الموسوعة
الفقهية الكويتية عُهْدَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعُهْدَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْعَهْدِ، وَهُوَ بِمَعْنَى
الْوَصِيَّةِ وَالأَْمَانِ وَالْمَوْثِقِ وَالذِّمَّةِ، وَتُطْلَقُ
الْعُهْدَةُ عَلَى الْوَثِيقَةِ وَالْمَرْجِعِ لِلإِْصْلاَحِ، يُقَال: فِي
الأَْمْرِ عُهْدَةٌ أَيْ مَرْجِعٌ لِلإِْصْلاَحِ، وَتُسَمَّى وَثِيقَةُ
الْمُتَبَايِعَيْنِ عُهْدَةً؛ لأَِنَّهُ يُرْجَعُ إِلَيْهَا عِنْدَ
الاِلْتِبَاسِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ، عَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ فِي بَابِ الشُّفْعَةِ
بِأَنَّهَا: ضَمَانُ الثَّمَنِ عِنْدَ الاِسْتِحْقَاقِ (2) .
وَعَرَّفَهَا الأَْبِيُّ الأَْزْهَرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهَا:
ضَمَانُ ثَمَنِ حِصَّةِ مَنْ حَضَرَ بَعْدَ غَيْبَتِهِ إِنْ ظَهَرَ فِيهَا
عَيْبٌ أَوِ اُسْتُحِقَّتْ (3) .
وَعَرَّفَهَا الدَّرْدِيرُ بِأَنَّهَا: تَعَلُّقُ ضَمَانِ الْمَبِيعِ
بِالْبَائِعِ فِي زَمَنٍ مُعَيَّنٍ، وَهِيَ قِسْمَانِ: عُهْدَةُ سَنَةٍ.
وَعُهْدَةُ ثَلاَثٍ (4) . وَقَال
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) ابن عابدين 5 / 145، وحاشية الشلبي على تبيين الحقائق 5 / 246.
(3) جواهر الإكليل 2 / 162.
(4) الشرح الصغير 3 / 191.
(31/36)
الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ:
الْمُرَادُ بِالْعُهْدَةِ هُنَا (أَيْ فِي بَابِ الشُّفْعَةِ) رُجُوعُ مَنِ
انْتَقَل الْمِلْكُ إِلَيْهِ مِنْ شَفِيعٍ أَوْ مُشْتَرٍ عَلَى مَنِ
انْتَقَل عَنْهُ الْمِلْكُ مِنْ بَائِعٍ أَوْ مُشْتَرٍ بِالثَّمَنِ أَوِ
الأَْرْشِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الشِّقْصِ أَوْ عَيْبِهِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
بَحَثَ الْفُقَهَاءُ مَسَائِل الْعُهْدَةِ فِي الشُّفْعَةِ، وَخِيَارِ
الْعَيْبِ.
أَوَّلاً - الْعُهْدَةُ فِي الشُّفْعَةِ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ إِذَا ثَبَتَتْ
لأَِكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، وَحَضَرَ بَعْضُهُمْ فَإِنَّهَا تُعْطَى لِمَنْ
حَضَرَ إِذَا طَلَبَهَا، لَكِنَّهَا لاَ تَتَجَزَّأُ، فَإِمَّا أَنْ
يَأْخُذَهَا جَمِيعَهَا، أَوْ يَتْرُكَهَا جَمِيعَهَا؛ لأَِنَّ فِي
تَجْزِئَتِهَا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ، وَهُوَ ضَرَرٌ لِلْبَائِعِ
وَالْمُشْتَرِي، فَإِذَا أَخَذَهَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، ثُمَّ حَضَرَ
الآْخَرُ وَطَلَبَ حِصَّتَهُ مِنَ الشُّفْعَةِ يُقْضَى لَهُ بِالنِّصْفِ،
وَلَوْ كَانُوا ثَلاَثَةً فَحَضَرَ الثَّالِثُ أَيْضًا يُقْضَى لَهُ
بِثُلُثِ مَا فِي يَدِ كُل وَاحِدٍ، وَهَكَذَا تَحْقِيقًا
__________
(1) كشاف القناع 4 / 163.
(31/36)
لِلتَّسْوِيَةِ (1) .
وَهَل يَقْضِي الْقَاضِي بِكَتْبِ الْعُهْدَةِ - أَيْ ضَمَانِ الثَّمَنِ
عِنْدَ الاِسْتِحْقَاقِ - عَلَى الْبَائِعِ أَوْ عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ
عَلَى الشَّفِيعِ الأَْوَّل إِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ وَأَخَذَ مِنْهُ
حِصَّتَهُ؟
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَال الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ: عُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي لاَ عَلَى
الْبَائِعِ، سَوَاءٌ أَأَخَذَ الشُّفْعَةَ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ قَبْل
الْقَبْضِ أَمْ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ، لأَِنَّ
الْمِلْكَ انْتَقَل إِلَيْهِ مِنَ الْمُشْتَرِي.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا أَخَذَ الْحَاضِرُ الْجَمِيعَ
بِالشُّفْعَةِ، ثُمَّ جَاءَ الْغَائِبُ كَانَ مُخَيَّرًا فِي كَتْبِ
عُهْدَتِهِ إِنْ شَاءَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ شَاءَ عَلَى الشَّفِيعِ
الأَْوَّل؛ لأَِنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الأَْخْذِ، فَهُوَ كَمُشْتَرٍ
مِنَ الْمُشْتَرِي (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ بِيعَتِ الدَّارُ لِلْمُشْتَرِي وَقَضَى
الْقَاضِي لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ، فَإِنْ كَانَتْ أُخِذَتْ مِنْ يَدِ
الْبَائِعِ فَالْعُهْدَةُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لأَِنَّهُ هُوَ الْقَابِضُ
لِلثَّمَنِ، وَقَدْ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 141، 142، وشرح الزرقاني 6 / 187، 189، والزيلعي 5 /
246، وجواهر الإكليل 2 / 162، 163، وروضة الطالبين 5 / 103، 112، وكشاف
القناع 4 / 148.
(2) جواهر الإكليل 2 / 162، 163، والمواق بهامش الحطاب 5 / 329، وروضة
الطالبين 5 / 112.
(31/37)
انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَ الْبَائِعِ
وَالْمُشْتَرِي، أَمَّا إِذَا أُخِذَتِ الدَّارُ بِالشُّفْعَةِ مِنْ يَدِ
الْمُشْتَرِي، فَالْبَيْعُ الأَْوَّل صَحِيحٌ، وَيَدْفَعُ الشَّفِيعُ
الثَّمَنَ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَعُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي،
لأَِنَّهُ هُوَ الْقَابِضُ لِلثَّمَنِ؛ وَلأَِنَّ الشَّيْءَ انْتَقَل مِنْ
مِلْكِ الْمُشْتَرِي (1) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَالأَْصْل عِنْدَهُمْ أَنَّ عُهْدَةَ الشَّفِيعِ
عَلَى الْمُشْتَرِي، لأَِنَّ الشَّفِيعَ مَلَكَ الشِّقْصَ مِنْ جِهَتِهِ،
فَهُوَ كَبَائِعِهِ، وَعُهْدَةُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ، إِلاَّ
إِذَا أَقَرَّ الْبَائِعُ وَحْدَهُ بِالْبَيْعِ. وَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي
الشِّرَاءَ وَأَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ مِنَ الْبَائِعِ، فَفِي هَذِهِ
الْحَالَةِ الْعُهْدَةُ عَلَى الْبَائِعِ، لِحُصُول الْمِلْكِ لِلشَّفِيعِ
مِنْ جِهَتِهِ (2) .
ثَانِيًا - الْعُهْدَةُ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ:
3 - إِذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ عَيْبًا قَدِيمًا يُنْقِصُ
الثَّمَنَ عِنْدَ التُّجَّارِ وَأَرْبَابِ الْخِبْرَةِ فَلَهُ خِيَارُ
الْفَسْخِ بِالْعَيْبِ (3) .
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ لِلْمُشْتَرِي إِذَا اشْتَرَى رَقِيقًا
خَاصَّةً - ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى - الرَّدَّ فِي عُهْدَةِ الثَّلاَثِ أَيْ
ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بِكُل عَيْبٍ
__________
(1) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق للزيلعي 5 / 246، والدر المختار بهامش
ابن عابدين 5 / 145.
(2) كشاف القناع 4 / 163.
(3) مجلة الأحكام م (337) .
(31/37)
حَادِثٍ، وَهُوَ: مَا يَحْدُثُ فِي
الْمَبِيعِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، وَالْقَدِيمُ وَهُوَ: مَا كَانَ فِيهِ
وَهُوَ عِنْدَ الْبَائِعِ (1) . كَزِنًا وَسَرِقَةٍ وَعَمًى وَجُنُونٍ،
إِلاَّ أَنْ يُسْتَثْنَى عَيْبٌ مُعَيَّنٌ (2) ، كَمَا أَنَّ لَهُ الرَّدَّ
فِي عُهْدَةِ السَّنَةِ بِثَلاَثَةِ أَدْوَاءٍ خَاصَّةٍ، وَهِيَ:
الْجُذَامُ وَالْبَرَصُ وَالْجُنُونُ، دُونَ سَائِرِ الْعُيُوبِ (3) .
قَال الدَّرْدِيرُ: وَمَحَل الْعَمَل بِالْعُهْدَتَيْنِ إِنْ شُرِطَا
عِنْدَ الْبَيْعِ أَوِ اُعْتِيدَا بَيْنَ النَّاسِ، أَوْ حَمَل
السُّلْطَانُ عَلَيْهِمَا النَّاسَ، وَقَال بَعْضُهُمْ: يُعْمَل بِهِمَا
وَلَوْ لَمْ تَجْرِ بِهِمَا عَادَةٌ، وَلاَ وَقَعَ بِهِمَا شَرْطٌ (4) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (عَيْب) .
__________
(1) مجلة الأحكام م (339،344) وشرح الدردير مع حاشية الدسوقي 3 / 126 -
127.
(2) الشرح الصغير 3 / 191، 192.
(3) الشرح الصغير للدردير 3 / 191، 192، وجواهر الإكليل 2 / 50.
(4) الشرح الصغير 3 / 193.
(31/38)
عَوَارِضُ الأَْهْلِيَّةِ
اُنْظُرْ: أَهْلِيَّةٌ
عَوَامِل
اُنْظُرْ: زَكَاةٌ
عَوَر
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْعَوَرِ فِي اللُّغَةِ: ذَهَابُ حِسِّ إِحْدَى
الْعَيْنَيْنِ، يُقَال عَوِرَ الرَّجُل: ذَهَبَ بَصَرُ إِحْدَى عَيْنَيْهِ،
فَهُوَ أَعْوَرُ وَهِيَ عَوْرَاءُ وَالْجَمْعُ عُورٌ (1) .
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَهُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ نَفْسِهِ (2)
.
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط، والمعجم الوسيط.
(2) البناية 9 / 140، والشرح الصغير 2 / 143، وأوجز المسالك 9 / 228.
(31/38)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَشَا:
2 - الْعَشَا - مَقْصُورٌ - سُوءُ الْبَصَرِ بِاللَّيْل وَالنَّهَارِ
يَكُونُ فِي النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ (1) ، يُقَال: عَشِيَ
عَشًى: ضَعُفَ بَصَرُهُ فَهُوَ أَعْشَى وَالْمَرْأَةُ عَشْوَاءُ (2) .
وَقِيل: الْعَشَا يَكُونُ سُوءُ الْبَصَرِ مِنْ غَيْرِ عَمًى، وَيَكُونُ
الَّذِي لاَ يُبْصِرُ بِاللَّيْل وَيُبْصِرُ بِالنَّهَارِ (3) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَوَرِ وَالْعَشَا: أَنَّ الْعَوَرَ ذَهَابُ حِسِّ
إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ، وَالْعَشَا سُوءُ الْبَصَرِ.
ب - الْعَمَشُ:
3 - مِنْ مَعَانِي الْعَمَشِ ضَعْفُ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ مَعَ سَيَلاَنِ
دَمْعِهَا فِي أَكْثَرِ أَوْقَاتِهَا، يُقَال: عَمِشَ فُلاَنٌ عَمَشًا:
ضَعُفَ بَصَرُهُ مَعَ سَيَلاَنِ دَمْعِ عَيْنِهِ فِي أَكْثَرِ الأَْوْقَاتِ
فَهُوَ أَعْمَشُ وَهِيَ عَمْشَاءُ (4) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَوَرِ وَالْعَمْشِ أَنَّ الْعَوَرَ ذَهَابُ حِسِّ
إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ وَالْعَمَشُ ضَعْفُ الرُّؤْيَةِ مَعَ سَيَلاَنِ
الدَّمْعِ.
__________
(1) لسان العرب والقاموس المحيط.
(2) المصباح المنير.
(3) لسان العرب.
(4) المعجم الوسيط.
(31/39)
ج - الْحَوَل:
4 - الْحَوَل - بِفَتْحَتَيْنِ - أَنْ يَظْهَرَ الْبَيَاضُ فِي الْعَيْنِ
فِي مُؤَخَّرِهَا، وَيَكُونُ السَّوَادُ مِنْ قِبَل الْمَاقِّ وَطَرَفِ
الْعَيْنِ مِنْ قِبَل الأَْنْفِ (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَوَرِ وَالْحَوَل: أَنَّ الْعَوَرَ ذَهَابُ حِسِّ
إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ، وَالْحَوَل عَيْبٌ فِي الْعَيْنِ لاَ يُذْهِبُ
حِسَّهَا.
د - الْعَمَى:
5 - الْعَمَى ذَهَابُ الْبَصَرِ كُلِّهِ فَالرَّجُل أَعْمَى وَالْمَرْأَةُ
عَمْيَاءُ وَالْجَمْعُ عُمْيٌ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَمَى وَالْعَوَرِ أَنَّ الْعَمَى لاَ يَقَعُ إِلاَّ
عَلَى الْعَيْنَيْنِ جَمِيعًا، فِي حِينِ أَنَّ الْعَوَرَ هُوَ ذَهَابُ
حِسِّ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَوَرِ:
أ - التَّضْحِيَةُ بِالْعَوْرَاءِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ تُجْزِئُ
التَّضْحِيَةُ بِالْعَوْرَاءِ الْبَيِّنِ عَوَرُهَا، لِمَا رَوَى
الْبَرَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال لاَ يُضَحَّى
__________
(1) لسان العرب.
(2) القاموس المحيط والمصباح المنير.
(31/39)
بِالْعَرْجَاءِ بَيِّنٌ ظَلْعُهَا، وَلاَ
بِالْعَوْرَاءِ بَيِّنٌ عَوَرُهَا، وَلاَ بِالْمَرِيضَةِ بَيِّنٌ
مَرَضُهَا، وَلاَ بِالْعَجْفَاءِ الَّتِي لاَ تُنْقِي (1) وَلأَِنَّهَا
قَدْ ذَهَبَتْ عَيْنُهَا (2) .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ التَّضْحِيَةِ بِعَوْرَاءَ لاَ تُبْصِرُ
بِإِحْدَى عَيْنَيْهَا مَعَ قِيَامِ صُورَةِ الْعَيْنِ، فَذَهَبَ
الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمُقَابِل لِلأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
وَالْعَيْنِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى إِجْزَاءِ الْعَوْرَاءِ الَّتِي
عَلَى عَيْنِهَا بَيَاضٌ وَهِيَ قَائِمَةٌ لَمْ تَذْهَبْ؛ لأَِنَّ
عَوَرَهَا لَيْسَ بِبَيِّنٍ. وَلاَ يُنْقِصُ ذَلِكَ لَحْمَهَا (3) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ
أَنَّ الْعَوْرَاءَ لاَ تُجْزِئُ فِي الأُْضْحِيَّةِ وَلَوْ كَانَتْ
صُورَةُ الْعَيْنِ قَائِمَةً، وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ إِطْلاَقِ
عِبَارَاتِ الْحَنَفِيَّةِ. فَإِنْ كَانَ بِعَيْنِهَا بَيَاضٌ لاَ
يَمْنَعُهَا النَّظَرَ أَجْزَأَتْ (4) .
__________
(1) حديث: " لا يضحى بالعرجاء بين ضلعها. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 86)
وقال: حديث حسن صحيح.
(2) البناية شرح الهداية 9 / 140، وتبيين الحقائق 6 / 25، والشرح الصغير 2
/ 143، والمجموع 8 / 400، وكشاف القناع 3 / 5، والمغني 8 / 624.
(3) البناية شرح الهداية 9 / 141، والمجموع 8 / 400، وروضة الطالبين 3 /
195، وكشاف القناع 3 / 5.
(4) تبيين الحقائق 6 / 5، حاشية ابن عابدين على الدر المختار 5 / 205،
وحاشية أبي السعود بشرح الكنز 3 / 380، والشرح الصغير 2 / 143، والمجموع 8
/ 400، وروضة الطالبين 3 / 195.
(31/40)
ب - فَسْخُ النِّكَاحِ بِالْعَوَرِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْعَوَرَ لاَ يَثْبُتُ
بِهِ حَقُّ فَسْخِ النِّكَاحِ لأَِحَدِ الزَّوْجَيْنِ مَا لَمْ يَشْتَرِطِ
السَّلاَمَةَ مِنْهُ.
أَمَّا إِذَا اشْتَرَطَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ السَّلاَمَةَ
مِنَ الْعَوَرِ وَنَحْوِهِ حَتَّى وَلَوْ كَانَ شَرْطُ السَّلاَمَةِ
بِوَصْفِ الْوَلِيِّ، أَوْ وَصْفِ غَيْرِهِ بِحَضْرَتِهِ وَسَكَتَ
بِأَنَّهَا صَحِيحَةُ الْعَيْنَيْنِ، فَبَانَ خِلاَفُ ذَلِكَ، فَيَرَى
الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ - وَهُوَ
الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ - أَنَّ لَهُ الْفَسْخَ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَطَ أَحَدُ
الزَّوْجَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ السَّلاَمَةَ مِنَ الْعَوَرِ وَنَحْوِهِ
كَالْعَمَى وَالشَّلَل وَالزَّمَانَةِ فَوُجِدَ بِخِلاَفِ ذَلِكَ لاَ
يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَشْرُوطُ سَلاَمَةَ
الزَّوْجِ فَبَانَ دُونَ الْمَشْرُوطِ، فَلَهَا الْخِيَارُ. وَإِنْ
شُرِطَتِ السَّلاَمَةُ فِي الزَّوْجَةِ فَفِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ
لِلزَّوْجِ قَوْلاَنِ لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الطَّلاَقِ، قَال النَّوَوِيُّ:
الأَْظْهَرُ ثُبُوتُهُ (3) .
__________
(1) الدسوقي 2 / 280، والفواكه الدواني 2 / 67، الفروع 5 / 234 - 235
ومطالب أولي النهى 5 / 149 - 150.
(2) المبسوط للسرخسي 5 / 97.
(3) روضة الطالبين 7 / 185.
(31/40)
ج - إِعْتَاقُ الأَْعْوَرِ فِي
الْكَفَّارَاتِ:
8 - يُجْزِئُ إِعْتَاقُ الأَْعْوَرِ فِي الْكَفَّارَاتِ دُونَ الأَْعْمَى؛
لأَِنَّ الْمَقْصُودَ تَكْمِيل الأَْحْكَامِ وَتَمْلِيكُ الْعَبْدِ
الْمَنَافِعَ وَالْعَوَرُ لاَ يَمْنَعُ ذَلِكَ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ يَضُرُّ
بِالْعَمَل فَأَشْبَهَ قَطْعَ إِحْدَى الأُْذُنَيْنِ (1) .
وَنَقَل أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ قَوْلاً بِعَدَمِ إِجْزَاءِ
الأَْعْوَرِ فِي الْكَفَّارَاتِ؛ لأَِنَّ الْعَوَرَ نَقْصٌ يَمْنَعُ
التَّضْحِيَةَ وَالإِْجْزَاءَ فِي الْهَدْيِ فَأَشْبَهَ الْعَمَى (2) .
