الموسوعة الفقهية الكويتية

عَقَار

التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَقَارُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي اللُّغَةِ: كُل مَا لَهُ أَصْلٌ وَقَرَارٌ ثَابِتٌ كَالأَْرْضِ وَالدَّارِ وَالضِّيَاعِ وَالنَّخْل، وَقَال بَعْضُهُمْ: رُبَّمَا أُطْلِقَ عَلَى مَتَاعِ الْبَيْتِ، يُقَال: مَا لَهُ دَارٌ وَلاَ عَقَارٌ، أَيْ نَخْلٌ، وَفِي الْبَيْتِ عَقَارٌ حَسَنٌ، أَيْ مَتَاعٌ وَأَدَاةٌ، وَالْجَمْعُ عَقَارَاتٌ، وَالْعَقَارُ مِنْ كُل شَيْءٍ: خِيَارُهُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الثَّابِتُ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ نَقْلُهُ وَتَحْوِيلُهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ، مِثْل الأَْرْضِ وَالدَّارِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمَنْقُول:
2 - الْمَنْقُول: هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُمْكِنُ نَقْلُهُ مِنْ مَحَلٍّ إِلَى آخَرَ، فَيَشْمَل النُّقُودَ وَالْعُرُوضَ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ (3) .
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) مجلة الأحكام (م 129) .
(3) مجلة الأحكام (م 128) .

(30/186)


وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْمَنْقُول هُوَ مَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ مَعَ بَقَاءِ هَيْئَتِهِ وَصُورَتِهِ الأُْولَى، أَيْ مَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ بِدُونِ أَنْ تَتَغَيَّرَ صُورَتُهُ، كَالْعُرُوضِ التِّجَارِيَّةِ مِنْ أَمْتِعَةٍ وَسِلَعٍ وَأَدَوَاتٍ وَكُتُبٍ وَسَيَّارَاتٍ وَثِيَابٍ وَنَحْوِهَا.

ب - الشَّجَرُ:
3 - جَاءَ فِي الْقَامُوسِ: الشَّجَرُ مَا قَامَ عَلَى سَاقٍ أَوْ مَا سَمَا بِنَفْسِهِ دَقَّ أَوْ جَل قَاوَمَ الشِّتَاءَ أَوْ عَجَزَ عَنْهُ.
وَفِي الْمِصْبَاحِ: الشَّجَرُ هُوَ مَا لَهُ سَاقٌ صُلْبٌ يَقُومُ بِهِ، كَالنَّخْل وَغَيْرِهِ، وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ فِيمَا لَهُ سَاقٌ وَلاَ يُقْطَعُ أَصْلُهُ، وَعَرَّفَهُ الأَْبِيُّ فِي الْمُسَاقَاةِ بِمَا كَانَ ذَا أَصْلٍ ثَابِتٍ تُجْنَى ثَمَرَتُهُ وَتَبْقَى أُصُولُهُ (1)

ج - الْبِنَاءُ:
4 - الْبِنَاءُ: وَضْعُ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ عَلَى صِفَةٍ يُرَادُ بِهَا الثُّبُوتُ (2)

ثَمَرَةُ قِسْمَةِ الْمَال إِلَى عَقَارٍ وَمَنْقُولٍ:
5 - تَظْهَرُ فَائِدَةُ قِسْمَةِ الْمَال إِلَى عَقَارٍ وَمَنْقُولٍ فِيمَا يَأْتِي:
__________
(1) المصباح المنير، والقاموس المحيط، وحاشية ابن عابدين 4 / 35، و5 / 283، وجواهر الإكليل 2 / 178، والقليوبي 2 / 141.
(2) الكليات 1 / 417.

(30/187)


أ - الشُّفْعَةُ: فَإِنَّهَا عَلَى قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ فِي الْعَقَارِ الْمَبِيعِ، أَمَّا الْمَنْقُول فَلاَ تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِذَا بِيعَ اسْتِقْلاَلاً، وَتَثْبُتُ فِيهِ إِذَا بِيعَ تَبَعًا لِلْعَقَارِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (شُفْعَة ف 24 - 25)

ب - الْوَقْفُ: لاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ وَقْفِ الْعَقَارِ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ وَقْفِ الْمَنْقُول، فَأَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَقْفَ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُول عَلَى السَّوَاءِ (2) وَلَمْ يُجِزْهُ الْحَنَفِيَّةُ إِلاَّ تَبَعًا لِلْعَقَارِ، أَوْ كَانَ مُتَعَارَفًا وَقْفَهُ كَالْكُتُبِ وَنَحْوِهَا، أَوْ وَرَدَ بِصِحَّةِ وَقْفِهِ أَثَرٌ عَنِ السَّلَفِ كَوَقْفِ الْخَيْل وَالسِّلاَحِ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (وَقْف)

ج - بَيْعُ عَقَارِ الْقَاصِرِ:
لاَ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ بَيْعُ عَقَارِ الْقَاصِرِ إِلاَّ بِمُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ يُجِيزُ لَهُ ذَلِكَ وَبِإِذْنِ الْقَاضِي، كَإِيفَاءِ دَيْنٍ أَوْ دَفْعِ حَاجَةٍ ضَرُورِيَّةٍ، أَوْ وُجُودِ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ؛ لأَِنَّ بَقَاءَ عَيْنِ الْعَقَارِ فِيهِ حِفْظُ مَصْلَحَةِ الْقَاصِرِ أَكْثَرَ مِنْ حِفْظِ ثَمَنِهِ، وَلَكِنْ لِلْوَصِيِّ
__________
(1) المبسوط 14 / 95، وبدائع الصنائع 6 / 270، ونهاية المحتاج 5 / 193، ومغني المحتاج 2 / 296، والمغني 5 / 463 - 465.
(2) الدسوقي 4 / 76 - 77، ومغني المحتاج 2 / 377.
(3) فتح القدير 5 / 49 ط. بولاق.

(30/187)


أَنْ يَبِيعَ الْمَنْقُول إِذَا رَأَى مَصْلَحَةً فِي بَيْعِهِ (1) .

د - مَال الْمَدِينِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ:
يُبْدَأُ أَوَّلاً بِبَيْعِ الْمَنْقُول لِوَفَاءِ دَيْنِ الْمَدِينِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ، ثُمَّ يُبَاعُ الْعَقَارُ إِذَا لَمْ يَفِ ثَمَنُ الْمَنْقُول بِالدَّيْنِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ رِعَايَةِ مَصْلَحَةِ الْمَدِينِ (2) .

هـ - بَيْعُ الشَّيْءِ قَبْل قَبْضِهِ: يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ بَيْعُ الشَّيْءِ الْمُشْتَرَى مِنَ الْعَقَارَاتِ قَبْل قَبْضِهِ أَوْ تَسَلُّمِهِ مِنَ الْبَائِعِ، بِخِلاَفِ الْمَنْقُول لِتَعَرُّضِهِ لِلْهَلاَكِ كَثِيرًا، بِعَكْسِ الْعَقَارِ، وَلَمْ يُجِزْ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ التَّصَرُّفَ فِي الْعَقَارِ قَبْل الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ (3)

و حُقُوقُ الْجِوَارِ وَالاِرْتِفَاقِ:
تَتَعَلَّقُ هَذِهِ الْحُقُوقُ بِالْعَقَارِ دُونَ الْمَنْقُول.
ر: (ارْتِفَاق ف 10، جِوَار ف 3) .

ز - الْغَصْبُ:
لاَ يُتَصَوَّرُ غَصْبُ الْعَقَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، إِذْ لاَ يُمْكِنُ نَقْلُهُ وَتَحْوِيلُهُ، وَيَرَى مُحَمَّدٌ وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ إِمْكَانَ غَصْبِ الْعَقَارِ، أَمَّا الْمَنْقُول فَيُتَصَوَّرُ غَصْبُهُ اتِّفَاقًا (4)
__________
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 9 / 625 نشر دار الكتب العلمية.
(2) المغني لابن قدامة 4 / 492.
(3) تبيين الحقائق 4 / 79 - 80، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 212.
(4) الاختيار لتعليل المختار 3 / 58، والمغني 5 / 241.

(30/188)


تَحَوُّل الْعَقَارِ إِلَى مَنْقُولٍ وَبِالْعَكْسِ:
6 - قَدْ يَتَحَوَّل الْعَقَارُ إِلَى مَنْقُولٍ، كَالأَْجْزَاءِ الَّتِي تَنْفَصِل عَنِ الأَْرْضِ أَوْ تُسْتَخْرَجُ مِنْهَا، كَالْمَعَادِنِ الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنَ الْمَنَاجِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَنْقَاضِ الْبِنَاءِ الْمَهْدُومِ، وَكُل ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ فَصْلِهِ عَنِ الأَْرْضِ تَزُول عَنْهُ صِفَةُ الْعَقَارِ وَأَحْكَامُهُ، وَيُصْبِحُ فِي عِدَادِ الْمَنْقُولاَتِ وَتُطَبَّقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُهَا.
وَقَدْ يَحْدُثُ الْعَكْسُ وَهُوَ تَحَوُّل الْمَنْقُول إِلَى عَقَارٍ، بِأَنْ صَارَ الْمَنْقُول تَبَعًا لِلْعَقَارِ، فَيَأْخُذُ حُكْمَهُ، جَاءَ فِي الْمَجَلَّةِ مَا يَأْتِي: (تَوَابِعُ الْمَبِيعِ الْمُتَّصِلَةُ الْمُسْتَقِرَّةُ تَدْخُل فِي الْبَيْعِ تَبَعًا بِدُونِ ذِكْرٍ) ، مَثَلاً إِذَا بِيعَتْ دَارٌ دَخَل فِي الْبَيْعِ الأَْقْفَال الْمُسَمَّرَةُ وَالدَّوَالِيبُ - أَيِ الْخِزَنُ الْمُسْتَقِرَّةُ - وَالرُّفُوفُ الْمُسَمَّرَةُ الْمُعَدَّةُ لِوَضْعِ فُرُشٍ، وَالْبُسْتَانُ الَّذِي هُوَ دَاخِل حُدُودِ الدَّارِ، وَالطُّرُقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الطَّرِيقِ الْعَامِّ، أَوِ الدَّاخِلَةُ الَّتِي لاَ تَنْفُذُ. وَفِي بَيْعِ الْعَرْصَةِ تَدْخُل الأَْشْجَارُ الْمَغْرُوسَةُ عَلَى أَنْ تَسْتَقِرَّ؛ لأَِنَّ جَمِيعَ الْمَذْكُورَاتِ لاَ تُفْصَل عَنِ الْمَبِيعِ، فَتَدْخُل فِي الْبَيْعِ بِدُونِ ذِكْرٍ وَلاَ تَصْرِيحٍ (1) .
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية م 232.

(30/188)


أَحْكَامُ الْعَقَارِ:.
لِلْعَقَارِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ الْمُخْتَلِفَةِ، أَهَمُّهَا:
الصَّلاَةُ فِي الأَْرْضِ الْمَغْصُوبَةِ:
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ فِي الأَْرْضِ الْمَغْصُوبَةِ حَرَامٌ؛ لأَِنَّ اللُّبْثَ فِيهَا يَحْرُمُ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ، فَلأََنْ يَحْرُمَ فِي الصَّلاَةِ أَوْلَى (1)
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ الصَّلاَةِ فِي الْمَكَانِ الْمَغْصُوبِ عَلَى رَأْيَيْنِ:
فَقَال الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) : الصَّلاَةُ صَحِيحَةٌ؛ لأَِنَّ النَّهْيَ لاَ يَعُودُ إِلَى مَاهِيَّةِ الصَّلاَةِ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّتَهَا، كَمَا لَوْ صَلَّى وَهُوَ يَرَى غَرِيقًا يُمْكِنُهُ إِنْقَاذُهُ فَلَمْ يُنْقِذْهُ، أَوْ حَرِيقًا يَقْدِرُ عَلَى إِطْفَائِهِ فَلَمْ يُطْفِئْهُ، أَوْ مَطَل غَرِيمَهُ الَّذِي يُمْكِنُ إِيفَاؤُهُ وَصَلَّى، وَيَسْقُطُ بِهَا الْفَرْضُ مَعَ الإِْثْمِ، وَيَحْصُل بِهَا الثَّوَابُ، فَيَكُونُ مُثَابًا عَلَى فِعْلِهِ عَاصِيًا بِمُقَامِهِ، وَإِثْمُهُ لِلْمُكْثِ فِي مَكَانٍ مَغْصُوبٍ.
وَيَصِفُ عُلَمَاءُ الأُْصُول مِنَ الْجُمْهُورِ هَذِهِ الصَّلاَةَ بِأَنَّهَا فِعْلٌ لَهُ جِهَتَانِ: كَوْنُهُ صَلاَةً وَكَوْنُهُ غَصْبًا، لَكِنَّ الْجِهَتَيْنِ غَيْرُ مُتَلاَزِمَتَيْنِ؛
__________
(1) بدائع الصنائع 9 / 116، والمجموع 2 / 169، والمغني 4 / 112، 1 / 588 و2 / 74 وكشاف القناع 1 / 270.

(30/189)


لأَِنَّهُمَا وَإِنِ اجْتَمَعَتَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَإِنَّ انْفِرَادَهُمَا مُمْكِنٌ وَمُتَصَوَّرٌ، فَالْغَصْبُ يَنْفَرِدُ عَنِ الصَّلاَةِ بِأَنْ يَشْغَل الْمَكَانَ بِأَيِّ عَمَلٍ آخَرَ، وَالصَّلاَةُ تَنْفَرِدُ عَنِ الْغَصْبِ بِأَنْ تُؤَدَّى فِي مَكَانٍ آخَرَ، وَبِنَاءً عَلَيْهِ يَكُونُ اجْتِمَاعُ الإِْيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ فِي هَذَا الْفِعْل جَائِزًا، فَهَذِهِ الصَّلاَةُ وَاجِبَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا صَلاَةٌ، وَحَرَامٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا غَصْبٌ شَامِلٌ لِمِلْكِ الْغَيْرِ، وَلاَ تَنَافِيَ لِعَدَمِ الاِتِّحَادِ بَيْنَ مُتَعَلِّقِ الإِْيجَابِ الَّذِي هُوَ الصَّلاَةُ وَمُتَعَلِّقِ التَّحْرِيمِ الَّذِي هُوَ الْغَصْبُ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ صَحِيحَةٌ وَيُثَابُ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارٍ، وَحَرَامٌ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارٍ آخَرَ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ فِي الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ، وَلَوْ كَانَ جُزْءًا مُشَاعًا؛ لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ أَتَى بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَلَمْ تَصِحَّ كَصَلاَةِ الْحَائِضِ وَصَوْمِهَا، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْفِعْل وَاجْتِنَابَهُ وَالتَّأْثِيمَ بِفِعْلِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُطِيعًا بِمَا هُوَ عَاصٍ بِهِ، مُمْتَثِلاً بِمَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، مُتَقَرِّبًا بِمَا يَبْعُدُ بِهِ؟ فَإِنَّ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ مِنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْعَالٌ
__________
(1) مسلم الثبوت 1 / 67، والتلويح على التوضيح 1 / 217، ومرآة الأصول 1 / 328، والفروق للقرافي 2 / 85، والإحكام للآمدي 1 / 59، وشرح المحلى على جمع الجوامع 1 / 143.

(30/189)


اخْتِيَارِيَّةٌ، وَهُوَ عَاصٍ بِهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَيَخْتَلِفُ الأَْمْرُ عَنْ إِنْقَاذِ الْغَرِيقِ وَإِطْفَاءِ الْحَرِيقِ؛ لأَِنَّ أَفْعَال الصَّلاَةِ فِي نَفْسِهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا.
وَلَكِنْ يَصِحُّ لَدَى الْحَنَابِلَةِ الْوُضُوءُ وَالأَْذَانُ وَإِخْرَاجُ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمُ وَالْعُقُودُ كَالْبَيْعِ وَالزَّوَاجِ وَغَيْرِهِمَا، وَالْفُسُوخُ كَالطَّلاَقِ وَالْخُلْعِ فِي مَكَانٍ مَغْصُوبٍ؛ لأَِنَّ الْبُقْعَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهَا، بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ.
وَتَصِحُّ الصَّلاَةُ عِنْدَهُمْ فِي بُقْعَةٍ أَبْنِيَتُهَا غَصْبٌ، وَلَوِ اسْتَنَدَ إِلَى الأَْبْنِيَةِ لإِِبَاحَةِ الْبُقْعَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الصَّلاَةِ، وَتَصِحُّ صَلاَةُ مَنْ طُولِبَ بِرَدِّ وَدِيعَةٍ أَوْ رَدِّ غَصْبٍ قَبْل دَفْعِهَا إِلَى صَاحِبِهَا وَلَوْ بِلاَ عُذْرٍ؛ لأَِنَّ التَّحْرِيمَ لاَ يَخْتَصُّ بِالصَّلاَةِ وَلَوْ صَلَّى عَلَى أَرْضِ غَيْرِهِ وَلَوْ كَانَتْ مَزْرُوعَةً بِلاَ ضَرَرٍ وَلاَ غَصْبٍ، أَوْ صَلَّى عَلَى مُصَلاَّهُ بِلاَ غَصْبٍ وَلاَ ضَرَرٍ، جَازَ وَصَحَّتْ صَلاَتُهُ، وَإِنْ صَلَّى فِي غَصْبٍ مِنْ بُقْعَةٍ أَوْ غَيْرِهَا جَاهِلاً أَوْ نَاسِيًا كَوْنَهُ غَصْبًا صَحَّتْ صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ آثِمٍ، وَإِذَا حُبِسَ فِي مَكَانٍ غُصِبَ صَحَّتْ صَلاَتُهُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (1) .
__________
(1) حديث: " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 659) ، والحاكم (2 / 198) من حديث ابن عباس وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(30/190)


وَيَرَى أُصُولِيُّو الْحَنَابِلَةِ وَالْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ الْجِهَتَيْنِ فِي هَذَا الْفِعْل (الصَّلاَةِ فِي الأَْرْضِ الْمَغْصُوبَةِ) مُتَلاَزِمَتَانِ؛ لأَِنَّ الْحَاصِل مِنَ الْمُصَلِّي فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ أَفْعَالٌ اخْتِيَارِيَّةٌ بِهَا يَتَحَقَّقُ الْغَصْبُ فَتَكُونُ حَرَامًا، وَهَذِهِ الأَْفْعَال بِعَيْنِهَا جُزْءٌ مِنْ حَقِيقَةِ الصَّلاَةِ، إِذْ هِيَ عِبَادَةٌ ذَاتُ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ، وَالصَّلاَةُ الَّتِي جُزْؤُهَا حَرَامٌ لاَ تَكُونُ وَاجِبَةً، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ تَكُونُ صَحِيحَةً وَلاَ يَسْقُطُ بِهَا الطَّلَبُ (1) .

8 - أَمَّا الصَّلاَةُ فِي الأَْرْضِ الْمَسْخُوطِ عَلَيْهَا: (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى) فَصَحِيحَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، (2) كَأَرْضِ الْخَسْفِ، وَكُل بُقْعَةٍ نَزَل فِيهَا عَذَابٌ، كَأَرْضِ بَابِل، وَأَرْضِ الْحِجْرِ (3) ، وَمَسْجِدِ الضِّرَارِ (4) ، لَكِنْ تُكْرَهُ الصَّلاَةُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ (5) ؛ لأَِنَّهَا مَسْخُوطٌ عَلَيْهَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ مَرَّ بِالْحِجْرِ: لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا
__________
(1) روضة الناظر 1 / 126 وما بعدها، المعتمد لأبي الحسين البصري 1 / 195.
(2) تفسير القرطبي 10 / 47.
(3) أرض الحجر: ديار ثمود بين المدينة والشام، وهم قوم صالح عليه السلام.
(4) هو مسجد بناه المنافقون، مجاور لمسجد قباء في المدينة المنورة ليكون مركزًا للمؤامرات وفيه نزلت الآيات:] والذين اتخذوا مسجدًا ضرار وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين. . [الآية: 107 من سورة التوبة.
(5) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص197.

(30/190)


بَاكِينَ؛ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْل مَا أَصَابَهُمْ. (1)

زَكَاةُ الْعَقَارِ.
9 - لاَ زَكَاةَ عَلَى الْحَوَائِجِ الأَْصْلِيَّةِ مِنْ ثِيَابِ الْبَدَنِ وَالأَْمْتِعَةِ وَالْعَقَارِ مِنْ أَرَاضٍ وَدُورِ سُكْنَى وَحَوَانِيتَ، بَل وَلَوْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَيْهَا إِذَا لَمْ يَنْوِ بِهَا التِّجَارَةَ؛ لأَِنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ الأَْصْلِيَّةِ إِذْ لاَ بُدَّ مِنْ دَارٍ يَسْكُنُهَا وَلَيْسَتْ بِنَامِيَةٍ أَصْلاً، فَلاَ بُدَّ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَال نَامِيًا، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ حَقِيقَةَ النَّمَاءِ، وَإِنَّمَا كَوْنُ الْمَال مُعَدًّا لِلاِسْتِنْمَاءِ إِمَّا خِلْقِيًّا كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، أَوْ بِالإِْعْدَادِ لِلتِّجَارَةِ، أَوْ بِالسَّوْمِ أَيِ الرَّعْيِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (2) .
10 - وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ عَلَى الْمُسْتَغَلاَّتِ مِنْ عِمَارَاتٍ وَمَصَانِعَ وَمَبَانٍ وَدُورٍ وَأَرَاضٍ بِأَعْيَانِهَا وَلاَ عَلَى غَلاَّتِهَا مَا لَمْ يَحُل عَلَيْهَا الْحَوْل.
لَكِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ - مِنْهُمُ ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ - يَرَوْنَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْمُسْتَغَل مِنْ
__________
(1) تفسير ابن كثير 2 / 556. وحديث: " لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 124) ، ومسلم (4 / 2285 - 2286) من حديث ابن عمر واللفظ للبخاري.
(2) فتح القدير 1 / 487 وما بعدها، والدر المختار 2 / 5 - 11، والشرح الكبير 1 / 463، والشرح الصغير 1 / 629، والقوانين الفقهية ص99، والمهذب 1 / 141، ونيل المآرب 1 / 308، وكشاف القناع 2 / 283، 285.

(30/191)


كُل شَيْءٍ لأَِجْل الاِسْتِغْلاَل، فَيَشْمَل الْعَقَارَ الْمُعَدَّ لِلْكِرَاءِ وَكُل سِلْعَةٍ تُؤَجَّرُ وَتُعَدُّ لِلإِْجَارَةِ، بِأَنْ يُقَوَّمَ رَأْسُ الْمَال فِي كُل عَامٍ وَيُزَكَّى زَكَاةَ التِّجَارَةِ (1) .
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ تُزَكَّى هَذِهِ الْمُسْتَغَلاَّتُ مِنْ غَلَّتِهَا وَإِيرَادِهَا إِذَا اسْتَفَادَهَا.
وَرَأَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ تَزْكِيَةَ فَوَائِدِ الْمُسْتَغَلاَّتِ عِنْدَ قَبْضِهَا (2) .

بَيْعُ الْعَقَارِ:
11 - يَجُوزُ لِلْمَالِكِ بَيْعُ عَقَارِهِ الَّذِي يَمْلِكُهُ مِلْكًا تَامًّا، كَمَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ فِي الْعَقَارِ مِنَ الشَّرِيكِ، وَمِنَ الأَْجْنَبِيِّ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ قَبِلَتِ الْعَيْنُ الْمُشْتَرَكَةُ الْقِسْمَةَ أَمْ لاَ، إِلاَّ فِي حِصَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ بِسَبَبِ الْخَلْطِ فِي الْحُبُوبِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ مِنَ الشَّرِيكِ وَلاَ يَجُوزُ مِنَ الأَْجْنَبِيِّ. لَكِنْ يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ بَيْعِ الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ عَدَمُ الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ، فَلاَ يَجُوزُ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَبِيعَ حِصَّتَهُ مِنَ الزَّرْعِ بِدُونِ الأَْرْضِ قَبْل أَوَانِ قَطْعِهِ، إِذْ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى ضَرَرِ الشَّرِيكِ الآْخَرِ بِتَعَرُّضِ زَرْعِهِ لِلْقَطْعِ فِي سَبِيل التَّسْلِيمِ إِلَى الْمُشْتَرِي قَبْل أَوَانِ قَطْعِهِ، كَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ جُزْءًا
__________
(1) بدائع الفوائد لابن القيم 3 / 143.
(2) المغني 3 / 29، 47، وشرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني 1 / 329.

(30/191)


مُعَيَّنًا مِنْ مُشْتَرَكٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي أَرْضٍ أَوْ فِي بَيْتٍ مِنْ دَارٍ، بِخِلاَفِ بَيْعِهِ جُزْءًا شَائِعًا مِنَ الْمُشْتَرَكِ (1) .
وَهُنَاكَ بَعْضُ الْقُيُودِ الشَّرْعِيَّةِ الأُْخْرَى عَلَى أَنْوَاعٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ بَيْعِ الْعَقَارَاتِ، مِنْهَا:

أَوَّلاً - بَيْعُ الْوَفَاءِ فِي الْعَقَارِ:
12 - بَيْعُ الْوَفَاءِ: هُوَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ أَنَّ الْبَائِعَ مَتَى رَدَّ الثَّمَنَ يَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ إِلَيْهِ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ هَذَا الْبَيْعِ أَوْ فَسَادِهِ، وَفِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ آثَارٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْوَفَاءِ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا)

ثَانِيًا - بَيْعُ الْعَقَارِ قَبْل الْقَبْضِ.
13 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ مَنْقُولاً أَمْ عَقَارًا وَإِنْ أَذِنَ الْبَائِعُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي أَشْتَرِي بُيُوعًا، فَمَا يَحِل لِي مِنْهَا وَمَا
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 60، والدر المختار ورد المحتار لابن عابدين 3 / 365 وما بعدها.

(30/192)


يَحْرُمُ عَلَيَّ؟ قَال: إِذَا اشْتَرَيْتَ بَيْعًا فَلاَ تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ (1) .
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّيْخَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - بَيْعَ الْعَقَارِ قَبْل قَبْضِهِ اسْتِحْسَانًا اسْتِدْلاَلاً بِعُمُومَاتِ حِل الْبَيْعِ بِدُونِ تَخْصِيصٍ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضُ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا) .

ثَالِثًا - بَيْعُ الأَْرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً:
14 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الأَْرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً.
" فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قِسْمَتِهَا وَبَيْنَ إِقْرَارِ أَهْلِهَا عَلَيْهَا وَوَضْعِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَرَاضِيِهِمُ الْخَرَاجَ، وَإِذَا بَقِيَتْ فِي أَيْدِي أَهْلِهَا فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: هِيَ مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ يَجُوزُ بَيْعُهُمْ لَهَا وَتَصَرُّفُهُمْ فِيهَا (3) .
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ هَذِهِ الأَْرْضَ تَكُونُ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لاَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ
__________
(1) حديث: " إذا اشتريت بيعًا فلا تبعه. . . ". أخرجه أحمد (3 / 402) من حديث حكيم بن حزام، وأصله في البخاري (فتح الباري 4 / 349) ومسلم (3 / 1160) من حديث ابن عباس.
(2) تبيين الحقائق 4 / 81 - 82، والدسوقي 3 / 151، والقليوبي 2 / 212، وكشاف القناع 3 / 242.
(3) فتح القدير 4 / 359، والبحر الرائق 5 / 104، ورد المحتار 3 / 352.

(30/192)


فِيهَا بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ وَيُصْرَفُ خَرَاجُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ أَنْ يَرَى الإِْمَامُ فِي وَقْتٍ مِنَ الأَْوْقَاتِ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِي الْقِسْمَةَ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَقْسِمَ الأَْرْضَ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تُقْسَمُ الأَْرْضُ الْمَفْتُوحَةُ عَنْوَةً بَيْنَ الْغَانِمِينَ إِلاَّ أَنْ يَطِيبُوا نَفْسًا بِتَرْكِهَا فَتُوقَفُ عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّ سَوَادَ الْعِرَاقِ قُسِمَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ ثُمَّ بَذَلُوهُ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَوُقِفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَصَارَ خَرَاجُهُ أُجْرَةً تُؤَدَّى كُل سَنَةٍ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لأَِهْل السَّوَادِ الَّذِينَ أُقِرَّتِ الأَْرْضُ فِي أَيْدِيهِمْ بَيْعُهَا أَوْ رَهْنُهَا أَوْ هِبَتُهَا لِكَوْنِهَا صَارَتْ وَقْفًا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الإِْمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قِسْمَةِ هَذِهِ الأَْرْضِ عَلَى الْغَانِمِينَ فَتُمْلَكُ بِالْقِسْمَةِ وَلاَ خَرَاجَ عَلَيْهَا وَبَيْنَ وَقْفِهَا لِلْمُسْلِمِينَ فَيَمْتَنِعُ بَيْعُهَا وَنَحْوُهُ، وَيَضْرِبُ الإِْمَامُ بَعْدَ وَقْفِهَا خَرَاجًا مُسْتَمِرًّا يُؤْخَذُ مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ مِنْ مُسْلِمٍ وَمُعَاهَدٍ يَكُونُ أُجْرَةً لَهَا (3) .

بَيْعُ الْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ عَقَارَ الْقَاصِرِ:
15 - لِلْفُقَهَاءِ اتِّجَاهَاتٌ مُتَقَارِبَةُ الرَّأْيِ فِي هَذَا
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 383، والخرشي 3 / 128.
(2) مغني المحتاج 4 / 334 - 235، والأحكام السلطانية للماوردي ص137 ط. دار الكتب العلمية.
(3) كشاف القناع 3 / 94 - 95.

(30/193)


الْمَوْضُوعِ خُلاَصَتُهَا فِيمَا يَلِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُفْتَى بِهِ: يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ الْعَدْل (مَحْمُودِ السِّيرَةِ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ مَسْتُورِ الْحَال) أَنْ يَبِيعَ عَقَارَ الْقَاصِرِ بِمِثْل الْقِيمَةِ فَأَكْثَرَ لِتَوَافُرِ الشَّفَقَةِ الْكَامِلَةِ عِنْدَهُ عَلَى وَلَدِهِ، وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْوَصِيِّ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ إِلاَّ لِلضَّرُورَةِ كَبَيْعِهِ لِتَسْدِيدِ دَيْنٍ لاَ وَفَاءَ لَهُ إِلاَّ بِهَذَا الْمَبِيعِ، وَيَنْفُذُ بَيْعُ الْوَصِيِّ بِإِجَازَةِ الْقَاضِي، وَلَهُ رَدُّهُ إِذَا كَانَ خَيْرًا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَتَصَرَّفُ الْوَلِيُّ فِي مَال الصَّغِيرِ بِالْمَصْلَحَةِ، فَلِلأَْبِ بَيْعُ مَال وَلَدِهِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا، عَقَارًا أَوْ مَنْقُولاً، وَلاَ يُتَعَقَّبُ بِحَالٍ، وَلاَ يُطْلَبُ مِنْهُ بَيَانُ سَبَبِ الْبَيْعِ؛ لأَِنَّ تَصَرُّفَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، أَمَّا الْوَصِيُّ فَلاَ يَبِيعُ عَقَارَ مَحْجُورِهِ إِلاَّ لِسَبَبٍ يَقْتَضِي بَيْعَهُ - أَيْ لِحَاجَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ - وَبِبَيِّنَةٍ بِأَنْ يَشْهَدَ الْعُدُول أَنَّهُ إِنَّمَا بَاعَهُ لِكَذَا، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْحَاكِمِ كَالْوَصِيِّ مَال الْمَحْجُورِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَالنَّفَقَةِ وَوَفَاءِ الدَّيْنِ وَنَحْوِهِمَا، وَذَكَرُوا أَحَدَ عَشَرَ سَبَبًا لِجَوَازِ بَيْعِ عَقَارِ الْقَاصِرِ مِنْ وَصِيٍّ أَوْ حَاكِمٍ لِلضَّرُورَةِ، مِثْل الْحَاجَةِ لِلنَّفَقَةِ، أَوْ وَفَاءَ دَيْنٍ لاَ قَضَاءَ لَهُ إِلاَّ مِنْ ثَمَنِهِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 153 وما بعدها، وتكملة فتح القدير مع العناية 8 / 499 وما بعدها، ومجمع الضمانات للبغدادي ص408.

(30/193)


وَالْخَوْفَ عَلَيْهِ مِنْ ظَالِمٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُ غَصْبًا أَوْ يَعْتَدِي عَلَى رَيْعِهِ وَلَمْ يَسْتَطِعْ رَدَّهُ، وَبَيْعَهُ بِزِيَادَةِ الثُّلُثِ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْل فَأَكْثَرَ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَتَصَرَّفُ الْوَلِيُّ لِلْقَاصِرِ بِالْمَصْلَحَةِ وُجُوبًا، وَلاَ يَبِيعُ عَقَارَهُ إِلاَّ فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِحَاجَةٍ كَنَفَقَةٍ وَكِسْوَةٍ بِأَنْ لَمْ تَفِ غَلَّةُ الْعَقَارِ بِهِمَا، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُقْرِضُهُ أَوْ لَمْ يَرَ الْمَصْلَحَةَ فِي الاِقْتِرَاضِ أَوْ خَافَ خَرَابَهُ.
وَالثَّانِي: لِمَصْلَحَةٍ ظَاهِرَةٍ، كَأَنْ يَرْغَبَ فِيهِ شَرِيكٌ أَوْ جَارٌ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ، وَهُوَ يَجِدُ مِثْلَهُ بِبَعْضِهِ، أَوْ خَيْرًا مِنْهُ بِكُلِّهِ، أَوْ يَكُونُ ثَقِيل الْخَرَاجِ، أَيِ الْمَغَارِمِ وَالضَّرَائِبِ مَعَ قِلَّةِ رَيْعِهِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَجُوزُ لِوَلِيِّ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِهِمَا إِلاَّ عَلَى وَجْهِ الْحَظِّ (الْمَصْلَحَةِ) لَهُمَا (3) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (4) .

قَبْضُ الْعَقَارِ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَبْضَ الْعَقَارِ
__________
(1) الشرح الكبير 3 / 299 وما بعدها، والشرح الصغير 3 / 390 وما بعدها، والقوانين الفقهية ص 322.
(2) مغني المحتاج 2 / 174 - 176، والمهذب 1 / 328 - 330.
(3) كشاف القناع 3 / 435 - 439.
(4) سورة الأنعام / 152.

(30/194)


الْمَبِيعِ أَوِ الْمَرْهُونِ يَكُونُ بِالتَّسْلِيمِ الْفِعْلِيِّ أَوْ بِالتَّخْلِيَةِ، أَيْ: رَفْعِ الْمَانِعِ مِنَ الْقَبْضِ أَوِ التَّمَكُّنِ مِنْ إِثْبَاتِ الْيَدِ بِارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ، فَيُخَلَّى بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَالْمَبِيعِ أَوْ بَيْنَ الْمُرْتَهِنِ وَالْمَرْهُونِ، وَيُمَكَّنُ مِنْ قَبْضِهِ، أَوْ مِنْ إِثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِ، وَلِلْفُقَهَاءِ فِي مَوْضُوعِ التَّخْلِيَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَخْلِيَة ف 4، 5)

ضَمَانُ غَلَّةِ الْعَقَارِ الْمَبِيعِ الْمَرْدُودِ بِالْعَيْبِ:
17 - إِذَا رُدَّ الْمَبِيعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِسَبَبِ عَيْبٍ مِنَ الْعُيُوبِ، فَهَل تَكُونُ غَلَّتُهُ الْحَادِثَةُ بَعْدَ الْبَيْعِ وَالْقَبْضِ إِلَى وَقْتِ الرَّدِّ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُشْتَرِي بِاعْتِبَارِهَا حَقًّا لِلْبَائِعِ، أَمْ أَنَّهَا لِلْمُشْتَرِي وَلاَ يَضْمَنُهَا لِلْبَائِعِ؟ .
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ أَوِ الْغَلَّةَ الْمُتَّصِلَةَ بِالشَّيْءِ وَقْتَ الرَّدِّ تَكُونُ لِلْبَائِعِ وَيَجِبُ رَدُّهَا، أَمَّا الْمَنَافِعُ الْمُنْفَصِلَةُ فَاخْتَلَفُوا فِيهَا.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ؛ لأَِنَّهَا زِيَادَةٌ حَدَثَتْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي (1) ؛ وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ (2) .، أَيْ أَنَّ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 62، المغني 4 / 144 وما بعدها، ونيل الأوطار 5 / 213.
(2) حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان. أخرجه الترمذي (3 / 573) وقال: حديث حسن صحيح.

(30/194)


الْغَلَّةَ أَوِ الْمَنَافِعَ فِي مُقَابِل تَحَمُّل الْمُشْتَرِي تَبِعَةَ ضَمَانِ الشَّيْءِ الْمَبِيعِ إِذَا هَلَكَ عِنْدَهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْمُشْتَرِي الْغَلَّةَ الْفَرْعِيَّةَ غَيْرَ الْمُتَوَلِّدَةِ الَّتِي تَحْصُل مِنَ الْمَبِيعِ كَمَنَافِعِ الشَّيْءِ وَأُجْرَةِ كِرَاءِ الدَّابَّةِ وَنَحْوِهَا، دُونَ الأَْصْلِيَّةِ الْمُتَوَلِّدَةِ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ وَاللَّبَنِ وَالصُّوفِ، فَإِنَّهَا تَكُونُ لِمَالِكِ أَصْلِهَا الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْهُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ غَلَّةَ الْمَبِيعِ الْمَرْدُودِ بِالْعَيْبِ الَّتِي لاَ تُعْتَبَرُ كَجُزْءٍ مِنَ الْمَبِيعِ كَسُكْنَى الدَّارِ وَإِسْكَانِهَا وَرُكُوبِ السَّيَّارَةِ وَإِجَارَتِهَا وَأَلْبَانِ الْمَاشِيَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَكُونُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ قَبْضِهِ لِلْمَبِيعِ إِلَى يَوْمِ فَسْخِ الْبَيْعِ، وَلاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا أَنْفَقَهُ عَلَى الْمَبِيعِ؛ لأَِنَّ غَلَّتَهُ لَهُ، وَالْغُنْمُ فِي نَظِيرِ الْغُرْمِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ غَلَّةُ الْمَبِيعِ الْمَرْدُودِ بِالْعَيْبِ لِلْمُشْتَرِي؛ لأَِنَّ الْمَبِيعَ كَانَ فِي ضَمَانِهِ وَالْغَلَّةُ فِي نَظِيرِ الضَّمَانِ (2) .

الْغَرْسُ أَوِ الْبِنَاءُ فِي أَرْضٍ ظَهَرَ اسْتِحْقَاقُهَا لِلْغَيْرِ.
18 - إِذَا اشْتَرَى شَخْصٌ مِنْ آخَرَ أَرْضًا،
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص175 وما بعدها، ط. دار الفكر بدمشق.
(2) الشرح الصغير 3 / 186 وما بعدها، والشرح الكبير 3 / 121.

(30/195)


فَغَرَسَ أَوْ بَنَى فِيهَا، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ لِغَيْرِ بَائِعِهَا، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ لِلْمُسْتَحِقِّ قَلْعَ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِحْقَاق ف 15) .

الْغَرْسُ أَوِ الْبِنَاءُ فِي الأَْرْضِ الْمُؤَجَّرَةِ:
19 - لِلْفُقَهَاءِ آرَاءٌ مُتَقَارِبَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ:
فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْجَرَ شَخْصٌ أَرْضًا لِلْغِرَاسِ أَوِ الْبِنَاءِ مُدَّةً مَعْلُومَةً كَسَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، ثُمَّ انْقَضَتْ مُدَّةُ الإِْجَارَةِ وَفِي الأَْرْضِ غِرَاسٌ أَوْ بِنَاءٌ، فَإِنْ شَرَطَ الْمُؤَجِّرُ الْهَدْمَ أَوِ الْقَلْعَ عِنْدَ انْتِهَاءِ الإِْجَارَةِ، أُجْبِرَ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَى أَحَدِهِمَا.
وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْمُؤَجِّرُ الْهَدْمَ أَوِ الْقَلْعَ، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ (أَوِ الْمُكْتَرِي) إِزَالَةُ الْبِنَاءِ أَوْ قَلْعُ الشَّجَرِ، وَعَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الأَْرْضِ؛ لأَِنَّهُ نَقْصٌ دَخَل عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَهُ وَعَلَيْهِ ذَلِكَ أَيْضًا إِنْ قَلَعَهُ قَبْل انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ؛ لأَِنَّ الْقَلْعَ قَبْل الْوَقْتِ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ الْمَالِكُ؛ وَلأَِنَّهُ تَصَرَّفَ فِي الأَْرْضِ تَصَرُّفًا نَقَصَهَا، وَلَمْ يَقْتَضِهِ عَقْدُ الإِْجَارَةِ.
فَإِنْ أَبَى الْمُسْتَأْجِرُ الْقَلْعَ أَوِ الإِْزَالَةَ، خُيِّرَ الْمُؤَجِّرُ بَيْنَ أُمُورٍ ثَلاَثَةٍ:

(30/195)


1 - تَرْكُهُ عَلَى ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ بِأُجْرَةِ الْمِثْل.
2 - أَخْذُ الْمُؤَجِّرِ الْغِرَاسَ أَوِ الْبِنَاءَ بِالْقِيمَةِ، وَيَمْتَلِكُهُ؛ لأَِنَّ الضَّرَرَ يَزُول عَنْهُمَا.
3 - إِزَالَةُ الْمُسْتَأْجِرِ الْبِنَاءَ أَوْ قَلْعُ الْغِرَاسِ مَعَ ضَمَانِهِ أَرْشَ مَا نَقَصَ بِالْقَلْعِ؛ لأَِنَّهُ لاَ ضَرَرَ عَلَيْهِ بِالْقَلْعِ مَعَ دَفْعِ الأَْرْشِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْبِنَاءُ مَسْجِدًا أَوْ مُعَدًّا لِنَفْعٍ عَامٍّ فَلاَ يُهْدَمُ، وَتَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ أُجْرَتُهُ مُدَّةَ بَقَائِهِ أَوْ إِلَى زَوَالِهِ لأَِنَّهُ الْعُرْفُ، إِذْ وَضْعُ هَذِهِ لِلدَّوَامِ، وَلاَ يُعَادُ الْمَسْجِدُ وَنَحْوُهُ لَوِ انْهَدَمَ إِلاَّ بِإِذْنِ رَبِّ الأَْرْضِ؛ لِزَوَال حُكْمِ الإِْذْنِ بِزَوَال الْعَقْدِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَنَى الْمُسْتَأْجِرُ فِي الأَْرْضِ بِنَاءً أَوْ غَرَسَ غَرْسًا فِيهَا، وَلَوْ بِإِذْنِ الْمُؤَجِّرِ، كَانَ لِلْمُؤَجِّرِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الإِْجَارَةِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا هَدْمُ الْبِنَاءِ وَقَلْعُ الْغَرْسِ، وَإِمَّا تَمَلُّكُ مَا اسْتَحْدَثَ بِقِيمَتِهِ مُسْتَحِقَّ الْقَلْعِ إِنْ أَضَرَّ الْهَدْمُ أَوِ الإِْزَالَةُ بِالْعَقَارِ؛ لأَِنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلطَّرَفَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَضُرَّ فَلَيْسَ لِلْمُؤَجِّرِ إِبْقَاؤُهُ بِغَيْرِ رِضَا الْمُسْتَأْجِرِ (2) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَنْ بَنَى أَوْ غَرَسَ فِي أَرْضٍ مُسْتَأْجَرَةٍ فَلِلْمُؤَجِّرِ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَأْمُرَ الْبَانِيَ أَوِ الْغَارِسَ
__________
(1) المهذب 1 / 404، وكشاف القناع 4 / 44 - 46.
(2) الدر المختار ورد المحتار 5 / 19، والمجلة (م531) ومرشد الحيران (م 658 - 659) .

