الموسوعة
الفقهية الكويتية طِلاَءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الطِّلاَءِ - بِكَسْرِ الطَّاءِ وَبِالْمَدِّ - فِي
اللُّغَةِ: الشَّرَابُ الْمَطْبُوخُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ، وَهُوَ
الرُّبُّ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الأَْثِيرِ، وَأَصْلُهُ الْقَطِرَانُ
الْخَاثِرُ الَّذِي تُطْلَى بِهِ الإِْبِل (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الطِّلاَءُ: هُوَ الْعَصِيرُ يُطْبَخُ بِالنَّارِ
أَوِ الشَّمْسِ حَتَّى يَذْهَبَ أَقَل مِنْ ثُلُثَيْهِ، وَيَصِيرُ
مُسْكِرًا (2) . وَقِيل: مَا طُبِخَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ حَتَّى ذَهَبَ
ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ وَصَارَ مُسْكِرًا. قَال التُّمُرْتَاشِيُّ:
وَهُوَ الصَّوَابُ. (3)
وَيُسَمَّى الطِّلاَءُ أَيْضًا بِالْمُثَلَّثِ، يَقُول الزَّيْلَعِيُّ:
الْمُثَلَّثُ مَا طُبِخَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ،
وَيَبْقَى الثُّلُثُ. (4)
وَقَال الْحَصْكَفِيُّ نَقْلاً عَنِ الشُّرُنْبُلاَلِيَّةِ: وَسُمِّيَ
بِالطِّلاَءِ لِقَوْل عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
__________
(1) لسان العرب مادة (طلى) .
(2) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 5 / 290.
(3) تنوير الأبصار مع الدر المختار على هامش ابن عابدين 5 / 290، ويقول
الحصكفي: في وجه التصويب إن الأول يسمى الباذق. (نفس المرجع) .
(4) تبيين الحقائق على الكنز للزيلعي 4 / 46 وانظر البدائع 5 / 112.
(28/356)
مَا أَشْبَهَ هَذَا بِطِلاَءِ الْبَعِيرِ،
وَهُوَ الْقَطِرَانُ الَّذِي يُطْلَى بِهِ الْبَعِيرُ الْجَرْبَانُ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخَمْرُ: -
2 - الْخَمْرُ: هِيَ النَّيِّءُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إِذَا غَلَى
وَاشْتَدَّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ:
وَقَذَفَا بِالزَّبَدِ، وَتُطْلَقُ الْخَمْرُ أَيْضًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ
عَلَى كُل مَا يُسْكِرُ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ مَاءِ الْعِنَبِ (2) .
ب - الْبَاذِقُ وَالْمُنَصَّفُ:
3 - الْبَاذِقُ: هُوَ الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةً مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ
حَتَّى ذَهَبَ أَقَل مِنْ ثُلُثَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الذَّاهِبُ قَلِيلاً
أَمْ كَثِيرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَصِل ثُلُثَيْهِ.
وَالْمُنَصَّفُ مِنْهُ مَا ذَهَبَ نِصْفُهُ (3) .
ج - نَقِيعُ الزَّبِيبِ:
4 - نَقِيعُ الزَّبِيبِ: هُوَ النَّيِّءُ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ، بِأَنْ
يُتْرَكَ الزَّبِيبُ فِي الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ طَبْخٍ حَتَّى تَخْرُجَ
حَلاَوَتُهُ إِلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَشْتَدَّ وَيَغْلِيَ (4) .
__________
(1) الدر المختار بهامش رد المحتار 5 / 290، وانظر الزيلعي 6 / 45.
(2) ابن عابدين 5 / 288، والزيلعي 6 / 45، 46، والموسوعة الفقهية 5 / 12
مصطلح (أشربه ف 4) .
(3) ابن عابدين 5 / 290، والزيلعي 6 / 45.
(4) الزيلعي 6 / 45، وابن عابدين 5 / 289، 290.
(28/357)
د - السُّكَّرُ:
5 - السُّكَّرُ: هُوَ النَّيِّءُ مِنْ مَاءِ الرُّطَبِ إِذَا اشْتَدَّ
وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، قَال الزَّيْلَعِيُّ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ سَكِرَتِ
الرِّيحُ إِذَا سَكَنَتْ (1) .
وَهُنَاكَ أَنْوَاعٌ أُخْرَى مِنَ الأَْشْرِبَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ
الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَغَيْرِهِمَا لَهَا أَسْمَاءٌ أُخْرَى
مُخْتَلِفَةٌ، يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (أَشْرِبَة) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) إِلَى أَنَّ
الأَْشْرِبَةَ الْمُسْكِرَةَ كُلَّهَا حَرَامٌ، وَقَالُوا: كُل مَا
أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَ (2)
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُل
خَمْرٍ حَرَامٌ. (3) وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
سُئِل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِتْعِ وَهُوَ
نَبِيذُ الْعَسَل، وَكَانَ أَهْل الْيَمَنِ يَشْرَبُونَهُ، فَقَال: كُل
شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ. (4) وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ
__________
(1) نفس المراجع.
(2) تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 46، والموسوعة الفقهية مصطلح (أشربة) .
(3) حديث: " كل مسكر خمر. . ". أخرجه مسلم (3 / 1587) من حديث ابن عمر.
(4) حديث عائشة: " كل شراب أسكر فهو حرام. . " أخرجه البخاري (10 / 41) ،
ومسلم (3 / 1585، 1586) .
(28/357)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ.
(1) وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى الطِّلاَءِ
بِالتَّفْسِيرِ الثَّانِي، وَهُوَ مَا طُبِخَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ حَتَّى
ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَإِذَا كَثُرَ مِنْهُ أَسْكَرَ وَهُوَ الْمُسَمَّى
بِالْمُثَلَّثِ حَلاَلٌ، وَلاَ يَحْرُمُ مِنْهُ إِلاَّ الْقَدَحُ
الأَْخِيرُ الَّذِي يَحْصُل بِهِ الإِْسْكَارُ، أَمَّا مَا ذَهَبَ أَقَل
مِنْ ثُلُثَيْهِ فَحَرَامٌ بِالإِْجْمَاعِ (2) .
7 - وَمَحَل حِل الْمُثَلَّثِ عِنْدَهُمَا لِلتَّدَاوِي وَاسْتِمْرَاءِ
الطَّعَامِ وَالتَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: فِي الْمُثَلَّثِ: لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ مَا دَامَ
حُلْوًا لاَ يُسْكِرُ يَحِل شُرْبُهُ، وَأَمَّا الْمُعَتَّقُ الْمُسْكِرُ
فَيَحِل شُرْبُهُ لِلتَّدَاوِي وَاسْتِمْرَاءِ الطَّعَامِ وَالتَّقَوِّي
عَلَى الطَّاعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَأَجْمَعُوا
عَلَى أَنَّهُ لاَ يَحِل شُرْبُهُ لِلَّهْوِ وَالطَّرَبِ، (3) لَكِنَّ
الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنَ الْحُرْمَةِ، وَذَلِكَ لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ فِي
زَمَانِنَا، كَمَا حَرَّرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ وَالزَّيْلَعِيُّ (4) .
__________
(1) حديث ابن عمر: " ما أسكر كثيره فقليله حرام. . . " أخرجه ابن ماجه (2 /
1125) ، وصححه ابن حجر في الفتح (10 / 43) .
(2) الزيلعي 6 / 46، 47، وابن عابدين وبهامشه الدر المختار 5 / 290، 292،
293.
(3) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني 5 / 116، وتبيين الحقائق
للزيلعي 6 / 46.
(4) ابن عابدين 5 / 292، 293، وتبيين الحقائق للزيلعي 6 / 47.
(28/358)
وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ. (1)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل الأَْشْرِبَةِ وَأَنْوَاعِهَا فِي مُصْطَلَحِ
(أَشْرِبَة) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 304 - 305.
(28/358)
طَلاَقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الطَّلاَقُ فِي اللُّغَةِ: الْحَل وَرَفْعُ الْقَيْدِ، وَهُوَ اسْمٌ
مَصْدَرُهُ التَّطْلِيقُ، وَيُسْتَعْمَل اسْتِعْمَال الْمَصْدَرِ،
وَأَصْلُهُ: طَلُقَتِ الْمَرْأَةُ تَطْلُقُ فَهِيَ طَالِقٌ بِدُونِ هَاءٍ،
وَرُوِيَ بِالْهَاءِ (طَالِقَةٌ) إِذَا بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا،
وَيُرَادِفُهُ الإِْطْلاَقُ، يُقَال: طَلَّقْتُ وَأَطْلَقْتُ بِمَعْنَى
سَرَّحْتُ، وَقِيل: الطَّلاَقُ لِلْمَرْأَةِ إِذَا طَلُقَتْ،
وَالإِْطْلاَقُ لِغَيْرِهَا إِذَا سُرِّحَ، فَيُقَال: طَلَّقْتُ
الْمَرْأَةَ، وَأَطْلَقْتُ الأَْسِيرَ، وَقَدِ اعْتَمَدَ الْفُقَهَاءُ
هَذَا الْفَرْقَ، فَقَالُوا: بِلَفْظِ الطَّلاَقِ يَكُونُ صَرِيحًا،
وَبِلَفْظِ الإِْطْلاَقِ يَكُونُ كِنَايَةً.
وَجَمْعُ طَالِقٍ طُلَّقٌ، وَطَالِقَةٌ تُجْمَعُ عَلَى طَوَالِقَ، وَإِذَا
أَكْثَرَ الزَّوْجُ الطَّلاَقَ كَانَ مِطْلاَقًا وَمِطْلِيقًا، وَطَلِقَةً
(1) . وَالطَّلاَقُ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: رَفْعُ قَيْدِ
النِّكَاحِ فِي الْحَال أَوِ الْمَآل بِلَفْظٍ مَخْصُوصٍ أَوْ مَا يَقُومُ
مَقَامَهُ (2) .
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح، والمغرب والقاموس، والدر المختار 3 /
226.
(2) الدر المختار 3 / 226 - 227، وانظر الشرح الكبير 2 / 347، والمغني 7 /
296، ومغني المحتاج 3 / 279.
(29/5)
وَالْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ هُنَا:
النِّكَاحُ الصَّحِيحُ خَاصَّةً، فَلَوْ كَانَ فَاسِدًا لَمْ يَصِحَّ فِيهِ
الطَّلاَقُ، وَلَكِنْ يَكُونُ مُتَارَكَةً أَوْ فَسْخًا.
وَالأَْصْل فِي الطَّلاَقِ أَنَّهُ مِلْكُ الزَّوْجِ وَحْدَهُ، وَقَدْ
يَقُومُ بِهِ غَيْرُهُ بِإِنَابَتِهِ، كَمَا فِي الْوَكَالَةِ
وَالتَّفْوِيضِ، أَوْ بِدُونِ إِنَابَةٍ، كَالْقَاضِي فِي بَعْضِ
الأَْحْوَال، قَال الشِّرْبِينِيُّ فِي تَعْرِيفِ الطَّلاَقِ نَقْلاً عَنِ
التَّهْذِيبِ: تَصَرُّفٌ مَمْلُوكٌ لِلزَّوْجِ يُحْدِثُهُ بِلاَ سَبَبٍ،
فَيَقْطَعُ النِّكَاحَ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْفَسْخُ:
2 - الْفَسْخُ فِي اللُّغَةِ: النَّقْضُ وَالإِْزَالَةُ (2) . وَفِي
الاِصْطِلاَحِ: حَل رَابِطَةِ الْعَقْدِ (3) ، وَبِهِ تَنْهَدِمُ آثَارُ
الْعَقْدِ وَأَحْكَامُهُ الَّتِي نَشَأَتْ عَنْهُ.
وَبِهَذَا يُقَارِبُ الطَّلاَقَ، إِلاَّ أَنَّهُ يُخَالِفُهُ فِي أَنَّ
الْفَسْخَ نَقْضٌ لِلْعَقْدِ الْمُنْشِئِ لِهَذِهِ الآْثَارِ، أَمَّا
الطَّلاَقُ فَلاَ يَنْقُضُ الْعَقْدَ، وَلَكِنْ يُنْهِي آثَارَهُ فَقَطْ.
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 279.
(2) المصباح المنير، ومختار الصحاح، والقاموس، والمغرب.
(3) الأشباه والنظائر والنظائر لابن نجيم في هامش حاشية الحموي عليه 2 /
195.
(29/5)
الْمُتَارَكَةُ:
3 - الْمُتَارَكَةُ فِي اللُّغَةِ: الرَّحِيل وَالْمُفَارَقَةُ مُطْلَقًا،
ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ لِلإِْسْقَاطِ فِي الْمَعَانِي، يُقَال: تَرَكَ
حَقَّهُ إِذَا أَسْقَطَهُ (1) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَرْكُ الرَّجُل
الْمَرْأَةَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ قَبْل الدُّخُول أَوْ
بَعْدَهُ، وَالتَّرْكُ بَعْدَ الدُّخُول لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالْقَوْل
عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، كَقَوْلِهِ لَهَا: خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ،
أَوْ تَرَكْتُكِ، وَكَذَلِكَ قَبْل الدُّخُول فِي الأَْصَحِّ.
وَالْمُتَارَكَةُ تُوَافِقُ الطَّلاَقَ مِنْ وَجْهٍ وَتُخَالِفُهُ مِنْ
وَجْهٍ، تُوَافِقُهُ فِي حَقِّ إِنْهَاءِ آثَارِ النِّكَاحِ، وَفِي
أَنَّهَا حَقُّ الرَّجُل وَحْدَهُ، وَتُخَالِفُهُ فِي أَنَّهَا لاَ
تُحْسَبُ عَلَيْهِ وَاحِدَةً، وَأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْعَقْدِ
الْفَاسِدِ، وَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ، أَمَّا الطَّلاَقُ فَمَخْصُوصٌ
بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ (2) .
الْخُلْعُ:
4 - الْخُلْعُ فِي اللُّغَةِ: النَّزْعُ، وَخَالَعَتِ الْمَرْأَةُ
زَوْجَهَا مُخَالَعَةً وَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ إِذَا افْتَدَتْ مِنْهُ
وَطَلَّقَهَا عَلَى الْفِدْيَةِ، وَالْمَصْدَرُ الْخَلْعُ، وَالْخُلْعُ
اسْمٌ (3) . وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ: إِزَالَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح.
(2) ابن عابدين على الدر المختار 3 / 134.
(3) المصباح المنير، ومختار الصحاح، والمغرب.
(29/6)
بِلَفْظِ الْخُلْعِ، أَوْ مَا فِي
مَعْنَاهُ مُقَابِل عِوَضٍ تَلْتَزِمُ بِهِ الزَّوْجَةُ أَوْ غَيْرُهَا
لِلزَّوْجِ (1) . وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُفْتَى بِهِ،
وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ، وَالْحَنَابِلَةُ
فِي رِوَايَةٍ: إِلَى أَنَّ الْخُلْعَ طَلاَقٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَشْهَرِ مَا
يُرْوَى عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ فَسْخٌ (2) .
التَّفْرِيقُ:
5 - التَّفْرِيقُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ فَرَّقَ، وَفِعْلُهُ
الثُّلاَثِيُّ فَرَقَ، يُقَال: فَرَقْتُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِل، أَيْ
فَصَلْتُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ فِي الْمَعَانِي بِالتَّخْفِيفِ، يُقَال:
فَرَقْتُ بَيْنَ الْكَلاَمَيْنِ، وَبِالتَّشْدِيدِ فِي الأَْعْيَانِ،
يُقَال: فَرَّقْتُ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ، قَالَهُ ابْنُ الأَْعْرَابِيِّ
وَالْخَطَّابِيُّ. وَقَال غَيْرُهُمَا: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ،
وَالتَّشْدِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ (3) . وَالتَّفْرِيقُ فِي اصْطِلاَحِ
الْفُقَهَاءِ: إِنْهَاءُ الْعَلاَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ
بِحُكْمِ الْقَاضِي
__________
(1) الدر المختار 2 / 860، وبداية المجتهد 2 / 72، ومنح الجليل 2 / 182،
ومغني المحتاج 2 / 262 والدسوقي على الشرح الكبير 2 / 347.
(2) بدائع الصنائع 3 / 152، والدسوقي 2 / 351، وبداية المجتهد 2 / 75،
والمغني مع الشرح الكبير 8 / 180 - 181، والإقناع 3 / 54، ومغني المحتاج 3
/ 268، وروضة الطالبين 7 / 375.
(3) المصباح المنير، ومختار الصحاح، والمغرب.
(29/6)
بِنَاءً عَلَى طَلَبِ أَحَدِهِمَا
لِسَبَبٍ، كَالشِّقَاقِ وَالضَّرَرِ وَعَدَمِ الإِْنْفَاقِ. . أَوْ بِدُونِ
طَلَبٍ مِنْ أَحَدٍ حِفْظًا لِحَقِّ الشَّرْعِ، كَمَا إِذَا ارْتَدَّ
أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ.
وَمَا يَقَعُ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي: طَلاَقٌ بَائِنٌ فِي أَحْوَالٍ،
وَفَسْخٌ فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى، وَهُوَ طَلاَقٌ رَجْعِيٌّ فِي بَعْضِ
الأَْحْوَال (1) .
الإِْيلاَءُ:
6 - الإِْيلاَءُ فِي اللُّغَةِ الْحَلِفُ، مِنْ آلَى يُؤْلِي إِيلاَءً،
يُجْمَعُ عَلَى أَلاَيَا (2) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ: حَلِفُ الزَّوْجِ
عَلَى تَرْكِ قُرْبِ زَوْجَتِهِ مُدَّةً مَخْصُوصَةً (3) . وَقَدْ حَدَّدَ
الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فِي قَوْله تَعَالَى:
{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}
(4) فَإِذَا انْقَضَتِ الأَْشْهُرُ الأَْرْبَعَةُ بِغَيْرِ قُرْبٍ مِنْهُ
لَهَا طَلُقَتْ مِنْهُ بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَاسْتَحَقَّتِ الطَّلاَقَ مِنْهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، حَيْثُ تَرْفَعُهُ الزَّوْجَةُ
لِلْقَاضِي لِيُخَيِّرَهُ بَيْنَ الْقُرْبِ وَالْفِرَاقِ، فَإِنْ قَرِبَهَا
انْحَل الإِْيلاَءُ، وَإِنْ رَفَضَ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا
بِطَلْقَةٍ (5) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 396، والزرقاني 5 / 242.
(2) المصباح المنير، ومختار الصحاح، والمغرب.
(3) اللباب على القدوري 2 / 240، والدار المختار 2 / 245 ط. أولى.
(4) الآية / 226 / من سورة البقرة.
(5) المغني 7 / 498، ومغني المحتاج 3 / 348.
(29/7)
اللِّعَانُ:
7 - اللَّعْنُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرْدُ وَالإِْبْعَادُ مِنَ الْخَيْرِ،
وَالْمِسَبَّةُ، يُقَال: لَعَنَهُ لَعْنًا، وَلاَعَنَهُ مُلاَعَنَةً،
وَلِعَانًا، وَتَلاَعَنُوا، إِذَا لَعَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا (1) . وَفِي
اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: عَرَّفَهُ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: بِأَنَّهُ
اسْمٌ لِمَا يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الشَّهَادَاتِ
بِالأَْلْفَاظِ الْمَعْرُوفَةِ (2) . وَقَدْ سُمِّيَ بِاللِّعَانِ لِمَا
فِي قَوْل الزَّوْجِ فِي الأَْيْمَانِ: إِنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ
إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَذَلِكَ وَفْقًا لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:
{وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ
إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ
بِاَللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ
اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (3) . وَالتَّحْرِيمُ
بَعْدَ اللِّعَانِ بَيْنَ الْمُتَلاَعِنَيْنِ يَكُونُ عَلَى التَّأْبِيدِ،
أَمَّا الطَّلاَقُ فَلَيْسَ بِالضَّرُورَةِ كَذَلِكَ.
الظِّهَارُ:
8 - الظِّهَارُ قَوْل الرَّجُل لاِمْرَأَتِهِ: " أَنْتِ عَلَيَّ
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح.
(2) فتح القدير 3 / 247.
(3) الآية / 6 - 7 من سورة النور.
(29/7)
كَظَهْرِ أُمِّي "، وَكَانَ عِنْدَ
الْعَرَبِ ضَرْبًا مِنَ الطَّلاَقِ (1) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَشْبِيهُ
الْمُسْلِمِ زَوْجَتَهُ أَوْ جُزْءًا شَائِعًا مِنْهَا بِمُحَرَّمٍ
عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ (2) كَأُمِّهِ وَأُخْتِهِ، بِخِلاَفِ زَوْجَةِ
الْغَيْرِ، فَإِنَّ حُرْمَتَهَا مُؤَقَّتَةٌ، وَيُسَمَّى الظِّهَارُ
بِذَلِكَ لِمَا غَلَبَ عَلَى الْمُظَاهِرَيْنِ مِنَ التَّشْبِيهِ بِظَهْرِ
الْمُحَرَّمِ، كَقَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ: " أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي
" وَإِنْ كَانَ الظِّهَارُ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِالتَّشْبِيهِ بِالظَّهْرِ.
وَلاَ تَفْرِيقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الظِّهَارِ، وَلَكِنْ يَحْرُمُ
بِهِ الْوَطْءُ وَدَوَاعِيهِ حَتَّى يُكَفِّرَ الْمُظَاهِرُ، فَإِنْ
كَفَّرَ حَلَّتْ لَهُ زَوْجَتُهُ بِالْعَقْدِ الأَْوَّل.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلطَّلاَقِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَصْل مَشْرُوعِيَّةِ الطَّلاَقِ،
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا:
1 - قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (3) .
2 - قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ
النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (4) .
__________
(1) المغرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح.
(2) تنوير الأبصار للتمرتاشي في هامش ابن عابدين 2 / 576 ط. أولى.
(3) الآية / 239 من سورة البقرة.
(4) الآية / 1 من سورة الطلاق.
(29/8)
3 - قَوْل الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا أَحَل اللَّهُ شَيْئًا أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنَ
الطَّلاَقِ (1) .
4 - حَدِيثُ عُمَرَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ طَلَّقَ حَفْصَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا (2) .
5 - حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي حَيْضِهَا،
فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بِارْتِجَاعِهَا ثُمَّ طَلاَقِهَا بَعْدَ طُهْرِهَا، إِنْ شَاءَ (3) .
6 - إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ - لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ
اخْتَلَفُوا فِي الْحُكْمِ الأَْصْلِيِّ لِلطَّلاَقِ: فَذَهَبَ
الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الأَْصْل فِي الطَّلاَقِ الإِْبَاحَةُ، وَقَدْ
يَخْرُجُ عَنْهَا فِي أَحْوَالٍ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الأَْصْل فِيهِ الْحَظْرُ، وَيَخْرُجُ عَنِ
الْحَظْرِ فِي أَحْوَالٍ. وَعَلَى كُلٍّ فَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ فِي
النِّهَايَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعْتَرِيهِ الأَْحْكَامُ؛ فَيَكُونُ مُبَاحًا
أَوْ مَنْدُوبًا أَوْ وَاجِبًا،
__________
(1) حديث " ما أحل الله شيئًا أبغض إليه من الطلاق ". أخرجه أبو داود (2 /
361) من حديث محارب بن دثار مرسلا، ثم ذكره (2 / 631 - 632) من حديث ابن
عمر موصولا بلفظ مقارب، ورجح غير واحد من العلماء إرساله كما في التلخيص
لابن حجر (3 / 205) .
(2) حديث عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " طلق حفصة ثم راجعها. . . .
". أخرجه أبو داود (2 / 712) والحاكم (2 / 197) وصححه الحاكم ووافقه
الذهبي.
(3) حديث ابن عمر " أنه طلق زوجته في حيضها. . . " أخرجه البخاري فتح
الباري (9 / 345) ومسلم (2 / 1094) .
(29/8)
كَمَا يَكُون مَكْرُوهًا أَوْ حَرَامًا (1)
، وَذَلِكَ بِحَسَبِ الظُّرُوفِ وَالأَْحْوَال الَّتِي تُرَافِقُهُ،
بِحَسَبِ مَا يَلِي: -
1 - فَيَكُونُ وَاجِبًا كَالْمُولِي إِذَا أَبَى الْفَيْئَةَ إِلَى
زَوْجَتِهِ بَعْدَ التَّرَبُّصِ، عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، أَمَّا
الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنَّهُمْ يُوقِعُونَ الْفُرْقَةَ بِانْتِهَاءِ
الْمُدَّةِ حُكْمًا، وَكَطَلاَقِ الْحَكَمَيْنِ فِي الشِّقَاقِ إِذَا
تَعَذَّرَ عَلَيْهِمَا التَّوْفِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَرَأَيَا
الطَّلاَقَ، عِنْدَ مَنْ يَقُول بِالتَّفْرِيقِ لِذَلِكَ.
2 - وَيَكُونُ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ إِذَا فَرَّطَتِ الزَّوْجَةُ فِي
حُقُوقِ اللَّهِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهَا - مِثْل الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا -
وَكَذَلِكَ يُنْدَبُ الطَّلاَقُ لِلزَّوْجِ إِذَا طَلَبَتْ زَوْجَتُهُ
ذَلِكَ لِلشِّقَاقِ.
3 - وَيَكُونُ مُبَاحًا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِدَفْعِ سُوءِ خُلُقِ
الْمَرْأَةِ وَسُوءِ عِشْرَتِهَا، أَوْ لأَِنَّهُ لاَ يُحِبُّهَا.
4 - وَيَكُونُ مَكْرُوهًا إِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مِنْ دَاعٍ إِلَيْهِ
مِمَّا تَقَدَّمَ، وَقِيل: هُوَ حَرَامٌ فِي هَذِهِ الْحَال، لِمَا فِيهِ
مِنَ الإِْضْرَارِ بِالزَّوْجَةِ مِنْ غَيْرِ دَاعٍ إِلَيْهِ.
5 - وَيَكُونُ حَرَامًا وَهُوَ الطَّلاَقُ فِي الْحَيْضِ، أَوْ فِي طُهْرٍ
جَامَعَهَا فِيهِ، وَهُوَ
__________
(1) الدر المختار 3 / 227 - 228، وانظر المغني 7 / 296، ومغني المحتاج 3 /
279.
(29/9)
الطَّلاَقُ الْبِدْعِيُّ، وَسَوْفَ يَأْتِي
بَيَانُهُ. قَال الدَّرْدِيرُ: وَاعْلَمْ أَنَّ الطَّلاَقَ مِنْ حَيْثُ
هُوَ جَائِزٌ، وَقَدْ تَعْتَرِيهِ الأَْحْكَامُ الأَْرْبَعَةُ: مِنْ
حُرْمَةٍ وَكَرَاهَةٍ، وَوُجُوبٍ وَنَدْبٍ (1) .
حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الطَّلاَقِ:
10 - لَقَدْ نَبَّهَ الإِْسْلاَمُ الرِّجَال وَالنِّسَاءَ إِلَى حُسْنِ
اخْتِيَارِ الشَّرِيكِ وَالشَّرِيكَةِ فِي الزَّوَاجِ عِنْدَ الْخِطْبَةِ،
فَقَال النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَخَيَّرُوا
لِنُطَفِكُمْ وَانْكِحُوا الأَْكْفَاءَ وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ (2) .
وَقَال: لاَ تَزَوَّجُوا النِّسَاءَ لِحُسْنِهِنَّ، فَعَسَى حُسْنُهُنَّ
أَنْ يُرْدِيَهُنَّ، وَلاَ تَزَوَّجُوهُنَّ لأَِمْوَالِهِنَّ فَلَعَل
أَمْوَالَهُنَّ أَنْ تُطْغِيَهُنَّ وَلَكِنْ تَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى
الدِّينِ، وَلأََمَةٌ خَرْمَاءُ سَوْدَاءُ ذَاتُ دِينٍ، أَفْضَل (3)
وَقَال: تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَِرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا،
وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ
__________
(1) الدر المختار 3 / 227 - 229، والشرح الكبير 2 / 361، ومغني المحتاج 3 /
307، والمغني 7 / 296 - 297.
(2) حديث: " تخيروا لنطفكم وأنكحوا الأكفاء. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 /
633) من حديث عائشة، وأورده ابن حجر في الفتح (9 / 125) وأشار إلى أن فيه
مقالا، ثم عزاه إلى أبي نعيم من حديث عمر، ثم قال: ويقوى أحد الإسنادين
بالآخر.
(3) حديث: " لا تزوجوا النساء لحسنهن. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 597) من
حديث عبد الله بن عمرو، وفي إسناده راو ضعيف كما في ترجمته في الميزان
للذهبي (2 / 562) .
(29/9)
تَرِبَتْ يَدَاك (1) وَقَال لِلْمُغِيرَةِ
بْنِ شُعْبَةَ عِنْدَمَا خَطَبَ امْرَأَةً: انْظُرْ إِلَيْهَا؛ فَإِنَّهُ
أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا (2) . وَقَال: تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ
الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُْمَمَ (3) ، وَقَال
لأَِوْلِيَاءِ النِّسَاءِ: إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ
وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ، إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي
الأَْرْضِ وَفَسَادٌ (4) .
إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ - عَلَى أَهَمِّيَّتِهِ - قَدْ لاَ يَضْمَنُ
اسْتِمْرَارَ السَّعَادَةِ وَالاِسْتِقْرَارِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ،
فَرُبَّمَا قَصَّرَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي الأَْخْذِ بِمَا تَقَدَّمَ،
وَرُبَّمَا أَخَذَا بِهِ، وَلَكِنْ جَدَّ فِي حَيَاةِ الزَّوْجَيْنِ
الْهَانِئَيْنِ مَا يُثِيرُ بَيْنَهُمَا الْقَلاَقِل وَالشِّقَاقَ،
كَمَرَضِ أَحَدِهِمَا أَوْ عَجْزِهِ وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ
عَنَاصِرَ خَارِجَةٍ عَنِ الزَّوْجَيْنِ أَصْلاً، كَالأَْهْل وَالْجِيرَانِ
وَمَا إِلَى ذَلِكَ، وَرُبَّمَا كَانَ سَبَبُ
__________
(1) حديث: " تنكح المرأة لأربع. . . " أخرجه البخاري فتح الباري (9 / 132)
ومسلم (2 / 1086) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما " أخرجه الترمذي (3 /
388) وقال: حديث حسن.
(3) حديث: " تزوجوا الودود الولود. . . " أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4
/ 258) من حديث أنس، وقال: رواه أحمد والطبراني في الأوسط، وإسناده حسن.
(4) حديث: " إذا جاءكم من ترضون دينه. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 386) من
حديث أبي حاتم المزني وقال حديث حسن غريب.
(29/10)
ذَلِكَ انْصِرَافَ الْقَلْبِ
وَتَغَيُّرَهُ، فَيُبْدَأُ بِنُصْحِ الزَّوْجَيْنِ وَإِرْشَادِهِمَا إِلَى
الصَّبْرِ وَالاِحْتِمَال، وَبِخَاصَّةٍ إِذَا كَانَ التَّقْصِيرُ مِنَ
الزَّوْجَةِ، قَال تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ
كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَل اللَّهُ فِيهِ
خَيْرًا كَثِيرًا} (1) .
إِلاَّ أَنَّ مِثْل هَذَا الصَّبْرِ قَدْ لاَ يَتَيَسَّرُ لِلزَّوْجَيْنِ
أَوْ لاَ يَسْتَطِيعَانِهِ، فَرُبَّمَا كَانَتْ أَسْبَابُ الشِّقَاقِ
فَوْقَ الاِحْتِمَال، أَوْ كَانَا فِي حَالَةٍ نَفْسِيَّةٍ لاَ
تُسَاعِدُهُمَا عَلَى الصَّبْرِ، وَفِي هَذِهِ الْحَال: إِمَّا أَنْ
يَأْمُرَ الشَّرْعُ بِالإِْبْقَاءِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ مَعَ اسْتِمْرَارِ
الشِّقَاقِ الَّذِي قَدْ يَتَضَاعَفُ وَيُنْتَجُ عَنْهُ فِتْنَةٌ، أَوْ
جَرِيمَةٌ، أَوْ تَقْصِيرٌ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ عَلَى
الأَْقَل تَفْوِيتُ الْحِكْمَةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا شُرِعَ النِّكَاحُ،
وَهِيَ الْمَوَدَّةُ وَالأُْلْفَةُ وَالنَّسْل الصَّالِحُ، وَإِمَّا أَنْ
يَأْذَنَ بِالطَّلاَقِ وَالْفِرَاقِ، وَهُوَ مَا اتَّجَهَ إِلَيْهِ
التَّشْرِيعُ الإِْسْلاَمِيُّ، وَبِذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ الطَّلاَقَ قَدْ
يَتَمَحَّضُ طَرِيقًا لإِِنْهَاءِ الشِّقَاقِ وَالْخِلاَفِ بَيْنَ
الزَّوْجَيْنِ؛ لِيَسْتَأْنِفَ الزَّوْجَانِ بَعْدَهُ حَيَاتَهُمَا
مُنْفَرِدَيْنِ أَوْ مُرْتَبِطَيْنِ بِرَوَابِطَ زَوْجِيَّةٍ أُخْرَى،
حَيْثُ يَجِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَنْ يَأْلَفُهُ وَيَحْتَمِلُهُ، قَال
تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ
وَكَانَ
__________
(1) آية 19 من سورة النساء.
(29/10)
اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} (1)
وَلِهَذَا قَال الْفُقَهَاءُ: بِوُجُوبِ الطَّلاَقِ فِي أَحْوَالٍ،
وَبِنَدْبِهِ فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى - كَمَا تَقَدَّمَ - عَلَى مَا فِيهِ
مِنَ الضَّرَرِ، وَذَلِكَ تَقْدِيمًا لِلضَّرَرِ الأَْخَفِّ عَلَى
الضَّرَرِ الأَْشَدِّ، وَفْقًا لِلْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ
" يُخْتَارُ أَهْوَنُ الشَّرَّيْنِ (2) ". وَالْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ
الْقَائِلَةُ: " الضَّرَرُ الأَْشَدُّ يُزَال بِالضَّرَرِ الأَْخَفِّ (3) "
وَيُسْتَأْنَسُ فِي ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
زَوْجَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُول اللَّهِ: ثَابِتُ
بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلاَ دِينٍ، وَلَكِنَّنِي
أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الإِْسْلاَمِ، قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ
قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْبَل
الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً (4) .
مَنْ لَهُ حَقُّ الطَّلاَقِ:
11 - الطَّلاَقُ: نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَرْقِ وَهُوَ مِلْكٌ
لِلزَّوْجِ وَحْدَهُ، ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُل يَمْلِكُ مُفَارَقَةَ
زَوْجَتِهِ إِذَا وَجَدَ مَا يَدْعُوهُ إِلَى ذَلِكَ بِعِبَارَتِهِ
وَإِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ، كَمَا تَمْلِكُ الزَّوْجَةُ
__________
(1) الآية 130 من سورة النساء.
(2) مادة 29 من مجلة الأحكام العدلية.
(3) المادة 27 من مجلة الأحكام العدلية.
(4) حديث: " أتردين عليه حديقته. . . ". أخرجه البخاري فتح الباري (9 /
395) .
(29/11)
طَلَبَ إِنْهَاءِ عَلاَقَتِهَا
الزَّوْجِيَّةِ إِذَا وُجِدَ مَا يُبَرِّرُ ذَلِكَ، كَإِعْسَارِ الزَّوْجِ
بِالنَّفَقَةِ، وَغَيْبَةِ الزَّوْجِ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابٍ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا تَوْسِعَةً وَتَضْيِيقًا، وَلَكِنَّ ذَلِكَ
لاَ يَكُونُ بِعِبَارَتِهَا، وَإِنَّمَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، إِلاَّ أَنْ
يُفَوِّضَهَا الزَّوْجُ بِالطَّلاَقِ، فَإِنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَال
تَمْلِكُهُ بِقَوْلِهَا أَيْضًا.
فَإِذَا اتَّفَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى الْفِرَاقِ، جَازَ ذَلِكَ، وَهُوَ
يَتِمُّ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى قَضَاءٍ، وَكَذَلِكَ الْقَاضِي، فَإِنَّ
لَهُ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا قَامَ مِنَ الأَْسْبَابِ مَا
يَدْعُوهُ لِذَلِكَ، حِمَايَةً لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا فِي
رِدَّةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ
تَعَالَى - أَوْ إِسْلاَمِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْمَجُوسِيَّيْنِ
وَامْتِنَاعِ الآْخَرِ عَنِ الإِْسْلاَمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. . إِلاَّ أَنَّ
ذَلِكَ كُلَّهُ لاَ يُسَمَّى طَلاَقًا سِوَى الأَْوَّل الَّذِي يَكُونُ
بِإِرَادَةِ الزَّوْجِ الْخَاصَّةِ وَعِبَارَتِهِ (1) . وَالدَّلِيل عَلَى
أَنَّ الطَّلاَقَ هَذَا حَقُّ الزَّوْجِ خَاصَّةً قَوْل النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّمَا الطَّلاَقُ لِمَنْ أَخَذَ
بِالسَّاقِ (2) . ثُمَّ إِنَّ الرَّجُل الْمُطَلِّقَ لاَ يُسْأَل عَنْ
سَبَبِ
__________
(&# x661 ;) ابن عابدين 3 /
242.
(2) حديث: " إنما الطلاق لمن أخذ الساق ". أخرجه ابن ماجه (1 / 672) من
حديث ابن عباس، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 358) .
(29/11)
الطَّلاَقِ عِنْدَ إِقْدَامِهِ عَلَيْهِ،
وَذَلِكَ لأَِسْبَابٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا:
1 - حِفْظُ أَسْرَارِ الأُْسْرَةِ.
2 - حِفْظُ كَرَامَةِ الزَّوْجَةِ وَسُمْعَتِهَا.
3 - الْعَجْزُ عَنْ إِثْبَاتِ الْكَثِيرِ مِنْ تِلْكَ الأَْسْبَابِ؛
لأَِنَّ غَالِبَ أَسْبَابِ الشِّقَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ تَكُونُ
خَفِيَّةً يَصْعُبُ إِثْبَاتُهَا، فَإِذَا كَلَّفْنَاهُ بِذَلِكَ نَكُونُ
قَدْ كَلَّفْنَاهُ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ أَوْ يُحْرِجُهُ، وَهُوَ
مَمْنُوعٌ فِي الشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1) .
4 - ثُمَّ إِنَّ فِي إِقْدَامِ الزَّوْجِ عَلَى الطَّلاَقِ وَتَحَمُّلِهِ
الأَْعْبَاءَ الْمَالِيَّةَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَيْهِ، مِنْ مَهْرٍ
مُؤَجَّلٍ، وَنَفَقَةٍ وَمُتْعَةٍ - عِنْدَ مَنْ يَقُول بِوُجُوبِهَا -
وَأُجْرَةِ حَضَانَةٍ لِلأَْوْلاَدِ. . لَقَرِينَةٌ كَافِيَةٌ عَلَى
قِيَامِ أَسْبَابٍ مَشْرُوعَةٍ تَدْعُوهُ لِلطَّلاَقِ.
5 - وَلِكَوْنِ الطَّلاَقِ مُبَاحًا أَصْلاً عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا
تَقَدَّمَ، إِبَاحَةً مُطْلَقَةً عَنْ أَيِّ شَرْطٍ أَوْ قَيْدٍ.
مَحَل الطَّلاَقِ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَحَل الطَّلاَقِ الزَّوْجَةُ فِي
زَوْجِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، حَصَل فِيهَا
__________
(1) الآية 78 من سورة الحج.
(29/12)
دُخُولٌ أَمْ لاَ، فَلَوْ كَانَ الزَّوَاجُ
بَاطِلاً أَوْ فَاسِدًا، فَطَلَّقَهَا، لَمْ تَطْلُقْ، لأَِنَّ الطَّلاَقَ
أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الزَّوَاجِ الصَّحِيحِ خَاصَّةً (1) . وَهَل يُعَدُّ
لَفْظُ الطَّلاَقِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ مُتَارَكَةً؟ وَالْجَوَابُ:
نَعَمْ، لَكِنْ لاَ يَنْقُصُ بِهِ الْعَدَدُ، لأَِنَّهُ لَيْسَ طَلاَقًا،
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: طَلَّقَ الْمَنْكُوحَةَ فَاسِدًا ثَلاَثًا، لَهُ
تَزَوُّجُهَا بِلاَ مُحَلِّلٍ. . لِكَوْنِ الطَّلاَقِ لاَ يَتَحَقَّقُ فِي
الْفَاسِدِ، وَلِذَا كَانَ غَيْرَ مُنْقِصٍ لِلْعَدَدِ، بَل مُتَارَكَةً
(2) . وَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَنَّ الطَّلاَقَ لاَ يَقَعُ بَعْدَ الْوَطْءِ
بِشُبْهَةٍ، لاِنْعِدَامِ الزَّوْجِيَّةِ أَصْلاً. وَذَهَبَ جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ
الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - إِلَى وُقُوعِ الطَّلاَقِ عَلَى
الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ، حَتَّى لَوْ قَال الرَّجُل
لِزَوْجَتِهِ الْمَدْخُول بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَال لَهَا فِي
عِدَّتِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، ثَانِيَةً، كَانَتَا طَلْقَتَيْنِ، مَا لَمْ
يُرِدْ تَأْكِيدَ الأُْولَى، فَإِنْ أَرَادَ تَأْكِيدَ الأُْولَى لَمْ
تَقَعِ الثَّانِيَةُ، مَا لَمْ تَكُنْ قَرَائِنُ الْحَال تَمْنَعُ صِحَّةَ
إِرَادَةِ التَّأْكِيدِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الطَّلاَقَ الرَّجْعِيَّ لاَ
يُنْهِي الْعَلاَقَةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَبْل انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ،
بِدَلاَلَةِ جَوَازِ رُجُوعِهِ إِلَيْهَا فِي
__________
(1) ابن عابدين 3 / 134، والشرح 2 / 370.
(2) ابن عابدين 3 / 134.
(29/12)
الْعِدَّةِ بِالْعَقْدِ الأَْوَّل دُونَ
عَقْدٍ جَدِيدٍ (1) . أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ بَائِنًا وَالْمَفْسُوخُ
زَوَاجُهَا إِذَا طَلَّقَهَا فِي عِدَّتِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهَا:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ وُقُوعِ الطَّلاَقِ عَلَى
الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْبَيْنُونَةُ
صُغْرَى أَمْ كُبْرَى، وَكَذَلِكَ الْمَفْسُوخُ زَوَاجُهَا، وَذَلِكَ
لاِنْقِضَاءِ النِّكَاحِ بِالْبَيْنُونَةِ وَالْفَسْخِ (2) . وَذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُبَانَةَ بَيْنُونَةً صُغْرَى فِي
عِدَّتِهَا زَوْجَةٌ مِنْ وَجْهٍ بِدَلاَلَةِ جَوَازِ عَوْدِهَا إِلَى
زَوْجِهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ أَثْنَاءَ الْعِدَّةِ، وَلاَ يَجُوزُ
زَوَاجُهَا مِنْ غَيْرِهِ قَبْل انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَلِهَذَا
فَإِنَّهَا مَحَلٌّ لِصِحَّةِ الطَّلاَقِ عِنْدَهُمْ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ
طَلَّقَ رَجُلٌ زَوْجَتَهُ الْمَدْخُول بِهَا بَائِنًا مَرَّةً وَاحِدَةً،
ثُمَّ طَلَّقَهَا أُخْرَى فِي عِدَّتِهَا كَانَتَا اثْنَتَيْنِ، هَذَا مَا
لَمْ يَقْصِدْ تَأْكِيدَ الأُْولَى، فَإِنْ قَصَدَ تَأْكِيدَ الأُْولَى
لَمْ تَقَعِ الثَّانِيَةُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ
رَجْعِيٍّ.
وَأَمَّا الْمَفْسُوخُ زَوَاجُهَا فَلَمْ يَرَ الْحَنَفِيَّةُ وُقُوعَ
الطَّلاَقِ فِي عِدَّتِهَا إِذَا كَانَ سَبَبُ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 230، والدسوقي 2 / 378، ومغني المحتاج 3 / 293،
والإنصاف 9 / 152 والمغني 7 / 292، وكشاف القناع 5 / 428.
(2) مغني المحتاج 3 / 292 - 297، والمغني 7 / 261 - 262، والشرح الكبير 2 /
356.
(29/13)
الْفَسْخِ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً،
كَتَقْبِيلِهَا ابْنَ زَوْجِهَا بِشَهْوَةٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْحُرْمَةُ
غَيْرَ مُؤَبَّدَةٍ كَانَتْ مَحَلًّا لِلطَّلاَقِ فِي أَحْوَالٍ، وَغَيْرَ
مَحَلٍّ لَهُ فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ
فَقَال: وَمَحَلُّهُ الْمَنْكُوحَةُ، أَيْ وَلَوْ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلاَقٍ
رَجْعِيٍّ أَوْ بَائِنٍ غَيْرِ ثَلاَثٍ فِي حُرَّةٍ وَثِنْتَيْنِ فِي
أَمَةٍ، أَوْ عَنْ فَسْخٍ بِتَفْرِيقٍ لإِِبَاءِ أَحَدِهِمَا عَنِ
الإِْسْلاَمِ أَوْ بِارْتِدَادِ أَحَدِهِمَا. . بِخِلاَفِ عِدَّةِ
الْفَسْخِ بِحُرْمَةٍ مُؤَبَّدَةٍ كَتَقْبِيل ابْنِ الزَّوْجِ، أَوْ غَيْرِ
مُؤَبَّدَةٍ، كَالْفَسْخِ بِخِيَارِ عِتْقٍ، وَبُلُوغٍ، وَعَدَمِ
كَفَاءَةٍ، وَنُقْصَانِ مَهْرٍ، وَسَبْيِ أَحَدِهِمَا، وَمُهَاجَرَتِهِ،
فَلاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ فِيهَا كَمَا حَرَّرَهُ فِي الْبَحْرِ عَنِ
الْفَتْحِ (1) .
رُكْنُ الطَّلاَقِ:
13 - رُكْنُ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ: الصِّيغَةُ الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَنْهُ. أَمَّا
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: فَإِنَّهُمْ يَتَوَسَّعُونَ فِي مَعْنَى
الرُّكْنِ، وَيُدْخِلُونَ فِيهِ مَا يُسَمِّيهِ الْحَنَفِيَّةُ أَطْرَافَ
التَّصَرُّفِ. وَالطَّلاَقُ بِالاِتِّفَاقِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ
الشَّرْعِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ، فَرُكْنُ الطَّلاَقِ فِي مَذْهَبِ
الْحَنَفِيَّةِ هُوَ: الصِّيغَةُ الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَنْهُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لِلطَّلاَقِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ، هِيَ:
أَهْلٌ، وَقَصْدٌ، وَمَحَلٌّ، وَلَفْظٌ.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 230، 312، 314.
(29/13)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَرْكَانٌ
خَمْسَةٌ: مُطَلِّقٌ، وَصِيغَةٌ، وَمَحَلٌّ، وَوِلاَيَةٌ، وَقَصْدٌ.
وَالأَْصْل فِي الصِّيغَةِ الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الطَّلاَقِ
الْكَلاَمُ، وَقَدْ يَنُوبُ عَنْهُ الْكِتَابَةُ أَوِ الإِْشَارَةُ، وَلاَ
يَنْعَقِدُ الطَّلاَقُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَوْ نَوَى الطَّلاَقَ دُونَ
لَفْظٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ لَمْ يَكُنْ مُطَلِّقًا، وَكَذَلِكَ
إِذَا أَمَرَ زَوْجَتَهُ بِحَلْقِ شَعْرِهَا بِقَصْدِ الطَّلاَقِ، لاَ
يَكُونُ مُطَلِّقًا أَيْضًا (1) .
شُرُوطُ الطَّلاَقِ:
14 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الطَّلاَقِ لَدَى الْفُقَهَاءِ شُرُوطٌ
مُوَزَّعَةٌ عَلَى أَطْرَافِ الطَّلاَقِ الثَّلاَثَةِ، فَبَعْضُهَا
يَتَعَلَّقُ بِالْمُطَلِّقِ، وَبَعْضُهَا بِالْمُطَلَّقَةِ، وَبَعْضُهَا
بِالصِّيغَةِ، وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:
الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُطَلِّقِ:
يُشْتَرَطُ فِي الْمُطَلِّقِ لِيَقَعَ طَلاَقُهُ عَلَى زَوْجَتِهِ صَحِيحًا
شُرُوطٌ، هِيَ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل - أَنْ يَكُونَ زَوْجًا:
15 - وَالزَّوْجُ: هُوَ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُطَلَّقَةِ عَقْدُ
زَوَاجٍ صَحِيحٍ.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 230، والدسوقي 2 / 365، ومغني المحتاج 3 / 279.
(29/14)
الشَّرْطُ الثَّانِي - الْبُلُوغُ:
16 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ وُقُوعِ طَلاَقِ
الصَّغِيرِ مُمَيِّزًا أَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ، مُرَاهِقًا أَوْ غَيْرَ
مُرَاهِقٍ، أُذِنَ لَهُ بِذَلِكَ أَمْ لاَ، أُجِيزَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ
الْوَلِيِّ أَمْ لاَ، عَلَى سَوَاءٍ، ذَلِكَ لأَِنَّ الطَّلاَقَ ضَرَرٌ
مَحْضٌ، فَلاَ يَمْلِكُهُ الصَّغِيرُ وَلاَ يَمْلِكُهُ وَلِيُّهُ (1) ،
وَلِقَوْل النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُفِعَ
الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ
الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِل (2) .
وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِل الطَّلاَقَ،
فَقَالُوا: إِنَّ طَلاَقَهُ وَاقِعٌ عَلَى أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْ
أَحْمَدَ. أَمَّا مَنْ لاَ يَعْقِل فَوَافَقُوا الْجُمْهُورَ فِي أَنَّهُ
لاَ يَقَعُ طَلاَقُهُ. قَال فِي الْمُغْنِي: وَأَمَّا الصَّبِيُّ الَّذِي
لاَ يَعْقِل فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ لاَ طَلاَقَ لَهُ، وَأَمَّا الَّذِي
يَعْقِل الطَّلاَقَ، وَيَعْلَمُ أَنَّ زَوْجَتَهُ تَبِينُ مِنْهُ بِهِ
وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ: فَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ
طَلاَقَهُ يَقَعُ، اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَالْخِرَقِيُّ وَابْنُ
حَامِدٍ. . وَرَوَى أَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ: لاَ يَجُوزُ طَلاَقُهُ
حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَهُوَ قَوْل
__________
(1) الدر المختار 3 / 230، ومغني المحتاج 3 / 279، والشرح الكبير 2 / 365.
(2) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . ". أخرجه أحمد (6 / 100 - 101)
والحاكم (2 / 59) من حديث عائشة، وصححه ووافقه الذهبي.
