوعِ، فَالْمُرَادُ بِهِ رِطْلٌ بَغْدَادِيٌّ، وَالرِّطْل مِكْيَالٌ أَيْضًا (5) .
__________
(1) معجم لغة الفقهاء، ولسان العرب، والمعجم الوسيط، وتاج العروس مادة (من) .
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، والتاج، والنهاية، والقاموس المحيط، والصحاح مادة (فرق) .
(3) الشرح الصغير 1 / 608، والمغني 1 / 225، والأموال لأبي عبيد ط (208) الطبعة الأولى.
(4) المصباح المنير، والمغرب، والمعجم الوسيط، ولسان العرب مادة (رطل) .
(5) المصباح المنير مادة (رطل) وابن عابدين 2 / 76 ط بولاق، والزرقاني 2 / 131.

(26/305)


الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصَّاعِ:
مِقْدَارُ الصَّاعِ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ الصَّاعِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصَّاعَ: خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ؛ لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ (1) قَال أَبُو عُبَيْدٍ: وَلاَ اخْتِلاَفَ بَيْنَ النَّاسِ أَعْلَمُهُ فِي أَنَّ الْفَرَقَ ثَلاَثَةُ آصُعٍ، وَالْفَرَقُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلاً؛ فَثَبَتَ أَنَّ الصَّاعَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ.
وَرُوِيَ: أَنَّ أَبَا يُوسُفَ حِينَمَا دَخَل الْمَدِينَةَ سَأَلَهُمْ عَنِ الصَّاعِ، فَقَالُوا: خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ، فَطَالَبَهُمْ بِالْحُجَّةِ فَقَالُوا: غَدًا. فَجَاءَ مِنَ الْغَدِ سَبْعُونَ شَيْخًا كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَخَذَ صَاعًا تَحْتَ رِدَائِهِ فَقَال: صَاعِي وَرِثْتُهُ عَنْ أَبِي، وَوَرِثَهُ أَبِي عَنْ جَدِّي، حَتَّى انْتَهَوْا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالرِّطْل الْعِرَاقِيُّ عِنْدَهُمْ: مِائَةُ دِرْهَمٍ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ (2) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: الصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ
__________
(1) حديث: " تصدق بفرق بين ستة مساكين " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 18 - ط السلفية) .
(2) جواهر الإكليل 1 / 124، وحاشية الدسوقي 1 / 504، شرح المنهاج 2 / 36، وروضة الطالبين 2 / 301، والمغني 1 / 222 - 223.

(26/306)


لأَِنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَهُوَ رِطْلاَنِ؛ وَيَغْتَسِل بِالصَّاعِ (1) ، فَعُلِمَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّ مِقْدَارَ الْمُدِّ رِطْلاَنِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُدَّ رِطْلاَنِ: يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ صَاعُ رَسُول اللَّهِ أَرْبَعَةَ أَمْدَادٍ، وَهِيَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ لأَِنَّ الْمُدَّ رُبُعُ صَاعٍ بِاتِّفَاقٍ.
وَالرِّطْل الْعِرَاقِيُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: عِشْرُونَ أَسْتَارًا، وَالأَْسْتَارُ: سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ (2)

الاِغْتِسَال بِالصَّاعِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الاِغْتِسَال بِالصَّاعِ مُجْزِئٌ، إِذَا حَصَل الإِْسْبَاغُ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: " لَيْسَ فِي حُصُول الإِْجْزَاءِ فِي الْمُدِّ فِي الْوُضُوءِ، وَالصَّاعِ فِي الْغُسْل خِلاَفٌ نَعْلَمُهُ " فَإِنْ أَسْبَغَ بِدُونِ الصَّاعِ فِي الْغُسْل أَجْزَأَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْغُسْل وَقَدْ فَعَلَهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ: الاِغْتِسَال بِالصَّاعِ سُنَّةٌ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ أَنْ لاَ يَنْقُصَ مَاءُ الْغُسْل عَنْ صَاعٍ تَقْرِيبًا، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ فِيمَنِ اعْتَدَل جَسَدُهُ؛ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوَضِّؤُهُ الْمُدُّ، وَيُغَسِّلُهُ الصَّاعُ. أَمَّا مَنْ لَمْ يَعْتَدِل جَسَدُهُ فَيَخْتَلِفُ
__________
(1) حديث أنس: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل - أو كان يغتسل - بالصاع إلى خمسة أمداد ويتوضأ بالمد ". أخرجه البخاري، (الفتح 1 / 304 - ط السلفية) .
(2) البناية شرح الهداية 3 / 355، فتح القدير 2 / 30.

(26/306)


زِيَادَةً وَنَقْصًا (1) .
فَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُغَسِّل - أَوْ كَانَ يَغْتَسِل - بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ، وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ (2) .
وَوَرَدَ: أَنَّ قَوْمًا سَأَلُوا جَابِرًا عَنِ الْغُسْل، فَقَال: يَكْفِيكَ صَاعٌ، فَقَال رَجُلٌ: مَا يَكْفِينِي. فَقَال جَابِرٌ: كَانَ يَكْفِي مَنْ هُوَ أَوْفَى شَعْرًا مِنْكَ وَخَيْرٌ مِنْكَ، يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) .
وَلَمْ يَنُصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى سُنِّيَّةِ الاِغْتِسَال بِالصَّاعِ.

صَدَقَةُ الْفِطْرِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْدِيرِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ بِالصَّاعِ، فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِنَّ الْوَاجِبَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ - عَنْ كُل إِنْسَانٍ - صَاعٌ مِنَ الْبُرِّ أَوِ الشَّعِيرِ أَوْ دَقِيقِهِمَا أَوِ التَّمْرِ، أَوِ الزَّبِيبِ، فَهُمْ يَرَوْنَ عَدَمَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ جَمِيعِ الأَْصْنَافِ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا زَكَاةُ الْفِطْرِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صَاعًا مِنْ
__________
(1) البدائع 1 / 35، والفتاوى الهندية 1 / 16، والمهذب 1 / 38، وروضة الطالبين 1 / 90، والمغني 1 / 222، وكشاف القناع 1 / 156، ونهاية المحتاج 1 / 212.
(2) حديث: " أنس. . . " سبق تخريجه ف 7.
(3) حديث جابر: " أن قومًا سألوا جابرًا عن الغسل. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 365 - ط السلفية) .

(26/307)


تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُل حُرٍّ وَعَبْدٍ، ذَكَرٍ وَأُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ (1) . وَلِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: كُنَّا نُخْرِجُ إِذْ كَانَ فِينَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنْ كُل صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ (2) .
وَقَدْ نُقِل عَنْ أَبِي الْفَرَجِ الدَّارِمِيِّ وَالْبَنْدَنِيجِيِّ: أَنَّ الْوَاجِبَ إِخْرَاجُ صَاعٍ مُعَايَرٍ بِالصَّاعِ الَّذِي كَانَ يُخْرَجُ بِهِ زَمَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ الصَّاعُ مَوْجُودٌ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الاِسْتِظْهَارُ بِأَنْ يُخْرِجَ مَا يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ لاَ يُنْقِصُهُ عَنْهُ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْوَاجِبَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ وَسَوِيقِهِ، أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ، لِمَا رَوَى ثَعْلَبَةُ بْنُ صُعَيْرٍ الْعُذْرِيُّ
__________
(1) حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر. . . . أخرجه البخاري (الفتح 3 / 367 - ط السلفية) ومسلم (2 / 677 - ط. الحلبي) واللفظ لمسلم.
(2) حديث أبي سعيد: كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه مسلم (2 / 678 - ط الحلبي) وأخرجه البخاري (الفتح 3 / 371 - ط السلفية) مختصرًا.
(3) بداية المجتهد 1 / 289، والقوانين الفقهية ص 76، والدسوقي 1 / 504، ومواهب الجليل 2 / 366، وروضة الطالبين 2 / 301، 302، والمجموع 6 / 128 ط السلفية، والمغني 3 / 55، وكشاف القناع 2 / 53 ط. عالم الكتب.

(26/307)


أَنَّهُ قَال: خَطَبَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: أَدُّوا عَنْ كُل حُرٍّ وَعَبْدٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ (1) .
وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ: أَنَّ عَشَرَةً مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رَوَوْا: عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، وَاحْتُجَّ بِرِوَايَتِهِمْ.
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الزَّبِيبِ، فَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: نِصْفَ صَاعٍ؛ لأَِنَّ قِيمَةَ الزَّبِيبِ تَزِيدُ عَنْ قِيمَةِ
__________
(1) حديث: " أدوا عن كل حر وعبد. . . " يدل عليه ما رواه أبو داود من حديث الحسن أنه قال: خطب ابن عباس رحمه الله في آخر رمضان على منبر البصرة فقال: أخرجوا صدقة صومكم فكأن الناس لم يعلموا فقال: من هاهنا من أهل المدينة؟ قوموا إلى إخوانكم فعلموهم فإنهم لا يعل وهو حديث حسن (جامع الأصول بتحقيق الأرناؤوط 4 / 644) ، وذكر الزيلعي والعيني شواهد له (نصب الراية 2 / 418 - 423 وعمدة القاري 9 / 113 وما بعدها) .

(26/308)


الْحِنْطَةِ فِي الْعَادَةِ، ثُمَّ اكْتَفَى مِنَ الْحِنْطَةِ بِنِصْفِ صَاعٍ؛ فَمِنَ الزَّبِيبِ أَوْلَى.
وَرَوَى الْحَسَنُ، وَأَسَدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَال: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ إِذْ كَانَ فِينَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ وَلأَِنَّ الزَّبِيبَ لاَ يَكُونُ مِثْل الْحِنْطَةِ فِي التَّغَذِّي، بَل يَكُونُ أَنْقَصَ مِنْهَا، كَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ؛ فَكَانَ التَّقْدِيرُ فِيهِ بِالصَّاعِ، كَمَا فِي الشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ.
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَدَاءُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فِي الْفِطْرَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ جِنْسَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، فَلَوْ أَدَّى نِصْفَ صَاعِ شَعِيرٍ، وَنِصْفَ صَاعِ تَمْرٍ، أَوْ نِصْفَ صَاعِ شَعِيرٍ وَرُبُعَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ جَازَ (1) .
وَهُنَاكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةُ الْفِطْرِ) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُجْزِئُ فِي الْفِطْرَةِ الْوَاحِدَةِ صَاعٌ مِنْ جِنْسَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ الْجِنْسَانِ مُتَمَاثِلِينَ أَوْ أَحَدُهُمَا مِمَّا يَجِبُ وَالآْخَرُ أَعْلَى مِنْهُ، كَمَا لاَ يُجْزِئُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَنْ
__________
(1) بدائع الصنائع (2 / 72 ط دار الكتاب العربي، وابن عابدين 2 / 76 ط بولاق) والبحر الرائق 2 / 273 ط دار المعرفة، وتبيين الحقائق 1 / 307 ط دار المعرفة) .

(26/308)


يَكْسُوَ خَمْسَةً وَيُطْعِمَ خَمْسَةً؛ لأَِنَّهُ مَأْمُورٌ بِصَاعِ بُرٍّ، أَوْ شَعِيرٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ جَمَعَ صَاعًا مِنَ التَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، وَالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ، وَالأَْقِطِ، وَأَخْرَجَهُ أَجْزَأَهُ كَمَا لَوْ كَانَ خَالِصًا مِنْ. أَحَدِهِمَا (2) .
وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى نَصٍّ فِي ذَلِكَ.

صُبْحٌ

انْظُرْ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَفْرُوضَةُ، وَأَوْقَاتُ الصَّلاَةِ.
__________
(1) المجموع 6 / 135.
(2) كشاف القناع 2 / 253.

(26/309)


صُبْرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصُّبْرَةُ فِي اللُّغَةِ: الْكَوْمَةُ مِنْ طَعَامٍ أَوْ غَيْرِهِ، جَمْعُهَا صُبَرٌ، كَغُرْفَةٍ وَغُرَفٍ، يُقَال: صَبَّرْتُ الْمَتَاعَ: إِذَا جَمَعْتُهُ وَضَمَمْتُ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ. وَقِيل: هِيَ الْكَوْمَةُ مِنَ الطَّعَامِ خَاصَّةً، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَجْهُولَةَ الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ أَمْ مَعْلُومَتَهُمَا، وَقِيل: مَا جُمِعَ مِنَ الطَّعَامِ بِلاَ كَيْلٍ وَلاَ وَزْنٍ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال سُلَيْمَانُ الْجَمَل: أَطْلَقَهَا الْفُقَهَاءُ عَلَى كُل مُتَمَاثِل الأَْجْزَاءِ (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - الْجُزَافُ - مُثَلَّثُ الْجِيمِ - وَهُوَ بَيْعُ مَا يُكَال، أَوْ يُوزَنُ، أَوْ يُعَدُّ جُمْلَةً بِلاَ كَيْلٍ، وَلاَ وَزْنٍ، وَلاَ عَدٍّ (2) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصُّبْرَةِ:
بَيْعُ الصُّبْرَةِ جُزَافًا:
3 - يَصِحُّ بَيْعُ الصُّبْرَةِ جُزَافًا وَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةَ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح مادة (صبر) ، وكشاف القناع 3 / 168، حاشية الجمل 3 / 34.
(2) مواهب الجليل 4 / 285، المصباح المنير، والموسوعة الفقهية (مصطلح: جزاف) .

(26/309)


الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ. فَإِنْ قَال: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ مِنَ الْحِنْطَةِ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ صِيعَانَهَا؛ لأَِنَّ غَرَرَ الْجَهَالَةِ يَنْتَفِي بِالْمُشَاهَدَةِ (1) . كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ صَاعٍ مِنْ صُبْرَةٍ وَبَيْعُ صُبْرَةٍ: كُل صَاعٍ بِدِرْهَمٍ، وَأَرَادَ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ شِرَاءَ جَمِيعِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَعْلُومَةَ الصِّيعَانِ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةَ الصِّيعَانِ كَانَتْ مَعْلُومَةَ الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيل. وَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةَ الصِّيعَانِ كَانَتْ مَجْهُولَةَ الْجُمْلَةِ، مَعْلُومَةَ التَّفْصِيل، وَجَهْل الْجُمْلَةِ وَحْدَهُ لاَ يَضُرُّ (2) .
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ بَاعَ صُبْرَةً: كُل صَاعٍ بِدِرْهَمٍ صَحَّ فِي صَاعٍ، قَال: لأَِنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، غَيْرَ أَنَّ الأَْقَل مَعْلُومٌ فَيَجُوزُ فِيهِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ، وَمَا عَدَاهُ مَجْهُولٌ فَيَفْسُدُ، وَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ. وَقَال صَاحِبَاهُ: يَجُوزُ فِي الْكُل؛ لأَِنَّ الْمَبِيعَ مَعْلُومٌ بِالإِْشَارَةِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِهِ لِجَوَازِ بَيْعِهِ. أَمَّا إِذَا كَالاَهُ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ بِالإِْجْمَاعِ لِزَوَال الْمَانِعِ
__________
(1) المجموع 9 / 310 - 312، نهاية المحتاج 3 / 413 - 414، ابن عابدين 4 / 22، تبيين الحقائق 4 / 5 - 6، الإنصاف 4 / 303، الكافي 2 / 14 - 15، بلغة السالك 2 / 359، مواهب الجليل 4 / 285.
(2) المصادر السابقة.

(26/310)


قَبْل تَقَرُّرِ الْفَسَادِ (1) .

شُرُوطُ جَوَازِ بَيْعِ الصُّبْرَةِ جُزَافًا:

4 - يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ بَيْعِ الصُّبْرَةِ جُزَافًا مَا يَلِي:
أ - أَنْ لاَ يَغُشَّ بَائِعُ الصُّبْرَةِ، بِأَنْ يَجْعَلَهَا عَلَى دِكَّةٍ أَوْ رَبْوَةٍ، أَوْ يَجْعَل الرَّدِيءَ مِنْهَا أَوِ الْمَبْلُول فِي بَاطِنِهَا، لِحَدِيثِ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا (2) فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ؛ فَإِنْ عَلِمَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ ذَلِكَ بَطَل الْعَقْدُ؛ لِمَنْعِ ذَلِكَ تَخْمِينَ الْقَدْرِ فَيَكْثُرُ الْغَرَرُ، هَذَا إِذَا لَمْ يَرَ قَبْل الْوَضْعِ فِيهِ، فَإِنْ رَأَى الصُّبْرَةَ قَبْل الْوَضْعِ صَحَّ الْبَيْعُ لِحُصُول التَّخْمِينِ، وَإِنْ جَهِل كُلٌّ مِنْهُمَا ذَلِكَ: بِأَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَحَل مُسْتَوٍ فَظَهَرَ خِلاَفُهُ خُيِّرَ مَنْ لَحِقَهُ النَّقْصُ، بَيْنَ الْفَسْخِ، وَالإِْمْضَاءِ (3) .
ب - أَنْ تَكُونَ مُتَسَاوِيَةَ الأَْجْزَاءِ. فَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَجْزَاؤُهَا لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ.
ج - أَنْ يَرَى الْمَبِيعَ جُزَافًا حَال الْعَقْدِ، أَوْ قَبْلَهُ إِذَا اسْتَمَرَّ عَلَى حَالِهِ إِلَى وَقْتِ الْعَقْدِ دُونَ تَغَيُّرٍ.
د - أَنْ يَجْهَل الْمُتَبَايِعَانِ مَعًا قَدْرَ الْكَيْل أَوِ
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 5 - 6، ابن عابدين 4 / 22.
(2) حديث: " من غشنا فليس منا " أخرجه مسلم (1 / 99 - ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) روض الطالب 2 / 17، كشاف القناع 3 / 169.

(26/310)


الْوَزْنِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَعْلَمُ الْقَدْرَ دُونَ الآْخِرِ فَلاَ يَصِحُّ.
هـ - أَنْ تَسْتَوِيَ الأَْرْضُ الَّتِي يُوضَعُ عَلَيْهَا الْمَبِيعُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَوِيَةً فَفِيهَا التَّفْصِيل السَّابِقُ (1) . (ر: مُصْطَلَحَ " بَيْعُ الْجُزَافِ ") .

