الموسوعة الفقهية الكويتية

عَصَبِيَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَصَبِيَّةُ فِي اللُّغَةِ: الْمُحَامَاةُ، وَالْمُدَافَعَةُ: يُقَال: تَعَصَّبُوا عَلَيْهِمْ: إِذَا تَجَمَّعُوا عَلَى فَرِيقٍ آخَرَ، وَفِي الأَْثَرِ: الْعَصَبِيُّ مِنْ يُعِينُ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ

(1) الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْحَمِيَّةُ:
2 - الْحَمِيَّةُ هِيَ: الأَْنَفَةُ وَالْغَيْرَةُ (2) ، فَفِي الأَْثَرِ: الرَّجُل يُقَاتِل حَمِيَّةً، وَيُقَاتِل شَجَاعَةً، فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيل اللَّهِ؟ قَال: مَنْ قَاتَل لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيل اللَّهِ (3) .
__________
(1) لسان العرب، متن اللغة. والأثر: " العصبي من يعين قومه على الظلم " أورده ابن الأثير في النهاية (3: 245) بهذا اللفظ ولم يعزه إلى أي مصدر. وأخرج أبو داود (5 / 341) من حديث واثلة بن الأسقع أنه قال: قلت: يا رسول الله، ما العصبية؟ قال: " أن تعين قومك على الظلم " وترجم الذهبي
(2) متن اللغة.
(3) حديث: " الرجل يقاتل حمية. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 441) ، ومسلم (3 / 1513) من حديث أبي موسى الأشعري، واللفظ للبخاري.

(30/134)


الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَصَبِيَّةِ:
3 - الْعَصَبِيَّةُ: بِمَعْنَى الدَّعْوَةِ إِلَى نُصْرَةِ الْعَشِيرَةِ أَوِ الْقَبِيلَةِ عَلَى الظُّلْمِ حَرَامٌ، فَقَدْ نَهَى الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَنِ التَّعَاوُنِ عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَأَمَرَ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَقَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) ، وَتَظَاهَرَتِ الأَْحَادِيثُ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْعَصَبِيَّةِ بِكُل أَشْكَالِهَا وَصُوَرِهَا: الْعَصَبِيَّةُ لِلْقَبِيلَةِ أَوْ لِلْجِنْسِ أَوْ لِلأَْرْضِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَل عَلَى عَصَبِيَّةٍ (2) .
وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْعَصَبِيَّةِ لِلْقَبِيلَةِ: دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ (3)
وَكَانَتِ الْعَصَبِيَّةُ لِلْقَبِيلَةِ وَنُصْرَتُهَا ظَالِمَةً كَانَتْ أَوْ مَظْلُومَةً سَائِدَةً فِي الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ
__________
(1) سورة المائدة / 2.
(2) حديث: " ليس منا من دعا إلى عصبية. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 342) من حديث جبير بن مطعم، وفي إسناده انقطاع وجهالة، كذا في مختصر السنن للمنذري (8 / 19) .
(3) حديث: " دعوها فإنها منتنة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 652) مسلم (4 / 1999) من حديث جابر بن عبد الله.

(30/135)


قَبْل الإِْسْلاَمِ، فَأَبْطَلَهَا الإِْسْلاَمُ، وَحَرَّمَ الْعَصَبِيَّةَ، وَالتَّنَاصُرَ عَلَى الظُّلْمِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، فَقَال رَجُلٌ: يَا رَسُول اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ فَقَال: تَحْجِزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ. (1)
وَجَعَل الْمُنَاصَرَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْحَقِّ، قَال تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) وَعَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِيتَةَ الْمُتَعَصِّبِ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قَاتَل تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِل فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ (3) .
كَمَا أَبْطَل الإِْسْلاَمُ التَّفَاخُرَ بِالآْبَاءِ وَمَآثِرِ الأَْجْدَادِ، قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ
__________
(1) حديث: " انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 323) ، ومسلم (4 / 1998) من حديث أنس بن مالك.
(2) سورة التوبة / 71.
(3) حديث: " من خرج من الطاعة. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1476 - 1477) من حديث أبي هريرة.

(30/135)


يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا، إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونَنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجُعَل الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخُرْءَ بِأَنْفِهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، إِنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ (1)
وَجَعَل الإِْسْلاَمُ أَسَاسَ التَّفَاضُل التَّقْوَى وَالْعَمَل الصَّالِحَ
وَفِي التَّنْزِيل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِل لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . (2)
بَيَّنَ اللَّهُ فِي الآْيَةِ الْغَايَةَ مِنْ جَعْل النَّاسِ شُعُوبًا وَقَبَائِل، وَهِيَ التَّعَارُفُ وَالتَّعَاوُنُ، لاَ التَّنَاحُرُ وَالْخِصَامُ، فَالْعَصَبِيَّةُ بِأَشْكَالِهَا لِلْقَبِيلَةِ أَوْ لِلْجِنْسِ أَوْ لِلَّوْنِ تَتَنَافَى مَعَ الإِْسْلاَمِ (3)
__________
(1) حديث: " لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 734) وقال: " حديث حسن غريب ".
(2) سورة الحجرات / 13.
(3) تفسير الخازن في تفسير الآية 13 من سورة الحجرات.

(30/136)


عَصْر

انْظُرْ: صَلاَةُ الْعَصْرِ.

عُصْفُور

انْظُرْ: أَطْعِمَة.

(30/136)


عِصْمَة

التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِصْمَةُ فِي اللُّغَةِ: مُطْلَقُ الْمَنْعِ وَالْحِفْظِ، وَعِصْمَةُ اللَّهِ عَبْدَهُ: أَنْ يَمْنَعَهُ وَيَحْفَظَهُ مِمَّا يُوبِقُهُ (1) .
وَتُطْلَقُ الْعِصْمَةُ عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ، قَال تَعَالَى: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (2) أَيْ: بِعَقْدِ نِكَاحِهِنَّ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ: عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعِصْمَةِ:
2 - تَخْتَلِفُ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعِصْمَةِ بِاخْتِلاَفِ إِطْلاَقِهَا:
أ - الْعِصْمَةُ: بِمَعْنَى حِفْظِ اللَّهِ لِلْمُكَلَّفِ مِنَ الذُّنُوبِ مَعَ اسْتِحَالَةِ وُقُوعِهَا مِنْهُ.
ب - الْعِصْمَةُ الْمُقَوِّمَةُ وَهِيَ: الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا لِلإِْنْسَانِ وَمَالِهِ قِيمَةٌ، بِحَيْثُ يَجِبُ
__________
(1) لسان العرب، فتح الباري جـ 1 / في شرح حديث: " عصموا دماءرهم ".
(2) سورة الممتحنة / 10.

(30/137)


الْقِصَاصُ، أَوِ الدِّيَةُ، أَوِ الضَّمَانُ عَلَى مَنْ هَتَكَهَا.
ج - وَالْعِصْمَةُ الْمُؤَثِّمَةِ: وَهِيَ: الَّتِي يَأْثَمُ هَاتِكُهَا (1) .
3 - فَالْعِصْمَةُ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ لِلأَْنْبِيَاءِ، وَالْمَلاَئِكَةِ، وَهِيَ: مَلَكَةٌ يُودِعُهَا اللَّهُ فِيهِمْ تَعْصِمُهُمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ، وَخِلاَفِ الأَْوْلَى، قَال تَعَالَى فِي حَقِّ الْمَلاَئِكَةِ: {لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} . (2)
وَالأَْنْبِيَاءُ مَحْفُوظُونَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ مِنَ الذُّنُوبِ الظَّاهِرَةِ كَالْكَذِبِ وَنَحْوِهِ، وَالذُّنُوبِ الْبَاطِنَةِ، كَالْحَسَدِ وَالْكِبْرِ وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الرَّسُول هُوَ الْمَثَل الأَْعْلَى الَّذِي يَجِبُ الاِقْتِدَاءُ بِهِ فِي اعْتِقَادَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَخْلاَقِهِ، إِذْ هُوَ الأُْسْوَةُ الْحَسَنَةُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ لَهُ، إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ خَصَائِصِهِ بِالنَّصِّ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ كُل اعْتِقَادَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَخْلاَقِهِ الاِخْتِيَارِيَّةِ بَعْدَ الرِّسَالَةِ مُوَافِقَةً لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَوَجَبَ أَنْ لاَ يَدْخُل فِي شَيْءٍ مِنَ اعْتِقَادَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَخْلاَقِهِ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لأَِنَّ اللَّهَ جَل شَأْنُهُ: أَمَرَ الأُْمَمَ بِالاِقْتِدَاءِ بِرُسُلِهِمْ فَقَال تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ
__________
(1) التعريفات للجرجاني.
(2) سورة التحريم / 6.

(30/137)


لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآْخِرَ} (1) وَقَال فِي حَقِّ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُول اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآْخِرَ} (2) فَإِذَا جَازَ أَنْ يَفْعَل الرُّسُل بَعْدَ الرِّسَالَةِ وَالأَْمْرِ بِالاِقْتِدَاءِ بِهِمُ الْمُحَرَّمَاتِ أَوِ الْمَكْرُوهَاتِ أَوْ خِلاَفَ الأَْوْلَى: لَكُنَّا مَأْمُورِينَ بِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لاَ يَأْمُرُ بِمُحَرَّمٍ وَلاَ مَكْرُوهٍ وَلاَ خِلاَفِ الأَْوْلَى (3) ، قَال تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} (4) ، وَبِذَلِكَ يَثْبُتُ أَنَّ الرُّسُل عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ نُبُوَّتِهِمْ وَبَعْدَ الأَْمْرِ بِالاِقْتِدَاءِ بِهِمْ مَعْصُومُونَ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْمَعَاصِي وَهَذَا مَا يُسَمَّى: " عِصْمَةُ الرُّسُل (5) ".
أَمَّا عِصْمَتُهُمْ قَبْل النُّبُوَّةِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا، فَمَنَعَهَا قَوْمٌ، وَجَوَّزَهَا آخَرُونَ، وَالصَّحِيحُ تَنْزِيهُهُمْ مِنْ كُل عَيْبٍ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ قَبْل اصْطِفَائِهِ بِالنُّبُوَّةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
فَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَمْ يُكَلَّفْ بَعْدُ مُطْلَقًا بِشَرْعٍ مَا، فَالْعِصْمَةُ فِي حَقِّهِ غَيْرُ وَارِدَةٍ؛ لأَِنَّ الْمَعَاصِيَ وَالْمُخَالَفَاتِ إِنَّمَا تُتَصَوَّرُ بَعْدَ وُرُودِ
__________
(1) سورة الممتحنة / 6.
(2) سورة الأحزاب / 21.
(3) شرح جوهرة التوحيد للبيجوري ص120 - 132، التعريفات للجرجاني، الشفاء للقاضي عياض 2 / 746 وما قبله وما بعده.
(4) سورة الأعراف / 28.
(5) المصادر السابقة.

(30/138)


الشَّرْعِ وَالتَّكْلِيفِ بِهِ، وَالْمَفْرُوضُ أَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ، فَلاَ مَجَال لِبَحْثِ الْمَعْصِيَةِ أَوْ عَدَمِهَا؛ لأَِنَّ الذِّمَّةَ خَالِيَةٌ مِنَ التَّكْلِيفِ، لَكِنَّ عُلُوَّ فِطْرَةِ الرَّسُول وَصَفَاءَ نَفْسِهِ وَسُمُوَّ رُوحِهِ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أُنْمُوذَجًا رَفِيعًا بَيْنَ قَوْمِهِ، فِي أَخْلاَقِهِ وَمُعَامَلاَتِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَفِي بُعْدِهِ عَنِ ارْتِكَابِ الْقَبَائِحِ الَّتِي تَنْفِرُ عَنْهَا الْعُقُول السَّلِيمَةُ، وَالطَّبَائِعُ الْمُسْتَقِيمَةُ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْل اصْطِفَائِهِ قَدْ كُلِّفَ بِشَرْعِ رَسُولٍ سَابِقٍ، كَلُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ كَانَ تَابِعًا قَبْل نُبُوَّتِهِ لإِِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيل مِنْ بَعْدِ مُوسَى قَبْل أَنْ يُوحَى إِلَيْهِمْ بِالنُّبُوَّةِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَثْبُتْ فِي عِصْمَتِهِمْ فِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، وَلَكِنَّ سِيرَةَ الأَْنْبِيَاءِ الَّتِي أُثِرَتْ عَنْهُمْ قَبْل نُبُوَّتِهِمْ تَشْهَدُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنِ الْمَعَاصِي: كَبَائِرِهَا وَصَغَائِرِهَا (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (نَبِيّ) .

4 - وَالْعِصْمَةُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي: وَهِيَ الَّتِي يَثْبُتُ لِلإِْنْسَانِ وَمَالِهِ بِهَا قِيمَةٌ، بِحَيْثُ يَجِبُ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ عَلَى مَنْ هَتَكَهَا، فَهَذِهِ تَثْبُتُ لِلإِْنْسَانِ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَمَنْ نَطَقَ بِهِمَا عُصِمَ دَمُهُ وَمَالُهُ (2) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِذَا قَالُوا
__________
(1) شرح جوهرة التوحيد للبيجوري، والشفاء للقاضي عياض 2 / 793 وما بعدها.
(2) ابن عابدين 3 / 233، والقليوبي 4 / 220 - 221.

(30/138)


لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ (1) ، وَقَوْلِهِ: كُل الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ (2) فَمَنْ قَتَل مُسْلِمًا مَعْصُومَ الدَّمِ يَضْمَنُ بِالْقَوَدِ أَوِ الدِّيَةِ. ر: مُصْطَلَحَ: (قِصَاصٌ) (وَدِيَاتٌ ف 11 وَمَا بَعْدَهَا) .
وَمَنْ أَخَذَ مَالَهُ أَوْ أَتْلَفَهُ ضَمِنَ، قَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل} (3) .
ر: مُصْطَلَحَ: (ضَمَانٌ ف 7 وَمَا بَعْدَهَا وَمُصْطَلَحَ: غَصْبٌ) .
وَتَثْبُتُ هَذِهِ الْعِصْمَةُ أَيْضًا بِأَمَانٍ يَحْقِنُ دَمَهُ بِعَقْدِ ذِمَّةٍ، أَوْ عَهْدٍ أَوْ مُجَرَّدِ أَمَانٍ، وَلَوْ فِي آحَادِ الْمُسْلِمِينَ، جَاءَ فِي الأَْثَرِ: أَلاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا أَوِ انْتَقَضَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (4) .
__________
(1) حديث: " فإذا قالوا: لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 250) من حديث عمر، وأخرجه مسلم (1 / 53) من حديث جابر.
(2) حديث: " كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه ". أخرجه مسلم (4 / 1986) من حديث أبي هريرة.
(3) سورة النساء / 29.
(4) حديث: " ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه ". أخرجه أبو داود (3 / 437) وقال السخاوي في المقاصد الحسنة (ص 392) " سنده لا بأس به ".

(30/139)


فَلأَِهْل الْعَهْدِ أَنْ يُؤَمَّنُوا عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَعَلَى الإِْمَامِ حِمَايَتُهُمْ مِنْ كُل مَنْ أَرَادَ بِهِمْ سُوءًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَغَيْرِهِمْ، فَلاَ يُظْلَمُونَ فِي عَهْدِهِمْ وَلاَ يُؤْذَوْنَ (1) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (أَهْل الذِّمَّةِ ف 19 وَمَا بَعْدَهَا) مُصْطَلَحِ: (عَهْد)

5 - وَالْعِصْمَةُ بِالْمَعْنَى الثَّالِثِ: وَهِيَ الْعِصْمَةُ الْمُؤَثِّمَةُ: وَهِيَ الَّتِي يَأْثَمُ مَنْ هَتَكَهَا وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ قِصَاصٌ وَلاَ دِيَةٌ وَلاَ ضَمَانٌ، كَقَتْل مَنْ مُنِعْنَا مِنْ قَتْلِهِ مِنْ أَطْفَال الْحَرْبِيِّينَ وَنِسَائِهِمْ، وَقَتْل الْقَرِيبِ الْمُشْرِكِ، فَيَأْثَمُ قَاتِلُهُ، وَلَكِنْ لاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ وَلاَ دِيَةَ، بَل عَلَيْهِ التَّوْبَةُ، وَالاِسْتِغْفَارُ (2) .

الْعِصْمَةُ فِي النِّكَاحِ:
6 - الْعِصْمَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الأَْصْل بِمَعْنَى الْمَنْعِ وَالْحِفْظِ؛ إِلاَّ أَنَّهَا تُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى النِّكَاحِ، قَال تَعَالَى: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (3) قَال الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ بِالْعِصْمَةِ هُنَا النِّكَاحُ، وَقَالُوا: وَالْمَعْنَى لاَ تَتَمَسَّكُوا بِزَوْجَاتِكُمُ الْكَافِرَاتِ فَلَيْسَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُنَّ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 266، حاشية ابن عابدين 3 / 222 - 223.
(2) ابن عابدين 3 / 224 - 225، المحلى والقليوبي 4 / 218، نهاية المحتاج 8 / 64.
(3) سورة الممتحنة / 10.

(30/139)


عِصْمَةٌ وَلاَ عَلاَقَةٌ زَوْجِيَّةٌ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَال: مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ كَافِرَةٌ بِمَكَّةَ فَلاَ تُعَدُّ مِنْ نِسَائِهِ؛ لأَِنَّ اخْتِلاَفَ الدَّارَيْنِ قَطَعَ عِصْمَتَهَا مِنْهُ فَلاَ يُمْنَعُ نِكَاحَ خَامِسَةٍ، وَلاَ نِكَاحَ أُخْتِهَا (1) .

انْحِلاَل عِصْمَةِ النِّكَاحِ وَحَلِّهِ:
7 - تَنْحَل عِصْمَةُ النِّكَاحِ بِفَسْخٍ أَوْ طَلاَقٍ، أَمَّا الْفَسْخُ فَيَكُونُ لأَِسْبَابٍ، كَالرِّدَّةِ، وَالْعَيْبِ وَنَحْوِهِمَا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّة ف 44، وَعَيْب وَفَسْخ) .
وَأَمَّا الطَّلاَقُ فَالأَْصْل أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي يَمْلِكُ حَل عُقْدَةِ النِّكَاحِ؛ لأَِنَّ الرَّجُل هُوَ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَيْهِ إِيقَاعُ الطَّلاَقِ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2) وَلِحَدِيثِ: إِنَّمَا الطَّلاَقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ (3) .
لَكِنَّ الزَّوْجَةَ - اسْتِثْنَاءٌ مِنْ هَذَا الأَْصْل - قَدْ تَمْلِكُ حَل عُقْدَةِ النِّكَاحِ وَذَلِكَ فِي:

أ - تَفْوِيضِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ فِي التَّطْلِيقِ:
8 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُفَوِّضَ
__________
(1) تفسير القرطبي 18 / 65، 66، وابن كثير 3 / 351.
(2) سورة الطلاق / 1.
(3) حديث: " إنما الطلاق لمن أمسك بالساق ". أخرجه ابن ماجه (1 / 672) من حديث ابن عباس، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 358) .

(30/140)


الرَّجُل امْرَأَتَهُ فِي تَطْلِيقِ نَفْسِهَا مِنْهُ، فَيَكُونُ لَهَا حَقُّ التَّطْلِيقِ، أَيْ حَل عُقْدَةِ النِّكَاحِ وَإِنْهَاءُ الْعِصْمَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (تَفْوِيض ف 9 - 13) .

ب - اشْتِرَاطُ الزَّوْجَةِ أَنْ تَكُونَ الْعِصْمَةُ بِيَدِهَا:
9 - نَصَّ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الرَّجُل إِذَا نَكَحَ الْمَرْأَةَ عَلَى أَنَّ أَمْرَهَا بِيَدِهَا صَحَّ إِذَا ابْتَدَأَتِ الْمَرْأَةُ فَقَالَتْ: زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْكَ عَلَى أَنَّ أَمْرِي بِيَدِي أُطَلِّقُ نَفْسِي كُلَّمَا شِئْتُ، فَقَال الزَّوْجُ: قَبِلْتُ. جَازَ النِّكَاحُ وَيَكُونُ أَمْرُهَا بِيَدِهَا، أَمَّا لَوْ بَدَأَ الزَّوْجُ فَقَال: تَزَوَّجْتُكِ عَلَى أَنَّ أَمْرَكِ بِيَدِكِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ وَلاَ يَكُونُ أَمْرُهَا بِيَدِهَا؛ لأَِنَّ التَّفْوِيضَ وَقَعَ قَبْل الزَّوَاجِ وَلَمْ يُعَلَّقْ عَلَيْهِ تَوَقُّعُ التَّفْوِيضِ قَبْل أَنْ يَمْلِكَ الطَّلاَقَ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ شَرَطَتِ الْمَرْأَةُ عِنْدَ النِّكَاحِ أَنَّ أَمْرَهَا بِيَدِهَا مَتَى أَحَبَّتْ فُسِخَ النِّكَاحُ قَبْل الدُّخُول وَثَبَتَ بَعْدَهُ بِصَدَاقِ الْمِثْل وَأُلْغِيَ الشَّرْطُ فَلاَ يُعْمَل بِهِ؛ لأَِنَّهُ شَرْطٌ مُخِلٌّ (2)
__________
(1) ابن عابدين 2 / 485، والفتاوى الهندية 1 / 273.
(2) الشرح الصغير 2 / 386.

(30/140)


عَضّ

التَّعْرِيفُ
1 - الْعَضُّ فِي اللُّغَةِ: الشَّدُّ عَلَى الشَّيْءِ بِالأَْسْنَانِ، وَالإِْمْسَاكُ بِهِ. تَقُول عَضِضْتُ اللُّقْمَةَ، وَعَضِضْتُ بِهَا، وَعَلَيْهَا عَضًّا: إِذَا أَمْسَكْتَهَا بِالأَْسْنَانِ، كَذَلِكَ عَضَّ الْفَرَسُ عَلَى لِجَامِهِ (1) ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَْنَامِل مِنَ الْغَيْظِ} . (2)
وَفِي الْحَدِيثِ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا (3) أَيِ الْزَمُوهَا وَاسْتَمْسِكُوا بِهَا

وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - لَوْ عَضَّ إِنْسَانٌ آخَرَ بِغَيْرِ حَقٍّ (4) وَحَصَل
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) سورة آل عمران / 119.
(3) حديث: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء. . . " أخرجه الترمذي (5 / 44) من حديث العرباض بن سارية، وقال: حديث حسن صحيح.
(4) وهذا في غير حالة الدفاع، إذ العض لا يجوز بحال في غير الدفع (نهاية المحتاج وحواشيه 8 / 26) .