(29/14)
النَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ. . وَرَوَى
أَبُو الْحَارِثِ عَنْ أَحْمَدَ: إِذَا عَقَل الطَّلاَقَ جَازَ طَلاَقُهُ
مَا بَيْنَ عَشْرٍ إِلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ
لاَ يَقَعُ لِدُونِ الْعَشْرِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، لأَِنَّ
الْعَشْرَ حَدُّ الضَّرْبِ عَلَى الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَصِحَّةِ
الْوَصِيَّةِ، فَكَذَلِكَ هَذَا، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: إِذَا
أَحْصَى الصَّلاَةَ وَصَامَ رَمَضَانَ جَازَ طَلاَقُهُ، وَقَال عَطَاءٌ:
إِذَا بَلَغَ أَنْ يُصِيبَ النِّسَاءَ وَعَنِ الْحَسَنِ: إِذَا عَقَل
وَحَفِظَ الصَّلاَةَ وَصَامَ رَمَضَانَ وَقَال إِسْحَاقُ: إِذَا جَاوَزَ
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ (1) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ - الْعَقْل:
17 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ (2) إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ طَلاَقِ الْمَجْنُونِ
(3) وَالْمَعْتُوهِ (4) لِفِقْدَانِ أَهْلِيَّةِ الأَْدَاءِ فِي الأَْوَّل،
وَنُقْصَانِهَا فِي
__________
(1) المغني 7 / 312 - 315.
(2) الدر المختار 3 / 230 و 243 و 235، ومغني المحتاج 3 / 279، والمغني 7 /
311، والشرح الكبير 2 / 365.
(3) عرف ابن عابدين الجنون نقلا عن التلويح فقال: قال في التلويح: الجنون
اختلال القوة المميزة بين الأمور الحسنة والقبيحة، المدركة للعواقب، بأن لا
تظهر آثارها وتتعطل أفعالها، إما لنقصان. . . جبل عليه دماغه في أصل
الخلقة، وإما لخروج مزاج الدماغ عن الاعتدال ب
(4) عرف ابن عابدين المعتوه بقوله: هو القليل الفهم، المختلط الكلام،
الفاسد التدبير، لكن لا يضرب ولا يشتم بخلاف المجنون (ابن عابدين 3 / 243)
.
(29/15)
الثَّانِي، فَأَلْحَقُوهُمَا بِالصَّغِيرِ
غَيْرِ الْبَالِغِ، فَلَمْ يَقَعْ طَلاَقُهُمَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ
الأَْدِلَّةِ.
وَهَذَا فِي الْجُنُونِ الدَّائِمِ الْمُطْبِقِ، أَمَّا الْجُنُونُ
الْمُتَقَطِّعُ (1) ، فَإِنَّ حُكْمَ طَلاَقِ الْمُبْتَلَى بِهِ مَنُوطٌ
بِحَالِهِ عِنْدَ الطَّلاَقِ، فَإِنْ طَلَّقَ وَهُوَ مَجْنُونٌ لَمْ
يَقَعْ، وَإِنْ طَلَّقَ فِي إِفَاقَتِهِ وَقَعَ لِكَمَال أَهْلِيَّتِهِ.
وَقَدْ أَلْحَقَ الْفُقَهَاءُ بِالْمَجْنُونِ النَّائِمَ (2) ،
وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ (3) ، وَالْمُبَرْسَمَ (4) ، وَالْمَدْهُوشَ (5) ،
وَذَلِكَ لاِنْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الأَْدَاءِ لَدَيْهِمْ وَلِحَدِيثِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ
ثَلاَثَةٍ. . . (6) وَحَدِيثِ: لاَ طَلاَقَ وَلاَ عَتَاقَ فِي إِغْلاَقٍ
(7) .
__________
(1) الجنون المتقطع هو الذي يغيب فترة عن صاحبه ثم يعود إليه، سواء كان ذلك
بنظام أو لا.
(2) النوم حالة طبيعة معروفة تغيب فيها القوى الواعية في الإنسان لفترة
محدودة.
(3) الإغماء هو: غياب القوى الواعية في الإنسان لفترة مؤقتة بسبب آفة لحقت
به، فهو كالنوم في مدته، وكالجنون في كونه آفة (ابن عابدين 3 / 243) .
(4) مبرسم كما قال ابن عابدين من البرسام، ونقل عن البحر أنه: ورم حار يعرض
للحجاب الذي بين الكبد والأمعاء ثم يتصل بالدماغ. (ابن عابدين 3 / 243) .
(5) المدهوش هو من غلب الخلل في أقواله وأفعاله الخارجة عن عادته بسبب غضب
اعتراه. (ابن عابدين 3 / 244) .
(6) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . ". سبق تخريجه فقرة 16.
(7) حديث: " لا طلاق ولا عتاق في إغلاق ". أخرجه أحمد (6 / 276) والحاكم (2
/ 198) من حديث عائشة، وصححه الحاكم وتعقبه الذهبي بإعلاله لضعف أحد رواته.
(29/15)
وَأَمَّا السَّكْرَانُ، فَإِنْ كَانَ
غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِسُكْرِهِ، كَمَا إِذَا سَكِرَ مُضْطَرًّا، أَوْ
مُكْرَهًا أَوْ بِقَصْدِ الْعِلاَجِ الضَّرُورِيِّ إِذَا تَعَيَّنَ بِقَوْل
طَبِيبٍ مُسْلِمٍ ثِقَةٍ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مُسْكِرٌ، لَمْ
يَقَعْ طَلاَقُهُ بِالاِتِّفَاقِ، لِفِقْدَانِ الْعَقْل لَدَيْهِ
كَالْمَجْنُونِ دُونَ تَعَدٍّ، هَذَا إِذَا غَابَ عَقْلُهُ أَوِ اخْتَلَّتْ
تَصَرُّفَاتُهُ، وَإِلاَّ وَقَعَ طَلاَقُهُ.
وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا بِسُكْرِهِ، كَأَنْ شَرِبَ الْخَمْرَةَ طَائِعًا
بِدُونِ حَاجَةٍ، وَقَعَ طَلاَقُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ رَغْمَ غِيَابِ
عَقْلِهِ بِالسُّكْرِ، وَذَلِكَ عِقَابًا لَهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدٍ،
وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ،
وَالنَّخَعِيِّ، وَغَيْرِهِمْ.
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَيْنِ: الأُْولَى:
بِوُقُوعِ طَلاَقِهِ كَالْجُمْهُورِ، اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ الْخَلاَّل
وَالْقَاضِي. وَالثَّانِيَةُ: بِعَدَمِ وُقُوعِ طَلاَقِهِ، اخْتَارَهَا
أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
أَيْضًا اخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ وَالْكَرْخِيُّ، وَقَوْلٌ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ - وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
وَالْقَاسِمِ، وَطَاوُسٍ، وَرَبِيعَةَ، وَغَيْرِهِمْ.
وَقَدِ اسْتُدِل لِمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّ
(29/16)
الصَّحَابَةَ جَعَلُوا السَّكْرَانَ
كَالصَّاحِي فِي الْحَدِّ بِالْقَذْفِ.
كَمَا اسْتُدِل لِعَدَمِ وُقُوعِ طَلاَقِهِ بِأَنَّهُ فَاقِدُ الْعَقْل
كَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ، وَبِأَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ زَوَال
الْعَقْل بِمَعْصِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، بِدَلِيل أَنَّ مَنْ كُسِرَ
سَاقَيْهِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا، وَأَنَّ امْرَأَةً لَوْ
ضَرَبَتْ بَطْنَ نَفْسِهَا فَنَفِسَتْ، سَقَطَتْ عَنْهَا الصَّلاَةُ (1) .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ - الْقَصْدُ وَالاِخْتِيَارُ:
19 - الْمُرَادُ بِهِ هُنَا: قَصْدُ اللَّفْظِ الْمُوجِبِ لِلطَّلاَقِ مِنْ
غَيْرِ إِجْبَارٍ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ طَلاَقِ الْهَازِل، وَهُوَ:
مَنْ قَصَدَ اللَّفْظَ، وَلَمْ يَرِدْ بِهِ مَا يَدُل عَلَيْهِ حَقِيقَةً
أَوْ مَجَازًا، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ
وَالطَّلاَقُ وَالرَّجْعَةُ (2) وَلأَِنَّ الطَّلاَقَ ذُو خَطَرٍ كَبِيرٍ
بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَحَلَّهُ الْمَرْأَةُ، وَهِيَ إِنْسَانٌ،
وَالإِْنْسَانُ أَكْرَمُ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلاَ يَنْبَغِي
أَنْ يَجْرِيَ
__________
(1) رد المحتار 3 / 239 - 240، حاشية الدسوقي 2 / 365، مغني المحتاج 3 /
279، المغني 7 / 114 - 115 ط. دار المنار.
(2) حديث: " ثلاث جدهن جد. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 481) من حديث أبي
هريرة، ونقل الزيلعي في نصب الراية (3 / 292) عن ابن القطان تعليله بجهالة
أحد رواته.
(29/16)
فِي أَمْرِهِ الْهَزْل، وَلأَِنَّ
الْهَازِل قَاصِدٌ لِلَّفْظِ الَّذِي رَبَطَ الشَّارِعُ بِهِ وُقُوعَ
الطَّلاَقِ، فَيَقَعُ الطَّلاَقُ بِوُجُودِهِ مُطْلَقًا.
أَمَّا الْمُخْطِئُ، وَالْمُكْرَهُ، وَالْغَضْبَانُ، وَالسَّفِيهُ،
وَالْمَرِيضُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ طَلاَقِهِمْ
عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي.
أ - الْمُخْطِئُ:
20 - الْمُخْطِئُ هُنَا: مَنْ لَمْ يَقْصِدِ التَّلَفُّظَ بِالطَّلاَقِ
أَصْلاً، وَإِنَّمَا قَصَدَ لَفْظًا آخَرَ، فَسَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى
الطَّلاَقِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، كَأَنْ يُرِيدَ أَنْ يَقُول لِزَوْجَتِهِ:
يَا جَمِيلَةُ، فَإِذَا بِهِ يَقُول لَهَا خَطَأً: يَا طَالِقُ وَهُوَ
غَيْرُ الْهَازِل، لأَِنَّ الْهَازِل قَاصِدٌ لِلَفْظِ الطَّلاَقِ، إِلاَّ
أَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلْفُرْقَةِ بِهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ طَلاَقِ الْمُخْطِئِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (1) إِلَى عَدَمِ وُقُوعِ طَلاَقِهِ قَضَاءً
وَدِيَانَةً، هَذَا إِذَا ثَبَتَ خَطَؤُهُ بِقَرَائِنِ الأَْحْوَال،
فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ خَطَؤُهُ وَقَعَ الطَّلاَقُ قَضَاءً، وَلَمْ يَقَعْ
دِيَانَةً، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ
وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (2)
__________
(1) الدر المختار (3 / 230) ومغني المحتاج (3 / 287) ، والشرح الكبير (2 /
366) .
(2) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان. . . " أخرجه ابن ماجه (1
/ 659) والحاكم (2 / 198) من حديث ابن عباس واللفظ لابن ماجه، وصحح الحاكم
إسناده ووافقه الذهبي.
(29/17)
وَلاَ يُقَاسُ حَالُهُ عَلَى الْهَازِل؛
لأَِنَّ الْهَازِل ثَبَتَ وُقُوعُ طَلاَقِهِ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ
بِالْحَدِيثِ الشَّرِيفِ الْمُتَقَدِّمِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلاَ
يُقَاسُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ طَلاَقَ الْمُخْطِئِ وَاقِعٌ قَضَاءً،
ثَبَتَ خَطَؤُهُ أَمْ لاَ، وَلاَ يَقَعُ دِيَانَةً، وَذَلِكَ لِخُطُورَةِ
مَحَل الطَّلاَقِ، وَهُوَ الْمَرْأَةُ، وَلأَِنَّ فِي عَدَمِ إِيقَاعِ
طَلاَقِهِ فَتْحَ بَابِ الاِدِّعَاءِ بِذَلِكَ بِغَيْرِ حَقٍّ
لِلتَّخَلُّصِ مِنْ وُقُوعِ الطَّلاَقِ وَهُوَ خَطِيرٌ، وَذَرِيعَةٌ يَجِبُ
سَدُّهَا.
ب - الْمُكْرَهُ:
21 - الإِْكْرَاهُ هُنَا مَعْنَاهُ: حَمْل الزَّوْجِ عَلَى الطَّلاَقِ
بِأَدَاةٍ مُرْهِبَةٍ.
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ وُقُوعِ طَلاَقِ
الْمُكْرَهِ إِذَا كَانَ الإِْكْرَاهُ شَدِيدًا، كَالْقَتْل، وَالْقَطْعِ،
وَالضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ طَلاَقَ وَلاَ عَتَاقَ
فِي إِغْلاَقٍ (1) وَلِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ
عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (2)
وَلأَِنَّهُ مُنْعَدِمُ الإِْرَادَةِ
__________
(1) حديث: " لاطلاق ولا عتاق. . . ". تقدم تخريجه فـ 17.
(2) حديث: " إن الله وضع عن أمتي. . . ". تقدم تخريجه فـ 20.
(29/17)
وَالْقَصْدِ، فَكَانَ كَالْمَجْنُونِ
وَالنَّائِمِ، فَإِذَا كَانَ الإِْكْرَاهُ ضَعِيفًا، أَوْ ثَبَتَ عَدَمُ
تَأَثُّرِ الْمُكْرَهِ بِهِ، وَقَعَ طَلاَقُهُ لِوُجُودِ الاِخْتِيَارِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى وُقُوعِ طَلاَقِ الْمُكْرَهِ مُطْلَقًا؛
لأَِنَّهُ مُخْتَارٌ لَهُ بِدَفْعِ غَيْرِهِ عَنْهُ بِهِ، فَوَقَعَ
الطَّلاَقُ لِوُجُودِ الاِخْتِيَارِ. وَهَذَا كُلُّهُ فِي الإِْكْرَاهِ
بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الطَّلاَقِ بِحَقٍّ، كَالْمُولِي
إِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الإِْيلاَءِ بِدُونِ فَيْءٍ فَأَجْبَرَهُ
الْقَاضِي عَلَى الطَّلاَقِ فَطَلَّقَ، فَإِنَّهُ يَقَعُ بِالإِْجْمَاعِ
(1) .
ج - الْغَضْبَانُ:
22 - الْغَضَبُ: حَالَةٌ مِنْ الاِضْطِرَابِ الْعَصَبِيِّ، وَعَدَمِ
التَّوَازُنِ الْفِكْرِيِّ، تَحِل بِالإِْنْسَانِ إِذَا عَدَا عَلَيْهِ
أَحَدٌ بِالْكَلاَمِ أَوْ غَيْرِهِ. وَالْغَضَبُ لاَ أَثَرَ لَهُ فِي
صِحَّةِ تَصَرُّفَاتِ الإِْنْسَانِ الْقَوْلِيَّةِ، وَمِنْهَا الطَّلاَقُ،
إِلاَّ أَنْ يَصِل الْغَضَبُ إِلَى دَرَجَةِ الدَّهَشِ، فَإِنْ وَصَل
إِلَيْهَا لَمْ يَقَعْ طَلاَقُهُ، لأَِنَّهُ يُصْبِحُ كَالْمُغْمَى
عَلَيْهِ. وَالْمَدْهُوشُ هُوَ: مَنْ غَلَبَ الْخَلَل فِي أَقْوَالِهِ
وَأَفْعَالِهِ الْخَارِجَةِ عَنْ عَادَتِهِ بِسَبَبِ غَضَبٍ اعْتَرَاهُ.
وَقَسَّمَ ابْنُ الْقَيِّمِ الْغَضَبَ أَقْسَامًا ثَلاَثَةً نَقَلَهَا
عَنْهُ ابْنُ عَابِدِينَ وَعَلَّقَ عَلَيْهَا فَقَال:
__________
(1) الدر المختار 3 / 230، ومغني المحتاج 3 / 289، والدسوقي 2 / 367،
والمغني 7 / 118.
(29/18)
طَلاَقُ الْغَضْبَانِ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَحْصُل لَهُ مَبَادِئُ الْغَضَبِ بِحَيْثُ لاَ
يَتَغَيَّرُ عَقْلُهُ، وَيَعْلَمُ مَا يَقُول وَيَقْصِدُهُ، وَهَذَا لاَ
إِشْكَال فِيهِ.
الثَّانِي: أَنْ يَبْلُغَ النِّهَايَةَ، فَلاَ يَعْلَمُ مَا يَقُول وَلاَ
يُرِيدُهُ، فَهَذَا لاَ رَيْبَ أَنَّهُ لاَ يَنْفُذُ شَيْءٌ مِنْ
أَقْوَالِهِ.
الثَّالِثُ: مَنْ تَوَسَّطَ بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ بِحَيْثُ لَمْ يَصِرْ
كَالْمَجْنُونِ، فَهَذَا مَحَل النَّظَرِ وَالأَْدِلَّةُ تَدُل عَلَى
عَدَمِ نُفُوذِ أَقْوَالِهِ.
ثُمَّ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ كُلًّا مِنَ
الْمَدْهُوشِ وَالْغَضْبَانِ لاَ يَلْزَمُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لاَ
يَعْلَمُ مَا يَقُول، بَل يُكْتَفَى فِيهِ بِغَلَبَةِ الْهَذَيَانِ
وَاخْتِلاَطِ الْجِدِّ بِالْهَزْل كَمَا هُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي
السَّكْرَانِ. . ثُمَّ قَال: فَاَلَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيل عَلَيْهِ
فِي الْمَدْهُوشِ وَنَحْوِهِ: إِنَاطَةُ الْحُكْمِ بِغَلَبَةِ الْخَلَل فِي
أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ الْخَارِجَةِ عَنْ عَادَتِهِ، فَمَا دَامَ فِي
حَال غَلَبَةِ الْخَلَل فِي الأَْقْوَال وَالأَْفْعَال لاَ تُعْتَبَرُ
أَقْوَالُهُ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُهَا وَيُرِيدُهَا، لأَِنَّ هَذِهِ
الْمَعْرِفَةَ وَالإِْرَادَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِعَدَمِ حُصُولِهَا
عَنْ إِدْرَاكٍ صَحِيحٍ كَمَا لاَ تُعْتَبَرُ مِنَ الصَّبِيِّ الْعَاقِل
(1) .
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 3 / 243، والدسوقي 2 / 366، وكشاف القناع
5 / 235، وحاشية الجمل 4 / 324، وإغاثة اللهفان في طلاق الغضبان لابن القيم
ص 38 وما بعدها.
(29/18)
د - السَّفِيهُ:
23 - السَّفَهُ: خِفَّةٌ فِي الْعَقْل تَدْعُو إِلَى التَّصَرُّفِ
بِالْمَال عَلَى غَيْرِ وَفْقِ الْعَقْل وَالشَّرْعِ (1) . وَقَدْ ذَهَبَ
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُقُوعِ طَلاَقِ السَّفِيهِ؛ لأَِنَّهُ
مُكَلَّفٌ مَالِكٌ لِمَحَل الطَّلاَقِ، وَلأَِنَّ السَّفَهَ مُوجِبٌ
لِلْحَجْرِ فِي الْمَال خَاصَّةً، وَهَذَا تَصَرُّفٌ فِي النَّفْسِ، وَهُوَ
غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَإِنْ نَشَأَ عَنْ طَلاَقِ
السَّفِيهِ آثَارٌ مَالِيَّةٌ كَالْمَهْرِ فَهِيَ تَبَعٌ لاَ أَصْلٌ.
وَخَالَفَ عَطَاءٌ، وَقَال بِعَدَمِ وُقُوعِ طَلاَقِ السَّفِيهِ (2) .
هـ - الْمَرِيضُ:
24 - الْمَرَضُ إِذَا أُطْلِقَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ انْصَرَفَ إِلَى
مَرَضِ الْمَوْتِ غَالِبًا، إِلاَّ أَنْ يَنُصَّ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ طَلاَقِ الْمَرِيضِ مُطْلَقًا،
سَوَاءٌ أَكَانَ مَرَضَ مَوْتٍ أَمْ مَرَضًا عَادِيًّا، مَا دَامَ لاَ
أَثَرَ لَهُ فِي الْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ، فَإِنْ أَثَّرَ فِيهَا دَخَل فِي
بَابِ الْجُنُونِ وَالْعَتَهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ. إِلاَّ
أَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ مَوْتٍ بِخَاصَّةٍ إِذَا
__________
(1) الموسوعة الفقهية جـ 25 مصطلح (سفه) .
(2) الدر المختار 3 / 238، والمغني 7 / 315، ومغني المحتاج 3 / 279،
والدسوقي 2 / 365.
(29/19)
طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْمَدْخُول بِهَا فِي
مَرَضِهِ بِغَيْرِ طَلَبٍ مِنْهَا أَوْ رِضًا طَلاَقًا بَائِنًا، ثُمَّ
مَاتَ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا مِنْ طَلاَقِهِ هَذَا، فَإِنَّهُ يُعَدُّ
فَارًّا مِنْ إِرْثِهَا حُكْمًا، وَتَرِثُ مِنْهُ رَغْمَ وُقُوعِ
الطَّلاَقِ عَلَيْهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَيَّدَ
الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ تَطْلُبِ الطَّلاَقَ الْبَائِنَ،
فَإِذَا طَلَبَتْ هَذَا الطَّلاَقَ فَلاَ تَرِثُ.
وَخَالَفَ الشَّافِعِيَّةُ؛ وَقَالُوا بِعَدَمِ إِرْثِ الْبَائِنَةِ،
أَمَّا الْمُعْتَدَّةُ مِنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ فَتَرِثُ بِالاِتِّفَاقِ.
أَمَّا الْمَرِيضُ بِغَيْرِ مَرَضِ الْمَوْتِ وَكَذَلِكَ غَيْرُ الْمَرِيضِ
فَلاَ يَتَأَتَّى فِي طَلاَقِهِمَا الْفِرَارُ مِنَ الإِْرْثِ (1) .
الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُطَلَّقَةِ:
يُشْتَرَطُ فِي الْمُطَلَّقَةِ لِيَقَعَ الطَّلاَقُ عَلَيْهَا شُرُوطٌ،
هِيَ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: قِيَامُ الزَّوْجِيَّةِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا:
25 - وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْمُطَلَّقَةُ زَوْجَةً لِلْمُطَلِّقِ، أَوْ
مُعْتَدَّةً مِنْ طَلاَقِهِ الرَّجْعِيِّ، فَإِذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً
مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ أَوْ فَسْخٍ، فَقَدْ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 521، 522، 523، والدسوقي 2 / 352 - 353، وحاشية الجمل 4
/ 336، ومغني المحتاج 3 / 294، والمغني 6 / 329 - 334.
(29/19)
تَقَدَّمَ الاِخْتِلاَفُ فِيهِ عِنْدَ
الْكَلاَمِ عَلَى مَحَل الطَّلاَقِ.
هَذَا فِي الطَّلاَقِ الْمُنَجَّزِ، فَإِذَا عَلَّقَ طَلاَقَهَا بِشَرْطٍ،
كَأَنْ قَال: إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلاَنٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنْ
كَانَتْ عِنْدَ التَّعْلِيقِ زَوْجَةً صَحَّ الطَّلاَقُ، وَإِنْ كَانَتْ
مُعْتَدَّةً عِنْدَ التَّعْلِيقِ فَفِيهِ الْخِلاَفُ الْمُتَقَدِّمُ فِي
الطَّلاَقِ الْمُنَجَّزِ.
فَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ التَّعْلِيقِ أَجْنَبِيَّةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا،
ثُمَّ حَصَل الشَّرْطُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَضَافَ التَّعْلِيقَ
إِلَى النِّكَاحِ - كَأَنْ قَال لِلأَْجْنَبِيَّةِ: إِنْ تَزَوَّجْتُكِ
فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا - طَلُقَتْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ.
وَإِنْ أَضَافَهُ إِلَى غَيْرِ النِّكَاحِ، بِأَنْ قَال لِلأَْجْنَبِيَّةِ:
إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلاَنٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، ثُمَّ
دَخَلَتْ، لَمْ تَطْلُقْ بِالاِتِّفَاقِ. وَكَذَلِكَ إِنْ دَخَلَتْ
الدَّارَ قَبْل الزَّوَاجِ، فَإِنَّهَا لاَ تَطْلُقُ مِنْ بَابٍ أَوْلَى.
فَإِذَا عَلَّقَ طَلاَقَ الأَْجْنَبِيَّةِ عَلَى غَيْرِ النِّكَاحِ،
وَنَوَى فِيهِ النِّكَاحَ، مِثْل أَنْ يَقُول لَهَا: إِنْ دَخَلْتِ دَارَ
فُلاَنٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ
الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا، طَلُقَتْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِلنِّيَّةِ،
وَلَمْ تَطْلُقْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِعَدَمِ الإِْضَافَةِ لِلنِّكَاحِ
لَفْظًا (1) .
__________
(1) الدر المختار 3 / 344 - 345، ومغني المحتاج 3 / 292، والشرح الكبير 2 /
370.
(29/20)
الشَّرْطُ الثَّانِي: تَعْيِينُ
الْمُطَلَّقَةِ بِالإِْشَارَةِ أَوْ بِالصِّفَةِ أَوْ بِالنِّيَّةِ.
26 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ تَعْيِينِ الْمُطَلَّقَةِ،
وَطُرُقُ التَّعْيِينِ ثَلاَثَةٌ: الإِْشَارَةُ، وَالْوَصْفُ،
وَالنِّيَّةُ، فَأَيُّهَا قُدِّمَ جَازَ، فَإِذَا تَعَارَضَ الثَّلاَثَةُ
فَفِيهِ التَّفْصِيل التَّالِي: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا
عَيَّنَ الْمُطَلَّقَةَ بِالإِْشَارَةِ وَالصِّفَةِ وَالنِّيَّةِ وَقَعَ
الطَّلاَقُ عَلَى الْمُعَيَّنَةِ، كَأَنْ قَال لِزَوْجَتِهِ الَّتِي
اسْمُهَا عَمْرَةُ مُشِيرًا إِلَيْهَا: يَا عَمْرَةُ، أَنْتِ طَالِقٌ،
قَاصِدًا طَلاَقَهَا، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ بِالاِتِّفَاقِ، لِتَمَامِ
التَّعْيِينِ بِذَلِكَ.
فَإِنْ أَشَارَ إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ لِمُتَعَدِّدَاتٍ دُونَ
أَنْ يَصِفَهَا بِوَصْفٍ، وَلَمْ يَنْوِ غَيْرَهَا، وَقَال لَهَا: أَنْتِ
طَالِقٌ، وَقَعَ الطَّلاَقُ عَلَيْهَا بِالاِتِّفَاقِ أَيْضًا، لأَِنَّ
الإِْشَارَةَ كَافِيَةٌ لِلتَّعْيِينِ، وَكَذَلِكَ إِذَا وَصَفَهَا
بِوَصْفِهَا دُونَ إِشَارَةٍ وَدُونَ قَصْدِ غَيْرِهَا، فَإِنَّهَا
تَطْلُقُ أَيْضًا، كَمَا إِذَا قَال: سَلْمَى طَالِقٌ. فَإِنْ نَوَى
وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ، وَلَمْ يُشِرْ إِلَيْهَا وَلَمْ يَصِفْهَا،
كَمَا إِذَا قَال: إِحْدَى نِسَائِي طَالِقٌ، وَنَوَى وَاحِدَةً مِنْهُنَّ،
فَإِنَّهَا تَطْلُقُ دُونَ غَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَال: امْرَأَتِي
طَالِقٌ، وَلَيْسَ لَهُ غَيْرُ زَوْجَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ.
فَإِنْ أَشَارَ إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ،
(29/20)
وَوَصَفَ غَيْرَهَا، بِأَنْ قَال لإِِحْدَى
زَوْجَاتِهِ وَاسْمُهَا سَلْمَى: أَنْتِ يَا عَمْرَةُ طَالِقٌ، وَكَانَتِ
الأُْخْرَى اسْمُهَا عَمْرَةُ، طَلُقَتِ الْمُشَارُ إِلَيْهَا عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ قَضَاءً، وَلَمْ تَطْلُقْ عَمْرَةُ لِلْقَاعِدَةِ
الْفِقْهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ: الْوَصْفُ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ، وَفِي
الْغَائِبِ مُعْتَبَرٌ (1) وَكَذَلِكَ إِذَا أَشَارَ إِلَيْهَا وَوَصَفَهَا
بِغَيْرِ وَصْفِهَا، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ، كَمَا إِذَا قَال لاِمْرَأَتِهِ،
أَنْتِ يَا غَزَالَةُ طَالِقٌ، لِلْقَاعِدَةِ السَّابِقَةِ.
فَإِذَا لَمْ يُشِرْ إِلَيْهَا، وَلَكِنْ وَصَفَهَا بِوَصْفٍ هُوَ فِيهَا،
وَعَنَى بِهَا غَيْرَهَا، كَأَنْ قَال: زَوْجَتِي سَلْمَى طَالِقٌ،
وَقَصَدَ غَيْرَهَا، دُيِّنَ إِنْ كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ اسْمُهَا سَلْمَى
(وَوَقَعَ دِيَانَةً) فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ لَمْ يَقَعِ الطَّلاَقُ
عَلَيْهِ دِيَانَةً وَلاَ قَضَاءً، لِعَدَمِ التَّعَيُّنِ أَصْلاً،
وَعَدَمِ احْتِمَال اللَّفْظِ لِلنِّيَّةِ.
فَإِنْ قَال: نِسَاءُ الدُّنْيَا كُلُّهُنَّ طَوَالِقُ، وَنَوَى
زَوْجَتَهُ، طَلُقَتْ زَوْجَتُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنْ لَمْ
يَنْوِهَا لَمْ تَطْلُقْ، وَإِنْ قَال: نِسَاءُ مَحَلَّتِي كُلُّهُنَّ
طَوَالِقُ، طَلُقَتْ زَوْجَتُهُ، نَوَاهَا أَمْ لَمْ يَنْوِهَا، فَإِنْ
قَال: نِسَاءُ مَدِينَتِي كُلُّهُنَّ طَوَالِقُ، فَإِنْ نَوَى زَوْجَتَهُ
فِيهِنَّ طَلُقَتْ، وَإِلاَّ فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى عَدَمِ
طَلاَقِهَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَيْضًا،
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ
__________
(1) المادة 65 / من مجلة الأحكام العدلية.
(29/21)
أَنَّهَا تَطْلُقُ كَمَا فِي نِسَاءِ
الْحَيِّ (1) . وَلَوْ قَال: نِسَاءُ الْمُسْلِمِينَ طَوَالِقُ لَمْ
تَطْلُقِ امْرَأَتُهُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَلَوْ كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ: سَلْمَى وَعَمْرَةُ، فَدَعَا سَلْمَى
فَأَجَابَتْهُ عَمْرَةُ، فَظَنَّهَا سَلْمَى فَطَلَّقَهَا، طَلُقَتْ
سَلْمَى دِيَانَةً وَقَضَاءً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِلْقَصْدِ، أَمَّا
عَمْرَةُ فَتَطْلُقُ قَضَاءً لاَ دِيَانَةً لِعَدَمِ الْقَصْدِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى طَلاَقِ الْمُجِيبَةِ فِي الأَْصَحِّ،
أَمَّا الْمُنَادَاةُ فَلَمْ تَطْلُقْ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لَمْ تَطْلُقَا
(3) . وَلَوْ قَال الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ وَأَجْنَبِيَّةٍ مَعَهَا:
إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ، ثُمَّ قَال: قَصَدْتُ الأَْجْنَبِيَّةَ، قُبِل
قَوْلُهُ فِي الأَْصَحِّ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ، لاِحْتِمَال كَلاَمِهِ
ذَلِكَ وَلِكَوْنِ الأَْجْنَبِيَّةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ قَابِلَةً -
أَيْ لِلطَّلاَقِ - فَتُقَدَّمُ النِّيَّةُ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ تَطْلُقُ
زَوْجَتُهُ، لأَِنَّهَا مَحَل الطَّلاَقِ دُونَ الثَّانِيَةِ، فَلاَ
يُصْرَفُ قَوْلُهُ إِلَى قَصْدِهِ، لِلْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ
الْكُلِّيَّةِ: إِعْمَال الْكَلاَمِ أَوْلَى مِنْ إِهْمَالِهِ (4) ، فَإِنْ
لَمْ يَكُنْ لَهُ قَصْدٌ أَصْلاً، طَلُقَتْ زَوْجَتُهُ قَوْلاً وَاحِدًا
لِلْقَاعِدَةِ السَّابِقَةِ، فَلَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ وَرَجُلٍ:
أَحَدُكُمَا طَالِقٌ،
__________
(1) الدر المختار 3 / 293 - 294 والروضة 8 / 34.
(2) الشرح الكبير للدردير 2 / 366 - 367.
(3) مغني المحتاج 3 / 327.
(4) المادة 60 / من مجلة الأحكام العدلية، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 142
- 143 ط. الحلبي.
(29/21)
وَقَصَدَ الرَّجُل، بَطَل قَصْدُهُ،
وَطَلُقَتْ زَوْجَتُهُ، لأَِنَّ الرَّجُل لَيْسَ مَحَل الطَّلاَقِ أَصْلاً.
وَلَوْ قَال لإِِحْدَى زَوْجَتَيْهِ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ إِنْ فَعَلَتُ
كَذَا، ثُمَّ فَعَل الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِ إِحْدَاهُمَا،
تَعَيَّنَتِ الثَّانِيَةُ الْحَيَّةُ لِلطَّلاَقِ، طَلُقَتْ (1) . وَنَصَّ
الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَال لِزَوْجَاتِهِ الأَْرْبَعِ:
إِحْدَاكُنَّ طَالِقٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُ نِيَّةٌ طَلُقَتْ الَّتِي
نَوَاهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ، وَمَنْ
وَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَيْهَا كَانَتْ هِيَ الْمُطَلَّقَةُ، وَقَال
مَالِكٌ: طَلُقْنَ جَمِيعًا، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ
يُخَيَّرُ، وَيَقَعُ الطَّلاَقُ عَلَى مَنْ يَخْتَارُهَا مِنْهُنَّ
لِلطَّلاَقِ.
فَإِنْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ وَنَسِيَهَا، " أُخْرِجَتِ
الْمُطَلَّقَةُ بِالْقُرْعَةِ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (2) .
وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ لاَ يُعَوَّل عَلَى الْقُرْعَةِ لِبَيَانِ
مَنْ وَقَعَ الطَّلاَقُ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ عَلَى تَعْيِينِهِ هُوَ.
وَتَطْلِيقُ جُزْءِ الْمُطَلَّقَةِ كَتَطْلِيقِهَا كُلِّهَا إِذَا كَانَ
الْجُزْءُ شَائِعًا وَأَضَافَهُ إِلَيْهَا، كَقَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ:
نِصْفُكِ طَالِقٌ، أَوْ ثُلُثُكِ، أَوْ رُبُعُكِ، أَوْ جُزْءٌ مِنْ أَلْفٍ
مِنْكِ. . فَإِنْ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 304 - 305.
(2) المغني 7 / 434 - 440.
(29/22)
أَضَافَهُ إِلَى جُزْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْهَا،
فَإِنْ كَانَ هَذَا الْجُزْءُ الْمُعَيَّنُ ثَابِتًا فِيهَا وَجُزْءًا لاَ
يَتَجَزَّأُ مِنْهَا كَرَأْسِهَا، وَبَطْنِهَا. . . فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ،
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثَابِتٍ كَلُعَابِهَا، وَعَرَقِهَا، وَسَائِرِ
فَضَلاَتِهَا لَمْ تَطْلُقْ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ طَلَّقَ جُزْءًا شَائِعًا
مِنْهَا طَلُقَتْ، وَإِنْ طَلَّقَ جُزْءًا مُعَيَّنًا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا
يُعَبَّرُ بِهِ عَنْهَا عَادَةً كَالرَّأْسِ، وَالْوَجْهِ، وَالرَّقَبَةِ،
وَالظَّهْرِ. . طَلُقَتْ، وَإِنْ كَانَ لاَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْهَا عَادَةً
كَالْيَدِ وَالرِّجْل لَمْ تَطْلُقْ فَإِنْ تَعَارَفَهُ النَّاسُ طَلُقَتْ
بِهِ أَيْضًا (1) .
الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِصِيغَةِ الطَّلاَقِ:
27 - صِيغَةُ الطَّلاَقِ هِيَ اللَّفْظُ الْمُعَبَّرُ بِهِ عَنْهُ، إِلاَّ
أَنَّهُ يُسْتَعَاضُ عَنِ اللَّفْظِ فِي أَحْوَالٍ بِالْكِتَابَةِ أَوِ
الإِْشَارَةِ. وَلِكُلٍّ مِنَ اللَّفْظِ وَالْكِتَابَةِ وَالإِْشَارَةِ
شُرُوطٌ لاَ بُدَّ مِنْ تَوَافُرِهَا فِيهِ، وَإِلاَّ لَمْ يَقَعِ
الطَّلاَقُ، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ هِيَ:
__________
(1) المغني 7 / 426، ومغني المحتاج 3 / 290 - 291، وروضة الطالبين 8 / 63،
والشرح الكبير للدردير 2 / 388، والدر المختار 3 / 256 - 257، والاختيار 3
/ 126.
(29/22)
أ - شُرُوطُ اللَّفْظِ:
يُشْتَرَطُ فِي اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَل فِي الطَّلاَقِ شُرُوطٌ هِيَ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: الْقَطْعُ أَوِ الظَّنُّ بِحُصُول اللَّفْظِ وَفَهْمِ
مَعْنَاهُ:
28 - الْمُرَادُ هُنَا: حُصُول اللَّفْظِ وَفَهْمُ مَعْنَاهُ، وَلَيْسَ
نِيَّةُ وُقُوعِ الطَّلاَقِ بِهِ، وَقَدْ تَكُونُ نِيَّةُ الْوُقُوعِ
شَرْطًا فِي أَحْوَالٍ كَمَا سَيَأْتِي.
وَعَلَى هَذَا إِذَا حَلَفَ الْمُطَلِّقُ بِشَيْءٍ، ثُمَّ شَكَّ أَكَانَ
حَلِفُهُ بِطَلاَقٍ أَمْ بِغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ لَغْوٌ وَلاَ يَقَعُ بِهِ
شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ إِذَا شَكَّ أَطَلَّقَ أَمْ لاَ؟ فَإِنَّهُ لاَ يَقَعُ
بِهِ شَيْءٌ مِنْ بَابٍ أَوْلَى، فَإِنْ تَيَقَّنَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ
طَلَّقَ ثُمَّ شَكَّ فِي الْعَدَدِ، أَطَلَّقَ وَاحِدَةً، أَمْ ثِنْتَيْنِ،
أَمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؟ بَنَى عَلَى الأَْقَل لِحُصُول الْيَقِينِ أَوِ
الظَّنِّ بِهِ وَالشَّكِّ فِيمَا فَوْقَهُ، وَالشَّكُّ لاَ يَثْبُتُ بِهِ
حُكْمٌ شَرْعِيٌّ بِخِلاَفِ الظَّنِّ وَالْيَقِينِ، وَهَذَا عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ، وَذَهَبَ
أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَتَحَرَّى، فَإِنِ
اسْتَوَيَا عِنْدَهُ حُمِل بِأَشَدِّ ذَلِكَ عَلَيْهِ احْتِيَاطًا فِي
قَضَايَا الْفُرُوجِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ تَعْلِيقًا عَلَى ذَلِكَ:
وَيُمْكِنُ حَمْل الأَْوَّل عَلَى الْقَضَاءِ، وَالثَّانِي عَلَى
الدِّيَانَةِ (1) .
__________
(1) الدر المختار وابن عابدين عليه 3 / 283 - 284، والشرح الكبير 2 / 401،
ومغني المحتاج 3 / 280، 303، والمغني 7 / 318، والقوانين الفقهية ص 255.
(29/23)
فَإِذَا نَوَى التَّلَفُّظَ بِالطَّلاَقِ
ثُمَّ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ، لَمْ يَقَعْ بِالاِتِّفَاقِ، لاِنْعِدَامِ
اللَّفْظِ أَصْلاً، وَخَالَفَ الزُّهْرِيُّ، وَقَال بِوُقُوعِ طَلاَقِ
النَّاوِي لَهُ مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ (1) . وَدَلِيل الْجُمْهُورِ قَوْل
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ اللَّهَ
تَجَاوَزَ لأُِمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَل
أَوْ تَكَلَّمْ بِهِ (2) . وَلَوْ لُقِّنَ أَعْجَمِيٌّ لَفْظَ الطَّلاَقِ
وَهُوَ لاَ يَعْرِفُ مَعْنَاهُ، فَقَالَهُ لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ
وَكَذَلِكَ عَرَبِيٌّ إِذَا لُقِّنَ لَفْظًا أَعْجَمِيًّا يُفِيدُ
الطَّلاَقَ وَهُوَ لاَ يَعْرِفُ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ مُطْلَقًا (3) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: نِيَّةُ وُقُوعِ الطَّلاَقِ بِاللَّفْظِ:
29 - هَذَا خَاصٌّ بِالْكِنَايَاتِ مِنَ الأَْلْفَاظِ، أَمَّا الصَّرِيحُ
فَلاَ يُشْتَرَطُ لِوُقُوعِ الطَّلاَقِ بِهِ نِيَّةُ الطَّلاَقِ أَصْلاً،
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ بَعْضَ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ حَيْثُ
أَوْقَعُوا الطَّلاَقَ بِهَا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ كَالصَّرِيحِ، وَهِيَ
الْكِنَايَاتُ الظَّاهِرَةُ، كَقَوْل الْمُطَلِّقِ لِزَوْجَتِهِ:
سَرَّحْتُكِ، فَإِنَّهُ فِي حُكْمِ: طَلَّقْتُكِ، وَوَافَقَهُمُ
الْحَنَابِلَةُ فِي ذَلِكَ
__________
(1) المغني 7 / 318، والقوانين الفقهية ص 255.
(2) حديث: " إن الله تجاوز لأمتي. . . ". أخرجه البخاري فتح الباري (9 /
388) ومسلم (1 / 117) من حديث أبي هريرة واللفظ لمسلم.
(3) مغني المحتاج 3 / 289.
(29/23)
عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، خِلاَفًا
لِمَا فُهِمَ مِنْ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ، وَذُكِرَ فِي نَيْل الْمَآرِبِ
أَنَّ لَفْظَ: سَرَاحٍ مِنَ الْكِنَايَاتِ فَيَحْتَاجُ لِلنِّيَّةِ (1) .
وَهَل تَقُومُ قَرَائِنُ الأَْحْوَال وَالْعُرْفِ مَقَامَ النِّيَّةِ فِي
الْكِنَايَاتِ؟ .
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَخَالَفَ
الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَقَالُوا: لاَ عِبْرَةَ. بِالْعُرْفِ
وَقَرَائِنِ الْحَال، وَعَلَى ذَلِكَ إِذَا قَال الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ:
أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ طَلاَقَهَا طَلُقَتْ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِلنِّيَّةِ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَكُونُ
ظِهَارًا، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الطَّلاَقَ لَمْ تَطْلُقْ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَتَطْلُقُ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي
الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَطْلُقُ ثَلاَثًا فِي الْمَدْخُول
بِهَا، وَيُنَوَّى (أَيْ يُسْأَل عَنْ نِيَّتِهِ) فِي غَيْرِ الْمَدْخُول
بِهَا. وَهَل يَقَعُ الطَّلاَقُ بِلَفْظٍ لاَ يَحْتَمِلُهُ أَصْلاً
كَقَوْلِهِ لَهَا: اسْقِنِي مَاءً؟ إِنْ لَمْ يَنْوِ بِهِ الطَّلاَقَ لَمْ
يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ بِالإِْجْمَاعِ، وَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلاَقَ وَقَعَ
الطَّلاَقُ بِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلاَ يَقَعُ
بِهِ شَيْءٌ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ
لِلْمَالِكِيَّةِ (2) .
__________
(1) المغني 7 / 326، والدسوقي 2 / 365، والقوانين الفقهية ص 253، ونيل
المآرب 2 / 237.
(2) كشاف القناع 5 / 253، والمغني 7 / 322، وابن عابدين 3 / 298 - 300
والاختيار 3 / 132، والروضة 8 / 26، والقوانين الفقهية ص252 - 253، 254
ومغني المحتاج 3 / 282 - 283، وبداية المجتهد 2 / 84.
(29/24)
ب - شُرُوطُ الْكِتَابَةِ:
اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِوُقُوعِ الطَّلاَقِ بِالْكِتَابَةِ شَرْطَيْنِ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ تَكُونَ مُسْتَبِينَةً.
30 - وَالْمَقْصُودُ أَنْ تَكُونَ مَكْتُوبَةً بِشَكْلٍ ظَاهِرٍ يَبْقَى
لَهُ أَثَرٌ يَثْبُتُ بِهِ، كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْوَرَقِ، أَوِ
الأَْرْضِ، بِخِلاَفِ الْكِتَابَةِ فِي الْهَوَاءِ أَوِ الْمَاءِ،
فَإِنَّهَا غَيْرُ مُسْتَبِينَةٍ وَلاَ يَقَعُ بِهَا الطَّلاَقُ، وَهَذَا
لَدَى الْجُمْهُورِ، وَفِي رِوَايَةٍ لأَِحْمَدَ يَقَعُ بِهَا الطَّلاَقُ
وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مُستَبِينَةً (1) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَرْسُومَةً:
31 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْكِتَابَةُ إِذَا كَانَتْ مُسْتَبِينَةً
وَمَرْسُومَةً يَقَعُ الطَّلاَقُ بِهَا، نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ، وَإِذَا
كَانَتْ غَيْرَ مُسْتَبِينَةٍ لاَ يَقَعُ مُطْلَقًا وَإِنْ نَوَى.
أَمَّا إِذَا كَانَتْ مُسْتَبِينَةً غَيْرَ مَرْسُومَةٍ، فَإِنْ نَوَى
يَقَعُ، وَإِلاَّ لاَ يَقَعُ وَقِيل: يَقَعُ مُطْلَقًا (2) .
وَالْكِتَابَةُ الْمَرْسُومَةُ عِنْدَهُمْ هِيَ: مَا كَانَ
__________
(1) المغني 7 / 424.
(2) ابن عابدين مع الدر المختار 3 / 246.
(29/24)
مُعْتَادًا وَيَكُونُ مَصْدَرًا
وَمُعَنْوَنًا، مِثْل مَا يُكْتَبُ إِلَى الْغَائِبِ، وَالْكِتَابَةُ
الْمُسْتَبِينَةُ هِيَ: مَا يُكْتَبُ عَلَى الصَّحِيفَةِ وَالْحَائِطِ
وَالأَْرْضِ، عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ فَهْمُهُ وَقِرَاءَتُهُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَتَبَ الطَّلاَقَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ،
(نَاوِيًا لَهُ) ، أَوْ كَتَبَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ وَقَعَ،
وَإِنْ كَتَبَهُ لِيَسْتَخِيرَ فِيهِ، كَانَ الأَْمْرُ بِيَدِهِ، إِلاَّ
أَنْ يَخْرُجَ الْكِتَابُ مِنْ يَدِهِ (1) . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ
كَتَبَ نَاطِقٌ طَلاَقًا وَلَمْ يَنْوِهِ فَلَغْوٌ، وَإِنْ نَوَاهُ
فَالأَْظْهَرُ وُقُوعُهُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَتَبَ صَرِيحَ طَلاَقِ امْرَأَتِهِ بِمَا
يَتَبَيَّنُ وَقَعَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ، وَإِنْ نَوَى تَجْوِيدَ خَطِّهِ
أَوْ غَمَّ أَهْلِهِ أَوْ تَجْرِبَةَ قَلَمِهِ لَمْ يَقَعْ، وَيُقْبَل
مِنْهُ ذَلِكَ حُكْمًا. وَإِنْ كَتَبَ صَرِيحَ طَلاَقِ امْرَأَتِهِ
بِشَيْءٍ لاَ يَتَبَيَّنُ لَمْ يَقَعْ (2) .
ج - شُرُوطُ الإِْشَارَةِ:
32 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الطَّلاَقِ
بِالإِْشَارَةِ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى الْكَلاَمِ، وَخَالَفَ
الْمَالِكِيَّةُ، فَقَالُوا: يَقَعُ الطَّلاَقُ بِإِشَارَةِ الْقَادِرِ
عَلَى الْكَلاَمِ، كَالأَْخْرَسِ إِنْ كَانَتْ إِشَارَتُهُ مُفْهِمَةً،
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُفْهِمَةً لَمْ يَقَعْ بِهَا
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 568 - 569.
(2) مغني المحتاج 3 / 284، وكشاف القناع 5 / 249.
(29/25)
الطَّلاَقُ عِنْدَ الأَْكْثَرِ، وَفِي
قَوْلٍ لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ يَقَعُ بِهَا الطَّلاَقُ بِالنِّيَّةِ،
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ إِشَارَةَ النَّاطِقِ
بِالطَّلاَقِ كِنَايَةٌ لِحُصُول الإِْفْهَامِ بِهَا فِي الْجُمْلَةِ.
فَأَمَّا الأَْخْرَسُ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى وُقُوعِ الطَّلاَقِ
بِإِشَارَتِهِ، وَخَصَّ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِعَجْزِهِ عَنِ
الْكِتَابَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْكِتَابَةِ
لَمْ يَصِحَّ طَلاَقُهُ بِالإِْشَارَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لَدَى
الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا، إِلاَّ أَنَّهُ مَرْجُوحٌ عِنْدَهُمْ (1) . ثُمَّ
إِنْ كَانَتْ إِشَارَتُهُ مَفْهُومَةً لَدَى كُل النَّاسِ، وَقَعَ بِهَا
الطَّلاَقُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ كَالصَّرِيحِ، وَإِنْ كَانَتْ مَفْهُومَةً
لَدَى بَعْضِهِمْ فَقَطْ، وَقَعَ الطَّلاَقُ بِهَا مَعَ النِّيَّةِ فَقَطْ
كَمَا فِي الْكِتَابَةِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ (2) كَمَا
اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِوُقُوعِ الطَّلاَقِ بِالإِْشَارَةِ مِنَ
الأَْخْرَسِ أَنْ يَكُونَ خَرَسُهُ مُنْذُ الْوِلاَدَةِ أَوْ طَرَأَ
عَلَيْهِ وَاسْتَمَرَّ إِلَى الْمَوْتِ فِي الْقَوْل الْمُفْتَى بِهِ،
وَلِذَا كَانَ طَلاَقُهُ مَوْقُوفًا عَلَى مَوْتِهِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ:
إِذَا دَامَ سَنَةً كَانَ كَمَنْ وُلِدَ أَخْرَسَ.
__________
(1) الدر المختار 3 / 241، والقوانين الفقهية ص 255، والدسوقي 2 / 384،
ومغني المحتاج 3 / 284، والمغني 7 / 423.
(2) مغني المحتاج 3 / 284.