بَيْعُ الصُّبْرَةِ إِلاَّ صَاعًا:
5 - إِنْ بَاعَ الصُّبْرَةَ إِلاَّ صَاعًا، فَإِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةَ الصِّيعَانِ صَحَّ الْبَيْعُ وَنُزِّل عَلَى الشُّيُوعِ، فَإِنْ كَانَتْ عَشَرَةَ آصُعٍ كَانَ الْمَبِيعُ تِسْعَةَ أَعْشَارِهَا. . . أَمَّا إِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةَ الصِّيعَانِ فَلاَ يَصِحُّ؛ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثُّنْيَا، وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ: إِلاَّ أَنْ يُعْلَمَ (2) وَلأَِنَّ الْمَبِيعَ هُوَ: مَا وَرَاءَ الصَّاعِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ لأَِنَّهُ خَالَطَهُ أَعْيَانٌ أُخْرَى، وَلاَ يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّخْمِينِ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ إِحَاطَةِ الْعِيَانِ بِجَمِيعِ جَوَانِبِ الْمَبِيعِ، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ (3)
وَإِنْ بَاعَ نِصْفَ الصُّبْرَةِ الْمُشَاهَدَةِ، أَوْ ثُلُثَهَا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَجْزَائِهَا الْمَعْلُومَةِ صَحَّ
__________
(1) المصادر السابقة (الموسوعة الفقهية 9 / 74 - 75) .
(2) حديث: " نهى عن البيع الثنيا " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 50 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1175 ط. الحلبي) من حديث جابر بلفظ " نهى عن المحاقلة والمزابنة والثنيا "، وزاد الترمذي (3 / 85 - ط. الحلبي) : " إلا أن تعلم ".
(3) أسنى المطالب 2 / 17، الكافي 2 / 15، الإنصاف 4 / 303.

(26/311)


الْبَيْعُ بِلاَ خِلاَفٍ. وَإِنْ قَال: بِعْتُكَ بَعْضَ هَذِهِ الصُّبْرَةِ، أَوْ نَصِيبًا مِنْهَا، أَوْ جُزْءًا مِنْهَا، مَا شِئْتَ، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْعِبَارَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا قَدْرٌ مَعْلُومٌ؛ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِلْغَرَرِ (1) .

بَيْعُ صُبْرَةٍ بِشَرْطِ أَنْ يَزِيدَهُ صَاعًا أَوْ يُنْقِصَهُ:
6 - إِنْ بَاعَ صُبْرَةً: كُل صَاعٍ بِدِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَزِيدَهُ أَوْ يُنْقِصَهُ صَاعًا لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ إِنْ أَرَادَ الزِّيَادَةَ عَلَى سَبِيل الْهِبَةِ لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ شَرْطُ عَقْدٍ فِي عَقْدٍ.
وَإِنْ أَرَادَهَا عَلَى سَبِيل الْبَيْعِ لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ الصَّاعُ مَجْهُولاً فَهُوَ بَيْعُ مَجْهُولٍ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا لَمْ يَصِحَّ - أَيْضًا - إِذَا كَانَ مِنْ صُبْرَةٍ مَجْهُولَةِ الصِّيعَانِ؛ لأَِنَّنَا نَجْهَل تَفْصِيل الثَّمَنِ وَجُمْلَتَهُ (2) .

بَيْعُ صُبْرَةٍ وَذِكْرُ جُمْلَتِهَا:
7 - إِذَا بَاعَ صُبْرَةً وَسَمَّى جُمْلَتَهَا، بِأَنْ قَال: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ قَفِيزٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ وَجَدَهَا نَاقِصَةً، أَوْ زَائِدَةً:
قَال الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ يَصِحُّ الْعَقْدُ إِنْ زَادَتْ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسَمَّى أَوْ نَقَصَتْ مِنْهُ؛ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ جُمْلَةِ الثَّمَنِ
__________
(1) المجموع 9 / 313، والمصادر السابقة، بلغة السالك على الشرح الصغير 2 / 10.
(2) المجموع 9 / 314 - 315، الكافي 2 / 15.

(26/311)


وَتَفْصِيلِهِ، فَكَأَنَّهُ قَال: بِعْتُكَ قَفِيزًا وَشَيْئًا لاَ يَعْلَمَانِ قَدْرَهُ بِدِرْهَمٍ لِجَهْلِهِمَا كَمِّيَّةَ قُفْزَانِهَا (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً يَأْخُذُ الْمَوْجُودَ بِحِصَّتِهِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْعَقْدَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسَمَّى فَالزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ؛ لأَِنَّهَا مِنَ الْمُقَدَّرَاتِ فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِقَدْرِهَا (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ بَاعَا الصُّبْرَةَ وَحَزَرَاهَا، أَوْ وَكَّلاَ مَنْ يَحْزِرُهَا (أَيْ يُخَمِّنُهَا) فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهَا كَذَلِكَ فَبِهَا، وَإِلاَّ فَالْخِيَارُ لِمَنْ لَزِمَهُ الضَّرَرُ (3) .

صَبْغٌ

انْظُرْ: اخْتِضَابٌ

صَبِيٌّ

انْظُرْ: صِغَرٌ

صَحَابِيٌّ

انْظُرْ: قَوْل الصَّحَابِيِّ
__________
(1) المحلي على القليوبي 2 / 163، المجموع 9 / 313، الكافي 2 / 16، كشاف القناع 3 / 169.
(2) تبيين الحقائق 4 / 6، ابن عابدين 4 / 35.
(3) الشرح الصغير للدردير 3 / 36 - 37.

(26/312)


صُحْبَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصُّحْبَةُ فِي اللُّغَةِ: الْمُلاَزَمَةُ وَالْمُرَافَقَةُ، وَالْمُعَاشَرَةُ. يُقَال: صَحِبَهُ يَصْحَبُهُ صُحْبَةً، وَصَحَابَةً بِالْفَتْحِ وَبِالْكَسْرِ: عَاشَرَهُ وَرَافَقَهُ، وَلاَزَمَهُ (1) .
وَفِي حَدِيثِ قَيْلَةَ: خَرَجْتُ أَبْتَغِي الصَّحَابَةَ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
هَذَا مُطْلَقُ الصُّحْبَةِ لُغَةً. أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ: فَإِذَا أَطْلَقُوا الصُّحْبَةَ؛ فَالْمُرَادُ بِهَا صُحْبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرُّفْقَةُ:
2 - الرُّفْقَةُ فِي اللُّغَةِ: مُطْلَقُ الصُّحْبَةِ فِي السَّفَرِ أَوْ غَيْرِهِ، يُقَال: رَافَقَ الرَّجُل
__________
(1) الإصابة 1 / 7، فتح الباري 7 / 4، علوم الحديث لابن الصلاح 263، والقاموس المحيط.
(2) حديث قيلة: " خرجت أبتغي الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أورده الهيثمي في المجمع (6 / 11 - ط. القدسي) ضمن حديث طويل وقال: " رواه الطبراني ورجاله ثقات ".

(26/312)


صَاحَبَهُ: وَقِيل فِي السَّفَرِ خَاصَّةً فَهِيَ أَخَصُّ مِنَ الصُّحْبَةِ (1) .

ب - الصَّدَاقَةُ:
3 - الصَّدَاقَةُ، وَالْمُصَادَقَةُ: الْمُخَالَّةُ: بِمَعْنًى وَاحِدٍ، يُقَال: صَادَقْتُهُ مُصَادَقَةً وَصَدَاقَةً: خَالَلْتُهُ، وَالصَّدَاقَةُ أَخَصُّ مِنَ الصُّحْبَةِ (2) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصُّحْبَةِ:
مَا تَثْبُتُ بِهِ الصُّحْبَةُ:
4 - اخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْمِ فِيمَا تَثْبُتُ بِهِ الصُّحْبَةُ، وَفِي مُسْتَحِقِّ اسْمِ الصُّحْبَةِ. قَال بَعْضُهُمْ: " إِنَّ الصَّحَابِيَّ مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤْمِنًا بِهِ، وَمَاتَ عَلَى الإِْسْلاَمِ " وَقَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: هَذَا أَصَحُّ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ.
فَيَدْخُل فِيمَنْ لَقِيَهُ: مَنْ طَالَتْ مُجَالَسَتُهُ لَهُ، وَمَنْ قَصُرَتْ، وَمَنْ رَوَى عَنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ، وَمَنْ غَزَا مَعَهُ، وَمَنْ لَمْ يَغْزُ مَعَهُ، وَمَنْ رَآهُ رُؤْيَةً وَلَوْ مِنْ بَعِيدٍ، وَمَنْ لَمْ يَرَهُ لِعَارِضٍ، كَالْعَمَى.
وَيَخْرُجُ بِقَيْدِ الإِْيمَانِ: مَنْ لَقِيَهُ كَافِرًا وَإِنْ أَسْلَمَ فِيمَا بَعْدُ، إِنْ لَمْ يَجْتَمِعْ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ الإِْيمَانِ، كَمَا يَخْرُجُ بِقَيْدِ الْمَوْتِ عَلَى الإِْيمَانِ: مَنِ ارْتَدَّ عَنِ الإِْسْلاَمِ بَعْدَ صُحْبَةِ
__________
(1) لسان العرب.
(2) المصدر السابق

(26/313)


النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ فَلاَ يُعَدُّ صَحَابِيًّا.
وَهَل يُشْتَرَطُ التَّمْيِيزُ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ؟ مِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ. قَال ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي: بَعْدَ أَنْ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ " وَعَمَل مَنْ صَنَّفَ فِي الصَّحَابَةِ يَدُل عَلَى الثَّانِي " أَيْ: عَدَمِ اشْتِرَاطِ التَّمْيِيزِ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ يَسْتَحِقُّ اسْمَ الصُّحْبَةِ، وَلاَ يُعَدُّ فِي الصَّحَابَةِ إِلاَّ مَنْ أَقَامَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةً فَصَاعِدًا، أَوْ غَزَا مَعَهُ غَزْوَةً فَصَاعِدًا، حُكِيَ هَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَقَال ابْنُ الصَّلاَحِ: هَذَا إِنْ صَحَّ: طَرِيقَةُ الأُْصُولِيِّينَ (1) .
وَقِيل: يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الصُّحْبَةِ: طُول الاِجْتِمَاعِ وَالرِّوَايَةُ عَنْهُ مَعًا، وَقِيل: يُشْتَرَطُ أَحَدُهُمَا، وَقِيل: يُشْتَرَطُ الْغَزْوُ مَعَهُ، أَوْ مُضِيُّ سَنَةٍ عَلَى الاِجْتِمَاعِ، وَقَال أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل: لأَِنَّ لِصُحْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَفًا عَظِيمًا لاَ يُنَال إِلاَّ بِاجْتِمَاعٍ طَوِيلٍ يَظْهَرُ فِيهِ الْخُلُقُ الْمَطْبُوعُ عَلَيْهِ الشَّخْصُ، كَالْغَزْوِ الْمُشْتَمِل عَلَى السَّفَرِ الَّذِي هُوَ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ، وَالسَّنَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْفُصُول الأَْرْبَعَةِ الَّتِي يَخْتَلِفُ فِيهَا الْمِزَاجُ (2) .
__________
(1) الإصابة 1 / 7، فتح الباري 7 / 4، علوم الحديث لابن الصلاح 263.
(2) حاشية العطار على جمع الجوامع 2 / 196.

(26/313)


طُرُقُ إِثْبَاتِ الصُّحْبَةِ:
5 - الصُّحْبَةُ تَثْبُتُ بِطُرُقٍ:
(1) - مِنْهَا: التَّوَاتُرُ بِأَنَّهُ صَحَابِيٌّ.
(2) - ثُمَّ الاِسْتِفَاضَةُ، وَالشُّهْرَةُ، الْقَاصِرَةُ عَنِ التَّوَاتُرِ.
(3) - ثُمَّ بِأَنْ يُرْوَى عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ فُلاَنًا لَهُ صُحْبَةٌ، أَوْ عَنْ أَحَدِ التَّابِعِينَ بِنَاءً عَلَى قَبُول التَّزْكِيَةِ عَنْ وَاحِدٍ.
(4) - ثُمَّ بِأَنْ يَقُول هُوَ إِذَا كَانَ ثَابِتَ الْعَدَالَةِ وَالْمُعَاصَرَةِ - أَنَا صَحَابِيٌّ، أَمَّا الشَّرْطُ الأَْوَّل: وَهُوَ الْعَدَالَةُ فَجَزَمَ بِهِ الآْمِدِيُّ وَغَيْرُهُ؛ لأَِنَّ قَوْلَهُ: أَنَا صَحَابِيٌّ، قَبْل ثُبُوتِ عَدَالَتِهِ يَلْزَمُ مِنْ قَبُول قَوْلِهِ: إِثْبَاتُ عَدَالَتِهِ، لأَِنَّ الصَّحَابَةَ كُلَّهُمْ عُدُولٌ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ قَوْل الْقَائِل: أَنَا عَدْلٌ، وَذَلِكَ لاَ يُقْبَل.
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمُعَاصَرَةُ فَيُعْتَبَرُ بِمُضِيِّ مِائَةِ سَنَةٍ وَعَشْرِ سِنِينَ مِنْ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ لأَِصْحَابِهِ: أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ؟ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَْرْضِ أَحَدٌ (1) وَزَادَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: أَنَّ
__________
(1) علوم الحديث لابن الصلاح 264، الإصابة 1 / 8 - 9 وحديث: " أريتكم ليلتكم هذه. . . ". أخرجه البخاري (الفتح / 1 / 211 - ط. السلفية) ومسلم (4 / 1965 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر واللفظ لمسلم.

(26/314)


ذَلِكَ كَانَ قَبْل مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَهْرٍ (1) .

عَدَالَةُ مَنْ ثَبَتَتْ صُحْبَتُهُ:
6 - اتَّفَقَ أَهْل السُّنَّةِ: عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ عُدُولٌ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلاَّ شُذُوذٌ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ.
وَهَذِهِ الْخِصِّيصَةُ لِلصَّحَابَةِ بِأَسْرِهِمْ، وَلاَ يُسْأَل عَنْ عَدَالَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، بَل ذَلِكَ أَمْرٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ، لِكَوْنِهِمْ عَلَى الإِْطْلاَقِ مُعَدَّلِينَ بِتَعْدِيل اللَّهِ لَهُمْ وَإِخْبَارِهِ عَنْ طَهَارَتِهِمْ، وَاخْتِيَارِهِ لَهُمْ (2) بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ، قَال تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآْيَةَ (3) .
قِيل: اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الآْيَةَ وَارِدَةٌ فِي أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (4) وَقَال تَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُول اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} (5) الآْيَةَ وَفِي نُصُوصِ السُّنَّةِ الشَّاهِدَةِ بِذَلِكَ كَثْرَةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ: أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي
__________
(1) حديث جابر أخرجه مسلم (4 / 1966) .
(2) الإصابة 1 / 9 - 10، علوم الحديث 264.
(3) سورة آل عمران / 110.
(4) سورة البقرة / 143.
(5) سورة الفتح / 29.

(26/314)


بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْل أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلاَ نَصِيفَهُ (1) .
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهَ، اللَّهَ فِي أَصْحَابِي لاَ تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ أَذَانِي، وَمَنْ أَذَانِي فَقَدْ أَذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ (2) .
قَال ابْنُ الصَّلاَحِ: ثُمَّ إِنَّ الأُْمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى تَعْدِيل جَمِيعِ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ لاَبَسَ الْفِتَنَ مِنْهُمْ فَكَذَلِكَ، بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي الإِْجْمَاعِ، إِحْسَانًا لِلظَّنِّ بِهِمْ، وَنَظَرًا إِلَى مَا تَمَهَّدَ لَهُمْ مِنَ الْمَآثِرِ، وَكَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَتَاحَ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ نَقَلَةَ الشَّرِيعَةِ (3) .
وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِتَعْدِيلِهِمْ، وَلاَ يَحْتَاجُونَ مَعَ تَعْدِيل اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَهُمْ إِلَى تَعْدِيل أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ عَنِ
__________
(1) حديث: " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده. . . " أخرجه البخاري (الفتح 7 / 21 - ط. السلفية) ومسلم (4 / 1967 - ط. الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري، واللفظ لمسلم.
(2) حديث: " الله الله في أصحابي. . . " أخرجه الترمذي (5 / 696 - ط. الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري، وقال: " هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه " وذكر هذا الحديث الذهبي من مناكير راويه عن أبي سعيد في الميزان (4 / 564 - ط. الحلبي) .
(3) التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح للعراقي (301) .

(26/315)


الْخَطِيبِ فِي " الْكِفَايَةِ " أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرِدْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِيهِمْ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ لأََوْجَبَتِ الْحَال الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا مِنَ الْهِجْرَةِ، وَالْجِهَادِ، وَنُصْرَةِ الإِْسْلاَمِ، وَبَذْل الْمُهَجِ وَالأَْمْوَال، وَقَتْل الآْبَاءِ، وَالأَْبْنَاءِ، وَالْمُنَاصَحَةِ فِي الدِّينِ، وَقُوَّةِ الإِْيمَانِ وَالْيَقِينِ: الْقَطْعَ بِتَعْدِيلِهِمْ، وَالاِعْتِقَادَ بِنَزَاهَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَافَّةً أَفْضَل مِنْ جَمِيعِ الْخَالِفِينَ بَعْدَهُمْ وَالْمُعَدَّلِينَ الَّذِينَ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ، ثُمَّ قَال: هَذَا مَذْهَبُ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَمَنْ يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ، وَرَوَى بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيَّ قَال: " إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُل يَنْتَقِصُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ زِنْدِيقٌ "، ذَلِكَ أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ، وَالْقُرْآنَ حَقٌّ، وَمَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ، وَإِنَّمَا أَدَّى إِلَيْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ الصَّحَابَةُ، وَهَؤُلاَءِ يُرِيدُونَ أَنْ يُجَرِّحُوا شُهُودَنَا، لِيُبْطِلُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَالْجَرْحُ بِهِمْ أَوْلَى، وَهُمْ زَنَادِقَةٌ (1) .

إِنْكَارُ صُحْبَةِ مَنْ ثَبَتَتْ صُحْبَتُهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ صُحْبَةَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
__________
(1) الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي 46 - 49، وعلوم الحديث 264، الإصابة 1 / 17 و 18.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 377، وشرح الزرقاني 8 / 74، نهاية المحتاج 7 / 419، مطالب أولي النهى 6 / 287.

(26/315)


لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْله تَعَالَى: {إِذْ يَقُول لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (1) وَاخْتَلَفُوا فِي تَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ صُحْبَةَ غَيْرِهِ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، كَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ: عَلَى أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ صُحْبَةَ سَائِرِ الصَّحَابَةِ غَيْرِ أَبِي بَكْرٍ لاَ يَكْفُرُ بِهَذَا الإِْنْكَارِ. وَهُوَ مَفْهُومُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْل الْحَنَفِيَّةِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَكْفُرُ لِتَكْذِيبِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَلأَِنَّهُ يَعْرِفُهَا الْعَامُّ، وَالْخَاصُّ، وَانْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ، فَنَافِي صُحْبَةِ أَحَدِهِمْ، أَوْ كُلِّهِمْ مُكَذِّبٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .

سَبُّ الصَّحَابَةِ:
8 - مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ، أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَإِنْ نَسَبَ إِلَيْهِمْ مَا لاَ يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِمْ، أَوْ فِي دِينِهِمْ بِأَنْ يَصِفَ بَعْضَهُمْ بِبُخْلٍ، أَوْ جُبْنٍ، أَوْ قِلَّةِ عِلْمٍ، أَوْ عَدَمِ الزُّهْدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلاَ يَكْفُرُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَحِقُّ التَّأْدِيبَ.
أَمَّا إِنْ رَمَاهُمْ بِمَا يَقْدَحُ فِي دِينِهِمْ أَوْ عَدَالَتِهِمْ كَقَذْفِهِمْ: فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ قَذَفَ الصِّدِّيقَةَ بِنْتَ الصِّدِّيقِ: عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) سورة التوبة / 40.
(2) أسنى المطالب 4 / 118، وحاشية الدسوقي 4 / 303، وكشاف القناع 6 / 172.

(26/316)


بِمَا بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ، لأَِنَّهُ مُكَذِّبٌ لِنَصِّ الْقُرْآنِ.
أَمَّا بَقِيَّةُ الصَّحَابَةِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي تَكْفِيرِ مَنْ سَبَّهُمْ، فَقَال الْجُمْهُورُ: لاَ يَكْفُرُ بِسَبِّ أَحَدِ الصَّحَابَةِ، وَلَوْ عَائِشَةَ بِغَيْرِ مَا بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ (1) وَيَكْفُرُ بِتَكْفِيرِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ أَوِ الْقَوْل بِأَنَّ الصَّحَابَةَ ارْتَدُّوا جَمِيعًا بَعْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَنَّهُمْ فَسَقَوْا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ تَكْذِيبٌ لِمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الرِّضَا عَنْهُمْ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ: أَنَّ نَقَلَةَ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ كُفَّارٌ، أَوْ فَسَقَةٌ، وَأَنَّ هَذِهِ الأُْمَّةَ الَّتِي هِيَ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ، وَخَيْرُهَا الْقَرْنُ الأَْوَّل كَانَ عَامَّتُهُمْ كُفَّارًا، أَوْ فُسَّاقًا، وَمَضْمُونُ هَذَا: أَنَّ هَذِهِ الأُْمَّةَ شَرُّ الأُْمَمِ، وَأَنَّ سَابِقِيهَا هُمْ أَشْرَارُهَا، وَكُفْرُ مَنْ يَقُول هَذَا مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ (2) .
وَجَاءَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: يَجِبُ إِكْفَارُ مَنْ كَفَّرَ عُثْمَانَ، أَوْ عَلِيًّا، أَوْ طَلْحَةَ، أَوْ عَائِشَةَ، وَكَذَا مَنْ يَسُبُّ الشَّيْخَيْنِ أَوْ يَلْعَنُهُمَا (3) .
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 419، شرح الزرقاني 8 / 74، فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 6 / 318، 319.
(2) مطالب أولي النهى 6 / 282.
(3) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 6 / 318 - 319، مطالب أولي النهى 6 / 287.

(26/316)


صِحَّةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الصِّحَّةُ فِي اللُّغَةِ: وَالصُّحُّ وَالصِّحَاحُ ضِدُّ السَّقَمِ، وَهِيَ أَيْضًا: ذَهَابُ الْمَرَضِ. وَالصِّحَّةُ فِي الْبَدَنِ: حَالَةٌ طَبِيعِيَّةٌ تَجْرِي أَفْعَالُهُ مَعَهَا عَلَى الْمَجْرَى الطَّبِيعِيِّ، وَقَدِ اسْتُعِيرَتِ الصِّحَّةُ لِلْمَعَانِي فَقِيل: صَحَّتِ الصَّلاَةُ إِذَا أَسْقَطَتِ الْقَضَاءَ، وَصَحَّ الْعَقْدُ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ، وَصَحَّ الْقَوْل إِذَا طَابَقَ الْوَاقِعَ، وَالصَّحِيحُ الْحَقُّ: وَهُوَ خِلاَفُ الْبَاطِل (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الصِّحَّةُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ مِنْ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْوَضْعِيِّ (ر: مُصْطَلَحُ حُكْمٌ ف 4) .
وَاخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ فِي تَعْرِيفِ الصِّحَّةِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الصِّحَّةَ عِبَارَةٌ عَمَّا وَافَقَ الشَّرْعَ وَجَبَ الْقَضَاءُ أَوْ لَمْ يَجِبْ، وَيَشْمَل عِنْدَهُمُ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُودَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الصِّحَّةَ فِي الْعِبَادَاتِ: انْدِفَاعُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ.
__________
(1) المصباح المنير والصحاح ولسان العرب مادة (صحح) .

(26/317)


فَفِي تَعْرِيفِ الْحَنَفِيَّةِ زِيَادَةُ قَيْدٍ، إِذْ هِيَ عِنْدَهُمْ: مُوَافَقَةُ أَمْرِ الشَّارِعِ عَلَى وَجْهٍ يَنْدَفِعُ بِهِ الْقَضَاءُ.
وَفِي الْمُعَامَلاَتِ تَرَتُّبُ أَثَرِهَا وَهُوَ مَا شُرِعَتْ مِنْ أَجْلِهِ، كَحِل الاِنْتِفَاعِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، وَالاِسْتِمْتَاعِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ.
وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلاَفِ بَيْنَ التَّعْرِيفَيْنِ فِيمَنْ صَلَّى ظَانًّا أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مُحْدِثٌ، فَتَكُونُ صَلاَتُهُ صَحِيحَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لأَِنَّهُ وَافَقَ الأَْمْرَ الْمُتَوَجَّهَ عَلَيْهِ فِي الْحَال، وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَوُجُوبُهُ بِأَمْرٍ مُتَجَدِّدٍ، فَلاَ يُشْتَقُّ مِنْهُ اسْمُ الصِّحَّةِ وَتَكُونُ هَذِهِ الصَّلاَةُ غَيْرَ صَحِيحَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِعَدَمِ انْدِفَاعِ الْقَضَاءِ.
وَوَجْهُ قَوْلِهِمْ إِنَّ الصِّحَّةَ لاَ تَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِتَحْقِيقِ الْمَقْصُودِ الدُّنْيَوِيِّ مِنَ التَّكْلِيفِ وَهُوَ فِي الْعِبَادَاتِ تَفْرِيغُ الذِّمَّةِ، وَفِي الْمُعَامَلاَتِ بِتَحْقِيقِ الأَْغْرَاضِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْعُقُودِ، وَالْفُسُوخِ، كَمِلْكِ الرَّقَبَةِ فِي الْبَيْعِ، وَمِلْكِ الْمُتْعَةِ فِي النِّكَاحِ، وَمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ فِي الإِْجَارَةِ، وَالْبَيْنُونَةِ فِي الطَّلاَقِ.
وَمَا لَمْ يُوصَل إِلَى الْمَقَاصِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ يُسَمَّى بُطْلاَنًا وَفَسَادًا.
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ: الصَّحِيحُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ مَا اجْتَمَعَ أَرْكَانُهُ وَشَرَائِطُهُ حَتَّى يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ (1)
__________
(1) المستصفى 1 / 94 - 95، مسلم الثبوت (مع المستصفى) 1 / 120 - 121، تيسير التحرير 2 / 234 - 235، جمع الجوامع بحاشية العطار 1 / 140 - 142، التلويح على التوضيح 2 / 122 - 123، التعريفات 132.

(26/317)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْجْزَاءُ:
2 - الإِْجْزَاءُ لُغَةً الْكِفَايَةُ وَالإِْغْنَاءُ.
وَاصْطِلاَحًا: مُوَافَقَةُ أَمْرِ الشَّارِعِ بِأَنْ يَكُونَ الْفِعْل مُسْتَجْمِعًا مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مِنَ الشُّرُوطِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَنْدَفِعَ بِفِعْلِهِ الْقَضَاءُ، فَالصِّحَّةُ وَالإِْجْزَاءُ مُتَرَادِفَانِ فِي الاِسْتِعْمَال، إِلاَّ أَنَّ الإِْجْزَاءَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الصِّحَّةِ (1) . وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِجْزَاءٌ ف 1، 2)

ب - الْبُطْلاَنُ:
3 - الْبُطْلاَنُ لُغَةً الضَّيَاعُ وَالْخُسْرَانُ.
وَاصْطِلاَحًا: يَخْتَلِفُ تَعْرِيفُ الْبُطْلاَنِ تَبَعًا لِلْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ. فَالْبُطْلاَنُ فِي الْعِبَادَاتِ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْعِبَادَةِ حَتَّى كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، كَمَا لَوْ صَلَّى مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ. وَالْبُطْلاَنُ فِي الْمُعَامَلاَتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ تَقَعَ الْمُعَامَلَةُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ بِأَصْلِهِ وَلاَ بِوَصْفِهِ.
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ: الْبُطْلاَنُ هُوَ الْفَسَادُ بِمَعْنَى أَنْ تَقَعَ الْمُعَامَلَةُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ
__________
(1) تيسير التحرير 2 / 235.

(26/318)


بِأَصْلِهِ أَوْ بِوَصْفِهِ أَوْ بِهِمَا. (ر: مُصْطَلَحُ بُطْلاَنٌ ف 1) .

ج - الأَْدَاءُ:
4 - الأَْدَاءُ لُغَةً: الإِْيصَال.
وَاصْطِلاَحًا: فِعْل بَعْضِ - وَقِيل كُل - مَا دَخَل وَقْتُهُ قَبْل خُرُوجِهِ، وَاجِبًا كَانَ أَوْ مَنْدُوبًا

د - الْقَضَاءُ:
5 - الْقَضَاءُ لُغَةً: الأَْدَاءُ.
وَاصْطِلاَحًا: مَا فُعِل بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ أَدَائِهِ اسْتِدْرَاكًا لِمَا سَبَقَ لِفِعْلِهِ مُقْتَضٍ
(ر: مُصْطَلَحُ أَدَاءٌ ف 1)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ كُلٍّ مِنَ الأَْدَاءِ وَالْقَضَاءِ وَبَيْنَ الصِّحَّةِ، أَنَّهُمَا يَأْتِيَانِ وَصْفًا لِلصِّحَّةِ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّحَّةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
6 - أَهْلِيَّةُ الإِْنْسَانِ لأَِدَاءِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ تَتَعَلَّقُ بِقُدْرَتَيْنِ: قُدْرَةِ فَهْمِ الْخِطَابِ وَذَلِكَ بِالْعَقْل، وَقُدْرَةِ الْعَمَل بِهِ وَهِيَ بِالْبَدَنِ.
وَلَقَدِ اعْتُبِرَ الْمَرَضُ مِنْ عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ؛ لأَِنَّ لَهُ أَثَرًا فِي نَقْصِ التَّكْلِيفِ وَعَدَمِ تَمَامِهِ؛ لأَِنَّ الْمَرِيضَ يَتَرَخَّصُ بِرُخَصٍ كَثِيرَةٍ شُرِعَتْ لِلتَّخْفِيفِ عَنْهُ، كَمَا يَكُونُ الْمَرَضُ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال سَبَبًا لِلْحَجْرِ عَلَى الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ. (ر: أَهْلِيَّةٌ ف 9 وَف 13) .

(26/318)


فَإِذَا كَانَ الإِْنْسَانُ صَحِيحَ الْبَدَنِ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ التَّكْلِيفُ كَامِلاً لِتَحَقُّقِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ جُمْلَةً مِنَ الأَْحْكَامِ يُشْتَرَطُ فِيهَا صِحَّةُ الْبَدَنِ مِنْهَا:
(1) يُشْتَرَطُ فِي إِمَامِ الصَّلاَةِ إِذَا كَانَ يَؤُمُّ الأَْصِحَّاءَ أَنْ يَكُونَ سَالِمًا مِنَ الأَْعْذَارِ، كَسَلَسِ الْبَوْل، وَانْفِلاَتِ الرِّيحِ، وَالْجُرْحِ السَّائِل، وَالرُّعَافِ. (ر: إِمَامَةُ الصَّلاَةِ ف 10) .
(2) وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْجِهَادِ السَّلاَمَةُ مِنَ الضَّرَرِ، فَلاَ يَجِبُ الْجِهَادُ عَلَى الْعَاجِزِ غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ لأَِنَّ الْعَجْزَ يَنْفِي الْوُجُوبَ، وَالْمُسْتَطِيعُ: هُوَ الصَّحِيحُ فِي بَدَنِهِ مِنَ الْمَرَضِ. (ر: جِهَادٌ ف 21)
(3) وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَتَوَلَّى الإِْمَامَةَ الْكُبْرَى أَنْ يَكُونَ سَلِيمَ الْحَوَاسِّ وَالأَْعْضَاءِ مِمَّا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْحَرَكَةِ لِلنُّهُوضِ بِمَهَامِّ الإِْمَامَةِ.
(الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى ف 10)
(4) وَمِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ: الاِسْتِطَاعَةُ، وَمِنْهَا صِحَّةُ الْبَدَنِ، وَسَلاَمَتُهُ مِنَ الأَْمْرَاضِ وَالْعَاهَاتِ الَّتِي تَعُوقُ عَنِ الْحَجِّ. (ر: حَجٌّ ف 19) .

(26/319)


(5) لاَ تُشْتَرَطُ صِحَّةُ الْبَدَنِ فِي إِقَامَةِ حَدِّ الرَّجْمِ، أَوِ الْقِصَاصِ؛ لأَِنَّ نَفْسَهُ مُسْتَوْفَاةٌ فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَبَيْنَ الْمَرِيضِ.
أَمَّا الْجَلْدُ فَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ مِمَّا يُرْجَى بُرْؤُهُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى تَأْخِيرِ إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ التَّأْخِيرِ. أَمَّا إِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ، أَوْ كَانَ الْجَانِي ضَعِيفَ الْخِلْقَةِ لاَ يَحْتَمِل السِّيَاطَ، فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْحَال إِذْ لاَ غَايَةَ تُنْتَظَرُ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يُضْرَبَ ضَرْبًا يُؤْمَنُ مَعَهُ التَّلَفُ. (ر: حُدُودٌ ف 14) .
(6) لاَ يَجُوزُ لِلصَّحِيحِ أَنْ يَتَرَخَّصَ بِرُخَصِ الْمَرِيضِ؛ لأَِنَّهَا رُخْصَةٌ ثَبَتَتْ تَخْفِيفًا عَنِ الْمَرِيضِ لِعُذْرِ الْمَرَضِ فَتَقْتَصِرُ عَلَيْهِ. (ر: رُخْصَةٌ ف 15، 16) .

صِحَّةُ الْحَدِيثِ:
(7) عَرَّفَ الْمُحَدِّثُونَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ بِأَنَّهُ: مَا اتَّصَل سَنَدُهُ بِنَقْل الثِّقَةِ (وَهُوَ الْعَدْل الضَّابِطُ عَنْ مِثْلِهِ) مِنْ غَيْرِ شُذُوذٍ وَلاَ عِلَّةٍ. فَيَشْتَرِطُونَ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ خَمْسَةَ شُرُوطٍ:
الأَْوَّل: اتِّصَال السَّنَدِ، فَخَرَجَ الْحَدِيثُ الْمُنْقَطِعُ، وَالْمُعْضَل، وَالْمُعَلَّقُ، وَالْمُدَلَّسُ، وَالْمُرْسَل.
الثَّانِي: عَدَالَةُ الرُّوَاةِ. فَخَرَجَ بِهِ رِوَايَةُ مَجْهُول الْحَال، أَوِ الْعَيْنِ أَوِ الْمَعْرُوفِ بِالضَّعْفِ.

(26/319)


الثَّالِثُ: ضَبْطُ الرُّوَاةِ. وَخَرَجَ بِهِ الْمُغَفَّل كَثِيرُ الْخَطَأِ.
الرَّابِعُ: السَّلاَمَةُ مِنَ الشُّذُوذِ، وَخَرَجَ بِهِ الْحَدِيثُ الشَّاذُّ.
الْخَامِسُ: السَّلاَمَةُ مِنَ الْعِلَّةِ الْقَادِحَةِ، وَخَرَجَ بِهِ الْحَدِيثُ الْمُعَل.
وَخَالَفَ فِي هَذَا الْفُقَهَاءُ وَالأُْصُولِيُّونَ؛ فَمَدَارُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ عَلَى عَدَالَةِ الرُّوَاةِ. وَالْعَدَالَةُ عِنْدَهُمْ: هِيَ الْمُشْتَرَطَةُ فِي قَبُول الشَّهَادَةِ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْفِقْهِ. كَمَا كَانَ لَهُمْ نَظَرٌ فِي اشْتِرَاطِ السَّلاَمَةِ مِنَ الشُّذُوذِ وَالْعِلَّةِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعِلَل الَّتِي يُعَلِّل بِهَا الْمُحَدِّثُونَ الْحَدِيثَ، لاَ تَجْرِي عَلَى أُصُول الْفُقَهَاءِ.
مِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا أَثْبَتَ الرَّاوِي عَنْ شَيْخِهِ شَيْئًا فَنَفَاهُ مَنْ هُوَ أَحْفَظُ، أَوْ أَكْثَرُ عَدَدًا، أَوْ أَكْثَرُ مُلاَزَمَةً مِنْهُ. فَإِنَّ الأُْصُولِيِّينَ يُقَدِّمُونَ رِوَايَةَ الْمُثْبِتِ عَلَى النَّافِي وَيَقْبَلُونَ الْحَدِيثَ.
أَمَّا الْمُحَدِّثُونَ فَيُسَمُّونَهُ شَاذًّا؛ لأَِنَّ الشُّذُوذَ عِنْدَهُمْ: مَا يُخَالِفُ فِيهِ الرَّاوِي فِي رِوَايَتِهِ مَنْ هُوَ أَرْجَحُ مِنْهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ قَبِل

(26/320)


الْحَدِيثَ الْمُرْسَل، الَّذِي يَقُول فِيهِ التَّابِعِيُّ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا أَوْ فَعَل كَذَا. وَرَدَّ الْمُحَدِّثُونَ الْمُرْسَل لِلْجَهْل بِحَال الْمَحْذُوفِ، لأَِنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ صَحَابِيًّا، أَوْ تَابِعِيًّا، وَلاَ حُجَّةَ فِي الْمَجْهُول (1) .

صَحِيحٌ

انْظُرْ: صِحَّةٌ

صَدَاقٌ

انْظُرْ: مَهْرٌ
__________
(1) تدريب الراوي ص22، 23، الاقتراح في بيان الاصطلاح ص152 - 155، المستصفى 1 / 155 - 168، 169، تيسير التحرير 3 / 39 وما بعدها وص102، شرح ألفية العراقي (التبصرة والتذكرة) 1 / 12 - 14.

