الموسوعة الفقهية الكويتية

صَلاَةُ الاِسْتِخَارَةِ

انْظُرْ: اسْتِخَارَة

صَلاَةُ الاِسْتِسْقَاءِ

انْظُرْ: اسْتِسْقَاء.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 297، 318، بدائع الصنائع 1 / 113، 167، 168، 170، حاشية الدسوقي 1 / 239، 279، شرح روض الطالب 1 / 187، 188، كشاف القناع 1 / 385، 402.

(27/132)


صَلاَةُ الإِْشْرَاقِ

التَّعْرِيفُ:
1 - سَبَقَ تَعْرِيفُ الصَّلاَةِ فِي بَحْثِ صَلاَةٌ.
وَأَمَّا الإِْشْرَاقُ: فَهُوَ مِنْ شَرِقَ، يُقَال:
شَرِقَتِ الشَّمْسُ شُرُوقًا، وَشَرْقًا أَيْضًا: طَلَعَتْ، وَأَشْرَقَتْ - بِالأَْلِفِ - أَضَاءَتْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُمَا بِمَعْنًى (1) .
وَصَلاَةُ الإِْشْرَاقِ - بِهَذَا الاِسْمِ - ذَكَرَهَا بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَا جَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِمْ، وَذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْكَلاَمِ عَلَى صَلاَةِ الضُّحَى.
فَفِي مِنْهَاجِ الطَّالِبِينَ وَشَرْحِهِ لِلْمَحَلِّيِّ قَال:
مِنَ النَّوَافِل الَّتِي لاَ يُسَنُّ لَهَا الْجَمَاعَةُ:
الضُّحَى: وَأَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ، وَأَكْثَرُهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَيُسَلِّمُ مِنْ كُل رَكْعَتَيْنِ. قَال الْقَلْيُوبِيُّ تَعْلِيقًا عَلَى قَوْلِهِ: (الضُّحَى) هِيَ صَلاَةُ الأَْوَّابِينَ وَصَلاَةُ الإِْشْرَاقِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ شَيْخِنَا الرَّمْلِيِّ وَشَيْخِنَا الزِّيَادِيِّ، وَقِيل:
كَمَا فِي الإِْحْيَاءِ: إِنَّهَا (أَيْ صَلاَةُ الإِْشْرَاقِ) صَلاَةُ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ.
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح.

(27/132)


وَفِي عَمِيرَةَ قَال الإِْسْنَوِيُّ: ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. أَنَّ صَلاَةَ الضُّحَى هِيَ صَلاَةُ الإِْشْرَاقِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِْشْرَاقِ} (1) أَيْ يُصَلِّينَ، لَكِنْ فِي الإِْحْيَاءِ أَنَّهَا غَيْرُهَا، وَأَنَّ صَلاَةَ الإِْشْرَاقِ رَكْعَتَانِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عِنْدَ زَوَال وَقْتِ الْكَرَاهَةِ (2) .
__________
(1) سورة ص الآية 18.
(2) القليوبي وعميرة 1 / 214 - 215.

(27/133)


صَلاَةُ الأَْوَّابِينَ

التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّلاَةُ، يُنْظَرُ تَعْرِيفُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَة) .
وَالأَْوَّابُونَ جَمْعُ أَوَّابٍ، وَفِي اللُّغَةِ: آبَ إِلَى اللَّهِ رَجَعَ عَنْ ذَنْبِهِ وَتَابَ.
وَالأَْوَّابُ: الرَّجَّاعُ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَى التَّوْبَةِ وَالطَّاعَةِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلْكَلِمَةِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
سُمِّيَتْ بِصَلاَةِ الأَْوَّابِينَ لِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَم مَرْفُوعًا: صَلاَةُ الأَْوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَال (2)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلاَثٍ لَسْتُ بِتَارِكِهِنَّ: أَنْ لاَ أَنَامَ إِلاَّ عَلَى وِتْرٍ، وَأَنْ لاَ أَدَعَ رَكْعَتَيِ الضُّحَى فَإِنَّهَا صَلاَةُ الأَْوَّابِينَ،
__________
(1) لسان العرب، والمعجم الوسيط وابن عابدين (1 / 453) .
(2) المجموع شرح المهذب (4 / 36) ، وشرح الآبي على مسلم (2 / 382) ، وحديث: " صلاة الأوابين "، أخرجه مسلم (1 / 516 - ط. الحلبي) .

(27/133)


وَصِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُل شَهْرٍ (1) .

وَقْتُ صَلاَةِ الأَْوَّابِينَ وَحُكْمُهَا:
2 - قَال الْجُمْهُورُ: هِيَ صَلاَةُ الضُّحَى، وَالأَْفْضَل فِعْلُهَا بَعْدَ رُبُعِ النَّهَارِ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ الأَْوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَال (2) فَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ الأَْوَّابِينَ هُوَ الَّذِي أَعْطَاهَا هَذِهِ التَّسْمِيَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ وَفِيهِ. . . وَأَنْ لاَ أَدَعَ رَكْعَتَيِ الضُّحَى فَإِنَّهَا صَلاَةُ الأَْوَّابِينَ.
وَلِذَلِكَ يَقُول الْفُقَهَاءُ: مَنْ أَتَى بِهَا (أَيْ بِصَلاَةِ الضُّحَى) كَانَ مِنَ الأَْوَّابِينَ (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل أَحْكَامِ صَلاَةِ الضُّحَى فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةُ الضُّحَى) .
3 - وَتُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى التَّنَفُّل بَعْدَ الْمَغْرِبِ.
فَقَالُوا: يُسْتَحَبُّ أَدَاءُ سِتِّ رَكَعَاتٍ بَعْدَ
__________
(1) الترغيب والترهيب 1 / 461، وحديث أبي هريرة: " أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث لست بتاركهن. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 56 - ط. السلفية) ، ومسلم (1 / 499 - ط. الحلبي) دون قوله: " صلاة الأوابين " وهي في صحيح ابن خزيمة (2 / 228 - ط. المكتب الإسلامي) .
(2) سبق تخريجه ف 1.
(3) ابن عابدين (1 / 458 - 459) ، والمواق بهامش الحطاب (2 / 67) ، والمجموع شرح المهذب (4 / 36) ، وأسنى المطالب (1 / 205) ، وكشاف القناع (1 / 442) ، والمغني (2 / 131 / 132) .

(27/134)


الْمَغْرِبِ لِيُكْتَبَ مِنَ الأَْوَّابِينَ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَفْضَلِيَّةِ هَذِهِ الصَّلاَةِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ سِتَّ رَكَعَاتٍ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيمَا بَيْنَهُنَّ بِسُوءٍ عَدَلْنَ لَهُ عِبَادَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً (1) .
قَال الْمَاوَرْدِيُّ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهَا وَيَقُول: هَذِهِ صَلاَةُ الأَْوَّابِينَ (2) .
وَيُؤْخَذُ مِمَّا جَاءَ عَنْ صَلاَةِ الضُّحَى وَالصَّلاَةِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ أَنَّ صَلاَةَ الأَْوَّابِينَ تُطْلَقُ عَلَى صَلاَةِ الضُّحَى، وَالصَّلاَةِ
__________
(1) حديث: " من صلى بعد المغرب ست ركعات. . . . ". أخرجه الترمذي (2 / 299 - ط. الحلبي) وقال: حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث زيد بن الحباب عن عمر بن خثعم، قال: وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: عمر بن عبد الله بن أبي خثعم منكر الحديث، وضعفه جدًا.
(2) ابن عابدين (1 / 453) ، والبدائع (1 / 285) ، حاشية أبي السعود على شرح الكنز (1 / 253) ، والحطاب (2 / 67) ، وأسنى المطالب (1 / 206) ، ومغني المحتاج (1 / 225) ، وكشاف القناع (1 / 424) ، وحديث كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها ويقول: " هذه صلاة الأوابين " هو حديث مركب من حديثين: الأول: صلاته ست ركعات، أخرجه الطبراني في معاجمه الثلاث كما في مجمع الزوائد (2 / 230) ، وقال الهيثمي: قال الطبراني: تفرد به صالح بن قطن البخاري. قلت: لم أج ونقل الشوكاني في نيل الأوطار (3 / 64) عن ابن الجوزي أنه قال: في هذه الطريق مجاهيل. وأما الحديث الاخر فقوله: " هذه صلاة الأوابين ". فأخرجه محمد بن نصر في قيام الليل كما في مختصره (ص 37) ، في حديث محمد بن المنكدر مرسلا.

(27/134)


بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. فَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ (1) .
4 - وَانْفَرَدَ الشَّافِعِيَّةُ بِتَسْمِيَةِ التَّطَوُّعِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِصَلاَةِ الأَْوَّابِينَ، وَقَالُوا: تُسَنُّ صَلاَةُ الأَْوَّابِينَ، وَتُسَمَّى صَلاَةُ الْغَفْلَةِ، لِغَفْلَةِ النَّاسِ عَنْهَا، وَاشْتِغَالِهِمْ بِغَيْرِهَا مِنْ عَشَاءٍ، وَنَوْمٍ، وَغَيْرِهِمَا، وَهِيَ عِشْرُونَ رَكْعَةً بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهَا سِتُّ رَكَعَاتٍ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (نَفْل) .
__________
(1) أسنى المطالب (1 / 206) ، ومغني المحتاج (1 / 225) .
(2) أسنى المطالب (1 / 206) .

(27/135)


صَلاَةُ التَّرَاوِيحِ
التَّعْرِيفُ:
1 - تَقَدَّمَ تَعْرِيفُ الصَّلاَةِ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَة) .
وَالتَّرَاوِيحُ: جَمْعُ تَرْوِيحَةٍ، أَيْ تَرْوِيحَةٌ لِلنَّفْسِ، أَيِ اسْتِرَاحَةٌ، مِنَ الرَّاحَةِ وَهِيَ زَوَال الْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ، وَالتَّرْوِيحَةُ فِي الأَْصْل اسْمٌ لِلْجِلْسَةِ مُطْلَقَةً، وَسُمِّيَتِ الْجِلْسَةُ الَّتِي بَعْدَ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ بِالتَّرْوِيحَةِ لِلاِسْتِرَاحَةِ، ثُمَّ سُمِّيَتْ كُل أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ تَرْوِيحَةً مَجَازًا، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الصَّلاَةُ بِالتَّرَاوِيحِ؛ لأَِنَّهُمْ كَانُوا يُطِيلُونَ الْقِيَامَ فِيهَا وَيَجْلِسُونَ بَعْدَ كُل أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ لِلاِسْتِرَاحَةِ (1) .
وَصَلاَةُ التَّرَاوِيحِ: هِيَ قِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ، مَثْنَى مَثْنَى، عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَدِ رَكَعَاتِهَا، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِهَا (2) .
__________
(1) المصباح المنير، قواعد الفقه 225، فتح القدير 1 / 333، حاشية العدوي على الكفاية 2 / 321.
(2) قواعد الفقه 352، الدسوقي 1 / 315، المجموع 4 / 30، المغني 2 / 165.

(27/135)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - إِحْيَاءُ اللَّيْل:
2 - إِحْيَاءُ اللَّيْل، وَيُطْلِقُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا قِيَامَ اللَّيْل، هُوَ: إِمْضَاءُ اللَّيْل، أَوْ أَكْثَرِهِ فِي الْعِبَادَةِ كَالصَّلاَةِ وَالذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
(ر: إِحْيَاءُ اللَّيْل) .
وَإِحْيَاءُ اللَّيْل: يَكُونُ فِي كُل لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الْعَامِ، وَيَكُونُ بِأَيٍّ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَذْكُورَةِ أَوْ نَحْوِهَا وَلَيْسَ بِخُصُوصِ الصَّلاَةِ.
أَمَّا صَلاَةُ التَّرَاوِيحِ فَتَكُونُ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ خَاصَّةً.

ب - التَّهَجُّدُ:
3 - التَّهَجُّدُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْهُجُودِ، وَيُطْلَقُ الْهُجُودُ عَلَى النَّوْمِ وَعَلَى السَّهَرِ، يُقَال: هَجَدَ إِذَا نَامَ بِاللَّيْل، وَيُقَال أَيْضًا هَجَدَ: إِذَا صَلَّى اللَّيْل، فَهُوَ مِنَ الأَْضْدَادِ، وَيُقَال: تَهَجَّدَ إِذَا أَزَال النَّوْمَ بِالتَّكَلُّفِ (1) .
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ: صَلاَةُ التَّطَوُّعِ فِي اللَّيْل بَعْدَ النَّوْمِ (2) .
وَالتَّهَجُّدُ - عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - صَلاَةُ التَّطَوُّعِ فِي اللَّيْل بَعْدَ النَّوْمِ، فِي أَيِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الْعَامِ.
__________
(1) المصباح المنير.
(2) مغني المحتاج 1 / 228.

(27/136)


أَمَّا صَلاَةُ التَّرَاوِيحِ فَلاَ يُشْتَرَطُ لَهَا أَنْ تَكُونَ بَعْدَ النَّوْمِ، وَهِيَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ خَاصَّةً.

ج - التَّطَوُّعُ:
4 - التَّطَوُّعُ هُوَ: مَا شُرِعَ زِيَادَةً عَلَى الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ مِنَ الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ زَائِدٌ عَلَى مَا فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَصَلاَةُ التَّطَوُّعِ أَوِ النَّافِلَةِ تَنْقَسِمُ إِلَى نَفْلٍ مُقَيَّدٍ وَمِنْهُ صَلاَةُ التَّرَاوِيحِ، وَإِلَى نَفْلٍ مُطْلَقٍ أَيْ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِوَقْتٍ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَطَوُّع) .

د - الْوِتْرُ:
5 - الْوِتْرُ هُوَ: الصَّلاَةُ الْمَخْصُوصَةُ بَعْدَ فَرِيضَةِ الْعِشَاءِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَِنَّ عَدَدَ رَكَعَاتِهَا وِتْرٌ لاَ شَفْعٌ (2) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى سُنِّيَّةِ صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ، وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَهِيَ سُنَّةٌ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ،
__________
(1) المصباح المنير، المفردات في غريب القرآن، التعريفات 84، 314، فتح القدير 1 / 333، والمجموع 4 / 2، نهاية المحتاج 2 / 100 - 101.
(2) قواعد الفقه 540، ورد المحتار 1 / 446، والخرشي 2 / 4، والمحلى على المنهاج 1 / 12، وكشاف القناع 1 / 422، والمغني 2 / 161.

(27/136)


وَهِيَ مِنْ أَعْلاَمِ الدِّينِ الظَّاهِرَةِ (1) .
وَقَدْ سَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَةَ التَّرَاوِيحِ وَرَغَّبَ فِيهَا، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ صِيَامَ رَمَضَانَ عَلَيْكُمْ، وَسَنَنْتُ لَكُمْ قِيَامَهُ. . . (2) وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَغِّبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ (3) فَيَقُول: مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ (4) قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ وَغَيْرُهُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ صَلاَةَ التَّرَاوِيحِ هِيَ الْمُرَادَةُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ.
وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ صَلاَةَ التَّرَاوِيحِ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي، وَلَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهَا، وَبَيَّنَ الْعُذْرَ فِي تَرْكِ الْمُوَاظَبَةِ وَهُوَ خَشْيَةُ أَنْ
__________
(1) الاختيار 1 / 68، رد المحتار 1 / 472، العدوي على كفاية الطالب 1 / 352، 2 / 321، الإقناع للشربيني 1 / 107، المجموع 4 / 31، مطالب أولي النهى 1 / 563.
(2) حديث: " إن الله فرض صيام رمضان عليكم، وسننت لكم قيامه ". أخرجه النسائي (4 / 158 - ط. المكتبة التجارية) من حديث عبد الرحمن بن عوف، وأشار قبلها إلى إعلال هذه الرواية.
(3) المعنى: لا يأمرهم به أمر تحتيم وإلزام وهو العزيمة، بل أمر ندب وترغيب فيه بذكر فضله. المجموع 4 / 31، الإقناع 1 / 107، الترغيب والترهيب 2 / 90.
(4) حديث أبي هريرة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 250 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 523 - ط. الحلبي) .

(27/137)


تُكْتَبَ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا، فَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى بِصَلاَتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ الثَّالِثَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَال: قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ، فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلاَّ أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ زَادَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ: فَتُوُفِّيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالأَْمْرُ عَلَى ذَلِكَ (1) .
وَفِي تَعْيِينِ اللَّيَالِي الَّتِي قَامَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ رَوَى أَبُو ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: صُمْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَضَانَ فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْل، فَلَمَّا كَانَتِ السَّادِسَةُ لَمْ يَقُمْ بِنَا، فَلَمَّا كَانَتِ الْخَامِسَةُ قَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْل، فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ لَوْ نَفَلْتَنَا قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ؟ قَال: فَقَال: إِنَّ الرَّجُل إِذَا صَلَّى مَعَ الإِْمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ قَال: فَلَمَّا كَانَتِ الرَّابِعَةُ لَمْ يَقُمْ، فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ جَمَعَ أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ وَالنَّاسَ فَقَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلاَحُ قَال: قُلْتُ: وَمَا
__________
(1) حديث عائشة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد فصلى بصلاته ناس. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 251 - ط. السلفية) ، ومسلم (1 / 524 ط. الحلبي) .

(27/137)


الْفَلاَحُ؟ قَال: السَّحُورُ، ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا بَقِيَّةَ الشَّهْرِ (1) .
وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَال: قُمْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَيْلَةَ ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْل الأَْوَّل، ثُمَّ قُمْنَا مَعَهُ لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ إِلَى نِصْفِ اللَّيْل، ثُمَّ قُمْنَا مَعَهُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ لاَ نُدْرِكَ الْفَلاَحَ وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ السَّحُورَ (2) .
وَقَدْ وَاظَبَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ جَمَاعَةً، وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هُوَ الَّذِي جَمَعَ النَّاسَ فِيهَا عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ.
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِيَّ، قَال: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُل
__________
(1) حديث أبي ذر: " صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان. . ". أخرجه أبو داود (2 / 105 - ط. عزت عبيد دعاس) ، والترمذي (3 / 160 - ط. الحلبي) ، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(2) فتح القدير 1 / 333، الإقناع للشربيني 1 / 107، نهاية المحتاج 2 / 121، المغني 2 / 166، الترغيب والترهيب 2 / 105، نيل الأوطار 3 / 5، وحديث النعمان بن بشير: " قمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان ". أخرجه النسائي (3 / 203 - ط. المكتبة التجارية) والحاكم (1 / 440 - ط. دائرة المعارف العثمانية) وحسنه الذهبي.

(27/138)


لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُل فَيُصَلِّي بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ، فَقَال عُمَرُ: إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاَءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَل، ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ قَارِئِهِمْ، فَقَال: نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَل مِنَ الَّتِي يَقُومُونَ. يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْل، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ (1) .
وَرَوَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَال: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنِ التَّرَاوِيحِ وَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ، فَقَال: التَّرَاوِيحُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلَمْ يَتَخَرَّصْ (2) عُمَرُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مُبْتَدِعًا، وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ إِلاَّ عَنْ أَصْلٍ لَدَيْهِ وَعَهْدٍ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَقَدْ سَنَّ عُمَرُ هَذَا وَجَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَصَلاَّهَا جَمَاعَةً وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارِ وَمَا رَدَّ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، بَل سَاعَدُوهُ وَوَافَقُوهُ وَأَمَرُوا بِذَلِكَ (3) .
__________
(1) أثر عمر: " نعمت البدعة هذه ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 250 - ط. السلفية) .
(2) من معاني الخرص: الكذب، وكل قول بالظن، يقال: تخرص عليه إذا افترى، واخترص إذا اختلق. (القاموس المحيط) .
(3) فتح القدير 1 / 333، الاختيار 1 / 68 - 69، المغني 2 / 166، المنتقى 1 / 207.

(27/138)


فَضْل صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ:
7 - بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ مَنْزِلَةَ التَّرَاوِيحِ بَيْنَ نَوَافِل الصَّلاَةِ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: التَّرَاوِيحُ مِنَ النَّوَافِل الْمُؤَكَّدَةِ، حَيْثُ قَالُوا: وَتَأَكُّدُ تَرَاوِيحَ، وَهُوَ قِيَامُ رَمَضَانَ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: التَّطَوُّعُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ وَهُوَ أَفْضَل مِمَّا لاَ تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ لِتَأَكُّدِهِ بِسَنِّهَا لَهُ، وَلَهُ مَرَاتِبُ:
فَأَفْضَلُهُ الْعِيدَانِ ثُمَّ الْكُسُوفُ لِلشَّمْسِ، ثُمَّ الْخُسُوفُ لِلْقَمَرِ، ثُمَّ الاِسْتِسْقَاءُ، ثُمَّ التَّرَاوِيحُ. . . وَقَالُوا: الأَْصَحُّ أَنَّ الرَّوَاتِبَ وَهِيَ التَّابِعَةُ لِلْفَرَائِضِ أَفْضَل مِنَ التَّرَاوِيحِ وَإِنْ سُنَّ لَهَا الْجَمَاعَةُ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاظَبَ عَلَى الرَّوَاتِبِ دُونَ التَّرَاوِيحِ.
قَال شَمْسُ الدِّينِ الرَّمْلِيُّ: وَالْمُرَادُ تَفْضِيل الْجِنْسِ عَلَى الْجِنْسِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ لِعَدَدٍ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: أَفْضَل صَلاَةِ تَطَوُّعٍ مَا سُنَّ أَنْ يُصَلَّى جَمَاعَةً؛ لأَِنَّهُ أَشْبَهُ بِالْفَرَائِضِ ثُمَّ الرَّوَاتِبُ، وَآكَدُ مَا يُسَنُّ جَمَاعَةً: كُسُوفٌ فَاسْتِسْقَاءٌ فَتَرَاوِيحُ (3) .
__________
(1) الدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 315.
(2) أسنى المطالب 1 / 200، نهاية المحتاج 2 / 120.
(3) مطالب أولي النهى 1 / 545.

(27/139)


تَارِيخُ مَشْرُوعِيَّةِ صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ وَالْجَمَاعَةِ فِيهَا:
8 - رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْل لَيَالِيَ مِنْ رَمَضَانَ وَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، وَصَلَّى النَّاسُ بِصَلاَتِهِ، وَتَكَاثَرُوا فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ فِي الرَّابِعَةِ، وَقَال لَهُمْ: خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا (1) .
قَال الْقَلْيُوبِيُّ: هَذَا يُشْعِرُ أَنَّ صَلاَةَ التَّرَاوِيحِ لَمْ تُشْرَعْ إِلاَّ فِي آخِرِ سِنِي الْهِجْرَةِ لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ أَنَّهُ صَلاَّهَا مَرَّةً ثَانِيَةً وَلاَ وَقَعَ عَنْهَا سُؤَالٌ (2) .
وَجَمَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - النَّاسَ فِي التَّرَاوِيحِ عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ، لِنَحْوِ سَنَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ خِلاَفَتِهِ، وَفِي رَمَضَانَ الثَّانِي مِنْ خِلاَفَتِهِ (3) .

النِّدَاءُ لِصَلاَةِ التَّرَاوِيحِ:
9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ أَذَانَ وَلاَ إِقَامَةَ لِغَيْرِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذَّنَ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ دُونَ
__________
(1) حديث عائشة - رضي الله عنها - تقدم تخريجه ف 6.
(2) شرح المحلى وحاشية القليوبي 1 / 217.
(3) حاشية العدوي على كفاية الطالب 1 / 352، المصابيح في صلاة التراويح للسيوطي ص 37، نهاية المحتاج 1 / 122.

(27/139)


مَا سِوَاهَا مِنَ الْوِتْرِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَالْكُسُوفِ، وَالْخُسُوفِ، وَالاِسْتِسْقَاءِ، وَصَلاَةِ الْجِنَازَةِ، وَالسُّنَنِ وَالنَّوَافِل.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُنَادَى لِجَمَاعَةِ غَيْرِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ: الصَّلاَةُ جَامِعَةٌ، وَنَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَهُ: لاَ أَذَانَ وَلاَ إِقَامَةَ لِغَيْرِ الْمَكْتُوبَةِ، فَأَمَّا الأَْعْيَادُ وَالْكُسُوفُ وَقِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَأُحِبُّ أَنْ يُقَال: الصَّلاَةَ جَامِعَةً.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى الشَّيْخَانِ أَنَّهُ لَمَّا كُسِفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُودِيَ: إِنَّ الصَّلاَةَ جَامِعَةٌ (1) وَقِيسَ بِالْكُسُوفِ غَيْرُهُ مِمَّا تُشْرَعُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ وَمِنْهَا التَّرَاوِيحُ.
وَكَالصَّلاَةِ جَامِعَةً: الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ، أَوْ هَلُمُّوا إِلَى الصَّلاَةِ، أَوِ الصَّلاَةَ رَحِمَكُمُ اللَّهُ، أَوْ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ خِلاَفًا لِبَعْضِهِمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُنَادَى عَلَى التَّرَاوِيحِ " الصَّلاَةَ جَامِعَةً " لأَِنَّهُ مُحْدَثٌ (2) .

تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ:
10 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ
__________
(1) حديث: " الصلاة جامعة في الكسوف ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 533 - ط. السلفية) ، ومسلم (2 / 627 - ط. الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو.
(2) العناية على الهداية بهامش فتح القدير 1 / 167، مواهب الجليل 1 / 423، نهاية المحتاج 1 / 385 - 386، القليوبي 1 / 125، تحفة المحتاج 1 / 461 - 462، كشاف القناع 1 / 233 - 234.

(27/140)


الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى اشْتِرَاطِ تَعْيِينِ النِّيَّةِ فِي التَّرَاوِيحِ، فَلاَ تَصِحُّ التَّرَاوِيحُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ، بَل يَنْوِي صَلاَةَ رَكْعَتَيْنِ مِنْ قِيَامِ رَمَضَانَ أَوْ مِنَ التَّرَاوِيحِ لِحَدِيثِ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (1) وَلِيَتَمَيَّزَ إِحْرَامُهُ بِهِمَا عَنْ غَيْرِهِ.
وَعَلَّل الْحَنَفِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ قَوْلَهُمْ بِأَنَّ التَّرَاوِيحَ سُنَّةٌ، وَالسُّنَّةُ عِنْدَهُمْ لاَ تَتَأَدَّى بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الصَّلاَةِ أَوْ نِيَّةِ التَّطَوُّعِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ: لاَ تَتَأَدَّى رَكْعَتَا الْفَجْرِ إِلاَّ بِنِيَّةِ السُّنَّةِ.
لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَجْدِيدِ النِّيَّةِ لِكُل رَكْعَتَيْنِ مِنَ التَّرَاوِيحِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ فِي الْخُلاَصَةِ: الصَّحِيحُ نَعَمْ؛ لأَِنَّهُ صَلاَةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَفِي الْخَانِيَّةِ: الأَْصَحُّ لاَ، فَإِنَّ الْكُل بِمَنْزِلَةِ صَلاَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ قَال وَيَظْهَرُ لِي (تَرْجِيحُ) التَّصْحِيحِ الأَْوَّل؛ لأَِنَّهُ بِالسَّلاَمِ خَرَجَ مِنَ الصَّلاَةِ حَقِيقَةً، فَلاَ بُدَّ مِنْ دُخُولِهِ فِيهَا بِالنِّيَّةِ، وَلاَ شَكَّ أَنَّهُ الأَْحْوَطُ خُرُوجًا مِنَ الْخِلاَفِ.
وَقَال عَامَّةُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ التَّرَاوِيحَ وَسَائِرَ السُّنَنِ تَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ؛ لأَِنَّهَا وَإِنْ
__________
(1) حديث: " إنما الأعمال بالنيات. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 9 - ط. السلفية) ، ومسلم (3 / 1515 - الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب، واللفظ للبخاري.

(27/140)


كَانَتْ سُنَّةً لاَ تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا نَافِلَةً، وَالنَّوَافِل تَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الاِحْتِيَاطَ أَنْ يَنْوِيَ التَّرَاوِيحَ أَوْ سُنَّةَ الْوَقْتِ أَوْ قِيَامَ رَمَضَانَ احْتِرَازًا عَنْ مَوْضِعِ الْخِلاَفِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ فِي كُل رَكْعَتَيْنِ مِنَ التَّرَاوِيحِ أَنْ يَنْوِيَ فَيَقُول سِرًّا:
أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مِنَ التَّرَاوِيحِ الْمَسْنُونَةِ أَوْ مِنْ قِيَامِ رَمَضَانَ (1) .

عَدَدُ رَكَعَاتِ التَّرَاوِيحِ:
11 - قَال السُّيُوطِيُّ: الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ الأَْحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَالْحِسَانُ الأَْمْرُ بِقِيَامِ رَمَضَانَ وَالتَّرْغِيبُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِعَدَدٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى التَّرَاوِيحَ عِشْرِينَ رَكْعَةً، وَإِنَّمَا صَلَّى لَيَالِيَ صَلاَةً لَمْ يُذْكَرْ عَدَدُهَا، ثُمَّ تَأَخَّرَ فِي اللَّيْلَةِ الرَّابِعَةِ خَشْيَةَ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا (2) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ: لَمْ يَصِحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى التَّرَاوِيحَ عِشْرِينَ رَكْعَةً، وَمَا وَرَدَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عِشْرِينَ رَكْعَةً فَهُوَ شَدِيدُ الضَّعْفِ (3) .
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِيمَا كَانَ يُصَلَّى بِهِ فِي
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 288، رد المحتار 1 / 473، روض الطالبين 1 / 334، أسنى المطالب 1 / 201، كشاف القناع 1 / 426، مطالب أولي النهى 1 / 563 - 564.
(2) المصابيح في صلاة التراويح ص 14 - 15.
(3) الفتاوى الكبرى 1 / 194.

(27/141)


رَمَضَانَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ - إِلَى أَنَّ التَّرَاوِيحَ عِشْرُونَ رَكْعَةً، لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ مِنْ قِيَامِ النَّاسِ فِي زَمَانِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِعِشْرِينَ رَكْعَةً، وَجَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ مِنَ الرَّكَعَاتِ جَمْعًا مُسْتَمِرًّا، قَال الْكَاسَانِيُّ: جَمَعَ عُمَرُ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَصَلَّى بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ (1) .
وَقَال الدُّسُوقِيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَ عَلَيْهِ عَمَل الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ (2) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: عَلَيْهِ عَمَل النَّاسِ شَرْقًا وَغَرْبًا (3) .
وَقَال عَلِيٌّ السَّنْهُورِيُّ: هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَل النَّاسِ وَاسْتَمَرَّ إِلَى زَمَانِنَا فِي سَائِرِ الأَْمْصَارِ (4)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَهَذَا فِي مَظِنَّةِ الشُّهْرَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 288، وأثر عمر تقدم تخريجه ف 6.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 315.
(3) رد المحتار 1 / 474.
(4) شرح الزرقاني 1 / 284.

(27/141)


بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إِجْمَاعًا (1) وَالنُّصُوصُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَرَوَى مَالِكٌ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَال: أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، قَال: وَقَدْ كَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِئِينَ، حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدَ عَلَى الْعِصِيِّ مِنْ طُول الْقِيَامِ، وَمَا كُنَّا نَنْصَرِفُ إِلاَّ فِي فُرُوعِ الْفَجْرِ (2) .
وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ أَنَّهُ قَال: كَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي رَمَضَانَ بِثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً، قَال الْبَيْهَقِيُّ وَالْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُمَا: أَيْ بِعَشْرَيْنَ رَكْعَةً غَيْرَ الْوِتْرِ ثَلاَثَ رَكَعَاتٍ (3) ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
__________
(1) كشاف القناع 1 / 425.
(2) أثر عمر بن الخطاب أنه أمر أبيَّ بن كعب وتميمًا الداري. . . . أخرجه مالك (1 / 115 - ط. الحلبي) وانظر المنتقى 1 / 208.
(3) أثر يزيد بن رومان أنه قال: كان الناس يقومون في زمان عمر. أخرجه مالك (1 / 115 - ط. الحلبي) وأورده النووي في المجموع (4 / 33) وقال: مرسل، يزيد بن رومان لم يدرك عمر، وانظر المنتقى 1 / 209، وشرح المنهاج للمحلي 1 / 217.

(27/142)


فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً (1)
قَال الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ عُمَرُ أَمَرَهُمْ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَأَمَرَهُمْ مَعَ ذَلِكَ بِطُول الْقِرَاءَةِ، يَقْرَأُ الْقَارِئُ بِالْمِئِينَ فِي الرَّكْعَةِ؛ لأَِنَّ التَّطْوِيل فِي الْقِرَاءَةِ أَفْضَل الصَّلاَةِ، فَلَمَّا ضَعُفَ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً عَلَى وَجْهِ التَّخْفِيفِ عَنْهُمْ مِنْ طُول الْقِيَامِ، وَاسْتَدْرَكَ بَعْضُ الْفَضِيلَةِ بِزِيَادَةِ الرَّكَعَاتِ (2) .
وَقَال الْعَدَوِيُّ: الإِْحْدَى عَشْرَةَ كَانَتْ مَبْدَأَ الأَْمْرِ، ثُمَّ انْتَقَل إِلَى الْعِشْرِينَ. وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ: رَجَعَ عُمَرُ إِلَى ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً (3)
وَخَالَفَ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ مَشَايِخَ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعِشْرِينَ سُنَّةٌ فِي التَّرَاوِيحِ فَقَال: قِيَامُ رَمَضَانَ سُنَّةٌ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً بِالْوِتْرِ فِي جَمَاعَةٍ، فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ، أَفَادَ أَنَّهُ لَوْلاَ خَشْيَةَ فَرْضِهِ عَلَيْهِمْ لَوَاظَبَ بِهِمْ، وَلاَ شَكَّ فِي تَحَقُّقِ الأَْمْنِ مِنْ ذَلِكَ بِوَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ سُنَّةً، وَكَوْنُهَا عِشْرِينَ سُنَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ (4)
__________
(1) فتح القدير 1 / 334، والمغني 1 / 208، والمجموع 4 / 32 - 33.
(2) المنتقى 2 / 208.
(3) حاشية العدوي على كفاية الطالب 1 / 353.
(4) حديث: " عليكم بسنتي ". أخرجه أبو داود (5 / 14 - ط. عزت عبيد دعاس) ، والترمذي (5 / 44 - ط. الحلبي) من حديث العرباض بن سارية. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

(27/142)


نَدْبٌ إِلَى سُنَّتِهِمْ، وَلاَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ ذَلِكَ سُنَّتَهُ؛ إِذْ سُنَّتُهُ بِمُوَاظَبَتِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ إِلاَّ لِعُذْرٍ، وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ ذَلِكَ الْعُذْرِ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُ، فَتَكُونُ الْعِشْرُونَ مُسْتَحَبًّا، وَذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْهَا هُوَ السُّنَّةُ، كَالأَْرْبَعِ بَعْدَ الْعِشَاءِ مُسْتَحَبَّةٌ وَرَكْعَتَانِ مِنْهَا هِيَ السُّنَّةُ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْمَشَايِخِ أَنَّ السُّنَّةَ عِشْرُونَ، وَمُقْتَضَى الدَّلِيل مَا قُلْنَا فَيَكُونُ هُوَ الْمَسْنُونَ، أَيْ فَيَكُونُ الْمَسْنُونُ مِنْهَا ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ وَالْبَاقِي مُسْتَحَبًّا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْقِيَامُ فِي رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً أَوْ بِسِتٍّ وَثَلاَثِينَ وَاسِعٌ أَيْ جَائِزٌ، فَقَدْ كَانَ السَّلَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يَقُومُونَ فِي رَمَضَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي الْمَسَاجِدِ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً، ثُمَّ يُوتِرُونَ بِثَلاَثٍ، ثُمَّ صَلُّوا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ سِتًّا وَثَلاَثِينَ رَكْعَةً غَيْرَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ، قَال: هُوَ الَّذِي لَمْ يَزَل عَلَيْهِ عَمَل النَّاسِ أَيْ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،
__________
(1) فتح القدير 1 / 333 - 334.

(27/143)


وَقَالُوا: كَرِهَ مَالِكٌ نَقْصَهَا عَمَّا جُعِلَتْ بِالْمَدِينَةِ.
وَعَنْ مَالِكٍ - أَيْ فِي غَيْرِ الْمُدَوَّنَةِ - قَال: الَّذِي يَأْخُذُ بِنَفْسِي فِي ذَلِكَ الَّذِي جَمَعَ عُمَرُ عَلَيْهِ النَّاسَ، إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْهَا الْوِتْرُ، وَهِيَ صَلاَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْمَذْهَبِ أَقْوَالٌ وَتَرْجِيحَاتٌ أُخْرَى (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلأَِهْل الْمَدِينَةِ فِعْلُهَا سِتًّا وَثَلاَثِينَ؛ لأَِنَّ الْعِشْرِينَ خَمْسُ تَرْوِيحَاتٍ، وَكَانَ أَهْل مَكَّةَ يَطُوفُونَ بَيْنَ كُل تَرْوِيحَتَيْنِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، فَحَمَل أَهْل الْمَدِينَةِ بَدَل كُل أُسْبُوعٍ تَرْوِيحَةً لِيُسَاوُوهُمْ، قَال الشَّيْخَانِ: وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ. . وَهُوَ الأَْصَحُّ كَمَا قَال الرَّمْلِيُّ لأَِنَّ لأَِهْل الْمَدِينَةِ شَرَفًا بِهِجْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَدْفِنِهِ، وَخَالَفَ الْحَلِيمِيُّ فَقَال: وَمَنَ اقْتَدَى بِأَهْل الْمَدِينَةِ فَقَامَ بِسِتٍّ وَثَلاَثِينَ فَحَسَنٌ أَيْضًا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَنْقُصُ مِنَ الْعِشْرِينَ رَكْعَةً، وَلاَ بَأْسَ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا نَصًّا، قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: رَأَيْتُ أَبِي يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ مَا لاَ أُحْصِي، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَْسْوَدُ يَقُومُ بِأَرْبَعِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ بَعْدَهَا بِسَبْعٍ (3) .
__________
(1) كفاية الطالب 1 / 353 شرح الزرقاني 1 / 284.
(2) أسنى المطالب 1 / 201، نهاية المحتاج 2 / 123.
(3) مطالب أولي النهى 1 / 563، كشاف القناع 1 / 425.

(27/143)


قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَالأَْفْضَل يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ أَحْوَال الْمُصَلِّينَ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمُ احْتِمَالٌ لِطُول الْقِيَامِ، فَالْقِيَامُ بِعَشْرِ رَكَعَاتٍ وَثَلاَثٍ بَعْدَهَا، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ هُوَ الأَْفْضَل. وَإِنْ كَانُوا لاَ يَحْتَمِلُونَهُ فَالْقِيَامُ بِعِشْرِينَ هُوَ الأَْفْضَل. وَهُوَ الَّذِي يَعْمَل بِهِ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَ الْعَشْرِ وَبَيْنَ الأَْرْبَعِينَ، وَإِنْ قَامَ بِأَرْبَعِينَ وَغَيْرِهَا جَازَ ذَلِكَ وَلاَ يُكْرَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الأَْئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. قَال: وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ فِيهِ عَدَدٌ مُوَقَّتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يُزَادُ فِيهِ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْهُ فَقَدْ أَخْطَأَ (1) .

الاِسْتِرَاحَةُ بَيْنَ كُل تَرْوِيحَتَيْنِ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الاِسْتِرَاحَةِ بَعْدَ كُل أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ؛ لأَِنَّهُ الْمُتَوَارَثُ عَنِ السَّلَفِ، فَقَدْ كَانُوا يُطِيلُونَ الْقِيَامَ فِي التَّرَاوِيحِ وَيَجْلِسُ الإِْمَامُ وَالْمَأْمُومُونَ بَعْدَ كُل أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ لِلاِسْتِرَاحَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُنْدَبُ الاِنْتِظَارُ بَيْنَ كُل تَرْوِيحَتَيْنِ، وَيَكُونُ قَدْرَ تَرْوِيحَةٍ، وَيَشْغَل هَذَا الاِنْتِظَارَ بِالسُّكُوتِ أَوِ الصَّلاَةِ فُرَادَى أَوِ الْقِرَاءَةِ أَوِ التَّسْبِيحِ.
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 22 / 272.

(27/144)


وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ بَأْسَ بِتَرْكِ الاِسْتِرَاحَةِ بَيْنَ كُل تَرْوِيحَتَيْنِ، وَلاَ يُسَنُّ دُعَاءٌ مُعَيَّنٌ إِذَا اسْتَرَاحَ لِعَدَمِ وُرُودِهِ (1) .

التَّسْلِيمُ فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ:
13 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ يُصَلِّي التَّرَاوِيحَ يُسَلِّمُ مِنْ كُل رَكْعَتَيْنِ؛ لأَِنَّ التَّرَاوِيحَ مِنْ صَلاَةِ اللَّيْل فَتَكُونُ مَثْنَى مَثْنَى، لِحَدِيثِ: صَلاَةُ اللَّيْل مَثْنَى مَثْنَى (2) وَلأَِنَّ التَّرَاوِيحَ تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ فَيُرَاعَى فِيهَا التَّيْسِيرُ بِالْقَطْعِ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ لأَِنَّ مَا كَانَ أَدْوَمَ تَحْرِيمَةً كَانَ أَشَقَّ عَلَى النَّاسِ (3) .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ صَلَّى التَّرَاوِيحَ وَلَمْ يُسَلِّمْ مِنْ كُل رَكْعَتَيْنِ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ صَلَّى التَّرَاوِيحَ كُلَّهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَقَعَدَ فِي كُل رَكْعَتَيْنِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَصِحُّ صَلاَتُهُ عَنِ الْكُل؛ لأَِنَّهُ قَدْ أَتَى بِجَمِيعِ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ وَشَرَائِطِهَا؛ لأَِنَّ تَجْدِيدَ
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 1 / 474، العدوي على كفاية الطالب 2 / 321، أسنى المطالب 1 / 200، مطالب أولي النهى 1 / 564.
(2) حديث: " صلاة الليل مثنى مثنى ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 477 - ط. السلفية) ، ومسلم (1 / 516 - ط. الحلبي) من حديث ابن عمر
(3) فتح القدير 1 / 321، بدائع الصنائع 1 / 288، العدوي على كفاية الطالب 1 / 353، أسنى المطالب 1 / 200، كشاف القناع 1 / 426.

(27/144)


التَّحْرِيمَةِ لِكُل رَكْعَتَيْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُمْ، لَكِنَّهُ يُكْرَهُ إِنْ تَعَمَّدَ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ؛ لِمُخَالَفَتِهِ الْمُتَوَارَثَ، وَتَصْرِيحُهُمْ بِكَرَاهَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى ثَمَانٍ فِي صَلاَةِ مُطْلَقِ التَّطَوُّعِ فَهُنَا أَوْلَى.
وَقَالُوا: إِذَا لَمْ يَقْعُدْ فِي كُل رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً فَإِنَّ صَلاَتَهُ تَفْسُدُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَلاَ تَفْسُدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَالأَْصَحُّ أَنَّهَا تَجُوزُ عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لأَِنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَكُونَ الشَّفْعُ الأَْوَّل كَامِلاً، وَكَمَالُهُ بِالْقَعْدَةِ وَلَمْ تُوجَدْ، وَالْكَامِل لاَ يَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ لِمَنْ صَلَّى التَّرَاوِيحَ التَّسْلِيمُ مِنْ كُل رَكْعَتَيْنِ، وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ التَّسْلِيمِ بَعْدَ كُل أَرْبَعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَل عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ فَالأَْفْضَل لَهُ السَّلاَمُ بَعْدَ كُل رَكْعَتَيْنِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ صَلَّى فِي التَّرَاوِيحِ أَرْبَعًا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَصِحَّ، فَتَبْطُل إِنْ كَانَ عَامِدًا عَالِمًا، وَإِلاَّ صَارَتْ نَفْلاً مُطْلَقًا، وَذَلِكَ لأَِنَّ التَّرَاوِيحَ أَشْبَهَتِ الْفَرَائِضَ فِي طَلَبِ الْجَمَاعَةِ فَلاَ تُغَيَّرُ عَمَّا وَرَدَ (3) .
وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَابِلَةِ كَلاَمًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
__________
(1) رد المحتار 1 / 474، بدائع الصنائع 1 / 289.
(2) حاشية العدوي على كفاية الطالب 1 / 353
(3) نهاية المحتاج 2 / 123، أسنى المطالب 1 / 201، القليوبي 1 / 217

(27/145)


الْقُعُودُ فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ:
14 - جَاءَ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مَنْ يُصَلِّي التَّرَاوِيحَ قَاعِدًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ تَنْزِيهًا لأَِنَّهُ خِلاَفُ السُّنَّةِ الْمُتَوَارَثَةِ (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: يُكْرَهُ لِلْمُقْتَدِي أَنْ يَقْعُدَ فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ، فَإِذَا أَرَادَ الإِْمَامُ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ إِظْهَارَ التَّكَاسُل فِي الصَّلاَةِ وَالتَّشَبُّهَ بِالْمُنَافِقِينَ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى} (2) فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِكَسَلٍ بَل لِكِبَرٍ وَنَحْوِهِ لاَ يُكْرَهُ (3) ، وَلَمْ نَجِدْ مِثْل هَذَا لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ.

وَقْتُ صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ:
15 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ وَقْتَ صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ مِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ، وَقَبْل الْوِتْرِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ لِنَقْل الْخَلَفِ عَنِ السَّلَفِ، وَلأَِنَّهَا عُرِفَتْ بِفِعْل الصَّحَابَةِ فَكَانَ وَقْتُهَا مَا صَلَّوْا فِيهِ، وَهُمْ صَلَّوْا بَعْدَ الْعِشَاءِ قَبْل الْوِتْرِ؛ وَلأَِنَّهَا سُنَّةٌ تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ فَكَانَ وَقْتُهَا قَبْل الْوِتْرِ.
وَلَوْ صَلاَّهَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَقَبْل الْعِشَاءِ
__________
(1) الاختيار 1 / 69، والدر المختار مع حاشية ابن عابدين 1 / 475، وبدائع الصنائع 1 / 290.
(2) سورة النساء / 142.
(3) رد المحتار 1 / 475.

(27/145)


فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهَا لاَ تُجْزِئُ عَنِ التَّرَاوِيحِ، وَتَكُونُ نَافِلَةً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا تَصِحُّ؛ لأَِنَّ جَمِيعَ اللَّيْل إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ قَبْل الْعِشَاءِ وَبَعْدَهَا وَقْتٌ لِلتَّرَاوِيحِ؛ لأَِنَّهَا سُمِّيَتْ قِيَامَ اللَّيْل فَكَانَ وَقْتُهَا اللَّيْل.
وَعَلَّل الْحَنَابِلَةُ عَدَمَ الصِّحَّةِ بِأَنَّهَا تُفْعَل بَعْدَ مَكْتُوبَةٍ وَهِيَ الْعِشَاءُ فَلَمْ تَصِحَّ قَبْلَهَا كَسُنَّةِ الْعِشَاءِ، وَقَالُوا: إِنَّ التَّرَاوِيحَ تُصَلَّى بَعْدَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ وَبَعْدَ سُنَّتِهَا، قَال الْمَجْدُ: لأَِنَّ سُنَّةَ الْعِشَاءِ يُكْرَهُ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِ الْعِشَاءِ الْمُخْتَارِ، فَكَانَ إِتْبَاعُهَا لَهَا أَوْلَى.
وَلَوْ صَلاَّهَا بَعْدَ الْعِشَاءِ وَبَعْدَ الْوِتْرِ فَالأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا تُجْزِئُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ التَّرَاوِيحِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْل أَوْ نِصْفِهِ، وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي أَدَائِهَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْل، فَقِيل يُكْرَهُ؛ لأَِنَّهَا تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ كَسُنَّتِهَا، وَالصَّحِيحُ لاَ يُكْرَهُ لأَِنَّهَا مِنْ صَلاَةِ اللَّيْل وَالأَْفْضَل فِيهَا آخِرُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ صَلاَتَهَا أَوَّل اللَّيْل أَفْضَل؛ لأَِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَوَّلَهُ، وَقَدْ قِيل

(27/146)


لأَِحْمَد: يُؤَخَّرُ الْقِيَامُ أَيْ فِي التَّرَاوِيحِ إِلَى آخِرِ اللَّيْل؟ قَال: سُنَّةُ الْمُسْلِمِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ (1) .

الْجَمَاعَةُ فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجَمَاعَةِ فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ؛ لِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَبَقَ، وَلِفِعْل الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ - وَمَنْ تَبِعَهُمْ مُنْذُ زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ وَلاِسْتِمْرَارِ الْعَمَل عَلَيْهِ حَتَّى الآْنِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ سُنَّةٌ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: صَلاَةُ التَّرَاوِيحِ بِالْجَمَاعَةِ سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ فِي الأَْصَحِّ، فَلَوْ تَرَكَهَا الْكُل أَسَاءُوا، أَمَّا لَوْ تَخَلَّفَ عَنْهَا رَجُلٌ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ وَصَلَّى فِي بَيْتِهِ فَقَدْ تَرَكَ الْفَضِيلَةَ، وَإِنْ صَلَّى فِي الْبَيْتِ بِالْجَمَاعَةِ لَمْ يَنَل فَضْل جَمَاعَةِ الْمَسْجِدِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تُنْدَبُ صَلاَةُ التَّرَاوِيحِ فِي الْبُيُوتِ إِنْ لَمْ تُعَطَّل الْمَسَاجِدُ، وَذَلِكَ لِخَبَرِ: عَلَيْكُمْ بِالصَّلاَةِ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ خَيْرَ صَلاَةِ
__________
(1) رد المحتار 1 / 473، ومواهب الجليل 3 / 70، شرح الزرقاني 1 / 283، أسنى المطالب 1 / 203، فتح القدير 1 / 334، المغني 3 / 170، كشاف القناع 1 / 426.
(2) ابن عابدين 1 / 473 - 476.

(27/146)


الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ (1) وَلِخَوْفِ الرِّيَاءِ وَهُوَ حَرَامٌ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا صَلاَّهَا فِي بَيْتِهِ، هَل يُصَلِّيهَا وَحْدَهُ أَوْ مَعَ أَهْل بَيْتِهِ؟ قَوْلاَنِ، قَال الزَّرْقَانِيُّ: لَعَلَّهُمَا فِي الأَْفْضَلِيَّةِ سَوَاءٌ.
وَنَدْبُ صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ - فِي الْبُيُوتِ عِنْدَهُمْ - مَشْرُوطٌ بِثَلاَثَةِ أُمُورٍ: أَنْ لاَ تُعَطَّل الْمَسَاجِدُ، وَأَنْ يَنْشَطَ لِفِعْلِهَا فِي بَيْتِهِ، وَلاَ يَقْعُدَ عَنْهَا، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ آفَاقِيٍّ بِالْحَرَمَيْنِ، فَإِنْ تَخَلَّفَ شَرْطٌ كَانَ فِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَل، وَقَال الزَّرْقَانِيُّ: يُكْرَهُ لِمَنْ فِي الْمَسْجِدِ الاِنْفِرَادُ بِهَا عَنِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي يُصَلُّونَهَا فِيهِ، وَأَوْلَى إِذَا كَانَ انْفِرَادُهُ يُعَطِّل جَمَاعَةَ الْمَسْجِدِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تُسَنُّ الْجَمَاعَةُ فِي التَّرَاوِيحِ عَلَى الأَْصَحِّ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ؛ وَلِلأَْثَرِ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَلِعَمَل النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الاِنْفِرَادَ بِصَلاَةِ التَّرَاوِيحِ أَفْضَل كَغَيْرِهَا مِنْ صَلاَةِ اللَّيْل لِبُعْدِهِ
__________
(1) حديث: " عليكم بالصلاة في بيوتكم؛ فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ". أخرجه مسلم (1 / 540 - ط. الحلبي) من حديث أبي ذر.
(2) شرح الزرقاني 1 / 283، حاشية الدسوقي 1 / 315.

(27/147)


عَنِ الرِّيَاءِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: صَلاَةُ التَّرَاوِيحِ جَمَاعَةً أَفْضَل مِنْ صَلاَتِهَا فُرَادَى، قَال أَحْمَدُ: كَانَ عَلِيٌّ وَجَابِرٌ وَعَبْدُ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يُصَلُّونَهَا فِي الْجَمَاعَةِ (2) .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ، وَقَال: إِنَّ الرَّجُل إِذَا صَلَّى مَعَ الإِْمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ (3) .
وَقَالُوا: إِنْ تَعَذَّرَتِ الْجَمَاعَةُ صَلَّى وَحْدَهُ لِعُمُومِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ (4)

الْقِرَاءَةُ وَخَتْمُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي التَّرَاوِيحِ:
17 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَكْثَرُ الْمَشَايِخِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَخْتِمَ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ لِيَسْمَعَ النَّاسُ جَمِيعَ الْقُرْآنِ فِي تِلْكَ الصَّلاَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: السُّنَّةُ الْخَتْمُ مَرَّةً، فَلاَ يَتْرُكُ الإِْمَامُ الْخَتْمَ لِكَسَل الْقَوْمِ، بَل يَقْرَأُ فِي كُل رَكْعَةٍ عَشَرَ آيَاتٍ أَوْ نَحْوَهَا، فَيَحْصُل بِذَلِكَ الْخَتْمُ؛ لأَِنَّ عَدَدَ رَكَعَاتِ التَّرَاوِيحِ فِي
__________
(1) شرح المحلى 1 / 217 - 218.
(2) كشاف القناع 1 / 425، المغني 2 / 169.
(3) حديث أبي ذر: " من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام تلك الليلة ". تقدم ف 6.
(4) حديث: " من قام رمضان. . . . ". تقدم تخريجه ف 6.