د - جِنَايَةُ صَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ عَلَى الأَْعْوَرِ:
9 - لاَ تُؤْخَذُ الْعَيْنُ السَّلِيمَةُ بِالْحَدَقَةِ الْعَمْيَاءِ؛
لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ، بَل تَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ
بِالاِجْتِهَادِ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ الذَّاهِبِ
ضَوْءُهَا حُكُومَةٌ كَالْيَدِ الشَّلاَّءِ، بِهَذَا يَقُول جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ: (أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ
وَابْنُ الْمُنْذِرِ) . (3)
وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 579، والشرح الصغير 2 / 648، وروضة الطالبين 7 /
285، والمغني 7 / 361.
(2) المغني 7 / 361.
(3) البزازية بهامش الفتاوى الهندية 6 / 391، والشرح الصغير 4 / 352، وروضة
الطالبين 9 / 197، وحاشية الجمل 5 / 66، وتفسير القرطبي 6 / 194
(31/41)
أَنَّهُ قَال: فِي عَيْنِ الأَْعْوَرِ
الَّتِي لاَ يُبْصِرُ بِهَا مِائَةَ دِينَارٍ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: فِيهَا ثُلُثُ دِيَتِهَا،
وَبِهِ قَال إِسْحَاقُ، وَقَال مُجَاهِدٌ: فِيهَا نِصْفُ دِيَتِهَا (1) .
وَإِذَا قَلَعَ صَحِيحُ الْعَيْنَيْنِ عَيْنَ الأَْعْوَرِ الْمُبْصِرَةَ
فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ أَنَّ الْمَجْنِيَّ
عَلَيْهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَبَيْنَ أَخْذِ دِيَةٍ كَامِلَةٍ
مِنْ مَال الْجَانِي (2) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - وَهُوَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ
- أَنَّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْقِصَاصَ مِنْ مِثْلِهَا وَيَأْخُذُ
نِصْفَ الدِّيَةِ؛ لأَِنَّهُ ذَهَبَ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ وَأَذْهَبَ
الضَّوْءَ الَّذِي بَدَلُهُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَقَدْ تَعَذَّرَ
اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الضَّوْءِ؛ إِذْ لاَ يُمْكِنُ أَخْذُ عَيْنَيْنِ
بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، وَلاَ أَخْذُ يَمِينٍ بِيُسْرَى، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ
بِبَدَل نِصْفِ الضَّوْءِ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ عَيْنَ الأَْعْوَرِ
السَّلِيمَةَ يَجِبُ فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ (4) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الأَْصَحِّ أَنَّ الْخَطَأَ
__________
(1) تفسير القرطبي 6 / 194.
(2) الشرح الصغير 4 / 356، والمغني 7 / 718، 719.
(3) المغني 7 / 718، 719.
(4) الفتاوى الأنقروية 1 / 174، والفتاوى البزازية بهامش الهندية 6 / 391،
وروضة الطالبين 9 / 272.
(31/41)
وَالْعَمْدَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ (1) .
هـ - جِنَايَةُ الأَْعْوَرِ عَلَى صَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ إِلَى
أَنَّهُ إِذَا فَقَأَ أَعْوَرٌ مِنْ سَالِمٍ مُمَاثِلَتَهُ السَّالِمَةَ
يُقْتَصُّ مِنْهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَهُوَ قَوْل مَسْرُوقٍ
وَابْنِ سِيرِينَ وَابْنِ مَعْقِلٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ
الْعَرَبِيِّ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}
(2) وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي
الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ (3) فَفِي الْعَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ،
وَالْقِصَاصُ مِنْ صَحِيحِ الْعَيْنِ وَالأَْعْوَرِ كَهَيْئَتِهِ بَيْنَ
سَائِرِ النَّاسِ (4) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ تُؤْخَذُ الْعَيْنُ السَّلِيمَةُ
بِالْحَدَقَةِ الْعَمْيَاءِ، وَتُؤْخَذُ الْقَائِمَةُ بِالصَّحِيحَةِ إِذَا
رَضِيَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ (5) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيُخَيِّرُونَ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بَيْنَ
الْقِصَاصِ وَبَيْنَ أَخْذِ الدِّيَةِ كَامِلَةً، بِمَعْنَى أَنَّ
__________
(1) البزازية بهامش الهندية 6 / 391.
(2) سورة المائدة / 45.
(3) حديث: " في العينين الدية ". أخرجه النسائي (8 / 58) من حديث عمرو بن
حزم، وقال ابن حجر في التلخيص (4 / 18) : صححه جماعة من الأئمة.
(4) الفتاوى الهندية 6 / 9 وتفسير القرطبي 6 / 194 والمغني 7 / 717.
(5) روضة الطالبين 9 / 197.
(31/42)
لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَفْقَأَ
عَيْنَ الْجَانِي السَّالِمَةَ فَيُصَيِّرُهُ أَعْمَى أَوْ يَتْرُكَ
الْقِصَاصَ وَيَأْخُذَ مِنَ الْجَانِي دِيَةَ مَا تَرَكَهُ (1) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ إِذَا قَلَعَ الأَْعْوَرُ عَيْنَ
الصَّحِيحِ فَلاَ قَوَدَ وَعَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ
عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَبِهِ قَال سَعِيدُ
بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٌ (2) .
وَإِنْ فَقَأَ الأَْعْوَرُ مِنَ السَّالِمِ غَيْرَ الْمُمَاثِلَةِ
لِعَيْنِهِ السَّلِيمَةِ بِأَنْ فَقَأَ مِنَ السَّالِمِ مُمَاثِلَةَ
الْعَوْرَاءِ فَتَلْزَمُ الْجَانِيَ نِصْفُ دِيَةٍ فَقَطْ وَلَيْسَ
لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ لِعَدَمِ الْمَحَل الْمُمَاثِل،
بِهَذَا قَال الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ
الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ الْيُمْنَى
بَيْضَاءَ فَأَذْهَبَ الْعَيْنَ الْيُمْنَى مِنْ رَجُلٍ آخَرَ
فَالْمَفْقُوءَةُ يُمْنَاهُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَ عَيْنَهُ
النَّاقِصَةَ إِذَا كَانَ يُسْتَطَاعُ فِيهَا الْقِصَاصُ بِأَنْ يُبْصِرَ
شَيْئًا قَلِيلاً وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ عَيْنِهِ (3) .
وَإِنْ فَقَأَ الأَْعْوَرُ عَيْنَيِ السَّالِمِ عَمْدًا بِالْقَوَدِ حَقُّ
الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِأَنْ يَفْقَأَ الْمُمَاثِلَةَ مِنَ الْجَانِي
فَيُصَيِّرُهُ أَعْمَى لِبَقَاءِ سَالِمَتِهِ، وَنِصْفُ الدِّيَةِ
يَأْخُذُهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنَ
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 357، وتفسير القرطبي 6 / 194.
(2) المغني 7 / 717، وتفسير القرطبي 6 / 194.
(3) الفتاوى الهندية 6 / 9 - 10، والشرح الصغير 4 / 357.
(31/42)
الْجَانِي بَدَل مَا لَيْسَ لَهَا
مُمَاثِلُهُ، وَلَمْ يُخَيَّرْ سَالِمُ الْعَيْنَيْنِ فِي الْمُمَاثِلَةِ
بِحَيْثُ يَكُونُ لَهُ الْقِصَاصُ أَوْ أَخْذُ الدِّيَةِ لِئَلاَّ يَلْزَمَ
عَلَيْهِ أَخْذُ دِيَةٍ وَنِصْفٍ، وَهُوَ خِلاَفُ مَا وَرَدَ عَنِ
الشَّارِعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِهَذَا يَقُول
الْمَالِكِيَّةُ (1) .
وَيَرَى الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ
مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَلاَ شَيْءَ لَهُ سِوَى ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ
قَدْ أَخَذَ جَمِيعَ بَصَرِهِ، فَإِنِ اخْتَارَ الدِّيَةَ فَلَهُ دِيَةٌ
وَاحِدَةٌ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي
الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ وَلأَِنَّهُ لَمْ يَتَعَذَّرِ الْقِصَاصُ فَلَمْ
تَتَضَاعَفِ الدِّيَةُ كَمَا لَوْ قَطَعَ الأَْشَل يَدَ صَحِيحٍ أَوْ كَانَ
رَأْسُ الشَّاجِّ أَصْغَرَ أَوْ يَدُ الْقَاطِعِ أَنْقَصَ (2) .
و جِنَايَةُ الأَْعْوَرِ عَلَى الأَْعْوَرِ:
11 - لَوْ قَلَعَ الأَْعْوَرُ الْعَيْنَ السَّلِيمَةَ لِمِثْلِهِ فَفِيهِ
الْقِصَاصُ لِتَسَاوِيهِمَا مِنْ كُل وَجْهٍ إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ مِثْل
الْعَيْنِ فِي كَوْنِهَا يَمِينًا أَوْ يَسَارًا، وَإِنْ عَفَا إِلَى
الدِّيَةِ فَلَهُ جَمِيعُهَا (3) .
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 357.
(2) المغني 7 / 718.
(3) المغني 7 / 718.
(31/43)
عَوْرَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَوْرَةُ فِي اللُّغَةِ: الْخَلَل فِي الثَّغْرِ وَفِي الْحَرْبِ،
وَقَدْ يُوصَفُ بِهِ مُنَكَّرًا، فَيَكُونُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ
بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. وَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ
مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ
بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا} (1) فَهُنَا وَرَدَ الْوَصْفُ
مُفْرَدًا وَالْمَوْصُوفُ جَمْعًا (2) .
وَتُطْلَقُ عَلَى السَّاعَةِ الَّتِي تَظْهَرُ فِيهَا الْعَوْرَةُ عَادَةً
لِلُّجُوءِ فِيهَا إِلَى الرَّاحَةِ وَالاِنْكِشَافِ، وَهِيَ سَاعَةٌ قَبْل
الْفَجْرِ، وَسَاعَةٌ عِنْدَ مُنْتَصَفِ النَّهَارِ، وَسَاعَةٌ بَعْدَ
الْعِشَاءِ الآْخِرِ، وَفِي التَّنْزِيل قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ
قَبْل صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ
وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ
__________
(1) سورة الأحزاب / 13.
(2) لسان العرب.
(31/43)
عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ
بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآْيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1) وَكُل
شَيْءٍ يَسْتُرُهُ الإِْنْسَانُ أَنَفَةً وَحَيَاءً فَهُوَ عَوْرَةٌ (2) .
وَهِيَ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يَحْرُمُ كَشْفُهُ مِنَ الْجِسْمِ سَوَاءٌ
مِنَ الرَّجُل أَوِ الْمَرْأَةِ، أَوْ هِيَ مَا يَجِبُ سِتْرُهُ وَعَدَمُ
إِظْهَارِهِ مِنَ الْجِسْمِ، وَحَدُّهَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْجِنْسِ
وَبِاخْتِلاَفِ الْعُمْرِ، كَمَا يَخْتَلِفُ مِنَ الْمَرْأَةِ
بِالنِّسْبَةِ لِلْمَحْرَمِ وَغَيْرِ الْمَحْرَمِ (3) عَلَى التَّفْصِيل
الَّذِي يَأْتِي، وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: هِيَ مَا يَحْرُمُ
النَّظَرُ إِلَيْهِ (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السِّتْرُ:
2 - السِّتْرُ لُغَةً: مَا يُسْتَرُ بِهِ، وَالسُّتْرَةُ بِالضَّمِّ
مِثْلُهُ، وَيُقَال لِمَا يَنْصِبُهُ الْمُصَلِّي قُدَّامَهُ عَلاَمَةً
لِمُصَلاَّهُ مِنْ عَصًا وَغَيْرِهَا سُتْرَةٌ؛ لأَِنَّهُ يَسْتُرُ
الْمَارَّ مِنَ الْمُرُورِ أَيْ يَحْجُبُهُ (5) ،
__________
(1) سورة النور / 58، وينظر تفسير القرطبي 12 / 305.
(2) المصباح المنير.
(3) الشرح الصغير 1 / 283، المطبوع بدار المعارف بمصر.
(4) مغني المحتاج 1 / 185.
(5) المصباح المنير، مادة (ستر) .
(31/44)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْعَوْرَةِ
وَالسِّتْرِ أَنَّ السِّتْرَ مَطْلُوبٌ لِتَغْطِيَةِ الْعَوْرَةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَوْرَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْعَوْرَةِ أَحْكَامٌ ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي مَوَاطِنَ
مِنْهَا:
عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل الأَْجْنَبِيِّ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ جِسْمَ الْمَرْأَةِ كُلَّهُ
عَوْرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل الأَْجْنَبِيِّ عَدَا الْوَجْهَ
وَالْكَفَّيْنِ؛ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ تَحْتَاجُ إِلَى الْمُعَامَلَةِ مَعَ
الرِّجَال وَإِلَى الأَْخْذِ وَالْعَطَاءِ (1) لَكِنْ جَوَازُ كَشْفِ
ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِأَمْنِ الْفِتْنَةِ.
وَوَرَدَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْل بِجَوَازِ إِظْهَارِ قَدَمَيْهَا؛
لأَِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَهَى عَنْ إِبْدَاءِ الزِّينَةِ
وَاسْتَثْنَى مَا ظَهَرَ مِنْهَا. وَالْقَدَمَانِ ظَاهِرَتَانِ (2) ،
وَيَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ ظَهْرَ الْكَفِّ عَوْرَةٌ؛ لأَِنَّ
الْكَفَّ عُرْفًا وَاسْتِعْمَالاً لاَ يَشْمَل ظَهْرَهُ (3) .
__________
(1) تكملة فتح القدير مع الهداية 8 / 97، وتبيين الحقائق 1 / 96، 97،
والشرح الصغير 1 / 289، ومغني المحتاج 3 / 125، والمجموع 3 / 173 ط الإمام
بمصر.
(2) بدائع الصنائع 6 / 2956، طبع مطبعة الإمام.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 405 الطبعة الثانية.
(31/44)
وَوَرَدَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْقَوْل
بِجَوَازِ إِظْهَارِ ذِرَاعَيْهَا أَيْضًا لأَِنَّهُمَا يَبْدُوَانِ
مِنْهَا عَادَةً (1) .
وَجَازَ كَشْفُ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَالنَّظَرُ إِلَيْهِمَا بِدَلِيل
قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ
مِنْهَا} (2) أَيْ مَوَاضِعَهَا، فَالْكُحْل زِينَةُ الْوَجْهِ،
وَالْخَاتَمُ زِينَةُ الْكَفِّ (3) ، بِدَلِيل مَا رُوِيَ أَنَّ أَسْمَاءَ
بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، دَخَلَتْ عَلَى
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ
رِقَاقٌ فَأَعْرَضَ عَنْهَا، وَقَال: يَا أَسْمَاءُ إِنَّ الْمَرْأَةَ
إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلاَّ هَذَا
وَهَذَا، وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ (4)
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ (5) فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَدْرِ
الْمُسْتَثْنَى فَقَال ابْنُ مَسْعُودٍ: ظَاهِرُ الزِّينَةِ هُوَ
الثِّيَابُ، وَزَادَ ابْنُ جُبَيْرٍ الْوَجْهَ. وَقَال
__________
(1) حاشية الشلبي بهامش تبيين الحقائق 1 / 96.
(2) سورة النور / 31.
(3) بدائع الصنائع 6 / 2956.
(4) حديث: " أن " أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه
وسلم. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 358) من حديث عائشة، وقال: هذا حديث
مرسل، خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها.
(5) تفسير القرطبي 12 / 228 - 232، الطبعة الثالثة.
(31/45)
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا وَعَطَاءٌ
وَالأَْوْزَاعِيُّ: الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ وَالثِّيَابُ، وَقَال ابْنُ
عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: ظَاهِرُ الزِّينَةِ
هُوَ الْكُحْل وَالسِّوَارُ وَالْخِضَابُ إِلَى نِصْفِ الذِّرَاعِ
وَالْقُرْطُ وَالْفَتْخُ.
وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا عَرَكَتِ الْمَرْأَةُ لَمْ يَحِل لَهَا أَنْ
تُظْهِرَ إِلاَّ وَجْهَهَا، وَإِلاَّ مَا دُونَ هَذَا، وَقَبَضَ عَلَى
ذِرَاعِ نَفْسِهِ، فَتَرَكَ بَيْنَ قَبْضَتِهِ وَبَيْنَ الْكَفِّ مِثْل
قَبْضَةٍ أُخْرَى (1)
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَشَرْطُ السَّاتِرِ مَنْعُ إِدْرَاكِ
لَوْنِ الْبَشَرَةِ لاَ حَجْمِهَا، فَلاَ يَكْفِي ثَوْبٌ رَقِيقٌ وَلاَ
مُهَلْهَلٌ لاَ يَمْنَعُ إِدْرَاكَ اللَّوْنِ (2) .
وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ كُل شَيْءٍ مِنَ
الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْجْنَبِيِّ عَنْهَا حَتَّى
ظُفْرَهَا (3) ، وَرُوِيَ عَنْ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ
مَنْ يُبِينُ زَوْجَتَهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَأْكُل مَعَهَا لأَِنَّهُ مَعَ
الأَْكْل يَرَى كَفَّهَا، وَقَال الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَحْرُمُ
نَظَرُ
__________
(1) حديث: " إذا عركت المرأة. . . ". أخرجه الطبري في تفسيره (18 / 119 ط
مصطفى الحلبي) من حديث ابن جريج مرسلاً.
(2) مغني المحتاج 1 / 185.
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية 22 / 110.
(31/45)
الأَْجْنَبِيِّ إِلَى الأَْجْنَبِيَّةِ مَا
عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ، وَيُبَاحُ لَهُ النَّظَرُ إِلَى هَذَيْنِ
الْعُضْوَيْنِ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ (1) . وَمِمَّا
يُحْتَجُّ بِهِ لِلْحُرْمَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهُ: يَا
عَلِيُّ لاَ تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الأُْولَى،
وَلَيْسَتْ لَكَ الآْخِرَةُ (2) وَمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الْفَضْل بْنَ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ رَدِيفَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَجِّ فَجَاءَتْهُ الْخَثْعَمِيَّةُ
تَسْتَفْتِيهِ، فَأَخَذَ الْفَضْل يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ هِيَ
إِلَيْهِ، فَصَرَفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَجْهَ الْفَضْل
عَنْهَا (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْعَجُوزُ الَّتِي لاَ يُشْتَهَى مِثْلُهَا لاَ
بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَظْهَرُ مِنْهَا غَالِبًا (4) ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ
نِكَاحًا} (5) وَفِي مَعْنَى الْعَجُوزِ الشَّوْهَاءُ الَّتِي لاَ
تُشْتَهَى،
__________
(1) المغني 7 / 102.
(2) حديث: " يا علي لا تتبع النظرة النظرة. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 101)
وقال: حديث حسن غريب.
(3) حديث: " إن الفضل بن عباس كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم. . .
". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 378) ، ومسلم (2 / 973) من حديث ابن
عباس.
(4) المغني 7 / 102.
(&# x665 ;) سورة النور /
60.
(31/46)
وَمَنْ ذَهَبَتْ شَهْوَتُهُ مِنَ الرِّجَال
لِكِبَرٍ أَوْ عُنَّةٍ أَوْ مَرَضٍ لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ وَالْخَصِيُّ
وَالشَّيْخُ وَالْمُخَنَّثُ الَّذِي لاَ شَهْوَةَ لَهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ
ذَوِي الْمَحَارِمِ فِي النَّظَرِ (1) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوِ
التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ} . (2)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حُكْمُهُ حُكْمُ الأَْجْنَبِيِّ، إِذْ يَحْرُمُ
عَلَيْهِ النَّظَرُ حَتَّى إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ عِنْدَ خَوْفِ
الْفِتْنَةِ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: ظُهُورُ الْمَرْأَةِ
بِالزِّينَةِ لِلصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ عَلَى عَوْرَاتِ
النِّسَاءِ، وَالَّذِي لاَ يَعْرِفُ الْعَوْرَةَ مِنْ غَيْرِ الْعَوْرَةِ
لاَ بَأْسَ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوِ الطِّفْل الَّذِينَ لَمْ
يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} (4) ، وَأَمَّا الَّذِي يَعْرِفُ
التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا وَقَارَبَ الْحُلُمَ فَلاَ
يَجُوزُ لَهَا إِبْدَاءُ زِينَتِهَا لَهُ (5) .
