الموسوعة
الفقهية الكويتية ضَأْنٌ
انْظُرْ: غَنَم
__________
(1) أعلام الموقعين 3 / 120.
(28/166)
ضَائِعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الضَّائِعُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ ضَاعَ الشَّيْءُ يَضِيعُ ضَيْعًا
وَضِيَعًا وَضِيَاعًا وَضَيَاعًا - بِكَسْرِ الضَّادِ وَفَتْحِهَا فِيهِمَا
- إِذَا فُقِدَ وَهَلَكَ وَتَلِفَ وَصَارَ مُهْمَلاً. وَالضَّيْعَةُ:
الْعَقَارُ، وَالْجَمْعُ ضِيَاعٌ وَضِيَعٌ. خَصَّ أَهْل اللُّغَةِ لَفْظَ "
ضَائِعٍ " بِغَيْرِ الْحَيَوَانِ كَالْعِيَال وَالْمَال، يُقَال: أَضَاعَ
الرَّجُل عِيَالَهُ وَمَالَهُ، وَضَيَّعَهُمْ إِضَاعَةً فَهُوَ مُضِيعٌ
وَمُضَيِّعٌ بِكَسْرِ الضَّادِ وَفَتْحِهَا (1) .
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الضَّالَّةُ:
2 - فِي اللُّغَةِ: الضَّالَّةُ الْحَيَوَانُ الضَّائِعُ، وَعَرَّفَ
الْفُقَهَاءُ الضَّالَّةَ بِأَنَّهَا: نَعَمٌ وُجِدَ بِغَيْرِ حِرْزٍ
مُحْتَرَمٍ (2) .
__________
(1) الصحاح ولسان العرب والمصباح المنير وتاج العروس والمعجم الوسيط.
(2) التاج والإكليل بهامش الحطاب 6 / 69.
(28/166)
ب - اللُّقَطَةُ
3 - اللُّقَطَةُ: الْمَال الضَّائِعُ مِنْ رَبِّهِ يَلْتَقِطُهُ غَيْرُهُ
أَوِ الشَّيْءُ الَّذِي يَجِدُهُ الْمَرْءُ مُلْقًى فَيَأْخُذُهُ
أَمَانَةً.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَال الْمَلْقُوطِ وَالْمَال الضَّائِعِ: أَنَّ
الأَْوَّل يُعْرَفُ مَالِكُهُ، أَمَّا الثَّانِي فَلاَ، كَمَا أَنَّ
اللُّقَطَةَ يَخُصُّ إِطْلاَقُهَا بِالْمَال أَوِ الاِخْتِصَاصِ
الْمُحْتَرَمِ، أَمَّا الضَّائِعُ فَيُطْلَقُ عَلَى الأَْمْوَال
وَالأَْشْخَاصِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
يَتَعَلَّقُ بِالضَّائِعِ جُمْلَةٌ مِنَ الأَْحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ،
وَمِنْهَا:
أ - ضَيَاعُ الْمَال بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ:
4 - مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فَلَمْ يُخْرِجْهَا حَتَّى ضَاعَ
الْمَال فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِنْ كَانَ ضَيَاعُهُ
بِتَفْرِيطِهِ أَوْ فَرَّطَ فِي الإِْخْرَاجِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ وَجَبَتْ
عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ: (زَكَاة ف 139) .
ب - مَا يُجْمَعُ فِي بَيْتِ الضَّوَائِعِ:
5 - مِنْ أَقْسَامِ بَيْتِ الْمَال بَيْتُ الضَّوَائِعِ، وَتُجْمَعُ فِيهِ
الأَْمْوَال الضَّائِعَةُ وَنَحْوُهَا مِنْ لُقَطَةٍ لاَ يُعْرَفُ
صَاحِبُهَا أَوْ مَسْرُوقٍ لاَ يُعْلَمُ
__________
(1) حاشية القليوبي وعميرة 3 / 115.
(28/167)
صَاحِبُهُ، فَتُحْفَظُ مُحْرَزَةً
لأَِصْحَابِهَا، فَإِنْ حَصَل الْيَأْسُ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ صُرِفَ فِي
وَجْهِهِ.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (بَيْتُ الْمَال ف 10) .
ج - ضَمَانُ الْمَال الضَّائِعِ:
6 - اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ إِضَاعَةَ الْمَال صُورَةً مِنْ صُوَرِ
الإِْتْلاَفِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَوْجُهِ
الْمُعَامَلاَتِ، كَالْعَارِيَّةِ وَالْوَدِيعَةِ وَالرَّهْنِ
وَاللُّقَطَةِ مَعَ اخْتِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي التَّفْصِيل، وَذَلِكَ
لأَِنَّ إِضَاعَةَ الْمَال نَوْعٌ مِنَ الإِْهْمَال الْمُفْضِي إِلَى
ضَيَاعِ الْحُقُوقِ عَلَى أَصْحَابِهَا (1) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرِ الْمُصْطَلَحَاتِ التَّالِيَةَ: (إِتْلاَف ف 28 وَ
53 وَإِعَارَة ف 15، وَضَمَان، وَلُقَطَة) .
__________
(1) مجمع الضمانات ص 68.
(28/167)
ضَالَّةٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الضَّالَّةُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ ضَل الشَّيْءُ، خَفِيَ وَغَابَ،
وَأَضْلَلْتُ الشَّيْءَ - بِالأَْلِفِ - إِذَا ضَاعَ مِنْكَ، فَلَمْ
تَعْرِفْ مَوْضِعَهُ، كَالدَّابَّةِ وَالنَّاقَةِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا،
فَإِنْ أَخْطَأْتَ مَوْضِعَ الشَّيْءِ الثَّابِتِ كَالدَّارِ قُلْتَ:
ضَلَلْتُهُ وَضَلَّلْتُهُ، وَلاَ تَقُل: أَضْلَلْتُهُ بِالأَْلِفِ.
وَالضَّالَّةُ بِالتَّاءِ: الْحَيَوَانُ الضَّائِعُ، يُطْلَقُ عَلَى
الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، وَالاِثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، وَتَجْمَعُ عَلَى
ضَوَال، مِثْل: دَابَّةٍ وَدَوَابَّ، وَيُقَال لِغَيْرِ الْحَيَوَانِ:
ضَائِعٌ، وَلُقَطَةٌ، وَالضَّال بِدُونِ التَّاءِ: الإِْنْسَانُ.
وَقَدْ تُطْلَقُ الضَّالَّةُ عَلَى الْمَعَانِي، وَمِنْهُ حَدِيثُ:
الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ (1) أَيْ لاَ يَزَال
يَتَطَلَّبُهَا كَمَا يَتَطَلَّبُ الرَّجُل ضَالَّتَهُ (2) .
__________
(1) حديث: " الكلمة الحكمة ضالة المؤمن
". أخرجه الترمذي (5 / 51) من حديث أبي هريرة، وقال: هذا حديث غريب لا
نعرفه إلا من هذا الوجه ثم ذكر تضعيف أحد رواته.
(2) لسان العرب والمصباح المنير، وهامش المهذب 1 / 438.
(28/168)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ
لِلَفْظِ الضَّالَّةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
فَفِي الاِخْتِيَارِ: الضَّالَّةُ: الدَّابَّةُ تَضِل الطَّرِيقَ إِلَى
مَرْبِطِهَا، وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: الضَّالَّةُ: اسْمُ حَيَوَانٍ
خَاصَّةً، وَفِي الْمَوَّاقِ بِهَامِشِ الْحَطَّابِ: الضَّالَّةُ: نَعَمٌ
وُجِدَ بِغَيْرِ حِرْزٍ مُحْتَرَمًا (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
اللُّقَطَةُ
2 - فِي اللُّغَةِ: يُقَال: لَقَطْتُ الشَّيْءَ لَقْطًا مِنْ بَابِ قَتَل:
أَخَذْتُهُ (2) .
وَاللُّقَطَةُ شَرْعًا - كَمَا عَرَّفَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ -: مَا
يُوجَدُ مَطْرُوحًا عَلَى الأَْرْضِ مِمَّا سِوَى الْحَيَوَانِ مِنَ
الأَْمْوَال لاَ حَافِظَ لَهُ، وَهَذَا هُوَ تَعْرِيفُ الْمَوْصِلِيِّ.
وَمِثْلُهُ تَعْرِيفُ ابْنِ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، قَال:
اللُّقَطَةُ: مَالٌ وُجِدَ بِغَيْرِ حِرْزٍ مُحْتَرَمًا، لَيْسَ حَيَوَانًا
نَاطِقًا وَلاَ نَعَمًا. (3)
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَيُطْلِقُونَ لَفْظَ اللُّقَطَةِ
عَلَى الْحَيَوَانِ وَغَيْرِ الْحَيَوَانِ (4) .
__________
(1) الاختيار 3 / 32، وكشاف القناع 4 / 210، والمواق بهامش الحطاب 6 / 69.
(2) لسان العرب والمصباح المنير مادة (لقط) .
(3) الاختيار 3 / 32، والحطاب 6 / 69.
(4) نهاية المحتاج 5 / 422، وكشاف القناع 4 / 209.
(28/168)
وَعَلَى هَذَا، فَإِنَّ بَعْضَ
الْفُقَهَاءِ يُفَرِّقُ بَيْنَ اللُّقَطَةِ وَالضَّالَّةِ؛ بِاعْتِبَارِ
أَنَّ اللُّقَطَةَ تُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ الْحَيَوَانِ، وَالضَّالَّةَ
تُطْلَقُ عَلَى الْحَيَوَانِ، وَبَعْضُهُمْ يُطْلِقُ لَفْظَ اللُّقَطَةِ
عَلَى الْجَمِيعِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - الضَّوَال الَّتِي تَمْتَنِعُ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ لِقُوَّتِهَا
وَكِبَرِ جُثَّتِهَا - كَالإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْخَيْل وَالْبِغَال -
أَوْ تَمْتَنِعُ لِسُرْعَةِ عَدْوِهَا كَالظِّبَاءِ أَوْ تَمْتَنِعُ
لِطَيَرَانِهَا، هَذِهِ الضَّوَال إِنْ كَانَتْ فِي الصَّحْرَاءِ فَإِنَّهُ
يَحْرُمُ أَخْذُهَا لِلتَّمَلُّكِ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: سُئِل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ ضَالَّةِ الإِْبِل فَقَال: مَا لَكَ وَلَهَا، دَعْهَا،
فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُل
الشَّجَرَ حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا (2) .
إِلاَّ أَنَّهُ يَجُوزُ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَخْذُهَا عَلَى وَجْهِ
الْحِفْظِ لِرَبِّهَا، لاَ عَلَى أَنَّهَا لُقَطَةٌ، فَإِنَّ عُمَرَ -
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حَمَى مَوْضِعًا يُقَال لَهُ: النَّقِيعُ
لِخَيْل الْمُجَاهِدِينَ وَالضَّوَال، وَلأَِنَّ لِلإِْمَامِ نَظَرًا فِي
حِفْظِ مَال الْغَائِبِ، وَفِي أَخْذِ
__________
(1) البدائع 6 / 200.
(2) حديث زيد بن خالد: " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ضالة الإبل. . .
". أخرجه البخاري (5 / 84) ومسلم (3 / 1349) واللفظ لمسلم.
(28/169)
الضَّوَال حِفْظٌ لَهَا عَنِ الْهَلاَكِ،
وَلاَ يَلْزَمُ الإِْمَامَ تَعْرِيفُهَا، لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ لَمْ يَكُنْ يُعَرِّفُ الضَّوَال، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ
ضَالَّةٌ فَإِنَّهُ يَجِيءُ إِلَى مَوْضِعِ الضَّوَال، فَإِذَا عَرَفَ
ضَالَّتَهُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَأَخَذَهَا، لَكِنْ قَال السُّبْكِيُّ
مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ لَمْ يُخْشَ عَلَى الضَّالَّةِ الضَّيَاعُ
فَلاَ يَتَعَرَّضُ لَهَا وَلِيُّ الأَْمْرِ، بَل جَزَمَ الأَْذْرَعِيُّ
بِتَرْكِهَا عِنْدَ اكْتِفَائِهَا بِالرَّعْيِ وَالأَْمْنِ عَلَيْهَا.
كَمَا أَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ لِغَيْرِ وَلِيِّ الأَْمْرِ
أَخْذَهَا لِلْحِفْظِ لِرَبِّهَا إِذَا خَشَى عَلَيْهَا مِنْ أَخْذِ
خَائِنٍ، فَإِذَا أَمِنَ عَلَيْهَا امْتَنَعَ أَخْذُهَا قَطْعًا، فَإِذَا
أَخَذَهَا ضَمِنَهَا لِرَبِّهَا، وَلاَ يَبْرَأُ إِلاَّ بِرَدِّهَا
لِلْحَاكِمِ، لَكِنْ هَذَا إِذَا لَمْ يَعْرِفْ صَاحِبَهَا، وَإِلاَّ جَازَ
لَهُ أَخْذُهَا، وَتَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ.
أَمَّا زَمَنُ النَّهْبِ وَالْفَسَادِ فَيَجُوزُ الْتِقَاطُهَا
لِلتَّمَلُّكِ فِي الصَّحْرَاءِ وَغَيْرِهَا.
وَيَضْمَنُ كَذَلِكَ - عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - مَنْ أَخَذَ مَا حُرِّمَ
الْتِقَاطُهُ مِنَ الضَّوَال إِنْ تَلِفَ أَوْ نَقَصَ، لِعَدَمِ إِذْنِ
الشَّارِعِ فِيهِ، فَإِنْ كَتَمَهُ عَنْ رَبِّهِ ثُمَّ ثَبَتَ بِإِقْرَارٍ
أَوْ بَيِّنَةٍ فَتَلِفَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ مَرَّتَيْنِ لِرَبِّهِ
نَصًّا، لِحَدِيثِ: وَفِي الضَّالَّةِ الْمَكْتُومَةِ غَرَامَتُهَا
وَمِثْلُهَا مَعَهَا (1)
__________
(&# x661 ;) حديث: " في
الضالة المكتوبة. . . ". أخرجه الأثرم كما في كشاف القناع (4 / 210) .
(28/169)
وَهَذَا حُكْمُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ يُرَدُّ (1) .
وَيَزُول الضَّمَانُ بِرَدِّ الضَّالَّةِ إِلَى رَبِّهَا إِنْ وَجَدَهُ،
أَوْ دَفَعَهَا إِلَى الإِْمَامِ إِنْ لَمْ يَجِدْ رَبَّهَا، أَوْ رَدَّهَا
إِلَى مَكَانِهَا إِنْ أَمَرَهُ الإِْمَامُ بِذَلِكَ.
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلضَّوَال الَّتِي بِالصَّحْرَاءِ وَالْمُمْتَنِعَةِ
مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ، أَمَّا إِنْ وُجِدَتْ بِقَرْيَةٍ، فَعِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا لِلتَّمَلُّكِ،
لأَِنَّ فِي الْعُمْرَانِ يَضِيعُ بِامْتِدَادِ الْيَدِ الْخَائِنَةِ
إِلَيْهِ، بِخِلاَفِ الْمَفَازَةِ فَإِنَّ طُرُوقَهَا لاَ يَعُمُّ،
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: الْمَنْعُ لإِِطْلاَقِ الْحَدِيثِ، وَلَمْ
يُفَرِّقِ الْحَنَابِلَةُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الصَّحْرَاءِ وَغَيْرِهَا.
4 - أَمَّا الضَّوَال الَّتِي لاَ تَمْتَنِعُ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ -
كَالشَّاةِ وَالْفَصِيل - فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا، سَوَاءٌ
كَانَتْ فِي الصَّحْرَاءِ أَوْ فِي الْعُمْرَانِ، وَذَلِكَ صَوْنًا لَهَا
عَنِ الْخَوَنَةِ وَالسِّبَاعِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا وَجَدَ الشَّاةَ بِمِصْرٍ
أَوْ بِمَهْلَكَةٍ فَإِنَّهُ يُبَاحُ أَخْذُهَا وَالْتِقَاطُهَا، هَذَا
الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَقَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ.
قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ ضَالَّةَ الْغَنَمِ
فِي الْمَوْضِعِ الْمَخُوفِ عَلَيْهَا لَهُ أَكْلُهَا، وَكَذَلِكَ
الْحُكْمُ فِي كُل مَا لاَ يَمْتَنِعُ مِنْ صِغَارِ
__________
(1) كشاف القناع 4 / 210.
(28/170)
السِّبَاعِ، كَفُصْلاَنِ الإِْبِل وَعُجُول
الْبَقَرِ وَأَفْلاَءِ الْخَيْل، وَالدَّجَاجِ وَالإِْوَزِّ وَنَحْوِهَا
يَجُوزُ الْتِقَاطُهُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِل عَنِ الشَّاةِ: خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ، أَوْ
لأَِخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ (1) وَلأَِنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ التَّلَفُ
وَالضَّيَاعُ فَأَشْبَهَ لُقَطَةَ غَيْرِ الْحَيَوَانِ، وَلاَ فَرْقَ
بَيْنَ أَنْ يَجِدَهَا فِي مِصْرٍ أَوْ مَهْلَكَةٍ، لأَِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: خُذْهَا وَلَمْ يُفَرِّقْ وَلَمْ
يَسْتَفْصِل، وَلَوِ افْتَرَقَ الْحَال لَسَأَل وَاسْتَفْصَل، وَلأَِنَّهَا
لُقَطَةٌ فَاسْتَوَى فِيهَا الْمِصْرُ وَالصَّحْرَاءُ، كَسَائِرِ
اللُّقَطَاتِ.
وَرُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
لِغَيْرِ الإِْمَامِ الْتِقَاطُهَا، وَقَال اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: لاَ
أُحِبُّ أَنْ يَقْرَبَهَا إِلاَّ أَنْ يُحْرِزَهَا لِصَاحِبِهَا لأَِنَّهُ
حَيَوَانٌ أَشْبَهَ الإِْبِل، إِلاَّ أَنَّ جَوَازَ الأَْخْذِ مُقَيَّدٌ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِمَا إِذَا أَمِنَ نَفْسَهُ عَلَى اللُّقَطَةِ،
وَقَوِيَ عَلَى تَعْرِيفِهَا، أَمَّا مَنْ لَمْ يَأْمَنْ نَفْسَهُ
عَلَيْهَا فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا.
وَيَتَخَيَّرُ أَخْذُ هَذَا النَّوْعِ بَيْنَ ثَلاَثِ خِصَالٍ.
أ - أَنْ يَحْفَظَهُ لِرَبِّهِ، وَيُعَرِّفَهُ وَيُنْفِقَ عَلَيْهِ مُدَّةَ
التَّعْرِيفِ، وَيَتَمَلَّكَهُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ إِنْ لَمْ يَجِدْ
رَبَّهُ.
__________
(1) حديث: " خذها فإنما هي لك أو لأخيك ". أخرجه البخاري (5 / 83) ومسلم (3
/ 1348) .
(28/170)
ب - أَنْ يَبِيعَهُ وَيَحْفَظَ الثَّمَنَ
لِرَبِّهِ، ثُمَّ يُعَرِّفَ الضَّالَّةَ الَّتِي بَاعَهَا، وَيَتَمَلَّكَ
الثَّمَنَ إِنْ لَمْ يَجِدْ رَبَّ الضَّالَّةِ.
ج - أَنْ يَأْكُلَهُ وَيَغْرَمَ قِيمَتَهُ إِنْ ظَهَرَ مَالِكُهُ،
لِحَدِيثِ: هِيَ لَكَ أَوْ لأَِخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ (1) .
لَكِنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ هَذِهِ الْخِصَال إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ
لِلضَّوَال الَّتِي أُخِذَتْ مِنَ الصَّحْرَاءِ، فَإِنْ أُخِذَتْ مِنَ
الْعُمْرَانِ فَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الْخُصْلَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ، أَيِ:
الْحِفْظِ أَوِ الْبَيْعِ، وَلَيْسَ لَهُ الأَْكْل فِي الأَْظْهَرِ.
وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ: لَهُ الأَْكْل، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
(2) .
5 - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ الْتِقَاطُ
الْبَهِيمَةِ الضَّالَّةِ لِلْحِفْظِ لِرَبِّهَا، لأَِنَّهَا لُقَطَةٌ
يُتَوَهَّمُ ضَيَاعُهَا، فَيُسْتَحَبُّ أَخْذُهَا وَتَعْرِيفُهَا صِيَانَةً
لأَِمْوَال النَّاسِ، كَالشَّاةِ، وَأَمَّا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ضَالَّةِ الإِْبِل: مَا لَكَ وَلَهَا،
مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُل الشَّجَرَ
حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا (3) فَقَدْ قَال
__________
(1) حديث: " هي لك أو لأخيك أو للذئب ". تقدم تخريجه ف 4.
(2) مغني المحتاج 2 / 409 - 410، ونهاية المحتاج 5 / من 429 إلى 433،
والمغني 5 / من 735 إلى 739، وكشاف القناع 4 / 210، 211، 212.
(3) حديث: " ما لك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها. . . ". أخرجه البخاري (5 /
84) ومسلم (3 / 1349) واللفظ للبخاري.
(28/171)
السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ: إِنَّ
ذَلِكَ كَانَ إِذْ ذَاكَ لِغَلَبَةِ أَهْل الصَّلاَحِ وَالأَْمَانَةِ لاَ
تَصِل إِلَيْهَا يَدٌ خَائِنَةٌ، فَإِذَا تَرَكَهَا وَجَدَهَا، وَأَمَّا
فِي زَمَانِنَا فَلاَ يَأْمَنُ وُصُول يَدٍ خَائِنَةٍ إِلَيْهَا بَعْدَهُ،
فَفِي أَخْذِهَا إِحْيَاؤُهَا وَحِفْظُهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَهُوَ
أَوْلَى، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ضَيَاعُهَا وَجَبَ الْتِقَاطُهَا،
وَهَذَا حَقٌّ، لِلْقَطْعِ بِأَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ وُصُولُهَا إِلَى
رَبِّهَا وَأَنَّ ذَلِكَ طَرِيقُ الْوُصُول، لأَِنَّ الزَّمَانَ إِذَا
تَغَيَّرَ وَصَارَ طَرِيقَ التَّلَفِ تَغَيَّرَ الْحُكْمُ بِلاَ شَكٍّ،
وَهُوَ الاِلْتِقَاطُ لِلْحِفْظِ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي
اللُّقَطَةِ: فَإِنْ وَجَدَ صَاحِبَهَا فَلْيَرُدَّهَا عَلَيْهِ، وَإِلاَّ
فَهُوَ مَال اللَّهِ عَزَّ وَجَل يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ (1)
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الشَّاةِ وَغَيْرِهَا فِي
الْحُكْمِ، كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الصَّحْرَاءِ
وَالْعُمْرَانِ (2) .
6 - وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ يَخْتَلِفُ عَنِ الْمَذَاهِبِ
الأُْخْرَى، وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أَوَّلاً: الضَّالَّةُ إِذَا كَانَتْ فِي الصَّحْرَاءِ:
أ - ضَالَّةُ الإِْبِل فِي الصَّحْرَاءِ لاَ يَجُوزُ
__________
(1) حديث عياض بن حمار: " فإن وجد صاحبها. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 335)
وإسناده صحيح.
(2) ابن عابدين 3 / 321 - 322، وفتح القدير 5 / 354، نشر دار إحياء التراث،
والاختيار 3 / 32.