(27/147)


شَهْرِ رَمَضَانَ سِتُّمِائَةِ رَكْعَةٍ، أَوْ خَمْسُمِائَةٍ وَثَمَانُونَ، وَآيُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ سِتُّ آلاَفٍ وَشَيْءٌ.
وَيُقَابِل قَوْل هَؤُلاَءِ مَا قِيل: الأَْفْضَل أَنْ يَقْرَأَ قَدْرَ قِرَاءَةِ الْمَغْرِبِ لأَِنَّ النَّوَافِل مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّخْفِيفِ خُصُوصًا بِالْجَمَاعَةِ، وَمَا قِيل: يَقْرَأُ فِي كُل رَكْعَةٍ ثَلاَثِينَ آيَةً لأَِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَمَرَ بِذَلِكَ، فَيَقَعُ الْخَتْمُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فِي رَمَضَانَ؛ لأَِنَّ لِكُل عَشْرٍ فَضِيلَةً كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النَّارِ.
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: مَا أَمَرَ بِهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هُوَ مِنْ بَابِ الْفَضِيلَةِ، وَهُوَ أَنْ يَخْتِمَ الْقُرْآنَ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَهَذَا فِي زَمَانِهِمْ، وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَالأَْفْضَل أَنْ يَقْرَأَ الإِْمَامُ عَلَى حَسَبِ حَال الْقَوْمِ، فَيَقْرَأُ قَدْرَ مَا لاَ يُنَفِّرُهُمْ عَنِ الْجَمَاعَةِ؛ لأَِنَّ تَكْثِيرَ الْجَمَاعَةِ أَفْضَل مِنْ تَطْوِيل الْقِرَاءَةِ.
وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَنَ اسْتَحَبَّ الْخَتْمَ لَيْلَةَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ رَجَاءَ أَنْ يَنَالُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَإِذَا خَتَمَ قَبْل آخِرِهِ. . قِيل: لاَ يُكْرَهُ لَهُ التَّرَاوِيحُ فِيمَا بَقِيَ، قِيل: يُصَلِّيهَا وَيَقْرَأُ فِيهَا مَا يَشَاءُ (1) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ
__________
(1) فتح القدير 1 / 335، بدائع الصنائع 1 / 289.

(27/148)


لِلإِْمَامِ الْخَتْمُ لِجَمِيعِ الْقُرْآنِ فِي التَّرَاوِيحِ فِي الشَّهْرِ كُلِّهِ، وَقِرَاءَةُ سُورَةٍ فِي تَرَاوِيحِ جَمِيعِ الشَّهْرِ تُجْزِئُ، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ سُورَةٍ فِي كُل رَكْعَةٍ، أَوْ كُل رَكْعَتَيْنِ مِنْ تَرَاوِيحِ كُل لَيْلَةٍ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ تُجْزِئُ وَإِنْ كَانَ خِلاَفَ الأَْوْلَى إِذَا كَانَ يَحْفَظُ غَيْرَهَا أَوْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ غَيْرَهُ، قَال ابْنُ عَرَفَةَ: فِي الْمُدَوَّنَةِ لِمَالِكٍ: وَلَيْسَ الْخَتْمُ بِسُنَّةٍ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْتَدِئَ التَّرَاوِيحَ فِي أَوَّل لَيْلَةٍ بِسُورَةِ الْقَلَمِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} بَعْدَ الْفَاتِحَةِ لأَِنَّهَا أَوَّل مَا نَزَل مِنَ الْقُرْآنِ، فَإِذَا سَجَدَ لِلتِّلاَوَةِ قَامَ فَقَرَأَ مِنَ الْبَقَرَةِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ، وَعَنْهُ: أَنَّهُ يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْقَلَمِ فِي عِشَاءِ الآْخِرَةِ مِنَ اللَّيْلَةِ الأُْولَى مِنْ رَمَضَانَ.
قَال الشَّيْخُ: وَهُوَ أَحْسَنُ مِمَّا نُقِل عَنْهُ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِهَا التَّرَاوِيحَ وَيَخْتِمُ آخِرَ رَكْعَةٍ مِنَ التَّرَاوِيحِ قَبْل رُكُوعِهِ وَيَدْعُو، نَصَّ عَلَيْهِ (2) .

الْمَسْبُوقُ فِي التَّرَاوِيحِ:
18 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ فَاتَهُ بَعْضُ التَّرَاوِيحِ وَقَامَ الإِْمَامُ إِلَى الْوِتْرِ أَوْتَرَ مَعَهُ ثُمَّ صَلَّى مَا فَاتَهُ (3) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 315، وأسنى المطالب 1 / 201.
(2) كشاف القناع 1 / 426 - 427، المغني 2 / 169، ومطالب أولي النهى 1 / 566.
(3) الدر المختار ورد المحتار 1 / 473.

(27/148)


وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ أَدْرَكَ مَعَ الإِْمَامِ رَكْعَةً فَلاَ يَخْلُو أَنْ تَكُونَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ الأَْخِيرَتَيْنِ مِنَ التَّرْوِيحَةِ أَوْ مِنَ الأُْولَيَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الأَْخِيرَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَقْضِي الرَّكْعَةَ الَّتِي فَاتَتْهُ بَعْدَ سَلاَمِ الإِْمَامِ فِي أَثْنَاءِ فَتْرَةِ الرَّاحَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لاَ يُسَلِّمُ سَلاَمَهُ وَلَكِنْ يَقُومُ فَيَصْحَبُ الإِْمَامَ فَإِذَا قَامَ الإِْمَامُ مِنَ الرَّكْعَةِ الأُْولَى مِنَ الأُْخْرَيَيْنِ تَشَهَّدَ وَسَلَّمَ ثُمَّ دَخَل مَعَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُْخْرَيَيْنِ فَصَلَّى مِنْهُمَا رَكْعَةً ثُمَّ قَضَى الثَّانِيَةَ مِنْهُمَا حِينَ انْفِرَادِهِ بِالتَّنَفُّل (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: سُئِل أَحْمَدُ عَمَّنْ أَدْرَكَ مِنْ تَرْوِيحَةٍ رَكْعَتَيْنِ يُصَلِّي إِلَيْهَا رَكْعَتَيْنِ؟ فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ، وَقَال: هِيَ تَطَوُّعٌ (2) .

قَضَاءُ التَّرَاوِيحِ:
19 - إِذَا فَاتَتْ صَلاَةُ التَّرَاوِيحِ عَنْ وَقْتِهَا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي ظَاهِرِ كَلاَمِهِمْ إِلَى أَنَّهَا لاَ تُقْضَى؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ بِآكَدَ مِنْ سُنَّةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَتِلْكَ لاَ تُقْضَى فَكَذَلِكَ هَذِهِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ قَضَاهَا كَانَتْ نَفْلاً مُسْتَحَبًّا لاَ تَرَاوِيحَ كَرَوَاتِبِ اللَّيْل؛ لأَِنَّهَا مِنْهَا،
__________
(1) المنتقى 1 / 210.
(2) المغني 2 / 170.

(27/149)


وَالْقَضَاءُ عِنْدَهُمْ مِنْ خَوَاصِّ الْفَرْضِ وَسُنَّةُ الْفَجْرِ بِشَرْطِهَا.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤَدِّ التَّرَاوِيحَ فِي وَقْتِهَا فَإِنَّهُ يَقْضِيهَا وَحْدَهُ مَا لَمْ يَدْخُل وَقْتُ تَرَاوِيحَ أُخْرَى، وَقِيل: مَا لَمْ يَمْضِ الشَّهْرُ (1) .
وَلَمْ نَجِدْ تَصْرِيحًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
لَكِنْ قَال النَّوَوِيُّ: لَوْ فَاتَ النَّفَل الْمُؤَقَّتُ نُدِبَ قَضَاؤُهُ فِي الأَْظْهَرِ (2) .
__________
(1) رد المحتار 1 / 473، وكشاف القناع 1 / 426.
(2) مغني المحتاج 1 / 224.

(27/149)


صَلاَةُ التَّسْبِيحِ
التَّعْرِيفُ:
1 - صَلاَةُ التَّسْبِيحِ نَوْعٌ مِنْ صَلاَةِ النَّفْل تُفْعَل عَلَى صُورَةٍ خَاصَّةٍ يَأْتِي بَيَانُهَا. وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ صَلاَةُ التَّسْبِيحِ لِمَا فِيهَا مِنْ كَثْرَةِ التَّسْبِيحِ، فَفِيهَا فِي كُل رَكْعَةٍ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ تَسْبِيحَةً (1) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ صَلاَةِ التَّسْبِيحِ، وَسَبَبُ اخْتِلاَفِهِمْ فِيهَا اخْتِلاَفُهُمْ فِي ثُبُوتِ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهَا:

2 - الْقَوْل الأَْوَّل: قَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ:
هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ. وَقَال النَّوَوِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ:
هِيَ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهَا، وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّاهُ، أَلاَ أُعْطِيكَ أَلاَ أَمْنَحُكَ، أَلاَ أَحْبُوكَ، أَلاَ أَفْعَل بِكَ - عَشْرَ خِصَالٍ - إِذَا أَنْتَ فَعَلْتَ ذَلِكَ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ذَنْبَكَ أَوَّلَهُ، وَآخِرَهُ، قَدِيمَهُ، وَحَدِيثَهُ، خَطَأَهُ، وَعَمْدَهُ،
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 119.

(27/150)


صَغِيرَهُ، وَكَبِيرَهُ، سِرَّهُ، وَعَلاَنِيَتَهُ، عَشْرُ خِصَالٍ: أَنْ تُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ: تَقْرَأَ فِي كُل رَكْعَةٍ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَسُورَةً، فَإِذَا فَرَغْتَ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي أَوَّل رَكْعَةٍ وَأَنْتَ قَائِمٌ قُلْتَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً، ثُمَّ تَرْكَعَ وَتَقُولَهَا وَأَنْتَ رَاكِعٌ عَشْرًا، ثُمَّ تَرْفَعَ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ فَتَقُولَهَا عَشْرًا، ثُمَّ تَهْوِي سَاجِدًا فَتَقُولَهَا وَأَنْتَ سَاجِدٌ عَشْرًا، ثُمَّ تَرْفَعَ رَأْسَكَ مِنَ السُّجُودِ فَتَقُولَهَا عَشْرًا ثُمَّ تَسْجُدَ فَتَقُولَهَا عَشْرًا، ثُمَّ تَرْفَعَ رَأْسَكَ فَتَقُولَهَا عَشْرًا، فَذَلِكَ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ فِي كُل رَكْعَةٍ تَفْعَل ذَلِكَ فِي أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُصَلِّيَهَا فِي كُل يَوْمٍ مَرَّةً فَافْعَل، فَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَفِي كُل جُمُعَةٍ مَرَّةً فَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَفِي كُل شَهْرٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَفِي كُل سَنَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَفِي عُمُرِكَ مَرَّةً (1) .
قَالُوا: وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَقَال النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. وَقَال الزَّرْكَشِيُّ:
الْحَدِيثُ صَحِيحٌ وَلَيْسَ بِضَعِيفٍ وَقَال
__________
(1) حديث صلاة التسبيح: " يا عباس، يا عماه. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 67 - 68 - عزت عبيد دعاس) ، من حديث ابن عباس، وأورده المنذري في الترغيب والترهيب (1 / 467 - 468 - ط. الحلبي) ونقل عن غير واحد من العلماء أنه صححه.

(27/150)


ابْنُ الصَّلاَحِ: حَدِيثُهَا حَسَنٌ وَمِثْلُهُ قَال النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِ الأَْسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ.
وَقَال الْمُنْذِرِيُّ: رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ اهـ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ نَفْسِهِ وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.

3 - الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهَا لاَ بَأْسَ بِهَا، وَذَلِكَ يَعْنِي الْجَوَازَ. قَالُوا: لَوْ لَمْ يَثْبُتِ الْحَدِيثُ فِيهَا فَهِيَ مِنْ فَضَائِل الأَْعْمَال فَيَكْفِي فِيهَا الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ. وَلِذَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ فَعَلَهَا إِنْسَانٌ فَلاَ بَأْسَ فَإِنَّ النَّوَافِل وَالْفَضَائِل لاَ يُشْتَرَطُ صِحَّةُ الْحَدِيثِ فِيهَا (1) .

4 - وَالْقَوْل الثَّالِثُ: أَنَّهَا غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ. قَال النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ: فِي اسْتِحْبَابِهَا نَظَرٌ لأَِنَّ حَدِيثَهَا ضَعِيفٌ وَفِيهَا تَغْيِيرٌ لِنَظْمِ الصَّلاَةِ الْمَعْرُوفِ فَيَنْبَغِي أَلاَّ يُفْعَل بِغَيْرِ حَدِيثٍ وَلَيْسَ حَدِيثُهَا بِثَابِتٍ، وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّ أَحْمَدَ لَمْ يُثْبِتِ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِيهَا، وَلَمْ يَرَهَا مُسْتَحَبَّةً. قَال: وَقَال أَحْمَدُ: مَا تُعْجِبُنِي.
قِيل لَهُ: لِمَ؟ قَال: لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يَصِحُّ، وَنَفَضَ يَدَهُ كَالْمُنْكِرِ. وَالْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِيهَا جَعَلَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ. وَقَال ابْنُ حَجَرٍ فِي
__________
(1) المجموع للنووي 4 / 54، نهاية المحتاج 2 / 119، وعون المعبود 4 / 176 - 183 نشر دار الفكر، والمغني لابن قدامة 2 / 132 الطبعة الثالثة، التلخيص الحبير 2 / 7.

(27/151)


التَّلْخِيصِ: الْحَقُّ أَنَّ طُرُقَهُ كُلَّهَا ضَعِيفَةٌ، وَإِنْ كَانَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقْرَبُ مِنْ شَرْطِ الْحَسَنِ إِلاَّ أَنَّهُ شَاذٌّ لِشِدَّةِ الْفَرْدِيَّةِ فِيهِ وَعَدَمِ الشَّاهِدِ وَالْمُتَابِعِ مِنْ وَجْهٍ مُعْتَبَرٍ، وَمُخَالَفَةِ هَيْئَتِهَا لِهَيْئَةِ بَاقِي الصَّلَوَاتِ: قَال: وَقَدْ ضَعَّفَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَالْمُزَنِيُّ، وَتَوَقَّفَ الذَّهَبِيُّ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي فِي أَحْكَامِهِ. اهـ.
وَلَمْ نَجِدْ لِهَذِهِ الصَّلاَةِ ذِكْرًا فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ مَا نُقِل فِي التَّلْخِيصِ الْحَبِيرِ عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ قَال: لَيْسَ فِيهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلاَ حَسَنٌ (1) .

كَيْفِيَّةُ صَلاَةِ التَّسْبِيحِ وَوَقْتُهَا:
5 - الَّذِينَ قَالُوا بِاسْتِحْبَابِ صَلاَةِ التَّسْبِيحِ أَوْ جَوَازِهَا رَاعُوا فِي الْكَيْفِيَّةِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَمَا يُقَال فِيهَا مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيل وَالْحَوْقَلَةِ بِالأَْعْدَادِ الْوَارِدَةِ وَمَوَاضِعِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْكَيْفِيَّةِ. وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهَا تُصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لاَ أَكْثَرَ، وَبِتَسْلِيمٍ وَاحِدٍ إِنْ كَانَتْ فِي النَّهَارِ وَتَسْلِيمَيْنِ إِنْ كَانَتْ فِي اللَّيْل. وَأَنَّ الأَْفْضَل فِعْلُهَا كُل يَوْمٍ مَرَّةً، وَإِلاَّ فَجُمُعَةٍ، وَإِلاَّ فَشَهْرٍ، وَإِلاَّ فَسَنَةٍ، وَإِلاَّ فَفِي الْعُمْرِ مَرَّةً.
__________
(1) المجموع للنووي 5 / 54، ونهاية المحتاج 2 / 119، والمغني 2 / 132، وعون المعبود 4 / 183، وكشاف القناع 1 / 444، والتلخيص الحبير 2 / 7.

(27/151)


صَلاَةُ التَّطَوُّعِ

التَّعْرِيفُ:
1 - التَّطَوُّعُ لُغَةً: التَّبَرُّعُ، يُقَال: تَطَوَّعَ بِالشَّيْءِ، تَبَرَّعَ بِهِ، وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي الاِصْطِلاَحِ أَنَّهُ اسْمٌ لِمَا شُرِعَ زِيَادَةً عَلَى الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ. أَوْ مَا كَانَ مَخْصُوصًا بِطَاعَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ، أَوْ هُوَ الْفِعْل الْمَطْلُوبُ طَلَبًا غَيْرَ جَازِمٍ. وَتَفْصِيل الاِصْطِلاَحَاتِ الْفِقْهِيَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَطَوُّع) (1) .
وَصَلاَةُ التَّطَوُّعِ هِيَ مَا زَادَتْ عَلَى الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ (2) . لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ السَّائِل عَنِ الإِْسْلاَمِ خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَقِيل: هَل عَلَيَّ غَيْرُهَا قَال: لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ (3) .

أَنْوَاعُ صَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
2 - الأَْصْل فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ أَنْ تُؤَدَّى عَلَى
__________
(1) الموسوعة 12 / 146.
(2) كشف الأسرار 2 / 302، وكشاف اصطلاحات الفنون مادتي (طوع ونفل) .
(3) حديث: " خمس صلوات في اليوم والليلة ". أخرجه مسلم (1 / 41 - ط. الحلبي) من حديث طلحة بن عبيد الله.

(27/152)


انْفِرَادٍ، وَهِيَ أَنْوَاعٌ:
مِنْهَا: السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ، وَهِيَ السُّنَنُ التَّابِعَةُ لِلْفَرَائِضِ، وَهِيَ عَشْرُ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَانِ قَبْل الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهُ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَانِ قَبْل الْفَجْرِ.
وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: وَأَرْبَعٌ قَبْل الْعَصْرِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً صَلَّى قَبْل الْعَصْرِ أَرْبَعًا (1) وَآكَدُ هَذِهِ الرَّكَعَاتِ رَكْعَتَا الْفَجْرِ (2) ".
حَيْثُ قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِل أَشَدُّ مِنْهُ تَعَاهُدًا عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ (3) .
وَمِنْ هَذِهِ السُّنَنِ مَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الْفَرَائِضِ، وَمِنْهَا مَا يَتَأَخَّرُ عَنْهَا، وَفِي ذَلِكَ مَعْنًى لَطِيفٌ مُنَاسِبٌ:
أَمَّا فِي التَّقْدِيمِ فَلأَِنَّ النُّفُوسَ - لاِشْتِغَالِهَا بِأَسْبَابِ الدُّنْيَا - بَعِيدَةٌ عَنْ حَال الْخُشُوعِ
__________
(1) حديث: " رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا ". أخرجه الترمذي (2 / 296 - ط. الحلبي) . وحسنه.
(2) حاشية رد المحتار 2 / 12 - 15، حاشية الدسوقي 1 / 312 - 313، نهاية المحتاج 2 / 105، المغني لابن قدامة 2 / 129 - 130، منتهى الإرادات 1 / 99 - 100.
(3) حديث عائشة: " لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد منه تعاهدا على ركعتي الفجر ". أخرجه البخارى (الفتح 3 / 45 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 501 - ط. الحلبي) واللفظ للبخاري.

(27/152)


وَالْحُضُورِ الَّتِي هِيَ رَوْحُ الْعِبَادَةِ، فَإِذَا قُدِّمَتِ النَّوَافِل عَلَى الْفَرَائِضِ أَنِسَتِ النَّفْسُ بِالْعِبَادَةِ.
وَأَمَّا تَأْخِيرُهَا عَنْهَا فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّوَافِل جَابِرَةٌ لِنَقْصِ الْفَرَائِضِ، فَإِذَا وَقَعَ الْفَرْضُ نَاسَبَ أَنْ يَقَعَ بَعْدَهُ مَا يُجْبِرُ الْخَلَل الَّذِي قَدْ يَقَعُ فِيهِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ: (رَاتِب، وَسُنَن رَوَاتِب) .
وَمِنْ صَلاَةِ التَّطَوُّعِ صَلَوَاتٌ مُعَيَّنَةٌ غَيْرُ السُّنَنِ مَعَ الْفَرَائِضِ وَالتَّطَوُّعَاتِ الْمُطْلَقَةِ وَمِنْهَا:
3 - صَلاَةُ الضُّحَى: وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَال: أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلاَثٍ لاَ أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ: صَوْمِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُل شَهْرٍ، وَصَلاَةِ الضُّحَى، وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ (2) .
انْظُرْ (صَلاَةُ الضُّحَى؛ وَصَلاَةُ الأَْوَّابِينَ) .
4 - صَلاَةُ التَّسْبِيحِ: لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ إِلَى صَلاَتِهَا مَرَّةً كُل يَوْمٍ، أَوْ كُل جُمُعَةٍ، أَوْ كُل شَهْرٍ، أَوْ كُل سَنَةٍ. . .
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 312، الخرشي على مختصر خليل 2 / 3.
(2) حديث أبي هريرة: " أوصاني خليلي بثلاث. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 56 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 499 - ط. الحلبي) واللفظ المذكور للبخاري.

(27/153)


أَوْ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً (1) .
وَقَال أَحْمَدُ عَنْهَا: لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يَصِحُّ، وَلَمْ يَرَهَا مُسْتَحَبَّةً، وَإِنْ فَعَلَهَا إِنْسَانٌ فَلاَ بَأْسَ، فَإِنَّ النَّوَافِل وَالْفَضَائِل لاَ يُشْتَرَطُ صِحَّةُ الْحَدِيثِ فِيهَا (2) .
وَأَمْثِلَةُ الصَّلاَةِ الْمُتَطَوَّعِ بِهَا كَثِيرَةٌ كَصَلاَةِ الاِسْتِخَارَةِ، وَصَلاَةِ الْحَاجَةِ، وَصَلاَةِ التَّوْبَةِ، وَصَلاَةِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَرَكْعَتَيِ السَّفَرِ وَغَيْرِهَا فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحَاتِهَا الْخَاصَّةِ (3) .

الْفَرْقُ بَيْنَ أَحْكَامِ صَلاَةِ التَّطَوُّعِ وَأَحْكَامِ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ:
5 - صَلاَةُ التَّطَوُّعِ تُفَارِقُ صَلاَةَ الْفَرْضِ فِي أَشْيَاءَ مِنْهَا:

الصَّلاَةِ جُلُوسًا: يَجُوزُ التَّطَوُّعُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ؛ لأَِنَّ التَّطَوُّعَ خَيْرٌ دَائِمٌ، فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ الْقِيَامَ لَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ إِدَامَةُ هَذَا الْخَيْرِ.
أَمَّا الْفَرْضُ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الأَْوْقَاتِ، فَلاَ يَكُونُ فِي إِلْزَامِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ حَرَجٌ.

الْقِرَاءَةِ: الْقِرَاءَةُ فِي التَّطَوُّعِ تَكُونُ فِيمَا سِوَى
__________
(1) حديث: " صلاة التسبيح ". أخرجه أبو داود (2 / 67 - 68 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث ابن عباس، ونقل المنذري عن جمع من العلماء أنهم صححوه (كذا في الترغيب 1 / 468 - ط. الحلبي) .
(2) المغني 2 / 131 - 132
(3) انظر المراجع السابقة.

(27/153)


الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فِي الرُّبَاعِيَّةِ وَالثُّلاَثِيَّةِ مِنَ الْمَكْتُوبَاتِ فَهِيَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ فَقَطْ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (قِرَاءَة) .

الْجُلُوسِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ: الْجُلُوسُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ وَالثُّلاَثِيَّةِ فِي الْفَرَائِضِ لَيْسَ بِفَرْضٍ بِلاَ خِلاَفٍ، وَلاَ يَفْسُدُ الْفَرْضُ بِتَرْكِهِ، وَفِي التَّطَوُّعِ اخْتِلاَفٌ. انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (صَلاَة) .

الْجَمَاعَةُ فِي التَّطَوُّعِ: الْجَمَاعَةُ فِي التَّطَوُّعِ لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ إِلاَّ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، وَفِي الْفَرْضِ وَاجِبَةٌ أَوْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَل مِنْ صَلاَتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ (1) .
انْظُرْ: (صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ) .

الْوَقْتُ وَالْمِقْدَارُ: التَّطَوُّعُ الْمُطْلَقُ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِوَقْتٍ خَاصٍّ، وَلاَ مُقَدَّرٍ بِمِقْدَارٍ خَاصٍّ، فَيَجُوزُ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ عَلَى أَيِّ مِقْدَارٍ كَانَ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي بَعْضِ الأَْوْقَاتِ وَعَلَى بَعْضِ الْمَقَادِيرِ.
وَالْفَرْضُ مُقَدَّرٌ بِمِقْدَارٍ خَاصٍّ، مُوَقَّتٌ بِأَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، فَلاَ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى
__________
(1) حديث: " صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا ". أخرجه أبو داود (1 / 632 - 633 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث زيد بن ثابت، وإسناده صحيح.

(27/154)


قَدْرِهِ. انْظُرْ: (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ) .

النِّيَّةِ: يَتَأَدَّى التَّطَوُّعُ الْمُطْلَقُ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ، وَلاَ يَتَأَدَّى الْفَرْضُ إِلاَّ بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ، انْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (نِيَّة) .

الصَّلاَةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا: يَجُوزُ التَّنَفُّل عَلَى الدَّابَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُول، أَمَّا أَدَاءُ الْفَرْضِ عَلَى الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ. عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ يُنْظَرُ فِي: (الصَّلاَةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ) .

الصَّلاَةُ فِي الْكَعْبَةِ وَعَلَى ظَهْرِهَا: لاَ تَصِحُّ الْفَرِيضَةُ فِي الْكَعْبَةِ وَلاَ عَلَى ظَهْرِهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (1) وَالْمُصَلِّي فِيهَا أَوْ عَلَى ظَهْرِهَا غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ لَهَا؛ وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَقْبِلٌ لِجُزْءٍ مِنْهَا.
وَاسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ شَرْطٌ لِلصَّلاَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ إِلاَّ فِي النَّفْل لِلْمُسَافِرِ السَّائِرِ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا فَيُصَلِّي حَيْثُ تَوَجَّهَ، وَقِيل لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ إِلاَّ لِلرَّاكِبِ.
وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ. صَلاَةَ الْفَرِيضَةِ فِي الْكَعْبَةِ وَعَلَى ظَهْرِهَا؛ لأَِنَّهُ مَسْجِدٌ؛ وَلأَِنَّهُ مَحَلٌّ لِصَلاَةِ النَّفْل، فَكَانَ مَحَلًّا لِلْفَرْضِ كَخَارِجِهَا. وَلَكِنْ النَّافِلَةُ مَبْنَاهَا عَلَى التَّخْفِيفِ وَالْمُسَامَحَةِ بِدَلِيل صَلاَتِهَا قَاعِدًا وَإِلَى
__________
(1) سورة البقرة - الآية 144.

(27/154)


غَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَفِي السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ (1) .

مَا يُكْرَهُ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
6 - الْمَكْرُوهُ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ نَوْعَانِ (2) :.
النَّوْعُ الأَْوَّل: وَهُوَ مَا يَرْجِعُ إِلَى الْقَدْرِ.
تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي النَّهَارِ، وَلاَ يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي صَلاَةِ اللَّيْل، فَلِلْمُصَلِّي أَنْ يُصَلِّيَ سِتًّا وَثَمَانِيًا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّوَافِل شُرِعَتْ تَبَعًا لِلْفَرَائِضِ، وَالتَّبَعُ لاَ يُخَالِفُ الأَْصْل فَلَوْ زِيدَتْ عَلَى الأَْرْبَعِ فِي النَّهَارِ لَخَالَفَتِ الْفَرَائِضَ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي اللَّيْل، إِلاَّ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الأَْرْبَعِ إِلَى الثَّمَانِي أَوْ إِلَى السِّتِّ مَعْرُوفٌ بِالنَّصِّ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْل خَمْسَ رَكَعَاتٍ، سَبْعَ رَكَعَاتٍ، تِسْعَ رَكَعَاتٍ، إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً.
وَالثَّلاَثُ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأَْعْدَادِ الْوِتْرُ وَرَكْعَتَانِ مِنْ ثَلاَثَةَ عَشَرَ سُنَّةُ الْفَجْرِ،
__________
(1) المغني لابن قدامة 2 / 73، المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل 1 / 41، منتهى الإرادات 1 / 67. وحديث: " صلى النبي صلى الله عليه وسلم في البيت ركعتين ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 500 - ط السلفية)
(2) انظر: البدائع 2 / 741، المغني 2 / 123 - 125، منتهى الإرادات 1 / 101.

(27/155)


فَيَبْقَى رَكْعَتَانِ وَأَرْبَعٌ وَسِتٌّ وَثَمَانٌ، فَيَجُوزُ إِلَى هَذَا الْقَدْرِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ.
7 - وَاخْتَلَفُوا فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَانِي بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ:
قَال بَعْضُهُمْ: يُكْرَهُ (1) لأَِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ عَلَى هَذَا لَمْ تُرْوَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ يُكْرَهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ السَّرَخْسِيُّ. قَال: لأَِنَّ فِيهِ وَصْل الْعِبَادَةِ بِالْعِبَادَةِ فَلاَ يُكْرَهُ.
وَقَدْ حُكِيَ عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ أَنَّ مُنْتَهَى صَلاَةِ الضُّحَى - عِنْدَ أَهْل الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ - ثَمَانٍ، وَأَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ، وَأَوْسَطُهَا سِتٌّ، فَمَا زَادَ عَلَى الأَْكْثَرِ يُكْرَهُ (2) .
النَّوْعُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا يَرْجِعُ إِلَى الْوَقْتِ.
8 - فَيُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِي الأَْوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ، بَعْضُهَا يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهَا لِمَعْنًى فِي الْوَقْتِ، وَبَعْضُهَا يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهَا لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْوَقْتِ: فَأَمَّا الَّذِي يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهَا لِمَعْنًى يَرْجِعُ إِلَى الْوَقْتِ فَهِيَ: مَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ تَرْتَفِعَ وَتَبْيَضَّ. عِنْدَ اسْتِوَاءِ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ تَزُول. عِنْدَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ، وَهُوَ احْمِرَارُهَا وَاصْفِرَارُهَا إِلَى أَنْ تَغْرُبَ.
__________
(1) حاشية رد المحتار على الدر المختار 2 / 15.
(2) الخرشى على مختصر خليل 2 / 4.

(27/155)


وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ) .
9 - وَمِنَ الأَْوْقَاتِ الَّتِي يُكْرَهُ فِيهَا التَّطَوُّعُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْوَقْتِ مَا بَعْدَ الْغُرُوبِ؛ لأَِنَّ فِيهِ تَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ.
وَمِنْهَا مَا بَعْدَ شُرُوعِ الإِْمَامِ فِي الصَّلاَةِ، وَقَبْل شُرُوعِهِ بَعْدَمَا أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الإِْقَامَةِ؛ قَضَاءً لِحَقِّ الْجَمَاعَةِ.
وَمِنْهَا وَقْتُ الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ لأَِنَّهَا سَبَبٌ لِتَرْكِ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ.
وَمِنْهَا مَا بَعْدَ خُرُوجِ الإِْمَامِ لِلْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْل أَنْ يَشْتَغِل بِهَا وَمَا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا قَبْل أَنْ يَشْرَعَ فِي الصَّلاَةِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ عَلَى خِلاَفٍ فِيهَا انْظُرْ: (تَحِيَّة) .
وَمِنْهَا مَا قَبْل صَلاَةِ الْعِيدِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَطَوَّعْ قَبْل الْعِيدَيْنِ (1) مَعَ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى الصَّلاَةِ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ أَنَّهُمَا كَانَا يَنْهَيَانِ النَّاسَ عَنِ الصَّلاَةِ قَبْل الْعِيدِ؛ لأَِنَّ الْمُبَادَرَةَ إِلَى صَلاَةِ الْعِيدِ مَسْنُونَةٌ، وَفِي الاِشْتِغَال بِالتَّطَوُّعِ تَأْخِيرُهَا، وَلَوِ اشْتَغَل بِأَدَاءِ التَّطَوُّعِ فِي بَيْتِهِ يَقَعُ فِي وَقْتِ
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتطوع قبل العيدين ". ورد من حديث ابن عباس، أخرجه البخاري (الفتح 2 / 476 - ط. السلفية) ومسلم (2 / 606 - ط. الحلبي) .

(27/156)


طُلُوعِ الشَّمْسِ وَكِلاَهُمَا مَكْرُوهٌ، وَقِيل إِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي الْمُصَلَّى كَيْ لاَ يَشْتَبِهَ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ الْعِيدَ قَبْل صَلاَةِ الْعِيدِ، فَأَمَّا فِي بَيْتِهِ فَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَتَطَوَّعَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَعَامَّةُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَتَطَوَّعُ قَبْل صَلاَةِ الْعِيدِ، لاَ فِي الْمُصَلَّى وَلاَ فِي بَيْتِهِ، فَأَوَّل الصَّلاَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ صَلاَةُ الْعِيدِ (1) .

الأَْوْقَاتُ الْمُسْتَحَبَّةُ لِلنَّفْل:
10 - النَّوَافِل الْمُطْلَقَةُ تُشْرَعُ فِي اللَّيْل كُلِّهِ وَفِي النَّهَارِ فِيمَا سِوَى أَوْقَاتِ النَّهْيِ، وَتَطَوُّعُ اللَّيْل أَفْضَل مِنْ تَطَوُّعِ النَّهَارِ. قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْضَل الصَّلاَةَ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْل، وَأَفْضَل التَّهَجُّدِ جَوْفُ اللَّيْل الآْخِرِ (2) وَلِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ أَيُّ اللَّيْل أَسْمَعُ؟ قَال: جَوْفُ اللَّيْل الآْخِرِ (3) .
وَيُسْتَحَبُّ الْوِتْرُ قَبْل صَلاَةِ الْفَجْرِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ. وَالأَْفْضَل فِعْل الْوِتْرِ فِي آخِرِ اللَّيْل، فَإِذَا غَلَبَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 557 - 558.
(2) المغني 2 / 135 - 136. وحديث: " أفضل الصلاة بعد الفريضة ". أخرجه مسلم (2 / 821 - ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث: " أي الليل أسمع. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 56 - 57 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح.

(27/156)


عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لاَ يَقُومُ آخِرَ اللَّيْل فَلْيَفْعَلْهُ فِي أَوَّلِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ خَافَ أَنْ لاَ يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْل فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْل، فَإِنَّ صَلاَةَ آخِرِ اللَّيْل مَشْهُودَةٌ وَذَلِكَ أَفْضَل (1) انْظُرْ: (صَلاَةُ الْوِتْرِ) .

الشُّرُوعُ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
11 - يَلْزَمُ النَّفَل بِالشُّرُوعِ فِيهِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (2) وَلأَِنَّ مَا أَدَّاهُ صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ صِيَانَتُهُ بِلُزُومِ الْبَاقِي.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ يَلْزَمُ؛ لأَِنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيمَا لَمْ يَفْعَل بَعْدُ، فَلَهُ إِبْطَال مَا أَدَّاهُ تَبَعًا (3) .
12 - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا شَرَعَ الْمُتَطَوِّعُ فِي الصَّلاَةِ فَقَدْ قِيل: لاَ يَلْزَمُ بِالاِفْتِتَاحِ أَكْثَرُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ بِعَارِضِ الاِقْتِدَاءِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ثَلاَثُ رِوَايَاتٍ: الأُْولَى - أَنَّ مَنِ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ يَنْوِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ أَفْسَدَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ أَرْبَعًا.
__________
(1) حديث: " من خاف أن لا يقوم من آخر الليل ". أخرجه مسلم (1 / 520 - ط. الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) سورة محمد / 33.
(3) التوضيح على التلويح. 2 / 683، البناني على جمع الجوامع 1 / 80، 90 - 91، والحطاب 2 / 90 وابن عابدين 1 / 452، ودليل الطالب 1 / 79، والمجموع 6 / 393.

(27/157)


الثَّانِيَةُ - أَنَّ مَنِ افْتَتَحَ النَّافِلَةَ يَنْوِي عَدَدًا يَلْزَمُهُ بِالاِفْتِتَاحِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ رَكْعَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِلُّزُومِ كَالنَّذْرِ، ثُمَّ يَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ جَمِيعُ مَا تَنَاوَلَهُ كَذَا بِالشُّرُوعِ.
الثَّالِثَةُ - أَنَّ مَنْ نَوَى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَزِمَهُ، وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ. وَكَذَا فِي السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ بِالشُّرُوعِ فِيهَا إِلاَّ رَكْعَتَانِ، حَتَّى لَوْ قَطَعَهَا قَضَى رَكْعَتَيْنِ لأَِنَّهُ نَفْلٌ، وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ وَمُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ قَضَى أَرْبَعًا.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَكْعَتَانِ بِالشُّرُوعِ فَفَرَغَ مِنْهُمَا وَقَعَدَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وَقَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ عَلَى قَصْدِ الأَْدَاءِ يَلْزَمُهُ إِتْمَامُ رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ وَيَبْنِيهِمَا عَلَى التَّحْرِيمَةِ الأُْولَى؛ لأَِنَّ قَدْرَ الْمُؤَدَّى صَارَ عِبَادَةً فَيَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُ الرَّكْعَتَيْنِ صِيَانَةً لَهُ عَنِ الْبُطْلاَنِ (1) .

الأَْفْضَل فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
13 - أَفْضَل التَّطَوُّعِ فِي النَّهَارِ أَرْبَعٌ أَرْبَعٌ فِي قَوْل الْحَنَفِيَّةِ (2) ، فَقَدْ صَلَّى ابْنُ عُمَرَ صَلاَةَ التَّطَوُّعِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ بِالنَّهَارِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: أَرْبَعٌ قَبْل الظُّهْرِ لَيْسَ فِيهِنَّ تَسْلِيمٌ، تُفْتَحُ لَهُنَّ أَبْوَابُ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 733 - 734.
(2) المرجع السابق 2 / 739.

(27/157)


السَّمَاءِ (1) وَلأَِنَّ مَفْهُومَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ اللَّيْل مَثْنَى مَثْنَى (2) أَنَّ صَلاَةَ النَّهَارِ رُبَاعِيَّةٌ جَوَازًا لاَ تَفْضِيلاً.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: النَّوَافِل بِاللَّيْل وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى يُسَلِّمُ مِنْ كُل رَكْعَتَيْنِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الأَْفْضَل لِلْمُتَنَفِّل لَيْلاً وَنَهَارًا أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُل رَكْعَتَيْنِ، لِخَبَرِ: صَلاَةُ اللَّيْل وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى (4) .
وَقَدْ قَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي صَلاَةِ اللَّيْل: إِنَّهَا مَثْنَى. . مَثْنَى.
وَصَلاَةُ اللَّيْل - عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - أَرْبَعٌ، احْتِجَاجًا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ قِيَامِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ فَقَالَتْ: مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ، وَلاَ فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسْأَل عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلاَ
__________
(1) حديث: " أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم ". أخرجه أبو داود (1 / 53 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي أيوب. ثم ذكر أبو داود تضيف أحد رواته.
(2) حديث: " صلاة الليل مثنى مثنى. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 477 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 516 - ط. الحلبي) من حديث ابن عمر.
(3) القوانين الفقهية ص 62.
(4) نهاية المحتاج 2 / 126 وحديث: " صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ". أخرجه الترمذي (2 / 491 - ط. الحلبي) من حديث ابن عمر، ونقل البيهقي في السنن (2 / 487 - ط. دائرة المعارف العثمانية) عن البخاري أنه صححه.

(27/158)


تَسْأَل عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاَثًا (1) وَكَلِمَةُ: (كَانَ) عِبَارَةٌ عَنِ الْعَادَةِ وَالْمُوَاظَبَةِ، وَمَا كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَاظِبُ إِلاَّ عَلَى أَفْضَل الأَْعْمَال، وَأَحَبَّهَا إِلَى اللَّهِ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: صَلاَةُ التَّطَوُّعِ فِي اللَّيْل لاَ تَجُوزُ إِلاَّ مَثْنَى مَثْنَى، وَالأَْفْضَل فِي تَطَوُّعِ النَّهَارِ كَذَلِكَ مَثْنَى مَثْنَى، وَإِنْ تَطَوَّعَ بِأَرْبَعٍ فِي النَّهَارِ فَلاَ بَأْسَ (3) .

مَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
لَيْسَ هُنَاكَ مَا يُفِيدُ تَوْقِيفًا فِي الْقِرَاءَةِ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ، وَلَكِنْ هُنَاكَ مَا يُفِيدُ نَدْبَ آيَاتٍ أَوْ سُوَرٍ مُعَيَّنَةٍ فِي صَلَوَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، مِنْهَا عَلَى سَبِيل الْمِثَال:

الرَّكْعَتَانِ قَبْل الْفَجْرِ:
14 - يُسْتَحَبُّ فِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ التَّخْفِيفُ، وَمِنْ صُوَرِ التَّخْفِيفِ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقَطْ، وَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُخَفِّفُ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ عَلَى مَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ قَالَتْ: حَتَّى إِنِّي أَقُول: هَل
__________
(1) حديث عائشة: " أنها سئلت عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 251 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 509 - ط. الحلبي) .
(2) بدائع الصنائع 2 / 739 - 740.
(3) المغني 2 / 123، منتهى الإرادات 1 / 101.

(27/158)


قَرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ؟ (1) .
وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقَطْ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ مَعَ سُورَةٍ قَصِيرَةٍ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ السُّورَتَيْنِ هُمَا: (الْكَافِرُونَ) وَ {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) .
وَقَال ابْنُ عُمَرَ: رَمَقْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا، فَكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْل الْفَجْرِ بِ {قُل يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَ {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (3) .
وَوَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ (4) فِي الأُْولَى مِنْهُمَا: {قُولُوا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِل إِلَيْنَا. . .} (5) الآْيَةَ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ مِنْهُمَا: {آمَنَّا بِاَللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا
__________
(1) حديث عائشة: " أنه كان يخفف ركعتي الفجر. . ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 46 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 501 - ط. الحلبي) واللفظ لمسلم.
(2) حديث أبي هريرة: " أن السورتين هما الكافرون وقل هو الله أحد. . . ". أخرجه مسلم (1 / 502 - ط. الحلبي) .
(3) حديث ابن عمر: " رمقت النبي صلى الله عليه وسلم شهرا ". أخرجه الترمذي (2 / 276 - ط. الحلبي) وقال: حديث حسن.
(4) حديث ابن عباس: (كان يقرأ في ركعتي الفجر. . .) . أخرجه مسلم 1 / 502 - ط. الحلبي) .
(5) سورة البقرة / 136.

(27/159)


مُسْلِمُونَ} (1) .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد أَنَّهُ قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُول فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (2) أَوْ {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَل عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} (3) } ، فَسُنَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِيَتَحَقَّقَ الإِْتْيَانُ بِالْوَارِدِ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلاَفِ الرِّوَايَاتِ اخْتِلاَفُ قِرَاءَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الصَّلاَةِ، وَاخْتِلاَفُهُمْ فِي تَعْيِينِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ تَوْقِيفَ فِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي الْقِرَاءَةِ يُسْتَحَبُّ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا الْمَرْءُ حِزْبَهُ مِنَ اللَّيْل (4) .

الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ:
15 - يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا {قُل يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَ {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا أُحْصِي مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُول
__________
(1) سورة آل عمران / 52.
(2) سورة آل عمران / 53 وحديث قرأ في الثانية (ربنا آمنا بما أنزلت) أخرجه أبو داود (2 / 47 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة.
(3) سورة البقرة / 119.
(4) بدائع الصنائع 2 / 735 - 439، 747، بداية المجتهد 1 / 147، 150. نهاية المحتاج 2 / 103، 105، المغني 2 / 126، 128.

(27/159)


اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْل صَلاَةِ الْفَجْرِ بِ {قُل يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَ {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) .

رَكَعَاتُ الْوِتْرِ الثَّلاَثُ:
16 - عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَْعْلَى} ، {قُل يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) .
وَعَنْ عَائِشَةَ مِثْلُهُ، وَقَالَتْ: فِي الثَّالِثَةِ بِ {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ (3) .
وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَقَال مَالِكٌ فِي الشَّفْعِ: لَمْ يَبْلُغْنِي فِيهِ شَيْءٌ مَعْلُومٌ (4) وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِل: يُقْرَأُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي الْوِتْرِ؟ قَال: وَلِمَ لاَ يُقْرَأُ؟ ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى بِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَْعْلَى} وَفِي الثَّانِيَةِ {قُل يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَفِي الثَّالِثَةِ {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ.
__________
(1) المغني 2 / 126، 128 وحديث ابن مسعود: (ما أحصي ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.) . أخرجه الترمذي (2 / 297 - ط. الحلبي) .
(2) حديث أبي بن كعب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ {سبح اسم ربك الأعلى} . أخرجه النسائي (3 / 244 - المكتبة التجارية) .
(3) حديث عائشة مثل حديث أبي بن كعب. أخرجه أبو داود (2 / 133 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(4) بداية المجتهد 1 / 147 - 150.

(27/160)


التَّحَوُّل مِنَ الْمَكَانِ لِلتَّطَوُّعِ بَعْدَ الْفَرْضِ:
17 - مَنْ صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ وَأَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ، فَإِنْ كَانَ إِمَامًا اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّل مِنْ مَكَانِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ إِمَامٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ تَحَوَّل، وَإِنْ شَاءَ تَطَوَّعَ فِي مَكَانِهِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّحَوُّل بَعْدَ الْفَرْضِ لِلإِْمَامِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمَا، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَال: الْفَصْل بَيْنَ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ بِالْكَلاَمِ يَقُومُ مَقَامَ التَّحَوُّل (1) .
وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَال: صَلَّيْتُ مَعَ مُعَاوِيَةَ الْجُمُعَةَ فِي الْمَقْصُورَةِ فَلَمَّا سَلَّمَ الإِْمَامُ قُمْتُ فِي مَقَامِي فَصَلَّيْتُ، فَلَمَّا دَخَل أَرْسَل إِلَيَّ فَقَال: لاَ تَعُدْ لِمَا فَعَلْتَ إِذَا صَلَّيْتَ الْجُمُعَةَ فَلاَ تَصِلْهَا بِصَلاَةٍ حَتَّى تَكَلَّمَ أَوْ تَخْرُجَ، فَإِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا بِذَلِكَ (2) .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمَا كَانَ يُعْجِبُهُمَا إِذَا سَلَّمَ الإِْمَامُ أَنْ يَتَقَدَّمَ (3) .
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَإِسْحَاقَ،
__________
(1) البحر الرائق 2 / 35، المجموع 3 / 491، مصنف ابن أبي شيبة 2 / 208.
(2) حديث السائب بن زيد: " صليت مع معاوية. . . ". أخرجه مسلم (2 / 601 - ط. الحلبي) .
(3) المصنف 2 / 209، 210.

(27/160)


وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، إِلاَّ أَنَّ مَالِكًا كَرِهَ لِلْمَأْمُومِ - أَيْضًا - التَّطَوُّعَ بَعْدَ الْجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَحَوَّل (1) .
وَقَدْ رَوَى عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُصَل الإِْمَامُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ حَتَّى يَتَحَوَّل (2) .

الْجَمَاعَةُ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
18 - الْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ فِي صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِتَطَوُّعٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (3) . (ر: صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ سُنَّةٌ فِي الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ، وَكَذَلِكَ فِي صَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ إِلاَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ لاَ جَمَاعَةَ فِيهَا عِنْدَهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ صَلاَةَ فِيهَا (4) .
وَالْجَمَاعَةُ فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ سُنَّةٌ عِنْدَ
__________
(1) المدونة 1 / 99، والمغني 1 / 562.
(2) حديث المغيرة بن شعبة: (لايصل الإمام في الموضع الذي صلى فيه) . أخرجه أبو داود (1 / 409 - 410) - تحقيق عزت عبيد دعاس وقال: " عطاء الخراساني لم يدرك المغيرة بن شعبة ".
(3) البدائع 1 / 275، وابن عابدين 1 / 371، وكشاف القناع 1 / 455، والدسوقي 1 / 320، ومغني المحتاج 1 / 225.
(4) البدائع 1 / 280، 282، 283، والدسوقي 1 / 320 وكشاف القناع 1 / 414، ومغني المحتاج 1 / 225.

(27/161)


الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَالْجَمَاعَةُ فِي صَلاَةِ الْوِتْرِ سُنَّةٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
أَمَّا مَا عَدَا مَا ذُكِرَ مِمَّا تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ فَالأَْصْل فِيهِ أَنْ يُصَلَّى عَلَى انْفِرَادٍ لَكِنْ لَوْ صَلَّى جَمَاعَةً جَازَ (3) لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَل الأَْمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا وَكَانَ أَكْثَرُ تَطَوُّعِهِ مُنْفَرِدًا وَصَلَّى بِأَنَسٍ وَأُمِّهِ وَالْيَتِيمِ (4) .

الْجَهْرُ وَالإِْسْرَارُ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
19 - يُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ بِالنَّوَافِل لَيْلاً مَا لَمْ يُشَوِّشْ عَلَى مُصَلٍّ آخَرَ، وَالإِْسْرَارُ نَهَارًا. وَإِنَّمَا جَهَرَ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ لِحُضُورِ أَهْل الْبَوَادِي وَالْقُرَى كَيْ يَسْمَعُوهُ فَيَتَعَلَّمُوهُ وَيَتَّعِظُوا بِهِ. وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (جَهْرٌ ف 18) .

الْوُقُوفُ وَالْقُعُودُ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
20 - يَجُوزُ التَّطَوُّعُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ؛ لأَِنَّ التَّطَوُّعَ خَيْرٌ دَائِمٌ، فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ
__________
(1) البدائع 1 / 288، والدسوقي 1 / 320، ومغني المحتاج 1 / 225، وشرح منتهى الإرادات 1 / 224.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 224، ومغني المحتاج 1 / 223، حاشية ابن عابدين 1 / 371.
(3) المغني 2 / 142، ومغني المحتاج 1 / 220، والبدائع 1 / 158 - 159، والدسوقي 1 / 320.
(4) حديث صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم بأنس وأمه واليتيم. أخرجه البخاري 1 / 488 ومسلم (1 / 457) .

(27/161)


الْقِيَامَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إِدَامَةُ هَذَا الْخَيْرِ (1) .
وَلأَِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَشُقُّ عَلَيْهِ طُول الْقِيَامِ، فَلَوْ وَجَبَ فِي التَّطَوُّعِ لَتُرِكَ أَكْثَرُهُ، فَسَامَحَ الشَّارِعُ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ فِيهِ تَرْغِيبًا فِي تَكْثِيرِهِ كَمَا سَامَحَ فِي فِعْلِهِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ (2) .
وَالأَْصْل فِي جَوَازِ النَّفْل قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي جَالِسًا، فَيَقْرَأُ وَهُوَ جَالِسٌ، فَإِذَا بَقِيَ مِنْ قِرَاءَتِهِ قَدْرُ مَا يَكُونُ ثَلاَثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً، قَامَ فَقَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ يَفْعَل فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْل ذَلِكَ (3) .
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ مَا يُفِيدُ التَّخْيِيرَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، حَيْثُ فَعَل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَْمْرَيْنِ، كَمَا زَادَتْ عَائِشَةُ: أَنَّهَا لَمْ تَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي صَلاَةَ اللَّيْل قَاعِدًا قَطُّ حَتَّى أَسَنَّ، فَكَانَ يَقْرَأُ قَاعِدًا حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ نَحْوًا مِنْ ثَلاَثِينَ آيَةً أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً ثُمَّ رَكَعَ (4) .
__________
(1) البدائع 2 / 746.
(2) المغني 2 / 242.
(3) حديث عائشة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلى جالسا ". أخرجه مسلم (1 / 505 - ط. الحلبي) .
(4) حديث عائشة: " أنها لم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الليل قاعدا ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 589 - ط. السلفية) .

(27/162)


وَعَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي لَيْلاً طَوِيلاً قَائِمًا، وَلَيْلاً طَوِيلاً قَاعِدًا، وَكَانَ إِذَا قَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَائِمٌ، وَإِذَا قَرَأَ وَهُوَ قَاعِدٌ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَاعِدٌ (1) .
وَلَوِ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ قَائِمًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْعُدَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانًا؛ لأَِنَّهُ مُتَبَرِّعٌ وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ فِي الاِبْتِدَاءِ فَكَذَا بَعْدَ الشُّرُوعِ؛ لأَِنَّهُ مُتَبَرِّعٌ أَيْضًا.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لاَ يَجُوزُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لأَِنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ قَائِمًا لاَ يَجُوزُ لَهُ الْقُعُودُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَكَذَا إِذَا شَرَعَ قَائِمًا.
وَلَوِ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا فَأَدَّى بَعْضَهَا قَاعِدًا، وَبَعْضَهَا قَائِمًا أَجْزَأَهُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ، فَقَدِ انْتَقَل مِنَ الْقُعُودِ إِلَى الْقِيَامِ، وَمِنَ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ، فَدَل عَلَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ (2) .
وَقَدْ نُقِل عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَدَمُ جَوَازِ صَلاَةِ سُنَّةِ الْفَجْرِ وَالتَّرَاوِيحِ قَاعِدًا، لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ (3) .
__________
(1) حديث عائشة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلى ليلا طويلا قائما ". أخرجه مسلم 1 / 504 - ط. الحلبي) .
(2) البدائع 2 / 747، وكشاف القناع 1 / 441.
(3) ابن عابدين 2 / 14.

(27/162)


وَإِذَا لَمْ يُرْوَ خِلاَفٌ فِي إبَاحَةِ التَّطَوُّعِ جَالِسًا، فَقَدْ رُوِيَ تَفْضِيل الْقِيَامِ (1) حَيْثُ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَل، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ (2) . وَفِي رِوَايَةٍ صَلاَةُ الرَّجُل قَاعِدًا نِصْفُ الصَّلاَةِ (3) .

الصَّلاَةُ مُضْطَجِعًا:
21 - وَأَمَّا صَلاَةُ التَّطَوُّعِ مُضْطَجِعًا فَظَاهِرُ قَوْل أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ عَدَمُ الْجَوَازِ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ عَلَى افْتِرَاضِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالاِعْتِدَال عَنْهُمَا.
وَقَوْل الْجَوَازِ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ (4) وَقَدْ قَال الْحَسَنُ: إِنْ شَاءَ الرَّجُل صَلَّى صَلاَةَ التَّطَوُّعِ قَائِمًا أَوْ جَالِسًا أَوْ مُضْطَجِعًا.
__________
(1) المغني 2 / 143، منتهى الإرادات 1 / 104.
(2) حديث " من صلى قائما فهو أفضل ". أخرجه البخارى (الفتح 2 / 586 - ط. السلفية) من حديث عمران بن حصين.
(3) حديث: " صلاة الرجل قاعدا نصف الصلاة ". أخرجه مسلم (1 / 507 - ط. الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو.
(4) حديث: " من صلى نائما فله مثل نصف أجر القاعد ". أخرجه البخارى (الفتح 2 / 586 - ط. السلفية) من حديث عمران بن حصين.

(27/163)


وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: التَّطَوُّعُ مُضْطَجِعًا لِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يُجَوِّزْهُ إِلاَّ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ صَلَّى مُضْطَجِعًا بِلاَ عُذْرٍ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لَفَعَلُوهُ (1) .

حُكْمُ سُجُودِ السَّهْوِ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
22 - قَال جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ السَّهْوَ فِي التَّطَوُّعِ كَالسَّهْوِ فِي الْفَرِيضَةِ يُشْرَعُ لَهُ سُجُودُ السَّهْوِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي عَقِيلٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُول: سَجْدَتَا السَّهْوِ فِي النَّوَافِل كَسَجْدَتَيِ السَّهْوِ فِي الْمَكْتُوبَةِ (2) . وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ (3) . انْظُرْ: (سُجُودُ السَّهْوِ) .