(26/320)


صَدَاقَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّدَاقَةُ فِي اللُّغَةِ: مُشْتَقَّةٌ مِنَ الصِّدْقِ فِي الْوُدِّ وَالنُّصْحِ، يُقَال: صَادَقْتُهُ مُصَادَقَةً وَصَدَاقًا، وَالاِسْمُ الصَّدَاقَةُ أَيْ: خَالَلْتُهُ (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: اتِّفَاقُ الضَّمَائِرِ عَلَى الْمَوَدَّةِ، فَإِذَا أَضْمَرَ كُل وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلَيْنِ مَوَدَّةَ صَاحِبِهِ فَصَارَ بَاطِنُهُ فِيهَا كَظَاهِرِهِ سُمِّيَا صَدِيقَيْنِ (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصُّحْبَةُ:
2 - الصُّحْبَةُ هِيَ فِي اللُّغَةِ: الْعِشْرَةُ الطَّوِيلَةُ

ب - الرُّفْقَةُ:
3 - الرُّفْقَةُ هِيَ: الصُّحْبَةُ فِي السَّفَرِ خَاصَّةً (3)
__________
(1) لسان العرب، تفسير الماوردي في تفسير آية 61 من سورة النور في قوله تعالى: (أو صديقكم) ، الفروق اللغوية لأبي هلال.
(2) الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري.
(3) لسان العرب.

(26/321)


الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصَّدَاقَةِ:
التَّرْغِيبُ فِي الصَّدَاقَةِ:
4 - رَغَّبَتِ الشَّرِيعَةُ فِي الصَّدَاقَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَعَبَّرَتْ عَنْهَا فِي الْغَالِبِ بِالأُْخُوَّةِ فِي اللَّهِ (1)
قَال تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الأَْعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَْعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} (2) .
وَجَاءَ فِي الأَْثَرِ: الْمَرْءُ كَثِيرٌ بِأَخِيهِ (3)
الأَْكْل فِي بَيْتِ الصَّدِيقِ:
5 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّ لِلصَّدِيقِ الأَْكْل فِي بَيْتِ صَدِيقِهِ وَبُسْتَانِهِ، وَنَحْوِهِمَا فِي حَال غَيْبَتِهِ، إِذَا عَلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لاَ يَكْرَهُ ذَلِكَ مِنْهُ (4) .
وَقَال الزَّمَخْشَرِيُّ: يُحْكَى عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّهُ دَخَل دَارَهُ فَإِذَا فِيهَا حَلْقَةٌ مِنْ أَصْدِقَائِهِ، وَقَدِ اسْتَلُّوا سِلاَلاً مِنْ تَحْتِ سَرِيرِهِ فِيهَا أَطَايِبُ الأَْطْعِمَةِ، وَهُمْ مُكِبُّونَ عَلَيْهَا
__________
(1) تفسير الماوردي في تفسير الآية 61 من سورة النور، وتفسير القاسمي عند تفسير الآية نفسها
(2) سورة النور / 61.
(3) حديث: " المرء كثير بأخيه " أخرجه ابن عدي في الكامل (3 / 1099 - ط الفكر) ، واتهم أحد رواته بالوضع.
(4) روضة الطالبين 7 / 338.

(26/321)


يَأْكُلُونَ مِنْهَا، فَتَهَلَّلَتْ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ سُرُورًا، وَضَحِكَ يَقُول: هَكَذَا وَجَدْنَاهُمْ، يُرِيدُ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ لَقِيَهُمْ مِنَ الْبَدْرِيِّينَ وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: فِي جَوَازِ ذَلِكَ قَوْلاَنِ لِلْعُلَمَاءِ (1) :.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّدِيقَ يَأْكُل مِنْ مَنْزِل صَدِيقِهِ فِي الْوَلِيمَةِ بِلاَ دَعْوَةٍ دُونَ غَيْرِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَأْكُل فِي الْوَلِيمَةِ وَغَيْرِهَا، إِذَا كَانَ الطَّعَامُ حَاضِرًا غَيْرَ مُحْرَزٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي نَسْخِ مَا تَقَدَّمَ بَعْدَ ثُبُوتِ حُكْمِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى ثُبُوتِهِ لَمْ يُنْسَخْ شَيْءٌ مِنْهُ، وَبِهِ قَال قَتَادَةَ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ (2) بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} الآْيَةَ (3) ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ (4) وَجَاءَ فِي
__________
(1) تفسير الماوردي في تفسير الآية 61 من سورة النور، تفسير القاسمي، تفسير الخازن.
(2) تفسير الماوردي في آية: (ليس على الأعمى حرج) . . إلخ من سورة النور / 61.
(3) سورة النور / 27.
(4) حديث: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه " أخرجه الدارقطني (3 / 26 - ذ. دار المحاسن) من حديث أنس بن مالك، وفي إسناده جهالة، لكن أورد له ابن حجر شواهد تقويه في التلخيص (3 / 45 - 46 ط. شركة الطباعة الفنية) .

(26/322)


تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} (1) أَنَّهُ إِذَا دَل ظَاهِرُ الْحَال عَلَى رِضَا الْمَالِكِ قَامَ ذَلِكَ مَقَامَ الإِْذْنِ الصَّرِيحِ (2) .

شَهَادَةُ الصَّدِيقِ لِصَدِيقِهِ:
6 - تُقْبَل شَهَادَةُ الصَّدِيقِ لِصَدِيقِهِ فِي قَوْل عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: يُشْتَرَطُ لِقَبُول شَهَادَةِ الصَّدِيقِ لِصَدِيقِهِ: أَلاَّ تَكُونَ الصَّدَاقَةُ بَيْنَهُمَا مُتَنَاهِيَةً، بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي مَال الآْخَرِ، وَأَنْ يَبْرُزَ فِي الْعَدَالَةِ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: اشْتِرَاطَ أَلاَّ يَكُونَ فِي عِيَالِهِ، يَأْكُل مَعَهُمْ وَيَسْكُنُ عِنْدَهُمْ كَأَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِهِمْ (3)
(ر: مُصْطَلَحُ شَهَادَةٌ) .
__________
(1) سورة النور / 61.
(2) تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل في تفسير (أو صديقكم) الآية 61 من سورة النور.
(3) ابن عابدين 4 / 376، المغني 9 / 194، حاشية الدسوقي 4 / 169، نهاية المحتاج 8 / 304، القليوبي 4 / 322.

(26/322)


صَدَقَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّدَقَةُ بِفَتْحِ الدَّال لُغَةً: مَا يُعْطَى عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لاَ عَلَى وَجْهِ الْمَكْرُمَةِ (1) .
وَيَشْمَل هَذَا الْمَعْنَى الزَّكَاةَ وَصَدَقَةَ التَّطَوُّعِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ تُسْتَعْمَل بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الشَّامِل، فَيُقَال لِلزَّكَاةِ: صَدَقَةٌ، كَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآْيَةَ (2) .
وَيُقَال لِلتَّطَوُّعِ: صَدَقَةٌ كَمَا وَرَدَ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ وَتَحِل لِغَنِيٍّ، أَيْ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ (3)
يَقُول الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: الصَّدَقَةُ: مَا يُخْرِجُهُ الإِْنْسَانُ مِنْ مَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ
__________
(1) المعجم الوسيط في اللغة مادة (صدق) ، وهذا معنى ما قيل: إنها ما أعطيته في ذات الله، كما ورد في لسان العرب وتاج العروس، ومتن اللغة - مادة (صدق) .
(2) سورة التوبة الآية (60) .
(3) مغني المحتاج 3 / 120، والمغني لابن قدامة 5 / 649.

(26/323)


كَالزَّكَاةِ. لَكِنَّ الصَّدَقَةَ فِي الأَْصْل تُقَال: لِلْمُتَطَوَّعِ بِهِ، وَالزَّكَاةُ تُقَال: لِلْوَاجِبِ (1)
وَالْغَالِبُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: اسْتِعْمَال هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ خَاصَّةً.
يَقُول الشِّرْبِينِيُّ: صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ هِيَ الْمُرَادَةُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ غَالِبًا (2) وَيُفْهَمُ هَذَا مِنْ كَلاَمِ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا، يَقُول الْحَطَّابُ: الْهِبَةُ إِنْ تَمَحَّضَتْ لِثَوَابِ الآْخِرَةِ فَهِيَ الصَّدَقَةُ (3) ، وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ الْبَعْلِيُّ الْحَنْبَلِيُّ فِي الْمُطْلِعِ عَلَى أَبْوَابِ الْمُقْنِعِ (4) .
وَفِي وَجْهِ تَسْمِيَتِهَا صَدَقَةً يَقُول الْقَلْيُوبِيُّ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لإِِشْعَارِهَا بِصِدْقِ نِيَّةِ بَاذِلِهَا (5) ، وَهَذَا الْمَعْنَى الأَْخِيرُ أَيْ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْبَحْثِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ.
2 - وَقَدْ تُطْلَقُ الصَّدَقَةُ عَلَى الْوَقْفِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ: أَنَّ عُمَرَ تَصَدَّقَ بِمَالٍ لَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ يُقَال لَهُ: ثَمْغٌ. . . فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ، لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ، وَلاَ
__________
(1) المفردات للأصفهاني، وتاج العروس مادة (صدق) .
(2) مغني المحتاج 3 / 120.
(3) مواهب الجليل للحطاب 6 / 49.
(4) المطلع ص291.
(5) القليوبي على شرح المنهاج 3 / 195.

(26/323)


يُورَثُ، وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ (1) .
3 - وَقَدْ تُطْلَقُ الصَّدَقَةُ: عَلَى كُل نَوْعٍ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْهِبَةُ، الْهَدِيَّةُ، الْعَطِيَّةُ:
4 - الْهِبَةُ، وَالْهَدِيَّةُ، وَالْعَطِيَّةُ، كُلٌّ مِنْهَا تَمْلِيكٌ بِلاَ عِوَضٍ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا كَانَ هَذَا التَّمْلِيكُ لِثَوَابِ الآْخِرَةِ فَصَدَقَةٌ، وَإِذَا كَانَ لِلْمُوَاصَلَةِ وَالْوِدَادِ فَهِبَةٌ، وَإِنْ قُصِدَ بِهِ الإِْكْرَامُ فَهَدِيَّةٌ. فَكُل وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ قَسِيمٌ لِلآْخَرِ. وَالْعَطِيَّةُ شَامِلَةٌ لِلْجَمِيعِ (3) .

ب - الْعَارِيَّةُ:
5 - الْعَارِيَّةُ: إِبَاحَةٌ أَوْ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةِ عَيْنٍ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ لِصَاحِبِهَا بِشُرُوطٍ مَخْصُوصَةٍ (4) .
__________
(1) حديث ابن عمر: " تصدق بأصله، لا يباع ولا يوهب ولا يورث ". أخرجه البخاري: (الفتح 5 / 392 - ط. السلفية) .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 7 / 91 وحديث: " كل معروف صدقة ". أخرجه البخاري: (الفتح 10 / 447 - ط. السلفية) من حديث جابر بن عبد الله وأخرجه مسلم (2 / 697 - ط. الحلبي) من حديث حذيفة.
(3) البدائع 6 / 116، وحاشية العدوي 2 / 233، ومنتهى الإرادات 2 / 518، والقليوبي 3 / 110، 111، والمغني لابن قدامة 5 / 649، والمطلع على أبواب المقنع ص291.
(4) ابن عابدين 4 / 502، والشرح الصغير للدردير 3 / 570، والزرقاني 6 / 126، وشرح المنهاج وحواشيه، 5 / 115، والمغني لابن قدامة 5 / 220.

(26/324)


وَعَلَى هَذَا فَكُلٌّ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالْعَارِيَّةِ تَبَرُّعٌ لَكِنَّ الصَّدَقَةَ تَمْلِيكُ عَيْنٍ، وَالْعَارِيَّةَ إِبَاحَةٌ أَوْ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَالصَّدَقَةُ يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ فِيهَا. كَمَا سَيَأْتِي. وَالْعَارِيَّةُ لاَ بُدَّ فِيهَا مِنْ رَدِّ الْعَيْنِ لِمَالِكِهَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ مَنَافِعِهَا، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي مُصْطَلَحِ: (إِعَارَةٌ) (1) .

حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الصَّدَقَةِ وَفَضْلِهَا:
6 - إِنَّ أَدَاءَ الصَّدَقَةِ مِنْ بَابِ إِعَانَةِ الضَّعِيفِ، وَإِغَاثَةِ اللَّهِيفِ، وَإِقْدَارِ الْعَاجِزِ، وَتَقْوِيَتِهِ عَلَى أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَاتِ.
وَالصَّدَقَةُ شُكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ، وَهِيَ دَلِيلٌ لِصِحَّةِ إِيمَانِ مُؤَدِّيهَا وَتَصْدِيقِهِ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ صَدَقَةً (2) .
وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْل الصَّدَقَةِ أَحَادِيثُ مِنْهَا:
1 - مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِل إِلاَّ ظِلُّهُ. . . فَذَكَرَ مِنْهُمْ: رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ (3) .
__________
(1) الموسوعة الفقهية ج5 / 181.
(2) بدائع الصنائع للكاساني 2 / 3، وفتح القدير 2 / 153، وشرح الترمذي لابن العربي 3 / 90، الفروع لابن مفلح 2 / 288.
(3) حديث: " سبعة يظلهم الله في ظله. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 143 - ط السلفية) .

(26/324)


2 - مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ وَلاَ يَقْبَل اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ، إِلاَّ أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً تَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَل كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ (1) .

أَقْسَامُ الصَّدَقَةِ:

7 - الصَّدَقَةُ أَنْوَاعٌ:
أ - صَدَقَةٌ مَفْرُوضَةٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ عَلَى الأَْمْوَال، وَهِيَ زَكَاةُ الْمَال، وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ) .
ب - صَدَقَةٌ عَلَى الأَْبْدَانِ، وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةُ الْفِطْرِ) .
ج - صَدَقَةٌ يَفْرِضُهَا الشَّخْصُ عَلَى نَفْسِهِ، وَهِيَ الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ بِالنَّذْرِ، وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي (نَذْرٌ) .
د - الصَّدَقَاتُ الْمَفْرُوضَةُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، كَالْفِدْيَةِ، وَالْكَفَّارَةِ، وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (فِدْيَةٌ وَكَفَّارَةٌ) .
هـ - صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، وَنُبَيِّنُ أَحْكَامَهَا فِيمَا يَلِي:
__________
(1) حديث: " ما تصدق أحد بصدقة من طيب. . . " أخرجه الترمذي (3 / 40 - ط الحلبي) وأصله في البخاري (الفتح 3 / 278 - ط السلفية) ومسلم (2 / 702 - ط الحلبي) .

(26/325)


الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
8 - الصَّدَقَةُ مَسْنُونَةٌ، وَرَدَ النَّدْبُ إِلَيْهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الأَْحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الشَّرِيفَةِ.
أَمَّا مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (1) .
يَقُول ابْنُ الْعَرَبِيِّ: جَاءَ هَذَا الْكَلاَمُ فِي مَعْرِضِ النَّدْبِ وَالتَّحْضِيضِ عَلَى إِنْفَاقِ الْمَال فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ، وَفِي سَبِيل اللَّهِ بِنُصْرَةِ الدِّينِ (2) . وقَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَِنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} (3) .
وَأَمَّا مِنَ الأَْحَادِيثِ فَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ أَبَا الدَّحْدَاحِ لَمَّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَال: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَلاَ أَرَى رَبَّنَا يَسْتَقْرِضُ مِمَّا أَعْطَانَا لأَِنْفُسِنَا، وَلِي أَرْضَانِ: أَرْضٌ بِالْعَالِيَةِ وَأَرْضٌ بِالسَّافِلَةِ، وَقَدْ جَعَلْتُ خَيْرَهُمَا صَدَقَةً. فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمْ عِذْقٍ (4) مُذَلَّلٍ لأَِبِي الدَّحْدَاحِ فِي
__________
(1) سورة البقرة الآية (245) .
(2) أحكام القرآن 1 / 230.
(3) سورة المزمل الآية (20) .
(4) العذق بالفتح النخلة، وبالكسر العرجون بما فيه من الشماريخ.

(26/325)


الْجَنَّةِ (1) وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَطْعَمَ مُؤْمِنًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَقَى مُؤْمِنًا عَلَى ظَمَأٍ سَقَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ كَسَا مُؤْمِنًا عَلَى عُرْيٍ، كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ (2) .
قَال النَّوَوِيُّ: الصَّدَقَةُ مُسْتَحَبَّةٌ، وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ آكَدُ، وَكَذَا عِنْدَ الأُْمُورِ الْمُهِمَّةِ، وَعِنْدَ الْكُسُوفِ، وَعِنْدَ الْمَرَضِ، وَالسَّفَرِ، وَبِمَكَّةَ، وَالْمَدِينَةِ، وَفِي الْغَزْوِ وَالْحَجِّ، وَالأَْوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ، كَعَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَيَّامِ الْعِيدِ، وَمِثْل ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْبُهُوتِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ (3) .

مَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّدَقَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
9 - الْكَلاَمُ عَنِ الصَّدَقَةِ يَسْتَوْجِبُ التَّطَرُّقَ لِلأُْمُورِ التَّالِيَةِ:
(1) - الْمُتَصَدِّقُ: وَهُوَ، مَنْ يَدْفَعُ الصَّدَقَةَ
__________
(1) حديث عبد الله بن مسعود: في قصة أبي الدحداح. أخرجه القرطبي بإسناده في " الجامع لأحكام القرآن " (3 / 237 - 238 - ط. دار الكتب المصرية) .
(2) حديث: " أيما مؤمن أطعم مؤمنًا على جوع. . . . " أخرجه الترمذي (4 / 633 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري، وقال: " هذا حديث غريب، وقد روي هذا عن عطية، عن أبي سعيد مرفوعًا، وهو أصح عندنا وأشبه ".
(3) روضة الطالبين 2 / 341، المجموع 6 / 237، والمبسوط للسرخسي 12 / 92، والمغني لابن قدامة 3 / 82، وكشاف القناع 2 / 295، ط. بيروت.