(30/141)


مِنْهُ جُرْحٌ يَضْمَنُ الْعَاضُّ أَرْشَ جُرْحِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَالضَّمَانُ يَكُونُ حُكُومَةَ عَدْلٍ، يُقَدِّرُهَا أَهْل الْخِبْرَةِ، كَمَا هِيَ الْقَاعِدَةُ فِي الْجُرُوحِ الَّتِي لاَ يَكُونُ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ (1)

3 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا عَضَّ فَسَل الْمَعْضُوضُ يَدَهُ فَقَلَعَ الْمَعْضُوضُ أَسْنَانَ الْعَاضِّ هَل فِيهِ ضَمَانٌ أَمْ لاَ؟
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ لَوْ عَضَّ رَجُلٌ يَدَ آخَرَ فَلَهُ جَذْبُهَا مِنْ فِيهِ، فَإِنْ جَذَبَهَا فَوَقَعَتْ ثَنَايَا الْعَاضِّ فَلاَ ضَمَانَ فِيهَا (2) ؛ لِمَا رَوَى يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ قَال: كَانَ لِي أَجِيرٌ، فَقَاتَل إِنْسَانًا، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا يَدَ الآْخَرِ، قَال: فَانْتَزَعَ الْمَعْضُوضُ يَدَهُ مِنْ فِي الْعَاضِّ فَانْتَزَعَ إِحْدَى ثَنِيَّتَيْهِ، فَأَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهْدَرَ ثَنِيَّتَهُ، قَال: عَطَاءٌ: وَحَسِبْتُ أَنَّهُ قَال: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفَيَدَعُ يَدَهُ فِي فِيكَ تَقْضِمُهَا كَأَنَّهَا فِي فِي فَحْلٍ يَقْضِمُهَا؟ (3) ،
__________
(1) الاختيار 5 / 42، وتبيين الحقائق للزيلعي 6 / 132، وجواهر الإكليل 2 / 167، وروضة الطالبين 9 / 265، والمغني لابن قدامة 8 / 44.
(2) مجمع الضمانات للبغدادي ص168، وجواهر الإكليل 2 / 197، ونهاية المحتاج للرملي 8 / 26، ومغني المحتاج للشربيني 4 / 197، والمغني لابن قدامة 8 / 333، 334.
(3) حديث: " أفيدع يده في فيك تقضمها. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 1113) ومسلم (3 / 1301) من حديث يعلي بن أمية واللفظ للبخاري، وانظر المغني لابن قدامة 8 / 334.

(30/141)


وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيُّ: فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ فَنَذَرَتْ ثَنِيَّتُهُ، فَاخْتَصَمَا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْل؟ لاَ دِيَةَ لَهُ (1) .
وَيَسْتَدِل ابْنُ قُدَامَةَ لِعَدَمِ الضَّمَانِ بِأَنَّهُ عُضْوٌ تَلِفَ ضَرُورَةَ دَفْعِ شَرِّ صَاحِبِهِ فَلَمْ يَضْمَنْ، كَمَا لَوْ صَال عَلَيْهِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهُ إِلاَّ بِقَطْعِ عُضْوِهِ (2) .
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ الضَّمَانِ بِمَا إِذَا أَخَذَ الْمَعْضُوضُ فِي التَّخَلُّصِ بِالأَْسْهَل فَالأَْسْهَل، كَمَا هِيَ الْقَاعِدَةُ فِي دَفْعِ الصَّائِل، حَيْثُ قَالُوا: لَوْ عُضَّتْ يَدُهُ أَوْ غَيْرُهَا خَلَّصَهَا بِالأَْسْهَل مِنْ فَكِّ لَحْيَيْهِ أَوْ ضَرْبِ شَدْقَيْهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الأَْسْهَل فَسَلَّهَا فَسَقَطَتْ أَسْنَانُهُ فَهَدَرٌ (3) .
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: فَلَوْ عَدَل عَنِ الأَْخَفِّ مَعَ إِمْكَانِهِ ضَمِنَ، وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُورِ، قَال الأَْذْرَعِيُّ: وَإِطْلاَقُ الْكَثِيرِينَ يُفْهِمُ أَنَّهُ لَوْ سَل يَدَهُ ابْتِدَاءً فَسَقَطَتْ أَسْنَانُهُ
__________
(1) حديث: " يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل. . . ". أخرجه النسائي (8 / 29) من حديث عمران بن حصين، وهو في البخاري (فتح الباري 12 / 219) ومسلم (3 / 1300) .
(2) المغني لابن قدامة 8 / 334.
(3) مغني المحتاج 4 / 197، ونهاية المحتاج للرملي 8 / 26.

(30/142)


كَانَتْ مُهْدَرَةً، وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ ا. هـ. (1)
وَلَوْ تَنَازَعَا فِي إِمْكَانِ الدَّفْعِ بِأَيْسَرَ مِمَّا دَفَعَ بِهِ صُدِّقَ الْمَعْضُوضُ بِيَمِينِهِ، كَمَا نَقَلَهُ الرَّمْلِيُّ عَنِ الأَْذْرَعِيِّ (2) .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا عَضَّهُ فَسَل الْمَعْضُوضُ يَدَهُ فَقَلَعَ الْمَعْضُوضُ أَسْنَانَ الْعَاضِّ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 197.
(2) نهاية المحتاج 8 / 26.
(3) جواهر الإكليل 2 / 297.

(30/142)


عَضْلٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَضْل فِي اللُّغَةِ مِنْ: عَضَل الرَّجُل حُرْمَتَهُ عَضْلاً - مِنْ بَابَيْ قَتَل وَضَرَبَ - مَنَعَهَا التَّزْوِيجَ، وَعَضْل الْمَرْأَةِ عَنِ الزَّوْجِ: حَبْسُهَا، وَعَضَل بِهِمُ الْمَكَانُ: ضَاقَ، وَأَعْضَل الأَْمْرُ: اشْتَدَّ، وَمِنْهُ: دَاءٌ عُضَالٌ أَيْ شَدِيدٌ (1) .
وَقَدِ اسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ الْعَضْل فِي النِّكَاحِ بِمَعْنَى مَنْعِ التَّزْوِيجِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَعْنَى الْعَضْل: مَنْعُ الْمَرْأَةِ مِنَ التَّزْوِيجِ بِكُفْئِهَا إِذَا طَلَبَتْ ذَلِكَ وَرَغِبَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صَاحِبِهِ (2) .
وَكَذَلِكَ اسْتَعْمَلُوا الْعَضْل فِي الْخُلْعِ بِمَعْنَى: الإِْضْرَارِ بِالزَّوْجَةِ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ عَضَل زَوْجَتَهُ، وَضَارَّهَا بِالضَّرْبِ وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهَا، أَوْ مَنَعَهَا حُقُوقَهَا مِنَ النَّفَقَةِ وَالْقَسْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِتَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ فَفَعَلَتْ فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ وَالْعِوَضُ مَرْدُودٌ (3) .
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب.
(2) مغني المحتاج 3 / 153، والمغني 6 / 477.
(3) المغني 7 / 54 - 55.

(30/143)


الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - الأَْصْل أَنَّ عَضْل الْوَلِيِّ مَنْ لَهُ وِلاَيَةُ تَزْوِيجِهَا مِنْ كُفْئِهَا حَرَامٌ؛ لأَِنَّهُ ظُلْمٌ، وَإِضْرَارٌ بِالْمَرْأَةِ فِي مَنْعِهَا حَقَّهَا فِي التَّزْوِيجِ بِمَنْ تَرْضَاهُ، وَذَلِكَ لِنَهْيِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهُ فِي قَوْلِهِ مُخَاطِبًا الأَْوْلِيَاءَ: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (1)
كَمَا أَنَّ عَضْل الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ، بِمُضَارَّتِهَا وَسُوءِ عِشْرَتِهَا وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهَا حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ بِمَا أَعْطَاهَا مِنْ مَهْرٍ حَرَامٌ؛ لأَِنَّهُ ظُلْمٌ لَهَا بِمَنْعِهَا حَقَّهَا مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَمِنَ النَّفَقَةِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأَْزْوَاجَ عَنْ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} . (2)
3 - وَيُبَاحُ عَضْل الْوَلِيِّ إِذَا كَانَ لِمَصْلَحَةِ الْمَرْأَةِ، كَأَنْ تَطْلُبَ النِّكَاحَ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ، فَيَمْتَنِعَ عَنْ تَزْوِيجِهَا لِمَصْلَحَتِهَا.
كَمَا يُبَاحُ مِنَ الزَّوْجِ، بِالتَّضْيِيقِ عَلَى زَوْجَتِهِ حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ بِمَا أَعْطَاهَا مِنْ مَهْرٍ، وَذَلِكَ فِي حَالَةِ إِتْيَانِهَا الْفَاحِشَةَ (3) ، لِلنَّصِّ عَلَى
__________
(1) سورة البقرة / 232.
(2) سورة النساء / 19.
(3) ابن عابدين 2 / 315 - 316، والدسوقي 2 / 231 - 232، والقرطبي 2 / 158 و5 / 94، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 194، 201، ومغني المحتاج 3 / 153، ونهاية المحتاج 6 / 229، وكشاف القناع 5 / 54 - 55، 213، والمغني 6 / 477، و7 / 54 - 55.

(30/143)


ذَلِكَ فِي الاِسْتِثْنَاءِ الْوَارِدِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (1)

مَتَى يُعْتَبَرُ الْعَضْل؟
4 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الْعَضْل فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَضْل الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِمُضَارَّتِهَا وَسُوءِ عِشْرَتِهَا قَاصِدًا أَنْ تَفْتَدِيَ مِنْهُ بِمَا أَعْطَاهَا مِنْ مَهْرٍ، وَمَا يَأْخُذُهُ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يَسْتَحِقُّهُ؛ لأَِنَّهُ عِوَضٌ أُكْرِهَتْ عَلَى بَذْلِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (خُلْع ف 10) .
الثَّانِي: عَضْل الْوَلِيِّ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا دَعَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى الزَّوَاجِ مِنْ كُفْءٍ، أَوْ خَطَبَهَا كُفْءٌ، وَامْتَنَعَ الْوَلِيُّ مِنْ تَزْوِيجِهِ دُونَ سَبَبٍ مَقْبُولٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَاضِلاً؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ تَزْوِيجُهَا مِنْ كُفْءٍ، وَسَوَاءٌ طَلَبَتِ التَّزْوِيجَ بِمَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ دُونَهُ، كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ؛ لأَِنَّ الْمَهْرَ مَحْضُ حَقِّهَا وَعِوَضٌ يَخْتَصُّ بِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ الاِعْتِرَاضُ عَلَيْهِ،؛ وَلأَِنَّهَا لَوْ أَسْقَطَتْهُ بَعْدَ وُجُوبِهِ سَقَطَ كُلُّهُ، فَبَعْضُهُ أَوْلَى، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الاِمْتِنَاعُ عَنِ التَّزْوِيجِ بِمَهْرِ الْمِثْل لاَ يُعْتَبَرُ عَضْلاً.
__________
(1) سورة النساء / 19.

(30/144)


وَلاَ يُعْتَبَرُ الْوَلِيُّ عَاضِلاً إِذَا امْتَنَعَ مِنْ تَزْوِيجِهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ.
لَكِنْ قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الأَْبَ الْمُجْبِرَ لاَ يُعْتَبَرُ عَاضِلاً بِرَدِّ الْخَاطِبِ، وَلَوْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ، لِمَا جُبِل الأَْبُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَنَانِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى ابْنَتِهِ، وَلِجَهْلِهَا بِمَصَالِحِ نَفْسِهَا، إِلاَّ إِذَا تَحَقَّقَ أَنَّهُ قَصَدَ الإِْضْرَارَ بِهَا.
وَلَوْ دَعَتِ الْمَرْأَةُ لِكُفْءٍ وَأَرَادَ الْوَلِيُّ تَزْوِيجَهَا مِنْ كُفْءٍ غَيْرِهِ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ: كُفْءُ الْوَلِيِّ أَوْلَى إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ مُجْبِرًا؛ لأَِنَّهُ أَكْمَل نَظَرًا مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَلِيُّ مُجْبِرًا فَالْمُعْتَبَرُ مَنْ عَيَّنَتْهُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَلْزَمُ الْوَلِيَّ إِجَابَتُهَا إِلَى كُفْئِهَا إِعْفَافًا لَهَا، فَإِنِ امْتَنَعَ الْوَلِيُّ عَنْ تَزْوِيجِهَا مِنَ الَّذِي أَرَادَتْهُ كَانَ عَاضِلاً، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ اسْتَظْهَرَهُ فِي الْبَحْرِ، كَمَا قَال ابْنُ عَابِدِينَ (1)

أَثَرُ الْعَضْل.
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَحَقَّقَ الْعَضْل مِنَ الْوَلِيِّ وَثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِتَزْوِيجِهَا إِنْ لَمْ يَكُنِ الْعَضْل بِسَبَبٍ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 315 - 316، والدسوقي 2 / 231 - 232، ومغني المحتاج 3 / 153 - 154، وكشاف القناع 5 / 54 - 55، والمغني 6 / 477 - 478.

(30/144)


مَقْبُولٍ، فَإِنِ امْتَنَعَ انْتَقَلَتِ الْوِلاَيَةُ إِلَى غَيْرِهِ.
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَنْتَقِل إِلَيْهِ الْوِلاَيَةُ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - عَدَا ابْنَ الْقَاسِمِ - وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْوِلاَيَةَ تَنْتَقِل إِلَى السُّلْطَانِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ (1) ؛ وَلأَِنَّ الْوَلِيَّ قَدِ امْتَنَعَ ظُلْمًا مِنْ حَقٍّ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ فَيَقُومُ السُّلْطَانُ مَقَامَهُ لإِِزَالَةِ الظُّلْمِ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَامْتَنَعَ عَنْ قَضَائِهِ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَشُرَيْحٍ، لَكِنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِمَا إِذَا كَانَ الْعَضْل دُونَ ثَلاَثِ مَرَّاتٍ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِذَا عَضَل الْوَلِيُّ الأَْقْرَبُ انْتَقَلَتِ الْوِلاَيَةُ إِلَى الْوَلِيِّ الأَْبْعَدِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لأَِنَّهُ تَعَذَّرَ التَّزْوِيجُ مِنْ جِهَةِ الأَْقْرَبِ فَمَلَكَهُ الأَْبْعَدُ كَمَا لَوْ جُنَّ،؛ وَلأَِنَّهُ يَفْسُقُ بِالْعَضْل فَتَنْتَقِل الْوِلاَيَةُ عَنْهُ، فَإِنْ عَضَل الأَْوْلِيَاءُ كُلُّهُمْ زَوَّجَ الْحَاكِمُ، وَأَمَّا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ فَيُحْمَل عَلَى مَا إِذَا عَضَل الْكُل؛ لأَِنَّ قَوْلَهُ: فَإِنِ اشْتَجَرُوا. . . ضَمِيرُ جَمْعٍ يَتَنَاوَل الْكُل.
__________
(1) حديث: " فإن اشتجروا فالسلطان ولى من. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 399) من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال: حديث حسن.

(30/145)


وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا تَكَرَّرَ الْعَضْل مِنَ الْوَلِيِّ الأَْقْرَبِ، فَإِنْ كَانَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ انْتَقَلَتِ الْوِلاَيَةُ لِلْوَلِيِّ الأَْبْعَدِ، بِنَاءً عَلَى مَنْعِ وِلاَيَةِ الْفَاسِقِ؛ لأَِنَّهُ يَفْسُقُ بِتَكَرُّرِ الْعَضْل مِنْهُ.
وَقَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّمَا يُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلِيِّ غَيْرِ الْعَاضِل، وَأَمَّا عِنْدَ وُجُودِهِ فَيَنْتَقِل الْحَقُّ لِلأَْبْعَدِ؛ لأَِنَّ عَضْل الأَْقْرَبِ وَاسْتِمْرَارَهُ عَلَى الاِمْتِنَاعِ صَيَّرَهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ، فَيَنْتَقِل الْحَقُّ لِلأَْبْعَدِ، وَأَمَّا الْحَاكِمُ فَلاَ يَظْهَرُ كَوْنُهُ وَكِيلاً لَهُ إِلاَّ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ امْتِنَاعٌ، كَمَا لَوْ كَانَ غَائِبًا (1)
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 251 - 252، والمبسوط 4 / 221، وابن عابدين 2 / 315 - 316، والدسوقي 2 / 231 - 232، ومغني المحتاج 3 / 153، ونهاية المحتاج 6 / 229، وكشاف القناع 5 / 54 - 55، والمغني 6 / 476 - 477.

(30/145)


عُضْوٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْعُضْوُ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ، فِي اللُّغَةِ: كُل عَظْمٍ وَافِرٍ بِلَحْمٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ إِنْسَانٍ أَمْ حَيَوَانٍ.
وَأَصْل الْكَلِمَةِ بِمَعْنَى الْقَطْعِ وَالتَّفْرِيقِ. يُقَال: عَضَى الشَّيْءَ: فَرَّقَهُ وَوَزَّعَهُ. وَالْعِضَةُ: الْقِطْعَةُ وَالْفُرْقَةُ (1) . وَفِي التَّنْزِيل: {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} (2) أَيْ: أَجْزَاءً مُتَفَرِّقَةً، فَآمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ (3) .
وَيُطْلَقُ الْعُضْوُ عَلَى جُزْءٍ مُتَمَيِّزٍ مِنْ مَجْمُوعِ الْجَسَدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ إِنْسَانٍ أَمْ حَيَوَانٍ كَالْيَدِ وَالرِّجْل وَالأُْذُنِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (4) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الطَّرَفُ:
2 - الطَّرَفُ: النَّاحِيَةُ وَالطَّائِفَةُ مِنَ الشَّيْءِ،
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط، ومتن اللغة.
(2) سورة الحجر / 91.
(3) تفسير القرطبي 10 / 59.
(4) حاشية القليوبي 1 / 337.

(30/146)


وَطَرَفُ كُل شَيْءٍ مُنْتَهَاهُ وَغَايَتُهُ وَجَانِبُهُ، قَال تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} (1) وَالْجَمْعُ أَطْرَافٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ أَطْرَافِ الْبَدَنِ (2) .
فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى الأَْخِيرِ الطَّرَفُ أَخَصُّ مِنَ الْعُضْوِ

الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْعُضْوِ:
3 - عُضْوُ الآْدَمِيِّ لَهُ أَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ مُخْتَلِفَةٌ، كَوُجُوبِ طَهَارَتِهِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل وَالتَّيَمُّمِ، وَالْمَسْحِ عَلَيْهِ وَنَحْوِهَا، وَكَوُجُوبِ الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، وَقَطْعِهِ فِي السَّرِقَةِ، وَحُكْمِ غُسْلِهِ وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ وَدَفْنِهِ إِذَا وُجِدَ مُبَانًا فِي الْمَعْرَكَةِ وَغَيْرِهَا.
وَتَفْصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ فِيمَا يَلِي:

أ - الطَّهَارَةُ عَلَى الْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ:
4 - مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ غَسْل أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ إِذَا كَانَتْ قَائِمَةً وَسَلِيمَةً، أَمَّا إِذَا كَانَتْ مَقْطُوعَةً، فَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ:
فَلَوْ قُطِعَ بَعْضُ يَدِ الْمُتَوَضِّئِ أَوْ رِجْلِهِ وَجَبَ غَسْل بَاقِيهَا إِلَى الْمِرْفَقِ أَوِ الْكَعْبِ، لِبَقَاءِ جُزْءٍ مِنْ مَحَل الْعُضْوِ الْمَفْرُوضِ غَسْلُهُ،
__________
(1) سورة هود / 114.
(2) متن اللغة، ولسان العرب.

(30/146)


فَكُل عُضْوٍ سَقَطَ بَعْضُهُ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِبَاقِيهِ غَسْلاً وَمَسْحًا (1) .
أَمَّا إِذَا قُطِعَتَا مِنْ فَوْقِ الْمِرْفَقِ أَوِ الْكَعْبِ سَقَطَ الْغَسْل، وَلاَ يَجِبُ غَسْل بَاقِي عَضُدِهِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مَحَل الْفَرْضِ (2) .
لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: نُدِبَ غَسْل بَاقِي عَضُدِهِ لِئَلاَّ يَخْلُوَ الْعُضْوُ عَنْ طَهَارَةٍ (3) .
أَمَّا إِذَا قُطِعَتْ مِنَ الْمِرْفَقِ، بِأَنْ سُل عَظْمُ الذِّرَاعِ وَبَقِيَ الْعَظْمَانِ الْمُسَمَّيَانِ بِرَأْسِ الْعَضُدِ، فَيَجِبُ غَسْل رَأْسِ عَظْمِ الْعَضُدِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ غَسْل الْعَظْمَيْنِ الْمُتَلاَقِيَيْنِ مِنَ الذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ وَاجِبٌ، فَإِذَا زَال أَحَدُهُمَا غُسِل الآْخَرُ (4) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَغْسِل أَقْطَعُ الْمِرْفَقَيْنِ مَوْضِعَ الْقَطْعِ، إِذْ قَدْ أَتَى عَلَيْهِمَا الْقَطْعُ، بِخِلاَفِ أَقْطَعِ الرِّجْلَيْنِ، قَال الْحَطَّابُ فِي وَجْهِ التَّفْرِقَةِ نَقْلاً عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: الْكَعْبَانِ اللَّذَانِ إِلَيْهِمَا حَدُّ الْوُضُوءِ هُمَا اللَّذَانِ فِي
__________
(1) فتح القدير مع الهداية 1 / 13، والفتاوى الهندية 1 / 5، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 85، 87، ومغني المحتاج 1 / 52، والمغني لابن قدامة 1 / 123.
(2) فتح القدير 1 / 13، والهندية 1 / 5، والشرح الكبير للدردير 1 / 85، 87 ومغني المحتاج 1 / 52، والمغني لابن قدامة 1 / 123.
(3) مغني المحتاج 1 / 52.
(4) مغني المحتاج 1 / 52، والمغني لابن قدامة 1 / 123.

(30/147)


السَّاقَيْنِ فَيُغْسَلاَنِ، أَمَّا الْمِرْفَقُ فَهُوَ مِنَ الذِّرَاعَيْنِ وَقَدْ أَتَى عَلَيْهِ الْقَطْعُ فَلاَ يُغْسَل (1)

ب - الطَّهَارَةُ عَلَى الْعُضْوِ الزَّائِدِ فِي الْغَسْل:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ خُلِقَ لَهُ عُضْوٌ زَائِدٌ، كَإِصْبَعٍ زَائِدَةٍ أَوْ يَدٍ زَائِدَةٍ، فِي مَحَل الْفَرْضِ وَجَبَ غَسْلُهَا مَعَ الأَْصْلِيَّةِ؛ لأَِنَّهَا نَابِتَةٌ فِيهِ، فَتَأْخُذُ حُكْمَهُ (2) .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا نَبَتَتِ الزَّائِدَةُ فِي غَيْرِ مَحَل الْفَرْضِ، كَالإِْصْبَعِ أَوِ الْكَفِّ عَلَى الْعُضْوِ أَوِ الْمَنْكِبِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ مَا حَاذَى مِنْهَا مَحَل الْفَرْضِ وَجَبَ غَسْلُهُ، وَإِلاَّ فَلاَ يَجِبُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ خُلِقَتْ لَهُ كَفٌّ بِمَنْكِبٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَدٌ غَيْرُهَا يَجِبُ غَسْلُهَا، فَإِنْ كَانَ لَهُ يَدٌ سِوَاهَا فَلاَ يَجِبُ غَسْل الْكَفِّ إِلاَّ إِذَا نَبَتَتْ فِي مَحَل الْفَرْضِ، أَوْ فِي غَيْرِهِ وَكَانَ لَهَا مِرْفَقٌ، فَتُغْسَل لِلْمِرْفَقِ؛ لأَِنَّ لَهَا حُكْمَ الْيَدِ الأَْصْلِيَّةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِرْفَقٌ فَلاَ غَسْل مَا لَمْ تَصِل لِمَحَل الْفَرْضِ (3) .
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْعُضْوَ الزَّائِدَ
__________
(1) الحطاب 1 / 192.
(2) مراقي الفلاح ص 33، وجواهر الإكليل 1 / 14، ومغني المحتاج 1 / 52، 53 والمغني لابن قدامة 1 / 123.
(3) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 87، وجواهر الإكليل 1 / 14.