حُكْمُ قَضَاءِ السُّنَنِ:
23 - يُسْتَحَبُّ قَضَاءُ النَّوَافِل بَعْدَ وَقْتِهَا الْمُحَدَّدِ لَهَا عَلَى خِلاَفٍ لِلْفُقَهَاءِ وَتَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ.
وَقَال الْجُوَيْنِيُّ فِي قَضَاءِ النَّوَافِل: إِنَّ مَا لاَ يَجُوزُ التَّقَرُّبُ بِهِ ابْتِدَاءً لاَ يُقْضَى كَالْكُسُوفِ وَالاِسْتِسْقَاءِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ الإِْنْسَانُ
__________
(1) النكت والفوائد السنية على هامش المحرر في الفقه على مذهب ابن حنبل 1 / 87.
(2) مصنف ابن أبي شيبة 2 / 92، المدونة 1 / 137.
(3) الزرقاني 1 / 105، المجموع 4 / 161، والمغني 1 / 698، الهداية 1 / 52.

(27/163)


ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ وُجُودِ سَبَبِهِمَا، وَمَا يَجُوزُ التَّطَوُّعُ بِهِ ابْتِدَاءً كَنَافِلَةِ رَكْعَتَيْنِ مَثَلاً، هَل تُقْضَى؟ فِيهِ قَوْلاَنِ (1) وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (قَضَاء) .

صَلاَةُ التَّهَجُّدِ

انْظُرْ: تَهَجُّد:
__________
(1) المنثور 3 / 74، وشرح منتهى الإرادات 1 / 100، والبدائع 2 / 723.

(27/164)


صَلاَةُ التَّوْبَةِ

التَّعْرِيفُ
1 - الصَّلاَةُ تَقَدَّمَ تَعْرِيفُهَا (ر: صَلاَة) .
وَالتَّوْبَةُ لُغَةً: مُطْلَقُ الرُّجُوعِ، وَالرُّجُوعُ عَنِ الذَّنْبِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الرُّجُوعُ مِنْ أَفْعَالٍ مَذْمُومَةٍ إِلَى أَفْعَالٍ مَحْمُودَةٍ شَرْعًا (1) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - صَلاَةُ التَّوْبَةِ مُسْتَحَبَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ (2) .
وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا ثُمَّ يَقُومُ فَيَتَطَهَّرُ ثُمَّ يُصَلِّي ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلاَّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ (3) . . ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآْيَةَ: {وَاَلَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} إِلَخْ. . (4) .
__________
(1) لسان العرب، وكفاية الطالب الرباني 2 / 348، والقليوبي 4 / 201.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 462، والدسوقي 1 / 314، وأسنى المطالب 1 / 205، وكشاف القناع 1 / 443.
(3) حديث: " ما من رجل يذنب ذنبا ". أخرجه الترمذي (2 / 258 - ط. الحلبي) وقال: حديث حسن. وكذا جود إسناده ابن حجر في التهذيب (1 / 268 - ط حيدر أباد) .
(4) سورة آل عمران آية 135.

(27/164)


صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَقْصُودُ بِصَلاَةِ الْجَمَاعَةِ: فِعْل الصَّلاَةِ فِي جَمَاعَةٍ (1)
فَضْل صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ:
2 - لِصَلاَةِ الْجَمَاعَةِ فَضْلٌ كَبِيرٌ، وَقَدْ حَثَّ عَلَيْهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ مِنْهَا:
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُل صَلاَةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً (2) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُل صَلاَةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً (3) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَْوَّل، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 76.
(2) حديث: " صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 131 - ط. السلفية) من حديث أبي سيعد الخدري.
(3) حديث: " صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 131 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 450 - ط. الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.

(27/165)


يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأََتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا (1) .
وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْل، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْل كُلَّهُ (2) .
وَلأَِهَمِّيَّتِهَا يَقُول الْفُقَهَاءُ: الصَّلاَةُ فِي الْجَمَاعَةِ مَعْنَى الدِّينِ، وَشِعَارُ الإِْسْلاَمِ، وَلَوْ تَرَكَهَا أَهْل مِصْرٍ قُوتِلُوا، وَأَهْل حَارَةٍ جُبِرُوا عَلَيْهَا وَأُكْرِهُوا (3) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
لِلْفُقَهَاءِ فِي بَيَانِ حُكْمِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَبَيَانُهَا فِيمَا يَلِي: -
أَوَّلاً: الْجَمَاعَةُ فِي الْفَرَائِضِ:
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ - وَأَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّ صَلاَةَ الْجَمَاعَةِ فِي الْفَرَائِضِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِلرِّجَال،
__________
(1) حديث: " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 96 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 325 - - ط. الحلبي) .
(2) حديث عثمان: " من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ". أخرجه مسلم (1 / 454 - ط. الحلبي) .
(3) المغني 2 / 176 - 177، والمجموع 4 / 193 - 194. الحطاب وبهامشه المواق 2 / 81، ومغني المحتاج 1 / 229.

(27/165)


وَهِيَ شَبِيهَةٌ بِالْوَاجِبِ فِي الْقُوَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ - حَسَبَ اصْطِلاَحِهِمْ - وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُل عَلَى صَلاَةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً (1) وَفِي رِوَايَةٍ: بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، فَقَدْ جَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَمَاعَةَ لإِِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ، وَذَا آيَةُ السُّنَنِ، وَقَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي الصَّلَوَاتِ: إِنَّهَا مِنْ سُنَنِ الْهَدْيِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ -، إِلَى أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، كَالْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ، وَهُوَ مَا نَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ (3) . وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ ثَلاَثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلاَ بَدْوٍ لاَ تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلاَةُ إِلاَّ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكَ
__________
(1) حديث: " صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ". تقدم تخريجه ف (2) .
(2) البدائع 1 / 155، وابن عابدين 1 / 371، وفتح القدير 1 / 300 نشر دار إحياء التراث، ومراقى الفلاح وحاشية الطحطاوي (156) والدسوقي 1 / 319، 320، والحطاب 2 / 81، 82، والقوانين الفقهية ص: 69 نشر دار الكتاب العربي، والمهذب 1 / 100، وشرح المحلى على المنهاج 1 / 221.
(3) مغني المحتاج 1 / 229، والمهذب 1 / 100، وفتح القدير 1 / 300، وابن عابدين 1 / 371، والطحطاوي على مراقى الفلاح 156، والدسوقي 1 / 319، 320، والشرح الصغير 1 / 152، ومواهب الجليل 1 / 81.

(27/166)


بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْكُل الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ (1) .
وَقَدْ فَصَّل بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالُوا: إِنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ أَيْ بِالْبَلَدِ؛ فَيُقَاتَل أَهْلُهَا عَلَيْهَا إِذَا تَرَكُوهَا، وَسُنَّةٌ فِي كُل مَسْجِدٍ وَفَضِيلَةٌ لِلرَّجُل فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وُجُوبَ عَيْنٍ وَلَيْسَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ، خِلاَفًا لاِبْنِ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، الَّذِي ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ.
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} (3) فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْجَمَاعَةِ حَال الْخَوْفِ، فَفِي غَيْرِهِ أَوْلَى. وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ، فَيُحْطَبَ ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَيُؤَذَّنُ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ (4) .
__________
(1) حديث: " ما من ثلاثة في قرية ولا بدو. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 371 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي الدرداء، وصححه النووي في المجموع (4 / 183 - ط. المنيرية) .
(2) الدسوقى 1 / 319 - 320 والشرح الصغير 1 / 152.
(3) سورة النساء / 102.
(4) حديث: " والذي نفسى بيده لقد هممت أن آمر بحطب يحتطب. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 125 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 152 - ط. الحلبي) .

(27/166)


وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ أَعْمَى، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ، فَسَأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ، فَيُصَلِّي فِي بَيْتِهِ فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَال: هَل تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلاَةِ؟ قَال: نَعَمْ قَال: فَأَجِبْ وَإِذَا لَمْ يُرَخِّصْ لِلأَْعْمَى الَّذِي لَمْ يَجِدْ قَائِدًا فَغَيْرُهُ أَوْلَى (1) .
وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ تَارِكَ الْجَمَاعَةِ يُقَاتَل وَإِنْ أَقَامَهَا غَيْرُهُ؛ لأَِنَّ وُجُوبَهَا عَلَى الأَْعْيَانِ (2) .
4 - وَالْجَمَاعَةُ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَفْضَل مِنَ الاِنْفِرَادِ لِعُمُومِ الأَْخْبَارِ فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ، كَمَا فِي الأَْمْنِ (3) . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (صَلاَةُ الْخَوْفِ) .
5 - أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا، فَلاَ تَصِحُّ بِغَيْرِ جَمَاعَةٍ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (4) . (ر: صَلاَةُ الْجُمُعَةِ) .
__________
(1) حديث: أبي هريرة: " أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى 000 " أخرجه مسلم (452 - ط الحلبي)
(2) البدائع 1 / 155، وابن عابدين 1 / 371، وفتح القدير وكشاف القناع 1 / 454 - 455.
(3) مغني المحتاج 1 / 304.
(4) الاختيار 1 / 83، والدسوقي 1 / 320، والمهذب 1 / 117، وكشاف القناع 1 / 455.

(27/167)


6 - وَالْجَمَاعَةُ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، بَل سُنَّةٌ، وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: إِنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ فِيهَا كَالْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ (1) .

حُكْمُ صَلاَةِ جَمَاعَةِ النِّسَاءِ:
7 - مَا سَبَقَ مِنْ حُكْمِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَال.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلنِّسَاءِ: فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُسَنُّ لَهُنَّ الْجَمَاعَةُ مُنْفَرِدَاتٍ عَنِ الرِّجَال، سَوَاءٌ أَأَمَّهُنَّ رَجُلٌ أَمِ امْرَأَةٌ؛ لِفِعْل عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -
وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ وَرَقَةَ بِأَنْ تَجْعَل لَهَا مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ لَهَا وَأَمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ أَهْل دَارِهَا (2) وَلأَِنَّهُنَّ مِنْ أَهْل الْفَرْضِ، فَأَشْبَهْنَ الرِّجَال.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ لِلنِّسَاءِ عِنْدَهُمْ مَكْرُوهَةٌ؛ وَلأَِنَّ خُرُوجَهُنَّ إِلَى الْجَمَاعَاتِ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى فِتْنَةٍ.
وَمَنَعَ الْمَالِكِيَّةُ جَمَاعَةَ النِّسَاءِ؛ لأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ الإِْمَامِ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا فَلاَ تَصِحُّ إِمَامَةُ الْمَرْأَةِ لِرِجَالٍ، وَلاَ لِنِسَاءٍ مِثْلِهَا، وَإِنَّمَا يَصِحُّ
__________
(1) البدائع 1 / 315، والدسوقي 1 / 320، ومغني المحتاج 1 / 324، وشرح منتهى الإرادات 1 / 337.
(2) حديث: " أمر النبي صلى الله عليه وسلم أم ورقة بأن تجعل لها مؤذنا. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 397 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه العيني كما في التعليق على سنن الدارقطني (1 / 404 - شركة الطباعة الفنية) .

(27/167)


لِلْمَرْأَةِ حُضُورُ جَمَاعَةِ الرِّجَال إِذَا لَمْ تَكُنْ مَخْشِيَّةَ الْفِتْنَةِ (1) .

الْجَمَاعَةُ فِي غَيْرِ الْفَرَائِضِ:
8 - الْجَمَاعَةُ فِي صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ شَرْطُ صِحَّةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَسُنَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ سُنَّةٌ فِي صَلاَةِ الْكُسُوفِ. وَسَوَّى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بَيْنَ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ فِي سُنِّيَّةِ الْجَمَاعَةِ فِيهِمَا، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يَرَوْنَ صَلاَةَ الْجَمَاعَةِ فِي صَلاَةِ الْخُسُوفِ.
وَالْجَمَاعَةُ فِي صَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَمُحَمَّدٍ، وَأَبِي يُوسُفَ خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ لاَ يَرَى فِيهَا صَلاَةً أَصْلاً (3) .
وَالْجَمَاعَةُ فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ وَمُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ
__________
(1) البدائع 1 / 155، 157، الاختيار 1 / 59، وابن عابدين 380 - 381، والشرح الصغير 1 / 156، 160، وأسهل المدارك 1 / 241، ومغني المحتاج 1 / 229، وشرح منتهى الإرادات 1 / 245، والمغنى 2 / 202.
(2) البدائع 1 / 275، وابن عابدين 1 / 271، وكشاف القناع 1 / 455، والدسوقي 1 / 320، ومغني المحتاج 1 / 225.
(3) البدائع 1 / 280، 283، والدسوقي 1 / 320، وكشاف القناع 1 / 414، ومغني المحتاج 1 / 225.

(27/168)


الْمَالِكِيَّةِ (1) . وَالْجَمَاعَةُ فِي صَلاَةِ الْوِتْرِ سُنَّةٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَمُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
وَتَجُوزُ الْجَمَاعَةُ فِي غَيْرِ مَا ذُكِرَ مِنْ صَلاَةِ التَّطَوُّعِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَقَالُوا: يَجُوزُ التَّطَوُّعُ جَمَاعَةً وَفُرَادَى؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَل الأَْمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا، وَكَانَ أَكْثَرُ تَطَوُّعِهِ مُنْفَرِدًا، وَصَلَّى بِحُذَيْفَةَ مَرَّةً (3) ، وَبِأَنَسٍ وَأُمِّهِ وَالْيَتِيمِ مَرَّةً (4) ، وَأَمَّ أَصْحَابَهُ فِي بَيْتِ عِتْبَانَ مَرَّةً كَذَلِكَ (5) . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ أَمَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (6) .
وَالْمَالِكِيَّةُ قَيَّدُوا الْجَوَازَ بِمَا إِذَا كَانَتِ الْجَمَاعَةُ قَلِيلَةً، وَكَانَ الْمَكَانُ غَيْرَ مُشْتَهِرٍ، فَإِنْ كَثُرَ الْعَدَدُ كُرِهَتِ الْجَمَاعَةُ، وَكَذَلِكَ تُكْرَهُ لَوْ
__________
(1) البدائع 1 / 288، الدسوقى 1 / 320، ومغني المحتاج 1 / 225، وشرح منتهى الإرادات 1 / 224.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 224، ومغني المحتاج 1 / 223، وحاشية ابن عابدين 1 / 371.
(3) حديث: " صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بحذيفة ". أخرجه مسلم (1 / 536 - ط. الحلبي) .
(4) حديث: " صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأنس وأمه واليتيم ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 345 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 457 - ط. الحلبي) .
(5) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم أم أصحابه في بيت عتبان بن مالك. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 518 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 455 - ط. الحلبي) .
(6) حديث ابن عباس: " أنه أمه النبي صلى الله عليه وسلم ". أخرجه البخارى (الفتح 2 / 190 - ط. السلفية) .

(27/168)


كَانَتِ الْجَمَاعَةُ قَلِيلَةً وَالْمَكَانُ مُشْتَهِرًا (1) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي النَّفْل فِي غَيْرِ رَمَضَانَ مَكْرُوهَةٌ (2) .

مَنْ يُطَالَبُ بِالْجَمَاعَةِ:
9 - يُطَالَبُ بِصَلاَةِ الْجَمَاعَةِ - سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَبُ عَلَى سَبِيل الْوُجُوبِ، أَوْ عَلَى سَبِيل السُّنِّيَّةِ -: الرِّجَال الأَْحْرَارُ الْعُقَلاَءُ الْقَادِرُونَ عَلَيْهَا دُونَ حَرَجٍ، فَلاَ تَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ وَالْعُبَيْدِ وَالصِّبْيَانِ وَذَوِي الأَْعْذَارِ. وَمَعَ ذَلِكَ تَصِحُّ مِنْهُمْ صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ، وَتَنْعَقِدُ بِهِمْ، عَلَى مَا هُوَ مُبَيَّنٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدِ اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ جَمَاعَةَ النِّسَاءِ، وَقَرَّرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْحَسْنَاءِ حُضُورُ الْجَمَاعَةِ مَعَ الرِّجَال، خَشْيَةَ الاِفْتِتَانِ بِهَا، وَيُبَاحُ لِغَيْرِهَا حُضُورُ الْجَمَاعَةِ (3) .

الْعَدَدُ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَقَل عَدَدٍ تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ اثْنَانِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الإِْمَامِ وَاحِدٌ، فَيَحْصُل لَهُمَا فَضْل الْجَمَاعَةِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو مُوسَى الأَْشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
__________
(1) المغني 1 / 142، ومغني المحتاج 1 / 220، والبدائع 1 / 158 - 159، والدسوقي 1 / 320.
(2) حاشية الشلبي بهامش تبيين الحقائق 1 / 180.
(3) البدائع 1 / 155 - 156، والدسوقي 1 / 320، ومغني المحتاج 1 / 229 - 230، وشرح منتهى الإرادات 1 / 244 - 245.

(27/169)


أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ (1) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ: إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا (2) وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ أَمْ فِي غَيْرِهِ كَالْبَيْتِ وَالصَّحْرَاءِ.
وَسَوَاءٌ أَكَانَ الَّذِي يُصَلِّي مَعَ الإِْمَامِ رَجُلاً أَمِ امْرَأَةً. فَمَنْ صَلَّى إِمَامًا لِزَوْجَتِهِ حَصَل لَهُمَا فَضْل الْجَمَاعَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِ الْجَمَاعَةِ فِي صَلاَةِ الْفَرِيضَةِ لَوْ كَانَ الْوَاحِدُ مَعَ الإِْمَامِ صَبِيًّا مُمَيِّزًا، إِذْ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ لاَ تَنْعَقِدُ بِهِ جَمَاعَةٌ بِالاِتِّفَاقِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ - إِلَى انْعِقَادِهَا بِاقْتِدَاءِ الصَّبِيِّ مَعَ حُصُول فَضْل الْجَمَاعَةِ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي الرَّجُل الَّذِي فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ: مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا (3) ، وَلأَِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا، وَهُوَ
__________
(1) حديث: " اثنان فما فوقهما جماعة ". أخرجه ابن ماجه (1 / 312 - ط. الحلبي) وضعف إسناده البوصيرى في مصباح الزجاجة (1 / 191 - ط. دار الجنان) .
(2) حديث: " إذا حضرت الصلاة. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 111 - - ط. السلفية) . ومسلم (1 / 466 - ط. الحلبي) .
(3) حديث: " من يتصدق على هذا. . . ". أخرجه أحمد (3 / 45 - ط. الميمنية) والحاكم (1 / 209 - ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي سعيد الخدرى، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(27/169)


مُتَنَفِّلٌ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَأْمُومًا بِالْمُفْتَرِضِ كَالْبَالِغِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ - لاَ يَحْصُل فَضْل الْجَمَاعَةِ بِاقْتِدَاءِ الصَّبِيِّ فِي الْفَرْضِ؛ لأَِنَّ صَلاَةَ الصَّبِيِّ نَفْلٌ، فَكَأَنَّ الإِْمَامَ صَلَّى مُنْفَرِدًا.
وَأَمَّا فِي التَّطَوُّعِ فَيَصِحُّ بِاقْتِدَاءِ الصَّبِيِّ، وَيَحْصُل فَضْل الْجَمَاعَةِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (2) .
لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّ ابْنَ عَبَّاسٍ مَرَّةً وَهُوَ صَبِيٌّ، وَأَمَّ حُذَيْفَةَ مَرَّةً أُخْرَى (3) .
وَيَخْتَلِفُ الْعَدَدُ بِالنِّسْبَةِ لإِِظْهَارِ الشَّعِيرَةِ فِي الْبَلْدَةِ أَوِ الْقَرْيَةِ؛ إِذْ أَنَّ صَلاَةَ الْجَمَاعَةِ مِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ، وَلَوْ تَرَكَهَا أَهْل قَرْيَةٍ قُوتِلُوا عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ قَال الْمَالِكِيَّةُ: قُوتِلُوا عَلَيْهَا لِتَفْرِيطِهِمْ فِي الشَّعِيرَةِ، وَلاَ يَخْرُجُ أَهْل الْبَلَدِ عَنِ الْعُهْدَةِ إِلاَّ بِجَمَاعَةٍ أَقَلُّهَا ثَلاَثَةٌ: إِمَامٌ وَمَأْمُومَانِ، وَمُؤَذِّنٌ يَدْعُو لِلصَّلاَةِ، وَمَوْضِعٌ مُعَدٌّ لَهَا، وَهُوَ الْمَسْجِدُ (4) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنِ امْتَنَعَ أَهْل الْقَرْيَةِ قُوتِلُوا، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ ثَلاَثَةٍ فِي
__________
(1) البدائع 1 / 156 وابن عابدين 1 / 372 والمهذب 1 / 100، 104 ومغني المحتاج 1 / 229 و 240 وكشاف القناع 1 / 453 - 454 والمغنى 2 / 178.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 319، 320، وجواهر الإكليل 1 / 76، 78، والمغنى 2 / 178.
(3) حديث ابن عباس وحذيفة تقدم تخريجهما ف 8.
(4) تقريرات الشيخ عليش بهامش حاشية الدسوقي 1 / 319.

(27/170)


قَرْيَةٍ وَلاَ بَدْوٍ لاَ تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلاَةُ إِلاَّ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّمَا يَأْكُل الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ (1) فَتَجِبُ بِحَيْثُ يَظْهَرُ الشِّعَارُ بِإِقَامَتِهَا بِمَحَلٍّ فِي الْقَرْيَةِ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ بِمَحَال يَظْهَرُ بِهَا الشِّعَارُ، وَيَسْقُطُ الطَّلَبُ بِطَائِفَةٍ وَإِنْ قَلَّتْ (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ: أَنَّ الإِْمَامَ الرَّاتِبَ بِمَسْجِدٍ أَوْ غَيْرِهِ إِذَا جَاءَ فِي وَقْتِهِ الْمُعْتَادِ لَهُ، فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يُصَلِّي مَعَهُ، فَصَلَّى مُنْفَرِدًا، بَعْدَ أَنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ كَالْجَمَاعَةِ فَضْلاً وَحُكْمًا، وَيَحْصُل لَهُ فَضْل الْجَمَاعَةِ إِنْ نَوَى الإِْمَامَةَ؛ لأَِنَّهُ لاَ تَتَمَيَّزُ صَلاَتُهُ مُنْفَرِدًا عَنْ صَلاَتِهِ إِمَامًا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَلِذَلِكَ لاَ يُعِيدُ فِي أُخْرَى، وَلاَ يُصَلِّي بَعْدَهُ جَمَاعَةً، وَيَجْمَعُ لَيْلَةَ الْمَطَرِ (3) .
وَالأَْحْكَامُ الَّتِي سَبَقَتْ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ إِنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ؛ إِذْ فِيهِمَا يَخْتَلِفُ الْعَدَدُ - وَلِكُل مَذْهَبٍ رَأْيُهُ فِي تَحْدِيدِ الْعَدَدِ، حَسْبَمَا يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ مِنْ أَدِلَّةٍ (4) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (صَلاَةُ الْجُمُعَةِ وَصَلاَةُ الْعِيدَيْنِ)
__________
(1) حديث: " ما من ثلاثة في قرية. . . " تقدم ف 3.
(2) مغني المحتاج 1 / 229، ونهاية المحتاج 2 / 131 - 133.
(3) الدسوقى 1 / 323، والشرح الصغير 1 / 154 ط. الحلبي، وجواهر الإكليل 1 / 77.
(4) كشاف القناع 1 / 454، وحاشية ابن عابدين 1 / 372، والدسوقي 1 / 319.

(27/170)


أَفْضَل مَكَان لِصَلاَةِ الْجَمَاعَةِ:
11 - تَجُوزُ إِقَامَةُ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ فِي أَيِّ مَكَان طَاهِرٍ، فِي الْبَيْتِ أَوِ الصَّحْرَاءِ أَوِ الْمَسْجِدِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جُعِلَتْ لِي الأَْرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَل (1) . وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلَيْنِ: إِذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا، ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ، فَصَلِّيَا مَعَهُمْ، فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ (2) إِلاَّ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لِلْفَرَائِضِ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَل مِنْهَا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَل صَلاَةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ (3) ؛ وَلأَِنَّ الْمَسْجِدَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الشَّرَفِ وَالطَّهَارَةِ، كَمَا أَنَّ إِقَامَتَهَا فِي الْمَسْجِدِ فِيهِ إِظْهَارُ الشَّعَائِرِ وَكَثْرَةُ الْجَمَاعَةِ. وَالصَّلاَةُ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا النَّاسُ أَفْضَل مِنَ الصَّلاَةِ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي يَقِل فِيهَا النَّاسُ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ الرَّجُل
__________
(1) حديث: " جعلت لي الأرض مسجدًا. . . ". أخرجه البخارى (الفتح 1 / 436 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 371 - ط. الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله واللفظ للبخاري.
(2) حديث: " إذا صليتما في رحالكما. . . ". أخرجه الترمذي (1 / 425 - ط. الحلبي) . من حديث يزيد ابن الأسود، وقال: حديث حسن صحيح.
(3) حديث: " صلوا أيها الناس في بيوتكم ". أخرجه البخاري (الفتح 13 / 264 - ط. السلفية) من حديث زيد بن ثابت.

(27/171)


مَعَ الرَّجُل أَزْكَى مِنْ صَلاَتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلاَةُ الرَّجُل مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلاَتِهِ مَعَ الرَّجُل، وَمَا كَانُوا أَكْثَرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل (1) وَإِنْ كَانَ فِي جِوَارِهِ أَوْ غَيْرِ جِوَارِهِ مَسْجِدٌ لاَ تَنْعَقِدُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ إِلاَّ بِحُضُورِهِ، فَفِعْلُهَا فِيهِ أَفْضَل وَأَوْلَى مِنْ فِعْلِهَا فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يَكْثُرُ فِيهِ النَّاسُ؛ لأَِنَّهُ يُعَمِّرُهُ بِإِقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهِ وَبِذَلِكَ تَحْصُل الْجَمَاعَةُ فِي مَسْجِدَيْنِ.
وَإِذَا كَانَتِ الْجَمَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَل مِنْ إِقَامَتِهَا فِي الْبَيْتِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ إِذَا ذَهَبَ الإِْنْسَانُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَتَرَكَ أَهْل بَيْتِهِ لَصَلَّوْا فُرَادَى، أَوْ لَتَهَاوَنُوا أَوْ تَهَاوَنَ بَعْضُهُمْ فِي الصَّلاَةِ، أَوْ لَوْ صَلَّى فِي بَيْتِهِ لَصَلَّى جَمَاعَةً، وَإِذَا صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ صَلَّى وَحْدَهُ فَصَلاَتُهُ فِي بَيْتِهِ أَفْضَل.
وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ ثَغْرًا فَالأَْفْضَل اجْتِمَاعُ النَّاسِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ؛ لِيَكُونَ أَعْلَى لِلْكَلِمَةِ، وَأَوْقَعَ لِلْهَيْبَةِ، وَإِذَا جَاءَهُمْ خَبَرٌ عَنْ عَدُوِّهِمْ سَمِعَهُ جَمِيعُهُمْ، وَإِنْ أَرَادُوا التَّشَاوُرَ فِي أَمْرٍ حَضَرَ جَمِيعُهُمْ، وَإِنْ جَاءَ عَيْنُ الْكُفَّارِ رَآهُمْ فَأَخْبَرَ بِكَثْرَتِهِمْ.
__________
(1) حديث: " صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ". أخرجه النسائي (2 / 105 ط. المكتبة التجارية) والحاكم (1 / 248 ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي بن كعب، ونقل الذهبي في تلخيصه عن جمع من العلماء تصحيح هذا الحديث.

(27/171)


وَالصَّلاَةُ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ: - الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَالْمَسْجِدِ الأَْقْصَى - وَإِنْ قَلَّتِ الْجَمَاعَةُ فِيهَا أَفْضَل مِنْهَا فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمَسَاجِدِ وَإِنْ كَثُرَتِ الْجَمَاعَةُ فِيهَا، بَل قَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الاِنْفِرَادُ فِيهَا أَفْضَل مِنِ الْجَمَاعَةِ فِي غَيْرِهَا.
وَأَمَّا النَّوَافِل فَصَلاَتُهَا فِي الْبَيْتِ أَفْضَل مِنْ صَلاَتِهَا فِي الْمَسْجِدِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَل صَلاَةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ.
لَكِنْ مَا شُرِعَتْ لَهُ الْجَمَاعَةُ مِنَ السُّنَنِ فَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنَ الْحَدِيثِ، وَصَلاَتُهُ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَل مِنْ صَلاَتِهِ فِي الْبَيْتِ.
وَمَا سَبَقَ مِنْ أَفْضَلِيَّةِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَال، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلنِّسَاءِ فَالْجَمَاعَةُ لَهُنَّ فِي الْبَيْتِ أَفْضَل مِنْهَا فِي الْمَسْجِدِ (1) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَل مِنْ صَلاَتِهَا فِي حُجْرَتِهَا، وَصَلاَتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَل مِنْ صَلاَتِهَا فِي بَيْتِهَا (2) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 372، 373، 443، 473، والحطاب مع المواق 2 / 82، 117، والفواكه الدواني 1 / 241، 245، ومغني المحتاج 1 / 230، والقوانين الفقهية (55 (نشر دار الكتاب العربي) ، وكشاف القناع (1 / 456 - 457) وشرح منتهى الإرادات 1 / 231، 245، والمغني 2 / 178 - 179، 203.
(2) حديث: " صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها ". أخرجه أبو داود (1 / 383 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 209 - ط. دائرة المعارف العثمانية) . من حديث ابن مسعود، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.

(27/172)


مَا تُدْرَكُ بِهِ الْجَمَاعَةُ:
12 - يُفَرِّقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ إِدْرَاكِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ، وَبَيْنَ ثُبُوتِ حُكْمِ الْجَمَاعَةِ، وَيَخْتَلِفُونَ فِي الْقَدْرِ الَّذِي تُدْرَكُ بِهِ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ. وَيَخْتَلِفُونَ كَذَلِكَ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي: -

أَوَّلاً: مَا تُدْرَكُ بِهِ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ:
13 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي تُدْرَكُ بِهِ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ يُونُسَ وَابْنُ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ تُدْرَكُ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ بِاشْتِرَاكِ الْمَأْمُومِ مَعَ الإِْمَامِ فِي جُزْءٍ مِنْ صَلاَتِهِ، وَلَوْ فِي الْقَعْدَةِ الأَْخِيرَةِ قَبْل السَّلاَمِ؛ لأَِنَّهُ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنَ الصَّلاَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً؛ وَلأَِنَّ مَنْ أَدْرَكَ آخِرَ الشَّيْءِ فَقَدْ أَدْرَكَهُ؛ وَلأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يُدْرِكْ فَضْل الْجَمَاعَةِ بِذَلِكَ لَمُنِعَ مِنَ الاِقْتِدَاءِ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ زِيَادَةٌ بِلاَ فَائِدَةٍ، لَكِنْ ثَوَابُهُ يَكُونُ دُونَ ثَوَابِ مَنْ أَدْرَكَهَا مِنْ أَوَّلِهَا.
وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَهُوَ قَوْل خَلِيلٍ وَالدَّرْدِيرِ وَابْنِ الْحَاجِبِ مِنَ

(27/172)


الْمَالِكِيَّةِ - لاَ تُدْرَكُ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ إِلاَّ بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ كَامِلَةٍ؛ لأَِنَّ الصَّلاَةَ كُلَّهَا رَكْعَةٌ مُكَرَّرَةٌ (1) .
وَيُشْتَرَطُ لِحُصُول فَضْل الْجَمَاعَةِ نِيَّةُ الاِقْتِدَاءِ مِنَ الْمَأْمُومِ؛ لِيَحُوزَ فَضْل الْجَمَاعَةِ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، أَمَّا نِيَّةُ الإِْمَامِ الإِْمَامَةَ فَفِيهَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِمَامَة وَاقْتِدَاء (2)) .

ثَانِيًا: مَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامٍ:
14 - الْمَقْصُودُ بِحُكْمِ الْجَمَاعَةِ - كَمَا يُفَسِّرُهُ الْمَالِكِيَّةُ - أَنَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ لاَ يُقْتَدَى بِهِ، وَلاَ يُعِيدُ فِي جَمَاعَةٍ، وَيَصِحُّ اسْتِخْلاَفُهُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ سُجُودُ سَهْوِ الإِْمَامِ. وَحُكْمُ الْجَمَاعَةِ هَذَا لاَ يَثْبُتُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ كَامِلَةٍ بِسَجْدَتَيْهَا مَعَ الإِْمَامِ (3) .
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: فَلاَ تُدْرَكُ الْجَمَاعَةُ إِلاَّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين والدر المختار 1 / 483، والدسوقي 1 / 320، ونهاية المحتاج 2 / 140، ومغني المحتاج 1 / 231، وكشاف القناع 1 / 460.
(2) ابن عابدين 1 / 369، 370، والبدائع 1 / 128، والدسوقي 1 / 339، ومغني المحتاج 1 / 252 - 253، وكشاف القناع 1 / 318، والمغني 2 / 231.
(3) الدسوقى 1 / 320، والشرح الصغير 1 / 426، وما بعدها ط. دار المعارف.

(27/173)


بِإِدْرَاكِ رَكَعَاتِهَا كُلِّهَا فِي الْجُمْلَةِ. يَقُول صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ وَشَرْحِهِ: لاَ يَكُونُ مُصَلِّيًا جَمَاعَةً اتِّفَاقًا (أَيْ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبِ) مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ ذَوَاتِ الأَْرْبَعِ، أَوْ مِنَ الصَّلاَةِ الثُّنَائِيَّةِ أَوِ الثُّلاَثِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِبَعْضِهَا، لَكِنَّهُ أَدْرَكَ فَضْلَهَا وَلَوْ بِإِدْرَاكِ التَّشَهُّدِ. وَكَذَا مُدْرِكُ الثَّلاَثِ لاَ يَكُونُ مُصَلِّيًا بِجَمَاعَةٍ عَلَى الأَْظْهَرِ. وَقَال السَّرَخْسِيُّ: لِلأَْكْثَرِ حُكْمُ الْكُل، لَكِنْ صَاحِبُ الْبَحْرِ ضَعَّفَهُ (1) .

إِعَادَةُ الصَّلاَةِ جَمَاعَةً لِمَنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ:
15 - مَنْ أَدَّى الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ مُنْفَرِدًا ثُمَّ وَجَدَ جَمَاعَةً اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَدْخُل مَعَ الْجَمَاعَةِ لِتَحْصِيل الْفَضْل؛ لِمَا وَرَدَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ، فَرَأَى رَجُلَيْنِ خَلْفَ الصَّفِّ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ، فَقَال: عَلَيَّ بِهِمَا، فَجِيءَ بِهِمَا تَرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا، فَقَال: مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟ فَقَالاَ: يَا رَسُول اللَّهِ: إِنَّا كُنَّا قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا، قَال: فَلاَ تَفْعَلاَ، إِذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ، فَصَلِّيَا مَعَهُمْ، فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ (2) وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 1 / 483.
(2) حديث: " أنه صلى في مسجد الخيف. . ". أخرجه الترمذي (1 / 424 - 425 - ط. الحلبي) من حديث يزيد ابن الأسود وقال: حديث حسن صحيح.

(27/173)


أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كَيْفَ أَنْتَ إِذَا كَانَتْ عَلَيْكِ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلاَةَ عَنْ وَقْتِهَا، أَوْ يُمِيتُونَ الصَّلاَةَ عَنْ وَقْتِهَا؟ قَال: قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَال: صَل الصَّلاَةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَل، فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ (1) .
وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، مِنْ حَيْثُ طَلَبُ الإِْعَادَةِ لِتَحْصِيل الْفَضْل - وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ مِنِ اسْتِحْبَابِ الإِْعَادَةِ - فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ تُعَادُ صَلاَةُ الْمَغْرِبِ؛ لأَِنَّ التَّنَفُّل بِالثَّلاَثِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ مَكْرُوهٌ، وَلاَ نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ، فَإِذَا أَعَادَهَا شَفَعَ بِجَعْلِهَا أَرْبَعًا أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى اثْنَتَيْنِ، وَتَصِيرُ نَافِلَةً، كَمَنْ دَخَل مَعَ الإِْمَامِ فِي ثَانِيَةِ الْمَغْرِبِ، أَمَّا إِنْ أَتَمَّ مَعَ الإِْمَامِ الثَّلاَثَ سَهْوًا لاَ يُسَلِّمُ مَعَهُ، وَأَتَى بِرَابِعَةٍ وُجُوبًا، وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ. وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ عَدَمَ إِعَادَةِ الْعَصْرِ وَالْفَجْرِ؛ لِكَرَاهَةِ النَّفْل بَعْدَهُمَا، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ أَوْتَرَ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَلاَ يُعِيدُ الْعِشَاءَ، لأَِنَّهُ إِنْ أَعَادَ الْوِتْرَ لَزِمَ مُخَالَفَةُ
__________
(1) حديث أبي ذر: " كيف أنت إذا كانت عليك أمراء. . . ". أخرجه مسلم (4 / 448 - ط. الحلبي) .

(27/174)


قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ (1) ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْهُ لَزِمَ مُخَالَفَةُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ وِتْرًا (2) .
وَالصَّلاَةُ الْمُعَادَةُ تَكُونُ نَافِلَةً، وَهَذَا قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ؛ لأَِنَّ الْفَرْضَ لاَ يَتَكَرَّرُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُفَوِّضُ فِي الثَّانِيَةِ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي قَبُول أَيٍّ مِنَ الصَّلاَتَيْنِ لِفَرْضِهِ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ (3) .
وَقَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ: تَكُونُ الْمُعَادَةُ مَعَ الْجَمَاعَةِ هِيَ الْمَكْتُوبَةَ؛ لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ عَامِرٍ بْنِ الأَْسْوَدِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: إِذَا جِئْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَوَجَدْتَ النَّاسَ فَصَل مَعَهُمْ، وَإِنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ تَكُنْ لَكَ نَافِلَةً
__________
(1) ابن عابدين 1 / 479، 480، والبدائع 1 / 287 والهداية مع شروحها فتح القدير والعناية 1 / 412، نشر دار إحياء التراث والدسوقي 1 / 320 - 321، والحطاب 2 / 84 - 85، والمهذب 1 / 102، وأسنى المطالب 1 / 212، والمغنى 2 / 111 - 113، وكشاف القناع 1 / 458. وحديث: " لا وتران في ليلة. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 334 - ط. الحلبي) . وقال حديث حسن من حديث طلق بن علي.
(2) حديث: " اجعلوا آخر صلاتكم وترا ". أخرجه البخارى (الفتح 2 / 488 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 518 - ط. الحلبي) . في حديث ابن عمر.
(3) الهداية مع فتح القدير 1 / 412، والدسوقي 1 / 320 - 321، والمهذب 1 / 102، والمغنى 2 / 113 - 114.

(27/174)


وَهَذِهِ مَكْتُوبَةٌ (1) .
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ وَجَدَ جَمَاعَةً أُخْرَى فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ إِعَادَةِ الصَّلاَةِ مَرَّةً أُخْرَى فِي الْجَمَاعَةِ الثَّانِيَةِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الصُّبْحَ، فَرَأَى رَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ فَقَال: مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟ قَالاَ: صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا فَقَال: إِذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ.
فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَلَّيْتُمَا " يَصْدُقُ بِالاِنْفِرَادِ وَالْجَمَاعَةِ. وَرَوَى الأَْثْرَمُ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ قَال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَمَّنْ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ دَخَل الْمَسْجِدَ - وَهُمْ يُصَلُّونَ - أَيُصَلِّي مَعَهُمْ؟ قَال: نَعَمْ. وَقَدْ رَوَى أَنَسٌ قَال: صَلَّى بِنَا أَبُو مُوسَى الْغَدَاةَ فِي الْمِرْبَدِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ، فَصَلَّيْنَا مَعَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ. وَعَنْ صِلَةَ، عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ أَعَادَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَكَانَ قَدْ صَلاَّهُنَّ فِي جَمَاعَةٍ.
__________
(1) المغني 2 / 113 - 114 وحديث يزيد: إذا جئت إلى الصلاة فوجدت الناس. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 338) تحقيق عزت عبيد دعاس، ونقل ابن حجر عن النووي أنه ضعفه. كذا في التلخيص الحبير (2 / 30 ط شركة الطباعة الفنية) .

(27/175)


وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ فَلاَ يُعِيدُهَا فِي جَمَاعَةٍ أُخْرَى؛ لأَِنَّهُ حَصَّل فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ فَلاَ مَعْنَى لِلإِْعَادَةِ بِخِلاَفِ الْمُنْفَرِدِ، وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَمَسْجِدَ الْمَدِينَةِ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ. قَالُوا: يَجُوزُ لِمَنْ صَلَّى جَمَاعَةً فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ أَنْ يُعِيدَ فِيهَا جَمَاعَةً؛ لِفَضْل تِلْكَ الْبِقَاعِ (1) .

تَكْرَارُ الْجَمَاعَةِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ:
16 - يُكْرَهُ تَكْرَارُ الْجَمَاعَةِ فِي مَسْجِدِ الْحَيِّ الَّذِي لَهُ إِمَامٌ وَجَمَاعَةٌ مَعْلُومُونَ، لِمَا رَوَى أَبُو بَكْرَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَل مِنْ نَوَاحِي الْمَدِينَةِ يُرِيدُ الصَّلاَةَ، فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا فَمَال إِلَى مَنْزِلِهِ فَجَمَعَ أَهْلَهُ فَصَلَّى بِهِمْ (2) وَلَوْ لَمْ يُكْرَهْ تَكْرَارُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ لَمَا تَرَكَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عِلْمِهِ بِفَضْل الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَوَرَدَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا إِذَا فَاتَتْهُمُ الْجَمَاعَةُ صَلَّوْا فِي الْمَسْجِدِ فُرَادَى؛ وَلأَِنَّ التَّكْرَارَ يُؤَدِّي إِلَى تَقْلِيل الْجَمَاعَةِ؛ لأَِنَّ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 233، والمغني 2 / 111 - 113، وكشاف القناع 1 / 452، 458، الحطاب 2 / 84، 85، وابن عابدين 1 / 480.
(2) حديث أبي بكرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل من نواحي المدينة ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (2 / 45 - ط القدسي) وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله ثقات.

(27/175)


النَّاسَ إِذَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ تَفُوتُهُمُ الْجَمَاعَةُ يَسْتَعْجِلُونَ، فَتَكْثُرُ الْجَمَاعَةُ، وَإِذَا عَلِمُوا أَنَّهَا لاَ تَفُوتُهُمْ يَتَأَخَّرُونَ؛ فَتَقِل الْجَمَاعَةُ، وَتَقْلِيل الْجَمَاعَةِ مَكْرُوهٌ، وَهَذَا رَأْيُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - فِي الْجُمْلَةِ، إِذْ هُنَاكَ بَعْضُ الْقُيُودِ مَعَ شَيْءٍ مِنَ التَّفْصِيل لِكُل مَذْهَبٍ. فَالْحَنَفِيَّةُ يُقَيِّدُونَ كَرَاهَةَ التَّكْرَارِ بِمَا إِذَا صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْحَيِّ أَهْلُهُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، فَإِذَا صَلَّى فِيهِ أَوَّلاً غَيْرُ أَهْلِهِ أَوْ صَلَّى فِيهِ أَهْلُهُ بِدُونِ أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ لاَ يُكْرَهُ تَكْرَارُ الْجَمَاعَةِ فِيهِ.
كَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّكْرَارُ إِذَا كَانَتِ الْجَمَاعَةُ الثَّانِيَةُ كَثِيرَةً، فَأَمَّا إِذَا كَانُوا ثَلاَثَةً أَوْ أَرْبَعَةً، فَقَامُوا فِي زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الْمَسْجِدِ وَصَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ فَلاَ يُكْرَهُ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّكْرَارُ إِذَا كَانَتِ الْجَمَاعَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى سَبِيل التَّدَاعِي وَالاِجْتِمَاعِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فَلاَ يُكْرَهُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ تَكُنِ الْجَمَاعَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى الْهَيْئَةِ الأُْولَى لاَ تُكْرَهُ، وَإِلاَّ تُكْرَهُ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - وَبِالْعُدُول عَنِ الْمِحْرَابِ تَخْتَلِفُ الْهَيْئَةُ.
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لِلإِْمَامِ الرَّاتِبِ الْجَمْعُ - يَعْنِي أَنْ يُصَلِّيَ جَمَاعَةً - إِنْ جَمَعَ غَيْرُهُ قَبْلَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ إِنْ لَمْ يُؤَخِّرْ عَنْ عَادَتِهِ كَثِيرًا، فَإِنْ أَذِنَ لأَِحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ مَكَانَهُ، أَوْ أَخَّرَ عَنْ

(27/176)


عَادَتِهِ تَأْخِيرًا كَثِيرًا يَضُرُّ بِالْمُصَلِّينَ فَجَمَعُوا، كُرِهَ لِلإِْمَامِ الْجَمْعُ حِينَئِذٍ. وَبِنَاءً عَلَى كَرَاهَةِ إِعَادَةِ الصَّلاَةِ جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي لَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ فَإِنَّهُ إِذَا دَخَل جَمَاعَةٌ الْمَسْجِدَ بَعْدَمَا صَلَّى أَهْلُهُ فِيهِ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُصَلُّونَ وُحْدَانًا.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُنْدَبُ خُرُوجُهُمْ مِنَ الْمَسْجِدِ لِيَجْمَعُوا خَارِجَهُ، أَوْ مَعَ إِمَامٍ رَاتِبٍ آخَرَ، وَلاَ يُصَلُّونَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ أَفْذَاذًا؛ لِفَوَاتِ فَضْل الْجَمَاعَةِ، إِلاَّ بِالْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ (مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالأَْقْصَى) ، فَلاَ يَخْرُجُونَ إِذَا وَجَدُوا الإِْمَامَ قَدْ صَلَّى وَيُصَلُّونَ فِيهَا أَفْذَاذًا؛ لِفَضْل فَذِّهَا عَلَى جَمَاعَةِ غَيْرِهَا، وَهَذَا إِنْ دَخَلُوهَا فَوَجَدُوا الرَّاتِبَ قَدْ صَلَّى، وَأَمَّا إِنْ عَلِمُوا بِصَلاَتِهِ قَبْل دُخُولِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَجْمَعُونَ خَارِجَهَا، وَلاَ يَدْخُلُونَهَا لِيُصَلُّوا أَفْذَاذًا.
وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ كَرَاهَةَ إِعَادَةِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي لَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ، قَالُوا: وَمَنْ حَضَرَ وَلَمْ يَجِدْ إِلاَّ مَنْ صَلَّى اسْتُحِبَّ لِبَعْضِ مَنْ حَضَرَ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُ؛ لِيَحْصُل لَهُ فَضْل الْجَمَاعَةِ، لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلاً جَاءَ، وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَصَلَّى مَعَهُ (1) .
__________
(1) حديث أبي سعيد الخدري تقدم تخريجه ف / 10.

(27/176)


وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ بِأَنَّ الْجَمَاعَةَ الثَّانِيَةَ إنَّمَا تُكْرَهُ إِذَا لَمْ يَأْذَنِ الإِْمَامُ، فَإِنْ أَذِنَ فَلاَ كَرَاهَةَ.
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِمَسْجِدِ الْحَيِّ الَّذِي لَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ.
17 - أَمَّا الْمَسْجِدُ الَّذِي فِي سُوقٍ، أَوْ فِي الطُّرُقِ وَمَمَرِّ النَّاسِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَكْرَارُ الْجَمَاعَةِ فِيهِ، وَلاَ تُكْرَهُ؛ لأَِنَّ النَّاسَ فِيهِ سَوَاءٌ، لاَ اخْتِصَاصَ لَهُ بِفَرِيقٍ دُونَ فَرِيقٍ.
مِثْل ذَلِكَ الْمَسْجِدُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ إِمَامٌ وَلاَ مُؤَذِّنٌ، وَيُصَلِّي النَّاسُ فِيهِ فَوْجًا فَوْجًا، فَإِنَّ الأَْفْضَل أَنْ يُصَلِّيَ كُل فَرِيقٍ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ كَرَاهَةِ إِعَادَةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَوْ كَانَ مَسْجِدُ الْحَيِّ وَلَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ، بَل قَالُوا: إِذَا صَلَّى إِمَامُ الْحَيِّ، حَضَرَ جَمَاعَةٌ أُخْرَى اسْتَحَبَّ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً، وَهُوَ قَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ وَإِسْحَاقَ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُل صَلاَةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً (1) وَفِي رِوَايَةٍ: بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ قَال: جَاءَ رَجُلٌ وَقَدْ صَلَّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا؟ فَقَامَ رَجُلٌ
__________
(1) حديث: " صلاة الجماعة تفضل. . . ". تقدم تخريجه ف 2.

(27/177)


فَصَلَّى مَعَهُ، وَرَوَى الأَْثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ وَزَادَ قَال: فَلَمَّا صَلَّيَا قَال: وَهَذَانِ جَمَاعَةٌ (1) . وَلأَِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ، فَاسْتُحِبَّ لَهُ فِعْلُهَا، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ فِي مَمَرِّ النَّاسِ وَهَذَا فِيمَا عَدَا إِعَادَةَ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ كَرَاهَةُ إِعَادَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهَا، وَفِي رَأْيٍ آخَرَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ تُكْرَهُ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ أَفْتَى بِالْجَوَازِ (2) .

الصَّلاَةُ عِنْدَ قِيَامِ الْجَمَاعَةِ:
18 - مَنْ دَخَل الْمَسْجِدَ، وَقَدْ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي إِقَامَةِ الصَّلاَةِ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ الاِنْشِغَال عَنْهَا بِنَافِلَةٍ، سَوَاءٌ أَخَشِيَ فَوَاتَ الرَّكْعَةِ الأُْولَى أَمْ لَمْ يَخْشَ فَوَاتَهَا؛ لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ صَلاَةَ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ (3) وَلأَِنَّ مَا يَفُوتُهُ مَعَ الإِْمَامِ أَفْضَل مِمَّا يَأْتِي بِهِ، فَلاَ يَشْتَغِل بِهِ، وَقَدْ رَوَتِ
__________
(1) حديث " من يتصدق على هذا. . . ". تقدم تخريجه ف / 10.
(2) ابن عابدين 1 / 371، وبدائع الصنائع 1 / 153، والدسوقي 1 / 332، المغني 2 / 180 و 181، والمجموع شرح المهذب 4 / 221 - 222.
(3) حديث: " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة. . . ". أخرجه مسلم (1 / 493 - ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة.

(27/177)


السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ حِينَ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ، فَرَأَى نَاسًا يُصَلُّونَ، فَقَال: أَصَلاَتَانِ مَعًا (1) ؟ . وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَبِهَذَا قَال أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعُرْوَةُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ سُنَّةِ الْفَجْرِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ فِي سُنَّةِ الْفَجْرِ: إِذَا خَافَ فَوْتَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ لاِشْتِغَالِهِ بِسُنَّتِهَا تَرَكَهَا؛ لِكَوْنِ الْجَمَاعَةِ أَكْمَل، فَلاَ يَشْرَعُ فِيهَا. وَإِذَا رَجَا إِدْرَاكَ رَكْعَةٍ مَعَ الإِْمَامِ فَلاَ يَتْرُكُ سُنَّةَ الْفَجْرِ، بَل يُصَلِّيهَا، وَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَقِيل: إِذَا رَجَا إِدْرَاكَ التَّشَهُّدِ مَعَ الإِْمَامِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي السُّنَّةَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِهِ إِنْ وَجَدَ مَكَانًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَكَانًا تَرَكَهَا وَلاَ يُصَلِّيهَا دَاخِل الْمَسْجِدِ؛ لأَِنَّ التَّنَفُّل فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ اشْتِغَال الإِْمَامِ بِالْفَرِيضَةِ مَكْرُوهٌ (2) .
__________
(1) حديث عائشة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج حين أقيمت الصلاة. . . ". أخرجه ابن عبد البر في التمهيد كما في شرح الزرقاني على الموطأ (1 / 262 ط المكتبة التجارية) .
(2) ابن عابدين 1 / 481، 482، والبدائع 1 / 286، وجواهر الإكليل 1 / 77، والحطاب 2 / 88 - 89، ومغني المحتاج 1 / 252، والمغني 1 / 456.

(27/178)


وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ دَخَل وَالإِْمَامُ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ فَرَكَعَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَسَنِ، وَمَكْحُولٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ (1) .

19 - وَمَنْ كَانَ يُصَلِّي النَّافِلَةَ، ثُمَّ أُقِيمَتْ صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ فَقَدْ قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ لَمْ يَخْشَ فَوَاتَ الْجَمَاعَةِ بِسَلاَمِ الإِْمَامِ فَإِنَّهُ يُتِمُّ النَّافِلَةَ، وَلاَ يَقْطَعُهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (2) } ثُمَّ يَدْخُل فِي الْجَمَاعَةِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ لَمْ يَخْشَ فَوَاتَ رَكْعَةٍ بِإِتْمَامِ النَّافِلَةِ بِأَنْ تَحَقَّقَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ يُدْرِكُ الإِْمَامَ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى عَقِبَ إِتْمَامِ مَا هُوَ فِيهِ أَتَمَّهَا، ثُمَّ دَخَل مَعَ الْجَمَاعَةِ.
أَمَّا إِنْ خَشِيَ فَوَاتَ الْجَمَاعَةِ - كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - أَوْ خَشِيَ فَوَاتَ رَكْعَةٍ - كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ - فَإِنَّهُ يَقْطَعُ النَّافِلَةَ وُجُوبًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَنَدْبًا فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوُجُوبًا فِي الْجُمُعَةِ (أَيْ إِنْ كَانَتِ الَّتِي يُصَلِّيهَا الإِْمَامُ هِيَ الْجُمُعَةَ) ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ قُدَامَةَ، إِحْدَاهُمَا: يُتِمُّ النَّافِلَةَ، وَالثَّانِيَةُ: يَقْطَعُهَا؛ لأَِنَّ مَا يُدْرِكُهُ مِنَ الْجَمَاعَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا وَأَكْثَرُ ثَوَابًا مِمَّا يَفُوتُهُ بِقَطْعِ النَّافِلَةِ؛ لأَِنَّ
__________
(1) المغني 1 / 456.
(2) سورة محمد آية 33.

