الموسوعة
الفقهية الكويتية ضِلْعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الضِّلْعُ - بِفَتْحِ اللاَّمِ وَسُكُونِهَا - لُغَتَانِ بِمَعْنَى:
مَحْنِيَّةِ الْجَنْبِ. وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ وَجَمْعُهَا: أَضْلُعٌ
وَأَضَالِعُ وَأَضْلاَعٌ وَضُلُوعٌ وَهِيَ عِظَامُ الْجَنْبَيْنِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالضِّلْعِ:
الْجِنَايَةُ عَلَى الضِّلْعِ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي كَسْرِ
الْعِظَامِ - بِمَا فِيهَا الضِّلْعُ - لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ قِصَاصَ فِي
الْعَظْمِ (2) وَلِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِالْمُمَاثَلَةِ لأَِنَّهُ لاَ
يُعْلَمُ مَوْضِعُهُ، فَلاَ يُؤْمَنُ فِيهِ التَّعَدِّي (3) .
__________
(1) لسان العرب، ومتن اللغة والمصباح المنير مادة (ضلع)
.
(2) حديث: " لا قصاص في العظم ". أورده الزيلعي في نصب الراية (4 / 350)
وقال: (غريب) يعني أنه لا أصل له كما ذكر ذلك في مقدمة كتابه، ثم ذكر أن
ابن أبي شيبة أسند عن عمر بن الخطاب أنه قال: إنا لا نقيد من العظام، وعن
ابن عباس أنه قال: ليس في العظام قصاص.
(3) ابن عابدين 5 / 254، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 485، وروضة الطالبين
9 / 183، والدسوقي 4 / 253.
(28/212)
(ر: جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ف
31) .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مُوجَبِ كَسْرِ الضِّلْعِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي
الصَّحِيحِ - وَأَحْمَدُ - فِي رِوَايَةٍ - إِلَى أَنَّ كَسْرَ الضِّلْعِ
لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيهِ حُكُومَةُ
الْعَدْل، لأَِنَّهُ كَسْرُ عَظْمٍ فِي غَيْرِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ،
فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، كَكَسْرِ عَظْمِ السَّاقِ (1) .
وَقَدْ قَيَّدَ الإِْمَامُ مَالِكٌ وُجُوبَ حُكُومَةِ الْعَدْل فِي كَسْرِ
الضِّلْعِ إِذَا بَرَأَ عَلَى عَثَلٍ (2) وَإِذَا بَرَأَ عَلَى غَيْرِ
عَثَلٍ فَلاَ شَيْءَ فِيهِ (3) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ - عَلَى الْمَذْهَبِ - وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
أَحَدِ قَوْلَيْنِ - وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْقَدِيمُ عِنْدَهُمْ كَمَا قَال
السُّيُوطِيُّ - أَنَّهُ يَجِبُ فِي كَسْرِ الضِّلْعِ جَمَلٌ (4) ، لِمَا
رَوَى أَسْلَمُ مَوْلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ
قَضَى فِي التَّرْقُوَةِ بِجَمَلٍ وَفِي الضِّلْعِ بِجَمَلٍ (5) .
__________
(1) الفتاوى البزازية بهامش الهندية 6 / 394، والمدونة 6 / 322، والشرح
الصغير 4 / 381، والمهذب 2 / 208 - 209، والإنصاف (10 / 114 نشر دار إحياء
التراث العربي) والإفصاح لابن هبيرة (2 / 207 نشر المؤسسة السعيدية
بالرياض) .
(2) أي جبرت على غير استواء - لسان العرب مادة (عثل) .
(3) المدونة (6 / 322 ط السعادة) .
(4) المهذب 2 / 208 - 209.
(5) أثر أسلم (أن عمر قضى في الترقوة بجمل. . .) أخرجه عبد الرزاق في
المصنف (9 / 362، 367) .
(28/212)
وَلِلتَّفْصِيل فِي كَيْفِيَّةِ تَقْدِيرِ
حُكُومَةِ الْعَدْل وَشُرُوطِهَا يُنْظَرُ: (حُكُومَةُ عَدْلٍ وَجِنَايَةٌ
عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ) .
(28/213)
ضِمَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - تُطْلَقُ كَلِمَةُ (الضِّمَارِ) فِي لُغَةِ الْعَرَبِ عَلَى: كُل
شَيْءٍ لَسْتَ مِنْهُ عَلَى ثِقَةٍ (1) .
قَال الْجَوْهَرِيُّ: الضِّمَارُ مَا لاَ يُرْجَى مِنَ الدَّيْنِ
وَالْوَعْدِ، وَكُل مَا لاَ تَكُونُ مِنْهُ عَلَى ثِقَةٍ (2) .
كَذَلِكَ يُطْلَقُ الضِّمَارُ فِي اللُّغَةِ عَلَى: خِلاَفِ الْعِيَانِ،
وَعَلَى: النَّسِيئَةِ أَيْضًا (3) ، وَقِيل: أَصْل الضِّمَارِ مَا حُبِسَ
عَنْ صَاحِبِهِ ظُلْمًا بِغَيْرِ حَقٍّ (4) .
وَحَكَى الْمُطَرِّزِيُّ أَنَّ أَصْلَهُ مِنَ الإِْضْمَارِ، وَهُوَ
التَّغَيُّبُ وَالاِخْتِفَاءُ، وَمِنْهُ أَضْمَرَ فِي قَلْبِهِ شَيْئًا (5)
.
أَمَّا الضِّمَارُ مِنَ الْمَال: فَهُوَ الْغَائِبُ الَّذِي لاَ يُرْجَى
عَوْدُهُ، فَإِذَا رُجِيَ فَلَيْسَ بِضِمَارٍ (6) .
__________
(1) الكليات لأبي البقاء الكفوي 3 / 129، المغرب للمطرزي 2 / 12.
(2) الصحاح (مادة: ضمر) 2 / 722، وانظر لسان العرب (مادة: ضمر) .
(3) مشارق الأنوار للقاضي عياض 2 / 58، وانظر لسان العرب.
(4) مشارق الأنوار 2 / 58.
(5) المغرب 2 / 12.
(6) المصباح المنير 2 / 430، لسان العرب، مشارق الأنوار 2 / 58، المغرب 2 /
12، غريب الحديث لأبي عبيد 4 / 417.
(28/213)
2 - وَاصْطِلاَحًا يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ
(الْمَال الضِّمَارَ) عَلَى الْمَال الَّذِي لاَ يَتَمَكَّنُ صَاحِبُهُ
مِنَ اسْتِنْمَائِهِ، لِزَوَال يَدِهِ عَنْهُ، وَانْقِطَاعِ أَمَلِهِ فِي
عَوْدِهِ إِلَيْهِ (1) .
وَعَلَى هَذَا عَرَّفَهُ صَاحِبُ (الْمُحِيطِ) مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
بِقَوْلِهِ: هُوَ كُل مَا بَقِيَ أَصْلُهُ فِي مِلْكِهِ، وَلَكِنْ زَال
عَنْ يَدِهِ زَوَالاً لاَ يُرْجَى عَوْدُهُ فِي الْغَالِبِ (2) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: هُوَ كُل مَالٍ غَيْرِ مَقْدُورِ الاِنْتِفَاعِ
بِهِ مَعَ قِيَامِ أَصْل الْمِلْكِ (3) وَفِي مَجْمَعِ الأَْنْهُرِ: هُوَ:
مَالٌ زَائِلٌ عَنِ الْيَدِ، غَيْرُ مَرْجُوِّ الْوُصُول غَالِبًا (4) .
3 - وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لِلْمَال الضِّمَارِ صُوَرًا عَدِيدَةً
أَهَمُّهَا:
(أ) الْمَال الْمَغْصُوبُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ عَلَى الْغَاصِبِ
بَيِّنَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَيْسَ بِضِمَارٍ (5)
.
(ب) الْمَال الْمَفْقُودُ، كَبَعِيرٍ مَفْقُودٍ، إِذْ هُوَ
__________
(1) الزرقاني على الموطأ 2 / 106.
(2) انظر الفتاوى الهندية 1 / 174.
(3) بدائع الصنائع 2 / 9، وانظر البحر الرائق 2 / 222، رد المحتار 2 / 9.
(4) مجمع الأنهر 1 / 194.
(5) البناية على الهداية 3 / 25، رد المحتار 2 / 9، شرح الوقاية لصدر
الشريعة 1 / 98، الفتاوى الهندية 1 / 174، مجمع الأنهر 1 / 194، البحر
الرائق 2 / 223، الهداية مع فتح القدير والعناية والكفاية 2 / 122 ط
(الميمنية 1319 هـ) .
(28/214)
كَالْهَالِكِ، لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ
عَلَيْهِ (1) .
(ج) الْمَال السَّاقِطُ فِي الْبَحْرِ، لأَِنَّهُ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ (2)
.
(د) الْمَال الْمَدْفُونُ فِي بَرِّيَّةٍ أَوْ صَحْرَاءَ إِذَا نَسِيَ
صَاحِبُهُ مَكَانَهُ، ثُمَّ تَذَكَّرَهُ بَعْدَ زَمَانٍ (3) .
(هـ) الْمَال الَّذِي أَخَذَهُ السُّلْطَانُ مُصَادَرَةً ظُلْمًا، ثُمَّ
وَصَل إِلَيْهِ بَعْدَ سِنِينَ (4) .
(و) الدَّيْنُ الْمَجْحُودُ الَّذِي جَحَدَهُ الْمَدِينُ سِنِينَ
عَلاَنِيَةً إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، ثُمَّ صَارَتْ لَهُ
بَيِّنَةٌ بَعْدَ سِنِينَ، بِأَنْ أَقَرَّ الْجَاحِدُ عِنْدَ قَوْمٍ بِهِ
(5) .
(ز) الْمَال الَّذِي ذَهَبَ بِهِ الْعَدُوُّ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ (6) .
(ح) الْمَال الْمُودَعُ عِنْدَ مَنْ لاَ يَعْرِفُهُ إِذَا نَسِيَ شَخْصَهُ
سِنِينَ، ثُمَّ تَذَكَّرَهُ (7) .
4 - وَيُلاَحَظُ بِالتَّأَمُّل فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الَّتِي
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) المراجع السابقة.
(3) المراجع السابقة.
(4) الفرق بين المصادرة والغصب كما قال ابن عابدين في رد المحتار 2 / 9 أن
المصادرة: أن يأمره بأن يأتي بالمال، والغصب: أخذ المال مباشرة على وجه
القهر.
(5) مجمع الأنهر 1 / 194، الفتاوى الهندية 1 / 174، رد المحتار 2 / 9،
البناية على الهداية 3 / 25، الهداية مع فتح القدير والعناية والكفاية 2 /
121، شرح الوقاية لصدر الشريعة 1 / 98.
(6) المراجع السابقة.
(7) فتح القدير 2 / 121 (الميمنية 1319 هـ) .
(28/214)
ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْمَال
الضِّمَارَ قَدْ يَكُونُ عَيْنًا يَئِسَ صَاحِبُهَا مِنَ الْوُصُول
إِلَيْهَا، وَقَدْ يَكُونُ دَيْنًا لاَ يُرْجَى لِجُحُودِ الْمَدِينِ
وَعَدَمِ الْبَيِّنَةِ. يَشْهَدُ لِذَلِكَ فِي الدُّيُونِ مَا رَوَى ابْنُ
أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ وَأَبُو عُبَيْدٍ فِي الأَْمْوَال وَابْنُ
زَنْجُوَيْهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَال: أَخَذَ الْوَلِيدُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ مَال رَجُلٍ مِنْ أَهْل الرَّقَّةِ يُقَال لَهُ أَبُو
عَائِشَةَ، عِشْرِينَ أَلْفًا، فَأَلْقَاهَا فِي بَيْتِ الْمَال، فَلَمَّا
وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَتَاهُ وَلَدُهُ، فَرَفَعُوا
مَظْلِمَتَهُمْ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَى مَيْمُونٍ أَنِ ادْفَعُوا
إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، وَخُذُوا زَكَاةَ عَامِهِمْ هَذَا، فَإِنَّهُ
لَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مَالاً ضِمَارًا أَخَذْنَا مِنْهُ زَكَاةَ مَا مَضَى
(1) .
وَمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَال: إِذَا حَضَرَ
الْوَقْتُ الَّذِي يُؤَدِّي الرَّجُل فِيهِ زَكَاتَهُ أَدَّى عَنْ كُل
مَالٍ وَعَنْ كُل دَيْنٍ، إِلاَّ مَا كَانَ مِنْهُ ضِمَارًا لاَ يَرْجُوهُ
(2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الدَّيْنُ:
5 - هُوَ: كُل مَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ مَالٍ
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة 3 / 202، الأموال لابن زنجويه، 3 / 957، الأموال
لأبي عبيد ص 590، الدراية في تخريج أحاديث الهداية لابن حجر 1 / 249، غريب
الحديث لأبي عبيد 4 / 417، فتح القدير 2 / 123.
(2) الدراية لابن حجر 1 / 250، البناية على الهداية 3 / 26، فتح القدير 2 /
123، وانظر الأموال لابن زنجويه 3 / 956، الأموال لأبي عبيد ص 590.
(28/215)
بِسَبَبٍ يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ (1) . (ر:
دَيْنٌ) .
ب - الْعَيْنُ:
6 - هِيَ: الشَّيْءُ الْمُعَيَّنُ الْمُشَخَّصُ، كَبَيْتٍ وَسَيَّارَةٍ،
وَحِصَانٍ، وَكُرْسِيٍّ، وَصُبْرَةِ حِنْطَةٍ، وَصُبْرَةِ دَرَاهِمَ
حَاضِرَتَيْنِ (2) . (ر: دَيْنٌ) .
ج - الْمِلْكُ:
7 - الْمِلْكُ: هُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مُقَدَّرٌ فِي الْعَيْنِ أَوِ
الْمَنْفَعَةِ، وَيَقْتَضِي تَمَكُّنَ مَنْ يُضَافُ إِلَيْهِ مِنَ
انْتِفَاعِهِ بِالْمَمْلُوكِ، وَالْعِوَضِ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ
كَذَلِكَ (3) . (ر: مِلْكِيَّةٌ) .
د - التَّوَى:
8 - التَّوَى مَعْنَاهُ: الْهَلاَكُ، وَالْمَال التَّاوِي: هُوَ الذَّاهِبُ
الَّذِي لاَ يُرْجَى (4) . (ر: تَوًى) .
هـ - الْجُحُودُ:
9 - الْجُحُودُ: هُوَ نَفْيُ مَا فِي الْقَلْبِ ثَبَاتُهُ، وَإِثْبَاتُ مَا
فِي الْقَلْبِ نَفْيُهُ، وَلَيْسَ بِمُرَادِفٍ لِلنَّفْيِ مِنْ كُل وَجْهٍ
(5) . (ر: إِنْكَارٌ) .
و الْبَيِّنَةُ:
10 - الْبَيِّنَةُ: هِيَ اسْمٌ لِكُل مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ
__________
(1) انظر نهاية المحتاج 3 / 131، أسنى المطالب 1 / 356، شرح منتهى الإرادات
1 / 368.
(2) انظر مادة: 158، 159 من مجلة الأحكام العدلية.
(3) الفروق للقرافي: 23.
(4) الأموال لابن زنجويه 3 / 957.
(5) الكليات لأبي البقاء 2 / 178.
(28/215)
وَيُظْهِرُهُ. فَكُل مَا يَقَعُ الْبَيَانُ
بِهِ، وَيَرْتَفِعُ الإِْشْكَال بِوُجُودِهِ فَهُوَ بَيِّنَةٌ (1) . (ر:
شَهَادَةٌ وَإِثْبَاتٌ) .
ز - الْغَصْبُ:
11 - الْغَصْبُ هُوَ الاِسْتِيلاَءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ عُدْوَانًا (2)
. (ر: غَصْبٌ) .
حُكْمُ الْمَال الضِّمَارِ:
12 - لَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْمَال الضِّمَارِ مِنْ
حَيْثُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِ إِذَا وَصَل إِلَى يَدِ مَالِكِهِ بَعْدَ
إِيَاسِهِ مِنَ الْحُصُول عَلَيْهِ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل:
13 - ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ - فِي الْجَدِيدِ - وَأَحْمَدُ - فِي رِوَايَةٍ
عَنْهُ - وَالثَّوْرِيُّ وَزُفَرُ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ
سَلاَمٍ - وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - إِلَى أَنَّهُ لاَ
زَكَاةَ فِيهِ وَهُوَ ضِمَارٌ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ
لِلسِّنِينَ الْمَاضِيَةِ إِذَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ يَدُهُ (3) .
__________
(1) معين الحكام ص 68، الطرق الحكمية لابن القيم ص 14، تبصرة الحكام لابن
فرحون 1 / 202، (بهامش فتاوى عليش) .
(2) الموسوعة جـ 24 / مصطلح (سرقة ف 5) .
(3) شرح منتهى الإرادات 1 / 365، والمغني 3 / 48 (ط. مكتبة الرياض الحديثة)
، البناية على الهداية 3 / 24، المهذب 1 / 149، روضة الطالبين 2 / 192،
194، الأم 2 / 51 (ط. محمد زهري النجار) المجموع للنووي 5 / 341 (ط.
التضامن الأخوي) ، بدائع الصنائع 2 / 9.
(28/216)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ:
(أَوَّلاً) بِقَوْل الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حَيْثُ رَوَى
أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِهِ (الأَْمْوَال) بِسَنَدِهِ عَنْ عَلِيٍّ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الدَّيْنِ الْمَظْنُونِ أَنَّهُ قَال: إِنْ
كَانَ صَادِقًا فَلْيُزَكِّهِ إِذَا قَبَضَهُ لِمَا مَضَى (1) ، وَرُوِيَ -
أَيْضًا - بِسَنَدِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
أَنَّهُ قَال: إِذَا لَمْ تَرْجُ أَخْذَهُ فَلاَ تُزَكِّهِ حَتَّى
تَأْخُذَهُ، فَإِذَا أَخَذْتَهُ فَزَكِّ عَنْهُ مَا عَلَيْهِ (2) .
(ثَانِيًا) بِأَنَّ السَّبَبَ - وَهُوَ الْمِلْكُ - قَدْ تَحَقَّقَ. .
وَفَوَاتُ الْيَدِ غَيْرُ مُخِلٍّ بِالْوُجُوبِ كَمَال ابْنِ السَّبِيل،
قَال الْكَاسَانِيُّ. لأَِنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ
دُونَ الْيَدِ، بِدَلِيل: ابْنِ السَّبِيل، فَإِنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ
فِي مَالِهِ وَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ فَائِتَةً، لِقِيَامِ مِلْكِهِ. .
فَثَبَتَ أَنَّ الزَّكَاةَ وَظِيفَةُ الْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ مَوْجُودٌ،
فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُخَاطَبُ بِالأَْدَاءِ
لِلْحَال، لِعَجْزِهِ عَنِ الأَْدَاءِ لِبُعْدِ يَدِهِ عَنْهُ، وَهَذَا لاَ
يَنْفِي الْوُجُوبَ كَمَا فِي: ابْنِ السَّبِيل (3) .
وَقَال أَبُو عُبَيْدٍ: وَذَلِكَ لأَِنَّ هَذَا الْمَال - وَإِنْ كَانَ
صَاحِبُهُ غَيْرَ رَاجٍ لَهُ وَلاَ طَامِعٍ فِيهِ - فَإِنَّهُ مَالُهُ
__________
(1) الأموال لأبي عبيد ص 589 (ط. مكتبة الكليات الأزهرية 1388 هـ) .
(2) الأموال لأبي عبيد ص 590.
(3) البدائع 2 / 9.
(28/216)
وَمِلْكُ يَمِينِهِ، فَمَتَى ثَبَّتَهُ
عَلَى غَرِيمِهِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ يَسُرَ بَعْدَ إِعْدَامٍ، كَانَ
حَقُّهُ جَدِيدًا عَلَيْهِ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا
فَهُوَ لَهُ فِي الآْخِرَةِ، وَكَذَلِكَ إِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الضَّيَاعِ
كَانَ لَهُ دُونَ النَّاسِ، فَلاَ أَرَى مِلْكَهُ زَال عَنْهُ عَلَى حَالٍ،
وَلَوْ كَانَ زَال عَنْهُ لَمْ يَكُنْ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ عِنْدَ
الْوِجْدَانِ، فَكَيْفَ يَسْقُطُ حَقُّ اللَّهِ عَنْهُ فِي هَذَا الْمَال،
وَمِلْكُهُ لَمْ يَزُل عَنْهُ؟ ، أَمْ كَيْفَ يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ إِنْ
كَانَ غَيْرَ مَالِكٍ لَهُ (1) ؟ .
الْقَوْل الثَّانِي:
14 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ،
وَأَحْمَدُ - فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ - وَالشَّافِعِيُّ - فِي الْقَدِيمِ -
وَاللَّيْثُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقُ، وَقَتَادَةُ: إِلَى أَنَّهُ لاَ
تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمَال الضِّمَارِ، وَيَسْتَقْبِل مَالِكُهُ
حَوْلاً مُسْتَأْنَفًا مِنْ يَوْمِ قَبْضِهِ (2) ، وَنَقَلَهُ ابْنُ
حَبِيبٍ عَنْ الإِْمَامِ مَالِكٍ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ:
(أَوَّلاً) بِقَوْل الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ
__________
(1) الأموال لأبي عبيد ص 594، وانظر الأموال لابن زنجويه 3 / 962.
(2) البحر الرائق 2 / 222، مجمع الأنهر 194، الفتاوى الهندية 1 / 174،
بدائع الصنائع 2 / 9، شرح الوقاية لصدر الشريعة 1 / 98، الهداية مع فتح
القدير والعناية والكفاية 2 / 121، المغني لابن قدامة 2 / 46، 48، المهذب 1
/ 149، المجموع للنووي 5 / 341، الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1 / 166.
(3) الزرقاني على الموطأ 2 / 106، المقدمات الممهدات ص 229.
(28/217)
عَنْهُمْ، حَيْثُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: لاَ زَكَاةَ فِي مَال الضِّمَارِ (1)
.
(ثَانِيًا) بِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْمَال:
الْمِلْكَ التَّامَّ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَحَقَّقٍ فِيهِ، إِذْ هُوَ
مَمْلُوكٌ رَقَبَةً لاَ يَدًا، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ يَدِهِ، وَتَصَرُّفِهِ
فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ زَكَاتُهُ، كَالْمَال الَّذِي فِي يَدِ مُكَاتَبِهِ
(2) .
(ثَالِثًا) وَبِأَنَّ الْمَال الضِّمَارَ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فِي حَقِّ
الْمَالِكِ، لِعَدَمِ وُصُول يَدِهِ إِلَيْهِ، وَالْمَال إِذَا لَمْ يَكُنْ
مَقْدُورَ الاِنْتِفَاعِ بِهِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ لاَ يَكُونُ الْمَالِكُ
بِهِ غَنِيًّا، وَلاَ زَكَاةَ عَلَى غَيْرِ الْغَنِيِّ لِلْحَدِيثِ (3) .
(رَابِعًا) وَلأَِنَّ السَّبَبَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ هُوَ الْمَال
النَّامِي، وَلاَ نَمَاءَ إِلاَّ بِالْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ، وَلاَ
قُدْرَةَ عَلَيْهِ فِي الضِّمَارِ، فَلاَ زَكَاةَ، قَال الْعَيْنِيُّ:
وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّمَاءَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَقَدْ يَكُونُ
النَّمَاءُ تَحْقِيقًا كَمَا فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ، أَوْ تَقْدِيرًا
كَمَا فِي النَّقْدَيْنِ، وَالْمَال الَّذِي لاَ يُرْجَى عَوْدُهُ لاَ
يُتَصَوَّرُ تَحَقُّقُ الاِسْتِنْمَاءِ فِيهِ، فَلاَ يُقَدَّرُ
الاِسْتِنْمَاءُ - أَيْضًا (4) -
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في (الدراية) (1 / 249) لم أجده عن علي ا. هـ. وقال
العيني في البناية (3 / 26) : وقال الزيلعي: هذا غريب. قلت: أراد أنه لم
يثبت مطلقا.
(2) انظر المهذب للشيرازي 1 / 149.
(3) بدائع الصنائع 2 / 9.
(4) البناية على الهداية 3 / 26.
(28/217)
(خَامِسًا) وَلأَِنَّ السَّبَبَ هُوَ
الْمَال النَّامِي تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا بِالاِتِّفَاقِ،
لِلاِتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ مِنَ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ مَا
تُسَاوِي آلاَفًا مِنَ الدَّنَانِيرِ وَلَمْ يَنْوِ فِيهَا التِّجَارَةَ،
لاَ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ. وَوِلاَيَةُ إِثْبَاتِ حَقِيقَةِ
التِّجَارَةِ بِالْيَدِ، فَإِذَا فَاتَتِ انْتَفَى تَصَوُّرُ
الاِسْتِنْمَاءِ تَحْقِيقًا، فَانْتَفَى تَقْدِيرًا، لأَِنَّ الشَّيْءَ
إِنَّمَا يُقَدَّرُ تَقْدِيرًا إِذَا تُصُوِّرَ تَحْقِيقًا، وَعَلَى هَذَا
انْتَفَى فِي النَّقْدَيْنِ - أَيْضًا - لاِنْتِفَاءِ نَمَائِهِمَا
التَّقْدِيرِيِّ بِانْتِفَاءِ تَصَوُّرِ التَّحْقِيقِيِّ بِانْتِفَاءِ
الْيَدِ، فَصَارَ بِانْتِفَائِهِمَا كَالتَّاوِي، فَلِذَلِكَ لَمْ تَجِبْ
صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنِ الآْبِقِ، وَإِنَّمَا جَازَ عِتْقُهُ عَنِ
الْكَفَّارَةِ، لأَِنَّ الْكَفَّارَةَ تَعْتَمِدُ مُجَرَّدَ الْمِلْكِ،
وَبِالإِْبَاقِ وَالْكِتَابَةِ لاَ يُنْتَقَصُ الْمِلْكُ أَصْلاً،
بِخِلاَفِ مَال ابْنِ السَّبِيل لِثُبُوتِ التَّقْدِيرِيِّ فِيهِ،
لإِِمْكَانِ التَّحْقِيقِيِّ إِذَا وَجَدَ نَائِبًا (1) .
الْقَوْل الثَّالِثُ:
15 - ذَهَبَ مَالِكٌ - فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ - وَالأَْوْزَاعِيُّ
وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّ عَلَى مَالِكِهِ أَنْ يُزَكِّيَهُ
لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ إِذَا قَبَضَهُ (2) .
__________
(1) فتح القدير (الميمينة 1319 هـ) 2 / 123.
(2) الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1 / 166، منح الجليل 1 / 356، شرح الزرقاني
على خليل 2 / 158، المقدمات الممهدات لابن رشد ص 229، المنتقى للباجي 2 /
113، القوانين الفقهية ص 110 (ط. الدار العربية للكتاب) شرح الموطأ
للزرقاني 2 / 106، المغني 3 / 47، الأموال لأبي عبيد ص 590، الأموال لابن
زنجويه 3 / 956، المصنف لابن أبي شيبة 3 / 202.
(28/218)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ:
(أَوَّلاً) بِمَا رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَأَبُو عُبَيْدٍ فِي
الأَْمْوَال، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ
عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ فِي مَالٍ قَبَضَهُ بَعْضُ الْوُلاَةِ ظُلْمًا،
يَأْمُرُهُ بِرَدِّهِ إِلَى أَهْلِهِ، وَتُؤْخَذُ زَكَاتُهُ لِمَا مَضَى
مِنَ السِّنِينَ، ثُمَّ عَقَّبَ بَعْدَ ذَلِكَ بِكِتَابٍ أَنْ لاَ يُؤْخَذَ
مِنْهُ إِلاَّ زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنَّهُ كَانَ ضِمَارًا (1) .
قَال الْبَاجِيُّ: قَوْلُهُ أَوَّلاً أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ الزَّكَاةُ
لِمَا مَضَى مِنَ السِّنِينَ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي مِلْكِهِ، وَلَمْ
يَزُل عَنْهُ، كَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً عِنْدَهُ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ
مِنْهُ لِسَائِرِ الأَْعْوَامِ، ثُمَّ نَظَرَ بَعْدَ ذَلِكَ: فَرَأَى أَنَّ
الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الْعَيْنِ، بِأَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ تَنْمِيَتِهِ،
وَلاَ يَكُونُ فِي يَدِ غَيْرِهِ، وَهَذَا مَالٌ قَدْ زَال عَنْ يَدِهِ
إِلَى يَدِ غَيْرِهِ، وَمَنَعَ هَذَا عَنْ تَنْمِيَتِهِ، فَلَمْ تَجِبْ
عَلَيْهِ غَيْرُ زَكَاةٍ وَاحِدَةٍ (2) .
(ثَانِيًا) قَال الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَدَلِيلُنَا عَلَى أَنَّ
عَلَيْهِ زَكَاةَ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ: أَنَّهُ حَصَل فِي يَدِهِ فِي طَرَفِ
الْحَوْل عَيْنُ نِصَابٍ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَلاَ يُرَاعَى
تَضَاعِيفُ الْحَوْل،
__________
(1) انظر الموطأ مع المنتقى 2 / 113، مصنف ابن أبي شيبة 3 / 202، الأموال
لأبي عبيد ص 590، الأموال لابن زنجويه 3 / 957.
(2) المنتقى للباجي 2 / 113.
(28/218)
بِدَلِيل أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ فِي
أَوَّل الْحَوْل نِصَابٌ، فَاشْتَرَى بِهِ سِلْعَةً ثُمَّ بَاعَهَا فِي
آخِرِ الْحَوْل بِنِصَابٍ لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ، لِكَوْنِهَا عَيْنَا
طَرَفَيِ الْحَوْل مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةٍ لِوَسَطِهِ (1) .
صِيَامٌ
انْظُرْ: صَوْمٌ
ضَمَانَةٌ
انْظُرْ: كَفَالَةٌ
__________
(1) الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب 1 / 166.
(28/219)
ضَمَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - يُطْلَقُ الضَّمَانُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ:
أ - مِنْهَا الاِلْتِزَامُ، تَقُول: ضَمِنْتُ الْمَال، إِذَا
الْتَزَمْتَهُ، وَيَتَعَدَّى بِالتَّضْعِيفِ، فَتَقُول: ضَمَّنْتُهُ
الْمَال، إِذَا أَلْزَمْتَهُ إِيَّاهُ.
ب - وَمِنْهَا: الْكَفَالَةُ، تَقُول: ضَمَّنْتُهُ الشَّيْءَ ضَمَانًا،
فَهُوَ ضَامِنٌ وَضَمِينٌ، إِذَا كَفَلَهُ.
ج - وَمِنْهَا التَّغْرِيمُ، تَقُول: ضَمَّنْتُهُ الشَّيْءَ تَضْمِينًا،
إِذَا غَرَّمْتَهُ، فَالْتَزَمَهُ (1)
أَمَّا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ فَيُطْلَقُ عَلَى الْمَعَانِي
التَّالِيَةِ:
أ - يُطْلَقُ عَلَى كَفَالَةِ النَّفْسِ وَكَفَالَةِ الْمَال عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَنْوَنُوا
لِلْكَفَالَةِ بِالضَّمَانِ.
ب - وَيُطْلَقُ عَلَى غَرَامَةِ الْمُتْلَفَاتِ وَالْغُصُوبِ
وَالتَّعْيِيبَاتِ وَالتَّغْيِيرَاتِ الطَّارِئَةِ.
ج - كَمَا يُطْلَقُ عَلَى ضَمَانِ الْمَال، وَالْتِزَامِهِ بِعَقْدٍ
وَبِغَيْرِ عَقْدٍ.
__________
(1) المصباح المنير للفيومي، والقاموس المحيط للفيروزآبادي مادة: (ضمن) .
(28/219)
د - كَمَا يُطْلَقُ عَلَى وَضْعِ الْيَدِ
عَلَى الْمَال، بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ بِحَقٍّ عَلَى الْعُمُومِ.
هـ - كَمَا يُطْلَقُ عَلَى مَا يَجِبُ بِإِلْزَامِ الشَّارِعِ، بِسَبَبِ
الاِعْتِدَاءَاتِ: كَالدِّيَاتِ ضَمَانًا لِلأَْنْفُسِ، وَالأُْرُوشِ
ضَمَانًا لِمَا دُونَهَا، وَكَضَمَانِ قِيمَةِ صَيْدِ الْحَرَمِ،
وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَكَفَّارَةِ
الإِْفْطَارِ عَمْدًا فِي رَمَضَانَ.
وَقَدْ وُضِعَتْ لَهُ تَعَارِيفُ شَتَّى، تَتَنَاوَل هَذِهِ
الإِْطْلاَقَاتِ فِي الْجُمْلَةِ، أَوْ تَتَنَاوَل بَعْضَهَا، مِنْهَا:
أ - أَنَّهُ (عِبَارَةٌ عَنْ رَدِّ مِثْل الْهَالِكِ، إِنْ كَانَ
مِثْلِيًّا، أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيمِيًّا) (1) .
ب - وَأَنَّهُ (عِبَارَةٌ عَنْ غَرَامَةِ التَّالِفِ) (2) .
ج - وَبِالْمَعْنَى الشَّامِل لِلْكَفَالَةِ - كَمَا يَقُول
الْقَلْيُوبِيُّ -: إِنَّهُ الْتِزَامُ دَيْنٍ أَوْ إِحْضَارُ عَيْنٍ أَوْ
بَدَنٍ (3) .
د - وَفِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ أَنَّهُ إِعْطَاءُ مِثْل
الشَّيْءِ إِنْ كَانَ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ وَقِيمَتِهِ إِنْ كَانَ مِنَ
الْقِيمِيَّاتِ (4) .
__________
(1) غمز عيون البصائر للحموي شرح الأشباه والنظائر، لابن نجيم الحنفي 4 / 6
ط. دار الكتب العلمية في بيروت.
(2) نيل الأوطار للشوكاني، شرح منتقى الأخبار، لابن تيمية الجد 5 / 299.
(3) حاشية القليوبي على شرح المحلي على المنهاج 2 / 323.
(4) المادة: 416.
(28/220)
هـ - وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: (شَغْل
ذِمَّةٍ أُخْرَى بِالْحَقِّ) (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِلْتِزَامُ:
2 - الاِلْتِزَامُ فِي اللُّغَةِ. الثُّبُوتُ وَالدَّوَامُ، وَفِي
الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: إِلْزَامُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ مَا لَمْ يَكُنْ
لاَزِمًا لَهَا (2) .
ب - الْعَقْدُ:
3 - الْعَقْدُ: ارْتِبَاطُ أَجْزَاءِ التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ،
بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول (3) ، وَفِي الْمَجَلَّةِ (4) : ارْتِبَاطُ
الإِْيجَابِ بِالْقَبُول عَلَى وَجْهٍ مَشْرُوعٍ يَثْبُتُ أَثَرُهُ فِي
مَحَلِّهِ، فَإِذَا قُلْتَ: زَوَّجْتُ، وَقَال: قَبِلْتُ، وُجِدَ مَعْنًى
شَرْعِيٌّ، وَهُوَ النِّكَاحُ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ،
وَهُوَ: مِلْكُ الْمُتْعَةِ.
ج - الْعُهْدَةُ:
4 - الْعُهْدَةُ فِي اللُّغَةِ: وَثِيقَةُ الْمُتَبَايِعَيْنِ، لأَِنَّهُ
__________
(1) جواهر الإكليل للآبي، شرح مختصر سيدي خليل 2 / 109 ط: دار المعرفة في
بيروت.
(2) غمز عيون البصائر على محاسن الأشباه والنظائر للحموي 2 / 611 ط:
الآستانة سنة 1290 هـ، والتعريفات للجرجاني.
(3) درر الحكام في شرح غرر الأحكام لملا خسرو 1 / 326 ط: الآستانة - 1329 -
1330 هـ. أول كتاب النكاح، والتعريفات للجرجاني.
(4) المادة: 103 و 104.
(28/220)
يُرْجَعُ إِلَيْهَا عِنْدَ الاِلْتِبَاسِ
(1) . وَهِيَ كِتَابُ الشِّرَاءِ، أَوْ هِيَ الدَّرَكُ (2) أَيْ ضَمَانُ
الثَّمَنِ لِلْمُشْتَرِي إِنِ اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ أَوْ وُجِدَ فِيهِ
عَيْبٌ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ تُطْلَقُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ عَلَى
هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ: الْوَثِيقَةِ وَالدَّرَكِ (3) .
وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا: تَعَلُّقُ ضَمَانِ الْمَبِيعِ
بِالْبَائِعِ أَيْ كَوْنُ الْمَبِيعِ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ بَعْدَ
الْعَقْدِ، مِمَّا يُصِيبُهُ فِي مُدَّةٍ خَاصَّةٍ (4) .
وَالضَّمَانُ أَعَمُّ، وَالْعُهْدَةُ أَخَصُّ.
د - التَّصَرُّفُ:
5 - التَّصَرُّفُ هُوَ التَّقْلِيبُ، تَقُول: صَرَّفْتُهُ فِي الأَْمْرِ
تَصْرِيفًا فَتَصَرَّفَ، أَيْ قَلَّبْتُهُ فَتَقَلَّبَ (5) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ مَا
يَصْدُرُ مِنَ الشَّخْصِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَيُرَتِّبُ عَلَيْهِ
الشَّارِعُ حُكْمًا، كَالْعَقْدِ وَالطَّلاَقِ وَالإِْبْرَاءِ
وَالإِْتْلاَفِ.
__________
(1) المصباح المنير. مادة (عهد) .
(2) مختار الصحاح. مادة (عهد) وانظر حاشية القليوبي على شرح المحلي على
المنهاج 2 / 325.
(3) رد المحتار 4 / 281 وانظر شرح المحلي على المنهاج 2 / 325، والإقناع في
حل ألفاظ أبي شجاع للشربيني الخطيب وحاشية البيجيرمي عليه 2 / 101.
(4) شرح كفاية الطالب لرسالة ابن أبي زيد القيرواني وحاشية العدوي عليها 2
/ 160.
(5) القاموس المحيط، مادة: (صرف) .
(28/221)
(ر: تَصَرُّفٌ ف 1) وَهُوَ بِهَذَا
الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنَ الضَّمَانِ.
مَشْرُوعِيَّةُ الضَّمَانِ:
6 - شُرِعَ الضَّمَانُ، حِفْظًا لِلْحُقُوقِ، وَرِعَايَةً لِلْعُهُودِ،
وَجَبْرًا لِلأَْضْرَارِ، وَزَجْرًا لِلْجُنَاةِ، وَحَدًّا لِلاِعْتِدَاءِ،
فِي نُصُوصٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَالسُّنَّةِ
النَّبَوِيَّةِ، وَذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - فِيمَا يَتَّصِل بِمَعْنَى الْكَفَالَةِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْل بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (1) أَيْ
كَفِيلٌ ضَامِنٌ، فَقَدْ ضَمِنَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَنْ جَاءَ
بِصُوَاعِ الْمَلِكِ - وَهُوَ إِنَاؤُهُ الَّذِي كَانَ يَشْرَبُ بِهِ -
قَدْرَ مَا يَحْمِلُهُ الْبَعِيرُ مِنَ الطَّعَامِ.
ب - وَفِيمَا يَتَّصِل بِالإِْتْلاَفَاتِ الْمَالِيَّةِ وَنَحْوِهَا،
بِحَدِيثِ: أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: أَهْدَتْ بَعْضُ
أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا فِي قَصْعَةٍ، فَضَرَبَتْ
عَائِشَةُ الْقَصْعَةَ بِيَدِهَا فَأَلْقَتْ مَا فِيهَا، فَقَال النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طَعَامٌ بِطَعَامٍ، وَإِنَاءٌ
بِإِنَاءٍ (2) .
ج - وَفِيمَا يَتَّصِل بِضَمَانِ وَضْعِ الْيَدِ: حَدِيثُ سَمُرَةَ بْنِ
جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
__________
(1) سورة يوسف: 72.
(2) حديث أنس: " أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم طعاما في قصعة. .
. . " أخرجه الترمذي (3 / 631) وأصله في البخاري (5 / 124) .
(28/221)
قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ (1) أَيْ
ضَمَانَهُ.
د - وَفِيمَا يَتَّصِل بِالْجِنَايَاتِ - بِوَجْهٍ عَامٍّ وَنَحْوِهَا
قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْل مَا عُوقِبْتُمْ
بِهِ} (2) .
هـ - وَفِيمَا يَتَّصِل بِجِنَايَاتِ الْبَهَائِمِ: حَدِيثُ الْبَرَاءِ
بْنِ عَازِبٍ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ ضَارِيَةٌ فَدَخَلَتْ حَائِطًا
فَأَفْسَدَتْ فِيهِ، فَقَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّ حِفْظَ الْحَوَائِطِ بِالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهَا،
وَأَنَّ حِفْظَ الْمَاشِيَةِ بِاللَّيْل عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ مَا
أَصَابَتِ الْمَاشِيَةُ بِاللَّيْل فَهُوَ عَلَى أَهْلِهَا (3) .
وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَوْقَفَ دَابَّةً فِي سَبِيلٍ مِنْ
سُبُل الْمُسْلِمِينَ، أَوْ فِي سُوقٍ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ، فَأَوْطَأَتْ
بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ فَهُوَ ضَامِنٌ (4) .
وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الدِّمَاءَ وَالأَْمْوَال
__________
(1) حديث سمرة بن جندب: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي ". أخرجه الترمذي (3 /
557) وأشار ابن حجر في التلخيص (3 / 53) إلى إعلاله.
(2) سورة النحل / 126.
(3) حديث البراء بن عازب " أنه كانت له ناقة ضارية. . . ". أخرجه أحمد (4 /
295) والحاكم (2 / 48) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) حديث النعمان: " من أوقف دابة في سبيل من سبل المسلمين. . . " أخرجه
الدارقطني (3 / 179) والبيهقي (8 / 344) وضعف البيهقي رجلين في إسناده.
(28/222)
مَصُونَةٌ فِي الشَّرْعِ، وَأَنَّ الأَْصْل
فِيهَا الْحَظْرُ، وَأَنَّهُ لاَ يَحِل دَمُ الْمُسْلِمِ وَلاَ يَحِل
مَالُهُ إِلاَّ بِحَقٍّ.
مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الضَّمَانُ:
7 - لاَ يَتَحَقَّقُ الضَّمَانُ إِلاَّ إِذَا تَحَقَّقَتْ هَذِهِ
الأُْمُورُ: التَّعَدِّي، وَالضَّرَرُ، وَالإِْفْضَاءُ.
أَوَّلاً: التَّعَدِّي:
8 - التَّعَدِّي فِي اللُّغَةِ، التَّجَاوُزُ. وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ:
مُجَاوَزَةُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَصَرَ عَلَيْهِ شَرْعًا أَوْ عُرْفًا
أَوْ عَادَةً (1) . وَضَابِطُ التَّعَدِّي هُوَ: مُخَالَفَةُ مَا حَدَّهُ
الشَّرْعُ أَوْ الْعُرْفُ.
وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ (أَنَّ كُل مَا
وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ مُطْلَقًا، وَلاَ ضَابِطَ لَهُ فِيهِ، وَلاَ فِي
اللُّغَةِ، يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ) (2) .
وَذَلِكَ مِثْل: الْحِرْزِ فِي السَّرِقَةِ، وَالإِْحْيَاءِ فِي
الْمَوَاتِ، وَالاِسْتِيلاَءِ فِي الْغَصْبِ، وَكَذَلِكَ التَّعَدِّي فِي
الضَّمَانِ، فَإِذَا كَانَ التَّعَدِّي مُجَاوَزَةَ مَا يَنْبَغِي أَنْ
يَقْتَصِرَ عَلَيْهِ، رَجَعَ فِي ضَابِطِهِ
__________
(1) تفسير الرازي: (مفاتيح الغيب) 2 / 121 ط: الآستانة، دار الطباعة
العامرة: 1307 و 1308 هـ، وتفسير الآلوسي 2 / 510 ط: المطبعة المنيرية في
القاهرة.
(2) الأشباه والنظائر، للسيوطي ص 98 ط: دار الكتب العلمية في بيروت.
(28/222)
إِلَى عُرْفِ النَّاسِ فِيمَا يَعُدُّونَهُ
مُجَاوَزَةً وَتَعَدِّيًا، سَوَاءٌ أَكَانَ عُرْفًا عَامًّا أَمْ خَاصًّا.
وَيَشْمَل التَّعَدِّي: الْمُجَاوَزَةَ وَالتَّقْصِيرَ، وَالإِْهْمَال،
وَقِلَّةَ الاِحْتِرَازِ، كَمَا يَشْتَمِل الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ (1) .
ثَانِيًا: الضَّرَرُ:
9 - الضَّرَرُ فِي اللُّغَةِ: نَقْصٌ يَدْخُل عَلَى الأَْعْيَانِ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: إِلْحَاقُ مَفْسَدَةٍ بِالْغَيْرِ (3) ، وَهَذَا
يَشْمَل الإِْتْلاَفَ وَالإِْفْسَادَ وَغَيْرَهُمَا.
وَالضَّرَرُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْل، كَرُجُوعِ الشَّاهِدَيْنِ عَنْ
شَهَادَتِهِمَا، بَعْدَ الْقَضَاءِ وَقَبْضِ الْمُدَّعِي الْمَال، فَلاَ
يُفْسَخُ الْحُكْمُ، وَيَضْمَنَانِ مَا أَتْلَفَاهُ عَلَى الْمَشْهُودِ
عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ دَيْنًا أَمْ عَيْنًا (4) .
وَقَدْ يَنْشَأُ الضَّرَرُ عَنِ الْفِعْل كَتَمْزِيقِ الثِّيَابِ، وَقَطْعِ
الأَْشْجَارِ، وَحَرْقِ الْحَصَائِدِ.
__________
(1) راجع فروعا كثيرة في هذا: جامع الفصولين 2 / 122 وما بعدها، ومجمع
الضمانات للبغدادي ص 40 وما بعدها ط. الأولى، بالمطبعة الخيرية في مصر:
1308 هـ، وتكملة فتح القدير 9 / 245 ط: دار إحياء التراث العربي.
(2) المصباح المنير، مادة: ضرر.
(3) فتح المبين لشرح الأربعين (النووية) لابن حجر الهيثمي (211) ط: العامرة
الشرقية في القاهرة: 1322 هـ.
(4) تبيين الحقائق 4 / 244.
(28/223)
وَالضَّرَرُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْل
وَالْفِعْل كَمَا سَبَقَ، وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّرْكِ، وَمِثَالُهُ:
امْرَأَةٌ تُصْرَعُ أَحْيَانًا فَتَحْتَاجُ إِلَى حِفْظِهَا، فَإِنْ لَمْ
يَحْفَظْهَا الزَّوْجُ حَتَّى أَلْقَتْ نَفْسَهَا فِي النَّارِ عِنْدَ
الصَّرْعِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا (1) .
وَدَابَّةٌ غُصِبَتْ فَتَبِعَهَا وَلَدُهَا، فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ
يَضْمَنُهُ الْغَاصِبُ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ فِيهِ فِعْلاً (2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (ضَرَر) .
ثَالِثًا: الإِْفْضَاءُ:
10 - مِنْ مَعَانِي الإِْفْضَاءِ فِي اللُّغَةِ: الْوُصُول يُقَال:
أَفْضَيْتُ إِلَى الشَّيْءِ: وَصَلْتُ إِلَيْهِ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَيُشْتَرَطُ لاِعْتِبَارِ الإِْفْضَاءِ فِي الضَّمَانِ مَا يَلِي:
أَنْ لاَ يُوجَدَ لِلضَّرَرِ أَوِ الإِْتْلاَفِ سَبَبٌ آخَرُ غَيْرُهُ،
سَوَاءٌ أَكَانَ هُوَ مُبَاشَرَةً أَمْ تَسْبِيبًا.
وَأَنْ لاَ يَتَخَلَّل بَيْنَ السَّبَبِ وَبَيْنَ الضَّرَرِ،
__________
(1) حاشية الرملي على جامع الفصولين 2 / 81 نقلا عن نوازل أبي الليث.
(2) الدر المختار ورد المحتار 5 / 127، 113.
(3) المصباح المنير.
(28/223)
فِعْل فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَإِلاَّ أُضِيفَ
الضَّمَانُ إِلَيْهِ، لاَ إِلَى السَّبَبِ، وَذَلِكَ لِمُبَاشَرَتِهِ (1) .
تَعَدُّدُ مُحْدِثِي الضَّرَرِ:
إِذَا اعْتَدَى جَمْعٌ مِنَ الأَْشْخَاصِ، وَأَحْدَثُوا ضَرَرًا: فَإِمَّا
أَنْ يَكُونَ اعْتِدَاؤُهُمْ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، بِأَنْ يَكُونُوا
جَمِيعًا مُتَسَبِّبِينَ أَوْ مُبَاشِرِينَ، وَإِمَّا أَنْ يَخْتَلِفَ
بِأَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ مُبَاشِرًا، وَالآْخَرُ مُتَسَبِّبًا،
فَهَاتَانِ حَالاَنِ:
الْحَال الأُْولَى:
11 - أَنْ يَكُونُوا جَمِيعًا مُبَاشِرِينَ أَوْ مُتَسَبِّبِينَ: فَإِمَّا
أَنْ يَتَّحِدَ عَمَلُهُمْ فِي النَّوْعِ، أَوْ يَخْتَلِفَ.
أ - فَفِي الصُّورَةِ الأُْولَى، أَيْ إِذَا كَانُوا جَمِيعًا مُبَاشِرِينَ
أَوْ مُتَسَبِّبِينَ وَاتَّحَدَ عَمَلُهُمْ نَوْعًا، كَانَ الضَّمَانُ
عَلَيْهِمْ بِالسَّوِيَّةِ، كَمَا لَوْ تَعَمَّدَ جَمَاعَةٌ إِطْلاَقَ
النَّارِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ تُعْلَمْ إِصَابَةُ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ، يُقْتَصُّ مِنْهُمْ جَمِيعًا، وَهَذَا مَحْمَل قَوْل سَيِّدِنَا
عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَوِ اشْتَرَكَ فِي قَتْلِهِ
أَهْل صَنْعَاءَ، لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا (2) .
ب - وَإِذَا كَانُوا جَمِيعًا مُبَاشِرِينَ أَوْ مُتَسَبِّبِينَ،
وَاتَّحَدَ عَمَلُهُمْ نَوْعًا، لَكِنِ اخْتَلَفَ عَمَلُهُمْ قُوَّةً
وَضَعْفًا، كَمَا لَوْ حَفَرَ شَخْصٌ حُفْرَةً فِي
__________
(1) مجمع الضمانات (146) .
(2) الدر المختار ورد المحتار 5 / 357.
(28/224)
الطَّرِيقِ، وَجَاءَ آخَرُ فَوَسَّعَ
رَأْسَهَا، أَوْ حَفَرَ الأَْوَّل حُفْرَةً وَعَمَّقَ الآْخَرُ
أَسْفَلَهَا، فَتَرَدَّى فِي الْحُفْرَةِ حَيَوَانٌ أَوْ إِنْسَانٌ،
فَالْقِيَاسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الاِعْتِدَادُ بِالسَّبَبِ
الْقَوِيِّ، لأَِنَّهُ كَالْعِلَّةِ، عِنْدَ اجْتِمَاعِهَا مَعَ السَّبَبِ،
وَهَذَا رَأْيُ الإِْمَامِ مُحَمَّدٍ مِنْهُمْ.
وَالاِسْتِحْسَانُ عِنْدَهُمْ، هُوَ الاِعْتِدَادُ بِالأَْسْبَابِ الَّتِي
أَدَّتْ إِلَى الضَّرَرِ جَمِيعًا، قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، وَتَوْزِيعُ
الضَّمَانِ عَلَيْهَا بِحَسَبِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، فَيَجِبُ
الضَّمَانُ أَثْلاَثًا، وَهُوَ رَأْيُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (1)
وَآخَرِينَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَإِنْ لَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ
الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَاعْتَبَرُوا الاِشْتِرَاكَ (2) وَرُبَّمَا
رَجَّحَ بَعْضُهُمُ السَّبَبَ الأَْوَّل (3) . كَحَافِرِ الْحُفْرَةِ
وَنَاصِبِ السِّكِّينِ فِيهَا.
الْحَال الثَّانِيَةُ:
12 - أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَدُونَ مُخْتَلِفِينَ، بَعْضُهُمْ مُبَاشِرٌ،
وَبَعْضُهُمْ مُتَسَبِّبٌ:
وَالأَْصْل - عِنْدَئِذٍ - تَقْدِيمُ الْمُبَاشِرِ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ
فِي التَّضْمِينِ (4) وَذَلِكَ لِلْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ
__________
(1) تكملة البحر الرائق للطوري 8 / 397 ط: المطبعة العلمية في القاهرة 1311
هـ، ومجمع الضمانات ص 180.
(2) كشاف القناع 6 / 7.
(3) شرح المحلي على المنهاج 4 / 149.
(4) مجمع الضمانات (203) والأشباه والنظائر لابن نجيم (القاعدة: 19 ص 163)
وجواهر الإكليل 2 / 148، والأشباه والنظائر (القاعدة: 40 ص 162) ، والقواعد
لابن رجب الحنبلي (القاعدة: 127 صـ 285) والمغني 8 / 564، 565.
(28/224)
الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ جَمِيعِ
الْفُقَهَاءِ: (إِذَا اجْتَمَعَ الْمُبَاشِرُ وَالْمُتَسَبِّبُ، يُضَافُ
الْحُكْمُ إِلَى الْمُبَاشِرِ) .
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا يَلِي:
أ - لَوْ حَفَرَ شَخْصٌ حُفْرَةً فِي الطَّرِيقِ، فَأَلْقَى آخَرُ
نَفْسَهُ، أَوْ أَلْقَى غَيْرَهُ فِيهَا عَمْدًا، لاَ يَضْمَنُ الْحَافِرُ،
بَل الْمُلْقِي وَحْدَهُ، لأَِنَّهُ الْمُبَاشِرُ (1) .
ب - لَوْ دَل سَارِقًا عَلَى مَال إِنْسَانٍ، فَسَرَقَهُ، لاَ ضَمَانَ
عَلَى الدَّال (2) .
13 - وَيُسْتَثْنَى مِنْ قَاعِدَةِ تَقْدِيمِ الْمُبَاشَرَةِ عَلَى
التَّسْبِيبِ صُوَرٌ، يُقَدَّمُ فِيهَا السَّبَبُ عَلَى الْعِلَّةِ
الْمُبَاشِرَةِ، وَذَلِكَ إِذَا تَعَذَّرَتْ إِضَافَةُ الْحُكْمِ إِلَى
الْمُبَاشِرِ بِالْكُلِّيَّةِ (3) فَيُضَافُ الْحُكْمُ - وَهُوَ الضَّمَانُ
هُنَا - إِلَى الْمُتَسَبِّبِ وَحْدَهُ، كَمَا إِذَا دَفَعَ رَجُلٌ إِلَى
صَبِيٍّ سِكِّينًا لِيُمْسِكَهُ لَهُ، فَسَقَطَ مِنْ يَدِهِ، فَجَرَحَهُ،
ضَمِنَ الدَّافِعُ، لأَِنَّ
__________
(1) مجمع الضمانات ص 180 وجواهر الإكليل 2 / 148، والقواعد لابن رجب ص 285.
(2) مجمع الضمانات ص (203) والتاج والإكليل لمختصر خليل للمواق 5 / 278.
(3) كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري، شرح أصول فخر الإسلام البزدوي (4 /
1302 ط: الآستانة) .
(28/225)
السَّبَبَ هُنَا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ
(1) .
تَتَابُعُ الأَْضْرَارِ:
14 - إِذَا تَرَتَّبَتْ عَلَى السَّبَبِ الْوَاحِدِ أَضْرَارٌ
مُتَعَدِّدَةٌ، فَالْحُكْمُ أَنَّ الْمُتَعَدِّيَ الْمُتَسَبِّبَ يَضْمَنُ
جَمِيعَ الأَْضْرَارِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى تَسَبُّبِهِ، مَا دَامَ
أَثَرُ تَسَبُّبِهِ بَاقِيًا لَمْ يَنْقَطِعْ، فَإِنِ انْقَطَعَ
بِتَسَبُّبٍ آخَرَ لَمْ يَضْمَنْ.
فَمِنْ صُوَرِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
أ - سَقَطَ حَائِطُ إِنْسَانٍ عَلَى حَائِطِ إِنْسَانٍ آخَرَ، وَسَقَطَ
الْحَائِطُ الثَّانِي عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ: كَانَ ضَمَانُ الْحَائِطِ
الثَّانِيَ وَالْقَتِيل عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ الأَْوَّل (2) لأَِنَّ
تَسَبُّبَ حَائِطِهِ لَمْ يَنْقَطِعْ.
فَإِنْ عَثَرَ إِنْسَانٌ بِأَنْقَاضِ الْحَائِطِ الثَّانِي، فَانْكَسَرَ،
لَمْ يَضْمَنِ الأَْوَّل، لأَِنَّ التَّفْرِيغَ لَيْسَ عَلَيْهِ، وَلاَ
يَضْمَنُ صَاحِبُ الْحَائِطِ الثَّانِي إِلاَّ إِذَا عَلِمَ بِسُقُوطِ
حَائِطِهِ، وَلَمْ يَنْقُل تُرَابَهُ فِي مُدَّةٍ تَسَعُ النَّقْل.
ب - لَوْ أُشْهِدَ عَلَى حَائِطِهِ بِالْمَيْل، فَلَمْ يَنْقُضْهُ
صَاحِبُهُ حَتَّى سَقَطَ، فَقَتَل إِنْسَانًا، وَعَثَرَ
__________
(1) كشف الأسرار 4 / 1301، والتوضيح على التنقيح لصدر الشريعة، مع شرح
التلويح للتفتازاني 2 / 138 ط: دار الكتب العلمية في بيروت. والأشباه
والنظائر لابن نجيم ص 163 ط: دار الكتب العلمية في بيروت.
(2) مجمع الضمانات ص 185.
(28/225)
بِالأَْنْقَاضِ شَخْصٌ فَعَطِبَ، وَعَطِبَ
آخَرُ بِالْقَتِيل، كَانَ ضَمَانُ الْقَتِيل الأَْوَّل وَعَطَبُ الثَّانِي
عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ الأَْوَّل، لأَِنَّ الْحَائِطَ وَأَنْقَاضَهُ
مَطْلُوبَانِ مِنْهُ، أَمَّا التَّلَفُ الْحَاصِل بِالْقَتِيل الأَْوَّل،
فَلَيْسَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ نَقْلَهُ لَيْسَ مَطْلُوبًا مِنْهُ، بَل هُوَ
لأَِوْلِيَاءِ الْقَتِيل (1) .
إِثْبَاتُ السَّبَبِيَّةِ:
15 - الأَْصْل فِي الشَّرِيعَةِ، هُوَ أَنَّ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ الَّذِي
وَقَعَ عَلَيْهِ الضَّرَرُ، أَوْ وَلِيُّهُ إِنْ قُتِل، هُوَ الْمُكَلَّفُ
بِإِثْبَاتِ الضَّرَرِ، وَإِثْبَاتِ تَعَدِّي مَنْ أُلْحَقَ بِهِ
الضَّرَرُ، وَأَنَّ تَعَدِّيَهُ كَانَ هُوَ السَّبَبَ فِي الضَّرَرِ.
وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا
قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ
يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لاَدَّعَى رِجَالٌ أَمْوَال قَوْمٍ
وَدِمَاءَهُمْ، لَكِنِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى
مَنْ أَنْكَرَ (2) .
وَتَثْبُتُ السَّبَبِيَّةُ بِإِقْرَارِ الْمُعْتَدِي، كَمَا تَثْبُتُ
__________
(1) الدر المختار 5 / 386 ومجمع الضمانات ص 185 وتكملة البحر الرائق للطوري
8 / 404.
(2) حديث ابن عباس: " لو يعطى الناس بدعواهم. . . . ". أخرجه البخاري (8 /
213) ومسلم (3 / 1336) دون قوله: (لكن البينة على المدعي) إلخ، وفيها:
(اليمين على المدعى عليه) وأخرج البيهقي (10 / 252) من حديث ابن عباس
مرفوعا كذلك: " البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ".
(28/226)
بِالْبَيِّنَةِ إِذَا أَنْكَرَ وَتَثْبُتُ
بِالْقَرَائِنِ، وَبِيَمِينِ الْمُدَّعِي وَشَاهِدٍ - عَلَى الْجُمْلَةِ -
وَنَحْوِهَا مِنْ طُرُقِ الإِْثْبَاتِ (1) .
(ر: إِثْبَات) .
شُرُوطُ الضَّمَانِ:
16 - يُمْكِنُ تَقْسِيمُ شُرُوطِ الضَّمَانِ إِلَى قِسْمَيْنِ: شُرُوطِ
ضَمَانِ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ، وَشُرُوطِ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ
عَلَى الْمَال.
أَوَّلاً: شُرُوطُ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ:
الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ إِنْ كَانَتْ عَمْدًا وَكَانَ الْجَانِي
مُكَلَّفًا يَجِبُ فِيهَا الْقِصَاصُ، فَإِنْ كَانَ الْجَانِي غَيْرَ
مُكَلَّفٍ، أَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً وَجَبَتْ فِيهَا الدِّيَةُ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (دِيَات) .