(26/326)


وَيُخْرِجُهَا مِنْ مَالِهِ
(2) - الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ. وَهُوَ مَنْ يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ مِنَ الْغَيْرِ.
(3) - الْمُتَصَدَّقُ بِهِ: وَهُوَ الْمَال الَّذِي يُتَطَوَّعُ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ.
(4) - النِّيَّةُ: وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلاً: الْمُتَصَدِّقُ:
10 - صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ: تَبَرُّعٌ، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا:
أ - أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَدِّقُ مِنْ أَهْل التَّبَرُّعِ، أَيْ: عَاقِلاً بَالِغًا رَشِيدًا، ذَا وِلاَيَةٍ فِي التَّصَرُّفِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ تَصِحُّ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ مِنَ الصَّغِيرِ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَسْبَابِ الْحَجْرِ، أَمَّا الصَّغِيرُ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ (1) فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل التَّصَرُّفِ أَصْلاً، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ وَالأُْصُولِيُّونَ (2) .
__________
(1) الصبي المميز عند الفقهاء: هو الذي يفرق بين الخير والشر، ويدرك نتائج تصرفه، وقد حدده الفقهاء حسب الأغلبية أن يكون عمره سبع سنين فما فوق، والصبي غير المميز: هو من لا يدرك نتائج تصرفه، فلم يبلغ السابع من عمره. (ابن عابدين 5 / 421، جواهر الإكليل 1 / 22، ومجلة الأحكام العدلية م (943)
(2) مجلة الأحكام العدلية: م (957، 966) ، والمنثور للزركشي 2 / 301، والتوضيح والتلويح 3 / 159، والفواكه الدواني 2 / 216.

(26/326)


وَأَمَّا الصَّغِيرُ الْمُمَيِّزُ: فَإِنَّ الصَّدَقَةَ مِنْهُ تُعْتَبَرُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ ضَرَرًا مَحْضًا، وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةَ ضَرَرًا دُنْيَوِيًّا، وَالَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ مُقَابِلٍ، كَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْوَقْفِ، وَسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ لاَ تَصِحُّ، بَل تَقَعُ بَاطِلَةً، حَتَّى لَوْ أَذِنَ الْوَلِيُّ أَوِ الْوَصِيُّ؛ لأَِنَّ إِجَازَتَهُمَا فِي التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ لاَغِيَةٌ، وَقَدِ اسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَصِيَّةَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ الَّذِي يَعْقِل الْوَصِيَّةَ (1) .
وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِمْ لِلسَّفَهِ، أَوِ الإِْفْلاَسِ، أَوْ غَيْرِهِمَا فَهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنَ التَّصَرُّفِ فَلاَ تَصِحُّ مِنْهُمُ الصَّدَقَةُ (2) وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (حَجْرٌ)
وَكَمَا لاَ تَصِحُّ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ مِنَ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، لاَ تَصِحُّ الصَّدَقَةُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مِنْ قِبَل أَوْلِيَائِهِمْ نِيَابَةً عَنْهُمْ، لأَِنَّهُمْ لاَ يَمْلِكُونَ التَّبَرُّعَ مِنْ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 508، 5 / 110، ومجلة الأحكام العدلية م / 967، والتوضيح مع التلويح 3 / 159، والمنثور للزركشي 2 / 301، والمغني لابن قدامة 5 / 663، وجواهر الإكليل 2 / 97، 98 وشرح منتهى الإرادات 2 / 539، والخرشي 8 / 167.
(2) ابن عابدين 5 / 89 - 92، ومجلة الأحكام العدلية م (998) والمغني لابن قدامة 5 / 663، و4 / 520، وجواهر الإكليل 2 / 97، 98.

(26/327)


أَمْوَال مَنْ تَحْتَ وِلاَيَتِهِمْ (1)
ب - أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلْمَال الْمُتَصَدَّقِ بِهِ، أَوْ وَكِيلاً عَنْهُ، فَلاَ تَصِحُّ الصَّدَقَةُ مِنْ مَال الْغَيْرِ بِلاَ وَكَالَةٍ. وَمَنْ فَعَل ذَلِكَ يَضْمَنُ مَا تَصَدَّقَ بِهِ؛ لأَِنَّهُ ضَيَّعَ مَال الْغَيْرِ عَلَى صَاحِبِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، يَقُول التُّمُرْتَاشِيُّ: شَرَائِطُ صِحَّةِ الْهِبَةِ فِي الْوَاهِبِ: الْعَقْل، وَالْبُلُوغُ، وَالْمِلْكُ (2) . ثُمَّ قَال: وَالصَّدَقَةُ كَالْهِبَةِ بِجَامِعِ التَّبَرُّعِ (3)
وَلأَِنَّ الصَّدَقَةَ مِنَ الْقُرُبَاتِ فَتُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ فِيمَا إِذَا تَصَدَّقَ مِنْ مَال الْغَيْرِ دُونَ إِذْنِهِ.

صَدَقَةُ الْمَرْأَةِ مِنْ مَال زَوْجِهَا:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا لِلسَّائِل وَغَيْرِهِ بِمَا أَذِنَ الزَّوْجُ صَرِيحًا. كَمَا يَجُوزُ التَّصَدُّقُ مِنْ مَال الزَّوْجِ بِمَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ إِذَا كَانَ يَسِيرًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) (4) .
وَيَسْتَدِل الْفُقَهَاءُ عَلَى الْجَوَازِ بِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَال رَسُول
__________
(1) التوضيح والتلويح 3 / 159، 160.
(2) الدر المختار بهامش ابن عابدين 4 / 508.
(3) نفس المرجع 4 / 522، وانظر المغني 4 / 516.
(4) الهداية في فتح القدير 7 / 341، وشرح الترمذي لابن العربي 3 / 177، 178، وشرح النووي على صحيح مسلم 7 / 112، والمغني 4 / 516.

(26/327)


اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا وَلَهُ مِثْلُهُ بِمَا اكْتَسَبَ، وَلَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِلْخَازِنِ مِثْل ذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا (1) وَلَمْ يَذْكُرْ إِذْنًا.
وَعَنْ أَسْمَاءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا جَاءَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَيْسَ لِي شَيْءٌ إِلاَّ مَا أَدْخَل عَلَيَّ الزُّبَيْرُ فَهَل عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أَرْضَخَ (2) مِمَّا يُدْخِل عَلَيَّ؟ فَقَال: ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ، وَلاَ تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكَ (3) .
وَلأَِنَّ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْهُ فِي الْعَادَةِ كَمَا عَلَّلَهُ الْمَرْغِينَانِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ (4) .
قَال فِي الْهِدَايَةِ: يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ مِنْ مَنْزِل زَوْجِهَا بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ، كَالرَّغِيفِ وَنَحْوِهِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْهُ فِي الْعَادَةِ (5) وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْحَصْكَفِيُّ (6)
وَيَقُول النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِصَحِيحِ
__________
(1) حديث: " إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها. . . " أخرجه مسلم (2 / 710 - ط. الحلبي) .
(2) الرضخ العطية القليلة، يقال: (رضخت له رضخا) أعطيته ليس بالكثير (المصباح المنير والمطلع على أبواب المقنع ص216) .
(3) حديث أسماء: ارضخي ما استطعت. أخرجه مسلم (2 / 714 - ط الحلبي) .
(4) نفس المراجع
(5) الهداية مع فتح القدير 7 / 341.
(6) الدر المختار بهامش ابن عابدين 5 / 103.

(26/328)


مُسْلِمٍ: الإِْذْنُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: الإِْذْنُ الصَّرِيحُ فِي النَّفَقَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَالثَّانِي: الإِْذْنُ الْمَفْهُومُ مِنَ اطِّرَادِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، كَإِعْطَاءِ السَّائِل كَعُمْرَةٍ وَنَحْوِهَا مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ، وَاطَّرَدَ الْعُرْفُ فِيهِ، وَعُلِمَ بِالْعُرْفِ رِضَا الزَّوْجِ وَالْمَالِكِ بِهِ، فَإِذْنُهُ فِي ذَلِكَ حَاصِلٌ وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ (1) .
وَمِثْلُهُ مَا حَرَّرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ حَيْثُ قَال: وَيَحْتَمِل عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَحْمُولاً عَلَى الْعَادَةِ. وَأَنَّهَا إِذَا عَلِمَتْ مِنْهُ، أَنَّهُ لاَ يَكْرَهُ الْعَطَاءَ وَالصَّدَقَةَ فَعَلَتْ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يُجْحِفْ، وَعَلَى ذَلِكَ عَادَةُ النَّاسِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَيْرَ مُفْسِدَةٍ (2)
وَيَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: الإِْذْنُ الْعُرْفِيُّ يَقُومُ مَقَامَ الإِْذْنِ الْحَقِيقِيِّ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَال لَهَا: افْعَلِي هَذَا (3)
وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ التَّصَدُّقُ مِنْ مَال زَوْجِهَا وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا، لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: لاَ تُنْفِقُ امْرَأَةٌ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا، قِيل: يَا رَسُول اللَّهِ: وَلاَ الطَّعَامَ؟ قَال: ذَاكَ
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 7 / 112.
(2) شرح الترمذي لابن العربي 3 / 177، 178.
(3) المغني لابن قدامة 4 / 516.

(26/328)


أَفْضَل أَمْوَالِنَا (1) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالأَْوَّل - أَيِ الْجَوَازُ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ - أَصَحُّ، لأَِنَّ الأَْحَادِيثَ فِيهَا خَاصَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ (2) .
أَمَّا إِذَا مَنَعَهَا مِنَ الصَّدَقَةِ مِنْ مَالِهِ، وَلَمْ يَكُنِ الْعُرْفُ جَارِيًا بِذَلِكَ، أَوِ اضْطَرَبَ الْعُرْفُ، أَوْ شَكَّتْ فِي رِضَاهُ، أَوْ كَانَ شَخْصًا يَشُحُّ بِذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ لِلْمَرْأَةِ وَغَيْرِهَا التَّصَدُّقُ مِنْ مَالِهِ إِلاَّ بِصَرِيحِ إِذْنِهِ، كَمَا حَقَّقَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ (3) .
12 - وَمَا ذُكِرَ مِنْ حُكْمِ تَصَدُّقِ الْمَرْأَةِ مِنْ مَال زَوْجِهَا يُطَبَّقُ عَلَى تَصَدُّقِ الْخَازِنِ مِنْ مَال الْمَالِكِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ: وَلِلْخَازِنِ مِثْل ذَلِكَ أَيْ: مِنَ الأَْجْرِ (4) ، أَيْ: إِنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْمَثُوبَةِ، كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ أَجْرٌ كَامِلٌ، كَمَا قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ، أَوْ مَعْنَاهُ الْمُشَارَكَةُ فِي الأَْجْرِ مُطْلَقًا، لأَِنَّ الْمُشَارِكَ فِي الطَّاعَةِ مُشَارِكٌ فِي الأَْجْرِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا
__________
(1) حديث: " لا تنفق المرأة شيئًا من بيتها. . . " أخرجه الترمذي (3 / 48 - 49 ط. الحلبي) وقال: " حديث حسن ".
(2) نفس المراجع.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 7 / 112، وابن عابدين 5 / 103، والمغني لابن قدامة 4 / 516.
(4) شرح الترمذي لابن العربي 3 / 177.

(26/329)


أَكْثَرَ مِنَ الآْخَرِ، كَمَا حَقَّقَهُ النَّوَوِيُّ (1) .

تَصَدُّقُ الزَّوْجَةِ مِنْ مَالِهَا بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْبَالِغَةَ الرَّشِيدَةَ لَهَا حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهَا، بِالتَّبَرُّعِ، أَوِ الْمُعَاوَضَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُتَزَوِّجَةً، أَمْ غَيْرَ مُتَزَوِّجَةٍ. وَعَلَى ذَلِكَ فَالزَّوْجَةُ لاَ تَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ زَوْجِهَا فِي التَّصَدُّقِ مِنْ مَالِهَا وَلَوْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ (2)
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال لِلنِّسَاءِ: تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ، فَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ (3) وَلَمْ يَسْأَل وَلَمْ يَسْتَفْصِل، فَلَوْ كَانَ لاَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُنَّ بِغَيْرِ إِذْنِ أَزْوَاجِهِنَّ لَمَا أَمَرَهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّدَقَةِ، وَلاَ مَحَالَةَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِنَّ مَنْ لَهَا زَوْجٌ وَمَنْ لاَ زَوْجَ لَهَا، كَمَا حَرَّرَهُ السُّبْكِيُّ (4) .
وَلأَِنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْل التَّصَرُّفِ، وَلاَ حَقَّ لِزَوْجِهَا فِي مَالِهَا، فَلَمْ يَمْلِكِ الْحَجْرَ عَلَيْهَا فِي التَّصَرُّفِ بِجَمِيعِهِ، كَمَا عَلَّلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ (5) .
__________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي 7 / 112، وشرح الترمذي لابن العربي 7 / 178.
(2) الاختيار 3 / 91، والمجموع (التكملة للسبكي) 12 / 272، والمغني لابن قدامة 4 / 513.
(3) حديث: " تصدقن ولو من حليكن. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 328 - ط السلفية) ومسلم (2 / 695 - ط. الحلبي) .
(4) تكلمة المجموع للسبكي 13 / 272، 273.
(5) المغني لابن قدامة 4 / 514.

(26/329)


وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يُحْجَرُ عَلَى الزَّوْجَةِ الْحُرَّةِ الرَّشِيدَةِ لِزَوْجِهَا الْبَالِغِ الرَّشِيدِ فِي تَبَرُّعٍ زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ أَنَّ امْرَأَةَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُلِيٍّ لَهَا، فَقَال لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ عَطِيَّةٌ حَتَّى يَأْذَنَ زَوْجُهَا، فَهَل اسْتَأْذَنْتِ كَعْبًا؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كَعْبٍ، فَقَال: هَل أَذِنْتَ لَهَا أَنْ تَتَصَدَّقَ بِحُلِيِّهَا؟ قَال: نَعَمْ. فَقَبِلَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) . وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ مَالِهَا التَّجَمُّل بِهِ لِزَوْجِهَا، وَالْمَال مَقْصُودٌ فِي زَوَاجِهَا، حَيْثُ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَِرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا (2)
وَالْعَادَةُ أَنَّ الزَّوْجَ يَزِيدُ فِي مَهْرِهَا مِنْ أَجْل مَالِهَا وَيَتَبَسَّطُ فِيهِ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ، فَتَعَلَّقَ حَقُّ الزَّوْجِ فِي مَالِهَا (3)
__________
(1) حديث: " أن امرأة كعب بن مالك أتت النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 798 - ط. الحلبي) والطحاوي في شرح المعاني (4 / 351 - ط مطبعة الأنوار المحمدية) وقال الطحاوي: " حديث شاذ لا يثبت "، ولكن ورد الحديث دون القصة المذكورة بلفظ: " لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها " أخرجه أبو داود (3 / 816 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبد الله بن عمرو، وإسناده حسن.
(2) حديث: " تنكح المرأة لأربع " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 132 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1086 - ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 308، وشرح الزرقاني 5 / 306، وجواهر الإكليل 2 / 102، والمغني لابن قدامة 4 / 513، 514.

(26/330)


وَمَحَل الْحَجْرِ عَلَيْهَا فِي تَبَرُّعِهَا بِزَائِدٍ عَنِ الثُّلُثِ مِنْ مَالِهَا إِذَا كَانَ التَّبَرُّعُ لِغَيْرِ زَوْجِهَا. وَأَمَّا لَهُ فَلَهَا أَنْ تَهَبَ جَمِيعَ مَالِهَا لَهُ، وَلاَ اعْتِرَاضَ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ لأَِحَدٍ (1) .
هَذَا، وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ مَالِهِ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ (ر: مَرَضُ الْمَوْتِ) .

ثَانِيًا: الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ:
14 - لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَصَدِّقِ، مِنَ الْعَقْل، وَالْبُلُوغِ، وَالرُّشْدِ، وَأَهْلِيَّةِ التَّبَرُّعِ، فَيَصِحُّ التَّصَدُّقُ عَلَى الصَّغِيرِ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، أَوْ إِفْلاَسٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، لأَِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِمْ نَفْعٌ مَحْضٌ لَهُمْ، فَلاَ تَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ الأَْوْلِيَاءِ (2) .
وَحَيْثُ إِنَّ الصَّدَقَةَ تَمْلِيكٌ بِلاَ عِوَضٍ لِثَوَابِ الآْخِرَةِ، فَهُنَاكَ أَشْخَاصٌ لاَ تَصِحُّ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ، وَآخَرُونَ تَصِحُّ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ هَذَا الْمَوْضُوعَ كَالتَّالِي:

أ - الصَّدَقَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
15 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 308.
(2) التوضيح مع التلويح 3 / 159، وابن عابدين 5 / 91، 110، ومجلة الأحكام العدلية م (967) والمغني لابن قدامة 5 / 660

(26/330)


الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْل صَدَقَةِ الْفَرِيضَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَى حُرْمَتِهَا، وَذَلِكَ صِيَانَةً لِمَنْصِبِهِ الشَّرِيفِ (1)
وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَل عَنْهُ، فَإِنْ قِيل: صَدَقَةٌ قَال لأَِصْحَابِهِ: كُلُوا، وَلَمْ يَأْكُل، وَإِنْ قِيل لَهُ: هَدِيَّةٌ ضَرَبَ بِيَدِهِ فَأَكَل مَعَهُمْ (2) .
وَعَلَى ذَلِكَ: فَالصَّدَقَةُ بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ أَبْدَل اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِهَا الْفَيْءَ الَّذِي يُؤْخَذُ عَلَى سَبِيل الْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ الْمَبْنِيِّ عَلَى عِزِّ الآْخِذِ، وَذُل الْمَأْخُوذِ مِنْهُ (3) .

ب - الصَّدَقَةُ عَلَى آل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ: عَلَى عَدَمِ جَوَازِ صَدَقَةِ الْفَرِيضَةِ عَلَى آل مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَنْبَغِي لآِل مُحَمَّدٍ، إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ (4) .
__________
(1) الدسوقي مع الشرح الكبير 2 / 212، وجواهر الإكليل 1 / 273، والحطاب 3 / 397، ومغني المحتاج 3 / 120، والمغني لابن قدامة 2 / 260.
(2) حديث أبي هريرة: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 203 - ط السلفية) ومسلم (2 / 756 - ط. الحلبي) .
(3) المغني 2 / 260، وعمدة القاري 3 / 135.
(4) حديث: " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد " أخرجه مسلم (2 / 753 - ط الحلبي) من حديث عبد المطلب بن ربيعة.

(26/331)


أَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِهَا عَلَيْهِمْ. وَالْبَعْضُ يَقُولُونَ: بِعَدَمِ الْجَوَازِ (1) وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (آلٌ 4 وَ 10)

ج - التَّصَدُّقُ عَلَى ذَوِي الْقَرَابَةِ وَالأَْزْوَاجِ:
17 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ التَّصَدُّقِ عَلَى الأَْقْرِبَاءِ، وَالأَْزْوَاجِ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، بَل صَرَّحَ بَعْضُهُمْ: بِأَنَّهُ يُسَنُّ التَّصَدُّقُ عَلَيْهِمْ، وَلَهُمْ أَخْذُهَا، وَلَوْ كَانُوا مِمَّنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى الْمُتَصَدِّقِ (2) ، فَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُل عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ (3) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ (4) .
قَال الشَّافِعِيَّةُ: دَفْعُ الصَّدَقَةِ لِقَرِيبِ أَقْرَبَ فَأَقْرَبَ رَحِمًا وَلَوْ كَانَ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ
__________
(1) الاختيار 1 / 122 وجواهر الإكليل 1 / 138 والمغني 2 / 655 - 656.
(2) فتح القدير مع الهداية (2 / 22، 23، ط. بولاق) ، والمجموع للنووي 6 / 238، والمغني لابن قدامة 2 / 659، وكشاف القناع 2 / 336.
(3) حديث: " إذا أنفق الرجل على أهله. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 136 ط. السلفية) .
(4) حديث: " الصدقة على المسكين صدقة " أخرجه الترمذي (3 / 38 - ط الحلبي) من حديث سلمان بن عامر، وقال: " حديث حسن ".