وَقَال الْفُقَهَاءُ: مَنْ أَرَادَ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ فَلَهُ أَنْ
يَنْظُرَ إِلَيْهَا سَوَاءٌ أَذِنَتْ هِيَ أَوْ وَلِيُّهَا بِهِ أَمْ لَمْ
يَأْذَنَا بِهِ (6) ، لأَِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) المغني 7 / 102، 104.
(2) سورة النور / 31.
(3) مغني المحتاج 3 / 128.
(4) سورة النور / 31.
(5) بدائع الصنائع 6 / 2958، 2959، ومغني المحتاج 3 / 128.
(6) الهداية مع تكملة فتح القدير والعناية 8 / 99، ومغني المحتاج 3 / 128.
(31/46)
قَال لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ حِينَمَا خَطَبَ امْرَأَةً: انْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ
أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا (1)
وَلِلْمَرْأَةِ أَيْضًا النَّظَرُ إِلَى مَا هُوَ غَيْرُ عَوْرَةٍ مِنَ
الرَّجُل إِنْ أَرَادَتْ الاِقْتِرَانَ بِهِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (خِطْبَة ف 26، 29)
أَمَّا صَوْتُ الْمَرْأَةِ فَلَيْسَ بِعَوْرَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَيَجُوزُ الاِسْتِمَاعُ إِلَيْهِ عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ (3) ،
وَقَالُوا: وَنُدِبَ تَشْوِيهُهُ إِذَا قُرِعَ بَابُهَا فَلاَ تُجِيبُ
بِصَوْتٍ رَخِيمٍ.
عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْجْنَبِيَّةِ
الْكَافِرَةِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ
الأَْجْنَبِيَّةَ الْكَافِرَةَ كَالرَّجُل الأَْجْنَبِيِّ بِالنِّسْبَةِ
لِلْمُسْلِمَةِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى بَدَنِهَا، وَلَيْسَ
لِلْمُسْلِمَةِ أَنْ تَتَجَرَّدَ بَيْنَ يَدَيْهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ
أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ
بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ
__________
(1) حديث: " انظر إليها، فإنه أحرى. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 388) وقال:
حديث حسن.
(2) مغني المحتاج 3 / 128.
(3) مغني المحتاج 3 / 129.
(31/47)
أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي
أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ} (1) أَيِ النِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ
فَلَوْ جَازَ نَظَرُ الْمَرْأَةِ الْكَافِرَةِ لَمَا بَقِيَ لِلتَّخْصِيصِ
فَائِدَةٌ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الأَْمْرُ
بِمَنْعِ الْكِتَابِيَّاتِ مِنْ دُخُول الْحَمَّامِ مَعَ الْمُسْلِمَاتِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَرَى
الْكَافِرَةُ مِنَ الْمُسْلِمَةِ مَا يَبْدُو مِنْهَا عِنْدَ الْمِهْنَةِ،
وَفِي رَأْيٍ آخَرَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَرَى مِنْهَا مَا
تَرَاهُ الْمُسْلِمَةُ مِنْهَا وَذَلِكَ لاِتِّحَادِ الْجِنْسِ كَالرِّجَال
(2) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ
الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ وَلاَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي
النَّظَرِ، وَقَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: لاَ تَنْظُرُ
الْكَافِرَةُ إِلَى الْفَرْجِ مِنَ الْمُسْلِمَةِ وَلاَ تَكُونُ قَابِلَةً
لَهَا. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّ الْمُسْلِمَةَ لاَ تَكْشِفُ
قِنَاعَهَا عِنْدَ الذِّمِّيَّةِ وَلاَ تَدْخُل مَعَهَا الْحَمَّامَ (3) .
عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ عَوْرَةَ الْمَرْأَةِ بِالنِّسْبَةِ
لِلْمَرْأَةِ هِيَ كَعَوْرَةِ الرَّجُل إِلَى
__________
(1) سورة النور / 31.
(2) مغني المحتاج 3 / 131 وما بعدها.
(3) المغني 7 / 105، 106.
(31/47)
الرَّجُل، أَيْ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ
وَالرُّكْبَةِ، وَلِذَا يَجُوزُ لَهَا النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهَا
عَدَا مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ، وَذَلِكَ لِوُجُودِ
الْمُجَانَسَةِ وَانْعِدَامِ الشَّهْوَةِ غَالِبًا، وَلَكِنْ يَحْرُمُ
ذَلِكَ مَعَ الشَّهْوَةِ وَخَوْفِ الْفِتْنَةِ (1) .
عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَحَارِمِ:
6 - الْمُرَادُ بِمَحْرَمِ الْمَرْأَةِ مَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا
عَلَى وَجْهِ التَّأْبِيدِ لِنَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ (مُصَاهَرَةٍ) أَوْ
رَضَاعٍ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ: إِنَّ عَوْرَةَ
الْمَرْأَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى رَجُلٍ مَحْرَمٍ لَهَا هِيَ غَيْرُ
الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، فَيَحْرُمُ
عَلَيْهَا كَشْفُ صَدْرِهَا وَثَدْيَيْهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ عِنْدَهُ،
وَيَحْرُمُ عَلَى مَحَارِمِهَا كَأَبِيهَا رُؤْيَةُ هَذِهِ الأَْعْضَاءِ
مِنْهَا وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ وَتَلَذُّذٍ (2) .
وَذَكَرَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ حُكْمَ الرَّجُل مَعَ
ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ هُوَ كَحُكْمِ الرَّجُل مَعَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ
مَعَ الْمَرْأَةِ (3) .
وَعَوْرَةُ الْمَرْأَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ هُوَ مَحْرَمٌ لَهَا
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2961، تبيين الحقائق 6 / 18، الشرح الصغير 1 / 288،
مواهب الجليل 1 / 498، 499، طبع مطبعة النجاح - ليبيا، مغني المحتاج 3 /
13، المغني 7 / 105.
(2) أقرب مسالك مع الشرح الصغير 1 / 106.
(3) المغني 7 / 98.
(31/48)
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ مَا بَيْنَ
سُرَّتِهَا إِلَى رُكْبَتِهَا، وَكَذَا ظَهْرُهَا وَبَطْنُهَا (1) ، أَيْ
يَحِل لِمَنْ هُوَ مَحْرَمٌ لَهَا النَّظَرُ إِلَى مَا عَدَا هَذِهِ
الأَْعْضَاءَ مِنْهَا عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ وَخُلُوِّ نَظَرِهِ مِنَ
الشَّهْوَةِ، وَالأَْصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} (2) وَالْمُرَادُ
بِالزِّينَةِ مَوَاضِعُهَا لاَ الزِّينَةُ نَفْسُهَا لأَِنَّ النَّظَرَ
إِلَى أَصْل الزِّينَةِ مُبَاحٌ مُطْلَقًا، فَالرَّأْسُ مَوْضِعُ التَّاجِ،
وَالْوَجْهُ مَوْضِعُ الْكُحْل، وَالْعُنُقُ وَالصَّدْرُ مَوْضِعَا
الْقِلاَدَةِ وَالأُْذُنُ مَوْضِعُ الْقُرْطِ، وَالْعَضُدُ مَوْضِعُ
الدُّمْلُوجِ، وَالسَّاعِدُ مَوْضِعُ السِّوَارِ، وَالْكَفُّ مَوْضِعُ
الْخَاتَمِ، وَالسَّاقُ مَوْضِعُ الْخَلْخَال، وَالْقَدَمُ مَوْضِعُ
الْخِضَابِ، بِخِلاَفِ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَالْفَخِذِ؛ لأَِنَّهَا
لَيْسَتْ بِمَوْضِعٍ لِلزِّينَةِ (3) ؛ وَلأَِنَّ الاِخْتِلاَطَ بَيْنَ
الْمَحَارِمِ أَمْرٌ شَائِعٌ وَلاَ يُمْكِنُ مَعَهُ صِيَانَةُ مَوَاضِعِ
الزِّينَةِ عَنِ الإِْظْهَارِ وَالْكَشْفِ.
وَكُل مَا جَازَ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنْهُنَّ دُونَ حَائِلٍ جَازَ
لَمْسُهُ عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ وَإِلاَّ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ
الأَْمْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَلْوَةِ بِإِحْدَاهُنَّ
__________
(1) الهداية مع تكملة فتح القدير 8 / 103، 104، تبيين الحقائق 6 / 19.
(2) سورة النور / 31.
(3) تبيين الحقائق 6 / 19.
(31/48)
مُنْفَرِدَيْنِ تَحْتَ سَقْفٍ وَاحِدٍ (1)
، فَالرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّل فَاطِمَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (2) .
وَلَمْ يَجُزْ لِلرَّجُل النَّظَرُ إِلَى ظَهْرِ أَوْ بَطْنِ أَوْ فَخِذِ
مَنْ هِيَ مَحْرَمٌ لَهُ فَضْلاً عَنْ حُرْمَةِ النَّظَرِ إِلَى مَا بَيْنَ
سُرَّتِهَا وَرُكْبَتِهَا، كَمَا لَمْ يَحِل لَمْسُ أَيٍّ مِنْ هَذِهِ
الأَْعْضَاءِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا
مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (3) ؛ وَلأَِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَل
الظِّهَارَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْل وَزُورًا، وَهُوَ - أَيِ الظِّهَارُ -
تَشْبِيهُ الزَّوْجَةِ بِظَهْرِ الأُْمِّ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ، وَلَوْ
لَمْ يَكُنِ النَّظَرُ إِلَى ظَهْرِ الأُْمِّ وَبَطْنِهَا أَوْ لَمْسُهَا
حَرَامًا لَمْ يَكُنِ الظِّهَارُ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْل وَزُورًا.
وَكُل مَا يَحِل لِلرَّجُل مِنَ النَّظَرِ وَاللَّمْسِ مِنْ ذَوَاتِ
مَحَارِمِهِ يَحِل مِثْلُهُ لَهَا بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ هُوَ مَحْرَمٌ
لَهَا، وَكُل مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ يَحْرُمُ عَلَيْهَا (4) .
وَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ جَوَازَ نَظَرِ الرَّجُل إِلَى مَا عَدَّا مَا
بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ مِنْ مَحَارِمِهِ مِنَ النِّسَاءِ مِنْ
نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ صَحِيحَةٍ، وَقِيل: يَحِل لَهُ
النَّظَرُ فَقَطْ إِلَى
__________
(1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 6 / 367.
(2) حديث: " كان يقبل فاطمة. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 700) من حديث عائشة
وحسنه.
(3) سورة النور / 30.
(4) بدائع الصنائع 6 / 2952، 2954.
(31/49)
مَا يَظْهَرُ مِنْهَا عَادَةً فِي الْعَمَل
دَاخِل الْبَيْتِ، أَيْ إِلَى الرَّأْسِ وَالْعُنُقِ وَالْيَدِ إِلَى
الْمِرْفَقِ وَالرِّجْل إِلَى الرُّكْبَةِ.
وَهُمْ يُقَرِّرُونَ هَذَيْنِ الاِتِّجَاهَيْنِ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ
لِنَظَرِهَا إِلَى مَنْ هُوَ مَحْرَمٌ لَهَا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْكَافِرُ مَحْرَمٌ لِقَرِيبَتِهِ الْمُسْلِمَةِ؛
لأَِنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَتَى الْمَدِينَةَ وَهُوَ مُشْرِكٌ فَدَخَل عَلَى
ابْنَتِهِ أُمِّ حَبِيبَةَ فَطَوَتْ فِرَاشَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِئَلاَّ يَجْلِسَ عَلَيْهِ، وَلَمْ تَحْتَجِبْ مِنْهُ
وَلاَ أَمَرَهَا بِذَلِكَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2)
.
عَوْرَةُ الأَْمَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل الأَْجْنَبِيِّ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَوْرَةِ الأَْمَةِ بِالنِّسْبَةِ
لِلرَّجُل الأَْجْنَبِيِّ.
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ
عَوْرَتَهَا هِيَ مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا وَرُكْبَتِهَا.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: عَوْرَتُهَا مِثْل عَوْرَةِ الْحُرَّةِ
بِالنِّسْبَةِ لِمَحَارِمِهَا.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ عَوْرَتَهَا كَعَوْرَةِ الْحُرَّةِ لاَ
يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا إِلاَّ مَا يَجُوزُ النَّظَرُ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 129.
(2) المغني 7 / 105، 106.
(31/49)
إِلَيْهِ مِنَ الْحُرَّةِ (1) .
عَوْرَةُ الرَّجُل بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل:
8 - عَوْرَةُ الرَّجُل بِالنِّسْبَةِ إِلَى رَجُلٍ آخَرَ - سَوَاءٌ كَانَ
قَرِيبًا لَهُ أَوْ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ - هِيَ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ إِلَى
رُكْبَتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) ، وَيَسْتَدِلُّونَ بِمَا رُوِيَ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَا
تَحْتَ السُّرَّةِ عَوْرَةٌ (3) وَالسُّرَّةُ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ
بِعَوْرَةٍ اسْتِدْلاَلاً بِمَا رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَبْدَى سُرَّتَهُ فَقَبَّلَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَكِنَّ الرُّكْبَةَ عَوْرَةٌ عِنْدَهُمْ (4) ،
بِدَلِيل مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَال: الرُّكْبَةُ مِنَ الْعَوْرَةِ. (5)
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2904، 2955، والخرشي 2 / 131، 132، ومغني المحتاج 3
/ 129، والمغني لابن قدامة 7 / 101.
(2) بدائع الصنائع 6 / 2960.
(3) حديث: " ما تحت السرة عورة ". ورد بلفظ " ما تحت السرة إلى الركبة عورة
". أخرجه الدارقطني (1 / 23) من حديث عبد الله بن عمرو، وأخرجه كذلك أحمد
(2 / 187) وصححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه عليه.
(4) الهداية مع تكملة فتح القدير 8 / 105، وتبيين الحقائق 6 / 18.
(5) حديث: " الركبة من العورة ". أخرجه الدارقطني (1 / 231) من حديث علي بن
أبي طالب، ثم ذكر تضعيف أحد رواته.
(31/50)
وَمَا جَازَ نَظَرُهُ مِنَ الرَّجُل
بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل جَازَ لَمْسُهُ (1) .
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ يَرَوْنَ أَنَّ
الرُّكْبَةَ وَالسُّرَّةَ لَيْسَتَا مِنَ الْعَوْرَةِ فِي الرَّجُل،
وَإِنَّمَا الْعَوْرَةُ مَا بَيْنَهُمَا فَقَطْ (2) .
لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا فَوْقَ
الرُّكْبَتَيْنِ مِنَ الْعَوْرَةِ، وَمَا أَسْفَل السُّرَّةِ وَفَوْقَ
الرُّكْبَتَيْنِ مِنَ الْعَوْرَةِ. (3)
وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا الْفَرْجَانِ
(4) اسْتِدْلاَلاً بِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسِرَ يَوْمَ خَيْبَرَ
الإِْزَارُ عَنْ فَخِذِهِ حَتَّى أَنِّي لأََنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ فَخِذِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. (5)
وَجَوَازُ نَظَرِ الرَّجُل مِنَ الرَّجُل إِلَى مَا هُوَ غَيْرُ عَوْرَةٍ
مِنْهُ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ وُجُودِ الشَّهْوَةِ وَإِلاَّ حَرُمَ (6) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2961.
(2) مغني المحتاج 3 / 129.
(3) حديث: " ما فوق الركبتين من العورة ". أخرجه الدارقطني (1 / 231) وضعف
إسناده ابن حجر في التلخيص (1 / 279) .
(4) المغني 1 / 413، 414.
(5) حديث: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حسر يوم خيبر الإزار عن فخذه.
. . ". أخرجه مسلم (2 / 1044) .
(6) مغني المحتاج 3 / 130.
(31/50)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ
عِنْدَهُمْ أَنَّ عَوْرَةَ الرَّجُل بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل مَا بَيْنَ
السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ لاَ
يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهَا فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَقِيل: لاَ
يَحْرُمُ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ، وَقِيل: يُكْرَهُ عِنْدَ مَنْ يُسْتَحْيَى
مِنْهُ (1) ، بِدَلِيل أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَشَفَ فَخِذَهُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَلَمَّا دَخَل عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَتَرَهُ وَقَال: أَلاَ
أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلاَئِكَةُ (2)
عَوْرَةُ الرَّجُل بِالنِّسْبَةِ لِلأَْجْنَبِيَّةِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَوْرَةِ الرَّجُل بِالنِّسْبَةِ
لِلأَْجْنَبِيَّةِ.
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ لَهَا النَّظَرَ إِلَى مَا عَدَا مَا بَيْنَ
السُّرَّةِ إِلَى الرُّكْبَةِ إِنْ أَمِنَتْ عَلَى نَفْسِهَا الْفِتْنَةَ
(3) .
وَالْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ لَهَا النَّظَرَ إِلَى مَا يَرَاهُ
الرَّجُل مِنْ مَحْرَمِهِ وَهُوَ الْوَجْهُ وَالأَْطْرَافُ عِنْدَ أَمْنِ
الْفِتْنَةِ (4) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلاَ يُجِيزُونَ لَهَا النَّظَرَ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 388.
(2) حديث: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كشف فخذه. . . ". أخرجه مسلم
(4 / 1866) من حديث عائشة.
(3) بدائع الصنائع 6 / 2957.
(4) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 215، المطبوع بدار الكتب العربية.
(31/51)
إِلَى مَا هُوَ عَوْرَةٌ وَإِلَى مَا هُوَ
غَيْرُ عَوْرَةٍ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ (1) ، بِدَلِيل عُمُومِ آيَةِ:
{وَقُل لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} (2) وَبِدَلِيل
مَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كُنْتُ عِنْدَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ مَيْمُونَةُ،
فَأَقْبَل ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أُمِرْنَا
بِالْحِجَابِ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْتَجِبَا مِنْهُ
فَقُلْنَا: يَا رَسُول اللَّهِ أَلَيْسَ أَعْمَى لاَ يُبْصِرُنَا وَلاَ
يَعْرِفُنَا؟ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا، أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ. (3)
وَالْقَوْل الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُجِيزُ نَظَرَ الْمَرْأَةِ
إِلَى مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ مِنَ الأَْجْنَبِيِّ (4) ، لِحَدِيثِ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى
الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ. (5)
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 132.
(2) سورة النور / 31.
(3) حديث أم سلمة: " كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده
ميمونة. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 361 - 362) ، وقال ابن حجر في فتح
الباري (1 / 550) : حديث مختلف في صحته.
(4) المغني 7 / 106.
(5) حديث عائشة: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه. .
. ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 336) ، ومسلم (2 / 609) .
(31/51)
عَوْرَةُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ:
10 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنْ لاَ عَوْرَةَ لِلصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ
جِدًّا، وَحَدَّدَ بَعْضُهُمْ هَذَا الصِّغَرَ بِأَرْبَعِ سَنَوَاتٍ فَمَا
دُونَهَا، ثُمَّ إِلَى عَشْرِ سِنِينَ يُعْتَبَرُ فِي عَوْرَتِهِ مَا
غَلُظَ مِنَ الْكَبِيرِ، وَتَكُونُ عَوْرَتُهُ بَعْدَ الْعَشْرِ كَعَوْرَةِ
الْبَالِغِينَ، وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ يَنْبَغِي اعْتِبَارُ
السَّبْعِ، لأَِمْرِهِمَا بِالصَّلاَةِ إِذَا بَلَغَا هَذِهِ السِّنَّ (1)
.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الصَّغِيرَ ابْنَ ثَمَانِ سَنَوَاتٍ فَأَقَل
لاَ عَوْرَةَ لَهُ، فَلِلْمَرْأَةِ النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ
حَيًّا وَأَنْ تُغَسِّلَهُ مَيِّتًا، وَلَهَا النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ
بَدَنِ مَنْ هُوَ بَيْنَ التَّاسِعَةِ وَالثَّانِيَةَ عَشْرَةَ وَلَكِنْ
لَيْسَ لَهَا غُسْلُهُ، وَالْبَالِغُ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً فَمَا فَوْقَ
عَوْرَتُهُ كَعَوْرَةِ الرَّجُل.