(30/196)


بِهَدْمِ بِنَائِهِ أَوْ قَلْعِ شَجَرِهِ أَوْ يَدْفَعَ لَهُ قِيمَتَهُ مَنْقُوضًا، أَوْ يُرْضِيَ الْمُسْتَأْجِرُ الْمُؤَجِّرَ فِي مَنْفَعَةِ الأَْرْضِ الْمُدَّةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ لأَِجْل بَقَاءِ بِنَائِهِ أَوْ غَرْسِهِ (1) .

رَهْنُ الْعَقَارِ:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ كُل مَا صَحَّ بَيْعُهُ كَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ صَحَّ رَهْنُهُ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الرَّهْنِ الاِسْتِيثَاقُ بِالدَّيْنِ لِيُتَوَصَّل إِلَى اسْتِيفَائِهِ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ مِنَ الرَّاهِنِ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي كُل عَيْنٍ يَصِحُّ بَيْعُهَا.
وَاسْتَثْنَى أَبُو حَنِيفَةَ رَهْنَ الْمُشَاعِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ بَيْعُهُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رَهْن ف 9)

غَصْبُ الْعَقَارِ:
21 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَحْكَامَ الْغَصْبِ تَجْرِي فِي الْعَقَارِ إِذْ يُمْكِنُ غَصْبُهُ، وَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ.
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (غَصْب) .
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 46.

(30/196)


وَقْفُ الْعَقَارِ:
22 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ وَقْفِ الْعَقَارِ مِنْ أَرْضٍ وَدُورٍ وَحَوَانِيتَ وَبَسَاتِينَ وَنَحْوِهَا؛ لأَِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَفُوهُ، مِثْل مَا فَعَل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي وَقْفِهِ أَرْضَهُ فِي خَيْبَرَ؛ وَلأَِنَّ الْعَقَارَ مُتَأَبِّدٌ يَبْقَى عَلَى الدَّوَامِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْف) .
وَالْبِنَاءُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَنْقُولٌ، وَلاَ يَجُوزُ وَقْفُ الْمَنْقُول عِنْدَهُمْ إِلاَّ إِذَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ، وَبِمَا أَنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا وَقْفَ الْبِنَاءِ أَوِ الشَّجَرِ بِلاَ أَرْضٍ فَيَجُوزُ الْوَقْفُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ وَقْفَ الْبِنَاءِ بِدُونِ الأَْرْضِ لَهُ صُوَرٌ ثَلاَثٌ.
ر: مُصْطَلَحَ: (وَقْف) .

تَعَلُّقُ حَقِّ الاِرْتِفَاقِ بِالْعَقَارِ الْمَبِيعِ.
23 - تَتَعَلَّقُ حُقُوقُ الاِرْتِفَاقِ بِالْعَقَارِ دُونَ الْمَنْقُول، فَيَكُونُ حَقُّ الاِرْتِفَاقِ مُقَرَّرًا دَائِمًا عَلَى عَقَارٍ، وَيَصِحُّ بَيْعُ الأَْرْضِ دُونَ حَقِّ الاِرْتِفَاقِ، وَلاَ يَدْخُل حَقُّ الاِرْتِفَاقِ فِي بَيْعِ الأَْرْضِ إِلاَّ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ صَرَاحَةً، أَوْ بِذِكْرِ مَا يَدُل عَلَيْهِ كَأَنْ يَقُول: بِعْتُ الأَْرْضَ بِحُقُوقِهَا أَوْ بِمَرَافِقِهَا، أَوْ كُل قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ حَوْلَهَا، أَمَّا فِي الإِْجَارَةِ فَتَدْخُل حُقُوقُ الاِرْتِفَاقِ فِي الْعَقْدِ، وَلَوْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا، لِتَعَذُّرِ الاِنْتِفَاعِ بِالْمَأْجُورِ

(30/197)


بِدُونِهَا، وَيُقَاسُ الْوَقْفُ اسْتِحْسَانًا عَلَى الإِْجَارَةِ لاَ عَلَى الْبَيْعِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْوَقْفِ هُوَ مُجَرَّدُ الاِنْتِفَاعِ وَهُوَ لاَ يُمْكِنُ إِلاَّ بِأَنْ يَدْخُل الشِّرْبُ وَالْمَسِيل وَالطَّرِيقُ فِي وَقْفِ الأَْرْضِ دُونَ نَصٍّ عَلَيْهَا (1)

تَعَلُّقُ حَقِّ الشُّفْعَةِ فِي الْعَقَارِ لاَ الْمَنْقُول:
24 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ يَثْبُتُ فِي الْعَقَارِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِي كُل شَرِكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شُفْعَة ف 24)

عَقِب

انْظُرْ: كِرَاءُ الْعَقِبِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 189 وما بعدها، والبحر الرائق 6 / 148 - 149، والبهجة شرح التحفة 2 / 251 - 252، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص224 نشر دار الكتب العلمية، والأحكام السلطانية للماوردي ص187 نشر دار الكتب العلمية.
(2) حديث جابر: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1229) .

(30/197)


عَقْد

التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَقْدُ فِي اللُّغَةِ: الرَّبْطُ وَالشَّدُّ وَالضَّمَانُ وَالْعَهْدُ، قَال فِي الْقَامُوسِ: عَقَدَ الْحَبْل وَالْبَيْعَ وَالْعَهْدَ: شَدَّهُ (1) .
وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ أَطْرَافِ الشَّيْءِ، يُقَال: عَقَدَ الْحَبْل: إِذَا جَمَعَ أَحَدَ طَرَفَيْهِ عَلَى الآْخَرِ وَرَبَطَ بَيْنَهُمَا (2) .
وَفِي الْمِصْبَاحِ: قِيل: عَقَدْتُ الْبَيْعَ وَنَحْوَهُ، وَعَقَدْتُ الْيَمِينَ وَعَقَّدْتُهَا بِالتَّشْدِيدِ تَوْكِيدٌ، وَعَاقَدْتُهُ عَلَى كَذَا، وَعَقَدْتُهُ عَلَيْهِ بِمَعْنَى: عَاهَدْتُهُ، وَمَعْقِدُ الشَّيْءِ مِثْل مَجْلِسٍ: مَوْضِعُ عَقْدِهِ، وَعُقْدَةُ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ: إِحْكَامُهُ وَإِبْرَامُهُ، وَالْجَمْعُ عُقُودٌ (3) وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (4) وقَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} (5) أَيْ: أَحْكَامَهُ، وَالْمَعْنَى: لاَ تَعْزِمُوا
__________
(1) القاموس.
(2) لسان العرب.
(3) المصباح المنير.
(4) سورة المائدة / 1.
(5) سورة البقرة / 235.

(30/198)


عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ فِي زَمَانِ الْعِدَّةِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُطْلَقُ الْعَقْدُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
أ - الْمَعْنَى الْعَامُّ، وَهُوَ كُل مَا يَعْقِدُهُ (يَعْزِمُهُ) الشَّخْصُ أَنْ يَفْعَلَهُ هُوَ، أَوْ يَعْقِدَ عَلَى غَيْرِهِ فِعْلَهُ عَلَى وَجْهِ إِلْزَامِهِ إِيَّاهُ، كَمَا يَقُول الْجَصَّاصُ (2) ، وَعَلَى ذَلِكَ فَيُسَمَّى الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ وَسَائِرُ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ عُقُودًا؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْ طَرَفَيِ الْعَقْدِ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَفَاءَ بِهِ، وَسُمِّيَ الْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَل عَقْدًا؛ لأَِنَّ الْحَالِفَ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَفَاءَ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ مِنَ الْفِعْل أَوِ التَّرْكِ، وَكَذَلِكَ الْعَهْدُ وَالأَْمَانُ؛ لأَِنَّ مُعْطِيَهَا قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَفَاءَ بِهَا، وَكَذَا كُل مَا شَرَطَ الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَل فَهُوَ عَقْدٌ، وَكَذَلِكَ النُّذُورُ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ (3) .
وَمِنْ هَذَا الإِْطْلاَقِ الْعَامِّ قَوْل الأَْلُوسِيِّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} حَيْثُ قَال: الْمُرَادُ بِهَا يَعُمُّ جَمِيعَ مَا أَلْزَمَ اللَّهُ عِبَادَهُ وَعَقَدَ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّكَالِيفِ وَالأَْحْكَامِ الدِّينِيَّةِ وَمَا يَعْقِدُونَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ عُقُودِ الأَْمَانَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ (4) .
__________
(1) تفسير القرطبي 3 / 192.
(2) أحكام القرآن للجصاص 2 / 294، 295.
(3) المرجع السابق.
(4) تفسير روح المعاني 6 / 48.

(30/198)


ب - الْمَعْنَى الْخَاصُّ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى يُطْلَقُ الْعَقْدُ عَلَى مَا يَنْشَأُ عَنْ إِرَادَتَيْنِ لِظُهُورِ أَثَرِهِ الشَّرْعِيِّ فِي الْمَحَل، قَال الْجُرْجَانِيُّ: الْعَقْدُ رَبْطُ أَجْزَاءِ التَّصَرُّفِ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول (1) .
وَبِهَذَا الْمَعْنَى عَرَّفَهُ الزَّرْكَشِيُّ بِقَوْلِهِ: ارْتِبَاطُ الإِْيجَابِ بِالْقَبُول الاِلْتِزَامِيِّ كَعَقْدِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا (2) .
وَمَوْضُوعُ الْبَحْثِ هُنَا الْعَقْدُ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِلْتِزَامُ:
2 - أَصْل الاِلْتِزَامِ فِي اللُّغَةِ: مِنْ لَزِمَ يَلْزَمُ لُزُومًا؛ أَيْ ثَبَتَ وَدَامَ، يُقَال: لَزِمَهُ الْمَال: وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلَزِمَهُ الطَّلاَقُ: وَجَبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ، وَأَلْزَمْتُهُ الْمَال وَالْعَمَل فَالْتَزَمَ، وَالاِلْتِزَامُ الاِعْتِنَاقُ (3) .
وَالاِلْتِزَامُ فِي الاِصْطِلاَحِ: إِلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لاَزِمًا عَلَيْهِ مِنْ قَبْل، وَقَال الْحَطَّابُ: إِنَّهُ إِلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا عَلَى شَيْءٍ. . . وَقَدْ يُطْلَقُ فِي الْعُرْفِ عَلَى مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْتِزَامُ الْمَعْرُوفِ بِلَفْظِ الاِلْتِزَامِ (4) .
__________
(1) التعريفات.
(2) المنثور 2 / 397.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير.
(4) فتح العلي المالك 1 / 217، 218.

(30/199)


وَالاِلْتِزَامُ أَعَمُّ مِنَ الْعَقْدِ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ.

ب - التَّصَرُّفُ.
3 - التَّصَرُّفُ فِي اللُّغَةِ: التَّقَلُّبُ فِي الأُْمُورِ، وَالسَّعْيُ فِي طَلَبِ الْكَسْبِ (1) .
وَيُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ التَّصَرُّفَ عِنْدَهُمْ هُوَ: مَا يَصْدُرُ عَنِ الشَّخْصِ بِإِرَادَتِهِ، وَيُرَتِّبُ الشَّرْعُ عَلَيْهِ أَحْكَامًا مُخْتَلِفَةً، وَيَشْمَل التَّصَرُّفَ الأَْفْعَال وَالأَْقْوَال وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَالتَّصَرُّفُ أَعَمُّ مِنَ الْعَقْدِ.

ج - الْعَهْدُ وَالْوَعْدُ:
4 - الْعَهْدُ فِي اللُّغَةِ: الْوَصِيَّةُ، يُقَال: عَهِدَ إِلَيْهِ يَعْهَدُ: إِذَا أَوْصَاهُ، وَالْعَهْدُ: الأَْمَانُ وَالْمَوْثِقُ وَالذِّمَّةُ، وَيُطْلَقُ عَلَى كُل مَا عُوهِدَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَكُل مَا بَيْنَ الْعِبَادِ مِنَ الْمَوَاثِيقِ (2) .
فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْعَقْدِ بِالإِْطْلاَقِ الْعَامِّ وَأَعَمُّ مِنْهُ بِالإِْطْلاَقِ الْخَاصِّ.
وَأَمَّا الْوَعْدُ فَيَدُل عَلَى تَرْجِيَةٍ بِقَوْلٍ، وَيُسْتَعْمَل فِي الْخَيْرِ حَقِيقَةً وَفِي الشَّرِّ مَجَازًا (3) .
وَالْوَعْدُ فِي الاِصْطِلاَحِ: إِخْبَارٌ عَنْ إِنْشَاءِ الْمُخْبِرِ مَعْرُوفًا فِي الْمُسْتَقْبَل (4) .
__________
(1) القاموس المحيط، ولسان العرب، والمصباح المنير.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير.
(3) مقاييس اللغة لابن فارس، والمصباح المنير.
(4) فتح العلي المالك 1 / 254، 257.

(30/199)


أَرْكَانُ الْعَقْدِ:
5 - أَرْكَانُ الشَّيْءِ: أَجْزَاءُ مَاهِيَّتِهِ، وَجَوَانِبُهُ الَّتِي يَسْتَنِدُ إِلَيْهَا وَيَقُومُ بِهَا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الرُّكْنُ هُوَ الْجُزْءُ الذَّاتِيُّ الَّذِي تَتَرَكَّبُ الْمَاهِيَّةُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ بِحَيْثُ يَتَوَقَّفُ تَقَوُّمُهَا عَلَيْهِ (2) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ لاَ يُوجَدُ إِلاَّ إِذَا وُجِدَ عَاقِدٌ وَصِيغَةٌ (الإِْيجَابُ وَالْقَبُول) وَمَحَلٌّ يَرِدُ عَلَيْهِ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول (الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الثَّلاَثَةَ كُلَّهَا أَرْكَانُ الْعَقْدِ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُكْنَ الْعَقْدِ هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ، أَمَّا الْعَاقِدَانِ وَالْمَحَل فَمِمَّا يَسْتَلْزِمُهُ وُجُودُ الصِّيغَةِ، لاَ مِنَ الأَْرْكَانِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ مَا عَدَا الصِّيغَةَ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ حَقِيقَةِ الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَيْهِ (4) .

وَلِكُل وَاحِدٍ مِنَ الصِّيغَةِ وَالْعَاقِدَيْنِ وَالْمَحَل
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) التعريفات للجرجاني، وحاشية ابن عابدين 1 / 161 - 164.
(3) الحطاب والمواق عليه 3 / 419 و4 / 228 والشرح الصغير 2 / 3 ونهاية المحتاج 3 / 12 ومغني المحتاج 2 / 5 - 7، وشرح منتهى الإرادات 2 / 140.
(4) الاختيار 2 / 4.

(30/200)


شُرُوطٌ لاَ بُدَّ لِوُجُودِ الْعَقْدِ الشَّرْعِيِّ مِنْ تَوَافُرِهَا، نَبْحَثُهَا فِيمَا يَلِي:

أَوَّلاً - صِيغَةُ الْعَقْدِ:
6 - صِيغَةُ الْعَقْدِ: كَلاَمٌ أَوْ فِعْلٌ يَصْدُرُ مِنَ الْعَاقِدِ وَيَدُل عَلَى رِضَاهُ، وَيُعَبِّرُ عَنْهَا الْفُقَهَاءُ بِـ (الإِْيجَابِ وَالْقَبُول) (1) .
وَتَخْتَلِفُ الصِّيغَةُ فِي الْعَقْدِ حَسْبَ اخْتِلاَفِ الْعُقُودِ.
فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً يَصْلُحُ لِلصِّيغَةِ كُل لَفْظٍ أَوْ فِعْلٍ يَدُل عَلَى الرِّضَا وَالتَّمْلِيكِ بِعِوَضٍ، مِثْل قَوْل الْبَائِعِ: بِعْتُكَ، أَوْ: أَعْطَيْتُكَ، أَوْ: مَلَّكْتُكَ بِكَذَا، وَقَوْل الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ، أَوْ تَمَلَّكْتُ، أَوِ ابْتَعْتُ، أَوْ: قَبِلْتُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ (2) .
وَفِي عَقْدِ الْحَوَالَةِ يَكْفِي كُل مَا يَدُل عَلَى الرِّضَا بِالنَّقْل وَالتَّحْوِيل، مِثْل قَوْل الْمُحِيل: أَحَلْتُكَ وَأَتْبَعْتُكَ، وَقَوْل الْمُحَال عَلَيْهِ: رَضِيتُ وَقَبِلْتُ، وَنَحْوَهَا (3) .
وَعَقْدُ الرَّهْنِ يَنْعَقِدُ بِقَوْل الرَّاهِنِ: رَهَنْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ، أَوْ أَعْطَيْتُهَا لَكَ رَهْنًا، وَقَوْل الْمُرْتَهِنِ: قَبِلْتُ أَوْ رَضِيتُ (4) .
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب 4 / 228.
(2) المادة (169) من مجلة الأحكام العدلية، وحاشية الشرقاوي 2 / 16.
(3) المادة (680) من المجلة.
(4) المادة (770) من المجلة.

(30/200)


فَالأَْصْل أَنَّ كُل مَا يَدُل عَلَى الإِْيجَابِ وَالْقَبُول لُغَةً أَوْ عُرْفًا يَنْعَقِدُ بِهِ الْعَقْدُ، فَلاَ يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي الأَْصْل لَفْظٌ خَاصٌّ، وَلاَ صِيغَةٌ خَاصَّةٌ.
7 - وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ هَذَا الأَْصْل عَقْدَ النِّكَاحِ، فَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالزَّوَاجِ وَمُشْتَقَّاتِهِمَا، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، قَال الشِّرْبِينِيُّ: وَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِلَفْظٍ اشْتُقَّ مِنْ لَفْظِ التَّزْوِيجِ أَوِ الإِْنْكَاحِ، دُونَ لَفْظِ الْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ وَنَحْوِهِمَا كَالإِْحْلاَل وَالإِْبَاحَةِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ سِوَاهُمَا فَوَجَبَ الْوُقُوفُ مَعَهُمَا تَعَبُّدًا وَاحْتِيَاطًا؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ يَنْزِعُ إِلَى الْعِبَادَاتِ لِوُرُودِ النَّدْبِ فِيهِ، وَالأَْذْكَارُ فِي الْعِبَادَاتِ تُتَلَقَّى مِنَ الشَّرْعِ (1) .
وَقَال الْحَجَّاوِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَلاَ يَصِحُّ إِيجَابٌ إِلاَّ بِلَفْظِ أَنْكَحْتُ أَوْ زَوَّجْتُ. . وَلاَ يَصِحُّ قَبُولٌ لِمَنْ يُحْسِنُهَا إِلاَّ بِقَبِلْتُ تَزْوِيجَهَا أَوْ نِكَاحَهَا، أَوْ هَذَا التَّزْوِيجَ أَوْ هَذَا النِّكَاحَ، أَوْ تَزَوَّجْتُهَا، أَوْ رَضِيتُ هَذَا النِّكَاحَ، أَوْ قَبِلْتُ، فَقَطْ، أَوْ: تَزَوَّجْتُ (2) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يَشْتَرِطُونَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ، فَيَصِحُّ عِنْدَهُمَا بِكُل
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 140.
(2) الإقناع 3 / 167.

(30/201)


لَفْظٍ يَدُل عَلَى التَّأْبِيدِ مُدَّةَ الْحَيَاةِ، كَأَنْكَحْتُ وَزَوَّجْتُ وَمَلَّكْتُ وَبِعْتُ وَوَهَبْتُ وَنَحْوِهَا، إِذَا قُرِنَ بِالْمَهْرِ وَدَل اللَّفْظُ عَلَى الزَّوَاجِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل ر: (نِكَاح وَصِيغَة) .

الْمُرَادُ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول.
8 - الْمُرَادُ بِالإِْيجَابِ فِي الْعُقُودِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ: مَا صَدَرَ أَوَّلاً مِنْ كَلاَمِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْكَلاَمِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الْمُمَلِّكِ أَمْ مِنَ الْمُتَمَلِّكِ، وَالْقَبُول: مَا صَدَرَ ثَانِيًا عَنْ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ دَالًّا عَلَى مُوَافَقَتِهِ بِمَا أَوْجَبَهُ الأَْوَّل (2) ، فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمْ أَوَّلِيَّةُ الصُّدُورِ فِي الإِْيجَابِ وَثَانَوِيَّتُهُ فِي الْقَبُول، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الْمُمَلِّكِ أَمْ مِنَ الْمُتَمَلِّكِ.
وَيَرَى غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الإِْيجَابَ: مَا صَدَرَ مِمَّنْ يَكُونُ مِنْهُ التَّمْلِيكُ كَالْبَائِعِ وَالْمُؤَجِّرِ وَالزَّوْجَةِ أَوْ وَلِيِّهَا، سَوَاءٌ صَدَرَ أَوَّلاً أَوْ آخِرًا، وَالْقَبُول: هُوَ مَا صَدَرَ مِمَّنْ يَصِيرُ لَهُ الْمِلْكُ وَإِنْ صَدَرَ أَوَّلاً، فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمْ هُوَ أَنَّ الْمُمَلِّكَ هُوَ الْمُوجِبُ وَالْمُتَمَلِّكُ هُوَ الْقَابِل، وَلاَ اعْتِبَارَ لِمَا صَدَرَ أَوَّلاً أَوْ آخِرًا (3)
__________
(1) حاشية ابن عابدين مع الدر المختار 2 / 268، ومواهب الجليل للحطاب وبهامشه التاج والإكليل 3 / 419، و420.
(2) الاختيار لتعليل المختار 2 / 4، وفتح القدير 2 / 244.
(3) جواهر الإكليل 2 / 2، ومنح الجليل 2 / 462، وحاشية القليوبي 2 / 153، ومغني المحتاج 2 / 5، وشرح منتهى الإرادات 2 / 140، والمغني لابن قدامة 3 / 561 ط الرياض.

(30/201)


وَسَائِل الإِْيجَابِ وَالْقَبُول.
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ الإِْيجَابَ وَالْقَبُول كَمَا يَحْصُلاَنِ بِالأَْلْفَاظِ، كَذَلِكَ يَحْصُلاَنِ بِالْكِتَابَةِ وَالإِْشَارَةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْمُعَاطَاةِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ بَعْضِ هَذِهِ الْوَسَائِل فِي بَعْضِ الْعُقُودِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ - الْعَقْدُ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول اللَّفْظِيَّيْنِ.
10 - الإِْيجَابُ وَالْقَبُول بِالأَْلْفَاظِ هُوَ الأَْصْل فِي انْعِقَادِ الْعُقُودِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الإِْيجَابَ وَالْقَبُول إِذَا كَانَا بِصِيغَةِ الْمَاضِي يَنْعَقِدُ بِهِمَا الْعَقْدُ كَمَا إِذَا قَال الْبَائِعُ: بِعْتُ، وَقَال الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ، وَلاَ حَاجَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِلَى النِّيَّةِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ وَإِنْ كَانَتْ لِلْمَاضِي وَضْعًا لَكِنَّهَا جُعِلَتْ إِيجَابًا لِلْحَال فِي عُرْفِ أَهْل اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، وَالْعُرْفُ قَاضٍ عَلَى الْوَضْعِ كَمَا عَلَّلَهُ الْكَاسَانِيُّ (1) ؛ وَلأَِنَّ هَذِهِ الأَْلْفَاظَ صَرِيحَةٌ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ فَيَلْزَمُهُمَا، كَمَا قَال الْحَطَّابُ (2) .
وَلاَ يَنْعَقِدُ بِمَا يَدُل عَلَى الاِسْتِقْبَال كَصِيغَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 133، وفتح القدير 5 / 74، 75.
(2) مواهب الجليل 4 / 229، 230.

(30/202)


الاِسْتِفْهَامِ وَالْمُضَارِعِ الْمُرَادِ بِهِ الاِسْتِقْبَال (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَدُل عَلَى الْحَال كَصِيغَةِ الأَْمْرِ مَثَلاً، كَقَوْلِهِ: بِعْنِي، فَإِذَا أَجَابَهُ الآْخَرُ بِقَوْلِهِ: بِعْتُكَ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: كَانَ هَذَا اللَّفْظُ الثَّانِي إِيجَابًا وَاحْتَاجَ إِلَى قَبُولٍ مِنَ الأَْوَّل، وَهَذَا رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا.
(2) وَقَال الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - يَنْعَقِدُ بِهِمَا الْبَيْعُ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى قَبُولٍ مِنَ الأَْوَّل (3) .
أَمَّا صِيغَةُ الْمُضَارِعِ فَإِذَا أَرَادَ بِهَا الْحَال يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ وَإِلاَّ فَلاَ، فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: إِذَا قَال الْبَائِعُ: أَبِيعُ مِنْكَ هَذَا بِأَلْفٍ أَوْ أَبْذُلُهُ أَوْ أُعْطِيكَهُ، وَقَال الْمُشْتَرِي: أَشْتَرِيهِ مِنْكَ أَوْ آخُذُهُ، وَنَوَيَا الإِْيجَابَ لِلْحَال، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا بِلَفْظِ الْمَاضِي وَالآْخَرُ بِالْمُسْتَقْبَل مَعَ نِيَّةِ الإِْيجَابِ لِلْحَال - فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ يَنْعَقِدْ (4) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 3، 4 ومغني المحتاج 2 / 5، 6 والمغني لابن قدامة 3 / 560 - 561 ط. الرياض، وشرح منتهى الإرادات 2 / 140.
(2) شرح المجلة للأتاسي 2 / 33، والاختيار 2 / 4، ومغني المحتاج 2 / 5، والمغني لابن قدامة 3 / 561
(3) منح الجليل 2 / 462، ومغني المحتاج 2 / 5، وشرح منتهى الإرادات 2 / 140، والمغني لابن قدامة 3 / 561.
(4) الفتاوى الهندية 3 / 4.

(30/202)


وَمِثْلُهُ مَا نَقَلَهُ الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ حَيْثُ قَال: إِنْ أَتَى بِصِيغَةِ الْمَاضِي لَمْ يُقْبَل مِنْهُ رُجُوعٌ، وَإِنْ أَتَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فَكَلاَمُهُ مُحْتَمَلٌ، فَيَحْلِفُ عَلَى مَا أَرَادَهُ (1) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (صِيغَة ف 7) .

اعْتِبَارُ اللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى فِي الْعَقْدِ.
11 - مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: الْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي لاَ لِلأَْلْفَاظِ وَالْمَبَانِي (2) ، مَعْنَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ - كَمَا يَقُول فِي الدُّرَرِ - أَنَّهُ عِنْدَ حُصُول الْعَقْدِ لاَ يُنْظَرُ لِلأَْلْفَاظِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا الْعَاقِدَانِ حِينَ الْعَقْدِ، بَل إِنَّمَا يُنْظَرُ إِلَى مَقَاصِدِهِمُ الْحَقِيقِيَّةِ مِنَ الْكَلاَمِ الَّذِي يُلْفَظُ بِهِ حِينَ الْعَقْدِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْمَعْنَى وَلَيْسَ اللَّفْظُ وَلاَ الصِّيغَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ، وَمَا الأَْلْفَاظُ إِلاَّ قَوَالِبُ لِلْمَعَانِي (3) . وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَطْبِيقِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي مُخْتَلِفِ الْعُقُودِ، فَطَبَّقُوهَا فِي بَعْضِهَا وَلَمْ يُطَبِّقُوهَا فِي بَعْضٍ، وَذَلِكَ حَسْبَ اخْتِلاَفِ طَبِيعَةِ هَذِهِ الْعُقُودِ.
__________
(1) الحطاب 4 / 232.
(2) مجلة الأحكام العدلية المادة (3) .
(3) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 / 18، 19.

(30/203)


وَالظَّاهِرُ: أَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ مُطَبَّقَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَكْثَرَ مِنْ عَقْدٍ، وَلَهَا فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ، قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: الاِعْتِبَارُ لِلْمَعْنَى لاَ لِلأَْلْفَاظِ، صَرَّحُوا بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا الْكَفَالَةُ، فَهِيَ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الأَْصِيل حَوَالَةٌ، وَهِيَ بِشَرْطِ عَدَمِ بَرَاءَتِهِ كَفَالَةٌ. . وَلَوْ وَهَبَ الدَّيْنَ لِمَنْ عَلَيْهِ كَانَ إِبْرَاءً لِلْمَعْنَى، فَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُول عَلَى الصَّحِيحِ. . وَلَوْ رَاجَعَهَا بِلَفْظِ النِّكَاحِ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ لِلْمَعْنَى، وَيَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِقَوْلِهِ: خُذْ هَذَا بِكَذَا، فَقَال: أَخَذْتُ، وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ مَعَ ذِكْرِ الْبَدَل، وَبِلَفْظِ الإِْعْطَاءِ وَالاِشْتِرَاءِ. وَتَنْعَقِدُ الإِْجَارَةُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ، وَبِلَفْظِ الصُّلْحِ عَنِ الْمَنَافِعِ، وَبِلَفْظِ الْعَارِيَّةِ، وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِمَا يَدُل عَلَى مِلْكِ الْعَيْنِ لِلْحَال كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ، وَيَنْعَقِدُ السَّلَمُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ كَعَكْسِهِ، وَلَوْ شَرَطَ رَبُّ الْمَال لِلْمُضَارِبِ كُل الرِّبْحِ كَانَ الْمَال قَرْضًا، وَلَوْ شَرَطَ لِرَبِّ الْمَال كَانَ إِبْضَاعًا.
ثُمَّ قَال: وَخَرَجَتْ عَنْ هَذَا الأَْصْل مَسَائِل:
مِنْهَا: لاَ تَنْعَقِدُ الْهِبَةُ بِالْبَيْعِ بِلاَ ثَمَنٍ، وَلاَ الْعَارِيَّةُ بِالإِْجَارَةِ بِلاَ أُجْرَةٍ وَلاَ الْبَيْعُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، وَلاَ يَقَعُ الْعِتْقُ بِأَلْفَاظِ الطَّلاَقِ وَإِنْ نَوَى، وَالطَّلاَقُ وَالْعَتَاقُ تُرَاعَى

(30/203)


فِيهِمَا الأَْلْفَاظُ لاَ الْمَعْنَى فَقَطْ (1) .
وَمِنْ أَهَمِّ الْمَسَائِل الَّتِي طَبَّقَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الْقَاعِدَةَ فِيهَا عَقْدُ بَيْعِ الْوَفَاءِ. فَإِذَا قَال الْبَائِعُ: بِعْتُ هَذِهِ الدَّارَ بَيْعَ الْوَفَاءِ بِكَذَا، وَقَبِل الآْخَرُ، لاَ يُفِيدُ تَمْلِيكَ عَيْنِ الدَّارِ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ يُفِيدُ تَمْلِيكَ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ لأَِنَّ التَّمْلِيكَ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، بَل الْمَقْصُودَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ تَأْمِينُ دَيْنِ الْمُشْتَرِي الْمُتَرَتِّبِ فِي ذِمَّةِ الْبَائِعِ، وَإِبْقَاءُ الْمَبِيعِ تَحْتَ يَدِ الْمُشْتَرِي لِحِينِ وَفَاءِ الدَّيْنِ، وَلِهَذَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الرَّهْنِ دُونَ الْبَيْعِ اعْتِبَارًا لِلْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي دُونَ الأَْلْفَاظِ وَالْمَبَانِي.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ لِلْبَائِعِ فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ أَنْ يُعِيدَ الثَّمَنَ وَيَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ، كَمَا أَنَّهُ يَحِقُّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُعِيدَ الْمَبِيعَ وَيَسْتَرِدَّ الثَّمَنَ (2) .
وَلاَ يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَبِيعَ الْمَبِيعَ وَفَاءً مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ؛ لأَِنَّهُ كَالرَّهْنِ (3) . كَمَا لاَ يَحِقُّ لِلْمُشْتَرِي فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ حَقُّ الشُّفْعَةِ، وَتَبْقَى الشُّفْعَةُ لِلْبَائِعِ (4) .
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص207، 208، والبحر الرائق 6 / 220.
(2) درر الحكام شرح المجلة 1 / 19.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 247.
(4) الفتاوى الهندية 3 / 209.

(30/204)


وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (بَيْعُ الْوَفَاءِ ف 7) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعُقُودَ كُلَّهَا إِنَّمَا هِيَ بِالنِّيَّةِ وَالْقَصْدِ مَعَ اللَّفْظِ الْمُشْعِرِ بِذَلِكَ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ إِشَارَةٍ وَشَبَهِهَا، وَقَدْ تَوَسَّعُوا بِالأَْخْذِ بِالْمَعْنَى فِي بَعْضِ الْعُقُودِ حَتَّى أَجَازُوا الْبَيْعَ بِالْمُعَاطَاةِ وَقَالُوا: كُل مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ، وَشَدَّدُوا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَاشْتَرَطُوا فِيهِ اللَّفْظَ الدَّال عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِيهِ لَفْظَ النِّكَاحِ أَوِ الزَّوَاجِ، وَقَالُوا: يَنْعَقِدُ بِكُل لَفْظٍ يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ عَلَى التَّأْبِيدِ كَالنِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَالتَّمْلِيكِ وَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا، وَقَالُوا: إِنْ قَصَدَ بِاللَّفْظِ النِّكَاحَ صَحَّ (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَمْ يَأْخُذُوا بِتَرْجِيحِ الْمَعَانِي عَلَى الأَْلْفَاظِ فِي الْعُقُودِ كَأَصْلٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، بَل ذَكَرُوا فِي الأَْخْذِ بِهِ خِلاَفًا، قَال السُّيُوطِيُّ: هَل الْعِبْرَةُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ بِمَعَانِيهَا؟ خِلاَفٌ، وَالتَّرْجِيحُ مُخْتَلِفٌ فِي الْفُرُوعِ، فَمِنْهَا: إِذَا قَال: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ ثَوْبًا صِفَتُهُ كَذَا بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، فَقَال: بِعْتُكَ، فَرَجَّحَ الشَّيْخَانِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بَيْعًا اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ.
وَالثَّانِي - وَرَجَّحَهُ السُّبْكِيُّ - أَنَّهُ يَنْعَقِدُ سَلَمًا اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى.
__________
(1) الفروق للقرافي مع الهامش 1 / 39، 3 / 143.

(30/204)


وَمِنْهَا: إِذَا وَهَبَ بِشَرْطِ الثَّوَابِ فَهَل يَكُونُ بَيْعًا اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى أَوْ هِبَةً بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ؟ الأَْصَحُّ: الأَْوَّل.
وَمِنْهَا: إِذَا قَال: بِعْتُكَ، وَلَمْ يَذْكُرْ ثَمَنًا، فَإِنْ رَاعَيْنَا الْمَعْنَى انْعَقَدَ هِبَةً، أَوِ اللَّفْظَ فَهُوَ بَيْعٌ فَاسِدٌ.
وَمِنْهَا: لَوْ قَال: أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ هَذَا الثَّوْبَ فِي هَذَا الْعَبْدِ، فَلَيْسَ بِسَلَمٍ قَطْعًا، وَلاَ يَنْعَقِدُ بَيْعًا عَلَى الأَْظْهَرِ لاِخْتِلاَفِ اللَّفْظِ، وَالثَّانِي: نَعَمْ، نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى.
وَمِنْهَا: إِذَا قَال لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ: وَهَبْتُهُ مِنْكَ، فَفِي اشْتِرَاطِ الْقَبُول وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُشْتَرَطُ اعْتِبَارًا بِلَفْظِ الْهِبَةِ، وَالثَّانِي: لاَ، اعْتِبَارًا بِمَعْنَى الإِْبْرَاءِ.
وَمِنْهَا: الْخِلاَفُ فِي الرَّجْعَةِ بِلَفْظِ النِّكَاحِ، وَالإِْجَارَةِ بِلَفْظِ الْمُسَاقَاةِ، وَالسَّلَمِ بِلَفْظِ الإِْجَارَةِ، وَالإِْجَارَةِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَالْبَيْعِ بِلَفْظِ الإِْقَالَةِ، وَالْحَوَالَةِ بِلَفْظِ الضَّمَانِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمَسَائِل (1) .
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ ضَابِطًا لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَقَال:
وَالضَّابِطُ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ إِنْ تَهَافَتَ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص183 - 185.

(30/205)


اللَّفْظُ حُكِمَ بِالْفَسَادِ عَلَى الْمَشْهُورِ، كَبِعْتُكَ بِلاَ ثَمَنٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَهَافَتْ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الصِّيغَةُ أَشْهَرَ فِي مَدْلُولِهَا أَوِ الْمَعْنَى، فَإِنْ كَانَتِ الصِّيغَةُ أَشْهَرَ كَأَسْلَمْتُ إِلَيْكَ هَذَا الثَّوْبَ فِي هَذَا الْعَبْدِ فَالأَْصَحُّ اعْتِبَارُ الصِّيغَةِ؛ لاِشْتِهَارِ الصِّيغَةِ فِي بَيْعِ الذِّمَمِ، وَقِيل: يَنْعَقِدُ بَيْعًا. . وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ، بَل كَانَ الْمَعْنَى هُوَ الْمَقْصُودَ، كَوَهَبْتُكَ بِكَذَا، فَالأَْصَحُّ انْعِقَادُهُ بَيْعًا، وَإِنِ اسْتَوَى الأَْمْرَانِ فَوَجْهَانِ، وَالأَْصَحُّ اعْتِبَارُ الصِّيغَةِ؛ لأَِنَّهَا الأَْصْل وَالْمَعْنَى تَابِعٌ لَهَا
(1) وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ أَخَذُوا بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَرَجَّحُوا الْمَقَاصِدَ وَالْمَعَانِيَ عَلَى الأَْلْفَاظِ وَالْمَبَانِي فِي أَكْثَرِ الْعُقُودِ مَعَ بَعْضِ الاِسْتِثْنَاءَاتِ وَالْخِلاَفِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِل.
يَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: مَنْ تَدَبَّرَ مَصَادِرَ الشَّرْعِ وَمَوَارِدَهُ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الشَّارِعَ أَلْغَى الأَْلْفَاظَ الَّتِي لَمْ يَقْصِدِ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا مَعَانِيَهَا بَل جَرَتْ عَلَى غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ، كَالنَّائِمِ وَالنَّاسِي وَالسَّكْرَانِ وَالْجَاهِل وَالْمُكْرَهِ وَالْمُخْطِئِ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ أَوِ الْغَضَبِ أَوِ الْمَرَضِ، وَنَحْوِهِمْ، وَلَمْ يُكَفِّرْ مَنْ قَال مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهِ بِرَاحِلَتِهِ بَعْدَ يَأْسِهِ مِنْهَا: (اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ) (2) فَكَيْفَ
__________
(1) المنثور في القواعد 2 / 371 - 374.
(2) حديث: " الذي قال من شدة فرحه. . . ". أخرجه مسلم (4 / 2104 - 2105) من حديث أنس بن مالك.

(30/205)


يَعْتَبِرُ الأَْلْفَاظَ الَّتِي يُقْطَعُ بِأَنَّ مُرَادَ قَائِلِهَا خِلاَفُهَا؟ (1) .
وَيَقُول فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَإِنْ أَظْهَرَا خِلاَفَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ فَالْعِبْرَةُ لِمَا أَضْمَرَاهُ وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ وَقَصَدَاهُ بِالْعَقْدِ (2) .
وَيَقُول: إِنَّ الْقَصْدَ رُوحُ الْعَقْدِ وَمُصَحِّحُهُ وَمُبْطِلُهُ، فَاعْتِبَارُ الْمَقْصُودِ فِي الْعُقُودِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ الأَْلْفَاظِ، فَإِنَّ الأَْلْفَاظَ مَقْصُودَةٌ لِغَيْرِهَا، وَمَقَاصِدُ الْعُقُودِ هِيَ الَّتِي تُرَادُ لأَِجْلِهَا، فَعُلِمَ أَنَّ الاِعْتِبَارَ فِي الْعُقُودِ وَالأَْفْعَال بِحَقَائِقِهَا وَمَقَاصِدِهَا دُونَ ظَوَاهِرِ أَلْفَاظِهَا وَأَفْعَالِهَا (3) .
وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ هَذَا النَّصِّ الصَّرِيحِ فِي اعْتِبَارِ الْمَقَاصِدِ فِي الْعُقُودِ دُونَ الأَْلْفَاظِ فَإِنَّ الْحَنَابِلَةَ ذَكَرُوا بَعْضَ الْمَسَائِل الَّتِي يَخْتَلِفُونَ فِي اعْتِبَارِ الْمَقَاصِدِ أَوِ الأَْلْفَاظِ فِيهَا.
قَال ابْنُ رَجَبٍ: إِذَا وَصَل بِأَلْفَاظِ الْعُقُودِ مَا يُخْرِجُهَا عَنْ مَوْضُوعِهَا فَهَل يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِذَلِكَ، أَوْ يُجْعَل كِنَايَةً عَمَّا يُمْكِنُ صِحَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ؟ فِيهِ خِلاَفٌ يَلْتَفِتُ إِلَى أَنَّ الْمُغَلَّبَ هَل هُوَ اللَّفْظُ أَوِ الْمَعْنَى؟ وَيَتَخَرَّجُ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِل:
__________
(1) إعلام الموقعين 3 / 107.
(2) إعلام الموقعين 3 / 106.
(3) المرجع السابق 3 / 106، 107.

