الموسوعة
الفقهية الكويتية طَهَارَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ: النَّظَافَةُ، يُقَال: طَهُرَ الشَّيْءُ
بِفَتْحِ الْهَاءِ وَضَمِّهَا يَطْهُرُ بِالضَّمِّ طَهَارَةً فِيهِمَا،
وَالاِسْمُ: الطُّهْرُ بِالضَّمِّ، وَطَهَّرَهُ تَطْهِيرًا، وَتَطَهَّرَ
بِالْمَاءِ، وَهُمْ قَوْمٌ يَتَطَهَّرُونَ أَيْ: يَتَنَزَّهُونَ مِنَ
الأَْدْنَاسِ، وَرَجُلٌ طَاهِرُ الثِّيَابِ، أَيْ: مُنَزَّهٌ (1) .
وَفِي الشَّرْعِ: هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ غَسْل أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ
بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ (2) .
وَعُرِفَتْ أَيْضًا بِأَنَّهَا: زَوَال حَدَثٍ أَوْ خَبَثٍ، أَوْ رَفْعُ
الْحَدَثِ أَوْ إِزَالَةُ النَّجِسِ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُمَا أَوْ عَلَى
صُورَتِهِمَا (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهَا صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ
لِلْمَوْصُوفِ بِهَا جَوَازَ اسْتِبَاحَةِ الصَّلاَةِ بِهِ، أَوْ فِيهِ،
أَوْ لَهُ. فَالأَْوَّلاَنِ يَرْجِعَانِ لِلثَّوْبِ وَالْمَكَانِ،
وَالأَْخِيرُ لِلشَّخْصِ (4) .
__________
(1) مختار الصحاح مادة: (طهر) .
(2) التعريفات للجرجاني ص 142 ط. الكتب
العلمية - بيروت.
(3) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 11، وكفاية الأخيار للحصني ص 6،
وكشاف القناع 1 / 24.
(4) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك للكشناوي 1 / 34.
(29/91)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْغَسْل:
2 - الْغَسْل بِالْفَتْحِ: مَصْدَرُ غَسَل، وَالْغُسْل بِالضَّمِّ: اسْمٌ
مِنَ الْغَسْل - بِالْفَتْحِ - وَمِنْ الاِغْتِسَال، وَأَكْثَرُ مَا
يَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ الاِغْتِسَال.
وَيُعَرِّفُونَهُ لُغَةً: بِأَنَّهُ سَيَلاَنُ الْمَاءِ عَلَى الشَّيْءِ
مُطْلَقًا.
وَشَرْعًا: بِأَنَّهُ سَيَلاَنُهُ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ بِنِيَّةٍ (1) .
وَالطَّهَارَةُ أَعَمُّ مِنَ الْغَسْل.
ب - التَّيَمُّمُ:
3 - التَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ: مُطْلَقُ الْقَصْدِ، وَفِي الشَّرْعِ:
قَصْدُ الصَّعِيدِ الطَّاهِرِ وَاسْتِعْمَالُهُ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ
لإِِزَالَةِ الْحَدَثِ (2) .
وَالتَّيَمُّمُ أَخَصُّ مِنَ الطَّهَارَةِ.
ج - الْوُضُوءُ:
4 - الْوُضُوءُ بِضَمِّ الْوَاوِ: اسْمٌ لِلْفِعْل، وَهُوَ: اسْتِعْمَال
الْمَاءِ فِي أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا
وَبِفَتْحِهَا: اسْمٌ لِلْمَاءِ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ،
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح ومغني المحتاج 1 / 68، وانظر مراقي
الفلاح ص 52، والقليوبي 1 / 61، وكشاف القناع 1 / 138.
(2) التعريفات للجرجاني 71 ط. دار الكتب العلمية بيروت.
(29/92)
وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَضَاءَةِ،
وَهِيَ الْحُسْنُ وَالنَّظَافَةُ وَالضِّيَاءُ مِنْ ظُلْمَةِ الذُّنُوبِ.
وَفِي الشَّرْعِ: أَفْعَالٌ مَخْصُوصَةٌ مُفْتَتَحَةٌ بِالنِّيَّةِ (1) .
وَالطَّهَارَةُ أَعَمُّ مِنْهُ.
تَقْسِيمُ الطَّهَارَةِ:
5 - الطَّهَارَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: طَهَارَةٌ مِنَ الْحَدَثِ،
وَطَهَارَةٌ مِنَ النَّجِسِ، أَيْ: حُكْمِيَّةٌ وَحَقِيقِيَّةٌ.
فَالْحَدَثُ هُوَ: الْحَالَةُ النَّاقِضَةُ لِلطَّهَارَةِ شَرْعًا،
بِمَعْنَى أَنَّ الْحَدَثَ إِنْ صَادَفَ طَهَارَةً نَقَضَهَا، وَإِنْ لَمْ
يُصَادِفْ طَهَارَةً فَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ.
وَيَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: الأَْكْبَرُ وَالأَْصْغَرُ؛ أَمَّا
الأَْكْبَرُ فَهُوَ: الْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ، وَأَمَّا
الأَْصْغَرُ فَمِنْهُ: الْبَوْل وَالْغَائِطُ وَالرِّيحُ وَالْمَذْيُ
وَالْوَدْيُ وَخُرُوجُ الْمَنِيِّ بِغَيْرِ لَذَّةٍ، وَالْهَادِي وَهُوَ:
الْمَاءُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ عِنْدَ وِلاَدَتِهَا.
وَأَمَّا النَّجِسُ (وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْخَبَثِ أَيْضًا) فَهُوَ
عِبَارَةٌ عَنِ النَّجَاسَةِ الْقَائِمَةِ بِالشَّخْصِ أَوِ الثَّوْبِ أَوِ
الْمَكَانِ.
وَالأُْولَى مِنْهُمَا - وَهِيَ الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ
وَالأَْكْبَرِ - شُرِعَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا
__________
(1) الإقناع للشربيني الخطيب 1 / 39 ط. محمد على صبيح وأولاده.
(29/92)
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}
(1) الآْيَةَ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ
تُقْبَل صَلاَةٌ بِغَيْرِ طَهُورٍ (2) .
وَالثَّانِيَةُ مِنْهُمَا - وَهِيَ طَهَارَةُ الْجَسَدِ وَالثَّوْبِ
وَالْمَكَانِ الَّذِي يُصَلَّى عَلَيْهِ مِنَ النَّجِسِ - شُرِعَتْ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (3) وقَوْله تَعَالَى:
{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (4) وقَوْله تَعَالَى
{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (5) وَبِقَوْلِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: اغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي (6) .
وَالطَّهَارَةُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ (7) .
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) حديث: " لا تقبل صلاة بغير طهور ". أخرجه مسلم (1 / 204) من حديث ابن
عمر.
(3) سورة المدثر / 4.
(4) سورة المائدة / 6.
(5) سورة البقرة / 125.
(6) حديث: " اغسلي عنك الدم وصلي ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 409)
ومسلم (1 / 262) من حديث عائشة.
(7) المصباح المنير، والاختيار شرح المختار 1 / 43 ط. مصطفى الحلبي، مراقي
الفلاح ص 59 - 60، فتح القدير والعناية بهامشه 1 / 151، 179، وأسهل المدارك
شرح إرشاد السالك للكشناوي 1 / 34، 175 - 176، جواهر لإكليل 1 / 38، الشرح
الكبير 1 / 33، 200، المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 66 - 67، الإقناع
للشربيني الخطيب 1 / 169 - 170، والمغني لابن قدامة مع الشرح 1 / 660، منار
السبيل في شرح الدليل 1 / 36، 98 نيل المآرب بشرح دليل الطالب 1 / 73، 120،
127 تحقيق د / محمد سليمان الأشقر ط. الفلاح.
(29/93)
وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيل الطَّهَارَةِ
الْحُكْمِيَّةِ - وَهِيَ الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ - إِلَى مَوَاطِنِهَا
فِي مُصْطَلَحَاتِ: (حَدَث، وُضُوء، جَنَابَة، حَيْض، نِفَاس) .
مَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ
الصَّلاَةِ طَهَارَةُ بَدَنِ الْمُصَلِّي وَثَوْبِهِ وَمَكَانِهِ مِنَ
النَّجَاسَةِ. لِمَا مَرَّ فِي الْفِقْرَةِ السَّابِقَةِ.
وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ
الأَْعْرَابِيِّ: صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ،
وَسُنَّةٌ مَعَ النِّسْيَانِ وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ.
وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّ مَنْ صَلَّى بِالنَّجَاسَةِ
مُتَعَمِّدًا عَالِمًا بِحُكْمِهَا، أَوْ جَاهِلاً وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى
إِزَالَتِهَا يُعِيدُ صَلاَتَهُ أَبَدًا، وَمَنْ صَلَّى بِهَا نَاسِيًا
أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ بِهَا أَوْ عَاجِزًا عَنْ إِزَالَتِهَا يُعِيدُ فِي
الْوَقْتِ (2) .
__________
(1) حديث: " صبوا عليه ذنوبًا من ماء ". أخرجه أبو داود (1 / 265) وأصله في
البخاري (فتح الباري 1 / 323) ومسلم (1 / 236) .
(2) الاختيار لتعليل المختار 1 / 43، ومراقي الفلاح 112، 113، وفتح القدير
1 / 132، 133 وجواهر الإكليل 1 / 11، والشرح الكبير 1 / 65، 69 والعدوي على
الخرشي 1 / 103، وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك 1 / 191، 192، والمهذب 1 /
66، 69، والإقناع للشربيني الخطيب 1 / 170، 175، والمحلي على المنهاج 1 /
180، والمغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 1 / 713، 714.
(29/93)
وَأَيْضًا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ
الْحَقِيقِيَّةُ لِصَلاَةِ الْجِنَازَةِ، وَهِيَ شَرْطٌ فِي الْمَيِّتِ
بِالإِْضَافَةِ إِلَى الْمُصَلِّي (1) .
وَتُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ كَذَلِكَ فِي سَجْدَةِ
التِّلاَوَةِ (2) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي
الطَّوَافِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى اشْتِرَاطِهَا، لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ
بِمَنْزِلَةِ الصَّلاَةِ إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَل فِيهِ
الْمَنْطِقَ، فَمَنْ نَطَقَ فَلاَ يَنْطِقْ إِلاَّ بِخَيْرٍ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ
الْحَقِيقِيَّةِ فِي الطَّوَافِ.
__________
(1) مراقي الفلاح 318، 319، فتح القدير 1 / 179، أسهل المدارك 1 / 76،
جواهر الإكليل 1 / 68، الشرح الكبير 1 / 201، نهاية المحتاج 3 / 24،
القليوبي وعميرة 1 / 334، المهذب 1 / 139، الإقناع 1 / 170، 2 / 67، كشاف
القناع 2 / 118، منار السبيل 1 / 71، المغني مع الشرح الكبير 1 / 660، 2 /
350 ط. دار الكتاب العربي.
(2) مراقي الفلاح 260، الاختيار شرح المختار 1 / 43، 74، فتح القدير 1 /
179، 392، والمهذب 1 / 66، 69، 93 منهاج الطالبين 1 / 179، 180، 208، أسهل
المدارك 1 / 175، 176، 308، 309، جواهر الإكليل 1 / 37، 38، 71، الشرح
الكبير 1 / 200، 201، 307، منار السبيل 1 / 70، 114، نيل المآرب 1 / 120،
المغني مع الشرح الكبير 1 / 650، 660.
(3) حديث: " الطواف بالبيت بمنزلة الصلاة. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 284)
والحاكم (2 / 267) من حديث ابن عباس، واللفظ للحاكم، وصححه ووافقه الذهبي.
(29/94)
قَال الطَّحَاوِيُّ: وَالأَْكْثَرُ عَلَى
أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ (1) .
وَانْفَرَدَ الشَّافِعِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ
فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ (2) .
تَطْهِيرُ النَّجَاسَاتِ:
7 - النَّجَاسَاتُ الْعَيْنِيَّةُ لاَ تَطْهُرُ بِحَالٍ، إِذْ أَنَّ
ذَاتَهَا نَجِسَةٌ، بِخِلاَفِ الأَْعْيَانِ الْمُتَنَجِّسَةِ، وَهِيَ
الَّتِي كَانَتْ طَاهِرَةً فِي الأَْصْل وَطَرَأَتْ عَلَيْهَا
النَّجَاسَةُ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهَا (3) .
وَالأَْعْيَانُ مِنْهَا مَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَتِهِ،
وَمِنْهَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ.
وَمِمَّا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَتِهِ: الدَّمُ الْمَسْفُوحُ،
وَالْمَيْتَةُ، وَالْبَوْل وَالْعَذِرَةُ مِنَ الآْدَمِيِّ (4) .
وَمِمَّا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ: الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ، حَيْثُ
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى الْقَوْل بِنَجَاسَةِ
__________
(1) مراقي الفلاح 397، فتح القدير 2 / 244، حاشية الدسوقي 2 / 31، المحلي
على المنهاج 2 / 103، كشاف القناع 2 / 485، المغني 3 / 377.
(2) المحلي على المنهاج 1 / 281، البجيرمي علىالخطيب 2 / 179 ط. مصطفى
الحلبي 1951م.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 60، وكشاف القناع 1 / 29.
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 212، تبيين الحقائق 1 / 71 وما بعدها، الفتاوى
الهندية 1 / 46، حاشية الدسوقي 1 / 49، 53، 56 وما بعدها، نهاية المحتاج 1
/ 217 وما بعدها، كشاف القناع 1 / 192، 193.
(29/94)
الْخِنْزِيرِ كَمَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى نَجَاسَةِ الْكَلْبِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ فِي
الأَْصَحِّ: إِنَّ الْكَلْبَ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا
لَحْمُهُ نَجِسٌ.
وَلِمَعْرِفَةِ مَا يُعْتَبَرُ نَجِسًا أَوْ غَيْرَ نَجِسٍ يُنْظَرُ
مُصْطَلَحُ: (نَجَاسَة) .
النِّيَّةُ فِي التَّطْهِيرِ مِنَ النَّجَاسَاتِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّطْهِيرَ مِنَ النَّجَاسَةِ لاَ
يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ، فَلَيْسَتِ النِّيَّةُ بِشَرْطٍ فِي طَهَارَةِ
الْخَبَثِ، وَيَطْهُرُ مَحَل النَّجَاسَةِ بِغَسْلِهِ بِلاَ نِيَّةٍ؛
لأَِنَّ الطَّهَارَةَ عَنِ النَّجَاسَةِ مِنْ بَابِ التُّرُوكِ، فَلَمْ
تَفْتَقِرْ إِلَى النِّيَّةِ كَمَا عَلَّلَهُ الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَلأَِنَّ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ تَعَبُّدٌ غَيْرُ مَعْقُول الْمَعْنَى.
وَقَال الْبَابَرْتِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الْمَاءُ طَهُورٌ بِطَبْعِهِ،
فَإِذَا لاَقَى النَّجِسَ طَهَّرَهُ قَصَدَ الْمُسْتَعْمِل ذَلِكَ أَوْ
لاَ، كَالثَّوْبِ النَّجِسِ (1) .
مَا تَحْصُل بِهِ الطَّهَارَةُ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُطْلَقَ رَافِعٌ
لِلْحَدَثِ مُزِيلٌ لِلْخَبَثِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {
__________
(1) العناية بهامش فتح القدير 1 / 21 ط. الأميرية 1315هـ، حاشية الدسوقي 1
/ 78، المهذب 1 / 21، كشاف القناع 1 / 86.
(29/95)
وَيُنَزِّل عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} (1) وَلِحَدِيثِ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِحْدَانَا يُصِيبُ ثَوْبَهَا مِنْ
دَمِ الْحَيْضَةِ، كَيْفَ تَصْنَعُ بِهِ؟ قَال: تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ
بِالْمَاءِ، ثُمَّ تَنْضَحُهُ، ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ (2) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَطْهِيرُ
النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَبِكُل مَائِعٍ طَاهِرٍ قَالِعٍ،
كَالْخَل وَمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ مِمَّا إِذَا عُصِرَ انْعَصَرَ،
لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ:
(مَا كَانَ لإِِحْدَانَا إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ تَحِيضُ فِيهِ، فَإِذَا
أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ قَالَتْ بِرِيقِهَا، فَقَصَعَتْهُ بِظُفْرِهَا)
(3) أَيْ حَكَّتْهُ. وَلأَِنَّهُ مُزِيلٌ بِطَبْعِهِ، فَوَجَبَ أَنْ
يُفِيدَ الطَّهَارَةَ كَالْمَاءِ بَل أَوْلَى؛ لأَِنَّهُ أَقْلَعُ لَهَا،
وَلأَِنَّا نُشَاهِدُ وَنَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمَائِعَ يُزِيل
شَيْئًا مِنَ النَّجَاسَةِ فِي كُل مَرَّةٍ، وَلِهَذَا يَتَغَيَّرُ لَوْنُ
الْمَاءِ بِهِ، وَالنَّجَاسَةُ مُتَنَاهِيَةٌ، لأَِنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ
__________
(1) سورة الأنفال / 11.
(2) حديث أسماء: " جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إحدانا
يصيب ثوبها من دم الحيضة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 331) ومسلم
(1 / 240) واللفظ لمسلم.
(3) حديث عائشة: " ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه. . . ". أخرجه
البخاري (فتح الباري 1 / 413) .
(29/95)
جَوَاهِرَ مُتَنَاهِيَةٍ، فَإِذَا
انْتَهَتْ أَجْزَاؤُهَا بَقِيَ الْمَحَل طَاهِرًا لِعَدَمِ الْمُجَاوَرَةِ
(1) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَهَارَةِ الْخَمْرِ بِالاِسْتِحَالَةِ،
فَإِذَا انْقَلَبَتِ الْخَمْرُ خَلًّا بِنَفْسِهَا فَإِنَّهَا تَطْهُرُ،
لأَِنَّ نَجَاسَتَهَا لِشِدَّتِهَا الْمُسْكِرَةِ الْحَادِثَةِ لَهَا،
وَقَدْ زَال ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَجَاسَةٍ خَلَفَتْهَا، فَوَجَبَ أَنْ
تَطْهُرَ، كَالْمَاءِ الَّذِي تَنَجَّسَ بِالتَّغَيُّرِ إِذَا زَال
تَغَيُّرُهُ بِنَفْسِهِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ
يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ (3) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا دُبِغَ الإِْهَابُ فَقَدْ طَهُرَ (4) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ طَهَارَةِ جِلْدِ
الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغِ (5) . لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُكَيْمٍ قَال: أَتَانَا كِتَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بِأَرْضِ جُهَيْنَةَ، قَال: وَأَنَا غُلاَمٌ - قَبْل وَفَاتِهِ
بِشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ: أَنْ لاَ تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ
بِإِهَابٍ وَلاَ عَصَبٍ (6) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 133، تبيين الحقائق 1 / 69، 70، الشرح الكبير 1 / 33،
34، القليوبي وعميرة 1 / 18 كشاف القناع 1 / 25، 181.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 209، حاشية الدسوقي 1 / 52، القليوبي وعميرة 1 /
72 كشاف القناع 1 / 186، 187.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 209، القليوبي وعميرة 1 / 72، 73.
(4) حديث: " إذا دبغ الإهاب فقد طهر ". أخرجه مسلم (1 / 277) من حديث ابن
عباس.
(5) حاشية الدسوقي 1 / 54، كشاف القناع 1 / 54.
(6) (6) حديث عبد الله بن حكيم: " أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم. . . ". أخرجه أحمد (4 / 310) وأخرجه كذلك غيره، وأورده ابن حجر في
التلخيص (1 / 47 - 48) وذكر أن فيه اضطرابا في سنده ومنته.
(29/96)
وَعَدَّ الْحَنَفِيَّةُ مِنَ
الْمُطَهِّرَاتِ: الدَّلْكَ، وَالْفَرْكَ، وَالْمَسْحَ، وَالْيُبْسَ،
وَانْقِلاَبَ الْعَيْنِ، فَيَطْهُرُ الْخُفُّ وَالنَّعْل إِذَا تَنَجَّسَ
بِذِي جِرْمٍ بِالدَّلْكِ، وَالْمَنِيُّ الْيَابِسُ بِالْفَرْكِ،
وَيَطْهُرُ الصَّقِيل كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ بِالْمَسْحِ، وَالأَْرْضُ
الْمُتَنَجِّسَةُ بِالْيُبْسِ، وَالْخِنْزِيرُ وَالْحِمَارُ بِانْقِلاَبِ
الْعَيْنِ، كَمَا لَوْ وَقَعَا فِي الْمَمْلَحَةِ فَصَارَا مِلْحًا (1) .
الْمِيَاهُ الَّتِي يَجُوزُ التَّطْهِيرُ بِهَا، وَاَلَّتِي لاَ يَجُوزُ:
10 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْمَاءَ مِنْ حَيْثُ جَوَازُ التَّطْهِيرِ بِهِ
وَرَفْعُهُ لِلْحَدَثِ وَالْخَبَثِ، أَوْ عَدَمُ ذَلِكَ، إِلَى عِدَّةِ
أَقْسَامٍ:
أ - مَاءٌ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَهُوَ الْمَاءُ
الْمُطْلَقُ، وَهُوَ الْمَاءُ الْبَاقِي عَلَى خِلْقَتِهِ، أَوْ هُوَ
الَّذِي لَمْ يُخَالِطْهُ مَا يَصِيرُ بِهِ مُقَيَّدًا.
وَالْمَاءُ الْمُطْلَقُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَالْخَبَثَ بِاتِّفَاقِ
الْفُقَهَاءِ. وَيُلْحَقُ بِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مَا
تَغَيَّرَ بِطُول مُكْثِهِ، أَوْ بِمَا هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْهُ
كَالطُّحْلُبِ (2) .
ب - مَاءٌ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ مَكْرُوهٌ، وَخَصَّ كُل مَذْهَبٍ هَذَا
الْقِسْمَ بِنَوْعٍ مِنَ الْمِيَاهِ:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 206 وما بعدها، تبيين الحقائق 1 / 70 وما بعدها.
(2) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 13، حاشية الدسوقي 1 / 33، 34
القليوبي وعميرة 1 / 18، كشاف القناع 1 / 25.
(29/96)
فَخَصَّ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِالْمَاءِ
الَّذِي شَرِبَ مِنْهُ حَيَوَانٌ مِثْل الْهِرَّةِ الأَْهْلِيَّةِ
وَالدَّجَاجَةِ الْمُخْلاَةِ وَسِبَاعِ الطَّيْرِ وَالْحَيَّةِ
وَالْفَأْرَةِ، وَكَانَ قَلِيلاً، وَالْكَرَاهَةُ تَنْزِيهِيَّةٌ عَلَى
الأَْصَحُّ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكَرْخِيُّ مُعَلِّلاً ذَلِكَ
بِعَدَمِ تَحَامِيهَا النَّجَاسَةَ، ثُمَّ إِنَّ الْكَرَاهَةَ إِنَّمَا
هِيَ عِنْدَ وُجُودِ الْمُطْلَقِ، وَإِلاَّ فَلاَ كَرَاهَةَ أَصْلاً.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا اسْتُعْمِل فِي رَفْعِ
حَدَثٍ أَوْ فِي إِزَالَةِ حُكْمِ خَبَثٍ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ
اسْتِعْمَالُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي طَهَارَةِ حَدَثٍ كَوُضُوءٍ أَوِ
اغْتِسَالٍ مَنْدُوبٍ لاَ فِي إِزَالَةِ حُكْمِ خَبَثٍ، وَالْكَرَاهَةُ
مُقَيَّدَةٌ بِأَمْرَيْنِ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل
قَلِيلاً كَآنِيَةِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْل، وَأَنْ يُوجَدَ غَيْرُهُ،
وَإِلاَّ فَلاَ كَرَاهَةَ، كَمَا يُكْرَهُ عِنْدَهُمُ الْمَاءُ الْيَسِيرُ
- وَهُوَ مَا كَانَ قَدْرَ آنِيَةِ الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْل فَمَا
دُونَهَا - إِذَا حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ قَلِيلَةٌ كَالْقَطْرَةِ وَلَمْ
تُغَيِّرْهُ، قَال الدُّسُوقِيُّ: الْكَرَاهَةُ مُقَيَّدَةٌ بِقُيُودٍ
سَبْعَةٍ: أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الَّذِي حَلَّتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ
يَسِيرًا، وَأَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ الَّتِي حَلَّتْ فِيهِ قَطْرَةٌ
فَمَا فَوْقَهَا، وَأَنْ لاَ تُغَيِّرَهُ، وَأَنْ يُوجَدَ غَيْرُهُ، وَأَنْ
لاَ يَكُونَ لَهُ مَادَّةٌ كَبِئْرٍ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ جَارِيًا، وَأَنْ
يُرَادَ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى طَهُورٍ، كَرَفْعِ حَدَثٍ
حُكْمَ خَبَثٍ وَوُضُوءٍ أَوْ غُسْلٍ مَنْدُوبٍ، فَإِنِ انْتَفَى قَيْدٌ
مِنْهَا فَلاَ كَرَاهَةَ.
(29/97)
وَمِنَ الْمَكْرُوهِ أَيْضًا: الْمَاءُ
الْيَسِيرُ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ كَلْبٌ وَلَوْ تَحَقَّقَتْ سَلاَمَةٌ
فِيهِ مِنَ النَّجَاسَةِ، وَسُؤْرُ شَارِبِ الْخَمْرِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْمَاءُ الْمَكْرُوهُ ثَمَانِيَةٌ:
الْمُشَمَّسُ، وَشَدِيدُ الْحَرَارَةِ، وَشَدِيدُ الْبُرُودَةِ، وَمَاءُ
دِيَارِ ثَمُودَ إِلاَّ بِئْرُ النَّاقَةِ، وَمَاءُ دِيَارِ قَوْمِ لُوطٍ،
وَمَاءُ بِئْرِ بَرَهُوتَ، وَمَاءُ أَرْضِ بَابِل، وَمَاءُ بِئْرِ
ذَرْوَانَ.
وَالْمَكْرُوهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الْمَاءُ الْمُتَغَيِّرُ بِغَيْرِ
مُمَازِجٍ، كَدُهْنٍ وَقَطِرَانٍ وَقِطَعِ كَافُورٍ، أَوْ مَاءٍ سُخِّنَ
بِمَغْصُوبٍ أَوْ بِنَجَاسَةٍ، أَوِ الْمَاءُ الَّذِي اشْتَدَّ حَرُّهُ
أَوْ بَرْدُهُ، وَالْكَرَاهَةُ مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ الاِحْتِيَاجِ
إِلَيْهِ، فَإِنْ احْتِيجَ إِلَيْهِ تَعَيَّنَ وَزَالَتِ الْكَرَاهَةُ.
وَكَذَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَال مَاءِ الْبِئْرِ الَّذِي فِي الْمَقْبَرَةِ،
وَمَاءٌ فِي بِئْرٍ فِي مَوْضِعِ غَصْبٍ، وَمَا ظُنَّ تَنَجُّسُهُ، كَمَا
نَصُّوا عَلَى كَرَاهَةِ اسْتِعْمَال مَاءِ زَمْزَم فِي إِزَالَةِ
النَّجَاسَةِ دُونَ طَهَارَةِ الْحَدَثِ تَشْرِيفًا لَهُ (1) .
ج - مَاءٌ طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، وَهُوَ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل، وَعَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ: مَا
أُزِيل بِهِ حَدَثٌ أَوِ اسْتُعْمِل فِي الْبَدَنِ عَلَى وَجْهِ
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 13، حاشية الدسوقي 1 / 41 وما
بعدها إلى 43، نهاية المحتاج 1 / 61، القليوبي وعميرة 1 / 19. كشاف القناع
1 / 27، 2 / 28.
(29/97)
الْقُرْبَةِ، وَلاَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ
فِي طَهَارَةِ الأَْحْدَاثِ، بِخِلاَفِ الْخَبَثِ، وَيَصِيرُ مُسْتَعْمَلاً
عِنْدَهُمْ بِمُجَرَّدِ انْفِصَالِهِ عَنِ الْجَسَدِ وَلَوْ لَمْ
يَسْتَقِرَّ بِمَحَلٍّ (1) .
وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ - هُوَ: الْمَاءُ الْمُغَيَّرُ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ
أَوْ رِيحُهُ بِمَا خَالَطَهُ مِنَ الأَْعْيَانِ الطَّاهِرَةِ تَغَيُّرًا
يَمْنَعُ إِطْلاَقَ اسْمِ الْمَاءِ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل فِي فَرْضِ الطَّهَارَةِ
وَنَفْلِهَا عَلَى الْجَدِيدِ.
وَصَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ - بِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ لاَ يَرْفَعُ حُكْمَ الْخَبَثِ
أَيْضًا، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَرْفَعُ حُكْمَ الْخَبَثِ (2) .
د - مَاءٌ نَجِسٌ، وَهُوَ: الْمَاءُ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ
وَكَانَ قَلِيلاً، أَوْ كَانَ كَثِيرًا وَغَيَّرَتْهُ، وَهَذَا لاَ
يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَلاَ النَّجِسَ بِالاِتِّفَاقِ (3) .
هـ - مَاءٌ مَشْكُوكٌ فِي طَهُورِيَّتِهِ، وَانْفَرَدَ بِهَذَا الْقِسْمِ
الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ: مَا شَرِبَ مِنْهُ
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 13، فتح القدير 1 / 58، 61.
(2) الطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 14، حاشية الدسوقي 1 / 37، 38 نهاية
المحتاج 1 / 51 وما بعدها إلى 61، كشاف القناع 1 / 37.
(3) الطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 16، حاشية الدسوقي 1 / 38، نهاية
المحتاج 1 / 63 وما بعدها، كشاف القناع 1 / 38.
(29/98)
بَغْلٌ أَوْ حِمَارٌ (1) .
و مَاءٌ مُحَرَّمٌ لاَ تَصِحُّ الطَّهَارَةُ بِهِ، وَانْفَرَدَ بِهِ
الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ: مَاءُ آبَارِ دِيَارِ ثَمُودَ - غَيْرِ
بِئْرِ النَّاقَةِ - وَالْمَاءُ الْمَغْصُوبُ، وَمَاءٌ ثَمَنُهُ
الْمُعَيَّنُ حَرَامٌ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مِيَاه) .
تَطْهِيرُ مَحَل النَّجَاسَةِ:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَا يَحْصُل بِهِ طَهَارَةُ مَحَل
النَّجَاسَةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ النَّجَاسَةِ
الْمَرْئِيَّةِ وَغَيْرِ الْمَرْئِيَّةِ.
فَإِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَرْئِيَّةً فَإِنَّهُ يَطْهُرُ الْمَحَل
الْمُتَنَجِّسُ بِهَا بِزَوَال عَيْنِهَا وَلَوْ بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ
عَلَى الصَّحِيحِ وَلَوْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ غَلِيظَةً، وَلاَ يُشْتَرَطُ
تَكْرَارُ الْغُسْل، لأَِنَّ النَّجَاسَةَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ عَيْنِهَا،
فَتَزُول بِزَوَالِهَا.
وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ: أَنَّهُ يُغْسَل مَرَّتَيْنِ بَعْدَ زَوَال
الْعَيْنِ، وَعَنْ فَخْرِ الإِْسْلاَمِ: ثَلاَثًا بَعْدَهُ، وَيُشْتَرَطُ
زَوَال الطَّعْمِ فِي النَّجَاسَةِ، لأَِنَّ بَقَاءَهُ يَدُل عَلَى بَقَاءِ
الْعَيْنِ، وَلاَ يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنِ النَّجَاسَةِ الَّذِي يَشُقُّ
زَوَالُهُ، وَكَذَا الرِّيحُ وَإِنْ لَمْ يَشُقَّ زَوَالُهُ.
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 17.
(2) كشاف القناع 1 / 29 - 30.
(29/98)
وَهَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إِذَا صَبَّ
الْمَاءَ عَلَى النَّجَاسَةِ، أَوْ غَسَلَهَا فِي الْمَاءِ الْجَارِي.
أَمَّا لَوْ غَسَلَهَا فِي إِجَّانَةٍ فَيَطْهُرُ بِالثَّلاَثِ إِذَا
عُصِرَ فِي كُل مَرَّةٍ.
وَإِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ
الْمَحَل بِغَسْلِهَا ثَلاَثًا وُجُوبًا، وَالْعَصْرُ كُل مَرَّةٍ فِي
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، تَقْدِيرًا لِغَلَبَةِ الظَّنِّ فِي
اسْتِخْرَاجِهَا.
قَال الطَّحَاوِيُّ: وَيُبَالِغُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ حَتَّى
يَنْقَطِعَ التَّقَاطُرُ، وَالْمُعْتَبَرُ قُوَّةُ كُل عَاصِرٍ دُونَ
غَيْرِهِ، فَلَوْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ عَصَرَ غَيْرَهُ قَطَّرَ طَهُرَ
بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ دُونَ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَلَوْ لَمْ يَصْرِفْ
قُوَّتَهُ لِرِقَّةِ الثَّوْبِ قِيل: يَطْهُرُ لِلضَّرُورَةِ. وَهُوَ
الأَْظْهَرُ، وَقِيل: لاَ يَطْهُرُ وَهُوَ اخْتِيَارُ قَاضِي خَانْ.
وَفِي رِوَايَةٍ: يُكْتَفَى بِالْعَصْرِ مَرَّةً.
ثُمَّ إِنَّ اشْتِرَاطَ الْغَسْل وَالْعَصْرِ ثَلاَثًا إِنَّمَا هُوَ إِذَا
غَمَسَهُ فِي إِجَّانَةٍ، أَمَّا إِذَا غَمَسَهُ فِي مَاءٍ جَارٍ حَتَّى
جَرَى عَلَيْهِ الْمَاءُ أَوْ صُبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ كَثِيرٌ، بِحَيْثُ
يَخْرُجُ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْمَاءِ وَيَخْلُفُ غَيْرُهُ ثَلاَثًا،
فَقَدْ طَهُرَ مُطْلَقًا بِلاَ اشْتِرَاطِ عَصْرٍ وَتَكْرَارِ غَمْسٍ.
وَيُقْصَدُ بِالنَّجَاسَةِ الْمَرْئِيَّةِ عِنْدَهُمْ: مَا يُرَى
(29/99)
بَعْدَ الْجَفَافِ، وَغَيْرُ
الْمَرْئِيَّةِ: مَا لاَ يُرَى بَعْدَهُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَطْهُرُ مَحَل النَّجَاسَةِ
بِغَسْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدِ عَدَدٍ، بِشَرْطِ زَوَال طَعْمِ
النَّجَاسَةِ وَلَوْ عَسُرَ، لأَِنَّ بَقَاءَ الطَّعْمِ دَلِيلٌ عَلَى
تَمَكُّنِ النَّجَاسَةِ مِنَ الْمَحَل فَيُشْتَرَطُ زَوَالُهُ، وَكَذَلِكَ
يُشْتَرَطُ زَوَال اللَّوْنِ وَالرِّيحِ إِنْ تَيَسَّرَ. ذَلِكَ، بِخِلاَفِ
مَا إِذَا تَعَسَّرَ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ
النَّجَاسَةُ عَيْنًا أَوْ لَيْسَتْ بِعَيْنٍ.
فَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ عَيْنًا فَإِنَّهُ يَجِبُ إِزَالَةُ
الطَّعْمِ، وَمُحَاوَلَةُ إِزَالَةِ اللَّوْنِ وَالرِّيحِ، فَإِنْ عَسِرَ
زَوَال الطَّعْمِ، بِأَنْ لَمْ يَزُل بِحَتٍّ أَوْ قَرْصٍ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ
عُفِيَ عَنْهُ مَا دَامَ الْعُسْرُ، وَيَجِبُ إِزَالَتُهُ إِذَا قَدَرَ،
وَلاَ يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنٍ أَوْ رِيحٍ عَسُرَ زَوَالُهُ فَيُعْفَى
عَنْهُ، فَإِنْ بَقِيَا مَعًا ضَرَّ عَلَى الصَّحِيحِ، لِقُوَّةِ
دَلاَلَتِهِمَا عَلَى بَقَاءِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ.
وَإِنْ لَمْ تَكُنِ النَّجَاسَةُ عَيْنًا - وَهِيَ مَا لاَ يُدْرَكُ لَهَا
عَيْنٌ وَلاَ وَصْفٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَدَمُ الإِْدْرَاكِ لِخَفَاءِ
أَثَرِهَا بِالْجَفَافِ، كَبَوْلٍ جَفَّ فَذَهَبَتْ عَيْنُهُ وَلاَ أَثَرَ
لَهُ وَلاَ رِيحَ، فَذَهَبَ وَصْفُهُ، أَمْ لاَ، لِكَوْنِ الْمَحَل
صَقِيلاً لاَ تَثْبُتُ
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 85، 86، وابن عابدين 1 / 219.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 78 - 80.
(29/99)
عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ كَالْمِرْآةِ
وَالسَّيْفِ - فَإِنَّهُ يَكْفِي جَرْيُ الْمَاءِ عَلَيْهِ مَرَّةً، وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ بِفِعْل فَاعِلٍ كَمَطَرٍ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تَطْهُرُ الْمُتَنَجِّسَاتُ
بِسَبْعِ غَسَلاَتٍ مُنَقِّيَةٍ، لِقَوْل ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُمَا: أُمِرْنَا أَنْ نَغْسِل الأَْنْجَاسَ سَبْعًا (2)
وَقَدْ أُمِرَ بِهِ فِي نَجَاسَةِ الْكَلْبِ، فَيُلْحَقُ بِهِ سَائِرُ
النَّجَاسَاتِ، لأَِنَّهَا فِي مَعْنَاهَا، وَالْحُكْمُ لاَ يَخْتَصُّ
بِمَوْرِدِ النَّصِّ، بِدَلِيل إِلْحَاقِ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ بِهِ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: فَعَلَى هَذَا يُغْسَل مَحَل الاِسْتِنْجَاءِ سَبْعًا
كَغَيْرِهِ، صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي وَالشِّيرَازِيُّ وَابْنُ عَقِيلٍ،
وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ، لَكِنْ نَصَّ فِي
رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَاخْتَارَهُ فِي الْمُغْنِي: أَنَّهُ لاَ يَجِبُ
فِيهِ عَدَدٌ، اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، لاَ فِي قَوْلِهِ
وَلاَ فِعْلِهِ.
وَيَضُرُّ عِنْدَهُمْ بَقَاءُ الطَّعْمِ، لِدَلاَلَتِهِ عَلَى بَقَاءِ
الْعَيْنِ وَلِسُهُولَةِ إِزَالَتِهِ وَيَضُرُّ كَذَلِكَ بَقَاءُ اللَّوْنِ
أَوِ الرِّيحِ أَوْ هُمَا مَعًا إِنْ تَيَسَّرَ إِزَالَتُهُمَا، فَإِنْ
عَسُرَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّ (3) .
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 241، القليوبي وعميرة 1 / 75.
(2) قول ابن عمر: " أمرنا بغسل الأنجاس. . . " ورد من قوله بلفظ " كانت
الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرار، وغسل البول من الثوب سبع مرار "
أخرجه أبو داود (1 / 171) وذكره ابن قدامة في المغني (1 / 54) وأعله بضعف
أحد رواته.
(3) كشاف القناع 1 / 183.
(29/100)
وَهَذَا فِي غَيْرِ نَجَاسَةِ الْكَلْبِ
وَالْخِنْزِيرِ، أَمَّا نَجَاسَتُهُمَا فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهَا تَفْصِيلٌ
آخَرُ سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
تَطْهِيرُ مَا تُصِيبُهُ الْغُسَالَةُ قَبْل طَهَارَةِ الْمَغْسُول:
12 - الْغُسَالَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ بِأَحَدِ أَوْصَافِ النَّجَاسَةِ
نَجِسَةٌ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ
الْمَاءَ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ
وَلَوْنِهِ وَطَعْمِهِ (1) . قَال الْخَرَشِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ:
سَوَاءٌ كَانَ تَغَيُّرُهَا بِالطَّعْمِ أَوِ اللَّوْنِ وَالرِّيحِ وَلَوِ
الْمُتَعَسِّرَيْنِ، وَمِنْ ثَمَّ يَنْجُسُ الْمَحَل الَّذِي تُصِيبُهُ
الْغُسَالَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ، وَيَكُونُ تَطْهِيرُهُ كَتَطْهِيرِ أَيِّ
مَحَلٍّ مُتَنَجِّسٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
لَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لاَ يَطْهُرُ الْمَحَل
الْمُتَنَجِّسُ إِلاَّ بِغُسْلِهِ سَبْعًا، فَيُغْسَل عِنْدَهُمْ مَا
نَجِسَ بِبَعْضِ الْغَسَلاَتِ بِعَدَدِ مَا بَقِيَ بَعْدَ تِلْكَ
الْغَسْلَةِ، فَلَوْ تَنَجَّسَ بِالْغَسْلَةِ الرَّابِعَةِ مَثَلاً غُسِل
ثَلاَثَ غَسَلاَتٍ لأَِنَّهَا نَجَاسَةٌ تَطْهُرُ فِي مَحَلِّهَا بِمَا
بَقِيَ مِنَ الْغَسَلاَتِ، فَطَهُرَتْ بِهِ فِي مِثْلِهِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْغُسَالَةَ غَيْرَ الْمُتَغَيِّرَةِ
طَاهِرَةٌ، قَال الدَّرْدِيرُ: لَوْ غُسِلَتْ قَطْرَةُ بَوْلٍ مَثَلاً
__________
(1) حديث: " إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه. . . ". أخرجه ابن
ماجه (1 / 174) من حديث أبي أمامة، وأورده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 /
131) وذكر تضعيف أحد رواته.
(29/100)
فِي جَسَدٍ أَوْ ثَوْبٍ وَسَالَتْ غَيْرَ
مُتَغَيِّرَةٍ فِي سَائِرِهِ وَلَمْ تَنْفَصِل عَنْهُ كَانَ طَاهِرًا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الْغُسَالَةُ غَيْرُ الْمُتَغَيِّرَةِ إِنْ
كَانَتْ قُلَّتَيْنِ فَطَاهِرَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَهُمَا فَثَلاَثَةُ
أَقْوَالٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَظْهَرُهَا: أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ
الْمَحَل بَعْدَ الْغَسْل، إِنْ كَانَ نَجِسًا بَعْدُ فَنَجِسَةٌ، وَإِلاَّ
فَطَاهِرَةٌ غَيْرُ مُطَهِّرَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
الْجَدِيدِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ غُسِلَتْ بِالطَّهُورِ نَجَاسَةٌ فَانْفَصَل
مُتَغَيِّرًا بِهَا، أَوِ انْفَصَل غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ قَبْل زَوَال
النَّجَاسَةِ، كَالْمُنْفَصِل مِنَ الْغَسْلَةِ السَّادِسَةِ فَمَا
دُونَهَا وَهُوَ يَسِيرٌ فَنَجِسٌ؛ لأَِنَّهُ مُلاَقٍ لِنَجَاسَةٍ لَمْ
يُطَهِّرْهَا.
وَإِنِ انْفَصَل الْقَلِيل غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ بَعْدَ زَوَال النَّجَاسَةِ،
كَالْمُنْفَصِل عَنْ مَحَلٍّ طَهُرَ أَرْضًا كَانَ الْمَحَل أَوْ
غَيْرُهَا، فَطَهُورٌ إِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَإِنْ كَانَ
دُونَ قُلَّتَيْنِ فَطَاهِرٌ (1) .
تَطْهِيرُ الآْبَارِ:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَ مَاءُ
الْبِئْرِ، فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِالتَّكْثِيرِ إِلَى أَنْ يَزُول
التَّغَيُّرُ، وَيَكُونُ التَّكْثِيرُ بِالتَّرْكِ حَتَّى يَزِيدَ الْمَاءُ
وَيَصِل إِلَى حَدِّ الْكَثْرَةِ، أَوْ بِصَبِّ مَاءٍ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 17، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 80، الخرشي
على خليل 1 / 115، روضة الطالبين 1 / 34، كشاف القناع 1 / 36، 184.
(29/101)
طَاهِرٍ فِيهِ حَتَّى يَصِل هَذَا
الْحَدَّ.
كَمَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اعْتِبَارِ النَّزْحِ
طَرِيقًا لِلتَّطْهِيرِ أَيْضًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَ مَاءُ الْبِئْرِ
فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِالنَّزَحِ فَقَطْ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (آبَار ف 21 وَمَا بَعْدَهَا) .
الْوُضُوءُ وَالاِغْتِسَال فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ:
14 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْوُضُوءَ وَالاِغْتِسَال
فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ مَكْرُوهٌ خَشْيَةَ أَنْ يَتَنَجَّسَ بِهِ
الْمُتَوَضِّئُ أَوِ الْمُغْتَسِل، وَتَوَقِّي ذَلِكَ كُلِّهِ أَوْلَى،
وَلأَِنَّهُ يُورِثُ الْوَسْوَسَةَ (2) فَفِي الْحَدِيثِ: لاَ يَبُولَنَّ
أَحَدُكُمْ فِي مُسْتَحَمِّهِ، ثُمَّ يَغْتَسِل أَوْ يَتَوَضَّأُ فِيهِ،
فَإِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ (3) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 68 ط. الأميرية 1315 هـ. حاشية الدسوقي 1 / 46، أسنى
المطالب 1 / 13، 16، كشاف القناع 1 / 40.
(2) ابن عابدين 1 / 240 الثالثة المطبعة الكبرى الأميرية 1323هـ، مراقي
الفلاح ص 14، 20، 30، والاختيار شرح المختار 1 / 11 ط. مصطفى الحلبي 1936
م، وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك للكشناوي 1 / 93، 115 دار الفكر، وجواهر
الإكليل 1 / 16، والشرح الكبير 1 / 100، وروضة الطالبين 1 / 63 المكتب
الإسلامي، والإقناع للشربيني الخطيب 1 / 66، والمغني لابن قدامة مع الشرح 1
/ 86، 87، ومنار السبيل في شرح الدليل 1 / 41 المكتب الإسلامي.
(3) حديث: " لا يبولن أحدكم في مستحمه. . . ". أخرجه الترمذي (1 / 33) وأبو
داود (1 / 29) من حديث عبد الله بن مغفل، واللفظ لأبي داود، واستغربه
الترمذي.
(29/101)
تَطْهِيرُ الْجَامِدَاتِ وَالْمَائِعَاتِ:
15 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَتْ النَّجَاسَةُ فِي
جَامِدٍ، كَالسَّمْنِ الْجَامِدِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ
بِرَفْعِ النَّجَاسَةِ وَتَقْوِيرِ مَا حَوْلَهَا وَطَرْحِهِ، وَيَكُونُ
الْبَاقِي طَاهِرًا، لِمَا رَوَتْ مَيْمُونَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل
عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ فَقَال: أَلْقُوهَا، وَمَا حَوْلَهَا
فَاطْرَحُوهُ، وَكُلُوا سَمْنَكُمْ (1) .
وَإِذَا وَقَعَتِ النَّجَاسَةُ فِي مَائِعٍ فَإِنَّهُ يُنَجَّسُ، وَلاَ
يَطْهُرُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَيُرَاقُ، لِحَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ
فَقَال: إِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ
مَائِعًا فَلاَ تَقْرَبُوهُ وَفِي رِوَايَةٍ وَإِنْ كَانَ مَائِعًا
فَأَرِيقُوهُ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى إِمْكَانِ تَطْهِيرِهِ بِالْغَلْيِ،
وَذَلِكَ بِأَنْ يُوضَعَ فِي مَاءٍ وَيَغْلِي، فَيَعْلُو الدُّهْنُ
الْمَاءَ، فَيُرْفَعُ بِشَيْءٍ، وَهَكَذَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَوْسَعُ
وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ.
وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ
__________
(1) حديث ميمونة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة. . . ".
أخرج البخاري (فتح الباري 1 / 343) .
(2) حديث أبي هريرة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الفأرة. . . "
أخرجه أحمد (2 / 265) .
(29/102)
الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ مَا يَتَأَتَّى
تَطْهِيرُهُ بِالْغَلْيِ - كَالزَّيْتِ - يَطْهُرُ بِهِ كَالْجَامِدِ،
وَطَرِيقَةُ ذَلِكَ: جَعْلُهُ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ يُخَاضُ فِيهِ، حَتَّى
يُصِيبَ الْمَاءُ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ، ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَعْلُوَ
عَلَى الْمَاءِ، فَيُؤْخَذُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ يَطْهُرُ
غَيْرُ الْمَاءِ مِنَ الْمَائِعَاتِ بِالتَّطْهِيرِ فِي قَوْل الْقَاضِي
وَابْنِ عَقِيلٍ، قَال ابْنُ عَقِيلٍ: إِلاَّ الزِّئْبَقَ، فَإِنَّهُ
لِقُوَّتِهِ وَتَمَاسُكِهِ يَجْرِي مَجْرَى الْجَامِدِ. وَاسْتَدَل ابْنُ
قُدَامَةَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل
عَنِ السَّمْنِ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ، فَقَال: إِنْ كَانَ
مَائِعًا فَلاَ تَقْرَبُوهُ، وَلَوْ كَانَ إِلَى تَطْهِيرِهِ طَرِيقٌ لَمْ
يَأْمُرْ بِإِرَاقَتِهِ (1) .
تَطْهِيرُ الْمِيَاهِ النَّجِسَةِ:
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَطْهِيرَ
الْمِيَاهِ النَّجِسَةِ يَكُونُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا
وَمُكَاثَرَتِهَا حَتَّى يَزُول التَّغَيُّرُ.
وَلَوْ زَال التَّغَيُّرُ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِنَزْحِ بَعْضِهِ، فَعِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ قَوْلاَنِ، قِيل: إِنَّ الْمَاءَ يَعُودُ طَهُورًا،
وَقِيل: بِاسْتِمْرَارِ نَجَاسَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الأَْرْجَحُ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين (1 / 222) ، فتح القدير 1 / 147، الشرح الكبير 1 /
58، 59، المهذب 1 / 56، 57 المغني لابن قدامة 1 / 37.
(29/102)
قَال الدُّسُوقِيُّ: لأَِنَّ النَّجَاسَةَ
لاَ تُزَال إِلاَّ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَلَيْسَ حَاصِلاً، وَحِينَئِذٍ
فَيَسْتَمِرُّ بَقَاءُ النَّجَاسَةِ.
وَمَحَل الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ الَّذِي زَال تَغَيُّرُهُ
بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَزْحِ بَعْضِهِ، أَمَّا الْقَلِيل فَإِنَّهُ بَاقٍ
عَلَى تَنَجُّسِهِ بِلاَ خِلاَفٍ.
كَمَا يَطْهُرُ الْمَاءُ النَّجِسُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَوْ زَال
تَغَيُّرُهُ بِإِضَافَةِ طَاهِرٍ، وَبِإِلْقَاءِ طِينٍ أَوْ تُرَابٍ إِنْ
زَال أَثَرُهُمَا، أَيْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ أَوْصَافِهِمَا فِيمَا
أُلْقِيَا فِيهِ، أَمَّا إِنْ وُجِدَ فَلاَ يَطْهُرُ، لاِحْتِمَال بَقَاءِ
النَّجَاسَةِ مَعَ بَقَاءِ أَثَرِهِمَا (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّ الْمَاءَ إِنْ
بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ لاَ يَنْجُسُ إِلاَّ إِذَا غَيَّرَتْهُ
النَّجَاسَةُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِل الْخَبَثَ (2) وَقَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمَاءَ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ
إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ (3) وَتَطْهِيرُهُ
حِينَئِذٍ يَكُونُ بِزَوَال التَّغَيُّرِ، سَوَاءٌ زَال التَّغَيُّرُ
بِنَفْسِهِ: كَأَنْ زَال بِطُول الْمُكْثِ، أَوْ بِإِضَافَةِ مَاءٍ
إِلَيْهِ.
قَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَهَذَا فِي التَّغَيُّرِ الْحِسِّيِّ،
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 18، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 46، 47.
(2) حديث: " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث. . . ". أخرجه الدارقطني (1
/ 21) والحاكم (1 / 132) من حديث ابن عمر واللفظ للدارقطني، وصححه الحاكم
ووافقه الذهبي.
(3) حديث: " لا ينجسه شيء. . . ". تقدم تخريجه ف 12.
(29/103)
وَأَمَّا التَّقْدِيرِيُّ: كَمَا لَوْ
وَقَعَ فِي الْمَاءِ نَجِسٌ لاَ وَصْفَ لَهُ فَيُقَدَّرُ مُخَالِفًا
أَشَدَّ، كَلَوْنِ الْحِبْرِ وَطَعْمِ الْخَل وَرِيحِ الْمِسْكِ، فَإِنْ
غَيَّرَهُ فَنَجِسٌ، وَيُعْتَبَرُ الْوَصْفُ الْمُوَافِقُ لِلْوَاقِعِ،
وَيُعْرَفُ زَوَال التَّغَيُّرِ مِنْهُ بِزَوَال نَظِيرِهِ مِنْ مَاءٍ
آخَرَ، أَوْ بِضَمِّ مَاءٍ إِلَيْهِ لَوْ ضُمَّ لِلْمُتَغَيِّرِ حِسًّا
لَزَال، أَوْ بَقِيَ زَمَنًا ذَكَرَ أَهْل الْخِبْرَةِ أَنَّهُ يَزُول بِهِ
الْحِسِّيُّ.
وَلاَ يَطْهُرُ الْمَاءُ إِنْ زَال التَّغَيُّرُ بِمِسْكٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ
أَوْ خَلٍّ، لِلشَّكِّ فِي أَنَّ التَّغَيُّرَ زَال أَوِ اسْتَتَرَ،
وَالظَّاهِرُ الاِسْتِتَارُ، مِثْل ذَلِكَ زَوَال التَّغَيُّرِ
بِالتُّرَابِ وَالْجِصِّ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ نُزِحَ مِنَ الْمَاءِ
الْمُتَنَجِّسِ الْكَثِيرُ، وَبَقِيَ بَعْدَ الْمَنْزُوحِ كَثِيرٌ غَيْرُ
مُتَغَيِّرٍ، فَإِنَّهُ يَطْهُرُ لِزَوَال عِلَّةِ تَنَجُّسِهِ، وَهِيَ
التَّغَيُّرُ. وَكَذَا الْمَنْزُوحُ الَّذِي زَال مَعَ نَزْحِهِ
التَّغَيُّرُ طَهُورٌ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ فِيهِ.
وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ يَنْجُسُ
بِمُلاَقَاةِ النَّجَاسَةِ وَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْهُ، وَتَطْهِيرُهُ يَكُونُ
بِإِضَافَةِ الْمَاءِ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْقُلَّتَيْنِ وَلاَ
تُغَيَّرُ بِهِ وَلَوْ كُوثِرَ بِإِيرَادِ طَهُورٍ فَلَمْ يَبْلُغْ
الْقُلَّتَيْنِ لَمْ يَطْهُرْ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (مِيَاه) .
__________
(1) القليوبي وعميرة على شرح المحلي 1 / 21، 22، الروض المربع 1 / 11، 13،
كشاف القناع 1 / 41، 42.
(29/103)
تَطْهِيرُ الأَْوَانِي الْمُتَّخَذَةِ مِنْ
عِظَامِ الْمَيْتَاتِ:
17 - الآْنِيَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ عَظْمِ حَيَوَانٍ مَأْكُول اللَّحْمِ
مُذَكًّى يَحِل اسْتِعْمَالُهَا.
وَأَمَّا الآْنِيَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ حَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُول
اللَّحْمِ فَفِيهَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (آنِيَة)
ج 1 ف 10 وَمَا بَعْدَهَا.
تَطْهِيرُ مَا كَانَ أَمْلَسَ السَّطْحِ:
18 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا
أَصَابَتِ النَّجَاسَةُ شَيْئًا صَقِيلاً - كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ -
فَإِنَّهُ لاَ يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ، لِعُمُومِ
الأَْمْرِ بِغَسْل الأَْنْجَاسِ، وَالْمَسْحُ لَيْسَ غَسْلاً.
قَال الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ قُطِعَ بِالسَّيْفِ
الْمُتَنَجِّسِ وَنَحْوِهِ بَعْدَ مَسْحِهِ وَقَبْل غَسْلِهِ مَا فِيهِ
بَلَلٌ كَبِطِّيخٍ وَنَحْوِهِ نَجَّسَهُ، لِمُلاَقَاةِ الْبَلَل
لِلنَّجَاسَةِ، فَإِنْ كَانَ مَا قَطَعَهُ بِهِ رَطْبًا لاَ بَلَل فِيهِ
كَجُبْنٍ وَنَحْوِهِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، كَمَا لَوْ قُطِعَ بِهِ يَابِسًا
لِعَدَمِ تَعَدِّي النَّجَاسَةِ إِلَيْهِ.
قَال النَّوَوِيُّ: لَوْ سُقِيَتْ سِكِّينٌ مَاءً نَجِسًا، ثُمَّ غَسَلَهَا
طَهُرَ ظَاهِرُهَا، وَهَل يَطْهُرُ بَاطِنُهَا بِمُجَرَّدِ الْغَسْل أَمْ
لاَ يَطْهُرُ حَتَّى يَسْقِيَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً بِمَاءٍ طَهُورٍ؟
وَجْهَانِ: قَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي بِأَنَّهُ يَجِبُ
سَقْيُهَا مَرَّةً ثَانِيَةً وَاخْتَارَ الشَّاشِيُّ الاِكْتِفَاءَ
بِالْغَسْل، وَهُوَ
(29/104)
الْمَنْصُوصُ عَنِ الشَّافِعِيِّ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا كَانَ أَمْلَسَ السَّطْحِ،
كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ وَنَحْوِهِمَا، إِنْ أَصَابَهُ نَجِسٌ فَإِنَّ
تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِالْمَسْحِ بِحَيْثُ يَزُول أَثَرُ النَّجَاسَةِ،
لأَِنَّ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانُوا يَقْتُلُونَ الْكُفَّارَ بِسُيُوفِهِمْ ثُمَّ يَمْسَحُونَهَا
وَيُصَلُّونَ وَهُمْ يَحْمِلُونَهَا، وَلأَِنَّهُ لاَ يَتَشَرَّبُ
النَّجَاسَةَ، وَمَا عَلَى ظَاهِرِهِ يَزُول بِالْمَسْحِ.
قَال الْكَمَال: وَعَلَيْهِ فَلَوْ كَانَ عَلَى ظُفْرِهِ نَجَاسَةٌ
فَمَسَحَهَا طَهُرَتْ.
فَإِنْ كَانَ بِالصَّقِيل صَدَأٌ يَتَشَرَّبُ مَعَهُ النَّجَاسَةَ، أَوْ
كَانَ ذَا مَسَامَّ تَتَشَرَّبُهَا، فَإِنَّهُ لاَ يَطْهُرُ إِلاَّ
بِالْمَاءِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا كَانَ صُلْبًا صَقِيلاً، وَكَانَ
يُخْشَى فَسَادُهُ بِالْغَسْل كَالسَّيْفِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يُعْفَى
عَمَّا أَصَابَهُ مِنَ الدَّمِ الْمُبَاحِ وَلَوْ كَانَ كَثِيرًا، خَوْفًا
مِنْ إِفْسَادِ الْغَسْل لَهُ.
قَال الدَّرْدِيرُ: وَسَوَاءٌ مَسَحَهُ مِنَ الدَّمِ أَمْ لاَ عَلَى
الْمُعْتَمَدِ، أَيْ خِلاَفًا لِمَنْ عَلَّلَهُ بِانْتِفَاءِ النَّجَاسَةِ
بِالْمَسْحِ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: فَهَذَا التَّعْلِيل يَقْتَضِي أَنَّهُ لاَ يُعْفَى
عَمَّا أَصَابَ السَّيْفَ وَنَحْوَهُ مِنَ الدَّمِ
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 30، كشاف القناع 1 / 184، 185.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 206، فتح القدير 1 / 137، الاختيار 1 / 32 ط.
مصطفى الحلبي 1936م.