أَمَّا الصَّغِيرَةُ فَهِيَ إِلَى سِنِّ السَّنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةِ
أَشْهُرٍ فَلاَ عَوْرَةَ لَهَا إِذَا كَانَتْ رَضِيعَةً، وَأَمَّا غَيْرُ
الرَّضِيعَةِ إِنْ كَانَتْ لَمْ تَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ فَلاَ عَوْرَةَ
لَهَا بِالنِّسْبَةِ لِلنَّظَرِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَسِّ
فَعَوْرَتُهَا كَعَوْرَةِ الْمَرْأَةِ فَلَيْسَ لِلرَّجُل أَنْ
يُغَسِّلَهَا، أَمَّا الْمُشْتَهَاةُ فَعَوْرَتُهَا كَعَوْرَةِ الْمَرْأَةِ
بِالنِّسْبَةِ لِلنَّظَرِ وَالتَّغْسِيل.
وَعَوْرَةُ الصَّغِيرِ فِي الصَّلاَةِ السَّوْأَتَانِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 407، 408.
(31/52)
وَالْعَانَةُ وَالأَْلْيَتَانِ، فَيُنْدَبُ
لَهُ سَتْرُهَا، أَمَّا عَوْرَةُ الصَّغِيرَةِ فَهِيَ بَيْنَ السُّرَّةِ
وَالرُّكْبَةِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ سَتْرُهُ عَلَى
الْحُرَّةِ فَمَنْدُوبٌ لَهَا فَقَطْ (1) .
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حِل النَّظَرِ إِلَى صَغِيرَةٍ لاَ
تُشْتَهَى؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مَظِنَّةَ الشَّهْوَةِ، إِلاَّ الْفَرْجُ
فَلاَ يَحِل النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَفَرْجُ الصَّغِيرِ كَفَرْجِ
الصَّغِيرَةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَاسْتَثْنَى ابْنُ الْقَطَّانِ
الأُْمَّ زَمَنَ الرَّضَاعِ وَالتَّرْبِيَةِ لِلضَّرُورَةِ، وَيَنْبَغِي
أَنْ تَكُونَ الْمُرْضِعَةُ غَيْرَ الأُْمِّ كَالأُْمِّ
وَالأَْصَحُّ أَنَّ الصَّبِيَّ الْمُرَاهِقَ فِي نَظَرِهِ
لِلأَْجْنَبِيَّةِ كَالرَّجُل الْبَالِغِ الأَْجْنَبِيِّ، فَلاَ يَجُوزُ
لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَبْرُزَ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوِ الطِّفْل
الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} (2) ، وَمُقَابِل
الأَْصَحِّ أَنَّهُ مَعَهَا كَالْبَالِغِ مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهَا،
وَأَمَّا غَيْرُ الْمُرَاهِقِ فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ حَدًّا يَحْكِي مَا
يَرَاهُ فَكَالْعَدِمِ. أَوْ بَلَغَهُ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ كَالْمَحْرَمِ،
أَوْ بِشَهْوَةٍ فَكَالْبَالِغِ، وَقَالُوا: إِنَّ عَوْرَةَ الصَّغِيرِ فِي
الصَّلاَةِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، مُرَاهِقًا كَانَ أَوْ غَيْرَ
مُرَاهِقٍ كَعَوْرَةِ الْمُكَلَّفِ فِي
__________
(1) الخرشي 2 / 131، 132، وحاشية العدوي 1 / 185، و336.
(2) سورة النور / 31.
(31/52)
الصَّلاَةِ (1) .
وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا: إِنَّ الصَّغِيرَ الَّذِي هُوَ أَقَل مِنْ
سَبْعِ سِنِينَ لاَ عَوْرَةَ لَهُ، فَيَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ
بَدَنِهِ وَمَسُّهُ، وَمَنْ زَادَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى مَا قَبْل تِسْعِ
سِنِينَ فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَعَوْرَتُهُ الْقُبُل وَالدُّبُرُ فِي
الصَّلاَةِ وَخَارِجِهَا، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَعَوْرَتُهَا مَا بَيْنَ
السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلاَةِ. وَأَمَّا خَارِجُهَا
فَعَوْرَتُهَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَحَارِمِ هِيَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ
وَالرُّكْبَةِ، وَبِالنِّسْبَةِ لِلأَْجَانِبِ مِنَ الرِّجَال جَمِيعُ
بَدَنِهَا إِلاَّ الْوَجْهَ وَالرَّقَبَةَ وَالرَّأْسَ وَالْيَدَيْنِ إِلَى
الْمِرْفَقِ وَالسَّاقِ وَالْقَدَمِ (2) .
عَوْرَةُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِالنِّسْبَةِ لِلآْخَرِ:
11 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ أَيُّ جُزْءٍ
مِنْ بَدَنِ الزَّوْجَةِ عَوْرَةً بِالنِّسْبَةِ لِلزَّوْجِ وَكَذَلِكَ
أَيُّ جُزْءٍ مِنْ بَدَنِهِ بِالنِّسْبَةِ لَهَا، وَعَلَيْهِ يَحِل لِكُل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ جِسْمِ الآْخَرِ وَمَسُّهُ
حَتَّى الْفَرْجُ؛ لأَِنَّ وَطْأَهَا مُبَاحٌ، فَيَكُونُ نَظَرُ كُلٍّ
مِنْهُمَا إِلَى أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الآْخَرِ مُبَاحًا بِشَهْوَةٍ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 130.
(2) كشاف القناع 1 / 266، والمغني مع الشرح الكبير 7 / 462.
(31/53)
وَبِدُونِ شَهْوَةٍ بِطَرِيقِ الأَْوْلَى
(1) ، وَالأَْصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (2) وَمَا وَرَدَ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ: عَوْرَاتُنَا
مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَال: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ
زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ. (3)
لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ قَالُوا: يُكْرَهُ نَظَرُ كُلٍّ
مِنْهُمَا إِلَى فَرْجِ الآْخَرِ، وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ
النَّظَرَ إِلَى بَاطِنِ الْفَرْجِ أَشَدُّ كَرَاهَةً (4) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مِنَ الأَْدَبِ أَنْ يَغُضَّ كُلٌّ مِنَ
الزَّوْجَيْنِ النَّظَرَ عَنْ فَرْجِ صَاحِبِهِ (5) ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا
رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال إِذَا أَتَى
أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَسْتَتِرْ، وَلاَ يَتَجَرَّدْ تَجَرُّدَ
الْعَيْرَيْنِ (6)
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2955، تبيين الحقائق 6 / 18، والدسوقي 2 / 215.
(2) سورة المؤمنون / 5، 6.
(3) حديث: " احفظ عورتك إلا من زوجتك. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 110)
وقال: حديث حسن.
(4) مغني المحتاج 3 / 134، والمغني 7 / 100، 101.
(5) تبيين الحقائق 6 / 19.
(6) حديث: " إذا أتى أحدكم أهله فليستتر. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 619)
وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 337) .
(31/53)
عَوْرَةُ الْخُنْثَى الْمُشْكِل:
12 - الْخُنْثَى الْمُشْكِل الرَّقِيقُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَالأَْمَةِ،
وَالْحُرُّ كَالْحُرَّةِ، أَيْ فِيمَا هُوَ عَوْرَةٌ مِنْهَا وَفِيمَا هُوَ
لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: يَنْبَغِي أَنْ لاَ تَكْشِفَ
الْخُنْثَى لِلاِسْتِنْجَاءِ وَلاَ لِلْغُسْل عِنْدَ أَحَدٍ أَصْلاً؛
لأَِنَّهَا إِنْ كَشَفَتْ عِنْدَ رَجُلٍ احْتَمَل أَنَّهَا أُنْثَى، وَإِنْ
كَشَفَتْ عِنْدَ أُنْثَى احْتَمَل أَنَّهَا ذَكَرٌ. (1)
وَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ الْخُنْثَى الْمُشْكِل يُعَامَل
بِأَشَدِّ الاِحْتِمَالَيْنِ، فَيُجْعَل مَعَ النِّسَاءِ رَجُلاً وَمَعَ
الرِّجَال امْرَأَةً، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ بِهِ أَجْنَبِيٌّ وَلاَ
أَجْنَبِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لاِمْرَأَةٍ فَهُوَ مَعَهَا
كَعَبْدِهَا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْخُنْثَى الْمُشْكِل كَالرَّجُل، لأَِنَّ سَتْرَ
مَا زَادَ عَلَى عَوْرَةِ الرَّجُل مُحْتَمَلٌ فَلاَ نُوجِبُ عَلَيْهِ
حُكْمًا بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ مُتَرَدَّدٍ فِيهِ، وَالْعَوْرَةُ
الْفَرْجَانِ اللَّذَانِ فِي قُبُلِهِ لأَِنَّ أَحَدَهُمَا فَرْجٌ
حَقِيقِيٌّ، وَلَيْسَ يُمْكِنُهُ تَغْطِيَتُهُ يَقِينًا إِلاَّ
بِتَغْطِيَتِهِمَا، فَوَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَمَا يَجِبُ سِتْرُ مَا
قَرُبَ مِنَ الْفَرْجَيْنِ ضَرُورَةَ سَتْرِهِمَا. (3)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 404.
(2) مغني المحتاج 3 / 132.
(3) المغني 1 / 433، 434.
(31/54)
الْعَوْرَةُ فِي الصَّلاَةِ:
13 - يَجِبُ سِتْرُ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلاَةِ لِكِلاَ الْجِنْسَيْنِ فِي
حَال تَوَفُّرِ السَّاتِرِ (1) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ
عِنْدَ كُل مَسْجِدٍ} (2) قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
الْمُرَادُ بِالزِّينَةِ فِي الآْيَةِ الثِّيَابُ فِي الصَّلاَةِ (3) .
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَقْبَل اللَّهُ
صَلاَةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ، (4) أَيِ الْبَالِغَةِ، وَالثَّوْبُ
الرَّقِيقُ الَّذِي يَصِفُ مَا تَحْتَهُ مِنَ الْعَوْرَةِ لاَ تَجُوزُ
الصَّلاَةُ فِيهِ لاِنْكِشَافِ الْعَوْرَةِ. (5)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَة ف 12.)
مَا تَسْتُرُهُ الْمَرْأَةُ فِي الإِْحْرَامِ:
14 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ مَا دَامَتْ مُحْرِمَةً
لَيْسَ لَهَا أَنْ تُغَطِّيَ وَجْهَهَا (6) إِذْ وَرَدَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 95، والشرح الصغير 1 / 283، والمجموع 3 / 152،
والمغني 1 / 413.
(2) سورة الأعراف / 31.
(3) الدر المنثور 3 / 440 ط. دار الفكر.
(4) حديث: " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ". أخرجه أبو داود (1 / 421)
، والترمذي (1 / 215) من حديث عائشة، وحسنه الترمذي.
(5) تبيين الحقائق 1 / 95.
(6) بدائع الصنائع 3 / 1228، وتبيين الحقائق 2 / 38، وفتح القدير 2 / 142،
والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 54، 55، والمهذب 1 / 208، ومغني
المحتاج 1 / 519، والمغني 3 / 301.
(31/54)
مَوْقُوفًا عَلَيْهِ: إِحْرَامُ الرَّجُل
فِي رَأْسِهِ وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا. وَلَيْسَ لَهَا أَنْ
تَلْبَسَ الْقُفَّازَيْنِ.
وَالتَّفْصِيل يُنْظَرُ فِي (إِحْرَام 67 - 68) .
لَمْسُ الأَْجْنَبِيِّ أَوِ الأَْجْنَبِيَّةِ:
15 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
عَدَمِ جَوَازِ مَسِّ الرَّجُل شَيْئًا مِنْ جَسَدِ الْمَرْأَةِ
الأَْجْنَبِيَّةِ الْحَيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ شَابَّةً أَمْ عَجُوزًا،
لِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ
تَمَسَّ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ. (1) وَلأَِنَّ الْمَسَّ أَبْلَغُ
مِنَ النَّظَرِ فِي اللَّذَّةِ وَإِثَارَةِ الشَّهْوَةِ. (2)
وَوَافَقَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ فِي حُكْمِ لَمْسِ الأَْجْنَبِيَّةِ
الشَّابَّةِ. وَقَالُوا: لاَ بَأْسَ بِمُصَافَحَةِ الْعَجُوزِ وَمَسِّ
يَدِهَا لاِنْعِدَامِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ. (3)
عَوْرَةُ الْمَيِّتِ:
16 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ عَوْرَةَ الْمَيِّتِ
__________
(1) حديث عائشة: " ما مست يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد امرأة. .
. ". أخرجه مسلم (3 / 1489) .
(2) الشرح الصغير 1 / 290، ومغني المحتاج 3 / 132، والمغني 1 / 338.
(3) بدائع الصنائع 6 / 2959، وتبيين الحقائق 6 / 18، وتكملة فتح القدير 8 /
98.
(31/55)
يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا كَحُرْمَةِ
النَّظَرِ إِلَى عَوْرَةِ الْحَيِّ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ تَنْظُرْ إِلَى فَخِذِ
حَيٍّ وَلاَ مَيِّتٍ. (1)
أَمَّا لَمْسُ الْمَيِّتِ لِتَغْسِيلِهِ فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ
(تَغْسِيل الْمَيِّتِ ف 11 وَمَا بَعْدَهَا.)
النَّظَرُ إِلَى الْعَوْرَةِ لِتَحَمُّل الشَّهَادَةِ:
17 - يُصَرِّحُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
بِجَوَازِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ عِنْدَ
الشَّهَادَةِ وَعِنْدَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. وَكَذَلِكَ لَهَا
النَّظَرُ. (2)
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: يَجُوزُ النَّظَرُ لِلشَّهَادَةِ
تَحَمُّلاً وَأَدَاءً، هَذَا كُلُّهُ إِنْ لَمْ يَخَفِ الْفِتْنَةَ فَإِنْ
خَافَهَا لَمْ يَنْظُرْ إِلاَّ إِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَيَنْظُرُ
وَيَضْبِطُ نَفْسَهُ، كَمَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى الْفَرْجِ
لِلشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَى وَالْوِلاَدَةِ، وَإِلَى الثَّدْيِ
لِلشَّهَادَةِ عَلَى الرَّضَاعِ. (3)
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلِلشَّاهِدِ النَّظَرُ إِلَى
__________
(1) حديث: " لا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 303)
، وقال هذا الحديث فيه نكارة.
(2) الفواكه الدواني 2 / 410، ومغني المحتاج 3 / 133، 134، المغني 7 / 101.
(3) مغني المحتاج 3 / 133، 134.
(31/55)
وَجْهِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهَا لِتَكُونَ
الشَّهَادَةُ وَاقِعَةً عَلَى عَيْنِهَا، قَال أَحْمَدُ: لاَ يَشْهَدُ
عَلَى امْرَأَةٍ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَهَا بِعَيْنِهَا. وَإِنْ
عَامَل امْرَأَةً فِي بَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ فَلَهُ النَّظَرُ إِلَى
وَجْهِهَا لِيَعْلَمَهَا بِعَيْنِهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ
كَرَاهَةُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الشَّابَّةِ دُونَ الْعَجُوزِ، وَلَعَلَّهُ
كَرِهَهُ لِمَنْ يَخَافُ الْفِتْنَةَ أَوْ يَسْتَغْنِي عَنِ
الْمُعَامَلَةِ، فَأَمَّا مَعَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِ الشَّهْوَةِ فَلاَ
بَأْسَ. (1)
وَيُصَرِّحُ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي إِذَا أَرَادَ أَنْ
يَحْكُمَ عَلَى امْرَأَةٍ. وَلِلشَّاهِدِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَشْهَدَ
عَلَيْهَا النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهَا وَإِنْ خَافَ الاِشْتِهَاءَ،
لِلْحَاجَةِ إِلَى إِحْيَاءِ الْحُقُوقِ عَنْ طَرِيقِ الْقَضَاءِ وَأَدَاءِ
الشَّهَادَةِ.
أَمَّا النَّظَرُ لِتَحَمُّل الشَّهَادَةِ فَقِيل يُبَاحُ وَإِنْ أَدَّى
إِلَى الاِشْتِهَاءِ، وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يُبَاحُ لاِنْتِفَاءِ
الضَّرُورَةِ. إِذْ يُوجَدُ مَنْ يُؤَدِّيهَا دُونَ الاِشْتِهَاءِ
بِخِلاَفِ حَالَةِ الأَْدَاءِ وَفِي حَالَةِ الزِّنَى تَنْهَضُ الْحَاجَةُ
لِلنَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ لِتَحَمُّل الشَّهَادَةِ ثُمَّ
أَدَائِهَا، إِذْ لاَ يُمْكِنُ الشَّهَادَةُ عَلَى الزِّنَى بِدُونِ
النَّظَرِ إِلَى هَذِهِ الْعَوْرَةِ. وَالْحُرْمَةُ تَسْقُطُ لِمَكَانِ
الضَّرُورَةِ. (2)
__________
(1) المغني 7 / 101.
(2) تبيين الحقائق 6 / 17، بدائع الصنائع 6 / 2956.
(31/56)
كَشْفُ الْعَوْرَةِ لِلْحَاجَةِ
الْمُلْجِئَةِ:
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ
الْحَاجَةِ الْمُلْجِئَةِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ مِنَ الرَّجُل أَوِ
الْمَرْأَةِ، لأَِيٍّ مِنْ جِنْسِهِمَا أَوْ مِنَ الْجِنْسِ الآْخَرِ،
وَقَالُوا: إِنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَابِلَةِ النَّظَرُ إِلَى الْفَرْجِ
عِنْدَ الْوِلاَدَةِ أَوْ لِمَعْرِفَةِ الْبَكَارَةِ فِي امْرَأَةِ
الْعِنِّينِ أَوْ نَحْوِهَا، وَيَجُوزُ لِلطَّبِيبِ الْمُسْلِمِ إِنْ لَمْ
تُوجَدْ طَبِيبَةٌ أَنْ يُدَاوِيَ الْمَرِيضَةَ الأَْجْنَبِيَّةَ
الْمُسْلِمَةَ. وَيَنْظُرَ مِنْهَا وَيَلْمِسَ مَا تُلْجِئُ الْحَاجَةُ
إِلَى نَظَرِهِ أَوْ لَمْسِهِ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ طَبِيبَةٌ وَلاَ
طَبِيبٌ مُسْلِمٌ جَازَ لِلطَّبِيبِ الذِّمِّيِّ ذَلِكَ.
وَيَجُوزُ لِلطَّبِيبَةِ أَنْ تَنْظُرَ وَتَلْمِسَ مِنَ الْمَرِيضِ مَا
تَدْعُو الْحَاجَةُ الْمُلْجِئَةُ إِلَى نَظَرِهِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ
طَبِيبٌ يَقُومُ بِمُدَاوَاةِ الْمَرِيضِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِغُلاَمٍ قَدْ سَرَقَ فَقَال: انْظُرُوا
إِلَى مُؤْتَزَرِهِ، فَنَظَرُوا وَلَمْ يَجِدُوهُ أَنْبَتَ الشَّعْرَ
فَلَمْ يَقْطَعْهُ (1) . وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ نَظَرُ
الطَّبِيبِ إِلَى مَحَل الْمَرَضِ مِنَ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ إِذَا
كَانَ فِي الْوَجْهِ أَوِ الْيَدَيْنِ، قِيل وَلَوْ بِفَرْجِهَا
لِلدَّوَاءِ، كَمَا يَجُوزُ لِلْقَابِلَةِ نَظَرُ الْفَرْجِ، قَال
التَّتَّائِيُّ: وَلِي فِيهِ وَقْفَةٌ، إِذِ الْقَابِلَةُ أُنْثَى
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2961، 2962، ومغني المحتاج 3 / 133 - 134، والمغني 7
/ 101.
(31/56)
وَهِيَ يَجُوزُ لَهَا نَظَرُ فَرْجِ
الأُْنْثَى إِذَا رَضِيَتْ. (1)
كَشْفُ الْعَوْرَةِ عِنْدَ الاِغْتِسَال:
19 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ عِنْدَ
الاِغْتِسَال فِي حَال الاِنْفِرَادِ. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيل يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً
يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَكَانَ مُوسَى يَغْتَسِل وَحْدَهُ. . .