(28/171)
أَخْذُهَا، وَلَوْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ
يُخَافُ عَلَيْهَا مِنَ السِّبَاعِ أَوِ الْجُوعِ أَوِ الْعَطَشِ،
لِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهَا فَإِنَّ
مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُل الشَّجَرَ (1)
فَإِنْ تَعَدَّى وَأَخَذَهَا فَإِنَّهُ يُعَرِّفُهَا سَنَةً ثُمَّ
يَتْرُكُهَا بِمَحَلِّهَا، لَكِنْ إِذَا خَافَ عَلَيْهَا مِنْ خَائِنٍ
وَجَبَ الْتِقَاطُهَا وَتَعْرِيفُهَا.
ب - ضَالَّةُ الْبَقَرِ فِي الصَّحْرَاءِ إِذَا كَانَ لاَ يُخْشَى
عَلَيْهَا مِنَ السِّبَاعِ أَوِ الْجُوعِ أَوِ الْعَطَشِ أَوِ السَّارِقِ
فَإِنَّهَا تُتْرَكُ، وَلاَ يَجُوزُ أَخْذُهَا.
وَإِنْ كَانَ يُخْشَى عَلَيْهَا مِنَ السَّارِقِ فَقَطْ وَجَبَ
الْتِقَاطُهَا، وَإِنْ كَانَ يُخْشَى عَلَيْهَا مِنَ السِّبَاعِ أَوِ
الْجُوعِ أَوِ الْعَطَشِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا، فَإِنْ أَمْكَنَ سَوْقُهَا
لِلْعُمْرَانِ وَجَبَ سَوْقُهَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ سَوْقُهَا
لِلْعُمْرَانِ جَازَ لَهُ ذَبْحُهَا وَأَكْلُهَا، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ.
فَالإِْبِل وَالْبَقَرُ عِنْدَ خَوْفِ السَّارِقِ سِيَّانِ فِي وُجُوبِ
الاِلْتِقَاطِ، أَمَّا عِنْدَ الْخَوْفِ مِنَ الْجُوعِ أَوِ السِّبَاعِ
فَإِنَّ الإِْبِل تُتْرَكُ، وَالْبَقَرَ يَجُوزُ أَكْلُهَا بِالصَّحْرَاءِ
إِنْ تَعَذَّرَ سَوْقُهَا لِلْعُمْرَانِ.
ج - الشَّاةُ يَجُوزُ أَخْذُهَا وَأَكْلُهَا بِالصَّحْرَاءِ إِذَا لَمْ
يَتَيَسَّرْ حَمْلُهَا أَوْ سَوْقُهَا لِلْعُمْرَانِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ،
وَقِيل بِجَوَازِ أَكْلِهَا فِي الصَّحْرَاءِ وَلَوْ
__________
(1) حديث: " دعها فإن معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء وتأكل الشجر ". أخرجه
مسلم (3 / 1349) .
(28/172)
مَعَ تَيَسُّرِ سَوْقِهَا لِلْعُمْرَانِ،
وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ.
وَإِنْ أَتَى بِهَا حَيَّةً لِلْعُمْرَانِ وَجَبَ تَعْرِيفُهَا لأَِنَّهَا
صَارَتْ كَاللُّقَطَةِ، وَلَوْ ذَبَحَهَا فِي الصَّحْرَاءِ وَلَمْ
يَأْكُلْهَا حَتَّى دَخَل الْعُمْرَانَ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهَا
إِلاَّ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ رَبَّهَا، وَلَمْ يَتَيَسَّرْ بَيْعُهَا.
ثَانِيًا: الضَّالَّةُ إِذَا كَانَتْ فِي الْعُمْرَانِ:
إِذَا كَانَتِ الضَّالَّةُ فِي الْعُمْرَانِ فَإِنَّهُ يَجِبُ
الْتِقَاطُهَا عِنْدَ خَوْفِ الْخَائِنِ، دُونَ تَفْرِيقٍ بَيْنَ إِبِلٍ
وَخَيْلٍ وَبَقَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ (1) .
هَذَا وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (لُقَطَة)
ضَبٌّ
انْظُرْ: أَطْعِمَة
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 242 - 243، والدسوقي 4 / 122.
(28/172)
ضَبَّةٌ
انْظُرْ: آنِيَة
ضَبُعٌ
انْظُرْ: أَطْعِمَة
ضُحًى
انْظُرْ: صَلاَةُ الضُّحَى
(28/173)
ضَحِكٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الضَّحِكُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ ضَحِكَ بِكَسْرِ الْحَاءِ،
وَالضَّحِكُ: انْبِسَاطُ الْوَجْهِ وَبُدُوُّ الأَْسْنَانِ مِنَ السُّرُورِ
(1) ، وَالتَّبَسُّمُ مَبَادِئُ الضَّحِكِ، وَيُسْتَعْمَل فِي السُّرُورِ
الْمُجَرَّدِ، نَحْوَ قَوْله تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمئِذٍ مُسْفِرَةٌ
ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} (2) ، وَاسْتُعْمِل لِلتَّعَجُّبِ الْمُجَرَّدِ
(3) .
وَلاَ يَخْرُجُ التَّعْرِيفُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ التَّعْرِيفِ
اللُّغَوِيِّ، وَقَدْ حَدَّهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: بِأَنَّهُ مَا يَكُونُ
مَسْمُوعًا لَهُ لاَ لِجِيرَانِهِ (4)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَهْقَهَةُ:
2 - فِي اللُّغَةِ: قَهْقَهَ: أَيْ رَجَّعَ فِي ضَحِكِهِ،
__________
(1) المغرب للمطرزي (ص: 28) ط. دار الكتاب العربي.
(2) سورة عبس / 38، 39.
(3) تاج العروس 7 / 155 ط. دار البيان. بنغازي.
(4) التعريفات ص 179 ط دار الكتاب العربي.
(28/173)
أَوِ اشْتَدَّ ضَحِكُهُ (1) . وَحَدَّهُ
الْجُرْجَانِيُّ: بِمَا يَكُونُ مَسْمُوعًا لَهُ وَلِجِيرَانِهِ (2) .
ب - التَّبَسُّمُ:
3 - هُوَ مَا عَرَى عَنِ الصَّوْتِ، وَهُوَ مَبَادِئُ الضَّحِكِ، وَتَبْدُو
فِيهِ الأَْسْنَانُ فَقَطْ (3) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الضَّحِكُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَبَسُّمًا أَوْ قَهْقَهَةً، وَالأَْصْل
فِيهِ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ تَبَسُّمًا جَازَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، بَل
كَانَ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ حَثَّ
عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: مَا
كَانَ ضَحِكُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلاَّ
تَبَسُّمًا (4) وَقَال الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ (5) وَأَمَّا الضَّحِكُ
قَهْقَهَةً فَقَدْ كَرِهَهُ الْفُقَهَاءُ وَنَهَوْا عَنْ كَثْرَتِهِ،
فَقَدْ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُكْثِرُوا الضَّحِكَ،
فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ (6) وَقَال ثَابِتٌ
الْبُنَانِيُّ: ضَحِكُ
__________
(1) ترتيب القاموس المحيط 4 / 708 ط. الدار العربية للكتاب.
(2) التعريفات للجرجاني (ص 230) ط دار الكتاب العربي.
(3) رد المحتار على الدر المختار 1 / 98.
(4) حديث: " ما كان ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسما ". أخرجه
الترمذي (5 / 601) وقال: (حديث صحيح غريب) .
(5) حديث: " تبسمك في وجه أخيك لك صدقة ". أخرجه الترمذي (4 / 340) وقال:
حديث حسن غريب.
(6) حديث: " لا تكثروا الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب ". أخرجه ابن ماجه
(2 / 1403) من حديث أبي هريرة، وصحح إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 /
336) .
(28/174)
الْمُؤْمِنِ مِنْ غَفْلَتِهِ - يَعْنِي:
غَفْلَتَهُ عَنْ أَمْرِ الآْخِرَةِ - وَلَوْلاَ غَفْلَتُهُ لَمَا ضَحِكَ
(1) .
الضَّحِكُ دَاخِل الصَّلاَةِ
5 - الضَّحِكُ بِصَوْتٍ يُفْسِدُ الصَّلاَةَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ
إِنْ ظَهَرَ حَرْفَانِ فَأَكْثَرُ، أَوْ حَرْفٌ مُفْهِمٌ مِنَ الْمُصَلِّي،
فَالْبُطْلاَنُ فِيهَا مِنْ جِهَةِ الْكَلاَمِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَيْهِ،
وَالْكَلاَمُ فِي الصَّلاَةِ مُبْطِلٌ لَهَا (2) .
وَالْمُقَابِل لِلأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهَا لاَ تَبْطُل
بِذَلِكَ مُطْلَقًا، لِكَوْنِهِ لاَ يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ كَلاَمًا،
وَلاَ يَتَبَيَّنُ مِنْهُ حَرْفٌ مُحَقَّقٌ، فَكَانَ شَبِيهًا بِالصَّوْتِ
الْغُفْل (3) .
أَمَّا الضَّحِكُ بِغَيْرِ صَوْتٍ وَهُوَ التَّبَسُّمُ، فَلاَ تَفْسُدُ
الصَّلاَةُ بِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لأَِنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ
فِيهَا كَلاَمٌ (4) ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال: بَيْنَمَا كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ إِذْ تَبَسَّمَ فِي صَلاَتِهِ،
فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ، قُلْنَا: يَا رَسُول اللَّهِ رَأَيْنَاكَ
تَبَسَّمْتَ. قَال: مَرَّ بِي مِيكَائِيل وَعَلَى
__________
(1) تنبيه الغافلين للسمرقنيدي (1 / 216 ط. دار الشروق) .
(2) ابن عابدين 1 / 97 - 98 ط. بولاق. مواهب الجليل 2 / 34، نهاية المحتاج
2 / 34، المغني 2 / 51.
(3) نهاية المحتاج 2 / 34، والمغني 2 / 51.
(4) رد المحتار على الدر المختار 1 / 98، مواهب الجليل 2 / 33، نهاية
المحتاج 2 / 34.
(28/174)
جَنَاحِهِ أَثَرُ غُبَارٍ وَهُوَ رَاجِعٌ
مِنْ طَلَبِ الْقَوْمِ، فَضَحِكَ إِلَيَّ، فَتَبَسَّمْتُ إِلَيْهِ (1) .
وَقَدْ قَسَّمَ الأَْقْفَهْسِيُّ، مِنَ الْمَالِكِيَّةِ الضَّحِكَ إِلَى
وَجْهَيْنِ: بِغَيْرِ صَوْتٍ وَهُوَ التَّبَسُّمُ، وَبِصَوْتٍ وَهُوَ
الْمُرَادُ بِقَوْل الرِّسَالَةِ: وَمَنْ ضَحِكَ فِي الصَّلاَةِ أَعَادَهَا
وَلَمْ يُعِدِ الْوُضُوءَ. وَقَال أَصْبَغُ كَذَلِكَ: لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ
فِي التَّبَسُّمِ، إِلاَّ الْفَاحِشُ مِنْهُ شَبِيهٌ بِالضَّحِكِ،
فَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُعِيدَ فِي عَمْدِهِ، وَيَسْجُدَ فِي سَهْوِهِ (2)
.
ضِرَابُ الْفَحْل
انْظُرْ: عَسْبُ الْفَحْل
ضِرَارٌ
انْظُرْ: ضَرَر
__________
(1) حديث: " بينما كان يصلي العصر في غزوة بدر إذ تبسم ". أورده الهيثمي في
مجمع الزوائد (6 / 83) وقال: (رواه أبو يعلى، وفيه الوازع بن نافع وهو
متروك) .
(2) مواهب الجليل 2 / 33.
(28/175)
ضَرْبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - يُطْلَقُ الضَّرْبُ لُغَةً عَلَى مَعَانٍ، مِنْهَا: الإِْصَابَةُ
بِالْيَدِ أَوِ السَّوْطِ أَوْ بِغَيْرِهِمَا، يُقَال: ضَرَبَهُ بِيَدِهِ
أَوْ بِالسَّوْطِ يَضْرِبُهُ ضَرْبًا: عَلاَهُ بِهِ، وَالسَّيْرُ فِي
الأَْرْضِ ابْتِغَاءَ الرِّزْقِ أَوِ الْغَزْوِ فِي سَبِيل اللَّهِ،
وَصِيَاغَةُ النُّقُودِ، وَطَبْعُهَا، وَتَضْعِيفُ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ
بِالآْخَرِ (1) ، وَمَعَانٍ أُخْرَى، مِنْهَا ضَرْبُ الدُّفِّ. وَلاَ
يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلضَّرْبِ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي
اللُّغَوِيَّةِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّأْدِيبُ:
2 - التَّأْدِيبُ مَصْدَرُ أَدَّبَهُ تَأْدِيبًا: إِذَا عَاقَبَهُ عَلَى
إِسَاءَتِهِ بِالضَّرْبِ، أَوْ بِغَيْرِهِ.
ب - التَّعْزِيرُ:
3 - التَّعْزِيرُ: عُقُوبَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا تَجِبُ حَقًّا
لِلَّهِ أَوْ لآِدَمِيٍّ فِي كُل مَعْصِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ وَلاَ
كَفَّارَةٌ غَالِبًا (2) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) المبسوط 9 / 36، والقليوبي 4 / 205، وكشاف القناع 4 / 205.
(28/175)
ج - الْقَتْل:
4 - الْقَتْل إِزْهَاقُ الرُّوحِ بِالضَّرْبِ أَوْ بِغَيْرِهِ
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - تَخْتَلِفُ أَحْكَامُ الضَّرْبِ بِاخْتِلاَفِ الْمَعَانِي الَّتِي
يُطْلَقُ عَلَيْهَا:
فَالضَّرْبُ بِالسَّوْطِ أَوِ الْيَدِ، أَوْ بِغَيْرِهِمَا: يَخْتَلِفُ
بِاخْتِلاَفِ سَبَبِهِ، وَتَعْتَرِيهِ الأَْحْكَامُ التَّالِيَةُ:
فَتَارَةً يَكُونُ حَرَامًا، كَضَرْبِ الْبَرِيءِ، وَتَارَةً يَكُونُ
وَاجِبًا، كَضَرْبِ شَارِبِ الْمُسْكِرِ، وَالزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ
لإِِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا، وَضَرْبِ الْقَاذِفِ بِطَلَبِ
الْمَقْذُوفِ، بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَبِدُونِ طَلَبِهِ - أَيْضًا -
عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَضَرْبِ ابْنِ عَشْرِ سِنِينَ لِتَرْكِ الصَّلاَةِ،
وَنَحْوِهَا.
وَتَارَةً يَكُونُ جَائِزًا كَضَرْبِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ لِحَقِّهِ،
كَالنُّشُوزِ وَغَيْرِهِ، وَضَرْبِ الْمُعَلِّمِ الصَّبِيَّ لِلتَّعْلِيمِ،
وَضَرْبِ السُّلْطَانَ مَنِ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا لاَ حَدَّ فِيهِ، وَلاَ
كَفَّارَةَ، عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْوُجُوبِ
وَالْجَوَازِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَاتِ: (حُدُود ف 31، تَأْدِيب ف 8 تَعْزِير ف
14) .
(28/176)
أَدَاةُ الضَّرْبِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الضَّرْبَ فِي الْحُدُودِ
يَكُونُ بِالسَّوْطِ إِلاَّ حَدَّ الشُّرْبِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ،
فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُضْرَبُ بِالسَّوْطِ، كَمَا يُضْرَبُ
أَيْضًا بِالنِّعَال وَالأَْيْدِي وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ، وَاسْتَدَلُّوا
بِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: أُتِيَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَكْرَانَ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ،
فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ،
وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ (1) .
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ السَّوْطُ، وَقَالُوا:
يُفْهَمُ مِنْ إِطْلاَقِ الْجَلْدِ الضَّرْبُ بِالسَّوْطِ، وَلأَِنَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلْدٌ فِي الْخَمْرِ (2) . كَمَا
أَمَرَ اللَّهُ بِجَلْدِ الزَّانِي، فَكَانَ بِالسَّوْطِ مِثْلَهُ،
وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ ضَرَبُوا بِالسَّوْطِ فَكَانَ ذَلِكَ
إِجْمَاعًا.
أَمَّا الضَّرْبُ لِلتَّعْزِيرِ، أَوِ التَّأْدِيبِ فَيَكُونُ بِالسَّوْطِ
وَالْيَدِ، وَأَمَّا ضَرْبُ الصَّبِيِّ فِي التَّأْدِيبِ فَلَيْسَ
لِلْوَلِيِّ الضَّرْبُ بِسَوْطٍ وَنَحْوِهِ، وَإِنَّمَا يَضْرِبُ بِيَدٍ،
وَلاَ يُجَاوِزُ ثَلاَثًا، وَكَذَا: الْمُعَلِّمُ وَالْوَصِيُّ (3)
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمِرْدَاسٍ الْمُعَلِّمِ:
إِيَّاكَ أَنْ تَضْرِبَ فَوْقَ الثَّلاَثِ، فَإِنَّكَ إِنْ ضَرَبْتَ فَوْقَ
__________
(1) حديث أبي هريرة: " أتى النبي صلى الله عليه وسلم بسكران. . . ". أخرجه
البخاري (12 / 75) .
(2) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر ". أخرجه
البخاري (12 / 66) من حديث أنس بن مالك.
(3) ابن عابدين 1 / 235، والرهوني 8 / 164، والمغني 8 / 319.
(28/176)
ثَلاَثٍ اقْتَصَّ اللَّهُ مِنْكَ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (شُرْب، وَحُدُود ف 31، وَتَعْزِير ف 14
وَتَأْدِيب ف 8) .
صِفَةُ سَوْطِ الضَّرْبِ:
7 - يَكُونُ سَوْطُ الضَّرْبِ فِي الْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ وَسَطًا
بَيْنَ قَضِيبٍ، وَعَصًا، وَرَطْبٍ، وَيَابِسٍ، لِمَا رُوِيَ: أَنَّ
رَجُلاً اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَوْطٍ فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ فَقَال:
فَوْقَ هَذَا، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ لَمْ تُقْطَعْ ثَمَرَتُهُ فَقَال:
دُونَ هَذَا، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ قَدْ رَكِبَ بِهِ وَلاَنَ، فَأَمَرَ بِهِ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُلِدَ (2) .
وَكَذَلِكَ الضَّرْبُ يَكُونُ وَسَطًا، لاَ شَدِيدًا فَيَقْتُل، وَلاَ
ضَعِيفًا فَلاَ يَرْدَعُ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ تَأْدِيبُهُ، لاَ قَتْلُهُ
(3) .
__________
(1) حديث: " إياك أن تضرب فوق الثلاث ". أورده ابن عابدين في الحاشية (1 /
235) وعزاه إلى أحكام الصفار للاستروشيني ولم نهتد إليه في أي مصدر من
المصادر الحديثية لدينا.
(2) حديث: " أن رجلا اعترف على نفسه بالزنى في عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم ". أخرجه مالك في الموطأ (2 / 825) من حديث زيد بن أسلم مرسلا.
(3) ابن عابدين 3 / 181، حاشية الدسوقي 4 / 354 - 355، والقليوبي 4 / 202 -
203.
(28/177)
كَيْفِيَّةُ الضَّرْبِ:
8 - يُفَرَّقُ الضَّرْبُ عَلَى الأَْعْضَاءِ، فَلاَ يُجْمَعُ عَلَى عُضْوٍ
وَاحِدٍ، وَيَتَّقِي الْمَقَاتِل، كَالْوَجْهِ، وَالرَّأْسِ، وَالنَّحْرِ،
وَالْفَرْجِ.
وَأَشَدُّ الضَّرْبِ فِي الْحُدُودِ: ضَرْبُ الزَّانِي، ثُمَّ ضَرْبُ حَدِّ
الْقَذْفِ، ثُمَّ ضَرْبُ حَدِّ الشُّرْبِ، ثُمَّ ضَرْبُ التَّعْزِيرِ
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: أَشَدُّ
الضَّرْبِ: ضَرْبُ التَّعْزِيرِ؛ لأَِنَّهُ خُفِّفَ عَدَدًا فَلاَ
يُخَفَّفُ وَصْفًا، ثُمَّ ضَرْبُ حَدِّ الزِّنَا لِثُبُوتِهِ بِالْكِتَابِ،
ثُمَّ حَدُّ الشُّرْبِ لِثُبُوتِهِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ ضَرْبُ
حَدِّ الْقَذْفِ لِضَعْفِ سَبَبِهِ لاِحْتِمَال صِدْقِ الْقَاذِفِ (1) ،
وَقَال مَالِكٌ: كُلُّهَا وَاحِدٌ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَأْنُهُ
أَمَرَ بِجَلْدِ الزَّانِي، وَالْقَاذِفِ أَمْرًا وَاحِدًا، وَالْمَقْصُودُ
مِنْهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الزَّجْرُ فَيَجِبُ تَسَاوِيهَا فِي الصِّفَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُود ف 31، وَتَعْزِير ف 14) .
ضَرْبُ الزَّوْجَةِ:
9 - يَجِبُ فِي ضَرْبِ الزَّوْجَةِ لِلنُّشُوزِ أَوْ لِغَيْرِهِ: أَنْ
يَكُونَ الضَّرْبُ غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلاَ مُدْمٍ، وَأَنْ يَتَوَقَّى
الْوَجْهَ، وَالأَْمَاكِنَ الْمُخِيفَةَ، وَلاَ يَضْرِبَهَا
__________
(1) المصادر السابقة.
(28/177)
إِلاَّ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّهِ
كَالنُّشُوزِ، فَلاَ يَضْرِبُهَا لِحَقِّ اللَّهِ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ، كَتَرْكِ الصَّلاَةِ.
(ر: نُشُوز) .
ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ:
10 - ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الْمَنُوطَةِ
بِالإِْمَامِ فَلَيْسَ لِلأَْفْرَادِ ضَرْبُهَا، لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى
ذَلِكَ مِنْ مَخَاطِرِ الْغِشِّ، وَمَنَعَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ مِنَ
الضَّرْبِ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ
الاِفْتِيَاتِ عَلَيْهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (دَرَاهِم ف 7) .
ضَرْبُ الدُّفِّ:
11 - يَجُوزُ ضَرْبُ الدُّفِّ لِعُرْسٍ وَخِتَانٍ وَعِيدٍ مِمَّا هُوَ
سَبَبٌ لإِِظْهَارِ الْفَرَحِ (1) ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا -: قَالَتْ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ، وَاجْعَلُوهُ فِي الْمَسَاجِدِ،
وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ الدُّفُوفَ (2) .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا زَفَّتِ امْرَأَةً إِلَى
رَجُلٍ مِنَ الأَْنْصَارِ فَقَال نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
__________
(1) المغني 7 / 10، فتح القدير 2 / 343، شرح مختصر الخليل 1 / 326 و 103،
والقليوبي 4 / 320.
(2) حديث: " أعلنوا هذا النكاح. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 389 - 390) وضعف
إسناده ابن حجر في الفتح (9 / 226) .
(28/178)
: يَا عَائِشَةُ مَا كَانَ مَعَكُمْ
لَهْوٌ؟ ، فَإِنَّ الأَْنْصَارَ يُعْجِبُهُمُ اللَّهْوُ (1) وَحَدِيثُ:
فَصْل مَا بَيْنَ الْحَلاَل وَالْحَرَامِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ (2) وَعَنْ
عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَل عَلَيْهَا
وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ فِي أَيَّامِ مِنًى: تُدَفِّفَانِ وَتَضْرِبَانِ،
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَغَشٍّ بِثَوْبِهِ،
فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ، فَكَشَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، فَقَال: دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ،
فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي: (لَهْو، وَلِيمَة، عُرْس) .