(30/206)


مِنْهَا: لَوْ أَعَارَهُ شَيْئًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ الْعِوَضَ فَهَل يَصِحُّ أَمْ لاَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ وَيَكُونُ كِنَايَةً عَنِ الْقَرْضِ فَيَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ إِذَا كَانَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا، وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَفْسُدُ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْعِوَضَ يُخْرِجُهَا عَنْ مَوْضِعِهَا.
وَمِنْهَا: لَوْ قَال: خُذْ هَذَا الْمَال مُضَارَبَةً وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لَكَ، أَوْ لِي، فَقَال الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: إِنَّهَا مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ يَسْتَحِقُّ فِيهَا أُجْرَةَ الْمِثْل، وَكَذَلِكَ قَال فِي الْمُغْنِي، وَنَقَل ابْنُ رَجَبٍ عَنِ الْمُغْنِي أَنَّهُ قَال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّهُ إِبْضَاعٌ صَحِيحٌ، فَرَاعَى الْحُكْمَ دُونَ اللَّفْظِ.
وَمِنْهَا: لَوْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ حَالًّا فَهَل يَصِحُّ وَيَكُونُ بَيْعًا؟ أَوْ لاَ يَصِحُّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ: لاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ بِلَفْظِ السَّلَمِ، وَالثَّانِي: يَصِحُّ، قَالَهُ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ مِنْ خِلاَفِهِ (1) .
وَهَكَذَا نَجِدُ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي تَطْبِيقِ قَاعِدَةِ تَرْجِيحِ الْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي عَلَى الأَْلْفَاظِ وَالْمَبَانِي فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ مَعَ أَخْذِهِمْ بِهَا كَأَصْلٍ.

الصَّرِيحُ وَالْكِنَايَةُ فِي الصِّيغَةِ.
12 - مِنَ الصِّيَغِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الدَّلاَلَةِ عَلَى
__________
(1) القواعد في الفقه لابن رجب ص49، 50.

(30/206)


الْمُرَادِ فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ أَوْ قَرِينَةٍ؛ لأَِنَّ الْمَعْنَى مَكْشُوفٌ عِنْدَ السَّامِعِ كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ كِنَايَةٌ، فَلاَ يَدُل عَلَى الْمُرَادِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ أَوِ الْقَرِينَةِ؛ لأَِنَّهُ كَمَا يَقُول الشُّبْرَامِلْسِيُّ يَحْتَمِل الْمُرَادَ وَغَيْرَهُ، فَيَحْتَاجُ فِي الاِعْتِدَادِ بِهِ لِنِيَّةِ الْمُرَادِ لِخَفَائِهِ.
وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الطَّلاَقَ وَالْعِتْقَ وَالأَْيْمَانَ وَالنُّذُورَ تَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ كَمَا تَنْعَقِدُ بِالصَّرِيحِ.
وَلَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي انْعِقَادِ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ بِالْكِنَايَاتِ (1) .
وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ تَفْصِيلاً فِي بَيَانِ اسْتِعْمَال صِيَغِ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ فِي الْعُقُودِ هُمُ الشَّافِعِيَّةُ، فَفِي الْمَجْمُوعِ لِلنَّوَوِيِّ: قَال أَصْحَابُنَا: كُل تَصَرُّفٍ يَسْتَقِل بِهِ الشَّخْصُ كَالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ وَالإِْبْرَاءِ يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ بِلاَ خِلاَفٍ كَمَا يَنْعَقِدُ بِالصَّرِيحِ، وَأَمَّا مَا لاَ يَسْتَقِل بِهِ بَل يَفْتَقِرُ إِلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الإِْشْهَادُ كَالنِّكَاحِ وَبَيْعِ الْوَكِيل إِذَا شَرَطَ الْمُوَكِّل الإِْشْهَادَ، فَهَذَا
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 15، 101 و4 / 46 و5 / 84 وجواهر الإكليل 2 / 231، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 318 وحاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 6 / 84، والمنثور 2 / 310، و3 / 101، 118 ومنتهى الإرادات 3 / 427.

(30/207)


لاَ يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ بِلاَ خِلاَفٍ؛ لأَِنَّ الشَّاهِدَ لاَ يَعْلَمُ النِّيَّةَ.
وَالثَّانِي: مَا لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الإِْشْهَادُ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يَقْبَل مَقْصُودُهُ التَّعْلِيقَ بِالْغَرَرِ كَالْكِتَابَةِ وَالْخُلْعِ فَيَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَالثَّانِي: مَا لاَ يَقْبَلُهُ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَغَيْرِهَا، وَفِي انْعِقَادِ هَذِهِ الْعُقُودِ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، أَصَحُّهُمَا الاِنْعِقَادُ كَالْخُلْعِ لِحُصُول التَّرَاضِي مَعَ جَرَيَانِ اللَّفْظِ وَإِرَادَةِ الْمَعْنَى، وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِ: قَال لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِعْنِي جَمَلَكَ، فَقُلْتُ: إِنَّ لِرَجُلٍ عَلَيَّ أُوقِيَّةَ ذَهَبٍ فَهُوَ لَكَ بِهَا، قَال: قَدْ أَخَذْتُهُ (1) .
قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَالْخِلاَفُ فِي انْعِقَادِ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ هُوَ فِيمَا إِذَا عَدِمَتْ قَرَائِنَ الأَْحْوَال، فَإِنْ تَوَفَّرَتْ وَأَفَادَتِ التَّفَاهُمَ وَجَبَ الْقَطْعُ بِالصِّحَّةِ، لَكِنَّ النِّكَاحَ لاَ يَصِحُّ بِالْكِنَايَةِ وَإِنْ تَوَافَرَتِ الْقَرَائِنُ (2)
__________
(1) حديث جابر: " بعني جملك. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1222) .
(2) المجموع للنووي 9 / 153 - 154 تحقيق المطيعي، وينظر المنثور 3 / 118، 2 / 306، 307.

(30/207)


وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَابِلَةِ فِي دُخُول الْكِنَايَةِ فِي الْعُقُودِ، فَفِي الْقَوَاعِدِ لاِبْنِ رَجَبٍ: يَخْتَلِفُ الأَْصْحَابُ فِي انْعِقَادِ الْعُقُودِ بِالْكِنَايَاتِ، فَقَال الْقَاضِي فِي مَوَاضِعَ: لاَ كِنَايَةٌ إِلاَّ فِي الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ، وَسَائِرُ الْعُقُودِ لاَ كِنَايَاتٌ فِيهَا (1) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ: أَنَّ الْبَيْعَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقَعُ بِالأَْلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ وَبِالْكِنَايَةِ، ثُمَّ قَال: وَلاَ أَذْكُرُ لِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ قَوْلاً (2) ، إِلاَّ أَنَّ الْقُرْطُبِيَّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ} (3) قَال: الْبَيْعُ قَبُولٌ وَإِيجَابٌ يَقَعُ بِاللَّفْظِ الْمُسْتَقْبَل وَالْمَاضِي، فَالْمَاضِي فِيهِ حَقِيقَةٌ، وَالْمُسْتَقْبَل كِنَايَةٌ، ثُمَّ قَال: وَالْبَيْعُ يَقَعُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ الْمَفْهُومِ مِنْهَا نَقْل الْمِلْكِ (4) ، وَنَقَل الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ يُونُسَ وَغَيْرِهِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ الْبَيْعِ بِلَفْظِ الْمَاضِي فَتَلْزَمُ، أَوْ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ فَيَحْلِفُ، ثُمَّ نَقَل قَوْل الْقُرْطُبِيِّ: الْبَيْعُ يَقَعُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ الْمَفْهُومِ مِنْهَا نَقْل الْمِلْكِ، وَفِي الْحَطَّابِ أَيْضًا: إِنْ أَتَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي
__________
(1) القواعد لابن رجب ص50 القاعدة 39.
(2) بداية المجتهد 2 / 185 نشر مكتبة الكليات الأزهرية.
(3) سورة البقرة / 275.
(4) القرطبي 3 / 357.

(30/208)


الْبَيْعِ فَكَلاَمُهُ مُحْتَمَلٌ فَيَحْلِفُ عَلَى مَا أَرَادَهُ (1) .
وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْكِنَايَةَ تَدْخُل فِي الْعُقُودِ كَذَلِكَ، قَال الْكَاسَانِيُّ فِي بَابِ الْهِبَةِ: لَوْ قَال: حَمَلْتُكَ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِل الْهِبَةَ، وَيَحْتَمِل الْعَارِيَّةَ، فَإِنَّهُ وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيل اللَّهِ فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: لاَ تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ (2) .
فَاحْتَمَل تَمْلِيكَ الْعَيْنِ وَاحْتَمَل تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ، فَلاَ بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ لِلتَّعْيِينِ (3) ، وَقَال الْكَاسَانِيُّ: لَوْ قَال الْبَائِعُ: أَبِيعُهُ مِنْكَ بِكَذَا، وَقَال الْمُشْتَرِي: أَشْتَرِيهِ، وَنَوَيَا الإِْيجَابَ فَإِنَّ الرُّكْنَ يَتِمُّ وَيَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا النِّيَّةَ هُنَا - وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ أَفْعَل لِلْحَال هُوَ الصَّحِيحَ -؛ لأَِنَّهُ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا لِلاِسْتِقْبَال إِمَّا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، فَوَقَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ (4) .
__________
(1) الحطاب 4 / 232.
(2) حديث: " أن عمر قال: " حملت على فرس في سبيل الله. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 352) ومسلم (3 / 1240) واللفظ للبخاري.
(3) بدائع الصنائع 6 / 116.
(4) بدائع الصنائع 5 / 133.

(30/208)


ب - الْعَقْدُ بِالْكِتَابَةِ أَوِ الرِّسَالَةِ.
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى صِحَّةِ الْعُقُودِ وَانْعِقَادِهَا بِالْكِتَابَةِ وَإِرْسَال رَسُولٍ إِذَا تَمَّ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول بِهِمَا، وَهَذَا فِي غَيْرِ عَقْدِ النِّكَاحِ (1) .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الْعُقُودِ وَفَصَّلُوا فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ. قَال الْمَرْغِينَانِيُّ: الْكِتَابُ كَالْخِطَابِ، وَكَذَا الإِْرْسَال، حَتَّى اعْتُبِرَ مَجْلِسُ بُلُوغِ الْكِتَابِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ (2) . وَقَال الدُّسُوقِيُّ فِي بَابِ الْبَيْعِ: يَصِحُّ بِقَوْلٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ أَوْ كِتَابَةٍ مِنْهُمَا، أَوْ قَوْلٍ مِنْ أَحَدِهِمَا وَكِتَابَةٍ مِنَ الآْخَرِ (3) .
أَمَّا عَقْدُ النِّكَاحِ فَلاَ يَنْعَقِدُ بِالْكِتَابَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَاقِدَانِ حَاضِرَيْنِ أَمْ غَائِبَيْنِ، قَال الدَّرْدِيرُ: وَلاَ تَكْفِي فِي النِّكَاحِ الإِْشَارَةُ وَلاَ الْكِتَابَةُ إِلاَّ لِضَرُورَةِ خَرَسٍ (4) .
وَقَال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَفُسِخَ مُطْلَقًا قَبْل الدُّخُول وَبَعْدَهُ وَإِنْ طَال، كَمَا لَوِ اخْتَل شَرْطٌ
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 4 / 10، وحاشية الدسوقي وبهامشه الشرح الكبير للدردير 3 / 3، مغني المحتاج 2 / 5، وحاشية القليوبي 2 / 154، وكشاف القناع 3 / 148.
(2) الهداية مع فتح القدير 5 / 79.
(3) حاشية الدسوقي وبهامشه الشرح الكبير للدردير 3 / 3.
(4) الشرح الصغير 2 / 350.

(30/209)


مِنْ شُرُوطِ الْوَلِيِّ أَوِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، أَوِ اخْتَل رُكْنٌ، كَمَا لَوْ زَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِلاَ وَلِيٍّ أَوْ لَمْ تَقَعِ الصِّيغَةُ بِقَوْلٍ، بَل بِكِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ بِقَوْلٍ غَيْرِ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا (1) .
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَلاَ يَنْعَقِدُ بِكِتَابَةٍ فِي غَيْبَةٍ أَوْ حُضُورٍ؛ لأَِنَّهَا كِنَايَةٌ، فَلَوْ قَال لِغَائِبٍ: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي، أَوْ قَال: زَوَّجْتُهَا مِنْ فُلاَنٍ، ثُمَّ كَتَبَ فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ فَقَال: قَبِلْتُ، لَمْ يَصِحَّ (2) .
وَقَال الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَصِحُّ النِّكَاحُ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى النُّطْقِ بِإِشَارَةٍ وَلاَ كِتَابَةٍ لِلاِسْتِغْنَاءِ عَنْهَا (3) .
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فِي جَوَازِ عَقْدِ النِّكَاحِ بِالْكِتَابَةِ فَقَالُوا: لاَ يَنْعَقِدُ بِكِتَابَةِ حَاضِرٍ، فَلَوْ كَتَبَ: تَزَوَّجْتُكِ، فَكَتَبَتْ: قَبِلْتُ، لَمْ يَنْعَقِدْ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَتْ: قَبِلْتُ، أَمَّا كِتَابَةُ غَائِبٍ عَنِ الْمَجْلِسِ فَيَنْعَقِدُ بِهَا النِّكَاحُ بِشُرُوطٍ وَكَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ نَقَلَهَا ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَتْحِ فَقَال: يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْكِتَابَةِ كَمَا يَنْعَقِدُ بِالْخِطَابِ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهَا يَخْطُبَهَا، فَإِذَا بَلَغَهَا الْكِتَابُ أَحْضَرَتِ الشُّهُودَ وَقَرَأَتْهُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَتْ: زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْهُ، أَوْ تَقُول: إِنَّ فُلاَنًا كَتَبَ إِلَيَّ يَخْطِبُنِي فَاشْهَدُوا أَنِّي زَوَّجْتُ
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 387.
(2) مغني المحتاج 3 / 141.
(3) كشاف القناع 5 / 39.

(30/209)


نَفْسِي مِنْهُ، أَمَّا لَوْ لَمْ تَقُل بِحَضْرَتِهِمْ سِوَى: زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْ فُلاَنٍ، لاَ يَنْعَقِدُ؛ لأَِنَّ سَمَاعَ الشَّطْرَيْنِ شَرْطُ صِحَّةِ النِّكَاحِ، وَبِإِسْمَاعِهِمُ الْكِتَابَ أَوِ التَّعْبِيرَ عَنْهُ مِنْهَا يَكُونُونَ قَدْ سَمِعُوا الشَّطْرَيْنِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا انْتَفَيَا، وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ الْكَامِل: هَذَا الْخِلاَفَ إِذَا كَانَ الْكِتَابُ بِلَفْظِ التَّزَوُّجِ، أَمَّا إِذَا كَانَ بِلَفْظِ الأَْمْرِ، كَقَوْلِهِ: زَوِّجِي نَفْسَكِ مِنِّي، لاَ يُشْتَرَطُ إِعْلاَمُهَا الشُّهُودَ بِمَا فِي الْكِتَابِ؛ لأَِنَّهَا تَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ (1) .
14 - وَيُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِالْكِتَابَةِ - عُمُومًا - أَنْ تَكُونَ مُسْتَبِينَةً؛ أَيْ تَبْقَى صُورَتُهَا بَعْدَ الاِنْتِهَاءِ مِنْهَا، كَالْكِتَابَةِ عَلَى الصَّحِيفَةِ أَوِ الْوَرَقِ، وَأَنْ تَكُونَ مَرْسُومَةً بِالطَّرِيقَةِ الْمُعْتَادَةِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ فَتُقْرَأُ وَتُفْهَمُ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُسْتَبِينَةٍ كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْمَاءِ أَوِ الْهَوَاءِ، أَوْ غَيْرَ مَرْسُومَةٍ بِالطَّرِيقَةِ الْمُعْتَادَةِ فَلاَ يَنْعَقِدُ بِهَا أَيَّ عَقْدٍ.
وَوَجْهُ انْعِقَادِ الْعُقُودِ بِالْكِتَابَةِ هُوَ أَنَّ الْقَلَمَ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ كَمَا قَال الْفُقَهَاءُ (2) ، بَل رُبَّمَا تَكُونُ هِيَ أَقْوَى مِنَ الأَْلْفَاظِ، وَلِذَلِكَ حَثَّ
__________
(1) حاشية رد المحتار على الدر المختار 2 / 265، وانظر أيضًا فتح القدير مع الهداية 2 / 350 ط. مصطفى محمد.
(2) بدائع الصنائع 4 / 55، وابن عابدين 4 / 455، 456، وجواهر الإكليل 1 / 348، ومغني المحتاج 2 / 5.

(30/210)


اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى تَوْثِيقِ دُيُونِهِمْ بِالْكِتَابَةِ حَيْثُ قَال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا} (1) .

ج - الْعَقْدُ بِالإِْشَارَةِ.
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِشَارَةَ الأَْخْرَسِ الْمَعْهُودَةَ وَالْمَفْهُومَةَ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا، فَيَنْعَقِدُ بِهَا جَمِيعُ الْعُقُودِ، كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهَا.
قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: الإِْشَارَةُ مِنَ الأَْخْرَسِ مُعْتَبَرَةٌ وَقَائِمَةٌ مَقَامَ الْعِبَارَةِ فِي كُل شَيْءٍ (2) .
وَقَال النَّفْرَاوِيُّ: يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِالْكَلاَمِ وَبِغَيْرِهِ مِنْ كُل مَا يَدُل عَلَى الرِّضَا (3)
وَقَال الْخَطِيبُ: إِشَارَةُ الأَْخْرَسِ وَكِتَابَتُهُ بِالْعَقْدِ كَالنُّطْقِ لِلضَّرُورَةِ (4) . وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ الْحَنَابِلَةُ (5) .
وَاخْتَلَفُوا فِي إِشَارَةِ غَيْرِ الأَْخْرَسِ، فَقَال
__________
(1) سورة البقرة / 282.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص343، 344.
(3) الفواكه الدواني 2 / 57.
(4) مغني المحتاج 2 / 17، وانظر حاشية القليوبي مع عميرة 2 / 155، والمنثور للزركشي 1 / 164.
(5) المغني لابن قدامة 7 / 239.

(30/210)


جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِذَا كَانَ الشَّخْصُ قَادِرًا عَلَى النُّطْقِ لاَ تُعْتَبَرُ إِشَارَتُهُ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ صَرَّحُوا بِاعْتِبَارِ الإِْشَارَةِ فِي الْعُقُودِ وَلَوْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّطْقِ (1) .
وَهَل عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكِتَابَةِ شَرْطٌ لِلْعَمَل بِالإِْشَارَةِ أَمْ لاَ؟ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ أَيْضًا.
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (إِشَارَة) .

د - الْعَقْدُ بِالتَّعَاطِي (الْمُعَاطَاةِ) .
16 - التَّعَاطِي مَصْدَرُ تَعَاطَى، مِنَ الْعَطْوِ بِمَعْنَى التَّنَاوُل، وَصُورَتُهُ فِي الْبَيْعِ: أَنْ يَأْخُذَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ وَيَدْفَعَ لِلْبَائِعِ الثَّمَنَ، أَوْ يَدْفَعَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ فَيَدْفَعَ الآْخَرُ الثَّمَنَ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّمٍ وَلاَ إِشَارَةٍ، وَكَمَا يَكُونُ التَّعَاطِي فِي الْبَيْعِ يَكُونُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمُعَاوَضَاتِ (2) .
وَعَقْدُ الزَّوَاجِ لاَ يَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي (3) .
أَمَّا سَائِرُ الْعُقُودِ فَالأَْصْل فِيهَا أَنْ تَنْعَقِدَ بِالأَْقْوَال؛ لأَِنَّ الأَْفْعَال لَيْسَ لَهَا دَلاَلَةٌ بِأَصْل وَضْعِهَا عَلَى الاِلْتِزَامِ بِالْعَقْدِ، لَكِنْ إِذَا كَانَ التَّعَاطِي يَنْطَوِي عَلَى دَلاَلَةٍ تُشْبِهُ الدَّلاَلَةَ
__________
(1) المراجع السابقة، ومجلة الأحكام العدلية المادة (70) .
(2) لسان العرب وحاشية الدسوقي 3 / 3.
(3) ابن عابدين 5 / 365، ومغني المحتاج 3 / 140، وكشاف القناع 5 / 41.

(30/211)


اللَّفْظِيَّةَ حَسْبَ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِهِ الْعَقْدُ إِذَا وُجِدَتْ قَرَائِنُ تَدُل عَلَى أَنَّهُ يُفِيدُ الرِّضَا، وَهَذَا فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالاِسْتِصْنَاعِ وَنَحْوِهَا، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: عَدَمُ جَوَازِ الْعُقُودِ بِالتَّعَاطِي، وَبَعْضُهُمْ أَجَازَ الْعَقْدَ بِالتَّعَاطِي فِي الْمُحَقَّرَاتِ دُونَ غَيْرِهَا، وَاخْتَارَ النَّوَوِيُّ وَجَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ الاِنْعِقَادَ بِهَا فِي كُل مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ بَيْعًا (1) .

مُوَافَقَةُ الْقَبُول لِلإِْيجَابِ.
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ لاِنْعِقَادِ الْعَقْدِ مِنْ تَوَافُقِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول، فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً يُشْتَرَطُ أَنْ يَقْبَل الْمُشْتَرِي مَا أَوْجَبَهُ الْبَائِعُ بِمَا أَوْجَبَهُ، فَإِنْ خَالَفَهُ بِأَنْ قَبِل غَيْرَ مَا أَوْجَبَهُ أَوْ بَعْضَ مَا أَوْجَبَهُ، أَوْ بِغَيْرِ مَا أَوْجَبَهُ أَوْ بِبَعْضِ مَا أَوْجَبَهُ لاَ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ مُبْتَدَأٍ مُوَافِقٍ (2) .
قَال فِي الْبَدَائِعِ: إِذَا أَوْجَبَ الْبَيْعَ فِي
__________
(1) ابن عابدين 4 / 17 وما بعدها، وشرح المجلة للأتاسي 2 / 36، وحاشية الدسوقي 3 / 3، ومغني المحتاج 2 / 3، وشرح منتهى الإرادات 2 / 141.
(2) بدائع الصنائع 5 / 136، 137، ومغني المحتاج 2 / 6، وكشاف القناع 3 / 146.

(30/211)


الثَّوْبِ فَقَبِل فِي ثَوْبٍ آخَرَ لاَ يَنْعَقِدُ، وَكَذَا إِذَا أَوْجَبَ فِي الثَّوْبَيْنِ فَقَبِل فِي أَحَدِهِمَا؛ لأَِنَّ الْقَبُول فِي أَحَدِهِمَا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ؛ وَلأَِنَّ الْقَبُول فِي أَحَدِهِمَا يَكُونُ إِعْرَاضًا عَنِ الْجَوَابِ بِمَنْزِلَةِ الْقِيَامِ عَنِ الْمَجْلِسِ.
وَكَذَا لَوْ أَوْجَبَ الْبَيْعَ فِي كُل الثَّوْبِ فَقَبِل الْمُشْتَرِي فِي نِصْفِهِ لاَ يَنْعَقِدُ؛ لأَِنَّ الْبَائِعَ يَتَضَرَّرُ بِالتَّفْرِيقِ. وَكَذَا إِذَا أَوْجَبَ الْبَيْعَ فِي شَيْءٍ بِأَلْفٍ فَقَبِل فِيهِ بِخَمْسِمِائَةٍ لاَ يَنْعَقِدُ، أَوْ أَوْجَبَ بِجِنْسِ ثَمَنٍ فَقَبِل بِجِنْسٍ آخَرَ (1) .
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: وَيُشْتَرَطُ لاِنْعِقَادِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ الْقَبُول عَلَى وَفْقِ الإِْيجَابِ فِي الْقَدْرِ، فَلَوْ خَالَفَ كَأَنْ يَقُول: بِعْتُكَ بِعَشَرَةٍ، فَقَال: اشْتَرَيْتُهُ بِثَمَانِيَةٍ، لَمْ يَنْعَقِدْ (2) وَأَنْ يَكُونَ عَلَى وَفْقِهِ فِي النَّقْدِ وَصِفَتِهِ وَالْحُلُول وَالأَْجَل، فَلَوْ قَال: بِعْتُكَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَال: اشْتَرَيْتُهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ، أَوْ قَال: بِعْتُكَ بِأَلْفٍ صَحِيحَةٍ، فَقَال: اشْتَرَيْتُ بِأَلْفٍ مُكَسَّرَةٍ وَنَحْوِهِ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لأَِنَّهُ رَدٌّ لِلإِْيجَابِ لاَ قَبُولٌ لَهُ (3) .
وَمِثْلُهُ فِي كُتُبِ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ (4) .
وَيَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ. لاِنْعِقَادِ الْعَقْدِ تَوَافُقَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول فِي الْمَعْنَى، وَلِهَذَا ذَكَرُوا أَنَّهُ لَوْ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 136، 137.
(2) كشاف القناع 3 / 146، 147.
(3) كشاف القناع 3 / 146، 147.
(4) مغني المحتاج 2 / 6، 7.

(30/212)


قَال: بِعْتُكَهُ بِأَلْفٍ فَقَال: اشْتَرَيْتُ بِأَلْفَيْنِ جَازَ؛ لأَِنَّ الْقَابِل بِالأَْكْثَرِ قَابِلٌ بِالأَْقَل، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِنْ قَبِل الْبَائِعُ الزِّيَادَةَ تَمَّ الْعَقْدُ بِأَلْفَيْنِ، وَإِلاَّ صَحَّ بِأَلْفٍ فَقَطْ، إِذْ لَيْسَ لِلْقَابِل وِلاَيَةُ إِدْخَال الزِّيَادَةِ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ بِلاَ رِضَاهُ كَمَا عَلَّلَهُ ابْنُ الْهُمَامِ وَغَيْرُهُ (1) .

اتِّصَال الْقَبُول بِالإِْيجَابِ:
18 - يُشْتَرَطُ لاِنْعِقَادِ الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ الْقَبُول مُتَّصِلاً بِالإِْيجَابِ، وَيَحْصُل هَذَا الاِتِّصَال بِاتِّحَادِ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، بِأَنْ يَقَعَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول مَعًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا كَانَ الْعَاقِدَانِ حَاضِرَيْنِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَحْصُل الْقَبُول فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي صَدَرَ فِيهِ الإِْيجَابُ، وَإِذَا كَانَ مَنْ وُجِّهَ إِلَيْهِ الإِْيجَابُ غَائِبًا يُشْتَرَطُ أَنْ يَحْصُل الْقَبُول فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ بِالإِْيجَابِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الْعُقُودِ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ، كَعَقْدِ الْوَكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ.
وَمُقْتَضَى هَذَا الشَّرْطِ: أَنْ يَكُونَ الْمُوجِبُ بَاقِيًا عَلَى إِيجَابِهِ إِلَى أَنْ يَتَّصِل بِهِ الْقَبُول فِي الْمَجْلِسِ، وَلاَ يَرْجِعَ عَنِ الإِْيجَابِ قَبْل اتِّصَال الْقَبُول بِهِ، وَلاَ يَصْدُرُ عَنْهُ أَوْ مِمَّنْ وُجِّهَ إِلَيْهِ الإِْيجَابُ مَا يَدُل عَلَى الإِْعْرَاضِ وَلاَ يَنْفَضَّ مَجْلِسُ الْعَقْدِ قَبْل تَمَامِ الْعَقْدِ وَلاَ يَعْنِي هَذَا
__________
(1) فتح: القدير 5 / 77، ورد المحتار 4 / 19.

(30/212)


بِالضَّرُورَةِ أَنْ يَحْصُل الْقَبُول فَوْرَ صُدُورِ الإِْيجَابِ، فَالْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ لاَ يَشْتَرِطُونَ الْفَوْرِيَّةَ فِي الْقَبُول، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَتَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي:

أ - رُجُوعُ الْمُوجِبِ عَنِ الإِْيجَابِ.
19 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الإِْيجَابَ غَيْرُ مُلْزِمٍ، وَلِلْمُوجِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ إِيجَابِهِ قَبْل قَبُول الطَّرَفِ الآْخَرِ، سَوَاءٌ ذَلِكَ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا، أَمْ فِي عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ، كَالْهِبَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَمِثْلِهِمَا، قَال فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَلِلْمُوجِبِ أَيًّا كَانَ أَنْ يَرْجِعَ قَبْل قَبُول الآْخَرِ (1) ، وَفِي الْبَدَائِعِ: لَوْ خَاطَبَ ثُمَّ رَجَعَ قَبْل قَبُول الآْخَرِ صَحَّ رُجُوعُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَتَبَ شَطْرَ الْعَقْدِ ثُمَّ رَجَعَ (2) ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى صِحَّةِ الرُّجُوعِ بِأَنَّ الْمُوجِبَ هُوَ الَّذِي أَثْبَتَ لِلْمُخَاطَبِ وِلاَيَةَ الْقَبُول، فَلَهُ أَنْ يَرْفَعَهَا كَعَزْل الْوَكِيل؛ وَلأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزِ الرُّجُوعُ لَزِمَ تَعْطِيل حَقِّ الْمِلْكِ بِحَقِّ التَّمَلُّكِ، فَالْبَائِعُ مَثَلاً مَالِكٌ لِلسِّلْعَةِ، وَالْمُشْتَرِي يَتَمَلَّكُهَا بِالْعَقْدِ، وَلاَ يُعَارِضُ حَقُّ التَّمَلُّكِ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ (3) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 8.
(2) بدائع الصنائع للكاساني 5 / 138.
(3) فتح القدير 5 / 78.

(30/213)


وَعَلَى ذَلِكَ إِذَا رَجَعَ الْمُوجِبُ قَبْل الْقَبُول ثُمَّ قَبِل الْمُخَاطَبُ لاَ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ؛ لِبُطْلاَنِ الإِْيجَابِ بِالرُّجُوعِ وَعَدَمِ اتِّصَال الْقَبُول بِالإِْيجَابِ.
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ فِي شُرُوطِ الاِنْعِقَادِ: وَأَنْ يُصِرَّ الْبَادِي عَلَى مَا أَتَى بِهِ مِنَ الإِْيجَابِ إِلَى الْقَبُول (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ نَقَل الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ رُشْدٍ الْجَدِّ: أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ عَمَّا أَوْجَبَهُ لِصَاحِبِهِ قَبْل أَنْ يُجِيبَهُ الآْخَرُ لَمْ يُفِدْهُ رُجُوعُهُ إِذَا أَجَابَهُ صَاحِبُهُ بَعْدُ بِالْقَبُول (2) ، وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ رُجُوعَ الْمُوجِبِ عَنِ الإِْيجَابِ لاَ يُبْطِل الإِْيجَابَ، بَل يَبْقَى إِلَى أَنْ يَقْبَلَهُ الطَّرَفُ الآْخَرُ فَيَتَّصِل بِهِ الْقَبُول، وَيَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، أَوْ يَرُدُّهُ فَلاَ يَنْعَقِدُ، وَيَرَى الدُّسُوقِيُّ أَنَّ قَوْل ابْنِ رُشْدٍ هَذَا إِنَّمَا هُوَ فِيمَا تَكُونُ فِيهِ الصِّيغَةُ مُلْزِمَةً كَصِيغَةِ الْمَاضِي (3) .
وَهَل لِلْقَابِل أَنْ يَرْجِعَ عَنْ قَبُولِهِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ؟ فِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يَأْتِي بَيَانُهُ

ب - صُدُورُ مَا يَدُل عَلَى الإِْعْرَاضِ مِنْ قِبَل الْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا.
20 - يُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِ الاِتِّصَال بَيْنَ الإِْيجَابِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 6، والوجيز للغزالي 1 / 139، والشرح الكبير مع المغني 4 / 4.
(2) مواهب الجليل 4 / 240، 241.
(3) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 4.

(30/213)


وَالْقَبُول أَنْ لاَ يَصْدُرَ مِنَ الْمُوجِبِ أَوِ الطَّرَفِ الآْخَرِ أَوْ كِلَيْهِمَا مَا يَدُل عَلَى الإِْعْرَاضِ عَنِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْكَلاَمُ فِي مَوْضُوعِ الْعَقْدِ، وَلاَ يَتَخَلَّلَهُ فَصْلٌ يُعَدُّ قَرِينَةً عَلَى الاِنْصِرَافِ عَنِ الْعَقْدِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْبَحْرِ: الإِْيجَابُ يَبْطُل بِمَا يَدُل عَلَى الإِْعْرَاضِ (1) .
وَقَال الْحَطَّابُ: لَوْ حَصَل فَاصِلٌ يَقْتَضِي الإِْعْرَاضَ عَمَّا كَانَا فِيهِ حَتَّى لاَ يَكُونَ كَلاَمُهُ جَوَابًا لِلْكَلاَمِ السَّابِقِ فِي الْعُرْفِ لَمْ يَنْعَقِدِ الْبَيْعُ، وَمَثَّل لِلإِْعْرَاضِ بِقَوْلِهِ: إِذَا أَمْسَكَ الْبَائِعُ السِّلْعَةَ الَّتِي نَادَى عَلَيْهَا وَبَاعَ بَعْدَهَا أُخْرَى لَمْ يَلْزَمِ الْمُشْتَرِيَ الْبَيْعُ (2) .
وَشَدَّدَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: وَيُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يَتَخَلَّل الإِْيجَابَ وَالْقَبُول لَفْظٌ لاَ تَعَلُّقَ لَهُ بِالْعَقْدِ وَلَوْ يَسِيرًا (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي مَعْرِضِ شُرُوطِ الاِنْعِقَادِ: أَنْ لاَ يَتَشَاغَلاَ بِمَا يَقْطَعُهُ عُرْفًا، وَإِلاَّ فَلاَ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ إِعْرَاضٌ عَنِ الْعَقْدِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَرَّحَا بِالرَّدِّ (4) .
وَأَسَاسُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا يُعْتَبَرُ إِقْبَالاً عَلَى
__________
(1) ابن عابدين 4 / 20.
(2) مواهب الجليل 4 / 240، 241.
(3) نهاية المحتاج 3 / 269، 270.
(4) كشاف القناع 3 / 147، 148.

(30/214)


الْعَقْدِ أَوْ إِعْرَاضًا عَنْهُ هُوَ الْعُرْفُ، كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ (1) .

ج - وَفَاةُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول:
21 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ وَفَاةَ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ بَعْدَ الإِْيجَابِ وَقَبْل الْقَبُول يُبْطِل الإِْيجَابَ، فَلاَ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بَعْدَ الْوَفَاةِ بِقَبُول مَنْ وُجِّهَ إِلَيْهِ الإِْيجَابُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوجِبِ، وَلاَ بِقَبُول وَرَثَةِ الْمُخَاطَبِ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
وَدَلِيل عَدَمِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ هُوَ أَنَّ الْقَبُول بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوجِبِ لاَ يَجِدُ مَا يَلْتَقِي مَعَهُ مِنَ الإِْيجَابِ لِبُطْلاَنِهِ بِالْوَفَاةِ؛ وَلأَِنَّ مَجْلِسَ الْعَقْدِ انْفَضَّ بِالْوَفَاةِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الاِنْعِقَادِ، وَهُوَ اتِّصَال الْقَبُول بِالإِْيجَابِ (2) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالظَّاهِرُ مِنْ نُصُوصِهِمْ أَنَّ الإِْيجَابَ لاَ يَبْطُل عِنْدَهُمْ بِمَوْتِ الْمُخَاطَبِ، وَأَنَّ حَقَّ الْقَبُول يُورَثُ بَعْدَ وَفَاةِ مَنْ وُجِّهَ إِلَيْهِ الإِْيجَابُ، يَقُول الْقَرَافِيُّ: إِذَا أَوْجَبَ لِزَيْدٍ فَلِوَارِثِهِ الْقَبُول وَالرَّدُّ (3) ، وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) حاشية رد المحتار 4 / 20، والفتاوى الهندية 3 / 7، ومغني المحتاج 2 / 6، والمغني لابن قدامة 4 / 9، 10.
(3) الفروق 3 / 277.

(30/214)


الْمَجْلِسَ لاَ يَنْفَضُّ بِوَفَاةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدَّمْنَا أَنَّ الْمُوجِبَ لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ عِنْدَهُمْ قَبْل قَبُول أَوْ رَدِّ الْمُخَاطَبِ (1) ، أَمَّا بَقَاءُ الإِْيجَابِ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوجِبِ أَوْ بُطْلاَنِهِ بِوَفَاتِهِ فَلَمْ نَعْثُرْ لَهُمْ عَلَى نَصٍّ فِي الْمَوْضُوعِ.
هَذَا، وَقَدْ أَلْحَقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْجُنُونَ وَالإِْغْمَاءَ بِالْوَفَاةِ فِي بُطْلاَنِ الإِْيجَابِ بِهِمَا (2) .

د - اتِّحَادُ مَجْلِسِ الْعَقْدِ.
22 - يُشْتَرَطُ لاِنْعِقَادِ الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ لاَ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، وَيَخْتَلِفُ مَجْلِسُ الْعَقْدِ بِاخْتِلاَفِ حَالَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَطَبِيعَةِ الْعَقْدِ وَكَيْفِيَّةِ التَّعَاقُدِ، فَمَجْلِسُ الْعَقْدِ فِي حَالَةِ حُضُورِ الْعَاقِدَيْنِ غَيْرُ مَجْلِسِ الْعَقْدِ فِي حَال غِيَابِهِمَا، كَمَا أَنَّ مَجْلِسَ الْعَقْدِ فِي حَالَةِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول بِالأَْلْفَاظِ وَالْعِبَارَةِ يَخْتَلِفُ عَنْهُمَا بِالْكِتَابَةِ وَالرِّسَالَةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

1 - مَجْلِسُ الْعَقْدِ فِي حَالَةِ حُضُورِ الْعَاقِدَيْنِ.
23 - تَدُل نُصُوصُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ مَجْلِسَ الْعَقْدِ فِي حَالَةِ حُضُورِ الْعَاقِدَيْنِ يَتَكَوَّنُ مِنْ
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب 4 / 240، 241.
(2) مغني المحتاج 2 / 6.

(30/215)


ثَلاَثَةِ عَنَاصِرَ: أَحَدُهَا: الْمَكَانُ، وَثَانِيهَا: الْفَتْرَةُ الزَّمَنِيَّةُ، وَثَالِثُهَا: حَالَةُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مِنَ الاِجْتِمَاعِ وَالاِنْصِرَافِ عَلَى الْعَقْدِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إِلَى مَكَانِ الْعَقْدِ فَوَاحِدٌ، وَهُوَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ، بِأَنْ كَانَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ لاَ يَنْعَقِدُ، حَتَّى لَوْ أَوْجَبَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ، فَقَامَ الآْخَرُ عَنِ الْمَجْلِسِ قَبْل الْقَبُول أَوِ اشْتَغَل بِعَمَلٍ آخَرَ يُوجِبُ اخْتِلاَفَ الْمَجْلِسِ، ثُمَّ قَبِل، لاَ يَنْعَقِدُ (1) .
وَوَرَدَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ أَنَّ مَجْلِسَ الْعَقْدِ: هُوَ الاِجْتِمَاعُ الْوَاقِعُ لِلْعَقْدِ (2) وَالدَّلِيل عَلَى اعْتِبَارِ الْمَجْلِسِ جَامِعًا لِلإِْيجَابِ وَالْقَبُول هُوَ: الضَّرُورَةُ دَفْعًا لِلْعُسْرِ وَتَحْقِيقًا لِلْيُسْرِ، وَإِلاَّ فَالإِْيجَابُ يَزُول بِزَوَال الْوَقْتِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ فَلاَ يَلْحَقُهُ الْقَبُول حَقِيقَةً، قَال الْكَاسَانِيُّ: الْقِيَاسُ أَنْ لاَ يَتَأَخَّرَ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ عَنِ الآْخَرِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؛ لأَِنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا انْعَدَمَ فِي الثَّانِي مِنْ زَمَانِ وُجُودِهِ، فَوُجِدَ الثَّانِي، وَالأَْوَّل مُنْعَدِمٌ فَلاَ يَنْتَظِمُ الرُّكْنُ، إِلاَّ أَنَّ اعْتِبَارَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى انْسِدَادِ بَابِ التَّعَاقُدِ، فَاعْتُبِرَ الْمَجْلِسُ جَامِعًا لِلشَّطْرَيْنِ حُكْمًا لِلضَّرُورَةِ (3)
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 137.
(2) مجلة الأحكام العدلية المادة (181) .
(3) بدائع الصنائع 5 / 137.