. (2)
أَمَّا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي
مُصْطَلَحِ: (اسْتِتَار ف 8 وَمَا بَعْدَهَا)
السَّلاَمُ عَلَى مَكْشُوفِ الْعَوْرَةِ:
20 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ السَّلاَمُ عَلَى
مَكْشُوفِ الْعَوْرَةِ وَلَوْ كَانَ الاِنْكِشَافُ لِضَرُورَةٍ، (3)
وَأَنَّهُ لاَ يُسَلِّمُ عَلَى
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 410.
(2) حديث: " كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة. . . ". . أخرجه البخاري (فتح
الباري 1 / 358) ومسلم (1 / 267) .
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 617، والخرشي 3 / 110، والفواكه الدواني 2 / 422
وحاشية الجمل 5 / 189، وصحيح مسلم بشرح النووي 4 / 305 ط دار القلم.
والآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 378، والمغني 1 / 166، 167.
(31/57)
مَنْ يَقْضِي حَاجَتَهُ، وَإِنْ سَلَّمَ
عَلَيْهِ أَحَدٌ فَلاَ يَرُدُّ عَلَيْهِ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلاً مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبُول، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ
عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سَلاَم ف 17)
الإِْنْكَارُ عَلَى مَكْشُوفِ الْعَوْرَةِ
21 - قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ رَأَى شَخْصٌ غَيْرَهُ مَكْشُوفَ
الرُّكْبَةِ يُنْكِرُ عَلَيْهِ بِرِفْقٍ وَلاَ يُنَازِعُهُ إِنْ لَجَّ،
وَفِي الْفَخِذِ يُعَنِّفُهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ. وَلاَ يَضْرِبْهُ
إِنْ لَجَّ، وَفِي السَّوْأَةِ يُؤَدِّبُهُ إِنْ لَجَّ. (2)
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ يَلْزَمُهُ الإِْنْكَارُ عَلَى مَكْشُوفِ
الْعَوْرَةِ؛ إِذْ هُوَ مِنَ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ (3) .
__________
(1) حديث: " أن رجلاً مرّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول. . .
". . أخرجه أبو داود (1 / 234) ، وأعله البخاري بالوقف كما في نصب الراية
(1 / 152) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 409.
(3) مجموع فتاوى ابن تيميه 21 / 337، 338.
(31/57)
عِوَض
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِوَضُ مَصْدَرُ عَاضَهُ عِوَضًا وَعِيَاضًا وَمَعْوَضَةً وَهُوَ
الْبَدَل، تَقُول: عِضْتُ فُلاَنًا وَأَعَضْتُهُ وَعَوَّضْتُهُ: إِذَا
أَعْطَيْتَهُ بَدَل مَا ذَهَبَ مِنْهُ، وَتَعَوَّضَ مِنْهُ وَاعْتَاضَ:
أَخَذَ الْعِوَضَ وَاعْتَاضَهُ مِنْهُ وَاسْتَعَاضَهُ وَتَعَوَّضَهُ:
سَأَلَهُ الْعِوَضَ، وَالْجَمْعُ أَعْوَاضٌ (1) .
وَالْعِوَضُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ مُطْلَقُ الْبَدَل، وَهُوَ
مَا يُبْذَل فِي مُقَابَلَةِ غَيْرِهِ (2) . وَمِنْ إِطْلاَقَاتِ الْعِوَضِ
ثَوَابُ الآْخِرَةِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الثَّمَنُ:
2 - الثَّمَنُ: مَا تَسْتَحِقُّ بِهِ الشَّيْءَ، وَثَمَنُ كُل شَيْءٍ
قِيمَتُهُ، وَالثَّمَنُ: الْعِوَضُ، وَالْجَمْعُ أَثْمَانٌ وَأَثْمُنٌ. (4)
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) المطلع على أبواب المقنع 216.
(3) الفروق للقرافي 3 / 2.
(4) لسان العرب والقاموس المحيط والمصباح المنير.
(31/58)
وَقَال صَاحِبُ الْمُغْرِبِ: الثَّمَنُ
اسْمٌ لِمَا هُوَ عِوَضٌ مِنَ الْمَبِيعِ، (1) فَالثَّمَنُ أَخَصُّ مِنَ
الْعِوَضِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ
3 - الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْعِوَضِ يَدُورُ بَيْنَ الْوُجُوبِ
وَالْحُرْمَةِ، فَهُوَ وَاجِبٌ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ وَمُحَرَّمٌ فِي
بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ.
فَيَجِبُ أَدَاءُ الْعِوَضِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ إِلاَّ أَنْ يَذْكُرَ
الْمُتَبَايِعَانِ لَهُ أَجَلاً فَيَكُونُ إِلَى أَجَلِهِ. (ر: بَيْع ف 61)
وَهَذَا إِذَا كَانَ الْعِوَضُ مِنَ النَّقْدَيْنِ، فَإِنْ كَانَ عَيْنًا،
قَال ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
بَيْعُ الأَْعْيَانِ إِلَى أَجَلٍ، وَمِنْ شَرْطِهَا تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ
إِلَى الْمُبْتَاعِ بِإِثْرِ عَقْدِ الصَّفْقَةِ. (2)
وَيَجِبُ عَلَى الْمُؤَجَّرِ فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ
لِلْمُسْتَأْجِرِ وَتَمْكِينُهُ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهَا. كَمَا يَجِبُ
عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ دَفْعُ الأُْجْرَةِ لِلْمُؤَجِّرِ وَتَسْلِيمُهَا
عِنْدَ تَسَلُّمِهِ لِلْعَيْنِ. (ر: إِجَارَة 45 - 48)
وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَدَاءُ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى
__________
(1) المغرب.
(2) بداية المجتهد 2 / 170.
(31/58)
لِزَوْجَتِهِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى
{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (1)
وَيَجِبُ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا الضَّمَانُ بِرَدِّ مِثْلِهِ إِنْ
كَانَ مِثْلِيًّا وَقِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا. (ر: ضَمَان ف 6)
وَيَجِبُ عَلَى مَنْ جَنَى عَلَى شَخْصٍ الدِّيَةُ إِذَا تَحَقَّقَ شُرُوطُ
وُجُوبِهَا. (ر: دِيَات ف 12) .
وَقَدْ يَكُونُ الْعِوَضُ مُحَرَّمًا وَذَلِكَ عِنْدَ فَقْدِ شَرْطٍ مِنْ
شُرُوطِ صِحَّتِهِ، كَمَا فِي بَيْعِ الرِّبَوِيَّاتِ مِنَ الْجِنْسِ
الْوَاحِدِ إِذَا حَصَل فِيهَا تَفَاضُلٌ عِنْدَ بَيْعِ بَعْضِهَا
بِبَعْضٍ، كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ نَقْدًا. أَوْ بَيْعِ صَاعِ
قَمْحٍ بِصَاعَيْنِ مِنَ الْقَمْحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. (ر: رَبَاب ف 14) .
وَقَدِ اعْتَبَرَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الأَْعْوَاضَ فِي عُقُودِ
الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ أَرْكَانِ الْعَقْدِ. (ر: إِجَارَة ف 10، وَبَيْع ف
18) .
أَنْوَاعُ الْعِوَضِ:
يَنْقَسِمُ الْعِوَضُ إِلَى عِدَّةِ أَنْوَاعٍ بِاعْتِبَارَاتٍ
مُخْتَلِفَةٍ:
4 - فَيَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إِلَى
__________
(1) سورة النساء / 4.
(31/59)
مَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا وَمَا
لاَ يَصِحُّ، فَمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا هُوَ: مَا كَانَ
مُسْتَوْفِيًا لِشُرُوطِهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَا لاَ يَصِحُّ هُوَ: مَا
اخْتَلَّتْ فِيهِ شُرُوطُهُ الشَّرْعِيَّةُ أَوْ بَعْضُهَا.
فَمِنَ الأَْعْوَاضِ الَّتِي لاَ تَصِحُّ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ الدَّمُ
وَالْمَيْتَةُ، (1) وَالْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَالْخَمْرُ
وَالْمُتَنَجِّسُ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ، (2) وَالأَْصْل فِيهِ
مَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى
عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، (3) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ
وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ. (4) قَال الشِّرْبِينِيُّ
الْخَطِيبُ: وَقِيسَ بِهَا مَا فِي مَعْنَاهَا.
وَمِمَّا لاَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ
الأَْشْجَارُ لِتَجْفِيفِ الثِّيَابِ عَلَيْهَا وَالْمُصْحَفُ لِلنَّظَرِ
فِيهِ وَالْقِرَاءَةِ مِنْهُ كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ، (5) وَكَذَا
الشَّجَرُ لأَِخْذِ ثَمَرَتِهِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 4.
(2) مغني المحتاج 2 / 11.
(3) حديث: " نهى عن ثمن الكلب ". . أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 426)
ومسلم (3 / 1198) من حديث أبي مسعود البدري.
(4) حديث: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر ". . أخرجه البخاري (فتح الباري
4 / 424) ومسلم (3 / 1207) من حديث جابر بن عبد الله.
(5) الفتاوى الهندية 4 / 411، وبدائع الصنائع 4 / 175.
(31/59)
وَالشَّاةُ لأَِخْذِ لَبَنِهَا كَمَا
يَقُول الْمَالِكِيَّةُ. (1)
وَمِمَّا لاَ يَصِحُّ عِوَضًا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ جَعْل الْبُضْعِ
مَهْرًا، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِنِكَاحِ الشِّغَارِ، وَهُوَ أَنْ يُزَوِّجَ
الرَّجُل وَلِيَّتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآْخَرُ وَلِيَّتَهُ عَلَى
أَنَّ مَهْرَ كُلٍّ مِنْهُمَا بُضْعُ الأُْخْرَى. (ر: شِغَار ف 2 وَمَا
بَعْدَهَا)
5 - وَيَنْقَسِمُ الْعِوَضُ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ وَعَدَمِهَا إِلَى
عِوَضٍ مَالِيٍّ وَعِوَضٍ غَيْرِ مَالِيٍّ.
وَقَدْ مَثَّل الْفُقَهَاءُ لِلْعِوَضِ غَيْرِ الْمَالِيِّ بِعِدَّةِ
أَمْثِلَةٍ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:
قَال ابْنُ عَابِدِينَ مُعَلِّقًا عَلَى مَسْأَلَةِ اسْتِبْدَال مَال
التِّجَارَةِ بِغَيْرِ مَال التِّجَارَةِ فِي الزَّكَاةِ: شَمَل مَا لَوِ
اسْتَبْدَلَهُ بِعِوَضٍ لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلاً بِأَنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهِ
امْرَأَةً أَوْ صَالَحَ بِهِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ أَوِ اخْتَلَعَتْ بِهِ
الْمَرْأَةُ. (2)
وَأَمَّا الْعِوَضُ الْمَالِيُّ فَهُوَ: الْعِوَضُ الْقَائِمُ بِالْمَال،
وَالْمَال كَمَا قَال الْحَنَفِيَّةُ: مَا يَمِيل إِلَيْهِ الطَّبْعُ
وَيُمْكِنُ ادِّخَارُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ. (3)
6 - وَيَنْقَسِمُ الْعِوَضُ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 20.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 21.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 3.
(31/60)
إِلَى عَيْنٍ وَدَيْنٍ وَمَنْفَعَةٍ
وَحَقٍّ وَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
شُرُوطُ الْعِوَضِ:
7 - وَضَعَ الشَّارِعُ لِلْعِوَضِ شُرُوطًا مُعَيَّنَةً حَتَّى يَصِحَّ
كَوْنُهُ عِوَضًا وَيَجْرِيَ عَلَيْهِ التَّعَاقُدُ وَالتَّبَادُل.
وَهَذِهِ الشُّرُوطُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ التَّصَرُّفَاتِ.
فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ هُنَاكَ شُرُوطٌ خَاصَّةٌ بِالْمَبِيعِ وَشُرُوطٌ
خَاصَّةٌ بِالثَّمَنِ يَجِبُ مُرَاعَاتُهَا حَتَّى يَصِحَّ عَقْدُ
الْبَيْعِ. (ر: بَيْع ف 28 وَمَا بَعْدَهَا - 50)
وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الأَْعْوَاضُ تَجْرِي فِيهَا عِلَّةُ الرِّبَا
فَهُنَاكَ شُرُوطٌ أُخْرَى يَجِبُ مُرَاعَاتُهَا لِيَصِحَّ الْعَقْدُ. (ر:
رِبًا ف 26)
وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى شُرُوطٍ مُعَيَّنَةٍ لِلْمَنْفَعَةِ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا وَالأُْجْرَةِ فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ لِيَصِحَّ
الْعَقْدُ عَلَيْهَا. (ر: إِجَارَة ف 27 وَمَا بَعْدَهَا)
وَلَيْسَ كُل شَيْءٍ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا لِلْمَرْأَةِ فِي
عَقْدِ النِّكَاحِ، فَهُنَاكَ شُرُوطٌ فِي الصَّدَاقِ لِيَصِحَّ كَوْنُهُ
صَدَاقًا، قَال النَّوَوِيُّ: وَمَا صَحَّ مَبِيعًا صَحَّ
(31/60)
صَدَاقًا، (1) وَقَال الْحَنَفِيَّةُ:
أَقَلُّهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ. (2)
وَالدِّيَاتُ مُحَدَّدَةٌ وَمُقَدَّرَةٌ شَرْعًا مِنْ نَاحِيَةِ الْعَدَدِ
وَالْمَال الَّذِي تَجِبُ فِيهِ.
(ر: دِيَات ف 29)
أَسْبَابُ ثُبُوتِ الْعِوَضِ:
أ - عُقُودُ الْمُعَاوَضَاتِ:
8 - إِذَا تَمَّتْ عُقُودُ الْمُعَاوَضَاتِ مُسْتَوْفِيَةً لِشُرُوطِهَا
الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ الْبَدَلاَنِ
اللَّذَانِ تَمَّ الاِتِّفَاقُ عَلَيْهِمَا.
فَفِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً إِذَا انْعَقَدَ صَحِيحًا مُسْتَوْفِيًا
لِشُرُوطِهِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ الْمَبِيعُ لِلْمُشْتَرِي وَالثَّمَنُ
لِلْبَائِعِ، قَال الْكَاسَانِيُّ: الْحُكْمُ الأَْصْلِيُّ لِلْبَيْعِ هُوَ
ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ وَلِلْبَائِعِ فِي
الثَّمَنِ لِلْحَال. (3)
وَيَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: وَحُكْمُهُ - أَيِ الْبَيْعِ - ثُبُوتُ
الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، (4) وَكَذَا إِذَا
وَقَعَتِ الإِْجَارَةُ صَحِيحَةً تَرَتَّبَ عَلَيْهَا حُكْمُهَا وَهُوَ
ثُبُوتُ
__________
(1) حاشية القليوبي على شرح المحلي 3 / 276.
(2) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 2 / 329.
(3) بدائع الصنائع 5 / 233 ط. دار الكتاب العربي 1982م.
(4) حاشية ابن عابدين 4 / 6.
(31/61)
الْمِلْكِ فِي الْمَنْفَعَةِ
لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَفِي الأُْجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ لِلْمُؤَجِّرِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ مُعَلِّلاً ذَلِكَ: لأَِنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ
إِذْ هِيَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ. وَالْبَيْعُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ
فَيَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ. (1)
وَيَقُول الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: كَمَا يَمْلِكُ الْمُؤَجِّرُ
الأُْجْرَةَ بِالْعَقْدِ يَمْلِكُ الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنْفَعَةَ
الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا، وَتَحْدُثُ فِي مِلْكِهِ بِدَلِيل جَوَازِ
تَصَرُّفِهِ فِيهَا فِي الْمُسْتَقْبَل. (2)
وَكَذَلِكَ فِي عَقْدِ السَّلَمِ إِذَا قَبَضَ الْمُسَلَّمُ إِلَيْهِ
رَأْسَ الْمَال كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِكُل التَّصَرُّفَاتِ
السَّائِغَةِ شَرْعًا لأَِنَّهُ مِلْكُهُ وَتَحْتَ يَدِهِ. وَيَمْلِكُ
رَبُّ السَّلَمِ الْمُسْلَمَ فِيهِ أَيْضًا بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ. وَفِي
جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْل الْقَبْضِ تَفْصِيلٌ
يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (سَلَم ف 29 وَمَا بَعْدَهَا) .
ب - عَقْدُ النِّكَاحِ:
9 - عَقْدُ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْمَهْرِ
لِلزَّوْجَةِ، وَحِل الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا لِلزَّوْجِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا
عِوَضٌ عَنِ الآْخَرِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 201.
(2) مغني المحتاج 2 / 334.
(31/61)
يَقُول الْكَاسَانِيُّ: الْمَهْرُ فِي
النِّكَاحِ الصَّحِيحِ يَجِبُ بِالْعَقْدِ لأَِنَّهُ إِحْدَاثُ الْمِلْكِ،
وَالْمَهْرُ يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ إِحْدَاثِ الْمِلْكِ؛ وَلأَِنَّهُ عَقْدُ
مُعَاوَضَةٍ وَهُوَ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَهْرِ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ
الْعِوَضِ كَالْبَيْعِ (1) . وَيَقُول ابْنُ رُشْدٍ: لاَ يَحِل
اسْتِبَاحَةُ الْفَرْجِ إِلاَّ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَلاَ يَكُونُ
النِّكَاحُ إِلاَّ بِصَدَاقٍ، (2) قَال تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ
صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (3) وَقَال الْبُهُوتِيُّ: الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ
فِي عَقْدِ النِّكَاحِ مَنْفَعَةُ الاِسْتِمْتَاعِ لاَ مِلْكُ
الْمَنْفَعَةِ، وَالصَّدَاقُ هُوَ الْعِوَضُ فِي النِّكَاحِ. (4)
ج - الْجِنَايَاتُ.
10 - الْجِنَايَةُ هِيَ كُل فِعْلٍ مَحْظُورٍ يَتَضَمَّنُ ضَرَرًا عَلَى
النَّفْسِ أَوْ غَيْرِهَا (5) .
وَالْجِنَايَةُ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْعِوَضِ عَلَى الْجَانِي
أَوْ عَاقِلَتِهِ، فَفِي الْقَتْل الْعَمْدِ تَجِبُ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً
عَلَى الْقَاتِل إِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ
سُقُوطِهِ كَالْعَفْوِ، وَفِي الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ تَجِبُ الدِّيَةُ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 287
(2) المقدمات الممهدات 2 / 17، 30 ط. السعادة 1325 هـ.
(3) سورة النساء / 4.
(4) كشاف القناع 5 / 6، 128.
(5) التعريفات للجرجاني.
(31/62)
مُغَلَّظَةً عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي.
وَفِي الْقَتْل الْخَطَأِ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي
مُؤَجَّلَةً فِي ثَلاَثِ سِنِينَ، وَمِثْلُهُ الْقَتْل بِالتَّسَبُّبِ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
(ر: دِيَات: ف 8، 12)
كَذَلِكَ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الاِعْتِدَاءِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ،
وَالاِعْتِدَاءُ قَدْ يَكُونُ بِإِبَانَةِ الأَْطْرَافِ أَوْ إِتْلاَفِ
الْمَعَانِي أَوِ الشِّجَاجِ وَالْجُرُوحِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي
مُصْطَلَحِ (دِيَات: ف 34 وَمَا بَعْدَهَا)
وَالدِّيَةُ مَا هِيَ إِلاَّ عِوَضٌ لِمَا تَسَبَّبَ بِهِ الْجَانِي. (1)
د - الإِْتْلاَفَاتُ:
11 - مِنْ أَسْبَابِ ثُبُوتِ الْعِوَضِ الإِْتْلاَفَاتُ. حَيْثُ يَجِبُ
عَلَى الْمُتْلِفِ عِوَضُ مَا أَتْلَفَهُ وَهُوَ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ
الْفُقَهَاءُ بِالضَّمَانِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِكَوْنِ
الإِْتْلاَفِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ.