__________
(1) حديث عائشة " أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار. . ". أخرجه البخاري
(9 / 225) .
(2) حديث: " فصل ما بين الحرام والحلال. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 389) من
حديث محمد بن حاطب، وحسنه الترمذي.
(3) حديث عائشة: " أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان. . . ". أخرجه
البخاري (2 / 474) ومسلم (2 / 608) .
(28/178)
ضَرَرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الضَّرَرُ: اسْمٌ مِنَ الضَّرِّ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى كُل نَقْصٍ
يَدْخُل الأَْعْيَانَ، وَالضَّرُّ - بِفَتْحِ الضَّادِ - لُغَةً: ضِدُّ
النَّفْعِ، وَهُوَ النُّقْصَانُ، يُقَال: ضَرَّهُ يَضُرُّهُ إِذَا فَعَل
بِهِ مَكْرُوهًا وَأَضَرَّ بِهِ، يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ ثُلاَثِيًّا
وَبِالْبَاءِ رُبَاعِيًّا. قَال الأَْزْهَرِيُّ: كُل مَا كَانَ سُوءَ حَالٍ
وَفَقْرٍ وَشِدَّةٍ فِي بَدَنٍ فَهُوَ ضُرٌّ بِالضَّمِّ، وَمَا كَانَ ضِدَّ
النَّفْعِ فَهُوَ بِفَتْحِهَا (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ الضَّرَرِ عَنِ
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْتْلاَفُ:
2 - الإِْتْلاَفُ فِي اللُّغَةِ: الإِْفْنَاءُ، يُقَال: تَلِفَ الْمَال
يَتْلَفُ إِذَا هَلَكَ، وَأَتْلَفَهُ: أَفْنَاهُ، وَهُوَ فِي اصْطِلاَحِ
الْفُقَهَاءِ: إِخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ
مَنْفَعَةً مَطْلُوبَةً مِنْهُ عَادَةً (3) .
__________
(1) القاموس المحيط والمصباح المنير وقواعد الفقه للمجددي البركتي،
والكليات للكفوي 3 / 147.
(2) حاشية الجمل 5 / 206.
(3) القاموس، المصباح المنير، البدائع 7 / 164، وانظر الموسوعة الفقهية 1 /
216.
(28/179)
فَهُوَ فِي اللُّغَةِ لاَ يُطْلَقُ إِلاَّ
عَلَى مَا أَصَابَهُ الْعَدَمُ، فَإِذَا تَعَطَّل الشَّيْءُ وَلَمْ
يُمْكِنِ الاِنْتِفَاعُ بِهِ عَادَةً كَانَ تَالِفًا لَدَى الْفُقَهَاءِ
دُونَ اللُّغَوِيِّينَ، وَعَلَى هَذَا فَالإِْتْلاَفُ نَوْعٌ مِنَ
الضَّرَرِ وَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ.
ب - الاِعْتِدَاءُ:
3 - الاِعْتِدَاءُ فِي اللُّغَةِ وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الظُّلْمُ
وَتَجَاوُزُ الْحَدِّ، يُقَال: اعْتَدَى عَلَيْهِ إِذَا ظَلَمَهُ،
وَاعْتَدَى عَلَى حَقِّهِ أَيْ جَاوَزَ إِلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ (1) .
وَعَلَى هَذَا فَالاِعْتِدَاءُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ وَفَرْعٌ
عَنْهُ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الأَْصْل تَحْرِيمُ سَائِرِ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ إِلاَّ بِدَلِيلٍ (2)
، وَتَزْدَادُ حُرْمَتُهُ كُلَّمَا زَادَتْ شِدَّتُهُ، وَقَدْ شَهِدَتْ
عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ الْكَثِيرَةُ، مِنْهَا:
قَوْله تَعَالَى: {لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ
لَهُ بِوَلَدِهِ} (3) .
وقَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} (4) .
__________
(1) الموسوعة الفقهية 5 / 202.
(2) فيض القدير للمناوي 6 / 431.
(3) سورة البقرة / 233.
(4) سورة البقرة / 231
(28/179)
وَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (1) ، وَهَذَا الْحَدِيثُ
يَشْمَل كُل أَنْوَاعِ الضَّرَرِ لأَِنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ
النَّفْيِ تَعُمُّ، وَفِيهِ حَذْفٌ، أَصْلُهُ لاَ لُحُوقَ أَوْ إِلْحَاقَ،
أَوْ لاَ فِعْل ضَرَرٍ أَوْ ضِرَارٍ بِأَحَدٍ فِي دِينِنَا، أَيْ: لاَ
يَجُوزُ شَرْعًا إِلاَّ لِمُوجِبٍ خَاصٍّ (2) .
أَمَّا إِدْخَال الضَّرَرِ عَلَى أَحَدٍ يَسْتَحِقُّهُ لِكَوْنِهِ تَعَدَّى
حُدُودَ اللَّهِ فَيُعَاقَبُ بِقَدْرِ جَرِيمَتِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ ظَلَمَ
نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ فَيَطْلُبُ الْمَظْلُومُ مُقَابَلَتَهُ بِالْعَدْل،
فَهَذَا غَيْرُ مُرَادٍ بِالْحَدِيثِ قَطْعًا (3) .
كَمَا أَنَّ الضَّرَرَ يُبَاحُ اسْتِثْنَاءً فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى،
ضَبَطَتْهَا بَعْضُ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ مِنْ أَمْثَال قَاعِدَةِ "
الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ "، وَقَاعِدَةِ " الضَّرَرُ
الأَْشَدُّ يُزَال بِالضَّرَرِ الأَْخَفِّ " وَمَا إِلَى ذَلِكَ مِنَ
الْقَوَاعِدِ الَّتِي يَأْتِي ذِكْرُهَا.
الْقَوَاعِدُ الْفِقْهِيَّةُ الضَّابِطَةُ لأَِحْكَامِ الضَّرَرِ:
5 - لَقَدْ عَنَى الْفُقَهَاءُ كَثِيرًا بِدِرَاسَةِ مَوْضُوعِ الضَّرَرِ
وَمُعَالَجَةِ آثَارِهِ، وَذَلِكَ لِمَا لَهُ مِنْ أَهَمِّيَّةٍ بَالِغَةٍ
فِي اسْتِقْرَارِ الْعَلاَقَاتِ بَيْنَ النَّاسِ،
__________
(1) حديث: " لا ضرر ولا ضرار ". أخرجه مالك في الموطأ (2 / 745) من حديث
يحيى المازني مرسلا، ولكن له شواهد موصولة يتقوى بها، ذكرها ابن رجب في
جامع العلوم والحكم. (ص 286 - 287) وحسنه النووي
(2) فيض القدير 6 / 431.
(3) جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي ص 288.
(28/180)
وَقَعَّدُوا لِذَلِكَ مَجْمُوعَةً مِنَ
الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ تَضْبِطُهُ، وَتُوَضِّحُ
مَعَالِمَهُ الْعَامَّةَ وَتُنَظِّمُ آثَارَهُ، وَأَهَمُّ هَذِهِ
الْقَوَاعِدِ هِيَ:
الضَّرَرُ يُزَال:
6 - أَصْل هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (1) وَيُبْتَنَى عَلَى هَذِهِ
الْقَاعِدَةِ كَثِيرٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، فَمِنْ ذَلِكَ الرَّدُّ
بِالْعَيْبِ، وَجَمِيعُ أَنْوَاعِ الْخِيَارَاتِ، وَالْحَجْرُ بِسَائِرِ
أَنْوَاعِهِ، وَالشُّفْعَةُ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ (2) .
وَيَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوَاعِدُ:
7 - الأُْولَى: الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ: وَمِنْ ثَمَّ جَازَ
أَكْل الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ وَإِسَاغَةُ اللُّقْمَةِ
بِالْخَمْرِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ " بِشَرْطِ عَدَمِ
نُقْصَانِهَا عَنْهَا " (3) .
8 - الثَّانِيَةُ: " مَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا "
وَمِنْ فُرُوعِهَا: الْمُضْطَرُّ لاَ يَأْكُل مِنَ الْمَيْتَةِ إِلاَّ
قَدْرَ سَدِّ الرَّمَقِ، وَالطَّعَامُ فِي دَارِ الْحَرْبِ يُؤْخَذُ عَلَى
سَبِيل الْحَاجَةِ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ، قَال فِي
الْكَنْزِ: وَيَنْتَفِعُ فِيهَا بِعَلَفٍ وَطَعَامٍ وَحَطَبٍ وَسِلاَحٍ
وَدُهْنٍ بِلاَ قِسْمَةٍ،
__________
(1) حديث: " لا ضرر ولا ضرار ". سبق تخريجه ف 4
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 94 (نشر دار الفكر بدمشق) .
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 94، والأشباه للسيوطي ص 84.
(28/180)
وَبَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهَا لاَ
يَنْتَفِعُ بِهَا، وَمَا فَضَل رُدَّ إِلَى الْغَنِيمَةِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: ضَرُورَة) .
الضَّرَرُ لاَ يُزَال بِمِثْلِهِ.
9 - هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُقَيِّدَةٌ لِقَاعِدَةِ " الضَّرَرُ يُزَال "
بِمَعْنَى أَنَّ الضَّرَرَ مَهْمَا كَانَ وَاجِبَ الإِْزَالَةِ،
فَإِزَالَتُهُ إِمَّا بِلاَ ضَرَرٍ أَصْلاً أَوْ بِضَرَرٍ أَخَفَّ مِنْهُ،
كَمَا هُوَ مُقْتَضَى قَاعِدَةِ " الضَّرَرُ الأَْشَدُّ يُزَال
بِالأَْخَفِّ " وَأَمَّا إِزَالَةُ الضَّرَرِ بِضَرَرٍ مِثْلِهِ أَوْ
أَشَدَّ فَلاَ يَجُوزُ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ عَقْلاً - أَيْضًا -
لأَِنَّ السَّعْيَ فِي إِزَالَتِهِ بِمِثْلِهِ عَبَثٌ.
وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْل
الْمُسْلِمِ بِالْقَتْل مَثَلاً لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ هَذَا إِزَالَةُ
الضَّرَرِ بِضَرَرٍ مِثْلِهِ، بِخِلاَفِ أَكْل مَالِهِ فَإِنَّهُ إِزَالَةُ
الضَّرَرِ بِمَا هُوَ أَخَفُّ.
وَمِنْهَا لَوِ ابْتَلَعَتْ دَجَاجَةٌ لُؤْلُؤَةً، أَوْ أَدْخَل الْبَقَرُ
رَأْسَهُ فِي قِدْرٍ، أَوْ أَوْدَعَ فَصِيلاً فَكَبِرَ فِي بَيْتِ
الْمُودَعِ وَلَمْ يُمْكِنْ إِخْرَاجُهُ إِلاَّ بِهَدْمِ الْجِدَارِ، أَوْ
كَسْرِ الْقِدْرِ، أَوْ ذَبْحِ الدَّجَاجَةِ، يَضْمَنُ صَاحِبُ الأَْكْثَرِ
قِيمَةَ الأَْقَل؛ لأَِنَّ الأَْصْل أَنَّ الضَّرَرَ الأَْشَدَّ يُزَال
بِالأَْخَفِّ (2) .
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 34 (ط: المطبعة الحسينية المصرية) ، والأشباه
للسيوطي 84.
(2) شرح المجلة للآتاسي 1 / 63 - 64 المادة (25) و (906) .
(28/181)
يُتَحَمَّل الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِدَفْعِ
الضَّرَرِ الْعَامِّ:
10 - هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُقَيِّدَةٌ لِقَاعِدَةِ " الضَّرَرُ لاَ يُزَال
بِمِثْلِهِ " أَيْ لاَ يُزَال الضَّرَرُ بِالضَّرَرِ إِلاَّ إِذَا كَانَ
أَحَدُهُمَا عَامًّا وَالآْخَرُ خَاصًّا، فَيُتَحَمَّل حِينَئِذٍ الضَّرَرُ
الْخَاصُّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ.
وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُهِمَّةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى
الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ فِي مَصَالِحِ الْعِبَادِ اسْتَخْرَجَهَا
الْمُجْتَهِدُونَ مِنَ الإِْجْمَاعِ وَمَعْقُول النُّصُوصِ، قَال
الأَْتَاسِيُّ نَقْلاً عَنِ الْغَزَالِيِّ: إِنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا جَاءَ
لِيَحْفَظَ عَلَى النَّاسِ دِينَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ وَعُقُولَهُمْ
وَأَنْسَابَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَكُل مَا يَكُونُ بِعَكْسِ هَذَا فَهُوَ
مَضَرَّةٌ يَجِبُ إِزَالَتُهَا مَا أَمْكَنَ وَإِلاَّ فَتَأْيِيدًا
لِمَقَاصِدِ الشَّرْعِ يُدْفَعُ فِي هَذَا السَّبِيل الضَّرَرُ الأَْعَمُّ
بِالضَّرَرِ الأَْخَصِّ (1)
إِذَا تَعَارَضَ مَفْسَدَتَانِ رُوعِيَ أَعْظَمُهُمَا ضَرَرًا بِارْتِكَابِ
أَخَفِّهِمَا:
11 - هَذِهِ الْقَاعِدَةُ وَقَاعِدَةُ " الضَّرَرُ الأَْشَدُّ يُزَال
بِالأَْخَفِّ " وَقَاعِدَةُ " يُخْتَارُ أَهْوَنُ الشَّرَّيْنِ "
مُتَّحِدَاتٌ، وَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَ التَّعْبِيرُ.
وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا يَتَفَرَّعُ عَلَى أُخْتَيْهَا.
وَمِنْ فُرُوعِهَا جَوَازُ شَقِّ بَطْنِ الْمَيْتَةِ لإِِخْرَاجِ الْوَلَدِ
إِذَا كَانَتْ تُرْجَى حَيَاتُهُ (2) .
__________
(1) شرح المجلة للآتاسي 1 / 66 المادة (26) .
(2) الأشباه لابن نجيم ص 35، (ط: المطبعة الحسينية) ، وشرح المجلة للآتاسي
1 / 69.
(28/181)
اسْتِعْمَال الْحَقِّ بِالنَّظَرِ إِلَى
مَا يَئُول إِلَيْهِ مِنْ أَضْرَارٍ:
12 - يَقُول الشَّاطِبِيُّ: جَلْبُ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَفْعُ
الْمَفْسَدَةِ إِذَا كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لاَ يَلْزَمَ عَنْهُ إِضْرَارُ الْغَيْرِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَلْزَمَ عَنْهُ ذَلِكَ، وَهَذَا ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا:
أَنْ يَقْصِدَ الْجَالِبُ أَوِ الدَّافِعُ ذَلِكَ الإِْضْرَارَ
كَالْمُرَخِّصِ فِي سِلْعَتِهِ قَصْدًا لِطَلَبِ مَعَاشِهِ، وَصَحِبَهُ
قَصْدَ الإِْضْرَارِ بِالْغَيْرِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لاَ يَقْصِدَ إِضْرَارًا بِأَحَدٍ، وَهُوَ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الإِْضْرَارُ عَامًّا كَتَلَقِّي السِّلَعِ
وَبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي وَالاِمْتِنَاعِ عَنْ بَيْعِ دَارِهِ أَوْ
فَدَّانِهِ، وَقَدِ اضْطُرَّ إِلَيْهِ النَّاسُ لِمَسْجِدٍ جَامِعٍ أَوْ
غَيْرِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَاصًّا، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَلْحَقَ الْجَالِبَ أَوِ الدَّافِعَ بِمَنْعِهِ مِنْ
ذَلِكَ ضَرَرٌ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى فِعْلِهِ، كَالدَّافِعِ عَنْ
نَفْسِهِ مَظْلِمَةً يَعْلَمُ أَنَّهَا تَقَعُ بِغَيْرِهِ، أَوْ يَسْبِقُ
إِلَى شِرَاءِ طَعَامٍ، أَوْ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، أَوْ إِلَى صَيْدٍ
أَوْ حَطَبٍ أَوْ مَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ عَالِمًا أَنَّهُ إِذَا حَازَهُ
تَضَرَّرَ غَيْرُهُ بِعَدَمِهِ، وَلَوْ أُخِذَ مِنْ يَدِهِ تَضَرَّرَ.
وَالثَّانِي: أَنْ لاَ يَلْحَقَهُ بِذَلِكَ ضَرَرٌ، وَهُوَ عَلَى ثَلاَثَةِ
أَنْوَاعٍ:
(28/182)
الأَْوَّل: مَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ إِلَى
الْمَفْسَدَةِ قَطْعِيًّا، أَعْنِي الْقَطْعَ الْعَادِيَ كَحَفْرِ
الْبِئْرِ خَلْفَ الدَّارِ فِي الظَّلاَمِ، بِحَيْثُ يَقَعُ الدَّاخِل
فِيهِ، وَشِبْهُ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: مَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ نَادِرًا كَحَفْرِ
الْبِئْرِ بِمَوْضِعٍ لاَ يُؤَدِّي غَالِبًا إِلَى وُقُوعِ أَحَدٍ فِيهِ،
وَأَكْل الأَْغْذِيَةِ الَّتِي غَالِبًا لاَ تَضُرُّ أَحَدًا وَمَا
أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَالثَّالِثُ: مَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ كَثِيرًا لاَ
نَادِرًا، وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ غَالِبًا كَبَيْعِ السِّلاَحِ مِنْ أَهْل
الْحَرْبِ، وَالْعِنَبِ مِنَ الْخَمَّارِ، وَمَا يُغَشُّ بِهِ مِمَّنْ
شَأْنُهُ الْغِشُّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا لاَ غَالِبًا كَمَسَائِل بُيُوعِ
الآْجَال. فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: اسْتِعْمَال الْحَقِّ بِحَيْثُ لاَ يَلْزَمُ عَنْهُ
مَضَرَّةٌ:
اسْتِعْمَال الْحَقِّ إِذَا لَمْ يَلْزَمْ عَنْهُ مَضَرَّةٌ بِالْغَيْرِ -
حُكْمُهُ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الإِْذْنِ وَلاَ إِشْكَال
فِيهِ وَلاَ حَاجَةَ إِلَى الاِسْتِدْلاَل عَلَيْهِ لِثُبُوتِ الدَّلِيل
عَلَى الإِْذْنِ ابْتِدَاءً.
الْقِسْمُ الثَّانِي: اسْتِعْمَال الْحَقِّ بِقَصْدِ الإِْضْرَارِ
بِالْغَيْرِ:
لاَ إِشْكَال فِي مَنْعِ الْقَصْدِ إِلَى الإِْضْرَارِ مِنْ
(28/182)
حَيْثُ هُوَ إِضْرَارٌ لِثُبُوتِ الدَّلِيل
عَلَى أَنَّهُ لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ فِي الإِْسْلاَمِ (1) .
وَالضَّابِطُ الْكُلِّيُّ فِي اسْتِعْمَال الْحَقِّ هُوَ مَا ذَكَرَهُ
الْغَزَالِيُّ حَيْثُ يَقُول: أَنْ لاَ يُحِبَّ لأَِخِيهِ إِلاَّ مَا
يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، فَكُل مَا لَوْ عُومِل بِهِ شَقَّ عَلَيْهِ وَثَقُل
عَلَى قَلْبِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يُعَامِل بِهِ غَيْرَهُ (2) .
وَجَاءَ فِي مُعِينِ الْحُكَّامِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ لاَ ضَرَرَ وَلاَ
ضِرَارَ فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَتَعَمَّدَ أَحَدُهُمَا الإِْضْرَارَ بِصَاحِبِهِ وَعَنْ أَنْ يَقْصِدَا
ذَلِكَ جَمِيعًا (3) .
وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ بَعْضَ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ تَطْبِيقًا
لِهَذَا النَّوْعِ مِنِ اسْتِعْمَال الْحَقِّ:
الإِْضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ:
13 - رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا مَرْفُوعًا الإِْضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ (4)
وَوَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ الرَّجُل
لَيَعْمَل وَالْمَرْأَةُ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً ثُمَّ
__________
(1) الموافقات للشاطبي 2 / 348 وما بعدها (نشر المكتبة التجارية الكبرى) .
(2) إحياء علوم الدين 2 / 76.
(3) معين الحكام ص 244 (ط. الميمنية) .
(4) تفسير القرطبي 2 / 252، وحديث: " الإضرار
في الوصية من الكبائر ". أخرجه الدارقطني (4 / 151) والبيهقي (6 /
271) وصوب البيهقي وقفه على ابن عباس.
(28/183)
يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ فَيُضَارَّانِ فِي
الْوَصِيَّةِ فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ (1) قَال شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ (2)
(رَاوِي الْحَدِيثِ) ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ أَبُو هُرَيْرَةَ {مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} إِلَى قَوْلِهِ
{وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3)
وَالإِْضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ تَارَةً يَكُونُ بِأَنْ يَخُصَّ بَعْضَ
الْوَرَثَةِ بِزِيَادَةٍ عَلَى فَرْضِهِ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ لَهُ
فَيَتَضَرَّرَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ بِتَخْصِيصِهِ، وَلِهَذَا قَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى
كُل ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ (4) وَتَارَةً بِأَنْ
يُوصِيَ لأَِجْنَبِيٍّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ فَيُنْقِصَ حُقُوقَ
الْوَرَثَةِ، وَلِهَذَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ (5) وَمَتَى أَوْصَى لِوَارِثٍ أَوْ
لأَِجْنَبِيٍّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ لَمْ يَنْفُذْ مَا أَوْصَى بِهِ
إِلاَّ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ (6) .
وَلِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِي رَدِّ وَصِيَّةِ الْمُوصِي إِذَا
قَصَدَ بِوَصِيَّتِهِ الْمُضَارَّةَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَصِيَّة) .
__________
(1) حديث: " إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة. . ". أخرجه
الترمذي (4 / 431) وأشار المناوي إلى تضعيفه في فيض القدير (2 / 335) .
(2) تفسير الجصاص 1 / 201 (المطبعة البهية المصرية) .
(3) سورة النساء / 12 - 13.
(4) حديث: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 433)
من حديث أبي أمامة، وحسنه ابن حجر في التلخيص (3 / 92) .
(5) حديث: " الثلث والثلث كثير ". أخرجه البخاري (7 / 269) ومسلم (3 /
1250) .
(6) جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي ص 288.
(28/183)
الإِْضْرَارُ بِالرَّجْعَةِ:
14 - مَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ رَاجَعَهَا وَكَانَ قَصْدُهُ
بِالرَّجْعَةِ الْمُضَارَّةَ فَإِنَّهُ آثِمٌ بِذَلِكَ، وَقَدْ نَهَى
اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ هَذَا التَّصَرُّفِ بِقَوْلِهِ:
{وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ فَقَدْ
ظَلَمَ نَفْسَهُ} (1) يَقُول الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآْيَةِ:
وَلاَ تُرَاجِعُوهُنَّ إِنْ رَاجَعْتُمُوهُنَّ فِي عِدَدِهِنَّ مُضَارَّةً
لَهُنَّ لِتُطَوِّلُوا عَلَيْهِنَّ مُدَّةَ انْقِضَاءِ عِدَدِهِنَّ، أَوْ
لِتَأْخُذُوا مِنْهُنَّ بَعْضَ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ بِطَلَبِهِنَّ
الْخُلْعَ مِنْكُمْ لِمُضَارَّتِكُمْ إِيَّاهُنَّ، بِإِمْسَاكِكُمْ
إِيَّاهُنَّ وَمُرَاجَعَتِكُمُوهُنَّ ضِرَارًا وَاعْتِدَاءً (2) .