(30/215)


قَال الْبَابَرْتِيُّ: وَلأَِنَّ فِي إِبْطَال الإِْيجَابِ قَبْل انْقِضَاءِ الْمَجْلِسِ عُسْرًا بِالْمُشْتَرِي، وَفِي إِبْقَائِهِ فِي مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ عُسْرًا بِالْبَائِعِ، وَفِي التَّوَقُّفِ بِالْمَجْلِسِ يُسْرًا بِهِمَا جَمِيعًا، وَالْمَجْلِسُ جَامِعٌ لِلْمُتَفَرِّقَاتِ، فَجُعِلَتْ سَاعَاتُهُ سَاعَةً وَاحِدَةً دَفْعًا لِلْعُسْرِ وَتَحْقِيقًا لِلْيُسْرِ (1) .
هَذِهِ هِيَ عِبَارَاتُ الْحَنَفِيَّةِ، وَلاَ تَخْتَلِفُ عَنْهَا كَثِيرًا عِبَارَاتُ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ مِنِ اشْتِرَاطِ الْفَوْرِيَّةِ فِي الْقَبُول كَمَا سَيَأْتِي.
يَقُول الْحَطَّابُ: وَالَّذِي تَحَصَّل عِنْدِي مِنْ كَلاَمِ أَهْل الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إِذَا أَجَابَهُ فِي الْمَجْلِسِ بِمَا يَقْتَضِي الإِْمْضَاءَ وَالْقَبُول مِنْ غَيْرِ فَاصِلٍ لَزِمَهُ الْبَيْعُ اتِّفَاقًا، وَإِنْ تَرَاخَى الْقَبُول عَنِ الإِْيجَابِ حَتَّى انْقَضَى الْمَجْلِسُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْبَيْعُ اتِّفَاقًا، وَكَذَا لَوْ حَصَل فَاصِلٌ يَقْتَضِي الإِْعْرَاضَ عَمَّا كَانَا فِيهِ، حَتَّى لاَ يَكُونَ كَلاَمُهُ جَوَابًا لِلْكَلاَمِ السَّابِقِ فِي الْعُرْفِ لَمْ يَنْعَقِدْ (2) .
وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا قَالَهُ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ حَيْثُ صَرَّحَ بِأَنَّهُ: إِنْ تَرَاخَى الْقَبُول عَنِ الإِْيجَابِ صَحَّ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ وَلَمْ يَتَشَاغَلاَ بِمَا يَقْطَعُهُ، وَإِلاَّ فَلاَ؛ لأَِنَّ حَالَةَ الْمَجْلِسِ
__________
(1) العناية بهامش الهداية 5 / 78.
(2) مواهب الجليل 4 / 240، 241.

(30/216)


كَحَالَةِ الْعَقْدِ، بِدَلِيل أَنَّهُ يُكْتَفَى بِالْقَبْضِ فِيهِ لِمَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ (1) .
وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُمْ لاَ يُخَالِفُونَ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ وَأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى هَذِهِ الْعَنَاصِرِ الثَّلاَثَةِ، لَكِنَّهُمْ يُخَالِفُونَ الْجُمْهُورَ فِي اشْتِرَاطِ الْفَوْرِيَّةِ فِي الْقَبُول

التَّرَاخِي أَوِ الْفَوْرِيَّةُ فِي الْقَبُول.
24 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الْفَوْرِيَّةُ فِي الْقَبُول، فَمَا دَامَ الْمُتَعَاقِدَانِ فِي الْمَجْلِسِ، وَصَدَرَ الإِْيجَابُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَلَمْ يَصْدُرِ الْقَبُول إِلاَّ فِي آخِرِ الْمَجْلِسِ تَمَّ الْعَقْدُ عِنْدَهُمْ، فَلاَ يَضُرُّ التَّرَاخِي بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول إِذَا صَدَرَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ فِي تَرْكِ الْفَوْرِ ضَرُورَةً؛ لأَِنَّ الْقَابِل يَحْتَاجُ إِلَى التَّأَمُّل، وَلَوِ اقْتُصِرَ عَلَى الْفَوْرِ لاَ يُمْكِنُهُ التَّأَمُّل (2) .
وَقَال الْحَطَّابُ: وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يَحْصُل بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول فَصْلٌ بِكَلاَمِ أَجْنَبِيٍّ عَنِ الْعَقْدِ وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا، فَإِنْ أَجَابَهُ صَاحِبُهُ فِي الْمَجْلِسِ صَحَّ (3) .
__________
(1) الشرح الكبير مع المغني 4 / 4، وكشاف القناع 3 / 147، 148.
(2) بدائع الصنائع 5 / 137.
(3) مواهب الجليل 4 / 241.

(30/216)


وَقَال الْبُهُوتِيُّ: وَإِنْ تَرَاخَى الْقَبُول عَنِ الإِْيجَابِ صَحَّ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ (1) .
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمَجْلِسَ جَامِعٌ لِلْمُتَفَرِّقَاتِ (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: يُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يَطُول الْفَصْل بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول بِسُكُوتٍ وَلَوْ سَهْوًا أَوْ جَهْلاً عَلَى الْمُعْتَمَدِ؛ لأَِنَّ طُول الْفَصْل يُخْرِجُ الثَّانِيَ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنِ الأَْوَّل كَمَا عَلَّلَهُ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ (3) ، وَقَالُوا: يَضُرُّ تَخَلُّل كَلاَمٍ أَجْنَبِيٍّ عَنِ الْعَقْدِ - وَلَوْ يَسِيرًا - بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا عَنِ الْمَجْلِسِ، وَالْمُرَادُ بِالأَْجْنَبِيِّ مَا لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ وَلاَ مِنْ مَصَالِحِهِ وَلاَ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِهِ (4) .

عِلْمُ الْمُوجِبِ بِالْقَبُول:
25 - صَرَّحَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ سَمَاعَ كُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ كَلاَمَ الآْخَرِ شَرْطٌ لاِنْعِقَادِ الْعَقْدِ، وَهَذَا يَعْنِي اشْتِرَاطَ عِلْمِ الْمُوجِبِ بِقَبُول الْقَابِل فِي حَالَةِ التَّعَاقُدِ بَيْنَ الْحَاضِرَيْنِ.
وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: سَمَاعُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَلاَمَهُمَا شَرْطُ انْعِقَادِ الْبَيْعِ بِالإِْجْمَاعِ (5) .
__________
(1) كشاف القناع 3 / 147، 148.
(2) المراجع السابقة، والعناية على الهداية 5 / 78.
(3) مغني المحتاج 2 / 5، 6 وحاشية القليوبي 2 / 154.
(4) المرجعان السابقان.
(5) الفتاوى الهندية 3 / 3.

(30/217)


أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَيَشْتَرِطُونَ سَمَاعَ مَنْ يَقْرَبُ مِنَ الْعَاقِدِ لاَ سَمَاعَ نَفْسِ الْعَاقِدِ، قَال الأَْنْصَارِيُّ فِي شَرْحِ الْمَنْهَجِ: وَأَنْ يَتَلَفَّظَ بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ مَنْ بِقُرْبِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ صَاحِبُهُ (1) .
وَهَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْعَقْدُ بَيْنَ حَاضِرَيْنِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا أَوْجَبَ لِغَائِبٍ؛ لأَِنَّ الإِْيجَابَ لِلْغَائِبِ لَفْظًا كَالإِْيجَابِ لَهُ كِتَابَةً، وَسَيَأْتِي تَفْصِيل الْعَقْدِ بَيْنَ الْغَائِبَيْنِ.

2 - مَجْلِسُ الْعَقْدِ فِي حَالَةِ غِيَابِ الْعَاقِدَيْنِ:
26 - لَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْعَقْدَ كَمَا يَصِحُّ انْعِقَادُهُ بَيْنَ الْحَاضِرَيْنِ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول بِالْعِبَارَةِ كَذَلِكَ يَصِحُّ بَيْنَ الْغَائِبَيْنِ بِالْكِتَابَةِ أَوْ إِرْسَال رَسُولٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، فَإِذَا كَتَبَ شَخْصٌ لآِخَرَ مَثَلاً: بِعْتُك دَارِيَ بِكَذَا، فَوَصَل الْكِتَابُ لَهُ فَقَبِل انْعَقَدَ الْعَقْدُ.
وَالظَّاهِرُ مِنْ نُصُوصِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ مَجْلِسَ الْعَقْدِ حَالَةَ غِيَابِ الْعَاقِدَيْنِ هُوَ مَجْلِسُ قَبُول مَنْ وُجِّهَ لَهُ الْكِتَابُ، أَوْ أُرْسِل إِلَيْهِ الرَّسُول.
قَال الْمَرْغِينَانِيُّ: وَالْكِتَابُ كَالْخِطَابِ، وَكَذَا الإِْرْسَال، حَتَّى اعْتُبِرَ مَجْلِسُ بُلُوغِ الْكِتَابِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ (2)
__________
(1) شرح المنهج بهامش الجمل 3 / 13.
(2) فتح القدير 5 / 81.

(30/217)


وَقَال الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ بَاعَ مِنْ غَائِبٍ، كَبِعْتُ دَارِيَ مِنْ فُلاَنٍ وَهُوَ غَائِبٌ، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ قَال: قَبِلْت انْعَقَدَ الْبَيْعُ، كَمَا لَوْ كَاتَبَهُ (1) .
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي غَائِبًا عَنْ الْمَجْلِسِ، فَكَاتَبَهُ الْبَائِعُ أَوْ رَاسَلَهُ: إِنِّي بِعْتُك دَارِيَ بِكَذَا، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ قَبِل الْبَيْعَ صَحَّ الْعَقْدُ (2) .
وَحَيْثُ إِنَّ مَجْلِسَ الْعَقْدِ فِي حَالَةِ التَّعَاقُدِ بَيْنَ الْغَائِبَيْنِ هُوَ مَجْلِسُ الْقَبُول كَمَا قُلْنَا، فَالْمُعْتَبَرُ فِي اتِّصَال الْقَبُول بِالإِْيجَابِ هُوَ هَذَا الْمَجْلِسُ، فَإِذَا وَصَل الإِْيجَابُ إِلَى الْمُخَاطَبِ، فَكَأَنَّ الْمُوجِبَ حَضَرَ بِنَفْسِهِ وَأَوْجَبَ الْعَقْدَ، فَإِذَا قَبِلَهُ الْمُخَاطَبُ فِي مَجْلِسِهِ دُونَ إِعْرَاضٍ انْعَقَدَ الْعَقْدُ، وَإِذَا انْفَضَّ الْمَجْلِسُ أَوْ صَدَرَ مِمَّنْ وُجِّهَ لَهُ الإِْيجَابُ مَا يَدُل عَلَى إِعْرَاضِهِ عَنِ الْقَبُول عُرْفًا لاَ يَنْعَقِدُ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي التَّرَاخِي هُوَ مَا بَيْنَ وُصُول الإِْيجَابِ وَصُدُورِ الْقَبُول فِي هَذَا الْمَجْلِسِ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي حَالَةِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ بَيْنَ الْغَائِبَيْنِ عِلْمُ الْمُوجِبِ بِقَبُول الْقَابِل، فَعِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ صَرِيحَةٌ بِأَنَّ الْعَقْدَ يَحْصُل بِمُجَرَّدِ قَبُول الْقَابِل فِي الْمَجْلِسِ (3)
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 369.
(2) كشاف القناع 3 / 148.
(3) فتح القدير 5 / 81 وما بعدها، وبدائع الصنائع 5 / 138، ونهاية المحتاج 3 / 396، وكشاف القناع 3 / 148.

(30/218)


عُقُودٌ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ:
27 - طَبِيعَةُ بَعْضِ الْعُقُودِ تَقْتَضِي أَنْ لاَ يُشْتَرَطَ فِيهَا اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فِي الإِْيجَابِ وَالْقَبُول، بَل إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْعُقُودِ لاَ يَصِحُّ فِيهِ الْقَبُول فِي الْمَجْلِسِ، وَمِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ:
أ - عَقْدُ الْوَصِيَّةِ، فَإِنَّهَا تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيَصْدُرُ الإِْيجَابُ فِيهَا حَال حَيَاةِ الْمُوصِي، لَكِنْ لاَ يُعْتَبَرُ الْقَبُول مِنَ الْمُوصَى لَهُ إِلاَّ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوصِي، فَإِذَا قَبِلَهَا الْمُوصَى لَهُ فِي مَجْلِسِ الإِْيجَابِ أَوْ بَعْدَهُ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي لاَ تَنْعَقِدُ بِهِ الْوَصِيَّةُ. ر: (وَصِيَّة)
ب - عَقْدُ الْوِصَايَةِ: (الإِْيصَاءُ) فَهِيَ إِقَامَةُ شَخْصٍ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي التَّصَرُّفِ أَوْ فِي تَدْبِيرِ شُئُونِ أَوْلاَدِهِ الصِّغَارِ، فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْقَبُول فِي مَجْلِسِ الإِْيجَابِ، بَل يَمْتَدُّ زَمَنُهُ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَالْوِصَايَةُ خِلاَفَةٌ تَظْهَرُ آثَارُهَا بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوصِي.
ج - عَقْدُ الْوَكَالَةِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ إِقَامَةَ الشَّخْصِ الْغَيْرَ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي تَصَرُّفٍ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ فِي الْحَيَاةِ، لَكِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّيْسِيرِ، فَإِذَا قَبِلَهَا الْوَكِيل فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الإِْيجَابِ صَحَّتِ الْوَكَالَةُ، وَلاَ يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ

(30/218)


الْوَكِيل بِسَبَبِ غِيَابِهِ؛ لأَِنَّ لَهُ الرَّدَّ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ، حَيْثُ إِنَّ الْوَكَالَةَ مِنَ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ. ر: (وَكَالَة)

ثَانِيًا - الْعَاقِدَانِ.
28 - الْمُرَادُ بِالْعَاقِدَيْنِ: كُل مَنْ يَتَوَلَّى الْعَقْدَ، إِمَّا أَصَالَةً كَأَنْ يَبِيعَ أَوْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ، أَوْ وَكَالَةً كَأَنْ يَعْقِدَ نِيَابَةً عَنِ الْغَيْرِ بِتَفْوِيضٍ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ، أَوْ وِصَايَةً كَمَنْ يَتَصَرَّفُ خِلاَفَةً عَنِ الْغَيْرِ فِي شُئُونِ صِغَارِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِإِذْنٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ قِبَل الْحَاكِمِ.
وَحَيْثُ إِنَّ الْعَقْدَ لاَ يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ مِنْ غَيْرِ عَاقِدٍ فَقَدْ جَعَلَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَرْكَانِ الْعَقْدِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَلِكَيْ يَنْعَقِدَ الْعَقْدُ صَحِيحًا نَافِذًا يُشْتَرَطُ فِي الْعَاقِدَيْنِ مَا يَأْتِي:

الأَْوَّل - الأَْهْلِيَّةُ:
29 - وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدُ أَهْلاً لِلتَّصَرُّفِ، وَهُوَ: الْبَالِغُ الرَّشِيدُ فَلاَ يَصِحُّ مِنْ صَغِيرٍ غَيْرِ مُمَيِّزٍ وَمَجْنُونٍ وَمُبَرْسَمٍ.
أَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَتَصِحُّ عُقُودُهُ وَتَصَرُّفَاتُهُ النَّافِعَةُ نَفْعًا مَحْضًا، كَقَبُول الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى إِذْنِ الْوَلِيِّ، وَلاَ تَصِحُّ عُقُودُهُ وَتَصَرُّفَاتُهُ الضَّارَّةُ ضَرَرًا مَحْضًا، كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ لِلْغَيْرِ وَالطَّلاَقِ وَالْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ

(30/219)


وَنَحْوِهَا، وَلَوْ أَجَازَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَلِيُّهُ أَوْ وَصِيُّهُ. أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الدَّائِرَةُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا فَتَصِحُّ مِنَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ بِإِجَازَةِ الْوَلِيِّ، وَلاَ تَصِحُّ بِدُونِهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ فِي الْعَاقِدِ الرُّشْدُ ر: (أَهْلِيَّة ف 18) .

الثَّانِي - الْوِلاَيَةُ.
30 - الْوِلاَيَةُ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْوَلْيِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: بِمَعْنَى الْقُرْبِ، وَالْوِلاَيَةُ: النُّصْرَةُ (1) وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَنْفِيذُ الْقَوْل عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ الْغَيْرُ أَوْ لاَ (2) .
وَلِكَيْ يَنْعَقِدَ الْعَقْدُ صَحِيحًا نَافِذًا تَظْهَرُ آثَارُهُ شَرْعًا لاَ بُدَّ فِي الْعَاقِدِ - بِجَانِبِ أَهْلِيَّةِ الأَْدَاءِ - أَنْ تَكُونَ لَهُ وِلاَيَةُ التَّصَرُّفِ لِيَعْقِدَ الْعَقْدَ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وِلاَيَة) .

الثَّالِثُ - الرِّضَا وَالاِخْتِيَارُ:
31 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّضَا أَسَاسُ الْعُقُودِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
__________
(1) المصباح المنير.
(2) التعريفات للجرجاني، وقواعد الفقه للبركتي.

(30/219)


لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) .
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ (2) .
وَالرِّضَا: سُرُورُ الْقَلْبِ وَطِيبُ النَّفْسِ. وَهُوَ ضِدُّ السَّخَطِ وَالْكَرَاهَةِ.
وَعَرَّفَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: بِأَنَّهُ قَصْدُ الْفِعْل دُونَ أَنْ يَشُوبَهُ إِكْرَاهٌ (3)
وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ: بِأَنَّهُ امْتِلاَءُ الاِخْتِيَارِ، أَيْ بُلُوغُهُ نِهَايَتَهُ، بِحَيْثُ يُفْضِي أَثَرُهُ إِلَى الظَّاهِرِ مِنَ الْبَشَاشَةِ فِي الْوَجْهِ، أَوْ إِيثَارِ الشَّيْءِ وَاسْتِحْسَانِهِ (4) .
ر: (رِضًا ف 2)
أَمَّا الاِخْتِيَارُ: فَهُوَ الْقَصْدُ إِلَى أَمْرٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ دَاخِلٍ فِي قُدْرَةِ الْفَاعِل بِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الآْخَرِ (5)
ر: (اخْتِيَار ف 1) .
وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ التَّفْرِقَةِ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الرِّضَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعُقُودِ الَّتِي تَقْبَل الْفَسْخَ وَهِيَ الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ مِنْ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ وَنَحْوِهِمَا، فَهِيَ لاَ تَصِحُّ إِلاَّ مَعَ التَّرَاضِي، وَقَدْ تَنْعَقِدُ
__________
(1) سورة النساء / 29.
(2) حديث: " إنما البيع عن تراض ". أخرجه ابن ماجه (2 / 737 ط. الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري، وقال البوصيري: هذا إسناد صحيح (مصباح الزجاجة 2 / 10) .
(3) الموسوعة الفقهية 22 / 228.
(4) التلويح على التوضيح 2 / 195، وكشف الأسرار 4 / 1503.
(5) الموسوعة الفقهية 2 / 315، 22 / 229.

(30/220)


الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ لَكِنَّهَا تَكُونُ فَاسِدَةً، كَمَا فِي بَيْعِ الْمُكْرَهِ وَنَحْوِهِ، يَقُول الْمَرْغِينَانِيُّ:. . . لأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ هَذِهِ الْعُقُودِ التَّرَاضِي (1) .
فَأَصْل الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ بِدُونِ الرِّضَا، لَكِنَّهَا لاَ تَكُونُ صَحِيحَةً، فَيَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمُخْطِئِ نَظَرًا إِلَى أَصْل الاِخْتِيَارِ؛ لأَِنَّ الْكَلاَمَ صَدَرَ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِ، أَوْ بِإِقَامَةِ الْبُلُوغِ مَقَامَ الْقَصْدِ، لَكِنْ يَكُونُ فَاسِدًا لِعَدَمِ الرِّضَا حَقِيقَةً، أَمَّا الْعُقُودُ الَّتِي لاَ تَقْبَل الْفَسْخَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَالرِّضَا لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّتِهَا، فَيَصِحُّ عِنْدَهُمُ النِّكَاحُ وَالطَّلاَقُ وَالْعَتَاقُ وَالرَّجْعَةُ وَنَحْوُهَا حَتَّى مَعَ الإِْكْرَاهِ (2) .
أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فَتَدُورُ عِبَارَاتُهُمْ بَيْنَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ الرِّضَا أَصْلٌ أَوْ أَسَاسٌ أَوْ شَرْطٌ لِلْعُقُودِ كُلِّهَا، فَلاَ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الرِّضَا سَوَاءٌ أَكَانَ مَالِيًّا أَوْ غَيْرَ مَالِيٍّ.
ر: (رِضًا ف 13)

عُيُوبُ الرِّضَا.
32 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي عُيُوبِ الرِّضَا: الإِْكْرَاهَ وَالْجَهْل، وَالْغَلَطَ، وَالتَّدْلِيسَ، وَالْغَبْنَ، وَالتَّغْرِيرَ، وَالْهَزْل، وَالْخِلاَبَةَ، وَنَحْوَهَا، فَإِذَا وُجِدَ عَيْبٌ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ فِي عَقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ يَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلاً أَوْ فَاسِدًا فِي بَعْضِ الْحَالاَتِ عَلَى
__________
(1) تكملة فتح القدير 7 / 293، 294.
(2) تيسير التحرير 2 / 3006، الموسوعة الفقهية 22 / 233.

(30/220)


خِلاَفٍ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالْحَنَفِيَّةِ، أَوْ غَيْرَ لاَزِمٍ يَكُونُ لِكِلاَ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِهِ فِي حَالاَتٍ أُخْرَى.
وَتَعْرِيفُ هَذِهِ الْعُيُوبِ وَتَفْصِيل أَحْكَامِهَا وَأَثَرُهَا عَلَى الرِّضَا وَخِلاَفُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا مِنَ الْمَوْسُوعَةِ.

ثَالِثًا - مَحَل الْعَقْدِ.
33 - الْمُرَادُ بِمَحَل الْعَقْدِ: مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ وَتَظْهَرُ فِيهِ أَحْكَامُهُ وَآثَارُهُ، وَيَخْتَلِفُ الْمَحَل بِاخْتِلاَفِ الْعُقُودِ، فَقَدْ يَكُونُ الْمَحَل عَيْنًا مَالِيَّةً، كَالْمَبِيعِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، وَالْمَوْهُوبِ فِي عَقْدِ الْهِبَةِ، وَالْمَرْهُونِ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ، وَقَدْ يَكُونُ عَمَلاً مِنَ الأَْعْمَال، كَعَمَل الأَْجِيرِ فِي الإِْجَارَةِ، وَعَمَل الزَّارِعِ فِي الْمُزَارَعَةِ، وَعَمَل الْوَكِيل فِي الْوَكَالَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْفَعَةَ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، كَمَنْفَعَةِ الْمَأْجُورِ فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ، وَمَنْفَعَةِ الْمُسْتَعَارِ فِي عَقْدِ الإِْعَارَةِ، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ كَمَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَالْكَفَالَةِ وَنَحْوِهِمَا.
وَلِهَذَا فَقَدِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي مَحَل الْعَقْدِ شُرُوطًا تَكَلَّمُوا عَنْهَا فِي كُل عَقْدٍ وَذَكَرُوا بَعْضَ الشُّرُوطِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَجِبُ تَوَافُرُهَا فِي الْعُقُودِ عَامَّةً أَوْ فِي مَجْمُوعَةٍ مِنَ الْعُقُودِ، مِنْهَا:

(30/221)


أ - وُجُودُ الْمَحَل:
34 - يَخْتَلِفُ اشْتِرَاطُ هَذَا الشَّرْطِ بِاخْتِلاَفِ الْعُقُودِ: فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى وُجُودِ الْمَحَل، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَمْ يُوجَدْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ (1) ؛ وَلأَِنَّ فِي بَيْعِ مَا لَمْ يُوجَدْ غَرَرًا وَجَهَالَةً فَيُمْنَعُ، لِحَدِيثِ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ (2) وَعَلَى ذَلِكَ صَرَّحُوا بِبُطْلاَنِ بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلاَقِيحِ وَحَبَل الْحُبْلَةِ.
وَمَنَعُوا مِنْ بَيْعِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ قَبْل ظُهُورِهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَال أَخِيهِ؟ (3) .
وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ عَقْدَ السَّلَمِ (4) ، وَذَلِكَ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ (5)
كَمَا اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ عَقْدَ
__________
(1) حديث: " لا تبع ما ليس عندك ". أخرجه الترمذي من حديث حكيم بن حزام وحسنه. (جامع الترمذي بشرحه تحفة الأحوذي 4 / 430) .
(2) حديث " نهى عن بيع الغرر " أخرجه مسلم (3 / 1153) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث: " أرأيت إذا منع الله الثمرة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 398) ومسلم (3 / 1190) من حديث أنس بن مالك، واللفظ للبخاري.
(4) حاشية ابن عابدين 4 / 203، وكشاف القناع 3 / 266.
(5) البحر الرائق 6 / 196، ومنح الجليل 3 / 2، وأسنى المطالب 2 / 122، والمغني 4 / 304.

(30/221)


الاِسْتِصْنَاعِ لِلدَّلِيل نَفْسِهِ ر: (اسْتِصْنَاع ف 7) .
أَمَّا بَيْعُ الزَّرْعِ أَوِ الثَّمَرِ قَبْل ظُهُورِهِمَا فَلاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ مَعْدُومٌ وَلاَ يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى الْمَعْدُومِ، أَمَّا بَعْدَ الظُّهُورِ وَقَبْل بُدُوِّ الصَّلاَحِ فَإِنْ كَانَ الثَّمَرُ أَوِ الزَّرْعُ بِحَالٍ يُنْتَفَعُ بِهِمَا فَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَال اتِّفَاقًا لِعَدَمِ الْغَرَرِ فِي ذَلِكَ، وَلاَ يَجُوزُ بِغَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي بَيْعِ الثِّمَارِ الْمُتَلاَحِقَةِ الظُّهُورِ وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (ثِمَار ف 11 - 13) .
وَفِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ اعْتَبَرَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَنَافِعَ أَمْوَالاً، وَاعْتَبَرَهَا كَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مَوْجُودَةً حِينَ الْعَقْدِ تَقْدِيرًا، فَيَصِحُّ التَّعَاقُدُ عَلَيْهَا بِنَاءً عَلَى وُجُودِ الْمَنَافِعِ حِينَ الْعَقْدِ عِنْدَهُمْ، وَلِهَذَا يَقُولُونَ بِنَقْل مِلْكِيَّةِ الْمَنَافِعِ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَالأُْجْرَةِ لِلْمُؤَجِّرِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فِي الإِْجَارَةِ الْمُطْلَقَةِ (2) .
وَعَلَّل الْمَالِكِيَّةُ جَوَازَ الإِْجَارَةِ بِأَنَّ الْمَنَافِعَ وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً فِي حَال الْعَقْدِ لَكِنَّهَا مُسْتَوْفَاةٌ فِي الْغَالِبِ، وَالشَّرْعُ إِنَّمَا لَحَظَ مِنَ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 38، وحاشية الدسوقي 3 / 176، ونهاية المحتاج 4 / 141، وكشاف القناع 3 / 281
(2) نهاية المحتاج 5 / 264، 265، المغني لابن قدامة 5 / 442، 443.

(30/222)


الْمَنَافِعِ مَا يُسْتَوْفَى فِي الْغَالِبِ أَوْ يَكُونُ اسْتِيفَاؤُهُ وَعَدَمُ اسْتِيفَائِهِ سَوَاءً (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ أَجَازُوا عَقْدَ الإِْجَارَةِ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْقَاعِدَةِ؛ لِوُرُودِ النُّصُوصِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي جَوَازِ الإِْجَارَةِ، قَال الْكَاسَانِيُّ: الإِْجَارَةُ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ، وَالْمَنَافِعُ لِلْحَال مَعْدُومَةٌ، وَالْمَعْدُومُ لاَ يَحْتَمِل الْبَيْعَ، فَلاَ تَجُوزُ إِضَافَةُ الْبَيْعِ إِلَى مَا يُؤْخَذُ فِي الْمُسْتَقْبَل، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، لَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ (2) .
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: جَوَازُ الإِْجَارَةِ مُوَافِقَةٌ لِلْقِيَاسِ؛ لأَِنَّ مَحَل الْعَقْدِ إِذَا أَمْكَنَ التَّعَاقُدُ عَلَيْهِ فِي حَال وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ - كَالأَْعْيَانِ - فَالأَْصْل فِيهِ عَدَمُ جَوَازِ الْعَقْدِ حَال عَدَمِهِ لِلْغَرَرِ، مَعَ ذَلِكَ جَازَ الْعَقْدُ عَلَى مَا لَمْ يُوجَدْ إِذَا دَعَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ.
أَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلاَّ حَالٌ وَاحِدَةٌ، وَالْغَالِبُ فِيهِ السَّلاَمَةُ - كَالْمَنَافِعِ - فَلَيْسَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ مُخَاطَرَةً وَلاَ قِمَارًا فَيَجُوزُ، وَقِيَاسُهُ عَلَى بَيْعِ الأَْعْيَانِ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ (3) .
35 - وَفَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الشَّرْطِ بَيْنَ عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ وَعُقُودِ التَّبَرُّعِ، فَقَالُوا بِعَدَمِ
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 218.
(2) بدائع الصنائع 4 / 173، 174.
(3) إعلام الموقعين 2 / 22، 26 باختصار شديد.

(30/222)


جَوَازِ النَّوْعِ الأَْوَّل مِنَ الْعُقُودِ فِي حَال عَدَمِ وُجُودِ مَحَلِّهَا، وَأَجَازُوا النَّوْعَ الثَّانِيَ فِي حَالَةِ وُجُودِ الْمَحَل وَعَدَمِهِ.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل مَا قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ مَا يَخْتَصُّ بِعُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ كَالْهِبَةِ مَثَلاً يَجُوزُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعُ الْعَقْدِ (الْمَوْهُوبُ) غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ، بَل دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، أَوْ غَيْرَ مَعْلُومٍ فِعْلاً، فَالْغَرَرُ فِي الْهِبَةِ لِغَيْرِ الثَّوَابِ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ، وَلِهَذَا صَرَّحُوا بِأَنَّ مَنْ وَهَبَ لِرَجُلٍ مَا يَرِثُهُ مِنْ فُلاَنٍ - وَهُوَ لاَ يَدْرِي كَمْ هُوَ؟ أَسُدُسٌ أَوْ رُبُعٌ فَذَلِكَ جَائِزٌ (1) .
وَفِي الرَّهْنِ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعُ الْعَقْدِ (الْمَرْهُونُ) غَيْرَ مَوْجُودٍ حِينَ الْعَقْدِ، كَثَمَرَةٍ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهَا، فَشَيْءٌ يُوثَقُ بِهِ خَيْرٌ مِنْ عَدَمِهِ، كَمَا يَقُولُونَ (2)
وَهَذَا بِخِلاَفِ عَقْدِ الْبَيْعِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ (3) .

ب - قَابِلِيَّةُ الْمَحَل لِحُكْمِ الْعَقْدِ:
36 - يُشْتَرَطُ فِي مَحَل الْعَقْدِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ قَابِلاً لِحُكْمِ الْعَقْدِ.
وَالْمُرَادُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ: الأَْثَرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الْعَقْدِ، وَيَخْتَلِفُ هَذَا حَسْبَ اخْتِلاَفِ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 212.
(2) بلغة السالك مع الشرح الصغير 2 / 109.
(3) جواهر الإكليل 2 / 212.

(30/223)


الْعُقُودِ، فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً أَثَرُ الْعَقْدِ هُوَ انْتِقَال مِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ مِنَ الْبَائِعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَالاً مُتَقَوِّمًا مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ، فَمَا لَمْ يَكُنْ مَالاً بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ: وَهُوَ مَا يَمِيل إِلَيْهِ الطَّبْعُ وَيَجْرِي فِيهِ الْبَذْل وَالْمَنْعُ (1) لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ، كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ مَثَلاً عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا، أَيْ: مُنْتَفَعًا بِهِ شَرْعًا، كَبَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَإِنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا مَالاً عِنْدَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنَّهُمَا لَيْسَا مُتَقَوِّمَيْنِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، فَحَرُمَ بَيْعُهُمَا (2) ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَا بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ (3)
وَفِي عُقُودِ الْمَنْفَعَةِ كَعَقْدِ الإِْجَارَةِ وَالإِْعَارَةِ وَنَحْوِهِمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَحَل الْعَقْدِ - أَيِ الْمَنْفَعَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا - مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً مُبَاحَةً، فَلاَ تَجُوزُ الإِْجَارَةُ عَلَى الْمَنَافِعِ الْمُحَرَّمَةِ كَالزِّنَا وَالنَّوْحِ وَنَحْوِهِمَا كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَارَة ف 108) .
وَكَمَا لاَ يَجُوزُ إِجَارَةُ الْمَنَافِعِ الْمُحَرَّمَةِ لاَ يَجُوزُ إِعَارَتُهَا كَذَلِكَ؛ لأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْعَارِيَّةِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 100.
(2) ابن عابدين 4 / 100، وبدائع الصنائع 5 / 149، وحاشية الدسوقي 3 / 10، ومغني المحتاج 2 / 11، وشرح منتهى الإرادات 2 / 142.
(3) حديث جابر: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 424) .

(30/223)


إِمْكَانُ الاِنْتِفَاعِ بِمَحَل الْعَقْدِ (الْمُعَارِ أَوِ الْمُسْتَعَارِ) انْتِفَاعًا مُبَاحًا شَرْعًا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، كَالدَّارِ لِلسُّكْنَى، وَالدَّابَّةِ لِلرُّكُوبِ، مَثَلاً فَلاَ يَجُوزُ إِعَارَةُ الْفُرُوجِ لِلاِسْتِمْتَاعِ، وَلاَ آلاَتِ الْمَلاَهِي لِلَّهْوِ، كَمَا لاَ تَصِحُّ الإِْعَارَةُ لِلْغِنَاءِ أَوِ الزَّمْرِ أَوْ نَحْوِهِمَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، فَالإِْعَارَةُ لاَ تُبِيحُ مَا لاَ يُبِيحُهُ الشَّرْعُ (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَارِيَّةً) .
وَفِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ يُشْتَرَطُ فِي الْمَحَل (الْمُوَكَّل بِهِ) أَنْ يَكُونَ قَابِلاً لِلاِنْتِقَال لِلْغَيْرِ وَالتَّفْوِيضِ فِيهِ، وَلاَ يَكُونَ خَاصًّا بِشَخْصِ الْمُوَكِّل، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي مُصْطَلَحِ: (وَكَالَة) .

ج - مَعْلُومِيَّةُ الْمَحَل لِلْعَاقِدَيْنِ:
37 - يُشْتَرَطُ فِي الْمَحَل أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا وَمَعْرُوفًا لِلْعَاقِدَيْنِ، بِحَيْثُ لاَ يَكُونُ فِيهِ جَهَالَةٌ تُؤَدِّي إِلَى النِّزَاعِ وَالْغَرَرِ.
وَيَحْصُل الْعِلْمُ بِمَحَل الْعَقْدِ بِكُل مَا يُمَيِّزُهُ عَنِ الْغَيْرِ مِنْ رُؤْيَتِهِ أَوْ رُؤْيَةِ بَعْضِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، أَوْ بِوَصْفِهِ وَصْفًا يَكْشِفُ عَنْهُ تَمَامًا، أَوْ بِالإِْشَارَةِ إِلَيْهِ.
وَهَذَا الشَّرْطُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ فِي الْجُمْلَةِ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ شَاةٍ
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 372، وابن عابدين 4 / 4، 5، والخرشي على خليل 6 / 141، ومغني المحتاج 2 / 265، والمغني مع الشرح الكبير 355 - 360.

(30/224)


مِنَ الْقَطِيعِ مَثَلاً وَلاَ إِجَارَةُ إِحْدَى هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْجَهَالَةَ فِي مَحَل الْعَقْدِ: (الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ) تُسَبِّبُ الْغَرَرَ وَتُفْضِي إِلَى النِّزَاعِ.
وَفَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ - وَهِيَ الَّتِي تُفْضِي إِلَى النِّزَاعِ - وَبَيْنَ الْجَهَالَةِ الْيَسِيرَةِ - وَهِيَ: الَّتِي لاَ تُفْضِي إِلَى النِّزَاعِ - فَمَنَعُوا الأُْولَى وَأَجَازُوا الثَّانِيَةَ (1) .
وَجَعَل جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْعُرْفَ حَكَمًا فِي تَعْيِينِ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الإِْجَارَةُ مِنْ مَنْفَعَةٍ، وَتَمْيِيزِ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ عَنِ الْجَهَالَةِ الْيَسِيرَةِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (بَيْع ف 32) (وَالإِْجَارَةُ ف 34) .
وَفِي عَقْدِ السَّلَمِ يُشْتَرَطُ فِي الْمَحَل: (الْمُسْلَمِ فِيهِ) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ، كَيْلاً أَوْ وَزْنًا أَوْ عَدًّا أَوْ ذَرْعًا، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْجَهَالَةَ فِي كُلٍّ مِنْهَا تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ (3) ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 6، وبدائع الصنائع 5 / 179، والدسوقي 3 / 15، والقليوبي 2 / 61، وشرح منتهى الإرادات 2 / 246.
(2) تبيين الحقائق 5 / 113، ومجلة الأحكام العدلية المادة (527) والشرح الصغير 4 / 39، والمغني 5 / 511.
(3) بدائع الصنائع 5 / 207، وابن عابدين 4 / 206، والفواكه الدواني 2 / 144، وكشاف القناع 3 / 292 وما بعدها.

(30/224)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (سَلَم) .
هَذَا فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ.
38 - أَمَّا عُقُودُ التَّبَرُّعِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ كَوْنِ الْمَحَل مَجْهُولاً، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا يَأْتِي:

1 - عَقْدُ الْهِبَةِ.
39 - يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَوْهُوبِ - وَهُوَ مَحَل عَقْدِ الْهِبَةِ - أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَمُعَيَّنًا، قَال الْحَصْكَفِيُّ: شَرَائِطُ صِحَّةِ الْهِبَةِ فِي الْمَوْهُوبِ: أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا، غَيْرَ مُشَاعٍ، مُمَيَّزًا، غَيْرَ مَشْغُولٍ، فَلاَ تَصِحُّ هِبَةُ لَبَنٍ فِي ضَرْعٍ، وَصُوفٍ عَلَى غَنَمٍ، وَنَخْلٍ فِي أَرْضٍ، وَتَمْرٍ فِي نَخْلٍ (2) .
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: كُل مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ تَجُوزُ هِبَتُهُ، وَكُل مَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ لاَ تَجُوزُ هِبَتُهُ، كَمَجْهُولٍ وَمَغْصُوبٍ لِغَيْرِ قَادِرٍ عَلَى انْتِزَاعِهِ، وَضَالٍّ وَآبِقٍ (3) .
__________
(1) حديث: " من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 429) ومسلم (3 / 1227) من حديث ابن عباس واللفظ لمسلم.
(2) الدر المختار بهامش ابن عابدين 4 / 508، 511.
(3) مغني المحتاج 2 / 399.

(30/225)


أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ تَوَسَّعُوا فِيهَا، فَأَجَازُوا هِبَةَ الْمَجْهُول وَالْمُشَاعِ، جَاءَ فِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: أَنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ الْمُعْطَى أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَقْبَل النَّقْل فِي الْجُمْلَةِ، فَيَشْمَل الأَْشْيَاءَ الْمَجْهُولَةَ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (هِبَة)

2 - عَقْدُ الْوَصِيَّةِ.
40 - تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْمُوصِي بِجُزْءٍ أَوْ سَهْمٍ مِنْ مَالِهِ وَلَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَكُونُ الْبَيَانُ إِلَى الْوَرَثَةِ؛ لأَِنَّهُ مَجْهُولٌ يَتَنَاوَل الْقَلِيل وَالْكَثِيرَ، وَالْوَصِيَّةُ لاَ تَمْتَنِعُ بِالْجَهَالَةِ (2) .
وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ الْوَصِيَّةَ بِالْحَمْل إِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمُوصِي، وَالْغَرَرُ وَالْخَطَرُ لاَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ عِنْدَهُمْ (3)
كَمَا أَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ الْوَصِيَّةَ بِالْمَجْهُول، كَالْحَمْل الْمَوْجُودِ فِي الْبَطْنِ مُنْفَرِدًا عَنْ أُمِّهِ أَوْ مَعَهَا، وَكَالْوَصِيَّةِ بِاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، وَالصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ (4) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (وَصِيَّة) .
41 - هَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي فُرُوقِهِ الْفَرْقَ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 216.
(2) رد المحتار 5 / 429.
(3) المغني 5 / 583، 584.
(4) مغني المحتاج 3 / 44.

(30/225)


بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْجَهَالاَتُ وَمَا لاَ تُؤَثِّرُ فِيهِ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ فَقَال: وَرَدَتِ الأَْحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَعَنْ بَيْعِ الْمَجْهُول، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَمِنْهُمْ مَنْ عَمَّمَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ - وَهُوَ الشَّافِعِيُّ - فَمَنَعَ مِنَ الْجَهَالَةِ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالإِْبْرَاءِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَل - وَهُوَ مَالِكٌ - بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُجْتَنَبُ فِيهِ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ، وَهُوَ بَابُ الْمُمَاكَسَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِتَنْمِيَةِ الأَْمْوَال مَا يُقْصَدُ بِهِ تَحْصِيلُهَا، وَقَاعِدَةِ مَا لاَ يُجْتَنَبُ فِيهِ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ وَهُوَ مَا لاَ يُقْصَدُ لِذَلِكَ، وَانْقَسَمَتِ التَّصَرُّفَاتُ عِنْدَهُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ: طَرَفَانِ وَوَاسِطَةٌ، فَالطَّرَفَانِ أَحَدُهُمَا: مُعَاوَضَةٌ صِرْفَةٌ فَيُجْتَنَبُ فِيهَا ذَلِكَ إِلاَّ مَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ. . . وَثَانِيهِمَا: مَا هُوَ إِحْسَانٌ صِرْفٌ لاَ يُقْصَدُ بِهِ تَنْمِيَةُ الْمَال كَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ وَالإِْبْرَاءِ.
فَفِي الْقِسْمِ الأَْوَّل: إِذَا فَاتَ بِالْغَرَرِ وَالْجَهَالاَتِ ضَاعَ الْمَال الْمَبْذُول فِي مُقَابَلَتِهِ فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ مَنْعَ الْجَهَالَةِ فِيهِ، أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي - أَيِ: الإِْحْسَانُ الصِّرْفُ - فَلاَ ضَرَرَ فِيهِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ وَحَثُّهُ عَلَى الإِْحْسَانِ التَّوْسِعَةَ فِيهِ بِكُل طَرِيقٍ، بِالْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُول فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْسَرُ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ قَطْعًا، وَفِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إِلَى تَقْلِيلِهِ فَإِذَا وَهَبَ

(30/226)


لَهُ عَبْدَهُ الآْبِقَ جَازَ أَنْ يَجِدَهُ فَيَحْصُل لَهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَلاَ ضَرَرَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَبْذُل شَيْئًا، وَهَذَا فِقْهٌ جَمِيلٌ (1) .
ثُمَّ قَال: وَأَمَّا الْوَاسِطَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فَهُوَ النِّكَاحُ، فَهُوَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَال فِيهِ لَيْسَ مَقْصُودًا، وَإِنَّمَا مَقْصِدُهُ الْمَوَدَّةُ وَالأُْلْفَةُ وَالسُّكُونُ، يَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ فِيهِ الْجَهَالَةُ وَالْغَرَرُ مُطْلَقًا، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ اشْتَرَطَ فِيهِ الْمَال بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (2) ، يَقْتَضِي امْتِنَاعَ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ فِيهِ، فَلِوُجُودِ الشَّبَهَيْنِ تَوَسَّطَ مَالِكٌ فَجَوَّزَ فِيهِ الْغَرَرَ الْقَلِيل دُونَ الْكَثِيرِ، نَحْوَ عَبْدٍ مِنْ غَيْرِ تَعَيُّنٍ، وَشُورَةِ (أَثَاثِ) بَيْتٍ، وَلاَ يَجُوزُ عَلَى الْعَبْدِ الآْبِقِ، وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ (3)

د - الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ.
42 - يُشْتَرَطُ فِي مَحَل الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، وَهَذَا الشَّرْطُ مَحَل اتِّفَاقٍ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ فِي الْجُمْلَةِ، فَالْحَيَوَانُ الضَّال الشَّارِدُ وَنَحْوُهُ لاَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لِعَقْدِ الْبَيْعِ أَوِ الإِْجَارَةِ أَوِ الصُّلْحِ أَوْ نَحْوِهَا، وَكَذَلِكَ الدَّارُ الْمَغْصُوبَةُ مِنْ غَيْرِ غَاصِبِهَا، أَوِ الأَْرْضُ أَوْ أَيْ شَيْءٍ آخَرُ تَحْتَ يَدِ الْعَدُوِّ.
__________
(1) الفروق 1 / 150، 151 مع تصرف يسير.
(2) سورة النساء / 24.
(3) الفروق 1 / 150 - 151.