(29/25)
أَنْوَاعُ الطَّلاَقِ:
33 - لِلطَّلاَقِ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ النَّظَرِ
إِلَيْهِ. - فَهُوَ مِنْ حَيْثُ الصِّيغَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِيهِ عَلَى
نَوْعَيْنِ: صَرِيحٌ وَكِنَائِيٌّ - وَمِنْ حَيْثُ الأَْثَرُ النَّاتِجُ
عَنْهُ عَلَى نَوْعَيْنِ: رَجْعِيٌّ وَبَائِنٌ، وَالْبَائِنُ عَلَى
نَوْعَيْنِ: بَائِنٌ بَيْنُونَةٌ صُغْرَى، وَبَائِنٌ بَيْنُونَةٌ كُبْرَى -
وَمِنْ حَيْثُ صِفَتُهُ عَلَى نَوْعَيْنِ: سُنِّيٌّ وَبِدْعِيٌّ - وَمِنْ
حَيْثُ وَقْتُ وُقُوعِ الأَْثَرِ النَّاتِجِ عَنْهُ عَلَى ثَلاَثَةِ
أَنْوَاعٍ: مُنَجَّزٌ، وَمُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ، وَمُضَافٌ إِلَى
الْمُسْتَقْبَل. وَتَفْصِيل ذَلِكَ كَمَا يَلِي:
أَوَّلاً: الصَّرِيحُ وَالْكِنَائِيُّ:
34 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ (1) ، عَلَى أَنَّ الصَّرِيحَ فِي الطَّلاَقِ
هُوَ: مَا لَمْ يُسْتَعْمَل إِلاَّ فِيهِ غَالِبًا، لُغَةً أَوْ عُرْفًا،
وَعُرِّفَ كَذَلِكَ بِأَنَّهُ: مَا ثَبَتَ حُكْمُهُ الشَّرْعِيُّ بِلاَ
نِيَّةٍ، وَلَيْسَ بَيْنَ التَّعْرِيفَيْنِ تَنَافٍ، بَل تَكَامُلٌ،
فَالأَْوَّل تَعْرِيفُهُ بِحَسَبِ اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَل فِيهِ،
وَالثَّانِي بِحَسَبِ الأَْثَرِ النَّاتِجِ عَنْهُ.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 247 - 296، والدسوقي 2 / 378، ومغني المحتاج 3 / 280،
والمغني 7 / 318 - 319.
(29/26)
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ
الْكِنَائِيَّ فِي الطَّلاَقِ هُوَ: مَا لَمْ يُوضَعِ اللَّفْظُ لَهُ،
وَاحْتَمَلَهُ وَغَيْرُهُ، فَإِذَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ أَصْلاً لَمْ يَكُنْ
كِنَايَةً، وَكَانَ لَغْوًا لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ (1) . وَاتَّفَقُوا
عَلَى أَنَّ الصَّرِيحَ يَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ،
وَكَذَلِكَ بِالنِّيَّةِ الْمُنَاقَضَةِ قَضَاءً فَقَطْ، وَعَلَى ذَلِكَ
فَلَوْ أَطْلَقَ اللَّفْظَ الصَّرِيحَ، وَقَال: لَمْ أَنْوِ بِهِ شَيْئًا
وَقَعَ بِهِ الطَّلاَقُ، وَلَوْ قَال: نَوَيْتُ غَيْرَ الطَّلاَقِ لَمْ
يُصَدَّقْ قَضَاءً وَصُدِّقَ دِيَانَةً، هَذَا مَا لَمْ يَحُفَّ
بِاللَّفْظِ مِنْ قَرَائِنِ الْحَال مَا يَدُل عَلَى صِدْقِ نِيَّتِهِ فِي
إِرَادَةِ غَيْرِ الطَّلاَقِ، فَإِنْ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ تَدُل عَلَى
عَدَمِ قَصْدِهِ الطَّلاَقَ صُدِّقَ قَضَاءً أَيْضًا، وَلَمْ يَقَعْ بِهِ
عَلَيْهِ طَلاَقٌ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الطَّلاَقِ
فَطَلَّقَ صَرِيحًا غَيْرَ نَاوٍ بِهِ الطَّلاَقَ، فَإِنَّهُ لاَ يَقَعُ
دِيَانَةً وَلاَ قَضَاءً لِقَرِينَةِ الإِْكْرَاهِ (2) . وَهَذَا لَدَى
الْجُمْهُورِ، وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ وَقَالُوا بِوُقُوعِ الطَّلاَقِ
مِنَ الْمُكْرَهِ كَمَا تَقَدَّمَ. أَمَّا الْكِنَائِيُّ فَلاَ يَقَعُ بِهِ
الطَّلاَقُ إِلاَّ مَعَ النِّيَّةِ، ذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِل
الطَّلاَقَ وَغَيْرَهُ، فَلاَ يُصْرَفُ إِلَى الطَّلاَقِ إِلاَّ
بِالنِّيَّةِ، وَأَمَّا وُقُوعُهُ بِالنِّيَّةِ فَلأَِنَّ اللَّفْظَ
يَحْتَمِلُهُ، فَيُصْرَفُ إِلَيْهِ بِهَا. وَقَدْ أَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ
الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةَ
__________
(1) المغني 7 / 329.
(2) الدسوقي 2 / 379.
(29/26)
بِالصَّرِيحِ، فَأَوْقَعُوا الطَّلاَقَ
بِهَا بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَهِيَ الْكِنَايَاتُ الَّتِي تُسْتَعْمَل فِي
الطَّلاَقِ كَثِيرًا وَإِنْ لَمْ تُوضَعْ لَهُ فِي الأَْصْل، وَهِيَ
لَفْظُ: الْفِرَاقُ وَالسَّرَاحُ. وَالْحَنَابِلَةُ مَعَ الْمَالِكِيَّةِ
هُنَا فِي قَوْل الْقَاضِي، إِلاَّ أَنَّ مَفْهُومَ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ
أَنَّهُ لاَ يَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ مُطْلَقًا.
35 - وَهَل يَحِل مَحَل النِّيَّةِ قَرَائِنُ الْحَال فِي وُقُوعِ
الطَّلاَقِ بِالْكِنَايَةِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ؟ . ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّ قَرَائِنَ الْحَال
كَالنِّيَّةِ فِي وُقُوعِ الطَّلاَقِ بِاللَّفْظِ الْكِنَائِيِّ، كَمَا
لَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ فِي حَالَةِ غَضَبٍ: الْحَقِي بِأَهْلِكِ،
فَإِنَّهُ طَلاَقٌ وَلَوْ لَمْ يَنْوِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي
حَالَةِ مُسَاءَلَةِ الطَّلاَقِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ،
وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى عَدَمِ
الاِعْتِدَادِ بِقَرَائِنِ الْحَال هُنَا، فَلاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ
بِاللَّفْظِ الْكِنَائِيِّ عِنْدَهُمْ إِلاَّ إِذَا نَوَاهُ مُطْلَقًا.
وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الأَْلْفَاظَ الصَّرِيحَةَ فِي
الطَّلاَقِ هِيَ مَادَّةُ (طَلَّقَ) وَمَا اشْتُقَّ مِنْهَا لُغَةً
وَعُرْفًا، مِثْل: طَلَّقْتُكِ، وَأَنْتِ طَالِقٌ، وَمُطَلَّقَةٌ.
فَلَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ مُطْلَقَةٌ بِالتَّخْفِيفِ كَانَ كِنَايَةً،
فَلاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ بِهِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ
الإِْشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ أَنْزَلُوا
(29/27)
الْكِنَايَاتِ الْمَشْهُورَةَ مَنْزِلَةَ
الصَّرِيحِ فِي وُقُوعِ الطَّلاَقِ بِهَا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَإِنْ لَمْ
يَعُدُّوهَا مِنَ الصَّرِيحِ (1) . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي
الْمَشْهُورِ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ الصَّرِيحَ أَلْفَاظٌ
ثَلاَثَةٌ هِيَ: الطَّلاَقُ وَالْفِرَاقُ وَالسَّرَاحُ، وَمَا اشْتُقَّ
مِنْهَا لُغَةً وَعُرْفًا، مِثْل: طَلَّقْتُكِ، وَأَنْتِ طَالِقٌ،
وَمُطَلَّقَةٌ، فَلَوْ قَال: أَنْتِ مُطْلَقَةٌ بِالتَّخْفِيفِ كَانَ
كِنَايَةً، لِعَدَمِ اشْتِهَارِهِ فِي الطَّلاَقِ. وَأَمَّا الْكِنَائِيُّ
فَمَا وَرَاءَ الصَّرِيحِ مِنَ الأَْلْفَاظِ مِمَّا يَحْتَمِل الطَّلاَقَ
كَلَفْظِ: اعْتَدِّي، وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ، وَالْحَقِي بِأَهْلِك،
وَأَنْتِ خَلِيَّةٌ، وَأَنْتِ مُطْلَقَةٌ بِغَيْرِ تَشْدِيدٍ وَنَحْوِ
ذَلِكَ (2) . وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى وُقُوعِ الطَّلاَقِ بِاللَّفْظِ
الْمُصَحَّفِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ اللَّفْظُ صَرِيحًا وَقَعَ الطَّلاَقُ بِهِ
بِغَيْرِ نِيَّةٍ، كَلَفْظِ: طَلاَغ، وَتَلاَغٍ، وَطَلاَكٍ، وَتَلاَكٍ. . .
بِلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُطَلِّقُ عَالِمًا أَوْ جَاهِلاً،
إِلاَّ أَنْ يَقُول الْمُطَلِّقُ: تَعَمَّدْتُ التَّصْحِيفَ هَذَا
لِلتَّخْوِيفِ بِهِ، وَيَحُفُّ بِهِ مِنْ قَرَائِنِ الْحَال مَا
يُصَدِّقُهُ، كَالإِْشْهَادِ عَلَى ذَلِكَ قَبْل
__________
(1) ابن عابدين 3 / 247 - 248، والدسوقي 2 / 378، المغني 7 / 322، 326،
ومغني المحتاج 3 / 280.
(2) مغني المحتاج 3 / 280، والمغني 7 / 318 - 321، ونيل المآرب 2 / 237.
(29/27)
الطَّلاَقِ، فَإِنَّهُ لاَ يَقَعُ بِهِ
شَيْءٌ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ، وَإِلاَّ وَقَعَ الطَّلاَقُ (1) . وَلَمْ
يَحْصُرِ الْفُقَهَاءُ الصَّرِيحَ فِي الطَّلاَقِ بِالْعَرَبِيَّةِ، بَل
أَطْلَقُوهُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا، وَذَكَرُوا أَلْفَاظًا
بِالْفَارِسِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ يَقَعُ بِهَا الطَّلاَقُ صَرِيحًا
بِغَيْرِ نِيَّةٍ، مِثْل: " سان بوش " بِالتُّرْكِيَّةِ " وَبهشتم "
بِالْفَارِسِيَّةِ، وَقَدْ جَرَى فِي هَذِهِ الأَْلْفَاظِ بَعْضُ
اخْتِلاَفٍ بَيْنَهُمْ، أَهِيَ مِنَ الصَّرِيحِ أَمْ مِنَ الْكِنَائِيِّ؟
وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ مَرَدَّ ذَلِكَ إِلَى مَنْ يَعْلَمُ بِهَذِهِ
اللُّغَاتِ وَالأَْعْرَافِ (2) .
مَا يَقَعُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَائِيِّ مِنَ الطَّلاَقِ:
36 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (3) إِلَى أَنَّ طَلاَقَ الزَّوْجِ
يَكُونُ رَجْعِيًّا دَائِمًا وَلاَ يَكُونُ بَائِنًا إِلاَّ فِي أَحْوَالٍ
ثَلاَثٍ، وَهِيَ:
أ - الطَّلاَقُ قَبْل الدُّخُول، وَيَكُونُ بَائِنًا.
ب - الطَّلاَقُ عَلَى مَالٍ، وَيَكُونُ بَائِنًا ضَرُورَةَ وُجُوبِ الْمَال
بِهِ عَلَى الزَّوْجَةِ، ذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ تَبْذُلْهُ لَهُ إِلاَّ
لِبَيْنُونَتِهَا.
ج - الطَّلاَقُ الثَّلاَثُ، وَذَلِكَ ضَرُورَةُ وُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ
الْكُبْرَى بِهِ، بِنَصِّ الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ: {
__________
(1) ابن عابدين 3 / 249 ط. عيسى الحلبي.
(2) ابن عابدين 3 / 248، والحطاب 4 / 44، ومغني المحتاج 3 / 280، والمغني 7
/ 124، 238.
(3) المغني 7 / 454، ومغني المحتاج 3 / 337.
(29/28)
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِل لَهُ مِنْ
بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (1) . هَذَا إِلَى جَانِبِ
أَحْوَالٍ يَكُونُ الطَّلاَقُ فِي بَعْضِهَا بَائِنًا إِذَا كَانَ بِحُكْمِ
الْقَاضِي، كَالتَّفْرِيقِ لِلْغَيْبَةِ، وَالتَّفْرِيقِ لِلإِْيلاَءِ،
وَالتَّفْرِيقِ لِلْعَيْبِ، وَالتَّفْرِيقِ لِلشِّقَاقِ وَالضَّرَرِ،
وَالتَّفْرِيقِ لِلإِْعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكِنَائِيَّ يَقَعُ الطَّلاَقُ بِهِ
بَائِنًا مُطْلَقًا، إِلاَّ أَلْفَاظًا قَلِيلَةً قَدْرَ وُجُودِ لَفْظِ
الطَّلاَقِ الصَّرِيحِ فِيهَا، فَيَكُونُ رَجْعِيًّا، مِثْل: اعْتَدِّي،
وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ، وَأَنْتِ وَاحِدَةً. وَالتَّقْدِيرُ: طَلَّقْتُكِ
فَاعْتَدِّي، وَطَلَّقْتُكِ فَاسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ، وَأَنْتِ طَالِقٌ
طَلْقَةً وَاحِدَةً (2) . أَمَّا الصَّرِيحُ فَيَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ
رَجْعِيًّا بِشُرُوطٍ، وَهِيَ:
الأَْوَّل: يَكُونُ بَعْدَ الدُّخُول، فَإِذَا كَانَ قَبْل الدُّخُول
وَقَعَ بِهِ الطَّلاَقُ بَائِنًا مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ بِلَفْظٍ
صَرِيحٍ أَمْ بِلَفْظٍ كِنَائِيٍّ.
الثَّانِي: أَنْ لاَ يَكُونَ مَقْرُونًا بِعِوَضٍ، فَإِنْ قُرِنَ بِعِوَضٍ
(طَلاَقٌ عَلَى مَالٍ) كَانَ بَائِنًا.
الثَّالِثُ: أَنْ لاَ يَكُونَ مَقْرُونًا بِعَدَدِ الثَّلاَثِ لَفْظًا أَوْ
إِشَارَةً أَوْ كِتَابَةً، وَأَنْ لاَ يَكُونَ الثَّالِثُ
__________
(1) الآية / 230 من سورة البقرة.
(2) الاختيار 3 / 132.
(29/28)
بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ سَابِقَتَيْنِ
عَلَيْهِ، رَجْعِيَّتَيْنِ أَوْ بَائِنَتَيْنِ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ
الثَّالِثَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَائِنًا بَيْنُونَةً كُبْرَى.
الرَّابِعُ: أَنْ لاَ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ تُنْبِئُ عَنِ
الْبَيْنُونَةِ، أَوْ تَدُل عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ،
كَقَوْلِهِ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنًا، بِخِلاَفِ: أَنْتِ طَالِقٌ
وَبَائِنٌ، فَإِنَّهُ يَقَعُ بِالأُْولَى طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ،
وَبِالثَّانِيَةِ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ، وَكَذَلِكَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً
تَمْلِكِينَ بِهَا نَفْسَكِ، فَإِنَّهُ بَائِنٌ.
الْخَامِسُ: أَنْ لاَ يَكُونَ مُشَبَّهًا بِعَدَدٍ أَوْ صِفَةٍ تَدُل عَلَى
الْبَيْنُونَةِ، كَأَنْ يَقُول لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مِثْل هَذِهِ
وَيُشِيرُ بِأَصَابِعِهِ الثَّلاَثَةِ، فَإِنَّهَا تَبِينُ مِنْهُ
بِثَلاَثِ طَلَقَاتٍ. فَإِذَا تَخَلَّفَ شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ
وَقَعَ بِهِ الطَّلاَقُ بَائِنًا (1) .
ثَانِيًا: الرَّجْعِيُّ وَالْبَائِنُ:
37 - الطَّلاَقُ الرَّجْعِيُّ هُوَ: مَا يَجُوزُ مَعَهُ لِلزَّوْجِ رَدُّ
زَوْجَتِهِ فِي عِدَّتِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ، وَالْبَائِنُ
هُوَ: رَفْعُ قَيْدِ النِّكَاحِ فِي الْحَال. هَذَا، وَالطَّلاَقُ
الْبَائِنُ عَلَى قِسْمَيْنِ: بَائِنٌ بَيْنُونَةٌ صُغْرَى، وَبَائِنٌ
بَيْنُونَةٌ كُبْرَى. فَأَمَّا الْبَائِنُ بَيْنُونَةٌ صُغْرَى فَيَكُونُ
بِالطَّلْقَةِ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 250، 3 / 278 - 281.
(29/29)
الْبَائِنَةِ الْوَاحِدَةِ،
وَبِالطَّلْقَتَيْنِ الْبَائِنَتَيْنِ، فَإِذَا كَانَ الطَّلاَقُ ثَلاَثًا،
كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ بِهِ كُبْرَى مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ أَصْل كُلٍّ
مِنَ الثَّلاَثِ بَائِنًا أَمْ رَجْعِيًّا بِالاِتِّفَاقِ.
فَإِذَا طَلَّقَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ رَجْعِيًّا حَل لَهُ الْعَوْدُ
إِلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ بِالرَّجْعَةِ، دُونَ عَقْدٍ جَدِيدٍ، فَإِذَا
مَضَتِ الْعِدَّةُ عَادَ إِلَيْهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ فَقَطْ.
فَإِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلْقَةً بَائِنَةً وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ
جَازَ لَهُ الْعَوْدُ إِلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَهَا، وَلَكِنْ
لَيْسَ بِالرَّجْعَةِ، وَإِنَّمَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ.
فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلاَثًا كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ كُبْرَى، وَلَمْ يَحِل
لَهُ الْعَوْدُ إِلَيْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَتَتَزَوَّجَ مِنْ
غَيْرِهِ، وَيَدْخُل بِهَا، ثُمَّ تَبِينُ مِنْهُ بِمَوْتٍ أَوْ فُرْقَةٍ،
وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا، فَإِنْ حَصَل ذَلِكَ حَل لَهُ الْعَوْدُ إِلَيْهَا
بِعَقْدٍ جَدِيدٍ (1) ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِنْ
طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِل لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ
ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (2) .
الْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى:
38 - الْبَيْنُونَةُ عِنْدَ إِطْلاَقِهَا تَنْصَرِفُ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 293، والدسوقي 2 / 385، ومغني المحتاج 3 / 396، والمغني
7 / 417.
(2) الآية / 230 من سورة البقرة.
(29/29)
لِلصُّغْرَى، وَلاَ تَكُونُ كُبْرَى إِلاَّ
إِذَا كَانَتْ ثَلاَثًا.
إِلاَّ أَنَّ طُرُقَ وُقُوعِ الثَّلاَثِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي
بَعْضِهَا، وَاتَّفَقُوا فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ حَسَبَ الآْتِي: اتَّفَقَ
الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ مَرَّةً
وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنَةً، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا بِعَقْدٍ
أَوْ رَجْعَةٍ، ثُمَّ طَلَّقَهَا مَرَّةً أُخْرَى رَجْعِيًّا أَوْ
بَائِنًا، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا بِعَقْدٍ أَوْ رَجْعَةٍ، ثُمَّ طَلَّقَهَا
لِلْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ كَانَ ثَلاَثًا، وَبَانَتْ مِنْهُ بَيْنُونَةً
كُبْرَى، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ
فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1) . وَقَوْلِهِ:
{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِل لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ} (2) . كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا مَرَّةً
وَاحِدَةً، ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَانِيَةً بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا،
أَنَّ الثَّانِيَةَ لاَ تَقَعُ عَلَيْهَا، لِعَدَمِ كَوْنِهَا مَحَلًّا
لِلطَّلاَقِ، لاِنْقِضَاءِ الزَّوْجِيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالطَّلاَقُ
خَاصٌّ بِالزَّوْجَاتِ، وَكَذَلِكَ إِذَا طَلَّقَهَا ثَالِثَةً بَعْدَ
ذَلِكَ، فَإِنَّهَا لاَ تَقَعُ عَلَيْهَا، وَفِي هَذِهِ الْحَال تَكُونُ
الْبَيْنُونَةُ صُغْرَى وَيَحِل لَهُ الْعَوْدُ إِلَيْهَا بِعَقْدٍ
جَدِيدٍ.
وَالْمُطَلَّقَةُ قَبْل الدُّخُول بِهَا إِذَا طَلَّقَهَا: فَإِنَّ
__________
(1) الآية / 229 من سورة البقرة.
(2) لآية 230 من سورة البقرة.
(29/30)
الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ
اللَّفْظِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُقُوعِ الثَّانِيَةِ
وَالثَّالِثَةِ عَلَيْهَا - كَالْمَدْخُول بِهَا - إِذَا عَطَفَهُنَّ عَلَى
بَعْضِهِنَّ بِالْوَاوِ فَقَال: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ؛
لأَِنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، فَتَكُونُ
الأُْولَى غَيْرَ الثَّانِيَةِ، وَهُنَّ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ قَال لِغَيْرِ الْمَوْطُوءَةِ:
أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً بِالْعَطْفِ، أَوْ قَبْل وَاحِدَةٍ،
أَوْ بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ، تَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَلاَ تَلْحَقُهَا
الثَّانِيَةُ لِعَدَمِ الْعِدَّةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَطَفَهَا بِالْفَاءِ
وَثُمَّ. وَفِي أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ، أَوْ قَبْلَهَا
أَوْ مَعَ وَاحِدَةٍ أَوْ مَعَهَا وَاحِدٌ ثِنْتَانِ، الأَْصْل: أَنَّهُ
مَتَى أَوْقَعَ بِالأَْوَّل لَغَا الثَّانِي، أَوْ بِالثَّانِي اقْتَرَنَا،
لأَِنَّ الإِْيقَاعَ فِي الْمَاضِي إِيقَاعٌ فِي الْحَال.
وَيَقَعُ بِأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ
ثِنْتَانِ لَوْ دَخَلْتِ لِتَعَلُّقِهِمَا بِالشَّرْطِ دَفْعَةً، وَتَقَعُ
وَاحِدَةٌ إِنْ قَدَّمَ الشَّرْطَ، لأَِنَّ الْمُعَلَّقَ كَالْمُنَجَّزِ
(2) . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَال لِغَيْرِ مَوْطُوءَةٍ: أَنْتِ
طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ؛ لأَِنَّهَا تَبِينُ
__________
(1) المغني 7 / 418، والدسوقي 2 / 385.
(2) الدر المختار 3 / 288.
(29/30)
بِالأُْولَى، فَلاَ يَقَعُ مَا بَعْدَهَا،
وَلَوْ قَال لَهَا: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ
فَدَخَلَتْ وَقَعَتْ ثِنْتَانِ فِي الأَْصَحِّ لأَِنَّهُمَا مُتَعَلِّقَانِ
بِالدُّخُول وَلاَ تَرْتِيبَ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا يَقَعَانِ مَعًا،
وَالثَّانِي مُقَابِل الأَْصَحِّ لاَ يَقَعُ إِلاَّ وَاحِدَةٌ
كَالْمُنَجَّزِ، وَلَوْ عَطَفَ بِثُمَّ أَوْ نَحْوِهَا مِمَّا يَقْتَضِي
التَّرْتِيبَ لَمْ يَقَعْ بِالدُّخُول إِلاَّ وَاحِدَةٌ.
وَلَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِحْدَى عَشْرَةَ طَلْقَةً طَلُقَتْ
ثَلاَثًا، بِخِلاَفِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَلاَ يَقَعُ إِلاَّ طَلْقَةٌ
لِلْعَطْفِ.
وَلَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً مَعَ طَلْقَةٍ، أَوْ مَعَهَا
طَلْقَةٌ، فَثِنْتَانِ مَعًا فِي الأَْصَحِّ، وَقِيل عَلَى التَّرْتِيبِ
وَاحِدَةٌ تَبِينُ بِهَا.
وَلَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً قَبْل طَلْقَةٍ أَوْ طَلْقَةً
بَعْدَهَا طَلْقَةٌ، فَطَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لأَِنَّهَا تَبِينُ
بِالأُْولَى، فَلاَ تُصَادِفُ الثَّانِيَةُ نِكَاحًا (1) أَمَّا
الْمَدْخُول بِهَا إِنْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ طَلَّقَهَا
ثَانِيَةً فِي عِدَّتِهَا، فَإِنْ كَانَتِ الأُْولَى رَجْعِيَّةً، فَقَدْ
ذَهَبَ الْجَمَاهِيرُ إِلَى وُقُوعِ الثَّانِيَةِ، فَإِذَا طَلَّقَهَا
ثَالِثَةً فِي الْعِدَّةِ - وَكَانَتِ الثَّانِيَةُ رَجْعِيَّةً أَيْضًا -
وَقَعَتِ الثَّالِثَةُ وَبَانَتْ مِنْهُ بَيْنُونَةً كُبْرَى، هَذَا مَا
لَمْ يَنْوِ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ تَأْكِيدَ الأُْولَى، فَإِنْ
نَوَى تَأْكِيدَ الأُْولَى صُدِّقَ دِيَانَةً، وَلَمْ يُصَدَّقْ قَضَاءً،
وَأُمْضِيَ عَلَيْهِ الثَّلاَثُ، مَا لَمْ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 297.
(29/31)
تَحُفَّ بِهِ قَرَائِنُ أَحْوَالٍ
تُرَجِّحُ صِحَّةَ نِيَّتِهِ، فَإِنْ حَفَّتْ بِهِ قَرَائِنُ حَالٍ
تُرَجِّحُ صِحَّةَ نِيَّتِهِ صُدِّقَ دِيَانَةً وَقَضَاءً، كَمَا إِذَا
طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فَسُئِل: مَاذَا فَعَلْتَ؟ فَقَال: طَلَّقْتُهَا، أَوْ
قُلْتُ: هِيَ طَالِقٌ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (1) . وَنَصَّ
الشَّافِعِيَّةُ عَلَى قَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ، قَال فِي مُغْنِي
الْمُحْتَاجِ: وَإِنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ
طَالِقٌ وَتَخَلَّل فَصْلٌ، فَثَلاَثٌ، سَوَاءٌ أَقَصَدَ التَّأْكِيدَ أَمْ
لاَ، لأَِنَّهُ خِلاَفُ الظَّاهِرِ، لَكِنْ إِذَا قَال: قَصَدْتُ
التَّأْكِيدَ، فَإِنَّهُ يُدَيَّنُ، فَإِنْ تَكَرَّرَ لَفْظُ الْخَبَرِ
فَقَطْ، كَأَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ، فَكَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ
خِلاَفًا لِلْقَاضِي فِي قَوْلِهِ: يَقَعُ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ لَمْ
يَتَخَلَّل فَصْلٌ، فَإِنْ قَصَدَ تَأْكِيدًا - أَيْ قَصَدَ تَأْكِيدَ
الأُْولَى بِالأَْخِيرَتَيْنِ - فَوَاحِدَةٌ. . . أَوْ قَصَدَ
اسْتِئْنَافًا فَثَلاَثٌ. . وَكَذَا إِذَا أَطْلَقَ بِأَنْ لَمْ يَقْصِدْ
تَأْكِيدًا وَلاَ اسْتِئْنَافًا يَقَعُ ثَلاَثٌ فِي الأَْظْهَرِ (2) .
وَالْحَنَابِلَةُ فِي هَذَا مَعَ الشَّافِعِيَّةِ (3) . وَالْمَالِكِيَّةُ
مَذْهَبُهُمْ لاَ يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ. قَال الدَّرْدِيرُ: وَإِنْ
كَرَّرَهُ ثَلاَثًا بِلاَ عَطْفٍ لَزِمَهُ ثَلاَثٌ فِي الْمَدْخُول بِهَا
كَغَيْرِهَا، أَيْ غَيْرِ الْمَدْخُول بِهَا يَلْزَمُهُ الثَّلاَثُ إِنْ
نَسَّقَهُ وَلَوْ حُكْمًا، كَفَصْلِهِ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 293.
(2) مغني المحتاج 3 / 296.
(3) المغني 7 / 417.
(29/31)
بِسُعَالٍ، إِلاَّ لِنِيَّةِ تَأْكِيدٍ
فِيهِمَا - أَيْ فِي الْمَدْخُول بِهَا وَغَيْرِهَا - فَيُصَدَّقُ
بِيَمِينٍ فِي الْقَضَاءِ، وَبِغَيْرِهَا فِي الْفَتْوَى، بِخِلاَفِ
الْعَطْفِ فَلاَ تَنْفَعُهُ نِيَّةُ التَّأْكِيدِ مُطْلَقًا كَمَا
تَقَدَّمَ، لأَِنَّ الْعَطْفَ يُنَافِي التَّأْكِيدَ (1) .
39 - فَإِذَا طَلَّقَهَا بَائِنًا وَاحِدَةً، أَوِ اثْنَتَيْنِ مَعًا،
ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَانِيَةً وَثَالِثَةً فِي عِدَّتِهَا، لَمْ تَقَعِ
الثَّانِيَةُ أَوِ الثَّالِثَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ لِخُرُوجِهَا عَنِ الزَّوْجِيَّةِ بِالأُْولَى، فَلَمْ
تَعُدْ مَحَلًّا لِلطَّلاَقِ بَعْدَ ذَلِكَ (2) . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
إِلَى أَنَّ الأُْولَى أَوِ الثَّانِيَةَ إِذَا كَانَتَا بِلَفْظٍ صَرِيحِ،
لَحِقَتْهَا الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ، بِلَفْظٍ صَرِيحٍ كَانَتْ أَوْ
كِنَائِيٍّ، فَإِذَا كَانَتِ الأُْولَى أَوِ الثَّانِيَةُ بَائِنًا
لَحِقَتْهَا الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ إِذَا كَانَتْ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ
فَقَطْ، فَإِذَا كَانَتْ بَائِنًا لَمْ تَلْحَقْهَا إِذَا أَمْكَنَ
جَعْلُهَا إِخْبَارًا عَنْهَا لاِحْتِمَال ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ لَهَا:
أَنْتِ بَائِنٌ بَائِنٌ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهَا إِخْبَارًا عَنْهَا
لَحِقَتْهَا أَيْضًا، كَقَوْلِهِ لَهَا: أَنْتِ بَائِنٌ ثُمَّ قَوْلُهُ:
أَنْتِ بَائِنٌ بِأُخْرَى، فَإِنَّهَا تَلْحَقُهَا لِتَعَذُّرِ جَعْلِهَا
إِخْبَارًا عَنْهَا (3) . فَإِذَا طَلَّقَهَا وَذَكَرَ أَنَّهُ ثَلاَثٌ
لَفْظًا وَقَعَ ثَلاَثٌ
__________
(1) الشرح الكبير 2 / 385.
(2) مغني المحتاج 3 / 293.
(3) الدر المختار 3 / 309 - 310.
(29/32)
عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَكَذَلِكَ
إِذَا قَال: اثْنَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِ اثْنَتَانِ، كَأَنْ
يَقُول لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ
(1) . فَإِذَا قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ
الثَّلاَثِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ
إِنْ قَال لَهَا: (هَكَذَا) مَعَ الإِْشَارَةِ وَقَعَ الثَّلاَثُ، وَإِنْ
قَال: مِثْل هَذِهِ، مَعَ الإِْشَارَةِ بِالثَّلاَثِ وَقَعَ ثَلاَثٌ إِنْ
نَوَاهَا، وَإِلاَّ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَقُل شَيْئًا مَعَ
الإِْشَارَةِ بِالأَْصَابِعِ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ وَلَغَتِ الإِْشَارَةُ.
فَإِنْ كَتَبَ لَهَا ثَلاَثًا بَدَل الإِْشَارَةِ بِالأَْصَابِعِ، فَمِثْل
الإِْشَارَةِ.
فَإِنْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَكْبَرَ الطَّلاَقِ أَوْ أَغْلَظَهُ. .
فَإِنْ نَوَى بِهِ ثَلاَثًا، فَثَلاَثٌ لاِحْتِمَال اللَّفْظِ ذَلِكَ،
وَإِلاَّ وَقَعَ بِهِ وَاحِدَةٌ بَائِنٌ (2) . إِلاَّ أَنَّ
الشَّافِعِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ،
وَنَوَى عَدَدًا وَقَعَ مَا نَوَاهُ، فَإِنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ
وَاحِدَةً، وَنَوَى عَدَدًا، وَقَعَ مَا نَوَاهُ وَاحِدَةً بِهِ عَلَى
الرَّاجِحِ؛ لأَِنَّ الْمَلْفُوظَ يُنَاقِضُ الْمَنْوِيَّ، وَاللَّفْظُ
أَقْوَى، فَالْعَمَل بِهِ أَوْلَى. وَقِيل: يَقَعُ الْمَنْوِيُّ عَمَلاً
بِالنِّيَّةِ (3) . وَالْحَنَابِلَةُ مَعَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ فِيمَا تَقَدَّمَ،
__________
(1) المغني 7 / 418.
(2) الدر المختار ابن عابدين عليه 3 / 274 - 277.
(3) مغني المحتاج 3 / 294 و 326.
(29/32)
إِلاَّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ
أَحْمَدَ قَوْلُهُ: وَإِذَا قَال لَهَا: أَنْتِ بَرِيَّةٌ، أَوْ أَنْتِ
بَائِنٌ أَوْ حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، أَوِ الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فَهُوَ
عِنْدِي ثَلاَثٌ، وَلَكِنْ أَكْرَهُ أَنْ أُفْتِيَ بِهِ، سَوَاءٌ دَخَل
بِهَا أَمْ لَمْ يَدْخُل (1) . أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
فَيُوقِعُونَ بِذَلِكَ ثَلاَثًا إِنْ نَوَاهَا، لاِحْتِمَال اللَّفْظِ
لَهَا، فَإِذَا لَمْ يَنْوِ الثَّلاَثَ لَمْ يَقَعْ بِهِ ثَلاَثٌ.
وَالْمَالِكِيَّةُ مَعَ الْجُمْهُورِ فِي كُل مَا تَقَدَّمَ، إِلاَّ
أَنَّهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ الأَْخِيرَةِ يَقُولُونَ: يَقَعُ ثَلاَثٌ
مُطْلَقًا، إِلاَّ فِي الْخُلْعِ أَوْ قَبْل الدُّخُول، فَيَكُونُ
وَاحِدَةً (2) . فَإِذَا قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَنَوَى
بِهِ ثَلاَثًا، وَقَعَ وَاحِدَةٌ، وَبَطَلَتِ النِّيَّةُ، لِعَدَمِ
احْتِمَال اللَّفْظِ لَهَا، فَإِنْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا
وَنَوَى بِهِ وَاحِدَةً، وَقَعَ عَلَيْهِ ثَلاَثٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ،
لِصَرَاحَةِ اللَّفْظِ، فَلاَ تَعْمَل النِّيَّةُ بِخِلاَفِهِ.
فَإِنْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى بِهِ ثَلاَثًا، وَقَعَ بِهِ
وَاحِدَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ يَقَعُ ثَلاَثٌ، وَهُوَ
قَوْل مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ (3) .
__________
(1) المغني 7 / 324.
(2) المغني 7 / 325، والدسوقي 2 / 364.
(3) الدسوقي 2 / 364، ومغني المحتاج 3 / 326، والمغني 7 / 420 - 421.
(29/33)
ثَالِثًا - السُّنِّيُّ وَالْبِدْعِيُّ:
40 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الطَّلاَقَ مِنْ حَيْثُ وَصْفُهُ الشَّرْعِيُّ
إِلَى سُنِّيٍّ وَبِدْعِيٍّ يُرِيدُونَ بِالسُّنِّيِّ: مَا وَافَقَ
السُّنَّةَ فِي طَرِيقَةِ إِيقَاعِهِ، وَالْبِدْعِيُّ: مَا خَالَفَ
السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ، وَلاَ يَعْنُونَ بِالسُّنِّيِّ أَنَّهُ سُنَّةٌ،
لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ النُّصُوصِ الْمُنَفِّرَةِ مِنَ الطَّلاَقِ،
وَأَنَّهُ أَبْغَضُ الْحَلاَل إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ أَحْوَال كُلٍّ مِنَ السُّنِّيِّ
وَالْبِدْعِيِّ، وَاتَّفَقُوا فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ، كَمَا يَلِي:
قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الطَّلاَقَ إِلَى سُنِّيٍّ وَبِدْعِيٍّ،
وَقَسَّمُوا السُّنِّيَّ إِلَى قِسْمَيْنِ: حَسَنٌ وَأَحْسَنُ
فَالأَْحْسَنُ عِنْدَهُمْ: أَنْ يُوقِعَ الْمُطَلِّقُ عَلَى زَوْجَتِهِ
طَلْقَةً وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً فِي طُهْرٍ لَمْ يَطَأْهَا فِيهِ، وَلاَ
فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ قَبْلَهُ، وَلَمْ يَطَأْهَا غَيْرُهُ فِيهِ
بِشُبْهَةٍ أَيْضًا، فَإِنْ زَنَتْ فِي حَيْضِهَا ثُمَّ طَهُرَتْ،
فَطَلَّقَهَا لَمْ يَكُنْ بِدْعِيًّا. وَأَمَّا الْحَسَنُ: فَأَنْ
يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً فِي طُهْرٍ لَمْ يَطَأْهَا فِيهِ وَلاَ
فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ قَبْلَهُ، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا طَلْقَتَيْنِ
أُخْرَيَيْنِ فِي طُهْرَيْنِ آخَرَيْنِ دُونَ وَطْءٍ، هَذَا إِنْ كَانَتْ
مِنْ أَهْل الْحَيْضِ، وَإِلاَّ طَلَّقَهَا ثَلاَثَ طَلَقَاتٍ فِي
ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، كَمَنْ بَلَغَتْ بِالسِّنِّ وَلَمْ تَرَ الْحَيْضَ.
وَهَذَا فِي الْمَدْخُول أَوِ الْمُخْتَلَى بِهَا، أَمَّا غَيْرُ
(29/33)
الْمَدْخُول أَوِ الْمُخْتَلَى بِهَا،
فَالْحَسَنُ: أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً فَقَطْ، وَلاَ يُهِمُّ أَنْ
يَكُونَ ذَلِكَ فِي حَيْضٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلاَ يَضُرُّ أَنَّ طَلاَقَهَا
يَكُونُ بَائِنًا؛ لأَِنَّهُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ كَذَلِكَ.
وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَبِدْعِيٌّ عِنْدَهُمْ، كَأَنْ يُطَلِّقَهَا
مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ مَعًا أَوْ مُتَفَرِّقَاتٍ،
أَوْ يُطَلِّقَهَا فِي الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ، أَوْ يُطَلِّقَهَا فِي
طُهْرٍ مَسَّهَا فِيهِ، أَوْ فِي طُهْرٍ مَسَّهَا فِي الْحَيْضِ قَبْلَهُ.
فَإِنْ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي
بَعْدَهُ، كَانَ الثَّانِي بِدْعِيًّا أَيْضًا؛ لأَِنَّهُمَا بِمَثَابَةِ
طُهْرٍ وَاحِدٍ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْتَظِرَ حَيْضَهَا الثَّانِيَ، فَإِذَا
طَهُرَتْ مِنْهُ طَلَّقَهَا إِنْ شَاءَ، وَيَكُونُ سُنِّيًّا عِنْدَ
ذَلِكَ، وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ، ثُمَّ ارْتَجَعَتْ، ثُمَّ
طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي بَعْدَهُ كَانَ بِدْعِيًّا فِي
الأَْرْجَحِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَقَال الْقُدُورِيُّ: يَكُونُ
سُنِّيًّا.
وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ تَكُنْ حَامِلاً، أَوْ صَغِيرَةً دُونَ سِنِّ
الْحَيْضِ، أَوْ آيِسَةً، فَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ كَانَ طَلاَقُهَا
سُنِّيًّا، سَوَاءٌ مَسَّهَا أَمْ لَمْ يَمَسَّهَا؛ لأَِنَّهَا فِي طُهْرٍ
مُسْتَمِرٍّ، وَلَكِنْ لاَ يَزِيدُ عَلَى وَاحِدَةٍ، فَإِنْ زَادَ كَانَ
بِدْعِيًّا.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْبِدْعِيِّ عَامَّةً: الْخُلْعَ،
وَالطَّلاَقَ عَلَى مَالٍ، وَالتَّفْرِيقَ لِلْعِلَّةِ، فَإِنَّهُ لاَ
يَكُونُ بِدْعِيًّا وَلَوْ كَانَ فِي الْحَيْضِ، لِمَا
(29/34)
فِيهِ مِنَ الضَّرُورَةِ، وَكَذَلِكَ
تَخْيِيرُهَا فِي الْحَيْضِ سَوَاءٌ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي الْحَيْضِ
أَمْ بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ اخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا فِي الْحَيْضِ، سَوَاءٌ
أَخَيَّرَهَا فِي الْحَيْضِ أَمْ قَبْلَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ
بِدْعِيًّا لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ الْمَحْضِ (1) . وَقَسَّمَ
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الطَّلاَقَ مِنْ حَيْثُ وَصْفُهُ الشَّرْعِيُّ
إِلَى سُنِّيٍّ وَبِدْعِيٍّ، وَلَمْ يَذْكُرُوا لِلسُّنِّيِّ تَقْسِيمًا،
فَهُوَ عِنْدَهُمْ قِسْمٌ وَاحِدٌ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ
بَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ قَسَّمُوا الطَّلاَقَ إِلَى سُنِّيٍّ وَبِدْعِيٍّ،
وَمَا لَيْسَ سُنِّيًّا وَلاَ بِدْعِيًّا وَهُوَ الْمُرَجَّحُ عِنْدَهُمْ،
وَاَلَّذِي لَيْسَ سُنِّيًّا وَلاَ بِدْعِيًّا هُوَ مَا اسْتَثْنَاهُ
الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْبِدْعِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ وَالسُّنِّيُّ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ: هُوَ مَا يَشْمَل الْحَسَنَ وَالأَْحْسَنَ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ مَعًا. وَالْبِدْعِيُّ عِنْدَهُمْ: مَا يُقَابِل
الْبِدْعِيَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ خَالَفُوهُمْ فِي
أُمُورٍ، أَهَمُّهَا: أَنَّ الطَّلاَقَ الثَّلاَثَ فِي ثَلاَثِ حَيْضَاتٍ
سُنِّيٌّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ بِدْعِيٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ،
وَكَذَلِكَ الطَّلاَقُ ثَلاَثًا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ،
فَإِنَّهُ سُنِّيٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا، وَهُوَ رِوَايَةٌ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، اخْتَارَهَا الْخِرَقِيُّ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ كَمَا عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (2) .
__________
(1) الدر المختار وابن عابدين عليه 3 / 230 - 234.
(2) المغني 7 / 301، ومغني المحتاج 3 / 311 - 312، والدسوقي 2 / 361 وما
بعدها.
(29/34)
هَذَا، وَالْمَدَارُ عَلَى مَعْرِفَةِ
السُّنِّيِّ وَالْبِدْعِيِّ مِنَ الطَّلاَقِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ،
أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1) وَقَدْ
فَسَّرَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ بِأَنْ يُطَلِّقَهَا
فِي طُهْرٍ لاَ جِمَاعَ فِيهِ، وَمِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا (2) . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ،
فَسَأَل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيَتْرُكْهَا حَتَّى
تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ
بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْل أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ
الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ (3) . وَمَا
وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:
طَلاَقُ السُّنَّةِ تَطْلِيقَةٌ وَهِيَ طَاهِرٌ فِي غَيْرِ جِمَاعٍ،
فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ طَلَّقَهَا أُخْرَى، فَإِذَا حَاضَتْ
وَطَهُرَتْ طَلَّقَهَا أُخْرَى، ثُمَّ تَعْتَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَيْضَةٍ
(4) .
__________
(1) الآية 1 من سورة الطلاق.
(2) المغني 7 / 298.
(3) حديث: " مرة فليراجعها. . . " تقدم فـ 9.
(4) المغني 7 / 298. وأثر عبد الله بن مسعود: طلاق السنة تطليقة، أخرجه
النسائي (6 / 140) .
(29/35)
وَالْمَعْنَى الْعَامُّ فِي السُّنِّيِّ
وَالْبِدْعِيِّ، أَنَّ السُّنِّيَّ يَمْنَعُ النَّدَمَ، وَيُقَصِّرُ
الْعِدَّةَ عَلَى الْمَرْأَةِ فَيَقِل تَضَرُّرُهَا مِنْ الطَّلاَقِ.
حُكْمُ الطَّلاَقِ الْبِدْعِيِّ مِنْ حَيْثُ وُقُوعُهُ وَوُجُوبُ
الْعِدَّةِ بَعْدَهُ:
41 - اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى وُقُوعِ الطَّلاَقِ
الْبِدْعِيِّ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى وُقُوعِ الإِْثْمِ فِيهِ عَلَى
الْمُطَلِّقِ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ. فَإِذَا
طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي الْحَيْضِ وَجَبَ عَلَيْهِ مُرَاجَعَتُهَا، رَفْعًا
لِلإِْثْمِ لَدَى الْحَنَفِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَقَال
الْقُدُورِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الرَّجْعَةَ مُسْتَحَبَّةٌ لاَ
وَاجِبَةٌ (1) . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ مُرَاجَعَةَ مَنْ
طَلَّقَهَا بِدْعِيًّا سُنَّةٌ، وَعَبَّرَ الْحَنَابِلَةُ عَنْ ذَلِكَ
بِالاِسْتِحْبَابِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى تَقْسِيمِ الْبِدْعِيِّ إِلَى: حَرَامٍ
وَمَكْرُوهٍ، فَالْحَرَامُ: مَا وَقَعَ فِي الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ مِنَ
الطَّلاَقِ مُطْلَقًا، وَالْمَكْرُوهُ: مَا وَقَعَ فِي غَيْرِ الْحَيْضِ
وَالنِّفَاسِ، كَمَا لَوْ أَوْقَعَهُ فِي طُهْرِهَا الَّذِي جَامَعَهَا
فِيهِ، وَعَلَى هَذَا يُجْبَرُ الْمُطَلِّقُ فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ
عَلَى الرَّجْعَةِ رَفْعًا لِلْحُرْمَةِ، وَلاَ يُجْبَرُ غَيْرُهُ عَلَى
الرَّجْعَةِ وَإِنْ كَانَ بِدْعِيًّا (2) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 233.
(2) الدسوقي 2 / 361 - 362.
(29/35)
وَهَذَا كُلُّهُ مَا دَامَتِ الرَّجْعَةُ
مُمْكِنَةً، بِأَنْ كَانَ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا، فَإِذَا كَانَ بَائِنًا
بَيْنُونَةً صُغْرَى أَوْ كُبْرَى تَعَذَّرَ الرُّجُوعُ وَاسْتَقَرَّ
الإِْثْمُ.
دَلِيل ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
بِاسْتِرْجَاعِ زَوْجَتِهِ مَا دَامَ ذَلِكَ مُمْكِنًا، فَإِذَا لَمْ
يَكُنْ مُمْكِنًا لِلْبَيْنُونَةِ امْتَنَعَ الرُّجُوعُ، فَقَدْ وَرَدَ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا سُئِل
عَنِ الرَّجُل يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ يَقُول: أَمَّا أَنْتَ
طَلَّقْتَهَا وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَهَا. ثُمَّ يُمْهِلَهَا
حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ،
ثُمَّ يُطَلِّقَهَا قَبْل أَنْ يَمَسَّهَا، وَأَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا
ثَلاَثًا، فَقَدْ عَصَيْتَ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلاَقِ
امْرَأَتِكِ، وَبَانَتْ مِنْكَ (1) .
رَابِعًا - الطَّلاَقُ الْمُنَجَّزُ وَالْمُضَافُ وَالْمُعَلَّقُ:
الأَْصْل فِي الطَّلاَقِ التَّنْجِيزُ، إِلاَّ أَنَّهُ يَقْبَل
التَّعْلِيقَ وَالإِْضَافَةَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَلَهُ
تَفْصِيلاَتٌ وَأَحْكَامٌ كَمَا يَلِي:
أ - الطَّلاَقُ الْمُنَجَّزُ:
42 - تَعْرِيفُهُ: هُوَ الطَّلاَقُ الْخَالِي فِي صِيغَتِهِ
__________
(1) حديث: " أن ابن عمر كان إذا سئل عن الرجل يطلق امرأته. . ". أخرجه مسلم
(2 / 1094) .
(29/36)
عَنِ التَّعْلِيقِ وَالإِْضَافَةِ،
كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَوِ اذْهَبِي إِلَى بَيْتِ أَهْلِكَ، يَنْوِي
طَلاَقَهَا.
حُكْمُهُ: أَنَّهُ يَنْعَقِدُ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ فِي الْحَال،
وَيَعْقُبُهُ أَثَرُهُ بِدُونِ تَرَاخٍ مَا دَامَ مُسْتَوْفِيًا
لِشُرُوطِهِ، فَإِذَا قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، طَلُقَتْ لِلْحَال
وَبَدَأَتْ عِدَّتُهَا، هَذَا مَعَ مُلاَحَظَةِ الْفَارِقِ بَيْنَ
الْبَائِنِ وَالرَّجْعِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ.
ب - الطَّلاَقُ الْمُضَافُ:
43 - تَعْرِيفُهُ: هُوَ الطَّلاَقُ الَّذِي قُرِنَتْ صِيغَتُهُ بِوَقْتٍ
بِقَصْدِ وُقُوعِ الطَّلاَقِ عِنْدَ حُلُول ذَلِكَ الْوَقْتِ، كَقَوْلِهِ:
أَنْتِ طَالِقٌ أَوَّل الشَّهْرِ الْقَادِمِ، أَوْ آخِرَ النَّهَارِ، أَوْ
أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ.