فَفِي الْفُرُوقِ لِلْقَرَافِيِّ: أَسْبَابُ الضَّمَانِ ثَلاَثَةٌ:
أَحَدُهَا: التَّفْوِيتُ مُبَاشَرَةً كَإِحْرَاقِ الثَّوْبِ وَقَتْل
الْحَيَوَانِ وَأَكْل الطَّعَامِ وَنَحْوِ
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 301، والفواكه الدواني 2 / 257 ط دار المعرفة،
ونهاية المحتاج 7 / 299، وكشاف القناع 6 / 5.
(31/62)
ذَلِكَ،
وَثَانِيهَا: التَّسَبُّبُ لِلإِْتْلاَفِ كَحَفْرِ بِئْرٍ فِي مَوْضِعٍ
لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ وَوَضْعِ السُّمُومِ فِي الأَْطْعِمَةِ وَوُقُودِ
النَّارِ بِقُرْبِ الزَّرْعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا شَأْنُهُ فِي
الْعَادَةِ أَنْ يُفْضِيَ غَالِبًا لِلإِْتْلاَفِ. (1)
وَقَال السُّيُوطِيُّ: أَسْبَابُ الضَّمَانِ أَرْبَعَةٌ. . . الثَّالِثُ:
الإِْتْلاَفُ نَفْسًا أَوْ مَالاً. (2)
وَقَال ابْنُ رَجَبٍ: أَسْبَابُ الضَّمَانِ ثَلاَثَةٌ: عَقْدٌ وَيَدٌ
وَإِتْلاَفٌ، وَالْمُرَادُ بِالإِْتْلاَفِ أَنْ يُبَاشِرَ الإِْتْلاَفَ
بِسَبَبٍ يَقْتَضِيهِ كَالْقَتْل وَالإِْحْرَاقِ، أَوْ يَنْصِبَ سَبَبًا
عُدْوَانًا فَيَحْصُل بِهِ الإِْتْلاَفُ بِأَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي
غَيْرِ مِلْكِهِ أَوْ يُؤَجِّجَ نَارًا فِي يَوْمِ رِيحٍ عَاصِفٍ،
فَيَتَعَدَّى إِلَى إِتْلاَفِ مَال الْغَيْرِ، أَوْ كَانَ الْمَاءُ
مُحْتَبَسًا بِشَيْءٍ وَعَادَتُهُ الاِنْطِلاَقُ فَيُزِيل احْتِبَاسَهُ،
وَسَوَاءٌ كَانَ لَهُ اخْتِيَارٌ فِي انْطِلاَقِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ (3)
وَالضَّمَانُ كَمَا فِي الْمَجَلَّةِ: هُوَ إِعْطَاءُ مِثْل الشَّيْءِ إِنْ
كَانَ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ وَقِيمَتِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ.
(4)
__________
(1) الفروق للقرافي 4 / 27.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي 362.
(3) القواعد لابن رجب ص204.
(4) المادة 416 من مجلة الأحكام العدلية.
(31/63)
هـ - تَفْوِيتُ الْبُضْعِ:
12 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ إِذَا فَوَّتَ إِنْسَانٌ عَلَى
امْرَأَةٍ مَنْفَعَةَ بُضْعِهَا بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ
فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَ عِوَضًا
لِمَا فَوَّتَهُ. فَفِي مَتْنِ تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ: وَيَجِبُ مَهْرُ
الْمِثْل فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ. (1)
وَقَال الدَّرْدِيرُ: وَضَمِنَ الْغَاصِبُ مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ
بِالتَّفْوِيتِ، فَعَلَيْهِ فِي وَطْءِ الْحُرَّةِ صَدَاقُ مِثْلِهَا
وَلَوْ ثَيِّبًا. وَفِي وَطْءِ الأَْمَةِ مَا نَقَصَهَا. (2)
وَيَقُول الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَلاَ تُضْمَنُ مَنْفَعَةُ الْبُضْعِ
إِلاَّ بِتَفْوِيتٍ بِالْوَطْءِ فَيَضْمَنُهُ بِمَهْرِ الْمِثْل. (3)
وَمِثْل ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَال الْبُهُوتِيُّ: يَجِبُ مَهْرُ
الْمِثْل لِلْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ كَمَنْ وَطِئَ امْرَأَةً لَيْسَتْ
زَوْجَةً لَهُ وَلاَ مَمْلُوكَةً يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ أَوْ
مَمْلُوكَتَهُ. (4)
- عَقْدُ الْجِزْيَةِ:
13 - الْجِزْيَةُ: اسْمٌ لِمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ سَوَاءٌ
بِالتَّرَاضِي أَوْ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَفَتْحِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين مع الدر المختار 2 / 350.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 454.
(3) مغني المحتاج 2 / 286، و3 / 233.
(4) كشاف القناع 5 / 161.
(31/63)
الْبِلاَدِ عَنْوَةً (1) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِيقَةِ الْجِزْيَةِ هَل هِيَ عُقُوبَةٌ
أَمْ عِوَضٌ أَمْ صِلَةٌ؟
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى
أَهْل الذِّمَّةِ عِوَضًا عَنْ مُعَوَّضٍ، عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي
ذَلِكَ الْمُعَوَّضِ الَّذِي تَجِبُ الْجِزْيَةُ بَدَلاً عَنْهُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (جِزْيَة ف 19) .
ز - تَلَفُ الزَّكَاةِ وَالأُْضْحِيَّةِ:
14 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُزَكِّي
إِذَا تَلِفَ مَال الزَّكَاةِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لاَ تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَال
بَعْدَ الْحَوْل، وَيَجِبُ عَلَى الْمُزَكِّي الضَّمَانُ أَيْ إِخْرَاجُ
بَدَلِهَا؛ وَذَلِكَ لأَِنَّهَا مَالٌ وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ، فَلَمْ
يَسْقُطْ بِتَلَفِ النِّصَابِ كَالدَّيْنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ الزَّكَاةِ بِتَلَفِ الْمَال بَعْدَ
الْحَوْل وَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْمُزَكِّي.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَلَف ف 4) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 244، واللباب في شرح الكتاب 4 / 143، وجواهر
الإكليل 1 / 266.
(31/64)
أَنَّ تَلَفَ الْمَال بَعْدَ وُجُوبِ
زَكَاةِ الْفِطْرِ وَبَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَدَائِهَا لاَ يُسْقِطُهَا
بَل تَسْتَقِرُّ فِي ذِمَّتِهِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ
وَقَالُوا بِسُقُوطِ زَكَاةِ الْفِطْرِ بِالتَّلَفِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي
مُصْطَلَحِ: (تَلَف ف 5)
كَمَا أَوْجَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْمُوسِرِ إِذَا تَلِفَتْ
أُضْحِيَّتُهُ الْمُعَيَّنَةُ أَنْ يُضَحِّيَ بِشَاةٍ أُخْرَى. وَخَصَّ
الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْقَوْل بِالضَّمَانِ بِمَا إِذَا
تَلِفَتْ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَبْحِهَا أَوْ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَلَف 6)
ح - ارْتِكَابُ الْمَحْظُورَاتِ:
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ
الضَّمَانُ بِالْمِثْل فِيمَا لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ أَوِ الْقِيمَةِ
فِيهِ، وَفِيمَا لاَ مِثْل لَهُ بِتَقْوِيمِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ
يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَام ف 16 - 164 وَحَرَم ف 13)
وَأَوْجَبَ الشَّارِعُ فِي الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ كَفَّارَةً هِيَ:
إِطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِين أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ،
وَعِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الثَّلاَثِ يَجِبُ عَلَيْهِ صِيَامُ ثَلاَثَةِ
أَيَّامٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَيْمَان ف 138) .
(31/64)
وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى
الْمُظَاهِرِ، وَهِيَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى التَّرْتِيبِ
الآْتِي: الإِْعْتَاقُ ثُمَّ الصِّيَامُ ثُمَّ الإِْطْعَامُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (ظِهَار ف 28)
ط - التَّفْرِيطُ وَالتَّعَدِّي:
16 - مِنْ أَسْبَابِ ثُبُوتِ الْعِوَضِ التَّعَدِّي، وَهُوَ الظُّلْمُ
وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَالتَّفْرِيطُ وَهُوَ التَّقْصِيرُ
وَالتَّضْيِيعُ، وَهُمَا يُوجِبَانِ الضَّمَانَ فِي عُقُودِ الأَْمَانَاتِ
كَالْوَدِيعَةِ، وَذَلِكَ كَإِهْمَال حِفْظِهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا أَوْ
إِيدَاعِهَا عِنْدَ غَيْرِ أَمِينٍ، وَمِثْلُهَا الْعَارِيَّةُ وَالرَّهْنُ
عِنْدَ مَنْ يَعُدُّهُمَا مِنَ الأَْمَانَاتِ.
وَالتَّفْرِيطُ يُوجِبُ الضَّمَانَ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ، ذَلِكَ أَنَّ
الأَْصْل فِي الْوَكِيل أَنَّهُ أَمِينٌ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا
تَلِفَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ وَلاَ تَعَدٍّ، فَإِذَا
ثَبَتَ تَفْرِيطُهُ أَوْ تَعَدِّيهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ.
وَإِذَا فَرَّطَ الأَْجِيرُ فِيمَا وُكِّل إِلَيْهِ مِنْ عَمَلٍ فَتَلِفَ
مَا فِي يَدِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَمِثْلُهُ الْوَصِيُّ
فَإِنَّهُ يَضْمَنُ إِذَا فَرَّطَ فِي مَال الْمُوصَى عَلَيْهِ.
وَانْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ بِالْقَوْل بِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى مَنْ
فَرَّطَ فِي إِنْقَاذِ مَال غَيْرِهِ مِنَ الضَّيَاعِ أَوِ التَّلَفِ،
وَعَلَى مَنْ فَرَّطَ فِي
(31/65)
إِنْقَاذِ حَيَاةِ إِنْسَانٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَلَفٍ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا)
وَالتَّعَدِّي وَالتَّفْرِيطُ أَيْضًا سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْعِوَضِ عَلَى
الْمُضَارِبِ، فَإِذَا هَلَكَ مَال الْمُضَارَبَةِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ
بِسَبَبِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَقْصِيرِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ، وَإِلاَّ
فَالْخُسْرَانُ عَلَى رَبِّ الْمَال دُونَ الْعَامِل لأَِنَّهُ أَمِينٌ
كَالْوَدِيعِ.
(ر: ضَمَان ف 53)
مَا لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ:
17 - هُنَاكَ تَصَرُّفَاتٌ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا. نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:
(أ) لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنِ الْمَنَافِعِ الْمُحَرَّمَةِ
كَالزِّنَا وَالنَّوْحِ وَالْغِنَاءِ وَالْمَلاَهِي الْمُحَرَّمَةِ.
(ر: إِجَارَة ف 108)
(ب) لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَى الطَّاعَاتِ الْوَاجِبَةِ عَلَى
الْمُسْلِمِ كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ.
(ر: إِجَارَة ف 109)
قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَلِهَذَا لاَ يَجُوزُ الاِسْتِئْجَارُ لِلْجِهَادِ؛
لأَِنَّهُ إِذَا حَضَرَ الصَّفَّ
(31/65)
تَعَيَّنَ عَلَيْهِ؛ وَلأَِنَّ مَنْفَعَةَ
الْجِهَادِ تَعُودُ إِلَيْهِ فَالْمَنْفَعَةُ حَاصِلَةٌ لَهُ.
وَلَوْ خَلَّصَ مُشْرِفًا عَلَى الْهَلاَكِ بِالْوُقُوعِ فِي مَاءٍ أَوْ
نَارٍ لاَ تَثْبُتُ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْل، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ.
وَلَوْ كَانَ رَجُلاَنِ فِي بَادِيَةٍ فَمَرِضَ أَحَدُهُمَا وَجَبَ عَلَى
الآْخَرِ تَعَهُّدُهُ، زَادَ الإِْمَامُ: وَلاَ أُجْرَةَ لَهُ، وَإِذَا
وَجَبَ بَذْل الْمَاءِ الْفَاضِل عَنْهُ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ
عَنْهُ فِي الأَْصَحِّ. وَإِذَا تَحَمَّل شَهَادَةً وَطُلِبَ أَدَاؤُهَا
مِنْهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ لِلنَّهْيِ (1) .
(ج) لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ عَنِ
الْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ وَحَقِّ الْقَسْمِ
لِلزَّوْجَةِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَقّ ف 26)
تَقْدِيرُ الْعِوَضِ
يَخْتَلِفُ حُكْمُ تَقْدِيرِ الْعِوَضِ بِاخْتِلاَفِ التَّصَرُّفِ
الْوَاقِعِ فِيهِ كَمَا يَلِي:
أ - التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ فِيهَا
مُقَدَّرًا وَمَعْلُومًا:
18 - اشْتَرَطَ الشَّارِعُ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ أَنْ يَكُونَ
الْعِوَضُ فِيهَا مُقَدَّرًا
__________
(1) المنثور للزركشي 3 / 28 وما بعدها.
(31/66)
وَمَعْلُومًا لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ وَذَلِكَ
كَعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ حَسْمًا لِمَادَّةِ النِّزَاعِ.
فَفِي الْبَيْعِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مَعْلُومًا وَالْمَبِيعُ
مَعْلُومًا.
قَال التُّمُرْتَاشِيُّ: وَشُرِطَ لِصِحَّتِهِ - أَيْ الْبَيْعِ -
مَعْرِفَةُ قَدْرِ مَبِيعٍ وَثَمَنٍ. (1)
وَقَال الدُّسُوقِيُّ: لاَ بُدَّ مِنْ كَوْنِ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ
مَعْلُومَيْنِ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَإِلاَّ فَسَدَ الْبَيْعُ،
وَجَهْل أَحَدِهِمَا كَجَهْلِهِمَا عَلَى الْمَذْهَبِ. (2)
وَقَال النَّوَوِيُّ: وَلِلْمَبِيعِ شُرُوطٌ. . الْخَامِسُ: الْعِلْمُ
بِهِ. . وَمَتَى كَانَ الْعِوَضُ مُعَيَّنًا كَفَتْ مُعَايَنَتُهُ. (3)
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ
الْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ مَعْلُومَيْنِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ حَال الْعَقْدِ.
(4)
وَفِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّتِهَا أَنْ
يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَالأُْجْرَةِ مَعْلُومًا عِنْدَ
الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
(ر: إِجَارَة ف 31 - 40)
وَفِي عَقْدِ السَّلَمِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي رَأْسِ مَال السَّلَمِ
وَالْمُسْلَمِ فِيهِ أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ كُلًّا
مِنْهُمَا بَدَلٌ فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 4 / 21.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 15.
(3) مغني المحتاج 2 / 10، 16، 18.
(4) كشاف القناع 3 / 163، 173.
(31/66)
عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ مَالِيَّةٍ فَلاَ بُدَّ
مِنْ كَوْنِهِ مَعْلُومًا: كَسَائِرِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ.
(ر: سَلَم ف 15 - 22) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عِوَضِ الْخُلْعِ هَل يُشْتَرَطُ أَنْ
يَكُونَ مُقَدَّرًا مَعْلُومًا أَمْ لاَ؟
فَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا مَعْلُومًا (1) ،
وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ حَيْثُ قَالُوا بِصِحَّةِ
الْخُلْعِ بِالْمَجْهُول. (ر: خُلْع ف 26)
ب - التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي لاَ يَجِبُ فِيهَا تَقْدِيرُ الْعِوَضِ:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ وَلَوْ مَعَ عَدَمِ
ذِكْرِ الْمَهْرِ وَتَقْدِيرِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمِ النِّسَاءَ مَا لَمْ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 265.
(31/67)
تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ
فَرِيضَةً} ، (1) وَيُسَمَّى النِّكَاحُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ نِكَاحَ
التَّفْوِيضِ.
بَل ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى صِحَّةِ عَقْدِ النِّكَاحِ مَعَ
اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْمَهْرِ، قَال الْكَاسَانِيُّ: لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ
النِّكَاحَ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْمَهْرِ وَمَعَ نَفْيِهِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمِ النِّسَاءَ
مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} ، رَفَعَ
سُبْحَانَهُ الْجُنَاحَ عَمَّنْ طَلَّقَ فِي نِكَاحٍ لاَ تَسْمِيَةَ فِيهِ،
وَالطَّلاَقُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ النِّكَاحِ فَدَل عَلَى جَوَازِ
النِّكَاحِ بِلاَ تَسْمِيَةٍ. (2)
وَخَالَفَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْمَهْرِ
(3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَفْوِيض ف 5 وَمَا بَعْدَهَا)
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي عِوَضِ
الْخُلْعِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَمُقَدَّرًا، وَنَصُّوا عَلَى صِحَّةِ
الْخُلْعِ مَعَ جَهَالَةِ الْعِوَضِ وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ
الشَّافِعِيَّةُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (خُلْع ف 26)
الأَْعْوَاضُ الَّتِي قَدَّرَهَا الشَّارِعُ:
20 - قَامَ الشَّارِعُ بِتَقْدِيرِ بَعْضِ الأَْعْوَاضِ، وَلَمْ يَتْرُكْ
تَقْدِيرَهَا لأَِحَدٍ وَذَلِكَ حَسْمًا لِمَادَّةِ النِّزَاعِ،
وَتَقْدِيرُ الشَّارِعِ لِلْعِوَضِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَحْدِيدِهِ،
أَوْ بِوَضْعِ ضَابِطٍ
__________
(1) سورة البقرة / 236.
(2) بدائع الصنائع 2 / 274.
(3) تبيين الحقائق 2 / 136، حاشية الدسوقي 2 / 303، 313، مغني المحتاج 3 /
229، كشاف القناع 5 / 156.
(31/67)
يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تَقْدِيرِ
الْعِوَضِ.
وَمِنَ الأَْعْوَاضِ الَّتِي حَدَّدَهَا الشَّارِعُ الدِّيَةُ، فَقَدَّرَ
الشَّارِعُ دِيَةَ الْخَطَأِ مَثَلاً مِائَةً مِنَ الإِْبِل أَوْ أَلْفَ
دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنَ
الْوَرِقِ. وَكَذَلِكَ دِيَةُ الْقَتْل شِبْهَ الْعَمْدِ، وَالْقَتْل
الْعَمْدُ إِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ، لَكِنْ مَعَ التَّغْلِيظِ فِي
الْحَالَيْنِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَات ف 12 وَمَا بَعْدَهَا)
وَأَيْضًا قَدَّرَ الشَّارِعُ دِيَةَ الأَْطْرَافِ وَإِتْلاَفِ الْمَعَانِي
وَالشِّجَاجِ وَالْجُرُوحِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَات ف 34 وَمَا بَعْدَهَا)
وَمِنَ الأَْعْوَاضِ الْمُقَدَّرَةِ مِنَ الشَّارِعِ فَدِيَةُ الْحَامِل
وَالْمُرْضِعِ وَالشَّيْخِ الْهَرِمِ فِي صِيَامِ رَمَضَانَ، وَهِيَ مُدٌّ
مِنْ طَعَامٍ لِمِسْكِينٍ إِذَا كَانَ مِنَ الْبُرِّ، أَوْ نِصْفُ صَاعٍ
إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ وَذَلِكَ عَنْ كُل يَوْمٍ حَصَل فِيهِ
إِفْطَارٌ.
(ر: صَوْم ف 90)
وَفِي كَفَّارَاتِ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ الْفِدْيَةُ، وَهِيَ أَنْ
يَذْبَحَ هَدْيًا أَوْ يَتَصَدَّقَ بِإِطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِين أَوْ
يَصُومَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ.