(30/226)


قَال الْكَاسَانِيُّ: مِنْ شُرُوطِ الْمَبِيعِ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ مَعْجُوزَ التَّسْلِيمِ عِنْدَهُ لاَ يَنْعَقِدُ، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ كَبَيْعِ الآْبِقِ حَتَّى لَوْ ظَهَرَ يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول إِلاَّ إِذَا تَرَاضَيَا فَيَكُونُ بَيْعًا مُبْتَدَأً بِالتَّعَاطِي (1) .
وَقَال فِي شُرُوطِ الْمُسْتَأْجَرِ: مِنْ شُرُوطِهِ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ الاِسْتِيفَاءِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ لاَ يَقَعُ وَسِيلَةً إِلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِدُونِهِ، فَلاَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الآْبِقِ، وَلاَ إِجَارَةُ الْمَغْصُوبِ مِنْ غَيْرِ الْغَاصِبِ (2) .
وَفِي الْمَنْثُورِ لِلزَّرْكَشِيِّ: مِنْ حُكْمِ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ فِي الْحَال، وَالْجَائِزُ قَدْ لاَ يَكُونُ كَذَلِكَ كَالْجَعَالَةِ تُعْقَدُ عَلَى رَدِّ الآْبِقِ (3) .
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي بَيَانِ شُرُوطِ الْمَبِيعِ: الثَّالِثُ: إِمْكَانُ تَسْلِيمِهِ، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ الضَّال وَالآْبِقِ وَالْمَغْصُوبِ، وَعَلَّلَهُ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ بِقَوْلِهِ: لِلْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ ذَلِكَ حَالاً (4) .
وَمِثْلُهُ مَا فِي كُتُبِ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ (5) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 147.
(2) بدائع الصنائع 4 / 187.
(3) المنثور للزركشي 2 / 400 وما بعدها.
(4) مغني المحتاج 2 / 12.
(5) الحطاب وبهامشه المواق 4 / 268، وكشاف القناع 3 / 162.

(30/227)


أَمَّا فِي عُقُودِ التَّبَرُّعِ فَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ هِبَةَ الآْبِقِ وَالْحَيَوَانِ الشَّارِدِ، مَعَ أَنَّهُمَا غَيْرُ مَقْدُورَيِ التَّسْلِيمِ حِينَ الْعَقْدِ؛ لأَِنَّهُ إِحْسَانٌ صِرْفٍ، فَإِذَا وَجَدَهُ وَتَسَلَّمَهُ يَسْتَفِيدُ مِنْهُ، وَإِلاَّ لاَ يَتَضَرَّرُ كَمَا قَال الْقَرَافِيُّ، وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ الْوَصِيَّةَ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْ تَسْلِيمِهِ (1) وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ فِي عُقُودِ التَّبَرُّعِ: لاَ غَرَرَ فِي تَعَلُّقِهَا بِالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ وَمَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَمَا لاَ يَقْدِرُ (2) .

تَقْسِيمَاتُ الْعُقُودِ.
43 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْعُقُودَ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَبَيَّنُوا خَوَاصَّهَا وَأَحْكَامَهَا الْفِقْهِيَّةَ بِحَيْثُ تَشْمَل مَجْمُوعَةً مِنَ الْعُقُودِ، وَتُمَيِّزُهَا عَنْ مَجْمُوعَةٍ أُخْرَى، وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ هَذِهِ التَّقْسِيمَاتِ:

أَوَّلاً - الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ وَالْعُقُودُ غَيْرُ الْمَالِيَّةِ:
44 - الْعَقْدُ إِذَا وَقَعَ عَلَى عَيْنٍ مِنَ الأَْعْيَانِ يُسَمَّى عَقْدًا مَالِيًّا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ نَقْل مِلْكِيَّتِهَا بِعِوَضٍ، كَالْبَيْعِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ مِنَ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وَالْمُقَايَضَةِ وَنَحْوِهَا أَمْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، كَالْهِبَةِ وَالْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ بِالأَْعْيَانِ وَنَحْوِهَا، أَوْ بِعَمَلٍ فِيهَا، كَالْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَنَحْوِهَا.
__________
(1) الفروق 1 / 150، 151، ومغني المحتاج 2 / 44.
(2) إعلام الموقعين 2 / 28.

(30/227)


أَمَّا إِذَا وَقَعَ عَلَى عَمَلٍ مُعَيَّنٍ دُونَ مُقَابِلٍ كَالْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ، وَالْوِصَايَةِ، أَوِ الْكَفِّ عَنْ عَمَلٍ مُعَيَّنٍ كَعَقْدِ الْهُدْنَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْل الْحَرْبِ؛ فَهُوَ عَقْدٌ غَيْرُ مَالِيٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.
وَهُنَاكَ عُقُودٌ تُعْتَبَرُ مَالِيَّةً مِنْ جَانِبٍ، وَغَيْرَ مَالِيَّةٍ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ كَعَقْدِ النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنِ الدَّمِ وَعَقْدِ الْجِزْيَةِ وَنَحْوِهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْعُقُودِ الَّتِي تَقَعُ عَلَى الْمَنَافِعِ، كَالإِْجَارَةِ، وَالإِْعَارَةِ وَنَحْوِهِمَا، فَالْجُمْهُورُ يَعْتَبِرُهَا مِنَ الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ عِنْدَهُمْ أَوْ فِي حُكْمِ الأَْمْوَال خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ، حَيْثُ إِنَّ الْمَنَافِعَ لاَ تُعْتَبَرُ أَمْوَالاً عِنْدَهُمْ (1) .
قَال الزَّرْكَشِيُّ: الْعَقْدُ إِمَّا مَالِيٌّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ حَقِيقَةً كَالْبَيْعِ وَالسَّلَمِ، أَوْ حُكْمًا كَالإِْجَارَةِ، فَإِنَّ الْمَنَافِعَ تُنَزَّل مَنْزِل الأَْمْوَال، وَمِثْلُهُ الْمُضَارَبَةُ وَالْمُسَاقَاةُ.
أَوْ غَيْرُ مَالِيٍّ مِنَ الْجَانِبَيْنِ كَمَا فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ، إِذِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي الطَّرَفَيْنِ كَفُّ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنِ الإِْغْرَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْل الْحَرْبِ، وَكَعَقْدِ الْقَضَاءِ.
أَوْ مَالِيٌّ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنِ الدَّمِ وَالْجِزْيَةِ. وَغَيْرُ الْمَالِيِّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَشَدُّ لُزُومًا مِنَ الْمَالِيِّ فِيهِمَا، إِذْ يَجُوزُ فِي الْمَالِيِّ فَسْخُهُ بِعَيْبٍ فِي الْعِوَضِ كَالثَّمَنِ
__________
(1) مرشد الحيران المواد 263 - 266.

(30/228)


وَالْمُثَمَّنِ، كَمَا فِي خِيَارِ الْعَيْبِ، وَغَيْرُ الْمَالِيِّ لاَ يُفْسَخُ أَصْلاً إِلاَّ لِحُدُوثِ مَا يَمْنَعُ الدَّوَامَ.
وَيَنْقَسِمُ الْمَالِيُّ إِلَى مَحْضٍ وَغَيْرِهِ، فَيَقُولُونَ: مُعَاوَضَةٌ مَحْضَةٌ وَغَيْرُ مَحْضَةٍ، فَالْمَحْضَةُ: يَكُونُ الْمَال فِيهَا مَقْصُودًا مِنَ الْجَانِبَيْنِ (كَالْبَيْعِ) . وَالْمُعَاوَضَةُ غَيْرُ الْمَحْضَةِ: لاَ تَقْبَل التَّعْلِيقَ إِلاَّ فِي الْخُلْعِ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ (نَحْوُ: إِنْ طَلَّقْتَنِي فَلَكَ أَلْفٌ) . (1)
وَقَال: يَنْقَسِمُ الْعَقْدُ إِلَى مَا يَرِدُ عَلَى الْعَيْنِ قَطْعًا كَالْبَيْعِ بِأَنْوَاعِهِ، وَإِلَى مَا يَرِدُ عَلَى الْمَنَافِعِ فِي الأَْصَحِّ كَالإِْجَارَةِ، وَلِهَذَا قَالُوا: إِنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ، وَقَال أَبُو إِسْحَاقَ: الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَيْنُ لِيُسْتَوْفَى مِنْهَا الْمَنَافِعُ (2)

ثَانِيًا - الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ وَالْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ.
45 - الْعَقْدُ اللاَّزِمُ هُوَ: مَا لاَ يَكُونُ لأَِحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فِيهِ حَقُّ الْفَسْخِ دُونَ رِضَا الآْخَرِ، وَمُقَابِلُهُ: الْعَقْدُ الْجَائِزُ أَوْ غَيْرُ اللاَّزِمِ: وَهُوَ مَا يَكُونُ لأَِحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فِيهِ حَقُّ الْفَسْخِ (3) .
وَقَدْ قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْعَقْدَ بِاعْتِبَارِ اللُّزُومِ وَالْجَوَازِ إِلَى أَنْوَاعٍ:
قَال السُّيُوطِيّ: الْعُقُودُ الْوَاقِعَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَلَى أَقْسَامٍ:
__________
(1) المنثور للزركشي 2 / 402، 403.
(2) المنثور للزركشي 2 / 403، 404.
(3) المنثور للزركشي 2 / 400.

(30/228)


الأَْوَّل: لاَزِمٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ قَطْعًا، كَالْبَيْعِ وَالصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالتَّشْرِيكِ، وَصُلْحِ الْمُعَاوَضَةِ، وَالْحَوَالَةِ، وَالإِْجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَالْهِبَةِ لِلأَْجْنَبِيِّ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَالصَّدَاقِ وَعِوَضِ الْخُلْعِ.
الثَّانِي: جَائِزٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ قَطْعًا، كَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْقِرَاضِ، وَالْوَصِيَّةِ وَالْعَارِيَّةِ، الْوَدِيعَةِ وَالْقَرْضِ، وَالْجَعَالَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْوَصَايَا، وَسَائِرِ الْوِلاَيَاتِ غَيْرِ الإِْمَامَةِ.
وَالثَّالِثِ: مَا فِيهِ خِلاَفٌ، وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَزِمٌ كَالْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمَا كَالإِْجَارَةِ، وَمُقَابِلُهُ يَقُول: إِنَّهُمَا كَالْجَعَالَةِ، وَالنِّكَاحُ لاَزِمٌ مِنَ الْمَرْأَةِ قَطْعًا، وَمِنَ الزَّوْجِ عَلَى الأَْصَحِّ، كَالْبَيْعِ، وَقِيل: جَائِزٌ مِنْهُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الطَّلاَقِ.
الرَّابِعِ: مَا هُوَ جَائِزٌ وَيَئُول إِلَى اللُّزُومِ، وَهُوَ الْهِبَةُ وَالرَّهْنُ قَبْل الْقَبْضِ، وَالْوَصِيَّةُ قَبْل الْمَوْتِ.
الْخَامِسُ: مَا هُوَ لاَزِمٌ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ جَائِزٌ مِنَ الآْخَرِ، كَالرَّهْنِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَالضَّمَانِ، وَالْكَفَالَةِ، وَعَقْدِ الأَْمَانِ، وَالإِْمَامَةِ الْعُظْمَى (1) .
وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْقِسْمَةَ فِي الْحَقِيقَةِ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص275، 276، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص336.

(30/229)


ثُلاَثِيَّةٌ: لاَزِمٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، جَائِزٌ مِنْهُمَا، لاَزِمٌ مِنْ أَحَدِهِمَا (1) ، وَقَال: مِنْ حُكْمِ اللاَّزِمِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ فِي الْحَال، وَالْجَائِزُ قَدْ لاَ يَكُونُ كَذَلِكَ، كَالْجَعَالَةِ تُعْقَدُ عَلَى رَدِّ الآْبِقِ.
وَمِنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ اللاَّزِمِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ: أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارٌ مُؤَبَّدٌ، وَلاَ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، أَوْ بِالْجُنُونِ أَوِ الإِْغْمَاءِ، وَالْجَائِزُ بِخِلاَفِهِ، كَمَا قَال الزَّرْكَشِيّ (2) .
وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ لَيْسَتْ مُطَّرِدَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ عَقْدَ الإِْجَارَةِ عَقْدٌ لاَزِمٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ عِنْدَهُمْ لَكِنَّهَا تَنْفَسِخُ بِالْوَفَاةِ؛ لأَِنَّهَا تَنْعَقِدُ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَهِيَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَالْمَنَافِعُ الَّتِي تَحْدُثُ بَعْدَ وَفَاةِ الْعَاقِدَيْنِ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً حِينَ الْعَقْدِ، فَتُفْسَخُ الإِْجَارَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِالْوَفَاةِ (3) .
ر: (إِجَارَة ف 72) .

ثَالِثًا - تَقْسِيمُ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ قَبُولِهِ الْخِيَارَ:
46 - قَسَّمَ ابْنُ قُدَامَةَ الْعَقْدَ بِاعْتِبَارِ قَبُولِهِ الْخِيَارَ أَوْ عَدَمَ قَبُولِهِ إِلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ، وَبَيَّنَ حُكْمَ هَذِهِ الأَْقْسَامِ كَالتَّالِي:
__________
(1) المنثور للزركشي 398، 400.
(2) المنثور للزركشي 2 / 401.
(3) بدائع الصنائع 4 / 222.

(30/229)


أ - عَقْدٌ لاَزِمٌ يُقْصَدُ مِنْهُ الْعِوَضُ، وَهُوَ الْبَيْعُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارَانِ: خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَخِيَارُ الشَّرْطِ، كَالْبَيْعِ فِيمَا لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَالصُّلْحِ بِمَعْنَى الْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ بِعِوَضٍ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالإِْجَارَةِ فِي الذِّمَّةِ، نَحْوُ أَنْ يَقُول: اسْتَأْجَرْتُكَ عَلَى أَنْ تَخِيطَ لِي هَذَا الثَّوْبَ وَنَحْوَهُ، فَهَذَا يَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ، فَأَمَّا الإِْجَارَةُ الْمُعَيَّنَةُ، فَإِنْ كَانَتْ مُدَّتُهَا مِنْ حِينِ الْعَقْدِ دَخَلَهَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ دُونَ خِيَارِ الشَّرْطِ؛ لأَِنَّ دُخُولَهُ يُفْضِي إِلَى فَوْتِ بَعْضِ الْمَنَافِعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا، أَوْ إِلَى اسْتِيفَائِهَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَكِلاَهُمَا لاَ يَجُوزُ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ، كَالصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وَبَيْعِ مَال الرِّبَا بِجِنْسِهِ، فَلاَ يَدْخُلُهُ خِيَارُ الشَّرْطِ.
ب - عَقْدٌ لاَزِمٌ لاَ يُقْصَدُ بِهِ الْعِوَضُ كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ، فَلاَ يَثْبُتُ فِيهِمَا خِيَارٌ؛ لأَِنَّ الْخِيَارَ إِنَّمَا يَثْبُتُ لِمَعْرِفَةِ الْحَظِّ فِي كَوْنِ الْعِوَضِ جَائِزًا لِمَا يَذْهَبُ مِنْ مَالِهِ، وَالْعِوَضُ هُنَا لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ، وَكَذَلِكَ الْوَقْفُ وَالْهِبَةُ؛ وَلأَِنَّ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ ضَرَرًا.
ج - عَقْدٌ لاَزِمٌ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ دُونَ الآْخَرِ، كَالرَّهْنِ لاَزِمٌ مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ جَائِزٌ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَلاَ يَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ؛ لأَِنَّ الْمُرْتَهِنَ

(30/230)


يَسْتَغْنِي بِالْجَوَازِ فِي حَقِّهِ عَنْ ثُبُوتِ خِيَارٍ آخَرَ، وَالرَّاهِنُ يَسْتَغْنِي بِثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ إِلَى أَنْ يَقْبِضَ، وَكَذَلِكَ الضَّامِنُ وَالْكَفِيل.
د - عَقْدٌ جَائِزٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ كَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْجَعَالَةِ وَالْوَكَالَةِ الْوَدِيعَةِ وَالْوَصِيَّةِ، فَهَذِهِ لاَ يَثْبُتُ فِيهَا خِيَارٌ اسْتِغْنَاءً بِجَوَازِهَا وَالتَّمَكُّنِ مِنْ فَسْخِهَا بِأَصْل وَضْعِهَا.
هـ - عَقْدٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْجَوَازِ وَاللُّزُومِ كَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا جَائِزَانِ، فَلاَ يَدْخُلُهُمَا خِيَارٌ، وَقِيل: هُمَا لاَزِمَانِ، فَفِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِيهِمَا وَجْهَانِ.
و عَقْدٌ لاَزِمٌ يَسْتَقِل بِهِ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، كَالْحَوَالَةِ، وَالأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ فَلاَ خِيَارَ فِيهِمَا؛ لأَِنَّ مَنْ لاَ يُعْتَبَرُ رِضَاهُ لاَ خِيَارَ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ لَمْ يَثْبُتْ فِي الآْخَرِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ (1) .

رَابِعًا - الْعُقُودُ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا الْقَبْضُ، وَالَّتِي لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا:
47 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْعُقُودَ - بِاعْتِبَارِ اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِيهَا أَوْ عَدَمِهِ - إِلَى نَوْعَيْنِ:
48 - الأَْوَّل: عُقُودٌ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا قَبْضُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ حِينَ الْعَقْدِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ عَقْدُ الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ،
__________
(1) المغني لابن قدامة 3 / 594، 595.

(30/230)


وَالإِْجَارَةُ وَالنِّكَاحُ وَالْوَصِيَّةُ وَالْوَكَالَةُ وَالْحَوَالَةُ وَنَحْوُهَا، فَالْبَيْعُ مَثَلاً يَنْعَقِدُ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُهُ: مِنَ انْتِقَال مِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَمِلْكِيَّةِ الثَّمَنِ إِلَى الْبَائِعِ، سَوَاءٌ أَحَصَل التَّقَابُضُ بَيْنَهُمَا أَمْ لاَ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ كَانَ يَنْتَقِل فِي الْبَيْعِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، لَكِنْ لاَ يَسْتَقِرُّ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، كَالصَّدَاقِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ (1) .
وَالإِْجَارَةُ تَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا آثَارُهَا بِالْعَقْدِ دُونَ الْحَاجَةِ إِلَى الاِسْتِيفَاءِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (2) ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: لاَ يَمْلِكُ الْمُؤَجِّرُ الأُْجْرَةَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهَا بِالاِسْتِيفَاءِ، أَوِ التَّمَكُّنِ مِنْهُ أَوْ بِالتَّعْجِيل، أَوْ بِشَرْطِ التَّعْجِيل، كَمَا لاَ يَمْلِكُ الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنَافِعَ بِالْعَقْدِ؛ لأَِنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهَا بِالاِسْتِيفَاءِ أَوْ يَوْمًا فَيَوْمًا (3) .
وَالنِّكَاحُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُهُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى قَبْضِ الصَّدَاقِ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 347، والأشباه والنظائر للسيوطي ص282، والقواعد لابن رجب ص74 - 76.
(2) بداية المجتهد 2 / 218، ونهاية المحتاج 5 / 164، والمغني لابن قدامة 5 / 443.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص348.

(30/231)


وَالْوَكَالَةُ وَالْحَوَالَةُ لاَ تَحْتَاجُ فِي انْعِقَادِهَا إِلَى قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
49 - الثَّانِي: عُقُودٌ يُشْتَرَطُ فِيهَا قَبْضُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ حِينَ الْعَقْدِ.
وَهَذِهِ تَنْقَسِمُ إِلَى أَقْسَامٍ:
أ - عُقُودٍ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْقَبْضُ لِنَقْل الْمِلْكِيَّةِ، كَالْهِبَةِ وَالْقَرْضِ وَالْعَارِيَّةِ.
أَمَّا الْهِبَةُ - وَهِيَ تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ - فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا: لاَ تَنْتَقِل الْمِلْكِيَّةُ فِيهَا بِمُجَرَّدِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول، بَل يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى الْقَبْضِ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُشْتَرَطُ لاِنْتِقَال الْمِلْكِيَّةِ فِي عَقْدِ الْهِبَةِ الْقَبْضُ، بَل تَثْبُتُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مِلْكِيَّةُ الْمَوْهُوبِ بِالْعَقْدِ، وَعَلَى الْوَاهِبِ إِقْبَاضُهُ (2) .
وَكَذَلِكَ الْقَرْضُ: فَالْجُمْهُورُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِنَقْل مِلْكِيَّتِهِ إِلَى الْمُقْتَرِضِ الْقَبْضُ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُقْتَرِضَ يَمْلِكُ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص273، ومغني المحتاج 2 / 400، الأشباه والنظائر للسيوطي ص 319، والقواعد لابن رجب ص71.
(2) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 101.
(3) بدائع الصنائع 7 / 1396، مغني المحتاج 2 / 120، وكشاف القناع 3 / 275.

(30/231)


الْقَرْضَ بِالْعَقْدِ، وَلاَ يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى قَبْضِ الْعَيْنِ الْمُقْرَضَةِ (1) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا هَلَكَتِ الْعَيْنُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْل الْقَبْضِ فَإِنَّ ضَمَانَهَا عَلَى الْمُقْرِضِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، بِنَاءً عَلَى بَقَاءِ الْمِلْكِيَّةِ لَدَيْهِ (2) .
وَفِي عَقْدِ الْعَارِيَّةِ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ مِلْكَ الْمَنَافِعِ مِنَ الأَْمْوَال الْمُعَارَةِ لاَ تَنْتَقِل بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، بَل يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى قَبْضِ الْمُعَارِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْعَارِيَّةَ إِبَاحَةُ الاِنْتِفَاعِ، فَلاَ تَنْتَقِل فِيهَا الْمَنَافِعُ أَصْلاً؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَمَلُّكُ مَنْفَعَةِ الْمُعَارِ بِالْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يُقْبَصِ الْمُعَارُ. ر: (عَارِيَّةً) .
ب - عُقُودٍ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْقَبْضُ لِصِحَّتِهَا، كَالصَّرْفِ، وَبَيْعِ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ، وَالسَّلَمِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَالْمُزَارَعَةِ.
أَمَّا عَقْدُ الصَّرْفِ - وَهُوَ بَيْعُ النَّقْدِ بِالنَّقْدِ - فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهِ التَّقَابُضِ فِي الْبَدَلَيْنِ قَبْل التَّفَرُّقِ عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَلاَ تَشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى
__________
(1) الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي 3 / 226.
(2) المراجع السابقة.
(3) بدائع الصنائع 6 / 214.

(30/232)


بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تَشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ. (1)
وَكَذَلِكَ بَيْعُ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَنَحْوِهِمَا فَيُشْتَرَطُ فِي بَيْعِهَا بِمِثْلِهَا التَّقَابُضُ (2) ، لِمَا وَرَدَ فِي الأَْحَادِيثِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ النَّسِيئَةِ فِي ذَلِكَ، مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ. (3)
وَأَمَّا عَقْدُ السَّلَمِ - وَهُوَ: بَيْعُ الآْجِل بِالْعَاجِل - فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهِ قَبْضُ رَأْسِ الْمَال قَبْل الاِفْتِرَاقِ (4) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ (5) ،
__________
(1) حديث: " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 380) ومسلم (3 / 1208) من حديث أبي سعيد الخدري.
(2) بدائع الصنائع 5 / 215، والقوانين الفقهية ص275، وروضة الطالبين 3 / 379، وكشاف القناع 3 / 217.
(3) حديث: " الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 378) ومسلم (3 / 1210) من حديث عمر بن الخطاب.
(4) بدائع الصنائع للكاساني 5 / 202، ومغني المحتاج 2 / 102، وكشاف القناع 3 / 391.
(5) حديث: " من أسلف في تمر. . . ". تقدم ف 37.

(30/232)


وَالتَّسْلِيفُ هُوَ الإِْعْطَاءُ؛ وَلأَِنَّ الاِفْتِرَاقَ قَبْل قَبْضِ رَأْسِ الْمَال يُؤَدِّي إِلَى بَيْعِ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، لِمَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: عَدَمُ اشْتِرَاطِ قَبْضِ رَأْسِ الْمَال فِي السَّلَمِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَقَالُوا بِجَوَازِ تَأْخِيرِهِ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاَثَةِ؛ لأَِنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ (1) .
وَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ - وَهِيَ: إِعْطَاءُ مَالٍ لِلتِّجَارَةِ عَلَى جُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنَ الرِّبْحِ - فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ - إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَال إِلَى الْعَامِل، بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ قَبْضِ رَأْسِ الْمَال فِي صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ (3) .
ر: (مُضَارَبَةٌ) .
وَفِي عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ - وَهُوَ: عَقْدٌ عَلَى دَفْعِ الشَّجَرِ وَالْكُرُومِ إِلَى مَنْ يُصْلِحُهَا بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ ثَمَرِهَا - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ عَلَى
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 514.
(2) بدائع الصنائع 6 / 84، 85، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 517، والمغني 5 / 25، ومغني المحتاج 2 / 310.
(3) المغني لابن قدامة 5 / 25.

(30/233)


مَالِكِ الأَْشْجَارِ تَسْلِيمَهَا إِلَى الْعَامِل لِيَتَعَهَّدَهَا، فَيُقْسَمُ مَا يَحْصُل مِنَ الثَّمَرِ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ شَرَطَ كَوْنَهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ أَوْ مُشَارَكَتَهُ فِي الْيَدِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِعَدَمِ حُصُول التَّسْلِيمِ (1) .
ر: (مُسَاقَاة) .
وَكَذَلِكَ اشْتَرَطَ مَنْ قَال بِجَوَازِ الْمُزَارَعَةِ تَسْلِيمَ الأَْرْضِ إِلَى الْعَامِل، حَتَّى لَوِ اشْتَرَطَ فِي الْعَقْدِ الْعَمَل عَلَى رَبِّ الأَْرْضِ أَوْ شَرَطَ عَمَلَهُمَا مَعًا لاَ تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ لاِنْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ، عِلْمًا بِأَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ لاَ يَقُولُونَ بِجَوَازِ هَذَا الْعَقْدِ أَصْلاً (2) .
وَلِتَفْصِيل الْمَسْأَلَةِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (مُزَارَعَة) .
ج - عُقُودٍ يُشْتَرَطُ لِلُزُومِهَا الْقَبْضُ: كَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ، فَقَدْ صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: بِأَنَّ عَقْدَ الْهِبَةِ لاَ يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول قَبْل الْقَبْضِ، فَيَكُونُ لِلْوَاهِبِ حَقُّ الرُّجُوعِ مَا دَامَ الْمَوْهُوبُ لَهُ لَمْ يَقْبِضْ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ قَالُوا بِعَدَمِ لُزُومِ الْهِبَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ أَيْضًا، فَلِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِيهَا إِلاَّ فِي حَالاَتٍ خَاصَّةٍ (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 186، والمادة (1445) من مجلة الأحكام العدلية، وروضة الطالبين 5 / 155.
(2) بدائع الصنائع 6 / 187.
(3) بدائع الصنائع 6 / 123 - 127، مغني المحتاج 2 / 401، وكشاف القناع 4 / 253.

(30/233)


وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْهِبَةَ تَلْزَمُ بِالْقَبْضِ إِلاَّ فِي حَالاَتٍ خَاصَّةٍ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (هِبَة) .
وَأَمَّا الرَّهْنُ: فَقَدِ اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي لُزُومِهِ الْقَبْضَ، فَيَبْطُل عَقْدُ الرَّهْنِ بِرُجُوعِ الرَّاهِنِ عَنِ الرَّهْنِ بِالْقَوْل أَوْ بِتَصَرُّفٍ يُزِيل الْمِلْكَ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رَهْن ف 21) .

خَامِسًا: عُقُودُ الْمُعَاوَضَةِ وَعُقُودُ التَّبَرُّعِ:
50 - قَسَّمَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْعَقْدَ مِنْ حَيْثُ وُجُودُ الْعِوَضِ وَعَدَمُ الْعِوَضِ فِيهِ إِلَى نَوْعَيْنِ: عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ، وَعُقُودِ التَّبَرُّعِ.
فَمِنَ النَّوْعِ الأَْوَّل: عَقْدُ الْبَيْعِ بِأَنْوَاعِهِ مِنَ الْمُقَايَضَةِ وَالسَّلَمِ وَالصَّرْفِ، وَعَقْدُ الإِْجَارَةِ وَالاِسْتِصْنَاعِ، وَالصُّلْحِ وَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ، وَالْمُضَارَبَةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالشَّرِكَةِ وَنَحْوِهَا.
وَمِنَ النَّوْعِ الثَّانِي: عَقْدُ الْهِبَةِ، وَالْعَارِيَّةِ، الْوَدِيعَةِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالْكَفَالَةِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَدِينِ، وَالرَّهْنِ، وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِهَا.
وَمِنْ آثَارِ هَذَا التَّقْسِيمِ مَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ مِنْ أَنَّهُ حَيْثُ اعْتُبِرَ الْعِوَضُ فِي عَقْدٍ مِنَ
__________
(1) الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 101، وما بعدها.
(2) ابن عابدين 5 / 308، ومغني المحتاج 2 / 128، والمغني 4 / 366.

(30/234)


الطَّرَفَيْنِ - أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا - فَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، كَثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَعِوَضِ الأُْجْرَةِ وَنَحْوِهِمَا، إِلاَّ فِي الصَّدَاقِ وَعِوَضِ الْخُلْعِ، فَإِنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ لاَ تُبْطِلُهُ؛ لأَِنَّ لَهُ مَرَدًّا مَعْلُومًا، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْل، وَقَدْ يَكُونُ الْعِوَضُ فِي حُكْمِ الْمَجْهُول، كَالْعِوَضِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَهُنَاكَ عُقُودٌ يُكْتَفَى فِيهَا بِالْعِلْمِ الطَّارِئِ بِالْعِوَضِ، كَالشَّرِكَةِ مَثَلاً فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ بِقَدْرِ النِّسْبَتَيْنِ فِي الْمَال الْمُخْتَلِطِ، مِنْ كَوْنِهِ مُنَاصَفَةً أَوْ مُثَالَثَةً فِي الأَْصَحِّ إِذَا أَمْكَنَ مَعْرِفَتُهُ مِنْ بَعْدُ، وَعُقُودٌ أُخْرَى لاَ يُكْتَفَى فِيهَا بِالْعِلْمِ، كَالْقِرَاضِ، وَالْقَرْضِ، وَهَل تَكْفِي مُعَايَنَةُ الْحَاضِرِ عَنْ مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ؟ تَخْتَلِفُ الْعُقُودُ حَسْبَ طَبِيعَتِهَا، فَفِي بَعْضِ الْعُقُودِ تَكْفِي مُعَايَنَةُ الْبَعْضِ كَالْبَيْعِ، وَفِي بَعْضِهَا لاَ تَكْفِي كَمَا فِي الْقِرَاضِ (1) .
وَأَمَّا عُقُودُ التَّبَرُّعِ:؛ فَلأَِنَّهُ لاَ عِوَضَ فِيهَا يُغْتَفَرُ فِيهَا الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ الْيَسِيرَةُ؛ لأَِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْيُسْرِ وَالتَّوْسِعَةِ (2) .
وَهُنَاكَ عُقُودٌ تُعْتَبَرُ تَبَرُّعًا فِي الاِبْتِدَاءِ لَكِنَّهَا مُعَاوَضَةٌ فِي الاِنْتِهَاءِ كَعَقْدِ الْقَرْضِ، فَإِنَّ الْمُقْرِضَ مُتَبَرِّعٌ عِنْدَ الإِْقْرَاضِ لَكِنَّهُ عِنْدَ رُجُوعِهِ
__________
(1) المنثور للزركشي 2 / 403، 404، والقواعد لابن رجب ص 74.
(2) الفروق للقرافي 1 / 151.

(30/234)


عَلَى الْمُقْتَرِضِ بِمِثْل مَا أَخَذَ يَئُول إِلَى الْمُعَاوَضَةِ.
وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْكَفَالَةِ بِأَمْرِ الْمَدِينِ، فَإِنَّهَا تَبَرُّعٌ فِي الاِبْتِدَاءِ، حِينَمَا يَلْتَزِمُ الْكَفِيل بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمَدِينِ، لَكِنَّهُ إِذَا دَفَعَ الدَّيْنَ لِلدَّائِنِ وَرَجَعَ عَلَى الْمَدِينِ بِمِثْل مَا دَفَعَهُ تَصِيرُ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ.
وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ عَنْ عُقُودِ التَّبَرُّعِ فِي أَنَّ الْوَفَاءَ بِمَا يَتَعَهَّدُهُ الْعَاقِدَانِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا وَاجِبٌ، إِذَا تَمَّتْ صَحِيحَةً بِشُرُوطِهَا، عَمَلاً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) ؛ لأَِنَّ فِي عَدَمِ الْوَفَاءِ بِهَا ضَرَرًا لِلْعَاقِدِ الآْخَرِ، لِضَيَاعِ مَا بَذَلَهُ مِنَ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَتِهِ، بِخِلاَفِ عُقُودِ التَّبَرُّعِ، كَالْهِبَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ، وَنَحْوِهَا، فَلاَ يَجِبُ الْوَفَاءُ فِيهَا بِمَا تَعَهَّدَ الْمُتَبَرِّعُ؛ لأَِنَّهُ مُحْسِنٌ، وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، مَعَ تَفْصِيلٍ فِي مُخْتَلَفِ الْعُقُودِ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ صَرَّحُوا بِاسْتِحْبَابِ الْوَفَاءِ فِي عُقُودِ التَّبَرُّعِ؛ لأَِنَّهَا مِنَ الْبِرِّ وَالإِْحْسَانِ، وَقَدْ حَثَّ الشَّارِعُ عَلَيْهِمَا فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ، قَال تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (2) .
__________
(1) سورة المائدة / 1.
(2) سورة المائدة / 2.

(30/235)


وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ عِنْدَهُمْ فِي بَعْضِ عُقُودِ التَّبَرُّعِ أَيْضًا، فَالْعَارِيَّةُ الْمُؤَجَّلَةُ لاَزِمَةٌ عِنْدَهُمْ إِلَى انْقِضَاءِ الأَْجَل (1) ، كَمَا تَلْزَمُ عِنْدَهُمُ الْهِبَةُ بِالْقَبُول، فَإِنِ امْتَنَعَ الْوَاهِبُ مِنْ تَسْلِيمِهَا يُجْبَرُ (2) عَلَيْهِ.

سَادِسًا: الْعَقْدُ الصَّحِيحُ وَالْبَاطِل وَالْفَاسِدُ.
51 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ بِاعْتِبَارِ إِقْرَارِ الشَّرْعِ لَهُ وَتَرْتِيبِ آثَارِهِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: الْعَقْدُ الصَّحِيحُ، وَالْعَقْدُ غَيْرُ الصَّحِيحِ.
فَالْعَقْدُ الصَّحِيحُ: هُوَ مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ مَعًا، بِحَيْثُ يَكُونُ مُسْتَجْمِعًا لأَِرْكَانِهِ وَأَوْصَافِهِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ، كَبَيْعِ الْعَاقِل الْبَالِغِ الْمَال الْمُتَقَوِّمَ الْمَوْجُودَ الْقَابِل لِلتَّسْلِيمِ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ مُعْتَبَرَيْنِ شَرْعًا، فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ مِنْ نَقْل مِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي وَنَقْل مِلْكِيَّةِ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ، وَكَالإِْجَارَةِ لِلاِنْتِفَاعِ بِعَيْنٍ مَوْجُودَةٍ انْتِفَاعًا مَشْرُوعًا، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَثَرُهَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا مِنْ نَقْل الاِنْتِفَاعِ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَالأُْجْرَةِ إِلَى
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 439 - 442.
(2) جواهر الإكليل 2 / 212.

(30/235)


الْمُؤَجِّرِ (1) ، وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ إِذَا لَمْ يَقَعْ خَلَلٌ فِي أَرْكَانِهَا أَوْ شُرُوطِهَا.
وَالْعَقْدُ غَيْرُ الصَّحِيحِ: هُوَ مَا لاَ يَعْتَبِرُهُ الشَّرْعُ، وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَقْصُودُهُ. أَوْ هُوَ: مَا لاَ يَكُونُ مَشْرُوعًا أَصْلاً وَوَصْفًا، أَوْ يَكُونُ مَشْرُوعًا أَصْلاً لَكِنْ لاَ يَكُونُ مَشْرُوعًا وَصْفًا، مِثَال الأَْوَّل: عَقْدُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، أَوِ الْعَقْدُ عَلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَكُل مَا لاَ يُعْتَبَرُ مَالاً، وَمِثَال الثَّانِي: الْعَقْدُ فِي حَالَةِ الإِْكْرَاهِ، وَالْعَقْدُ عَلَى مَحَلٍّ مَجْهُولٍ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ (2) .
وَقَدْ قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْعَقْدَ غَيْرَ الصَّحِيحِ إِلَى: عَقْدٍ بَاطِلٍ وَعَقْدٍ فَاسِدٍ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (بُطْلاَن، فَسَاد)

سَابِعًا - الْعَقْدُ النَّافِذُ، وَالْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ:
52 - قَسَّمَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ الْعَقْدَ بِاعْتِبَارِ ظُهُورِ آثَارِهِ وَعَدَمِ ظُهُورِهَا إِلَى قِسْمَيْنِ:
أ - الْعَقْدُ النَّافِذُ، وَهُوَ الْعَقْدُ الصَّحِيحُ الَّذِي لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، وَيُفِيدُ الْحُكْمَ فِي
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية م109، 110، والمنثور للزركشي 2 / 409.
(2) بدائع الصنائع 5 / 305، حاشية ابن عابدين 4 / 100، وبداية المجتهد 2 / 163، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 310، وروضة الناظرين ص31.

(30/236)


الْحَال (1) ، أَوْ هُوَ الْعَقْدُ الَّذِي يَصْدُرُ مِمَّنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ وَوِلاَيَتُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوِلاَيَةُ أَصْلِيَّةً كَمَنْ يَعْقِدُ الْعَقْدَ لِنَفْسِهِ، أَمْ نِيَابِيَّةً كَعَقْدِ الْوَصِيِّ أَوِ الْوَلِيِّ لِمَنْ تَحْتَ وِلاَيَتِهِمَا أَوْ عَقْدِ الْوَكِيل لِمُوَكِّلِهِ.
وَحُكْمُ الْعَقْدِ النَّافِذِ أَنَّهُ لاَ يَحْتَاجُ فِي ظُهُورِ آثَارِهِ إِلَى إِجَازَةِ الْغَيْرِ.
ب - الْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ: وَهُوَ الْعَقْدُ الَّذِي يَصْدُرُ مِمَّنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ دُونَ الْوِلاَيَةِ، كَمَنْ يَبِيعُ مَال غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَوْ هُوَ عَقْدٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ (2) .
وَحُكْمُ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ - عِنْدَ مَنْ يُجِيزُهُ - هُوَ أَنَّهُ عَقْدٌ صَحِيحٌ؛ لأَِنَّهُ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ، فَيُفِيدُ الْحُكْمَ لَكِنْ عَلَى وَجْهِ التَّوَقُّفِ أَيْ: تَتَوَقَّفُ آثَارُهُ وَإِفَادَتُهُ الْحُكْمَ عَلَى إِجَازَةِ مَنْ يَمْلِكُهَا شَرْعًا كَعَقْدِ الْفُضُولِيِّ وَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ وَنَحْوِهِمَا.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ وَصِحَّتِهِ:
فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَدِيمِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) : إِنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ عَقْدٌ
__________
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام العدلية 1 / 95، 304.
(2) مجمع الأنهر 2 / 47، ودرر الحكام 1 / 94، وحاشية ابن عابدين 4 / 100.

