لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَل قَائِمًا
(1) وَلأَِنَّهُ رُكْنٌ قَدَرَ عَلَيْهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ
فَرْقٌ وَاضِحٌ بَيْنَ الإِْيمَاءَيْنِ إِذَا عَجَزَ عَنِ السُّجُودِ
أَيْضًا.
الثَّانِي: عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْقِيَامَ يَسْقُطُ عَنِ
الْمَرِيضِ حَال الرُّكُوعِ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ مَعَ
عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الرُّكُوعِ فَيُصَلِّي قَاعِدًا يُومِئُ
إِيمَاءً؛ لأَِنَّ رُكْنِيَّةَ الْقِيَامِ لِلتَّوَصُّل بِهِ إِلَى
السَّجْدَةِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ نِهَايَةِ التَّعْظِيمِ، فَإِذَا كَانَ
لاَ يَتَعَقَّبُهُ السُّجُودُ لاَ يَكُونُ رُكْنًا فَيَتَخَيَّرُ،
وَالأَْفْضَل عِنْدَهُمْ هُوَ الإِْيمَاءُ قَاعِدًا؛ لأَِنَّهُ
أَشْبَهُ بِالسُّجُودِ (2) .
عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى السُّجُودِ:
9 - السُّجُودُ رُكْنٌ فِي الصَّلاَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} ، وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى
السُّجُودِ وَالْجُلُوسِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ عَلَى
اتِّجَاهَيْنِ:
الأَْوَّل: يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْقَادِرَ
عَلَى الْقِيَامِ فَقَطْ دُونَ السُّجُودِ وَالْجُلُوسِ يُومِئُ
لَهُمَا مِنَ الْقِيَامِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَضْطَجِعَ
وَيُومِئَ لَهُمَا مِنَ اضْطِجَاعِهِ، فَإِنِ اضْطَجَعَ تَبْطُل
الصَّلاَةُ عِنْدَهُمْ (3) .
الثَّانِي: يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْقَادِرَ
__________
(1) حديث عمران بن حصين تقدم ف 5.
(2) الهداية 1 / 77 الطحطاوي 235.
(3) المهذب 1 / 108، الشرح الصغير 1 / 493.
(27/262)
عَلَى الْقِيَامِ فَقَطْ دُونَ السُّجُودِ
وَالْجُلُوسِ يُومِئُ لَهُمَا وَهُوَ قَائِمٌ؛ لأَِنَّ السَّاجِدَ
عِنْدَهُمْ كَالْجَالِسِ فِي جَمْعِ رِجْلَيْهِ عَلَى أَنْ يَحْصُل
فَرْقٌ بَيْنَ الإِْيمَاءَيْنِ (1) .
عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى وَضْعِ الْجَبْهَةِ وَالأَْنْفِ:
10 - السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ وَاجِبٌ (2) ، حَيْثُ كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ أَمْكَنَ
أَنْفَهُ وَجَبْهَتَهُ مِنَ الأَْرْضِ (3) وَإِنْ سَجَدَ عَلَى
مِخَدَّةٍ أَجْزَأَهُ؛ لأَِنَّ أُمَّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا - سَجَدَتْ عَلَى مِخَدَّةٍ لِرَمَدٍ بِهَا بِلاَ رَفْعٍ،
وَاحْتُجَّ بِفِعْل ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
وَغَيْرِهِمَا (4) .
فَإِنْ رَفَعَ شَيْئًا كَالْوِسَادَةِ أَوِ الْخَشَبَةِ أَوِ الْحَجَرِ
إِلَى جَبْهَتِهِ فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّهُ لاَ
يُجْزِئُهُ؛ لاِنْعِدَامِ السُّجُودِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَسْجُدَ عَلَى الأَْرْضِ
وَإِلاَّ فَأَوْمِئْ إِيمَاءً، وَاجْعَل سُجُودَكَ أَخْفَضَ مِنْ
رُكُوعِكَ
__________
(1) المنتهى 1 / 272، الهداية 1 / 77، الطحطاوي 235، العدة شرح العمدة
ص 100.
(2) المهذب 1 / 83، الشرح الصغير 1 / 493، الهداية 1 / 77، شرح المنتهى
1 / 271.
(3) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من
الأرض ". أخرجه الترمذي (2 / 59 - ط. الحلبي) من حديث أبي حميد الساعدي
وفي إسناده راو متكلم فيه، كما في الميزان للذهبي (3 / 365 - ط.
الحلبي) .
(4) المهذب 1 / 108، شرح المنتهى 1 / 271، الهداية 1 / 77، الشرح
الصغير 1 / 493.
(27/262)
بِرَأْسِكَ (1) فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ وَهُوَ
يَخْفِضُ رَأْسَهُ أَجْزَأَهُ؛ لِوُجُودِ الإِْيمَاءِ، وَإِنْ وَضَعَ
ذَلِكَ عَلَى جَبْهَتِهِ لاَ يُجْزِئُهُ (2) .
وَيُكْرَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ وَيُجْزِئُهُ عِنْدَ آخَرِينَ
نَصًّا؛ لأَِنَّهُ أَتَى بِمَا أَمْكَنَهُ مِنْهُ أَشْبَهَ الإِْيمَاءَ
(3) .
وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْمُصَلِّي تَمْكِينَ جَبْهَتِهِ مِنَ
الأَْرْضِ لِعِلَّةٍ بِهَا، اقْتَصَرَ عَلَى الأَْنْفِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَزَادَ
الشَّافِعِيَّةُ:
إِنْ كَانَ بِجَبْهَتِهِ جِرَاحَةٌ عَصَبَهَا بِعِصَابَةٍ وَسَجَدَ
عَلَيْهَا، وَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ عَلَى الْمَذْهَبِ (4) .
عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِقْبَال الْمَرِيضِ لِلْقِبْلَةِ:
11 - الْمَرِيضُ الْعَاجِزُ عَنِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ وَلاَ يَجِدُ
مَنْ يُحَوِّلُهُ إِلَيْهَا - لاَ مُتَبَرِّعًا وَلاَ بِأُجْرَةِ
مِثْلِهِ وَهُوَ وَاجِدُهَا - فَإِنَّهُ يُصَلِّي عَلَى حَسْبِ
حَالَتِهِ.
وَلِلتَّفْصِيل رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (اسْتِقْبَالٌ) .
__________
(1) حديث: " إن استطعت أن تسجد على الأرض، وإلا فأومئ ". أخرجه
الطبراني في الكبير (12 / 270 - ط. وزارة الأوقاف العراقية) من حديث
ابن عمر، وضعف إسناده ابن حجر في التلخيص (1 / 227 - ط. شركة الطباعة
الفنية) .
(2) الهداية 1 / 77، مراقي الفلاح 235.
(3) شرح المنتهى 1 / 271.
(4) مراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه ص 162 بولاق والشرح الصغير 1 /
493، والمجموع 3 / 424، والفروع 1 / 434، 435 وكشاف القناع 1 / 352،
والمغني 1 / 516.
(27/263)
صَلاَةُ الْمَرِيضِ جَمَاعَةً:
12 - الْمَرِيضُ إِنْ قَدَرَ عَلَى الصَّلاَةِ وَحْدَهُ قَائِمًا،
وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الإِْمَامِ لِتَطْوِيلِهِ صَلَّى
مُنْفَرِدًا؛ لأَِنَّ الْقِيَامَ آكَدُ؛ لِكَوْنِهِ رُكْنًا فِي
الصَّلاَةِ لاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِهِ. وَالْجَمَاعَةُ تَصِحُّ
الصَّلاَةُ بِدُونِهَا؛ وَلأَِنَّ الْعَجْزَ يَتَضَاعَفُ
بِالْجَمَاعَةِ أَكْثَرَ مِنْ تَضَاعُفِهِ بِالْقِيَامِ، بِدَلِيل
أَنَّ صَلاَةَ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلاَةِ الْقَائِمِ،
وَصَلاَةَ الْجَمَاعَةِ تَفْضُل صَلاَةَ الرَّجُل وَحْدَهُ سَبْعًا
وَعِشْرِينَ دَرَجَةً (1) .
الْعَجْزُ عَنِ الْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ:
13 - إِنْ تَعَذَّرَ عَلَى الْمَرِيضِ الْقِيَامُ وَالْجُلُوسُ فِي آنٍ
وَاحِدٍ صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ دُونَ تَحْدِيدٍ لِلشِّقِّ الأَْيْمَنِ
أَوِ الأَْيْسَرِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ،
وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ،
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الأَْفْضَل أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى
جَنْبِهِ الأَْيْمَنِ ثُمَّ الأَْيْسَرِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ عَلَى
جَنْبِهِ يُصَلِّي مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ وَرِجْلاَهُ إِلَى
الْقِبْلَةِ وَأَوْمَأَ بِطَرَفِهِ. وَالدَّلِيل عَلَى مَا سَبَقَ
قَوْل النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعِمْرَانَ
بْنِ حُصَيْنٍ: صَل قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا،
فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ (2) .
__________
(1) المهذب 1 / 108، الهداية 1 / 55، شرح المنتهى 1 / 272، والشرح
الصغير 1 / 578، والمغني 2 / 145.
(2) حديث عمران بن حصين تقدم تخريجه ف5.
(27/263)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ مُسْتَلْقِيًا عَلَى ظَهْرِهِ صَلَّى عَلَى
بَطْنِهِ وَرَأْسِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَإِنْ قَدَّمَهَا عَلَى
الظَّهْرِ بَطَلَتْ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ
تَعَسَّرَ الْقُعُودُ أَوْمَأَ مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ، أَوْ
عَلَى أَحَدِ جَنْبَيْهِ وَالأَْيْمَنُ أَفْضَل مِنَ الأَْيْسَرِ،
وَالاِسْتِلْقَاءُ عَلَى قَفَاهُ أَوْلَى مِنَ الْجَنْبِ إِنْ
تَيَسَّرَ، وَالْمُسْتَلْقِي يَجْعَل تَحْتَ رَأْسِهِ شَيْئًا
كَالْوِسَادَةِ؛ لِيَصِيرَ وَجْهُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ لاَ إِلَى
السَّمَاءِ، وَلِيَتَمَكَّنَ مِنَ الإِْيمَاءِ (1) .
وَصَلاَةُ الْمَرِيضِ بِالْهَيْئَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ
فِيمَا سَبَقَ لاَ يُنْقِصُ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا؛ لِحَدِيثِ أَبِي
مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا: إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ
أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْل مَا كَانَ يَعْمَل مُقِيمًا صَحِيحًا
(2) .
كَيْفِيَّةُ الإِْيمَاءِ:
14 - إِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْمَرِيضُ الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ أَوِ
الرُّكُوعَ أَوِ الْجُلُوسَ أَوْ جَمِيعَهَا فَاحْتَاجَ إِلَى
الإِْيمَاءِ فَهَل يُومِئُ بِرَأْسِهِ لَهَا أَمْ بِعَيْنِهِ أَمْ
بِقَلْبِهِ؟
فَالْجُمْهُورُ أَنَّ الْمَرِيضَ يُومِئُ بِمَا
__________
(1) المهذب 1 / 108، الهداية 1 / 77، بداية المجتهد لابن رشد 1 / 192،
199، العدة ص 99، 100.
(2) حديث: " إذا مرض العبد. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 136 - ط.
السلفية) .
(27/264)
يَسْتَطِيعُهُ (1) وَذَلِكَ لِحَدِيثِ:
إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (2)
وَالأَْصْل أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ إِلاَّ الإِْيمَاءَ
فَيُومِئُ بِرَأْسِهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الإِْيمَاءِ بِرَأْسِهِ
أَوْمَأَ بِطَرَفِهِ (عَيْنِهِ) نَاوِيًا مُسْتَحْضِرًا تَيْسِيرًا
لَهُ لِلْفِعْل عِنْدَ إِيمَائِهِ، وَنَاوِيًا الْقَوْل إِذَا أَوْمَأَ
لَهُ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْقَوْل فَبِقَلْبِهِ مُسْتَحْضِرًا لَهُ،
كَالأَْسِيرِ، وَالْخَائِفِ مِنْ آخَرِينَ إِنْ عَلِمُوا بِصَلاَتِهِ
يُؤْذُونَهُ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ - مَا عَدَا زُفَرَ - فَإِنَّ الَّذِي لاَ
يَسْتَطِيعُ الإِْيمَاءَ بِرَأْسِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَخِّرَ
الصَّلاَةَ، وَلاَ يُومِئُ بِعَيْنِهِ وَلاَ بِقَلْبِهِ وَلاَ
بِحَاجِبِهِ
وَعِنْدَهُمْ لاَ قِيَاسَ عَلَى الرَّأْسِ؛ لأَِنَّهُ يَتَأَدَّى بِهِ
رُكْنُ الصَّلاَةِ دُونَ الْعَيْنِ وَغَيْرِهَا وَإِنْ كَانَ الْعَجْزُ
أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِذَا كَانَ مُفِيقًا؛ لأَِنَّهُ
يَفْهَمُ مَضْمُونَ الْخِطَابِ بِخِلاَفِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ (3) .
الْعَجْزُ الْمُؤَقَّتُ:
15 - قَدْ يَعْجِزُ الْمَرِيضُ بَعْضَ الْوَقْتِ عَنْ قِيَامٍ، أَوْ
قُعُودٍ، أَوْ رُكُوعٍ، أَوْ سُجُودٍ، ثُمَّ يَسْتَطِيعُهُ بَعْدَ
ذَلِكَ. فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَ
صَلاَتَهُ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ، وَيَرْجِعَ إِلَى
__________
(1) المهذب 1 / 108، شرح منتهى الإرادات 1 / 271، الشرح الصغير 492 -
493، والهداية 1 / 77.
(2) حديث 1 " إذا أمرتكم بأمر. . . ". تقدم ف7.
(3) الهداية 1 / 77، وشرح المنتهى 1 / 271.
(27/264)
مَا يَسْتَطِيعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَوِ
افْتَتَحَ الصَّلاَةَ قَائِمًا ثُمَّ عَجَزَ فَقَعَدَ وَأَتَمَّ
صَلاَتَهُ جَازَ لَهُ ذَلِكَ. وَإِنِ افْتَتَحَهَا قَاعِدًا ثُمَّ
قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ قَامَ وَأَتَمَّ صَلاَتَهُ؛ لأَِنَّهُ يَجُوزُ
أَنْ يُؤَدِّيَ جَمِيعَ صَلاَتِهِ قَاعِدًا عِنْدَ الْعَجْزِ،
وَجَمِيعَهَا قَائِمًا عِنْدَ الْقُدْرَةِ، فَجَازَ أَنْ يُؤَدِّيَ
بَعْضَهَا قَاعِدًا عِنْدَ الْعَجْزِ وَبَعْضَهَا قَائِمًا عِنْدَ
الْقُدْرَةِ.
وَإِنِ افْتَتَحَ الصَّلاَةَ قَاعِدًا ثُمَّ عَجَزَ اضْطَجَعَ، وَإِنِ
افْتَتَحَهَا مُضْطَجِعًا ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ أَوِ
الْقُعُودِ قَامَ أَوْ قَعَدَ (1)
الطُّمَأْنِينَةُ لِلْمَرِيضِ فِي صَلاَتِهِ:
16 - قَال النَّوَوِيُّ (2) : لاَ يَلْزَمُ الْمَرِيضَ
الطُّمَأْنِينَةُ عِنْدَ الْقِيَامِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا
لِنَفْسِهِ. وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ (3) هَل هُوَ سُنَّةٌ أَمْ
وَاجِبٌ؟ وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (صَلاَة)
.
إِمَامَةُ الْمَرِيضِ:
17 - الْمَرِيضُ تَخْتَلِفُ حَالُهُ مِنْ وَاحِدٍ لآِخَرَ فَقَدْ
يَكُونُ الْمَرَضُ سَلَسَ بَوْلٍ، أَوِ انْفِلاَتَ رِيحٍ، أَوْ جُرْحًا
سَائِلاً أَوْ رُعَافًا، وَلِكُل حَالَةٍ مِنْ هَذِهِ الْحَالاَتِ
أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بِالنِّسْبَةِ
__________
(1) نفس المراجع السابقة.
(2) المجموع للنووي 2 / 187.
(3) الهداية 1 / 50.
(27/265)
لِلإِْمَامَةِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ:
(اقْتِدَاء، إِمَامَة) .
الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ لِلْمَرِيضِ:
18 - لِلْفُقَهَاءِ فِي مَسْأَلَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ
لِلْمَرِيضِ رَأْيَانِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ،
وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ
الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ لأَِجْل الْمَرَضِ، وَذَلِكَ
لأَِنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَنَّهُ جَمَعَ لأَِجْل الْمَرَضِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى جَوَازِ
الْجَمْعِ لِلْمَرِيضِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ، وَيُخَيَّرُ بَيْنَ
التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْمَرَضُ
دَوْخَةً أَوْ حُمَّى أَوْ غَيْرَهُمَا (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 255 - 256، والمهذب 1 / 112، والشرح الصغير 1
/ 673 - 674.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 280، والشرح الصغير 1 / 673.
(27/265)
صَلاَةُ الْمُسَافِرِ
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّفَرُ لُغَةً: قَطْعُ الْمَسَافَةِ، وَخِلاَفُ الْحَضَرِ (أَيِ
الإِْقَامَةِ) ، وَالْجَمْعُ: أَسْفَارٌ، وَرَجُلٌ سَفْرٌ، وَقَوْمٌ
سَفْرٌ: ذَوُو سَفْرٍ (1) .
وَالْفُقَهَاءُ يَقْصِدُونَ بِالسَّفَرِ: السَّفَرَ الَّذِي
تَتَغَيَّرُ بِهِ الأَْحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ وَهُوَ: أَنْ يَخْرُجَ
الإِْنْسَانُ مِنْ وَطَنِهِ قَاصِدًا مَكَانًا يَسْتَغْرِقُ الْمَسِيرُ
إِلَيْهِ مَسَافَةً مُقَدَّرَةً عِنْدَهُمْ، عَلَى اخْتِلاَفٍ
بَيْنَهُمْ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهَا.
وَالْمُرَادُ بِالْقَصْدِ: الإِْرَادَةُ الْمُقَارِنَةُ لِمَا عَزَمَ
عَلَيْهِ، فَلَوْ طَافَ الإِْنْسَانُ جَمِيعَ الْعَالَمِ بِلاَ قَصْدِ
الْوُصُول إِلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ فَلاَ يَصِيرُ مُسَافِرًا.
وَلَوْ أَنَّهُ قَصَدَ السَّفَرَ، وَلَمْ يَقْتَرِنْ قَصْدُهُ
بِالْخُرُوجِ فِعْلاً فَلاَ يَصِيرُ مُسَافِرًا كَذَلِكَ؛ لأَِنَّ
الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّ تَغْيِيرِ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ هُوَ
السَّفَرُ الَّذِي اجْتَمَعَ فِيهِ الْقَصْدُ وَالْفِعْل (2) .
__________
(1) لسان العرب ومختار الصحاح.
(2) الهداية وشروحها فتح القدير والعناية 1 / 392 ط. المطبعة الكبرى
بمصر سنة 1325 هـ، والشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه (1 /
362. مصطفى محمد) ومغني المحتاج 1 / 264، وكشاف القناع 1 / 326.
(27/266)
خَصَائِصُ السَّفَرِ:
2 - يَخْتَصُّ السَّفَرُ بِأَحْكَامٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ، وَتَتَغَيَّرُ
بِوُجُودِهِ، وَمِنْ أَهَمِّهَا: قَصْرُ الصَّلاَةِ الرُّبَاعِيَّةِ،
وَإِبَاحَةُ الْفِطْرِ لِلصَّائِمِ، وَامْتِدَادُ مُدَّةِ الْمَسْحِ
عَلَى الْخُفَّيْنِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ
الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ،
وَحُرْمَةُ السَّفَرِ عَلَى الْحُرَّةِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، وَوِلاَيَةُ
الأَْبْعَدِ.
وَيَقْتَصِرُ هَذَا الْبَحْثُ عَلَى مَا يَتَّصِل بِالسَّفَرِ مِنْ
حَيْثُ قَصْرُ الصَّلاَةِ. أَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِغَيْرِهَا مِنْ
أَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ يُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحِ (سَفَر، صَوْم، الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، أَوْقَاتُ
الصَّلاَةِ، نِكَاح، وَوِلاَيَة) .
تَقْسِيمُ الْوَطَنِ:
يَنْقَسِمُ الْوَطَنُ إِلَى: وَطَنٍ أَصْلِيٍّ، وَوَطَنِ إِقَامَةٍ،
وَوَطَنِ سُكْنَى.
الْوَطَنُ الأَْصْلِيُّ:
3 - هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَسْتَقِرُّ فِيهِ الإِْنْسَانُ
بِأَهْلِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَوْطِنَ وِلاَدَتِهِ أَمْ بَلْدَةً
أُخْرَى، اتَّخَذَهَا دَارًا وَتَوَطَّنَ بِهَا مَعَ أَهْلِهِ
وَوَلَدِهِ، وَلاَ يَقْصِدُ الاِرْتِحَال عَنْهَا، بَل التَّعَيُّشُ
بِهَا.
(27/266)
وَيَأْخُذُ حُكْمَ الْوَطَنِ: الْمَكَانُ
الَّذِي تَأَهَّل بِهِ، أَيْ تَزَوَّجَ بِهِ، وَلاَ يَحْتَاجُ
الْوَطَنُ الأَْصْلِيُّ إِلَى نِيَّةِ الإِْقَامَةِ. لَكِنَ
الْمَالِكِيَّةُ يَشْتَرِطُونَ: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مَدْخُولاً
بِهَا غَيْرَ نَاشِزٍ.
وَمِمَّا تَقَدَّمَ يَتَبَيَّنُ: أَنَّ الْوَطَنَ الأَْصْلِيَّ
يَتَحَقَّقُ عِنْدَ أَغْلَبِ الْفُقَهَاءِ بِالإِْقَامَةِ الدَّائِمَةِ
عَلَى نِيَّةِ التَّأْبِيدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي مَكَانِ وِلاَدَتِهِ
أَمْ فِي مَكَانٍ آخَرَ، وَيُلْحَقُ بِذَلِكَ مَكَانُ الزَّوْجَةِ (1)
.
4 - وَالْوَطَنُ الأَْصْلِيُّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أَوْ
أَكْثَرَ، وَذَلِكَ مِثْل أَنْ يَكُونَ لَهُ أَهْلٌ وَدَارٌ فِي
بَلْدَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ نِيَّةِ أَهْلِهِ
الْخُرُوجُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ يَنْتَقِل مِنْ أَهْلٍ إِلَى أَهْلٍ
فِي السَّنَةِ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ خَرَجَ مُسَافِرًا مِنْ بَلْدَةٍ
فِيهَا أَهْلُهُ، وَدَخَل بَلْدَةً أُخْرَى فِيهَا أَهْلُهُ، فَإِنَّهُ
يَصِيرُ مُقِيمًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الإِْقَامَةِ (2) .
مَا يُنْتَقَضُ بِهِ الْوَطَنُ الأَْصْلِيُّ:
5 - الْوَطَنُ الأَْصْلِيُّ يُنْتَقَضُ بِمِثْلِهِ لاَ غَيْرُ، وَهُوَ
أَنْ يَتَوَطَّنَ الإِْنْسَانُ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى وَيَنْقُل
الأَْهْل إِلَيْهَا مِنْ بَلْدَتِهِ مُضْرِبًا عَنِ الْوَطَنِ
الأَْوَّل، وَرَافِضًا سُكْنَاهُ، فَإِنَّ الْوَطَنَ الأَْوَّل
يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ وَطَنًا أَصْلِيًّا لَهُ،
__________
(1) ابن عابدين 1 / 555، 556، والبدائع 1 / 102، 104، والشرح الكبير
للدردير وحاشية الدسوقي 1 / 362، 364، ومغني المحتاج 1 / 262، وكشاف
القناع 1 / 327، 335.
(2) المراجع السابقة.
(27/267)
حَتَّى لَوْ دَخَل فِيهِ مُسَافِرًا لاَ
تَصِيرُ صَلاَتُهُ أَرْبَعًا.
وَالأَْصْل فِيهِ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ - كَانُوا مِنْ أَهْل مَكَّةَ، وَكَانَ لَهُمْ بِهَا
أَوْطَانٌ أَصْلِيَّةٌ، ثُمَّ لَمَّا هَاجَرُوا وَتَوَطَّنُوا
بِالْمَدِينَةِ، وَجَعَلُوهَا دَارًا لأَِنْفُسِهِمُ انْتَقَضَ
وَطَنُهُمُ الأَْصْلِيُّ بِمَكَّةَ، حَتَّى كَانُوا إِذَا أَتَوْا
مَكَّةَ يُصَلُّونَ صَلاَةَ الْمُسَافِرِينَ.
وَلِذَلِكَ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ
صَلَّى بِهِمْ: أَتِمُّوا يَا أَهْل مَكَّةَ صَلاَتَكُمْ فَإِنَّا
قَوْمٌ سَفْرٌ (1) .
وَلاَ يُنْتَقَضُ الْوَطَنُ الأَْصْلِيُّ بِوَطَنِ الإِْقَامَةِ، وَلاَ
بِوَطَنِ السُّكْنَى؛ لأَِنَّهُمَا دُونَهُ، وَالشَّيْءُ لاَ يُنْسَخُ
بِمَا هُوَ دُونَهُ، وَكَذَا لاَ يُنْتَقَضُ بِنِيَّةِ السَّفَرِ
وَالْخُرُوجِ مِنْ وَطَنِهِ حَتَّى يَصِيرَ مُقِيمًا بِالْعَوْدَةِ
مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الإِْقَامَةِ.
وَطَنُ الإِْقَامَةِ:
6 - هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَقْصِدُ الإِْنْسَانُ أَنْ يُقِيمَ بِهِ
مُدَّةً قَاطِعَةً لِحُكْمِ السَّفَرِ فَأَكْثَرَ عَلَى نِيَّةِ أَنْ
يُسَافِرَ بَعْدَ ذَلِكَ،
مَعَ اخْتِلاَفٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ فِي مِقْدَارِ هَذِهِ الْمُدَّةِ
كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهَا.
__________
(1) حديث: " أتموا يا أهل مكة صلاتكم ". أخرجه الطحاوي (شرح معاني
الآثار 1 / 417 نشر مطبعة الأنوار المحمدية) من حديث عمران بن حصين
بلفظ: " يا أهل مكة قوموا فصلوا ركعتين أخراوين فإنا قوم سفر ". وأخرجه
أبو داود (2 / 23 - 24) بهذا المعنى، وصححه الترمذي (2 / 430 ط الحلبي)
وتعقبه (مختصر سنن أبي داود 2 / 61) بما يشير إلى تضعيفه.
(27/267)
أَمَّا شَرَائِطُهُ: فَقَدْ ذَكَرَ
الْكَرْخِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَيْنِ:
الرِّوَايَةَ الأُْولَى: إِنَّمَا يَصِيرُ الْوَطَنُ وَطَنَ إِقَامَةٍ
بِشَرِيطَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَتَقَدَّمَهُ سَفَرٌ.
وَالثَّانِيَةَ: أَنْ يَكُونَ بَيْنَ وَطَنِهِ الأَْصْلِيِّ وَبَيْنَ
هَذَا الْمَوْضِعِ (الَّذِي تَوَطَّنَ فِيهِ بِنِيَّةِ إِقَامَةِ
هَذِهِ الْمُدَّةِ) مَسَافَةُ الْقَصْرِ.
وَبِدُونِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ لاَ يَصِيرُ وَطَنَ إِقَامَةٍ،
وَإِنْ نَوَى الإِْقَامَةَ مُدَّةً قَاطِعَةً لِلسَّفَرِ فِي مَكَان
صَالِحٍ لِلإِْقَامَةِ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُل الْمُقِيمَ لَوْ خَرَجَ
مِنْ مِصْرِهِ إِلَى قَرْيَةٍ لاَ لِقَصْدِ السَّفَرِ، وَنَوَى أَنْ
يَتَوَطَّنَ بِهَا الْمُدَّةَ الْقَاطِعَةَ لِلسَّفَرِ فَلاَ تَصِيرُ
تِلْكَ الْقَرْيَةُ وَطَنَ إِقَامَةٍ لَهُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا
مَسَافَةُ الْقَصْرِ؛ لاِنْعِدَامِ تَقَدُّمِ السَّفَرِ. وَكَذَا إِذَا
قَصَدَ مَسِيرَةَ سَفَرٍ، وَخَرَجَ حَتَّى وَصَل إِلَى قَرْيَةٍ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَطَنِهِ الأَْصْلِيِّ أَقَل مِنْ مَسَافَةِ
الْقَصْرِ، وَنَوَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا الْمُدَّةَ الْقَاطِعَةَ
لِلسَّفَرِ لاَ تَصِيرُ تِلْكَ الْقَرْيَةُ وَطَنَ إِقَامَةٍ لَهُ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ - وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - أَنَّهُ يَصِيرُ مُقِيمًا مِنْ غَيْرِ
هَاتَيْنِ الشَّرِيطَتَيْنِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ يَشْتَرِطُونَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ إِنْ كَانَتْ
(27/268)
نِيَّةُ الإِْقَامَةِ فِي ابْتِدَاءِ
السَّيْرِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي أَثْنَائِهِ فَلاَ تُشْتَرَطُ
الْمَسَافَةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ (1) .
مَا يُنْتَقَضُ بِهِ وَطَنُ الإِْقَامَةِ:
7 - وَطَنُ الإِْقَامَةِ يُنْتَقَضُ بِالْوَطَنِ الأَْصْلِيِّ؛
لأَِنَّهُ فَوْقَهُ، وَبِوَطَنِ الإِْقَامَةِ؛ لأَِنَّهُ مِثْلُهُ
وَالشَّيْءُ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ بِمِثْلِهِ، وَيُنْتَقَضَ
بِالسَّفَرِ - أَيْضًا - لأَِنَّ تَوَطُّنَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ
لَيْسَ لِلْقَرَارِ، وَلَكِنْ لِحَاجَةٍ، فَإِذَا سَافَرَ مِنْهُ
يُسْتَدَل بِهِ عَلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ، فَصَارَ مُعْرِضًا عَنِ
التَّوَطُّنِ بِهِ، فَصَارَ نَاقِضًا لَهُ، وَلاَ يُنْتَقَضُ وَطَنُ
الإِْقَامَةِ بِوَطَنِ السُّكْنَى؛ لأَِنَّهُ دُونَهُ فَلاَ
يَنْسَخُهُ.
وَطَنُ السُّكْنَى:
8 - هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَقْصِدُ الإِْنْسَانُ الْمَقَامَ بِهِ
أَقَل مِنَ الْمُدَّةِ الْقَاطِعَةِ لِلسَّفَرِ.
وَشَرْطُهُ: نِيَّةُ عَدَمِ الإِْقَامَةِ الْمُدَّةِ الْقَاطِعَةِ
لِلسَّفَرِ، وَلِذَلِكَ يُعْتَبَرُ مُسَافِرًا بِهَذِهِ النِّيَّةِ
وَإِنْ طَال مَقَامُهُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ لَيْلَةً يَقْصُرُ
الصَّلاَةَ (2) ،
__________
(1) البدائع 1 / 103، 104، الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 362، 364.
(2) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عشرين يوما يقصر
الصلاة. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 72 تحقيق عزت عبيد دعاس) والبيهقي
(3 / 152 - ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث جابر بن عبد الله.
وأعله أبو داود بكونه روي مرسلا، وأما البيهقي فقال: " لا أراه محفوظا
".
(27/268)
وَرُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَقَامَ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى
نَيْسَابُورَ شَهْرَيْنِ وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ (1) .
إِلاَّ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَيْسَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ
الْمَذَاهِبِ عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
مَا يُنْتَقَضُ بِهِ وَطَنُ السُّكْنَى:
9 - وَطَنُ السُّكْنَى يُنْتَقَضُ بِالْوَطَنِ الأَْصْلِيِّ وَبِوَطَنِ
الإِْقَامَةِ؛ لأَِنَّهُمَا فَوْقَهُ، وَيُنْتَقَضُ بِوَطَنِ
السُّكْنَى؛ لأَِنَّهُ مِثْلُهُ، وَيُنْتَقَضُ بِالسَّفَرِ؛ لأَِنَّ
تَوَطُّنَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَيْسَ لِلْقَرَارِ، وَلَكِنْ
لِحَاجَةٍ، فَإِذَا سَافَرَ مِنْهُ يُسْتَدَل بِهِ عَلَى انْقِضَاءِ
حَاجَتِهِ، فَصَارَ مُعْرِضًا عَنِ التَّوَطُّنِ بِهِ، فَصَارَ
نَاقِضًا لَهُ.
هَذَا، وَالْفَقِيهُ الْجَلِيل أَبُو أَحْمَدَ الْعِيَاضِيُّ قَسَّمَ
الْوَطَنَ إِلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدِهِمَا: وَطَنِ قَرَارٍ وَالآْخَرِ:
مُسْتَعَارٍ.
صَيْرُورَةُ الْمُقِيمِ مُسَافِرًا وَشَرَائِطُهَا:
10 - يَصِيرُ الْمُقِيمُ مُسَافِرًا إِذَا تَحَقَّقَتِ الشَّرَائِطُ
الآْتِيَةُ:
الشَّرِيطَةُ الأُْولَى: الْخُرُوجُ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ مَوْطِنِ
إِقَامَتِهِ، وَهُوَ أَنْ يُجَاوِزَ عُمْرَانَ بَلْدَتِهِ وَيُفَارِقَ
بُيُوتَهَا، وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ مَا يُعَدُّ مِنْهُ عُرْفًا
كَالأَْبْنِيَةِ الْمُتَّصِلَةِ، وَالْبَسَاتِينِ الْمَسْكُونَةِ،
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 1 / 11 طبعة دار الشعب بالقاهرة سنة 1386
هـ البدائع 1 / 103، 104.
(27/269)
وَالْمَزَارِعِ، وَالأَْسْوَارِ، وَذَلِكَ
عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَلاَ بُدَّ مِنَ اقْتِرَانِ النِّيَّةِ بِالْفِعْل؛ لأَِنَّ السَّفَرَ
الشَّرْعِيَّ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ نِيَّةِ السَّفَرِ كَمَا تَقَدَّمَ،
وَلاَ تُعْتَبَرُ النِّيَّةُ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ مُقَارِنَةً
لِلْفِعْل، وَهُوَ الْخُرُوجُ؛ لأَِنَّ مُجَرَّدَ قَصْدِ الشَّيْءِ
مِنْ غَيْرِ اقْتِرَانٍ بِالْفِعْل يُسَمَّى عَزْمًا، وَلاَ يُسَمَّى
نِيَّةً، وَفِعْل السَّفَرِ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بَعْدَ الْخُرُوجِ
مِنَ الْمِصْرِ، فَمَا لَمْ يَخْرُجْ لاَ يَتَحَقَّقُ قِرَانُ
النِّيَّةِ بِالْفِعْل، فَلاَ يَصِيرُ مُسَافِرًا.
الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ: نِيَّةُ مَسَافَةِ السَّفَرِ، فَلِكَيْ
يَصِيرَ الْمُقِيمُ مُسَافِرًا لاَ بُدَّ أَنْ يَنْوِيَ سَيْرَ
مَسَافَةِ السَّفَرِ الشَّرْعِيِّ؛ لأَِنَّ السَّيْرَ قَدْ يَكُونُ
سَفَرًا وَقَدْ لاَ يَكُونُ، فَالإِْنْسَانُ قَدْ يَخْرُجُ مِنْ
مَوْطِنِ إِقَامَتِهِ إِلَى مَوْضِعٍ لإِِصْلاَحِ ضَيْعَةٍ، ثُمَّ
تَبْدُو لَهُ حَاجَةٌ أُخْرَى إِلَى الْمُجَاوَزَةِ عَنْهُ إِلَى
مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مُدَّةُ سَفَرٍ، ثُمَّ
يَتَجَاوَزُ ذَلِكَ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ
يَقْطَعَ مَسَافَةً بَعِيدَةً أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ،
وَلِذَلِكَ لاَ بُدَّ مِنْ نِيَّةِ مُدَّةِ السَّفَرِ لِلتَّمْيِيزِ.
وَعَلَى هَذَا قَالُوا: أَمِيرٌ خَرَجَ مَعَ جَيْشِهِ فِي طَلَبِ
الْعَدُوِّ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَيْنَ يُدْرِكُهُمْ فَإِنَّهُمْ
يُصَلُّونَ صَلاَةَ الْمُقِيمِ فِي الذَّهَابِ، وَإِنْ طَالَتِ
الْمُدَّةُ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَافَ الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ
(27/269)
قَصْدٍ إِلَى قَطْعِ الْمَسَافَةِ فَلاَ
يُعَدُّ مُسَافِرًا، وَلاَ يَتَرَخَّصُ (1) .
تَحْدِيدُ أَقَل مَسَافَةِ السَّفَرِ بِالأَْيَّامِ:
11 - أَقَل هَذِهِ الْمَسَافَةِ مُقَدَّرٌ عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي التَّقْدِيرِ (2) .
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
وَاللَّيْثُ وَالأَْوْزَاعِيُّ: إِلَى أَنَّ أَقَل مُدَّةِ السَّفَرِ
مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ مُعْتَدِلَيْنِ بِلاَ لَيْلَةٍ، أَوْ مَسِيرَةُ
لَيْلَتَيْنِ مُعْتَدِلَتَيْنِ بِلاَ يَوْمٍ، أَوْ مَسِيرَةُ يَوْمٍ
وَلَيْلَةٍ.
وَذَلِكَ؛ لأَِنَّهُمْ قَدَّرُوا السَّفَرَ بِالأَْمْيَال،
وَاعْتَبَرُوا ذَلِكَ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ مِيلاً، وَذَلِكَ
أَرْبَعَةُ بُرُدٍ، وَتُقَدَّرُ بِسَيْرِ يَوْمَيْنِ مُعْتَدِلَيْنِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: يَا أَهْل مَكَّةَ: لاَ تَقْصُرُوا الصَّلاَةَ فِي أَدْنَى مِنْ
أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ (3) وَلأَِنَّ ابْنَ
عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ كَانَا يَقْصُرَانِ وَيُفْطِرَانِ فِي
أَرْبَعَةِ بُرُدٍ فَمَا فَوْقَهَا، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمَا مُخَالِفٌ،
وَأَسْنَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، مِثْل هَذَا لاَ
يَكُونُ
__________
(1) البدائع 1 / 94، 95، وفتح القدير 1 / 393 والمراجع السابقة.
(2) البدائع 1 / 93، وبداية المجتهد 1 / 162.
(3) حديث: " يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد ". أخرجه
الدارقطني (1 / 387 ط دار المحاسن) من حديث ابن عباس، وضعف إسناده ابن
حجر في التلخيص (2 / 46 ط شركة الطباعة الفنية) .
(27/270)
إِلاَّ عَنْ تَوْقِيفٍ، وَعَلَّقَهُ
الْبُخَارِيُّ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ، وَقَال الأَْثْرَمُ: قِيل لأَِبِي
عَبْدِ اللَّهِ: فِي كَمْ تُقْصَرُ الصَّلاَةُ؟ قَال: فِي أَرْبَعَةِ
بُرُدٍ، قِيل لَهُ: مَسِيرَةُ يَوْمٍ تَامٍّ؟ قَال: لاَ، أَرْبَعَةُ
بُرُدٍ: سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا: مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ. وَقَدْ
قَدَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ عُسْفَانَ إِلَى مَكَّةَ مُسْتَدِلًّا
بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَقَل مَسَافَةِ السَّفَرِ
مَسِيرَةُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِل
عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقَال: جَعَل رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ
وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ (2)
، فَقَدْ جَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكُل
مُسَافِرٍ أَنْ يَمْسَحَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا، وَلَنْ
يُتَصَوَّرَ أَنْ يَمْسَحَ الْمُسَافِرُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ
وَلَيَالِيَهَا، وَمُدَّةُ السَّفَرِ أَقَل مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ.
وَكَذَلِكَ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ
يَحِل لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ
تُسَافِرَ مَسِيرَةَ ثَلاَثِ لَيَالٍ إِلاَّ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ (3) ،
فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْمُدَّةُ مُقَدَّرَةً بِالثَّلاَثِ لَمْ يَكُنْ
لِتَخْصِيصِ الثَّلاَثِ مَعْنًى.
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 591، ومغني المحتاج 1 / 264، وكشاف
القناع 1 / 325.
(2) حديث: " جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن
للمسافر، ويوما وليلة للمقيم ". أخرجه مسلم (1 / 232 - ط. الحلبي) .
(3) حديث: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر. . . ". أخرجه مسلم
(2 / 975 - ط. الحلبي) من حديث ابن عمر.
(27/270)
وَقَدِ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ الإِْمَامُ
الشَّافِعِيُّ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلاَفِ (1) .
وَالْعِبْرَةُ بِالسَّيْرِ هُوَ السَّيْرُ الْوَسَطُ، وَهُوَ سَيْرُ
الإِْبِل الْمُثْقَلَةِ بِالأَْحْمَال، وَمَشْيُ الأَْقْدَامِ عَلَى
مَا يُعْتَادُ مِنْ ذَلِكَ، مَعَ مَا يَتَخَلَّلُهُ مِنْ نُزُولٍ
وَاسْتِرَاحَةٍ وَأَكْلٍ وَصَلاَةٍ.
وَيُحْتَرَزُ بِالسَّيْرِ الْوَسَطِ عَنِ السَّيْرِ الأَْسْرَعِ،
كَسَيْرِ الْفَرَسِ وَالْبَرِيدِ، وَعَنِ السَّيْرِ الأَْبْطَأِ،
كَسَيْرِ الْبَقَرِ يَجُرُّ الْعَجَلَةَ، فَاعْتُبِرَ الْوَسَطُ؛
لأَِنَّهُ الْغَالِبُ.
وَالسَّيْرُ فِي الْبَحْرِ يُرَاعَى فِيهِ اعْتِدَال الرِّيَاحِ؛
لأَِنَّهُ هُوَ الْوَسَطُ، وَهُوَ أَلاَّ تَكُونَ الرِّيَاحُ غَالِبَةً
وَلاَ سَاكِنَةً، وَيُعْتَبَرُ فِي الْجَبَل مَا يَلِيقُ بِهِ،
فَيُنْظَرُ كَمْ يَسِيرُ فِي مِثْل هَذَا مَسَافَةُ الْقَصْرِ
فَيُجْعَل أَصْلاً، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ فَيُرْجَعُ
إِلَيْهِمْ عِنْدَ الاِشْتِبَاهِ (2) .
سُلُوكُ أَحَدِ طَرِيقَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِغَايَةٍ وَاحِدَةٍ:
12 - إِذَا كَانَ لِمَكَانٍ وَاحِدٍ طَرِيقَانِ مُخْتَلِفَانِ،
أَحَدُهُمَا يَقْطَعُهُ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَالآْخَرُ يُمْكِنُ
أَنْ يَصِل إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَقَدْ قَال أَبُو حَنِيفَةَ:
يَقْصُرُ لَوْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الأَْقْرَبَ؛ لأَِنَّهُ يُعْتَبَرُ
مُسَافِرًا، هَكَذَا ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ فِي الْبَدَائِعِ، وَجَاءَ
فِي الْعِنَايَةِ: إِذَا كَانَ لِمَوْضِعٍ
__________
(1) البدائع 1 / 93، 94، والمهذب 1 / 102.
(2) المراجع السابقة.
(27/271)
طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا فِي الْمَاءِ
يُقْطَعُ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهَا إِذَا كَانَتِ الرِّيحُ
مُتَوَسِّطَةً، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي فِي الْبَرِّ يُقْطَعُ بِيَوْمٍ
أَوْ يَوْمَيْنِ، فَلاَ يُعْتَبَرُ أَحَدُهُمَا بِالآْخَرِ، فَإِنْ
ذَهَبَ إِلَى طَرِيقِ الْمَاءِ قَصَرَ، وَإِنْ ذَهَبَ إِلَى طَرِيقِ
الْبَرِّ أَتَمَّ، وَلَوِ انْعَكَسَ انْعَكَسَ الْحُكْمُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَقْصُرُ عَادِلٌ عَنْ طَرِيقٍ قَصِيرٍ،
وَهُوَ مَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ إِلَى طَرِيقٍ طَوِيلٍ فِيهِ
الْمَسَافَةُ بِدُونِ عُذْرٍ، بَل لِمُجَرَّدِ قَصْدِ الْقَصْرِ، أَوْ
لاَ قَصْدَ لَهُ، فَإِنْ عَدَل لِعُذْرٍ أَوْ لأَِمْرٍ، وَلَوْ
مُبَاحًا فِيمَا يَظْهَرُ قَصَرَ (2) .
وَبِمِثْل ذَلِكَ يَقُول الشَّافِعِيَّةُ (3) .
وَالْحَنَابِلَةُ يُجِيزُونَ الْقَصْرَ لِمَنْ سَلَكَ الطَّرِيقَ
الأَْبْعَدَ مَعَ وُجُودِ الأَْقْرَبِ، وَلَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ (4) .
الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ لِوَسَائِل السَّفَرِ الْحَدِيثَةِ:
13 - مَعْلُومٌ مِمَّا سَبَقَ: أَنَّ الْفُقَهَاءَ حَدَّدُوا أَقَل
الْمَسَافَةِ الَّتِي تُشْتَرَطُ لِقَصْرِ الصَّلاَةِ، وَأَنَّهُمُ
اعْتَبَرُوا السَّيْرَ الْوَسَطَ (مَشْيَ الأَْقْدَامِ وَسَيْرَ
الإِْبِل) هُوَ الأَْسَاسُ فِي التَّقْدِيرِ، وَالْمَقْصُودُ - هُنَا -
هُوَ مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ إِذَا اسْتُعْمِلَتْ وَسَائِل السَّفَرِ
الْحَدِيثَةِ كَالْقِطَارِ وَالطَّائِرَةِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 94، والعناية شرح الهداية، بهامش فتح القدير 1 /
394.
(2) الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 362.
(3) مغني المحتاج 1 / 265.
(4) كشاف القناع 1 / 330.
(27/271)
حَيْثُ الرَّاحَةُ وَقِصَرُ الْمُدَّةِ.
وَقَدْ تَحَدَّثَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ: فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - كَمَا يَتَّضِحُ مِنْ
أَقْوَالِهِمْ - أَنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ قَطَعَ مَسَافَةَ السَّفَرِ
الْمُحَدَّدَةَ فِي زَمَنٍ أَقَل؛ لاِسْتِعْمَالِهِ وَسَائِل أَسْرَعَ
فَإِنَّهُ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ؛ لأَِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ
سَافَرَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ.
فَقَدْ قَال الدُّسُوقِيُّ: مَنْ كَانَ يَقْطَعُ الْمَسَافَةَ
بِسَفَرِهِ قَصَرَ، وَلَوْ كَانَ يَقْطَعُهَا فِي لَحْظَةٍ بِطَيَرَانٍ
وَنَحْوِهِ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ، وَلَوْ قَطَعَ
الْمَسَافَةَ فِي سَاعَةٍ. وَقَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ:
يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ، لَوْ قَطَعَ الْمَسَافَةَ فِي بَعْضِ يَوْمٍ
كَمَا لَوْ قَطَعَهَا عَلَى فَرَسٍ جَوَادٍ.
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ الرُّبَاعِيَّةَ إِلَى
رَكْعَتَيْنِ إِجْمَاعًا، وَلَوْ قَطَعَ الْمَسَافَةَ فِي سَاعَةٍ
وَاحِدَةٍ؛ لأَِنَّهُ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُسَافِرُ أَرْبَعَةَ
بُرُدٍ (مَسَافَةُ الْقَصْرِ) . (1)
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّقْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَنَقَل
الْكَاسَانِيُّ فِي بَدَائِعِهِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: مِنْ
أَنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ سَارَ إِلَى مَوْضِعٍ فِي يَوْمٍ أَوْ
يَوْمَيْنِ، وَأَنَّهُ بِسَيْرِ الإِْبِل، وَالْمَشْيِ الْمُعْتَادِ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 358، ومغني المحتاج 1 / 264،
وكشاف القناع 1 / 325.
(27/272)
ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ،
اعْتِبَارًا لِلسَّيْرِ الْمُعْتَادِ.
وَهَذَا الْقَوْل يُوَافِقُ الْمَذَاهِبَ السَّابِقَةَ؛ لأَِنَّ أَبَا
حَنِيفَةَ اعْتَبَرَ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ قَطْعُ الْمَسَافَةِ.
لَكِنِ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: اعْتَبَرَ أَنَّ الْعِلَّةَ
لِقَصْرِ الصَّلاَةِ فِي السَّفَرِ هِيَ الْمَشَقَّةُ الَّتِي تَلْحَقُ
بِالْمُسَافِرِ، وَلِذَلِكَ يُذْكَرُ: أَنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ قَطَعَ
الْمَسَافَةَ فِي سَاعَةٍ فَإِنَّهُ لاَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ، وَإِنْ
كَانَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَطَعَ مَسَافَةَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ
بِسَيْرِ الإِْبِل؛ لاِنْتِفَاءِ مَظِنَّةِ الْمَشَقَّةِ، وَهِيَ
الْعِلَّةُ (1) .
الْعِبْرَةُ بِنِيَّةِ الأَْصْل دُونَ التَّبَعِ:
14 - الْمُعْتَبَرُ فِي نِيَّةِ السَّفَرِ الشَّرْعِيِّ نِيَّةُ
الأَْصْل دُونَ التَّابِعِ، فَمَنْ كَانَ سَفَرُهُ تَابِعًا لِغَيْرِهِ
فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُسَافِرًا بِنِيَّةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَذَلِكَ
كَالزَّوْجَةِ التَّابِعَةِ لِزَوْجِهَا؛ فَإِنَّهَا تَصِيرُ
مُسَافِرَةً بِنِيَّةِ زَوْجِهَا، وَكَذَلِكَ مَنْ لَزِمَهُ طَاعَةُ
غَيْرِهِ كَالسُّلْطَانِ وَأَمِيرِ الْجَيْشِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ
مُسَافِرًا بِنِيَّةِ مَنْ لَزِمَتْهُ طَاعَتُهُ؛ لأَِنَّ حُكْمَ
التَّبَعِ حُكْمُ الأَْصْل.
أَمَّا الْغَرِيمُ الَّذِي يُلاَزِمُهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ، فَإِنْ
كَانَ مَلِيئًا، فَالنِّيَّةُ لَهُ؛ لأَِنَّهُ يُمْكِنُهُ قَضَاءُ
الدَّيْنِ، وَالْخُرُوجُ مِنْ يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ
مُفْلِسًا، فَالنِّيَّةُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ؛ لأَِنَّهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 392، وما بعدها وفتح القدير 2 / 5 نشر دار إحياء
التراث.
(27/272)
لاَ يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْ يَدِهِ،
فَكَانَ تَابِعًا لَهُ. هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ تَبِعَتِ الزَّوْجَةُ زَوْجَهَا، أَوِ
الْجُنْدِيُّ قَائِدَهُ فِي السَّفَرِ، وَلاَ يَعْرِفُ كُل وَاحِدٍ
مِنْهُمْ مَقْصِدَهُ فَلاَ قَصْرَ لَهُمْ؛ لأَِنَّ الشَّرْطَ - وَهُوَ
قَصْدُ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ - لَمْ يَتَحَقَّقْ، وَهَذَا قَبْل
بُلُوغِهِمْ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، فَإِنْ قَطَعُوهَا قَصُرُوا.
فَلَوْ نَوَتِ الزَّوْجَةُ دُونَ زَوْجِهَا، أَوِ الْجُنْدِيُّ دُونَ
قَائِدِهِ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، أَوْ جَهِلاَ الْحَال قَصَرَ
الْجُنْدِيُّ غَيْرُ الْمُثْبَتِ فِي الدِّيوَانِ، دُونَ الزَّوْجَةِ؛
لأَِنَّ الْجُنْدِيَّ حِينَئِذٍ لَيْسَ تَحْتَ يَدِ الأَْمِيرِ
وَقَهْرِهِ، بِخِلاَفِ الزَّوْجَةِ، فَنِيَّتُهَا كَالْعَدَمِ. أَمَّا
الْجُنْدِيُّ الْمُثْبَتُ فِي الدِّيوَانِ فَلاَ يَقْصُرُ؛ لأَِنَّهُ
تَحْتَ يَدِ الأَْمِيرِ، وَمِثْلُهُ الْجَيْشُ، إِذْ لَوْ قِيل:
بِأَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ يَدِ الأَْمِيرِ وَقَهْرِهِ كَالآْحَادِ
لَعَظُمَ الْفَسَادُ (2) .