(ر: إِحْرَام ف 148)
وَمِنَ الأَْعْوَاضِ الَّتِي قَدَّرَهَا الشَّارِعُ بِوَضْعِ ضَابِطٍ
يُرْجَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ تَقْدِيرِهَا
(31/68)
الْعِوَضُ فِي الإِْتْلاَفَاتِ،
وَالضَّابِطُ فِيهِ: رَدُّ مِثْل الْهَالِكِ (الْمُتْلَفِ) إِنْ كَانَ
مِثْلِيًّا أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا، وَالأَْصْل فِيهِ قَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَاءٌ مِثْل إِنَاءٍ
وَطَعَامٌ مِثْل طَعَامٍ. (1)
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا بَيَانُ مَاهِيَّةِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ
بِإِتْلاَفِ مَا سِوَى بَنِي آدَمَ، فَالْوَاجِبُ بِهِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ
بِالْغَصْبِ، وَهُوَ ضَمَانُ الْمِثْل إِنْ كَانَ الْمُتْلَفُ مِثْلِيًّا،
وَضَمَانُ الْقِيمَةِ إِنْ كَانَ مِمَّا لاَ مِثْل لَهُ؛ لأَِنَّ ضَمَانَ
الإِْتْلاَفِ ضَمَانُ اعْتِدَاءٍ، وَالاِعْتِدَاءُ لَمْ يُشْرَعْ إِلاَّ
بِالْمِثْل، فَعِنْدَ الإِْمْكَانِ يَجِبُ الْعَمَل بِالْمِثْل
الْمُطْلَقِ، وَهُوَ الْمِثْل صُورَةً وَمَعْنًى، وَعِنْدَ التَّعَذُّرِ
يَجِبُ الْمِثْل مَعْنًى وَهُوَ الْقِيمَةُ. (2)
(ر: ضَمَان ف 6، 18، 91)
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الصَّدَاقُ فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ، وَالضَّابِطُ
فِيهِ: وُجُوبُ مَهْرِ الْمِثْل، وَيَتَقَرَّرُ هَذَا الْمَهْرُ
بِالْمَوْتِ أَوِ الْوَطْءِ (3) .
(ر: تَفْوِيض ف 8)
__________
(1) حديث: " إناء مثل إناء وطعام مثل طعام ". . أخرجه أبو داود (3 / 828)
من حديث عائشة، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (5 / 125) .
(2) بدائع الصنائع 7 / 168، والقوانين الفقهية 358 - 360 ط دار العلم
للملايين 1979م.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 350، حاشية الدسوقي 3 / 454، مغني المحتاج 2 /
286، 3 / 233، كشاف القناع 5 / 161.
(31/68)
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا جَزَاءُ قَتْل
الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالضَّابِطُ فِيهِ بَيَّنَهُ قَوْله
تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْل
مَا قَتَل مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا
بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِين أَوْ عَدْل ذَلِكَ
صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَال أَمْرِهِ} . (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَام ف 161 وَمَا بَعْدَهَا)
تَجْزِئَةُ الْعِوَضِ:
21 - يَثْبُتُ الْعِوَضُ كَامِلاً حَسَبَ مَا يُقَدِّرُهُ الْعَاقِدَانِ -
كَمَا فِي الْعُقُودِ - أَوْ بِحَسَبِ مَا قَدَّرَهُ الشَّارِعُ - كَمَا
فِي الْجِنَايَاتِ وَالإِْتْلاَفَاتِ.
لَكِنْ هُنَاكَ حَالاَتٌ لاَ يَثْبُتُ فِيهَا الْعِوَضُ كَامِلاً، مِنْهَا:
(أ) حَالَةُ مَا إِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْمَبِيعِ بِفِعْل الْبَائِعِ قَبْل
الْقَبْضِ، فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بُطْلاَنُ الْبَيْعِ
بِقَدْرِهِ وَيَسْقُطُ عَنِ الْمُشْتَرِي حِصَّةُ التَّالِفِ مِنَ
الثَّمَنِ (2) ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَبِيعِ إِذَا
كَانَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: قِيَاسُ قَوْل
__________
(1) سورة المائدة / 95.
(2) بدائع الصنائع 5 / 240، وحاشية ابن عابدين 4 / 46.
(31/69)
أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ
مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ. وَبَيْنَ أَخْذِهِ
وَالرُّجُوعِ عَلَى الْبَائِعِ بِعِوَضِ مَا أَتْلَفَ أَوْ عَيَّبَ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَلَف ف 14)
(ب) حَالَةُ الأَْجِيرِ الْخَاصِّ إِذَا عَمِل لِغَيْرِ مُسْتَأْجِرِهِ
بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ بِقَدْرِ مَا عَمِل.
فَلِرَبِّ الْعَمَل أَنْ يُسْقِطَ مِنْ أَجْرِهِ بِقَدْرِ قِيمَةِ مَا
عَمِل لِغَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ عَمَلُهُ لِغَيْرِهِ مَجَّانًا.
(ر: إِجَارَة ف 106)
(ج) حَالَةُ الطَّلاَقِ قَبْل الدُّخُول عِنْدَ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ،
فَإِنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يَجِبُ لِلْمُطَلَّقَةِ نِصْفُ الْمَهْرِ
الْمُسَمَّى (2) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ
قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ
مَا فَرَضْتُمْ} (3)
(د) فِي الْخُلْعِ إِذَا قَالَتْ طَلِّقْنِي ثَلاَثًا بِأَلْفٍ،
فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَعَلَيْهَا ثُلُثُ الأَْلْفِ؛ لأَِنَّهَا لَمَّا
طَلَبَتِ الثَّلاَثَ بِأَلْفٍ فَقَدْ طَلَبَتْ كُل وَاحِدَةٍ بِثُلُثِ
الأَْلْفِ، وَهَذَا لأَِنَّ حَرْفَ الْبَاءِ يَصْحَبُ الأَْعْوَاضَ،
وَالْعِوَضُ يَنْقَسِمُ عَلَى الْمُعَوَّضِ. (4)
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 124.
(2) المغني لابن قدامة 6 / 714.
(3) سورة البقرة / 237.
(4) فتح القدير 3 / 209 ط. الأميرية 1316هـ.
(31/69)
تَسْلِيمُ الْعِوَضِ:
22 - إِذَا ثَبَتَ الْعِوَضُ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ نَتِيجَةَ مَا قَامَ بِهِ
مِنْ تَصَرُّفٍ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْعِوَضِ إِلَى
مُسْتَحِقِّهِ.
وَيَخْتَلِفُ وَقْتُ تَسْلِيمِ الْعِوَضِ بِاخْتِلاَفِ التَّصَرُّفِ
الْوَاقِعِ فِيهِ.
فَفِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ اشْتَرَطَ الشَّارِعُ تَسْلِيمَ الْعِوَضِ
حَالاً وَفِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ؛ لأَِنَّهَا أَعْوَاضٌ حَالَّةٌ بِحُكْمِ
الشَّرْعِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي بَيْعِ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ
بَعْضِهَا بِبَعْضٍ عِنْدَ اتِّحَادِ الْعِلَّةِ، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ
حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ
وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ
بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلاً
بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ
الأَْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ.
(1) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (رِبًا ف 26 وَمَا بَعْدَهَا)
وَفِي عَقْدِ السَّلَمِ اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ لِصِحَّتِهِ تَسْلِيمَ رَأْسِ
__________
(1) حديث عبادة بن الصامت: " الذهب بالذهب ". . أخرجه مسلم (3 / 1211) .
(31/70)
الْمَال فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، فَلَوْ
تَفَرَّقَا قَبْلَهُ بَطَل الْعَقْدُ، وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ
تَأْخِيرَهُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاَثَةَ.
(ر: سَلَم ف 16)
وَفِي الشُّفْعَةِ يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ
أَنْ يَكُونَ ثَمَنُ الْمَشْفُوعِ فِيهِ حَالاً وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ
مُؤَجَّلاً عَلَى الْمُشْتَرِي، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
إِلَى أَنَّهُ إِذَا بِيعَ الْعَقَارُ مُؤَجَّلاً أَخَذَهُ الشَّفِيعُ
إِلَى أَجَلِهِ.
(ر: أَجَل ف 41)
وَفِي الإِْقَالَةِ يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الثَّمَنَ إِذَا
كَانَ حَالاً فَأَجَّلَهُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الإِْقَالَةِ. فَإِنَّ
التَّأْجِيل يَبْطُل وَتَصِحُّ الإِْقَالَةُ.
ر: (أَجَل ف 39)
وَفِي دِيَةِ الْقَتْل الْعَمْدِ يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهَا تَجِبُ فِي مَال الْقَاتِل حَالَّةً غَيْرَ
مُؤَجَّلَةٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (أَجَل ف 43) .
23 - وَفِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ يَكُونُ الْعِوَضُ مُؤَجَّلاً بِحُكْمِ
الشَّرْعِ.
وَمِنْ هَذِهِ الأَْعْوَاضِ الدِّيَةُ فِي الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ
وَالْقَتْل الْخَطَأِ، حَيْثُ تَكُونُ الدِّيَةُ
(31/70)
فِيهِمَا مُؤَجَّلَةً لِمُدَّةِ ثَلاَثِ
سَنَوَاتٍ.
(ر: أَجَل ف 44 - 45)
وَمِنْهَا الْمُسْلَمُ فِيهِ، فَقَدِ اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِصِحَّةِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ
الْمُسْلَمُ فِيهِ مُؤَجَّلاً إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَلاَ يَصِحُّ
السَّلَمُ الْحَال، وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ جَوَازَ السَّلَمِ فِي
الْحَال.
(ر: أَجَل ف 46) .
وَمِنْهَا الْعِوَضُ الْمُكَاتَبُ بِهِ حَيْثُ يَرَى الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لاَ تَكُونُ
إِلاَّ بِمَالٍ مُؤَجَّلٍ مُنَجَّمٍ تَيْسِيرًا عَلَى الْمُكَاتَبِ،
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ الْكِتَابَةِ بِمَالٍ مُؤَجَّلٍ وَبِمَالٍ
حَالٍّ.
(ر: أَجَل ف 47)
24 - وَفِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ أَجَازَ الشَّارِعُ تَأْخِيرَ تَسْلِيمِ
الْعِوَضِ بِحَسَبِ مَا يَتَّفِقُ عَلَيْهِ الْعَاقِدَانِ، فَقَدِ اتَّفَقَ
الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ تَأْجِيل الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، لِحَدِيثِ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا بِنَسِيئَةٍ
وَرَهَنَهُ دِرْعًا لَهُ مِنْ حَدِيدٍ. (1)
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
__________
(1) حديث عائشة: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشترى من يهودي
طعامًا. . . ". . أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 433) .
(31/71)
الرَّأْيِ الْمَرْجُوحِ تَأْجِيل تَسْلِيمِ
الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ إِلَى الْمُدَّةِ الَّتِي يُحَدِّدُهَا
الْعَاقِدَانِ، كَمَا لَوْ بَاعَ دَارًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا الْبَائِعُ
شَهْرًا ثُمَّ يُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّأْيِ الرَّاجِحِ.
(وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي أَجَل ف 33 وَمَا بَعْدَهَا)
مَوَانِعُ تَسْلِيمِ الْعِوَضِ:
25 - أَجَازَ الْفُقَهَاءُ - فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ - حَبْسَ
الْعِوَضِ لاِسْتِيفَاءِ بَدَلِهِ، فَيَجُوزُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَمْتَنِعَ
عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي حَتَّى يَقْضِيَ الثَّمَنَ
الْمُعَجَّل.
(ر: اسْتِيفَاء ف 20)
وَإِنْ كَانَتِ الأُْجْرَةُ مُعَجَّلَةً فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ كَانَ
لِلْمُؤَجِّرِ حَبْسُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ
الأُْجْرَةَ.
(ر: إِجَارَة ف 56)
وَلِلزَّوْجَةِ أَنْ تَمْتَنِعَ عَنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا إِلَى أَنْ
يَدْفَعَ لَهَا الزَّوْجُ صَدَاقَهَا الْمُعَجَّل؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ حَقَّ
الزَّوْجِ قَدْ تَعَيَّنَ فِي الْمُبْدَل فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَيَّنَ
حَقُّهَا فِي الْبَدَل تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا (1) .
__________
(1) الاختيار 3 / 108، الخرشي على خليل 3 / 257، مغني المحتاج 3 / 222.
(31/71)
وَمِنْ مَوَانِعِ تَسْلِيمِ الزَّوْجَةِ
لِزَوْجِهَا الصِّغَرُ، فَلاَ تُسَلَّمُ صَغِيرَةٌ لاَ تَحْتَمِل الْوَطْءَ
إِلَى زَوْجِهَا حَتَّى تَكْبُرَ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَحْمِلُهُ فَرْطُ
الشَّهْوَةِ عَلَى الْجِمَاعِ فَتَتَضَرَّرُ بِهِ. (1)
وَمِنْ مَوَانِعِ تَسْلِيمِ الزَّوْجَةِ الْمَرَضُ الَّذِي يَمْنَعُ مِنَ
الْجِمَاعِ، وَتُمْهَل الْمَرْأَةُ إِلَى حِينِ زَوَال مَرَضِهَا. (2)
مُسْقِطَاتُ الْعِوَضِ:
هُنَاكَ أَسْبَابٌ تُؤَدِّي إِلَى سُقُوطِ الْعِوَضِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ،
مِنْهَا مَا يَلِي:
أ - هَلاَكُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ:
26 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ هَلاَكَ الْمَعْقُودِ
عَلَيْهِ يُؤَدِّي إِلَى سُقُوطِ مَا يُقَابِلُهُ مِنَ الْعِوَضِ فِي
الْجُمْلَةِ.
فَإِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ قَبْل الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ
بِفِعْل الْمَبِيعِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَسَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ
الْمُشْتَرِي.
(ر: تَلَف ف 9)
وَإِذَا هَلَكَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ بِحَيْثُ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 298، مغني المحتاج 3 / 224، كشاف القناع 5 / 186.
(2) فتح القدير 3 / 249، حاشية الدسوقي 2 / 298، مغني المحتاج 3 / 224،
كشاف القناع 5 / 186.
(31/72)
تَفُوتُ الْمَنَافِعُ الْمَقْصُودَةُ
مِنْهَا كُلِّيَّةً كَالدَّارِ إِذَا انْهَدَمَتْ وَصَارَتْ أَنْقَاضًا،
وَالسَّفِينَةُ إِذَا نُقِضَتْ وَصَارَتْ أَلْوَاحًا انْفَسَخَ عَقْدُ
الإِْجَارَةِ وَسَقَطَتِ الأُْجْرَةُ. (1)
ب - الإِْبْرَاءُ:
27 - الإِْبْرَاءُ: هُوَ إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ
آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ.
فَالإِْبْرَاءُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْعِوَضِ عَنِ الذِّمَّةِ،
وَالْحُكْمُ الْغَالِبُ لِلإِْبْرَاءِ هُوَ النَّدْبُ.
(ر: إِبْرَاء ف 12)
ج - الْعَفْوُ:
28 - الْعَفْوُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْعِوَضِ، وَيَأْتِي ذَلِكَ
فِي الْقِصَاصِ وَالْجِنَايَاتِ، فَإِذَا ثَبَتَتِ الدِّيَةُ عَلَى
الْجَانِي، كَانَ الْعَفْوُ مُسْقِطًا لَهَا، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ
عَلَى أَنَّ دِيَةَ النَّفْسِ تَسْقُطُ بِعَفْوِ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ
الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا، وَإِذَا عَفَا بَعْضُهُمْ دُونَ الْبَعْضِ
يَسْقُطُ حَقُّ مَنْ عَفَا، وَتَبْقَى حِصَّةُ الآْخَرِينَ فِي مَال
الْجَانِي إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا، وَعَلَى الْعَاقِلَةِ إِنْ
كَانَتْ خَطَأً.
وَإِذَا عَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَنْ دِيَةِ الْجِنَايَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 196، الإنصاف 6 / 61.
(31/72)
عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الْقَطْعِ
وَإِتْلاَفِ الْمَعَانِي تَسْقُطُ دِيَتُهَا؛ لأَِنَّهَا مِنْ حُقُوقِ
الْعِبَادِ الَّتِي تَسْقُطُ بِعَفْوِ مَنْ لَهُ حَقُّ الْعَفْوِ.
(ر: دِيَات ف 83)
د - الإِْسْلاَمُ:
29 - قَدْ يَكُونُ الإِْسْلاَمُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْعِوَضِ،
وَذَلِكَ فِي الْجِزْيَةِ. فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ
الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَمَّنْ دَخَل فِي الإِْسْلاَمِ مِنْ أَهْل
الذِّمَّةِ، فَلاَ يُطَالَبُ بِهَا فِيمَا يُسْتَقْبَل مِنَ الزَّمَانِ،
لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ
جِزْيَةٌ. (1)
وَهُنَاكَ مُسْقِطَاتٌ أُخْرَى لِلْجِزْيَةِ سَبَقَ تَفْصِيلُهَا فِي
(مُصْطَلَحِ جِزْيَة ف 69 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) حديث ابن عباس: " ليس على المسلم جزية ". . أخرجه أبو داود (3 / 438) ،
وأشار أبو حاتم الرازي إلى إعلاله بالإرسال كما في علل الحديث (1 / 314) .
(31/73)
عَوْلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَوْل مَصْدَرُ عَال يَعُول، وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ
الاِرْتِفَاعُ وَالزِّيَادَةُ يُقَال: عَالَتِ الْفَرِيضَةُ إِذَا
ارْتَفَعَ حِسَابُهَا، وَزَادَتْ سِهَامُهَا، فَنَقَصَتِ الأَْنْصِبَاءُ.
(1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ أَنْ يُزَادَ عَلَى الْمُخْرَجِ شَيْءٌ مِنْ
أَجْزَائِهِ، كَسُدُسِهِ أَوْ ثُلُثِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْكُسُورِ
الْمَوْجُودَةِ فِيهِ إِذَا ضَاقَ الْمُخْرَجُ عَنْ فَرْضٍ، أَوْ هُوَ
زِيَادَةُ سِهَامِ الْفُرُوضِ عَنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ بِزِيَادَةِ
كُسُورِهَا عَنِ الْوَاحِدِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الرَّدُّ:
2 - مِنْ مَعَانِي الرَّدِّ الرُّجُوعُ، يُقَال: رَدَّ عَلَيْهِ
الْوَدِيعَةَ وَرَدَدْتُهُ إِلَى مَنْزِلِهِ فَارْتَدَّ إِلَيْهِ. (3)
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) شرح السراجية ص194.
(3) المصباح المنير.
(31/73)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: دَفْعُ مَا فَضَل
مِنْ فُرُوضِ ذَوِي الْفُرُوضِ إِلَى ذَوِي الْفُرُوضِ النَّسَبِيَّةِ
بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ عِنْدَ عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْغَيْرِ. (1)
وَعَلَى ذَلِكَ فَالرَّدُّ ضِدُّ الْعَوْل، إِذْ بِالْعَوْل تُنْتَقَصُ
سِهَامُ ذَوِي الْفُرُوضِ وَيَزْدَادُ أَصْل الْمَسْأَلَةِ، وَبِالرَّدِّ
تَزْدَادُ السِّهَامُ وَيُنْتَقَصُ أَصْل الْمَسْأَلَةِ، وَفِي الْعَوْل
تَفْضُل السِّهَامُ عَلَى الْمُخْرَجِ. وَفِي الرَّدِّ يَفْضُل الْمُخْرَجُ
عَلَى السِّهَامِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - الْعَوْل مَشْرُوعٌ وَيُؤْخَذُ بِهِ إِذَا ضَاقَ الْمُخْرَجُ عَنِ
الْوَفَاءِ بِسِهَامِ جَمِيعِ أَهْل الْفُرُوضِ. فَإِذَا مَاتَتِ امْرَأَةٌ
عَنْ زَوْجٍ وَأُمٍّ وَأُخْتٍ شَقِيقَةٍ، فَالْوَرَثَةُ كُلُّهُمْ مِنْ
أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلأُْمِّ الثُّلُثُ،
وَلِلأُْخْتِ النِّصْفُ، فَرْضًا، وَقَدْ زَادَتِ الْفُرُوضُ عَمَّا
تَنْقَسِمُ إِلَيْهِ التَّرِكَةُ، لأَِنَّنَا لَوْ أَعْطَيْنَا الزَّوْجَ
النِّصْفَ فَالْبَاقِي لاَ يَسَعُ النِّصْفَ وَالثُّلُثَ، وَهَكَذَا فِي
حَالَةِ إِعْطَاءِ الآْخَرِينَ فُرُوضَهُمْ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الْعَوْل،
أَيْ زِيَادَةِ أَصْل السِّهَامِ فِي أَصْل الْمَسْأَلَةِ أَيْ
__________
(1) حاشية الفناري على شرح السراجية ص238.