ثَانِيًا: شُرُوطُ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَال:
تَتَلَخَّصُ هَذِهِ الشُّرُوطُ فِي أَنْ يَكُونَ الاِعْتِدَاءُ، وَاقِعًا
عَلَى مَالٍ مُتَقَوِّمٍ، مَمْلُوكٍ، مُحْتَرَمٍ، كَمَا يُشْتَرَطُ أَنْ
يَكُونَ الضَّرَرُ الْحَادِثُ دَائِمًا (فَلَوْ نَبَتَتْ سِنُّ
الْحَيَوَانِ لَمْ تُضْمَنِ الْمَكْسُورَةُ) ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُعْتَدِي
مِنْ أَهْل الْوُجُوبِ، فَلاَ تَضْمَنُ الْبَهِيمَةُ، وَلاَ مَالِكُهَا
__________
(1) انظر الطرق الحكمية لابن القيم ص 66 وما بعدها ط: دار الكتب العلمية في
بيروت.
(28/226)
إِذَا أَتْلَفَتْ مَال إِنْسَانٍ وَهِيَ
مُسَيَّبَةٌ، لأَِنَّهُ جُبَارٌ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْجَانِي عَلَى الْمَال مُكَلَّفًا، فَيَضْمَنُ
الصَّبِيُّ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ مَالٍ عَلَى الآْخَرِينَ، وَلاَ عَدَمُ
اضْطِرَارِهِ، وَالْمُضْطَرُّ فِي الْمَخْمَصَةِ ضَامِنٌ، لأَِنَّ
الاِضْطِرَارَ لاَ يُبْطِل حَقَّ الْغَيْرِ (1) .
أَسْبَابُ الضَّمَانِ:
17 - مِنْ أَسْبَابِ الضَّمَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
مَا يَلِي:
1 - الْعَقْدُ، كَالْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ قَبْل الْقَبْضِ
وَالسَّلَمِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ.
2 - الْيَدُ، مُؤْتَمَنَةٌ كَانَتْ كَالْوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ إِذَا
حَصَل التَّعَدِّي، أَوْ غَيْرَ مُؤْتَمَنَةٍ كَالْغَصْبِ وَالشِّرَاءِ
فَاسِدًا.
ج - الإِْتْلاَفُ، نَفْسًا أَوْ مَالاً (2) .
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: الْحَيْلُولَةَ، كَمَا لَوْ نَقَل الْمَغْصُوبَ
إِلَى بَلَدٍ آخَرَ وَأَبْعَدَهُ، فَلِلْمَالِكِ الْمُطَالَبَةُ
بِالْقِيمَةِ فِي الْحَال، لِلْحَيْلُولَةِ قَطْعًا، فَإِذَا رَدَّهُ
رَدَّهَا (3) .
وَجَعَل الْمَالِكِيَّةُ أَسْبَابَ الضَّمَانِ ثَلاَثَةً:
__________
(1) راجع في هذه الشروط - البدائع 7 / 167 و 168، وتبيين الحقائق 6 / 137،
والقوانين الفقهية 216 - 218، وكشاف القناع 4 / 116.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 362، والقواعد لابن رجب ص 204.
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 362 و 363.
(28/227)
أَحَدُهَا: الإِْتْلاَفُ مُبَاشَرَةً،
كَإِحْرَاقِ الثَّوْبِ.
وَثَانِيَهَا: التَّسَبُّبُ لِلإِْتْلاَفِ، كَحَفْرِ بِئْرٍ فِي مَوْضِعٍ
لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ مِمَّا شَأْنُهُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يُفْضِيَ
غَالِبًا لِلإِْتْلاَفِ.
وَثَالِثُهَا: وَضْعُ الْيَدِ غَيْرِ الْمُؤْتَمَنَةِ، فَيَنْدَرِجُ فِيهَا
يَدُ الْغَاصِبِ، وَالْبَائِعُ يَضْمَنُ الْمَبِيعَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ
بِهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ قَبْل الْقَبْضِ (1) .
الْفَرْقُ بَيْنَ ضَمَانِ الْعَقْدِ وَضَمَانِ الإِْتْلاَفِ:
18 - ضَمَانُ الْعَقْدِ: هُوَ تَعْوِيضُ مَفْسَدَةٍ مَالِيَّةٍ
مُقْتَرِنَةٍ بِعَقْدٍ.
وَضَمَانُ الإِْتْلاَفِ: هُوَ تَعْوِيضُ مَفْسَدَةٍ مَالِيَّةٍ لَمْ
تَقْتَرِنْ بِعَقْدٍ.
وَبَيْنَهُمَا فُرُوقٌ تَبْدُو فِيمَا يَلِي:
أ - مِنْ حَيْثُ الأَْهْلِيَّةُ، فَفِي الْعُقُودِ: الأَْهْلِيَّةُ شَرْطٌ
لِصِحَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ (وَالأَْهْلِيَّةُ - هُنَا -
هِيَ: أَهْلِيَّةُ أَدَاءً، وَهِيَ: صَلاَحِيَةُ الشَّخْصِ لِمُمَارَسَةِ
التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ اعْتِبَارُهَا عَلَى
الْعَقْل) لأَِنَّهَا مَنُوطَةٌ بِالإِْدْرَاكِ وَالْعَقْل، فَإِذَا لَمْ
يَتَحَقَّقَا لاَ يُعْتَدُّ بِهَا (2) .
أَمَّا الإِْتْلاَفَاتُ الْمَالِيَّةُ، وَالْغَرَامَاتُ وَالْمُؤَنُ
__________
(1) الفروق للقرافي 4 / 27، الفرق 217 و 2 / 206 الفرق / 111.
(2) التوضيح والتلويح 2 / 164 وما بعدها، والبدائع 5 / 135.
(28/227)
وَالصِّلاَتُ الَّتِي تُشْبِهُ الْمُؤَنَ،
فَالأَْهْلِيَّةُ الْمُجْتَزَأُ بِهَا هِيَ أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ فَقَطْ،
وَهِيَ صَلاَحِيَتُهُ لِثُبُوتِ الْحُقُوقِ لَهُ وَعَلَيْهِ، فَحُكْمُ
الصَّغِيرِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ فِيهَا كَحُكْمِ الْكَبِيرِ، لأَِنَّ
الْغَرَضَ مِنَ الْوُجُوبِ - وَهُوَ الضَّمَانُ وَنَحْوُهُ - لاَ
يَخْتَلِفُ فِيهِ حَيٌّ عَنْ آخَرَ، وَأَدَاءُ الصَّغِيرِ يَحْتَمِل
النِّيَابَةَ (1) .
ب - مِنْ حَيْثُ التَّعْوِيضُ، فَفِي ضَمَانِ الْعَقْدِ، لاَ يَقُومُ
التَّعْوِيضُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ وَيَكُونُ التَّعْوِيضُ
بِنَاءً عَلَى مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ.
أَمَّا الإِْتْلاَفَاتُ الْمَالِيَّةُ فَإِنَّ التَّعْوِيضَ فِيهَا يَقُومُ
عَلَى اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ، إِذِ الْمَقْصُودُ فِيهَا دَفْعُ
الضَّرَرِ، وَإِزَالَةُ الْمَفْسَدَةِ، وَالضَّرَرُ مَحْظُورٌ،
فَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ (2) ، وَذَلِكَ بِعُمُومِ النَّصِّ
الْكَرِيمِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ
مِثْلُهَا} (3) .
ج - مِنْ حَيْثُ الأَْوْصَافُ وَالْعَوَارِضُ الذَّاتِيَّةُ، فَقَدْ
فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِهَا فِي الْعُقُودِ وَفِي
الإِْتْلاَفَاتِ، وَقَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الأَْوْصَافَ لاَ
تُضْمَنُ بِالْعَقْدِ، وَتُضْمَنُ بِالْغَصْبِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْغَصْبَ
قَبْضٌ، وَالأَْوْصَافُ تُضْمَنُ بِالْفِعْل، وَهُوَ الْقَبْضُ، أَمَّا
الْعَقْدُ فَيَرِدُ عَلَى
__________
(1) التوضيح 2 / 163.
(2) المبسوط 11 / 80.
(3) سورة الشورى / 40.
(28/228)
الأَْعْيَانِ، لاَ عَلَى الأَْوْصَافِ،
وَالْغَصْبِ (وَكَذَا الإِْتْلاَفُ) فِعْلٌ يَحُل بِالذَّاتِ بِجَمِيعِ
أَجْزَائِهَا، فَكَانَتْ مَضْمُونَةً (1) .
مَحَل الضَّمَانِ:
19 - مَحَل الضَّمَانِ هُوَ: مَا يَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ (2) ، سَوَاءٌ
أَكَانَ الضَّمَانُ نَاشِئًا عَنْ عَقْدٍ، أَمْ كَانَ نَاشِئًا عَنْ
إِتْلاَفٍ وَيَدٍ، قَال ابْنُ رُشْدٍ: فَهُوَ كُل مَالٍ أُتْلِفَتْ
عَيْنُهُ، أَوْ تَلِفَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ عَيْنُهُ، بِأَمْرٍ مِنَ
السَّمَاءِ، أَوْ سُلِّطَتِ الْيَدُ عَلَيْهِ وَتُمَلِّكَ (3) . وَقَال
ابْنُ الْقَيِّمِ: مَحَل الضَّمَانِ هُوَ مَا كَانَ يَقْبَل الْمُعَاوَضَةَ
(4) .
وَيُمْكِنُ التَّوَسُّعُ فِي مَحَل الضَّمَانِ، بِحَيْثُ يَشْمَل جَمِيعَ
الْمَضْمُونَاتِ، بِأَنْ يُقَسَّمَ الْفِعْل الضَّارُّ، بِاعْتِبَارِ
مَحَلِّهِ، إِلَى قِسْمَيْنِ: فِعْلٍ ضَارٍّ وَاقِعٍ عَلَى الإِْنْسَانِ،
وَفِعْلٍ ضَارٍّ وَاقِعٍ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنَ الأَْمْوَال،
كَالْحَيَوَانِ وَالأَْشْيَاءِ.
وَقَدِ اعْتَبَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الاِعْتِدَاءَ عَلَى الْمَال
وَالْحَيَوَانِ ضَرْبًا مِنَ الْجِنَايَاتِ، فَقَال الْكَاسَانِيُّ: "
الْجِنَايَةُ فِي الأَْصْل نَوْعَانِ: جِنَايَةٌ
__________
(1) الهداية بشروحها 8 / 254 و 255.
(2) بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد الحفيد 2 / 387 ط: الثانية. دار
التوفيق النموذجية في القاهرة: 1403 هـ.
(3) المرجع السابق.
(4) الطرق الحكمية ص 252.
(28/228)
عَلَى الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ
وَجِنَايَةٌ عَلَى الآْدَمِيِّ (1) فَهَذِهِ مَحَال الضَّمَانِ،
فَالآْدَمِيُّ مَضْمُونٌ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، فِي النَّفْسِ، أَوِ
الأَْطْرَافِ.
وَأَمَّا الأَْمْوَال فَتُقْسَمُ إِلَى: أَعْيَانٍ، وَمَنَافِعَ،
وَزَوَائِدَ، وَنَوَاقِصَ، وَأَوْصَافٍ (2) . وَنَبْحَثُهَا فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: الأَْعْيَانُ:
20 - وَهِيَ نَوْعَانِ: أَمَانَاتٌ، وَمَضْمُونَاتٌ (3) .
فَالأَْمَانَاتُ: يَجِبُ تَسْلِيمُهَا بِذَاتِهَا، وَأَدَاؤُهَا فَوْرَ
طَلَبِهَا، بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَْمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (4) ،
وَتُضْمَنُ حَال التَّعَدِّي، وَإِلاَّ فَلاَ ضَمَانَ فِيهَا، وَمِنَ
التَّعَدِّي الْمَوْتُ عَنْ تَجْهِيلٍ لَهَا، إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ (5) .
وَالْمَضْمُونَاتُ، تُضْمَنُ بِالإِْتْلاَفِ، وَبِالتَّلَفِ وَلَوْ كَانَ
سَمَاوِيًّا (6) .
__________
(1) البدائع 7 / 233.
(2) فتح العزيز شرح الوجيز - بهامش المجموع شرح المهذب 11 / 256، وقواعد
الأحكام 1 / 152 وما بعدها.
(3) البدائع 6 / 7.
(4) سورة النساء / 58.
(5) الأشباه والنظائر لابن نجيم (273) وابن عابدين 4 / 494، وجواهر الإكليل
2 / 140، والمهذب 1 / 366، والمغني 6 / 382 - 383.
(6) بداية المجتهد 2 / 387.
(28/229)
وَالأَْعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ نَوْعَانِ:
الأَْوَّل: الأَْعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ بِنَفْسِهَا، وَهِيَ الَّتِي
يَجِبُ بِهَلاَكِهَا ضَمَانُ الْمِثْل أَوِ الْقِيمَةِ، كَالْمَغْصُوبِ،
وَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا، وَالْمَهْرِ فِي يَدِ الزَّوْجِ، وَبَدَل
الْخُلْعِ - إِذَا كَانَ عَيْنًا مُعَيَّنَةً - وَبَدَل الصُّلْحِ عَنْ
دَمِ الْعَمْدِ، إِذَا كَانَ عَيْنًا.
الثَّانِي: الأَْعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ بِغَيْرِهَا، وَهِيَ الَّتِي
يَجِبُ بِهَلاَكِهَا الثَّمَنُ أَوِ الدَّيْنُ، كَالْمَبِيعِ إِذَا هَلَكَ
قَبْل الْقَبْضِ، سَقَطَ الثَّمَنُ، وَالرَّهْنِ إِذَا هَلَكَ سَقَطَ
الدَّيْنُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الأَْعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ، إِمَّا أَنْ
تَكُونَ مَضْمُونَةً بِسَبَبِ الْعُدْوَانِ، كَالْمَغْصُوبَاتِ، وَإِمَّا
أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً بِسَبَبِ قَبْضٍ بِغَيْرِ عُدْوَانٍ، بَل
بِإِذْنِ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهِ انْتِقَال تَمَلُّكِهِ إِلَيْهِ،
بِشِرَاءٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ، أَوْ قَرْضٍ، فَهُوَ ضَامِنٌ -
أَيْضًا - سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا، أَمْ كَانَ فَاسِدًا (2) .
وَكَذَلِكَ الأَْمْرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَقَدْ عَرَّفُوا الأَْعْيَانَ
الْمَضْمُونَةَ، بِأَنَّهَا الَّتِي يَجِبُ ضَمَانُهَا بِالتَّلَفِ
وَالإِْتْلاَفِ، سَوَاءٌ أَكَانَ حُصُولُهَا بِيَدِ الضَّامِنِ بِفِعْلٍ
مُبَاحٍ، كَالْعَارِيَّةِ، أَوْ مَحْظُورٍ كَالْمَغْصُوبِ، وَالْمَقْبُوضِ
بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَنَحْوِهِمَا (3) .
__________
(1) الدر المختار 4 / 268.
(2) القوانين الفقهية ص 220 وانظر الفروق للقرافي 4 / 106، (ط: الأولى 1344
هـ) .
(3) القواعد لابن رجب ص 54 و 308.
(28/229)
وَعَدَّ السُّيُوطِيُّ الْمَضْمُونَاتِ،
وَأَوْصَلَهَا إِلَى سِتَّةَ عَشَرَ، وَبَيَّنَ حُكْمَ كُلٍّ، وَمِنْهَا:
الْغَصْبُ، وَالإِْتْلاَفُ، وَاللُّقَطَةُ، وَالْقَرْضُ، وَالْعَارِيَّةُ،
وَالْمَقْبُوضُ بِسَوْمٍ. . . (1)
21 - وَهَل تَشْمَل الأَْعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ الْعَقَارَاتِ؟
مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، أَنَّ الْعَقَارَ
يُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي، وَذَلِكَ بِغَصْبِهِ، وَغَصْبُهُ مُتَصَوَّرٌ،
لأَِنَّ الْغَصْبَ هُوَ: إِثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَال الْغَيْرِ بِغَيْرِ
إِذْنِ مَالِكِهِ، أَوْ هُوَ: الاِسْتِيلاَءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ
عُدْوَانًا، أَوْ إِزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ مَالِهِ - كَمَا يَقُول
مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - وَالْفِعْل فِي الْمَال لَيْسَ بِشَرْطٍ،
وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعَقَارِ وَالْمَنْقُول.
وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنِ
اسْتَوْلَى عَلَى أَرْضِ غَيْرِهِ مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ
الأَْرْضِ، طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ (2) .
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّ الْغَصْبَ إِزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ
عَنْ مَالِهِ بِفِعْلٍ فِي الْمَال، وَلِهَذَا عَرَّفَهُ فِي الْكَنْزِ
بِأَنَّهُ إِزَالَةُ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ، بِإِثْبَاتِ الْيَدِ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 356 - 360.
(2) حديث: " من ظلم قيد شبر من الأرض. . . ". أخرجه البخاري (5 / 103)
ومسلم (3 / 1232) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(28/230)
الْمُبْطِلَةِ، وَهَذَا لاَ يُوجَدُ فِي
الْعَقَارِ، وَلأَِنَّهُ لاَ يَحْتَمِل النَّقْل وَالتَّحْوِيل، فَلَمْ
يُوجَدِ الإِْتْلاَفُ حَقِيقَةً وَلاَ تَقْدِيرًا.
فَلَوْ غَصَبَ دَارًا فَانْهَدَمَ الْبِنَاءُ، أَوْ جَاءَ سَيْلٌ فَذَهَبَ
بِالْبِنَاءِ وَالأَْشْجَارِ، أَوْ غَلَبَ الْمَاءُ عَلَى الأَْرْضِ
فَبَقِيَتْ تَحْتَ الْمَاءِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ،
وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَلَوْ غَصَبَ عَقَارًا، فَجَاءَ آخَرُ فَأَتْلَفَهُ، فَالضَّمَانُ عَلَى
الْمُتْلِفِ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ
الْجُمْهُورِ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ تَضْمِينِ الْغَاصِبِ أَوِ
الْمُتْلِفِ (1) .
وَقَالُوا: لَوْ أَتْلَفَهُ بِفِعْلِهِ أَوْ بِسُكْنَاهُ، يَضْمَنُهُ،
لأَِنَّهُ إِتْلاَفٌ، وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِهِ، كَمَا إِذَا نَقَل
تُرَابَهُ (2) .
ثَانِيًا: الْمَنَافِعُ:
22 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ
مُتَقَوَّمَةٌ فِي ذَاتِهَا فَتُضْمَنُ بِالإِْتْلاَفِ، كَمَا تُضْمَنُ
الأَْعْيَانُ، وَذَلِكَ:
__________
(1) البدائع 7 / 146، وتبيين الحقائق 5 / 222، و 224 وجامع الفصولين 2 /
85، والشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي 3 / 442 و 443، والقوانين
الفقهية ص 217 والإقناع للخطيب الشربيني بحاشية البجيرمي 3 / 137 وما
بعدها، وشرح المحلي على المنهاج 3 / 27، وكشاف القناع 4 / 77.
(2) مجمع الضمانات (126) في فروع أخرى.
(28/230)
أ - لأَِنَّهَا الْغَرَضُ الأَْظْهَرُ مِنْ
جَمِيعِ الأَْمْوَال (1) .
ب - وَلأَِنَّ الشَّارِعَ أَجَازَ أَنْ تَكُونَ مَهْرًا فِي النِّكَاحِ،
فِي قِصَّةِ مُوسَى وَشُعَيْبٍ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - مَعَ اشْتِرَاطِ
كَوْنِ الْمَهْرِ فِيهِ مَالاً بِالنَّصِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ
تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (2) .
ج - وَلأَِنَّ الْمَال اسْمٌ لِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لإِِقَامَةِ
مَصَالِحِنَا بِهِ، أَوْ هُوَ - كَمَا يَقُول الشَّاطِبِيُّ - مَا يَقَعُ
عَلَيْهِ الْمِلْكُ، وَيَسْتَبِدُّ بِهِ الْمَالِكُ، وَالْمَنَافِعُ مِنَّا
أَوْ مِنْ غَيْرِنَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ مَالِيَّةُ
الشَّيْءِ بِالتَّمَوُّل وَالنَّاسُ يَعْتَادُونَ تَمَوُّل الْمَنَافِعِ
بِالتِّجَارَةِ فِيهَا، فَإِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ تِجَارَةً الْبَاعَةُ،
وَرَأْسُ مَالِهِمُ الْمَنْفَعَةُ (3) .
د - وَلأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ - كَمَا قَال عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ
السَّلاَمِ - مُبَاحَةٌ مُتَقَوَّمَةٌ، فَتُجْبَرُ فِي الْعُقُودِ
الْفَاسِدَةِ وَالصَّحِيحَةِ، وَبِالْفَوَاتِ تَحْتَ الأَْيْدِي
الْمُبْطِلَةِ، وَالتَّفْوِيتِ بِالاِنْتِفَاعِ، لأَِنَّ الشَّرْعَ قَدْ
قَوَّمَهَا، وَنَزَّلَهَا مَنْزِلَةَ الأَْمْوَال، فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ
جَبْرِهَا بِالْعُقُودِ وَبَيْنَ جَبْرِهَا بِالتَّفْوِيتِ وَالإِْتْلاَفِ
(4) .
__________
(1) قواعد الأحكام 1 / 172.
(2) سورة النساء / 24.
(3) المبسوط 11 / 78، والموافقات 2 / 17، وانظر بالشرح الكبير 5 / 435 و
436.
(4) القواعد 1 / 171 و 172.
(28/231)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ
الْمَنَافِعَ لاَ تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ، سَوَاءٌ اسْتَوْفَاهَا أَمْ
عَطَّلَهَا أَمِ اسْتَغَلَّهَا، وَلاَ تُضْمَنُ إِلاَّ بِالْعَقْدِ،
وَذَلِكَ:
أ - لأَِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوَّمٍ، وَلاَ يُمْكِنُ ادِّخَارُهَا
لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، لأَِنَّهَا لاَ تَبْقَى وَقْتَيْنِ، وَلَكِنَّهَا
أَعْرَاضٌ كُلَّمَا تَخْرُجُ مِنْ حَيِّزِ الْعَدَمِ إِلَى حَيِّزِ
الْوُجُودِ تَتَلاَشَى فَلاَ يُتَصَوَّرُ فِيهَا التَّمَوُّل (1) . وَفِي
ذَلِكَ يَقُول السَّرَخْسِيُّ: الْمَنَافِعُ لاَ تُضْمَنُ بِإِتْلاَفٍ
بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلاَ شُبْهَةٍ (2) .
ب - وَلأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ إِنَّمَا وَرَدَ تَقْوِيمُهَا فِي الشَّرْعِ -
مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ ذَاتَ قِيمَةٍ فِي نَفْسِهَا - بِعَقْدِ
الإِْجَارَةِ، اسْتِثْنَاءً عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ، لِلْحَاجَةِ
لِوُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَمَا ثَبَتَ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ
يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ (3) .
وَالْمَالِكِيَّةُ يُضَمِّنُونَ الْغَاصِبَ إِذَا غَصَبَ لِغَرَضِ
الْمَنْفَعَةِ بِالتَّعَدِّي، كَمَا لَوْ غَصَبَ دَابَّةً أَوْ دَارًا
لِلرُّكُوبِ وَالسُّكْنَى فَقَطْ، فَيَضْمَنُهَا بِالاِسْتِعْمَال، وَلَوْ
كَانَ اسْتِعْمَالُهُ يَسِيرًا.
__________
(1) المبسوط 11 / 79.
(2) المرجع السابق 11 / 78.
(3) تبيين الحقائق 5 / 234، والاختيار 3 / 64 و 65، والمبسوط 11 / 78 و 80،
وانظر الأشباه والنظائر لابن نجيم 284، 285.
(28/231)
وَلاَ يَضْمَنُ الذَّاتَ فِي هَذِهِ
الْحَال لَوْ تَلِفَتْ بِسَمَاوِيٍّ (1) .
ثَالِثًا: الزَّوَائِدُ:
23 - وَتَتَمَثَّل فِي زَوَائِدِ الْمَغْصُوبِ وَنَمَائِهِ.
أ - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ
ضَمَانَ الْغَصْبِ، لأَِنَّهَا مَال الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَقَدْ حَصَلَتْ
فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِالْغَصْبِ، فَيَضْمَنُهَا بِالتَّلَفِ كَالأَْصْل
الَّذِي تَوَلَّدَتْ مِنْهُ (2) .
ب - وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ زَوَائِدَ الْمَغْصُوبِ - سَوَاءٌ
أَكَانَتْ مُتَّصِلَةً كَالسَّمْنِ، أَمْ مُنْفَصِلَةً كَاللَّبَنِ
وَالْوَلَدِ، وَثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ، وَصُوفِ الْغَنَمِ - أَمَانَةٌ فِي
يَدِ الْغَاصِبِ، لاَ تُضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي عَلَيْهَا، بِالأَْكْل
أَوِ الإِْتْلاَفِ، أَوْ بِالْمَنْعِ بَعْدَ طَلَبِ الْمَالِكِ.
وَذَلِكَ لأَِنَّ الْغَصْبَ إِزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ، بِإِثْبَاتِ
الْيَدِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لاَ يَتَحَقَّقُ فِي الزَّوَائِدِ، لأَِنَّهَا
لَمْ تَكُنْ فِي يَدِ الْمَالِكِ (3) .
ج
__________
(1) الشرح الكبير للدرير 3 / 452 - 455، وجواهر الإكليل 2 / 151، والقوانين
الفقهية ص 219.
(2) شرح المحلي على المنهاج 3 / 31 و 32، والمغني 5 / 399 و 400، وكشاف
القناع 4 / 87 وما بعدها، والروض المربع بشرح زاد المستقنع مختصر المقنع، 1
/ 249 ط: دار الكتب العلمية في بيروت.
(3) تبيين الحقائق 5 / 232، والبدائع 7 / 160، وانظر بداية المجتهد 2 /
391، والقوانين الفقهية ص 217.
(28/232)
- وَلِلْمَالِكِيَّةِ هَذَا التَّفْصِيل:
أَوَّلاً:
مَا كَانَ مُتَوَلِّدًا مِنَ الأَْصْل وَعَلَى خِلْقَتِهِ، كَالْوَلَدِ،
فَهُوَ مَرْدُودٌ مَعَ الأَْصْل.
ثَانِيًا:
وَمَا كَانَ مُتَوَلِّدًا مِنَ الأَْصْل، عَلَى غَيْرِ خِلْقَتِهِ مِثْل
الثَّمَرِ وَلَبَنِ الْمَاشِيَةِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ
لِلْغَاصِبِ، وَالآْخَرُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ رَدُّهُ قَائِمًا، وَقِيمَتُهُ
تَالِفًا.
ثَالِثًا
وَمَا كَانَ غَيْرَ مُتَوَلِّدٍ، فَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:
1 - قِيل: يَرُدُّ الزَّوَائِدَ مُطْلَقًا، لِتَعَدِّيهِ، مِنْ غَيْرِ
تَفْصِيلٍ.
2 - وَقِيل: لاَ يَرُدُّهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، لأَِنَّهَا
فِي مُقَابَلَةِ الضَّمَانِ الَّذِي عَلَيْهِ.
3 - وَقِيل: يَرُدُّ قِيمَةَ مَنَافِعِ الأُْصُول وَالْعَقَارِ، لأَِنَّهُ
مَأْمُونٌ وَلاَ يَتَحَقَّقُ الضَّمَانُ فِيهِ، وَلاَ يَرُدُّ قِيمَةَ
مَنَافِعِ الْحَيَوَانِ وَشَبَهُهُ مِمَّا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الضَّمَانُ.
4 - وَقِيل: يَرُدُّهَا إِنِ انْتَفَعَ بِهَا، وَلاَ يَرُدُّهَا إِنْ
عَطَّلَهَا.
5 - وَقِيل: يَرُدُّهَا إِنْ غَصَبَ الْمَنَافِعَ خَاصَّةً، وَلاَ
يَرُدُّهَا إِنْ غَصَبَ الْمَنَافِعَ وَالرِّقَابَ (1) .
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 391 و 392، والقوانين الفقهية ص 324.
(28/232)
رَابِعًا: النَّوَاقِصُ:
24 - لاَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِ نَقْصِ الأَْمْوَال بِسَبَبِ
الْغَصْبِ، أَوِ الْفِعْل الضَّارِّ، أَوْ الإِْتْلاَفِ أَوْ نَحْوِهَا،
سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ النَّقْصُ عَمْدًا أَمْ خَطَأً أَمْ تَقْصِيرًا،
لأَِنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ - كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ - ضَمَانُ جَبْرِ
الْفَائِتِ، فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْفَوَاتِ (1) .
فَمَنْ نَقَصَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ، وَفِيهِ
تَفْصِيلٌ فِي الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ:
أ - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ النَّقْصَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ
يَسِيرًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ - كَمَا قَال الزَّيْلَعِيُّ أَنَّ الْيَسِيرَ مَا
لاَ يَفُوتُ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَنْفَعَةِ، بَل يَدْخُل فِيهِ نُقْصَانٌ
فِي الْمَنْفَعَةِ، كَالْخَرْقِ فِي الثَّوْبِ (2) .
وَالْفَاحِشُ: مَا يَفُوتُ بِهِ بَعْضُ الْعَيْنِ وَبَعْضُ الْمَنْفَعَةِ،
وَيَبْقَى بَعْضُ الْعَيْنِ وَبَعْضُ الْمَنْفَعَةِ.
وَقِيل الْيَسِيرُ: مَا لَمْ يَبْلُغْ رُبُعَ الْقِيمَةِ، وَالْفَاحِشُ مَا
يُسَاوِي رُبُعَ الْقِيمَةِ فَصَاعِدًا، وَبِهَذَا أَخَذَتْ الْمَجَلَّةُ
فِي الْمَادَّةِ (900) .
فَفِي النُّقْصَانِ الْيَسِيرِ لَيْسَ لِلْمَالِكِ إِلاَّ أَخْذُ عَيْنِ
الْمَغْصُوبِ، لأَِنَّ الْعَيْنَ قَائِمَةٌ مِنْ كُل
__________
(1) البدائع 7 / 155.
(2) تبيين الحقائق 5 / 229.
(28/233)
وَجْهٍ، وَيَضْمَنُ الْغَاصِبُ
النُّقْصَانَ.
وَفِي النَّقْصِ الْفَاحِشِ، يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ أَخْذِ
الْعَيْنِ، وَتَضْمِينِ الْغَاصِبِ النُّقْصَانَ، وَبَيْنَ تَرْكِ
الْعَيْنِ لِلْغَاصِبِ وَتَضْمِينِهِ قِيمَةَ الْعَيْنِ (1) .
فَلَوْ ذَبَحَ حَيَوَانًا لِغَيْرِهِ مَأْكُول اللَّحْمِ، أَوْ قَطَعَ
يَدَهُ، كَانَ ذَلِكَ إِتْلاَفًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَنَقْصًا
فَاحِشًا، فَيُخَيَّرُ فِيهِ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ
مَأْكُول اللَّحْمِ، ضَمِنَ الْغَاصِبُ الْجَمِيعَ، لأَِنَّهُ اسْتِهْلاَكٌ
مُطْلَقٌ مِنْ كُل وَجْهٍ، وَإِتْلاَفٌ لِجَمِيعِ الْمَنْفَعَةِ (2) .
وَلَوْ غَصَبَ الْعَقَارَ، فَانْهَدَمَ أَوْ نَقَصَ بِسُكْنَاهُ، ضَمِنَهُ،
لأَِنَّهُ إِتْلاَفٌ بِفِعْلِهِ، وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِالإِْتْلاَفِ،
وَلاَ يُشْتَرَطُ لِضَمَانِ الإِْتْلاَفِ أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ.
وَهَذَا بِخِلاَفِ مَا لَوْ هَلَكَ الْعَقَارُ، بَعْدَ أَنْ غَصَبَهُ
وَهُوَ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُهُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَتَصَرَّفْ
فِيهِ بِشَيْءٍ، فَلاَ يَجِبُ الضَّمَانُ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ، لأَِنَّهُ
غَاصِبٌ لِلْمَنْفَعَةِ، وَلَيْسَتْ مَالاً، وَلأَِنَّهُ مَنَعَ الْمَالِكَ
عَنِ الاِنْتِفَاعِ وَلاَ يَضْمَنُ عَيْنَهُ (3) .
__________
(1) المرجع السابق، والدر المختار 5 / 123.
(2) الاختيار شرح المختار 3 / 62 و 63 (ط: دار المعرفة في بيروت) ، وتبيين
الحقائق 5 / 226 و 227، والدر المختار 5 / 125، والهداية وشروحها 8 / 259
وما بعدها، والبدائع 7 / 160 وما بعدها.
(3) تبيين الحقائق 5 / 224 و 225 ومجمع الضمانات ص 126، وجامع الفصولين 2 /
92 وفيه دليل نفيس وجيه.
(28/233)
ب - وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي
النَّقْصِ، أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَل الْخَالِقِ، أَوْ مِنْ
قِبَل الْمَخْلُوقِ.
فَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَل الْخَالِقِ، فَلَيْسَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ إِلاَّ
أَنْ يَأْخُذَهُ نَاقِصًا - كَمَا يَقُول ابْنُ جِنِّيٍّ - أَوْ يَضْمَنَ
الْغَاصِبُ قِيمَةَ الْمَغْصُوبِ يَوْمَ الْغَصْبِ.
وَقِيل: إِنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَضْمَنَ الْغَاصِبُ قِيمَةَ
الْعَيْبِ.
وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَل الْمَخْلُوقِ وَبِجِنَايَتِهِ فَالْمَغْصُوبُ
مِنْهُ مُخَيَّرٌ:
1 - بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ يَوْمَ الْغَصْبِ، وَيَتْرُكَهُ
لِلْغَاصِبِ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَأْخُذَ قِيمَةَ النَّقْصِ،
يَوْمَ الْجِنَايَةِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، أَوْ يَوْمَ الْغَصْبِ،
عِنْدَ سَحْنُونٍ.
2 - وَعِنْدَ أَشْهَبَ وَابْنِ الْمَوَّازِ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ
يُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ نَاقِصًا، وَلاَ شَيْءَ
لَهُ فِي الْجِنَايَةِ، كَالَّذِي يُصَابُ بِأَمْرٍ مِنَ السَّمَاءِ (1) .
وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي ضَمَانِ الْبِنَاءِ أَوِ الْغَرْسِ فِي الْعَقَارِ،
نَذْكُرُهُ فِي أَحْكَامِ الضَّمَانِ الْخَاصَّةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 388، والقوانين الفقهية ص 217 وانظر جواهر الإكليل 2
/ 151، والشرح الكبير للدردير 3 / 453 و 454، ومنح الجليل على مختصر سيدي
خليل للشيخ محمد عليش بحاشيته تسهيل منح الجليل 3 / 537، 538 ط: دار صادر
في بيروت.
(28/234)
ج - وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّ كُل عَيْنٍ مَغْصُوبَةٍ، عَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ
نَقْصِهَا، إِذَا كَانَ نَقْصًا مُسْتَقِرًّا تَنْقُصُ بِهِ الْقِيمَةُ،
سَوَاءٌ كَانَ بِاسْتِعْمَالِهِ، أَمْ كَانَ بِغَيْرِ اسْتِعْمَالِهِ،
كَمَرَضِ الْحَيَوَانِ، وَكَثَوْبٍ تَخَرَّقَ، وَإِنَاءٍ تَكَسَّرَ،
وَطَعَامٍ سَوَّسَ، وَبِنَاءٍ تَخَرَّبَ، وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا،
وَلِلْمَالِكِ عَلَى الْغَاصِبِ أَرْشُ النَّقْصِ - مَعَ أُجْرَةِ
الْمِثْل، كَمَا قَال الْقَلْيُوبِيُّ - لأَِنَّهُ نَقْصٌ حَصَل فِي يَدِ
الْغَاصِبِ، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ (1) .
خَامِسًا: الأَْوْصَافُ وَضَمَانُهَا:
25 - إِذَا نَقَصَتْ السِّلْعَةُ، عِنْدَ الْغَاصِبِ، بِسَبَبِ فَوَاتِ
وَصْفٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِسَبَبِ هُبُوطِ الأَْسْعَارِ فِي
السُّوقِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ فَوَاتِ وَصْفٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ:
أ - فَإِنْ كَانَ النَّقْصُ بِسَبَبِ هُبُوطِ الأَْسْعَارِ فِي
الأَْسْوَاقِ، فَلَيْسَ عَلَى الْغَاصِبِ أَوِ الْمُتَعَدِّي ضَمَانُ
نَقْصِ الْقِيمَةِ اتِّفَاقًا، لأَِنَّ الْمَضْمُونَ نُقْصَانُ
الْمَغْصُوبِ، وَنُقْصَانُ السِّعْرِ لَيْسَ بِنُقْصَانِ الْمَغْصُوبِ، بَل
لِفُتُورٍ يُحْدِثُهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، لاَ صُنْعَ
لِلْعَبْدِ فِيهِ، فَلاَ يَكُونُ
__________
(1) شرح المحلي مع حاشية القليوبي 3 / 39 وشرح الشربيني الخطيب على الإقناع
وحاشية البجيرمي عليه 3 / 140، 141، وكفاية الأخيار في حل غاية الاختصار
للحصني 1 / 183 ط: دار المعرفة في بيروت. والمغني بالشرح الكبير 5 / 385،
وكشاف القناع 3 / 91 وما بعدها.
(28/234)
مَضْمُونًا وَهَذَا مَا أَخَذَتْ بِهِ
الْمَجَلَّةُ (الْمَادَّةُ: 900) ، وَلأَِنَّهُ لاَ حَقَّ لِلْمَغْصُوبِ
مِنْهُ فِي الْقِيمَةِ، مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي
الْعَيْنِ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ، كَمَا كَانَتْ، وَلأَِنَّ الْغَاصِبَ
إِنَّمَا يَضْمَنُ مَا غَصَبَ، وَالْقِيمَةُ لاَ تَدْخُل فِي الْغَصْبِ.
ب - وَإِنْ كَانَ النَّقْصُ بِسَبَبِ فَوَاتِ وَصْفٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ،
فَهُوَ مَضْمُونٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ كَمَا لَوْ سَقَطَ عُضْوُ
الْحَيَوَانِ الْمَغْصُوبِ، وَهُوَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِآفَةٍ
سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ حَدَثَ لَهُ عِنْدَ الْغَاصِبِ عَرَجٌ أَوْ شَلَلٌ أَوْ
عَمًى، وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمَالِكَ يَأْخُذُ الْمَغْصُوبَ،
وَيَضْمَنُ الْغَاصِبُ النُّقْصَانَ: لِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنَ الْبَدَنِ،
أَوْ فَوَاتِ صِفَةٍ مَرْغُوبٍ فِيهَا؛ وَلأَِنَّهُ دَخَلَتْ جَمِيعُ
أَجْزَائِهِ فِي ضَمَانِهِ بِالْغَصْبِ، فَمَا تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهِ،
يَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ.
وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ النُّقْصَانِ أَنْ يُقَوَّمَ صَحِيحًا، وَيُقَوَّمَ
وَبِهِ الْعَيْبُ، فَيَجِبُ قَدْرُ مَا بَيْنَهُمَا (1) .
تَصْنِيفُ الْعُقُودِ مِنْ حَيْثُ الضَّمَانُ:
26 - يُمْكِنُ تَصْنِيفُ الْعُقُودِ مِنْ حَيْثُ الضَّمَانُ إِلَى
أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
__________
(1) البدائع 7 / 155، ومجمع الضمانات ص 133 والشرح الكبير للدردير 3 / 452
و 453 و 454، ومنح الجليل 3 / 537، والإقناع وحاشية البجيرمي عليه 3 / 140
- 141، وكشاف القناع 4 / 91، 92، 93، والمغني بالشرح الكبير 5 / 400 - 402.
(28/235)
أَوَّلاً: فَهُنَاكَ عَقْدٌ شُرِعَ
لِلضَّمَانِ، أَوْ هُوَ الضَّمَانُ بِذَاتِهِ، وَهُوَ: الْكَفَالَةُ -
كَمَا يُسَمِّيهَا الْحَنَفِيَّةُ - وَهِيَ - أَيْضًا -: الضَّمَانُ كَمَا
يُسَمِّيهَا الْجُمْهُورُ.
ثَانِيًا: وَهُنَاكَ عُقُودٌ لَمْ تُشْرَعْ لِلضَّمَانِ، بَل شُرِعَتْ
لِلْمِلْكِ وَالرِّبْحِ وَنَحْوِهِمَا، لَكِنِ الضَّمَانُ يَتَرَتَّبُ
عَلَيْهَا بِاعْتِبَارِهِ أَثَرًا لاَزِمًا لأَِحْكَامِهَا، وَتُسَمَّى:
عُقُودَ ضَمَانٍ، وَيَكُونُ الْمَال الْمَقْبُوضُ فِيهَا مَضْمُونًا عَلَى
الْقَابِضِ، بِأَيِّ سَبَبٍ هَلَكَ، كَعَقْدِ الْبَيْعِ، وَالْقِسْمَةِ،
وَالصُّلْحِ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ، وَالْمُخَارَجَةِ، وَالْقَرْضِ،
وَكَعَقْدِ الزَّوَاجِ، وَالْمُخَالَعَةِ.
ثَالِثًا: وَهُنَاكَ عُقُودٌ يَتَجَلَّى فِيهَا طَابَعُ الْحِفْظِ
وَالأَْمَانَةِ، وَالرِّبْحِ فِي بَعْضِ الأَْحْيَانِ، وَتُسَمَّى عُقُودَ
أَمَانَةٍ، وَيَكُونُ الْمَال الْمَقْبُوضُ فِيهَا أَمَانَةً فِي يَدِ
الْقَابِضِ، لاَ يَضْمَنُهُ إِلاَّ إِذَا تَلِفَ بِسَبَبِ تَقْصِيرِهِ فِي
حِفْظِهِ، كَعَقْدِ الإِْيدَاعِ، وَالْعَارِيَّةِ، وَالشَّرِكَةِ
بِأَنْوَاعِهَا، وَالْوَكَالَةِ، وَالْوِصَايَةِ.
رَابِعًا: وَهُنَاكَ عُقُودٌ ذَاتُ وَجْهَيْنِ، تُنْشِئُ الضَّمَانَ مِنْ
وَجْهٍ، وَالأَْمَانَةَ مِنْ وَجْهٍ، وَتُسَمَّى لِهَذَا، عُقُودٌ
مُزْدَوَجَةُ الأَْثَرِ، كَعَقْدِ الإِْجَارَةِ، وَالرَّهْنِ وَالصُّلْحِ
عَنْ مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ.
27 - وَمَنَاطُ التَّمْيِيزِ - بِوَجْهٍ عَامٍّ - بَيْنَ عُقُودِ
الضَّمَانِ، وَبَيْنَ عُقُودِ الأَْمَانَةِ، يَدُورُ مَعَ
(28/235)
الْمُعَاوَضَةِ: فَكُلَّمَا كَانَ فِي
الْعَقْدِ مُعَاوَضَةٌ، كَانَ عَقْدَ ضَمَانٍ، وَكُلَّمَا كَانَ الْقَصْدُ
مِنَ الْعَقْدِ غَيْرَ الْمُعَاوَضَةِ، كَالْحِفْظِ وَنَحْوِهِ، كَانَ
الْعَقْدُ عَقْدَ أَمَانَةٍ.
وَيَسْتَنِدُ هَذَا الضَّابِطُ الْمُمَيَّزُ، إِلَى قَوْل
الْمَرْغِينَانِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، فِي تَعْلِيل كَوْنِ يَدِ أَحَدِ
الشُّرَكَاءِ فِي مَال الشَّرِكَةِ، يَدَ أَمَانَةٍ: لأَِنَّهُ قَبَضَ
الْمَال بِإِذْنِ الْمَالِكِ، لاَ عَلَى وَجْهِ الْبَدَل وَالْوَثِيقَةِ،
فَصَارَ كَالْوَدِيعَةِ (1) .
وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْقَبْضَ الَّذِي يَسْتَوْجِبُ الضَّمَانَ،
هُوَ: مَا كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ، كَالْمَغْصُوبِ، وَمَا كَانَ
بِسَبِيل الْمُبَادَلَةِ، أَيِ الْمُعَاوَضَةِ، أَوْ مَا كَانَ بِسَبِيل
التَّوْثِيقِ، كَالرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ.
وَالرَّهْنُ - فِي الْوَاقِعِ - يُؤَوَّل إِلَى الْمُعَاوَضَةِ، لأَِنَّهُ
تَوْثِيقٌ لِلْبَدَل، وَكَذَا الْكَفَالَةُ، فَكَانَ الْمُعَوَّل عَلَيْهِ
فِي ضَمَانِ الْعُقُودِ، هُوَ الْمُبَادَلَةَ، وَفِي غَيْرِ الْعُقُودِ،
هُوَ عَدَمَ الإِْذْنِ، وَمَا الْمُبَادَلَةُ إِلاَّ الْمُعَاوَضَةُ،
فَهِيَ مَنْشَأُ التَّمْيِيزِ، بَيْنَ عُقُودِ الضَّمَانِ، وَبَيْنَ
عُقُودِ الْحِفْظِ وَالأَْمَانَةِ.
وَبَيَانُ الضَّمَانِ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ فِيمَا يَلِي:
__________
(1) الهداية بشروحها 5 / 404، وانظر أيضا في التعليل نفسه، تبيين الحقائق
للزيلعي وحاشية الشلبي عليه 3 / 320 نقلا عن الإتقاني.
(28/236)
أَوَّلاً: الضَّمَانُ فِي الْعُقُودِ
الَّتِي شُرِعَتْ لِلضَّمَانِ:
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الْكَفَالَةِ:
28 - إِذَا صَحَّ الضَّمَانُ - أَوِ الْكَفَالَةُ بِاسْتِجْمَاعِ
شُرُوطِهَا - لَزِمَ الضَّامِنَ أَدَاءُ مَا ضَمِنَهُ، وَكَانَ
لِلْمَضْمُونِ لَهُ (الدَّائِنِ) مُطَالَبَتُهُ، وَلاَ يُعْلَمُ فِيهِ
خِلاَفٌ، وَهُوَ فَائِدَةُ الضَّمَانِ (1) ثُمَّ:
إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَدِينِ، وَهُوَ الْمَكْفُول
عَنْهُ، رَجَعَ عَلَيْهِ الْكَفِيل بِمَا أَدَّى عَنْهُ بِالاِتِّفَاقِ -
عَلَى مَا يَقُول ابْنُ جُزَيٍّ - فِي الْجُمْلَةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَكْفُول عَنْهُ،
فَفِي الرُّجُوعِ خِلاَفٌ:
فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ عَدَمُ الرُّجُوعِ، إِذِ اعْتُبِرَ مُتَبَرِّعًا
فِي هَذِهِ الْحَال (2) .
وَالْمَالِكِيَّةُ قَرَّرُوا الرُّجُوعَ فِي هَذِهِ الْحَال إِنْ ثَبَتَ
دَفْعُ الْكَفِيل بِبَيِّنَةٍ، أَوْ بِإِقْرَارِ صَاحِبِ الْحَقِّ،
وَعَلَّلُوهُ بِسُقُوطِ الدَّيْنِ بِذَلِكَ (3) .
وَالشَّافِعِيَّةُ فَصَّلُوا، وَقَالُوا:
إِنْ أَذِنَ الْمَكْفُول عَنْهُ، فِي الضَّمَانِ
__________
(1) المغني - بالشرح الكبير - 5 / 73.
(2) الدر المختار 4 / 271 و 272، والهداية بشروحها 6 / 304 و 305.
(3) الشرح الكبير للدردير 3 / 335 و 336، والقوانين الفقهية ص 214.
(28/236)
وَالأَْدَاءِ فَأَدَّى الْكَفِيل، رَجَعَ.
وَإِنِ انْتَفَى إِذْنُهُ فِيهِمَا فَلاَ رُجُوعَ.
وَإِنْ أَذِنَ فِي الضَّمَانِ فَقَطْ، وَلَمْ يَأْذَنْ فِي الأَْدَاءِ،
رَجَعَ فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّهُ أَذِنَ فِي سَبَبِ الْغُرْمِ.
وَإِنْ أَذِنَ فِي الأَْدَاءِ فَقَطْ، مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ، لاَ يَرْجِعُ
فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّ الْغُرْمَ فِي الضَّمَانِ، وَلَمْ يَأْذَنْ فِيهِ
(1) .
وَاعْتَبَرَ الْحَنَابِلَةُ نِيَّةَ الرُّجُوعِ عِنْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ
عَنِ الْمَكْفُول عَنْهُ، فَقَرَّرُوا أَنَّهُ:
إِنْ قَضَى الضَّامِنُ الدَّيْنَ مُتَبَرِّعًا، لاَ يَرْجِعُ، سَوَاءٌ
أَضَمِنَهُ بِإِذْنِهِ أَمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لأَِنَّهُ مُتَطَوِّعٌ
بِذَلِكَ.
وَإِنْ قَضَاهُ نَاوِيًا الرُّجُوعَ، يَرْجِعُ لأَِنَّهُ قَضَاهُ مُبْرِئًا
مِنْ دَيْنٍ وَاجِبٍ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ.
وَلَوْ قَضَاهُ ذَاهِلاً عَنْ قَصْدِ الرُّجُوعِ وَعَدَمِهِ، لاَ يَرْجِعُ،
لِعَدَمِ قَصْدِ الرُّجُوعِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الضَّمَانُ أَوِ الأَْدَاءُ
بِإِذْنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، أَمْ بِغَيْرِ إِذْنٍ (2) .
وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ رُبَاعِيٌّ فِي نِيَّةِ الرُّجُوعِ يَقْرُبُ مِنْ
تَفْصِيل الشَّافِعِيَّةِ (3) . (يُرَاجَعُ فِيهِ مُصْطَلَح: كَفَالَة) .
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي عليه 2 / 331.
(2) كشاف القناع 3 / 371.
(3) المغني - بالشرح الكبير 5 / 86 - 89.
(28/237)
29 - إِذَا مَاتَ الْكَفِيل قَبْل حُلُول
أَجَل الدَّيْنِ، فَفِي حُلُول الدَّيْنِ وَمُطَالَبَةِ الْوَرَثَةَ بِهِ
خِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي: (مُصْطَلَحِ: كَفَالَة) .
ضَمَانُ الدَّرَكِ:
30 - قَصَرَ الْحَنَفِيَّةُ ضَمَانَ الدَّرَكِ، عَلَى ضَمَانِ الثَّمَنِ
عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ (1) ، وَقَالُوا:
هُوَ: الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ (2) .
وَالدَّرَكُ هُوَ: الْمُطَالَبَةُ وَالتَّبَعَةُ وَالْمُؤَاخَذَةُ (3) .
وَيُقَال لَهُ: ضَمَانُ الْعُهْدَةِ، عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ (4) .
وَعَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ: ضَمَانُ الثَّمَنِ لِلْمُشْتَرِي، إِنْ ظَهَرَ
الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا أَوْ مَعِيبًا أَوْ نَاقِصًا، بَعْدَ قَبْضِ
الثَّمَنِ (5) وَضَمَانُ الدَّرَكِ صَحِيحٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ
وَذَلِكَ (6) :.
أ - لأَِنَّ الْمَضْمُونَ هُوَ الْمَالِيَّةُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ
(7) ، وَالْمَضْمُونُ - كَمَا يَقُول الْعَدَوِيُّ - فِي الْمَعِيبِ
قِيمَةُ الْعَيْبِ، وَفِي الْمُسْتَحَقِّ
__________
(1) رد المحتار 4 / 281.
(2) المرجع السابق 4 / 264.
(3) حاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 379.
(4) شرح المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي 2 / 325، وانظر كشاف القناع 3
/ 369.
(5) المرجعان السابقان.
(6) كشاف القناع 3 / 369.
(7) الهداية بشروحها 6 / 298، وما بعدها و 9 / 86 وما بعدها.
(28/237)
الثَّمَنُ (1) ، وَهُوَ جَائِزٌ بِلاَ
نِزَاعٍ (2) .
ب - وَلأَِنَّ الضَّمَانَ هُنَا، كَفَالَةٌ، وَالْكَفَالَةُ لاِلْتِزَامِ
الْمُطَالَبَةِ، وَالْتِزَامُ الأَْفْعَال يَصِحُّ مُضَافًا إِلَى الْمَآل،
كَمَا فِي الْتِزَامِ الصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ بِالنَّذْرِ (3) .
ج - وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي تَعْلِيل جَوَازِهِ: لأَِنَّ الْحَاجَةَ
تَدْعُو إِلَى الْوَثِيقَةِ، وَهِيَ: ثَلاَثَةٌ: الشَّهَادَةُ وَالرَّهْنُ
وَالضَّمَانُ، فَالأُْولَى لاَ يَسْتَوْفِي مِنْهَا الْحَقَّ،
وَالثَّانِيَةُ مَمْنُوعَةٌ، لأَِنَّهُ يَلْزَمُ حَبْسُ الرَّهْنِ إِلَى
أَنْ يُؤَدَّى، وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَيُؤَدِّي إِلَى حَبْسِهِ
أَبَدًا، فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الضَّمَانِ.
د - وَقَالُوا: وَلأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَصِحَّ لاَمْتَنَعَتِ
الْمُعَامَلاَتُ مَعَ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ، رَافِعٌ
لأَِصْل الْحِكْمَةِ، الَّتِي شُرِعَ مِنْ أَجْلِهَا الْبَيْعُ (4) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ شَرْطَ ضَمَانِ الدَّرَكِ ثُبُوتُ
الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ بِالْقَضَاءِ (5) ، فَلَوِ اسْتُحِقَّ
الْمَبِيعُ قَبْل الْقَضَاءِ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، لاَ يُؤْخَذُ
ضَامِنُ الدَّرَكِ، إِذْ بِمُجَرَّدِ الاِسْتِحْقَاقِ لاَ يُنْتَقَضُ
الْبَيْعُ عَلَى الظَّاهِرِ، إِذْ يُعْتَبَرُ الْبَيْعُ مَوْقُوفًا عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ، وَلِهَذَا لَوْ أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ الْبَيْعَ قَبْل
الْفَسْخِ جَازَ وَلَوْ بَعْدَ
__________
(1) حاشية العدوي على شرح الخرشي 6 / 24.
(2) المرجع السابق والهداية - بشروحها 6 / 298.
(3) الهداية وشروحها في الموضع نفسه.
(4) كشاف القناع 3 / 369.
(5) رد المحتار 4 / 264.
(28/238)
قَبْضِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَمَا لَمْ
يُقْضَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ لاَ يَجِبُ رَدُّ الثَّمَنِ عَلَى
الأَْصِيل، فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْكَفِيل (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ قَبْل قَبْضِ
الثَّمَنِ، لأَِنَّهُ إِنَّمَا يَضْمَنُ مَا دَخَل فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ،
وَقِيل: يَصِحُّ قَبْل قَبْضِهِ، لأَِنَّهُ قَدْ تَدْعُو الْحَاجَةُ
إِلَيْهِ، بِأَنْ لاَ يُسَلِّمَ الثَّمَنَ إِلاَّ بَعْدَهُ (2) .
ثَانِيًا: الْعُقُودُ الَّتِي لَمْ تُشْرَعْ لِلضَّمَانِ وَيَتَرَتَّبُ
عَلَيْهَا الضَّمَانُ:
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ:
31 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، إِلَى أَنَّ الْمَبِيعَ فِي الْبَيْعِ
الصَّحِيحِ، فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ، حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي، مَعَ
رِوَايَةِ تَفْرِقَةِ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَ الْمَكِيلاَتِ،
وَالْمَوْزُونَاتِ، وَنَحْوِهَا، وَبَيْنَ غَيْرِهَا (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الضَّمَانَ يَنْتَقِل إِلَى
الْمُشْتَرِي - كَمَا يَقُول ابْنُ جُزَيٍّ - بِنَفْسِ الْعَقْدِ، إِلاَّ
فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا: مَا بِيعَ عَلَى الْخِيَارِ، وَمَا بِيعَ مِنَ
الثِّمَارِ قَبْل كَمَال طِيبِهِ (4) . . .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 282.
(2) شرح المحلي على المنهاج 2 / 326.
(3) البدائع 5 / 238، وروضة الطالبين 3 / 499، والشرح الكبير مع المغني 4 /
116 و 117.
(4) القوانين الفقهية ص 164.
(28/238)
وَأَهَمُّ مَا يَسْتَوْجِبُ الضَّمَانَ فِي
عَقْدِ الْبَيْعِ: هَلاَكُ الْمَبِيعِ، وَهَلاَكُ الثَّمَنِ،
وَاسْتِحْقَاقُ الْمَبِيعِ، وَظُهُورُ عَيْبٍ قَدِيمٍ فِيهِ.
وَيُلْحَقُ بِهِ: ضَمَانُ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَضَمَانُ
الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ النَّظَرِ، وَضَمَانُ الدَّرَكِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ مَا يَلِي:
هَلاَكُ الْمَبِيعِ:
32 - يُفَرَّقُ فِي الْحُكْمِ فِيهِ، تَبَعًا لأَِحْوَال هَلاَكِهِ:
هَلاَكُ كُلِّهِ، وَهَلاَكُ بَعْضِهِ، وَهَلاَكُ نَمَائِهِ، وَهَلاَكُهُ
فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ، وَالْفَاسِدِ، وَالْبَاطِل، وَهَلاَكُهُ وَهُوَ
فِي يَدِ الْبَائِعِ: أَوْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (بَيْع ف 59 وَمُصْطَلَحِ: هَلاَك)
هَلاَكُ نَمَاءِ الْمَبِيعِ:
33 - الأَْصْل الْمُقَرَّرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ زَوَائِدَ
الْمَبِيعِ مَبِيعَةٌ - كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ - إِلاَّ إِذَا
كَانَتْ مُنْفَصِلَةً غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنَ الأَْصْل، كَغَلَّةِ
الْمَبَانِي وَالْعَقَارَاتِ، فَإِنَّهَا إِمَّا أَنْ تَحْدُثَ فِي
الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ أَوْ بَعْدَهُ:
أ - فَقَبْل الْقَبْضِ، إِذَا أَتْلَفَ الْبَائِعُ الزِّيَادَةَ
يَضْمَنُهَا، فَتَسْقُطُ حِصَّتُهَا مِنَ الثَّمَنِ عَنِ الْمُشْتَرِي،
كَمَا لَوْ أَتْلَفَ جُزْءًا مِنَ الْمَبِيعِ، وَكَمَا لَوْ أَتْلَفَهَا
أَجْنَبِيٌّ.
(28/239)
وَإِذَا هَلَكَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ،
كَمَا لَوْ هَلَكَ الثَّمَرُ، فَلاَ تُضْمَنُ، لأَِنَّهَا كَالأَْوْصَافِ،
لاَ يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ
مَبِيعَةً، لَكِنَّهَا مَبِيعَةٌ تَبَعًا لاَ قَصْدًا.
ب - أَمَّا لَوْ هَلَكَتْ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهَا. الْمُشْتَرِي، أَوْ
أَتْلَفَهَا هُوَ، فَهِيَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِقَبْضِهِ، وَلَهَا
حِصَّتُهَا مِنَ الثَّمَنِ، فَيَقْسِمُ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الأَْصْل
يَوْمَ الْعَقْدِ وَعَلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ يَوْمَ الْقَبْضِ (1) .
وَلَوْ أَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ، ضَمِنَهَا بِلاَ خِلاَفٍ، لَكِنِ
الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ:
إِنْ شَاءَ فَسَخَ الْعَقْدَ، وَيَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَى الْجَانِي
بِضَمَانِ الْجِنَايَةِ.
وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْبَيْعَ، وَاتَّبَعَ الْجَانِيَ بِالضَّمَانِ،
وَعَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ الأَْصْل (2) .
الضَّمَانُ فِي الْبَيْعِ الْبَاطِل:
34 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لاَ يُفَرِّقُونَ فِي قَوَاعِدِهِمُ
الْعَامَّةِ بَيْنَ الْبَيْعِ الْبَاطِل، وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ
وَالْحَنَفِيَّةُ هُمُ الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا.
وَالْبَيْعُ الْبَاطِل لاَ يُثْبِتُ الْمِلْكَ أَصْلاً، وَلاَ حُكْمَ
لِهَذَا الْبَيْعِ، لأَِنَّ الْحُكْمَ لِلْمَوْجُودِ، وَلاَ وُجُودَ
لِهَذَا الْبَيْعِ إِلاَّ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ.
__________
(1) البدائع 5 / 256.
(2) البدائع 5 / 256، 257.
(28/239)
وَفِي ضَمَانِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي:
(بُطْلاَن ف 26، 27 وَالْبَيْعُ الْبَاطِل ف 11) .
ضَمَانُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ:
35 - كُل بَيْعٍ فَاتَهُ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ فَهُوَ فَاسِدٌ
(1) كَأَنْ كَانَ فِي الْمَبِيعِ جَهَالَةٌ، كَبَيْعِ شَاةٍ مِنْ قَطِيعٍ،
أَوْ غَرَرٌ كَبَيْعِ بَقَرَةٍ عَلَى أَنَّهَا تَحْلُبُ كَذَا فِي
الْيَوْمِ، أَوْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، كَبَيْعِ الطَّعَامِ قَبْل
قَبْضِهِ، وَبَيْعِ الْعِينَةِ.