@ @ @ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَهَى
الأَْزْوَاجَ أَنْ يُمْسِكُوا زَوْجَاتِهِمْ بِقَصْدِ إِضْرَارِهِنَّ
بِتَطْوِيل الْعِدَّةِ، أَوْ أَخْذِ بَعْضِ مَالِهِنَّ، وَالنَّهْيُ
يُفِيدُ التَّحْرِيمَ فَتَكُونُ الرَّجْعَةُ مُحَرَّمَةً فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ (3) .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ فِي حُكْمِ الرَّجْعِيَّةِ فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ. يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رَجْعَة ف 4) .
15 - وَمِنْ صُوَرِ الإِْضْرَارِ: الإِْيلاَءُ، وَغَيْبَةُ
__________
(1) سورة البقرة / 231.
(2) تفسير الطبري 5 / 7 - 8 (نشر دار المعارف) .
(3) جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 288.
(28/184)
الزَّوْجِ، وَالْحَبْسُ، فَيُفَرَّقُ
بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، بِشُرُوطِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ
وَخِلاَفٍ فِيهِ.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِيلاَء، وَطَلاَقٌ، وَفَسْخٌ، وَغَيْبَةٌ،
وَمَفْقُودٌ) .
الإِْضْرَارُ فِي الرَّضَاعِ:
16 - إِنْ رَغِبَتْ الأُْمُّ فِي إِرْضَاعِ وَلَدِهَا أُجِيبَتْ وُجُوبًا
سَوَاءٌ كَانَتْ مُطَلَّقَةً أَمْ فِي عِصْمَةِ الأَْبِ عَلَى قَوْل
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ
بِوَلَدِهَا} (1) وَالْمَنْعُ مِنْ إِرْضَاعِ وَلَدِهَا مُضَارَّةٌ لَهَا
(2) .
وَقِيل: إِنْ كَانَتِ الأُْمُّ فِي حِبَال الزَّوْجِ فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ
إِرْضَاعِ وَلَدِهَا إِلاَّ أَنْ لاَ يُمْكِنَ ارْتِضَاعُهُ مِنْ
غَيْرِهَا، وَلَكِنْ إِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ قَصْدُ
الزَّوْجِ بِهِ تَوْفِيرَ الزَّوْجَةِ لِلاِسْتِمْتَاعِ، لاَ مُجَرَّدَ
إِدْخَال الضَّرَرِ عَلَيْهَا (3) ، وَيَلْزَمُ الأَْبَ إِجَابَةُ طَلَبِ
الْمُطَلَّقَةِ فِي إِرْضَاعِ وَلَدِهَا مَا لَمْ تَطْلُبْ زِيَادَةً عَلَى
أُجْرَةِ مِثْلِهَا، أَمَّا إِنْ طَلَبَتْ زِيَادَةً عَلَى أُجْرَةِ
مِثْلِهَا زِيَادَةً كَبِيرَةً، وَوَجَدَ الأَْبُ مَنْ يَرْضِعُهُ
بِأُجْرَةِ الْمِثْل لَمْ يَلْزَمِ الأَْبَ إِجَابَتُهَا إِلَى مَا
طَلَبَتْ، لأَِنَّهَا تَقْصِدُ الْمُضَارَّةَ (4) .
__________
(1) سورة البقرة / 233.
(2) المغني 7 / 627، وأسنى المطالب 3 / 445، والدسوقي 2 / 526، وابن عابدين
2 / 675 - 676، وجامع العلوم والحكم ص 289.
(3) جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 289.
(4) نفس المرجع.
(28/184)
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: رَضَاعٌ) .
الإِْضْرَارُ فِي الْبَيْعِ:
17 - مِنْ أَمْثِلَةِ الضَّرَرِ فِي الْبُيُوعِ بَيْعُ الرَّجُل عَلَى
بَيْعِ أَخِيهِ، وَالسَّوْمُ وَالشِّرَاءُ عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ،
وَالنَّجْشُ وَتَلَقِّي الْجَلْبَ أَوِ الرُّكْبَانِ، وَبَيْعُ الْحَاضِرِ
لِلْبَادِي، وَبَيْعُ الْمُضْطَرِّ (1) وَيُنْظَرُ أَحْكَامُ هَذِهِ
الْبُيُوعِ فِي (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ: ف 100 - 132) .
18 - وَمِمَّا يَنْدَرِجُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي حَسَبَ تَقْسِيمَاتِ
الشَّاطِبِيِّ: اسْتِعْمَال صَاحِبِ الْحَقِّ حَقَّهُ لِتَحْقِيقِ
مَصْلَحَةٍ مَشْرُوعَةٍ لَهُ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَرَّرُ مِنْهُ غَيْرُهُ.
يَقُول الشَّاطِبِيُّ: لَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ فِي الْعَمَل الَّذِي
اجْتَمَعَ فِيهِ قَصْدُ نَفْعِ النَّفْسِ، وَقَصْدُ إِضْرَارِ الْغَيْرِ
هَل يُمْنَعُ مِنْهُ فَيَصِيرُ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ، أَمْ يَبْقَى عَلَى
حُكْمِهِ الأَْصْلِيِّ مِنَ الإِْذْنِ وَيَكُونُ عَلَيْهِ إِثْمُ مَا
قَصَدَ؟ هَذَا مِمَّا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْخِلاَفُ عَلَى الْجُمْلَةِ،
وَهُوَ جَارٍ فِي مَسْأَلَةِ الصَّلاَةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ مَعَ
ذَلِكَ فَيُحْتَمَل الاِجْتِهَادُ فِيهِ.
وَهُوَ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِذَا رَفَعَ ذَلِكَ الْعَمَل
وَانْتَقَل إِلَى وَجْهٍ آخَرَ فِي اسْتِجْلاَبِ تِلْكَ
__________
(1) جامع العلوم والحكم ص 289 - 290.
(28/185)
الْمَصْلَحَةِ، أَوْ دَرْءِ تِلْكَ
الْمَفْسَدَةِ جُعِل لَهُ مَا أَرَادَ أَوْ لاَ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ
فَلاَ إِشْكَال فِي مَنْعِهِ مِنْهُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ غَيْرَ
الإِْضْرَارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحِيصٌ عَنْ تِلْكَ الْجِهَةِ الَّتِي
يَسْتَضِرُّ مِنْهَا الْغَيْرُ، فَحَقُّ الْجَالِبِ أَوِ الدَّافِعِ
مُقَدَّمٌ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ قَصْدِ الإِْضْرَارِ، وَلاَ يُقَال: إِنَّ
هَذَا تَكْلِيفٌ بِمَا لاَ يُطَاقُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا كُلِّفَ بِنَفْيِ
قَصْدِ الإِْضْرَارِ وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْكَسْبِ لاَ بِنَفْيِ
الإِْضْرَارِ بِعَيْنِهِ (1) .
19 - وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا النَّوْعِ مَا ذَكَرَهُ التَّسَوُّلِيُّ،
فِيمَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ وَيَضُرَّ بِجِدَارِ
جَارِهِ: وَأَمَّا إِنْ وَجَدَ عَنْهُ مَنْدُوحَةً وَلَمْ يَتَضَرَّرْ
بِتَرْكِ حَفْرِهِ فَلاَ يُمَكَّنُ مِنْ حَفْرِهِ لِتَمَحُّضِ إِضْرَارِهِ
بِجَارِهِ حِينَئِذٍ (2) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَمُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ قَرِيبٌ مِنْ
مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذَا الصَّدَدِ، إِذْ هُمْ يُقَيِّدُونَ
حَقَّ الْمَالِكِ فِي التَّصَرُّفِ بِمِلْكِهِ بِمَا يَمْنَعُ الإِْضْرَارَ
الْفَاحِشَ عَنْ جَارِهِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْمُغْنِي: لَيْسَ لِلْجَارِ
التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِهِ تَصَرُّفًا يُضِرُّ بِجَارِهِ، نَحْوَ أَنْ
يَبْنِيَ فِيهِ حَمَّامًا بَيْنَ الدُّورِ، أَوْ يَفْتَحَ خَبَّازًا بَيْنَ
الْعَطَّارِينَ (3) .
وَالزَّيْلَعِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يُقَرِّرُ هَذَا الْمَعْنَى
وَيَقُول: إِنَّ لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ
__________
(1) الموافقات 2 / 349.
(2) البهجة في شرح التحفة 2 / 336.
(3) المغني لابن قدامة 4 / 572.
(28/185)
مَا شَاءَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا لَمْ
يُضِرَّ بِغَيْرِهِ ضَرَرًا ظَاهِرًا. . . وَلَوْ أَرَادَ بِنَاءَ تَنُّورٍ
فِي دَارِهِ لِلْخَبْزِ الدَّائِمِ، كَمَا يَكُونُ فِي الدَّكَاكِينِ، أَوْ
رَحًا لِلطَّحْنِ، أَوْ مِدَقَّاتٍ لِلْقَصَّارِينَ لَمْ يَجُزْ، لأَِنَّ
ذَلِكَ يُضِرُّ بِالْجِيرَانِ ضَرَرًا ظَاهِرًا فَاحِشًا لاَ يُمْكِنُ
التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ يَجُوزُ لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ
فِي مِلْكِهِ، وَتُرِكَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا لأَِجْل الْمَصْلَحَةِ (1) .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: لُحُوقُ الضَّرَرِ بِجَالِبِ الْمَصْلَحَةِ أَوْ
دَافِعِ الْمَفْسَدَةِ عِنْدَ مَنْعِهِ مِنَ اسْتِعْمَال حَقِّهِ:
20 - هَذَا لاَ يَخْلُو أَنْ يَلْزَمَ مِنْ مَنْعِهِ الإِْضْرَارُ بِهِ
بِحَيْثُ لاَ يَنْجَبِرُ أَوَّلاً، فَإِنْ لَزِمَ قُدِّمَ حَقُّهُ عَلَى
الإِْطْلاَقِ (2) .
وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا النَّوْعِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مِنْ أَنَّهُ
إِذَا اشْتَدَّتْ الْمَخْمَصَةُ فِي سَنَةِ الْمَجَاعَةِ وَأَصَابَتْ
خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ قَدْرُ كِفَايَتِهِ
وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُهُ لِلْمُضْطَرِّينَ،
وَلَيْسَ لَهُمْ أَخْذُهُ مِنْهُ لأَِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى وُقُوعِ
الضَّرَرِ بِهِ وَلاَ يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانُوا فِي
سَفَرٍ وَمَعَهُ قَدْرُ كِفَايَتِهِ مِنْ غَيْرِ فَضْلَةٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ
بَذْل مَا مَعَهُ لِلْمُضْطَرِّينَ، لأَِنَّ الْبَذْل فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ يُفْضِي إِلَى هَلاَكِ
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 196.
(2) الموافقات 2 / 349.
(28/186)
نَفْسِهِ وَهَلاَكِ عِيَالِهِ فَلَمْ
يَلْزَمْهُ، كَمَا لَوْ أَمْكَنَهُ إِنْجَاءُ الْغَرِيقِ بِتَغْرِيقِ
نَفْسِهِ، وَلأَِنَّ فِي بَذْلِهِ إِلْقَاءً بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ،
وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ (1) .
أَمَّا إِذَا أَمْكَنَ انْجِبَارُ الإِْضْرَارِ وَرَفْعُهُ جُمْلَةً
فَاعْتِبَارُ الضَّرَرِ الْعَامِّ أَوْلَى فَيُمْنَعُ الْجَالِبُ أَوِ
الدَّافِعُ مِمَّا هَمَّ بِهِ، لأَِنَّ الْمَصَالِحَ الْعَامَّةَ
مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ بِدَلِيل النَّهْيِ عَنْ
تَلَقِّي السِّلَعِ وَعَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَاتِّفَاقِ
السَّلَفِ عَلَى تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ مَعَ أَنَّ الأَْصْل فِيهِمُ
الأَْمَانَةُ، وَقَدْ زَادُوا فِي مَسْجِدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا رَضِيَ أَهْلُهُ وَمَا لاَ،
وَذَلِكَ يَقْضِي بِتَقْدِيمِ مَصْلَحَةِ الْعُمُومِ عَلَى مَصْلَحَةِ
الْخُصُوصِ لَكِنْ بِحَيْثُ لاَ يَلْحَقُ الْخُصُوصَ مَضَرَّةٌ (لاَ
تَنْجَبِرُ) (2) وَهُوَ مُفَادُ قَاعِدَةِ " يُتَحَمَّل الضَّرَرُ
الْخَاصُّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ " (3) .
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: دَفْعُ الضَّرَرِ بِالتَّمْكِينِ مِنَ
الْمَعْصِيَةِ:
21 - فَمِنْ ذَلِكَ الرِّشْوَةُ عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ إِذَا لَمْ
يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ إِلاَّ بِذَلِكَ، وَإِعْطَاءُ الْمَال
لِلْمُحَارِبِينَ وَلِلْكُفَّارِ فِي فِدَاءِ الأَْسْرَى،
__________
(1) المغني 8 / 603.
(2) الموافقات 2 / 250 والذي بين القوسين من التعليقات على الموافقات.
(3) مجلة الأحكام العدلية المادة (26) ، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 96
نشر دار الفكر بدمشق.
(28/186)
وَلِمَانِعِي الْحَاجِّ حَتَّى يُؤَدُّوا
خَرَاجًا، كُل ذَلِكَ انْتِفَاعٌ أَوْ دَفْعُ ضَرَرٍ بِتَمْكِينٍ مِنَ
الْمَعْصِيَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ طَلَبُ فَضِيلَةِ الْجِهَادِ، مَعَ أَنَّهُ
تَعَرُّضٌ لِمَوْتِ الْكَافِرِ عَلَى الْكُفْرِ، أَوْ قَتْل الْكَافِرِ
الْمُسْلِمَ، بَل قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَل فِي سَبِيل اللَّهِ ثُمَّ
أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَل (1) وَلاَزِمُ ذَلِكَ دُخُول قَاتِلِهِ النَّارَ،
وَقَوْل أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي
وَإِثْمِكَ} (2) بَل الْعُقُوبَاتُ كُلُّهَا جَلْبُ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءُ
مَفْسَدَةٍ يَلْزَمُ عَنْهَا إِضْرَارُ الْغَيْرِ، إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ
كُلَّهُ إِلْغَاءٌ لِجَانِبِ الْمَفْسَدَةِ لأَِنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ
لِلشَّارِعِ فِي شَرْعِ هَذِهِ الأَْحْكَامِ، وَلأَِنَّ جَانِبَ الْجَالِبِ
وَالدَّافِعِ أَوْلَى (3) .
الْقِسْمُ الْخَامِسُ: التَّصَرُّفُ الْمُفْضِي إِلَى الْمَفْسَدَةِ
قَطْعًا:
22 - الْمَفْرُوضُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ لاَ يَلْحَقَ الْجَالِبَ
لِلْمَصْلَحَةِ أَوِ الدَّافِعَ لِلْمَفْسَدَةِ ضَرَرٌ، وَلَكِنَّ
أَدَاءَهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ قَطْعِيٌّ عَادَةً فَلَهُ نَظَرَانِ: نَظَرٌ
مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ قَاصِدًا لِمَا يَجُوزُ أَنْ
__________
(1) حديث: " والذي نفسي بيده لوددت. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 /
16 ط. السلفية) من حديث أبي هريرة.
(2) سورة المائدة / 29.
(3) الموافقات 2 / 350 وما بعدها.
(28/187)
يُقْصَدَ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ
إِضْرَارٍ بِأَحَدٍ، فَهَذَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ جَائِزٌ لاَ مَحْظُورَ
فِيهِ.
وَنَظَرٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ عَالِمًا بِلُزُومِ مَضَرَّةِ الْغَيْرِ
لِهَذَا الْعَمَل الْمَقْصُودِ مَعَ عَدَمِ اسْتِضْرَارِهِ بِتَرْكِهِ،
فَإِنَّهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَظِنَّةٌ لِقَصْدِ الإِْضْرَارِ،
لأَِنَّهُ فِي فِعْلِهِ إِمَّا فَاعِلٌ لِمُبَاحٍ صِرْفٍ لاَ يَتَعَلَّقُ
بِفِعْلِهِ مَقْصِدٌ ضَرُورِيٌّ وَلاَ حَاجِيٌّ وَلاَ تَكْمِيلِيٌّ فَلاَ
قَصْدَ لِلشَّارِعِ فِي إِيقَاعِهِ مِنْ حَيْثُ يُوقَعُ، وَإِمَّا فَاعِلٌ
لِمَأْمُورٍ بِهِ عَلَى وَجْهٍ يَقَعُ فِيهِ مَضَرَّةٌ مَعَ إِمْكَانِ
فِعْلِهِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَلْحَقُ فِيهِ مَضَرَّةٌ وَلَيْسَ لِلشَّارِعِ
قَصْدٌ فِي وُقُوعِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلْحَقَ بِهِ الضَّرَرُ
دُونَ الآْخَرِ.
وَعَلَى كِلاَ التَّقْدِيرَيْنِ فَتَوَخِّيهِ لِذَلِكَ الْفِعْل عَلَى
ذَلِكَ الْوَجْهِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْمَضَرَّةِ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ
أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا تَقْصِيرٌ فِي النَّظَرِ الْمَأْمُورِ بِهِ
وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ، وَإِمَّا قَصْدٌ إِلَى نَفْسِ الإِْضْرَارِ وَهُوَ
مَمْنُوعٌ - أَيْضًا - فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْ ذَلِكَ
الْفِعْل، لَكِنْ إِذَا فَعَلَهُ يُعَدُّ مُتَعَدِّيًا بِفِعْلِهِ
وَيَضْمَنُ ضَمَانَ الْمُتَعَدِّي عَلَى الْجُمْلَةِ (1) .
الْقِسْمُ السَّادِسُ: التَّصَرُّفُ الْمُفْضِي إِلَى الْمَفْسَدَةِ
نَادِرًا:
23 - الْمَفْرُوضُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الْجَالِبَ أَوْ
__________
(1) الموافقات للشاطبي 2 / 350، 357، 358.
(28/187)
الدَّافِعَ لاَ يَقْصِدُ الإِْضْرَارَ
بِأَحَدٍ إِلاَّ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَنْ فِعْلِهِ مَضَرَّةٌ بِالْغَيْرِ
نَادِرًا، هُوَ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الإِْذْنِ، لأَِنَّ الْمَصْلَحَةَ
إِذَا كَانَتْ غَالِبَةً فَلاَ اعْتِبَارَ بِالنُّدُورِ فِي انْخِرَامِهَا،
إِذْ لاَ تُوجَدُ فِي الْعَادَةِ مَصْلَحَةٌ عَرِيَّةٌ عَنِ الْمَفْسَدَةِ
جُمْلَةً، إِلاَّ أَنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا اعْتَبَرَ فِي مَجَارِي
الشَّرْعِ غَلَبَةَ الْمَصْلَحَةِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ نُدُورَ الْمَفْسَدَةِ
إِجْرَاءً لِلشَّرْعِيَّاتِ مَجْرَى الْعَادِيَّاتِ فِي الْوُجُودِ، وَلاَ
يُعَدُّ - هُنَا - قَصْدُ الْقَاصِدِ إِلَى جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ أَوْ
دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ - مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِنُدُورِ الْمَضَرَّةِ عَنْ
ذَلِكَ - تَقْصِيرًا فِي النَّظَرِ وَلاَ قَصْدًا إِلَى وُقُوعِ الضَّرَرِ،
فَالْعَمَل إِذَنْ بَاقٍ عَلَى أَصْل الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَالدَّلِيل عَلَى
ذَلِكَ أَنَّ ضَوَابِطَ الْمُشَرِّعَاتِ هَكَذَا وَجَدْنَاهَا:
كَالْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ فِي الدِّمَاءِ وَالأَْمْوَال وَالْفُرُوجِ
مَعَ إِمْكَانِ الْكَذِبِ وَالْوَهْمِ وَالْغَلَطِ، وَكَذَلِكَ إِعْمَال
الْخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالأَْقْيِسَةِ الْجُزْئِيَّةِ فِي التَّكَالِيفِ
مَعَ إِمْكَانِ إِخْلاَفِهَا وَالْخَطَأِ فِيهَا مِنْ وُجُوهٍ، لَكِنَّ
ذَلِكَ نَادِرٌ فَلَمْ يُعْتَبَرْ وَاعْتُبِرَتِ الْمَصْلَحَةُ
الْغَالِبَةُ (1) .
الْقِسْمُ السَّابِعُ: التَّصَرُّفُ الْمُؤَدِّي إِلَى الْمَفْسَدَةِ
ظَنًّا:
24 - قَدْ يَكُونُ التَّصَرُّفُ وَسِيلَةً مَوْضُوعَةً لِلْمُبَاحِ إِلاَّ
أَنَّهُ يُظَنُّ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ فَيَحْتَمِل
__________
(1) الموافقات 2 / 358.
(28/188)
الْخِلاَفَ، أَمَّا أَنَّ الأَْصْل
الإِْبَاحَةُ وَالإِْذْنُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا أَنَّ الضَّرَرَ
وَالْمَفْسَدَةَ تَلْحَقُ ظَنًّا فَهَل يَجْرِي الظَّنُّ مَجْرَى الْعِلْمِ
فَيَمْنَعُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ أَمْ لاَ؛ لِجَوَازِ
تَخَلُّفِهِمَا وَإِنْ كَانَ التَّخَلُّفُ نَادِرًا؟ لَكِنَّ اعْتِبَارَ
الظَّنِّ هُوَ الأَْرْجَحُ، وَلاَ يُلْتَفَتُ إِلَى أَصْل الإِْذْنِ
وَالإِْبَاحَةِ لأُِمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الظَّنَّ فِي أَبْوَابِ الْعَمَلِيَّاتِ جَارٍ مَجْرَى
الْعِلْمِ فَالظَّاهِرُ جَرَيَانُهُ هُنَا (1) .
وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (2) فَحَرَّمَ
اللَّهُ تَعَالَى سَبَّ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ كَوْنِ السَّبِّ
غَيْظًا وَحَمِيَّةً لِلَّهِ وَإِهَانَةً لآِلِهَتِهِمْ، لِكَوْنِهِ
ذَرِيعَةً إِلَى سَبِّهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى وَكَانَتْ مَصْلَحَةُ تَرْكِ
مَسَبَّتِهِ تَعَالَى أَرْجَحَ مِنْ مَصْلَحَةِ سَبِّنَا لآِلِهَتِهِمْ،
وَهَذَا كَالتَّنْبِيهِ بَل كَالتَّصْرِيحِ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ
الْجَائِزِ لِئَلاَّ يَكُونَ سَبَبًا فِي فِعْل مَا لاَ يَجُوزُ (3) .
الْقِسْمُ الثَّامِنُ: التَّصَرُّفُ الْمُؤَدِّي إِلَى الْمَفْسَدَةِ
كَثِيرًا:
25 - إِذَا كَانَ أَدَاءُ التَّصَرُّفِ إِلَى الْمَفْسَدَةِ كَثِيرًا لاَ
غَالِبًا وَلاَ نَادِرًا، فَهُوَ مَوْضِعُ نَظَرٍ وَالْتِبَاسٍ
__________
(1) الموافقات 2 / 359، وإعلام الموقعين لابن القيم 3 / 136.
(2) سورة الأنعام / 108.
(3) إعلام الموقعين لابن القيم 3 / 137.
(28/188)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ.