(29/104)
الْمُبَاحِ إِلاَّ إِذَا مُسِحَ، وَإِلاَّ
فَلاَ، وَعَلَى الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ يُعْفَى عَمَّا أَصَابَ الظُّفْرَ
وَالْجَسَدَ مِنَ الدَّمِ الْمُبَاحِ لِعَدَمِ فَسَادِهِمَا بِالْغَسْل،
وَعَلَى الْقَوْل الثَّانِي: يُعْفَى عَمَّا أَصَابَهَا مِنْهُ إِذَا
مُسِحَ.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ الْعَفْوَ بِأَنْ يَكُونَ الدَّمُ مُبَاحًا،
أَمَّا الدَّمُ الْعُدْوَانُ فَيَجِبُ الْغَسْل مِنْهُ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: قَال الْعَدَوِيُّ: وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْمُرَادَ
بِالْمُبَاحِ غَيْرُ الْمُحَرَّمِ، فَيَدْخُل فِيهِ دَمٌ مَكْرُوهُ
الأَْكْل إِذَا ذَكَّاهُ بِالسَّيْفِ، وَالْمُرَادُ: الْمُبَاحُ أَصَالَةً،
فَلاَ يَضُرُّ حُرْمَتُهُ لِعَارِضٍ كَقَتْل مُرْتَدٍّ بِهِ، وَقَتْل زَانٍ
أَحْصَنَ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ.
كَمَا قَيَّدُوا الْعَفْوَ بِأَنْ يَكُونَ مَصْقُولاً لاَ خَرْبَشَةَ
فِيهِ، وَإِلاَّ فَلاَ عَفْوَ (1) .
تَطْهِيرُ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ مِنَ الْمَنِيِّ
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ، فَذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى نَجَاسَتِهِ، وَذَهَبَ
الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ طَاهِرٌ.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي كَيْفِيَّةِ
تَطْهِيرِهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَطْهِيرَ مَحَل الْمَنِيِّ يَكُونُ
بِغَسْلِهِ إِنْ كَانَ رَطْبًا، وَفَرْكِهِ إِنْ كَانَ يَابِسًا، لِحَدِيثِ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 77، جواهر الإكليل 1 / 12.
(29/105)
قَالَتْ: كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ
ثَوْبِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ
يَابِسًا، وَأَغْسِلُهُ إِذَا كَانَ رَطْبًا (1) .
قَال ابْنُ الْهُمَامِ: الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ بِعِلْمِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُصُوصًا إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهَا مَعَ
الْتِفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى طَهَارَةِ ثَوْبِهِ
وَفَحْصِهِ عَنْ حَالِهِ.
وَلاَ فَرْقَ فِي طَهَارَةِ مَحَلِّهِ بِفَرْكِهِ يَابِسًا وَغَسْلِهِ
طَرِيًّا بَيْنَ مَنِيِّ الرَّجُل وَمَنِيِّ الْمَرْأَةِ، قَال ابْنُ
عَابِدِينَ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَحُتُّ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي (2) ، وَلاَ
خَفَاءَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ جِمَاعٍ، لأَِنَّ الأَْنْبِيَاءَ لاَ
تَحْتَلِمُ، فَيَلْزَمُ اخْتِلاَطُ مَنِيِّ الْمَرْأَةِ بِهِ، فَيَدُل
عَلَى طَهَارَةِ مَنِيِّهَا بِالْفَرْكِ بِالأَْثَرِ، لاَ بِالإِْلْحَاقِ.
كَمَا أَنَّهُ لاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ عَلَى
الظَّاهِرِ مِنَ الْمَذْهَبِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَطْهِيرَ مَحَل الْمَنِيِّ يَكُونُ
بِالْغَسْل لاَ غَيْرُ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (مَنِيّ) .
__________
(1) حديث عائشة: " كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم. .
. ". أخرجه الدارقطني (1 / 125) وأصله في مسلم (1 / 239 - 240) .
(2) حديث عائشة: " أنها كانت تحت المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو يصلى. . . ". أخرجه ابن خزيمة (1 / 147) .
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 207، 208 فتح القدير 1 / 136، 137، الخرشي على
خليل مع حاشية العدوي 1 / 62، 92، القوانين الفقهية 48، 49 ط. دار العلم
للملايين 1979 م، الإقناع للشربيني الخطيب 1 / 123 ط. محمد صبيح، روضة
الطالبين 1 / 17، كشاف القناع 1 / 194، 195، المغني لابن قدامة مع الشرح 1
/ 735، 737 ط. المنار بمصر - الطبعة الثانية.
(29/105)
طَهَارَةُ الأَْرْضِ بِالْمَاءِ:
20 - إِذَا تَنَجَّسَتْ الأَْرْضُ بِنَجَاسَةٍ مَائِعَةٍ - كَالْبَوْل
وَالْخَمْرِ وَغَيْرِهِمَا - فَتَطْهِيرُهَا أَنْ تُغْمَرَ بِالْمَاءِ
بِحَيْثُ يَذْهَبُ لَوْنُ النَّجَاسَةِ وَرِيحُهَا، وَمَا انْفَصَل عَنْهَا
غَيْرُ مُتَغَيِّرٍ بِهَا فَهُوَ طَاهِرٌ.
بِهَذَا قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ أَنَسٌ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَال فِي طَائِفَةٍ
نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ
بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ وَفِي لَفْظٍ فَدَعَاهُ فَقَال:
إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْل
وَلاَ الْقَذِرِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل
وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَأَمَرَ رَجُلاً فَجَاءَ بِدَلْوٍ
مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ (1) . وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالذَّنُوبِ
لأَِنَّ ذَلِكَ يَغْمُرُ الْبَوْل، وَيُسْتَهْلَكُ فِيهِ الْبَوْل وَإِنْ
أَصَابَ الأَْرْضَ مَاءُ الْمَطَرِ أَوِ السُّيُول فَغَمَرَهَا وَجَرَى
عَلَيْهَا فَهُوَ كَمَا لَوْ صَبَّ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّ تَطْهِيرَ
النَّجَاسَةِ لاَ تُعْتَبَرُ فِيهِ نِيَّةٌ وَلاَ فِعْلٌ، فَاسْتَوَى مَا
صَبَّهُ الآْدَمِيُّ وَمَا جَرَى بِغَيْرِ صَبِّهِ.
وَلاَ تَطْهُرُ الأَْرْضُ حَتَّى يَذْهَبَ لَوْنُ
__________
(1) حديث أنس قال: " جاء أعرابي فبال في طائفة من المسجد. . . ". أخرجه
البخاري (فتح الباري 1 / 324) . واللفظ الثاني لمسلم (1 / 237) .
(29/106)
النَّجَاسَةِ وَرَائِحَتُهَا، وَلأَِنَّ
بَقَاءَهُمَا دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ النَّجَاسَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا
لاَ يَزُول لَوْنُهَا إِلاَّ بِمَشَقَّةٍ سَقَطَ عَنْهُ إِزَالَتُهَا
كَالثَّوْبِ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الرَّائِحَةِ (1) .
وَيَقُول الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَصَابَتِ النَّجَاسَةُ أَرْضًا رَخْوَةً
فَيُصَبُّ عَلَيْهَا الْمَاءُ فَتَطْهُرُ، لأَِنَّهَا تُنَشِّفُ الْمَاءَ،
فَيَطْهُرُ وَجْهُ الأَْرْضِ، وَإِنْ كَانَتْ صُلْبَةً يُصَبُّ الْمَاءُ
عَلَيْهَا، ثُمَّ تُكْبَسُ الْحَفِيرَةُ الَّتِي اجْتَمَعَ فِيهَا
الْغُسَالَةُ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَرْض ف 3) .
مَا تَطْهُرُ بِهِ الأَْرْضُ سِوَى الْمِيَاهِ:
21 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَدَا زُفَرَ إِلَى أَنَّ الأَْرْضَ إِذَا
أَصَابَهَا نَجِسٌ، فَجَفَّتْ بِالشَّمْسِ أَوِ الْهَوَاءِ أَوْ
غَيْرِهِمَا وَذَهَبَ أَثَرُهُ طَهُرَتْ وَجَازَتِ الصَّلاَةُ عَلَيْهَا،
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا أَرْضٍ جَفَّتْ
فَقَدْ ذَكَتْ (3) .
__________
(1) المغني لابن قدامة مع الشرح 1 / 737، 738، 739 ط. دار الكتاب العربي من
دار الريان للتراث، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 56، روضة الطالبين 1
/ 29 المكتب الإسلامي، أسهل المدارك شرح إرشاد السالك للكشناوي 1 / 34 دار
الفكر، جواهر الإكليل 1 / 5 - 6، الشرح الكبير1 / 33 - 34.
(2) الاختيار شرح المختار 1 / 32 - 33 ط. مصطفى الحلبي 1936م.
(3) حديث: " أيما أرض جفت فقد ذكت ". أورده الزيلعي في نصب الراية (1 /
211) بلفظ: " ذكاة الأرض يبسها " وقال: غريب، يعني أنه لا أصل له مرفوعا،
ثم ذكر أن ابن أبي شيبة أخرجه بهذا اللفظ موقوفًا على أبي جعفر محمد بن
علي.
(29/106)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَزُفَرُ
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا لاَ تَطْهُرُ بِغَيْرِ الْمَاءِ،
لأَِمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَبَّ عَلَى بَوْل
الأَْعْرَابِيِّ ذَنُوبُ مَاءٍ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ سَجْلاً
مِنْ مَاءٍ (1) وَالأَْمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلأَِنَّهُ مَحَلٌّ
نَجِسٌ فَلَمْ يَطْهُرْ بِغَيْرِ الْغَسْل (2) .
طَهَارَةُ النَّجَاسَةِ بِالاِسْتِحَالَةِ:
22 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَهَارَةِ الْخَمْرِ بِالاِسْتِحَالَةِ،
فَإِذَا انْقَلَبَتِ الْخَمْرُ خَلًّا صَارَتْ طَاهِرَةً (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَخْلِيل ف 13، 14) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا عَدَا الْخَمْرَ مِنْ نَجِسِ الْعَيْنِ
هَل يَطْهُرُ بِالاِسْتِحَالَةِ أَمْ لاَ؟
__________
(1) حديث: " أهريقوا عليه ذنوبًا من ماء ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 /
525) من حديث أبي هريرة.
(2) أسهل المدارك شرح إرشاد المسالك للكشناوي 1 / 34 ط. دار الفكر، جواهر
الإكليل 1 / 5، والشرح الكبير 1 / 33، المغني لابن قدامة مع الشرح 1 / 739
- 740، ط. دار الكتاب العربي، منار السبيل في شرح الدليل 1 / 51، نيل
المآرب بشرح دليل الطالب 1 / 99، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 56 -
57 وينظر مصطلح (إحراق) فـ 5.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 209، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 52،
نهاية المحتاج 1 / 230، كشاف القناع 1 / 187.
(29/107)
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
إِلَى أَنَّهُ لاَ يَطْهُرُ نَجِسُ الْعَيْنِ بِالاِسْتِحَالَةِ، لأَِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْل
الْجَلاَّلَةِ وَأَلْبَانِهَا (1) لأَِكْلِهَا النَّجَاسَةَ، وَلَوْ
طَهُرَتْ بِالاِسْتِحَالَةِ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ.
قَال الرَّمْلِيُّ: وَلاَ يَطْهُرُ نَجِسُ الْعَيْنِ بِالْغَسْل مُطْلَقًا،
وَلاَ بِالاِسْتِحَالَةِ، كَمَيْتَةٍ وَقَعَتْ فِي مَلاَّحَةٍ فَصَارَتْ
مِلْحًا، أَوْ أُحْرِقَتْ فَصَارَتْ رَمَادًا (2) .
وَقَال الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَلاَ تَطْهُرُ نَجَاسَةٌ
بِنَارٍ، فَالرَّمَادُ مِنَ الرَّوْثِ النَّجِسِ نَجِسٌ وَصَابُونٌ عُمِل
مِنْ زَيْتٍ نَجِسٍ نَجِسٌ، وَكَذَا لَوْ وَقَعَ كَلْبٌ فِي مَلاَّحَةٍ
فَصَارَ مِلْحًا، أَوْ فِي صَبَّانَةٍ فَصَارَ صَابُونًا.
لَكِنْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَحَوَّلَتِ الْعَلَقَةُ
إِلَى مُضْغَةٍ، فَإِنَّهَا تَصِيرُ طَاهِرَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ
نَجِسَةً، وَذَلِكَ لأَِنَّ نَجَاسَتَهَا بِصَيْرُورَتِهَا عَلَقَةً،
فَإِذَا زَال ذَلِكَ عَادَتْ إِلَى أَصْلِهَا، كَالْمَاءِ الْكَثِيرِ
الْمُتَغَيِّرِ بِالنَّجَاسَةِ (3) . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ يَطْهُرُ
بِالاِسْتِحَالَةِ؛ لأَِنَّ الشَّرْعَ رَتَّبَ وَصْفَ النَّجَاسَةِ عَلَى
تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، وَتَنْتَفِي
__________
(1) حديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها ".
أخرجه الترمذي (4 / 270) من حديث ابن عمر، وقال: حديث حسن غريب.
(2) نهاية المحتاج 1 / 230.
(3) كشاف القناع 1 / 186 - 187.
(29/107)
الْحَقِيقَةُ بِانْتِفَاءِ بَعْضِ
أَجْزَاءِ مَفْهُومِهَا، فَكَيْفَ بِالْكُل؟ .
وَنَظِيرُهُ فِي الشَّرْعِ النُّطْفَةُ نَجِسَةٌ، وَتَصِيرُ عَلَقَةً
وَهِيَ نَجِسَةٌ، وَتَصِيرُ مُضْغَةً فَتَطْهُرُ، وَالْعَصِيرُ طَاهِرٌ
فَيَصِيرُ خَمْرًا فَيَنْجُسُ، وَيَصِيرُ خَلًّا فَيَطْهُرُ، فَعَرَفْنَا
أَنَّ اسْتِحَالَةَ الْعَيْنِ تَسْتَتْبِعُ زَوَال الْوَصْفِ الْمُرَتَّبِ
عَلَيْهَا.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَا اسْتَحَالَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ
بِالنَّارِ، أَوْ زَال أَثَرُهَا بِهَا يَطْهُرُ.
كَمَا تَطْهُرُ النَّجَاسَةُ عِنْدَهُمْ بِانْقِلاَبِ الْعَيْنِ، وَهُوَ
قَوْل مُحَمَّدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَاخْتَارَهُ
أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ، خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ.
وَمِنْ تَفْرِيعَاتِ ذَلِكَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ
الْمُجْتَبَى أَنَّهُ إِنْ جُعِل الدُّهْنُ النَّجِسُ فِي صَابُونٍ يُفْتَى
بِطَهَارَتِهِ، لأَِنَّهُ تَغَيَّرَ، وَالتَّغَيُّرُ يُطَهِّرُ عِنْدَ
مُحَمَّدٍ، وَيُفْتَى بِهِ لِلْبَلْوَى، وَعَلَيْهِ يَتَفَرَّعُ مَا لَوْ
وَقَعَ إِنْسَانٌ أَوْ كَلْبٌ فِي قِدْرِ الصَّابُونِ فَصَارَ صَابُونًا
يَكُونُ طَاهِرًا لِتَبَدُّل الْحَقِيقَةِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْعِلَّةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هِيَ التَّغَيُّرُ
وَانْقِلاَبُ الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّهُ يُفْتَى بِهِ لِلْبَلْوَى،
وَمُقْتَضَاهُ: عَدَمُ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِالصَّابُونِ،
فَيَدْخُل فِيهِ كُل مَا كَانَ فِيهِ تَغَيُّرٌ وَانْقِلاَبٌ حَقِيقَةً،
وَكَانَ فِيهِ بَلْوَى عَامَّةٌ.
(29/108)
كَمَا نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ
الْخَمْرَ إِذَا تَحَجَّرَتْ فَإِنَّهَا تَطْهُرُ، لِزَوَال الإِْسْكَارِ
مِنْهَا، وَأَنَّ رَمَادَ النَّجِسِ طَاهِرٌ؛ لأَِنَّ النَّارَ تَطْهُرُ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: سَوَاءٌ أَكَلَتِ النَّارُ النَّجَاسَةَ أَكْلاً
قَوِيًّا أَوْ لاَ، فَالْخُبْزُ الْمَخْبُوزُ بِالرَّوْثِ النَّجِسِ
طَاهِرٌ وَلَوْ تَعَلَّقَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الرَّمَادِ، وَتَصِحُّ
الصَّلاَةُ قَبْل غَسْل الْفَمِ مِنْ أَكْلِهِ، وَيَجُوزُ حَمْلُهُ فِي
الصَّلاَةِ (1) .
مَا يَطْهُرُ مِنَ الْجُلُودِ بِالدِّبَاغَةِ:
23 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَةِ جُلُودِ مَيْتَةِ
الْحَيَوَانَاتِ قَبْل الدِّبَاغِ، وَاخْتَلَفُوا فِي طَهَارَةِ جُلُودِ
الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغَةِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي مُصْطَلَحِ: (دِبَاغَة ج
20 ف 8 وَمَا بَعْدَهَا) .
تَطْهِيرُ الْخُفِّ مِنَ النَّجَاسَةِ:
24 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا
أَصَابَتْ أَسْفَل الْخُفِّ أَوِ النَّعْل نَجَاسَةٌ فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ
يَكُونُ بِغَسْلِهِ، وَلاَ يُجْزِئُ لَوْ دَلَكَهُ كَالثَّوْبِ
وَالْبَدَنِ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ
رَطْبَةً أَوْ جَافَّةً، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ فِي الْعَفْوِ
عَنِ النَّجَاسَةِ الْجَافَّةِ إِذَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 210، 217، 218، حاشية الدسوقي 1 / 52، 57.
(29/108)
دُلِكَتْ، أَصَحُّهُمَا: الْقَوْل
الْجَدِيدُ لِلشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ حَتَّى يَغْسِلَهُ،
وَلاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ بِهِ، وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِمَا رَوَى أَبُو
سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى
الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ؛ فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى
فَلْيَمْسَحْهُ، وَلْيُصَل فِيهِمَا (1) .
قَال الرَّافِعِيُّ: إِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ وَهُوَ الْعَفْوُ فَلَهُ
شُرُوطٌ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِلنَّجَاسَةِ جِرْمٌ يَلْتَصِقُ بِالْخُفِّ،
أَمَّا الْبَوْل وَنَحْوُهُ فَلاَ يَكْفِي دَلْكُهُ بِحَالٍ.
الثَّانِي: أَنْ يَدْلُكَهُ فِي حَال الْجَفَافِ، وَأَمَّا مَا دَامَ
رَطْبًا فَلاَ يَكْفِي دَلْكُهُ قَطْعًا.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حُصُول النَّجَاسَةِ بِالْمَشْيِ مِنْ غَيْرِ
تَعَمُّدٍ، فَلَوْ تَعَمَّدَ تَلْطِيخَ. الْخُفِّ بِهَا وَجَبَ الْغَسْل
قَطْعًا.
وَنَقَل الْبُهُوتِيُّ عَنِ الإِْنْصَافِ أَنَّ يَسِيرَ النَّجَاسَةِ إِذَا
كَانَتْ عَلَى أَسْفَل الْخُفِّ وَالْحِذَاءِ بَعْدَ الدَّلْكِ يُعْفَى
عَنْهُ عَلَى الْقَوْل بِنَجَاسَتِهِ (2) .
__________
(1) حديث أبي سعيد الخدري: " إذا جاء أحدكم إلى المسجد. . . ". أخرجه أبو
داود (1 / 427) والحاكم (1 / 260) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) المجموع 1 / 598، كشاف القناع 1 / 189، الإنصاف 1 / 323.
(29/109)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ
إِذَا أَصَابَ الْخُفَّ نَجَاسَةٌ لَهَا جِرْمٌ، كَالرَّوْثِ
وَالْعَذِرَةِ، فَجَفَّتْ، فَدَلَكَهُ بِالأَْرْضِ جَازَ، وَالرَّطْبُ
وَمَا لاَ جِرْمَ لَهُ كَالْخَمْرِ وَالْبَوْل لاَ يَجُوزُ فِيهِ إِلاَّ
الْغَسْل، وَقَال أَبُو يُوسُفَ: يُجْزِئُ الْمَسْحُ فِيهِمَا إِلاَّ
الْبَوْل وَالْخَمْرَ، وَقَال مُحَمَّدٌ: لاَ يَجُوزُ فِيهِمَا إِلاَّ
الْغُسْل كَالثَّوْبِ.
وَلأَِبِي يُوسُفَ إِطْلاَقُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِذَا أَصَابَ خُفَّ أَحَدِكُمْ أَوْ نَعْلَهُ أَذًى
فَلْيَدْلُكْهُمَا فِي الأَْرْضِ، وَلْيُصَل فِيهِمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ
طَهُورٌ لَهُمَا (1) مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ،
وَالْمُتَجَسِّدِ وَغَيْرِهِ، وَلِلضَّرُورَةِ الْعَامَّةِ. وَلأَِبِي
حَنِيفَةَ هَذَا الْحَدِيثُ. إِلاَّ أَنَّ الرَّطْبَ إِذَا مُسِحَ
بِالأَْرْضِ يَتَلَطَّخُ بِهِ الْخُفُّ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ، فَلاَ
يُطَهِّرُهُ بِخِلاَفِ الْيَابِسِ؛ لأَِنَّ الْخُفَّ لاَ يَتَدَاخَلُهُ
إِلاَّ شَيْءٌ يَسِيرٌ وَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَلاَ كَذَلِكَ الْبَوْل
وَالْخَمْرُ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يُجْتَذَبُ مِثْل مَا عَلَى
الْخُفِّ، فَيَبْقَى عَلَى حَالِهِ، حَتَّى لَوْ لَصِقَ عَلَيْهِ طِينٌ
رَطْبٌ فَجَفَّ، ثُمَّ دَلَكَهُ جَازَ، كَاَلَّذِي لَهُ جِرْمٌ،
وَبِخِلاَفِ الثَّوْبِ لأَِنَّهُ مُتَخَلَّلٌ
__________
(1) حديث: " إذا أصاب خف أحدكم أو نعله. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 267 -
268) من حديث أبي هريرة بلفظ: " إذا وطئ أحدكم نعله الأذى فإن التراب طهوره
" ثم أخرجه برواية أخرى فيها: " بخفيه " وصحح إسناده النووي كما في نصب
الراية (1 / 207 - 208) .
(29/109)
فَتَتَدَاخَلُهُ أَجْزَاءُ النَّجَاسَةِ،
فَلاَ تَزُول بِالْمَسْحِ، فَيَجِبُ الْغَسْل.
وَلِمُحَمَّدٍ الْقِيَاسُ عَلَى الثَّوْبِ وَالْبِسَاطِ، بِجَامِعِ أَنَّ
النَّجَاسَةَ تَدَاخَلَتْ فِي الْخُفِّ تَدَاخُلَهَا فِيهِمَا.
قَال الْكَمَال: وَعَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ،
وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى.
وَقَال السَّرَخْسِيُّ عَنْ قَوْل أَبِي يُوسُفَ: وَهُوَ صَحِيحٌ،
وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لِلضَّرُورَةِ (1) .
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا
وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ، فَإِذَا أَصَابَ الْخُفَّ شَيْءٌ
مِنْ رَوْثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ إِنْ
دُلِكَ بِتُرَابٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ نَحْوِهِ حَتَّى زَالَتِ الْعَيْنُ،
وَكَذَا إِنْ جَفَّتِ النَّجَاسَةُ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ يُخْرِجُهُ
الْغُسْل سِوَى الْحُكْمِ.
وَقَيَّدَ بَعْضُهُمُ الْعَفْوَ بِأَنْ تَكُونَ إِصَابَةُ الْخُفِّ أَوِ
النَّعْل بِالنَّجَاسَةِ بِمَوْضِعٍ يَطْرُقُهُ الدَّوَابُّ كَثِيرًا -
كَالطُّرُقِ - لِمَشَقَّةِ الاِحْتِرَازِ عَنْهُ.
قَال الدُّسُوقِيُّ نَقْلاً عَنِ الْبُنَانِيِّ: وَهَذَا الْقَيْدُ
نَقَلَهُ فِي التَّوْضِيحِ، وَالظَّاهِرُ اعْتِبَارُهُ، وَفِي كَلاَمِ
ابْنِ الْحَاجِبِ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ لِتَعْلِيلِهِ
__________
(1) الاختيار شرح المختار 1 / 31، 33 ط. مصطفى الحلبي 1936م، فتح القدير
والعناية 1 / 136.
(29/110)
بِالْمَشَقَّةِ، كَمَا ذَكَرَ خَلِيلٌ
أَنَّ الْعَفْوَ إِنَّمَا هُوَ لِعُسْرِ الاِحْتِرَازِ، وَعَلَى هَذَا
فَلاَ يُعْفَى عَمَّا أَصَابَ الْخُفَّ وَالنَّعْل مِنْ أَرْوَاثِ
الدَّوَابِّ بِمَوْضِعٍ لاَ تَطْرُقُهُ الدَّوَابُّ كَثِيرًا وَلَوْ
دَلْكًا.
وَإِنْ أَصَابَ الْخُفَّ أَوِ النَّعْل شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَاتِ غَيْرِ
أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا، كَخُرْءِ الْكِلاَبِ أَوْ فَضْلَةِ
الآْدَمِيِّ أَوْ دَمٍ، فَإِنَّهُ لاَ يُعْفَى عَنْهُ، وَلاَ بُدَّ مِنْ
غَسْلِهِ.
قَال الْحَطَّابُ نَقْلاً عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ: وَالْعِلَّةُ نُدُورُ
ذَلِكَ فِي الطُّرُقَاتِ، فَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ فِيهَا صَارَ كَرَوْثِ
الدَّوَابِّ (1) .
تَطْهِيرُ مَا تُصِيبُهُ النَّجَاسَةُ مِنْ مَلاَبِسِ النِّسَاءِ فِي
الطُّرُقِ:
25 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا
تَنَجَّسَ ذَيْل ثَوْبِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُ
كَالْبَدَنِ، وَلاَ يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الأَْرْضِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَمَّا يُصِيبُ ذَيْل
ثَوْبِ الْمَرْأَةِ الْيَابِسِ مِنَ النَّجَاسَةِ إِذَا مَرَّتْ بَعْدَ
الإِْصَابَةِ عَلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ يَابِسٍ، سَوَاءٌ كَانَ أَرْضًا أَوْ
غَيْرَهُ.
وَقَيَّدُوا هَذَا الْعَفْوَ بِعِدَّةِ قُيُودٍ هِيَ:
أ - أَنْ يَكُونَ الذَّيْل يَابِسًا وَقَدْ أَطَالَتْهُ
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 75.
(2) المجموع 1 / 598، روضة الطالبين 1 / 31، كشاف القناع 1 / 189.
(29/110)
لِلسَّتْرِ، لاَ لِلزِّينَةِ
وَالْخُيَلاَءِ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لاَ تُطِيلُهُ لِلسَّتْرِ
إِلاَّ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ لاَبِسَةٍ لِخُفٍّ أَوْ جَوْرَبٍ، فَعَلَى
هَذَا لَوْ كَانَتْ لاَبِسَةً لَهُمَا فَلاَ عَفْوَ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ
زِيِّهَا أَمْ لاَ.
ب - وَأَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ الَّتِي أَصَابَتْ ذَيْل الثَّوْبِ
مُخَفَّفَةٌ جَافَّةٌ، فَإِنْ كَانَتْ رَطْبَةً فَإِنَّهُ يَجِبُ الْغُسْل،
إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْفُوًّا عَنْهُ كَالطِّينِ.
ج - وَأَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَمُرُّ عَلَيْهِ بَعْدَ
الإِْصَابَةِ طَاهِرًا يَابِسًا (1) .
التَّطْهِيرُ مِنْ بَوْل الْغُلاَمِ وَبَوْل الْجَارِيَةِ:
26 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّطْهِيرَ
مِنْ بَوْل الْغُلاَمِ وَبَوْل الْجَارِيَةِ الصَّغِيرَيْنِ أَكَلاَ أَوْ
لاَ، يَكُونُ بِغَسْلِهِ (2) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْل (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ فِي
التَّطْهِيرِ مِنْ بَوْل الْغُلاَمِ الَّذِي لَمْ يَطْعَمِ الطَّعَامَ
النَّضْحُ، وَيَكُونُ بِرَشِّ الْمَاءِ عَلَى
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 74، 75، الخرشي على خليل 1 / 110.
(2) الاختيار شرح المختار 1 / 31، التاج والإكليل بهامش الحطاب 1 / 108.
(3) حديث: " استنزهوا من البول ". أخرجه الدارقطني (1 / 128) من حديث أبي
هريرة ثم قال: الصواب مرسل.
(29/111)
الْمَكَانِ الْمُصَابِ وَغَمْرِهِ بِهِ
بِلاَ سَيَلاَنٍ، فَقَدْ رَوَتْ أُمُّ قَيْسِ بِنْتُ مُحْصَنٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأْكُل
الطَّعَامَ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَجْلَسَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
حِجْرِهِ، فَبَال عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ، وَلَمْ
يَغْسِلْهُ (1) أَمَّا بَوْل الْجَارِيَةِ الصَّغِيرَةِ فَلاَ يُجْزِئُ فِي
تَطْهِيرِهِ النَّضْحُ، وَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ الْغَسْل، لِخَبَرِ
التِّرْمِذِيِّ يُنْضَحُ بَوْل الْغُلاَمِ، وَيُغْسَل بَوْل الْجَارِيَةِ
(2) ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا: بِأَنَّ الاِئْتِلاَفَ بِحَمْل الصَّبِيِّ
يَكْثُرُ، فَيُخَفَّفُ فِي بَوْلِهِ، وَبِأَنَّ بَوْلَهُ أَرَقُّ مِنْ
بَوْلِهَا، فَلاَ يَلْصَقُ بِالْمَحَل كَلَصْقِ بَوْلِهَا بِهِ.
قَال أَحْمَدُ: الصَّبِيُّ إِذَا طَعِمَ الطَّعَامَ وَأَرَادَهُ
وَاشْتَهَاهُ غُسِل بَوْلُهُ، وَلَيْسَ إِذَا طَعِمَ، لأَِنَّهُ قَدْ
يَلْعَقُ الْعَسَل، وَمَا يَطْعَمُهُ لِغِذَائِهِ وَهُوَ يُرِيدُهُ
وَيَشْتَهِيهِ يُوجِبُ الْغَسْل (3) (ر: أُنُوثَة ف 16) .
__________
(1) حديث أم قيس بنت محصن: " أنها أتت بابن لها صغير. . . " أخرجه البخاري
(فتح الباري 1 / 326) ومسلم (4 / 1734) واللفظ للبخاري.
(2) حديث: " ينضح بول الغلام. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 510) من حديث علي
بن أبي طالب، وقال: حديث حسن صحيح.
(3) الاقناع للشربيني الخطيب 1 / 125، منهاج الطالبين 1 / 74، المهذب في
فقه الإمام الشافعي 1 / 56، روضة الطالبين 1 / 31 ط. المكتب الإسلامي ومنار
السبيل في شرح الدليل 1 / 50 - 51 المكتب الإسلامي، المغني لابن قدامة مع
الشرح 1 / 297 - 298.