وَمَعَ الاِتِّفَاقِ عَلَى وُجُوبِ فَسْخِهِ، وَخُبْثِ الرِّبْحِ
النَّاشِئِ عَنْهُ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ضَمَانِ الْمَبِيعِ فِيهِ بَعْدَ
قَبْضِهِ، وَمِلْكِهِ:
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لاَ
يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ، وَلاَ يَنْفُذُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِبَيْعٍ وَلاَ
هِبَةٍ، لَكِنَّهُ يُضْمَنُ ضَمَانَ الْغَصْبِ، وَعَلَيْهِ مُؤْنَةُ
رَدِّهِ كَالْمَغْصُوبِ؛ وَإِنْ نَقَصَ ضَمِنَ نُقْصَانَهُ، وَزَوَائِدُهُ
مَضْمُونَةٌ، وَفِي تَعَيُّبِهِ أَرْشُ النَّقْصِ، وَفِي تَلَفِهِ
وَإِتْلاَفِهِ الضَّمَانُ.
وَعَلَّلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَلَمْ
يَمْلِكْهُ، كَالْمَيْتَةِ، فَكَانَ مَضْمُونًا فِي جُمْلَتِهِ،
فَأَجْزَاؤُهُ مَضْمُونَةٌ أَيْضًا (2) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يُفِيدُ الْمِلْكَ
إِذَا اتَّصَل بِهِ الْقَبْضُ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ
__________
(1) البدائع 5 / 299.
(2) روضة الطالبين 3 / 408 وما بعدها، وحاشية القليوبي 2 / 276، والمغني 4
/ 56، وكشاف القناع 3 / 188.
(28/240)
خِيَارُ شَرْطٍ لِحَدِيثِ بَرِيرَةَ
الْمَعْرُوفِ (1) وَلِصُدُورِ الْعَقْدِ مِنْ أَهْلِهِ وَوُقُوعِهِ فِي
مَحَلِّهِ، لَكِنَّهُ مِلْكٌ خَبِيثٌ حَرَامٌ لِمَكَانِ النَّهْيِ؛ وَهَذَا
هُوَ الصَّحِيحُ، الْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ (2) .
وَيَكُونُ مَضْمُونًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَيَلْزَمُهُ مِثْلُهُ إِنْ
كَانَ مِثْلِيًّا، وَقِيمَتُهُ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا، بَعْدَ هَلاَكِهِ
أَوْ تَعَذُّرِ رَدِّهِ (3) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا قَبَضَ الْمَبِيعَ
فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، دَخَل فِي ضَمَانِهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ
عَلَى جِهَةِ الأَْمَانَةِ، وَإِنَّمَا قَبَضَهُ عَلَى جِهَةِ
التَّمْلِيكِ، بِحَسَبِ زَعْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَقِل إِلَيْهِ
الْمِلْكُ بِحَسَبِ الأَْمْرِ نَفْسِهِ (4) .
وَنَصَّ الأُْبِّيُّ عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْفَاسِدِ لاَ يَنْتَقِل إِلَى
الْمُشْتَرِي بِقَبْضِهِ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ فَوَاتِهِ (5) (سَوَاءٌ
أَنْقَدَ الثَّمَنَ أَمْ لاَ) قَال ابْنُ الْحَاجِبِ:
لاَ يَنْتَقِل الْمِلْكُ فِيهِ إِلاَّ بِالْقَبْضِ وَالْفَوَاتِ (6) .
وَالْفَوَاتُ - كَمَا يَقُول ابْنُ جُزَيٍّ - يَكُونُ بِخَمْسَةِ
أَشْيَاءَ، ذَكَرَ مِنْهَا تَغَيُّرَ الذَّاتِ
__________
(1) حديث بريرة أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 313) ومسلم (2 / 1141) من
حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) الدر المختار 4 / 124، والاختيار 2 / 22.
(3) مجمع الضمانات (216) والهداية وشروحها 6 / 45 و 96، والدر المختار 4 /
125.
(4) كفاية الطالب وحاشية العدوي 2 / 148.
(5) جواهر الإكليل 2 / 27.
(6) نفسه. وانظر القوانين الفقهية ص 172 وشرح الزرقاني على مختصر سيدي خليل
5 / 93 - 96
(28/240)
وَالتَّعَيُّبَ وَتَعَلُّقَ حَقِّ
الآْخَرِينَ. . . .
(1) 36 - وَفِي وَقْتِ تَقْدِيرِ قِيمَةِ الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا
خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:
فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، تَجِبُ الْقِيمَةُ
يَوْمَ الْقَبْضِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ بِهِ يَدْخُل فِي ضَمَانِهِ، لاَ مِنْ
يَوْمِ الْعَقْدِ، لأَِنَّ مَا يُضْمَنُ يَوْمَ الْعَقْدِ هُوَ الْعَقْدُ
الصَّحِيحُ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْل
مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ
الإِْتْلاَفِ أَوِ الْهَلاَكِ، لأَِنَّ بِهِمَا يَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ
كَمَا يَقُول مُحَمَّدٌ.
وَعَلَّلَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ مَالِكِهِ
فَأَشْبَهَ الْعَارِيَّةَ (3) وَهِيَ مَضْمُونَةٌ عِنْدَهُمْ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اعْتِبَارُ أَقْصَى الْقِيمَةِ، فِي
الْمُتَقَوِّمِ، مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ (4) .
وَهَذَا - أَيْضًا - وَجْهٌ ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ فِي الْغَصْبِ، وَهُوَ
هَاهُنَا كَذَلِكَ، كَمَا يَقُول الْمَقْدِسِيُّ (5) .
__________
(1) المصادر السابقة وانظر كفاية الطالب 2 / 148.
(2) الدر المختار 4 / 125، ومجمع الضمانات ص 124، وكفاية الطالب 2 / 148.
(3) رد المحتار 4 / 125، وتبيين الحقائق 4 / 62، ومجمع الضمانات ص 214،
والشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 560، وانظر كشاف القناع 3 / 198.
(4) حاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 84، وروضة الطالبين 3 / 409.
(5) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 56.
(28/241)
37 - وَلَوْ نَقَصَ الْمَبِيعُ بَيْعًا
فَاسِدًا، وَهُوَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَالاِتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ
النَّقْصَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ:
أ - لِلتَّعَيُّبِ (1) .
ب - وَلأَِنَّ جُمْلَةَ الْمَبِيعِ مَضْمُونَةٌ، فَتَكُونُ أَجْزَاؤُهَا
مَضْمُونَةً أَيْضًا (2) .
38 - وَلَوْ زَادَ الْمَبِيعُ بَيْعًا فَاسِدًا بَعْدَ قَبْضِهِ، زِيَادَةً
مُنْفَصِلَةً كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ، أَوْ مُتَّصِلَةً كَالسَّمْنِ،
فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُشْتَرِي - كَزَوَائِدِ الْمَغْصُوبِ - كَمَا
قَال النَّوَوِيُّ (3) .
وَعَدَمُ ضَمَانِ الزِّيَادَةِ هُوَ - أَيْضًا - وَجْهٌ شَاذٌّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ.
وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا: إِذَا تَلِفَتِ الْعَيْنُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ،
أَسْقَطَتِ الزِّيَادَةَ مِنَ الْقِيمَةِ، وَضَمِنَهَا بِمَا بَقِيَ مِنَ
الْقِيمَةِ حِينَ التَّلَفِ (4) .
وَذَكَرَ الْمَقْدِسِيُّ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ:
أ - أَحَدُهُمَا: الضَّمَانُ، لأَِنَّهَا زِيَادَةٌ فِي عَيْنٍ
مَضْمُونَةٍ، فَأَشْبَهَتِ الزِّيَادَةَ فِي الْمَغْصُوبِ.
ب - وَالآْخَرُ: عَدَمُ الضَّمَانِ، لأَِنَّهُ دَخَل عَلَى أَنْ لاَ
يَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ الزِّيَادَةِ عِوَضٌ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ
الزِّيَادَةُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ: إِنْ
__________
(1) حاشية الجمل 3 / 84.
(2) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 56.
(3) روضة الطالبين 3 / 409، وانظر حاشية الجمل 3 / 84، والشرح الكبير في
ذيل المغني 4 / 56، وكشاف القناع 3 / 198.
(4) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 57 و 58.
(28/241)
هَلَكَتْ بِتَفْرِيطِهِ أَوْ عُدْوَانِهِ،
ضَمِنَهَا، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَالْحَنَفِيَّةُ قَرَّرُوا أَنَّ الزِّيَادَةَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:
أ - الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنَ الأَْصْل،
كَالْوَلَدِ، فَهَذِهِ يَضْمَنُهَا بِالاِسْتِهْلاَكِ لاَ بِالْهَلاَكِ.
ب - الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الأَْصْل،
كَالْكَسْبِ، لاَ تُضْمَنُ بِالاِسْتِهْلاَكِ، عِنْدَ الإِْمَامِ، وَعِنْدَ
صَاحِبَيْهِ تُضْمَنُ بِالاِسْتِهْلاَكِ، لاَ بِالْهَلاَكِ،
كَالْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ.
ح - الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنَ الأَْصْل،
كَالسَّمْنِ، يَضْمَنُهَا بِالاِسْتِهْلاَكِ لاَ بِالْهَلاَكِ.
د - الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الأَْصْل،
كَالصَّبْغِ وَالْخِيَاطَةِ، (فَإِنَّهَا مِلْكُ الْمُشْتَرِي.
وَهَلاَكُهَا أَوِ اسْتِهْلاَكُهَا مِنْ حِسَابِهِ) وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ
فِي هَذِهِ مِنْ حَيْثُ الْفَسْخُ:
- فَعِنْدَ الإِْمَامِ يَمْتَنِعُ الْفَسْخُ فِيهَا، وَتَلْزَمُ
الْمُشْتَرِيَ قِيمَتُهَا.
وَعِنْدَهُمَا: يَنْقُضُهَا الْبَائِعُ، وَيَسْتَرِدُّ الْمَبِيعَ.
وَمَا سِوَاهَا لاَ يَمْنَعُ الْفَسْخَ.
(28/242)
وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فَقَطْ، دُونَ
الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ، فَلِلْبَائِعِ أَخْذُ الزِّيَادَةِ،
وَأَخْذُ قِيمَةِ الْمَبِيعِ يَوْمَ الْقَبْضِ.
وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فَقَطْ، دُونَ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ،
غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ، كَالْكَسْبِ، فَلِلْبَائِعِ أَخْذُهَا مَعَ
تَضْمِينِ الْمَبِيعِ، لَكِنْ لاَ تَطِيبُ لَهُ، وَيَتَصَدَّقُ بِهَا (1) .
39 - إِذَا اسْتَغَل الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا، بَعْدَ
أَنْ قَبَضَهُ، لاَ يَرُدُّ غَلَّتَهُ، لأَِنَّ ضَمَانَهُ مِنْهُ،
وَالْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ (2) .
وَالْخَرَاجُ هُوَ: الْغَلَّةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الْمَبِيعِ، كَأُجْرَةِ
الدَّابَّةِ، وَكُل مَا خَرَجَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ خَرَاجُهُ، فَخَرَاجُ
الشَّجَرِ ثَمَرُهُ، وَخَرَاجُ الْحَيَوَانِ دَرُّهُ وَنَسْلُهُ (3) .
وَإِذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ لاَ يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ بِنَفَقَتِهِ،
لأَِنَّ مَنْ لَهُ الْغَلَّةُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُ غَلَّةٌ، فَلَهُ الرُّجُوعُ بِالنَّفَقَةِ.
وَإِذَا أَحْدَث فِيهِ، مَا لَهُ عَيْنٌ قَائِمَةٌ، كَبِنَاءٍ وَصَبْغٍ،
رَجَعَ بِذَلِكَ عَلَى الْبَائِعِ، مَعَ كَوْنِ
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 131 بتصرف، وانظر مجمع الضمانات ص 216.
(2) جواهر الإكليل 2 / 27. وحديث: " الخراج بالضمان " أخرجه أبو داود (3 /
780) من حديث عائشة، وصححه ابن القطان كما في التلخيص لابن حجر (3 / 22)
قال أبو عبيد: الخراج في هذا الحديث غلة العبد، وقال ابن نجيم في أشباهه:
إن هذا الحديث من جوامع الكلم لا يجوز نقله بالمعنى. انظر عمز عيون
البصائر، في شرح الأشباه والنظائر للحموي 1 / 431 و 432 ط: دار الكتب
العلمية بيروت.
(3) الفائق (مادة: خرج) .
(28/242)
الْغَلَّةِ لَهُ، كَسُكْنَاهُ وَلُبْسِهِ
(1) .
وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ، غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الأَْصْل،
كَالْكَسْبِ، لاَ تُضْمَنُ بِالاِسْتِهْلاَكِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ،
فَهُوَ كَمَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، لِحَدِيثِ: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ
وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ تُضْمَنُ بِالاِسْتِهْلاَكِ لاَ بِالْهَلاَكِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ غَلاَّتِ الْمَبِيعِ
بَيْعًا فَاسِدًا مَضْمُونَةٌ عَلَى كُل حَالٍ، كَمَنَافِعِ الْمَغْصُوبِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ تَلْزَمُهُ أُجْرَةُ الْمِثْل،
لِلْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ فِي يَدِهِ، وَذَلِكَ لِلْمَنْفَعَةِ، وَإِنْ
لَمْ يَسْتَوْفِهَا، وَكَذَلِكَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ مَتَى حُكِمَ
بِأَنَّهُ غَاصِبٌ لِلدَّارِ أَوْ لِبَعْضِهَا ضَمِنَ الأُْجْرَةَ (2) .
وَنَصَّ الْمَقْدِسِيُّ عَلَى أَنَّ أُجْرَةَ مِثْل الْمَبِيعِ بَيْعًا
فَاسِدًا مُدَّةَ بَقَائِهِ فِي يَدِهِ تَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي
وَعَلَيْهِ رَدُّهَا (3) .
ضَمَانُ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ:
40 - الْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ: هُوَ أَنْ يَقْبِضَ
الْمُسَاوِمُ الْمَبِيعَ، بَعْدَ مَعْرِفَةِ الثَّمَنِ، وَبَعْدَ
الشِّرَاءِ، فَيَقُول لِلْبَائِعِ: هَاتِهِ، فَإِنْ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 27، وانظر شرح الزرقاني على مختصر سيدي خليل 5 / 93.
(2) حاشية القليوبي على شرح المنهاج 3 / 28، وحاشية الجمل على شرح المنهج 3
/ 84، وإعانة الطالبين 3 / 408.
(3) الشرح الكبير في ذيل المغني 4 / 56.
(28/243)
رَضِيتُهُ اشْتَرَيْتُهُ.
وَلاَ بُدَّ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ تَوَافُرِ شَرْطَيْنِ:
أ - أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ، مِنَ الْبَائِعِ أَوِ
الْمُشْتَرِي.
ب - وَأَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ بِقَصْدِ الشِّرَاءِ، لاَ لِمُجَرَّدِ
النَّظَرِ (1) .
وَيَضْمَنُهُ الْقَابِضُ فِي هَذِهِ الْحَال، إِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ،
بِالْقِيمَةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ يَوْمَ الْقَبْضِ، كَمَا فِي
الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، خِلاَفًا لِلطَّرَسُوسِيِّ الَّذِي ذَهَبَ إِلَى
أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لاَ يُزَادَ بِهَا عَلَى الْمُسَمَّى، كَمَا فِي
الإِْجَارَةِ الْفَاسِدَةِ.
أَمَّا لَوِ اسْتَهْلَكَهُ فَيَجِبُ فِيهِ الثَّمَنُ لاَ الْقِيمَةُ،
لأَِنَّهُ بِالاِسْتِهْلاَكِ يُعْتَبَرُ رَاضِيًا بِإِمْضَاءِ الْعَقْدِ
بِثَمَنِهِ (2) .
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الْمَأْخُوذُ بِالسَّوْمِ
مَضْمُونٌ كُلُّهُ إِنْ أَخَذَهُ لِشِرَاءِ كُلِّهِ، وَإِلاَّ فَقَدْرُ مَا
يُرِيدُ شِرَاءَهُ (3) .
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: الْمَقْبُوضُ عَلَى وَجْهِ السَّوْمِ مَضْمُونٌ
إِذَا تَلِفَ مُطْلَقًا، لأَِنَّهُ مَقْبُوضٌ عَلَى وَجْهِ الْبَدَل
وَالْعِوَضِ (4) .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 50 و 51، وانظر مجمع الضمانات 213، 214.
(2) الدر المختار ورد المحتار 4 / 51، وقارن بحاشية القليوبي 2 / 214،
وكشاف القناع 3 / 370.
(3) القليوبي 2 / 214.
(4) كشاف القناع 3 / 370.
(28/243)
41 - أَمَّا الْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ
النَّظَرِ، فَهُوَ أَنْ يَقُول الْمُسَاوِمُ: هَاتِهِ حَتَّى أَنْظُرَ
إِلَيْهِ، أَوْ حَتَّى أُرِيَهُ غَيْرِي، وَلاَ يَقُول: فَإِنْ رَضِيتُهُ
أَخَذْتُهُ فَهَذَا غَيْرُ مَضْمُونٍ مُطْلَقًا بَل هُوَ أَمَانَةٌ، ذَكَرَ
الثَّمَنَ أَوْ لاَ، وَيَضْمَنُ بِالاِسْتِهْلاَكِ (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا - كَمَا حَرَّرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ -:
أ - أَنَّ الْمَقْبُوضَ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ
ذِكْرِ الثَّمَنِ، أَمَّا الآْخَرُ فَلاَ يُذْكَرُ فِيهِ ثَمَنٌ.
ب - وَأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَقُول الْمُشْتَرِي: إِنْ رَضِيتُهُ
أَخَذْتُهُ. فَلَوْ قَال: حَتَّى أَرَاهُ لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا عَلَى
سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَإِنْ صَرَّحَ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ أَخَذَ إِنْسَانٌ شَيْئًا بِإِذْنِ رَبِّهِ
لِيُرِيَهُ الآْخِذُ أَهْلَهُ فَإِنْ رَضُوهُ أَخَذَهُ وَإِلاَّ رَدَّهُ
مِنْ غَيْرِ مُسَاوَمَةٍ وَلاَ قَطْعِ ثَمَنٍ فَلاَ يَضْمَنُهُ إِذَا
تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ (3) .
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الْقِسْمَةِ:
42 - تَشْتَمِل الْقِسْمَةُ عَلَى الإِْفْرَازِ وَالْمُبَادَلَةِ.
وَالإِْفْرَازُ: أَخْذُ الشَّرِيكِ عَيْنَ حَقِّهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي
الْمِثْلِيَّاتِ.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 50، 51 وانظر كشاف القناع 3 / 370.
(2) الدر المختار ورد المحتار 4 / 50 و 51.
(3) كشاف القناع 3 / 370.
(28/244)
وَالْمُبَادَلَةُ: أَخْذُهُ عِوَضَ
حَقِّهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي غَيْرِ الْمِثْلِيَّاتِ (1) .
وَلِوُجُودِ وَصْفِ الْمُبَادَلَةِ فِيهَا، كَانَتْ عَقْدَ ضَمَانٍ.
وَيَدُ كُل شَرِيكٍ عَلَى الْمُشْتَرَكِ قَبْل الْقِسْمَةِ، يَدُ
أَمَانَةٍ، وَبَعْدَهَا يَدُ ضَمَانٍ.
وَإِذَا قَبَضَ كُل شَرِيكٍ نَصِيبَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، مَلَكَهُ
مِلْكًا مُسْتَقِلًّا، يُخَوِّلُهُ حَقَّ التَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ فِيهِ،
وَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ هَلَكَ مِنْ ضَمَانِهِ هُوَ فَقَطْ (2) .
(انْظُرْ: قِسْمَة) .
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ عَنِ الْمَال بِمَالٍ:
43 - يُعْتَبَرُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الصُّلْحِ بِمَثَابَةِ الْبَيْعِ،
لأَِنَّهُ مُبَادَلَةٌ كَالْبَيْعِ (3) ، وَلِهَذَا قَال الْكَاسَانِيُّ:
الأَْصْل أَنَّ كُل مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ، يَجُوزُ الصُّلْحُ
عَلَيْهِ وَمَا لاَ فَلاَ (4) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الصُّلْحُ عَلَى غَيْرِ الْمُدَّعَى (بِهِ) بَيْعٌ
(5) فَتُشْتَرَطُ فِيهِ شُرُوطَ الْبَيْعِ (6) وَالْبَيْعُ أَبْرَزُ
عُقُودِ الضَّمَانِ، فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَنِ الْمَال بِمَالٍ.
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 264، والدر المختار ورد المحتار 5 / 161.
(2) الشرح الكبير للدردير 3 / 499.
(3) الاختيار 3 / 5.
(4) البدائع 6 / 48.
(5) الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي عليه 3 / 309.
(6) المرجع السابق.
(28/244)
فَإِذَا قَبَضَ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ،
وَهُوَ بَدَل الصُّلْحِ، وَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُصَالِحِ، هَلَكَ مِنْ
ضَمَانِهِ، كَمَا لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ بَعْدَ قَبْضِهِ فِي عَقْدِ
الْبَيْعِ، فِي يَدِ الْمُشْتَرِي. (انْظُرْ: صُلْح) .
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ التَّخَارُجِ:
44 - التَّخَارُجُ: اصْطِلاَحُ الْوَرَثَةِ عَلَى إِخْرَاجِ بَعْضِهِمْ
مِنَ التَّرِكَةِ، بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ (1) .
وَيُعْتَبَرُ بِمَثَابَةِ تَنَازُل أَحَدِ الْوَرَثَةِ عَنْ نَصِيبِهِ مِنَ
التَّرِكَةِ، فِي مُقَابِل مَا يَتَسَلَّمُهُ مِنَ الْمَال، عَقَارًا كَانَ
أَوْ عُرُوضًا أَوْ نُقُودًا، فَيُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ بَيْعًا، فَإِذَا
قَبَضَ الْمُخْرِجُ مِنَ التَّرِكَةِ بَدَل الْمُخَارَجَةِ أَخَذَ حُكْمَ
الْمَبِيعِ بَعْدَ قَبْضِهِ، تَمَلُّكًا وَتَصَرُّفًا وَاسْتِحْقَاقًا،
فَإِذَا هَلَكَ هَلَكَ مِنْ حِسَابِهِ الْخَاصِّ، كَالْمَبِيعِ إِذَا
هَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ قَبْضِهِ، وَهَذَا لأَِنَّهُ أَمْكَنَ
اعْتِبَارُهُ بَيْعًا، فَكَانَ مَضْمُونًا كَضَمَانِ الْمَبِيعِ. (انْظُرْ:
تَخَارُج) .
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الْقَرْضِ:
45 - يُشْبِهُ الْقَرْضُ الْعَارِيَّةَ فِي الاِبْتِدَاءِ، لِمَا فِيهِ
مِنَ الصِّلَةِ، وَالْمُعَاوَضَةِ فِي الاِنْتِهَاءِ، لِوُجُودِ رَدِّ
الْمِثْل، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِتَبَرُّعٍ مَحْضٍ، لِمَكَانِ الْعِوَضِ،
وَلَيْسَ جَارِيًا عَلَى حَقِيقَةِ
__________
(1) الكفاية للكولاني بهامش تكملة القدير شرح الهداية 7 / 52 الطبعة
الأولى.
(28/245)
الْمُعَاوَضَاتِ، بِدَلِيل الرُّجُوعِ
فِيهِ مَا دَامَ بَاقِيًا (1) .
وَيُمْلَكُ الْقَرْضُ بِالْقَبْضِ، كَالْمَوْهُوبِ - عِنْدَ الْجُمْهُورِ -
لأَِنَّهُ لاَ يَتِمُّ التَّبَرُّعُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ، بِالتَّصَرُّفِ
وَالْعَقْدِ (2) .
فَإِذَا قَبَضَهُ الْمُقْتَرِضُ، ضَمِنَهُ، كُلَّمَا هَلَكَ، بِآفَةٍ أَوْ
تَعَدٍّ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، كَالْمَبِيعِ وَالْمَوْهُوبِ بَعْدَ
الْقَبْضِ، لأَِنَّ قَبْضَهُ قَبْضُ ضَمَانٍ، لاَ قَبْضُ حِفْظٍ
وَأَمَانَةٍ كَقَبْضِ الْعَارِيَّةِ.
46 - وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِقَرْضٍ فَاسِدٍ
كَالْمَقْبُوضِ، بِبَيْعٍ فَاسِدٍ، سَوَاءٌ، فَإِذَا هَلَكَ ضَمِنَهُ
الْمُقْتَرِضُ فَيَحْرُمُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ، لَكِنْ يَصِحُّ بَيْعُهُ،
لِثُبُوتِ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ لاَ يَحِل، لأَِنَّ
الْفَاسِدَ يَجِبُ فَسْخُهُ، وَالْبَيْعُ مَانِعٌ مِنَ الْفَسْخِ، فَلاَ
يَحِل، كَمَا لاَ تَحِل سَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ الْمَانِعَةِ مِنَ
الْفَسْخِ (3) .
وَالْقَرْضُ الْفَاسِدُ يُمْلَكُ بِقَبْضِهِ، وَيُضْمَنُ بِمِثْلِهِ أَوْ
قِيمَتِهِ، كَبَيْعٍ فَسَدَ (4) .
وَلَوْ أَقْرَضَ صَبِيًّا، فَهَلَكَ الْقَرْضُ فِي يَدِهِ،
__________
(1) حاشية عميرة على شرح المحلي على المنهاج 2 / 260.
(2) الدر المختار 4 / 173 وقد صحح القولين. وانظر جواهر الإكليل 2 / 76،
وشرح المحلي على المنهاج 2 / 260، والشرح الكبير مع المغني 4 / 357.
(3) الدر المختار ورد المحتار 4 / 172.
(4) جامع الفصولين 2 / 58.
(28/245)
لاَ يَضْمَنُ بِالاِتِّفَاقِ، عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَيْهِ.
أَمَّا لَوِ اسْتَهْلَكَهُ الصَّبِيُّ، فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَضْمَنُ بِالتَّعَمُّدِ
وَالاِسْتِهْلاَكِ. قَال فِي الْخَانِيَّةِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَهَذَا إِذَا كَانَ الصَّبِيُّ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ بِالْبَيْعِ فَإِنْ
كَانَ مَأْذُونًا لَهُ بِالْبَيْعِ، كَانَ كَالْبَائِعِ، يَضْمَنُ
الْقَرْضَ، بِالْهَلاَكِ وَالاِسْتِهْلاَكِ (1) .
(انْظُرْ: قَرْض) .
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الزَّوَاجِ:
47 - لاَ بُدَّ مِنَ الْمَهْرِ فِي عَقْدِ الزَّوَاجِ، فَيَجْرِي فِيهِ
الضَّمَانُ.
فَإِنْ كَانَ الْمَهْرُ دَيْنًا، ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ.
وَإِنْ كَانَ عَيْنًا مُعَيَّنَةً، فَإِنَّ الزَّوْجَةَ تَمْلِكُهَا
بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُسَلِّمَهَا
الْعَيْنَ، وَلَوْ لَمْ تَتَسَلَّمْهَا بَقِيَتْ فِي ضَمَانِ الزَّوْجِ مَا
دَامَتْ فِي يَدِهِ، عَيْنًا مَضْمُونَةً بِنَفْسِهَا، لأَِنَّهَا غَيْرُ
مُقَابَلَةٍ بِمَالٍ، فَإِذَا هَلَكَتْ قَبْل تَسْلِيمِهَا إِلَى
الزَّوْجَةِ:
فَالْحَنَفِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ الْمَضْمُونَ فِي هَذِهِ الْحَال، هُوَ
قِيمَةُ الْعَيْنِ أَوْ مِثْلُهَا، كَسَائِرِ الأَْعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ
بِنَفْسِهَا: كَالْمَغْصُوبِ، وَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا، وَبَدَل
الصُّلْحِ عَنْ دَمٍ،
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 174، وانظر الفتاوى الهندية 3 / 206.
(28/246)
وَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ. .
. وَلاَ يَبْطُل الزَّوَاجُ بِهَلاَكِ بَدَل الْمَهْرِ (1) .
وَالْمَنْصُوصُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُ لَوْ أَصْدَقَ عَيْنًا،
فَهِيَ مِنْ ضَمَانِهِ قَبْل قَبْضِهَا، ضَمَانَ عَقْدٍ، لاَ ضَمَانَ يَدٍ،
وَلَوْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ أَوْ أَتْلَفَهَا هُوَ، وَجَبَ لَهَا مَهْرُ
مِثْلِهَا، لاِنْفِسَاخِ عَقْدِ الصَّدَاقِ بِالتَّلَفِ (2) . (انْظُرْ:
مَهْر) .
48 - وَكَذَلِكَ الْخُلْعُ، وَيَجْرِي فِيهِ الضَّمَانُ، فَلَوْ
خَالَعَتْهُ عَلَى عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ، وَهَلَكَتِ الْعَيْنُ قَبْل
الدَّفْعِ إِلَى الزَّوْجِ:
فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ عَلَيْهَا مِثْلَهَا أَوْ قِيمَتَهَا.
قَال الْحَصْكَفِيُّ: وَلَوْ هَلَكَ بَدَلُهُ (يَعْنِي بَدَل الْخُلْعِ)
فِي يَدِهَا، قَبْل الدَّفْعِ، أَوِ اسْتُحِقَّ، فَعَلَيْهَا قِيمَتُهُ
لَوِ الْبَدَل قِيَمِيًّا، وَمِثْلُهُ لَوْ مِثْلِيًّا، لأَِنَّ الْخُلْعَ
لاَ يَقْبَل الْفَسْخَ (3) .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ عَلَيْهَا مَهْرَ مِثْلِهَا. (انْظُرْ:
خُلْع) .
ثَالِثًا: الضَّمَانُ فِي عُقُودِ الأَْمَانَةِ:
ضَمَانُ الْوَدِيعَةِ:
49 - تُعْتَبَرُ الْوَدِيعَةُ مِنْ عُقُودِ الأَْمَانَةِ، وَهِيَ
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 268.
(2) شرح المنهج بحاشية الجمل 4 / 237، 238.
(3) الدر المختار 2 / 561.
(28/246)
أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُودَعِ (أَوِ
الْوَدِيعِ) فَهُوَ أَمِينٌ غَيْرُ ضَامِنٍ لِمَا يُصِيبُ الْوَدِيعَةَ،
مِنْ تَلَفٍ جُزْئِيٍّ أَوْ كُلِّيٍّ، إِلاَّ أَنْ يَحْدُثَ التَّلَفُ
بِتَعَدِّيهِ أَوْ تَقْصِيرِهِ أَوْ إِهْمَالِهِ.
وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَيَشْهَدُ
لَهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَيْسَ
عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِل ضَمَانٌ، وَلاَ عَلَى
الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرِ الْمُغِل ضَمَانٌ (1) .
وَالْمُغِل هُوَ: الْخَائِنُ، فِي الْمَغْنَمِ وَغَيْرِهِ (2) .
وَمَا رُوِيَ - أَيْضًا - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أُودِعَ
وَدِيعَةً فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ (3) .
وَمِنْ أَسْبَابِ الضَّمَانِ فِي الْوَدِيعَةِ التَّعَدِّي أَوْ
التَّقْصِيرُ أَوِ الإِْهْمَال، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي
مُصْطَلَحِ: (وَدِيعَة) .
ضَمَانُ الْعَارِيَّةِ:
50 - مَشْهُورُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَأَحَدِ
قَوْلَيْ مَالِكٍ - كَمَا نَصَّ ابْنُ رُشْدٍ - وَقَوْل أَشْهَبَ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ، أَنَّ الْعَارِيَّةَ
__________
(1) حديث: " ليس على المستعير غير المغل ضمان. . . . ". أخرجه الدارقطني (3
/ 41) ثم ضعف راويين في إسناده وقال: (وإنما يروى عن شريح القاضي غير
مرفوع) .
(2) المصباح المنير. مادة: (غلل) .
(3) حديث: " من أودع فلا ضمان عليه ". أخرجه ابن ماجه (2 / 802) وضعف
إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 42) .
(28/247)
مَضْمُونَةٌ، سَوَاءٌ أُتْلِفَتْ بِآفَةٍ
سَمَاوِيَّةٍ، أَمْ تَلِفَتْ بِفِعْل الْمُسْتَعِيرِ، بِتَقْصِيرٍ أَوْ
بِغَيْرِ تَقْصِيرٍ (1) وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي
هُرَيْرَةَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَطَاءٌ وَإِسْحَاقُ، وَاسْتَدَلُّوا:
بِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَارَ مِنْ صَفْوَانَ
بْنِ أُمَيَّةَ أَدْرُعًا، يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَقَال: أَغَصْبًا يَا
مُحَمَّدُ؟ قَال: بَل عَارِيَّةً مَضْمُونَةً وَفِي رِوَايَةٍ فَقَال: يَا
رَسُول اللَّهِ، أَعَارِيَّةٌ مُؤَدَّاةٌ، قَال: نَعَمْ عَارِيَّةٌ
مُؤَدَّاةٌ (2) .
وَحَدِيثُ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: عَلَى الْيَدِ مَا
أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ (3) .
وَلأَِنَّهُ أَخَذَ مِلْكَ غَيْرِهِ، لِنَفْعِ نَفْسِهِ، مُنْفَرِدًا
بِنَفْعِهِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ وَلاَ إِذْنٍ، فَكَانَ مَضْمُونًا،
كَالْغَاصِبِ، وَالْمَأْخُوذِ عَلَى وَجْهِ السَّوْمِ.
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 382 (ط: الثانية. دار الكتب الإسلامية. القاهرة:
1403 هـ. 1983) م. والقوانين الفقهية ص 245 وروضة الطالبين 4 / 431 والمغني
مع الشرح الكبير 5 / 355.
(2) حديث جابر بن عبد الله: " أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان
ابن أمية أدرعا. . . . ". أخرجه الحاكم 3 / 49، وصححه ووافقه الذهبي،
والرواية الأخرى أخرجها أبو داود (3 / 826) من حديث صفوان بن أمية، وقال
ابن حزم في المحلي (9 / 173) حديث حسن.
(3) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي ". تقدم تخريجه ف 6.
(28/247)
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ
ضَعِيفٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْعَارِيَّةَ أَمَانَةٌ عِنْدَ
الْمُسْتَعِيرِ، فَلاَ تُضْمَنُ إِذَا هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ وَلاَ
تَقْصِيرٍ (1) وَذَلِكَ لِحَدِيثِ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ
الْمُغِل ضَمَانٌ (2) .
وَلأَِنَّ عَقْدَ الْعَارِيَّةِ تَمْلِيكٌ أَوْ إِبَاحَةٌ لِلْمَنْفَعَةِ،
وَلاَ تَعَرُّضَ فِيهِ لِلْعَيْنِ، وَلَيْسَ فِي قَبْضِهَا تَعَدٍّ،
لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ، فَانْتَفَى سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ.
وَإِنَّمَا يَتَغَيَّرُ حَال الْعَارِيَّةِ مِنَ الأَْمَانَةِ إِلَى
الضَّمَانِ، بِمَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حَال الْوَدِيعَةِ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى تَضْمِينِ الْمُسْتَعِيرِ مَا يُغَابُ
عَلَيْهِ مِنَ الْعَارِيَّةِ، وَهُوَ: مَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ
كَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَالْكُتُبِ، إِلاَّ أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ
عَلَى هَلاَكِهَا أَوْ ضَيَاعِهَا بِلاَ سَبَبٍ مِنْهُ فَلاَ يَضْمَنُ
حِينَئِذٍ، خِلاَفًا لأَِشْهَبَ الْقَائِل: إِنَّ ضَمَانَ الْعَوَارِيِّ
ضَمَانُ عَدَاءٍ، لاَ يَنْتَفِي بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ كَمَا ذَهَبُوا
إِلَى عَدَمِ تَضْمِينِهِ مَا لاَ يُغَابُ عَلَيْهِ، كَالْحَيَوَانِ
وَالْعَقَارِ، فَلاَ يَضْمَنُهُ الْمُسْتَعِيرُ، وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ
الْمُعِيرُ الضَّمَانَ، وَلَوْ كَانَ لأَِمْرٍ خَافَهُ، مِنْ طَرِيقٍ
__________
(1) الدر المختار 4 / 503، والاختيار 3 / 56، وانظر حاشية عميرة على شرح
المحلي 3 / 20، وإعانة الطالبين 4 / 431.
(2) حديث: " ليس على المستعير غير المغل ضمان ". تقدم تخريجه ف (49) .
(3) العناية والكفاية على الهداية 7 / 469، وانظر بدائع الصنائع 6 / 217.
(28/248)
مَخُوفٍ أَوْ لُصُوصٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ
كَمَا قَرَّرَهُ الدُّسُوقِيُّ.
أَمَّا لَوْ شَرَطَ الْمُسْتَعِيرُ نَفْيَ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ،
فِيمَا يُغَابُ عَلَيْهِ، فَلَهُمْ فِيهِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لاَ عِبْرَةَ بِالشُّرُوطِ، وَيَضْمَنُ، لأَِنَّ
الشَّرْطَ يَزِيدُهُ تُهْمَةً، وَلأَِنَّهُ مِنْ إِسْقَاطِ الْحَقِّ قَبْل
وُجُوبِهِ، فَلاَ يُعْتَبَرُ.
الآْخَرُ: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الشَّرْطُ، وَلاَ يَضْمَنُ، لأَِنَّهُ
مَعْرُوفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: فَالْعَارِيَّةُ مَعْرُوفٌ، وَإِسْقَاطُ
الضَّمَانِ مَعْرُوفٌ آخَرُ، وَلأَِنَّ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ
(1) كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ (2) .
وَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِ الْعَارِيَّةِ وَوَقْتِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ
فِي: (إِعَارَة ف 17) .
الضَّمَانُ فِي الشَّرِكَةِ:
51 - الشَّرِكَةُ قِسْمَانِ - كَمَا يَقُول الْحَنَابِلَةُ - شَرِكَةُ
أَمْلاَكٍ وَشَرِكَةُ عَقْدٍ (3) .
فَالأُْولَى يُعْتَبَرُ فِيهَا كُلٌّ مِنَ الشُّرَكَاءِ، كَأَنَّهُ
أَجْنَبِيٌّ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ
__________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 436، وانظر جواهر
الإكليل 2 / 145 و 146 وقارن بكفاية الطالب 2 / 252.
(2) حديث: " المسلمون عند شروطهم ". أخرجه الدارقطني في سننه (3 / 27) من
حديث عمرو بن عوف، وفي إسناده ضعف، ولكن ذكر ابن حجر في التعليق (3 / 281 -
282) شواهد قواه بها.
(3) كشاف القناع 3 / 496.
(28/248)
فِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنْ فَعَل
ضَمِنَ (1) .
وَالثَّانِيَةُ شَرِكَةُ أَمْوَالٍ، وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى
أَنَّ يَدَ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ فِي مَال الشَّرِكَةِ، يَدُ أَمَانَةٍ،
وَذَلِكَ لأَِنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ، لاَ عَلَى وَجْهِ
الْمُبَادَلَةِ، كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَلاَ عَلَى
وَجْهِ الْوَثِيقَةِ كَالرَّهْنِ (2) .
فَإِنْ قَصَّرَ فِي شَيْءٍ أَوْ تَعَدَّى، فَهُوَ ضَامِنٌ (3) .
وَكَذَلِكَ كُل مَا كَانَ إِتْلاَفًا لِلْمَال، أَوْ كَانَ تَمْلِيكًا
لِلْمَال بِغَيْرِ عِوَضٍ، لأَِنَّ الشَّرِكَةَ - كَمَا يَقُول
الْحَصْكَفِيُّ - وُضِعَتْ لِلاِسْتِرْبَاحِ وَتَوَابِعِهِ، وَمَا لَيْسَ
كَذَلِكَ لاَ يَنْتَظِمُهُ عَقْدُهَا، فَيَكُونُ مَضْمُونًا (4) .
وَكَذَا إِذَا مَاتَ مُجْهِلاً نَصِيبَ صَاحِبِهِ، إِذَا كَانَ مَال
الشَّرِكَةِ دُيُونًا عَلَى النَّاسِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ، كَمَا يَضْمَنُ
لَوْ مَاتَ مُجْهِلاً عَيْنَ مَال الشَّرِكَةِ الَّذِي فِي يَدِهِ، وَكَذَا
بَقِيَّةُ الأَْمَانَاتِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ وَارِثَهُ
يَعْلَمُ ذَلِكَ، فَلاَ يَضْمَنُ (5) .
وَلَوْ هَلَكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَال الشَّرِكَةِ فِي يَدِهِ
__________
(1) البدائع بتصرف 6 / 65، والدر المختار ورد المحتار 3 / 333.
(2) تبيين الحقائق 3 / 320، والاختيار 3 / 17، وبداية المجتهد 2 / 309
والإقناع بحاشية البجيرمي عليه 3 / 110، وكشاف القناع 3 / 500
(3) الدر المختار 3 / 346، وبداية المجتهد 2 / 309.
(4) الدر المختار 3 / 345 بتصرف.
(5) الدر المختار مع رد المحتار 3 / 346.
(28/249)
مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ وَلاَ تَفْرِيطٍ، لاَ
يَضْمَنُهُ لأَِنَّهُ أَمِينٌ.
أَمَّا لَوْ هَلَكَ مَال الشَّرِيكَيْنِ، أَوْ مَال أَحَدِهِمَا قَبْل
التَّصَرُّفِ فَتَبْطُل الشَّرِكَةُ، لأَِنَّ الْمَال هُوَ الْمَعْقُودُ
عَلَيْهِ فِيهَا (1) .
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ:
52 - يُعْتَبَرُ الْمُضَارِبُ أَمِينًا فِي مَال الْمُضَارَبَةِ
وَأَعْيَانِهَا، لأَِنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ بِإِذْنِ مَالِكِهِ، عَلَى
وَجْهٍ لاَ يَخْتَصُّ بِنَفْعِهِ، فَكَانَ أَمِينًا، كَالْوَكِيل،
وَفَارَقَ الْمُسْتَعِيرَ، لأَِنَّهُ يَخْتَصُّ بِنَفْعِ الْعَارِيَّةِ (2)
.
وَهَذَا مَا لَمْ يُخَالِفْ مَا قَيَّدَهُ بِهِ رَبُّ الْمَال، فَيُصْبِحُ
عِنْدَئِذٍ غَاصِبًا (3) .
وَمَعَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ تَقْيِيدِ الْمُضَارِبِ
بِبَعْضِ الْقُيُودِ، لأَِنَّهُ مُفِيدٌ، كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ،
وَفِي عَدَمِ الْجَوَازِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّحْجِيرِ الْخَارِجِ عَنْ
سُنَّةِ الْقِرَاضِ (4) كَمَا يَقُول الدَّرْدِيرُ، كَالاِتِّجَارِ
بِالدَّيْنِ، وَالإِْيدَاعِ، لَكِنْ هُنَاكَ قُيُودًا، لاَ تَجُوزُ لَهُ
مُخَالَفَتُهَا، مِنْهَا:
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 3 / 343، وتبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه،
نقلا عن الإتقاني 3 / 319، وبداية المجتهد 2 / 309، وانظر الشرح الكبير
للدردير 3 / 350.
(2) كشاف القناع 3 / 522 و 423.
(3) الدر المختار 4 / 484، وانظر كشاف القناع 3 / 508.
(4) بدائع الصنائع 6 / 100، وانظر المغني 5 / 184، 185، والشرح الكبير
للدردير 3 / 519، وشرح المحلي على المنهاج 3 / 53.
(28/249)
أ - السَّفَرُ إِذَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ
رَبُّ الْمَال، وَهَذَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَطَرِ، وَالتَّعْرِيضِ
لِلتَّلَفِ، فَلَوْ سَافَرَ بِالْمَال بِغَيْرِ إِذْنِهِ، ضَمِنَهُ (1) .
ب - إِذَا قَيَّدَهُ بِأَنْ لاَ يُسَافِرَ بِبَحْرٍ، أَوْ يَبْتَاعَ
سِلْعَةً عَيَّنَهَا لَهُ، فَخَالَفَهُ، ضَمِنَ (2) .
ج - وَإِذَا دَفَعَ مَال الْمُضَارَبَةِ قِرَاضًا (أَيْ ضَارَبَ فِيهِ)
بِغَيْرِ إِذْنٍ، ضَمِنَ لأَِنَّ الشَّيْءَ لاَ يَتَضَمَّنُ مِثْلَهُ
إِلاَّ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، أَوِ التَّفْوِيضِ إِلَيْهِ (3) .
ضَمَانُ الْمُضَارِبِ فِي غَيْرِ الْمُخَالَفَاتِ الْعَقَدِيَّةِ:
53 - الْمُضَارِبُ وَإِنْ كَانَ أَمِينًا، لَكِنَّهُ يَضْمَنُ - فِي غَيْرِ
الْمُخَالَفَاتِ الْعَقَدِيَّةِ - فِيمَا يَلِي:
أ - إِذَا بَاعَ بِأَقَل مِنْ ثَمَنِ الْمِثْل، أَوِ اشْتَرَى بِأَكْثَرَ
مِنْهُ، مِمَّا لاَ يَتَغَابَنُ فِيهِ النَّاسُ (4) ، ضَمِنَ.
ب - إِذَا تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ مَال الْقِرَاضِ، أَوْ أَنْفَقَ مِنْ
مَال الْمُضَارَبَةِ فِي الْحَضَرِ، عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى مَنْ
يُمَوِّلُهُ، ضَمِنَ، لأَِنَّ النَّفَقَةَ جَزَاءُ الاِحْتِبَاسِ، فَإِذَا
كَانَ فِي مِصْرِهِ لاَ يَكُونُ
__________
(1) الشرح الكبير للدردير 3 / 524، وشرح المحلي على المنهاج 3 / 57.
(2) الشرح الكبير للدردير 3 / 526، وانظر فيه وفي الدسوقي تفصيل الضمان في
الأخيرة على التخصيص.
(3) الدر المختار 4 / 485 والقوانين الفقهية ص 186 وشرح المنهج بحاشية
الجمل 3 / 516، وكشاف القناع 3 / 515، وبداية المجتهد 2 / 292.
(4) المغني 5 / 153.
(28/250)
مُحْتَبِسًا. أَمَّا لَوْ أَنْفَقَ فِي
السَّفَرِ، فَفِيهِ خِلاَفٌ وَأَوْجُهٌ وَشُرُوطٌ فِي انْتِفَاءِ ضَمَانِهِ
(1) . تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (مُضَارَبَة) .
ج - إِذَا هَلَكَ مَال الْمُضَارَبَةِ فِي يَدِهِ، بِسَبَبِ تَعَدِّيهِ
أَوْ تَقْصِيرِهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ، وَإِلاَّ
فَالْخُسْرَانُ وَالضَّيَاعُ عَلَى رَبِّ الْمَال، دُونَ الْعَامِل،
لأَِنَّهُ أَمِينٌ، كَالْوَدِيعِ. وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ
تَفْرِيطٍ، لاَ يَضْمَنُهُ، لأَِنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ بِإِذْنِ
مَالِكِهِ، عَلَى وَجْهٍ لاَ يَخْتَصُّ بِنَفْعِهِ (2) .
د - إِذَا أَتْلَفَ الْعَامِل مَال الْقِرَاضِ (الْمُضَارَبَةِ) ضَمِنَهُ،
وَوَجَبَ عَلَيْهِ بَدَلُهُ، لَكِنْ يَرْتَفِعُ الْقِرَاضُ، لأَِنَّهُ
وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ بَدَلُهُ، لَكِنْ لاَ يَدْخُل فِي مِلْكِ
الْمَالِكِ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ الْقِرَاضِ
(3) .
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ:
54 - الْوَكِيل أَمِينٌ وَذَلِكَ لأَِنَّهُ نَائِبٌ عَنِ الْمُوَكِّل، فِي
الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ، فَكَانَتْ يَدُهُ كَيَدِهِ، وَالْهَلاَكُ فِي
يَدِهِ كَالْهَلاَكِ فِي يَدِ الْمَالِكِ، كَالْوَدِيعِ.
__________
(1) البدائع 6 / 106، والاختيار 3 / 23، وتبيين الحقائق 5 / 70 والشرح
الكبير للدردير 3 / 530 و 531، والقوانين الفقهية ص 186 وشرح المحلي على
المنهاج 3 / 57، وروضة الطالبين 5 / 135، وكشاف القناع 3 / 516.
(2) القوانين الفقهية (186) وكشاف القناع 3 / 522، 523.
(3) روضة الطالبين 5 / 139.
(28/250)
وَلأَِنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدُ إِنْفَاقٍ
وَمَعُونَةٍ، وَالضَّمَانُ مُنَافٍ لِذَلِكَ (1) .
وَعَلَى هَذَا لاَ يَضْمَنُ الْوَكِيل مَا تَلِفَ فِي يَدِهِ بِلاَ
تَعَدٍّ، وَإِنْ تَعَدَّى ضَمِنَ، وَكُل مَا يَتَعَدَّى فِيهِ الْوَكِيل
مَضْمُونٌ، عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ تَعَدَّى - كَمَا يَذْكُرُ ابْنُ
رُشْدٍ (2) -.
55 - الْوَكِيل بِالشِّرَاءِ يَتَقَيَّدُ شِرَاؤُهُ بِمِثْل الْقِيمَةِ
وَغَبْنٍ يَسِيرٍ - وَهُوَ مَا يَدْخُل تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ -
إِذَا لَمْ يَكُنْ سِعْرُهُ مَعْرُوفًا، فَإِنْ كَانَ سِعْرُهُ مَعْرُوفًا،
لاَ يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّل وَإِنْ قَلَّتِ الزِّيَادَةُ،
(فَيَضْمَنُهَا الْوَكِيل) وَهَذَا لأَِنَّ التُّهْمَةَ فِي الأَْكْثَرِ
مُتَحَقِّقَةٌ، فَلَعَلَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ فَإِذَا لَمْ
يُوَافِقْهُ أَلْحَقَهُ بِغَيْرِهِ (3) .
وَالْوَكِيل بِالْبَيْعِ، إِذَا كَانَتِ الْوَكَالَةُ مُطْلَقَةً، لاَ
يَجُوزُ بَيْعُهُ، إِلاَّ بِمِثْل الْقِيمَةِ، عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ
وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِنُقْصَانٍ لاَ
يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، وَلاَ بِأَقَل مِمَّا قَدَّرَهُ لَهُ
الْمُوَكِّل، فَلَوْ بَاعَ كَذَلِكَ كَانَ ضَامِنًا، وَيَتَقَيَّدُ
مُطْلَقُ الْوَكَالَةِ بِالْمُتَعَارَفِ (4) .
__________
(1) شرح المنهج وحاشية الجمل عليه 3 / 416، وانظر كشاف القناع 3 / 484.
(2) بداية المجتهد (2 / 369) وانظر روضة الطالبين 4 / 325 و 326.
(3) الدر المختار ورد المحتار عليه 4 / 408، وتبيين الحقائق 4 / 271 و 272
والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 382، وكشاف القناع 3 / 477.
(4) تبيين الحقائق 4 / 271.
(28/251)
وَمِمَّا يَضْمَنُهُ الْوَكِيل قَبْضُ
الدَّيْنِ، وَهُوَ وَكِيلٌ بِالْخُصُومَةِ.
وَالْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ لاَ يَمْلِكُ الْقَبْضَ، لأَِنَّ الْخُصُومَةَ
غَيْرُ الْقَبْضِ حَقِيقَةً، وَهِيَ لإِِظْهَارِ الْحَقِّ.
وَيُعْتَبَرُ قَبْضُ الْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ لِلدَّيْنِ تَعَدِّيًا،
فَيَضْمَنُهُ إِنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ، لأَِنَّ كُل مَا يَعْتَدِي فِيهِ
الْوَكِيل، يَضْمَنُهُ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ تَعَدَّى، وَهَذَا عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1)
.
56 - وَهُنَاكَ أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِالضَّمَانِ فِي عَقْدِ
الْوَكَالَةِ مِنْهَا:
1 - إِذَا اشْتَرَى الْوَكِيل شَيْئًا، وَأَخَّرَ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ
لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَهَلَكَ فِي يَدِهِ، فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ، لأَِنَّهُ
مُفَرِّطٌ فِي إِمْسَاكِهِ (2) .
2 - إِذَا قَبَضَ ثَمَنَ الْمَبِيعِ، فَهُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، فَإِنْ
طَلَبَهُ الْمُوَكِّل، فَأَخَّرَ رَدَّهُ مَعَ إِمْكَانِهِ فَتَلِفَ،
ضَمِنَهُ (3) .
3 - إِذَا دَفَعَ الْوَكِيل دَيْنًا عَنْ الْمُوَكِّل، وَلَمْ يُشْهِدْ،
فَأَنْكَرَ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ الْقَبْضَ، ضَمِنَ الْوَكِيل
لِتَفْرِيطِهِ بِعَدَمِ الإِْشْهَادِ (4)
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 278، والدر المختار 4 / 412، وانظر روضة الطالبين 4
/ 320، وكشاف القناع 3 / 483، والمغني بالشرح الكبير 5 / 218، 219، وبداية
المجتهد 2 / 369.
(2) المغني 5 / 220، وكشاف القناع 3 / 482.
(3) المغني 5 / 229.
(4) الشرح الكبير للدردير 3 / 390، وبداية المجتهد 2 / 369.
(28/251)
وَقَيَّدَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنْ يَكُونَ
الْمُوَكِّل قَال لَهُ: لاَ تَدْفَعْ إِلاَّ بِشُهُودٍ، فَدَفَعَ بِغَيْرِ
شُهُودٍ (1) .
4 - إِذَا سَلَّمَ الْوَكِيل الْمَبِيعَ قَبْل قَبْضِ ثَمَنِهِ، ضَمِنَ
قِيمَتَهُ لِلْمُوَكِّل (2) .
وَكَذَا إِذَا وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ، أَوْ قَبْضِ مَبِيعٍ، فَإِنَّهُ
لاَ يُسَلِّمُ الثَّمَنَ حَتَّى يَتَسَلَّمَ الْمَبِيعَ. فَلَوْ سَلَّمَ
الثَّمَنَ قَبْل تَسَلُّمِ الْمَبِيعِ، وَهَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْل
تَسَلُّمِهِ ضَمِنَهُ لِلْمُوَكِّل، إِلاَّ بِعُذْرٍ (3) .
57 - لِلْوَكِيل بِالشِّرَاءِ نَسِيئَةً أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ
لاِسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ثُمَّ:
أ - إِنْ " هَلَكَ قَبْل الْحَبْسِ، يَهْلَكُ عَلَى الْمُوَكِّل، وَلاَ
يَضْمَنُ الْوَكِيل.
ب - وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الْحَبْسِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ:
1 - يَهْلِكُ بِالثَّمَنِ، هَلاَكَ الْمَبِيعِ، وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنِ
الْمُوَكِّل فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ.
2 - وَيَهْلِكُ بِأَقَل مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنَ الثَّمَنِ، عِنْدَ أَبِي
يُوسُفَ، حَتَّى لَوْ كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ رَجَعَ
الْوَكِيل بِذَلِكَ الْفَضْل عَلَى مُوَكِّلِهِ.
3 - وَقَال: زُفَرُ يَهْلِكُ عَلَى الْوَكِيل هَلاَكَ الْمَغْصُوبِ،
لأَِنَّ الْوَكِيل عِنْدَهُ لاَ يَمْلِكُ الْحَبْسَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 627.
(2) روضة الطالبين 4 / 309، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 342، وكشاف القناع
3 / 481.
(3) كشاف القناع 3 / 481، 482 بتصرف.
(28/252)
مِنْ الْمُوَكِّل، فَيَصِيرُ غَاصِبًا
بِالْحَبْسِ (1) .
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْوَكِيل إِذَا بَاعَ إِلَى أَجَلٍ،
أَنْ يُشْهِدَ، وَإِلاَّ ضَمِنَ. وَتَرَدَّدَتِ النُّقُول، فِي أَنَّ
عَدَمَ الإِْشْهَادِ، شَرْطُ صِحَّةٍ أَوْ شَرْطٌ لِلضَّمَانِ.
وَنَقَل الْجَمَل أَنَّهُ إِنْ سَكَتَ الْمُوَكِّل عَنِ الإِْشْهَادِ، أَوْ
قَال: بِعْ وَأَشْهِدْ، فَفِي الصُّورَتَيْنِ يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَلَكِنْ
يَجِبُ عَلَى الْوَكِيل الضَّمَانُ (2) . انْظُرْ مُصْطَلَحَ (وَكَالَة) .
ضَمَانُ الْوَصِيِّ فِي عَقْدِ الْوِصَايَةِ (أَوِ الإِْيصَاءِ) :
58 - الإِْيصَاءُ: تَفْوِيضُ الشَّخْصِ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ،
وَمَصَالِحِ أَطْفَالِهِ، إِلَى غَيْرِهِ، بَعْدَ مَوْتِهِ (3) .
وَيُعْتَبَرُ الْوَصِيُّ نَائِبًا عَنِ الْمُوصِي، وَتَصَرُّفَاتُهُ
نَافِذَةٌ، وَيَدُهُ عَلَى مَال الْمُتَوَفَّى يَدُ أَمَانَةٍ، فَلاَ
يَضْمَنُ مَا تَلِفَ مِنَ الْمَال بِدُونِ تَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ،
وَيَضْمَنُ فِي الأَْحْوَال التَّالِيَةِ:
أ - إِذَا بَاعَ أَوِ اشْتَرَى بِغَبْنٍ فَاحِشٍ، وَهُوَ: الَّذِي لاَ
يَدْخُل تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُتَقَوِّمِينَ، لأَِنَّ
__________
(1) فتاوى قاضي خان - بهامش الفتاوى الهندية 3 / 37.
(2) شرح المنهج وحاشية الجمل عليه 3 / 409، 410، وانظر شرح المحلي على
المنهاج، وحاشية القليوبي عليه 2 / 342.
(3) درر الحكام في شرح غرر الأحكام 2 / 427 (ط: دار الخلافة العلية
الآستانة سنة: 1330 هـ) .
(28/252)
وِلاَيَتَهُ لِلنَّظَرِ، وَلاَ نَظَرَ فِي
الْغَبْنِ الْفَاحِشِ (1) .
ب - كَمَا يَضْمَنُ الْوَصِيُّ إِذَا دَفَعَ الْمَال إِلَى الْيَتِيمِ
بَعْدَ الإِْدْرَاكِ، قَبْل ظُهُورِ رُشْدِهِ، لأَِنَّهُ دَفَعَهُ إِلَى
مَنْ لَيْسَ لَهُ دَفْعُهُ إِلَيْهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الصَّاحِبَيْنِ.
وَقَال الإِْمَامُ: بِعَدَمِ الضَّمَانِ، إِذَا دَفَعَهُ إِلَيْهِ بَعْدَ
خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، لأَِنَّ لَهُ وِلاَيَةَ الدَّفْعِ إِلَيْهِ
حِينَئِذٍ (2) .
ج - لَيْسَ لِلْوَلِيِّ الاِتِّجَارُ فِي مَال الْيَتِيمِ لِنَفْسِهِ،
فَإِنْ فَعَل:
فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يَضْمَنُ رَأْسَ الْمَال،
وَيَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُسَلِّمُ لَهُ الرِّبْحَ، وَلاَ يَتَصَدَّقُ
بِشَيْءٍ (3) .
الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الْهِبَةِ:
59 - لَمَّا كَانَتِ الْهِبَةُ عَقْدَ تَبَرُّعٍ، فَقَدْ ذَهَبَ
الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ هُوَ قَبْضُ أَمَانَةٍ، فَإِذَا
هَلَكَتْ أَوِ اسْتُهْلِكَتْ لَمْ تُضْمَنْ، لأَِنَّهُ - كَمَا يَقُول
الْكَاسَانِيُّ - لاَ سَبِيل إِلَى الرُّجُوعِ فِي الْهَالِكِ، وَلاَ
سَبِيل إِلَى الرُّجُوعِ فِي قِيمَتِهِ،
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار عليه 5 / 453 وانظر تبيين الحقائق 6 / 211.
(2) الدر المختار ورد المحتار 5 / 454.
(3) الدر المختار ورد المحتار 5 / 455، وانظر حاشية الشلبي على تبيين
الحقائق 6 / 212.
(28/253)
لأَِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوْهُوبَةٍ
لاِنْعِدَامِ وُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا (1) .
وَتُضْمَنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَيْنِ فَقَطْ:
أ - حَال مَا إِذَا طَلَبَ الْوَاهِبُ رَدَّهَا - لأَِمْرٍ مَا - وَحَكَمَ
الْقَاضِي بِوُجُوبِ الرَّدِّ، وَامْتَنَعَ الْمَوْهُوبُ لَهُ مِنَ
الرَّدِّ، ثُمَّ هَلَكَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا حِينَئِذٍ،
لأَِنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ قَبْضُ أَمَانَةٍ، وَالأَْمَانَةُ تُضْمَنُ
بِالْمَنْعِ وَالْجَحْدِ بِالطَّلَبِ، لِوُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُ (2) .
ب - حَال مَا إِذَا وَهَبَهُ مُشَاعًا قَابِلاً لِلْقِسْمَةِ كَالأَْرْضِ
الْكَبِيرَةِ، وَالدَّارِ الْكَبِيرَةِ، فَإِنَّهَا هِبَةٌ صَحِيحَةٌ
عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لأَِنَّهَا عَقْدُ تَمْلِيكٍ، وَالْمَحَل قَابِلٌ
لَهُ، فَأَشْبَهَتِ الْبَيْعَ (3) لَكِنَّهَا فَاسِدَةٌ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي الْهِبَةِ، وَهُوَ غَيْرُ
مُمْكِنٍ فِي الْمُشَاعِ، وَلاَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْمَوْهُوبِ لَهُ
فِيهَا، وَتَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ، وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْوَاهِبِ
فِيهَا (4) .