(27/178)


صَلاَةَ الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى صَلاَةِ الرَّجُل وَحْدَهُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَلَمْ يُقَيِّدُوا الْقَطْعَ أَوِ الإِْتْمَامَ بِإِدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ، أَوْ عَدَمِ إِدْرَاكِهَا؛ لأَِنَّ الشُّرُوعَ فِي النَّافِلَةِ عِنْدَهُمْ يَجْعَلُهَا وَاجِبَةً، وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: الشَّارِعُ فِي نَفْلٍ لاَ يَقْطَعُ مُطْلَقًا إِذَا أُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ وَهُوَ فِي صَلاَةِ النَّافِلَةِ، بَل يُتِمُّهُ رَكْعَتَيْنِ، وَإِذَا كَانَ فِي سُنَّةِ الظُّهْرِ، أَوْ سُنَّةِ الْجُمُعَةِ، إِذَا أُقِيمَتِ الظُّهْرُ، أَوْ خَطَبَ الإِْمَامُ، فَإِنَّهُ يُتِمُّهَا أَرْبَعًا عَلَى الْقَوْل الرَّاجِحِ؛ لأَِنَّهَا صَلاَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْكَمَال فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ مَا نَصُّهُ: وَقِيل: يَقْطَعُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي سُنَّةِ الظُّهْرِ وَالْجُمُعَةِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ؛ لأَِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ قَضَائِهَا بَعْدَ الْفَرْضِ. وَهَذَا حَيْثُ لَمْ يَقُمْ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ. أَمَّا إِنْ قَامَ إِلَيْهَا وَقَيَّدَهَا بِسَجْدَةٍ فَفِي رِوَايَةِ النَّوَادِرِ يُضِيفُ إِلَيْهَا رَابِعَةً وَيُسَلِّمُ، وَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْهَا بِسَجْدَةٍ فَقِيل: يُتِمُّهَا أَرْبَعًا، وَيُخَفِّفُ الْقِرَاءَةَ. وَقِيل: يَعُودُ إِلَى الْقَعْدَةِ وَيُسَلِّمُ، وَهَذَا أَشْبَهُ، قَال فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: وَالأَْوْجَهُ أَنْ يُتِمَّهَا (2) .

20 - وَإِنْ أُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ وَالْمُنْفَرِدُ يُصَلِّي
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 77، ومغني المحتاج 1 / 252، والمغني 1 / 456.
(2) ابن عابدين 1 / 479.

(27/179)


الصَّلاَةَ الْمَفْرُوضَةَ الَّتِي يُؤَدِّيهَا الإِْمَامُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَيَّدَ الرَّكْعَةَ الأُْولَى بِالسُّجُودِ قَطَعَ صَلاَتَهُ، وَاقْتَدَى، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَقَدَ رَكْعَةً بِالسُّجُودِ، فَإِنْ كَانَ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ أَوِ الْمَغْرِبِ قَطَعَ صَلاَتَهُ وَاقْتَدَى بِالإِْمَامِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ قَدْ قَامَ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَقَيَّدَهَا بِالسُّجُودِ فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُتِمُّ صَلاَتَهُ. وَلاَ يَدْخُل مَعَ الإِْمَامِ؛ لِكَرَاهَةِ التَّنَفُّل بَعْدَ الْفَجْرِ وَبِالثَّلاَثِ فِي الْمَغْرِبِ.
وَهَذَا كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ، لَكِنِ الْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: يَدْخُل مَعَ الإِْمَامِ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ وَلاَ يَدْخُل مَعَهُ فِي صَلاَةِ الْمَغْرِبِ. وَإِنْ كَانَتِ الصَّلاَةُ رُبَاعِيَّةً، وَكَانَ الْمُنْفَرِدُ قَدْ قَيَّدَ الرَّكْعَةَ الأُْولَى بِالسُّجُودِ، شَفَعَ بِرَكْعَةٍ أُخْرَى، وَسَلَّمَ وَاقْتَدَى بِالإِْمَامِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَقَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ لِلْجُلُوسِ، وَيُعِيدُ التَّشَهُّدَ، وَيُسَلِّمُ وَيَدْخُل مَعَ الإِْمَامِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ فَإِنَّهُ يُتِمُّ صَلاَتَهُ، وَيَقْتَدِي بِالإِْمَامِ مُتَنَفِّلاً، إِلاَّ فِي الْعَصْرِ، كَمَا هُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِكَرَاهَةِ النَّفْل بَعْدَهُ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 477، 148، 179، وجواهر الإكليل 1 / 77، والدسوقي 1 / 324، ومغني المحتاج 1 / 252، وأسنى المطالب 1 / 231، والمجموع شرح المهذب 4 / 208 - 210.

(27/179)


21 - مَنْ شَرَعَ فِي صَلاَةٍ فَائِتَةٍ وَأُقِيمَتِ الْحَاضِرَةُ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ لاَ يَقْطَعُ صَلاَتَهُ، لَكِنَّهُ لَوْ خَافَ فَوْتَ جَمَاعَةِ الْحَاضِرَةِ قَبْل قَضَاءِ الْفَائِتَةِ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبَ تَرْتِيبٍ قَضَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَقْتَدِي؛ لإِِحْرَازِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ، مَعَ جَوَازِ تَأْخِيرِ الْقَضَاءِ وَإِمْكَانِ تَلاَفِيهِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ بَعْدَ أَنْ نَقَل ذَلِكَ عَنِ الْخَيْرِ الرَّمْلِيِّ: وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ؛ لأَِنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا، أَوْ فِي حُكْمِ الْوَاجِبِ.
أَمَّا إِذَا شَرَعَ فِي قَضَاءِ فَرْضٍ، وَأُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ فِي ذَلِكَ الْفَرْضِ بِعَيْنِهِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ وَيَقْتَدِي. وَعُزِيَ لِلْخُلاَصَةِ: أَنَّهُ لَوْ شَرَعَ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ، ثُمَّ أُقِيمَتْ لاَ يَقْطَعُ، هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ شَرَعَ فِي فَرِيضَةٍ، وَأُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ فِي غَيْرِهَا، بِأَنْ كَانَ فِي ظُهْرٍ، فَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْعَصْرُ مَثَلاً قَطَعَ صَلاَتَهُ الَّتِي فِيهَا إِنْ خَشِيَ، بِأَنْ تَحَقَّقَ أَوْ ظَنَّ فَوَاتَ رَكْعَةٍ مَعَ الإِْمَامِ، وَإِنْ لَمْ يَخْشَ فَوَاتَ رَكْعَةٍ مَعَ الإِْمَامِ بِأَنْ تَحَقَّقَ أَوْ ظَنَّ إِدْرَاكَهُ فِي الأُْولَى عَقِبَ إِتْمَامِ مَا هُوَ فِيهِ فَلاَ يَقْطَعُ بَل يُتِمُّ صَلاَتَهُ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 477.
(2) جواهر الإكليل 1 / 77، والحطاب 2 / 90 - 91.

(27/180)


وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ كَانَ يُصَلِّي فَائِتَةً، وَالْجَمَاعَةُ تُصَلِّي الْحَاضِرَةَ فَلاَ يَقْلِبُ صَلاَتَهُ نَفْلاً لِيُصَلِّيَهَا جَمَاعَةً، إِذْ لاَ تُشْرَعُ فِيهَا الْجَمَاعَةُ حِينَئِذٍ، خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ الْعُلَمَاءِ، فَإِنْ كَانَتِ الْجَمَاعَةُ فِي تِلْكَ الْفَائِتَةِ بِعَيْنِهَا جَازَ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ لاَ يُنْدَبُ، أَيْ جَازَ قَطْعُ صَلاَتِهِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَيَقْتَدِي بِالإِْمَامِ (1) .

مَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَصَدَ الْجَمَاعَةَ:
22 - يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُل إِذَا أَقْبَل إِلَى الصَّلاَةِ: أَنْ يُقْبِل بِخَوْفٍ وَوَجَلٍ وَخُشُوعٍ وَخُضُوعٍ، وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَإِنْ سَمِعَ الإِْقَامَةَ لَمْ يَسْعَ إِلَيْهَا فِي عَجَلَةٍ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ، وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا (2) وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَال: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ، فَلَمَّا صَلَّى قَال: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلاَةِ، قَال: فَلاَ تَفْعَلُوا، إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 231، ومغني المحتاج 1 / 252، والمجموع 4 / 210 - 211.
(2) حديث أبي هريرة: " إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 390 - ط السلفية) ومسلم (1 / 420 - 421 ط. الحلبي) .

(27/180)


فَأَتِمُّوا، وَفِي رِوَايَةٍ: فَاقْضُوا (1) .
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو إِسْحَاقَ: إِنْ خَافَ فَوَاتَ التَّكْبِيرَةِ الأُْولَى فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُسْرِعَ إِذَا طَمِعَ أَنْ يُدْرِكَهَا مَا لَمْ يَكُنْ عَجَلَةً تَقْبُحُ، جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَجِّلُونَ شَيْئًا إِذَا خَافُوا فَوَاتَ التَّكْبِيرَةِ الأُْولَى، وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ اشْتَدَّ إِلَى الصَّلاَةِ وَقَال: بَادِرُوا حَدَّ الصَّلاَةِ يَعْنِي التَّكْبِيرَةَ الأُْولَى (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ الإِْسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ لِلصَّلاَةِ فِي جَمَاعَةٍ لإِِدْرَاكِ فَضْلِهَا إِسْرَاعًا يَسِيرًا بِلاَ خَبَبٍ أَيْ بِلاَ جَرْيٍ يُذْهِبُ الْخُشُوعَ، فَيُكْرَهُ، وَلَوْ خَافَ فَوَاتَ إِدْرَاكِهَا وَلَوْ جُمُعَةً؛ لأَِنَّ لَهَا بَدَلاً؛ وَلأَِنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا أَذِنَ فِي السَّعْيِ مَعَ السَّكِينَةِ، فَانْدَرَجَتِ الْجُمُعَةُ وَغَيْرُهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلٍّ لاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ فِيهِ وَيَضِيقُ الْوَقْتُ، بِحَيْثُ يَخْشَى فَوَاتَهُ إِنْ لَمْ يُسْرِعْ، فَيَجِبُ حِينَئِذٍ (3) .
كَذَلِكَ قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ ضَاقَ الْوَقْتُ
__________
(1) حديث أبي قتادة: " بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (الفتح2 / 116 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 422 - ط. الحلبي) .
(2) البدائع 1 / 218، والمهذب 1 / 101، والمغني 1 / 453 - 454.
(3) منح الجليل 1 / 223.

(27/181)


وَخَشِيَ فَوَاتَهُ فَلْيُسْرِعْ، كَمَا لَوْ خَشِيَ فَوَاتَ الْجُمُعَةِ وَكَذَلِكَ لَوِ امْتَدَّ الْوَقْتُ، وَكَانَتْ لاَ تَقُومُ إِلاَّ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يُسْرِعْ لَتَعَطَّلَتْ، قَالَهُ الأَْذْرَعِيُّ (1) .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَارِبَ بَيْنَ خَطْوِهِ لِتَكْثُرَ حَسَنَاتُهُ، فَإِنَّ كُل خُطْوَةٍ يُكْتَبُ لَهُ بِهَا حَسَنَةٌ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَال: أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ، فَخَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي وَأَنَا مَعَهُ فَقَارَبَ فِي الْخُطَى ثُمَّ قَال: أَتَدْرِي لِمَ فَعَلْتُ هَذَا؟ لِتَكْثُرَ خُطَانَا فِي طَلَبِ الصَّلاَةِ (2) .

كَيْفِيَّةُ انْتِظَامِ الْمُصَلِّينَ فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ:
23 - إِذَا انْعَقَدَتِ الْجَمَاعَةُ بِأَقَل مَا تَنْعَقِدُ بِهِ (وَاحِدٌ مَعَ الإِْمَامِ) فَالسُّنَّةُ أَنْ يَقِفَ الْمَأْمُومُ عَنْ يَمِينِ الإِْمَامِ إِذَا كَانَ رَجُلاً أَوْ صَبِيًّا يَعْقِل، فَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً أَقَامَهَا خَلْفَهُ، وَلَوْ كَانَ مَعَ الإِْمَامِ اثْنَانِ، فَإِنْ كَانَا رَجُلَيْنِ أَقَامَهُمَا خَلْفَهُ، وَإِنْ كَانَا رَجُلاً وَامْرَأَةً أَقَامَ الرَّجُل عَنْ يَمِينِهِ وَالْمَرْأَةَ خَلْفَ الرَّجُل.
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 231.
(2) المغني 1 / 454، وحديث: زيد بن ثابت: " أقيمت الصلاة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ". أخرجه عبد بن حميد (ص 112 - ط عالم الكتب) وأخرجه كذلك الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد للهيثمي (2 / 32 ط القدسي) وقال الهيثمي: فيه الضحاك بن نبراس وهو ضعيف.

(27/181)


وَلَوْ كَانَتِ الْجَمَاعَةُ كَثِيرَةً وَفِيهِمْ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ قَامَ الرِّجَال فِي الصُّفُوفِ الأُْولَى خَلْفَ الإِْمَامِ، ثُمَّ قَامَ الصِّبْيَانُ مِنْ وَرَاءِ الرِّجَال، ثُمَّ قَامَ النِّسَاءُ مِنْ وَرَاءِ الصِّبْيَانِ.
وَفِي جَمَاعَةِ النِّسَاءِ تَقِفُ الَّتِي تَؤُمُّ النِّسَاءَ وَسَطَهُنَّ.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ الإِْمَامُ عَنِ الْمَأْمُومِينَ فِي الْمَوْقِفِ، وَلاَ يَكُونُ مَوْقِفُ الإِْمَامِ أَعْلَى مِنْ مَوْقِفِ الْمُقْتَدِينَ (1) .
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي: مُصْطَلَحِ (إِمَامَةُ الصَّلاَةِ ج 6 ف 20 - 21 - 22) .

أَفْضَلِيَّةُ الصُّفُوفِ وَتَسْوِيَتُهَا:
24 - يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَقَدَّمَ النَّاسُ فِي الصَّفِّ الأَْوَّل؛ لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الأَْحَادِيثِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى التَّقَدُّمِ إِلَى الصَّفِّ الأَْوَّل، فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الأَْوَّل لَكَانَتْ قُرْعَةً (2) وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصَّفُّ الأَْوَّل عَلَى مِثْل صَفِّ الْمَلاَئِكَةِ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ
__________
(1) البدائع 1 / 158 - 159، والدسوقي 1 / 344، والمهذب 1 / 106 - 107، وكشاف القناع 1 / 485 - 486 - 487.
(2) حديث: " لو تعلمون (أو يعلمون) ما في الصف الأول. . . ". أخرجه مسلم (1 / 326 ط الحلبي) .

(27/182)


فَضِيلَتَهُ لاَبْتَدَرْتُمُوهُ (1) .
كَمَا يُسْتَحَبُّ إِتْمَامُ الصُّفُوفِ، وَلاَ يَشْرَعُ فِي صَفٍّ حَتَّى يُتِمَّ مَا قَبْلَهُ، فَيَبْدَأُ بِإِتْمَامِ الصَّفِّ الأَْوَّل، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ وَهَكَذَا إِلَى آخِرِ الصُّفُوفِ، فَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ (2) .
وَيُسْتَحَبُّ الاِعْتِدَال فِي الصُّفُوفِ، فَإِذَا وَقَفُوا فِي الصَّفِّ لاَ يَتَقَدَّمُ بَعْضُهُمْ بِصَدْرِهِ أَوْ غَيْرِهِ وَلاَ يَتَأَخَّرُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَيُسَوِّي الإِْمَامُ بَيْنَهُمْ فَفِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ عَنِ الْبَرَاءِ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي نَاحِيَةَ الصَّفِّ وَيُسَوِّي بَيْنَ صُدُورِ الْقَوْمِ وَمَنَاكِبِهِمْ، وَيَقُول: لاَ تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصُّفُوفِ الأُْوَل (3) .
__________
(1) حديث أبي بن كعب: " الصف الأول مثل صف الملائكة. . ". أخرجه النسائي (2 / 105 ط المكتبة التجارية) والحاكم (1 / 248 ط. دائرة المعارف العثمانية) ونقل الذهبي في تلخيصه عن جمع من العلماء أنهم صححوا هذا الحديث.
(2) حديث أنس: " أتموا الصف المقدم. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 435 تحقيق عزت عبيد دعاس) وحسنه النووي في رياض الصالحين (ص 414 - ط المكتب الإسلامي) .
(3) حديث البراء: " لا تختلفوا فتختلف قلوبكم. . . ". أخرجه ابن خزيمة (3 / 26 - ط المكتب الإسلامي) وإسناده صحيح.

(27/182)


وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَلاَ تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلاَئِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ فَقُلْنَا: يَا رَسُول اللَّهِ وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلاَئِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَال: يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الأُْوَل، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ (1) وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَال: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي وَكَانَ أَحَدُنَا يَلْزَقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ (2) .
كَمَا يُسْتَحَبُّ سَدُّ الْفُرَجِ، وَالإِْفْسَاحُ لِمَنْ يُرِيدُ الدُّخُول فِي الصَّفِّ (3) . فَقَدْ وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَقِيمُوا الصُّفُوفَ، وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ وَسُدُّوا الْخَلَل، وَلِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَلاَ تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَل صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ (4) .
__________
(1) حديث " ألا تصفون كما تصف الملائكة ". أخرجه مسلم (1 / 322 - ط الحلبي) .
(2) حديث أنس: " أقيموا صفوفكم. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 211 - ط. السلفية) .
(3) فتح القدير 1 / 311، نشر إحياء التراث العربي، والمجموع 4 / 226، 227، 301 نشر المكتبة السلفية، والمغني 2 / 219، وشرح الزرقاني 2 / 17.
(4) حديث ابن عمر: أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب. . ". أخرجه أبو داود (1 / 433، تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه ابن خزيمة والحاكم كما في فتح الباري (2 / 211 - ط. السلفية) .

(27/183)


قَال النَّوَوِيُّ: وَاسْتِحْبَابُ الصَّفِّ الأَْوَّل ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ إِلَى آخِرِهَا - هَذَا الْحُكْمُ مُسْتَمِرٌّ فِي صُفُوفِ الرِّجَال بِكُل حَالٍ، وَكَذَا فِي صُفُوفِ النِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ بِجَمَاعَتِهِنَّ عَنْ جَمَاعَةِ الرِّجَال، أَمَّا إِذَا صَلَّتِ النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَال جَمَاعَةً وَاحِدَةً، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ فَأَفْضَل صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا (1) .
لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَال أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا (&#
x662 ;) .

صَلاَةُ الرَّجُل وَحْدَهُ خَلْفَ الصُّفُوفِ:
25 - الأَْصْل فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُونَ صُفُوفًا مُتَرَاصَّةً كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ - وَلِذَلِكَ يُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَاحِدٌ مُنْفَرِدًا خَلْفَ الصُّفُوفِ دُونَ عُذْرٍ، وَصَلاَتُهُ صَحِيحَةٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَتَنْتَفِي الْكَرَاهَةُ بِوُجُودِ الْعُذْرِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: - الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - وَالأَْصْل فِيهِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ: أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْل أَنْ يَصِل إِلَى
__________
(1) المجموع 4 / 301.
(2) حديث: " خير صفوف الرجال أولها. . . ". أخرجه مسلم (1 / 326 ط. الحلبي) .

(27/183)


الصَّفِّ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلاَ تَعُدْ (1) .
قَال الْفُقَهَاءُ: يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ لُزُومِ الإِْعَادَةِ، وَأَنَّ الأَْمْرَ الَّذِي وَرَدَ فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلاَةَ (2) . هَذَا الأَْمْرُ بِالإِْعَادَةِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيل الاِسْتِحْبَابِ؛ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ (3) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَبْطُل صَلاَةُ مَنْ صَلَّى وَحْدَهُ رَكْعَةً كَامِلَةً خَلْفَ الصَّفِّ مُنْفَرِدًا دُونَ عُذْرٍ؛ لِحَدِيثِ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ: أَنَّهُ صَلَّى بِهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْصَرَفَ، وَرَجُلٌ فَرْدٌ خَلْفَ الصَّفِّ، قَال: فَوَقَفَ عَلَيْهِ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ انْصَرَفَ قَال: اسْتَقْبِل صَلاَتَكَ، لاَ صَلاَةَ لِلَّذِي خَلْفَ الصَّفِّ (4) .
__________
(1) حديث أبي بكرة: " أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع. . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 267 - ط السلفية) .
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي خلف الصف. . ". أخرجه الترمذي (1 / 445 - 446 - ط الحلبي) وقال: حديث حسن.
(3) البدائع 1 / 218، وفتح القدير 1 / 309، نشر دار إحياء التراث، ومغني المحتاج 1 / 247، والحطاب مع المواق 2 / 131، وجواهر الإكليل 1 / 80.
(4) حديث علي بن شيبان: " استقبل صلاتك ". أخرجه ابن ماجه (1 / 320 ط - الحلبي) وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 195 - ط دار الجنان) : هذا إسناد صحيح، ورجاله ثقات.

(27/184)


فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَاهُ فَقَال: لاَ تُعِدْ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَعُذْرُهُ فِيمَا فَعَلَهُ لِجَهْلِهِ بِتَحْرِيمِهِ، وَلِلْجَهْل تَأْثِيرٌ فِي الْعَفْوِ (1) .

وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ كَيْفِيَّةِ تَصَرُّفِ الْمَأْمُومِ لِيَجْتَنِبَ الصَّلاَةَ مُنْفَرِدًا خَلْفَ الصَّفِّ، حَتَّى تَنْتَفِيَ الْكَرَاهَةُ، كَمَا يَقُول جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَتَصِحُّ كَمَا يَقُول الْحَنَابِلَةُ:
26 - مَنْ دَخَل الْمَسْجِدَ وَقَدْ أُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ، فَإِنْ وَجَدَ فُرْجَةً فِي الصَّفِّ الأَْخِيرِ وَقَفَ فِيهَا، أَوْ وَجَدَ الصَّفَّ غَيْرَ مَرْصُوصٍ وَقَفَ فِيهِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يَصِلُونَ الصُّفُوفَ (2) .
وَإِنْ وَجَدَ الْفُرْجَةَ فِي صَفٍّ مُتَقَدِّمٍ فَلَهُ أَنْ يَخْتَرِقَ الصُّفُوفَ لِيَصِل إِلَيْهَا لِتَقْصِيرِ الْمُصَلِّينَ فِي تَرْكِهَا، يَدُل عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَظَرَ إِلَى فُرْجَةٍ فِي صَفٍّ فَلْيَسُدَّهَا بِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل، فَمَرَّ مَارٌّ، فَلْيَتَخَطَّ
__________
(1) المغني 2 / 211 - 212.
(2) حديث: " إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف ". أخرجه ابن حبان (الإحسان 5 / 536 - ط الرسالة) من حديث عائشة، وإسناده حسن.

(27/184)


عَلَى رَقَبَتِهِ فَإِنَّهُ لاَ حُرْمَةَ لَهُ (1) .
وَلأَِنَّ سَدَّ الْفُرْجَةِ الَّتِي فِي الصُّفُوفِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لَهُ وَلِلْقَوْمِ بِإِتْمَامِ صَلاَتِهِ وَصَلاَتِهِمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ تَمَامِ الصَّلاَةِ (2) ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ. وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَدِّ الْفُرَجِ (3) .
وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ إِذْ إِنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ يُحَدِّدُ الصُّفُوفَ الَّتِي يَجُوزُ اخْتِرَاقُهَا بِصَفَّيْنِ غَيْرِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ وَاَلَّذِي دَخَل فِيهِ، كَذَلِكَ قَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ كَانَتِ الْفُرْجَةُ بِحِذَائِهِ كُرِهَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَيْهَا عَرْضًا بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ (4) .
__________
(1) حديث: " من نظر إلى فرجه ". أخرجه الطبراني في الكبير (11 / 105 ط وزارة الأوقاف العراقية) من حديث ابن عباس، وأورده الهيثمي في المجمع (2 / 95 ط القدسي) وقال: فيه مسلمة بن علي وهو ضعيف.
(2) ففي الحديث عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة. . ". أخرجه مسلم (1 / 324 - ط الحلبي) وأخرجه البخاري كذلك (الفتح2 / 209 - ط - السلفية) بلفظ: " من إقامة الصلاة ".
(3) حديث: " أنه أمر بسد الفرج. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 433 تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث ابن عمر بلفظ: " أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل ".، وإسناده صحيح.
(4) حديث: " لو يعلم المار بين يدي المصلي. . . ". أخرجه البخاري (الفتح1 / 584 - ط السلفية) ومسلم (1 / 363 - ط. الحلبي) من حديث أبي جهيم.

(27/185)


27 - وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فُرْجَةً فِي أَيِّ صَفٍّ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَهُ حِينَئِذٍ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ لَمْ يَجِدْ فُرْجَةً يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَظِرَ مَنْ يَدْخُل الْمَسْجِدَ لِيَصْطَفَّ مَعَهُ خَلْفَ الصَّفِّ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدًا وَخَافَ فَوَاتَ الرَّكْعَةِ جَذَبَ مِنَ الصَّفِّ إِلَى نَفْسِهِ مَنْ يَعْرِفُ مِنْهُ عِلْمًا وَخُلُقًا لِكَيْ لاَ يَغْضَبَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ وَقَفَ خَلْفَ الصَّفِّ بِحِذَاءِ الإِْمَامِ، وَلاَ كَرَاهَةَ حِينَئِذٍ، لأَِنَّ الْحَال حَال الْعُذْرِ، هَكَذَا ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ فِي الْبَدَائِعِ، لَكِنْ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ ذَكَرَ فِي الْفَتْحِ: أَنَّ مَنْ جَاءَ وَالصَّفُّ مَلآْنُ يَجْذِبُ وَاحِدًا مِنْهُ، لِيَكُونَ مَعَهُ صَفًّا آخَرَ، ثُمَّ قَال: وَيَنْبَغِي لِذَلِكَ (أَيْ لِمَنْ كَانَ فِي الصَّفِّ) أَنْ لاَ يُجِيبَهُ، فَتَنْتَفِيَ الْكَرَاهَةُ عَنْ هَذَا؛ لأَِنَّهُ فَعَل وُسْعَهُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الدُّخُول فِي الصَّفِّ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي مُنْفَرِدًا عَنِ الْمَأْمُومِينَ، وَلاَ يَجْذِبُ أَحَدًا مِنَ الصَّفِّ، وَإِنْ جَذَبَ أَحَدًا فَلاَ يُطِعْهُ الْمَجْذُوبُ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنَ الْجَذْبِ وَالإِْطَاعَةِ مَكْرُوهٌ (2) .
__________
(1) البدائع 1 / 218، وابن عابدين 1 / 383، وفتح القدير 1 / 309، والخرشي 2 / 33، 47، وجواهر الإكليل 1 / 80، 84، ومغني المحتاج 1 / 247، 248، وكشاف القناع 1 / 490، وشرح منتهى الإرادات 1 / 265.
(2) جواهر الإكليل 1 / 80.

(27/185)


وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدْ فُرْجَةً وَلاَ سِعَةً فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجُرَّ إِلَيْهِ شَخْصًا مِنَ الصَّفِّ لِيَصْطَفَّ مَعَهُ، لَكِنْ مَعَ مُرَاعَاةِ أَنَّ الْمَجْرُورَ سَيُوَافِقُهُ، وَإِلاَّ فَلاَ يَجُرُّ أَحَدًا مَنْعًا لِلْفِتْنَةِ، وَإِذَا جَرَّ أَحَدًا فَيُنْدَبُ لِلْمَجْرُورِ أَنْ يُسَاعِدَهُ لِيَنَال فَضْل الْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى.
وَمُقَابِل الصَّحِيحِ - وَهُوَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ - أَنَّهُ يَقِفُ مُنْفَرِدًا، وَلاَ يَجْذِبُ أَحَدًا؛ لِئَلاَّ يُحْرِمَ غَيْرَهُ فَضِيلَةَ الصَّفِّ السَّابِقِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا فِي الصَّفِّ يَقِفُ فِيهِ وَقَفَ عَنْ يَمِينِ الإِْمَامِ إِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ مَوْقِفُ الْوَاحِدِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْوُقُوفُ عَنْ يَمِينِ الإِْمَامِ فَلَهُ أَنْ يُنَبِّهَ رَجُلاً مِنَ الصَّفِّ لِيَقِفَ مَعَهُ، وَيُنَبِّهَهُ بِكَلاَمٍ أَوْ بِنَحْنَحَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ وَيَتْبَعُهُ مَنْ يُنَبِّهُهُ. وَظَاهِرُهُ وُجُوبًا لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ مَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ. وَيُكْرَهُ تَنْبِيهُهُ بِجَذْبِهِ نَصًّا، وَاسْتَقْبَحَهُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: جَوَّزَ أَصْحَابُنَا جَذْبَ رَجُلٍ يَقُومُ مَعَهُ صَفًّا، وَصَحَّحَ ذَلِكَ ابْنُ قُدَامَةَ؛ لأَِنَّ الْحَالَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ، فَجَازَ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 248 - 249، والمجموع 4 / 297 - 298.

(27/186)


كَالسُّجُودِ عَلَى ظَهْرِهِ أَوْ قَدَمِهِ حَال الزِّحَامِ،
وَلَيْسَ هَذَا تَصَرُّفًا فِيهِ، إِنَّمَا هُوَ تَنْبِيهُهُ لِيَخْرُجَ مَعَهُ، فَجَرَى مَجْرَى مَسْأَلَتِهِ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُ، وَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ (1) فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهُ لَمْ يُكْرِهْهُ وَصَلَّى وَحْدَهُ (2) .

الأَْعْذَارُ الَّتِي تُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنْ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ:
الأَْعْذَارُ الَّتِي تُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنْ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ: مِنْهَا مَا هُوَ عَامٌّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي: - أَوَّلاً: الأَْعْذَارُ الْعَامَّةُ:
28 - أ - الْمَطَرُ الشَّدِيدُ الَّذِي يَشُقُّ مَعَهُ الْخُرُوجُ لِلْجَمَاعَةِ، وَاَلَّذِي يَحْمِل النَّاسَ عَلَى تَغْطِيَةِ رُءُوسِهِمْ.
ب - الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ لَيْلاً لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ.
ج - الْبَرْدُ الشَّدِيدُ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، وَكَذَلِكَ الْحَرُّ الشَّدِيدُ. وَالْمُرَادُ الْبَرْدُ أَوِ الْحَرُّ الَّذِي يَخْرُجُ عَمَّا أَلِفَهُ النَّاسُ أَوْ أَلِفَهُ أَصْحَابُ الْمَنَاطِقِ الْحَارَّةِ أَوِ الْبَارِدَةِ.
د - الْوَحْل الشَّدِيدُ الَّذِي يَتَأَذَّى بِهِ
__________
(1) حديث: " لينوا بأيدي إخوانكم " تقدم ف 24.
(2) كشاف القناع 1 / 490، والمغني 2 / 216 - 217.

(27/186)


الإِْنْسَانُ فِي نَفْسِهِ وَثِيَابِهِ، وَلاَ يُؤْمَنُ مَعَهُ التَّلَوُّثُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنِ الْجَمَاعَةِ فِي طِينٍ وَرَدْغَةٍ فَقَال: لاَ أُحِبُّ تَرْكَهَا.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَفِي شَرْحِ الزَّاهِدِيِّ عَنْ شَرْحِ التُّمُرْتَاشِيِّ: اخْتُلِفَ فِي كَوْنِ الأَْمْطَارِ وَالثُّلُوجِ وَالأَْوْحَال وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ عُذْرًا، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِذَا اشْتَدَّ التَّأَذِّي يُعْذَرُ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَهُوَ مُقَابِل الصَّحِيحِ - أَنَّ الْوَحْل لَيْسَ بِعُذْرٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عُذْرٌ.
هـ - الظُّلْمَةُ الشَّدِيدَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا كَوْنُ الإِْنْسَانِ لاَ يُبْصِرُ طَرِيقَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ يُكَلَّفُ إِيقَادَ نَحْوِ سِرَاجٍ وَإِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ. وَالدَّلِيل عَلَى كَوْنِ الأَْعْذَارِ السَّابِقَةِ مِنْ مَطَرٍ وَغَيْرِهِ تُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ الأَْحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ وَمِنْهَا: -
مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَذَّنَ بِالصَّلاَةِ فِي لَيْلَةِ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ فَقَال: " أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَال، ثُمَّ قَال: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةً ذَاتَ بَرْدٍ وَمَطَرٍ يَقُول: أَلاَ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ يَأْمُرُ مُنَادِيَهُ فِي اللَّيْلَةِ الْمُمْطِرَةِ

(27/187)


وَاللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ ذَاتِ الرِّيحِ أَنْ يَقُول: أَلاَ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ (1) .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ قَال لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ: إِذَا قُلْتَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ فَلاَ تَقُل: حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ. قُل: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ. قَال: فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَاكَ. فَقَال: أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَا؟ قَدْ فَعَل ذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي. إِنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ. وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ، فَتَمْشُوا فِي الطِّينِ وَالدَّحْضِ (2) .

ثَانِيًا: الأَْعْذَارُ الْخَاصَّةُ:
أ - الْمَرَضُ:
29 - وَهُوَ الْمَرَضُ الَّذِي يَشُقُّ مَعَهُ الإِْتْيَانُ إِلَى الْمَسْجِدِ لِصَلاَةِ الْجَمَاعَةِ. قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: لاَ أَعْلَمُ خِلاَفًا بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ: أَنَّ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنِ الْجَمَاعَاتِ مِنْ أَجْل الْمَرَضِ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَرِضَ تَخَلَّفَ عَنِ الْمَسْجِدِ
__________
(1) حديث ابن عمر: " أنه أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح. . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 156 - 157 - ط السلفية) ومسلم (1 / 484 - ط. الحلبي) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 373 - 374، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 389 - 390، ومغني المحتاج 1 / 234 - 235، والمهذب 1 / 101، وأسنى المطالب 1 / 213 - 214، والمغني 1 / 632، وكشاف القناع 1 / 497، وحديث عبد الله بن عباس: (إذا قلت أشهد أن محمدا رسول الله) . أخرجه البخاري (الفتح 2 / 157 - ط السلفية) ومسلم (1 / 485 - ط الحلبي) .

(27/187)


وَقَال: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَل بِالنَّاسِ (1) ، وَمِنْ ذَلِكَ كِبَرُ السِّنِّ الَّذِي يَشُقُّ مَعَهُ الإِْتْيَانُ إِلَى الْمَسْجِدِ (2) .

ب - الْخَوْفُ:
30 - وَهُوَ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ -؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ، فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ، قَالُوا: وَمَا الْعُذْرُ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ، لَمْ تُقْبَل مِنْهُ الصَّلاَةُ الَّتِي صَلَّى (3) .
وَالْخَوْفُ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ: خَوْفٌ عَلَى النَّفْسِ، وَخَوْفٌ عَلَى الْمَال، وَخَوْفٌ عَلَى الأَْهْل.

الأَْوَّل: أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ سُلْطَانًا
__________
(1) حديث " مروا أبا بكر فليصل بالناس. . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 204 - ط السلفية) ومسلم (1 / 314 - ط السلفية) من حديث عائشة.
(2) ابن عابدين 1 / 373، والدسوقي 1 / 389، ومغني المحتاج 1 / 235، والمغني 1 / 631، وكشاف القناع 1 / 495.
(3) حديث: " من سمع النداء فلم يمنعه. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 374 تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال المنذري في مختصر السنن (1 / 291 - نشر دار المعرفة) : وفي إسناده أبو جناب يحيى بن أبي حية الكلبي، وهو ضعيف، وأخرجه ابن ماجه بنحوه، وإسناده أمثل، وفيه نظر. وهو في سنن ابن ماجه (1 / 260 ط الحلبي) بلفظ: " من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له، إلا من عذر ". بدون الزيادة فيه، وبهذا اللفظ أخرجه الحاكم (1 / 245 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(27/188)


يَأْخُذُهُ، أَوْ عَدُوًّا أَوْ لِصًّا أَوْ سَبُعًا أَوْ دَابَّةً أَوْ سَيْلاً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْذِيهِ فِي نَفْسِهِ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَخَافَ غَرِيمًا لَهُ يُلاَزِمُهُ، وَلاَ شَيْءَ مَعَهُ يُوَفِّيَهُ؛ لأَِنَّ حَبْسَهُ بِدَيْنٍ هُوَ مُعْسِرٌ بِهِ ظُلْمٌ لَهُ. فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ عُذْرًا لَهُ؛ لأَِنَّهُ يَجِبُ إِيفَاؤُهُ.

وَمِنْ ذَلِكَ: الْخَوْفُ مِنْ تَوْقِيعِ عُقُوبَةٍ، كَتَعْزِيرٍ وَقَوَدٍ وَحَدِّ قَذْفٍ مِمَّا يَقْبَل الْعَفْوَ. فَإِنْ كَانَ يَرْجُو الْعَفْوَ عَنِ الْعُقُوبَةِ إِنْ تَغَيَّبَ أَيَّامًا عَنِ الْجَمَاعَةِ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا. فَإِنْ لَمْ يَرْجُ الْعَفْوَ أَوْ كَانَ الْحَدُّ، مِمَّا لاَ يَقْبَل الْعَفْوَ كَحَدِّ الزِّنَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا، وَهَذَا كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ قِصَاصٌ، فَلَمْ يَعْتَبِرْهُ بَعْضُهُمْ عُذْرًا، وَاعْتَبَرَهُ بَعْضُهُمْ عُذْرًا إِنْ رَجَا الْعَفْوَ مَجَّانًا أَوْ عَلَى مَالٍ، وَقَال الْقَاضِي: إِنْ كَانَ يَرْجُو الصُّلْحَ عَلَى مَالٍ فَلَهُ التَّخَلُّفُ حَتَّى يُصَالِحَ. أَمَّا الْحُدُودُ، فَمَا كَانَ حَقًّا لآِدَمِيٍّ كَحَدِّ الْقَذْفِ فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ عُذْرًا فِي التَّخَلُّفِ، لَكِنِ ابْنُ مُفْلِحٍ قَال فِي كِتَابِهِ الْفُرُوعِ: وَيَتَوَجَّهُ فِيهِ وَجْهٌ: إِنْ رَجَا الْعَفْوَ، قَال فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: وَجَزَمَ بِهِ فِي الإِْقْنَاعِ.

(27/188)


أَمَّا الْحُدُودُ الَّتِي لاَ تَقْبَل الْعَفْوَ فَلاَ تُعْتَبَرُ عُذْرًا (1) .

الثَّانِي: أَنْ يَخَافَ عَلَى مَالِهِ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ لِصٍّ، أَوْ يَخَافَ أَنْ يُسْرَقَ مَنْزِلُهُ أَوْ يُحْرَقَ مِنْهُ شَيْءٌ، أَوْ يَكُونَ لَهُ خُبْزٌ فِي تَنُّورٍ أَوْ طَبِيخٌ عَلَى نَارٍ، وَيَخَافُ حَرِيقَهُ بِاشْتِغَالِهِ عَنْهُ، أَوْ يَكُونُ لَهُ غَرِيمٌ إِنْ تَرَكَ مُلاَزَمَتَهُ ذَهَبَ بِمَالِهِ، أَوْ يَكُونَ لَهُ بِضَاعَةٌ أَوْ وَدِيعَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ ذَهَبَ، أَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ كَوَدِيعَةٍ أَوْ رَهْنٍ أَوْ عَارِيَّةً مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ حِفْظُهُ، وَيَخَافُ تَلَفَهُ بِتَرْكِهِ. وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ الْخَوْفُ عَلَى مَال الْغَيْرِ (2) .

الثَّالِثُ: الْخَوْفُ عَلَى الأَْهْل: مَنْ وَلَدٍ وَوَالِدٍ وَزَوْجٍ إِنْ كَانَ يَقُومُ بِتَمْرِيضِ أَحَدِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ.
وَمِثْل ذَلِكَ: الْقِيَامُ بِتَمْرِيضِهِ الأَْجْنَبِيَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِتَمْرِيضِهِ، وَكَانَ يَخْشَى عَلَيْهِ الضَّيَاعَ لَوْ تَرَكَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - اسْتَصْرَخَ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَهُوَ يَتَجَمَّرُ لِلْجُمُعَةِ، فَأَتَاهُ
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 214، ومغني المحتاج 1 / 235، وشرح الزرقاني 2 / 67، والمغني 1 / 631، وكشاف القناع 1 / 496، والفروع 2 / 44، وشرح منتهى الإرادات 1 / 270.
(2) شرح الزرقاني 2 / 67، وحاشية ابن عابدين 1 / 347، ومغني المحتاج 1 / 235، والمغني 1 / 632.

(27/189)


بِالْعَقِيقِ، وَتَرَكَ الْجُمُعَةَ (1) .

ج - حُضُورُ طَعَامٍ تَشْتَاقُهُ نَفْسُهُ وَتُنَازِعُهُ إِلَيْهِ:
31 - قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ فِي وَقْتِ الصَّلاَةِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْعَشَاءِ قَبْل الصَّلاَةِ؛ لِيَكُونَ أَفْرَغَ لِقَلْبِهِ وَأَحْضَرَ لِبَالِهِ، وَلاَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْجَل عَنْ عَشَائِهِ أَوْ غَدَائِهِ، فَإِنَّ أَنَسًا رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا قَرُبَ الْعَشَاءُ وَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَابْدَءُوا بِهِ قَبْل أَنْ تُصَلُّوا صَلاَةَ الْمَغْرِبِ، وَلاَ تَعْجَلُوا عَنْ عَشَائِكُمْ (2) ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَخَافَ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ أَوْ لاَ يَخَافَ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ أَنَسٍ: إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ (3) وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ وَلاَ يَعْجَلُنَّ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ (4) . وَتَعَشَّى ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 374، وشرح الزرقاني 2 / 66، ومغني المحتاج 1 / 236، ومنتهى الإرادات 1 / 269.
(2) حديث أنس: " إذا قرب العشاء وحضرت الصلاة ". أخرجه مسلم (1 / 392 - ط. الحلبي) .
(3) حديث أنس: " إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة ". أخرجه مسلم (1 / 392 - ط الحلبي) .
(4) حديث ابن عمر: " إذا وضع عشاء أحدكم ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 159 - ط السلفية) ومسلم (1 / 392 - ط. الحلبي) .

(27/189)


يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الإِْمَامِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: قَال أَصْحَابُنَا: إِنَّمَا يُقَدِّمُ الْعَشَاءَ عَلَى الْجَمَاعَةِ إِذَا كَانَتْ نَفْسُهُ تَتُوقُ إِلَى الطَّعَامِ كَثِيرًا، وَنَحْوَهُ قَال الشَّافِعِيُّ. وَقَال بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ عُمَرُ وَابْنُهُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ نَقُومُ إِلَى الصَّلاَةِ وَفِي أَنْفُسِنَا شَيْءٌ. قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ فَأَكْمَل صَلاَتَهُ أَنَّ صَلاَتَهُ تُجْزِئُهُ (1) .

د - مُدَافَعَةُ أَحَدِ الأَْخْبَثَيْنِ:
32 - وَمِثْلُهُمَا الرِّيحُ، فَإِنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ يُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ، قَالَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: إنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: لاَ صَلاَةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلاَ هُوَ يُدَافِعُهُ الأَْخْبَثَانِ (2) ، وَلأَِنَّ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلاَةِ مَعَ مُدَافَعَةِ أَحَدِ الأَْخْبَثَيْنِ يُبْعِدُهُ عَنِ الْخُشُوعِ فِيهَا وَيَكُونُ مَشْغُولاً عَنْهَا (3) .

هـ - أَكْل ذِي رَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ:
33 - وَذَلِكَ كَبَصَلٍ وَثُومٍ وَكُرَّاثٍ وَفُجْلٍ إِذَا
__________
(1) ابن عابدين 1 / 374، والقوانين الفقهية لابن جزي 69 نشر دار الكتاب العربي، ومغني المحتاج 1 / 235، والمغني 1 / 629 - 630.
(2) حديث " لا صلاة بحضرة طعام. . . ". أخرجه مسلم (1 / 393 - ط الحلبي) .
(3) ابن عابدين 1 / 374، والمغني 1 / 630 وأسنى المطالب 1 / 214.

(27/190)


تَعَذَّرَ زَوَال رَائِحَتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ يُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ، حَتَّى لاَ يَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ وَالْمَلاَئِكَةُ؛ لِحَدِيثِ: مَنْ أَكَل مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ: الثُّومِ - وَقَال مَرَّةً: مَنْ أَكَل الْبَصَل وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ - فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ (1) . وَالْمُرَادُ أَكْل هَذِهِ الأَْشْيَاءِ نِيئَةً، وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ مَنْ كَانَتْ حِرْفَتُهُ لَهَا رَائِحَةٌ مُؤْذِيَةٌ، كَالْجَزَّارِ وَالزَّيَّاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمِثْل ذَلِكَ مَنْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ يَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ، كَجُذَامٍ وَبَرَصٍ، فَفِي كُل ذَلِكَ يُبَاحُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ (2) .

و الْعُرْيُ:
34 - فَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَسْتُرُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ. وَهَذَا إِذَا كَانَ مِنْ عَادَةِ أَمْثَالِهِ الْخُرُوجُ بِمِثْل ذَلِكَ، قَال الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: الأَْلْيَقُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ: أَنَّهُ إِنْ وَجَدَ مَا يَلِيقُ بِأَمْثَالِهِ خَرَجَ لِلْجَمَاعَةِ، وَإِلاَّ فَلاَ (3) .
__________
(1) حديث: " من أكل من هذه البقلة. . . ". أخرجه مسلم (1 / 395 - ط. الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) مغني المحتاج 1 / 236، والدسوقي 1 / 389، وكشاف القناع 1 / 497 - 498.
(3) الدسوقي 1 / 390، ومغني المحتاج 1 / 236، وكشاف القناع 1 / 496.

(27/190)


ز - الْعَمَى:
35 - اعْتَبَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْعَمَى عُذْرٌ يُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَإِنْ وَجَدَ قَائِدًا. وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عُذْرًا إِلاَّ أَنْ لاَ يَجِدَ قَائِدًا، وَلَمْ يَهْتَدِ لِلطَّرِيقِ بِنَفْسِهِ (1) .

ح - إِرَادَةُ السَّفَرِ:
36 - مَنْ تَأَهَّبَ لِسَفَرٍ مُبَاحٍ مَعَ رُفْقَةٍ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ، وَكَانَ يَخْشَى إِنْ حَضَرَ الْجَمَاعَةَ أَنْ تَفُوتَهُ الْقَافِلَةُ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ (2) .

ط - غَلَبَةُ النُّعَاسِ وَالنَّوْمِ:
37 - فَمَنْ غَلَبَهُ النُّعَاسُ وَالنَّوْمُ إِنِ انْتَظَرَ الْجَمَاعَةَ صَلَّى وَحْدَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ غَلَبَهُ النُّعَاسُ مَعَ الإِْمَامِ؛ لأَِنَّ رَجُلاً صَلَّى مَعَ مُعَاذٍ، ثُمَّ انْفَرَدَ فَصَلَّى وَحْدَهُ عِنْدَ تَطْوِيل مُعَاذٍ، وَخَوْفِ النُّعَاسِ وَالْمَشَقَّةِ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَخْبَرَهُ (3) ، وَالأَْفْضَل الصَّبْرُ وَالتَّجَلُّدُ عَلَى رَفْعِ النُّعَاسِ وَالصَّلاَةِ جَمَاعَةً (4) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 373، والدسوقي 1 / 391، وكشاف القناع 1 / 497.
(2) ابن عابدين 1 / 374، ومغني المحتاج 1 / 236، وكشاف القناع 1 / 496.
(3) حديث: " أن رجلا صلى مع معاذ ثم انفرد. . . ". أخرجه البخاري (الفتح2 / 200 - ط السلفية) ومسلم (1 / 339 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(4) كشاف القناع 1 / 496، والمغني 1 / 633، ومغني المحتاج 1 / 236.

(27/191)


ي - زِفَافُ الزَّوْجَةِ:
38 - فَزِفَافُ الزَّوْجَةِ عُذْرٌ يُبِيحُ لِلزَّوْجِ التَّخَلُّفَ عَنْ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ، وَذَلِكَ كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، لَكِنِ الشَّافِعِيَّةُ قَيَّدُوهُ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَوَاتِ اللَّيْلِيَّةِ فَقَطْ، وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يَعْتَبِرُوا ذَلِكَ عُذْرًا، وَخَفَّفَ مَالِكٌ لِلزَّوْجِ تَرْكَ بَعْضِ الصَّلاَةِ فِي الْجَمَاعَةِ لِلاِشْتِغَال بِزَوْجِهِ وَالسَّعْيِ إِلَى تَأْنِيسِهَا وَاسْتِمَالَتِهَا (1) .
39 - ك - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الأَْعْذَارِ الَّتِي تُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ: الاِشْتِغَال بِالْفِقْهِ؛ لاَ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ. كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الأَْعْذَارِ: السِّمَنَ الْمُفْرِطَ (2) .
__________
(1) الدسوقي 1 / 391، والمواق بهامش الحطاب 2 / 184، ومغني المحتاج 1 / 236، وكشاف القناع 1 / 497.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 374، ومغني المحتاج 1 / 236.

(27/191)


صَلاَةُ الْجُمُعَةِ

زَمَنَ مَشْرُوعِيَّتِهَا:
1 - شُرِعَتْ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ فِي أَوَّل الْهِجْرَةِ عِنْدَ قُدُومِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، قَال الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: الأَْكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَهُوَ مُقْتَضَى أَنَّ فَرْضِيَّتَهَا ثَبَتَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ (1) } وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَقَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: فُرِضَتْ بِمَكَّةَ، وَهُوَ غَرِيبٌ (2) .
وَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: أَنَّ أَوَّل جُمُعَةٍ جَمَّعَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ، كَانَتْ فِي قَبِيلَةِ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ فِي بَطْنِ وَادٍ لَهُمْ قَدِ اتَّخَذَ الْقَوْمُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَسْجِدًا، وَذَلِكَ عِنْدَمَا قَدِمَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرًا (3) .
غَيْرَ أَنَّهُ ثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ أَسْعَد بْنَ زُرَارَةَ أَوَّل مَنْ جَمَعَ النَّاسَ لِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ قَبْل أَنْ يُهَاجِرَ مِنْ مَكَّةَ، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ
__________
(1) سورة الجمعة / 9.
(2) فتح الباري 2 / 239.
(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18 / 98، ومثله في مختلف كتب السيرة.

(27/192)


" كَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ تَرَحَّمَ لأَِسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، وَكَانَ يَقُول: إِنَّهُ أَوَّل مَنْ جَمَّعَ بِنَا فِي هَزْمِ النَّبِيتِ مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ فِي نَقِيعٍ يُقَال لَهُ: نَقِيعُ الْخَضِمَاتِ (1) .
فَمَنْ رَجَّحَ أَنَّهَا فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، اسْتَدَل بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقِمْ أَيَّ جُمُعَةٍ فِي مَكَّةَ قَبْل الْهِجْرَةِ، وَمَنْ قَال: إِنَّهَا فُرِضَتْ بِمَكَّةَ قَبْل الْهِجْرَةِ اسْتَدَل بِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ صَلَّوْهَا فِي الْمَدِينَةِ قَبْل هِجْرَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً إِذْ ذَاكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ سَوَاءٌ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي مَكَّةَ وَفِي الْمَدِينَةِ، إِلاَّ أَنَّ الَّذِي مَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا فِي مَكَّةَ عَدَمُ تَوَافُرِ كَثِيرٍ مِنْ شَرَائِطِهَا. قَال الْبَكْرِيُّ: فُرِضَتْ بِمَكَّةَ وَلَمْ تُقَمْ بِهَا؛ لِفَقْدِ الْعَدَدِ، أَوْ لأَِنَّ شِعَارَهَا الإِْظْهَارُ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِيًا فِيهَا. وَأَوَّل مَنْ أَقَامَهَا بِالْمَدِينَةِ قَبْل الْهِجْرَةِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ بِقَرْيَةٍ عَلَى مِيلٍ مِنَ الْمَدِينَةِ (2) .
__________
(1) حديث: " أن أسعد بن زرارة أول من جمع الناس لصلاة الجمعة ". أخرجه أبو داود (1 / 645 - 646 تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 281 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. والهزم، بفتح فسكون: المطمئن من الأرض، والنبيت: هو أبو حي من اليمن اسمه مالك بن عمرو. والحرة: الأرض ذات الحجارة السوداء. وحرة بني بياضة: قرية على ميل من المدينة.
(2) فتح المعين للسيد البكري 2 / 52.

(27/192)


الْحِكْمَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّتِهَا:
2 - قَال الدَّهْلَوِيُّ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَتْ إِشَاعَةُ الصَّلاَةِ فِي الْبَلَدِ بِحَيْثُ يَجْتَمِعُ لَهَا أَهْلُهَا مُتَعَذِّرَةً كُل يَوْمٍ، وَجَبَ أَنْ يُعَيَّنَ لَهَا مِيقَاتٌ لاَ يَتَكَرَّرُ دَوَرَانُهُ بِسُرْعَةٍ حَتَّى لاَ تَعْسُرَ عَلَيْهِمُ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى الاِجْتِمَاعِ لَهَا، وَلاَ يَبْطُؤ دَوَرَانُهُ بِأَنْ يَطُول الزَّمَنُ الْفَاصِل بَيْنَ الْمَرَّةِ وَالأُْخْرَى، كَيْ لاَ يَفُوتَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ تَلاَقِي الْمُسْلِمِينَ وَاجْتِمَاعُهُمْ بَيْنَ الْحِينِ وَالآْخَرِ. وَلَمَّا كَانَ الأُْسْبُوعُ قَدْرًا زَمَنِيًّا مُسْتَعْمَلاً لَدَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَأَكْثَرِ الْمِلَل، وَهُوَ قَدْرٌ مُتَوَسِّطُ الدَّوَرَانِ وَالتَّكْرَارِ بَيْنَ السُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ - وَجَبَ جَعْل الأُْسْبُوعِ مِيقَاتًا لِهَذَا الْوَاجِبِ (1) .

فَرْضِيَّتُهَا:
دَلِيل الْفَرْضِيَّةِ:
3 - صَلاَةُ الْجُمُعَةِ مِنَ الْفَرَائِضِ الْمَعْلُومِ فَرْضِيَّتُهَا بِالضَّرُورَةِ، وَبِدَلاَلَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَيَكْفُرُ جَاحِدُهَا. قَال الْكَاسَانِيُّ:
الْجُمُعَةُ فَرْضٌ لاَ يَسَعُ تَرْكُهَا، وَيَكْفُرُ جَاحِدُهَا وَالدَّلِيل عَلَى فَرْضِيَّتِهَا: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الأُْمَّةِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا
__________
(1) حجة الله البالغة للشاه ولي الله الدهلوي 2 / 21.