(30/147)


إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ مَحَل الْفَرْضِ، كَالْعَضُدِ أَوِ الْمَنْكِبِ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَصِيرًا أَمْ طَوِيلاً؛ لأَِنَّهُ فِي غَيْرِ مَحَل الْفَرْضِ فَأَشْبَهَ شَعْرَ الرَّأْسِ إِذَا نَزَل عَلَى الْوَجْهِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وُضُوء)

ج - الْعُضْوُ الْمُبَانُ:
6 - الْعُضْوُ الْمُبَانُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الإِْنْسَانِ أَوْ يَكُونَ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَفِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَيِّ أَوْ مِنَ الْمَيِّتِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ كُل حَالَةٍ فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلاً - الْعُضْوُ الْمُبَانُ مِنَ الإِْنْسَانِ الْحَيِّ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْعُضْوَ الْمُبَانَ مِنَ الإِْنْسَانِ الْحَيِّ يُدْفَنُ بِغَيْرِ غُسْلٍ وَصَلاَةٍ وَلَوْ كَانَ ظُفُرًا أَوْ شَعْرًا (2) .

ثَانِيًا - الْعُضْوُ الْمُبَانُ مِنَ الإِْنْسَانِ الْمَيِّتِ:
يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ رَأْسُ الْمَيِّتِ أَوْ أَحَدُ شِقَّيْهِ أَوْ أَعْضَائِهِ الأُْخْرَى
__________
(1) المغني لابن قدامة 1 / 123.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 260، والدسوقي 1 / 426، والحطاب 2 / 249، والقليوبي 1 / 338، ونهاية المحتاج 1 / 341، ومغني المحتاج 1 / 348، والمغني لابن قدامة 1 / 88، 2 / 540.

(30/148)


وَكَانَتْ أَقَل مِنْ نِصْفِهِ فَإِنَّهَا لاَ تُغَسَّل وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهَا، قَال الدَّرْدِيرُ فِي تَعْلِيلِهِ؛ لأَِنَّ شَرْطَ الْغُسْل وُجُودُ الْمَيِّتِ، فَإِنْ وُجِدَ بَعْضُهُ فَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ، وَلاَ حُكْمَ لِلْيَسِيرِ (1) .
أَمَّا إِذَا وُجِدَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِهِ وَلَوْ بِلاَ رَأْسٍ، فَإِنَّهُ يُغَسَّل وَيُصَلَّى عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ غُسْل دُونَ الْجُل، يَعْنِي دُونَ ثُلُثَيِ الْجَسَدِ، فَإِذَا وُجِدَ نِصْفُ الْجَسَدِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ وَدُونَ الثُّلُثَيْنِ مَعَ الرَّأْسِ لَمْ يُغَسَّل عَلَى الْمُعْتَمَدِ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ عُضْوُ مُسْلِمٍ عُلِمَ مَوْتُهُ بِغَيْرِ شَهَادَةٍ، وَلَوْ كَانَ ظُفُرًا أَوْ شَعْرًا صُلِّيَ عَلَيْهِ بِقَصْدِ الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ وُجُوبًا بَعْدَ غُسْلِهِ، كَمَا وَرَدَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (4) ، وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: قَال أَحْمَدُ: صَلَّى أَبُو أَيُّوبَ عَلَى رِجْلٍ، وَصَلَّى عُمَرُ عَلَى عِظَامٍ بِالشَّامِ، وَصَلَّى أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى رُءُوسٍ بِالشَّامِ؛ وَلأَِنَّهُ بَعْضٌ مِنْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 576، ومواهب الجليل للحطاب وبهامشه المواق 2 / 249، والدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 426.
(2) ابن عابدين 1 / 576.
(3) الشرح الكبير بهامش الدسوقي 1 / 426.
(4) مغني المحتاج 1 / 348، والقليوبي 1 / 337، والمغني لابن قدامة 2 / 539.

(30/148)


جُمْلَةٍ تَجِبُ الصَّلاَةُ عَلَيْهَا، فَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَالأَْكْثَرِ (1) .

ثَالِثًا: الْعُضْوُ الْمُبَانُ مِنَ الْحَيَوَانِ:
لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْعُضْوَ الْمُبَانَ مِنَ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ مَأْكُول اللَّحْمِ (غَيْرِ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ) قَبْل ذَبْحِهِ يُعْتَبَرُ مَيْتَةً لاَ يَحِل أَكْلُهُ (2) ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ (3) وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} .
(4) أَمَّا مَا أُبِينَ مِنَ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ فَيَحِل أَكْلُهُ، وَذَلِكَ؛ لأَِنَّ مَيْتَةَ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ يَحِل أَكْلُهَا (5) . فَقَدْ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ أَمَّا الْمَيْتَتَانِ: فَالْجَرَادُ وَالْحُوتُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالطِّحَال وَالْكَبِدُ. (6)
__________
(1) المغني لابن قدامة 2 / 539، 540.
(2) البدائع 5 / 40 - 44، وحاشية ابن عابدين 5 / 270، والشرح الكبير للدردير 2 / 109، والقليوبي 4 / 241، 242، والمغني لابن قدامة 8 / 556.
(3) حديث: " ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة ". أخرجه أبو داود (3 / 277) ، والحاكم (4 / 239) من حديث أبي واقد بلفظ: " ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة " وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ووافقه الذهبي.
(4) سورة المائدة / 3.
(5) المراجع السابقة.
(6) حديث: " أحلت لنا ميتتان ودمان. . . ". أخرجه البيهقي (1 / 254) من حديث ابن عمر، وصحح إسناده موقوفًا على ابن عمر، وقال: وهو في معنى المسند.

(30/149)


أَمَّا الْعُضْوُ الْمُبَانُ مِنَ الْحَيَوَانِ غَيْرِ مَأْكُول اللَّحْمِ أَوْ مِنَ الْمَيْتَةِ فَهُوَ حَرَامٌ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَطْعِمَة، وَصَيْد) .

الْجِنَايَةُ عَلَى عُضْوِ الآْدَمِيِّ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الآْدَمِيِّ عَمْدًا فِيهَا الْقِصَاصُ إِذَا أَمْكَنَ التَّمَاثُل، بِأَنْ كَانَ الْقَطْعُ مِنَ الْمِفْصَل مَثَلاً.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (قِصَاصٌ) .
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ أَوْ سَقَطَ الْقِصَاصُ بِالشُّبْهَةِ أَوْ نَحْوِهَا فَفِيهَا الدِّيَةُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَات ف 34 وَمَا بَعْدَهَا) .
أَمَّا إِذَا جُرِحَ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَاءِ الإِْنْسَانِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَلَمْ يُمْكِنِ الْقِصَاصُ فَيَجِبُ الأَْرْشُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حُكُومَةُ عَدْلٍ ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) (وَأَرْش ف 4) (وَدِيَات ف 34) .

(30/149)


عَطَاء

التَّعْرِيفُ
1 - الْعَطَاءُ - يُمَدُّ وَيُقْصَرُ - مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَطْوِ: وَهُوَ التَّنَاوُل، يُقَال: عَطَوْتُ الشَّيْءَ أَعْطُو: تَنَاوَلْتُهُ، وَفِي الأَْثَرِ: أَرْبَى الرِّبَا عَطْوُ الرَّجُل عِرْضَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ (1) أَيْ: تَنَاوُلُهُ بِالذَّمِّ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِمَا يُعْطَى بِهِ، وَالْجَمْعُ عَطَايَا، وَأَعْطِيَةٌ (2) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ: اسْمٌ لِمَا يَفْرِضُهُ الإِْمَامُ فِي بَيْتِ الْمَال لِلْمُسْتَحِقِّينَ (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الرِّزْقُ:
2 - الرِّزْقُ: وَهُوَ بِالْكَسْرِ مَأْخُوذٌ مِنْ رَزَقَ بِالْفَتْحِ، وَهُوَ لُغَةً: مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَالْجَمْعُ أَرْزَاقٌ.
__________
(1) حديث: " أربى الربا عطو الرجل عرض. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 193) من حديث سعيد بن زيد بلفظ " إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق " وذكره المنذري في الترغيب (3 / 340) وقال: رواه أحمد والبزار ورواة أحمد ثقات.
(2) لسان العرب، متن اللغة، المصباح المنير.
(3) ابن عابدين 5 / 411.

(30/150)


وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْعَطَاءُ، وَيَشْمَل مَا يَفْرِضُهُ الإِْمَامُ فِي بَيْتِ الْمَال لِلْمُسْتَحِقِّينَ، وَغَيْرَهُ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ كَالْوَقْفِ وَالْهِبَةِ وَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُدْفَعُ بِلاَ مُقَابِلٍ.
قَال الرَّاغِبُ: يُقَال لِلْعَطَاءِ الْجَارِي: رِزْقٌ، دِينِيًّا كَانَ أَمْ دُنْيَوِيًّا، وَلِلنَّصِيبِ، وَلِمَا يَصِل إِلَى الْجَوْفِ وَيُتَغَذَّى بِهِ. (1)
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْعَطَاءِ وَالرِّزْقِ فَقَالُوا: الرِّزْقُ: مَا يُفْرَضُ لِلرَّجُل فِي بَيْتِ الْمَال بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَالْكِفَايَةِ، مُشَاهَرَةً أَوْ مُيَاوَمَةً، وَالْعَطَاءُ: مَا يُفْرَضُ لِلرَّجُل فِي كُل سَنَةٍ لاَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ بَل بِصَبْرِهِ وَعَنَائِهِ فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَفِي قَوْلٍ لَهُمْ: الْعَطَاءُ: مَا يُفْرَضُ لِلْمُقَاتِل، وَالرِّزْقُ: مَا يُجْعَل لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي بَيْتِ الْمَال وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُقَاتِلِينَ (2) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَطَاءِ:
أَوَّلاً: الْعَطَاءُ مِنْ بَيْتِ الْمَال:
يُصْرَفُ الْعَطَاءُ مِنْ بَيْتِ الْمَال لأَِصْنَافٍ:

1 - عَطَاءُ الْجُنْدِ:
ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى أَنَّ الإِْثْبَاتَ فِي الدِّيوَانِ مُعْتَبَرٌ بِثَلاَثَةِ شُرُوطٍ:

3 - الأَْوَّل: الْوَصْفُ الَّذِي يَجُوزُ بِهِ الإِْثْبَاتُ فِي
__________
(1) لسان العرب، ابن عابدين 3 / 281.
(2) ابن عابدين 5 / 411.

(30/150)


الدِّيوَانِ، وَيُرَاعَى فِيهِ خَمْسَةُ أَوْصَافٍ:
الْوَصْفُ الأَْوَّل: الْبُلُوغُ؛ لأَِنَّ الصَّبِيَّ مِنْ جُمْلَةِ الذَّرَارِيِّ وَالأَْتْبَاعِ فَلَمْ يَجُزْ إِثْبَاتُهُ فِي دِيوَانِ الْجَيْشِ وَيَجْرِي فِي عَطَاءِ الذَّرَارِيِّ.
الْوَصْفُ الثَّانِي: الْحُرِّيَّةُ؛ لأَِنَّ الْمَمْلُوكَ لِسَيِّدِهِ، فَكَانَ دَاخِلاً فِي عَطَائِهِ. . وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَمَا أَخَذَ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ، وَذَكَرَ حَدِيثَ عُمَرَ قَال: " مَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ إِلاَّ وَلَهُ فِي هَذَا الْمَال نَصِيبٌ إِلاَّ عَبْدًا مَمْلُوكًا (1) .
وَأَسْقَطَ أَبُو حَنِيفَةَ اعْتِبَارَ الْحُرِّيَّةِ، وَجَوَّزَ إِفْرَادَ الْعَبِيدِ بِالْعَطَاءِ فِي دِيوَانِ الْمُقَاتِلَةِ، وَهُوَ رَأْيُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ.
الْوَصْفُ الثَّالِثُ: الإِْسْلاَمُ، لِيَدْفَعَ عَنِ الْمِلَّةِ بِاعْتِقَادِهِ، وَيُوثَقُ بِنُصْحِهِ وَاجْتِهَادِهِ، فَإِنْ أُثْبِتَ ذِمِّيٌّ لَمْ يَجُزْ، وَإِنِ ارْتَدَّ مُسْلِمٌ سَقَطَ. . وَهَذَا قِيَاسُ قَوْل أَحْمَدَ؛ لأَِنَّهُ مَنَعَ أَنْ يُسْتَعَانَ بِالْكُفَّارِ فِي الْجِهَادِ.
الْوَصْفُ الرَّابِعُ: السَّلاَمَةُ مِنَ الآْفَاتِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْقِتَال، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زَمِنًا وَلاَ أَعْمَى وَلاَ أَقْطَعَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَخْرَسَ أَوْ أَصَمَّ، فَأَمَّا الأَْعْرَجُ فَإِنْ كَانَ فَارِسًا أُثْبِتَ،
__________
(1) أثر عمر: " ما من المسلمين أحد إلا وله. . . ". أخرجه أحمد (1 / 42) ، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (1 / 281) .

(30/151)


وَإِنْ كَانَ رَاجِلاً لَمْ يُثْبَتْ.
الْوَصْفُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ فِيهِ إِقْدَامٌ عَلَى الْحَرْبِ وَمَعْرِفَةٌ بِالْقِتَال، فَإِنْ ضَعُفَتْ قُوَّتُهُ عَنِ الإِْقْدَامِ أَوْ قَلَّتْ مَعْرِفَتُهُ بِالْقِتَال لَمْ يَجُزْ إِثْبَاتُهُ؛ لأَِنَّهُ مُرْصَدٌ لِمَا هُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ.
فَإِذَا تَكَامَلَتْ هَذِهِ الأَْوْصَافُ فِي شَخْصٍ كَانَ إِثْبَاتُهُ فِي دِيوَانِ الْجَيْشِ مَوْقُوفًا عَلَى الطَّلَبِ وَالإِْيجَابِ، الطَّلَبِ مِنْهُ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ كُل عَمَلٍ، وَالإِْيجَابِ مِنْ وَلِيِّ الأَْمْرِ إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ.
وَإِذَا أُثْبِتَ فِي الدِّيوَانِ مَشْهُورُ الاِسْمِ نَبِيهُ الْقَدْرِ لَمْ يَحْسُنْ أَنْ يُحَلَّى فِيهِ أَوْ يُنْعَتَ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَغْمُورِينَ فِي النَّاسِ حُلِّيَ وَنُعِتَ، لِئَلاَّ تَتَّفِقَ الأَْسْمَاءُ أَوْ يُدْعَى وَقْتَ الْعَطَاءِ، وَضُمَّ إِلَى نَقِيبٍ عَلَيْهِ أَوْ عَرِيفٍ لَهُ لِيَكُونَ مَأْخُوذًا بِدَرَكِهِ (1) .

الثَّانِي: السَّبَبُ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِي التَّرْتِيبِ:
4 - إِذَا أُثْبِتَ الْمُسْتَحِقُّونَ فِي دِيوَانِ الْجَيْشِ اعْتُبِرَ فِي تَرْتِيبِهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا عَامٌّ، وَالآْخَرُ خَاصٌّ.
فَأَمَّا الْعَامُّ: فَهُوَ تَرْتِيبُ الْقَبَائِل وَالأَْجْنَاسِ حَتَّى تَتَمَيَّزَ كُل قَبِيلَةٍ عَنْ غَيْرِهَا وَكُل جِنْسٍ عَمَّنْ خَالَفَهُ، لِتَكُونَ دَعْوَةُ الدِّيوَانِ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ مَعْرُوفٍ بِالنَّسَبِ يَزُول بِهِ التَّنَازُعُ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص203، 204، الأحكام السلطانية لأبي يعلى 240، 241، نهاية المحتاج 6 / 139، المغني 6 / 418.

(30/151)


وَالتَّجَاذُبُ، فَإِنْ كَانُوا عَرَبًا تَرَتَّبَتْ قَبَائِلُهُمْ بِالْقُرْبَى مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فَعَل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حِينَ دَوَّنَهُمْ، فَيَكُونُ بَنُو هَاشِمٍ قُطْبَ التَّرْتِيبِ، ثُمَّ مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ أَقْرَبِ الأَْنْسَابِ إِلَيْهِمْ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ الأَْنْصَارُ، ثُمَّ سَائِرُ الْعَرَبِ ثُمَّ الْعَجَمُ، وَإِنْ كَانُوا عَجَمًا لاَ يَجْتَمِعُونَ عَلَى نَسَبٍ فَالَّذِي يَجْمَعُهُمْ عِنْدَ فَقْدِ النَّسَبِ أَمْرَانِ: إِمَّا أَجْنَاسٌ، وَإِمَّا بِلاَدٌ، فَإِذَا تَمَيَّزُوا بِأَحَدِهِمَا وَكَانَ لَهُمْ سَابِقَةٌ فِي الإِْسْلاَمِ تَرَتَّبُوا عَلَيْهَا فِي الدِّيوَانِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ سَابِقَةٌ تَرَتَّبُوا بِالْقُرْبِ مِنْ وَلِيِّ الأَْمْرِ، فَإِنْ تَسَاوَوْا فَبِالسَّبْقِ إِلَى طَاعَتِهِ.
وَأَمَّا التَّرْتِيبُ الْخَاصُّ: فَهُوَ تَرْتِيبُ الْوَاحِدِ بَعْدَ الْوَاحِدِ، فَيُرَتَّبُ كُلٌّ مِنْهُمْ بِالسَّابِقَةِ فِي الإِْسْلاَمِ، فَإِنْ تَكَافَأُوا فَبِالدِّينِ، فَإِنْ تَقَارَبُوا فِيهِ فَبِالسِّنِّ، فَإِنْ تَقَارَبُوا فِيهِ فَبِالشَّجَاعَةِ، فَإِنْ تَقَارَبُوا فِيهَا فَوَلِيُّ الأَْمْرِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُرَتِّبَهُمْ بِالْقُرْعَةِ أَوْ يُرَتِّبَهُمْ عَلَى رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ. (1)

الثَّالِثُ: الْحَال الَّذِي يُقَدَّرُ بِهِ الْعَطَاءُ:
5 - تَقْدِيرُ الْعَطَاءِ لِمَنْ يُثْبَتُ فِي دِيوَانِ الْجُنْدِ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي 204 / 205، الأحكام السلطانية لأبي يعلى 241 - 242، المغني 6 / 417، نهاية المحتاج 6 / 139.

(30/152)


مُعْتَبَرٌ بِالْكِفَايَةِ حَتَّى يُسْتَغْنَى بِهَا عَنِ الْتِمَاسِ مَادَّةٍ تَقْطَعُهُ عَنْ حِمَايَةِ الْبَيْضَةِ. وَالْكِفَايَةُ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: عَدَدُ مَنْ يَعُولُهُمْ مِنَ الذَّرَارِيِّ وَالزَّوْجَاتِ وَالْخَدَمِ وَغَيْرِهِمْ، فَيُزَادُ ذُو الْوَلَدِ وَالزَّوْجَاتِ مِنْ أَجْل وَلَدِهِ وَزَوْجَاتِهِ، وَيُزَادُ مَنْ لَهُ خَدَمٌ لِمَصْلَحَةِ الْحَرْبِ أَوْ لِلْخِدْمَةِ بِمَا يَلِيقُ بِمِثْلِهِ حَسْبَ مُؤْنَتِهِمْ فِي كِفَايَتِهِ. وَيُرَاعَى حَالُهُ فِي مُرُوءَتِهِ وَعَادَةِ الْبَلَدِ فِي الْمَطْعُومِ وَالْمُؤْنَةِ.
الثَّانِي: عَدَدُ مَا يَرْتَبِطُهُ مِنَ الْخَيْل وَالظَّهْرِ، فَيُزَادُ ذُو الْفَرَسِ مِنْ أَجْل فَرَسِهِ وَكَذَلِكَ ذُو الظَّهْرِ.
الثَّالِثُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يَحِلُّهُ فِي الْغَلاَءِ وَالرُّخْصِ؛ لأَِنَّ الْغَرَضَ الْكِفَايَةُ.
وَبِمُرَاعَاةِ هَذِهِ الأُْمُورِ الثَّلاَثَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي بَيَانِ الْكِفَايَةِ تُقَدَّرُ النَّفَقَةُ، فَيَكُونُ مَا يُقَدَّرُ فِي عَطَائِهِ، ثُمَّ يُعْرَضُ حَالُهُ، فَإِنْ زَادَتْ رَوَاتِبُهُ الْمَاسَّةُ زِيدَ، وَإِنْ نَقَصَتْ نُقِصَ (1) .
6 - وَإِذَا اتَّفَقَ مُثْبَتُونَ فِي دِيوَانِ الْجُنْدِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلاَثَةِ وَتَفَاوَتُوا فِي غَيْرِهَا كَالسَّبْقِ إِلَى الإِْسْلاَمِ وَالْغَنَاءِ فِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْخِصَال. . فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ التَّفْضِيل بِسَبَبِ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي 205، الأحكام السلطانية لأبي يعلى 242، أسنى المطالب 3 / 89، المغني 6 / 417.

(30/152)


هَذَا التَّفَاوُتِ، تَبَعًا لاِخْتِلاَفِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ:
فَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَرَى التَّسْوِيَةَ فِي الْعَطَاءِ وَلاَ يَرَى التَّفْضِيل بِالسَّابِقَةِ، وَكَذَلِكَ كَانَ رَأْيُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي خِلاَفَتِهِ، وَبِهِ أَخَذَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَصَرَّحَ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ بِأَنَّهُ لاَ يُزَادُ أَحَدٌ مِنْهُمْ - أَيْ مِنَ الْمُرْتَزِقَةِ - لِنَسَبٍ عَرِيقٍ أَوْ سَبْقِ الإِْسْلاَمِ وَالْهِجْرَةِ وَسَائِرِ الْخِصَال الْمَرْضِيَّةِ وَإِنِ اتَّسَعَ الْمَال، بَل يَسْتَوُونَ كَالإِْرْثِ وَالْغَنِيمَةِ؛ لأَِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ بِسَبَبِ تَرَصُّدِهِمْ لِلْجِهَادِ وَكُلُّهُمْ مُتَرَصِّدُونَ لَهُ.
وَكَانَ رَأْيُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ التَّفْضِيل بِالسَّابِقَةِ فِي الإِْسْلاَمِ، وَكَذَلِكَ كَانَ رَأْيُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بَعْدَهُ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ (1) .
وَقَدْ نَاظَرَ عُمَرُ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - حِينَ سَوَّى بَيْنَ النَّاسِ فَقَال: أَتُسَوِّي بَيْنَ مَنْ هَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ وَصَلَّى إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ، وَبَيْنَ مَنْ أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ خَوْفَ السَّيْفِ؟ فَقَال لَهُ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا عَمِلُوا لِلَّهِ، وَإِنَّمَا أُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا الدُّنْيَا دَارُ بَلاَغٍ لِلرَّاكِبِ، فَقَال
__________
(1) أسنى المطالب 3 / 90، المغني 6 / 417 - 418، الأحكام السلطانية للماوردي 201، الأحكام السلطانية لأبي يعلى 238.

(30/153)


لَهُ عُمَرُ: لاَ أَجْعَل مَنْ قَاتَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَنْ قَاتَل مَعَهُ
وَلَمَّا وَضَعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الدِّيوَانَ فَضَّل بِالسَّابِقَةِ، فَفَرَضَ لِكُل وَاحِدٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الأَْوَّلِينَ خَمْسَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ فِي كُل سَنَةٍ (1) ، وَلِنَفْسِهِ مَعَهُمْ، وَأَلْحَقَ بِهِمُ الْعَبَّاسَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ لِمَكَانِهِمْ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَرَضَ لِكُل مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الأَْنْصَارِ أَرْبَعَةَ آلاَفٍ، وَلَمْ يُفَضِّل عَلَى أَهْل بَدْرٍ أَحَدًا إِلاَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَرَضَ لِمَنْ هَاجَرَ قَبْل الْفَتْحِ ثَلاَثَةَ آلاَفٍ، وَلِمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْفَتْحِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَفَرَضَ لِغِلْمَانٍ أَحْدَاثٍ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارِ كَفَرَائِضِ مُسْلِمِي الْفَتْحِ.
وَفَرَضَ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيِّ أَرْبَعَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ؛ لأَِنَّ أُمَّهُ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَال لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ: لِمَ تُفَضِّل عُمَرَ عَلَيْنَا وَقَدْ هَاجَرَ آبَاؤُنَا وَشَهِدُوا بَدْرًا؟ قَال: أُفَضِّلُهُ لِمَكَانِهِ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَأْتِ الَّذِي يَسْتَعْتِبُ بِأُمٍّ مِثْل أُمِّ سَلَمَةَ أَعْتِبُهُ.
__________
(1) أثر عمر: " أنه فرض للبدريين خمسة آلاف. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 323) عن إسماعيل عن قيس قال: كان عطاء البدريين خمسة آلاف، خمسة آلاف وقال عمر: لأفضلنهم على من بعدهم.