__________
(1) البدائع 6 / 128 و 129.
(2) الدر المختار ورد المحتار 4 / 519، وتبيين الحقائق 5 / 101، وانظر درر
الحكام في شرحه غرر الأحكام لملا خسرو 2 / 223.
(3) القوانين الفقهية ص 241 وروضة الطالبين 5 / 376، وكشاف القناع 4 / 305.
(4) الاختيار 3 / 50، وتبيين الحقائق 5 / 93 و 94، ومجمع الضمانات ص 335.
(28/253)
رَابِعًا: الْعُقُودُ الْمُزْدَوَجَةُ
الأَْثَرِ:
ضَمَانُ الإِْجَارَةِ:
60 - إِذَا كَانَتِ الإِْجَارَةُ: تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ،
فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ ضَرْبَانِ:
أ - فَقَدْ تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ بِمُجَرَّدِهَا هِيَ الْمَعْقُودُ
عَلَيْهَا، وَتَتَحَدَّدُ بِالْمُدَّةِ، كَإِجَارَةِ الدُّورِ لِلسُّكْنَى،
وَالْحَوَانِيتِ لِلتِّجَارَةِ، وَالسَّيَّارَاتِ لِلنَّقْل، وَالأَْوَانِي
لِلاِسْتِعْمَال.
ب - وَقَدْ تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا عَمَلاً
مَعْلُومًا يُؤَدِّيهِ الْعَامِل، كَبِنَاءِ الدَّارِ، وَخِيَاطَةِ
الثَّوْبِ، وَإِصْلاَحِ الأَْجْهِزَةِ الآْلِيَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
ج - فَإِذَا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا، وَهِيَ
مُجَرَّدُ السُّكْنَى أَوِ الرُّكُوبِ، أَوْ نَحْوِهِمَا، يُفَرَّقُ فِي
الضَّمَانِ، بَيْنَ الْعَيْنِ الْمَأْجُورَةِ، وَبَيْنَ الْمَنْفَعَةِ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا:
أ - فَتُعْتَبَرُ الدَّارُ الْمَأْجُورَةُ، وَالسَّيَّارَةُ
الْمُسْتَأْجَرَةُ - مَثَلاً - أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، حَتَّى
لَوْ خَرِبَتِ الدَّارُ، أَوْ عَطِبَتِ السَّيَّارَةُ، وَهِيَ فِي يَدِهِ،
بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلاَ تَقْصِيرٍ، لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ قَبْضَ
الإِْجَارَةِ - كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ - قَبْضٌ مَأْذُونٌ فِيهِ،
فَلاَ يَكُونُ مَضْمُونًا، كَقَبْضِ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ، سَوَاءٌ
أَكَانَتِ الإِْجَارَةُ صَحِيحَةً أَمْ فَاسِدَةً (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 210، وانظر القوانين الفقهية ص 183 وكفاية الطالب
بحاشية العدوي 2 / 182، ومغني المحتاج 2 / 351، وكشاف القناع 3 / 546.
(28/254)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ يَدَ
الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى الْعَيْنِ الْمَأْجُورَةِ يَدُ أَمَانَةٍ كَذَلِكَ،
بَعْدَ انْتِهَاءِ عَقْدِ الإِْجَارَةِ، إِذَا لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا، فِي
الأَْصَحِّ، اسْتِصْحَابًا لِمَا كَانَ، كَالْمُودَعِ، وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ:
يَدُ ضَمَانٍ.
قَال السُّبْكِيُّ: فَإِنْ تَلِفَتْ عَقِبَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، قَبْل
التَّمَكُّنِ مِنَ الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ، أَوْ إِعْلاَمِهِ، فَلاَ
ضَمَانَ جَزْمًا، أَمَّا إِذَا اسْتَعْمَلَهَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا
قَطْعًا (1) .
فَلَوْ شَرَطَ الْمُؤَجِّرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ضَمَانَ الْعَيْنِ
الْمَأْجُورَةِ، فَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ، لأَِنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى
الْعَقْدِ، وَفِي فَسَادِ الإِْجَارَةِ فِيهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى
الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ الضَّمَانِ عَلَى الأَْمِينِ
بَاطِلٌ (2) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: " مَا لاَ يَجِبُ ضَمَانُهُ، لاَ يُصَيِّرُهُ
الشَّرْطُ مَضْمُونًا، وَمَا يَجِبُ ضَمَانُهُ، لاَ يَنْتَفِي ضَمَانُهُ
بِشَرْطِ نَفْيِهِ ".
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلَى نَفْيِ الضَّمَانِ بِشَرْطِهِ،
وَوُجُوبِهِ بِشَرْطِهِ (3) ، اسْتَدَلاَّ بِحَدِيثِ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى
شُرُوطِهِمْ (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 351.
(2) الدر المختار 5 / 40.
(3) المغني 6 / 118.
(4) حديث: " المسلمون عند شروطهم ". تقدم تخريجه ف (50) .
(28/254)
ب - أَمَّا الْمَنْفَعَةُ الْمَعْقُودُ
عَلَيْهَا، وَهِيَ: السُّكْنَى أَوِ الرُّكُوبُ، فَهِيَ مَضْمُونَةٌ،
بِضَمَانِ بَدَلِهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، بِمُجَرَّدِ تَمَكُّنِهِ مِنِ
اسْتِيفَائِهَا، إِذَا كَانَتِ الإِْجَارَةُ صَحِيحَةً، بِلاَ خِلاَفٍ،
سَوَاءٌ انْتَفَعَ بِهَا الْمُسْتَأْجِرُ أَمْ لَمْ يَنْتَفِعْ، وَهَذَا
مَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْمَادَّةُ (470) مِنَ الْمَجَلَّةِ، وَفِيهَا:
تَلْزَمُ الأُْجْرَةُ فِي الإِْجَارَةِ الصَّحِيحَةِ - أَيْضًا -
بِالاِقْتِدَارِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، مَثَلاً: لَوْ
اسْتَأْجَرَ أَحَدٌ دَارًا بِإِجَارَةٍ صَحِيحَةٍ، فَبَعْدَ قَبْضِهَا
يَلْزَمُهُ إِعْطَاءُ الأُْجْرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَسْكُنْهَا.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الإِْجَارَةُ فَاسِدَةً فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي
الضَّمَانِ الْوَاجِبِ فِيهَا:
فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ
عَنْ الإِْمَامِ أَحْمَدَ - أَشَارَ إِلَيْهَا ابْنُ رَجَبٍ - أَنَّهَا
كَالصَّحِيحَةِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ فِي الضَّمَانِ أَجْرُ الْمِثْل،
بَالِغًا مَا بَلَغَ، لأَِنَّ الْمَنَافِعَ مُتَقَوَّمَةٌ، فَتَجِبُ
الْقِيمَةُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَالإِْجَارَةُ بَيْعُ الْمَنَافِعِ،
فَتُعْتَبَرُ بِبَيْعِ الأَْعْيَانِ، وَفِي بَيْعِ الأَْعْيَانِ إِذَا
فَسَدَ الْبَيْعُ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ، بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، فَكَذَا
بَيْعُ الْمَنَافِعِ (1) .
وَالْحَنَفِيَّةُ عَدَا زُفَرَ، وَهُوَ الرَّاوِيَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ
الإِْمَامِ أَحْمَدَ، يَرَوْنَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الصَّحِيحَةِ
وَالْفَاسِدَةِ:
__________
(1) تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 5 / 121 و 122، والهداية وشروحها 8 /
35، وانظر القوانين الفقهية ص 184.
(28/255)
فَفِي الصَّحِيحَةِ: يَضْمَنُ الأُْجْرَةَ
الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا، مَهْمَا بَلَغَتْ.
أَمَّا فِي الْفَاسِدَةِ، فَضَمَانُ الأُْجْرَةِ مَنُوطٌ بِاسْتِيفَاءِ
الْمَنْفَعَةِ، وَلاَ تَجِبُ الأُْجْرَةُ إِلاَّ بِالاِنْتِفَاعِ، وَيَقُول
ابْنُ رَجَبٍ فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: وَلَعَلَّهَا رَاجِعَةٌ
إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لاَ تُضْمَنُ فِي الْغَصْبِ وَنَحْوِهِ، إِلاَّ
بِالاِنْتِفَاعِ، وَهُوَ الأَْشْبَهُ (1) .
61 - أَمَّا إِذَا كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا هِيَ
إِنْجَازُ عَمَلٍ مِنَ الأَْعْمَال، كَالْبِنَاءِ وَالْخِيَاطَةِ
وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّ الضَّمَانَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ صِفَةِ الْعَامِل،
وَهُوَ الأَْجِيرُ فِي اصْطِلاَحِهِمْ لأَِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ
أَجِيرًا خَاصًّا، أَوْ مُشْتَرَكًا أَيْ عَامًّا.
وَالأَْجِيرُ الْخَاصُّ هُوَ الَّذِي يَتَقَبَّل الْعَمَل مِنْ وَاحِدٍ،
أَوْ يَعْمَل لِوَاحِدٍ مُدَّةً مَعْلُومَةً، وَيَسْتَحِقُّ الأَْجْرَ
بِالْوَقْتِ دُونَ الْعَمَل.
وَالأَْجِيرُ الْمُشْتَرَكُ، هُوَ الَّذِي يَتَقَبَّل الْعَمَل مِنْ غَيْرِ
وَاحِدٍ، وَلاَ يَسْتَحِقُّ الأَْجْرَ حَتَّى يَعْمَل، وَالضَّابِطُ:
أَنَّ: كُل مَنْ يَنْتَهِي عَمَلُهُ بِانْتِهَاءِ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ
فَهُوَ أَجِيرٌ وَاحِدٌ (أَيْ خَاصٌّ) وَكُل مَنْ لاَ يَنْتَهِي عَمَلُهُ
بِانْتِهَاءِ مُدَّةٍ مُقَدَّرَةٍ، فَهُوَ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ (2) ".
__________
(1) القواعد الفقهية ص 67.
(2) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 5 / 134.
(28/255)
وَفِي ضَمَانِ كُلٍّ مِنْهُمَا تَفْصِيلٌ
يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَارَة) . .
ضَمَانُ الرَّهْنِ:
62 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِ الرَّهْنِ، إِذَا هَلَكَتِ
الْعَيْنُ الْمَرْهُونَةُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ، بَعْدَ قَبْضِهَا وَبَعْدَ
تَحَقُّقِ شُرُوطِ الرَّهْنِ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الرَّهْنَ
أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، لاَ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ، إِلاَّ إِذَا
تَعَدَّى فِيهِ، أَوِ امْتَنَعَ مِنْ رَدِّهِ بَعْدَ طَلَبِهِ مِنْهُ أَوْ
بَعْدَ الْبَرَاءَةِ مِنَ الدَّيْنِ، وَلاَ يَسْقُطُ بِشَيْءٍ مِنَ
الدَّيْنِ بِهَلاَكِهِ (أَيِ الرَّهْنِ) مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ (1) ،
وَذَلِكَ:
لِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يُغْلَقُ الرَّهْنُ
مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ (2)
.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرَّهْنَ إِذَا قَبَضَهُ
الْمُرْتَهِنُ، كَانَتْ مَالِيَّتُهُ مَضْمُونَةً، أَمَّا عَيْنُهُ
فَأَمَانَةٌ، وَذَلِكَ: لِمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ حَدَّثَ: أَنَّ
رَجُلاً رَهَنَ فَرَسًا، فَنَفَقَ فِي يَدِهِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 96، وشرح المحلي على المنهاج وحاشية القليوبي عليه 2
/ 275 و 276، والمغني - مع الشرح الكبير - 4 / 442، وكشاف القناع 3 / 341.
(2) حديث: " لا يغلق الرهن من صاحبه ". أخرجه الشافعي في المسند (2 / 164 -
ترتيبه) ، وأعله غير واحد بالإرسال كما في التلخيص لابن حجر (3 / 36) .
(28/256)
لِلْمُرْتَهِنِ: ذَهَبَ حَقُّكَ (1) .
وَلِحَدِيثِ عَطَاءٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ (2) (وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ مَضْمُونٌ
بِالدَّيْنِ الَّذِي وُضِعَ فِي مُقَابِلِهِ) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى ضَمَانِ الرَّهْنِ بِشُرُوطٍ:
أ - أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، لاَ فِي يَدِ
غَيْرِهِ، كَالْعَدْل.
ب - أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ، أَيْ يُمْكِنُ
إِخْفَاؤُهُ، كَالْحُلِيِّ وَالسِّلاَحِ وَالْكُتُبِ وَالثِّيَابِ.
ج - أَنْ لاَ تَقُومَ بَيِّنَةٌ عَلَى هَلاَكِهِ أَوْ تَلَفِهِ بِغَيْرِ
سَبَبِهِ، كَالْحَرِيقِ الْغَالِبِ، وَغَارَاتِ الأَْعْدَاءِ،
وَمُصَادَرَةِ الْبُغَاةِ، فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ، ضَمِنَ
الْمُرْتَهِنُ، وَلَوْ شَرَطَ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ الْبَرَاءَةَ وَعَدَمَ
ضَمَانِهِ، لأَِنَّ هَذَا إِسْقَاطٌ لِلشَّيْءِ قَبْل وُجُوبِهِ،
وَالتُّهْمَةُ مَوْجُودَةٌ، خِلاَفًا لأَِشْهَبَ، الْقَائِل بِعَدَمِ
الضَّمَانِ عِنْدَ الشَّرْطِ (3) .
__________
(1) حديث عطاء أنه حدث: " أن رجلا رهن فرسا. . . . . ". أخرجه أبو داود في
المراسيل (ص 172) ، وقال عبد الحق الإشبيلي: " هو مرسل وضعيف " نقله عنه
الزيلعي في نصب الراية (4 / 321) .
(2) حديث عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الرهن بما فيه ". أخرجه
أبو داود في المراسيل (ص 173) ، ونقل الزيلعي في نصب الراية (4 / 322) عن
ابن القطان أنه قال: (مرسل صحيح) .
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 254 و 255، وانظر جواهر الإكليل
2 / 84 و 85 والقوانين الفقهية (213) .
(28/256)
63 - وَفِي اعْتِبَارِ قِيمَةِ الرَّهْنِ
الْمَضْمُونِ، بَعْضُ الْخِلاَفِ وَالتَّفْصِيل:
فَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ، عَلَى أَنَّ قِيمَةَ الْمَرْهُونِ إِذَا هَلَكَ،
تُعْتَبَرُ يَوْمَ الْقَبْضِ، لأَِنَّهُ يَوْمئِذٍ دَخَل فِي ضَمَانِهِ،
وَفِيهِ يَثْبُتُ الاِسْتِيفَاءُ يَدًا، ثُمَّ يَتَقَرَّرُ بِالْهَلاَكِ
(1) .
أَمَّا إِذَا اسْتَهْلَكَهُ الْمُرْتَهِنُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ، فَتُعْتَبَرُ
قِيمَتُهُ يَوْمَ الاِسْتِهْلاَكِ، لِوُرُودِهِ عَلَى الْعَيْنِ
الْمُودَعَةِ، وَتَكُونُ الْقِيمَةُ رَهْنًا عِنْدَهُ (2) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ - فِي اعْتِبَارِ قِيمَةِ الرَّهْنِ التَّالِفِ -
ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ، كُلُّهَا مَرْوِيَّةٌ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ:
الأَْوَّل: يَوْمُ التَّلَفِ، لأَِنَّ عَيْنَ الرَّهْنِ كَانَتْ قَائِمَةً،
فَلَمَّا تَلِفَتْ قَامَتْ قِيمَتُهَا مَقَامَهَا.
الثَّانِي: يَوْمُ الْقَبْضِ، لأَِنَّهُ كَشَاهِدٍ، وَضَعَ خَطَّهُ
وَمَاتَ، فَيُعْتَبَرُ خَطُّهُ، وَتُعْتَبَرُ عَدَالَتُهُ يَوْمَ كَتْبِهِ.
الثَّالِثُ: يَوْمُ عَقْدِ الرَّهْنِ، قَال الْبَاجِيُّ: وَهُوَ أَقْرَبُ،
لأَِنَّ النَّاسَ إِنَّمَا يَرْهَنُونَ مَا يُسَاوِي الدَّيْنَ
الْمَرْهُونَ فِيهِ غَالِبًا (3) .
ضَمَانُ الرَّهْنِ الْمَوْضُوعِ عَلَى يَدِ الْعَدْل:
64 - يَصِحُّ وَضْعُ الرَّهْنِ عِنْدَ عَدْلٍ ثَالِثٍ، غَيْرِ الرَّاهِنِ
وَالْمُرْتَهِنِ، وَيَتِمُّ وَيَلْزَمُ بِقَبْضِ
__________
(1) الاختيار 2 / 65.
(2) رد المحتار 5 / 309.
(3) جواهر الإكليل 2 / 87 وانظر - أيضا - الشرح الكبير للدردير، وحاشية
الدسوقي عليه 3 / 260.
(28/257)
الْعَدْل، لأَِنَّ يَدَهُ كَيَدِ
الْمُرْتَهِنِ.
وَلاَ يَأْخُذُهُ أَحَدُهُمَا مِنْهُ، لأَِنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّ
الرَّاهِنِ فِي الْحِفْظِ بِيَدِهِ، وَتَعَلَّقَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ
اسْتِيفَاءً، فَلاَ يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا إِبْطَال حَقِّ الآْخَرِ.
وَلَوْ دَفَعَ الرَّهْنَ إِلَى أَحَدِهِمَا ضَمِنَ، لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمَا
بِهِ، لأَِنَّهُ مُودَعُ الرَّاهِنِ فِي حَقِّ الْعَيْنِ، وَمُودَعُ
الْمُرْتَهِنِ فِي حَقِّ الْمَالِيَّةِ، وَكِلاَهُمَا أَجْنَبِيٌّ عَنْ
صَاحِبِهِ، وَالْمُودَعُ يُضْمَنُ بِالدَّفْعِ إِلَى الأَْجْنَبِيِّ (1) .
وَلَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْعَدْل: فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
يَهْلَكُ مِنْ ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ، لأَِنَّ يَدَهُ فِي حَقِّ
الْمَالِيَّةِ يَدُ الْمُرْتَهِنِ، وَهِيَ الْمَضْمُونَةُ، فَإِذَا هَلَكَ،
هَلَكَ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ (2) .
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّهُ إِذَا هَلَكَ فِي يَدِ الأَْمِينِ، هَلَكَ
مِنْ ضَمَانِ الرَّاهِنِ (3) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ: عَلَى أَنَّ الأَْمِينَ إِذَا دَفَعَ الرَّهْنَ
إِلَى الرَّاهِنِ أَوْ الْمُرْتَهِنِ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَتَلِفَ:
فَإِنْ سَلَّمَهُ إِلَى الرَّاهِنِ، ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْمُرْتَهِنِ، أَوْ
ضَمِنَ لَهُ الدَّيْنَ الْمَرْهُونَ هُوَ فِيهِ، فَيَضْمَنُ أَقَلَّهُمَا.
__________
(1) الهداية بشروحها 9 / 105، وتبيين الحقائق 6 / 80، وانظر المغني 4 /
390.
(2) الدر المختار ورد المحتار 5 / 223 و 224.
(3) الشرح الكبير، وحاشية الدسوقي عليه 3 / 253.
(28/257)
وَإِنْ سَلَّمَهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ،
ضَمِنَ قِيمَةَ الرَّهْنِ لِلرَّاهِنِ (1) .
الضَّمَانُ فِي الصُّلْحِ عَنْ مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ:
65 - إِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْ مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ، كَسُكْنَى دَارٍ،
وَرُكُوبِ سَيَّارَةٍ، مُدَّةً مَعْلُومَةً، اعْتُبِرَ هَذَا الصُّلْحُ
بِمَثَابَةِ عَقْدِ إِجَارَةٍ، وَعِبَارَةِ التَّنْوِيرِ: وَكَإِجَارَةٍ
إِنْ وَقَعَ عَنْ مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ (2) .
كَمَا لَوْ كَانَ لِشَخْصٍ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِينَارٍ، فَصَالَحَهُ
الْمَدِينُ عَلَى سُكْنَى دَارِهِ، أَوْ عَلَى زِرَاعَةِ أَرْضِهِ، أَوْ
رُكُوبِ سَيَّارَتِهِ، مُدَّةً مَعْلُومَةً، جَازَ هَذَا الصُّلْحُ (3) .
وَتَثْبُتُ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الصُّلْحِ شُرُوطُ الإِْجَارَةِ،
مِنْهَا التَّوْقِيتُ - إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِ (4) - وَتَثْبُتُ فِيهِ
أَحْكَامُهَا - كَمَا يَقُول النَّوَوِيُّ (5) - وَمِنْ أَهَمُّهَا:
اعْتِبَارُ الْعَيْنِ الْمُتَصَالَحِ عَلَى مَنْفَعَتِهَا، كَالدَّارِ
وَالسَّيَّارَةِ، أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُصَالِحِ، أَمَّا الْمَنْفَعَةُ
ذَاتُهَا فَإِنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُصَالِحِ، بِمُجَرَّدِ
تَسَلُّمِ الْعَيْنِ،
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 81.
(2) الدر المختار 4 / 474.
(3) انظر بدائع الصنائع 6 / 47، والدر المختار 4 / 474، والهداية وشروحها 7
/ 31 (ط: الأولى، بولاق: 1317) ، وشرح الزرقاني على مختصر سيدي خليل 6 / 2
و 3، والشرح الكبير للدردير 3 / 310، وروضة الطالبين 4 / 193 والمغني 5 /
16، 19.
(4) الدر المختار 4 / 474.
(5) روضة الطالبين 4 / 193.
(28/258)
فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الصُّلْحِ
الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا، اعْتُبِرَ الْمُصَالِحُ مُسْتَوْفِيًا لِبَدَل
الصُّلْحِ حُكْمًا، سَوَاءٌ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ فِعْلاً أَوْ
عَطَّلَهَا، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ فِي يَدِ
الْمُسْتَأْجِرِ فِي الإِْجَارَةِ.
يَدُ الأَْمَانَةِ وَيَدُ الضَّمَانِ:
66 - الْمَشْهُورُ تَقْسِيمُ الْيَدِ إِلَى قِسْمَيْنِ: يَدِ أَمَانَةٍ،
وَيَدِ ضَمَانٍ.
وَيَدُ الأَْمَانَةِ، حِيَازَةُ الشَّيْءِ أَوِ الْمَال، نِيَابَةً لاَ
تَمَلُّكًا، كَيَدِ الْوَدِيعِ، وَالْمُسْتَعِيرِ، وَالْمُسْتَأْجِرِ،
وَالشَّرِيكِ، وَالْمُضَارِبِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ، وَالْوَصِيِّ.
وَيَدُ الضَّمَانِ، حِيَازَةُ الْمَال لِلتَّمَلُّكِ أَوْ لِمَصْلَحَةِ
الْحَائِزِ، كَيَدِ الْمُشْتَرِي وَالْقَابِضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ،
وَالْمُرْتَهِنِ، وَالْغَاصِبِ وَالْمَالِكِ، وَالْمُقْتَرِضِ.
وَحُكْمُ يَدِ الأَْمَانَةِ، أَنَّ وَاضِعَ الْيَدِ أَمَانَةً، لاَ
يَضْمَنُ مَا هُوَ تَحْتَ يَدِهِ، إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّقْصِيرِ،
كَالْوَدِيعِ فَإِنَّهُ إِذَا أَوْدَعَ الْوَدِيعَةَ عِنْدَ مَنْ لاَ
يُودَعُ مِثْلُهَا عِنْدَ مِثْلِهِ يَضْمَنُهَا.
وَحُكْمُ يَدِ الضَّمَانِ، أَنَّ وَاضِعَ الْيَدِ عَلَى الْمَال، عَلَى
وَجْهِ التَّمَلُّكِ أَوِ الاِنْتِفَاعِ بِهِ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ،
يَضْمَنُهُ فِي كُل حَالٍ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ
عَجَزَ عَنْ رَدِّهِ إِلَى صَاحِبِهِ، كَمَا يَضْمَنُهُ بِالتَّلَفِ
وَالإِْتْلاَفِ.
فَالْمَالِكُ ضَامِنٌ لِمَا يَمْلِكُهُ وَهُوَ تَحْتَ يَدِهِ،
(28/258)
فَإِذَا انْتَقَلَتِ الْيَدُ إِلَى
غَيْرِهِ بِعَقْدِ الْبَيْعِ، أَوْ بِإِذْنِهِ، كَالْمَقْبُوضِ عَلَى
سَوْمِ الشِّرَاءِ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَالْمَغْصُوبِ، فَالضَّمَانُ
فِي ذَلِكَ عَلَى ذِي الْيَدِ.
وَلَوِ انْتَقَلَتِ الْيَدُ إِلَى غَيْرِهِ، بِعَقْدِ وَدِيعَةٍ أَوْ
عَارِيَّةً، فَالضَّمَانُ - أَيْضًا - عَلَى الْمَالِكِ (1) .
أَهَمُّ الأَْحْكَامِ وَالْفَوَارِقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ:
أ - تَأْثِيرُ السَّبَبِ السَّمَاوِيِّ:
67 - إِذَا هَلَكَ الشَّيْءُ بِسَبَبٍ لاَ دَخْل لِلْحَائِزِ فِيهِ وَلاَ
لِغَيْرِهِ، انْتَفَى الضَّمَانُ فِي يَدِ الأَْمَانَةِ، لاَ فِي يَدِ
الضَّمَانِ، فَلَوْ هَلَكَتِ الْعَارِيَّةُ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ
بِسَبَبِ الْحَرِّ أَوِ الْبَرْدِ، لاَ يَضْمَنُ الْمُسْتَعِيرُ، لأَِنَّ
يَدَهُ يَدُ أَمَانَةٍ.
بِخِلاَفِ يَدِ الْبَائِعِ قَبْل تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي،
فَإِنَّهُ لاَ يَنْتَفِي الضَّمَانُ بِهَلاَكِهِ بِذَلِكَ، بَل يُفْسَخُ
الْعَقْدُ، وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ، لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ مِنْ بَقَائِهِ،
لِعَجْزِ الْبَائِعِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ كُلَّمَا طَالَبَ
بِالثَّمَنِ، فَامْتَنَعَتِ الْمُطَالَبَةُ، وَارْتَفَعَ الْعَقْدُ كَأَنْ
لَمْ يَكُنْ (2) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ مَالِكٍ، انْتِقَال الضَّمَانِ إِلَى الْمُشْتَرِي
بِنَفْسِ الْعَقْدِ (3) .
__________
(1) البدائع 5 / 248، والقوانين الفقهية (220) والمحلي على المنهاج 3 / 29،
والقواعد لابن رجب (53 و 308 و 309) بتصرف فيها. وانظر الفروق 2 / 207.
(2) البدائع 5 / 238، وانظر الدر المختار ورد المحتار عليه 4 / 268، وانظر
روضة الطالبين 3 / 499.
(3) القوانين الفقهية ص 164 وانظر جواهر الإكليل لمختصر سيدي خليل 2 / 27
والشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 70 و 71.
(28/259)
ب - تَغَيُّرُ صِفَةِ وَضْعِ الْيَدِ:
68 - تَتَغَيَّرُ صِفَةُ يَدِ الأَْمِينِ وَتُصْبِحُ يَدَ ضَمَانٍ
بِالتَّعَدِّي، فَإِذَا تَلِفَ الشَّيْءُ بَعْدَ ذَلِكَ ضَمِنَهُ، مَهْمَا
كَانَ سَبَبُ التَّلَفِ، وَلَوْ سَمَاوِيًّا.
أ - فَفِي الإِْجَارَةِ، يُعْتَبَرُ الأَْجِيرُ الْمُشْتَرَكُ أَمِينًا -
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - وَالْمَتَاعُ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ، لاَ يُضْمَنُ
إِنْ هَلَكَ بِغَيْرِ عَمَلِهِ، إِلاَّ إِنْ قَصَّرَ فِي حِفْظِهِ،
كَالْوَدِيعِ إِذَا قَصَّرَ فِي حِفْظِ الْوَدِيعَةِ (1) ، أَوْ تَعَمَّدَ
الإِْتْلاَفَ، أَوْ تَلِفَ الْمَتَاعُ بِفِعْلِهِ، كَتَمَزُّقِ الثَّوْبِ
مِنْ دَقِّهِ (2) .
ب - وَفِي الْوَدِيعَةِ، يَضْمَنُ إِذَا تَرَكَ الْحِفْظَ الْمُلْتَزَمَ،
كَأَنْ رَأَى إِنْسَانًا يَسْرِقُ الْوَدِيعَةَ، فَتَرَكَهُ وَهُوَ قَادِرٌ
عَلَى الْمَنْعِ، أَوْ خَالَفَ فِي كَيْفِيَّةِ الْحِفْظِ، أَوْ
أَوْدَعَهَا مَنْ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ، أَوْ عِنْدَ مَنْ لاَ تُودَعُ
عِنْدَ مِثْلِهِ، أَوْ سَافَرَ بِهَا، أَوْ جَحَدَهَا كَمَا تَقَدَّمَ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (وَدِيعَة) .
ج - وَفِي الْعَارِيَّةِ، وَهِيَ أَمَانَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، مَا عَدَا
الْحَنَابِلَةَ، لاَ تُضْمَنُ إِنْ هَلَكَتْ بِالاِنْتِفَاعِ الْمُعْتَادِ،
وَتُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي، كَأَنْ يَدُل عَلَيْهَا سَارِقًا أَوْ
يُتْلِفَهَا أَوْ يَمْنَعَهَا
__________
(1) مجمع الضمانات ص 27.
(2) مجمع الضمانات ص 28 والدر المختار 5 / 41.
(28/259)
مِنَ الْمُعِيرِ بَعْدَ الطَّلَبِ، عَلَى
تَفْصِيلٍ بَيْنَ مَا يُغَابُ وَمَا لاَ يُغَابُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
(1) .
ج - الْمَوْتُ عَنْ تَجْهِيلٍ:
69 - مَعْنَى التَّجْهِيل: أَنْ لاَ يُبَيِّنَ حَال الأَْمَانَةِ الَّتِي
عِنْدَهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ وَارِثَهُ لاَ يَعْلَمُ حَالَهَا،
كَذَلِكَ فَسَّرَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ (2) ، فَالْوَدِيعُ إِذَا مَاتَ
مُجْهِلاً حَال الْوَدِيعَةِ الَّتِي عِنْدَهُ، وَوَارِثَهُ لاَ يَعْلَمُ
حَالَهَا، يَضْمَنُهَا بِذَلِكَ.
وَمَعْنَى ضَمَانِهَا - كَمَا يَقُول ابْنُ نُجَيْمٍ - صَيْرُورَتُهَا
دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ (3) .
وَكَذَلِكَ نَاظِرُ الْوَقْفِ، إِذَا مَاتَ مُجْهِلاً لِحَال بَدَل
الْوَقْفِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ.
وَكَذَا كُل شَيْءٍ أَصْلُهُ أَمَانَةٌ يَصِيرُ دَيْنًا فِي التَّرِكَةِ
بِالْمَوْتِ عَنْ تَجْهِيلٍ (4) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الإِْيصَاءِ فِي الْوَدِيعَةِ
يَسْتَوْجِبُ الضَّمَانَ، وَقَالُوا: إِذَا مَرِضَ الْمُودَعُ مَرَضًا
مَخُوفًا، أَوْ حُبِسَ لِيُقْتَل لَزِمَهُ أَنْ يُوصِيَ، فَإِنْ سَكَتَ
عَنْ ذَلِكَ لَزِمَهُ الضَّمَانُ،
__________
(1) مجمع الضمانات (55 و 56) والدر المختار 4 / 503 وما بعدها، والقوانين
الفقهية (245 و 246) وشرح المنهج وحاشية الجمل 3 / 458 و 459 والمغني
بالشرح الكبير 5 / 355 و 358.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم (273) ، وانظر مجمع الضمانات ص 87.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 274.
(4) مجمع الضمانات ص 88 وانظر الأمثلة الفرعية في الشرح الكبير للدردير
وحاشية الدسوقي 3 / 425 و 426، والأشباه والنظائر لابن نجيم (273) .
(28/260)
لأَِنَّهُ عَرَّضَهَا لِلْفَوَاتِ، لأَِنَّ
الْوَارِثَ يَعْتَمِدُ ظَاهِرَ الْعَيْنِ، وَلاَ بُدَّ فِي الْوَصِيَّةِ
مِنْ بَيَانِ الْوَدِيعَةِ، حَتَّى لَوْ قَال: عِنْدِي لِفُلاَنٍ ثَوْبٌ،
وَلَمْ يُوجَدْ فِي تَرِكَتِهِ، ضَمِنَ لِعَدَمِ بَيَانِهِ (1) . (ر:
تَجْهِيل) .
د - الشَّرْطُ:
70 - لاَ أَثَرَ لِلشَّرْطِ فِي صِفَةِ الْيَدِ الْمُؤْتَمَنَةِ عِنْدَ
الأَْكْثَرِينَ.
قَال الْبَغْدَادِيُّ: اشْتِرَاطُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ
بَاطِلٌ، وَقِيل: تَصِيرُ مَضْمُونَةً (2) .
وَقَال التُّمُرْتَاشِيُّ: وَاشْتِرَاطُ الضَّمَانِ عَلَى الأَْمِينِ
بَاطِلٌ، بِهِ يُفْتَى (3) ، فَلَوْ شَرَطَ الْمُؤَجِّرُ عَلَى
الْمُسْتَأْجِرِ ضَمَانَ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ، فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ.
وَلَوْ شَرَطَ الْمُودَعُ عَلَى الْوَدِيعِ ضَمَانَ الْوَدِيعَةِ
فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَلاَ ضَمَانَ لَوْ تَلِفَتْ وَكَذَا الْحُكْمُ فِي
سَائِرِ الأَْمَانَاتِ (4) .
وَعَلَّلَهُ الْمَالِكِيَّةُ، بِأَنَّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِخْرَاجِهَا
عَنْ حَقِيقَتِهَا الشَّرْعِيَّةِ (5) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لأَِنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ،
وَلَوْ قَال الْوَدِيعُ: أَنَا ضَامِنٌ لَهَا لَمْ
__________
(1) كفاية الأخيار للحصني 2 / 8 (ط: دار المعرفة في بيروت) .
(2) مجمع الضمانات (55) .
(3) الدر المختار 4 / 494.
(4) مجمع الضمانات (55) .
(5) الشرح الكبير للدردير 3 / 423.
(28/260)
يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ
وَلاَ تَقْصِيرٍ، لأَِنَّ ضَمَانَ الأَْمَانَاتِ غَيْرُ صَحِيحٍ (1) .
وَنَصَّ الْقَلْيُوبِيُّ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الأَْمَانَةِ فِي
الْعَارِيَّةِ - وَهِيَ مَضْمُونَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا هَلَكَتْ
بِغَيْرِ الاِسْتِعْمَال - هُوَ شَرْطٌ مُفْسِدٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ،
وَشَرْطُ أَنْ لاَ ضَمَانَ فِيهَا فَاسِدٌ لاَ مُفْسِدٌ (2) .
وَجَاءَ فِي نُصُوصِ الْحَنَابِلَةِ: كُل مَا كَانَ أَمَانَةً لاَ يَصِيرُ
مَضْمُونًا بِشَرْطِهِ، لأَِنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ كَوْنُهُ أَمَانَةً،
فَإِذَا شَرَطَ ضَمَانَهُ، فَقَدِ الْتَزَمَ ضَمَانَ مَا لَمْ يُوجَدْ
سَبَبُ ضَمَانِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ، كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ ضَمَانَ
الْوَدِيعَةِ، أَوْ ضَمَانَ مَالٍ فِي يَدِ مَالِكِهِ. وَمَا كَانَ
مَضْمُونًا لاَ يَنْتَفِي ضَمَانُهُ بِشَرْطِهِ، لأَِنَّ مُقْتَضَى
الْعَقْدِ الضَّمَانُ، فَإِذَا شَرَطَ نَفْيَ ضَمَانِهِ لاَ يَنْتَفِي مَعَ
وُجُودِ سَبَبِهِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ نَفْيَ ضَمَانِ مَا يَتَعَدَّى
فِيهِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَال: الْمُؤْمِنُونَ عَلَى
شُرُوطِهِمْ، وَهَذَا يَدُل عَلَى نَفْيِ الضَّمَانِ بِشَرْطِهِ،
وَالأَْوَّل ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ (3) .
الْقَوَاعِدُ الْفِقْهِيَّةُ فِي الضَّمَانِ:
الْقَوَاعِدُ فِي الضَّمَانِ كَثِيرَةٌ، نُشِيرُ إِلَى
__________
(1) كشاف القناع 4 / 168.
(2) حاشية القليوبي على شرح المحلي على المنهاج 3 / 20.
(3) الشرح الكبير في ذيل المغني 5 / 366 و 367.
(28/261)
أَهَمِّهَا، بِاخْتِصَارٍ فِي التَّعْرِيفِ
بِهَا، وَالتَّمْثِيل لَهَا، كُلَّمَا دَعَتِ الْحَاجَةُ، مُرَتَّبَةً
بِحَسَبِ أَوَائِل حُرُوفِهَا:
الْقَاعِدَةُ الأُْولَى: " الأَْجْرُ وَالضَّمَانُ لاَ يَجْتَمِعَانِ (1)
":
71 - الأَْجْرُ هُوَ: بَدَل الْمَنْفَعَةِ. وَالضَّمَانُ - هُنَا - هُوَ:
الاِلْتِزَامُ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا، هَلَكَتْ أَوْ
لَمْ تَهْلَكْ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مِنْ قَوَاعِدِ الْحَنَفِيَّةِ،
الْمُتَّصِلَةِ بِرَأْيِهِمْ فِي عَدَمِ ضَمَانِ مَنَافِعِ الْمَغْصُوبِ،
خِلاَفًا لِلْجُمْهُورِ.
فَلَوِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً أَوْ سَيَّارَةً، لِحَمْل شَيْءٍ مُعَيَّنٍ،
فَحَمَّلَهَا شَيْئًا آخَرَ أَوْ أَثْقَل مِنْهُ بِخِلاَفِ جِنْسِهِ،
كَأَنْ حَمَل مَكَانَ الْقُطْنِ حَدِيدًا فَتَلِفَتْ، ضَمِنَ قِيمَتَهَا،
وَلاَ أَجْرَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهَا هَلَكَتْ بِغَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ.
وَكَذَا لَوِ اسْتَأْجَرَهَا، لِيَرْكَبَهَا إِلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ،
فَذَهَبَ بِهَا إِلَى مَكَانٍ آخَرَ فَهَلَكَتْ، ضَمِنَ قِيمَتَهَا، وَلاَ
أَجْرَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الأَْجْرَ وَالضَّمَانَ لاَ يَجْتَمِعَانِ،
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
لَكِنِ الْقَاعِدَةُ مَشْرُوطَةٌ عِنْدَهُمْ، بِعَدَمِ اسْتِقْرَارِ
الأَْجْرِ فِي ذِمَّةِ الضَّامِنِ، كَمَا لَوِ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ
الدَّابَّةِ - مَثَلاً - فِعْلاً، ثُمَّ تَجَاوَزَ فَصَارَ غَاصِبًا،
وَضَمِنَ، يَلْزَمُهُ أَجْرُ مَا سَمَّى
__________
(1) المادة ص 85 من المجلة.
(2) تبيين الحقائق 5 / 118، والبدائع 4 / 213.
(28/261)
عِنْدَهُمْ، إِذَا سَلِمَتِ الدَّابَّةُ
وَلَمْ تَهْلَكْ (1) .
وَالْجُمْهُورُ يُوجِبُونَ الأَْجْرَ كُلَّمَا كَانَ لِلْمَغْصُوبِ أَجْرٌ،
لأَِنَّ الْمَنَافِعَ مُتَقَوِّمَةٌ كَالأَْعْيَانِ، فَإِذَا تَلِفَتْ أَوْ
أَتْلَفَهَا فَقَدْ أَتْلَفَ مُتَقَوِّمًا، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ
كَالأَْعْيَانِ (2) وَإِذَا ذَهَبَ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْمَغْصُوبِ فِي
مُدَّةِ الْغَصْبِ، وَجَبَ مَعَ الأُْجْرَةِ أَرْشُ نَقْصِهِ لاِنْفِرَادِ
كُلٍّ بِإِيجَابٍ (3) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ أَقْوَالٌ: وَافَقُوا فِي بَعْضِهَا الْحَنَفِيَّةَ،
وَفِي بَعْضِهَا الْجُمْهُورَ وَانْفَرَدُوا بِتَفْصِيلٍ فِي بَعْضِهَا (4)
.
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: " إِذَا اجْتَمَعَ الْمُبَاشِرُ
وَالْمُتَسَبِّبُ يُضَافُ الْحُكْمُ إِلَى الْمُبَاشِرِ (5) .
72 - الْمُبَاشِرُ لِلْفِعْل: هُوَ الْفَاعِل لَهُ بِالذَّاتِ،
وَالْمُتَسَبِّبُ هُوَ الْمُفْضِي وَالْمُوَصِّل إِلَى وُقُوعِهِ،
وَيَتَخَلَّل بَيْنَ فِعْلِهِ وَبَيْنَ الأَْثَرِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ
فِعْل فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَالْمُبَاشِرُ يَحْصُل الأَْثَرُ بِفِعْلِهِ
مِنْ غَيْرِ تَخَلُّل فِعْل فَاعِلٍ مُخْتَارٍ.
وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْمُبَاشِرُ لأَِنَّهُ أَقْرَبُ لإِِضَافَةِ
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 117.
(2) شرح المحلي على المنهاج 3 / 33، والمغني 5 / 435، وكشاف القناع 4 /
111.
(3) كشاف القناع 4 / 111 بتصرف.
(4) القوانين الفقهية (217) .
(5) المادة (89) من المجلة.
(28/262)
الْحُكْمِ إِلَيْهِ مِنَ الْمُتَسَبِّبِ،
قَال خَلِيلٌ: وَقُدِّمَ عَلَيْهِ الْمُرْدِي (1) فَلَوْ حَفَرَ رَجُلٌ
بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ، بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْ وَلِيِّ
الأَْمْرِ، فَأَلْقَى شَخْصٌ حَيَوَانَ غَيْرِهِ فِي تِلْكَ الْبِئْرِ،
ضَمِنَ الَّذِي أَلْقَى الْحَيَوَانَ، لأَِنَّهُ الْعِلَّةُ
الْمُؤَثِّرَةُ، دُونَ حَافِرِ الْبِئْرِ، لأَِنَّ التَّلَفَ لَمْ يَحْصُل
بِفِعْلِهِ.
وَلَوْ وَقَعَ الْحَيَوَانُ فِيهِ بِغَيْرِ فِعْل أَحَدٍ، ضَمِنَ
الْحَافِرُ، لِتَسَبُّبِهِ بِتَعَدِّيهِ بِالْحَفْرِ بِغَيْرِ إِذْنٍ.
وَكَذَلِكَ لَوْ دَل سَارِقًا عَلَى مَتَاعٍ، فَسَرَقَهُ الْمَدْلُول،
ضَمِنَ السَّارِقُ لاَ الدَّال.
وَلِذَا لَوْ دَفَعَ إِلَى صَبِيٍّ سِكِّينًا، فَوَجَأَ بِهِ نَفْسَهُ، لاَ
يَضْمَنُ الدَّافِعُ، لِتَخَلُّل فِعْل فَاعِلٍ مُخْتَارٍ. وَلَوْ وَقَعَ
السِّكِّينُ عَلَى رِجْل الصَّبِيِّ فَجَرَحَهَا ضَمِنَ الدَّافِعُ (2) .
الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ: " الاِضْطِرَارُ لاَ يُبْطِل حَقَّ الْغَيْرِ
(3) ".
73 - تَطَّرِدُ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ سَوَاءٌ أَكَانَ الاِضْطِرَارُ
فِطْرِيًّا كَالْجُوعِ، أَمْ غَيْرَ فِطْرِيٍّ كَالإِْكْرَاهِ، فَإِنَّهُ
يَسْقُطُ الإِْثْمُ، وَعُقُوبَةُ التَّجَاوُزِ، أَمَّا حَقُّ الآْخَرِينَ
فَلاَ يَتَأَثَّرُ بِالاِضْطِرَارِ، وَيَبْقَى الْمَال
__________
(1) الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي 3 / 444.
(2) جامع الفصولين 2 / 81 ومجمع الضمانات (136) .
(3) المادة (33) من المجلة.
(28/262)
مَضْمُونًا بِالْمِثْل إِنْ كَانَ
مِثْلِيًّا، وَالْقِيمَةِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا. فَلَوِ اضْطُرَّ فِي
مَخْمَصَةٍ إِلَى أَكْل طَعَامِ غَيْرِهِ، جَازَ لَهُ أَكْلُهُ، وَضَمِنَ
قِيمَتَهُ، لِعَدَمِ إِذْنِ الْمَالِكِ، وَإِنَّمَا الَّذِي وُجِدَ هُوَ
إِذْنُ الشَّرْعِ الَّذِي أَسْقَطَ الْعُقُوبَةَ فَقَطْ (1) .
الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ: " الأَْمْرُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ
الْغَيْرِ بَاطِلٌ (2) ".
74 - الأَْمْرُ: هُوَ طَلَبُ الْفِعْل جَزْمًا، فَإِذَا أَمَرَ شَخْصٌ
غَيْرَهُ بِأَخْذِ مَال شَخْصٍ آخَرَ أَوْ بِإِتْلاَفِهِ عَلَيْهِ فَلاَ
عِبْرَةَ بِهَذَا الأَْمْرِ، وَيَضْمَنُ الْفَاعِل.
وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُقَيَّدَةٌ:
بِأَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ عَاقِلاً بَالِغًا، فَإِذَا كَانَ صَغِيرًا،
كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الآْمِرِ. وَأَنْ لاَ يَكُونَ الآْمِرُ ذَا
وِلاَيَةٍ وَسُلْطَانٍ عَلَى الْمَأْمُورِ.
فَلَوْ كَانَ الآْمِرُ هُوَ السُّلْطَانَ أَوِ الْوَالِدَ، كَانَ
الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا (3) .
الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ: " جِنَايَةُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ ".
75 - هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُقْتَبَسَةٌ مِنْ حَدِيثٍ شَرِيفٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا
__________
(1) البدائع 7 / 179، وشرح الزرقاني 3 / 29، والقواعد لابن رجب (36 و 286)
.
(2) المادة (95) من المجلة.
(3) جامع الفصولين 2 / 78.
(28/263)
جُبَارٌ (1) وَالْعَجْمَاءُ: الْبَهِيمَةُ،
لأَِنَّهَا لاَ تُفْصِحُ، وَمَعْنَى جُبَارٌ: أَنَّهُ هَدَرٌ وَبَاطِلٌ.
وَالْمُرَادُ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مُسَيَّبَةً حَيْثُ تُسَيَّبُ
الْحَيَوَانَاتُ، وَلاَ يَدَ عَلَيْهَا، أَمَّا لَوْ كَانَ مَعَهَا رَاكِبٌ
فَيَضْمَنُ، فَلَوِ اصْطَادَتْ هِرَّتُهُ طَائِرًا لِغَيْرِهِ لَمْ
يَضْمَنْ (2) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يَأْتِي فِي ضَمَانِ جِنَايَةِ
الْحَيَوَانِ.
الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ: " الْجَوَازُ الشَّرْعِيُّ يُنَافِي الضَّمَانَ
(3) ".
76 - يَعْنِي إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى الْفِعْل الْجَائِزِ الْمُبَاحِ
شَرْعًا، ضَرَرٌ لِلآْخَرِينَ، لاَ يُضْمَنُ الضَّرَرُ. فَلَوْ حَفَرَ
حُفْرَةً فِي مِلْكِهِ، أَوْ فِي الطَّرِيقِ، بِإِذْنِ الْحَاكِمِ،
فَتَرَدَّى فِيهَا حَيَوَانٌ أَوْ إِنْسَانٌ، لاَ يَضْمَنُ الْحَافِرُ
شَيْئًا. وَهَذَا مُقَيَّدٌ بِشَرْطَيْنِ:
1 - أَنْ لاَ يَكُونَ الْمُبَاحُ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ السَّلاَمَةِ،
فَيَضْمَنُ - مَثَلاً - رَاكِبُ السَّيَّارَةِ وَقَائِدُ الدَّابَّةِ أَوْ
رَاكِبُهَا فِي الطَّرِيقِ (4) .
2 - أَنْ لاَ يَكُونَ فِي الْمُبَاحِ إِتْلاَفُ الآْخَرِينَ وَإِلاَّ كَانَ
مَضْمُونًا.
__________
(1) حديث: " العجماء جرحها جبار ". أخرجه البخاري (12 / 254) ومسلم (3 /
1334) .
(2) مجمع الضانات (185) وجامع الفصولين 2 / 85.
(3) المادة (90) من المجلة.
(4) الدر المختار 5 / 386.
(28/263)
فَيَضْمَنُ مَا يُتْلِفُهُ مِنْ مَال
غَيْرِهِ لِلْمَخْمَصَةِ، مَعَ أَنَّ أَكْلَهُ لأَِجْلِهَا جَائِزٌ، بَل
وَاجِبٌ (1) .
الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ (2)
77 - الْخَرَاجُ: هُوَ غَلَّةُ الشَّيْءِ وَمَنْفَعَتُهُ، إِذَا كَانَتْ
مُنْفَصِلَةً عَنْهُ، غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ. كَسُكْنَى الدَّارِ،
وَأُجْرَةِ الدَّابَّةِ.
وَالضَّمَانُ: هُوَ التَّعْوِيضُ الْمَالِيُّ عَنِ الضَّرَرِ الْمَادِّيِّ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنَافِعَ الشَّيْءِ يَسْتَحِقُّهَا مَنْ يَلْزَمُهُ
ضَمَانُهُ لَوْ هَلَكَ، فَتَكُونُ الْمَنْفَعَةُ فِي مُقَابِل تَحَمُّل
خَسَارَةِ هَلاَكِهِ، فَمَا لَمْ يَدْخُل فِي ضَمَانِهِ لاَ يَسْتَحِقُّ
مَنَافِعَهُ (3) وَقَدْ نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ (4) .
الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ: الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ (5) .
78 - هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَعْنَاهَا أَنَّ التَّكَلُّفَاتِ
وَالْغَرَامَاتِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الشَّيْءِ، تَجِبُ عَلَى مَنِ
اسْتَفَادَ مِنْهُ وَانْتَفَعَ بِهِ، مِثَال ذَلِكَ:
__________
(1) درر الحكام 2 / 109 - 111، ومجمع الضمانات (149) وجامع الفصولين 2 /
88.
(2) المادة (85) من المجلة.
(3) القوانين الفقهية، ص 217 (والأشباه والنظائر لابن نجيم 151، 152، وانظر
فروعا أخرى مماثلة في جامع الفصولين 2 / 118 - 120) .
(4) حديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن ". أخرجه
أحمد (2 / 174 - 175) من حديث عبد الله بن عمرو، وإسناده حسن.
(5) المادة (87) من المجلة.
(28/264)
1 - نَفَقَةُ رَدِّ الْعَارِيَّةِ عَلَى
الْمُسْتَعِيرِ، لأَِنَّهُ هُوَ الَّذِي انْتَفَعَ بِهَا.
2 - وَنَفَقَةُ رَدِّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمُودِعِ، لأَِنَّهُ هُوَ
الَّذِي اسْتَفَادَ مِنْ حِفْظِهَا.
3 - وَأُجْرَةِ كِتَابَةِ عَقْدِ الْمِلْكِيَّةِ عَلَى الْمُشْتَرِي،
لأَِنَّهَا تَوْثِيقٌ لاِنْتِقَال الْمِلْكِيَّةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ
الْمُسْتَفِيدُ مِنْ ذَلِكَ.
الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ: " لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ أَخْذُ مَال أَحَدٍ
بِلاَ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ (1) ".
79 - هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ حَدِيثِ: عَلَى الْيَدِ مَا
أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ (2) .
فَيَحْرُمُ أَخْذُ أَمْوَال الآْخَرِينَ بِالْبَاطِل كَالْغَصْبِ
وَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِهِمَا.
أَحْكَامُ الضَّمَانِ:
أَحْكَامُ الضَّمَانِ - بِوَجْهٍ عَامٍّ - تُقَسَّمُ إِلَى هَذِهِ
الأَْقْسَامِ.
1 - ضَمَانُ الدِّمَاءِ (الأَْنْفُسِ وَالْجِرَاحِ) .
2 - ضَمَانُ الْعُقُودِ.
3 - ضَمَانُ الأَْفْعَال الضَّارَّةِ بِالأَْمْوَال، كَالإِْتْلاَفَاتِ،
وَالْغُصُوبِ.
وَحَيْثُ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِي ضَمَانِ الْعُقُودِ فِي أَنْوَاعِ
الضَّمَانِ وَمَحَلِّهِ، فَنَقْصِرُ الْقَوْل عَلَى
__________
(1) المادة (87) من المجلة.
(2) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤديه ". تقدم تخريجه في 6.
(28/264)
ضَمَانِ الدِّمَاءِ، وَضَمَانِ الأَْفْعَال
الضَّارَّةِ بِالأَْمْوَال.
ضَمَانُ الدِّمَاءِ (الأَْنْفُسِ وَالْجِرَاحِ)
80 - ضَمَانُ الدِّمَاءِ أَوِ الأَْنْفُسِ هُوَ: الْجَزَاءُ الْمُتَرَتِّبُ
عَلَى الضَّرَرِ الْوَاقِعِ عَلَى النَّفْسِ فَمَا دُونَهَا.
وَيَشْمَل الْقِصَاصَ وَالْحُدُودَ، وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ، كَمَا يَشْمَل
التَّعْزِيرُ حُكُومَةَ الْعَدْل وَهِيَ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ مِنْ جِهَةِ
الشَّارِعِ.
وَيُقَسَّمُ الضَّمَانُ - بِحَسَبِ الْجِنَايَةِ - إِلَى ثَلاَثَةِ
أَقْسَامٍ:
1 - ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ.
2 - ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، مِنَ الأَْطْرَافِ
وَالْجِرَاحِ.
3 - ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ، وَهِيَ: الإِْجْهَاضُ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ:
يَتَمَثَّل فِيمَا يَلِي، بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهَا:
الْقَتْل الْعَمْدُ:
81 - الْقَتْل الْعَمْدُ، إِذَا تَحَقَّقَتْ شُرُوطُهُ، فَضَمَانُهُ
بِالْقِصَاصِ.
(ر: مُصْطَلَح: قَتْل، قِصَاص) .
(28/265)
وَأَوْجَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَآخَرُونَ
الْكَفَّارَةَ فِيهِ أَيْضًا (1) .
فَإِنِ امْتَنَعَ الْقِصَاصُ، أَوْ تَعَذَّرَ أَوْ صَالَحَ عَنْهُ، كَانَ
الضَّمَانُ بِالدِّيَةِ أَوْ بِمَا صُولِحَ عَنْهُ (ر: مُصْطَلَح: دِيَات)
.
وَيُوجِبُ الْمَالِكِيَّةُ حِينَئِذٍ التَّعْزِيرَ، كَمَا يُوجِبُونَ فِي
الْقَتْل غِيلَةً - الْقَتْل عَلَى وَجْهِ الْمُخَادِعَةِ وَالْحِيلَةِ -
قَتْل الْقَاتِل تَعْزِيرًا، إِنْ عَفَا عَنْهُ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُول
(2) .
كَمَا يُحْرَمُ الْقَاتِل مِنْ مِيرَاثِ الْمَقْتُول وَوَصِيَّتِهِ.
الْقَتْل الشَّبِيهُ بِالْعَمْدِ:
82 - هُوَ: الْقَتْل بِمَا لاَ يَقْتُل فِي الْغَالِبِ - عِنْدَ
الْجُمْهُورِ - وَبِالْمُثْقَلاَتِ كَذَلِكَ - عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ،
مِنْ غَيْرِ الْحَدِيدِ وَالْمَعْدِنِ - وَإِنْ كَانَ الْمَالِكِيَّةُ
يَرَوْنَ هَذَا مِنَ الْعَمْدِ (3) .
وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ فِي الْحَدِيثِ: أَلاَ
وَإِنَّ قَتِيل الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ، مَا كَانَ بِالسَّوْطِ
وَالْعَصَا، مِائَةٌ مِنَ الإِْبِل، أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا
أَوْلاَدُهَا (4) .
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج 4 / 162.
(2) القوانين الفقهية ص 227.
(3) الهداية وشروحها 8 / 144 و 145، وشرح الخرشي 8 / 7 - (ط: دار صادر في
بيروت) ، والقوانين الفقهية ص 226 وكفاية الأخيار 2 / 98، وكشاف القناع 5 /
512.
(4) حديث: " ألا وإن قتيل الخطأ شبه العمد ". أخرجه النسائي (8 / 41) من
حديث ابن مسعود، وصححه ابن القطان كما في التلخيص لابن حجر (4 / 15)
(28/265)
الْقَتْل الْخَطَأُ:
83 - وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ اتِّفَاقًا
بِالنَّصِّ الْكَرِيمِ، وَفِيهِ كَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ وَالْحِرْمَانُ
مِنَ الإِْرْثِ وَالْوَصِيَّةِ وَهَذَا لِعُمُومِ النَّصِّ (1) .
وَالضَّمَانُ كَذَلِكَ فِي الْقَتْل الشَّبِيهِ بِالْخَطَأِ فِي اصْطِلاَحِ
الْحَنَفِيَّةِ، وَيَتَمَثَّل بِانْقِلاَبِ النَّائِمِ عَلَى شَخْصٍ
فَيَقْتُلُهُ، أَوِ انْقِلاَبِ الأُْمِّ عَلَى رَضِيعِهَا فَيَمُوتُ
بِذَلِكَ.
الْقَتْل بِسَبَبٍ:
84 - قَال بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَيَتَمَثَّل بِمَا لَوْ حَفَرَ حُفْرَةً
فِي الطَّرِيقِ، فَتَرَدَّى فِيهَا إِنْسَانٌ فَمَاتَ.
وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ فَقَطْ، عِنْدَهُمْ، فَلاَ كَفَّارَةَ فِيهِ،
وَلاَ حِرْمَانَ، لاِنْعِدَامِ الْقَتْل فِيهِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا
أَوْجَبُوا الدِّيَةَ صَوْنًا لِلدِّمَاءِ عَنِ الْهَدَرِ (2) .
وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ، يُلْحِقُونَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ
الْقَتْل بِالْخَطَأِ فِي أَحْكَامِهِ، دِيَةً،
__________
(1) الهداية وشرح الكفاية 9 / 148 والدر المختار ورد المحتار 5 / 342،
وحاشية العدوي على شرح الخرشي 8 / 49، وانظر في هذه الأحكام: القوانين
الفقهية (228) وبداية المجتهد 2 / 511، وكفاية الطالب شرح رسالة ابن أبي
زيد القيرواني، بحاشية العدوي 2 / 286، وكفاية الأخيار 2 / 97، 98، والروض
المربع (375) .
(2) الكفاية شرح الهداية 9 / 148، والدر المختار ورد المحتار 5 / 342،
البدائع 7 / 274.
(28/266)
وَكَفَّارَةً، وَحِرْمَانًا، لأَِنَّ
الشَّارِعَ أَنْزَلَهُ مَنْزِلَةَ الْقَاتِل (1) .
(وَلِلتَّفْصِيل ر: مُصْطَلَح: قَتْل وَدِيَات وَجِنَايَة) .
ثَانِيًا: ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ:
وَتَتَحَقَّقُ فِي الأَْطْرَافِ، وَالْجِرَاحِ فِي غَيْرِ الرَّأْسِ، وَفِي
الشِّجَاجِ.
85 - أ - أَمَّا الأَْطْرَافُ:
فَحُدِّدَتْ عُقُوبَتُهَا بِالْقِصَاصِ بِالنَّصِّ، فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ
بِالْعَيْنِ وَالأَْنْفَ بِالأَْنْفِ وَالأُْذُنَ بِالأُْذُنِ وَالسِّنَّ
بِالسِّنِّ (2) } .
وَزَادَ مَالِكٌ عَلَى ذَلِكَ التَّعْزِيرَ بِالتَّأْدِيبِ، لِيَتَنَاهَى
النَّاسُ (3) .
فَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ، بِسَبَبِ الْعَفْوِ أَوِ الصُّلْحِ أَوْ
لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ، كَانَ الضَّمَانُ بِالدِّيَةِ وَالأَْرْشِ،
وَهُوَ: اسْمٌ لِلْوَاجِبِ مِنَ الْمَال فِيمَا دُونَ النَّفْسِ (4) .
(ر: جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ) .
__________
(1) القوانين الفقهية (228) وشرح الخرشي 8 / 49، وشرح المنهج بحاشية الجمل
5 / 102 وشرح المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي 4 / 162، والمغني بالشرح
الكبير 10 / 37 و 7 / 161 و 162، والروض المربع (382) .
(2) سورة المائدة / 45.
(3) مواهب الجليل 6 / 247.
(4) الدر المختار 5 / 368.
(28/266)
86 - ب - وَأَمَّا الْجِرَاحُ
فَخَاصَّةٌ بِمَا كَانَ فِي غَيْرِ الرَّأْسِ، فَإِذَا كَانَتْ جَائِفَةً،
أَيْ بَالِغَةَ الْجَوْفِ، فَلاَ قِصَاصَ فِيهَا اتِّفَاقًا، خَشْيَةَ
الْمَوْتِ.