(27/193)


إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ (1) } قِيل: " ذِكْرُ اللَّهِ " هُوَ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ، وَقِيل: هُوَ الْخُطْبَةُ، وَكُل ذَلِكَ حُجَّةٌ؛ لأَِنَّ السَّعْيَ إِلَى الْخُطْبَةِ إِنَّمَا يَجِبُ لأَِجْل الصَّلاَةِ، بِدَلِيل أَنَّ مَنْ سَقَطَتْ عَنْهُ الصَّلاَةُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ السَّعْيُ إِلَى الْخُطْبَةِ، فَكَانَ فَرْضُ السَّعْيِ إِلَى الْخُطْبَةِ فَرْضًا لِلصَّلاَةِ؛ وَلأَِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ يَتَنَاوَل الصَّلاَةَ وَيَتَنَاوَل الْخُطْبَةَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى (2) .
وَقَدِ اسْتَدَل الإِْمَامُ السَّرَخْسِيُّ - أَيْضًا - بِالآْيَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْوَجْهِ السَّابِقِ، وَوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَال:
اعْلَمْ أَنَّ الْجُمُعَةَ فَرِيضَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} وَالأَْمْرُ بِالسَّعْيِ إِلَى الشَّيْءِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ لِوُجُوبِهِ، وَالأَْمْرُ بِتَرْكِ الْبَيْعِ الْمُبَاحِ لأَِجْلِهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ أَيْضًا.
وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ صَلاَةَ الْجُمُعَةِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَقَال الْقَرَافِيُّ: هُوَ وَجْهٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيَّةِ (3) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ اللَّهَ
__________
(1) سورة الجمعة / 9.
(2) بدائع الصنائع 1 / 256، نيل الأوطار 3 / 274.
(3) المبسوط للسرخسي 2 / 21.

(27/193)


تَعَالَى قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْجُمُعَةَ فِي مَقَامِي هَذَا، فِي يَوْمِي هَذَا، فِي شَهْرِي هَذَا، مِنْ عَامِي هَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ تَرَكَهَا فِي حَيَاتِي، أَوْ بَعْدِي وَلَهُ إِمَامٌ عَادِلٌ أَوْ جَائِرٌ اسْتِخْفَافًا بِهَا أَوْ جُحُودًا لَهَا بِحَقِّهَا فَلاَ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ شَمْلَهُ وَلاَ بَارَكَ لَهُ فِي أَمْرِهِ، أَلاَ وَلاَ صَلاَةَ لَهُ، وَلاَ زَكَاةَ لَهُ، وَلاَ حَجَّ لَهُ، وَلاَ صَوْمَ لَهُ، وَلاَ بِرَّ لَهُ حَتَّى يَتُوبَ فَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ (1) وَحَدِيثُ: الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إِلاَّ أَرْبَعَةً: عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، أَوِ امْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَرِيضٌ (2) وَحَدِيثُ: رَوَاحُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُل مُحْتَلِمٍ (3) .

فَرْضُ وَقْتِ الْجُمُعَةِ:
4 - ذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ - مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي
__________
(1) حديث: " إن الله فرض عليكم الجمعة. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 343 - ط. الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله، وأورده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 203 - ط. الجنان) وقال: إسناده ضعيف.
(2) النووي في المجموع 4 / 483، وحديث: " الجمعة حق واجب على كل مسلم ". أخرجه أبو داود (1 / 644 تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 288 - ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث طارق بن شهاب وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) النووي في المجموع 4 / 483، وحديث: " رواح الجمعة واجب على كل محتلم ". أخرجه النسائي (3 / 89 - ط. المكتبة التجارية) من حديث حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. وصححه النووي في المجموع (4 / 383 - ط. المنيرية) .

(27/194)


مَذْهَبِهِ الْجَدِيدِ وَأَحْمَدُ - إِلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ فَرْضٌ مُسْتَقِلٌّ، فَلَيْسَتْ بَدَلاً مِنَ الظُّهْرِ، وَلَيْسَتْ ظُهْرًا مَقْصُورًا. وَاسْتَدَل الرَّمْلِيُّ لِكَوْنِهَا صَلاَةً مُسْتَقِلَّةً: بِأَنَّهُ لاَ يُغْنِي الظُّهْرُ عَنْهَا (1) وَلِقَوْل عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْجُمُعَةُ رَكْعَتَانِ، تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (2) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: إِنَّ فَرْضَ وَقْتِ الْجُمُعَةِ فِي الأَْصْل إِنَّمَا هُوَ الظُّهْرُ، إِلاَّ أَنَّ مَنْ تَكَامَلَتْ فِيهِ شَرَائِطُ الْجُمُعَةِ الآْتِي ذِكْرُهَا فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِهِ وَإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي مَكَانِهِ عَلَى سَبِيل الْحَتْمِ، أَمَّا مَنْ لَمْ تَتَكَامَل فِيهِ شَرَائِطُهَا، فَيَبْقَى عَلَى أَصْل الظُّهْرِ إِلاَّ أَنَّهُ يُخَاطَبُ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ فِي مَكَانِهَا عَلَى سَبِيل التَّرْخِيصِ، أَيْ فَإِذَا أَدَّى الْجُمُعَةَ رَغْمَ عَدَمِ تَكَامُل شُرُوطِ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ سَقَطَ عَنْهُ الظُّهْرُ بِذَلِكَ (3) . عَلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَقْوَالاً
__________
(1) نهاية المحتاج للرملي 2 / 272، وحاشية الصفتي على الجواهر الزكية 118.
(2) أثر عمر: " الجمعة ركعتان ". أخرجه أحمد (1 / 37 ط الميمنية) وأعل بالانقطاع كما في التلخيص لابن حجر (2 / 69 - ط. شركة الطباعة الفنية) إلا أنه ورد متصلا عند البيهقي (3 / 200 - ط. دائرة المعارف العثمانية) ونقل ابن حجر تصحيحه عن ابن السكن.
(3) انظر تحفة الفقهاء 1 / 274 وبدائع الصنائع 1 / 256، والمبسوط 2 / 22.

(27/194)


أُخْرَى فِي كَيْفِيَّةِ فَرْضِيَّةِ الْجُمُعَةِ (1) .
5 - وَفَائِدَةُ الْخِلاَفِ تَظْهَرُ فِيمَا لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ وَحْدَهُ قَبْل فَوَاتِ الْجُمُعَةِ - وَهُوَ غَيْرُ مَعْذُورٍ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَصِحُّ ظُهْرُهُ وَيَقَعُ فَرْضًا؛ لأَِنَّهُ أَدَّى فَرْضَ الْوَقْتِ الأَْصْلِيِّ فَيُجْزِئُهُ.
قَال السَّمَرْقَنْدِيُّ: مَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ وَحْدَهُ - وَهُوَ غَيْرُ مَعْذُورٍ - فَإِنَّهُ يَقَعُ فَرْضًا فِي قَوْل أَصْحَابِنَا الثَّلاَثَةِ - أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ - خِلاَفًا لِزُفَرَ فَإِنَّ عِنْدَهُ لاَ يَجُوزُ الظُّهْرُ (2) .
وَفِي الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى لاَ تُجْزِئُهُ صَلاَةُ الظُّهْرِ وَيَلْزَمُهُ حُضُورُ الْجُمُعَةِ، فَإِنْ حَضَرَهَا فَذَاكَ وَإِلاَّ بِأَنْ فَاتَتْهُ لَزِمَهُ قَضَاءُ الظُّهْرِ حِينَئِذٍ. قَال أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي الْمُهَذَّبِ: وَأَمَّا مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ قَبْل فَوَاتِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالسَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَإِنْ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْل صَلاَةِ الإِْمَامِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ: قَال فِي الْقَدِيمِ:
__________
(1) فلمحمد قولان: أحدهما: أن الفرض هو الجمعة فمن لم تتكامل فيه شرائطها يجوز له أن يسقطه بالظهر رخصة. ثانيهما: أن الفرض أحدهما إما الظهر، وإما الجمعة ويتعين ذلك بالفعل فأيهما فعل يتبين أنه هو الفرض، وقال زفر: فرض الوقت الجمعة. والظهر بدل عنها. وانظر في تفصيل الأقوال ما يترتب عليها. تحفة الفقهاء 1 / 274، وبدائع الصنائع 1 / 257.
(2) تحفة الفقهاء 1 / 275.

(27/195)


يُجْزِئُهُ؛ لأَِنَّ الْفَرْضَ هُوَ الظُّهْرُ. . . وَقَال فِي الْجَدِيدِ: لاَ تُجْزِئُهُ، وَيَلْزَمُهُ إِعَادَتُهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ (1) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ قَبْل أَنْ يُصَلِّيَ الإِْمَامُ الْجُمُعَةَ لَمْ يَصِحَّ، وَيَلْزَمُهُ السَّعْيُ إِلَى الْجُمُعَةِ إِنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُدْرِكُهَا؛ لأَِنَّهَا الْمَفْرُوضَةُ عَلَيْهِ (2) .

شُرُوطُ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ:
6 - لِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الشُّرُوطِ.
النَّوْعُ الأَْوَّل: شُرُوطٌ لِلصِّحَّةِ وَالْوُجُوبِ مَعًا، وَالثَّانِي: لِلْوُجُوبِ فَقَطْ، وَالثَّالِثُ: لِلصِّحَّةِ فَقَطْ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الأَْنْوَاعِ الثَّلاَثَةِ مِنَ الشُّرُوطِ، أَنَّ مَا يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِصِحَّةِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَوُجُوبِهَا مَعًا، يَلْزَمُ مِنْ فَقْدِهِ أَمْرَانِ اثْنَانِ: بُطْلاَنُهَا، وَعَدَمُ تَعَلُّقِ الطَّلَبِ بِهَا.
وَمَا يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِلْوُجُوبِ - فَقَطْ - يَلْزَمُ مِنْ فَقْدِهِ عَدَمُ تَعَلُّقِ الطَّلَبِ وَحْدَهُ، مَعَ ثُبُوتِ صِحَّةِ الْفِعْل، وَمَا يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِلصِّحَّةِ فَقَطْ يَلْزَمُ مِنْ فَقْدِهِ الْبُطْلاَنُ مَعَ اسْتِمْرَارِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ.

النَّوْعُ الأَْوَّل شُرُوطُ الصِّحَّةِ وَالْوُجُوبِ مَعًا وَتَنْحَصِرُ فِي ثَلاَثَةٍ:
__________
(1) المهذب مع المجموع 4 / 496.
(2) المغني لابن قدامة 2 / 284.

(27/195)


7 - الشَّرْطُ الأَْوَّل: اشْتَرَطَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَكَانُ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ (مِصْرًا) وَالْمَقْصُودُ بِالْمِصْرِ كُل بَلْدَةٍ نُصِبَ فِيهَا قَاضٍ تُرْفَعُ إِلَيْهِ الدَّعَاوَى وَالْخُصُومَاتُ.
قَال فِي الْمَبْسُوطِ: وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ فِي بَيَانِ حَدِّ الْمِصْرِ الْجَامِعِ: أَنْ يَكُونَ فِيهِ سُلْطَانٌ، أَوْ قَاضٍ لإِِقَامَةِ الْحُدُودِ وَتَنْفِيذِ الأَْحْكَامِ (1) .
وَيَلْحَقُ بِالْمِصْرِ ضَاحِيَتُهُ أَوْ فِنَاؤُهُ، وَضَوَاحِي الْمِصْرِ هِيَ الْقُرَى الْمُنْتَشِرَةُ مِنْ حَوْلِهِ وَالْمُتَّصِلَةُ بِهِ وَالْمَعْدُودَةُ مِنْ مَصَالِحِهِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ مِنَ الْقُرْبِ مَا يُمَكِّنُ أَهْلَهَا مِنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ الرُّجُوعِ إِلَى مَنَازِلِهِمْ فِي نَفْسِ الْيَوْمِ بِدُونِ تَكَلُّفٍ (2) .
وَعَلَى هَذَا، فَمَنْ كَانُوا يُقِيمُونَ فِي قَرْيَةٍ نَائِيَةٍ، لاَ يُكَلَّفُونَ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ، وَإِذَا أَقَامُوهَا لَمْ تَصِحَّ مِنْهُمْ. قَال صَاحِبُ الْبَدَائِعِ: الْمِصْرُ الْجَامِعُ شَرْطُ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ، وَشَرْطُ صِحَّةِ أَدَائِهَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا، حَتَّى لاَ تَجِبَ الْجُمُعَةُ إِلاَّ عَلَى أَهْل الْمِصْرِ وَمَنْ كَانَ سَاكِنًا فِي تَوَابِعِهِ، وَكَذَا لاَ يَصِحُّ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ إِلاَّ فِي الْمِصْرِ وَتَوَابِعِهِ.
فَلاَ تَجِبُ عَلَى أَهْل الْقُرَى الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ
__________
(1) المبسوط 2 / 23.
(2) راجع بدائع الصنائع 1 / 260، والمبسوط 2 / 24، مجمع الأنهر 1 / 162.

(27/196)


تَوَابِعِ الْمِصْرِ، وَلاَ يَصِحُّ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ فِيهَا (1) .
وَلَمْ تَشْتَرِطِ الْمَذَاهِبُ الأُْخْرَى هَذَا الشَّرْطَ.
فَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَاكْتَفَوْا بِاشْتِرَاطِ إِقَامَتِهَا فِي خُطَّةِ أَبْنِيَةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ، قَال صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ: لاَ تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إِلاَّ فِي أَبْنِيَةٍ يَسْتَوْطِنُهَا مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمُعَةُ مِنْ بَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ (2) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَلَمْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ أَيْضًا، وَصَحَّحُوا إِقَامَتَهَا فِي الصَّحَارِي، وَبَيْنَ مَضَارِبِ الْخِيَامِ. قَال صَاحِبُ الْمُغْنِي:
وَلاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ إِقَامَتُهَا فِي الْبُنْيَانِ وَيَجُوزُ إِقَامَتُهَا فِيمَا قَارَبَهُ مِنَ الصَّحْرَاءِ (3) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنَّمَا شَرَطُوا أَنْ تُقَامَ فِي مَكَان صَالِحٍ لِلاِسْتِيطَانِ. فَتَصِحُّ إِقَامَتُهَا فِي الأَْبْنِيَةِ، أَوِ الأَْخْصَاصِ؛ لِصَلاَحِهَا لِلاِسْتِيطَانِ فِيهَا مُدَّةً طَوِيلَةً. وَلاَ تَصِحُّ فِي الْخِيَمِ لِعَدَمِ صَلاَحِيَّتِهَا لِذَلِكَ فِي الْغَالِبِ.
قَال فِي الْجَوَاهِرِ الزَّكِيَّةِ فِي تَعْدَادِ شُرُوطِهَا: مَوْضِعُ الاِسْتِيطَانِ، وَلَوْ كَانَ بِأَخْصَاصٍ لاَ خِيَمٍ، فَلاَ تُقَامُ الْجُمُعَةُ إِلاَّ فِي مَوْضِعٍ يُسْتَوْطَنُ فِيهِ بِأَنْ يُقِيمَ فِيهِ صَيْفًا وَشِتَاءً (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 259.
(2) المهذب مع المجموع 4 / 501.
(3) المغني لابن قدامة 2 / 275.
(4) الجواهر الزكية ص 123.

(27/196)


8 - وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْخِلاَفِ: أَنَّ أَصْحَابَ الْقُرَى الَّتِي لاَ تُعْتَبَرُ تَابِعَةً لِمِصْرٍ إِلَى جَانِبِهَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ - عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ - إِقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي أَمَاكِنِهِمْ، وَلاَ يُكَلَّفُونَ بِالاِنْتِقَال لَهَا إِلَى أَيِّ بَلْدَةٍ كَبِيرَةٍ أُخْرَى مِنْ حَوْلِهِمْ.
أَمَّا فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ: فَلاَ يُكَلَّفُونَ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي مِثْل هَذِهِ الْحَال، وَإِذَا أَقَامُوهَا لَمْ تَصِحَّ مِنْهُمْ. وَيَجِبُ عَلَيْهِمُ الاِنْتِقَال إِلَى الْبَلْدَةِ الْمُجَاوِرَةِ إِذَا سُمِعَ مِنْهَا الأَْذَانُ.

9 - الشَّرْطُ الثَّانِي: وَاشْتَرَطَهُ الْحَنَفِيَّةُ، إِذْنُ السُّلْطَانِ بِذَلِكَ، أَوْ حُضُورُهُ، أَوْ حُضُورُ نَائِبٍ رَسْمِيٍّ عَنْهُ، إِذْ هَكَذَا كَانَ شَأْنُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُهُودِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ.
هَذَا إِذَا كَانَ ثَمَّةَ إِمَامٌ أَوْ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْبَلْدَةِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَةُ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ أَحَدُهُمَا، لِمَوْتٍ أَوْ فِتْنَةٍ أَوْ مَا شَابَهَ ذَلِكَ، وَحَضَرَ وَقْتُ الْجُمُعَةِ كَانَ لِلنَّاسِ حِينَئِذٍ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ لِيَتَقَدَّمَهُمْ فَيُصَلِّيَ بِهِمُ الْجُمُعَةَ (1) .
أَمَّا أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى فَلَمْ يَشْتَرِطُوا لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ أَوْ وُجُوبِهَا شَيْئًا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالسُّلْطَانِ، إِذْنًا أَوْ حُضُورًا أَوْ إِنَابَةً.
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 261.

(27/197)


10 - الشَّرْطُ الثَّالِثُ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْجُمُعَةِ وَوُجُوبِهَا مَعًا: دُخُول الْوَقْتِ، وَوَقْتُهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - هُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ، فَلاَ يَثْبُتُ وُجُوبُهَا، وَلاَ يَصِحُّ أَدَاؤُهَا إِلاَّ بِدُخُول وَقْتِ الظُّهْرِ، وَيَسْتَمِرُّ وَقْتُهَا إِلَى دُخُول وَقْتِ الْعَصْرِ، فَإِذَا خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ سَقَطَتِ الْجُمُعَةُ وَاسْتُبْدِل بِهَا الظُّهْرُ؛ لأَِنَّ الْجُمُعَةَ صَلاَةٌ لاَ تُقْضَى بِالتَّفْوِيتِ. وَيُشْتَرَطُ دُخُول وَقْتِ الظُّهْرِ مِنِ ابْتِدَاءِ الْخُطْبَةِ، فَلَوِ ابْتَدَأَ الْخَطِيبُ الْخُطْبَةَ قَبْلَهُ لَمْ تَصِحَّ الْجُمُعَةُ، وَإِنْ وَقَعَتِ الصَّلاَةُ دَاخِل الْوَقْتِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَوَّل وَقْتِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ هُوَ أَوَّل وَقْتِ صَلاَةِ الْعِيدِ (1) لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِيدَانٍ: " شَهِدْتُ الْجُمُعَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَكَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلاَتُهُ قَبْل نِصْفِ النَّهَارِ (2) ، وَلِحَدِيثِ جَابِرٍ: كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ثُمَّ نَذْهَبُ إِلَى جِمَالِنَا فَنُرِيحُهَا حِينَ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 269، ومجمع الأنهر 1 / 161، والروض المربع شرح زاد المستقنع للبهوتي، وحاشية ابن قاسم 2 / 433، 425، ومغني المحتاج 1 / 279، وحاشية الدسوقي 1 / 372.
(2) حديث عبد الله بن سيدان: " شهدت الجمعة مع أبي بكر ". أخرجه الدارقطني (2 / 17 - ط. دار المحاسن) وأعله ابن حجر في الفتح (2 / 387 - ط. السلفية) بجهالة عبد الله ابن سيدان.

(27/197)


تَزُول الشَّمْسُ (1) وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ وَسَعْدٍ وَمُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ صَلَّوْا قَبْل الزَّوَال وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِمْ، وَفِعْلُهَا بَعْدَ الزَّوَال أَفْضَل.

النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الشُّرُوطِ وَهِيَ:
شُرُوطُ الْوُجُوبِ فَقَطْ:
تَتَلَخَّصُ جُمْلَةُ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي خَمْسَةِ أُمُورٍ، وَذَلِكَ بَعْدَ اعْتِبَارِ الشُّرُوطِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا أَهْلِيَّةُ التَّكْلِيفِ بِصُورَةٍ عَامَّةٍ، مِنْ عَقْلٍ وَبُلُوغٍ:
11 - الأَْوَّل: (الإِْقَامَةُ بِمِصْرٍ) : فَلاَ تَجِبُ عَلَى مُسَافِرٍ. ثُمَّ لاَ فَرْقَ فِي الإِْقَامَةِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَلَى سَبِيل الاِسْتِيطَانِ أَوْ دُونَ ذَلِكَ، فَمَنْ تَجَاوَزَتْ أَيَّامُ إِقَامَتِهِ فِي بَلْدَةٍ مَا الْفَتْرَةَ الَّتِي يُشْرَعُ لَهُ فِيهَا قَصْرُ الصَّلاَةِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ وَإِلاَّ فَلاَ عَلَى التَّفْصِيل الْمُبَيَّنِ فِي (صَلاَةُ الْمُسَافِرِ) .
وَدَلِيل ذَلِكَ مَا رَوَاهُ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ إِلاَّ مَرِيضٌ، أَوْ مُسَافِرٌ، أَوِ امْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَمْلُوكٌ، فَمَنِ اسْتَغْنَى بِلَهْوٍ أَوْ تِجَارَةٍ اسْتَغْنَى اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) حديث جابر: " كان يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا ". أخرجه مسلم (1 / 588 - ط. الحلبي) .

(27/198)


وَاَللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (1) . قَال السَّرَخْسِيُّ:
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُسَافِرَ تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ بِدُخُول الْمِصْرِ وَحُضُورِ الْجُمُعَةِ، وَرُبَّمَا لاَ يَجِدُ أَحَدًا يَحْفَظُ رَحْلَهُ، وَرُبَّمَا يَنْقَطِعُ عَنْ أَصْحَابِهِ، فَلِدَفْعِ الْحَرَجِ أَسْقَطَهَا الشَّرْعُ عَنْهُ (2) .
أَمَّا مَنْ كَانَ مُقِيمًا فِي غَيْرِ مِصْرٍ، كَالْقُرَى وَالْبَوَادِي، فَإِنْ كَانَ مَكَانُهُ قَرِيبًا مِنْ بَلْدَةٍ هُنَاكَ وَجَبَ عَلَيْهِ الذَّهَابُ إِلَيْهَا وَإِقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِيهَا، وَإِلاَّ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ.
وَالْمُفْتَى بِهِ فِي ضَابِطِ الْقُرْبِ: أَنْ تَصِل أَصْوَاتُ الْمُؤَذِّنِينَ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ عِنْدَمَا يُؤَذِّنُونَ فِي أَمَاكِنَ مُرْتَفِعَةٍ وَبِأَصْوَاتٍ عَالِيَةٍ مَعَ تَوَسُّطِ حَالَةِ الْجَوِّ مِنْ حَيْثُ الْهُدُوءُ وَالضَّجِيجُ (3) .
وَهَذَا عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الْفِقْرَةِ (7) مِنِ اشْتِرَاطِ الْحَنَفِيَّةِ الْمِصْرَ خِلاَفًا لِغَيْرِهِمْ.

12 - الشَّرْطُ الثَّانِي (الذُّكُورَةُ) : فَلاَ تَجِبُ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ عَلَى النِّسَاءِ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حِكْمَةَ ذَلِكَ فَقَال: وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلأَِنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِخِدْمَةِ الزَّوْجِ، مَمْنُوعَةٌ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى مَحَافِل الرِّجَال، لِكَوْنِ الْخُرُوجِ سَبَبًا
__________
(1) حديث: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة ". أخرجه الدارقطني (2 / 3 - ط. دار المحاسن) وأورده ابن حجر في التلخيص (2 / 65 - شركة الطباعة الفنية) وذكر في إسناده راويين ضعيفين.
(2) المبسوط 2 / 22، وانظر الهداية 1 / 58، 59.
(3) انظر الدر المختار، وحاشية ابن عابدين عليه 1 / 570.

(27/198)


لِلْفِتْنَةِ وَلِهَذَا لاَ جَمَاعَةَ عَلَيْهِنَّ أَيْضًا (1) .

13 - الشَّرْطُ الثَّالِثُ (الصِّحَّةُ) : وَيُقْصَدُ بِهَا خُلُوُّ الْبَدَنِ عَمَّا يَتَعَسَّرُ مَعَهُ - عُرْفًا - الْخُرُوجُ لِشُهُودِ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، كَمَرَضٍ وَأَلَمٍ شَدِيدٍ؛ فَلاَ تَجِبُ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ عَلَى مَنِ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَأُلْحِقَ بِالْمَرِيضِ مُمَرِّضُهُ الَّذِي يَقُومُ بِأَمْرِ تَمْرِيضِهِ وَخِدْمَتِهِ، بِشَرْطِ أَنْ لاَ يُوجَدَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ لَوْ تَرَكَهُ (2) .

14 - الشَّرْطُ الرَّابِعُ (الْحُرِّيَّةُ) : فَلاَ تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ، لاِنْشِغَالِهِ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى.
غَيْرَ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَالْمُبَعَّضِ وَتَجِبُ عَلَى الأَْجِيرِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ مَنْعُهُ مِنْهَا، فَإِذَا تَرَكَ الْعَمَل لِصَلاَتِهَا، وَكَانَ الْمَسْجِدُ بَعِيدًا عَنْ مَكَانِ عَمَلِهِ فِي - الْعُرْفِ - سَقَطَ مِنْ أُجْرَتِهِ مَا يُقَابِل الزَّمَنَ الَّذِي تَرَكَ فِيهِ الْعَمَل مِنْ أَجْلِهَا بِمَا فِي ذَلِكَ مُدَّةُ الصَّلاَةِ نَفْسِهَا، وَإِلاَّ لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ.
وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ - أَيْضًا - مَحَل اتِّفَاقٍ لَدَى مُخْتَلَفِ الْمَذَاهِبِ، ثُمَّ إِنَّ السَّيِّدَ إِذَا أَذِنَ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 258، وشرح الروض المربع 2 / 426، والدسوقي 1 / 379، ومغني المحتاج 1 / 282.
(2) شرح الدر المختار حاشية ابن عابدين 1 / 571، شرح الروض المربع 2 / 427، والدسوقي 1 / 384.

(27/199)


لِعَبْدِهِ فِي الْخُرُوجِ لِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ (1) .

15 - الشَّرْطُ الْخَامِسُ (السَّلاَمَةُ) : وَالْمَقْصُودُ بِهَا سَلاَمَةُ الْمُصَلِّي مِنَ الْعَاهَاتِ الْمُقْعِدَةِ، أَوِ الْمُتْعِبَةِ لَهُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى صَلاَةِ الْجُمُعَةِ، كَالشَّيْخُوخَةِ الْمُقْعِدَةِ وَالْعَمَى، فَإِنْ وَجَدَ الأَْعْمَى قَائِدًا مُتَبَرِّعًا أَوْ بِأُجْرَةٍ مُعْتَدِلَةٍ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ - أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ -؛ لأَِنَّ الأَْعْمَى بِوَاسِطَةِ الْقَائِدِ يُعْتَبَرُ قَادِرًا عَلَى السَّعْيِ خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ (2) .
وَهُنَاكَ صُورَتَانِ أُخْرَيَانِ تَجِبُ فِيهِمَا عَلَى الأَْعْمَى صَلاَةُ الْجُمُعَةِ:
الصُّورَةُ الأُْولَى: أَنْ تُقَامَ الصَّلاَةُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ مُتَطَهِّرٌ مُتَهَيِّئٌ لِلصَّلاَةِ.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ أُوتُوا مَهَارَةً فِي الْمَشْيِ فِي الأَْسْوَاقِ دُونَ الاِحْتِيَاجِ إِلَى أَيِّ كُلْفَةٍ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 571، والمكاتب: هو العبد الذي التزم سيده إعتاقه إذا اكتسب له مبلغا من المال شريطة أن يكون الدفع على عدة أقساط، أما المبعض: فهو ذلك الذي أعتق سيده بعضه، والبعضية يظهر معناها في الزمن، فمن أعتق نصفه اشتغل لحساب سيده خمسة عشر يوما وا (الدسوقي 1 / 379، ومغني المحتاج 1 / 282) .
(2) انظر شرح ملتقى الأبحر 1 / 164، وحاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 571، والدسوقي 1 / 381، ومغني المحتاج 1 / 282، والمغني 2 / 340، 344.

(27/199)


أَوْ قِيَادَةٍ أَوْ سُؤَال أَحَدٍ. إِذْ لاَ حَرَجَ حِينَئِذٍ عَلَيْهِ فِي حُضُورِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ (1) .
وَلاَ تَجِبُ - أَيْضًا - فِي حَالَةِ خَوْفٍ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ أَوْ لِصٍّ، أَوْ سُلْطَانٍ، وَلاَ فِي حَالَةِ مَطَرٍ شَدِيدٍ، أَوْ وَحْلٍ، أَوْ ثَلْجٍ، يَتَعَسَّرُ مَعَهَا الْخُرُوجُ إِلَيْهَا. إِذْ لاَ تُعْتَبَرُ السَّلاَمَةُ مُتَوَفِّرَةً فِي مِثْل هَذِهِ الْحَالاَتِ (2) .
16 - ثُمَّ إِنَّ مَنْ حَضَرَ صَلاَةَ الْجُمُعَةِ مِمَّنْ لَمْ تَتَوَفَّرْ فِيهِ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ يُنْظَرُ فِي أَمْرِهِ: فَإِنْ كَانَ فَاقِدًا أَهْلِيَّةَ التَّكْلِيفِ نَفْسَهَا، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، صَحَّتْ صَلاَةُ الصَّبِيِّ وَاعْتُبِرَتْ لَهُ تَطَوُّعًا، وَبَطَلَتْ صَلاَةُ الْمَجْنُونِ؛ لِعَدَمِ تَوَفُّرِ الإِْدْرَاكِ الْمُصَحِّحِ لأَِصْل الْعِبَادَةِ.
أَمَّا إِنْ تَكَامَلَتْ لَدَيْهِ أَهْلِيَّةُ التَّكْلِيفِ، كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ، فَمِثْل هَؤُلاَءِ إِنْ حَضَرُوا الْجُمُعَةَ وَصَلَّوْهَا أَجْزَأَتْهُمْ عَنْ فَرْضِ الظُّهْرِ؛ لأَِنَّ امْتِنَاعَ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِمْ إِنَّمَا كَانَ لِلْعُذْرِ، وَقَدْ زَال بِحُضُورِهِمْ لَكِنْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ لَهُمُ الاِنْصِرَافَ؛ إِذِ الْمَانِعُ مِنْ وُجُوبِهَا عَلَيْهِمْ لاَ يَرْتَفِعُ بِحُضُورِهِمْ إِلاَّ الْمَرِيضَ وَنَحْوَهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 571.
(2) شرح ملتقى الأبحر 1 / 164، والدسوقي 1 / 381، ومغني المحتاج 1 / 282، والمغني 2 / 340.

(27/200)


كَالأَْعْمَى فَيَحْرُمُ انْصِرَافُهُمَا إِنْ دَخَل الْوَقْتُ قَبْل انْصِرَافِهِمَا؛ لأَِنَّ الْمَانِعَ فِي حَقِّهِمَا مَشَقَّةُ الْحُضُورِ وَقَدْ زَالَتْ (1) .

17 - وَيَصِحُّ أَنْ يَؤُمَّ الْقَوْمَ مِنْ هَؤُلاَءِ كُل مَنْ صَحَّتْ إِمَامَتُهُ الْمُطْلَقَةُ فِي بَابِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ فَتَصِحُّ إِمَامَةُ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ، دُونَ الْمَرْأَةِ قَال فِي تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ: وَيَصْلُحُ لِلإِْمَامَةِ فِيهَا مَنْ صَلَحَ لِغَيْرِهَا؛ فَجَازَتْ لِمُسَافِرٍ وَعَبْدٍ وَمَرِيضٍ.
وَأَمَّا صِفَةُ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ فَهِيَ: أَنَّ كُل مَنْ يَصْلُحُ إِمَامًا لِلرِّجَال فِي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمُعَةُ، فَيُشْتَرَطُ صِفَةُ الذُّكُورَةِ وَالْعَقْل وَالْبُلُوغِ لاَ غَيْرُ، فَتَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ بِعَبِيدٍ وَمُسَافِرِينَ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ بِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلاَءِ، وَلاَ تَصِحُّ إِمَامَتُهُ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَصَحَّحُوا الإِْمَامَةَ مِنْ هَؤُلاَءِ دُونَ الاِنْعِقَادِ بِهِ. فَلَوْ أَمَّ الْمُصَلِّينَ مُسَافِرٌ وَكَانَ عَدَدُهُمْ لاَ يَتَجَاوَزُ مَعَ إِمَامِهِمُ الْمُسَافِرِ أَرْبَعِينَ رَجُلاً، لَمْ تَنْعَقِدْ صَلاَتُهُمْ (2) .
__________
(1) تحفة الفقهاء 1 / 278، وشرح ملتقى الأبحر 1 / 164، والمبسوط 1 / 23، ونهاية المحتاج 2 / 276، والمغني لابن قدامة 2 / 283، / والدسوقي 1 / 383.
(2) تنوير الأبصار بهامش ابن عابدين 1 / 572، والبدائع 1 / 268، وانظر المغني لابن قدامة 2 / 283، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 292، 293، والجواهر الزكية 118.

(27/200)


فَمَنْ تَوَفَّرَتْ فِيهِ هَذِهِ الشُّرُوطُ، حُرِّمَ عَلَيْهِ صَلاَةُ الظُّهْرِ قَبْل فَوَاتِ الْجُمُعَةِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ الأَْمْرِ بِإِسْقَاطِ صَلاَةِ الظُّهْرِ وَأَدَاءِ الْجُمُعَةِ فِي مَكَانِهَا. أَمَّا بَعْدَ فَوَاتِهَا عَلَيْهِ فَلاَ مَنَاصَ حِينَئِذٍ مِنْ أَدَاءِ الظُّهْرِ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ آثِمًا بِسَبَبِ تَفْوِيتِ الْجُمُعَةِ بِدُونِ عُذْرٍ.
فَإِنْ سَعَى إِلَيْهَا بَعْدَ أَدَائِهِ الظُّهْرَ وَالإِْمَامُ فِي الصَّلاَةِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ الَّتِي كَانَ قَدْ أَدَّاهَا بِمُجَرَّدِ انْفِصَالِهِ عَنْ دَارِهِ وَاتِّجَاهِهِ إِلَيْهَا سَوَاءٌ أَدْرَكَهَا أَمْ لاَ. وَذَلِكَ لأَِنَّ السَّعْيَ إِلَى صَلاَةِ الْجُمُعَةِ مَعْدُودٌ مِنْ مُقَدِّمَاتِهَا وَخَصَائِصِهَا الْمَأْمُورِ بِهَا بِنَصِّ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالاِشْتِغَال بِفَرَائِضِ الْجُمُعَةِ الْخَاصَّةِ بِهَا يُبْطِل الظُّهْرَ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَمَّا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ فَلاَ يَبْطُل ظُهْرُهُ بِمُجَرَّدِ السَّعْيِ، بَل لاَ بُدَّ لِذَلِكَ مِنْ إِدْرَاكِهِ الْجُمُعَةَ وَشُرُوعِهِ فِيهَا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ قَبْل أَنْ يُصَلِّيَ الإِْمَامُ الْجُمُعَةَ لَمْ يَصِحَّ وَيَلْزَمُهُ السَّعْيُ إِلَى الْجُمُعَةِ إِنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُدْرِكُهَا (2) .
__________
(1) الدر المختار بهامش ابن عابدين 1 / 572 ومجمع الأنهر 1 / 165.
(2) الدسوقي 1 / 384، والمغني 2 / 342.

(27/201)


النَّوْعُ الثَّالِثُ: شُرُوطُ الصِّحَّةِ فَقَطْ:
وَهِيَ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ:
19 - الأَْوَّل الْخُطْبَةُ: وَيُشْتَرَطُ تَقَدُّمُهَا عَلَى الصَّلاَةِ، وَهِيَ كُل ذِكْرٍ يُسَمَّى فِي عُرْفِ النَّاسِ خُطْبَةً، فَمَتَى جَاءَ الإِْمَامُ بِذَلِكَ بَعْدَ دُخُول الْوَقْتِ، فَقَدْ تَأَدَّى الشَّرْطُ وَصَحَّتِ الْخُطْبَةُ، سَوَاءٌ كَانَ قَائِمًا، أَوْ قَاعِدًا أَتَى بِخُطْبَتَيْنِ أَوْ خُطْبَةٍ وَاحِدَةٍ، تَلاَ فِيهَا قُرْآنًا أَمْ لاَ، عَرَبِيَّةً كَانَتْ أَوْ عَجَمِيَّةً، إِلاَّ أَنَّهَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ قَبْل الصَّلاَةِ، إِذْ هِيَ شَرْطٌ، وَشَرْطُ الشَّيْءِ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَيْهِ وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَاشْتَرَطَ لَهَا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ خُطْبَتَيْنِ مُسْتَدِلِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ لِلْخُطْبَةِ أَرْكَانًا خَمْسَةً لاَ بُدَّ مِنْ تَوَافُرِهَا وَهِيَ: حَمْدُ اللَّهِ، وَالصَّلاَةُ عَلَى رَسُولِهِ، وَالْوَصِيَّةُ بِالتَّقْوَى. وَهَذِهِ الثَّلاَثَةُ أَرْكَانٌ فِي كُلٍّ مِنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَالرَّابِعُ: قِرَاءَةُ آيَةٍ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 262 وحاشية ابن عابدين 1 / 567، ومجمع الأنهر 1 / 163.
(2) انظر الجواهر الزكية 122، والمغني لابن قدامة 2 / 251، والمحلى على المنهاج 1 / 277. وحديث: " مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على خطبتين ". ورد من حديث ابن عمر، أخرجه البخاري (الفتح 2 / 406 - ط. السلفية) ومسلم (2 / 589 - ط. الحلبي) .

(27/201)


مِنَ الْقُرْآنِ فِي إِحْدَاهُمَا، وَالْخَامِسُ: مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الدُّعَاءِ لِلْمُؤَمِّنِينَ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ (1) .
وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ مِنْ هَذِهِ الأَْرْكَانِ قِرَاءَةَ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ. . . قَال أَصْحَابُنَا: وَلاَ يَكْفِي فِي الْقِرَاءَةِ أَقَل مِنْ آيَةٍ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى أَقَل مِنْ ذَلِكَ وَمَا عَدَا ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (خُطْبَة) .

20 - الثَّانِي: الْجَمَاعَةُ:
قَال فِي الْبَدَائِعِ: وَدَلِيل شَرْطِيَّتِهَا، أَنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ تُسَمَّى جُمُعَةً، فَلاَ بُدَّ مِنْ لُزُومِ مَعْنَى الْجُمُعَةِ فِيهَا، اعْتِبَارًا لِلْمَعْنَى الَّذِي أُخِذَ اللَّفْظُ مِنْهُ. . . وَلِهَذَا لَمْ يُؤَدِّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُمُعَةَ إِلاَّ جَمَاعَةً، وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ (3) .
وَيَتَعَلَّقُ بِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ هَذَا الشَّرْطِ ثَلاَثَةُ أَبْحَاثٍ:

21 - أَوَّلُهَا: حُضُورُ وَاحِدٍ سِوَى الإِْمَامِ - عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ - وَقِيل: ثَلاَثَةٌ سِوَى الإِْمَامِ، قَال فِي مَجْمَعِ الأَْنْهُرِ: لأَِنَّهَا أَقَل الْجَمْعِ، وَقَدْ وَرَدَ الْخِطَابُ لِلْجَمْعِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ
__________
(1) المحلى على المنهاج 1 / 277، 278.
(2) المغني لابن قدامة 1 / 252.
(3) بدائع الصنائع 1 / 266.

(27/202)


اللَّهِ (1) } فَإِنَّهُ يَقْتَضِي ثَلاَثَةً سِوَى الْخَطِيبِ، هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ (2) .
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنْ لاَ يَقِل الْمُجْمِعُونَ عَنْ أَرْبَعِينَ رَجُلاً تَجِبُ فِي حَقِّهِمُ الْجُمُعَةُ. قَال صَاحِبُ الْمُغْنِي: أَمَّا الأَْرْبَعُونَ فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَصِحَّتِهَا. . وَيُشْتَرَطُ حُضُورُهُمُ الْخُطْبَتَيْنِ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ حُضُورُ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ أَهْل الْجُمُعَةِ (4) .

22 - ثَانِيهَا: يَجِبُ حُضُورُ مَا لاَ يَقِل عَنْ هَذَا الْعَدَدِ مِنْ أَوَّل الْخُطْبَةِ. قَال فِي الْبَدَائِعِ:
لَوْ نَفَرُوا قَبْل أَنْ يَخْطُبَ الإِْمَامُ فَخَطَبَ وَحْدَهُ، ثُمَّ حَضَرُوا فَصَلَّى بِهِمُ الْجُمُعَةَ لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ الْجَمَاعَةَ كَمَا هِيَ شَرْطُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ حَال الشُّرُوعِ فِي الصَّلاَةِ، فَهِيَ شَرْطٌ حَال سَمَاعِ الْخُطْبَةِ؛ لأَِنَّ الْخُطْبَةَ بِمَنْزِلَةِ شَفْعٍ مِنَ الصَّلاَةِ، قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إِنَّمَا قُصِرَتِ الْجُمُعَةُ لأَِجْل الْخُطْبَةِ، وَجَاءَ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ فَتُشْتَرَطُ الْجَمَاعَةُ حَال سَمَاعِ الْخُطْبَةِ، كَمَا
__________
(1) سورة الجمعة / 9.
(2) مجمع الأنهر 1 / 164، وبدائع الصنائع 1 / 266.
(3) المغني لابن قدامة 2 / 272، والروض المربع 2 / 436، وحلية العلماء 2 / 238.
(4) الدسوقي 1 / 378، الشرح الصغير 1 / 499.

(27/202)


تُشْتَرَطُ حَال الشُّرُوعِ فِي الصَّلاَةِ (1) .

23 - ثَالِثُهَا: الْجَمَاعَةُ فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ شَرْطُ أَدَاءٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَلاَ يَتَحَقَّقُ الأَْدَاءُ إِلاَّ بِوُجُودِ تَمَامِ الأَْرْكَانِ، وَهِيَ: الْقِيَامُ، وَالْقِرَاءَةُ، وَالرُّكُوعُ، وَالسُّجُودُ. وَعَلَى هَذَا فَلَوْ تَفَرَّقَتِ الْجَمَاعَةُ قَبْل سُجُودِ الإِْمَامِ بَطَلَتِ الْجُمُعَةُ وَيَسْتَأْنِفُ الظُّهْرَ، وَالْجَمَاعَةُ شَرْطُ انْعِقَادٍ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ، وَالاِنْعِقَادُ يَتِمُّ بِدُخُولٍ صَحِيحٍ فِي الصَّلاَةِ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ تَفَرَّقَتِ الْجَمَاعَةُ عَنِ الإِْمَامِ قَبْل السُّجُودِ وَبَعْدَ الاِنْعِقَادِ صَحَّتْ جُمُعَةُ كُلٍّ مِنْهُمْ وَقَدْ صَحَّحَ صَاحِبُ (تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ) مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ أَنَّهُمْ إِنِ انْفَضُّوا قَبْل كَمَالِهَا لَمْ يَجُزْ إِتْمَامُهَا جُمُعَةً، وَقِيَاسُ قَوْل الْخِرَقِيِّ أَنَّهُمْ إِنِ انْفَضُّوا بَعْدَ رَكْعَةٍ أَتَمُّوهَا جُمُعَةً (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ مَعَ الإِْمَامِ أَقَل مِنْ رَكْعَةٍ، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ وَيُصَلِّيهَا ظُهْرًا. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: صَلاَةُ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 266، والمراجع السابقة.
(2) راجع تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار، وحاشية ابن عابدين 1 / 569، المغني لابن قدامة 2 / 258 - 276، والدسوقي 1 / 383، ونهاية المحتاج 2 / 334، والقليوبي 1 / 290.

(27/203)


الْمُقْتَدِي صَحِيحَةٌ عَلَى أَنَّهَا جُمُعَةٌ إِذَا أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْهَا مَعَ الإِْمَامِ، وَإِنْ قَل. قَال فِي الْمَبْسُوطِ: وَمَنْ أَدْرَكَ الإِْمَامَ فِي التَّشَهُّدِ فِي الْجُمُعَةِ أَوْ فِي سَجْدَتَيِ السَّهْوِ فَاقْتَدَى بِهِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا وَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ (1) .

24 - الثَّالِثُ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ: وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ تُؤَدَّى بِإِذْنٍ عَامٍّ يَسْتَلْزِمُ الاِشْتِهَارَ، وَهُوَ يَحْصُل بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي مَكَان بَارِزٍ مَعْلُومٍ لِمُخْتَلَفِ فِئَاتِ النَّاسِ، مَعَ فَتْحِ الأَْبْوَابِ لِلْقَادِمِينَ إِلَيْهِ، قَال فِي تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ: فَلَوْ دَخَل أَمِيرٌ حِصْنًا أَوْ قَصْرَهُ وَأَغْلَقَ بَابَهُ، وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ لَمْ تَنْعَقِدْ (2) .
وَالْحِكْمَةُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ: وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا شَرْطًا؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ النِّدَاءَ لِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ (3) } .
وَالنِّدَاءُ لِلاِشْتِهَارِ؛ وَلِذَا يُسَمَّى جُمُعَةً، لاِجْتِمَاعِ الْجَمَاعَاتِ فِيهَا فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْجَمَاعَاتُ كُلُّهَا مَأْذُونِينَ بِالْحُضُورِ إِذْنًا عَامًّا تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الاِسْمِ (4) .

25 - الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ لاَ تَتَعَدَّدَ الْجُمُعَةُ فِي
__________
(1) المبسوط للسرخسي 2 / 35، والمراجع السابقة.
(2) تنوير الأبصار بهامش ابن عابدين 1 / 570.
(3) سورة الجمعة / 9.
(4) البدائع 1 / 269.

(27/203)


الْمِصْرِ الْوَاحِدِ مُطْلَقًا.
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى مَنْعِ التَّعَدُّدِ فِي أَعَمِّ الأَْحْوَال عَلَى اخْتِلاَفٍ يَسِيرٍ بَيْنَهُمْ فِي ضَابِطِ الْمَكَانِ الَّذِي لاَ يَجُوزُ التَّعَدُّدُ فِيهِ.
فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ هُوَ مَنْعُ التَّعَدُّدِ فِي الْبَلْدَةِ الْوَاحِدَةِ كَبِيرَةً كَانَتْ أَوْ صَغِيرَةً إِلاَّ لِحَاجَةٍ (1) .
وَهَذَا - أَيْضًا - مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ عَابِدِينَ وَذَكَرَ أَنَّهُ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ وَالتُّمُرْتَاشِيِّ، وَنُقِل عَنْ شَرْحِ الْمُنْيَةِ أَنَّهُ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الإِْمَامِ، وَنُقِل عَنِ النَّهْرِ وَالتَّكْمِلَةِ: أَنَّ الْفَتْوَى عَلَيْهِ. قَالُوا: لأَِنَّ الْحِكْمَةَ مِنْ مَشْرُوعِيَّتِهَا هِيَ الاِجْتِمَاعُ وَالتَّلاَقِي، وَيُنَافِيهِ التَّفَرُّقُ بِدُونِ حَاجَةٍ فِي عِدَّةِ مَسَاجِدَ، وَلأَِنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ عَنْ صَحَابِيٍّ وَلاَ تَابِعِيٍّ تَجْوِيزُ تَعَدُّدِهَا.
وَمُقَابِلُهُ مَا رَوَاهُ فِي الْبَدَائِعِ عَنِ الْكَرْخِيِّ: أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِأَنْ يُجْمَعُوا فِي مَوْضِعَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: لاَ يَجُوزُ إِلاَّ إِذَا كَانَ بَيْنَ مَوْضِعَيِ الإِْقَامَةِ نَهْرٌ عَظِيمٌ كَدِجْلَةَ وَنَحْوِهَا فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مِصْرَيْنِ.
__________
(1) انظر المحلى على المنهاج 1 / 272، والمغني لابن قدامة 2 / 277، 278، والدسوقي 1 / 347.

(27/204)


وَالثَّانِيَةُ: يَجُوزُ فِي مَوْضِعَيْنِ إِذَا كَانَ الْمِصْرُ عَظِيمًا (1) .
26 - فَهَذِهِ الشُّرُوطُ الأَْرْبَعَةُ إِذَا فُقِدَ وَاحِدٌ مِنْهَا، بَطَلَتِ الصَّلاَةُ، مَعَ اسْتِمْرَارِ تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِهَا، حَتَّى إِنَّهُ يَجِبُ إِعَادَتُهَا إِذَا بَقِيَ وَقْتٌ وَأَمْكَنَ تَدَارُكُ الشَّرْطِ الْفَائِتِ. وَهَذَا مَعْنَى أَنَّهَا شُرُوطٌ لِلصِّحَّةِ فَقَطْ، إِلاَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِفَقْدِ الشَّرْطِ الأَْخِيرِ، فَسَنَذْكُرُ حُكْمَ ذَلِكَ عِنْدَ الْبَحْثِ عَنْ مُفْسِدَاتِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى فَسَادِهَا.

الإِْنْصَاتُ لِلْخُطْبَةِ:
27 - إِذَا صَعِدَ الإِْمَامُ الْمِنْبَرَ لِلْخُطْبَةِ، يَجِبُ عَلَى الْحَاضِرِينَ أَنْ لاَ يَشْتَغِلُوا عِنْدَئِذٍ بِصَلاَةٍ وَلاَ كَلاَمٍ إِلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنَ الْخُطْبَةِ. فَإِذَا بَدَأَ الْخَطِيبُ بِالْخُطْبَةِ تَأَكَّدَ وُجُوبُ ذَلِكَ أَكْثَرَ.
قَال فِي تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ: كُل مَا حُرِّمَ فِي الصَّلاَةِ حُرِّمَ فِي الْخُطْبَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْجَالِسُ فِي الْمَسْجِدِ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ أَمْ لاَ، اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ يَشْتَغِل بِقَضَاءِ فَائِتَةٍ لَمْ يَسْقُطِ التَّرْتِيبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّلاَةِ الْوَقْتِيَّةِ فَلاَ تُكْرَهُ، بَل يَجِبُ فِعْلُهَا (2) .
__________
(1) مجمع الأنهر 1 / 262، ورد المحتار 1 / 565، وبدائع الصنائع 1 / 260.
(2) انظر حاشية ابن عابدين 1 / 574، المغني 2 / 320، مغني المحتاج 1 / 288، حاشية الدسوقي 1 / 386، 387.

(27/204)


فَلَوْ خَرَجَ الْخَطِيبُ، وَقَدْ بَدَأَ الْمُصَلِّي بِصَلاَةٍ نَافِلَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُخَفِّفَهَا وَيُسَلِّمَ عَلَى رَأْسِ رَكْعَتَيْنِ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ (1) .
غَيْرَ أَنَّهُ جَرَى الْخِلاَفُ فِيمَا إِذَا دَخَل الرَّجُل وَالْخَطِيبُ يَخْطُبُ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ يَجْلِسُ وَلاَ يُصَلِّي، شَأْنُهُ فِي ذَلِكَ كَالْجَالِسِينَ دُونَ أَيِّ فَرْقٍ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ مَا لَمْ يَجْلِسْ، تَحِيَّةً لِلْمَسْجِدِ (2) وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إِنْ صَلاَّهَا فَاتَتْهُ تَكْبِيرَةُ الإِْحْرَامِ مَعَ الإِْمَامِ لَمْ يُصَلِّهَا.

الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ:
28 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلإِْمَامِ الْجَهْرُ فِي قِرَاءَةِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجِبُ الْجَهْرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، قَال فِي الْبَدَائِعِ:
وَذَلِكَ لِوُرُودِ الأَْثَرِ فِيهَا بِالْجَهْرِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَال: {
سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى سُورَةَ الْجُمُعَةِ وَفِي الثَّانِيَةِ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ (3) وَلَوْ لَمْ يَجْهَرْ لَمَا سَمِعَ وَلأَِنَّ
__________
(1) انظر حاشية ابن عابدين 1 / 574، المغني 2 / 319، حاشية الدسوقي 1 / 386، مغني المحتاج 1 / 88.
(2) المراجع السابقة.
(3) حديث ابن عباس: " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الجمعة ". أخرجه مسلم (2 / 599 - ط. الحلبي) .

(27/205)


النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَرَّغُوا قُلُوبَهُمْ، عَنْ الاِهْتِمَامِ بِأُمُورِ التِّجَارَةِ لِعِظَمِ ذَلِكَ الْجَمْعِ فَيَتَأَمَّلُونَ قِرَاءَةَ الإِْمَامِ فَتَحْصُل لَهُمْ ثَمَرَاتُ الْقِرَاءَةِ، فَيَجْهَرُ بِهَا كَمَا فِي صَلاَةِ اللَّيْل، وَخَالَفَ بَقِيَّةُ الأَْئِمَّةِ فِي وُجُوبِ الْجَهْرِ فَذَهَبُوا إِلَى اسْتِحْبَابِهِ (1)

. السَّعْيُ لِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ:
29 - مِنَ الْوَاجِبَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الشَّعِيرَةِ: وُجُوبُ السَّعْيِ إِلَيْهَا، وَتَرْكُ مُعَامَلاَتِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عِنْدَ الأَْذَانِ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُورِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ (2) } ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ - إِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ عِنْدَ الأَْذَانِ الأَْوَّل (3) ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَأْخِيرِ هَذَا السَّعْيِ الْوَاجِبِ عِنْدَ سَمَاعِ النِّدَاءِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ مِنَ الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الْمَعْصِيَةِ. أَمَّا حُكْمُ الْعَقْدِ الَّذِي يُبَاشِرُهُ مِنْ بَيْعٍ، وَنَحْوِهِ بَدَلاً مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى السَّعْيِ فَفِي بُطْلاَنِهِ، أَوْ كَرَاهَتِهِ اخْتِلاَفُ الْفُقَهَاءِ وَيُعْرَفُ ذَلِكَ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 269، الروض المربع شرح زاد المستقنع 2 / 460، الشرح الصغير 1 / 126، المجموع 3 / 389.
(2) سورة الجمعة الآية 9.
(3) مجمع الأنهر 1 / 166.

(27/205)


بِالرُّجُوعِ إِلَى أَحْكَامِ الْبَيْعِ (ر: بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ج 9 ف 133)
.

الْمُسْتَحَبَّاتُ مِنْ كَيْفِيَّةِ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ:
30 - (1) الأَْذَانُ بَيْنَ يَدَيِ الْمِنْبَرِ قَبْل الْبَدْءِ بِالْخُطْبَةِ إِذَا جَلَسَ الْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهَذَا الأَْذَانُ هُوَ الَّذِي كَانَ يُؤَذَّنُ لِكُلٍّ مِنَ الْوَقْتِ وَالْخُطْبَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ثُمَّ رَأَى عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يُؤَذِّنَ أَذَانًا أَوَّل لِلإِْعْلاَمِ بِدُخُول الْوَقْتِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ النَّاسِ. وَأَبْقَى الأَْذَانَ الثَّانِيَ بَيْنَ يَدَيِ الْمِنْبَرِ الْتِزَامًا لِلسُّنَّةِ (1) .