(29/111)
تَطْهِيرُ أَوَانِي الْخَمْرِ:
27 - الأَْصْل فِي تَطْهِيرِ أَوَانِي الْخَمْرِ هُوَ غَسْلُهَا، بِهَذَا
قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ الْمَقْدِسِيُّ
الْحَنْبَلِيُّ فِيمَا كَانَ مُزَفَّتًا مِنَ الآْنِيَةِ.
وَفِي هَذَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ: تَطْهُرُ بِغَسْلِهَا ثَلاَثًا
بِحَيْثُ لاَ تَبْقَى فِيهَا رَائِحَةُ الْخَمْرِ وَلاَ أَثَرُهَا، فَإِنْ
بَقِيَتْ رَائِحَتُهَا لاَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَل فِيهَا مِنَ الْمَائِعَاتِ
سِوَى الْخَل؛ لأَِنَّهُ بِجَعْلِهِ فِيهَا تَطْهُرُ وَإِنْ لَمْ تُغْسَل؛
لأَِنَّ مَا فِيهَا مِنَ الْخَمْرِ يَتَخَلَّل بِالْخَل.
وَفِي الْخُلاَصَةِ: الْكُوزُ إِذَا كَانَ فِيهِ خَمْرٌ تَطْهِيرُهُ أَنْ
يُجْعَل فِيهِ الْمَاءُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، كُل مَرَّةٍ سَاعَةً، وَإِنْ
كَانَ جَدِيدًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَطْهُرُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لاَ
يَطْهُرُ أَبَدًا (1) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: تَطْهُرُ بِغَسْلِهَا مَرَّةً وَاحِدَةً إِذَا
زَال أَثَرُ النَّجَاسَةِ، وَيُنْدَبُ غَسْلُهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، لِمَا
وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا
اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلاَ يَغْمِسُ يَدَهُ فِي
الإِْنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاَثًا، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ
بَاتَتْ يَدُهُ (2) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 145.
(2) حديث: " إذا استيقظ أحدكم من نومه. . . ". أخرجه مسلم (1 / 233) من
حديث أبي هريرة.
(29/112)
فَنُدِبَ إِلَى الثَّلاَثِ لِلشَّكِّ فِي
النَّجَاسَةِ، فَدَل عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ إِذَا تَيَقَّنَ
وَيَجُوزُ الاِقْتِصَارُ عَلَى الْغَسْل مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَالْغَسْل الْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ: أَنْ يُكَاثِرَ بِالْمَاءِ حَتَّى
تُسْتَهْلَكَ النَّجَاسَةُ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْقَوَانِينِ الْفِقْهِيَّةِ:
فِي طَهَارَةِ الْفَخَّارِ مِنْ نَجِسِ غَوَّاصٍ كَالْخَمْرِ قَوْلاَنِ،
قَال الْمَوَّاقُ نَقْلاً عَنِ النَّوَادِرِ فِي أَوَانِي الْخَمْرِ:
تُغْسَل وَيُنْتَفَعُ بِهَا، وَلاَ تَضُرُّهَا الرَّائِحَةُ (2) .
وَتَطْهُرُ أَوَانِيهِ إِذَا تَحَجَّرَتِ الْخَمْرُ فِيهَا أَوْ خُلِّلَتْ،
وَيَطْهُرُ إِنَاؤُهَا تَبَعًا لَهَا وَلَوْ فَخَّارًا بِغَوَّاصٍ (3) .
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَ فِي الإِْنَاءِ خَمْرٌ
يَتَشَرَّبُهَا الإِْنَاءُ، ثُمَّ مَتَى جُعِل فِيهِ مَائِعٌ، سَوَاءٌ
ظَهَرَ فِيهِ طَعْمُ الْخَمْرِ أَوْ لَوْنُهُ، لَمْ يَطْهُرْ بِالْغَسْل؛
لأَِنَّ الْغَسْل لاَ يَسْتَأْصِل أَجْزَاءَهُ مِنْ جِسْمِ الإِْنَاءِ،
فَلَمْ يُطَهِّرْهُ. كَالسِّمْسِمِ إِذَا ابْتَل بِالنَّجَاسَةِ، قَال
أَبُو الْفَرَجِ الْمَقْدِسِيُّ: آنِيَةُ الْخَمْرِ مِنْهَا الْمُزَفَّتُ،
فَتَطْهُرُ بِالْغَسْل؛ لأَِنَّ الزِّفْتَ يَمْنَعُ وُصُول النَّجَاسَةِ
إِلَى: جِسْمِ الإِْنَاءِ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِمُزَفَّتٍ،
فَيَتَشَرَّبُ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ، فَلاَ يَطْهُرُ بِالتَّطْهِيرِ،
فَإِنَّهُ مَتَى تُرِكَ
__________
(1) المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 56.
(2) المواق 1 / 113.
(3) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك للكشناوي 1 / 66 - 67 دار الفكر، الشرح
الكبير 1 / 60 والقوانين الفقهية ص 37.
(29/112)
فِيهِ مَائِعٌ ظَهَرَ فِيهِ طَعْمُ
الْخَمْرِ وَلَوْنُهُ (1) .
تَطْهِيرُ آنِيَةِ الْكُفَّارِ وَمَلاَبِسِهِمْ:
28 - يَقُول الْحَنَفِيَّةُ فِي آنِيَةِ الْكُفَّارِ: إِنَّهَا طَاهِرَةٌ
لأَِنَّ سُؤْرَهُمْ طَاهِرٌ؛ لأَِنَّ الْمُخْتَلِطَ بِهِ اللُّعَابُ،
وَقَدْ تَوَلَّدَ مِنْ لَحْمٍ طَاهِرٍ، فَيَكُونُ طَاهِرًا، فَقَدْ رُوِيَ
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَل وَفْدَ
ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانُوا مُشْرِكِينَ (2) .
وَلَوْ كَانَ عَيْنُ الْمُشْرِكِ نَجِسًا لَمَا فَعَل ذَلِكَ: وَلاَ
يُعَارَضُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (3)
لأَِنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّجَسُ فِي الْعَقِيدَةِ، فَمَتَى تَنَجَّسَتْ
أَوَانِيهِمْ فَإِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهَا مَا يَجْرِي عَلَى مَا تَنَجَّسَ
مِنْ أَوَانِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَسْلٍ وَغَيْرِهِ، إِذْ لَهُمْ مَا
لَنَا وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْنَا وَثِيَابُهُمْ طَاهِرَةٌ، وَلاَ يُكْرَهُ
مِنْهَا إِلاَّ السَّرَاوِيل الْمُتَّصِلَةُ بِأَبْدَانِهِمْ
لاِسْتِحْلاَلِهِمُ الْخَمْرَ، وَلاَ يَتَّقُونَهَا كَمَا لاَ
يَتَوَقَّوْنَ النَّجَاسَةَ وَالتَّنَزُّهَ عَنْهَا، فَلَوْ أَمِنَ ذَلِكَ
بِالنِّسْبَةِ لَهَا وَكَانَ التَّأَكُّدُ مِنْ طَهَارَتِهَا قَائِمًا،
فَإِنَّهُ يُبَاحُ لُبْسُهَا، وَإِذَا تَنَجَّسَتْ جَرَى عَلَيْهَا مَا
يَجْرِي عَلَى تَطْهِيرِ مَلاَبِسِ الْمُسْلِمِينَ
__________
(1) المغني لابن قدامة مع الشرح 50، 291 ط. دار الكتاب العربي.
(2) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل وفد ثقيف في المسجد. . .
". أخرجه أبو داود (3 / 421) من حديث عثمان بن أبي العاص، وأشار المنذري
إلى أعلاه بالانقطاع بين عثمان بن أبي العاص والراوي عنه، وهو الحسن
البصري.
(3) سورة التوبة / 28.
(29/113)
عِنْدَمَا تُصِيبُهَا نَجَاسَةٌ، سَوَاءٌ
بِالْغَسْل أَوْ غَيْرِهِ (1) .
وَكَرِهَ الشَّافِعِيَّةُ اسْتِعْمَال أَوَانِيَهُمْ وَثِيَابَهُمْ لِمَا
رَوَى أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قُلْتُ:
يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّا بِأَرْضِ أَهْل الْكِتَابِ، وَنَأْكُل فِي
آنِيَتِهِمْ فَقَال: لاَ تَأْكُلُوا فِي آنِيَتِهِمْ إِلاَّ أَنْ لاَ
تَجِدُوا بُدًّا، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا بُدًّا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا
فِيهَا (2) . وَلأَِنَّهُمْ لاَ يَتَجَنَّبُونَ النَّجَاسَةَ فَكُرِهَ
لِذَلِكَ.
فَإِنْ تَوَضَّأَ مِنْ أَوَانِيهِمْ نُظِرَتْ: فَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لاَ
يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَال النَّجَاسَةِ صَحَّ الْوُضُوءُ؛ لأَِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مِنْ مَزَادَةِ
مُشْرِكَةٍ (3) وَتَوَضَّأَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ جَرَّةِ
نَصْرَانِيٍّ، وَلأَِنَّ الأَْصْل فِي أَوَانِيهِمُ الطَّهَارَةُ.
وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَال النَّجَاسَةِ فَفِيهِ
وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِحُّ الْوُضُوءُ لأَِنَّ الأَْصْل فِي
أَوَانِيهِمُ الطَّهَارَةُ، وَالثَّانِي: لاَ يَصِحُّ لأَِنَّهُمْ
يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَال النَّجَاسَةِ كَمَا يَتَدَيَّنُ.
__________
(1) فتح القدير 1 / 75، والعناية بهامشه بذات الصفحة، الاختيار 1 / 17، ابن
عابدين 1 / 244.
(2) حديث أبي ثعلبة الخشني: " قلت: يا رسول الله أنا بأرض أهل الكتاب. . .
". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 922) ومسلم (3 / 1532) واللفظ للبخاري.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة ". مستنبط من
حديث عمران بن حصين، أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 447 - 448) ومسلم (1 /
474 - 476) .
(29/113)
الْمُسْلِمُونَ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ،
فَالظَّاهِرُ مِنْ أَوَانِيهِمْ وَثِيَابِهِمُ النَّجَاسَةُ (1) .
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ اسْتِعْمَال أَوَانِيهِمْ إِلاَّ إِذَا
تَيَقَّنَ عَدَمَ طَهَارَتِهَا، وَصَرَّحَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ
بِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَصْنَعُهُ أَهْل الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمُونَ
الَّذِينَ لاَ يُصَلُّونَ وَلاَ يَسْتَنْجُونَ وَلاَ يَتَحَرَّزُونَ مِنَ
النَّجَاسَاتِ مِنَ الأَْطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا مَحْمُولٌ عَلَى
الطَّهَارَةِ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ النَّجَاسَةَ، فَإِذَا
تَنَجَّسَتْ أَوَانِيهِمْ فَإِنَّهَا تَطْهُرُ بِزَوَال تِلْكَ
النَّجَاسَةِ بِالْغَسْل بِالْمَاءِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِمَّا لَهُ صِفَةُ
الطَّهُورِيَّةِ.
وَكَذَلِكَ الْحَال بِالنِّسْبَةِ لِمَلاَبِسِهِمْ، فَإِنَّ الأَْصْل
فِيهَا الطَّهَارَةُ مَا لَمْ يُصِبْهَا النَّجِسُ، وَلِذَا لاَ يُصَلَّى
فِي مَلاَبِسِهِمْ أَيْ مَا يَلْبَسُونَهُ؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ
نَجَاسَتُهَا، فَحُمِل عَلَيْهَا عِنْدَ الشَّكِّ: أَمَّا إِنْ عُلِمَتْ
أَوْ ظُنَّتْ طَهَارَتُهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى فِيهَا (2) .
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ فِي ثِيَابِهِمْ وَأَوَانِيهِمْ: إِنَّهَا
طَاهِرَةٌ مُبَاحَةُ الاِسْتِعْمَال مَا لَمْ تُعْلَمْ نَجَاسَتُهَا،
وَأَضَافُوا: إِنَّ الْكُفَّارَ عَلَى ضَرْبَيْنِ - أَهْل الْكِتَابِ
وَغَيْرِهِمْ - فَأَمَّا أَهْل الْكِتَابِ فَيُبَاحُ أَكْل طَعَامِهِمْ
وَشَرَابِهِمْ وَاسْتِعْمَال آنِيَتِهِمْ مَا لَمْ
__________
(1) المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 19 - 20، الإقناع للشربيني الخطيب 1
/ 36.
(2) الشرح الكبير 1 / 61، جواهر الإكليل 1 / 10.
(29/114)
تُعْلَمْ نَجَاسَتُهَا، قَال ابْنُ
عَقِيلٍ: لاَ تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ
اسْتِعْمَال أَوَانِيهِمْ، لِقَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) وَعَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَصَبْتُ جِرَابًا
مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، قَال فَالْتَزَمْتُهُ، فَقُلْتُ: وَاَللَّهِ
لاَ أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا. قَال: فَالْتَفَتُّ
فَإِذَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَبَسِّمًا
(2) .
وَرَوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَضَافَهُ
يَهُودِيٌّ بِخُبْزٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ (3) ، وَتَوَضَّأَ عُمَرُ مِنْ
جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ.
وَأَمَّا غَيْرُ أَهْل الْكِتَابِ - وَهُمُ الْمَجُوس وَعَبَدَةُ
الأَْوْثَانِ وَنَحْوُهُمْ - وَمَنْ يَأْكُل لَحْمَ الْخِنْزِيرِ مِنْ
أَهْل الْكِتَابِ فِي مَوْضِعٍ يُمْكِنُهُمْ أَكْلُهُ، أَوْ يَأْكُل
الْمَيْتَةَ، أَوْ يَذْبَحُ بِالسِّنِّ وَالظُّفْرِ فَحُكْمُ ثِيَابِهِمْ
حُكْمُ ثِيَابِ أَهْل الذِّمَّةِ عَمَلاً بِالأَْصْل، وَأَمَّا
أَوَانِيهِمْ فَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: حُكْمُهَا حُكْمُ أَوَانِي أَهْل
الْكِتَابِ، يُبَاحُ اسْتِعْمَالُهَا مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ نَجَاسَتُهَا،
لأَِنَّ النَّبِيَّ
__________
(1) سورة المائدة / 5.
(2) حديث عبد الله بن مغفل: " أصبت جرابا من شحم يوم خيبر " أخرجه مسلم (3
/ 1393) .
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي. . . ". أخرجه أحمد
(3 / 270) بلفظ: " أن يهوديًا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خبز
شعير وإهالة سنخة فأجابه ".
(29/114)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابَهُ تَوَضَّئُوا مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ (1) وَلأَِنَّ
الأَْصْل الطَّهَارَةُ، فَلاَ تَزُول بِالشَّكِّ.
وَقَال الْقَاضِي: هِيَ نَجِسَةٌ، لاَ يُسْتَعْمَل مَا اسْتَعْمَلُوهُ
مِنْهَا إِلاَّ بَعْدَ غَسْلِهِ، لِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ
الْمُتَقَدِّمِ، وَلأَِنَّ أَوَانِيَهُمْ لاَ تَخْلُو مِنْ أَطْعِمَتِهِمْ،
وَذَبَائِحُهُمْ مَيْتَةٌ، فَتَتَنَجَّسُ بِهَا وَهَذَا ظَاهِرُ كَلاَمِ
أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ قَال فِي الْمَجُوسِ: لاَ يُؤْكَل مِنْ طَعَامِهِمْ
إِلاَّ الْفَاكِهَةُ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ نَجَاسَةُ آنِيَتِهِمُ
الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي أَطْعِمَتِهِمْ، وَمَتَى شَكَّ فِي الإِْنَاءِ هَل
اسْتَعْمَلُوهُ أَمْ لاَ؟ فَهُوَ طَاهِرٌ؛ لأَِنَّ الأَْصْل طَهَارَتُهُ
(2) .
تَطْهِيرُ الْمَصْبُوغِ بِنَجِسٍ:
29 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَصْبُوغَ بِنَجِسٍ
يَطْهُرُ بِغُسْلِهِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ: يُغْسَل
حَتَّى يَصِيرَ الْمَاءُ صَافِيًا، وَقِيل: يُغْسَل بَعْدَ ذَلِكَ ثَلاَثَ
مَرَّاتٍ (3) .
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ حَتَّى يَزُول طَعْمُ
النَّجِسِ، وَمَتَى زَال طَعْمُهُ فَقَدْ طَهُرَ وَلَوْ
__________
(1) تقدم تخريجه في نفس الفقرة.
(2) المغني لابن قدامة 1 / 61، 62، والشرح الكبير مع المغني 1 / 68، 69.
(3) مراقي الفلاح ص / 47، فتح القدير 1 / 145.
(29/115)
بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ لَوْنِهِ وَرِيحِهِ (1)
.
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: يُغْسَل حَتَّى يَنْفَصِل النَّجِسُ مِنْهُ
وَلَمْ يَزِدِ الْمَصْبُوغُ وَزْنًا بَعْدَ الْغَسْل عَلَى وَزْنِهِ قَبْل
الصَّبْغِ، وَإِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ لِعُسْرِ زَوَالِهِ، فَإِنْ زَادَ
وَزْنُهُ ضَرَّ، فَإِنْ لَمْ يَنْفَصِل عَنْهُ لِتَعَقُّدِهِ بِهِ لَمْ
يَطْهُرْ، لِبَقَاءِ النَّجَاسَةِ فِيهِ (2) .
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ: يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ وَإِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ (3)
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الدَّمِ: وَلاَ يَضُرُّكَ
أَثَرُهُ (4) .
رَمَادُ النَّجِسِ الْمُحْتَرِقِ بِالنَّارِ:
30 - الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى،
وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَبِهِ
يُفْتَى، وَالْحَنَابِلَةُ فِي غَيْرِ الظَّاهِرِ: أَنَّ رَمَادَ النَّجِسِ
الْمُحْتَرِقِ بِالنَّارِ طَاهِرٌ، فَيَطْهُرُ بِالنَّارِ الْوَقُودُ
الْمُتَنَجِّسُ وَالسِّرْقِينُ وَالْعَذِرَةُ تَحْتَرِقُ فَتَصِيرُ
رَمَادًا تَطْهُرُ، وَيَطْهُرُ مَا تَخَلَّفَ عَنْهَا (5) .
__________
(1) الشرح الكبير 1 / 60.
(2) الإقناع للشربيني الخطيب 1 / 33، القليوبي على شرح المنهاج 1 / 75.
(3) المغني لابن قدامة مع الشرح1 / 70 ط. دار الكتاب العربي.
(4) حديث: " ولا يضرك أثره. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 257) من حديث أبي
هريرة.
(5) الشرح الكبير 1 / 75، أسهل المدارك شرح إرشاد السالك للكشناوي 1 / 63
ط. دار الفكر، وفتح القدير 1 / 139، المغني لابن قدامة مع الشرح 1 / 60،
740 ط. دار الكتاب العربي، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 55.
(29/115)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رَمَاد
ج 23، ف 3) .
تَطْهِيرُ مَا يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ:
31 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اللَّحْمِ الَّذِي طُبِخَ بِنَجِسٍ، هَل
يَطْهُرُ أَمْ لاَ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - عَدَا أَبِي يُوسُفَ - وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي طُبِخَ بِنَجِسٍ لاَ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ، قَال
ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْخَانِيَّةِ: إِذَا صَبَّ الطَّبَّاخُ فِي
الْقِدْرِ مَكَانَ الْخَل خَمْرًا غَلَطًا، فَالْكُل نَجِسٌ لاَ يَطْهُرُ
أَبَدًا، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُغْلَى ثَلاَثًا لاَ
يُؤْخَذُ بِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي طُبِخَ بِنَجِسٍ
مِنْ مَاءٍ، أَوْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ حَال طَبْخِهِ قَبْل نُضْجِهِ،
فَإِنَّهُ لاَ يَقْبَل التَّطْهِيرَ، أَمَّا إِنْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ
بَعْدَ نُضْجِهِ فَإِنَّهُ يَقْبَل التَّطْهِيرَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَغْسِل
مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الْمَرَقِ.
وَقَيَّدَ الدُّسُوقِيُّ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ تَطُل إِقَامَةُ
النَّجَاسَةِ فِيهِ، بِحَيْثُ يَظُنُّ أَنَّهَا سَرَتْ فِيهِ، وَإِلاَّ
فَلاَ يَقْبَل التَّطْهِيرَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي طُبِخَ بِنَجِسٍ
يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ، وَفِي كَيْفِيَّةِ طَهَارَتِهِ وَجْهَانِ:
(29/116)
أَحَدُهُمَا: يُغْسَل ثُمَّ يُعْصَرُ
كَالْبِسَاطِ، الثَّانِي: يُشْتَرَطُ أَنْ يَغْلِيَ بِمَاءٍ طَهُورٍ.
وَقَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي بِوُجُوبِ السَّقْي مَرَّةً
ثَانِيَةً وَالْغَلْيِ، وَاخْتَارَ الشَّاشِيُّ الاِكْتِفَاءَ بِالْغُسْل
(1) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِي الْفَخَّارِ الَّذِي يَتَشَرَّبُ
النَّجَاسَةَ، هَل يَطْهُرُ أَمْ لاَ؟
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْفَخَّارَ الَّذِي يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ
لاَ يَطْهُرُ.
وَنَقَل الدُّسُوقِيُّ عَنِ الْبُنَانِيِّ أَنَّ الْفَخَّارَ الْبَالِيَ
إِذَا حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةُ غَوَّاصَةٍ يَقْبَل التَّطْهِيرَ،
وَاَلَّذِي لاَ يَقْبَل التَّطْهِيرَ هُوَ الْفَخَّارُ الَّذِي لَمْ
يُسْتَعْمَل قَبْل حُلُول الْغَوَّاصِ فِيهِ، أَوِ اسْتُعْمِل قَلِيلاً،
قَال الدُّسُوقِيُّ: وَهُوَ أَوْلَى.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مِثْل الْفَخَّارِ أَوَانِي الْخَشَبِ
الَّذِي يُمْكِنُ سَرَيَانُ النَّجَاسَةِ إِلَى دَاخِلِهِ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ تَطْهِيرُ الْخَزَفِ
الَّذِي يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُنْقَعَ فِي الْمَاءِ
ثَلاَثًا، وَيُجَفَّفَ كُل مَرَّةٍ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: قَوْل مُحَمَّدٍ أَقْيَسُ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 223، حاشية الدسوقي 1 / 59، روضة الطالبين 1 /
30، المجموع 2 / 600، كشاف القناع 1 / 188.
(29/116)
وَقَوْل أَبِي يُوسُفَ أَوْسَعُ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَطْهُرُ بَاطِنُ حَبٍّ
تَشَرَّبَ النَّجَاسَةَ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ طُبِخَتِ الْحِنْطَةُ فِي الْخَمْرِ، قَال
أَبُو يُوسُفَ: تُطْبَخُ ثَلاَثًا بِالْمَاءِ وَتُجَفَّفُ فِي كُل مَرَّةٍ،
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا طُبِخَتْ فِي الْخَمْرِ لاَ تَطْهُرُ
أَبَدًا، وَبِهِ يُفْتَى، إِلاَّ إِذَا صُبَّ فِيهِ الْخَل، وَتُرِكَ
حَتَّى صَارَ الْكُل خَلًّا (2) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الزَّيْتُونَ الَّذِي مُلِّحَ
بِنَجِسٍ، بِأَنْ جُعِل عَلَيْهِ مِلْحٌ نَجِسٌ يُصْلِحُهُ، إِمَّا
وَحْدَهُ أَوْ مَعَ مَاءٍ لاَ يَقْبَل التَّطْهِيرَ، أَمَّا لَوْ طَرَأَتْ
عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ بَعْدَ تَمْلِيحِهِ وَاسْتِوَائِهِ، فَإِنَّهُ
يَقْبَل التَّطْهِيرَ، وَذَلِكَ بِغَسْلِهِ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: وَمِثْل ذَلِكَ يُقَال فِي الْجُبْنِ وَاللَّيْمُونِ
وَالنَّارِنْجِ وَالْبَصَل وَالْجَزَرِ الَّذِي يَتَخَلَّل، وَمَحَل عَدَمِ
الضَّرَرِ إِذَا لَمْ تَمْكُثِ النَّجَاسَةُ مُدَّةً يُظَنُّ أَنَّهَا
سَرَتْ فِيهِ، وَإِلاَّ فَلاَ يَقْبَل التَّطْهِيرَ (3) .
كَمَا نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْبَيْضَ الَّذِي سُلِقَ
بِنَجِسٍ لاَ يَقْبَل التَّطْهِيرَ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 221، حاشية الدسوقي 1 / 60، كشاف القناع 1 / 188.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 223، كشاف القناع 1 / 188.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 59، 60.
(29/117)
قَال الدُّسُوقِيُّ: وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ
أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الْمَسْلُوقُ فِيهِ مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ
أَمْ لاَ.
وَقَال الْبُنَانِيِّ: الظَّاهِرُ - كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ - أَنَّ
الْمَاءَ إِذَا حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ، ثُمَّ سُلِقَ
فِيهِ الْبَيْضُ، فَإِنَّهُ لاَ يُنَجِّسُهُ، حَيْثُ إِنَّ الْمَاءَ
حِينَئِذٍ طَهُورٌ وَلَوْ قَل عَلَى الْمَشْهُورِ.
أَمَّا لَوْ طَرَأَتْ عَلَى الْبَيْضِ الْمَسْلُوقِ نَجَاسَةٌ بَعْدَ
سَلْقِهِ وَاسْتِوَائِهِ فَإِنَّهُ لاَ يَتَنَجَّسُ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ
شُوِيَ الْبَيْضُ الْمُتَنَجِّسُ قِشْرُهُ فَإِنَّهُ لاَ يَنْجُسُ (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّبِنَ الْمُخْتَلِطَ بِنَجَاسَةٍ
جَامِدَةٍ - كَالرَّوْثِ وَعِظَامِ الْمَيْتَةِ - نَجِسٌ، وَلاَ طَرِيقَ
إِلَى تَطْهِيرِهِ لِعَيْنِ النَّجَاسَةِ.
قَال النَّوَوِيُّ: فَإِنْ طُبِخَ فَالْمَذْهَبُ - وَهُوَ الْجَدِيدُ -
أَنَّهُ عَلَى نَجَاسَتِهِ. أَمَّا اللَّبِنُ غَيْرُ الْمُخْتَلِطِ
بِنَجَاسَةٍ جَامِدَةٍ، بِأَنْ نَجِسَ بِسَبَبِ عَجْنِهِ بِمَاءٍ نَجِسٍ
أَوْ بَوْلٍ، فَيَطْهُرُ ظَاهِرُهُ بِإِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ،
وَيَطْهُرُ بَاطِنُهُ بِأَنْ يُنْقَعَ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَصِل الْمَاءُ
إِلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ (2) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَطْهُرُ عَجِينٌ تَنَجَّسَ؛
لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ غَسْلُهُ (3) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 60.
(2) روضة الطالبين 1 / 29، 30.
(3) كشاف القناع 1 / 188.
(29/117)
طُهْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الطُّهْرُ فِي اللُّغَةِ هُوَ النَّقَاءُ مِنَ الدَّنَسِ وَالنَّجِسِ
(1) وَالتَّطَهُّرُ: الاِغْتِسَال، يُقَال: تَطَهَّرَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا
انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ وَاغْتَسَلَتْ، وَجَمْعُ الطُّهْرِ: أَطْهَارٌ.
وَفِي الشَّرْعِ: زَمَانُ نَقَاءِ الْمَرْأَةِ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ
وَالنِّفَاسِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقُرْءُ:
2 - الْقُرْءُ فِي اللُّغَةِ - بِفَتْحِ الْقَافِ وَضَمِّهَا - يَقَعُ
عَلَى، الطُّهْرِ وَعَلَى الْحَيْضِ (3) .
الْحَيْضُ:
3 - الْحَيْضُ فِي اللُّغَةِ السَّيَلاَنُ، تَقُول
__________
(1) المصباح المنير، المغرب في ترتيب المعرب، مادة: (طهر)
.
(2) القوانين الفقهية ص 45.
(3) المصباح المنير والمغرب، مادة (حيض) ، حاشية ابن عابدين 1 / 188، مواهب
الجليل 4 / 146، والبدائع 3 / 193، مغني المحتاج 3 / 385، وروضة الطالبين 8
/ 366، والمغني لابن قدامة 7 / 452.
(29/118)
الْعَرَبُ: حَاضَتِ الشَّجَرَةُ إِذَا سَال
صَمْغُهَا، وَحَاضَ الْوَادِي إِذَا سَال مَاؤُهُ، وَحَاضَتِ الْمَرْأَةُ
إِذَا خَرَجَ دَمُهَا مِنْ رَحِمِهَا.
وَشَرْعًا: هُوَ دَمٌ يَخْرُجُ مِنْ أَقْصَى رَحِمِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ
بُلُوغِهَا عَلَى سَبِيل الصِّحَّةِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فِي أَوْقَاتٍ
مَعْلُومَةٍ (1) .
وَالْحَيْضَةُ الْمَرَّةُ، وَهِيَ الدَّفْعَةُ الْوَاحِدَةُ مِنْ دَفَعَاتِ
دَمِ الْحَيْضِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
وَرَدَتْ أَحْكَامُ الطُّهْرِ فِي أَبْوَابِ الْحَيْضِ وَالطَّلاَقِ
وَالْعِدَّةِ مِنْ كُتُبِ الْفُقَهَاءِ كَمَا يَلِي:
الطُّهْرُ فِي بَابِ الْحَيْضِ:
4 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ لأَِكْثَرِ الطُّهْرِ،
فَقَدْ لاَ تَحِيضُ الْمَرْأَةُ فِي عُمْرِهَا إِلاَّ مَرَّةً، وَقَدْ لاَ
تَحِيضُ أَصْلاً، فَحِينَئِذٍ تُصَلِّي وَتَصُومُ أَبَدًا، وَيَأْتِيهَا
زَوْجُهَا، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالأَْشْهُرِ.