أَحْكَامُ الْقَصْرِ:
مَشْرُوعِيَّةُ الْقَصْرِ:
15 - الْقَصْرُ مَعْنَاهُ: أَنْ تَصِيرَ الصَّلاَةُ الرُّبَاعِيَّةُ
رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ، سَوَاءٌ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ، أَوْ فِي
حَالَةِ الأَْمْنِ.
__________
(1) البدائع 1 / 94، وكشاف القناع 1 / 325.
(2) مغني المحتاج 1 / 265.
(27/273)
وَقَدْ شُرِعَ الْقَصْرُ فِي السَّنَةِ
الرَّابِعَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ.
وَمَشْرُوعِيَّةُ الْقَصْرِ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَالإِْجْمَاعِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي
الأَْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (1) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا وَرَدَ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَال:
قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا} ، فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ. قَال: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ
مِنْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ ذَلِكَ فَقَال: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ
فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ (2) .
وَقَال ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: صَحِبْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ لاَ يَزِيدُ فِي
السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ
كَذَلِكَ (3) .
__________
(1) سورة النساء / 101.
(2) حديث عمر بن الخطاب: " صدقة تصدق الله بها عليكم. . . ". أخرجه
مسلم (1 / 478 - ط. الحلبي) .
(3) حديث ابن عمر: " صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في
السفر على ركعتين ". أخرجه البخاري (الفتح2 / 577 - ط. السلفية) ومسلم
(1 / 480 - ط. الحلبي) واللفظ للبخاري.
(27/273)
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأَْحَادِيثِ
وَالآْثَارِ. فَالآْيَةُ الْكَرِيمَةُ دَلَّتْ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ
الْقَصْرِ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ، وَدَلَّتِ الأَْحَادِيثُ عَلَى
مَشْرُوعِيَّتِهِ فِي حَالَتَيِ الْخَوْفِ وَالأَْمْنِ. وَقَدْ
أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقَصْرِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْقَصْرِ:
16 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ الْقَصْرَ
جَائِزٌ تَخْفِيفًا عَلَى الْمُسَافِرِ؛ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ
مَشَقَّةِ السَّفَرِ غَالِبًا، وَاسْتَدَلُّوا بِالآْيَةِ
الْكَرِيمَةِ: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ
يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (1) فَقَدْ عَلَّقَ الْقَصْرَ عَلَى
الْخَوْفِ؛ لأَِنَّ غَالِبَ أَسْفَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَخْل مِنْهُ. وَنَفْيُ الْجُنَاحِ فِي
الآْيَةِ يَدُل عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ، لاَ عَلَى وُجُوبِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِحَدِيثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ السَّابِقِ:
" صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ (2) ".
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ مِنْ
ذَوَاتِ الأَْرْبَعِ رَكْعَتَانِ لاَ غَيْرُ، فَلَيْسَ لِلْمُسَافِرِ
عِنْدَهُمْ أَنْ يُتِمَّ الصَّلاَةَ أَرْبَعًا؛ لِقَوْل عَائِشَةَ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " فُرِضَتِ الصَّلاَةُ رَكْعَتَيْنِ
رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ
__________
(1) سورة النساء / 101، وانظر المهذب 1 / 101 وكشاف القناع 1 / 324.
(2) حديث: " صدقة. . . " تقدم تخريجه ف13.
(27/274)
فِي صَلاَةِ الْحَضَرِ (1) . وَلاَ
يُعْلَمُ ذَلِكَ إِلاَّ تَوْقِيفًا (2) ، وَقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل فَرَضَ
الصَّلاَةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ وَعَلَى الْمُقِيمِ
أَرْبَعًا، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً (3) .
وَالرَّاجِحُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْقَصْرَ
سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَتَمَّ الصَّلاَةَ، بَل
الْمَنْقُول عَنْهُ الْقَصْرُ فِي كُل أَسْفَارِهِ، وَمَا كَانَ هَذَا
شَأْنُهُ فَهُوَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ.
وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى فِي الْمَذْهَبِ فَقِيل: إِنَّهُ فَرْضٌ،
وَقِيل: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَقِيل: إِنَّهُ مُبَاحٌ (4) .
هَل الأَْصْل الْقَصْرُ أَوِ الإِْتْمَامُ؟
17 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ
الأَْصْل هُوَ الإِْتْمَامُ وَأَنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ،
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ مُسْلِمٍ السَّابِقِ: " صَدَقَةٌ
__________
(1) حديث عائشة رضي الله عنها: " فرضت. . . . . ". أخرجه البخاري
(الفتح1 / 464 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 478 - ط. الحلبي) واللفظ
لمسلم.
(2) الاختيار لتعليل المختار 1 / 198 طبع مطابع الشعب بالقاهرة سنة
1386 هـ وفتح القدير 1 / 395.
(3) قول ابن عباس - رضي الله عنهما -: " إن الله فرض الصلاة على لسان
نبيكم. . ". أخرجه مسلم (1 / 479 - ط. الحلبي) .
(4) بداية المجتهد 1 / 161، والشرح الكبير للدردير 1 / 358.
(27/274)
تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ ".
إِلاَّ أَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ
الْقَصْرَ أَفْضَل مِنَ الإِْتْمَامِ، إِذَا بَلَغَ السَّفَرُ
ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، اقْتِدَاءً بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَخُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهُ، كَأَبِي
حَنِيفَةَ، إِلاَّ الْمَلاَّحَ الَّذِي يُسَافِرُ فِي الْبَحْرِ
بِأَهْلِهِ، وَمَنْ لاَ يَزَال مُسَافِرًا بِلاَ وَطَنٍ،
فَالإِْتْمَامُ لَهُمَا أَفْضَل خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهُ
عَلَيْهِمَا، كَالإِْمَامِ أَحْمَدَ. وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ: إِنَّ
الإِْتْمَامَ أَفْضَل مُطْلَقًا، لأَِنَّهُ الأَْصْل، وَالأَْكْثَرُ
عَمَلاً، أَمَّا إِذَا لَمْ يَبْلُغِ السَّفَرُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ
فَالإِْتْمَامُ أَفْضَل لأَِنَّهُ الأَْصْل.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الْقَصْرُ أَفْضَل مِنَ الإِْتْمَامِ نَصًّا،
لِمُدَاوَمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْخُلَفَاءِ عَلَيْهِ. لَكِنْ إِنْ أَتَمَّ مَنْ يُبَاحُ لَهُ
الْقَصْرُ لَمْ يُكْرَهْ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الْقَصْرُ هُوَ الأَْصْل فِي الصَّلاَةِ؛
إِذِ الصَّلاَةُ فِي الأَْصْل فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ، فِي حَقِّ
الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ جَمِيعًا، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ
الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، ثُمَّ زِيدَتْ رَكْعَتَانِ فِي حَقِّ
الْمُقِيمِ. وَأُقِرَّتِ الرَّكْعَتَانِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ كَمَا
كَانَتَا فِي الأَْصْل، فَالرَّكْعَتَانِ مِنْ ذَوَاتِ الأَْرْبَعِ فِي
حَقِّ الْمُسَافِرِ لَيْسَتَا قَصْرًا
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 161، 162، والشرح الكبير 1 / 358، ومغني المحتاج
1 / 268، وكشاف القناع 1 / 328.
(27/275)
حَقِيقَةً، بَل هُوَ تَمَامُ فَرْضِ
الْمُسَافِرِ، وَالإِْكْمَال لَيْسَ رُخْصَةً فِي حَقِّهِ، بَل هُوَ
إِسَاءَةٌ وَمُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ. وَالْقَصْرُ عَزِيمَةٌ؛ لِمَا
رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أَنَّهُ قَال: مَا سَافَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلاَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ إِلاَّ الْمَغْرِبَ (1) وَلَوْ
كَانَ الْقَصْرُ رُخْصَةً وَالإِْكْمَال هُوَ الْعَزِيمَةَ لَمَا
تَرَكَ الْعَزِيمَةَ إِلاَّ أَحْيَانًا؛ إِذِ الْعَزِيمَةُ أَفْضَل،
وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ
يَخْتَارُ مِنَ الأَْعْمَال إِلاَّ أَفْضَلَهَا، وَكَانَ لاَ يَتْرُكُ
الأَْفْضَل إِلاَّ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ تَعْلِيمًا لِلرُّخْصَةِ
فِي حَقِّ الأُْمَّةِ، وَلَقَدْ قَصَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَال لأَِهْل مَكَّةَ: أَتِمُّوا صَلاَتَكُمْ
فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ (2) فَلَوْ جَازَ الأَْرْبَعُ لَمَا اقْتَصَرَ
عَلَى رَكْعَتَيْنِ (3) .
شَرَائِطُ الْقَصْرِ:
يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ الصَّلاَةَ الرُّبَاعِيَّةَ إِلَى رَكْعَتَيْنِ
إِذَا تَوَفَّرَتِ الشَّرَائِطُ الآْتِيَةُ:
الأُْولَى: نِيَّةُ السَّفَرِ:
18 - وَهِيَ شَرِيطَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ كَمَا سَبَقَ.
وَالْمُعْتَبَرُ فِيهَا: نِيَّةُ الأَْصْل دُونَ التَّابِعِ عَلَى
__________
(1) حديث عمران بن حصين: " ما سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا
صلى ركعتين إلا المغرب " يأتي مطولا في الفقرة (24) دون قوله: " المغرب
".
(2) حديث: " أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ". تقدم تخريجه ف4.
(3) البدائع 1 / 91.
(27/275)
مَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَأَنْ تَكُونَ مِنْ
بَالِغٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلِذَلِكَ لَوْ خَرَجَ الصَّبِيُّ
قَاصِدًا السَّفَرَ وَسَارَ مَسَافَةً حَتَّى بَقِيَ إِلَى مَقْصِدِهِ
أَقَل مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ فَبَلَغَ حِينَذَاكَ، فَإِنَّهُ لاَ
يَقْصُرُ الصَّلاَةَ، بَل يُصَلِّي أَرْبَعًا؛ لأَِنَّ قَصْدَهُ
السَّفَرَ لَمْ يَصِحَّ ابْتِدَاءً، وَحِينَ بَلَغَ لَمْ يَبْقَ إِلَى
مَقْصِدِهِ مُدَّةُ السَّفَرِ فَلاَ يَصِيرُ مُسَافِرًا عِنْدَهُمْ (1)
.
وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ فِي السَّفَرِ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ:
أَلاَّ يَكُونَ لِمَعْصِيَةٍ، فَلاَ يَقْصُرُ عَاصٍ بِسَفَرِهِ،
كَآبِقٍ وَقَاطِعِ طَرِيقٍ؛ لأَِنَّ الرُّخْصَ لاَ يَجُوزُ أَنْ
تَتَعَلَّقَ بِالْمَعَاصِي؛ وَجَوَازُ الرُّخْصِ فِي سَفَرِ
الْمَعْصِيَةِ إِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَهَذَا لاَ يَجُوزُ.
فَإِنْ قَصَرَ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ
يُعِيدُ الصَّلاَةَ عَلَى الأَْصْوَبِ، وَإِنْ أَثِمَ بِعِصْيَانِهِ.
وَمَنْ أَنْشَأَ السَّفَرَ عَاصِيًا بِهِ، ثُمَّ تَابَ فِي
أَثْنَائِهِ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ: يَقْصُرُ إِنْ كَانَ مَا بَقِيَ مِنْ سَفَرٍ
مَسَافَةَ الْقَصْرِ، وَلَوْ سَافَرَ سَفَرًا مُبَاحًا ثُمَّ قَصَدَ
بِسَفَرِهِ الْمَعْصِيَةَ قَبْل تَمَامِ سَفَرِهِ، انْقَطَعَ
التَّرَخُّصُ، فَلاَ يَقْصُرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ
الأَْصَحُّ لِلشَّافِعِيَّةِ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ
الْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ - إِلَى أَنَّهُ يَقْصُرُ (2) .
__________
(1) البدائع 1 / 93، 94، 103، وفتح القدير 1 / 302.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 358، والمهذب 1 / 102، ومغني
المحتاج 1 / 266، وكشاف القناع 1 / 324، 237.
(27/276)
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ
يَكُونَ السَّفَرُ مُبَاحًا، بَل أَجَازُوا الْقَصْرَ فِي سَفَرِ
الْمَعْصِيَةِ - أَيْضًا -، فَإِنَّهُ يَسْتَوِي فِي الْمِقْدَارِ
الْمَفْرُوضِ عَلَى الْمُسَافِرِ مِنَ الصَّلاَةِ سَفَرُ الطَّاعَةِ
مِنَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ، وَسَفَرُ الْمُبَاحِ
كَسَفَرِ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهِ، وَسَفَرُ الْمَعْصِيَةِ كَقَطْعِ
الطَّرِيقِ وَالْبَغْيِ؛ لأَِنَّ الدَّلاَئِل الَّتِي وَرَدَتْ لاَ
تُوجِبُ الْفَصْل بَيْنَ مُسَافِرٍ وَمُسَافِرٍ. وَمِنْ هَذِهِ
الدَّلاَئِل قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ
عَلَى سَفَرٍ. . .} (1) ، وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ
فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} (2) وَقَوْل عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -: جَعَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا
وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ (3) مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ سَفَرٍ
وَسَفَرٍ، فَوَجَبَ الْعَمَل بِعُمُومِ النُّصُوصِ وَإِطْلاَقِهَا (4)
.
الثَّانِيَةُ: مَسَافَةُ السَّفَرِ:
19 - وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ الإِْنْسَانُ مَسِيرَةَ مَسَافَةِ السَّفَرِ
الْمُقَدَّرَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ طَافَ
الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ مَسِيرَةِ الْمَسَافَةِ
__________
(1) سورة البقرة / 184.
(2) سورة البقرة / 139.
(3) حديث " جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". تقدم تخريجه ف11.
(4) البدائع 1 / 93، والاختيار لتعليل المختار 1 / 111.
(27/276)
الْمُحَدَّدَةِ لاَ يَجُوزُ لَهُ
الْقَصْرُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ مُسَافِرًا، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ
ذَلِكَ.
الثَّالِثَةُ: الْخُرُوجُ مِنْ عِمْرَانِ بَلْدَتِهِ:
20 - فَالْقَصْرُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ أَنْ يُجَاوِزَ الْمُسَافِرُ
مَحَل إِقَامَتِهِ، وَمَا يَتْبَعُهُ عَلَى التَّفْصِيل الَّذِي
سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
لَكِنْ هَل يُشْتَرَطُ الْخُرُوجُ لِلسَّفَرِ قَبْل مُضِيِّ وَقْتٍ
يَسَعُ الإِْتْمَامَ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
يَقُول الْكَاسَانِيُّ الْحَنَفِيُّ: وَسَوَاءٌ خَرَجَ فِي أَوَّل
الْوَقْتِ أَوْ فِي وَسَطِهِ أَوْ فِي آخِرِهِ، حَتَّى لَوْ بَقِيَ
مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يَتَّسِعُ لأَِدَاءِ رَكْعَتَيْنِ،
فَإِنَّهُ يَقْصُرُ فِي ظَاهِرِ قَوْل أَصْحَابِنَا. وَقَال
إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثَّلْجِيُّ:
إِنَّمَا يَقْصُرُ إِذَا خَرَجَ قَبْل الزَّوَال، فَأَمَّا إِذَا
خَرَجَ بَعْدَ الزَّوَال فَإِنَّهُ يُكْمِل الظُّهْرَ وَيَقْصُرُ
الْعَصْرَ. وَالْكَلاَمُ فِي ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الصَّلاَةَ
هَل تَجِبُ فِي أَوَّل الْوَقْتِ أَوْ فِي آخِرِهِ؟
فَعِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ تَجِبُ فِي أَوَّل
الْوَقْتِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنَ
الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا التَّعْيِينُ إِلَى
الْمُصَلِّي مِنْ حَيْثُ الْفِعْل، حَتَّى إِنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِي
أَوَّل الْوَقْتِ تَجِبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَذَلِكَ إِذَا
شَرَعَ فِي وَسَطِهِ أَوْ فِي آخِرِهِ. وَثَمَّةَ أَصْلٌ
(27/277)
آخَرُ، وَهُوَ مِقْدَارُ مَا يَتَعَلَّقُ
بِهِ الْوُجُوبُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، فَقَال الْكَرْخِيُّ وَأَكْثَرُ
الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ
بِآخِرِ الْوَقْتِ بِمِقْدَارِ التَّحْرِيمَةِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ،
وَعَلَيْهِ فَإِنَّ الأَْدَاءَ يَتَغَيَّرُ وَإِنْ بَقِيَ مِقْدَارُ
مَا يَسَعُ التَّحْرِيمَةَ فَقَطْ، وَقَال زُفَرُ وَاخْتَارَهُ
الْقُدُورِيُّ: لاَ يَجِبُ إِلاَّ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ
مِقْدَارُ مَا يُؤَدِّي فِيهِ الْفَرْضَ. وَعَلَى ذَلِكَ الْقَوْل
فَلاَ يَتَغَيَّرُ الْفَرْضُ إِلاَّ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا
يُمْكِنُ فِيهِ الأَْدَاءُ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: تُقْصَرُ الصَّلاَةُ الَّتِي يُسَافَرُ فِي
وَقْتِهَا وَلَوِ الضَّرُورِيِّ، فَيَقْصُرُ الظُّهْرَيْنِ قَبْل
الْغُرُوبِ بِثَلاَثِ رَكَعَاتٍ فَأَكْثَرَ وَلَوْ أَخَّرَهُمَا
عَمْدًا، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ بِمِقْدَارِ رَكْعَتَيْنِ أَوْ
رَكْعَةٍ صَلَّى الْعَصْرَ فَقَطْ سَفَرِيَّةً (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ سَافَرَ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ
أَقَل مِنْ قَدْرِ الصَّلاَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُؤَدٍّ
لِجَمِيعِ الصَّلاَةِ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ
مُؤَدٍّ لِمَا فَعَل فِي الْوَقْتِ قَاضٍ لِمَا فَعَل بَعْدَ الْوَقْتِ
لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ دَخَل عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلاَةِ فِي
الْحَضَرِ، ثُمَّ سَافَرَ، لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ؛ لِوُجُوبِهَا
عَلَيْهِ تَامَّةً بِدُخُول وَقْتِهَا (4) .
__________
(1) البدائع 1 / 95.
(2) الشرح الكبير 1 / 360.
(3) المجموع 4 / 368.
(4) كشاف القناع 1 / 328.
(27/277)
الرَّابِعَةُ: اشْتِرَاطُ نِيَّةِ
الْقَصْرِ عِنْدَ كُل صَلاَةٍ:
21 - يُشْتَرَطُ لِلْقَصْرِ نِيَّتُهُ فِي التَّحْرِيمَةِ، وَمِثْل
نِيَّةِ الْقَصْرِ مَا لَوْ نَوَى الظُّهْرَ مَثَلاً رَكْعَتَيْنِ،
وَلَمْ يَنْوِ تَرَخُّصًا، كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَمِثْل
النِّيَّةِ - أَيْضًا - مَا لَوْ قَال: أُؤَدِّي صَلاَةَ السَّفَرِ،
كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، فَلَوْ لَمْ يَنْوِ
مَا ذُكِرَ، بِأَنْ نَوَى الإِْتْمَامَ أَوْ أَطْلَقَ أَتَمَّ، وَهَذَا
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنَّ نِيَّةَ السَّفَرِ تَجْعَل فَرْضَ
الْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ، وَهَذَا يَكْفِي.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: تَكْفِي نِيَّةُ الْقَصْرِ فِي أَوَّل
صَلاَةٍ يَقْصُرُهَا فِي السَّفَرِ، وَلاَ يَلْزَمُ تَجْدِيدُهَا
فِيمَا بَعْدَهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَقِيل: إِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ
نِيَّةِ الْقَصْرِ عِنْدَ كُل صَلاَةٍ وَلَوْ حُكْمًا (1) .
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ التَّحَرُّزَ عَمَّا يُنَافِي نِيَّةَ
الْقَصْرِ فِي دَوَامِ الصَّلاَةِ، وَذَلِكَ مِثْل نِيَّةِ
الإِْتْمَامِ، فَلَوْ نَوَى الإِْتْمَامَ بَعْدَ نِيَّةِ الْقَصْرِ
أَتَمَّ، وَلَوْ أَحْرَمَ قَاصِرًا ثُمَّ تَرَدَّدَ فِي أَنَّهُ
يَقْصُرُ أَمْ يُتِمُّ؟ أَتَمَّ. أَوْ شَكَّ فِي أَنَّهُ نَوَى
الْقَصْرَ أَمْ لاَ؟ أَتَمَّ. وَإِنْ تَذَكَّرَ فِي الْحَال أَنَّهُ
نَوَاهُ، لأَِنَّهُ أَدَّى جُزْءًا مِنْ صَلاَتِهِ حَال التَّرَدُّدِ
عَلَى التَّمَامِ، وَلَوْ قَامَ الْقَاصِرُ لِثَالِثَةٍ عَمْدًا بِلاَ
مُوجِبٍ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 367، والمهذب 1 / 103، وكشاف
القناع 1 / 329.
(27/278)
لإِِتْمَامٍ، كَنِيَّتِهِ أَوْ نِيَّةِ
إِقَامَةٍ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ (1) .
وَنَحْوُهُمُ الْحَنَابِلَةُ: فَعِنْدَهُمْ: إِنْ عَزَمَ الْمُسَافِرُ
فِي صَلاَتِهِ عَلَى مَا يَلْزَمُهُ بِهِ الإِْتْمَامُ مِنَ
الإِْقَامَةِ وَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ تَغْلِيبًا
لِكَوْنِهِ الأَْصْل، أَوْ تَابَ مِنْ سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ فِي
الصَّلاَةِ الَّتِي أَحْرَمَ بِهَا سَفَرِيَّةً لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ،
وَلاَ تَنْفَعُهُ نِيَّةُ الْقَصْرِ، وَكَمَنْ نَوَى خَلْفَ مُقِيمٍ
عَالِمًا بِأَنَّ إِمَامَهُ مُقِيمٌ، وَأَنَّهُ لاَ يُبَاحُ لَهُ
الْقَصْرُ، فَلَمْ تَنْعَقِدْ (2) .
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ - أَيْضًا -: الْعِلْمَ بِجَوَازِ
الْقَصْرِ، فَلَوْ قَصَرَ جَاهِلاً بِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ؛
لِتَلاَعُبِهِ (3) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لَوِ اخْتَارَ الأَْرْبَعَ لاَ يَقَعُ الْكُل
فَرْضًا، بَل الْمَفْرُوضُ رَكْعَتَانِ، وَالشَّطْرُ الثَّانِي: يَقَعُ
تَطَوُّعًا، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْعُدْ عَلَى رَأْسِ
الرَّكْعَتَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَسَدَتْ صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّهَا
الْقَعْدَةُ الأَْخِيرَةُ فِي حَقِّهِ، وَإِذَا أَتَمَّ سَاهِيًا
صَحَّتْ صَلاَتُهُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَإِنْ كَانَ
عَمْدًا وَجَلَسَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ صَحَّتْ صَلاَتُهُ
وَأَسَاءَ لِتَأْخِيرِهِ السَّلاَمَ عَنْ مَكَانِهِ (4) .
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ نَوَى الْمُسَافِرُ الإِْقَامَةَ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 267، 268.
(2) كشاف القناع 1 / 329.
(3) مغني المحتاج 1 / 68.
(4) بدائع الصنائع 1 / 92، 93.
(27/278)
الْقَاطِعَةَ لِحُكْمِ السَّفَرِ، وَهُوَ
فِي الصَّلاَةِ الَّتِي أَحْرَمَ بِهَا سَفَرِيَّةً شَفَعَ بِأُخْرَى
نَدْبًا إِنْ عَقَدَ رَكْعَةً وَجَعَلَهَا نَافِلَةً، وَلاَ تُجْزِئُ
حَضَرِيَّةٌ إِنْ أَتَمَّهَا أَرْبَعًا؛ لِعَدَمِ دُخُولِهِ عَلَيْهَا
وَلاَ تُجْزِئُ سَفَرِيَّةٌ؛ لِتَغَيُّرِ نِيَّتِهِ فِي أَثْنَائِهَا
(1) .
الْمَكَانُ الَّذِي يَبْدَأُ مِنْهُ الْقَصْرُ:
22 - قَال الْفُقَهَاءُ: يَبْدَأُ الْمُسَافِرُ الْقَصْرَ إِذَا
فَارَقَ بُيُوتَ الْمِصْرِ، فَحِينَئِذٍ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ.
وَأَصْلُهُ مَا رَوَى أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال:
صَلَّيْتُ الظُّهْرَ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْعَصْرَ
بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ (2) ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ مِنَ الْبَصْرَةِ
يُرِيدُ الْكُوفَةَ صَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا ثُمَّ نَظَرَ إِلَى
خُصٍّ أَمَامَهُ وَقَال: لَوْ جَاوَزْنَا هَذَا الْخُصَّ صَلَّيْنَا
رَكْعَتَيْنِ.
وَالْمُعْتَبَرُ مُفَارَقَةُ الْبُيُوتِ مِنَ الْجَانِبِ الَّذِي
يَخْرُجُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْجَوَانِبِ
بُيُوتٌ. وَيَدْخُل فِي بُيُوتِ الْمِصْرِ الْمَبَانِي الْمُحِيطَةُ
بِهِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْصُرْ
فِي سَفَرِهِ إِلاَّ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ (3) .
__________
(1) الشرح الكبير 1 / 364، 365.
(2) حديث أنس: " صليت الظهر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة
أربعا ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 569 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 480 -
ط. الحلبي) واللفظ لمسلم.
(3) الهداية وشروحها 1 / 396، 397.
(27/279)
وَالْقَرْيَتَانِ الْمُتَدَانِيَتَانِ
الْمُتَّصِل بِنَاءُ إِحْدَاهُمَا بِالأُْخْرَى، أَوِ الَّتِي
يَرْتَفِقُ أَهْل إِحْدَاهُمَا بِالأُْخْرَى فَهُمَا كَالْقَرْيَةِ
الْوَاحِدَةِ، وَإِلاَّ فَلِكُل قَرْيَةٍ حُكْمُ نَفْسِهَا يَقْصُرُ
إِذَا جَاوَزَ بُيُوتَهَا وَالأَْبْنِيَةَ الَّتِي فِي طَرَفِهَا.
وَسَاكِنُ الْخِيَامِ يَقْصُرُ إِذَا فَارَقَ خِيَامَ قَوْمِهِ
وَمَرَافِقَهَا، كَمَلْعَبِ الصِّبْيَانِ، وَالْبَسَاتِينِ
الْمَسْكُونَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْبَلَدِ، وَلَوْ حُكْمًا لاَ
يَقْصُرُ إِلاَّ إِذَا فَارَقَهَا إِنْ سَافَرَ مِنْ نَاحِيَتِهَا،
أَوْ مِنْ غَيْرِ نَاحِيَتِهَا، وَكَانَ مُحَاذِيًا لَهَا عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ.
وَيَقْصُرُ سُكَّانُ الْقُصُورِ وَالْبَسَاتِينِ وَأَهْل الْعِزَبِ
إِذَا فَارَقُوا مَا نُسِبُوا إِلَيْهِ بِمَا يُعَدُّ مُفَارَقَةً
عُرْفًا.
وَالْبَلْدَةُ الَّتِي لَهَا سُوَرٌ، لاَ يَقْصُرُ إِلاَّ إِذَا
جَاوَزَهُ وَإِنْ تَعَدَّدَ، كَمَا قَال الشَّافِعِيَّةُ.
وَقَالُوا أَيْضًا: يُعْتَبَرُ مُجَاوَزَةُ عَرْضِ الْوَادِي إِنْ
سَافَرَ فِي عَرْضِهِ، وَالْهُبُوطُ إِنْ كَانَ فِي رَبْوَةٍ،
وَالصُّعُودُ إِنْ كَانَ فِي وَهْدَةٍ. وَهَذَا إِنْ سَافَرَ فِي
الْبَرِّ، وَيُعْتَبَرُ فِي سَفَرِ الْبَحْرِ الْمُتَّصِل سَاحِلُهُ
بِالْبَلَدِ جَرْيُ السَّفِينَةِ أَوِ الزَّوْرَقِ، فَيَقْصُرُ
بِمُجَرَّدِ تَحَرُّكِهَا، أَمَّا إِذَا كَانَ الْبَحْرُ بَعِيدًا عَنِ
الْمَدِينَةِ فَالْعِبْرَةُ بِمُجَاوَزَةِ سُوَرِ الْمَدِينَةِ (1) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 396، 397، ومغني المحتاج 1 / 264.
(27/279)
الصَّلَوَاتُ الَّتِي تُقْصَرُ،
وَمِقْدَارُ الْقَصْرِ:
23 - الصَّلَوَاتُ الَّتِي تُقْصَرُ هِيَ: الصَّلاَةُ الرُّبَاعِيَّةُ،
وَهِيَ: الظُّهْرُ، وَالْعَصْرُ، وَالْعِشَاءُ إِجْمَاعًا، وَلاَ
قَصْرَ فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا -: فَرَضَ صَلاَةَ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ
رَكْعَتَيْنِ. فَلَمَّا أَقَامَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ زِيدَ فِي صَلاَةِ الْحَضَرِ
رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ وَتُرِكَتْ صَلاَةُ الْفَجْرِ لِطُول
الْقِرَاءَةِ وَصَلاَةُ الْمَغْرِبِ لأَِنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ (1)
وَلأَِنَّ الْقَصْرَ هُوَ: سُقُوطُ شَطْرِ الصَّلاَةِ، وَبَعْدَ
سُقُوطِ الشَّطْرِ مِنَ الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ لاَ يَبْقَى نِصْفٌ
مَشْرُوعٌ، بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ الرُّبَاعِيَّةِ فَإِنَّهَا هِيَ
الَّتِي تُقْصَرُ، وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ.
وَمِقْدَارُ الْقَصْرِ: أَنْ تَصِيرَ الرُّبَاعِيَّةُ رَكْعَتَيْنِ لاَ
غَيْرُ.
وَلاَ قَصْرَ فِي السُّنَنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَلاَ قَصْرَ فِي الْمَنْذُورَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ، وَعَكْسُهُ:
24 - يَقُول الْحَنَفِيَّةُ: يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ
__________
(1) حديث عائشة رضي الله عنها: " فرض صلاة السفر والحضر ركعتين ركعتين
". أخرجه ابن خزيمة (1 / 157 ط. المكتب الإسلامي) وأشار إلى انقطاع في
سنده.
(2) البدائع 1 / 92، 93، والشرح الكبير 1 / 360، ومغني المحتاج 1 /
260، وكشاف القناع 1 / 325.
(27/280)
بِالْمُقِيمِ فِي الْوَقْتِ، وَيَنْقَلِبُ
فَرْضُ الْمُسَافِرِ أَرْبَعًا عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ لأَِنَّهُ لَمَّا اقْتَدَى بِهِ صَارَ تَبَعًا لَهُ؛
لأَِنَّ مُتَابَعَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا جُعِل الإِْمَامُ لِيُؤْتَمَّ
بِهِ فَلاَ تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ (1) وَأَدَاءُ الصَّلاَةِ فِي
الْوَقْتِ مِمَّا يَحْتَمِل التَّغْيِيرَ، وَهُوَ التَّبَعِيَّةُ،
فَيَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا، فَصَارَ صَلاَةُ الْمُقْتَدِي مِثْل
صَلاَةِ الإِْمَامِ، فَصَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ.
وَلاَ يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ خَارِجَ الْوَقْتِ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الصَّلاَةَ خَارِجَ الْوَقْتِ مِنْ
بَابِ الْقَضَاءِ، وَهُوَ خَلَفٌ عَنِ الأَْدَاءِ، وَالأَْدَاءُ لَمْ
يَتَغَيَّرْ فَلاَ يَتَغَيَّرُ الْقَضَاءُ بِالاِقْتِدَاءِ
بِالْمُقِيمِ، فَبَقِيَتْ صَلاَتُهُ رَكْعَتَيْنِ وَصَارَتِ
الْقَعْدَةُ الأُْولَى لِلتَّشَهُّدِ فَرْضًا فِي حَقِّهِ، وَهِيَ
نَفْلٌ فِي حَقِّ الإِْمَامِ فَيَكُونُ هَذَا اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ
بِالْمُتَنَفِّل فِي حَقِّ الْقَعْدَةِ، وَكَمَا لاَ يَجُوزُ
اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّل فِي جَمِيعِ الصَّلاَةِ،
فَلاَ يَجُوزُ فِي رُكْنٍ مِنْهَا.
وَلَوْ أَنَّ مُقِيمًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ، فَلَمَّا
قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ جَاءَ مُسَافِرٌ وَاقْتَدَى بِهِ بَعْدَ
خُرُوجِ الْوَقْتِ لاَ يَصِحُّ؛ لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ مِنْ أَنَّ
فَرْضَ الْمُسَافِرِ تَقَرَّرَ رَكْعَتَيْنِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ،
وَالْقِرَاءَةُ فَرْضٌ عَلَيْهِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَهِيَ نَفْلٌ
فِي حَقِّ
__________
(1) حديث: " إنما جعل الإمام ليؤتم به ". أخرجه مسلم (1 / 309، 310 ط.
الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(27/280)
الْمُقِيمِ فِي الأَْخِيرَتَيْنِ،
فَيَكُونُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّل فِي حَقِّ
الْقِرَاءَةِ.
وَأَمَّا اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ فَيَصِحُّ فِي
الْوَقْتِ وَخَارِجَ الْوَقْتِ؛ لأَِنَّ صَلاَةَ الْمُسَافِرِ فِي
الْحَالَتَيْنِ وَاحِدَةٌ، وَالْقَعْدَةُ فَرْضٌ فِي حَقِّهِ نَفْلٌ
فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي، وَاقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّل بِالْمُفْتَرِضِ
جَائِزٌ فِي كُل الصَّلاَةِ فَكَذَا فِي بَعْضِهَا، وَإِذَا سَلَّمَ
الإِْمَامُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ لاَ يُسَلِّمُ الْمُقِيمُ؛
لأَِنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَطْرُ الصَّلاَةِ، فَلَوْ سَلَّمَ
فَسَدَتْ صَلاَتُهُ، وَلَكِنَّهُ يَقُومُ وَيُتِمُّهَا أَرْبَعًا؛
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتِمُّوا يَا
أَهْل مَكَّةَ صَلاَتَكُمْ، فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ (1) ، وَيَقُول
الإِْمَامُ الْمُسَافِرُ ذَلِكَ لِلْمُقِيمِينَ اقْتِدَاءً بِالرَّسُول
عَلَيْهِ السَّلَامُ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ
بِالْمُقِيمِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَيَلْزَمُهُ الإِْتْمَامُ وَلَوْ
نَوَى الْقَصْرَ؛ لِمُتَابَعَةِ الإِْمَامِ، وَهَذَا إِذَا أَدْرَكَ
مَعَهُ رَكْعَةً، وَاخْتُلِفَ فِي الإِْعَادَةِ، لِمُخَالَفَةِ سُنَّةِ
الْقَصْرِ.
وَيَجُوزُ - أَيْضًا - اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ مَعَ
الْكَرَاهَةِ، وَيُسَلِّمُ الْمُسَافِرُ، وَيُتِمُّ الْمُقِيمُ (3) .
وَيَجُوزُ كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
__________
(1) حديث: " أتموا يا أهل مكة. . ". تقدم تخريجه ف4.
(2) بدائع الصنائع 1 / 93، 101.
(3) الشرح الكبير 1 / 365، 366.
(27/281)
اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ،
وَيَلْزَمُهُ الإِْتْمَامُ. كَمَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ
بِالْمُسَافِرِ، وَفَرَضَا الإِْتْمَامَ (1) .
وَذَهَبَ طَاوُسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَتَمِيمٌ بْنُ حَذْلَمٍ: إِلَى أَنَّ
الْمُسَافِرَ إِنْ أَدْرَكَ مَعَ الإِْمَامِ الْمُقِيمِ رَكْعَتَيْنِ
أَجْزَأَتَا عَنْهُ.
وَذَهَبَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةَ: إِلَى
أَنَّهُ إِنْ أَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَةً فَأَكْثَرَ أَتَمَّ، وَإِنْ
أَدْرَكَ مَعَهُ أَقَل مِنْ رَكْعَةٍ قَصَرَ (2) .
قَضَاءُ فَائِتَةِ السَّفَرِ فِي الْحَضَرِ وَعَكْسِهِ:
25 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
الْقَدِيمِ: مَنْ فَاتَتْهُ صَلاَةٌ فِي السَّفَرِ قَضَاهَا فِي
الْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلاَةٌ فِي الْحَضَرِ
قَضَاهَا فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا؛ لأَِنَّ الْقَضَاءَ بِحَسَبِ
الأَْدَاءِ.
وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ آخِرُ الْوَقْتِ؛ لأَِنَّهُ الْمُعْتَبَرُ
فِي السَّبَبِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الأَْدَاءِ فِي الْوَقْتِ.
وَقَال زُفَرُ: إِذَا سَافَرَ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرُ مَا
يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ صَلاَةَ السَّفَرِ يَقْضِيَ صَلاَةَ
السَّفَرِ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دُونَهُ صَلَّى صَلاَةَ الْمُقِيمِ
(3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ - وَهُوَ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 268، وكشاف القناع 1 / 328.
(2) المغني لابن قدامة 2 / 284.
(3) فتح القدير 1 / 405، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 360.
(27/281)
الأَْصَحُّ - إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
لَهُ الْقَصْرُ؛ لأَِنَّهُ تَخْفِيفٌ تَعَلَّقَ بِعُذْرٍ فَزَال
بِزَوَال الْعُذْرِ. وَإِنْ فَاتَتْهُ فِي السَّفَرِ فَقَضَاهَا فِي
السَّفَرِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا: لاَ يَقْصُرُ؛ لأَِنَّهَا
صَلاَةٌ رُدَّتْ مِنْ أَرْبَعٍ إِلَى رَكْعَتَيْنِ، فَكَانَ مِنْ
شَرْطِهَا الْوَقْتُ. وَالثَّانِي: لَهُ أَنْ يَقْصُرَ - وَهُوَ
الأَْصَحُّ - لأَِنَّهُ تَخْفِيفٌ تَعَلَّقَ بِعُذْرٍ، وَالْعُذْرُ
بَاقٍ، فَكَانَ التَّخْفِيفُ بَاقِيًا. وَإِنْ فَاتَتْهُ فِي الْحَضَرِ
صَلاَةٌ، فَأَرَادَ قَضَاءَهَا فِي السَّفَرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ
الْقَصْرُ؛ لأَِنَّهُ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ صَلاَةٌ تَامَّةٌ فَلَمْ
يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ، وَقَال الْمُزَنِيُّ: لَهُ أَنْ يَقْصُرَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا نَسِيَ صَلاَةَ حَضَرٍ فَذَكَرَهَا فِي
السَّفَرِ، أَوْ نَسِيَ صَلاَةَ سَفَرٍ فَذَكَرَهَا فِي الْحَضَرِ
صَلَّى فِي الْحَالَتَيْنِ صَلاَةَ حَضَرٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ
فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالأَْثْرَمِ؛ لأَِنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ
مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ فَيَبْطُل بِزَوَالِهِ.
زَوَال حَالَةِ السَّفَرِ:
26 - الْمُسَافِرُ إِذَا صَحَّ سَفَرُهُ يَظَل عَلَى حُكْمِ السَّفَرِ،
وَلاَ يَتَغَيَّرُ هَذَا الْحُكْمُ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ الإِْقَامَةَ،
أَوْ يَدْخُل وَطَنَهُ، وَحِينَئِذٍ تَزُول حَالَةُ السَّفَرِ،
وَيُصْبِحُ مُقِيمًا تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ
__________
(1) المهذب 1 / 103، 104.
(27/282)
أَحْكَامُ الْمُقِيمِ. وَلِلإِْقَامَةِ
شَرَائِطُ هِيَ:
الأُْولَى: نِيَّةُ الإِْقَامَةِ وَمُدَّتُهَا الْمُعْتَبَرَةُ:
27 - نِيَّةُ الإِْقَامَةِ أَمْرٌ لاَ بُدَّ مِنْهُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، حَتَّى لَوْ دَخَل مِصْرًا وَمَكَثَ فِيهِ شَهْرًا
أَوْ أَكْثَر لاِنْتِظَارِ قَافِلَةٍ، أَوْ لِحَاجَةٍ أُخْرَى يَقُول:
أَخْرُجُ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا، وَلَمْ يَنْوِ الإِْقَامَةَ، فَإِنَّهُ
لاَ يَصِيرُ مُقِيمًا، وَذَلِكَ لإِِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ: أَقَامَ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى
نَيْسَابُورَ شَهْرَيْنِ وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّهُ أَقَامَ
بِأَذْرَبِيجَانَ شَهْرًا وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ.
وَعَنْ عَلْقَمَةَ: أَنَّهُ أَقَامَ بِخَوَارِزْمَ سَنَتَيْنِ وَكَانَ
يَقْصُرُ.
وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أَنَّهُ قَال: غَزَوْتُ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَشَهِدْتُ مَعَهُ الْفَتْحَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ
عَشْرَةَ لَيْلَةً، لاَ يُصَلِّي إِلاَّ رَكْعَتَيْنِ، وَيَقُول: يَا
أَهْل الْبَلَدِ: صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ (1) .
أَمَّا مُدَّةُ الإِْقَامَةِ الْمُعْتَبَرَةِ: فَأَقَلُّهَا خَمْسَةَ
عَشْرَةَ يَوْمًا؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ
__________
(1) حديث عمران بن حصين: " غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. . .
". أخرجه أبو داود (2 / 23 - 24 - ط. عزت عبيد دعاس) وأورده المنذري في
مختصر السنن (2 / 61، نشر دار المعرفة) وقال: في إسناده علي بن زيد بن
جوعان، وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة، وقال بعضهم: هو حديث لا تقوم به
حجة، لكثرة اضطرابه.
(27/282)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمَا
قَالاَ: إِذَا دَخَلْتَ بَلْدَةً وَأَنْتَ مُسَافِرٌ وَفِي عَزْمِكَ
أَنْ تُقِيمَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْمِل الصَّلاَةَ،
وَإِنْ كُنْتَ لاَ تَدْرِي مَتَى تَظْعَنُ فَاقْصُرْ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَهَذَا بَابٌ لاَ يُوصَل إِلَيْهِ
بِالاِجْتِهَادِ؛ لأَِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَادِيرِ، وَلاَ
يُظَنُّ بِهِمَا التَّكَلُّمُ جُزَافًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا
قَالاَهُ سَمَاعًا مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ، وَأَقَل مُدَّةِ
الإِْقَامَةِ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ صِحَاحٍ مَعَ وُجُوبِ عِشْرِينَ
صَلاَةً فِي مُدَّةِ الإِْقَامَةِ، وَلاَ يُحْتَسَبُ مِنَ الأَْيَّامِ
يَوْمُ الدُّخُول إِنْ دَخَل بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلاَ يَوْمُ
الْخُرُوجِ إِنْ خَرَجَ فِي أَثْنَائِهِ.
وَلاَ بُدَّ مِنَ اجْتِمَاعِ الأَْمْرَيْنِ: الأَْرْبَعَةِ الأَْيَّامِ
وَالْعِشْرِينَ صَلاَةً.
وَاعْتَبَرَ سَحْنُونٌ: الْعِشْرِينَ صَلاَةً فَقَطْ، ثُمَّ إِنَّ
نِيَّةَ الإِْقَامَةِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي ابْتِدَاءِ السَّيْرِ،
وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي أَثْنَائِهِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي ابْتِدَاءِ
السَّيْرِ، وَكَانَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنَ النِّيَّةِ وَبَيْنَ مَحَل
الإِْقَامَةِ مَسَافَةَ قَصْرٍ، قَصَرَ الصَّلاَةَ حَتَّى يَدْخُل
مَحَل الإِْقَامَةِ بِالْفِعْل، وَإِلاَّ أَتَمَّ مِنْ حِينِ
النِّيَّةِ، أَمَّا إِنْ كَانَتِ النِّيَّةُ فِي أَثْنَاءِ السَّفَرِ
فَإِنَّهُ يَقْصُرُ حَتَّى يَدْخُل مَحَل الإِْقَامَةِ بِالْفِعْل،
وَلَوْ كَانَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنَهُمَا دُونَ مَسَافَةِ
__________
(1) البدائع 1 / 97، 98.
(27/283)
الْقَصْرِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ،
وَيُسْتَثْنَى مِنْ نِيَّةِ الإِْقَامَةِ نِيَّةُ الْعَسْكَرِ بِمَحَل
خَوْفٍ، فَإِنَّهَا لاَ تَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ.
وَإِذَا أَقَامَ بِمَحَلٍّ فِي أَثْنَاءِ سَفَرِهِ دُونَ أَنْ يَنْوِيَ
الإِْقَامَةَ بِهِ، فَإِنَّ إِقَامَتَهُ بِهِ لاَ تَمْنَعُ الْقَصْرَ
وَلَوْ أَقَامَ مُدَّةً طَوِيلَةً إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ
سَيُقِيمُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فِي مَكَان عَادَةً، فَإِنَّ ذَلِكَ
يَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ وَلَوْ لَمْ يَنْوِ الإِْقَامَةَ؛ لأَِنَّ
الْعِلْمَ بِالإِْقَامَةِ كَالنِّيَّةِ، بِخِلاَفِ الشَّكِّ فَإِنَّهُ
لاَ يَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ (1) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ الْمُسْتَقِل،
وَلَوْ مُحَارِبًا إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ تَامَّةً
بِلَيَالِيِهَا، أَوْ نَوَى الإِْقَامَةَ وَأَطْلَقَ بِمَوْضِعِ
عَيْنِهِ، انْقَطَعَ سَفَرُهُ بِوُصُولِهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ سَوَاءٌ
أَكَانَ مَقْصِدَهُ أَمْ فِي طَرِيقِهِ، أَوْ نَوَى بِمَوْضِعٍ وَصَل
إِلَيْهِ إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ انْقَطَعَ سَفَرُهُ
بِالنِّيَّةِ مَعَ مُكْثِهِ.
وَلَوْ أَقَامَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ بِلاَ نِيَّةٍ انْقَطَعَ سَفَرُهُ
بِتَمَامِهَا؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْقَصْرَ بِشَرْطِ
الضَّرْبِ فِي الأَْرْضِ، وَالْمُقِيمُ وَالْعَازِمُ عَلَى
الإِْقَامَةِ غَيْرُ ضَارِبٍ فِي الأَْرْضِ. وَالسُّنَّةُ بَيَّنَتْ
أَنَّ مَا دُونَ الأَْرْبَعِ لاَ يَقْطَعُ السَّفَرَ، فَفِي
الصَّحِيحَيْنِ: يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بَعْدَ قَضَاءِ
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 364.
(27/283)
نُسُكِهِ ثَلاَثًا (1) ، وَكَانَ يَحْرُمُ
عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الإِْقَامَةَ بِمَكَّةَ وَمُسَاكَنَةُ
الْكُفَّارِ، فَالتَّرَخُّصُ فِي الثَّلاَثِ يَدُل عَلَى بَقَاءِ
حُكْمِ السَّفَرِ، بِخِلاَفِ الأَْرْبَعَةِ، وَأَلْحَقَ بِإِقَامَةِ
الأَْرْبَعَةِ: نِيَّةَ إِقَامَتِهَا.
وَلاَ يُحْسَبُ مِنَ الأَْرْبَعَةِ يَوْمَا دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ
إِذَا دَخَل نَهَارًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَالثَّانِي يُحْسَبَانِ
بِالتَّلْفِيقِ، فَلَوْ دَخَل زَوَال السَّبْتِ لِيَخْرُجَ زَوَال
الأَْرْبِعَاءِ أَتَمَّ، وَقَبْلَهُ قَصَرَ، فَإِنْ دَخَل لَيْلاً لَمْ
تُحْسَبْ بَقِيَّةُ اللَّيْلَةِ وَيُحْسَبُ الْغَدُ.
وَاخْتَارَ السُّبْكِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الرُّخْصَةَ لاَ
تَتَعَلَّقُ بِعَدَدِ الأَْيَّامِ بَل بِعَدَدِ الصَّلَوَاتِ،
فَيَتَرَخَّصُ بِإِقَامَةِ مُدَّةٍ يُصَلِّي فِيهَا إِحْدَى
وَعِشْرِينَ صَلاَةً مَكْتُوبَةً؛ لأَِنَّهُ الْمُحَقَّقُ مِنْ
فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَل
بِالأَْبْطُحِ.
وَلَوْ أَقَامَ بِبَلَدٍ بِنِيَّةِ أَنْ يَرْحَل إِذَا حَصَلَتْ
حَاجَةٌ يَتَوَقَّعُهَا كُل وَقْتٍ، أَوْ حَبَسَهُ الرِّيحُ بِمَوْضِعٍ
فِي الْبَحْرِ قَصَرَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا غَيْرَ يَوْمَيِ
الدُّخُول وَالْخُرُوجِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَقَامَهَا بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ لِحَرْبِ هَوَازِنَ
يَقْصُرُ الصَّلاَةَ (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري (الفتح 7 / 266 - 267 ط. السلفية) ، ومسلم (2 / 985،
ط. الحلبي) من حديث العلاء بن الحضرمي واللفظ لمسلم.
(2) أخرجه الطحاوي (شرح معاني الآثار 1 / 417 نشر مطبعة الأنوار
المحمدية) من حديث عمران بن الحصين، وصححه الترمذي (2 / 430 ط. الحلبي)
وأشار المنذري إلى تضعيفه.
(27/284)
وَقِيل: يَقْصُرُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ
غَيْرَ يَوْمَيِ الدُّخُول وَالْخُرُوجِ، وَفِي قَوْلٍ: يَقْصُرُ
أَبَدًا؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ زَادَتْ حَاجَةُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الثَّمَانِيَةِ عَشَرَ
لَقَصَرَ فِي الزَّائِدِ.
وَلَوْ عَلِمَ الْمُسَافِرُ بَقَاءَ حَاجَتِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً فَلاَ
قَصْرَ لَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لأَِنَّهُ سَاكِنٌ مُطْمَئِنٌّ بَعِيدٌ
عَنْ هَيْئَةِ الْمُسَافِرِينَ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ نَوَى إِقَامَةَ أَكْثَرَ مِنْ
عِشْرِينَ صَلاَةً أَتَمَّ لِحَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدِمَ مَكَّةَ صَبِيحَةَ رَابِعَةِ ذِي الْحِجَّةِ
فَأَقَامَ بِهَا الرَّابِعَ وَالْخَامِسَ وَالسَّادِسَ وَالسَّابِعَ،
وَصَلَّى الصُّبْحَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى
مِنًى، وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ فِي هَذِهِ الأَْيَّامِ، وَقَدْ
عَزَمَ عَلَى إِقَامَتِهَا (2) . وَلَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ إِقَامَةً
مُطْلَقَةً بِأَنْ لَمْ يَحُدَّهَا بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ فِي بَلْدَةٍ
أَتَمَّ؛ لِزَوَال السَّفَرِ الْمُبِيحِ لِلْقَصْرِ بِنِيَّةِ
الإِْقَامَةِ، وَلَوْ شَكَّ فِي نِيَّتِهِ، هَل نَوَى إِقَامَةَ مَا
يَمْنَعُ الْقَصْرَ أَوْ لاَ؟ أَتَمَّ؛ لأَِنَّهُ الأَْصْل.
وَإِنْ أَقَامَ الْمُسَافِرُ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ يَرْجُو نَجَاحَهَا
أَوْ جِهَادِ عَدُوٍّ بِلاَ نِيَّةِ إِقَامَةٍ تَقْطَعُ حُكْمَ
السَّفَرِ، وَلاَ يَعْلَمُ قَضَاءَ الْحَاجَةِ قَبْل
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 262.
(2) حديث جابر وابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة ".
حديث ابن عباس أخرجه البخاري (الفتح2 / 565 - ط. السلفية) وحديث جابر
أخرجه مسلم (2 / 883 - ط. الحلبي) وفيها قدوم النبي صلى الله عليه وسلم
رابعة ذي الحجة.
(27/284)
الْمُدَّةِ وَلَوْ ظَنًّا، أَوْ حُبِسَ
ظُلْمًا، أَوْ حَبَسَهُ مَطَرٌ قَصَرَ أَبَدًا؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ
يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلاَةَ (1) .
فَإِنْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهَا لاَ تَنْقَضِي فِي أَرْبَعَةِ
أَيَّامٍ لَزِمَهُ الإِْتْمَامُ، كَمَا لَوْ نَوَى إِقَامَةَ أَكْثَرَ
مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ. وَإِنْ نَوَى إِقَامَةً بِشَرْطٍ، كَأَنْ
يَقُول: إِنْ لَقِيتُ فُلاَنًا فِي هَذَا الْبَلَدِ أَقَمْتُ فِيهِ
وَإِلاَّ فَلاَ، فَإِنْ لَمْ يَلْقَهُ فِي الْبَلَدِ فَلَهُ حُكْمُ
السَّفَرِ؛ لِعَدَمِ الشَّرْطِ الَّذِي عَلَّقَ الإِْقَامَةَ عَلَيْهِ؛
وَإِنْ لَقِيَهُ بِهِ صَارَ مُقِيمًا؛ لاِسْتِصْحَابِهِ حُكْمَ نِيَّةِ
الإِْقَامَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فَسَخَ نِيَّتَهُ الأُْولَى
لِلإِْقَامَةِ قَبْل لِقَائِهِ أَوْ حَال لِقَائِهِ، وَإِنْ فَسَخَ
النِّيَّةَ بَعْدَ لِقَائِهِ فَهُوَ كَمُسَافِرٍ نَوَى الإِْقَامَةَ،
فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ فِي مَوْضِعِ إِقَامَتِهِ؛ لأَِنَّهُ
مَحَلٌّ ثَبَتَ لَهُ فِيهِ حُكْمُ الإِْقَامَةِ، فَأَشْبَهَ وَطَنَهُ
(2) .
الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ - اتِّحَادُ مَكَانِ الْمُدَّةِ
الْمُشْتَرَطَةِ لِلإِْقَامَةِ:
28 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمُدَّةَ الَّتِي يُقِيمُهَا
الْمُسَافِرُ وَيَصِيرُ بِهَا مُقِيمًا، يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ
__________
(1) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة
". أخرجه أبو داود (2 / 27 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والبيهقي (3 / 152 -
ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث جابر بن عبد الله وأعله أبو داود
بكونه روي مرسلا وأما البيهقي فقال: لا أراه محفوظا.
(2) كشاف القناع 1 / 330.
(27/285)
تُقْضَى فِي مَكَان وَاحِدٍ أَوْ مَا
يُشْبِهُ الْمَكَانَ الْوَاحِدَ؛ لأَِنَّ الإِْقَامَةَ قَرَارٌ
وَالاِنْتِقَال يُضَادُّهُ.
فَإِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الإِْقَامَةَ الْمُدَّةَ الْقَاطِعَةَ
لِلسَّفَرِ فِي مَوْضِعَيْنِ، فَإِنْ كَانَا مِصْرًا وَاحِدًا أَوْ
قَرْيَةً وَاحِدَةً صَارَ مُقِيمًا؛ لأَِنَّهُمَا مُتَّحِدَانِ
حُكْمًا، وَإِنْ كَانَا مِصْرَيْنِ نَحْوَ مَكَّةَ وَمِنًى، أَوِ
الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ، أَوْ إِنْ كَانَا قَرْيَتَيْنِ، أَوْ
أَحَدُهُمَا مِصْرًا وَالآْخَرُ قَرْيَةً فَلاَ يَصِيرُ مُقِيمًا،
وَلاَ تَزُول حَالَةُ السَّفَرِ؛ لأَِنَّهُمَا مَكَانَانِ
مُتَبَايِنَانِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا. فَإِنْ نَوَى الْمُسَافِرُ أَنْ
يُقِيمَ بِاللَّيَالِيِ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ وَيَخْرُجُ
بِالنَّهَارِ إِلَى الْمَوْضِعِ الآْخَرِ، فَإِنْ دَخَل أَوَّلاً
الْمَوْضِعَ الَّذِي نَوَى الْمَقَامَ فِيهِ بِاللَّيْل يَصِيرُ
مُقِيمًا، ثُمَّ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَوْضِعِ الآْخَرِ لاَ يَصِيرُ
مُسَافِرًا؛ لأَِنَّ مَوْضِعَ إِقَامَةِ الرَّجُل حَيْثُ يَبِيتُ
فِيهِ.
الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ - صَلاَحِيَةُ الْمَكَانِ لِلإِْقَامَةِ:
29 - يَقُول الْحَنَفِيَّةُ: لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَكَانُ
الَّذِي يُقِيمُ فِيهِ الْمُسَافِرُ صَالِحًا لِلإِْقَامَةِ،
وَالْمَكَانُ الصَّالِحُ لِلإِْقَامَةِ: هُوَ مَوْضِعُ اللُّبْثِ
وَالْقَرَارِ فِي الْعَادَةِ، نَحْوَ الأَْمْصَارِ وَالْقُرَى،
وَأَمَّا الْمَفَازَةُ وَالْجَزِيرَةُ وَالسَّفِينَةُ فَلَيْسَتْ
مَوْضِعَ الإِْقَامَةِ، حَتَّى لَوْ نَوَى الإِْقَامَةَ فِي هَذِهِ
الْمَوَاضِعِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لاَ يَصِيرُ مُقِيمًا، كَذَا
رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي
الأَْعْرَابِ وَالأَْكْرَادِ وَالتُّرْكُمَانِ إِذَا نَزَلُوا
(27/285)
بِخِيَامِهِمْ فِي مَوْضِعٍ، وَنَوَوْا
الإِْقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا صَارُوا مُقِيمِينَ، وَعَلَى
هَذَا: إِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الإِْقَامَةَ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ
يَوْمًا يَصِيرُ مُقِيمًا كَمَا فِي الْقَرْيَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ
أُخْرَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُمْ لاَ يَصِيرُونَ بِذَلِكَ
مُقِيمِينَ. وَالْحَاصِل أَنَّ هُنَاكَ قَوْلاً وَاحِدًا عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَهُوَ: لاَ يَصِيرُ مُقِيمًا فِي الْمَفَازَةِ وَلَوْ كَانَ
ثَمَّةَ قَوْمٌ وَطَنُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ بِالْخِيَامِ
وَالْفَسَاطِيطِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ. وَالصَّحِيحُ
قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ؛ لأَِنَّ مَوْضِعَ الإِْقَامَةِ مَوْضِعُ
الْقَرَارِ، وَالْمَفَازَةُ لَيْسَتْ مَوْضِعَ الْقَرَارِ فِي الأَْصْل
فَكَانَتِ النِّيَّةُ لَغْوًا.
وَلَوْ حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ مَدِينَةً مِنْ مَدَائِنِ أَهْل
الْحَرْبِ، وَوَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى إِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ
يَوْمًا لَمْ تَصِحَّ نِيَّةُ الإِْقَامَةِ وَيَقْصُرُونَ، وَكَذَا
إِذَا نَزَلُوا الْمَدِينَةَ وَحَاصَرُوا أَهْلَهَا فِي الْحِصْنِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانُوا فِي الأَْخْبِيَةِ وَالْفَسَاطِيطِ
خَارِجَ الْبَلْدَةِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا فِي الأَْبْنِيَةِ
صَحَّتْ نِيَّتُهُمْ. وَقَال زُفَرُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا: إِنْ
كَانَتِ الشَّوْكَةُ وَالْغَلَبَةُ لِلْمُسْلِمِينَ صَحَّتْ
نِيَّتُهُمْ، وَإِنْ كَانَ لِلْعَدُوِّ لَمْ تَصِحَّ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَلاَ يَشْتَرِطُونَ أَنْ
يَكُونَ الْمَكَانُ صَالِحًا لِلإِْقَامَةِ، فَلَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ
الإِْقَامَةَ فِي مَكَانٍ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ
(27/286)
لِلإِْقَامَةِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ،
وَامْتَنَعَ الْقَصْرُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَوْلاَنِ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمَكَانِ
صَالِحًا لِلإِْقَامَةِ (1) .
حُكْمُ التَّبَعِيَّةِ فِي الإِْقَامَةِ وَالْعِبْرَةُ لِنِيَّةِ
الْمَتْبُوعِ فِيهَا:
30 - يَقُول الْحَنَفِيَّةُ: الْعِبْرَةُ بِنِيَّةِ الأَْصْل فِي
الإِْقَامَةِ، وَيَصِيرُ التَّبَعُ مُقِيمًا بِإِقَامَةِ الأَْصْل
كَالْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَالْجَيْشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَإِنَّمَا يَصِيرُ التَّبَعُ مُقِيمًا بِإِقَامَةِ الأَْصْل،
وَتَنْقَلِبُ صَلاَتُهُ أَرْبَعًا إِذَا عَلِمَ التَّبَعُ بِنِيَّةِ
إِقَامَةِ الأَْصْل. فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ فَلاَ، حَتَّى إِذَا
صَلَّى التَّبَعُ صَلاَةَ الْمُسَافِرِينَ قَبْل الْعِلْمِ بِنِيَّةِ
إِقَامَةِ الأَْصْل، فَإِنَّ صَلاَتَهُ جَائِزَةٌ، وَلاَ يَجِبُ
عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا. وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ حُكْمِ التَّبَعِيَّةِ
فِي حَالَةِ السَّفَرِ، وَتَفْصِيل الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ.
وَالإِْقَامَةُ كَالسَّفَرِ فِي التَّبَعِيَّةِ.
دُخُول الْوَطَنِ:
31 - إِذَا دَخَل الْمُسَافِرُ وَطَنَهُ زَال حُكْمُ السَّفَرِ،
وَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ بِصَيْرُورَتِهِ مُقِيمًا، وَسَوَاءٌ دَخَل
وَطَنَهُ لِلإِْقَامَةِ، أَوْ لِلاِجْتِيَازِ، أَوْ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ،
أَوْ أَلْجَأَتْهُ الرِّيحُ إِلَى دُخُولِهِ؛
__________
(1) البدائع 1 / 98، والشرح الكبير 1 / 360، ومغني المحتاج 1 / 362،
وهداية الطالب: 174، والإنصاف 2 / 330.
(27/286)
لأَِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُجُ مُسَافِرًا إِلَى الْغَزَوَاتِ،
ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلاَ يُجَدِّدُ نِيَّةَ
الإِْقَامَةِ؛ لأَِنَّ وَطَنَهُ مُتَعَيِّنٌ لِلإِْقَامَةِ فَلاَ
حَاجَةَ إِلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ.
وَدُخُول الْوَطَنِ الَّذِي يَنْتَهِي بِهِ حُكْمُ السَّفَرِ هُوَ أَنْ
يَعُودَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ الْقَصْرَ، فَإِذَا
قَرُبَ مِنْ بَلَدِهِ فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَهُوَ مُسَافِرٌ مَا لَمْ
يَدْخُل، وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
حِينَ قَدِمَ الْكُوفَةَ مِنَ الْبَصْرَةِ صَلَّى صَلاَةَ السَّفَرِ
وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى أَبْيَاتِ الْكُوفَةِ.
وَرُوِيَ - أَيْضًا - أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
قَال لِمُسَافِرٍ: صَل رَكْعَتَيْنِ مَا لَمْ تَدْخُل مَنْزِلَكَ.
وَإِذَا دَخَل وَطَنَهُ فِي الْوَقْتِ وَجَبَ الإِْتْمَامُ.
الْعَزْمُ عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى الْوَطَنِ:
32 - إِذَا عَزَمَ الْمُسَافِرُ عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى وَطَنِهِ
قَبْل أَنْ يَسِيرَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ
مُقِيمًا مِنْ حِينِ عَزَمَ عَلَى الْعَوْدَةِ وَيُصَلِّي تَمَامًا؛
لأَِنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى الْوَطَنِ قَصْدُ تَرْكِ
السَّفَرِ بِمَنْزِلَةِ نِيَّةِ الإِْقَامَةِ، وَاشْتَرَطَ
الشَّافِعِيَّةُ مَعَ ذَلِكَ: أَنْ يَنْوِيَ وَهُوَ مُسْتَقِلٌّ
مَاكِثٌ، أَمَّا لَوْ نَوَى وَهُوَ سَائِرٌ فَلاَ يَقْصُرُ حَتَّى
يَدْخُل وَطَنَهُ (1) .
__________
(1) البدائع 1 / 103، حاشية الدسوقي 1 / 361، والمهذب 1 / 53.، وهداية
الراغب: 106، ومغني المحتاج 1 / 262.
(27/287)
وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْمَكَانِ الَّذِي
عَزَمَ فِيهِ عَلَى الْعَوْدَةِ وَبَيْنَ الْوَطَنِ مُدَّةُ سَفَرِ
قَصْرٍ، فَلاَ يَصِيرُ مُقِيمًا؛ لأَِنَّهُ بِالْعَزْمِ عَلَى
الْعَوْدِ قَصَدَ تَرْكَ السَّفَرِ إِلَى جِهَةٍ، وَقَصْدُ السَّفَرِ
إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى، فَلَمْ يُكْمِل الْعَزْمَ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى
السَّفَرِ لِوُقُوعِ التَّعَارُضِ، فَبَقِيَ مُسَافِرًا كَمَا كَانَ
إِلَى أَنْ يَدْخُل وَطَنَهُ (1) .
جَمْعُ الصَّلاَةِ:
33 - الْمُرَادُ بِالْجَمْعِ: هُوَ أَنْ يَجْمَعَ الْمُصَلِّي بَيْنَ
فَرِيضَتَيْنِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا، جَمْعُ تَقْدِيمٍ أَوْ جَمْعُ
تَأْخِيرٍ. وَالصَّلاَةُ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الْجَمْعُ هِيَ:
الظُّهْرُ مَعَ الْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبُ مَعَ الْعِشَاءِ.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ فَرِيضَتَيْنِ جَائِزٌ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ.
إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مُسَوِّغَاتِ الْجَمْعِ: فَعِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ يُجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ
الظُّهْرِ بِعَرَفَةَ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي وَقْتِ
الْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ، فَمُسَوِّغُ الْجَمْعِ عِنْدَهُمْ هُوَ
الْحَجُّ فَقَطْ، وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمُ الْجَمْعُ لأَِيِّ عُذْرٍ
آخَرَ، كَالسَّفَرِ وَالْمَطَرِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِلْجَمْعِ سِتَّةُ أَسْبَابٍ:
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 126، 127، والشرح الكبير 1 / 268، ومغني المحتاج
1 / 269، وكشاف القناع 1 / 116.
(27/287)
السَّفَرُ، وَالْمَطَرُ، وَالْوَحْل مَعَ
الظُّلْمَةِ، وَالْمَرَضُ، وَبِعَرَفَةَ، وَمُزْدَلِفَةَ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ: عَدَمَ
إِدْرَاكِ الْعَدُوِّ.
وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ كَذَلِكَ: الرِّيحَ الشَّدِيدَةَ.
عَلَى أَنَّ هُنَاكَ بَعْدَ ذَلِكَ شَرَائِطَ بِالنِّسْبَةِ لِهَذِهِ
الْمُسَوِّغَاتِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمَذَاهِبِ مَعَ تَفْصِيلٍ
كَثِيرٍ، وَذَلِكَ مِثْل مَنِ اشْتَرَطَ فِي السَّفَرِ ضَرْبًا
مُعَيَّنًا، كَقَوْل مَالِكٍ: لاَ يَجْمَعُ الْمُسَافِرُ إِلاَّ أَنْ
يَجِدَّ بِهِ السَّيْرُ، وَمِنْهُمْ مَنَ اشْتَرَطَ سَفَرَ الْقُرْبَةِ
كَالْحَجِّ وَالْغَزْوِ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ الْجَمْعَ بِسَبَبِ
الْمَطَرِ نَهَارًا وَأَجَازَهُ لَيْلاً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ
بِسَبَبِ الْمَطَرِ لَيْلاً وَنَهَارًا. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي
مُصْطَلَحِ: (جَمْعُ الصَّلَوَاتِ) .
صَلاَةُ الْمَغْرِبِ
انْظُرْ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَفْرُوضَةُ
(27/288)
الصَّلاَةُ عَلَى الْمَيِّتِ
انْظُرْ: جَنَائِز
صَلاَةُ النَّافِلَةِ
انْظُرْ: صَلاَةُ التَّطَوُّعِ
صَلاَةُ النَّفْل
انْظُرْ: صَلاَةُ التَّطَوُّعِ
(27/288)
صَلاَةُ الْوِتْرِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْوِتْرُ (بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا) لُغَةً: الْعَدَدُ
الْفَرْدِيُّ، كَالْوَاحِدِ وَالثَّلاَثَةِ وَالْخَمْسَةِ (1) ،
وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ
اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ (2) . وَمِنْ كَلاَمِ الْعَرَبِ:
كَانَ الْقَوْمُ شَفْعًا فَوَتَرْتُهُمْ وَأَوْتَرْتُهُمْ، أَيْ
جَعَلْتُ شَفْعَهُمْ وِتْرًا. وَفِي الْحَدِيثِ: مَنِ اسْتَجْمَرَ
فَلْيُوتِرْ (3) مَعْنَاهُ: فَلْيَسْتَنْجِ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ أَوْ
خَمْسَةٍ أَوْ سَبْعَةٍ، وَلاَ يَسْتَنْجِ بِالشَّفْعِ.
وَالْوِتْرُ فِي الاِصْطِلاَحِ: صَلاَةُ الْوِتْرِ، وَهِيَ صَلاَةٌ
تُفْعَل مَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ، تُخْتَمُ
بِهَا صَلاَةُ اللَّيْل، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَِنَّهَا تُصَلَّى
وِتْرًا، رَكْعَةً وَاحِدَةً، أَوْ ثَلاَثًا، أَوْ أَكْثَرَ، وَلاَ
يَجُوزُ جَعْلُهَا شَفْعًا،
__________
(1) لسان العرب.
(2) حديث: " إن الله وتر يحب الوتر ". أخرجه البخاري (الفتح11 / 214 -
ط السلفية) ومسلم (4 / 2062 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، واللفظ
لمسلم.
(3) حديث: " من استجمر فليوتر ". أخرجه البخاري (الفتح1 / 262 - ط
السلفية) ومسلم (1 / 212 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(27/289)
وَيُقَال: صَلَّيْتُ الْوِتْرَ،
وَأَوْتَرْتُ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَصَلاَةُ الْوِتْرِ اخْتُلِفَ فِيهَا، فَفِي قَوْلٍ: هِيَ جُزْءٌ مِنْ
صَلاَةِ قِيَامِ اللَّيْل وَالتَّهَجُّدِ، قَال النَّوَوِيُّ: هَذَا
هُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الأُْمِّ، وَفِي
الْمُخْتَصَرِ. وَفِي وَجْهٍ أَيْ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ
لاَ يُسَمَّى تَهَجُّدًا، بَل الْوِتْرُ غَيْرُ التَّهَجُّدِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوِتْرَ سُنَّةٌ
مُؤَكَّدَةٌ، وَلَيْسَ وَاجِبًا، وَدَلِيل سُنِّيَّتِهِ قَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ
يُحِبُّ الْوِتْرَ، فَأَوْتِرُوا يَا أَهْل الْقُرْآنِ (2) وَأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ وَوَاظَبَ
عَلَيْهِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِعَدَمِ وُجُوبِهِ بِمَا ثَبَتَ: أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ أَعْرَابِيٌّ: عَمَّا
فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ فَقَال: خَمْسُ
صَلَوَاتٍ، فَقَال: هَل عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَال: لاَ إِلاَّ أَنْ
تَطَوَّعَ (3) .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَيْرِيزٍ أَنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِي
كِنَانَةَ
__________
(1) المجموع للنووي 4 / 480.
(2) حديث: " إن الله وتر يحب الوتر، فأوتروا يا أهل القرآن ". أخرجه
الترمذي (2 / 316 - ط الحلبي) من حديث علي بن أبي طالب، وقال الترمذي:
حديث حسن.
(3) حديث: سؤال الأعرابي. أخرجه البخاري (الفتح 5 / 287 - ط السلفية)
ومسلم (1 / 41 - ط. الحلبي) من حديث طلحة بن عبيد الله.
(27/289)
يُدْعَى الْمُخْدَجِيُّ سَمِعَ رَجُلاً
بِالشَّامِ يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ، يَقُول: الْوِتْرُ وَاجِبٌ. قَال
الْمُخْدَجِيُّ: فَرُحْتُ إِلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - فَاعْتَرَضْتُ لَهُ وَهُوَ رَائِحٌ إِلَى
الْمَسْجِدِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِاَلَّذِي قَال أَبُو مُحَمَّدٍ، فَقَال
عُبَادَةُ: كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ، سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُول: خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ
اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ، مَنْ جَاءَ بِهِنَّ، لَمْ يُضَيِّعْ
مِنْهُنَّ شَيْئًا، اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ، كَانَ لَهُ عِنْدَ
اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ
بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ
وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ (1) .
وَقَال عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْوِتْرُ لَيْسَ بِحَتْمٍ
كَهَيْئَةِ الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَلَكِنْ سُنَّةٌ، سَنَّهَا
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: وَلأَِنَّ
الْوِتْرَ يَجُوزُ فِعْلُهُ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِغَيْرِ الضَّرُورَةِ،
وَثَبَتَ ذَلِكَ بِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كَانَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَبِّحُ عَلَى الرَّاحِلَةِ قِبَل
أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ
يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ (2) فَلَوْ
__________
(1) حديث: " خمس صلوات كتبهن الله على العباد " أخرجه النسائي (1 / 230
- ط المكتبة التجارية) وصححه ابن عبد البر كما في التلخيص لابن حجر (2
/ 147 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح على الراحلة. . .
". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 575 ط السلفية) من حديث ابن عمر.
(27/290)
كَانَتْ وَاجِبَةً لَمَا صَلاَّهَا عَلَى
الرَّاحِلَةِ، كَالْفَرَائِضِ (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ - خِلاَفًا لِصَاحِبَيْهِ - وَأَبُو بَكْرٍ
مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ
بِفَرْضٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْهُ فَرْضًا؛ لأَِنَّهُ لاَ يَكْفُرُ
جَاحِدُهُ، وَلاَ يُؤَذَّنُ لَهُ كَأَذَانِ الْفَرَائِضِ، وَاسْتَدَل
بِوُجُوبِهِ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الْوِتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا كَرَّرَ
ثَلاَثًا (2) وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى أَمَدَّكُمْ بِصَلاَةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ
حُمْرِ النَّعَمِ، وَهِيَ صَلاَةُ الْوِتْرِ، فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ
صَلاَةِ الْعِشَاءِ إِلَى صَلاَةِ الْفَجْرِ (3) وَهُوَ أَمْرٌ،
وَالأَْمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَالأَْحَادِيثُ الآْمِرَةُ بِهِ
كَثِيرَةٌ؛ وَلأَِنَّهُ صَلاَةٌ مُؤَقَّتَةٌ تُقْضَى.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ
ثَالِثَةٌ: أَنَّهُ فَرْضٌ، لَكِنْ قَال ابْنُ الْهُمَامِ: مُرَادُهُ
بِكَوْنِهِ سُنَّةً: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ،
__________
(1) المغني لابن قدامة 2 / 210، والمجموع للنووي (ط. المنيرية 4 / 12 -
21) والدسوقي 1 / 312.
(2) حديث: " الوتر حق، فمن لم يوتر. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 129 -
130 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وأورده المنذري في (مختصر السنن 2 / 122 -
نشر دار المعرفة) وذكر أن في إسناده راويا متكلما فيه.
(3) حديث: " إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم ". أخرجه
الترمذي (2 / 314 - ط. الحلبي) والحاكم (1 / 306 - ط دائرة المعارف
العثمانية) من حديث خارجة بن حذافة العدوي، واللفظ للحاكم وصححه الحاكم
ووافقه الذهبي.
(27/290)
فَلاَ يُنَافِي الْوُجُوبَ، وَمُرَادُهُ
بِأَنَّهُ فَرْضٌ: أَنَّهُ فَرْضٌ عَمَلِيٌّ، وَهُوَ الْوَاجِبُ (1) .
وُجُوبُ الْوِتْرِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
3 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّ مِنْ خَصَائِصِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُوبَ الْوِتْرِ
عَلَيْهِ، قَالُوا: وَكَوْنُهُ كَانَ يُصَلِّي الْوِتْرَ عَلَى
الرَّاحِلَةِ يَحْتَمِل أَنَّهُ لِعُذْرٍ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا
عَلَيْهِ فِي الْحَضَرِ دُونَ السَّفَرِ. وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثٌ هُنَّ عَلَيَّ
فَرَائِضُ، وَهُنَّ لَكُمْ تَطَوُّعٌ: الْوِتْرُ، وَالنَّحْرُ،
وَصَلاَةُ الضُّحَى (2) .
دَرَجَةُ السُّنِّيَّةِ فِي صَلاَةِ الْوِتْرِ عِنْدَ غَيْرِ
الْحَنَفِيَّةِ، وَمَنْزِلَتُهَا بَيْنَ سَائِرِ النَّوَافِل:
4 - صَلاَةُ الْوِتْرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ
لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَيْرِيزٍ السَّابِقِ،
وَالأَْحَادِيثُ الَّتِي تَحُضُّ عَلَيْهَا، وَحَدِيثُ خَارِجَةَ بْنِ
حُذَافَةَ قَال: قَال: رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَدَّكُمْ بِصَلاَةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ
__________
(1) الهداية وفتح القدير 1 / 300 - 303 ط. بولاق.
(2) مطالب أولي النهى 1 / 546، وكشاف القناع 1 / 415، والقليوبي 1 /
210، 212. وحديث: " ثلاث هن علي فرائض، وهن لكم تطوع ". أخرجه أحمد (1
/ 231، ط الميمنية) من حديث ابن عباس، وأورده ابن حجر في التلخيص (2 /
18 - ط شركة الطباعة الفنية) وذكر تضعيف أحد رواته، كما نقل عن جمع من
العلماء أنهم ضعفوا هذا الحديث.
(27/291)
مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، وَهِيَ صَلاَةُ
الْوِتْرِ، فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ إِلَى صَلاَةِ
الْفَجْرِ (1) .
وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ
أَسَاءَ، وَكُرِهَ لَهُ ذَلِكَ. قَال أَحْمَدُ: مَنْ تَرَكَ الْوِتْرَ
عَمْدًا فَهُوَ رَجُل سُوءٍ، وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَل لَهُ
شَهَادَةٌ. اهـ.
وَالْوِتْرُ مِنَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي
أَحَدِ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ: آكَدُ الرَّوَاتِبِ وَأَفْضَلُهَا (2) .
وَآكَدُ النَّوَافِل عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: صَلاَةُ الْكُسُوفِ؛
لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتْرُكْهَا عِنْدَ
وُجُودِ سَبَبِهَا، ثُمَّ الاِسْتِسْقَاءُ؛ لأَِنَّهُ تُشْرَعُ لَهَا
الْجَمَاعَةُ مُطْلَقًا؛ فَأَشْبَهَتِ الْفَرَائِضَ، ثُمَّ
التَّرَاوِيحُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهَا خَشْيَةَ أَنْ
تُفْرَضَ، لَكِنَّهَا أَشْبَهَتِ الْفَرَائِضَ مِنْ حَيْثُ
مَشْرُوعِيَّةُ الْجَمَاعَةِ لَهَا، ثُمَّ الْوِتْرُ؛ لأَِنَّهُ وَرَدَ
فِيهِ مِنَ الأَْخْبَارِ مَا لَمْ يَأْتِ مِثْلُهُ فِي رَكْعَتَيِ
الْفَجْرِ، ثُمَّ سُنَّةُ الْفَجْرِ، ثُمَّ سُنَّةُ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ
بَاقِي الرَّوَاتِبِ سَوَاءٌ (3) .
__________
(1) حديث خارجة بن حذافة تقدم تخريجه ف2.
(2) كفاية الطالب 1 / 256، 257، والمغني 2 / 160، 11، وكشاف القناع 1 /
415، 422.
(3) عميرة على شرح المنهاج 1 / 212، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 /
317، وكفاية الطالب 1 / 256، لبنان، دار المعرفة، كشاف القناع 1 / 414،
415، والمغني 2 / 161.
(27/291)
وَقْتُ الْوِتْرِ:
5 - وَقْتُ الْوِتْرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - يَبْدَأُ مِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ
وَذَلِكَ لِحَدِيثِ خَارِجَةَ الْمُتَقَدِّمِ، وَفِيهِ: فَصَلُّوهَا
مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ قَالُوا: وَيُصَلَّى
اسْتِحْبَابًا بَعْدَ سُنَّةِ الْعِشَاءِ؛ لِيُوَالِيَ بَيْنَ
الْعِشَاءِ وَسُنَّتِهَا. قَالُوا: وَلَوْ جَمَعَ الْمُصَلِّي بَيْنَ
الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ جَمْعَ تَقْدِيمٍ، أَيْ فِي وَقْتِ
الْمَغْرِبِ فَيَبْدَأُ وَقْتُ الْوِتْرِ مِنْ بَعْدِ تَمَامِ صَلاَةِ
الْعِشَاءِ.
وَمَنْ صَلَّى الْوِتْرَ قَبْل أَنْ يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ لَمْ يَصِحَّ
وِتْرُهُ لِعَدَمِ دُخُول وَقْتِهِ، فَإِنْ فَعَلَهُ نِسْيَانًا
أَعَادَهُ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: وَقْتُ الْوِتْرِ هُوَ وَقْتُ
الْعِشَاءِ، فَلَوْ صَلَّى الْوِتْرَ قَبْل أَنْ يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ
صَحَّ وِتْرُهُ.
وَآخِرُ وَقْتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ طُلُوعُ
الْفَجْرِ الثَّانِي لِحَدِيثِ خَارِجَةَ الْمُتَقَدِّمِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّ أَوَّل وَقْتِ صَلاَةِ
الْوِتْرِ مِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ الصَّحِيحَةِ وَمَغِيبِ
الشَّفَقِ، فَمَنْ قَدَّمَ الْعِشَاءَ فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ
فَإِنَّهُ لاَ يُصَلِّي الْوِتْرَ إِلاَّ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ.
وَأَمَّا آخِرُ وَقْتِ الْوِتْرِ عِنْدَهُمْ فَهُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ،
إِلاَّ فِي الضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ لِمَنْ غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ عَنْ
وِرْدِهِ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَهُ، فَيُوتِرَ مَا
(27/292)
بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَبَيْنَ أَنْ
يُصَلِّيَ الصُّبْحَ، مَا لَمْ يَخْشَ أَنْ تَفُوتَ صَلاَةُ الصُّبْحِ
بِطُلُوعِ الشَّمْسِ. فَلَوْ شَرَعَ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ، وَكَانَ
مُنْفَرِدًا، قَبْل أَنْ يُصَلِّيَ الْوِتْرَ، نُدِبَ لَهُ قَطْعُهَا
لِيُصَلِّيَ الْوِتْرَ. وَلاَ يُنْدَبُ ذَلِكَ لِلْمُؤْتَمِّ، وَفِي
الإِْمَامِ رِوَايَتَانِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ وَقْتَ الْوِتْرِ هُوَ وَقْتُ
الْعِشَاءِ، أَيْ مِنْ غُرُوبِ الشَّفَقِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ،
وَلِذَا اكْتُفِيَ بِأَذَانِ الْعِشَاءِ وَإِقَامَتِهِ، فَلاَ
يُؤَذَّنُ لِلْوِتْرِ، وَلاَ يُقَامُ لَهَا، مَعَ قَوْلِهِمْ
بِوُجُوبِهَا.
قَالُوا: وَلاَ يَجُوزُ تَقْدِيمُ صَلاَةِ الْوِتْرِ عَلَى صَلاَةِ
الْعِشَاءِ، لاَ لِعَدَمِ دُخُول وَقْتِهَا، بَل لِوُجُوبِ
التَّرْتِيبِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ. فَلَوْ صَلَّى الْوِتْرَ
قَبْل الْعِشَاءِ نَاسِيًا، أَوْ صَلاَّهُمَا، فَظَهَرَ فَسَادُ
صَلاَةِ الْعِشَاءِ دُونَ الْوِتْرِ يَصِحُّ الْوِتْرُ وَيُعِيدُ
الْعِشَاءَ وَحْدَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لأَِنَّ التَّرْتِيبَ
يَسْقُطُ بِمِثْل هَذَا الْعُذْرِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ - أَيْضًا -: مَنْ لَمْ يَجِدْ وَقْتَ
الْعِشَاءِ وَالْوِتْرِ، بِأَنْ كَانَ فِي بَلَدٍ يَطْلُعُ فِيهِ
الْفَجْرُ مَعَ غُرُوبِ الشَّفَقِ، أَوْ قَبْلَهُ، فَلاَ يَجِبُ
عَلَيْهِ
__________
(1) المغني 2 / 161، ومطالب أولي النهى 1 / 551، وكشاف القناع 1 / 415،
416، والقليوبي على شرح المنهاج 1 / 213، وحاشية العدوي على شرح
الرسالة 1 / 260، والزرقاني 1 / 288.
(27/292)
الْعِشَاءُ وَلاَ الْوِتْرُ (1) .
6 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ: عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ جَعْل الْوِتْرِ
آخِرَ النَّوَافِل الَّتِي تُصَلَّى بِاللَّيْل؛ لِقَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ
بِاللَّيْل وِتْرًا (2) .
فَإِنْ أَرَادَ مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ أَنْ يَتَنَفَّل يَجْعَل
وِتْرَهُ بَعْدَ النَّفْل، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَتَهَجَّدَ -
أَيْ يَقُومُ مِنْ آخِرِ اللَّيْل - فَإِنَّهُ إِذَا وَثِقَ
بِاسْتِيقَاظِهِ أَوَاخِرَ اللَّيْل يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ
وِتْرَهُ لِيَفْعَلَهُ آخِرَ اللَّيْل، وَإِلاَّ فَيُسْتَحَبُّ
تَقْدِيمُهُ قَبْل النَّوْمِ؛ لِحَدِيثِ: مَنْ خَافَ أَنْ لاَ يَقُومَ
مِنْ آخِرِ اللَّيْل فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ
يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْل، فَإِنَّ صَلاَةَ آخِرِ
اللَّيْل مَشْهُودَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَل (3) وَحَدِيثُ عَائِشَةَ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: مِنْ كُل اللَّيْل قَدْ أَوْتَرَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ أَوَّل
اللَّيْل وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ، فَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ
(4) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 303، والفتاوى الهندية 1 / 51.
(2) حديث: " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا ". أخرجه البخاري (الفتح 2
/ 488 - ط السلفية) ومسلم (1 / 518 - ط. الحلبي) من حديث ابن عمر.
(3) حديث: " من خاف ألا يقوم في آخر الليل. . . ". أخرجه مسلم (1 / 520
- ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(4) شرح المحلى على المنهاج 1 / 213، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1
/ 259، وكشاف القناع 1 / 416، وحديث عائشة: " من كل الليل قد أوتر رسول
الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (الفتح2 / 486 - ط
السلفية) ومسلم (1 / 512 - ط. الحلبي) واللفظ لمسلم.
(27/293)
عَدَدُ رَكَعَاتِ صَلاَةِ الْوِتْرِ:
7 - أَقَل صَلاَةِ الْوِتْرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ. قَالُوا: وَيَجُوزُ ذَلِكَ بِلاَ كَرَاهَةٍ
لِحَدِيثِ: صَلاَةُ اللَّيْل مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خِفْتَ
الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ (1) وَالاِقْتِصَارُ عَلَيْهَا
خِلاَفُ الأَْوْلَى، لَكِنْ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: شَرْطُ
الإِْيتَارِ بِرَكْعَةٍ سَبْقُ نَفْلٍ بَعْدَ الْعِشَاءِ مِنْ
سُنَّتِهَا، أَوْ غَيْرِهَا لِيُوتِرَ النَّفَل.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - خِلاَفُ الصَّحِيحِ مِنَ
الْمَذْهَبِ -: يُكْرَهُ الإِْيتَارُ بِرَكْعَةٍ حَتَّى فِي حَقِّ
الْمُسَافِرِ، تُسَمَّى الْبُتَيْرَاءُ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ
الإِْنْصَافِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ الإِْيتَارُ بِرَكْعَةٍ، لأَِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ
الْبُتَيْرَاءِ (2) قَالُوا: " رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - رَأَى رَجُلاً يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ، فَقَال: مَا هَذِهِ
الْبُتَيْرَاءُ؟ لَتَشْفَعَنَّهَا أَوْ لأَُؤَدِّبَنَّكَ (3) .
__________
(1) حديث " صلاة الليل مثنى مثنى. . . ". أخرجه البخاري (الفتح2 / 476
- ط السلفية) ومسلم (1 / 517 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر، واللفظ
لمسلم.
(2) حديث: " نهى عن البتيراء. . . ". عزاه الزيلعي في نصب الراية (2 /
120 ط المجلس العلمي بالهند) إلى التمهيد لابن عبد البر، ونقل عن ابن
القطان أنه قال: هذا حديث شاذ لا يعرج على روايته.
(3) الهداية وفتح القدير والعناية 1 / 304.
(27/293)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ:
أَكْثَرُ الْوِتْرِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ أَكْثَرُهُ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَيَجُوزُ
بِمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الأَْوْتَارِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ
فَلْيَفْعَل، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلاَثٍ فَلْيَفْعَل،
وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَل. (1) وَقَوْلُهُ:
أَوْتِرُوا بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ أَوْ تِسْعٍ أَوْ إِحْدَى عَشْرَةَ
(2) وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كَانَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِثَلاَثِ
عَشْرَةَ رَكْعَةً (3) . لَكِنْ قَال الْمَحَلِّيُّ: يُحْمَل هَذَا
عَلَى أَنَّهَا حَسِبَتْ فِيهِ سُنَّةَ الْعِشَاءِ.
وَأَدْنَى الْكَمَال عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ثَلاَثُ
رَكَعَاتٍ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى رَكْعَةٍ كَانَ خِلاَفَ الأَْوْلَى.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ: عَلَى أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ الإِْيتَارُ
بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ بِلاَ عُذْرٍ.
__________
(1) حديث: " من أحب أن يوتر بخمس فليفعل. . . ". أخرجه أبو داود (2 /
132 تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي أيوب الأنصاري، وذكر ابن حجر في
التلخيص (2 / 13 - ط شركة الطباعة الفنية) أن أبا حاتم الرازي
والدارقطني وغير واحد صححوا وقفه وقالوا: وهو الصواب.
(2) حديث: " أوتروا بخمس أو سبع أو تسع أو إحدى عشرة ". أخرجه الحاكم
(1 / 304 ط. دائرة المعارف العثمانية) وقال ابن حجر في التلخيص (1 /
3014 ط. شركة الطباعة الفنية) : رجاله ثقات.
(3) حديث أم سلمة: " كان يوتر بثلاث عشرة ركعة ". أخرجه أحمد (6 / 322
ط الميمنية) والترمذي (2 / 320 - ط الحلبي) وحسنه الترمذي.
(27/294)
وَأَكْمَل مِنَ الثَّلاَثِ خَمْسٌ، ثُمَّ
سَبْعٌ، ثُمَّ تِسْعٌ ثُمَّ إِحْدَى عَشْرَةَ، وَهِيَ أَكْمَلُهُ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَلَمْ يَذْكُرُوا فِي عَدَدِهِ إِلاَّ ثَلاَثَ
رَكَعَاتٍ، بِتَشَهُّدَيْنِ وَسَلاَمٍ، كَمَا يُصَلَّى الْمَغْرِبُ.
وَاحْتَجُّوا بِقَوْل عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِثَلاَثٍ
لاَ يُسَلِّمُ إِلاَّ فِي آخِرِهِنَّ (2) وَفِي الْهِدَايَةِ: حَكَى
الْحَسَنُ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الثَّلاَثِ. قَال ابْنُ
الْهُمَامِ: وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ
(3) .
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: فَإِنَّ الْوِتْرَ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ،
لَكِنْ لاَ تَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ شَفْعٍ يَسْبِقُهَا. وَاخْتُلِفَ:
هَل تَقْدِيمُ الشَّفْعِ شَرْطُ صِحَّةٍ أَوْ كَمَالٍ؟ قَالُوا: وَقَدْ
تُسَمَّى الرَّكَعَاتُ الثَّلاَثُ وِتْرًا إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ
مَجَازٌ، وَالْوِتْرُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الرَّكْعَةُ الْوَاحِدَةُ.
وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَاحِدَةً فَقَطْ، بَل بَعْدَ نَافِلَةٍ،
وَأَقَل تِلْكَ النَّافِلَةِ رَكْعَتَانِ، وَلاَ حَدَّ لأَِكْثَرِهَا.
قَالُوا: وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ حَدِيثُ: صَلاَةُ اللَّيْل
__________
(1) شرح المحلى على المنهاج، وحاشية القليوبي 1 / 212 2132، وكشاف
القناع 1 / 416، والإنصاف 1 / 168، والمغني 2 / 150، 165.
(2) حديث عائشة: (كان يوتر بثلاث لا يسلم إلا في آخرهن) . أخرجه الحاكم
(1 / 304 - ط دائرة المعارف العثمانية) وأخرجه النسائي (3 / 235 - ط
المطبعة التجارية) بلفظ: " كان لا يسلم في ركعتي الوتر "، وصحح الحديث
الذهبي في (التلخيص) .
(3) الهداية وفتح القدير والعناية 1 / 303، 304.
(27/294)
مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ
أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ
صَلَّى (1) .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ كَرَاهَةِ الإِْيتَارِ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ مَنْ
كَانَ لَهُ عُذْرٌ، كَالْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، فَقَدْ قِيل: لاَ
يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَقِيل: يُكْرَهُ لَهُ أَيْضًا. فَإِنْ أَوْتَرَ
دُونَ عُذْرٍ بِوَاحِدَةٍ دُونَ شَفْعٍ قَبْلَهَا، قَال أَشْهَبُ:
يُعِيدُ وِتْرَهُ بِأَثَرِ شَفْعٍ مَا لَمْ يُصَل الصُّبْحَ. وَقَال
سَحْنُونٌ: إِنْ كَانَ بِحَضْرَةِ ذَلِكَ أَيْ بِالْقُرْبِ، شَفَعَهَا
بِرَكْعَةٍ ثُمَّ أَوْتَرَ، وَإِنْ تَبَاعَدَ أَجْزَأَهُ (2) .
وَقَالُوا: لاَ يُشْتَرَطُ فِي الشَّفْعِ الَّذِي قَبْل رَكْعَةِ
الْوِتْرِ نِيَّةٌ تَخُصُّهُ، بَل يَكْتَفِي بِأَيِّ رَكْعَتَيْنِ
كَانَتَا (3) .
صِفَةُ صَلاَةِ الْوِتْرِ:
أَوَّلاً: الْفَصْل وَالْوَصْل:
8 - الْمُصَلِّي إِمَّا أَنْ يُوتِرَ بِرَكْعَةٍ، أَوْ بِثَلاَثٍ، أَوْ
بِأَكْثَرَ:
أ - فَإِنْ أَوْتَرَ الْمُصَلِّي بِرَكْعَةٍ - عِنْدَ الْقَائِلِينَ
بِجَوَازِهِ - فَالأَْمْرُ وَاضِحٌ.
__________
(1) حديث: " صلاة الليل. . . ". سبق تخريجه في نفس الفقرة.
(2) المنتقى للباجي (1 / 223 القاهرة، مطبعة السعادة، 1331 هـ وكفاية
الطالب الرباني مع حاشية العدوي 1 / 257، 258، بيروت دار المعرفة عن
طبعة القاهرة، والقوانين الفقهية (ص 61) .
(3) كفاية الطالب وحاشية العدوي 1 / 257.
(27/295)
ب - وَإِنْ أَوْتَرَ بِثَلاَثٍ، فَلَهُ
ثَلاَثُ صُوَرٍ:
الصُّورَةُ الأُْولَى: أَنْ يَفْصِل الشَّفْعَ بِالسَّلاَمِ، ثُمَّ
يُصَلِّيَ الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ بِتَكْبِيرَةِ إِحْرَامٍ
مُسْتَقِلَّةٍ. وَهَذِهِ الصُّورَةُ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ،
وَهِيَ الْمُعَيَّنَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَيُكْرَهُ مَا
عَدَاهَا، إِلاَّ عِنْدَ الاِقْتِدَاءِ بِمَنْ يُصَل.
وَأَجَازَهَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَقَالُوا: إِنَّ
الْفَصْل أَفْضَل مِنَ الْوَصْل، لِزِيَادَتِهِ عَلَيْهِ السَّلاَم
وَغَيْرُهُ. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ كَانَ إِمَامًا
فَالْوَصْل أَفْضَل، لأَِنَّهُ يَقْتَدِي بِهِ الْمُخَالِفُ، وَإِنْ
كَانَ مُنْفَرِدًا فَالْفَصْل أَفْضَل. قَالُوا: وَدَلِيل هَذِهِ
الصُّورَةِ مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
أَنَّهُ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَفْصِل بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ بِتَسْلِيمَةٍ (1) وَوَرَدَ:
أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ يُسَلِّمُ مِنَ
الرَّكْعَتَيْنِ حَتَّى يَأْمُرَ بِبَعْضِ حَاجَتِهِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُسَنُّ فِعْل الرَّكْعَةِ بَعْدَ
الشَّفْعِ بَعْدَ تَأْخِيرٍ لَهَا عَنْهُ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ
أَحْمَدُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ بَيْنَ الشَّفْعِ
وَالْوِتْرِ لِيَفْصِل. وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يَنْوِي فِي
الرَّكْعَتَيْنِ إِنْ أَرَادَ الْفَصْل: (رَكْعَتَيْنِ مِنَ الْوِتْرِ)
__________
(1) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يفصل بين الشفع والوتر
بتسليمة ". أخرجه أحمد (2 / 76 - ط الميمنية) وقواه كما نقله عنه ابن
حجر في التلخيص (2 / 16 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(27/295)
أَوْ (سُنَّةَ الْوِتْرِ) أَوْ
(مُقَدَّمَةَ الْوِتْرِ) قَالُوا: وَلاَ يَصِحُّ بِنِيَّةِ (الشَّفْعِ)
أَوْ (سُنَّةِ الْعِشَاءِ) أَوْ (صَلاَةِ اللَّيْل) (1) .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُصَلِّيَ الثَّلاَثَ مُتَّصِلَةً
سَرْدًا، أَيْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْصِل بَيْنَهُنَّ بِسَلاَمٍ وَلاَ
جُلُوسٍ، وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَوْلَى مِنَ
الصُّورَةِ التَّالِيَةِ. وَاسْتَدَلُّوا لِهَذِهِ الصُّورَةِ بِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ يُوتِرُ
بِخَمْسٍ، لاَ يَجْلِسُ إِلاَّ فِي آخِرِهَا (2) .
وَهَذِهِ الصُّورَةُ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لَكِنْ إِنْ
صَلَّى خَلْفَ مَنْ فَعَل ذَلِكَ فَيُوَاصِل مَعَهُ (3) .
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: الْوَصْل بَيْنَ الرَّكَعَاتِ الثَّلاَثِ،
بِأَنْ يَجْلِسَ بَعْدَ الثَّانِيَةِ فَيَتَشَهَّدَ وَلاَ يُسَلِّمَ،
بَل يَقُومَ لِلثَّالِثَةِ وَيُسَلِّمَ بَعْدَهَا، فَتَكُونُ فِي
الْهَيْئَةِ كَصَلاَةِ الْمَغْرِبِ، إِلاَّ أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي
الثَّالِثَةِ سُورَةً بَعْدَ الْفَاتِحَةِ خِلاَفًا لِلْمَغْرِبِ.
وَهَذِهِ الصُّورَةُ هِيَ الْمُتَعَيِّنَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
قَالُوا: فَلَوْ نَسِيَ فَقَامَ لِلثَّالِثَةِ دُونَ تَشَهُّدٍ
فَإِنَّهُ
__________
(1) الدسوقي 1 / 316، المنهاج وشرح حاشية القليوبي 1 / 212، وكشاف
القناع 1 / 416، 417.
(2) حديث: " كان يوتر بخمس لا يجلس إلا في آخرها. . . " أخرجه مسلم (1
/ 508 - ط. الحلبي) من حديث عائشة.
(3) الدسوقي والشرح الكبير 1 / 316، وشرح المنهاج 1 / 212، 213،
والإنصاف 2 / 170.
(27/296)
لاَ يَعُودُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ عَامِدًا
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَالْقِيَاسُ أَنْ
يَعُودَ، وَاحْتَجُّوا لِتَعَيُّنِهَا بِقَوْل أَبِي الْعَالِيَةِ: "
عَلَّمَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَنَّ الْوِتْرَ مِثْل صَلاَةِ الْمَغْرِبِ، فَهَذَا وِتْرُ اللَّيْل،
وَهَذَا وِتْرُ النَّهَارِ " (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: هِيَ جَائِزَةٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ؛ لأَِنَّ
تَشْبِيهَ الْوِتْرِ بِالْمَغْرِبِ مَكْرُوهٌ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ كَرَاهَةَ إِلاَّ أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا
يَعْلَى مَنَعَ هَذِهِ الصُّورَةَ. وَخَيَّرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بَيْنَ
الْفَصْل وَالْوَصْل (2) .
ج - أَنْ يُصَلِّيَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ:
9 - وَهُوَ جَائِزٌ - كَمَا تَقَدَّمَ - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: فَالْفَصْل بِسَلاَمٍ بَعْدَ كُل رَكْعَتَيْنِ
أَفْضَل، لِحَدِيثِ: كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي
فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلاَةِ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ
بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً وَيُسَلِّمُ مِنْ كُل رَكْعَتَيْنِ،
وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ (3) وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا
__________
(1) قول أبي العالية: علمنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن الوتر
مثل صلاة المغرب ". أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1 / 293 ط
مطبعة الأنوار المحمدية) .
(2) فتح القدير 1 / 303، حاشية ابن عابدين 1 / 445، والهندية 1 / 113،
وشرح المنهاج 1 / 212، والإنصاف 2 / 170.
(3) حديث: " كان يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر. . .
". أخرجه مسلم (1 / 508 ط الحلبي) من حديث عائشة.
(27/296)
بِتَسْلِيمَةٍ، وَسِتًّا بِتَسْلِيمَةٍ،
ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً، وَلَهُ الْوَصْل بِتَشَهُّدٍ، أَوْ
تَشَهُّدَيْنِ فِي الثَّلاَثِ الأَْخِيرَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَوْتَرَ بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ
فَالأَْفْضَل أَنْ يَسْرُدَهُنَّ سَرْدًا فَلاَ يَجْلِسُ إِلاَّ فِي
آخِرِهِنَّ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْل
ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ لاَ يَجْلِسُ
إِلاَّ فِي آخِرِهَا (1) . وَلِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِخَمْسٍ، وَسَبْعٍ، لاَ يَفْصِل بَيْنَهُنَّ
بِتَسْلِيمٍ (2) .
وَإِنْ أَوْتَرَ بِتِسْعٍ فَالأَْفْضَل أَنْ يَسْرُدَ ثَمَانِيًا،
ثُمَّ يَجْلِسَ لِلتَّشَهُّدِ وَلاَ يُسَلِّمَ، ثُمَّ يُصَلِّيَ
التَّاسِعَةَ وَيَتَشَهَّدَ وَيُسَلِّمَ.
وَيَجُوزُ فِي الْخَمْسِ وَالسَّبْعِ وَالتِّسْعِ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ
كُل رَكْعَتَيْنِ.
وَإِنْ أَوْتَرَ بِإِحْدَى عَشْرَةَ فَالأَْفْضَل أَنْ يُسَلِّمَ
__________
(1) حديث عائشة: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث
عشرة ركعة ". أخرجه مسلم (1 / 508 ط الحلبي) .
(2) حديث أم سلمة: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر بخمس وبسبع لا
يفصل بينهن بتسليم ". أخرجه النسائي (3 / 339 - ط المكتبة التجارية)
ونقل ابن أبي حاتم الرازي عن أبيه أنه قال: هذا حديث منكر. كذا في علل
الحديث (1 / 160) .
(27/297)
مِنْ كُل رَكْعَتَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ
يَسْرُدَ عَشْرًا، ثُمَّ يَتَشَهَّدَ، ثُمَّ يَقُومَ فَيَأْتِي
بِالرَّكْعَةِ وَيُسَلِّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْرُدَ الإِْحْدَى
عَشْرَةَ فَلاَ يَجْلِسُ وَلاَ يَتَشَهَّدُ إِلاَّ فِي آخِرِهَا (1) .
ثَانِيًا: الْقِيَامُ وَالْقُعُودُ فِي صَلاَةِ الْوِتْرِ،
وَأَدَاؤُهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ صَلاَةَ الْوِتْرِ لاَ تَصِحُّ
إِلاَّ مِنْ قِيَامٍ، إِلاَّ لِعَاجِزٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهَا
قَاعِدًا، وَلاَ تَصِحُّ عَلَى الرَّاحِلَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ (2) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّهُ تَجُوزُ لِلْقَاعِدِ أَنْ
يُصَلِّيَهَا وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ، وَإِلَى جَوَازِ
صَلاَتِهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ وَلَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ. وَذَلِكَ
مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ
وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالُوا:
لأَِنَّهَا سُنَّةٌ، فَجَازَ فِيهَا ذَلِكَ كَسَائِرِ السُّنَنِ.
وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى الرَّاحِلَةِ قِبَل أَيِّ وَجْهٍ
تَوَجَّهَ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُصَلِّي
عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ (3)
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 108، 109، والإنصاف 2 / 168، 169، وكشاف القناع
1 / 417.
(2) الهندية 1 / 111.
(3) المجموع للنووي 4 / 21، والمغني 2 / 160، 161 وحديث ابن عمر تقدم
تخريجه ف2.
(27/297)
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَال:
كُنْتُ أَسِيرُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
بِطَرِيقِ مَكَّةَ، قَال سَعِيدٌ: فَلَمَّا خَشِيتُ الصُّبْحَ نَزَلْتُ
فَأَوْتَرْتُ، ثُمَّ أَدْرَكْتُهُ، فَقَال لِي ابْنُ عُمَرَ: أَيْنَ
كُنْتَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: خَشِيتُ الْفَجْرَ فَنَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ.
فَقَال عَبْدُ اللَّهِ: أَلَيْسَ لَكَ فِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ؟ فَقُلْتُ: بَلَى وَاَللَّهِ.
قَال: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ (1) .
ثَالِثًا: الْجَهْرُ وَالإِْسْرَارُ:
11 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجْهَرُ فِي الْوِتْرِ إِنْ كَانَ إِمَامًا
فِي رَمَضَانَ لاَ فِي غَيْرِهِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَأَكَّدَ نَدْبُ الْجَهْرِ بِوِتْرٍ، سَوَاءٌ
صَلاَّهُ لَيْلاً أَوْ بَعْدَ الْفَجْرِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ لِغَيْرِ الْمَأْمُومِ أَنْ يَجْهَرَ
بِالْقِرَاءَةِ فِي وِتْرِ رَمَضَانَ، وَيُسِرَّ فِي غَيْرِهِ (4) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُخَيَّرُ الْمُنْفَرِدُ فِي صَلاَةِ الْوِتْرِ
فِي الْجَهْرِ وَعَدَمِهِ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ جَمَاعَةٍ: أَنَّ
الْجَهْرَ يَخْتَصُّ بِالإِْمَامِ فَقَطْ، قَال فِي
__________
(1) حديث سعيد بن يسار مع ابن عمر، أخرجه مسلم (1 / 487 - ط. الحلبي) .
(2) الهندية 1 / 72، ومجمع الأنهر 1 / 100.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 313، وكفاية الطالب 1 / 258،
وجواهر الإكليل 1 / 73.
(4) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع للشربيني الخطيب 1 / 132.
(27/298)
الْخِلاَفِ: وَهُوَ أَظْهَرُ (1) .
رَابِعًا: مَا يُقْرَأُ فِي صَلاَةِ الْوِتْرِ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي كُل رَكْعَةٍ
مِنَ الْوِتْرِ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً.
وَالسُّورَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سُنَّةٌ، لاَ يَعُودُ لَهَا إِنْ
رَكَعَ وَتَرَكَهَا.
ثُمَّ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يُوَقَّتْ فِي
الْقِرَاءَةِ فِي الْوِتْرِ شَيْءٌ غَيْرُ الْفَاتِحَةِ، فَمَا قَرَأَ
فِيهِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ قَرَأَ بِهِ فِي الأُْولَى بِسُورَةِ
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَْعْلَى} ، وَفِي الثَّانِيَةِ (بِ
الْكَافِرُونَ) وَفِي الثَّالِثَةِ (بِالإِْخْلاَصِ) ، فَيَقْرَأُ بِهِ
أَحْيَانًا، وَيَقْرَأُ بِغَيْرِهِ أَحْيَانًا لِلتَّحَرُّزِ عَنْ
هِجْرَانِ بَاقِي الْقُرْآنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ الْقِرَاءَةُ بَعْدَ
الْفَاتِحَةِ بِالسُّوَرِ الثَّلاَثِ الْمَذْكُورَةِ، لِمَا وَرَدَ
مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: " أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ "
(2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - كَذَلِكَ - إِلَى
أَنَّهُ يُنْدَبُ فِي الشَّفْعِ (سَبِّحْ، وَالْكَافِرُونَ) ، أَمَّا
فِي الثَّالِثَةِ فَيُنْدَبُ أَنْ يَقْرَأَ (بِسُورَةِ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 418.
(2) حديث ابن عباس في قراءة السور المذكورة في الوتر أخرجه الترمذي (2
/ 326 - ط الحلبي) وأخرجه الحاكم (1 / 305) من حديث عائشة، وصححه
الحاكم ووافقه الذهبي.
(27/298)
الإِْخْلاَصِ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ) ،
لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي ذَلِكَ (1) .
لَكِنْ قَال الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ ذَلِكَ إِلاَّ لِمَنْ لَهُ
حِزْبٌ، أَيْ قَدْرٌ مِنَ الْقُرْآنِ يَقْرَؤُهُ لَيْلاً، فَيَقْرَأُ
مِنْ حِزْبِهِ فِي الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ (2) .
خَامِسًا: الْقُنُوتُ فِي صَلاَةِ الْوِتْرِ:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقُنُوتَ فِي
الْوِتْرِ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ
وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ، وَفِي أَنَّهُ يَكُونُ فِي جَمِيعِ لَيَالِي
السَّنَةِ أَوْ فِي بَعْضِهَا، وَفِي أَنَّهُ هَل يَكُونُ قَبْل
الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ، وَفِيمَا يُسَنُّ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ، وَفِي
غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِهِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ
الْقُنُوتَ فِي الْوِتْرِ مَكْرُوهٌ (3) .
وَيُنْظَرُ بَيَانُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قُنُوت) .
الْوِتْرُ فِي السَّفَرِ:
14 - لاَ يَخْتَلِفُ حُكْمُ صَلاَةِ الْوِتْرِ فِي السَّفَرِ
__________
(1) حديث: عائشة: أخرجه الترمذي (2 / 326 - ط الحلبي) ذكر ابن حجر في
التلخيص (2 / 18 - ط شركة الطباعة الفنية) تليين أحد رواته، ولكنه ذكر
للحديث طريقا آخر عن عائشة بما يقوي تلك الرواية.
(2) الهندية 1 / 78، والزرقاني 1 / 284، والمجموع 4 / 17، 24، وكشاف
القناع 1 / 417.
(3) الهندية 1 / 111، وفتح القدير 1 / 304، وما بعدها، والمجموع للنووي
4 / 14 - 17، وشرح المحلى وحاشية القليوبي 1 / 213، والمغني لابن قدامة
2 / 151، وكشاف القناع 1 / 417.
(27/299)
عَنْهُ فِي الْحَضَرِ، فَمَنْ قَال:
إِنَّهُ سُنَّةٌ، وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ - غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَأَبِي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - فَإِنَّهُ يُسَنُّ فِي
السَّفَرِ كَالْحَضَرِ.
وَمَنْ قَال إِنَّهُ وَاجِبٌ - وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو
حَنِيفَةَ وَأَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ - فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي
السَّفَرِ كَالْحَضَرِ (1) .
أَدَاءُ صَلاَةِ الْوِتْرِ فِي جَمَاعَةٍ:
15 - يَنُصُّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ
يُسَنُّ أَنْ يُصَلَّى الْوِتْرَ فِي جَمَاعَةٍ، لَكِنْ تُنْدَبُ
الْجَمَاعَةُ فِي الْوِتْرِ الَّذِي يَكُونُ عَقِبَ التَّرَاوِيحِ،
تَبَعًا لَهَا (2) . وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ
فِعْلُهُ حِينَئِذٍ فِي الْمَسْجِدِ تَبَعًا لِلتَّرَاوِيحِ، وَقَال
بَعْضُهُمْ: بَل يُسَنُّ أَنْ يَكُونَ الْوِتْرُ فِي الْمَنْزِل. قَال
فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ فِعْلُهَا فِي الْبُيُوتِ وَلَوْ
جَمَاعَةً إِنْ لَمْ تُعَطَّل الْمَسَاجِدُ عَنْ صَلاَتِهَا بِهَا
جَمَاعَةً. وَعَلَّلُوا أَفْضَلِيَّةَ الاِنْفِرَادِ بِالسَّلاَمَةِ
مِنَ
__________
(1) فتح القدير 1 / 402، 403، والزيلعي 1 / 177، والدسوقي 1 / 316،
ومغني المحتاج 1 / 224،، والمجموع 4 / 21، وكشاف القناع 1 / 422،
ومطالب أولي النهى 1 / 548.
(2) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 1 / 212، 214، ومطالب أولي النهى 1 /
459، 564، وكشاف القناع 1 / 422، 427، والفتاوى الهندية 1 / 116.
(27/299)
الرِّيَاءِ، وَلاَ يَسْلَمُ مِنْهُ إِلاَّ
إِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فِي بَيْتِهِ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ فِعْل الْوِتْرِ فِي الْبَيْتِ
أَفْضَل، كَسَائِرِ السُّنَنِ إِلاَّ لِعَارِضٍ، فَالْمُعْتَكِفُ
يُصَلِّيهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنْ صَلَّى مَعَ الإِْمَامِ
التَّرَاوِيحَ يُصَلِّي مَعَهُ الْوِتْرَ لِيَنَال فَضِيلَةَ
الْجَمَاعَةِ، لَكِنْ إِنْ كَانَ لَهُ تَهَجُّدٌ فَإِنَّهُ يُتَابِعُ
الإِْمَامَ فِي الْوِتْرِ فَإِذَا سَلَّمَ الإِْمَامُ لَمْ يُسَلِّمْ
مَعَهُ بَل يَقُومُ فَيَشْفَعُ وِتْرَهُ، وَذَلِكَ لِيَنَال فَضِيلَةَ
الْجَمَاعَةِ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ
الْمَسْبُوقُ بِالْوِتْرِ مَعَ الإِْمَامِ رَكْعَةً فَإِنْ كَانَ
الإِْمَامُ سَلَّمَ مِنَ اثْنَتَيْنِ أَجْزَأَتِ الْمَسْبُوقَ
الرَّكْعَةُ عَنْ وِتْرِهِ، وَإِنْ كَانَ الإِْمَامُ لَمْ يُسَلِّمْ
مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ فَعَلَى الْمَسْبُوقِ أَنْ يَقْضِيَهُمَا (2)
لِحَدِيثِ: مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا (3)
.
نَقْضُ الْوِتْرِ:
16 - مَنْ صَلَّى الْوِتْرَ ثُمَّ بَدَا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ
يُصَلِّيَ نَفْلاً، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ بِلاَ كَرَاهَةٍ عِنْدَ
__________
(1) شرح الزرقاني 1 / 283.
(2) كشاف القناع 1 / 418، 422، ومطالب أولي النهى 1 / 548، 500.
(3) حديث: " ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا ". أخرجه عبد الرزاق في
المصنف (2 / 287 - ط المجلس العلمي بالهند) وعنه أحمد (2 / 270 - ط
الميمنية) من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح.
(27/300)
الشَّافِعِيَّةِ كَمَا قَال النَّوَوِيُّ.
وَلَوْ صَلَّى مَعَ الإِْمَامِ التَّرَاوِيحَ، ثُمَّ أَوْتَرَ مَعَهُ
وَهُوَ يَنْوِي الْقِيَامَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُوتِرَ
مَعَهُ إِنْ طَرَأَتْ لَهُ النِّيَّةُ بَعْدَهُ أَوْ فِيهِ. أَمَّا
إِنْ طَرَأَتْ لَهُ قَبْل ذَلِكَ فَيُكْرَهُ لَهُ عَلَى مَا صَرَّحَ
بِهِ الْمَالِكِيَّةُ.
وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الْوِتْرِ فَلَهُ عِنْدَ
الْفُقَهَاءِ طَرِيقَتَانِ:
الطَّرِيقَةُ الأُْولَى: أَنْ يُصَلِّيَ شَفْعًا مَا شَاءَ، ثُمَّ لاَ
يُوتِرُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَدْ أَخَذَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَقَوْل النَّخَعِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَعَلْقَمَةَ. وَقَالُوا: لاَ
يَنْقُضُ وِتْرَهُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَسَعْدٍ
وَعَمَّارٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
اسْتَدَلُّوا بِقَوْل عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَقَدْ
سُئِلَتْ عَنِ الَّذِي يَنْقُضُ وِتْرَهُ فَقَالَتْ: " ذَاكَ الَّذِي
يَلْعَبُ بِوِتْرِهِ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ. وَاسْتَدَلُّوا
عَلَى عَدَمِ إِيتَارِهِ مَرَّةً أُخْرَى بِحَدِيثِ طَلْقِ بْنِ
عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: لاَ وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ (1) وَلِمَا صَحَّ:
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ
الْوِتْرِ رَكْعَتَيْنِ (2) .
__________
(1) حديث: " لا وتران في ليلة ". أخرجه الترمذي (2 / 334 - ط الحلبي)
وقال: حديث حسن.
(2) حديث: " كان يصلي بعد الوتر ركعتين ". ورد من حديث عائشة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " كان يوتر بواحدة ثم يركع ركعتين يقرأ فيهما
وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع ". أخرجه ابن ماجه (1 / 378 - ط
الحلبي) وأورده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 222 - ط دار الجنان)
وقال: (هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات) .
(27/300)
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: وَعَلَيْهَا
الْقَوْل الآْخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنْ يَبْدَأَ نَفْلَهُ
بِرَكْعَةٍ يَشْفَعُ بِهَا وِتْرَهُ، ثُمَّ يُصَلِّيَ شَفْعًا مَا
شَاءَ ثُمَّ يُوتِرَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ
وَأُسَامَةَ، وَسَعْدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ
عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ
النَّوَوِيُّ وَابْنُ قُدَامَةَ. ثُمَّ قَال: وَلَعَلَّهُمْ ذَهَبُوا
إِلَى قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْعَلُوا
آخِرَ صَلاَتِكُمْ بِاللَّيْل وِتْرًا (1) .
قَضَاءُ صَلاَةِ الْوِتْرِ:
17 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ طَلَعَ عَلَيْهِ
الْفَجْرُ وَلَمْ يُصَل الْوِتْرَ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، سَوَاءٌ
أَتَرَكَهُ عَمْدًا أَمْ نِسْيَانًا وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ،
وَمَتَى قَضَاهُ يَقْضِيهِ بِالْقُنُوتِ. فَلَوْ صَلَّى الصُّبْحَ
وَهُوَ ذَاكِرٌ أَنَّهُ لَمْ يُصَل الْوِتْرَ فَصَلاَةُ الصُّبْحِ
فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ
الْوِتْرِ وَالْفَرِيضَةِ (2) . وَلاَ يَقْضِي الْوِتْرَ عِنْدَ
__________
(1) فتح القدير على الهداية 1 / 312، والزرقاني 1 / 285، والباجي على
الموطأ 1 / 224، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي 1 / 213، والمجموع 4 /
16، 24، وكشاف القناع 1 / 427، ومطالب أولي النهى 1 / 564. وحديث
اجعلوا آخر صلاتكم. . . ". تقدم تخريجه ف 6.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 111، 121.
(27/301)
الْمَالِكِيَّةِ إِذَا تَذَكَّرَهُ بَعْدَ
أَنْ صَلَّى الصُّبْحَ. فَإِنْ تَذَكَّرَهُ فِيهَا نُدِبَ لَهُ إِنْ
كَانَ مُنْفَرِدًا أَنْ يَقْطَعَهَا لِيُصَلِّيَ الْوِتْرَ مَا لَمْ
يَخَفْ خُرُوجَ الْوَقْتِ، وَإِنْ تَذَكَّرَهُ فِي أَثْنَاءِ
رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ فَقِيل: يَقْطَعُهَا كَالصُّبْحِ، وَقِيل:
يُتِمُّهَا ثُمَّ يُوتِرُ.
وَذَهَبَ طَاوُسٍ إِلَى أَنَّ الْوِتْرَ يُقْضَى مَا لَمْ تَطْلُعِ
الشَّمْسُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَقْضِي الْوِتْرَ إِذَا فَاتَ
وَقْتُهُ، أَيْ عَلَى سَبِيل النَّدْبِ (2) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَامَ عَنِ الْوِتْرِ أَوْ نَسِيَهُ
فَلْيُصَلِّهِ إِذَا أَصْبَحَ أَوْ ذَكَرَهُ قَالُوا: وَيَقْضِيهِ مَعَ
شَفْعِهِ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ قَضَاءُ
الْوِتْرِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْجَدِيدِ وَيُسْتَحَبُّ
الْقَضَاءُ أَبَدًا لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا
إِذَا ذَكَرَهَا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: لاَ تُقْضَى وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْقَدِيمِ (3)
.
__________
(1) العدوي على شرح الرسالة 1 / 261، والدسوقي 1 / 317.
(2) كشاف القناع 1 / 416، ومطالب أولي النهى 1 / 548.
(3) المجموع 4 / 41 - 42، وحديث: " من نام عن الوتر أو نسيه فليصله ".
أخرجه أبو داود 2 / 137، تحقيق عزت عبيد دعاس، والحاكم (1 / 302 ط
دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي سعيد الخدري، وصححه الحاكم
ووافقه الذهبي.
(27/301)
التَّسْبِيحُ بَعْدَ الْوِتْرِ:
18 - يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُول بَعْدَ الْوِتْرِ: " سُبْحَانَ الْمَلِكِ
الْقُدُّوسِ " ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَيَمُدَّ صَوْتَهُ بِهَا فِي
الثَّالِثَةِ (1) ، لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَال:
كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِ
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَْعْلَى} ، وَ {قُل يَا أَيُّهَا
الْكَافِرُونَ} ، وَ {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ
يَنْصَرِفَ مِنَ الْوِتْرِ قَال: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ.
ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِهَا فِي الثَّالِثَةِ (2)
.
__________
(1) المغني 2 / 165، ومطالب أولي النهى 1 / 549.
(2) حديث عبد الرحمن بن أبزى، كان يوتر بسبح اسم ربك الأعلى. . . ".
أخرجه النسائي (3 / 245 - ط المكتبة التجارية) وحسن إسناده ابن حجر في
التلخيص (2 / 19) .
(27/302)
الصَّلاَةُ الْوُسْطَى
التَّعْرِيفُ:
1 - تَعْرِيفُ الصَّلاَةِ: انْظُرْ: صَلاَة.
وَالْوُسْطَى مُؤَنَّثُ الأَْوْسَطِ، وَأَوْسَطُ الشَّيْءِ مَا بَيْنَ
طَرَفَيْهِ، وَهُوَ مِنْ أَوْسَطِ قَوْمِهِ: مِنْ خِيَارِهِمْ، وَفِي
صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ مِنْ
أَوْسَطِ قَوْمِهِ، أَيْ خِيَارِهِمْ، وَالْوَسَطُ: وَسَطُ الشَّيْءِ،
مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ، وَالْمُعْتَدِل مِنْ كُل شَيْءٍ، وَالْعَدْل،
وَالْخَيْرُ، يُوصَفُ بِهِ الْمُفْرَدُ وَغَيْرُهُ، وَفِي التَّنْزِيل:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (1) ، أَيْ خِيَارًا
عُدُولاً (2) .
تَحْدِيدُ الصَّلاَةِ الْوُسْطَى:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ الصَّلاَةِ الْوُسْطَى
الْوَارِدِ ذِكْرُهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى
الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}
(3) وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي:
2 - قِيل: إِنَّهَا صَلاَةُ الصُّبْحِ، وَهَذَا قَوْل مَالِكٍ وَهُوَ
الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِهِ، وَهُوَ قَوْل
__________
(1) سورة البقرة / 143.
(2) المعجم الوسيط، وتفسير الجلالين في الآية.
(3) سورة البقرة / 238.
(27/302)
الشَّافِعِيِّ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي
الأُْمِّ وَغَيْرِهِ، وَنَقَل الْوَاحِدِيُّ هَذَا الْقَوْل عَنْ
عُمَرَ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ
وَجَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ
وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ
قَوْل عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ. وَمُسْتَنَدُ هَؤُلاَءِ: أَنَّ صَلاَةَ
الصُّبْحِ قَبْلَهَا صَلاَتَا لَيْلٍ يُجْهَرُ فِيهِمَا، وَبَعْدَهَا
صَلاَتَا نَهَارٍ يُسَرُّ فِيهِمَا؛ وَلأَِنَّ وَقْتَهَا يَدْخُل
وَالنَّاسُ نِيَامٌ، وَالْقِيَامُ إِلَيْهَا شَاقٌّ فِي زَمَنِ
الْبَرْدِ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ، وَفِي زَمَنِ الصَّيْفِ لِقِصَرِ
اللَّيْل، فَخُصَّتْ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، حَتَّى لاَ
يُتَغَافَل عَنْهَا بِالنَّوْمِ.
وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُومُوا
لِلَّهِ قَانِتِينَ} فَقَرَنَهَا بِالْقُنُوتِ، وَلاَ قُنُوتَ إِلاَّ
فِي الصُّبْحِ، قَال أَبُو رَجَاءٍ: صَلَّى بِنَا ابْنُ عَبَّاسٍ -
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - صَلاَةَ الْغَدَاةِ بِالْبَصْرَةِ
فَقَنَتَ فِيهَا قَبْل الرُّكُوعِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا فَرَغَ
قَال: هَذِهِ الصَّلاَةُ الْوُسْطَى الَّتِي أَمَرَنَا اللَّهُ
تَعَالَى أَنْ نَقُومَ فِيهَا قَانِتِينَ.
وَالْقُنُوتُ لُغَةً: يُطْلَقُ عَلَى طُول الْقِيَامِ وَعَلَى
الدُّعَاءِ، فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
أَفْضَل الصَّلاَةِ طُول الْقُنُوتِ (1) .
وَقَال أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ
وَالاِسْتِعْمَال أَنَّ الْقُنُوتَ: الْعِبَادَةُ
__________
(1) حديث جابر: " أفصل الصلاة طول القنوت ". أخرجه مسلم (1 / 520 ط
الحلبي) .
(27/303)
وَالدُّعَاءُ لِلَّهِ تَعَالَى فِي حَال
الْقِيَامِ
، قَال الْوَاحِدِيُّ: فَتَظْهَرُ الدَّلاَلَةُ لِلشَّافِعِيِّ: أَنَّ
الْوُسْطَى الصُّبْحُ؛ لأَِنَّهُ لاَ فَرْضَ يَكُونُ فِيهِ الدُّعَاءُ
قَائِمًا غَيْرَهَا (1) .
3 - وَقِيل: إِنَّهَا الْعَصْرُ لأَِنَّهَا بَيْنَ صَلاَتَيْنِ مِنْ
صَلاَةِ اللَّيْل، وَصَلاَتَيْنِ مِنْ صَلاَةِ النَّهَارِ، وَهُوَ
مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْل ابْنِ حَبِيبٍ
مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي قَبَسِهِ،
وَابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ وَقَال: وَعَلَى هَذَا الْقَوْل
الْجُمْهُورُ مِنَ النَّاسِ وَبِهِ أَقُول، وَنَقَلَهُ الْوَاحِدِيُّ
عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُمْ - وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ
وَالضَّحَّاكِ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ، وَنَقَلَهُ ابْنُ
الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيِّ وَأَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ، وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُمْ - وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - وَنَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ
الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّهَا صَلاَةُ الْعَصْرِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ
- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الأَْحْزَابِ: شَغَلُونَا عَنِ
الصَّلاَةِ
__________
(1) الحطاب 1 / 400، والقرطبي (3 / 210 - 211 ط. دار الكتب المصرية) ،
والمجموع 3 / 60 - 62، والمغني 1 / 379.
(27/303)
الْوُسْطَى صَلاَةِ الْعَصْرِ، مَلأََ
اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا (1) .
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: قَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ الْوُسْطَى
صَلاَةُ الْعَصْرِ (2) . وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: الَّذِي تَفُوتُهُ صَلاَةُ الْعَصْرِ كَأَنَّمَا
وَتَرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ (3) . وَقَال: مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ
الْعَصْرِ فَقَدْ حَبَطَ عَمَلُهُ (4) وَقَال: إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ
عُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَضَيَّعُوهَا، فَمَنْ حَافَظَ
عَلَيْهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وَلاَ صَلاَةَ بَعْدَهَا
حَتَّى يَطْلُعَ الشَّاهِدُ، يَعْنِي النَّجْمَ (5) .
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ: الَّذِي تَقْتَضِيهِ
الأَْحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ: إِنَّ الصَّلاَةَ الْوُسْطَى
__________
(1) حديث علي: " شغلونا عن الصلاة الوسطى. . . ". أخرجه مسلم (1 / 437
ط الحلبي) .
(2) حديث عبد الله بن مسعود: " صلاة الوسطى صلاة العصر. . . ". أخرجه
الترمذي (5 / 218 - ط. الحلبي) وقال: حديث صحيح.
(3) حديث: " الذي تفوته صلاة العصر. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 /
30 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 435 - ط. الحلبي) من حديث ابن عمر.
(4) حديث: " من ترك صلاة العصر. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 31 -
ط. السلفية) من حديث بريدة.
(5) حديث: " إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم. . . ". أخرجه مسلم
(1 / 568 - ط الحلبي) من حديث أبي بصرة الغفاري.
(27/304)
هِيَ الْعَصْرُ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
ثُمَّ قَال: قَال صَاحِبُ الْحَاوِي: نَصَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا
الصُّبْحُ، وَصَحَّتِ الأَْحَادِيثُ أَنَّهَا الْعَصْرُ، وَمَذْهَبُهُ
اتِّبَاعُ الْحَدِيثِ، فَصَارَ مَذْهَبُهُ أَنَّهَا الْعَصْرُ، قَال:
وَلاَ يَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلاَنِ، كَمَا وَهَمَ بَعْضُ
أَصْحَابِنَا (1) .
4 - وَقِيل: إِنَّهَا الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ مَعًا، قَالَهُ الشَّيْخُ
أَبُو بَكْرٍ الأَْبْهَرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ
أَبِي جَمْرَةَ، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْل الْغُرُوبِ} (2)
يَعْنِي صَلاَةَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ.
وَرَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَال: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَظَرَ إِلَى
الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَال: أَمَّا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ
رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا، لاَ تُضَامُونَ (3) . فِي رُؤْيَتِهِ،
فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْل طُلُوعِ
الشَّمْسِ وَقَبْل غُرُوبِهَا، يَعْنِي الْعَصْرَ وَالْفَجْرَ
فَافْعَلُوا (4) ، ثُمَّ قَرَأَ جَرِيرٌ:
__________
(1) ابن عابدين 1 / 241، والحطاب 1 / 400، والقرطبي 3 / 210، 213،
والمجموع 3 / 61، والمغني 1 / 378 - 380، وكشاف القناع 1 / 252.
(2) سورة ق / 39.
(3) قال النووي: (تضامون) بتشديد الميم وتخفيفها، فمن شددها فتح التاء،
ومن خففها ضم التاء ومعنى المشدد: أنكم لا تتضامون، وتتلطفون في التوصل
إلى رؤيته، ومعنى المخفف: أنه لا يلحقكم مشقة وتعب، وانظر القرطبي 3 /
211 - 212 والمغني 1 / 379، والحطاب 1 / 400، والمجموع 3 / 61.
(4) حديث جرير: " إنكم سترون ربكم. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 52
- ط السلفية) ومسلم (1 / 439 - ط. الحلبي) .
(27/304)
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْل طُلُوعِ
الشَّمْسِ وَقَبْل غُرُوبِهَا} (1)
وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَتَعَاقَبُونَ
فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْل وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ،
وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ وَصَلاَةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ
يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ - وَهُوَ أَعْلَمُ
بِهِمْ - كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ
وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ (2) .
وَرَوَى عُمَارَةُ بْنُ رُؤَيْبَةَ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: لَنْ يَلِجَ النَّارَ
أَحَدٌ صَلَّى قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْل غُرُوبِهَا، يَعْنِي
الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ (3) وَعَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَل
الْجَنَّةَ (4) وَسُمِّيَتَا الْبَرْدَيْنِ لأَِنَّهُمَا يُفْعَلاَنِ
فِي وَقْتِ الْبَرْدِ (5) .
__________
(1) سورة طه / 130.
(2) حديث: " يتعاقبون فيكم ملائكة. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 33
- ط السلفية) ومسلم (1 / 439 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث عمارة بن رؤيبة: " لن يلج النار أحد صلى. . . ". أخرجه مسلم
(1 / 440 ط الحلبي) .
(4) حديث: " من صلى البردين دخل الجنة. . . ". أخرجه البخاري (الفتح2 /
52 - ط السلفية) ومسلم (1 / 440 - ط. الحلبي) .
(5) القرطبي 3 / 211، 212، والمغني 1 / 379، والحطاب 1 / 400، والمجموع
3 / 61.
(27/305)
5 - وَقِيل: إِنَّ الصَّلاَةَ الْوُسْطَى
صَلاَةُ الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ، قَال الدِّمْيَاطِيُّ: ذَكَرَهُ
ابْنُ مِقْسَمٍ فِي تَفْسِيرِهِ (1) . وَقَال أَبُو الدَّرْدَاءِ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: اسْمَعُوا
وَبَلِّغُوا مَنْ خَلْفَكُمْ: حَافِظُوا عَلَى هَاتَيْنِ
الصَّلاَتَيْنِ - يَعْنِي فِي جَمَاعَةٍ - الْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ،
وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأََتَيْتُمُوهُمَا وَلَوْ حَبْوًا
عَلَى مَرَافِقِكُمْ وَرُكَبِكُمْ.
وَقَالَهُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -
وَوَرَدَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَال: لَيْسَ صَلاَةً أَثْقَل عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنَ
الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهَا لأََتَوْهُمَا
وَلَوْ حَبْوًا (2) .
وَجَعَل لِمُصَلِّي الصُّبْحِ فِي جَمَاعَةٍ قِيَامَ لَيْلَةٍ،
وَالْعَتَمَةِ نِصْفَ لَيْلَةٍ، حَيْثُ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ
فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْل، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي
جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْل كُلَّهُ (3) .
6 - وَقِيل: هِيَ الظُّهْرُ؛ لأَِنَّهَا وَسَطُ
__________
(1) الحطاب 1 / 400،، القرطبي 3 / 312.
(2) حديث: " ليس صلاة أثقل. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 141 ط
السلفية) ومسلم (1 / 451 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة واللفظ للبخاري.
(3) حديث: " من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى
الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله ". أخرجه مسلم (1 / 454 ط الحلبي)
من حديث عثمان بن عفان.
(27/305)
النَّهَارِ، وَالنَّهَارُ أَوَّلُهُ مِنْ
طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَمِمَّنْ قَال إِنَّ الظُّهْرَ هِيَ الصَّلاَةُ
الْوُسْطَى: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ،
وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِر عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ.
وَمِمَّا يَدُل عَلَى أَنَّهَا وُسْطَى: مَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ
وَحَفْصَةُ حِينَ أَمْلَتَا: " حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ
وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَصَلاَةِ الْعَصْرِ " بِالْوَاوِ، وَرُوِيَ:
أَنَّهَا كَانَتْ أَشَقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لأَِنَّهَا كَانَتْ
تَجِيءُ فِي الْهَاجِرَةِ وَهُمْ قَدْ نَفْهَتُهُمْ (1) أَعْمَالُهُمْ
فِي أَمْوَالِهِمْ (2) ، وَوَرَدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَال:
كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي
الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَلَمْ تَكُنْ صَلاَةٌ أَشَدُّ عَلَى
أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا
(3) ، فَنَزَلَتْ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ
الْوُسْطَى} (4) .
7 - وَقِيل: إِنَّهَا الْمَغْرِبُ قَال بِذَلِكَ قَبِيصَةُ
__________
(1) نفهه: أتبعه حتى انقطع.
(2) المغني 1 / 378، 379، والقرطبي 3 / 209، والمجموع 3 / 61، والحطاب
1 / 400.
(3) حديث زيد بن ثابت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر
بالهاجرة ". أخرجه أبو داود (1 / 288، تحقيق عزت عبيد دعاس) وصحح
إسناده ابن حزم في المحلى (4 / 250 ط المنيرية) .
(4) سورة البقرة / 238.
(27/306)
بْنُ ذُؤَيْبٍ فِي جَمَاعَةٍ، وَابْنُ
قُتَيْبَةَ وَقَتَادَةَ؛ لأَِنَّ الأُْولَى هِيَ الظُّهْرُ، فَتَكُونُ
الْمَغْرِبُ الثَّالِثَةُ، وَالثَّالِثَةُ مِنْ كُل خَمْسٍ هِيَ
الْوُسْطَى؛ وَلأَِنَّهَا وُسْطَى فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَوُسْطَى
فِي الأَْوْقَاتِ، فَعَدَدُ رَكَعَاتِهَا ثَلاَثٌ فَهِيَ وُسْطَى
بَيْنَ الأَْرْبَعِ وَالاِثْنَيْنِ وَوَقْتُهَا فِي آخِرِ النَّهَارِ
وَأَوَّل اللَّيْل، خُصَّتْ مِنْ بَيْنِ الصَّلاَةِ بِأَنَّهَا
الْوِتْرُ، وَاَللَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، وَبِأَنَّهَا
تُصَلَّى فِي أَوَّل وَقْتِهَا فِي جَمِيعِ الأَْمْصَارِ
وَالأَْعْصَارِ، وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُهَا عَنْهُ (1) ، وَكَذَلِكَ
صَلاَّهَا جِبْرِيل بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي الْيَوْمَيْنِ لِوَقْتٍ وَاحِدٍ (2) ، وَلِذَلِكَ ذَهَبَ بَعْضُ
الأَْئِمَّةِ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا إِلاَّ وَقْتٌ وَاحِدٌ،
وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَزَال
أُمَّتِي بِخَيْرٍ - أَوْ قَال: عَلَى الْفِطْرَةِ - مَا لَمْ
يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إِلَى أَنْ تَشْتَبِكَ النُّجُومُ (3)
وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ أَفْضَل
الصَّلَوَاتِ عِنْدَ اللَّهِ صَلاَةُ الْمَغْرِبِ لَمْ يَحُطَّهَا عَنْ
مُسَافِرٍ وَلاَ مُقِيمٍ، فَتَحَ اللَّهُ بِهَا صَلاَةَ اللَّيْل
وَخَتَمَ بِهَا صَلاَةَ النَّهَارِ
__________
(1) المغني 1 / 379 - 380، والقرطبي 3 / 210، والحطاب 1 / 400،
والمجموع 3 / 61.
(2) حديث: " أن جبريل صلى المغرب بالنبي صلى الله عليه وسلم. . . ".
أخرجه الترمذي (1 / 279 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس وقال: حديث حسن
صحيح.
(3) حديث: " لا تزال أمتي بخير. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 291 تحقيق
عزت عبيد دعاس) من حديث أبي أيوب، وإسناده حسن.
(27/306)
فَمَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَصَلَّى
بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ
وَمَنْ صَلَّى بَعْدَهَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ
ذَنْبَ عِشْرِينَ سَنَةً - أَوْ قَال - أَرْبَعِينَ سَنَةً (1) .
8 - وَقِيل: إِنَّ الصَّلاَةَ الْوُسْطَى هِيَ صَلاَةُ الْعِشَاءِ؛
لأَِنَّهَا بَيْنَ صَلاَتَيْنِ لاَ تُقْصَرَانِ، وَيُسْتَحَبُّ
تَأْخِيرُهَا، وَذَلِكَ شَاقٌّ، فَوَقَعَ التَّأْكِيدُ فِي
الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا - وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّ الصَّلاَةَ
الْوُسْطَى هِيَ الْعِشَاءُ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ.
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ قَال: مَكَثْنَا لَيْلَةً نَنْتَظِرُ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَلاَةِ الْعِشَاءِ
الآْخِرَةِ فَخَرَجَ إِلَيْنَا حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْل أَوْ
بَعْدَهُ. فَقَال: إِنَّكُمْ لَتَنْتَظِرُونَ صَلاَةً مَا
يَنْتَظِرُهَا أَهْل دِينٍ غَيْرَكُمْ، وَلَوْلاَ أَنْ يَثْقُل عَلَى
أُمَّتِي لَصَلَّيْتُ بِهِمْ هَذِهِ السَّاعَةَ (2)
وَقَال: لَيْسَ صَلاَةٌ أَثْقَل عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْفَجْرِ
وَالْعِشَاءِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأََتَوْهُمَا وَلَوْ
حَبْوًا (3) .
__________
(1) حديث عائشة: " إن أفضل الصلوات عند الله صلاة المغرب ". أورده
الغزالي في إحياء علوم الدين (1 / 363 - ط الحلبي) وقال العراقي في
تخريجه: " رواه أبو الوليد يونس بن عبيد الله الصفار في كتاب الصلاة،
ورواه الطبراني في الأوسط مختصرا، وإسناده ضعيف ".
(2) حديث ابن عمر: " مكثنا ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم. .
. ". أخرجه مسلم (1 / 442 ط الحلبي) .
(3) انظر المغني 1 / 380، والحطاب 1 / 400، والقرطبي 3 / 310، والمجموع
3 / 61، وحديث: " ليس صلاة أثقل على المنافين. . . ". أخرجه البخاري
(الفتح 2 / 141 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(27/307)
9 - وَقِيل: إِنَّ الصَّلاَةَ الْوُسْطَى
غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، فَهِيَ مُبْهَمَةٌ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ
لِيَجْتَهِدَ فِي الْجَمِيعِ كَمَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
وَالسَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ
خَيْثَمٍ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَقَالَهُ نَافِعٌ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ، فَخَبَّأَهَا اللَّهُ تَعَالَى. كَمَا خَبَّأَ لَيْلَةَ
الْقَدْرِ، وَسَاعَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَسَاعَاتِ اللَّيْل
الْمُسْتَجَابِ فِيهَا الدُّعَاءُ لِيَقُومُوا بِاللَّيْل فِي
الظُّلُمَاتِ لِمُنَاجَاةِ عَالِمِ الْخَفِيَّاتِ وَمِمَّا يَدُل عَلَى
صِحَّةِ أَنَّهَا مُبْهَمَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ مَا وَرَدَ عَنِ
الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَال: " نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ: (حَافِظُوا
عَلَى الصَّلَوَاتِ وَصَلاَةِ الْعَصْرِ) ، فَقَرَأْنَاهَا مَا شَاءَ
اللَّهُ ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّهُ فَنَزَلَتْ {حَافِظُوا عَلَى
الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى} ، فَقَال رَجُلٌ: هِيَ إِذَنْ
صَلاَةُ الْعَصْرِ؟ فَقَال الْبَرَاءُ: قَدْ أَخْبَرْتُكَ كَيْفَ
نَزَلَتْ وَكَيْفَ نَسَخَهَا اللَّهُ " (1) فَلَزِمَ مِنْ هَذَا
أَنَّهَا بَعْدَ أَنْ عُيِّنَتْ نُسِخَ تَعْيِينُهَا وَأُبْهِمَتْ
فَارْتَفَعَ التَّعْيِينُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ مُسْلِمٍ. وَقَال بِهِ
غَيْرُ وَاحِدٍ مِنِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، قَال
__________
(1) حديث البراء: " نزلت هذه الآية: {حافظوا على الصلوات وصلاة العصر}
. . . ". أخرجه مسلم (1 / 438 - ط الحلبي) .
(27/307)
الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ - أَيْ
إِبْهَامُهَا وَعَدَمُ تَعْيِينِهَا - الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى لِتَعَارُضِ الأَْدِلَّةِ وَعَدَمِ التَّرْجِيحِ، فَلَمْ
يَبْقَ إِلاَّ الْمُحَافَظَةُ عَلَى جَمِيعِهَا، وَأَدَاؤُهَا فِي
أَوْقَاتِهَا (1) .
10 - وَقِيل: إِنَّهَا صَلاَةُ الْجُمُعَةِ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ
فِي تَفْسِيرِهِ؛ لأَِنَّ الْجُمُعَةَ خُصَّتْ بِالْجَمْعِ لَهَا
وَالْخُطْبَةِ فِيهَا، جُعِلَتْ عِيدًا ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ
وَمَكِّيٌّ، وَوَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِقَوْمٍ
يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلاً
يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ثُمَّ أُحَرِّقَ عَلَى رِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ
عَنِ الْجُمُعَةِ بُيُوتَهُمْ (2) .
11 - وَقِيل: إِنَّهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ بِجُمْلَتِهَا، ذَكَرَهُ
النَّقَّاشُ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقَالَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ لأَِنَّ
قَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} ، يَعُمُّ الْفَرْضَ
وَالنَّفَل، ثُمَّ خُصَّ الْفَرْضُ بِالذِّكْرِ (3) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَطَّابُ أَقْوَالاً أُخْرَى سِوَى مَا تَقَدَّمَ.
يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِيهَا.
__________
(1) القرطبي 3 / 212 - 213، والحطاب 1 / 400، والمجموع 3 / 61.
(2) القرطبي 3 / 211، والحطاب 1 / 400، والمجموع 3 / 61. وحديث: " لقد
هممت أن آمر رجلا. . . ". أخرجه مسلم (1 / 452 ط الحلبي) .
(3) القرطبي 3 / 212، والحطاب 1 / 400، والمجموع 3 / 61.
(27/308)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ وَسَبَبُ
إِفْرَادِهَا بِالذِّكْرِ:
12 - مِنَ الأَْقْوَال السَّابِقَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الصَّلاَةَ
الْوُسْطَى هِيَ إِحْدَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فَرْضٌ عَلَى كُل مُكَلَّفٍ - كَمَا هُوَ
مَعْلُومٌ - وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فِي قَوْله تَعَالَى {حَافِظُوا عَلَى
الصَّلَوَاتِ} (1) . ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهَا قَوْله تَعَالَى:
{وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى} .
يَقُول الْقُرْطُبِيُّ: وَأَفْرَدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
الصَّلاَةَ الْوُسْطَى بِالذِّكْرِ، وَقَدْ دَخَلَتْ قَبْل فِي عُمُومِ
الصَّلَوَاتِ؛ تَشْرِيفًا لَهَا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ
أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} (2)
وَقَوْلِهِ: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (3) .
وَإِفْرَادُهَا بِالذِّكْرِ يَدُل كَذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا آكَدُ
الصَّلَوَاتِ. يَقُول النَّوَوِيُّ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ
الصَّلاَةَ الْوُسْطَى آكَدُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَاخْتَلَفُوا فِي
تَحْدِيدِهَا (4) .
صَلْبٌ
انْظُرْ: تَصْلِيب
__________
(1) سورة البقرة / 238.
(2) سورة الأحزاب / 7.
(3) سورة الرحمن / 68.
(4) القرطبي 3 / 209، والمجموع 3 / 60.
(27/308)
الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَفْرُوضَةُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّلَوَاتُ مُفْرَدُهَا صَلاَةٌ، وَلِتَعْرِيفِهَا: يُنْظَرُ
مُصْطَلَحُ: (صَلاَةٌ) .
وَالْمُرَادُ بِالْمَفْرُوضَةِ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الَّتِي
تُؤَدَّى كُل يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَهِيَ: الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ
وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ ثَبَتَتْ فَرْضِيَّتُهَا
بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ مِنَ
الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، يَكْفُرُ جَاحِدُهَا (1) .
وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ: هِيَ آكَدُ الْفُرُوضِ وَأَفْضَلُهَا بَعْدَ
الشَّهَادَتَيْنِ، وَهِيَ الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ
الإِْسْلاَمِ الْخَمْسِ. (ر: صَلاَةٌ) .
وَقَدْ ثَبَتَ عَدَدُ رَكَعَاتِ كُل صَلاَةٍ مِنْ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ
بِسُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلاً
وَفِعْلاً وَبِالإِْجْمَاعِ. قَال الْكَاسَانِيُّ: عَرَفْنَا ذَلِكَ
بِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُ:
صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (2) ، وَهَذَا لأَِنَّهُ لَيْسَ
فِي كِتَابِ اللَّهِ
__________
(1) البدائع 1 / 91، والفواكه الدواني 1 / 192، ومغني المحتاج 1 /
121،، المغني لابن قدامة 1 / 370، والعناية على الهداية 1 / 191.
(2) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 /
111 - ط السلفية) من حديث مالك بن الحويرث.
(27/309)
عَدَدُ رَكَعَاتِ الصَّلَوَاتِ فَكَانَتْ
نُصُوصُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مُجْمَلَةً فِي الْمِقْدَارِ، ثُمَّ
زَال الإِْجْمَال بِبَيَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَوْلاً وَفِعْلاً (1) .
وَأَدَاؤُهَا بِالْجَمَاعَةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ
خِلاَفًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا
بِوُجُوبِهَا. (ر: صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ) .
وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ حَسْب التَّرْتِيبِ
الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - خِلاَفًا
لِلْحَنَفِيَّةِ، حَيْثُ بَدَءُوا بِصَلاَةِ الصُّبْحِ (2) .
أَوَّلاً - صَلاَةُ الظُّهْرِ:
2 - الظُّهْرُ: سَاعَةُ الزَّوَال وَوَقْتُهُ، وَلِهَذَا يَجُوزُ فِيهِ
التَّأْنِيثُ وَالتَّذْكِيرُ، فَيُقَال: حَانَ الظُّهْرُ أَيْ وَقْتُ
الزَّوَال، وَحَانَتِ الظُّهْرُ أَيْ سَاعَتُهُ (3) .
وَالْمُرَادُ بِالزَّوَال: مَيْل الشَّمْسِ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ
إِلَى الْمَغْرِبِ (4)
فَصَلاَةُ الظُّهْرِ هِيَ الَّتِي تَجِبُ بِدُخُول وَقْتِ الظُّهْرِ،
وَتُفْعَل فِي وَقْتِ الظَّهِيرَةِ. وَتُسَمَّى صَلاَةُ الظُّهْرِ -
أَيْضًا - بِالأُْولَى؛
__________
(1) البدائع 1 / 91، والفواكه الدواني 1 / 191، والحطاب 1 / 397، وكشاف
القناع 1 / 297.
(2) المراجع السابقة، وكشاف القناع 1 / 249.
(3) المصباح المنير في المادة.
(4) المجموع للنووي 3 / 24، والمغني 1 / 372.
(27/309)
لأَِنَّهَا أَوَّل صَلاَةٍ صَلاَّهَا
جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَمَّنِي جِبْرِيل
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ، فَصَلَّى
الظُّهْرَ فِي الأُْولَى مِنْهُمَا حِينَ كَانَ الْفَيْءُ مِثْل
الشِّرَاكِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ كُل شَيْءٍ مِثْل
ظِلِّهِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ
وَأَفْطَرَ الصَّائِمُ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ
الشَّفَقُ، ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ بَرَقَ الْفَجْرُ وَحَرُمَ
الطَّعَامُ عَلَى الصَّائِمِ، وَصَلَّى الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ
الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ، لِوَقْتِ الْعَصْرِ
بِالأَْمْسِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِل كُل شَيْءٍ
مِثْلَيْهِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ لِوَقْتِهِ الأَْوَّل، ثُمَّ
صَلَّى الْعِشَاءَ الآْخِرَةَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْل، ثُمَّ
صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَتِ الأَْرْضُ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ
جِبْرِيل فَقَال: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا وَقْتُ الأَْنْبِيَاءِ مِنْ
قَبْلِكَ، وَالْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ (1) .
وَهِيَ أَوَّل صَلاَةٍ ظَهَرَتْ فِي الإِْسْلاَمِ.
كَمَا تُسَمَّى بِالْهَجِيرَةِ (2) قَال أَبُو بَرْزَةَ:
__________
(1) حديث: ابن عباس - رضي الله عنهما -: " أن صلاة الظهر أول صلاة
صلاها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم ". أخرجه الترمذي (1 / 279 -
280 - ط الحلبي) وقال: حديث حسن صحيح.
(2) الحطاب 1 / 383، ومغني المحتاج 1 / 121، والمغني لابن قدامة 1 /
371.
(27/310)
{كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْهَجِيرَةَ الَّتِي يَدْعُونَهَا
الأُْولَى حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ، أَوْ تَزُول (1) .
أَوَّل وَقْتِ الظُّهْرِ وَآخِرُهُ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ أَوَّل وَقْتِ صَلاَةِ
الظُّهْرِ هُوَ زَوَال الشَّمْسِ، أَيْ مَيْلُهَا عَنْ وَسَطِ
السَّمَاءِ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لَنَا؛ لأَِنَّ
التَّكْلِيفَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ
يَكُونَ فِي الْوَاقِعِ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ،
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ آخِرَهُ هُوَ بُلُوغُ
الظِّل مِثْلَهُ غَيْرَ فَيْءِ (2) الزَّوَال (3) .
وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ
إِذَا صَارَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ سِوَى فَيْءِ الزَّوَال (4) .
وَلِمَعْرِفَةِ الزَّوَال وَتَفْصِيل الْخِلاَفِ
__________
(1) حديث أبي برزة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الهجيرة.
. . ". أخرجه البخاري (الفتح2 / 26 - ط السلفية) .
(2) الفيء بوزن شيء هو الظل بعد الزوال، سمي به، لأنه فاء أي رجع من
جهة المغرب إلى المشرق، أما الظل فيشمل ما قبل الزوال وما بعده. (ابن
عابدين 1 / 240 ومغني المحتاج 1 / 122) .
(3) ابن عابدين 1 / 240، وفتح القدير مع الهداية 1 / 192 وما بعدها،
وجواهر الإكليل 1 / 32، ومواهب الجليل للحطاب 1 / 382، ومغني المحتاج 1
/ 121، 122، والمغني لابن قدامة 1 / 371، 375، وكشاف القناع 1 / 250،
251.
(4) فتح القدير والعناية على الهداية 1 / 193، والبدائع 1 / 123.
(27/310)
فِي آخِرِ الظُّهْرِ، وَأَدِلَّةِ
الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ ف
8) .
الإِْبْرَادُ بِصَلاَةِ الظُّهْرِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى: أَنَّهُ إِذَا كَانَ
الْحَرُّ شَدِيدًا يُسَنُّ تَأْخِيرُ صَلاَةِ الظُّهْرِ إِلَى
الإِْبْرَادِ. قَال النَّوَوِيُّ: حَقِيقَةُ الإِْبْرَادِ أَنْ
يُؤَخِّرَ الصَّلاَةَ مِنْ أَوَّل وَقْتِهَا بِقَدْرِ مَا يَحْصُل
لِلْحِيطَانِ فَيْءٌ يَمْشِي فِيهِ طَالِبُ الْجَمَاعَةِ، وَلاَ
يُؤَخَّرُ عَنْ نِصْفِ الْقَامَةِ (1) .
وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ (2) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيُسْتَحَبُّ عِنْدَهُمْ تَأْخِيرُ الظُّهْرِ
فِي الصَّيْفِ مُطْلَقًا أَيْ بِلاَ اشْتِرَاطِ شِدَّةِ الْحَرِّ
وَحَرَارَةِ الْبَلَدِ (3) .
وَلِتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ
ف 16) .
قَصْرُ الظُّهْرِ وَجَمْعُهَا مَعَ الْعَصْرِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ قَصْرِ صَلاَةِ
الظُّهْرِ فِي السَّفَرِ (4) (ر: صَلاَةُ الْمُسَافِرِ) .
__________
(1) المجموع 3 / 51، 60.
(2) الدسوقي 1 / 180، 181، والمغني لابن قدامة 1 / 390.
(3) ابن عابدين 1 / 245، وفتح القدير مع الهداية 1 / 199.
(4) البدائع 1 / 91، والحطاب 1 / 379، والإقناع 2 / 169، وكشاف القناع
1 / 249.
(27/311)
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ
الْجَمْعِ بَيْنَ صَلاَتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي عَرَفَةَ جَمْعَ
تَقْدِيمٍ، بِأَنْ يُصَلِّيَهُمَا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ. وَاخْتَلَفُوا
فِيمَا عَدَا يَوْمَ عَرَفَةَ:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِعُذْرِ
السَّفَرِ جَمْعَ تَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ، بِأَنْ تُصَلَّى الْعَصْرُ
فِي وَقْتِ الظُّهْرِ أَوْ بِالْعَكْسِ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ (1)
.
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (جَمْعُ الصَّلَوَاتِ) .