فَيَرَى فَرِيقٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الأَْصْل فِيهِ الْحَمْل عَلَى
الأَْصْل مِنْ صِحَّةِ الإِْذْنِ، لأَِنَّ الْعِلْمَ وَالظَّنَّ بِوُقُوعِ
الْمَفْسَدَةِ مُنْتَفِيَانِ، إِذْ لَيْسَ - هُنَا - إِلاَّ احْتِمَالٌ
مُجَرَّدٌ بَيْنَ الْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ وَلاَ قَرِينَةَ تُرَجِّحُ أَحَدَ
الْجَانِبَيْنِ عَلَى الآْخَرِ، وَاحْتِمَال الْقَصْدِ لِلْمَفْسَدَةِ،
وَالإِْضْرَارِ لاَ يَقُومُ مَقَامَ نَفْسِ الْقَصْدِ وَلاَ يَقْتَضِيهِ.
وَذَهَبَ الْفَرِيقُ الآْخَرُ إِلَى الْمَنْعِ مِنْ مِثْل هَذَا
التَّصَرُّفِ، لأَِنَّ الْقَصْدَ لاَ يَنْضَبِطُ فِي نَفْسِهِ لأَِنَّهُ
مِنَ الأُْمُورِ الْبَاطِنَةِ لَكِنْ لَهُ مَجَالٌ - هُنَا - وَهُوَ
كَثْرَةُ الْوُقُوعِ فِي الْوُجُودِ أَوْ هُوَ مَظِنَّةُ ذَلِكَ، فَكَمَا
اعْتُبِرَتِ الْمَظِنَّةُ وَإِنْ صَحَّ التَّخَلُّفُ، كَذَلِكَ نَعْتَبِرُ
الْكَثْرَةَ لأَِنَّهَا مَجَال الْقَصْدِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: سَدُّ الذَّرَائِعِ) .
دَفْعُ الضَّرَرِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ:
26 - الْمَعْهُودُ فِي الشَّرِيعَةِ دَفْعُ الضَّرَرِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ
إِذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ كَالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ،
وَتَرْكِ رَكْعَتَيْنِ مِنَ الصَّلاَةِ لِدَفْعِ ضَرُورَةِ السَّفَرِ،
وَكَذَلِكَ يُسْتَعْمَل الْمُحَرَّمُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ كَأَكْل
الْمَيْتَةِ لِدَفْعِ ضَرَرِ التَّلَفِ، وَتُسَاغُ الْغُصَّةُ بِشُرْبِ
الْخَمْرِ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ لِتَعَيُّنِ الْوَاجِبِ أَوِ
الْمُحَرَّمِ طَرِيقًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ.
__________
(1) الموافقات للشاطبي 2 / 361.
(28/189)
أَمَّا إِذَا أَمْكَنَ تَحْصِيل
الْوَاجِبِ، أَوْ تَرْكُ الْمُحَرَّمِ مَعَ دَفْعِ الضَّرَرِ بِطَرِيقٍ
آخَرَ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ أَوِ الْمَكْرُوهَاتِ فَلاَ يَتَعَيَّنُ تَرْكُ
الْوَاجِبِ وَلاَ فِعْل الْمُحَرَّمِ، وَلِذَلِكَ لاَ يُتْرَكُ الْغُسْل
بِالْمَاءِ، وَلاَ الْقِيَامُ فِي الصَّلاَةِ وَلاَ السُّجُودُ لِدَفْعِ
الضَّرَرِ وَالأَْلَمِ وَالْمَرَضِ، إِلاَّ لِتَعَيُّنِهِ طَرِيقًا
لِدَفْعِ ذَلِكَ الضَّرَرِ، وَهَذَا كُلُّهُ قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ (1) .
وُجُوبُ دَفْعِ الضَّرَرِ:
27 - قَال الْحَصْكَفِيُّ: يَجِبُ قَطْعُ الصَّلاَةِ لإِِغَاثَةِ مَلْهُوفٍ
وَغَرِيقٍ وَحَرِيقٍ (2) وَيَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: الْمُصَلِّي مَتَى
سَمِعَ أَحَدًا يَسْتَغِيثُ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ بِالنِّدَاءِ، أَوْ
كَانَ أَجْنَبِيًّا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا حَل بِهِ، أَوْ عَلِمَ
وَكَانَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إِغَاثَتِهِ قَطَعَ الصَّلاَةَ فَرْضًا
كَانَتْ أَوْ غَيْرَهُ (3) .
وَفِي الْجُمْلَةِ يَجِبُ إِغَاثَةُ الْمُضْطَرِّ بِإِنْقَاذِهِ مِنْ كُل
مَا يُعَرِّضُهُ لِلْهَلاَكِ مِنْ غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ، فَإِنْ كَانَ
قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ وَجَبَتِ الإِْعَانَةُ عَلَيْهِ
وُجُوبًا عَيْنِيًّا، وَإِنْ كَانَ ثُمَّ غَيْرُهُ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا
كِفَائِيًّا عَلَى الْقَادِرِينَ، فَإِنْ قَامَ بِهِ أَحَدٌ سَقَطَ عَنِ
الْبَاقِينَ وَإِلاَّ أَثِمُوا جَمِيعًا (4)
__________
(1) الفروق للقرافي 2 / 123.
(2) الدر المختار 1 / 440.
(3) ابن عابدين 1 / 478.
(4) الموسوعة الفقهية إعانة ف 5.
(28/189)
وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي تَضْمِينِ مَنِ امْتَنَعَ عَنْ
دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُضْطَرِّ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَيَرَى
أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ كُل مَنْ رَأَى إِنْسَانًا فِي مَهْلَكَةٍ
فَلَمْ يُنْجِهِ مِنْهَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ
ضَمَانُهُ، وَقَدْ أَسَاءَ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُهْلِكْهُ، وَلَمْ يَكُنْ
سَبَبًا فِي هَلاَكِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى
أَنَّ الْمُمْتَنِعَ مَعَ الْقُدْرَةِ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ، لأَِنَّهُ
لَمْ يُنْجِهِ مِنَ الْهَلاَكِ مَعَ إِمْكَانِهِ، فَيَضْمَنُهُ كَمَا لَوْ
مَنَعَهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي: (ضَمَانٌ) .
الْحَجْرُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ:
28 - يُحْجَرُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ الَّذِينَ تَكُونُ مَضَرَّتُهُمْ
عَامَّةً، كَالطَّبِيبِ الْجَاهِل، وَالْمُفْتِي الْمَاجِنِ، وَالْمُكَارِي
الْمُفْلِسِ، لأَِنَّ الطَّبِيبَ الْجَاهِل يَسْقِي النَّاسَ فِي
أَمْرَاضِهِمْ دَوَاءً مُخَالِفًا يُفْسِدُ أَبْدَانَهُمْ لِعَدَمِ
عِلْمِهِ، وَمِثْلُهُ الْمُفْتِي الْمَاجِنُ وَهُوَ الَّذِي يُعَلِّمُ
الْحِيَل الْبَاطِلَةَ، كَتَعْلِيمِ الْمَرْأَةِ الرِّدَّةَ لِتَبِينَ مِنْ
زَوْجِهَا، أَوْ لِتَسْقُطَ عَنْهَا الزَّكَاةُ، ثُمَّ تُسْلِمَ،
وَكَالَّذِي يُفْتِي عَنْ جَهْلٍ، وَكَذَا الْمُكَارِي الْمُفْلِسُ،
لأَِنَّهُ يَأْخُذُ
__________
(1) المغني 8 / 834 - 835، والدسوقي 4 / 242 و 2 / 112، ومغني المحتاج 4 /
5، والاختيار 4 / 175، وبدائع الصنائع 7 / 234، 235.
(28/190)
الْكِرَاءَ أَوَّلاً لِيَشْتَرِيَ بِهَا
الْجِمَال وَالظَّهْرَ وَيَدْفَعَهُ إِلَى بَعْضِ دُيُونِهِ مَثَلاً،
فَإِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلاَءِ مُضِرٌّ بِالْعَامَّةِ، الطَّبِيبُ
الْجَاهِل يُهْلِكُ أَبْدَانَهُمْ، وَالْمُفْتِي الْمَاجِنُ يُفْسِدُ
عَلَيْهِمْ أَدْيَانَهُمْ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسُ يُتْلِفُ
أَمْوَالَهُمْ فَيُحْجَرُ عَلَى هَؤُلاَءِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنَ
الْحَجْرِ الْمَنْعُ مِنْ إِجْرَاءِ الْعَمَل لاَ مَنْعُ التَّصَرُّفَاتِ
الْقَوْلِيَّةِ، وَالْمَنْعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ بَابِ الأَْمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ (1) .
(ر: حَجْرٌ ف 22) .
التَّفْرِيقُ لِضَرَرِ عَدَمِ الاِتِّفَاقِ.
29 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَعْسَرَ
بِالنَّفَقَةِ فَالزَّوْجَةُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَتْ صَبَرَتْ
وَأَنْفَقَتْ عَلَى نَفْسِهَا مِنْ مَالِهَا أَوْ مِمَّا اقْتَرَضَتْهُ،
وَإِنْ شَاءَتْ رَفَعَتْ أَمْرَهَا إِلَى الْقَاضِي وَطَلَبَتْ فَسْخَ
نِكَاحِهَا (2) .
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَبِهِ
قَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَرَبِيعَةُ وَحَمَّادٌ وَيَحْيَى الْقَطَّانُ
__________
(1) شرح المجلة للآتاسي 3 / 522، المادة (964) ، وابن عابدين 5 / 93.
(2) الدسوقي 2 / 518، ومغني المحتاج 3 / 442، والمغني 7 / 573.
(28/190)
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ
وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ (1) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَعَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ أَنَّ
مَنْ أَعْسَر بِنَفَقَةِ امْرَأَتِهِ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا، وَيُقَال
لَهَا: اسْتَدِينِي.
وَلِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْفُرْقَةِ بِسَبَبِ ضَرَرِ فَقْدِ الزَّوْجِ
أَوْ غَيْبَتِهِ (ر: مَفْقُودٌ، غَيْبَةٌ، وَفَسْخٌ، وَطَلاَقٌ) .
ضَرَّةٌ
انْظُرْ: قَسْمٌ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ
ضِرْسٌ
.
انْظُرْ: سِنٌّ
__________
(1) المغني 7 / 573.
(28/191)
ضَرُورَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الضَّرُورَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنَ الاِضْطِرَارِ،
وَالاِضْطِرَارُ: الاِحْتِيَاجُ الشَّدِيدُ (1) . تَقُول: حَمَلَتْنِي
الضَّرُورَةُ عَلَى كَذَا وَكَذَا، وَقَدِ اضْطُرَّ فُلاَنٌ إِلَى كَذَا
وَكَذَا.
وَعَرَّفَهَا الْجُرْجَانِيِّ: بِأَنَّهَا النَّازِل مِمَّا لاَ مَدْفَعَ
لَهُ (2) .
وَهِيَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: بُلُوغُ الإِْنْسَانِ حَدًّا إِنْ لَمْ
يَتَنَاوَل الْمَمْنُوعَ هَلَكَ أَوْ قَارَبَ، كَالْمُضْطَرِّ لِلأَْكْل
وَاللُّبْسِ بِحَيْثُ لَوْ بَقِيَ جَائِعًا أَوْ عُرْيَانًا لَمَاتَ، أَوْ
تَلِفَ مِنْهُ عُضْوٌ، وَهَذَا يُبِيحُ تَنَاوُل الْمُحَرَّمِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَاجَةُ:
2 - الْحَاجَةُ فِي اللُّغَةِ: تُطْلَقُ عَلَى الاِفْتِقَارِ، وَعَلَى مَا
يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) التعريفات للجرجاني.
(3) غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر (1 / 277 ط. دار الكتب العلمية)
والمنثور في القواعد للزركشي 2 / 319.
(28/191)
وَاصْطِلاَحًا: هِيَ كَمَا عَرَّفَهَا
الشَّاطِبِيُّ - مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ التَّوْسِعَةُ،
وَرَفْعُ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي - فِي الْغَالِبِ - إِلَى الْحَرَجِ
وَالْمَشَقَّةِ اللاَّحِقَةِ بِفَوْتِ الْمَطْلُوبِ، فَإِذَا لَمْ تُرَاعَ
دَخَل عَلَى الْمُكَلَّفِينَ - عَلَى الْجُمْلَةِ - الْحَرَجُ
وَالْمَشَقَّةُ (1) .
قَال الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ: وَالْحَاجَةُ كَالْجَائِعِ الَّذِي لَوْ
لَمْ يَجِدْ مَا يَأْكُل لَمْ يَهْلَكْ، غَيْرَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي جَهْدٍ
وَمَشَقَّةٍ وَهَذَا لاَ يُبِيحُ الْمُحَرَّمَ (2) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، أَنَّ الْحَاجَةَ وَإِنْ
كَانَتْ حَالَةَ جَهْدٍ وَمَشَقَّةٍ فَهِيَ دُونَ الضَّرُورَةِ،
وَمَرْتَبَتُهَا أَدْنَى مِنْهَا وَلاَ يَتَأَتَّى بِفَقْدِهَا الْهَلاَكُ
(3) .
ب - الْحَرَجُ:
3 - الْحَرَجُ فِي اللُّغَةِ: بِمَعْنَى الضِّيقِ، وَيُطْلَقُ عِنْدَ
الْفُقَهَاءِ عَلَى كُل مَا تَسَبَّبَ فِي الضِّيقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ
وَاقِعًا عَلَى الْبَدَنِ أَمْ عَلَى النَّفْسِ أَمْ عَلَيْهِمَا مَعًا (4)
.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الضَّرُورَةِ وَالْحَرَجِ أَنَّ الضَّرُورَةَ
__________
(1) الموافقات 2 / 10 - 11، والموسوعة الفقهية 16 / 247.
(2) المنثور في القواعد للزركشي 2 / 319، وغمز عيون البصائر 1 / 277.
(3) الموسوعة الفقهية 16 / 247.
(4) الموسوعة الفقهية 17 / 268.
(28/192)
هِيَ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْحَرَجِ
الْمُوجِبَةِ لِلتَّخْفِيفِ (1) .
ج - الْعُذْرُ:
4 - الْعُذْرُ نَوْعَانِ: عَامٌّ، وَخَاصٌّ. وَالْعُذْرُ الْعَامُّ: هُوَ
الَّذِي يَتَعَرَّضُ لَهُ الشَّخْصُ غَالِبًا فِي بَعْضِ الأَْحْوَال
كَفَقْدِ الْمَاءِ لِلْمُسَافِرِ، فَيَسْقُطُ قَضَاءُ الصَّلاَةِ، وَقَدْ
يَكُونُ نَادِرًا، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَدُومَ كَالْحَدَثِ الدَّائِمِ
وَالاِسْتِحَاضَةِ وَالسَّلَسِ وَنَحْوِهِ، فَيَسْقُطُ الْقَضَاءُ أَيْضًا،
أَمَّا النَّادِرُ الَّذِي لاَ يَدُومُ وَلاَ بَدَل مَعَهُ كَفَقْدِ
الطَّهُورَيْنِ وَنَحْوِهِ، فَيُوجِبُ الْقَضَاءَ عِنْدَ بَعْضِ
الْفُقَهَاءِ. وَأَمَّا الْعُذْرُ الْخَاصُّ: فَهُوَ مَا يَطْرَأُ
لِلإِْنْسَانِ أَحْيَانًا، كَالاِنْشِغَال بِأَمْرٍ مَا عَنْ أَدَاءِ
الصَّلاَةِ، فَهَذَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الضَّرُورَةِ وَبَيْنَ الْعُذْرِ أَنَّ الْعُذْرَ
نَوْعٌ مِنَ الْمَشَقَّةِ الْمُخَفَّفَةِ لِلأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ،
وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الضَّرُورَةِ.
د - الْجَائِحَةُ.
5 - الْجَائِحَةُ فِي اللُّغَةِ: الشِّدَّةُ، تَجْتَاحُ الْمَال مِنْ
سَنَةً أَوْ فِتْنَةٍ وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْجَوْحِ بِمَعْنَى
الاِسْتِئْصَال وَالْهَلاَكِ، يُقَال: جَاحَتْهُمْ
__________
(1) الموسوعة الفقهية 17 / 170.
(2) المنثور في القواعد للزركشي 2 / 375 - 376
(28/192)
الْجَائِحَةُ وَاجْتَاحَتْهُمْ، وَجَاحَ
اللَّهُ مَالَهُ وَأَجَاحَهُ بِمَعْنًى: أَيْ أَهْلَكَهُ بِالْجَائِحَةِ
(1) .
وَالْجَائِحَةُ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِلضَّرُورَةِ.
هـ - الإِْكْرَاهُ:
6 - الإِْكْرَاهُ لُغَةً: حَمْل الْغَيْرِ عَلَى شَيْءٍ لاَ يَرْضَاهُ،
يُقَال: أَكْرَهْتُ فُلاَنًا إِكْرَاهًا: حَمَلْتُهُ عَلَى مَا لاَ
يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. وَعَرَّفَهُ الْبَزْدَوِيُّ بِأَنَّهُ: حَمْل
الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ يَمْتَنِعُ عَنْهُ بِتَخْوِيفٍ يَقْدِرُ الْحَامِل
عَلَى إِيقَاعِهِ وَيَصِيرُ الْغَيْرُ خَائِفًا بِهِ.
(ر: إِكْرَاهٌ ف 1) .
وَقَدْ يُؤَدِّي الإِْكْرَاهُ إِلَى الضَّرُورَةِ كَالإِْكْرَاهِ
الْمُلْجِئِ.
الأَْدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى اعْتِبَارِ الضَّرُورَةِ فِي
الأَْحْكَامِ:
7 - الأَْحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ نَوْعَانِ: أَحْكَامٌ كُلِّيَّةٌ شُرِعَتِ
ابْتِدَاءً، وَلاَ تَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَيْثُ هُمْ
مُكَلَّفُونَ دُونَ بَعْضٍ، وَلاَ بِبَعْضِ الأَْحْوَال دُونَ بَعْضٍ.
وَأَحْكَامٌ شُرِعَتْ لِعُذْرٍ شَاقٍّ اسْتِثْنَاءً مِنْ أَصْلٍ كُلِّيٍّ
يَقْتَضِي الْمَنْعَ مَعَ الاِقْتِصَارِ عَلَى مَوَاضِعِ الْحَاجَةِ فِيهِ
(2) .
__________
(1) الصحاح والقاموس ولسان العرب والمصباح المنير مادة (جوح) والموسوعة
الفقهية (مصطلح: جائحة ف 1) .
(2) الموافقات للشاطبي 1 / 300 - 301.
(28/193)
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
مَا يَدُل عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعَمَل بِالأَْحْكَامِ
الاِسْتِثْنَائِيَّةِ بِمُقْتَضَى الضَّرُورَةِ، وَتَأَيَّدَ ذَلِكَ
بِمَبْدَأَيِ الْيُسْرِ وَانْتِفَاءِ الْحَرَجِ اللَّذَيْنِ هُمَا
صِفَتَانِ أَسَاسِيَّتَانِ فِي دِينِ الإِْسْلاَمِ وَشَرِيعَتِهِ.
أَمَّا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فَفِيهِ عِدَّةُ آيَاتٍ تَدُل عَلَى
مَشْرُوعِيَّةِ الْعَمَل بِمُقْتَضَى الضَّرُورَةِ وَاعْتِبَارِهَا فِي
الأَْحْكَامِ.
مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ
وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِل بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ
اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) .
وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ
اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّل لَكُمْ مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا
اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (2) .
فَهَاتَانِ الآْيَتَانِ، وَغَيْرُهُمَا تُبَيِّنُ تَحْرِيمَ تَنَاوُل
مَطْعُومَاتٍ مُعَيَّنَةٍ كَالْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا، كَمَا أَنَّهَا
تَتَضَمَّنُ اسْتِثْنَاءَ حَالَةِ الضَّرُورَةِ حِفَاظًا عَلَى النَّفْسِ
مِنَ الْهَلاَكِ، وَالاِسْتِثْنَاءُ مِنَ التَّحْرِيمِ - كَمَا قَال
الْبَزْدَوِيُّ - إِبَاحَةٌ، إِذِ الْكَلاَمُ صَارَ عِبَارَةً عَمَّا
وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، وَقَدْ كَانَ مُبَاحًا قَبْل التَّحْرِيمِ،
فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ (3) .
__________
(1) سورة البقرة / 173.
(2) سورة الأنعام / 119
(3) كشف الأستار 4 / 1518.
(28/193)
وَأَمَّا الأَْحَادِيثُ فَكَثِيرَةٌ
مِنْهَا.
مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا:
يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّا بِأَرْضٍ تُصِيبُنَا بِهَا الْمَخْمَصَةُ
فَمَتَى يَحِل لَنَا الْمَيْتَةُ؟ قَال: إِذَا لَمْ تَصْطَبِحُوا، وَلَمْ
تَغْتَبِقُوا، وَلَمْ تَحْتَفِئُوا، فَشَأْنُكُمْ بِهَا (1) .
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ أَهْل بَيْتٍ كَانُوا بِالْحَرَّةِ
مُحْتَاجِينَ قَال: فَمَاتَتْ عِنْدَهُمْ نَاقَةٌ لَهُمْ أَوْ
لِغَيْرِهِمْ، فَرَخَّصَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي أَكْلِهَا، قَال: فَعَصَمَتْهُمْ بَقِيَّةَ شِتَائِهِمْ أَوْ
سَنَتِهِمْ (2) .
وَقَدْ دَل الْحَدِيثَانِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ
يَتَنَاوَل مِنَ الْمَيْتَةِ مَا يَكْفِيهِ.
8 - شُرُوطُ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ:
يُشْتَرَطُ لِلأَْخْذِ بِمُقْتَضَى الضَّرُورَةِ مَا يَلِي:
أ - أَنْ تَكُونَ الضَّرُورَةُ قَائِمَةً لاَ مُنْتَظَرَةً، وَتَظْهَرُ
هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ الْمَبْنِيَّةِ
__________
(1) حديث أبي واقد الليثي: " يا رسول الله، إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة ".
أخرجه أمد (5 / 218) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 165) : " رواه
أحمد بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح ". والمعنى: لم تجدوا ألبتة
تصطحبونها، أو شربا تغتبقونه ولم تجدوا بعد عدم الصبوح والغبوق بقلة
تأكلونها حلت لكم الميتة. نيل الأوطار: (4 / 151 ط: دار القلم.) .
(2) نيل الأوطار (8 / 156، 158 الحلبي.) . وحديث جابر بن سمرة: " أن أهل
بيت كانوا بالحرة ". أخرجه أحمد (5 / 87) .
(28/194)
عَلَى الرُّخَصِ مِنْهَا:
يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِتَحَقُّقِ الإِْكْرَاهِ خَوْفَ الْمُكْرَهِ
إِيقَاعَ مَا هُدِّدَ بِهِ فِي الْحَال بِغَلَبَةِ ظَنِّهِ (1) ، وَبِنَاءً
عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَقَوْل الْمُكْرِهِ " لأََقْتُلَنَّكَ غَدًا "
لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ (2) .
قَال الشَّيْخُ عَمِيرَةُ: لَوْ كَانَتِ الْحَاجَةُ غَيْرَ نَاجِزَةٍ فَهَل
يَجُوزُ الأَْخْذُ لِمَا عَسَاهُ يَطْرَأُ؟ الظَّاهِرُ لاَ، كَاقْتِنَاءِ
الْكَلْبِ لِمَا عَسَاهُ يَكُونُ مِنَ الزَّرْعِ وَنَحْوِهِ (3) .