قَالُوا: وَإِنَّ غَالِبَ الطُّهْرِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَوْ ثَلاَثَةٌ
وَعِشْرُونَ يَوْمًا بِلَيَالِيهَا؛ لأَِنَّ غَالِبَ الْحَيْضِ سِتَّةُ
أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا أَوْ سَبْعَةٍ، وَبَاقِي الشَّهْرِ وَهُوَ أَرْبَعٌ
وَعِشْرُونَ أَوْ ثَلاَثٌ وَعِشْرُونَ يَكُونُ غَالِبَ الطُّهْرِ،
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ:
إِنَّمَا هِيَ رَكْضَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ،
__________
(1) المصباح المنير والمغرب في ترتيب المعرب مادة " حيض " حاشية ابن عابدين
1 / 188، ومغني المحتاج 1 / 108.
(29/118)
فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ
سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي، فَإِذَا رَأَيْتِ
أَنَّكِ قَدْ طَهُرْتِ وَاسْتَنْقَأْتِ فَصَلِّي أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ
لَيْلَةً أَوْ ثَلاَثًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَيَّامَهَا (1) . إِلاَّ
أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أَقَل الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ (2) ،
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَيْض ف 24 وَمَا بَعْدَهَا) .
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الطُّهْرِ أَوِ النَّقَاءِ الَّذِي يَحْدُثُ
أَثْنَاءَ فَتْرَةِ الْحَيْضِ، كَأَنْ رَأَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا،
وَيَوْمًا وَلَيْلَةً نَقَاءً، أَوْ يَوْمَيْنِ دَمًا وَيَوْمَيْنِ نَقَاءً
أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَل مَا لَمْ يَتَجَاوَزْ أَكْثَرَ الْحَيْضِ (3) ،
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَلْفِيق ف 4 - 9) .
وَاخْتَلَفُوا كَذَلِكَ فِي الطُّهْرِ مِنَ الْحَيْضِ، أَوِ النِّفَاسِ
الَّذِي يُحِلُّهَا لِزَوْجِهَا، فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: هُوَ أَنْ
تَغْتَسِل بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ عَنْهَا.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا لأَِكْثَرِ
__________
(1) حديث حمنة بنت جحش: " إنما هي ركضة من الشيطان ". أخرجه الترمذي (1 /
223 - 224) وقال: " حديث حسن صحيح ".
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 189، القوانين الفقهية ص45، المجموع للنووي 2 /
380، مغني المحتاج 1 / 109، المغني لابن قدامة 1 / 310، كشاف القناع 1 /
203، أحكام القرآن للجصاص 1 / 406، تفسير القرطبي 3 / 83.
(3) المجموع للنووي 2 / 387، 501، 502، المغني لابن قدامة 1 / 310، حاشية
ابن عابدين 1 / 189، 192، الجامع لأحكام القرآن القرطبي 3 / 82.
(29/119)
الْحَيْضِ جَازَ لِزَوْجِهَا الْوَطْءُ
قَبْل الْغُسْل، وَإِنِ انْقَطَعَ لأَِقَل مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ
الْوَطْءُ حَتَّى تَغْتَسِل، أَوْ يَدْخُل عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلاَةِ
فَتَتَيَمَّمَ لَهَا (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ فِي مُصْطَلَحِ (حَيْض ف 44) .
الطُّهْرُ فِي بَابِ الطَّلاَقِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجُل إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ
- وَكَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الأَْقْرَاءِ - فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ
ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فَإِنَّ طَلاَقَهُ يَكُونُ
سُنِّيًّا.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ أَقْسَامِ الطَّلاَقِ الْبِدْعِيِّ:
أَنْ يُطَلِّقَ زَوْجَتَهُ وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الأَْقْرَاءِ فِي طُهْرٍ
جَامَعَهَا فِيهِ، لأَِنَّ فِيهِ تَطْوِيل الْعِدَّةِ عَلَى الْمَرْأَةِ
فَتَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، وَلأَِنَّهَا قَدْ تَحْمِل مِنْ ذَلِكَ الْجِمَاعِ
فَيَحْصُل النَّدَمُ مِنْهُ (2) ، وَلأَِنَّ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةً
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (3) الآْيَةَ.
__________
(1) المجموع للنووي 2 / 370، تفسير القطبي 3 / 88، مغني المحتاج 1 / 110،
كشاف القناع 1 / 199، أحكان القرآن للجصاص 1 / 411.
(2) البدائع 3 / 89، 94، القوانين الفقهية ص 227، مغني المحتاج 3 / 307،
روضة الطالبين 8 / 3، المغني لابن قدامة 7 / 98.
(3) سورة الطلاق / 1.
(29/119)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (طَلاَق،
وَحَيْض ف 45) .
الطُّهْرُ فِي الْعِدَّةِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَعْنَى الْقُرْءِ الْوَارِدِ فِي قَوْله
تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ
قُرُوءٍ} (1) بَعْدَ أَنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمَرْأَةِ
الْمُطَلَّقَةِ إِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الأَْقْرَاءِ هِيَ ثَلاَثَةُ
قُرُوءٍ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْقْرَاءَ
هِيَ: الأَْطْهَارُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الأَْقْرَاءَ هِيَ
الْحَيْضُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قُرْء) .
طُهُورٌ
اُنْظُرْ: طَهَارَة
__________
(1) سورة البقرة / 228.
(29/120)
طَوَافٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الطَّوَافُ لُغَةً: الدَّوَرَانُ حَوْل الشَّيْءِ، يُقَال: طَافَ حَوْل
الْكَعْبَةِ وَبِهَا يَطُوفُ طَوْفًا وَطَوَفَانًا بِفَتْحَتَيْنِ،
وَالْمَطَافُ: مَوْضِعُ الطَّوَافِ.
وَتَطَوَّفَ وَطَوَّفَ: بِمَعْنَى طَافَ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ
أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (1)
أَصْلُهُ يَتَطَوَّفُ، قُلِبَتِ التَّاءُ طَاءً ثُمَّ أُدْغِمَتْ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الطَّوَافُ: هُوَ الدَّوَرَانُ حَوْل الْبَيْتِ
الْحَرَامِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السَّعْيُ:
2 - السَّعْيُ فِي اللُّغَةِ: الْمَشْيُ، وَأَيْضًا الْقَصْدُ
__________
(1) سورة البقرة: الآية: 158.
(2) مادة (طوف) في القاموس المحيط وشرحه تاج العروس، ومختار الصحاح، ولسان
العرب، والمعجم الوسيط، وقواعد الفقه للبركتي، والمفردات في غريب القرآن.
(29/120)
إِلَى الشَّيْءِ، وَالْعَدْوُ،
وَالتَّصَرُّفُ فِي الأَْعْمَال (1) .
وَاصْطِلاَحًا: الْمَشْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.
وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى السَّعْيِ الطَّوَافُ، وَالتَّطَوُّفُ، كَمَا سَبَقَ
فِي الآْيَةِ: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} .
أَنْوَاعُ الطَّوَافِ:
3 - يَتَنَوَّعُ الطَّوَافُ بِحَسَبِ سَبَبِ مَشْرُوعِيَّتِهِ إِلَى
سَبْعَةِ أَنْوَاعٍ، وَهِيَ:
طَوَافُ الْقُدُومِ، طَوَافُ الزِّيَارَةِ، طَوَافُ الْوَدَاعِ، طَوَافُ
الْعُمْرَةِ، طَوَافُ النَّذْرِ، طَوَافُ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ، طَوَافُ التَّطَوُّعِ. كَذَا عَدَّهَا الْحَنَفِيَّةُ (2)
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَعَدَّهَا الشَّافِعِيَّةُ سِتَّةً: طَوَافُ الْقُدُومِ، طَوَافُ
الرُّكْنِ، طَوَافُ الْوَدَاعِ، طَوَافُ مَا يَتَحَلَّل بِهِ فِي
الْفَوَاتِ، طَوَافُ النَّذْرِ، طَوَافُ التَّطَوُّعِ (3) .
وَقَوْلُهُمْ " طَوَافُ الرُّكْنِ ": يَشْمَل طَوَافَ رُكْنِ الْحَجِّ
وَرُكْنِ الْعُمْرَةِ، وَقَوْلُهُمْ: " طَوَافُ التَّطَوُّعِ " يَشْمَل
تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، أَيِ الْمَسْجِدِ
__________
(1) مادة (س. ع. ى) في المصادر السابقة.
(2) لباب المناسك للسندي وشرحه للقاري " المسلك المتقسط شرح المنسك المتوسط
" مطبعة مصطفى محمد ص 96 - 97.
(3) نهاية المحتاج للزملي طبع بولاق 2 / 405، ومغني المحتاج للشربيني تصوير
بيروت 1 / 485.
(29/121)
الْحَرَامِ، لاِعْتِبَارِ أَنَّ تَحِيَّةَ
الْمَسْجِدِ بِالصَّلاَةِ تَنُوبُ عَنِ الطَّوَافِ.
وَاخْتَصَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ بِطَوَافِ مَا يَتَحَلَّل بِهِ فِي
الْفَوَاتِ، فَإِنَّهُ يَدْخُل فِي الْعُمْرَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ
يَتَحَلَّل بِعُمْرَةٍ عِنْدَهُمْ (1) ، وَيَتَحَلَّل بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ
وَحَلْقٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، حَتَّى لَوْ سَعَى بَعْدَ طَوَافِ
الْقُدُومِ سَقَطَ عَنْهُ السَّعْيُ، وَلاَ يَنْقَلِبُ عَمَلُهُ هَذَا
إِلَى عُمْرَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَلِكُل نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الأَْنْوَاعِ أَحْكَامُهُ عَلَى التَّفْصِيل
التَّالِي:
أَوَّلاً: طَوَافُ الْقُدُومِ:
4 - وَيُسَمَّى طَوَافَ الْقَادِمِ، وَطَوَافَ الْوُرُودِ، وَطَوَافَ
التَّحِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ شُرِعَ لِلْقَادِمِ وَالْوَارِدِ مِنْ غَيْرِ
مَكَّةَ لِتَحِيَّةِ الْبَيْتِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا طَوَافَ اللِّقَاءِ،
وَأَوَّل عَهْدٍ بِالْبَيْتِ، وَطَوَافُ الْقُدُومِ سُنَّةٌ لِلآْفَاقِيِّ
الْقَادِمِ إِلَى مَكَّةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ تَحِيَّةٌ لِلْبَيْتِ الْعَتِيقِ، لِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ
الْبَدْءُ بِهِ دُونَ تَأْخِيرٍ.
وَسَوَّى الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ دَاخِلِي مَكَّةَ، الْمُحْرِمِ
__________
(1) الهداية بشرحها فتح القدير (طبع بولاق) 2 / 303، ومواهب الجليل شرح
مختصر خليل للحطاب 2 / 200 - 201، وحاشية الدسوقي 2 / 30 وما بعدها،
والمغني (مطبعة النار - الثالثة) 3 / 527 - 528.
(2) نهاية المحتاج 2 / 480، ومغني المحتاج 1 / 537.
(29/121)
مِنْهُمْ وَغَيْرِ الْمُحْرِمِ فِي
سُنِّيَّةِ طَوَافِ الْقُدُومِ، بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي جَوَازِ
دُخُول الْحَرَمِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ لِمَنْ قَصَدَهُ لِحَاجَةٍ غَيْرِ
النُّسُكِ. وَلَمْ يُجِزْ غَيْرُهُمْ دُخُول الْحَرَمِ إِلاَّ بِنُسُكٍ:
يُحْرِمُ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً، لِذَلِكَ كَانَ طَوَافُ الْقُدُومِ
عِنْدَهُمْ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ خَاصَّةً؛ لأَِنَّ الْمُعْتَمِرَ
يَبْدَأُ بِطَوَافِ الْعُمْرَةِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ
طَوَافَ الْقُدُومِ وَاجِبٌ، مَنْ تَرَكَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ. وَفِي
بَيَانِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ طَوَافُ الْقُدُومِ، وَدَلِيل الْوُجُوبِ،
وَكَيْفِيَّةِ طَوَافِ الْقُدُومِ وَوَقْتِهِ، وَمَنْ يَسْقُطُ عَنْهُ:
تَفْصِيلٌ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجّ ف 88 وَمَا بَعْدَهَا) .
ثَانِيًا: طَوَافُ الإِْفَاضَةِ:
5 - طَوَافُ الإِْفَاضَةِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ الْمُجْمَعِ
عَلَيْهَا، لاَ يَتَحَلَّل الْحَاجُّ بِدُونِهِ التَّحَلُّل الأَْكْبَرَ،
وَلاَ يَنُوبُ عَنْهُ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ، وَيُؤَدِّيهِ الْحَاجُّ بَعْدَ
أَنْ يُفِيضَ مِنْ عَرَفَةَ، وَيَبِيتَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَيَأْتِي مِنًى
يَوْمَ الْعِيدِ، فَيَرْمِي وَيَنْحَرُ وَيَحْلِقُ، وَيَأْتِي مَكَّةَ،
فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا طَوَافَ
الزِّيَارَةِ، وَيُسَمَّى طَوَافَ الْفَرْضِ، وَالرُّكْنِ؛ لأَِنَّهُ
فَرْضٌ وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ.
وَفِي فَرْضِيَّةِ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَعَدَدِ
أَشْوَاطِهِ، وَشُرُوطِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ، وَوَقْتِهِ، وَمَا
(29/122)
يُسَنُّ فِيهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى
تَأْخِيرِهِ أَوْ تَرْكِهِ: فِي ذَلِكَ كُلِّهِ تَفْصِيلٌ سَبَقَ فِي
مُصْطَلَحِ: (حَجّ مِنْ ف 52 إِلَى 55 وَف 124) .
ثَالِثًا: طَوَافُ الْوَدَاعِ:
6 - وَيُسَمَّى طَوَافَ الصَّدَرِ، وَطَوَافَ آخِرِ الْعَهْدِ.
وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) وَمُسْتَحَبٌّ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ.
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِهِ بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ
بِالْبَيْتِ (1) ، إِلاَّ أَنَّهُ خَفَّفَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ.
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، بِأَنَّهُ جَازَ
لِلْحَائِضِ تَرْكُهُ دُونَ فِدَاءٍ، وَلَوْ وَجَبَ لَمْ يَجُزْ
لِلْحَائِضِ تَرْكُهُ. وَفِي شُرُوطِ وُجُوبِهِ وَمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ
وَشُرُوطِ صِحَّتِهِ وَوَقْتِهِ تَفْصِيلٌ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجّ ف
70 إِلَى 74) .
رَابِعًا: طَوَافُ الْعُمْرَةِ:
7 - وَهُوَ رُكْنٌ فِيهَا، وَأَوَّل وَقْتِهِ بَعْدَ الإِْحْرَامِ
بِالْعُمْرَةِ، وَلاَ آخِرَ لَهُ.
__________
(1) حديث: ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يكون آخر
عهدهم. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 585) ، ومسلم (2 / 963) .
(29/122)
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ:
(عُمْرَة) .
خَامِسًا: طَوَافُ النَّذْرِ:
8 - وَهُوَ وَاجِبٌ، وَلاَ يَخْتَصُّ بِوَقْتٍ إِذَا لَمْ يُعَيِّنِ
النَّاذِرُ فِي نَذْرِهِ لِلطَّوَافِ وَقْتًا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (نَذْر) .
سَادِسًا: طَوَافُ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ:
9 - وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ لِكُل مَنْ دَخَل الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، إِلاَّ
إِذَا كَانَ عَلَيْهِ طَوَافٌ آخَرُ، فَيَقُومُ مَقَامَهُ،
كَالْمُعْتَمِرِ، فَإِنَّهُ يَطُوفُ طَوَافَ فَرْضِ الْعُمْرَةِ،
وَيَنْدَرِجُ فِيهِ طَوَافُ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، كَمَا ارْتَفَعَ بِهِ
طَوَافُ الْقُدُومِ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ طَوَافِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ،
وَذَلِكَ لأَِنَّ تَحِيَّةَ هَذَا الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ هِيَ الطَّوَافُ
إِلاَّ إِذَا كَانَ مَانِعٌ فَحِينَئِذٍ يُصَلِّي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ
(1) .
سَابِعًا: طَوَافُ التَّطَوُّعِ:
10 - وَمِنْهُ طَوَافُ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَزَمَنُهُ -
كَمَا سَبَقَ - عِنْدَ الدُّخُول، أَمَّا طَوَافُ التَّطَوُّعِ غَيْرُ
طَوَافِ التَّحِيَّةِ، فَلاَ يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَيَجُوزُ
فِي أَوْقَاتِ كَرَاهَةِ الصَّلاَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَلاَ
يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ وَيَكُونَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ سَائِرِ
الْفُرُوضِ.
__________
(1) شرح اللباب ص 97.
(29/123)
وَيَصِحُّ مِنْ كُل مُسْلِمٍ عَاقِلٍ
مُمَيِّزٍ - وَلَوْ مِنَ الصِّغَارِ - إِذَا كَانَ طَاهِرًا.
وَيَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ وَكَذَا فِي طَوَافِ الْقُدُومِ
وَالتَّحِيَّةِ، أَيْ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) ،
عَلَى الْخِلاَفِ فِي مَسْأَلَةِ لُزُومِ إِتْمَامِ النَّافِلَةِ
بِالشُّرُوعِ فِيهَا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (شُرُوع ف 5) .
أَحْكَامُ الطَّوَافِ الْعَامَّةِ:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أُمُورًا لاَ بُدَّ مِنْهَا فِي الطَّوَافِ بِصِفَةٍ
عَامَّةٍ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي عَدِّهَا رُكْنًا أَوْ وَاجِبًا
أَوْ شَرْطًا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أَوَّلاً: حُصُول الطَّائِفِ حَوْل الْكَعْبَةِ الْعَدَدَ الْمَطْلُوبَ
مِنَ الأَْشْوَاطِ:
11 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ عَلَى كُل طَائِفٍ أَنْ يَطُوفَ
حَوْل الْكَعْبَةِ الْعَدَدَ الْمَطْلُوبَ مِنَ الأَْشْوَاطِ سَوَاءٌ كَانَ
حُصُولُهُ هَذَا بِفِعْل نَفْسِهِ، أَوْ بِفِعْل غَيْرِهِ، بِأَنْ حَمَلَهُ
الْغَيْرُ وَطَافَ بِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَادِرًا عَلَى الطَّوَافِ
بِنَفْسِهِ فَأَمَرَ شَخْصًا أَنْ يَحْمِلَهُ فِي الطَّوَافِ أَوْ حَمَلَهُ
الآْخَرُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنَّ هَذَا كَافٍ فِي أَدَاءِ فَرْضِ
الطَّوَافِ، وَسُقُوطِهِ عَنِ الذِّمَّةِ؛ لأَِنَّ الْفَرْضَ
__________
(1) المرجع السابق 98.
(29/123)
هُوَ حُصُول الطَّوَافِ حَوْل الْبَيْتِ،
وَقَدْ حَصَل.
ثَانِيًا: عَدَدُ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ:
12 - لاَ خِلاَفَ أَنَّ عَدَدَ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ الْمَطْلُوبَةِ
سَبْعَةٌ، لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي رُكْنِيَّةِ
السَّبْعَةِ:
فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الرُّكْنَ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ لاَ يُجْزِئُ
عَنِ الْفَرْضِ أَقَل مِنْهَا.
وَقَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ السَّبْعَةَ إِلَى رُكْنٍ وَوَاجِبٍ.
أَمَّا الْعَدَدُ الرُّكْنُ فَأَكْثَرُ هَذِهِ السَّبْعَةِ، وَأَمَّا
الْوَاجِبُ فَهُوَ الأَْقَل الْبَاقِي بَعْدَ أَكْثَرِ الطَّوَافِ.
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1) فَإِنَّ الآْيَةَ تُفِيدُ التَّكْثِيرَ،
لأَِنَّهُ عَبَّرَ بِصِيغَةِ التَّفْعِيل، وَقَدْ جَاءَ فِعْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّنًا الْقَدْرَ الَّذِي يَحْصُل بِهِ
امْتِثَال قَوْلِهِ: {وَلْيَطَّوَّفُوا} وَهُوَ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ،
فَتَكُونُ هِيَ الْفَرْضَ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَقَادِيرَ الْعِبَادَاتِ لاَ تُعْرَفُ
بِالرَّأْيِ وَالاِجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ، أَيِ
التَّعْلِيمِ مِنَ الشَّارِعِ، وَالرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ طَافَ سَبْعًا، وَفِعْلُهُ هَذَا بَيَانٌ لِمَنَاسِكِ الْحَجِّ،
كَمَا
__________
(1) سورة الحج 29.
(29/124)
قَال: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ. (1) .
فَالْفَرْضُ طَوَافُ سَبْعَةِ أَشْوَاطٍ وَلاَ يُعْتَدُّ بِمَا دُونَهَا
(2) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا:
(1) قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَهَذَا
أَمْرٌ مُطْلَقٌ عَنْ أَيِّ قَيْدٍ، وَالأَْمْرُ الْمُطْلَقُ يُوجِبُ
مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلاَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، فَالزِّيَادَةُ عَلَى
شَوْطٍ مِنَ الطَّوَافِ تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ، وَالدَّلِيل
قَائِمٌ عَلَى فَرْضِيَّةِ أَكْثَرِ السَّبْعِ، وَهُوَ الإِْجْمَاعُ،
فَتَكُونُ فَرْضًا، وَلاَ إِجْمَاعَ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْبَاقِي، فَلاَ
يَكُونُ فَرْضًا بَل وَاجِبًا.
(2) أَنَّ الطَّائِفَ قَدْ أَتَى بِأَكْثَرِ السَّبْعِ، وَالأَْكْثَرُ
يَقُومُ مَقَامَ الْكُل، فَكَأَنَّهُ أَدَّى الْكُل (3) .
وَقَال كَمَال الدِّينِ بْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الَّذِي
نَدِينُ بِهِ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ أَقَل مِنْ سَبْعٍ، وَلاَ يَجْبُرُ
بَعْضَهُ بِشَيْءٍ (4) .
الشَّكُّ فِي عَدَدِ الأَْشْوَاطِ:
13 - لَوْ شَكَّ فِي عَدَدِ أَشْوَاطِ طَوَافِهِ وَهُوَ فِي
__________
(1) حديث: " خذوا عني مناسككم ". أخرجه مسلم (2 / 943) ، والبيهقي (5 /
125) من حديث جابر بن عبد الله، واللفظ للبيهقي.
(2) نهاية المحتاج 2 / 409.
(3) بدائع الصنائع 2 / 132، والدر المختار وحاشيته 2 / 250.
(4) فتح القدير 2 / 247.
(29/124)
الطَّوَافِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ، وَهُوَ
الأَْقَل عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ) .
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل
الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ (1) وَلأَِنَّهَا عِبَادَةٌ، فَمَتَى شَكَّ فِيهَا
وَهُوَ فِيهَا بَنَى عَلَى الْيَقِينِ كَالصَّلاَةِ (2) .
وَأَجْرَى الْمَالِكِيَّةُ (3) ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمُسْتَنْكِحِ،
فَقَالُوا: يَبْنِي الشَّاكُّ غَيْرُ " الْمُسْتَنْكِحِ (4) عَلَى
الأَْقَل، وَالْمُرَادُ بِالشَّكِّ مُطْلَقُ التَّرَدُّدِ الشَّامِل
لِلْوَهْمِ، أَمَّا الشَّاكُّ الْمُسْتَنْكِحُ فَيَبْنِي عَلَى
الأَْكْثَرِ.
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فِي الشَّكِّ فِي عَدَدِ الأَْشْوَاطِ بَيْنَ
طَوَافِ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ: أَمَّا طَوَافُ الْفَرْضِ
كَالْعُمْرَةِ وَالزِّيَارَةِ وَالْوَاجِبِ كَالْوَدَاعِ فَقَالُوا: لَوْ
شَكَّ فِي عَدَدِ الأَْشْوَاطِ فِيهِ أَعَادَهُ، وَلاَ يَبْنِي عَلَى
غَالِبِ ظَنِّهِ، بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ، وَلَعَل الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا
كَثْرَةُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ وَنُدْرَةِ الطَّوَافِ.
أَمَّا غَيْرُ طَوَافِ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَهُوَ النَّفَل فَإِنَّهُ
إِذَا شَكَّ فِيهِ يَتَحَرَّى، وَيَبْنِي عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ، وَيَبْنِي
عَلَى الأَْقَل الْمُتَيَقَّنِ فِي
__________
(1) المغني 3 / 378، وانظر المجموع 8 / 25.
(2) انظر المرجعين السابقين، ونهاية المحتاج 2 / 409، ومغني المحتاج 1 /
486 - 487.
(3) الشرح الكبير للدردير وحاشيته للدسوقي 2 / 33.
(4) المراد بالمستنكح في مصطلح المالكية هو من يأتيه الشك في كل يوم ولو
مرة.
(29/125)
أَصْلِهِ (1) .
أَمَّا إِذَا شَكَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الطَّوَافِ فَلاَ يُلْتَفَتُ
إِلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَسَوَّى الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
مَا إِذَا كَانَ فِي الطَّوَافِ، وَأَطْلَقَ الْحَنَفِيَّةُ عِبَارَاتِهِمْ
فِي الشَّكِّ.
وَإِنْ أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بِعَدَدِ طَوَافِهِ أُخِذَ بِهِ إِنْ كَانَ
عَدْلاً عِنْدَ الأَْكْثَرِ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِشَرْطِ كَوْنِهِ
مَعَهُ فِي الطَّوَافِ، وَلَمْ يَشْرِطْ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ
مُخَالِفٍ لِمَا فِي ظَنِّهِ أَوْ عِلْمِهِ، يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ
يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ احْتِيَاطًا فِيمَا فِيهِ الاِحْتِيَاطُ فَيُكَذِّبُ
نَفْسَهُ، لاِحْتِمَال نِسْيَانِهِ وَيُصَدِّقُهُ؛ لأَِنَّهُ عَدْلٌ لاَ
غَرَضَ لَهُ فِي خَبَرِهِ، وَلَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلاَنِ وَجَبَ الْعَمَل
بِقَوْلِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَشُكَّ؛ لأَِنَّ عِلْمَيْنِ خَيْرٌ مِنْ
عِلْمٍ وَاحِدٍ، وَلأَِنَّ إِخْبَارَهُمَا بِمَنْزِلَةِ شَاهِدَيْنِ عَلَى
إِنْكَارِهِ فِي فِعْلِهِ أَوْ إِقْرَارِهِ. وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيَّةُ
لَهُ الأَْخْذَ بِقَوْل الْعَدْل الْمُخَالِفِ لِعِلْمِهِ، خِلاَفًا
لِلصَّلاَةِ.
ثَالِثًا: النِّيَّةُ:
14 - مُجَرَّدُ إِرَادَةِ الدَّوَرَانِ حَوْل الْكَعْبَةِ لاَ
__________
(1) المسلك المتقسط ص 113، ورد المحتار 2 / 230.
(2) المغني 3 / 378، ومغني المحتاج 1 / 486 - 487.
(29/125)
لِقَصْدِ شَيْءٍ آخَرَ يَكْفِي فِي هَذَا
الشَّرْطِ، دُونَ تَعْيِينِهِ لِلْفَرْضِ أَوِ الْوُجُوبِ أَوِ السُّنَّةِ،
وَلاَ تَعْيِينُ كَوْنِهِ لِلإِْفَاضَةِ أَوْ لِلصَّدَرِ أَوْ لِلْقُدُومِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ (1) فِي الرَّاجِحِ.
وَمَنْ قَامَ بِعَمَل الطَّوَافِ لِطَلَبِ غَرِيمٍ أَوْ فِرَارًا مِنْ
ظَالِمٍ لاَ يُعْتَدُّ بِهِ مَا لَمْ يَنْوِ مَعَ عَمَلِهِ هَذَا
الطَّوَافَ (2) وَفِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ: نِيَّةُ الْحَجِّ
عِنْدَ الإِْحْرَامِ كَافِيَةٌ عَنْ نِيَّةِ الطَّوَافِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ طَافَ طَوَافًا فِي وَقْتِهِ الَّذِي عَيَّنَ
الشَّارِعُ وُقُوعَهُ فِيهِ وَقَعَ عَنْهُ، نَوَاهُ بِعَيْنِهِ أَوْ لاَ،
أَوْ نَوَى طَوَافًا آخَرَ، فَلَوْ قَدِمَ مُعْتَمِرًا وَطَافَ بِأَيِّ
نِيَّةٍ كَانَتْ مِنْ نِيَّاتِ الطَّوَافِ كَأَنْ نَوَاهُ تَطَوُّعًا
يَقَعُ طَوَافُهُ عَنِ الْعُمْرَةِ، أَوْ قَدِمَ حَاجًّا وَطَافَ قَبْل
يَوْمِ النَّحْرِ وَقَعَ عَنْ طَوَافِ الْقُدُومِ.
وَقَال الدُّسُوقِيُّ: إِنَّ نِيَّةَ الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ يَنْدَرِجُ
فِيهَا الْوُقُوفُ كَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَتُطْلَبُ النِّيَّةُ مِنَ
الْمَارِّ دُونَ غَيْرِهِ.
وَقَرَّرَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّ نِيَّةَ الطَّوَافِ شَرْطٌ إِنِ
__________
(1) المسلك المتقسط ص 99.
(2) المرجع السابق، وبدائع الصنائع للكاساني (طبع شركة المطبوعات العلمية)
2 / 128 وحاشية الهيثمي على الإيضاح ص 252، والفروع لابن مفلح الحنبلي (طبع
عالم الكتب) 3 / 501، ومغني المحتاج (دار إحياء التراث - بيروت) 1 / 487،
وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (طبع عيسى الحلبي) 2 / 37.
(29/126)
اسْتَقَل بِأَنْ لَمْ يَشْمَلْهُ نُسُكٌ،
كَالطَّوَافِ الْمَنْذُورِ وَالْمُتَطَوَّعِ بِهِ، قَال ابْنُ الرِّفْعَةِ:
وَطَوَافُ الْوَدَاعِ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ نِيَّةٍ؛ لأَِنَّهُ يَقَعُ
بَعْدَ التَّحَلُّل، لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَنَاسِكِ عِنْدَ
الشَّيْخَيْنِ، بِخِلاَفِ الطَّوَافِ الَّذِي يَشْمَلُهُ نُسُكٌ وَهُوَ
طَوَافُ الرُّكْنِ لِلْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ وَطَوَافِ الْقُدُومِ فَلاَ
يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى نِيَّةٍ فِي الأَْصَحِّ، لِشُمُول نِيَّةِ
النُّسُكِ لَهُ، وَقَالُوا: مَا لَمْ يَصْرِفِ الطَّوَافَ إِلَى غَرَضٍ
آخَرَ مِنْ طَلَبِ غَرِيمٍ أَوْ نَحْوِهِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ بُدَّ لِصِحَّةِ الطَّوَافِ مِنَ النِّيَّةِ
لِحَدِيثِ إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (2) وَلأَِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهُ صَلاَةً وَالصَّلاَةُ لاَ
تَصِحُّ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ اتِّفَاقًا، وَفِي طَوَافِ الإِْفَاضَةِ
يُعَيِّنُ فِي نِيَّتِهِ هَذَا الطَّوَافَ (3) .
طَوَافُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ:
15 - لَوْ طَافَ بِالْمُغْمَى عَلَيْهِ رِفَاقُهُ مَحْمُولاً،
__________
(1) البدائع 2 / 128 - 129، وشرح اللباب ص 98 و99، والدسوقي 2 / 37،
والمهذب مع المجموع 8 / 16 و 18 و 21، والإيضاح ص 251 - 253، ونهاية
المحتاج 2 / 409 و 414 و 416، ومغني المحتاج 1 / 487 و 292، والمغني 3 /
441 و 443 (مطبعة المنار - الثالثة) ، والفروع 3 / 499 - 501.
(2) حديث: " إنما الأعمال بالنيات ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 9)
ومسلم (3 / 1515) من حديث عمر بن الخطاب.
(3) المغني 3 / 441، وكشاف القناع 2 / 485، 505.
(29/126)
أَجْزَأَ ذَلِكَ الطَّوَافُ الْوَاحِدُ
عَنِ الْحَامِل وَالْمَحْمُول إِنْ نَوَاهُ الْحَامِل عَنْ نَفْسِهِ وَعَنِ
الْمَحْمُول، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، بِنَاءً
عَلَى أَنَّ عَقْدَ الرُّفْقَةِ مُتَضَمِّنٌ لِفِعْل هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ،
وَسَوَاءٌ اتَّفَقَ طَوَافُهُمَا بِأَنْ كَانَ لِعُمْرَتِهِمَا، أَوْ
لِزِيَارَتِهِمَا، وَنَحْوِهِمَا، أَوِ اخْتَلَفَ طَوَافُهُمَا، فَيَكُونُ
طَوَافُ الْحَامِل عَمَّا أَوْجَبَهُ إِحْرَامُهُ، وَطَوَافُ الْمَحْمُول
كَذَلِكَ (1) .
وَانْظُرِ الْمَسْأَلَةَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَام ف 137 - 143) .
طَوَافُ النَّائِمِ وَالْمَرِيضِ:
16 - لَوْ طَافَ أَحَدٌ بِمَرِيضٍ وَهُوَ نَائِمٌ مِنْ غَيْرِ إِغْمَاءٍ
فَفِيهِ تَفْصِيلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ كَانَ الطَّوَافُ
بِأَمْرِهِ وَحَمَلُوهُ عَلَى فَوْرِهِ أَيْ سَاعَتِهِ عُرْفًا وَعَادَةً
يَجُوزُ، وَإِلاَّ بِأَنْ طَافُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ
بِالطَّوَافِ بِهِ أَوْ فَعَلُوا لَكِنْ لاَ عَلَى فَوْرِهِ فَلاَ
يُجْزِيهِ الطَّوَافُ. فَفَرَّقُوا فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْوُقُوفِ
وَالطَّوَافِ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ،
وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمِ فَاكْتَفُوا فِي
الْمُغْمَى عَلَيْهِ بِعَقْدِ الرُّفْقَةِ، وَفِي الْمَرِيضِ النَّائِمِ
اعْتَبَرُوا الأَْمْرَ الصَّرِيحَ لِقِيَامِ نِيَّتِهِمْ مَقَامَ
نِيَّتِهِ؛ لأَِنَّ
__________
(1) المسلك المتقسط ص 100.
(29/127)
حَالَهُ أَقْرَبُ إِلَى الشُّعُورِ مِنْ
حَال الْمُغْمَى عَلَيْهِ.
وَعِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ يُنْتَظَرُ حَتَّى يُفِيقَ الْمُغْمَى
عَلَيْهِ وَالنَّائِمُ وَيَسْتَوْفِي شُرُوطَ الطَّوَافِ الَّتِي مِنْهَا
الطَّهَارَتَانِ (1) .
رَابِعًا: وُقُوعُ الطَّوَافِ فِي الْمَكَانِ الْخَاصِّ:
17 - مَكَانُ الطَّوَافِ هُوَ حَوْل الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ دَاخِل
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قَرِيبًا مِنَ الْبَيْتِ أَوْ بَعِيدًا عَنْهُ،
وَهَذَا شَرْطٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2) .
فَلَوْ طَافَ مِنْ وَرَاءِ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ
مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ كَمِنْبَرٍ أَوْ غَيْرِهِ كَالأَْعْمِدَةِ، أَوْ
عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ قَدْ
حَصَل حَوْل الْبَيْتِ، مَا دَامَ ضِمْنَ الْمَسْجِدِ، وَإِنْ وَسِعَ
الْمَسْجِدُ، وَمَهْمَا تَوَسَّعَ مَا لَمْ يَبْلُغِ الْحِل عِنْدَ
الْجُمْهُورِ (3)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ الطَّوَافُ بِسَقَائِفِ الْمَسْجِدِ،
وَهِيَ مَحَلٌّ كَانَ بِهِ قِبَابٌ مَعْقُودَةٌ، وَمِنْ وَرَاءِ زَمْزَمَ
وَقُبَّةِ الشَّرَابِ حِذَاءُ زَمْزَمَ، وَلاَ يَضُرُّ حَيْلُولَةُ
الأُْسْطُوَانَاتِ وَزَمْزَمُ وَالْقُبَّةُ بَيْنَ
__________
(1) المسلك المتقسط ص 100 - 101.
(2) سورة الحج الآية: 29.
(3) المسلك المتقسط ص 101، والدر المختار وحاشيته 2 / 230، ومغني المحتاج 1
/ 487، ونهاية المحتاج 2 / 409، والمغني 3 / 375، والفروع 3 / 500.
(29/127)
الطَّائِفِ وَالْبَيْتِ بِسَبَبِ زَحْمَةٍ
انْتَهَتْ إِلَيْهَا؛ لأَِنَّ الزِّحَامَ يُصَيِّرُ الْجَمِيعَ مُتَّصِلاً
بِالْبَيْتِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَحْمَةٌ بَل طَافَ تَحْتَ السَّقَائِفِ
اعْتِبَاطًا، أَوْ لِحَرٍّ، أَوْ لِبَرْدٍ، أَوْ مَطَرٍ أَعَادَ وُجُوبًا
مَا دَامَ بِمَكَّةَ، وَلَمْ يَرْجِعْ لَهُ مِنْ بَلَدِهِ أَوْ مِمَّا
يَتَعَذَّرُ مِنْهُ الرُّجُوعُ، وَعَلَيْهِ الدَّمُ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ
أَنَّ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ الشَّدِيدَيْنِ كَالزَّحْمَةِ، كَمَا قَرَّرَ
الدُّسُوقِيُّ، وَعَلَى هَذَا لَوْ طَافَ فِي السَّقَائِفِ لِزَحْمَةٍ
ثُمَّ قَبْل كَمَالِهِ زَالَتْ الزَّحْمَةُ وَجَبَ إِكْمَالُهُ فِي
الْمَحَل الْمُعْتَادِ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَاقِي قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا،
فَلَوْ كَمُل الْبَاقِي فِي السَّقَائِفِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُعِيدُ
ذَلِكَ الَّذِي كَمَّلَهُ فِي السَّقَائِفِ (1) .
خَامِسًا: أَنْ يَكُونَ الطَّوَافُ حَوْل الْبَيْتِ كُلِّهِ:
18 - وَذَلِكَ يَشْمَل الشَّاذَرْوَانَ، وَهُوَ الْجُزْءُ السُّفْلِيُّ
الْخَارِجُ عَنْ جِدَارِ الْبَيْتِ مُرْتَفِعًا عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ
عَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُ مِنَ الْكَعْبَةِ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ هَل هُوَ مِنَ الْكَعْبَةِ أَوْ لَيْسَ مِنَ
الْكَعْبَةِ؟ فَقَال جَمَاعَةٌ: هُوَ مِنَ الْكَعْبَةِ تَرَكَتْهُ قُرَيْشٌ
لِضِيقِ النَّفَقَةِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَيْسَ مِنَ الْكَعْبَةِ
وَعَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ (2) .
__________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي 2 / 33.
(2) الحطاب 3 / 70 - 71.
(29/128)
سَادِسًا: أَنْ يَكُونَ الْحِجْرُ دَاخِلاً
فِي طَوَافِهِ:
19 - الْحِجْرُ - بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ - هُوَ الْمَوْضِعُ
الْمُحَاطُ بِجِدَارٍ مُقَوَّسٍ تَحْتَ مِيزَابِ الْكَعْبَةِ، فِي
الْجِهَةِ الشَّمَالِيَّةِ مِنَ الْكَعْبَةِ، وَيُسَمَّى الْحَطِيمَ
أَيْضًا.
وَالْحِجْرُ هُوَ جُزْءٌ مِنَ الْبَيْتِ، تَرَكَتْهُ قُرَيْشٌ لِضِيقِ
النَّفَقَةِ، وَأَحَاطَتْهُ بِالْجِدَارِ، وَقِيل: الَّذِي مِنْهَا سِتَّةُ
أَذْرُعٍ أَوْ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ، فَالنَّظَرُ فِي الْقَدْرِ الزَّائِدِ
إِلَى طَوَافِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مِنْ
وَرَائِهِ، وَهُوَ مَا قَطَعَ بِهِ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا صَرَّحَ
بِهِ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ (1) .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهَا: أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ
لَمَّا بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟
فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، أَلاَ تَرُدَّهَا عَلَى قَوَاعِدِ
إِبْرَاهِيمَ؟ قَال: لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ
فَقَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَئِنْ
كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَرَى رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ اسْتِلاَمَ الرُّكْنَيْنِ
اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ إِلاَّ أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ
عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ (2) وَعَنْهَا
__________
(1) المجموع 8 / 28، 29.
(2) حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: " ألم ترى أن
قومك لما بنوا الكعبة. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 439) ومسلم (2
/ 969) .
(29/128)
قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْجَدْرِ (1) أَمِنْ الْبَيْتِ هُوَ؟
قَال: نَعَمْ (2) .
وَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
وَعَطَاءٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: إِلَى أَنَّ الطَّوَافَ
مِنْ وَرَاءِ الْحَطِيمِ فَرْضٌ، مَنْ تَرَكَهُ لَمْ يُعْتَدَّ
بِطَوَافِهِ، حَتَّى لَوْ مَشَى عَلَى جِدَارِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ،
لأَِنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْكَعْبَةِ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ
الصَّحِيحَةِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلاً فِي الطَّوَافِ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى الطَّوَافِ مِنْ وَرَاءِ الْحِجْرِ، وَفِعْلُهُ بَيَانٌ
لِلْقُرْآنِ، فَيُلْتَحَقُ بِهِ، فَيَكُونُ فَرْضًا.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: دُخُول الْحِجْرِ فِي الطَّوَافِ وَاجِبٌ
لأَِنَّ كَوْنَهُ جُزْءًا مِنَ الْبَيْتِ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ،
وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يَثْبُتُ بِهِ الْوُجُوبُ عِنْدَهُمْ لاَ الْفَرْضُ
(3) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَمَنْ تَرَكَ الطَّوَافَ خَلْفَ الْحِجْرِ لَمْ يَصِحَّ
طَوَافُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِهِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ
يَطُفْ بِجَمِيعِ الْبَيْتِ.
__________
(1) الجدر: هو الحجر.
(2) حديث عائشة: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الجدر أمن البيت هو.
أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 439) ومسلم (2 / 973) .
(3) بدائع الصنائع 2 / 131 و133 و 134، والمسلك المتقسط ص 104، ورد المحتار
2 / 219، وشرح المنهاج 2 / 105، ومغني المحتاج 1 / 486، ومواهب الجليل 3 /
71 - 75 وحاشية العدوي 1 / 466، والشرح الكبير 2 / 31، المغني 3 / 382
والفروع 3 / 499.
(29/129)
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَيَجِبُ
عَلَيْهِ إِعَادَةُ الطَّوَافِ مَا دَامَ بِمَكَّةَ، فَإِنْ رَجَعَ إِلَى
بَلَدِهِ بِغَيْرِ إِعَادَةٍ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ يُرْسِلُهُ إِلَى مَكَّةَ،
وَالأَْفْضَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِعَادَةُ كُل الطَّوَافِ
لِيُؤَدِّيَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ، وَلِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلاَفِ.
أَمَّا الْوَاجِبُ فِي الإِْعَادَةِ: فَيُجْزِيهِ أَنْ يَأْخُذَ عَنْ
يَمِينِهِ خَارِجَ الْحِجْرِ مُبْتَدِئًا مِنْ أَوَّل أَجْزَاءِ
الْفُرْجَةِ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ احْتِيَاطًا، وَيَطُوفَ حَتَّى
يَنْتَهِيَ إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ يَدْخُل الْحِجْرَ مِنَ الْفُرْجَةِ
الَّتِي وَصَل إِلَيْهَا وَيَخْرُجَ مِنَ الْجَانِبِ الآْخَرِ، أَوْ لاَ
يَدْخُل الْحِجْرَ، بَل يَرْجِعُ وَيَبْتَدِئُ مِنْ أَوَّل الْحِجْرِ (1) .
سَابِعًا: ابْتِدَاءُ الطَّوَافِ مِنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ:
20 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الطَّوَافِ مِنَ الْحَجَرِ
الأَْسْوَدِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الطَّوَافِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ فِي مَذْهَبِ
الْحَنَفِيَّةِ، فَلاَ يُعْتَدُّ بِالشَّوْطِ الَّذِي بَدَأَهُ بَعْدَ
الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَجَعَلُوهَا دَلِيل الْفَرْضِيَّةِ؛ لأَِنَّهَا بَيَانٌ
لإِِجْمَال الْقُرْآنِ.
وَلاَ بُدَّ عِنْدَهُمْ مِنْ مُحَاذَاةِ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ بِجَمِيعِ
الْبَدَنِ؛ لأَِنَّ مَا وَجَبَ فِيهِ مُحَاذَاةُ الْبَيْتِ
__________
(1) المسلك المتقسط ص 104 وقارن بفتح القدير 2 / 151.
(29/129)
وَجَبَتْ مُحَاذَاتُهُ بِجَمِيعِ
الْبَدَنِ، كَالاِسْتِقْبَال فِي الصَّلاَةِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الرَّاجِحِ فِي
الْمَذْهَبَيْنِ إِلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الطَّوَافِ مِنَ الْحَجَرِ
الأَْسْوَدِ وَاجِبٌ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَاظَبَ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمُوَاظَبَةُ دَلِيل الْوُجُوبِ، لاَ
سِيَّمَا وَقَدْ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذُوا عَنِّي
مَنَاسِكَكُمْ (2) فَيَلْزَمُ الدَّمُ بِتَرْكِ الْبِدَايَةِ مِنْهُ فِي
طَوَافِ الرُّكْنِ (3) .
قَال الْمُحَقِّقُ الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْقَارِئُ (4) : وَلَوْ قِيل:
إِنَّهُ وَاجِبٌ لاَ يَبْعُدُ، لأَِنَّ الْمُوَاظَبَةَ مِنْ غَيْرِ تَرْكِ
مَرَّةٍ دَلِيلُهُ، فَيَأْثَمُ بِهِ وَيُجْزِيهِ، وَلَوْ كَانَ فِي
الآْيَةِ إِجْمَالٌ لَكَانَ شَرْطًا كَمَا قَال مُحَمَّدٌ، لَكِنَّهُ
مُنْتَفٍ فِي حَقِّ الاِبْتِدَاءِ، فَيَكُونُ مُطْلَقُ التَّطَوُّفِ
فَرْضًا، وَافْتِتَاحُهُ - أَيْ مِنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ - وَاجِبًا
لِلْمُوَاظَبَةِ. . . وَهُوَ الأَْشْبَهُ وَالأَْعْدَل، فَيَنْبَغِي أَنْ
يَكُونَ هُوَ الْمُعَوَّل.
ثَامِنًا: التَّيَامُنُ:
21 - التَّيَامُنُ: سَيْرُ الطَّائِفِ عَنْ يَمِينِ
__________
(1) المهذب 8 / 33، ونهاية المحتاج 2 / 407 وحاشية العدوي 1 / 466، وشرح
الفاسي على الرسالة 1 / 352، والمغني 3 / 371 - 372، والفروع 3 / 497.
(2) حديث: " خذوا عني مناسككم ". أخرجه مسلم (2 / 943) من حديث جابر بلفظ "
لتأخذوا مناسككم ".
(3) تنوير الأبصار والشرح والحاشية 2 / 203، وشرح الزرقاني 2 / 262، والشرح
الكبير وحاشيته 2 / 30 - 31، ومواهب الجليل 3 / 64 - 65.
(4) المسلك المتقسط ص 98.
(29/130)
الْكَعْبَةِ، وَجَعْل يَسَارِهِ لِجَانِبِ
الْكَعْبَةِ، وَهَذَا شَرْطٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَقَرَّرُوا
أَنَّ الطَّوَافَ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ بَاطِلٌ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جَعَل الْبَيْتَ فِي الطَّوَافِ عَلَى يَسَارِهِ (1) ، وَلأَِنَّهَا
عِبَادَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَيْتِ فَيَجِبُ فِيهَا التَّرْتِيبُ
كَالصَّلاَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: التَّيَامُنُ وَاجِبٌ فِي الطَّوَافِ، وَالطَّوَافُ
عَلَى عَكْسِهِ صَحِيحٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ، وَتَجِبُ
إِعَادَتُهُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ مِنْ
غَيْرِ إِعَادَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ هَيْئَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالطَّوَافِ، فَلاَ
تَمْنَعُ صِحَّتَهُ، وَجَعَلُوا الآْيَةَ: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ} دَلِيلاً عَلَى إِجْزَاءِ الطَّوَافِ وَصِحَّتِهِ عَلَى أَيِّ
هَيْئَةٍ؛ لأَِنَّ الأَْمْرَ مُطْلَقٌ، فَيَتَأَدَّى الرُّكْنُ بِدُونِ
تِلْكَ الْهَيْئَةِ، وَحَمَلُوا فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى الْوُجُوبِ (2) .
تَاسِعًا: الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ:
22 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى:
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البيت في الطواف على يساره ".
أخرجه مسلم (2 / 893) من حديث جابر بلفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثا ومشى أربعا.
(2) البدائع 2 / 130 - 131 والمسلك المتقسط ص 104 وحاشية العدوي 1 / 466،
والشرح الكبير 2 / 31 ونهاية المحتاج 2 / 407، ومغني المحتاج 1 / 485.
(29/130)
أَنَّ الطَّهَارَةَ مِنَ الأَْحْدَاثِ
وَمِنَ الأَْنْجَاسِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الطَّوَافِ، فَإِذَا طَافَ فَاقِدًا
أَحَدَهَا فَطَوَافُهُ بَاطِلٌ لاَ يُعْتَدُّ بِهِ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ:
الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ وَمِنَ الْخَبَثِ وَاجِبٌ لِلطَّوَافِ، وَهُوَ
رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى
أَنَّ الطَّهَارَةَ مِنَ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ سُنَّةٌ
مُؤَكَّدَةٌ.
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاَةٌ
فَأَقِلُّوا مِنَ الْكَلاَمِ (1) .
وَإِذَا كَانَ صَلاَةً وَالصَّلاَةُ لاَ تَجُوزُ بِدُونِ الطَّهَارَةِ مِنَ
الأَْحْدَاثِ، فَكَذَلِكَ الطَّوَافُ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ الطَّهَارَةِ.
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} .
وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِهَا أَنَّ الأَْمْرَ بِالطَّوَافِ مُطْلَقٌ لَمْ
يُقَيِّدْهُ الشَّارِعُ بِشَرْطِ الطَّهَارَةِ، وَهَذَا نَصٌّ قَطْعِيٌّ،
وَالْحَدِيثُ خَبَرُ آحَادٍ وَيُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ فَلاَ يُقَيِّدُ
نَصَّ الْقُرْآنِ، لأَِنَّهُ دُونَ رُتْبَتِهِ، فَحَمَلْنَا الْحَدِيثَ
عَلَى الْوُجُوبِ وَعَمِلْنَا بِهِ (2) .
__________
(1) حديث ابن عباس: " الطواف بالبيت صلاة ". أخرجه النسائي (5 / 222) وصححه
ابن حجر في التلخيص (1 / 130) .
(2) البدائع 2 / 129، والمسلك المتقسط ص 103، و108 وحاشية العدوي 1 / 456 -
466 والشرح الكبير 2 / 31 ونهاية المحتاج 2 / 405، 406، ومغني المحتاج 1 /
485، وحاشية اليجوري 1 / 532، والمغني 3 / 377، د والفروع 3 / 502.
(29/131)
وَعَلَى ذَلِكَ: فَمَنْ طَافَ مُحْدِثًا
فَطَوَافُهُ بَاطِلٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَلَيْهِ الْعَوْدُ
لأَِدَائِهِ إِنْ كَانَ طَوَافًا وَاجِبًا، وَلاَ تَحِل لَهُ النِّسَاءُ
إِنْ كَانَ طَوَافَ إِفَاضَةٍ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ. أَمَّا عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ فَهُوَ صَحِيحٌ لَكِنْ تَجِبُ إِعَادَتُهُ مَا دَامَ
بِمَكَّةَ، وَإِلاَّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْفِدَاءُ.
وَمَنْ أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ يَذْهَبُ فَيَتَوَضَّأُ
وَيُتَمِّمُ الأَْشْوَاطَ وَلاَ يُعِيدُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ.
وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ يُعِيدُ الطَّوَافَ مِنْ أَوَّلِهِ،
وَلاَ يَبْنِي عَلَى الأَْشْوَاطِ السَّابِقَةِ (1) ، وَذَلِكَ لأَِنَّ
الْمُوَالاَةَ فِي أَشْوَاطِ الطَّوَافِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الطَّوَافِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَحْدَثَ عَمْدًا فَإِنَّهُ
يَبْتَدِئُ الطَّوَافَ، لأَِنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ لَهُ، وَإِنْ سَبَقَهُ
الْحَدَثُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: يَبْتَدِئُ أَيْضًا،
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي، قَال حَنْبَلٌ عَنْ
أَحْمَدَ فِيمَنْ طَافَ ثَلاَثَةَ أَشْوَاطٍ أَوْ أَكْثَرَ، يَتَوَضَّأُ
فَإِنْ شَاءَ بَنَى، وَإِنْ شَاءَ اسْتَأْنَفَ، قَال أَبُو عَبْدِ اللَّهِ:
يَبْنِي إِذَا لَمْ يُحْدِثْ حَدَثًا إِلاَّ الْوُضُوءَ، فَإِنْ عَمِل
عَمَلاً
__________
(1) شرح الرسالة مع حاشية العدوي 1 / 466، لكن جزم خليل وأقره في الشرح
الكبير 2 / 32 أنه يبنى إن رعف بعد غسل الدم بشرط ألا يتعد موضعا قريبا،
كالصلاة وألا يبعد المكان جدا، وأن لا يطأ نجاسة، ونهاية المحتاج 3 / 271.
(29/131)
غَيْرَ ذَلِكَ اسْتَقْبَل الطَّوَافَ،
وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُوَالاَةَ تَسْقُطُ عِنْدَ الْعُذْرِ فِي إِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ، وَهَذَا مَعْذُورٌ، فَجَازَ الْبِنَاءُ، وَإِنِ اشْتَغَل
بِغَيْرِ الْوُضُوءِ فَقَدْ تَرَكَ الْمُوَالاَةَ لِغَيْرِ عُذْرٍ
فَلَزِمَهُ الاِبْتِدَاءُ إِذَا كَانَ الطَّوَافُ فَرْضًا، فَأَمَّا
الْمَسْنُونُ فَلاَ تَجِبُ إِعَادَتُهُ كَالصَّلاَةِ الْمَسْنُونَةِ إِذَا
بَطَلَتْ (1) .
عَاشِرًا: سَتْرُ الْعَوْرَةِ:
23 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ شَرْطٌ فِي
صِحَّةِ الطَّوَافِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: هُوَ وَاجِبٌ فِي الطَّوَافِ
لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الطَّوَافَ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ كَالصَّلاَةِ يَجِبُ فِيهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاَةٌ (2) ،
وَلِحَدِيثِ لاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ (3) .
فَمَنْ أَخَل بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ الإِْخْلاَل الْمُفْسِدَ لِلصَّلاَةِ
بِحَسَبِ الْمَذَاهِبِ، فَسَدَ طَوَافُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ عَلَيْهِ الدَّمُ (4) .
حَادِيَ عَشَرَ: مُوَالاَةُ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ:
24 - اشْتِرَاطُ الْمُوَالاَةِ بَيْنَ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ
__________
(1) المغني 3 / 396.
(2) حديث: " الطواف بالبيت صلاة " تقدم تخريجه فـ / 22.
(3) حديث: " لا يطوف بالبيت عريان ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 483)
ومسلم (2 / 982) من حديث أبي هريرة.
(4) المراجع الفقهية السابقة.
(29/132)
مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ سُنَّةٌ
لِلاِتِّبَاعِ، لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَى فِي
طَوَافِهِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُوَالاَةَ
وَاجِبَةٌ. وَدَلِيل شَرْطِ الْمُوَالاَةِ وَوُجُوبِهَا حَدِيثُ:
الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاَةٌ (1) فَيُشْتَرَطُ لَهُ الْمُوَالاَةُ
كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَدَلِيل السُّنِّيَّةِ فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
ثَانِيَ عَشَرَ: الْمَشْيُ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ:
25 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ
الْمَشْيَ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ مُطْلَقًا فِي أَيِّ طَوَافٍ،
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَاجِبٌ فِي الطَّوَافِ الْوَاجِبِ، وَأَمَّا
الطَّوَافُ غَيْرُ الْوَاجِبِ فَالْمَشْيُ فِيهِ سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ
الْمَشْيَ فِي الطَّوَافِ سُنَّةٌ (3) .
فَلَوْ طَافَ رَاكِبًا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمَشْيِ لَزِمَهُ دَمٌ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِتَرْكِهِ
وَاجِبَ الْمَشْيِ، إِلاَّ إِذَا أَعَادَهُ مَاشِيًا، أَمَّا عِنْدَ
__________
(1) حديث: الطواف بالبيت تقدم تخريجه فـ / 22.
(2) الشرح الكبير 2 / 320 وشرح الرسالة مع حاشية العدوي 1 / 466 - 467،
والمغني 3 / 395، والفروع 3 / 502، والمسلك المتقسط ص 108، ومغني المحتاج 1
/ 492، وابن عابدين 2 / 168 - 169.
(3) البدائع 2 / 128، وحاشية العدوي 1 / 468، والشرح الكبير 2 / 40، وشرح
المحلي على المنهاج 2 / 105، والمغني 3 / 397، والإنصاف 4 / 19، نهاية
المحتاج 3 / 275.
(29/132)
الشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى
عَنْ أَحْمَدَ فَيَجُوزُ طَوَافُهُ بِلاَ كَرَاهِيَةٍ.
أَمَّا إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنِ الْمَشْيِ وَطَافَ مَحْمُولاً فَلاَ
فِدَاءَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا وَلاَ إِثْمَ.
ثَالِثَ عَشَرَ: فِعْل طَوَافِ الإِْفَاضَةِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ:
26 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ أَدَاءَ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ فِي
أَيَّامِ النَّحْرِ وَاجِبٌ فَلَوْ أَخَّرَهُ حَتَّى أَدَّاهُ بَعْدَهَا
صَحَّ وَوَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ؛ جَزَاءَ تَأْخِيرِهِ عَنْهَا وَهُوَ
الْمُفْتَى بِهِ فِي الْمَذْهَبِ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ
بِالتَّأْخِيرِ شَيْءٌ إِلاَّ بِخُرُوجِ ذِي الْحِجَّةِ فَإِذَا خَرَجَ
لَزِمَهُ دَمٌ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ
إِلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِالتَّأْخِيرِ. وَفِي تَفْصِيل
ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (حَجّ ف 55) .
رَابِعَ عَشَرَ - رَكْعَتَا الطَّوَافِ بَعْدَ كُل سَبْعَةِ أَشْوَاطٍ:
27 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ بَعْدَ كُل طَوَافٍ
فَرْضًا أَوْ نَفْلاً صَلاَةُ رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ
أَحْمَدَ وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَافَقَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ
فِي الطَّوَافِ الرُّكْنِ، أَوِ الْوَاجِبِ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ
(1) .
__________
(1) الهداية وشرحها فتح القدير 2 / 154، وحاشية العدوي 1 / 467، والشرح
الكبير وحاشيته 2 / 41 - 42، وشرح المنهاج 2 / 109، ومغني المحتاج 1 / 492،
والمغني 3 / 384، والفروع 3 / 503.
(29/133)
وَاسْتَدَلُّوا بِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقَدَّمَ إِلَى مَقَامِ
إِبْرَاهِيمَ فَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}
فَجَعَل الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَكَانَ أَبِي يَقُول -
وَلاَ أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلاَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ: {قُل هُوَ اللَّهُ
أَحَدٌ} وَ {قُل يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (1) .
وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ صَلاَتَهُ بَعْدَ الطَّوَافِ امْتِثَالٌ
لِهَذَا الأَْمْرِ، وَالأَْمْرُ لِلْوُجُوبِ، إِلاَّ أَنَّ اسْتِنْبَاطَ
ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ ظَنِّيٌّ، وَذَلِكَ يُثْبِتُ الْوُجُوبَ الَّذِي
هُوَ دُونَ الْفَرْضِ وَفَوْقَ السُّنَّةِ (2) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ رَكْعَتَيِ
الطَّوَافِ سُنَّةٌ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ مِنَ الأَْحَادِيثِ بِتَحْدِيدِ الصَّلاَةِ
الْمُفْتَرَضَةِ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَصَلاَةُ الطَّوَافِ - كَمَا
قَال الشِّيرَازِيُّ - صَلاَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ،
فَلَمْ تَجِبْ بِالشَّرْعِ عَلَى الأَْعْيَانِ كَسَائِرِ النَّوَافِل.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذَا صَلَّى
__________
(1) حديث جابر " أنه صلى الله عليه وسلم تقدم إلى مقام إبراهيم. . . ".