(30/153)


وَفَرَضَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لأُِسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَرْبَعَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ، فَقَال لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَرَضْتَ لِي ثَلاَثَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ وَفَرَضْتَ لأُِسَامَةَ أَرْبَعَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ وَقَدْ شَهِدْتُ مَا لَمْ يَشْهَدْ أُسَامَةُ، فَقَال عُمَرُ: زِدْتُهُ لأَِنَّهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْكَ، وَكَانَ أَبُوهُ أَحَبَّ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبِيكَ.
ثُمَّ فَرَضَ لِلنَّاسِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ وَقِرَاءَتِهِمْ لِلْقُرْآنِ وَجِهَادِهِمْ، وَفَرَضَ لأَِهْل الْيَمَنِ وَقَيْسٍ بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ لِكُل رَجُلٍ مِنْ أَلْفَيْنِ إِلَى أَلْفٍ إِلَى خَمْسِمِائَةٍ إِلَى ثَلاَثِمِائَةٍ (1) .

الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِفَايَةِ:
7 - إِذَا قُدِّرَ رِزْقُ مَنْ أُثْبِتَ فِي الدِّيوَانِ بِالْكِفَايَةِ هَل يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهَا؟
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْكِفَايَةِ إِذَا اتَّسَعَ الْمَال لَهَا، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ؛ لأَِنَّهُ قَال فِي رِوَايَةِ أَبِي النَّضْرِ الْعِجْلِيِّ: وَالْفَيْءُ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، فَقَدْ جَعَل لِلْغَنِيِّ حَقًّا فِي الزِّيَادَةِ، وَالْغَنِيُّ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا فَضَل عَنْ حَاجَتِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي 201 - 202، الأحكام السلطانية لأبي يعلى 238 - 239.

(30/154)


الْكِفَايَةِ لاَ تَجُوزُ وَإِنِ اتَّسَعَ الْمَال؛ لأَِنَّ أَمْوَال بَيْتِ الْمَال لاَ تُوضَعُ إِلاَّ فِي الْحُقُوقِ اللاَّزِمَةِ (1)

وَقْتُ الْعَطَاءِ:
8 - وَيَكُونُ وَقْتُ الْعَطَاءِ لِلْمُثْبَتِينَ فِي دِيوَانِ الْجُنْدِ مَعْلُومًا يَتَوَقَّعُهُ الْجَيْشُ عِنْدَ الاِسْتِحْقَاقِ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِالْوَقْتِ الَّذِي تُسْتَوْفَى فِيهِ حُقُوقُ بَيْتِ الْمَال، فَإِنْ كَانَتْ تُسْتَوْفَى فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مِنَ السَّنَةِ جُعِل الْعَطَاءُ فِي رَأْسِ كُل سَنَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ تُسْتَوْفَى فِي وَقْتَيْنِ جُعِل الْعَطَاءُ فِي كُل سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ تُسْتَوْفَى فِي كُل شَهْرٍ جُعِل الْعَطَاءُ فِي رَأْسِ كُل شَهْرٍ، لِيَكُونَ الْمَال مَصْرُوفًا إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ عِنْدَ حُصُولِهِ فَلاَ يُحْبَسُ عَنْهُمْ إِذَا اجْتَمَعَ وَلاَ يُطَالِبُونَ بِهِ إِذَا تَأَخَّرَ.
وَإِذَا تَأَخَّرَ الْعَطَاءُ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِهِ وَكَانَ حَاصِلاً فِي بَيْتِ الْمَال كَانَ لِلْمُسْتَحِقِّينَ الْمُطَالَبَةُ بِهِ كَالدُّيُونِ الْمُسْتَحَقَّةِ.
وَإِنْ أَعْوَزَ بَيْتُ الْمَال لِعَوَارِضَ أَبْطَلَتْ حُقُوقَهُ أَوْ أَخَّرَتْهَا كَانَتْ أَرْزَاقُهُمْ دَيْنًا عَلَى بَيْتِ الْمَال وَلَيْسَ لَهُمْ مُطَالَبَةُ وَلِيِّ الأَْمْرِ بِهِ كَمَا لَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ مُطَالَبَةُ مَنْ أَعْسَرَ بِدَيْنِهِ (2) .
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي 205، الأحكام السلطانية لأبي يعلى 243.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي 206، الأحكام السلطانية لأبي يعلى 243.

(30/154)


مَا يَدْخُل فِي الْعَطَاءِ وَمَا لاَ يَدْخُل:
9 - إِذَا نَفَقَتْ دَابَّةُ أَحَدِ الْمُثْبَتِينَ فِي دِيوَانِ الْجُنْدِ فِي حَرْبٍ عُوِّضَ عَنْهَا، وَإِنْ نَفَقَتْ فِي غَيْرِ حَرْبٍ لَمْ يُعَوَّضْ.
وَإِذَا اسْتَهْلَكَ سِلاَحَهُ فِيهَا عُوِّضَ عَنْهُ إِنْ لَمْ يَدْخُل فِي تَقْدِيرِ عَطَائِهِ، وَلَمْ يُعَوَّضْ إِنْ دَخَل فِيهِ.
وَإِذَا جُرِّدَ لِسَفَرٍ أُعْطِيَ نَفَقَةَ سَفَرِهِ إِنْ لَمْ تَدْخُل فِي تَقْدِيرِ عَطَائِهِ، وَلَمْ يُعْطَ إِنْ دَخَلَتْ فِيهِ (1)

إِرْثُ الْعَطَاءِ:
10 - إِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْعَطَاءِ مِنْ دِيوَانِ الْجُنْدِ أَوْ قُتِل كَانَ مَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ عَطَاءٍ مَوْرُوثًا عَنْهُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ دَيْنٌ لِوَرَثَتِهِ فِي بَيْتِ الْمَال.
وَفَصَّل الشَّيْخُ زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ الْقَوْل فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَال: وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ - أَيِ الْمُسْتَحِقِّينَ - بَعْدَ جَمْعِ الْمَال وَتَمَامِ الْحَوْل - إِنْ كَانَ الصَّرْفُ مُسَانَهَةً، وَفِي مَعْنَاهُ الشَّهْرُ إِنْ كَانَ مُشَاهَرَةً - فَنَصِيبُهُ لِوَارِثِهِ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ لاَزِمٌ لَهُ فَيَنْتَقِل لِوَارِثِهِ كَالدَّيْنِ وَلاَ يَسْقُطُ بِالإِْعْرَاضِ عَنْهُ كَالإِْرْثِ، وَمَنْ مَاتَ قَبْل تَمَامِ الْحَوْل وَبَعْدَ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي 206، الأحكام السلطانية لأبي يعلى 243.

(30/155)


الْجَمْعِ لِلْمَال فَقِسْطُهُ لِوَارِثِهِ كَالأُْجْرَةِ فِي الإِْجَارَةِ، وَمَنْ مَاتَ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْل وَقَبْل جَمْعِ الْمَال فَلاَ شَيْءَ لِوَارِثِهِ إِذِ الْحَقُّ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِجَمْعِ الْمَال، وَلاَ شَيْءَ لِلْوَارِثِ بِالأَْوْلَى إِذَا مَاتَ مُوَرِّثُهُ الْمُثْبَتُ فِي الدِّيوَانِ قَبْل تَمَامِ الْحَوْل وَقَبْل الْجَمْعِ.
وَمَنْ مَاتَ مِنَ الْمُرْتَزِقَةِ دُفِعَ إِلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلاَدِهِ الصِّغَارِ قَدْرُ كِفَايَتِهِمْ حَتَّى تَنْكِحَ الزَّوْجَةُ وَيَسْتَقِل الأَْوْلاَدُ بِالْكَسْبِ (1)
2 - عَطَاءُ ذَوِي الْحَاجَةِ:
11 - يَفْرِضُ الإِْمَامُ كَذَلِكَ لِلأَْيْتَامِ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل وَكُل مَنْ شَمَلَتْهُمْ آيَةُ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْل الْقُرَى} (2) فَيَفْرِضُ لَهُمْ عَطَاءً وُجُوبًا فِي بَيْتِ الْمَال قَدْرَ كِفَايَتِهِمْ

3 - عَطَاءُ الْقَائِمِينَ بِالْمَصَالِحِ وَالْوَظَائِفِ الْعَامَّةِ:
12 - كُل مَنْ كَانَ عَمَلُهُ مَصْلَحَةً عَامَّةً لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ: قَاضٍ، وَمُفْتٍ، وَعَالِمٍ، وَمُعَلِّمِ قُرْآنٍ أَوْ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ، وَمُؤَذِّنٍ، وَإِمَامٍ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي 206، الأحكام السلطانية لأبي يعلى 243، أسنى المطالب 3 / 91، المغني 6 / 418.
(2) سورة الحشر / 7.

(30/155)


يُفْرَضُ لَهُمُ الْعَطَاءُ فِي بَيْتِ الْمَال؛ لِئَلاَّ يَتَعَطَّل مَنْ ذُكِرَ بِالاِكْتِسَابِ عَنِ الاِشْتِغَال بِهَذِهِ الأَْعْمَال وَالْعُلُومِ وَعَنْ تَنْفِيذِ الأَْحْكَامِ، وَعَنِ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ فَيُرْزَقُونَ لِيَتَفَرَّغُوا لِذَلِكَ.
وَقَدْرُ الْمُعْطَى إِلَى رَأْيِ الإِْمَامِ بِالْمَصْلَحَةِ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ ضِيقِ الْمَال وَسَعَتِهِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْت الْمَال ف 12، 13) .

ثَانِيًا: الْعَطَاءُ الْمُنَجَّزُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ:
13 - الْعَطَاءُ الْمُنَجَّزُ كَالْهِبَةِ الْمَقْبُوضَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْوَقْفِ، وَالإِْبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ، وَالْعَفْوِ عَنِ الْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَال، إِذَا كَانَتْ فِي الصِّحَّةِ فَهِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَال، أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَطَاءُ فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَهُوَ مِنَ الثُّلُثِ فِي قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (2) لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ (3) وَالْحَدِيثُ يَدُل بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَكْثَرُ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 281، مغني المحتاج 3 / 93، نهاية المحتاج 6 / 139، المغني 6 / 418.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 521، القليوبي على المحلى 3 / 162، المغني لابن قدامة 6 / 71 وما بعده.
(3) حديث: " إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم. . " أخرجه ابن ماجه (2 / 904) من حديث أبي هريرة، وأشار ابن حجر أن له طرقًا كلها ضعيفة لكن قد يقوى بعضها بعضًا. كما في بلوغ المرام (399) .

(30/156)


مِنَ الثُّلُثِ؛ وَلأَِنَّ هَذِهِ الْحَال الظَّاهِرُ مِنْهَا الْمَوْتُ، فَكَانَ عَطِيَّةً فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فِي حَقِّ وَرَثَتِهِ لاَ تَتَجَاوَزُ الثُّلُثَ كَالْوَصِيَّةِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (وَصِيَّة) .

14 - وَحُكْمُ الْعَطَايَا فِي مَرَضِ الْمَوْتِ الْمَخُوفِ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَقِفُ نُفُوذُهَا عَلَى خُرُوجِهَا مِنَ الثُّلُثِ، وَإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ.
الثَّانِي: أَنَّهَا لاَ تَصِحُّ لِوَارِثٍ إِلاَّ بِإِجَازَةِ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ فَضِيلَتَهَا نَاقِصَةٌ عَنْ فَضِيلَةِ الصَّدَقَةِ فِي الصِّحَّةِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنْ أَفْضَل الصَّدَقَةِ فَقَال: أَنْ تَصَّدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَأْمُل الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلاَ تُمْهِل حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلِفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ. (2)
الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُزَاحِمُ بِهَا الْوَصَايَا فِي الثُّلُثِ.
الْخَامِسُ: أَنَّ خُرُوجَهَا مِنَ الثُّلُثِ مُعْتَبَرٌ حَال الْمَوْتِ، لاَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ.
__________
(1) ابن عابدين 2 / 521، القليوبي 3 / 162، والمغني 6 / 71 وما بعده.
(2) حديث: " أن تصدق وأنت صحيح شحيح. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 373) ، ومسلم (2 / 716) من حديث أبي هريرة واللفظ لمسلم.

(30/156)


وَيُفَارِقُ الْوَصِيَّةَ فِي أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا لاَزِمَةٌ فِي حَقِّ الْمُعْطِي فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا وَإِنْ كَثُرَتْ؛ لأَِنَّ الْمَنْعَ عَنِ الزِّيَادَةِ مِنَ الثُّلُثِ إِنَّمَا كَانَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ لاَ لِحَقِّهِ، فَلَمْ يَمْلِكْ إِجَازَتَهَا وَلاَ رَدَّهَا، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْوَصِيَّةِ؛ لأَِنَّ التَّبَرُّعَ مَشْرُوطٌ بِالْمَوْتِ فَفِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يُوجَدِ التَّبَرُّعُ وَلاَ الْعَطِيَّةُ، بِخِلاَفِ الْعَطِيَّةِ فِي الْمَرَضِ فَإِنَّهُ قَدْ وُجِدَتِ الْعَطِيَّةُ مِنْهُ وَالْقَبُول وَالْقَبْضُ مِنَ الْمُعْطَى فَلَزِمَتْ كَالْوَصِيَّةِ إِذَا قُبِلَتْ بَعْدَ الْمَوْتِ.
الثَّانِي: أَنَّ قَبُولَهَا عَلَى الْفَوْرِ فِي حَال حَيَاةِ الْمُعْطِي، وَكَذَلِكَ رَدُّهَا، وَالْوَصَايَا لاَ حُكْمَ لِقَبُولِهَا وَلاَ رَدِّهَا إِلاَّ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الْعَطِيَّةَ تَصَرُّفٌ فِي الْحَال، فَيُعْتَبَرُ شُرُوطُهُ وَقْتَ وُجُودِهِ، وَالْوَصِيَّةُ تَبَرُّعٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ شُرُوطُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَطِيَّةَ تَفْتَقِرُ إِلَى شُرُوطِهَا الْمَشْرُوطَةِ لَهَا فِي الصِّحَّةِ: مِنَ الْعِلْمِ، وَكَوْنِهَا لاَ يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا عَلَى شَرْطٍ وَغَرَرٍ فِي غَيْرِ الْعِتْقِ، وَالْوَصِيَّةُ بِخِلاَفِهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهَا تُقَدَّمُ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَهَذَا قَوْل أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَبِهِ قَال أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَزُفَرُ إِلاَّ فِي الْعِتْقِ، فَإِنَّهُ حُكِيَ عَنْهُمْ تَقْدِيمُهُ؛ لأَِنَّ الْعِتْقَ يَتَعَلَّقُ

(30/157)


بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَيَسْرِي وَقْفُهُ، وَيَنْفُذُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ، وَلِلْجُمْهُورِ أَنَّ الْعَطِيَّةَ لاَزِمَةٌ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ فَقُدِّمَتْ عَلَى الْوَصِيَّةِ كَعَطِيَّةِ الصِّحَّةِ، وَكَمَا لَوْ تَسَاوَى الْحَقَّانِ (1) .
الْخَامِسُ: أَنَّ الْوَاهِبَ إِذَا مَاتَ قَبْل الْقَبْضِ لِلْهِبَةِ الْمُنَجَّزَةِ كَانَتِ الْخِيَرَةُ لِلْوَرَثَةِ إِنْ شَاءُوا قَبَضُوا وَإِنْ شَاءُوا مَنَعُوا، وَالْوَصِيَّةُ تَلْزَمُ بِالْقَبُول بَعْدَ الْمَوْتِ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ (2) .
أَمَّا مَا لَزِمَ الْمَرِيضَ فِي مَرَضِهِ مِنْ حَقٍّ لاَ يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ وَإِسْقَاطُهُ كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ وَمَا عَاوَضَ بِثَمَنِ الْمِثْل، وَمَا يُتَغَابَنُ بِهِ زِيَادَةً مِنَ الثُّلُثِ فَهُوَ مِنْ صُلْبِ الْمَال، وَكَذَا إِنْ تَزَوَّجَ بِمَهْرِ الْمِثْل يُحْسَبُ مِنْ صُلْبِ الْمَال؛ لأَِنَّهُ صَرَفَ مَالَهُ فِي حَاجَةٍ فِي نَفْسِهِ فَيُقَدَّمُ بِذَلِكَ عَلَى وَارِثِهِ، وَإِنِ اشْتَرَى أَطْعِمَةً لاَ يَأْكُل مِنْهَا مِثْلُهُ جَازَ وَصَحَّ شِرَاؤُهُ؛ لأَِنَّهُ صَرَفَهُ فِي حَاجَتِهِ (3) .
16 - وَيُعْتَبَرُ فِي الْمَرِيضِ الَّذِي هَذِهِ أَحْكَامُهُ فِي الْعَطَاءِ شَرْطَانِ:
__________
(1) ابن عابدين 5 / 435 وما بعده، شرح فتح القدير 9 / 389 وما بعده، القليوبي 3 / 162، المغني 6 / 71، 72.
(2) المصادر السابقة، وابن عابدين 5 / 435، القليوبي 3 / 162.
(3) المصادر السابقة، وابن عابدين 5 / 435، المغني 6 / 83 - 94.

(30/157)


أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَّصِل بِمَرَضِهِ الْمَوْتُ، وَلَوْ شُفِيَ مِنْ مَرَضِهِ الَّذِي أَعْطَى فِيهِ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ فَحُكْمُ عَطِيَّتِهِ حُكْمُ عَطِيَّةِ الصَّحِيحِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَرَضِ الْمَوْتِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَخُوفًا، وَهُوَ مَا لاَ تَمْتَدُّ مَعَهُ الْحَيَاةُ عَادَةً فِي الأَْغْلَبِ الأَْعَمِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَخُوفًا كَالصُّدَاعِ الْيَسِيرِ وَنَحْوِهِ فَحُكْمُ صَاحِبِهِ حُكْمُ الصَّحِيحِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُخَافُ مِنْهُ عَادَةً، وَإِنْ شَكَكْنَا فِي كَوْنِهِ مَخُوفًا لَمْ يَثْبُتْ إِلاَّ بِشَهَادَةِ طَبِيبَيْنِ عَدْلَيْنِ، أَمَّا الأَْمْرَاضُ الْمُمْتَدَّةُ كَالْجُذَامِ وَالسُّل فَإِنْ أَضْنَى صَاحِبَهُ عَلَى فِرَاشِهِ فَهِيَ مَخُوفَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ فِرَاشٍ بَل كَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ فَعَطَايَاهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَال، وَبِهِ يَقُول الْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ، وَمَالِكٌ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ قَالُوا: لأَِنَّهَا أَمْرَاضٌ مُزْمِنَةٌ لاَ قَاتِلَةٌ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ لاَ يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ فَتُحْسَبُ عَطِيَّتُهُ مِنْ صُلْبِ الْمَال (1)

ثَالِثًا: عَطَاءُ الأَْوْلاَدِ:
17 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلأَْصْل وَإِنْ عَلاَ الْعَدْل فِيمَا يُعْطِيهِ أَوْلاَدَهُ، سَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ الْعَطِيَّةُ هِبَةً أَمْ هَدِيَّةً أَمْ صَدَقَةً أَمْ وَقْفًا أَمْ تَبَرُّعًا آخَرَ (2) لِحَدِيثِ: {
__________
(1) ابن عابدين 5 / 423، المغني 6 / 84.
(2) ابن عابدين 3 / 422، نهاية المحتاج 5 / 415، القليوبي على المحلي 3 / 112.

(30/158)


اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (تَسْوِيَة ف 11 وَ 12) .

عُطَاس

انْظُرْ: تَشْمِيت

عَطَب

انْظُرْ: تَلَف

عِطْر

انْظُرْ: تَطَيُّب

عَطِيَّة

انْظُرْ: هِبَة
__________
(1) حديث: " اتقوا الله واعدلوا. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 211) ومسلم (3 / 1243) من حديث النعمان بن بشير واللفظ للبخاري.

(30/158)


عَظْم

التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَظْمُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ اللَّحْمُ مِنْ قَصَبِ الْحَيَوَانِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} (1) ، وَالْجَمْعُ أَعْظُمُ وَعِظَامٌ، وَعَظَامِهُ بِالْهَاءِ لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ

(2) الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَظْمِ:
طَهَارَةُ الْعَظْمِ أَوْ نَجَاسَتُهُ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ عَظْمَ الآْدَمِيِّ طَاهِرٌ سَوَاءٌ كَانَ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا وَسَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (3) الآْيَةَ، وَمِنَ التَّكْرِيمِ أَنْ لاَ يُحْكَمَ بِنَجَاسَتِهِ بِالْمَوْتِ.
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ إِلَى أَنَّ عَظْمَ السَّمَكِ يَبْقَى طَاهِرًا بَعْدَ مَوْتِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
__________
(1) سورة المؤمنون / 14.
(2) لسان العرب.
(3) سورة الإسراء / 70.

(30/159)


أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ الْجَرَادُ وَالْحِيتَانُ وَالْكَبِدُ وَالطِّحَال.
(1) كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ عَظْمَ مَأْكُول اللَّحْمِ الْمَذْبُوحِ شَرْعًا طَاهِرٌ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي عَظْمِ الْمَيْتَةِ أَوِ الْمَذْبُوحِ الَّذِي لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَإِسْحَاقُ إِلَى أَنَّ عِظَامَ الْمَيْتَةِ نَجِسَةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ مَيْتَةَ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ أَوْ مَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ، وَسَوَاءٌ فِي غَيْرِ مَأْكُول اللَّحْمِ ذُبِحَ أَوْ لَمْ يُذْبَحْ، وَأَنَّهَا لاَ تَطْهُرُ بِحَالٍ، وَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} (2) ؛ وَلأَِنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَرِهَ أَنْ يَدَّهِنَ فِي عَظْمِ فِيلٍ؛ لأَِنَّهُ مَيْتَةٌ، وَالسَّلَفُ يُطْلِقُونَ الْكَرَاهَةَ وَيُرِيدُونَ بِهَا التَّحْرِيمَ، كَمَا يَقُول النَّوَوِيُّ. وَكَذَا مَا أُبِينَ مِنْ حَيَوَانٍ نَجِسِ الْمَيْتَةِ مِنَ الْعِظَامِ سَوَاءٌ كَانَ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا؛ لأَِنَّهُ جُزْءٌ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ اتِّصَال خِلْقَةٍ فَأَشْبَهَ الأَْعْضَاءَ، وَكَرِهَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَالْحَسَنُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عِظَامَ الْفِيَلَةِ، وَرَخَّصَ فِي الاِنْتِفَاعِ بِهَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَابْنُ جُرَيْجٍ
__________
(1) حديث: " أحلت لنا ميتتان ودمان. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 1102) وذكره البيهقي (1 / 254) موقوفًا على ابن عمر وقال: هذا إسناد صحيح وهو في معنى المسند.
(2) سورة المائدة / 3.