(26/331)


أَفْضَل مِنْ دَفْعِهَا لِغَيْرِ الْقَرِيبِ، وَلِلْقَرِيبِ غَيْرِ الأَْقْرَبِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ امْرَأَتَيْنِ أَتَيَتَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتَا لِبِلاَلٍ: سَل لَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَل يُجْزِئُ أَنْ نَتَصَدَّقَ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَيَتَامَى فِي حُجُورِنَا؟ فَقَال: نَعَمْ لَهُمَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ (1) .
هَذَا وَقَدْ رَتَّبَ الشَّافِعِيَّةُ مَنْ يُفَضَّل عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ فَقَالُوا: هِيَ فِي الأَْقْرَبِ فَالأَْقْرَبِ، وَفِي الأَْشَدِّ مِنْهُمْ عَدَاوَةً أَفْضَل مِنْهَا فِي غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِيُتَأَلَّفَ قَلْبُهُ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ مُجَانَبَةِ الرِّيَاءِ وَكَسْرِ النَّفْسِ، وَأُلْحِقَ بِهِمُ الأَْزْوَاجُ مِنَ الذُّكُورِ وَالإِْنَاثِ، ثُمَّ الرَّحِمِ غَيْرِ الْمَحْرَمِ، كَأَوْلاَدِ الْعَمِّ وَالْخَال. ثُمَّ فِي الأَْقْرَبِ فَالأَْقْرَبِ رَضَاعًا، ثُمَّ مُصَاهَرَةً، ثُمَّ وَلاَءً، ثُمَّ جِوَارًا، وَقُدِّمَ الْجَارُ الأَْجْنَبِيُّ عَلَى قَرِيبٍ بَعِيدٍ عَنْ دَارِ الْمُتَصَدِّقِ، بِحَيْثُ لاَ تُنْقَل إِلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَلَوْ كَانَ بِبَادِيَةٍ (2) . وَمِثْلُهُ مَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 121، وأسنى المطالب شرح روضة الطالب 1 / 406 وحديث: " إن امرأتين أتيتا رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 328 - ط. السلفية) ومسلم (2 / 195 - ط. الحلبي) .
(2) أسنى المطالب 1 / 407، ومغني المحتاج 3 / 121.
(3) كشاف القناع 2 / 296.

(26/332)


د - التَّصَدُّقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالأَْغْنِيَاءِ:
18 - الأَْصْل أَنَّ الصَّدَقَةَ تُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ، وَهَذَا هُوَ الأَْفْضَل، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ (1) . وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (2) وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا تَحِل لِلْغَنِيِّ (3) ؛ لأَِنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ كَالْهِبَةِ فَتَصِحُّ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ (4) . قَال السَّرَخْسِيُّ: ثُمَّ التَّصَدُّقُ عَلَى الْغَنِيِّ يَكُونُ قُرْبَةً يُسْتَحَقُّ بِهَا الثَّوَابُ، فَقَدْ يَكُونُ غَنِيًّا يَمْلِكُ النِّصَابَ، وَلَهُ عِيَالٌ كَثِيرَةٌ، وَالنَّاسُ يَتَصَدَّقُونَ عَلَى مِثْل هَذَا لِنَيْل الثَّوَابِ (5) . لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِلْغَنِيِّ التَّنَزُّهُ عَنْهَا، وَيُكْرَهُ لَهُ التَّعَرُّضُ لأَِخْذِهَا؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ الْمُتَعَفِّفِينَ عَنِ السُّؤَال مَعَ وُجُودِ حَاجَتِهِمْ، فَقَال: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِل أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} (6) وَيُكْرَهُ لَهُ أَخْذُهَا وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا. وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُهَا إِنْ أَظْهَرَ الْفَاقَةَ، كَمَا يَحْرُمُ أَنْ يَسْأَل، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْغَنِيُّ بِالْمَال، وَالْغَنِيُّ بِالْكَسْبِ، لِحَدِيثِ: مَنْ سَأَل النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا
__________
(1) شرح الروض 1 / 407، ومغني المحتاج 3 / 121.
(2) سورة البلد الآية: 16.
(3) المراد بالغنى هنا: هو الذي يحرم عليه الزكاة (مغني المحتاج 3 / 120) .
(4) المبسوط 12 / 92، ومغني المحتاج 3 / 120، وكشاف القناع 2 / 298.
(5) المبسوط 12 / 92.
(6) سورة البقرة الآية 273.

(26/332)


يَسْأَل جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِل أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ (1) أَيْ: يُعَذَّبُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
لَكِنْ نَقَل الرَّمْلِيُّ عَنِ ابْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: جَوَازُ طَلَبِهَا لِلْغَنِيِّ، وَيُحْمَل الذَّمُّ الْوَارِدُ فِي الأَْخْبَارِ عَلَى الطَّلَبِ مِنَ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ (2) .

هـ - الصَّدَقَةُ عَلَى الْكَافِرِ:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الْكَافِرِ، وَسَبَبُ الْخِلاَفِ: هُوَ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَمْلِيكٌ لأَِجْل الثَّوَابِ، وَهَل يُثَابُ الشَّخْصُ بِالإِْنْفَاقِ عَلَى الْكُفَّارِ؟ .
فَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَنْقُول عَنْ مُحَمَّدٍ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ: إِنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ لِلْكُفَّارِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانُوا مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ أَمْ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ؟ مُسْتَأْمَنِينَ أَمْ غَيْرَ مُسْتَأْمَنِينَ، وَذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَمْ يَكُنِ الأَْسِيرُ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ كَافِرًا (3) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي كُل كَبِدٍ رَطْبَةٍ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 120، وشرح الروض 1 / 406، وابن عابدين 2 / 69 وحديث: " من سأل الناس أموالهم تكثرا. . . " أخرجه مسلم (2 / 720 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة
(2) حاشية الرملي على شرح الروض 1 / 406.
(3) ابن عابدين 2 / 67، ومغني المحتاج 3 / 121، وشرح الروض 1 / 406، والمغني لابن قدامة 2 / 659.

(26/333)


أَجْرٌ (1) وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِل أُمِّي؟ قَال: نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ (2) وَلأَِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحْمُودَةٌ فِي كُل دِينٍ، وَالإِْهْدَاءُ إِلَى الْغَيْرِ مِنْ مَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ (3) .
وَفَرَّقَ الْحَصْكَفِيُّ فِي الدُّرِّ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَغَيْرِهِ فَقَال: وَجَازَ دَفْعُ غَيْرِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ إِلَى الذِّمِّيِّ - وَلَوْ وَاجِبًا - كَنَذْرٍ وَكَفَّارَةٍ وَفِطْرَةٍ خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ.
وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ وَلَوْ مُسْتَأْمَنًا فَجَمِيعُ الصَّدَقَاتِ لاَ تَجُوزُ لَهُ (4) .
وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ الشِّرْبِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَال: قَضِيَّةُ إِطْلاَقِ حِل الصَّدَقَةِ لِلْكَافِرِ. أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْحَرْبِيِّ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَا فِي الْبَيَانِ عَنِ الصَّيْمَرِيِّ وَالأَْوْجَهُ مَا قَالَهُ الأَْذْرَعِيُّ مِنْ أَنَّ: هَذَا فِيمَنْ لَهُ عَهْدٌ، أَوْ
__________
(1) حديث: " في كل كبد رطبة أجر ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 41 - ط السلفية) ومسلم (4 / 1761 - ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث أسماء بنت أبي بكر: " قدمت علي أمي وهي مشركة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 233 - ط السلفية) .
(3) ابن عابدين 2 / 67.
(4) الدر المختار بهامش ابن عابدين 2 / 67.

(26/333)


ذِمَّةٌ أَوْ قَرَابَةٌ أَوْ يُرْجَى إِسْلاَمُهُ، أَوْ كَانَ بِأَيْدِينَا بِأَسْرٍ وَنَحْوِهِ. فَإِنْ كَانَ حَرْبِيًّا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ فَلاَ (1) .

ثَالِثًا: الْمُتَصَدَّقُ بِهِ:
20 - الْمُتَصَدَّقُ بِهِ هُوَ: الْمَال الَّذِي يُعْطَى لِلْفَقِيرِ وَذِي الْحَاجَةِ، وَحَيْثُ إِنَّ الصَّدَقَةَ تَمْلِيكٌ بِلاَ عِوَضٍ لأَِجْل ثَوَابِ الآْخِرَةِ، فَيَنْبَغِي فِي الْمَال الْمُتَصَدَّقِ بِهِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَلاَل الطَّيِّبِ، وَلاَ يَكُونَ مِنَ الْحَرَامِ أَوْ مِمَّا فِيهِ شُبْهَةٌ، كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَدَّقُ بِهِ مَالاً جَيِّدًا، لاَ رَدِيئًا، حَتَّى يَحْصُل عَلَى خَيْرِ الْبِرِّ وَجَزِيل الثَّوَابِ (2) .
وَقَدْ بَحَثَ الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الأَْحْكَامَ، وَحُكْمُ التَّصَدُّقِ مِنَ الأَْمْوَال الرَّدِيئَةِ وَالْحَرَامِ كَالتَّالِي:

التَّصَدُّقُ بِالْمَال الْحَلاَل وَالْحَرَامِ وَالْمَال الْمُشْتَبَهِ فِيهِ:
21 - لَقَدْ حَثَّ الإِْسْلاَمُ أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ مِنَ الْمَال الْحَلاَل وَالطَّيِّبِ، وَأَنْ تَكُونَ مِمَّا يُحِبُّهُ الْمُتَصَدِّقُ. فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ، وَلاَ يَقْبَل اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ، إِلاَّ أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 121.
(2) ابن عابدين 2 / 26، والمجموع 6 / 24، وكشاف القناع 2 / 295 - 298، والاختيار 3 / 54، وشرح الترمذي 3 / 164.

(26/334)


بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَل، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلَوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ (1) وَالْمُرَادُ بِالطَّيِّبِ هُنَا الْحَلاَل، كَمَا قَال النَّوَوِيُّ (2) .
وَعَنْهُ أَيْضًا: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَل إِلاَّ طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُل كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (3) . وَقَال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (4) ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُل يُطِيل السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ (5) .
قَال النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ أَحَدُ الأَْحَادِيثِ الَّتِي هِيَ مِنْ قَوَاعِدِ الإِْسْلاَمِ وَمَبَانِي الأَْحْكَامِ. . . وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الإِْنْفَاقِ مِنَ الْحَلاَل، وَالنَّهْيُ عَنِ الإِْنْفَاقِ مِنْ غَيْرِهِ. وَفِيهِ أَنَّ الْمَشْرُوبَ وَالْمَأْكُول وَالْمَلْبُوسَ وَنَحْوَ ذَلِكَ
__________
(1) حديث: " ما تصدق أحد بصدقة " سبق تخرجه ف 6.
(2) شرح صحيح مسلم للنووي 7 / 88 - 100، والمجموع 6 / 241.
(3) سورة المؤمنون آية: 51.
(4) سورة البقرة / 172.
(5) حديث: " أيها الناس إن الله طيب. . . " أخرجه مسلم (صحيح مسلم 2 / 703 ط. عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا.

(26/334)


يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَلاَلاً خَالِصًا لاَ شُبْهَةَ فِيهِ (1) .
وَحَذَّرَ الْحُسَيْنِيُّ فِي كِفَايَةِ الأَْخْيَارِ مِنْ أَخْذِ مَالٍ فِيهِ شُبْهَةٌ لِلتَّصَدُّقِ بِهِ، وَنَقَل عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَوْلَهُ: لأََنْ أَرُدَّ دِرْهَمًا مِنْ حَرَامٍ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ حَتَّى بَلَغَ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ (2) .
وَعَلَى هَذَا فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْتَارَ الرَّجُل أَحَل مَالِهِ، وَأَبْعَدَهُ عَنِ الْحَرَامِ وَالشُّبْهَةِ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ، كَمَا حَرَّرَهُ النَّوَوِيُّ (3) .
وَإِذَا كَانَ فِي عُهْدَةِ الْمُكَلَّفِ مَالٌ حَرَامٌ، فَإِنْ عَلِمَ أَصْحَابُهُ وَجَبَ رَدُّهُ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَصْحَابُهُ يَتَصَدَّقْ بِهِ.
أَمَّا الآْخِذُ أَيْ: الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ فَإِنْ عَرَفَ أَنَّ الْمَال الْمُتَصَدَّقَ بِهِ مِنَ النَّجِسِ أَوِ الْحَرَامِ كَالْغَصْبِ، أَوِ السَّرِقَةِ، أَوِ الْغَدْرِ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لاَ يَأْخُذَهُ وَلاَ يَأْكُل مِنْهُ. وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَجَازَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ أَخْذَهُ لَهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ (4) .
يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا كَانَ عَلَيْهِ دُيُونٌ وَمَظَالِمُ لاَ يَعْرِفُ أَرْبَابَهَا، وَأَيِسَ مِنْ
__________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي 7 / 100.
(2) كفاية الأخيار للحسيني 1 / 124.
(3) المجموع 6 / 241.
(4) ابن عابدين 3 / 323، والمجموع 6 / 241، فتح القدير مع الهداية 4 / 348، ومطالب أولي النهى 4 / 65، 66، 5 / 135، والجمل 3 / 23.

(26/335)


مَعْرِفَتِهِمْ، فَعَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِقَدْرِهَا مِنْ مَالِهِ، وَإِنِ اسْتَغْرَقَتْ جَمِيعَ مَالِهِ (1) .
وَقَال ابْنُ الْهُمَامِ: يُؤْمَرُ بِالتَّصَدُّقِ بِالأَْمْوَال الَّتِي حَصَلَتْ بِالْغَدْرِ، كَالْمَال الْمَغْصُوبِ (2) .
قَال الْجَمَل مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ تَصَدَّقَ أَوْ وَهَبَ أَوْ أَوْصَى بِالنَّجِسِ صَحَّ عَلَى مَعْنَى نَقْل الْيَدِ، لاَ التَّمْلِيكِ (3) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّ مَنْ بِيَدِهِ نَحْوُ غُصُوبٍ، أَوْ رُهُونٍ، أَوْ أَمَانَاتٍ، لاَ يَعْرِفُ أَرْبَابَهَا، وَأَيِسَ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ، فَلَهُ الصَّدَقَةُ بِهَا مِنْهُمْ - أَيْ: مِنْ قِبَلِهِمْ. وَقَال بَعْضُهُمْ: يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ (4) .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الدُّيُونِ الَّتِي جُهِل أَرْبَابُهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (5) .
أَمَّا الأَْمْوَال الَّتِي فِيهَا شُبْهَةٌ فَالأَْوْلَى الاِبْتِعَادُ عَنْهَا، وَلِهَذَا قَال النَّوَوِيُّ فِي التَّصَدُّقِ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ: إِنَّهُ مَكْرُوهٌ (6) .
قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَلاَل بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 223.
(2) فتح القدير 4 / 348.
(3) الجمل 3 / 23.
(4) مطالب أولي النهى 1 / 65، 66.
(5) نفس المرجع 4 / 68.
(6) المجموع 6 / 241.

(26/335)


وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْل الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ (1) .

التَّصَدُّقُ بِالْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ:
22 - يُسْتَحَبُّ فِي الصَّدَقَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَدَّقُ بِهِ أَيِ: الْمَال الْمُعْطَى مِنْ أَجْوَدِ مَال الْمُتَصَدِّقِ وَأَحَبِّهِ إِلَيْهِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (2) قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَالْمَعْنَى لَنْ تَكُونُوا أَبْرَارًا حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، أَيْ: نَفَائِسِ الأَْمْوَال وَكَرَائِمِهَا، وَكَانَ السَّلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إِذَا أَحَبُّوا شَيْئًا جَعَلُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى. فَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَانَ أَكْثَرَ الأَْنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرَحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَال أَنَسٌ رَاوِي الْحَدِيثِ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرَحَاءُ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا
__________
(1) حديث: " الحلال بين والحرام بين. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 126 ط. السلفية) من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا.
(2) سورة آل عمران - الآية 92.

(26/336)


عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُول اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ قَال: فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ (1) .
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَشْتَرِي أَعْدَالاً مِنْ سُكَّرٍ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا، فَقِيل لَهُ: هَلاَّ تَصَدَّقْتَ بِقِيمَتِهَا؟ قَال: لأَِنَّ السُّكَّرَ أَحَبُّ إِلَيَّ فَأَرَدْتُ أَنْ أُنْفِقَ مِمَّا أُحِبُّ (2) .
وَالْمُرَادُ بِالآْيَةِ حُصُول كَثْرَةِ الثَّوَابِ بِالتَّصَدُّقِ مِمَّا يُحِبُّهُ. وَلاَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمَال الْمُتَصَدَّقُ بِهِ كَثِيرًا، وَيُسْتَحَبُّ التَّصَدُّقُ وَلَوْ بِشَيْءٍ نَزْرٍ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} (3) وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ (4) .
وَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنِ التَّصَدُّقِ بِالرَّدِيءِ مِنَ الْمَال. قَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا
__________
(1) تفسير روح المعاني 3 / 222، 223 وحديث " أن أبا طلحة كان أكثر الأنصار مالا من نخل " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 325 ط. السلفية) واللفظ له، ومسلم (صحيح مسلم 2 / 693 ط. عيسى الحلبي) من حديث أنس مالك - رضي الله عنه -.
(2) تفسير القرطبي 4 / 133، وانظر في الموضوع كشاف القناع 2 / 299.
(3) سورة الزلزلة / 8.
(4) كفاية الأخيار 1 / 125 وحديث: " اتقوا النار ولو بشق تمرة " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 448 ط. السلفية) ومسلم (صحيح مسلم 3 / 704 ط. عيسى الحلبي) مرفوعًا من حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه -.