يَقُول الشَّاطِبِيُّ: الصَّوَابُ الْوُقُوفُ مَعَ أَصْل الْعَزِيمَةِ،
إِلاَّ فِي الْمَشَقَّةِ الْمُخِلَّةِ الْفَادِحَةِ فَإِنَّ الصَّبْرَ
أَوْلَى، مَا لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إِلَى دَخْلٍ فِي عَقْل الإِْنْسَانِ
أَوْ دِينِهِ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنْ لاَ يَقْدِرَ عَلَى الصَّبْرِ،
لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَرُ بِالصَّبْرِ إِلاَّ مَنْ يُطِيقُهُ، فَأَنْتَ تَرَى
بِالاِسْتِقْرَاءِ أَنَّ الْمَشَقَّةَ الْفَادِحَةَ لاَ يَلْحَقُ بِهَا
تَوَهُّمُهَا، بَل حُكْمُهَا أَخَفُّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّوَهُّمَ
غَيْرُ صَادِقٍ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَْحْوَال فَإِذًا: لَيْسَتِ
الْمَشَقَّةُ بِحَقِيقِيَّةٍ، وَالْمَشَقَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ
الْعِلَّةُ الْمَوْضُوعَةُ لِلرُّخْصَةِ فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ كَانَ
الْحُكْمُ غَيْرَ لاَزِمٍ (4) .
ب - أَلاَّ يَكُونَ لِدَفْعِ الضَّرُورَةِ وَسِيلَةٌ أُخْرَى إِلاَّ
مُخَالَفَةُ الأَْوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الشَّرْعِيَّةِ قَال
__________
(1) الدر المختار 5 / 80، ومغني المحتاج 3 / 289.
(2) مغني المحتاج 3 / 290.
(3) حاشية عميرة 2 / 142.
(4) الموافقات 1 / 336.
(28/194)
أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ عِنْدَ
تَفْسِيرِهِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّل لَكُمْ مَا حَرَّمَ
عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (1) . مَعْنَى الضَّرُورَةِ
- هُنَا -: هُوَ خَوْفُ الضَّرَرِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَعْضِ أَعْضَائِهِ
بِتَرْكِهِ الأَْكْل وَقَدِ انْطَوَى تَحْتَهُ مَعْنَيَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْصُل فِي مَوْضِعٍ لاَ يَجِدُ غَيْرَ الْمَيْتَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرُهَا مَوْجُودًا، وَلَكِنَّهُ أُكْرِهَ
عَلَى أَكْلِهَا بِوَعِيدٍ يَخَافُ مِنْهُ تَلَفَ نَفْسِهِ أَوْ تَلَفَ
بَعْضِ أَعْضَائِهِ، وَكِلاَ الْمَعْنَيَيْنِ مُرَادٌ بِالآْيَةِ عِنْدَنَا
(2) .
ج - يَجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ مُرَاعَاةُ قَدْرِ الضَّرُورَةِ، لأَِنَّ
مَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَتَفْرِيعًا عَلَى
هَذَا الأَْصْل قَرَّرَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُضْطَرَّ لاَ
يَأْكُل مِنَ الْمَيْتَةِ إِلاَّ قَدْرَ سَدِّ الرَّمَقِ (3) .
د - يَجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ أَنْ يُرَاعِيَ عِنْدَ دَفْعِ الضَّرُورَةِ
مَبْدَأَ دَرْءِ الأَْفْسَدِ فَالأَْفْسَدِ، وَالأَْرْذَل فَالأَْرْذَل،
فَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْل مُسْلِمٍ بِحَيْثُ لَوِ امْتَنَعَ مِنْهُ
قُتِل يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْرَأَ مَفْسَدَةَ الْقَتْل بِالصَّبْرِ عَلَى
الْقَتْل، لأَِنَّ صَبْرَهُ عَلَى الْقَتْل أَقَل
__________
(1) سورة الأنعام / 119.
(2) أحكام القرآن للجصاص 1 / 150 ط. البهية.
(3) غمز عيون البصائر 1 / 276 - 277 نشر دار الكتب العلمية - بيروت.
(28/195)
مَفْسَدَةً مِنْ إِقْدَامِهِ عَلَيْهِ،
وَإِنْ قَدَرَ عَلَى دَفْعِ الْمَكْرُوهِ بِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ
لَزِمَهُ ذَلِكَ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى دَرْءِ الْمَفْسَدَةِ، وَإِنَّمَا
قُدِّمَ دَرْءُ الْقَتْل بِالصَّبْرِ، لإِِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى
تَحْرِيمِ الْقَتْل، وَاخْتِلاَفِهِمْ فِي الاِسْتِسْلاَمِ لِلْقَتْل
فَوَجَبَ تَقْدِيمُ دَرْءِ الْمَفْسَدَةِ الْمُجْمَعِ عَلَى وُجُوبِ
دَرْئِهَا عَلَى دَرْءِ الْمَفْسَدَةِ الْمُخْتَلَفِ فِي وُجُوبِ دَرْئِهَا
(1) .
هـ - أَلاَّ يَقْدَمَ الْمُضْطَرُّ عَلَى فِعْلٍ لاَ يَحْتَمِل الرُّخْصَةَ
بِحَالٍ (2) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الإِْكْرَاهُ عَلَى الْمَعَاصِي أَنْوَاعٌ:
نَوْعٌ يُرَخَّصُ لَهُ فِعْلُهُ وَيُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ، كَإِجْرَاءِ
كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَشَتْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَتَرْكِ الصَّلاَةِ، وَكُل مَا يَثْبُتُ بِالْكِتَابِ.
وَنَوْعٌ يَحْرُمُ فِعْلُهُ وَيَأْثَمُ بِإِتْيَانِهِ كَالزِّنَى وَقَتْل
مُسْلِمٍ، أَوْ قَطْعِ عُضْوِهِ، أَوْ ضَرْبِهِ ضَرْبًا مُتْلِفًا، أَوْ
شَتْمِهِ أَوْ أَذِيَّتِهِ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَقْسَامِ الرُّخْصَةِ وَالأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ
بِهَا (ر: مُصْطَلَح: رُخْصَة) .
9 - حَالاَتُ الضَّرُورَةِ:
بِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ
__________
(1) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1 / 79.
(2) بدائع الصنائع 7 / 177.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 83.
(28/195)
أَهَمَّ حَالاَتِ الضَّرُورَةِ عِبَارَةٌ
عَنِ: -
1 - الاِضْطِرَارِ إِلَى تَنَاوُل الْمُحَرَّمِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ.
2 - الاِضْطِرَارِ إِلَى النَّظَرِ وَاللَّمْسِ لِلتَّدَاوِي.
3 - الاِضْطِرَارِ إِلَى إِتْلاَفِ نَفْسٍ أَوْ فِعْل فَاحِشَةٍ.
4 - الاِضْطِرَارِ إِلَى أَخْذِ مَال الْغَيْرِ وَإِتْلاَفِهِ.
5 - الاِضْطِرَارِ إِلَى قَوْل الْبَاطِل (1) .
10 - الْحَالَةُ الأُْولَى:
الاِضْطِرَارُ إِلَى تَنَاوُل الْمُحَرَّمِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ:
لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي إِبَاحَةِ أَكْل الْمَيْتَةِ
وَنَحْوِهَا لِلْمُضْطَرِّ (2) . لِلأَْدِلَّةِ السَّابِقَةِ.
إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْمَقْصُودِ بِإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ،
وَمِقْدَارِ مَا يَأْكُلُهُ الْمُضْطَرُّ مِنَ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا،
__________
(1) انظر تفسير القرطبي 2 / 225، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 55 ط. عيسى
الحلبي. هذا وقد ذكر بعض المعاصرين المرض، والسفر، والنسيان والجهل، والعسر
وعموم البلوى والنقص ضمن حالات الضرورة، والواقع أن هذه الحالات وما شابهها
وإن كانت من الأعذار التي جعلت سببا للتخفيف عن العباد إلا أنها ل
(2) المغني لابن قدامة 8 / 595، والقوانين الفقهية ص 178 نشر الدار العربية
للكتاب، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 55، ومغني المحتاج 4 / 306، وأحكام
القرآن للجصاص 1 / 147 ط. البهية.
(28/196)
وَتَفْصِيل الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي
تُبِيحُهَا الضَّرُورَةُ وَتَرْتِيبِهَا عِنْدَ التَّعَدُّدِ، وَأَثَرِ
الضَّرُورَةِ فِي رَفْعِ حُرْمَةِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا، وَفِيمَا يَلِي
تَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل الْخِلاَفِيَّةِ:
أ - الْمَيْتَةُ:
إِذَا كَانَ لِلْمُضْطَرِّ أَكْل الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا فِي حَالَةِ
الاِضْطِرَارِ، سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الاِضْطِرَارُ بِجُوعٍ أَوْ عَطَشٍ فِي
مَخْمَصَةٍ، أَوْ بِإِكْرَاهٍ مِنْ ظَالِمٍ، فَهَل يَجِبُ عَلَيْهِ
تَنَاوُلُهَا أَمْ يَجُوزُ لَهُ الاِمْتِنَاعُ مِنَ الأَْكْل حَتَّى
يَمُوتَ؟ .
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ - وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ - وَالْحَنَابِلَةُ - عَلَى
الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ - إِلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ يَجِبُ عَلَيْهِ
أَكْل الْمَيْتَةِ (1) .
وَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي يَخَافُ الْهَلاَكَ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ
إِذَا وَجَدَ مَيْتَةً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ أَوْ دَمًا فَلَمْ يَأْكُل
وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ كَانَ
آثِمًا (2) ، قَال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلاَ تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (3) ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ الَّذِي
يَتْرُكُ تَنَاوُل الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا حَتَّى يَمُوتَ يُعْتَبَرُ
قَاتِلاً لِنَفْسِهِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 215، والدسوقي 2 / 115، والمغني 8 / 596، واختيارات ابن
تيمية ص 321، والمقنع 3 / 531، والمهذب 1 / 250
(2) المبسوط للسرخسي 24 / 151، وابن عابدين 5 / 215.
(3) سورة البقرة / 195.
(28/196)
مُلْقِيًا بِهَا إِلَى التَّهْلُكَةِ،
لأَِنَّ الْكَفَّ عَنِ التَّنَاوُل فِعْلٌ مَنْسُوبٌ إِلَى الإِْنْسَانِ،
وَلأَِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ
لَهُ، فَلَزِمَهُ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ طَعَامٌ حَلاَلٌ (1) .
وَقَال كُلٌّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - فِي وَجْهٍ -
وَأَبُو يُوسُفَ - فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ - إِنَّ الْمُضْطَرَّ يُبَاحُ لَهُ
أَكْل الْمَيْتَةِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ، فَلَوِ امْتَنَعَ عَنِ التَّنَاوُل
فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ وَمَاتَ. " فَلاَ إِثْمَ وَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ،
لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ صَاحِبِ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّ طَاغِيَةَ
الرُّومِ حَبَسَهُ فِي بِيَعٍ، وَجَعَل مَعَهُ خَمْرًا مَمْزُوجًا بِمَاءٍ
وَلَحْمَ خِنْزِيرٍ مَشْوِيٍّ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمْ يَأْكُل وَلَمْ
يَشْرَبْ، حَتَّى مَال رَأْسُهُ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَخَشُوا
مَوْتَهُ، فَأَخْرَجُوهُ فَقَال: قَدْ كَانَ اللَّهُ أَحَلَّهُ لِي
لأَِنِّي مُضْطَرٌّ وَلَكِنْ لَمْ أَكُنْ لأُِشْمِتَكَ بِدِينِ
الإِْسْلاَمِ (2) .
وَلأَِنَّ إِبَاحَةَ الأَْكْل رُخْصَةٌ فَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ، كَسَائِرِ
الرُّخَصِ، وَلأَِنَّ لَهُ غَرَضًا فِي اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ
وَالأَْخْذِ بِالْعَزِيمَةِ وَرُبَّمَا لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِتَنَاوُل
الْمَيْتَةِ وَفَارَقَ الْحَلاَل فِي الأَْصْل مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ (3)
.
__________
(1) المغني 8 / 596.
(2) قصة عبد الله بن حذافة السهمي. أخرجها ابن عساكر في تاريخ دمشق (ترجمة
عبد الله بن حذافة ص 134 - 135 ط. دار الفكر) ، وفي إسنادها انقطاع بين عبد
الله بن حذافة والراوي عنه وهو الزهري.
(3) تبيين الحقائق 5 / 185 والمغني 8 / 596 ط الرياض والمهذب 1 / 250.
(28/197)
مِقْدَارُ مَا يَأْكُلُهُ الْمُضْطَرُّ
مِنْ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ يُبَاحُ لَهُ أَكْل مَا
يَسُدُّ الرَّمَقَ وَيَأْمَنُ مَعَهُ الْمَوْتَ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى
أَنَّهُ يَحْرُمُ مَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ (1) . وَاخْتَلَفُوا فِي
الشِّبَعِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ -
وَالْحَنَابِلَةُ - فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ - وَابْنُ
الْمَاجِشُونِ، وَابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّ
الْمُضْطَرَّ لاَ يَأْكُل مِنَ الْمَيْتَةِ إِلاَّ قَدْرَ سَدِّ الرَّمَقِ،
وَلاَ يُبَاحُ لَهُ الشِّبَعُ، لأَِنَّ آيَةَ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ
بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (2) دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ
الْمَيْتَةِ، وَاسْتَثْنَتْ مَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ، فَإِذَا انْدَفَعَتِ
الضَّرُورَةُ لَمْ يَحِل لَهُ الأَْكْل لِلآْيَةِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ
بَعْدَ سَدِّ رَمَقِهِ كَحَالِهِ قَبْل أَنْ يُضْطَرَّ، وَثَمَّ لَمْ
يُبَحْ لَهُ الأَْكْل كَذَا هَاهُنَا (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ، وَالشَّافِعِيَّةُ
فِي قَوْلٍ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّ
الْمُضْطَرَّ يُبَاحُ لَهُ الشِّبَعُ لإِِطْلاَقِ الآْيَةِ، وَلِمَا رَوَى
جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ أَنَّ رَجُلاً نَزَل الْحَرَّةَ فَنَفَقَتْ عِنْدَهُ
نَاقَةٌ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ:
__________
(1) المغني 8 / 595، ومغني المحتاج 4 / 307.
(2) سورة البقرة / 173.
(3) غمز عيون البصائر 1 / 277، ومغني المحتاج 4 / 307، والأشباه للسيوطي ص
84، والمغني 8 / 595، والقرطبي 2 / 228، والدسوقي 2 / 115.
(28/197)
اسْلُخْهَا حَتَّى نُقَدِّدَ شَحْمَهَا
وَلَحْمَهَا وَنَأْكُلَهُ، فَقَال: حَتَّى أَسْأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ فَقَال: هَل عِنْدَكَ غِنًى
يُغْنِيكَ؟ قَال: لاَ، قَال: فَكُلُوهَا (1) وَلَمْ يُفَرِّقْ وَلأَِنَّ
مَا جَازَ سَدُّ الرَّمَقِ مِنْهُ جَازَ الشِّبَعُ مِنْهُ كَالْمُبَاحِ،
وَلأَِنَّ الضَّرُورَةَ تَرْفَعُ التَّحْرِيمَ فَيَعُودُ مُبَاحًا،
وَمِقْدَارُ الضَّرُورَةِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ حَالَةِ عَدَمِ الْقُوتِ
إِلَى حَالَةِ وُجُودِهِ حَتَّى يَجِدَ (2) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: يُحْتَمَل أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ
الضَّرُورَةُ مُسْتَمِرَّةً وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَتْ مَرْجُوَّةَ
الزَّوَال، فَمَا كَانَتْ مُسْتَمِرَّةً كَحَالَةِ الأَْعْرَابِيِّ الَّذِي
سَأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَازَ الشِّبَعُ،
لأَِنَّهُ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ عَادَتِ الضَّرُورَةُ
إِلَيْهِ عَنْ قُرْبٍ، وَلاَ يَتَمَكَّنُ مِنَ الْبُعْدِ مَخَافَةَ
الضَّرُورَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَيُفْضِي إِلَى ضَعْفِ بَدَنِهِ،
وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى تَلَفِهِ، بِخِلاَفِ الَّتِي لَيْسَتْ
مُسْتَمِرَّةً فَإِنَّهُ يَرْجُو الْغِنَى عَنْهَا بِمَا يَحِل (3) .
ب - ذَبْحُ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمَأْكُول لِلضَّرُورَةِ:
كُل حَيَوَانٍ حَيٍّ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي
__________
(1) حديث جابر بن سمرة: " أن رجلا نزل الحرة. . ". أخرجه أبو داود (4 / 166
- 167) .
(2) حاشية الدسوقي 2 / 115، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 55 - 56، ومغني
المحتاج 4 / 307، والمغني 8 / 595.
(3) المغني 8 / 595.
(28/198)
لاَ تُؤْكَل يَحِل لِلْمُضْطَرِّ قَتْلُهُ
بِذَبْحٍ أَوْ بِغَيْرِ ذَبْحٍ، لِلتَّوَصُّل إِلَى أَكْلِهِ.
قَال الْجَصَّاصُ عِنْدَ تَفْسِيرِهِ لآِيَاتِ الضَّرُورَةِ: ذَكَرَ
اللَّهُ تَعَالَى الضَّرُورَةَ فِي هَذِهِ الآْيَاتِ، وَأَطْلَقَ
الإِْبَاحَةَ فِي بَعْضِهَا، لِوُجُودِ الضَّرُورَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ
وَلاَ صِفَةٍ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّل لَكُمْ مَا حَرَّمَ
عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (1) فَاقْتَضَى ذَلِكَ
وُجُودَ الإِْبَاحَةِ بِوُجُودِ الضَّرُورَةِ فِي كُل حَالٍ وُجِدَتِ
الضَّرُورَةُ فِيهَا (2) .
ج - تَنَاوُل مَا حُرِّمَ مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ:
تَنَاوُل مَا حُرِّمَ مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا حُرِّمَ لِكَوْنِهِ يَقْتُل الإِْنْسَانَ إِذَا
تَنَاوَلَهُ كَالسُّمُومِ، فَإِنَّهُ لاَ تُبِيحُهُ الضَّرُورَةُ، لأَِنَّ
تَنَاوُلَهُ اسْتِعْجَالٌ لِلْمَوْتِ، وَقَتْلٌ لِلنَّفْسِ، وَهُوَ مِنْ
أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ.
وَالآْخَرُ: مَا حُرِّمَ لِنَجَاسَتِهِ وَيُمَثِّل لَهُ الْفُقَهَاءُ
بِالتِّرْيَاقِ الْمُشْتَمِل عَلَى خَمْرٍ وَلُحُومِ حَيَّاتٍ: (ر: سُمٌّ)
.
د - شُرْبُ الْخَمْرِ لِضَرُورَةِ الْعَطَشِ وَالْغَصَصِ:
يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ شُرْبُ الْخَمْرِ إِنْ لَمْ يَجِدْ
__________
(1) سورة الأنعام / 119.
(2) أحكام القرآن للجصاص 1 / 147 ط. المطبعة البهية، والمجموع 1 / 43 - 44.
(28/198)
غَيْرَهَا لإِِسَاغَةِ لُقْمَةٍ غَصَّ
بِهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَيَرَى ابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ ضَرُورَةَ الْغَصَصِ
تَدْرَأُ الْحَدَّ وَلاَ تَمْنَعُ الْحُرْمَةَ (1) .
وَأَمَّا شُرْبُ الْخَمْرِ لِدَفْعِ الْعَطَشِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْقَوْل الْمُقَابِل لِلأَْصَحِّ أَنَّ مَنْ
خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْعَطَشِ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ
كَمَا يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ تَنَاوُل الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ شُرْبِ الْخَمْرِ لِضَرُورَةِ الْعَطَشِ
بِقَوْلِهِمْ: إِنْ كَانَتِ الْخَمْرُ تَرُدُّ ذَلِكَ الْعَطَشَ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ
- إِلَى تَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ لِدَفْعِ الْعَطَشِ (3) .
هـ - تَنَاوُل الْمُضْطَرِّ لَحْمَ إِنْسَانٍ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ إِنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ
آدَمِيًّا حَيًّا مَحْقُونَ الدَّمِ لَمْ يُبَحْ لَهُ قَتْلُهُ، وَلاَ
إِتْلاَفُ عُضْوٍ مِنْهُ، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، لأَِنَّهُ
مِثْلُهُ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُبْقِيَ نَفْسَهُ بِإِتْلاَفِهِ (4) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 412، والدسوقي 4 / 352، والفواكه الدواني 2 / 289،
وكشاف القناع 6 / 117، ومغني المحتاج 4 / 188.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 412 ومغني المحتاج 4 / 188.
(3) الدسوقي 4 / 353، والفواكه الدواني 2 / 289، وتفسير ابن العربي 1 / 56،
ومغني المحتاج 4 / 22، والأم 2 / 253، وحلية العلماء 3 / 416.
(4) والمغني 8 / 601، المجموع 9 / 44.
(28/199)
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا وَجَدَ
آدَمِيًّا مَعْصُومًا، مَيِّتًا فَأَجَازَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَصَحِّ الطَّرِيقَيْنِ وَأَشْهَرِهِمَا أَكْلَهُ،
لأَِنَّ حُرْمَةَ الْحَيِّ أَعْظَمُ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي وَجْهٍ
- أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَيْسَ لَهُ أَكْل ابْنِ آدَمَ وَلَوْ مَاتَ (2)
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَسْرُ عَظْمِ
الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا (3) .
قَال الْمَاوَرْدِيُّ: فَإِنْ جَوَّزْنَا الأَْكْل مِنَ الآْدَمِيِّ
الْمَيِّتِ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَأْكُل مِنْهُ إِلاَّ مَا يَسُدُّ
الرَّمَقَ بِلاَ خِلاَفٍ، حِفْظًا لِلْحُرْمَتَيْنِ.
قَال: لَيْسَ لِلْمُضْطَرِّ طَبْخُهُ وَشَيُّهُ، بَل يَأْكُلُهُ نِيئًا،
لأَِنَّ الضَّرُورَةَ تَنْدَفِعُ بِذَلِكَ، وَفِي طَبْخِهِ هَتْكٌ
لِحُرْمَتِهِ، فَلاَ يَجُوزُ الإِْقْدَامُ عَلَيْهِ، بِخِلاَفِ سَائِرِ
الْمَيْتَاتِ، فَإِنَّ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلَهَا نِيِّئَةً وَمَطْبُوخَةً
(4) .
11 - تَرْتِيبُ الْمُحَرَّمَاتِ:
إِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً - وَنَحْوَهَا - مِنْ مَحْظُورَاتِ
الأَْطْعِمَةِ وَالأَْشْرِبَةِ وَوَجَدَ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا لِلْغَيْرِ
فَأَيُّهُمَا يَأْخُذُهُ؟
__________
(1) المجموع 9 / 44، والمغني 8 / 602.
(2) المجموع 9 / 44، وتفسير القرطبي 2 / 229، والمغني 8 / 602.
(3) حديث: " كسر عظم الميت ككسره حيا. ". أخرجه أبو داود (3 / 544) من حديث
عائشة، وحسنه ابن القطان كما في التلخيص لابن حجر (3 / 54) .
(4) المجموع 9 / 44.