(30/159)


وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ عِظَامِ الْمَيْتَةِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (عَاج ف 4، 5، 6)

الاِسْتِنْجَاءُ بِالْعَظْمِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الاِسْتِنْجَاءِ بِالْعَظْمِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِنْجَاءُ أَوِ الاِسْتِجْمَارُ بِالْعَظْمِ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْعَظْمُ طَاهِرًا كَعَظْمِ مَأْكُول اللَّحْمِ الْمُذَكَّى أَوْ نَجِسًا كَعَظْمِ الْمَيْتَةِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: اتَّبَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ فَقَال: ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضُ بِهَا - أَوْ نَحْوَهُ - وَلاَ تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلاَ رَوْثٍ (2) وَلِلنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا سَأَل الْجِنُّ الزَّادَ رَبَّهُمْ فَقَال: لَكُمْ كُل عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا، وَكُل بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ (3) وَقَالُوا: إِنَّ مَنْ خَالَفَ النَّهْيَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 138، وجواهر الإكليل 1 / 8، 9، ومغني المحتاج 1 / 78، والمجموع للنووي 1 / 236، والمغني لابن قدامة 1 / 72.
(2) حديث: " ابغني أحجارًا استنفض بها. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 255) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث: " لكم كل عظم ذكر اسم الله. . . ". أخرجه مسلم (1 / 332) من حديث ابن مسعود.

(30/160)


وَاسْتَنْجَى بِالْعَظْمِ لَمْ يُجْزِئْهُ وَكَانَ عَاصِيًا لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسْتَنْجَى بِرَوْثٍ أَوْ عَظْمٍ وَقَال: إِنَّهُمَا لاَ تُطَهِّرَانِ. (1)
؛ وَلأَِنَّ الاِسْتِنْجَاءَ بِغَيْرِ الْمَاءِ رُخْصَةٌ وَالرُّخْصَةُ لاَ تَحْصُل بِحَرَامٍ، لَكِنَّهُ يَكْفِيهِ الْحَجَرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَمْ تَنْتَشِرِ النَّجَاسَةُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَظْمِ زُهُومَةٌ.
وَلَوْ أَحْرَقَ عَظْمًا طَاهِرًا بِالنَّارِ وَخَرَجَ عَنْ حَال الْعَظْمِ فَهَل يَجُوزُ الاِسْتِنْجَاءُ بِهِ؟ لِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ وَجْهَانِ:
الأَْوَّل: لاَ يَجُوزُ الاِسْتِنْجَاءُ بِهِ لِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ (2) أَيْ: الاِسْتِنْجَاءِ بِهِمَا وَالرِّمَّةُ هِيَ الْعَظْمُ الْبَالِي، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْبَالِي بِنَارٍ أَوِ الْبَالِي بِمُرُورِ الزَّمَانِ، وَهَذَا أَصَحُّ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ الاِسْتِنْجَاءُ بِهِ؛ لأَِنَّ النَّارَ أَحَالَتْهُ وَأَخْرَجَتْهُ عَنْ حَال الْعَظْمِ الْمَنْهِيِّ عَنِ الاِسْتِنْجَاءِ بِهِ. (3)
__________
(1) حديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنجي بروث. . " أخرجه الدارقطني (1 / 56) من حديث أبي هريرة، وقال: إسناده صحيح.
(2) حديث: " نهى عن الروث والرمة. . . ". أخرجه أحمد (2 / 247) من حديث أبي هريرة، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (13 / 100) .
(3) المجموع للنووي 2 / 119، المغني لابن قدامة 1 / 156.

(30/160)


وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ تَحْرِيمًا الاِسْتِنْجَاءُ بِالْعَظْمِ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ إِذَا خَالَفَ وَاسْتَنْجَى بِالْعَظْمِ أَجْزَأَهُ عِنْدَهُمْ؛ لأَِنَّهُ يُجَفِّفُ النَّجَاسَةَ وَيُنَقِّي الْمَحَل.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: يُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ - وَهُوَ حَدِيثُ الْجِنِّ - أَنَّ الْعَظْمَ لَوْ كَانَ عَظْمَ مَيْتَةٍ لاَ يُكْرَهُ الاِسْتِنْجَاءُ بِهِ. (1)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالْعَظْمُ عِنْدَهُمْ إِذَا كَانَ نَجِسًا كَعَظْمِ الْمَيْتَةِ فَلاَ يَجُوزُ الاِسْتِجْمَارُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعَظْمُ طَاهِرًا كَعَظْمِ مَأْكُول اللَّحْمِ الْمُذَكَّى فَيَجُوزُ الاِسْتِنْجَاءُ بِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ (2)

الذَّبْحُ بِالْعَظْمِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الذَّبْحِ بِالْعَظْمِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (ذَبَائِح ف 41)

الْقِصَاصُ فِي الْعَظْمِ.
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ إِلاَّ مِنْ مِفْصَلٍ لِعَدَمِ إِمْكَانِ الْمُمَاثَلَةِ فِي غَيْرِ الْمِفْصَل، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (قِصَاص) (وَقَوَد) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 266.
(2) جواهر الإكليل 1 / 19.

(30/161)


عِفَاص
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِفَاصُ - وِزَانُ كِتَابٍ - فِي اللُّغَةِ: قَال أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ الْوِعَاءُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ النَّفَقَةُ مِنْ جِلْدٍ أَوْ مِنْ خِرْقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الْجِلْدُ الَّذِي تَلْبَسُهُ رَأْسُ الْقَارُورَةِ الْعِفَاصُ؛ لأَِنَّهُ كَالْوِعَاءِ لَهَا، وَلَيْسَ هَذَا بِالصِّمَامِ الَّذِي يَدْخُل فِي فَمِ الْقَارُورَةِ فَيَكُونُ سِدَادًا لَهَا، وَقَال اللَّيْثُ: الْعِفَاصُ صِمَامُ الْقَارُورَةِ، قَال الأَْزْهَرِيُّ: وَالْقَوْل مَا قَال أَبُو عُبَيْدٍ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ: الْوِعَاءُ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ اللُّقَطَةُ (أَيِ: الْمَال الْمُلْتَقَطُ) سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ جِلْدٍ أَمْ خِرْقَةٍ أَمْ غَيْرِ ذَلِكَ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْهِمْيَانُ:
2 - الْهِمْيَانُ - بِكَسْرِ الْهَاءِ -: كِيسٌ تُجْعَل فِيهِ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) فتح القدير 5 / 356 نشر دار إحياء التراث، والدسوقي 4 / 118، والمهذب 1 / 436.

(30/161)


النَّفَقَةُ وَيُشَدُّ عَلَى الْوَسَطِ (1) .
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى حَيْثُ قَالُوا: رُخِّصَ فِيهِ لِلْحَاجِّ لِوَضْعِ النَّفَقَةِ فِيهِ (2) .
أَمَّا الْعِفَاصُ فَإِنَّهُ يَأْتِي ذِكْرُهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي بَابِ اللُّقَطَةِ بِاعْتِبَارِهِ وِعَاءً لِلْمَال الْمُلْتَقَطِ.

ب - الْوِكَاءُ:
الْوِكَاءُ - بِكَسْرِ الْوَاوِ - فِي اللُّغَةِ: الْحَبْل يُشَدُّ بِهِ رَأْسُ الْقِرْبَةِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: خَيْطُ اللُّقَطَةِ الْمَشْدُودَةِ بِهِ
(3) وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِمَّا تُعْرَفُ بِهِ اللُّقَطَةُ

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - الْعِفَاصُ عَلاَمَةٌ مِنَ الْعَلاَمَاتِ الَّتِي يُتَعَرَّفُ بِهَا عَلَى اللُّقَطَةِ، وَالأَْصْل فِيهِ مَا رَوَى زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَال: اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا وَعَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ مَنْ يَعْرِفُهَا وَإِلاَّ فَاخْلِطْهَا بِمَالِكَ. (4)
__________
(1) المصباح المنير.
(2) البدائع 2 / 186، والمغني 3 / 304.
(3) المصباح المنير، وشرح المحلي على المنهاج 3 / 120.
(4) حديث زيد بن خالد الجهني: " اعرف وكاءها وعفاصها. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 430) ، ومسلم (3 / 1347) ، واللفظ للبخاري.

(30/162)


ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَكْفِي مَعْرِفَةُ الْعِفَاصِ وَحْدَهُ لاِسْتِحْقَاقِ اللُّقَطَةِ وَأَخْذِهَا مِنَ الْمُلْتَقِطِ، بَل لاَ بُدَّ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى مَعْرِفَةِ الْعِفَاصِ مَعْرِفَةُ سَائِرِ الْعَلاَمَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ كَمَعْرِفَةِ الْوِكَاءِ وَالْوَزْنِ وَالْعَدَدِ وَالْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَهَكَذَا. . أَوْ مَعْرِفَةُ أَغْلَبِهَا (1) .
وَلَمْ يُفَصِّل جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحُكْمَ فِيمَا إِذَا عَرَفَ مُدَّعِي مِلْكِيَّةِ اللُّقَطَةِ الْعِفَاصَ فَقَطْ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَهُمْ بَعْضُ التَّفْصِيل.
قَالُوا: مَنْ عَرَفَ الْعِفَاصَ وَالْوِكَاءَ فَقَطْ دُفِعَتْ إِلَيْهِ اللُّقَطَةُ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ عَلَى الْمَشْهُورِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ، وَقَال أَشْهَبُ: لاَ بُدَّ مِنَ الْيَمِينِ.
وَمَنْ عَرَفَ الْعِفَاصَ فَقَطْ وَجَهِل الْوِكَاءَ فَلاَ تُدْفَعُ إِلَيْهِ اللُّقَطَةُ فِي الْحَال، بَل يَنْتَظِرُ لَعَل غَيْرَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِأَثْبَتَ مِمَّا أَتَى بِهِ الأَْوَّل فَيَأْخُذَهَا، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَثْبَتَ مِمَّا أَتَى بِهِ الأَْوَّل أَوْ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ أَصْلاً اسْتَحَقَّهَا الأَْوَّل، وَإِنْ غَلَطَ بِأَنْ ذَكَرَ الْعِفَاصَ عَلَى خِلاَفِ مَا هُوَ عَلَيْهِ ثُمَّ ادَّعَى الْغَلَطَ فَلاَ تُدْفَعُ لَهُ عَلَى الأَْظْهَرِ لِظُهُورِ كَذِبِهِ.
وَقَال أَصْبَغُ: يُقْضَى بِاللَّقْطَةِ لِمَنْ عَرَفَ
__________
(1) فتح القدير 4 / 426، والدسوقي 4 / 118، وأسنى المطالب 2 / 491، والمغني 5 / 707.

(30/162)


الْعِفَاصَ فَقَطْ بِيَمِينٍ عَلَى مَنْ عَرَفَ الْعَدَدَ وَالْوَزْنَ (1) .
هَذَا مَعَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ دَفْعِ اللُّقَطَةِ لِمُدَّعِيهَا عِنْدَ مَعْرِفَةِ عَلاَمَاتِهَا وَأَوْصَافِهَا أَوْ جَوَازِ الدَّفْعِ وَلاَ يَجِبُ إِلاَّ مَعَ الْبَيِّنَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (لُقَطَة)
__________
(1) البدائع 6 / 202، والدسوقي 4 / 118 - 119، ونهاية المحتاج 5 / 436 وما بعدها، والمغني 5 / 709 - 711.

(30/163)


عِفَّة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِفَّةُ فِي اللُّغَةِ: الْكَفُّ عَمَّا لاَ يَحِل وَلاَ يَجْمُل، يُقَال: عَفَّ الرَّجُل وَعَفَّتِ الْمَرْأَةُ عَنِ الْمَحَارِمِ، يَعِفُّ عِفَّةً وَعَفًّا، وَعَفَافًا، فَهُوَ عَفِيفٌ، وَفِي الْمُؤَنَّثَةِ يُزَادُ فِيهَا هَاءُ التَّأْنِيثِ: إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالأَْطْمَاعِ الدَّنِيَّةِ (1) . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ

(2) الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
الْحَصَانَةُ:
2 - تُطْلَقُ الْحَصَانَةُ عَلَى مَعَانٍ:
أَحَدُهَا: الْعِفَّةُ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ} (3) أَيِ: الْعَفِيفَاتِ.
وَالثَّانِي: الزَّوَاجُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} (4) عَطْفًا عَلَى
__________
(1) لسان العرب.
(2) المطلع على أبواب المقنع ص321.
(3) سورة النور / 23.
(4) سورة النساء / 24.

(30/163)


قَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} أَيْ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ نِكَاحُ ذَوَاتِ الأَْزْوَاجِ فَهُنَّ مُحْصَنَاتٌ بِأَزْوَاجِهِنَّ.
وَالثَّالِثُ: الْحُرِّيَّةُ (1) ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} (2) أَيِ الْحَرَائِرَ.
وَالرَّابِعُ: الإِْسْلاَمُ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (3) أَيْ إِذَا أَسْلَمْنَ، فَيَكُونُ إِحْصَانُهَا هَاهُنَا إِسْلاَمَهَا، وَهَذَا قَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَالأَْسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ وَزِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَالسُّدِّيِّ، وَرَوَى نَحْوَهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (4) .
فَالْحَصَانَةُ أَعَمُّ مِنَ الْعِفَّةِ

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعِفَّةِ:
الْعِفَّةُ عَنِ الأَْطْمَاعِ وَسُؤَال النَّاسِ:
3 - يَحْرِصُ الإِْسْلاَمُ عَلَى حِفْظِ كَرَامَةِ الإِْنْسَانِ وَصَوْنِهِ عَنِ الاِبْتِذَال، فَيَحْرُمُ السُّؤَال عَلَى مَنْ يَمْلِكُ مَا يُغْنِيهِ عَنِ السُّؤَال مِنْ مَالٍ أَوْ قُدْرَةٍ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، وتفسير ابن كثير، 1 / 474، 3 / 276، وتفسير الماوردي 1 / 376
(2) سورة النساء / 25.
(3) سورة النساء / 25.
(4) تفسير ابن كثير 1 / 476 ط عيسى الحلبي، وتفسير الماوردي 1 / 379، 380.

(30/164)


عَلَى التَّكَسُّبِ، أَمَّا إِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الصَّدَقَةِ، وَمِمَّنْ يَسْتَحِقُّونَهَا، لِفَقْرٍ أَوْ زَمَانَةٍ، أَوْ عَجْزٍ عَنِ الْكَسْبِ، فَيَجُوزُ لَهُ السُّؤَال بِقَدْرِ الْحَاجَةِ بِشُرُوطٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (سُؤَال ف 9 وَمَا بَعْدَهَا) .

الْعِفَّةُ عَنِ الزِّنَا:
4 - وَصَفَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعِفَّةِ عَنْ رَذِيلَةِ الزِّنَا فَقَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} إِلَى أَنْ قَال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} (1) ، وَفِي الْحَدِيثِ: لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ (2)
وَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُقَدِّمَاتِ الزِّنَا، وَكُل مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ كَالنَّظَرِ إِلَى الأَْجْنَبِيَّةِ وَالاِخْتِلاَءِ بِهَا، وَقَال: {قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} (3) وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالْعِفَّةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ
__________
(1) سورة المؤمنون 1 - 6.
(2) حديث: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 58) ، ومسلم (1 / 76) من حديث أبي هريرة.
(3) سورة النور / 30.

(30/164)


فَضْلِهِ} (1) وَأَرْشَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْوَسَائِل الَّتِي تُعِينُ عَلَى الْعِفَّةِ فَأَمَرَ الْقَادِرِينَ عَلَى مُؤْنَةِ النِّكَاحِ بِالتَّزَوُّجِ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ (2) وَأَمَرَ غَيْرَ الْقَادِرِينَ بِالتَّعَفُّفِ بِالاِسْتِعَانَةِ بِالصَّوْمِ لِكَسْرِ الشَّهْوَةِ فَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ (3) أَيْ وِقَايَةٌ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ يَجِدُ الأُْهْبَةَ وَتَتُوقُ نَفْسُهُ إِلَى الْجِمَاعِ وَيَخَافُ الْوُقُوعَ فِي الزِّنَا أَنْ يَتَزَوَّجَ؛ لأَِنَّ اجْتِنَابَ الزِّنَا وَاجِبٌ، وَمَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي كَسْرِ الشَّهْوَةِ إِلَى الْجِمَاعِ بِالأَْدْوِيَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهْوَة ف 16) وَمُصْطَلَحِ: (نِكَاح) .

إِعْفَافُ الأُْصُول وَالْفُرُوعِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ إِعْفَافِ الأُْصُول عَلَى الْفُرُوعِ وَالْفُرُوعِ عَلَى أُصُولِهِمْ،
__________
(1) سورة النور / 33.
(2) حديث: " يا معشر الشباب. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 119) ، ومسلم (2 / 1018، 1019) .
(3) حديث: " يا معشر الشباب. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 119) ، ومسلم (2 / 1018، 1019) .

(30/165)


فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى وُجُوبِ ذَلِكَ وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ آخَرُونَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِعْفَاف: ف 5) (وَنِكَاح) وَمُصْطَلَحِ: (نَفَقَة)

نِكَاحُ الْعَفِيفِ بِالزَّانِيَةِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ نِكَاحِ الرَّجُل الْعَفِيفِ بِالْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ أَوِ الْمَرْأَةِ الْعَفِيفَةِ بِالرَّجُل الزَّانِي، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ زِنَا الرَّجُل لاَ يُحَرِّمُهُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْعَفِيفَةِ وَأَنَّ زِنَا الْمَرْأَةِ لاَ يُحَرِّمُهَا عَلَى الرَّجُل الْعَفِيفِ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا زَنَتِ الْمَرْأَةُ لَمْ يَحِل لِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ نِكَاحُهَا إِلاَّ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا، وَالثَّانِي: أَنْ تَتُوبَ مِنَ الزِّنَا (1) .
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاح)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 292، المهذب 2 / 44، والمغني 6 / 601.

(30/165)


عَفَل

التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَفَل فِي اللُّغَةِ: لَحْمٌ يَنْبُتُ فِي قُبُل الْمَرْأَةِ وَهُوَ الْقَرْنُ، وَلاَ يَكُونُ فِي الأَْبْكَارِ وَلاَ يُصِيبُ الْمَرْأَةَ إِلاَّ بَعْدَمَا تَلِدُ.
وَقِيل: هُوَ وَرَمٌ يَكُونُ بَيْنَ مَسْلَكَيِ الْمَرْأَةِ فَيَضِيقُ فَرْجُهَا حَتَّى يَمْتَنِعَ الإِْيلاَجُ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرَّتْقُ:
2 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ انْسِدَادُ مَحَل الْجِمَاعِ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ بِلَحْمٍ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: هُوَ كَوْنُ الْفَرْجِ مَسْدُودًا مُلْتَصِقًا لاَ يَسْلُكُهَا الذَّكَرُ بِأَصْل الْخِلْقَةِ (4) .
__________
(1) المصباح المنير والمغرب.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 278، حاشية القليوبي 3 / 261، كشاف القناع 5 / 109، المغني لابن قدامة 6 / 650، 651، مطالب أولي النهى 5 / 147، والزاهر للأزهري ص316.
(3) حاشية القليوبي وعميرة 3 / 261.
(4) مطالب أولي النهى 3 / 101.

(30/166)


وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَفَل وَالرَّتْقِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ الْعَفَل يَكُونُ بَعْدَ أَنْ تَلِدَ، أَمَّا الرَّتْقُ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِأَصْل الْخِلْقَةِ.
وَكُلٌّ مِنَ الْعَفَل وَالرَّتْقِ مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي تُثْبِتُ الْخِيَارَ فِي النِّكَاحِ

ب - الْقَرَنُ:
3 - الْقَرَنُ هُوَ: انْسِدَادُ مَحَل الْجِمَاعِ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ بِعَظْمٍ، وَقِيل: بِلَحْمٍ، وَقِيل: بِغُدَّةٍ غَلِيظَةٍ (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَفَل وَالْقَرَنِ: أَنَّ الْعَفَل يَكُونُ بِلَحْمٍ، وَأَمَّا الْقَرَنُ فَقَدْ يَكُونُ بِلَحْمٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ فَالْقَرَنُ أَعَمُّ.
وَكُلٌّ مِنْ الْعَفَل وَالْقَرَنِ مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي تُثْبِتُ الْخِيَارَ فِي النِّكَاحِ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّ الْعَفَل مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا لِلزَّوْجِ خِيَارُ فَسْخِ النِّكَاحِ؛ لأَِنَّهُ يَمْنَعُ الْمَقْصُودَ الأَْصْلِيَّ مِنَ النِّكَاحِ وَهُوَ الْوَطْءُ (2) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ خِيَارُ فَسْخِ النِّكَاحِ
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 25، حاشية الدسوقي 2 / 248، حاشية القليوبي وعميرة 3 / 261.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 278، كشاف القناع 5 / 109، 110.

(30/166)


بِعَيْبٍ فِي الآْخَرِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَهُوَ قَوْل عَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَابْنِ زِيَادٍ وَأَبِي قِلاَبَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالأَْوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ. وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لِلزَّوْجِ بِعَيْبٍ فِي الْمَرْأَةِ، وَلَهَا هِيَ الْخِيَارُ بِعَيْبٍ فِيهِ مِنَ الثَّلاَثَةِ: الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنَ الْعُيُوبِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمَرْأَةِ وَالَّتِي يَثْبُتُ بِهَا الْخِيَارُ هِيَ الرَّتْقُ وَالْقَرَنُ، وَهُمَا عِنْدَهُمُ انْسِدَادُ مَحَل الْجِمَاعِ مِنْهَا، فِي الرَّتْقِ بِلَحْمٍ، وَفِي الْقَرَنِ بِعَظْمٍ، وَقِيل: بِلَحْمٍ يَنْبُتُ فِيهِ وَيَخْرُجُ الْبَوْل مِنْ ثُقْبَةٍ ضَيِّقَةٍ فِيهِ (2) .
__________
(1) فتح القدير 3 / 267 ط. الأميرية 1316هـ.
(2) شرح روض الطالب 3 / 176.

(30/167)


عَفْو

التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْعَفْوِ فِي اللُّغَةِ الإِْسْقَاطُ، قَال تَعَالَى: {وَاعْفُ عَنَّا} (1) ، وَالْكَثْرَةُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى عَفَوْا} (2) . أَيْ: كَثُرُوا، وَالذَّهَابُ وَالطَّمْسُ وَالْمَحْوُ، وَمِنْهُ قَوْل لَبِيدٍ: عَفَتِ الدِّيَارُ، وَالإِْعْطَاءُ، قَال ابْنُ الأَْعْرَابِيِّ: عَفَا يَعْفُو: إِذَا أَعْطَى، وَقِيل: الْعَفْوُ مَا أَتَى بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: يَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ الْعَفْوَ غَالِبًا بِمَعْنَى الإِْسْقَاطِ وَالتَّجَاوُزِ

(3) الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصَّفْحُ:
2 - الصَّفْحُ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ، وَأَصْلُهُ: الإِْعْرَاضُ بِصَفْحَةِ الْوَجْهِ عَنِ التَّلَفُّتِ إِلَى مَا كَانَ مِنْهُ، قَال تَعَالَى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيل} (4) .
__________
(1) سورة البقرة / 286.
(2) سورة الأعراف / 95.
(3) اللسان، أحكام القرآن لابن العربي 1 / 66، والنهاية في غريب الحديث والأثر 3 / 265.
(4) سورة الحجر / 85.

(30/167)


قَال الرَّاغِبُ: وَالصَّفْحُ أَبْلَغُ مِنَ الْعَفْوِ وَلِذَلِكَ قَال تَعَالَى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (1) وَقَدْ يَعْفُو الإِْنْسَانُ وَلاَ يَصْفَحُ (2) .