(30/236)


صَحِيحٌ يُفِيدُ الْحُكْمَ عَلَى وَجْهِ التَّوَقُّفِ، فَإِنْ أَجَازَهُ الْمَالِكُ أَوْ مَنْ لَهُ الإِْجَازَةُ وَالتَّصَرُّفُ نَفَذَ وَإِلاَّ بَطَل (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (الْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ)

ثَامِنًا - الْعُقُودُ الْمُؤَقَّتَةُ وَالْعُقُودُ الْمُطْلَقَةُ:
53 - قَسَّمَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْعَقْدَ بِاعْتِبَارِ قَبُولِهِ التَّأْقِيتَ وَعَدَمِ قَبُولِهِ ذَلِكَ إِلَى نَوْعَيْنِ: الْعُقُودُ الْمُؤَقَّتَةُ، وَالْعُقُودُ غَيْرُ الْمُؤَقَّتَةِ.
قَال السُّيُوطِيُّ: كُل عَقْدٍ كَانَتِ الْمُدَّةُ رُكْنًا فِيهِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مُؤَقَّتًا، كَالإِْجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْهُدْنَةِ، وَكُل عَقْدٍ لاَ يَكُونُ كَذَلِكَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مُطْلَقًا، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ التَّأْقِيتُ حَيْثُ لاَ يُنَافِيهِ، كَالْقِرَاضِ يُذْكَرُ فِيهِ مُدَّةٌ، وَيُمْنَعُ مِنَ الشِّرَاءِ بَعْدَهَا فَقَطْ، وَمِمَّا لاَ يَقْبَل التَّأْقِيتَ: الْجِزْيَةُ فِي الأَْصَحِّ، وَعَقْدُ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْوَقْفِ، وَمِمَّا يَقْبَلُهُ وَهُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ: الإِْجَارَةُ وَكَذَا الْمُسَاقَاةُ، وَالْهُدْنَةُ فِي الأَْصَحِّ، وَمِمَّا يَقْبَل التَّأْقِيتَ وَلَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ: الْوَكَالَةُ، وَالْوِصَايَةُ.
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 44، وحاشية ابن عابدين 4 / 100، ومجمع الأنهر 2 / 47، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 163، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 10، 11، ومغني المحتاج 2 / 15، والأشباه والنظائر للسيوطي ص185 - 186، والمغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 4 / 274.

(30/237)


وَقَال أَيْضًا: وَالْحَاصِل أَنَّ مَا لاَ يَقْبَل التَّأْقِيتَ - وَمَتَى أُقِّتَ بَطَل - الْبَيْعُ بِأَنْوَاعِهِ وَالنِّكَاحُ، وَالْوَقْفُ (1) .
وَذَكَرَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ كَذَلِكَ أَنَّ عَقْدَ الإِْجَارَةِ مِنَ الْعُقُودِ الْمُؤَقَّتَةِ (2) .
كَمَا قَالُوا فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ: إِنَّهَا تَقْبَل التَّوْقِيتَ (3) ، وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْمُسَاقَاةِ، فَإِنْ لَمْ يُبَيَّنْ فِيهَا الْوَقْتُ وَقَعَ عَلَى أَوَّل ثَمَرٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (4) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ تَأْقِيتُ الْمُسَاقَاةِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ مُؤَقَّتَةً؛ لأَِنَّهُ لاَ ضَرَرَ فِي تَقْدِيرِ مُدَّتِهَا (5) .
وَمِنَ الْعُقُودِ الَّتِي لاَ تَقْبَل التَّأْقِيتَ عَقْدُ الرَّهْنِ (6) .
وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْهِبَةِ؛ لأَِنَّهَا تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فِي الْحَال، وَتَمْلِيكُ الأَْعْيَانِ لاَ يَصِحُّ مُؤَقَّتًا كَالْبَيْعِ (7)
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص282، 283.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص336، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 4.
(3) الخرشي 4 / 289، ومغني المحتاج 2 / 223، والمغني مع الشرح الكبير 5 / 210.
(4) ابن عابدين 5 / 249، والشرح الصغير للدردير 2 / 225، ومغني المحتاج 2 / 327.
(5) كشاف القناع 3 / 538.
(6) الاختيار 2 / 236، والخرشي 4 / 173، ومغني المحتاج 2 / 132، وكشاف القناع 3 / 350.
(7) بدائع الصنائع 6 / 118، والدسوقي 4 / 97، ومغني المحتاج 2 / 398، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 256.

(30/237)


وَاخْتَلَفُوا فِي عَقْدِ الْكَفَالَةِ، هَل تَقْبَل التَّأْقِيتَ أَوْ لاَ؟ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَجُوزُ تَوْقِيتُهَا، وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ مَعَ بَعْضِ الشُّرُوطِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ (1) .
وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَجَل ف 48 - 59)

الشُّرُوطُ الْمُقْتَرِنَةُ بِالْعُقُودِ:
54 - الْمُرَادُ بِالشُّرُوطِ الْمُقْتَرِنَةِ بِالْعُقُودِ: مَا يُذْكَرُ بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ، فَيُقَيِّدُ أَثَرَ الْعَقْدِ أَوْ يُعَلِّقُهُ بِأَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى أَصْل الْعَقْدِ فِي الْمُسْتَقْبَل (2) .
وَقَدْ قَسَّمَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الشَّرْطَ الْمُقْتَرِنَ بِالْعَقْدِ إِلَى نَوْعَيْنِ: شَرْطٍ صَحِيحٍ، وَشَرْطٍ غَيْرِ صَحِيحٍ.
وَقَسَّمَهُ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ: الشَّرْطُ الصَّحِيحُ، وَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ، وَالشَّرْطُ الْبَاطِل.
وَضَابِطُ الشَّرْطِ الصَّحِيحِ: هُوَ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ الْقَائِمِ بِمَحَل الْعَقْدِ وَقْتَ صُدُورِهِ، أَوْ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ أَوْ يُلاَئِمُهُ - وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ - أَوْ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 266، وحاشية الدسوقي 3 / 331، ومغني المحتاج 2 / 207، والمهذب 1 / 341.
(2) حاشية الحموي على الأشباه لابن نجيم 2 / 225، والمنثور للزركشي 1 / 370.

(30/238)


بِجَوَازِهِ، أَوْ مَا يَجْرِي عَلَيْهِ التَّعَامُل، كَمَا أَضَافَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ: أَوْ مَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةً مَشْرُوعَةً لِلْعَاقِدِ، كَمَا قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الشَّرْطِ الصَّحِيحِ: اشْتِرَاطُ الْقَبْضِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، أَوِ اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ أَوِ الْكَفَالَةِ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّل مَثَلاً (1) . فَهَذَا النَّوْعُ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الشُّرُوطِ الصَّحِيحَةِ يُمْكِنُ اشْتِرَاطُهُ فِي الْعَقْدِ، وَلاَ يَضُرُّ فِي انْعِقَادِهِ وَلاَ فِي صِحَّتِهِ.
أَمَّا الشَّرْطُ الْبَاطِل أَوِ الْفَاسِدُ فَهُوَ: مَا لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَلاَ يُلاَئِمُ مُقْتَضَاهُ أَوْ مَا يُؤَدِّي إِلَى غَرَرٍ، أَوِ اشْتِرَاطِ أَمْرٍ لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ أَوْ نَحْوِهِ.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ مَا يُبْطِل الْعَقْدَ، كَبَيْعِ حَيَوَانٍ عَلَى أَنَّهُ حَامِلٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ غَرَرٍ (2) ، وَكَالْعَقْدِ الْمُتَضَمِّنِ عَلَى الرِّبَا؛ لِنَهْيِ الشَّارِعِ عَنْهُ (3) .
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ أَيْضًا: مَا يَصِحُّ مَعَهُ الْعَقْدُ وَيَلْغُو الشَّرْطُ نَفْسُهُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِي الْمُزَارَعَةِ: أَنْ لاَ يَبِيعَ الآْخَرُ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 171، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 265، والمجموع للنووي 9 / 364، وكشاف القناع 3 / 189.
(2) بدائع الصنائع 5 / 186، والدسوقي 3 / 58.
(3) بدائع الصنائع 5 / 168 - 171، وحاشية الدسوقي 3 / 309، 310، والمهذب للشيرازي 1 / 275، وكشاف القناع 5 / 97.

(30/238)


نَصِيبَهُ، أَوْ يَهَبَهُ لِفُلاَنٍ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ صَحِيحٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، فَيَلْغُو الشَّرْطُ فَقَطْ، كَمَا قَال الْحَنَفِيَّةُ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شَرْط ف 19 - 27)

آثَارُ الْعَقْدِ:
55 - آثَارُ الْعَقْدِ هِيَ: مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَقْدِ وَمَا يَهْدُفُ إِلَيْهِ الْعَاقِدَانِ، وَهِيَ الْمَقْصُودُ الأَْصْلِيُّ لِلْعَاقِدَيْنِ مِنِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا.
وَتَخْتَلِفُ هَذِهِ الآْثَارُ حَسْبَ اخْتِلاَفِ الْعُقُودِ.
فَفِي عُقُودِ الْمِلْكِيَّةِ الَّتِي تَرِدُ عَلَى الأَْعْيَانِ - كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْقَرْضِ - أَثَّرَ الْعَقْدُ نَقْل الْمِلْكِيَّةِ مِنْ عَاقِدٍ إِلَى آخَرَ إِذَا اسْتَوْفَتْ أَرْكَانَهَا وَشُرُوطَهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ بِعِوَضٍ - كَمَا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَنْقُل مِلْكِيَّةَ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَمِلْكِيَّةَ الثَّمَنِ إِلَى الْبَائِعِ - أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَمَا فِي عَقْدِ الْهِبَةِ، وَكَمَا فِي عَقْدِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوصِي بِقَبُول الْمُوصَى لَهُ أَوْ بِمُجَرَّدِ الْوَفَاةِ، عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.
وَفِي عُقُودِ الْمَنْفَعَةِ أَثَّرَ الْعَقْدُ نَقْل الْمَنْفَعَةِ أَوْ إِبَاحَةَ الاِنْتِفَاعِ مِنَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ كَمَا فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ، أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَمَا فِي عَقْدَيِ الإِْعَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 170.

(30/239)


وَفِي عُقُودِ التَّوْثِيقِ كَعَقْدِ الْكَفَالَةِ وَالرَّهْنِ أَثَّرَ الْعَقْدُ تَوْثِيقَ الدَّيْنِ بِاشْتِرَاكِ ذِمَّةٍ جَدِيدَةٍ مَعَ ذِمَّةِ الْمَدِينِ، أَوْ حَبْسَ الرَّهْنِ حَتَّى يُؤَدَّى الدَّيْنُ. وَفِي عَقْدِ الْحَوَالَةِ: بِنَقْل الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةِ الْمَدِينِ إِلَى شَخْصٍ ثَالِثٍ.
وَفِي عُقُودِ الْعَمَل: حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِالْعَمَل فِيهِ، كَمَا فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ وَعُقُودِ الشَّرِكَةِ، وَكَمَا فِي عَقْدَيِ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَنَحْوِهِمَا.
وَفِي عَقْدِ الإِْيدَاعِ: حِفْظُ الْوَدِيعَةِ بِيَدِ الْوَدِيعِ.
وَفِي عَقْدِ النِّكَاحِ: حِل اسْتِمْتَاعِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِالآْخَرِ.
وَهَكَذَا فِي كُل عَقْدٍ يُعْقَدُ لِغَرَضٍ مِنَ الأَْغْرَاضِ الْمَشْرُوعَةِ

انْتِهَاءُ الْعَقْدِ وَأَسْبَابُهُ:
56 - انْتِهَاءُ الْعَقْدِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اخْتِيَارِيًّا أَوْ يَكُونَ ضَرُورِيًّا (1) وَالأَْوَّل: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِرَادَةِ عَاقِدٍ وَاحِدٍ أَوْ بِإِرَادَةِ كِلَيْهِمَا، فَإِذَا كَانَ بِإِرَادَةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ يُسَمَّى فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ فَسْخًا، وَإِذَا كَانَ بِرِضَا كِلاَ الْعَاقِدَيْنِ يُسَمَّى إِقَالَةً
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 298.

(30/239)


وَالثَّانِي، أَيِ الاِنْتِهَاءُ الضَّرُورِيُّ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْعُقُودِ الْمُؤَقَّتَةِ، كَالإِْجَارَةِ وَالإِْعَارَةِ وَالْوَكَالَةِ وَنَحْوِهَا، أَوْ يَكُونَ فِي الْعُقُودِ الْمُطْلَقَةِ، كَالرَّهْنِ وَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَنَحْوِهَا، وَيُسَمَّى الاِنْتِهَاءُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ انْفِسَاخًا.
وَلِكُل هَذِهِ الصُّوَرِ أَسْبَابٌ وَأَحْكَامٌ نُجْمِلُهَا فِيمَا يَلِي:

أَوَّلاً - الأَْسْبَابُ الاِخْتِيَارِيَّةُ لاِنْتِهَاءِ الْعَقْدِ:
أ - الْفَسْخُ:
57 - الْفَسْخُ حَل ارْتِبَاطِ الْعَقْدِ وَرَفْعُ حُكْمِهِ بِالإِْرَادَةِ (1) ، وَيَكُونُ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ بِطَبِيعَتِهَا، كَعَقْدِ الْوَكَالَةِ وَالْوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ وَنَحْوِهَا اتِّفَاقًا، وَكَذَا عَقْدُ الإِْعَارَةِ الْمُطْلَقَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، أَوْ بِشَرْطِ أَنْ لاَ تَكُونَ مُقَيَّدَةً بِعَمَلٍ أَوْ أَجَلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَهَذِهِ الْعُقُودُ يُمْكِنُ إِنْهَاؤُهَا بِالْفَسْخِ بِإِرَادَةِ كُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ مَعَ مُرَاعَاةِ عَدَمِ الضَّرَرِ، وَكَذَا الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ كَعَقْدِ الْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَغَيْرِهِمَا إِذَا كَانَ فِيهَا خِيَارٌ لِكُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَتُفْسَخُ بِإِرَادَةِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مُصْطَلَحِ: (فَسْخ) .
__________
(1) حاشية القليوبي 2 / 195، 280.

(30/240)


ب - الإِْقَالَةُ.
58 - الإِْقَالَةُ رَفْعُ الْعَقْدِ وَإِلْغَاءُ حُكْمِهِ وَآثَارِهِ بِتَرَاضِي الطَّرَفَيْنِ (1) ، وَمَحَل الإِْقَالَةِ الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مِمَّا يَقْبَل الْفَسْخَ بِالْخِيَارِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لاَ يُمْكِنُ فَسْخُهَا إِلاَّ بِإِرَادَةِ الطَّرَفَيْنِ وَاتِّفَاقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الإِْقَالَةَ تَصِحُّ فِي عُقُودِ الْبَيْعِ وَالْمُضَارَبَةِ، وَالإِْجَارَةِ وَالرَّهْنِ (بِالنِّسْبَةِ لِلرَّاهِنِ) وَالسَّلَمِ وَالصُّلْحِ وَهِيَ عُقُودٌ لاَزِمَةٌ.
وَلاَ تَصِحُّ الإِْقَالَةُ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ كَالإِْعَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَالْجَعَالَةِ أَوِ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ الَّتِي لاَ تَقْبَل الْفَسْخَ بِالْخِيَارِ كَالْوَقْفِ وَالنِّكَاحِ (2) .
وَلِشُرُوطِ الإِْقَالَةِ وَأَثَرِهَا فِي إِنْهَاءِ الْعُقُودِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (إِقَالَة ف 7، 12) .

ج - انْتِهَاءُ الْمُدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ أَوِ الْعَمَل الْمُعَيَّنِ:
59 - تَنْتَهِي بَعْضُ الْعُقُودِ بِانْتِهَاءِ مُدَّتِهَا الْمُقَرَّرَةِ لَهَا بِاتِّفَاقِ الطَّرَفَيْنِ، أَوْ بِانْتِهَاءِ الْعَمَل الَّذِي عُقِدَ الْعَقْدُ لأَِجْلِهِ.
فَعَقْدُ الإِْجَارَةِ الْمُقَيَّدُ بِمُدَّةٍ يَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ
__________
(1) البحر الرائق 6 / 110، والخرشي على مختصر خليل وبهامشه العدوي 5 / 169، والأم للشافعي 3 / 67، والمغني لابن قدامة 4 / 135.
(2) المبسوط 29 / 55، والعناية على الهداية 6 / 492، والمدونة 5 / 83، ومختصر المزني على الأم 2 / 28، ومغني المحتاج 2 / 433، وكشاف القناع 3 / 225.

(30/240)


الْمُدَّةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ كَالدَّارِ لِلسُّكْنَى أَوِ الأَْرْضِ لِلزِّرَاعَةِ، إِلاَّ إِذَا وُجِدَ عُذْرٌ يَقْتَضِي امْتِدَادَ الْمُدَّةِ، كَأَنْ يَكُونَ فِي الأَْرْضِ زَرْعٌ لَمْ يُحْصَدْ، أَوْ كَانَتْ سَفِينَةٌ فِي الْبَحْرِ وَانْقَضَتِ الْمُدَّةُ قَبْل وُصُولِهَا إِلَى السَّاحِل (1) . ر: (إِجَارَة ف 60)
كَمَا تَنْقَضِي الإِْجَارَةُ لِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ بِانْتِهَاءِ الْعَمَل الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي إِجَارَةِ الأَْشْخَاصِ، كَالْحَمَّال وَالْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ إِذَا أَنْهَوْا الْعَمَل.
وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْوَكَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ لإِِجْرَاءِ عَمَلٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّهَا تَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْعَمَل الْمُفَوَّضِ لِلْوَكِيل. ر: (وَكَالَة) .

ثَانِيًا - أَسْبَابُ الْعَقْدِ الضَّرُورِيَّةُ:
أ - هَلاَكُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
60 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَلَفَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ سَبَبٌ لاِنْتِهَاءِ بَعْضِ الْعُقُودِ، وَذَلِكَ لِتَعَذُّرِ دَوَامِ الْعَقْدِ، فَإِذَا تَلِفَتِ الدَّابَّةُ الْمُسْتَأْجَرَةُ، أَوِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ الْمُسْتَأْجَرَةُ لِلسُّكْنَى انْفَسَخَتِ الإِْجَارَةُ (2) . وَكَذَلِكَ إِذَا تَلِفَتِ الْعَيْنُ الْمُعَارَةُ أَوِ الْمُودَعَةُ فِي عَقْدَيِ الْعَارِيَّةِ وَالإِْيدَاعِ، أَوْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 414، والمهذب للشيرازي 1 / 410، والمغني لابن قدامة 6 / 67.
(2) الفتاوى الهندية 4 / 461، وابن عابدين 5 / 52، والحطاب 4 / 432، والوجيز للغزالي 1 / 136، وحاشية القليوبي 3 / 84، والمغني لابن قدامة 5 / 473، والشرح الصغير للدردير 4 / 49.

(30/241)


تَلِفَ رَأْسُ الْمَال فِي عَقْدَيِ الشَّرِكَةِ (شَرِكَةِ الأَْمْوَال أَوِ الْمُضَارَبَةِ) كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ الْخَاصَّةِ بِكُل عَقْدٍ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ.
وَهَذَا السَّبَبُ يُؤَثِّرُ فِي الْعُقُودِ الْمُسْتَمِرَّةِ الَّتِي تَدُومُ آثَارُهَا بِدَوَامِ الْمَحَل، أَمَّا مَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فَوْرًا - كَعَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً - فَلاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ هَلاَكُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ (الْمَبِيعِ) بَعْدَ قَبْضِ الْبَدَلَيْنِ.
أَمَّا قَبْل قَبْضِ الْمَبِيعِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ هَلاَكِ الْمَبِيعِ فِي انْفِسَاخِ الْبَيْعِ: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِانْفِسَاخِهِ (1) ، مَعَ تَفْصِيلٍ عِنْدَهُمْ.
قَال الْكَاسَانِيُّ فِي هَلاَكِ الْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ: إِنْ هَلَكَ كُلُّهُ قَبْل الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ انْفَسَخَ الْبَيْعُ؛ لأَِنَّهُ لَوْ بَقِيَ أَوْجَبَ مُطَالَبَةَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، وَإِذَا طَالَبَهُ بِالثَّمَنِ فَهُوَ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَإِنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ التَّسْلِيمِ، فَتَمْتَنِعُ الْمُطَالَبَةُ أَصْلاً، فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْبَيْعِ فَائِدَةٌ، فَيَنْفَسِخُ، وَكَذَلِكَ إِذَا هَلَكَ بِفِعْل الْمَبِيعِ، بِأَنْ كَانَ حَيَوَانًا فَقَتَل نَفْسَهُ، وَكَذَا إِذَا هَلَكَ بِفِعْل الْبَائِعِ، وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي عِنْدَنَا، وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْل الْمُشْتَرِي لاَ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ؛ لأَِنَّهُ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 46، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 287.

(30/241)


بِالإِْتْلاَفِ صَارَ قَابِضًا (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: الْمَبِيعُ قَبْل قَبْضِهِ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، فَإِنْ تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَسَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي (2) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ لِمُشْتَرِيهِ - وَهُوَ الْمَال الْمِثْلِيُّ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ مَعْدُودٍ - يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالتَّلَفِ وَالضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مُعَيَّنًا وَعَقَارًا أَوْ مِنَ الأَْمْوَال الْقِيمِيَّةِ فَلاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالتَّلَفِ، وَيَنْتَقِل الضَّمَانُ إِلَى الْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ اللاَّزِمِ (3) وَمِثْلُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. (4)

ب - وَفَاةُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا:
61 - وَفَاةُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا لاَ تُؤَثِّرُ فِي الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ فِي الْجُمْلَةِ، مَا عَدَا عَقْدَ الإِْجَارَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: تَنْفَسِخُ الإِْجَارَةُ بِوَفَاةِ الْمُؤَجِّرِ أَوِ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لأَِنَّ الْمَنَافِعَ لَيْسَتْ أَمْوَالاً مَوْجُودَةً حِينَ الْعَقْدِ، وَتَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَإِذَا أَبْقَيْنَا عَقْدَ الإِْجَارَةِ بَعْدَ الْوَفَاةِ فَالْمُسْتَأْجِرُ أَوْ وَرَثَتُهُ يَنْتَفِعَانِ مِنَ الْعَيْنِ الْمُنْتَقِلَةِ مِلْكِيَّتُهَا بِوَفَاةِ الْمُؤَجِّرِ إِلَى
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 238.
(2) حاشية القليوبي 2 / 210، 211.
(3) الشرح الصغير 3 / 195، 196.
(4) المغني لابن قدامة 3 / 569.

(30/242)


الْوَرَثَةِ، وَالْمَنَافِعُ الْمُسْتَحْدَثَةُ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً حِينَ الْوَفَاةِ حَتَّى تَنْتَقِل إِلَى وَرَثَةِ الْمُسْتَأْجِرِ (1) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَوْتَ لاَ يُؤَثِّرُ فِي انْتِهَاءِ عَقْدِ الإِْجَارَةِ إِذَا كَانَتْ مُدَّتُهَا بَاقِيَةً؛ لأَِنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ يُقَدَّرُ وُجُودُهَا حِينَ الْعَقْدِ، فَانْتَقَلَتْ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِالْعَقْدِ (2) .
أَمَّا الْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ - كَالْوَكَالَةِ وَالإِْعَارَةِ وَالْوَدِيعَةِ وَنَحْوِهَا - فَتَنْفَسِخُ فِي الْجُمْلَةِ وَتَنْتَهِي بِوَفَاةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا؛ لأَِنَّهَا عُقُودٌ تَنْفَسِخُ بِإِرَادَةِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فِي حَيَاتِهِمَا وَتَسْتَمِرُّ بِإِرَادَتِهِمَا، فَإِذَا تُوُفِّيَ الْعَاقِدُ فَقَدْ بَطَلَتْ إِرَادَتُهُ وَانْتَهَتْ رَغْبَتُهُ، فَبَطَلَتْ آثَارُ هَذِهِ الْعُقُودِ الَّتِي كَانَتْ تَسْتَمِرُّ بِاسْتِمْرَارِ إِرَادَةِ الْعَاقِدَيْنِ (3) .

ج - غَصْبُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ:
62 - غَصْبُ مَحَل بَعْضِ الْعُقُودِ يُوجِبُ انْفِسَاخَهَا، فَفِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ
__________
(1) الاختيار 2 / 61، وبدائع الصنائع 4 / 222.
(2) بلغة السالك 4 / 50، والإقناع لحل ألفاظ أبي شجاع 2 / 72، والمغني 5 / 467.
(3) جواهر الإكليل 2 / 146، ونهاية المحتاج 5 / 130، والمغني لابن قدامة 5 / 225.

(30/242)


قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ غُصِبَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْفَسْخُ؛ لأَِنَّ فِيهِ تَأْخِيرَ حَقِّهِ، فَإِنْ فَسَخَ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ بِتَلَفِ الْعَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ حَتَّى انْقَضَتْ مُدَّةُ الإِْجَارَةِ فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِالْمُسَمَّى، وَبَيْنَ الْبَقَاءِ عَلَى الْعَقْدِ وَمُطَالَبَةِ الْغَاصِبِ بِأَجْرِ الْمِثْل (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ غُصِبَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ مِنْ يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ سَقَطَ الأَْجْرُ كُلُّهُ فِيمَا إِذَا غُصِبَتْ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ غُصِبَتْ فِي بَعْضِهَا سَقَطَ بِحِسَابِهَا، وَذَلِكَ لِزَوَال التَّمَكُّنِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، وَتَنْفَسِخُ الإِْجَارَةُ بِالْغَصْبِ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، خِلاَفًا لِبَعْضِهِمْ (2) .
وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ الْغَصْبَ بِتَعَذُّرِ الاِسْتِيفَاءِ مِنَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَحَكَمُوا بِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ بِهِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الإِْجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِتَعَذُّرِ مَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ الْمَنْفَعَةُ، وَالتَّعَذُّرُ أَعَمُّ مِنَ التَّلَفِ، فَيَشْمَل الضَّيَاعَ وَالْمَرَضَ وَالْغَصْبَ وَغَلْقَ الْحَوَانِيتِ قَهْرًا وَغَيْرَ ذَلِكَ (3) .
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 318، والمغني لابن قدامة 5 / 453، 455.
(2) الزيلعي 5 / 108، وابن عابدين 5 / 8.
(3) الشرح الصغير للدردير 4 / 49.

(30/243)


د - أَسْبَابٌ أُخْرَى يُفْسَخُ بِهَا الْعَقْدُ أَوْ يَنْتَهِي.
63 - ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَسْبَابِ فَسْخِ الْعَقْدِ أَوِ انْتِهَائِهِ الاِسْتِحْقَاقَ، فَقَدْ ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمَبِيعَ إِذَا اسْتُحِقَّ لِلْغَيْرِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ وَيَنْتَهِي حُكْمُهُ (1) ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْحُكْمَ بِالاِسْتِحْقَاقِ لاَ يُوجِبُ فَسْخَ الْعَقْدِ، بَل يُوجِبُ تَوَقُّفَهُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُسْتَحِقِّ، فَإِنْ أَجَازَ وَإِلاَّ يَنْفَسِخُ وَيَسْتَرِدُّ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ مِنَ الْبَائِعِ (2) . كَمَا فُصِّل فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِحْقَاق ف 9 وَمَا بَعْدَهَا)

عَقْدُ الذِّمَّةِ

انْظُرْ: أَهْل الذِّمَّةِ
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 325، وأسنى المطالب 2 / 350، والقواعد لابن رجب 313، والمغني لابن قدامة 4 / 598.
(2) ابن عابدين 4 / 191.

(30/243)


عَقْدٌ مَوْقُوفٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - يُطْلَقُ الْعَقْدُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا: الرَّبْطُ وَالشَّدُّ وَالتَّوْثِيقُ، فَقَدْ جَاءَ فِي تَاجِ الْعَرُوسِ: عَقَدَ الْحَبْل وَالْبَيْعَ وَالْعَهْدَ يَعْقِدُهُ عَقْدًا؛ أَيْ شَدَّهُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ: الرَّبْطُ بَيْنَ كَلاَمَيْنِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا عَلَى وَجْهٍ يَنْشَأُ عَنْهُ أَثَرُهُ الشَّرْعِيُّ (2) .
أَمَّا الْمَوْقُوفُ فَمِنَ الْوَقْفِ، وَهُوَ لُغَةً: الْحَبْسُ، وَقِيل لِلْمَوْقُوفِ: (وَقْفٌ) مِنْ بَابِ إِطْلاَقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ اسْمِ الْمَفْعُول، وَالْمَوْقُوفُ: كُل مَا حُبِسَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ (3) .
أَمَّا الْوَقْفُ فِي الاِصْطِلاَحِ، فَقَدْ عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِتَعَارِيفَ مُخْتَلِفَةٍ لاَ تَخْرُجُ فِي مَعْنَاهَا عَنِ الْحَبْسِ وَالتَّأْخِيرِ (4) .
__________
(1) تاج العروس، ولسان العرب.
(2) فتح القدير 5 / 74، والخرشي على مختصر خليل 5 / 5، والمجموع 9 / 162، والمغني والشرح الكبير 4 / 4 و3 / 4.
(3) المصباح المنير.
(4) المبسوط للسرخسي 12 / 27، وحاشية القليوبي على شرح المنهاج لجلال الدين المحلي 1 / 378، ومغني المحتاج 2 / 376.

(30/244)


وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ فِي الْبَيْعِ هُوَ: مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ وَيُفِيدُ الْمِلْكَ عَلَى سَبِيل التَّوَقُّفِ، وَلاَ يُفِيدُ تَمَامَهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَيْعُ النَّافِذُ.
2 - الْبَيْعُ النَّافِذُ هُوَ: الْبَيْعُ الصَّحِيحُ الَّذِي لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ وَيُفِيدُ الْحُكْمَ فِي الْحَال، فَهُوَ ضِدُّ الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ (2) .

ب - الْبَيْعُ الْفَاسِدُ:
3 - الْبَيْعُ الْفَاسِدُ هُوَ: مَا يَكُونُ مَشْرُوعًا أَصْلاً لاَ وَصْفًا، وَالْمُرَادُ بِالأَْصْل الصِّيغَةُ وَالْعَاقِدَانِ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَبِالْوَصْفِ مَا عَدَا ذَلِكَ (3) .

ج - الْبَيْعُ الْبَاطِل.
4 - الْبَيْعُ الْبَاطِل هُوَ: مَا لَمْ يُشْرَعْ لاَ بِأَصْلِهِ وَلاَ بِوَصْفِهِ (4) . وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ وَالْبَاطِل كِلاَهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ، بِخِلاَفِ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الإِْجَازَةِ
حُكْمُ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي
__________
(1) مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر 2 / 39.
(2) مجمع الأنهر 2 / 47، وابن عابدين 4 / 100.
(3) فتح القدير 6 / 43.
(4) ابن عابدين 4 / 100.

(30/244)


الْقَدِيمِ، وَهُوَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ صَحِيحٌ، وَيَتَوَقَّفُ نَفَاذُهُ عَلَى إِجَازَةِ مَنْ لَهُ الإِْجَازَةُ (1) .
وَقَدِ اسْتَدَل هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ وَرِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ:
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَدِ احْتَجُّوا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3) وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَْرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْل اللَّهِ} . (4)
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذِهِ الآْيَاتِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شَرَعَ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَالتِّجَارَةَ ابْتِغَاءَ الْفَضْل، مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إِذَا وُجِدَ مِنَ الْمَالِكِ بِطَرِيقِ الأَْصَالَةِ، وَبَيْنَ مَا إِذَا وُجِدَ مِنَ الْوَكِيل فِي الاِبْتِدَاءِ، أَوْ بَيْنَ مَا إِذَا وُجِدَتِ الإِْجَازَةُ مِنَ الْمَالِكِ فِي الاِنْتِهَاءِ، وَبَيْنَ وُجُودِ الرِّضَا فِي التِّجَارَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ، فَيَجِبُ الْعَمَل بِإِطْلاَقِهَا إِلاَّ مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ (5) .
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 102 - 103، والدسوقي 3 / 10 - 11 ط دار الفكر ومغني المحتاج 2 / 15، والإنصاف 4 / 283.
(2) سورة البقرة الآية / 275.
(3) سورة النساء الآية / 29.
(4) سورة الجمعة الآية / 10.
(5) بدائع الصنائع 5 / 148 - 149.

(30/245)


وَأَمَّا السُّنَّةُ فَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَاةً فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ فَجَاءَ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، وَكَانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ. (1)
وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِعُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَشْتَرِيَ شَاةً، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي أَنْ يَبِيعَ مَا يَشْتَرِيهِ، فَيَكُونُ بَيْعًا فُضُولِيًّا، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُبْطِل الْعَقْدَ، بَل أَقَرَّهُ فَدَل عَلَى أَنَّ مِثْل هَذَا التَّصَرُّفِ صَحِيحٌ يُنْتِجُ آثَارَهُ بِالإِْقْرَارِ أَوِ الإِْجَازَةِ (2) .
وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَقَدْ قَاسُوا التَّصَرُّفَ الْمَوْقُوفَ عَلَى وَصِيَّةِ الْمَدِينِ بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ، كَبَيْعِ الْمَرْهُونِ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ، وَعَلَى الْعَقْدِ الْمَشْرُوطِ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ؛ لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ مِنَ الْمَدِينِ بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ لِمَالِهِ تَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُسْتَحِقِّ، فَالْوَصِيَّةُ تَصَرُّفٌ صَحِيحٌ وَلاَ حُكْمَ لَهُ فِي الْحَال، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ الْمَشْرُوطُ فِيهِ الْخِيَارُ تَصَرُّفٌ صَحِيحٌ وَلاَ حُكْمَ
__________
(1) حديث عروة البارقي: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارًا يشتري له به شاة فاشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار، فجاء بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح منه ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 632. ط السلفية) من حديث عروة
(2) تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 103، الطبعة الأولى، وفتح القدير 5 / 309 وما بعدها.

(30/245)


لَهُ فِي الْحَال حَتَّى يَتَحَقَّقَ كَمَال الرِّضَا بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ (1) .
وَيَرَى فَرِيقٌ آخَرُ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ: أَنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ بَاطِلٌ وَلاَ يَصِحُّ بِالإِْجَازَةِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى بُطْلاَنِ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ طَلاَقَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ، وَلاَ عِتْقَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ، وَلاَ بَيْعَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ، وَلاَ وَفَاءَ نَذْرٍ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ. (3)
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ عَلَى الْبُطْلاَنِ بِأَنَّ الْفُضُولِيَّ أَحَدُ طَرْفَيِ الْبَيْعِ، فَلَمْ يَقِفِ الْبَيْعُ عَلَى الإِْجَازَةِ كَالْقَبُول؛ وَلأَِنَّهُ بَاعَ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ كَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ (4) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْفُضُولِيِّ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) الفروق للقرافي 3 / 44، والمجموع 9 / 262، والإنصاف 4 / 283.
(2) المجموع 9 / 261، والإنصاف 4 / 283.
(3) حديث: " لا طلاق إلا فيما تملك. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 640 ط. عزت عبيد الدعاس) من حديث عبد الله بن عمرو قال البخاري: أصح شيء فيه وأشهره حديث عبد الله بن عمرو (التلخيص الحبير 3 / 211 ط شركة الطباعة الفنية) .
(4) المجموع للنووي 9 / 263.

(30/246)


التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي يَسْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ:

أ - بَيْعُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَشِرَاؤُهُ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى بُطْلاَنِ تَصَرُّفَاتِ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ عِبَارَتَهُ مُلْغَاةٌ لاَ اعْتِدَادَ بِهَا شَرْعًا، فَلاَ تَصِحُّ بِهَا عِبَادَةٌ، وَلاَ تَجِبُ بِهَا عُقُوبَةٌ، وَلاَ يَنْعَقِدُ مَعَهَا بَيْعٌ أَوْ شِرَاءٌ، وَيَسْتَمِرُّ هَكَذَا حَتَّى يَبْلُغَ السَّابِعَةَ وَهُوَ سِنُّ التَّمْيِيزِ (1) .
أَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِ تَصَرُّفَاتِهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ إِلَى فَرِيقَيْنِ:
فَذَهَبَ الْفَرِيقُ الأَْوَّل، وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ يَنْعَقِدُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيمَا أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ، وَإِلاَّ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ.
وَذَهَبَ الْفَرِيقُ الثَّانِي وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ بَيْعَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَشِرَاءَهُ لاَ يَنْعَقِدُ أَيٌّ مِنْهُمَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ؛ لأَِنَّ شَرْطَ الْعَاقِدِ عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ أَكَانَ بَائِعًا، أَمْ مُشْتَرِيًا هُوَ الرُّشْدُ (2) .
__________
(1) مغني المحتاج للشربيني 1 / 131، والمستصفى للغزالي 1 / 54، وشرح الخرشي 6 / 131، التوضيح على التنقيح 2 / 158، وكشف الأسرار 4 / 1368.
(2) مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج لمحمد بن أحمد الشربيني 2 / 7، والمغني 4 / 272.

(30/246)


ب: تَصَرُّفَاتُ السَّفِيهِ الْمَالِيَّةُ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَصَرُّفَاتِ السَّفِيهِ الْمَالِيَّةِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالإِْجَارَةِ الَّتِي يَعْقِدُهَا.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ صَحِيحَةٌ وَتَنْعَقِدُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ وَلِيِّهِ، فَإِنْ أَجَازَهَا نَفَذَتْ وَإِلاَّ بَطَلَتْ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ (2) إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ السَّفِيهِ الْمَالِيَّةَ بَاطِلَةٌ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَل اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} (3) وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذِهِ الآْيَةِ أَنَّ السَّفِيهَ مُبَذِّرٌ لِمَالِهِ وَمُتْلِفٌ لَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يُمْنَعَ عَنْهُ مَالُهُ (4) . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهَا صَحِيحَةٌ نَافِذَةٌ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَرَ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ أَصْلاً، فَهُوَ كَالرَّشِيدِ فِي سَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ (5) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 171، وكشف الأسرار 4 / 1493، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 181، ومواهب الجليل 5 / 62، وشرح الخرشي 5 / 295، والمغني لابن قدامة 4 / 475.
(2) نهاية المحتاج 4 / 354 مطبعة الحلبي، المغني لابن قدامة 4 / 475.
(3) سورة النساء الآية / 5.
(4) نهاية المحتاج 4 / 354، والمغني لابن قدامة 4 / 475.
(5) بدائع الصنائع 7 / 171، وكشف الأسرار 4 / 1493.

(30/247)


ج - تَصَرُّفُ ذِي الْغَفْلَةِ وَعُقُودُهُ:
8 - ذُو الْغَفْلَةِ هُوَ: مَنْ يُغْبَنُ فِي الْبُيُوعِ لِسَلاَمَةِ قَلْبِهِ، وَلاَ يَهْتَدِي إِلَى التَّصَرُّفَاتِ الرَّابِحَةِ.
وَعَلَى الرَّغْمِ مِنَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ ذِي الْغَفْلَةِ إِلاَّ أَنَّ الْمَعْنَى عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَصَرُّفَاتِ ذِي الْغَفْلَةِ وَعُقُودِهِ وَالْحَجْرِ عَلَيْهِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجْر ف 15)

د - تَصَرُّفَاتُ الْفُضُولِيِّ.
9 - الْفُضُولِيُّ هُوَ: مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ شَرْعِيٍّ (1) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ الَّذِي يُوقِعُهُ الْفُضُولِيُّ لِلْمَالِكِ عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي.
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ مُعْتَبَرَةٌ، وَأَنَّ عُقُودَهُ فِي حَالَتَيِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مُنْعَقِدَةٌ إِلاَّ أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ صَاحِبِ الشَّأْنِ، فَإِنْ أَجَازَهَا جَازَتْ وَنَفَذَتْ وَإِلاَّ بَطَلَتْ؛ لأَِنَّ الإِْجَازَةَ اللاَّحِقَةَ كَالْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ (2) .
__________
(1) تنوير الأبصار للتمرتاشي، وشرح الدر المختار للحصفكي 2 / 237.
(2) تحفة الفقهاء 2 / 45.

(30/247)


وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ عَقْدِ الْفُضُولِيِّ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ كَذَلِكَ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِمَا إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ بِالْفُضُولِيَّةِ (1) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى صِحَّةِ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (2) وَقَوْلِهِ: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (3) وَبِحَدِيثِ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ السَّابِقِ. وَبِأَنَّ الْفُضُولِيَّ كَامِل الأَْهْلِيَّةِ، فَإِعْمَال عَقْدِهِ أَوْلَى مِنْ إِهْمَالِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي الْعَقْدِ مَصْلَحَةٌ لِلْمَالِكِ وَلَيْسَ فِيهِ أَيُّ ضَرَرٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي مَذْهَبِهِ الْجَدِيدِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ تَصَرُّفَاتُ الْفُضُولِيِّ، فَبَيْعُ الْفُضُولِيِّ وَشِرَاؤُهُ بَاطِلٌ مِنْ أَسَاسِهِ، وَلاَ يَنْعَقِدُ أَصْلاً فَلاَ تَلْحَقُهُ إِجَازَةُ صَاحِبِ الشَّأْنِ (4) .
وَقَال ابْنُ رَجَبٍ: تَصَرُّفُ الْفُضُولِيِّ جَائِزٌ مَوْقُوفٌ عَلَى الإِْجَازَةِ إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّصَرُّفِ فِي مَال الْغَيْرِ أَوْ حَقِّهِ وَتَعَذَّرَ اسْتِئْذَانُهُ إِمَّا لِلْجَهْل بِعَيْنِهِ أَوْ لِغَيْبَتِهِ وَمَشَقَّةِ انْتِظَارِهِ (5) .
__________
(1) الفروق للقرافي 1 / 242، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبيير 3 / 12.
(2) سورة المائدة الآية / 1.
(3) سورة البقرة الآية: / 275.
(4) مغني المحتاج 2 / 15، والمجموع 9 / 259.
(5) الإنصاف للمرداوي 4 / 283، والقواعد لابن رجب ص417، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى 3 / 18.