مَا يُسْتَحَبُّ قِرَاءَتُهُ فِي الظُّهْرِ:
6 - يُسْتَحَبُّ فِي الظُّهْرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: أَنْ
يَقْرَأَ الإِْمَامُ أَوِ الْمُنْفَرِدُ إِذَا كَانَ مُقِيمًا طِوَال
الْمُفَصَّل (2) كَصَلاَةِ الْفَجْرِ (3) ، وَذَهَبَ بَعْضُ
الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الظُّهْرَ كَالْعَصْرِ، فَيُسَنُّ فِيهِ
أَوْسَاطُ الْمُفَصَّل (4) . وَوَرَدَ فِي عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ
أَنَّ الظُّهْرَ كَالصُّبْحِ فِي الْقِرَاءَةِ مِنَ الطِّوَال أَوْ
دُونَ ذَلِكَ قَلِيلاً (5) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 256، والبدائع 1 / 127، وجواهر الإكليل 1 / 92،
والمغني لابن قدامة 1 / 409.
(2) طوال المفصل من سورة الحجرات إلى آخر البروج (ابن عابدين 1 / 362،
363) .
(3) ابن عابدين 1 / 362، 363 والفواكه الدواني 1 / 227، ومغني المحتاج
1 / 163، والمغني لابن قدامة 1 / 570، 571.
(4) أوساط المفصل من البروج إلى لم يكن (فتح القدير1 / 192) وانظر ابن
عابدين 1 / 363
(5) الفواكه الدواني 1 / 227.
(27/311)
وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى
أَنَّهُ يُسِرُّ بِالْقِرَاءَةِ فِي جَمِيعِ رَكَعَاتِ الظُّهْرِ،
سَوَاءٌ أَصَلاَّهَا جَمَاعَةً أَمِ انْفِرَادًا، وَتَفْصِيل
الْمَسْأَلَةِ فِي مُصْطَلَحِ: (إِسْرَار، صَلاَة، قِرَاءَة) .
ثَانِيًا - صَلاَةُ الْعَصْرِ:
7 - الْعَصْرُ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ مِنْهَا: الْعَشِيُّ إِلَى
احْمِرَارِ الشَّمْسِ، وَهُوَ آخِرُ سَاعَاتِ النَّهَارِ، كَمَا
يُطْلَقُ عَلَى الصَّلاَةِ الَّتِي تُؤَدَّى فِي آخِرِ النَّهَارِ،
قَال الْفَيُّومِيُّ: الْعَصْرُ اسْمُ الصَّلاَةِ " مُؤَنَّثَةٌ " مَعَ
الصَّلاَةِ، وَبِدُونِهَا تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ (1) .
وَيُقَال: أُذِّنَ لِلْعَصْرِ. أَيْ لِصَلاَةِ الْعَصْرِ (2) .
وَتُسَمَّى صَلاَةُ الْعَصْرِ بِ (الْعَشِيِّ) لأَِنَّهَا تُصَلَّى
عَشِيَّةً (3) .
أَوَّل وَقْتِ الْعَصْرِ وَآخِرُهُ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةُ،
وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَالصَّاحِبَانِ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ) إِلَى أَنَّ أَوَّل وَقْتِ الْعَصْرِ إِذَا صَارَ ظِل
كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ غَيْرَ فَيْءِ الزَّوَال، وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ
أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا (4) . وَيَسْتَدِلُّونَ بِحَدِيثِ
__________
(1) القرطبي 2 / 178، كشاف القناع 1 / 221، ومواهب الجليل 1 / 377.
(2) القرطبي 20 / 178، وما بعدها، ومتن اللغة والمصباح المنير.
(3) الحطاب 1 / 389.
(4) جواهر الإكليل 1 / 32، والحطاب مع التاج والإكليل 1 / 382، ومغني
المحتاج 1 / 121، 122، وكشاف القناع 1 / 252، المغني 1 / 375.
(27/312)
إِمَامَةِ جِبْرِيل - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - وَفِيهِ: ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ كُل
شَيْءٍ مِثْل ظِلِّهِ (1) .
وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ أَوَّل وَقْتِ الْعَصْرِ
إِذَا صَارَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ غَيْرَ فَيْءِ الزَّوَال (2)
(ر: أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ) .
9 - وَهَل يُوجَدُ وَقْتٌ مُهْمَلٌ بَيْنَ آخِرِ الظُّهْرِ وَأَوَّل
الْعَصْرِ؟ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ الْفُقَهَاءِ:
فَيَشْتَرِطُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِدُخُول أَوَّل
الْعَصْرِ أَنْ يَصِيرَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ، وَزَادَ أَدْنَى
زِيَادَةً. قَال الْخِرَقِيُّ: وَإِذَا زَادَ شَيْئًا وَجَبَتِ
الْعَصْرُ (3) وَمِثْلُهُ مَا نَقَلَهُ الشِّرْبِينِيُّ عَنْ بَعْضِ
الشَّافِعِيَّةِ (4) وَجُمْلَتُهُ: أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ مِنْ حِينِ
الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِثْل أَدْنَى زِيَادَةً مُتَّصِلٌ بِوَقْتِ
الظُّهْرِ لاَ نُصَلِّي بَيْنَهُمَا. كَمَا حَرَّرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ
فِي الْمُغْنِي (5) .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - أَيْضًا - قَوْلُهُ: إِذَا بَلَغَ
الظِّل طُولَهُ سِوَى فَيْءِ الزَّوَال خَرَجَ وَقْتُ
__________
(1) حديث إمامة جبريل: تقدم تخريجه ف2.
(2) فتح القدير 1 / 195.
(3) المغني لابن قدامة 1 / 375.
(4) مغني المحتاج 1 / 122.
(5) المغني 1 / 375.
(27/312)
الظُّهْرِ، وَلاَ يَدْخُل وَقْتُ الْعَصْرِ
إِلَى الطُّولَيْنِ (1) .
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَقْتٌ مُهْمَلٌ،
كَمَا بَيْنَ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ،
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ حُدُوثُ
زِيَادَةٍ فَاصِلَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَقْتِ الظُّهْرِ، كَمَا قَال
الشِّرْبِينِيُّ (2) ، وَمِثْلُهُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ
الْحَنَابِلَةِ عَدَا الْخِرَقِيَّ (3) . قَال الْبُهُوتِيُّ: مِنْ
غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَهُمَا، وَلاَ اشْتِرَاكٍ (4) .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ أَوَّل الْعَصْرِ
وَآخِرَ الظُّهْرِ يَشْتَرِكَانِ بِقَدْرِ إِحْدَاهُمَا، أَيْ:
بِقَدْرِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فِي الْحَضَرِ، وَرَكْعَتَيْنِ فِي
السَّفَرِ، فَآخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ: أَنْ يَصِيرَ ظِل كُل شَيْءٍ
مِثْلَهُ بَعْدَ طَرْحِ ظِل الزَّوَال، وَهُوَ بِعَيْنِهِ أَوَّل
وَقْتِ الْعَصْرِ فَيَكُونُ وَقْتًا لَهُمَا مُمْتَزِجًا بَيْنَهُمَا
(5) .
وَيُؤَيِّدُهُ ظَاهِرُ حَدِيثِ إِمَامَةِ جِبْرِيل حَيْثُ جَاءَ فِيهِ:
صَلَّى الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِل كُل شَيْءٍ
مِثْلَهُ لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالأَْمْسِ.
10 - أَمَّا آخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ فَهُوَ مَا لَمْ تَغْرُبِ
__________
(1) فتح القدير والعناية على الهداية 1 / 193.
(2) مغني المحتاج 1 / 122.
(3) المغني لابن قدامة 1 / 375.
(4) كشاف القناع 1 / 252.
(5) التاج والإكليل مع الحطاب 1 / 390، والدسوقي 1 / 177.
(27/313)
الشَّمْسُ. أَيْ قُبَيْل غُرُوبِ الشَّمْسِ
(1) .
(ر: أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ) .
مَا يُسْتَحَبُّ قِرَاءَتُهُ فِي الْعَصْرِ:
11 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ
يَقْرَأَ فِي صَلاَةِ الْعَصْرِ بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّل (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَقْرَأُ فِيهَا بِالْقِصَارِ مِنَ السُّوَرِ
مِثْل: {وَالضُّحَى} وَ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} ، وَنَحْوِهِمَا (3) .
وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِي
الْعَصْرِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الظُّهْرِ (4) .
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الإِْسْرَارَ فِي الْقِرَاءَةِ
سُنَّةٌ فِي الْعَصْرِ وَالظُّهْرِ، بَيْنَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ:
بِأَنَّهُ وَاجِبٌ (5) . وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ:
(إِسْرَار، وَقِرَاءَة) .
التَّنَفُّل بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ
التَّنَفُّل بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 241، والفواكه الدواني 1 / 196، والحطاب مع المواق
1 / 390، ومغني المحتاج 1 / 122، والمغني 1 / 376، 377، وكشاف القناع 1
/ 252.
(2) ابن عابدين 1 / 363، ومغني المحتاج 1 / 163، وأوساط المفصل هي من
سورة البروج إلى آخر سورة (البينة) ابن عابدين 1 / 363.
(3) الفواكه الدواني 1 / 229.
(4) المغني لابن قدامة 1 / 572، 573.
(5) فتح القدير 1 / 383، والفواكه الدواني 1 / 227، والمجموع 1 / 390،
والمغني 1 / 569.
(27/313)
الشَّمْسُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ صَلاَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ
الشَّمْسُ (1) .
وَتَشْمَل ذَلِكَ مَا لَوْ صُلِّيَتِ الْعَصْرُ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ
جَمْعَ تَقْدِيمٍ كَذَلِكَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ
(2) لِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (صَلاَةُ التَّطَوُّعِ) .
ثَالِثًا - صَلاَةُ الْمَغْرِبِ:
13 - الْمَغْرِبُ فِي الأَْصْل: مِنْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ إِذَا غَابَتْ
وَتَوَارَتْ. وَيُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى وَقْتِ الْغُرُوبِ
وَمَكَانِهِ، وَعَلَى الصَّلاَةِ الَّتِي تُؤَدَّى فِي هَذَا الْوَقْتِ
(3) .
أَوَّل وَقْتِ الْمَغْرِبِ وَآخِرُهُ:
14 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَوَّل وَقْتِ صَلاَةِ
الْمَغْرِبِ يَدْخُل إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ وَتَكَامَل غُرُوبُهَا.
وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الصَّحَارِي. وَيُعْرَفُ فِي الْعُمْرَانِ
بِزَوَال الشُّعَاعِ مِنْ رُءُوسِ الْجِبَال، وَإِقْبَال الظَّلاَمِ
مِنَ الْمَشْرِقِ (4) وَآخِرُ
__________
(1) حديث: " لا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس ". أخرجه البخاري (الفتح
2 / 61 ط السلفية) ومسلم (1 / 567 ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه مرفوعا.
(2) نفس المراجع.
(3) المصباح المنير وكشاف القناع 1 / 253، وحاشية الباجوري 1 / 123.
(4) البدائع 1 / 123، والحطاب 1 / 391، وجواهر الإكليل 1 / 32، 33،
ومغني المحتاج 1 / 122، والمغني لابن قدامة 1 / 381.
(27/314)
وَقْتِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَا لَمْ
يَغِبِ الشَّفَقُ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - وَهُوَ الْجَدِيدُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ - أَنَّ لِلْمَغْرِبِ وَقْتًا وَاحِدًا وَهُوَ
بِقَدْرِ مَا يَتَطَهَّرُ الْمُصَلِّي وَيَسْتُرُ عَوْرَتَهُ
وَيُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ لِلصَّلاَةِ (1) . لِلتَّفْصِيل (ر: أَوْقَاتُ
الصَّلاَةِ) .
تَسْمِيَةُ الْمَغْرِبِ بِالْعِشَاءِ:
15 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ
تَسْمِيَةِ الْمَغْرِبِ عِشَاءً لِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ
الْمُزَنِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: لاَ تَغْلِبَنَّكُمُ الأَْعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلاَتِكُمُ
الْمَغْرِبِ. قَال: وَتَقُول الأَْعْرَابُ هِيَ الْعِشَاءُ (2) وَلاَ
يُكْرَهُ تَسْمِيَتُهَا بِالْعِشَاءِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ
الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَلَكِنْ تَسْمِيَتُهَا
بِالْمَغْرِبِ أَوْلَى (3) .
رَابِعًا - صَلاَةُ الْعِشَاءِ:
16 - الْعِشَاءُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَالْمَدِّ: اسْمٌ لأَِوَّل
الظَّلاَمِ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْعَتَمَةِ، وَسُمِّيَتِ
الصَّلاَةُ بِذَلِكَ لأَِنَّهَا تُفْعَل فِي هَذَا الْوَقْتِ.
__________
(1) الحطاب 1 / 393، 394، وجواهر الإكليل 1 / 32، 33، ومغني المحتاج 1
/ 123، والمجموع 3 / 28.
(2) حديث: " لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب ". أخرجه
البخاري (الفتح 2 / 43 ط السلفية) وجامع الأصول 6 / 262، من حديث عبد
الله المزني - رضي الله عنه -.
(3) الحطاب 1 / 392، وما بعدها، والمجموع 3 / 28، وكشاف القناع 1 /
253، ومغني المحتاج 1 / 123.
(27/314)
وَالْعَشَاءُ بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ:
طَعَامُ هَذَا الْوَقْتِ (1) وَيَجُوزُ أَنْ يُقَال لَهَا: الْعِشَاءُ
الآْخِرَةُ، وَالْعِشَاءُ - فَقَطْ - مِنْ غَيْرِ وَصْفٍ بِالآْخِرَةِ
(2) قَال تَعَالَى: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ} (3) . وَقَال
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ
بَخُورًا فَلاَ تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الآْخِرَةَ (4) .
تَسْمِيَةُ صَلاَةِ الْعِشَاءِ بِالْعَتَمَةِ:
17 - أَجَازَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ تَسْمِيَةَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ
بِالْعَتَمَةِ لِوُرُودِهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَْحَادِيثِ، مِنْهَا
مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ
وَالصُّبْحِ لأََتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا (5) وَمِنْهَا قَوْل
عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كَانُوا يُصَلُّونَ الْعَتَمَةَ
فِيمَا بَيْنَ أَنْ
__________
(1) المصباح المنير مادة (عشى) والحطاب 1 / 396، وكشاف القناع 1 / 254،
والمجموع 3 / 36.
(2) المجموع 3 / 42، وكشاف القناع 1 / 254، والحطاب 1 / 397.
(3) سورة النور / 58.
(4) حديث: " أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة ".
أخرجه مسلم (1 / 328 ط الحلبي) وأبو داود (4 / 401 - 402 ط عزت عبيد
دعاس) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا.
(5) حديث: " لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا ". أخرجه
البخاري (فتح الباري 2 / 139 ط. السلفية) ومسلم (صحيح مسلم 1 / 325 ط.
الحلبي) ومالك (الموطأ 1 / 131 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة - رضي الله
عنه - مرفوعا.
(27/315)
يَغِيبَ الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْل
الأَْوَّل (1) وَالْعَتَمَةُ هِيَ شِدَّةُ الظُّلْمَةِ كَمَا يَقُول
الْبُهُوتِيُّ (2) .
18 - وَكَرِهَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ تَسْمِيَتَهَا
بِالْعَتَمَةِ لِمَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ
مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ
تَغْلِبَنَّكُمُ الأَْعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلاَتِكُمْ، أَلاَ إِنَّهَا
الْعِشَاءُ وَهُمْ يُعْتِمُونَ بِالإِْبِل (3) مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ
يُسَمُّونَهَا الْعَتَمَةَ لِكَوْنِهِمْ يُعْتِمُونَ بِحِلاَبِ
الإِْبِل أَيْ يُؤَخِّرُونَهُ إِلَى شِدَّةِ الظَّلاَّمِ (4) وَصَرَّحَ
بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ (5) .
قَال النَّوَوِيُّ: إِنَّ هَذَا الاِسْتِعْمَال وَرَدَ فِي نَادِرِ
الأَْحْوَال لِبَيَانِ الْجَوَازِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، أَوْ
أَنَّهُ خُوطِبَ بِهِ مَنْ قَدْ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الْعِشَاءُ
__________
(1) حديث عائشة رضي الله عنها: " كانوا يصلون العتمة فيما بين أن يغيب
الشفق إلى ثلث الليل الأول ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 347 ط
السلفية) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
(2) مواهب الجليل للحطاب 1 / 396، ومغني المحتاج 1 / 124، 125، المجموع
للنووي 3 / 36، وكشاف القناع 1 / 254.
(3) حديث: " لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا إنها العشاء وهم
يعتمون بالإبل ". أخرجه مسلم (1 / 445 ط الحلبي) وأبو داود (سنن أبي
داود 5 / 261 - 262 ط عزت عبيد دعاس) من حديث - عبد الله بن عمر - رضي
الله عنهما مرفوعا.
(4) الحطاب 1 / 396، ومغني المحتاج 1 / 124، 125، والمجموع للنووي 3 /
36.
(5) مغني المحتاج 1 / 125.
(27/315)
بِالْمَغْرِبِ، فَلَوْ قِيل: الْعِشَاءُ
لَتَوَهَّمَ إِرَادَةَ الْمَغْرِبِ؛ لأَِنَّهَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً
عِنْدَهُمْ بِالْعِشَاءِ، وَأَمَّا الْعَتَمَةُ فَصَرِيحَةٌ فِي
الْعِشَاءِ الآْخِرَةِ (1) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِي تَسْمِيَتِهَا قَوْلاَنِ آخَرَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَثَانِيهِمَا:
الْحُرْمَةُ (2)
أَوَّل وَقْتِ الْعِشَاءِ وَآخِرُهُ:
19 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ أَوَّل وَقْتِ صَلاَةِ
الْعِشَاءِ يَدْخُل مِنْ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ (3) ، وَإِنَّمَا
اخْتَلَفُوا فِي الشَّفَقِ. فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ:
الْحُمْرَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ يَقُولاَنِ: هُوَ الْبَيَاضُ
بَعْدَ الْحُمْرَةِ.
وَآخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ الصَّادِقِ (4) ؛
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آخِرُ وَقْتِ
الْعِشَاءِ مَا لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ (5) .
__________
(1) المجموع للنووي 3 / 41، 42.
(2) الحطاب 1 / 397.
(3) ابن عابدين 1 / 241، ومواهب الجليل للحطاب 1 / 397، ومغني المحتاج
1 / 123، 124، والمغني لابن قدامة 1 / 382، 383.
(4) الفجر الصادق هو المنتشر ضوؤه معترضا بالأفق من قبل المشرق (مغني
المحتاج 1 / 123، 124، والمغني 1 / 384) .
(5) حديث: " آخر وقت العشاء ما لم يطلع الفجر ". أورده الزيلعي في نصب
الراية (1 / 234) وقال: " غريب " يعني لا أصل له، ثم قال: تكلم الطحاوي
في شرح الآثار ههنا كلاما حسنا ملخصه أنه قال: يظهر من مجموع الأحاديث
أن وقت العشاء حين يطلع الفجر وذلك أن ابن عباس وأ
(27/316)
هَذَا، وَقَدْ قَسَّمَ جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ الْوَقْتَ إِلَى اخْتِيَارِيٍّ، وَضَرُورِيٍّ،
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ) .
صَلاَةُ فَاقِدِ الْعِشَاءِ:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الصَّلاَةِ
الْمَفْرُوضَةِ هُوَ الْوَقْتُ، وَذَكَرُوا حُكْمَ مَنْ لاَ يَأْتِيَ
عَلَيْهِمُ الْعِشَاءُ فِي بَعْضِ أَيَّامِ السَّنَةِ أَوْ كُلِّهَا،
هَل تَجِبُ عَلَيْهِمْ صَلاَةُ الْعِشَاءِ أَمْ لاَ؟ وَإِذَا وَجَبَتْ
فَكَيْفَ يُؤَدُّونَهَا؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ
عَلَيْهِمْ صَلاَةُ الْعِشَاءِ وَيُقَدِّرُونَ وَقْتَهَا قَدْرَ مَا
يَغِيبُ الشَّفَقُ بِأَقْرَبِ الْبِلاَدِ إِلَيْهِمْ. وَفِي رَأْيٍ
عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ مَنْ لاَ يَأْتِي عَلَيْهِ
الْعِشَاءُ لاَ يُكَلَّفُ بِصَلاَتِهَا لِعَدَمِ سَبَبِ وُجُوبِهَا (1)
. وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحَ: (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ) .
تَأْخِيرُ صَلاَةِ الْعِشَاءِ:
21 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ،
__________
(1) ابن عابدين 1 / 241، والاختيار 1 / 39، ومغني المحتاج 1 / 124،
والفواكه الدواني 1 / 198، والمغني لابن قدامة 1 / 384.
(27/316)
وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الْعِشَاءِ مُسْتَحَبٌّ إِلَى
ثُلُثِ اللَّيْل (1) ، قَال الزَّيْلَعِيُّ: قَدْ وَرَدَ فِي تَأْخِيرِ
الْعِشَاءِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ صِحَاحٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ
أَهْل الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ (2) ، وَمِنَ
الأَْحَادِيثِ الَّتِي يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى اسْتِحْبَابِ
تَأْخِيرِ الْعِشَاءِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأََمَرْتُهُمْ أَنْ يُؤَخِّرُوا
الْعِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْل أَوْ نِصْفِهِ (3) .
وَقَيَّدَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ اسْتِحْبَابَ تَأْخِيرِ الْعِشَاءِ
بِالشِّتَاءِ، أَمَّا الصَّيْفُ فَيُنْدَبُ تَعْجِيلُهَا عِنْدَهُمْ
(4) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْفْضَل لِلْفَذِّ
وَالْجَمَاعَةِ الَّتِي لاَ تُنْتَظَرُ غَيْرُهَا تَقْدِيمُ
الصَّلَوَاتِ، وَلَوْ عِشَاءً فِي أَوَّل وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 246 والبدائع 1 / 124، ومغني المحتاج 1 / 126،
والمجموع 3 / 40، والمغني لابن قدامة 1 / 393.
(2) الزيلعي 1 / 84.
(3) حديث: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث
الليل أونصفه ". أخرجه الترمذي (سنن الترمذي 1 / 310 - 312 ط دار الكتب
العلمية) وابن ماجه (سنن ابن ماجه 1 / 226 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة
- رضي الله عنه - وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح، وأخرجه
أحمد بن حنبل (2 / 250، ط الميمنية) بلفظ مقارب ورواه الحاكم في
المستدرك (1 / 146 ط دار الكتاب العربي) وفيه (إلى نصف الليل) بغير شك
وصححه وأقره الذهبي.
(4) ابن عابدين 1 / 246.
(27/317)
بَعْدَ تَحَقُّقِ دُخُولِهِ (1) ، وَلاَ
يَنْبَغِي تَأْخِيرُ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْل إِلاَّ لِمَنْ
يُرِيدُ تَأْخِيرَهَا لِشُغْلٍ مُهِمٍّ، كَعَمَلِهِ فِي حِرْفَتِهِ،
أَوْ لأَِجْل عُذْرٍ، كَمَرَضٍ وَنَحْوِهِ. لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ
يُؤَخِّرَهَا أَهْل الْمَسَاجِدِ قَلِيلاً لاِجْتِمَاعِ النَّاسِ (2) ،
وَأَفْضَلِيَّةُ تَقْدِيمِ الصَّلَوَاتِ لأَِوَّل وَقْتِهَا وَلَوْ
عِشَاءً هُوَ - أَيْضًا - قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ. قَال
النَّوَوِيُّ: وَالأَْصَحُّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا
أَنَّ تَقْدِيمَهَا أَفْضَل، ثُمَّ قَال: وَتَفْضِيل التَّأْخِيرِ
أَقْوَى دَلِيلاً (3) .
كَرَاهَةُ النَّوْمِ قَبْل صَلاَةِ الْعِشَاءِ وَالْحَدِيثِ بَعْدَهَا:
22 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ النَّوْمُ قَبْل
صَلاَةِ الْعِشَاءِ وَالْحَدِيثُ بَعْدَهَا (4) لِمَا رَوَاهُ أَبُو
بَرْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا،
وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا (5) قَال
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 180.
(2) الفواكه الدواني 1 / 197.
(3) مغني المحتاج 1 / 125، 126، والمجموع للنووي 3 / 57.
(4) تبيين الحقائق للزيلعي 1 / 84، والفواكه الدواني للنفراوي 1 / 197،
والمجموع للنووي 3 / 42، وما بعدها.
(5) حديث أبي برزة الأسلمي: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره
النوم قبلها والحديث بعدها ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 73 ط
السلفية) ومسلم (1 / 447 ط. الحلبي) والترمذي (سنن الترمذي 1 / 312 -
313 ط دار الكتب العلمية) .
(27/317)
النَّفْرَاوِيُّ: الْحَدِيثُ بَعْدَهَا
أَشَدُّ كَرَاهَةً مِنَ النَّوْمِ قَبْلَهَا (1) .
وَالدَّلِيل عَلَى كَرَاهَةِ النَّوْمِ قَبْلَهَا: هُوَ خَشْيَةُ
فَوْتِ وَقْتِهَا، أَوْ فَوْتِ الْجَمَاعَةِ فِيهَا (2) .
لَكِنِ الْحَنَفِيَّةُ قَالُوا: إِذَا وَكَّل لِنَفْسِهِ مَنْ
يُوقِظُهُ فِي وَقْتِهَا فَمُبَاحٌ لَهُ النَّوْمُ، كَمَا نَقَلَهُ
الزَّيْلَعِيُّ عَنِ الطَّحَاوِيِّ (3) .
وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ النَّوْمَ قَبْل صَلاَةِ الْعِشَاءِ وَلَوْ
وَكَّل مَنْ يُوقِظُهُ؛ لاِحْتِمَال نَوْمِ الْوَكِيل أَوْ نِسْيَانِهِ
فَيَفُوتُ وَقْتُ الاِخْتِيَارِ (4) . أَمَّا كَرَاهَةُ الْحَدِيثِ
بَعْدَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ:
فَلأَِنَّهُ رُبَّمَا يُؤَدِّي إِلَى سَهَرٍ يَفُوتُ بِهِ الصُّبْحُ،
أَوْ لِئَلاَّ يَقَعَ فِي كَلاَمِهِ لَغْوٌ، فَلاَ يَنْبَغِي خَتْمُ
الْيَقَظَةِ بِهِ، أَوْ لأَِنَّهُ يَفُوتُ بِهِ قِيَامُ اللَّيْل
لِمَنْ لَهُ بِهِ عَادَةٌ؛ وَلِتَقَعَ الصَّلاَةُ الَّتِي هِيَ أَفْضَل
الأَْعْمَال خَاتِمَةُ عَمَلِهِ وَالنَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ،
وَرُبَّمَا مَاتَ فِي نَوْمِهِ (5) .
وَهَذَا إِذَا كَانَ الْحَدِيثُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ
لِحَاجَةٍ مُهِمَّةٍ فَلاَ بَأْسَ. وَكَذَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ،
وَحَدِيثِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُذَاكَرَةُ
الْفِقْهِ وَحِكَايَاتِ الصَّالِحِينَ، وَالْحَدِيثُ مَعَ
__________
(1) الفواكه الدواني 1 / 197.
(2) الزيلعي 1 / 84، والفواكه الدواني 1 / 197.
(3) تبيين الحقائق 1 / 84.
(4) الفواكه الدواني للنفراوي 1 / 197.
(5) الزيلعي 1 / 84، والفواكه الدواني 1 / 197، والمجموع 3 / 42، ومغني
المحتاج 1 / 125.
(27/318)
الضَّيْفِ، أَوِ الْقَادِمِ مِنَ السَّفَرِ
وَنَحْوِهَا فَلاَ كَرَاهَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ خَيْرٌ
نَاجِزٌ فَلاَ يُتْرَكُ لِمَفْسَدَةٍ مُتَوَهَّمَةٍ، كَمَا قَال
النَّوَوِيُّ (1) وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمُرُ مَعَ أَبِي
بَكْرٍ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَا مَعَهُمَا (2)
.
خَامِسًا - صَلاَةُ الْفَجْرِ:
23 - الْفَجْرُ فِي الأَْصْل هُوَ الشَّفَقُ، وَالْمُرَادُ بِهِ ضَوْءُ
الصَّبَاحِ، سُمِّيَ بِهِ لاِنْفِجَارِ الظُّلْمَةِ بِهِ بِسَبَبِ
حُمْرَةِ الشَّمْسِ فِي سَوَادِ اللَّيْل. وَالْفَجْرُ فِي آخِرِ
اللَّيْل كَالشَّفَقِ فِي أَوَّلِهِ (3) .
وَالْفَجْرُ اثْنَانِ:
1 - الْفَجْرُ الأَْوَّل: وَهُوَ الْفَجْرُ الْكَاذِبُ، وَهُوَ
الْبَيَاضُ الْمُسْتَطِيل يَبْدُو فِي نَاحِيَةٍ مِنَ السَّمَاءِ
وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْعَرَبِ بِذَنَبِ السِّرْحَانِ
(الذِّئْبِ) ، ثُمَّ يَنْكَتِمُ. وَلِهَذَا يُسَمَّى فَجْرًا كَاذِبًا،
لأَِنَّهُ يَبْدُو نُورُهُ، ثُمَّ يَعْقُبُهُ الظَّلاَمُ
__________
(1) المجموع 3 / 42.
(2) الزيلعي 1 / 84، وانظر المراجع السابقة وحديث عمر بن الخطاب - رضي
الله عنه -: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمر مع أبي بكر في أمر من
أمور المسلمين وأنا معهما ". أخرجه الترمذي (سنن الترمذي 1 / 315. ط
دار الكتب العلمية) وحسنه ورواه أحمد في المسند (1 / 25 - 26 ط
الميمنية) مطولا.
(3) القرطبي 2 / 28، والمصباح المنير ولسان العرب ومتن اللغة وكشاف
القناع 1 / 255.
(27/318)
2 - الْفَجْرُ الثَّانِي أَوِ الْفَجْرُ
الصَّادِقُ: وَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُسْتَطِيرُ الْمُعْتَرِضُ فِي
الأُْفُقِ، لاَ يَزَال يَزْدَادُ نُورُهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ،
وَيُسَمَّى هَذَا فَجْرًا صَادِقًا؛ لأَِنَّهُ إِذَا بَدَا نُورُهُ
يَنْتَشِرُ فِي الأُْفُقِ (1) وَفِي الْحَدِيثِ: لاَ يَمْنَعَنَّكُمْ
مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلاَلٍ وَلاَ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيل،
وَلَكِنِ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ فِي الأُْفُقِ (2) .
قَال النَّوَوِيُّ: وَالأَْحْكَامُ كُلُّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفَجْرِ
الثَّانِي، فَبِهِ يَدْخُل وَقْتُ صَلاَةِ الصُّبْحِ، وَيَخْرُجُ
وَقْتُ الْعِشَاءِ، وَيُحَرَّمُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى
الصَّائِمِ، وَبِهِ يَنْقَضِي اللَّيْل وَيَدْخُل النَّهَارُ (3) .
وَيُطْلَقُ الْفَجْرُ عَلَى صَلاَةِ الْفَجْرِ؛ لأَِنَّهَا تُؤَدَّى
فِي هَذَا الْوَقْتِ (4) ، وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ فِي
الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ
إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (5) ، كَمَا وَرَدَتْ
تَسْمِيَتُهَا بِالصُّبْحِ
__________
(1) المصباح المنير ومتن اللغة، والهداية مع فتح القدير 1 / 192،
وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني 1 / 122، ومغني المحتاج 1 /
124، والفواكه الدواني 1 / 192، وكشاف القناع 1 / 255
(2) حديث: " لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل، ولكن
الفجر المستطير في الأفق " أخرجه مسلم (2 / 769 ط الحلبي) والترمذي
واللفظ له (سنن الترمذي 3 / 86 ط دار الكتب العلمية) وأبو داود (سنن
أبي داود 2 / 759 ط عزت عبيد الدعاس)
(3) المجموع للنووي 3 / 44
(4) الكفاية مع الهداية وفتح القدير 1 / 192
(5) سورة الإسراء الآية 78
(27/319)
وَالْفَجْرِ فِي الأَْحَادِيثِ
النَّبَوِيَّةِ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ
أَدْرَكَ مِنَ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْل أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ
فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ (1) .
تَسْمِيَةُ صَلاَةِ الْفَجْرِ بِالْغَدَاةِ:
24 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لاَ تُكْرَهُ تَسْمِيَةُ
صَلاَةِ الْفَجْرِ بِالْغَدَاةِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَقِّقُو الشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَنَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَهُ فِي الأُْمِّ:
أُحِبُّ أَنْ لاَ تُسَمَّى إِلاَّ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الاِسْمَيْنِ
(أَيِ الْفَجْرِ وَالصُّبْحِ) ، وَلاَ أُحِبُّ أَنْ تُسَمَّى
الْغَدَاةَ. قَال النَّوَوِيُّ: وَهَذَا لاَ يَدُل عَلَى الْكَرَاهَةِ،
فَإِنَّ الْمَكْرُوهَ مَا ثَبَتَ فِيهِ نَهْيٌ غَيْرُ جَازِمٍ، وَلَمْ
يَرِدْ بَل اشْتُهِرَ اسْتِعْمَال لَفْظِ الْغَدَاةِ فِيهَا فِي
الْحَدِيثِ وَكَلاَمِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَكِنِ
الأَْفْضَل الْفَجْرُ وَالصُّبْحُ (3) .
وَذُكِرَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ كَالْمُهَذَّبِ وَغَيْرِهِ
كَرَاهَةُ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ (4) .
__________
(1) حديث: " من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح "
أخرجه البخاري (فتح الباري27 / 56. ط السلفية) واللفظ له، ومسلم (صحيح
مسلم 1 / 424 ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا
(2) الفواكه الدواني 1 / 192، ومغني المحتاج 1 / 124، والمجموع 3 / 46،
وكشاف القناع 1 / 256
(3) المجموع 3 / 46
(4) المهذب للشيرازي 1 / 60
(27/319)
تَسْمِيَتُهَا بِالصَّلاَةِ الْوُسْطَى:
25 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ
بِالصَّلاَةِ الْوُسْطَى فِي قَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى
الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى} (1) صَلاَةُ الْعَصْرِ كَمَا
وَرَدَتْ فِي الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ
نَصَّ عَلَيْهِ فِي الأُْمِّ - أَنَّ الصَّلاَةَ الْوُسْطَى هِيَ
الْفَجْرُ، حَتَّى إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُسَمُّونَهَا الْوُسْطَى،
قَال النَّفْرَاوِيُّ: لَهَا أَرْبَعَةُ أَسْمَاءٍ: الصُّبْحُ،
وَالْفَجْرُ، وَالْوُسْطَى، وَالْغَدَاةُ (2) . وَلِلتَّفْصِيل
يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (الصَّلاَةُ الْوُسْطَى) .
أَوَّل وَقْتِ الْفَجْرِ وَآخِرُهُ:
26 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ أَوَّل وَقْتِ صَلاَةِ
الْفَجْرِ هُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ الثَّانِي أَيِ الْفَجْرِ
الصَّادِقِ، وَآخِرُ وَقْتِهَا إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ (3) ،
لِقَوْلِهِ: إِنَّ لِلصَّلاَةِ أَوَّلاً وَآخِرًا، وَإِنَّ أَوَّل
وَقْتِ الْفَجْرِ حِينَ يَطْلُعُ
__________
(1) سورة البقرة - الآية 238
(2) ابن عابدين 1 / 241، والحطاب 1 / 398، 400، والفواكه الدواني 1 /
192، والمجمع 3 / 60، ومغني المحتاج 1 / 124، وكشاف القناع 1 / 256
(3) فتح القدير مع الهداية 1 / 192، والفواكه الدواني 1 / 194، ومغني
المحتاج 1 / 124، والمغني لابن قدامة 1 / 385
(27/320)
الْفَجْرُ، وَإِنَّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ
تَطْلُعُ الشَّمْسُ (1) .
وَقَدْ قَسَّمَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَقْتَ الْفَجْرِ إِلَى: وَقْتِ
اخْتِيَارٍ، وَضَرُورَةٍ، وَغَيْرِهِمَا (2) ، يُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ
فِي مُصْطَلَحِ: (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ) .
الْقِرَاءَةُ فِي الْفَجْرِ:
27 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ فِي صَلاَةِ
الْفَجْرِ تَطْوِيل قِرَاءَتِهَا، بِأَنْ يَقْرَأَ فِيهَا طِوَال
الْمُفَصَّل (3) قَال أَبُو بَرْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ
مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ آيَةً (4) قَال
الشِّرْبِينِيُّ: وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ وَقْتَ الصُّبْحِ
طَوِيلٌ وَالصَّلاَةُ
__________
(1) حديث: " إن للصلاة أولا وآخرا وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر،
وإن آخر وقتها حين تطلع الشمس " أخرجه الترمذي (سنن الترمذي 1 / 283،
284، ط دار الكتب العلمية) وحسنه الأرناؤوط (جامع الأصول 5 / 214 - 215
نشر مكتبة الحلواني)
(2) المراجع السابقة، والدسوقي 1 / 189، وحاشية الجمل 1 / 273
(3) طوال المفصل من سورة الحجرات إلى آخر البروج، والمفصل هو السبع
السابع من القرآن الكريم سمي بذلك لكثرة فصله بالبسملة (ابن عابدين 1 /
362، 363)
(4) حديث أبي هريرة: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر ما
بين الستين إلى المائة آية " أخرجه البخاري (فتح الباري2 / 251 ط
السلفية) ومسلم (صحيح مسلم 1 / 338 - ط الحلبي) واللفظ له
(27/320)
رَكْعَتَانِ فَحَسُنَ تَطْوِيلُهُمَا (1) .
وَهَذَا فِي الْحَضَرِ. أَمَّا فِي السَّفَرِ فَيَقْرَأُ مَعَ
فَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَيَّ سُورَةٍ شَاءَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي صَلاَةِ
الصُّبْحِ فِي سَفَرِهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ (2) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (قِرَاءَة) .
مَنْعُ النَّافِلَةِ بَعْدَ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَقَبْلَهَا:
28 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ جَوَازِ صَلاَةِ
النَّافِلَةِ بَعْدَ صَلاَةِ الْفَجْرِ إِلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ،
كَمَا أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ لاَ يُجِيزُونَ التَّنَفُّل قَبْل
صَلاَةِ الْفَجْرِ - أَيْضًا - إِلاَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ (3) ،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ
فَلاَ صَلاَةَ إِلاَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 163، وابن عابدين 1 / 263، والفواكه الدواني 1 /
225 والمغني لابن قدامة 1 / 570
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة الصبح في سفره
بالمعوذتين " أخرجه أبو داود (1 / 152 ط عزت عبيد الدعاس) مطولا،
والنسائي (2 / 158 نشر مكتبة المطبوعات الإسلامية) والحاكم في
(المستدرك1 / 240 ط دار الكتاب العربي) وصححه ووافقه الذهبي
(3) الزيلعي 1 / 87، والحطاب 1 / 416، والمجموع 4 / 164، والمغني 2 /
113، و114
(4) حديث: " إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا ركعتي الفجر " أخرجه الطبراني
في الأوسط قال الهيثمي: وفيه إسماعيل بن قيس وهو ضعيف (مجمع الزوائد 2
/ 218 نشر مكتبة القدسي) وقال المناوي نقلا عن الميزان: له شواهد من
حديث ابن عمر أخرجه الترمذي واستغربه وحسنه. فمن أطلق ضعفه كالهيثمي
أراد أنه ضعيف لذاته، ومن أطلق حسنه كالمؤلف السيوطي أراد أنه حسن
لغيره (فيض القدير1 / 398)
(27/321)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي
مُصْطَلَحِ: (تَطَوُّع، وَأَوْقَاتُ الصَّلاَةِ) .
التَّغْلِيسُ أَوِ الإِْسْفَارُ بِالْفَجْرِ:
29 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ التَّغْلِيسَ: أَيْ أَدَاءُ
صَلاَةِ الْفَجْرِ بِغَلَسٍ (1) أَفْضَل مِنَ الإِْسْفَارِ بِهَا (2) ؛
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْضَل الأَْعْمَال
الصَّلاَةُ فِي أَوَّل وَقْتِهَا (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: نُدِبَ تَأْخِيرُ الْفَجْرِ إِلَى الإِْسْفَارِ
(4) ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَسْفِرُوا
بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلأَْجْرِ (5) قَال
__________
(1) الغلس: هو اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل (الفواكه الدواني 1 /
193، 194)
(2) الفواكه الدواني 1 / 193، ومغني المحتاج 1 / 125، 126، وكشاف
القناع 1 / 256، والمغني لابن قدامة 1 / 394، 395
(3) حديث: " أفضل الأعمال الصلاة في وقتها " أخرجه أبو داود (سنن أبي
داود 1 / 296 320 ط عزت عبيد الدعاس) والترمذي (سنن الترمذي 1 / 319 -
320 ط دار الكتب العلمية) من حديث أم فروة - رضي الله عنها - بلفظ "
سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: " الصلاة لأول
وقتها ". وقال الترمذي: هذا حديث غريب حسن
(4) تبيين الحقائق للزيلعي 1 / 82
(5) حديث: " أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر " أخرجه أبو داود (سنن أبي
داود 1 / 294، ط عزت عبيد الدعاس) والنسائي (سنن النسائي 1 / 272، نشر
مكتب المطبوعات الإسلامية) والترمذي (سنن الترمذي 1 / 289 - 290 ط. دار
الكتب العلمية) واللفظ له من حديث رافع بن خديج مرفوعا. قال: حديث رافع
بن خديج حديث حسن صحيح
(27/321)
الزَّيْلَعِيُّ: وَلاَ يُؤَخِّرُهَا
بِحَيْثُ يَقَعُ الشَّكُّ فِي طُلُوعِ الشَّمْسِ، بَل يُسْفِرُ بِهَا
بِحَيْثُ لَوْ ظَهَرَ فَسَادُ صَلاَتِهِ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعِيدَهَا
فِي الْوَقْتِ بِقِرَاءَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ (1) . وَيُسْتَثْنَى مِنَ
الإِْسْفَارِ صَلاَةُ الْفَجْرِ بِمُزْدَلِفَةَ يَوْمَ النَّحْرِ،
حَيْثُ يُسْتَحَبُّ فِيهَا التَّغْلِيسُ عِنْدَ الْجَمِيعِ (2) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ ف 15)
.
الْقُنُوتُ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ:
30 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ
الْقُنُوتِ فِي الصُّبْحِ. قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَنُدِبَ قُنُوتٌ
سِرًّا بِصُبْحٍ فَقَطْ دُونَ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ قَبْل الرُّكُوعِ،
عَقِبَ الْقِرَاءَةِ بِلاَ تَكْبِيرٍ قَبْلَهُ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ الْقُنُوتُ فِي اعْتِدَال ثَانِيَةِ
الصُّبْحِ، يَعْنِي بَعْدَ مَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فِي
الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَمْ يُقَيِّدُوهُ بِالنَّازِلَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ قُنُوتَ فِي صَلاَةِ
الْفَجْرِ إِلاَّ فِي النَّوَازِل (4) وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 82
(2) جواهر الإكليل 1 / 51، وحاشية الدسوقي 1 / 248
(3) مغني المحتاج 1 / 166، والقليوبي 1 / 157
(4) الهداية مع فتح القدير 1 / 378، 379، والمغني لابن قدامة 2 / 154،
155، وحاشية ابن عابدين 1 / 451
(27/322)
ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ
الْعَرَبِ ثُمَّ تَرَكَهُ (1) ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ لاَ يَقْنُتُ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ إِلاَّ أَنْ
يَدْعُو لِقَوْمٍ أَوْ عَلَى قَوْمٍ (2) وَمَعْنَاهُ أَنَّ
مَشْرُوعِيَّةَ الْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ مَنْسُوخَةٌ فِي غَيْرِ
النَّازِلَةِ. هَذَا وَفِي أَلْفَاظِ الْقُنُوتِ وَكَيْفِيَّتِهِ
خِلاَفٌ
وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قُنُوت) .
__________
(1) حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرا يدعو على أحياء من
أحياء العرب ثم تركه " أخرجه مسلم (1 / 469، ط الحلبي) من حديث أنس بن
مالك رضي الله عنه، وابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 3 / 220
ط. دار الكتب العلمية)
(2) حديث أبي هريرة رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان لا يقنت في صلاة الصبح إلا أن يدعو لقوم أو على قوم " أخرجه ابن
حبان كما في نصب الراية (2 / 130 نشر المجلس العلمي) ورواه ابن خزيمة
في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ " أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان لا يقنت إلا أن يدعو لأحد أو يدعو على أحد " (صحيح ابن
خزيمة 1 / 313 - 314 نشر المكتب الإسلامي)
(27/322)
صُلْحٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصُّلْحُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ بِمَعْنَى الْمُصَالَحَةِ
وَالتَّصَالُحِ، خِلاَفُ الْمُخَاصَمَةِ وَالتَّخَاصُمِ (1) .
قَال الرَّاغِبُ: وَالصُّلْحُ يَخْتَصُّ بِإِزَالَةِ النِّفَارِ بَيْنَ
النَّاسِ. يُقَال: اصْطَلَحُوا وَتَصَالَحُوا (2) وَعَلَى ذَلِكَ
يُقَال: وَقَعَ بَيْنَهُمَا الصُّلْحُ، وَصَالَحَهُ عَلَى كَذَا،
وَتَصَالَحَا عَلَيْهِ وَاصْطَلَحَا، وَهُمْ لَنَا صُلْحٌ، أَيْ
مُصَالِحُونَ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مُعَاقَدَةٌ يَرْتَفِعُ بِهَا النِّزَاعُ بَيْنَ
الْخُصُومِ، وَيُتَوَصَّل بِهَا إِلَى الْمُوَافَقَةِ بَيْنَ
الْمُخْتَلِفِينَ (4) .
__________
(1) المغرب للمطرزي (ط. حلب) 1 / 479، وانظر طلبة الطلبة للنسفي ص 292
(2) المفردات في غريب القرآن (ط. الأنجلو المصرية) ص 420
(3) أساس البلاغة للزمخشري مادة صلح
ص 257
(4) تبيين الحقائق 5 / 29، البحر الرائق 7 / 255، الدر المنتقى صرح
الملتقى 2 / 307، تكملة فتح القدير مع العناية والكفاية (الميمنية) 7 /
375، روضة الطالبين 4 / 193، نهاية المحتاج 4 / 371، والفتاوى الهندية
4 / 228، أسنى المطالب 2 / 214، كفاية الأخيار 1 / 167، شرح منتهى
الإرادات 2 / 260، كشاف القناع 3 / 378، المغني (ط. مكتبة الرياض
الحديثة) 4 / 527
(27/323)
فَهُوَ عَقْدٌ وُضِعَ لِرَفْعِ
الْمُنَازَعَةِ بَعْدَ وُقُوعِهَا بِالتَّرَاضِي (1) ، وَهَذَا عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى هَذَا الْمَدْلُول: الْعَقْدُ عَلَى
رَفْعِهَا قَبْل وُقُوعِهَا - أَيْضًا - وِقَايَةٌ، فَجَاءَ فِي
تَعْرِيفِ ابْنِ عَرَفَةَ لِلصُّلْحِ: أَنَّهُ انْتِقَالٌ عَنْ حَقٍّ
أَوْ دَعْوَى بِعِوَضٍ لِرَفْعِ نِزَاعٍ، أَوْ خَوْفِ وُقُوعِهِ (2)
فَفِي التَّعْبِيرِ بِ (خَوْفِ وُقُوعِهِ) إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ
الصُّلْحِ لِتَوَقِّي مُنَازَعَةً غَيْرَ قَائِمَةٍ بِالْفِعْل،
وَلَكِنَّهَا مُحْتَمَلَةُ الْوُقُوعِ.
وَالْمُصَالِحُ: هُوَ الْمُبَاشِرُ لِعَقْدِ الصُّلْحِ (3)
وَالْمُصَالَحُ عَنْهُ: هُوَ الشَّيْءُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ إِذَا
قُطِعَ النِّزَاعُ فِيهِ بِالصُّلْحِ (4) وَالْمُصَالَحُ عَلَيْهِ،
أَوِ الْمُصَالَحُ بِهِ: هُوَ بَدَل الصُّلْحِ (5) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّحْكِيمُ:
2 - التَّحْكِيمُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: تَوْلِيَةُ حُكْمٍ
__________
(1) انظر م 1531 من مجلة الأحكام العدلية وم 1026 من مرشد الحيران
(2) مواهب الجليل 5 / 79، الخرشي على خليل 6 / 2، والبهجة شرح التحفة 1
/ 219، وانظر للشافعية أسنى المطالب 2 / 215، نهاية المحتاج 4 / 372،
روضة الطالبين 4 / 194
(3) م 1532 من المجلة العدلية
(4) م 1534 من المجلة العدلية
(5) م 1533 من المجلة العدلية
(27/323)
لِفَصْل خُصُومَةٍ بَيْنَ مُخْتَلِفَيْنِ.
وَهَذِهِ التَّوْلِيَةُ قَدْ تَكُونُ مِنَ الْقَاضِي، وَقَدْ تَكُونُ
مِنْ قِبَل الْخَصْمَيْنِ. وَيَخْتَلِفُ التَّحْكِيمُ عَنِ الصُّلْحِ
مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: أَنَّ التَّحْكِيمَ يُنْتَجُ عَنْهُ حُكْمٌ قَضَائِيٌّ،
بِخِلاَفِ الصُّلْحِ فَإِنَّهُ يُنْتَجُ عَنْهُ عَقْدٌ يَتَرَاضَى
عَلَيْهِ الطَّرَفَانِ الْمُتَنَازِعَانِ. وَفَرْقٌ بَيْنَ الْحُكْمِ
الْقَضَائِيِّ وَالْعَقْدِ الرِّضَائِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الصُّلْحَ يَتَنَزَّل فِيهِ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ
أَوْ كِلاَهُمَا عَنْ حَقٍّ، بِخِلاَفِ التَّحْكِيمِ فَلَيْسَ فِيهِ
نُزُولٌ عَنْ حَقٍّ. (ر: تَحْكِيم) .
الإِْبْرَاءُ:
3 - الإِْبْرَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ: إِسْقَاطِ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي
ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ. أَمَّا عَنِ الْعَلاَقَةِ بَيْنَ
الصُّلْحِ وَالإِْبْرَاءِ، فَلَهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصُّلْحَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ النِّزَاعِ
عَادَةً، وَالإِْبْرَاءَ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الصُّلْحَ قَدْ يَتَضَمَّنُ إِبْرَاءً، وَذَلِكَ
إِذَا كَانَ فِيهِ إِسْقَاطٌ لِجُزْءٍ مِنَ الْحَقِّ الْمُتَنَازَعِ
فِيهِ، وَقَدْ لاَ يَتَضَمَّنُ الإِْبْرَاءَ، بِأَنْ يَكُونَ مُقَابِل
الْتِزَامٍ مِنَ الطَّرَفِ الآْخَرِ دُونَ إِسْقَاطٍ.
وَمِنْ هُنَا: كَانَ بَيْنَ الصُّلْحِ وَالإِْبْرَاءِ عُمُومٌ
(27/324)
وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، فَيَجْتَمِعَانِ
فِي الإِْبْرَاءِ بِمُقَابِلٍ فِي حَالَةِ النِّزَاعِ، وَيَنْفَرِدُ
الإِْبْرَاءُ فِي الإِْسْقَاطِ مَجَّانًا، أَوْ فِي غَيْرِ حَالَةِ
النِّزَاعِ، كَمَا يَنْفَرِدُ الصُّلْحُ فِيمَا إِذَا كَانَ بَدَل
الصُّلْحِ عِوَضًا لاَ إِسْقَاطَ فِيهِ. (ر. إِبْرَاء) .
الْعَفْوُ:
4 - الْعَفْوُ: هُوَ التَّرْكُ وَالْمَحْوُ، وَمِنْهُ: عَفَا اللَّهُ
عَنْكَ. أَيْ مَحَا ذُنُوبَكَ، وَتَرَكَ عُقُوبَتَكَ عَلَى
اقْتِرَافِهَا. عَفَوْتَ عَنِ الْحَقِّ: أَسْقَطْتَهُ. كَأَنَّكَ
مَحَوْتَهُ عَنِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ (1) .
هَذَا وَيَخْتَلِفُ الْعَفْوُ عَنِ الصُّلْحِ فِي كَوْنِ الأَْوَّل
إِنَّمَا يَقَعُ وَيَصْدُرُ مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ، بَيْنَمَا الصُّلْحُ
إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ طَرَفَيْنِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى:
فَالْعَفْوُ وَالصُّلْحُ قَدْ يَجْتَمِعَانِ كَمَا فِي حَالَةِ
الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى مَالٍ. (ر. عَفْو) .
مَشْرُوعِيَّةُ الصُّلْحِ:
5 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الصُّلْحِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَالإِْجْمَاعِ وَالْمَعْقُول (2) .