(26/336)


أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَْرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (1) أَيْ: لاَ تَتَصَدَّقُوا بِالصَّدَقَةِ مِنَ الْمَال الْخَبِيثِ، وَلاَ تَفْعَلُوا مَعَ اللَّهِ مَا لاَ تَرْضَوْنَهُ لأَِنْفُسِكُمْ.
وَرَجَّحَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَنَّ الآْيَةَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ حَيْثُ قَال: لَوْ كَانَتْ فِي الْفَرِيضَةِ لَمَا قَال: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} لأَِنَّ الرَّدِيءَ وَالْخَبِيثَ لاَ يَجُوزُ أَخْذُهُ فِي الْفَرْضِ بِحَالٍ، لاَ مَعَ تَقْدِيرِ الإِْغْمَاضِ وَلاَ مَعَ عَدَمِهِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مَعَ عَدَمِ الإِْغْمَاضِ فِي النَّفْل (2)
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْل بَرَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، أَنَّ الآْيَةَ فِي التَّطَوُّعِ، نُدِبُوا إِلَيْهِ أَنْ لاَ يَتَطَوَّعُوا إِلاَّ بِمُمْتَازٍ جَيِّدٍ (3) وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَجُلٍ عَلَّقَ قِنْوَ حَشَفٍ فِي الْمَسْجِدِ: لَوْ شَاءَ رَبُّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ تَصَدَّقَ بِأَطْيَبَ مِنْهَا وَقَال: إِنَّ رَبَّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ يَأْكُل الْحَشَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية (267) .
(2) القرطبي 3 / 326.
(3) القرطبي 3 / 320، 321.
(4) مختصر سنن أبي داود 2 / 213. وحديث: " لو شاء رب هذه الصدقة " أخرجه النسائي (سنن النسائي 5 / 43 - 44 نشر مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب) وأبو داود (سنن أبي داود 2 / 261 ط. استانبول) واللفظ له من حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه -. وفي سنده صالح بن أبي عريب، لم يوثقه غير ابن حبان، وباقي رجاله ثقات (جامع الأصول في أحاديث الرسول بتحقيق الأرناؤوط 6 / 456 نشر مكتبة الحلواني) .

(26/337)


التَّصَدُّقُ بِكُل مَالِهِ:
23 - يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ بِفَاضِلٍ عَنْ كِفَايَتِهِ، وَكِفَايَةِ مَنْ يَمُونُهُ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِمَا يُنْقِصُ مُؤْنَةَ مَنْ يَمُونُهُ أَثِمَ. وَمَنْ أَرَادَ التَّصَرُّفَ بِمَالِهِ كُلِّهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ حُسْنَ التَّوَكُّل وَالصَّبْرِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِلاَّ فَلاَ يَجُوزُ.
وَيُكْرَهُ لِمَنْ لاَ صَبْرَ لَهُ عَلَى الضِّيقِ أَنْ يُنْقِصَ نَفَقَةَ نَفْسِهِ عَنِ الْكِفَايَةِ التَّامَّةِ.
وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ (1) وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الإِْنْسَانَ مَا دَامَ صَحِيحًا رَشِيدًا لَهُ التَّبَرُّعُ بِجَمِيعِ مَالِهِ عَلَى كُل مَنْ أَحَبَّ. قَال فِي الرِّسَالَةِ: وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِمَالِهِ كُلِّهِ لِلَّهِ. لَكِنْ قَال النَّفْرَاوِيُّ: مَحَل نَدْبِ التَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ الْمَال أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَدِّقُ طَيِّبَ النَّفْسِ بَعْدَ الصَّدَقَةِ بِجَمِيعِ مَالِهِ، لاَ يَنْدَمُ عَلَى الْبَقَاءِ بِلاَ مَالٍ. وَأَنَّ مَا يَرْجُوهُ فِي الْمُسْتَقْبَل مُمَاثِلٌ لِمَا تَصَدَّقَ بِهِ فِي الْحَال، وَأَنْ لاَ يَكُونَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَل لِنَفْسِهِ، أَوْ لِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، أَوْ يُنْدَبُ الإِْنْفَاقُ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ لَمْ يُنْدَبْ لَهُ ذَلِكَ (2) بَل يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِنْ تَحَقَّقَ الْحَاجَةَ لِمَنْ تَلْزَمُهُ
__________
(1) حاشية عابدين على الدر المختار 2 / 71، والاختيار لتعليل المختار 3 / 54.
(2) الفواكه الدواني 2 / 323.

(26/337)


نَفَقَتُهُ، أَوْ يُكْرَهُ إِنْ تَيَقَّنَ الْحَاجَةَ لِمَنْ يُنْدَبُ الإِْنْفَاقُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الأَْفْضَل أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا يَفْضُل عَنْ حَاجَتِهِ وَمُؤْنَتِهِ، وَمُؤْنَةِ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ (1) .
وَيَقُول ابْنُ قُدَامَةَ (2) : الأَْوْلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنَ الْفَاضِل عَنْ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ مَنْ يَمُونُهُ عَلَى الدَّوَامِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُول (3) وَلأَِنَّ نَفَقَةَ مَنْ يَمُونُهُ وَاجِبَةٌ وَالتَّطَوُّعُ نَافِلَةٌ، وَتَقْدِيمُ النَّفْل عَلَى الْفَرْضِ غَيْرُ جَائِزٍ.
فَإِنْ كَانَ الرَّجُل لاَ عِيَال لَهُ، فَأَرَادَ الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَكَانَ ذَا مَكْسَبٍ، أَوْ كَانَ وَاثِقًا مِنْ نَفْسِهِ يُحْسِنُ التَّوَكُّل وَالصَّبْرَ عَلَى الْفَقْرِ وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَحَسَنٌ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: أَمَرَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَتَصَدَّقَ فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالاً عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا،
__________
(1) نفس المرجع.
(2) المغني لابن قدامة 3 / 83، 84.
(3) حديث: " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 294 ط. السلفية) بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وأخرجه مسلم (صحيح مسلم 2 / 717 ط. عيسى الحلبي) من حديث حكيم بن خزام بلفظ " أفضل الصدقة (أو خير الصدقة) عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول ".

(26/338)


فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَبْقَيْتَ لأَِهْلِكَ؟ قُلْتُ: مِثْلَهُ. قَال: وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُل مَا عِنْدَهُ فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَبْقَيْتَ لأَِهْلِكَ؟ قَال: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقُلْتُ لاَ أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ بَعْدَهُ أَبَدًا (1) قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَهَذَا كَانَ فَضِيلَةً فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِقُوَّةِ يَقِينِهِ، وَكَمَال إِيمَانِهِ، وَكَانَ أَيْضًا تَاجِرًا ذَا مَكْسَبٍ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْمُتَصَدِّقِ أَحَدُ هَذَيْنِ كُرِهَ لَهُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِ مَالِهِ. فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ، وَيَقُول هَذِهِ صَدَقَةٌ، ثُمَّ يَقْعُدُ يَسْتَكِفُّ النَّاسَ، خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى (2) ؛ وَلأَِنَّ الإِْنْسَانَ إِذَا أَخْرَجَ جَمِيعَ مَالِهِ لاَ يَأْمَنُ فِتْنَةَ الْفَقْرِ، وَشِدَّةَ نِزَاعِ النَّفْسِ إِلَى مَا خَرَجَ مِنْهُ فَيَنْدَمُ، فَيَذْهَبُ مَالُهُ، وَيَبْطُل أَجْرُهُ، وَيَصِيرُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ (3) .
__________
(1) حديث عمر - رضي الله عنه - قال: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق. . . " أخرجه (أبو داود 2 / 312 - 313 ط. استانبول) واللفظ له، (والترمذي 5 / 574 نشر دار الكتب العلمية - بيروت) . وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(2) حديث: " يأتي أحدكم بما يملك " أخرجه أبو داود من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه - مرفوعا (سنن أبي داود 2 / 310 - 311 ط. استانبول) وفيه عنعنة ابن اسحاق (جامع الأصول في أحاديث الرسول 6 / 465 بتحقيق الرناؤوط)
(3) المغني لابن قدامة 3 / 83،84.

(26/338)


وَاتَّفَقَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ مَعَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ فِي: أَنَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِعِيَالِهِ وَدَيْنِهِ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، وَإِنْ فَضَل عَنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَهَل يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ الْفَاضِل؟ فِيهِ عِنْدَهُمْ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: إِنْ صَبَرَ عَلَى الضِّيقِ فَنَعَمْ، وَإِلاَّ فَلاَ بَل يُكْرَهُ ذَلِكَ، قَالُوا: وَعَلَيْهِ تُحْمَل الأَْخْبَارُ الْمُخْتَلِفَةُ الظَّاهِرِ (1)

رَابِعًا - النِّيَّةُ:
24 - الصَّدَقَةُ قُرْبَةٌ؛ لأَِنَّهَا تَمْلِيكٌ بِلاَ عِوَضٍ، لأَِجْل ثَوَابِ الآْخِرَةِ، فَلاَ بُدَّ فِيهَا مِنَ النِّيَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (2) وَيُسْتَحَبُّ فِي الصَّدَقَةِ أَنْ يَنْوِيَ الْمُتَصَدِّقُ ثَوَابَهَا لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ كُل مَنْ أَتَى بِعِبَادَةٍ مَا سَوَاءٌ أَكَانَتْ صَلاَةً أَمْ صَوْمًا أَمْ صَدَقَةً أَمْ قِرَاءَةً، لَهُ أَنْ يَجْعَل ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ وَإِنْ نَوَاهَا لِنَفْسِهِ (3) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: " وَالأَْفْضَل لِمَنْ يَتَصَدَّقُ
__________
(1) كفاية الأخيار للحسيني 1 / 124، وأسنى المطالب 1 / 407.
(2) حديث: " إنما الأعمال بالنيات. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 9 ط. السلفية) من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
(3) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 2 / 236، والبدائع 6 / 218، والخرشي على مختصر خليل 7 / 102، والمغني لابن قدامة 5 / 649، و 3 / 82، وأشباه ابن نجيم ص 29، وأشباه السيوطي ص 12.

(26/339)


نَفْلاً أَنْ يَنْوِيَ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ؛ لأَِنَّهَا تَصِل إِلَيْهِمْ، وَلاَ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ (1) .
وَتَفْصِيل أَحْكَامِ النِّيَّةِ فِي مُصْطَلَحِ: (نِيَّةٌ) .

إِخْفَاءُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ:
25 - الأَْفْضَل فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ أَنْ تَكُونَ سِرًّا، وَهَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَإِنْ كَانَتْ تَصِحُّ وَيُثَابُ عَلَيْهَا فِي الْعَلَنِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (2) .
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِل إِلاَّ ظِلُّهُ وَذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلاً تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ (3) وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 71.
(2) سورة البقرة الآية 272.
(3) حديث: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. . . " " رجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " سبق تخريجه ف 6.

(26/339)


تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ (1) .
وَلأَِنَّ الإِْسْرَارَ بِالتَّطَوُّعِ يَخْلُو عَنِ الرِّيَاءِ وَالْمَنِّ، وَإِعْطَاءُ الصَّدَقَةِ سِرًّا يُرَادُ بِهِ رِضَا اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحْدَهُ. وَنُقِل عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَوْلُهُ: صَدَقَةُ السِّرِّ فِي التَّطَوُّعِ أَفْضَل مِنْ صَدَقَةِ الْعَلاَنِيَةِ بِسَبْعِينَ ضِعْفًا (2) .
قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْحَال فِي الصَّدَقَةِ يَخْتَلِفُ بِحَال الْمُعْطِي لَهَا وَالْمُعْطَى إِيَّاهَا وَالنَّاسِ الشَّاهِدِينَ لَهَا.
أَمَّا الْمُعْطِي فَلَهُ فَائِدَةُ إِظْهَارِ السُّنَّةِ وَثَوَابِ الْقُدْوَةِ، وَآفَتُهَا الرِّيَاءُ، وَالْمَنُّ، وَالأَْذَى. وَأَمَّا الْمُعْطَى إِيَّاهَا فَإِنَّ السِّرَّ أَسْلَمُ لَهُ مِنَ احْتِقَارِ النَّاسِ لَهُ، أَوْ نِسْبَتِهِ إِلَى أَنَّهُ أَخَذَهَا مَعَ الْغِنَى وَتَرْكِ التَّعَفُّفِ.
وَأَمَّا حَال النَّاسِ فَالسِّرُّ عَنْهُمْ أَفْضَل مِنَ الْعَلاَنِيَةِ لَهُمْ، مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ رُبَّمَا طَعَنُوا عَلَى الْمُعْطِي لَهَا بِالرِّيَاءِ، وَعَلَى الآْخِذِ لَهَا
__________
(1) تفسير القرطبي 2 / 232، 234، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 236، وحاشية القليوبي 3 / 204، 205، والمهذب 1 / 183، وكشاف القناع 2 / 266. وحديث: " صنائع المعروف تقي مصارع السوء. . . ". أخرجه الطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - وإسناده حسن (مجمع الزوائد 3 / 115 نشر مكتبة القدسي) .
(2) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 236.

(26/340)


بِالاِسْتِغْنَاءِ، وَلَهُمْ فِيهَا تَحْرِيكُ الْقُلُوبِ إِلَى الصَّدَقَةِ. لَكِنَّ هَذَا الْيَوْمَ قَلِيلٌ (1) وَيَقُول الْخَطِيبُ: إِنْ كَانَ الْمُتَصَدِّقُ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَأَظْهَرَهَا لِيُقْتَدَى بِهِ مِنْ غَيْرِ رِيَاءٍ وَلاَ سُمْعَةٍ، فَهُوَ أَفْضَل (2) .
أَمَّا صَدَقَةُ الْفَرْضِ فَلاَ خِلاَفَ أَنَّ إِظْهَارَهَا أَفْضَل كَصَلاَةِ الْفَرْضِ وَسَائِرِ الْفَرَائِضِ.

تَرْكُ الْمَنِّ وَالأَْذَى:
26 - يَحْرُمُ الْمَنُّ وَالأَْذَى بِالصَّدَقَةِ، وَيَبْطُل الثَّوَابُ بِذَلِكَ، فَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمَنِّ وَالأَْذَى، وَجَعَلَهُمَا مُبْطِلَيْنِ لِلصَّدَقَاتِ حَيْثُ قَال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَْذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} (3) وَحَثَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُنْفِقِينَ فِي سَبِيل اللَّهِ بِعَدَمِ إِتْبَاعِ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى فَقَال: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيل اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (4)
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، فِي أَنَّ الْمَنَّ وَالأَْذَى فِي الصَّدَقَةِ حَرَامٌ يُبْطِل الثَّوَابَ. قَال الْقُرْطُبِيُّ: عَبَّرَ تَعَالَى عَنْ عَدَمِ الْقَبُول
__________
(1) نفس المرجع.
(2) مغني المحتاج 3 / 121.
(3) سورة البقرة الآية 264.
(4) سورة البقرة الآية 262.

(26/340)


وَحِرْمَانِ الثَّوَابِ بِالإِْبْطَال (1) .
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ: الْمَنُّ بِالصَّدَقَةِ حَرَامٌ مُبْطِلٌ لِلأَْجْرِ لِلآْيَةِ السَّابِقَةِ، وَلِخَبَرِ مُسْلِمٍ: ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. قَال: فَقَرَأَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَ مِرَارٍ. قَال أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: الْمُسْبِل، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ (2) .
وَجَعَلَهُ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْكَبَائِرِ فَقَال: وَيَحْرُمُ الْمَنُّ بِالصَّدَقَةِ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ مِنَ الْكَبِيرَةِ وَيَبْطُل الثَّوَابَ بِذَلِكَ (3) .
وَهَل تُبْطِل الْمَعْصِيَةُ الطَّاعَةَ؟ فِيهِ خِلاَفٌ. قَال الْقُرْطُبِيُّ: الْعَقِيدَةُ أَنَّ السَّيِّئَاتِ لاَ تُبْطِل الْحَسَنَاتِ، وَلاَ تُحْبِطُهَا. فَالْمَنُّ وَالأَْذَى فِي صَدَقَةٍ لاَ يُبْطِل صَدَقَةً أُخْرَى (4)

التَّصَدُّقُ فِي الْمَسْجِدِ:
27 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّصَدُّقِ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى جَوَازِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ،
__________
(1) القرطبي 3 / 311، ومغني المحتاج 3 / 122، وكشاف القناع 2 / 298.
(2) حديث: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة. . . " أخرجه مسلم (صحيح مسلم 1 / 102 ط. عيسى الحلبي) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - مرفوعا.
(3) كشاف القناع عن متن الإقناع 2 / 298.
(4) القرطبي 3 / 311

(26/341)


وَبَعْضُهُمْ بَيَّنُوا لَهُ شُرُوطًا لاَ يَجُوزُ بِغَيْرِهَا. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لاَ يَحِل أَنْ يَسْأَل شَيْئًا مَنْ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ بِالْفِعْل أَوْ بِالْقُوَّةِ، كَالصَّحِيحِ الْمُكْتَسِبِ، وَيَأْثَمُ مُعْطِيهِ إِنْ عَلِمَ بِحَالِهِ؛ لأَِنَّهُ أَعَانَهُ عَلَى الْمُحَرَّمِ (1) ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ السَّائِل إِذَا كَانَ لاَ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي، وَلاَ يَتَخَطَّى الرِّقَابَ، وَلاَ يَسْأَل إِلْحَافًا، بَل لأَِمْرٍ لاَ بُدَّ مِنْهُ، فَلاَ بَأْسَ بِالسُّؤَال وَالإِْعْطَاءِ. ثُمَّ قَال نَقْلاً عَنِ الْبَزَّازِيَّةِ: وَلاَ يَجُوزُ الإِْعْطَاءُ إِذَا لَمْ يَكُونُوا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ (2) . وَمَا نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ مِنْ تَعْلِيقِ رَجُلٍ قِنْوَ حَشَفٍ فِي الْمَسْجِدِ يَدُل كَذَلِكَ عَلَى مُطْلَقِ الْجَوَازِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُعْتَبَرْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ (3)
كَمَا يَدُل عَلَى الْجَوَازِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَل مِنْكُمْ أَحَدٌ أَطْعَمَ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ فَقَال أَبُو بَكْرٍ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا أَنَا بِسَائِلٍ يَسْأَل فَوَجَدْتُ كِسْرَةَ خُبْزٍ فِي يَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَأَخَذْتُهَا فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 71.
(2) ابن عابدين 1 / 554.
(3) القرطبي 3 / 321.
(4) حديث: " هل منكم أحد أطعم اليوم مسكينا؟ . . . " أخرجه أبو داود (سنن أبي داود 2 / 309 ط. استانبول) والحاكم (المستدرك 1 / 412 نشر دار الكتاب العربي) من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر وصححه ووافقه الذهبي. إلا أن في إسناده المبارك بن فضالة وهو متكلم فيه (ميزان الاعتدال 3 / 431 ط. عيسى الحلبي) .