حُكْمُهُ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الطَّلاَقَ الْمُضَافَ إِلَى
الْمُسْتَقْبَل يَنْعَقِدُ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ فِي الْحَال، وَلَكِنْ لاَ
يَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ إِلاَّ عِنْدَ حُلُول أَجَلِهِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ
بَعْدَ اسْتِيفَائِهِ لِشُرُوطِهِ الأُْخْرَى، فَإِذَا قَال لَهَا: أَنْتِ
طَالِقٌ آخِرَ هَذَا الشَّهْرِ، لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَنْقَضِيَ
الشَّهْرُ، وَلَوْ قَال: فِي أَوَّلِهِ طَلُقَتْ أَوَّلَهُ، وَلَوْ قَال:
فِي شَهْرِ كَذَا، طَلُقَتْ فِي أَوَّلِهِ عِنْدَ الأَْكْثَرِ، وَخَالَفَ
الْبَعْضُ وَقَالُوا يَقَعُ فِي آخِرِهِ. فَإِذَا أَضَافَ الطَّلاَقَ إِلَى
زَمَنٍ سَابِقٍ، فَإِنْ قَصَدَ وُقُوعَهُ لِلْحَال مُسْتَنِدًا إِلَى
ذَلِكَ الزَّمَنِ
(29/36)
السَّابِقِ، وَقَعَ لِلْحَال
كَالْمُنَجَّزِ مُقْتَصِرًا عَلَى وَقْتِ إِيقَاعِهِ، وَقِيل: يَلْغُو،
وَإِنْ قَصَدَ الإِْخْبَارَ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي
ذَلِكَ الزَّمَنِ السَّابِقِ، صُدِّقَ فِي ذَلِكَ بِيَمِينِهِ إِنْ كَانَ
التَّصْدِيقُ مُمْكِنًا، فَإِنْ كَانَ مُسْتَحِيلاً، كَأَنْ يَقُول لَهَا:
أَنْتِ طَالِقٌ مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً وَعُمْرُهَا أَقَل مِنْ ذَلِكَ
كَانَ لَغْوًا (1) . هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَضَافَ طَلاَقَهُ إِلَى
زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ كَأَنْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ بَعْدَ سَنَةٍ،
أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ مَوْتِي طَلُقَتْ لِلْحَال مُنَجَّزًا،
وَكَذَلِكَ إِذَا أَضَافَهُ إِلَى زَمَنٍ مَاضٍ قَاصِدًا بِهِ
الإِْنْشَاءَ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ، فَإِنَّهَا، تَطْلُقُ
لِلْحَال، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ الإِْخْبَارَ دُيِّنَ عِنْدَ الْمُفْتِي (2)
. وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ
وَلاَ نِيَّةَ لَهُ، فَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ أَنَّ الطَّلاَقَ لاَ
يَقَعُ، وَقَال الْقَاضِي فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: يَقَعُ الطَّلاَقُ، وَإِنْ
قَصَدَ الإِْخْبَارَ صُدِّقَ، وَوَقَعَ الطَّلاَقُ (3) . وَمَذْهَبُ
الشَّافِعِيَّةِ كَالْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ خَالَفُوهُمْ فِيمَا
لَوْ أَضَافَهُ إِلَى زَمَنٍ سَابِقٍ مُحَالٍ وَلَمْ
__________
(1) الدر المختار 3 / 265 - 268، ومغني المحتاج 3 / 314، والمغني 7 / 363 -
364.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 390.
(3) المغني 7 / 363 - 364.
(29/37)
يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، فَإِنَّهُ يَقَعُ
عِنْدَهُمْ، كَمَا لَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْل أَنْ تُخْلَقِي،
فَإِنَّهُ يَقَعُ لِلْحَال إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ (1) .
ج - الطَّلاَقُ الْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطٍ:
44 - التَّعْلِيقُ عَلَى شَرْطٍ هُنَا هُوَ رَبْطُ حُصُول مَضْمُونِ
جُمْلَةٍ بِحُصُول مَضْمُونِ جُمْلَةٍ أُخْرَى (2) سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ
الْمَضْمُونُ مِنْ قِبَل الْمُطَلِّقِ أَوِ الْمُطَلَّقَةِ أَوْ غَيْرِهَا،
أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْل أَحَدٍ.
فَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْل الْمُطَلِّقِ أَوِ الْمُطَلَّقَةِ أَوْ
غَيْرِهِمَا سُمِّيَ يَمِينًا لَدَى الْجُمْهُورِ مَجَازًا، وَذَلِكَ لِمَا
فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْقَسَمِ، وَهُوَ: تَقْوِيَةُ عَزْمِ الْحَالِفِ أَوْ
عَزْمِ غَيْرِهِ عَلَى فِعْل شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ، كَمَا إِذَا قَال
لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلاَنٍ، أَوْ: أَنْتِ
طَالِقٌ إِنْ ذَهَبْتُ أَنَا إِلَى فُلاَنٍ، أَوْ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ
زَارَكِ فُلاَنٌ. . . فَإِنْ كَانَ الطَّلاَقُ مُعَلَّقًا لاَ عَلَى فِعْل
أَحَدٍ، كَمَا إِذَا قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ
مَثَلاً، كَانَ تَعْلِيقًا، وَلَمْ يُسَمَّ يَمِينًا، لاِنْتِفَاءِ مَعْنَى
الْيَمِينِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحُكْمِ مِثْل الْيَمِينِ،
وَهُنَالِكَ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ أَطْلَقَ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 315.
(2) الدر المختار 3 / 341 ط. الحلبي.
(29/37)
عَلَيْهِ الْيَمِينَ أَيْضًا (1) .
وَأَدَوَاتُ الرَّبْطِ وَالتَّعْلِيقِ هِيَ: إِنْ، وَإِذَا وَإِذْ مَا
وَكُل، وَكُلَّمَا، وَمَتَى، وَمَتَى مَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ، كُلُّهَا
تُفِيدُ التَّعْلِيقَ بِدُونِ تَكْرَارٍ إِلاَّ: كُلَّمَا، فَإِنَّهَا
تُفِيدُ التَّعْلِيقَ مَعَ التَّكْرَارِ (2) . وَقَدْ يَكُونُ التَّعْلِيقُ
بِدُونِ أَدَاةٍ، كَمَا إِذَا قَال - لَهَا: عَلَيَّ الطَّلاَقُ سَأَفْعَل
كَذَا، فَهُوَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ: عَلَيَّ الطَّلاَقُ إِنْ لَمْ أَفْعَل
كَذَا، وَهُوَ - التَّعْلِيقُ الْمَعْنَوِيُّ، وَقَدْ جَاءَ بِهِ
الْعُرْفُ.
حُكْمُهُ: اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى صِحَّةِ الْيَمِينِ
بِالطَّلاَقِ أَوْ تَعْلِيقِ الطَّلاَقِ عَلَى شَرْطٍ مُطْلَقًا، إِذَا
اسْتَوْفَى شُرُوطَ التَّعْلِيقِ الآْتِيَةِ: فَإِذَا حَصَل الشَّرْطُ
الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ وَقَعَ الطَّلاَقُ، دُونَ اشْتِرَاطِ الْفَوْرِ
إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَهُ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُل لَمْ يَقَعْ، سَوَاءٌ فِي
ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ مِنْ فِعْل
الْحَالِفِ أَوِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا، أَوْ غَيْرِهِمَا، أَوْ لَمْ
يَكُنْ مِنْ فِعْل أَحَدٍ، هَذَا إِذَا حَصَل الْفِعْل الْمُعَلَّقُ
عَلَيْهِ طَائِعًا ذَاكِرًا التَّعْلِيقَ، فَإِنْ حَصَل مِنْهُ الْفِعْل
الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا وَقَعَ الطَّلاَقُ بِهِ
أَيْضًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيهِ قَوْلاَنِ
أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهَا لَمْ تَطْلُقْ (3) .
__________
(1) الدر المختار 3 / 341، والمغني 7 / 369.
(2) ابن عابدين 3 / 350 - 352.
(3) مغني المحتاج 3 / 316 و 326، والمغني 7 / 379.
(29/38)
ثُمَّ مَا دَامَ لَمْ يَحْصُل الْمُعَلَّقُ
عَلَيْهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ قُرْبَانِ زَوْجَتِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ،
وَقَال مَالِكٌ: يُضْرَبُ لَهُ أَجَل الْمُولِي.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (1) إِلَى أَنَّهُ إِنْ عُلِّقَ طَلاَقُهُ
بِأَمْرٍ فِي زَمَنٍ مَاضٍ مُمْتَنِعٍ عَقْلاً أَوْ عَادَةً أَوْ شَرْعًا
حَنِثَ لِلْحَال، وَإِنْ عَلَّقَهُ بِأَمْرٍ مَاضٍ وَاجِبٍ فِعْلُهُ
عَقْلاً أَوْ شَرْعًا أَوْ عَادَةً فَلاَ حِنْثَ عَلَيْهِ. وَإِنْ
عَلَّقَهُ بِأَمْرٍ فِي زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، فَإِنْ كَانَ مُحَقَّقَ
الْوُجُودِ أَوْ مَظْنُونَ الْوُجُودِ عَقْلاً أَوْ عَادَةً أَوْ شَرْعًا
لِوُجُوبِهِ نُجِّزَ لِلْحَال، كَمَا إِذَا قَال: هِيَ طَالِقٌ إِنْ لَمْ
أَمَسَّ السَّمَاءَ، أَوْ هِيَ طَالِقٌ إِنْ قُمْتُ، أَوْ إِنْ صَلَّيْتُ.
وَإِنْ كَانَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ مُسْتَحِيلاً، أَوْ نَادِرًا، أَوْ
مُسْتَبْعَدًا عَقْلاً أَوْ عَادَةً أَوْ شَرْعًا لِحُرْمَتِهِ، لَمْ
يَحْنَثْ، كَمَا لَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ لَوْ جَمَعْتِ بَيْنَ
الضِّدَّيْنِ، أَوْ إِنْ لَمَسْتِ السَّمَاءَ، أَوْ إِنْ زَنَيْتِ.
شُرُوطُ صِحَّةِ التَّعْلِيقِ:
يُشْتَرَطُ لِوُقُوعِ الطَّلاَقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ مَا يَلِي:
45 - 1 - أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ مَعْدُومًا عِنْدَ
الطَّلاَقِ وَعَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ فِي الْمُسْتَقْبَل، فَإِذَا كَانَ
الشَّرْطُ مَوْجُودًا عِنْدَ التَّعْلِيقِ، كَمَا إِذَا قَال لَهَا: أَنْتِ
طَالِقٌ إِنْ كَانَ
__________
(1) الشرح الكبير والدسوقي عليه 2 / 389 - 396.
(29/38)
أَبُوكِ مَعَنَا الآْنَ، وَهُوَ مَعَهُمَا،
فَإِنَّهُ طَلاَقٌ صَحِيحٌ مُنَجَّزٌ يَقَعُ لِلْحَال، وَلَيْسَ
مُعَلَّقًا، أَمَّا أَنَّهُ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ، فَمَعْنَاهُ: أَنْ
يَكُونَ الشَّرْطُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ مُمْكِنَ الْحُصُول فِي
الْمُسْتَقْبَل، فَإِذَا كَانَ مُسْتَحِيل الْحُصُول لَغَا التَّعْلِيقُ،
وَلَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ، لاَ فِي الْحَال وَلاَ فِي الْمُسْتَقْبَل،
كَمَا إِذَا قَال لَهَا: إِنْ عَادَ أَبُوكِ حَيًّا - وَهُوَ مَيِّتٌ - فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ لَغْوٌ. وَهَذَا
مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُقُوعِهِ
مُنَجَّزًا، وَلِلْحَنَابِلَةِ فِيهِ قَوْلاَنِ (1) .
46 - 2 - أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيقُ مُتَّصِلاً بِالْكَلاَمِ، فَإِذَا
فُصِل عَنْهُ بِسُكُوتٍ، أَوْ بِكَلاَمٍ أَجْنَبِيٍّ، أَوْ كَلاَمٍ غَيْرِ
مُفِيدٍ، لَغَا التَّعْلِيقُ وَوَقَعَ الطَّلاَقُ مُنَجَّزًا، كَمَا لَوْ
قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، وَسَكَتَ بُرْهَةً، ثُمَّ قَال: إِنْ دَخَلْتِ
دَارَ فُلاَنٍ، أَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَال لَهَا:
أَعْطِنِي مَاءً، ثُمَّ قَال: إِنْ لَمْ تَدْخُلِي دَارَ فُلاَنٍ. إِلاَّ
أَنَّهُ يُغْتَفَرُ الْفَاصِل الضَّرُورِيُّ، كَمَا إِذَا قَال لَهَا:
أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ تَنَفَّسَ لِضَرُورَةٍ، ثُمَّ قَال: إِنْ دَخَلْتِ
دَارَ فُلاَنٍ، فَإِنَّهُ مُعَلَّقٌ، وَلاَ يَقَعُ إِلاَّ بِدُخُولِهَا
الدَّارَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ: إِسَاغَةُ اللُّقْمَةِ، أَوْ
كَلِمَةٌ مُفِيدَةٌ، كَأَنْ يَقُول لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنًا إِنْ
دَخَلْتِ دَارَ
__________
(1) الدر المختار 3 / 342 - 348، والشرح الكبير 2 / 370، ومغني المحتاج 3 /
292.
(29/39)
فُلاَنٍ، فَإِنَّهُ مُعَلَّقٌ وَيَقَعُ
بِهِ بَائِنًا عِنْدَ الدُّخُول، فَإِنْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ
رَجْعِيًّا إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلاَنٍ، لَغَا التَّعْلِيقُ وَوَقَعَ
الرَّجْعِيُّ مُنَجَّزًا؛ لأَِنَّ كَلِمَةَ " رَجْعِيًّا " لَمْ تُفِدْ
شَيْئًا، فَكَانَتْ قَاطِعًا لِلتَّعْلِيقِ، بِخِلاَفِ كَلِمَةِ " بَائِنٌ
" فَإِنَّهَا أَفَادَتْ، فَلَمْ تَكُنْ قَاطِعًا، وَهَذَا الْمِثَال وَفْقَ
مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ يُوقِعُونَ بِكَلِمَةِ " بَائِنٌ "
طَلاَقًا بَائِنًا (1) .
47 - 3 - أَنْ لاَ يَقْصِدَ بِهِ الْمُجَازَاةَ، فَإِذَا قَصَدَ بِهِ
الْمُجَازَاةَ، وَقَعَ مُنَجَّزًا وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالشَّرْطِ، كَمَا
إِذَا قَالَتْ لَهُ: يَا خَسِيسُ، فَقَال لَهَا: إِنْ كُنْتُ كَذَلِكَ
فَأَنْتِ طَالِقٌ، يُرِيدُ مُعَاقَبَتَهَا، لاَ تَعْلِيقَ الطَّلاَقِ عَلَى
تَحَقُّقِ الْخَسَاسَةِ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلاَقُ هُنَا
مُنَجَّزًا، سَوَاءٌ أَكَانَ خَسِيسًا أَمْ لاَ، فَإِنْ أَرَادَ
التَّعْلِيقَ لاَ الْمُجَازَاةَ تَعَلَّقَ الطَّلاَقُ، وَيُدَيَّنُ (2) .
48 - 4 - أَنْ يَذْكُرَ الْمَشْرُوطَ فِي التَّعْلِيقِ، وَهُوَ
الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ، فَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا، كَمَا إِذَا قَال
لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ، فَإِنَّهُ لَغْوٌ فِي الرَّاجِحِ لَدَى
الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ، وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ: تَطْلُقُ لِلْحَال (3) .
__________
(1) الدر المختار 3 / 366 - 367، والمغني 7 / 240 و294 ومغني المحتاج 3 /
334.
(2) الدر المختار 3 / 343، ومغني المحتاج 3 / 334.
(3) الدر المختار 3 / 344.
(29/39)
49 - 5 - وُجُودُ رَابِطٍ، وَهُوَ أَدَاةٌ
مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ، إِلاَّ أَنْ يُفْهَمَ
الشَّرْطُ مِنَ الْمَعْنَى، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِدُونِ رَابِطٍ، كَمَا
إِذَا قَال لَهَا: عَلَيَّ الطَّلاَقُ سَأَذْهَبُ إِلَى فُلاَنٍ، فَإِنَّهُ
تَعْلِيقٌ صَحِيحٌ مَعَ عَدَمِ الرَّابِطِ (1) .
50 - 6 - قِيَامُ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَ الْحَالِفِ وَالْمَحْلُوفِ
عَلَيْهَا عِنْدَ التَّعْلِيقِ، حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، بِأَنْ تَكُونَ
زَوْجَتُهُ أَوْ مُعْتَدَّتُهُ مِنْ رَجْعِيٍّ أَوْ بَائِنٍ، فَإِذَا لَمْ
تَكُنْ زَوْجَتَهُ عِنْدَ التَّعْلِيقِ، وَلاَ مُعْتَدَّتَهُ، لَغَا
التَّعْلِيقُ وَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا بِهِ شَيْءٌ، كَمَا إِذَا قَال
لأَِجْنَبِيَّةٍ عَنْهُ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلاَنٍ،
فَإِنَّهُ لَغْوٌ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لِغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ
يَتَوَقَّفُ التَّعْلِيقُ عِنْدَهَا عَلَى إِجَازَةِ زَوْجِهَا؛ لأَِنَّهُ
فُضُولِيٌّ، فَإِنْ أَجَازَهُ الزَّوْجُ صَحَّ التَّعْلِيقُ، ثُمَّ إِنْ
دَخَلَتْ بَعْدَ الإِْجَازَةِ وَقَعَ الطَّلاَقُ عَلَيْهَا، وَإِلاَّ
فَلاَ.
هَذَا مَا لَمْ يُعَلَّقِ الطَّلاَقُ عَلَى نِكَاحِهَا، فَإِنْ عَلَّقَهُ
عَلَيْهِ صَحَّ التَّعْلِيقُ أَيْضًا وَلَوْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَتَهُ أَوْ
مُعْتَدَّتَهُ عِنْدَ التَّعْلِيقِ، كَأَنْ يَقُول لأَِجْنَبِيَّةٍ عَنْهُ:
إِنْ تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا، فَإِنَّهَا
تَطْلُقُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: كُل امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا
فَهِيَ طَالِقٌ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً، فَإِنَّهَا
تَطْلُقُ بِذَلِكَ لِصِحَّةِ التَّعْلِيقِ هُنَا، فَإِذَا عَلَّقَ بِغَيْرِ
نِكَاحِهَا لَمْ يَصِحَّ
__________
(1) الدر المختار 3 / 344.
(29/40)
التَّعْلِيقُ، وَيَلْغُو الطَّلاَقُ، كَمَا
إِذَا قَال لأَِجْنَبِيَّةٍ عَنْهُ: إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلاَنٍ فَأَنْتِ
طَالِقٌ، ثُمَّ دَخَلَتْهَا قَبْل زَوَاجِهَا مِنْهُ أَوْ بَعْدَهُ،
فَإِنَّهَا لاَ تَطْلُقُ. وَهَذَا كُلُّهُ لَدَى الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي
الْقَوْل الرَّاجِحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ
وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لاَ يَصِحُّ التَّعْلِيقُ، وَيَلْغُو
الطَّلاَقُ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ يَنْعَقِدُ
الطَّلاَقُ هُنَا، كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ عَلَى غَيْرِ الزَّوَاجِ. فَإِذَا
عَلَّقَهُ بِمُقَارَنَةِ النِّكَاحِ لاَ عَلَيْهِ، لَغَا بِالاِتِّفَاقِ،
كَأَنْ يَقُول لأَِجْنَبِيَّةٍ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ نِكَاحِكِ، فَإِنَّهُ
لَغْوٌ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَلَّقَهُ عَلَى انْتِهَاءِ النِّكَاحِ، كَأَنْ
يَقُول لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ مَوْتِي، أَوْ مَعَ مَوْتِك، فَإِنَّهُ
لَغْوٌ أَيْضًا لِعَدَمِ الْمِلْكِ (1) .
51 - 7 - قِيَامُ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَ الْحَالِفِ وَالْمَحْلُوفِ
عَلَيْهَا عِنْدَ حُصُول الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ
حُكْمًا، بِأَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لَهُ أَوْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلاَقٍ
رَجْعِيٍّ أَوْ بَائِنٍ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ عِنْدَ وُقُوعِ
الشَّرْطِ لَمْ يَقَعِ الطَّلاَقُ بِهِ عَلَيْهَا، فَإِذَا قَال
لِزَوْجَتِهِ: إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلاَنٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ،
فَدَخَلَتْهَا وَهِيَ زَوْجَتُهُ أَوْ مُعْتَدَّتُهُ
__________
(1) الدر المختار 3 / 344، والدسوقي 3 / 370 - 376، والخرشي 4 / 32 ومغني
المحتاج 3 / 392.
(29/40)
طَلُقَتْ، وَإِنْ دَخَلَتْهَا بَعْدَ أَنْ
طَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، لَمْ تَقَعْ عَلَيْهَا الطَّلْقَةُ
الْمُعَلَّقَةُ، لِعَدَمِ صَلاَحِيَّتِهَا لِوُقُوعِ الطَّلاَقِ عَلَيْهَا
عِنْدَئِذٍ (1) .
52 - 8 - كَوْنُ الزَّوْجِ أَهْلاً لإِِيقَاعِ الطَّلاَقِ عِنْدَ
التَّعْلِيقِ، بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلاً عِنْدَ الْجُمْهُورِ،
خِلاَفًا لِلْحَنَابِلَةِ كَمَا سَبَقَ، وَلاَ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ
كَذَلِكَ عِنْدَ حُصُول الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، فَلَوْ قَال
لَهَا الزَّوْجُ عَاقِلاً: إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلاَنٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ،
ثُمَّ جُنَّ، ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا
تَطْلُقُ، وَكَذَلِكَ إِذَا دَخَلَتْهَا قَبْل جُنُونِهِ، فَإِنَّهَا
تَطْلُقُ أَيْضًا، بِخِلاَفِ مَا لَوْ عَلَّقَ طَلاَقَهَا وَهُوَ
مَجْنُونٌ، فَإِنَّهُ لَغْوٌ (2) .
انْحِلاَل الطَّلاَقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ:
53 - إِذَا عَلَّقَ الزَّوْجُ الطَّلاَقَ عَلَى شَرْطٍ، فَإِنَّهُ يَنْحَل
بِحُصُول الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، مَعَ وُقُوعِ
الطَّلاَقِ بِهِ عَلَى الزَّوْجَةِ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ، فَإِذَا عَادَتْ
إِلَيْهِ ثَانِيَةً فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا، لَمْ تَقَعْ عَلَيْهَا
بِهِ طَلْقَةٌ أُخْرَى لاِنْحِلاَلِهِ، هَذَا مَا لَمْ يَكُنِ التَّعْلِيقُ
بِلَفْظِ (كُلَّمَا) ، وَإِلاَّ وَقَعَ عَلَيْهَا
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 292، والدسوقي 3 / 370 - 376، والدر المختار 3 / 345.
(2) الدسوقي 3 / 365، ومغني المحتاج 3 / 279، والدر المختار 3 / 348.
(29/41)
بِهِ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً؛ لأَِنَّ
كُلَّمَا تُفِيدُ التَّكْرَارَ دُونَ غَيْرِهَا.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا إِنْ
دَخَلْتِ دَارَ فُلاَنٍ، ثُمَّ طَلَّقَهَا مُنَجَّزًا وَاحِدَةً قَبْل
دُخُول الدَّارِ، ثُمَّ مَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ
الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا، ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ بِزَوْجِيَّةٍ أُخْرَى،
جَازَ، فَإِذَا دَخَلَتِ الدَّارَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ
لَمْ يَضُرَّهَا، وَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا بِذَلِكَ شَيْءٌ، لاِنْحِلاَل
الطَّلاَقِ الْمُعَلَّقِ بِالدُّخُول الأَْوَّل بَعْدَ الْعِدَّةِ، فَإِذَا
عَلَّقَ طَلاَقَهَا الثَّلاَثَ عَلَى دُخُول الدَّارِ، ثُمَّ نَجَّزَ
طَلاَقَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا دُونَ أَنْ تَدْخُل
الدَّارَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا، ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ بِعَقْدٍ
جَدِيدٍ، ثُمَّ دَخَلَتْهَا، وَقَعَ الثَّلاَثُ عَلَيْهَا، لِعَدَمِ
انْحِلاَل الْيَمِينِ الْمُعَلَّقَةِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ دَخَلَتْهَا
بَعْدَ عِدَّتِهَا، فَإِنَّهَا تَنْحَل بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ تَنْحَل
الْيَمِينُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَى شَرْطٍ بِزَوَال الْحِل بِالْكُلِّيَّةِ،
كَمَا إِذَا عَلَّقَ طَلاَقَهَا الثَّلاَثَ عَلَى دُخُول الدَّارِ، ثُمَّ
طَلَّقَهَا ثَلاَثًا مُنَجَّزَةً، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ التَّحْلِيل،
ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ وَلَمْ تَكُنْ دَخَلَتْهَا مِنْ قَبْل، فَإِنَّهَا
لاَ تَطْلُقُ هُنَا لاِنْحِلاَل الْيَمِينِ الْمُعَلَّقَةِ بِزَوَال الْحِل
بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ بِوُقُوعِ الثَّلاَثِ عَلَيْهَا، عَلَى خِلاَفِ
وُقُوعِ مَا دُونَ الثَّلاَثِ، فَإِنَّهُ لاَ يُزِيل الْحِل، فَلاَ تَنْحَل
بِهِ الْيَمِينُ الْمُعَلَّقَةُ إِلاَّ بِحُصُول الشَّرْطِ فِعْلاً
مَرَّةً.
(29/41)
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ أَقْوَالٌ ثَلاَثَةٌ:
الأَْوَّل: يَقَعُ مُطْلَقًا، وَالثَّانِي: لاَ يَقَعُ مُطْلَقًا،
وَالثَّالِثُ: يَقَعُ بِمَا دُونَ الثَّلاَثِ، وَلاَ يَقَعُ بَعْدَ
الثَّلاَثِ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُقُوعِهِ فِي الْكُل.
كَمَا تَنْحَل الْيَمِينُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَى شَرْطٍ بِرِدَّةِ
الْحَالِفِ مَعَ لَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَلَوْ طَلَّقَهَا
مُعَلَّقًا، ثُمَّ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى
الإِْسْلاَمِ، وَعَادَ إِلَيْهَا، ثُمَّ فَعَلَتِ الْمُعَلَّقَ عَلَيْهِ،
فَإِنَّهَا لاَ تَطْلُقُ بِذَلِكَ، لاِنْحِلاَل الْيَمِينِ الْمُعَلَّقَةِ
بِرِدَّتِهِ، وَهَذَا قَوْل الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَخَالَفَهُ
الصَّاحِبَانِ: أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَقَالاَ: لاَ يَنْحَل
التَّعْلِيقُ بِالرِّدَّةِ مُطْلَقًا.
وَتَنْحَل الْيَمِينُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَى شَرْطٍ أَيْضًا بِفَوْتِ مَحَل
الْبِرِّ، فَإِذَا قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ دَارَ
فُلاَنٍ، ثُمَّ خَرِبَتِ الدَّارُ، أَوْ إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَمَاتَ
زَيْدٌ، انْحَلَّتِ الْيَمِينُ الْمُعَلَّقَةُ، حَتَّى لَوْ أَنَّ الدَّارَ
الْخَرِبَةَ بُنِيَتْ ثَانِيَةً فَإِنَّ الْيَمِينَ الْمُعَلَّقَةَ لاَ
تَعُودُ، لأَِنَّهَا غَيْرُ الدَّارِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا (1) .
__________
(1) المغني 7 / 294 - 295، مغني المحتاج 3 / 293، والدسوقي 2 / 375 - 376،
والدر المختار 3 / 352 - 353.
(29/42)
تَعْلِيقُ الطَّلاَقِ عَلَى شَرْطَيْنِ:
54 - إِذَا عَلَّقَ طَلاَقَهَا عَلَى شَرْطَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَقَعَ
الطَّلاَقُ عَلَيْهَا بِحُصُول الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ كُلِّهِ فِي
النِّكَاحِ، وَكَذَلِكَ بِوُقُوعِ الثَّانِي أَوِ الأَْخِيرِ فَقَطْ فِي
النِّكَاحِ، وَعَلَى هَذَا فَإِنْ حَصَل الشَّرْطُ الأَْوَّل فِي
النِّكَاحِ، وَالشَّرْطُ الثَّانِي بَعْدَهُ، كَمَا إِذَا قَال لَهَا: إِنْ
جَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَجَاءَ زَيْدٌ، ثُمَّ
طَلَّقَهَا مُنَجَّزًا وَاحِدَةً، ثُمَّ جَاءَ عَمْرٌو بَعْدَ انْقِضَاءِ
عِدَّتِهَا، لَمْ تَطْلُقْ ثَانِيَةً بِمَجِيئِهِ. فَإِنْ طَلَّقَهَا
مُنَجَّزًا وَاحِدَةً إِثْرَ تَعْلِيقِهِ، ثُمَّ جَاءَ الأَْوَّل زَيْدٌ
بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَجَاءَ عَمْرٌو وَهِيَ
زَوْجَتُهُ، وَقَعَ عَلَيْهَا الْمُعَلَّقُ، فَكَانَتَا اثْنَتَيْنِ، نَصَّ
عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (1) .
الاِسْتِثْنَاءُ فِي الطَّلاَقِ:
تَعْرِيفُهُ وَحُكْمُهُ:
55 - الاِسْتِثْنَاءُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الإِْخْرَاجُ بِإِلاَّ أَوْ
بِإِحْدَى أَخَوَاتِهَا، بَعْضًا مِمَّا يُوجِبُهُ عُمُومٌ سَابِقٌ،
تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا، وَالأَْوَّل هُوَ الْمُتَّصِل، وَالثَّانِي
هُوَ الْمُنْقَطِعُ، وَالأَْوَّل هُوَ الْمُرَادُ هُنَا دُونَ الثَّانِي
لَدَى الْفُقَهَاءِ، وَيُضَافُ إِلَى الأَْوَّل الاِسْتِثْنَاءُ
الشَّرْعِيُّ، وَهُوَ التَّعْلِيقُ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى (2) ،
أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:
__________
(1) الدر المختار 3 / 363 - 364.
(2) مغني المحتاج 3 / 300.
(29/42)
{إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا
مُصْبِحِينَ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ} (1) . وَالاِسْتِثْنَاءُ الشَّرْعِيُّ -
وَهُوَ التَّعْلِيقُ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى - مُبْطِلٌ
لِلطَّلاَقِ، (أَيْ لاَ يَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ) لَدَى الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ إِذَا اسْتَوْفَى شُرُوطَهُ لِلشَّكِّ فِيمَا يَشَاؤُهُ
سُبْحَانَهُ، وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَقَالُوا: لاَ
يَبْطُل الطَّلاَقُ بِهِ - أَيْ يَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ (2) . أَمَّا
الاِسْتِثْنَاءُ اللُّغَوِيُّ بِإِلاَّ وَأَخَوَاتِهَا فَمُؤَثِّرٌ
وَمُلْغٍ لِلطَّلاَقِ بِحَسَبِهِ إِذَا اسْتَوْفَى شُرُوطَهُ، وَعَلَى
ذَلِكَ لَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا إِلاَّ وَاحِدَةً،
طَلُقَتِ اثْنَتَيْنِ فَقَطْ، وَلَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا إِلاَّ
اثْنَتَيْنِ طَلُقَتْ وَاحِدَةً فَقَطْ، فَإِنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ
ثَلاَثًا إِلاَّ ثَلاَثًا، وَقَعَ الثَّلاَثُ؛ لأَِنَّهُ إِلْغَاءٌ،
وَلَيْسَ اسْتِثْنَاءٌ، وَالإِْلْغَاءُ بَاطِلٌ هُنَا.
شُرُوطُهُ:
يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الاِسْتِثْنَاءِ مِنَ الطَّلاَقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ
اسْتِثْنَاءً لُغَوِيًّا أَمْ تَعْلِيقًا عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ
تَعَالَى، شُرُوطٌ هِيَ (3) :
__________
(1) الآية 17 - 18 من سورة القلم.
(2) المغني 7 / 402 - 403، والقوانين الفقهية ص 243، ومغني المحتاج 3 /
302، والدر المختار 3 / 366 - 368.
(3) الدر المختار 3 / 366 - 370، ومغني المحتاج 3 / 300 - 303، والشرح
الكبير 2 / 388.
(29/43)
56 - 1 - اتِّصَالُهُ بِالْكَلاَمِ
السَّابِقِ عَلَيْهِ، أَيِ اتِّصَال الْمُسْتَثْنَى بِالْمُسْتَثْنَى
مِنْهُ، بِحَيْثُ يُعَدَّانِ كَلاَمًا وَاحِدًا عُرْفًا، فَإِنْ فَصَل
بَيْنَهُمَا بِكَلاَمٍ أَوْ سُكُوتٍ لَغَا الاِسْتِثْنَاءُ، وَثَبَتَ
حُكْمُ الطَّلاَقِ، فَإِذَا قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَال: إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُنْفَصِلاً، طَلُقَتْ، أَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ
اثْنَتَيْنِ، ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ قَال: إِلاَّ وَاحِدَةً وَقَعَ
اثْنَتَانِ، وَلَغَا الاِسْتِثْنَاءُ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَال لَهَا: أَنْتِ
طَالِقٌ ثَلاَثًا، ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ أَمْرٍ، ثُمَّ قَال: إِلاَّ
اثْنَتَيْنِ، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ ثَلاَثًا، لإِِلْغَاءِ الاِسْتِثْنَاءِ
بِالْكَلاَمِ الْفَاصِل.
إِلاَّ أَنَّهُ يُعْفَى هُنَا عَنِ الْفَاصِل الْقَصِيرِ الضَّرُورِيِّ،
كَالسُّكُوتِ لِلتَّنَفُّسِ أَوْ إِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ، كَمَا يُعْفَى
عَنِ الْكَلاَمِ الْمُفِيدِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ،
كَأَنْ يَقُول لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا يَا زَانِيَةُ إِلاَّ
اثْنَتَيْنِ، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ بِوَاحِدَةٍ، لأَِنَّ لَفْظَةَ
(زَانِيَةُ) بَيَانٌ لِسَبَبِ الطَّلاَقِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لَهَا:
أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا بَائِنًا إِلاَّ اثْنَتَيْنِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَهُمْ،
بِخِلاَفِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ رَجْعِيَّتَيْنِ إِلاَّ وَاحِدَةً،
فَإِنَّهُ يَقَعُ بِهِ اثْنَتَانِ رَجْعِيَّتَانِ، وَيَلْغُو
الاِسْتِثْنَاءُ لِعَدَمِ إِفَادَةِ هَذَا الْفَاصِل.
57 - 2 - نِيَّةُ الْحَالِفِ الاِسْتِثْنَاءَ قَبْل الْفَرَاغِ مِنَ
التَّلَفُّظِ فِي الطَّلاَقِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
(29/43)
فِي الأَْصَحِّ، فَإِنْ نَوَاهُ بَعْدَهُ
لَمْ يَصِحَّ وَيَقَعُ الطَّلاَقُ بِدُونِهِ، وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ
لِلشَّافِعِيَّةِ إِنْ نَوَاهُ بَعْدَهُ جَازَ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ:
يَصِحُّ بِغَيْرِ نِيَّةٍ مُطْلَقًا، وَلَمْ أَرَ مَنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ
مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَلَعَلَّهُمْ مَعَ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ.
58 - 3 - أَنْ يَكُونَ الاِسْتِثْنَاءُ بِصَوْتٍ مَسْمُوعٍ لِنَفْسِهِ
عَلَى الأَْقَل، فَلَوْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ الاِسْتِثْنَاءُ،
لأَِنَّهُ مُجَرَّدُ نِيَّةٍ، وَهِيَ غَيْرُ كَافِيَةٍ لِصِحَّتِهِ
بِالاِتِّفَاقِ.
59 - 4 - عَدَمُ اسْتِغْرَاقِ الْمُسْتَثْنَى لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ،
فَإِذَا قَال: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا إِلاَّ ثَلاَثًا لَمْ يَصِحَّ؛
لأَِنَّهُ رُجُوعٌ وَإِلْغَاءٌ، وَلَيْسَ اسْتِثْنَاءً.
وَهَل يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الأَْكْثَرِ؟ نَصَّ الْجُمْهُورُ عَلَى
صِحَّتِهِ، وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ (1) . إِلاَّ
أَنَّهُ إِنْ قَال: طَالِقٌ ثَلاَثًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَاصِدًا
الاِسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلاً لَغَا طَلاَقُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلاَفًا
لِلْحَنَابِلَةِ لِمَا تَقَدَّمَ.
وَهَل يَجِبُ تَقْدِيمُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَلَى الْمُسْتَثْنَى؟ نَصَّ
الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى عَدَمِ شَرْطِيَّةِ ذَلِكَ،
وَسَوَّوْا بَيْنَ أَنْ يُقَدَّمَ الْمُسْتَثْنَى أَوِ الْمُسْتَثْنَى
مِنْهُ، فَلَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا إِلاَّ وَاحِدَةً وَقَعَ
ثِنْتَانِ، وَإِذَا قَال: أَنْتِ إِلاَّ وَاحِدَةً
__________
(1) المغني 7 / 354.
(29/44)
طَالِقٌ ثَلاَثًا وَقَعَ ثِنْتَانِ
أَيْضًا، وَإِذَا قَال: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، صَحَّ
الاِسْتِثْنَاءُ أَوْ قَال: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْتِ طَالِقٌ
فَكَذَلِكَ مَا دَامَ أَدْخَل الْفَاءَ عَلَى (أَنْتِ) فَإِنْ لَمْ
يَدْخُلْهَا فَقَوْلاَنِ، الْمُفْتَى بِهِ مِنْهُمَا: عَدَمُ الْوُقُوعِ
(1) . وَهَل يَجِبُ التَّلَفُّظُ بِالْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى
مِنْهُ؟ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ، وَعَلَى
هَذَا إِذَا قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا، ثُمَّ كَتَبَ
مُتَّصِلاً: إِلاَّ وَاحِدَةً، وَقَعَ اثْنَتَانِ، وَلَوْ كَتَبَ: أَنْتِ
طَالِقٌ ثَلاَثًا، ثُمَّ قَال مُتَّصِلاً: إِلاَّ وَاحِدَةً وَقَعَ
اثْنَتَانِ أَيْضًا. فَإِنْ كَتَبَهُمَا مَعًا، ثُمَّ أَزَال
الاِسْتِثْنَاءَ وَقَعَ اثْنَتَانِ فَقَطْ، وَلاَ قِيمَةَ لإِِزَالَةِ
الاِسْتِثْنَاءِ بَعْدَ كِتَابَتِهِ؛ لأَِنَّهُ رُجُوعٌ عَنْهُ،
وَالرُّجُوعُ هُنَا غَيْرُ صَحِيحٍ (2) .
60 - 5 - أَنْ لاَ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى جُزْءَ طَلْقَةٍ، فَإِنِ
اسْتَثْنَى جُزْءَ طَلْقَةِ لَمْ يَصِحَّ الاِسْتِثْنَاءُ، وَعَلَى ذَلِكَ
إِذَا قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا إِلاَّ نِصْفَ طَلْقَةٍ
طَلُقَتْ ثَلاَثًا، وَلَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ إِلاَّ
ثُلُثَيْ طَلْقَةٍ، طَلُقَتِ اثْنَتَيْنِ أَيْضًا لَدَى الْجُمْهُورِ،
وَهُوَ الصَّحِيحُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ، وَالثَّانِي: يَصِحُّ
الاِسْتِثْنَاءُ، وَيُسْتَثْنَى بِجُزْءِ الطَّلْقَةِ طَلْقَةٌ كَامِلَةٌ
(3) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 300، والدر المختار 3 / 372.
(2) الدر المختار 3 / 373 - 377.
(3) الدر المختار 3 / 376، ومغني المحتاج 3 / 301.
(29/44)
وَهَل يَكُونُ الاِسْتِثْنَاءُ مِنَ
الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَلْفُوظَ دُونَ الْمَمْلُوكِ؟ ذَكَرَ
الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ قَوْلَيْنِ، الأَْصَحُّ
مِنْهُمَا: أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ مِنَ الْمَلْفُوظِ كَالْحَنَفِيَّةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنَ الْمَمْلُوكِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ
قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ خَمْسًا إِلاَّ ثَلاَثًا طَلُقَتِ
اثْنَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالأَْصَحُّ مِنْ قَوْلَيِ
الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي قَوْل الشَّافِعِيَّةِ الثَّانِي طَلُقَتْ
ثَلاَثًا؛ لأَِنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا ثَلاَثًا، فَلَمَّا اسْتَثْنَى
مِنْهُ ثَلاَثًا كَانَ رُجُوعًا فَلَغَا. وَكَذَلِكَ إِذَا قَال لَهَا:
أَنْتِ طَالِقٌ عَشْرًا إِلاَّ تِسْعًا، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ بِوَاحِدَةٍ
عَلَى الْقَوْل الأَْوَّل، وَبِثَلاَثٍ عَلَى الْقَوْل الثَّانِي.
وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلاَنِ. الرَّاجِحُ مِنْهُمَا اعْتِبَارُ
الْمَلْفُوظِ فَيُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَمُقَابِل الرَّاجِحِ اعْتِبَارُ
الْمَمْلُوكِ، فَلَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ خَمْسًا إِلاَّ
اثْنَتَيْنِ، فَعَلَى الرَّاجِحِ يَلْزَمُهُ ثَلاَثٌ، وَعَلَى الْمَرْجُوحِ
يَلْزَمُهُ وَاحِدَةٌ. (1)
الإِْنَابَةُ فِي الطَّلاَقِ:
62 - الطَّلاَقُ تَصَرُّفٌ شَرْعِيٌّ قَوْلِيٌّ، وَهُوَ حَقُّ الرَّجُل
كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَمْلِكُهُ وَيَمْلِكُ الإِْنَابَةَ فِيهِ كَسَائِرِ
التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ الأُْخْرَى الَّتِي
__________
(1) الدر المختار 3 / 375، ومغني المحتاج 3 / 301، والشرح الكبير 2 / 389.
(29/45)
يَمْلِكُهَا، كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ.
. . فَإِذَا قَال رَجُلٌ لآِخَرَ: وَكَّلْتُكَ بِطَلاَقِ زَوْجَتِي
فُلاَنَةَ، فَطَلَّقَهَا عَنْهُ، جَازَ، وَلَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ
نَفْسِهَا: وَكَّلْتُكِ بِطَلاَقِ نَفْسِكِ، فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا، جَازَ
أَيْضًا، وَلاَ تَكُونُ فِي هَذَا أَقَل مِنَ الأَْجْنَبِيِّ. وَبَيَانُ
الْمَذَاهِبِ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:
63 - إِذْنُ الزَّوْجِ لِغَيْرِهِ فِي تَطْلِيقِ زَوْجَتِهِ ثَلاَثَةُ
أَنْوَاعٍ: تَفْوِيضٌ وَتَوْكِيلٌ وَرِسَالَةٌ. وَقَدْ ذَكَرَ
الْحَنَفِيَّةُ لِلتَّفْوِيضِ ثَلاَثَةَ أَلْفَاظٍ، وَهِيَ: تَخْيِيرٌ،
وَأَمْرٌ بِيَدٍ، وَمَشِيئَةٌ. فَلَوْ قَال لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ،
وَاخْتَارِي نَفْسَكِ، وَأَمْرُكِ بِيَدِكِ، فَالأَْوْلَى يَقَعُ
الطَّلاَقُ بِهَا صَرِيحًا بِدُونِ نِيَّةٍ، وَاللَّفْظَانِ الآْخَرَانِ
مِنْ أَلْفَاظِ. الْكِنَايَةِ، فَلاَ يَقَعُ بِهِمَا الطَّلاَقُ بِغَيْرِ
نِيَّةٍ.
كَمَا يَكُونُ التَّفْوِيضُ عِنْدَهُمْ بِإِنَابَةِ الزَّوْجِ أَجْنَبِيًّا
عَنْهُ بِطَلاَقِ زَوْجَتِهِ إِذَا عَلَّقَهُ عَلَى مَشِيئَتِهِ، بِأَنْ
قَال لَهُ: طَلِّقْ زَوْجَتِي إِنْ شِئْتَ، فَإِنْ لَمْ يَقُل لَهُ: إِنْ
شِئْتَ، كَانَ تَوْكِيلاً لاَ تَفْوِيضًا.
هَذَا، وَبَيْنَ التَّفْوِيضِ وَالتَّوْكِيل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فُرُوقٌ
فِي الأَْحْكَامِ مِنْ حَيْثِيَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، أَهَمُّهَا:
أ - مِنْ حَيْثُ الرُّجُوعُ فِيهِ، فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ الرُّجُوعُ فِي
التَّفْوِيضِ؛ لأَِنَّهُ تَعْلِيقٌ عَلَى
(29/45)
مَشِيئَةٍ، وَالتَّعْلِيقُ يَمِينٌ لاَ
رُجُوعَ فِيهَا، فَإِذَا قَال لَهُ: طَلِّقْ زَوْجَتِي إِنْ شِئْتَ، أَوْ
قَال لِزَوْجَتِهِ: اخْتَارِي نَفْسَكِ نَاوِيًا طَلاَقَهَا، لَمْ يَكُنْ
لَهُ أَنْ يَعْزِلَهَا، أَمَّا الْوَكِيل فَلَهُ عَزْلُهُ مُطْلَقًا مَا
دَامَ لَمْ يُطَلِّقْ.
ب - مِنْ حَيْثُ الْحَدُّ بِالْمَجْلِسِ: فَلِلْوَكِيل أَنْ يُطَلِّقَ عَنْ
مُوَكِّلِهِ فِي الْمَجْلِسِ وَغَيْرِهِ، مَا لَمْ يَحُدَّهُ الْمُوَكِّل
بِالْمَجْلِسِ أَوْ زَمَانٍ وَمَكَانٍ مُعَيَّنَيْنِ، فَإِنْ حَدَّهُ
بِذَلِكَ تَحَدَّدَ بِهِ، أَمَّا التَّفْوِيضُ فَمَحْدُودٌ بِالْمَجْلِسِ
فَإِذَا انْقَضَى الْمَجْلِسُ لَغَا التَّفْوِيضُ، مَا لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ
مُدَّةً، أَوْ يُعَلِّقْهُ عَلَى مَشِيئَتِهِ، فَإِنْ بَيَّنَ مُدَّةً
تَحَدَّدَ بِالْمُدَّةِ الْمُبَيَّنَةِ، كَأَنْ قَال لَهَا: طَلِّقِي
نَفْسَكِ خِلاَل شَهْرٍ، أَوْ يَوْمٍ، أَوْ سَاعَةٍ، أَوْ طَلِّقِي
نَفْسَكِ مَتَى شِئْتِ، فَإِنْ قَال ذَلِكَ تَحَدَّدَ بِمَا ذُكِرَ، لاَ
بِالْمَجْلِسِ.
ج - مِنْ حَيْثُ نَوْعُ الطَّلاَقِ الْوَاقِعِ بِهِ، فَقَدْ ذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّفْوِيضَ إِذَا كَانَ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ
كَقَوْلِهِ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ فَطَلَّقَتْ، وَقَعَ بِهِ الطَّلاَقُ
رَجْعِيًّا، وَإِنْ قَال لَهَا: اخْتَارِي نَفْسَكِ، فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ
نَفْسِي، وَقَعَ بِهِ بَائِنًا، هَذَا إِذَا نَوَيَا الطَّلاَقَ، وَإِلاَّ
لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ لأَِنَّهُ كِنَايَةٌ.
د - مِنْ حَيْثُ تَأَثُّرُهُ بِجُنُونِ الزَّوْجِ، فَإِذَا فَوَّضَ
الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ أَوْ غَيْرَهَا بِالطَّلاَقِ، ثُمَّ جُنَّ،
فَالتَّفْوِيضُ عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ وَكَّلَهُ
(29/46)
بِالطَّلاَقِ فَجُنَّ بَطَل التَّوْكِيل،
لأَِنَّ التَّفْوِيضَ تَمْلِيكٌ، وَهُوَ لاَ يَبْطُل بِالْجُنُونِ، عَلَى
خِلاَفِ التَّوْكِيل، فَهُوَ إِنَابَةٌ مَحْضَةٌ، وَهِيَ تَبْطُل
بِالْجُنُونِ.
هـ - مِنْ حَيْثُ اشْتِرَاطُ أَهْلِيَّةِ النَّائِبِ، فَإِنَّ التَّفْوِيضَ
يَصِحُّ لِعَاقِلٍ وَمَجْنُونٍ وَصَغِيرٍ، عَلَى خِلاَفِ التَّوْكِيل،
فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْوَكِيل، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ
فَوَّضَ زَوْجَتَهُ الصَّغِيرَةَ بِطَلاَقِ نَفْسِهَا فَطَلَّقَتْ، وَقَعَ
الطَّلاَقُ، وَلَوْ وَكَّل أَخَاهُ الصَّغِيرَ بِطَلاَقِهَا، فَطَلَّقَهَا
لَمْ يَصِحَّ، فَلَوْ فَوَّضَهَا بِالطَّلاَقِ، وَهِيَ عَاقِلَةٌ، ثُمَّ
جُنَّتْ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا، لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
اسْتِحْسَانًا. (1)
ثَانِيًا - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:
64 - النِّيَابَةُ فِي الطَّلاَقِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَرْبَعَةُ
أَنْوَاعٍ: تَوْكِيلٌ وَتَخْيِيرٌ وَتَمْلِيكٌ وَرِسَالَةٌ.
فَالتَّوْكِيل عِنْدَهُمْ هُوَ: جَعْل الزَّوْجِ الطَّلاَقَ لِغَيْرِهِ -
زَوْجَةً أَوْ غَيْرَهَا - مَعَ بَقَاءِ الْحَقِّ لِلزَّوْجِ فِي مَنْعِ
الْوَكِيل - بِعَزْلِهِ - مِنْ إِيقَاعِ الطَّلاَقِ، كَقَوْلِهِ لَهَا:
أَمْرُكِ بِيَدِكِ تَوْكِيلاً.
وَالتَّخْيِيرُ عِنْدَهُمْ هُوَ: جَعْل الطَّلاَقِ الثَّلاَثِ حَقًّا
لِلْغَيْرِ وَمِلْكًا لَهُ نَصًّا كَقَوْلِهِ لَهَا: اخْتَارِينِي أَوِ
اخْتَارِي نَفْسَكِ.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 314 - 319.
(29/46)
وَالتَّمْلِيكُ هُوَ: جَعْل الطَّلاَقِ
حَقًّا لِلْغَيْرِ وَمِلْكًا لَهُ رَاجِحًا فِي الثَّلاَثِ، كَقَوْلِهِ
لَهَا: أَمْرُكِ بِيَدِكِ، وَبَيْنَ هَذِهِ الثَّلاَثَةِ اتِّفَاقٌ
وَاخْتِلاَفٌ عَلَى مَا يَلِي:
أ - فَمِنْ حَيْثُ جَوَازُ الرُّجُوعِ فِيهِ، فِي التَّوْكِيل لِلزَّوْجِ
حَقُّ عَزْل وَكِيلِهِ بِالطَّلاَقِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَكِيل
هُوَ الزَّوْجَةُ أَمْ غَيْرُهَا، إِلاَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ
لِلزَّوْجَةِ زَائِدٌ عَنِ التَّوْكِيل، كَقَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ
تَزَوَّجْتُ عَلَيْكِ فَأَمْرُكِ بِيَدِكِ، أَوْ أَمْرُ الدَّاخِلَةِ
عَلَيْكِ بِيَدِكِ، فَإِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ عَزْلَهَا فِي هَذِهِ الْحَال،
لِتَعَلُّقِ حَقِّهَا بِهِ، وَهُوَ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهَا، وَلَوْلاَ
ذَلِكَ لأََمْكَنَهُ عَزْلُهَا.
فَإِنْ فَوَّضَهُ بِالطَّلاَقِ تَخْيِيرًا أَوْ تَمْلِيكًا لَمْ يَكُنْ
لَهُ عَزْل الْمُفَوَّضِ حَتَّى يُطَلِّقَ أَوْ يَرُدَّ التَّفْوِيضَ.