(30/248)


وَقَدِ اسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى بُطْلاَنِ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ (1) أَيْ: مَا لَيْسَ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ وَذَلِكَ لِلْغَرَرِ النَّاشِئِ عَنْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ النِّزَاعِ (2) ؛ وَلأَِنَّ الْوِلاَيَةَ شَرْطٌ لاِنْعِقَادِ الْعَقْدِ

صُوَرُ عَقْدِ الْفُضُولِيِّ:

مِنْ صُوَرِ عَقْدِ الْفُضُولِيِّ مَا يَأْتِي:
الصُّورَةُ الأُْولَى: بَيْعُ الْغَاصِبِ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ الْغَاصِبِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى صِحَّةِ عَقْدِ بَيْعِ الْغَاصِبِ وَنُفُوذِهِ بِالإِْجَازَةِ (3) .
وَوُجْهَةُ نَظَرِهِمْ أَنَّ بَيْعَ الْغَاصِبِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ عَقْدًا فُضُولِيًّا تَوَفَّرَتْ فِيهِ جَمِيعُ الشُّرُوطِ الْمَطْلُوبَةِ لِلصِّحَّةِ، فَيَلْزَمُ الْقَوْل
__________
(1) حديث: " لا تبع ما ليس عندك " أخرجه أبو داود (3 / 769) والترمذي (3 / 525) وحسنه الترمذي.
(2) مغني المحتاج 2 / 15، والمجموع 9 / 262، وكشاف القناع 2 / 11 - 12، والقواعد ص 417، ومطالب أولي النهى 3 / 18، والمغني 4 / 206.
(3) فتاوى الغزي ص192، وانظر الهداية 3 / 51، والمبسوط 11 / 61، وما بعدها، وبدائع الصنائع 7 / 145، وروضة الطالبين 3 / 354، والخرشي 6 / 146، والإنصاف 3 / 204.

(30/248)


بِصِحَّتِهِ وَنُفُوذِهِ إِذَا أَجَازَهُ الْمَالِكُ، وَيُعَبِّرُ عَنْ ذَلِكَ السَّرَخْسِيُّ فَيَقُول: فَإِنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ مَا لَهُ مُجِيزٌ حَال وُقُوعِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الإِْجَازَةِ، وَأَنَّ الإِْجَازَةَ فِي الاِنْتِهَاءِ كَالإِْذْنِ فِي الاِبْتِدَاءِ، وَلَكِنَّ الشَّرْطَ لِتَمَامِ الْعَقْدِ بِالإِْجَازَةِ بَقَاءُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَالْمُجِيزُ وَذَلِكَ كُلُّهُ بَاقٍ هُنَا (1) .
وَقَال الْخَرَشِيُّ: إِنَّ الْغَاصِبَ أَوِ الْمُشْتَرِيَ مِنْهُ إِذَا بَاعَ الشَّيْءَ الْمَغْصُوبَ فَإِنَّ لِلْمَالِكِ أَنْ يُجِيزَ ذَلِكَ الْبَيْعَ؛ لأَِنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ بَيْعُ فُضُولِيٍّ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ، وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ أَمْ لاَ، وَظَاهِرُهُ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ غَاصِبٌ أَمْ لاَ. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى بُطْلاَنِ بَيْعِ الْغَاصِبِ (3) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْفُضُولِيِّ) .

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: تَصَرُّفُ الْوَكِيل إِذَا تَجَاوَزَ حُدُودَ الْوَكَالَةِ.
أَوَّلاً - مُخَالَفَةُ الْوَكِيل فِي الشِّرَاءِ:
أ - مُخَالَفَةُ الْوَكِيل فِي جِنْسِ الْمُوَكَّل بِشِرَائِهِ.
11 - إِذَا وَكَّل إِنْسَانٌ آخَرَ فِي شِرَاءِ ثَوْبٍ مِنَ
__________
(1) المبسوط 11 / 61 - 62.
(2) شرح الخرشي 6 / 146.
(3) روضة الطالبين 3 / 353، والإنصاف 6 / 203.

(30/249)


الْقُطْنِ فَعَلَى الْوَكِيل أَنْ يَلْتَزِمَ بِمَا قَيَّدَهُ بِهِ مُوَكِّلُهُ وَلاَ يُخَالِفَهُ، فَإِنِ اشْتَرَى ثَوْبًا مِنْ صُوفٍ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ شِرَاءَ الْوَكِيل وَإِنْ خَالَفَ مُوَكِّلَهُ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّل، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ، وَإِلاَّ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ عَلَى الْوَكِيل.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بَاطِلٌ فِي حَقِّ الْمُوَكِّل وَيَقَعُ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيل (1)

ب - مُخَالَفَةُ الْوَكِيل فِي جِنْسِ الثَّمَنِ.
12 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى بُطْلاَنِ شِرَاءِ الْوَكِيل؛ لأَِنَّ الْمُوَكِّل لَمْ يَأْذَنْ بِهِ
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَكِيل بِالشِّرَاءِ إِذَا اشْتَرَى بِغَيْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ يَكُونُ فُضُولِيًّا، فَإِنْ أَجَازَهُ الْمُوَكِّل نَفَذَ عَلَيْهِ وَإِلاَّ فَعَلَى الْوَكِيل (2) .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْل ابْنِ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الشِّرَاءَ يَلْزَمُ الْمُوَكِّل؛؛ لأَِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسٌ وَاحِدٌ؛ وَلأَِنَّ الْوَكِيل مَأْذُونٌ بِالشِّرَاءِ عُرْفًا.
وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ: أَنَّ الشِّرَاءَ لاَ يَلْزَمُ الْمُوَكِّل؛ لأَِنَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 29، وشرح الخرشي 6 / 73، ونهاية المحتاج 5 / 47، والمغني 5 / 107، 108.
(2) المدونة الكبرى 9 / 51.

(30/249)


الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَيَكُونُ الْوَكِيل مُخَالِفًا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَكَالَة) .

ج - مُخَالَفَةُ الْوَكِيل الْمُقَيَّدِ بِالشِّرَاءِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ:
13 - إِذَا كَانَ الْقَيْدُ بِالشِّرَاءِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فَمُخَالَفَةُ الْوَكِيل إِمَّا أَنْ تَكُونَ إِلَى خَيْرٍ أَوْ إِلَى شَرٍّ، فَإِنْ كَانَتْ مُخَالَفَةً إِلَى خَيْرٍ: كَأَنْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ دُكَّانٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَاشْتَرَاهُ بِتِسْعِمِائَةٍ فَذَلِكَ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَأَمَّا إِذَا خَالَفَ الْوَكِيل إِلَى شَرٍّ: بِأَنِ اشْتَرَى الدَّارَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا الَّذِي عَيَّنَهُ الْمُوَكِّل فَإِنَّهُ يُنْظَرُ فِي الزِّيَادَةِ، فَإِذَا كَانَتْ قَلِيلَةً يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا عَادَةً فَإِنَّهَا تَلْزَمُ الْمُوَكِّل؛ لأَِنَّ مِثْل هَذِهِ الزِّيَادَةِ مُتَعَارَفٌ عَلَى وُقُوعِهَا.
وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً لاَ يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ، وَيَلْزَمُ الْوَكِيل الْمُشْتَرَى، وَيَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ كَثِيرَةً عَمَّا سَمَّاهُ لَهُ الْمُوَكِّل،
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 29.

(30/250)


وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَتِهِ، فَإِذَا قَبِل فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِلاَّ لَزِمَتِ الزِّيَادَةُ الْوَكِيل (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ (2) .
وَلِلْحَنَابِلَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ رِوَايَتَانِ.
الأُْولَى: أَنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ صَحِيحًا؛ لأَِنَّهُ مُسْتَنِدٌ فِي أَصْلِهِ إِلَى إِذْنٍ صَحِيحٍ، فَيَلْزَمُ الْمُوَكِّل وَيَلْتَزِمُ الْوَكِيل بِالزَّائِدِ عَنِ الْمُسَمَّى.
وَالثَّانِيَةُ: يَبْطُل لِمُخَالَفَتِهِ صَرِيحَ الإِْذْنِ (3) .

د - مُخَالَفَةُ الْوَكِيل الْمُقَيَّدِ بِالشِّرَاءِ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ
14 - إِنْ كَانَ الْقَيْدُ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ: كَأَنْ يُوَكِّل شَخْصٌ آخَرَ بِشِرَاءِ سَيَّارَةٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ نَسِيئَةً فَيَشْتَرِيهَا بِأَلْفٍ حَالَّةٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ صَحِيحٌ وَيَلْزَمُ الْمُوَكِّل؛ لأَِنَّ مُخَالَفَةَ الْمُوَكِّل فِي الشِّرَاءِ صُورِيَّةٌ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْمُخَالَفَةِ فِي الْمَعْنَى لاَ فِي الصُّورَةِ (4) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الْمُوَكِّل إِلاَّ أَنْ يَرْضَى
__________
(1) المدونة الكبرى المجلد الرابع 9 / 245، وشرح الخرشي 6 / 73.
(2) المهذب للشيرازي 1 / 355.
(3) المغني 5 / 125، والقواعد لابن رجب ص420.
(4) بدائع الصنائع 6 / 29، وشرح الخرشي 6 / 75.

(30/250)


بِهِ، وَيَقَعُ لِلْوَكِيل عِنْدَ عَدَمِ الرِّضَا بِهِ (1) .

ثَانِيًا - مُخَالَفَةُ الْوَكِيل فِي الْبَيْعِ.
15 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُخَالَفَةِ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ حِينَ يَكُونُ مُقَيَّدًا عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مُخَالَفَةَ الْوَكِيل فِي الْبَيْعِ إِذَا كَانَتْ إِلَى خَيْرٍ، فَإِنَّ بَيْعَهُ صَحِيحٌ وَيَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّل، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ ثَوْبٍ حَرِيرٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ؛ لأَِنَّ الإِْذْنَ فِي هَذَا حَاصِلٌ دَلاَلَةً (2) .
أَمَّا إِذَا تَصَرَّفَ الْوَكِيل خِلاَفًا لِمَا أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّل، كَأَنْ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ عَلَى الْحُلُول فَبَاعَ نَسِيئَةً، فَإِنَّ بَيْعَ الْوَكِيل هُنَا يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّل، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ عَلَيْهِ وَإِلاَّ فَعَلَى الْوَكِيل، وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ فِي صِحَّتِهِ وَبُطْلاَنِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مُخَالَفَةُ الْوَكِيل فِي بَيْعٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ مِنْ قِبَل الْمُوَكِّل تُبْطِل بَيْعَ الْوَكِيل.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَكَالَة)

الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: الْوَصِيَّةُ بِمَال الْغَيْرِ.
16 - أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ انْعِقَادَ وَصِيَّةِ الْفُضُولِيِّ
__________
(1) المهذب 1 / 353، ومغني المحتاج 2 / 229، والمغني 5 / 111.
(2) بدائع الصنائع 6 / 27، والمدونة الكبرى المجلد الرابع 10 / 51، وشرح الخرشي 6 / 74، والمغني والشرح الكبير 5 / 249.

(30/251)


بِمَال الْغَيْرِ مَوْقُوفَةً عَلَى الإِْجَازَةِ مِمَّنْ يَمْلِكُهَا، فَإِذَا أَجَازَهَا نَفَذَتْ وَإِذَا لَمْ يُجِزْهَا بَطَلَتْ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَصِيَّة)

الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: هِبَةُ مَال الْغَيْرِ.
17 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هِبَةِ مَال الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ إِلَى فَرِيقَيْنِ:
الْفَرِيقِ الأَْوَّل: يَرَى فِي هِبَةِ مَال الْغَيْرِ أَنَّهَا تَنْعَقِدُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ أَوْ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي الإِْجَازَةِ شَرْعًا، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ هِبَةَ الْفُضُولِيِّ لِمَال الْغَيْرِ تَصَرُّفٌ شَرْعِيٌّ صَادِرٌ مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لإِِصْدَارِهِ مُضَافٌ إِلَى الْمَحَل، فَيَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ وَإِنْ رَدَّهُ بَطَل، يُضَافُ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لاَ ضَرَرَ مِنَ انْعِقَادِ الْهِبَةِ مَوْقُوفَةً عَلَى الإِْجَازَةِ؛ لأَِنَّ الضَّرَرَ يَتَحَقَّقُ فِي انْعِقَادِهَا مِنَ الْفُضُولِيِّ نَافِذَةً لاَ مَوْقُوفَةً (2) .
أَمَّا الْفَرِيقِ الثَّانِي: فَقَدْ ذَهَبَ إِلَى بُطْلاَنِ هِبَةِ مَال الْغَيْرِ، وَهَذَا قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى بُطْلاَنِ هِبَةِ مَال الْغَيْرِ بِالْقِيَاسِ، فَقَالُوا: هِبَةُ الْفُضُولِيِّ
__________
(1) البحر الرائق 6 / 164.
(2) بدائع الصنائع 6 / 118، وحاشية الدسوقي 4 / 91، الطبعة الثانية، وحاشية العدوي على الخرشي 7 / 79 ومغني المحتاج 2 / 15.

(30/251)


لِمَال الْغَيْرِ كَبَيْعِهِ تَنْعَقِدُ بَاطِلَةً، فَكَمَا لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْفُضُولِيِّ لاَ تَصِحُّ هِبَتُهُ (1) . وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (هِبَة)

الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ: وَقْفُ مَال الْغَيْرِ.
18 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ (2) إِلَى أَنَّ الْفُضُولِيَّ إِذَا وَقَفَ مَال الْغَيْرِ تَوَقَّفَ نَفَاذُ هَذَا التَّصَرُّفِ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ وَإِنْ رَدَّهُ بَطَل، وَقَدِ احْتَجُّوا بِالْقِيَاسِ وَوَجْهُهُ أَنَّ وَقْفَ الْفُضُولِيِّ لِمَال الْغَيْرِ كَبَيْعِهِ، وَبِمَا أَنَّ بَيْعَهُ مَوْقُوفٌ فَوَقْفُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَكَذَلِكَ احْتَجُّوا بِأَنَّ الْوِلاَيَةَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يَقِفُ مَال الْغَيْرِ شَرْطٌ فِي النَّفَاذِ لاَ فِي الاِنْعِقَادِ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ وَقْفَ مَال الْغَيْرِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى الإِْجَازَةِ مِمَّنْ يَمْلِكُهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ إِلَى بُطْلاَنِ وَقْفِ الْفُضُولِيِّ مَال الْغَيْرِ (3) ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْفُضُولِيَّ لَيْسَ لَهُ وِلاَيَةُ التَّصَرُّفِ، فَلاَ يَمْلِكُ إِنْشَاءَهُ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (وَقْف) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 91، ومغني المحتاج 2 / 15.
(2) أحكام الأوقاف للخصاف ص 129، وحاشية الدسوقي 4 / 71، ومغني المحتاج 2 / 15.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 71، ومغني المحتاج 2 / 15.

(30/252)


التَّصَرُّفَاتُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ
: وَتَشْمَل مَا يَأْتِي.

أَوَّلاً: بَيْعُ الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ إِذَا أَلْحَقَ ضَرَرًا بِالدَّائِنِينَ.
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إِذَا أَلْحَقَ ضَرَرًا بِالدَّائِنِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: إِنَّ بَيْعَهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الدَّائِنِينَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْمَدِينِ يَمْنَعُ نَفَاذَ تَصَرُّفِهِ، وَالْمَنْعُ مِنَ النَّفَاذِ لاَ يَقْتَضِي الْبُطْلاَنَ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي وَقْفَ نَفَاذِ التَّصَرُّفِ عَلَى إِجَازَةِ الدَّائِنِينَ؛ لأَِنَّ الْحَجْرَ أَصْلاً مُقَرَّرٌ لِمَصْلَحَتِهِمْ، فَإِنْ أَجَازُوا تَصَرُّفَاتِ الْمَدِينِ نَفَذَتْ، وَإِنْ شَاءُوا رَدُّوهَا فَتَبْطُل.
؛ وَلأَِنَّ تَصَرُّفَ الْمَدِينِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ كَتَصَرُّفِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ الَّذِي عَلَيْهِ دُيُونٌ فِي صِحَّتِهِ، فَكُل تَصَرُّفٍ يَصْدُرُ مِنْهُمَا يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا غَيْرَ نَافِذٍ (2)
__________
(1) حاشية الشلبي على الزيلعي 5 / 190، حاشية الطحطاوي على الدر المختار 4 / 80، الشرح الكبير للدردير 3 / 265، الأم 3 / 186، الطبعة الأولى 1321هـ.
(2) المهذب للشيرازي 1 / 328.

(30/252)


الْقَوْل الثَّانِي: إِنَّ بَيْعَ الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ يَقَعُ بَاطِلاً، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَدِ اعْتَبَرُوا كُل تَصَرُّفٍ مَالِيٍّ يَصْدُرُ مِنَ الْمَدِينِ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بَاطِلاً فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْحَجْرَ يَقْتَضِي انْعِدَامَ أَثَرِ تَصَرُّفَاتِ الْمَدِينِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَهَذَا الاِنْعِدَامُ يُؤَدِّي إِلَى بُطْلاَنِ تَصَرُّفَاتِهِ مُحَافَظَةً عَلَى حُقُوقِ الدَّائِنِينَ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِأَعْيَانِ مَالِهِ فَلَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهَا

ثَانِيًا - تَبَرُّعُ الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ:
20 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَبَرُّعَاتِ الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ.
فَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ إِذَا صَحَّ الْحَجْرُ بِالدَّيْنِ صَارَ الْمَحْجُورُ كَمَرِيضٍ عَلَيْهِ دُيُونُ الصِّحَّةِ، فَكُل تَصَرُّفٍ أَدَّى إِلَى إِبْطَال حَقِّ الْغُرَمَاءِ يُؤَثِّرُ فِيهِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ (2) .

ثَالِثًا - تَصَرُّفُ الْوَصِيِّ فِي الْقَدْرِ الزَّائِدِ عَنِ الثُّلُثِ وَالْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ:
21 - الْوَصِيَّةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِوَارِثٍ أَوْ لِغَيْرِ
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 439 الطبعة الثالثة سنة 1367هـ، والميزان للشعراني 2 / 74، ومغني المحتاج 2 / 147 - 149.
(2) رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين 5 / 99 المطبعة الأميرية ببولاق 1326هـ.

(30/253)


وَارِثٍ، وَالْمُوصَى بِهِ قَدْ يَكُونُ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ وَقَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي:

أ - الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ:
22 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَصِيَّةِ لِوَارِثٍ عَلَى قَوْلَيْنِ.
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ تَنْعَقِدُ صَحِيحَةً مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازُوهَا بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوصِي نَفَذَتْ وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهَا بَطَلَتْ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَثَرٌ، وَإِنْ أَجَازَهَا الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ نَفَذَتْ فِي حَقِّ مَنْ أَجَازَهَا، وَبَطَلَتْ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُجِزْ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ. (1)
الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ
__________
(1) حديث: " لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة ". أخرجه الدارقطني (4 / 152 ط. دار المحاسن) والبيهقي (6 / 263 ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس وفيه عطاء الخرساني، وقال البيهقي: عطاء الخرساني لم يدرك ابن عباس ولم يره، أي أن الحديث منقطع.

(30/253)


الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ بَاطِلَةٌ مُطْلَقًا وَإِنْ أَجَازَهَا سَائِرُ الْوَرَثَةِ، إِلاَّ أَنْ يُعْطُوهُ عَطِيَّةً مُبْتَدَأَةً، وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ؛ وَلأَِنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ تُلْحِقُ الضَّرَرَ بِبَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ وَتُثِيرُ الْحَفِيظَةَ فِي نُفُوسِهِمْ وَقَدْ نَهَى الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} (1) .

ب - الْوَصِيَّةُ لِلأَْجْنَبِيِّ بِمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ.
23 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ لِلأَْجْنَبِيِّ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: إِنَّ الْوَصِيَّةَ لِلأَْجْنَبِيِّ فِي الْقَدْرِ الزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ تَصِحُّ وَتَنْعَقِدُ، وَلَكِنَّهَا تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَرَثَةٌ نَفَذَتْ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى إِجَازَةِ أَحَدٍ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَكَذَا الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَهُمَا (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ حَقِّ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا أَسْقَطُوا هَذَا الْحَقَّ بِالإِْجَازَةِ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ وَلاَ يَبْطُل.
__________
(1) الآية 12 من سورة النساء، وشرح البناية في الهداية 10 / 413، وحاشية الدسوقي 4 / 427، وبداية المجتهد لابن رشد 2 / 364، ونهاية المحتاج 6 / 48، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 419.
(2) تكملة فتح القدير 8 / 420، والبناية في شرح الهداية 10 / 440، وحاشية الدسوقي 4 / 389، والمغني لابن قدامة 6 / 13.

(30/254)


وَلاَ يُعْتَدُّ بِإِجَازَتِهِمْ حَال حَيَاةِ الْمُوصَى؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ قَبْل ثُبُوتِ الْحَقِّ، وَالْحَقُّ فِي الإِْجَازَةِ يَثْبُتُ لَهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يُجِيزُوا أَوْ يَرُدُّوا بَعْدَ وَفَاتِهِ.
الْقَوْل الثَّانِي: إِنَّ الْوَصِيَّةَ لِلأَْجْنَبِيِّ بِمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ تَقَعُ بَاطِلَةً، وَهَذَا قَوْل الْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَهُمَا (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَى سَعْدًا عَنِ التَّصَدُّقِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ (2) وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ (3) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَرَدَّ الْوَارِثُ الْخَاصُّ الْمُطْلَقُ التَّصَرُّفِ الزِّيَادَةَ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ فِي الزَّائِدِ؛ لأَِنَّهُ حَقُّهُ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَارِثُ عَامًّا فَتَبْطُل الْوَصِيَّةُ فِي الزَّائِدِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ رَدٍّ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لِلْمُسْلِمِينَ فَلاَ مُجِيزَ (4)

رَابِعًا - بَيْعُ الرَّاهِنِ الْعَيْنَ الْمَرْهُونَةَ:
24 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ
__________
(1) شرح الخرشي على مختصر خليل 8 / 206، ونهاية المحتاج 6 / 53، والمغني 6 / 13.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى سعدًا عن التصدق بما زاد عن الثلث ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 164. ط. السلفية) ومسلم (3 / 1250 ط. عيسى الحلبي) من حديث سعد بن أبي وقاص.
(3) الشرح الكبير 4 / 437، والمغني 6 / 146.
(4) نهاية المحتاج 6 / 53 - 54.

(30/254)


حَقُّ اسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنْ ثَمَنِ الْمَرْهُونِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الرَّاهِنِ وَفَاءُ الدَّيْنِ لِلْمُرْتَهِنِ عِنْدَ الأَْجَل فَهَل لِلرَّاهِنِ أَنْ يَبِيعَ الشَّيْءَ الْمَرْهُونَ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ بَيْعَ الْمَرْهُونِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الرَّاهِنَ حِينَ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ الْمَرْهُونِ يُعْتَبَرُ كَالْمُوصِي حِينَ يُوصِي بِجَمِيعِ مَالِهِ، فَيَنْعَقِدُ تَصَرُّفُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ بَيْعَ الشَّيْءِ الْمَرْهُونِ بَاطِلٌ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (3) وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّ فِي بَيْعِ الْمَرْهُونِ ضَرَرًا عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يُنَافِي حَقَّهُ، إِذْ أَنَّ حَقَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِالشَّيْءِ الْمَرْهُونِ، فَالتَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ فِيهِ إِضْرَارٌ بِهِ، وَالضَّرَرُ مَمْنُوعٌ وَتَجِبُ إِزَالَتُهُ (4) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 110 - 111، حاشية الطحطاوي على الدر المختار 3 / 86، وشرح الزرقاني على خليل 5 / 19.
(2) الجوهرة النيرة على مختصر القدوري 1 / 233 الطبعة الأولى بالمطبعة الخيرية.
(3) حديث: " لا ضرر ولا ضرار ". أخرجه أحمد (4 / 310 / 2867 ط. دار المعارف) من حديث ابن عباس. وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
(4) نهاية المحتاج 3 / 388 والمهذب / 310 - 312 والمغني 4 / 446.

(30/255)


خَامِسًا - بَيْعُ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ:
25 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ كَاخْتِلاَفِهِمْ فِي بَيْعِ الْمَرْهُونِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ إِلَى فَرِيقَيْنِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) إِلَى أَنَّ بَيْعَ الْمُؤَجِّرِ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ لِغَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ يَقَعُ صَحِيحًا نَافِذًا مُعَلِّلِينَ قَوْلَهُمْ: بِأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ عَلَى الْعَيْنِ، وَحَقُّ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمَنْفَعَةِ، فَالْبَيْعُ قَدْ وَقَعَ عَلَى غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الإِْجَارَةِ؛ وَلأَِنَّ ضَرَرَ الْمُسْتَأْجِرِ مَمْنُوعٌ؛ لأَِنَّ الضَّرَرَ يَحْصُل فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي سَيَتَسَلَّمُهَا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ وَلَكِنَّهُ لَنْ يَتَسَلَّمَهَا إِلاَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَلَيْسَ فِي بَيْعِهَا إِبْطَالٌ لِحَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ بَيْعَ الْمُسْتَأْجِرِ يَنْعَقِدُ صَحِيحًا مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهِ كَيْ لاَ يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ، وَحُجَّتُهُمْ قِيَاسُ بَيْعِ الْمُسْتَأْجَرِ عَلَى بَيْعِ الْمَرْهُونِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى الإِْجَازَةِ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، كَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ، وَتَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِالْمَحَل يَمْنَعُ نَفَاذَ الْعَقْدِ
__________
(1) مواهب الجليل شرح مختصر سيدي خليل 5 / 408، وتحفة المحتاج 6 / 199 لابن حجر طبعة بولاق، والإفصاح عن شرح معاني الصحاح ص225 لأبي المظفر يحيى بن محمد الحنبلي - الطبعة الأولى سنة 1347 بالمطبعة العلمية بحلب.

(30/255)


وَيَجْعَلُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ مَنْ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ (1) .

سَادِسًا - بَيْعُ الشَّرِيكِ حِصَّتَهُ الشَّائِعَةَ:
26 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ بَيْعَ الشَّرِيكِ حِصَّتَهُ الشَّائِعَةَ بِدُونِ إِذْنِ شَرِيكِهِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الشَّرِيكِ أَوِ الشُّرَكَاءِ الآْخَرِينَ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي حَائِطٍ فَلاَ يَبِعْ نَصِيبَهُ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَى شَرِيكِهِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى حَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَى شَرِيكِهِ فَيَأْخُذَ أَوْ يَدَعَ، فَإِنْ أَبَى فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يُؤْذِنَهُ. (3)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَ الشَّرِيكِ فِي الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ يَكُونُ بَاطِلاً، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْجُزْءُ قَلِيلاً أَمْ كَثِيرًا،
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 4 / 145.
(2) رد المحتار على الدر المختار 4 / 146، وشرح الخرشي على مختصر خليل 6 / 45، ونهاية المحتاج 5 / 9 والمغني 5 / 150.
(3) حديث: " من كان له شريك في حائط فلا يبع نصيبه من ذلك. . . ". أخرجه أحمد (3 / 357 ط. الميمنية) والترمذي (3 / 594 ط. محمد الحلبي) . والحاكم (2 / 56 ط. دار المعارف العثمانية) من حديث جابر، وقال الذهبي: إسناده صحيح.

(30/256)


وَسَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا التَّصَرُّفُ بَيْعًا أَمْ هِبَةً (1) .

كَيْفِيَّةُ الإِْجَازَةِ فِي الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ:
27 - الإِْجَازَةُ: الإِْنْفَاذُ وَالإِْمْضَاءُ، وَتَرِدُ الإِْجَازَةُ عَلَى الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ دُونَ النَّافِذِ وَالْبَاطِل، وَتَقَعُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ، سَوَاءٌ أَكَانَ أَصِيلاً أَمْ وَكِيلاً أَوْ وَلِيًّا أَمْ وَصِيًّا أَمْ قَيِّمًا، وَكَذَا كُل مَنْ يَتَوَقَّفُ التَّصَرُّفُ عَلَى إِذْنِهِ كَالشَّرِيكِ وَالْوَارِثِ وَالدَّائِنِينَ.
وَالأَْصْل فِي الإِْجَازَةِ أَنْ تَكُونَ بِالْقَوْل الْمُعَبِّرِ عَنْهَا بِنَحْوِ قَوْل الْمُجِيزِ: أَجَزْتُ أَوْ أَنَفَذْتُ أَوْ أَمْضَيْتُ أَوْ رَضِيتُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَتَكُونُ بِالْفِعْل: فِيمَا لَوْ أَخَذَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ الَّذِي لَمْ يَدْفَعْ ثَمَنَهُ فَأَجَّرَهُ أَوْ أَعَارَهُ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ كَانَ الْمَبِيعُ دَارًا فَسَكَنَهَا فَكُل ذَلِكَ إِجَازَةٌ فِعْلِيَّةٌ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَازَةٌ) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 150.

(30/256)


عَقْرٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَقْرُ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ - لُغَةً الْجَرْحُ، يُقَال: عَقَرَ الْفَرَسَ وَالْبَعِيرَ بِالسَّيْفِ عَقْرًا: قَطَعَ قَوَائِمَهُ، وَأَصْل الْعَقْرِ ضَرْبُ قَوَائِمِ الْبَعِيرِ أَوِ الشَّاةِ بِالسَّيْفِ وَهُوَ قَائِمٌ، وَالْعَقْرُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي الْقَوَائِمِ، ثُمَّ جُعِل النَّحْرُ عَقْرًا؛ لأَِنَّ نَاحِرَ الإِْبِل يَعْقِرُهَا ثُمَّ يَنْحَرُهَا، وَالْعَقِيرَةُ: مَا عُقِرَ مِنْ صَيْدٍ أَوْ غَيْرِهِ (1) .
وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَيَيْنِ الْوَارِدَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: بِمَعْنَى الْجَرْحِ وَهُوَ الإِْصَابَةُ الْقَاتِلَةُ لِلْحَيَوَانِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ بَدَنِهِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ.
جَاءَ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: الْعَقْرُ: جَرْحُ مُسْلِمٍ مُمَيِّزٍ وَحْشِيًّا غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ إِلاَّ بِعُسْرٍ (2) .
وَفِي الْبَدَائِعِ: الْجَرْحُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ وَذَلِكَ فِي الصَّيْدِ وَمَا هُوَ فِي مَعْنَى الصَّيْدِ (3) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) بدائع الصنائع 5 / 43، والشرح الصغير 1 / 315 ط. الحلبي.
(3) بدائع الصنائع 5 / 43.

(30/257)


وَالثَّانِي: بِمَعْنَى ضَرْبِ قَوَائِمِ الْحَيَوَانَاتِ (1) .
وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي عَقْرِ الدَّوَابِّ الْمَغْنُومَةِ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النَّحْرُ:
2 - النَّحْرُ: مَوْضِعُ الْقِلاَدَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الطَّعْنِ فِي لَبَّةِ الْحَيَوَانِ، يُقَال: نَحَرَ الْبَعِيرَ يَنْحَرُهُ نَحْرًا.
فَالْعَقْرُ أَعَمُّ مِنَ النَّحْرِ.

ب - الْجَرْحُ:
3 - الْجَرْحُ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْكَسْبِ وَعَلَى التَّأْثِيرِ فِي الشَّيْءِ بِالسِّلاَحِ وَيُطْلَقُ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْفِقْهِ عَلَى مَعْنَى الْعَقْرِ فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْعَقْرِ.

ج - التَّذْكِيَةُ:
4 - التَّذْكِيَةُ هِيَ السَّبَبُ الْمُوَصِّل لِحِل أَكْل الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ اخْتِيَارًا، فَالتَّذْكِيَةُ أَخَصُّ؛ لأَِنَّهَا تُسْتَعْمَل فِي الْحَيَوَانَاتِ الْمُبَاحَةِ الأَْكْل.

أَثَرُ الْعَقْرِ فِي حِل أَكْل لَحْمِ الْحَيَوَانِ:
لِلْعَقْرِ أَثَرٌ فِي حِل أَكْل لَحْمِ الْحَيَوَانِ، وَذَلِكَ فِي الْمَوَاضِعِ الآْتِيَةِ:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 230.

(30/257)


أ - الأَْوَّل: الصَّيْدُ
5 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَحِل أَكْلُهُ بِعَقْرِهِ فِي أَيِّ مَكَانٍ مِنْ بَدَنِهِ إِذَا تَوَافَرَتِ الشُّرُوطُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّائِدِ وَلِلتَّسْمِيَةِ وَلآِلَةِ الصَّيْدِ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى {قُل أُحِل لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} . (1)
وَقَدْ رَوَى أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ قَال: أَتَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ: إِنَّا بِأَرْضِ صَيْدٍ، أَصِيدُ بِقَوْسِي، وَأَصِيدُ بِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ، وَالَّذِي لَيْسَ مُعَلَّمًا فَأَخْبِرْنِي مَا الَّذِي يَحِل لَنَا مِنْ ذَلِكَ؟ قَال:. . . وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَنَّكَ بِأَرْضِ صَيْدٍ فَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ كُل، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ كُل، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الَّذِي لَيْسَ مُعَلَّمًا فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُل. (2)
فَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ مَقْدُورًا عَلَيْهِ كَمَنْ أَمْسَكَ
__________
(1) سورة المائدة الآية / 4.
(2) حديث: " أما ما ذاكرت من أنك بأرض صيد، فما صدت بقوسك فاذكر اسم الله ثم كل. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 612 ط السلفية) من حديث أبي ثعلبة مطولاً.

(30/258)


صَيْدًا بِحِبَالَةٍ وَصَارَ تَحْتَ يَدِهِ ثُمَّ رَمَاهُ آخَرُ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ فَلاَ يُؤْكَل (1)

ب - الثَّانِي: مَا نَدَّ - نَفَرَ وَشَرَدَ - مِنَ الإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ:
6 - مَا نَدَّ مِنَ الإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِحَيْثُ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا فَإِنَّهَا تَحِل بِالْعَقْرِ فِي أَيِّ مَكَانٍ؛ لأَِنَّهَا كَالصَّيْدِ غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ - وَذَلِكَ؛ لأَِنَّ الأَْصْل فِي حِل لَحْمِ الْحَيَوَانِ هُوَ الذَّبْحُ أَوِ النَّحْرُ، فَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُصَارُ إِلَى الْبَدَل وَهُوَ الْعَقْرُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ تَوَحَّشَ حَيَوَانٌ أَهْلِيٌّ أَوْ نَدَّ - نَفَرَ وَشَرَدَ - أَوْ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ يَحِل أَكْلُهُ بِالْعَقْرِ فِي أَيِّ مَكَانٍ مِنْ جِسْمِهِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: هَذَا قَوْل أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ،
وَبِهِ قَال مَسْرُوقٌ وَالأَْسْوَدُ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَإِسْحَاقُ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالثَّوْرِيُّ، لِمَا رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ قَال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَّدَ بَعِيرٌ وَكَانَ فِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 43، والشرح الصغير 1 / 315 ط. الحلبي، والدسوقي 2 / 103 ونهاية المحتاج 8 / 105، 108، والمغني 8 / 539، 559، 573.

(30/258)


فَحَبَسَهُ اللَّهُ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ - أَيْ: نُفُورٌ - كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا، وَفِي لَفْظٍ: فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا. (1)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ:؛ وَلأَِنَّ الاِعْتِبَارَ فِي الذَّكَاةِ بِحَال الْحَيَوَانِ وَقْتَ ذَبْحِهِ لاَ بِأَصْلِهِ، بِدَلِيل الْوَحْشِيِّ إِذَا قُدِرَ عَلَيْهِ وَجَبَتْ تَذْكِيَتُهُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، وَكَذَلِكَ الأَْهْلِيُّ إِذَا تَوَحَّشَ يُعْتَبَرُ بِحَالِهِ فَإِذَا تَرَدَّى فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَذْكِيَتِهِ فَهُوَ مَعْجُوزٌ عَنْ تَذْكِيَتِهِ فَأَشْبَهَ الْوَحْشِيَّ (2) .
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَسَوَاءٌ نَدَّ الْبَعِيرُ أَوِ الْبَقَرُ فِي الصَّحْرَاءِ أَوْ فِي الْمِصْرِ فَذَكَاتُهَا الْعَقْرُ؛ لأَِنَّهُمَا يَدْفَعَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا فَلاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِمَا، قَال مُحَمَّدٌ: وَالْبَعِيرُ الَّذِي نَدَّ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، فَدَل عَلَى أَنَّ نَدَّ الْبَعِيرِ فِي الصَّحْرَاءِ وَالْمِصْرِ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ.
قَال مُحَمَّدٌ: وَأَمَّا الشَّاةُ فَإِنْ نَدَّتْ فِي الصَّحْرَاءِ فَذَكَاتُهَا الْعَقْرُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُقْدَرُ عَلَيْهَا، وَإِنْ نَدَّتْ فِي الْمِصْرِ لَمْ يَجُزْ عَقْرُهَا؛ لأَِنَّهُ يُمْكِنُ أَخْذُهَا إِذْ هِيَ لاَ تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا فَكَانَ
__________
(1) حديث: " إن لهذه البهائم. . ". أخرجه أحمد (فتح الباري 5 / 131 ط السلفية) ومسلم (3 / 1558 ط. الحلبي) من حديث رافع بن خديج، واللفظ الثاني أخرجه البخاري (6 / 188) .
(2) بدائع الصنائع 5 / 43، والزيلعي 5 / 292 - 293، ونهاية المحتاج 105 - 108، والمغني 8 / 566 - 567

(30/259)


الذَّبْحُ مَقْدُورًا عَلَيْهِ فَلاَ يَجُوزُ الْعَقْرُ، وَهَذَا؛ لأَِنَّ الْعَقْرَ خَلَفٌ عَنِ الذَّبْحِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الأَْصْل تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إِلَى الْخَلَفِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: مَا نَدَّ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمُسْتَأْنَسَةِ وَتَوَحَّشَ فَإِنَّهُ لاَ يَحِل بِالْعَقْرِ عَمَلاً بِالأَْصْل وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ هُوَ مَا قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ أَنَّهُ إِنْ نَدَّ غَيْرُ الْبَقَرِ لَمْ يُؤْكَل بِالْعَقْرِ وَإِنْ نَدَّ الْبَقَرُ جَازَ أَكْلُهُ بِالْعَقْرِ؛ لأَِنَّ الْبَقَرَ لَهَا أَصْلٌ فِي التَّوَحُّشِ تَرْجِعُ إِلَيْهِ وَهُوَ شَبَهُهَا بِبَقَرِ الْوَحْشِ، وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ أَيْضًا، إِنْ تَرَدَّى حَيَوَانٌ فِي كُوَّةٍ وَأَصْبَحَ مَعْجُوزًا عَنْ ذَبْحِهِ فَإِنَّهُ يَحِل بِالْعَقْرِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ بَقَرًا أَوْ غَيْرَهُ صِيَانَةً لِلأَْمْوَال (2) .
وَأَلْحَقَ الْحَنَفِيَّةُ الصِّيَال بِالنَّدِّ، قَالُوا: إِذَا صَال الْبَعِيرُ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ وَهُوَ يُرِيدُ الذَّكَاةَ حَل أَكْلُهُ إِذَا كَانَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ وَضَمِنَ قِيمَتَهُ؛ لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الصَّيْدِ فَجُعِل الصِّيَال مِنْهُ كَنَدِّهِ؛ لأَِنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ أَخْذِهِ فَيَعْجِزُ عَنْ نَحْرِهِ فَيُقَامُ الْجَرْحُ فِيهِ مَقَامَ النَّحْرِ (3)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (صِيَال) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 43، والزيلعي 5 / 292، وفتح القدير 8 / 416، نشر دار إحياء التراث.
(2) الدسوقي 2 / 103.
(3) بدائع الصنائع 5 / 44، والزيلعي 5 / 293.

(30/259)


عَقْرُ حَيَوَانَاتِ الْغَنِيمَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ نَقْلِهَا:
7 - الْمُرَادُ بِعَقْرِ الْحَيَوَانَاتِ هُنَا: ضَرْبُ قَوَائِمِهَا بِالسَّيْفِ حَتَّى لاَ يُنْتَفَعَ بِهَا، فَإِذَا انْتَهَتِ الْحَرْبُ وَأَرَادَ الإِْمَامُ الْعَوْدَ إِلَى دِيَارِ الإِْسْلاَمِ وَكَانَ مَعَهُ مَا غَنِمَهُ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ أَمْوَالٍ وَحَيَوَانَاتٍ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ نَقْل الْحَيَوَانَاتِ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَفْعَل بِهَا.
فَالأَْصْل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ عَقْرُهَا إِلاَّ لِلأَْكْل، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: أَمَّا عَقْرُ دَوَابِّهِمْ فِي غَيْرِ حَال الْحَرْبِ لِمُغَايَظَتِهِمْ وَالإِْفْسَادِ عَلَيْهِمْ فَلاَ يَجُوزُ سَوَاءٌ خِفْنَا أَخْذَهُمْ لَهَا أَوْ لَمْ نَخَفْ، وَبِهَذَا قَال الأَْوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَبُو ثَوْرٍ؛ لأَِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال فِي وَصِيَّتِهِ لِيَزِيدَ حِينَ بَعَثَهُ أَمِيرًا: يَا يَزِيدُ. لاَ تَقْتُل صَبِيًّا وَلاَ امْرَأَةً وَلاَ هَرِمًا وَلاَ تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا وَلاَ تَعْقِرَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا وَلاَ دَابَّةً عَجْمَاءَ وَلاَ شَاةً إِلاَّ لِمَأْكَلَةٍ. . . إِلَخْ.
وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قَتْل شَيْءٍ مِنَ الدَّوَابِّ صَبْرًا (1) ،؛ وَلأَِنَّهُ حَيَوَانٌ ذُو حُرْمَةٍ فَأَشْبَهَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، لَكِنْ إِنْ كَانَ
__________
(1) حديث: " نهى عن قتل شيء من الدواب صبرًا ". أخرجه مسلم (3 / 1550 ط. عيسى الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.