__________
(1) انظر المصباح المنير مادة " عفو "
(2) انظر تحفة الفقهاء للسمرقندي 3 / 417، نهاية المحتاج 4 / 371،
كفاية الأخيار 1 / 167، المغني لابن قدامة (ط. مكتبة الرياض الحديثة) 4
/ 527، بداية المجتهد (مطبوع مع الهداية في تخريج أحاديث البداية
للغماري) 8 / 90
(27/324)
أَمَّا الْكِتَابُ:
أ - فَفِي قَوْله تَعَالَى: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ
إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ
النَّاسِ} (1) .
قَال الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ: وَهَذَا عَامٌّ فِي
الدِّمَاءِ وَالأَْمْوَال وَالأَْعْرَاضِ، وَفِي كُل شَيْءٍ يَقَعُ
التَّدَاعِي وَالاِخْتِلاَفُ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ (2) .
ب - وَفِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا
نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا
بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (3) فَقَدْ أَفَادَتِ
الآْيَةُ مَشْرُوعِيَّةَ الصُّلْحِ، حَيْثُ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَ
الصُّلْحَ بِأَنَّهُ خَيْرٌ، وَلاَ يُوصَفُ بِالْخَيْرِيَّةِ إِلاَّ
مَا كَانَ مَشْرُوعًا مَأْذُونًا فِيهِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ:
أ - فَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الصُّلْحُ جَائِزٌ
بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَفِي رِوَايَةٍ: إِلاَّ صُلْحًا أَحَل
حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً (4) . وَالْحَدِيثُ وَاضِحُ
__________
(1) النساء آية / 114
(2) المقدمات الممهدات 2 / 515، (ط. دار الغرب الإسلامي)
(3) النساء آية / 128
(4) حديث: " الصلح جائز بين المسلمين " أخرجه أبو داود (4 / 20 تحقيق
عزت عبيد دعاس) وحسنه ابن حجر في التغليق (3 / 282 - ط. المكتب
الإسلامي)
(27/325)
الدَّلاَلَةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ
الصُّلْحِ (1) .
ب - وَمَا رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
لَمَّا تَنَازَعَ مَعَ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ فِي دَيْنٍ عَلَى ابْنِ
أَبِي حَدْرَدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَصْلَحَ بَيْنَهُمَا: بِأَنِ اسْتَوْضَعَ مِنْ دَيْنِ كَعْبٍ
الشَّطْرَ، وَأَمَرَ غَرِيمَهُ بِأَدَاءِ الشَّطْرِ (2) .
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ:
فَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصُّلْحِ فِي
الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمُ اخْتِلاَفٌ فِي جَوَازِ بَعْضِ
صُوَرِهِ (3) .
وَأَمَّا الْمَعْقُول:
فَهُوَ أَنَّ الصُّلْحَ رَافِعٌ لِفَسَادٍ وَاقِعٍ، أَوْ مُتَوَقَّعٍ
بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ الصُّلْحُ عِنْدَ
النِّزَاعِ. وَالنِّزَاعُ سَبَبُ الْفَسَادِ،
__________
(1) كفاية الأخيار 1 / 167، بداية المجتهد 8 / 90، تحفة الفقهاء 3 /
417، نهاية المحتاج 4 / 371، شرح منتهى الإرادات 2 / 260، المبدع 4 /
278
(2) حديث عبد الله بن كعب لما تنازع مع أبي حدرد رواه البخاري (صحيح
البخاري مع شرحه فتح الباري 5 / 311 ط. السلفية) وانظر أعلام الموقعين
1 / 107
(3) المغني لابن قدامة 4 / 527 شرح منتهى الإرادات 2 / 260، نهاية
المحتاج 4 / 371، بداية المجتهد (مطبوع مع الهداية في تخريج أحاديث
البداية) 8 / 90، عارضة الأحوذي 6 / 103، تحفة الفقهاء للسمرقندي 3 /
417، أسنى المطالب 2 / 214، المبدع 4 / 278
(27/325)
وَالصُّلْحُ يَهْدِمُهُ وَيَرْفَعُهُ،
وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَجَل الْمَحَاسِنِ (1) .
أَنْوَاعُ الصُّلْحِ:
6 - الصُّلْحُ يَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا خَمْسَةً (2) :
أَحَدُهُمَا: الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ. (ر.
جِهَاد، جِزْيَة، عَهْد، هُدْنَة) .
وَالثَّانِي: الصُّلْحُ بَيْنَ أَهْل الْعَدْل وَأَهْل الْبَغْيِ. (ر.
بُغَاة) .
وَالثَّالِثُ: الصُّلْحُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا خِيفَ الشِّقَاقُ
بَيْنَهُمَا، أَوْ خَافَتِ الزَّوْجَةُ إِعْرَاضَ الزَّوْجِ عَنْهَا.
(ر. شِقَاق، عِشْرَةُ النِّسَاءِ، نُشُوز) .
وَالرَّابِعُ: الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فِي غَيْرِ مَالٍ.
كَمَا فِي جِنَايَاتِ الْعَمْدِ. (ر. قِصَاص، عَفْو، دِيَات) .
وَالْخَامِسُ: الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فِي الأَْمْوَال.
وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْمُبَوَّبُ لَهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ،
وَهُوَ مَوْضُوعُ هَذَا الْبَحْثِ.
__________
(1) محاسن الإسلام للزاهد البخاري الحنفي (ط. القدسي) ص86
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 260، المغني لابن قدامة 4 / 527، نهاية
المحتاج 4 / 371، فتح الباري (المطبعة السلفية) 5 / 298، كشاف القناع 3
/ 378، أسنى المطالب 2 / 214، المبدع 4 / 278
(27/326)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلصُّلْحِ:
7 - قَال ابْنُ عَرَفَةَ: وَهُوَ - أَيِ الصُّلْحُ - مِنْ حَيْثُ
ذَاتُهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَقَدْ يَعْرِضُ وُجُوبُهُ عِنْدَ
تَعَيُّنِ مَصْلَحَةٍ، وَحُرْمَتُهُ وَكَرَاهَتُهُ لاِسْتِلْزَامِهِ
مَفْسَدَةً وَاجِبَةَ الدَّرْءِ أَوْ رَاجِحَتَهُ (1) .
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: الصُّلْحُ نَوْعَانِ:
أ - صُلْحٌ عَادِلٌ جَائِزٌ. وَهُوَ مَا كَانَ مَبْنَاهُ رِضَا اللَّهِ
سُبْحَانَهُ وَرِضَا الْخَصْمَيْنِ، وَأَسَاسُهُ الْعِلْمُ وَالْعَدْل،
فَيَكُونُ الْمُصَالِحُ عَالِمًا بِالْوَقَائِعِ، عَارِفًا
بِالْوَاجِبِ، قَاصِدًا لِلْعَدْل كَمَا قَال سُبْحَانَهُ:
{فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْل} (2) .
ب - وَصُلْحٌ جَائِرٌ مَرْدُودٌ: وَهُوَ الَّذِي يُحِل الْحَرَامَ أَوْ
يُحَرِّمُ الْحَلاَل، كَالصُّلْحِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ أَكْل الرِّبَا،
أَوْ إِسْقَاطَ الْوَاجِبِ، أَوْ ظُلْمَ ثَالِثٍ، وَكَمَا فِي
الإِْصْلاَحِ بَيْنَ الْقَوِيِّ الظَّالِمِ وَالْخَصْمِ الضَّعِيفِ
الْمَظْلُومِ بِمَا يُرْضِي الْمُقْتَدِرَ صَاحِبَ الْجَاهِ، وَيَكُونُ
لَهُ فِيهِ الْحَظُّ، بَيْنَمَا يَقَعُ الإِْغْمَاضُ وَالْحَيْفُ فِيهِ
عَلَى
__________
(1) مواهب الجليل 5 / 80، البهجة 1 / 220، حاشية العدوي على الخرشي 6 /
2
(2) الحجرات آية / 9
(27/326)
الضَّعِيفِ، أَوْ لاَ يُمَكِّنُ ذَلِكَ
الْمَظْلُومَ مِنْ أَخْذِ حَقِّهِ (1) .
رَدُّ الْقَاضِي الْخُصُومَ إِلَى الصُّلْحِ:
8 - جَاءَ فِي " الْبَدَائِعِ ": وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَرُدَّ الْقَاضِي
الْخُصُومَ إِلَى الصُّلْحِ إِنْ طَمِعَ مِنْهُمْ ذَلِكَ، قَال اللَّهُ
تَعَالَى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (2) فَكَانَ الرَّدُّ لِلصُّلْحِ
رَدًّا لِلْخَيْرِ. وَقَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -: " رُدُّوا الْخُصُومَ حَتَّى يَصْطَلِحُوا، فَإِنَّ فَصْل
الْقَضَاءِ يُورِثُ بَيْنَهُمُ الضَّغَائِنَ ". فَنَدَبَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - الْقُضَاةَ إِلَى الصُّلْحِ وَنَبَّهَ عَلَى
الْمَعْنَى، وَهُوَ حُصُول الْمَقْصُودِ مِنْ غَيْرِ ضَغِينَةٍ. وَلاَ
يَزِيدُ عَلَى مَرَّةٍ أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَإِنِ اصْطَلَحَا، وَإِلاَّ
قَضَى بَيْنَهُمَا بِمَا يُوجِبُ الشَّرْعُ. وَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ
مِنْهُمْ فَلاَ يَرُدُّهُمْ إِلَيْهِ، بَل يُنَفِّذُ الْقَضَاءَ
فِيهِمْ؛ لأَِنَّهُ لاَ فَائِدَةَ فِي الرَّدِّ (3) .
حَقِيقَةُ الصُّلْحِ:
9 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ عَقْدَ الصُّلْحِ لَيْسَ
عَقْدًا مُسْتَقِلًّا قَائِمًا بِذَاتِهِ فِي شُرُوطِهِ وَأَحْكَامِهِ،
بَل هُوَ مُتَفَرِّعٌ عَنْ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ
تَسْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ أَقْرَبِ الْعُقُودِ
__________
(1) أعلام الموقعين تحقيق (محمد محيي الدين عبد الحميد) 1 / 108، 109
(2) النساء آية / 128
(3) بدائع الصنائع 7 / 13
(27/327)
إِلَيْهِ شَبَهًا بِحَسَبِ مَضْمُونِهِ.
فَالصُّلْحُ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ يُعْتَبَرُ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ،
وَالصُّلْحُ عَنْ مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ يُعَدُّ فِي حُكْمِ الإِْجَارَةِ،
وَالصُّلْحُ عَلَى بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ هِبَةُ بَعْضِ
الْمُدَّعَى لِمَنْ هُوَ فِي يَدِهِ، وَالصُّلْحُ عَنْ نَقْدٍ بِنَقْدٍ
لَهُ حُكْمُ الصَّرْفِ، وَالصُّلْحُ عَنْ مَال مُعَيَّنٍ بِمَوْصُوفٍ
فِي الذِّمَّةِ فِي حُكْمِ السَّلَمِ، وَالصُّلْحُ فِي دَعْوَى
الدَّيْنِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الْمُدَّعِي أَقَل مِنَ الْمَطْلُوبِ
لِيَتْرُكَ دَعْوَاهُ يُعْتَبَرُ أَخْذًا لِبَعْضِ الْحَقِّ،
وَإِبْرَاءً عَنَ الْبَاقِي. . . إِلَخْ.
وَثَمَرَةُ ذَلِكَ: أَنْ تَجْرِيَ عَلَى الصُّلْحِ أَحْكَامُ الْعَقْدِ
الَّذِي اعْتُبِرَ بِهِ وَتُرَاعَى فِيهِ شُرُوطُهُ وَمُتَطَلَّبَاتُهُ
(1) . قَال الزَّيْلَعِيُّ: وَهَذَا لأَِنَّ الأَْصْل فِي الصُّلْحِ
أَنْ يُحْمَل عَلَى أَشْبَهِ الْعُقُودِ بِهِ، فَتَجْرِي عَلَيْهِ
أَحْكَامُهُ؛ لأَِنَّ الْعِبْرَةَ لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّورَةِ (2) .
أَقْسَامُ الصُّلْحِ:
10 - الصُّلْحُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى
عَلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالأَْجْنَبِيِّ
الْمُتَوَسِّطِ، وَيَنْقَسِمُ إِلَى ثَلاَثَةِ
__________
(1) انظر شرح الخرشي 6 / 2 - 4، كشاف القناع 3 / 379، 385، تبيين
الحقائق 5 / 31 - 33، روضة الطالبين 4 / 193، 196
(2) تبيين الحقائق 5 / 31
(27/327)
أَقْسَامٍ، صُلْحٍ عَنِ الإِْقْرَارِ،
وَصُلْحٍ عَنِ الإِْنْكَارِ، وَصُلْحٍ عَنِ السُّكُوتِ (1) .
الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ:
وَهُوَ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: الصُّلْحُ مَعَ إِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
11 - وَهُوَ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (2) . وَهُوَ ضَرْبَانِ:
صُلْحٌ عَنِ الأَْعْيَانِ، صُلْحٌ عَنِ الدُّيُونِ.
(أ) - الصُّلْحُ عَنِ الأَْعْيَانِ.
وَهُوَ نَوْعَانِ: صُلْحُ الْحَطِيطَةِ، وَصُلْحُ الْمُعَاوَضَةِ.
أَوَّلاً: صُلْحُ الْحَطِيطَةِ:
12 - وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ،
كَمَنْ صَالَحَ مِنَ الدَّارِ الْمُدَّعَاةِ عَلَى نِصْفِهَا أَوْ
ثُلُثِهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ عَلَى
ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ.
__________
(1) الكفاية على الهداية (المطبعة الميمنية) 7 / 477
(2) تحفة الفقهاء 3 / 418، مجمع الأنهر 2 / 308، شرح منتهى الإرادات 2
/ 260، كفاية الأخبار 1 / 167، بداية المجتهد (مطبوع مع الهداية في
تخريج أحاديث البداية) 8 / 90، القوانين الفقهية (ط. الدار العربية
للكتاب) ص 343، كفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي عليه 2 / 324.
إرشاد السالك لابن عسكر البغدادي المالكي ص 132، التفريع لابن الجلاب 2
/ 289
(27/328)
أَحَدِهَا: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ
الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: وَهُوَ
أَنَّهُ يُعَدُّ مِنْ قَبِيل هِبَةِ بَعْضِ الْمُدَّعَى لِمَنْ هُوَ
فِي يَدِهِ، فَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُ الْهِبَةِ، سَوَاءٌ وَقَعَ
بِلَفْظِ الْهِبَةِ أَوْ بِلَفْظِ الصُّلْحِ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: لأَِنَّ الْخَاصِّيَّةَ الَّتِي يَفْتَقِرُ
إِلَيْهَا لَفْظُ الصُّلْحِ، وَهِيَ سَبْقُ الْخُصُومَةِ قَدْ حَصَلَتْ
(1) .
وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ فِي يَدِهِ عَيْنٌ،
فَقَال الْمُقَرُّ لَهُ: وَهَبْتُكَ نِصْفَهَا، فَأَعْطِنِي
بَقِيَّتَهَا، فَيَصِحُّ وَيُعْتَبَرُ لَهُ شُرُوطُ الْهِبَةِ؛ لأَِنَّ
جَائِزَ التَّصَرُّفِ لاَ يُمْنَعُ مِنْ هِبَةِ بَعْضِ حَقِّهِ، كَمَا
لاَ يُمْنَعُ مِنَ اسْتِيفَائِهِ، مَا لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ بِلَفْظِ
الصُّلْحِ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ قَدْ صَالَحَ
عَنْ بَعْضِ مَالِهِ بِبَعْضِهِ، فَهُوَ هَضْمٌ لِلْحَقِّ، أَوْ
بِشَرْطِ أَنْ يُعْطِيَهُ الْبَاقِيَ، كَقَوْلِهِ: عَلَى أَنْ
تُعْطِيَنِي كَذَا مِنْهُ أَوْ تُعَوِّضَنِي مِنْهُ بِكَذَا؛ لأَِنَّهُ
يَقْتَضِي الْمُعَاوَضَةَ، فَكَأَنَّهُ عَاوَضَ عَنْ بَعْضِ حَقِّهِ
بِبَعْضِهِ، وَالْمُعَاوَضَةُ عَنِ الشَّيْءِ بِبَعْضِهِ مَحْظُورَةٌ،
أَوْ يَمْنَعُهُ حَقَّهُ بِدُونِ
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 193، كفاية الأخبار 1 / 168، نهاية المحتاج 4 /
372، أسنى المطالب 2 / 215، المهذب 1 / 340، الخرشي على خليل 6 / 3،
شرح الزرقاني على خليل 6 / 3
(27/328)
الصُّلْحِ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ كَذَلِكَ
(1) .
وَالثَّالِثُ: لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى شَخْصٌ
عَلَى آخَرَ دَارًا، حَصَل الصُّلْحُ عَلَى قِسْمٍ مُعَيَّنٍ مِنْهَا،
فَهُنَاكَ قَوْلاَنِ فِي الْمَذْهَبِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ يَصِحُّ هَذَا الصُّلْحُ، وَلِلْمُدَّعِي
الاِدِّعَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ بِبَاقِي الدَّارِ؛ لأَِنَّ الصُّلْحَ
إِذَا وَقَعَ عَلَى بَعْضِ الْمُدَّعَى بِهِ يَكُونُ الْمُدَّعِي قَدِ
اسْتَوْفَى بَعْضَ حَقِّهِ، وَأَسْقَطَ الْبَعْضَ الآْخَرَ، إِلاَّ
أَنَّ الإِْسْقَاطَ عَنِ الأَْعْيَانِ بَاطِلٌ، فَصَارَ وُجُودُهُ
وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا أَنَّ بَعْضَ الْمُدَّعَى
بِهِ لاَ يَكُونُ عِوَضًا عَنْ كُلِّهِ، حَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ
بِمَثَابَةِ أَنَّ الشَّيْءَ يَكُونُ عِوَضًا عَنْ نَفْسِهِ، إِذِ
الْبَعْضُ دَاخِلٌ ضِمْنَ الْكُل.
وَالثَّانِي: يَصِحُّ هَذَا الصُّلْحُ، وَلاَ تُسْمَعُ الدَّعْوَى فِي
بَاقِيهَا بَعْدَهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ؛ لأَِنَّ
الإِْبْرَاءَ عَنْ بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَى بِهَا إِبْرَاءٌ فِي
الْحَقِيقَةِ عَنْ دَعْوَى ذَلِكَ الْبَعْضِ، فَالصُّلْحُ صَحِيحٌ
وَلاَ تُسْمَعُ الدَّعْوَى بَعْدَهُ (2) .
أَمَّا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ،
بِأَنْ صَالَحَهُ عَنْ بَيْتٍ ادَّعَى عَلَيْهِ بِهِ وَأَقَرَّ لَهُ
بِهِ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 260، كشاف القناع 3 / 379، المغني 4 / 536،
المبدع 4 / 279
(2) شرح المجلة للأتاسي 4 / 558 - 561، درر الحكام لعلي حيدر 4 / 39
(27/329)
عَلَى سُكْنَاهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً،
فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ الصُّلْحِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: الْجَوَازُ وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ: وَيُعْتَبَرُ
إِجَارَةً. وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ، وَيُعْتَبَرُ
إِعَارَةً؛ فَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُهَا. فَإِنْ عَيَّنَ مُدَّةً
فَإِعَارَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، وَإِلاَّ فَمُطْلَقَةٌ (1) .
وَالثَّانِي: عَدَمُ الْجَوَازِ، وَهُوَ لِلْحَنَابِلَةِ وَوَجْهٌ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ صَالَحَهُ عَنْ مِلْكِهِ عَلَى
مَنْفَعَةِ مِلْكِهِ، فَكَأَنَّهُ ابْتَاعَ دَارَهُ بِمَنْفَعَتِهَا،
وَهُوَ لاَ يَجُوزُ (2) .
ثَانِيًا: صُلْحُ الْمُعَاوَضَةِ:
13 - وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى غَيْرِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ،
كَأَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ دَارًا، فَأَقَرَّ لَهُ بِهَا ثُمَّ صَالَحَهُ
مِنْهَا عَلَى ثَوْبٍ أَوْ دَارٍ أُخْرَى.
وَهُوَ جَائِزٌ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَيُعَدُّ بَيْعًا،
وَإِنْ عُقِدَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ؛ لأَِنَّهُ مُبَادَلَةُ مَالٍ
بِمَالٍ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ جَمِيعُ شُرُوطِ الْبَيْعِ:
كَمَعْلُومِيَّةِ الْبَدَل، وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ،
وَالتَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ إِنْ جَرَى بَيْنَ الْعِوَضَيْنِ رِبَا
النَّسِيئَةِ.
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 372، أسنى المطالب 2 / 216، روضة الطالبين 4 /
197، البدائع (6 / 47، الطبعة الأولى)
(2) المهذب 1 / 340، شرح منتهى الإرادات 2 / 261، المبدع 4 / 281، كشاف
القناع 3 / 380، المغني 4 / 537، (ط. مكتبة الرياض الحديثة)
(27/329)
كَذَلِكَ تَتَعَلَّقُ بِهِ جَمِيعُ
أَحْكَامِ الْبَيْعِ: كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَحَقِّ الشُّفْعَةِ،
وَالْمَنْعِ مِنَ التَّصَرُّفِ قَبْل الْقَبْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا
يَفْسُدُ بِالْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ وَالشُّرُوطِ
الْمُفْسِدَةِ لِلْبَيْعِ. (1)
وَلَوْ صَالَحَهُ مِنَ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ عَلَى مَنْفَعَةِ
عَيْنٍ أُخْرَى، كَمَا إِذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ شَيْئًا، فَأَقَرَّ
بِهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى سُكْنَى دَارِهِ، أَوْ رُكُوبِ
دَابَّتِهِ، أَوْ لُبْسِ ثَوْبِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً فَلاَ خِلاَفَ
بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ هَذَا الصُّلْحِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ
إِجَارَةً، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ سَائِرُ أَحْكَامِهَا؛ لأَِنَّ
الْعِبْرَةَ لِلْمَعَانِي، فَوَجَبَ حَمْل الصُّلْحِ عَلَيْهَا،
لِوُجُودِ مَعْنَاهَا فِيهَا، وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ
(2) .
__________
(1) الأم 3 / 221، بداية المجتهد (مطبوع مع الهداية في تخريج أحاديث
البداية) 8 / 19، تحفة الفقهاء 3 / 419، مجمع الأنهر والدر المنتقى 2 /
308، تبيين الحقائق 5 / 31، البحر الرائق 7 / 256، والزرقاني على خليل
6 / 2، شرح الخرشي 6 / 3، مواهب الجليل 5 / 80، شرح منتهى الإرادات 2 /
262، المبدع 4 / 282، المغني 4 / 537، كشاف القناع 3 / 382، روضة
الطالبين 4 / 193، كفاية الأخيار 1 / 168، نهاية المحتاج 4 / 371، وما
بعدها، أسنى المطالب 2 / 215، المهذب 1 / 340، حاشية العدوي على كفاية
الطالب الرباني 2 / 324 وانظر م 1030، من مرشد الحيران وم 1548 من مجلة
الأحكام العدلية وم 1626 من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد
(2) تبيين الحقائق 5 / 32، مجمع الأنهر والدر المنتقى 2 / 309، العدوي
على كفاية الطالب الرباني 2 / 324، نهاية المحتاج 4 / 371، وما بعدها،
أسنى المطالب 2 / 215، المهذب 1 / 340، كفاية الأخيار 1 / 168، روضة
الطالبين 4 / 193، كشاف القناع 3 / 382، المغني 4 / 537، المبدع 4 /
282، شرح منتهى الإرادات 2 / 262، مواهب الجليل 5 / 81، الخرشي 6 / 2
وانظر م 1031، من مرشد الحيران وم 1549 من مجلة الأحكام العدلية وم
1626، من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد القاري
(27/330)
ب - الصُّلْحُ عَنِ الدَّيْنِ:
وَذَلِكَ مِثْل أَنْ يَدَّعِيَ شَخْصٌ عَلَى آخَرَ دَيْنًا، فَيُقِرُّ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَهُ بِهِ، ثُمَّ يُصَالِحُهُ عَلَى بَعْضِهِ،
أَوْ عَلَى مَالٍ غَيْرِهِ. وَهُوَ جَائِزٌ - فِي الْجُمْلَةِ -
بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ اخْتِلاَفٌ بَيْنَهُمْ
فِي بَعْضِ صُوَرِهِ وَحَالاَتِهِ. وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ
نَوْعَانِ: صُلْحُ إِسْقَاطٍ وَإِبْرَاءٍ، وَصُلْحُ مُعَاوَضَةٍ.
أَوَّلاً: صُلْحُ الإِْسْقَاطِ وَالإِْبْرَاءِ:
وَيُسَمَّى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ صُلْحُ الْحَطِيطَةِ.
14 - وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى بَعْضِ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى،
وَصُورَتُهُ بِلَفْظِ الصُّلْحِ، أَنْ يَقُول الْمُقَرُّ لَهُ:
صَالَحْتُكَ عَلَى الأَْلْفِ الْحَال الَّذِي لِي عَلَيْكَ عَلَى
خَمْسِمِائَةٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ،
هُوَ أَنَّ هَذَا الصُّلْحَ جَائِزٌ؛ إِذْ هُوَ أَخْذٌ لِبَعْضِ
حَقِّهِ وَإِسْقَاطٌ لِبَاقِيهِ، لاَ مُعَاوَضَةٌ،
(27/330)
وَيُعْتَبَرُ إِبْرَاءً لِلْمُدَّعَى
عَلَيْهِ عَنْ بَعْضِ الدَّيْنِ؛ لأَِنَّهُ مَعْنَاهُ، فَتَثْبُتُ
فِيهِ أَحْكَامُهُ (1) .
وَقَدْ جَاءَ فِي (م 1044) مِنْ مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ: لِرَبِّ
الدَّيْنِ أَنْ يُصَالِحَ مَدْيُونَهُ عَلَى بَعْضِ الدَّيْنِ،
وَيَكُونُ أَخْذًا لِبَعْضِ حَقِّهِ وَإِبْرَاءً عَنْ بَاقِيهِ.
ثُمَّ قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَيَصِحُّ بِلَفْظِ الإِْبْرَاءِ
وَالْحَطِّ وَنَحْوِهِمَا، كَالإِْسْقَاطِ وَالْهِبَةِ وَالتَّرْكِ
وَالإِْحْلاَل وَالتَّحْلِيل وَالْعَفْوِ وَالْوَضْعِ، وَلاَ
يُشْتَرَطُ حِينَئِذٍ الْقَبُول عَلَى الْمَذْهَبِ، سَوَاءٌ قُلْنَا:
إِنَّ الإِْبْرَاءَ تَمْلِيكٌ أَمْ إِسْقَاطٌ. كَمَا يَصِحُّ بِلَفْظِ
الصُّلْحِ فِي الأَْصَحِّ. وَفِي اشْتِرَاطِ الْقَبُول إِذَا وَقَعَ
بِهِ وَجْهَانِ - كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ قَال لِمَنْ عَلَيْهِ
دَيْنٌ: وَهَبْتُهُ لَكَ - وَالأَْصَحُّ الاِشْتِرَاطُ؛ لأَِنَّ
اللَّفْظَ بِوَضْعِهِ يَقْتَضِيهِ (2) .
وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ
عَلَى آخَرَ دَيْنٌ، فَوَضَعَ عَنْهُ بَعْضَ حَقِّهِ، وَأَخَذَ مِنْهُ
الْبَاقِيَ، كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُمَا إِذَا كَانَ بِلَفْظِ
الإِْبْرَاءِ، وَكَانَتِ الْبَرَاءَةُ
__________
(1) مواهب الجليل 5 / 82، المواق على خليل 5 / 82، العدوي على كفاية
الطالب الرباني 2 / 324، نهاية المحتاج 4 / 374، أسنى المطالب 2 / 215،
مجمع الأنهر 2 / 315، البحر الرائق 7 / 259، البدائع 6 / 43، تحفة
الفقهاء 3 / 422، شرح المجلة للأتاسي 4 / 562، وما بعدها وانظر م 1552
من مجلة الأحكام العدلية، وتبيين الحقائق 5 / 41
(2) كفاية الأخيار 1 / 168، روضة الطالبين 4 / 196، نهاية المحتاج 4 /
374، أسنى المطالب 2 / 215
(27/331)
مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ شَرْطِ إِعْطَاءِ
الْبَاقِي، كَقَوْل الدَّائِنِ: عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي كَذَا مِنْهُ،
وَلَمْ يَمْتَنِعُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ إِعْطَاءِ بَعْضِ حَقِّهِ
إِلاَّ بِإِسْقَاطِ بَعْضِهِ الآْخَرِ (1) . فَإِنْ تَطَوَّعَ
الْمُقَرُّ لَهُ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهِ بِطِيبِ نَفْسِهِ جَازَ،
غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِصُلْحٍ وَلاَ مِنْ بَابِ الصُّلْحِ
بِسَبِيلٍ (2) .
أَمَّا إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ فَأَشْهَرُ
الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ،
وَهِيَ الرِّوَايَةُ الأَْصَحُّ فِي الْمَذْهَبِ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّهُ
صَالَحَ عَنْ بَعْضِ مَالِهِ بِبَعْضِهِ، فَكَانَ هَضْمًا لِلْحَقِّ.
وَالثَّانِيَةِ: وَهِيَ ظَاهِرُ " الْمُوجَزِ " " وَالتَّبْصِرَةِ "
أَنَّهُ يَصِحُّ (3) .
أَمَّا لَوْ صَالَحَهُ عَنْ أَلْفٍ مُؤَجَّلٍ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ
مُعَجَّلَةٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ عَلَى
قَوْلَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - وَالصَّحِيحُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ. (4) وَاسْتَثْنَى
الْحَنَفِيَّةُ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 260، كشاف القناع 3 / 379، المبدع 4 / 279،
وانظر م 1620 من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد
(2) المغني 4 / 534
(3) المبدع 4 / 279، المغني 535
(4) البحر الرائق 7 / 259، والبدائع 6 / 45، وتبيين الحقائق 5 / 43،
وروضة الطالبين 4 / 196، نهاية المحتاج 4 / 374، أسنى المطالب 2 / 216،
شرح الخرشي 6 / 3، البهجة شرح التحفة 1 / 221، الزرقاني على خليل 6 /
3، شرح التاودي على التحفة 1 / 221، وشرح منتهى الإرادات 2 / 260،
المبدع 4 / 79، وكشاف القناع 3 / 380.
(27/331)
وَالْحَنَابِلَةُ مِنْ ذَلِكَ دَيْنَ
الْكِتَابَةِ؛ لأَِنَّ الرِّبَا لاَ يَجْرِي بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ.
وَعَلَّل الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ الصِّحَّةِ: بِأَنَّهُ تَرَكَ بَعْضَ
الْمِقْدَارِ لِيَحْصُل الْحُلُول فِي الْبَاقِي، وَالصِّفَةُ
بِانْفِرَادِهَا لاَ تُقَابَل بِعِوَضٍ؛ وَلأَِنَّ صِفَةَ الْحُلُول
لاَ يَصِحُّ إِلْحَاقُهَا بِالْمُؤَجَّل، وَإِذَا لَمْ يَحْصُل مَا
تَرَكَ مِنَ الْقَدْرِ لأَِجْلِهِ لَمْ يَصِحَّ التَّرْكُ. (1)
وَوَجْهُ الْمَنْعِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ مَنْ عَجَّل مَا
أُجِّل يُعَدُّ مُسَلِّفًا، فَقَدْ أَسْلَفَ الآْنَ خَمْسَمِائَةٍ
لِيَقْتَضِيَ عِنْدَ الأَْجَل أَلْفًا مِنْ نَفْسِهِ.
(2) وَقَدْ عَلَّل الْحَنَفِيَّةُ الْمَنْعَ فِي غَيْرِ دَيْنِ
الْكِتَابَةِ: بِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّل لاَ يَسْتَحِقُّ
الْمُعَجَّل، فَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَل اسْتِيفَاءً، فَصَارَ
عِوَضًا، وَبَيْعُ خَمْسِمِائَةٍ بِأَلْفٍ لاَ يَجُوزُ. (3)
وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُعَجَّل لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا
بِالْعَقْدِ حَتَّى يَكُونَ اسْتِيفَاؤُهُ اسْتِيفَاءً لِبَعْضِ
حَقِّهِ، وَالتَّعْجِيل خَيْرٌ مِنَ النَّسِيئَةِ لاَ مَحَالَةَ،
فَيَكُونُ خَمْسَمِائَةٍ بِمُقَابَلَةِ خَمْسِمِائَةٍ مِثْلُهُ مِنَ
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 216.
(2) البهجة للتسولي 1 / 221.
(3) تحفة الفقهاء 3 / 423.
(27/332)
الدَّيْنِ، وَالتَّعْجِيل فِي مُقَابَلَةِ
الْبَاقِي، وَذَلِكَ اعْتِيَاضٌ عَنِ الأَْجَل، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ أَلاَ
تَرَى أَنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ رِبَا النَّسِيئَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ
إِلاَّ مُقَابَلَةُ الْمَال بِالأَْجَل شُبْهَةً، فَلأََنْ تَكُونَ
مُقَابَلَةُ الْمَال بِالأَْجَل حَقِيقَةً حَرَامًا أَوْلَى. (1)
الثَّانِي: جَوَازُ ذَلِكَ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ
أَحْمَدَ، حَكَاهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرُهُ، (2) وَهُوَ قَوْل
ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ
تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ وَتِلْمِيذُهُ ابْنُ قَيِّمٍ
الْجَوْزِيَّةُ. (3)
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: لأَِنَّ هَذَا عَكْسُ الرِّبَا، فَإِنَّ
الرِّبَا يَتَضَمَّنُ الزِّيَادَةَ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ فِي
مُقَابَلَةِ الأَْجَل، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ مِنْ
بَعْضِ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَةِ سُقُوطِ الأَْجَل، فَسَقَطَ بَعْضُ
الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَةِ سُقُوطِ بَعْضِ الأَْجَل، فَانْتَفَعَ بِهِ
كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَمْ يَكُنْ هُنَا رِبًا لاَ حَقِيقَةً وَلاَ
لُغَةً وَلاَ عُرْفًا، فَإِنَّ الرِّبَا الزِّيَادَةُ، وَهِيَ
مُنْتَفِيَةٌ هَاهُنَا، وَاَلَّذِينَ حَرَّمُوا ذَلِكَ إِنَّمَا
قَاسُوهُ عَلَى الرِّبَا، وَلاَ يَخْفَى الْفَرْقُ
__________
(1) العناية على الهداية (ط. الميمنية) 7 / 396، تبيين الحقائق وحاشية
الشلبي عليه 5 / 42، شرح المجلة للأتاسي 4 / 564.
(2) المبدع 3 / 280.
(3) الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية للبعلي ص 134، أعلام
الموقعين 3 / 371، أحكام القرآن للجصاص (ط. مصر بعناية محمد الصادق
قمحاوي) 2 / 186.
(27/332)
الْوَاضِحُ بَيْنَ قَوْلِهِ: إِمَّا أَنْ
تُرْبِيَ، وَإِمَّا أَنْ تَقْضِيَ. وَبَيْنَ قَوْلِهِ: عَجِّل لِي
وَأَهَبُ لَكَ مِائَةً. فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنَ الآْخَرِ؛ فَلاَ
نَصَّ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَلاَ إِجْمَاعَ، وَلاَ قِيَاسَ صَحِيحٌ.
(1)
وَلَوْ صَالَحَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ حَالٍّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ
مُؤَجَّلٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ عَلَى
قَوْلَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّ
التَّأْجِيل لاَ يَصِحُّ، وَيُعْتَبَرُ لاَغِيًا؛ إِذْ هُوَ مِنَ
الدَّائِنِ وَعْدٌ بِإِلْحَاقِ الأَْجَل، وَصِفَةُ الْحُلُول لاَ
يَصِحُّ إِلْحَاقُهَا، وَالْوَعْدُ لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ. (2)
وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ صِحَّةُ التَّأْجِيل، وَذَلِكَ؛
لأَِنَّهُ إِسْقَاطٌ لِوَصْفِ الْحُلُول فَقَطْ، وَهُوَ حَقٌّ لَهُ،
فَيَصِحُّ، وَيَكُونُ مِنْ قَبِيل الإِْحْسَانِ. (3) قَالُوا: لأَِنَّ
أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الصِّحَّةِ، فَلَوْ
حَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ فَيَلْزَمُ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ
بِالدَّرَاهِمِ نَسَاءً، وَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ بَيْعُ
الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ؛ لأَِنَّ الدَّرَاهِمَ الْحَالَّةَ
وَالدَّرَاهِمَ
__________
(1) أعلام الموقعين عن رب العالمين (ط. السعادة بمصر) 3 / 371.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 261، أسنى المطالب 2 / 215، نهاية المحتاج
4 / 374.
(3) مجمع الأنهر 2 / 315، تحفة الفقهاء 3 / 423، البحر الرائق 7 / 259،
شرح المجلة للأتاسي 4 / 564، وانظر م 1553، من مجلة الأحكام العدلية،
البدائع 6 / 44.
(27/333)
الْمُؤَجَّلَةَ ثَابِتَةٌ فِي الذِّمَّةِ،
وَالدَّيْنُ بِالدَّيْنِ لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ (1) ،
فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ حَمْلُهُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ حَمَلْنَاهُ عَلَى
التَّأْخِيرِ تَصْحِيحًا لِلتَّصَرُّفِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ
كَوْنُهُ تَصَرُّفًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ، لاَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ. (2)
وَلَوِ اصْطَلَحَا عَنِ الدَّيْنِ الْحَال عَلَى وَضْعِ بَعْضِهِ
وَتَأْجِيل الْبَاقِي، كَمَا لَوْ صَالَحَ الدَّائِنُ مَدِينَهُ عَنْ
أَلْفٍ حَالَّةٍ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ
الْحَنَابِلَةِ. وَهُوَ صِحَّةُ الإِْسْقَاطِ وَالتَّأْجِيل. (3)
وَقَدِ اخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ. قَال
ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهُوَ الصَّوَابُ، بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ تَأْجِيل
الْقَرْضِ وَالْعَارِيَّةِ. (4)
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكالئ بالكالئ ".
أخرجه الدارقطني والبيهقي والطحاوي والحاكم والبزار وابن أبي شيبة عن
ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعا (التلخيص الحبير 2 / 26، نصب الراية
4 / 39، شرح معاني الآثار 4 / 21، سنن الدارقطني 3 / 71، سنن البيهقي 5
/ 290، المستدرك 2 / 57، نيل الأوطار 5 / 254) .
(2) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 5 / 41.
(3) البحر الرائق 7 / 259، التاج والإكليل للمواق 5 / 82، أعلام
الموقعين 3 / 370.
(4) أعلام الموقعين (ط. السعادة بمصر) 3 / 370.
(27/333)
وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ فِي
الأَْصَحِّ وَالشَّافِعِيَّةِ:
وَهُوَ أَنَّهُ يَصِحُّ الإِْسْقَاطُ دُونَ التَّأْجِيل. وَعِلَّةُ
صِحَّةِ الْوَضْعِ وَالإِْسْقَاطِ: أَنَّهُ أَسْقَطَ بَعْضَ حَقِّهِ
عَنْ طِيبِ نَفْسِهِ، فَلاَ مَانِعَ مِنْ صِحَّتِهِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ
فِي مُقَابَلَةِ تَأْجِيلٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ
أَسْقَطَهُ كُلَّهُ؛ إِذْ هُوَ مُسَامَحَةٌ وَلَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ.
(1)
وَالثَّالِثُ: لِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ
الإِْسْقَاطُ وَلاَ التَّأْجِيل؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصُّلْحَ لاَ
يَصِحُّ مَعَ الإِْقْرَارِ، وَعَلَى أَنَّ الْحَال لاَ يَتَأَجَّل. (2)
ثَانِيًا: صُلْحُ الْمُعَاوَضَةِ:
15 - وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى غَيْرِ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى،
بِأَنْ يُقِرَّ لَهُ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ يَتَّفِقَانِ عَلَى
تَعْوِيضِهِ عَنْهُ. وَحُكْمُهُ حُكْمُ بَيْعِ الدَّيْنِ، (3) وَإِنْ
كَانَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ. وَهُوَ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 380، شرح منتهى الإرادات 2 / 261، المبدع 4 / 280،
روضة الطالبين 4 / 196، أسنى المطالب 2 / 216، نهاية المحتاج 4 / 374.
(2) أعلام الموقعين 3 / 370، (ط. السعادة بمصر) ، وانظر المبدع 4 /
280.
(3) التاج والإكليل 5 / 81. * ومن أجل ذلك نص الشافعية على التفريق بين
ما إذا صالحه عن دين لا يجوز الاعتياض عنه كدين السلم، وبين ما إذا
صالحه على دين يجوز الاعتياض عنه وقالوا: فإن صالحه عن ما لا يصح
الاعتياض عنه فإنه لا يصح، أما إذا صالحه عن دين يجوز الاعتياض
(27/334)
عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَرْبَعَةِ
أَضْرُبٍ:. (1)
الأَْوَّل: أَنْ يُقِرَّ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ، فَيُصَالِحَهُ
بِالآْخَرِ، نَحْوَ: أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ،
فَيُصَالِحَهُ مِنْهَا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، أَوْ يُقِرَّ لَهُ
بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، فَيُصَالِحَهُ مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ.
وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لَهُ حُكْمَ الصَّرْفِ؛
لأَِنَّهُ بَيْعُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالآْخَرِ، وَيُشْتَرَطُ لَهُ
مَا يُشْتَرَطُ فِي الصَّرْفِ مِنَ الْحُلُول وَالتَّقَابُضِ قَبْل
التَّفَرُّقِ.
(2) وَالثَّانِي: أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِعَرَضٍ، كَفَرَسٍ وَثَوْبٍ،
فَيُصَالِحَهُ عَنِ الْعَرَضِ بِنَقْدٍ، أَوْ يَعْتَرِفَ لَهُ
بِنَقْدٍ، كَدِينَارٍ، فَيُصَالِحَهُ عَنْهُ عَلَى عَرَضٍ. وَقَدْ
نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لَهُ حُكْمَ
__________
(1) جاء في م 1626 من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد: " الصلح عن
الحق المقر به على غير جنسه معاوضة، يصح بلفظ الصلح. فالصلح عن نقد
بنقد صرف، وعن نقد بعرض أو عن عرض بنقد أو عن عرض بعرض بيع، أو عن عرض
أو نقد بمنفعة إجارة، فيشترط لصحته ما يشترط لصحة هذه
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 262، المبدع 4 / 283، 284، والمغني 4 /
534، كشاف القناع 3 / 382، روضة الطالبين 4 / 195، نهاية المحتاج 4 /
373، المهذب 1 / 340، أسنى المطالب 2 / 215، حاشية العدوي على كفاية
الطالب الرباني 2 / 324، مواهب الجليل 5 / 81، 82، الخرشي 6 / 3،
البهجة للتسولي 1 / 221، القوانين الفقهية ص 343، التفريع لابن الجلاب
2 / 289، وما بعدها، تحفة الفقهاء 3 / 424، مجمع الأنهر والدر المنتقى
2 / 315، الأم 3 / 227.
(27/334)
الْبَيْعِ؛ إِذْ هُوَ مُبَادَلَةُ مَالٍ
بِمَالٍ، وَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ. (1)
وَالثَّالِثِ: أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِدَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ - مِنْ
نَحْوِ بَدَل قَرْضٍ أَوْ قِيمَةِ مُتْلَفٍ - فَيُصَالِحَ عَلَى
مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، بِأَنْ صَالَحَهُ عَنْ
دِينَارٍ فِي ذِمَّتِهِ، بِإِرْدَبِّ قَمْحٍ، وَنَحْوِهِ فِي
الذِّمَّةِ. وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الصُّلْحِ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ
يَجُوزُ التَّفَرُّقُ فِيهِ مِنَ الْمَجْلِسِ قَبْل الْقَبْضِ؛
لأَِنَّهُ إِذَا حَصَل التَّفَرُّقُ قَبْل الْقَبْضِ كَانَ كُل وَاحِدٍ
مِنَ الْعِوَضَيْنِ دَيْنًا - لأَِنَّ مَحَلَّهُ الذِّمَّةُ - فَصَارَ
مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا.
(2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ بَدَل الصُّلْحِ فِي
الْمَجْلِسِ لِيَخْرُجَ عَنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. وَفِي
اشْتِرَاطِ قَبْضِهِ فِي الْمَجْلِسِ وَجْهَانِ:
__________
(1) تحفة الفقهاء 3 / 421، البدائع 6 / 43، روضة الطالبين 4 / 195،
نهاية المحتاج 4 / 373، المهذب 1 / 340، أسنى المطالب 2 / 215، البهجة
1 / 221، المغني 4 / 534، كشاف القناع 3 / 382، شرح منتهى الإرادات 2 /
262.
(2) المغني 4 / 534، كشاف القناع 383، شرح منتهى الإرادات 2 / 262،
المبدع 4 / 284، التاج والإكليل للمواق 5 / 81، بدائع الصنائع 6 / 46،
تبيين الحقائق 5 / 42، وانظر م (1029) ، من مرشد الحيران.
(27/335)
أَصَحُّهُمَا: عَدَمُ الاِشْتِرَاطِ إِلاَّ
إِذَا كَانَا رِبَوِيَّيْنِ. (1)
وَالرَّابِعِ: أَنْ يَقَعَ الصُّلْحُ عَنْ نَقْدٍ، بِأَنْ كَانَ عَلَى
رَجُلٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَصَالَحَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَنْفَعَةٍ:
كَسُكْنَى دَارٍ، أَوْ رُكُوبِ دَابَّةٍ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ
عَلَى أَنْ يَعْمَل لَهُ عَمَلاً مَعْلُومًا. وَقَدْ نَصَّ
الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ
لِهَذَا الصُّلْحِ حُكْمَ الإِْجَارَةِ، وَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُهَا
(2)
الْقِسْمُ الثَّانِي:
الصُّلْحُ مَعَ إِنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:
16 - وَذَلِكَ كَمَا إِذَا ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ شَيْئًا،
فَأَنْكَرَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ثُمَّ صَالَحَ عَنْهُ. وَقَدِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدِهِمَا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ -: وَهُوَ جَوَازُ الصُّلْحِ عَلَى
الإِْنْكَارِ. (3) بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مُعْتَقِدًا
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 195، نهاية المحتاج 4 / 373، المهذب 1 / 340،
أسنى المطالب 2 / 215.
(2) تحفة الفقهاء 3 / 424، بدائع الصنائع 6 / 47، المهذب 1 / 340،
المبدع 4 / 283، 284، كشاف القناع 3 / 382، شرح منتهى الإرادات 2 /
262.
(3) تحفة الفقهاء 3 / 418، مجمع الأنهر 2 / 308، البدائع 6 / 40،
الإفصاح لابن هبيرة 1 / 378، كشاف القناع 3 / 385، شرح منتهى الإرادات
2 / 263، المغني 4 / 527، المبدع 4 / 285، بداية المجتهد (مطبوع مع
الهداية في تخريج أحاديث البداية) 8 / 90، إرشاد السالك لابن عسكر
البغدادي المالكي ص 132، الإشراف للقاضي عبد الوهاب 2 / 17، عارضة
الأحوذي 6 / 104، القوانين الفقهية (ط. الدار العربية للكتاب) ص 343،
الهداية مع تكملة فتح القدير والعناية والكفاية الميمنية 7 / 377 وما
بعدها، درر الحكام لعلي حيدر 4 / 35، شرح الخرشي 6 / 4، البحر الرائق 7
/ 256، تبيين الحقائق 5 / 31، التفريع لابن الجلاب 2 / 289، أعلام
الموقعين (مطبعة السعادة) 3 / 370.
(27/335)
أَنَّ مَا ادَّعَاهُ حَقٌّ، وَالْمُدَّعَى
عَلَيْهِ يَعْتَقِدُ أَنْ لاَ حَقَّ عَلَيْهِ. فَيَتَصَالَحَانِ
قَطْعًا لِلْخُصُومَةِ وَالنِّزَاعِ. أَمَّا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا
عَالِمًا بِكَذِبِ نَفْسِهِ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ فِي حَقِّهِ، وَمَا
أَخَذَهُ الْعَالِمُ بِكَذِبِ نَفْسِهِ حَرَامٌ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ
مِنْ أَكْل الْمَال بِالْبَاطِل.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ:
أ - بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} . (1) حَيْثُ
وَصَفَ الْمَوْلَى عَزَّ وَجَل جِنْسَ الصُّلْحِ بِالْخَيْرِيَّةِ.
مَعْلُومٌ أَنَّ الْبَاطِل لاَ يُوصَفُ بِالْخَيْرِيَّةِ، فَكَانَ كُل
صُلْحٍ مَشْرُوعًا بِظَاهِرِ هَذَا النَّصِّ إِلاَّ مَا خُصَّ
بِدَلِيلٍ.
(2) ب - بِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. (3) فَيَدْخُل ذَلِكَ فِي
عُمُومِهِ.
(4)
__________
(1) النساء آية / 128.
(2) البدائع 6 / 40، وانظر تكملة فتح القدير مع العناية والكفاية
(الميمنية) 7 / 377.
(3) حديث: " الصلح جائز بين المسلمين ". سبق تخريجه (ف5) .
(4) الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب 2 / 17، المبدع 4 /
285، شرح منتهى الإرادات 2 / 263.
(27/336)
ج - وَبِأَنَّ الصُّلْحَ إِنَّمَا شُرِعَ
لِلْحَاجَةِ إِلَى قَطْعِ الْخُصُومَةِ وَالْمُنَازَعَةِ، وَالْحَاجَةِ
إِلَى قَطْعِهَا فِي التَّحْقِيقِ عِنْدَ الإِْنْكَارِ - إِذِ
الإِْقْرَارُ مُسَالَمَةٌ وَمُسَاعَدَةٌ - فَكَانَ أَوْلَى
بِالْجَوَازِ. (1) قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَكَذَلِكَ إِذَا حَل مَعَ
اعْتِرَافِ الْغَرِيمِ، فَلأََنْ يَحِل مَعَ جَحْدِهِ وَعَجْزِهِ عَنِ
الْوُصُول إِلَى حَقِّهِ إِلاَّ بِذَلِكَ أَوْلَى. (2)
د - وَلأَِنَّهُ صَالَحَ بَعْدَ دَعْوَى صَحِيحَةٍ، فَيُقْضَى
بِجَوَازِهِ؛ لأَِنَّ الْمُدَّعِيَ يَأْخُذُ عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ
الثَّابِتِ لَهُ فِي اعْتِقَادِهِ، وَهَذَا مَشْرُوعٌ، وَالْمُدَّعَى
عَلَيْهِ يُؤَدِّيهِ دَفْعًا لِلشَّرِّ وَقَطْعًا لِلْخُصُومَةِ
عَنْهُ، وَهَذَا مَشْرُوعٌ أَيْضًا، إِذِ الْمَال وِقَايَةُ
الأَْنْفُسِ، وَلَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فِي
مَوْضِعٍ. (3)
هـ - وَلأَِنَّ افْتِدَاءَ الْيَمِينِ جَائِزٌ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ
عُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُمَا بَذَلاَ مَالاً فِي دَفْعِ
الْيَمِينِ عَنْهُمَا. فَالْيَمِينُ الثَّابِتَةُ لِلْمُدَّعِي حَقٌّ
ثَابِتٌ لِسُقُوطِهِ تَأْثِيرٌ فِي إِسْقَاطِ الْمَال،
__________
(1) البدائع 6 / 40.
(2) المغني 4 / 528.
(3) الهداية مع العناية والكفاية (الميمنية) 7 / 379، قال ابن القيم:
إنه افتداء لنفسه من الدعوى واليمين وتكليف إقامة البينة، كما تفتدي
المرأة نفسها من الزوج بما تبذله له، وليس هذا بمخالف لقواعد الشرع، بل
حكمة الشرع وأصوله وقواعده ومصالح المكلفين تقتضي ذلك (أعلام الموقعين3
/ 370) .
(27/336)
فَجَازَ أَنْ يُؤْخَذَ عَنْهُ الْمَال
عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ، أَصْلُهُ الْقَوَدُ فِي دَمِ الْعَمْدِ. (1)
وَالثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى: وَهُوَ أَنَّ
الصُّلْحَ عَلَى الإِْنْكَارِ بَاطِلٌ.
(2) وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ:
أ - بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا لَوْ أَنْكَرَ الزَّوْجُ الْخُلْعَ، ثُمَّ
تَصَالَحَ مَعَ زَوْجَتِهِ عَلَى شَيْءٍ، فَلاَ يَصِحُّ ذَلِكَ.