وَإِذَا كَانَتْ غَيْرَ جَائِفَةٍ، فَفِيهَا الْقِصَاصُ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ مَنَعُوا
الْقِصَاصَ فِيهَا مُطْلَقًا لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ (1) .
فَإِنِ امْتَنَعَ الْقِصَاصُ فِي الْجِرَاحِ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ:
فَفِي الْجَائِفَةِ يَجِبُ ثُلُثُ الدِّيَةِ، لِحَدِيثِ: فِي الْجَائِفَةِ
ثُلُثُ الْعَقْل (2) .
وَفِي غَيْرِ الْجَائِفَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَفُسِّرَتْ بِأَنَّهَا
أُجْرَةُ الطَّبِيبِ وَثَمَنُ الأَْدْوِيَةِ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (جِرَاح، وَحُكُومَةُ عَدْلٍ) .
87 - ج - وَأَمَّا الشِّجَاجُ، وَهِيَ مَا يَكُونُ مِنَ الْجِرَاحِ فِي
الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ (4) فَإِنْ تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ فِيهَا:
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 296، والدر المختار 5 / 376، وتبيين الحقائق 6 / 117
والقوانين الفقهية (230) وجواهر الإكليل 2 / 259، الإقناع بحاشية البجيرمي
4 / 112، والوجيز 2 / 141، والمغني بالشرح الكبير 9 / 410، 411.
(2) حديث: " في الجائفة ثلث العقل ". أخرجه أحمد (2 / 217) من حديث عبد
الله بن عمرو، وإسناده حسن.
(3) الدر المختار 5 / 376.
(4) الدر المختار 5 / 372.
(28/267)
فَفِيهِ الأَْرْشُ مُقَدَّرًا، كَمَا فِي
الْمُوضِحَةِ، لِحَدِيثِ قَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْمُوضِحَةِ، خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل (1) .
وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُقَدَّرٍ، فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ. وَمَذْهَبُ
الْجُمْهُورِ: أَنَّ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ، لَيْسَ فِيهِ أَرْشٌ
مُقَدَّرٌ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمْ يَقْضِ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ بِشَيْءٍ (2) . فَتَجِبُ
فِيهِ الْحُكُومَةُ.
وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ أَنَّهُ وَرَدَ التَّقْدِيرُ فِي أَرْشِ الْمُوضِحَةِ،
وَفِيمَا دُونَهَا، كَمَا وَرَدَ فِيمَا فَوْقَهَا فَيُعْمَل بِهِ (3) .
لِلتَّفْصِيل: (ر: مُصْطَلَحَ: شِجَاج، دِيَات، حُكُومَةُ عَدْلٍ) .
ثَالِثًا: ضَمَانُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ:
88 - وَهِيَ الإِْجْهَاضُ، فَإِذَا سَقَطَ الْجَنِينُ مَيِّتًا
بِشُرُوطِهِ، فَضَمَانُهُ بِالْغُرَّةِ اتِّفَاقًا، لِحَدِيثِ
__________
(1) حديث: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموضحة خمس من الإبل ".
أخرجه النسائي (8 / 58 - 59) ضمن حديث طويل، وخرجه ابن حجر في التلخيص (4 /
17 - 18) وتكلم على أسانيده، ونقل تصحيحه عن جمع من العلماء.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقض فيما دون الموضحة بشيء ".
أخرجه عبد الرزاق (9 / 306) من حديث عمر بن عبد العزيز مرسلا.
(3) البدائع 7 / 309، والدر المختار ورد المحتار 5 / 372، وتبيين الحقائق 6
/ 132، 133، والقوانين الفقهية (230) وبداية المجتهد 2 / 512، 514، وشرح
المحلي على المنهاج 4 / 133 وما بعدها والشرح الكبير مع المغني 9 / 461 وما
بعدها و 621 وما بعدها.
(28/267)
أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَضَى فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي لِحْيَانَ، بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ
أَمَةٍ (1) .
وَتَجِبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي مَال الْعَاقِلَةِ خِلاَفًا
لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الَّذِينَ أَوْجَبُوهَا فِي مَال
الْجَانِي.
وَلاَ كَفَّارَةَ فِيهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِنَّمَا تُنْدَبُ،
وَأَوْجَبَهَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لأَِنَّ الْجَنِينَ
آدَمِيٌّ مَعْصُومٌ، وَإِذَا لَمْ تُوجَدِ الرَّقَبَةُ، انْتَقَلَتِ
الْعُقُوبَةُ إِلَى بَدَلِهَا مَالاً، وَهُوَ: نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ
الرَّجُل، وَعُشْرُ دِيَةِ الْمَرْأَةِ (2) .
(ر: جَنِين، غُرَّة) .
ضَمَانُ الأَْفْعَال الضَّارَّةِ بِالأَْمْوَال:
89 - تَتَمَثَّل الأَْفْعَال الضَّارَّةُ بِالأَْمْوَال فِي
الإِْتْلاَفَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَالْغُصُوبِ، وَنَحْوِهَا.
وَلِضَمَانِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الأَْفْعَال الضَّارَّةِ، أَحْكَامٌ
عَامَّةٌ، وَأَحْكَامٌ خَاصَّةٌ:
__________
(1) حديث أبي هريرة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في جنين امرأة ".
أخرجه البخاري (12 / 252) ومسلم (3 / 1309) .
(2) بدائع الصنائع 7 / 326 و 327، والدر المختار ورد المحتار 5 / 377 و
378، والقوانين الفقهية (228) وبداية المجتهد 2 / 508، 509 وجواهر الإكليل
2 / 266 و 272، وشرح ابن أبي زيد القيرواني بحاشية العدوي 2 / 286، وشرح
المنهج بحاشية الجمل 5 / 99 وما بعدها، وشرح المحلي بحاشية القليوبي 4 /
159 وما بعدها. والمغني بالشرح الكبير 9 / 550 وما بعدها.
(28/268)
أَوَّلاً: الأَْحْكَامُ الْعَامَّةُ فِي
ضَمَانِ الأَْفْعَال الضَّارَّةِ بِالأَْمْوَال:
90 - تَقُومُ فِكْرَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الضَّمَانِ - خِلاَفًا لِمَا
تَقَدَّمَ فِي ضَمَانِ الأَْفْعَال الضَّارَّةِ بِالأَْنْفُسِ - عَلَى
مَبْدَأِ جَبْرِ الضَّرَرِ الْمَادِّيِّ الْحَائِقِ بِالآْخَرِينَ، أَمَّا
فِي تِلْكَ فَهُوَ قَائِمٌ عَلَى مَبْدَأِ زَجْرِ الْجُنَاةِ، وَرَدْعِ
غَيْرِهِمْ.
وَالتَّعْبِيرُ بِالضَّمَانِ عَنْ جَبْرِ الضَّرَرِ وَإِزَالَتِهِ، هُوَ
التَّعْبِيرُ الشَّائِعُ فِي الْفِقْهِ الإِْسْلاَمِيِّ، وَعَبَّرَ بَعْضُ
الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ بِالتَّعْوِيضِ، كَمَا فَعَل ابْنُ
عَابِدِينَ (1) .
وَتَوَسَّعَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا النَّوْعِ فِي أَنْوَاعِ الضَّمَانِ
وَتَفْصِيل أَحْكَامِهِ، حَتَّى أَفْرَدَهُ الْبَغْدَادِيُّ بِالتَّصْنِيفِ
فِي كِتَابِهِ: (مَجْمَعِ الضَّمَانَاتِ) .
وَمِنْ أَهَمِّ قَوَاعِدِ الضَّمَانِ قَاعِدَةُ: " الضَّرَرُ يُزَال ".
وَإِزَالَةُ الضَّرَرِ الْوَاقِعِ عَلَى الأَْمْوَال يَتَحَقَّقُ
بِالتَّعْوِيضِ الَّذِي يُجْبَرُ فِيهِ الضَّرَرُ.
وَقَدْ عَرَّفَ الْفُقَهَاءُ الضَّمَانَ بِهَذَا الْمَعْنَى، بِأَنَّهُ:
رَدُّ مِثْل الْهَالِكِ أَوْ قِيمَتِهِ (2) .
وَعَرَّفَهُ الشَّوْكَانِيُّ بِأَنَّهُ: عِبَارَةٌ عَنْ غَرَامَةِ
التَّالِفِ (3) .
__________
(1) مجموعة رسائل ابن عابدين 2 / 177 (ط: الآستانة) .
(2) غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر للحموي 4 / 6.
(3) نيل الأوطار 5 / 299 في شرح أحاديث الوديعة والأمانة وضمان اليد، نقلا
عن ضوء النهار.
(28/268)
وَكِلاَ التَّعْرِيفَيْنِ يَسْتَهْدِفُ
إِزَالَةَ الضَّرَرِ، وَإِصْلاَحَ الْخَلَل الَّذِي طَرَأَ عَلَى
الْمَضْرُورِ، وَإِعَادَةَ حَالَتِهِ الْمَالِيَّةِ إِلَى مَا كَانَتْ
عَلَيْهِ قَبْل وُقُوعِ الضَّرَرِ.
طَرِيقَةُ التَّضْمِينِ:
91 - الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ فِي تَضْمِينِ الْمَالِيَّاتِ، هِيَ:
مُرَاعَاةُ الْمِثْلِيَّةِ التَّامَّةِ بَيْنَ الضَّرَرِ، وَبَيْنَ
الْعِوَضِ، كُلَّمَا أَمْكَنَ، قَال السَّرَخْسِيُّ: " ضَمَانُ
الْعُدْوَانِ مُقَدَّرٌ بِالْمِثْل بِالنَّصِّ (1) " يُشِيرُ إِلَى قَوْله
تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ
(2) } .
وَالْمِثْل وَإِنْ كَانَ بِهِ يَتَحَقَّقُ الْعَدْل، لَكِنَّ الأَْصْل أَنْ
يَرُدَّ الشَّيْءَ الْمَالِيَّ الْمُعْتَدَى فِيهِ نَفْسَهُ، كُلَّمَا
أَمْكَنَ، مَا دَامَ قَائِمًا مَوْجُودًا، لَمْ يَدْخُلْهُ عَيْبٌ يُنْقِصُ
مِنْ مَنْفَعَتِهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الْحَسَنُ، عَنْ سَمُرَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ (3) .
بَل هَذَا هُوَ الْمُوجِبُ الأَْصْلِيُّ فِي الْغَصْبِ، الَّذِي هُوَ
أَوَّل صُوَرِ الضَّرَرِ وَأَهَمُّهَا.
فَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ، لِهَلاَكِهِ أَوِ
اسْتِهْلاَكِهِ أَوْ فَقْدِهِ، وَجَبَ حِينَئِذٍ رَدُّ مِثْلِهِ،
__________
(1) المبسوط 11 / 79.
(2) سورة النحل / 126.
(3) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي " تقدم تخريجه ف 6.
(28/269)
إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، أَوْ قِيمَتِهِ
إِنْ كَانَ قِيمِيًّا.
وَالْمِثْلِيُّ هُوَ: مَا لَهُ مِثْلٌ فِي الأَْسْوَاقِ، أَوْ نَظِيرٌ،
بِغَيْرِ تَفَاوُتٍ يُعْتَدُّ بِهِ، كَالْمَكِيلاَتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ،
وَالْمَذْرُوعَاتِ، وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ.
وَالْقِيمِيُّ هُوَ: مَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ فِي الأَْسْوَاقِ، أَوْ هُوَ
مَا تَتَفَاوَتُ أَفْرَادُهُ، كَالْكُتُبِ الْمَخْطُوطَةِ، وَالثِّيَابِ
الْمُفَصَّلَةِ الْمَخِيطَةِ لأَِشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ.
وَالْمِثْل أَعْدَل فِي دَفْعِ الضَّرَرِ، لِمَا فِيهِ مِنِ اجْتِمَاعِ
الْجِنْسِ وَالْمَالِيَّةِ.
وَالْقِيمَةُ تَقُومُ مَقَامَ الْمِثْل، فِي الْمَعْنَى وَالاِعْتِبَارِ
الْمَالِيِّ (1) .
وَقْتُ تَقْدِيرِ التَّضْمِينِ:
92 - تَنَاوَل الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، فِي الْمَغْصُوبِ -
عَلَى التَّخْصِيصِ - إِذَا كَانَ مِثْلِيًّا، وَفُقِدَ مِنَ السُّوقِ،
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَنْظَارُهُمْ فِيهَا عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:
ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ: إِلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْغَصْبِ،
لأَِنَّهُ لَمَّا انْقَطَعَ مِنَ السُّوقِ الْتَحَقَ بِمَا لاَ مِثْل لَهُ،
فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ انْعِقَادِ السَّبَبِ،
__________
(1) الهداية بشروحها 8 / 246 وما بعدها، ومجمع الأنهر 2 / 456 و 457،
والقوانين الفقهية 216 و 217 والشرح الكبير للدردير 3 / 445 وما بعدها،
وشرح المحلي على المنهاج 2 / 259 وما بعدها. والمغني بالشرح الكبير 5 / 376
و 377.
(28/269)
وَهُوَ الْغَصْبُ، كَمَا أَنَّ الْقِيمِيَّ
تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ كَذَلِكَ يَوْمَ الْغَصْبِ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدٌ: إِلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ يَوْمَ الاِنْقِطَاعِ،
لأَِنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمِثْل فِي الذِّمَّةِ وَإِنَّمَا يَنْتَقِل
إِلَى الْقِيمَةِ بِالاِنْقِطَاعِ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ
الاِنْقِطَاعِ.
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْقَضَاءِ،
لأَِنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمِثْل، وَلاَ يَنْتَقِل إِلَى الْقِيمَةِ
بِمُجَرَّدِ الاِنْقِطَاعِ، لأَِنَّ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَنْتَظِرَ
حَتَّى يُوجَدَ الْمِثْل، بَل إِنَّمَا يَنْتَقِل بِالْقَضَاءِ،
فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْقَضَاءِ (1) .
أَمَّا الْقِيمِيُّ إِذَا تَلِفَ، فَتَجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْغَصْبِ
اتِّفَاقًا (2) .
أَمَّا فِي الاِسْتِهْلاَكِ: فَكَذَلِكَ عِنْدَ الإِْمَامِ وَعِنْدَهُمَا
يَوْمَ الاِسْتِهْلاَكِ (3) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ ضَمَانَ الْقِيمَةِ يُعْتَبَرُ يَوْمَ
الْغَصْبِ وَالاِسْتِيلاَءِ عَلَى الْمَغْصُوبِ سَوَاءٌ أَكَانَ عَقَارًا،
أَمْ غَيْرَهُ، لاَ يَوْمَ حُصُول الْمُفَوِّتِ، وَلاَ يَوْمَ الرَّدِّ،
وَسَوَاءٌ أَكَانَ التَّلَفُ بِسَمَاوِيٍّ أَمْ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِ
عَلَيْهِ (4) .
__________
(1) الهداية وشروحها 8 / 246 و 247، وتبيين الحقائق 5 / 223 و 224، وبدائع
الصنائع 7 / 151.
(2) جامع الفصولين 2 / 93 رامزا إلى فتاوى ظهير الدين المرغيناني والدر
المختار 5 / 116.
(3) رد المحتار 5 / 116.
(4) الشرح الكبير للدردير، وحاشية الدسوقي عليه 3 / 443، والقوانين الفقهية
217.
(28/270)
وَفِي الإِْتْلاَفِ وَالاِسْتِهْلاَكِ -
فِي غَيْرِ الْمِثْلِيَّاتِ - كَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ، تُعْتَبَرُ
يَوْمَ الاِسْتِهْلاَكِ وَالإِْتْلاَفِ (1) .
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْمِثْلِيَّ إِذَا تَعَذَّرَ
وُجُودُهُ، فِي بَلَدِهِ وَحَوَالَيْهِ تُعْتَبَرُ أَقْصَى قِيمَةٍ، مِنْ
وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى تَعَذُّرِ الْمِثْل، وَفِي قَوْلٍ إِلَى التَّلَفِ،
وَفِي قَوْلٍ إِلَى الْمُطَالَبَةِ (2) .
وَإِذَا كَانَ الْمِثْل مَفْقُودًا عِنْدَ التَّلَفِ، فَالأَْصَحُّ وُجُوبُ
أَكْثَرِ الْقِيَمِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى التَّلَفِ، لاَ إِلَى
وَقْتِ الْفَقْدِ (3) . وَأَمَّا الْمُتَقَوِّمُ فَيُضْمَنُ فِي الْغَصْبِ
بِأَقْصَى قِيمَةٍ مِنَ الْغَصْبِ إِلَى التَّلَفِ (4) .
وَأَمَّا الإِْتْلاَفُ بِلاَ غَصْبٍ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ
التَّلَفِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَدْخُل فِي ضَمَانِهِ قَبْل ذَلِكَ،
وَتُعْتَبَرُ فِي مَوْضِعِ الإِْتْلاَفِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَكَانُ
لاَ يَصْلُحُ لِذَلِكَ كَالْمَفَازَةِ، فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ فِي
أَقْرَبِ الْبِلاَدِ (5) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَجِبُ رَدُّ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ،
إِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا، يَوْمَ تَلَفِهِ فِي بَلَدِ غَصْبِهِ مِنْ
نَقْدِهِ، لأَِنَّ ذَلِكَ زَمَنُ الضَّمَانِ
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 387 وفيه الأدلة.
(2) شرح المحلي على المنهاج 3 / 31 و 32، وانظر الوجيز 1 / 208.
(3) الإقناع وحاشية البجيرمي عليه 3 / 143.
(4) الإقناع وحاشية البجيرمي عليه 3 / 143 و 144، وشرح المحلي على المنهاج
3 / 31، 32، والوجيز 1 / 209.
(5) شرح المحلي على المنهاج 3 / 32، والإقناع 3 / 144.
(28/270)
وَمَوْضِعُ الضَّمَانِ وَمُنْصَرَفُ
اللَّفْظِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ (كَالدِّينَارِ) كَمَا يَقُول الْبُهُوتِيُّ
(1) إِنْ لَمْ تَخْتَلِفْ قِيمَةُ التَّالِفِ، مِنْ حِينِ الْغَصْبِ إِلَى
حِينِ الرَّدِّ.
فَإِنِ اخْتَلَفَتْ لِمَعْنًى فِي التَّالِفِ مِنْ كِبَرٍ وَصِغَرٍ
وَسِمَنٍ وَهُزَالٍ - وَنَحْوِهَا - مِمَّا يَزِيدُ فِي الْقِيمَةِ
وَيَنْقُصُ مِنْهَا، فَالْوَاجِبُ رَدُّ أَكْثَرِ مَا تَكُونُ عَلَيْهِ
الْقِيمَةُ مِنْ حِينِ الْغَصْبِ إِلَى حِينِ الرَّدِّ، لأَِنَّهَا
مَغْصُوبَةٌ فِي الْحَال الَّتِي زَادَتْ فِيهَا، وَالزِّيَادَةُ
مَضْمُونَةٌ لِمَالِكِهَا.
وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِثْلِيًّا يَجِبُ رَدُّ مِثْلِهِ، فَإِنْ
فُقِدَ الْمِثْل، فَتَجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ انْقِطَاعِ الْمِثْل، لأَِنَّ
الْقِيمَةَ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ حِينَ انْقِطَاعِ الْمِثْل،
فَاعْتُبِرَتِ الْقِيمَةُ حِينَئِذٍ، كَتَلَفِ الْمُتَقَوِّمِ.
وَقَال الْقَاضِي: تَجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ قَبْضِ الْبَدَل، لأَِنَّ
الْوَاجِبَ هُوَ الْمِثْل، إِلَى حِينِ قَبْضِ الْبَدَل، بِدَلِيل أَنَّهُ
لَوْ وُجِدَ الْمِثْل بَعْدَ فَقْدِهِ، لَكَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْمِثْل
دُونَ الْقِيمَةِ، لأَِنَّهُ الأَْصْل، قَدَرَ عَلَيْهِ قَبْل أَدَاءِ
الْبَدَل، فَأَشْبَهَ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَاءِ بَعْدَ التَّيَمُّمِ (2)
.
تَقَادُمُ الْحَقِّ فِي التَّضْمِينِ:
93 - التَّقَادُمُ - أَوْ مُرُورُ الزَّمَانِ - هُوَ: مُضِيُّ
__________
(1) كشاف القناع 4 / 108.
(2) المغني بالشرح الكبير 5 / 420 - 422.
(28/271)
زَمَنٍ طَوِيلٍ، عَلَى حَقٍّ أَوْ عَيْنٍ
فِي ذِمَّةِ إِنْسَانٍ، لِغَيْرِهِ دُونَ مُطَالَبَةٍ بِهِمَا، مَعَ
قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا.
وَالشَّرِيعَةُ - بِوَجْهٍ عَامٍّ - اعْتَبَرَتِ التَّقَادُمَ مَانِعًا
مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى، فِي الْمِلْكِ وَفِي الْحَقِّ، مَعَ بَقَائِهِمَا
عَلَى حَالِهِمَا السَّابِقَةِ، وَلَمْ تَعْتَبِرْهُ مَكْسَبًا
لِمِلْكِيَّةٍ أَوْ قَاطِعًا لِحَقٍّ.
فَيَقُول الْحَصْكَفِيُّ: الْقَضَاءُ مُظْهِرٌ لاَ مُثْبِتٌ، وَيَتَخَصَّصُ
بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ وَخُصُومَةٍ حَتَّى لَوْ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِعَدَمِ
سَمَاعِ الدَّعْوَى، بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَسَمِعَهَا
الْقَاضِي، لَمْ يَنْفُذْ (1) .
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ الأَْشْبَاهِ وَغَيْرِهَا، أَنَّ الْحَقَّ
لاَ يَسْقُطُ بِتَقَادُمِ الزَّمَانِ (2) .
فَبِنَاءً عَلَى هَذَا يُقَال: إِذَا لَمْ يَرْفَعْ الشَّخْصُ الْمَضْرُورُ
دَعْوَى، يُطَالِبُ فِيهَا بِالضَّمَانِ أَوِ التَّعْوِيضِ عَنِ الضَّرَرِ،
مِمَّنْ أَلْحَقَهُ بِهِ، مُدَّةَ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا، سَقَطَ حَقُّهُ،
قَضَاءً فَقَطْ لاَ دِيَانَةً، فِي إِقَامَةِ الدَّعْوَى مِنْ جَدِيدٍ،
إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَضْرُورُ غَائِبًا، أَوْ كَانَ مَجْنُونًا أَوْ
صَبِيًّا وَلَيْسَ لَهُ وَلِيٌّ، أَوْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَاكِمًا
جَائِرًا، أَوْ كَانَ ثَابِتَ الإِْعْسَارِ خِلاَل هَذِهِ الْمُدَّةِ،
ثُمَّ أَيْسَر بَعْدَهَا، فَإِنَّهُ يَبْقَى حَقُّهُ فِي إِقَامَةِ
الدَّعْوَى قَائِمًا، مَهْمَا طَال الزَّمَنُ بِسَبَبِ الْعُذْرِ، الَّذِي
يَنْفِي شُبْهَةَ التَّزْوِيرِ.
__________
(1) رد المحتار 4 / 343.
(2) رد المحتار 4 / 343.
(28/271)
وَكَذَلِكَ إِذَا أَمَرَ السُّلْطَانُ
الْعَادِل نَفْسَهُ بِسَمَاعِ هَذِهِ الدَّعْوَى، بَعْدَ مُضِيِّ خَمْسَةَ
عَشَرَ عَامًا أَوْ سَمِعَهَا بِنَفْسِهِ - كَمَا يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ
(1) - حِفْظًا لِحَقِّ الْمَضْرُورِ، إِذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ مَا يَدُل
عَلَى التَّزْوِيرِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ الْخَصْمُ بِحَقِّ الْمَضْرُورِ فِي الضَّمَانِ،
وَالتَّعْوِيضِ عَنِ الضَّرَرِ، بَعْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ،
فَإِنَّهُ يَتَلاَشَى بِذَلِكَ مُضِيُّ الزَّمَنِ وَيَسْقُطُ لِظُهُورِ
الْحَقِّ بِإِقْرَارِهِ وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ.
ثَانِيًا: الأَْحْكَامُ الْخَاصَّةُ فِي ضَمَانِ الأَْفْعَال الضَّارَّةِ
بِالأَْمْوَال:
94 - قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَاعِدَةَ فِي الضَّمَانِ، هِيَ رَدُّ
الْعَيْنِ أَصْلاً، وَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ، وَجَبَ الضَّمَانُ
بِرَدِّ الْمِثْل فِي الْمِثْلِيَّاتِ، وَدَفْعِ الْقِيمَةِ فِي
الْقِيمِيَّاتِ.
وَنَذْكُرُ - هُنَا - التَّضْمِينَ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ مُسْتَثْنَاةٍ
مِنَ الأَْصْل، إِذْ يُحْكَمُ فِيهَا بِالتَّعْوِيضِ الْمَالِيِّ
أَحْيَانًا، وَبِالتَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ضَمَانِ الْمِثْل فِي
أَحْيَانٍ أُخْرَى، وَهِيَ: قَطْعُ الشَّجَرِ، وَهَدْمُ الْمَبَانِي،
وَالْبِنَاءُ عَلَى الأَْرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، أَوِ الْغَرْسُ فِيهَا،
وَقَلْعُ عَيْنِ الْحَيَوَانِ، وَتَفْصِيل الْقَوْل فِيهَا كَمَا يَلِي:
__________
(1) رد المحتار 5 / 343.
(28/272)
أ - قَطْعُ الشَّجَرِ:
95 - لَوْ قَطَعَ شَخْصٌ لآِخَرَ، شَجَرَ حَدِيقَتِهِ، ضَمِنَ قِيمَةَ
الشَّجَرِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ.
وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ: أَنْ تُقَوَّمُ الْحَدِيقَةُ مَعَ الشَّجَرِ
الْقَائِمِ، وَتُقَوَّمَ بِدُونِهِ فَالْفَضْل هُوَ قِيمَتُهُ،
فَالْمَالِكُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ تِلْكَ الْقِيمَةَ،
وَيَدْفَعَ لَهُ الأَْشْجَارَ الْمَقْطُوعَةَ، وَبَيْنَ أَنْ يُمْسِكَهَا،
وَيُضَمِّنَهُ نُقْصَانَ تِلْكَ الْقِيمَةِ (1) .
وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الأَْشْجَارِ مَقْطُوعَةً وَغَيْرَ مَقْطُوعَةٍ
سَوَاءً، بَرِئَ (2) .
وَلَوْ أَتْلَفَ شَجَرَةً مِنْ ضَيْعَةٍ، وَلَمْ يَتْلَفْ بِهِ شَيْءٌ،
قِيل: تَجِبُ قِيمَةُ الشَّجَرَةِ الْمَقْطُوعَةِ، وَقِيل تَجِبُ
قِيمَتُهَا نَابِتَةً (3) ، وَلَوْ أَتْلَفَ شَجَرَةً، قُوِّمَتْ
مَغْرُوسَةً وَقُوِّمَتْ مَقْطُوعَةً، وَيَغْرَمُ مَا بَيْنَهُمَا.
وَلَوْ أَتْلَفَ ثِمَارَهَا، أَوْ نَفَضَهَا لَمَّا نَوَّرَتْ، حَتَّى
تَنَاثَرَ نَوْرُهَا، قُوِّمَتِ الشَّجَرَةُ مَعَ ذَلِكَ، وَقُوِّمَتْ
بِدُونِهَا فَيَغْرَمُ مَا بَيْنَهُمَا، وَكَذَا الزَّرْعُ (4) .
ب - هَدْمُ الْمَبَانِي:
96 - إِذَا هَدَمَ إِنْسَانٌ بِنَاءً أَوْ جِدَارًا لِغَيْرِهِ،
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 91 رامز إلى أبي الليث.
(2) جامع الفصولين 2 / 91.
(3) جامع الفصولين 2 / 91 رامزا إلى جامع الفتاوى.
(4) جامع الفصولين 2 / 91 رامزا إلى فتاوى القاضي ظهير الدين. وانظر مجمع
الضمانات (152) .
(28/272)
يَجِبُ عَلَيْهِ بِنَاءُ مِثْلِهِ، وَهَذَا
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، فَإِنْ تَعَذَّرَتِ
الْمُمَاثَلَةُ رَجَعَ إِلَى الْقِيمَةِ (1) ، لِحَدِيثِ: " أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ رَجُلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيل
يُقَال لَهُ: جُرَيْجٌ، يُصَلِّي، فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ، فَأَبَى
أَنْ يُجِيبَهَا، فَقَال: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي؟ ثُمَّ أَتَتْهُ
فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ
الْمُومِسَاتِ، وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ فَقَالَتِ امْرَأَةٌ:
لأََفْتِنَنَّ جُرَيْجًا، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَكَلَّمَتْهُ، فَأَبَى.
فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا. فَوَلَدَتْ غُلاَمًا،
فَقَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ. فَأَتَوْهُ كَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ
وَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى الْغُلاَمَ
فَقَال: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلاَمُ؟ قَال: الرَّاعِي. قَالُوا: نَبْنِي
صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَال: لاَ، إِلاَّ مِنْ طِينٍ (2) .
وَالأَْصْل: أَنَّ الْحَائِطَ وَالْبِنَاءَ مِنْ الْقِيمِيَّاتِ،
فَتُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ.
وَقَدْ نَقَل الرَّمْلِيُّ الْحَنَفِيُّ أَنَّهُ لَوْ هَدَمَ جِدَارَ
غَيْرِهِ، تُقَوَّمُ دَارُهُ مَعَ جُدْرَانِهَا، وَتُقَوَّمُ بِدُونِ هَذَا
الْجِدَارِ فَيَضْمَنُ فَضْل مَا بَيْنَهُمَا (3) .
__________
(1) عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني 13 / 38 (ط: المطبعة المنيرية في
القاهرة: 1348 هـ) .
(2) حديث أبي هريرة: " كان رجل في بني إسرائيل يقال له جريج ". أخرجه
البخاري (5 / 126 - 127) .
(3) حاشية الرملي على جامع الفصولين 2 / 96.
(28/273)
وَفِي الْقُنْيَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
الْفَضْل: إِذَا هَدَمَ حَائِطًا مُتَّخَذًا مِنْ خَشَبٍ أَوْ عَتِيقًا
مُتَّخَذًا مِنْ رَهْصٍ (طِينٍ (1)) يَضْمَنُ قِيمَتَهُ، وَإِنْ كَانَ
حَدِيثًا يُؤْمَرُ بِإِعَادَتِهِ كَمَا كَانَ (2) .
وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ: مَنْ هَدَمَ حَائِطَ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ
نُقْصَانَهَا (أَيْ قِيمَتَهَا مَبْنِيَّةً (3)) وَلاَ يُؤْمَرُ
بِعِمَارَتِهَا، إِلاَّ فِي حَائِطِ الْمَسْجِدِ، كَمَا فِي كَرَاهَةِ
الْخَانِيَّةِ (4) .
لَكِنَّ الْمَذْهَبَ، مَا قَالَهُ الْعَلاَّمَةُ قَاسِمٌ فِي شَرْحِهِ
لِلنُّقَايَةِ: وَإِذَا هَدَمَ الرَّجُل حَائِطَ جَارِهِ فَلِلْجَارِ
الْخِيَارُ: إِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْحَائِطِ، وَالنَّقْضُ
لِلضَّامِنِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ النَّقْضَ، وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ،
لأَِنَّ الْحَائِطَ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهَالِكٌ مِنْ وَجْهٍ، فَإِنْ
شَاءَ مَال إِلَى جِهَةِ الْقِيَامِ، وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ، وَإِنْ
شَاءَ مَال إِلَى جِهَةِ الْهَلاَكِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْحَائِطِ،
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى الْبِنَاءِ، كَمَا كَانَ، لأَِنَّ
الْحَائِطَ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الأَْمْثَال.
وَطَرِيقُ تَقْوِيمِ النُّقْصَانِ: أَنْ تُقَوَّمَ الدَّارُ مَعَ
حِيطَانِهَا، وَتُقَوَّمَ بِدُونِ هَذَا الْحَائِطِ
__________
(1) الرَّهص: هو الطين الذي يبنى به، يجعل بعضه على بعض، القاموس المحيط.
مادة: (رهص) .
(2) حاشية الحموي على الأشباه 3 / 208، وحاشية الرملي على جامع الفصولين 2
/ 96 وانظر عمدة القاري 13 / 39.
(3) انظر حاشية الرملي على جامع الفصولين 2 / 90 و 92.
(4) الأشباه والنظائر لابن نجيم بحاشية الحموي 3 / 208، وانظر الدر المختار
5 / 115 ولابن عابدين كلام في التفرقة بين الحائطين في الموضع نفسه.
(28/273)
فَيَضْمَنُ فَضْل مَا بَيْنَهُمَا (1) .
وَالضَّمَانُ فِي هَذِهِ الْحَال مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ
الْهَدْمُ لِلضَّرُورَةِ، كَمَنْعِ سَرَيَانِ الْحَرِيقِ، بِإِذْنِ
الْحَاكِمِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلاَ ضَمَانَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، ضَمِنَ الْهَادِمُ قِيمَتَهَا مُعَرَّضَةً
لِلْحَرِيقِ.
ج - الْبِنَاءُ عَلَى الأَْرْضِ الْمَغْصُوبَةِ أَوِ الْغَرْسُ فِيهَا:
97 - إِذَا غَرَسَ شَخْصٌ شَجَرًا، أَوْ أَقَامَ بِنَاءً عَلَى أَرْضٍ
غَصَبَهَا، فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ ظَاهِرُ
الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِقَلْعِ
الشَّجَرِ، وَهَدْمِ الْبِنَاءِ، وَتَفْرِيغِ الأَْرْضِ مِنْ كُل مَا
أَنْشَأَ فِيهَا، وَإِعَادَتِهَا كَمَا كَانَتْ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا (3) وَذَلِكَ:
لِحَدِيثِ " عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ
لَهُ، وَلَيْسَ لِعِرَقِ ظَالِمٍ حَقٌّ، قَال: فَلَقَدْ أَخْبَرَنِي
الَّذِي حَدَّثَنِي هَذَا الْحَدِيثَ، {أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَرَسَ أَحَدُهُمَا
نَخْلاً فِي أَرْضِ الآْخَرِ، فَقَضَى لِصَاحِبِ الأَْرْضِ بِأَرْضِهِ
وَأَمَرَ صَاحِبَ النَّخْل أَنْ يُخْرِجَ نَخْلَهُ مِنْهَا، قَال:
__________
(1) حاشية الحموي على الأشباه والنظائر لابن نجيم، غمز عيون البصائر 3 /
208 ورد المحتار 5 / 115.
(2) مجمع الأنهر 2 / 462.
(3) المغني بالشرح الكبير 5 / 379.
(28/274)
فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا، وَإِنَّهَا
لَتُضْرَبُ أُصُولُهَا بِالْفُؤُوسِ، وَإِنَّهَا لَنَخْلٌ عَمٌّ (1) أَيْ
طَوِيلَةٌ (2) .
وَلأَِنَّهُ شَغَل مِلْكَ غَيْرِهِ، فَيُؤْمَرُ بِتَفْرِيغِهِ، دَفْعًا
لِلظُّلْمِ، وَرَدًّا لِلْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ (3) .
قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: عَلَيْهِ أَرْشُ نَقْصِهَا إِنْ
كَانَ، وَتَسْوِيَتُهَا، لأَِنَّهُ ضَرَرٌ حَصَل بِفِعْلِهِ، مَعَ أُجْرَةِ
الْمِثْل إِلَى وَقْتِ التَّسْلِيمِ (4) .
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَلِلْغَاصِبِ قَلْعُهُمَا قَهْرًا عَلَى
الْمَالِكِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ إِجَابَةُ الْمَالِكِ لَوْ طَلَبَ
الإِْبْقَاءَ بِالأَْجْرِ، أَوِ التَّمَلُّكَ بِالْقِيمَةِ، وَلِلْمَالِكِ
قَلْعُهُمَا جَبْرًا عَلَى الْغَاصِبِ، بِلاَ أَرْشٍ لِعَدَمِ
احْتِرَامِهِمَا عَلَيْهِ (5) .
وَالْمَالِكِيَّةُ خَيَّرُوا الْمَالِكَ بَيْنَ قَلْعِ الشَّجَرِ وَهَدْمِ
الْبِنَاءِ، وَبَيْنَ تَرْكِهِمَا، عَلَى أَنْ يُعْطَى الْمَالِكُ
الْغَاصِبُ، قِيمَةَ أَنْقَاضِ الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ، مَقْلُوعًا، بَعْدَ
طَرْحِ أُجْرَةِ النَّقْضِ وَالْقَلْعِ، لَكِنَّهُمْ قَيَّدُوا قَلْعَ
الزَّرْعِ بِمَا إِذَا لَمْ يَفُتْ، أَيْ لَمْ يَمْضِ وَقْتٌ مَا تُرَادُ
الأَْرْضُ لَهُ فَلَهُ عِنْدَئِذٍ أَخْذُهُ بِقِيمَتِهِ مَقْلُوعًا
مَطْرُوحًا مِنْهُ أُجْرَةُ
__________
(1) حديث: عروة بن الزبير: من أحيا أرضا ميتة فهي له. أخرجه أبو داود (3 /
454 - 455) وفي إسناده انقطاع.
(2) بفتح العين من (عم) وضمها، جمع عميمة. كما في نيل الأوطار 5 / 321.
(3) الاختيار 3 / 63، والمغني بالشرح الكبير 5 / 380.
(4) شرح المحلي على المنهاج 3 / 39، والروض المربع 2 / 249، والمغني بالشرح
الكبير 5 / 378.
(5) حاشية القليوبي على شرح المحلي 3 / 39، والمغني 5 / 379 و 380، والروض
المربع 2 / 249.
(28/274)
الْقَلْعِ. فَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ، بَقِيَ
الزَّرْعُ لِلزَّارِعِ، وَلَزِمَهُ الْكِرَاءُ إِلَى انْتِهَائِهِ (1) .
وَنَصَّ عَلَى مِثْل هَذَا الْحَنَفِيَّةُ (2) .
(ر: غَرْس - غَصْب) .
د - قَلْعُ عَيْنِ الْحَيَوَانِ:
98 - الْحَيَوَانُ وَإِنْ كَانَ مِنَ الأَْمْوَال، وَيَنْبَغِي أَنْ
تُطَبَّقَ فِي إِتْلاَفِهِ - كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا - الْقَوَاعِدُ
الْعَامَّةُ، إِلاَّ أَنَّهُ وَرَدَ فِي السَّمْعِ تَضْمِينُ رُبُعِ
قِيمَتِهِ، بِقَلْعِ عَيْنِهِ:
فَفِي الْحَدِيثِ: قَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي عَيْنِ الدَّابَّةِ رُبُعَ ثَمَنِهَا (3)
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَشُرَيْحٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمَا - وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى شُرَيْحٍ، لَمَّا كَتَبَ إِلَيْهِ
يَسْأَلُهُ عَنْ عَيْنِ الدَّابَّةِ: " إِنَّا كُنَّا نُنْزِلُهَا
مَنْزِلَةَ الآْدَمِيِّ، إِلاَّ أَنَّهُ أَجْمَعَ رَأْيُنَا أَنَّ
قِيمَتَهَا رُبُعُ الثَّمَنِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: هَذَا إِجْمَاعٌ
يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ (4) .
وَهَذَا مِمَّا جَعَل الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ
__________
(1) القوانين الفقهية (217) وجواهر الإكليل 2 / 154، والشرح الكبير للدردير
3 / 461 و 462.
(2) الدر المختار ورد المحتار عليه 5 / 124، وتبيين الحقائق 5 / 229،
والهداية وشروحها 8 / 269 و 270.
(3) حديث: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في عين الدابة ربع ثمنها ".
أخرجه الطبراني في الكبير (5 / 153) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6 /
298) وقال: (فيه أبو أمية بن يعلى وهو ضعيف) .
(4) المغني بالشرح الكبير 5 / 386 و 387.
(28/275)
الْحَنَابِلَةِ عَنْ أَحْمَدَ -
يَعْدِلُونَ عَنِ الْقِيَاسِ، بِالنَّظَرِ إِلَى ضَمَانِ الْعَيْنِ فَقَطْ
(1) .
فَعَمِلُوا بِالْحَدِيثِ، وَتَرَكُوا فِيهِ الْقِيَاسَ، لَكِنَّهُمْ
خَصُّوهُ بِالْحَيَوَانِ الَّذِي يُقْصَدُ لِلَّحْمِ، كَمَا يُقْصَدُ
لِلرُّكُوبِ وَالْحَمْل وَالزِّينَةِ أَيْضًا، كَمَا فِي عَيْنِ الْفَرَسِ
وَالْبَغْل وَالْحِمَارِ، وَكَذَا فِي عَيْنِ الْبَقَرَةِ وَالْجَزُورِ.
أَمَّا غَيْرُهُ، كَشَاةِ الْقَصَّابِ الْمُعَدَّةِ لِلذَّبْحِ، مِمَّا
يُقْصَدُ مِنْهُ اللَّحْمُ فَقَطْ، فَيُعْتَبَرُ مَا نَقَصَتْ قِيمَتُهُ
(2) .
وَطَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْقِيَاسَ،
فَضَمَّنُوا مَا يَتْلَفُ مِنْ سَائِرِ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ، بِمَا
يَنْقُصُ مِنْ قِيمَتِهِ، بِفَقْدِ عَيْنِهِ وَغَيْرِهَا، بَالِغًا مَا
بَلَغَ النَّقْصُ بِلاَ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ (3) .
قَال الْمَحَلِّيُّ: وَيَضْمَنُ مَا تَلِفَ أَوْ أَتْلَفَ مِنْ أَجْزَائِهِ
بِمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ (4) .
وَقَال الْغَزَالِيُّ: وَلاَ يَجِبُ فِي عَيْنِ الْبَقَرَةِ وَالْفَرَسِ
إِلاَّ أَرْشُ النَّقْصِ (5) .
وَعَلَّل ذَلِكَ ابْنُ قُدَامَةَ، بِأَنَّهُ ضَمَانُ مَالٍ مِنْ غَيْرِ
جِنَايَةٍ، فَكَانَ الْوَاجِبُ مَا نَقَصَ،
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 87.
(2) رد المحتار 5 / 123، ودرر الحكام 2 / 114.
(3) الشرح الكبير للدردير 3 / 454، والقوانين الفقهية (218) والمهذب 2 /
201.
(4) شرح المحلي على المنهاج 3 / 31.
(5) الوجيز 1 / 208.
(28/275)
كَالثَّوْبِ، وَلأَِنَّهُ لَوْ فَاتَ
الْجَمِيعُ لَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ، فَإِذَا فَاتَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَجَبَ
قَدْرُهُ مِنَ الْقِيمَةِ، كَغَيْرِ الْحَيَوَانِ (1) .
ضَمَانُ الشَّخْصِ الضَّرَرَ النَّاشِئَ عَنْ فِعْل غَيْرِهِ وَمَا
يَلْتَحِقُ بِهِ:
99 - الأَْصْل أَنَّ الشَّخْصَ مَسْئُولٌ عَنْ ضَمَانِ الضَّرَرِ الَّذِي
يَنْشَأُ عَنْ فِعْلِهِ لاَ عَنْ فِعْل غَيْرِهِ لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ
اسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا الأَْصْل ضَمَانَ أَفْعَال الْقُصَّرِ
الْخَاضِعِينَ لِرَقَابَتِهِ، وَضَمَانَ أَفْعَال تَابِعِيهِ: كَالْخَدَمِ
وَالْعُمَّال وَكَالْمُوَظِّفِينَ، وَضَمَانَ مَا يُفْسِدُهُ الْحَيَوَانُ،
وَضَمَانَ الضَّرَرِ الْحَادِثِ بِسَبَبِ سُقُوطِ الأَْبْنِيَةِ، وَضَمَانَ
التَّلَفِ الْحَادِثِ بِالأَْشْيَاءِ الأُْخْرَى، وَتَفْصِيلُهُ فِيمَا
يَلِي:
أَوَّلاً: ضَمَانُ الإِْنْسَانِ لأَِفْعَال الأَْشْخَاصِ الْخَاضِعِينَ
لِرَقَابَتِهِ:
100 - وَيَتَمَثَّل هَذَا النَّوْعُ مِنَ الضَّمَانِ، فِي الأَْفْعَال
الضَّارَّةِ، الصَّادِرَةِ مِنَ الصِّغَارِ الْقُصَّرِ، الَّذِينَ هُمْ فِي
وِلاَيَةِ الأَْبِ وَالْوَصِيِّ، وَالتَّلاَمِيذِ حِينَمَا يَكُونُونَ فِي
الْمَدْرَسَةِ، تَحْتَ رَقَابَةِ النَّاظِرِ وَالْمُعَلِّمِ، أَوْ فِي
رِعَايَةِ أَيِّ رَقِيبٍ عَلَيْهِمْ وَهُمْ صِغَارٌ، وَمِثْلُهُمْ
الْمَجَانِينُ وَالْمَعَاتِيهُ.
وَلَمَّا كَانَ الأَْصْل الْمُقَرَّرُ فِي الشَّرِيعَةِ، كَمَا
__________
(1) المغني بالشرح الكبير 5 / 387.
(28/276)
تَقَدَّمَ آنِفًا، هُوَ ضَمَانُ
الإِْنْسَانِ لأَِفْعَالِهِ كُلِّهَا، دُونَ تَحَمُّل غَيْرِهِ عَنْهُ
لِشَيْءٍ مِنْ تَبَعَاتِهَا، مَهْمَا كَانَ مِنَ الأَْمْرِ (1) .
فَقَدْ طَرَدَ الْفُقَهَاءُ قَاعِدَةَ تَضْمِينِ الصِّغَارِ، وَأَوْجَبُوا
عَلَيْهِمُ الضَّمَانَ فِي مَالِهِمْ، وَلَمْ يُوجِبُوا عَلَى
أَوْلِيَائِهِمْ وَالأَْوْصِيَاءِ عَلَيْهِمْ ضَمَانَ مَا أَتْلَفُوهُ،
إِلاَّ فِي أَحْوَالٍ مُسْتَثْنَاةٍ، مِنْهَا:
أ - إِذَا كَانَ إِتْلاَفُ الصِّغَارِ لِلْمَال، نَاشِئًا مِنْ تَقْصِيرِ
الأَْوْلِيَاءِ وَنَحْوِهِمْ، فِي حِفْظِهِمْ، كَمَا لَوْ دَفَعَ إِلَى
صَبِيٍّ سِكِّينًا لِيُمْسِكَهُ لَهُ، فَوَقَعَ السِّكِّينُ مِنْ يَدِهِ
عَلَيْهِ أَوْ عَلَى شَخْصٍ آخَرَ، أَوْ عَثَرَ بِهِ، فَإِنَّ الدَّافِعَ
يَضْمَنُ (2) .
ب - إِذَا كَانَ بِسَبَبِ إِغْرَاءِ الآْبَاءِ وَالأَْوْصِيَاءِ الصِّغَارِ
بِإِتْلاَفِ الْمَال، كَمَا لَوْ أَمَرَ الأَْبُ ابْنَهُ بِإِتْلاَفِ مَالٍ
أَوْ إِيقَادِ نَارٍ، فَأَوْقَدَهَا، وَتَعَدَّتْ النَّارُ إِلَى أَرْضِ
جَارِهِ، فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا، يَضْمَنُ الأَْبُ، لأَِنَّ الأَْمْرَ
صَحَّ، فَانْتَقَل الْفِعْل إِلَيْهِ، كَمَا لَوْ بَاشَرَهُ الأَْبُ (3) .
فَلَوْ أَمَرَ أَجْنَبِيٌّ صَبِيًّا بِإِتْلاَفِ مَال آخَرَ، ضَمِنَ
الصَّبِيُّ، ثُمَّ رَجَعَ عَلَى آمِرِهِ (4) .
ج - إِذَا كَانَ بِسَبَبِ تَسْلِيطِهِمْ عَلَى الْمَال، كَمَا
__________
(1) تغيير التنقيح لابن كمال باشا (257) ط: (الآستانة: 1308 هـ) . والتوضيح
مع التلويح 2 / 163.
(2) يؤخذ من جامع الفصولين 2 / 81.
(3) الدر المختار ورد المحتار بتصرف 5 / 136.
(4) جامع الفصولين 2 / 80.
(28/276)
لَوْ أَوْدَعَ صَبِيًّا وَدِيعَةً بِلاَ
إِذْنِ وَلِيِّهِ فَأَتْلَفَهَا، لَمْ يَضْمَنِ الصَّبِيُّ، وَكَذَا إِذَا
أَتْلَفَ مَا أُعِيرَ لَهُ، وَمَا اقْتَرَضَهُ وَمَا بِيعَ مِنْهُ بِلاَ
إِذْنٍ، لِلتَّسْلِيطِ مِنْ مَالِكِهَا (1) .
ثَانِيًا: ضَمَانُ الشَّخْصِ لأَِفْعَال التَّابِعِينَ لَهُ:
101 - وَيَتَمَثَّل هَذَا فِي الْخَادِمِ فِي الْمَنْزِل، وَالطَّاهِي فِي
الْمَطْعَمِ، وَالْمُسْتَخْدَمِ فِي الْمَحَل، وَالْعَامِل فِي
الْمَصْنَعِ، وَالْمُوَظَّفِ فِي الْحُكُومَةِ، وَفِي سَائِقِ
السَّيَّارَةِ لِمَالِكِهَا كُلٌّ فِي دَائِرَةِ عَمَلِهِ.
وَالْعَلاَقَةُ هُنَا عَقَدِيَّةٌ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الرَّقَابَةِ
عَلَى عَدِيمِي التَّمْيِيزِ: هِيَ: دِينِيَّةٌ أَوْ أَدَبِيَّةٌ.
وَالْفُقَهَاءُ بَحَثُوا هَذَا فِي بَابِ الإِْجَارَةِ، فِي أَحْكَامِ
الأَْجِيرِ الْخَاصِّ، وَفِي تِلْمِيذِ الأَْجِيرِ الْمُشْتَرَكِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْمَل لِوَاحِدٍ عَمَلاً مُؤَقَّتًا
بِالتَّخْصِيصِ، وَيَسْتَحِقُّ أَجْرَهُ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ فِي
الْمُدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَل.
وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ مَنْفَعَتُهُ، وَلاَ يَضْمَنُ مَا هَلَكَ فِي
يَدِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، لأَِنَّ الْعَيْنَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ،
لأَِنَّهُ قَبَضَ بِإِذْنِهِ، وَلاَ يَضْمَنُ مَا هَلَكَ مِنْ عَمَلِهِ
الْمَأْذُونِ فِيهِ، لأَِنَّ الْمَنَافِعَ مَتَى صَارَتْ مَمْلُوكَةً
لِلْمُسْتَأْجِرِ، فَإِذَا أَمَرَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ، صَحَّ،
وَيَصِيرُ نَائِبًا مَنَابَهُ، فَيَصِيرُ فِعْلُهُ مَنْقُولاً إِلَيْهِ،
كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ، فَلِهَذَا لاَ
__________
(1) مجمع الضمانات (423) والدر المختار ورد المحتار 5 / 92، والشرح الكبير
للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 296.
(28/277)
يَضْمَنُهُ وَإِنَّمَا الضَّمَانُ فِي
ذَلِكَ عَلَى مَخْدُومِهِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (إِجَارَة) .
ثَالِثًا: ضَمَانُ الشَّخْصِ فِعْل الْحَيَوَانِ:
هُنَاكَ نَوْعَانِ مِنَ الْحَيَوَانِ: أَحَدُهُمَا الْحَيَوَانُ
الْعَادِيُّ، وَالآْخَرُ الْحَيَوَانُ الْخَطِرُ، وَفِي تَضْمِينِ
جِنَايَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَنُوَضِّحُهُ
فِيمَا يَلِي:
أ - ضَمَانُ جِنَايَةِ الْحَيَوَانِ الْعَادِيِّ غَيْرِ الْخَطِرِ:
102 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِ مَا يُتْلِفُهُ الْحَيَوَانُ
الْعَادِيُّ، غَيْرُ الْخَطِرِ: فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى ضَمَانِ مَا
تُفْسِدُهُ الدَّابَّةُ مِنَ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ، إِذَا وَقَعَ فِي
اللَّيْل، وَكَانَتْ وَحْدَهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ يَدٌ لأَِحَدٍ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي النَّهَارِ، وَلَمْ تَكُنْ يَدٌ لأَِحَدٍ
عَلَيْهَا - أَيِ الدَّابَّةِ - فَلاَ ضَمَانَ فِيهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ ضَارِيَةٌ فَدَخَلَتْ
حَائِطًا، فَأَفْسَدَتْ فِيهِ، فَقَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ حِفْظَ الْحَوَائِطِ بِالنَّهَارِ عَلَى
أَهْلِهَا، وَأَنَّ حِفْظَ الْمَاشِيَةِ بِاللَّيْل عَلَى أَهْلِهَا،
وَأَنَّ
__________
(1) الدر المختار 5 / 43 و 44، وجواهر الإكليل 2 / 191، وانظر شرح المحلي
على المنهاج بحاشية القليوبي عليه 3 / 81.
(28/277)
مَا أَصَابَتِ الْمَاشِيَةُ بِاللَّيْل
فَهُوَ عَلَى أَهْلِهَا (1) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلأَِنَّ الْعَادَةَ مِنْ أَهْل الْمَوَاشِي
إِرْسَالُهَا فِي النَّهَارِ لِلرَّعْيِ، وَحِفْظُهَا لَيْلاً، وَعَادَةُ
أَهْل الْحَوَائِطِ حِفْظُهَا نَهَارًا دُونَ اللَّيْل، فَإِذَا ذَهَبَتْ
لَيْلاً كَانَ التَّفْرِيطُ مِنْ أَهْلِهَا، بِتَرْكِهِمْ حِفْظَهَا فِي
وَقْتِ عَادَةِ الْحِفْظِ.
وَإِنْ أَتْلَفَتْ نَهَارًا، كَانَ التَّفْرِيطُ مِنْ أَهْل الزَّرْعِ،
فَكَانَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا، وَقَضَى عَلَى كُل إِنْسَانٍ بِالْحِفْظِ فِي
وَقْتِ عَادَتِهِ.
وَقَال - أَيْضًا -: قَال بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنَّمَا يَضْمَنُ
مَالِكُهَا مَا أَتْلَفَتْهُ لَيْلاً، إِذَا فَرَّطَ بِإِرْسَالِهَا
لَيْلاً أَوْ نَهَارًا أَوْ لَمْ يَضُمَّهَا بِاللَّيْل، أَوْ ضَمَّهَا
بِحَيْثُ يُمْكِنُهَا الْخُرُوجُ، أَمَّا لَوْ ضَمَّهَا فَأَخْرَجَهَا
غَيْرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَوْ فَتَحَ عَلَيْهَا بَابَهَا، فَالضَّمَانُ
عَلَى مُخْرِجِهَا، أَوْ فَاتِحِ بَابِهَا، لأَِنَّهُ الْمُتْلِفُ (2) .
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ ضَمَانِ الإِْتْلاَفِ نَهَارًا
بِشَرْطَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: أَنْ لاَ يَكُونَ مَعَهَا رَاعٍ.
وَالآْخَرُ: أَنْ تَسْرَحَ بَعِيدًا عَنِ الْمَزَارِعِ، وَإِلاَّ
__________
(1) حديث البراء بن عازب تقدم تخريجه ف 6.
(2) الشرح الكبير مع المغني في ذيله 5 / 454 و 455، وانظر القوانين الفقهية
(219) .
(28/278)
فَعَلَى الرَّاعِي الضَّمَانُ (1) .
وَإِنْ أَتْلَفَتِ الْبَهِيمَةُ غَيْرَ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ مِنَ
الأَْنْفُسِ وَالأَْمْوَال، لَمْ يَضْمَنْهُ مَالِكُهَا، لَيْلاً كَانَ
أَوْ نَهَارًا، مَا لَمْ تَكُنْ يَدُهُ عَلَيْهَا (2) ، وَاسْتَدَلُّوا
بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْعَجْمَاءُ
جُبَارٌ وَيُرْوَى الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ (3) وَمَعْنَى جُبَارٌ:
هَدْرٌ.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ، عَدَمَ ضَمَانِ ذَلِكَ لَيْلاً، بِمَا إِذَا
لَمْ يُقَصِّرْ فِي حِفْظِهَا، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْل مَنْ مَعَهَا،
فَفِي الْمُدَوَّنَةِ: مَنْ قَادَ قِطَارًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا وَطِئَ
الْبَعِيرُ، فِي أَوَّل الْقِطَارِ أَوْ آخِرِهِ، وَإِنْ نَفَحَتْ رَجُلاً
بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا، لَمْ يَضْمَنِ الْقَائِدُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ
ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَعَلَهُ بِهَا (4) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ إِذَا أَتْلَفَ مَالاً
أَوْ نَفْسًا، فَلاَ ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِهِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَوَقَعَ
ذَلِكَ فِي لَيْلٍ أَمْ فِي نَهَارٍ (5) .
__________
(1) شرح الزرقاني على مختصر سيدي خليل 8 / 119، والشرح الكبير للدردير 4 /
358، وقارن بالقوانين الفقهية (219) .
(2) الشرح الكبير للمقدسي 5 / 455، والقوانين الفقهية (219) وحاشية
البجيرمي على شرح الشربيني الخطيب 3 / 145.
(3) حديث: " العجماء جبار " أخرجه البخاري (3 / 364) وحديث " العجماء جرحها
جبار " أخرجه البخاري (12 / 254) ومسلم (3 / 1334) تقدم تخريجه ف (75) .
(4) شرح الزرقاني 8 / 119، والقطار من الإبل: عدد على نسق واحد. . المصباح
المنير.
(5) الدر المختار 5 / 390، وانظر الاختيار 5 / 47.
(28/278)
وَذَلِكَ لِحَدِيثِ الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ
الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا.
لَكِنْ قَيَّدَهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، بِالْمُنْفَلِتَةِ
الْمُسَيَّبَةِ حَيْثُ تُسَيَّبُ الأَْنْعَامُ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي
الْبَرَارِيِ، فَهَذِهِ الَّتِي جُرْحُهَا هَدْرٌ وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ
الطَّحَاوِيُّ فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ مَعَهَا حَافِظٌ
فَيَضْمَنُ، وَبَيْنَ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا حَافِظٌ، فَلاَ
يَضْمَنُ، وَرَوَى فِي ذَلِكَ آثَارًا (1) .
وَلأَِنَّهُ لاَ صُنْعَ لَهُ فِي نِفَارِهَا وَانْفِلاَتِهَا، وَلاَ
يُمْكِنُهُ الاِحْتِرَازُ عَنْ فِعْلِهَا، فَالْمُتَوَلِّدُ مِنْهُ لاَ
يَكُونُ مَضْمُونًا (2) .
وَأَثَارَ الْمَالِكِيَّةُ - هُنَا - مَسْأَلَةَ مَا لَوْ كَانَ
الْحَيَوَانُ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ، وَلاَ حِرَاسَتُهُ
كَحَمَامٍ، وَنَحْلٍ، وَدَجَاجٍ يَطِيرُ.
فَذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ - وَهُوَ رَوِايَةُ مُطَرِّفٍ عَنْ مَالِكٍ - إِلَى
أَنَّهُ يُمْنَعُ أَرْبَابُهَا مِنِ اتِّخَاذِهِ، إِنْ آذَى النَّاسَ.
وَذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ كِنَانَةَ وَأَصْبَغُ إِلَى أَنَّهُمْ
لاَ يُمْنَعُونَ مِنِ اتِّخَاذِهِ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِيمَا
أَتْلَفَتْهُ مِنَ الزَّرْعِ، عَلَى أَرْبَابِ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ
حِفْظُهَا.
وَصَوَّبَ ابْنُ عَرَفَةَ الأَْوَّل، لإِِمْكَانِ اسْتِغْنَاءِ
__________
(1) شرح معاني الآثار للطحاوي 3 / 204 و 205 (ط: بيروت) .
(2) البدائع 7 / 273.
(28/279)
رَبِّهَا عَنْهَا، وَضَرُورَةِ النَّاسِ
لِلزَّرْعِ وَالشَّجَرِ.
وَيُؤَيِّدُهُ - كَمَا قَال الدُّسُوقِيُّ - قَاعِدَةُ ارْتِكَابِ، أَخَفِّ
الضَّرَرَيْنِ عِنْدَ التَّقَابُل، لَكِنْ قَال: وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ -
كَمَا قَال شَيْخُنَا - قَوْل ابْنِ قَاسِمٍ.
وَالاِتِّجَاهَانِ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (1) .
شُرُوطُ ضَمَانِ جِنَايَةِ الْحَيَوَانِ:
بَدَا مِمَّا تَقَدَّمَ اتِّفَاقُ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَضْمِينِ جِنَايَةِ
الْحَيَوَانِ، كُلَّمَا كَانَ مَعَهَا رَاكِبٌ أَوْ حَافِظٌ، أَوْ ذُو
يَدٍ، وَلاَ بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ تَوَفُّرِ شُرُوطِ الضَّمَانِ
الْعَامَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: مِنَ الضَّرَرِ وَالتَّعَدِّي
وَالإِْفْضَاءِ.