(2) - أَنْ يَخْطُبَ الْخَطِيبُ خُطْبَتَيْنِ قَائِمًا، يَفْصِل بَيْنَهُمَا بِجِلْسَةٍ خَفِيفَةٍ يَفْتَتِحُهَا بِحَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَالتَّشَهُّدِ، وَالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ الدُّعَاءَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ (2) .

31 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ فِي الْخُطْبَةِ، فَذَهَبَ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ سُنَّةٌ فِي الْخُطْبَةِ (3) ، وَذَهَبَتِ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى اعْتِبَارِهَا شَرْطًا فِيهَا.
وَدَلِيل الَّذِينَ لَمْ يَشْتَرِطُوا الطَّهَارَةَ فِيهَا: أَنَّ
__________
(1) انظر حاشية ابن عابدين 1 / 576.
(2) انظر البدائع 1 / 263، والدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 1 / 567.
(3) انظر المغني لابن قدامة 2 / 253، وشرح الجواهر الزكية 123.

(27/206)


الْخُطْبَةَ مِنْ بَابِ الذِّكْرِ، وَالْمُحْدِثُ وَالْجُنُبُ لاَ يُمْنَعَانِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا دَلِيل الآْخَرِينَ: فَهُوَ مُوَاظَبَةُ السَّلَفِ عَلَى الطَّهَارَةِ فِيهَا، وَالْقِيَاسُ عَلَى الصَّلاَةِ (1) .

اسْتِحْبَابُ كَوْنِ الْخَطِيبِ وَالإِْمَامِ وَاحِدًا:
32 - يُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ يَؤُمَّ الْقَوْمَ إِلاَّ مَنْ خَطَبَ فِيهِمْ؛ لأَِنَّ الصَّلاَةَ وَالْخُطْبَةَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ (2) ، قَال فِي تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ: فَإِنْ فَعَل بِأَنْ خَطَبَ صَبِيٌّ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ وَصَلَّى بَالِغٌ جَازَ (3) ، غَيْرَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الإِْمَامِ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ. قَال فِي الْبَدَائِعِ: وَلَوْ أَحْدَثَ الإِْمَامُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ قَبْل الشُّرُوعِ فِي الصَّلاَةِ فَقَدَّمَ رَجُلاً يُصَلِّي بِالنَّاسِ: إِنْ كَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ أَوْ شَيْئًا مِنْهَا جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ شَيْئًا مِنَ الْخُطْبَةِ لَمْ يَجُزْ، وَيُصَلِّي بِهِمُ الظُّهْرَ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (4) .
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ، فَذَهَبُوا إِلَى وُجُوبِ كَوْنِ الْخَطِيبِ وَالإِْمَامِ وَاحِدًا إِلاَّ لِعُذْرٍ كَمَرَضٍ، وَكَأَنْ لاَ يَقْدِرَ الإِْمَامُ عَلَى الْخُطْبَةِ، أَوْ لاَ يُحْسِنَهَا (5) .
__________
(1) البدائع 1 / 263، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 311.
(2) منية المصلي ص 246، والدر المختار 1 / 576.
(3) الدر المختار على هامش ابن عابدين 1 / 576.
(4) البدائع 1 / 265، المغني 2 / 307، حاشية الجمل 2 / 58، كشاف القناع 2 / 34.
(5) راجع شرح الجواهر الزكية 123.

(27/206)


مَا يُقْرَأُ فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ:
33 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ: يُسْتَحَبُّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى (سُورَةَ الْجُمُعَةِ) ، وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ (سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ) . لِمَا رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ قَال: صَلَّى بِنَا أَبُو هُرَيْرَةَ الْجُمُعَةَ فَقَرَأَ سُورَةَ الْجُمُعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى، وَفِي الرَّكْعَةِ الآْخِرَةِ {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} فَلَمَّا قَضَى أَبُو هُرَيْرَةَ الصَّلاَةَ أَدْرَكْتُهُ فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إِنَّكَ قَرَأْتَ بِسُورَتَيْنِ، كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَقْرَأُ بِهِمَا بِالْكُوفَةِ فَقَال أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهِمَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ (1) .
كَمَا اسْتَحَبَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - أَيْضًا قِرَاءَةَ سُورَةِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَْعْلَى} فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى وَ {هَل أَتَاكَ} فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ. لِمَا رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَةِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَْعْلَى} وَ {هَل أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} (2) .
قَال الْكَاسَانِيُّ: لَكِنْ لاَ يُوَاظِبُ عَلَى قِرَاءَتِهَا بَل يَقْرَأُ غَيْرَهَا فِي بَعْضِ الأَْوْقَاتِ حَتَّى
__________
(1) حديث أبي هريرة " قرأ سورة الجمعة في الركعة الأولى ". أخرجه مسلم (2 / 597 - 598 - ط. الحلبي) .
(2) حديث النعمان بن بشير: " كان رسول الله صلى الله عليه ولم يقرأ في العيدين. . ". أخرجه مسلم (2 / 598، - ط. الحلبي) .

(27/207)


لاَ يُؤَدِّيَ إِلَى هَجْرِ بَعْضِ الْقُرْآنِ، وَلِئَلاَّ تَظُنُّهُ الْعَامَّةُ حَتْمًا.
وَصَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ قِرَاءَةَ (الْجُمُعَةِ، وَالْمُنَافِقِينَ) أَوْلَى.
قَال النَّوَوِيُّ: كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَاتَيْنِ فِي وَقْتٍ، وَهَاتَيْنِ فِي آخَرَ فَهُمَا سُنَّتَانِ،
وَصَرَّحَ الْمَحَلِّيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: بِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ قِرَاءَةَ (سُورَةِ الْجُمُعَةِ) فِي الأُْولَى قَرَأَهَا مَعَ (الْمُنَافِقِينَ) فِي الثَّانِيَةِ، وَلَوْ قَرَأَ (الْمُنَافِقِينَ) فِي الأُْولَى قَرَأَ (الْجُمُعَةَ) فِي الثَّانِيَةِ. كَيْ لاَ تَخْلُوَ صَلاَتُهُ عَنْ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ، وَيُنْدَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ - أَيْضًا - بِسُورَةِ {هَل أَتَاكَ} ، أَوْ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَْعْلَى} .
قَال الدُّسُوقِيُّ: إِنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَيْنَ الثَّلاَثِ - {هَل أَتَاكَ} أَوْ {سَبِّحْ} أَوِ (الْمُنَافِقُونَ) - وَأَنَّ كُلًّا يَحْصُل بِهِ النَّدْبُ، لَكِنْ {هَل أَتَاكَ} أَقْوَى فِي النَّدْبِ، وَهَذَا مَا اعْتَمَدَهُ مُصْطَفَى الرَّمَاصِيُّ. وَفِي كَلاَمِ بَعْضِهِمْ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ ذَاتُ قَوْلَيْنِ، وَأَنَّ الاِقْتِصَارَ عَلَى {هَل أَتَاكَ} مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، وَأَنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الثَّلاَثِ قَوْل الْكَافِي (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 269، وحاشية الدسوقي 1 / 383، نهاية المحتاج 2 / 316، المحلى على المنهاج بهامش القليوبي وعميرة 1 / 283، كشاف القناع 2 / 38، الإنصاف 2 / 399، والمغني لابن قدامة 2 / 311.

(27/207)


مُفْسِدَاتُ الْجُمُعَةِ:
تَنْقَسِمُ إِلَى نَوْعَيْنِ:
مُفْسِدَاتٍ مُشْتَرَكَةٍ، وَمُفْسِدَاتٍ خَاصَّةٍ:
34 - فَأَمَّا الْمُفْسِدَاتُ الْمُشْتَرَكَةُ: فَهِيَ كُل مَا يُفْسِدُ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ (ر. صَلاَة)
35 - وَأَمَّا مُفْسِدَاتُهَا الْخَاصَّةُ بِهَا فَتَنْحَصِرُ فِي الأُْمُورِ التَّالِيَةِ:
أَوَّلِهَا: خُرُوجُ وَقْتِ الظُّهْرِ قَبْل الْفَرَاغِ مِنْهَا فَيُصَلِّيهَا ظُهْرًا، وَيَسْتَوِي فِي الْفَسَادِ خُرُوجُ الْوَقْتِ قَبْل الْمُبَاشَرَةِ بِهَا، وَخُرُوجُهُ بَعْدَ الْمُبَاشَرَةِ بِهَا وَقَبْل الاِنْتِهَاءِ مِنْهَا (1) هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَنَحْوُهُ لِلشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّهَا تَنْقَلِبُ ظُهْرًا وَلاَ تَكُونُ جُمُعَةً، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَحْرَمُوا بِهَا فِي الْوَقْتِ فَهِيَ جُمُعَةٌ.
وَهَذَا يَعْنِي: أَنَّ اشْتِرَاطَ وَقْتِ الظُّهْرِ لَهَا مُسْتَمِرٌّ فِي الاِعْتِبَارِ إِلَى لَحْظَةِ الْفَرَاغِ مِنْهَا قَال فِي تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ: لأَِنَّ الْوَقْتَ شَرْطُ الأَْدَاءِ لاَ شَرْطُ الاِفْتِتَاحِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: شَرْطُ الْجُمُعَةِ وُقُوعُ كُلِّهَا بِالْخُطْبَةِ وَقْتَ الظُّهْرِ لِلْغُرُوبِ (2) .
__________
(1) انظر البدائع 1 / 269، والدر المختار 1 / 566، شرح الروض المربع للبهوتي 2 / 435.
(2) تنوير الأبصار بهامش ابن عابدين 1 / 566، حاشية الدسوقي 1 / 372.

(27/208)


ثَانِيهَا: انْفِضَاضُ الْجَمَاعَةِ أَثْنَاءَ أَدَائِهَا، قَبْل أَنْ تُقَيَّدَ الرَّكْعَةُ الأُْولَى بِالسَّجْدَةِ فَيُصَلِّيهَا ظُهْرًا. وَذَلِكَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الأَْئِمَّةُ الْقَائِلُونَ: بِأَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطُ أَدَاءٍ، وَأَمَّا عَلَى مَا رَجَّحَهُ الآْخَرُونَ، فَلاَ أَثَرَ لاِنْفِسَاخِهَا بَعْدَ الاِنْعِقَادِ وَإِنْ لَمْ تُقَيَّدِ الرَّكْعَةُ الأُْولَى جَمَاعَةً.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: الأَْظْهَرُ: يُتِمُّهَا ظُهْرًا، وَالثَّانِي: إِنْ بَقِيَ مَعَهُ اثْنَانِ يُتِمُّهَا جُمُعَةً، وَالثَّالِثُ: إِنْ بَقِيَ مَعَهُ وَاحِدٌ يُتِمُّهَا جُمُعَةً (1) .
وَسَبَبُ هَذَا الْخِلاَفِ: أَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطُ أَدَاءٍ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ بَعْضِ الأَْئِمَّةِ، وَهِيَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَرْطُ انْعِقَادٍ.

قَضَاءُ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ:
36 - صَلاَة الْجُمُعَةُ لاَ تُقْضَى بِالْفَوَاتِ، وَإِنَّمَا تُعَادُ الظُّهْرُ فِي مَكَانِهَا. قَال فِي الْبَدَائِعِ: وَأَمَّا إِذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا، وَهُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ، سَقَطَتْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ؛ لأَِنَّ صَلاَةَ الْجُمُعَةِ لاَ تُقْضَى؛ لأَِنَّ الْقَضَاءَ عَلَى حَسَبِ الأَْدَاءِ، وَالأَْدَاءُ فَاتَ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ يَتَعَذَّرُ تَحْصِيلُهَا عَلَى كُل فَرْدٍ، فَتَسْقُطُ، بِخِلاَفِ سَائِرِ الْمَكْتُوبَاتِ إِذَا فَاتَتْ عَنْ أَوْقَاتِهَا (2) وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ.
__________
(1) حلية العلماء 2 / 230 حاشية الدسوقي 1 / 376، 377.
(2) البدائع 1 / 269.

(27/208)


اجْتِمَاعُ الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ:
37 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَافَقَ الْعِيدُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلاَ يُبَاحُ لِمَنْ شَهِدَ الْعِيدَ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجُمُعَةِ. قَال الدُّسُوقِيُّ: وَسَوَاءٌ مَنْ شَهِدَ الْعِيدَ بِمَنْزِلِهِ فِي الْبَلَدِ، أَوْ خَارِجَهَا. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَصَلَّوْا الْعِيدَ وَالظُّهْرَ جَازَ وَسَقَطَتِ الْجُمُعَةُ عَمَّنْ حَضَرَ الْعِيدَ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْعِيدَ، وَقَال: مَنْ شَاءَ أَنْ يُجَمِّعَ فَلْيُجَمِّعْ (1) وَصَرَّحُوا بِأَنَّ إِسْقَاطَ الْجُمُعَةِ حِينَئِذٍ إِسْقَاطُ حُضُورٍ لاَ إِسْقَاطُ وُجُوبٍ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ كَمَرِيضٍ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ لَهُ عُذْرٌ أَوْ شُغْلٌ يُبِيحُ تَرْكَ الْجُمُعَةِ، وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ وُجُوبُهَا فَتَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ وَيَصِحُّ أَنْ يَؤُمَّ فِيهَا. وَالأَْفْضَل لَهُ حُضُورُهَا خُرُوجًا مِنَ الْخِلاَفِ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الإِْمَامُ فَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ حُضُورُ الْجُمُعَةِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: قَدِ اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ، فَمَنْ شَاءَ أَجْزَأَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ وَإِنَّا
__________
(1) حديث: " من يشاء أن يجمع فليجمع ". أخرجه أحمد (4 / 372 - ط. الميمنية) من حديث زيد بن أرقم ونقل ابن حجر في التلخيص (2 / 88 - ط. شركة الطباعة الفنية) عن ابن المنذر أنه أعله بجهالة راويه عن زيد بن أرقم، ثم ذكر شواهد له منها الحديث الآتي ذكره.

(27/209)


مُجَمِّعُونَ (1) .
وَلأَِنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا لاَمْتَنَعَ فِعْلُهَا فِي حَقِّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَمَنْ يُرِيدُهَا مِمَّنْ سَقَطَتْ عَنْهُ، وَقَالُوا: إِنْ قَدَّمَ الْجُمُعَةَ فَصَلاَّهَا فِي وَقْتِ الْعِيدِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ قَال: تُجْزِئُ الأُْولَى مِنْهُمَا. فَعَلَى هَذَا: تُجْزِيهِ عَنِ الْعِيدِ وَالظُّهْرِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إِلَى الْعَصْرِ عِنْدَ مَنْ جَوَّزَ الْجُمُعَةَ فِي وَقْتِ الْعِيدِ.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُوَافِقُ فِيهِ الْعِيدُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لأَِهْل الْقَرْيَةِ الَّذِينَ يَبْلُغُهُمُ النِّدَاءُ لِصَلاَةِ الْعِيدِ: الرُّجُوعُ وَتَرْكُ الْجُمُعَةِ، وَذَلِكَ فِيمَا لَوْ حَضَرُوا لِصَلاَةِ الْعِيدِ وَلَوْ رَجَعُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَاتَتْهُمُ الْجُمُعَةُ؛ فَيُرَخَّصُ لَهُمْ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِمْ. وَمِنْ ثَمَّ لَوْ تَرَكُوا الْمَجِيءَ لِلْعِيدِ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْحُضُورُ لِلْجُمُعَةِ، وَيُشْتَرَطُ - أَيْضًا - لِتَرْكِ الْجُمُعَةِ أَنْ يَنْصَرِفُوا قَبْل دُخُول وَقْتِ الْجُمُعَةِ (2) .

آدَابُ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَيَوْمُهَا:
اخْتَصَّ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَاخْتَصَّتْ صَلاَتُهَا
__________
(1) حديث: " اجتمع في يومكم هذا عيدان من شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون ". أخرجه أبو داود (1 / 647 تحقيق عزت عبيد دعاس) وصحح الدارقطني إرساله، كذا في التلخيص لابن حجر (2 / 88) ولكنه ذكر شواهد تقويه.
(2) تبيين الحقائق 2 / 224، حاشية الدسوقي 1 / 391، البجيرمي على الخطيب (2 / 167 ط. مصطفى الحلبي 1951 م) ، كشاف القناع 2 / 40، والمغني 2 / 358 - 359.

(27/209)


بِآدَابٍ تَشْمَل مَجْمُوعَةَ أَفْعَالٍ وَتُرُوكٍ، مُجْمَلُهَا فِيمَا يَلِي: -

أَوَّلاً: مَا يُسَنُّ فِعْلُهُ:
38 - يُسَنُّ لَهُ أَنْ يَغْتَسِل، وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا وَيَتَجَمَّل، وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَرْفُوعًا: لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا (1) ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: الْغُسْل لَهَا وَاجِبٌ.
قَال صَاحِبُ الْبَدَائِعِ فِي بَيَانِ عِلَّةِ ذَلِكَ: لأَِنَّ الْجُمُعَةَ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُقِيمُ لَهَا عَلَى أَحْسَنِ وَصْفٍ (2) كَمَا يُسَنُّ التَّبْكِيرُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْجَامِعِ وَالاِشْتِغَال بِالْعِبَادَةِ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ الْخَطِيبُ (3) .
وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا اتَّفَقَتِ الأَْئِمَّةُ عَلَى نَدْبِهِ، وَانْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ - أَيْضًا - فَاشْتَرَطُوا فِي الْغُسْل أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلاً بِوَقْتِ الذَّهَابِ إِلَى الْجَامِعِ، قَال فِي الْجَوَاهِرِ الزَّكِيَّةِ: فَإِنِ اغْتَسَل وَاشْتَغَل بِغِذَاءٍ أَوْ نَوْمٍ أَعَادَ الْغُسْل عَلَى الْمَشْهُورِ، فَإِذَا خَفَّ الأَْكْل، أَوِ النَّوْمُ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ (4) .
__________
(1) حديث: " لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 385 - ط. السلفية) ومسلم (2 / 581 - ط. الحلبي) .
(2) بدائع الصنائع 1 / 272، شرح الروض المربع 2 / 470.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 578، والمرجع السابق.
(4) الجواهر الزكية ص 124.

(27/210)


ثَانِيًا: مَا يُسَنُّ تَرْكُهُ:
39 - أَوَّلاً: أَكْل كُل ذِي رِيحٍ كَرِيهَةٍ: كَثُومٍ وَبَصَلٍ وَنَحْوِهِمَا.
40 - ثَانِيًا: تَخَطِّي الرِّقَابِ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ إِذَا كَانَ الْخَطِيبُ قَدْ أَخَذَ فِي الْخُطْبَةِ، إِلاَّ أَنْ لاَ يَجِدَ إِلاَّ فُرْجَةً أَمَامَهُ وَلاَ سَبِيل إِلَيْهَا إِلاَّ بِتَخَطِّي الرِّقَابِ، فَيُرَخَّصُ فِي ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ (1) .
41 - ثَالِثًا: تَجَنُّبُ الاِحْتِبَاءِ وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ. وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، حَيْثُ صَرَّحُوا بِكَرَاهَتِهِ. قَال النَّوَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ فَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْحَبْوَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ (2)
وَقَال الْخَطَّابِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: نَهَى عَنْهُ لأَِنَّهُ يَجْلُبُ النَّوْمَ، فَيُعَرِّضُ طَهَارَتَهُ لِلنَّقْضِ وَيَمْنَعُهُ مِنَ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ. وَلَمْ يَرَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِهِ بَأْسًا حَيْثُ صَرَّحُوا بِجَوَازِهِ (3) (ر: احْتِبَاء) كَمَا صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِكَرَاهَةِ تَشْبِيكِ الأَْصَابِعِ. قَال النَّوَوِيُّ: يُكْرَهُ أَنْ يُشَبِّكَ بَيْنَ
__________
(1) راجع الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 1 / 578، وحاشية الدسوقي 1 / 390.
(2) حديث: " نهى عن الحبوة يوم الجمعة ". أخرجه الترمذي (2 / 390، - ط. الحلبي) من حديث معاذ بن أنس، وقال: حديث حسن.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 148، حاشية الدسوقي 1 / 385، روضة الطالبين 2 / 33، كشاف القناع 2 / 37.

(27/210)


أَصَابِعِهِ أَوْ يَعْبَثُ حَال ذَهَابِهِ إِلَى الْجُمُعَةِ وَانْتِظَارِهِ لَهَا (1)
42 - يَحْرُمُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِنْشَاءُ سَفَرٍ بَعْدَ الزَّوَال (وَهُوَ أَوَّل وَقْتِ الْجُمُعَةِ) مِنَ الْمِصْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، إِذَا كَانَ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَنْ يُدْرِكَ أَدَاءَهَا فِي مِصْرٍ آخَرَ. فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ فَهُوَ آثِمٌ عَلَى الرَّاجِحِ مَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِتَخَلُّفِهِ عَنْ رُفْقَتِهِ. وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - حَيْثُ صَرَّحُوا بِحُرْمَةِ السَّفَرِ بَعْدَ الزَّوَال. كَمَا صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ السَّفَرِ بَعْدَ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: إِلَى أَنَّ حُرْمَةَ السَّفَرِ تَبْدَأُ مِنْ وَقْتِ الْفَجْرِ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي الْمَذْهَبِ، وَدَلِيلُهُ: أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الْجُمُعَةِ مُضَافَةٌ إِلَى الْيَوْمِ كُلِّهِ لاَ إِلَى خُصُوصِ وَقْتِ الظُّهْرِ، بِدَلِيل وُجُوبِ السَّعْيِ إِلَيْهَا قَبْل الزَّوَال عَلَى بَعِيدِ الدَّارِ (3) .

صَلاَةُ الْجِنَازَةِ

انْظُرْ: جَنَائِز
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 47.
(2) انظر الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 1 / 553، حاشية الدسوقي 1 / 387، كشاف القناع 2 / 25.
(3) القليوبي وعميرة 1 / 270.

(27/211)


صَلاَةُ الْحَاجَةِ

التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّلاَةُ يُنْظَرُ تَعْرِيفُهَا فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَة)
وَالْحَاجَةُ فِي اللُّغَةِ: الْمَأْرَبَةُ، وَالتَّحَوُّجُ:
طَلَبُ الْحَاجَةِ بَعْدَ الْحَاجَةِ، وَالْحَوْجُ: الطَّلَبُ، وَالْحَوْجُ: الْفَقْرُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ الْحَاجَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
وَلِلأُْصُولِيَّيْنِ تَعْرِيفٌ خَاصٌّ لِلْحَاجَةِ:
فَقَدْ عَرَّفَهَا الشَّاطِبِيُّ فَقَال: هِيَ مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ التَّوْسِعَةُ وَرَفْعُ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إِلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ اللاَّحِقَةِ بِفَوْتِ الْمَصْلَحَةِ، فَإِذَا لَمْ تُرَاعَ دَخَل عَلَى الْمُكَلَّفِينَ - عَلَى الْجُمْلَةِ - الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ
(ر: حَاجَة ف 1 مِنَ الْمَوْسُوعَةِ ج 16) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ صَلاَةَ الْحَاجَةِ مُسْتَحَبَّةٌ.
__________
(1) لسان العرب والمعجم الوسيط.
(2) ابن عابدين 2 / 6.

(27/211)


وَاسْتَدَلُّوا بِمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ إِلَى اللَّهِ حَاجَةٌ أَوْ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فَلْيَتَوَضَّأْ فَلْيُحْسِنِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ لْيُصَل رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ لْيُثْنِ عَلَى اللَّهِ، وَلْيُصَل عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لْيَقُل: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُل بِرٍّ، وَالسَّلاَمَةَ مِنْ كُل إِثْمٍ، لاَ تَدَعْ لِي ذَنْبًا إِلاَّ غَفَرْتَهُ، وَلاَ هَمًّا إِلاَّ فَرَّجْتَهُ، وَلاَ حَاجَةً هِيَ لَكَ رِضًا إِلاَّ قَضَيْتَهَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ (1) .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ: ثُمَّ يَسْأَل مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ مَا شَاءَ فَإِنَّهُ يُقَدَّرُ (2) .

كَيْفِيَّةُ صَلاَةِ الْحَاجَةِ (عَدَدُ الرَّكَعَاتِ وَصِيَغُ الدُّعَاءِ) :
3 - اخْتُلِفَ فِي عَدَدِ رَكَعَاتِ صَلاَةِ الْحَاجَةِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ
__________
(1) حديث: " من كانت له إلى الله حاجة. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 344 ط الحلبي) وابن ماجه (1 / 441 - ط الحلبي) وقال الترمذي: " حديث غريب، وفي إسناده مقال، فائد بن عبد الرحمن يضعف في الحديث ".
(2) أسنى المطالب 1 / 205، وكشاف القناع 1 / 443، وابن عابدين 1 / 462، والترغيب والترهيب 1 / 476، والدسوقي 1 / 314.

(27/212)


الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا رَكْعَتَانِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا: أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ وَهُوَ قَوْل الْغَزَالِيِّ: إِنَّهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً وَذَلِكَ لاِخْتِلاَفِ الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، كَمَا تَنَوَّعَتْ صِيَغُ الدُّعَاءِ لِتَعَدُّدِ الرِّوَايَاتِ (1) .
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

أَوَّلاً: رِوَايَاتُ الرَّكْعَتَيْنِ وَفِيهَا اخْتِلاَفُ الدُّعَاءِ:
4 - رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَفِيهَا أَنَّ صَلاَةَ الْحَاجَةِ رَكْعَتَانِ مَعَ ذِكْرِ الدُّعَاءِ الَّذِي أَرْشَد إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا فِي الْحُكْمِ (ف 2) .
5 - حَدِيثُ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَفْظُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يَا عَلِيُّ: أَلاَ أُعَلِّمُكَ دُعَاءً إِذَا أَصَابَكَ غَمٌّ أَوْ هَمٌّ تَدْعُو بِهِ رَبَّكَ فَيُسْتَجَابُ لَكَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيُفْرَجُ عَنْكَ: تَوَضَّأْ وَصَل رَكْعَتَيْنِ، وَاحْمَدِ اللَّهَ وَاثْنِ عَلَيْهِ وَصَل عَلَى نَبِيِّكَ وَاسْتَغْفِرْ لِنَفْسِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ قُل: اللَّهُمَّ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 462، والترغيب والترهيب 1 / 473 - 478، والمراجع السابقة.

(27/212)


وَرَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، اللَّهُمَّ كَاشِفَ الْغَمِّ، مُفَرِّجَ الْهَمِّ مُجِيبَ دَعْوَةِ الْمُضْطَرِّينَ إِذَا دَعَوْكَ، رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَرَحِيمُهُمَا، فَارْحَمْنِي فِي حَاجَتِي هَذِهِ بِقَضَائِهَا وَنَجَاحِهَا رَحْمَةً تُغْنِينِي بِهَا عَنْ رَحْمَةِ مَنْ سِوَاكَ (1) .

ثَانِيًا: رِوَايَةُ الأَْرْبَعِ:
6 - وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ التَّجْنِيسِ وَغَيْرِهِ: إِنَّ صَلاَةَ الْحَاجَةِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَأَنَّ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: يَقْرَأُ فِي الأُْولَى الْفَاتِحَةَ مَرَّةً وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ ثَلاَثًا، وَفِي كُلٍّ مِنَ الثَّلاَثِ الْبَاقِيَةِ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَالإِْخْلاَصَ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ مَرَّةً مَرَّةً كُنَّ لَهُ مِثْلُهُنَّ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: قَال مَشَايِخُنَا: صَلَّيْنَا هَذِهِ الصَّلاَةَ فَقُضِيَتْ حَوَائِجُنَا (2) .

ثَالِثًا: رِوَايَةُ الاِثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَالدُّعَاءُ الْوَارِدُ فِيهَا:
7 - رُوِيَ عَنْ وُهَيْبٍ بْنِ الْوَرْدِ أَنَّهُ قَال: إِنَّ مِنَ الدُّعَاءِ الَّذِي لاَ يُرَدُّ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَبْدُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً يَقْرَأُ فِي كُل رَكْعَةٍ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَآيَةِ
__________
(1) أورده المنذري في الترغيب والترهيب 1 / 477، وعزاه إلى الأصفهاني في الترغيب له كذلك.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 462.

(27/213)


الْكُرْسِيِّ {وَقُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، فَإِنْ فَرَغَ خَرَّ سَاجِدًا، ثُمَّ قَال: سُبْحَانَ الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّ وَقَال بِهِ، سُبْحَانَ الَّذِي تَعَطَّفَ بِالْمَجْدِ وَتَكَرَّمَ بِهِ، سُبْحَانَ الَّذِي أَحْصَى كُل شَيْءٍ بِعِلْمِهِ، سُبْحَانَ الَّذِي لاَ يَنْبَغِي التَّسْبِيحُ إِلاَّ لَهُ، سُبْحَانَ ذِي الْمَنِّ وَالْفَضْل، سُبْحَانَ ذِي الْعِزِّ وَالْكَرَمِ، سُبْحَانَ ذِي الطَّوْل، أَسْأَلُكَ بِمَعَاقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِكَ، وَمُنْتَهَى الرَّحْمَةِ مِنْ كِتَابِكَ وَبِاسْمِكَ الأَْعْظَمِ وَجَدِّكَ الأَْعْلَى، وَكَلِمَاتِكَ التَّامَّاتِ الْعَامَّاتِ الَّتِي لاَ يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلاَ فَاجِرٌ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ: ثُمَّ يَسْأَل حَاجَتَهُ الَّتِي لاَ مَعْصِيَةَ فِيهَا، فَيُجَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ (1) .

صَلاَةُ الْخُسُوفِ

انْظُرْ: صَلاَةُ الْكُسُوفِ
__________
(1) إحياء علوم الدين 1 / 206 - 207.

(27/213)


صَلاَةُ الْخَوْفِ

التَّعْرِيفُ:
1 - تَعْرِيفُ الصَّلاَةِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةٌ) .
أَمَّا الْخَوْفُ: فَهُوَ تَوَقُّعُ مَكْرُوهٍ عَنْ أَمَارَةٍ مَظْنُونَةٍ أَوْ مُتَحَقَّقَةٍ، وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْخَائِفِ، أَوْ بِحَذْفِ مُضَافٍ: الصَّلاَةُ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ (1) وَيُطْلَقُ عَلَى الْقِتَال، وَبِهِ فَسَّرَ اللِّحْيَانِيُّ قَوْله تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} (2) الآْيَةَ كَمَا فَسَّرَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَْمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} (3) .
وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ إِضَافَةِ الصَّلاَةِ إِلَى الْخَوْفِ أَنَّ الْخَوْفَ يَقْتَضِي صَلاَةً مُسْتَقِلَّةً كَقَوْلِنَا: صَلاَةُ الْعِيدِ، وَلاَ أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي قَدْرِ الصَّلاَةِ وَوَقْتِهَا كَالسَّفَرِ، فَشُرُوطُ الصَّلاَةِ، وَأَرْكَانُهَا، وَسُنَنُهَا، وَعَدَدُ رَكَعَاتِهَا فِي الْخَوْفِ كَمَا فِي الأَْمْنِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ الْخَوْفَ يُؤَثِّرُ فِي كَيْفِيَّةِ إِقَامَةِ الْفَرَائِضِ إِذَا صُلِّيَتْ جَمَاعَةً، وَأَنَّ
__________
(1) البجيرمي على الخطيب 2 / 222، ولسان العرب.
(2) سورة البقرة / 155.
(3) سورة النساء / 83.

(27/214)


الصَّلاَةَ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ تَحْتَمِل أُمُورًا لَمْ تَكُنْ تَحْتَمِلْهَا فِي الأَْمْنِ، وَصَلاَةُ الْخَوْفِ هِيَ: الصَّلاَةُ الْمَكْتُوبَةُ يَحْضُرُ وَقْتُهَا وَالْمُسْلِمُونَ فِي مُقَاتَلَةِ الْعَدُوِّ أَوْ فِي حِرَاسَتِهِمْ (1) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ صَلاَةِ الْخَوْفِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ، وَإِلَى أَنَّهَا لاَ تَزَال مَشْرُوعَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ، قَال تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} (2) الآْيَةَ.
وَخِطَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِطَابٌ لأُِمَّتِهِ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ، وَتَخْصِيصُهُ بِالْخِطَابِ لاَ يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِالْحُكْمِ، كَمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْقَوْلِيَّةِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (3) وَهُوَ عَامٌّ.
وَالسُّنَّةِ الْفِعْلِيَّةِ فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلاَّهَا، وَبِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ،
__________
(1) البدائع 1 / 243، وكفاية الطالب الرباني وشرحه بحاشية العدوي 1 / 296، روضة الطالبين 2 / 49، المجموع 4 / 404، بجيرمي على الخطيب 2 / 222، المغني 2 / 402، كشاف القناع 2 / 15.
(2) سورة النساء / 102.
(3) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". أخرجه البخاري (الفتح2 / 111 - ط السلفية) من حديث مالك بن الحويرث.

(27/214)


فَقَدْ ثَبَتَ بِالآْثَارِ الصَّحِيحَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ صَلَّوْهَا فِي مَوَاطِنَ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجَامِعَ بِحَضْرَةِ كِبَارٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمِمَّنْ صَلاَّهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حُرُوبِهِ بِصِفِّينَ وَغَيْرِهَا، وَحَضَرَهَا مِنَ الصُّحْبَةِ خَلاَئِقُ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ: سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبُو مُوسَى الأَْشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَدْ رَوَى أَحَادِيثَهُمُ الْبَيْهَقِيُّ وَبَعْضُهَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد.
وَلَمْ يَقُل أَحَدٌ مِنْ هَؤُلاَءِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ رَأَوْا صَلاَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَوْفِ بِتَخْصِيصِهَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحْتَجَّ بِالآْيَةِ السَّابِقَةِ (1)
وَذَهَبَ الْمُزَنِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ صَلاَةَ الْخَوْفِ كَانَتْ مَشْرُوعَةً ثُمَّ نُسِخَتْ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَلَوْ كَانَتْ صَلاَةُ الْخَوْفِ جَائِزَةً لَفَعَلَهَا (2) .

مَوَاطِنُ جَوَازِ صَلاَةِ الْخَوْفِ:
3 - تَجُوزُ صَلاَةُ الْخَوْفِ عِنْدَ شِدَّةِ الْخَوْفِ فِي
__________
(1) المجموع 4 / 404، 405، روضة الطالبين 2 / 49، كشاف القناع 2 / 10، المغني 2 / 400، بدائع 1 / 242 - 243، الفروع 2 / 75، بلغة السالك على الشرح الصغير 1 / 185.
(2) المصادر السابقة.

(27/215)


قِتَال الْحَرْبِيِّينَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} (1) الآْيَةَ، وَكَذَلِكَ تَجُوزُ فِي كُل قِتَالٍ مُبَاحٍ، كَقِتَال أَهْل الْبَغْيِ، وَقُطَّاعِ الطُّرُقِ، وَقِتَال مَنْ قَصَدَ إِلَى نَفْسِ شَخْصٍ، أَوْ أَهْلِهِ أَوْ مَالِهِ، قِيَاسًا عَلَى قِتَال الْحَرْبِيِّينَ، وَجَاءَ فِي الأَْثَرِ: مَنْ قُتِل دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ. وَمَنْ قُتِل دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ. وَمَنْ قُتِل دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ. وَمَنْ قُتِل دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ (2) .
وَالرُّخْصَةُ فِي هَذَا النَّوْعِ لاَ تَخْتَصُّ بِالْقِتَال، بَل مُتَعَلِّقٌ بِالْخَوْفِ مُطْلَقًا (3) . فَلَوْ هَرَبَ مِنْ سَيْلٍ، أَوْ حَرِيقٍ وَلَمْ يَجِدْ مَعْدِلاً عَنْهُ، أَوْ هَرَبَ مِنْ سَبُعٍ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلاَةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ وَخَافَ فَوْتَ الصَّلاَةِ، وَكَذَا الْمَدْيُونُ الْمُعْسِرُ الْعَاجِزُ عَنْ إِثْبَاتِ إِعْسَارِهِ، وَلاَ يُصَدِّقُهُ الْمُسْتَحِقُّ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ ظَفِرَ بِهِ حَبَسَهُ (4) .
__________
(1) سورة النساء / 102.
(2) حديث: " من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 30 - ط الحلبي) من حديث سعيد بن زيد، وقال: حديث حسن صحيح.
(3) المصادر السابقة، وروضة الطالبين 2 / 62.
(4) روضة الطالبين 2 / 62، المغني 2 / 417 ط الرياض، والشرح الصغير 1 / 223 مطبعة المدني، روض الطالب 1 / 274.

(27/215)


وَلاَ تَجُوزُ فِي الْقِتَال الْمُحَرَّمِ كَقِتَال أَهْل الْعَدْل، وَقِتَال أَهْل الأَْمْوَال لأَِخْذِ أَمْوَالِهِمْ، وَقِتَال الْقَبَائِل عَصَبِيَّةً، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهَا رُخْصَةٌ وَتَخْفِيفٌ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِهَا الْعُصَاةُ؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ إِعَانَةً عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَتَجُوزُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، وَالْفَرْضِ، وَالنَّفَل غَيْرِ الْمُطْلَقِ، وَالأَْدَاءِ، وَالْقَضَاءِ (1) .

كَيْفِيَّةُ صَلاَةِ الْخَوْفِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ صَلاَةِ الْخَوْفِ؛ لِتَعَدُّدِ الرِّوَايَاتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَيْفِيَّتِهَا، وَأَخَذَ كُل صِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ. كَمَا اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الأَْنْوَاعِ الْوَارِدَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الأَْنْوَاعَ الَّتِي جَاءَتْ فِي الأَْخْبَارِ سِتَّةَ عَشَرَ نَوْعًا، كَمَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ، وَبَعْضُهَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَبَعْضُهَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَفِي ابْنِ حِبَّانَ مِنْهَا تِسْعَةٌ.
وَقَال ابْنُ الْقَصَّارِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَّهَا فِي عَشْرَةِ مَوَاطِنَ، وَقَال أَحْمَدُ: أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي سِتَّةِ أَوْجُهٍ أَوْ سَبْعَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْصَل أَنْوَاعَهَا إِلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ نَوْعًا، وَكُلُّهَا جَائِزٌ، فَقَال أَحْمَدُ: كُل حَدِيثٍ يُرْوَى
__________
(1) المصادر السابقة.

(27/216)


فِي أَبْوَابِ صَلاَةِ الْخَوْفِ فَالْعَمَل بِهِ جَائِزٌ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلاَّهَا فِي مَرَّاتٍ، وَأَيَّامٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَشْكَالٍ مُتَبَايِنَةٍ، يَتَحَرَّى فِي كُلِّهَا مَا هُوَ أَحْوَطُ لِلصَّلاَةِ، وَأَبْلَغُ فِي الْحِرَاسَةِ، فَهِيَ عَلَى اخْتِلاَفِ صُوَرِهَا مُتَّفِقَةٌ فِي الْمَعْنَى (1) .

عَدَدُ رَكَعَاتِ صَلاَةِ الْخَوْفِ:
5 - لاَ يُنْتَقَصُ عَدَدُ رَكَعَاتِ الصَّلاَةِ بِسَبَبِ الْخَوْفِ، فَيُصَلِّي الإِْمَامُ بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، إِنْ كَانُوا مُسَافِرِينَ وَأَرَادُوا قَصْرَ الصَّلاَةِ، أَوْ كَانَتِ الصَّلاَةُ مِنْ ذَوَاتِ رَكْعَتَيْنِ، كَصَلاَةِ الْفَجْرِ، أَوِ الْجُمُعَةِ، وَيُصَلِّي بِهِمْ ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا إِنْ كَانَتِ الصَّلاَةُ مِنْ ذَوَاتِ الثَّلاَثِ، أَوِ الأَْرْبَعِ وَكَانُوا مُقِيمِينَ، أَوْ مُسَافِرِينَ أَرَادُوا الإِْتْمَامَ.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ قَوْل عَامَّةِ الصَّحَابَةِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَقُول: " إِنَّ صَلاَةَ الْخَوْفِ رَكْعَةٌ (2) .

بَعْضُ الأَْنْوَاعِ الْمَرْوِيَّةِ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ:
6 - الأَْوَّل: صَلاَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِذَاتِ الرِّقَاعِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 242، نيل الأوطار جـ 4 في باب صلاة الخوف، مغني المحتاج 1 / 301، المغني 2 / 412.
(2) نيل الأوطار 4 / 4، روضة الطالبين 2 / 49، بدائع الصنائع 1 / 243، المغني 2 / 401.

(27/216)


فَيُفَرِّقُ الإِْمَامُ الْجَيْشَ إِلَى فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٍ تَحْمِل فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَفِرْقَةٍ يَنْحَازُ بِهَا إِلَى حَيْثُ لاَ تَبْلُغُهُمْ سِهَامُ الْعَدُوِّ، فَيَفْتَتِحُ بِهِمُ الصَّلاَةَ، وَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً فِي الثُّنَائِيَّةِ: الصُّبْحِ وَالْمَقْصُورَةِ، وَرَكْعَتَيْنِ فِي الثُّلاَثِيَّةِ وَالرُّبَاعِيَّةِ، هَذَا الْقَدْرُ مِنْ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الأَْرْبَعَةُ عَلَيْهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَفْعَل بَعْدَ ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَامَ إِلَى الثَّانِيَةِ فِي الثُّنَائِيَّةِ، وَإِلَى الثَّالِثَةِ فِي الثُّلاَثِيَّةِ وَالرُّبَاعِيَّةِ خَرَجَ الْمُقْتَدُونَ عَنْ مُتَابَعَتِهِ، وَأَتَمُّوا الصَّلاَةَ لأَِنْفُسِهِمْ، وَذَهَبُوا إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَتَأْتِي الطَّائِفَةُ الْحَارِسَةُ. وَيُطِيل الإِْمَامُ إِلَى لُحُوقِهِمْ، فَإِذَا لَحِقُوهُ صَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ فِي الثُّنَائِيَّةِ، وَالثَّالِثَةَ فِي الثُّلاَثِيَّةِ، وَالثَّالِثَةَ وَالرَّابِعَةَ فِي الرُّبَاعِيَّةِ مِنْ صَلاَتِهِ، فَإِذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ قَامُوا وَأَتَمُّوا الصَّلاَةَ، وَالإِْمَامُ يَنْتَظِرُهُمْ، فَإِذَا لَحِقُوهُ سَلَّمَ بِهِمْ.
إِلاَّ أَنَّ مَالِكًا قَال: يُسَلِّمُ الإِْمَامُ وَلاَ يَنْتَظِرُهُمْ، فَإِذَا سَلَّمَ قَضَوْا مَا فَاتَهُمْ مِنَ الصَّلاَةِ مِنْ رَكْعَةٍ، أَوْ رَكْعَتَيْنِ بِفَاتِحَةٍ وَسُورَةٍ جَهْرًا فِي الْجَهْرِيَّةِ.
وَقَدِ اخْتَارَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ هَذِهِ الصِّفَةَ لِسَلاَمَتِهَا مِنْ كَثْرَةِ الْمُخَالَفَةِ وَلأَِنَّهَا أَحْوَطُ لأَِمْرِ

(27/217)


الْحَرْبِ، وَأَقَل مُخَالَفَةً لِقَاعِدَةِ الصَّلاَةِ (1) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا قَامَ إِلَى الثَّانِيَةِ لَمْ يُتِمَّ الْمُقْتَدُونَ بِهِ الصَّلاَةَ بَل يَذْهَبُونَ إِلَى مَكَانِ الْفِرْقَةِ الْحَارِسَةِ وَهُمْ فِي الصَّلاَةِ فَيَقِفُونَ سُكُوتًا، وَتَأْتِي تِلْكَ الطَّائِفَةُ وَتُصَلِّي مَعَ الإِْمَامِ رَكْعَتَهُ الثَّانِيَةَ فَإِذَا سَلَّمَ ذَهَبَتْ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَجَاءَ الأَْوَّلُونَ إِلَى مَكَانِ الصَّلاَةِ وَأَتَمُّوا أَفْذَاذًا، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الأُْخْرَى، وَصَلَّوْا مَا بَقِيَ لَهُمْ مِنَ الصَّلاَةِ وَتَشَهَّدُوا وَسَلَّمُوا (2) .
وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
7 - الثَّانِي: أَنْ يَجْعَل الإِْمَامُ الْجَيْشَ فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةً فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَفِرْقَةً يُحْرِمُ بِهَا، وَيُصَلِّي بِهِمْ جَمِيعَ الصَّلاَةِ، رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ، أَمْ ثَلاَثًا، أَمْ أَرْبَعًا، فَإِذَا سَلَّمَ بِهِمْ ذَهَبُوا إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ وَجَاءَتِ الْفِرْقَةُ الأُْخْرَى فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلْكَ الصَّلاَةَ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَتَكُونُ لَهُ نَافِلَةً، وَلَهُمْ فَرِيضَةٌ، وَهَذِهِ صَلاَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَطْنِ نَخْلٍ، وَتُنْدَبُ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَكَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ كَثْرَةٌ وَالْعَدُوُّ قَلِيلٌ وَخِيفَ هُجُومُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ (3) وَلاَ يَقُول بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ مِنَ الأَْئِمَّةِ
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 52، المغني 2 / 402، الشرح الصغير 2 / 2 عيسى البابي الحلبي.
(2) البدائع 1 / 242، الهداية 1 / 85، فتح القدير 2 / 64.
(3) روضة الطالبين 2 / 49، المجموع 4 / 407، المحلى على المنهاج 1 / 297، أسنى المطالب 1 / 270، المغني 2 / 412.

(27/217)


مَنْ لاَ يُجِيزُ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُنْتَفِل (1) .
8 - الثَّالِثُ: أَنْ يُرَتِّبَهُمُ الإِْمَامُ صَفَّيْنِ، وَيُحْرِمَ بِالْجَمِيعِ فَيُصَلُّونَ مَعًا، يَقْرَأَ وَيَرْكَعَ، وَيَعْتَدِل بِهِمْ جَمِيعًا، ثُمَّ يَسْجُدَ بِأَحَدِهِمَا، وَتَحْرُسُ الأُْخْرَى حَتَّى يَقُومَ الإِْمَامُ مِنْ سُجُودِهِ، ثُمَّ يَسْجُدُ الآْخَرُونَ، وَيَلْحَقُونَهُ فِي قِيَامِهِ، وَيَفْعَل فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ يَحْرُسُ فِيهَا مَنْ سَجَدَ مَعَهُ أَوَّلاً، وَيَتَشَهَّدَ، وَيُسَلِّمَ بِهِمْ جَمِيعًا، وَهَذِهِ صَلاَتُهُ بِعُسْفَانَ.
وَيُشْتَرَطُ فِي اسْتِحْبَابِ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ: كَثْرَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَكَوْنُ الْعَدُوِّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ غَيْرَ مُسْتَتِرٍ بِشَيْءٍ يَمْنَعُ رُؤْيَتَهُ.
وَلَهُ أَنْ يُرَتِّبَهُمْ صُفُوفًا، ثُمَّ يَحْرُسَ صَفَّانِ، فَإِنْ حَرَسَ بَعْضٌ كُل صَفٍّ بِالْمُنَاوَبَةِ جَازَ، وَكَذَا لَوْ حَرَسَتْ طَائِفَةٌ فِي الرَّكْعَتَيْنِ؛ لِحُصُول الْغَرَضِ بِكُل ذَلِكَ، وَالْمُنَاوَبَةُ أَفْضَل؛ لأَِنَّهَا الثَّابِتَةُ فِي الْخَبَرِ، وَلَوْ تَأَخَّرَ الصَّفُّ الثَّانِي الَّذِي حَرَسَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ لِيَسْجُدُوا، وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الأَْوَّل الَّذِي سَجَدَ أَوَّلاً لِيَحْرُسَ وَلَمْ يَمْشُوا أَكْثَرَ مِنْ خُطْوَتَيْنِ كَانَ أَفْضَل؛ لأَِنَّهُ الثَّابِتُ فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ (2) .
هَذِهِ الصِّفَةُ رَوَاهَا جَابِرٌ، قَال: شَهِدْتُ
__________
(1) البدائع 1 / 244.
(2) البدائع 1 / 244، روض الطالب، 1 / 270، روضة الطالبين 2 / 50، المغني 2 / 412.

(27/218)


مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَةَ الْخَوْفِ، فَصَفَّنَا صَفَّيْنِ: صَفٌّ خَلْفَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَبَّرْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَرَفَعْنَا جَمِيعًا. ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّجُودَ وَقَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ وَقَامُوا، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الْمُتَقَدِّمُ، ثُمَّ رَكَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ، وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ الَّذِي كَانَ مُؤَخَّرًا فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نُحُورِ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّجُودَ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا (1) .
وَهَذِهِ الأَْنْوَاعُ الثَّلاَثَةُ مُسْتَحَبَّةٌ لاَ وَاجِبَةٌ، فَلَوْ صَلَّوْا فُرَادَى أَوِ انْفَرَدَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الإِْمَامِ، أَوْ صَلَّى الإِْمَامُ بِبَعْضِهِمْ كُل الصَّلاَةِ، وَبِالْبَاقِينَ غَيْرَهُ جَازَ، وَلَكِنْ تَفُوتُ
__________
(1) حديث: جابر بن عبد الله: " شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ". أخرجه مسلم (1 / 574 - 575 - ط الحلبي) .

(27/218)


فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْمُنْفَرِدِ (1) .

9 - الرَّابِعُ: صَلاَةُ شِدَّةِ الْخَوْفِ: إِذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ فَمَنَعَهُمْ مِنْ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَمْ يُمْكِنْ قَسْمُ الْجَمَاعَةِ؛ لِكَثْرَةِ الْعَدُوِّ، وَرَجَوْا انْكِشَافَهُ قَبْل خُرُوجِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ، بِحَيْثُ يُدْرِكُونَ الصَّلاَةَ فِيهِ، أَخَّرُوا اسْتِحْبَابًا.
فَإِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ الصَّلاَةَ صَلَّوْا إِيمَاءً، وَإِلاَّ صَلَّوْا فُرَادَى بِقَدْرِ طَاقَتِهِمْ، فَإِنْ قَدَرُوا عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَعَلُوا ذَلِكَ، أَوْ صَلَّوْا مُشَاةً أَوْ رُكْبَانًا، مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا، ثُمَّ لاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِمْ إِذَا أَمِنُوا، لاَ فِي الْوَقْتِ وَلاَ بَعْدَهُ.
وَالأَْصْل فِيمَا ذُكِرَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} (2) . وَقَال ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالاً قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ، أَوْ رُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ، أَوْ غَيْرِ مُسْتَقْبِلِيهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَزَادَ الْبُخَارِيُّ قَال نَافِعٌ: لاَ أَرَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَال ذَلِكَ إِلاَّ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3)
__________
(1) روض الطالب 1 / 272، روضة الطالبين 2 / 50، كشاف القناع 2 / 11 - 12 حاشية الدسوقي 1 / 393.
(2) سورة البقرة / 239.
(3) حديث ابن عمر: " فإن كان خوف أشد من ذلك ". أخرجه البخاري (الفتح 8 / 199 - ط السلفية) ومسلم (1 / 574 - ط الحلبي) .

(27/219)


وَإِنْ عَجَزُوا عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَوْمَئُوا بِهِمَا، وَأَتَوْا بِالسُّجُودِ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ.
وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (1) .

10 - وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْقِتَال فِي الصَّلاَةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْقِتَال فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الشَّدِيدَةِ فِي الصَّلاَةِ، وَيُعْفَى عَمَّا فِيهِ مِنَ الْحَرَكَاتِ، مِنَ الضَّرَبَاتِ وَالطَّعَنَاتِ الْمُتَوَالِيَاتِ، وَالإِْمْسَاكِ بِسِلاَحٍ مُلَطَّخٍ بِالدَّمِ؛ لِلْحَاجَةِ؛ وقَوْله تَعَالَى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} (2) وَأَخْذُ السِّلاَحِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ لِلْقِتَال، وَقِيَاسًا عَلَى الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ اللَّذَيْنِ جَاءَا فِي الآْيَةِ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ الصَّلاَةِ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ: أَلاَّ يُقَاتِل، فَإِنْ قَاتَل فَسَدَتْ صَلاَتُهُ، وَقَالُوا: لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُغِل عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَضَاهُنَّ فِي اللَّيْل (4) وَقَال: شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 60، روض الطالب 2 / 273، كشاف القناع 2 / 18، المغني 2 / 416، بلغة السالك على الشرح الصغير 1 / 186، بدائع الصنائع 1 / 244.
(2) سورة النساء / 102.
(3) القليوبي 1 / 300، روضة الطالبين 2 / 60، المغني 2 / 416، بلغة السالك 1 / 186.
(4) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم شغل عن أربع صلوات يوم الخندق ". أخرجه النسائي (2 / 17 ط المكتبة التجارية) من حديث أبي سعيد الخدري، وإسناده صحيح.

(27/219)


الْوُسْطَى حَتَّى آبَتِ الشَّمْسُ مَلأََ اللَّهُ قُبُورَهُمْ نَارًا أَوْ بُيُوتَهُمْ أَوْ بُطُونَهُمْ (1) فَلَوْ جَازَ الْقِتَال فِي الصَّلاَةِ لَمَا أَخَّرَهَا؛ وَلأَِنَّ إِدْخَال عَمَلٍ كَثِيرٍ - لَيْسَ مِنْ أَعْمَال الصَّلاَةِ - فِي الصَّلاَةِ مُفْسِدٌ فِي الأَْصْل، فَلاَ يُتْرَكُ هَذَا الأَْصْل إِلاَّ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ، وَهُوَ الْمَشْيُ لاَ الْقِتَال (2) .

صَلاَةُ الْجُمُعَةِ فِي الْخَوْفِ:
11 - إِذَا حَصَل الْخَوْفُ فِي بَلَدٍ وَحَضَرَتْ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوهَا عَلَى هَيْئَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَعُسْفَانَ، وَيُشْتَرَطُ فِي الصَّلاَةِ عَلَى هَيْئَةِ صَلاَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ:
(1) أَنْ يَخْطُبَ بِجَمِيعِهِمْ، ثُمَّ يُفَرِّقَهُمْ فِرْقَتَيْنِ، أَوْ يَخْطُبَ بِفِرْقَةٍ، وَيَجْعَل مِنْهَا مَعَ كُلٍّ مِنَ الْفِرْقَتَيْنِ أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا، فَلَوْ خَطَبَ بِفِرْقَةٍ وَصَلَّى بِأُخْرَى لَمْ تَصِحَّ.
(2) أَنْ تَكُونَ الْفِرْقَةُ الأُْولَى أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا، فَلَوْ نَقَصَتْ عَنْ أَرْبَعِينَ لَمْ تَنْعَقِدِ الْجُمُعَةُ، وَإِنْ نَقَصَتِ الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ لَمْ يَضُرَّ لِلْحَاجَةِ، وَالْمُسَامَحَةِ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ.
وَلَوْ خَطَبَ بِهِمْ وَصَلَّى بِهِمْ عَلَى هَيْئَةِ صَلاَةِ الْخَوْفِ بِعُسْفَانَ فَهِيَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ، وَلاَ تَجُوزُ
__________
(1) حديث: " شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله قبورهم. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 8 / 195 - ط السلفية) ومسلم (1 / 436 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.
(2) البدائع 1 / 244.