ب - وَبِأَنَّ الْمُدَّعِيَ إِنْ كَانَ كَاذِبًا فَقَدِ اسْتَحَل مَال
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهُوَ حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَقَدْ
حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَالَهُ الْحَلاَل؛ لأَِنَّهُ يَسْتَحِقُّ
جَمِيعَ مَا يَدَّعِيهِ، فَدَخَل فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِلاَّ صُلْحًا أَحَل حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً. (3)
ج - وَبِأَنَّ الْمُدَّعِيَ اعْتَاضَ عَمَّا لاَ يَمْلِكُهُ، فَصَارَ
كَمَنْ بَاعَ مَال غَيْرِهِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَاوَضَ عَلَى
مِلْكِهِ، فَصَارَ كَمَنِ ابْتَاعَ مَال نَفْسِهِ مِنْ وَكِيلِهِ.
فَالصُّلْحُ عَلَى الإِْنْكَارِ
__________
(1) الإشراف للقاضي عبد الوهاب 2 / 17، وانظر محاسن الإسلام للزاهد
البخاري ص 87.
(2) الأم (بعناية محمد زهرى النجار) 3 / 221، المهذب 1 / 340، أسنى
المطالب وحاشية الرملي عليه 2 / 215، 216، نهاية المحتاج 4 / 375،
مختصر المزني ص 106، روضة الطالبين 4 / 198، المغني (ط. مكتبة الرياض
الحديثة) 4 / 527، بدائع الصنائع 6 / 40، كفاية الأخيار 1 / 167.
(3) بداية المجتهد (مطبوع مع الهداية في تخريج أحاديث البداية للغماري)
8 / 92، 94.
(27/337)
يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَمْلِكَ الْمُدَّعِي
مَا لاَ يَمْلِكُ، وَأَنْ يَمْلِكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَا يَمْلِكُ،
وَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْمُدَّعِي كَاذِبًا. فَإِنْ كَانَ صَادِقًا
انْعَكَسَ الْحَال.
د - وَلأَِنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ خَلاَ عَنِ الْعِوَضِ فِي أَحَدِ
جَانِبَيْهِ؛ فَبَطَل كَالصُّلْحِ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ.
التَّكْيِيفُ الْفِقْهِيُّ لِلصُّلْحِ عَلَى الإِْنْكَارِ:
17 - قَال ابْنُ رُشْدٍ فِي (بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ) :
وَأَمَّا الصُّلْحُ عَلَى الإِْنْكَارِ، فَالْمَشْهُورُ فِيهِ عَنْ
مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ: أَنَّهُ يُرَاعَى فِيهِ مِنَ الصِّحَّةِ مَا
يُرَاعَى فِي الْبُيُوعِ. ثُمَّ قَال: فَالصُّلْحُ الَّذِي يَقَعُ
فِيهِ مَا لاَ يَجُوزُ فِي الْبُيُوعِ هُوَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ عَلَى
ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: صُلْحٍ يُفْسَخُ بِاتِّفَاقٍ، وَصُلْحٍ يُفْسَخُ
بِاخْتِلاَفٍ، وَصُلْحٍ لاَ يُفْسَخُ بِاتِّفَاقٍ إِنْ طَال، وَإِنْ
لَمْ يَطُل فَفِيهِ اخْتِلاَفٌ. (1)
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بَيْنَ تَكْيِيفِهِ فِي
حَقِّ الْمُدَّعِي وَبَيْنَهُ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
وَقَالُوا:
يَكُونُ الصُّلْحُ عَلَى مَال الْمُصَالَحِ بِهِ مُعَاوَضَةً فِي حَقِّ
الْمُدَّعِي؛ لأَِنَّهُ يَعْتَقِدُهُ عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ؛
فَيَلْزَمُهُ حُكْمُ اعْتِقَادِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِنْ كَانَ مَا
أَخَذَهُ الْمُدَّعِي عِوَضًا عَنْ
__________
(1) بداية المجتهد (مطبوع مع الهداية في تخريج أحاديث البداية للغماري)
8 / 92 - 94.
(27/337)
دَعْوَاهُ شِقْصًا مَشْفُوعًا، فَإِنَّهَا
تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ لِشَرِيكِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ
أَخَذَهُ عِوَضًا، كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُ. (1)
وَيَكُونُ الصُّلْحُ عَلَى الإِْنْكَارِ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ خَلاَصًا مِنَ الْيَمِينِ وَقَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ؛ لأَِنَّ
الْمُدَّعِيَ فِي زَعْمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُنْكِرِ غَيْرُ
مُحِقٍّ وَمُبْطِلٌ فِي دَعْوَاهُ، وَأَنَّ إِعْطَاءَهُ الْعِوَضَ لَهُ
لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ بَل لِلْخَلاَصِ مِنَ الْيَمِينِ، إِذْ لَوْ لَمْ
يُصَالِحْهُ وَيُعْطِ الْعِوَضَ لَبَقِيَ النِّزَاعُ وَلَزِمَهُ
الْيَمِينُ. وَقَدْ عَبَّرَ الْحَنَابِلَةُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى
بِقَوْلِهِمْ: يَكُونُ صُلْحُ الإِْنْكَارِ إِبْرَاءً فِي حَقِّ
الْمُنْكِرِ؛ لأَِنَّهُ دَفَعَ إِلَيْهِ الْمَال افْتِدَاءً
لِيَمِينِهِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ لاَ عِوَضًا عَنْ حَقٍّ
يَعْتَقِدُهُ عَلَيْهِ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: لَوْ كَانَ مَا صَالَحَ بِهِ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 264، كشاف القناع 3 / 385، والمبدع 4 /
286، المغني 4 / 529، 530، مجمع الأنهر والدر المنتقى 2 / 308، 309،
والبحر الرائق 7 / 256، تبيين الحقائق 5 / 31 - 33 درر الحكام لعلي
حيدر 4 / 25 وما بعدها. * وقد جاء م (1550) من مجلة الأحكام العدلية:
الصلح على الإنكار أو السكوت هو في حق المدعي معاوضة، وفي حق المدعى
عليه خلاص من اليمين وقطع للمنازعة، فتجري الشفعة في العقار المصالح
عنه، ولو استحق كل المصالح عنه أو بعضه يرد المدعي للمدعى عليه هذا
المقدار م وانظر م 1037، من مرشد الحيران.
(27/338)
الْمُنْكِرُ شِقْصًا لَمْ تَثْبُتْ فِيهِ
الشُّفْعَةُ؛ لأَِنَّ الْمُدَّعِيَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ أَخَذَ مَالَهُ
أَوْ بَعْضَهُ مُسْتَرْجِعًا لَهُ مِمَّنْ هُوَ عِنْدَهُ، فَلَمْ
يَكُنْ مُعَاوَضَةً، بَل هُوَ كَاسْتِرْجَاعِ الْعَيْنِ
الْمَغْصُوبَةِ. (1)
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
الصُّلْحُ مَعَ سُكُوتِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:
18 - وَذَلِكَ كَمَا إِذَا ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ شَيْئًا،
فَسَكَتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ أَنْ يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ،
ثُمَّ صَالَحَ عَنْهُ.
وَقَدِ اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ - مَا عَدَا ابْنَ أَبِي لَيْلَى -
هَذَا الصُّلْحَ فِي حُكْمِ الصُّلْحِ عَنِ الإِْنْكَارِ؛ لأَِنَّ
السَّاكِتَ مُنْكِرٌ حُكْمًا. صَحِيحٌ أَنَّ السُّكُوتَ يُمْكِنُ أَنْ
يُحْمَل عَلَى الإِْقْرَارِ، وَعَلَى الإِْنْكَارِ، إِلاَّ أَنَّهُ
نَظَرًا لِكَوْنِ الأَْصْل بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ وَفَرَاغَهَا، فَقَدْ
تَرَجَّحَتْ جِهَةُ الإِْنْكَارِ. وَمِنْ هُنَا كَانَ اخْتِلاَفُهُمْ
فِي جَوَازِهِ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي جَوَازِ الصُّلْحِ عَنِ
الإِْنْكَارِ.
وَعَلَى هَذَا، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي الصُّلْحِ عَنِ السُّكُوتِ
قَوْلاَنِ: (2)
__________
(1) انظر المراجع السابقة.
(2) مجمع الأنهر والدر المنتقى 2 / 308، 309، تكملة فتح القدير مع
العناية والكفاية 7 / 379 وما بعدها، تحفة الفقهاء 3 / 418، والبدائع 6
/ 40، أسنى المطالب 2 / 215، نهاية المحتاج 4 / 375، المبدع 4 / 285،
والإفصاح لابن هبيرة 1 / 378، كفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي عليه
2 / 324، شرح منتهى الإرادات 2 / 263، كشاف القناع 3 / 385، والخرشي 6
/ 4، شرح المجلة للأتاسي 4 / 555 وما بعدها، درر الحكام لعلي حيدر 4 /
35، وانظر م (1535، 1550) من مجلة الأحكام العدلية وم (1037) من مرشد
الحيران. .
(27/338)
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ:
وَهُوَ جَوَازُ الصُّلْحِ عَلَى السُّكُوتِ، وَحُجَّتُهُمْ نَفْسُ
الأَْدِلَّةِ الَّتِي سَاقُوهَا عَلَى جَوَازِهِ عَنِ الإِْنْكَارِ.
وَقَدِ اشْتَرَطُوا فِيهِ نَفْسَ الشُّرُوطِ وَرَتَّبُوا ذَاتَ
الأَْحْكَامِ الَّتِي اعْتَبَرُوهَا فِي حَالَةِ الإِْنْكَارِ.
هَذَا وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى جَوَازِهِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - مَعَ
إِبْطَالِهِ الصُّلْحَ عَنِ الإِْنْكَارِ - حَيْثُ اعْتَبَرَهُ فِي
حُكْمِ الصُّلْحِ عَلَى الإِْقْرَارِ. (1)
وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ عَدَمُ جَوَازِ الصُّلْحِ عَلَى
السُّكُوتِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ وَذَلِكَ لأَِنَّ جَوَازَ الصُّلْحِ
يَسْتَدْعِي حَقًّا ثَابِتًا، وَلَمْ يُوجَدْ فِي مَوْضِعِ السُّكُوتِ؛
إِذِ السَّاكِتُ يُعَدُّ مُنْكِرًا حُكْمًا حَتَّى تُسْمَعَ عَلَيْهِ
الْبَيِّنَةُ، فَكَانَ إِنْكَارُهُ مُعَارِضًا لِدَعْوَى الْمُدَّعِي.
وَلَوْ بَذَل الْمَال لَبَذَلَهُ لِدَفْعِ خُصُومَةٍ بَاطِلَةٍ،
فَكَانَ فِي مَعْنَى الرِّشْوَةِ. (2)
الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالأَْجْنَبِيِّ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ
__________
(1) الدر المنتقى شرح الملتقى 2 / 308، وبدائع الصنائع 6 / 40.
(2) نهاية المحتاج 4 / 375، وأسنى المطالب 2 / 215.
(27/339)
بِالصُّلْحِ الْكَائِنِ بَيْنَ الْمُدَّعِي
وَالأَْجْنَبِيِّ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أَوَّلاً: مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:
19 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الصُّلْحَ إِذَا كَانَ بَيْنَ
الْمُدَّعِي وَالأَْجْنَبِيِّ، فَلاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ
بِإِذْنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
أ - فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ الصُّلْحُ، وَيَكُونُ
الأَْجْنَبِيُّ وَكِيلاً عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الصُّلْحِ،
وَيَجِبُ الْمَال الْمُصَالَحُ بِهِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ
الْوَكِيل، سَوَاءٌ أَكَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ أَمْ إِنْكَارٍ؛
لأَِنَّ الْوَكِيل فِي الصُّلْحِ لاَ تَرْجِعُ إِلَيْهِ حُقُوقُ
الْعَقْدِ. وَهَذَا إِذَا لَمْ يَضْمَنِ الأَْجْنَبِيُّ بَدَل
الصُّلْحِ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَأَمَّا إِذَا ضَمِنَ،
فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ لاَ
بِحُكْمِ الْعَقْدِ. (1)
ب - وَأَمَّا إِذَا كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَهَذَا صُلْحُ
الْفُضُولِيِّ، وَلَهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُضِيفَ الْفُضُولِيُّ الصُّلْحَ إِلَى نَفْسِهِ،
كَأَنْ يَقُول لِلْمُدَّعِي: صَالِحْنِي عَنْ دَعْوَاكَ مَعَ فُلاَنٍ
بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَيُصَالِحَهُ ذَلِكَ الشَّخْصُ. فَهَذَا الصُّلْحُ
صَحِيحٌ، وَيَلْزَمُ بَدَل الصُّلْحِ الْفُضُولِيُّ، وَلَوْ لَمْ
يَضْمَنْ أَوْ يُضِفِ الصُّلْحَ إِلَى مَالِهِ أَوْ ذِمَّتِهِ؛ لأَِنَّ
إِضَافَةَ الْفُضُولِيِّ الصُّلْحَ إِلَى نَفْسِهِ تَنْفُذُ فِي
__________
(1) تحفة الفقهاء 3 / 432، البحر الرائق 7 / 259.
(27/339)
حَقِّهِ، وَيَكُونُ قَدِ الْتَزَمَ بَدَل
الصُّلْحِ مُقَابِل إِسْقَاطِ الْيَمِينِ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ،
وَلَيْسَ لِلْفُضُولِيِّ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
بِبَدَل الصُّلْحِ الَّذِي أَدَّاهُ، طَالَمَا أَنَّ الصُّلْحَ لَمْ
يَكُنْ بِأَمْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. قَال السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي
(التُّحْفَةِ) : وَإِنَّمَا كَانَ هَكَذَا، لأَِنَّ التَّبَرُّعَ
بِإِسْقَاطِ الدَّيْنِ، بِأَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ
إِذْنِهِ صَحِيحٌ، وَالتَّبَرُّعُ بِإِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ عَنْ
غَيْرِهِ صَحِيحٌ، وَالصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ إِسْقَاطٌ لِلدَّيْنِ،
وَالصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ إِسْقَاطٌ لِلْخُصُومَةِ، فَيَجُوزُ
كَيْفَمَا كَانَ. (1)
وَالثَّانِي: أَنْ يُضِيفَ الْفُضُولِيُّ الصُّلْحَ إِلَى الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ، بِأَنْ يَقُول لِلْمُدَّعِي: تَصَالَحْ مَعَ فُلاَنٍ عَنْ
دَعْوَاكَ. وَلِهَذَا الْوَجْهِ خَمْسُ صُوَرٍ: فِي أَرْبَعٍ مِنْهَا
يَكُونُ الصُّلْحُ لاَزِمًا، وَفِي الْخَامِسَةِ مِنْهَا يَكُونُ
مَوْقُوفًا.
وَوَجْهُ الْحَصْرِ فِي هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ الْفُضُولِيَّ إِمَّا
أَنْ يَضْمَنَ بَدَل الصُّلْحِ أَوْ لاَ يَضْمَنَ، وَإِذَا لَمْ
يَضْمَنْ، فَإِمَّا أَنْ يُضِيفَ الصُّلْحَ إِلَى مَالِهِ أَوْ لاَ
يُضِيفَهُ. وَإِذَا لَمْ يُضِفْهُ، فَإِمَّا أَنْ يُشِيرَ إِلَى نَقْدٍ
أَوْ عَرَضٍ أَوْ لاَ يُشِيرَ. وَإِذَا لَمْ يُشِرْ، فَإِمَّا أَنْ
يُسَلِّمَ الْعِوَضَ أَوْ لاَ يُسَلِّمَ. فَالصُّوَرُ خَمْسٌ هِيَ:
الصُّورَةُ الأُْولَى: أَنْ يَضْمَنَ الْفُضُولِيُّ
__________
(1) تحفة الفقهاء 3 / 433.
(27/340)
بَدَل الصُّلْحِ، كَمَا إِذَا قَال
الْفُضُولِيُّ لِلْمُدَّعِي: صَالِحْ فُلاَنًا عَنْ دَعْوَاكَ مَعَهُ
بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَنَا ضَامِنٌ لَكَ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ وَقَبِل
الْمُدَّعِي تَمَّ الصُّلْحُ وَصَحَّ؛ لأَِنَّهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ
لَمْ يَحْصُل لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ سِوَى الْبَرَاءَةِ، فَكَمَا أَنَّ
لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَحْصُل عَلَى بَرَاءَتِهِ بِنَفْسِهِ،
فَلِلأَْجْنَبِيِّ - أَيْضًا - أَنْ يَحْصُل عَلَى بَرَاءَةِ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمِ
الْفُضُولِيَّ بَدَل الصُّلْحِ بِسَبَبِ عَقْدِهِ الصُّلْحَ - مِنْ
حَيْثُ كَوْنُهُ سَفِيرًا - إِلاَّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ
بِسَبَبِ ضَمَانِهِ.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لاَ يَضْمَنَ الْفُضُولِيُّ بَدَل
الصُّلْحِ إِلاَّ أَنَّهُ يُضِيفُهُ إِلَى مَالِهِ، كَأَنْ يَقُول
الْفُضُولِيُّ: قَدْ صَالَحْتُ عَلَى مَالِي الْفُلاَنِيِّ، أَوْ عَلَى
فَرَسِي هَذِهِ، أَوْ عَلَى دَرَاهِمِي هَذِهِ الأَْلْفِ فَيَصِحُّ
الصُّلْحُ؛ لأَِنَّ الْمُصَالِحَ الْفُضُولِيَّ بِإِضَافَةِ الصُّلْحِ
إِلَى مَالِهِ يَكُونُ قَدِ الْتَزَمَ تَسْلِيمَهُ، وَلَمَّا كَانَ
مُقْتَدِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَل صَحَّ الصُّلْحُ وَلَزِمَ
الْفُضُولِيَّ تَسْلِيمُ الْبَدَل.
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُشِيرَ إِلَى الْعُرُوضِ أَوِ
النُّقُودِ الْمَوْجُودَةِ بِقَوْلِهِ: عَلَيَّ هَذَا الْمَبْلَغُ،
أَوْ هَذِهِ السَّاعَةُ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ؛ لأَِنَّ بَدَل الصُّلْحِ
الْمُشَارِ إِلَيْهِ قَدْ تَعَيَّنَ تَسْلِيمُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ
مِنْ مَالِهِ وَبِذَلِكَ تَمَّ الصُّلْحُ.
(27/340)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَةِ
الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ: هُوَ أَنَّ الْفُضُولِيَّ فِي
الثَّانِيَةِ قَدْ أَضَافَ الصُّلْحَ إِلَى مَالِهِ الَّذِي نَسَبَهُ
إِلَى نَفْسِهِ، أَمَّا فِي الثَّالِثَةِ فَبَدَل الصُّلْحِ مَعَ
كَوْنِهِ مَالَهُ إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى نَفْسِهِ
عِنْدَ الْعَقْدِ.
الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا أَطْلَقَ بِقَوْلِهِ: صَالَحْتُ عَلَى
كَذَا، وَلَمْ يَكُنْ ضَامِنًا وَلاَ مُضِيفًا إِلَى مَالِهِ وَلاَ
مُشِيرًا إِلَى شَيْءٍ، وَسَلَّمَ الْمَبْلَغَ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ؛
لأَِنَّ تَسْلِيمَ بَدَل الصُّلْحِ يُوجِبُ بَقَاءَ الْبَدَل
الْمَذْكُورِ سَالِمًا لِلْمُدَّعِي، وَيَسْتَلْزِمُ حُصُول
الْمَقْصُودِ بِتَمَامِ الْعَقْدِ، فَصَارَ فَوْقَ الضَّمَانِ
وَالإِْضَافَةِ إِلَى نَفْسِهِ.
وَعَلَى ذَلِكَ: إِذَا حَصَل لِلْمُدَّعِي عِوَضٌ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ
وَتَمَّ رِضَاؤُهُ بِهِ بَرِئَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلاَ شَيْءَ
لِلْفُضُولِيِّ الْمُصَالِحِ مِنَ الْمُصَالَحِ عَنْهُ.
وَيُسْتَفَادُ مِنْ حَصْرِ لُزُومِ التَّسْلِيمِ فِي الصُّورَةِ
الرَّابِعَةِ أَنَّ تَسْلِيمَ بَدَل الصُّلْحِ فِي الصُّورَتَيْنِ
الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصُّلْحِ،
فَيَصِحُّ فِيهِمَا وَلَوْ لَمْ يَحْصُل التَّسْلِيمُ، وَيُجْبَرُ
الْفُضُولِيُّ عَلَى التَّسْلِيمِ.
هَذَا وَحَيْثُ صَحَّ الصُّلْحُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الأَْرْبَعِ،
فَإِنَّ الْفُضُولِيَّ الْمُصَالِحَ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِالْبَدَل؛
لأَِنَّهُ أَجْرَى هَذَا الْعَقْدَ بِلاَ أَمْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
(27/341)
الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يُطْلِقَ
الْفُضُولِيُّ بِقَوْلِهِ لِلْمُدَّعِي: أُصَالِحُكَ عَنْ دَعْوَاكَ
هَذِهِ مَعَ فُلاَنٍ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلاَ يَكُونُ ضَامِنًا،
وَلاَ مُضِيفًا إِلَى مَالِهِ وَلاَ مُشِيرًا إِلَى شَيْءٍ، ثُمَّ لاَ
يُسَلِّمُ بَدَل الصُّلْحِ، فَصُلْحُهُ هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى
إِجَازَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْمُصَالِحَ هَاهُنَا -
وَهُوَ الْفُضُولِيُّ - لاَ وِلاَيَةَ لَهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلاَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِ،
فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَتِهِ.
وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِنْ أَجَازَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ صُلْحَهُ صَحَّ؛
لأَِنَّ إِجَازَتَهُ اللاَّحِقَةَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ
التَّوْكِيل، وَيَلْزَمُ بَدَل الصُّلْحِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ
الْمُصَالِحِ؛ لأَِنَّهُ الْتَزَمَ هَذَا الْبَدَل بِاخْتِيَارِهِ،
وَيَخْرُجُ الأَْجْنَبِيُّ الْفُضُولِيُّ مِنْ بَيْنَهُمَا، وَلاَ
يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَإِنْ لَمْ يُجِزِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الصُّلْحَ
فَإِنَّهُ يَبْطُل؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجِبُ الْمَال عَلَيْهِ
وَالْمُدَّعَى بِهِ لاَ يَسْقُطُ.
وَلاَ فَرْقَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ مُقِرًّا أَوْ مُنْكِرًا، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَدَل
الصُّلْحِ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا؛ لأَِنَّ الْمُصَالِحَ الْفُضُولِيَّ
لَمْ يُضِفْ بَدَل الصُّلْحِ لِنَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، كَمَا أَنَّهُ
لَمْ يَضْمَنْهُ؛ فَلاَ يَلْزَمُهُ الْبَدَل الْمَذْكُورُ (1)
__________
(1) انظر تحفة الفقهاء 3 / 434، البحر الرائق 7 / 259 مجمع الأنهر 2 /
314، تبيين الحقائق 5 / 40، رد المحتار (بولاق 1272 هـ) 4 / 477،
الفتاوى الخانية 3 / 83، وما بعدها، وانظر م (1544) من مجلة الأحكام
العدلية، ودرر الحكام لعلي حيدر 4 / 19 - 22، شرح المجلة للأتاسي 4 /
543، بدائع الصنائع 6 / 52، الفتاوى البزازية 6 / 30.
(27/341)
ثَانِيًا: مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:
20 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ
يُصَالِحَ عَنْ غَيْرِهِ بِوَكَالَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَكَالَةٍ،
وَذَلِكَ مِثْل أَنْ يُصَالِحَ رَجُلٌ عَلَى دَيْنٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ،
وَيَلْزَمُ الْمُصَالِحَ مَا صَالَحَ بِهِ. جَاءَ فِي (الْمُدَوَّنَةِ)
فِي بَابِ الصُّلْحِ: وَمَنْ قَال لِرَجُلٍ: هَلُمَّ أُصَالِحُكَ مِنْ
دَيْنِكَ الَّذِي عَلَى فُلاَنٍ بِكَذَا، فَفَعَل، أَوْ أَتَى رَجُلٌ
رَجُلاً فَصَالَحَهُ عَنِ امْرَأَتِهِ بِشَيْءٍ مُسَمًّى لَزِمَ
الزَّوْجَ الصُّلْحُ، وَلَزِمَ الْمُصَالِحَ مَا صَالَحَ بِهِ وَإِنْ
لَمْ يَقُل: أَنَا ضَامِنٌ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا قَضَى عَنِ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ مِمَّا يَحِقُّ عَلَيْهِ. (1)
ثَالِثًا: مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ:
21 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلصُّلْحِ الْجَارِي بَيْنَ
الْمُدَّعِي وَالأَْجْنَبِيِّ حَالَتَيْنِ:
(2) الأُْولَى: مَعَ إِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:
وَفِي هَذِهِ الْحَال فَرَّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى
عَيْنًا أَوْ دَيْنًا.
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب 5 / 81، المدونة 4 / 380.
(2) نهاية المحتاج 4 / 377، 378، أسنى المطالب 2 / 217، روضة الطالبين
4 / 199، 200، المهذب 1 / 340.
(27/342)
أ - فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا،
وَقَال الأَْجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: إِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
وَكَّلَنِي فِي مُصَالَحَتِكَ لَهُ عَنْ بَعْضِ الْعَيْنِ
الْمُدَّعَاةِ، أَوْ عَنْ كُلِّهَا بِعَيْنٍ مِنْ مَال الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ، أَوْ بِعَشَرَةٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَتَصَالَحَا عَلَيْهِ،
صَحَّ الصُّلْحُ؛ لأَِنَّ دَعْوَى الإِْنْسَانِ الْوَكَالَةَ فِي
الْمُعَامَلاَتِ مَقْبُولَةٌ. ثُمَّ يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ
الأَْجْنَبِيُّ صَادِقًا فِي الْوَكَالَةِ، صَارَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ
مِلْكًا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَإِلاَّ كَانَ فُضُولِيًّا وَلَمْ
يَصِحَّ صُلْحُهُ، لِعَدَمِ الإِْذْنِ فِيهِ، كَشِرَاءِ الْفُضُولِيِّ.
وَلَوْ صَالَحَهُ الْوَكِيل عَلَى عَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْوَكِيل، أَوْ
عَلَى دَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ صَحَّ الْعَقْدُ، وَيَكُونُ كَشِرَائِهِ
لِغَيْرِهِ بِإِذْنِهِ بِمَال نَفْسِهِ، وَيَقَعُ لِلآْذِنِ،
فَيَرْجِعُ الْمَأْذُونُ عَلَيْهِ بِالْمِثْل إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا،
وَبِالْقِيمَةِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا؛ لأَِنَّ الْمَدْفُوعَ قَرْضٌ
لاَ هِبَةٌ.
أَمَّا لَوْ صَالَحَ عَنِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ لِنَفْسِهِ بِعَيْنٍ
مِنْ مَالِهِ أَوْ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ
لِلأَْجْنَبِيِّ، وَكَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِلَفْظِ الشِّرَاءِ، وَلَوْ
لَمْ يَجْرِ مَعَ الأَْجْنَبِيِّ خُصُومُهُ؛ لأَِنَّ الصُّلْحَ
تَرَتَّبَ عَلَى دَعْوَى وَجَوَابٍ.
ب - وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا، فَيُنْظَرُ: فَإِنْ صَالَحَهُ
عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَال الأَْجْنَبِيُّ
لِلْمُدَّعِي: صَالِحْنِي عَلَى الأَْلْفِ
(27/342)
الَّذِي لَكَ عَلَى فُلاَنٍ
بِخَمْسِمِائَةٍ صَحَّ الصُّلْحُ؛ لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ قَدْ وَكَّلَهُ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَقَدْ قَضَى دَيْنَهُ بِإِذْنِهِ،
وَإِنْ لَمْ يُوَكِّلْهُ فَقَدْ قَضَى دَيْنَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ
وَذَلِكَ جَائِزٌ. وَمِثْل ذَلِكَ مَا لَوْ قَال لَهُ الأَْجْنَبِيُّ:
وَكَّلَنِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُصَالَحَتِكَ عَلَى نِصْفِهِ، أَوْ
عَلَى ثَوْبِهِ هَذَا، فَصَالَحَهُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَإِنْ
صَالَحَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَقَال: صَالِحْنِي عَنْ هَذَا الدَّيْنِ
لِيَكُونَ لِي فِي ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ -
بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ
عَلَيْهِ.
أَحَدُهُمَا: لاَ يَصِحُّ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِ مَا
فِي ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: يَصِحُّ كَمَا لَوِ اشْتَرَى وَدِيعَةً فِي يَدِ
غَيْرِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: مَعَ إِنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:
وَفِي هَذِهِ الْحَال - أَيْضًا - فَرَّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ
الْمُدَّعَى عَيْنًا أَوْ دَيْنًا.
أ - فَإِنْ كَانَ عَيْنًا، وَصَالَحَهُ الأَْجْنَبِيُّ عَنِ
الْمُنْكِرِ ظَاهِرًا بِقَوْلِهِ: أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
عِنْدِي وَوَكَّلَنِي فِي مُصَالَحَتِكَ لَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ
يُظْهِرُ إِقْرَارَهُ لِئَلاَّ تَنْتَزِعَهُ مِنْهُ، فَصَالَحَهُ صَحَّ
ذَلِكَ؛ لأَِنَّ دَعْوَى الإِْنْسَانِ الْوَكَالَةَ فِي
الْمُعَامَلاَتِ مَقْبُولَةٌ. (1) قَال الشِّيرَازِيُّ: لأَِنَّ
الاِعْتِبَارَ
__________
(1) ومحله - كما قال الإمام الغزالي - إذا لم يعد المدعى عليه الإنكار
بعد دعوى الوكالة، فلو أعاده كان عزلا، فلا يصح الصلح عنه. (أسنى
المطالب 2 / 217 ونهاية المحتاج 4 / 377) .
(27/343)
بِالْمُتَعَاقِدِينَ، وَقَدِ اتَّفَقَا
عَلَى مَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ فَجَازَ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِيهِ:
فَإِنْ كَانَ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي الصُّلْحِ مَلَكَ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ الْعَيْنَ؛ لأَِنَّهُ ابْتَاعَهُ لَهُ وَكِيلُهُ، وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ أَذِنَ لَهُ فِي الصُّلْحِ لَمْ يَمْلِكِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
الْعَيْنَ؛ لأَِنَّهُ ابْتَاعَ لَهُ عَيْنًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَلَمْ
يَمْلِكْهُ. (1)
وَلَوْ قَال الأَْجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: هُوَ مُنْكِرٌ، غَيْرَ
أَنَّهُ مُبْطِلٌ، فَصَالِحْنِي لَهُ عَلَى دَارِي هَذِهِ لِتَنْقَطِعَ
الْخُصُومَةُ بَيْنَكُمَا فَلاَ يَصِحُّ عَلَى الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّهُ
صُلْحُ إِنْكَارٍ. (2)
وَإِنْ صَالَحَ لِنَفْسِهِ فَقَال: هُوَ مُبْطِلٌ فِي إِنْكَارِهِ؛
لأَِنَّكَ صَادِقٌ عِنْدِي، فَصَالِحْنِي لِنَفْسِي بِدَارِي هَذِهِ
أَوْ بِعَشَرَةٍ فِي ذِمَّتِي فَهُوَ كَشِرَاءِ الْمَغْصُوبِ،
فَيُفَرَّقُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى انْتِزَاعِهِ
فَيَصِحُّ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنِ انْتِزَاعِهِ فَلاَ
يَصِحُّ.
(3) ب - وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا: وَقَال الأَْجْنَبِيُّ:
أَنْكَرَ الْخَصْمُ وَهُوَ مُبْطِلٌ، فَصَالِحْنِي لَهُ بِدَابَّتِي
هَذِهِ لِتَنْقَطِعَ الْخُصُومَةُ بَيْنَكُمَا، فَقَبِل صَحَّ
الصُّلْحُ، إِذْ لاَ يَتَعَذَّرُ قَضَاءُ دَيْنِ الْغَيْرِ بِدُونِ
إِذْنِهِ، بِخِلاَفِ تَمْلِيكِ
__________
(1) المهذب 1 / 340.
(2) والوجه الثاني: يصح؛ لأن الاعتبار في شروط العقد بمن يباشر، وهما
متفقان. (روضة الطالبين 4 / 201) .
(3) نهاية المحتاج 4 / 378.
(27/343)
الْغَيْرِ عَيْنَ مَالِهِ بِغَيْرِ
إِذْنِهِ فَإِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ.
وَإِنْ صَالَحَهُ عَنِ الدَّيْنِ لِنَفْسِهِ فَقَال: هُوَ مُنْكِرٌ،
وَلَكِنَّهُ مُبْطِلٌ، فَصَالِحْنِي لِنَفْسِي بِدَابَّتِي هَذِهِ أَوْ
بِعَشَرَةٍ فِي ذِمَّتِي لآِخُذَهُ مِنْهُ فَلاَ يَصِحُّ؛ لأَِنَّهُ
ابْتِيَاعُ دَيْنٍ فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ. (1)
رَابِعًا: مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ:
22 - تَكَلَّمَ الْحَنَابِلَةُ عَنْ صُلْحِ الأَْجْنَبِيِّ مَعَ
الْمُدَّعِي فِي حَالَةِ الإِْنْكَارِ فَقَطْ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا
لِصُلْحِهِ فِي حَالَةِ الإِْقْرَارِ، وَقَالُوا:
أ - إِنَّ صُلْحَ الأَْجْنَبِيِّ عَنِ الْمُنْكِرِ، إِمَّا أَنْ
يَكُونَ عَنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ:
فَإِنْ صَالَحَ عَنْ مُنْكِرٍ لِعَيْنٍ بِإِذْنِهِ، أَوْ بِدُونِ
إِذْنِهِ صَحَّ الصُّلْحُ، سَوَاءٌ اعْتَرَفَ الأَْجْنَبِيُّ
لِلْمُدَّعِي بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ عَلَى الْمُنْكِرِ، أَوْ لَمْ
يَعْتَرِفْ لَهُ بِصِحَّتِهَا، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرِ الأَْجْنَبِيُّ
أَنَّ الْمُنْكِرَ وَكَّلَهُ فِي الصُّلْحِ عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ
افْتِدَاءٌ لِلْمُنْكِرِ مِنَ الْخُصُومَةِ وَإِبْرَاءٌ لَهُ مِنَ
الدَّعْوَى، وَلاَ يَرْجِعُ الأَْجْنَبِيُّ بِشَيْءٍ مِمَّا صَالَحَ
بِهِ عَلَى الْمُنْكِرِ إِنْ دَفَعَ بِدُونِ إِذْنِهِ؛ لأَِنَّهُ
أَدَّى عَنْهُ مَا لاَ يَلْزَمُهُ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا، كَمَا لَوْ
تَصَدَّقَ عَنْهُ. أَمَّا إِذَا صَالَحَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ فَهُوَ
وَكِيلُهُ، وَالتَّوْكِيل فِي ذَلِكَ جَائِزٌ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ
بِمَا دَفَعَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ إِنْ نَوَى الرُّجُوعَ عَلَيْهِ بِمَا
دَفَعَ عَنْهُ.
__________
(1) الروضة 4 / 201، أسنى المطالب 2 / 217.
(27/344)
وَإِنْ صَالَحَ عَنْ مُنْكِرٍ لِدَيْنٍ
بِإِذْنِهِ أَوْ بِدُونِ إِذْنِهِ، صَحَّ الصُّلْحُ، سَوَاءٌ اعْتَرَفَ
الأَْجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي لِصِحَّةِ دَعْوَاهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ،
أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ؛ لأَِنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ عَنْ غَيْرِهِ
جَائِزٌ بِإِذْنِهِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنَّ عَلِيًّا وَأَبَا
قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَضَيَا الدَّيْنَ عَنِ
الْمَيِّتِ، وَأَقَرَّهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (1) ، وَلَوْ لَمْ يَقُل الأَْجْنَبِيُّ إِنَّ الْمُنْكِرَ
وَكَّلَهُ فِي الصُّلْحِ عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ افْتِدَاءٌ لِلْمُنْكِرِ
مِنَ الْخُصُومَةِ، وَإِبْرَاءٌ لَهُ مِنَ الدَّعْوَى، وَلاَ يَرْجِعُ
الأَْجْنَبِيُّ عَلَى الْمُنْكِرِ بِشَيْءٍ مِمَّا صَالَحَ بِهِ إِنْ
دَفَعَ بِدُونِ إِذْنِهِ؛ لأَِنَّهُ أَدَّى عَنْهُ مَا لاَ يَلْزَمُهُ
فَكَانَ مُتَبَرِّعًا، كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ عَنْهُ. فَإِنْ أَذِنَ
الْمُنْكِرُ لِلأَْجْنَبِيِّ فِي الصُّلْحِ، أَوِ الأَْدَاءِ عَنْهُ
رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا ادَّعَى عَنْهُ إِنْ نَوَى الرُّجُوعَ بِمَا
دَفَعَ عَنْهُ.
(2) ب - وَإِنْ صَالَحَ الأَْجْنَبِيُّ الْمُدَّعِيَ لِنَفْسِهِ،
لِتَكُونَ الْمُطَالَبَةُ لَهُ فَلاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ
لِلْمُدَّعِي بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ، أَوْ لاَ يَعْتَرِفَ لَهُ:
__________
(1) حديث: " أن عليا وأبا قتادة قضيا الدين عن الميت ". - الذي ورد عن
أبي قتادة - أخرجه البخاري من حديث سلمة بن الأكوع (الفتح 4 / 467 - ط.
دار المحاسن) .
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 264، كشاف القناع 3 / 386، المغني لابن
قدامة (ط. مكتبة الرياض الحديثة) 4 / 531، المبدع 4 / 287.
(27/344)
فَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ لَهُ كَانَ
الصُّلْحُ بَاطِلاً؛ لأَِنَّهُ اشْتَرَى مِنَ الْمُدَّعِي مَا لَمْ
يَثْبُتْ لَهُ، وَلَمْ تَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ خُصُومَةٌ يَفْتَدِي
مِنْهَا، أَشْبَهَ مَا لَوِ اشْتَرَى مِنْهُ مِلْكَ غَيْرِهِ.
وَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُ بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ وَصَالَحَ الْمُدَّعِي،
وَالْمُدَّعَى بِهِ دَيْنٌ لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ اشْتَرَى مَا لاَ
يَقْدِرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِهِ؛ وَلأَِنَّهُ بَيْعٌ لِلدَّيْنِ
مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ. وَإِذَا كَانَ بَيْعُ الدَّيْنِ
الْمُقَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ لاَ يَصِحُّ؛
فَبَيْعُ دَيْنٍ فِي ذِمَّةِ مُنْكِرٍ مَعْجُوزٍ عَنْ قَبْضِهِ مِنْهُ
أَوْلَى.
وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ عَيْنًا، وَعَلِمَ الأَْجْنَبِيُّ
عَجْزَهُ عَنِ اسْتِنْقَاذِهَا مِنْ مُدَّعًى عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ
الصُّلْحُ؛ لأَِنَّهُ اشْتَرَى مَا لاَ يَقْدِرُ الْبَائِعُ عَلَى
تَسْلِيمِهِ كَشِرَاءِ الشَّارِدِ. وَإِنْ ظَنَّ الأَْجْنَبِيُّ
الْقُدْرَةَ عَلَى اسْتِنْقَاذِهَا صَحَّ؛ لأَِنَّهُ اشْتَرَى مِنْ
مَالِكٍ مِلْكَهُ الْقَادِرَ عَلَى أَخْذِهِ مِنْهُ فِي اعْتِقَادِهِ،
أَوْ ظَنَّ عَدَمَ الْمَقْدِرَةِ ثُمَّ تَبَيَّنَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى
اسْتِنْقَاذِهَا صَحَّ الصُّلْحُ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ تَنَاوَل مَا
يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ فَلَمْ يُؤَثِّرْ ظَنُّ عَدَمِهِ.
ثُمَّ إِنْ عَجَزَ الأَْجْنَبِيُّ بَعْدَ الصُّلْحِ ظَانًّا
الْقُدْرَةَ عَلَى اسْتِنْقَاذِهَا خُيِّرَ الأَْجْنَبِيُّ بَيْنَ
فَسْخِ الصُّلْحِ - وَلأَِنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ الْمَعْقُودَ
عَلَيْهِ؛ فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ إِلَى بَدَلِهِ - وَبَيْنَ
إِمْضَاءِ الصُّلْحِ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُ كَخِيَارِ الْعَيْبِ.
وَإِنْ قَدَرَ عَلَى
(27/345)
انْتِزَاعِهِ اسْتَقَرَّ الصُّلْحُ. (1)
ج - وَإِنْ قَال الأَْجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: أَنَا وَكِيل
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي مُصَالَحَتِكَ عَنِ الْعَيْنِ، وَهُوَ
مُقِرٌّ لَكَ بِهَا فِي الْبَاطِنِ، وَإِنَّمَا يَجْحَدُكَ فِي
الظَّاهِرِ فَظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ: لاَ يَصِحُّ الصُّلْحُ؛
لأَِنَّهُ يَجْحَدُهَا فِي الظَّاهِرِ لِيَنْتَقِصَ الْمُدَّعِي بَعْضَ
حَقِّهِ، أَوْ يَشْتَرِيَهُ بِأَقَل مِنْ ثَمَنِهِ؛ فَهُوَ هَاضِمٌ
لِلْحَقِّ يَتَوَصَّل إِلَى أَخْذِ الْمُصَالَحِ عَنْهُ بِالظُّلْمِ
وَالْعُدْوَانِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَافَهَهُ بِذَلِكَ
فَقَال: أَنَا أَعْلَمُ صِحَّةَ دَعْوَاكَ، وَأَنَّ هَذَا لَكَ،
وَلَكِنْ لاَ أُسَلِّمُهُ إِلَيْكَ وَلاَ أُقِرُّ لَكَ بِهِ عِنْدَ
الْحَاكِمِ حَتَّى تُصَالِحَنِي مِنْهُ عَلَى بَعْضِهِ أَوْ عِوَضٍ
عَنْهُ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَقَال الْقَاضِي: يَصِحُّ. ثُمَّ
يَنْظُرُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ
مَلَكَ الْعَيْنَ، وَلَزِمَهُ مَا أَدَّى عَنْهُ وَرَجَعَ
الأَْجْنَبِيُّ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ إِنْ كَانَ أَذِنَ لَهُ
فِي الدَّفْعِ. وَإِنْ أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الإِْذْنَ فِي
الدَّفْعِ فَالْقَوْل قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ كَمَنْ
أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ دَيْنًا بِلاَ إِذْنِهِ. وَإِنْ أَنْكَرَ
الْوَكَالَةَ فَالْقَوْل قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَلاَ رُجُوعَ
لِلأَْجْنَبِيِّ عَلَيْهِ وَلاَ يَحْكُمُ لَهُ بِمِلْكِهَا؛ ثُمَّ إِنْ
كَانَ الأَْجْنَبِيُّ قَدْ وَكَّل فِي الشِّرَاءِ، فَقَدْ مَلَكَهَا
__________
(1) المبدع 4 / 287، وما بعدها، كشاف القناع 3 / 386، شرح منتهى
الإرادات 2 / 265، المغني 4 / 532.
(27/345)
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَاطِنًا؛ لأَِنَّهُ
اشْتَرَاهَا بِإِذْنِهِ فَلاَ يَقْدَحُ إِنْكَارُهُ فِي مِلْكِهَا؛
لأَِنَّ مِلْكَهُ ثَبَتَ قَبْل إِنْكَارِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ ظَالِمٌ
بِالإِْنْكَارِ لِلأَْجْنَبِيِّ، وَإِنْ لَمْ يُوَكِّلْهُ لَمْ
يَمْلِكْهَا؛ لأَِنَّهُ اشْتَرَى لَهُ عَيْنًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
وَلَوْ قَال الأَْجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: قَدْ عَرَفَ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ صِحَّةَ دَعْوَاكَ، وَيَسْأَلُكَ الصُّلْحَ عَنْهُ،
وَكَّلَنِي فِيهِ فَصَالَحَهُ صَحَّ؛ لأَِنَّهُ هَاهُنَا لَمْ
يَمْتَنِعْ مِنْ أَدَائِهِ، بَل اعْتَرَفَ بِهِ وَصَالَحَهُ عَلَيْهِ
مَعَ بَذْلِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَجْحَدْهُ. (1)
أَرْكَانُ الصُّلْحِ:
23 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلصُّلْحِ رُكْنًا وَاحِدًا:
وَهُوَ الصِّيغَةُ الْمُؤَلَّفَةُ مِنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول
الدَّالَّةُ عَلَى التَّرَاضِي. وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ - مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ - حَيْثُ عَدُّوا أَرْكَانَ الصُّلْحِ ثَلاَثَةً:
1 - الصِّيغَةُ.
2 - وَالْعَاقِدَانِ.
3 - وَالْمَحَل. (وَهُوَ الْمُصَالَحُ بِهِ وَالْمُصَالَحُ عَنْهُ) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (عَقْد) .
شُرُوطُ الصُّلْحِ:
24 - لِلصُّلْحِ شُرُوطٌ يَلْزَمُ تَحَقُّقُهَا لِوُجُودِهِ،
__________
(1) المغني 4 / 532، وما بعدها، المبدع 4 / 288، شرح منتهى الإرادات 2
/ 265، كشاف القناع 3 / 387.
(27/346)
وَهِيَ خَارِجَةٌ عَنْ مَاهِيَّتِهِ،
مِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الصِّيغَةِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى
الْعَاقِدَيْنِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُصَالَحِ عَنْهُ،
وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى
الْمُصَالَحِ عَلَيْهِ، وَهُوَ بَدَل الصُّلْحِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصِّيغَةِ:
25 - الْمُرَادُ بِالصِّيغَةِ: الإِْيجَابُ وَالْقَبُول الدَّالَّيْنِ
عَلَى التَّرَاضِي. مِثْل أَنْ يَقُول الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:
صَالَحْتُكَ مِنْ كَذَا عَلَى كَذَا، أَوْ مِنْ دَعْوَاكَ كَذَا عَلَى
كَذَا، وَيَقُول الآْخَرُ: قَبِلْتُ، أَوْ رَضِيتُ أَوْ مَا يَدُل
عَلَى قَبُولِهِ وَرِضَاهُ. فَإِذَا وُجِدَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول
فَقَدْ تَمَّ الصُّلْحُ. (1)
هَذَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي بَابِ الصُّلْحِ لِبَيَانِ
الشُّرُوطِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِصِيغَتِهِ؛ نَظَرًا لاِعْتِبَارِهِمْ
عَقْدَ الصُّلْحِ غَيْرَ قَائِمٍ بِذَاتِهِ، بَل تَابِعًا لأَِقْرَبِ
الْعُقُودِ بِهِ فِي الشَّرَائِطِ وَالأَْحْكَامِ، بِحَيْثُ يُعَدُّ
بَيْعًا إِذَا كَانَ مُبَادَلَةَ مَالٍ بِمَالٍ، وَهِبَةً إِذَا كَانَ
عَلَى بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ، وَإِبْرَاءً إِذَا كَانَ عَلَى
بَعْضِ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى، اكْتِفَاءً مِنْهُمْ بِذِكْرِ مَا
يَتَعَلَّقُ بِالصِّيغَةِ مِنْ شُرُوطٍ وَأَحْكَامٍ فِي
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 40.
(27/346)
تِلْكَ الْعُقُودِ الَّتِي يَلْحَقُ بِهَا
الصُّلْحُ، بِحَسَبِ مَحَلِّهِ وَمَا تَصَالَحَا عَلَيْهِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَقَدْ تَكَلَّمُوا عَلَى صِيغَةِ الصُّلْحِ
بِصُورَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ فِي بَابِهِ، وَأَتَوْا عَلَى ذِكْرِ بَعْضِ
شُرُوطِهَا وَأَحْكَامِهَا، وَسَكَتُوا عَنِ الْبَعْضِ الآْخَرِ،
اكْتِفَاءً بِمَا أَوْرَدُوهُ مِنْ تَفْصِيلاَتٍ تَتَعَلَّقُ
بِالصِّيغَةِ فِي أَبْوَابِ الْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالْهِبَةِ
وَالإِْبْرَاءِ، الَّتِي يَأْخُذُ الصُّلْحُ أَحْكَامَهَا بِحَسَبِ
أَحْوَالِهِ وَصُوَرِهِ.
أَمَّا كَلاَمُهُمْ فِي بَابِ الصُّلْحِ عَنْ صِيغَتِهِ وَشُرُوطِهَا:
فَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الصُّلْحِ حُصُول الإِْيجَابِ مِنَ
الْمُدَّعِي عَلَى كُل حَالٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مِمَّا
يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أَمْ لَمْ يَكُنْ، وَلِذَلِكَ لاَ يَصِحُّ
الصُّلْحُ بِدُونِ إِيجَابٍ مُطْلَقًا. أَمَّا الْقَبُول، فَيُشْتَرَطُ
فِي كُل صُلْحٍ يَتَضَمَّنُ الْمُبَادَلَةَ بَعْدَ الإِْيجَابِ.
ثُمَّ قَالُوا: تُسْتَعْمَل صِيغَةُ الْمَاضِي فِي الإِْيجَابِ
وَالْقَبُول، وَلاَ يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِصِيغَةِ الأَْمْرِ، وَعَلَى
ذَلِكَ لَوْ قَال الْمُدَّعِي لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ: صَالِحْنِي عَلَى
الدَّارِ الَّتِي تَدَّعِيهَا بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَلاَ
يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِقَوْل الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: صَالَحْتُ؛
لأَِنَّ طَرَفَ الإِْيجَابِ كَانَ عِبَارَةً عَنْ طَلَبِ الصُّلْحِ،
وَهُوَ غَيْرُ صَالِحٍ لِلإِْيجَابِ، فَقَوْل الطَّرَفِ الآْخَرِ:
قَبِلْتُ، لاَ يَقُومُ مَقَامَ الإِْيجَابِ. أَمَّا إِذَا قَال
(27/347)
الْمُدَّعِي ثَانِيًا: قَبِلْتُ. فَفِي
تِلْكَ الْحَالَةِ يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ.
وَبِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ:
إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ:
كَالْعَقَارَاتِ، وَالأَْرَاضِي، وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَنَحْوِهَا
فَيُشْتَرَطُ الْقَبُول بَعْدَ الإِْيجَابِ لِصِحَّةِ الصُّلْحِ؛
لأَِنَّ الصُّلْحَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يَكُونُ إِسْقَاطًا
حَتَّى يَتِمَّ بِإِرَادَةِ الْمُسْقِطِ وَحْدَهَا، وَسَبَبُ عَدَمِ
كَوْنِهِ إِسْقَاطًا مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ جَرَيَانِ الإِْسْقَاطِ
فِي الأَْعْيَانِ.
وَإِذَا كَانَ الصُّلْحُ وَاقِعًا عَلَى جِنْسٍ آخَرَ، فَيُشْتَرَطُ
الْقَبُول - أَيْضًا - سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مِمَّا
يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أَوْ كَانَ مِمَّا لاَ يَتَعَيَّنُ
بِالتَّعْيِينِ: كَالنَّقْدَيْنِ، وَمَا فِي حُكْمِهِمَا.
وَسَبَبُ اشْتِرَاطِ الْقَبُول فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ: أَنَّ
الصُّلْحَ فِيهِمَا مُبَادَلَةٌ، وَفِي الْمُبَادَلَةِ يَجِبُ
الْقَبُول، وَلاَ يَصِحُّ الْعَقْدُ بِدُونِهِ.
أَمَّا الصُّلْحُ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِالإِْيجَابِ وَحْدَهُ، فَهُوَ
الَّذِي يَتَضَمَّنُ إِسْقَاطَ بَعْضِ الْحُقُوقِ، فَيُكْتَفَى فِيهِ
بِالإِْيجَابِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الْقَبُول.
وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى بَعْضِ الدَّيْنِ
الثَّابِتِ فِي الذِّمَّةِ، بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ
الْمُصَالَحِ عَنْهُ وَالْمُصَالَحِ بِهِ مِنَ النَّقْدَيْنِ، وَهُمَا
لاَ يَتَعَيَّنَانِ بِالتَّعْيِينِ، فَهَاهُنَا يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ
(27/347)
بِمُجَرَّدِ إِيجَابِ الدَّائِنِ، وَلاَ
يُشْتَرَطُ قَبُول الْمَدِينِ؛ لأَِنَّ هَذَا الصُّلْحَ عِبَارَةٌ عَنْ
إِسْقَاطِ بَعْضِ الْحَقِّ، وَالإِْسْقَاطُ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى
الْقَبُول، بَل يَتِمُّ بِمُجَرَّدِ إِيجَابِ الْمُسْقِطِ.