103 - فَالضَّرَرُ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاقِعُ عَلَى النُّفُوسِ أَوِ
الأَْمْوَال (2) ، وَصَرَّحَ الْعَيْنِيُّ بِأَنَّ حَدِيثَ الْعَجْمَاءُ
جُبَارٌ الْمُتَقَدِّمَ، مُحْتَمِلٌ لأََنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ عَلَى
الأَْبْدَانِ أَوِ الأَْمْوَال، وَذَكَرَ أَنَّ الأَْوَّل أَقْرَبُ إِلَى
الْحَقِيقَةِ (3) ، لِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِلَفْظِ الْعَجْمَاءُ
جُرْحُهَا جُبَارٌ (4) .
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 4 / 358، قبيل باب العتق،
وانظر - أيضا - شرح الزرقاني 8 / 119، والدر المختار 5 / 392، وحاشية
القليوبي على شرح المحلي 4 / 213.
(2) رد المحتار 5 / 386.
(3) عمدة القاري 9 / 102.
(4) الحديث تقدم في ف (102) .
(28/279)
104 - وَالتَّعَدِّي بِمُجَاوَزَةِ ذِي
الْيَدِ فِي اسْتِعْمَال الدَّابَّةِ، فَحَيْثُ اسْتَعْمَلَهَا فِي حُدُودِ
حَقِّهِ، فِي مِلْكِهِ، أَوِ الْمَحَل الْمُعَدِّ لِلدَّوَابِّ أَوْ
أَدْخَلَهَا مِلْكَ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ، فَأَتْلَفَتْ نَفْسًا أَوْ
مَالاً، لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذْ لاَ ضَمَانَ مَعَ الإِْذْنِ بِخِلاَفِ
مَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ أَوْ أَوْقَفَهَا فِي
مَحَلٍّ لَمْ يُعَدَّ لِوُقُوفِ الْحَيَوَانَاتِ، أَوْ فِي طَرِيقِ
الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لِمَا تُتْلِفُهُ حِينَئِذٍ
إِذْ كُل مَنْ فَعَل فِعْلاً لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ ضَمِنَ مَا
تَوَلَّدَ مِنْهُ (1) .
وَالأَْصْل فِي هَذَا حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُمَا قَال: " قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنْ أَوْقَفَ دَابَّةً فِي سَبِيلٍ مِنْ سُبُل الْمُسْلِمِينَ
أَوْ فِي سُوقٍ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ، فَأَوْطَأَتْ بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ،
فَهُوَ ضَامِنٌ (2) .
وَنَصَّتْ الْمَجَلَّةُ فِي الْمَادَّةِ 930 عَلَى أَنَّهُ " لاَ يَضْمَنُ
صَاحِبُ الدَّابَّةِ الَّتِي أَضَرَّتْ بِيَدِهَا أَوْ ذَيْلِهَا أَوْ
رِجْلِهَا، حَال كَوْنِهَا فِي مِلْكِهِ، رَاكِبًا كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ
"، كَمَا نَصَّتْ (الْمَادَّةُ: 931) عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَدْخَل أَحَدٌ
دَابَّتَهُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ، لاَ يَضْمَنُ جِنَايَتَهَا،
فِي الصُّوَرِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْمَادَّةِ آنِفًا حَيْثُ إِنَّهَا
تُعَدُّ كَالْكَائِنَةِ فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ أَدْخَلَهَا بِدُونِ
إِذْنِ صَاحِبِهِ
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 88.
(2) حديث: تقدم في ف (6) .
(28/280)
يَضْمَنُ ضَرَرَ تِلْكَ الدَّابَّةِ
وَخَسَارَهَا عَلَى كُل حَالٍ.
- كَمَا نَصَّتْ فِي (الْمَادَّةِ: 939) عَلَى أَنَّهُ إِذَا رَبَطَ
شَخْصَانِ دَابَّتَيْهِمَا فِي مَحَلٍّ لَهُمَا حَقُّ الرَّبْطِ فِيهِ،
فَأَتْلَفَتْ إِحْدَى الدَّابَّتَيْنِ الأُْخْرَى، لاَ يَلْزَمُ
الضَّمَانُ.
وَفِي النُّصُوصِ: " لَوْ أَوْقَفَهَا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ
الأَْعْظَمِ، أَوْ مَسْجِدٍ آخَرَ، يَضْمَنُ إِلاَّ إِذَا جَعَل الإِْمَامُ
لِلْمُسْلِمِينَ مَوْضِعًا يُوقِفُونَ دَوَابَّهُمْ فَلاَ يَضْمَنُ (1) ".
وَلَوْ رَبَطَ دَابَّتَهُ فِي مَكَان، ثُمَّ رَبَطَ آخَرُ فِيهِ
دَابَّتَهُ، فَعَضَّتْ إِحْدَاهُمَا الأُْخْرَى، لاَ ضَمَانَ لَوْ كَانَ
لَهُمَا فِي الْمَرْبِطِ وِلاَيَةُ الرَّبْطِ (2) .
وَعَلَّلَهُ الرَّمْلِيُّ، نَقْلاً عَنِ الْقَاضِي، بِأَنَّ الرَّبْطَ
جِنَايَةٌ، فَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ ضَمِنَهُ (3) .
105 - وَأَمَّا الإِْفْضَاءُ، وَهُوَ وُصُول الضَّرَرِ مُبَاشَرَةً أَوْ
تَسَبُّبًا، فَإِنَّ فِعْل الْحَيَوَانِ لاَ يُوصَفُ بِمُبَاشَرَةٍ أَوْ
تَسْبِيبٍ، لأَِنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَصِحُّ إِضَافَةُ الْحُكْمِ إِلَيْهِ،
وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِذَلِكَ صَاحِبُهُ، فَتُطَبَّقُ الْقَاعِدَةُ
الْعَامَّةُ: أَنَّ الْمُبَاشِرَ ضَامِنٌ وَإِنْ لَمْ يَتَعَدَّ،
وَالْمُتَسَبِّبُ لاَ يَضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي (4) .
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 86.
(2) جامع الفصولين 2 / 87.
(3) حاشية الرملي على جامع الفصولين 2 / 87.
(4) مجمع الضمانات (165) .
(28/280)
وَيُعْتَبَرُ ذُو الْيَدِ عَلَى
الْحَيَوَانِ، وَصَاحِبُهُ مُبَاشِرًا إِذَا كَانَ رَاكِبًا فِي مِلْكِهِ
أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَلَوْ بِإِذْنِهِ أَوْ فِي طَرِيقِ
الْعَامَّةِ، فَيَضْمَنُ مَا يُحْدِثُهُ بِتَلَفِهِ، وَإِنْ لَمْ
يَتَعَدَّ.
فَرَاكِبُ الدَّابَّةِ يَضْمَنُ مَا وَطِئَتْهُ بِرِجْلِهَا، أَوْ يَدِهَا
- كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ - أَيْ وَمَاتَ لِوُجُودِ الْخَطَأِ فِي
هَذَا الْقَتْل، وَحُصُولُهُ عَلَى سَبِيل الْمُبَاشَرَةِ لأَِنَّ ثِقَل
الرَّاكِبِ عَلَى الدَّابَّةِ، وَالدَّابَّةُ آلَةٌ لَهُ، فَكَانَ الْقَتْل
الْحَاصِل بِثِقَلِهَا مُضَافًا إِلَى الرَّاكِبِ، وَالرَّدِيفُ
وَالرَّاكِبُ سَوَاءٌ، وَعَلَيْهِمَا الْكَفَّارَةُ، وَيُحْرَمَانِ مِنَ
الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ، لأَِنَّ ثِقَلَهُمَا عَلَى الدَّابَّةِ،
وَالدَّابَّةُ آلَةٌ لَهُمَا، فَكَانَا قَاتِلَيْنِ عَلَى طَرِيقِ
الْمُبَاشَرَةِ (1) .
وَلَوْ كَدَمَتْ أَوْ صَدَمَتْ، فَهُوَ ضَامِنٌ، وَلاَ كَفَّارَةَ وَلاَ
حِرْمَانَ، لأَِنَّهُ قَتْلٌ بِسَبَبٍ.
وَلَوْ أَصَابَتْ وَمَعَهَا سَائِقٌ وَقَائِدٌ، فَلاَ كَفَّارَةَ وَلاَ
حِرْمَانَ، لأَِنَّهُ قَتْلٌ تَسْبِيبًا لاَ مُبَاشَرَةً، بِخِلاَفِ
الرَّاكِبِ وَالرَّدِيفِ (2) .
وَهَذَا خِلاَفُ مَا فِي مَجْمَعِ الأَْنْهُرِ، حَيْثُ نَصَّ عَلَى أَنَّ
الرَّاكِبَ فِي مِلْكِهِ لاَ يَضْمَنُ شَيْئًا، لأَِنَّهُ غَيْرُ
مُتَعَدٍّ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ، فَيَضْمَنُ
لِلتَّعَدِّي (3) .
وَمِثَال مَا لَوْ أَتْلَفَتْ شَيْئًا بِتَسْبِيبِ
__________
(1) البدائع 7 / 272.
(2) البدائع 7 / 272.
(3) مجمع الأنهر 2 / 659، وانظر الدر المختار ورد المحتار 5 / 387.
(28/281)
صَاحِبِهَا: مَا لَوْ أَوْقَفَهَا فِي
مِلْكِ غَيْرِهِ، فَجَالَتْ فِي رِبَاطِهَا، حَيْثُ طَال الرَّسَنُ
فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا، ضَمِنَ، لأَِنَّهُ مُمْسِكُهَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ
ذَهَبَتْ، مَا دَامَتْ فِي مَوْضِعِ رِبَاطِهَا (1) .
فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ الضَّمَانِ بِالتَّسْبِيبِ بِالتَّعَدِّي، وَهُوَ
الرَّبْطُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ.
وَمِثَال اجْتِمَاعِ الْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسْبِيبِ، حَيْثُ تُقَدَّمُ
الْمُبَاشَرَةُ، مَا لَوْ رَبَطَ بَعِيرًا إِلَى قِطَارٍ، وَالْقَائِدُ لاَ
يَعْلَمُ، فَوَطِئَ الْبَعِيرُ الْمَرْبُوطُ إِنْسَانًا، فَقَتَلَهُ،
فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَائِدِ الدِّيَةُ، لِعَدَمِ صِيَانَةِ الْقِطَارِ
عَنْ رَبْطِ غَيْرِهِ، فَكَانَ مُتَعَدِّيًا (مُقَصِّرًا) لَكِنْ يُرْجَعُ
عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ، لأَِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ
الْعُهْدَةِ.
وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبِ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً، وَكُلٌّ مِنْهُمَا
مُتَسَبِّبٌ، لأَِنَّ الرَّبْطَ، مِنَ الْقَوَدِ، بِمَنْزِلَةِ
التَّسْبِيبِ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ، لاِتِّصَال التَّلَفِ بِالْقَوَدِ دُونَ
الرَّبْطِ (2) .
وَمِثَال مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُبَاشِرًا وَلاَ مُتَسَبِّبًا، حَيْثُ لاَ
يَضْمَنُ، مَا إِذَا قَتَل سِنَّوْرُهُ حَمَامَةً فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُ،
لِحَدِيثِ: الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا (3) .
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 86، وانظر حاشية الرملي في الموضع نفسه، والرَّسَن:
الحبل. . المصباح المنير.
(2) الهداية وشروحها 9 / 263.
(3) جامع الفصولين 2 / 85.
(28/281)
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ
الْهِرَّةَ إِنْ أَتْلَفَتْ طَيْرًا أَوْ طَعَامًا لَيْلاً أَوَنَهَارًا
ضَمِنَ مَالِكُهَا إِنْ عَهِدَ ذَلِكَ مِنْهَا، وَإِلاَّ فَلاَ يَضْمَنُ
فِي الأَْصَحِّ (1) .
106 - وَمِنْ مَشْمُولاَتِ الإِْفْضَاءِ: التَّعَمُّدُ، كَمَا لَوْ أَلْقَى
هِرَّةً عَلَى حَمَامَةٍ أَوْ دَجَاجَةٍ، فَأَكَلَتْهَا ضَمِنَ لَوْ
أَخَذَتْهَا بِرَمْيِهِ وَإِلْقَائِهِ، لاَ لَوْ بَعْدَهُ. . . وَيَضْمَنُ
بِإِشْلاَءِ كَلْبِهِ، لأَِنَّهُ بِإِغْرَائِهِ يَصِيرُ آلَةً لِعَقْرِهِ،
فَكَأَنَّهُ ضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ (2) .
وَمِنْ مَشْمُولاَتِهِ التَّسَبُّبُ بِعَدَمِ الاِحْتِرَازِ: فَالأَْصْل:
أَنَّ الْمُرُورَ بِطَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ مُبَاحٌ، بِشَرْطِ
السَّلاَمَةِ، فِيمَا يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ، لاَ فِيمَا لاَ
يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ (3) :
فَلَوْ أَوْقَفَ دَابَّتَهُ فِي الطَّرِيقِ ضَمِنَ مَا نَفَحَتْهُ، لأَِنَّ
بِإِمْكَانِهِ الاِحْتِرَازَ مِنَ الإِْيقَافِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ
الاِحْتِرَازُ مِنَ النَّفْحَةِ، فَصَارَ مُتَعَدِّيًا بِالإِْيقَافِ
وَشَغْل الطَّرِيقِ بِهِ (4) .
بِخِلاَفِ مَا لَوْ أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا حَصَاةً، أَوْ
أَثَارَتْ غُبَارًا، فَفَقَأَتْ الْحَصَاةُ عَيْنَ إِنْسَانٍ، أَوْ
أَفْسَدَ الْغُبَارُ ثَوْبَ إِنْسَانٍ فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُ لأَِنَّهُ
لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ، لأَِنَّ سَيْرَ
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج 4 / 213.
(2) جامع الفصولين 2 / 85، وانظر الهداية وشروحها 9 / 264 و 265، والمبسوط
27 / 5.
(3) الهداية وشروحها 9 / 258 و 259، ودرر الحكام 2 / 111.
(4) الهداية بشروحها 9 / 259.
(28/282)
الدَّوَابِّ لاَ يَخْلُو عَنْهُ (1) .
وَلِلْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ فِي الطَّرِيقِ
الْوَاسِعِ (2) .
وَجَاءَ فِي الْمَجَلَّةِ (الْمَادَّةِ: 934) : لَيْسَ لأَِحَدٍ حَقُّ
تَوْقِيفِ دَابَّتِهِ أَوْ رَبْطِهَا فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ.
وَمِنْ مَشْمُولاَتِهِ التَّسَبُّبُ بِالتَّقْصِيرِ، وَمِنَ الْفُرُوعِ:
مَا لَوْ رَأَى دَابَّتَهُ تَأْكُل حِنْطَةَ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَمْنَعْهَا،
حَتَّى أَكَلَتْهَا، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَضْمَنُ (3) .
وَبِهَذَا أَخَذَتْ الْمَجَلَّةُ، حَيْثُ نَصَّتْ عَلَى أَنَّهُ " لَوْ
اسْتَهْلَكَ حَيَوَانٌ مَال أَحَدٍ، وَرَآهُ صَاحِبُهُ، فَلَمْ يَمْنَعْهُ
يَضْمَنُ ". (الْمَادَّةُ: 929) .
107 - وَالضَّامِنُ لِجِنَايَةِ الْحَيَوَانِ، لَمْ يُقَيَّدْ فِي
النُّصُوصِ الْفِقْهِيَّةِ، بِكَوْنِهِ مَالِكًا أَوْ غَيْرَهُ، بَل هُوَ
ذُو الْيَدِ، الْقَابِضُ عَلَى زِمَامِهِ، الْقَائِمُ عَلَى تَصْرِيفِهِ،
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا، وَلَوْ لَمْ يَحِل لَهُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ،
وَيَشْمَل هَذَا السَّائِسَ وَالْخَادِمَ.
قَال النَّوَوِيُّ: إِنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ فِي مَال الَّذِي هُوَ
مَعَهَا، سَوَاءٌ كَانَ مَالِكًا أَوْ مُسْتَأْجِرًا
__________
(1) نفسه، ومجمع الضمانات (185) .
(2) المغني 10 / 359.
(3) الدر المختار 5 / 392.
(28/282)
أَوْ مُسْتَعِيرًا، أَوْ غَاصِبًا أَوْ
مُودِعًا، أَوْ وَكِيلاً أَوْ غَيْرَهُ (1) .
وَيَقُول الشَّرْقَاوِيُّ فِي جِنَايَةِ الدَّابَّةِ: لاَ تَتَعَلَّقُ
بِرَقَبَتِهَا، بَل بِذِي الْيَدِ عَلَيْهَا (2) .
108 - وَلَوْ تَعَدَّدَ وَاضِعُو الْيَدِ عَلَى الْحَيَوَانِ، فَالضَّمَانُ
- فِيمَا يَبْدُو مِنَ النُّصُوصِ - عَلَى الأَْقْوَى يَدًا، وَالأَْكْثَرِ
قُدْرَةً عَلَى التَّصَرُّفِ، وَعِنْدَ الاِسْتِوَاءِ يَكُونُ الضَّمَانُ
عَلَيْهِمَا.
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا سَائِقًا، وَالآْخَرُ
قَائِدًا، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لأَِنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي
التَّسْبِيبِ، فَيَشْتَرِكَانِ فِي الضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ
أَحَدُهُمَا سَائِقًا وَالآْخَرُ رَاكِبًا أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَائِدًا
وَالآْخَرُ رَاكِبًا، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا، لِوُجُودِ سَبَبِ
الضَّمَانِ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إِلاَّ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ
عَلَى الرَّاكِبِ وَحْدَهُ، فِيمَا لَوْ وَطِئَتْ دَابَّتُهُ إِنْسَانًا
فَقَتَلَتْهُ، لِوُجُودِ الْقَتْل مِنْهُ وَحْدَهُ مُبَاشَرَةً (3) ،
وَإِنْ كَانَ الْحَصْكَفِيُّ صَحَّحَ عَدَمَ تَضْمِينِ السَّائِقِ، لأَِنَّ
الإِْضَافَةَ إِلَى الْمُبَاشِرِ أَوْلَى، لَكِنَّ السَّبَبَ - هُنَا -
مِمَّا يَعْمَل بِانْفِرَادِهِ، فَيَشْتَرِكَانِ كَمَا حَقَّقَهُ
وَنَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ (4) .
__________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي 11 / 225 (ط: المطبعة المصرية في القاهرة: 1349
هـ.) .
(2) حاشية الشرقاوي على شرح التحرير 2 / 459.
(3) البدائع 7 / 280.
(4) الدر المختار ورد المحتار عليه 5 / 388.
(28/283)
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ كَانَ
عَلَى الدَّابَّةِ رَاكِبَانِ، فَالضَّمَانُ عَلَى الأَْوَّل مِنْهُمَا،
لأَِنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا، الْقَادِرُ عَلَى كَفِّهَا، إِلاَّ أَنْ
يَكُونَ الأَْوَّل مِنْهُمَا صَغِيرًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ نَحْوَهُمَا،
وَيَكُونُ الثَّانِي الْمُتَوَلِّي لِتَدْبِيرِهَا، فَيَكُونُ الضَّمَانُ
عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ مَعَ الدَّابَّةِ قَائِدٌ وَسَائِقٌ، فَالضَّمَانُ
عَلَيْهِمَا، لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوِ انْفَرَدَ ضَمِنَ،
فَإِذَا اجْتَمَعَا ضَمِنَا: وَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا
رَاكِبٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، لِذَلِكَ.
وَالآْخَرُ: أَنَّهُ عَلَى الرَّاكِبِ، لأَِنَّهُ أَقْوَى يَدًا
وَتَصَرُّفًا.
وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ عَلَى الْقَائِدِ لأَِنَّهُ لاَ حُكْمَ
لِلرَّاكِبِ عَلَى الْقَائِدِ (1) .
ب - ضَمَانُ جِنَايَةِ الْحَيَوَانِ الْخَطِرِ:
109 - وَيَتَمَثَّل فِي الْكَبْشِ النَّطُوحِ، وَالْجَمَل الْعَضُوضِ،
وَالْفَرَسِ الْكَدُومِ، وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ، كَمَا يَتَمَثَّل فِي
الْحَشَرَاتِ الْمُؤْذِيَةِ، وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ،
وَالْحَيَوَانَاتِ الْوَحْشِيَّةِ الْمُفْتَرِسَةِ، وَسِبَاعِ
الْبَهَائِمِ، كَالأَْسَدِ وَالذِّئْبِ، وَسِبَاعِ الطَّيْرِ كَالْحِدَأَةِ
وَالْغُرَابِ، وَفِيهَا مَذَاهِبُ لِلْفُقَهَاءِ:
__________
(1) المغني بالشرح الكبير 10 / 359.
(28/283)
مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ ضَمَانُ مَا
يُتْلِفُهُ الْحَيَوَانُ الْخَطِرُ، مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ إِذَا وُجِدَ
مِنْ مَالِكِهِ إِشْلاَءٌ أَوْ إِغْرَاءٌ أَوْ إِرْسَالٌ، وَهُوَ قَوْل
أَبِي يُوسُفَ، الَّذِي أَوْجَبَ الضَّمَانَ فِي هَذَا كُلِّهِ،
احْتِيَاطًا لأَِمْوَال النَّاسِ (1) خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ (2) ،
وَالَّذِي أَفْتَوْا بِهِ هُوَ: الضَّمَانُ بَعْدَ الإِْشْلاَءِ
كَالْحَائِطِ الْمَائِل، فِي النَّفْسِ وَالْمَال (3) كَمَا فِي
الإِْغْرَاءِ (4) .
وَعَلَّل الضَّمَانَ بِالإِْشْلاَءِ، بِأَنَّهُ بِالإِْغْرَاءِ. يَصِيرُ
الْكَلْبُ آلَةً لِعَقْرِهِ، فَكَأَنَّهُ ضَرَبَهُ بِحَدِّ سَيْفِهِ (5) .
وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ تَفْصِيلٌ ذَكَرَهُ الدُّسُوقِيُّ، وَهُوَ:
إِذَا اتَّخَذَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ، بِقَصْدِ قَتْل إِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ
وَقَتَلَهُ فَالْقَوَدُ، أُنْذِرَ عَنِ اتِّخَاذِهِ أَوْ لاَ.
وَإِنْ قَتَل غَيْرَ الْمُعَيَّنِ فَالدِّيَةُ، وَكَذَلِكَ إِنِ اتَّخَذَهُ
لِقَتْل غَيْرِ الْمُعَيَّنِ، وَقَتَل شَخْصًا فَالدِّيَةُ، أُنْذِرَ أَمْ
لاَ.
وَإِنِ اتَّخَذَهُ لِوَجْهٍ جَائِزٍ فَالدِّيَةُ إِنْ تَقَدَّمَ
__________
(1) الهداية بشروحها والعناية منها 9 / 264، والدر المنتقى بهامش مجمع
الأنهر 2 / 662.
(2) البدائع 7 / 273.
(3) الدر المختار ورد المحتار 5 / 392، وانظر مجمع الضمانات (190) وجامع
الفصولين 2 / 85.
(4) جامع الفصولين 2 / 85.
(5) جامع الفصولين 2 / 85، عن فوائد الرستغني.
(28/284)
لَهُ إِنْذَارٌ قَبْل الْقَتْل، وَإِلاَّ
فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَإِنِ اتَّخَذَهُ لاَ لِوَجْهٍ جَائِزٍ ضَمِنَ مَا أَتْلَفَ، تَقَدَّمَ
لَهُ فِيهِ إِنْذَارٌ أَمْ لاَ، حَيْثُ عَرَفَ أَنَّهُ عَقُورٌ، وَإِلاَّ
لَمْ يَضْمَنْ، لأَِنَّ فِعْلَهُ حِينَئِذٍ كَفِعْل الْعَجْمَاءِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ الْخَطِرَ يَنْبَغِي
أَنْ يُرْبَطَ وَيُكَفَّ شَرُّهُ، كَالْكَلْبِ الْعَقُورِ،
وَكَالسِّنَّوْرِ إِذَا عُهِدَ مِنْهُ إِتْلاَفُ الطَّيْرِ أَوِ
الطَّعَامِ، فَإِذَا أَطْلَقَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ أَوِ السِّنَّوْرَ،
فَعَقَرَ إِنْسَانًا، أَوْ أَتْلَفَ طَعَامًا أَوْ ثَوْبًا، لَيْلاً أَوْ
نَهَارًا، ضَمِنَ مَا أَتْلَفَهُ، لأَِنَّهُ مُفَرِّطٌ بِاقْتِنَائِهِ
وَإِطْلاَقِهِ إِلاَّ إِذَا دَخَل دَارَهُ إِنْسَانٌ بِغَيْرِ إِذْنِهِ،
فَعَقَرَهُ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالدُّخُول،
مُتَسَبِّبٌ بِعَدَمِ الاِسْتِئْذَانِ لِعَقْرِ الْكَلْبِ لَهُ، فَإِنْ
دَخَل بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، لأَِنَّهُ تَسَبَّبَ
إِلَى إِتْلاَفِهِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا اقْتَنَى سِنَّوْرًا، يَأْكُل أَفْرَاخَ النَّاسِ، ضَمِنَ
مَا أَتْلَفَهُ كَالْكَلْبِ الْعَقُورِ (2) ، وَهَذَا - هُوَ الأَْصَحُّ -
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كُلَّمَا عَهِدَ ذَلِكَ مِنْهُ لَيْلاً أَوْ
نَهَارًا، قَال الْمَحَلِّيُّ: لأَِنَّ هَذِهِ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 4 / 244 و 357، وعلله هنا بأنه
فرط في حفظها، وانظر جواهر الإكليل 2 / 257، والعقد المنظم للأحكام لابن
سلمون الكناني بهامش تبصرة الحكام لابن فرحون 2 / 87 (ط: المطبعة البهية في
القاهرة: 1302 هـ.) .
(2) المغني بالشرح الكبير 10 / 358، وكشاف القناع 4 / 119 و 120.
(28/284)
الْهِرَّةَ) يَنْبَغِي أَنْ تُرْبَطَ
وَيُكَفَّ شَرُّهَا (1) .
أَمَّا مَا يُتْلِفُهُ الْكَلْبُ الْعَقُورُ لِغَيْرِ الْعَقْرِ، كَمَا
لَوْ وَلَغَ فِي إِنَاءٍ، أَوْ بَال، فَلاَ يُضْمَنُ، لأَِنَّ هَذَا لاَ
يَخْتَصُّ بِهِ الْكَلْبُ الْعَقُورُ (2) .
رَابِعًا: ضَمَانُ سُقُوطِ الْمَبَانِي:
110 - بَحَثَ الْفُقَهَاءُ مَوْضُوعَ سُقُوطِ الْمَبَانِي وَضَمَانَهَا
بِعِنْوَانِ: الْحَائِطِ الْمَائِل. وَيَتَنَاوَل الْقَوْل فِي ضَمَانِ
الْحَائِطِ، مَا يَلْحَقُ بِهِ، مِنَ الشُّرُفَاتِ وَالْمَصَاعِدِ
وَالْمَيَازِيبِ وَالأَْجْنِحَةِ، إِذَا شُيِّدَتْ مُطِلَّةً عَلَى مِلْكِ
الآْخَرِينَ أَوِ الطَّرِيقِ الْعَامِّ وَمَا يَتَّصِل بِهَا مِنْ
أَحْكَامٍ.
وَقَدْ مَيَّزَ الْفُقَهَاءُ، بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْبِنَاءُ، أَوِ
الْحَائِطُ أَوْ نَحْوُهُ، مَبْنِيًّا مِنَ الأَْصْل مُتَدَاعِيًا ذَا
خَلَلٍ، أَوْ مَائِلاً، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْخَلَل طَارِئًا،
فَهُمَا حَالَتَانِ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: الْخَلَل الأَْصْلِيُّ فِي الْبِنَاءِ:
111 - هُوَ الْخَلَل الْمَوْجُودُ فِي الْبِنَاءِ، مُنْذُ الإِْنْشَاءِ،
كَأَنْ أُنْشِئَ مَائِلاً إِلَى الطَّرِيقِ الْعَامِّ أَوْ أُشْرِعَ
الْجَنَاحُ أَوِ الْمِيزَابُ أَوِ الشُّرْفَةُ، بِغَيْرِ إِذْنٍ، أَوْ
أَشْرَعَهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِنْ سَقَطَ الْبِنَاءُ فِي
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج 4 / 213، وانظر فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب،
وحاشية البجيرمي عليه المسماة: التجريد لنفع العبيد 4 / 226 (ط: بولاق:
1309 هـ) . وحاشية البجيرمي على الخطيب 4 / 191.
(2) المغني بالشرح الكبير 10 / 358، وكشاف القناع 4 / 120.
(28/285)
هَذِهِ الْحَال، فَأَتْلَفَ إِنْسَانًا
أَوْ حَيَوَانًا أَوْ مَالاً، كَانَ ذَلِكَ مَضْمُونًا عَلَى صَاحِبِهِ،
مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ (1) ، وَمِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ وَلاَ
طَلَبٍ، لأَِنَّ فِي الْبِنَاءِ تَعَدِّيًا ظَاهِرًا ثَابِتًا مُنْذُ
الاِبْتِدَاءِ وَذَلِكَ بِشَغْل هَوَاءِ الطَّرِيقِ بِالْبِنَاءِ،
وَهَوَاءُ الطَّرِيقِ كَأَصْل الطَّرِيقِ حَقُّ الْمَارَّةِ، فَمَنْ
أَحْدَث فِيهِ شَيْئًا، كَانَ مُتَعَدِّيًا ضَامِنًا (2) .
وَالشَّافِعِيَّةُ لاَ يُفَرِّقُونَ فِي الضَّمَانِ، بَيْنَ أَنْ يَأْذَنَ
الإِْمَامُ فِي الإِْشْرَاعِ أَوْ لاَ، لأَِنَّ الاِنْتِفَاعَ بِالشَّارِعِ
مَشْرُوطٌ بِسَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ، بِأَنْ لاَ يَضُرَّ بِالْمَارَّةِ،
وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ مَضْمُونٌ، وَإِنْ كَانَ إِشْرَاعًا جَائِزًا.
لَكِنْ مَا تَوَلَّدَ مِنَ الْجَنَاحِ، فِي دَرْبٍ مُنْسَدٍّ، بِغَيْرِ
إِذْنِ أَهْلِهِ، مَضْمُونٌ، وَبِإِذْنِهِمْ لاَ ضَمَانَ فِيهِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَإِذَا بَنَى فِي مِلْكِهِ حَائِطًا مَائِلاً
إِلَى الطَّرِيقِ، أَوْ إِلَى مِلْكِ غَيْرِهِ، فَتَلِفَ بِهِ شَيْءٌ أَوْ
سَقَطَ عَلَى شَيْءٍ فَأَتْلَفَهُ ضَمِنَهُ، لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِذَلِكَ،
فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ الاِنْتِفَاعُ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 297، وشرح الزرقاني 8 / 117، والشرح الكبير للدردير
4 / 356، ومنح الجليل 4 / 559.
(2) المبسوط 27 / 9، والهداية بشروحها 9 / 254، ومجمع الضمانات 183، ودرر
الحكام 2 / 111، والدر المختار 5 / 385، وشرح التحرير بحاشية الشرقاوي 2 /
460، وروضة الطالبين 9 / 321.
(3) شرح المحلي وحاشية القليوبي عليه 4 / 148، وروضة الطالبين 9 / 319.
(28/285)
بِالْبِنَاءِ فِي هَوَاءٍ مِلْكِ غَيْرِهِ،
أَوْ هَوَاءٍ مُشْتَرَكٍ، وَلأَِنَّهُ يُعَرِّضُهُ لِلْوُقُوعِ عَلَى
غَيْرِهِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَصَبَ فِيهِ مِنْجَلاً
يَصِيدُ بِهِ (1) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: الْخَلَل الطَّارِئُ:
112 - إِذَا أُنْشِئَ الْبِنَاءُ مُسْتَقِيمًا ثُمَّ مَال، أَوْ سَلِيمًا
ثُمَّ تَشَقَّقَ وَوَقَعَ، وَحَدَثَ بِسَبَبِ وُقُوعِهِ تَلَفٌ، فَذَهَبَ
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - اسْتِحْسَانًا -
وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (2) ،
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَشُرَيْحٍ
وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ التَّابِعِينَ (3) إِلَى
أَنَّهُ يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِهِ، مِنْ نَفْسٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ مَالٍ،
إِذَا طُولِبَ صَاحِبُهُ بِالنَّقْضِ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ، وَمَضَتْ
مُدَّةٌ يَقْدِرُ عَلَى النَّقْضِ خِلاَلَهَا، وَلَمْ يَفْعَل.
وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَدْ قَالُوا: إِنْ أَمْكَنَهُ
هَدْمُهُ أَوْ إِصْلاَحُهُ، ضَمِنَ، لِتَقْصِيرِهِ بِتَرْكِ النَّقْضِ
وَالإِْصْلاَحِ (4) .
وَالْقِيَاسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَدَمُ الضَّمَانِ، لأَِنَّهُ لَمْ
يُوجَدْ مِنَ الْمَالِكِ صُنْعٌ هُوَ تَعَدٍّ، لأَِنَّ الْبِنَاءَ كَانَ
فِي مِلْكِهِ مُسْتَقِيمًا، وَالْمَيَلاَنُ وَشَغْل الْهَوَاءِ لَيْسَ مِنْ
فِعْلِهِ، فَلاَ يَضْمَنُ، كَمَا إِذَا لَمْ يَشْهَدْ
__________
(1) المغني بالشرح الكبير 9 / 571، 572.
(2) المغني 9 / 572، والشرح الكبير معه 5 / 450، والدسوقي 4 / 356.
(3) المبسوط 27 / 5، وتبيين الحقائق 6 / 147.
(4) شرح المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي وعميرة 4 / 148.
(28/286)
عَلَيْهِ (1) ، وَلِمَا قَالُوهُ فِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: وَمَنْ قَتَلَهُ الْحَجَرُ، بِغَيْرِ فِعْل
الْبَشَرِ، فَهُوَ بِالإِْجْمَاعِ هَدْرٌ (2) .
وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ: مَا رُوِيَ عَنِ الأَْئِمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ الْمَذْكُورِينَ، وَأَنَّ الْحَائِطَ لَمَّا مَال فَقَدْ
شَغَل هَوَاءَ الطَّرِيقِ بِمِلْكِهِ، وَرَفْعُهُ بِقُدْرَةِ صَاحِبِهِ،
فَإِذَا تَقَدَّمَ إِلَيْهِ وَطُولِبَ بِتَفْرِيغِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ،
فَإِذَا امْتَنَعَ مَعَ تَمَكُّنِهِ صَارَ مُتَعَدِّيًا.
وَلأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَضْمَنْ يَمْتَنِعُ مِنَ الْهَدْمِ، فَيَنْقَطِعُ
الْمَارَّةُ خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَتَضَرَّرُونَ بِهِ، وَدَفْعُ
الضَّرَرِ الْعَامِّ مِنَ الْوَاجِبِ، وَكَمْ مِنْ ضَرَرٍ خَاصٍّ
يُتَحَمَّل لِدَفْعِ الْعَامِّ (3) .
وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ
التَّقَدُّمُ، دُونَ الإِْشْهَادِ، لأَِنَّ الْمُطَالَبَةَ تَتَحَقَّقُ،
وَيَنْعَدِمُ بِهِ مَعْنَى الْعُذْرِ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ الْجَهْل بِمَيْل
الْحَائِطِ (4) .
أَمَّا الإِْشْهَادُ فَلِلتَّمَكُّنِ مِنْ إِثْبَاتِهِ عِنْدَ
الإِْنْكَارِ، فَكَانَ مِنْ بَابِ الاِحْتِيَاطِ (5) .
__________
(1) تبيين الحقائق 6 / 147، والفتاوى الخيرية لنفع البرية، لخير الدين
الأيوبي العليمي 2 / 183 (ط بولاق 1273 هـ) .
(2) تبيين الحقائق 6 / 147.
(3) الهداية بشروحها 9 / 253، وتكملة البحر الرائق للطوري 8 / 403،
والمبسوط 27 / 12، وانظر الدر المختار ورد المحتار 5 / 384، 385.
(4) المبسوط 27 / 9.
(5) البدائع 7 / 286، والهداية بشروحها 9 / 254، ودرر الحكام 2 / 110.
(28/286)
وَالْمَالِكِيَّةُ يَشْتَرِطُونَ
الإِْشْهَادَ مَعَ الإِْنْذَارِ، فَإِذَا انْتَفَى الإِْنْذَارُ
وَالإِْشْهَادُ فَلاَ ضَمَانَ، إِلاَّ أَنْ يَعْتَرِفَ بِذَلِكَ مَعَ
تَفْرِيطِهِ فَيَضْمَنَ (1) ، كَمَا أَنَّ الإِْشْهَادَ الْمُعْتَبَرَ
عِنْدَهُمْ يَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، أَوْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ
وَلَوْ مَعَ إِمْكَانِ الإِْشْهَادِ عِنْدَ الْحَاكِمِ (2) .
113 - وَشُرُوطُ التَّقَدُّمِ أَوِ الإِْنْذَارِ هِيَ: وَمَعْنَى
التَّقَدُّمِ: طَلَبُ النَّقْضِ مِمَّنْ يَمْلِكُهُ (3) ، وَذَلِكَ بِأَنْ
يَقُول الْمُتَقَدِّمُ: إِنَّ حَائِطَكَ هَذَا مَخُوفٌ، أَوْ يَقُول:
مَائِلٌ فَانْقُضْهُ أَوِ اهْدِمْهُ، حَتَّى لاَ يَسْقُطَ وَلاَ يُتْلِفَ
شَيْئًا، وَلَوْ قَال: يَنْبَغِي أَنْ تَهْدِمَهُ، فَذَلِكَ مَشُورَةٌ (4)
.
أ - أَنْ يَكُونَ التَّقَدُّمُ مِمَّنْ لَهُ حَقُّ مَصْلَحَةٍ فِي
الطَّلَبِ.
وَفَرَّقُوا فِي هَذَا: بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْحَائِطُ مَائِلاً إِلَى
الطَّرِيقِ الْعَامِّ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ مَائِلاً إِلَى مِلْكِ
إِنْسَانٍ:
فَفِي الصُّورَةِ الأُْولَى: يَصِحُّ التَّقَدُّمُ مِنْ كُل مُكَلَّفٍ،
مُسْلِمٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُتَقَدِّمِ وَلاَ لِلْقَاضِي حَقُّ
إِبْرَاءِ صَاحِبِ الْحَائِطِ، وَلاَ تَأْخِيرُهُ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ،
لأَِنَّهُ حَقُّ الْعَامَّةِ،
__________
(1) الشرح الكبير للدردير 4 / 356.
(2) المرجع السابق، وانظر منح الجليل 4 / 559.
(3) رد المحتار 5 / 385، وتكملة البحر الرائق للطوري 8 / 403.
(4) رد المحتار 5 / 384.
(28/287)
وَتَصَرُّفُهُ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ
نَافِذٌ - كَمَا يَقُول الْحَصْكَفِيُّ نَقْلاً عَنِ الذَّخِيرَةِ - فِيمَا
يَنْفَعُهُمْ، لاَ فِيمَا يَضُرُّهُمْ (1) .
وَفِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ: لاَ يَصِحُّ التَّقَدُّمُ إِلاَّ مِنَ
الْمَالِكِ الَّذِي شَغَل الْحَائِطُ هَوَاءَ مِلْكِهِ، كَمَا أَنَّ لَهُ
حَقَّ الإِْبْرَاءِ وَالتَّأْخِيرِ (2) .
بَل نَصَّتْ الْمَجَلَّةُ (فِي الْمَادَّةِ: 928) عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ
الْحَائِطُ مَائِلاً إِلَى الطَّرِيقِ الْخَاصِّ، يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ
الَّذِي تَقَدَّمَ مِمَّنْ لَهُ حَقُّ الْمُرُورِ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ.
ب - أَنْ يَكُونَ الطَّلَبُ قَبْل السُّقُوطِ بِمُدَّةٍ يَقْدِرُ عَلَى
النَّقْضِ خِلاَلَهَا، لأَِنَّ مُدَّةَ التَّمَكُّنِ مِنْ إِحْضَارِ
الأُْجَرَاءِ مُسْتَثْنَاةٌ فِي الشَّرْعِ (3) .
ج - أَنْ يَكُونَ التَّقَدُّمُ بَعْدَ مَيْل الْحَائِطِ، فَلَوْ طَلَبَ
قَبْل الْمَيْل لَمْ يَصِحَّ، لِعَدَمِ التَّعَدِّي.
د - أَنْ يَكُونَ التَّقَدُّمُ إِلَى مَنْ يَمْلِكُ النَّقْضَ،
كَالْمَالِكِ وَوَلِيِّ الصَّغِيرِ، وَوَصِيِّهِ وَوَصِيِّ الْمَجْنُونِ،
وَالرَّاهِنِ، وَكَذَا الْوَاقِفِ وَالْقَيِّمِ عَلَى الْوَقْفِ وَأَحَدِ
الشُّرَكَاءِ (4) ، بِخِلاَفِ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ
وَالْمُودِعِ، لأَِنَّهُمْ
__________
(1) الدر المختار 5 / 385.
(2) المبسوط 27 / 13 وتكملة البحر الرائق 8 / 404، ومجمع الأنهر 2 / 658،
659، وانظر المغني بالشرح الكبير 9 / 573، 574.
(3) رد المحتار 5 / 384 نقلاً عن القهستاني.
(4) الدر المختار 5 / 384، ومجمع الأنهر 2 / 658 ومجمع الضمانات ص 182.
(28/287)
لَيْسَتْ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى
التَّصَرُّفِ، فَلاَ يُفِيدُ طَلَبُ النَّقْضِ مِنْهُمْ، وَلاَ يُعْتَبَرُ
فِيهِمُ الإِْنْذَارُ كَمَا قَال الدَّرْدِيرُ (1) ، وَلِهَذَا لاَ
يَضْمَنُونَ مَا تَلِفَ مِنْ سُقُوطِهِ، بَل قَال الْحَصْكَفِيُّ: لاَ
ضَمَانَ أَصْلاً عَلَى سَاكِنٍ وَلاَ مَالِكٍ (2) .
وَمَحَل هَذِهِ الشُّرُوطِ - كَمَا قَال الدُّسُوقِيُّ. إِذَا كَانَ
مُنْكِرًا لِلْمَيَلاَنِ، أَمَّا إِذَا كَانَ مُقِرًّا بِهِ فَلاَ
يُشْتَرَطُ ذَلِكَ (3) .
114 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ الضَّمَانِ مُطْلَقًا
بِسُقُوطِ الْبِنَاءِ، إِذَا مَال بَعْدَ بِنَائِهِ مُسْتَقِيمًا وَلَوْ
تَقَدَّمَ إِلَيْهِ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ.
قَال النَّوَوِيُّ: إِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ هَدْمِهِ وَإِصْلاَحِهِ،
فَلاَ ضَمَانَ قَطْعًا، وَكَذَا إِنْ تَمَكَّنَ عَلَى الأَْصَحِّ. . وَلاَ
فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُطَالِبَهُ الْوَالِي أَوْ غَيْرُهُ بِالنَّقْضِ،
وَبَيْنَ أَنْ لاَ يُطَالِبَ (4) ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، كَمَا
تَقَدَّمَ، وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ بَنَى فِي مِلْكِهِ، وَالْهَلاَكُ حَصَل
بِغَيْرِ فِعْلِهِ (5) ، وَأَنَّ الْمَيْل نَفْسَهُ لَمْ يَحْصُل
بِفِعْلِهِ (6) ، وَأَنَّ مَا كَانَ
__________
(1) الشرح الكبير للدردير 4 / 356.
(2) الدر المختار 5 / 385.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 356.
(4) روضة الطالبين 9 / 321.
(5) روضة الطالبين 9 / 321.
(6) شرح المحلي على المنهاج 4 / 148، وشرح التحرير وحاشية الشرقاوي عليه 2
/ 459.
(28/288)
أَوَّلُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ، لاَ
يَنْقَلِبُ مَضْمُونًا بِتَغْيِيرِ الْحَال (1) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي
ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ، إِلَى أَنَّهُ يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِهِ وَإِنْ لَمْ
يُطَالَبْ بِالنَّقْضِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِتَرْكِهِ مَائِلاً،
فَضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ، كَمَا لَوْ بَنَاهُ مَائِلاً إِلَى ذَلِكَ
ابْتِدَاءً، وَلأَِنَّهُ لَوْ طُولِبَ بِنَقْضِهِ فَلَمْ يَفْعَل ضَمِنَ
مَا تَلِفَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لَمْ يَضْمَنْ
بِالْمُطَالَبَةِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَائِلاً، أَوْ كَانَ مَائِلاً
إِلَى مِلْكِهِ (2) .
لَكِنَّ نَصَّ أَحْمَدَ، هُوَ عَدَمُ الضَّمَانِ - كَمَا يَقُول ابْنُ
قُدَامَةَ - أَمَّا لَوْ طُولِبَ بِالنَّقْضِ، فَقَدْ تَوَقَّفَ فِيهِ
أَحْمَدُ، وَذَهَبَ بَعْضُ الأَْصْحَابِ إِلَى الضَّمَانِ فِيهِ (3) .
أَمَّا الضَّمَانُ الْوَاجِبُ بِسُقُوطِ الأَْبْنِيَةِ، عِنْدَ
الْقَائِلِينَ بِهِ، فَهُوَ:
أ - أَنَّ مَا تَلِفَ بِهِ مِنَ النُّفُوسِ، فَفِيهِ الدِّيَةُ عَلَى
عَاقِلَةِ مَالِكِ الْبِنَاءِ.
ب - وَمَا تَلِفَ بِهِ مِنَ الأَْمْوَال فَعَلَى مَالِكِ الْبِنَاءِ،
لأَِنَّ الْعَاقِلَةَ لاَ تَعْقِل الْمَال (4) .
__________
(1) حاشية الشرقاوي على شرح التحرير 2 / 459.
(2) المغني 9 / 572، والشرح الكبير مع المغني 5 / 451.
(3) المغني بالشرح الكبير 9 / 572.
(4) الدر المختار ورد المحتار 5 / 385.
(28/288)
ج - وَلاَ تَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ
الْكَفَّارَةُ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - وَلاَ يُحْرَمُ مِنَ الْمِيرَاثِ
وَالْوَصِيَّةِ، لأَِنَّهُ قَتْلٌ بِسَبَبٍ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْقَتْل
مُبَاشَرَةً، وَإِنَّمَا أُلْحِقَ بِالْمُبَاشِرِ فِي الضَّمَانِ،
صِيَانَةً لِلدَّمِ عَنِ الْهَدْرِ، عَلَى خِلاَفِ الأَْصْل، فَبَقِيَ فِي
الْكَفَّارَةِ وَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ عَلَى الأَْصْل (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْجُمْهُورِ: هُوَ مُلْحَقٌ بِالْخَطَأِ فِي
أَحْكَامِهِ، إِذْ لاَ قَتْل بِسَبَبٍ عِنْدَهُمْ، فَفِيهِ الْكَفَّارَةُ،
وَفِيهِ الْحِرْمَانُ مِنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ، لأَِنَّ الشَّارِعَ
أَنْزَلَهُ مَنْزِلَةَ الْقَاتِل (2) .
خَامِسًا: ضَمَانُ التَّلَفِ بِالأَْشْيَاءِ:
115 - أَكْثَرُ مَا يَعْرِضُ التَّلَفُ بِالأَْشْيَاءِ، بِسَبَبِ
إِلْقَائِهَا فِي الطُّرُقَاتِ وَالشَّوَارِعِ، أَوْ بِسَبَبِ وَضْعِهَا
فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهَا الْمُخَصَّصَةِ لَهَا.
وَيُمْكِنُ تَقْسِيمُ الأَْشْيَاءِ إِلَى خَطِرَةٍ، وَغَيْرِ خَطِرَةٍ،
أَيْ عَادِيَّةٍ.
الْقِسْمُ الأَْوَّل:
ضَمَانُ التَّلَفِ الْحَاصِل بِالأَْشْيَاءِ الْعَادِيَّةِ غَيْرِ
الْخَطِرَةِ:
116 - يَرُدُّ الْفُقَهَاءُ مَسَائِل التَّلَفِ الْحَاصِل
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 5 / 342 ر 381 وتبيين الحقائق وحاشية الشلبي
عليه 6 / 143، 144، والكفاية شرح الهداية بتصرف 9 / 148، وبدائع الصنائع 7
/ 274.
(2) الهداية بشروحها 9 / 148، والقوانين الفقهية 288، وشرح الخرشي 8 / 49،
وشرح المنهج بحاشية الجمل 5 / 102، وشرح المحلي بحاشيتي القليوبي وعميرة 4
/ 162، والمغني بالشرح الكبير 10 / 37، 7 / 161، 162.
(28/289)
بِالأَْشْيَاءِ الْعَادِيَّةِ، غَيْرِ
الْخَطِرَةِ، إِلَى هَذِهِ الْقَوَاعِدِ وَالأُْصُول:
الأَْوَّل: كُل مَوْضِعٍ يَجُوزُ لِلْوَاضِعِ أَنْ يَضَعَ فِيهِ
أَشْيَاءَهُ لاَ يَضْمَنُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى وَضْعِهَا فِيهِ مِنْ
ضَرَرٍ، لأَِنَّ الْجَوَازَ الشَّرْعِيَّ يُنَافِي الضَّمَانَ.
الثَّانِي: كُل مَوْضِعٍ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَضَعَ فِيهِ أَشْيَاءَهُ
يَضْمَنُ مَا يَنْشَأُ عَنْ وَضْعِهَا فِيهِ مِنْ أَضْرَارٍ، مَا دَامَتْ
فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَإِنْ زَالَتْ عَنْهُ لَمْ يَضْمَنْ (1) .
الثَّالِثُ: كُل مَنْ فَعَل فِعْلاً لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ، ضَمِنَ مَا
تَوَلَّدَ عَنْهُ مِنْ ضَرَرٍ (2) .
الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرُورَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ مُبَاحٌ،
بِشَرْطِ السَّلاَمَةِ فِيمَا يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ (3) .
الْخَامِسُ: أَنَّ الْمُتَسَبِّبَ ضَامِنٌ إِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا،
وَإِلاَّ لاَ يَضْمَنُ، وَالْمُبَاشِرُ ضَامِنٌ مُطْلَقًا (4) .
وَمِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي انْبَثَقَتْ مِنْهَا هَذِهِ الأُْصُول:
أ - مَنْ وَضَعَ جَرَّةً أَوْ شَيْئًا فِي طَرِيقٍ لاَ يَمْلِكُهُ فَتَلِفَ
بِهِ شَيْءٌ ضَمِنَ، وَلَوْ زَال
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 88، نقلاً عن فتاوى القاضي ظهير الدين، ببعض تصرف.
(2) نفسه، بتصرف.
(3) الدر المختار 5 / 386، وانظر شرح المحلي على المنهاج بحاشيتي القليوبي
وعميرة 4 / 148.
(4) رد المحتار 5 / 386.
(28/289)
ذَلِكَ الشَّيْءُ الْمَوْضُوعُ أَوَّلاً
إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، (غَيْرِ الطَّرِيقِ) فَتَلِفَ بِهِ شَيْءٌ، بَرِئَ
وَاضِعُهُ وَلَمْ يَضْمَنْ (1) .
ب - لَوْ قَعَدَ فِي الطَّرِيقِ لِيَبِيعَ، فَتَلِفَ بِقَعْدَتِهِ شَيْءٌ:
فَإِنْ كَانَ قَعَدَ بِإِذْنِ الإِْمَامِ لاَ يَضْمَنُهُ، وَإِنْ كَانَ
بِغَيْرِ إِذْنِهِ يَضْمَنُهُ (2) وَلِلْحَنَابِلَةِ قَوْلاَنِ فِي
الضَّمَانِ (3) .
ج - وَلَوْ وَضَعَ جَرَّةً عَلَى حَائِطٍ، فَأَهْوَتْ بِهَا الرِّيحُ،
وَتَلِفَ بِوُقُوعِهَا شَيْءٌ، لَمْ يَضْمَنْ، إِذِ انْقَطَعَ أَثَرُ
فِعْلِهِ بِوَضْعِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا الْوَضْعِ بِأَنْ
وُضِعَتِ الْجَرَّةُ وَضْعًا مَأْمُونًا، فَلاَ يُضَافُ إِلَيْهِ التَّلَفُ
(4) .
د - لَوْ حَمَل فِي الطَّرِيقِ شَيْئًا عَلَى دَابَّتِهِ أَوْ
سَيَّارَتِهِ، فَسَقَطَ الْمَحْمُول عَلَى شَيْءٍ فَأَتْلَفَهُ أَوِ
اصْطَدَمَ بِشَيْءٍ فَكَسَرَهُ، ضَمِنَ الْحَامِل، لأَِنَّ الْحَمْل فِي
الطَّرِيقِ مُبَاحٌ بِشَرْطِ السَّلاَمَةِ، وَلأَِنَّهُ أَثَرُ فِعْلِهِ.
وَلَوْ عَثَرَ أَحَدٌ بِالْحَمْل ضَمِنَ، لأَِنَّهُ هُوَ الْوَاضِعُ،
فَلَمْ يَنْقَطِعْ أَثَرُ فِعْلِهِ (5) .
هـ - لَوْ أَلْقَى فِي الطَّرِيقِ قِشْرًا، فَزَلَقَتْ بِهِ
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 88.
(2) جامع الفصولين 2 / 88.
(3) الشرح الكبير مع المغني 5 / 449.
(4) جامع الفصولين 2 / 88 رامزًا إلى الزيادات. وانظر الفتاوى الخانية
بهامش الفتاوى الهندية 3 / 458 (ط دار إحياء التراث العربي في بيروت) .
(5) مجمع الأنهر والدر المنتقى بهامشه 2 / 653، والدر المختار 5 / 382،
والفتاوى الخانية 3 / 458.
(28/290)
دَابَّةٌ، ضَمِنَ، لأَِنَّهُ غَيْرُ
مَأْذُونٍ فِيهِ (1) ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ، لِجَرَيَانِ
الْعَادَةِ بِالْمُسَامَحَةِ فِي طَرْحِ مَا ذُكِرَ (2) .
وَكَذَا لَوْ رَشَّ فِي الطَّرِيقِ مَاءً، فَتَلِفَتْ بِهِ دَابَّةٌ،
ضَمِنَ (3) ، وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: إِنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ إِذَا
كَانَ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ، وَلَمْ يُجَاوِزْ الْعَادَةَ، وَإِلاَّ
فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الرَّاشِّ، لأَِنَّهُ الْمُبَاشِرُ (4) .
الْقِسْمُ الثَّانِي:
ضَمَانُ التَّلَفِ بِالأَْشْيَاءِ الْخَطِرَةِ:
117 - رَوَى أَبُو مُوسَى الأَْشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا مَرَّ
أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِنَا أَوْ فِي سُوقِنَا، وَمَعَهُ نَبْلٌ،
فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا - أَوْ قَال: فَلْيَقْبِضْ بِكَفِّهِ - أَنْ
يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيْءٍ (5) .
وَفِي الْفُرُوعِ: لَوْ انْفَلَتَتْ فَأْسٌ مِنْ يَدِ قَصَّابٍ، كَانَ
يَكْسِرُ الْعَظْمَ، فَأَتْلَفَ عُضْوَ
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 88.
(2) شرح المحلي على المنهاج 4 / 149، وروضة الطالبين 9 / 322.
(3) رد المحتار 5 / 381، وقارن بالفتاوى الخانية 3 / 458 فقد فصل القول
فيها بعض الشيء.
(4) حاشية القليوبي على شرح المحلي 4 / 149، وروضة الطالبين 9 / 323.
(5) حديث: " إذا مر أحدكم في مسجدنا ". أخرجه البخاري والفتح 12 / 24،
ومسلم 4 / 2019.
(28/290)
إِنْسَانٍ، يَضْمَنُ، وَهُوَ خَطَأٌ (1) .
وَلاَ تَعْلِيل لِلضَّمَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلاَّ التَّقْصِيرُ
فِي رِعَايَةِ هَذِهِ الآْلَةِ الْحَادَّةِ، وَعَدَمِ الاِحْتِرَازِ
أَثْنَاءَ الاِسْتِعْمَال، فَاسْتُدِل بِوُقُوعِ الضَّرَرِ عَلَى
التَّعَدِّي، وَأُقِيمَ مَقَامَهُ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ ذَا الْيَدِ عَلَى الأَْشْيَاءِ الْخَطِرَةِ
يَضْمَنُ مِنَ الأَْضْرَارِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا مَا كَانَ
بِفِعْلِهِ، وَلاَ يَضْمَنُ مَا كَانَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ. وَمِنْ
نُصُوصِهِمْ:
أ - لَوْ خَرَجَ الْبَارُودُ مِنَ الْبُنْدُقِيَّةِ بِفِعْلِهِ، فَأَصَابَ
آدَمِيًّا أَوْ مَالاً ضَمِنَ، قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ طَارَتْ شَرَارَةٌ
مِنْ ضَرْبِ الْحَدَّادِ، فَأَصَابَتْ ثَوْبَ مَارٍّ فِي الطَّرِيقِ،
ضَمِنَ الْحَدَّادُ (2) .
ب - وَلَوْ هَبَّتِ الرِّيحُ فَحَمَلَتْ نَارًا، وَأَلْقَتْهَا عَلَى
الْبُنْدُقِيَّةِ، فَخَرَجَ الْبَارُودُ، لاَ ضَمَانَ (3) .
ج - وَلَوْ وَقَعَ الزَّنْدُ الْمُتَّصِل بِالْبُنْدُقِيَّةِ
الْمُجَرَّبَةِ، الَّتِي تُسْتَعْمَل فِي زَمَانِنَا، عَلَى الْبَارُودِ
بِنَفْسِهِ، فَخَرَجَتْ رَصَاصَتُهَا، أَوْ مَا بِجَوْفِهَا، فَأَتْلَفَ
مَالاً أَوْ آدَمِيًّا، فَإِنَّهُ لاَ ضَمَانَ (4) .
__________
(1) واقعات المفتين لقدري أفندي الشيخ عبد القادر بن يوسف ص 64 (ط الأولى،
في بولاق: 1300 هـ) وانظر فروعًا أخرى في مجمع الأنهر 2 / 661 ولسان الحكام
لابن الشحنة ص 108.
(2) جامع الفصولين وحاشية خير الدين الرملي عليه 2 / 49، 90.
(3) حاشية الرملي على جامع الفصولين 89 السطر الأخير.
(4) الحاشية نفسها 2 / 90.
(28/291)
ضَمَانُ الاِصْطِدَامِ:
تَنَاوَل الْفُقَهَاءُ حَوَادِثَ الاِصْطِدَامِ، وَمَيَّزُوا بَيْنَ
اصْطِدَامِ الإِْنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ، وَبَيْنَ اصْطِدَامِ الأَْشْيَاءِ
كَالسُّفُنِ وَنَحْوِهَا.
أَوَّلاً: اصْطِدَامُ الإِْنْسَانِ:
118 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اصْطَدَمَ الْفَارِسَانِ
خَطَأً وَمَاتَا مِنْهُ ضَمِنَتْ عَاقِلَةُ كُل فَارِسٍ دِيَةَ الآْخَرِ
إِذَا وَقَعَا عَلَى الْقَفَا، وَإِذَا وَقَعَا عَلَى وُجُوهِهِمَا
يُهْدَرُ دَمُهُمَا.
وَلَوْ كَانَا عَامِدَيْنِ فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلٍّ نِصْفُ الدِّيَةِ،
وَلَوْ وَقَعَ أَحَدُهُمَا عَلَى وَجْهِهِ هُدِرَ دَمُهُ فَقَطْ.
وَإِذَا تَجَاذَبَ رَجُلاَنِ حَبْلاً فَانْقَطَعَ الْحَبْل، فَسَقَطَا
عَلَى الْقَفَا وَمَاتَا هُدِرَ دَمُهُمَا، لِمَوْتِ كُلٍّ بِقُوَّةِ
نَفْسِهِ، فَإِنْ وَقَعَا عَلَى الْوَجْهِ وَجَبَ دِيَةُ كُل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا عَلَى الآْخَرِ، لِمَوْتِهِ بِقُوَّةِ صَاحِبِهِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ تَصَادَمَ مُكَلَّفَانِ عَمْدًا، أَوْ
تَجَاذَبَا حَبْلاً فَمَاتَا مَعًا، فَلاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ وَإِنْ
مَاتَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ فَالْقَوَدُ.
وَإِنْ تَصَادَمَا خَطَأً فَمَاتَا، فَدِيَةُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى
عَاقِلَةِ الآْخَرِ، وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا فَدِيَتُهُ عَلَى مَنْ
بَقِيَ مِنْهَا.
__________
(1) ابن عابدين والدر المختار 5 / 388 - 389.
(28/291)
وَإِنْ كَانَ التَّجَاذُبُ لِمَصْلَحَةٍ
فَلاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ، كَمَا يَقَعُ بَيْنَ صُنَّاعِ الْحِبَال
فَإِذَا تَجَاذَبَ صَانِعَانِ حَبْلاً لإِِصْلاَحِهِ فَمَاتَا أَوْ
أَحَدُهُمَا فَهُوَ هَدْرٌ.