(27/220)


عَلَى هَيْئَةِ صَلاَةِ بَطْنِ نَخْلٍ؛ إِذْ لاَ تُقَامُ جُمُعَةٌ بَعْدَ جُمُعَةٍ (1) .

السَّهْوُ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ:
12 - يَتَحَمَّل الإِْمَامُ سَهْوَ الْمَأْمُومِينَ إِذَا صَلَّى بِهِمْ صَلاَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي ذَهَبَ إِلَيْهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ سَهْوَ الطَّائِفَةِ الأُْولَى فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَلاَ يَتَحَمَّلُهُ؛ لاِنْقِطَاعِ قُدْوَتِهَا بِالْمُفَارَقَةِ، وَسَهْوُ الإِْمَامِ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى يَلْحَقُ الْكُل، فَيَسْجُدُونَ لِلسَّهْوِ فِي آخِرِ صَلاَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَسْجُدِ الإِْمَامُ.
وَسَهْوُهُ فِي الثَّانِيَةِ لاَ يَلْحَقُ الأَْوَّلِينَ لِمُفَارَقَتِهِمْ قَبْل السَّهْوِ، وَيَلْحَقُ الآْخَرِينَ (2) .

حَمْل السِّلاَحِ فِي هَذِهِ الصَّلَوَاتِ:
13 - حَمْل السِّلاَحِ فِي هَذِهِ الصَّلَوَاتِ مُسْتَحَبٌّ، يُكْرَهُ تَرْكُهُ لِمَنْ لاَ عُذْرَ لَهُ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ غَيْرِهِ احْتِيَاطًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} إِلَى أَنْ قَال جَل شَأْنُهُ: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} (3)
__________
(1) المجموع 4 / 419، أسنى المطالب 1 / 272، روضة الطالبين 2 / 57، المغني لابن قدامة 2 / 405.
(2) روض الطالب 1 / 272، روضة الطالبين 2 / 58، المغني 2 / 406، بلغة السالك على الشرح الصغير 1 / 68.
(3) سورة النساء / 102.

(27/220)


وَحَمَلُوا الأَْمْرَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} عَلَى النَّدْبِ، لأَِنَّ تَرْكَهُ لاَ يُفْسِدُ الصَّلاَةَ، فَلاَ يَجِبُ حَمْلُهُ، كَسَائِرِ مَا لاَ يُفْسِدُ تَرْكُهُ، وَقِيَاسًا عَلَى الأَْمْنِ؛ وَلأَِنَّ الْغَالِبَ السَّلاَمَةُ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي يَتَعَرَّضُ لِلْهَلاَكِ بِتَرْكِ السِّلاَحِ وَجَبَ حَمْلُهُ، أَوْ وَضْعُهُ بَيْنَ يَدِهِ بِحَيْثُ يَسْهُل تَنَاوُلُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ (1) .

صَلاَةُ الصُّبْحِ

انْظُرْ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَفْرُوضَةُ.
__________
(1) شرح روض الطالب 1 / 273، روضة الطالبين 2 / 60، المغني 2 / 411، كشاف القناع 2 / 17.

(27/221)


صَلاَةُ الضُّحَى
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّلاَةُ فِي اللُّغَةِ وَالاِصْطِلاَحِ سَبَقَ الْكَلاَمُ عَنْهَا فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَة) .
وَأَمَّا الضُّحَى فِي اللُّغَةِ: فَيُسْتَعْمَل مُفْرَدًا، وَهُوَ فُوَيْقَ الضَّحْوَةِ، وَهُوَ حِينَ تَشْرُقُ الشَّمْسُ إِلَى أَنْ يَمْتَدَّ النَّهَارُ، أَوْ إِلَى أَنْ يَصْفُوَ ضَوْءُهَا وَبَعْدَهُ الضَّحَاءُ.
وَالضَّحَاءُ - بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ - هُوَ إِذَا عَلَتِ الشَّمْسُ إِلَى رُبُعِ السَّمَاءِ فَمَا بَعْدَهُ (1) .
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ الضُّحَى: مَا بَيْنَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ إِلَى زَوَالِهَا (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - صَلاَةُ الأَْوَّابِينَ:
قِيل: هِيَ صَلاَةُ الضُّحَى. وَعَلَى هَذَا فَهُمَا مُتَرَادِفَتَانِ وَقِيل: إِنَّ صَلاَةَ الأَْوَّابِينَ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَبِهَذَا تَفْتَرِقَانِ.

صَلاَةُ الإِْشْرَاقِ:
3 - بِتَتَبُّعِ ظَاهِرِ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ
__________
(1) متن اللغة، والمصباح المنير وعمدة القاري شرح صحيح البخاري (7 / 236 ط. المنيرية) .
(2) حاشية ابن عابدين (2 / 23 ط. دار الفكر) .

(27/221)


يَتَبَيَّنُ: أَنَّ صَلاَةَ الضُّحَى وَصَلاَةَ الإِْشْرَاقِ وَاحِدَةٌ إِذْ كُلُّهُمْ ذَكَرُوا وَقْتَهَا مِنْ بَعْدِ الطُّلُوعِ إِلَى الزَّوَال وَلَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَهُمَا.
وَقِيل: إِنَّ صَلاَةَ الإِْشْرَاقِ غَيْرُ صَلاَةِ الضُّحَى، وَعَلَيْهِ فَوَقْتُ صَلاَةِ الإِْشْرَاقِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، عِنْدَ زَوَال وَقْتِ الْكَرَاهَةِ (1) . (ر: صَلاَةُ الإِْشْرَاقِ)

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - صَلاَةُ الضُّحَى نَافِلَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ (2) . فَقَدْ رَوَى أَبُو ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: يُصْبِحُ عَلَى كُل سُلاَمَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ: فَكُل تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُل تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ: وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ عَنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى (3) وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: أَوْصَانِي حَبِيبِي بِثَلاَثٍ لَنْ أَدَعَهُنَّ مَا عِشْتُ: بِصِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ
__________
(1) تحفة المحتاج 2 / 131 والقليوبي وعميرة 1 / 214، وأوجز المسالك إلى موطأ مالك 3 / 124. ط دار الفكر، إحياء علوم الدين 1 / 203.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 112، والمغني 2 / 131، والمجموع 4 / 36، وروضة الطالبين 1 / 332، وحاشية الدسوقي 1 / 313 وتفسير القرطبي 15 / 160، وصحيح مسلم بشرح النووي 5 / 230 ط المطبعة المصرية.
(3) حديث: " يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة ". أخرجه مسلم (1 / 499 - ط. الحلبي) .

(27/222)


كُل شَهْرٍ، وَصَلاَةِ الضُّحَى، وَأَنْ لاَ أَنَامَ حَتَّى أُوتِرَ (1) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلاَثٍ: صِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُل شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى وَأَنْ أُوتِرَ قَبْل أَنْ أَرْقُدَ (2)
وَقَال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: لاَ تُسْتَحَبُّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا؛ كَيْ لاَ تَشْتَبِهَ بِالْفَرَائِضِ، وَنُقِل التَّوَقُّفُ فِيهَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ (3) .

صَلاَةُ الضُّحَى فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
5 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ صَلاَةِ الضُّحَى عَلَى رَسُول اللَّهِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ صَلاَةَ الضُّحَى لَيْسَتْ مَفْرُوضَةً عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ صَلاَةَ الضُّحَى ضِمْنَ مَا اخْتَصَّ بِهِ رَسُول اللَّهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَأَقَل
__________
(1) حديث أبي الدرداء " أوصاني حبيبي صلى الله عليه وسلم بثلاث لن أدعهن. . . ". أخرجه مسلم (1 / 499 ط الحلبي) .
(2) حديث أبي هريرة: " أوصاني خليلي بثلاث. . . ". أخرجه البخاري (الفتح4 / 226 ط السلفية) ومسلم (1 / 449، - ط. الحلبي) .
(3) المغني 2 / 131، والمجموع 4 / 37 وما بعدها، وجواهر الإكليل 1 / 73، وصحيح مسلم بشرح النووي 5 / 230.
(4) شرح الزرقاني 3 / 155، ومطالب أولي النهى 5 / 29.

(27/222)


الْوَاجِبِ مِنْهَا عَلَيْهِ رَكْعَتَانِ (1) .
(ر: اخْتِصَاص ف 10 ج 2 ص 9 ص 259) .

الْمُوَاظَبَةُ عَلَى صَلاَةِ الضُّحَى:
6 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَل الأَْفْضَل الْمُوَاظَبَةُ عَلَى صَلاَةِ الضُّحَى، أَوْ فِعْلُهَا فِي وَقْتٍ وَتَرْكُهَا فِي وَقْتٍ؟
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ تُسْتَحَبُّ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى صَلاَةِ الضُّحَى؛ لِعُمُومِ الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحَبُّ الْعَمَل إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ قَل (2) . وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَْوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَال لَهُ الضُّحَى فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: أَيْنَ الَّذِينَ كَانُون يُدِيمُونَ صَلاَةَ الضُّحَى؟ هَذَا بَابُكُمْ فَادْخُلُوهُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ (3) .
وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 3، وشرح الزرقاني 3 / 155، ومطالب أولي النهى 5 / 29.
(2) حديث: " أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل. . . ". أخرجه مسلم (2 / 811 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
(3) حديث: " إن في الجنة بابا يقال له الضحى. . . ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (2 / 239 ط القدسي) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه سليمان بن داود اليمامي أبو أحمد، وهو متروك.

(27/223)


{لاَ يُحَافِظُ عَلَى صَلاَةِ الضُّحَى إِلاَّ أَوَّابٌ، قَال: وَهِيَ صَلاَةُ الأَْوَّابِينَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ - وَهُوَ مَا حَكَاهُ صَاحِبُ الإِْكْمَال عَنْ جَمَاعَةٍ: لاَ تُسْتَحَبُّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى صَلاَةِ الضُّحَى بَل تُفْعَل غِبًّا؛ لِقَوْل عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. سَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ (2) .
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى حَتَّى نَقُول: لاَ يَدَعُهَا، وَيَدَعُهَا حَتَّى نَقُول: لاَ يُصَلِّيهَا (3)
وَلأَِنَّ فِي الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا تَشْبِيهًا بِالْفَرَائِضِ.
وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: تُسْتَحَبُّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا (4) ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَوْصَى بِهَا أَصْحَابَهُ
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 216 / وعمدة القاري 7 / 240، ومواهب الجليل 2 / 67، وكشاف القناع 1 / 442، والمغني 2 / 132، وصحيح مسلم بشرح النووي 5 / 230، وروضة الطالبين 1 / 337، وصحيح ابن خزيمة 2 / 228، نشر المكتب الإسلامي، وإحياء علوم الدين 1 / 196 ط مطبعة الاستقامة وحديث: " لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب ". أخرجه الحاكم (1 / 314 ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) قول عائشة: " ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم سبح سبحة الضحى قط ". أخرجه البخاري (الفتح3 / 10 - ط السلفية) ومسلم (1 / 497 - ط. الحلبي) واللفظ للبخاري.
(3) حديث أبي سعيد: " كان يصلي الضحى حتى نقول: لا يدعها ". أخرجه الترمذي (2 / 342، - ط الحلبي) وفي إسناده ضعف.
(4) الإنصاف 2 / 191، وكشاف القناع 1 / 442، وعمدة القاري 7 / 240.

(27/223)


وَقَال: مَنْ حَافَظَ عَلَى شُفْعَةِ الضُّحَى غُفِرَ لَهُ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْل زَبَدِ الْبَحْرِ (1) (ر: نَفْل)

وَقْتُ صَلاَةِ الضُّحَى:
7 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الأَْفْضَل فِعْل صَلاَةِ الضُّحَى إِذَا عَلَتِ الشَّمْسُ وَاشْتَدَّ حَرُّهَا؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {صَلاَةُ الأَْوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَال (2) وَمَعْنَاهُ أَنْ تُحْمَى الرَّمْضَاءُ وَهِيَ الرَّمْل فَتَبْرُكُ الْفِصَال مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ.
قَال الطَّحَاوِيُّ: وَوَقْتُهَا الْمُخْتَارُ إِذَا مَضَى رُبُعُ النَّهَارِ (3) . وَجَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيل نَقْلاً عَنِ الْجُزُولِيِّ: أَوَّل وَقْتِهَا ارْتِفَاعُ الشَّمْسِ، وَبَيَاضُهَا وَذَهَابُ الْحُمْرَةِ، وَآخِرُهُ الزَّوَال. قَال الْحَطَّابُ نَقْلاً عَنِ الشَّيْخِ زَرُّوقٌ: وَأَحْسَنُهُ إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْمَشْرِقِ مِثْلَهَا مِنَ الْمَغْرِبِ وَقْتُ الْعَصْرِ (4) .
قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَوَقْتُهَا الْمُخْتَارُ إِذَا مَضَى
__________
(1) حديث: " من حافظ على شفعة الضحى ". أخرجه الترمذي (2 / 341، - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وفي إسناده راو ضعيف، وذكر الذهبي هذا الحديث في مناكيره في الميزان (4 / 274 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " صلاة الأوابين حين ترمض الفصال ". أخرجه مسلم (1 / 516 - ط الحلبي) من حديث زيد بن أرقم.
(3) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 216.
(4) مواهب الجليل 2 / 68.

(27/224)


رُبُعُ النَّهَارِ (1) .
قَال الْبُهُوتِيُّ: وَالأَْفْضَل فِعْلُهَا إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ (2) . ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ وَقْتِ صَلاَةِ الضُّحَى عَلَى الْجُمْلَةِ. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ وَقْتَ صَلاَةِ الضُّحَى مِنَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ إِلَى قُبَيْل زَوَالِهَا مَا لَمْ يَدْخُل وَقْتُ النَّهْيِ (3) .
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: قَال أَصْحَابُنَا (الشَّافِعِيَّةُ) : وَقْتُ الضُّحَى مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا إِلَى ارْتِفَاعِهَا (4) . وَيَدُل لَهُ خَبَرُ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي مُرَّةَ الطَّائِفِيِّ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: قَال اللَّهُ: يَا ابْنَ آدَمَ لاَ تُعْجِزُنِي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّل نَهَارِكَ أَكْفِكَ آخِرَهُ (5) لَكِنْ قَال الأَْذْرَعِيُّ: نَقْل ذَلِكَ عَنِ الأَْصْحَابِ فِيهِ نَظَرٌ، وَالْمَعْرُوفُ مِنْ كَلاَمِهِمُ الأَْوَّل (أَيْ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ (6))
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 332، وأسنى المطالب 1 / 204.
(2) كشاف القناع 1 / 442.
(3) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 216، وكشاف القناع 1 / 442، والحطاب 2 / 68.
(4) روضة الطالبين 1 / 332.
(5) حديث: " قال الله يا ابن آدم لا تعجزني من أربع ركعات. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 63، تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه النووي في المجموع (4 / 39 ط المنيرية) .
(6) أسنى المطالب 1 / 204.

(27/224)


وَقَال الرَّمْلِيُّ الْكَبِيرُ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الرَّوْضِ، بَعْدَ أَنْ نَقَل قَوْل النَّوَوِيِّ السَّابِقَ ذِكْرُهُ: لَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ فَهُوَ وَجْهٌ غَرِيبٌ أَوْ سَبْقُ قَلَمٍ (1) .

عَدَدُ رَكَعَاتِ صَلاَةِ الضُّحَى:
8 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ:
بِاسْتِحْبَابِ صَلاَةِ الضُّحَى فِي أَنَّ أَقَلَّهَا رَكْعَتَانِ (2) . فَقَدْ رَوَى أَبُو ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: يُصْبِحُ عَلَى كُل سُلاَمَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ: فَكُل تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُل تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُل تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُل تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى (3) . فَأَقَل صَلاَةِ الضُّحَى رَكْعَتَانِ لِهَذَا الْخَبَرِ (4) .
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَقَلِّهَا وَأَكْثَرِهَا:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - عَلَى الْمَذْهَبِ - إِلَى أَنَّ أَكْثَرَ صَلاَةِ الضُّحَى ثَمَانٍ لِمَا رَوَتْ أُمُّ هَانِئٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، فَلَمْ أَرَ صَلاَةً قَطُّ
__________
(1) حاشية الرملي الكبير بهامش أسنى المطالب 1 / 204.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 112، وحاشية الدسوقي 1 / 313، وروضة الطالبين 1 / 332، والإنصاف (2 / 190 نشر دار إحياء التراث العربي) .
(3) حديث " يصبح على كل سلامى. . . ". سبق تخريجه ف 4.
(4) المغني 2 / 131.

(27/225)


أَخَفُّ مِنْهَا غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ (1) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِكَرَاهَةِ مَا زَادَ عَلَى ثَمَانِي رَكَعَاتٍ، إِنْ صَلاَّهَا بِنِيَّةِ الضُّحَى لاَ بِنِيَّةِ نَفْلٍ مُطْلَقٍ، وَذَكَرُوا أَنَّ أَوْسَط صَلاَةِ الضُّحَى سِتٌّ (2) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي الْوَجْهِ الْمَرْجُوحِ (3) - وَأَحْمَدُ - فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ - أَنَّ أَكْثَرَ صَلاَةِ الضُّحَى اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً، لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ صَلَّى الضُّحَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا مِنْ ذَهَبٍ فِي الْجَنَّةِ (4) قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ شَرْحِ الْمُنْيَةِ: وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ يَجُوزُ الْعَمَل بِهِ فِي الْفَضَائِل (5) .
وَقَال الْحَصْكَفِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، نَقْلاً عَنِ الذَّخَائِرِ الأَْشْرَفِيَّةِ: وَأَوْسَطُهَا ثَمَانٍ وَهُوَ أَفْضَلُهَا؛ لِثُبُوتِهِ بِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
__________
(1) حديث أم هانئ: " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 578 - ط السلفية) ومسلم (1 / 497 - ط. الحلبي) .
(2) حاشية الدسوقي 1 / 313، والإنصاف 2 / 190، والمغني 2 / 131.
(3) وهو قول الروياني والرافعي وغيرهما (المجموع4 / 36) .
(4) حديث: " من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة ". أخرجه الترمذي (2 / 337 ط الحلبي) وقال: حديث غريب.
(5) ابن عابدين 1 / 459، شرح المحلى على المنهاج 1 / 214، الإنصاف 2 / 190.

(27/225)


وَأَمَّا أَكْثَرُهَا فَبِقَوْلِهِ فَقَطْ. وَهَذَا لَوْ صَلَّى الأَْكْثَرَ بِسَلاَمٍ وَاحِدٍ أَمَّا لَوْ فَصَل فَكُلَّمَا زَادَ أَفْضَل (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي أَكْثَرِ صَلاَةِ الضُّحَى إِذْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ أَنَّ أَكْثَرَهَا اثْنَتَا (2) عَشْرَةَ وَخَالَفَ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، فَحَكَى عَنِ الأَْكْثَرِينَ: أَنَّ أَكْثَرَهَا ثَمَانِ رَكَعَاتٍ (3) . وَقَال فِي رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ: أَفْضَلُهَا ثَمَانٍ وَأَكْثَرُهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ، وَيُسَلِّمُ مِنْ كُل رَكْعَتَيْنِ (4) .

السُّوَرُ الَّتِي تُقْرَأُ فِي صَلاَةِ الضُّحَى
9 - قَال ابْنُ عَابِدِينَ: يَقْرَأُ فِيهَا سُورَتَيِ الضُّحَى أَيْ سُورَةَ {وَالشَّمْسِ} وَسُورَةَ {وَالضُّحَى} ، وَظَاهِرُهُ الاِقْتِصَارُ عَلَيْهِمَا وَلَوْ صَلاَّهَا أَكْثَرَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ (5) . فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: أَمَرَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُصَلِّيَ الضُّحَى بِسُوَرٍ مِنْهَا: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ، {وَالضُّحَى} (6) .
__________
(1) الدر المختار 1 / 459.
(2) شرح المحلى على منهاج الطالبين 1 / 214.
(3) المجموع 4 / 36.
(4) روضة الطالبين 1 / 332.
(5) حاشية ابن عابدين 1 / 458.
(6) عمدة القاري 7 / 240، وفتح الباري 3 / 55 وحديث عقبة بن عامر: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي الضحى بسور. . . ". أورده ابن حجر في فتح الباري (3 / 55 ط السلفية) وعزاه الحاكم في جزئه في صلاة الضحى.

(27/226)


وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: وَيُسَنُّ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا - رَكْعَتَيِ الضُّحَى - (الْكَافِرُونَ، وَالإِْخْلاَصُ) وَهُمَا أَفْضَل فِي ذَلِكَ مِنَ الشَّمْسِ، {وَالضُّحَى} وَإِنْ وَرَدَتَا أَيْضًا؛ إِذْ (الإِْخْلاَصُ) تَعْدِل ثُلُثَ الْقُرْآنِ، (وَالْكَافِرُونَ) تَعْدِل رُبُعَهُ بِلاَ مُضَاعَفَةٍ (1) .
وَقَال الشُّبْرَامَلْسِيِّ: وَيَقْرَؤُهُمَا أَيْ (الْكَافِرُونَ، وَالإِْخْلاَصُ) - أَيْضًا - فِيمَا لَوْ صَلَّى أَكْثَرَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وَمَحَل ذَلِكَ - أَيْضًا - مَا لَمْ يُصَل أَرْبَعًا أَوْ سِتًّا بِإِحْرَامٍ فَلاَ يُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ سُورَةٍ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الأَْوَّل، وَمِثْلُهُ كُل سُنَّةٍ تَشَهَّدَ فِيهَا بِتَشَهُّدَيْنِ فَإِنَّهُ لاَ يَقْرَأُ السُّورَةَ فِيمَا بَعْدَ التَّشَهُّدِ الأَْوَّل (2) (ر: قِرَاءَة، وَنَافِلَة) .
هَذَا وَفِي قَضَاءِ صَلاَةِ الضُّحَى إِذَا فَاتَتْ مِنْ وَقْتِهَا، وَفِي فِعْلِهَا جَمَاعَةً تَفَاصِيل لِلْفُقَهَاءِ (3) تُنْظَرُ فِي: (تَطَوُّع وَصَلاَةُ الْجَمَاعَةِ) .

صَلاَةُ الطَّوَافِ

انْظُرْ: طَوَاف -
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 112.
(2) حاشية الشبراملسي مع نهاية المحتاج 2 / 112.
(3) روضة الطالبين 1 / 337، 332، والمغني 2 / 142.

(27/226)


صَلاَةُ الظُّهْرِ

انْظُرْ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَفْرُوضَةُ

صَلاَةُ الْمَرْأَةِ

انْظُرْ: سَتْرُ الْعَوْرَةِ، صَلاَةٌ

صَلاَةُ الْعِشَاءِ

انْظُرْ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَفْرُوضَةُ

صَلاَةُ الْعَصْرِ

انْظُرْ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَفْرُوضَةُ

(27/227)


الصَّلاَةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ
(أَوِ الدَّابَّةِ)

التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّلاَةُ يُنْظَرُ تَعْرِيفُهَا فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَة) .
وَالرَّاحِلَةُ مِنَ الإِْبِل: الْبَعِيرُ الْقَوِيُّ عَلَى الأَْسْفَارِ وَالأَْحْمَال، وَهِيَ الَّتِي يَخْتَارُهَا الرَّجُل لِمَرْكَبِهِ وَرَحْلِهِ عَلَى النَّجَابَةِ وَتَمَامِ الْخَلْقِ وَحُسْنِ الْمَنْظَرِ، وَإِذَا كَانَتْ فِي جَمَاعَةِ الإِْبِل تَبَيَّنَتْ وَعُرِفَتْ.
وَالرَّاحِلَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ: كُل بَعِيرٍ نَجِيبٍ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، وَالْجَمْعُ رَوَاحِل، وَدُخُول الْهَاءِ فِي الرَّاحِلَةِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الصِّفَةِ، وَقِيل: سُمِّيَتْ رَاحِلَةً؛ لأَِنَّهَا ذَاتُ رَحْلٍ (1) .

وَالدَّابَّةُ: كُل مَا يَدِبُّ عَلَى الأَْرْضِ. وَقَدْ غَلَبَ هَذَا الاِسْمُ عَلَى مَا يُرْكَبُ مِنَ الْحَيَوَانِ مِنْ إِبِلٍ وَخَيْلٍ وَبِغَالٍ وَحَمِيرٍ (2) . الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السَّفِينَةُ:
2 - السَّفِينَةُ: الْفُلْكُ، وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
__________
(1) لسان العرب، مادة (رحل) .
(2) لسان العرب مادة: (دبب) ، وابن عابدين 1 / 469، والشرح الصغير 1 / 109، والمغني لابن قدامة 1 / 434.

(27/227)


الرَّاحِلَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُرْكَبُ، وَكَمَا أَنَّ لِلصَّلاَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَحْكَامًا خَاصَّةً، فَكَذَلِكَ لِلصَّلاَةِ فِي السَّفِينَةِ أَحْكَامًا خَاصَّةً تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (سَفِينَة) .

الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالصَّلاَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ:
أ - صَلاَةُ النَّفْل:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ صَلاَةُ النَّفْل عَلَى الرَّاحِلَةِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ.
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (1) قَال ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: نَزَلَتْ فِي التَّطَوُّعِ خَاصَّةً، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهَهُ (2) وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ، فَإِذَا أَرَادَ الْفَرِيضَةَ نَزَل فَاسْتَقْبَل الْقِبْلَةَ (3) .
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ صَلاَةَ التَّطَوُّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ الطَّوِيل الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ جَائِزَةٌ.
__________
(1) سورة البقرة / 115.
(2) حديث ابن عمر: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبح على ظهر راحلته ". أخرجه البخاري (الفتح2 / 578 - ط السلفية) .
(3) حديث جابر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 503 - ط السلفية) .

(27/228)


وَأَمَّا السَّفَرُ الْقَصِيرُ، وَهُوَ مَا لاَ يُبَاحُ فِيهِ الْقَصْرُ فَإِنَّ الصَّلاَةَ عَلَى الرَّاحِلَةِ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل الأَْوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ وَالْحَسَنِ بْنِ حُيَيٍّ.
وَقَال مَالِكٌ: لاَ يُبَاحُ إِلاَّ فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ؛ لأَِنَّهُ رُخْصَةُ سَفَرٍ فَاخْتَصَّ بِالطَّوِيل كَالْقَصْرِ.
وَاسْتَدَل الأَْوَّلُونَ بِالآْيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَوْل ابْنِ عُمَرَ فِيهَا، وَحَدِيثِهِ الَّذِي قَال فِيهِ: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ (1) .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ السَّفَرُ وَإِنَّمَا قَيَّدُوا جَوَازَ النَّفْل. عَلَى الرَّاحِلَةِ بِمَا إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي خَارِجَ الْمِصْرِ مَحَل الْقَصْرِ، أَيْ فِي الْمَحَل الَّذِي يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ قَصْرُ الصَّلاَةِ فِيهِ (2) .
وَأَجَازَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ التَّنَفُّل عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي الْمِصْرِ وَقَال: حَدَّثَنِي فُلاَنٌ - وَسَمَّاهُ - عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ الْحِمَارَ فِي الْمَدِينَةِ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَكَانَ يُصَلِّي وَهُوَ رَاكِبٌ (3) .
__________
(1) حديث ابن عمر: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر على البعير ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 488 - ط السلفية)
(2) ابن عابدين 1 / 4960، والزيلعي 1 / 177، وفتح القدير 1 / 330، 331، والمغني 1 / 434، 435 ومغني المحتاج 1 / 42 وكشاف القناع 1 / 302.
(3) حديث " أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب الحمار في المدينة يعود سعد ابن عبادة ". ذكرالعيني في البناية (2 / 578 ط دار الفكر) هذا الحديث وأشار إلى شذوذه بعد أن ذكر أن أبا يوسف رواه.

(27/228)


وَأَجَازَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ مَخَافَةَ الْغَلَطِ لِمَا فِي الْمِصْرِ مِنْ كَثْرَةِ اللَّغَطِ (1) .
كَمَا أَجَازَ التَّنَفُّل عَلَى الدَّابَّةِ فِي الْمِصْرِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ كَأَبِي سَعِيدٍ الإِْصْطَخْرِيِّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٍ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الإِْصْطَخْرِيُّ مُحْتَسِبَ بَغْدَادَ يَطُوفُ السِّكَكَ وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى دَابَّتِهِ (2) .
4 - وَالتَّطَوُّعُ الْجَائِزُ عَلَى الرَّاحِلَةِ يَشْمَل النَّوَافِل الْمُطْلَقَةَ وَالسُّنَنَ الرَّوَاتِبَ وَالْمُعَيَّنَةَ وَالْوِتْرَ وَسُجُودَ التِّلاَوَةِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (3))
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ عَلَى بَعِيرِهِ، وَكَانَ يُسَبِّحُ عَلَى بَعِيرِهِ إِلاَّ الْفَرَائِضَ (4) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا يُعْتَبَرُ وَاجِبًا عِنْدَهُمْ مِنْ غَيْرِ الْفَرَائِضِ كَالْوِتْرِ لاَ يَجُوزُ عَلَى الرَّاحِلَةِ بِدُونِ عُذْرٍ، وَكَذَلِكَ سَجْدَةُ التِّلاَوَةِ (5) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 330 - 331 والزيلعي مع الشلبي 1 / 177.
(2) الشلبي على الزيلعي 1 / 177، والمجموع شرح المهذب 3 / 203 تحقيق المطيعي.
(3) الدسوقي 1 / 255، وأسنى المطالب 1 / 134، والمغني (1 / 437 ط الرياض) .
(4) المغني / 437.
(5) ابن عابدين 1 / 469.

(27/229)


وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يَنْزِل عَنْ دَابَّتِهِ لِسُنَّةِ الْفَجْرِ؛ لأَِنَّهَا آكَدُ مِنْ سَائِرِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ (1) .
وَتَجُوزُ الصَّلاَةُ لِلْمُسَافِرِ عَلَى الْبَعِيرِ وَالْفَرَسِ وَالْبَغْل وَالْحِمَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الْحَيَوَانُ غَيْرَ مَأْكُول اللَّحْمِ، وَلاَ كَرَاهَةَ هُنَا لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَلأَِنَّهُ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي عَلَى حِمَارِهِ النَّفَل (2) . غَيْرَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَا يُلاَقِي بَدَنَ الْمُصَلِّي عَلَى الرَّاحِلَةِ وَثِيَابِهِ مِنَ السَّرْجِ، وَالْمَتَاعِ، وَاللِّجَامِ طَاهِرًا. وَهَذَا كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَعَامَّةُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا ذُكِرَ فِي الأَْصْل.
وَعَنْ أَبِي حَفْصٍ الْبُخَارِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ الرَّازِيَّ: أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ فِي مَوْضِعِ الْجُلُوسِ أَوْ فِي مَوْضِعِ الرِّكَابَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لاَ تَجُوزُ، وَلَوْ كَانَ عَلَى السَّرْجِ نَجَاسَةٌ فَسَتَرَهَا لَمْ يَضُرَّ (3) .
5 - وَتَجُوزُ الصَّلاَةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ تَطَوُّعًا فِي السَّفَرِ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ، كَسَفَرِ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهِ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.
__________
(1) الزيلعي 1 / 177.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على حماره النفل ". تقدم تخريجه ف3.
(3) البدائع 1 / 109 والمجموع شرح المهذب 3 / 203 تحقيق المطيعي، وشرح منتهى الإرادات 1 / 160، 161، والشرح الصغير 1 / 109.

(27/229)


وَلاَ يُبَاحُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ: كَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَالتِّجَارَةِ فِي الْخَمْرِ وَالْمُحَرَّمَاتِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ؛ لأَِنَّ التَّرَخُّصَ شُرِعَ لِلإِْعَانَةِ عَلَى تَحْصِيل الْمُبَاحِ فَلاَ يُنَاطُ بِالْمَعْصِيَةِ. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ: لَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ مُسَافِرٌ، فَأُبِيحَ لَهُ التَّرَخُّصُ كَالْمُطِيعِ (1) .

ب - صَلاَةُ الْفَرِيضَةِ:
6 - الأَْصْل أَنَّ صَلاَةَ الْفَرِيضَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ لاَ تَجُوزُ إِلاَّ لِعُذْرٍ، فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَكْتُوبَةَ نَزَل فَاسْتَقْبَل الْقِبْلَةَ (2) .
قَال ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرِيضَةَ عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.
وَلأَِنَّ أَدَاءَ الْفَرَائِضِ عَلَى الدَّابَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُول لاَ يَجُوزُ.
وَلأَِنَّ شَرْطَ الْفَرِيضَةِ الْمَكْتُوبَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ مُسْتَقِرًّا فِي جَمِيعِهَا،
__________
(1) المغني 2 / 261 - 263 بتصرف.
(2) حديث جابر بن عبد الله: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته نحو المشرق ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 575 - ط السلفية) .

(27/230)


فَلاَ تَصِحُّ مِنَ الرَّاكِبِ الْمُخِل بِقِيَامٍ أَوِ اسْتِقْبَالٍ (1) .
7 - وَقَدْ عَدَّدَ الْفُقَهَاءُ الأَْعْذَارَ الَّتِي تُبِيحُ الصَّلاَةَ عَلَى الرَّاحِلَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: الْخَوْفُ عَلَى النَّفْسِ أَوِ الْمَال مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ، أَوْ خَوْفِ الاِنْقِطَاعِ عَنِ الرُّفْقَةِ، أَوِ التَّأَذِّي بِالْمَطَرِ وَالْوَحْل؛ فَفِي مِثْل هَذِهِ الأَْحْوَال تَجُوزُ صَلاَةُ الْفَرِيضَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ بِالإِْيمَاءِ مِنْ غَيْرِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ؛ لأَِنَّ عِنْدَ اعْتِرَاضِ هَذِهِ الأَْعْذَارِ عَجْزًا عَنْ تَحْصِيل هَذِهِ الأَْرْكَانِ (2) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ، بِحَيْثُ لاَ يَتَمَكَّنُ مِنَ الصَّلاَةِ إِلَى الْقِبْلَةِ، أَوْ عَجَزَ عَنْ بَعْضِ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ: إِمَّا لِهَرَبٍ مُبَاحٍ مِنْ عَدُوٍّ، أَوْ سَيْلٍ، أَوْ سَبُعٍ، أَوْ حَرِيقٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهُ إِلاَّ بِالْهَرَبِ، أَوِ الْمُسَابَقَةِ، أَوِ الْتِحَامِ الْحَرْبِ وَالْحَاجَةِ إِلَى الْكَرِّ وَالْفَرِّ وَالطَّعْنِ وَالضَّرْبِ وَالْمُطَارَدَةِ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ رَاجِلاً وَرَاكِبًا إِلَى الْقِبْلَةِ إِنْ أَمْكَنَ، أَوْ إِلَى غَيْرِهَا إِنْ لَمْ يُمْكِنْ، وَإِذَا عَجَزَ عَنِ
__________
(1) فتح الباري 2 / 575، والبدائع 108، وابن عابدين 1 / 469 - 470، والدسوقي 1 / 339، والحطاب 1 / 509، ومغني المحتاج 1 / 142، والشرح الصغير 1 / 109.
(2) البدائع 1 / 108، والدسوقي 1 / 229 - 230، ونهاية المحتاج 1 / 48 - 409، وشرح منتهى الإرادات 1 / 273.

(27/230)


الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَوْمَأَ بِهِمَا وَيَنْحَنِي إِلَى السُّجُودِ أَكْثَرَ مِنِ الرُّكُوعِ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنِ الإِْيمَاءِ سَقَطَ، وَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ، أَوِ الْقُعُودِ، أَوْ غَيْرِهِمَا سَقَطَ، وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ وَالْكَرِّ وَالْفَرِّ فَعَل ذَلِكَ وَلاَ يُؤَخِّرُ الصَّلاَةَ عَنْ وَقْتِهَا (1) لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} (2) .
وَحَدِيثُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى إِلَى مَضِيقٍ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَالسَّمَاءُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَالْبِلَّةُ مِنْ أَسْفَل مِنْهُمْ فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ ثُمَّ تَقَدَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَصَلَّى بِهِمْ يُومِئُ إِيمَاءً يَجْعَل السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (صَلاَةُ الْخَوْفِ، وَاسْتِقْبَال ف 38) .
8 - وَإِذَا كَانَتْ صَلاَةُ الْفَرْضِ عَلَى الرَّاحِلَةِ لاَ تَجُوزُ إِلاَّ لِعُذْرٍ؛ لأَِنَّ شَرْطَ الْفَرِيضَةِ الْمَكْتُوبَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ مُسْتَقِرًّا فِي جَمِيعِهَا وَمُسْتَوْفِيًا شُرُوطَهَا وَأَرْكَانَهَا، فَإِنَّ مَنْ
__________
(1) المغني (1 / 432 ط الرياض) وانظر شرح منتهى الإرادات 1 / 273.
(2) سورة البقرة / 239.
(3) حديث يعلى بن أمية: " أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى مضيق ". أخرجه أحمد (4 / 173 - 174 ط الميمنية) والبيهقي (2 / 7 ط دائرة المعارف العثمانية) وقال البيهقي: في إسناده ضعف.

(27/231)


أَمْكَنَهُ صَلاَةُ الْفَرِيضَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ مَعَ الإِْتْيَانِ بِكُل شُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا، وَلَوْ بِلاَ عُذْرٍ صَحَّتْ صَلاَتُهُ وَذَلِكَ كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ الرَّاجِحُ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - قَال الْحَنَابِلَةُ: وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الرَّاحِلَةُ سَائِرَةً أَمْ وَاقِفَةً، لَكِنِ الشَّافِعِيَّةُ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ فِي نَحْوِ هَوْدَجٍ وَهِيَ وَاقِفَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْقُولَةً. أَمَّا لَوْ كَانَتْ سَائِرَةً فَلاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ سَيْرَهَا مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ بِدَلِيل جَوَازِ الطَّوَافِ عَلَيْهَا. وَلَوْ كَانَ لِلدَّابَّةِ مَنْ يَلْزَمُ لِجَامَهَا وَيُسَيِّرُهَا، بِحَيْثُ لاَ تَخْتَلِفُ الْجِهَةُ جَازَ ذَلِكَ، وَقَال سَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يُجْزِئُ إِيقَاعُ الصَّلاَةِ عَلَى الدَّابَّةِ قَائِمًا وَرَاكِعًا وَسَاجِدًا لِدُخُولِهِ عَلَى الْغَرَرِ (1) .

قِبْلَةُ الْمُصَلِّي عَلَى الرَّاحِلَةِ:
9 - مُصَلِّي النَّافِلَةَ عَلَى الرَّاحِلَةِ لاَ يَلْزَمُهُ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ، بَل يُصَلِّي حَيْثُمَا تَوَجَّهَتِ الدَّابَّةُ أَوْ صَوْبَ سَفَرِهِ كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ، وَتَكُونُ هَذِهِ عِوَضًا عَنِ الْقِبْلَةِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ، أَيْ جِهَةَ مَقْصِدِهِ، فَإِذَا أَرَادَ الْفَرِيضَةَ نَزَل فَاسْتَقْبَل الْقِبْلَةَ (2) .
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 109، والدسوقي 1 / 225، وشرح منتهى الإرادات 1 / 273، ومغني المحتاج 1 / 144.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته ". تقدم فقرة 3.

(27/231)


وَالْحِكْمَةُ فِي التَّخْفِيفِ عَلَى الْمُسَافِرِ: أَنَّ النَّاسَ مُحْتَاجُونَ إِلَى الأَْسْفَارِ. فَلَوْ شُرِطَ فِيهَا الاِسْتِقْبَال لأََدَّى إِلَى تَرْكِ أَوْرَادِهِمْ أَوْ مَصَالِحِ مَعَايِشِهِمْ.
10 - غَيْرَ أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا أَمْكَنَهُ افْتِتَاحُ الصَّلاَةِ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الدَّابَّةُ سَهْلَةً غَيْرَ مَقْطُورَةٍ بِأَنْ كَانَتْ وَاقِفَةً أَوْ سَائِرَةً وَزِمَامُهَا بِيَدِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ عِنْدَ الإِْحْرَامِ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَرَأْيُ ابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةُ ابْنِ الْمُبَارَكِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ أَنَسٌ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سَافَرَ فَأَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ اسْتَقْبَل بِنَاقَتِهِ الْقِبْلَةَ فَكَبَّرَ ثُمَّ صَلَّى حَيْثُ وَجَّهَهُ رِكَابُهُ (1) ؛ وَلأَِنَّهُ أَمْكَنَهُ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي ابْتِدَاءِ الصَّلاَةِ فَلَزِمَهُ ذَلِكَ كَالصَّلاَةِ كُلِّهَا.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يُشْتَرَطُ الاِسْتِقْبَال فِي السَّلاَمِ - أَيْضًا - لأَِنَّهُ آخِرُ طَرَفَيِ الصَّلاَةِ فَاشْتُرِطَ فِيهِ ذَلِكَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ -: لاَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ يَعْنِي فِي السَّلاَمِ لأَِنَّ الاِفْتِتَاحَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلاَةِ
__________
(1) حديث أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فأراد أن يتطوع ". أخرجه أبو داود (2 / 21 تحقيق عزت عبيد دعاس) وحسن إسناده المنذري في مختصره لأبي داود (2 / 59 نشر دار المعرفة) .

(27/232)


فَأَشْبَهَ سَائِرَ أَجْزَائِهَا؛ وَلأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يَخْلُو مِنْ مَشَقَّةٍ فَسَقَطَ شَرْطُ الاِسْتِقْبَال فِي السَّلاَمِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ وَلاَ يَجِبُ، وَإِنْ لَمْ يَسْهُل اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ بِأَنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ سَائِرَةً وَهِيَ مَقْطُورَةٌ، وَلَمْ يَسْهُل انْحِرَافُهُ عَلَيْهَا أَوْ كَانَتْ جَمُوحًا لاَ يَسْهُل تَحْرِيفُهَا فَلاَ يَجِبُ الاِسْتِقْبَال؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَاخْتِلاَل أَمْرِ السَّيْرِ عَلَيْهِ، فَيُحْرِمُ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ عَلَيْهِ الاِسْتِقْبَال مُطْلَقًا سَوَاءٌ سَهُل عَلَيْهِ ذَلِكَ أَمْ لاَ، فَإِنْ تَعَذَّرَ لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ (1) .
11 - وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي مَكَان وَاسِعٍ كَمَحْمَلٍ وَاسِعٍ وَهَوْدَجٍ وَيَتَمَكَّنُ مِنَ الصَّلاَةِ إِلَى الْقِبْلَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي صَلاَتِهِ وَيَسْجُدُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ كَرَاكِبِ السَّفِينَةِ، وَقَال أَبُو الْحَسَنِ الآْمِدِيُّ: يُحْتَمَل أَنْ لاَ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَغَيْرِهِ لأَِنَّ الرُّخْصَةَ الْعَامَّةَ تَعُمُّ مَا وُجِدَتْ فِيهِ الْمَشَقَّةُ وَغَيْرُهُ (2) . هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلتَّطَوُّعِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْفَرِيضَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُ الاِسْتِقْبَال لِلْعُذْرِ - فَقَطْ - عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 469، والدسوقي 1 / 225، ومغني المحتاج 1 / 143، وأسنى المطالب 1 / 134، والمغني (1 / 436 ط. الرياض) .
(2) المغني (1 / 435 - 436 ومغني المحتاج 1 / 142، والدسوقي 1 / 22) .

(27/232)


كَيْفِيَّةُ الصَّلاَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ:
12 - مَنْ جَازَتْ لَهُ الصَّلاَةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَإِنَّهُ يُومِئُ فِي صَلاَتِهِ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَيَجْعَل سُجُودَهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ، قَال جَابِرٌ: بَعَثَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ فَجِئْتُ وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، وَالسُّجُودُ أَخْفَضُ مِنَ الرُّكُوعِ (1) .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ يُومِئُ إِيمَاءَ صَلاَةِ اللَّيْل إِلاَّ الْفَرَائِضَ (2) .
قَال ابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: مَنْ تَنَفَّل فِي مَحْمَلِهِ فَقِيَامُهُ تَرَبُّعٌ، وَيَرْكَعُ كَذَلِكَ وَيَدَاهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَإِذَا رَفَعَ رَفَعَهُمَا، وَيُومِئُ بِالسُّجُودِ وَقَدْ ثَنَى رِجْلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ أَوْمَأَ مُتَرَبِّعًا (3) .
وَمَنِ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ رَاكِبًا، ثُمَّ نَزَل فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ وَيَبْنِي عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ صَلاَتِهِ وَيُتِمُّهَا بِالأَْرْضِ رَاكِعًا وَسَاجِدًا،
قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِلاَّ عَلَى قَوْل مَنْ يُجَوِّزُ الإِْيمَاءَ فِي النَّافِلَةِ لِلصَّحِيحِ غَيْرِ الْمُسَافِرِ فَإِنَّهُ يُتِمُّ صَلاَتَهُ
__________
(1) حديث جابر: " بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة ". أخرجه أبو داود (2 / 22 تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في السفر على راحلته ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 489 - ط السلفية) من حديث ابن عمر.
(3) الزيلعي 1 / 176، والحطاب مع المواق 1 / 509، ومغني المحتاج 1 / 143، وكشاف القناع 1 / 304، والمغني (1 / 435 ط. الرياض) .

(27/233)


عَلَى دَابَّتِهِ بِالإِْيمَاءِ إِذَا دَخَل الْمَدِينَةَ (1) .
وَقَال أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: يَسْتَقْبِل صَلاَتَهُ وَلاَ يَبْنِي عَلَى مَا سَبَقَ؛ لأَِنَّ أَوَّل صَلاَتِهِ بِالإِْيمَاءِ وَآخِرَهَا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ؛ فَلاَ يَجُوزُ بِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ إِذَا نَزَل بَعْدَ مَا صَلَّى رَكْعَةً اسْتَقْبَل؛ لأَِنَّ مَا قَبْل أَدَاءِ الرَّكْعَةِ مُجَرَّدَ تَحْرِيمَةٍ وَهِيَ شَرْطٌ، فَالشَّرْطُ الْمُنْعَقِدُ لِلضَّعِيفِ كَانَ شَرْطًا لِلْقَوِيِّ، وَأَمَّا إِذَا صَلَّى رَكْعَةً فَقَدْ تَأَكَّدَ فِعْل الضَّعِيفِ فَلاَ يُبْنَى عَلَيْهِ الْقَوِيُّ (2) .
13 - وَإِنْ رَكِبَ مَاشٍ وَهُوَ فِي صَلاَةِ نَفْلٍ أَتَمَّهُ رَاكِبًا، كَمَا يَقُول الْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَبْنِي؛ لأَِنَّ الرُّكُوبَ عَمَلٌ كَثِيرٌ (3) . وَمَنِ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ خَارِجَ الْمِصْرِ، ثُمَّ دَخَل الْمِصْرَ، أَوْ نَوَى النُّزُول بِبَلَدٍ دَخَلَهُ نَزَل عَنْ دَابَّتِهِ لاِنْقِطَاعِ سَفَرِهِ وَأَتَمَّ صَلاَتَهُ مُسْتَقْبِلاً الْقِبْلَةَ. وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الأَْكْثَرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
__________
(1) ابن عابدين 1 / 470، والزيلعي 1 / 177 - 178، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 225، والحطاب 1 / 509، ومغني المحتاج 1 / 144، شرح منتهى الإردات 1 / 160.
(2) الزيلعي 1 / 18، وابن عابدين 1 / 470.
(3) ابن عابدين 1 / 470، والزيلعي 1 / 178، وكشاف القناع 1 / 303.

(27/233)


وَقِيل: يُتِمُّ عَلَى الدَّابَّةِ بِإِيمَاءٍ (1) .
وَلَوْ رَكِبَ الْمُسَافِرُ النَّازِل وَهُوَ فِي صَلاَةٍ نَافِلَةٍ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّ حَالَتَهُ إِقَامَةٌ فَيَكُونُ رُكُوبُهُ فِيهَا كَالْعَمَل الْكَثِيرِ مِنَ الْمُقِيمِ، وَقَال مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: يَبْنِي عَلَى صَلاَتِهِ (2) .
__________
(1) الزيلعي 1 / 178، وابن عابدين 1 / 470، ومغني المحتاج 1 / 144، وكشاف القناع 1 / 303.
(2) كشاف القناع 1 / 303، ومغني المحتاج 1 / 144، والزيلعي 1 / 178.

(27/234)


الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1 - الْمَقْصُودُ بِالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدُّعَاءُ لَهُ بِصِيغَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَالتَّعْظِيمُ لأَِمْرِهِ. قَال الْقُرْطُبِيُّ: الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ مِنَ اللَّهِ:
رَحْمَتُهُ، وَرِضْوَانُهُ، وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَلاَئِكَةِ، وَمِنَ الْمَلاَئِكَةِ: الدُّعَاءُ لَهُ وَالاِسْتِغْفَارُ، وَمِنَ الأُْمَّةِ: الدُّعَاءُ لَهُ، وَالاِسْتِغْفَارُ، وَالتَّعْظِيمُ لأَِمْرِهِ (1) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
2 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِلأَْمْرِ بِهَا، قَال تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) قَال ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الآْيَةِ (3) : الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الآْيَةِ: أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَخْبَرَ عِبَادَهُ بِمَنْزِلَةِ عَبْدِهِ وَنَبِيِّهِ عِنْدَهُ فِي الْمَلأَِ الأَْعْلَى؛ بِأَنَّهُ يُثْنِي عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَلاَئِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَأَنَّ
__________
(1) تفسير القرطبي 14 / 232.
(2) سورة الأحزاب / 56.
(3) تفسير ابن كثير (3 / 506) وجلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام لابن القيم ص 93 وما بعدها.

(27/234)


الْمَلاَئِكَةَ تُصَلِّي عَلَيْهِ. ثُمَّ أَمَرَ جَل شَأْنُهُ بِالصَّلاَةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ؛ لِيَجْتَمِعَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ مِنْ أَهْل الْعَالَمَيْنِ: السُّفْلِيِّ وَالْعُلْوِيِّ جَمِيعًا
، وَجَاءَتِ الأَْحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالأَْمْرِ بِالصَّلاَةِ عَلَيْهِ، وَكَيْفِيَّةِ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ.
فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الآْيَةِ: قِيل لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُول اللَّهِ، أَمَّا السَّلاَمُ عَلَيْكَ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَال: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آل إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آل إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (1) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَاطِنَ، وَاسْتِحْبَابِهَا فِي مَوَاطِنَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَوَاطِنِ الْوُجُوبِ.
__________
(1) حديث البخاري: " قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك؟ قال: " قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آ (فتح الباري8 / 5532 ط. السلفية) من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه.

(27/235)


4 - فَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الصَّلاَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ سُنَّةٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَقَالُوا: تَجِبُ الصَّلاَةُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً لِلأَْمْرِ بِهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) وَقَال الطَّحَاوِيُّ: تَجِبُ كُلَّمَا ذُكِرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ فِي التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَعْلِيمِ التَّشَهُّدِ - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَلْفَاظَ التَّشَهُّدِ: إِذَا قُلْتَ هَذَا، أَوْ فَعَلْتَ، فَقَدْ تَمَّتْ صَلاَتُكَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ (2) .
وَقَالُوا: وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَهْل الْمَدِينَةِ، وَأَهْل الْكُوفَةِ، وَجُمْلَةٌ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ.
أَمَّا الصَّلاَةُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّشَهُّدِ الأَْوَّل فَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ عِنْدَهُمْ، وَبِهِ قَال الْحَنَابِلَةُ (3) فَإِنْ أَتَى بِالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) سورة الأحزاب / 56.
(2) حديث تعليم التشهد: إذا قلت هذا أو فعلت هذا، فقد تمت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد ". أخرجه أبو داود (سنن أبي داود 1 / 593 ط. تركيا) من حديث القاسم بن مخيمرة بلفظ " أخذ علقمة بيدي، فحدثني أن عبد الله بن مسعود أخذ بيده، وأن رسول
(3) رد المحتار 1 / 343، فتح القدير 1 / 273، مواهب الجليل 1 / 543، الإنصاف 2 / 76، المغني 1 / 537.

(27/235)


عَامِدًا فِي التَّشَهُّدِ الأَْوَّل كُرِهَ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ الإِْعَادَةُ. أَوْ سَاهِيًا وَجَبَتْ عَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَتَفْسُدُ صَلاَتُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ تَعَمَّدَ بِإِتْيَانِهَا (1) .
5 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهَا تَجِبُ فِي التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ مِنْ كُل صَلاَةٍ، وَبَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ، وَفِي خُطْبَتَيِ الْجُمُعَةِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَلاَ تَجِبُ خَارِجَ ذَلِكَ. وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الصَّلاَةَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) فَلَمْ يَكُنْ فَرْضُ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ أَوْلَى مِنَ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ فِي الصَّلاَةِ. وَوَجَدْنَا الدَّلاَلَةَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا وَصَفْنَا؛ مِنْ أَنَّ الصَّلاَةَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْضٌ فِي الصَّلاَةِ، لاَ فِي خَارِجِهَا. فَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ؛ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ يَعْنِي فِي الصَّلاَةِ.
فَقَال: تَقُولُونَ: اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَآل مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ تُسَلِّمُونَ عَلَيَّ (3)
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) سورة الأحزاب / 56.
(3) حديث أبي هريرة أنه قال: " يا رسول الله، كيف نصلي عليك؟ " أخرجه الشافعي كما في جلاء الأفهام لابن القيم (ص41 - ط دار ابن كثير) ثم ذكر ابن القيم ما يقتضي تضعيف أحد رواته.