فَمَثَلاً: لَوْ قَال الدَّائِنُ لِلْمَدِينِ: صَالَحْتُكَ عَلَى مَا
فِي ذِمَّتِكَ لِي مِنَ الْخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ عَلَى مِائَتَيْ
دِينَارٍ فَيَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِمُجَرَّدِ الإِْيجَابِ، وَلاَ
يُشْتَرَطُ قَبُول الْمَدِينِ، وَيَلْزَمُ الصُّلْحُ مَا لَمْ
يَرُدَّهُ الدَّيْنُ. إِلاَّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ أَنْ
يَكُونَ الْمُوجِبُ الْمُدَّعِيَ؛ لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ هُوَ الْمُوجِبَ، فَيُشْتَرَطُ قَبُول الْمُدَّعِي؛ سَوَاءٌ
أَكَانَ الصُّلْحُ عَمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، أَمْ عَمَّا لاَ
يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ هَذَا الصُّلْحَ إِمَّا
أَنْ يَكُونَ إِسْقَاطًا، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْقِطُ
الْمُدَّعِيَ أَوِ الدَّائِنَ، إِذْ لاَ يُمْكِنُ سُقُوطُ حَقِّهِ
بِدُونِ قَبُولِهِ وَرِضَاهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَاوَضَةً،
وَفِي الْمُعَاوَضَةِ يُشْتَرَطُ وُجُودُ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول
مَعًا. أَمَّا فِي الصُّلْحِ عَمَّا لاَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ
الَّذِي يَقَعُ عَلَى عَيْنِ الْجِنْسِ، فَيَقُومُ طَلَبُ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ الصُّلْحَ مَقَامَ الْقَبُول. (1)
__________
(1) انظر البحر الرائق 7 / 255، مجمع الأنهر 2 / 308، درر الحكام شرح
مجلة الأحكام لعلي حيدر 4 / 3 - 5، قرة عيون الأخيار تكملة رد المحتار
(المطبعة الميمنية 1321 هـ) 2 / 153، 156، الفتاوى الهندية 4 / 228،
229.
(27/348)
الصُّلْحُ بِالتَّعَاطِي:
26 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى انْعِقَادِ الصُّلْحِ بِالتَّعَاطِي
إِذَا كَانَتْ قَرَائِنُ الْحَال دَالَّةً عَلَى تَرَاضِيهِمَا بِهِ،
كَمَا لَوْ أَعْطَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَالاً لِلْمُدَّعِي لاَ
يَحِقُّ لَهُ أَخْذُهُ وَقَبَضَ الْمُدَّعِي ذَلِكَ الْمَال. وَبَيَانُ
ذَلِكَ: أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ،
وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الدَّيْنَ، وَأَعْطَى الْمُدَّعِي
شَاةً وَقَبَضَهَا الْمُدَّعِي مِنْهُ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ
بِالتَّعَاطِي، وَلَيْسَ لِلْمُدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ الاِدِّعَاءُ
بِالأَْلْفِ دِرْهَمٍ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ
اسْتِرْدَادُ تِلْكَ الشَّاةِ.
أَمَّا إِذَا أَعْطَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْمُدَّعِي بَعْضَ
الْمَال الَّذِي كَانَ لِلْمُدَّعِي حَقُّ أَخْذِهِ وَقَبَضَهُ
الْمُدَّعِي، وَلَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمَا كَلاَمٌ يَدُل عَلَى الصُّلْحِ
فَلاَ يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِالتَّعَاطِي، وَلِلْمُدَّعِي طَلَبُ
بَاقِي الدَّيْنِ؛ لأَِنَّ أَخْذَ الْمُدَّعِي بَعْضًا مِنَ الْمَال
الَّذِي لَهُ حَقُّ أَخْذِهِ، يُحْتَمَل أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ
اسْتِيفَاءَ بَعْضِ حَقِّهِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الْبَعْضَ الْبَاقِيَ
بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ يُحْتَمَل أَنَّهُ اكْتَفَى
بِالْمِقْدَارِ الَّذِي أَخَذَهُ وَعَدَل عَنِ الْمُطَالَبَةِ
بِالْبَاقِي، وَالْحَقُّ لاَ يَسْقُطُ بِالشَّكِّ (1) .
الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَاقِدَيْنِ:
27 - وَهِيَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: مِنْهَا مَا يَرْجِعُ
__________
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام العدلية 4 / 4 - 5.
(27/348)
إِلَى الأَْهْلِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا
يَرْجِعُ إِلَى الْوِلاَيَةِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ لِلتَّرَاضِي.
انْظُرْ مُصْطَلَحَاتِ: (أَهْلِيَّة، تَرَاضِي، عَقْد، وِلاَيَة) .
الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُصَالَحِ عَنْهُ:
الْمُصَالَحُ عَنْهُ: هُوَ الشَّيْءُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ، وَهُوَ
نَوْعَانِ: حَقُّ اللَّهِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ.
28 - أَمَّا حَقُّ اللَّهِ: فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي
عَدَمِ صِحَّةِ الصُّلْحِ عَنْهُ. وَعَلَى ذَلِكَ، فَلاَ يَصِحُّ
الصُّلْحُ عَنْ حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ،
بِأَنْ صَالَحَ زَانِيًا أَوْ سَارِقًا مِنْ غَيْرِهِ أَوْ شَارِبَ
خَمْرٍ عَلَى مَالٍ عَلَى أَنْ لاَ يَرْفَعَهُ إِلَى وَلِيِّ
الأَْمْرِ؛ لأَِنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يَجُوزُ، وَيَقَعُ
بَاطِلاً؛ لأَِنَّ الْمُصَالِحَ بِالصُّلْحِ مُتَصَرِّفٌ فِي حَقِّ
نَفْسِهِ، إِمَّا بِاسْتِيفَاءِ كُل حَقِّهِ، أَوْ بِاسْتِيفَاءِ
الْبَعْضِ وَإِسْقَاطِ الْبَاقِي، أَوْ بِالْمُعَاوَضَةِ، وَكُل ذَلِكَ
لاَ يَجُوزُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ.
وَكَذَا إِذَا صَالَحَ مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ، بِأَنْ قَذَفَ رَجُلاً،
فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ عَلَى أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ وَإِنْ
كَانَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقٌّ، فَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ
تَعَالَى، وَالْمَغْلُوبُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ شَرْعًا، فَكَانَ فِي
حُكْمِ الْحُقُوقِ الْمُتَمَحِّضَةِ حَقًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَل،
وَهِيَ لاَ تَحْتَمِل الصُّلْحَ، فَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي حُكْمِهَا.
(انْظُرْ مُصْطَلَحَ: قَذْف) .
وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ شَاهِدًا يُرِيدُ أَنْ يَشْهَدَ
(27/349)
عَلَيْهِ عَلَى مَالٍ لِيَكْتُمَ
شَهَادَتَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّ الشَّاهِدَ فِي إِقَامَةِ
الشَّهَادَةِ مُحْتَسِبٌ حَقًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَل لِقَوْلِهِ
سُبْحَانَهُ: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (1) وَالصُّلْحُ عَنْ
حُقُوقِ اللَّهِ بَاطِلٌ. (2)
وَإِذَا بَطَل الصُّلْحُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ عَلَيْهِ
رَدُّ مَا أَخَذَ؛ لأَِنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلاَ يَحِل
لأَِحَدٍ أَخْذُ مَال أَحَدٍ إِلاَّ بِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ. (3)
29 - وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ: فَهُوَ الَّذِي يَصِحُّ الصُّلْحُ
عَنْهُ عِنْدَ تَحَقُّقِ شُرُوطِهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَشُرُوطُهُ عِنْدَ
الْفُقَهَاءِ ثَلاَثَةٌ: (4) .
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ حَقًّا ثَابِتًا
لِلْمُصَالِحِ فِي الْمَحَل:
30 - وَعَلَى ذَلِكَ: فَمَا لاَ يَكُونُ حَقًّا لَهُ، أَوْ لاَ يَكُونُ
حَقًّا ثَابِتًا لَهُ فِي الْمَحَل لاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْهُ،
حَتَّى لَوْ أَنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ادَّعَتْ
__________
(1) سورة الطلاق آية / 2.
(2) بدائع الصنائع 6 / 48، المبدع 4 / 290، المغني لابن قدامة 4 / 550،
شرح منتهى الإرادات 2 / 266، قرة عيون الأخيار 2 / 155، كشاف القناع 3
/ 388، وما بعدها.
(3) أعلام الموقعين (مطبعة السعادة 1 / 108) .
(4) جاء في م (1028) ، من مرشد الحيران: يشترط أن يكون المصالح عنه حقا
للمصالح ثابتا في المحل يجوز أخذ البدل في مقابلته، سواء كان مالا:
كالعين والدين أو غير مال: كالمنفعة وحق القصاص والتعزير، ويشترط أن
يكون معلوما إن كان مما يحتاج إلى التسليم، وانظر قرة عيون الأخيار 2 /
155.
(27/349)
عَلَيْهِ صَبِيًّا فِي يَدِهِ أَنَّهُ
ابْنُهُ مِنْهَا، وَجَحَدَ الرَّجُل، فَصَالَحَتْ عَنِ النَّسَبِ عَلَى
شَيْءٍ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّ النَّسَبَ حَقُّ الصَّبِيِّ لاَ
حَقُّهَا، فَلاَ تَمْلِكُ الاِعْتِيَاضَ عَنْ حَقِّ غَيْرِهَا؛
وَلأَِنَّ الصُّلْحَ إِمَّا إِسْقَاطٌ أَوْ مُعَاوَضَةٌ، وَالنَّسَبُ
لاَ يَحْتَمِلُهُمَا.
وَكَذَا لَوْ صَالَحَ الشَّفِيعُ مِنَ الشُّفْعَةِ الَّتِي وَجَبَتْ
لَهُ عَلَى شَيْءٍ، عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ الدَّارَ لِلْمُشْتَرِي
فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّهُ لاَ حَقَّ لِلشَّفِيعِ فِي الْمَحَل،
إِنَّمَا الثَّابِتُ لَهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ، وَهُوَ لَيْسَ لِمَعْنًى
فِي الْمَحَل، بَل هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوِلاَيَةِ، وَأَنَّهَا
صِفَةُ الْوَالِي فَلاَ يَحْتَمِل الصُّلْحَ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْل
الْجُمْهُورِ - خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ - فَيَجُوزُ عِنْدَهُمُ
الصُّلْحُ عَنِ الشُّفْعَةِ. (ر: شُفْعَة - إِسْقَاط.) وَكَذَلِكَ لَوْ
صَالَحَ الْكَفِيل بِالنَّفْسِ الْمَكْفُول لَهُ عَلَى مَالٍ، عَلَى
أَنْ يُبَرِّئَهُ مِنَ الْكَفَالَةِ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّ
الثَّابِتَ لِلطَّالِبِ قِبَل الْكَفِيل بِالنَّفْسِ حَقُّ
الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ نَفْسِ الْمَكْفُول بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ
عِبَارَةٌ عَنْ وِلاَيَةِ الْمُطَالَبَةِ، وَأَنَّهَا صِفَةُ الْوَالِي
فَلاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْهَا كَالشُّفْعَةِ. (1)
أَمَّا لَوِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَالاً وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ، وَلاَ بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي، فَطَلَبَ مِنْهُ الْيَمِينَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 49، تحفة الفقهاء 3 / 427.
(27/350)
فَصَالَحَ عَنِ الْيَمِينِ عَلَى أَنْ لاَ
يَسْتَحْلِفَهُ جَازَ الصُّلْحُ وَبَرِئَ مِنَ الْيَمِينِ، بِحَيْثُ
لاَ يَجُوزُ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَعُودَ إِلَى اسْتِحْلاَفِهِ. وَكَذَا
لَوْ قَال الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: صَالَحْتُكَ مِنَ الْيَمِينِ الَّتِي
وَجَبَتْ لَكَ عَلَيَّ. أَوْ قَال: افْتَدَيْتُ مِنْكَ يَمِينَكَ
بِكَذَا وَكَذَا صَحَّ الصُّلْحُ؛ لأَِنَّ هَذَا صُلْحٌ عَنْ حَقٍّ
ثَابِتٍ لِلْمُدَّعِي؛ لأَِنَّ الْيَمِينَ حَقٌّ لِلْمُدَّعِي قِبَل
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الْمَحَل - وَهُوَ الْمِلْكُ
فِي الْمُدَّعِي فِي زَعْمِهِ - فَكَانَ الصُّلْحُ فِي جَانِبِ
الْمُدَّعِي عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي الْمَحَل، وَهُوَ الْمُدَّعِي،
وَفِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَذْل الْمَال لإِِسْقَاطِ
الْخُصُومَةِ وَالاِفْتِدَاءِ عَنِ الْيَمِينِ. (1) قَالَهُ
الْكَاسَانِيُّ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: عَلَى أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى
رَجُلٌ عَلَى الْمَرْأَةِ نِكَاحًا فَحَجَّتْهُ، وَصَالَحَتْهُ عَلَى
مَالٍ بَذَلَتْهُ حَتَّى يَتْرُكَ الدَّعْوَى جَازَ هَذَا الصُّلْحُ؛
لأَِنَّ النِّكَاحَ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي حَسَبَ
زَعْمِهِ، فَكَانَ الصُّلْحُ عَلَى حَقٍّ ثَابِتٍ لَهُ، وَالدَّافِعُ
يَقْطَعُ بِهِ الْخُصُومَةَ عَنْ نَفْسِهِ، فَكَانَ فِي مَعْنَى
الْخُلْعِ. (2)
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَصِحُّ الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ:
31 - أَيْ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ
__________
(1) البدائع 6 / 50.
(2) كشاف القناع 3 / 381، شرح منتهى الإرادات 2 / 261، المغني 4 / 449،
بدائع الصنائع 6 / 50، المبدع 4 / 281.
(27/350)
عَنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يَجُوزُ
بَيْعُهُ أَوْ لاَ يَجُوزُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَالاً أَوْ غَيْرَ
مَالٍ.
وَعَلَى ذَلِكَ: فَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْ قَوَدِ نَفْسٍ وَدُونِهَا،
وَعَنْ سُكْنَى دَارٍ وَنَحْوِهَا، وَعَنْ عَيْبٍ فِي عِوَضٍ أَوْ
مُعَوَّضٍ؛ قَطْعًا لِلْخُصُومَةِ وَالْمُنَازَعَةِ. (1)
وَمَتَى صَالَحَ عَمَّا يُوجِبُ الْقِصَاصَ بِأَكْثَرَ مِنْ دِيَتِهِ
أَوْ أَقَل جَازَ. (2) لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ
وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (3) فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَل {فَمَنْ
عُفِيَ لَهُ} أَيْ: أُعْطَى لَهُ.
كَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - وَقَوْلُهُ عَزَّ شَأْنُهُ {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}
أَيْ: فَلْيَتْبَعْ " مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الأَْمْرِ " فَقَدْ أَمَرَ
اللَّهُ تَعَالَى الْوَلِيَّ بِالاِتِّبَاعِ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا
أُعْطِيَ لَهُ شَيْءٌ، وَاسْمُ الشَّيْءِ يَتَنَاوَل الْقَلِيل
وَالْكَثِيرَ، فَدَلَّتِ الآْيَةُ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ عَنِ
الْقِصَاصِ عَلَى الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ. (4) وَقَال الزَّيْلَعِيُّ:
وَلأَِنَّ الْقِصَاصَ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 265، 266، المغني 4 / 545، المبدع 4 / 289،
قرة عيون الأخبار 2 / 155، وم (1028) من مرشد الحيران.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 265، المغني 4 / 545، بدائع الصنائع 6 /
49، تبيين الحقائق 6 / 113، مواهب الجليل للحطاب 5 / 85، التاج
والإكليل للمواق 5 / 85، تحفة الفقهاء 3 / 425.
(3) سورة البقرة آية: 178.
(4) بدائع الصنائع 6 / 49.
(27/351)
حَقٌّ ثَابِتٌ فِي الْمَحَل، وَيَجْرِي
فِيهِ الْعَفْوُ مَجَّانًا، فَكَذَا تَعْوِيضًا لاِشْتِمَالِهِ عَلَى
الأَْوْصَافِ الْجَمِيلَةِ مِنْ إِحْسَانِ الْوَلِيِّ، وَإِحْيَاءِ
الْقَاتِل. . . وَالْكَثِيرُ وَالْقَلِيل سَوَاءٌ فِي الصُّلْحِ عَنِ
الْقِصَاصِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ، فَيُفَوَّضُ
إِلَى اصْطِلاَحِهِمَا، كَالْخُلْعِ عَلَى مَالٍ. (1)
أَمَّا إِذَا صَالَحَ عَنْ قَتْل الْخَطَأِ بِأَكْثَرَ مِنْ دِيَتِهِ
مِنْ جِنْسِهَا لَمْ يَجُزْ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَتْلَفَ شَيْئًا غَيْرَ
مِثْلِيٍّ لِغَيْرِهِ، فَصَالَحَ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ
مِنْ جِنْسِهَا لَمْ يَجُزْ أَيْضًا، وَذَلِكَ لأَِنَّ الدِّيَةَ
وَالْقِيمَةَ ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ مُقَدَّرَةً، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ
يُصَالِحَ عَنْهَا بِأَكْثَرَ مِنْ جِنْسِهَا الثَّابِتَةِ عَنْ قَرْضٍ
أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ؛ وَلأَِنَّهُ إِذَا أَخَذَ أَكْثَرَ مِنْهَا
فَقَدْ أَخَذَ حَقَّهُ وَزِيَادَةً لاَ مُقَابِل لَهَا، فَيَكُونُ
أَكْل مَالٍ بِالْبَاطِل. (2)
فَأَمَّا إِذَا صَالَحَهُ عَلَى غَيْرِ جِنْسِهَا بِأَكْثَرَ مِنْ
قِيمَتِهَا، فَيَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ بَيْعٌ، وَيَجُوزُ لِلْمَرْءِ أَنْ
يَشْتَرِيَ الشَّيْءَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَقَل؛
وَلأَِنَّهُ لاَ رِبَا بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ عَنْهُ
فَصَحَّ. (3)
__________
(1) تبيين الحقائق 6 / 113.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 261، المغني 4 / 545، بدائع الصنائع 6 /
49، تبيين الحقائق 6 / 113، كشاف القناع 3 / 380، وانظر قرة عيون
الأخيار 2 / 168.
(3) المغني 4 / 545، شرح منتهى الإرادات 2 / 261، كشاف القناع 3 / 380،
وانظر قرة عيون الأخيار 2 / 168.
(27/351)
وَبِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ: لاَ
يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى مَا لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ،
مِثْل أَنْ يُصَالِحَ امْرَأَةً عَلَى مَالٍ لِتُقِرَّ لَهُ
بِالزَّوْجِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ صُلْحٌ يُحِل حَرَامًا؛ وَلأَِنَّهَا لَوْ
أَرَادَتْ بَذْل نَفْسِهَا بِعِوَضٍ لَمْ يَجُزْ. (1)
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا:
32 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِهِ أَوْ فِي مَدَاهُ
عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدِهَا لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ عَدَمُ صِحَّةِ الصُّلْحِ عَنِ
الْمَجْهُول. (2)
قَال الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي " الأُْمِّ " (3) :
أَصْل الصُّلْحِ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ، فَمَا جَازَ فِي
الْبَيْعِ جَازَ فِي الصُّلْحِ، وَمَا لَمْ يَجُزْ فِي الْبَيْعِ لَمْ
يَجُزْ فِي الصُّلْحِ، ثُمَّ يَتَشَعَّبُ. . . وَلاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ
عِنْدِي إِلاَّ عَلَى أَمْرٍ مَعْرُوفٍ، كَمَا لاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ
إِلاَّ عَلَى أَمْرٍ مَعْرُوفٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -: " الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ
صُلْحًا أَحَل حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً. (4) وَمِنَ الْحَرَامِ
الَّذِي يَقَعُ فِي الصُّلْحِ أَنْ يَقَعَ عِنْدِي عَلَى الْمَجْهُول
الَّذِي لَوْ كَانَ بَيْعًا كَانَ حَرَامًا.
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 261، والمغني 4 / 550، المبدع 4 / 281.
(2) روضة الطالبين 4 / 203.
(3) الأم (بعناية محمد زهرى النجار) 3 / 221.
(4) حديث: " الصلح جائز. . ". سبق تخريجه (ف5) .
(27/352)
هَذَا، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى
صِحَّةِ الصُّلْحِ عَنِ الْمُجْمَل عِنْدَهُمْ، فَلَوْ ادَّعَى
عَلَيْهِ شَيْئًا مُجْمَلاً فَأَقَرَّ لَهُ بِهِ وَصَالَحَهُ عَنْهُ
عَلَى عِوَضٍ، صَحَّ الصُّلْحُ.
قَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ: هَذَا إِذَا كَانَ
الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا لَهُمَا فَيَصِحُّ الصُّلْحُ وَإِنْ
لَمْ يُسَمِّيَاهُ، كَمَا لَوْ قَال: بِعْتُكَ الشَّيْءَ الَّذِي
نَعْرِفُهُ أَنَا وَأَنْتَ بِكَذَا فَقَال: اشْتَرَيْتُ صَحَّ. (1)
وَالثَّانِي لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ كَوْنُ
الْمُصَالَحِ عَنْهُ مَعْلُومًا إِنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى
التَّسْلِيمِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَطْلُوبَ التَّسْلِيمِ
اشْتَرَطَ كَوْنَهُ مَعْلُومًا لِئَلاَّ يُفْضِيَ إِلَى
الْمُنَازَعَةِ.
جَاءَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: إِذَا ادَّعَى حَقًّا فِي دَارِ
رَجُلٍ وَلَمْ يُسَمِّ، فَاصْطَلَحَا عَلَى مَالٍ مَعْلُومٍ يُعْطِيهِ
الْمُدَّعِي لِيُسَلِّمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَا ادَّعَاهُ
الْمُدَّعِي لاَ يَصِحُّ هَذَا الصُّلْحُ؛ لأَِنَّ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ يَحْتَاجُ إِلَى تَسْلِيمِ مَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي،
فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ مِقْدَارَ ذَلِكَ لاَ يَدْرِي مَاذَا يُسَلِّمُ
إِلَيْهِ، فَلاَ يَجُوزُ. (2)
أَمَّا إِذَا كَانَ مِمَّا لاَ يَحْتَاجُ التَّسْلِيمَ - كَتَرْكِ
الدَّعْوَى مَثَلاً - فَلاَ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مَعْلُومًا؛ لأَِنَّ
جَهَالَةَ السَّاقِطِ لاَ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ،
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 218، وروضة الطالبين 4 / 203.
(2) فتاوى قاضيخان (بهامش الفتاوى الهندية) 3 / 104.
(27/352)
وَالْمُصَالَحُ عَنْهُ هَاهُنَا سَاقِطٌ،
فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الإِْبْرَاءِ عَنِ الْمَجْهُول، وَهُوَ جَائِزٌ.
(1) قَال الإِْسْبِيجَابِيُّ: لأَِنَّ الْجَهَالَةَ لاَ تُبْطِل
الْعُقُودَ لِعَيْنِهَا، وَإِنَّمَا تُبْطِل الْعُقُودَ لِمَعْنًى
فِيهَا، وَهُوَ وُقُوعُ الْمُنَازَعَةِ. فَإِنْ كَانَ مِمَّا
يُسْتَغْنَى عَنْ قَبْضِهِ وَلاَ تَقَعُ الْمُنَازَعَةُ فِي ثَانِي
الْحَال فِيهِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى قَبْضِهِ،
وَتَقَعُ الْمُنَازَعَةُ فِي ثَانِي الْحَال عِنْدَ الْقَبْضِ
وَالتَّسْلِيمِ لَمْ يَجُزْ. (2)
وَالثَّالِثِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ التَّفْرِيقُ
بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ مِمَّا يَتَعَذَّرُ
عِلْمُهُ. (3) وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ مِمَّا لاَ يَتَعَذَّرُ.
فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَعَذَّرُ عِلْمُهُ، فَقَدْ نَصَّ
الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى صِحَّةِ الصُّلْحِ عَنْهُ.
(4)
__________
(1) رد المحتار 4 / 473، قرة عيون الأخيار 2 / 155، بدائع الصنائع 6 /
49، الفتاوى الخانية 3 / 88، 104، وانظر م (1028) من مرشد الحيران وم
(1547) من مجلة الأحكام العدلية، وشرح المجلة للأتاسي 4 / 547، درر
الحكام لعلي حيدر 4 / 24، وما بعدها.
(2) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 5 / 32.
(3) أي: لا سبيل إلى معرفته، ومثل ذلك في الأعيان: كقفيز حنطة وقفيز
شعير اختلطا وطحنا فلا يمكن التمييز بينهما. ومثله في الديون، كمن
بينهما معاملة أو حساب مضى عليه زمن طويل ولا علم لكل منهما بما عليه
لصاحبه (شرح منتهى الإرادات 2 / 263، كشاف القناع 3 / 384) .
(4) مواهب الجليل 5 / 80، حاشية البناني على الزرقاني على خليل 6 / 3،
المغني 4 / 543، كشاف القناع 3 / 384، شرح منتهى الإرادات 2 / 263، وقد
اختار ابن قدامة في هذه الحالة صحة الصلح إذا كان مما لا يحتاج إلى
تسليمه. أما إذا كان مما يحتاج إلى تسليمه، فلا يجوز مع الجهالة، لأن
تسليمه واجب، والجهالة تمنع التسليم، وتفضي إلى التنازع، فلا يحصل
مقصود الصلح. (المغني 4 / 544) .
(27/353)
قَال الْحَنَابِلَةُ: سَوَاءٌ أَكَانَ
عَيْنًا أَمْ دَيْنًا، وَسَوَاءٌ جَهِلاَهُ أَوْ جَهِلَهُ مَنْ
عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمُصَالَحُ بِهِ حَالًّا أَوْ
نَسِيئَةً، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ.
أ - بِمَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -
قَالَتْ: جَاءَ رَجُلاَنِ مِنَ الأَْنْصَارِ يَخْتَصِمَانِ إِلَى
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَارِيثَ
بَيْنَهُمَا قَدْ دُرِسَتْ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَقَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكُمْ
تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَلَعَل بَعْضَكُمْ
أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ أَوْ قَدْ قَال: لِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ،
فَإِنِّي أَقْضِي بَيْنَكُمْ عَلَى نَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَنْ
قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلاَ يَأْخُذُهُ،
فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ، يَأْتِي بِهَا
إِسْطَامًا فِي عُنُقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَبَكَى الرَّجُلاَنِ،
وَقَال كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقِّي لأَِخِي. فَقَال رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا إِذْ قُلْتُمَا،
فَاذْهَبَا، فَاقْتَسِمَا ثُمَّ تَوَخَّيَا الْحَقَّ، ثُمَّ
اسْتَهِمَا، ثُمَّ لِيُحْلِل كُل وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ (1) .
__________
(1) نيل الأوطار 5 / 253 - الإسطام بالكسر المسعار: وهو حديدة مفطوحة
تقلب بها النار - القاموس (سطم) النهاية في غريب الحديث والأثر مادة
(سطم) ، والحديث لأم سلمة: " جاء رجلان من الأنصار يختصمان. . ". أخرجه
أحمد (6 / 320 - ط. الميمنية) وإسناده صحيح.
(27/353)
ب - وَلأَِنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ، فَصَحَّ
فِي الْمَجْهُول كَالطَّلاَقِ لِلْحَاجَةِ.
ح - وَلأَِنَّهُ إِذَا صَحَّ الصُّلْحُ مَعَ الْعِلْمِ وَإِمْكَانِ
أَدَاءِ الْحَقِّ بِعَيْنِهِ فَلأََنْ يَصِحَّ مَعَ الْجَهْل أَوْلَى.
وَذَلِكَ لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْلُومًا فَلَهُمَا طَرِيقٌ إِلَى
التَّخَلُّصِ وَبَرَاءَةِ أَحَدِهِمَا مِنْ صَاحِبِهِ بِدُونِهِ،
وَمَعَ الْجَهْل لاَ يُمْكِنُ ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يَجُزِ الصُّلْحُ
لأََفْضَى ذَلِكَ إِلَى ضَيَاعِ الْحَقِّ، أَوْ بَقَاءِ شَغْل
الذِّمَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مَالٌ لاَ
يَعْرِفُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ حَقِّهِ مِنْهُ.
أَمَّا إِذَا كَانَ مِمَّا لاَ يَتَعَذَّرُ عِلْمَهُ، كَتَرِكَةٍ
بَاقِيَةٍ، صَالَحَ الْوَرَثَةُ الزَّوْجَةَ عَنْ حِصَّتِهَا مِنْهَا
مَعَ الْجَهْل بِهَا. فَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَأَحْمَدُ فِي قَوْلٍ
لَهُ: لاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ إِلاَّ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ.
(1) وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ: يَصِحُّ
لِقَطْعِ النِّزَاعِ. (2)
__________
(1) مواهب الجليل 5 / 80، حاشية البناني على الزرقاني على خليل 6 / 3،
وهذا القول للإمام أحمد هو ظاهر نصوصه، وهو ظاهر ما جزم به في الإرشاد،
وقطع به الشيخان والشرح، لعدم الحاجة إليه، ولأن الأعيان لا تقبل
الإبراء. (المبدع 4 / 285، شرح منتهى الإرادات 2 / 263، وكشاف القناع 3
/ 384، المغني 4 / 544) .
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 263، كشاف القناع 3 / 385.
(27/354)
الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ
بِالْمُصَالَحِ بِهِ:
33 - الْمُصَالَحُ بِهِ، أَوِ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ: هُوَ بَدَل
الصُّلْحِ. وَشُرُوطُهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ اثْنَانِ. (1)
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَالاً مُتَقَوِّمًا:
وَعَلَى ذَلِكَ، فَلاَ يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَى الْخَمْرِ،
وَالْخِنْزِيرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَصَيْدِ الإِْحْرَامِ
وَالْحَرَمِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ فِي الصُّلْحِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ،
فَمَا لاَ يَصِحُّ عِوَضًا فِي الْبِيَاعَاتِ لاَ يَصِحُّ جَعْلُهُ
بَدَل صُلْحٍ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَال دَيْنًا أَوْ
عَيْنًا أَوْ مَنْفَعَةً.
فَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى مِقْدَارٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ، أَوْ عَلَى
سُكْنَى دَارٍ أَوْ رُكُوبِ دَابَّةٍ وَقْتًا مَعْلُومًا صَحَّ ذَلِكَ.
(2) قَال الْكَاسَانِيُّ: الأَْصْل أَنَّ كُل مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ
وَشِرَاؤُهُ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ، وَمَا لاَ فَلاَ. (3)
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا:
وَعَلَى ذَلِكَ قَال الْحَنَابِلَةُ: فَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ
بِمَجْهُولٍ لَمْ يَصِحَّ؛ تَسْلِيمُهُ وَاجِبٌ
__________
(1) انظر م (1029) من مرشد الحيران.
(2) بدائع الصنائع 6 / 42، 48، قرة عيون الأخيار 2 / 154، وانظر شرح
منتهى الإرادات 2 / 266، وجاء في م 1545 من مجلة الأحكام العدلية: إن
كان المصالح عليه عينا فهو في حكم المبيع، وإن كان دينا فهو في حكم
الثمن، فالشيء الذي يصلح أن يكون مبيعا أو ثمنا في البيع يصلح لأن يكون
بدلا في الصلح أيضا.
(3) البدائع 6 / 48.
(27/354)
وَالْجَهْل يَمْنَعُهُ. (1)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَقَدْ فَصَّلُوا فِي الْمَسْأَلَةِ وَقَالُوا:
يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُصَالَحِ بِهِ مَعْلُومًا إِنْ كَانَ مِمَّا
يَحْتَاجُ إِلَى الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ؛ لأَِنَّ جَهَالَةَ الْبَدَل
تُؤَدِّي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، فَتُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ، أَمَّا
إِذَا كَانَ شَيْئًا لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ
فَلاَ يُشْتَرَطُ مَعْلُومِيَّتُهُ، مِثْل أَنْ يَدَّعِيَ حَقًّا فِي
دَارِ رَجُلٍ، وَادَّعَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقًّا فِي أَرْضٍ
بِيَدِ الْمُدَّعِي فَاصْطَلَحَا عَلَى تَرْكِ الدَّعْوَى جَازَ،
وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ كُلٌّ مِنْهُمَا مِقْدَارَ حَقِّهِ؛ لأَِنَّ
جَهَالَةَ السَّاقِطِ لاَ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ. (2) قَال
الْكَاسَانِيُّ: لأَِنَّ جَهَالَةَ الْبَدَل لاَ تَمْنَعُ جَوَازَ
الْعَقْدِ لِعَيْنِهَا، بَل لإِِفْضَائِهَا إِلَى الْمُنَازَعَةِ
الْمَانِعَةِ مِنَ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ، فَإِذَا كَانَ مَالاً
يُسْتَغْنَى عَنَ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فِيهِ، لاَ يُفْضِي
إِلَى الْمُنَازَعَةِ فَلاَ يَمْنَعُ الْجَوَازَ (3)
آثَارُ الصُّلْحِ:
34 - قَال الْفُقَهَاءُ: إِنَّ الآْثَارَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى
انْعِقَادِ الصُّلْحِ هُوَ حُصُول الْبَرَاءَةِ عَنِ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 263، المبدع 4 / 284، كشاف القناع 3 / 384.
(2) قرة عيون الأخيار 2 / 154، البدائع 6 / 48، وانظر م (1029) من مرشد
الحيران وم (1547) من المجلة العدلية.
(3) البدائع 6 / 48.
(27/355)
الدَّعْوَى وَوُقُوعُ الْمِلْكِ فِي بَدَل
الصُّلْحِ لِلْمُدَّعِي، وَفِي الْمُصَالَحِ بِهِ لِلْمُدَّعَى
عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَمِل التَّمْلِيكَ، وَأَنَّ الصُّلْحَ
يُعْتَبَرُ بِأَقْرَبِ الْعُقُودِ إِلَيْهِ - إِذِ الْعِبْرَةُ فِي
الْعُقُودِ لِلْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي لاَ لِلأَْلْفَاظِ
وَالْمَبَانِي - فَمَا كَانَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ أَوِ الإِْجَارَةِ
أَوِ الإِْسْقَاطِ أَخَذَ حُكْمَهُ.
وَعَلَى ذَلِكَ قَالُوا: إِذَا تَمَّ الصُّلْحُ عَلَى الْوَجْهِ
الْمَطْلُوبِ دَخَل بَدَل الصُّلْحِ فِي مِلْكِ الْمُدَّعِي،
وَسَقَطَتْ دَعْوَاهُ الْمُصَالَحُ عَنْهَا، فَلاَ يُقْبَل مِنْهُ
الاِدِّعَاءُ بِهَا ثَانِيًا، وَلاَ يَمْلِكُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
اسْتِرْدَادَ بَدَل الصُّلْحِ الَّذِي دَفَعَهُ لِلْمُدَّعِي. (1)
وَجَاءَ فِي م (1556) مِنْ مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ:
إِذَا تَمَّ الصُّلْحُ فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ - فَقَطْ
- الرُّجُوعُ، وَيَمْلِكُ الْمُدَّعِي بِالصُّلْحِ بَدَلَهُ، وَلاَ
يَبْقَى لَهُ حَقٌّ فِي الدَّعْوَى، وَلَيْسَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ -
أَيْضًا - اسْتِرْدَادُ بَدَل الصُّلْحِ.
وَأَصْل ذَلِكَ: أَنَّ الصُّلْحَ مِنَ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ،
فَلِذَلِكَ لاَ يَمْلِكُ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخَهُ، أَوِ
الرُّجُوعَ عَنْهُ بَعْدَ تَمَامِهِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَتِمَّ فَلاَ
حُكْمَ لَهُ وَلاَ أَثَرَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ.
فَلَوِ
__________
(1) قرة عيون الأخيار 2 / 157، وم (1045) من مرشد الحيران، بدائع
الصنائع 6 / 53.
(27/355)
ادَّعَى أَحَدٌ عَلَى آخَرَ حَقًّا
وَتَصَالَحَ مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى شَيْءٍ، ثُمَّ ظَهَرَ
بِأَنَّ ذَلِكَ الْحَقَّ أَوِ الْمَال لاَ يَلْزَمُ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ فَلاَ يَتِمُّ وَلاَ حُكْمَ لَهُ، وَلِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ
اسْتِرْدَادُ بَدَل الصُّلْحِ،
وَكَذَلِكَ لَوْ تَصَالَحَ الْبَائِعُ مَعَ الْمُشْتَرِي عَنِ خِيَارِ
الْعَيْبِ، ثُمَّ ظَهَرَ عَدَمُ وُجُودِ الْعَيْبِ، أَوْ زَال
الْعَيْبُ مِنْ نَفْسِهِ وَبِدُونِ مُعَالَجَةٍ أَوْ كُلْفَةٍ بَطَل
الصُّلْحُ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّ بَدَل الصُّلْحِ الَّذِي
أَخَذَهُ لِلْبَائِعِ. وَكَذَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعِي مُبْطِلاً
وَغَيْرَ مُحِقٍّ فِي دَعْوَاهُ، فَلاَ يَحِل لَهُ دِيَانَةً بَدَل
الصُّلْحِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الصُّلْحِ، وَلاَ يَطِيبُ لَهُ، مَا
لَمْ يُسَلِّمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْمُدَّعِي بَدَل الصُّلْحِ
عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ يُصْبِحُ التَّمْلِيكُ
بِطَرِيقِ الْهِبَةِ.
(1) وَعَلَى أَسَاسِ مَا تَقَدَّمَ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى: أَنَّهُ
إِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَصَالِحَيْنِ بَعْدَ تَمَامِ الصُّلْحِ،
فَلَيْسَ لِوَرَثَتِهِ فَسْخُهُ. (2)
__________
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر 4 / 47، وانظر شرح المجلة
للأتاسي 4 / 570 وما بعدها، مجمع الأنهر 2 / 312 شرح منتهى الإرادات 2
/ 263.
(2) درر الحكام 4 / 49، وانظر م (1046) من مرشد الحيران. وقد استثنى
الحنفية من ذلك ما لو كان الصلح في معنى الإجارة، ومات أحدهما قبل مضي
المدة، وقالوا ببطلانه فيما بقي. (انظر الفتاوى الهندية 4 / 280) قرة
عيون الأخيار 2 / 159. وخالفهم في ذلك الإمام الشافعي فقال: " وإن ادعى
رجل حقا في دار أو أرض، فأقر له المدعى عليه، وصالحه من دعواه على خدمة
عبد أو ركوب دابة أو زراعة أرض أو سكنى دار أو شيء مما تكون فيه
الإجارات، ثم مات المدعي والمدعى عليه أو أحدهما، فالصلح جائز ولورثة
المد
(27/356)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنِ ادَّعَى
عَلَى آخَرَ حَقًّا، فَأَنْكَرَهُ، فَصَالَحَهُ، ثُمَّ ثَبَتَ الْحَقُّ
بَعْدَ الصُّلْحِ بِاعْتِرَافٍ أَوْ بَيِّنَةٍ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِي
الصُّلْحِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْبَيِّنَةِ وَهِيَ
حَاضِرَةٌ وَلَمْ يَقُمْ بِهَا، فَالصُّلْحُ لَهُ لاَزِمٌ. أَمَّا
إِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُتَصَالِحَيْنِ قَدْ أَشْهَدَ قَبْل الصُّلْحِ
إِشْهَادَ تَقِيَّةٍ: أَنَّ صُلْحَهُ إِنَّمَا هُوَ لِمَا
يَتَوَقَّعُهُ مِنْ إِنْكَارِ صَاحِبِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ
الصُّلْحَ لاَ يَلْزَمُهُ إِذَا ثَبَتَ أَصْل حَقِّهِ. (1)
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى انْحِلاَل الصُّلْحِ:
35 - إِذَا بَطَل الصُّلْحُ بَعْدَ صِحَّتِهِ، أَوْ لَمْ يَصِحَّ
أَصْلاً فَيَرْجِعُ الْمُدَّعِي إِلَى أَصْل دَعْوَاهُ إِنْ كَانَ
الصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ. وَإِنْ كَانَ عَنْ إِقْرَارٍ فَيَرْجِعُ
عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْمُدَّعَى لاَ غَيْرِهِ، إِلاَّ فِي
الصُّلْحِ عَنِ الْقِصَاصِ إِذَا لَمْ يَصِحَّ فَإِنَّ لِوَلِيِّ
الدَّمِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْقَاتِل بِالدِّيَةِ دُونَ الْقِصَاصِ،
إِلاَّ أَنْ يَصِيرَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ،
فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْغُرُورِ أَيْضًا. (2)
__________
(1) القوانين الفقهية (ط. الدار العربية للكتاب) ص 343.
(2) بدائع الصنائع 6 / 55، 56.
(27/356)
صِلَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصِّلَةُ فِي اللُّغَةِ: الضَّمُّ وَالْجَمْعُ، يُقَال: وَصَل
الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ وَصْلاً وَوَصْلَةً وَصِلَةً: ضَمَّهُ بِهِ
وَجَمَعَهُ وَلأََمَهُ. وَعَنِ ابْنِ سِيدَهْ: الْوَصْل خِلاَفُ
الْفَصْل.
كَمَا تُطْلَقُ عَلَى الْعَطِيَّةِ وَالْجَائِزَةِ، وَعَلَى
الاِنْتِهَاءِ وَالْبُلُوغِ، وَعَلَى ضِدِّ الْهِجْرَانِ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تُطْلَقُ عَلَى صِلَةِ الرَّحِمِ، وَصِلَةِ
السُّلْطَانِ.
قَال الْعَيْنِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: الصِّلَةُ هِيَ صِلَةُ
الأَْرْحَامِ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الإِْحْسَانِ إِلَى
الأَْقْرَبِينَ مِنْ ذَوِي النَّسَبِ وَالأَْصْهَارِ، وَالتَّعَطُّفِ
عَلَيْهِمْ وَالرِّفْقِ بِهِمْ وَالرِّعَايَةِ لأَِحْوَالِهِمْ،
وَكَذَلِكَ إِنْ بَعُدُوا وَأَسَاءُوا، وَقَطْعُ الرَّحِمِ قَطْعُ
ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَال الْعُلَمَاءُ:
وَحَقِيقَةُ الصِّلَةِ الْعَطْفُ وَالرَّحْمَةُ.
فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) لسان العرب ومتن اللغة والنهاية في غريب الحديث. مادة (وصل) .
(27/357)
قَال: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ
حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ فَقَالَتْ: هَذَا
مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ. قَال: نَعَمْ. أَمَّا
تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِل مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ،
قَالَتْ: بَلَى. قَال: فَذَاكَ لَكِ.
(1) وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ: أَنَّ صِلَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى لِعِبَادِهِ عِبَارَةٌ عَنْ لُطْفِهِ بِهِمْ وَرَحْمَتِهِ
إِيَّاهُمْ وَعَطْفِهِ بِإِحْسَانِهِ وَنِعَمِهِ. وَيَعْتَبِرُ
الْفُقَهَاءُ الصِّلَةَ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْهِبَاتِ
وَالْعَطَايَا وَالصَّدَقَاتِ. كَمَا يُطْلِقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ
عَلَى عَطَايَا السَّلاَطِينِ: صِلاَتِ السَّلاَطِينِ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - قَطِيعَةٌ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْقَطِيعَةِ فِي اللُّغَةِ: الْهِجْرَانُ، يُقَال:
قَطَعْتُ الصَّدِيقَ قَطِيعَةً: هَجَرْتُهُ.
__________
(1) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: " إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ
منهم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 465 - 466 - ط. السلفية)
ومسلم (صحيح مسلم 4 / 1980 - 1981 ط. عيسى الحلبي) .
(2) عمدة القاري شرح البخاري (22 / 81 ط. المنيرية) صحيح مسلم بشرح
النووي (16 / 113 ط. المطبعة المصرية بالأزهر. 1930) فتح العلي المالك
(2 / 270 ط. مصطفى الحلبي 1958) تحرير الكلام في مسائل الالتزام (166
ط. دار الغرب الإسلامي 1984 م) .
(27/357)
وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ ضِدُّ صِلَةِ
الرَّحِمِ. وَهِيَ: قَطْعُ مَا أَلِفَ الْقَرِيبُ مِنْهُ مِنْ سَابِقِ
الْوَصْلَةِ وَالإِْحْسَانِ لِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ. (1)
ب - عَطِيَّةٌ:
3 - الْعَطِيَّةُ وَالْعَطَاءُ: اسْمٌ لِمَا يُعْطَى، وَالْجَمْعُ
عَطَايَا وَأَعْطِيَةٌ، وَجَمْعُ الْجَمْعِ: أُعْطِيَاتٌ.
وَالْعَطِيَّةُ اصْطِلاَحًا: هِيَ مَا تُفْرَضُ لِلْمُقَاتِلَةِ.
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ الْعَطِيَّةَ - أَيْضًا - بِالْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ نَفْسِهِ. (2)
ج - هِبَةٌ:
4 - الْهِبَةُ لُغَةً: الْعَطِيَّةُ الْخَالِيَةُ عَنِ الأَْعْوَاضِ
وَالأَْغْرَاضِ.
وَفِي الْكُلِّيَّاتِ: الْهِبَةُ مَعْنَاهَا: إِيصَال الشَّيْءِ إِلَى
الْغَيْرِ بِمَا يَنْفَعُهُ، سَوَاءٌ كَانَ مَالاً أَوْ غَيْرَ مَالٍ،
وَيُقَال: وَهَبَ لَهُ مَالاً وَهْبًا وَهِبَةً، وَوَهَبَ اللَّهُ
فُلاَنًا وَلَدًا صَالِحًا. وَالْهِبَةُ اصْطِلاَحًا: هِيَ تَمْلِيكُ
الْعَيْنِ بِلاَ شَرْطِ الْعِوَضِ. (3)
__________
(1) المصباح المنير مادة (قطع) ، الزواجر عن اقتراف الكبائر (2 / 65 ط.
المطبعة الأزهرية المصرية 1325 هـ) .
(2) لسان العرب مادة (عطا) ، والكليات 3 / 279، والفتاوى الكبرى لابن
حجر الهيثمي 3 / 371.
(3) لسان العرب مادة (وهب) ، والكليات 5 / 79، 80، وحاشية ابن عابدين 4
/ 508.
(27/358)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً: فِي صِلَةِ الرَّحِمِ:
5 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ وَاجِبَةٌ فِي
الْجُمْلَةِ، وَقَطْعِيَّتَهَا مَعْصِيَةٌ كَبِيرَةٌ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ
وَالأَْرْحَامَ} . (1) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ
فَلْيَصِل رَحِمَهُ. (2)
وَالصِّلَةُ دَرَجَاتٌ بَعْضُهَا أَرْفَعُ مِنْ بَعْضٍ، وَأَدْنَاهُ
تَرْكُ الْمُهَاجَرَةِ، وَصِلَتُهَا بِالْكَلاَمِ وَلَوْ بِالسَّلاَمِ.
وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ الْقُدْرَةِ وَالْحَاجَةِ: فَمِنْهَا
وَاجِبٌ، وَمِنْهَا مُسْتَحَبٌّ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ الرَّحِمِ الَّتِي تَجِبُ
صِلَتُهَا فَقِيل: هِيَ كُل رَحِمٍ مَحْرَمٍ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ
أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالآْخَرُ أُنْثَى حُرِّمَتْ مُنَاكَحَتُهُمَا،
وَعَلَى هَذَا لاَ يَدْخُل أَوْلاَدُ الأَْعْمَامِ وَلاَ أَوْلاَدُ
الأَْخْوَال. وَقِيل: الرَّحِمُ عَامٌّ فِي كُلٍّ مِنْ ذَوِي
الأَْرْحَامِ فِي الْمِيرَاثِ يَسْتَوِي الْمَحْرَمُ وَغَيْرُهُ. (3)
قَال النَّوَوِيُّ: وَالْقَوْل الثَّانِي هُوَ الصَّوَابُ، وَمِمَّا
يَدُل عَلَيْهِ حَدِيثُ: إِنَّ أَبَرَّ
__________
(1) سورة النساء / 1.
(2) حديث: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه ". أخرجه
البخاري (فتح الباري 10 / 532 ط. السلفية) من حديث أبي هريرة - رضي
الله عنه - مرفوعا.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 264، عمدة القاري 22 / 90، شرح النووي على
صحيح مسلم 16 / 113.
(27/358)
الْبِرِّ صِلَةُ الرَّجُل أَهْل وُدِّ
أَبِيهِ. (1)
وَتَفْصِيل مَسَائِل صِلَةِ الرَّحِمِ فِي مُصْطَلَحِ (أَرْحَام 3 81)
.
الْهِبَةُ لِذِي الرَّحِمِ:
6 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ إِذَا
كَانَتْ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ
مِنْهَا (2) أَيْ مَا لَمْ يُعَوَّضْ. وَصِلَةُ الرَّحِمِ عِوَضٌ
مَعْنًى؛ لأَِنَّ التَّوَاصُل سَبَبُ التَّنَاصُرِ وَالتَّعَاوُنِ فِي
الدُّنْيَا، فَيَكُونُ وَسِيلَةً إِلَى اسْتِيفَاءِ النُّصْرَةِ،
وَسَبَبَ الثَّوَابِ فِي الدَّارِ الآْخِرَةِ، فَكَانَ أَقْوَى مِنَ
الْمَال. (3)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (هِبَة) .
ثَانِيًا: صِلاَتُ السُّلْطَانِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ عَطَايَا
__________
(1) حديث: " إن أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه ". أخرجه مسلم (4 /
1979) في حديث ابن عمر.
(2) حديث: " الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها ". أخرجه ابن ماجه (2 /
798، ط. الحلبي) والدارقطني (سنن الدارقطني 3 / 44 ط. دار المحاسن) من
حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل بن
مجمع، وهو ضعيف. ورواه الدارقطني (سنن الدارقطني 3 / 44 ط. دار
المحاسن) من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - بلفط " من وهب هبة فارتجع
بها فهو أحق بها ما لم يثب منها، ولكنه كالكلب يعود في قيئه ". وقال
المناوي نقلا عن ابن حجر: إسناده صحيح (فيض القدير 6 / 371 ط. المكتبة
التجارية) .
(3) بدائع الصنائع 6 / 132.
(27/359)
السُّلْطَانِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهَا
حَرَامٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ قَبُول
عَطَايَا السُّلْطَانِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا حَرَامٌ، قَال
الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: الْخُلَفَاءُ وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِمْ
فَعَطَايَاهُمْ يَجُوزُ قَبُولُهَا عِنْدَ جَمِيعِ السَّلَفِ
وَالْخَلَفِ.
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: وَمَعَ الْجَوَازِ يَكُونُ
الأَْخْذُ تَحْتَ خَطَرِ احْتِمَال الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ،
فَيَتَأَثَّرُ قَلْبُهُ بِهِ، بَل وَيُطَالَبُ بِهِ فِي الآْخِرَةِ
إِنْ كَانَ الْمُعْطِي غَيْرَ مُسْتَقِيمِ الْحَال.
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ أُمَرَاءِ الْجَوْرِ وَغَيْرِهِمْ،
فَلاَ يَجُوزُ قَبُول عَطَايَا أُمَرَاءِ الْجَوْرِ؛ لأَِنَّ
الْغَالِبَ فِي مَالِهِمُ الْحُرْمَةُ، إِلاَّ إِذَا عَلِمَ أَنَّ
أَكْثَرَ مَالِهِ حَلاَلٌ، وَأَمَّا أُمَرَاءُ غَيْرِ الْجَوْرِ
فَيَجُوزُ الأَْخْذُ مِنْهُمْ.
وَذَهَبَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ إِلَى كَرَاهَةِ الأَْخْذِ. أَمَّا إِذَا
عَلِمَ أَنَّهَا حَرَامٌ فَلاَ يَجُوزُ أَخْذُهَا. (1)
وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيل ذَلِكَ إِلَى مُصْطَلَحِ (جَائِزَة) ف 7 (15 /
278)
صِلَةُ الرَّحِمِ
انْظُرْ: أَرْحَام، صِلَةٌ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 342، فتح العلي المالك 2 / 269، الفتاوى
الكبرى لابن حجر 3 / 373، المغني لابن قدامة 6 / 443.
(27/359)
صَلِيبٌ
انْظُرْ: تَصْلِيب
صَمْتٌ
انْظُرْ: سُكُوت
صَمْعَاءُ
انْظُرْ: أُضْحِيَّة