وَلَوْ تَصَادَمَ الصَّبِيَّانِ فَمَاتَا، فَدِيَةُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
عَلَى عَاقِلَةِ الآْخَرِ، سَوَاءٌ حَصَل التَّصَادُمُ أَوِ التَّجَاذُبُ
بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ، لأَِنَّ فِعْل الصِّبْيَانِ عَمْدًا
حُكْمُهُ كَالْخَطَأِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا اصْطَدَمَ شَخْصَانِ -
رَاكِبَانِ أَوْ مَاشِيَانِ، أَوْ رَاكِبٌ وَمَاشٍ طَوِيلٌ - بِلاَ قَصْدٍ،
فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةٍ مُخَفَّفَةٍ، لأَِنَّ كُل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَلَكَ بِفِعْلِهِ، وَفِعْل صَاحِبِهِ، فَيُهْدَرُ
النِّصْفُ، وَلأَِنَّهُ خَطَأٌ مَحْضٌ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقَعَا
مُنْكَبَّيْنِ أَوْ مُسْتَلْقِيَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا مُنْكَبًّا
وَالآْخَرُ مُسْتَلْقِيًا.
وَإِنْ قَصَدَا الاِصْطِدَامَ فَنِصْفُ الدِّيَةِ مُغَلَّظَةٌ عَلَى
عَاقِلَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِوَرَثَةِ الآْخَرِ، لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا هَلَكَ بِفِعْلِهِ وَفِعْل صَاحِبِهِ، فَيُهْدَرُ النِّصْفُ،
وَلأَِنَّ الْقَتْل حِينَئِذٍ شِبْهُ عَمْدٍ فَتَكُونُ الدِّيَةُ
مُغَلَّظَةً، وَلاَ قِصَاصَ إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا دُونَ الآْخَرِ،
لأَِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الاِصْطِدَامَ لاَ يُفْضِي إِلَى الْمَوْتِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فِي تَرِكَتِهِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 247.
(28/292)
كَفَّارَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا لِقَتْل
نَفْسِهِ، وَالأُْخْرَى لِقَتْل صَاحِبِهِ، لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي
إِهْلاَكِ نَفْسَيْنِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ لاَ تَتَجَزَّأُ.
وَفِي تَرِكَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُ قِيمَةِ دِيَةِ الآْخَرِ،
لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي الإِْتْلاَفِ، مَعَ هَدْرِ فِعْل كُلٍّ مِنْهُمَا
فِي حَقِّ نَفْسِهِ.
وَلَوْ تَجَاذَبَا حَبْلاً فَانْقَطَعَ وَسَقَطَا وَمَاتَا، فَعَلَى
عَاقِلَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ الآْخَرِ، سَوَاءٌ أَسَقَطَا
مُنْكَبَّيْنِ أَمْ مُسْتَلْقِيَيْنِ، أَمْ أَحَدُهُمَا مُنْكَبًّا
وَالآْخَرُ مُسْتَلْقِيًا، وَإِنْ قَطَعَهُ غَيْرُهُمَا فَدِيَتُهُمَا
عَلَى عَاقِلَتِهِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اصْطَدَمَ الْفَارِسَانِ،
فَعَلَى كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُصْطَدِمَيْنِ ضَمَانُ مَا تَلِفَ مِنَ
الآْخَرِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ مَالٍ، سَوَاءٌ كَانَا
مُقْبِلَيْنِ أَمْ مُدْبِرَيْنِ، لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاتَ مِنْ
صَدْمَةِ صَاحِبِهِ وَإِنَّمَا هُوَ قَرَّبَهَا إِلَى مَحَل الْجِنَايَةِ،
فَلَزِمَ الآْخَرَ ضَمَانُهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ وَاقِفَةً إِذَا ثَبَتَ
هَذَا، فَإِنَّ قِيمَةَ الدَّابَّتَيْنِ إِنْ تَسَاوَتَا تَقَاصَّا
وَسَقَطَتَا، وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا أَكْثَرَ مِنَ الأُْخْرَى
فَلِصَاحِبِهَا الزِّيَادَةُ، وَإِنْ مَاتَتْ إِحْدَى الدَّابَّتَيْنِ
فَعَلَى الآْخَرِ قِيمَتُهَا، وَإِنْ نَقَصَتْ فَعَلَيْهِ نَقْصُهَا.
فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَسِيرُ بَيْنَ يَدَيِ الآْخَرِ، فَأَدْرَكَهُ
الثَّانِي فَصَدَمَهُ فَمَاتَتِ الدَّابَّتَانِ، أَوْ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 89 - 90.
(28/292)
إِحْدَاهُمَا فَالضَّمَانُ عَلَى
اللاَّحِقِ، لأَِنَّهُ الصَّادِمُ وَالآْخَرُ مَصْدُومٌ، فَهُوَ
بِمَنْزِلَةِ الْوَاقِفِ.
وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَسِيرُ وَالآْخَرُ وَاقِفًا، فَعَلَى السَّائِرِ
قِيمَةُ دَابَّةِ الْوَاقِفِ، نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا لأَِنَّ
السَّائِرَ هُوَ الصَّادِمُ الْمُتْلِفُ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ
وَإِنْ مَاتَ هُوَ أَوْ دَابَّتُهُ فَهُوَ هَدْرٌ، لأَِنَّهُ أَتْلَفَ
نَفْسَهُ وَدَابَّتَهُ، وَإِنِ انْحَرَفَ الْوَاقِفُ فَصَادَفَتِ
الصَّدْمَةُ انْحِرَافَهُ فَهُمَا كَالسَّائِرَيْنِ، لأَِنَّ التَّلَفَ
حَصَل مِنْ فِعْلِهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْوَاقِفُ مُتَعَدِّيًا
بِوُقُوفِهِ، مِثْل أَنْ يَقِفَ فِي طَرِيقٍ ضَيِّقٍ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ
دُونَ السَّائِرِ، لأَِنَّ التَّلَفَ حَصَل بِتَعَدِّيهِ فَكَانَ
الضَّمَانُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ وَضَعَ حَجَرًا فِي الطَّرِيقِ، أَوْ
جَلَسَ فِي طَرِيقٍ ضَيِّقٍ فَعَثَرَ بِهِ إِنْسَانٌ.
وَإِنْ تَصَادَمَ نَفْسَانِ يَمْشِيَانِ فَمَاتَا، فَعَلَى عَاقِلَةِ كُل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةُ الآْخَرِ، رُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - وَالْخِلاَفُ - هَاهُنَا - فِي الضَّمَانِ كَالْخِلاَفِ
فِيمَا إِذَا اصْطَدَمَ الْفَارِسَانِ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ تَقَاصَّ -
هَاهُنَا - فِي الضَّمَانِ، لأَِنَّهُ عَلَى غَيْرِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ،
لِكَوْنِ الضَّمَانِ عَلَى عَاقِلَةِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنِ
اتُّفِقَ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَى مَنْ لَهُ الْحَقُّ مِثْل أَنْ
تَكُونَ الْعَاقِلَةُ هِيَ الْوَارِثَةُ، أَوْ يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَى
الْمُتَصَادِمَيْنِ تَقَاصَّا، وَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ سَوَاءٌ كَانَ
اصْطِدَامُهُمَا عَمْدًا أَوْ خَطَأً، لأَِنَّ
(28/293)
الصَّدْمَةَ لاَ تَقْتُل غَالِبًا،
فَالْقَتْل الْحَاصِل بِهَا مَعَ الْعَمْدِ عَمْدُ الْخَطَأِ (1) .
ثَانِيًا: اصْطِدَامُ الأَْشْيَاءِ: السُّفُنِ وَالسَّيَّارَاتِ:
119 - قَال الْفُقَهَاءُ: إِذَا كَانَ الاِصْطِدَامُ بِسَبَبٍ قَاهِرٍ أَوْ
مُفَاجِئٍ، كَهُبُوبِ الرِّيحِ أَوِ الْعَوَاصِفِ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَى
أَحَدٍ.
وَإِذَا كَانَ الاِصْطِدَامُ بِسَبَبِ تَفْرِيطِ أَحَدِ رُبَّانَيِ
السَّفِينَتَيْنِ - أَوْ قَائِدَيِ السَّيَّارَتَيْنِ - كَانَ الضَّمَانُ
عَلَيْهِ وَحْدَهُ.
وَمِعْيَارُ التَّفْرِيطِ - كَمَا يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ - أَنْ يَكُونَ
الرُّبَّانِ - وَكَذَلِكَ الْقَائِدُ - قَادِرًا عَلَى ضَبْطِ سَفِينَتِهِ
- أَوْ سَيَّارَتِهِ - أَوْ رَدِّهَا عَنِ الأُْخْرَى، فَلَمْ يَفْعَل،
أَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَعْدِلَهَا إِلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى فَلَمْ يَفْعَل،
أَوْ لَمْ يُكْمِل آلَتَهَا مِنَ الْحِبَال وَالرِّجَال وَغَيْرِهَا (2) .
وَإِذَا كَانَتْ إِحْدَى السَّفِينَتَيْنِ وَاقِفَةً، وَالأُْخْرَى
سَائِرَةً، فَلاَ شَيْءَ عَلَى الْوَاقِفَةِ، وَعَلَى السَّائِرَةِ ضَمَانُ
الْوَاقِفَةِ، إِنْ كَانَ الْقَيِّمُ مُفَرِّطًا.
وَإِذَا كَانَتَا مَاشِيَتَيْنِ مُتَسَاوِيَتَيْنِ، بِأَنْ كَانَتَا فِي
بَحْرٍ أَوْ مَاءٍ رَاكِدٍ، ضَمِنَ الْمُفَرِّطُ سَفِينَةَ الآْخَرِ، بِمَا
فِيهَا مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ.
أَمَّا إِذَا كَانَتَا غَيْرَ مُتَسَاوِيَتَيْنِ، بِأَنْ كَانَتْ
__________
(1) المغني بالشرح الكبير 10 / 359 - 360.
(2) المغني بالشرح الكبير 10 / 361.
(28/293)
إِحْدَاهُمَا مُنْحَدِرَةً، وَالأُْخْرَى
صَاعِدَةً فَعَلَى الْمُنْحَدِرِ ضَمَانُ الصَّاعِدَةِ، لأَِنَّهَا
تَنْحَدِرُ عَلَيْهَا مِنْ عُلُوٍّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا فِي
غَرَقِهَا، فَتَنْزِل الْمُنْحَدِرَةُ مَنْزِلَةَ السَّائِرَةِ،
وَالصَّاعِدَةُ مَنْزِلَةَ الْوَاقِفَةِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ التَّفْرِيطُ
مِنَ الْمُصْعِدِ فَيَكُونُ، الضَّمَانُ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ الْمُفَرِّطُ
(1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي اصْطِدَامِ السُّفُنِ: السَّفِينَتَانِ
كَالدَّابَّتَيْنِ، وَالْمَلاَّحَانِ كَالرَّاكِبَيْنِ إِنْ كَانَتَا
لَهُمَا (2) .
وَأَطْلَقَ ابْنُ جُزَيٍّ قَوْلَهُ: إِذَا اصْطَدَمَ مَرْكَبَانِ فِي
جَرْيِهِمَا، فَانْكَسَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا، فَلاَ ضَمَانَ فِي
ذَلِكَ (3) .
انْتِفَاءُ الضَّمَانِ:
يَنْتَفِي الضَّمَانُ - بِوَجْهٍ عَامٍّ - بِأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ، مِنْ
أَهَمِّهَا
أ - دَفْعُ الصَّائِل:
120 - يُشْتَرَطُ فِي دَفْعِ الصَّائِل، لاِنْتِفَاءِ الإِْثْمِ
وَانْتِفَاءِ الضَّمَانِ - بِوَجْهٍ عَامٍّ - مَا يَلِي:
1 - أَنْ يَكُونَ الصَّوْل حَالًّا، وَالصَّائِل شَاهِرًا سِلاَحَهُ أَوْ
سَيْفَهُ، وَيَخَافُ مِنْهُ الْهَلاَكَ (4) ، بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ
الْمَصُول عَلَيْهِ،
__________
(1) الشرح الكبير مع المغني 5 / 456، 457.
(2) شرح المحلي على المنهاج بحاشيتي القليوبي وعميرة 4 / 151، 152.
(3) القوانين الفقهية 218.
(4) الوجيز 2 / 185.
(28/294)
أَنْ يَلْجَأَ إِلَى السُّلْطَةِ
لِيَدْفَعَهُ عَنْهُ (1) .
2 - أَنْ يَسْبِقَهُ إِنْذَارٌ وَإِعْلاَمٌ لِلصَّائِل، إِذَا كَانَ
مِمَّنْ يَفْهَمُ الْخِطَابَ كَالآْدَمِيِّ (2) ، وَذَلِكَ بِأَنْ
يُنَاشِدَهُ اللَّهَ، فَيَقُول: نَاشَدْتُكَ اللَّهَ إِلاَّ مَا خَلَّيْتَ
سَبِيلِي، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، أَوْ يَعِظَهُ، أَوْ يَزْجُرَهُ لَعَلَّهُ
يَنْكَفَّ، فَأَمَّا غَيْرُهُ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ - وَفِي
حُكْمِهِمَا الْبَهِيمَةُ - فَإِنَّ إِنْذَارَهُمْ غَيْرُ مُفِيدٍ، وَهَذَا
مَا لَمْ يُعَاجِل بِالْقِتَال، وَإِلاَّ فَلاَ إِنْذَارَ، قَال
الْخَرَشِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الإِْنْذَارَ مُسْتَحَبٌّ (3) ، وَهُوَ
الَّذِي قَالَهُ الدَّرْدِيرُ: بَعْدَ الإِْنْذَارِ نَدْبًا (4) .
وَقَال الْغَزَالِيُّ: وَيَجِبُ تَقْدِيمُ الإِْنْذَارِ، فِي كُل دَفْعٍ،
إِلاَّ فِي مَسْأَلَةِ النَّظَرِ إِلَى حَرَمِ الإِْنْسَانِ مِنْ كَوَّةٍ
(5) .
3 - كَمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الدَّفْعُ عَلَى سَبِيل التَّدَرُّجِ:
فَمَا أَمْكَنَ دَفْعُهُ بِالْقَوْل لاَ يُدْفَعُ بِالضَّرْبِ، وَمَا
أَمْكَنَ دَفْعُهُ بِالضَّرْبِ لاَ يُدْفَعُ بِالْقَتْل (6) ، وَذَلِكَ
تَطْبِيقًا لِلْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُقَرَّرَةِ فِي نَحْوِ هَذَا:
__________
(1) الدر المختار 5 / 351.
(2) جواهر الإكليل 2 / 297.
(3) شرح الخرشي على مختصر خليل 8 / 112.
(4) الشرح الكبير بحاشية الدسوقي عليه 4 / 357.
(5) الوجيز 2 / 185 بتصرف.
(6) انظر الدر المختار 5 / 351، ومنح الجليل 4 / 569.
(28/294)
كَقَاعِدَةِ: الضَّرَرُ الأَْشَدُّ يُزَال
بِالضَّرَرِ الأَْخَفِّ.
4 - وَشَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ لاَ يَقْدِرَ الْمَصُول عَلَيْهِ عَلَى
الْهُرُوبِ، مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ تَحْصُل لَهُ، فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ
عَلَى ذَلِكَ بِلاَ مَضَرَّةٍ وَلاَ مَشَقَّةٍ تَلْحَقُهُ، لَمْ يَجُزْ
لَهُ قَتْل الصَّائِل، بَل وَلاَ جُرْحُهُ (1) ، وَيَجِبُ هَرَبُهُ مِنْهُ
ارْتِكَابًا لأَِخَفِّ الضَّرَرَيْنِ (2) .
الضَّمَانُ فِي دَفْعِ الصَّائِل:
121 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَدَّى دَفْعُ الصَّائِل
إِلَى قَتْلِهِ، فَلاَ شَيْءَ عَلَى الدَّافِعِ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل. ر. مُصْطَلَحَ: (صِيَال) .
ب - حَال الضَّرُورَةِ:
122 - الضَّرُورَةُ: نَازِلَةٌ لاَ مَدْفَعَ لَهَا، أَوْ كَمَا يَقُول
أَهْل الأُْصُول: نَازِلَةٌ لاَ مَدْفَعَ لَهَا إِلاَّ بِارْتِكَابِ
مَحْظُورٍ يُبَاحُ فِعْلُهُ لأَِجْلِهَا.
وَمِنَ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي أَحْوَال الضَّرُورَةِ:
1 - حَرِيقٌ وَقَعَ فِي مَحَلَّةٍ، فَهَدَمَ رَجُلٌ دَارَ غَيْرِهِ،
بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ، وَبِغَيْرِ إِذْنٍ مِنَ السُّلْطَانِ، حَتَّى
يَنْقَطِعَ عَنْ دَارِهِ، ضَمِنَ وَلَمْ يَأْثَمْ.
قَال الرَّمْلِيُّ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِأَمْرِ
__________
(1) شرح الخرشي 8 / 112.
(2) جواهر الإكليل 2 / 297، ومنح الجليل 4 / 562.
(3) شرح المحلي على المنهاج 4 / 206، وانظر جواهر الإكليل 2 / 297، والمغني
بالشرح الكبير 10 / 351.
(28/295)
السُّلْطَانِ لاَ يَضْمَنُ، وَوَجْهُهُ:
أَنَّ لَهُ وِلاَيَةً عَامَّةً، يَصِحُّ أَمْرُهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ
الْعَامِّ. وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْخَانِيَّةِ (1) .
2 - يَجُوزُ أَكْل الْمَيْتَةِ كَمَا يَجُوزُ أَكْل مَال الْغَيْرِ مَعَ
ضَمَانِ الْبَدَل إِذَا اضْطُرَّ (2) .
3 - لَوِ ابْتَلَعَتْ دَجَاجَةٌ لُؤْلُؤَةً، يُنْظَرُ إِلَى أَكْثَرِهِمَا
قِيمَةً، فَيَضْمَنُ صَاحِبُ الأَْكْثَرِ قِيمَةَ الأَْقَل (3) .
4 - إِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الإِْجَارَةِ، وَالزَّرْعُ بَقْلٌ، لَمْ يُحْصَدْ
بَعْدُ، فَإِنَّهُ يُتْرَكُ بِالْقَضَاءِ أَوِ الرِّضَى، بِأَجْرِ الْمِثْل
إِلَى إِدْرَاكِهِ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ، لأَِنَّ لَهُ نِهَايَةً (4)
.
ج - حَال تَنْفِيذِ الأَْمْرِ:
123 - يُشْتَرَطُ لاِنْتِفَاءِ الضَّمَانِ عَنِ الْمَأْمُورِ وَثُبُوتِهِ
عَلَى الآْمِرِ، مَا يَلِي:
1 - أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِهِ جَائِزَ الْفِعْل، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ
جَائِزًا فِعْلُهُ ضَمِنَ الْفَاعِل لاَ الآْمِرُ، فَلَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ
بِتَخْرِيقِ ثَوْبِ ثَالِثٍ ضَمِنَ الْمُخَرِّقُ لاَ الآْمِرُ (5) .
2 - أَنْ تَكُونَ لِلآْمِرِ وِلاَيَةٌ عَلَى الْمَأْمُورِ، فَإِنْ لَمْ
__________
(1) حاشية الرملي على جامع الفصولين 2 / 49، عن التتارخانية.
(2) الأشباه للسيوطي ص 84 وما بعدها، ومنافع الرقائق للكوز الحصاري مصطفى
بن محمد، شرح مجامع الحقائق للخادمي ص 312. (ط الآستانة: 1308 هـ) .
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 88.
(4) الدر المختار ورد المحتار عليه 5 / 21.
(5) جامع الفصولين 2 / 78 رامزًا إلى عدة المفتين للنسفي.
(28/295)
تَكُنْ لَهُ وِلاَيَةٌ عَلَيْهِ،
وَأَمَرَهُ بِأَخْذِ مَال غَيْرِهِ فَأَخَذَهُ، ضَمِنَ الآْخِذُ لاَ
الآْمِرُ، لِعَدَمِ الْوِلاَيَةِ عَلَيْهِ أَصْلاً (1) ، فَلَمْ يَصِحَّ
الأَْمْرُ، وَفِي كُل مَوْضِعٍ لَمْ يَصِحَّ الأَْمْرُ كَانَ الضَّمَانُ
عَلَى الْمَأْمُورِ، وَلَمْ يَضْمَنِ الآْمِرُ (2) .
وَإِذَا صَحَّ الأَْمْرُ بِالشَّرْطَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَقَعَ
الضَّمَانُ عَلَى الآْمِرِ، وَانْتَفَى عَنِ الْمَأْمُورِ وَلَوْ كَانَ
مُبَاشِرًا. لأَِنَّهُ مَعْذُورٌ لِوُجُوبِ طَاعَتِهِ لِمَنْ هُوَ فِي
وِلاَيَتِهِ، كَالْوَلَدِ إِذَا أَمَرَهُ أَبُوهُ، وَالْمُوَظَّفِ إِذَا
أَمَرَهُ رَئِيسُهُ.
قَال الْحَصْكَفِيُّ: الآْمِرُ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالأَْمْرِ، إِلاَّ
إِذَا كَانَ الآْمِرُ سُلْطَانًا أَوْ أَبًا أَوْ سَيِّدًا، أَوْ كَانَ
الْمَأْمُورُ صَبِيًّا أَوْ عَبْدًا (3) .
وَكَذَا إِذَا كَانَ مَجْنُونًا، أَوْ كَانَ أَجِيرًا لِلآْمِرِ (4) .
د - حَال تَنْفِيذِ إِذْنِ الْمَالِكِ وَغَيْرِهِ:
124 - الأَْصْل أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِ
الْغَيْرِ بِلاَ إِذْنِهِ، فَإِنْ أَذِنَ وَتَرَتَّبَ عَلَى الْفِعْل
الْمَأْذُونِ بِهِ ضَرَرٌ انْتَفَى الضَّمَانُ، لَكِنْ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ:
بِأَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْمَأْذُونُ
__________
(1) حاشية الرملي على جامع الفصولين 2 / 78.
(2) جامع الفصولين في الموضع نفسه، رامزًا إلى الفتاوى الصغرى للصدر
الشهيد.
(3) الدر المختار 5 / 136.
(4) رد المحتار 5 / 136، وجامع الفصولين 2 / 78، ومجمع الضمانات ص 157.
(28/296)
بِإِتْلاَفِهِ مَمْلُوكًا لِلآْذِنِ، أَوْ
لَهُ وِلاَيَةٌ عَلَيْهِ.
وَأَنْ يَكُونَ الآْذِنُ بِحَيْثُ يَمْلِكُ هُوَ التَّصَرُّفَ فِيهِ،
وَإِتْلاَفَهُ، لِكَوْنِهِ مُبَاحًا لَهُ.
وَعَبَّرَ الْمَالِكِيَّةُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الإِْذْنُ
مُعْتَبَرًا شَرْعًا (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مِمَّنْ يُعْتَبَرُ إِذْنُهُ (2) ، فَلَوِ
انْتَفَى الإِْذْنُ أَصْلاً، كَمَا لَوِ اسْتَخْدَمَ سَيَّارَةَ غَيْرِهِ
بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَوْ قَادَ دَابَّتَهُ، أَوْ سَاقَهَا، أَوْ حَمَل
عَلَيْهَا شَيْئًا، أَوْ رَكِبَهَا فَعَطِبَتْ، فَهُوَ ضَامِنٌ (3) .
أَوِ انْتَفَى الْمِلْكُ - كَمَا لَوْ أَذِنَ شَخْصٌ لآِخَرَ بِفِعْلٍ
تَرَتَّبَ عَلَيْهِ إِتْلاَفُ مِلْكِ غَيْرِهِ - ضَمِنَ الْمَأْذُونُ لَهُ،
لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي مَال غَيْرِهِ بِلاَ إِذْنِهِ
وَلاَ وِلاَيَتِهِ (4) .
وَلَوْ أَذِنَ الآْخَرُ بِإِتْلاَفِ مَالِهِ؛ فَأَتْلَفَهُ فَلاَ ضَمَانَ،
كَمَا لَوْ قَال لَهُ: أَحْرِقْ ثَوْبِي فَفَعَل، فَلاَ يَغْرَمُ (5) ،
إِلاَّ الْوَدِيعَةَ إِذَا أَذِنَ لَهُ بِإِتْلاَفِهَا يَضْمَنُهَا،
لاِلْتِزَامِهِ حِفْظَهَا (6) ، وَلَوْ دَاوَى الطَّبِيبُ صَبِيًّا
بِإِذْنٍ مِنَ الصَّبِيِّ نَفْسِهِ، فَمَاتَ أَوْ عَطِبَ، ضَمِنَ
الطَّبِيبُ، وَلَوْ كَانَ الطَّبِيبُ عَالِمًا، وَلَوْ لَمْ يُقَصِّرْ،
وَلَوْ أَصَابَ وَجْهَ الْعِلْمِ
__________
(1) الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي 4 / 355.
(2) شرح المحلي على المنهاج 4 / 210.
(3) مجمع الضمانات 145 و 146.
(4) الدر المختار 5 / 127، وانظر جامع الفصولين 2 / 78.
(5) منح الجليل 4 / 347.
(6) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 4 / 355.
(28/296)
وَالصَّنْعَةِ لأَِنَّ إِذْنَ الصَّبِيِّ
غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا (1) .
وَكَذَا لَوْ أَذِنَ الرَّشِيدُ لِطَبِيبٍ فِي قَتْلِهِ فَفَعَل، لأَِنَّ
هَذَا الإِْذْنَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا، وَهَذَا عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ قَال لَهُ اقْتُلْنِي فَقَتَلَهُ، ضَمِنَ
دِيَتَهُ، لأَِنَّ الإِْبَاحَةَ لاَ تَجْرِي فِي النَّفْسِ، لأَِنَّ
الإِْنْسَانَ لاَ يَمْلِكُ إِتْلاَفَ نَفْسِهِ، لأَِنَّهُ مُحَرَّمٌ
شَرْعًا، لَكِنْ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ، لِشُبْهَةِ الإِْذْنِ، كَمَا يَقُول
الْحَصْكَفِيُّ (3) ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ (4) .
وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَفِيَّةِ: لاَ تَجِبُ الدِّيَةُ أَيْضًا (5) ، وَهُوَ
قَوْل سَحْنُونٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (6) ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، فَهُوَ هَدْرٌ لِلإِْذْنِ (7) ، وَفِي قَوْل ابْنِ
قَاسِمٍ: يُقْتَل (8) ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ (9) .
__________
(1) الشرح الكبير للدردير 4 / 355، وشرح الخرشي وحاشية العدوي 8 / 111.
(2) يؤخذ من حاشية الدسوقي بتصرف 4 / 355.
(3) الدر المختار 5 / 352، وانظر البدائع 7 / 236.
(4) مغني المحتاج 4 / 50، وانظر كشاف القناع 6 / 5.
(5) الدر المختار 5 / 352، والبدائع 7 / 236.
(6) منح الجليل 4 / 346.
(7) مغني المحتاج 4 / 50.
(8) منح الجليل 4 / 346، وانظر جواهر الإكليل 2 / 255، والقوانين الفقهية ص
266.
(9) مجمع الضمانات 160.
(28/297)
هـ - حَال تَنْفِيذِ أَمْرِ الْحَاكِمِ
أَوْ إِذْنِهِ:
125 - إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى تَنْفِيذِ أَمْرِ الْحَاكِمِ، أَوْ إِذْنِهِ
بِالْفِعْل ضَرَرٌ، فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ.
فَلَوْ حَفَرَ حُفْرَةً فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامِّ، أَوْ فِي
مَكَان عَامٍّ لَهُمْ، كَالسُّوقِ وَالْمُنْتَدَى وَالْمُحْتَطَبِ
وَالْمَقْبَرَةِ، أَوْ أَنْشَأَ بِنَاءً، أَوْ شَقَّ تُرْعَةً، أَوْ نَصَبَ
خَيْمَةً، فَعَطِبَ بِهَا رَجُلٌ، أَوْ تَلِفَ بِهَا إِنْسَانٌ، فَدِيَتُهُ
عَلَى عَاقِلَةِ الْحَافِرِ، وَإِنْ تَلِفَ بِهَا حَيَوَانٌ، فَضَمَانُهُ
فِي مَالِهِ، لأَِنَّ ذَلِكَ تَعَدٍّ وَتَجَاوُزٌ، وَهُوَ مَحْظُورٌ فِي
الشَّرْعِ صِيَانَةً لِحَقِّ الْعَامَّةِ لاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ أَوْ أَمْرِهِ أَوْ أَمْرِ
نَائِبِهِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَضْمَنُ، لأَِنَّهُ
غَيْرُ مُتَعَدٍّ حِينَئِذٍ، فَإِنَّ لِلإِْمَامِ وِلاَيَةً عَامَّةً عَلَى
الطَّرِيقِ، إِذْ نَابَ عَنِ الْعَامَّةِ، فَكَانَ كَمَنْ فَعَلَهُ فِي
مِلْكِهِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ
فَتَلِفَ فِيهَا آدَمِيٌّ أَوْ غَيْرُهُ ضَمِنَ الْحَافِرُ لِتَسَبُّبِهِ
فِي تَلَفِهِ، أَذِنَ السُّلْطَانُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ وَيُمْنَعُ مِنْ
ذَلِكَ الْبِنَاءِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ حَفَرَ بِطَرِيقٍ ضَيِّقٍ
__________
(1) الهداية بشروحها 9 / 246، والمبسوط 27 / 25، والبدائع 7 / 278، ومجمع
الأنهر 2 / 651 و 652، ومجمع الضمانات ص 178، والدر المختار 5 / 380، 381.
(2) جواهر الإكليل 2 / 148، والدسوقي 3 / 444، والقوانين الفقهية ص 224.
(28/297)
يَضُرُّ الْمَارَّةَ فَهُوَ مَضْمُونٌ
وَإِنْ أَذِنَ فِيهِ الإِْمَامُ، إِذْ لَيْسَ لَهُ الإِْذْنُ فِيمَا
يَضُرُّ، وَلَوْ حَفَرَ فِي طَرِيقٍ لاَ يَضُرُّ الْمَارَّةَ وَأَذِنَ
فِيهِ الإِْمَامُ فَلاَ ضَمَانَ، سَوَاءٌ حَفَرَ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ
أَوْ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فَإِنْ حَفَرَ
لِمَصْلَحَتِهِ فَقَطْ فَالضَّمَانُ فِيهِ، أَوْ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ
فَلاَ ضَمَانَ فِي الأَْظْهَرِ لِجَوَازِهِ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ: فِيهِ
الضَّمَانُ، لأَِنَّ الْجَوَازَ مَشْرُوطٌ بِسَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ (1) .
وَفَصَّل الْحَنَابِلَةُ نَاظِرِينَ إِلَى الطَّرِيقِ: -
فَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ ضَيِّقًا، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَنْ هَلَكَ بِهِ،
لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ، سَوَاءٌ أَذِنَ الإِْمَامُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ،
فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلإِْمَامِ الإِْذْنُ فِيمَا يَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ،
وَلَوْ فَعَل ذَلِكَ الإِْمَامُ، يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِهِ، التَّعْدِيَةَ.
وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا، فَحَفَرَ فِي مَكَانٍ يَضُرُّ
بِالْمُسْلِمِينَ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ كَذَلِكَ.
وَإِنْ حَفَرَ فِي مَكَانٍ لاَ ضَرَرَ فِيهِ، نَظَرْنَا: فَإِنْ حَفَرَ
لِنَفْسِهِ، ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهَا، سَوَاءٌ حَفَرَهَا بِإِذْنِ
الإِْمَامِ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَإِنْ حَفَرَهَا لِنَفْعِ
الْمُسْلِمِينَ - كَمَا لَوْ حَفَرَهَا لِيَنْزِل فِيهَا مَاءُ الْمَطَرِ،
أَوْ لِتَشْرَبَ مِنْهُ الْمَارَّةُ - فَلاَ يَضْمَنُ، إِذَا كَانَ
بِإِذْنِ الإِْمَامِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَفِيهِ
رِوَايَتَانِ:.
__________
(1) شرح المنهج بحاشية الجمل 5 / 82 وما بعدها. وشرح المحلي على المنهاج
بحاشية القليوبي 4 / 147 و 148.
(28/298)
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لاَ يَضْمَنُ.
وَالأُْخْرَى: أَنَّهُ يَضْمَنُ، لأَِنَّهُ افْتَاتَ عَلَى الإِْمَامِ (1)
.
الضَّمَانُ فِي الزَّكَاةِ:
فِي ضَمَانِ زَكَاةِ الْمَال، إِذَا هَلَكَ النِّصَابُ حَالَتَانِ:
الْحَالَةُ الأُْولَى:
126 - لَوْ هَلَكَ الْمَال بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْل، وَالتَّمَكُّنِ مِنَ
الأَْدَاءِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ، إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تُضْمَنُ
بِالتَّأْخِيرِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ كَأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ، إِلَى عَدَمِ
الضَّمَانِ فِي هَذِهِ الْحَال، لأَِنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَى
التَّرَاخِي، وَذَلِكَ لإِِطْلاَقِ الأَْمْرِ بِالزَّكَاةِ، وَمُطْلَقُ
الأَْمْرِ لاَ يَقْتَضِي الْفَوْرَ، فَيَجُوزُ لِلْمُكَلَّفِ تَأْخِيرُهُ،
كَمَا يَقُول الْكَمَال (3) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ:
127 - لَوْ أَتْلَفَ الْمَالِكُ الْمَال بَعْدَ الْحَوْل، قَبْل
التَّمَكُّنِ مِنْ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّهَا مَضْمُونَةٌ عِنْدَ
__________
(1) المغني بالشرح الكبير 9 / 566 و 567 وانظر كشاف القناع 6 / 6 و 8.
(2) الدر المختار بهامش رد المحتار عليه 2 / 12 و 13، والقوانين الفقهية ص
68 وروضة الطالبين 2 / 223، وكشاف القناع 2 / 182، وانظر المغني مع الشرح
الكبير 2 / 542 و 543.
(3) فتح القدير 2 / 114. ن 2.
(28/298)
الْجُمْهُورِ أَيْضًا، وَهُوَ الَّذِي
أَطْلَقَهُ النَّوَوِيُّ (1) ، وَأَحَدُ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
(2) ، لأَِنَّهَا كَمَا قَال الْبُهُوتِيُّ اسْتَقَرَّتْ بِمُضِيِّ
الْحَوْل (3) ، وَعَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِوُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَضْمَنُ (4) .
128 - لَوْ دَفَعَ الْمُزَكِّي زَكَاتَهُ بِتَحَرٍّ، إِلَى مَنْ ظَنَّ
أَنَّهُ مَصْرِفُهَا، فَبَانَ غَيْرُ ذَلِكَ فَفِي الإِْجْزَاءِ أَوْ
عَدَمِهِ أَيِ الضَّمَانِ خِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي (زَكَاة) .
الضَّمَانُ فِي الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ:
129 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، إِلَى جَوَازِ الاِسْتِئْجَارِ عَلَى
الْحَجِّ (5) ، وَفِي تَضْمِينِ مَنْ يَحُجُّ عَنْ غَيْرِهِ التَّفْصِيل
التَّالِي:
أ - إِذَا أَفْسَدَ الْحَاجُّ عَنْ غَيْرِهِ حَجَّهُ مُتَعَمِّدًا، بِأَنْ
بَدَا لَهُ فَرَجَعَ مِنْ بَعْضِ الطَّرِيقِ أَوْ جَامَعَ قَبْل
الْوُقُوفِ، فَإِنَّهُ يَغْرَمُ مَا أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْمَال،
لإِِفْسَادِهِ الْحَجَّ، وَيُعِيدُهُ مِنْ مَال نَفْسِهِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ (6) .
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 223.
(2) رد المحتار 2 / 21.
(3) كشاف القناع 2 / 182.
(4) الدر المختار ورد المحتار 2 / 21، وانظر بدائع الصنائع 2 / 63، ومجمع
الضمانات ص 7.
(5) القوانين الفقهية ص 87، وحاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 388 والمغني 3
/ 180.
(6) الدر المختار 2 / 247، ومجمع الضمانات ص 8.
(28/299)
وَقَال النَّوَوِيُّ: إِذَا جَامَعَ
الأَْجِيرُ فَسَدَ حَجُّهُ، وَانْقَلَبَ لَهُ، فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ،
وَالْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ.
وَصَرَّحَ الْجَمَل بِأَنَّهُ لاَ شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ،
لأَِنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِمَا فَعَلَهُ، وَأَنَّهُ مُقَصِّرٌ.
وَقَال الْمَقْدِسِيُّ: وَيَرُدُّ مَا أَخَذَ مِنَ الْمَال، لأَِنَّ
الْحِجَّةَ لَمْ تُجْزِئْ عَنِ الْمُسْتَنِيبِ، لِتَفْرِيطِهِ
وَجَنَابَتِهِ (1) .
ب - إِذَا أُحْصِرَ الْحَاجُّ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَهُ التَّحَلُّل (2) وَفِي
دَمِ الإِْحْصَارِ خِلاَفٌ:
فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ عَلَى
الآْمِرِ، لأَِنَّهُ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ مَشَقَّةِ السَّفَرِ، فَهُوَ
كَنَفَقَةِ الرُّجُوعِ وَلِوُقُوعِ النُّسُكِ لَهُ، مَعَ عَدَمِ إِسَاءَةِ
الأَْجِيرِ (3) .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ فِي ضَمَانِ
الأَْجِيرِ، كَمَا لَوْ أَفْسَدَهُ (4) .
ج - إِذَا فَاتَهُ الْحَجُّ، بِغَيْرِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ بِنَوْمٍ،
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 29، وحاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 395، والمغني -
بالشرح الكبير - 3 / 182 و 183 وكشاف القناع 2 / 398.
(2) روضة الطالبين 3 / 32.
(3) الدر المختار ورد المحتار 2 / 246، وحاشية الجمل 3 / 395، والمغني 3 /
182.
(4) روضة الطالبين 3 / 32، والمغني 3 / 182 وانظر رد المحتار 2 / 246.
(28/299)
أَوْ تَأَخَّرَ عَنِ الْقَافِلَةِ، أَوْ
غَيْرِهِمَا، مِنْ غَيْرِ إِحْصَارٍ، بَل بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ - لاَ
يَضْمَنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ النَّفَقَةَ، لأَِنَّهُ فَاتَهُ بِغَيْرِ
صُنْعِهِ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ، لأَِنَّ الْحَجَّةَ وَجَبَتْ
عَلَيْهِ بِالشُّرُوعِ، فَلَزِمَهُ قَضَاؤُهَا (1) .
قَال النَّوَوِيُّ: وَلاَ شَيْءَ لِلأَْجِيرِ فِي الْمَذْهَبِ (2) .
دَمُ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ:
130 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ
وَالتَّمَتُّعِ فِي الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: دَمُ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ عَلَى الْحَاجِّ -
أَيِ الْمَأْمُورِ بِالْحَجِّ عَنْ غَيْرِهِ - إِنْ أَذِنَ لَهُ الآْمِرُ
بِالْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ، وَإِلاَّ فَيَصِيرُ مُخَالِفًا، فَيَضْمَنُ
النَّفَقَةَ (3) .
وَلِلشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ وَتَفْرِقَةٌ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ
الإِْجَارَةُ عَلَى الذِّمَّةِ أَوِ الْعَيْنِ، وَكَانَ قَدْ أَمَرَهُ
بِالْحَجِّ، فَقَرَنَ أَوْ تَمَتَّعَ (4) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: دَمُ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ عَلَى
الْمُسْتَنِيبِ، إِنْ أُذِنَ لَهُ فِيهِمَا، وَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ
فَعَلَيْهِ (5) (ر: قِرَان وَتَمَتُّع) .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 2 / 246، وروضة الطالبين 3 / 32.
(2) روضة الطالبين 3 / 32.
(3) الدر المختار 2 / 247.
(4) روضة الطالبين 3 / 28.
(5) المغني مع الشرح الكبير 3 / 182، والإنصاف 3 / 420، وكشاف القناع 2 /
398.
(28/300)
131 - أَمَّا مَا يَلْزَمُ مِنَ الدِّمَاءِ
بِفِعْل الْمَحْظُورَاتِ فَعَلَى الْحَاجِّ وَهُوَ الْمَأْمُورُ لأَِنَّهُ
لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الْجِنَايَةِ، فَكَانَ مُوجِبُهَا عَلَيْهِ، كَمَا
لَوْ لَمْ يَكُنْ نَائِبًا (1) .
وَكُل مَا لَزِمَهُ بِمُخَالَفَتِهِ، فَضَمَانُهُ مِنْهُ كَمَا يَقُول
الْبُهُوتِيُّ (2) .
الضَّمَانُ فِي الأُْضْحِيَةِ:
132 - لَوْ مَضَتْ أَيَّامُ الأُْضْحِيَةِ، وَلَمْ يَذْبَحْ أَوْ ذَبَحَ
شَخْصٌ أُضْحِيَةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ
يُنْظَرُ فِي (أُضْحِيَة) .
ضَمَانُ صَيْدِ الْحَرَمِ:
133 - نَهَى الشَّارِعُ عَنْ صَيْدِ الْمُحْرِمِ، بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ،
حَيَوَانًا بَرِّيًّا، إِذَا كَانَ مَأْكُول اللَّحْمِ - عِنْدَ
الْجُمْهُورِ - مِنْ طَيْرٍ أَوْ دَابَّةٍ، سَوَاءٌ أَصِيدَ مِنْ حَرَمٍ
أَمْ مِنْ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ
صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا (3) } .
وَأَطْلَقَ الْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ جَوَازِ قَتْل شَيْءٍ مِنْ صَيْدِ
الْبَرِّ، مَا أُكِل لَحْمُهُ وَمَا لَمْ يُؤْكَل، لَكِنَّهُمْ أَجَازُوا -
كَالْجُمْهُورِ - قَتْل الْحَيَوَانَاتِ الْمُضِرَّةِ: كَالأَْسَدِ،
وَالذِّئْبِ، وَالْحَيَّةِ، وَالْفَأْرَةِ،
__________
(1) الدر المختار 2 / 247، وروضة الطالبين 3 / 29، والمغني مع الشرح الكبير
3 / 182.
(2) كشاف القناع 2 / 398.
(3) سورة المائدة / 96.
(28/300)
وَالْعَقْرَبِ، وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ (1)
، بَل اسْتَحَبَّ الْحَنَابِلَةُ قَتْلَهَا (2) ، وَلاَ يُقْتَل ضَبٌّ
وَلاَ خِنْزِيرٌ وَلاَ قِرْدٌ، إِلاَّ أَنْ يُخَافَ مِنْ عَادِيَتِهِ (3) .
وَأَوْجَبَ الشَّارِعُ فِي الصَّيْدِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِالْحَرَمِ
وَبِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْرِمِ ضَمَانَ مِثْل الْحَيَوَانِ الْمَصِيدِ مِنَ
الأَْنْعَامِ، فَيَذْبَحُهُ فِي الْحَرَمِ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ، أَوْ
ضَمَانَ قِيمَتِهِ مِنَ الطَّعَامِ - إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ -
فَيَتَصَدَّقُ بِالْقِيمَةِ (4) ، أَوْ صِيَامِ يَوْمٍ عَنْ طَعَامِ كُل
مِسْكِينٍ، وَهُوَ الْمُدُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَنِصْفُ الصَّاعِ
مِنَ الْبُرِّ، أَوِ الصَّاعُ مِنَ الشَّعِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (5) .
وَهَذَا التَّخْيِيرُ فِي الْجَزَاءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ
مِثْل مَا قَتَل مِنَ النَّعَمِ} . . . الآْيَةَ (6) .
ضَمَانُ الطَّبِيبِ وَنَحْوِهِ:
134 - مِثْل الطَّبِيبِ: الْحَجَّامُ، وَالْخَتَّانُ، وَالْبَيْطَارُ،
وَفِي ضَمَانِهِمْ خِلاَفٌ:
يَقُول الْحَنَفِيَّةُ: فِي الطَّبِيبِ إِذَا أَجْرَى
__________
(1) القوانين الفقهية ص 92، وجواهر الإكليل 1 / 194، وكشاف القناع 2 / 438
و 439.
(2) كشاف القناع 2 / 439.
(3) القوانين الفقهية ص 92.
(4) الدر المختار 2 / 215، وجواهر الإكليل 1 / 198 و 199، والقوانين
الفقهية ص 93، وشرح المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي عليه 2 / 144.
(5) الدر المختار 2 / 215.
(6) سورة المائدة / 95.
(28/301)
جِرَاحَةً لِشَخْصٍ فَمَاتَ، إِذَا كَانَ
الشَّقُّ بِإِذْنٍ، وَكَانَ مُعْتَادًا، وَلَمْ يَكُنْ فَاحِشًا خَارِجَ
الرَّسْمِ، لاَ يَضْمَنُ. وَقَالُوا: لَوْ قَال الطَّبِيبُ: أَنَا ضَامِنٌ
إِنْ مَاتَ لاَ يَضْمَنُ دِيَتَهُ لأَِنَّ اشْتِرَاطَ الضَّمَانِ عَلَى
الأَْمِينِ بَاطِلٌ، أَوْ لأَِنَّ هَذَا الشَّرْطَ غَيْرُ مَقْدُورٍ
عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ شَرْطُ الْمَكْفُول بِهِ (1) .
وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ: قَطَعَ الْحَجَّامُ لَحْمًا مِنْ عَيْنِهِ، وَكَانَ
غَيْرَ حَاذِقٍ، فَعَمِيَتْ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فِي الطَّبِيبِ وَالْبَيْطَارِ وَالْحَجَّامِ،
يَخْتِنُ الصَّبِيَّ، وَيَقْلَعُ الضِّرْسَ، فَيَمُوتُ صَاحِبُهُ لاَ
ضَمَانَ عَلَى هَؤُلاَءِ، لأَِنَّهُ مِمَّا فِيهِ التَّعْزِيرُ، وَهَذَا
إِذَا لَمْ يُخْطِئْ فِي فِعْلِهِ؛ فَإِنْ أَخْطَأَ فَالدِّيَةُ عَلَى
عَاقِلَتِهِ.
وَيُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ عَارِفًا فَلاَ يُعَاقَبُ عَلَى خَطَئِهِ، وَإِنْ
كَانَ غَيْرَ عَارِفٍ، وَغَرَّ مِنْ نَفْسِهِ، فَيُؤَدَّبُ بِالضَّرْبِ
وَالسَّجْنِ (3) ، وَقَالُوا: الطَّبِيبُ إِذَا جَهِل أَوْ قَصَّرَ ضَمِنَ،
وَالضَّمَانُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَكَذَا إِذَا دَاوَى بِلاَ إِذْنٍ، أَوْ
بِلاَ إِذْنٍ مُعْتَبَرٍ، كَالصَّبِيِّ (4) .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار عليه 5 / 364.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 290 وراجع مسائل نحو هذا في الفتاوى
الخيرية للعليمي 2 / 176، والعقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية 2 /
235 (ط. بولاق: 1270 هـ) .
(3) القوانين الفقهية ص 221، وانظر جواهر الإكليل 2 / 296.
(4) الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي عليه 4 / 355.
(28/301)
وَقَال الشَّافِعِيُّ: فِي الْحَجَّامِ
وَالْخَتَّانِ وَنَحْوِهِمَا: إِنْ كَانَ فَعَل مَا يَفْعَلُهُ مِثْلُهُ،
مِمَّا فِيهِ الصَّلاَحُ لِلْمَفْعُول بِهِ عِنْدَ أَهْل الْعِلْمِ
بِتِلْكَ الصِّنَاعَةِ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَهُ أَجْرُهُ.
وَإِنْ كَانَ فَعَل مَا لاَ يَفْعَلُهُ مِثْلُهُ، كَانَ ضَامِنًا، وَلاَ
أَجْرَ لَهُ فِي الأَْصَحِّ (1) .
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْخِتَانِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ الْوَلِيِّ
وَغَيْرِهِ: فَمَنْ خَتَنَهُ فِي سِنٍّ لاَ يَحْتَمِلُهُ، لَزِمَهُ
الْقِصَاصُ، إِلاَّ الْوَالِدَ، وَإِنِ احْتَمَلَهُ، وَخَتَنَهُ وَلِيُّ
خِتَانٍ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الأَْصَحِّ (2) .
ضَمَانُ الْمُعَزَّرِ:
135 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ عَزَّرَهُ الإِْمَامُ فَهَلَكَ، فَدَمُهُ
هَدْرٌ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الإِْمَامَ مَأْمُورٌ بِالتَّعْزِيرِ، وَفِعْل
الْمَأْمُورِ لاَ يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلاَمَةِ فِي التَّعْزِيرِ
الْوَاجِبِ (3) ، وَقَيَّدَهُ جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنْ يَظُنَّ
الإِْمَامُ سَلاَمَتَهُ، وَإِلاَّ ضَمِنَ (4) ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ
يَرَوْنَ التَّعْزِيرَ مُقَيَّدًا بِسَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ (5) .
وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ التَّعْزِيرَ إِذَا أَفْضَى إِلَى
__________
(1) الأم - بتصرف - 6 / 166 (ط. بولاق: 1321 هـ) .
(2) شرح المحلي بحاشية القليوبي عليه 4 / 211 وقارن بالمغني بالشرح الكبير
10 / 349 و 350.
(3) الدر المختار ورد المحتار 3 / 189.
(4) جواهر الإكليل 2 / 296، والشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي عليه 4 /
355، ومنح الجليل 4 / 556، 557.
(5) شرح المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي عليه 4 / 209.
(28/302)
التَّلَفِ لاَ يَضْمَنُ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ بِشَرْطِ ظَنِّ سَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ، لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ
فِيهِ، فَلاَ يَضْمَنُ، كَالْحُدُودِ، وَهَذَا مَا لَمْ يُسْرِفْ - كَمَا
نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ بِأَنْ يُجَاوِزَ الْمُعْتَادَ، أَوْ مَا
يَحْصُل بِهِ الْمَقْصُودُ، أَوْ يَضْرِبُ مَنْ لاَ عَقْل لَهُ مِنْ
صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ مَعْتُوهٍ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ حِينَئِذٍ،
لأَِنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ بِذَلِكَ شَرْعًا (1)
وَلِلتَّفْصِيل يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ: (تَعْزِير) .
ضَمَانُ الْمُؤَدِّبِ وَالْمُعَلِّمِ:
136 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَنْعِ التَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ
بِقَصْدِ الإِْتْلاَفِ وَتَرَتُّبِ الْمَسْئُولِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ،
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْهَلاَكِ مِنَ التَّأْدِيبِ الْمُعْتَادِ،
وَفِي ضَمَانِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (تَأْدِيب ف 11،
وَتَعْلِيم ف 14) .
ضَمَانُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ:
137 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَضْمِينِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ مَا
أَخَذُوهُ مِنَ الأَْمْوَال أَثْنَاءَ الْحِرَابَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ
إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى
تَضْمِينِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (حِرَابَة ف 22) .
ضَمَانُ الْبُغَاةِ:
138 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الْعَادِل إِذَا أَصَابَ
__________
(1) كشاف القناع 6 / 16، وقارن بالمغني بالشرح الكبير 10 / 349.
(28/302)
مِنْ أَهْل الْبَغْيِ، مِنْ دَمٍ أَوْ
جِرَاحَةٍ، أَوْ مَالٍ اسْتَهْلَكَهُ أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ،
وَذَلِكَ فِي حَال الْحَرْبِ وَحَال الْخُرُوجِ، لأَِنَّهُ ضَرُورَةٌ،
وَلأَِنَّا مَأْمُورُونَ بِقِتَالِهِمْ، فَلاَ نَضْمَنُ مَا تَوَلَّدَ
مِنْهُ (1) .
أَمَّا إِذَا أَصَابَ الْبَاغِي مِنْ أَهْل الْعَدْل شَيْئًا مِنْ نَفْسٍ
أَوْ مَالٍ فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ - وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ - أَنَّهُ مَوْضُوعٌ، وَلاَ ضَمَانَ فِيهِ.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ مَضْمُونٌ، يَقُول الرَّمْلِيُّ
مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ أَتْلَفُوا عَلَيْنَا نَفْسًا أَوْ مَالاً
ضَمِنُوهُ، وَعَلَّقَ عَلَيْهِ الشَّبْرَامَلِّسِيِّ بِقَوْلِهِ: أَيْ
بِغَيْرِ الْقِصَاصِ (2) ، وَعَلَّلَهُ الشِّرْبِينِيُّ بِأَنَّهُمَا
فِرْقَتَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، مُحِقَّةٌ وَمُبْطِلَةٌ، فَلاَ
يَسْتَوِيَانِ فِي سُقُوطِ الْغُرْمِ، كَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، لِشُبْهَةِ
تَأْوِيلِهَا (3) .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِمَا رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ قَال:
وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، وَأَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مُتَوَافِرُونَ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كُل دَمٍ اسْتُحِل
بِتَأْوِيل الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَكُل مَالٍ اسْتُحِل بِتَأْوِيل
الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ (4) .
__________
(1) البدائع 7 / 141، ومغني المحتاج 4 / 125، ونهاية المحتاج 7 / 407،
وكشاف القناع 6 / 165.
(2) نهاية المحتاج 7 / 408.
(3) مغني المحتاج 4 / 125.
(4) البدائع 7 / 141، وكشاف القناع 6 / 165، فقد أورده بصيغة أخرى، وقال:
ذكره أحمد في رواية الأثرم، واحتج به، رواه الخلال.
(28/303)
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَمِثْلُهُ لاَ
يَكْذِبُ، فَوَقَعَ الإِْجْمَاعُ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ - عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ (1) .
وَلأَِنَّ الْوِلاَيَةَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مُنْقَطِعَةٌ، لِوُجُودِ
الْمَنَعَةِ، فَلَمْ يَكُنْ وُجُوبُ الضَّمَانِ مُفِيدًا لِتَعَذُّرِ
الاِسْتِيفَاءِ، فَلَمْ يَجِبْ (2) . وَلأَِنَّ تَضْمِينَهُمْ يُفْضِي
إِلَى تَنْفِيرِهِمْ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ فَسَقَطَ، كَأَهْل
الْحَرْبِ، أَوْ كَأَهْل الْعَدْل.
هَذَا الْحُكْمُ فِي حَال الْحَرْبِ، أَمَّا فِي غَيْرِ حَال الْحَرْبِ،
فَمَضْمُونٌ (3) .
ضَمَانُ السَّارِقِ لِلْمَسْرُوقِ:
139 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَسْرُوقَ إِنْ كَانَ
قَائِمًا فَإِنَّهُ يَجِبُ رَدُّهُ إِلَى مَنْ سُرِقَ مِنْهُ.
فَإِنْ تَلِفَ فَفِي ضَمَانِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (سَرِقَة
ف 79، 80 ج 24) .
ضَمَانُ إِتْلاَفِ آلاَتِ اللَّهْوِ:
140 - آلَةُ اللَّهْوِ: كَالْمِزْمَارِ، وَالدُّفِّ، وَالْبَرْبَطِ،
وَالطَّبْل، وَالطُّنْبُورِ، وَفِي ضَمَانِهَا بَعْضُ الْخِلاَفِ:
__________
(1) البدائع 7 / 141.
(2) نفس المرجع.
(3) كشاف القناع 5 / 165.
(28/303)
فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَالصَّاحِبَيْنِ
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، أَنَّهَا لاَ تُضْمَنُ بِالإِْتْلاَفِ وَذَلِكَ:
لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مُحْتَرَمَةً، لاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلاَ
تَمَلُّكُهَا (1) ، وَلأَِنَّهَا مُحَرَّمَةُ الاِسْتِعْمَال، وَلاَ
حُرْمَةَ لِصَنْعَتِهَا (2) .
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِكَسْرِهَا قِيمَتَهَا
خَشَبًا مَنْحُوتًا صَالِحًا لِغَيْرِ اللَّهْوِ لاَ مِثْلَهَا، فَفِي
الدُّفِّ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ دُفًّا يُوضَعُ فِيهِ الْقُطْنُ، وَفِي
الْبَرْبَطِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ قَصْعَةَ ثَرِيدٍ.
وَيَصِحُّ بَيْعُهَا، لأَِنَّهَا أَمْوَالٌ مُتَقَوَّمَةٌ
لِصَلاَحِيَّتِهَا بِالاِنْتِفَاعِ بِهَا فِي غَيْرِ اللَّهْوِ، فَلَمْ
تُنَافِ الضَّمَانَ، كَالأَْمَةِ الْمُغَنِّيَةِ (3) ، بِخِلاَفِ الْخَمْرِ
فَإِنَّهَا حَرَامٌ لِعَيْنِهَا، وَالْفَتْوَى عَلَى مَذْهَبِ
الصَّاحِبَيْنِ، أَنَّهُ لاَ يَضْمَنُهَا، وَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهَا (4) .
قَالُوا: وَأَمَّا طَبْل الْغُزَاةِ وَالصَّيَّادِينَ وَالدُّفُّ الَّذِي
يُبَاحُ ضَرْبُهُ فِي الْعُرْسِ، فَمَضْمُونٌ اتِّفَاقًا (5) ، كَالأَْمَةِ
الْمُغَنِّيَةِ، وَالْكَبْشِ النَّطُوحِ، وَالْحَمَامَةِ الطَّيَّارَةِ،
وَالدِّيكِ الْمُقَاتِل.
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 336، والمغني بالشرح الكبير 5 /
445 و 446.
(2) شرح المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي 3 / 33.
(3) الدر المختار ورد المحتار عليه 5 / 134.
(4) الدر المختار 5 / 135.
(5) نفس المرجع.
(28/304)
حَيْثُ تَجِبُ قِيمَتُهَا غَيْرَ صَالِحَةٍ
لِهَذَا الأَْمْرِ (1) .
وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ، أَنَّ هَذَا الاِخْتِلاَفَ بَيْنَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَبَيْنَ صَاحِبَيْهِ إِنَّمَا هُوَ: فِي الضَّمَانِ، دُونَ
إِبَاحَةِ إِتْلاَفِ الْمَعَازِفِ، وَفِيمَا يَصْلُحُ لِعَمَلٍ آخَرَ،
وَإِلاَّ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا اتِّفَاقًا، وَفِيمَا إِذَا فَعَل بِغَيْرِ
إِذْنِ الإِْمَامِ، وَإِلاَّ لَمْ يَضْمَنِ اتِّفَاقًا. وَفِي غَيْرِ عُودِ
الْمُغَنِّي وَخَابِيَةِ الْخَمَّارِ، لأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكْسِرْهَا
لَعَادَ لِفِعْلِهِ الْقَبِيحِ، وَفِيمَا إِذَا كَانَ لِمُسْلِمٍ، فَلَوْ
لِذِمِّيٍّ ضَمِنَ اتِّفَاقًا قِيمَتَهُ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَكَذَا لَوْ
كَسَرَ صَلِيبَهُ، لأَِنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِ (2) .
ضَمَانُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِ الْفِعْل:
141 - لِمَال الْمُسْلِمِ حُرْمَةٌ كَمَا لِنَفْسِهِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي تَضْمِينِ مَنْ يَتْرُكُ فِعْلاً مِنْ شَأْنِهِ إِنْقَاذُ
مَال الْمُسْلِمِ مِنَ الضَّيَاعِ، أَوْ نَفْسِهِ مِنَ الْهَلاَكِ.
وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ تَرْك (ف 12 - 14) .
تَرْكُ الشَّهَادَةِ وَالرُّجُوعُ عَنْهَا:
142 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ يَتْرُكُ
__________
(1) نفس المرجع.
(2) رد المحتار 5 / 135.
(28/304)
الشَّهَادَةَ بَعْدَ طَلَبِهَا مِنْهُ
وَعِلْمِهِ أَنَّ تَرْكَهَا يُؤَدِّي إِلَى ضَيَاعِ الْحَقِّ الَّذِي
طُلِبَتْ مِنْ أَجَلِهِ آثِمٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْتُمُوا
الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ (1) } .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ الشَّهَادَةَ بَعْدَ
طَلَبِهَا مِنْهُ وَعِلْمِهِ أَنَّ تَرْكَهَا يُؤَدِّي إِلَى ضَيَاعِ
الْحَقِّ يَضْمَنُ (2) .
وَفِي الرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ أَدَائِهَا وَضَمَانِ مَا
يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رُجُوع ف 36،
37) .
قَطْعُ الْوَثَائِقِ:
143 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَطَعَ وَثِيقَةً،
فَضَاعَ مَا فِيهَا مِنَ الْحُقُوقِ، فَهُوَ ضَامِنٌ، لِتَسَبُّبِهِ فِي
الإِْتْلاَفِ وَضَيَاعِ الْحَقِّ، سَوَاءٌ أَفَعَل ذَلِكَ عَمْدًا أَمْ
خَطَأً، لأَِنَّ الْعَمْدَ أَوِ الْخَطَأَ فِي أَمْوَال النَّاسِ سَوَاءٌ -
كَمَا يَقُول الدُّسُوقِيُّ - وَكَذَا إِذَا أَمْسَكَ الْوَثِيقَةَ
بِمَالٍ، أَوْ عَفْوٍ عَنْ دَمٍ.
وَلَوْ قَتَل شَاهِدَيِ الْحَقِّ، أَوْ قَتَل أَحَدَهُمَا وَهُوَ لاَ
يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَهَادَتِهِمَا، فَالأَْظْهَرُ أَنَّهُ يَغْرَمُ جَمِيعَ
الْحَقِّ، وَجَمِيعَ الْمَال وَفِي قَتْلِهِ تَرَدُّدٌ (3) .
__________
(1) سورة البقرة 283.
(2) جواهر الإكليل 1 / 215، وحاشية الدسوقي 2 / 112.
(3) القوانين الفقهية ص 218، والشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي 2 /
111.