ب - الْمَغْفِرَةُ:
3 - الْمَغْفِرَةُ مِنَ الْغَفْرِ مَصْدَرُ غَفَرَ، وَأَصْلُهُ السَّتْرُ، وَمِنْهُ يُقَال: الصَّبْغُ أَغْفَرُ لِلْوَسَخِ، أَيْ أَسْتَرُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يَسْتُرَ الْقَادِرُ الْقَبِيحَ الصَّادِرَ مِمَّنْ هُوَ تَحْتَ قُدْرَتِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ أَنَّ الْعَفْوَ يَقْتَضِي إِسْقَاطَ اللَّوْمِ وَالذَّمِّ وَلاَ يَقْتَضِي إِيجَابَ الثَّوَابِ، وَالْمَغْفِرَةَ تَقْتَضِي إِسْقَاطَ الْعِقَابِ وَهُوَ: إِيجَابُ الثَّوَابِ، فَلاَ يَسْتَحِقُّهَا إِلاَّ الْمُؤْمِنُ الْمُسْتَحِقُّ لِلثَّوَابِ (3)

ج - الإِْسْقَاطُ:
4 - الإِْسْقَاطُ: هُوَ إِزَالَةُ الْمِلْكِ أَوِ الْحَقِّ لاَ إِلَى مَالِكٍ.
وَالْعَفْوُ عَلَى إِطْلاَقِهِ أَعَمُّ مِنَ الإِْسْقَاطِ لِتَعَدُّدِ اسْتِعْمَالاَتِهِ (4)
__________
(1) سورة البقرة / 109.
(2) الذريعة ص 234، والمفردات للراغب.
(3) المصباح المنير، والتعريفات، والفروق في اللغة ص 230.
(4) الاختيار 3 / 121، 4 / 17، دار المعرفة.

(30/168)


د - الصُّلْحُ:
5 - الصُّلْحُ عَقْدٌ يَرْفَعُ النِّزَاعَ (1)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالصُّلْحِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، فَالصُّلْحُ أَعَمُّ مِنَ الْعَفْوِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْعَفْوِ بِاخْتِلاَفِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَقُّ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ خَالِصًا لِلْعَبْدِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَالْحُدُودِ مَثَلاً، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ بَعْدَ رَفْعِ الأَْمْرِ إِلَى الْحَاكِمِ.
وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي غَيْرِ الْحُدُودِ فَإِنَّهُ يَقْبَل الْعَفْوَ فِي الْجُمْلَةِ لِلأَْسْبَابِ الَّتِي يَعْتَبِرُهَا الشَّارِعُ مُؤَدِّيَةً إِلَى ذَلِكَ تَفَضُّلاً مِنْهُ وَرَحْمَةً وَرَفْعًا لِلْحَرَجِ
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِسْقَاط ف 39 وَمَا بَعْدَهَا) .

الْعَفْوُ فِي الْعِبَادَاتِ:
أَوَّلاً - الْعَفْوُ عَنْ بَعْضِ النَّجَاسَاتِ:
7 - اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يُعْفَى عَنْهُ مِنَ النَّجَاسَاتِ، كَمَا اخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ فِي التَّقْدِيرَاتِ الَّتِي تُعْتَبَرُ فِي الْعَفْوِ.
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 29.

(30/168)


فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ النَّجَاسَةِ الْمُخَفَّفَةِ وَالنَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ (1) وَقَالُوا: إِنَّهُ يُعْفَى عَنِ الْمُغَلَّظَةِ إِذَا أَصَابَتِ الثَّوْبَ أَوِ الْبَدَنَ بِشَرْطِ أَنْ لاَ تَزِيدَ عَنِ الدِّرْهَمِ، قَال الْمَرْغِينَانِيُّ: وَقَدْرُ الدِّرْهَمِ وَمَا دُونَهُ مِنَ النَّجَسِ الْمُغَلَّظِ كَالدَّمِ وَالْبَوْل وَالْخَمْرِ وَخُرْءِ الدَّجَاجِ وَبَوْل الْحِمَارِ، جَازَتِ الصَّلاَةُ مَعَهُ (2) .
أَمَّا النَّجَاسَةُ الْمُخَفَّفَةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الَّذِي يُعْفَى عَنْهُ مِنْهَا عَلَى رِوَايَاتٍ: قَال الْمَرْغِينَانِيُّ: إِنْ كَانَتْ كَبَوْل مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ جَازَتِ الصَّلاَةُ مَعَهَا حَتَّى يَبْلُغَ رُبُعَ الثَّوْبِ (3) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: حَدُّ الْكَثِيرِ الَّذِي لاَ يُعْفَى عَنْهُ مِنَ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ هُوَ: الْكَثِيرُ الْفَاحِشُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (4) .
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الدَّمِ - وَمَا مَعَهُ مِنْ قَيْحٍ وَصَدِيدٍ - وَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ، فَيَقُولُونَ بِالْعَفْوِ عَنْ قَدْرِ دِرْهَمٍ مِنْ دَمٍ وَقَيْحٍ وَصَدِيدٍ، وَالْمُرَادُ بِالدِّرْهَمِ الدِّرْهَمُ الْبَغْلِيُّ وَهُوَ الدَّائِرَةُ السَّوْدَاءُ الْكَائِنَةُ فِي ذِرَاعِ الْبَغْل، قَال الصَّاوِيُّ: إِنَّمَا اخْتَصَّ الْعَفْوُ بِالدَّمِ وَمَا مَعَهُ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ لاَ يَخْلُو عَنْهُ، فَالاِحْتِرَازُ عَنْ يَسِيرِهِ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 80.
(2) البناية شرح الهداية 1 / 733 - 734.
(3) البناية مع الهداية 1 / 739.
(4) بدائع الصنائع 1 / 80.

(30/169)


عَسِرٌ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ كَالْبَوْل وَالْغَائِطِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى الْعَفْوِ عَنِ الْيَسِيرِ مِنَ الدَّمِ وَالْقَيْحِ وَمَا يَعْسُرُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ وَتَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، كَدَمِ الْقُرُوحِ وَالدَّمَامِل وَالْبَرَاغِيثِ وَمَا لاَ يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ، وَمَا لاَ نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَالضَّابِطُ فِي الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ الْعُرْفُ (2) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ نَجَاسَةٍ وَلَوْ لَمْ يُدْرِكْهَا الطَّرْفُ كَالَّذِي يَعْلَقُ بِأَرْجُل ذُبَابٍ وَنَحْوِهِ، وَإِنَّمَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ وَمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مِنَ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ إِلاَّ دَمَ الْحَيَوَانَاتِ النَّجِسَةِ فَلاَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دَمِهَا كَسَائِرِ فَضَلاَتِهَا، وَلاَ يُعْفَى عَنِ الدِّمَاءِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنَ الْقُبُل وَالدُّبُرِ؛ لأَِنَّهَا فِي حُكْمِ الْبَوْل أَوِ الْغَائِطِ.
وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ الْيَسِيرَ مَا لاَ يَفْحُشُ فِي الْقَلْبِ (3)

. وَمِمَّا بَحَثَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَفْوِ عَنِ النَّجَاسَاتِ:
__________
(1) القوانين الفقهية ص 39 نشر الدار العربية للكتاب، الشرح الصغير 1 / 74، حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 75.
(2) حاشية البيجوري على ابن قاسم 1 / 170، وروضة الطالبين 1 / 280.
(3) كشاف القناع 1 / 190 - 191، والمغني 2 / 78 - 79.

(30/169)


أ - الْعَفْوُ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ:
8 - يَرَى أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ الْعَفْوَ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ فِي الْجُمْلَةِ (1) .
وَيُقَيِّدُ الشَّافِعِيَّةُ الْعَفْوَ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ بِقُيُودٍ عَبَّرَ عَنْهَا الْبَيْجُورِيُّ بِقَوْلِهِ: خَرَجَ بِالْيَسِيرِ الْكَثِيرُ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الشَّخْصِ نَفْسِهِ وَلَمْ يَكُنْ بِفِعْلِهِ وَلَمْ يَخْتَلِطْ بِأَجْنَبِيٍّ وَلَمْ يُجَاوِزْ مَحَلَّهُ، عُفِيَ عَنْهُ وَإِلاَّ فَلاَ، (2) وَمَحَل الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ فِي الثَّوْبِ عِنْدَهُمْ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ الإِْنْسَانُ وَلَوْ لِلتَّجَمُّل وَكَانَ مَلْبُوسًا، بِخِلاَفِ مَا لَوْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهِ وَمَا لَوْ فَرَشَهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ أَوْ حَمَلَهُ وَصَلَّى بِهِ فَلاَ يُعْفَى عَنْهُ (3) .
وَقَال الْحَطَّابُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: قَدِ اخْتُلِفَ فِي الْيَسِيرِ الْمَذْكُورِ، هَل يُغْتَفَرُ مُطْلَقًا عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ حَتَّى يَصِيرَ كَالْمَائِعِ الطَّاهِرِ أَوِ اغْتِفَارُهُ مَقْصُورٌ عَلَى الصَّلاَةِ فَلاَ يَقْطَعُهَا لأَِجْلِهِ إِذَا ذَكَرَهُ فِيهَا وَلاَ يُعِيدُهَا، وَأَمَّا قَبْل الصَّلاَةِ فَيُؤْمَرُ بِغَسْلِهِ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ، قَالَهُ فِي التَّوْضِيحِ، وَالأَْوَّل مَذْهَبُ الْعِرَاقِيِّينَ. قَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: وَهُوَ الأَْظْهَرُ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا، وَالثَّانِي عَزَاهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ
__________
(1) البناية شرح الهداية 1 / 733، الشرح الصغير 1 / 74، والأشباه والنظائر للسيوطي 78، المغني 2 / 78.
(2) البيجوري على ابن قاسم 1 / 107.
(3) البيجوري 1 / 107.

(30/170)


وَالْمُصَنِّفُ لِلْمُدَوَّنَةِ، وَعَزَاهُ صَاحِبُ الطِّرَازِ وَابْنُ عَرَفَةَ نَاقِلاً عَنِ الْمَازِرِيِّ لاِبْنِ حَبِيبٍ كَذَلِكَ ابْنُ نَاجِي، قَال صَاحِبُ الطِّرَازِ: هُوَ خِلاَفُ ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ (1) ، وَصَرَّحَ ابْنُ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ قَلِيل دَمِ الْحَيْضِ وَكَثِيرَهُ نَجِسٌ (2) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ قَيَّدُوا الْعَفْوَ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ فِي الْحَيَاةِ، آدَمِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، يُؤْكَل كَالإِْبِل وَالْبَقَرِ أَوْ لاَ كَالْهِرِّ، بِخِلاَفِ الْحَيَوَانِ النَّجِسِ كَالْكَلْبِ وَالْبَغْل وَالْحِمَارِ فَلاَ يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ مِنْهُ، وَلاَ يُعْفِي عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ الْخَارِجِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ (3) . كَمَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دَمِ الْحَيْضِ وَكَذَا دَمُ النِّفَاسِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي لاَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ (4) .
وَقَال الْحَسَنُ: كَثِيرُ الدَّمِ وَقَلِيلُهُ سَوَاءٌ. وَنَحْوُهُ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ؛ لأَِنَّهُ نَجَاسَةٌ فَأَشْبَهَ الْبَوْل. وَحُكْمُ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ حُكْمُ الدَّمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (5) .
__________
(1) الحطاب 1 / 146.
(2) القوانين الفقهية ص 38.
(3) نيل المآرب 1 / 14، وتصحيح الفروع 1 / 254.
(4) تصحيح الفروع 1 / 254.
(5) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص81 والشرح الصغير 1 / 71، 72 روضة الطالبين 1 / 21 - 281، والمغني 2 / 78، 80، وكشاف القناع 1 / 192.

(30/170)


ب - الْعَفْوُ عَنْ طِينِ الشَّوَارِعِ:
9 - يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْعَفْوَ عَنْ يَسِيرِ طِينِ الشَّارِعِ النَّجِسِ لِعُسْرِ تَجَنُّبِهِ، قَال الزَّرْكَشِيُّ تَعْلِيقًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَوْضُوعِ: وَقَضِيَّةُ إِطْلاَقِهِمُ الْعَفْوَ عَنْهُ وَلَوِ اخْتَلَطَ بِنَجَاسَةِ كَلْبٍ أَوْ نَحْوِهِ - وَهُوَ الْمُتَّجِهُ لاَ سِيَّمَا فِي مَوْضِعٍ يَكْثُرُ فِيهِ الْكِلاَبُ - لأَِنَّ الشَّوَارِعَ مَعْدِنُ النَّجَاسَاتِ (1) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذْ قَالُوا: إِنَّ طِينَ الشَّوَارِعِ الَّذِي فِيهِ نَجَاسَةٌ عَفْوٌ إِلاَّ إِذَا عُلِمَ عَيْنُ النَّجَاسَةِ (2) ، وَالاِحْتِيَاطُ فِي الصَّلاَةِ غَسْلُهُ (3) .
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: الأَْحْوَال أَرْبَعَةٌ: الأُْولَى وَالثَّانِيَةُ: كَوْنُ الطِّينِ أَكْثَرَ مِنَ النَّجَاسَةِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهَا تَحْقِيقًا أَوْ ظَنًّا، وَلاَ إِشْكَال فِي الْعَفْوِ فِيهِمَا، وَالثَّالِثَةُ: غَلَبَةُ النَّجَاسَةِ عَلَى الطِّينِ تَحْقِيقًا أَوْ ظَنًّا، وَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ عَلَى ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ، وَيَجِبُ غَسْلُهُ عَلَى مَا مَشَى عَلَيْهِ الدَّرْدِيرُ تَبَعًا لاِبْنِ أَبِي زَيْدٍ.
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 175، والأشباه والنظائر للسيوطي ص78، وكشاف القناع 1 / 192.
(2) مراقي الفلاح ص85.
(3) الحموي على الأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 248.

(30/171)


وَالرَّابِعَةُ: أَنْ تَكُونَ عَيْنُهَا قَائِمَةً وَهِيَ لاَ عَفْوَ فِيهَا اتِّفَاقًا (1)

ج - الْعَفْوُ عَنْ مَا لاَ يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ مِنَ النَّجَاسَاتِ:
10 - يَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُعْفَى عَنِ النَّجَاسَةِ الَّتِي لاَ يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ نَجَاسَةٍ وَلَوْ لَمْ يُدْرِكْهَا الطَّرْفُ كَالَّذِي يَعْلَقُ بِأَرْجُل ذُبَابٍ (3) وَنَحْوِهِ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (4)

د - الْعَفْوُ عَنْ دَمِ مَا لاَ نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً:
11 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دَمَ الْبَرَاغِيثِ وَالْبَقِّ وَالْقَمْل وَنَحْوِهَا مِنْ كُل مَا لاَ نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً طَاهِرٌ (5) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: دَمُ الْبَرَاغِيثِ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ، وَفِي كَثِيرِهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا الْعَفْوُ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي دَمِ الْقَمْل وَالْبَعُوضِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ (6) .
__________
(1) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 77.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 78، وروضة الطالبين 1 / 282.
(3) كشاف القناع 1 / 190.
(4) سورة المدثر / 4.
(5) الحموي على الأشباه والنظائر 1 / 248، والقوانين الفقهية، ص38، وكشاف القناع 1 / 191.
(6) روضة الطالبين 1 / 280.

(30/171)


وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَجَاسَة)

ثَانِيًا - الْعَفْوُ فِي الزَّكَاةِ:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا بَيْنَ النِّصَابَيْنِ مِنَ الأَْنْعَامِ هَل فِيهِ زَكَاةٌ أَمْ لاَ؟
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمَالِكٌ فِي الصَّحِيحِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ فِي النِّصَابِ فَقَطْ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الأَْوْقَاصِ عَفْوٌ (1) .
وَذَهَبَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ، وَالْبُوَيْطِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ يَتَعَلَّقُ بِالْجَمِيعِ.
(2) أَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الأَْمْوَال الزَّكَوِيَّةِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْعَفْوَ يَخْتَصُّ فِي زَكَاةِ السَّائِمَةِ، بِخِلاَفِ غَيْرِهَا مِنْ أَمْوَال الزَّكَاةِ كَالنَّقْدَيْنِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ بِحِسَابِهِ (3) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ: إِنَّ الْعَفْوَ يَجْرِي فِي كُل الأَْحْوَال حَتَّى فِي النَّقْدَيْنِ، وَمَا زَادَ عَلَى
__________
(1) حاشية رد المحتار 2 / 283، وفتح القدير 2 / 197، والمنتقى للباجي 2 / 127، ومواهب الجليل 2 / 257، والمجموع 5 / 390 - 393، وكشاف القناع 2 / 89.
(2) المراجع السابقة.
(3) حاشية رد المحتار 2 / 283، وبداية المجتهد 1 / 247، والمجموع 5 / 457، وكشاف القناع 2 / 170.

(30/172)


مِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَفْوٌ مَا لَمْ يَبْلُغْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَفِيهَا دِرْهَمٌ آخَرُ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي: (أَوْقَاص ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) وَفِي: (زَكَاة ف 72)

ثَالِثًا - الْعَفْوُ فِي الصِّيَامِ:
13 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ وَصَل جَوْفَ الصَّائِمِ ذُبَابٌ أَوْ غُبَارُ الطَّرِيقِ، أَوْ غَرْبَلَةُ الدَّقِيقِ، أَوْ مَا تَبَقَّى بَيْنَ الأَْسْنَانِ مِنْ طَعَامٍ، فَجَرَى بِهِ رِيقُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَعَجَزَ عَنْ تَمْيِيزِهِ وَمَجِّهِ - لَمْ يُفْطِرْ فِي كُل ذَلِكَ؛ لأَِنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ ذَلِكَ مِمَّا يَعْسُرُ (2) .
وَكَذَا لَوْ دَمِيَتْ لِثَتُهُ وَلَمْ يَجِدْ مَاءً وَشَقَّ عَلَيْهِ الْبَصْقُ عُفِيَ عَنْ أَثَرِهِ، وَقَال الأَْذْرَعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَبْعُدُ أَنْ يُقَال فِيمَنْ عَمَّتْ بَلْوَاهُ بِذَلِكَ بِحَيْثُ يَجْرِي دَائِمًا أَوْ غَالِبًا، أَنْ يُسَامَحَ بِمَا يَشُقُّ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ فَيَكْفِي بَصْقُهُ الدَّمَ وَيُعْفَى عَنْ أَثَرِهِ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْم ف 76 وَمَا بَعْدَهَا)
__________
(1) حاشية رد المحتار 2 / 283، وبداية المجتهد 1 / 248، وعارضة الأحوذي 3 / 102.
(2) حاشية رد المحتار 2 / 395، والدردير بالشرح الصغير 1 / 700، والقليوبي 2 / 56، وقواعد الأحكام 2 / 10.
(3) حاشية رد المحتار 2 / 796، والشرح الصغير 1 / 715، وحاشية القليوبي على منهاج الطالبين / 57، والمغني لابن قدامة 3 / 97.

(30/172)


رَابِعًا - الْعَفْوُ فِي الْحَجِّ:
14 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ لَبِسَ الْمُحْرِمُ الْمَخِيطَ أَوْ تَطَيَّبَ أَوْ غَطَّى رَأْسَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلاً أَوْ مُكْرَهًا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى مَنْ فَعَل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلاً أَوْ مُكْرَهًا.
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الطِّيبُ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلاً (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَطَيُّب ف 12 وَ 15)

الْعَفْوُ فِي الْمُعَامَلاَتِ:
أَوَّلاً - الْعَفْوُ عَنِ الشُّفْعَةِ:
15 - الْعَفْوُ عَنِ الشُّفْعَةِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ الرَّشِيدِ بِلاَ عِوَضٍ جَائِزٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - الاِعْتِيَاضَ
__________
(1) حديث: " إن الله وضع عن أمتي. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 659) من حديث ابن عباس، وحسنه النووي في روضة الطالبين (8 / 193) .
(2) بدائع الصنائع 2 / 188، و189 وحاشية رد المحتار 2 / 543، 545، والقوانين الفقهية ص 91 - 93، وحاشية القليوبي وعميرة المنهاج 2 / 133 - 135، وكشاف القناع 2 / 458.

(30/173)


عَنْ تَرْكِ الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِسْقَاط ف 41 وَ 42) (وَشُفْعَة ف 55 وَمَا بَعْدَهَا)

ثَانِيًا - الْعَفْوُ عَنِ الْمَدِينِ:
16 - لِلدَّائِنِ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْمَدِينِ وَتَبْرَأُ بِذَلِكَ ذِمَّتُهُ مِنَ الدَّيْنِ (2)
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِبْرَاء ف 40 وَمَا بَعْدَهَا) .

ثَالِثًا - الْعَفْوُ عَنِ الصَّدَاقِ:
17 - الصَّدَاقُ حَقٌّ خَالِصٌ لِلزَّوْجَةِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (3)
وَلِلزَّوْجَةِ أَنْ تَعْفُوَ عَنِ الصَّدَاقِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، كَمَا أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الصَّدَاقِ، وَعَفْوُهُ يَكُونُ بِإِكْمَال الصَّدَاقِ عِنْدَ الطَّلاَقِ قَبْل الدُّخُول، وَلأَِوْلِيَاءِ النِّكَاحِ الْعَفْوُ كَذَلِكَ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (4) .
__________
(1) البدائع 6 / 2715، والبهجة شرح التحفة 2 / 122، 123، ومنح الجليل 3 / 591، والجمل على المنهج 123، والقواعد لابن رجب ص199، وكشاف القناع 4 / 158.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص263 - 265، 317، والخرشي على خليل 7 / 102، 103، والأشباه والنظائر للسيوطي ص171، والمنثور في القواعد للزركشي 1 / 81 - 86، وكشاف القناع 4 / 304.
(3) سورة النساء / 4.
(4) سورة البقرة / 237.

(30/173)


وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (مَهْر)

الْعَفْوُ فِي الْعُقُوبَاتِ:
أَوَّلاً - الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ:
18 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} (1) ؛
وَلأَِنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِيهِ إِذْ أَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ، فَجَازَ لِمُسْتَحِقِّهِ تَرْكُهُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.
وَنَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى نَدْبِ الْعَفْوِ وَاسْتِحْبَابِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} (2) قَال الْجَصَّاصُ: نَدَبَهُ إِلَى الْعَفْوِ وَالصَّدَقَةِ، وَلِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ إِلَيْهِ شَيْءٌ فِيهِ قِصَاصٌ إِلاَّ أَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ. (3)
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الْعَفْوُ إِحْسَانٌ وَالإِْحْسَانُ هُنَا أَفْضَل، وَاشْتُرِطَ أَلاَّ يَحْصُل بِالْعَفْوِ ضَرَرٌ، فَإِذَا حَصَل مِنْهُ ضَرَرٌ فَلاَ يُشْرَعُ.
__________
(1) سورة البقرة / 178.
(2) سورة المائدة / 45.
(3) حديث أنس " ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 637) وسكت عنه، وقال الشوكاني في نيل الأوطار (7 / 178) : وإسناده لا بأس به.

(30/174)


وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ الْعَفْوِ إِلاَّ فِي قَتْل الْغِيلَةِ، وَهُوَ الْقَتْل لأَِخْذِ الْمَال؛ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى الْحِرَابَةِ، وَالْمُحَارِبُ إِذَا قَتَل وَجَبَ قَتْلُهُ، وَلاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ؛ لأَِنَّ الْقَتْل لِدَفْعِ الْفَسَادِ فِي الأَْرْضِ، فَالْقَتْل هُنَا حَقٌّ لِلَّهِ لاَ لِلآْدَمِيِّ، وَعَلَى هَذَا يُقْتَل حَدًّا لاَ قَوَدًا (1) .