(28/199)
ذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُضْطَرِّ
تَنَاوُل طَعَامِ الْغَيْرِ، وَإِنَّمَا لَهُ أَكْل الْمَيْتَةِ، لأَِنَّ
إِبَاحَةَ الْمَيْتَةِ بِالنَّصِّ، وَإِبَاحَةَ مَال الْغَيْرِ
بِالاِجْتِهَادِ، وَالنَّصُّ أَقْوَى، وَلأَِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى
مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَحُقُوقَ الآْدَمِيِّ مَبْنِيَّةٌ عَلَى
الشُّحِّ وَالتَّضْيِيقِ، وَلأَِنَّ حَقَّ الآْدَمِيِّ تَلْزَمُهُ
غَرَامَتُهُ وَحَقَّ اللَّهِ لاَ عِوَضَ لَهُ (1) .
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ وَعَبْدُ
اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ: إِنَّ مَنْ وَجَدَ طَعَامَ الْغَيْرِ لاَ تُبَاحُ
لَهُ الْمَيْتَةُ، لأَِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الطَّعَامِ الْحَلاَل، فَلَمْ
يَجُزْ لَهُ أَكْل الْمَيْتَةِ، كَمَا لَوْ بَذَلَهُ لَهُ صَاحِبُهُ (2) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ تَقْدِيمَ طَعَامِ الْغَيْرِ عَلَى
الْمَيْتَةِ نَدْبًا إِنْ لَمْ يَخَفِ الْقَطْعَ أَوِ الضَّرْبَ أَوِ
الأَْذَى وَإِلاَّ قَدَّمَ الْمَيْتَةَ (3) .
وَرَوَى أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قَال: يَشْرَبُ
الْمُضْطَرُّ الدَّمَ وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَيَأْكُل الْمَيْتَةَ
وَلاَ يَقْرَبُ ضَوَال الإِْبِل - وَقَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ - وَيَشْرَبُ
الْبَوْل وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، لأَِنَّ
__________
(1) غمز عيون البصائر 1 / 288، ومغني المحتاج 4 / 309، والمجموع 9 / 53،
والمغني 8 / 600.
(2) غمز عيون البصائر 1 / 288 - 289، والمغني 8 / 600، والمجموع 9 / 53.
(3) الدسوقي 2 / 116، والقرطبي 2 / 229.
(28/200)
الْخَمْرَ يَلْزَمُ فِيهَا الْحَدُّ فَهِيَ
أَغْلَظُ (1) .
وَالْمُضْطَرُّ إِذَا كَانَ مُحْرِمًا وَوَجَدَ مَيْتَةً وَصَيْدًا حَيًّا
صَادَهُ مُحْرِمٌ أَوْ أَعَانَ عَلَى صَيْدِهِ، فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ
الْمَيْتَةَ عَلَى الصَّيْدِ الْحَيِّ الَّذِي صَادَهُ الْمُحْرِمُ أَوْ
أَعَانَ عَلَيْهِ، بِهَذَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْحَنَابِلَةُ
(2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّعْبِيُّ: إِنَّهُ يَأْكُل الصَّيْدَ وَيَفْدِيهِ، لأَِنَّ
الضَّرُورَةَ تُبِيحُهُ، وَمَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لاَ تَحِل
الْمَيْتَةُ لِغِنَاهُ عَنْهَا (3) .
12 - أَثَرُ الضَّرُورَةِ فِي رَفْعِ حُرْمَةِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا:
قَال شَارِحُ أُصُول الْبَزْدَوِيِّ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ
أَكْل الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا فِي حَال الضَّرُورَةِ، فَهَل تَصِيرُ
مُبَاحَةً، أَوْ تَبْقَى عَلَى الْحُرْمَةِ وَيَرْتَفِعُ الإِْثْمُ؟
فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ: إِلَى أَنَّهَا لاَ تَحِل لَكِنْ يُرَخَّصُ فِي
الْفِعْل إِبْقَاءً لِلْمُهْجَةِ كَمَا فِي الإِْكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ،
وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ.
__________
(1) القرطبي 2 / 288.
(2) غمز عيون البصائر 1 / 289، والدسوقي 2 / 116، ومغني المحتاج 4 / 309،
والمغني 8 / 601.
(3) مغني المحتاج 4 / 309، والمغني 8 / 601، وغمز عيون البصائر 1 / 289.
(28/200)
وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا
(الْحَنَفِيَّةُ) إِلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ تَرْتَفِعُ فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ (1) .
ثُمَّ ذَكَرَ لِلْخِلاَفِ فَائِدَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: إِذَا صَبَرَ حَتَّى مَاتَ لاَ يَكُونُ آثِمًا عَلَى
الأَْوَّل بِخِلاَفِهِ عَلَى الآْخَرِ.
الثَّانِيَةُ: إِذَا حَلَفَ لاَ يَأْكُل حَرَامًا فَتَنَاوَلَهَا فِي حَال
الضَّرُورَةِ يَحْنَثُ عَلَى الأَْوَّل وَلاَ يَحْنَثُ عَلَى الثَّانِي (2)
.
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: رُخْصَةٌ، وَالْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ) .
13 - تَنَاوُل الْمُضْطَرِّ الْمَيْتَةَ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ:
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُضْطَرِّ فِي
سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ الأَْكْل مِنَ الْمَيْتَةِ كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ
لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ
فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} قَال مُجَاهِدٌ: غَيْرَ بَاغٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
وَلاَ عَادٍ عَلَيْهِمْ، وَقَال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِذَا خَرَجَ
يَقْطَعُ الطَّرِيقَ فَلاَ رُخْصَةَ لَهُ، فَإِنْ تَابَ وَأَقْلَعَ عَنْ
مَعْصِيَتِهِ حَل لَهُ الأَْكْل (3) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - فِي الْمَشْهُورِ -
__________
(1) كشف الأسرار 1 / 642 ط الصنايع 1307 هـ.
(2) كشف الأسرار 1 / 662، وسلم الأصول لشرح نهاية السول 1 / 121 - 122 ط.
عالم الكتب.
(3) المغني 8 / 597، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 58، والقوانين الفقهية
ص 178 نشر الدار العربية للكتاب.
(28/201)
وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي قَوْلٍ - أَنَّهُ
يَتَرَخَّصُ بِأَكْل الْمَيْتَةِ لِلْعَاصِي بِسَفَرِهِ.
وَلِلْعُلَمَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ حَوْل اسْتِبَاحَةِ الْعَاصِي
بِسَفَرِهِ (1) .
رُخَصُ السَّفَرِ يُنْظَرُ فِي: (سَفَرٌ) .
14 - الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: الاِضْطِرَارُ إِلَى النَّظَرِ وَاللَّمْسِ
لِلتَّدَاوِي:
يَجُوزُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا لِضَرُورَةِ التَّدَاوِي
(2) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: يُبَاحُ لِلطَّبِيبِ النَّظَرُ إِلَى مَا تَدْعُو
إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ بَدَنِ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ مِنَ
الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ (3) .
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَأَمَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ فَالنَّظَرُ
وَاللَّمْسُ مُبَاحَانِ لِفَصْدٍ وَحِجَامَةٍ وَعِلاَجٍ وَلَوْ فِي فَرْجٍ
لِلْحَاجَةِ الْمُلْجِئَةِ إِلَى ذَلِكَ وَلأَِنَّ فِي التَّحْرِيمِ
حِينَئِذٍ حَرَجًا، فَلِلرَّجُل مُدَاوَاةُ الْمَرْأَةِ وَعَكْسُهُ
وَلْيَكُنْ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ أَوِ امْرَأَةٍ (4) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي شُرُوطِ جَوَازِ مُعَالَجَةِ الطَّبِيبِ امْرَأَةً
أَجْنَبِيَّةً يُنْظَرُ: (عَوْرَةٌ) .
__________
(1) تفسير الجصاص 1 / 147، والقوانين الفقهية ص 178، وتفسير القرطبي 2 /
232، ومغني المحتاج 1 / 268.
(2) المبسوط للسرخسي 10 / 156 وبدائع الصنائع 5 / 124، ومغني المحتاج 3 /
133، والمغني 6 / 558، وكشاف القناع 1 / 265.
(3) المغني 6 / 558.
(4) مغني المحتاج 3 / 133.
(28/201)
15 - الاِضْطِرَارُ إِلَى الْعِلاَجِ
بِالنَّجِسِ وَالْمُحَرَّمِ:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي وَجْهٍ -
إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ وَالنَّجِسِ (1) لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ
يَجْعَل شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ» (2) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ الاِسْتِشْفَاءِ بِالْحَرَامِ عِنْدَ
تَيَقُّنِ حُصُول الشِّفَاءِ فِيهِ، كَتَنَاوُل الْمَيْتَةِ عِنْدَ
الْمَخْمَصَةِ، وَالْخَمْرِ عِنْدَ الْعَطَشِ وَإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ،
وَلاَ يُجِيزُونَ الاِسْتِشْفَاءَ بِالْحَرَامِ الَّذِي لاَ يُتَيَقَّنُ
حُصُول الشِّفَاءِ بِهِ (3) .
وَيَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ لِجَوَازِ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ
تَيَقُّنَ حُصُول الشِّفَاءِ فِيهِ وَعَدَمَ وُجُودِ دَوَاءٍ غَيْرِهِ (4)
.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الْمَذْهَبِ - التَّدَاوِي
بِالنَّجَاسَاتِ غَيْرِ الْخَمْرِ، سَوَاءٌ فِيهِ جَمِيعُ النَّجَاسَاتِ
غَيْرِ الْمُسْكِرِ (5) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي شُرُوطِ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 441، والفروع 2 / 165، وكشاف القناع 6 / 116،
والمجموع 9 / 50.
(2) حديث: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ". أخرجه البخاري (10 /
78) معلقا، ووصله الإمام أحمد من قول ابن مسعود موقوفا عليه في كتاب
الأشربة (ص 63) وصححه ابن حجر في الفتح (10 / 79) .
(3) بدائع الصنائع 1 / 61.
(4) ابن عابدين 4 / 113، 215.
(5) المجموع 9 / 50.
(28/202)
وَالنَّجِسِ وَحُكْمِ التَّدَاوِي بِهِ
لِتَعْجِيل الشِّفَاءِ: (ر: تَدَاوِي) .
16 - الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: الاِضْطِرَارُ إِلَى إِتْلاَفِ النَّفْسِ
أَوِ ارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ:
الْقَتْل تَحْتَ تَأْثِيرِ الإِْكْرَاهِ:
وَتَحْتَهُ صُورَتَانِ:
الأُْولَى: الاِضْطِرَارُ إِلَى قَتْل نَفْسِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ،
وَيَأْتِي فِي الدِّفَاعِ عَنِ النَّفْسِ،
وَالأُْخْرَى: الاِضْطِرَارُ إِلَى قَتْل غَيْرِهِ وَبَيَانُهُ فِيمَا
يَلِي:
أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْل غَيْرِهِ
أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ الإِْقْدَامُ عَلَى قَتْلِهِ، وَلاَ انْتِهَاكُ
حُرْمَتِهِ بِجَلْدٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَصْبِرُ عَلَى الْبَلاَءِ الَّذِي
نَزَل بِهِ، وَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَفْدِيَ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ،
وَيَسْأَل اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ (1) .
قَال الصَّاوِيُّ الْمَالِكِيُّ: لَوْ قَال لَكَ ظَالِمٌ: إِنْ لَمْ
تَقْتُل فُلاَنًا أَوْ تَقْطَعْهُ قَتَلْتُكَ، فَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ
وَيَجِبُ عَلَى مَنْ قِيل لَهُ ذَلِكَ أَنْ يَرْضَى بِقَتْل نَفْسِهِ
وَيَصْبِرَ (2) .
وَلِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ
عِنْدَ وُقُوعِ الْقَتْل، أَوْ قَطْعِ الْعُضْوِ
__________
(1) تفسير القرطبي 10 / 183، وانظر تبيين الحقائق 5 / 186، ومجمع الأنهر 2
/ 417، والشرح الصغير 2 / 549، وشرح الزرقاني 4 / 88، والمغني 7 / 645،
ونهاية المحتاج 7 / 245، و 248.
(2) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 549.
(28/202)
تَحْتَ تَأْثِيرِ الإِْكْرَاهِ يُنْظَرُ
فِي: (إِكْرَاهٌ، وَقِصَاصٌ) .
الْقَتْل لِضَرُورَةِ الدِّفَاعِ:
إِذَا صَال صَائِلٌ عَلَى إِنْسَانٍ جَازَ لَهُ الدَّفْعُ، وَهَذَا مَحَل
اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (1) وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ
الدَّفْعِ عَنِ النَّفْسِ عَلَى الْمَصُول عَلَيْهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ -
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ -
إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَصُول عَلَيْهِ أَنْ يُدَافِعَ عَنْ
نَفْسِهِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَيَّدُوا وُجُوبَ دَفْعِ
الصَّائِل بِمَا إِذَا كَانَ الصَّائِل كَافِرًا أَوْ بَهِيمَةً (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ - فِي قَوْلٍ - وَالْحَنَابِلَةُ - فِي
الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ - أَنَّ الْمَصُول عَلَيْهِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ
دَفْعُ الصَّائِل (3) .
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: صِيَالٌ) .
الزِّنَى تَحْتَ تَأْثِيرِ الإِْكْرَاهِ:
يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ الزِّنَى لاَ يُبَاحُ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 92 - 93، ومغني المحتاج 4 / 194، ومواهب الجليل 6 /
323، والمغني 8 / 329 - 330، والإنصاف 10 / 303 مطبعة السنة المحمدية وكشاف
القناع 6 / 154 نشر عالم الكتب.
(2) مغني المحتاج 4 / 195، ومجموعة فتاوى ابن تيمية 34 / 242، وأحكام
القرآن للجصاص 2 / 487 - 488 ومواهب الجليل 6 / 323، والإنصاف 10 / 304.
(3) مواهب الجليل 6 / 323، والإنصاف 10 / 304.
(28/203)
وَلاَ يُرَخَّصُ لِلرَّجُل بِالإِْكْرَاهِ
وَإِنْ كَانَ تَامًّا، وَلَوْ فَعَل يَأْثَمُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِكْرَاه وَزِنًى) .
17 - الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: الاِضْطِرَارُ إِلَى أَخْذِ مَال الْغَيْرِ
وَإِتْلاَفِهِ:
إِذَا اضْطُرَّ إِنْسَانٌ وَلَمْ يَجِدْ إِلاَّ طَعَامًا لِغَيْرِهِ
نَظَرَ: فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ،
وَلَمْ يَجُزْ لأَِحَدٍ أَخْذُهُ مِنْهُ، لأَِنَّهُ سَاوَاهُ فِي
الضَّرُورَةِ وَانْفَرَدَ بِالْمِلْكِ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ حَال
الضَّرُورَةِ، وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْهُ فَمَاتَ لَزِمَهُ ضَمَانُهُ،
لأَِنَّهُ قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ
مُضْطَرًّا إِلَيْهِ لَزِمَهُ بَذْلُهُ لِلْمُضْطَرِّ، لأَِنَّهُ
يَتَعَلَّقُ بِهِ إِحْيَاءُ نَفْسِ آدَمِيٍّ مَعْصُومٍ فَلَزِمَهُ
بِذَلِكَ، كَمَا يَلْزَمُهُ بَذْل مَنَافِعِهِ وَإِنْجَاؤُهُ مِنَ
الْغَرَقِ وَالْحَرِيقِ، لأَِنَّ الاِمْتِنَاعَ عَنْ بَذْلِهِ إِعَانَةٌ
عَلَى قَتْل الْمُضْطَرِّ (1) ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْل مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ
لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَل مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ (2) .
__________
(1) المهذب 1 / 250، ومغني المحتاج 4 / 308، وتفسير الجصاص 1 / 153،
والقواعد لابن رجب ص 228، والدسوقي 4 / 242، والمغني 6 / 602.
(2) حديث: " من أعان على قتل مؤمن. . . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 874) من
حديث أبي هريرة، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 83) .
(28/203)
فَإِنْ لَمْ يَبْذُل فَلِلْمُضْطَرِّ
أَخْذُهُ مِنْهُ، لأَِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لَهُ دُونَ مَالِكِهِ، فَجَازَ
لَهُ أَخْذُهُ كَغَيْرِ مَالِهِ، فَإِنِ احْتِيجَ فِي ذَلِكَ إِلَى قِتَالٍ
فَلَهُ الْمُقَاتَلَةُ عَلَيْهِ، فَإِنْ قُتِل الْمُضْطَرُّ فَهُوَ شَهِيدٌ
وَعَلَى قَاتِلِهِ ضَمَانُهُ، وَإِنْ آل أَخْذُهُ إِلَى قَتْل صَاحِبِهِ
فَهُوَ هَدْرٌ، لأَِنَّهُ ظَالِمٌ بِقِتَالِهِ فَأَشْبَهَ الصَّائِل،
إِلاَّ أَنْ يُمْكِنَ أَخْذُهُ بِشِرَاءٍ أَوِ اسْتِرْضَاءٍ فَلَيْسَ لَهُ
الْمُقَاتَلَةُ عَلَيْهِ، لإِِمْكَانِ الْوُصُول إِلَيْهِ دُونَهَا (1) .
وَلِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِي أَثَرِ الاِضْطِرَارِ فِي
إِبْطَال حَقِّ الْغَيْرِ يُنْظَرُ فِي: (إِتْلاَفٌ، وَضَمَانٌ) .
إِتْلاَفُ مَال الْغَيْرِ لِضَرُورَةِ إِنْقَاذِ السَّفِينَةِ:
إِذَا أَشْرَفَتِ السَّفِينَةُ عَلَى الْغَرَقِ جَازَ إِلْقَاءُ بَعْضِ
أَمْتِعَتِهَا فِي الْبَحْرِ، وَيَجِبُ الإِْلْقَاءُ رَجَاءَ نَجَاةِ
الرَّاكِبِينَ إِذَا خِيفَ الْهَلاَكُ، وَيَجِبُ إِلْقَاءُ مَا لاَ رُوحَ
فِيهِ، لِتَخْلِيصِ ذِي الرُّوحِ، وَلاَ يَجُوزُ إِلْقَاءُ الدَّوَابِّ
إِذَا أَمْكَنَ دَفْعُ الْغَرَقِ بِغَيْرِ الْحَيَوَانِ، وَإِذَا مَسَّتِ
الْحَاجَةُ إِلَى إِلْقَاءِ الدَّوَابِّ أُلْقِيَتْ لإِِنْقَاذِ
الآْدَمِيِّينَ، وَالْعَبِيدُ فِي ذَلِكَ كَالأَْحْرَارِ، وَلاَ سَبِيل
لِطَرْحِ الآْدَمِيِّ بِحَالٍ
__________
(1) المغني 8 / 602، والمبسوط 24 / 73، والفروق للقرافي 1 / 196، ومغني
المحتاج 4 / 308.
(28/204)
ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، حُرًّا أَوْ
عَبْدًا، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا (1) .
إِتْلاَفُ مَال الْغَيْرِ تَحْتَ تَأْثِيرِ الإِْكْرَاهِ:
مَنْ أُكْرِهَ عَلَى إِتْلاَفِ مَال مُسْلِمٍ بِأَمْرٍ يَخَافُ عَلَى
نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَسِعَهُ أَنْ يَفْعَل ذَلِكَ
(2) .
وَلِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ
فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُنْظَرُ فِي: (إِكْرَاهٌ، وَضَمَانٌ) .
18 - الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: الاِضْطِرَارُ إِلَى قَوْل الْبَاطِل:
النُّطْقُ بِالْكُفْرِ تَحْتَ تَأْثِيرِ الإِْكْرَاهِ:
مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى خَشَى عَلَى نَفْسِهِ الْقَتْل لاَ
إِثْمَ عَلَيْهِ إِنْ كَفَرَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ، وَلاَ
تَبِينُ مِنْهُ زَوْجَتُهُ، وَلاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْكُفْرِ،
وَإِنْ صَبَرَ حَتَّى قُتِل كَانَ شَهِيدًا (3) .
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: رُخْصَةٌ ف 13، وَإِكْرَاهٌ ف 24)
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 338، ومطالب أولي النهى 4 / 95، وحاشية الدسوقي 4 /
27، وابن عابدين 5 / 172.
(2) مجمع الضمانات ص 205، والقواعد لابن رجب ص 286.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 115، وروضة الطالبين 10 / 72، وكشاف القناع 6 /
185، والإقناع 4 / 306، وجواهر الإكليل 1 / 340 - 341.
(28/204)
الاِضْطِرَارُ إِلَى الْكَذِبِ:
يَحِل الْكَذِبُ فِي أُمُورٍ ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ، فَفِي حَدِيثِ أُمِّ
كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُول: لَيْسَ
الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَقُول خَيْرًا وَيُنْمِي
خَيْرًا. (1)
قَال ابْنُ شِهَابٍ - أَحَدُ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ -: وَلَمْ أَسْمَعْ
يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُول النَّاسُ كَذِبٌ إِلاَّ فِي ثَلاَثٍ:
الْحَرْبُ وَالإِْصْلاَحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُل امْرَأَتَهُ
وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا.
قَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْكَذِبَ
يَصِيرُ مَأْذُونًا فِيهِ وَيُثَابُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الَّتِي
تَضَمَّنَهَا عَلَى قَدْرِ رُتْبَةِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ مِنَ الْوُجُوبِ
فِي حِفْظِ الأَْمْوَال وَالأَْبْضَاعِ وَالأَْرْوَاحِ (2) .
الاِضْطِرَارُ إِلَى التَّقِيَّةِ:
تَجُوزُ التَّقِيَّةُ عِنْدَ الاِضْطِرَارِ إِلَيْهَا دَفْعًا لِتَلَفِ
النَّفْسِ بِغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ.
قَال السَّرَخْسِيُّ: لاَ بَأْسَ بِاسْتِعْمَال التَّقِيَّةِ
__________
(1) حديث أم كلثوم: " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس. ". أخرجه مسلم (4 /
2011) .
(2) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام (1 / 96 - 97 ط. دار الكتب العلمية)
.
(28/205)
وَإِنَّهُ يُرَخَّصُ لَهُ فِي تَرْكِ مَا
هُوَ فَرْضٌ عِنْدَ خَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْعَمَل بِالتَّقِيَّةِ: (ر: تَقِيَّةٌ
فِقْرَةُ 5) .
19 - الْقَوَاعِدُ الْفِقْهِيَّةُ النَّاظِمَةُ لأَِحْكَامِ الضَّرُورَةِ:
وَضَعَ الْفُقَهَاءُ مَجْمُوعَةً مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ
لِضَبْطِ أَحْكَامِ الضَّرُورَةِ، وَتَوْضِيحِ مَعَالِمِهَا الْعَامَّةِ
وَتَنْظِيمِ آثَارِهَا، وَأَهَمُّ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ هِيَ:
الْمَشَقَّةُ تَجْلُبُ التَّيْسِيرَ (2) .
الأَْصْل فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (3) وقَوْله تَعَالَى:
{وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (4) وَيَتَخَرَّجُ
عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ جَمِيعُ رُخَصِ الشَّرْعِ وَتَخْفِيفَاتِهِ.
هَذَا وَقَدْ خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا نُصَّ عَلَيْهِ وَإِنْ
كَانَ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَعَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى (5) . قَال ابْنُ
نُجَيْمٍ: الْمَشَقَّةُ وَالْحَرَجُ إِنَّمَا يُعْتَبَرَانِ فِي مَوْضِعٍ
لاَ نَصَّ فِيهِ، وَأَمَّا مَعَ
__________
(1) المبسوط 24 / 47، وتفسير القرطبي 4 / 57.
(2) غمز عيون البصائر 1 / 245 وما بعدها والأشباه للسيوطي ص 76 - 80.
(3) سورة البقرة / 185.