أخرجه مسلم (2 / 888) .
(2) مغني المحتاج جـ1 / 492 القليوبي وعميرة جـ 2 / 109، المهذب مع المجموع
جـ 8 / 56، المغني جـ 3 / 384.
(29/133)
الْمَكْتُوبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ
أَجْزَأَتْهُ عَنْ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي
غَيْرِ طَوَافِ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ تَرَدُّدٌ بَيْنَ الْوُجُوبِ
وَالسُّنِّيَّةِ، وَاسْتَظْهَرَ الْحَطَّابُ أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ سُنَّةٌ
كَمَا قَال الدُّسُوقِيُّ.
سُنَنُ الطَّوَافِ:
أ - الاِضْطِبَاعُ:
28 - هُوَ أَنْ يَجْعَل وَسَطَ الرِّدَاءِ تَحْتَ إِبِطِهِ الْيُمْنَى
عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الطَّوَافِ وَيَرُدُّ طَرَفَيْهِ عَلَى كَتِفِهِ
الْيُسْرَى وَتَبْقَى كَتِفُهُ الْيُمْنَى مَكْشُوفَةً، وَاللَّفْظُ
مَأْخُوذٌ مِنَ الضَّبُعِ وَهُوَ عَضُدُ الإِْنْسَانِ.
وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِلرِّجَال دُونَ النِّسَاءِ، لِمَا
رُوِيَ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ مُضْطَبِعًا (1) ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ اعْتَمَرُوا مِنَ الْجِعْرَانَةِ فَرَمَلُوا
بِالْبَيْتِ وَجَعَلُوا أَرْدِيَتَهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ قَدْ قَذَفُوهَا
عَلَى عَوَاتِقِهِمُ الْيُسْرَى (2) .
__________
(1) حديث يعلى بن أمية: " أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعا ". أخرجه
الترمذي (3 / 205) وقال: حديث حسن صحيح.
(2) حديث ابن عباس: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من
الجعرانة ". أخرجه أبو داود (2 / 444) وصحح إسناده النووي في المجموع (8 /
19) .
(29/134)
وَيُسَنُّ الاِضْطِبَاعُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي كُل طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ
كَطَوَافِ الْقُدُومِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْعَى بَعْدَهُ، وَطَوَافِ
الْعُمْرَةِ، وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ إِنْ أَخَّرَ السَّعْيَ إِلَيْهِ،
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ طَوَافَ النَّفْل إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْعَى
بَعْدَهُ مَنْ لَمْ يُعَجِّل السَّعْيَ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ. وَقَال
الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُضْطَبَعُ فِي غَيْرِ طَوَافِ الْقُدُومِ.
وَالاِضْطِبَاعُ سُنَّةٌ فِي جَمِيعِ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ، فَإِذَا فَرَغَ
مِنَ الطَّوَافِ تَرَكَ الاِضْطِبَاعَ، حَتَّى أَنَّهُ تُكْرَهُ صَلاَةُ
الطَّوَافِ مُضْطَبِعًا كَمَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
(1) .
(ر: اضْطِبَاع ف 4) .
ب - الرَّمَل:
29 - الرَّمَل هُوَ: إِسْرَاعُ الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَى وَهَزِّ
الْكَتِفَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَثْبٍ.
وَالرَّمَل سُنَّةٌ فِي كُل طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ، فَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَدِمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ وَقَدْ وَهَنَتْهُمْ
حُمَّى يَثْرِب. فَقَال الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ غَدًا
قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمُ الْحُمَّى، وَلَقَوْا مِنْهَا شِدَّةً،
فَجَلَسُوا مِمَّا يَلِي الْحِجْرَ، وَأَمَرَهُمُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 222 - 225 والقليوبي 2 / 108، وكشاف القناع 2 /
477 - 478، والمغني 3 / 372، والمنتقي للباجي 2 / 28.
(29/134)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا ثَلاَثَةَ أَشْوَاطٍ، وَيَمْشُوا مَا بَيْنَ
الرُّكْنَيْنِ لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ جَلَدَهُمْ، فَقَال الْمُشْرِكُونَ:
هَؤُلاَءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْحُمَّى قَدْ وَهَنَتْهُمْ،
هَؤُلاَءِ أَجْلَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا (1) .
لَكِنَّ الرَّمَل ظَل سُنَّةً فِي الأَْشْوَاطِ الثَّلاَثَةِ الأُْولَى
بِتَمَامِهَا، فَقَدْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ، وَكَانَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَدُخُول
النَّاسِ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، كَمَا سَبَقَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ:
فَرَمَل ثَلاَثًا وَمَشَى أَرْبَعًا (2) .
وَسَارَ عَلَى ذَلِكَ الصَّحَابَةُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ
وَالْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ الرَّمَل كَالاِضْطِبَاعِ سُنَّةٌ فِي حَقِّ الرِّجَال، أَمَّا
النِّسَاءُ فَلاَ يُسَنُّ لَهُنَّ رَمَلٌ وَلاَ اضْطِبَاعٌ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مِنْ سُنِّيَّةِ الرَّمَل أَهْل مَكَّةِ
وَمَنْ أَحْرَمَ مِنْهَا أَيْضًا، فَلاَ يُسَنُّ لَهُمُ الرَّمَل
عِنْدَهُمْ.
ج - ابْتِدَاءُ الطَّوَافِ مِنْ جِهَةِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ:
30 - يُسَنُّ أَنْ يُبْدَأَ الطَّوَافُ قَرِيبًا مِنَ الْحَجَرِ
الأَْسْوَدِ مِنْ جِهَةِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ، ثُمَّ يَسْتَقْبِل
__________
(1) حديث ابن عباس: " قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وهنتهم حمى
يثرب. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 469 - 470) ومسلم 470 (2 /
923) واللفظ لمسلم.
(2) حديث جابر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثا ومشى أربعا ".
أخرجه مسلم (2 / 887) .
(29/135)
الْحَجَرَ مُهَلِّلاً رَافِعًا يَدَيْهِ،
وَذَلِكَ لِيَتَحَقَّقَ ابْتِدَاءُ الطَّوَافِ مِنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ،
وَهُوَ وَاجِبٌ.
لَكِنَّ الْمُرُورَ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ عَلَى الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ
لَيْسَ وَاجِبًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ وَاجِبٌ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِذَلِكَ صَرَّحَ
الْمُحَقِّقُونَ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ بِاسْتِحْبَابِ هَذِهِ
الْكَيْفِيَّةِ خُرُوجًا مِنَ الْخِلاَفِ، فَلَوْ اسْتَقْبَل الْحَجَرَ
مُطْلَقًا وَنَوَى الطَّوَافَ كَفَى فِي حُصُول الْمَقْصُودِ الَّذِي هُوَ
الاِبْتِدَاءُ مِنَ الْحَجَرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
قَال الْحَطَّابُ: يَسْتَقْبِل الْحَجَرَ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ وَتَكُونُ
يَدُهُ الْيُسْرَى مُحَاذِيَةً لِيَمِينِ الْحَجَرِ ثُمَّ يُقَبِّلُهُ
وَيَمْشِي عَلَى جِهَةِ يَدِهِ الْيُمْنَى.
د - اسْتِقْبَال الْحَجَرِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ:
31 - اسْتِقْبَال الْحَجَرِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ، وَرَفْعُ
الْيَدَيْنِ عِنْدَ التَّكْبِيرِ مُقَابَلَةَ الْحَجَرِ، نَصَّ عَلَى
هَذِهِ السُّنَّةِ الْحَنَفِيَّةُ.
هـ - اسْتِلاَمُ الْحَجَرِ وَتَقْبِيلُهُ:
32 - اسْتِلاَمُ الْحَجَرِ وَتَقْبِيلُهُ فِي ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ وَفِي
كُل شَوْطٍ، وَبَعْدَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا السُّنِّيَّةَ
بِأَوَّل الطَّوَافِ وَجَعَلُوا ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا فِي بَاقِيهِ،
وَاسْتَحَبَّ
(29/135)
الْحَنَفِيَّةُ تَقْبِيل الْحَجَرِ.
وَصِفَةُ الاِسْتِلاَمِ: أَنْ يَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى الْحَجَرِ، وَيَضَعُ
فَمَهُ بَيْنَ كَفَّيْهِ وَيُقَبِّلُهُ.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبَّل الْحَجَرَ
وَقَال: إِنِّي لأََعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا
قَبَّلْتُكَ (1) .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال: كَانَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَدَعُ أَنْ
يَسْتَلِمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَالْحَجَرَ فِي كُل طَوْفَةٍ وَكَانَ
ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ (2) .
و اسْتِلاَمُ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ:
33 - اسْتِلاَمُهُ يَكُونُ بِوَضْعِ الْيَدَيْنِ عَلَيْهِ، وَهُوَ
الرُّكْنُ الْوَاقِعُ قِبَل رُكْنِ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: مَا تَرَكْتُ اسْتِلاَمَ
هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ: الْيَمَانِيِّ وَالْحَجَرِ، مُذْ رَأَيْتُ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُهُمَا، فِي شِدَّةٍ
وَلاَ رَخَاءٍ (3) .
__________
(1) حديث ابن عمر أن عمر قبل الحجر. أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 471)
ومسلم (2 / 925) واللفظ لمسلم.
(2) حديث ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الركن
اليماني. أخرجه أبو داود (2 / 440 - 441) والنسائي (5 / 231) وقال المنذري
في مختصر سنن أبي داود (2 / 375) : " في إسناده عبد العزيز بن أبي رواد
وفيه مقال ".
(3) حديث ابن عمر: ما تركت استلام هذين الركنين. أخرجه مسلم (2 / 924) .
(29/136)
وَالسُّنِّيَّةُ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ،
وَقَوْل مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، لَكِنَّهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
سُنَّةٌ فِي الشَّوْطِ الأَْوَّل مَنْدُوبٌ فِي غَيْرِهِ، وَقَال
الشَّيْخَانِ: أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: هُوَ مَنْدُوبٌ.
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقَبِّلُهُ وَلاَ يَسْجُدُ
عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقَبِّل مَا اسْتَلَمَ بِهِ
الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَلاَ يُشِيرُ إِلَيْهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُقَبِّل مَا اسْتَلَمَ بِهِ الرُّكْنَ
الْيَمَانِيَّ وَيُشِيرُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْوُصُول
إِلَيْهِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ مِنْ
غَيْرِ تَقْبِيلٍ.
أَمَّا غَيْرُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ فَلاَ يُسَنُّ اسْتِلاَمُهُ، لأَِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَلِمُ هَذَيْنِ
الرُّكْنَيْنِ وَلاَ يَسْتَلِمُ غَيْرَهُمَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: لَمْ أَرَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُ مِنَ الْبَيْتِ إِلاَّ
الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ (1) . وَقَدْ أَبْدَى الْعُلَمَاءُ
لِذَلِكَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ أَرْكَانِ الْبَيْتِ سَبَبًا وَضَّحَهُ
الرَّمْلِيُّ فَقَال: وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلاَفِ الأَْرْكَانِ فِي هَذِهِ
الأَْحْكَامِ: أَنَّ الرُّكْنَ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ الأَْسْوَدُ فِيهِ
فَضِيلَتَانِ: كَوْنُ الْحَجَرِ فِيهِ، وَكَوْنُهُ عَلَى
__________
(1) حديث ابن عمر: لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا
الركنين اليمانيين. أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 473) ومسلم (2 / 924) .
(29/136)
قَوَاعِدِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ،
وَالْيَمَانِيُّ فِيهِ فَضِيلَةٌ وَاحِدَةٌ: وَهِيَ كَوْنُهُ عَلَى
قَوَاعِدِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ، وَأَمَّا الشَّامِيَّانِ فَلَيْسَ
لَهُمَا شَيْءٌ مِنَ الْفَضِيلَتَيْنِ (1) .
ز - الدُّعَاءُ:
34 - وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ غَيْرَ مَحْدُودٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُسَنُّ فِي أَوَّل الطَّوَافِ، وَفِي
كُل طَوْفَةٍ الدُّعَاءُ بِالْمَأْثُورِ وَهُوَ: بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ
أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ إِيمَانًا بِكَ، وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ، وَوَفَاءً
بِعَهْدِكَ، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} (2) وَالدُّعَاءُ الْمَأْثُورُ فِي بَقِيَّةِ
جَوَانِبِ الْبَيْتِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ، وَمِنْهُ:
الدُّعَاءُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْكَعْبَةِ:
35 - اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا
__________
(1) انظر سنن الطواف في الهداية وشرحها 2 / 148 و 150 - 153، والمسلك
المتقسط ص 108 ورد المحتار 2 / 227 و 229 - 232، وشرح الرسالة وحاشية
العدوي 1 / 466 - 468، والشرح الكبير 2 / 40 - 41 وشرح المنهاج 2 / 104،
106 - 108، ونهاية المحتاج 2 / 407 - 415، ومغني المحتاج 1 / 487 - 493
والمغني 3 / 370 - 384، والفروع 3 / 495 - 504.
(2) حديث: " بسم الله والله أكبر. . . الخ ". أورده ابن حجر في التلخيص (2
/ 247) وقال: " لم أجده هكذا " ثم عزاه مختصرا دون لفظة: " ووفاء بعهدك،
واتباعا لسنة نبيك " إلى الأم للشافعي وهو فيه (2 / 170) من حديث ابن جريج
قال: أنبئت أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
(29/137)
وَتَعْظِيمًا وَمَهَابَةً، وَزِدْ مَنْ
شَرَّفَهُ وَكَرَّمَهُ مِمَّنْ حَجَّهُ وَاعْتَمَرَهُ تَشْرِيفًا
وَتَعْظِيمًا وَبِرًّا (1) . " اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ، وَمِنْكَ
السَّلاَمُ، فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلاَمِ ". (2)
دُعَاءُ افْتِتَاحِ الطَّوَافِ وَاسْتِلاَمِ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ أَوِ
الْمُرُورِ بِهِ:
36 - بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ إِيمَانًا بِكَ،
وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ، وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ
نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُكْمُهُ كَمَا سَبَقَ (3)
.
وَالْمَعْنَى: أَطُوفُ بِاسْمِ اللَّهِ، وَأَطُوفُ اللَّهُمَّ إِيمَانًا
بِكَ.
الدُّعَاءُ فِي الأَْشْوَاطِ الثَّلاَثَةِ الأُْولَى:
37 - اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا، وَسَعْيًا مَشْكُورًا،
وَذَنْبًا مَغْفُورًا، اللَّهُمَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ وَأَنْتَ
تُحْيِي بَعْدَمَا أَمَتَّ (4) .
__________
(1) دعاء: اللهم زد هذا البيت تشريفا. . . أخرجه الشافعي في المسند (1 /
339 - ترتيبه) عن ابن جريج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى
البيت قال: الحديث به، وأعله ابن حجر بالإعضال كذا في الفتوحات الربانية
لابن علان (4 / 370) .
(2) دعاء: اللهم أنت السلام ومنك السلام. ورد موقوفًا على سعيد بن المسيب،
أخرجه عنه الشافعي في المسند (1 / 338) .
(3) حديث: بسم الله الله أكبر. . . سبق تخريجه فـ 34.
(4) حديث: اللهم اجعله حجًا مبرورًا. . . قال ابن حجر في التلخيص (2 / 250)
لم أجده واستحبه الشافعي وأسنده عنه البيهقي في السند (5 / 84) .
(29/137)
وَإِذَا كَانَ يُؤَدِّي عُمْرَةً دَعَا
فَقَال: اجْعَلْهَا عُمْرَةً مَبْرُورَةً، وَإِنْ كَانَ طَوَافًا نَفْلاً
دَعَا: اجْعَلْهُ طَوَافًا مَبْرُورًا أَيْ مَقْبُولاً وَسَعْيًا
مَشْكُورًا (وَسَعْيُ الرَّجُل عَمَلُهُ) كَمَا قَال تَعَالَى: {وَأَنْ
لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (1) .
الدُّعَاءُ فِي الأَْشْوَاطِ الأَْرْبَعَةِ الْبَاقِيَةِ:
38 - اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ، وَاعْفُ عَمَّا تَعْلَمُ، وَأَنْتَ
الأَْعَزُّ الأَْكْرَمُ (2) .
الدُّعَاءُ عِنْدَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ:
39 - " بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، وَالسَّلاَمُ عَلَى رَسُول
اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ
مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ وَالذُّل، وَمَوَاقِفِ الْخِزْيِ فِي
الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي
الآْخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " (3) .
الدُّعَاءُ بَيْنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَالْحَجَرِ الأَْسْوَدِ:
40 - رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآْخِرَةِ حَسَنَةً
وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (4) .
__________
(1) سورة النجم آية: 39.
(2) دعاء: اللهم اغفر وارحم. . . استحبه الشافعي، أسنده عنه البيهقي في
السنن (5 / 84) .
(3) دعاء الركن اليماني: بسم الله، والله أكبر، والسلام على رسول الله. ورد
عن علي بن أبي طالب، أخرجه عنه الأزرقي في أخبار مكة (1 / 242) .
(4) الدعاء بين الركن اليماني والحجر الأسود:
ربنا آتنا في الدنيا حسنة. ورد مرفوعا من حديث عبد الله بن السائب، أخرجه
عنه أبو داود (2 / 448 - 449) والحاكم (1 / 455) وصححه الحاكم ووافقه
الذهبي.
(29/138)
رَبِّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي،
وَبَارِكْ لِي فِيهِ، وَاخْلُفْ عَلَى كُل غَائِبَةٍ لِي بِخَيْرٍ (1) .
الدُّعَاءُ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ:
41 - اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سَرِيرَتِي وَعَلاَنِيَتِي فَاقْبَل
مَعْذِرَتِي، وَتَعْلَمُ حَاجَتِي فَأَعْطِنِي سُؤْلِي، وَتَعْلَمُ مَا فِي
نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ذَنْبِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا
يُبَاشِرُ قَلْبِي، وَيَقِينًا صَادِقًا حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّهُ لاَ
يُصِيبُنِي إِلاَّ مَا كَتَبْتَ لِي، وَرِضًا بِمَا قَسَمْتَ (2) .
دُعَاءٌ لِعَامَّةِ الطَّوَافِ:
42 - اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَخَطَايَايَ، وَعَمْدِي،
وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، إِنَّكَ إِنْ لاَ تَغْفِرْ لِي تُهْلِكْنِي (3)
.
اللَّهُمَّ الْبَيْتُ بَيْتُكَ، وَنَحْنُ عَبِيدُكَ،
__________
(1) دعاء: رب قنعني بما رزقتني. أخرجه الحاكم (1 / 455) من حديث ابن عباس
مرفوعا، واستغربه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية لابن علان (4 / 382) .
(2) دعاء: اللهم إنك تعلم سريرتي وعلانيتي. ورد من حديث دعاء آدم لما أهبطه
الله إلى الأرض، أخرجه الطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد (10 / 183)
وقال: (فيه النضر بن طاهر وهو ضعيف) .
(3) دعاء: اللهم اغفر لي ذنوبي وخطاياي. ورد في حديث عبد الأعلى التيمي
مرسلا، أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3 / 453) وأشار البيهقي إلى إرساله.
(29/138)
وَنَوَاصِينَا بِيَدِكَ، وَتَقَلُّبُنَا
فِي قَبْضَتِكَ، فَإِنْ تُعَذِّبْنَا فَبِذُنُوبِنَا، وَإِنْ تَغْفِرْ
لَنَا فَبِرَحْمَتِكَ، فَرَضْتَ حَجَّكَ لِمَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلاً، فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا جَعَلْتَ لَنَا مِنَ السَّبِيل،
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا ثَوَابَ الشَّاكِرِينَ (1) .
دُعَاءُ الشُّرْبِ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ:
43 - اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا وَاسِعًا،
وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً، وَشِفَاءً مِنْ كُل دَاءٍ (2) .
ح - الْقُرْبُ مِنَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ:
44 - الْقُرْبُ فِي الطَّوَافِ مِنَ الْبَيْتِ لِلرِّجَال وَالْبُعْدُ
لِلنِّسَاءِ، وَعَدَّهُ الشَّافِعِيَّةُ سُنَّةً.
فَلَوْ فَاتَ الرَّمَل بِمُرَاعَاةِ الْقُرْبِ مِنَ الْبَيْتِ فَالرَّمَل
مَعَ الْبُعْدِ أَوْلَى، إِلاَّ إِذَا كَانَ الزِّحَامُ شَدِيدًا أَوْ
خَافَ صَدْمَ النِّسَاءِ لَوْ بَعُدَ عَنِ الْبَيْتِ، فَالْقُرْبُ
حِينَئِذٍ مَعَ تَرْكِ الرَّمَل أَوْلَى (3) .
ط - حِفْظُ الْبَصَرِ عَنْ كُل مَا يَشْغَلُهُ:
45 - عَلَى الطَّائِفِ أَنْ يَحْفَظَ بَصَرَهُ، عَنْ كُل مَا يَشْغَلُهُ
عَنِ الطَّوَافِ: لأَِنَّ الطَّوَافَ عِبَادَةٌ،
__________
(1) دعاء: اللهم البيت بيتك. . . أورده المتقي الهندي في كنز العمال (5 /
172 - 173) عزاه للديلمي وقال: (فيه عبد السلام بن الجنوب متروك) .
(2) دعاء: اللهم إني أسألك علما نافعًا. . . أخرجه الحاكم (1 / 473) من
حديث ابن عباس موقوفًا عليه، وأشار الذهبي إلى تضعيف أحد رواته في الميزان
(3 / 508) .
(3) مغني المحتاج 1 / 490 - 491.
(29/139)
وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصَّلاَةِ؛
فَيَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ فِيهِ التَّفَرُّغُ لأَِدَائِهِ.
ى - الإِْسْرَارُ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ:
46 - الإِْسْرَارُ بِالأَْذْكَارِ وَالأَْدْعِيَةِ (1) مَطْلُوبٌ فِي
الطَّوَافِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمِيعٌ، حَتَّى لاَ يُؤْذِيَ
غَيْرَهُ إِنْ جَهَرَ.
ك - الْتِزَامُ الْمُلْتَزَمَ:
47 - يُسْتَحَبُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بَعْدَ طَوَافِ الْوَدَاعِ
أَنْ يَلْتَزِمَ الطَّائِفُ الْمُلْتَزَمَ وَهُوَ الْجِدَارُ الَّذِي
بَيْنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ وَبَابِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ،
اقْتِدَاءً بِالرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْتِزَامُهُ
أَنْ يُلْصِقَ صَدْرَهُ وَخَدَّهُ الأَْيْمَنَ، وَيَدَاهُ وَكَفَّاهُ
مَبْسُوطَتَانِ قَائِمَتَانِ، وَهُوَ مُتَذَلِّلٌ مُسْتَجِيرٌ بِرَبِّ
الْبَيْتِ، وَالْمُلْتَزَمُ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُسْتَجَابُ فِيهَا
الدُّعَاءُ، وَيَدْعُو بِالْمَأْثُورِ مِنَ الدُّعَاءِ إِنْ حَفِظَهُ
وَإِلاَّ فَبِمَا تَيَسَّرَ (2) .
ل - قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:
48 - قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ رَفْعِ صَوْتٍ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
__________
(1) لباب المناسك ص 110، وانظر رد المحتار 2 / 227، والشرح الكبير 2 / 41،
والمغني 3 / 354.
(2) شرح ابن عابدين 1 / 170 - 187، وروضة الطالبين 3 / 118، كشاف القناع 2
/ 513.
(29/139)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَجُوزُ قِرَاءَةُ
الْقُرْآنِ، وَالذِّكْرُ أَفْضَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
(1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: مَأْثُورُ الدُّعَاءِ أَفْضَل مِنَ
الْقِرَاءَةِ، وَهِيَ أَفْضَل مِنْ غَيْرِ مَأْثُورِهِ (2) .
اسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ هَدْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الأَْفْضَل، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ فِي
الطَّوَافِ قِرَاءَةُ قُرْآنٍ، بَل الذِّكْرُ، وَهُوَ الْمُتَوَارَثُ مِنَ
السَّلَفِ وَالْمُجْمَعُ عَلَيْهِ فَكَانَ أَوْلَى (3) .
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الدُّعَاءِ بِالْمَأْثُورِ
فِي الطَّوَافِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفْضَلِيَّةِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ الْمَأْثُورِ
فِي الطَّوَافِ، بِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ ذِكْرٍ، وَالْقُرْآنُ
أَفْضَل الذِّكْرِ (4) .
وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ
وَذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَل مَا أُعْطِي
السَّائِلِينَ، وَفَضْل كَلاَمِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلاَمِ كَفَضْل
اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ (5) .
مُبَاحَاتُ الطَّوَافِ:
49 - أ - الْكَلاَمُ الْمُبَاحُ الَّذِي يُحْتَاجُ إِلَيْهِ.
__________
(1) شرح اللباب ص 111 - 112، ورد المحتار 2 / 231، والمغني 3 / 378،
والخرشي 2 / 326.
(2) مغني المحتاج 1 / 489.
(3) رد المحتار الموضع السابق.
(4) مغني المحتاج الموضع السابق.
(5) حديث: " من شغله القرآن وذكري عن مسألتي. . . " أخرجه الترمذي (5 /
184) من حديث أبي سعيد الخدري. وقال (حسن غريب) .
(29/140)
صَرَّحَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِكَرَاهَةِ
الْكَلاَمِ، لَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لاَ حَاجَةَ إِلَيْهِ.
وَلِذَلِكَ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الأَْفْضَل أَلاَّ يَتَكَلَّمَ
(1) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطَّوَافُ صَلاَةٌ
فَأَقِلُّوا فِيهِ الْكَلاَمَ وَفِي رِوَايَةٍ: إِلاَّ أَنَّكُمْ
تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ فَمَنْ تَكَلَّمَ فَلاَ يَتَكَلَّمْ إِلاَّ بِخَيْرٍ
(2) .
ب - السَّلاَمُ عَلَى مَنْ لاَ يَكُونُ مَشْغُولاً بِالذِّكْرِ (3) .
ج - الإِْفْتَاءُ وَالاِسْتِفْتَاءُ، وَنَحْوُهُ مِنْ تَعْلِيمِ جَاهِلٍ
أَوْ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ (4) .
د - الْخُرُوجُ مِنَ الطَّوَافِ لِحَاجَةٍ ضَرُورِيَّةٍ.
هـ - الشُّرْبُ، لِعَدَمِ إِخْلاَلِهِ بِالْمُوَالاَةِ لِقِلَّةِ
زَمَانِهِ، بِخِلاَفِ الأَْكْل (5) .
و لُبْسُ نَعْلٍ أَوْ خُفٍّ إِذَا كَانَا طَاهِرَيْنِ.
مُحَرَّمَاتُ الطَّوَافِ:
50 - أ - تَرْكُ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الطَّوَافِ، وَحُكْمُهُ: أَنَّهُ
لاَ يَتَحَلَّل التَّحَلُّل الأَْكْبَرَ إِلاَّ بِالْعَوْدِ وَأَدَائِهِ
إِنْ كَانَ الطَّوَافُ فَرْضًا، أَوْ وَاجِبًا.
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 131 وشرح اللباب ص 110 ونحوه في المغني لابن قدامة 3
/ 378، انظر المجموع 8 / 52.
(2) حديث: الطواف صلاة. سبق فـ 22.
(3) شرح اللباب ص 111.
(4) المرجع السابق والمجموع 8 / 53.
(5) شرح الدر 2 / 231.
(29/140)
ب - تَرْكُ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ
الطَّوَافِ، وَحُكْمُهُ: أَنَّ الطَّوَافَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَيَجِبُ أَنْ
يُعِيدَهُ إِنْ كَانَ فَرْضًا، أَوْ وَاجِبًا.
فَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَعَادَهُ وَلاَ إِشْكَال، وَإِنْ سَافَرَ مِنْ
مَكَّةَ، فَلاَ بُدَّ لَهُ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى مَكَّةَ وَإِعَادَتِهِ،
كَمَا فِي تَرْكِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الطَّوَافِ.
ج - تَرْكُ وَاجِبٍ مِنْ وَاجِبَاتِ الطَّوَافِ، وَهُوَ غَيْرُ مُجْزِئٍ
عِنْدَ الْجُمْهُورِ، مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً تَحْرِيمِيَّةً عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ حَسَبَ اصْطِلاَحِهِمْ، وَيَلْزَمُهُ الإِْثْمُ، وَيَجِبُ
عَلَيْهِ الدَّمُ (1) .
مَكْرُوهَاتُ الطَّوَافِ:
51 - نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أُمُورٍ تُكْرَهُ فِي الطَّوَافِ، مِنْهَا:
أ - رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالْقُرْآنِ بِمَا
يُشَوِّشُ عَلَى الطَّائِفِينَ.
ب - الْكَلاَمُ غَيْرُ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، لِقَوْل ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا: أَقِلُّوا الْكَلاَمَ فَإِنَّمَا أَنْتُمْ فِي صَلاَةٍ.
ج - إِنْشَادُ شِعْرٍ لَيْسَ مِنْ قَبِيل الذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ عَلَى
اللَّهِ.
د - تَرْكُ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الطَّوَافِ، حَسْبَمَا هُوَ
__________
(1) المسلك المتقسط في المنسك المتوسط شرح لباب المناسك ص 112، مغني
المحتاج 1 / 458، الخرشي 2 / 314.
(29/141)
مُقَرَّرٌ فِي كُل مَذْهَبٍ، كَتَرْكِ
الرَّمَل فِي طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ، وَكَتَرْكِ اسْتِلاَمِ الْحَجَرِ
الأَْسْوَدِ وَالإِْشَارَةِ إِلَيْهِ.
هـ - الْجَمْعُ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ طَوَافٍ كَامِلٍ مِنْ غَيْرِ صَلاَةٍ
بَعْدَ كُل طَوَافٍ، إِلاَّ إِذَا وَقَعَتِ الصَّلاَةُ فِي وَقْتِ
كَرَاهَةٍ فَيُؤَخِّرُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
و الطَّوَافُ وَهُوَ يُدَافِعُ الْبَوْل أَوِ الْغَائِطَ، أَوْ وَهُوَ
شَدِيدُ التَّوَقَانِ إِلَى الأَْكْل، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَشْغَلُهُ
عَنِ الْحُضُورِ فِي الْعِبَادَةِ، كَمَا يُكْرَهُ فِي الصَّلاَةِ.