ب - وَمِنْ حَيْثُ تَحْدِيدُهُ بِمُدَّةٍ، فَإِنْ حَدَّدَ الزَّوْجُ
النِّيَابَةَ بِأَنْوَاعِهَا بِالْمَجْلِسِ تَحَدَّدَ مُطْلَقًا، وَإِنْ
حَدَّدَهَا بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ بَعْدَ الْمَجْلِسِ لَمْ تَقْتَصِرْ عَلَى
الْمَجْلِسِ، وَلَكِنْ إِنْ مَارَسَ النَّائِبُ حَقَّهُ فِي الطَّلاَقِ
خِلاَل الزَّمَنِ الْمُحَدَّدِ طَلُقَتْ، وَإِلاَّ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ
مَا دَامَ الزَّمَانُ بَاقِيًا، إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ الْقَاضِي بِذَلِكَ،
فَإِنْ عَلِمَ بِهِ، فَإِنَّهُ يَحْضُرُهُ وَيَأْمُرُهُ بِالاِخْتِيَارِ،
فَإِنِ اخْتَارَ الطَّلاَقَ طَلُقَتْ، وَإِلاَّ أَسْقَطَ الْقَاضِي حَقَّهُ
فِي ذَلِكَ،
(29/47)
وَلاَ يُمْهِلُهُ وَلَوْ رَضِيَ الزَّوْجُ
بِالإِْمْهَال، وَذَلِكَ حِمَايَةً لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ
أَطْلَقَ وَلَمْ يُحَدِّدْهُ بِالْمَجْلِسِ وَلاَ بِزَمَنٍ آخَرَ،
فَلِلْمَالِكِيَّةِ رِوَايَتَانِ: الأُْولَى: يَتَحَدَّدُ بِالْمَجْلِسِ
كَالْحَنَفِيَّةِ، وَالثَّانِيَةُ: لاَ يَتَحَدَّدُ بِهِ.
ج - مِنْ حَيْثُ عَدَدُ الطَّلْقَاتِ، إِنْ كَانَ التَّفْوِيضُ تَخَيُّرًا
مُطْلَقًا - وَقَدْ دَخَل بِزَوْجَتِهِ - فَلِلْمُفَوَّضَةِ إِيقَاعُ مَا
شَاءَتْ مِنَ الطَّلاَقِ، وَاحِدَةً وَاثْنَتَيْنِ وَثَلاَثًا، وَإِنْ
كَانَ لَمْ يَدْخُل بِهَا، أَوْ كَانَ التَّفْوِيضُ تَمْلِيكًا، فَلَهُ
مَنْعُهَا مِنْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، بِشُرُوطٍ سِتَّةٍ، إِنْ
تَوَفَّرَتْ لَمْ يَقَعْ بِقَوْلِهَا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَإِنِ
اخْتَلَّتْ وَقَعَ مَا ذَكَرَتْ.
وَهَذِهِ الشُّرُوطُ هِيَ:
1 - أَنْ يَنْوِيَ مَا هُوَ أَقَل مِنَ الثَّلاَثِ، فَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً
لَمْ تَمْلِكْ بِذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَإِذَا نَوَى اثْنَيْنِ
مَلَكَتْهُمَا وَلَمْ تَمْلِكِ الثَّلاَثَ.
2 - أَنْ يُبَادِرَ لِلإِْنْكَارِ عَلَيْهَا فَوْرَ إِيقَاعِهَا
الثَّلاَثَ، وَإِلاَّ سَقَطَ حَقُّهُ وَوَقَعَ ثَلاَثٌ.
3 - أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يَنْوِ بِذَلِكَ أَكْثَرَ مِنَ الْعَدَدِ
الَّذِي يَدَّعِيهِ، وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، فَإِنْ نَكَل قُضِيَ
عَلَيْهِ بِمَا أَوْقَعَتْ، وَلاَ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَيْهَا.
4 - عَدَمُ الدُّخُول بِالزَّوْجَةِ إِنْ كَانَ
(29/47)
التَّفْوِيضُ تَخَيُّرًا، وَإِلاَّ وَقَعَ
الثَّلاَثُ عَلَيْهِ إِنْ أَوْقَعَهَا مُطْلَقًا.
5 - أَنْ لاَ يُكَرِّرَ التَّفْوِيضَ، فَإِنْ كَرَّرَهُ بِأَنْ قَال لَهَا:
أَمْرُكِ بِيَدِكِ، أَمْرُكِ بِيَدِكِ، أَمْرُكِ بِيَدِكِ، لَمْ يُقْبَل
اعْتِرَاضُهُ عَلَى طَلاَقِهَا الثَّلاَثَ، إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ
بِالتَّكْرَارِ التَّأْكِيدَ، فَيُقْبَل اعْتِرَاضُهُ.
6 - أَنْ لاَ يَكُونَ التَّفْوِيضُ مَشْرُوطًا عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ،
فَإِنْ شُرِطَ فِي الْعَقْدِ مَلَكَتِ الثَّلاَثَ مُطْلَقًا.
فَإِنْ خَيَّرَهَا وَدَخَل بِهَا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً فَقَطْ،
لَمْ تَقَعْ وَسَقَطَ تَخْيِيرُهَا؛ لأَِنَّهَا خَرَجَتْ بِذَلِكَ عَمَّا
فَوَّضَهَا، وَقَدِ انْقَضَى حَقُّهَا بِإِظْهَارِ مُخَالَفَتِهَا،
فَسَقَطَ خِيَارُهَا فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لَمْ يَسْقُطْ
بِذَلِكَ خِيَارُهَا.
(1) ثَالِثًا - مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ:
65 - أَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِلزَّوْجِ إِنَابَةَ
زَوْجَتِهِ بِالطَّلاَقِ، كَمَا أَجَازُوا لَهُ إِنَابَةَ غَيْرِهَا بِهِ
أَيْضًا، فَإِنْ أَنَابَ الْغَيْرَ كَانَ تَوْكِيلاً، فَيَجْرِي عَلَيْهِ
مِنَ الشُّرُوطِ وَالأَْحْكَامِ مَا يَجْرِي عَلَى التَّوْكِيل مِنْ
جَوَازِ التَّقْيِيدِ وَالرُّجُوعِ فِيهِ.
وَلِلزَّوْجِ تَفْوِيضُ طَلاَقِهَا إِلَيْهَا، وَهُوَ تَمْلِيكٌ فِي
الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيُشْتَرَطُ لِوُقُوعِهِ
__________
(1) الشرح الكبير والدسوقي عليه 2 / 405 - 412.
(29/48)
تَطْلِيقُهَا عَلَى الْفَوْرِ. . وَفِي
قَوْلٍ تَوْكِيلٌ، فَلاَ يُشْتَرَطُ فَوْرٌ فِي الأَْصَحِّ، وَعَلَى
الْقَوْل بِالتَّمْلِيكِ فِي اشْتِرَاطِ قَبُولِهَا لَفْظًا الْخِلاَفُ فِي
الْوَكِيل، وَالْمُرَجَّحُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْقَبُول لَفْظًا.
وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ: (التَّمْلِيكُ وَالتَّوْكِيل) لَهُ الرُّجُوعُ عَنِ
التَّفْوِيضِ.
وَلَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ: طَلِّقِي وَنَوَى ثَلاَثًا، فَقَالَتْ:
طَلَّقَتْ وَنَوَتْهُنَّ: وَقَدْ عُلِمَتْ نِيَّتُهُ، أَوْ وَقَعَ ذَلِكَ
اتِّفَاقًا فَثَلاَثٌ، لأَِنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِل الْعَدَدَ، وَقَدْ
نَوَيَاهُ.
وَإِذَا نَوَى ثَلاَثًا وَلَمْ تَنْوِ هِيَ عَدَدًا، أَوْ لَمْ يَنْوِيَا،
أَوْ نَوَى أَحَدَهُمَا وَقَعَتْ وَاحِدَةً فِي الأَْصَحِّ.
(1) وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: مَنْ قَال لاِمْرَأَتِهِ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ
فَهُوَ تَوْكِيلٌ مِنْهُ لَهَا بِالطَّلاَقِ وَلاَ يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ
بِالْمَجْلِسِ، بَل هُوَ عَلَى التَّرَاخِي لِقَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ، فَكَانَ
كَالإِْجْمَاعِ. وَفِي الأَْمْرِ بِالْيَدِ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا
ثَلاَثًا، أَفْتَى بِهِ أَحْمَدُ مِرَارًا، كَقَوْلِهِ: طَلِّقِي نَفْسَكِ
مَا شِئْتِ، وَلاَ يُقْبَل قَوْلُهُ: أَرَدْتُ وَاحِدَةً.
وَإِنْ قَال لَهَا: اخْتَارِي نَفْسَكِ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ
أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَتَقَعُ رَجْعِيَّةٌ، لأَِنَّ: (اخْتَارِي)
تَفْوِيضٌ مُعَيَّنٌ، فَيَتَنَاوَل أَقَل
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 285 - 287.
(29/48)
مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الاِسْمُ، وَهُوَ
طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، إِلاَّ أَنْ يَجْعَل إِلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ
وَاحِدَةٍ، كَأَنْ يَقُول: اخْتَارِي مَا شِئْتِ، أَوِ اخْتَارِي
الطَّلْقَاتِ إِنْ شِئْتِ، فَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ اخْتَارِي عَدَدًا،
فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى؛ لأَِنَّهُ كِنَايَةٌ. بِخِلاَفِ: أَمْرُكِ
بِيَدِكِ، فَيَتَنَاوَل جَمِيعَ أَمْرِهَا. وَلَيْسَ لِلْمَقُول لَهَا:
اخْتَارِي أَنْ تُطَلِّقَ إِلاَّ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ، وَلَمْ
يَتَشَاغَلاَ بِمَا يَقْطَعُهُ عُرْفًا، إِلاَّ أَنْ يَقُول لَهَا:
اخْتَارِي نَفْسَكِ يَوْمًا أَوْ أُسْبُوعًا أَوْ شَهْرًا، فَتَمْلِكُهُ
إِلَى انْقِضَاءِ ذَلِكَ. (1)
طَلاَقُ الْفَارِّ
66 - طَلاَقُ الْفَارِّ هُوَ: طَلاَقُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ بَائِنًا فِي
حَال مَرَضِ مَوْتِهِ، وَقَدْ يُعَنْوِنُ الْفُقَهَاءُ لَهُ: بِطَلاَقِ
الْمَرِيضِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى صِحَّةِ طَلاَقِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ
إِذَا كَانَ مَرِيضًا مَرَضَ مَوْتٍ، كَصِحَّتِهِ مِنَ الزَّوْجِ غَيْرِ
الْمَرِيضِ مَا دَامَ كَامِل الأَْهْلِيَّةِ.
(2) كَمَا ذَهَبُوا إِلَى إِرْثِهَا مِنْهُ إِذَا مَاتَ وَهِيَ فِي
عِدَّتِهَا مِنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِطَلَبِهَا
__________
(1) كشاف القناع 5 / 254، 255، والمغني 7 / 141، 146.
(2) الدر المختار 3 / 387 - 388، والمغني 8 / 79، ومغني المحتاج 3 / 294.
(29/49)
أَمْ لاَ، وَأَنَّهَا تَسْتَأْنِفُ
لِذَلِكَ عِدَّةَ الْوَفَاةِ. فَإِذَا كَانَ الطَّلاَقُ بَائِنًا وَمَاتَ
وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ صَحِيحًا عِنْدَ الطَّلاَقِ
غَيْرَ مَرِيضٍ مَرَضَ الْمَوْتِ لَمْ تَرِثْ مِنْهُ بِالاِتِّفَاقِ،
وَتَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلاَقِ، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا مَرَضَ مَوْتٍ
عِنْدَ الطَّلاَقِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الأَْصَحِّ، وَهُوَ
الْمَذْهَبُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّهَا تَرِثُ مِنْهُ
مُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَتَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ
الأَْجَلَيْنِ، وَيُعَدُّ فَارًّا بِهَذَا الطَّلاَقِ مِنْ إِرْثِهَا،
وَاسْمُهُ طَلاَقُ الْفِرَارِ.
وَاشْتَرَطُوا لَهُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ طَلَبِهَا وَلاَ رِضَاهَا
بِالْبَيْنُونَةِ، وَأَنْ تَكُونَ أَهْلاً لِلْمِيرَاثِ مِنْ وَقْتِ
الطَّلاَقِ إِلَى وَقْتِ الْوَفَاةِ، فَإِنْ كَانَ الطَّلاَقُ بِرِضَاهَا
كَالْمُخَالَعَةِ لَمْ تَرِثْ. وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا
كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ بِسَبَبِ تَقْبِيلِهَا ابْنَ زَوْجِهَا أَوْ
غَيْرَهُ، فَإِنَّهَا لاَ تَرِثُ أَيْضًا؛ لأَِنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ
لَيْسَ مِنَ الزَّوْجِ، فَلاَ يُعَدُّ بِذَلِكَ فَارًّا مِنْ إِرْثِهَا،
فَإِنْ طَلَبَتْ مِنْهُ الطَّلاَقَ مُطْلَقًا، أَوْ طَلَبَتْ طَلاَقًا
رَجْعِيًّا فَطَلَّقَهَا بَائِنًا وَاحِدَةً أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ مَاتَ
وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا وَرِثَتْ مِنْهُ، لأَِنَّهَا لَمْ تَطْلُبِ
الْبَيْنُونَةَ وَلَمْ تَرْضَ بِهَا. فَإِذَا مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ
عِدَّتِهَا لَمْ تَرِثْ مِنْهُ،
(29/49)
وَلَمْ تَتَغَيَّرْ عِدَّتُهَا لَدَى
الْجُمْهُورِ، وَلاَ يُعَدُّ فَارًّا بِطَلاَقِهَا، وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ
لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا تَرِثُ مِنْهُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ مِنْ
غَيْرِهِ، وَهُوَ خِلاَفُ الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ. وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى
تَوْرِيثِهَا مِنْهُ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ بِطَلَبِهَا
كَالْمُخَيَّرَةِ وَالْمُمَلَّكَةِ وَالْمُخَالِعَةِ، أَوْ بِغَيْرِ
طَلَبِهَا، حَتَّى لَوْ مَاتَ بَعْدَ عِدَّتِهَا وَزَوَاجِهَا مِنْ
غَيْرِهِ. (1)
مَسْأَلَةُ الْهَدْمِ:
67 - هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَمَيَّزَتْ بِلَقَبٍ خَاصٍّ بِهَا لَدَى
الْفُقَهَاءِ، نَظَرًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِيهَا وَأَهَمِّيَّتِهَا،
وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ مِمَّا يَلِي: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ (2) عَلَى أَنَّ
الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلاَثًا، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ مِنْ
غَيْرِهِ بَعْدَ عِدَّتِهَا وَدَخَل بِهَا، ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ بَعْدَ
بَيْنُونَتِهَا مِنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مِنْهُ:
أَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا ثَلاَثَ تَطْلِيقَاتٍ. كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى
أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا بِمَا دُونَ الثَّلاَثِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا -
دُونَ الزَّوَاجِ مِنْ آخَرَ - أَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا مَا بَقِيَ لَهُ
إِلَى الثَّلاَثِ فَقَطْ. فَإِذَا طَلَّقَهَا بِمَا دُونَ الثَّلاَثِ،
فَتَزَوَّجَتْ مِنْ غَيْرِهِ بَعْدَ عِدَّتِهَا وَدَخَل بِهَا، ثُمَّ
عَادَتْ إِلَيْهِ
__________
(1) الدسوقي 2 / 353.
(2) الدر المختار 3 / 418، والشرح الصغير 1 / 467 ط. الحلبي، والمغني 7 /
443 - 444، ومغني المحتاج 3 / 293.
(29/50)
بَعْدَ بَيْنُونَتِهَا مِنْ ذَلِكَ
الْغَيْرِ وَانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مِنْهُ:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَفِيهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا مَا بَقِيَ لَهُ إِلَى
الثَّلاَثِ، فَإِنْ كَانَ أَبَانَهَا بِوَاحِدَةٍ مَلَكَ عَلَيْهَا
اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَبَانَهَا بِاثْنَتَيْنِ مَلَكَ
عَلَيْهَا ثَالِثَةً فَقَطْ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَدَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ
فِيهِمْ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ
وَغَيْرُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا ثَلاَثًا، وَقَدِ
انْهَدَمَ مَا أَبَانَهَا بِهِ سَابِقًا، وَمِنْ هُنَا سُمِّيَتْ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةُ بِمَسْأَلَةِ الْهَدْمِ، وَقَوْل الشَّيْخَيْنِ هَذَا هُوَ
مَذْهَبُ عَدَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فِيهِمُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ، وَالْقَوْل
الثَّانِي - وَهُوَ الأَْرْجَحُ عِنْدَهُمْ - مَعَ الْجُمْهُورِ. وَقَدِ
اخْتَلَفَ التَّرْجِيحُ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ، فَمِنْهُمْ بَل
أَكْثَرُهُمْ قَالُوا بِتَرْجِيحِ قَوْل مُحَمَّدٍ، كَالْكَمَال بْنِ
الْهُمَامِ، بَل إِنَّهُ قَال عَنْهُ: إِنَّهُ الْحَقُّ، وَتَبِعَهُ فِي
ذَلِكَ صَاحِبُ النَّهْرِ وَالْبَحْرِ والشُّرنْبُلاَلِيُّ وَغَيْرُهُمْ،
وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ قَوْل الشَّيْخَيْنِ كَالْعَلاَّمَةِ قَاسِمٍ،
وَعَلَيْهِ مَشَتِ الْمُتُونُ
(29/50)
حُكْمُ جُزْءِ الطَّلْقَةِ:
68 - إِذَا قَال الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ،
أَوْ رُبُعَ طَلْقَةٍ، أَوْ ثُلُثَ طَلْقَةٍ أَوْ أَقَل مِنْ ذَلِكَ أَوْ
أَكْثَرَ، وَقَعَ عَلَيْهِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ. (1) لأَِنَّ الطَّلْقَةَ
تَحْرِيمٌ، وَهُوَ لاَ يَتَجَزَّأُ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ
يَحْسُنُ مَعَهُ ذِكْرُ كُل مَذْهَبٍ عَلَى حِدَةٍ: قَال الْحَنَفِيَّةُ:
وَجُزْءُ الطَّلْقَةِ وَلَوْ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ تَطْلِيقَةٌ لِعَدَمِ
التَّجَزُّؤِ. فَلَوْ زَادَتِ الأَْجْزَاءُ وَقَعَ أُخْرَى، وَهَكَذَا مَا
لَمْ يَقُل: نِصْفُ طَلْقَةٍ وَثُلُثُ طَلْقَةٍ وَسُدُسُ طَلْقَةٍ فَيَقَعُ
الثَّلاَثُ؛ لأَِنَّ الْمُنَكَّرَ إِذَا أُعِيدَ مُنَكَّرًا كَانَ
الثَّانِي غَيْرَ الأَْوَّل، فَيَتَكَامَل كُل جُزْءٍ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا
قَال: نِصْفُ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثُهَا وَسُدُسُهَا، حَيْثُ تَقَعُ
وَاحِدَةً؛ لأَِنَّ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ عَيْنُ الأَْوَّل. فَإِنْ
جَاوَزَ مَجْمُوعُ الأَْجْزَاءِ تَطْلِيقَةً - بِأَنْ قَال: نِصْفُ
تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثُهَا وَرُبُعُهَا - قِيل: تَقَعُ وَاحِدَةٌ، وَقِيل
ثِنْتَانِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَصَحَّحَهُ فِي الظَّهِيرِيَّةِ. وَلَوْ
بِلاَ وَاوٍ بِأَنْ قَال: نِصْفُ طَلْقَةٍ، ثُلُثُ طَلْقَةٍ، سُدُسُ
طَلْقَةٍ، فَوَاحِدَةٌ، لِدَلاَلَةِ
__________
(1) المغني 7 / 426 - 428، ومغني المحتاج 3 / 298 - 299، والدسوقي 2 / 385
- 386، والشرح الصغير 1 / 460 ط. الحلبي.
(29/51)
حَذْفِ الْعَاطِفِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ
الأَْجْزَاءَ مِنْ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّ الثَّانِيَ بَدَلٌ مِنَ
الأَْوَّل، وَالثَّالِثَ بَدَلٌ مِنَ الثَّانِي.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا (1) ، وَيَقَعُ بِثَلاَثَةِ أَنْصَافِ
طَلْقَتَيْنِ ثَلاَثَةٌ؛ لأَِنَّ نِصْفَ التَّطْلِيقَتَيْنِ وَاحِدَةٌ
فَثَلاَثَةُ أَنْصَافِ تَطْلِيقَتَيْنِ ثَلاَثُ تَطْلِيقَاتٍ، وَقِيل
ثِنْتَانِ، لأَِنَّ التَّطْلِيقَتَيْنِ إِذَا نُصِّفَتَا كَانَتْ
أَرْبَعَةَ أَنْصَافٍ فَثَلاَثَةٌ مِنْهَا طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ، فَتَكْمُل
تَطْلِيقَتَيْنِ. وَيَقَعُ بِثَلاَثَةِ أَنْصَافِ طَلْقَةٍ أَوْ نِصْفَيْ
طَلْقَتَيْنِ طَلْقَتَانِ فِي الأَْصَحِّ وَكَذَا فِي نِصْفِ ثَلاَثِ
تَطْلِيقَاتٍ لأَِنَّهَا طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ فَيَتَكَامَل النِّصْفُ. وَفِي
نِصْفَيْ طَلْقَتَيْنِ يَتَكَامَل كُل نِصْفٍ فَيَحْصُل طَلْقَتَانِ. (2)
69 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ قَال الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ
طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ نِصْفَ طَلْقَتَيْنِ لَزِمَهُ طَلْقَةٌ
وَاحِدَةٌ، وَلَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ وَثُلُثَ طَلْقَةٍ
لَزِمَتْهُ وَاحِدَةٌ لِعَدَمِ إِضَافَةِ الْجُزْءِ لِلَفْظِ طَلْقَةٍ،
وَلَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ وَثُلُثَ وَرُبُعَ طَلْقَةٍ
لَزِمَهُ اثْنَتَانِ لِزِيَادَةِ الأَْجْزَاءِ عَلَى وَاحِدَةٍ. وَلَوْ
أَضَافَ الْجُزْءَ لِلَفْظِ طَلْقَةٍ، فَقَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثُلُثَ
طَلْقَةٍ وَرُبُعَ طَلْقَةٍ بِحَرْفِ
__________
(1) الدر المختار، وحاشية ابن عابدين 3 / 259، 260.
(2) ابن عابدين والدر المختار 3 / 360، 361.
(29/51)
الْعَطْفِ لَزِمَهُ اثْنَتَانِ. وَإِنْ
قَال لَهَا: أَنْتِ. طَالِقٌ ثُلُثَ طَلْقَةٍ وَرُبُعَ طَلْقَةٍ وَنِصْفَ
طَلْقَةٍ لَزِمَهُ ثَلاَثُ طَلَقَاتٍ؛ لأَِنَّ كُل كَسْرٍ أُضِيفَ
لِطَلْقَةٍ أُخِذَ مُمَيَّزُهُ، فَاسْتَقَل بِنَفْسِهِ، أَيْ: حُكِمَ
بِكَمَال الطَّلْقَةِ فِيهِ، فَالْجُزْءُ الآْخَرُ الْمَعْطُوفُ يُعَدُّ
طَلْقَةً. (1)
70 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَال الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ
طَالِقٌ بَعْضَ طَلْقَةٍ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ لاَ
يَتَبَعَّضُ، فَإِيقَاعُ بَعْضِهِ كَإِيقَاعِ كُلِّهِ، وَلَوْ قَال لَهَا:
أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَيْ طَلْقَةٍ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ؛ لأَِنَّ نِصْفَيِ
الطَّلْقَةِ طَلْقَةٌ، إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ كُل نِصْفٍ مِنْ
طَلْقَةٍ، فَتَقَعُ طَلْقَتَانِ عَمَلاً بِقَصْدِهِ، وَالأَْصَحُّ
عِنْدَهُمْ: أَنَّ قَوْل الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ
طَلْقَتَيْنِ يَقَعُ بِهِ طَلْقَةٌ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ نِصْفُهُمَا، مَا لَمْ
يُرِدْ كُل نِصْفٍ مِنْ طَلْقَةٍ فَتَقَعُ طَلْقَتَانِ. وَفِي أَجْزَاءِ
الطَّلْقَةِ قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: حَاصِل مَا ذُكِرَ أَنَّهُ
إِنْ كَرَّرَ لَفْظَ " طَلْقَةٌ " مَعَ الْعَاطِفِ، وَلَمْ تَزِدِ
الأَْجْزَاءُ عَلَى طَلْقَةٍ، كَأَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَثُلُثَ
طَلْقَةٍ، كَانَ كُل جُزْءٍ طَلْقَةً، وَإِنِ اسْقَطَ لَفْظَ طَلْقَةٍ
كَأَنْتِ طَالِقٌ رُبُعَ وَسُدُسَ طَلْقَةٍ، أَوْ أَسْقَطَ الْعَاطِفَ
كَأَنْتِ طَالِقٌ ثُلُثَ طَلْقَةٍ، رُبُعَ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 460، والشرح الكبير 2 / 385 - 386.
(29/52)
طَلْقَةٍ، كَانَ الْكُل طَلْقَةً، فَإِنْ
زَادَتِ الأَْجْزَاءُ كَنِصْفِ وَثُلُثِ وَرُبُعِ طَلْقَةٍ كَمُل
الزَّائِدُ مِنْ طَلْقَةٍ أُخْرَى وَوَقَعَ بِهِ طَلْقَةٌ، وَلَوْ قَال:
نِصْفُ طَلْقَةٍ وَنِصْفُهَا وَنِصْفُهَا فَثَلاَثٌ، إِلاَّ إِنْ أَرَادَ
بِالنِّصْفِ الثَّالِثِ تَأْكِيدَ الثَّانِي فَطَلْقَتَانِ. (1)
71 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ قَال الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ
طَالِقٌ نِصْفَيْ طَلْقَةٍ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ؛ لأَِنَّ نِصْفَيِ الشَّيْءِ
كُلُّهُ، وَإِنْ قَال: ثَلاَثَةُ أَنْصَافِ طَلْقَةٍ طَلُقَتْ
طَلْقَتَيْنِ،؛ لأَِنَّ ثَلاَثَةَ أَنْصَافٍ طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ، فَكَمُل
النِّصْفُ، فَصَارَا طَلْقَتَيْنِ.
وَإِنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَتَيْنِ طَلُقَتْ وَاحِدَةً،
لأَِنَّ نِصْفَ الطَّلْقَتَيْنِ طَلْقَةٌ، وَإِنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ
نِصْفَيْ طَلْقَتَيْنِ وَقَعَتْ طَلْقَتَانِ، لأَِنَّ نِصْفَيِ الشَّيْءِ
جَمِيعُهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ، وَإِنْ
قَال: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ ثَلاَثِ طَلَقَاتٍ طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ؛
لأَِنَّ نِصْفَهَا طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ، ثُمَّ يَكْمُل النِّصْفُ فَتَصِيرُ
طَلْقَتَيْنِ. وَإِنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ وَثُلُثَ وَسُدُسَ
طَلْقَةٍ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ لأَِنَّهَا أَجْزَاءُ الطَّلْقَةِ، وَلَوْ
قَال: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَثُلُثَ طَلْقَةٍ وَسُدُسَ طَلْقَةٍ
فَقَال أَصْحَابُنَا: يَقَعُ ثَلاَثٌ، لأَِنَّهُ عَطَفَ جُزْءًا مِنْ
طَلْقَةٍ عَلَى
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 289 - 299.
(29/52)
جُزْءٍ مِنْ طَلْقَةٍ، فَظَاهِرُهُ
أَنَّهَا طَلَقَاتٌ مُتَغَايِرَةٌ، وَلأَِنَّهَا لَوْ كَانَتِ الثَّانِيَةُ
هِيَ الأُْولَى لَجَاءَ بِهَا فَاللاَّمُ التَّعْرِيفِ فَقَال: ثُلُثُ
الطَّلْقَةِ وَسُدُسُ الطَّلْقَةِ، فَإِنَّ أَهْل الْعَرَبِيَّةِ قَالُوا:
إِذَا ذُكِرَ لَفْظٌ ثُمَّ أُعِيدَ مُنَكَّرًا فَالثَّانِي غَيْرُ
الأَْوَّل، وَإِنْ أُعِيدَ مُعَرَّفًا بِالأَْلِفِ وَاللاَّمِ فَالثَّانِي
هُوَ الأَْوَّل. وَإِنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ ثُلُثَ
طَلْقَةٍ سُدُسَ طَلْقَةٍ طَلُقَتْ طَلْقَةً؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَعْطِفْ
بِوَاوِ الْعَطْفِ، فَيَدُل عَلَى أَنَّ هَذِهِ الأَْجْزَاءَ مِنْ طَلْقَةٍ
غَيْرُ مُتَغَايِرَةٍ، وَلأَِنَّهُ يَكُونُ الثَّانِي هَاهُنَا بَدَلاً
مِنَ الأَْوَّل، وَالثَّالِثُ مِنَ الثَّانِي، وَالْبَدَل هُوَ الْمُبْدَل
أَوْ بَعْضُهُ، فَلَمْ يَقْتَضِ الْمُغَايَرَةَ وَعَلَى هَذَا التَّعْلِيل
لَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً نِصْفَ طَلْقَةٍ، أَوْ طَلْقَةً
طَلْقَةً لَمْ تَطْلُقْ إِلاَّ طَلْقَةً، فَإِنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ
نِصْفًا وَثُلُثًا وَسُدُسًا لَمْ يَقَعْ إِلاَّ طَلْقَةٌ، لأَِنَّ هَذِهِ
أَجْزَاءُ الطَّلْقَةِ، إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ مِنْ كُل طَلْقَةٍ جُزْءًا
فَتَطْلُقُ ثَلاَثًا. وَلَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفًا وَثُلُثًا
وَرُبُعًا طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ؛ لأَِنَّهُ يَزِيدُ عَلَى الطَّلْقَةِ
نِصْفَ سُدُسٍ ثُمَّ يَكْمُل، وَإِنْ أَرَادَ مِنْ كُل طَلْقَةٍ جُزْءًا
طَلُقَتْ ثَلاَثًا. (1)
الرَّجْعَةُ فِي الطَّلاَقِ:
72 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ
__________
(1) المغني 7 / 243 - 244.
(29/53)
زَوْجَتَهُ بَائِنًا لاَ يَعُودُ إِلَيْهَا
إِلاَّ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، فِي الْعِدَّةِ أَمْ بَعْدَهَا، مَا دَامَتِ
الْبَيْنُونَةُ صُغْرَى وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ بَعْدَ فَسْخِ الزَّوَاجِ.
فَإِذَا كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ كُبْرَى، فَلاَ يَعُودُ إِلَيْهَا إِلاَّ
بِعَقْدٍ جَدِيدٍ أَيْضًا، وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ تَتَزَوَّجَ مِنْ
غَيْرِهِ، وَيَدْخُل بِهَا، ثُمَّ يُفَارِقُهَا وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا،
وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِل لَهُ مِنْ
بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} .
(1) كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ
رَجْعِيًّا وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، فَإِنَّ لَهُ الْعَوْدَ إِلَيْهَا
بِالْمُرَاجَعَةِ بِدُونِ عَقْدٍ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ
أَرَادُوا إِصْلاَحًا} . (2) وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ
أَحْكَامِ الرَّجْعَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ.
وَلِلتَّفْصِيل اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رَجْعَة ج 22) .
(التَّفْرِيقُ لِلشِّقَاقِ:
73 - الشِّقَاقُ هُنَا: هُوَ النِّزَاعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، سَوَاءٌ
أَكَانَ بِسَبَبٍ مِنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، أَوْ بِسَبَبِهِمَا مَعًا،
أَوْ بِسَبَبِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُمَا، فَإِذَا وَقَعَ الشِّقَاقُ بَيْنَ
الزَّوْجَيْنِ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمَا
__________
(1) الآية 230 من سورة البقرة.
(2) الآية 228 من سورة البقرة.
(29/53)
الإِْصْلاَحُ، فَقَدْ شُرِعَ بَعْثُ
حَكَمَيْنِ مِنْ أَهْلِهِمَا لِلْعَمَل عَلَى الإِْصْلاَحِ بَيْنَهُمَا
وَإِزَالَةِ أَسْبَابِ النِّزَاعِ وَالشِّقَاقِ، بِالْوَعْظِ وَمَا
إِلَيْهِ، قَال تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا
فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا
إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (1) وَمُهِمَّةُ الْحَكَمَيْنِ
هُنَا الإِْصْلاَحُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِحِكْمَةٍ وَرَوِيَّةٍ. وَقَدِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُهِمَّةِ الْحَكَمَيْنِ، وَفِي شُرُوطِهِمَا،
وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:
أ - مُهِمَّةُ الْحَكَمَيْنِ:
74 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مُهِمَّةَ الْحَكَمَيْنِ
الإِْصْلاَحُ لاَ غَيْرُ، فَإِذَا نَجَحَا فِيهِ فَبِهَا، وَإِلاَّ تَرَكَا
الزَّوْجَيْنِ عَلَى حَالِهِمَا لِيَتَغَلَّبَا عَلَى نِزَاعِهِمَا
بِنَفْسَيْهِمَا، إِمَّا بِالْمُصَالَحَةِ، أَوْ بِالصَّبْرِ، أَوْ
بِالطَّلاَقِ، أَوْ بِالْمُخَالَعَةِ، وَلَيْسَ لِلْحَكَمَيْنِ
التَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِلاَّ أَنْ يُفَوِّضَ الزَّوْجَانِ
إِلَيْهِمَا ذَلِكَ، فَإِنْ فَوَّضَاهُمَا بِالتَّفْرِيقِ بَعْدَ الْعَجْزِ
عَنِ التَّوْفِيقِ، كَانَا وَكِيلَيْنِ عَنْهُمَا فِي ذَلِكَ، وَجَازَ
لَهُمَا التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا بِهَذِهِ الْوَكَالَةِ. (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ وَاجِبَ الْحَكَمَيْنِ الإِْصْلاَحُ
أَوَّلاً، فَإِنْ عَجَزَا عَنْهُ لِتَحَكُّمِ
__________
(1) لآية 35 من سورة النساء.
(2) تفسير روح المعاني 5 / 27.
(29/54)
الشِّقَاقِ كَانَ لَهُمَا التَّفْرِيقُ
بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ دُونَ تَوْكِيلٍ، وَوَجَبَ عَلَى الْقَاضِي إِمْضَاءُ
حُكْمِهِمَا بِهَذَا التَّفْرِيقِ إِذَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ
يُصَادِفْ ذَلِكَ اجْتِهَادَهُ.
وَإِنْ طَلَّقَا، وَاخْتَلَفَ الْحَكَمَانِ فِي الْمَال، بِأَنْ قَال
أَحَدُهُمَا: الطَّلاَقُ بِعِوَضٍ، وَقَال الآْخَرُ: بِلاَ عِوَضٍ، فَإِنْ
لَمْ تَلْتَزِمْهُ الْمَرْأَةُ فَلاَ طَلاَقَ يَلْزَمُ الزَّوْجَ،
وَيَعُودُ الْحَال كَمَا كَانَ، وَإِنِ الْتَزَمَتْهُ وَقَعَ وَبَانَتْ
مِنْهُ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ بِأَنْ قَال أَحَدُهُمَا:
طَلَّقْنَا بِعَشْرَةٍ، وَقَال الآْخَرُ: بِثَمَانِيَةٍ، فَيُوجِبُ ذَلِكَ
الاِخْتِلاَفُ لِلزَّوْجِ خُلْعَ الْمِثْل وَكَذَلِكَ لَوِ اخْتَلَفَا فِي
صِفَتِهِ، أَوْ جِنْسِهِ.
(1) وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنِ اشْتَدَّ الشِّقَاقُ
بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بَعَثَ الْقَاضِي حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا
مِنْ أَهْلِهَا، وَهُمَا وَكِيلاَنِ لَهُمَا فِي الأَْظْهَرِ، وَفِي
قَوْلٍ: هُمَا حَاكِمَانِ مُوَلَّيَانِ مِنَ الْحَاكِمِ، فَعَلَى
الأَْوَّل: يُشْتَرَطُ رِضَاهُمَا بِبَعْثِ الْحَكَمَيْنِ، فَيُوَكِّل
الزَّوْجُ حَكَمَهُ بِطَلاَقٍ وَقَبُول عِوَضِ خُلْعٍ، وَتُوَكِّل
الزَّوْجَةُ حَكَمَهَا بِبَذْل عِوَضٍ وَقَبُول طَلاَقٍ، وَيُفَرِّقُ
الْحَكَمَانِ بَيْنَهُمَا إِنْ رَأَيَاهُ صَوَابًا، وَإِنِ اخْتَلَفَ
رَأْيُهُمَا بَعَثَ الْقَاضِي اثْنَيْنِ غَيْرَهُمَا، حَتَّى يَجْتَمِعَا
عَلَى شَيْءٍ، وَعَلَى
الْقَوْل الثَّانِي: لاَ يُشْتَرَطُ رِضَا الزَّوْجَيْنِ بِبَعْثِهِمَا
__________
(1) الدسوقي 2 / 346 - 347.
(29/54)
وَيُحَكَّمَانِ، بِمَا يَرَيَانِهِ
مَصْلَحَةً مِنَ الْجَمْعِ أَوِ التَّفْرِيقِ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مُهِمَّةَ الْحَكَمَيْنِ الأُْولَى
التَّوْفِيقُ، فَإِنْ عَجَزَا عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا التَّفْرِيقُ فِي
قَوْلٍ كَالْحَنَفِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: لَهُمَا ذَلِكَ. (2)
ب - شُرُوطُ الْحَكَمَيْنِ:
75 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحَكَمَيْنِ شُرُوطًا هِيَ:
1 - كَمَال الأَْهْلِيَّةِ، وَهِيَ: الْعَقْل وَالْبُلُوغُ وَالرُّشْدُ،
فَلاَ يَجُوزُ تَحْكِيمُ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ.
2 - الإِْسْلاَمُ، فَلاَ يَحْكُمُ غَيْرُ الْمُسْلِمِ فِي الْمُسْلِمِ،
لِمَا فِيهِ مِنْ الاِسْتِعْلاَءِ عَلَيْهِ.
3 - الْحُرِّيَّةُ، فَلاَ يَحْكُمُ عَبْدٌ، وَلِلْحَنَابِلَةِ قَوْلٌ آخَرُ
بِجَوَازِ جَعْل الْعَبْدِ مُحَكَّمًا، مَا دَامَ التَّحْكِيمُ وَكَالَةً.
4 - الْعَدَالَةُ، وَهِيَ: مُلاَزَمَةُ التَّقْوَى.
5 - الْفِقْهُ بِأَحْكَامِ هَذَا التَّحْكِيمِ.
6 - أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْل الزَّوْجَيْنِ إِنْ أَمْكَنَ عَلَى سَبِيل
النَّدْبِ لاَ الْوُجُوبِ.
ثُمَّ إِنْ وَكَّل الزَّوْجَانِ الْحَكَمَيْنِ بِالتَّفْرِيقِ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 261.
(2) المغني 7 / 252.
(29/55)
بِرِضَاهُمَا كَانَ لَهُمَا التَّفْرِيقُ
أَيْضًا بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْجَمْعِ وَالتَّوْفِيقِ، وَفِي حَال
التَّوْكِيل فِي التَّفْرِيقِ يُشْتَرَطُ إِلَى جَانِبِ مَا تَقَدَّمَ:
أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَانِ كَامِلَيِ الأَْهْلِيَّةِ رَاشِدَيْنِ، لِمَا
فِي ذَلِكَ مِنِ احْتِمَال رَدِّ بَعْضِ الْمَهْرِ.
فَإِنْ وَكَّل الزَّوْجَانِ الْحَكَمَيْنِ بِالتَّفْرِيقِ، ثُمَّ جُنَّ
أَحَدُهُمَا أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْل التَّفْرِيقِ، لَغَا
التَّوْكِيل، وَلَمْ يَكُنْ لِلْحَكَمَيْنِ غَيْرُ التَّوْفِيقِ، فَإِنْ
غَابَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْل التَّفْرِيقِ لَمْ يَنْعَزِل
الْحَكَمَانِ، وَيَكُونُ لَهُمَا التَّفْرِيقُ فِي غَيْبَتِهِ؛ لأَِنَّ
الْغَيْبَةَ لاَ تُبْطِل الْوَكَالَةَ، بِخِلاَفِ الْجُنُونِ
وَالإِْغْمَاءِ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْحَكَمَيْنِ، وَمَعَهُمُ
الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْقَوْل
الثَّانِي الذُّكُورَةَ؛ لأَِنَّ الْحَكَمَيْنِ هُنَا حَاكِمَانِ، وَلاَ
يَجُوزُ جَعْل الْمَرْأَةِ عِنْدَهُمْ حَاكِمًا.
وَالْحَكَمَانِ يَحْكُمَانِ بِالتَّفْرِيقِ جَبْرًا عَنِ الزَّوْجَيْنِ؛
لأَِنَّهُمَا حَاكِمَانِ هُنَا وَنَائِبَانِ عَنِ الْقَاضِي، إِلاَّ أَنْ
يُسْقِطَ الزَّوْجَانِ مُتَّفِقَيْنِ دَعْوَى التَّفْرِيقِ قَبْل حُكْمِ
الْحَكَمَيْنِ، فَإِنْ فَعَلاَ سَقَطَ التَّحْكِيمُ وَلَمْ يَجُزْ لَهُمَا
الْحُكْمُ بِالتَّفْرِيقِ بِهِ؛ لأَِنَّ شَرْطَ التَّحْكِيمِ هُنَا
الدَّعْوَى، وَهَذَا إِذَا كَانَا مُحَكَّمَيْنِ مِنَ الْقَاضِي، فَإِنْ
كَانَا مُحَكَّمَيْنِ مِنْ قِبَل الزَّوْجَيْنِ مِنْ غَيْرِ قَاضٍ،
فَكَذَلِكَ يَنْفُذُ حُكْمُهُمَا عَلَى
(29/55)
الزَّوْجَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلاَ بِهِ،
مَا دَامَا لَمْ يَعْزِلاَهُمَا قَبْل الْحُكْمِ، فَإِنْ عَزَلاَهُمَا
قَبْل الْحُكْمِ انْعَزِلاَ، مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بَعْدَ ظُهُورِ
رَأْيِهِمَا، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ ظُهُورِ رَأْيِهِمَا لَمْ يَنْعَزِلاَ.
(1) كَمَا أَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ كَوْنَ الْحَكَمَيْنِ مِنْ أَهْل
الزَّوْجَيْنِ، وَلَمْ يُجِيزَا تَحْكِيمَ غَيْرِهِمَا، إِلاَّ أَنْ لاَ
يُوجَدَ مِنْ أَهْلِهِمَا مَنْ يَصْلُحُ لِلتَّحْكِيمِ، فَإِنْ لَمْ
يُوجَدْ جَازَ تَحْكِيمُ جَارَيْهِمَا، أَوْ غَيْرِهِمَا، وَنُدِبَ أَنْ
يَكُونَا جَارَيْنِ لِلْعِلْمِ بِحَالِهِمَا غَالِبًا.
ثُمَّ إِذَا وَكَّل الزَّوْجَانِ الْحَكَمَيْنِ بِالتَّفْرِيقِ
مُخَالَعَةً، كَانَ لَهُمَا ذَلِكَ بِحَسَبِ رَأْيِهِمَا مَا لَمْ
يُقَيِّدَاهُمَا بِشَيْءٍ، فَإِنْ قَيَّدَاهُمَا تَقَيَّدَا بِهِ لَدَى
الْجَمِيعِ.
فَإِذَا لَمْ يُوَكِّلاَهُمَا بِالتَّفْرِيقِ وَالْمُخَالَعَةِ، كَانَ
لَهُمَا التَّفْرِيقُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ دُونَ الْجُمْهُورِ كَمَا
تَقَدَّمَ، وَهُنَا يَمْلِكُ الْحَكَمَانِ التَّفْرِيقَ بِطَلاَقٍ أَوْ
مُخَالَعَةٍ بِحَسَبِ رَأْيِهِمَا، فَإِنْ رَأَيَا أَنَّ الضَّرَرَ كُلَّهُ
مِنَ الزَّوْجِ طَلَّقَا عَلَيْهِ، وَإِنْ رَأَيَا أَنَّهُ كُلُّهُ مِنَ
الزَّوْجَةِ فَرَّقَا بَيْنَهُمَا بِمُخَالَعَةٍ عَلَى أَنْ تَرُدَّ لَهُ
كُل الْمَهْرِ، وَرُبَّمَا أَكْثَرَ مِنْهُ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ
الضَّرَرُ بَعْضُهُ مِنَ الزَّوْجَةِ وَبَعْضُهُ مِنَ الزَّوْجِ، فَرَّقَا
بَيْنَهُمَا مُخَالَعَةً عَلَى جُزْءٍ مِنَ الْمَهْرِ يُنَاسِبُ مِقْدَارَ
الضَّرَرِ مِنْ كُلٍّ.
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 343 - 347، والقليوبي وعميرة 3 / 306.
(29/56)
قَضَاءُ الْقَاضِي بِتَفْرِيقِ
الْحَكَمَيْنِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ:
76 - إِنْ كَانَ الْمُحَكَّمَانِ مُوَكَّلَيْنِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ
بِالتَّفْرِيقِ، فَلاَ حَاجَةَ لِحُكْمِ الْقَاضِي بِتَفْرِيقِهِمَا،
وَتَقَع الْفُرْقَةُ بِحُكْمِهِمَا مُبَاشَرَةً.
وَإِنْ كَانَا مُحَكَّمَيْنِ مِنَ الْقَاضِي، أُلْزِمَا بِرَفْعِ
حُكْمِهِمَا إِلَيْهِ لِيُنَفِّذَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لَهُ فِي
إِنْفَاذِهِ، بَل هُوَ مُجْبَرٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ خَالَفَ اجْتِهَادَهُ -
كَمَا تَقَدَّمَ -
فَإِذَا اخْتَلَفَ الْحَكَمَانِ وَلَمْ يَتَّفِقَا عَلَى شَيْءٍ
عَزَلَهُمَا الْقَاضِي، وَعَيَّنَ حَكَمَيْنِ آخَرَيْنِ بَدَلاً مِنْهُمَا،
وَهَكَذَا حَتَّى يَتَّفِقَ حَكَمَانِ عَلَى شَيْءٍ، فَيُنَفِّذُهُ.
نَوْعُ الْفُرْقَةِ الثَّابِتَةِ بِتَفْرِيقِ الْحَكَمَيْنِ:
77 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ لِلشِّقَاقِ طَلاَقٌ
بَائِنٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَكَمَانِ مِنْ قِبَل الْقَاضِي أَمْ مِنْ
قِبَل الزَّوْجَيْنِ، وَهُوَ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، حَتَّى لَوْ أَوْقَعَ
الْحَكَمَانِ طَلْقَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا لَمْ يَقَعْ بِحُكْمِهِمَا
أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ تَفْرِيقُهُمَا طَلاَقًا أَمْ
مُخَالَعَةً عَلَى بَدَلٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُمَا إِنْ فَرَّقَا
بِخُلْعٍ فَطَلاَقٌ بَائِنٌ، وَإِنْ فَرَّقَا بِطَلاَقٍ فَهُوَ طَلاَقٌ.
وَهَل لِلزَّوْجَيْنِ إِقَامَةُ حَكَمٍ وَاحِدٍ بَدَلاً مِنَ
(29/56)
اثْنَيْنِ؟ وَالْجَوَابُ نَعَمْ، نَصَّ
عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ. وَهَل يَكُونُ ذَلِكَ لِوَلِيِّ الزَّوْجَيْنِ
أَيْضًا؟ تَرَدَّدَ الْمَالِكِيَّةُ فِيهِ.
وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ بِعَدَمِ الاِكْتِفَاءِ بِوَاحِدٍ (1)
لِلآْيَةِ: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا}
. (2)
التَّفْرِيقُ لِسُوءِ الْمُعَاشَرَةِ:
78 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ إِذَا أَضَرَّ بِهَا
زَوْجُهَا كَانَ لَهَا طَلَبُ الطَّلاَقِ مِنْهُ لِذَلِكَ، سَوَاءٌ
تَكَرَّرَ مِنْهُ الضَّرَرُ أَمْ لاَ، كَشَتْمِهَا وَضَرْبِهَا ضَرْبًا
مُبَرِّحًا. . وَهَل تَطْلُقُ بِنَفْسِهَا هُنَا بِأَمْرِ الْقَاضِي أَوْ
يُطَلِّقُ الْقَاضِي عَنْهَا؟ قَوْلاَنِ لِلْمَالِكِيَّةِ (3) وَلَمْ أَرَ
مِنَ الْفُقَهَاءِ الآْخَرِينَ مَنْ نَصَّ عَلَيْهِ بِوُضُوحٍ،
وَكَأَنَّهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهِ مَا لَمْ يَصِل الضَّرَرُ إِلَى حَدِّ
إِثَارَةِ الشِّقَاقِ، فَإِنْ وَصَل إِلَى ذَلِكَ، كَانَ الْحُكْمُ كَمَا
تَقَدَّمَ.
التَّفْرِيقُ لِلإِْعْسَارِ بِالصَّدَاقِ:
79 - إِذَا أَعْسَر الزَّوْجُ بِالصَّدَاقِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
فِي هَذَا عَلَى أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا فِرَاقُهُ
__________
(1) الدسوقي 2 / 344، ونهاية المحتاج 6 / 385.
(2) الآية 35 من سورة النساء.
(3) الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 345.
(29/57)
بِسَبَبِ ذَلِكَ مُطْلَقًا، وَلَكِنْ
مَنْعُ نَفْسِهَا مِنْهُ، وَالنَّظِرَةُ إِلَى مَيْسَرَةٍ، وَلَهَا كَامِل
نَفَقَتِهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لَهَا طَلَبَ التَّفْرِيقِ إِلَى
جَانِبِ مَالِهَا مِنْ: مَنْعِ نَفْسِهَا وَالنَّفَقَةِ مَا دَامَ لَمْ
يَدْخُل بِهَا، وَيُؤَجَّل الزَّوْجُ لإِِثْبَاتِ عُسْرَتِهِ، فَإِنْ
ظَهَرَ عَجْزُهُ طَلَّقَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ، فَإِنْ دَخَل بِهَا
الزَّوْجُ لَمْ يَكُنْ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وُجُوهٌ وَأَقْوَالٌ ثَلاَثَةٌ:
الأَْوَّل: الْفَسْخُ مُطْلَقًا.
وَالثَّانِي: الْفَسْخُ مَا لَمْ يَدْخُل بِهَا، وَإِلاَّ لَيْسَ لَهَا
ذَلِكَ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ.
وَالثَّالِثُ: لَيْسَ لَهَا الْفَسْخُ مُطْلَقًا، وَهِيَ غَرِيمٌ كَسَائِرِ
الْغُرَمَاءِ.
(1) وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِعْسَار ف 14) .
شُرُوطُ التَّفْرِيقِ بِالإِْعْسَارِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهِ:
80 - يُشْتَرَطُ لِلتَّفْرِيقِ بِالإِْعْسَارِ شُرُوطٌ، هِيَ:
أ - أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ وَاجِبًا عَلَى الزَّوْجِ وُجُوبًا حَالًّا:
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ أَصْلاً،
__________
(1) البدائع 2 / 288، ورد المختار 2 / 656، 4 / 315 - 317، وجواهر الإكليل
1 / 307 - 308، والشرح الكبير مع الدسوقي 2 / 299 - 300، والمهذب 2 / 62،
والمغني 7 / 579 ط. الرياض الحديثة والمقنع 3 / 98.