(28/305)
تَضْمِينُ السُّعَاةِ:
144 - إِذَا سَعَى لَدَى السُّلْطَانِ لِدَفْعِ أَذَاهُ عَنْهُ، وَلاَ
يَرْتَفِعُ أَذَاهُ إِلاَّ بِذَلِكَ، أَوْ سَعَى بِمَنْ يُبَاشِرُ
الْفِسْقَ وَلاَ يَمْتَنِعُ بِنَهْيِهِ فَلاَ ضَمَانَ فِي ذَلِكَ، عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ.
وَإِذَا سَعَى لَدَى السُّلْطَانِ، وَقَال: إِنَّ فُلاَنًا وَجَدَ كَنْزًا،
فَغَرَّمَهُ السُّلْطَانُ، فَظَهَرَ كَذِبُهُ، ضَمِنَ، إِلاَّ إِنْ كَانَ
السُّلْطَانُ عَدْلاً، أَوْ قَدْ يَغْرَمُ أَوْ لاَ يَغْرَمُ، لَكِنَّ
الْفَتْوَى الْيَوْمَ - كَمَا نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْمِنَحِ -
بِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى السَّاعِي مُطْلَقًا.
وَالسِّعَايَةُ الْمُوجِبَةُ لِلضَّمَانِ: أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَذِبٍ
يَكُونُ سَبَبًا لأَِخْذِ الْمَال مِنْ شَخْصٍ، أَوْ كَانَ صَادِقًا لَكِنْ
لاَ يَكُونُ قَصْدُهُ إِقَامَةَ الْحِسْبَةِ كَمَا لَوْ قَال: وَجَدَ
مَالاً وَقَدْ وُجِدَ الْمَال، فَهَذَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، إِذِ
الظَّاهِرُ أَنَّ السُّلْطَانَ يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَال بِهَذَا السَّبَبِ.
وَلَوْ كَانَ السُّلْطَانُ يَغْرَمُ أَلْبَتَّةَ بِمِثْل هَذِهِ
السِّعَايَةِ، ضَمِنَ (1) .
وَكَذَا يَضْمَنُ لَوْ سَعَى بِغَيْرِ حَقٍّ - عِنْدَ مُحَمَّدٍ - زَجْرًا
لِلسَّاعِي، وَبِهِ يُفْتَى وَيُعَزَّرُ وَلَوْ مَاتَ السَّاعِي
فَلِلْمُسْعَى بِهِ أَنْ يَأْخُذَ قَدْرَ الْخُسْرَانِ مِنْ تَرِكَتِهِ،
وَهُوَ الصَّحِيحُ (2) ،
__________
(1) رد المحتار 5 / 135، وجامع الفصولين 2 / 79.
(2) الدر المختار 5 / 135.
(28/305)
وَذَلِكَ دَفْعًا لِلْفَسَادِ وَزَجْرًا
لِلسَّاعِي، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُبَاشِرٍ، فَإِنَّ السَّعْيَ سَبَبٌ
مَحْضٌ لإِِهْلاَكِ الْمَال، وَالسُّلْطَانُ يُغَرِّمُهُ اخْتِيَارًا لاَ
طَبْعًا (1) .
وَنَقَل الرَّمْلِيُّ عَنِ الْقِنْيَةِ: شَكَا عِنْدَ الْوَالِي بِغَيْرِ
حَقٍّ، فَضَرَبَ الْمَشْكُوَّ عَلَيْهِ، فَكَسَرَ سِنَّهُ أَوْ يَدَهُ،
يَضْمَنُ الشَّاكِي أَرْشَهُ، كَالْمَال (2) .
وَتَعَرَّضَ الْمَالِكِيَّةُ لِمَسْأَلَةِ الشَّاكِي لِلْحَاكِمِ مِمَّنْ
ظَلَمَهُ، كَالْغَاصِبِ وَقَالُوا: إِذَا شَكَاهُ إِلَى حَاكِمٍ ظَالِمٍ،
مَعَ وُجُودِ حَاكِمٍ مُنْصِفٍ، فَغَرَّمَهُ الْحَاكِمُ زَائِدًا عَمَّا
يَلْزَمُهُ شَرْعًا، بِأَنْ تَجَاوَزَ الْحَدَّ الشَّرْعِيَّ، قَالُوا:
يَغْرَمُ.
وَفِي فَتْوَى: أَنَّهُ يَضْمَنُ الشَّاكِي جَمِيعَ مَا غَرَّمَهُ
السُّلْطَانُ الظَّالِمُ لِلْمَشْكُوِّ.
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ: أَنَّهُ لاَ يَضْمَنُ الشَّاكِي شَيْئًا مُطْلَقًا،
وَإِنْ ظَلَمَ فِي شَكْوَاهُ، وَإِنْ أَثِمَ وَأُدِّبَ (3) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ غَرِمَ إِنْسَانٌ، بِسَبَبِ
كَذِبٍ عَلَيْهِ عِنْدَ وَلِيِّ الأَْمْرِ، فَلِلْغَارِمِ تَغْرِيمُ
الْكَاذِبِ عَلَيْهِ لِتَسَبُّبِهِ فِي ظُلْمِهِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى
الآْخِذِ مِنْهُ، لأَِنَّهُ الْمُبَاشِرُ (4) .
إِلْقَاءُ الْمَتَاعِ مِنْ السَّفِينَةِ:
145 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَشْرَفَتْ سَفِينَةٌ عَلَى
__________
(1) رد المحتار 5 / 360.
(2) حاشية الرملي على جامع الفصولين 2 / 79.
(3) جواهر الإكليل 2 / 152.
(4) كشاف القناع 4 / 116.
(28/306)
الْغَرَقِ، فَأَلْقَى بَعْضُهُمْ حِنْطَةَ
غَيْرِهِ فِي الْبَحْرِ، حَتَّى خَفَّتْ السَّفِينَةُ، يَضْمَنُ قِيمَتَهَا
فِي تِلْكَ الْحَال، أَيْ مُشْرِفَةً عَلَى الْغَرَقِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَى
الْغَائِبِ الَّذِي لَهُ مَالٌ فِيهَا، وَلَمْ يَأْذَنْ بِالإِْلْقَاءِ،
فَلَوْ أَذِنَ بِالإِْلْقَاءِ، بِأَنْ قَال: إِذَا تَحَقَّقَتْ هَذِهِ
الْحَال فَأَلْقُوا، اعْتُبِرَ إِذْنُهُ (1) .
وَقَالُوا: إِذَا خَشَى عَلَى الأَْنْفُسِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى إِلْقَاءِ
الأَْمْتِعَةِ فَالْغُرْمُ بِعَدَدِ الرُّءُوسِ إِذَا قَصَدَ حِفْظَ
الأَْنْفُسِ خَاصَّةً - كَمَا يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ - لأَِنَّهَا
لِحِفْظِ الأَْنْفُسِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْحَصْكَفِيِّ وَهُوَ أَحَدُ
أَقْوَالٍ ثَلاَثَةٍ، ثَانِيهَا: أَنَّهُ عَلَى الأَْمْلاَكِ مُطْلَقًا،
ثَالِثُهَا عَكْسُهُ (2) .
وَلَوْ خَشَى عَلَى الأَْمْتِعَةِ فَقَطْ - بِأَنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ
لاَ تَغْرَقُ فِيهِ الأَْنْفُسُ - فَهِيَ عَلَى قَدْرِ الأَْمْوَال،
وَإِذَا خَشَى عَلَيْهِمَا، فَهِيَ عَلَى قَدْرِهِمَا، فَمَنْ كَانَ
غَائِبًا، وَأَذِنَ بِالإِْلْقَاءِ، اعْتُبِرَ مَالُهُ، لاَ نَفْسُهُ.
وَمَنْ كَانَ حَاضِرًا بِمَالِهِ اعْتُبِرَ مَالُهُ وَنَفْسُهُ فَقَطْ.
وَمَنْ كَانَ بِنَفْسِهِ فَقَطِ اعْتُبِرَ نَفْسُهُ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا خِيفَ عَلَى السَّفِينَةِ الْغَرَقُ، جَازَ
طَرْحُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَتَاعِ، أَذِنَ أَرْبَابُهُ أَوْ لَمْ
يَأْذَنُوا، إِذَا رَجَا بِذَلِكَ نَجَاتَهُ،
__________
(1) رد المحتار 5 / 172.
(2) رد المحتار في الموضع نفسه.
(3) نفس المرجع.
(28/306)
وَكَانَ الْمَطْرُوحُ بَيْنَهُمْ عَلَى
قَدْرِ أَمْوَالِهِمْ، وَلاَ غُرْمَ عَلَى مَنْ طَرَحَهُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا أَشْرَفَتْ سَفِينَةٌ فِيهَا مَتَاعٌ
وَرِكَابٌ عَلَى غَرَقٍ، وَخِيفَ هَلاَكُ الرُّكَّابِ، جَازَ إِلْقَاءُ
بَعْضِ الْمَتَاعِ فِي الْبَحْرِ، لِسَلاَمَةِ الْبَعْضِ الآْخَرِ: أَيْ
لِرَجَائِهَا، وَقَال الْبُلْقِينِيُّ: بِشَرْطِ إِذْنِ الْمَالِكِ (2) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: وَيَجِبُ لِرَجَاءِ نَجَاةِ الرَّاكِبِ (3) .
وَقَالُوا - أَيْضًا - وَيَجِبُ إِلْقَاؤُهُ - وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ
مَالِكُهُ - إِذَا خِيفَ الْهَلاَكُ لِسَلاَمَةِ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ،
بِخِلاَفِ غَيْرِ الْمُحْتَرَمِ، كَحَرْبِيٍّ وَمُرْتَدٍّ. وَيَجِبُ
بِإِلْقَاءِ حَيَوَانٍ، وَلَوْ مُحْتَرَمًا، لِسَلاَمَةِ آدَمِيٍّ
مُحْتَرَمٍ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ الْغَرَقِ بِغَيْرِ إِلْقَائِهِ.
وَقَال الأَْذْرَعِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعِيَ فِي الإِْلْقَاءِ
تَقْدِيمَ الأَْخَسِّ فَالأَْخَسِّ قِيمَةً مِنَ الْمَتَاعِ إِنْ أَمْكَنَ،
حِفْظًا لِلْمَال مَا أَمْكَنَ، قَالُوا: وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمُلْقِي
غَيْرَ الْمَالِكِ (4) .
وَقَالُوا: يَجِبُ إِلْقَاءُ مَا لاَ رُوحَ فِيهِ لِتَخْلِيصِ ذِي رُوحٍ،
وَإِلْقَاءُ الدَّوَابِّ لإِِبْقَاءِ الآْدَمِيِّينَ. وَإِذَا انْدَفَعَ
الْغَرَقُ بِطَرْحِ بَعْضِ
__________
(1) القوانين الفقهية ص 218.
(2) حاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 90.
(3) منهاج الطالبين، مع مغني المحتاج 4 / 92 (ط. دار الفكر في بيروت) .
(4) حاشية الجمل 5 / 90.
(28/307)
الْمَتَاعِ اقْتُصِرَ عَلَيْهِ (1) .
قَال النَّوَوِيُّ فِي مِنْهَاجِهِ: فَإِنْ طَرَحَ مَال غَيْرِهِ بِلاَ
إِذْنٍ ضَمِنَهُ، وَإِلاَّ فَلاَ (2) ، كَأَكْل الْمُضْطَرِّ طَعَامَ
غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ (3) .
قَالُوا: وَلَوْ قَال: أَلْقِ مَتَاعَكَ عَلَيَّ ضَمَانُهُ، أَوْ عَلَى
أَنِّي ضَامِنٌ ضَمِنَ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى: أَلْقِ، فَلاَ، عَلَى
الْمَذْهَبِ (4) - لِعَدَمِ الاِلْتِزَامِ -
وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا بِهَذِهِ الْفُرُوعِ:
أ - إِذَا أَلْقَى بَعْضُ الرُّكْبَانِ مَتَاعَهُ، لِتَخِفَّ السَّفِينَةُ
وَتَسْلَمَ مِنَ الْغَرَقِ، لَمْ يُضَمِّنْهُ أَحَدٌ، لأَِنَّهُ أَتْلَفَ
مَتَاعَ نَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ، لِصَلاَحِهِ وَصَلاَحِ غَيْرِهِ.
ب - وَإِنْ أَلْقَى مَتَاعَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، ضَمِنَهُ
وَحْدَهُ.
ج - وَإِنْ قَال لِغَيْرِهِ: أَلْقِ مَتَاعَكَ فَقَبِل مِنْهُ، لَمْ
يَضْمَنْهُ لَهُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ ضَمَانَهُ.
د - وَإِنْ قَال: أَلْقِ وَأَنَا ضَامِنٌ لَهُ، أَوْ: وَعَلَيَّ قِيمَتُهُ،
لَزِمَهُ ضَمَانُهُ، لأَِنَّهُ أَتْلَفَ مَالَهُ بِعِوَضٍ لِمَصْلَحَتِهِ،
فَوَجَبَ لَهُ الْعِوَضُ عَلَى مَا الْتَزَمَهُ. . .
__________
(1) شرح المنهج بحاشية الجمل 5 / 90.
(2) منهاج الطالبين مع مغني المحتاج 4 / 93.
(3) شرح المنهج بحاشية الجمل 5 / 90.
(4) المنهاج مع مغني المحتاج 4 / 93.
(28/307)
هـ - وَإِنْ قَال: أَلْقِهِ وَعَلَيَّ
وَعَلَى رُكْبَانِ السَّفِينَةِ ضَمَانُهُ، فَأَلْقَاهُ، فَفِيهِ
وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ وَحْدَهُ، لأَِنَّهُ الْتَزَمَ
ضَمَانَهُ جَمِيعَهُ، فَلَزِمَهُ مَا الْتَزَمَهُ، وَقَال الْقَاضِي: إِنْ
كَانَ ضَمَانَ اشْتِرَاكٍ، مِثْل أَنْ يَقُول: نَحْنُ نَضْمَنُ لَكَ أَوْ
عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنَّا ضَمَانُ قِسْطِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلاَّ مَا
يَخُصُّهُ مِنَ الضَّمَانِ لأَِنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ إِلاَّ حِصَّتَهُ،
وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنِ الْبَاقِينَ بِالضَّمَانِ، فَسَكَتُوا
وَسُكُوتُهُمْ لَيْسَ بِضَمَانٍ. وَإِنِ الْتَزَمَ ضَمَانَ الْجَمِيعِ،
وَأَخْبَرَ عَنْ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمِثْل ذَلِكَ، لَزِمَهُ ضَمَانُ
الْكُل (1) .
مَنْعُ الْمَالِكِ عَنْ مِلْكِهِ حَتَّى يَهْلِكَ:
146 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، فِي مَسْأَلَةِ مَنْعِ
الْمَالِكِ عَنْ مِلْكِهِ حَتَّى يَهْلِكَ، وَإِزَالَةِ يَدِهِ عَنْهُ،
هُوَ عَدَمُ الضَّمَانِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ مَنَعَ الْمَالِكَ عَنْ أَمْوَالِهِ حَتَّى
هَلَكَتْ، يَأْثَمُ، وَلاَ يَضْمَنُ.
نَقَل هَذَا ابْنُ عَابِدِينَ (2) عَنْ ابْنِ نُجَيْمٍ فِي الْبَحْرِ،
وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْهَلاَكَ لَمْ يَحْصُل بِنَفْسِ فِعْلِهِ، كَمَا
لَوْ فَتَحَ الْقَفَصَ فَطَارَ الْعُصْفُورُ، فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُ،
لأَِنَّ الطَّيَرَانَ بِفِعْل الْعُصْفُورِ،
__________
(1) المغني بالشرح الكبير 10 / 363.
(2) رد المحتار 3 / 319.
(28/308)
لاَ بِنَفْسِ فَتْحِ الْبَابِ.
وَالْمَنْصُوصُ فِي مَسْأَلَةِ فَتْحِ الْقَفَصِ، أَنَّهُ قَوْل أَبِي
حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْل مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي أَبُو
الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ. وَاسْتَدَل بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ صَاحِبُ
الْبَحْرِ، عَلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ مِنَ الإِْثْمِ الضَّمَانُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ حَبَسَ الْمَالِكَ عَنْ الْمَاشِيَةِ لاَ
ضَمَانَ فِيهِ (2) ، وَكَذَا لَوْ مَنَعَ مَالِكَ زَرْعٍ أَوْ دَابَّةٍ
مِنَ السَّقْيِ، فَهَلَكَ لاَ ضَمَانَ فِي ذَلِكَ (3) .
وَيَبْدُو أَنَّ مَذْهَبَ الْمَالِكِيَّةِ فِي مَسْأَلَةِ مَنْعِ
الْمَالِكِ، هُوَ الضَّمَانُ، لِلتَّسَبُّبِ فِي الإِْتْلاَفِ (4) .
وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، إِذْ عَلَّلُوا الضَّمَانَ
بِأَنَّهُ لِتَسَبُّبِهِ بِتَعَدِّيهِ (5) .
وَمِنْ فُرُوعِهِمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ لَوْ أَزَال يَدَ إِنْسَانٍ عَنْ
حَيَوَانٍ فَهَرَبَ يَضْمَنُهُ، لِتَسَبُّبِهِ فِي فَوَاتِهِ، أَوْ أَزَال
يَدَهُ الْحَافِظَةَ لِمَتَاعِهِ حَتَّى نَهَبَهُ النَّاسُ، أَوْ
أَفْسَدَتْهُ النَّارُ، أَوِ الْمَاءُ، يَضْمَنُهُ.
وَقَالُوا: لِرَبِّ الْمَال تَضْمِينُ فَاتِحِ الْبَابِ
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 84، ورد المحتار 3 / 319.
(2) الوجيز 1 / 206.
(3) حاشية القليوبي على شرح المحلي 3 / 26.
(4) القوانين الفقهية ص 218، وجواهر الإكليل 1، 215.
(5) كشاف القناع 4 / 116 و 117.
(28/308)
لِتَسَبُّبِهِ فِي الإِْضَاعَةِ،
وَالْقَرَارُ عَلَى الآْخِذِ لِمُبَاشَرَتِهِ.
فَإِنْ ضَمَّنَ رَبُّ الْمَال الآْخِذَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ
ضَمَّنَ الْفَاتِحَ رَجَعَ عَلَى الآْخِذِ (1) .
تَضْمِينُ الْمُجْتَهِدِ وَالْمُفْتِي:
147 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ شَيْءَ عَلَى مُجْتَهِدٍ أَتْلَفَ شَيْئًا
بِفَتْوَاهُ.
أَمَّا غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ، فَيَضْمَنُ إِنْ نَصَّبَهُ السُّلْطَانُ أَوْ
نَائِبُهُ لِلْفَتْوَى، لأَِنَّهَا كَوَظِيفَةِ عَمَلٍ قَصَّرَ فِيهَا.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَصِبًا لِلْفَتْوَى، وَهُوَ مُقَلِّدٌ، فَفِي
ضَمَانِهِ قَوْلاَنِ، مَبْنِيَّانِ عَلَى الْخِلاَفِ فِي الْغُرُورِ
الْقَوْلِيِّ: هَل يُوجِبُ الضَّمَانَ، أَوْ لاَ؟ وَالْمَشْهُورُ عَدَمُ
الضَّمَانِ.
وَالظَّاهِرُ - كَمَا نَقَل الدُّسُوقِيُّ - أَنَّهُ إِنْ قَصَّرَ فِي
مُرَاجَعَةِ النُّقُول، ضَمِنَ، وَإِلاَّ فَلاَ، وَلَوْ صَادَفَ خَطَؤُهُ،
لأَِنَّهُ فَعَل مَقْدُورَهُ، وَلأَِنَّ الْمَشْهُورَ عَدَمُ الضَّمَانِ
بِالْغُرُورِ الْقَوْلِيِّ (2) .
وَنَصَّ السُّيُوطِيُّ عَلَى أَنَّهُ: لَوْ أَفْتَى الْمُفْتِي
__________
(1) نفس المرجع 4 / 117 و 118، وانظر الروض المربع 2 / 252.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 444.
(28/309)
إِنْسَانًا بِإِتْلاَفٍ، ثُمَّ تَبَيَّنَ
خَطَؤُهُ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُفْتِي (1) .
تَفْوِيتُ مَنَافِعِ الإِْنْسَانِ وَتَعْطِيلُهَا:
148 - تَعْطِيل الْمَنْفَعَةِ: إِمْسَاكُهَا بِدُونِ اسْتِعْمَالٍ، أَمَّا
اسْتِيفَاؤُهَا فَيَكُونُ بِاسْتِعْمَالِهَا (2) ، وَالتَّفْوِيتُ
تَعْطِيلٌ، وَيُفَرِّقُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ اسْتِيفَاءِ
مَنَافِعِ الإِْنْسَانِ، وَبَيْنَ تَفْوِيتِهَا، بِوَجْهٍ عَامٍّ فِي
تَفْصِيلٍ:
فَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ تَعْطِيل مَنَافِعِ الإِْنْسَانِ
وَتَفْوِيتَهَا، لاَ ضَمَانَ فِيهِ، كَمَا لَوْ حَبَسَ امْرَأَةً حَتَّى
مَنَعَهَا مِنَ التَّزَوُّجِ، أَوِ الْحَمْل مِنْ زَوْجِهَا، أَوْ حَبَسَ
الْحُرَّ حَتَّى فَاتَهُ عَمَلٌ مِنْ تِجَارَةٍ وَنَحْوِهَا، لاَ شَيْءَ
عَلَيْهِ.
أَمَّا لَوِ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ، كَمَا لَوْ وَطِئَ الْبُضْعَ أَوِ
اسْتَخْدَمَ الْحُرَّ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ فِي وَطْءِ
الْحُرَّةِ صَدَاقُ مِثْلِهَا، وَلَوْ كَانَتْ ثَيِّبًا، وَعَلَيْهِ فِي
وَطْءِ الأَْمَةِ مَا نَقَصَهَا (3) ، وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ
مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ لاَ تُضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّفْوِيتِ بِالْوَطْءِ،
وَتُضْمَنُ بِمَهْرِ الْمِثْل، وَلاَ تُضْمَنُ بِفَوَاتٍ، لأَِنَّ الْيَدَ
لاَ تَثْبُتُ عَلَيْهَا، إِذِ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي 145 (ط. مصطفى محمد. القاهرة: 1359 هـ) .
(2) رد المحتار 5 / 135 نقلاً عن الدرر.
(3) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه، بتصرف 3 / 454.
(28/309)
الْيَدُ فِي بُضْعِ الْمَرْأَةِ لَهَا،
وَكَذَا مَنْفَعَةُ بَدَنِ الْحُرِّ لاَ تُضْمَنُ إِلاَّ بِتَفْوِيتٍ فِي
الأَْصَحِّ، كَأَنْ قَهَرَهُ عَلَى عَمَلٍ. وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ لَهُمْ:
تُضْمَنُ بِالْفَوَاتِ أَيْضًا، لأَِنَّهَا لِتَقَوِّيهَا فِي عَقْدِ
الإِْجَارَةِ الْفَاسِدَةِ تُشْبِهُ مَنْفَعَةَ الْمَال.
وَدَلِيل الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّ الْحُرَّ لاَ يَدْخُل تَحْتَ الْيَدِ،
فَمَنْفَعَتُهُ تَفُوتُ تَحْتَ يَدِهِ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لاَ يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ،
وَيَضْمَنُ بِالإِْتْلاَفِ، فَلَوْ أَخَذَ حُرًّا فَحَبَسَهُ، فَمَاتَ
عِنْدَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ.
وَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ مُكْرَهًا، لَزِمَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، لأَِنَّهُ
اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ، وَهِيَ مُتَقَوَّمَةٌ، فَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا،
وَلَوْ حَبَسَهُ مُدَّةً لِمِثْلِهَا أَجْرٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَجْرُ تِلْكَ الْمُدَّةِ، لأَِنَّهُ
فَوَّتَ مَنْفَعَتَهُ، وَهِيَ مَالٌ فَيَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا.
وَالثَّانِي: لاَ يَلْزَمُهُ لأَِنَّهَا تَابِعَةٌ لِمَا لاَ يَصِحُّ
غَصْبُهُ.
وَلَوْ مَنَعَهُ الْعَمَل مِنْ غَيْرِ حَبْسٍ، لَمْ يَضْمَنْ مَنَافِعَهُ
وَجْهًا وَاحِدًا (2) .
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي عليه 3 / 33 و 34.
(2) المغني بالشرح الكبير 5 / 448.
(28/310)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ يَقُولُونَ
بِالضَّمَانِ بِتَفْوِيتِ مَنَافِعِ الإِْنْسَانِ، لأَِنَّهُ لاَ يَدْخُل
تَحْتَ الْيَدِ، فَلَيْسَ بِمَالٍ، فَلاَ تُضْمَنُ مَنَافِعُ بَدَنِهِ (1)
.
__________
(1) انظر الدر المختار 5 / 131 و 132، ومجمع الضمانات ص 126، وجامع
الفصولين 2 / 92.
(28/310)
ضَمَانُ الدَّرَكِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدَّرَكُ: بِفَتْحَتَيْنِ، وَسُكُونِ الرَّاءِ لُغَةً، اسْمٌ مِنْ
أَدْرَكْتُ الرَّجُل أَيْ لَحِقْتُهُ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ جَهْدِ
الْبَلاَءِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ (1) أَيْ مِنْ لِحَاقِ الشَّقَاءِ.
قَال الْجَوْهَرِيُّ: الدَّرَكُ التَّبَعَةُ، قَال أَبُو سَعِيدٍ
الْمُتَوَلِّي: سُمِّيَ ضَمَانَ الدَّرَكِ لاِلْتِزَامِهِ الْغَرَامَةَ
عِنْدَ إِدْرَاكِ الْمُسْتَحِقِّ عَيْنَ مَالِهِ (2)
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ هَذَا اللَّفْظَ بِمَعْنَى
التَّبَعَةِ أَيِ الْمُطَالَبَةِ وَالْمُؤَاخَذَةِ (3) .
فَقَدْ عَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ ضَمَانَ الدَّرَكِ: بِأَنَّهُ الْتِزَامُ
تَسْلِيمِ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ (4) .
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: هُوَ أَنْ يَضْمَنَ
__________
(1) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من جهد البلاء. . . ". أخرجه
البخاري (11 / 148) من حديث أبي هريرة.
(2) المصباح المنير مادة (درك) وتهذيب الأسماء واللغات 3 / 104 نشر دار
الكتب العلمية، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 / 624.
(3) العناية بهامش فتح القدير 5 / 403 (ط. الأميرية) ، ومغني المحتاج 2 /
201 (نشر دار إحياء التراث العربي) ، والشرقاوي على التحرير 2 / 121.
(4) الاختيار 2 / 172، 173، وبدائع الصنائع 6 / 9، ابن عابدين 4 / 264،
والبناية 6 / 744، وفتح القدير 5 / 403.
(28/311)
شَخْصٌ لأَِحَدِ الْعَاقِدَيْنِ مَا
بَذَلَهُ لِلآْخَرِ إِنْ خَرَجَ مُقَابِلُهُ مُسْتَحَقًّا أَوْ مَعِيبًا
أَوْ نَاقِصًا لِنَقْصِ الصَّنْجَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الثَّمَنُ مُعَيَّنًا
أَمْ فِي الذِّمَّةِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ تَعْرِيفُ الْفُقَهَاءِ الآْخَرِينَ لِضَمَانِ الدَّرَكِ
عَمَّا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي تَعْرِيفِهِ (2) .
وَيُعَبِّرُ عَنْهُ الْحَنَابِلَةُ بِضَمَانِ الْعُهْدَةِ، كَمَا يُعَبِّرُ
عَنْهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْغَالِبِ بِالْكَفَالَةِ بِالدَّرَكِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعُهْدَةُ:
2 - الْعُهْدَةُ: هِيَ ضَمَانُ الثَّمَنِ لِلْمُشْتَرِي إِنِ اسْتُحِقَّ
الْمَبِيعُ أَوْ وُجِدَ فِيهِ عَيْبٌ (4) .
وَالْعُهْدَةُ أَعَمُّ مِنَ الدَّرَكِ، لأَِنَّ الْعُهْدَةَ قَدْ تُطْلَقُ
عَلَى الصَّكِّ الْقَدِيمِ، وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ وَعَلَى
حُقُوقِهِ، وَعَلَى الدَّرَكِ وَعَلَى الْخِيَارِ، بِخِلاَفِ الدَّرَكِ
فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَل فِي ضَمَانِ الاِسْتِحْقَاقِ عُرْفًا (5) .
__________
(1) الشرقاوي على التحرير 2 / 121.
(2) كشاف القناع 3 / 369، والمغني 4 / 596، منح الجليل 3 / 249.
(3) كشاف القناع 3 / 369، والمغني 4 / 596، والبناية 6 / 744، وفتح القدير
5 / 403، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 / 624.
(4) التعريفات للجرجاني.
(5) البناية 6 / 791، 792، وفتح القدير 5 / 435.
(28/311)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - ضَمَانُ الدَّرَكِ جَائِزٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَمَنَعَ
بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ ضَمَانَ الدَّرَكِ لِكَوْنِهِ ضَمَانَ مَا لَمْ
يَجِبْ (1) .
أَلْفَاظُ ضَمَانِ الدَّرَكِ:
4 - مِنْ أَلْفَاظِ هَذَا الضَّمَانِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنْ
يَقُول الضَّامِنُ: ضَمِنْتُ عُهْدَتَهُ أَوْ ثَمَنَهُ أَوْ دَرْكَهُ، أَوْ
يَقُول لِلْمُشْتَرِي: ضَمِنْتُ خَلاَصَكَ مِنْهُ (2) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّ الْعُهْدَةَ صَارَتْ فِي الْعُرْفِ عِبَارَةً
عَنِ الدَّرَكِ وَضَمَانِ الثَّمَنِ، وَالْكَلاَمُ الْمُطْلَقُ يُحْمَل
عَلَى الأَْسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ دُونَ اللُّغَوِيَّةِ (3) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ ضَمَانَ الْعُهْدَةِ بَاطِلٌ لاِشْتِبَاهِ
الْمُرَادِ بِهَا، لإِِطْلاَقِهَا عَلَى الصَّكِّ وَعَلَى الْعَقْدِ،
وَعَلَى حُقُوقِهِ وَعَلَى الدَّرَكِ، فَبَطَل لِلْجَهَالَةِ، بِخِلاَفِ
ضَمَانِ الدَّرَكِ (4) ، قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: وَلاَ يُقَال يَنْبَغِي أَنْ
يُصْرَفَ إِلَى مَا يَجُوزُ
__________
(1) البناية 6 / 744، وفتح القدير 5 / 403، ومجمع الضمانات ص 275،
والاختيار 2 / 172، والمغني 4 / 596، ومنح الجليل 3 / 249، ومغني المحتاج 2
/ 201، وروضة الطالبين 4 / 246.
(2) المغني 4 / 597، وروضة الطالبين 4 / 247.
(3) المغني 4 / 596.
(4) مجمع الأنهر 2 / 135، وابن عابدين 4 / 271، والبناية 6 / 791، والبحر
الرائق 6 / 254.
(28/312)
الضَّمَانُ بِهِ وَهُوَ الدَّرَكُ
تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِ الضَّامِنِ لأَِنَّا نَقُول: فَرَاغُ الذِّمَّةِ
أَصْلٌ فَلاَ يَثْبُتُ الشَّغْل بِالشَّكِّ وَالاِحْتِمَال (1) .
كَمَا أَنَّ ضَمَانَ الْخَلاَصِ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّهُ
يُفَسِّرُهُ بِتَخْلِيصِ الْمَبِيعِ لاَ مَحَالَةَ وَلاَ قُدْرَةَ
لِلضَّامِنِ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْمُسْتَحِقَّ لاَ يُمَكِّنُهُ مِنْهُ،
وَلَوْ ضَمِنَ تَخْلِيصَ الْمَبِيعِ أَوْ رَدَّ الثَّمَنِ جَازَ،
لإِِمْكَانِ الْوَفَاءِ بِهِ وَهُوَ تَسْلِيمُهُ إِنْ أَجَازَ
الْمُسْتَحِقُّ، أَوْ رَدَّهُ إِنْ لَمْ يُجِزْ، فَالْخِلاَفُ رَاجِعٌ
إِلَى التَّفْسِيرِ (2) .
وَيَرَى الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ أَنَّ ضَمَانَ
الْخَلاَصِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الدَّرَكِ، وَفَسَّرُوا ضَمَانَ
الْخَلاَصِ بِتَخْلِيصِ الْمَبِيعِ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ وَرَدِّ الثَّمَنِ
إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ وَهُوَ ضَمَانُ الدَّرَكِ فِي الْمَعْنَى،
فَالْخِلاَفُ لَفْظِيٌّ فَقَطْ (3) .
أَمَّا ضَمَانُ خَلاَصِ الْمَبِيعِ بِمَعْنَى أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُشْتَرِي
أَنَّ الْمَبِيعَ إِنِ اسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ يُخَلِّصُهُ وَيُسَلِّمُهُ
بِأَيِّ طَرِيقٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَهَذَا بَاطِلٌ، لأَِنَّهُ شَرْطٌ لاَ
يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ إِذِ الْمُسْتَحِقُّ رُبَّمَا لاَ
يُسَاعِدُهُ عَلَيْهِ (4) .
__________
(1) البحر الرائق 6 / 254.
(2) مجمع الأنهر 2 / 135، والبحر الرائق 6 / 254، وابن عابدين 4 / 271،
والبناية 4 / 792.
(3) البحر الرائق 6 / 254، ومجمع الأنهر 2 / 135، والبناية 6 / 792، وروضة
الطالبين 4 / 247.
(4) البناية 6 / 792، وروضة الطالبين 4 / 247، والمغني 4 / 597.
(28/312)
مُتَعَلَّقُ ضَمَانِ الدَّرَكِ:
5 - يَقُول الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ مُتَعَلَّقَ ضَمَانِ الدَّرَكِ هُوَ
عَيْنُ الثَّمَنِ أَوِ الْمَبِيعِ إِنْ بَقِيَ وَسَهُل رَدُّهُ، وَبَدَلُهُ
أَيْ قِيمَتُهُ إِنْ عَسُرَ رَدُّهُ، وَمِثْل الْمِثْلِيِّ وَقِيمَةُ
الْمُتَقَوِّمِ إِنْ تَلِفَ، وَتَعَلُّقُهُ بِالْبَدَل أَظْهَرُ (1) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مُتَعَلَّقَ ضَمَانِ الدَّرَكِ (ضَمَانُ
الْعُهْدَةِ) هُوَ الثَّمَنُ أَوْ جُزْءٌ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ الضَّمَانُ
عَنِ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي أَوْ عَنِ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ، حَيْثُ
يَقُولُونَ: وَيَصِحُّ ضَمَانُ عُهْدَةِ الْمَبِيعِ عَنِ الْبَائِعِ
لِلْمُشْتَرِي وَعَنِ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ، فَضَمَانُهُ عَنِ
الْمُشْتَرِي: هُوَ أَنْ يَضْمَنَ الثَّمَنَ الْوَاجِبَ بِالْبَيْعِ قَبْل
تَسْلِيمِهِ، وَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ عَيْبٌ أَوِ اسْتُحِقَّ رَجَعَ بِذَلِكَ
عَلَى الضَّامِنِ، وَضَمَانُهُ عَنِ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي: هُوَ أَنْ
يَضْمَنَ عَنِ الْبَائِعِ الثَّمَنَ مَتَى خَرَجَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا
أَوْ رُدَّ بِعَيْبٍ أَوْ أَرْشِ الْعَيْبِ، فَضَمَانُ الْعُهْدَةِ فِي
الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ ضَمَانُ الثَّمَنِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهُ (2) .
وَيُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
أَنَّ مُتَعَلَّقَ ضَمَانِ الدَّرَكِ عِنْدَهُمْ هُوَ الثَّمَنُ أَيْضًا
(3) ، إِلاَّ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ عَنْ مَذْهَبِ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي أَنَّ الْحَنَابِلَةَ
__________
(1) حاشية الجمل 3 / 379.
(2) المغني لابن قدامة 4 / 596.
(3) البناية 6 / 744، ومنح الجليل 3 / 249.
(28/313)
يَعْتَبِرُونَ ضَمَانَ الثَّمَنِ
الْوَاجِبِ تَسْلِيمَهُ عَنِ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ مِنْ قَبِيل ضَمَانِ
الدَّرَكِ (ضَمَانِ الْعُهْدَةِ) فِي حِينِ يَخْتَصُّ ضَمَانُ الدَّرَكِ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِالْكَفَالَةِ بِأَدَاءِ ثَمَنِ
الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي وَتَسْلِيمِهِ إِلَيْهِ إِنِ اسْتُحِقَّ
الْمَبِيعُ وَضُبِطَ مِنْ يَدِهِ (1) ، أَمَّا ضَمَانُ الثَّمَنِ
الْوَاجِبِ تَسْلِيمَهُ عَنِ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ فَهُوَ يَتَحَقَّقُ
ضِمْنَ الْكَفَالَةِ بِالْمَال بِشُرُوطِهَا.
شُرُوطُ صِحَّةِ ضَمَانِ الدَّرَكِ:
6 - مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ ضَمَانِ الدَّرَكِ أَنْ يَكُونَ الْمَضْمُونُ
دَيْنًا صَحِيحًا، وَالدَّيْنُ الصَّحِيحُ: هُوَ مَا لاَ يَسْقُطُ إِلاَّ
بِالأَْدَاءِ أَوِ الإِْبْرَاءِ، فَلاَ يَصِحُّ بِغَيْرِهِ كَبَدَل
الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِالتَّعْجِيزِ (2) .
وَيَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ لِصِحَّةِ ضَمَانِ الدَّرَكِ قَبْضَ
الثَّمَنِ، فَلاَ يَصِحُّ ضَمَانُ الدَّرَكِ عِنْدَهُمْ قَبْل قَبْضِ
الثَّمَنِ، لأَِنَّ الضَّامِنَ إِنَّمَا يَضْمَنُ مَا دَخَل فِي يَدِ
الْبَائِعِ، وَلاَ يَدْخُل الثَّمَنُ فِي ضَمَانِهِ إِلاَّ بِقَبْضِهِ (3)
.
__________
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 / 624، ومنح الجليل 3 / 249، والمغني 4
/ 596، وكشاف القناع 3 / 369.
(2) البناية 6 / 745، والأشباه والنظائر مع شرحه غمز عيون الأبصار 1 / 336،
وابن عابدين 4 / 263، وانظر مغني المحتاج 2 / 201، 202، ومنح الجليل 3 /
249.
(3) مغني المحتاج 2 / 201، وحاشية الجمل 3 / 379، 380، والمغني 4 / 596.
(28/313)
حُكْمُ ضَمَانِ الدَّرَكِ فِي حَالَتَيِ
الإِْطْلاَقِ وَالتَّقْيِيدِ:
7 - إِذَا أُطْلِقَ ضَمَانُ الدَّرَكِ أَوِ الْعُهْدَةِ اخْتَصَّ بِمَا
إِذَا خَرَجَ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ مُسْتَحَقًّا إِذْ هُوَ
الْمُتَبَادِرُ، لاَ مَا خَرَجَ فَاسِدًا بِغَيْرِ الاِسْتِحْقَاقِ، فَلَوِ
انْفَسَخَ الْبَيْعُ بِمَا سِوَى الاِسْتِحْقَاقِ مِثْل الرَّدِّ
بِالْعَيْبِ أَوْ بِخِيَارِ الشَّرْطِ أَوْ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لاَ
يُؤَاخَذُ بِهِ الضَّامِنُ، لأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الدَّرَكِ (1) .
أَمَّا إِذَا قَيَّدَهُ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ كَخَوْفِ
الْمُشْتَرِي فَسَادَ الْبَيْعِ بِدَعْوَى الْبَائِعِ صِغَرًا أَوْ
إِكْرَاهًا، أَوْ خَافَ أَحَدُهُمَا كَوْنَ الْعِوَضِ مَعِيبًا، أَوْ شَكَّ
الْمُشْتَرِي فِي كَمَال الصَّنْجَةِ الَّتِي تَسَلَّمَ بِهَا الْمَبِيعَ،
أَوْ شَكَّ الْبَائِعُ فِي جَوْدَةِ جِنْسِ الثَّمَنِ فَضَمِنَ الضَّامِنُ
ذَلِكَ صَرِيحًا صَحَّ ضَمَانُهُ كَضَمَانِ الْعُهْدَةِ (2) .
وَتَجْدُرُ الإِْشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْكَفِيل بِالدَّرَكِ يَضْمَنُ
الْمَكْفُول بِهِ فَقَطْ، وَلاَ يَضْمَنُ مَعَ الْمَكْفُول بِهِ ضَرَرَ
التَّغْرِيرِ لأَِنَّهُ لَيْسَ لِلْكَفِيل كَفَالَةٌ بِذَلِكَ (3) .
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ضَمَانِ الدَّرَكِ:
أ - حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ:
8 - يَتَرَتَّبُ عَلَى ضَمَانِ الدَّرَكِ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي
__________
(1) حاشية الجمل 3 / 380، وبدائع الصنائع 6 / 9، ودرر الحكام شرح مجلة
الأحكام 1 / 665.
(2) كشاف القناع 3 / 369، والشرقاوي على التحرير 2 / 121.
(3) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 / 665، 698 وما بعدها.
(28/314)
الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ عِنْدَ
اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ، وَيَحِقُّ لَهُ مُطَالَبَةُ الضَّامِنِ
وَالأَْصِيل بِهِ (1) . إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ
مُطَالَبَةِ الضَّامِنِ بِالثَّمَنِ:
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى
أَنَّ مُجَرَّدَ الْقَضَاءِ بِالاِسْتِحْقَاقِ يَكْفِي لِمُؤَاخَذَةِ
ضَامِنِ الدَّرَكِ وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُؤَاخَذُ ضَامِنُ الدَّرَكِ
إِنِ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ مَا لَمْ يَقْضِ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ،
لأَِنَّ الْبَيْعَ لاَ يُنْتَقَضُ بِمُجَرَّدِ الاِسْتِحْقَاقِ، وَلِهَذَا
لَوْ أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ الْبَيْعَ قَبْل الْفَسْخِ جَازَ وَلَوْ
بَعْدَ قَبْضِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَمَا لَمْ يَقْضِ بِالثَّمَنِ عَلَى
الْبَائِعِ لاَ يَجِبُ رَدُّ الثَّمَنِ عَلَى الأَْصِيل فَلاَ يَجِبُ عَلَى
الْكَفِيل (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الضَّامِنَ يَغْرَمُ الثَّمَنَ حِينَ
الدَّرَكِ فِي غَيْبَةِ الْبَائِعِ وَعَدَمِهِ (3) .
ب - مَنْعُ دَعْوَى التَّمَلُّكِ وَالشُّفْعَةِ:
9 - ضَمَانُ الدَّرَكِ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ الْبَيْعِ تَسْلِيمٌ
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 296، وابن عابدين 4 / 264، وبدائع الصنائع 6 / 10،
والشرقاوي على التحرير 2 / 122.
(2) مجمع الأنهر 2 / 135، ودرر الحكام 1 / 663، 664، وابن عابدين 4 / 282.
(3) منح الجليل 3 / 249، وانظر بداية المجتهد 2 / 296 (نشر دار المعرفة) .
(28/314)
مِنَ الضَّامِنِ بِأَنَّ الْمَبِيعَ مِلْكُ
الْبَائِعِ فَيَكُونُ مَانِعًا لِدَعْوَى التَّمَلُّكِ وَالشُّفْعَةِ
بَعْدَ ذَلِكَ، لأَِنَّ هَذَا الضَّمَانَ لَوْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي
الْبَيْعِ فَتَمَامُهُ بِقَبُول الضَّامِنِ فَكَأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ
لَهُ ثُمَّ بِالدَّعْوَى يَسْعَى فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فَالْمُرَادُ بِهِ إِحْكَامُ الْبَيْعِ
وَتَرْغِيبُ الْمُشْتَرِي فِي الاِبْتِيَاعِ، إِذْ لاَ يَرْغَبُ فِيهِ
دُونَ الضَّمَانِ فَنَزَل التَّرْغِيبُ مَنْزِلَةَ الإِْقْرَارِ بِمِلْكِ
الْبَائِعِ، فَلاَ تَصِحُّ دَعْوَى الضَّامِنِ الْمِلْكِيَّةَ لِنَفْسِهِ
بَعْدَ ذَلِكَ لِلتَّنَاقُضِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ ضَمِنَ
الشَّفِيعُ الْعُهْدَةَ لِلْمُشْتَرِي لَمْ تَسْقُطْ شُفْعَتُهُ، لأَِنَّ
هَذَا سَبَبٌ سَبَقَ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ فَلَمْ تَسْقُطْ بِهِ الشُّفْعَةُ
كَالإِْذْنِ فِي الْبَيْعِ وَالْعَفْوِ عَنِ الشُّفْعَةِ قَبْل تَمَامِ
الْبَيْعِ (2) .
الرَّهْنُ بِالدَّرَكِ:
10 - الرَّهْنُ بِالدَّرَكِ هُوَ: أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا وَيُسَلِّمَهُ
إِلَى الْمُشْتَرِي فَيَخَافُ الْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَحِقَّهُ أَحَدٌ،
فَيَأْخُذُ مِنَ الْبَائِعِ رَهْنًا بِالثَّمَنِ لَوِ اسْتَحَقَّهُ أَحَدٌ،
وَالرَّهْنُ بِالدَّرَكِ بَاطِلٌ، حَتَّى إِنَّ الْمُرْتَهِنَ لاَ يَمْلِكُ
حَبْسَ الرَّهْنِ إِنْ
__________
(1) مجمع الأنهر 2 / 133، والبحر الرائق 6 / 258، 259، ودرر الحكام 1 /
665.
(2) المغني 5 / 381.
(28/315)
قَبَضَهُ قَبْل الْوُجُوبِ اسْتَحَقَّ
الْمَبِيعَ أَوْ لاَ، لأَِنَّ الرَّهْنَ جُعِل مَشْرُوعًا لأَِجْل
الاِسْتِيفَاءِ وَلاَ اسْتِيفَاءَ قَبْل الْوُجُوبِ (1) .
وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ الإِْجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ؛ لأَِنَّهُ
يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَبْقَى الرَّهْنُ مَرْهُونًا أَبَدًا (2) .
__________
(1) العناية بهامش تكملة الفتح 8 / 206، وبدائع الصنائع 6 / 143، ودرر
الحكام شرح مجلة الأحكام 2 / 82، والمغني لابن قدامة 4 / 346، وروضة
الطالبين 10 / 361.
(2) المغني 4 / 596.
(28/315)
ضِيَافَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الضِّيَافَةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ ضَافَ، يُقَال: ضَافَ الرَّجُل
يُضِيفُهُ ضَيْفًا، وَضِيَافَةً: مَال إِلَيْهِ وَنَزَل بِهِ ضَيْفًا
وَضِيَافَةً، وَأَضَافَهُ إِلَيْهِ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ ضَيْفًا،
وَضِيَافَةً (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ اسْمٌ لإِِكْرَامِ الضَّيْفِ - وَهُوَ النَّازِل
بِغَيْرِهِ لِطَلَبِ الإِْكْرَامِ - وَالإِْحْسَانِ إِلَيْهِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقِرَاءُ:
2 - الْقِرَاءُ مِنْ قَرَى الضَّيْفِ قِرَاءً وَقِرًى: أَضَافَهُ إِلَيْهِ
وَأَطْعَمَهُ.
ب - الْخَفَرُ:
3 - يُقَال: خَفَرَ بِالْعَهْدِ يَخْفِرُ إِذَا وَفَّى بِهِ، وَخَفَرْتُ
الرَّجُل حَمَيْتُهُ وَأَجَرْتُهُ مِنْ طَالِبِهِ، وَخَفَرَ بِالرَّجُل
إِذَا غَدَرَ بِهِ (3) .
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، ابن عابدين 2 / 121.
(2) القليوبي 3 / 298، حاشية ابن عابدين 2 / 121، وحاشية البجيرمي 3 / 392.
(3) المصباح المنير.
(28/316)
ج - الإِْجَارَةُ:
4 - الإِْجَارَةُ مِنْ أَجَارَ الرَّجُل إِجَارَةً: إِذَا أَمَّنَهُ
وَخَفَرَ بِهِ، وَعَلَيْهِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - تُعْتَبَرُ الضِّيَافَةُ مِنْ مَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ، وَسُنَّةِ
الْخَلِيل عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالأَْنْبِيَاءِ بَعْدَهُ،
وَقَدْ رَغَّبَ فِيهَا الإِْسْلاَمُ، وَعَدَّهَا مِنْ أَمَارَاتِ صِدْقِ
الإِْيمَانِ (1) .
فَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَال: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَلْيُكْرِمْ
ضَيْفَهُ (2) ، وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ خَيْرَ
فِيمَنْ لاَ يُضِيفُ (3) ، وَقَال عَلَيْهِ السَّلَامُ: الضِّيَافَةُ
ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ وَجَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَلاَ يَحِل
لِمُسْلِمٍ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ أَخِيهِ حَتَّى يُؤَثِّمَهُ، قَالُوا: يَا
رَسُول اللَّهِ وَكَيْفَ يُؤَثِّمُهُ؟ قَال: يُقِيمُ عِنْدَهُ لاَ شَيْءَ
لَهُ يُقْرِيهِ بِهِ (4) .
وَهِيَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
__________
(1) إحياء علوم الدين 2 / 12، ابن عابدين 5 / 196.
(2) حديث: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ". أخرجه البخاري
10 / 532، ومسلم 1 / 68، من حديث أبي هريرة.
(3) حديث: " لا خير فيمن لا يضيف ". أخرجه أحمد 4 / 155، من حديث عقبة بن
عامر، وأشار العراقي إلى تضعيفه في تخريجه لإحياء علوم الدين 2 / 12.
(4) حديث: " الضيافة ثلاثة أيام ". أخرجه مسلم 3 / 1353 من حديث أبي شريح
الخزاعي.
(28/316)
وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ
الضِّيَافَةَ سُنَّةٌ، وَمُدَّتُهَا ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ
عَنْ أَحْمَدَ.
وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ - وَهِيَ الْمَذْهَبُ - أَنَّهَا
وَاجِبَةٌ، وَمُدَّتُهَا يَوْمٌ لَيْلَةٌ، وَالْكَمَال ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ.
وَبِهَذَا يَقُول اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وُجُوبَ الضِّيَافَةِ فِي حَالَةِ الْمُجْتَازِ
الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُبَلِّغُهُ وَيَخَافُ الْهَلاَكَ.
وَالضِّيَافَةُ عَلَى أَهْل الْقُرَى وَالْحَضَرِ، إِلاَّ مَا جَاءَ عَنِ
الإِْمَامِ مَالِكٍ وَالإِْمَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ لَيْسَ
عَلَى أَهْل الْحَضَرِ ضِيَافَةٌ، وَقَال سَحْنُونٌ: الضِّيَافَةُ عَلَى
أَهْل الْقُرَى، وَأَمَّا أَهْل الْحَضَرِ فَإِنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا
قَدِمَ الْحَضَرَ وَجَدَ نُزُلاً - وَهُوَ الْفُنْدُقُ - فَيَتَأَكَّدُ
النَّدْبُ إِلَيْهَا وَلاَ يَتَعَيَّنُ عَلَى أَهْل الْحَضَرِ تَعَيُّنَهَا
عَلَى أَهْل الْقُرَى لَمَعَانٍ:
أَحَدُهَا:
أَنَّ ذَلِكَ يَتَكَرَّرُ عَلَى أَهْل الْحَضَرِ، فَلَوِ الْتَزَمَ أَهْل
الْحَضَرِ الضِّيَافَةَ لَمَا خَلَوْا مِنْهَا، وَأَهْل الْقُرَى يَنْدُرُ
ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَلاَ تَلْحَقُهُمْ مَشَقَّةٌ.
ثَانِيهَا:
أَنَّ الْمُسَافِرَ يَجِدُ فِي الْحَضَرِ الْمَسْكَنَ وَالطَّعَامَ، فَلاَ
تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ لِعَدَمِ الضِّيَافَةِ، وَحُكْمُ الْقُرَى
الْكِبَارِ الَّتِي تُوجَدُ فِيهَا الْفَنَادِقُ وَالْمَطَاعِمُ
لِلشِّرَاءِ وَيَكْثُرُ تَرْدَادُ
(28/317)
النَّاسِ عَلَيْهَا حُكْمُ الْحَضَرِ،
وَهَذَا فِيمَنْ لاَ يَعْرِفُهُ الإِْنْسَانُ، وَأَمَّا مَنْ يَعْرِفُهُ
مَعْرِفَةَ مَوَدَّةٍ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ أَوْ صِلَةٌ
وَمُكَارَمَةٌ، فَحُكْمُهُ فِي الْحَضَرِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ (1) .
آدَابُ الضِّيَافَةِ:
آدَابُ الْمُضِيفِ:
6 - يُسْتَحَبُّ لِلْمُضِيفِ إِينَاسُ الضَّيْفِ بِالْحَدِيثِ الطَّيِّبِ
وَالْقَصَصِ الَّتِي تَلِيقُ بِالْحَال، لأَِنَّ مِنْ تَمَامِ الإِْكْرَامِ
طَلاَقَةَ الْوَجْهِ وَطِيبَ الْحَدِيثِ عِنْدَ الْخُرُوجِ وَالدُّخُول
لِيَحْصُل لَهُ الاِنْبِسَاطُ، وَلاَ يَتَكَلَّفُ مَا لاَ يُطِيقُ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا وَأَتْقِيَاءُ
أُمَّتِي بُرَآءُ مِنَ التَّكَلُّفِ (2) وَأَنْ يَقُول لِلضَّيْفِ
أَحْيَانًا: " كُل " مِنْ غَيْرِ إِلْحَاحٍ، وَأَلاَّ يُكْثِرَ السُّكُوتَ
عِنْدَ الضَّيْفِ، وَأَنْ لاَ يَغِيبَ عَنْهُ، وَلاَ يَنْهَرَ خَادِمَهُ
بِحَضْرَتِهِ، وَأَنْ يَخْدُمَهُ بِنَفْسِهِ، وَأَلاَّ يُجْلِسَهُ مَعَ
مَنْ يَتَأَذَّى بِجُلُوسِهِ أَوْ لاَ يَلِيقُ لَهُ الْجُلُوسُ مَعَهُ،
وَأَنْ يَأْذَنَ لَهُ بِالْخُرُوجِ إِذَا اسْتَأْذَنَهُ وَأَنْ
__________
(1) عمدة القاري 22 / 111، 173، 13 / 8، وفتح الباري 5 / 108، وفتاوى
قاضيخان بهامش الهندية 3 / 401، والمنتقى للباجي 7 / 242، 243، نهاية
المحتاج 6 / 376، الإنافة في الصدقة والضيافة لابن حجر الهيثمي ص 87،
المغني 8 / 603 (ط. الرياض) ، أحكام أهل الذمة لابن القيم 2 / 783 وما
بعدها.
(2) حديث: " أنا وأتقياء أمتي. . . . ". أورده الشوكاني في الفوائد
المجموعة ص 86، وقال: قال النووي: ليس بثابت، وقال في المقاصد: روى معناه
بسند ضعيف.
(28/317)
يَخْرُجَ مَعَهُ إِلَى بَابِ الدَّارِ
تَتْمِيمًا لإِِكْرَامِهِ وَأَنْ يَأْخُذَ بِرِكَابِ ضَيْفِهِ إِذَا
أَرَادَ الرُّكُوبَ.
آدَابُ الضَّيْفِ:
7 - مِنْ آدَابِ الضَّيْفِ أَنْ يَجْلِسَ حَيْثُ يُجْلَسُ، وَأَنْ يَرْضَى
بِمَا يُقَدَّمُ إِلَيْهِ، وَأَلاَّ يَقُومَ إِلاَّ بِإِذْنِ الْمُضِيفِ،
وَأَنْ يَدْعُوَ لِلْمُضِيفِ بِدُعَاءِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُول: أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ،
وَأَكَل طَعَامَكُمُ الأَْبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ
(1) .
مَقَامُ الضَّيْفِ عِنْدَ الْمُضِيفِ:
8 - مَنْ نَزَل ضَيْفًا فَلاَ يَزِيدُ مُقَامَهُ عِنْدَ الْمُضِيفِ عَلَى
ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا زَادَ فَصَدَقَةٌ (2) لِئَلاَّ
يَتَبَرَّمَ بِهِ وَيَضْطَرَّ لإِِخْرَاجِهِ، إِلاَّ إِنْ أَلَحَّ عَلَيْهِ
رَبُّ الْمَنْزِل بِالْمُقَامِ عِنْدَهُ عَنْ خُلُوصِ قَلْبٍ فَلَهُ
الْمُقَامُ.
أَكْل طَعَامِ الضِّيَافَةِ:
9 - يَأْكُل الْمُضِيفُ مِمَّا قُدِّمَ لَهُ بِلاَ لَفْظٍ اكْتِفَاءً
بِالْقَرِينَةِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمُضِيفُ يَنْتَظِرُ غَيْرَهُ مِنَ
__________
(1) حديث: " أفطر عندكم الصائمون. . . ". أخرجه أبو داود 4 / 189 من حديث
أنس، وصححه ابن حجر كما في الفتوحات لابن علان 4 / 343.
(2) حديث: " الضيافة ثلاثة أيام. . . ". أخرجه البخاري 10 / 531، ومسلم 3 /
1353 من حديث أبي شريح.
(28/318)
الضُّيُوفِ، فَلاَ يَجُوزُ حِينَئِذٍ
الأَْكْل إِلاَّ بِإِذْنِ الْمُضِيفِ، وَلاَ يَأْكُل مِنَ الطَّعَامِ
إِلاَّ بِالْمِقْدَارِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعُرْفُ، مَا لَمْ يَعْلَمْ
رِضَا الْمُضِيفِ، وَلاَ يَتَصَرَّفُ بِهِ إِلاَّ بِأَكْلٍ، لأَِنَّهُ
الْمَأْذُونُ لَهُ فِيهِ، فَلاَ يُطْعِمُ سَائِلاً، وَلاَ هِرَّةً، وَلَهُ
أَخْذُ مَا يَعْلَمُ رِضَاهُ، لأَِنَّ الْمَدَارَ عَلَى طِيبِ نَفْسِ
الْمَالِكِ، فَإِذَا دَلَّتِ الْقَرِينَةُ عَلَى ذَلِكَ حَل.
وَتَخْتَلِفُ قَرَائِنُ الرِّضَى فِي ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ الأَْمْوَال،
وَمَقَادِيرِهَا (1) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّ الضَّيْفَ لاَ يَضْمَنُ مَا قُدِّمَ لَهُ
مِنْ طَعَامٍ إِنْ تَلِفَ بِلاَ تَعَدٍّ مِنْهُ، كَمَا لاَ يَضْمَنُ
إِنَاءَهُ وَحَصِيرًا يَجْلِسُ عَلَيْهِ وَنَحْوَهُ، سَوَاءٌ قَبْل
الأَْكْل، أَوْ بَعْدَهُ، وَلاَ يَلْزَمُهُ دَفْعُ هِرَّةٍ عَنْهُ،
وَيَضْمَنُ إِنَاءً حَمَلَهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ (2) .
اشْتِرَاطُ الضِّيَافَةِ فِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ:
10 - يَجُوزُ بَل يُسْتَحَبُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنْ يَشْتَرِطَ
الإِْمَامُ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ ضِيَافَةَ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ زَائِدًا عَلَى أَقَل الْجِزْيَةِ إِذَا صُولِحُوا فِي
بَلَدِهِمْ، وَيَجْعَل الضِّيَافَةَ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْمُتَوَسِّطِ،
لاَ الْفَقِيرِ، وَيَذْكُرُ وُجُوبًا فِي الْعَقْدِ: عَدَدَ الضِّيفَانِ،
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 344، إحياء علوم الدين 2 / 12 وما بعده، حاشية
البجيرمي 3 / 393، نهاية المحتاج 6 / 376، القليوبي 3 / 298، كشاف القناع 5
/ 180، مواهب الجليل 4 / 5.
(2) حاشية البجيرمي على الخطيب 3 / 393 - 394.
(28/318)
وَعَدَدَ أَيَّامِ الضِّيَافَةِ، وَقَدْرَ
الإِْقَامَةِ فِيهِمْ، وَجِنْسَ الطَّعَامِ، وَالأُْدْمِ، وَقَدْرَهُمَا،
وَعَلَفَ الدَّوَابِّ إِنْ كَانُوا فُرْسَانًا، وَمَنْزِل الضُّيُوفِ مِنْ
كَنِيسِهِ، وَفَاضِل مَسْكَنٍ، وَلاَ يَزِيدُ مُقَامُهُمْ عَلَى ثَلاَثَةِ
أَيَّامٍ. وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْل أَيْلَةَ عَلَى ثَلاَثِمِائَةِ دِينَارٍ،
وَعَلَى ضِيَافَةِ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (1) . فَإِنْ
لَمْ يَشْتَرِطْهَا عَلَيْهِمْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ، لأَِنَّهُ أَدَاءُ
مَالٍ، فَلَمْ يَجِبْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ (2) .
__________
(1) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: " صالح أهل أيلة. . . ". أخرجه
البيهقي 9 / 195 من حديث ابن الحويرث مرسلاً.
(2) جواهر الإكليل 1 / 267، البجيرمي 4 / 236، نهاية المحتاج 8 / 94 - 95،
القليوبي 4 / 233، المغني 8 / 505.
(28/319)
|