ز - الأَْكْل فِي الطَّوَافِ اتِّفَاقًا بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَكَذَا الشُّرْبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَكَرَاهَةُ
الشُّرْبِ أَخَفُّ عِنْدَهُمْ، قَال الشَّافِعِيُّ: لاَ بَأْسَ بِشُرْبِ
الْمَاءِ فِي الطَّوَافِ وَلاَ أَكْرَهُهُ، بِمَعْنَى الْمَأْثَمِ،
لَكِنِّي أُحِبُّ تَرْكَهُ؛ لأَِنَّ تَرْكَهُ أَحْسَنُ فِي الأَْدَبِ
وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي الإِْمْلاَءِ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا " أَنَّهُ شَرِبَ وَهُوَ يَطُوفُ (1) .
ح - وَضْعُ الطَّائِفِ يَدَهُ عَلَى فِيهِ، إِلاَّ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَيْهِ
مِثْل دَفْعِ التَّثَاؤُبِ.
ط - تَشْبِيكُ الأَْصَابِعِ أَوْ فَرْقَعَتُهَا، كَمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي
الصَّلاَةِ (2) .
__________
(1) المجموع 8 / 53.
(2) شرح اللباب ص 112، المجموع 8 / 53.
(29/141)
كَيْفِيَّةُ الطَّوَافِ:
52 - إِذَا أَرَادَ شَخْصٌ الطَّوَافَ فَيَسْتَعِدُّ لِذَلِكَ بِتَطْهِيرِ
بَدَنِهِ وَثِيَابِهِ مِنَ النَّجَاسَةِ، وَيَغْتَسِل إِنْ كَانَ جُنُبًا،
وَيَتَوَضَّأُ وَيَضْبِطُ ثِيَابَ إِحْرَامِهِ حَتَّى يَأْمَنَ أَنْ
تَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ وَزِحَامِهِ، وَإِذَا
أَرَادَ أَدَاءَ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ مِثْل طَوَافِ الْقُدُومِ فِي
حَال تَقْدِيمِ السَّعْيِ إِلَيْهِ، وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ إِذَا لَمْ
يُقَدِّمِ السَّعْيَ عَلَيْهِ، وَطَوَافِ الْعُمْرَةِ، فَيُسَنُّ لَهُ فِي
هَذِهِ الأَْطْوِفَةِ الاِضْطِبَاعُ فِي الأَْشْوَاطِ كُلِّهَا.
كَيْفِيَّةُ الاِضْطِبَاعِ:
53 - وَكَيْفِيَّةُ الاِضْطِبَاعِ: أَنْ يَجْعَل الطَّائِفُ وَسَطَ
الرِّدَاءِ تَحْتَ إِبِطِهِ الْيُمْنَى، وَيَرُدُّ طَرَفَيْهِ عَلَى
كَتِفِهِ الْيُسْرَى، وَيَتْرُكُ كَتِفَهُ الْيُمْنَى مَكْشُوفَةً. ثُمَّ
يَتَّجِهُ إِلَى الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ حَتَّى يَتَجَاوَزَهُ قَلِيلاً
إِلَى جِهَةِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ، وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إِنْ
كَانَ مُحْرِمًا، يَنْوِي الطَّوَافَ الَّذِي يُرِيدُهُ، وَيَجْعَل
يَسَارَهُ إِلَى الْبَيْتِ، ثُمَّ يَسْتَقْبِل الْحَجَرَ الأَْسْوَدَ
وَيَسْتَلِمُهُ، بِأَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ يَدَيْهِ وَيَضَعَ وَجْهَهُ بَيْنَ
كَفَّيْهِ، وَيُقَبِّلَهُ ثَلاَثًا.
لَكِنْ إِذَا وَجَدَ الطَّائِفُ زِحَامًا فَيَجْتَنِبُ الإِْيذَاءَ،
وَيَكْتَفِي بِالإِْشَارَةِ إِلَى الْحَجَرِ بِيَدَيْهِ؛ لأَِنَّ
اسْتِلاَمَ الْحَجَرِ سُنَّةٌ، وَإِيذَاءُ النَّاسِ حَرَامٌ
(29/142)
يَجِبُ تَرْكُهُ، وَلاَ يَجُوزُ ارْتِكَابُ
الْحَرَامِ لأَِجْل السُّنَّةِ، وَقَدْ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِعُمَرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا عُمَرُ، إِنَّكَ رَجُلٌ
قَوِيٌّ، لاَ تُزَاحِمْ عَلَى الْحَجَرِ، فَتُؤْذِي الضَّعِيفَ، إِنْ
وَجَدْتَ خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ، وَإِلاَّ فَاسْتَقْبِلْهُ فَهَلِّل
وَكَبِّرْ (1) .
وَكَيْفِيَّةُ الإِْشَارَةِ: أَنْ يَرْفَعَ الطَّائِفُ يَدَيْهِ حِذَاءَ
مَنْكِبَيْهِ، وَيَجْعَل بَاطِنَهُمَا نَحْوَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ
يُشِيرُ بِهِمَا إِلَيْهِ.
54 - وَيَرْمُل الطَّائِفُ فِي الأَْشْوَاطِ الثَّلاَثَةِ الأُْولَى إِنْ
كَانَ سَيَسْعَى بَعْدَ الطَّوَافِ.
وَكَيْفِيَّةُ الرَّمَل: إِسْرَاعُ الْمَشْيِ مَعَ مُقَارَبَةِ الْخُطَى
وَهَزِّ الْكَتِفَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَثْبٍ، وَيَمْشِي بَقِيَّةَ
الأَْشْوَاطِ، وَيَكُونُ فِي طَوَافِهِ عَلَى غَايَةِ الأَْدَبِ
وَالْحُضُورِ وَالتَّعْظِيمِ، مَعَ غَضِّ الْبَصَرِ وَخَفْضِ الصَّوْتِ
بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، فَإِذَا وَصَل إِلَى الْحَطِيمِ وَهُوَ
الْمَكَانُ الْمُحَاطُ بِجِدَارٍ دَائِرِيٍّ، جِهَةَ شِمَال الْكَعْبَةِ
حَيْثُ الْمِيزَابُ فَيَجْعَل الْحَطِيمَ فِي ضِمْنِ طَوَافِهِ، وَلاَ
يَدْخُل فِي دَاخِلِهِ، فَإِذَا وَصَل إِلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ
فَيَسْتَلِمُهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ فَقَطْ، دُونَ
سُجُودٍ وَلاَ تَقْبِيلٍ لَهُ وَلاَ لِيَدَيْهِ، حَتَّى يَصِل إِلَى
الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ قَدْ
__________
(1) حديث: " يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر. . . ". أخرجه أحمد (1
/ 28) من حديث عمر بن الخطاب وأورده الهيثمي في المجمع (3 / 241) وقال:
رواه أحمد، وفيه راو لم يسم.
(29/142)
أَدَّى شَوْطًا، فَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ
وَيُقَبِّلُهُ، أَوْ يُشِيرُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ زِحَامٌ.
وَيُتَابِعُ الطَّوَافَ حَتَّى تَكْمُل سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ عِنْدَ
الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ فَيَسْتَلِمَهُ وَيُقَبِّلَهُ خِتَامًا لأَِشْوَاطِ
الطَّوَافِ، أَوْ يُشِيرُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ زِحَامٌ، ثُمَّ
يَتَّجِهُ نَحْوَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ
فَيَجْعَلُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيِ
الطَّوَافِ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا الْوَضْعُ شَرْطًا لِصِحَّتِهِمَا كَمَا
يَتَوَهَّمُ الْعَامَّةُ، فَلاَ يُزَاحِمُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيِ
الطَّوَافِ أَيْنَمَا تَيَسَّرَ، فَحَيْثُمَا أَدَّاهُمَا جَائِزٌ، لَكِنَّ
الْحَرَمَ أَفْضَل، وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى سُورَةَ {قُل يَا
أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَفِي الثَّانِيَةِ {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
اتِّبَاعًا لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَدْعُو
بَعْدَهُمَا بِمَا يُحِبُّ لَهُ وَلِمَنْ يُحِبُّ.
(29/143)
طُوًى
التَّعْرِيفُ:
1 - الطُّوَى مِنَ الطَّيِّ، مِنْ مَعَانِي الطَّيِّ فِي اللُّغَةِ:
بِنَاءُ الْبِئْرِ بِالْحِجَارَةِ، يُقَال طَوَيْتُ الْبِئْرَ فَهُوَ
طُوًى، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. وَفِي اللِّسَانِ: طُوَى جَبَلٌ
بِالشَّامِ، وَقِيل. هُوَ وَادٍ فِي أَصْل الطُّورِ، وَفِي التَّنْزِيل
الْعَزِيزِ: {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} (1) . وَفِي مُعْجَمِ
يَاقُوتِ الْحَمَوِيِّ: الطُّوَى بِئْرٌ حَفَرَهَا عَبْدُ شَمْسِ بْنُ
عَبْدِ مَنَافٍ، وَهِيَ الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ عِنْدَ الْبَيْضَاءِ
دَارُ مُحَمَّدِ بْنِ سَيْفٍ (2) .
وَذُو طُوًى وَادٍ بِمَكَّةَ، قَال الزُّبَيْدِيُّ: يُعْرَفُ الآْنَ
بِالزَّاهِرِ.
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: طُوًى - بِالْقَصْرِ وَتَثْلِيثِ
الطَّاءِ وَالْفَتْحُ أَجْوَدُ - وَادٍ بِمَكَّةَ بَيْنَ الثَّنِيَّتَيْنِ
- كَدَاءِ الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى - وَأَقْرَبُ إِلَى
__________
(1) سورة طه / 12.
(2) المصباح المنير، لسان العرب، تاج العروس، معجم البلدان مادة:
طوى.
(29/143)
السُّفْلَى، سُمِّيَ بِذَلِكَ
لاِشْتِمَالِهِ عَلَى بِئْرٍ مَطْوِيَّةٍ - مَبْنِيَّةٍ - بِالْحِجَارَةِ.
وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا الْمُصْطَلَحِ الْمَوْضِعُ الَّذِي فِي مَكَّةَ
دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ الْغُسْل
فِي ذِي طُوًى عِنْدَ دُخُول مَكَّةَ لِلطَّوَافِ، لِمَا رَوَى نَافِعٌ
قَال: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا دَخَل أَدْنَى
الْحَرَمِ أَمْسَكَ عَنِ التَّلْبِيَةِ ثُمَّ يَبِيتُ بِذِي طُوًى، ثُمَّ
يُصَلِّي بِهِ الصُّبْحَ وَيَغْتَسِل وَيُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَل ذَلِكَ (1) .
وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ هَذَا الْغُسْل بِذِي طُوًى إِنْ
كَانَتْ فِي طَرِيقِهِ، وَإِلاَّ اغْتَسَل فِي غَيْرِ طَرِيقِهَا مِنْ
نَحْوِ مَسَافَتِهَا.
قَال الدُّسُوقِيُّ: إِنْ لَمْ يَأْتِ مِنْ جِهَتِهَا فَيُقَدِّرُ مَا
بَيْنَهُمَا.
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ: وَالْجَائِيُّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ
كَالْيَمَنِ فَيَغْتَسِل مِنْ نَحْوِ تِلْكَ الْمَسَافَةِ.
وَفِي الْمَجْمُوعِ: وَهَذَا الْغُسْل مُسْتَحَبٌّ لِكُل دَاخِلٍ مُحْرِمٍ
سَوَاءٌ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ
__________
(1) حديث ابن عمر: " كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك. . . ". أخرجه البخاري
(فتح الباري 3 / 435) ومسلم (2 / 919) .
(29/144)
عُمْرَةٍ أَوْ قِرَانٍ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ الْغُسْل
عِنْدَ دُخُول مَكَّةَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدِ مَوْضِعٍ (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 165، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 70، حاشية
الدسوقي 2 / 38، 39، المجموع 8 / 2 ط. المكتبة السلفية، مغني المحتاج 1 /
483، المغني لابن قدامة 3 / 368 ط. مكتبة الرياض الحديثة، الإنصاف 1 / 250
ط. دار إحياء التراث العربي 1980م. فتح الباري 3 / 413، 435 ط. السلفية.
(29/144)
طَوْلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الطَّوْل فِي اللُّغَةِ - بِفَتْحِ الطَّاءِ - الْفَضْل يُقَال:
لِفُلاَنٍ عَلَى فُلاَنٍ طَوْلٌ: أَيْ زِيَادَةٌ وَفَضْلٌ، وَيُقَال: طَال
عَلَى الْقَوْمِ يَطُول طَوْلاً إِذَا أَفْضَل، وَطَوْل الْحُرَّةِ فِي
الأَْصْل مَصْدَرٌ مِنْ هَذَا لأَِنَّهُ إِذَا قَدَرَ عَلَى صَدَاقِهَا
وَكُلْفَتِهَا فَقَدْ طَال عَلَيْهَا، وَالأَْصْل أَنْ يُعَدَّى بِإِلَى
فَيُقَال: وَجَدْت طَوْلاً إِلَى الْحُرَّةِ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ
فَقَالُوا: طَوْل الْحُرَّةِ.
وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْفَضْل وَالْمَنِّ (1) .
وَأَمَّا فِي الأَْصَحِّ: فَهُوَ السَّعَةُ وَالْغِنَى عَلَى قَوْلٍ،
وَقَال آخَرُونَ: الطَّوْل كُل مَا يُقْدَرُ بِهِ عَلَى النِّكَاحِ مِنْ
نَقْدٍ أَوْ عَرْضٍ أَوْ دَيْنٍ عَلَى مَلِيءٍ، قَال الْقُرْطُبِيُّ:
الطَّوْل: هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمَهْرِ فِي قَوْل أَكْثَرِ أَهْل
الْعِلْمِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمَهْرُ:
2 - الْمَهْرُ: صَدَاقُ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ مَا وَجَبَ لَهَا
__________
(1) المصباح المنير، المغرب في ترتيب المعرب مادة (طول)
.
(2) الجامع لأحكام القرآن 5 / 136، أحكام القرآن لابن العربي 1 / 503،
الفواكه الدواني 2 / 45.
(29/145)
بِنِكَاحٍ أَوْ وَطْءٍ، أَوْ تَفْوِيتِ
بُضْعٍ، وَسُمِّيَ الْمَهْرُ صَدَاقًا، لإِِشْعَارِهِ بِصِدْقِ رَغْبَةِ
بَاذِلِهِ فِي النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ الأَْصْل فِي إِيجَابِ الْمَهْرِ
(1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِوَاجِدِ الطَّوْل
الْحُرِّ أَنْ يَنْكِحَ أَمَةَ غَيْرِهِ، حَتَّى لاَ يُفْضِيَ ذَلِكَ إِلَى
إِرْقَاقِ وَلَدِهِ مَعَ الْغِنَى عَنْهُ، لِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: أَيُّمَا حُرٍّ تَزَوَّجَ أَمَةً فَقَدْ أَرَقَّ نِصْفَهُ (أَيْ
وَلَدَهُ) وَأَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ حُرَّةً فَقَدْ أَعْتَقَ نِصْفَهُ،
وَأَنَّ مِنَ الطَّوْل الْمُحَرَّمِ لِنِكَاحِ الأَْمَةِ أَنْ تَكُونَ
تَحْتَهُ حُرَّةٌ صَالِحَةٌ لِلاِسْتِمْتَاعِ؛ لأَِنَّ وُجُودَ الْحُرَّةِ
تَحْتَهُ أَعْظَمُ مِنِ اسْتِطَاعَةِ طَوْلِهَا، وَلأَِنَّهُ حِينَئِذٍ
لَمْ يَخْشَ الْعَنَتَ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لاَ يَتَزَوَّجُ الأَْمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ (2) ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ
صَالِحَةً لِلاِسْتِمْتَاعِ، بِأَنْ كَانَتْ تَحْتَهُ صَغِيرَةٌ لاَ
تُطِيقُ الْوَطْءَ، أَوْ هَرِمَةٌ، أَوْ مَجْنُونَةٌ، أَوْ مَجْذُومَةٌ،
أَوْ بَرْصَاءُ، أَوْ رَتْقَاءُ، أَوْ قَرْنَاءُ فَيَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ
الأَْمَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّ وُجُودَهَا كَعَدَمِهَا، وَهَذَا إِذَا
خَافَ الزِّنَى.
__________
(1) المصباح المنير، المغرب في ترتيب المعرب مادة (مهر) مغني المحتاج 3 /
220، كشاف القناع 5 / 128.
(2) حديث: " لا يتزوج الأمة على الحرة ". أخرجه الدارقطني (4 / 39) من حديث
عائشة، وأورده الزيلعي في نصب الراية (3 / 175) وضعف أحد رواته.
(29/145)
وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ طَوْل
الْحُرَّةِ لاَ يَمْنَعُ الْعَبْدَ مِنْ نِكَاحِ الأَْمَةِ؛ لأَِنَّ
نِكَاحَهُ لَيْسَ فِيهِ إِرْقَاقُ حُرٍّ، وَلأَِنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ
فِي الرِّقِّ. كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِفَاقِدِ الطَّوْل
أَنْ يَنْكِحَ أَمَةَ غَيْرِهِ الْمُسْلِمَةَ بِشُرُوطٍ اخْتَلَفُوا
فِيهَا، تَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي تَحْدِيدِ مَعْنَى الطَّوْل
الْوَارِدِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً
أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} (1) الآْيَةَ. فَذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الطَّوْل مَعْنَاهُ وُجُودُ حُرَّةٍ تَحْتَهُ،
فَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِي عِصْمَتِهِ حُرَّةٌ جَازَ لَهُ الزَّوَاجُ مِنْ
أَمَةِ الْغَيْرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَزَادَ أَبُو
حَنِيفَةَ: أَنْ لاَ تَكُونَ عِنْدَهُ حُرَّةٌ تَعْتَدُّ مِنْ طَلاَقِهِ
الْبَائِنِ. وَذَهَبَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ وَفُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ
الثَّلاَثَةِ - الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ -
إِلَى أَنَّ الطَّوْل مَعْنَاهُ الْقُدْرَةُ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ،
سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُسْلِمَةً أَمْ كِتَابِيَّةً (2) .
وَعَلَيْهِ فَلاَ يَجُوزُ لِحُرٍّ مُسْلِمٍ أَنْ يَنْكِحَ أَمَةَ غَيْرِهِ
إِلاَّ بِشُرُوطٍ، يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (رِقّ) ف 75.
__________
(1) سورة النساء / 25.
(2) البدائع 2 / 266، الجامع لأحكام القرآن 5 / 136، أحكام القرآن لابن
العربي 1 / 503، المغني لابن قدامة 6 / 596، مغني المحتاج 3 / 183، الفواكه
الدواني 2 / 45، روضة الطالبين 7 / 129، حاشية ابن عابدين 2 / 290، كشاف
القناع 5 / 85.
(29/146)
4 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ
مِنَ الأَْفْضَل وَالْخَيْرِ لِلرَّجُل الْحُرِّ الَّذِي اجْتَمَعَتْ لَهُ
شُرُوطُ الإِْبَاحَةِ أَنْ يَتْرُكَ نِكَاحَ الأَْمَةِ وَأَنْ يَصْبِرَ
عَنْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (1)
حَتَّى لاَ يُسَبِّبَ الرِّقَّ لِوَلَدِهِ حَيْثُ إِنَّ وَلَدَهُ مِنَ
الأَْمَةِ يَكُونُ رَقِيقًا يَمْلِكُهُ سَيِّدُهَا، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ
الزَّوْجُ عَلَى مَالِكِهَا حُرِّيَّتَهُ فَيَكُونُ وَلَدُهُ مِنْهَا
حُرًّا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ
عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ أَحَل حَرَامًا
(2) .
وَلِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ
الشُّرُوطِ.
وَلِهَذَا اسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا صُورَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: إِذَا كَانَ الزَّوْجُ لاَ يُولَدُ لَهُ، كَالْخَصِيِّ
مَثَلاً، لاِنْتِفَاءِ مَحْذُورِ رِقِّ الْوَلَدِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ الأَْمَةُ مِلْكًا لأَِصْلِهِ الْحُرِّ (3) .
__________
(1) سورة النساء / 25.
(2) حديث: " المسلمون على شروطهم. . . " أخرجه الترمذي (3 / 626) من حديث
عمرو بن عوف المزني، وقال: (حديث حسن صحيح) .
(3) البدائع 2 / 268، الفواكه الدواني 2 / 45، كشاف القناع 5 / 78، مغني
المحتاج 3 / 185، روضة الطالبين 7 / 131.
(29/146)
طِيبٌ
انْظُرْ: تَطَيُّب.
طِيَرَةٌ
انْظُرْ: تَطَيُّر.
(29/147)
طُيُورٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الطُّيُورُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ طَيْرٍ، وَهُوَ جَمْعُ طَائِرٍ،
وَالطَّائِرُ: كُل ذِي جَنَاحٍ يَسْبَحُ فِي الْهَوَاءِ. وَتَطَيَّرَ
فُلاَنٌ أَصْلُهُ التَّفَاؤُل بِالطَّيْرِ، ثُمَّ اسْتُعْمِل فِي كُل مَا
يُتَفَاءَل بِهِ أَوْ يُتَشَاءَمُ؛ لأَِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ إِذَا
أَرَادَتِ الْمُضِيَّ لِمُهِمٍّ مَرَّتْ بِمَجَاثِمِ الطَّيْرِ
وَأَثَارَتْهَا، لِتَسْتَفِيدَ هَل تَمْضِي أَوْ تَرْجِعُ؟ فَنَهَى
الشَّارِعُ عَنْ ذَلِكَ (1) ، وَقَال: لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ (2)
وَقَال أَيْضًا: أَقِرُّوا الطَّيْرَ عَلَى وُكُنَاتِهَا (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) المصباح المنير، غريب القرآن للأصفهاني مادة (طير) .
(2) حديث: " لا عدوى ولا طيرة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 215)
ومسلم (4 / 1743) من حديث أبي هريرة، واللفظ للبخاري.
(3) حديث: " أقروا الطير على وكناتها ". ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (5 /
106) وقال: رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدها ثقات، والحديث رواية أم كوز
الكعبية.
(29/147)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالطُّيُورِ مِنْ
أَحْكَامٍ:
وَرَدَتْ أَحْكَامُ الطُّيُورِ فِي عِدَّةِ أَمَاكِنَ مِنْ كُتُبِ
الْفُقَهَاءِ مِنْهَا:
أ - بَيْعُ الطُّيُورِ:
2 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ مَا يُؤْكَل
لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ كَالْحَمَامِ وَالْعَصَافِيرِ وَغَيْرِهِمَا،
لأَِنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَالإِْبِل وَالْبَقَرِ
وَالْغَنَمِ. كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا يُصَادُ بِهِ مِنَ الطُّيُورِ،
كَالصَّقْرِ وَالْبَازِي وَالشَّاهِينِ وَالْعُقَابِ وَنَحْوِهَا إِذَا
كَانَ مُعَلَّمًا أَوْ يَقْبَل التَّعْلِيمَ؛ لأَِنَّهُ حَيَوَانٌ أُبِيحَ
اقْتِنَاؤُهُ وَفِيهِ نَفْعٌ مُبَاحٌ، فَأُبِيحَ بَيْعُهُ، أَمَّا إِذَا
كَانَ غَيْرَ قَابِلٍ لِلتَّعْلِيمِ فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ.
وَيَجُوزُ أَيْضًا بَيْعُ مَا يُنْتَفَعُ بِلَوْنِهِ كَالطَّاوُوسِ، أَوْ
يُنْتَفَعُ بِصَوْتِهِ كَالْبُلْبُل وَالْهَزَارِ وَالْبَبَّغَاءِ
وَالزُّرْزُورِ وَالْعَنْدَلِيبِ وَنَحْوِهَا.
أَمَّا بَيْعُ الطُّيُورِ الَّتِي لاَ تُؤْكَل وَلاَ يُصْطَادُ بِهَا،
كَالرَّخَمَةِ وَالْحِدَأَةِ وَالنَّعَامَةِ وَالْغُرَابِ الَّذِي لاَ
يُؤْكَل فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا، لأَِنَّ مَا لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ لاَ
قِيمَةَ لَهُ، فَأَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ مِنْ أَكْل الْمَال بِالْبَاطِل،
وَبَذْل الْعِوَضِ فِيهِ مِنَ السَّفَهِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ بَيْعُ كُل ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ،
مُعَلَّمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُعَلَّمٍ (1) .
__________
(1) البدائع 5 / 142، والمجموع للنووي 9 / 239، المغني لابن قدامة 4 / 283
- 285، مغني المحتاج 2 / 12، كشاف القناع 3 / 152.
(29/148)
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: وَيَصِحُّ بَيْعُ
مَا يُصَادُ عَلَيْهِ مِنَ الطَّيْرِ، كَبُومَةٍ يَجْعَلُهَا شِبَاكًا،
وَهُوَ: طَائِرٌ تُخَاطُ عَيْنَاهُ وَيُرْبَطُ لِيَنْزِل عَلَيْهِ
الطَّيْرُ فَيُصَادُ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِ
الْحَيَوَانِ (1) .
وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الطَّيْرِ فِي
الْهَوَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ أَوْ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَهُ.
أَمَّا الْمَمْلُوكُ فَلأَِنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، وَمِنْ
شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ: أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ قَادِرًا عَلَى
تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ هُنَا.
وَغَيْرُ الْمَمْلُوكِ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِعِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا:
الْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِهِ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ
لَهُ.
وَالأَْصْل فِي هَذَا: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ (2) ، وَقَدْ فُسِّرَ بِأَنَّهُ بَيْعُ الطَّيْرِ
فِي الْهَوَاءِ وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا
فِي الطَّائِرِ الَّذِي يَأْلَفُ الرُّجُوعَ، هَل يَصِحُّ بَيْعُهُ فِي
حَال ذَهَابِهِ إِلَى الرَّعْيِ أَوْ غَيْرِهِ أَمْ لاَ؟ .
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ - وَهُوَ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 152.
(2) حديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر ". أخرجه مسلم (3 /
1153) من حديث أبي هريرة.
(29/148)
الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ - وَالْحَنَابِلَةُ
إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِنْ تَعَوَّدَ الْعَوْدَ إِلَى
مَحَلِّهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ، وَلأَِنَّهُ لاَ يُوثَقُ
بِعَوْدَتِهِ لِعَدَمِ عَقْلِهِ.
وَذَهَبَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى جَوَازِ
بَيْعِهِ، كَالْعَبْدِ الْمَبْعُوثِ فِي شُغْلٍ (1) .
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ الطَّيْرَ إِذَا كَانَ فِي
مَكَانٍ مُغْلَقٍ، وَيُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْهُ بِلاَ تَعَبٍ - كَبُرْجٍ
صَغِيرٍ - جَازَ بَيْعُهُ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ أَخْذُهُ إِلاَّ بِتَعَبٍ وَمَشَقَّةٍ،
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ - وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى صِحَّةِ بَيْعِهِ، كَمَا يَصِحُّ بَيْعُ مَا
يُحْتَاجُ فِي نَقْلِهِ إِلَى مُؤْنَةٍ كَبِيرَةٍ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ
لِعَدَمِ قُدْرَةِ الْبَائِعِ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ
الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْبُرْجُ وَنَحْوُهُ مَفْتُوحًا فَلاَ يَصِحُّ
بَيْعُ الطُّيُورِ الْمَوْجُودَةِ فِيهِ، لأَِنَّ الطَّيْرَ إِذَا قَدَرَ
عَلَى الطَّيَرَانِ لَمْ يُمْكِنْ تَسْلِيمُهُ (2) .
ب - الاِصْطِيَادُ بِالطُّيُورِ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الاِصْطِيَادِ
__________
(1) المجموع للنووي 9 / 283، المغني لابن قدامة 4 / 222، البدائع 5 / 147،
القوانين الفقهية ص 148، كشاف القناع 3 / 162، مغني المحتاج 2 / 13، جواهر
الإكليل 2 / 5 - 8.
(2) المصادر السابقة.
(29/149)
بِكُل مَا يَقْبَل التَّعْلِيمَ وَيُمْكِنُ
الاِصْطِيَادُ بِهِ مِنْ جَوَارِحِ الطَّيْرِ، كَالْبَازِي وَالصَّقْرِ
وَالْعُقَابِ وَالشَّاهِينِ وَنَحْوِهَا مِنْ ذَوَاتِ الْمَخَالِبِ مِنَ
الطُّيُورِ، وَأَنَّ مَا أَخَذَتْهُ هَذِهِ الْجَوَارِحُ مِنَ الصَّيْدِ
وَجَرَحَتْهُ وَأَمْسَكَتْهُ وَأَدْرَكَهُ صَاحِبُهَا مَيِّتًا أَوْ فِي
حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ أَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَبْحِهِ حَل أَكْلُهُ،
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَازِي مَا أَمْسَكَ
عَلَيْكَ فَكُل (1) .
وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ فَقَالُوا: لاَ يَجُوزُ الصَّيْدُ
إِلاَّ بِالْكَلْبِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ
الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} (2) الآْيَةَ، حَيْثُ خَصَّ الاِصْطِيَادَ
بِالْكِلاَبِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شُرُوطِ تَعْلِيمِ جَوَارِحِ الطَّيْرِ
وَمَا يَكُونُ بِهِ (3) .
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْد) .
ج - اصْطِيَادُ الطُّيُورِ وَذَبْحُهَا:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الطَّيْرَ إِذَا كَانَ
__________
(1) حديث: " ما أمسك عليك فكل ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 599) ومسلم
(3 / 1530) من حديث عدي بن حاتم، واللفظ للبخاري.
(2) سورة المائدة / 4.
(3) البدائع 5 / 51، 54، 58، المجموع للنووي 9 / 92، مغني المحتاج 4 / 275،
المغني لابن قدامة 8 / 546، القوانين الفقهية ص 175.
(29/149)
مَقْدُورًا عَلَيْهِ فَذَكَاتُهُ
بِالذَّبْحِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (ذَبَائِحُ ف 11 وَمَا
بَعْدَهَا) . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا عَلَيْهِ فَذَكَاتُهُ بِعَقْرٍ
مُزْهِقٍ لِلرُّوحِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ، وَفِي صُوَرِ هَذَا
الْعَقْرِ وَمَا يَحِل مِنْهَا الطَّيْرُ أَوِ الصَّيْدُ خِلاَفٌ يُنْظَر
فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْد) .
(29/150)
|