(27/236)


وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ يَقُول فِي الصَّلاَةِ: اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آل إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ: فَلَمَّا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُهُمُ التَّشَهُّدَ فِي الصَّلاَةِ، وَرُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُمْ كَيْفَ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ فِي الصَّلاَةِ، لَمْ يَجُزْ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ نَقُول: التَّشَهُّدُ وَاجِبٌ، وَالصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَالْخَبَرُ فِيهِمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زِيَادَةُ فَرْضِ الْقُرْآنِ.
وَقَال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَعَلَى كُل مُسْلِمٍ - وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفَرَائِضُ - أَنْ يَتَعَلَّمَ التَّشَهُّدَ، وَالصَّلاَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَنْ صَلَّى صَلاَةً لَمْ يَتَشَهَّدْ فِيهَا، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُحْسِنُ التَّشَهُّدَ - فَعَلَيْهِ إِعَادَتُهَا. وَإِنْ تَشَهَّدَ وَلَمْ يُصَل عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ صَلَّى عَلَيْهِ وَلَمْ
__________
(1) حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: قد علمنا، أو عرفنا، كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محم

(27/236)


يَتَشَهَّدْ، فَعَلَيْهِ الإِْعَادَةُ حَتَّى يَجْمَعَهُمَا جَمِيعًا. وَإِنْ كَانَ لاَ يُحْسِنُهُمَا عَلَى وَجْهِهِمَا أَتَى بِمَا أَحْسَنُ مِنْهُمَا، وَلَمْ يُجْزِهِ إِلاَّ بِأَنْ يَأْتِيَ بِاسْمِ تَشَهُّدٍ، وَصَلاَةٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنْ أَحْسَنَهُمَا فَأَغْفَلَهُمَا، أَوْ عَمَدَ بِتَرْكِهِمَا فَسَدَتْ صَلاَتُهُ، وَعَلَيْهِ الإِْعَادَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا.
وَقَدْ قَال بِهَذَا جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
فَمِنَ الصَّحَابَةِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ: أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُقَاتِل بْنُ حَيَّانَ. وَمِنْ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ الْمَتْبُوعِينَ: إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ، وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ فِي الْمَذْهَبِ (1) .
أَمَّا الصَّلاَةُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّشَهُّدِ الأَْوَّل، فِي الصَّلاَةِ الرُّبَاعِيَّةِ وَالثُّلاَثِيَّةِ، فَهِيَ سُنَّةٌ فِي الْقَوْل الْجَدِيدِ لِلشَّافِعِيِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ هُبَيْرَةَ، وَالآْجُرِّيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَلاَ تَبْطُل الصَّلاَةُ بِتَرْكِهِ وَلَوْ عَمْدًا، وَيُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ إِنْ تَرَكَهُ (2) .
__________
(1) الأم للشافعي 1 / 117، المجموع للنووي 3 / 465، روضة الطالبين 1 / 263، الإنصاف 2 / 163، المغني 1 / 541.
(2) المصادر السابقة، والإنصاف 2 / 76 - 77.

(27/237)


الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَارِجَ الصَّلاَةِ:
6 - تُسْتَحَبُّ الصَّلاَةُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَارِجَ الصَّلاَةِ فِي كُل الأَْوْقَاتِ، وَتَتَأَكَّدُ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا: يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَتُهَا، وَعِنْدَ الصَّبَاحِ، وَعِنْدَ الْمَسَاءِ، وَعِنْدَ دُخُول الْمَسْجِدِ، وَالْخُرُوجِ مِنْهُ، وَعِنْدَ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَ إِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ، وَعِنْدَ الدُّعَاءِ، وَبَعْدَهُ وَعِنْدَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَعِنْدَ اجْتِمَاعِ الْقَوْمِ، وَتَفَرُّقِهِمْ، وَعِنْدَ ذِكْرِ اسْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَ الْفَرَاغِ مِنَ التَّلْبِيَةِ، وَعِنْدَ اسْتِلاَمِ الْحَجَرِ، وَعِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ، وَعَقِبَ خَتْمِ الْقُرْآنِ، وَعِنْدَ الْهَمِّ وَالشَّدَائِدِ، وَطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ، وَعِنْدَ تَبْلِيغِ الْعِلْمِ إِلَى النَّاسِ، وَعِنْدَ الْوَعْظِ، وَإِلْقَاءِ الدَّرْسِ، وَعِنْدَ خِطْبَةِ الرَّجُل الْمَرْأَةَ فِي النِّكَاحِ.
وَفِي كُل مَوْطِنٍ يُجْتَمَعُ فِيهِ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى (1) .

أَلْفَاظُ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
7 - رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلاَةِ عَلَيْهِ - صِيَغٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهَا. قَال صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ: إِنَّ أَفْضَل صِيَغِ الصَّلاَةِ
__________
(1) جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام ص: 251، وما بعدها، ابن عابدين 1 / 248، تفسير ابن كثير في تفسير آية الأحزاب {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} الأذكار للنووي 108، وما بعدها.

(27/237)


عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ يَقُول الْمُصَلِّي عَلَيْهِ: (اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آل إِبْرَاهِيمَ. إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) .
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: قَدْ عَلِمْنَا - أَوْ عَرَفْنَا - كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَال: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آل إِبْرَاهِيمَ. إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (1) وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى أَزْوَاجِهِ، وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آل إِبْرَاهِيمَ. وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى أَزْوَاجِهِ، وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آل إِبْرَاهِيمَ. إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (2) .
__________
(1) حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا:. . . إلخ ". سبق تخريجه ف2.
(2) حديث: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 169، ط السلفية) ومسلم (1 / 306 ط الحلبي) من حديث أبي حميد الساعدي، واللفظ لمسلم.

(27/238)


وَهُنَاكَ صِيَغٌ أُخْرَى. وَأَقَل مَا يُجْزِئُ هُوَ: اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ (1) .

الصَّلاَةُ عَلَى سَائِرِ الأَْنْبِيَاءِ:
8 - أَمَّا سَائِرُ الأَْنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ فَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ وَيُسَلَّمُ. قَال تَعَالَى فِي نُوحٍ: {سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} (2) وَفِي إِبْرَاهِيمَ: {سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (3) وَفِي مُوسَى وَهَارُونَ: {سَلاَمٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} (4) .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: صَلُّوا عَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَهُمْ كَمَا بَعَثَنِي (5) . وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الإِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّ
__________
(1) المجموع 3 / 464، والمصادر السابقة.
(2) سورة الصافات / 79.
(3) سورة الصافات 109 / 110.
(4) سورة الصافات / 120.
(5) حديث: " صلوا على أنبياء الله ورسله، فإن الله بعثهم كما بعثني ". أخرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي بإسناده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لابن إسحاق القاضي ص 18. وفي إسناده عمر بن هارون هو متروك (تقريب التهذي وأخرجه البيهقي في (كتاب الدعوات الكبير ص 121 تحقيق بدر البدر) ، وفي إسناده موسى بن عبيدة المذكور. وأخرجه الخطيب في تاريخه (7 / 380) من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعا، وفي إسناده الحسن بن علي الطوابيقي، قال عنه الخطيب: مجهول.

(27/238)


الصَّلاَةَ عَلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ مَشْرُوعَةٌ (1) .

الصَّلاَةُ عَلَى غَيْرِ الأَْنْبِيَاءِ:
9 - أَمَّا الصَّلاَةُ عَلَى غَيْرِ الأَْنْبِيَاءِ؛ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى سَبِيل التَّبَعِيَّةِ، كَمَا جَاءَ فِي الأَْحَادِيثِ السَّابِقَةِ: اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ فَهَذَا جَائِزٌ بِالإِْجْمَاعِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا أَفْرَدَ غَيْرَ الأَْنْبِيَاءِ بِالصَّلاَةِ عَلَيْهِمْ. فَقَال قَائِلُونَ: يَجُوزُ ذَلِكَ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ} (2) وَقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ} (3) وَقَوْلِهِ: {وَصَل عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (4) .
وَبِخَبَرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَال: اللَّهُمَّ صَل عَلَيْهِمْ فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ، فَقَال: اللَّهُمَّ صَل عَلَى آل أَبِي أَوْفَى (5) .
__________
(1) جلاء الأفهام لابن القيم 348، تفسير ابن كثير، والفتوحات الإلهية، والقرطبي في تفسير آية الأحزاب - الأذكار للنووي 108.
(2) سورة الأحزاب / 43.
(3) سورة البقرة / 157.
(4) سورة التوبة.
(5) حديث عبد الله بن أوفى " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل عليهم، فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 169 ط. السلفية) ومسلم (صحيح مسلم 2 / 756 - 757 - ط. الحلبي) واللفظ له.

(27/239)


وَقَال الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: لاَ يَجُوزُ إِفْرَادُ غَيْرِ الأَْنْبِيَاءِ بِالصَّلاَةِ؛ لأَِنَّ هَذَا شِعَارٌ لِلأَْنْبِيَاءِ إِذَا ذُكِرُوا، فَلاَ يَلْحَقُ بِهِمْ غَيْرُهُمْ، فَلاَ يُقَال: قَال أَبُو بَكْرٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ قَال: عَلِيٌّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا، كَمَا لاَ يُقَال: مُحَمَّدٌ عَزَّ وَجَل، وَإِنْ كَانَ عَزِيزًا جَلِيلاً؛ لأَِنَّ هَذَا مِنْ شِعَارِ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل (1) .
أَمَّا السَّلاَمُ، فَقَدْ نَقَل ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ - مِنَ الشَّافِعِيَّةِ - أَنَّهُ فِي مَعْنَى الصَّلاَةِ، فَلاَ يُسْتَعْمَل فِي الْغَائِبِ، وَلاَ يُفْرَدُ بِهِ غَيْرُ الأَْنْبِيَاءِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الأَْحْيَاءُ وَالأَْمْوَاتُ. وَأَمَّا الْحَاضِرُ فَيُخَاطَبُ بِهِ، فَيُقَال: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ، وَسَلاَمٌ عَلَيْكَ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: لاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ يُدْعَى لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ بِالْمَغْفِرَةِ (2) .
__________
(1) تفسير ابن كثير في تفسير آية الأحزاب، الأذكار للنووي ص 108.
(2) تفسير ابن كثير في تفسير آية {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} .

(27/239)


صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ

حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا:
1 - الْحِكْمَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الْعِيدَيْنِ: أَنَّ كُل قَوْمٍ لَهُمْ يَوْمٌ يَتَجَمَّلُونَ فِيهِ وَيَخْرُجُونَ مِنْ بُيُوتِهِمْ بِزِينَتِهِمْ (1) . فَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَال: كَانَ لأَِهْل الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَانِ فِي كُل سَنَةٍ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ قَال: كَانَ لَكُمْ يَوْمَانِ تَلْعَبُونَ فِيهِمَا وَقَدْ أَبْدَلَكُمُ اللَّهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الأَْضْحَى (2) .

حُكْمُ صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ:
2 - صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْقَوْل الصَّحِيحِ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - وَالْمُرَادُ مِنَ الْوَاجِبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالسُّنَّةِ - وَدَلِيل ذَلِكَ: مُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا مِنْ دُونِ تَرْكِهَا وَلَوْ مَرَّةً، وَأَنَّهُ لاَ يُصَلِّي التَّطَوُّعَ بِجَمَاعَةٍ - مَا خَلاَ قِيَامِ رَمَضَانَ وَكُسُوفِ الشَّمْسِ وَصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ فَإِنَّهَا تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ،
__________
(1) حجة الله البالغة للدهلوي 2 / 23.
(2) حديث: " كان لكم يومان. . . ". أخرجه النسائي (3 / 179 - 180 ط المكتبة التجارية) .

(27/240)


فَلَوْ كَانَتْ سُنَّةً وَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً لاَسْتَثْنَاهَا الشَّارِعُ كَمَا اسْتَثْنَى التَّرَاوِيحَ وَصَلاَةَ الْخُسُوفِ (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى الْقَوْل بِأَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ. وَدَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِلأَْعْرَابِيِّ - وَكَانَ قَدْ ذَكَرَ لَهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَقَال لَهُ: هَل عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَال لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ (2) .
قَالُوا: وَلأَِنَّهَا صَلاَةٌ ذَاتُ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ لَمْ يُشْرَعْ لَهَا أَذَانٌ فَلَمْ تَجِبْ بِالشَّرْعِ، كَصَلاَةِ الضُّحَى (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى الْقَوْل بِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَل لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (4) ، وَلِمُدَاوَمَةِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فِعْلِهَا (5) .

شُرُوطُهَا:
شُرُوطُ الْوُجُوبِ:
3 - شُرُوطُ وُجُوبِ صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ
__________
(1) انظر بدائع الصنائع 1 / 274، 275، والهداية 1 / 60 وتحفة الفقهاء 1 / 283.
(2) حديث الأعرابي: " هل علي غيرهن. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 287 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 41 - ط. مسلم) من حديث طلحة بن عبيد الله.
(3) انظر المجموع للنووي 5 / 3، وجواهر الإكليل شرح مختصر خليل 1 / 101.
(4) سورة الكوثر 2.
(5) المغني لابن قدامة 2 / 304.

(27/240)


عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ بِعَيْنِهَا شُرُوطُ وُجُوبِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ. فَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهَا. (1) الإِْمَامُ (2) الْمِصْرُ (3) الْجَمَاعَةُ (4) الْوَقْتُ (5) الذُّكُورَةُ (6) الْحُرِّيَّةُ (7) صِحَّةُ الْبَدَنِ (8) الإِْقَامَةُ.
إِلاَّ الْخُطْبَةَ، فَإِنَّهَا سُنَّةٌ بَعْدَ الصَّلاَةِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ فِي بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ - وَهُوَ يُقَرِّرُ أَدِلَّةَ هَذِهِ الشُّرُوطِ -: أَمَّا الإِْمَامُ فَشَرْطٌ عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَا فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ، وَكَذَا الْمِصْرُ لِمَا روَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَال: لاَ جُمُعَةَ وَلاَ تَشْرِيقَ وَلاَ فِطْرَ وَلاَ أَضْحَى إِلاَّ فِي مِصْرٍ جَامِعٍ. وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ نَفْسَ الْفِطْرِ وَنَفْسَ الأَْضْحَى وَنَفْسَ التَّشْرِيقِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجَدُ فِي كُل مَوْضِعٍ، بَل الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ الْفِطْرِ وَالأَْضْحَى صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ؛ وَلأَِنَّهَا مَا ثَبَتَتْ بِالتَّوَارُثِ مِنَ الصَّدْرِ الأَْوَّل إِلاَّ فِي الأَْمْصَارِ. وَالْجَمَاعَةُ شَرْطٌ لأَِنَّهَا مَا أُدِّيَتْ إِلاَّ بِجَمَاعَةٍ، وَالْوَقْتُ شَرْطٌ فَإِنَّهَا لاَ تُؤَدَّى إِلاَّ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، بِهِ جَرَى التَّوَارُثُ وَكَذَا الذُّكُورَةُ وَالْعَقْل وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَصِحَّةُ الْبَدَنِ، وَالإِْقَامَةُ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِهَا كَمَا هِيَ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ، وَلأَِنَّ تَخَلُّفَ شَرْطٍ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ يُؤَثِّرُ فِي إِسْقَاطِ الْفَرْضِ فَلأََنْ تُؤَثِّرَ فِي إِسْقَاطِ

(27/241)


الْوَاجِبِ أَوْلَى (1) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ - وَصَلاَةُ الْعِيدَيْنِ عِنْدَهُمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ - فَإِنَّمَا شَرَطُوا لِفَرْضِيَّتِهَا: الاِسْتِيطَانَ، وَالْعَدَدَ الْمُشْتَرَطَ لِلْجُمُعَةِ (2) .
وَالْمَالِكِيَّةُ - وَهُمْ مِنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ صَلاَةَ الْعِيدَيْنِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ - شَرَطُوا لِذَلِكَ، أَيْ لِتَأْكِيدِ سُنِّيَّتِهَا: تَكَامُل شُرُوطِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ الْمُصَلِّي مُتَلَبِّسًا بِحَجٍّ. فَإِذَا فُقِدَ أَحَدُ الشُّرُوطِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ الْمَفْقُودُ هُوَ عَدَمُ التَّلَبُّسِ بِالْحَجِّ فَصَلاَةُ الْعِيدِ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ بِأَيِّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الطَّلَبِ، وَإِنْ كَانَ الْمَفْقُودُ هُوَ أَحَدُ شُرُوطِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ، كَالْمَرْأَةِ وَالْمُسَافِرِ، فَهِيَ فِي حَقِّهِمْ مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ بِسُنَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ. قَال الصَّفْتِيُّ: وَهِيَ سُنَّةٌ فِي حَقِّ مَنْ يُؤْمَرُ بِالْجُمُعَةِ وُجُوبًا إِلاَّ الْحَاجَّ فَلاَ تُسَنُّ لَهُ وَلاَ تُنْدَبُ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ وَالْمُسَافِرُ فَتُسْتَحَبُّ فِي حَقِّهِمْ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فِي حَقِّ كُل مُكَلَّفٍ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، مُقِيمًا أَوْ مُسَافِرًا، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا لِسُنِّيَّتِهَا شَرْطًا آخَرَ غَيْرَ التَّكْلِيفِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 275، المبسوط 2 / 37، وتحفة الفقهاء 1 / 284.
(2) كشاف القناع 1 / 455.
(3) حاشية الصفتي على الجواهر الزكية: 104.

(27/241)


وَقَالُوا بِاشْتِرَاطِ عَدَمِ التَّلَبُّسِ بِالْحَجِّ لأَِدَائِهَا جَمَاعَةً، أَيْ فَالْحَاجُّ تُسَنُّ لَهُ صَلاَةُ الْعِيدِ مُنْفَرِدًا لاَ جَمَاعَةً (1) .

شُرُوطُ الصِّحَّةِ:
4 - كُل مَا يُعْتَبَرُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ، فَهُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ أَيْضًا، مَا عَدَا الْخُطْبَةَ فَهِيَ هُنَا لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعِيدَيْنِ وَإِنَّمَا هِيَ سُنَّةٌ.
وَيُسْتَثْنَى - أَيْضًا - شَرْطُ عَدَمِ التَّعَدُّدِ (رَاجِعْ صَلاَةَ الْجُمُعَةِ) فَلاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ لِصَلاَةِ الْعِيدِ، قَال الْحَصْكَفِيُّ: وَتُؤَدَّى بِمِصْرٍ وَاحِدٍ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ اتِّفَاقًا، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: مُقَرِّرًا هَذَا الْكَلاَمَ: وَالْخِلاَفُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْجُمُعَةِ، فَيُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهَا: (1) الإِْمَامُ (2) وَالْمِصْرُ (3) وَالْجَمَاعَةُ (4) وَالْوَقْتُ.
وَقَدْ مَرَّ أَنَّهَا شُرُوطٌ لِلْوُجُوبِ أَيْضًا (2) .
هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدِ اشْتَرَطُوا الْوَقْتَ وَالْجَمَاعَةَ.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِصِحَّةِ صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ إِلاَّ الْوَقْتُ (3) .
أَمَّا الشُّرُوطُ الَّتِي هِيَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فِي صِحَّةِ
__________
(1) انظر مغني المحتاج: 1 / 301.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 555.
(3) الدسوقي 1 / 396، وما بعدها، وأسنى المطالب 1 / 279، وما بعدها، وكشاف القناع 1 / 455، 2 / 50.

(27/242)


الصَّلَوَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ طَهَارَةٍ وَاسْتِقْبَال قِبْلَةٍ. . . إِلَخْ فَلَيْسَ فِيهَا مِنْ خِلاَفٍ.
وَلِمَعْرِفَتِهَا (ر: صَلاَة) .

الْمَرْأَةُ وَصَلاَةُ الْعِيدَيْنِ:
5 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ خُرُوجِ الشَّابَّاتِ وَذَوَاتِ الْجَمَال لِصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ خَوْفِ الْفِتْنَةِ، وَلَكِنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا فِي الْمُقَابِل خُرُوجَ غَيْرِ ذَوَاتِ الْهَيْئَاتِ مِنْهُنَّ وَاشْتِرَاكَهُنَّ مَعَ الرِّجَال فِي الصَّلاَةِ.
وَذَلِكَ لِلْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْرِجُ الْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ وَالْحُيَّضِ فِي الْعِيدِ، فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَكُنَّ يَعْتَزِلْنَ الْمُصَلَّى وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ (1) .
وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجْنَ فِي ثِيَابٍ لاَ تَلْفِتُ النَّظَرَ دُونَ تَطَيُّبٍ وَلاَ تَبَرُّجٍ (2) .
وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي إِبَاحَةِ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ بَيْنَ كَوْنِ الْمَرْأَةِ شَابَّةً أَوْ عَجُوزًا. أَمَّا الشَّابَّاتُ مِنَ النِّسَاءِ وَذَوَاتُ الْجَمَال مِنْهُنَّ، فَلاَ يُرَخَّصُ لَهُنَّ
__________
(1)) العواتق جمع عاتق، وهي الفتاة التي تجاوزت الحلم، وحديث أم عطية أخرجه البخاري (الفتح 3 / 504 - ط. السلفية) ومسلم (2 / 606 ط. الحلبي) .
(2) المجموع للنووي 5 / 6، 8 والمغني لابن قدامة 2 / 310، 311، وحاشية الصفتي: 104.

(27/242)


فِي الْخُرُوجِ إِلَى صَلاَةِ الْعِيدِ وَلاَ غَيْرِهَا كَصَلاَةِ الْجُمُعَةِ (1) وَنَقَل الْكَاسَانِيُّ إِجْمَاعَ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (2) .
وَأَمَّا الْعَجَائِزُ فَلاَ خِلاَفَ أَنَّهُ يُرَخَّصُ لَهُنَّ الْخُرُوجُ لِلْعِيدِ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّلَوَاتِ
غَيْرَ أَنَّ الأَْفْضَل عَلَى كُل حَالٍ أَنْ تُصَلِّيَ الْمَرْأَةُ فِي بَيْتِهَا، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: هَل تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ لِلصَّلاَةِ أَمْ لِتَكْثِيرِ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ (3) ؟ .

وَقْتُ أَدَائِهَا:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ وَقْتَ صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ يَبْتَدِئُ عِنْدَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ قَدْرَ رُمْحٍ بِحَسَبِ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ الْمُجَرَّدَةِ - وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي تَحِل فِيهِ النَّافِلَةُ - وَيَمْتَدُّ وَقْتُهَا إِلَى ابْتِدَاءِ الزَّوَال (4) .
__________
(1) المبسوط للسرخسي 2 / 41، والبدائع للكاساني 1 / 275.
(2) سورة الأحزاب / 33.
(3) انظر بدائع الصنائع 1 / 275، 276، ولعل المقصود من خروج المرأة لصلاة العيد تحقيق كلا الأمرين، فمن كانت طاهرة تصلي مع الجماعة، ومن كانت حائضا تعتزل جانبا وتسمع الموعظة وتكثر سواد المسلمين، وهكذا كان الأمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(4) تحفة الفقهاء 1 / 284، والهداية 1 / 60، والدر المختار 1 / 583، والدسوقي 1 / 396، وكشاف القناع 2 / 50.

(27/243)


وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ وَقْتَهَا مَا بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَزَوَالِهَا، وَدَلِيلُهُمْ عَلَى أَنَّ وَقْتَهَا يَبْدَأُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ أَنَّهَا صَلاَةٌ ذَاتُ سَبَبٍ فَلاَ تُرَاعَى فِيهَا الأَْوْقَاتُ الَّتِي لاَ تَجُوزُ فِيهَا الصَّلاَةُ (1) .
أَمَّا الْوَقْتُ الْمُفَضَّل لَهَا، فَهُوَ عِنْدَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ قَدْرَ رُمْحٍ، إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ عَدَمُ تَأْخِيرِهَا عَنْ هَذَا الْوَقْتِ بِالنِّسْبَةِ لِعِيدِ الأَْضْحَى، وَذَلِكَ كَيْ يَفْرُغَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهَا لِذَبْحِ أَضَاحِيِّهِمْ، وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا قَلِيلاً عَنْ هَذَا الْوَقْتِ بِالنِّسْبَةِ لِعِيدِ الْفِطْرِ، وَذَلِكَ انْتِظَارًا لِمَنِ انْشَغَل فِي صُبْحِهِ بِإِخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ.
وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ عِنْدَ سَائِرِ الأَْئِمَّةِ (2) ، وَدَلِيلُهُمْ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ صَلاَتَيِ الْفِطْرِ وَالأَْضْحَى: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ: أَنْ يُقَدِّمَ صَلاَةَ الأَْضْحَى وَيُؤَخِّرَ صَلاَةَ الْفِطْرِ (3) .
__________
(1) انظر نهاية المحتاج للرملي 2 / 276.
(2) راجع الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 1 / 583، والدسوقي 1 / 396، والمجموع للنووي 5 / 3، والمغني لابن قدامة 2 / 312.
(3) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى بعض أصحابه: أن يقدم صلاة الأضحى ". أخرجه الشافعي في الأم (1 / 232 نشر دار المعرفة) وضعفه ابن حجر في التلخيص (2 / 83 - ط شركة الطباعة الفنية) .

(27/243)


حُكْمُهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا:
لِفَوَاتِ صَلاَةِ الْعِيدِ عَنْ وَقْتِهَا ثَلاَثُ صُوَرٍ:
7 - الصُّورَةُ الأُْولَى: أَنْ تُؤَدَّى صَلاَةُ الْعِيدِ جَمَاعَةً فِي وَقْتِهَا مِنَ الْيَوْمِ الأَْوَّل وَلَكِنَّهَا فَاتَتْ بَعْضَ الأَْفْرَادِ، وَحُكْمُهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّهَا فَاتَتْ إِلَى غَيْرِ قَضَاءٍ، فَلاَ تُقْضَى مَهْمَا كَانَ الْعُذْرُ؛ لأَِنَّهَا صَلاَةٌ خَاصَّةٌ لَمْ تُشْرَعْ إِلاَّ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَبِقُيُودٍ خَاصَّةٍ، فَلاَ بُدَّ مِنْ تَكَامُلِهَا جَمِيعًا، وَمِنْهَا الْوَقْتُ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَقَدْ أَطْلَقُوا الْقَوْل بِمَشْرُوعِيَّةِ قَضَائِهَا - عَلَى الْقَوْل الصَّحِيحِ فِي الْمَذْهَبِ - فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ وَكَيْفَمَا كَانَ: مُنْفَرِدًا أَوْ جَمَاعَةً، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمُ الْمُعْتَمَدِ، وَهُوَ أَنَّ نَوَافِل الصَّلاَةِ كُلَّهَا يُشْرَعُ قَضَاؤُهَا (2) . وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَقَالُوا: لاَ تُقْضَى صَلاَةُ الْعِيدِ، فَإِنْ أَحَبَّ قَضَاءَهَا فَهُوَ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ صَلاَّهَا أَرْبَعًا، إِمَّا بِسَلاَمٍ وَاحِدٍ، وَإِمَّا بِسَلاَمَيْنِ (3) .
8 - الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لاَ تَكُونَ صَلاَةُ الْعِيدِ
__________
(1) البدائع 1 / 276، والدسوقي 1 / 396، 400.
(2) المجموع: 5 / 27 و 28.
(3) المغني لابن قدامة 2 / 324.

(27/244)


قَدْ أُدِّيَتْ جَمَاعَةً فِي وَقْتِهَا مِنَ الْيَوْمِ الأَْوَّل، وَذَلِكَ إِمَّا بِسَبَبِ عُذْرٍ: كَأَنْ غُمَّ عَلَيْهِمُ الْهِلاَل وَشَهِدَ شُهُودٌ عِنْدَ الإِْمَامِ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل بَعْدَ الزَّوَال، وَإِمَّا بِدُونِ عُذْرٍ.
فَفِي حَالَةِ الْعُذْرِ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا إِلَى الْيَوْمِ الثَّانِي سَوَاءٌ كَانَ الْعِيدُ عِيدَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى؛ لأَِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ قَوْمًا شَهِدُوا بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ، فَأَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى مِنَ الْغَدِ (1) .
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَيُشْرَعُ قَضَاءُ صَلاَةِ الْعِيدِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عِنْدَ تَأَخُّرِ الشَّهَادَةِ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَقَدْ أَطْلَقُوا الْقَوْل بِعَدَمِ قَضَائِهَا فِي مِثْل هَذِهِ الْحَال (2) .
إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ لاَ يَعْتَبِرُونَ صَلاَتَهَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي قَضَاءً إِذَا تَأَخَّرَتِ الشَّهَادَةُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي قَبْلَهُ إِلَى مَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. بَل لاَ تُقْبَل الشَّهَادَةُ حِينَئِذٍ وَيُعْتَبَرُ الْيَوْمُ الثَّانِي أَوَّل أَيَّامِ الْعِيدِ، فَتَكُونُ الصَّلاَةُ قَدْ أُدِّيَتْ فِي وَقْتِهَا (3) .
__________
(1) حديث: " أن قوما شهدوا برؤية الهلال في آخر يوم من أيام رمضان ". أخرجه أبو داود (1 / 586 - 587 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والدارقطني (2 / 170 ط. دار المحاسن) وحسنه الدارقطني.
(2) انظر بداية المجتهد 1 / 212.
(3) انظر المحلى على المنهاج 1 / 309.

(27/244)


9 - الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تُؤَخَّرَ صَلاَةُ الْعِيدِ عَنْ وَقْتِهَا بِدُونِ الْعُذْرِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ. فَيُنْظَرُ حِينَئِذٍ: إِنْ كَانَ الْعِيدُ عِيدَ فِطْرٍ سَقَطَتْ أَصْلاً وَلَمْ تُقْضَ. وَإِنْ كَانَ عِيدَ أَضْحَى جَازَ تَأْخِيرُهَا إِلَى ثَالِثِ أَيَّامِ النَّحْرِ، أَيْ يَصِحُّ قَضَاؤُهَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَإِلاَّ فَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ فِي السَّمَاءِ إِلَى أَوَّل الزَّوَال، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَلَكِنْ تَلْحَقُهُ الإِْسَاءَةُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ بِذَلِكَ (1) .

مَكَانُ أَدَائِهَا:
10 - كُل مَكَان طَاهِرٍ، يَصْلُحُ أَنْ تُؤَدَّى فِيهِ صَلاَةُ الْعِيدِ، سَوَاءٌ كَانَ مَسْجِدًا أَوْ عَرْصَةً وَسَطَ الْبَلَدِ أَوْ مَفَازَةً خَارِجَهَا. إِلاَّ أَنَّهُ يُسَنُّ الْخُرُوجُ لَهَا إِلَى الصَّحْرَاءِ أَوْ إِلَى مَفَازَةٍ وَاسِعَةٍ خَارِجَ الْبَلَدِ تَأَسِّيًا بِمَا كَانَ يَفْعَلُهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ الإِْمَامُ غَيْرَهُ فِي الْبَلْدَةِ لِيُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ بِالضُّعَفَاءِ الَّذِينَ لاَ طَاقَةَ لَهُمْ بِالْخُرُوجِ لَهَا إِلَى الصَّحْرَاءِ (2) .
وَلَمْ يُخَالِفْ أَحَدٌ مِنَ الأَْئِمَّةِ فِي ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَيَّدُوا أَفْضَلِيَّةَ الصَّلاَةِ فِي
__________
(1) درر الحكام في شرح غرر الأحكام 1 / 103، 104، ومجمع الأنهر 1 / 169، والبدائع 1 / 276.
(2) انظر الدر المختار 1 / 581، مع حاشية ابن عابدين عليه. وبدائع الصنائع 1 / 275.

(27/245)


الصَّحْرَاءِ بِمَا إِذَا كَانَ مَسْجِدُ الْبَلَدِ ضَيِّقًا.
وَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ وَاسِعًا لاَ يَتَزَاحَمُ فِيهِ النَّاسُ، فَالصَّلاَةُ فِيهِ أَفْضَل؛ لأَِنَّ الأَْئِمَّةَ لَمْ يَزَالُوا يُصَلُّونَ صَلاَةَ الْعِيدِ بِمَكَّةَ فِي الْمَسْجِدِ؛ وَلأَِنَّ الْمَسْجِدَ أَشْرَفُ وَأَنْظَفُ. وَنَقَل صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَهُ: إِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ وَاسِعًا فَصَلَّى فِي الصَّحْرَاءِ فَلاَ بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَصَلَّى فِيهِ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى الصَّحْرَاءِ كُرِهَتْ؛ لأَِنَّهُ إِذَا تَرَكَ الْمَسْجِدَ وَصَلَّى فِي الصَّحْرَاءِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ ضَرَرٌ، وَإِذَا تَرَكَ الصَّحْرَاءَ وَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الضَّيِّقِ تَأَذَّوْا بِالزِّحَامِ، وَرُبَّمَا فَاتَ بَعْضَهُمُ الصَّلاَةُ (1) .

كَيْفِيَّةُ أَدَائِهَا:
أَوَّلاً - الْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ:
11 - صَلاَةُ الْعِيدِ، لَهَا حُكْمُ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ الْمَشْرُوعَةِ؛ فَيَجِبُ وَيُفْرَضُ فِيهَا كُل مَا يَجِبُ وَيُفْرَضُ فِي الصَّلَوَاتِ الأُْخْرَى.
وَيَجِبُ فِيهَا - زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ - مَا يَلِي:
أَوَّلاً: - أَنْ تُؤَدَّى فِي جَمَاعَةٍ وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
ثَانِيًا: - الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا، وَذَلِكَ لِلنَّقْل الْمُسْتَفِيضِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثَالِثًا: أَنْ يُكَبِّرَ الْمُصَلِّي ثَلاَثَ تَكْبِيرَاتٍ
__________
(1) المهذب لأبي إسحاق الشيرازي مع شرحه المجموع للنووي 5 / 4.

(27/245)


زَوَائِدَ بَيْنَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ وَالرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى، وَأَنْ يُكَبِّرَ مِثْلَهَا - أَيْضًا - بَيْنَ تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ.
وَسِيَّانِ (بِالنِّسْبَةِ لأَِدَاءِ الْوَاجِبِ) أَنْ تُؤَدَّى هَذِهِ التَّكْبِيرَاتُ قَبْل الْقِرَاءَةِ أَوْ بَعْدَهَا، مَعَ رَفْعِ الْيَدَيْنِ أَوْ بِدُونِهِمَا، وَمَعَ السُّكُوتِ بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ أَوْ الاِشْتِغَال بِتَسْبِيحٍ وَنَحْوِهِ (1) .
أَمَّا الأَْفْضَل فَسَنَتَحَدَّثُ عَنْهُ عِنْدَ الْبَحْثِ فِي كَيْفِيَّتِهَا الْمَسْنُونَةِ.
فَمَنْ أَدْرَكَ الإِْمَامَ بَعْدَ أَنْ كَبَّرَ هَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ: فَإِنْ كَانَ لاَ يَزَال فِي الْقِيَامِ كَبَّرَ الْمُؤْتَمُّ لِنَفْسِهِ بِمُجَرَّدِ الدُّخُول فِي الصَّلاَةِ، وَتَابَعَ الإِْمَامَ. أَمَّا إِذَا أَدْرَكَهُ رَاكِعًا فَلْيَرْكَعْ مَعَهُ، وَلْيُكَبِّرْ تَكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ أَثْنَاءَ رُكُوعِهِ بَدَلٌ مِنْ تَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ (2) .
وَهَذِهِ التَّكْبِيرَاتُ الزَّائِدَةُ قَدْ خَالَفَ فِي وُجُوبِهَا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ هَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ وَمَكَانِهَا.
فَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا: هِيَ سَبْعٌ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى بَيْنَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ وَبَدْءِ الْقِرَاءَةِ، وَخَمْسٌ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَيْنَ تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ وَبَدْءِ الْقِرَاءَةِ أَيْضًا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا سِتُّ
__________
(1) انظر الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 1 / 584، 585، والهداية 1 / 60، والبدائع 1 / 277.
(2) الدر المختار 1 / 584، 585.

(27/246)


تَكْبِيرَاتٍ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى عَقِبَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، وَخَمْسٌ فِي الثَّانِيَةِ عَقِبَ الْقِيَامِ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَيْ قَبْل الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ وَالْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَطْ. وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ (1) .

ثَانِيًا: الْمَنْدُوبُ مِنْ ذَلِكَ:
12 - يُنْدَبُ فِي صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ كُل مَا يُنْدَبُ فِي الصَّلَوَاتِ الأُْخْرَى: فِعْلاً كَانَ، أَوْ قِرَاءَةً، وَتَخْتَصُّ صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ بِمَنْدُوبَاتٍ أُخْرَى نُجْمِلُهَا فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً - يُسَنُّ أَنْ يَسْكُتَ بَيْنَ كُل تَكْبِيرَتَيْنِ مِنَ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ قَدْرَ ثَلاَثِ تَسْبِيحَاتٍ وَلاَ يُسَنُّ أَنْ يَشْتَغِل بَيْنَهُمَا بِذِكْرٍ أَوْ تَسْبِيحٍ.
ثَانِيًا - يُسَنُّ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ عِنْدَ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ، بِخِلاَفِ تَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ فَلاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَهَا.
ثَالِثًا - يُسَنُّ أَنْ يُوَالِيَ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُكَبِّرَ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدَ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى قَبْل الْقِرَاءَةِ، وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَهَا، فَتَكُونُ الْقِرَاءَتَانِ مُتَّصِلَتَيْنِ عَلَى ذَلِكَ.
رَابِعًا - يُسَنُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى سُورَةَ
__________
(1) راجع حاشية الصفتي على الجواهر الزكية: 104، والمغني لابن قدامة 2 / 314، 318.

(27/246)


الأَْعْلَى وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ سُورَةَ الْغَاشِيَةِ وَلاَ يَلْتَزِمُهُمَا دَائِمًا كَيْ لاَ يَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ هَجْرُ بَقِيَّةِ سُوَرِ الْقُرْآنِ.
خَامِسًا - يُسَنُّ أَنْ يَخْطُبَ بَعْدَهَا خُطْبَتَيْنِ، لاَ يَخْتَلِفُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فِي وَاجِبَاتِهَا وَسُنَنِهَا عَنْ خُطْبَتَيِ الْجُمُعَةِ. إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْتَتِحَ الأُْولَى مِنْهُمَا بِتِسْعِ تَكْبِيرَاتٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَالثَّانِيَةَ بِسَبْعٍ مِثْلَهَا (1) .
هَذَا وَلاَ يُشْرَعُ لِصَلاَةِ الْعِيدِ أَذَانٌ وَلاَ إِقَامَةٌ، بَل يُنَادَى لَهَا: الصَّلاَةَ جَامِعَةً.
13 - وَلَهَا - أَيْضًا - سُنَنٌ تَتَّصِل بِهَا وَهِيَ قَبْل الصَّلاَةِ أَوْ بَعْدَهَا نُجْمِلُهَا فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: أَنْ يَطْعَمَ شَيْئًا قَبْل غُدُوِّهِ إِلَى الصَّلاَةِ إِذَا كَانَ الْعِيدُ عِيدَ فِطْرٍ، وَيُسَنُّ أَنْ يَكُونَ الْمَطْعُومُ حُلْوًا كَتَمْرٍ وَنَحْوِهِ، لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لاَ يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُل تَمَرَاتٍ (2) .
ثَانِيًا: يُسَنُّ أَنْ يَغْتَسِل وَيَتَطَيَّبَ وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ.
ثَالِثًا: يُسَنُّ الْخُرُوجُ إِلَى الْمُصَلَّى مَاشِيًا، فَإِذَا عَادَ نُدِبَ لَهُ أَنْ يَسِيرَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى
__________
(1) انظر البدائع 1 / 277، والدر المختار 1 / 285، ومجمع الأنهر 1 / 169، والمبسوط 2 / 39.
(2) حديث: " كان لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ". أخرجه البخاري (الفتح2 / 446 - ط. السلفية) من حديث أنس.

(27/247)


غَيْرَ الَّتِي أَتَى مِنْهَا. وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَعُودَ رَاكِبًا.
ثُمَّ إِنْ كَانَ الْعِيدُ فِطْرًا سُنَّ الْخُرُوجُ إِلَى الْمُصَلَّى بِدُونِ جَهْرٍ بِالتَّكْبِيرِ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
رَابِعًا: إِنْ كَانَ أَضْحَى فَيُسَنُّ الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ فِي الطَّرِيقِ إِلَيْهِ.
قَال فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: قِيل: وَفِي الْمُصَلَّى أَيْضًا وَعَلَيْهِ عَمَل النَّاسِ الْيَوْمَ (2) .
وَاتَّفَقَتْ بَقِيَّةُ الأَْئِمَّةِ مَعَ الْحَنَفِيَّةِ فِي اسْتِحْبَابِ الْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى مَاشِيًا وَالْعَوْدِ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، وَأَنْ يَطْعَمَ شَيْئًا يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ قَبْل خُرُوجِهِ إِلَى الصَّلاَةِ، وَأَنْ يَغْتَسِل وَيَتَطَيَّبَ وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ.
أَمَّا التَّكْبِيرُ فِي الطَّرِيقِ إِلَى الْمُصَلَّى فَقَدْ خَالَفَ الْحَنَفِيَّةَ فِي ذَلِكَ كُلٌّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ التَّكْبِيرُ عِنْدَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى وَالْجَهْرُ بِهِ فِي كُلٍّ مِنْ عِيدَيِ الْفِطْرِ وَالأَْضْحَى.
وَأَمَّا التَّكْبِيرُ فِي الْمُصَلَّى: فَقَدْ ذَهَبَتِ الشَّافِعِيَّةُ (فِي الأَْصَحِّ مِنْ أَقْوَالٍ ثَلاَثَةٍ) إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلنَّاسِ الاِسْتِمْرَارُ فِي التَّكْبِيرِ إِلَى أَنْ يُحْرِمَ الإِْمَامُ بِصَلاَةِ الْعِيدِ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ - أَيْضًا - إِلَى ذَلِكَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 581.
(2) الدر المختار 1 / 586.
(3) انظر المجموع للنووي 5 / 32

(27/247)


اسْتِحْسَانًا. قَال الْعَلاَّمَةُ الدُّسُوقِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: وَأَمَّا التَّكْبِيرُ جَمَاعَةً وَهُمْ جَالِسُونَ فِي الْمُصَلَّى فَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتُحْسِنَ، وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا (1) .
وَأَمَّا التَّكْبِيرَاتُ الزَّوَائِدُ فِي الصَّلاَةِ: فَقَدْ خَالَفَ الْحَنَفِيَّةَ فِي اسْتِحْبَابِ مُوَالاَتِهَا، وَعَدَمِ فَصْل أَيِّ ذِكْرٍ بَيْنَهَا كُلٌّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ ذَهَبَ هَؤُلاَءِ جَمِيعًا إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْصِل بَيْنَهَا بِذِكْرٍ، وَأَفْضَلُهُ أَنْ يَقُول: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. أَوْ يَقُول: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً.
كَمَا خَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الأَْفْضَل عَدَمُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ شَيْءٍ مِنْهَا. كَمَا خَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ، فِي عَدَدِ التَّكْبِيرَاتِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ افْتِتَاحُ الْخُطْبَةِ بِهَا. وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَهُمْ أَنْ تُفْتَتَحَ الْخُطْبَةُ بِالتَّكْبِيرِ وَلاَ تَحْدِيدَ لِلْعَدَدِ عِنْدَهُمْ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ سُنَّةَ لَهَا قَبْلِيَّةً وَلاَ بَعْدِيَّةً، وَلاَ تُصَلَّى أَيُّ نَافِلَةٍ قَبْلَهَا وَقَبْل الْفَرَاغِ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 320، والمغني لابن قدامة 1 / 310.
(2) انظر جواهر الإكليل شرح مختصر الشيخ خليل 1 / 103.

(27/248)


مِنْ خُطْبَتِهَا؛ لأَِنَّ الْوَقْتَ وَقْتُ كَرَاهَةٍ، فَلاَ يُصَلَّى فِيهِ غَيْرُ الْعِيدِ. أَمَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْخُطْبَةِ فَلاَ بَأْسَ بِالصَّلاَةِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ التَّنَفُّل قَبْلَهَا وَلاَ بَعْدَهَا لِمَا عَدَا الإِْمَامَ، سَوَاءٌ صُلِّيَتْ فِي الْمَسْجِدِ أَوِ الْمُصَلَّى (2) . وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: يُكْرَهُ التَّنَفُّل قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا إِلَى الزَّوَال، إِنْ أُدِّيَتْ فِي الْمُصَلَّى وَلاَ يُكْرَهُ إِنْ أُدِّيَتْ فِي الْمَسْجِدِ (3) .
وَلِلْحَنَابِلَةِ تَفْصِيلٌ آخَرُ فَقَدْ قَالُوا: لاَ يَتَنَفَّل قَبْل الصَّلاَةِ وَلاَ بَعْدَهَا كُلٌّ مِنَ الإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِ، فِي الْمَكَانِ الَّذِي صُلِّيَتْ فِيهِ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا فَلاَ بَأْسَ (4) .

مُفْسِدَاتُ صَلاَةِ الْعِيدِ:
14 - لِصَلاَةِ الْعِيدِ مُفْسِدَاتٌ مُشْتَرَكَةٌ وَمُفْسِدَاتٌ خَاصَّةٌ.
أَمَّا مُفْسِدَاتُهَا الْمُشْتَرَكَةُ: فَهِيَ مُفْسِدَاتُ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. (رَاجِعْ: صَلاَة)
وَأَمَّا مُفْسِدَاتُهَا الْخَاصَّةُ بِهَا، فَتُلَخَّصُ فِي أَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنْ يَخْرُجَ وَقْتُهَا أَثْنَاءَ أَدَائِهَا بِأَنْ
__________
(1) تحفة الفقهاء 1 / 294، والمبسوط 2 / 41، والبدائع 1 / 280.
(2) المجموع للنووي 5 / 13.
(3) شرح الدردير على متن خليل 1 / 322.
(4) المغني لابن قدامة 2 / 321، 323.

(27/248)


يَدْخُل وَقْتُ الزَّوَال، فَتَفْسُدَ بِذَلِكَ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: أَيْ يَفْسُدُ وَصْفُهَا وَتَنْقَلِبُ نَفْلاً، اتِّفَاقًا إِنْ كَانَ الزَّوَال قَبْل الْقُعُودِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، وَعَلَى قَوْل الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ إِنْ كَانَ بَعْدَهُ (1) .
الثَّانِي: انْفِسَاخُ الْجَمَاعَةِ أَثْنَاءَ أَدَائِهَا.
فَذَلِكَ - أَيْضًا - مِنْ مُفْسِدَاتِ صَلاَةِ الْعِيدِ. وَهَل يُشْتَرَطُ لِفَسَادِهَا أَنْ تُفْسَخَ الْجَمَاعَةُ قَبْل أَنْ تُقَيَّدَ الرَّكْعَةُ الأُْولَى بِالسَّجْدَةِ، أَمْ تَفْسُدُ مُطْلَقًا؟ يَرِدُ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلُهُ فِي مُفْسِدَاتِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ (ر: صَلاَةُ الْجُمُعَةِ) . وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ لاِنْفِسَاخِ الْجَمَاعَةِ.

مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى فَسَادِهَا:
15 - قَال صَاحِبُ الْبَدَائِعِ: إنْ فَسَدَتْ صَلاَةُ الْعِيدِ بِمَا تَفْسُدُ بِهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ مِنَ الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، يَسْتَقْبِل الصَّلاَةَ عَلَى شَرَائِطِهَا، وَإِنْ فَسَدَتْ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، أَوْ فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا مَعَ الإِْمَامِ سَقَطَتْ وَلاَ يَقْضِيهَا عِنْدَنَا (2) .
وَسَائِرُ الأَْئِمَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ صَلاَةَ الْعِيدِ إِذَا فَسَدَتْ بِمَا تَفْسُدُ بِهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ
__________
(1) ابن عابدين على الدر المختار 1 / 583.
(2) بدائع الصنائع 1 / 279.

(27/249)


الأُْخْرَى، تُسْتَأْنَفُ مِنْ جَدِيدٍ.
أَمَّا إِنْ فَسَدَتْ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ قَضَائِهَا أَوْ إِعَادَتِهَا، وَقَدْ مَرَّ تَفْصِيل الْبَحْثِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى وَقْتِ صَلاَةِ الْعِيدِ ف 7 وَمَا بَعْدَهَا.

شَعَائِرُ وَآدَابُ الْعِيدِ:
16 - أَمَّا شَعَائِرُهُ فَأَبْرَزُهَا: التَّكْبِيرُ.
وَصِيغَتُهُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ (1) .
وَخَالَفَتِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، فَذَهَبُوا إِلَى جَعْل التَّكْبِيرَاتِ الأُْولَى فِي الصِّيغَةِ ثَلاَثًا بَدَل ثِنْتَيْنِ.
ثُمَّ إِنَّ هَذَا التَّكْبِيرَ يُعْتَبَرُ شِعَارًا لِكُلٍّ مِنْ عِيدَيِ الْفِطْرِ وَالأَْضْحَى، أَمَّا مَكَانُ التَّكْبِيرِ وَحُكْمُهُ وَكَيْفِيَّتُهُ فِي عِيدِ الْفِطْرِ فَقَدْ مَرَّ الْحَدِيثُ عَنْهُ ف / 12.
وَأَمَّا حُكْمُهُ وَمَكَانُهُ فِي عِيدِ الأَْضْحَى، فَيَجِبُ التَّكْبِيرُ مُرَّةً عَقِبَ كُل فَرْضٍ أُدِّيَ جَمَاعَةً، أَوْ قُضِيَ فِي أَيَّامِ الْعِيدِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مَتْرُوكًا فِيهَا، مِنْ بَعْدِ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى مَا بَعْدِ عَصْرِ يَوْمٍ الْعِيدِ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ (وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ) إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ بَعْدَ كُل فَرْضٍ مُطْلَقًا،
__________
(1) راجع الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 1 / 587

(27/249)


وَلَوْ كَانَ الْمُصَلِّي مُنْفَرِدًا أَوْ مُسَافِرًا أَوِ امْرَأَةً، مِنْ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى مَا بَعْدَ عَصْرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (1) .
أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ التَّكْبِيرِ: فَسَائِرُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ سُنَّةٌ أَوْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.
وَالْمَالِكِيَّةُ يُشْرَعُ التَّكْبِيرُ عِنْدَهُمْ إِثْرَ خَمْسَ عَشْرَةَ صَلاَةً تَبْدَأُ مِنْ ظُهْرِ يَوْمِ النَّحْرِ (2) .
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِنَوْعِ الصَّلاَةِ الَّتِي يُشْرَعُ بَعْدَهَا التَّكْبِيرُ: فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِي ذَلِكَ الْمَذَاهِبُ:
فَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ التَّكْبِيرُ عَقِبَ كُل الصَّلَوَاتِ فَرْضًا كَانَتْ أَمْ نَافِلَةً عَلَى اخْتِلاَفِهَا لأَِنَّ التَّكْبِيرَ شِعَارُ الْوَقْتِ فَلاَ يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنَ الصَّلاَةِ دُونَ آخَرَ (3) .
وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْفُرُوضِ الْمُؤَدَّاةِ جَمَاعَةً مِنْ صَلاَةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى صَلاَةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَلاَ يُشْرَعُ عَقِبَ مَا أُدِّيَ فُرَادَى مِنَ الصَّلَوَاتِ (4) .
وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ عَقِبَ
__________
(1) الدر المختار 1 / 587، 588، ومجمع الأنهر 1 / 170، 171.
(2) انظر شرح الدردير 1 / 322.
(3) انظر المحلى على المنهاج 1 / 309.
(4) المغني لابن قدامة 2 / 328.

(27/250)


الْفَرَائِضِ الَّتِي تُصَلَّى أَدَاءً، فَلاَ يُشْرَعُ عَقِبَ مَا صُلِّيَ مِنْ ذَلِكَ قَضَاءً مُطْلَقًا أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مَتْرُوكَاتِ الْعِيدِ أَمْ لاَ (1) . ر: تَكْبِير ج 13 ف 7، 14، 15. مِنَ الْمَوْسُوعَةِ

17 - وَأَمَّا آدَابُهُ فَمِنْهَا: الاِغْتِسَال وَيَدْخُل وَقْتُهُ بِنِصْفِ اللَّيْل، وَالتَّطَيُّبُ، وَالاِسْتِيَاكُ، وَلُبْسُ أَحْسَنِ الثِّيَابِ. وَيُسَنُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْل الصَّلاَةِ، وَأَدَاءُ فِطْرَتِهِ قَبْل الصَّلاَةِ.
وَمِنْ آدَابِ الْعِيدِ: إِظْهَارُ الْبَشَاشَةِ وَالسُّرُورِ فِيهِ أَمَامَ الأَْهْل وَالأَْقَارِبِ وَالأَْصْدِقَاءِ، وَإِكْثَارُ الصَّدَقَاتِ (2) . قَال فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: وَالتَّهْنِئَةُ بِتَقَبَّل اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ لاَ تُنْكَرُ.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ الْخِلاَفَ فِي ذَلِكَ ثُمَّ صَحَّحَ الْقَوْل بِأَنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ لاَ يُنْكَرُ، وَاسْتَنَدَ فِي تَصْحِيحِهِ هَذَا إِلَى مَا نَقَلَهُ عَنِ الْمُحَقِّقِ ابْنِ أَمِيرِ الْحَاجِّ مِنْ قَوْلِهِ: بِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ فِي الْجُمْلَةِ. وَقَاسَ عَلَى ذَلِكَ مَا اعْتَادَهُ أَهْل الْبِلاَدِ الشَّامِيَّةِ وَالْمِصْرِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِمْ لِبَعْضٍ: عِيدٌ مُبَارَكٌ (3) .
وَذَكَرَ الشِّهَابُ ابْنُ حَجَرٍ - أَيْضًا - أَنَّ هَذِهِ التَّهْنِئَةَ عَلَى اخْتِلاَفِ صِيَغِهَا مَشْرُوعَةٌ،
__________
(1) شرح الدردير على متن خليل 1 / 322.
(2) الدر المختار 1 / 581، والهداية 1 / 60، وتحفة الفقهاء 1 / 295، ومجمع الأنهر 1 / 167.
(3) انظر الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 1 / 581.

(27/250)


وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ الْبَيْهَقِيُّ عَقَدَ لَهُ بَابًا فَقَال: بَابُ مَا رُوِيَ فِي قَوْل النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الْعِيدِ: تَقَبَّل اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ، وَسَاقَ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَخْبَارٍ وَآثَارٍ ضَعِيفَةٍ لَكِنْ مَجْمُوعُهَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي مِثْل ذَلِكَ، ثُمَّ قَال الشِّهَابُ: وَيُحْتَجُّ لِعُمُومِ التَّهْنِئَةِ بِسَبَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ نِعْمَةٍ، أَوْ يَنْدَفِعُ مِنْ نِقْمَةٍ بِمَشْرُوعِيَّةِ سُجُودِ الشُّكْرِ (1) ، وَبِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ تَوْبَتِهِ لَمَّا تَخَلَّفَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: أَنَّهُ لَمَّا بُشِّرَ بِقَبُول تَوْبَتِهِ مَضَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ إِلَيْهِ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَهَنَّأَهُ (2) .
كَمَا يُكْرَهُ حَمْل السِّلاَحِ فِيهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَخَافَةَ عَدُوٍّ مَثَلاً؛ لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) .