(30/260)


الْحَيَوَانُ مِمَّا يُسْتَعَانُ بِهِ فِي الْقِتَال كَالْخَيْل فَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّ مَا عَجَزَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ سِيَاقَتِهِ وَأَخْذِهِ إِنْ كَانَ مِمَّا يَسْتَعِينُ بِهِ الْكُفَّارُ فِي الْقِتَال كَالْخَيْل جَازَ عَقْرُهُ وَإِتْلاَفُهُ؛ لأَِنَّهُ مِمَّا يَحْرُمُ إِيصَالُهُ إِلَى الْكُفَّارِ بِالْبَيْعِ فَتَرْكُهُ لَهُمْ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَصْلُحُ لِلأَْكْل فَلِلْمُسْلِمِينَ ذَبْحُهُ وَالأَْكْل مِنْهُ مَعَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا، وَمَا عَدَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ لاَ يَجُوزُ إِتْلاَفُهُ؛ لأَِنَّهُ مُجَرَّدُ إِفْسَادٍ وَإِتْلاَفٍ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ مَأْكَلَةٍ (1) وَمِثْل ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَحْرُمُ عَقْرُ الْحَيَوَانَاتِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُثْلَةِ بِالْحَيَوَانِ، وَإِنَّمَا تُذْبَحُ ثُمَّ تُحْرَقُ بَعْدَ الذَّبْحِ؛ لِتَنْقَطِعَ مَنْفَعَتُهَا عَنِ الْكُفَّارِ.
وَقَال الْمِصْرِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ يَجُوزُ عَقْرُهَا أَوْ ذَبْحُهَا.
وَقَال الْمَدَنِيُّونَ يُكْرَهُ عَقْرُهَا وَإِنَّمَا يُجْهَزُ عَلَيْهَا وَعَلَى كِلاَ الْقَوْلَيْنِ فَإِنَّهَا تُحْرَقُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِئَلاَّ يُنْتَفَعَ بِهَا (3) .
__________
(1) حديث: " نهى عن ذبح الحيوان. . . ". معنى الحديث أخرجه الحاكم (2 / 182 ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عمر، وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ووافقه الذهبي.
(2) مغني المحتاج 4 / 227، وأسنى المطالب 4 / 196، والمهذب 2 / 242، وروضة الطالبين 10 / 258 والمغني 8 / 451، 452، 453.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 230، وفتح القدير 5 / 221 نشر دار إحياء التراث والدسوقي 2 / 181، والمدونة 2 / 40.

(30/260)


أَثَرُ عَقْرِ الْكَلْبِ فِي الضَّمَانِ:
8 - مَنْ أَطْلَقَ كَلْبًا عَقُورًا فَعَقَرَ إِنْسَانًا أَوْ دَابَّةً لَيْلاً أَوْ نَهَارًا أَوْ خَرَقَ ثَوْبَ إِنْسَانٍ فَعَلَى صَاحِبِهِ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَهُ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ إِغْرَاءَ الْكَلْبِ بِمَنْزِلَةِ إِرْسَال الْبَهِيمَةِ فَالْمُصَابُ عَلَى فَوْرِ الإِْرْسَال مَضْمُونٌ عَلَى الْمُرْسِل كَذَا هُنَا.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْكَلْبَ يَعْقِرُ بِاخْتِيَارِهِ، وَالإِْغْرَاءُ لِلتَّحْرِيضِ، وَفِعْلُهُ جُبَارٌ.
وَقَال مُحَمَّدٌ، إِنْ كَانَ سَائِقًا لَهُ أَوْ قَائِدًا يَضْمَنُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَائِقًا لَهُ وَلاَ قَائِدًا لاَ يَضْمَنُ وَبِهِ أَخَذَ الطَّحَاوِيُّ؛ لأَِنَّ الْعَقْرَ فِعْل الْكَلْبِ بِاخْتِيَارِهِ فَالأَْصْل هُوَ الاِقْتِصَارُ عَلَيْهِ وَفِعْلُهُ جُبَارٌ، إِلاَّ أَنَّهُ بِالسَّوْقِ أَوِ الْقَوْدِ يَصِيرُ مُغْرِيًا إِيَّاهُ إِلَى الإِْتْلاَفِ فَيَصِيرُ سَبَبًا لِلتَّلَفِ فَأَشْبَهَ سَوْقَ الدَّابَّةِ وَقَوْدَهَا (1) .
وَلَوْ دَخَل رَجُلٌ دَارَ غَيْرِهِ فَعَقَرَهُ كَلْبُهُ فَإِنْ كَانَ دَخَل بِلاَ إِذْنٍ فَلاَ ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ؛ لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالدُّخُول مُتَسَبِّبٌ بِعُدْوَانِهِ إِلَى عَقْرِ الْكَلْبِ لَهُ.
وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَإِنْ دَخَل بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ؛ لأَِنَّهُ تَسَبَّبَ إِلَى
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 273، ونهاية المحتاج 8 / 40، والمغني 8 / 338.

(30/261)


إِتْلاَفِهِ وَهَذَا مَا يَقُولُهُ الْحَنَابِلَةُ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: إِنْ أَذِنَ لَهُ فِي الدُّخُول وَأَعْلَمَهُ بِحَال الْكَلْبِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الْبَيْتِ فَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِحَالِهِ ضَمِنَ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ دَخَل رَجُلٌ دَارَ غَيْرِهِ فَعَقَرَهُ كَلْبُهُ لاَ يَضْمَنُ سَوَاءٌ دَخَل دَارَهُ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؛ لأَِنَّ فِعْل الْكَلْبِ جُبَارٌ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ صَاحِبِهِ التَّسْبِيبُ إِلَى الْعَقْرِ إِذْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إِلاَّ الإِْمْسَاكُ فِي الْبَيْتِ وَأَنَّهُ مُبَاحٌ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} . (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ رَبَطَ الْكَلْبَ بِبَابِ الدَّارِ أَوْ فِي مِلْكِهِ فَلاَ يَضْمَنُ؛ لأَِنَّهُ ظَاهِرٌ يُمْكِنُ الاِحْتِزَازُ مِنْهُ (2) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ آخَرُ، قَالُوا: مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا عَقُورًا بِقَصْدِ قَتْل شَخْصٍ مُعَيَّنٍ وَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَإِنْ قَتَل شَخْصًا آخَرَ غَيْرَ الْمُعَيَّنِ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ، وَإِنْ كَانَ اتَّخَذَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ ضَرَرَ أَحَدٍ فَقَتَل إِنْسَانًا، فَإِنْ كَانَ قَدِ اتَّخَذَ الْكَلْبَ لِوَجْهٍ جَائِزٍ كَحِرَاسَةِ زَرْعٍ أَوْ ضَرْعٍ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ إِنْ أَنْذَرَ صَاحِبَهُ قَبْل الْقَتْل وَإِلاَّ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
__________
(1) سورة المائدة: الآية / 4.
(2) بدائع الصنائع 7 / 273، ونهاية المحتاج 8 / 40، وأسنى المطالب 4 / 173.

(30/261)


وَإِنِ اتَّخَذَهُ لاَ لِوَجْهٍ جَائِزٍ ضَمِنَ مُطْلَقًا أَيْ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ لَهُ إِنْذَارٌ أَمْ لاَ، وَهَذَا حَيْثُ عُرِفَ أَنَّهُ عَقُورٌ، وَإِلاَّ لَمْ يَضْمَنْ؛ لأَِنَّ فِعْلَهُ حِينَئِذٍ كَفِعْل الْعَجْمَاءِ (1) .
__________
(1) الدسوقي 4 / 243 - 244، والمدونة 6 / 446، وجواهر الإكليل 2 / 257.

(30/262)


عُقْر

التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْعُقْرِ - بِضَمِّ الْعَيْنِ - لُغَةً: الْمَهْرُ، وَهُوَ لِلْمُغْتَصَبَةِ مِنَ الإِْمَاءِ كَمَهْرِ الْمِثْل لِلْحُرَّةِ، وَالْعُقْرُ - بِالضَّمِّ - مَا تُعْطَاهُ الْمَرْأَةُ عَلَى وَطْءِ الشُّبْهَةِ، وَأَصْلُهُ: أَنَّ وَاطِئَ الْبِكْرِ يَعْقِرُهَا إِذَا افْتَضَّهَا، فَسُمِّيَ مَا تُعْطَاهُ لِلْعَقْرِ عُقْرًا، ثُمَّ صَارَ عَامًّا لَهَا وَلِلثَّيِّبِ، وَجَمْعُهُ: أَعْقَارٌ.
وَقَال ابْنُ الْمُظَفَّرِ: عُقْرُ الْمَرْأَةِ دِيَةُ فَرْجِهَا إِذَا غُصِبَتْ فَرْجَهَا.
وَقَال الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ مَهْرُ الْمَرْأَةِ إِذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْجَوْهَرَةِ أَنَّ الْعُقْرَ: فِي الْحَرَائِرِ مَهْرُ الْمِثْل، وَفِي الإِْمَاءِ عُشْرُ الْقِيمَةِ لَوْ بِكْرًا، وَنِصْفُ الْعُشْرِ لَوْ ثَيِّبًا (2) .
وَفِي الْعِنَايَةِ بِهَامِشِ فَتْحِ الْقَدِيرِ: الْعُقْرُ: مَهْرُ الْمَرْأَةِ إِذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَهْرُ
__________
(1) لسان العرب والقاموس المحيط.
(2) ابن عابدين 5 / 61، و2 / 287، و382، والبدائع 2 / 335.

(30/262)


الْمِثْل، وَبِهِ فَسَّرَ الإِْمَامُ الْعَتَّابِيُّ الْعُقْرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَقَال أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: الْعُقْرُ: الْمَهْرُ (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الأَْجْرُ:
2 - الأَْجْرُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَجَرَهُ يَأْجُرُهُ: إِذَا أَثَابَهُ وَأَعْطَاهُ جَزَاءَ عَمَلِهِ.
وَيُسْتَعْمَل الأَْجْرُ بِمَعْنَى الإِْجَارَةِ وَبِمَعْنَى الأُْجْرَةِ (2) .
وَقَدْ سَمَّى الْقُرْآنُ مَهْرَ الْمَرْأَةِ أَجْرًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} .
(3) وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الأَْجْرَ بِمَعْنَى الْعِوَضِ عَنِ الْعَمَل، وَبِمَعْنَى بَدَل الْمَنْفَعَةِ (4) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الأَْجْرِ وَالْعُقْرِ: أَنَّ الأَْجْرَ أَعَمُّ، فَهُوَ يُسْتَعْمَل فِي الْعَقْدِ عَلَى مَنَافِعِ الْبُضْعِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنْ عَقَارٍ أَوْ حَيَوَانٍ، أَمَّا الْعُقْرُ فَلاَ يُسْتَعْمَل إِلاَّ فِي مَنَافِعِ الْبُضْعِ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ الْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ
__________
(1) العناية بهامش فتح القدير 3 / 459 نشر دار إحياء التراث، والمغني 6 / 728.
(2) لسان العرب والمصباح المنير، وكشاف القناع 3 / 546.
(3) سورة الأحزاب / 50.
(4) البدائع 4 / 176، والحطاب 5 / 389.

(30/263)


الصَّحِيحِ، دَخَل بِهَا أَمْ لَمْ يَدْخُل، أَمَّا النِّكَاحُ الْفَاسِدُ فَلاَ يَجِبُ الْمَهْرُ فِيهِ إِلاَّ بَعْدَ الدُّخُول، وَاخْتَلَفُوا هَل هُوَ الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرُ الْمِثْل أَوِ الأَْقَل مِنْهُمَا؟
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاح، وَمَهْر)
وَكَمَا يَجِبُ الْمَهْرُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بِالدُّخُول يَجِبُ فِي الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شُبْهَة) .

عَقْعَق

انْظُرْ: أَطْعِمَة

(30/263)


عَقْل

التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْعَقْل فِي اللُّغَةِ: الْحَجْرُ وَالنَّهْيُ، وَهُوَ ضِدُّ الْحُمْقِ، وَالْجَمْعُ: عُقُولٌ، وَعَقَل الشَّيْءَ يَعْقِلُهُ عَقْلاً: إِذَا فَهِمَهُ، وَيُقَال لِلْقُوَّةِ الْمُتَهَيِّئَةِ لِقَبُول الْعِلْمِ.
وَمِنْ مَعَانِيهِ: الدِّيَةُ، يُقَال: عَقَل الْقَتِيل يَعْقِلُهُ عَقْلاً: إِذَا وَدَاهُ، وَعَقَل عَنْهُ: أَدَّى جِنَايَتَهُ، وَذَلِكَ إِذَا لَزِمَتْهُ دِيَةٌ فَأَعْطَاهَا عَنْهُ (1) .
وَفِي الشَّرْعِ الْعَقْل: الْقُوَّةُ الْمُتَهَيِّئَةُ لِقَبُول الْعِلْمِ، وَقِيل: غَرِيزَةٌ يَتَهَيَّأُ بِهَا الإِْنْسَانُ إِلَى فَهْمِ الْخِطَابِ، وَقِيل: نُورٌ فِي الْقَلْبِ يَعْرِفُ الْحَسَنَ وَالْقَبِيحَ وَالْحَقَّ وَالْبَاطِل (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
اللُّبُّ:
2 - اللُّبُّ هُوَ: الْعَقْل الْخَالِصُ مِنَ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، التعريفات للجرجاني، وغريب القرآن للأصفهاني.
(2) الفواكه الدواني 1 / 133، ومغني المحتاج 1 / 33.

(30/264)


الشَّوَائِبِ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ خَالِصَ مَا فِي الإِْنْسَانِ مِنْ مَعَانِيهِ؛ لأَِنَّ لُبَّ كُل شَيْءٍ: خَالِصُهُ وَخِيَارُهُ، وَشَيْءٌ لُبَابٌ: أَيْ خَالِصٌ.
وَقِيل: اللُّبُّ هُوَ مَا زَكَا مِنَ الْعَقْل، فَكُل لُبٍّ عَقْلٌ، وَلَيْسَ كُل عَقْلٍ لُبًّا، وَلِهَذَا عَلَّقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الأَْحْكَامَ الَّتِي لاَ تُدْرِكُهَا إِلاَّ الْعُقُول الزَّكِيَّةُ بِأُولِي الأَْلْبَابِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الأَْلْبَابِ} (1)

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
وَرَدَتِ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَقْل فِي أَبْوَابٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، مِنْهَا مَا يُخَصُّ بِالتَّكْلِيفِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
3 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَقْل هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ فِي الإِْنْسَانِ، فَلاَ تَجِبُ عِبَادَةٌ مِنْ صَلاَةٍ أَوْ صِيَامٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ أَوْ غَيْرِهَا عَلَى مَنْ لاَ عَقْل لَهُ كَالْمَجْنُونِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا بَالِغًا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِل. (2)
كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْعَاقِل لاَ تُعْتَبَرُ
__________
(1) سورة البقرة / 269، وينظر لسان العرب والتعريفات للجرجاني وغريب القرآن للأصفهاني.
(2) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 560 ط. عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (2 / 59 دار الكتاب العربي) وقال: حديث صحيح على شرط مسلم.

(30/264)


تَصَرُّفَاتُهُ الْمَالِيَّةُ، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَلاَ إِيجَارُهُ وَلاَ وَكَالَتُهُ أَوْ رَهْنُهُ، وَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ طَرَفًا فِي أَيِّ عَقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ وَغَيْرِ الْمَالِيَّةِ كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ وَالضَّمَانِ وَالإِْبْرَاءِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ، وَلاَ اعْتِبَارَ لأَِقْوَالِهِ، وَلاَ تُؤْخَذُ عَلَيْهِ وَلاَ لَهُ، فَلاَ يَصِحُّ مِنْهُ إِسْلاَمٌ وَلاَ رِدَّةٌ، وَلاَ طَلاَقٌ وَلاَ ظِهَارٌ، وَلاَ يُعْتَمَدُ إِقْرَارُهُ فِي النَّسَبِ أَوِ الْمَال أَوْ غَيْرِهِمَا، وَلاَ شَهَادَتُهُ أَوْ خَبَرُهُ.
كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ فَاقِدَ الْعَقْل مِنَ النَّاسِ تُسْلَبُ مِنْهُ الْوِلاَيَاتُ، سَوَاءٌ كَانَتْ عَامَّةً أَوْ خَاصَّةً، وَسَوَاءٌ كَانَتْ ثَابِتَةً: لَهُ بِالشَّرْعِ كَوِلاَيَةِ النِّكَاحِ، أَوْ بِالتَّفْوِيضِ كَوِلاَيَةِ الإِْيصَاءِ وَالْقَضَاءِ؛ لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَل أَمْرَ نَفْسِهِ فَأَمْرُ غَيْرِهِ أَوْلَى.
4 - إِلاَّ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: إِنَّ بَعْضَ أَفْعَال فَاقِدِ الْعَقْل - كَالْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي حَال غَيْبُوبَتِهِ وَالْمَعْتُوهِ وَالصَّبِيِّ - مُعْتَبَرَةٌ وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا نَتَائِجُهَا وَأَحْكَامُهَا، وَذَلِكَ كَإِحْبَالِهِ، وَإِتْلاَفِهِ مَال غَيْرِهِ، وَتَقْرِيرِ الْمَهْرِ بِوَطْئِهِ، وَتَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى إِرْضَاعِهِ، وَالْتِقَاطِهِ، وَاحْتِطَابِهِ، وَاصْطِيَادِهِ، وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ (1) .
__________
(1) مجلة الأحكام مادة 941، 943، 944، 945، 957، 960 والبدائع 7 / 246، القوانين الفقهية ص113، 127، 143، 204، 229، 247، 273، 302، 311، 316، 322، 339، 356، 364، مغني المحتاج 2 / 165، 198، 218، 238، 264، 314، 323، 332، 376، 7 / 122 و4 / 10، 84، 94، 137، 427، والمغني لابن قدامة 7 / 664، 113، 116، 339 و1 / 400 و8 / 215، 124، وكشاف القناع 6 / 50.

(30/265)


وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَكْلِيف ف 4، أَهْلِيَّة ف 9، جُنُون ف 9، عَتَه ف 5، تَمْيِيز ف 9، حَجْر ف 9، وِلاَيَة، شَهَادَة ف 17، قَضَاءٌ، عَقْد ف 29.)
وَمِنْهَا نَقْضُ الْوُضُوءِ، فَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ زَوَال الْعَقْل بِالْجُنُونِ أَوِ الإِْغْمَاءِ أَوِ السُّكْرِ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ مِنَ الأَْدْوِيَةِ الْمُزِيلَةِ لِلْعَقْل. يَنْقُضُ الْوُضُوءَ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (نَوْم، وُضُوء، وَجُنُون) .

وَمِنْهَا: الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَقْل فَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي إِزَالَةِ الْعَقْل بِجِنَايَةٍ لِعَدَمِ الضَّبْطِ؛ وَلأَِنَّهُ فِي غَيْرِ مَحَل الْجِنَايَةِ، لِلاِخْتِلاَفِ فِي مَحَلِّهِ (2) .
وَتَفَاصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاص، قَوَد) .
وَذَهَبُوا إِلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي ذَهَابِ الْعَقْل بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، لِمَا وَرَدَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 97، والفواكه الدواني 1 / 133، ومغني المحتاج 1 / 32، والمغني لابن قدامة 1 / 172.
(2) جواهر الإكليل 2 / 276، والفواكه الدواني 1 / 19، ومغني المحتاج 1 / 33، 4 / 30، والمغني لابن قدامة 8 / 38، وكشاف القناع 5 / 50.

(30/265)


لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَفِي الْعَقْل الدِّيَةُ. (1)
وَلأَِنَّهُ أَشْرَفُ الْمَعَانِي قَدْرًا، وَأَعْظَمُ الْحَوَاسِّ نَفْعًا، فَبِهِ يَتَمَيَّزُ الإِْنْسَانُ عَنِ الْبَهِيمَةِ، وَيَعْرِفُ بِهِ حَقَائِقَ الْمَعْلُومَاتِ، وَيَهْتَدِي بِهِ إِلَى الْمَصَالِحِ وَيَتَّقِي بِهِ مَا يَضُرُّهُ، وَيَدْخُل بِهِ فِي التَّكْلِيفِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يُرْجَ عَوْدُهُ بِقَوْل أَهْل الْخِبْرَةِ فِي مُدَّةٍ مُقَدَّرَةٍ، فَإِنْ رُجِيَ عَوْدُهُ فِي الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ انْتُظِرَ، فَإِنْ عَادَ فَلاَ ضَمَانَ كَمَا فِي سِنِّ مَنْ لَمْ يُثْغِرْ (2) .
5 - وَأَمَّا الإِْطْلاَقُ الثَّانِي لِلْعَقْل وَهُوَ الدِّيَةُ، أَيِ: الْمَال الَّذِي يَجِبُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْحُرِّ فِي نَفْسٍ أَوْ فِيمَا دُونَهَا.
فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَات ف 56)
.

عُقْلَة

انْظُرْ: سُلاَمَى
__________
(1) حديث: " وفي العقل الدية ". أخرجه النسائي (8 / 58 - 59 ط المكتبة التجارية) وخرجه ابن حجر في التلخيص (4 / 17 - 18 ط شركة الطباعة الفنية) وتكلم على أسانيد ونقل تصحيحه عن جماعة من العلماء.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 369، وجواهر الإكليل 2 / 267، ومغني المحتاج 4 / 68، والمغني لابن قدامة 8 / 37، وكشاف القناع 6 / 50.

(30/266)


عُقْم

التَّعْرِيفُ:
1 - الْعُقُمُ بِالْفَتْحِ، وَبِالضَّمِّ: الْيُبْسُ الْمَانِعُ مِنْ قَبُول الأَْثَرِ،
وَالْعَقِيمُ: الَّذِي لاَ يُولَدُ لَهُ، يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، يُقَال: عَقِمَتِ الْمَرْأَةُ - إِذَا لَمْ تَحْبَل - فَهِيَ عَقِيمٌ (1) ، قَال تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ زَوْجَةِ نَبِيِّ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} (2)
وَفِي الأَْثَرِ: سَوْدَاءُ وَلُودٌ خَيْرٌ مِنْ حَسْنَاءَ عَقِيمٍ (3) وَكَذَلِكَ يُقَال: رَجُلٌ عَقِيمٌ وَعِقَامٌ: لاَ يُولَدُ لَهُ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلْعُقْمِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) المفردات للراغب الأصفهاني، والمصباح المنير.
(2) سورة الذاريات / 29.
(3) حديث: " سوداء ولود خير من حسناء عقيم ". أخرجه الطبراني في الكبير (19 / 416، 1004، ط الدار العربية للطباعة) من حديث معاوية بن صبرة، وقال الهيثمي (مجمع الزوائد 4 / 258 ط. دار السعادة) وفيه علي بن الربيع وهو ضعيف.

(30/266)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعُقْرُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْعُقْرِ، الْعُقْمُ، وَهُوَ: اسْتِعْقَامُ الرَّحِمِ، وَهُوَ أَنْ لاَ تَحْمِل. يُقَال: عَقَرَتِ الْمَرْأَةُ فَهِيَ عَاقِرٌ (1) ، وَجَاءَ فِي التَّنْزِيل حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ زَكَرِيَّا: {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} (2) أَيْ: عَقِيمًا، وَيُسْتَعْمَل فِي الْجَرْحِ.
فَالْعُقْرُ أَعَمُّ مِنَ الْعُقْمِ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعُقْمِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمُرِيدِ النِّكَاحِ أَنْ يَنْكِحَ وَلُودًا بِكْرًا، وَيُعْرَفُ عَنْهَا ذَلِكَ بِأَقَارِبِهَا؛ لأَِنَّ النَّسْل مِنْ أَهَمِّ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ فِي الزَّوَاجِ، وَالنَّسْل مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ، قَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً} . (3)
وَقَال جَل شَأْنُهُ: {وَاللَّهُ جَعَل لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَل لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} (4) وَحَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَعَاطِي أَسْبَابِ الْوَلَدِ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَزَوَّجُوا
__________
(1) لسان العرب، متن اللغة، ومختار الصحاح.
(2) سورة مريم / 5.
(3) سورة النساء / 1.
(4) سورة النحل / 72.

(30/267)


الْوَلُودَ الْوَدُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُْمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (1) ، وَنَهَى عَنْ زَوَاجِ الْعَقِيمِ، جَاءَ فِي الأَْثَرِ: لاَ تَزَوَّجَنَّ عَاقِرًا (2) وَنَهَى عَنْ كُل مَا مِنْ شَأْنِهِ تَعْطِيل النَّسْل فِي الْمُعَاشَرَةِ الزَّوْجِيَّةِ، فَنَهَى عَنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَعْجَازِهِنَّ فَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ لاَ تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَعْجَازِهِنَّ.
(3) وَرَغِبَ عَنِ الْعَزْل، رَوَى أَبُو سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: ذُكِرَ الْعَزْل عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: فَلِمَ يَفْعَل أَحَدُكُمْ؟ فَإِنَّهُ لَيْسَتْ مِنْ نَفْسٍ مَخْلُوقَةٍ إِلاَّ اللَّهُ خَالِقُهَا (4) وَوَجْهُ النَّهْيِ
__________
(1) حديث: " تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ". أخرجه أحمد (3 / 158 ط. الميمنية) وابن حبان في صحيحه (الإحسان 9 / 338 ط. الرسالة) من حديث أنس، وأورده الهيثمي في المجمع (4 / 252، 258 ط دار السعادة) وحسن إسناده.
(2) الأثر: " لا تزوجن عاقرًا ". أخرجه الحاكم (3 / 290 ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عياض بن غنم. قال ابن حجر: إسناده ضعيف كذا في التلخيص الحبير (3 / 116 ط. شركة الطباعة الفنية) .
(3) حديث: " إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أعجازهن ". أخرجه أحمد (5 / 213 ط الميمنية) وابن ماجه (1 / 619 ط. عيسى الحلبي) من حديث خزيمة بن ثابت، وأورده المنذري في الترغيب والترهيب (3 / 290 ط. مصطفى الحلبي) قوال: رواه ابن ماجه والنسائي بأسانيد، أحدها جيد.
(4) حديث: " فلم يفعل أحدكم " فإنه ليست من نفس مخلوقة إلا الله خالقها ". أخرجه أبو داود (2 / 623 ط. عزت عيد الدعاس) والترمذي (3 / 435) من حديث أبي سعيد الخدري وقال: حديث حسن صحيح ورواه البخاري ومسلم بنحوه.

(30/267)


عَمَّا ذُكِرَ تَعْطِيل النَّسْل، وَهُوَ مِنْ أَهَمِّ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ فِي تَشْرِيعِ النِّكَاحِ

نِكَاحُ الْعَقِيمِ:
4 - اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْعُقْمَ لَيْسَ عَيْبًا يَثْبُتُ بِهِ خِيَارُ طَلَبِ فَسْخِ عَقْدِ النِّكَاحِ إِذَا وَجَدَهُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي الآْخَرِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ خِلاَفًا، إِلاَّ أَنَّ الْحَسَنَ قَال: إِذَا وَجَدَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الآْخَرَ عَقِيمًا يُخَيَّرُ، وَأَحَبَّ أَحْمَدُ تَبْيِينَ أَمْرِهِ وَقَال: عَسَى امْرَأَتُهُ تُرِيدُ الْوَلَدَ، وَهَذَا فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ فَأَمَّا الْفَسْخُ فَلاَ يَثْبُتُ بِهِ وَلَوْ ثَبَتَ بِهِ لَثَبَتَ بِالآْيِسَةِ؛ وَلأَِنَّ الْعُقْمَ لاَ يُعْلَمُ، فَإِنَّ رِجَالاً لاَ يُولَدُ لأَِحَدِهِمْ وَهُوَ شَابٌّ ثُمَّ يُولَدُ لَهُ وَهُوَ شَيْخٌ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ فِيهِ الْعُقْمُ أَنْ يُعْلِمَ الآْخَرَ قَبْل الْعَقْدِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل ر: (عَيْب، فَسْخ) .
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ كُل عَيْبٍ يُنَفِّرُ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الآْخَرِ، وَلاَ يُحَصِّل مَقْصُودَ النِّكَاحِ
__________
(1) مواهب الجليل 3 / 453، والمغني 6 / 653، ومطالب أولي النهى 5 / 146 - 149.

(30/268)


مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْمَوَدَّةِ يُوجِبُ الْفَسْخَ (1) .

إِبْطَال قُوَّةِ الْحَبَل وَالإِْحْبَال بِالْجِنَايَةِ:
5 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ يَجِبُ فِي إِذْهَابِ قُوَّةِ الْحَبَل مِنَ الْمَرْأَةِ وَالإِْحْبَال مِنَ الرَّجُل بِجِنَايَةِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ لاِنْقِطَاعِ النَّسْل فَيَكْمُل فِيهِ الدِّيَةُ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (دِيَات ف 62)

قَطْعُ النَّسْل بِدَوَاءٍ:
6 - يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل تَنَاوُل دَوَاءٍ يَقْطَعُ الشَّهْوَةَ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ تَنَاوُل مَا يَقْطَعُ الْحَبَل (2) .
__________
(1) زاد المعاد 5 / 182.
(2) شرح روض الطالب 3 / 107، حاشية الجمل 4 / 117، نهاية المحتاج 6 / 182 والقليوبي 2 / 206.

(30/268)


عُقُوبَة

التَّعْرِيفُ:
1 - الْعُقُوبَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنَ الْعِقَابِ، وَالْعِقَابُ بِالْكَسْرِ وَالْمُعَاقَبَةُ: أَنْ تُجْزِيَ الرَّجُل بِمَا فَعَل مِنَ السُّوءِ. يُقَال عَاقَبَهُ بِذَنْبِهِ مُعَاقَبَةً وَعِقَابًا: أَخَذَهُ بِهِ (1) ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (2) ، وَالْعُقُوبَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ الأَْلَمُ الَّذِي يَلْحَقُ الإِْنْسَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْجِنَايَةِ، كَمَا عَرَّفَهَا الطَّحَاوِيُّ (3) . وَعَرَّفَهَا بَعْضُهُمْ بِالضَّرْبِ أَوِ الْقَطْعِ وَنَحْوِهِمَا، سُمِّيَ بِهَا؛ لأَِنَّهَا تَتْلُو الذَّنْبَ، مِنْ تَعَقَّبَهُ: إِذَا تَبِعَهُ (4) .
وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْعُقُوبَةِ وَبَيْنَ الْعِقَابِ: بِأَنَّ مَا يَلْحَقُ الإِْنْسَانَ إِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا يُقَال لَهُ الْعُقُوبَةُ، وَإِنْ كَانَ فِي الآْخِرَةِ يُقَال لَهُ الْعِقَابُ (5) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، ومتن اللغة.
(2) سورة النحل / 126.
(3) حاشية الطحطاوي على الدر المختار2 / 388.
(4) ابن عابدين 3 / 140.
(5) حاشية الطحطاوي على الدر المختار 2 / 388.

(30/269)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجَزَاءُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْجَزَاءِ: الْغَنَاءُ وَالْكِفَايَةُ، قَال تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} (1) أَيْ: لاَ تُغْنِي. وَالْجَزَاءُ مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ مِنَ الْمُقَابَلَةِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} (2) وَقَال سُبْحَانَهُ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} . (3)
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْجَزَاءُ أَعَمُّ مِنَ الْعُقُوبَةِ، حَيْثُ يُسْتَعْمَل فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْعُقُوبَةُ خَاصَّةٌ بِالأَْخْذِ بِالسُّوءِ.

ب - الْعَذَابُ:
3 - أَصْل الْعَذَابِ فِي كَلاَمِ الْعَرَبِ: الضَّرْبُ، ثُمَّ اسْتُعْمِل فِي كُل عُقُوبَةٍ مُؤْلِمَةٍ، وَاسْتُعِيرَ فِي الأُْمُورِ الشَّاقَّةِ، فَقِيل: السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ.
وَفِي الْفُرُوقِ لأَِبِي هِلاَلٍ الْعَسْكَرِيِّ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَذَابِ وَالْعِقَابِ: هُوَ أَنَّ الْعِقَابَ يُنْبِئُ عَنِ الاِسْتِحْقَاقِ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْفَاعِل يَسْتَحِقُّهُ عَقِيبَ فِعْلِهِ، أَمَّا الْعَذَابُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا وَغَيْرَ مُسْتَحَقٍّ (4) .
__________
(1) سورة البقرة / 48.
(2) سورة الكهف / 88.
(3) سورة الشورى / 40.
(4) الفروق في اللغة ص199.

(30/269)


أَقْسَامُ الْعُقُوبَةِ:
4 - تَنْقَسِمُ الْعُقُوبَةُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ:
فَتَنْقَسِمُ أَوَّلاً: بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهَا إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ رَئِيسِيَّةٍ، هِيَ الْقِصَاصُ وَالْحَدُّ وَالتَّعْزِيرُ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَيْ: (قِصَاص، وَتَعْزِير ف 5) .
وَتَنْقَسِمُ ثَانِيًا: بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ إِلَى:
أ - عُقُوبَةٍ هِيَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، كَحَدِّ الزِّنَى وَحَدِّ السَّرِقَةِ وَحَدِّ الشُّرْبِ.
ب - وَعُقُوبَةٍ هِيَ حَقٌّ لِلْعِبَادِ كَالْقِصَاصِ.
ج - وَعُقُوبَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْحَقَّيْنِ، كَحَدِّ الْقَذْفِ.
ر: مُصْطَلَحَ (حَقّ ف 13، 15) .
وَتَنْقَسِمُ ثَالِثًا، بِاعْتِبَارِ هَذَيْنِ الْحَقَّيْنِ إِلَى:
أ - عُقُوبَةٍ كَامِلَةٍ، كَحَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ.
ب - وَعُقُوبَةٍ قَاصِرَةٍ، كَحِرْمَانِ الْقَاتِل إِرْثَ الْمَقْتُول.
ج - وَعُقُوبَةٍ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَجِهَةُ الْعِبَادَةِ غَالِبَةٌ فِيهَا كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالْقَتْل.
د - عُقُوبَةٍ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَجِهَةُ الْعُقُوبَةِ

(30/270)


فِيهَا غَالِبَةٌ كَكَفَّارَةِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل كُل نَوْعٍ فِي مُصْطَلَحِهِ.
وَهُنَاكَ عُقُوبَاتٌ أُخْرَى بَحَثَهَا الْفُقَهَاءُ هِيَ:

أ - الْغُرَّةُ:
5 - الْغُرَّةُ مِنْ كُل شَيْءٍ: أَوَّلُهُ. وَمِنْ مَعَانِيهَا فِي الشَّرْعِ: ضَمَانٌ يَجِبُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ، وَتَبْلُغُ قِيمَتُهَا نِصْفَ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَهِيَ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل، أَوْ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (غُرَّة) .

ب - الأَْرْشُ:
6 - الأَْرْشُ يُطْلَقُ غَالِبًا عَلَى: الْمَال الْوَاجِبِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى بَدَل النَّفْسِ، فَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الدِّيَةِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَرْش ف 1) .

ج - الْحِرْمَانُ مِنَ الإِْرْثِ وَالْوَصِيَّةِ:
7 - الْحِرْمَانُ مِنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ عُقُوبَةٌ لِجَرِيمَةِ الْقَتْل بِصُورَةٍ تَبَعِيَّةٍ فَإِذَا ثَبَتَتِ الْجَرِيمَةُ بِأَدِلَّتِهَا الْخَاصَّةِ، وَحُكِمَ عَلَى الْقَاتِل بِعُقُوبَةِ الْقَتْل، يُحْرَمُ مِنْ إِرْثِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَوَصِيَّتِهِ كَذَلِكَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ لِلْقَاتِل
__________
(1) تيسير التحرير 2 / 179 وما بعدها.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 377، وجواهر الإكليل 1 / 303، وحاشية الجمل 5 / 101، والمغني لابن قدامة 7 / 804.

(30/270)


شَيْءٌ مِنَ الْمِيرَاثِ (1) . وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ وَصِيَّةَ لِقَاتِلٍ (2) . وَهَل يُحْرَمُ الْقَاتِل مِنَ الْمِيرَاثِ إِذَا كَانَ الْقَتْل عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ مُطْلَقًا؟
لِلْفُقَهَاءِ فِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (إِرْث ف 17 وَوَصِيَّة) .

أَقْسَامُ عُقُوبَةِ الْحَدِّ:
8 - الْحَدُّ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ مُعَيَّنَةٌ مُحَدَّدَةٌ لاَ تَقْبَل التَّعْدِيل وَالتَّغْيِيرَ، وَلِكُل جَرِيمَةٍ حَدِّيَّةٍ عُقُوبَةٌ مَعْلُومَةٌ، لَكِنَّهَا تَخْتَلِفُ حَسْبُ اخْتِلاَفِ مُوجِبِهَا مِنْ جَرَائِمِ الْحُدُودِ، وَهَذِهِ الْجَرَائِمُ هِيَ: الزِّنَا وَالْقَذْفُ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةُ، وَقَطْعُ الطَّرِيقِ: (الْحِرَابَةُ) بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَكَذَلِكَ الرِّدَّةُ وَالْبَغْيُ مَعَ اخْتِلاَفٍ فِيهِمَا.
__________
(1) حديث: " ليس للقاتل شيء من الميراث ". أخرجه الدارقطني (4 / 237 ط. دار المحاسن) والبيهقي (6 / 220 ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عمرو، وحسنه السيوطي. ونقل المناوي عن الزركشي قول ابن عبد البر في كتاب الفرائض أن إسناده صحيح بالاتفاق وله شواهد كثيرة (انظر فيض القدير 5 / 380 ط. المكتبة التجارية) .
(2) حديث: " لا وصية لقاتل ". أخرجه الدارقطني (4 / 236 - 237 ط. دار المحاسن) من حديث علي بن أبي طالب، وفي إسناده مبشر بن عبيد، قال الدارقطني: مبشر بن عبيد متروك الحديث، يضع الحديث. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 214 ط. القدسي) ، وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه بقية وهو مدلس.

(30/271)


وَتَفْصِيل عُقُوبَاتِ هَذِهِ الْحُدُودِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.

الْعُقُوبَاتُ التَّعْزِيرِيَّةُ:
9 - التَّعْزِيرُ عُقُوبَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ. شُرِعَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلأَْفْرَادِ.
وَالْغَرَضُ مِنْ مَشْرُوعِيَّتِهَا رَدْعُ الْجَانِي وَزَجْرُهُ وَإِصْلاَحُهُ وَتَأْدِيبُهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ (1) .
وَقَدْ شُرِعَ التَّعْزِيرُ فِي الْمَعَاصِي الَّتِي لاَ يَكُونُ فِيهَا حُدُودٌ وَلاَ كَفَّارَةٌ (2) .
وَعَدَمُ التَّقْدِيرِ فِي الْعُقُوبَاتِ التَّعْزِيرِيَّةِ لاَ يَعْنِي جَوَازَ وَمَشْرُوعِيَّةَ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ فِي التَّعْزِيرِ، فَهُنَاكَ عُقُوبَاتٌ لاَ يَجُوزُ إِيقَاعُهَا كَعُقُوبَةٍ تَعْزِيرِيَّةٍ، مِثْل الضَّرْبِ الْمُتْلِفِ، وَصَفْعِ الْوَجْهِ، وَالْحَرْقِ، وَالْكَيِّ، وَحَلْقِ اللِّحْيَةِ وَأَمْثَالِهَا (3) .
وَهُنَاكَ عُقُوبَاتٌ تَعْزِيرِيَّةٌ مَشْرُوعَةٌ يَخْتَارُ مِنْهَا الْقَاضِي مَا يَرَاهُ مُنَاسِبًا لِحَالَةِ الْمُجْرِمِ تَحْقِيقًا لأَِغْرَاضِ التَّعْزِيرِ مِنَ الإِْصْلاَحِ وَالتَّأْدِيبِ، كَعُقُوبَةِ الْجَلْدِ وَالْحَبْسِ وَالتَّوْبِيخِ وَالْهَجْرِ وَالتَّعْزِيرِ بِالْمَال وَنَحْوِهَا.
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 211، وتبصرة الحكام 1 / 366، والأحكام السلطانية للماوردي ص224.
(2) معين الحكام ص189، وتبصرة الحكام 2 / 316، وكشاف القناع 4 / 75.
(3) تبيين الحقائق 3 / 211، وكشاف القناع 4 / 74.

(30/271)


وَتَفْصِيل أَحْكَامِ التَّعْزِيرِ، وَأَنْوَاعُ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ وَمُوجِبَاتُهَا يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَعْزِير ف 11 وَمَا بَعْدَهَا)

تَعَدُّدُ الْعُقُوبَاتِ:
10 - أَجَازَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ اجْتِمَاعَ الْعُقُوبَاتِ وَتَعَدُّدَهَا فِي جَرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، لَكِنْ بِصِفَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَقَدْ يَجْتَمِعُ التَّعْزِيرُ مَعَ الْحَدِّ، فَالْحَنَفِيَّةُ لاَ يَرَوْنَ تَغْرِيبَ الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ فِي حَدِّ الزِّنَى، وَلَكِنْ يُجِيزُونَ تَغْرِيبَهُ تَعْزِيرًا بَعْدَ الْجَلْدِ حَدًّا (1) . وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْجَارِحَ عَمْدًا يُقْتَصُّ مِنْهُ وَيُؤَدَّبُ تَعْزِيرًا، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ يُجِيزُونَ اجْتِمَاعَ التَّعْزِيرِ مَعَ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْقَتْل الَّذِي عُفِيَ عَنِ الْقِصَاصِ فِيهِ تَجِبُ فِيهِ عَلَى الْقَاتِل الدِّيَةُ، وَيُضْرَبُ مِائَةً وَيُحْبَسُ سَنَةً تَعْزِيرًا (2)

تَدَاخُل الْعُقُوبَاتِ.
11 - الْمُرَادُ بِتَدَاخُل الْعُقُوبَاتِ هُوَ دُخُول عُقُوبَةٍ فِي أُخْرَى بِلاَ زِيَادَةِ حَجْمٍ وَمِقْدَارٍ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ إِذَا اتَّفَقَتْ فِي
__________
(1) معين الحكام ص182، وبداية المجتهد 2 / 264.
(2) تبصرة الحكام 2 / 266، والحطاب 6 / 247، ونهاية المحتاج 7 / 172، 173، والمغني لابن قدامة 10 / 266، 267.

(30/272)


الْجِنْسِ وَالْمُوجِبِ فَإِنَّهَا تَتَدَاخَل، فَمَنْ زَنَى مِرَارًا، أَوْ سَرَقَ مِرَارًا مَثَلاً أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ لِلزِّنَى الْمُتَكَرِّرِ، وَآخَرُ لِلسَّرِقَةِ الْمُتَكَرِّرَةِ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي تَدَاخُل عُقُوبَاتِ الْقِصَاصِ مَعَ تَفْصِيلٍ وَبَيَانٍ وَخِلاَفٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَدَاخُل ف 18)

عُقُوق

انْظُرْ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ.
__________
(1) المراجع السابقة.

(30/272)