(4) سورة الحج / 78.
(5) شرح المجلة للآتاسي 1 / 50.
(28/205)
النَّصِّ بِخِلاَفِهِ فَلاَ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَحْكَامِ هَذِهِ الأَْسْبَابِ وَضَوَابِطِ
الْمَشَقَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي التَّخْفِيفِ: (ر: تَيْسِيرٌ. فِقْرَةُ 32
- 41) .
إِذَا ضَاقَ الأَْمْرُ اتَّسَعَ:
هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُسْتَخْرَجَةٌ مِنَ الْقَاعِدَةِ الَّتِي قَبْلَهَا
وَبَيْنَهُمَا تَقَارُبٌ فِي الْمَآل، وَمَعْنَاهَا أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَتْ
مَشَقَّةٌ فِي أَمْرٍ يُرَخَّصُ فِيهِ وَيُوَسَّعُ.
وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ:
أ - شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي الْحَمَّامَاتِ
وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي لاَ يَحْضُرُهَا الرِّجَال دَفْعًا لِحَرَجِ
ضَيَاعِ الْحُقُوقِ.
ب - قَبُول شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلاَدَةِ ضَرُورَةَ حِفْظِ
الْوَلَدِ وَنَسَبِهِ.
ح - إِبَاحَةُ خُرُوجِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مِنْ بَيْتِهَا
أَيَّامَ عِدَّتِهَا إِذَا اضْطُرَّتْ لِلاِكْتِسَابِ (2) .
الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ:
قَاعِدَةٌ أُصُولِيَّةٌ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (3) وَالاِضْطِرَارُ: الْحَاجَةُ
الشَّدِيدَةُ، وَالْمَحْظُورُ
__________
(1) غمز عيون البصائر 1 / 271.
(2) شرح المجلة للآتاسي 1 / 51، وغمز عيون البصائر 1 / 273.
(3) سورة الأنعام / 119.
(28/206)
الْمَنْهِيُّ عَنْ فِعْلِهِ، يَعْنِي أَنَّ
الْمَمْنُوعَ شَرْعًا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ (1) .
وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَتَعَلَّقُ أَصْلاً بِقَاعِدَةِ (الضَّرَرُ يُزَال)
وَمِنْ فُرُوعِهَا: جَوَازُ أَكْل الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ.
الضَّرُورَاتُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا:
مَعْنَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ: أَنَّ كُل فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ جُوِّزَ
لِلضَّرُورَةِ فَالتَّجْوِيزُ عَلَى قَدْرِهَا وَلاَ يَتَجَاوَزُ عَنْهَا
(2) .
وَمِنْ فُرُوعِهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ حَال الْحَرْبِ إِذَا تَتَرَّسُوا
بِأَطْفَال الْمُسْلِمِينَ فَلاَ بَأْسَ بِالرَّمْيِ عَلَيْهِمْ
لِضَرُورَةِ إِقَامَةِ فَرْضِ الْجِهَادِ، لَكِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ
الْكُفَّارَ دُونَ الأَْطْفَال، وَلِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِي
وُجُوبِ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ: (ر: دِيَاتٌ وَكَفَّارَاتٌ) .
مَا جَازَ لِعُذْرٍ بَطَل بِزَوَالِهِ:
هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُكَمِّلَةٌ لِلْقَاعِدَةِ السَّابِقَةِ،
فَالْقَاعِدَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ يُعْمَل بِهَا أَثْنَاءَ قِيَامِ
الضَّرُورَةِ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تُبَيِّنُ مَا يَجِبُ فِعْلُهُ بَعْدَ
زَوَال حَال الضَّرُورَةِ، وَمَعْنَاهَا أَنَّ مَا جَازَ فِعْلُهُ بِسَبَبِ
عُذْرٍ مِنَ الأَْعْذَارِ، أَوْ عَارِضٍ طَارِئٍ مِنَ الْعَوَارِضِ
فَإِنَّهُ تَزُول مَشْرُوعِيَّتُهُ
__________
(1) غمز عيون البصائر 1 / 275 - 276، والأشباه للسيوطي.
(2) شرح المجلة للآتاسي 1 / 56، والأشباه للسيوطي ص 84.
(28/206)
بِزَوَال حَال الْعُذْرِ، لأَِنَّ
جَوَازَهُ لَمَّا كَانَ بِسَبَبِ الْعُذْرِ فَهُوَ خَلَفٌ عَنْ الأَْصْل
الْمُتَعَذِّرِ، فَإِذَا زَال الْعُذْرُ أَمْكَنَ الْعَمَل بِالأَْصْل،
فَلَوْ جَازَ الْعَمَل بِالْخَلَفِ - أَيْضًا - لَلَزِمَ الْجَمْعُ بَيْنَ
الْخَلَفِ وَالأَْصْل فَلاَ يَجُوزُ كَمَا لاَ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ
الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ (1) .
الاِضْطِرَارُ لاَ يُبْطِل حَقَّ الْغَيْرِ:
الاِضْطِرَارُ وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يَقْتَضِي تَغْيِيرَ
الْحُكْمِ مِنَ الْحُرْمَةِ إِلَى الإِْبَاحَةِ كَأَكْل الْمَيْتَةِ، وَفِي
بَعْضِهَا التَّرْخِيصُ فِي فِعْلِهِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى الْحُرْمَةِ -
كَكَلِمَةِ الْكُفْرِ - إِلاَّ أَنَّهُ عَلَى كُل حَالٍ لاَ يُبْطِل حَقَّ
الْغَيْرِ، وَإِلاَّ لَكَانَ مِنْ قَبِيل إِزَالَةِ الضَّرَرِ بِالضَّرَرِ
وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ.
وَيَتَفَرَّعُ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ لَوْ اضْطُرَّ إِنْسَانٌ
بِسَبَبِ الْجُوعِ فَأَكَل طَعَامَ آخَرَ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ فِي
الْقِيمِيَّاتِ وَمِثْلَهُ فِي الْمِثْلِيَّاتِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: إِتْلاَفٌ وَضَمَانٌ) .
__________
(1) شرح المجلة للآتاسي 1 / 59 - 60.
(2) شرح المجلة للآتاسي 1 / 76 - 77، والفروق للقرافي 1 / 196، والقواعد
لابن رجب الحنبلي ص 286.
(28/207)
ضَرُورِيَّاتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الضَّرُورِيَّاتُ: جَمْعُ ضَرُورِيٍّ وَالضَّرُورِيَّاتُ عِنْدَ
الأُْصُولِيِّينَ هِيَ: الأُْمُورُ الَّتِي لاَ بُدَّ مِنْهَا فِي قِيَامِ
مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، بِحَيْثُ إِذَا فُقِدَتْ لَمْ تَجْرِ
مَصَالِحُ الدُّنْيَا عَلَى اسْتِقَامَةٍ، بَل عَلَى فَسَادٍ وَتَهَارُجٍ،
وَفَوْتِ حَيَاةٍ، وَفِي الأُْخْرَى فَوْتُ النَّجَاةِ وَالنَّعِيمِ،
وَالرُّجُوعُ بِالْخُسْرَانِ الْمُبِينِ (1) وَهِيَ: حِفْظُ الدِّينِ،
وَالنَّفْسِ، وَالْعَقْل، وَالنَّسَبِ، وَالْمَال، وَهَذَا التَّرْتِيبُ
بَيْنَ الضَّرُورِيَّاتِ مِنَ الْعَالِي إِلَى النَّازِل هُوَ مَا جَرَى
عَلَيْهِ فِي مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ وَشَرْحِهِ (2) . وَهُوَ - أَيْضًا -
مَا جَرَى عَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى مَعَ اسْتِبْدَال
لَفْظِ النَّسْل بِلَفْظِ النَّسَبِ (3) .
وَرَتَّبَهَا الشَّاطِبِيُّ تَرْتِيبًا آخَرَ فَقَال: مَجْمُوعُ
الضَّرُورِيَّاتِ خَمْسَةٌ وَهِيَ: حِفْظُ الدِّينِ، وَالنَّفْسِ،
وَالنَّسْل، وَالْمَال، وَالْعَقْل، فَأَخَّرَ الْعَقْل عَنِ النَّسْل
وَالْمَال (4) .
__________
(1) الموافقات 2 / 8.
(2) فواتح الرحموت 2 / 262.
(3) المستصفى 1 / 286.
(4) الموافقات 2 / 10.
(28/207)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَاجِيَّاتُ:
2 - الْحَاجِيُّ لُغَةً: مَأْخُوذٌ مِنْ مَعْنَى الْحَاجَةِ وَهِيَ:
الاِحْتِيَاجُ، وَتُطْلَقُ عَلَى مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ (1) .
وَهِيَ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ
التَّوْسِعَةُ، وَرَفْعُ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إِلَى
الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ اللاَّحِقَةِ بِفَوْتِ الْمَطْلُوبِ، فَإِذَا
لَمْ تُرَاعَ دَخَل عَلَى الْمُكَلَّفِينَ - عَلَى الْجُمْلَةِ - الْحَرَجُ
وَالْمَشَقَّةُ وَلَكِنَّهُ لاَ يَبْلُغُ مَبْلَغَ الْفَسَادِ الْعَادِيِّ
الْمُتَوَقَّعِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ (2) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ أَنَّ
الْحَاجِيَّاتِ تَأْتِي فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ
الضَّرُورِيَّاتِ، فَهِيَ لاَ تَصِل إِلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ.
ب - التَّحْسِينِيَّاتُ:
3 - التَّحْسِينِيَّاتُ لُغَةً: مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَادَّةِ الْحُسْنِ،
وَالْحُسْنُ لُغَةً: الْجَمَال، أَوْ هُوَ ضِدُّ الْقُبْحِ،
وَالتَّحْسِينُ: التَّزْيِينُ (3) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الأُْصُولِيِّينَ: هِيَ الأَْخْذُ بِمَا يَلِيقُ مِنْ
مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَتَجَنُّبُ الأَْحْوَال الْمُدَنَّسَاتِ الَّتِي
تَأْنَفُهَا الْعُقُول الرَّاجِحَاتُ،
__________
(1) لسان العرب وتاج العروس والكليات للكفوي مادة (حوج) .
(2) الموافقات 2 / 10.
(3) لسان العرب والمصباح المنير.
(28/208)
وَيَجْمَعُ ذَلِكَ قِسْمُ مَكَارِمِ
الأَْخْلاَقِ (1) .
أَوْ هِيَ: مَا لاَ تَدْعُو إِلَيْهَا ضَرُورَةٌ وَلاَ حَاجَةٌ، وَلَكِنْ
تَقَعُ مَوْقِعَ التَّحْسِينِ وَالتَّيْسِيرِ، وَرِعَايَةُ أَحْسَنِ
الْمَنَاهِجِ فِي الْعَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ (2) .
وَعَلَى ذَلِكَ تَكُونُ التَّحْسِينِيَّاتُ أَدْنَى رُتْبَةً مِنَ
الْحَاجِيَّاتِ، فَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ بَعْدَ
الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ.
ج - الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ:
4 - فِي اللُّغَةِ: صَلَحَ الشَّيْءُ صُلُوحًا وَصَلاَحًا، خِلاَفُ فَسَدَ،
وَفِي الأَْمْرِ مَصْلَحَةٌ، أَيْ: خَيْرٌ، وَالْجَمْعُ: الْمَصَالِحُ (3)
.
وَالْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: مَا لاَ يَشْهَدُ
لَهَا أَصْلٌ مِنَ الشَّارِعِ لاَ بِالاِعْتِبَارِ وَلاَ بِالإِْلْغَاءِ
(4) .
وَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ، لأَِنَّهَا تَشْمَل
الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ والتَّحْسِينِيَّاتِ.
الأَْحْكَامُ الإِْجْمَالِيَّةُ:
أ - الْمُحَافَظَةُ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ:
5 - الضَّرُورِيَّاتُ مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي قَصَدَ الشَّارِعُ
الْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّهَا لاَ بُدَّ مِنْهَا فِي
__________
(1) الموافقات 2 / 11.
(2) المستصفى 1 / 286 - 290، والإحكام للآمدي (3 / 49 ط. صبيح) .
(3) المصباح المنير.
(4) جمع الجوامع 2 / 284 وإرشاد الفحول / 218.
(28/208)
قِيَامِ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.
قَال الشَّاطِبِيُّ: وَالْحِفَاظُ عَلَيْهَا يَكُونُ بِأَمْرَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: مَا يُقِيمُ أَرْكَانَهَا وَيُثَبِّتُ قَوَاعِدَهَا، وَذَلِكَ
عِبَارَةٌ عَنْ مُرَاعَاتِهَا مِنْ جَانِبِ الْوُجُودِ.
وَالثَّانِي: مَا يَدْرَأُ عَنْهَا الاِخْتِلاَل الْوَاقِعَ أَوِ
الْمُتَوَقَّعَ فِيهَا، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ مُرَاعَاتِهَا مِنْ
جَانِبِ الْعَدَمِ.
فَأُصُول الْعِبَادَاتِ رَاجِعَةٌ إِلَى حِفْظِ الدِّينِ مِنْ جَانِبِ
الْوُجُودِ، كَالإِْيمَانِ وَالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَالصَّلاَةِ،
وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَالْعَادَاتُ رَاجِعَةٌ إِلَى حِفْظِ النَّفْسِ وَالْعَقْل مِنْ جَانِبِ
الْوُجُودِ - أَيْضًا - كَتَنَاوُل الْمَأْكُولاَتِ، وَالْمَشْرُوبَاتِ،
وَالْمَلْبُوسَاتِ، وَالْمَسْكُونَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَالْمُعَامَلاَتُ رَاجِعَةٌ إِلَى حِفْظِ النَّسْل وَالْمَال مِنْ جَانِبِ
الْوُجُودِ، وَإِلَى حِفْظِ النَّفْسِ وَالْعَقْل - أَيْضًا - لَكِنْ
بِوَاسِطَةِ الْعَادَاتِ.
وَالْجِنَايَاتُ تَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ الْجَمِيعِ مِنْ جَانِبِ الْعَدَمِ.
وَقَدْ سَبَقَتِ الأَْمْثِلَةُ لِلْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ.
وَأَمَّا الْمُعَامَلاَتُ: فَمَا كَانَ رَاجِعًا إِلَى مَصْلَحَةِ
الإِْنْسَانِ مَعَ غَيْرِهِ كَانْتِقَال الأَْمْلاَكِ بِعِوَضٍ أَوْ
بِغَيْرِ عِوَضٍ، بِالْعَقْدِ عَلَى الرِّقَابِ أَوِ الْمَنَافِعِ أَوِ
الأَْبْضَاعِ.
(28/209)
وَالْجِنَايَاتُ مَا كَانَ عَائِدًا عَلَى
مَا تَقَدَّمَ بِالإِْبْطَال، فَشُرِعَ فِيهَا مَا يَدْرَأُ ذَلِكَ
الإِْبْطَال وَيَتَلاَفَى تِلْكَ الْمَصَالِحَ كَالْقِصَاصِ وَالدِّيَاتِ
لِلنَّفْسِ، وَالْحَدِّ لِلْعَقْل وَالنَّسْل، وَالْقَطْعِ وَالتَّضْمِينِ
لِلْمَال (1) .
ب - رُتْبَةُ الضَّرُورِيَّاتِ:
6 - الضَّرُورِيَّاتُ أَقْوَى مَرَاتِبِ الْمَصْلَحَةِ فَقَدْ قَسَّمَ
الْغَزَالِيُّ الْمَصْلَحَةَ بِاعْتِبَارِ قُوَّتِهَا فِي ذَاتِهَا إِلَى
ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
أ - رُتْبَةِ الضَّرُورِيَّاتِ.
ب - رُتْبَةِ الْحَاجِيَّاتِ.
ج - رُتْبَةِ التَّحْسِينِيَّاتِ.
ثُمَّ قَال: وَالْمَقْصُودُ بِالْمَصْلَحَةِ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى
مَقْصُودِ الشَّرْعِ، وَمَقْصُودُ الشَّرْعِ مِنَ الْخَلْقِ خَمْسَةٌ -
وَهُوَ أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ، وَنَفْسَهُمْ، وَعَقْلَهُمْ،
وَنَسْلَهُمْ، وَمَالَهُمْ.
هَذِهِ الأُْصُول الْخَمْسَةُ حِفْظُهَا وَاقِعٌ فِي رُتْبَةِ
الضَّرُورِيَّاتِ فَهِيَ أَقْوَى الْمَرَاتِبِ فِي الْمَصَالِحِ.
وَيَلِي الضَّرُورِيَّاتِ فِي الرُّتْبَةِ الْحَاجِيَّاتُ ثُمَّ
التَّحْسِينِيَّاتُ (2) .
__________
(1) الموافقات 2 / 8 - 10، والمستصفى 1 / 286 - 287، وفواتح الرحموت 2 /
262.
(2) المستصفى 1 / 286، وفواتح الرحموت 2 / 262.
(28/209)
ج - الاِحْتِجَاجُ بِالضَّرُورِيَّاتِ:
7 - الضَّرُورِيَّاتُ أَقْوَى مَرَاتِبِ الْمَصْلَحَةِ، وَفِي
الاِحْتِجَاجِ بِهَا خِلاَفٌ بَيْنَ الأُْصُولِيِّينَ.
فَقَال الْغَزَالِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَيْهَا اجْتِهَادُ
مُجْتَهِدٍ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهَا أَصْلٌ مُعَيَّنٌ، وَمِثَال ذَلِكَ:
أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا تَتَرَّسُوا بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَسَارَى
الْمُسْلِمِينَ، فَلَوْ كَفَفْنَا عَنْهُمْ لَصَدَمُونَا، وَغَلَبُوا عَلَى
دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَقَتَلُوا كَافَّةَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ رَمَيْنَا
التُّرْسَ لَقَتَلْنَا مُسْلِمًا مَعْصُومًا لَمْ يُذْنِبْ ذَنْبًا،
وَهَذَا لاَ عَهْدَ بِهِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَلَوْ كَفَفْنَا لَسَلَّطْنَا
الْكُفَّارَ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْتُلُونَهُمْ ثُمَّ
يَقْتُلُونَ الأَْسَارَى أَيْضًا.
لَكِنْ الْغَزَالِيُّ إِنَّمَا يَعْتَبِرُهَا بِشُرُوطٍ ثَلاَثَةٍ قَال:
وَانْقَدَحَ اعْتِبَارُهَا بِاعْتِبَارِ ثَلاَثَةِ أَوْصَافٍ: أَنْ تَكُونَ
ضَرُورِيَّةً قَطْعِيَّةً كُلِّيَّةً (1) .
وَهِيَ حُجَّةٌ عِنْدَ الإِْمَامِ مَالِكٍ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
إِنَّمَا بَعَثَ الرُّسُل لِتَحْصِيل مَصَالِحِ الْعِبَادِ عَمَلاً
بِالاِسْتِقْرَاءِ، فَمَهْمَا وَجَدْنَا مَصْلَحَةً غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ
أَنَّهَا مَطْلُوبَةٌ لِلشَّرْعِ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ: فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) المستصفى 1 / 294 - 296، والذخيرة / 142.
(2) الذخيرة / 142، وهامش الفروق 4 / 70.
(28/210)
د - الضَّرُورِيَّاتُ أَصْلٌ لِمَا
سِوَاهَا مِنْ الْمَقَاصِدِ:
8 - الْمَقَاصِدُ الضَّرُورِيَّةُ فِي الشَّرِيعَةِ أَصْلٌ لِلْحَاجِيَّةِ.
وَالتَّحْسِينِيَّة فَلَوْ فُرِضَ اخْتِلاَل الضَّرُورِيِّ بِإِطْلاَقٍ
لاَخْتَل الْحَاجِيُّ وَالتَّحْسِينِيُّ بِإِطْلاَقٍ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنَ
اخْتِلاَل الْحَاجِيِّ وَالتَّحْسِينِيِّ اخْتِلاَل الضَّرُورِيِّ
بِإِطْلاَقٍ - وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ يَلْزَمُ مِنَ اخْتِلاَل الْحَاجِيِّ
بِإِطْلاَقٍ اخْتِلاَل الضَّرُورِيِّ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ -
فَالْحَاجِيُّ يَخْدُمُ الضَّرُورِيَّ، وَالضَّرُورِيُّ هُوَ الْمَطْلُوبُ
لأَِنَّهُ الأَْصْل.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَصَالِحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى
الْمُحَافَظَةِ عَلَى الأُْمُورِ الْخَمْسَةِ الْمَعْرُوفَةِ، فَإِذَا
اعْتُبِرَ قِيَامُ هَذَا الْوُجُودِ الدُّنْيَوِيِّ مَبْنِيًّا عَلَيْهَا
حَتَّى إِذَا انْخَرَمَتْ لَمْ يَبْقَ لِلدُّنْيَا وُجُودٌ، (أَيْ مَا هُوَ
خَاصٌّ بِالْمُكَلَّفِينَ وَالتَّكْلِيفِ) .
وَكَذَلِكَ الأُْمُورُ الأُْخْرَوِيَّةُ لاَ قِيَامَ لَهَا إِلاَّ
بِذَلِكَ، فَلَوْ عُدِمَ الدِّينُ عُدِمَ تَرَتُّبُ الْجَزَاءِ
الْمُرْتَجَى، وَلَوْ عُدِمَ الْمُكَلَّفُ لَعُدِمَ مَنْ يَتَدَيَّنُ،
وَلَوْ عُدِمَ الْعَقْل لاَرْتَفَعَ التَّدَيُّنُ، وَلَوْ عُدِمَ النَّسْل
لَمْ يَكُنْ فِي الْعَادَةِ بَقَاءٌ، وَلَوْ عُدِمَ الْمَال لَمْ يَبْقَ
عَيْشٌ، فَلَوِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَقَاءٌ، وَهَذَا
(28/210)
كُلُّهُ مَعْلُومٌ لاَ يَرْتَابُ فِيهِ
مَنْ عَرَفَ تَرْتِيبَ أَحْوَال الدُّنْيَا وَأَنَّهَا زَادٌ لِلآْخِرَةِ
(1) .
هـ - اخْتِلاَل الضَّرُورِيِّ يَلْزَمُ مِنْهُ اخْتِلاَل الْحَاجِيِّ
وَالتَّحْسِينِيِّ:
9 - إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الضَّرُورِيَّ أَصْلٌ لِلْحَاجِيِّ
وَالتَّحْسِينِيِّ وَأَنَّهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِهِمَا
وَصْفَيْنِ مِنْ أَوْصَافِهِ، أَوْ فَرْعَيْنِ مِنْ فُرُوعِهِ، لَزِمَ مِنَ
اخْتِلاَلِهِ اخْتِلاَلُهُمَا؛ لأَِنَّ الأَْصْل إِذَا اخْتَل اخْتَل
الْفَرْعُ مِنْ بَابٍ أَوْلَى.
فَلَوْ فَرَضْنَا ارْتِفَاعَ أَصْل الْبَيْعِ مِنَ الشَّرِيعَةِ لَمْ
يَكُنِ اعْتِبَارُ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ، وَلَوِ ارْتَفَعَ أَصْل
الْقِصَاصِ لَمْ يَكُنِ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ، وَهَكَذَا (2) .
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلاَتٌ تُنْظَرُ: (فِي الْمُلْحَقِ
الأُْصُولِيِّ.)
__________
(1) الموافقات 2 / 16 - 17.
(2) الموافقات 2 / 17.
(28/211)
ضِفْدَعٌ
انْظُرْ: أَطْعِمَةٌ
ضَفَائِرُ
انْظُرْ: شَعْرٌ، غَسْلٌ
(28/211)
|