(26/341)


وَيَقُول الْبُهُوتِيُّ: يُكْرَهُ سُؤَال الصَّدَقَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالتَّصَدُّقُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ يَقُول: " وَلاَ يُكْرَهُ التَّصَدُّقُ عَلَى غَيْرِ السَّائِل وَلاَ عَلَى مَنْ سَأَل لَهُ الْخَطِيبُ (1) ". وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْجِدٌ)

الأَْحْوَال وَالأَْمَاكِنُ الَّتِي تُفَضَّل فِيهَا الصَّدَقَةُ:
28 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الْحَالاَتِ وَالأَْمَاكِنَ الَّتِي تُفَضَّل فِيهَا الصَّدَقَةُ، وَيَكُونُ أَجْرُهَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا، وَمِنْ هَذِهِ الْحَالاَتِ وَالأَْمَاكِنِ مَا يَأْتِي:
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: دَفْعُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ فِي رَمَضَانَ أَفْضَل مِنْ دَفْعِهَا فِي غَيْرِهِ، لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سُئِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَل؟ قَال: صَدَقَةٌ فِي رَمَضَانَ (2) . وَلأَِنَّ الْفُقَرَاءَ فِيهِ يَضْعُفُونَ وَيَعْجِزُونَ عَنِ الْكَسْبِ بِسَبَبِ الصَّوْمِ. وَتَتَأَكَّدُ فِي الأَْيَّامِ الْفَاضِلَةِ كَعَشْرِ
__________
(1) كشاف القناع 2 / 371.
(2) حديث: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصدقة أفضل؟ قال: صدقة في رمضان ". أخرجه الترمذي (سنن الترمذي 3 / 52 نشر دار الكتب العلمية) من حديث أنس - رضي الله عنه - وفي سنده صدقة بن موسى وفيه مقال. قال الترمذي: هذا حديث غريب، وصدقة بن موسى ليس عندهم (جامع الأصول في أحاديث الرسول بتحقيق الأرناؤوط 9 / 261)

(26/342)


ذِي الْحِجَّةِ، وَأَيَّامِ الْعِيدِ، وَكَذَا فِي الأَْمَاكِنِ الشَّرِيفَةِ، كَمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَفِي الْغَزْوِ، وَالْحَجِّ، وَعِنْدَ الأُْمُورِ الْمُهِمَّةِ، كَالْكُسُوفِ وَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ (1) .
ثُمَّ نَقَل عَنِ الأَْذْرَعِيِّ قَوْلَهُ: وَلاَ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ أَرَادَ التَّطَوُّعَ بِصَدَقَةٍ، أَوْ بِرٍّ فِي رَجَبٍ، أَوْ شَعْبَانَ مَثَلاً، أَنَّ الأَْفْضَل لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ إِلَى رَمَضَانَ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الأَْوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ، بَل الْمُسَارَعَةُ إِلَى الصَّدَقَةِ أَفْضَل بِلاَ شَكٍّ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ التَّصَدُّقَ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ مِنَ الأَْيَّامِ الْفَاضِلَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِمَّا يَقَعُ فِي غَيْرِهَا (2) .
وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: وَفِي أَوْقَاتِ الْحَاجَةِ أَفْضَل مِنْهَا فِي غَيْرِهَا (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} (4) .
وَعَلَّل الْحَنَابِلَةُ فَضْل الصَّدَقَةِ فِي رَمَضَانَ بِأَنَّ الْحَسَنَاتِ تُضَاعَفُ فِيهِ، وَلأَِنَّ فِيهِ إِعَانَةً عَلَى أَدَاءِ الصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ، وَمَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ (5) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 121.
(2) مغني المحتاج 3 / 121.
(3) كشاف القناع 2 / 296.
(4) سورة البلد الآية (14) .
(5) المغني 3 / 82.

(26/342)


وَيُسْتَحَبُّ اسْتِحْبَابًا مُؤَكَّدًا، التَّوْسِيعُ عَلَى الْعِيَال، وَالإِْحْسَانُ إِلَى الأَْقَارِبِ وَالْجِيرَانِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ - لاَ سِيَّمَا فِي عَشَرَةٍ آخِرَهُ؛ لأَِنَّ فِيهِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَهُوَ أَفْضَل مِمَّا عَدَاهُ مِنَ الأَْيَّامِ الأُْخْرَى (1)

الرُّجُوعُ فِي الصَّدَقَةِ:
29 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ لِلْمُتَصَدِّقِ أَنْ يَرْجِعَ فِي صَدَقَتِهِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِالصَّدَقَةِ الثَّوَابُ، وَقَدْ حَصَل، وَإِنَّمَا الرُّجُوعُ يَكُونُ عِنْدَ تَمَكُّنِ الْخَلَل فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ كَمَا يَقُول السَّرَخْسِيُّ (2) . وَيَسْتَوِي أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ عَلَى غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ فِي أَنْ لاَ رُجُوعَ فِيهَا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ (3) .
وَعَمَّمَ الْمَالِكِيَّةُ الْحُكْمَ فَقَالُوا: كُل مَا يَكُونُ لِثَوَابِ الآْخِرَةِ لاَ رُجُوعَ فِيهَا، وَلَوْ مِنْ وَالِدٍ لِوَلَدِهِ (4) لَكِنَّهُمْ قَالُوا: لِلْوَالِدِ أَنْ يَعْتَصِرَ مَا وَهَبَهُ لاِبْنِهِ وَذَلِكَ بِشُرُوطٍ تُذْكَرُ فِي (هِبَةٌ) .
وَنُصُوصُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَتَّفِقُ مَعَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ صِحَّةِ رُجُوعِ الْمُتَصَدِّقِ
__________
(1) أسنى المطالب شرح الروض 1 / 406.
(2) المبسوط للسرخسي 12 / 92، وابن عابدين 4 / 522.
(3) المبسوط 12 / 92.
(4) الفواكه الدواني 2 / 217.

(26/343)


فِي صَدَقَتِهِ (1) أَمَّا الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ فَتُذْكَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (هِبَةٌ) .

صَدَقَةُ الْفِطْرِ

انْظُرْ: زَكَاةُ الْفِطْرِ
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 684، ومطالب أولي النهى 4 / 104، وروضة الطالبين 4 / 363.

(26/343)


صَدِيدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - فِي اللُّغَةِ: صَدِيدُ الْجُرْحِ: مَاؤُهُ الرَّقِيقُ الْمُخْتَلِطُ بِالدَّمِ قَبْل أَنْ يَغْلُظَ فَإِنْ غَلُظَ سُمِّيَ مِدَّةً (بِكَسْرِ الْمِيمِ) . وَالصَّدِيدُ فِي الْقُرْآنِ: مَا يَسِيل مِنْ جُلُودِ أَهْل النَّارِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقَيْحُ:
2 - الْقَيْحُ: الْمِدَّةُ الْخَالِصَةُ الَّتِي لاَ يُخَالِطُهَا دَمٌ (2) .

الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالصَّدِيدِ:
حُكْمُهُ مِنْ حَيْثُ النَّجَاسَةُ وَالطَّهَارَةُ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّ الصَّدِيدَ نَجِسٌ كَالدَّمِ، لأَِنَّهُ مِنَ الْخَبَائِثِ، وَالطِّبَاعُ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة (صدد) .
(2) المعجم الوسيط ولسان العرب والحطاب مع المواق 1 / 104 - 105.

(26/344)


السَّلِيمَةُ تَسْتَخْبِثُهُ (1) .

انْتِقَاضُ الْوُضُوءِ بِهِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِخُرُوجِ الصَّدِيدِ مِنَ الْجُرْحِ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: لاَ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِخُرُوجِ الصَّدِيدِ مِنَ الْجُرْحِ؛ لأَِنَّ النَّجَاسَةَ الَّتِي تَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَهُمْ هِيَ: مَا خَرَجَتْ مِنَ السَّبِيلَيْنِ فَقَطْ، أَمَّا مَا يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَسَا الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، فَقَامَ أَحَدُهُمَا يُصَلِّي، فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْكُفَّارِ بِسَهْمٍ فَنَزَعَهُ وَصَلَّى وَدَمُهُ يَجْرِي، وَعَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ (3) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِخُرُوجِ النَّجِسِ مِنَ الآْدَمِيِّ الْحَيِّ، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ أَوْ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، لِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَال: دَخَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَفِيَّةَ فَقَرَّبَتْ لَهُ عِرْقًا فَأَكَل فَأَتَى الْمُؤَذِّنُ فَقَال: الْوُضُوءَ
__________
(1) البدائع 1 / 60 والدسوقي 1 / 56، ومغني المحتاج 1 / 79، وكشاف القناع 1 / 124، والمغني 1 / 186.
(2) مغني المحتاج 1 / 32، والدسوقي 1 / 114 - 115.
(3) حديث: " أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حرسا المسلمين. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 136 - ط. عزت عبيد دعاس) من حديث جابر بن عبد الله، وصححه ابن خزيمة (1 / 24 - ط. المكتب الإسلامي) .

(26/344)


الْوُضُوءَ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا عَلَيْنَا الْوُضُوءُ فِيمَا يَخْرُجُ وَلَيْسَ عَلَيْنَا فِيمَا يَدْخُل (1) ، عَلَّقَ الْحُكْمَ بِكُل مَا يَخْرُجُ، أَوْ بِمُطْلَقِ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمَخْرَجِ، إِلاَّ أَنَّ خُرُوجَ الطَّاهِرِ لَيْسَ بِمُرَادٍ فَبَقِيَ خُرُوجُ النَّجِسِ مُرَادًا.
وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ، أَوْ رُعَافٌ، أَوْ قَلْسٌ، أَوْ مَذْيٌ، فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ، ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلاَتِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لاَ يَتَكَلَّمُ (2) ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ بِخُرُوجِ النَّجِسِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ.
وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ لَمَّا اسْتُحِيضَتْ: تَوَضَّئِي فَإِنَّهُ دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ (3) ، أَمَرَهَا بِالْوُضُوءِ وَعَلَّل بِانْفِجَارِ دَمِ
__________
(1) حديث أبي أمامة: إنما علينا الوضوء. أخرجه الطبراني (8 / 249 - ط وزارة الأوقاف العراقية) وأورده الهيثمي في المجمع (2 / 152 - ط. القدسي) وأعله بضعف راويين فيه.
(2) حديث: " من أصابه قيء أو رعاف أو قلس ". أخرجه ابن ماجه (1 / 385، 389 ط. الحلبي) من حديث عائشة، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 223 ط دار الجنان) " هذا إسناد ضعيف ".
(3) حديث قوله لفاطمة بنت أبي حبيش: " توضئي. . . . ". حديث عائشة بلفظ: " إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي " ولم نهتد إلى اللفظ الوارد في البحث.

(26/345)


الْعِرْقِ لاَ بِالْمُرُورِ عَلَى الْمَخْرَجِ، وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْوُضُوءُ مِنْ كُل دَمٍ سَائِلٍ (1) وَالأَْخْبَارُ فِي هَذَا الْبَابِ وَرَدَتْ مَوْرِدَ الاِسْتِفَاضَةِ، حَتَّى وَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا مِثْل ذَلِكَ، مِنْهُمْ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ (2) .
5 - وَعَلَى ذَلِكَ إِنْ سَال الصَّدِيدُ عَلَى رَأْسِ الْجُرْحِ وَالْقُرْحِ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ لِوُجُودِ الْحَدَثِ وَخُرُوجِ النَّجِسِ، وَهُوَ انْتِقَال النَّجِسِ مِنَ الْبَاطِنِ إِلَى الظَّاهِرِ، لَكِنَّهُ لاَ يَنْقُضُ إِلاَّ إِذَا سَال وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، فَلَوْ ظَهَرَ الصَّدِيدُ عَلَى رَأْسِ الْجُرْحِ وَلَمْ يَسِل لَمْ يَكُنْ حَدَثًا؛ لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَسِل كَانَ فِي مَحَلِّهِ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَتِرًا بِالْجِلْدَةِ، وَانْشِقَاقُهَا يُوجِبُ زَوَال السُّتْرَةِ لاَ زَوَال الصَّدِيدِ عَنْ مَحَلِّهِ، وَلاَ حُكْمَ لِلنَّجَسِ مَا دَامَ فِي مَحَلِّهِ، فَإِذَا سَال عَنْ رَأْسِ الْجُرْحِ فَقَدِ انْتَقَل عَنْ مَحَلِّهِ فَيُعْطَى لَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ.
وَعِنْدَ زُفَرَ: يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ سَوَاءٌ سَال عَنْ مَحَلِّهِ أَمْ لَمْ يَسِل؛ لأَِنَّ الْحَدَثَ الْحَقِيقِيَّ عِنْدَهُ هُوَ ظُهُورُ النَّجِسِ مِنَ الآْدَمِيِّ الْحَيِّ، وَقَدْ
__________
(1) حديث تميم الداري: " الوضوء من كل دم سائل ". أخرجه الدارقطني (1 / 157 - ط دار المحاسن) وأعله بانقطاع في سنده وبجهالة راويين فيه.
(2) البدائع 1 / 24.

(26/345)


ظَهَرَ؛ وَلأَِنَّ ظُهُورَ النَّجِسِ اعْتُبِرَ حَدَثًا فِي السَّبِيلَيْنِ، سَال عَنْ رَأْسِ الْمَخْرَجِ أَوْ لَمْ يَسِل، فَكَذَا فِي غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ (1) .
6 - وَالْحَنَابِلَةُ كَالْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ الأَْصْل انْتِقَاضُ الْوُضُوءِ بِخُرُوجِ النَّجِسِ مِنَ الْبَدَنِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ أَمْ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا اسْتَدَل بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، إِلاَّ أَنَّ الَّذِي يَنْقُضُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْكَثِيرُ مِنْ ذَلِكَ دُونَ الْيَسِيرِ، قَال الْقَاضِي: الْيَسِيرُ لاَ يَنْقُضُ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الدَّمِ: إِذَا كَانَ فَاحِشًا فَعَلَيْهِ الإِْعَادَةُ، وَابْنُ أَبِي أَوْفَى بَزَقَ دَمًا ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، وَابْنُ عُمَرَ عَصَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ دَمٌ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، قَال أَحْمَدُ: عِدَّةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ تَكَلَّمُوا فِيهِ.
وَحَدُّ الْكَثِيرِ الَّذِي يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي نَصِّ أَحْمَدَ: هُوَ مَا فَحُشَ فِي نَفْسِ كُل أَحَدٍ بِحَسَبِهِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ: الْفَاحِشُ مَا فَحُشَ فِي قَلْبِكَ، قَال الْخَلاَّل: إِنَّهُ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ، قَال فِي الشَّرْحِ: لأَِنَّ اعْتِبَارَ حَال الإِْنْسَانِ بِمَا يَسْتَفْحِشُهُ غَيْرُهُ فِيهِ حَرَجٌ فَيَكُونُ مَنْفِيًّا، وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: إِنَّمَا يُعْتَبَرُ مَا يَفْحُشُ فِي نُفُوسِ أَوْسَاطِ النَّاسِ، وَلَوِ اسْتَخْرَجَ كَثِيرَهُ بِقُطْنَةٍ نَقَضَ أَيْضًا؛
__________
(1) البدائع 1 / 25.

(26/346)


لأَِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا خَرَجَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمُعَالَجَةٍ لاَ أَثَرَ لَهُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ وَعَدَمِهِ، وَقَدْ نُقِل عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِل: كَمِ الْكَثِيرُ؟ فَقَال: شِبْرٌ فِي شِبْرٍ، وَفِي مَوْضِعٍ قَال: قَدْرُ الْكَفِّ فَاحِشٌ، وَفِي مَوْضِعٍ قَال: الَّذِي يُوجِبُ الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ مِقْدَارَ مَا يَرْفَعُهُ الإِْنْسَانُ بِأَصَابِعِهِ الْخَمْسِ مِنَ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ وَالْقَيْءِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، فَقِيل لَهُ: إِنْ كَانَ مِقْدَارَ عَشَرَةِ أَصَابِعَ؟ فَرَآهُ كَثِيرًا (1)

صَلاَةُ مَنْ تَنَجَّسَ ثَوْبُهُ أَوْ بَدَنُهُ بِالصَّدِيدِ:
7 - مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الصَّلاَةِ: طَهَارَةَ الثَّوْبِ، وَالْبَدَنِ، وَالْمَكَانِ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَإِذَا أَصَابَ الْبَدَنَ أَوِ الثَّوْبَ شَيْءٌ مِنَ الصَّدِيدِ فَإِنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ يُعْفَى عَنِ الْيَسِيرِ وَتَجُوزُ الصَّلاَةُ بِهِ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ غَالِبًا لاَ يَسْلَمُ مِنْ مِثْل هَذَا؛ وَلأَِنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
8 - لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الْيَسِيرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ فَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ غَيْرِ زُفَرَ قَدْرُ الدِّرْهَمِ وَمَا دُونَهُ، فَإِنْ زَادَ لَمْ تَجُزِ الصَّلاَةُ بِهِ، وَقَال زُفَرُ: لاَ يُعْفَى عَنْهُ؛ لأَِنَّ قَلِيل النَّجَاسَةِ وَكَثِيرَهَا سَوَاءٌ.
وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُعْفَى عَمَّا دُونَ الدِّرْهَمِ، أَمَّا قَدْرُ الدِّرْهَمِ فَقَدْ قِيل: إِنَّهُ مِنَ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 124 - 125، والمغني 1 / 184 - 186.

(26/346)


الْكَثِيرِ وَقِيل: إِنَّهُ مِنَ الْقَلِيل.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قِيل: يُعْفَى عَنِ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ عَلَى الرَّاجِحِ مَا لَمْ يَكُنْ بِفِعْلِهِ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ لاَ يَخْلُو مِنْهَا غَالِبًا، فَلَوْ وَجَبَ الْغُسْل فِي كُل مَرَّةٍ لَشَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، أَمَّا مَا خَرَجَ مِنْهَا بِفِعْلِهِ فَيُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ فَقَطْ، وَقِيل: يُعْفَى عَنِ الْيَسِيرِ فَقَطْ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَتَعَافَاهُ النَّاسُ فِي الْعَادَةِ،
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الْيَسِيرُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ هُوَ الَّذِي لَمْ يُنْقِضِ الْوُضُوءَ، أَيْ: مَا لاَ يَفْحُشْ فِي النَّفْسِ (1) .

صَدِيقٌ

انْظُرْ: صَدَاقَةٌ
__________
(1) الاختيار 1 / 32، والهداية 1 / 35، والدسوقي 1 / 73، ومغني المحتاج 1 / 194، والوجيز 1 / 48، والمهذب 1 / 67، وكشاف القناع 1 / 190، وشرح منتهى الإرادات 1 / 102، والحطاب والمواق 1 / 104 - 105.

(26/347)