19 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُوجِبِ الْعَمْدِ فِي النَّفْسِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ فِي النَّفْسِ الْقِصَاصُ عَيْنًا، حَتَّى لاَ يَمْلِكَ وَلِيُّ الدَّمِ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ مِنَ الْقَاتِل مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَلَوْ مَاتَ الْقَاتِل أَوْ عَفَا الْوَلِيُّ سَقَطَ الْمُوجِبُ أَصْلاً.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةُ أَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ إِمَّا الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ أَحَدُهُمَا لاَ بِعَيْنِهِ، فَلِلْوَلِيِّ خِيَارُ التَّعْيِينِ، إِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ (2) .
وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مُوجِبَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 241، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 186، والفواكه الدواني 2 / 255، وروضة الطالبين 1 9 / 239، وكشاف القناع 5 / 543.
(2) بدائع الصنائع 10 / 4646، وحاشية الدسوقي 4 / 240، وبداية المجتهد 2 / 393، 394، روضة الطالبين 9 / 239، وكشاف القناع 5 / 543، والمغني 8 / 336.

(30/174)


الْقَتْل الْعَمْدِ هُوَ الْقَوَدُ وَأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عِنْدَ سُقُوطِهِ، وَلِلْوَلِيِّ الْعَفْوُ عَنِ الْقَوَدِ عَلَى الدِّيَةِ بِغَيْرِ رِضَا الْجَانِي (1) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (2) وَالْمَكْتُوبُ لاَ يُتَخَيَّرُ فِيهِ؛ وَلأَِنَّهُ مُتْلَفٌ يَجِبُ بِهِ الْبَدَل فَكَانَ بَدَلُهُ مُعَيَّنًا كَسَائِرِ أَبْدَال الْمُتْلَفَاتِ، وَحَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ سِنِّ الرُّبَيِّعِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ (3) فَعُلِمَ بِدَلِيل الْخِطَابِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ الْقِصَاصُ، وَلَمْ يُخَيِّرِ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَجِبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِي الْعَمْدِ الْقِصَاصُ (4) .
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 48، وروضة الطالبين 9 / 239.
(2) سورة البقرة / 178.
(3) حديث: " كتاب الله القصاص ". أخرجه البخاري (8 / 117) ، ومسلم (3 / 1302) من حديث أنس، واللفظ للبخاري.
(4) تفسير القرطبي 2 / 252، 253، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 185، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 66 - 69، وأحكام القرآن للكيا الهراس 1 / 87 - 91، وبدائع الصنائع 10 / 4633 - 4635، وبداية المجتهد 2 / 394، ومواهب الجليل 6 / 234، وروضة الطالبين 9 / 239 - 241، والقليوبي 4 / 126، والمغني لابن قدامة 8 / 344، 345.

(30/175)


فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (1) أَوْجَبَ الاِتِّبَاعَ بِمُجَرَّدِ الْعَفْوِ وَلَوْ أَوْجَبَ الْعَمْدَ بِالْقِصَاصِ عَيْنًا لَمْ تَجِبِ الدِّيَةُ عِنْدَ الْعَفْوِ الْمُطْلَقِ، فَيُخَيَّرُ الْوَلِيُّ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الْجَانِي لِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيل الْقِصَاصُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمُ الدِّيَةُ، فَأَنْزَل اللَّهُ هَذِهِ الآْيَةَ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} الآْيَةَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ قُتِل لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُودَى وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ (2) وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُول بِأَنَّ فِي الإِْلْزَامِ بِأَحَدِهِمَا عَلَى التَّعْيِينِ مَشَقَّةً، وَبِأَنَّ الْجَانِيَ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ فَلاَ يُعْتَبَرُ رِضَاهُ كَالْمُحَال عَلَيْهِ وَالْمَضْمُونِ عَنْهُ (3) .
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ نَفْسَ الْقَتِيل مَضْمُونَةٌ أَصْلاً بِالْقَوَدِ، وَالضَّمَانُ يَكُونُ بِجِنْسِ الْمُتْلَفِ فَكَانَ الْقَوَدُ هُوَ مُوجِبَ الْقَتْل الْعَمْدِ، فَإِنْ سَقَطَ الْجِنْسُ وَهُوَ الْقَوَدُ وَجَبَ الْبَدَل وَهُوَ الدِّيَةُ حَتَّى لاَ يَفُوتَ ضَمَانُ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ (4) .
__________
(1) سورة البقرة / 178.
(2) حديث: " من قتل له قتيل. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 205) ومسلم (2 / 989) .
(3) مغني المحتاج 4 / 48، وكشاف القناع 5 / 542.
(4) أسنى المطالب 4 / 43.

(30/175)


الْعَفْوُ عَنِ الْقَاتِل:
20 - إِذَا عَفَا وَلِيُّ الدَّمِ عَنِ الْقَاتِل مُطْلَقًا صَحَّ وَلَمْ تَلْزَمْهُ عُقُوبَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لأَِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاحِدٌ وَقَدْ أَسْقَطَهُ مُسْتَحِقُّهُ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ.
وَقَال مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالأَْوْزَاعِيُّ: يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ سَنَةً (1) .
وَإِذَا عَفَا وَلِيُّ الدَّمِ عَنِ الْقَوَدِ مُطْلَقًا، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ عَلَى الْجَانِي، وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا بِأَلاَّ يَظْهَرَ مِنْ وَلِيِّ الدَّمِ بِقَرَائِنِ الأَْحْوَال مَا يَدُل عَلَى إِرَادَةِ الدِّيَةِ عِنْدَ الْعَفْوِ؛ لأَِنَّ مُوجِبَ الْقَتْل الْعَمْدِ الْقِصَاصُ عَيْنًا، فَإِذَا سَقَطَ بِالْعَفْوِ لاَ تَجِبُ الدِّيَةُ؛ لأَِنَّ الْعَفْوَ إِسْقَاطُ ثَابِتٍ لاَ إِثْبَاتُ مَعْدُومٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ عَفَا مُطْلَقًا بِأَنْ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِقَوَدٍ وَلاَ دِيَةٍ فَلَهُ الدِّيَةُ لاِنْصِرَافِ الْعَفْوِ إِلَى الْقَوَدِ؛ لأَِنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الاِنْتِقَامِ، وَالاِنْتِقَامُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْقَتْل؛ وَلأَِنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ شَيْئَيْنِ، فَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ تَعَيَّنَتِ الدِّيَةُ،
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 257، والقوانين الفقهية ص227، والمغني 8 / 339.

(30/176)


وَإِذَا قَال وَلِيُّ الدَّمِ لِلْجَانِي: عَفَوْتُ عَنْكَ أَوْ عَنْ جِنَايَتِكَ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ (1)

عَفْوُ بَعْضِ الْمُسْتَحِقِّينَ:
21 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُسْتَحِقَّ الْقِصَاصِ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ فَعَفَا أَحَدُهُمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْقَاتِل؛ لأَِنَّهُ سَقَطَ نَصِيبُ الْعَافِي بِالْعَفْوِ فَيَسْقُطُ نَصِيبُ الآْخَرِ ضَرُورَةً؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَجَزَّأُ، إِذِ الْقِصَاصُ قِصَاصٌ وَاحِدٌ فَلاَ يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاءُ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الآْخَرِ مَالاً بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا أَوْجَبَا عِنْدَ عَفْوِ بَعْضِ الأَْوْلِيَاءِ عَنِ الْقِصَاصِ لِلَّذِينَ لَمْ يَعْفُوا عَنْهُ نَصِيبَهُمْ مِنَ الدِّيَةِ، (2) وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ أَنْكَرَ أَحَدٌ عَلَيْهِمَا فَيَكُونُ إِجْمَاعًا (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 247، وحاشية الدسوقي 4 / 240، ومغني المحتاج 4 / 48، و49، وكشاف القناع 5 / 544 و545.
(2) بدائع الصنائع 10 / 4648، 4649، والفواكه الدواني 2 / 256، روضة الطالبين 9 / 239، وكشاف القناع 5 / 534، والمغني 8 / 336.

(30/176)


وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ حَقٌّ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ مِنْ ذَوِي الأَْنْسَابِ وَالأَْسْبَابِ وَالرِّجَال وَالنِّسَاءِ وَالصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، فَمَنْ عَفَا مِنْهُمْ صَحَّ عَفْوُهُ وَسَقَطَ الْقِصَاصُ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: هَذَا قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، مِنْهُمْ عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالثَّوْرِيُّ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ثُبُوتُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ابْتِدَاءً لِكُل وَارِثٍ مِنْ ذَوِي الْفُرُوضِ وَالْعَصَبَةِ، وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْعَصَبَةِ الذُّكُورِ خَاصَّةً؛ لأَِنَّ الْقِصَاصَ لِرَفْعِ الْعَارِ فَاخْتَصَّ بِهِمْ كَوِلاَيَةِ النِّكَاحِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ الْوَارِثُونَ بِالنَّسَبِ دُونَ السَّبَبِ لاِنْقِطَاعِهِ بِالْمَوْتِ فَلاَ حَاجَةَ لِلتَّشَفِّي (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ مَنْ لَهُمُ الْعَفْوُ فِي الْجُمْلَةِ هُمُ الَّذِينَ لَهُمُ الْقِيَامُ بِالدَّمِ، وَإِنَّ الْمَقْتُول عَمْدًا إِذَا كَانَ لَهُ بَنُونَ بَالِغُونَ فَعَفَا أَحَدُهُمْ فَإِنَّ الْقِصَاصَ قَدْ بَطَل وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ، وَقَالُوا: لَيْسَ لِلْبَنَاتِ وَلاَ الأَْخَوَاتِ قَوْلٌ مَعَ الْبَنِينَ وَالإِْخْوَةِ فِي الْقِصَاصِ أَوْ ضِدِّهِ، وَلاَ يُعْتَبَرُ
__________
(1) حاشية رد المحتار 6 / 568، ومغني المحتاج 4 / 39، 40، والقليوبي 4 / 122، 122.

(30/177)


قَوْلُهُنَّ مَعَ الرِّجَال، وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ.
وَقَالُوا: إِنَّ حَقَّ النِّسَاءِ فِي الاِسْتِيفَاءِ مَشْرُوطٌ بِثَلاَثَةِ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُنَّ وَارِثَاتٍ، احْتِرَازًا عَنِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، وَأَنْ لاَ يُسَاوِيَهُنَّ عَاصِبٌ فِي الدَّرَجَةِ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ عَاصِبٌ أَصْلاً أَوْ يُوجَدْ أَنْزَل، كَعَمٍّ مَعَ بِنْتٍ أَوْ أُخْتٍ، فَخَرَجَتِ الْبِنْتُ مَعَ الاِبْنِ وَالأُْخْتُ مَعَ الأَْخِ، فَلاَ كَلاَمَ لَهَا مَعَهُ فِي عَفْوٍ وَلاَ قَوَدٍ، وَأَنْ يَكُنَّ عَصَبَتَهُ لَوْ كُنَّ ذُكُورًا، فَلاَ كَلاَمَ لِلْجَدَّةِ مِنَ الأُْمِّ، وَالأُْخْتِ مِنَ الأُْمِّ، وَالزَّوْجَةِ، فَإِنْ كُنَّ الْوَارِثَاتِ مَعَ عَاصِبٍ غَيْرِ مُسَاوٍ فَلَهُنَّ وَلَهُ الْقَوَدُ، قَالُوا: وَلاَ يُعْتَبَرُ عَفْوٌ إِلاَّ بِاجْتِمَاعِ الْفَرِيقَيْنِ أَوْ بِوَاحِدٍ مِنْ كُل فَرِيقٍ، كَالْبَنَاتِ مَعَ الإِْخْوَةِ سَوَاءٌ ثَبَتَ الْقَتْل بِبَيِّنَةٍ أَوْ قَسَامَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، كَأَنْ حُزْنَ الْمِيرَاثَ كَالْبِنْتِ مَعَهَا أُخْتٌ لِغَيْرِ أُمٍّ مَعَ الأَْعْمَامِ وَثَبَتَ قَتْل مُوَرِّثِهِنَّ بِقَسَامَةٍ مِنَ الأَْعْمَامِ، فَلِكُلٍّ الْقَتْل، وَلاَ عَفْوَ إِلاَّ بِاجْتِمَاعِهِمْ، فَلَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ فَلاَ كَلاَمَ لِلْعَصَبَةِ غَيْرِ الْوَارِثِينَ (1) .

عَفْوُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ:
22 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَقْتُول عَمْدًا إِذَا عَفَا قَبْل أَنْ يَمُوتَ اعْتُبِرَ عَفْوُهُ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ عَفَا الْمَجْرُوحُ بَعْدَ الْجَرْحِ قَبْل الْمَوْتِ جَازَ الْعَفْوُ اسْتِحْسَانًا،
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 256، والشرح الصغير 4 / 361، 362، وبداية المجتهد 2 / 395.

(30/177)


وَلاَ يَصِحُّ قِيَاسًا؛ لأَِنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْقَتْل يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْقَتْل، وَالْفِعْل لاَ يَصِيرُ قَتْلاً إِلاَّ بِفَوَاتِ الْحَيَاةِ عَنِ الْمَحَل وَلَمْ يُوجَدْ، فَالْعَفْوُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ. وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ: أَنَّ الْقَتْل إِنْ لَمْ يُوجَدْ لِلْحَال فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُودِهِ، وَهُوَ الْجُرْحُ الْمُفْضِي إِلَى فَوَاتِ الْحَيَاةِ، وَالسَّبَبُ الْمُفْضِي إِلَى الشَّيْءِ يُقَامُ مَقَامَ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي أُصُول الشَّرْعِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْمَقْتُول الْعَفْوُ عَنْ دَمِهِ بَعْدَ إِنْفَاذِ مَقْتَلِهِ وَقَبْل زُهُوقِ رُوحِهِ، قَال الْقَرَافِيُّ: لأَِنَّ لِلْقِصَاصِ سَبَبًا وَهُوَ إِنْفَاذُ الْمَقَاتِل وَشَرْطًا وَهُوَ زُهُوقُ الرُّوحِ، فَإِنْ عَفَا الْمَقْتُول عَنِ الْقِصَاصِ قَبْلَهُمَا لَمْ يُعْتَبَرْ عَفْوُهُ، وَعَفْوُهُ بَعْدَهُمَا مُتَعَذِّرٌ لِعَدَمِ الْحَيَاةِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَا بَيْنَهُمَا فَيَنْفُذُ إِجْمَاعًا (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قُطِعَ فَعُفِيَ عَنْ قَوَدِهِ وَأَرْشِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْرِ فَلاَ شَيْءَ، وَإِنْ سَرَى لِلنَّفْسِ فَلاَ قِصَاصَ فِي نَفْسٍ وَلاَ طَرَفٍ؛ لأَِنَّ السِّرَايَةَ تَوَلَّدَتْ مِنْ مَعْفُوٍّ عَنْهُ، فَصَارَتْ شُبْهَةً دَافِعَةً لِلْقِصَاصِ (3) .
__________
(1) درر الحكام شرح غرر الأحكام لمنلا خسرو 2 / 95، وبدائع الصنائع 7 / 248 و249.
(2) الفواكه الدواني 2 / 255، وشرح منجل الجليل 4 / 346، والشرح الصغير 4 / 335 و336.
(3) مغني المحتاج 4 / 50 و51، وشرح المحلى على منهاج الطالبين 4 / 127.

(30/178)


وَقَال ابْنُ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ عَلَيْهِ الدِّيَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً، قَال ابْنُ رُشْدٍ: قَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: لاَ يَلْزَمُ عَفْوُهُ، وَلِلأَْوْلِيَاءِ الْقِصَاصُ أَوِ الْعَفْوُ، وَمِمَّنْ قَال بِهِ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ عَفَا الْمَجْرُوحُ عَنْ قَاتِلِهِ بَعْدَ الْجَرْحِ صَحَّ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْعَفْوِ أَوِ الْوَصِيَّةِ أَوِ الإِْبْرَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ، فَصَحَّ بِكُل لَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ (2) .

عَفْوُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَمَّا دُونَ النَّفْسِ عَمْدًا
23 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ إِذَا قَال لِلْجَانِي: عَفَوْتُ عَنِ الْقَطْعِ أَوِ الْجِرَاحَةِ أَوِ الشَّجَّةِ أَوِ الضَّرْبَةِ، أَوْ قَال: عَفَوْتُ عَنِ الْجِنَايَةِ، فَإِنْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ صَحَّ الْعَفْوُ؛ لأَِنَّ الْعَفْوَ وَقَعَ عَنْ ثَابِتٍ وَهُوَ الْجِرَاحَةُ أَوْ مُوجِبُهَا وَهُوَ الأَْرْشُ فَيَصِحُّ الْعَفْوُ وَلاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي إِتْلاَفِ مَالِهِ فَلاَ ضَمَانَ بِإِتْلاَفِهِ (3) .
__________
(1) شرح منح الجليل لعليش 4 / 346، بداية المجتهد 2 / 395.
(2) كشاف القناع 5 / 546.
(3) بدائع الصنائع 1 / 4651، وشرح منح الجليل للشيخ عليش 4 / 347، وروضة الطالبين 9 / 242، 243، والمهذب 2 / 189، وكشاف القناع 5 / 246.

(30/178)


حُكْمُ السِّرَايَةِ:
24 - وَإِنْ سَرَى الْجُرْحُ إِلَى النَّفْسِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِل وَمَاتَ الْمُصَابُ، فَإِنْ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوْ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا صَحَّ بِالإِْجْمَاعِ وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْقَاتِل؛ لأَِنَّ لَفْظَ الْجِنَايَةِ يَتَنَاوَل الْقَتْل، وَكَذَا لَفْظُ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا، فَكَانَ ذَلِكَ عَفْوًا عَنِ الْقَتْل فَيَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ، وَفِي الاِسْتِحْسَانِ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَال الْقَاتِل. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَصِحُّ الْعَفْوُ وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْقَاتِل (1) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِيمَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ عَفَا ثُمَّ مَاتَ.
نَقَل الْحَطَّابُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ: إِنْ قَال: عَفَوْتُ عَنِ الْيَدِ، لاَ غَيْرُ، لاَ إِشْكَال، وَإِنْ قَال: عَنِ الْيَدِ وَمَا تَرَامَى إِلَيْهِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلاَ إِشْكَال، وَإِنْ قَال: عَفَوْتُ، فَقَطْ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَفَا عَمَّا وَجَبَ لَهُ فِي الْحَال وَهُوَ قَطْعُ الْيَدِ (2) .
وَعِنْدَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ فِي بَابِ الصُّلْحِ فِي حَقِّ الأَْوْلِيَاءِ - لاَ الْمَقْطُوعِ - إِذَا وَقَعَ
__________
(1) بدائع الصنائع 10 / 4651، 4652.
(2) مواهب الجليل 6 / 255، 256.

(30/179)


الصُّلْحُ عَلَى الْجُرْحِ دُونَ مَا تَرَامَى إِلَيْهِ وَهِيَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ لِلأَْوْلِيَاءِ أَنْ يُقْسِمُوا وَيَقْتُلُوا وَيُرَدُّ الْمَال وَيَبْطُل الصُّلْحُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمُ التَّمَسُّكُ بِالصُّلْحِ لاَ فِي الْخَطَأِ وَلاَ فِي الْعَمْدِ.
الثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَمْدِ فَيُخَيَّرُونَ فِيهِ، وَالْخَطَأِ فَلاَ يُخَيَّرُونَ وَلَيْسَ لَهُمُ التَّمَسُّكُ بِهِ.
(1) وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ قُطِعَ عُضْوُ شَخْصٍ فَعَفَا عَنْ مُوجِبِ الْجِنَايَةِ قَوَدًا أَوْ أَرْشًا فَلاَ قِصَاصَ فِي النَّفْسِ، كَمَا لاَ قِصَاصَ فِي الطَّرْفِ، وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَابْنِ سَلَمَةَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَدْخُل فِي الْعَفْوِ. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ عَفَا الْمَجْرُوحُ عَنْ قَاتِلِهِ بَعْدَ الْجَرْحِ صَحَّ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْعَفْوِ أَوِ الْوَصِيَّةِ أَوِ الإِْبْرَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ، فَصَحَّ بِكُل لَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ، فَإِنْ قَال وَلِيُّ الْجِنَايَةِ: عَفَوْتُ عَنِ الْجِنَايَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا صَحَّ الْعَفْوُ؛ لأَِنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِهِ وَلَمْ يَضْمَنِ الْجَانِي السِّرَايَةَ لِلْعَفْوِ عَنْهَا (3) .
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب، والتاج والإكليل للمواق على هامش الحطاب 5 / 86.
(2) روضة الطالبين 9 / 243، 244.
(3) كشاف القناع 5 / 546.

(30/179)


عَفْوُ الْوَلِيِّ بَعْدَ الْجَرْحِ وَقَبْل مَوْتِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ: 25 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا عَفَا الْوَلِيُّ عَنِ الْجَانِي بَعْدَ الْجَرْحِ قَبْل الْمَوْتِ فَالْقِيَاسُ أَلاَّ يَصِحَّ عَفْوُهُ، وَفِي الاِسْتِحْسَانِ يَصِحُّ، وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْقَتْل يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْقَتْل، وَالْفِعْل لاَ يَصِيرُ قَتْلاً إِلاَّ بِفَوَاتِ الْحَيَاةِ عَنِ الْمَحَل وَلَمْ يُوجَدْ، فَالْعَفْوُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَلَمْ يَصِحَّ.
أَمَّا الاِسْتِحْسَانُ فَلَهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجُرْحَ مَتَى اتَّصَلَتْ بِهِ السِّرَايَةُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلاً مِنْ حِينِ وُجُودِهِ. فَكَانَ عَفْوًا عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فَيَصِحُّ.
الثَّانِي: أَنَّ الْقَتْل إِنْ لَمْ يُوجَدْ لِلْحَال فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُودِهِ وَهُوَ الْجُرْحُ الْمُفْضِي إِلَى فَوَاتِ الْحَيَاةِ، وَالسَّبَبُ الْمُفْضِي إِلَى الشَّيْءِ يُقَامُ مَقَامَ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي أُصُول الشَّرْعِ؛ وَلأَِنَّهُ إِذَا وُجِدَ سَبَبُ وُجُودِ الْقَتْل كَانَ الشَّرْعُ تَعْجِيل الْحُكْمِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ (1)

عَفْوُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَنِ الْجِنَايَةِ الْخَطَأِ:
26 - إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً وَعَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، فَإِنْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ صَحَّ الْعَفْوُ
__________
(1) بدائع الصنائع 10 / 4650.

(30/180)


وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْجَانِي، سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوِ الْجِرَاحَةِ، وَسَوَاءٌ يَذْكُرُ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا أَمْ لَمْ يَذْكُرْ.
أَمَّا إِنْ سَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى النَّفْسِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوِ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا صَحَّ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْعَفْوُ فِي حَال صِحَّةِ الْمَجْرُوحِ بِأَنْ كَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَلَمْ يَصِرْ صَاحِبَ فِرَاشٍ، يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي حَال الْمَرَضِ بِأَنْ صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ، يُعْتَبَرُ عَفْوُهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ؛ لأَِنَّ الْعَفْوَ تَبَرُّعٌ مِنْهُ، وَتَبَرُّعُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ يُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْرُ الدِّيَةِ يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ سَقَطَ ذَلِكَ الْقَدْرُ عَنِ الْعَاقِلَةِ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَخْرُجُ كُلُّهُ مِنَ الثُّلُثِ فَثُلُثُهُ يَسْقُطُ عَنِ الْعَاقِلَةِ وَثُلُثَاهُ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا، لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ الْعَفْوُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: عَفْوُ الْمَقْتُول - وَلَوْ قَبْل إِنْفَاذِ شَيْءٍ مِنْ مَقَاتِلِهِ - عَنْ قَاتِلِهِ عَلَى وَجْهِ الْخَطَأِ جَائِزٌ، وَيَكُونُ مِنْهُ وَصِيَّةً بِالدِّيَةِ لِلْعَاقِلَةِ، فَتَكُونُ فِي ثُلُثِهِ، فَإِنْ حَمَلَهَا نَفَذَتْ قَهْرًا عَلَى الْوَرَثَةِ، مِثْل أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَلْفَانِ مِنَ الدَّنَانِيرِ وَدِيَتُهُ أَلْفٌ فَإِنَّ الدِّيَةَ تَسْقُطُ عَنْ عَاقِلَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 10 / 4652.