(29/57)
كَأَنْ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا وَلَمْ
يَدْخُل بِهَا، أَوْ كَانَ وُجُوبُهُ مُؤَجَّلاً كَأَنْ يُشْتَرَطَ فِي
الْعَقْدِ تَأْجِيلُهُ، لَمْ يَكُنْ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ بِسَبَبِ
ذَلِكَ، فَإِنْ سَلَّمَ الْبَعْضَ وَأَعْسَر بِالْبَعْضِ الْبَاقِي،
فَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ: الأَْقْوَى مِنْهُمَا: جَوَازُ
التَّفْرِيقِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
ب - أَنْ لاَ تَكُونَ الزَّوْجَةُ قَدْ رَضِيَتْ بِتَأْجِيل الْمَهْرِ
قَبْل الْعَقْدِ، أَوْ بَعْدَهُ بِطَرِيقِ الدَّلاَلَةِ، فَإِذَا
تَزَوَّجَتْهُ عَالِمَةً بِإِعْسَارِهِ بِالْمَهْرِ لَمْ يَكُنْ لَهَا
طَلَبُ التَّفْرِيقِ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَلِمَتْ بِإِعْسَارِهِ
بَعْدَ الْعَقْدِ وَسَكَتَتْ أَوْ رَضِيَتْ بِهِ صَرَاحَةً، فَإِنَّهُ لاَ
يَكُونُ لَهَا حَقٌّ فِي طَلَبِ التَّفْرِيقِ لِلإِْعْسَارِ بِالْمَهْرِ
بَعْدَ ذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى الْعُنَّةِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالتَّفْرِيقِ لِلإِْعْسَارِ بِالْمَهْرِ
عَلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ حُكْمِ قَاضٍ بِهِ، أَوْ
مُحَكَّمٍ؛ لأَِنَّهُ فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، هَذَا إِنْ قَدَرَتِ
الزَّوْجَةُ عَلَى الرَّفْعِ إِلَيْهِمَا، فَإِنْ عَجَزَتْ عَنْ ذَلِكَ،
وَفَرَّقَتْ بِنَفْسِهَا جَازَ لِلضَّرُورَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ
الشَّافِعِيَّةُ.
(1) وَإِنْ ثَبَتَ إِعْسَارُهُ طَلَّقَ الْقَاضِي عَلَيْهِ فَوْرًا،
وَقِيل: يُنْظِرُهُ مُدَّةً يَرَاهَا مُنَاسَبَةَ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ
إِعْسَارُهُ أَنْظَرَهُ، وَقِيل: يَسْجُنُهُ حَتَّى
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 444.
(29/58)
يَدْفَعَ الْمَهْرَ، أَوْ يَظْهَرَ مَالُهُ
فَيُنَفِّذُهُ عَلَيْهِ، أَوْ يَثْبُتُ إِعْسَارُهُ فَيُطَلِّقُ عَلَيْهِ.
نَوْعُ الْفُرْقَةِ الثَّابِتَةِ بِالإِْعْسَارِ بِالْمَهْرِ:
81 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لِلإِْعْسَارِ
بِالْمَهْرِ طَلاَقٌ بَائِنٌ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
إِلَى أَنَّهَا فَسْخٌ، لاَ طَلاَقٌ. (1)
التَّفْرِيقُ لِلإِْعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ:
82 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ عَلَى
زَوْجِهَا بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ مَا لَمْ تَمْتَنِعْ مِنَ التَّمْكِينِ،
فَإِذَا لَمْ يَقُمِ الزَّوْجُ بِهَا لِغَيْرِ مَانِعٍ مِنَ الزَّوْجَةِ
كَانَ لَهَا حَقُّ طَلَبِهَا مِنْهُ بِالْقَضَاءِ، وَأَخْذُهَا جَبْرًا
عَنْهُ.
فَإِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنْ دَفْعِ هَذِهِ النَّفَقَةِ لِمَانِعٍ
مِنَ الزَّوْجَةِ، كَنُشُوزِهَا، لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهَا.
وَهَل يَكُونُ لِلزَّوْجَةِ حَقُّ طَلَبِ التَّفْرِيقِ مِنْهُ إِذَا
امْتَنَعَ عَنْهَا بِدُونِ سَبَبٍ مِنَ الزَّوْجَةِ؟
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال، وَاتَّفَقُوا
فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى عَلَى مَا يَلِي: -
أ - إِنْ كَانَ لِلزَّوْجِ الْمُمْتَنِعِ عَنِ النَّفَقَةِ مَالٌ ظَاهِرٌ
يُمْكِنُ لِلزَّوْجَةِ أَخْذُ نَفَقَتِهَا مِنْهُ، بِعِلْمِ الزَّوْجِ أَوْ
بِغَيْرِ عِلْمِهِ، بِنَفْسِهَا أَوْ بِأَمْرِ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 590، والدسوقي مع الشرح الكبير 2 / 299، ومغني المحتاج
3 / 444، والمغني 8 / 881.
(29/58)
الْقَاضِي، لَمْ يَكُنْ لَهَا طَلَبُ
التَّفْرِيقِ، لِوُصُولِهَا إِلَى حَقِّهَا بِغَيْرِ الْفُرْقَةِ، فَلاَ
تُمَكَّنُ مِنْهَا.
وَيَسْتَوِي هُنَا أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا، وَأَنْ
يَكُونَ مَال الزَّوْجِ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا أَيْضًا، وَأَنْ يَكُونَ
الْمَال نُقُودًا أَوْ مَنْقُولاَتٍ أَوْ عَقَارَاتٍ، لإِِمْكَانِ
الأَْخْذِ مِنْهَا.
إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ نَصُّوا فِي الأَْظْهَرِ مِنْ قَوْلَيْنِ
عَلَى أَنَّ مَالَهُ الظَّاهِرَ إِنْ كَانَ حَاضِرًا فَلاَ تَفْرِيقَ،
وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، فَلَهَا طَلَبُ
الْفَسْخِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ أَمَرَهُ الْقَاضِي بِإِحْضَارِهِ،
وَلاَ فَسْخَ لَهَا، وَلَوْ غَابَ وَجُهِل حَالُهُ فِي الْيَسَارِ
وَالإِْعْسَارِ فَلاَ فَسْخَ؛ لأَِنَّ السَّبَبَ لَمْ يَتَحَقَّقْ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ كَلاَمِ أَحْمَدَ، وَهُوَ
رِوَايَةُ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الإِْمْكَانِ
أَخْذُ النَّفَقَةِ مِنَ الْمَال الْغَائِبِ، فَإِنَّ لَهَا طَلَبَ
التَّفْرِيقِ، وَإِلاَّ فَلاَ، وَإِنْ كَانَ الْمَال حَاضِرًا فَلاَ
تَفْرِيقَ.
ب - فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ الْمُمْتَنِعِ عَنِ النَّفَقَةِ مَالٌ
ظَاهِرٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ لإِِعْسَارِهِ، أَمْ لِلْجَهْل بِحَالِهِ،
أَمْ لأَِنَّهُ غَيَّبَ مَالَهُ، فَرَفَعَتْهُ الزَّوْجَةُ إِلَى الْقَاضِي
طَالِبَةً التَّفْرِيقَ لِذَلِكَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي
جَوَازِ التَّفْرِيقِ، عَلَى قَوْلَيْنِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجَةِ هُنَا
(29/59)
طَلَبُ التَّفْرِيقِ، وَالْقَاضِي
يَأْمُرُهَا بِالاِسْتِدَانَةِ عَلَى الزَّوْجِ، وَيَأْمُرُ مَنْ تَجِبُ
عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا - لَوْلاَ زَوْجُهَا - بِإِقْرَاضِهَا، فَإِنِ
امْتَنَعَ حَبَسَهُ وَعَزَّرَهُ حَتَّى يُقْرِضَهَا، ثُمَّ يَعُودَ
بِذَلِكَ عَلَى زَوْجِهَا إِذَا أَيْسَر إِنْ شَاءَ، وَهُوَ مَذْهَبُ
عَطَاءٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي
سُلَيْمَانَ، وَغَيْرِهِمْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا
أَعْسَر بِالنَّفَقَةِ فَالزَّوْجَةُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَتْ بَقِيَتْ
عَلَى الزَّوْجِيَّةِ وَاسْتَدَانَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَتْ رَفَعَتْ
أَمْرَهَا لِلْقَاضِي طَالِبَةً فَسْخَ نِكَاحِهَا، وَالْقَاضِي يُجِيبُهَا
إِلَى ذَلِكَ حَالاً، أَوْ بَعْدَ التَّلَوُّمِ لِلزَّوْجِ (1) ، رَجَاءَ
مَقْدِرَتِهِ عَلَى الإِْنْفَاقِ، عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ،
وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَأَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِمْ.
شُرُوطُ التَّفْرِيقِ لِعَدَمِ الإِْنْفَاقِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهِ:
83 - يُشْتَرَطُ لِلتَّفْرِيقِ لِعَدَمِ الإِْنْفَاقِ - عِنْدَ مَنْ يَقُول
- بِهِ شُرُوطٌ، هِيَ:
__________
(1) التلَّوم لغة: الانتظار، وفي الاصطلاح: هو بهذا المعنى، وقال المالكية:
هو تصبر الزوجة يومًا أو يومين أو أكثر بأمر القاضي برجاء يسار الزوج
بالنفقة.
(29/59)
أ - أَنْ يَثْبُتَ إِعْسَارُ الزَّوْجِ
بِالنَّفَقَةِ، وَذَلِكَ بِتَصَادُقِهِمَا أَوْ بِالْبَيِّنَةِ، وَذَلِكَ
فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. أَمَّا
الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مُقَابِل
الأَْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةِ فَلاَ يَرِدُ هَذَا الشَّرْطُ عِنْدَهُمْ.
ب - أَنْ يَكُونَ الإِْعْسَارُ أَوْ الاِمْتِنَاعُ الْمُوجِبُ لِلْفُرْقَةِ
هُوَ امْتِنَاعٌ عَنْ أَقَل النَّفَقَةِ، وَهِيَ نَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ،
وَلَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ غَنِيَّةً، أَوِ الزَّوْجُ الْمُمْتَنِعُ
غَنِيًّا أَيْضًا؛ لأَِنَّ التَّفْرِيقَ إِنَّمَا يُثْبِتُ هُنَا ضَرُورَةَ
دَفْعِ الْهَلاَكِ عَنِ الزَّوْجَةِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ
بِالْعَجْزِ عَنْ نَفَقَةِ الْمُعْسِرِينَ، لاَ النَّفَقَةِ
الْمُسْتَحَقَّةِ لَهَا مُطْلَقًا.
وَعَلَى هَذَا فَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ غَنِيًّا وَامْتَنَعَ عَنِ
الإِْنْفَاقِ إِلاَّ نَفَقَةَ الْمُعْسِرِينَ - وَهِيَ الضَّرُورِيُّ مِنَ
الطَّعَامِ وَالْكِسَاءِ وَلَوْ خَشِنًا - لَمْ يُفَرَّقْ.
هَذَا وَالإِْعْسَارُ وَالاِمْتِنَاعُ عَنِ الإِْنْفَاقِ يَشْمَل هُنَا
الطَّعَامَ وَالْكِسَاءَ بِالاِتِّفَاقِ؛ لأَِنَّ الْحَيَاةَ لاَ تَقُومُ
بِدُونِهِمَا.
أَمَّا الإِْعْسَارُ بِالْمَسْكَنِ، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى
أَنَّ الأَْصَحَّ أَنَّ لَهَا الْفَسْخَ.
وَكَذَلِكَ الإِْعْسَارُ بِالأُْدْمِ، إِلاَّ أَنَّ النَّوَوِيَّ صَحَّحَ
عَدَمَ الْفَسْخِ بِالإِْعْسَارِ بِالأُْدْمِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ ضَرُورِيٍّ
لإِِدَامَةِ الْحَيَاةِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَعِنْدَهُمْ فِي التَّفْرِيقِ لِلإِْعْسَارِ
بِالْمَسْكَنِ وَجْهَانِ:
(29/60)
الأَْوَّل: أَنَّ لَهَا التَّفْرِيقَ بِهِ
كَالطَّعَامِ وَالْكِسَاءِ.
وَالثَّانِي: لاَ تَفْرِيقَ لَهَا بِهِ؛ لأَِنَّ الْبُنْيَةَ تَقُومُ
بِدُونِهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يَرَوْنَ التَّفْرِيقَ لِلْعَجْزِ عَنِ
الْمَسْكَنِ قَوْلاً وَاحِدًا؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ ضَرُورِيٍّ.
ج - أَنْ لاَ يَكُونَ لِلزَّوْجِ مَالٌ ظَاهِرٌ حَاضِرٌ يُمْكِنُهَا أَخْذُ
نَفَقَتِهَا مِنْهُ بِنَفْسِهَا أَوْ بِطَرِيقِ الْقَاضِي، وَإِلاَّ لَمْ
يَكُنْ لَهَا التَّفْرِيقُ بِالاِتِّفَاقِ، فَإِذَا كَانَ الْمَال
غَائِبًا، فَقَدْ تَقَدَّمَ الاِخْتِلاَفُ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ.
د - أَنْ يَكُونَ امْتِنَاعُ الزَّوْجِ عَنِ النَّفَقَةِ الْحَاضِرَةِ
بَعْدَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ عَنِ النَّفَقَةِ
الْمَاضِيَةِ دُونَ الْحَاضِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا الْفَسْخُ
بِالاِتِّفَاقِ، لأَِنَّهَا دَيْنٌ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَلَيْسَتْ
ضَرُورِيَّةً لِلإِْبْقَاءِ عَلَى الْحَيَاةِ.
فَإِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنِ النَّفَقَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، فَقَدْ
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ
فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَمِّنَ لِزَوْجَتِهِ نَفَقَتَهَا مُدَّةَ غِيَابِهِ،
فَإِذَا أَعْسَرَ بِذَلِكَ كَانَ لَهَا طَلَبُ الْفُرْقَةِ مِنْهُ، إِلاَّ
أَنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ قَال: إِنَّ لَهَا الْمُطَالَبَةَ بِهَا
فَقَطْ دُونَ التَّفْرِيقِ، فَإِذَا سَافَرَ وَنَفَّذَ مَا عِنْدَهَا مِنَ
النَّفَقَةِ كَانَ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ آنَئِذٍ.
فَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُقِيمًا فَلاَ حَقَّ لِلزَّوْجَةِ فِي
(29/60)
نَفَقَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ، وَبِالتَّالِي
فَلاَ حَقَّ لَهَا فِي طَلَبِ التَّفْرِيقِ لِمَنْعِهَا مِنْهَا.
فَإِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنِ النَّفَقَةِ قَبْل وُجُوبِهَا عَلَيْهِ
أَصْلاً، كَأَنْ لَمْ تُخَل بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، أَوْ سَقَطَ حَقُّهَا
فِي النَّفَقَةِ كَنُشُوزِهَا، فَإِنَّهُ لاَ حَقَّ لَهَا فِي طَلَبِ
التَّفْرِيقِ لِعَدَمِ الْحَقِّ فِي النَّفَقَةِ أَصْلاً.
هـ - أَنْ لاَ تَكُونَ قَدْ رَضِيَتْ بِالْمَقَامِ مَعَهُ مَعَ عُسْرَتِهِ
أَوْ تَرْكِ إِنْفَاقِهِ مُطْلَقًا، صَرَاحَةً أَوْ ضِمْنًا، أَوْ شَرَطَ
عَلَيْهَا ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ وَرَضِيَتْ بِهِ، فَإِنْ
كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقٌّ فِي طَلَبِ التَّفْرِيقِ لَدَى
الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي قَوْلٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ ثَانٍ إِلَى أَنَّ
لَهَا طَلَبَ فَسْخِ النِّكَاحِ إِذَا أَعْسَر الزَّوْجُ بِالنَّفَقَةِ
وَلَوْ رَضِيَتْ بِهِ قَبْل ذَلِكَ، لأَِنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ
يَتَجَدَّدُ فِي كُل يَوْمٍ.
نَوْعُ الْفُرْقَةِ بِالاِمْتِنَاعِ عَنِ الإِْنْفَاقِ وَطَرِيقُ
وُقُوعِهَا:
84 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ
لِعَدَمِ الإِْنْفَاقِ فَسْخٌ مَا دَامَتْ بِحُكْمِ الْقَاضِي، فَإِنْ
طَلَبَ الْقَاضِي مِنَ الزَّوْجِ طَلاَقَهَا فَطَلَّقَهَا كَانَتْ طَلاَقًا
رَجْعِيًّا مَا لَمْ يَبْلُغِ الثَّلاَثَ، أَوْ يَكُنْ قَبْل الدُّخُول،
وَإِلاَّ فَبَائِنٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا طَلاَقٌ رَجْعِيٌّ، وَلِهَذَا
كَانَ لِلزَّوْجِ حَقُّ مُرَاجَعَتِهَا فِي الْعِدَّةِ
(29/61)
عِنْدَهُمْ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ
اشْتَرَطُوا هُنَا لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ أَنْ يَجِدَ الزَّوْجُ يَسَارًا
لِنَفَقَتِهَا الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ النَّفَقَةَ
الضَّرُورِيَّةُ الَّتِي فُرِّقَ مِنْ أَجْلِهَا، فَإِذَا رَاجَعَهَا دُونَ
ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ.
وَأَمَّا طَرِيقُ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ
بِالتَّفْرِيقِ لِعَدَمِ الإِْنْفَاقِ عَلَى أَنَّهَا لاَ تَكُونُ بِغَيْرِ
الْقَاضِي، ذَلِكَ أَنَّهَا فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ
لاَ يَتِمُّ بِغَيْرِ الْقَضَاءِ، إِزَالَةً لِلْخِلاَفِ، لَكِنَّ
الشَّافِعِيَّةَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا إِذَا قَدَرَتْ عَلَى الرَّفْعِ
لِلْقَاضِي، فَإِنِ اسْتَقَلَّتْ بِالْفَسْخِ لِعَدَمِ حَاكِمٍ أَوْ
مُحَكَّمٍ، أَوْ عَجَزَتْ عَنِ الرَّفْعِ إِلَى الْقَاضِي نَفُذَ ظَاهِرًا
وَبَاطِنًا لِلضَّرُورَةِ.
85 - وَأَمَّا وَقْتُ الْقَضَاءِ بِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى
أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يُنَجِّزُ
الْفُرْقَةَ بَعْدَ ثُبُوتِ الإِْعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ - بِالتَّصَادُقِ
أَوِ الْبَيِّنَةِ - دُونَ إِنْظَارٍ، إِلاَّ أَنَّ الأَْظْهَرَ لَدَيْهِمْ
إِمْهَال الزَّوْجِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَوْ لَمْ يَطْلُبْ ذَلِكَ
لِلتَّحَقُّقِ مِنْ عَجْزِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَعْجِزُ لِعَارِضٍ ثُمَّ
يَزُول، وَهِيَ مُدَّةٌ قَرِيبَةٌ يُتَوَقَّعُ فِيهَا الْقُدْرَةُ بِقَرْضٍ
أَوْ غَيْرِهِ، فَإِذَا مَضَتْ دُونَ الْقُدْرَةِ، فَرَّقَ الْقَاضِي
عَلَيْهِ.
(29/61)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ
الْفَسْخَ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَ ثُبُوتِ الإِْعْسَارِ دُونَ
إِمْهَالٍ كَخِيَارِ الْعَيْبِ.
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ، فَقَالُوا: إِذَا رَفَعَتِ
الزَّوْجَةُ أَمْرَهَا لِلْقَاضِي، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَسْأَل الزَّوْجَ،
فَإِنِ ادَّعَى الإِْعْسَارَ وَأَثْبَتَهُ تَلَوَّمَ لَهُ الْقَاضِي
بِاجْتِهَادِهِ، فَإِنْ مَضَتِ الْمُدَّةُ وَلَمْ يُنْفِقْ، طَلَّقَ
عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ إِعْسَارُهُ، أَوِ ادَّعَى الْيَسَارَ،
أَوْ سَكَتَ وَلَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ، أَمَرَهُ الْقَاضِي بِالإِْنْفَاقِ
أَوِ الطَّلاَقِ، فَإِنْ أَبَى طَلَّقَ عَلَيْهِ حَالًّا مِنْ غَيْرِ
تَلَوُّمٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ، وَقِيل: يُطَلِّقُ عَلَيْهِ
بَعْدَ التَّلَوُّمِ أَيْضًا.
وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الزَّوْجُ حَاضِرًا، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا
غَيْبَةً قَرِيبَةً يَقِل بَعْدَهَا عَنْ عَشْرَةِ أَيَّامٍ، كَتَبَ
الْقَاضِي إِلَيْهِ بِالْحُضُورِ وَالْخِيَارِ بَيْنَ الإِْنْفَاقِ أَوِ
الْفِرَاقِ، فَإِنْ حَضَرَ وَاخْتَارَ أَحَدَهُمَا فَبِهَا، وَإِلاَّ
طَلَّقَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَحْضُرْ، هَذَا إِذَا كَانَ
يَعْلَمُ مَكَانَهُ. فَإِذَا كَانَ لاَ يَعْلَمُ مَكَانَهُ، أَوْ كَانَ
مَكَانُهُ بَعِيدًا أَكْثَرَ مِنْ عَشْرَةِ أَيَّامٍ فَإِنَّهُ يُطَلِّقُ
عَلَيْهِ فَوْرًا. (1)
التَّفْرِيقُ لِلْغَيْبَةِ وَالْفَقْدِ وَالْحَبْسِ:
86 - الْغَائِبُ هُوَ: مَنْ غَادَرَ مَكَانَهُ لِسَفَرٍ وَلَمْ
__________
(1) رد المحتار 3 / 590 - 591 والدسوقي والشرح الكبير 2 / 518 - 520، ومغني
المحتاج 3 / 442 - 444. والمغني 8 / 175 - 181.
(29/62)
يَعُدْ إِلَيْهِ، وَحَيَاتُهُ مَعْلُومَةٌ،
فَإِذَا جُهِلَتْ حَيَاتُهُ فَهُوَ الْمَفْقُودُ، أَمَّا الْمَحْبُوسُ
فَهُوَ: مَنْ قُبِضَ عَلَيْهِ وَأُودِعَ السِّجْنَ بِسَبَبِ تُهْمَةٍ أَوْ
جِنَايَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَوْجَةِ الْغَائِبِ وَالْمَفْقُودِ
وَالْمَحْبُوسِ إِذَا طَلَبَتِ التَّفْرِيقَ لِذَلِكَ، هَل تُجَابُ إِلَى
طَلَبِهَا؟ عَلَى أَقْوَالٍ بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:
1 - التَّفْرِيقُ لِلْغَيْبَةِ:
87 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ التَّفْرِيقِ لِلْغَيْبَةِ عَلَى
أَقْوَالٍ مَبْنَاهَا اخْتِلاَفُهُمْ فِي حُكْمِ اسْتِدَامَةِ الْوَطْءِ،
أَهُوَ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ مِثْل مَا هُوَ حَقٌّ لِلزَّوْجِ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْل
الْقَاضِي، إِلَى أَنَّ دَوَامَ الْوَطْءِ قَضَاءُ حَقٍّ لِلرَّجُل فَقَطْ،
وَلَيْسَ لِلزَّوْجَةِ فِيهِ حَقٌّ، فَإِذَا مَا تَرَكَ الزَّوْجُ وَطْءَ
زَوْجَتِهِ مُدَّةً لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا لَهَا أَمَامَ الْقَاضِي، سَوَاءٌ
أَكَانَ فِي ذَلِكَ حَاضِرًا أَمْ غَائِبًا، طَالَتْ غَيْبَتُهُ أَمْ لاَ؛
لأَِنَّ حَقَّهَا فِي الْوَطْءِ قَضَاءٌ يَنْقَضِي بِالْمَرَّةِ
الْوَاحِدَةِ، فَإِذَا اسْتَوْفَتْهَا لَمْ يَعُدْ لَهَا فِي الْوَطْءِ
حَقٌّ فِي الْقَضَاءِ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا غَابَ الزَّوْجُ عَنْ
زَوْجَتِهِ مُدَّةً مَا مَهْمَا طَالَتْ، وَتَرَكَ لَهَا مَا تُنْفِقُ
مِنْهُ عَلَى نَفْسِهَا، لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقُّ طَلَبِ التَّفْرِيقِ
لِذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّ
(29/62)
الْحَنَابِلَةَ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا
قَيَّدُوا عَدَمَ وُجُوبِ الْوَطْءِ بِعَدَمِ قَصْدِ الإِْضْرَارِ
بِالزَّوْجَةِ، فَإِذَا قَصَدَ بِذَلِكَ الإِْضْرَارَ بِهَا عُوقِبَ
وَعُزِّرَ، لاِخْتِلاَل شَرْطِ سُقُوطِ الْوُجُوبِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلِهِمُ الثَّانِي وَهُوَ الأَْظْهَرُ
إِلَى أَنَّ اسْتِدَامَةَ الْوَطْءِ وَاجِبٌ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا
قَضَاءً، مَا لَمْ يَكُنْ بِالزَّوْجِ عُذْرٌ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ كَمَرَضٍ
أَوْ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا غَابَ الزَّوْجُ عَنْ زَوْجَتِهِ
مُدَّةً بِغَيْرِ عُذْرٍ، كَانَ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ مِنْهُ، فَإِذَا
كَانَ تَرْكُهُ بِعُذْرٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ. (1)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ اسْتِدَامَةَ
الْوَطْءِ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ مُطْلَقًا، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الرَّجُل
إِذَا غَابَ عَنْ زَوْجَتِهِ مُدَّةً، كَانَ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ
مِنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ سَفَرُهُ هَذَا لِعُذْرٍ أَمْ لِغَيْرِ عُذْرٍ،
لأَِنَّ حَقَّهَا فِي الْوَطْءِ وَاجِبٌ مُطْلَقًا عِنْدَهُمْ.
شُرُوطُ التَّفْرِيقِ لِلْغَيْبَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهَا:
88 - يُشْتَرَطُ فِي الْغَيْبَةِ لِيَثْبُتَ التَّفْرِيقُ بِهَا
لِلزَّوْجَةِ شُرُوطٌ، وَهِيَ:
أ - أَنْ تَكُونَ غَيْبَةً طَوِيلَةً، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي
مُدَّتِهَا:
__________
(1) المغني 7 / 234، والدر المختار 3 / 202 - 203، والدسوقي والشرح الكبير
2 / 339، القليوبي وعميرة 4 / 51.
(29/63)
فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ
الزَّوْجَ إِذَا غَابَ عَنْ زَوْجَتِهِ مُدَّةَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ
فَأَكْثَرَ كَانَ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ عَلَيْهِ إِذَا تَحَقَّقَتِ
الشُّرُوطُ الأُْخْرَى، وَذَلِكَ اسْتِدْلاَلاً بِمَا رَوَى أَبُو حَفْصٍ
بِإِسْنَادِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَال:
إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بَيْنَمَا
كَانَ يَحْرُسُ الْمَدِينَةَ مَرَّ بِامْرَأَةٍ فِي بَيْتِهَا وَهِيَ
تَقُول:
تَطَاوَل هَذَا اللَّيْل وَاسْوَدَّ جَانِبُهُ
وَطَال عَلَيَّ أَنْ لاَ حَبِيبَ أُلاَعِبُهْ
وَوَاللَّهِ لَوْلاَ خَشْيَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ
لَحُرِّكَ مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوَانِبُهْ
فَسَأَل عُمَرُ عَنْهَا فَقِيل لَهُ: هَذِهِ فُلاَنَةُ زَوْجُهَا غَائِبٌ
فِي سَبِيل اللَّهِ تَعَالَى، فَأَرْسَل إِلَى امْرَأَةٍ تَكُونُ مَعَهَا،
وَبَعَثَ إِلَى زَوْجِهَا فَأَقْفَلَهُ، ثُمَّ دَخَل عَلَى حَفْصَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - فَقَال: يَا بُنَيَّةُ
كَمْ تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنْ زَوْجِهَا؟ فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ
أَمِثْلُكَ يَسْأَل مِثْلِي عَنْ هَذَا؟ فَقَال: لَوْلاَ أَنِّي أُرِيدُ
النَّظَرَ لِلْمُسْلِمِينَ مَا سَأَلْتُكِ، قَالَتْ: خَمْسَةُ أَشْهُرٍ،
سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَوَقَّتَ لِلنَّاسِ فِي مَغَازِيهِمْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ،
يَسِيرُونَ شَهْرًا، وَيُقِيمُونَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَيَسِيرُونَ
شَهْرًا رَاجِعِينَ. (1)
__________
(1) المغني 7 / 235.
(29/63)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي
الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ، إِلَى أَنَّهَا سَنَةٌ فَأَكْثَرُ، وَفِي قَوْلٍ
لِلْغِرْيَانِيِّ وَابْنِ عَرَفَةَ أَنَّ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاَثَ
لَيْسَتْ بِطُولٍ، بَل لاَ بُدَّ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا، وَهَذَا
مَبْنِيٌّ مِنْهُمْ عَلَى الاِجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ.
ب - أَنْ تَخْشَى الزَّوْجَةُ عَلَى نَفْسِهَا الضَّرَرَ بِسَبَبِ هَذِهِ
الْغَيْبَةِ، وَالضَّرَرُ هُنَا هُوَ خَشْيَةُ الْوُقُوعِ فِي الزِّنَى
كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَلَيْسَ اشْتِهَاءُ الْجِمَاعِ
فَقَطْ، وَالْحَنَابِلَةُ وَإِنْ أَطْلَقُوا الضَّرَرَ هُنَا إِلاَّ
أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ خَشْيَةَ الزِّنَى كَالْمَالِكِيَّةِ.
إِلاَّ أَنَّ هَذَا الضَّرَرَ يَثْبُتُ بِقَوْل الزَّوْجَةِ وَحْدَهَا،
لأَِنَّهُ لاَ يُعْرَفُ إِلاَّ مِنْهَا، إِلاَّ أَنْ يُكَذِّبَهَا ظَاهِرُ
الْحَال.
ج - أَنْ تَكُونَ الْغَيْبَةُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنْ كَانَتْ لِعُذْرٍ
كَالْحَجِّ وَالتِّجَارَةِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ لَمْ يَكُنْ لَهَا طَلَبُ
التَّفْرِيقِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يَشْتَرِطُونَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ،
وَلِهَذَا يَكُونُ لَهَا حَقُّ طَلَبِ التَّفْرِيقِ عِنْدَهُمْ إِذَا
طَالَتْ غَيْبَتُهُ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ عَلَى سَوَاءٍ.
د - أَنْ يَكْتُبَ الْقَاضِي إِلَيْهِ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهَا أَوْ
نَقْلِهَا إِلَيْهِ أَوْ تَطْلِيقِهَا وَيُمْهِلَهُ مُدَّةً مُنَاسِبَةً،
إِذَا كَانَ لَهُ عِنْوَانٌ مَعْرُوفٌ، فَإِنْ عَادَ إِلَيْهَا، أَوْ
نَقَلَهَا إِلَيْهِ أَوْ طَلَّقَهَا فَبِهَا، وَإِنْ أَبْدَى عُذْرًا
لِغِيَابِهِ لَمْ يُفَرِّقْ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ دُونَ
(29/64)
الْمَالِكِيَّةِ، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ
كُلَّهُ، أَوْ لَمْ يَرُدَّ بِشَيْءٍ وَقَدِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ
الْمَضْرُوبَةُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْوَانٌ مَعْرُوفٌ، أَوْ كَانَ
عِنْوَانُهُ لاَ تَصِل الرَّسَائِل إِلَيْهِ طَلَّقَ الْقَاضِي عَلَيْهِ
بِطَلَبِهَا.
نَوْعُ الْفُرْقَةِ لِلْغَيْبَةِ، وَطَرِيقُ وُقُوعِهَا:
89 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِالتَّفْرِيقِ لِلْغَيْبَةِ
عَلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ فِيهَا مِنْ قَضَاءِ الْقَاضِي لأَِنَّهَا فَصْلٌ
مُجْتَهَدٌ فِيهِ، فَلاَ تُنَفَّذُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لِلْغَيْبَةِ فَسْخٌ،
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهَا طَلاَقٌ، وَهَل هِيَ طَلاَقٌ
بَائِنٌ؟ لَمْ نَرَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَنْ صَرَّحَ فِي ذَلِكَ
بِشَيْءٍ، إِلاَّ أَنَّ إِطْلاَقَاتِهِمْ تُفِيدُ أَنَّهَا طَلاَقٌ
بَائِنٌ، فَقَدْ جَاءَ فِي رِسَالَةِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيِّ
قَوْلُهُ: إِنَّ كُل طَلاَقٍ يُوقِعُهُ الْحَاكِمُ طَلاَقٌ بَائِنٌ إِلاَّ
طَلاَقَ الْمُولِي وَطَلاَقَ الْمُعْسِرِ بِالنَّفَقَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ
طَلاَقٌ لِلضَّرَرِ - وَهُوَ بَائِنٌ عِنْدَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ - إِلاَّ
أَنَّ الدُّسُوقِيَّ أَوْرَدَ الْفُرْقَةَ لِلْغَيْبَةِ فِي ضِمْنِ
الْكَلاَمِ عَنِ الْفُرْقَةِ لِلإِْيلاَءِ، وَهِيَ طَلاَقٌ رَجْعِيٌّ،
فَاحْتَمَل أَنْ تَكُونَ مِثْلَهَا طَلاَقًا رَجْعِيًّا، إِلاَّ أَنَّ
الاِحْتِمَال الأَْوَّل هُوَ الأَْرْجَحُ.
2 - التَّفْرِيقُ لِلْفَقْدِ:
90 - إِذَا غَابَ الزَّوْجُ عَنْ زَوْجَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً
خَفِيَتْ فِيهَا أَخْبَارُهُ، وَجُهِلَتْ فِيهَا
(29/64)
حَيَاتُهُ، فَهَل لِزَوْجَتِهِ حَقُّ
طَلَبِ التَّفْرِيقِ عَلَيْهِ؟
الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي
الْغَائِبِ، ذَلِكَ أَنَّ الْمَفْقُودَ غَائِبٌ وَزِيَادَةٌ، فَيَكُونُ
لِزَوْجَةِ الْمَفْقُودِ مَا لِزَوْجَةِ الْغَائِبِ مِنْ أَمْرِ
التَّفْرِيقِ عَلَيْهِ.
فَإِذَا لَمْ تَطْلُبْ زَوْجَتُهُ الْمُفَارَقَةَ، فَهَل تَكُونُ عَلَى
زَوْجِيَّتِهِ عُمْرَهَا كُلَّهُ؟
فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ أَحْوَالٌ وَشُرُوطٌ، اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي
بَعْضِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ عَلَى أَقْوَالٍ
بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي: -
أ - إِذَا كَانَ ظَاهِرُ غَيْبَةِ الزَّوْجِ السَّلاَمَةَ، كَمَا إِذَا
غَابَ فِي تِجَارَةٍ أَوْ طَلَبِ عِلْمٍ. . وَلَمْ يَعُدْ، وَخَفِيَتْ
أَخْبَارُهُ وَانْقَطَعَتْ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ،
وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ حَيٌّ فِي
الْحُكْمِ، وَلاَ تَنْحَل زَوْجِيَّتُهُ حَتَّى يَثْبُتَ مَوْتُهُ
بِالْبَيِّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ بِمَوْتِ أَقْرَانِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ
ابْنِ شُبْرُمَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ
تَتَرَبَّصُ فِي هَذِهِ الْحَال أَرْبَعَ سِنِينَ مِنْ غَيْبَتِهِ، ثُمَّ
يُحْكَمُ بِوَفَاتِهِ، فَتَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ،
وَتَحِل بَعْدَهَا لِلأَْزْوَاجِ.
ب - وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ غَيْبَتِهِ الْهَلاَكَ، كَمَنْ فُقِدَ بَيْنَ
أَهْلِهِ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، أَوْ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ وَلَمْ
يَعُدْ، أَوْ فُقِدَ فِي سَاحَةِ
(29/65)
الْقِتَال. . . فَقَدْ ذَهَبَ أَحْمَدُ فِي
الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ
زَوْجَتَهُ تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ يُحْكَمُ بِوَفَاتِهِ
فَتَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، ثُمَّ تَحِل لِلأَْزْوَاجِ،
وَهُوَ قَوْل عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ، وَغَيْرِهِمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، إِلَى أَنَّهَا
لاَ تَتَزَوَّجُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَوْتُهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِمَوْتِ
الأَْقْرَانِ، مَهْمَا طَالَتْ غَيْبَتُهُ، كَمَنْ غَابَ وَظَاهِرُ
غَيْبَتِهِ السَّلاَمَةُ عَلَى سَوَاءٍ.
وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَقْسِيمٌ خَاصٌّ فِي زَوْجَةِ الْمَفْقُودِ، هُوَ:
أَنَّ الْمَفْقُودَ إِمَّا أَنْ يُفْقَدَ فِي حَالَةِ حَرْبٍ أَوْ حَالَةِ
سِلْمٍ، وَقَدْ يَكُونُ فَقْدُهُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، أَوْ دَارِ
الشِّرْكِ، وَقَدْ يُفْقَدُ فِي قِتَالٍ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، أَوْ طَائِفَةٍ مُسْلِمَةٍ وَأُخْرَى كَافِرَةٍ، وَلِكُلٍّ
مِنْ هَذِهِ الْحَالاَتِ حُكْمٌ خَاصٌّ بِهَا عِنْدَهُمْ بِحَسَبِ مَا
يَلِي:
أ - فَإِذَا فُقِدَ فِي حَالَةِ السِّلْمِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، فَإِنَّ
زَوْجَتَهُ تُؤَجَّل أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ عِدَّةَ
الْوَفَاةِ، ثُمَّ تَحِل لِلأَْزْوَاجِ، هَذَا إِنْ دَامَتْ نَفَقَتُهَا
مِنْ مَالِهِ، وَإِلاَّ طَلَّقَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ النَّفَقَةِ.
ب - وَإِذَا فُقِدَ فِي دَارِ الشِّرْكِ، كَالأَْسِيرِ لاَ يُعْلَمُ لَهُ
خَبَرٌ، فَإِنَّ زَوْجَتَهُ تَبْقَى مُدَّةَ التَّعْمِيرِ أَيْ مَوْتِ
أَقْرَانِهِ، حَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ
(29/65)
عِنْدَهَا مَوْتُهُ، ثُمَّ تَعْتَدُّ
عِدَّةَ الْوَفَاةِ، ثُمَّ تَحِل لِلأَْزْوَاجِ، وَقَدَّرُوا ذَلِكَ
بِبُلُوغِهِ السَّبْعِينَ مِنَ الْعُمْرِ، وَقِيل: الثَّمَانِينَ، وَقِيل
غَيْرُ ذَلِكَ، وَهَذَا إِنْ دَامَتْ نَفَقَتُهَا، وَإِلاَّ طَلُقَتْ
عَلَيْهِ.
ج - فَإِنْ فُقِدَ فِي حَالَةِ حَرْبٍ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ عَقِبَ انْفِصَال الصَّفَّيْنِ
وَخَفَاءِ حَالِهِ، وَتَحِل بَعْدَهَا لِلأَْزْوَاجِ.
د - وَإِنْ كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ طَائِفَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَأُخْرَى
كَافِرَةٍ، فَإِنَّهُ يُكْشَفُ عَنْ أَمْرِهِ، وَيُسْأَل عَنْهُ، فَإِنْ
خَفَى حَالُهُ أُجِّلَتْ زَوْجَتُهُ سَنَةً، ثُمَّ اعْتَدَّتْ لِلْوَفَاةِ،
ثُمَّ حَلَّتْ لِلأَْزْوَاجِ.
نَوْعُ الْفُرْقَةِ لِلْفَقْدِ، وَطَرِيقُ وُقُوعِهَا:
91 - إِذَا لَمْ يُرْفَعِ الْمَفْقُودُ لِلْقَاضِي مِنْ قِبَل زَوْجَتِهِ
أَوْ أَحَدِ وَرَثَتِهِ أَوِ الْمُسْتَحِقِّينَ فِي تَرِكَتِهِ، فَهُوَ
حَيٌّ فِي حَقِّ زَوْجَتِهِ الْعُمْرَ كُلَّهُ بِالاِتِّفَاقِ.
فَإِذَا رُفِعَ إِلَى الْقَاضِي وَقَضَى بِمَوْتِهِ، بِحَسَبِ مَا
تَقَدَّمَ مِنَ الشُّرُوطِ وَالأَْحْوَال وَالاِخْتِلاَفِ، انْقَضَتِ
الزَّوْجِيَّةُ حُكْمًا مِنْ تَارِيخِ الْحُكْمِ بِالْوَفَاةِ، وَبَانَتْ
زَوْجَتُهُ وَاعْتَدَّتْ لِلْوَفَاةِ جَبْرًا، وَهِيَ بَيْنُونَةُ وَفَاةٍ،
لاَ بَيْنُونَةُ طَلاَقٍ أَوْ فَسْخٍ.
هَذَا وَلاَ بُدَّ لِحُلُول هَذِهِ الْفُرْقَةِ مِنْ قَضَاءِ الْقَاضِي
بِمَوْتِهِ، وَإِلاَّ فَهِيَ زَوْجَتُهُ الْعُمْرَ كُلَّهُ، وَقَدْ نَصَّ
الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَحِل مَحَل الْقَاضِي فِي الْحُكْمِ
بِالْوَفَاةِ هُنَا عِنْدَ الْحَاجَةِ
(29/66)
الْوَالِي، وَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ.
(1)
فَإِذَا ظَهَرَ الْمَفْقُودُ حَيًّا بَعْدَ الْحُكْمِ بِوَفَاتِهِ، فَإِنْ
كَانَتْ زَوْجَتُهُ لَمْ تَتَزَوَّجْ غَيْرَهُ بَعْدَ عِدَّتِهَا فَهِيَ
لَهُ، وَإِنْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ الزَّوَاجُ غَيْرَ
صَحِيحٍ، أَوْ كَانَ الزَّوْجُ الْجَدِيدُ يَعْلَمُ بِحَيَاةِ الأَْوَّل،
فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الزَّوَاجُ صَحِيحًا، وَلاَ يَعْلَمُ الزَّوْجُ
الثَّانِي بِحَيَاةِ الأَْوَّل، فَهِيَ لِلثَّانِي إِنْ دَخَل بِهَا،
عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِلاَّ فَهِيَ لِلأَْوَّل أَيْضًا.
3 - التَّفْرِيقُ لِلْحَبْسِ:
92 - إِذَا حُبِسَ الزَّوْجُ مُدَّةً عَنْ زَوْجَتِهِ، فَهَل لِزَوْجَتِهِ
طَلَبُ التَّفْرِيقِ كَالْغَائِبِ؟
الْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّفْرِيقِ عَلَى الْمَحْبُوسِ
مُطْلَقًا، مَهْمَا طَالَتْ مُدَّةُ حَبْسِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ سَبَبُ
حَبْسِهِ أَوْ مَكَانِهِ مَعْرُوفَيْنِ أَمْ لاَ، أَمَّا عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَلأَِنَّهُ غَائِبٌ مَعْلُومُ
الْحَيَاةِ، وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِالتَّفْرِيقِ عَلَيْهِ كَمَا
تَقَدَّمَ، وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَلأَِنَّ غِيَابَهُ لِعُذْرٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّفْرِيقِ عَلَى الْمَحْبُوسِ
إِذَا طَلَبَتْ زَوْجَتُهُ ذَلِكَ وَادَّعَتْ الضَّرَرَ، وَذَلِكَ بَعْدَ
سَنَةٍ مِنْ حَبْسِهِ، لأَِنَّ
__________
(1) لمغني 8 / 94، والدسوقي والشرح الكبير 2 / 479 - 483، 441، ومغني
المحتاج 3 / 397، والدر المختار 2 / 656.
(29/66)
الْحَبْسَ غِيَابٌ، وَهُمْ يَقُولُونَ
بِالتَّفْرِيقِ لِلْغَيْبَةِ مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ، كَمَا يَقُولُونَ
بِهَا مَعَ الْعُذْرِ عَلَى سَوَاءٍ كَمَا تَقَدَّمَ.
(التَّفْرِيقُ لِلْعَيْبِ:
93 - اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ عَلَى جَوَازِ
التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِلْعُيُوبِ.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ خَصُّوا التَّفْرِيقَ هَذَا بِعُيُوبِ
الزَّوْجِ دُونَ عُيُوبِ الزَّوْجَةِ، وَجَعَلُوا التَّفْرِيقَ بِهِ حَقًّا
لِلزَّوْجَةِ وَحْدَهَا، لاِمْتِلاَكِهِ الطَّلاَقَ دُونَهَا.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَدْ
ذَهَبُوا إِلَى جَوَازِ التَّفْرِيقِ لِعَيْبِ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ
عَلَى سَوَاءٍ، وَأَنَّ التَّفْرِيقَ لِلْعَيْبِ حَقٌّ لَهُمَا عَلَى
سَوَاءٍ.
إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ جَمِيعًا اتَّفَقُوا عَلَى تَضْيِيقِ دَائِرَةِ
التَّفْرِيقِ لِلْعَيْبِ، وَعَدَمِ التَّوَسُّعِ فِيهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا
فِي الْعُيُوبِ الْمُثْبِتَةِ لِلتَّفْرِيقِ عَلَى أَقْوَالٍ.
فَذَهَبَ الشَّيْخَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو
يُوسُفَ) إِلَى التَّفْرِيقِ بِالْجَبِّ، وَالْعُنَّةِ، وَالْخِصَاءِ
فَقَطْ، وَزَادَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَى ذَلِكَ: الْجُنُونَ.
(1) وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى التَّفْرِيقِ بِعُيُوبٍ اتَّفَقُوا
__________
(1) لبحر الرائق 4 / 126، وفتح القدير 3 / 267.
(29/67)
فِي بَعْضِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي
بَعْضِهَا الآْخَرِ عَلَى أَقْوَالٍ، وَقَسَّمُوهَا إِلَى ثَلاَثَةِ
أَنْوَاعٍ: قِسْمٌ مِنْهَا خَاصٌّ بِالرِّجَال، وَقِسْمٌ خَاصٌّ
بِالنِّسَاءِ، وَقِسْمٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَال.
فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُفَرَّقُ بِالْعُيُوبِ التَّالِيَةِ:
عُيُوبُ الرِّجَال وَهِيَ: الْجَبُّ (1) ، وَالْخِصَاءُ (2) وَالْعُنَّةُ
(3) ، وَالاِعْتِرَاضُ (4) .
وَعُيُوبُ النِّسَاءِ هِيَ: الرَّتَقُ (5) ، وَالْقَرْنُ (6) ، وَالْعَفَل
(7) ، وَالإِْفْضَاءُ (8) ،
__________
(1) لجب: هو عند الجمهور: قطع الذكر والأنثيين، ومثله في الحكم قطع الذكر
وحده، فإذا كان الذكر صغيرًا كالزر فهو كالمجبوب في الحكم أيضًا. وعند
المالكية هو قطع الذكر والأنثيين كالجمهور، ومثله قطع الأنثيين دون الذكر
عند المالكية.
(2) الخصاء: هو عند الجمهور: قطع الأنثيين أو رضَّهما أو سلهما دون الذكر،
وعند المالكية قطع الذكر دون الأنثيين.
(3) العنِّة: هي عند الجمهور: العجز عن الوطء مع سلامة العضو، وسمي بذلك
لأن الذكر يعن يمنة ويسرة ولا يطأ في الفرج، وذهب المالكية إلى أن العنة هي
صغر الذكر بحيث لا يتأتى به الجماع.
(4) الاعتراض: هو عند المالكية: عدم انتشار الذكر، ويقابله عند الجمهور
العنة.
(5) الرُتق: هو انسداد محل النكاح، بحيث لا يمكن معه الوطء وربما كان ذلك
لضيق في عظم الحوض أو لكثرة اللحم فيه.
(6) القرن: هو شيء ناتئ في الفرج يسده ويمنع الوطء، وربما كان ذلك من لحم
أو عظم.
(7) العفل: رغوة في الفرج تحدث عند الجماع، أو هو ورم في اللحمة التي بين
مسلكي المرأة فيضيق به فرجها فلا ينفذ به الذكر. وقيل هو القرن.
(8) الإفضاء: هو اختلاط مسلك النكاح مع مسلك البول، أو اختلاط مسلك النكاح
مع مسلك الغائط.
(29/67)
وَالْبَخَرُ. (1)
وَالْعُيُوبُ الْمُشْتَرَكَةُ هِيَ: الْجُنُونُ (2) ، وَالْجُذَامُ (3) ،
وَالْبَرَصُ (4) ، وَالْعِذْيَطَةُ (5) وَالْخَنَاثَةُ الْمُشْكِلَةُ. (6)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُفَرَّقُ بِالْعُيُوبِ التَّالِيَةِ:
عُيُوبُ الرِّجَال وَهِيَ: الْعُنَّةُ، وَالْجَبُّ.
وَعُيُوبُ النِّسَاءِ هِيَ: الرَّتَقُ، وَالْقَرْنُ.
وَالْعُيُوبُ الْمُشْتَرَكَةُ هِيَ: الْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ وَالْبَرَصُ.
(7)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُفَرَّقُ بِالْعُيُوبِ التَّالِيَةِ.
عُيُوبٌ خَاصَّةٌ بِالرِّجَال هِيَ: الْعُنَّةُ، وَالْجَبُّ.
وَعُيُوبٌ خَاصَّةٌ بِالنِّسَاءِ هِيَ: الْفَتْقُ، وَالْقَرْنُ،
وَالْعَفَل.
وَعُيُوبٌ مُشْتَرَكَةٌ، هِيَ: الْجُنُونُ، وَالْبَرَصُ، وَالْجُذَامُ. (8)
إِلاَّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَأَبَا حَفْصٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ
__________
(1) البخر: هو نتن الفرج، أو نتن الفم.
(2) الجنون: هو آفة تعتري العقل فتذهب به.
(3) الجذام: هو: علة يحمَّر منها العضو، ثم يسود ثم يتقطع ويتناثر، ويتصور
ذلك في كل عضو من أعضاء الجسم، إلأ أنه في الوجه أكثر.
(4) البرص: هو: بقع بيضاء على الجلد تزداد اتساعًا مع الأيام، وربما نبت
عليها شعر أبيض أيضًا، وربما كانت بقعا سوداء.
(5) العذيطة: هو التغوط عند الجماع، والتبول مثله.
(6) الخرشي 2 / 73.
(7) مغني المحتاج 3 / 202.
(8) المغني 7 / 582 مع الشرح الكبير.