(30/180)


الْقَاتِل، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَالٌ سَقَطَ عَنِ الْقَاتِل مَعَ عَاقِلَتِهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، إِلاَّ أَنْ تُجِيزَ الْوَرَثَةُ الزَّائِدَ كَسَائِرِ الْوَصَايَا بِالْمَال (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا جَرَحَ حُرٌّ رَجُلاً خَطَأً فَعَفَا عَنْهُ ثُمَّ سَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى النَّفْسِ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ فِي قَتْل الْخَطَأِ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ابْتِدَاءً أَمْ عَلَى الْقَاتِل ثُمَّ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ؟ وَفِيهِ خِلاَفٌ، فَإِنْ قَال: عَفَوْتُ عَنِ الْعَاقِلَةِ، أَوْ: أَسْقَطْتُ الدِّيَةَ عَنْهُمْ، أَوْ قَال: عَفَوْتُ عَنِ الدِّيَةِ، فَهَذَا تَبَرُّعٌ عَلَى غَيْرِ الْقَاتِل فَيَنْفُذُ إِذَا وَفَّى الثُّلُثُ بِهِ، وَيُبَرَّءُونَ سَوَاءٌ جَعَلْنَاهُمْ مُتَأَصِّلِينَ أَمْ مُتَحَمِّلِينَ، وَإِنْ قَال لِلْجَانِي: عَفَوْتُ عَنْكَ، لَمْ يَصِحَّ. وَقِيل: إِنْ قُلْنَا: يُلاَقِيهِ الْوُجُوبُ ثُمَّ يُحْمَل عَنْهُ، صَحَّ، وَالْمَذْهَبُ الأَْوَّل؛ لأَِنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْوُجُوبِ يَنْتَقِل عَنْهُ فَيُصَادِفُهُ الْعَفْوُ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، هَذَا إِذَا ثَبَتَتِ الْجِنَايَةُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِاعْتِرَافِ الْعَاقِلَةِ، فَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ الْقَاتِل وَأَنْكَرَتِ الْعَاقِلَةُ فَالدِّيَةُ عَلَى الْقَاتِل، وَيَكُونُ الْعَفْوُ تَبَرُّعًا عَلَى الْقَاتِل فَفِيهِ الْخِلاَفُ. وَلَوْ عَفَا الْوَارِثُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَنِ الْعَاقِلَةِ أَوْ مُطْلَقًا صَحَّ، وَلَوْ عَفَا عَنِ الْجَانِي لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ صَحَّ (2) .
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 255، 256.
(2) روضة الطالبين 9 / 245.

(30/181)


وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا عَفَا وَلِيُّ الْجِنَايَةِ عَنِ الْجَرْحِ الْخَطَأِ اعْتُبِرَ خُرُوجُ الْجِنَايَةِ وَسِرَايَتُهَا مِنَ الثُّلُثِ كَالْوَصِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ سَقَطَ عَنِ الْجَانِي مِنْ دِيَةِ السِّرَايَةِ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ، وَإِنْ أَبْرَأَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْجَانِيَ مِنَ الدِّيَةِ أَوْ وَصَّى لَهُ بِهَا فَهُوَ وَصِيَّةٌ لِقَاتِلٍ، وَتَصِحُّ لِتَأَخُّرِهَا عَنِ الْجِنَايَةِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ وَصَّى لَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ.
وَتُعْتَبَرُ الْبَرَاءَةُ مِنَ الدِّيَةِ أَوِ الْوَصِيَّةُ بِهَا لِلْقَاتِل مِنَ الثُّلُثِ كَسَائِرِ الْعَطَايَا فِي الْمَرَضِ وَالْوَصَايَا.
وَإِنْ أَبْرَأَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَوْ وَارِثُهُ الْقَاتِل مِنَ الدِّيَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ لَمْ يَصِحَّ الإِْبْرَاءُ؛ لأَِنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْ حَقٍّ عَلَى غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ الدِّيَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الْقَاتِل، وَإِنْ أَبْرَأَ الْعَاقِلَةَ صَحَّ؛ لأَِنَّهُ أَبْرَأَهَا مِنْ حَقٍّ عَلَيْهَا كَالدَّيْنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا.
وَمَنْ صَحَّ عَفْوُهُ مَجَّانًا فَإِنْ أَوْجَبَ الْجُرْحُ مَالاً عَيْنِيًّا كَالْجَائِفَةِ وَجِنَايَةِ الْخَطَأِ فَكَوَصِيَّةٍ، يُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ؛ لأَِنَّهُ تَبَرُّعٌ بِمَالٍ (1)

عَفْوُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ:
27 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْعَافِي أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً بَالِغًا، فَلاَ يَصِحُّ الْعَفْوُ مِنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ ثَابِتًا لَهُمَا؛ لأَِنَّهُ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 546.

(30/181)


مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمُضِرَّةِ فَلاَ يَمْلِكَانِهِ (1) ، وَيَنْظُرُ لِلصِّغَارِ وَلِيُّهُمْ فِي الْقَوَدِ وَالْعَفْوِ عَلَى مَالٍ (2) .
وَلأَِبِي الْمَعْتُوهِ أَنْ يُقِيدَ مِنْ جَانِيهِ؛ لأَِنَّ لأَِبِيهِ وِلاَيَةً عَلَى نَفْسِهِ فَيَلِيهِمَا كَالإِْنْكَاحِ، وَيُصَالِحُ لأَِنَّهُ أَنْفَعُ لِلْمَعْتُوهِ مِنَ الاِسْتِيفَاءِ، فَلَمَّا مَلَكَ الاِسْتِيفَاءَ فَلأََنْ يَمْلِكَ الصُّلْحَ أَوْلَى، هَذَا إِذَا صَالَحَ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَإِلاَّ لاَ يَصِحُّ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَلاَ يَعْفُو؛ لأَِنَّهُ إِبْطَالٌ لِحَقِّهِ، وَلِلْوَصِيِّ الصُّلْحُ فَقَطْ؛ لأَِنَّ وِلاَيَةَ الْقِصَاصِ تَابِعَةٌ لِوِلاَيَةِ النَّفْسِ وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالأَْبِ، وَالصَّبِيُّ كَالْمَعْتُوهِ وَالْقَاضِي كَالأَْبِ فِي الأَْحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ (3) .
وَأَمَّا الْحَجْرُ لِلْفَلَسِ: فَلَوْ عَفَا الْمُفْلِسُ عَنِ الْقِصَاصِ سَقَطَ، وَأَمَّا الدِّيَةُ فَإِنْ قِيل: مُوجِبُ الْقَتْل أَحَدُ الأَْمْرَيْنِ، فَلَيْسَ لَهُ الْعَفْوُ عَنِ الْمَال، وَإِذَا تَعَيَّنَ الْمَال بِالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ دُفِعَ إِلَى غُرَمَائِهِ (4) .
وَعَفْوُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ، وَعَفْوُ الْوَرَثَةِ عَنِ الْقِصَاصِ مَعَ نَفْيِ الْمَال إِذَا كَانَ عَلَى
__________
(1) درر الحكام لمنلا خسرو 2 / 94، البدائع 10 / 4646، ومواهب الجليل للحطاب 6 / 252، وروضة الطالبين 9 / 242، والمغني 8 / 346.
(2) مواهب الجليل 6 / 252.
(3) درر الحكام 2 / 94، والهداية مع نتائج الأفكار 8 / 262، 263.
(4) روضة الطالبين 9 / 241.

(30/182)


التَّرِكَةِ دَيْنٌ أَوْ وَصِيَّةٌ كَعَفْوِ الْمُفْلِسِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ يَصِحُّ مِنْهُ إِسْقَاطُ الْقِصَاصِ وَاسْتِيفَاؤُهُ، وَفِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الدِّيَةِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُفْلِسِ عَلَى الأَْصَحِّ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - كَمَا قَال الْبُهُوتِيُّ - إِنْ كَانَ مُسْتَحِقُّ الْقِصَاصِ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا لَمْ يَجُزْ لآِخَرَ اسْتِيفَاؤُهُ، وَلَيْسَ لأَِبِيهِمَا اسْتِيفَاؤُهُ كَوَصِيٍّ وَحَاكِمٍ، فَإِنْ كَانَا مُحْتَاجَيْنِ إِلَى نَفَقَةٍ فَلِوَلِيِّ الْمَجْنُونِ الْعَفْوُ إِلَى الدِّيَةِ دُونَ وَلِيِّ الصَّغِيرِ نَصًّا؛ لأَِنَّ الْمَجْنُونَ لَيْسَ فِي حَالَةٍ مُعْتَادَةٍ يُنْتَظَرُ فِيهَا إِفَاقَتُهُ وَرُجُوعُ عَقْلِهِ، بِخِلاَفِ الصَّبِيِّ (2) .
أَمَّا الْمُفْلِسُ وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ فَيَصِحُّ عَفْوُهُمَا عَنِ الْقِصَاصِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَإِنْ أَرَادَ الْمُفْلِسُ الْقِصَاصَ لَمْ يَكُنْ لِغُرَمَائِهِ إِجْبَارُهُ عَلَى تَرْكِهِ، وَإِنْ أَحَبَّ الْمُفْلِسُ الْعَفْوَ عَنْهُ إِلَى مَالٍ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ فِيهِ حَظًّا لِلْغُرَمَاءِ، وَلاَ يَعْفُو مَجَّانًا؛ لأَِنَّ الْمَال وَاجِبٌ وَلَيْسَ لَهُ إِسْقَاطُهُ إِذَا قُلْنَا: الْوَاجِبُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ، وَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ الْقَوَدُ عَيْنًا، صَحَّ عَفْوُهُ عَنْهُ مَجَّانًا.
أَمَّا السَّفِيهُ وَوَارِثُ الْمُفْلِسِ وَالْمَرِيضُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَالْمَذْهَبُ صِحَّةُ الْعَفْوِ مِنْ هَؤُلاَءِ
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 242.
(2) كشاف القناع 5 / 533.

(30/182)


مَجَّانًا؛ لأَِنَّ الدِّيَةَ لَمْ تَتَعَيَّنْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُفْلِسِ (1)
الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى مَالٍ:
أ - فِي الْعَمْدِ:
28 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الصُّلْحُ عَلَى مَالٍ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ جَائِزٌ؛ لأَِنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ لِلْوَلِيِّ، وَلِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي حَقِّهِ اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا إِذَا كَانَ مِنْ أَهْل الإِْسْقَاطِ وَالْمَحَل قَابِلاً لِسُقُوطٍ، وَلِهَذَا يَتَمَلَّكُ فَيَمْلِكُ الصُّلْحَ؛ وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ - وَهُوَ الْحَيَاةُ - يَحْصُل بِهِ؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ عِنْدَ أَخْذِ الْمَال عَنْ صُلْحٍ وَتَرَاضٍ تَسْكُنُ الْفِتْنَةُ فَلاَ يَقْصِدُ الْوَلِيُّ قَتْل الْقَاتِل فَلاَ يَقْصِدُ الْقَاتِل قَتْلَهُ، فَيَحْصُل الْمَقْصُودُ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بِدُونِهِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (2) الآْيَةَ، قِيل: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَيَدُل عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ، وَسَوَاءٌ كَانَ بَدَل الصُّلْحِ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا مِنْ جِنْسِ الدِّيَةِ أَوْ مِنْ خِلاَفِ جِنْسِهَا، حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلاً بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ أَوْ مَجْهُولٍ جَهَالَةً مُتَفَاوِتَةً كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (3) .
__________
(1) كشاف القناع 5 / 544، والمغني 8 / 346، 347.
(2) سورة البقرة / 178.
(3) بدائع الصنائع 10 / 4655، والشرح الصغير 3 / 418، 4 / 368، 369، والمغني 4 / 442.

(30/183)


وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ عَفَا أَوْ صَالَحَ عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى مَالٍ قَبْل أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الدِّيَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الدِّيَةِ جَازَ، سَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَتُهُ بِقَدْرِ الدِّيَةِ أَمْ أَقَل أَوْ أَكْثَرَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ بِأَنْ صَالَحَ عَلَى مِائَتَيْنِ مِنَ الإِْبِل، فَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ أَحَدُ الأَْمْرَيْنِ، لَمْ يَصِحَّ كَالصُّلْحِ مِنْ أَلْفٍ عَلَى أَلْفَيْنِ، وَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ الْقَوَدُ بِعَيْنِهِ، صَحَّ عَلَى الأَْصَحِّ وَثَبَتَ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ يَقُول: الدِّيَةُ خِلْفَةً فَلاَ يُزَادُ عَلَيْهَا (1) .

ب - فِي الْخَطَأِ:
29 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ مِنَ الدِّيَةِ عَلَى أَكْثَرَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ؛ لأَِنَّ الْمَانِعَ مِنَ الْجَوَازِ هُنَا تَمَكُّنُ الرِّبَا (2)

عَفْوُ الْمُوَكِّل دُونَ عِلْمِ الْوَكِيل بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ:
30 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَوْ وَكَّل بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ ثُمَّ عَفَا فَاقْتَصَّ الْوَكِيل جَاهِلاً عَفْوَهُ فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ لِعُذْرِهِ، وَقَال
__________
(1) شرح الجلال المحلى على منهاج الطالبين 4 / 127، وروضة الطالبين 9 / 240 - 242.
(2) بدائع الصنائع 10 / 4655، والشرح الصغير 4 / 369، والمغني 4 / 442.

(30/183)


الشَّافِعِيَّةُ: الأَْظْهَرُ وُجُوبُ دِيَةٍ وَأَنَّهَا عَلَيْهِ لاَ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَتَكُونُ حَالَّةً فِي الأَْصَحِّ مُغَلَّظَةً فِي الْمَشْهُورِ وَهِيَ لِوَرَثَةِ الْجَانِي، وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْعَافِي؛ لأَِنَّهُ مُحْسِنٌ بِالْعَفْوِ، وَالثَّانِي يَقُول: نَشَأَ عَنْهُ الْغُرْمُ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ يَقُول: عَفْوُهُ بَعْدَ خُرُوجِ الأَْمْرِ مِنْ يَدِهِ لَغْوٌ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: لاَ يَجُوزُ التَّوْكِيل بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بِغَيْبَةِ الْمُوَكِّل؛ لأَِنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَشُبْهَةُ الْعَفْوِ ثَابِتَةٌ حَال غَيْبَتِهِ، بَل هُوَ الظَّاهِرُ لِلنَّدْبِ الشَّرْعِيِّ (2) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ قَال الْقَرَافِيُّ: إِذَا وَكَّل وَكِيلاً بِالْقِصَاصِ ثُمَّ عَفَا وَلَمْ يَعْلَمِ الْوَكِيل فَلِكُل مَنْ عَلِمَ بِالْعَفْوِ - وَلَوْ فَاسِقًا أَوْ مُتَّهَمًا - مَنْعُهُ إِذَا أَرَادَ الْقِصَاصَ وَلَوْ بِالْقَتْل دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الْقَتْل بِغَيْرِ حَقٍّ (3)

ثَانِيًا - الْعَفْوُ فِي الْحُدُودِ:
31 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْحَدَّ الْوَاجِبَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لاَ عَفْوَ فِيهِ وَلاَ شَفَاعَةَ وَلاَ إِسْقَاطَ إِذَا
__________
(1) شرح المحلى على منهاج الطالبين 4 / 129، وكشاف القناع 4 / 545، 546.
(2) درر الحكام شرح غرر الأحكام 2 / 94، وحاشية الشرنبلالي على درر الحكام الموسوم غنية ذوي الأحكام في بغية درر الحكام 2 / 94.
(3) الفروق 4 / 256، 257.

(30/184)


وَصَل إِلَى الْحَاكِمِ وَثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَيْ: (حَدّ وَتَعْزِير) .
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ حَدَّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْقَذْفِ.
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ حَدَّ الزِّنَا وَالسُّكْرِ وَالسَّرِقَةِ لاَ يَحْتَمِل الْعَفْوَ أَوِ الصُّلْحَ أَوِ الإِْبْرَاءَ بَعْدَمَا ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ؛ لأَِنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، لاَ حَقَّ لِلْعَبْدِ فِيهِ فَلاَ يَمْلِكُ إِسْقَاطَهُ، وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ إِذَا ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ فَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ أَوِ الإِْبْرَاءُ أَوِ الصُّلْحُ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَفَا الْمَقْذُوفُ قَبْل الْمُرَافَعَةِ أَوْ صَالَحَ عَلَى مَالٍ فَذَلِكَ بَاطِلٌ وَيَرُدُّ بَدَل الصُّلْحِ (1) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ كَمَا قَال أَصْبَغُ: سَمِعْتُ ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُول: لاَ يَجُوزُ عَفْوُ أَحَدٍ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَ أَنْ يَبْلُغَ الإِْمَامَ إِلاَّ ابْنٌ فِي أَبِيهِ وَالَّذِي يُرِيدُ سَتْرًا، وَقَدْ قَال مَالِكٌ: إِذَا زَعَمَ الْمَقْذُوفُ أَنَّهُ يُرِيدُ سَتْرًا فَعَفَا إِنْ بَلَغَ الإِْمَامَ لَمْ يُقْبَل ذَلِكَ حَتَّى يَسْأَل عَنْهُ سِرًّا، فَإِنْ خَشِيَ أَنْ يُثْبِتَ الْقَاذِفُ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَجَازَ عَفْوَهُ، وَإِنْ أُمِنَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ عَفْوُهُ (2) ،
__________
(1) بدائع الصنائع 9 / 4201، 4203.
(2) المنتقى للباجي 7 / 146 - 148، 164، 165، وتهذيب الفروق 4 / 204 - 208، والفواكه الدواني 2 / 295.

(30/184)


أَمَّا قَبْل بُلُوغِ الإِْمَامِ فَجَائِزٌ عِنْدَ مَالِكٍ الْعَفْوُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ وَابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَرَوَى أَشْهَبُ أَنَّهُ لَيْسَ بِلاَزِمٍ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ بِصِحَّةِ الْعَفْوِ فِيهِ؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ فَيَسْقُطُ بِالْعَفْوِ عَنْهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ مِثْل أَبِي ضَمْضَمٍ كَانَ إِذَا أَصْبَحَ قَال: تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي (2) وَالتَّصَدُّقُ بِالْعِرْضِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالْعَفْوِ عَمَّا يَجِبُ لَهُ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ خِلاَفَ أَنَّهُ لاَ يُسْتَوْفَى إِلاَّ بِمُطَالَبَتِهِ فَكَانَ لَهُ الْعَفْوُ كَالْقِصَاصِ (3)

ثَالِثًا - الْعَفْوُ فِي التَّعْزِيرِ:
32 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَفْوِ فِي التَّعْزِيرِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ لِلإِْمَامِ الْعَفْوَ فِي التَّعْزِيرِ الْوَاجِبِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، بِخِلاَفِ مَا كَانَ لِجِنَايَةٍ
__________
(1) المنتقى 7 / 148.
(2) حديث: " أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 199) ، وذكر الذهبي في الميزان (2 / 275) تضعيف أحد رواته.
(3) المهذب 2 / 274، وكشاف القناع 6 / 105، والأحكام السلطانية للماوردي ص 237، والأحكام السلطانية لأبي يعلى 266.

(30/185)


عَلَى الْعَبْدِ فَإِنَّ الْعَفْوَ فِيهِ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ (1) ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْحَقُّ لِلَّهِ وَجَبَ كَالْحُدُودِ، إِلاَّ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّ الإِْمَامِ أَنَّ غَيْرَ الضَّرْبِ مِنَ الْمَلاَمَةِ وَالْكَلاَمِ مَصْلَحَةٌ، وَقَال الْقَرَافِيُّ: يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنِ التَّعْزِيرِ وَالشَّفَاعَةِ فِيهَا إِذَا كَانَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ حَقِّ الآْدَمِيِّ وَانْفَرَدَ بِهِ حَقُّ السَّلْطَنَةِ كَانَ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ مُرَاعَاةُ حُكْمِ الأَْصْلَحِ فِي الْعَفْوِ وَالتَّعْزِيرِ (2) .
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ: إِنَّ الْحَدَّ لاَ يَجُوزُ فِيهِ الْعَفْوُ وَالشَّفَاعَةُ، لَكِنْ يَجُوزُ فِي التَّعْزِيرِ الْعَفْوُ عَنْهُ وَتَسُوغُ الشَّفَاعَةُ فِيهِ، فَإِنْ تَفَرَّدَ التَّعْزِيرُ بِحَقِّ السَّلْطَنَةِ وَحُكْمِ التَّقْوِيمِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ جَازَ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يُرَاعِيَ الأَْصْلَحَ فِي الْعَفْوِ أَوِ التَّعْزِيرِ، وَجَازَ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ مَنْ سَأَل الْعَفْوَ عَنِ الذَّنْبِ، رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ (3) وَلَوْ تَعَلَّقَ بِالتَّعْزِيرِ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ كَالتَّعْزِيرِ فِي الشَّتْمِ وَالْمُوَاثَبَةِ فَفِيهِ حَقٌّ لِلْمَشْتُومِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 53 - 54.
(2) مواهب الجليل 6 / 320.
(3) حديث: " اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 299) من حديث أبي موسى.

(30/185)


وَالْمَضْرُوبِ، وَحَقُّ السَّلْطَنَةِ لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّهْذِيبِ فَلاَ يَجُوزُ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يُسْقِطَ بِعَفْوٍ حَقَّ الْمَشْتُومِ وَالْمَضْرُوبِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ لَهُ حَقَّهُ مِنْ تَعْزِيرِ الشَّاتِمِ وَالضَّارِبِ، فَإِنْ عَفَا الْمَضْرُوبُ وَالْمَشْتُومُ كَانَ وَلِيُّ الأَْمْرِ بَعْدَ عَفْوِهِمَا عَلَى خِيَارِهِ فِي فِعْل الأَْصْلَحِ مِنَ التَّعْزِيرِ تَقْوِيمًا وَالصَّفْحِ عَنْهُ عَفْوًا، فَإِنْ تَعَافَوْا عَنِ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ قَبْل التَّرَافُعِ إِلَيْهِ سَقَطَ التَّعْزِيرُ لآِدَمِيٍّ، وَاخْتُلِفَ فِي سُقُوطِ حَقِّ السَّلْطَنَةِ عَنْهُ وَالتَّقْوِيمِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْقُطُ، وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يُعَزِّرَ فِيهِ قِيَاسًا عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ وَهُوَ يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ.
وَالثَّانِي، وَهُوَ الأَْظْهَرُ أَنَّ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يُعَزِّرَ فِيهِ قَبْل التَّرَافُعِ إِلَيْهِ، كَمَا يَجُوزُ فِيهِ مَعَ الْعَفْوِ بَعْدَ التَّرَافُعِ إِلَيْهِ، وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي يَعْلَى الْفَرَّاءِ (1) .

وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَعْزِير ف 57)

عُقَاب

انْظُرْ: أَطْعِمَة
__________
(1) الماوردي الأحكام السلطانية 237، والأحكام السلطانية للفراء ص281، 282.

(30/186)