(29/68)
زَادَا عَلَى الْعُيُوبِ الْمُتَقَدِّمَةِ
اسْتِطْلاَقَ الْبَطْنِ، وَسَلَسَ الْبَوْل، وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ:
وَيَتَخَرَّجُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ بِهِ النَّاسُورُ وَالْبَاسُورُ،
وَالْقُرُوحُ السَّيَّالَةُ فِي الْفَرْجِ؛ لأَِنَّهَا تُثِيرُ
النُّفْرَةَ، وَتُعْدِي بِنَجَاسَتِهَا، وَقَال أَبُو حَفْصٍ: الْخِصَاءُ
عَيْبٌ، وَفِي الْبَخَرِ وَالْخَنَاثَةِ وَجْهَانِ. (1)
94 - وَظَاهِرُ نُصُوصِ الْفُقَهَاءِ تُوحِي بِالْحَصْرِ فِي هَذِهِ
الْعُيُوبِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْمُغْنِي: أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ الْخِيَارُ
لِغَيْرِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَجَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ قَوْلُهُ: وَاخْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ
عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْعُيُوبِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لاَ خِيَارَ فِيمَا
عَدَاهَا، قَال فِي الرَّوْضَةِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ
الْجُمْهُورُ.
وَجَاءَ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ قَوْلُهُ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ
مَالِكٍ فِي الْعِلَّةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا قُصِرَ الرَّدُّ عَلَى
هَذِهِ الْعُيُوبِ الأَْرْبَعَةِ، فَقِيل: لأَِنَّ ذَلِكَ شَرْعٌ غَيْرُ
مُعَلَّلٍ، وَقِيل: لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَخْفَى، وَمَحْمَل سَائِرِ
الْعُيُوبِ عَلَى أَنَّهَا مِمَّا لاَ يَخْفَى، وَقِيل: لأَِنَّهَا يُخَافُ
سِرَايَتُهَا إِلَى الأَْبْنَاءِ.
إِلاَّ أَنَّنَا إِلَى جَانِبِ هَذِهِ النُّصُوصِ نَجِدُ نُصُوصًا لِبَعْضِ
الْفُقَهَاءِ تَدُل عَلَى عَدَمِ قَصْرِ الأَْئِمَّةِ التَّفْرِيقَ عَلَى
الْعُيُوبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَيُلْحَقُ
__________
(1) ينظر في معاني هذه العيوب ابن عابدين 3 / 494. والشرح الكبير 2 / 277
ومغني المحتاج 3 / 202، والمغني 7 / 125.
(29/68)
بِهَا مَا يُمَاثِلُهَا فِي الضَّرَرِ.
مِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الاِخْتِيَارَاتِ
الْعِلْمِيَّةِ: وَتُرَدُّ الْمَرْأَةُ بِكُل عَيْبٍ يُنَفِّرُ عَنْ كَمَال
الاِسْتِمْتَاعِ. وَمَا قَالَهُ ابْنُ قَيِّمٍ الْجَوْزِيَّةُ فِي زَادِ
الْمَعَادِ: وَأَمَّا الاِقْتِصَارُ عَلَى عَيْبَيْنِ أَوْ سِتَّةٍ، أَوْ
سَبْعَةٍ أَوْ ثَمَانِيَةٍ دُونَ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهَا أَوْ مُسَاوٍ
لَهَا فَلاَ وَجْهَ لَهُ، فَالْعَمَى وَالْخَرَسُ وَالطَّرَشُ، وَكَوْنُهَا
مَقْطُوعَةَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، أَوْ كَوْنُ
الرَّجُل كَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنَفِّرَاتِ.
وَقَوْلُهُ: وَالْقِيَاسُ أَنَّ كُل عَيْبٍ يُنَفِّرُ الزَّوْجَ الآْخَرَ
مِنْهُ، وَلاَ يَحْصُل بِهِ مَقْصُودُ النِّكَاحِ مِنَ الرَّحْمَةِ
وَالْمَوَدَّةِ يُوجِبُ الْخِيَارَ.
وَمَا قَالَهُ الْكَاسَانِيُّ: وَقَال مُحَمَّدٌ: خُلُوُّهُ مِنْ كُل
عَيْبٍ لاَ يُمْكِنُهَا الْمَقَامُ مَعَهُ إِلاَّ بِضَرَرٍ، كَالْجُنُونِ،
وَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ شَرْطٌ لِلُزُومِ النِّكَاحِ، حَتَّى يُفْسَخَ
بِهِ النِّكَاحُ حَيْثُ جَاءَتْ هَذِهِ الْعُيُوبُ بِصِيغَةِ التَّمْثِيل.
هَذَا إِلَى جَانِبِ أَنَّ نُصُوصَ الْفُقَهَاءِ عَامَّةً كَانَتْ تُعَلِّل
التَّفْرِيقَ لِلْعَيْبِ بِالضَّرَرِ الْفَاحِشِ وَبِالْعَدْوَى، وَعَدَمِ
الْقُدْرَةِ عَلَى الْوَطْءِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي جَوَازِ الْقِيَاسِ
عَلَيْهَا. (1)
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 327، وبداية المجتهد 2 / 55، ومغني المحتاج 3 / 203
نقلا عن الأم، والمغني 7 / 581 مع الشرح الكبير. وترى اللجنة أن هذه العيوب
المنصوص عليها ليست للحصر، وإنما هي للتمثيل، ولذلك فإنه يلحق بها كل ما
كان في معناها أو زاد عليها، كالإيدز وما شابهه من الأمراض التي تفوق بعض
ما ذكر.
(29/69)
شُرُوطُ التَّفْرِيقِ لِلْعَيْبِ لَدَى
الْفُقَهَاءِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الشُّرُوطِ الْمُثْبِتَةِ لِلتَّفْرِيقِ
لِلْعَيْبِ عَلَى مَذْهَبَيْنِ، وَفْقَ مَا يَلِي:
أَوَّلاً: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ بِالْعَيْبِ
يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يَلِي:
95 - أ - عَدَمُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ قَبْل الدُّخُول أَوْ بَعْدَهُ، فِي
الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ، صَرَاحَةً أَوْ دَلاَلَةً، فَإِنْ رَضِيَ
السَّلِيمُ مِنَ الزَّوْجَيْنِ، كَأَنْ يَقُول: رَضِيتُ بِعَيْبِ الآْخَرِ،
أَوْ يَطَأَهَا، أَوْ تُمَكِّنَهُ مِنَ الْوَطْءِ. فَإِنَّهُ لاَ خِيَارَ
لِهَؤُلاَءِ فِي الْفَسْخِ بَعْدَ ذَلِكَ.
هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ يُوَافِقُونَهُمْ فِيهِ
إِلاَّ فِي مَسْأَلَةِ الْعِنِّينِ، فَإِنَّ زَوْجَتَهُ إِذَا رَضِيَتْ
بِعُنَّتِهِ بَعْدَ الدُّخُول فَلاَ خِيَارَ لَهَا عِنْدَهُمْ خِلاَفًا
لِلْحَنَابِلَةِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ يُوَافِقُ مَذْهَبَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا
إِلاَّ فِي مَسْأَلَةِ الْمُعْتَرِضِ، وَهُوَ الْعِنِّينُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذَا مَكَّنَتْهُ مِنَ
التَّلَذُّذِ بِهَا بَعْدَ عِلْمِهَا بِاعْتِرَاضِهِ، فَإِنَّهُ لاَ
يَسْقُطُ بِذَلِكَ حَقُّهَا فِي التَّفْرِيقِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
لاِحْتِمَال أَنَّهَا كَانَتْ تَرْجُو بُرْأَهُ بِذَلِكَ. قَال
الدَّرْدِيرُ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: الْخِيَارُ لأَِحَدِ الزَّوْجَيْنِ
بِسَبَبِ وُجُودِ عَيْبٍ مِنَ الْعُيُوبِ الآْتِي بَيَانُهَا. . إِنْ لَمْ
يَسْبِقِ الْعِلْمُ. . أَوْ لَمْ
(29/69)
يَرْضَ بِعَيْبِ الْمَعِيبِ صَرِيحًا أَوِ
الْتِزَامًا حَيْثُ اطَّلَعَ. . . إِلاَّ امْرَأَةَ الْمُعْتَرِضِ إِذَا
عَلِمَتْ قَبْل الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ بِاعْتِرَاضِهِ وَمَكَّنَتْهُ مِنَ
التَّلَذُّذِ بِهَا، فَلَهَا الْخِيَارُ، حَيْثُ كَانَتْ تَرْجُو بُرْأَهُ
فِيهِمَا وَلَمْ يَحْصُل.
(1) وَهَل يُعَدُّ الرِّضَا بِالْعَيْبِ قَبْل النِّكَاحِ مُسْقِطًا
لِلْخِيَارِ، كَمَا لَوْ أَخْبَرَهَا بِعُنَّتِهِ فَرَضِيَتْ بِذَلِكَ
صَرَاحَةً أَوْ دَلاَلَةً؟ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُسْقِطٌ
لِلْخِيَارِ، وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ كَذَلِكَ، إِلاَّ فِي
الْعِنِّينِ، فَإِنَّهُ قَال: يُؤَجَّل؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ عِنِّينًا
فِي نِكَاحٍ دُونَ نِكَاحٍ، ثُمَّ إِنَّ عَجْزَهُ عَنْ وَطْءِ امْرَأَةٍ
لَيْسَ دَلِيلاً عَلَى عَجْزِهِ عَنْ وَطْءِ غَيْرِهَا.
(2) ب - سَلاَمَةُ طَالِبِ الْفَسْخِ مِنَ الْعُيُوبِ فِي الْجُمْلَةِ:
96 - الْمَبْدَأُ الْعَامُّ لَدَى الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ
لِطَلَبِ التَّفْرِيقِ بِالْعَيْبِ سَلاَمَةُ طَالِبِ التَّفْرِيقِ مِنَ
الْعُيُوبِ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ، إِلاَّ أَنَّهُمْ
اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، عَلَى مَا يَلِي:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ - فِيمَا فَصَّلَهُ اللَّخْمِيُّ مِنْ
__________
(1) الشرح الكبير 2 / 277.
(2) المغني 7 / 128 - 129، ومغني المحتاج 3 / 203.
(29/70)
مَذْهَبِهِمْ - إِلَى أَنَّ طَالِبَ
التَّفْرِيقِ لِلْعَيْبِ إِذَا كَانَ فِيهِ عَيْبٌ مُمَاثِلٌ لِلآْخَرِ،
فَإِنَّ لِلزَّوْجِ التَّفْرِيقَ دُونَ الْمَرْأَةِ لأَِنَّهُ بَذْل
الصَّدَاقِ لِسَالِمَةٍ، دُونَهَا هِيَ، قَال اللَّخْمِيُّ: وَإِنِ
اطَّلَعَ كُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى عَيْبٍ فِي صَاحِبِهِ،
فَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَجُذَامٍ، أَوْ بَرَصٍ أَوْ جُنُونٍ
صَرِيحٍ لَمْ يَذْهَبْ، فَإِنَّ لَهُ الْقِيَامَ دُونَهَا، لأَِنَّهُ بَذَل
صَدَاقًا لِسَالِمَةٍ، فَوَجَدَهَا مِمَّنْ يَكُونُ صَدَاقُهَا أَقَل مِنْ
ذَلِكَ.
فَإِذَا كَانَ عَيْبُهُ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ كَانَ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ
الزَّوْجَيْنِ طَلَبُ التَّفْرِيقِ مُطْلَقًا وَفِي قَوْلٍ آخَرَ
لِلْمَالِكِيَّةِ: لَهُ التَّفْرِيقُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ عَيْبُهُ
مِنْ جِنْسِ عَيْبِهِ، أَمْ لاَ، أَمْ لَمْ يَكُنْ مَعِيبًا، وَهُوَ
الأَْظْهَرُ عِنْدَهُمْ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ، إِلَى أَنَّ لِلْمَعِيبِ أَنْ
يَطْلُبَ فَسْخَ النِّكَاحِ لِعَيْبِ الآْخَرِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ عَيْبُهُ
مِنْ جِنْسِ عَيْبِهِ أَمْ لاَ، وَقِيل: إِنْ وُجِدَ بِهِ مِثْل عَيْبِهِ
مِنَ الْجُذَامِ وَالْبَرَصِ، قَدْرًا وَفُحْشًا مَثَلاً، فَلاَ خِيَارَ
لَهُ لِتَسَاوِيهِمَا. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ طَالِبَ الْفَسْخِ، إِذَا كَانَ
مَعِيبًا بِعَيْبٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ عَيْبِ الآْخَرِ، كَالأَْبْرَصِ
يَجِدُ الْمَرْأَةَ مَجْنُونَةً، فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
__________
(1) الدسوقي 2 / 277.
(2) مغني المحتاج 3 / 203 - 204.
(29/70)
الْخِيَارُ لِوُجُودِ سَبَبِهِ، إِلاَّ
أَنْ يَجِدَ الْمَجْبُوبُ الْمَرْأَةَ رَتْقَاءَ، فَلاَ يَنْبَغِي ثُبُوتُ
الْخِيَارِ لَهُمَا؛ لأَِنَّ عَيْبَهُ لَيْسَ هُوَ الْمَانِعُ لِصَاحِبِهِ
مِنْ الاِسْتِمْتَاعِ.
فَإِنْ كَانَ عَيْبُهُ مِنْ جِنْسِ عَيْبِ صَاحِبِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ خِيَارَ لَهُمَا؛ لأَِنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ، وَلاَ
مَزِيَّةَ لأَِحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ، فَأَشْبَهَا الصَّحِيحَيْنِ.
وَالثَّانِي: لَهُ الْخِيَارُ لِوُجُودِ سَبَبِهِ. (1)
ج - وَهَل يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ قَدِيمًا؟
97 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْعَيْبَ
الْقَدِيمَ السَّابِقَ عَلَى الْعَقْدِ، وَالْمُرَافِقَ لَهُ، وَالْحَادِثَ
بَعْدَهُ، سَوَاءٌ فِي إِثْبَاتِ الْخِيَارِ، لأَِنَّهُ عَقْدٌ عَلَى
مَنْفَعَةٍ، وَحُدُوثُ الْعَيْبِ بِهَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ كَمَا فِي
الإِْجَارَةِ، إِلاَّ أَنَّ بَيْنَهُمْ نَوْعُ اخْتِلاَفٍ فِي بَعْضِ
ذَلِكَ عَلَى مَا يَلِي:
فَالْمَالِكِيَّةُ يُصَرِّحُونَ بِأَنَّ الْعَيْبَ الْقَدِيمَ السَّابِقَ
عَلَى الْعَقْدِ أَوِ الْمُقَارِنَ لَهُ هُوَ الْمُثْبِتُ لِلْخِيَارِ،
أَمَّا الْعَيْبُ الطَّارِئُ عَلَى الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ فِي
الزَّوْجَةِ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ خِيَارٌ مُطْلَقًا، وَهُوَ مُصِيبَةٌ
حَلَّتْ بِهِ، وَبِإِمْكَانِهِ التَّخَلُّصُ مِنْهَا بِالطَّلاَقِ،
وَأَمَّا الْعَيْبُ الْحَادِثُ فِي الزَّوْجِ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَإِنْ
كَانَ فَاحِشًا كَثِيرَ الضَّرَرِ فَإِنَّهَا تُخَيَّرُ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ
لاَ تُمْكِنُ مَعَهُ الْعِشْرَةُ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَمْ تُخَيَّرْ.
__________
(1) المغني 7 / 112.
(29/71)
وَالْعُيُوبُ الْفَاحِشَةُ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ هِيَ: الْجُذَامُ الْبَيِّنُ الْمُحَقَّقُ وَلَوْ كَانَ
يَسِيرًا، وَالْبَرَصُ الْفَاحِشُ دُونَ الْيَسِيرِ، وَالْعِذْيَطَةُ،
فَقَدِ اسْتَظْهَرَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا عَيْبٌ فَاحِشٌ
يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ، وَالاِعْتِرَاضُ، وَالْخِصَاءُ، وَكِبَرُ
الذَّكَرِ الْمَانِعِ مِنَ الْوَطْءِ، هَذَا إِذَا حَدَثَتْ قَبْل
الْوَطْءِ، فَإِذَا حَدَثَتْ بَعْدَ الْوَطْءِ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً
فَلاَ خِيَارَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ مِنَ الزَّوْجِ كَأَنْ
جَبَّ نَفْسَهُ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ خُيِّرَتِ الزَّوْجَةُ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَيْبَ الْقَدِيمَ يُخَيَّرُ بِهِ
مُطْلَقًا، أَمَّا الْعَيْبُ الْحَادِثُ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ
حَادِثًا بِالزَّوْجِ، كَالْجَبِّ، فَإِنَّهَا تُخَيَّرُ بِهِ إِنْ كَانَ
قَبْل الدُّخُول جَزْمًا، وَبَعْدَ الدُّخُول عَلَى الأَْصَحِّ، وَذَلِكَ
لِحُصُول الضَّرَرِ بِهِ كَمَا فِي الْعَيْبِ الْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ،
وَلاَ خَلاَصَ لَهَا إِلاَّ بِالْفَسْخِ، فَتَعَيَّنَ طَرِيقًا لِذَلِكَ،
وَيَسْتَوِي هُنَا أَنْ تَجُبَّهُ هِيَ أَوْ غَيْرُهَا. إِلاَّ أَنَّ
الشَّافِعِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الْعِنِّينَ، فَقَالُوا: إِنْ
وَصَل إِلَى زَوْجَتِهِ مَرَّةً ثُمَّ تَعَنَّنَ، لَمْ يَكُنْ لَهَا
خِيَارٌ.
وَإِنْ كَانَ حَادِثًا بِالزَّوْجَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَفِي الْقَوْل
الْقَدِيمِ: أَنَّهُ لاَ يُخَيَّرُ الزَّوْجُ لِتَمَكُّنِهِ مِنَ
الْخَلاَصِ مِنْهَا بِالطَّلاَقِ، بِخِلاَفِهَا. وَفِي
__________
(1) الدسوقي 2 / 278 - 279 - 280.
(29/71)
الْقَوْل الْجَدِيدِ: أَنَّهُ يُخَيَّرُ
كَالزَّوْجَةِ، لِتَضَرُّرِهِ بِالْعَيْبِ الطَّارِئِ كَتَضَرُّرِهِ
بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ، وَلاَ مَعْنَى لإِِمْكَانِ تَخَلُّصِهِ مِنْهَا
بِالطَّلاَقِ دُونَهَا، لأَِنَّهُ سَيَغْرَمُ نِصْفَ الصَّدَاقِ لَهَا
قَبْل الدُّخُول، دُونَ الْفَسْخِ بِالْعَيْبِ. (1)
وَذَهَبَ الْخِرَقِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى تَأْكِيدِ مَا تَقَدَّمَ
مِنَ الْمَبْدَأِ عَلَى إِطْلاَقِهِ، إِلاَّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَابْنَ
حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ قَالاَ: إِنَّ الْعَقْدَ يُفْسَخُ بِالْعَيْبِ
السَّابِقِ عَلَى الْعَقْدِ، وَالْمُرَافِقِ لَهُ، دُونَ الْعَيْبِ
الطَّارِئِ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْعَقْدَ أَصْبَحَ لاَزِمًا، فَلاَ
يَنْفَسِخُ، فَأَشْبَهَ الْعَيْبَ الطَّارِئَ عَلَى الْمَبِيعِ،
وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ - عَلَى رِوَايَةِ الْخِرَقِيِّ - الْعُنَّةَ،
فَإِنَّ الْعِنِّينَ إِنْ وَصَل إِلَى زَوْجَتِهِ مَرَّةً ثُمَّ تَعَنَّنَ،
لَمْ يَكُنْ لَهَا خِيَارٌ. (2)
د - التَّأْجِيل فِي الْعُيُوبِ الَّتِي يُرْجَى الْبُرْءُ مِنْهَا:
98 - اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى
تَأْجِيل الْعِنِّينِ سَنَةً كَالْحَنَفِيَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي بَاقِي
الْعُيُوبِ عَلَى مَا يَلِي:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ التَّأْجِيل
فِيهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى التَّأْجِيل فِيمَا يُرْجَى الْبُرْءُ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 203 - 204.
(2) المغني 7 / 130 - 131.
(29/72)
مِنْهُ، فَقَالُوا بِالتَّأْجِيل فِي
الْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ، وَالرَّتَقِ، وَالْقَرْنِ،
وَالْعَفَل، وَالْبَخَرِ، فَإِذَا كَانَ الْبُرْءُ مِنْهَا مَرْجُوًّا
يُؤَجِّلُهُ الْقَاضِي بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ مُنَاسِبًا، شَهْرًا أَوْ
شَهْرَيْنِ، وَلَمْ يَحُدُّوا لِذَلِكَ حَدًّا، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ
الْبُرْءُ مِنْ ذَلِكَ مَرْجُوًّا، كَالْجَبِّ، فَرَّقَ الْقَاضِي عَلَيْهِ
بِدُونِ تَأْجِيلٍ، لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ. (1)
99 - هـ - أَنْ يَطْلُبَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ التَّفْرِيقَ وَيَثْبُتَ
عَيْبُ الآْخَرِ، لأَِنَّ التَّفْرِيقَ هُنَا حَقُّهُ، فَإِذَا لَمْ
يَطْلُبْهُ لَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي التَّفْرِيقُ عَلَيْهِ جَبْرًا، وَفِي
الْعِنِّينِ يَجِبُ طَلَبُ الزَّوْجَةِ التَّفْرِيقَ قَبْل ضَرْبِ
الْمُدَّةِ وَبَعْدَهَا.
قَال فِي الْمُغْنِي: وَلاَ يُفْسَخُ حَتَّى تَخْتَارَ الْفَسْخَ،
وَتَطْلُبَهُ، لأَِنَّهُ لِحَقِّهَا، فَلاَ تُجْبَرُ عَلَى اسْتِيفَائِهِ
كَالْفَسْخِ بِالإِْعْسَارِ. (2) وَقَال فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: فَإِذَا
تَمَّتْ تِلْكَ السَّنَةُ الْمَضْرُوبَةُ لِلزَّوْجِ، وَلَمْ يَطَأْ عَلَى
مَا يَأْتِي، وَلَمْ تَعْتَزِلْهُ فِيهَا، رَفَعَتْهُ ثَانِيًا إِلَيْهِ،
أَيِ الْقَاضِي، فَلاَ يُفْسَخُ بِلاَ رَفْعٍ، إِذْ مَدَارُ الْبَابِ عَلَى
الدَّعْوَى وَالإِْقْرَارِ وَالإِْنْكَارِ وَالْيَمِينِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى
نَظَرِ الْقَاضِي وَاجْتِهَادِهِ. (3)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلتَّفْرِيقِ بِالْعَيْبِ
__________
(1) الدسوقي 2 / 279، ومغني المحتاج 3 / 206، والمغني 7 / 126.
(2) المغني 7 / 127.
(3) مغني المحتاج 3 / 206.
(29/72)
نَوْعَيْنِ مِنَ الشُّرُوطِ: الأَْوَّل
عَامٌّ فِي الْعُيُوبِ كُلِّهَا، وَالثَّانِي خَاصٌّ بِعُيُوبٍ
مُعَيَّنَةٍ، وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي:
فَالشُّرُوطُ الْعَامَّةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، هِيَ:
100 - أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ جَاهِلَةً بِالْعَيْبِ قَبْل الْعَقْدِ،
وَلَمْ تَرْضَ بِهِ بَعْدَهُ صَرَاحَةً أَوْ دَلاَلَةً.
وَعَلَى هَذَا فَلَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ عَالِمَةً بِالْعَيْبِ قَبْل
الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ بِهِ لِرِضَاهَا بِهِ
حُكْمًا، وَكَذَلِكَ إِذَا عَلِمَتْ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْعَقْدِ
فَرَضِيَتْ بِهِ صَرَاحَةً، كَأَنْ قَالَتْ: رَضِيتُ بِعَيْبِهِ هَذَا،
أَوْ دَلاَلَةً بِأَنْ مَكَّنَتْهُ مِنَ الْوَطْءِ، لَمْ يَكُنْ لَهَا
طَلَبُ التَّفْرِيقِ، قَال السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي التُّحْفَةِ: وَإِذَا
خَيَّرَهَا الْحَاكِمُ فَوَجَدَ فِيهَا مَا يَدُل عَلَى الإِْعْرَاضِ،
يَبْطُل خِيَارُهَا كَمَا فِي خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ.
وَلَوْ عَلِمَتْ الْمَرْأَةُ بِالْعُنَّةِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَرَضِيَتْ
بِالْعَقْدِ، فَإِنَّهُ لاَ خِيَارَ لَهَا، كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا وَهُوَ
عَالِمٌ بِعَيْبِهِ.
(1) وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا خَيَّرَهَا الْقَاضِي فَاخْتَارَتِ
الْمَقَامَ مَعَ زَوْجِهَا، فَإِنَّهُ يَبْطُل حَقُّهَا فِي التَّفْرِيقِ،
وَلَيْسَ لَهَا خُصُومَةٌ أَبَدًا فِي هَذَا النِّكَاحِ، وَلاَ فِي
غَيْرِهِ عَلَى الأَْصَحِّ، لِرِضَاهَا بِالْعَيْبِ. (2)
__________
(1) تحفة الفقهاء 2 / 338 - 339.
(2) تحفة الفقهاء 2 / 337 - 338.
(29/73)
101 - أَنْ تَطْلُبَ الزَّوْجَةُ إِلَى
الْقَاضِي التَّفْرِيقَ؛ لأَِنَّ التَّفْرِيقَ حَقُّهَا، وَلَيْسَ
لِلْقَاضِي طَلاَقُهَا دُونَ طَلَبٍ مِنْهَا. وَطَلَبُهَا هَذَا شَرْطٌ فِي
الْعِنِّينِ قَبْل ضَرْبِ الْمُدَّةِ وَبَعْدَهَا. (1)
102 - أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ خَالِيَةً مِنْ أَيِّ عَيْبٍ يَمْنَعُ
الْوَطْءَ كَالرَّتَقِ وَالْقَرْنِ، فَإِنْ كَانَتْ مَعِيبَةً بِعَيْبٍ
مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ لِعَيْبِ الرَّجُل؛
لأَِنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْوَطْءِ لَيْسَ مِنْ جِهَتِهِ فَقَطْ،
وَالاِمْتِنَاعُ قَائِمٌ مِنْ جِهَتِهَا عَلَى فَرْضِ سَلاَمَةِ الزَّوْجِ
مِنْهُ، فَكَذَلِكَ مَعَ عَيْبِهِ.
أَمَّا الشُّرُوطُ الْخَاصَّةُ بِالْعُنَّةِ فَهِيَ:
103 - أ - الْعَجْزُ عَنِ الإِْيلاَجِ فِي الْقُبُل، وَعَلَى هَذَا فَلاَ
يَخْرُجُ عَنِ الْعُنَّةِ بِالإِْيلاَجِ فِي الدُّبُرِ.
ب - الْعَجْزُ عَنْ جِمَاعِ زَوْجَتِهِ نَفْسِهَا، فَإِذَا قَدَرَ عَلَى
وَطْءِ غَيْرِهَا وَعَجَزَ عَنْ وَطْئِهَا هِيَ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ
الْعُنَّةِ فِي حَقِّهَا؛ لأَِنَّ الْعُنَّةَ مَرَضٌ نَفْسِيٌّ غَالِبًا،
وَهُوَ قَدْ يَخْتَلِفُ مِنِ امْرَأَةٍ إِلَى أُخْرَى.
ج - الْعَجْزُ عَنْ إِيلاَجِ الْحَشَفَةِ كُلِّهَا، فَإِذَا كَانَ
مَقْطُوعَ الْحَشَفَةِ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْعُنَّةِ إِلاَّ بِإِدْخَال
بَاقِي الذَّكَرِ كُلِّهِ، إِلاَّ أَنَّ صَاحِبَ
__________
(1) فتح القدير 3 / 263 - 264.
(29/73)
فَهِيَ: قَطْعُ الذَّكَرِ، فَإِذَا قُطِعَ
الذَّكَرُ وَالْخُصْيَتَانِ ثَبَتَ التَّفْرِيقُ مِنْ بَابٍ أَوْلَى،
فَإِذَا لَمْ يُقْطَعِ الذَّكَرُ وَلَكِنَّهُ كَانَ قَصِيرًا كَالزِّرِّ،
فَهُوَ كَالْمَجْبُوبِ فِي الْحُكْمِ، لِعَدَمِ إِمْكَانِ إِدْخَال
مِثْلِهِ فِي الْفَرْجِ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا يُمْكِنُ إِدْخَالُهُ فِي
الْفَرْجِ فَلَيْسَ بِمَجْبُوبٍ وَلاَ تَفْرِيقَ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُل
إِلَى آخِرِ الْفَرْجِ.
فَإِنْ كَانَ مَقْطُوعَ الْحَشَفَةِ فَقَطْ وَلَهُ مَا يُدْخِلُهُ فِي
الْفَرْجِ بَعْدَهَا، لَمْ يَكُنْ مَجْبُوبًا، وَلاَ تَفْرِيقَ.
وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (جَبّ ج 15 ف 7 وَمَا
بَعْدَهَا) .
105 - وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْخَاصَّةُ بِالْخِصَاءِ:
فَهِيَ الشُّرُوطُ الْخَاصَّةُ بِالْعُنَّةِ لاِسْتِوَائِهِمَا فِي
الْحُكْمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، هَذَا إِذَا نُزِعَتْ خُصْيَتَاهُ أَوْ
رُضَّتَا أَوْ سُلَّتَا وَعَجَزَ عَنْ الاِنْتِشَارِ، فَإِذَا لَمْ
يَعْجِزْ عَنْ الاِنْتِشَارِ فَلَيْسَ خَصِيًّا فِي الْحُكْمِ، وَلاَ
تَفْرِيقَ.
طُرُقُ إِثْبَاتِ الْعَيْبِ:
106 - إِذَا أَقَرَّ الْمَعِيبُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِعَيْبِهِ
الْمُدَّعَى بِهِ ثَبَتَ عَيْبُهُ بِإِقْرَارِهِ، وَقُضِيَ عَلَيْهِ
بِمُوجِبِهِ.
فَإِذَا أَنْكَرَ الْعَيْبَ وَادَّعَى السَّلاَمَةَ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ
الْعَيْبُ مِمَّا يُعْرَفُ بِالْجَسِّ مِنْ فَوْقِ الإِْزَارِ، كَالْجَبِّ،
أَمَرَ الْقَاضِي مَنْ يَجُسُّهُ مِنَ
(29/74)
الرِّجَال مِنْ فَوْقِ الإِْزَارِ،
وَأَخَذَ بِقَوْلِهِ إِنْ كَانَ عَدْلاً؛ لأَِنَّهُ إِخْبَارٌ.
فَإِنْ لَمْ يُعْرَفِ الْعَيْبُ بِالْجَسِّ أَمَرَهُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ،
وَهُوَ مُبَاحٌ هُنَا لِلضَّرُورَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِي الْمَرْأَةِ كَالْقَرْنِ وَالرَّتَقِ، أَمَرَ
الْقَاضِي امْرَأَةً تَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَثَبَتَ بِقَوْلِهَا مَا دَامَتْ
عَدْلَةً.
فَإِنْ كَانَ لاَ يُعْرَفُ بِالْجَسِّ كَالْعُنَّةِ، فَإِنْ قَالَتِ
الزَّوْجَةُ: إِنَّهَا بِكْرٌ، أُرِيَتِ النِّسَاءَ، فَإِنْ قَالَتِ
امْرَأَةٌ ثِقَةٌ - وَالْمَرْأَتَانِ أَوْثَقُ -: إِنَّهَا بِكْرٌ،
فَالْقَوْل قَوْلُهَا، وَيُؤَجَّل سَنَةً، لأَِنَّ ظَاهِرَ الْحَال شَاهِدٌ
لَهَا، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ انْتِهَاءِ السَّنَةِ، وَإِنْ قَالَتِ
الْمَرْأَةُ الثِّقَةُ: إِنَّهَا ثَيِّبٌ حَلَفَ الزَّوْجُ، فَإِنْ حَلَفَ
صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَلاَ خِيَارَ لَهَا، وَإِنْ نَكَل قُضِيَ عَلَيْهِ
بِالْعُنَّةِ، وَخُيِّرَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ التَّأْجِيل.
وَإِنْ قَالَتِ الزَّوْجَةُ: إِنَّهَا ثَيِّبٌ، حَلَفَ الزَّوْجُ، فَإِنْ
حَلَفَ صُدِّقَ وَلاَ خِيَارَ لَهَا، وَإِنْ نَكَل قُضِيَ عَلَيْهِ
بِالْعُنَّةِ وَأُجِّلَتْ أَوْ خُيِّرَتْ.
فَإِنْ قَالَتِ الزَّوْجَةُ: إِنَّهَا بِكْرٌ فَوُجِدَتْ ثَيِّبًا،
فَادَّعَتْ أَنَّهُ أَزَال بَكَارَتَهَا بِأُصْبُعٍ أَوْ غَيْرِهِ، صُدِّقَ
الزَّوْجُ بِيَمِينِهِ، لأَِنَّهَا تَدَّعِي غَيْرَ الأَْصْل
هَذَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ (1)
__________
(1) الدر المختار 3 / 499، وتحفة الفقهاء 2 / 336.
(29/75)
وَالْحَنَابِلَةُ مِثْل الْحَنَفِيَّةِ،
إِلاَّ فِي الْعِنِّينِ، فَإِنَّ لَهُمْ فِي قَبُول قَوْل الْمَرْأَةِ
الْوَاحِدَةِ فِيهِ إِذَا كَانَتْ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا رِوَايَتَيْنِ
الأُْولَى: أَنَّ الْقَوْل قَوْل الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ
كَالْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّ ظَاهِرَ الْحَال شَاهِدٌ لَهُ، وَالثَّانِيَةُ:
أَنَّهُ يُخَلَّى مَعَهَا وَيُقَال: أَخْرِجْ مَاءَكَ عَلَى شَيْءٍ، فَإِنْ
أَخْرَجَهُ فَالْقَوْل قَوْلُهُ؛ لأَِنَّ الْعِنِّينَ يَضْعُفُ عَنِ
الإِْنْزَال، فَإِنْ أَنْزَل تَبَيَّنَ صِدْقُهُ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: أَنَّ الْقَوْل قَوْل الْمَرْأَةِ
مَعَ يَمِينِهَا، حَكَاهَا الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ.
وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ قُدَامَةَ الرِّوَايَةَ الأُْولَى، وَضَعَّفَ مَا
عَدَاهَا، فَقَال: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقَوْل قَوْلُهُ، كَمَا لَوِ
ادَّعَى الْوَطْءَ فِي الإِْيلاَءِ.
(1) وَالشَّافِعِيَّةُ فِي هَذَا مَعَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ،
إِلاَّ فِي الْعِنِّينِ أَيْضًا، فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهَا إِذَا
ادَّعَتِ الْبَكَارَةَ أُرِيَتِ النِّسَاءَ، وَلَمْ يُقْبَل بِأَقَل مِنْ
أَرْبَعٍ، فَإِنْ شَهِدْنَ بِبَكَارَتِهَا فَالْقَوْل قَوْلُهَا
لِلظَّاهِرِ، وَهَل تَحْلِفُ؟ وَجْهَانِ، رُجِّحَ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ
التَّحْلِيفُ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الْمَذْهَبِ، مَا لَمْ
يَدَّعِ الزَّوْجُ عَوْدَةَ الْبَكَارَةِ إِلَيْهَا فَإِنْ قَال ذَلِكَ
وَطَلَبَ يَمِينَهَا، حَلَفَتْ رِوَايَةً وَاحِدَةً.
__________
(1) المغني 7 / 132 - 133، وكشاف القناع 5 / 106 - 108.
(29/75)
فَإِنْ قَالَتِ الزَّوْجَةُ: إِنَّهَا
ثَيِّبٌ وَأَنْكَرَتْ الْوَطْءَ، فَالْقَوْل قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ؛ لأَِنَّ
الظَّاهِرَ لَهُ، فَإِنْ نَكَل حُلِّفَتِ الزَّوْجَةُ، وَفِي رِوَايَةٍ
مَرْجُوحَةٍ أَنَّ الْيَمِينَ لاَ يُرَدُّ عَلَيْهَا. (1)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ (2) فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى الْجَسِّ فِيمَا
يُعْرَفُ بِالْجَسِّ، فَإِنْ كَانَ لاَ يُعْرَفُ بِالْجَسِّ، وَكَانَ
مِمَّا لاَ يَرَاهُ الرِّجَال وَلاَ النِّسَاءُ كَالاِعْتِرَاضِ، وَبَرَصِ
الْفَرْجِ، فَإِنَّ الْقَوْل فِيهِ قَوْل الْمَعِيبِ بِيَمِينٍ، وَإِنْ
كَانَ مِمَّا يَرَاهُ الرِّجَال، كَالْبَرَصِ فِي الْيَدِ أَوِ الْوَجْهِ
فِي الْمَرْأَةِ أَوِ الرَّجُل عَلَى سَوَاءٍ، لَمْ يَثْبُتْ إِلاَّ
بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، فَإِنْ كَانَ فِي دَاخِل جِسْمِ الْمَرْأَةِ دُونَ
الْفَرْجِ، كَفَى فِيهِ امْرَأَتَانِ. (3)
نَوْعُ الْفُرْقَةِ الثَّابِتَةِ بِالْعَيْبِ وَطَرِيقُ وُقُوعِهَا:
107 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ
لِلْعَيْبِ طَلاَقٌ بَائِنٌ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
إِلَى أَنَّهَا فَسْخٌ وَلَيْسَتْ طَلاَقًا.
كَمَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لِلْعَيْبِ لاَ
تَقَعُ بِغَيْرِ الرَّفْعِ إِلَى الْقَاضِي ثُمَّ الْقَاضِي يُكَلِّفُ
الزَّوْجَ بِالطَّلاَقِ، فَإِنْ طَلَّقَ فَبِهَا، وَإِلاَّ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 205 - 206.
(2) الدسوقي 2 / 284.
(3) ما سبق من كلام الفقهاء في العيوب عامة يمكن أن ترفع بعض هذه الخلافات
بأهل الاختصاص، ووسائل المعرفة الحديثة التي يتمكن بواسطتها من كشف كثير من
العيوب الخفية. (اللجنة) .
(29/76)
طَلَّقَهَا عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنْهُمْ:
أَنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بِاخْتِيَارِ الزَّوْجَةِ نَفْسِهَا بِانْتِهَاءِ
الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ فِي الْعُنَّةِ بِدُونِ قَضَاءٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ
الرِّوَايَةِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ فِي
رِوَايَتِهِمُ الثَّانِيَةِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اشْتَرَطُوا إِذْنَ
الْقَاضِي لَهَا بِالتَّطْلِيقِ إِذَا كَانَ بِقَوْلِهَا، وَأَنْ يَحْكُمَ
بِهِ الْقَاضِي بَعْدَ ذَلِكَ رَفْعًا لِلْخِلاَفِ، وَالْحُكْمُ هُنَا
إِنَّمَا هُوَ لِلإِْشْهَادِ وَالتَّوْثِيقِ، لاَ لِوُقُوعِ الطَّلاَقِ؛
لأَِنَّهُ وَقَعَ بِقَوْلِهَا. (2)
وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ،
الأَْوَّل: أَنَّهَا تَسْتَقِل بِالْفَسْخِ بَعْدَ ثُبُوتِ حَقِّهَا فِيهِ
لَدَى الْقَاضِي بِيَمِينِهَا أَوْ إِقْرَارِهِ.
وَالثَّانِي: لاَ بُدَّ مِنْ فَسْخِ الْقَاضِي رَفْعًا لِلْخِلاَفِ.
(3) أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَإِنَّ الْفَسْخَ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ
بِحُكْمِ الْقَاضِي. (4)
وَهَل تَكُونُ الْحُرْمَةُ الْوَاقِعَةُ بِالتَّفْرِيقِ لِلْعَيْبِ
مُؤَبَّدَةً؟
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا غَيْرُ مُؤَبَّدَةٍ، وَلَهُمَا
الْعَوْدُ إِلَى الزَّوْجِيَّةِ ثَانِيَةً بِعَقْدٍ جَدِيدٍ.
وَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ
الْوَاقِعَةَ بِالتَّفْرِيقِ لِلْعَيْبِ مُؤَبَّدَةٌ. (5)
__________
(1) البحر الرائق 4 / 125.
(2) الشرح الكبير 2 / 282 - 283.
(3) مغني المحتاج 3 / 207.
(4) المغني 7 / 126 - 127.
(5) المغني 7 / 127، والبحر الرائق 4 / 127.
(29/76)
التَّفْرِيقُ لِفَوَاتِ الْكَفَاءَةِ:
108 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى الاِعْتِدَادِ بِالْكَفَاءَةِ
فِي الزَّوَاجِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي
اعْتِبَارِهَا سَبَبًا لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، عَلَى
تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (كَفَاءَة) .
صُوَرٌ أُخْرَى مِنَ التَّفْرِيقِ:
109 - هُنَاكَ صُوَرٌ أُخْرَى مِنَ التَّفْرِيقِ يَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ
أَنَّ بَعْضَهَا طَلاَقٌ، وَمِنْهَا:
أ - التَّفْرِيقُ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي
مُصْطَلَحِ: (بُلُوغ) ف 39 وَمَا بَعْدَهَا.
ب - التَّفْرِيقُ لاِخْتِلاَفِ الدِّينِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي
مُصْطَلَحِ: (رِدَّة) ف 44.
ج - التَّفْرِيقُ لِلِّعَانِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَيْ:
(فُرْقَة، وَلِعَان) .
د - التَّفْرِيقُ لِفَسَادِ عَقْدِ النِّكَاحِ أَوْ لِتَخَلُّفِ الْوَصْفِ
الْمَرْغُوبِ فِيهِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاح) .
هـ - التَّفْرِيقُ لِلتَّحْرِيمِ الطَّارِئِ بِالرَّضَاعِ أَوِ
الْمُصَاهَرَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (رَضَاع) ف 27، (وَمُصَاهَرَة)
.
و التَّفْرِيقُ لِنُقْصَانِ الْمَهْرِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي
مُصْطَلَحِ: (مَهْر) .
(29/77)
طَلَبُ الْعِلْمِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الطَّلَبُ فِي اللُّغَةِ: مُحَاوَلَةُ وِجْدَانِ الشَّيْءِ وَأَخْذِهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
(1)
وَالْعِلْمُ لُغَةً: الْيَقِينُ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ.
وَاصْطِلاَحًا اخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِهِ: فَتَارَةً عَرَّفُوهُ
بِأَنَّهُ مَعْرِفَةُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ، وَهَذَا عِلْمُ
الْمَخْلُوقِينَ، وَأَمَّا عِلْمُ الْخَالِقِ فَهُوَ الإِْحَاطَةُ
وَالْخَبَرُ عَلَى مَا هُوَ بِهِ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجَهْل:
2 - الْجَهْل لُغَةً: نَقِيضُ الْعِلْمِ، وَيُطْلَقُ عَلَى السَّفَهِ
وَالْخَطَأِ، يُقَال جَهِل عَلَى غَيْرِهِ سَفِهَ وَأَخْطَأَ.
وَالْجَهْل اصْطِلاَحًا: هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ
__________
(1) لسان العرب مادة (طلب، والكليات 3 / 153) .
(2) الكليات 3 / 204.
(29/77)
عَلَى خِلاَفِ مَا هُوَ عَلَيْهِ. (1)
ب - الْمَعْرِفَةُ:
3 - الْمَعْرِفَةُ لُغَةً: الْعِلْمُ يُقَال عَرَّفَهُ الأَْمْرَ:
أَعْلَمَهُ إِيَّاهُ، وَعَرَّفَهُ بَيْتَهُ: أَعْلَمَهُ بِمَكَانِهِ. (2)
وَالْمَعْرِفَةُ اصْطِلاَحًا: إِدْرَاكُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ
عَلَيْهِ، قَال صَاحِبُ التَّعْرِيفَاتِ: وَهِيَ مَسْبُوقَةٌ بِجَهْلٍ
بِخِلاَفِ الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى الْحَقُّ تَعَالَى بِالْعَالِمِ
دُونَ الْعَارِفِ.
وَفَرَّقَ صَاحِبُ الْكُلِّيَّاتِ بَيْنَ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ
بِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ تُقَال لِلإِْدْرَاكِ الْمَسْبُوقِ بِالْعَدَمِ،
وَلِثَانِي الإِْدْرَاكَيْنِ إِذَا تَخَلَّلَهُمَا عَدَمٌ، وَلإِِدْرَاكِ
الْجُزْئِيِّ، وَلإِِدْرَاكِ الْبَسِيطِ. وَالْعِلْمُ يُقَال لِحُصُول
صُورَةِ الشَّيْءِ عِنْدَ الْعَقْل، وَلِلاِعْتِقَادِ الْجَازِمِ
الْمُطَابِقِ الثَّابِتِ، وَلإِِدْرَاكِ الْكُلِّيِّ، وَلإِِدْرَاكِ
الْمُرَكَّبِ. (3)
حُكْمُ طَلَبِ الْعِلْمِ:
الْعِلْمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَرْعِيًّا، وَهُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنَ
الشَّرْعِ، أَوْ غَيْرَ شَرْعِيٍّ.
أ - طَلَبُ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ:
4 - طَلَبُ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ مَطْلُوبٌ مِنْ حَيْثُ
__________
(1) لسان العرب والقاموس المحيط والمصباح المنير والتعريفات للجرجاني مادة
(جهل) .
(2) لسان العرب مادة (عرف) .
(3) التعريفات للجرجاني 283، والكليات 4 / 219، 296.
(29/78)
الْجُمْلَةُ، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ
طَلَبِهَا بِاخْتِلاَفِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا.
فَمِنْهَا مَا طَلَبُهُ فَرْضُ عَيْنٍ، وَهُوَ تَعَلُّمُ الْمُكَلَّفِ مَا
لاَ يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ الَّذِي تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ إِلاَّ
بِهِ، كَكَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا، وَحَمَل
عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ.
(1) قَال النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا
فَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ.
ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ لاَ يَجِبُ طَلَبُهَا إِلاَّ بَعْدَ
وُجُوبِهَا، وَيَجِبُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مَا يَتَوَقَّفُ أَدَاءُ
الْوَاجِبِ عَلَيْهِ غَالِبًا دُونَ مَا يَطْرَأُ نَادِرًا، فَإِنْ وَقَعَ
وَجَبَ التَّعَلُّمُ حِينَئِذٍ، فَيَجِبُ عَلَى مَنْ أَرَادَ الْبَيْعَ
أَنْ يَتَعَلَّمَ أَحْكَامَ مَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُبَايَعَاتِ،
كَمَا يَجِبُ مَعْرِفَةُ مَا يَحِل وَمَا يَحْرُمُ مِنَ الْمَأْكُول،
وَالْمَشْرُوبِ، وَالْمَلْبُوسِ، وَنَحْوِهَا مِمَّا لاَ غِنَى لَهُ عَنْهُ
غَالِبًا، وَكَذَلِكَ أَحْكَامُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ إِنْ كَانَ لَهُ
زَوْجَةٌ، ثُمَّ إِذَا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْفَوْرِ كَانَ تَعَلُّمُ
الْكَيْفِيَّةِ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِنْ
__________
(1) حديث: " طلب العلم فريضة على كل مسلم ". أخرجه ابن ماجه (1 / 81) من
حديث أنس بن مالك بإسناد ضعيف، ولكن له طرقا كثيرة يتقوى بها، ذكر بعضها
السخاوي في المقاصد الحسنة (ص275 - 276) وله شواهد عن جماعة من الصحابة،
ونقل عن المزي أنه حسنه كما نقل عن العراقي أنه قال: صحح بعض الأئمة بعض
طرقه.
(29/78)
كَانَ عَلَى التَّرَاخِي كَالْحَجِّ
فَعَلَى التَّرَاخِي عِنْدَ مَنْ يَقُول بِذَلِكَ.
وَمِنْهَا مَا طَلَبُهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَهُوَ تَحْصِيل مَا لاَ بُدَّ
لِلنَّاسِ مِنْهُ فِي إِقَامَةِ دِينِهِمْ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ
كَحِفْظِ الْقُرْآنِ، وَالأَْحَادِيثِ، وَعُلُومِهِمَا، وَالأُْصُول،
وَالْفِقْهِ، وَالنَّحْوِ، وَاللُّغَةِ، وَالتَّصْرِيفِ، وَمَعْرِفَةِ
رُوَاةِ الْحَدِيثِ، وَالإِْجْمَاعِ، وَالْخِلاَفِ.
وَالْمُرَادُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ تَحْصِيل ذَلِكَ الشَّيْءِ مِنَ
الْمُكَلَّفِينَ بِهِ أَوْ بَعْضِهِمْ، وَيَعُمُّ وُجُوبُهُ جَمِيعَ
الْمُخَاطَبِينَ بِهِ، فَإِذَا فَعَلَهُ مَنْ تَحْصُل بِهِ الْكِفَايَةُ
سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِذَا قَامَ بِهِ جَمْعٌ تَحْصُل
الْكِفَايَةُ بِبَعْضِهِمْ فَكُلُّهُمْ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ الْقِيَامِ
بِالْفَرْضِ فِي الثَّوَابِ وَغَيْرِهِ، فَإِذَا صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ
جَمْعٌ ثُمَّ جَمْعٌ ثُمَّ جَمْعٌ فَالْكُل يَقَعُ فَرْضَ كِفَايَةٍ،
وَلَوْ أَطْبَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى تَرْكِهِ أَثِمَ كُل مَنْ لاَ عُذْرَ
لَهُ مِمَّنْ عَلِمَ ذَلِكَ وَأَمْكَنَهُ الْقِيَامُ بِهِ.
وَمِنْهَا مَا طَلَبُهُ نَفْلٌ، كَالتَّبَحُّرِ فِي أُصُول الأَْدِلَّةِ،
وَالإِْمْعَانُ فِيمَا وَرَاءَ الْقَدْرِ الَّذِي يَحْصُل بِهِ فَرْضُ
الْكِفَايَةِ.
(1)
__________
(1) المجموع 1 / 24 وما بعدها ط. المكتبة السلفية المدينة المنورة، إحياء
علوم الدين 1 / 21، 23 ط. مصطفى الحلبي 1939م، الأداب الشرعية 2 / 36،
مكتبة الرياض الحديثة حاشية ابن عابدين 1 / 27، 29 وما بعدها.
(29/79)
ب - الْعُلُومُ غَيْرُ الشَّرْعِيَّةِ:
5 - يَعْتَرِي طَلَبُ الْعُلُومِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ الأَْحْكَامَ
التَّكْلِيفِيَّةَ الْخَمْسَةَ، إِذْ مِنْهَا مَا طَلَبُهُ فَرْضُ
كِفَايَةٍ، كَالْعُلُومِ الَّتِي لاَ يُسْتَغْنَى عَنْهَا فِي قِوَامِ
أَمْرِ الدُّنْيَا، كَالطِّبِّ، إِذْ هُوَ ضَرُورِيٌّ لِبَقَاءِ
الأَْبْدَانِ، وَالْحِسَابِ، فَإِنَّهُ ضَرُورِيٌّ فِي الْمُعَامَلاَتِ،
وَقِسْمَةِ الْوَصَايَا وَالْمَوَارِيثِ وَغَيْرِهَا.
وَمِنْهَا مَا يُعَدُّ طَلَبُهُ فَضِيلَةً وَهُوَ التَّعَمُّقُ فِي
دَقَائِقِ الْحِسَابِ، وَالطِّبِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَغْنَى
عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ يُفِيدُ زِيَادَةَ قُوَّةٍ فِي الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ
إِلَيْهِ.
وَمِنْهَا مَا طَلَبُهُ مُحَرَّمٌ، كَطَلَبِ تَعَلُّمِ السِّحْرِ
وَالشَّعْوَذَةِ، وَالتَّنْجِيمِ، وَكُل مَا كَانَ سَبَبًا لإِِثَارَةِ
الشُّكُوكِ، وَيَتَفَاوَتُ فِي التَّحْرِيمِ. (1)
فَضْل طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْحَثُّ عَلَيْهِ:
6 - تَكَاثَرَتِ الآْيَاتُ وَالأَْخْبَارُ وَالآْثَارُ فِي الْحَثِّ عَلَى
طَلَبِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ.
فَمِنَ الآْيَاتِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ قَوْله تَعَالَى:
{فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُل فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا
فِي الدِّينِ} (2) قَال الْقُرْطُبِيُّ: هَذِهِ الآْيَةُ أَصْلٌ فِي
وُجُوبِ طَلَبِ الْعِلْمِ،
__________
(1) المجموع 1 / 26، إحياء علوم الدين 1 / 23، حاشية ابن عابدين 1 / 29 وما
بعدها.
(2) سورة التوبة / 122.
(29/79)
وَقَوْل مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ يَقْتَضِي
نَدْبَ طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْحَثَّ عَلَيْهِ دُونَ الْوُجُوبِ
وَالإِْلْزَامِ، وَإِنَّمَا لَزِمَ طَلَبُ الْعِلْمِ بِأَدِلَّتِهِ وَهُوَ
أَبْيَنُ.
وَمِنَ الآْيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي فَضْل طَلَبِ الْعِلْمِ قَوْله
تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} . (1)
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ. (2)
وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ كَانَ فِي سَبِيل
اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ (3) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّل اللَّهُ لَهُ بِهِ
طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ. (4)
وَمِنَ الآْثَارِ قَوْل مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ:
تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ، فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ
عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ،
وَتَعْلِيمَهُ مَنْ لاَ يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لأَِهْلِهِ
قُرْبَةٌ.
وَمِنَ الآْثَارِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا قَوْل أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
__________
(1) سورة المجادلة / 11.
(2) حديث: " من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين ". أخرجه البخاري (فتح
الباري 1 / 164) ومسلم (2 / 718) من حديث معاوية بن أبي سفيان.
(3) حديث: " من خرج في طلب العلم ". أخرجه الترمذي (5 / 29) وأعله المناوي
في فيض القدير (6 / 124) براو متكلم فيه.
(4) حديث: " من سلك طريقا يلتمس فيه علما. . . ". أخرجه مسلم (4 / 2074) من
حديث أبي هريرة.
(29/80)
: مَنْ رَأَى أَنَّ الْغُدُوَّ إِلَى
طَلَبِ الْعِلْمِ لَيْسَ بِجِهَادٍ فَقَدْ نَقَصَ فِي رَأْيِهِ وَعَقْلِهِ.
وَقَوْل الشَّافِعِيِّ: طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَل مِنَ النَّافِلَةِ.
قَال الْقُرْطُبِيُّ: طَلَبُ الْعِلْمِ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمَرْتَبَةٌ
شَرِيفَةٌ لاَ يُوَازِيهَا عَمَلٌ. (1)
تَرْجِيحُ طَلَبِ الْعِلْمِ عَلَى الْعِبَادَاتِ الْقَاصِرَةِ عَلَى
فَاعِلِهَا:
7 - حَكَى النَّوَوِيُّ اتِّفَاقَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ طَلَبَ
الْعِلْمِ وَالاِشْتِغَال بِهِ أَفْضَل مِنْ الاِشْتِغَال بِنَوَافِل
الصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ وَالتَّسْبِيحِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ نَوَافِل
عِبَادَاتِ الْبَدَنِ.
فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَضْل
الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ (2) وَعَنْ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: الْعَالِمُ أَعْظَمُ أَجْرًا
مِنَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْغَازِي فِي سَبِيل اللَّهِ، وَعَنْ أَبِي
ذَرٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا
قَالاَ: بَابٌ مِنَ الْعِلْمِ نَتَعَلَّمُهُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَلْفِ
رَكْعَةِ تَطَوُّعٍ؛ وَلأَِنَّ نَفْعَ الْعِلْمِ يَعُمُّ
__________
(1) المجموع للنووي 1 / 19ط. المكتبة السلفية، إحياء علوم الدين 1 / 15، 16
ط. مصطفى الحلبي 1939، الأداب الشرعية 2 / 39 ط. مكتبة الرياض الحديثة،
تفسير القرطبي 8 / 293 وما بعدها ط. دار الكتب المصرية 1939م.
(2) حديث أبي أمامة: " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم. . . ".
أخرجه الترمذي (5 / 50) وقال: " حديث غريب ".
(29/80)
صَاحِبَهُ وَالْمُسْلِمِينَ، وَالنَّوَافِل
الْمَذْكُورَةُ مُخْتَصَّةٌ بِهِ، وَلأَِنَّ الْعِلْمَ مُصَحِّحٌ،
فَغَيْرُهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ، وَلاَ يَنْعَكِسُ،
وَلأَِنَّ الْعِلْمَ تَبْقَى فَائِدَتُهُ وَأَثَرُهُ بَعْدَ صَاحِبِهِ،
وَالنَّوَافِل تَنْقَطِعُ بِمَوْتِ صَاحِبِهَا. (1)
كَمَا أَنَّ الْمُثَابَرَةَ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهَ فِيهِ،
وَعَدَمَ الاِجْتِزَاءِ بِالْيَسِيرِ مِنْهُ يَجُرُّ إِلَى الْعَمَل بِهِ،
وَيُلْجِئُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْل الْحَسَنِ: كُنَّا نَطْلُبُ
الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا فَجَرَّنَا إِلَى الآْخِرَةِ. (2)
وَقْتُ طَلَبِ الْعِلْمِ:
8 - لَيْسَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَقْتٌ مُحَدَّدٌ، بَل هُوَ مَطْلُوبٌ فِي
جَمِيعِ مَرَاحِل الْعُمْرِ، لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ فَضَّلُوا الطَّلَبَ فِي
مَرْحَلَةِ الصِّغَرِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْمَرَاحِل، لِصَفَاءِ
الذِّهْنِ فِي تِلْكَ الْمَرْحَلَةِ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى رُسُوخِ
الْعِلْمِ فِي الذَّاكِرَةِ، قَال الْعَدَوِيُّ نَقْلاً عَنِ
الْمُنَاوِيِّ: وَهَذَا فِي الْغَالِبِ، فَقَدْ تَفَقَّهَ الْقَفَّال
وَالْقُدُورِيُّ بَعْدَ الشَّيْبِ فَفَاقَا الشَّبَابَ.
وَأَوْجَبَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الآْبَاءِ وَالأُْمَّهَاتِ تَعْلِيمَ
الصِّغَارِ.
__________
(1) المجموع 1 / 20، حاشية ابن عابدين 1 / 27، مغني المحتاج 1 / 8.
(2) الموافقات للشاطبي 1 / 76 ط. المكتبة التجارية.
(29/81)
قَال النَّوَوِيُّ: عَلَى الآْبَاءِ
وَالأُْمَّهَاتِ تَعْلِيمُ أَوْلاَدِهِمْ مَا سَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ
بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَيُعَلِّمُهُ الْوَلِيُّ الطَّهَارَةَ وَالصَّلاَةَ
وَالصَّوْمَ وَنَحْوَهَا، وَيُعَرِّفُهُ تَحْرِيمَ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ
وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَشَبَهِهَا،
وَيُعَرِّفُهُ أَنَّ بِالْبُلُوغِ يَدْخُل فِي التَّكْلِيفِ، وَيُعَرِّفُهُ
مَا يَبْلُغُ بِهِ، وَقِيل: هَذَا التَّعْلِيمُ مُسْتَحَبٌّ، وَالصَّحِيحُ
وُجُوبُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ.
وَدَلِيل تَعْلِيمِ الأَْوْلاَدِ الصِّغَارِ قَوْله تَعَالَى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (1)
وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عَنْ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كُلُّكُمْ رَاعٍ
وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ. (2)
وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ وُجُوبَ تَعْلِيمِ الصِّغَارِ
يَبْدَأُ بَعْدَ اسْتِكْمَال سَبْعِ سِنِينَ، لِحَدِيثِ: مُرُوا
أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ،
وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ
فِي الْمَضَاجِعِ. (3)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْوُجُوبَ بَعْدَ اسْتِكْمَال
السَّبْعِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤْمَرَ
__________
(1) سورة التحريم / 6.
(2) حديث ابن عمر: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ". أخرجه البخاري (فتح
الباري 2 / 380) ومسلم (3 / 1459) .
(3) حديث: " مروا أولادكم بالصلاة. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 334) من
حديث عبد الله بن عمرو، وحسنه النووي في رياض الصالحين (ص 171) .
(29/81)
بِجَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ وَيُنْهَى عَنْ
جَمِيعِ الْمَنْهِيَّاتِ.
وَقَال زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ نَقْلاً عَنِ النَّوَوِيِّ: يَجِبُ
عَلَى الآْبَاءِ وَالأُْمَّهَاتِ تَعْلِيمُ أَوْلاَدِهِمُ الطَّهَارَةَ
وَالصَّلاَةَ وَالشَّرَائِعَ بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ.
كَمَا حَضَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِدَامَةِ طَلَبِ الْعِلْمِ وَلَوْ مَعَ
التَّقَدُّمِ فِي السِّنِّ، أَوِ التَّقَدُّمِ فِي الْعِلْمِ، قِيل لاِبْنِ
الْمُبَارَكِ: إِلَى مَتَى تَطْلُبُ الْعِلْمَ؟ قَال: حَتَّى الْمَمَاتِ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَسُئِل سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَنْ أَحْوَجُ النَّاسِ إِلَى طَلَبِ
الْعِلْمِ؟ قَال: أَعْلَمُهُمْ؛ لأَِنَّ الْخَطَأَ مِنْهُ أَقْبَحُ. (1)
الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ:
9 - الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ مَشْرُوعَةٌ مِنْ حَيْثُ
الْجُمْلَةُ، لِمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ قَال: دَخَلْتُ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَقَلْتُ نَاقَتِي
بِالْبَابِ، فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَال: اقْبَلُوا
الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ، قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا
مَرَّتَيْنِ فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، ثُمَّ دَخَل عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْل
الْيَمَنِ فَقَال: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْل الْيَمَنِ إِذْ لَمْ
يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ. قَالُوا قَبِلْنَا يَا رَسُول اللَّهِ،
قَالُوا: جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 235، حاشية العدوي على الرسالة 1 / 32، 35،
المجموع 1 / 26، حاشية الجمل 1 / 390، روضة الطالبين 1 / 190، كشاف القناع
1 / 225، جامع بيان العلم وفضله 1 / 84، 96.
(29/82)
وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّل هَذَا
الأَْمْرِ، قَال: كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ
عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضَ، وَكَتَبَ
فِي الذِّكْرِ كُل شَيْءٍ. ثُمَّ أَتَانِي رَجُلٌ فَقَال: يَا عِمْرَانُ
أَدْرِكْ نَاقَتَكَ فَقَدْ ذَهَبَتْ، فَانْطَلَقْتُ، أَطْلُبُهَا، فَإِذَا
السَّرَابُ يَنْقَطِعُ دُونَهَا، وَأَيْمُ اللَّهِ فَلَوَدِدْتُ أَنَّهَا
قَدْ ذَهَبَتْ وَلَمْ أَقُمْ. (1)
قَال ابْنُ هُبَيْرَةَ: فِيهِ الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَجَوَازُ
السُّؤَال عَنْ كُل مَا لاَ يَعْلَمُهُ، وَجَوَازُ الْعُدُول عَنْ سَمَاعِ
الْعِلْمِ إِلَى مَا يُخَافُ فَوَاتُهُ، وَجَوَازُ إِيثَارِ الْعِلْمِ
عَلَى ذَلِكَ.
وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّهُ رَحَل إِلَى عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فَلَمَّا
قَدِمَ مِصْرَ أَخْبَرُوا عُقْبَةَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ، قَال أَبُو
أَيُّوبَ: حَدِّثْنَا مَا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَتْرِ الْمُسْلِمِ، قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ سَتَرَ مُؤْمِنًا فِي
الدُّنْيَا عَلَى خِزْيَةٍ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَتَى
أَبُو أَيُّوبَ رَاحِلَتَهُ فَرَكِبَهَا وَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ
وَمَا حَل رَحْلَهُ (2) :
وَسُئِل الإِْمَامُ أَحْمَدُ: تَرَى الرَّجُل أَنْ يَرْحَل لِطَلَبِ
الْعِلْمِ؟ قَال: نَعَمْ، رَحَل أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
__________
(1) حديث: عمران بن حصين: " دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت
ناقتي. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 286، 13 / 403) ، والنص
الموجود في البحث ملفق من روايتين للحديث.
(2) حديث: أبي أيوب أنه رحل إلى عقبة بن عامر. . . أخرجه الحميدي في مسنده
(1 / 190) .
(29/82)
وَقَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: إِنْ
كُنْتُ لأَُسَافِرُ مَسِيرَةَ اللَّيَالِي وَالأَْيَّامِ فِي الْحَدِيثِ
الْوَاحِدِ.
وَقَال الشَّعْبِيُّ: لَوْ أَنَّ رَجُلاً سَافَرَ مِنْ أَقْصَى الشَّامِ
إِلَى أَقْصَى الْيَمَنِ فَسَمِعَ كَلِمَةً تَنْفَعُهُ فِيمَا يَسْتَقْبِل
مِنْ أَمْرِهِ مَا رَأَيْتُ سَفَرَهُ ضَاعَ.
قَال الْحَطَّابُ: يَجِبُ الْهُرُوبُ مِنْ بَلَدٍ لاَ عِلْمَ فِيهِ إِلَى
بَلَدٍ فِيهِ الْعِلْمُ. (1)
اسْتِئْذَانُ الأَْبَوَيْنِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ:
10 - أَجَازَ الْفُقَهَاءُ الْخُرُوجَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ بِغَيْرِ إِذْنِ
الْوَالِدَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.
وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلاَتٌ نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:
فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْخُرُوجِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهِ
بَيْنَ خَوْفِ الْهَلاَكِ بِسَبَبِ هَذَا الْخُرُوجِ، وَعَدَمِ خَوْفِ
الْهَلاَكِ.
فَإِنْ كَانَ لاَ يُخَافُ عَلَيْهِ الْهَلاَكُ كَانَ خُرُوجُهُ لِطَلَبِ
الْعِلْمِ بِمَنْزِلَةِ السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ
السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ بَيْنَ الْخَوْفِ مِنَ الضَّيْعَةِ عَلَى
الأَْبَوَيْنِ وَعَدَمِهِ، فَإِنْ كَانَ يَخَافُ الضَّيْعَةَ عَلَى
أَبَوَيْهِ بِأَنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ، وَنَفَقَتُهُمَا عَلَيْهِ، وَمَا
لَهُ لاَ يَفِي بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَنَفَقَتِهِمَا، فَإِنَّهُ لاَ
يَخْرُجُ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا، وَإِنْ كَانَ لاَ يَخَافُ الضَّيْعَةَ
عَلَيْهِمَا بِأَنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ وَلَمْ
__________
(1) الأداب الشرعية لابن مفلح 2 / 57، 59، جامع بيان العلم وفضله 1 / 94،
مواهب الجليل 2 / 139.
(29/83)
تَكُنْ نَفَقَتُهُمَا عَلَيْهِ كَانَ لَهُ
أَنْ يَخْرُجَ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا.
وَإِنْ كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ الْهَلاَكَ بِسَبَبِ خُرُوجِهِ لِطَلَبِ
الْعِلْمِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ خُرُوجِهِ لِلْجِهَادِ، فَلاَ يُبَاحُ لَهُ
الْخُرُوجُ إِنْ كَرِهَ الْوَالِدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا خُرُوجَهُ، سَوَاءٌ
كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِمَا الضَّيْعَةَ أَوْ لاَ يَخَافُ عَلَيْهِمَا
الضَّيْعَةَ.
وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ أَوْلاَدٌ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى التَّعَلُّمِ
وَحِفْظِ الْعِيَال فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَفْضَل.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلأَْبَوَيْنِ مَنْعَ وَلَدِهِمَا
مِنَ الْخُرُوجِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ إِنْ كَانَ فِي سَفَرِهِ خَطَرٌ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: فُرُوضُ الْكِفَايَةِ كَالْعِلْمِ الزَّائِدِ عَلَى
الْحَاجَةِ، كَالتِّجَارَةِ، فَلَهُمَا مَنْعُهُ مِنَ السَّفَرِ
لِتَحْصِيلِهِ إِذَا كَانَ لَيْسَ فِي بَلَدِهِمَا مَنْ يُفِيدُهُ حَيْثُ
كَانَ السَّفَرُ فِي الْبَحْرِ أَوِ الْبِرِّ خَطَرًا وَإِلاَّ فَلاَ
مَنْعَ.
وَصَرَّحَ الْعَدَوِيُّ: بِأَنَّ لِلْوَلَدِ أَنْ يَخْرُجَ بِغَيْرِ إِذْنِ
وَالِدَيْهِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ الْكِفَائِيِّ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي
بَلَدِهِ مَنْ يُفِيدُهُ إِيَّاهُ بِشَرْطِ أَنْ يُرْجَى أَنْ يَكُونَ
أَهْلاً، فَإِنْ كَانَ فِي بَلَدِهِ مَنْ يُفِيدُهُ إِيَّاهُ فَلاَ
يَخْرُجُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ السَّفَرَ لِتَعَلُّمِ الْفَرْضِ وَكُل وَاجِبٍ
عَيْنِيٍّ، وَلَوْ كَانَ وَقْتُهُ مُتَّسِعًا وَإِنْ لَمْ يَأْذَنِ
الأَْبَوَانِ، كَمَا أَجَازُوا السَّفَرَ لِطَلَبِ الْفَرْضِ
(29/83)
الْكِفَائِيِّ، كَدَرَجَةِ الْفَتْوَى،
وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ أَبَوَاهُ، عَلَى أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ آمِنًا أَوْ
قَلِيل الْخَطَرِ، وَلَمْ يَجِدْ بِبَلَدِهِ مَنْ يَصْلُحُ لِكَمَال مَا
يُرِيدُهُ، أَوْ رَجَا بِغُرْبَتِهِ زِيَادَةَ فَرَاغٍ، أَوْ إِرْشَادَ
أُسْتَاذٍ، وَيُشْتَرَطُ لِخُرُوجِهِ لِفَرْضِ الْكِفَايَةِ أَنْ يَكُونَ
رَشِيدًا، وَلَوْ لَزِمَتْهُ كِفَايَةُ أَصْلِهِ احْتَاجَ لإِِذْنِهِ، إِنْ
لَمْ يَنُبْ مَنْ يَمُونُهُ مِنْ مَالٍ حَاضِرٍ، وَمِثْلُهُ الْفَرْعُ لَوْ
لَزِمَتْ أَصْلَهُ مُؤْنَتُهُ امْتَنَعَ سَفَرُ الأَْصْل إِلاَّ بِإِذْنِ
فَرْعِهِ إِنْ لَمْ يَنُبْ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ فِي ذَلِكَ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ
صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ طَاعَةَ لِلْوَالِدَيْنِ فِي تَرْكِ تَعَلُّمِ
عِلْمٍ وَاجِبٍ يَقُومُ بِهِ دِينُهُ مِنْ طَهَارَةٍ وَصَلاَةٍ وَصِيَامٍ،
وَإِنْ لَمْ يَحْصُل مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ بِبَلَدِهِ فَلَهُ
السَّفَرُ لِطَلَبِهِ بِلاَ إِذْنِ أَبَوَيْهِ (1) .
آدَابُ طَلَبِ الْعِلْمِ:
11 - لِطَلَبِ الْعِلْمِ آدَابٌ كَثِيرَةٌ يَنْبَغِي مُرَاعَاتُهَا حَتَّى
يَكُونَ الطَّلَبُ فِي أَفْضَل صُورَةٍ وَتَكُونُ الإِْفَادَةُ مِنْهُ
أَكْبَرَ، وَهَذِهِ الآْدَابُ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُعَلِّمِ،
وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى طَالِبِ الْعِلْمِ، وَبَعْضُهَا مُشْتَرَكٌ
بَيْنَهُمَا.
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 189، 5 / 365، 366 ط. الأميرية 1310 هـ حاشية
الدسوقي 2 / 175، 176، حاشية العدوي على شرح الخرشي 3 / 111 حاشية الجمل 5
/ 190، 191، كشاف القناع 3 / 45، الإنصاف 4 / 123.
(29/84)
أَوَّلاً: آدَابُ الْمُعَلِّمِ:
وَهِيَ إِمَّا آدَابٌ فِي الْمُعَلِّمِ نَفْسِهِ، أَوْ فِي دَرْسِهِ، أَوْ
مَعَ طَلَبَتِهِ.
12 - أَمَّا آدَابُهُ فِي نَفْسِهِ فَهِيَ:
أ - دَوَامُ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ،
وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى خَوْفِهِ مِنَ اللَّهِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ
وَأَقْوَالِهِ، فَإِنَّهُ أَمِينٌ عَلَى مَا أُودِعَ مِنَ الْعُلُومِ.
قَال الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ الْعِلْمُ مَا حُفِظَ، الْعِلْمُ مَا نَفَعَ،
وَمِنْ ذَلِكَ دَوَامُ الْخُشُوعِ وَالتَّوَاضُعُ لِلَّهِ تَعَالَى.
ب - أَنْ يَصُونَ الْعِلْمَ وَيَقُومَ لَهُ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ
تَعَالَى لَهُ مِنَ الْعِزَّةِ وَالشَّرَفِ، فَلاَ يُذِلُّهُ بِذَهَابِهِ
وَمَشْيِهِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ
ضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ، أَوْ إِلَى مَنْ يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مِنْ
أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، وَإِنْ عَظُمَ شَأْنُهُ وَكَبِرَ قَدْرُهُ. قَال
الزُّهْرِيُّ: هَوَانُ الْعِلْمِ أَنْ يَحْمِلَهُ الْعَالِمُ إِلَى بَيْتِ
الْمُتَعَلِّمِ، فَإِنْ دَعَتْ حَاجَةٌ إِلَى ذَلِكَ أَوْ ضَرُورَةٌ أَوِ
اقْتَضَتْهُ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى مَفْسَدَةِ بَذْلِهِ
وَحَسُنَتْ فِيهِ نِيَّةٌ صَالِحَةٌ فَلاَ بَأْسَ بِهِ.
ج - أَنْ يَتَخَلَّقَ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّقَلُّل مِنْهَا
بِقَدْرِ الإِْمْكَانِ الَّذِي لاَ يَضُرُّ بِنَفْسِهِ أَوْ بِعِيَالِهِ.
د - أَنْ يُنَزِّهَ عِلْمَهُ عَنْ جَعْلِهِ سُلَّمًا يَتَوَصَّل بِهِ إِلَى
الأَْغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ، مِنْ جَاهٍ أَوْ مَالٍ،
(29/84)
أَوْ سُمْعَةٍ أَوْ شُهْرَةٍ، أَوْ
خِدْمَةٍ، أَوْ تَقَدُّمٍ عَلَى أَقْرَانِهِ.
هـ - أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْ دَنِيءِ الْمَكَاسِبِ وَرَذِيلِهَا طَبْعًا،
وَعَنْ مَكْرُوهِهَا عَادَةً وَشَرْعًا، وَكَذَلِكَ يَتَجَنَّبُ مَوَاضِعَ
التُّهَمِ وَإِنْ بَعُدَتْ.
و أَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْقِيَامِ بِشَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ وَظَوَاهِرِ
الأَْحْكَامِ، كَإِمَامَةِ الصَّلاَةِ فِي الْمَسَاجِدِ لِلْجَمَاعَاتِ،
وَالأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالصَّبْرِ
عَلَى الأَْذَى بِسَبَبِ ذَلِكَ، صَادِعًا بِالْحَقِّ عِنْدَ السَّلاَطِينِ
بَاذِلاً نَفْسَهُ لِلَّهِ، وَكَذَلِكَ الْقِيَامُ بِإِظْهَارِ السُّنَنِ،
وَإِخْمَادِ الْبِدَعِ، وَالْقِيَامِ لِلَّهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَمَا
فِيهِ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعِ.
ز - أَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْمَنْدُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ
وَالْفِعْلِيَّةِ، فَيُلاَزِمُ تِلاَوَةَ الْقُرْآنِ، وَذِكْرَ اللَّهِ
تَعَالَى بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَنَوَافِل الْعِبَادَاتِ مِنَ
الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَحَجِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ.
ح - أَنْ يُدِيمَ الْحِرْصَ عَلَى الاِزْدِيَادِ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ
وَالاِشْتِغَال بِهِ، وَأَنْ لاَ يَسْتَنْكِفَ أَنْ يَسْتَفِيدَ مَا لاَ
يَعْلَمُهُ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ، قَال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لاَ يَزَال
الرَّجُل عَالِمًا مَا تَعَلَّمَ، فَإِذَا تَرَكَ الْعِلْمَ وَظَنَّ
أَنَّهُ قَدِ اسْتَغْنَى وَاكْتَفَى بِمَا عِنْدَهُ فَهُوَ أَجْهَل مَا
يَكُونُ، وَأَنْ يَشْتَغِل
(29/85)
بِالتَّصْنِيفِ وَالْجَمْعِ وَالتَّأْلِيفِ
لَكِنْ مَعَ تَمَامِ الْفَضِيلَةِ وَكَمَال الأَْهْلِيَّةِ (1) .
وَآدَابُ الْمُعَلِّمِ فِي دَرْسِهِ هِيَ:
13 - أَنْ يَتَطَهَّرَ مِنَ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ وَيَتَنَظَّفَ
وَيَتَطَيَّبَ وَيَلْبَسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ إِذَا جَلَسَ
لِلتَّدْرِيسِ، وَأَنْ يَجْلِسَ بَارِزًا لِجَمِيعِ الْحَاضِرِينَ،
وَيُوَقِّرَ فَاضِلَهُمْ، وَيَتَلَطَّفَ بِالْبَاقِينَ، وَيُكْرِمَهُمْ
بِحُسْنِ السَّلاَمِ، وَطَلاَقَةِ الْوَجْهِ.
وَأَنْ يَقْدَمَ عَلَى الشُّرُوعِ فِي الْبَحْثِ وَالتَّدْرِيسِ قِرَاءَةَ
شَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى تَبَرُّكًا وَتَيَمُّنًا.
وَإِذَا تَعَدَّدَتِ الدُّرُوسُ قَدَّمَ الأَْشْرَفَ فَالأَْشْرَفَ،
وَالأَْهَمَّ فَالأَْهَمَّ، وَلاَ يَذْكُرُ شُبْهَةً فِي الدِّينِ فِي
دَرْسٍ وَيُؤَخِّرُ الْجَوَابَ عَنْهَا إِلَى دَرْسٍ آخَرَ؛ بَل
يَذْكُرُهُمَا جَمِيعًا أَوْ يَدَعُهُمَا جَمِيعًا، وَيَنْبَغِي أَنْ لاَ
يُطِيل الدَّرْسَ تَطْوِيلاً يُمَل، وَلاَ يُقَصِّرَهُ تَقْصِيرًا يُخِل.
وَأَنْ يَصُونَ مَجْلِسَهُ عَنِ اللَّغَطِ وَعَنْ رَفْعِ الأَْصْوَاتِ.
وَأَنْ يُلاَزِمَ الإِْنْصَافَ فِي بَحْثِهِ وَخِطَابِهِ.
__________
(1) تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم ص 15 وما بعدها ط. جمعية
دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد 1353 هـ، المجموع للنووي 1 / 28، أدب
الدنيا والدين 35 ط. المطبعة الأدبية 1317.
(29/85)
وَأَنْ لاَ يَنْتَصِبَ لِلتَّدْرِيسِ إِذَا
لَمْ يَكُنْ أَهْلاً لَهُ (1) .
وَآدَابُ الْمُعَلِّمِ مَعَ طَلَبَتِهِ هِيَ:
14 - أَنْ يَقْصِدَ بِتَعْلِيمِهِمْ وَتَهْذِيبِهِمْ وَجْهَ اللَّهِ
تَعَالَى، وَنَشْرَ الْعِلْمِ، وَإِحْيَاءَ الشَّرْعِ.
وَأَنْ لاَ يَمْتَنِعَ مِنْ تَعْلِيمِ الطَّالِبِ، لِعَدَمِ خُلُوصِ
نِيَّتِهِ، فَإِنَّ حُسْنَ النِّيَّةِ مَرْجُوٌّ لَهُ بِبَرَكَةِ
الْعِلْمِ، قَال بَعْضُ السَّلَفِ: طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ،
فَأَبَى أَنْ يَكُونَ إِلاَّ لِلَّهِ، وَلأَِنَّ إِخْلاَصَ النِّيَّةِ لَوْ
شُرِطَ فِي تَعْلِيمِ الْمُبْتَدَئِينَ فِيهِ مَعَ عُسْرِهِ عَلَى كَثِيرٍ
مِنْهُمْ لأََدَّى ذَلِكَ إِلَى تَفْوِيتِ الْعِلْمِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ
النَّاسِ، لَكِنَّ الشَّيْخَ يُحَرِّضُ الْمُبْتَدِئَ عَلَى حُسْنِ
النِّيَّةِ بِالتَّدْرِيجِ.
وَأَنْ يُرَغِّبَ الطَّالِبَ فِي الْعِلْمِ وَطَلَبِهِ فِي أَكْثَرِ
الأَْوْقَاتِ.
وَأَنْ يَتَلَطَّفَ فِي تَفْهِيمِهِ، لاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ أَهْلاً
لِذَلِكَ، وَيُحَرِّضَهُ عَلَى طَلَبِ الْفَوَائِدِ، وَحِفْظِ الْفَرَائِدِ
وَلاَ يَدَّخِرُ عَنْهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ مَا يَسْأَلُهُ عَنْهُ
وَهُوَ أَهْلٌ لَهُ، وَكَذَلِكَ لاَ يُلْقِي إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ مَا
لَمْ يَتَأَهَّل لَهُ، لأَِنَّ ذَلِكَ يُبَدِّدُ ذِهْنَهُ وَيُفَرِّقُ
فَهْمَهُ.
وَأَنْ يَحْرِصَ عَلَى تَعْلِيمِ الطَّالِبِ وَتَفْهِيمِهِ
__________
(1) تذكرة السامع والمتكلم ص 30 وما بعدها، والمجموع 1 / 28 وما بعدها،
إحياء علوم الدين 1 / 6 وما بعدها.
(29/86)
بِبَذْل جَهْدِهِ، وَتَقْرِيبِ الْمَعْنَى
لَهُ.
وَإِذَا سَلَكَ الطَّالِبُ فِي التَّحْصِيل فَوْقَ مَا يَقْتَضِيهِ حَالُهُ
وَخَافَ الْمُعَلِّمُ ضَجَرَهُ أَوْصَاهُ بِالرِّفْقِ بِنَفْسِهِ،
وَالأَْنَاةِ، وَالاِقْتِصَادِ فِي الاِجْتِهَادِ، وَكَذَلِكَ إِذَا ظَهَرَ
لَهُ مِنْهُ نَوْعُ سَآمَةٍ أَوْ ضَجَرٍ أَمَرَهُ بِالرَّاحَةِ وَتَخْفِيفِ
الاِشْتِغَال.
وَأَنْ لاَ يُظْهِرَ لِلطَّلَبَةِ تَفْضِيل بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَعَ
تَسَاوِيهِمْ فِي الصِّفَاتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ رُبَّمَا يُوحِشُ صُدُورَهُمْ
وَيُنَفِّرُ قُلُوبَهُمْ.
وَأَنْ يَسْعَى فِي مَصَالِحِ الطَّلَبَةِ وَجَمْعِ قُلُوبِهِمْ
وَمُسَاعَدَتِهِمْ بِمَا يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ، وَإِذَا غَابَ بَعْضُ
الطَّلَبَةِ زَائِدًا عَنِ الْعَادَةِ سَأَل عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُخْبَرْ
عَنْهُ بِشَيْءٍ أَرْسَل إِلَيْهِ، أَوْ قَصَدَ مَنْزِلَهُ بِنَفْسِهِ،
وَهُوَ أَفْضَل.
وَأَنْ يَتَوَاضَعَ مَعَ الطَّالِبِ وَكُل مُسْتَرْشِدٍ سَائِلٍ (1) فَفِي
الْحَدِيثِ: لِينُوا لِمَنْ تُعَلِّمُونَ وَلِمَنْ تَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ
(2) .
ثَانِيًا: آدَابُ الْمُتَعَلِّمِ:
وَهِيَ إِمَّا آدَابٌ فِي نَفْسِهِ، أَوْ مَعَ مُعَلِّمِهِ أَوْ فِي
دَرْسِهِ.
__________
(1) تذكرة السامع والمتكلم ص 47 وما بعدها، إحياء علوم الدين 1 / 61 ط.
مصطفى الحلبي 1939م، المجموع 1 / 30 وما بعدها.
(2) حديث: " لينو لمن تعلمون. . . " عزاه العراقي في تخريج أحاديث إحياء
علوم الدين (بشرحه الإتحاف 8 / 27) إلى ابن السني في رياضة المتعلمين،
وقال: " بسنده ضعف ".
(29/86)
آدَابُهُ فِي نَفْسِهِ:
15 - أ - أَنْ يُطَهِّرَ قَلْبَهُ لِيَصْلُحَ بِذَلِكَ لِقَبُول الْعِلْمِ
وَحِفْظِهِ، وَأَنْ يَطْلُبَ الْعِلْمَ يَقْصِدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ
تَعَالَى وَالْعَمَل بِهِ، وَإِحْيَاءَ الشَّرِيعَةِ، وَلاَ يَقْصِدُ بِهِ
الأَْغْرَاضَ الدُّنْيَوِيَّةَ، لأَِنَّ الْعِلْمَ عِبَادَةٌ، فَإِنْ
خَلَصَتْ فِيهِ النِّيَّةُ قُبِل وَنَمَتْ بَرَكَتُهُ، وَإِنْ قُصِدَ بِهِ
غَيْرُ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى حَبَطَ وَخَسِرَتْ صَفْقَتُهُ.
ب - أَنْ يُبَادِرَ شَبَابَهُ وَأَوْقَاتَ عُمْرِهِ إِلَى التَّحْصِيل،
وَأَنْ يَقْنَعَ مِنَ الْقُوتِ بِمَا تَيَسَّرَ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا،
وَمِنَ اللِّبَاسِ بِمَا يَسْتُرُ.
ج - أَنْ يَقْسِمَ أَوْقَاتَ لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ وَيَسْتَفِيدَ مِنْهَا.
د - أَنْ يُقَلِّل نَوْمَهُ، مَا لَمْ يَلْحَقْهُ ضَرَرٌ فِي بَدَنِهِ
وَذِهْنِهِ، وَلاَ بَأْسَ أَنْ يُرِيحَ نَفْسَهُ وَقَلْبَهُ وَذِهْنَهُ
إِذَا كَل شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَوْ ضَعُفَ، وَأَنْ يَأْخُذَ نَفْسَهُ
بِالْوَرَعِ فِي جَمِيعِ شَأْنِهِ وَيَتَحَرَّى الْحَلاَل فِي طَعَامِهِ
وَشَرَابِهِ وَلِبَاسِهِ وَمَسْكَنِهِ (1) .
آدَابُ الْمُتَعَلِّمِ مَعَ مُعَلِّمِهِ:
16 - أ - يَنْبَغِي لِلطَّالِبِ أَنْ يَسْتَخِيرَ اللَّهَ فِي مَنْ
يَأْخُذُ الْعِلْمَ عَنْهُ؛ لأَِنَّ الْعِلْمَ، كَمَا قَال
__________
(1) تذكرة السامع والمتكلم ص 67 وما بعدها. إحياء علوم الدين 1 / 55،
المجموع 1 / 35 ط. المكتبة السلفية. المدينة المنورة.
(29/87)
بَعْضُ السَّلَفِ: هَذَا الْعِلْمُ دِينٌ
فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ.
ب - أَنْ يَنْقَادَ لِمُعَلِّمِهِ فِي أُمُورِهِ، وَيَتَحَرَّى رِضَاهُ
فِيمَا يَعْتَمِدُ وَيُبَالِغُ فِي حُرْمَتِهِ، وَيَتَقَرَّبُ إِلَى
اللَّهِ تَعَالَى بِخِدْمَتِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ تَوَاضُعَهُ
لِمُعَلِّمِهِ عِزٌّ، فَقَدْ أَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ نَسَبِهِ
وَعِلْمِهِ بِرِكَابِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَال:
هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَل بِعُلَمَائِنَا،
وَأَنْ لاَ يُخَاطِبَ شَيْخَهُ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَكَافِهِ، وَلاَ
يُنَادِيهِ مِنْ بُعْدٍ، بَل يَقُول يَا أُسْتَاذِي، وَيَا شَيْخِي، وَأَنْ
يَدْعُوَ لَهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ وَيَرْعَى ذُرِّيَّتَهُ وَأَقَارِبَهُ
بَعْدَ وَفَاتِهِ.
ج - أَنْ يَصْبِرَ عَلَى جَفْوَةٍ تَصْدُرُ مِنْ شَيْخِهِ أَوْ سُوءِ
خُلُقٍ، وَلاَ يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ مُلاَزَمَتِهِ وَحُسْنِ عَقِيدَتِهِ،
وَيَتَأَوَّل أَفْعَالَهُ الَّتِي يَظْهَرُ أَنَّ الصَّوَابَ خِلاَفُهَا،
وَيَبْدَأُ هُوَ عِنْدَ جَفْوَةِ الشَّيْخِ بِالاِعْتِذَارِ، فَإِنَّ
ذَلِكَ أَبْقَى لِمَوَدَّةِ شَيْخِهِ وَأَنْفَعُ لِلطَّالِبِ.
د - أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ يَدَيِ الْمُعَلِّمِ جِلْسَةَ الأَْدَبِ،
وَيُصْغِيَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُحْسِنَ خِطَابَهُ مَعَهُ، وَأَنْ لاَ
يَسْبِقَ إِلَى شَرْحِ مَسْأَلَةٍ أَوْ جَوَابٍ، وَلاَ يَقْطَعَ عَلَى
الْمُعَلِّمِ كَلاَمَهُ، وَيَتَخَلَّقَ بِمَحَاسِنِ الأَْخْلاَقِ بَيْنَ
يَدَيْهِ (1) .
__________
(1) تذكرة السامع والمتكلم ص 85 وما بعدها، المجموع 1 / 36، إحياء علوم
الدين 1 / 56 جامع بيان العلم وفضله 1 / 129.
(29/87)
آدَابُ الْمُتَعَلِّمِ فِي دَرْسِهِ:
17 - أ - أَنْ يَبْدَأَ أَوَّلاً بِكِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ
فَيُتْقِنَهُ حِفْظًا، وَيَجْتَهِدَ فِي إِتْقَانِ تَفْسِيرِهِ وَسَائِرِ
عُلُومِهِ.
ب - أَنْ لاَ يَشْتَغِل فِي أَوَّل أَمْرِهِ بِمَسَائِل الاِخْتِلاَفِ
بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُ يُحَيِّرُ الذِّهْنَ.
ج - أَنْ يُصَحِّحَ مَا يَقْرَؤُهُ قَبْل حِفْظِهِ تَصْحِيحًا مُتْقَنًا،
إِمَّا عَلَى مُعَلِّمِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ، ثُمَّ
يَحْفَظُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
د - أَنْ يَلْزَمَ مُعَلِّمَهُ فِي التَّدْرِيسِ وَالإِْقْرَاءِ، بَل
وَجَمِيعِ مَجَالِسِهِ إِذَا أَمْكَنَ، فَإِنَّهُ لاَ يَزِيدُهُ إِلاَّ
خَيْرًا وَتَحْصِيلاً.
هـ - أَنْ يَتَأَدَّبَ مَعَ حَاضِرِي مَجْلِسِ الْمُعَلِّمِ فَإِنَّهُ
أَدَبٌ مَعَهُ وَاحْتِرَامٌ لِمَجْلِسِهِ.
و أَنْ لاَ يَسْتَحِيَ مِنْ سُؤَال مَا أَشْكَل عَلَيْهِ وَيَتَفَهَّمَ مَا
لَمْ يَتَعَقَّلْهُ بِتَلَطُّفٍ وَحُسْنِ خِطَابٍ وَأَدَبٍ (1) .
ثَالِثًا: الآْدَابُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الْمُعَلِّمِ
وَالْمُتَعَلِّمِ:
18 - أ - يَنْبَغِي لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ لاَ يُخِل بِوَظِيفَتِهِ
لِطُرُوءِ فَرْضٍ خَفِيفٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُمْكِنُ مَعَهُ الاِشْتِغَال،
وَأَنْ لاَ يَسْأَل أَحَدًا تَعَنُّتًا
__________
(1) تذكرة السامع والمتكلم 112 وما بعدها، إحياء علوم الدين 1 / 57 وما
بعدها، المجموع 1 / 36.
(29/88)
وَتَعْجِيزًا، فَفِي الْحَدِيثِ: نَهَى
عَنِ الْغُلُوطَاتِ (1) .
ب - أَنْ يَعْتَنِيَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَحْصِيل الْكُتُبِ شِرَاءً
وَاسْتِعَارَةً، فَإِنِ اسْتَعَارَهُ لَمْ يُبْطِئْ بِهِ لِئَلاَّ يَفُوتَ
الاِنْتِفَاعُ بِهِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلِئَلاَّ يَكْسَل عَنْ تَحْصِيل
الْفَائِدَةِ مِنْهُ، وَلِئَلاَّ يَمْتَنِعَ مِنْ إِعَارَتِهِ غَيْرَهُ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَالْمُخْتَارُ اسْتِحْبَابُ الإِْعَارَةِ لِمَنْ لاَ
ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، لأَِنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى الْعِلْمِ مَعَ مَا
فِي مُطْلَقِ الْعَارِيَّةِ مِنَ الْفَضْل، وَيُسْتَحَبُّ شُكْرُ
الْمُعِيرِ لإِِحْسَانِهِ (2) .
طُلُوعٌ
انْظُرْ: أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ، صَوْمٌ
__________
(1) حديث: " نهى عن الغلوطات ". أخرجه أبو داود (4 / 65 ط. استانبول) من
حديث معاوية بن أبي سفيان، وفي إسناده جهالة كما في فيض القدير للمناوي (6
/ 301) .
(2) المجموع للنووي 1 / 39، تذكرة السامع والمتكلم 164 وما بعدها.
(29/88)
طُمَأْنِينَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الطُّمَأْنِينَةُ لُغَةً: السُّكُونُ، يُقَال: اطْمَأَنَّ الرَّجُل
اطْمِئْنَانًا وَطُمَأْنِينَةً: أَيْ سَكَنَ، وَاطْمَأَنَّ الْقَلْبُ:
إِذَا سَكَنَ وَلَمْ يَقْلَقْ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ
لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (1) أَيْ لِيَسْكُنَ إِلَى الْمُعَايَنَةِ بَعْدَ
الإِْيمَانِ بِالْغَيْبِ، وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ
فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ} (2) أَيْ إِذَا سَكَنَتْ قُلُوبُكُمْ.
وَفِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: اطْمَأَنَّ بِالْمَوْضِعِ أَقَامَ بِهِ
وَاتَّخَذَهُ وَطَنًا، وَمَوْضِعٌ مُطْمَئِنٌّ مُنْخَفِضٌ.
وَالطُّمَأْنِينَةُ اصْطِلاَحًا: هِيَ اسْتِقْرَارُ الأَْعْضَاءِ زَمَنًا
مَا (3) .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي حَدِّ هَذَا الزَّمَنِ سَيَأْتِي بَيَانُهُ
فِي الْحُكْمِ الإِْجْمَالِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّعْدِيل:
2 - التَّعْدِيل فِي اللُّغَةِ: إِقَامَةُ الْحُكْمِ،
__________
(1) سورة البقرة / 260.
(2) سورة النساء / 103.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: (طعن) ، والشرح الكبير مع حاشية
الدسوقي 1 / 241.
(29/89)
وَالتَّزْكِيَةُ، وَتَسْوِيَةُ
الْمِيزَانِ.
وَاصْطِلاَحًا: اسْتَعْمَل الْحَنَفِيَّةُ التَّعْدِيل بِمَعْنَى
الطُّمَأْنِينَةِ، فَيَعُدُّونَ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ تَعْدِيل
الأَْرْكَانِ، وَيَقْصِدُونَ بِذَلِكَ تَسْكِينَ الْجَوَارِحِ فِي
الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ حَتَّى تَطْمَئِنَّ الْمَفَاصِل (1) .
فَالتَّعْدِيل بِهَذَا الْمَعْنَى مُرَادِفٌ لِلطُّمَأْنِينَةِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الصَّلاَةِ،
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ
الطُّمَأْنِينَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ، لِحَدِيثِ الْمُسِيءِ
صَلاَتَهُ وَهُوَ أَنَّ رَجُلاً دَخَل الْمَسْجِدَ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ
فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ
عَلَيْهِ، ثُمَّ قَال: ارْجِعْ فَصَل فَإِنَّكَ لَمْ تُصَل، فَعَل ذَلِكَ
ثَلاَثًا، ثُمَّ قَال: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ
غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، فَقَال: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ،
ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى
تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِل قَائِمًا، ثُمَّ
اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ
جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى
__________
(1) القاموس المحيط مادة (عدل) ، وحاشية ابن عابدين 1 / 312، وتبيين
الحقائق 1 / 106.
(29/89)
تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَل ذَلِكَ
فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا (1) .
وَمَحَل الطُّمَأْنِينَةِ عِنْدَهُمْ: فِي الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ،
وَالاِعْتِدَال مِنَ الرُّكُوعِ، وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - عَدَا أَبِي يُوسُفَ - إِلَى أَنَّ
الطُّمَأْنِينَةَ وَاجِبَةٌ وَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ وَيُسَمُّونَهَا "
تَعْدِيل الأَْرْكَانِ " وَهِيَ سُنَّةٌ فِي تَخْرِيجِ
الْجُرْجَانِيِّ، وَالصَّحِيحُ الْوُجُوبُ، وَهُوَ تَخْرِيجُ
الْكَرْخِيِّ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: حَتَّى تَجِبَ سَجْدَتَا
السَّهْوِ بِتَرْكِهِ، كَذَا فِي الْهِدَايَةِ وَجَزَمَ بِهِ فِي
الْكَنْزِ وَالْوِقَايَةِ وَالْمُلْتَقَى وَهُوَ مُقْتَضَى
الأَْدِلَّةِ.
وَمَحَل التَّعْدِيل عِنْدَهُمْ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ،
وَاخْتَارَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وُجُوبَ التَّعْدِيل فِي الرَّفْعِ
مِنَ الرُّكُوعِ، وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ أَيْضًا.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الأَْصَحُّ رِوَايَةً وَدِرَايَةً وُجُوبُ
تَعْدِيل الأَْرْكَانِ، وَأَمَّا الْقَوْمَةُ وَالْجِلْسَةُ
وَتَعْدِيلُهُمَا فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ السُّنِّيَّةُ،
وَرُوِيَ وُجُوبُهَا وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلأَْدِلَّةِ وَعَلَيْهِ
الْكَمَال وَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ.
__________
(1) حديث: المسئ صلاته. أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 277) ومسلم (1 /
298) من حديث أبي هريرة.
(29/90)
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: بِفَرْضِيَّةِ
الْكُل، وَاخْتَارَهُ فِي الْمَجْمَعِ وَالْعَيْنِ، وَرَوَاهُ
الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ الثَّلاَثَةِ، وَقَال فِي
الْفَيْضِ: إِنَّهُ الأَْحْوَطُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الطُّمَأْنِينَةِ خِلاَفٌ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: الْقَوْل بِفَرْضِيَّتِهَا صَحَّحَهُ ابْنُ
الْحَاجِبِ وَالْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَلِذَا
قَال زَرُّوقٌ وَالْبَنَّانِيُّ: مَنْ تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ أَعَادَ
فِي الْوَقْتِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَقِيل: إِنَّهَا فَضِيلَةٌ (1) .
أَقَل الطُّمَأْنِينَةِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: - الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ أَقَل
الطُّمَأْنِينَةِ هُوَ سُكُونُ الأَْعْضَاءِ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: أَقَلُّهَا ذَهَابُ حَرَكَةِ الأَْعْضَاءِ
زَمَنًا يَسِيرًا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: أَقَلُّهَا أَنْ يَمْكُثَ الْمُصَلِّي حَتَّى
تَسْتَقِرَّ أَعْضَاؤُهُ وَتَنْفَصِل حَرَكَةُ هُوِيِّهِ عَنِ
ارْتِفَاعِهِ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَلَوْ زَادَ فِي الْهُوِيِّ ثُمَّ ارْتَفَعَ
وَالْحَرَكَاتُ مُتَّصِلَةٌ وَلَمْ يَلْبَثْ لَمْ تَحْصُل
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 312، حاشية الدسوقي 1 / 241، جواهر الإكليل 1
/ 49، المجموع 3 / 408، 409، مغني المحتاج 1 / 164، كشاف القناع 1 /
387، الإنصاف 2 / 113، تبيين الحقائق 1 / 106.
(29/90)
الطُّمَأْنِينَةُ، وَلاَ يَقُومُ زِيَادَةُ
الْهُوِيِّ مَقَامَ الطُّمَأْنِينَةِ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: أَقَلُّهَا حُصُول السُّكُونِ وَإِنْ قَل،
وَهَذَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَقِيل: هِيَ بِقَدْرِ
الذِّكْرِ الْوَاجِبِ، قَال الْمِرْدَاوِيُّ: وَفَائِدَةُ
الْوَجْهَيْنِ: إِذَا نَسِيَ التَّسْبِيحَ فِي رُكُوعِهِ، أَوْ فِي
سُجُودِهِ، أَوِ التَّحْمِيدَ فِي اعْتِدَالِهِ، أَوْ سُؤَال
الْمَغْفِرَةِ فِي جُلُوسِهِ أَوْ عَجَزَ عَنْهُ لِعُجْمَةٍ أَوْ
خَرَسٍ، أَوْ تَعَمَّدَ تَرْكَهُ، وَقُلْنَا: هُوَ سُنَّةٌ،
وَاطْمَأَنَّ قَدْرًا لاَ يَتَّسِعُ لَهُ فَصَلاَتُهُ صَحِيحَةٌ عَلَى
الْوَجْهِ الأَْوَّل، وَلاَ تَصِحُّ عَلَى الثَّانِي.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَقَل الطُّمَأْنِينَةِ هُوَ
تَسْكِينُ الْجَوَارِحِ قَدْرَ تَسْبِيحَةٍ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَة) .
طَمْثٌ
اُنْظُرْ: حَيْض.
__________
(1) المراجع السابقة.
(29/91)
|