(2) شرح السراجية ص238.
(31/74)
الْمُخْرَجِ، قَال فِي شَرْحِ
السِّرَاجِيَّةِ: إِنَّ الْمُخْرَجَ إِذَا ضَاقَ عَنِ الْوَفَاءِ
بِالْفُرُوضِ الْمُجْتَمِعَةِ فِيهِ تُرْفَعُ التَّرِكَةُ إِلَى عَدَدٍ
أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْمُخْرَجِ ثُمَّ تُقْسَمُ حَتَّى يَدْخُل
النُّقْصَانُ فِي فَرَائِضِ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ عَلَى نِسْبَةٍ وَاحِدَةٍ؛
(1) لأَِنَّ الْمُسْتَحِقِّينَ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ قَدْ تَسَاوَوْا
فِي سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ وَهُوَ النَّصُّ، فَيَتَسَاوَوْنَ فِي
الاِسْتِحْقَاقِ، فَيَأْخُذُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمِيعَ حَقِّهِ إِذَا
اتَّسَعَ الْمَحَل وَيَنْقُصُ مِنْ حَقِّهِ إِذَا ضَاقَ الْمَحَل،
كَالْغُرَمَاءِ فِي التَّرِكَةِ، فَإِذَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِي
مَالٍ نِصْفَيْنِ وَثُلُثًا مَثَلاً، عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ الضَّرْبُ
بِهَذِهِ الْفُرُوضِ فِي ذَلِكَ الْمَال، لاِسْتِحَالَةِ وَفَائِهِ بِهَا.
(2)
وَأَوَّل مَنْ حَكَمَ بِالْعَوْل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ،
فَإِنَّهُ وَقَعَ فِي عَهْدِهِ صُورَةٌ ضَاقَ مَخْرَجُهَا عَنْ فُرُوضِهَا،
فَشَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِيهَا فَأَشَارَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ بِالْعَوْل، وَقَال: أَعِيلُوا الْفَرَائِضَ، فَتَابَعُوهُ عَلَى
ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ (3) . وَفِي خِلاَفَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَظْهَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
خِلاَفَهُ فِي الْعَوْل فَقَال: لَوْ أَنَّهُمْ قَدَّمُوا مَنْ قَدَّمَ
اللَّهُ وَأَخَّرُوا
__________
(1) شرح السراجية ص194.
(2) شرح السراجية ص196.
(3) شرح السراجية ص195.
(31/74)
مَنْ أَخَّرَ اللَّهُ مَا عَالَتْ
فَرِيضَةٌ قَطُّ، فَقِيل لَهُ: مَنْ قَدَّمَهُ اللَّهُ وَمَنْ أَخَّرَهُ؟
فَقَال: قَدَّمَ اللَّهُ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ وَالأُْمَّ وَالْجَدَّةَ،
وَأَخَّرَ اللَّهُ الْبَنَاتِ، وَبَنَاتِ الاِبْنِ، وَالأَْخَوَاتِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْفَرَائِضِ أَنَّ مَجْمُوعَ الْمَخَارِجِ
سَبْعَةٌ: أَرْبَعَةٌ مِنْهَا لاَ تَعُول أَصْلاً وَهِيَ الاِثْنَانِ
وَالثَّلاَثَةُ وَالأَْرْبَعَةُ وَالثَّمَانِيَةُ؛ لأَِنَّ الْفُرُوضَ
الْمُتَعَلِّقَةَ بِهَذِهِ الْمَخَارِجِ إِمَّا أَنْ يَفِيَ الْمَال بِهَا
أَوْ يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَيْهَا، وَثَلاَثَةٌ مِنْ هَذِهِ
الْمَخَارِجِ قَدْ تَعُول، وَهِيَ سِتَّةٌ، وَاثْنَا عَشَرَ، وَأَرْبَعَةٌ
وَعِشْرُونَ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِرْث ف 56 - 62) .
__________
(1) شرح السراجية ص197 - 199، و200.
(31/75)
عَوْم
التَّعْرِيفُ
1 - الْعَوْمُ فِي اللُّغَةِ السِّبَاحَةُ، يُقَال رَجُلٌ عَوَّامٌ:
مَاهِرٌ فِي السِّبَاحَةِ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَوْمِ.
2 - الْعَوْمُ مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي رَغَّبَ فِيهَا الإِْسْلاَمُ
وَحَثَّ عَلَى تَعَلُّمِهَا كَرُكُوبِ الْخَيْل وَالرِّمَايَةِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِمَّا يُقَوِّي الْجِسْمَ، وَيُنَمِّي الْمَهَارَاتِ
الْمَشْرُوعَةَ، وَيَدْفَعُ الْكَسَل وَالْخُمُول عَنِ الْمُسْلِمِ. وَعَنِ
ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَرْفُوعًا: عَلِّمُوا
أَبْنَاءَكُمُ السِّبَاحَةَ وَالرَّمْيَ (2)
__________
(1) لسان العرب.
(2) حديث: " علموا أبناءكم السباحة والرمي ". . أخرجه البيهقي في شعب
الإيمان (6 / 401) ثم قال عن أحد رواته: إنه منكر الحديث.
(31/75)
وَيَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ فِي الْعَوْمِ
بِلاَ جُعْلٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي (سِبَاق ف 6 وَمَا بَعْدَهَا) .
ضَمَانُ الْعَوَّامِ لِمَنْ غَرِقَ بِيَدِهِ.
3 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا سُلِّمَ صَبِيٌّ إِلَى عَوَّامٍ
لِيُعَلِّمَهُ الْعَوْمَ فَغَرِقَ الصَّبِيُّ، وَجَبَتْ دِيَتُهُ؛ لأَِنَّ
غَرَقَهُ بِإِهْمَال السَّبَّاحِ، وَهِيَ دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَهِيَ
عَلَى الْعَاقِلَةِ. (2)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 259، ونهاية المحتاج 6 / 165، والمحلي مع
القليوبي 4 / 265، والمغني لابن قدامة 8 / 652 وما بعدها.
(2) نهاية المحتاج 7 / 352، والمحلي مع القليوبي 4 / 147.
(31/76)
عِيَادَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِيَادَةُ لُغَةً: الزِّيَارَةُ مُطْلَقًا، وَاشْتُهِرَ
اسْتِعْمَالُهَا فِي زِيَارَةِ الْمَرِيضِ، حَتَّى صَارَتْ كَأَنَّهَا
مُخْتَصَّةٌ بِهِ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ عَلَى
أَقْوَالٍ:
فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا سُنَّةٌ أَوْ مَنْدُوبَةٌ، وَقَدْ تَصِل
إِلَى الْوُجُوبِ فِي حَقِّ بَعْضِ الأَْفْرَادِ دُونَ بَعْضٍ،
وَقَال ابْنُ عَلاَّنَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: هِيَ سُنَّةُ كِفَايَةٍ،
وَقِيل: فَرْضُ كِفَايَةٍ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ،
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَنَقَل
النَّوَوِيُّ الإِْجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ عَلَى الأَْعْيَانِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهَا مَنْدُوبَةٌ إِذَا قَامَ بِهَا
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(31/76)
الْغَيْرُ، وَإِلاَّ وَجَبَتْ لأَِنَّهَا
مِنَ الأُْمُورِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْكِفَايَةِ، إِلاَّ عَلَى مَنْ
تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ فَيَجِبُ عِيَادَتُهُ عَلَيْهِ عَيْنًا.
وَتُكْرَهُ عِيَادَةُ ذِي بِدْعَةٍ دِينِيَّةٍ، وَتَحْرُمُ عَلَى
الْعَالِمِ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ ذِي الْبِدْعَةِ الدِّينِيَّةِ لِمَا
يَتَرَتَّبُ عَلَى عِيَادَتِهِ لَهُ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَإِغْرَاءِ
الْعَامَّةِ بِاتِّبَاعِهِ وَحُسْنِ طَرِيقَتِهِ.
وَتَجُوزُ عِيَادَةُ الْفَاسِقِ فِي الأَْصَحِّ لأَِنَّهُ مُسْلِمٌ،
وَالْعِيَادَةُ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ. (1)
وَالأَْصْل فِي مَشْرُوعِيَّةِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ حَدِيثُ: حَقُّ
الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلاَمِ، وَعِيَادَةُ
الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ،
وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ (2) وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَمَرَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ
الْجَنَائِزِ وَبِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ. (3)
__________
(1) حاشية رد المحتار 5 / 248، وشرح البخاري للعيني 8 / 9، والفواكه
الدواني 2 / 427، والمدخل لابن الحاج 1 / 130 وما بعدها، ودليل الفالحين 6
/ 33، وفتح الباري 10 / 202، والمغني 2 / 449، والآداب الشرعية لابن مفلح 2
/ 209.
(2) حديث: " حق المسلم على المسلم خمس. . . ". . أخرجه البخاري (فتح الباري
3 / 112) ومسلم (4 / 1704) من حديث أبي هريرة. واللفظ للبخاري.
(3) حديث البراء: " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتباع
الجنائز. . . ". . أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 112) .
(31/77)
كَمَا تَجُوزُ عِيَادَةُ الْكَافِرِ
خَاصَّةً إِنْ رُجِيَ إِسْلاَمُهُ، لِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ غُلاَمًا لِيَهُودٍ كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَال: أَسْلِمْ، فَأَسْلَمَ، (1) وَوَرَدَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ يَهُودِيًّا
مَرِضَ بِجِوَارِهِ. (2)
وَتَجُوزُ عِيَادَةُ الذِّمِّيِّ؛ لأَِنَّهُ نَوْعُ بِرٍّ فِي حَقِّ أَهْل
الذِّمَّةِ، وَمَا نُهِينَا عَنْ ذَلِكَ.
وَفِي عِيَادَةِ الْمَجُوسِ قَوْلاَنِ. (3)
فَضْل عِيَادَةِ الْمَرِيضِ:
3 - وَرَدَ فِي فَضْل عِيَادَةِ الْمَرِيضِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا:
حَدِيثٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُول
يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَال:
يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَال: أَمَا
عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلاَنًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ
أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ
__________
(1) حديث أنسِ: " أن غلامًا ليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم. . .
". . أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 119) .
(2) حديث " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاد يهوديًا. . . ". . أخرجه
العقيلي في الضعفاء (2 / 243) من حديث أبي هريرة، وذكر أن في إسناده راويًا
مجهولاً.
(3) المراجع السابقة.
(31/77)
لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ (1) وَمِنْهَا
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا عَادَ
أَخَاهُ الْمُسْلِمَ لَمْ يَزَل فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ،
(2) وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَا مِنْ
مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِمًا غَدْوَةً إِلاَّ صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ
أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ عَادَهُ عَشِيَّةً إِلاَّ صَلَّى
عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ
فِي الْجَنَّةِ (3)
آدَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ:
4 - مِنْ آدَابِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ: أَنْ لاَ يُطِيل الْجُلُوسَ إِلاَّ
إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لاَ يَشُقُّ عَلَيْهِ وَيَأْنَسَ بِهِ، وَأَنْ
يَدْنُوَ مِنْهُ، وَيَضَعَ يَدَهُ عَلَى جِسْمِهِ، وَيَسْأَلَهُ عَنْ
حَالِهِ، وَيُنَفِّسَ لَهُ فِي الأَْجَل بِأَنْ يَقُول مَا يُسَرُّ بِهِ،
وَيُوصِيهِ بِالصَّبْرِ عَلَى مَرَضِهِ، وَيَذْكُرَ لَهُ فَضْلَهُ إِنْ
صَبَرَ عَلَيْهِ. وَيَسْأَل مِنْهُ الدُّعَاءَ فَدُعَاؤُهُ مُجَابٌ كَمَا
وَرَدَ (4) .
__________
(1) حديث: " إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا ابن آدم. . . ". . أخرجه
مسلم (4 / 1990) .
(2) حديث: " إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم. . . ". . أخرجه مسلم (4 /
1989) من حديث ثوبان.
(3) دليل الفالحين 3 / 367. . وحديث: " ما من مسلم يعود مسلمًا غدوة. . .
". . أخرجه الترمذي (3 / 292) وحسنه.
(4) دليل الفالحين 6 / 33 - 34.
(31/78)
وَمِنَ الآْدَابِ: أَنْ يَسْتَصْحِبَ
مَعَهُ مَا يَسْتَرْوِحُ بِهِ كَرَيْحَانٍ أَوْ فَاكِهَةٍ. وَأَنْ
يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مُحْتَاجًا لِذَلِكَ، وَأَنْ يُرَغِّبَهُ
فِي التَّوْبَةِ وَالْوَصِيَّةِ إِنْ لَمْ يَتَأَذَّ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ
تَظْهَرْ عَلَيْهِ أَمَارَاتُ مَوْتٍ عَلَى الأَْوْجَهِ، وَأَنْ يَتَأَمَّل
حَال الْمَرِيضِ وَكَلِمَاتِهِ، فَإِنْ رَأَى الْغَالِبَ عَلَيْهِ
الْخَوْفُ أَزَالَهُ عَنْهُ بِذِكْرِ مَحَاسِنِ عَمَلِهِ لَهُ.
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَادَ الْمَرِيضَ جَلَسَ عِنْدَ
رَأْسِهِ ثُمَّ قَال سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَسْأَل اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ فَإِنْ كَانَ فِي أَجَلِهِ تَأْخِيرٌ
عُوفِيَ مِنْ وَجَعِهِ (1)
وَقْتُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ:
5 - تُسَنُّ الْعِيَادَةُ فِي كُل وَقْتٍ قَابِلٍ لَهَا بِأَنْ لاَ يَشُقَّ
عَلَى الْمَرِيضِ الدُّخُول عَلَيْهِ فِيهِ، وَهِيَ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ
بِوَقْتٍ يَمْضِي مِنَ ابْتِدَاءِ مَرَضِهِ، وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُورِ،
وَلأَِيِّ مَرَضٍ كَانَ. وَكَرَاهَتُهَا فِي بَعْضِ الأَْيَّامِ لاَ
__________
(1) عن مختصر كتاب الإفادة لابن حجر الهيتمي. . وحديث: " أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - كان إذا عاد المريض جلس عند رأسه. . . ". . أخرجه البخاري
في الأدب المفرد ص 189. وأعله ابن حجر بالاضطراب في سنده، كما في الفتوحات
الربانية لابن علان (4 / 62) .
(31/78)
أَصْل لَهُ. وَتَكُونُ عَقِبَ الْعِلْمِ
بِالْمَرَضِ وَإِنْ لَمْ تَطُل مُدَّةُ الاِنْقِطَاعِ. (1)
مَنْ تُشْرَعُ لَهُ زِيَارَةُ الْمَرِيضِ؟
6 - تُشْرَعُ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ لِلْمُسْلِمِينَ كَافَّةً، يَسْتَوِي
فِي ذَلِكَ مَنْ يَعْرِفُ الْمَرِيضَ وَمَنْ لاَ يَعْرِفُهُ، وَيَسْتَوِي
فِي ذَلِكَ الْقَرِيبُ وَالأَْجْنَبِيُّ، إِلاَّ أَنَّهَا لِلْقَرِيبِ
وَمَنْ يَعْرِفُهُ آكَدُ وَأَفْضَل لِعُمُومِ الأَْحَادِيثِ، فَالْجَارُ
هُوَ الْقَرِيبُ مِنْ مَحَلِّهِ بِحَيْثُ تَقْضِي الْعَادَةُ بِوُدِّهِ
وَتَفَقُّدِهِ وَلَوْ مَرَّةً.
وَأَمَّا الْعَدُوُّ فَإِنَّهُ إِنْ أَرَادَ الْعِيَادَةَ وَعَلِمَ أَوْ
ظَنَّ كَرَاهَةَ الْمَرِيضِ لِدُخُول مَحَلِّهِ وَأَنَّهُ يَحْصُل لَهُ
بِرُؤْيَتِهِ ضَرَرٌ لاَ يُحْتَمَل عَادَةً حَرُمَتِ الْعِيَادَةُ أَوْ
كُرِهَتْ. (2)
الدُّعَاءُ لِلْمَرِيضِ:
7 - كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَادَ مَرِيضًا يَدْعُو
لَهُ بِالشِّفَاءِ وَالْعَافِيَةِ، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ سَعْدٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَال: تَشَكَّيْتُ بِمَكَّةَ فَجَاءَنِي النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِي،
ثُمَّ مَسَحَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِي وَبَطْنِي، ثُمَّ قَال: اللَّهُمَّ
__________
(1) فتح الباري 10 / 113، ودليل الفالحين 3 / 372.
(2) فتح الباري 10 / 113.
(31/79)
اشْفِ سَعْدًا وَأَتِمَّ لَهُ هِجْرَتَهُ.
قَال: فَمَا زِلْتُ أَجِدُ بَرْدَهُ عَلَى كَبِدِي فِيمَا يُخَال إِلَيَّ
حَتَّى السَّاعَةِ. (1)
وَقَدْ أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُل مَنْ يَعُودُ أَخَاهُ
الْمُسْلِمَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ مَا لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ. فَقَدْ رُوِيَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مَرِيضًا لَمْ
يَحْضُرْ أَجَلُهُ فَيَقُول سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَسْأَل اللَّهَ الْعَظِيمَ
أَنْ يَشْفِيَكَ إِلاَّ عُوفِيَ. (2)
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَتَى مَرِيضًا أَوْ أُتِيَ بِهِ إِلَيْهِ
قَال أَذْهِبِ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لاَ
شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا (3)
وَقَال ابْنُ بَطَّالٍ: فِي وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْمَرِيضِ تَأْنِيسٌ
لَهُ، وَتَعَرُّفٌ لِشِدَّةِ مَرَضِهِ، لِيَدْعُوَ لَهُ بِالْعَافِيَةِ
عَلَى حَسَبِ مَا يَبْدُو لَهُ
__________
(1) حديث سعد: " تشكيت بمكة فجاءني النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". .
أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 120) .
(2) حديث ابن عباس: " ما من عبد مسلم يعود مريضًا لم يحضر. . . ". . أخرجه
الترمذي (4 / 410) وأعله ابن حجر بالاضطراب في سنده، كما في الفتوحات لابن
علان (4 / 62) .
(3) حديث عائشة: " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتى مريضًا أو
أتى به. . . ". . أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 131) .
(31/79)
مِنْهُ، وَرُبَّمَا رَقَاهُ بِيَدِهِ
وَمَسَحَ عَلَى أَلَمِهِ بِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْعَلِيل. (1)
إِطْعَامُ الْمَرِيضِ مَا يَشْتَهِي:
8 - إِذَا اشْتَهَى الْمَرِيضُ شَيْئًا مِنَ الطَّعَامِ عَلَى الْعَائِدِ
أَطْعَمَهُ إِيَّاهُ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ رَجُلاً فَقَال
لَهُ مَا تَشْتَهِي؟ فَقَال: أَشْتَهِي خُبْزَ بُرٍّ، فَقَال النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ خُبْزُ بُرٍّ
فَلْيَبْعَثْ إِلَى أَخِيهِ، ثُمَّ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا اشْتَهَى مَرِيضُ أَحَدِكُمْ شَيْئًا
فَلْيُطْعِمْهُ، (2) وَهَذَا إِذَا كَانَ لاَ يَضُرُّهُ، أَمَّا إِذَا
كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ لَهُ فَلْيُسَوِّفْهُ عَنْهُ بِرِفْقٍ وَلاَ
يُؤَسِّيهِ.
وَلَيْسَ لِلْعَائِدِ أَنْ يُكْرِهَهُ عَلَى تَنَاوُل شَيْءٍ، (3)
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُكْرِهُوا مَرْضَاكُمْ
عَلَى الطَّعَامِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ
(4)
__________
(1) الطب النبوي لابن القيم ص75.
(2) حديث ابن عباس: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاد رجلاً. . . ". .
أخرجه ابن ماجه (1 / 1138) وضعف إسناده ابن حجر، كما في الفتوحات لابن علان
(4 / 89) .
(3) الطب النبوي ص70.
(4) حديث: " لا تكرهوا مرضاكم على الطعام. . . ". . أخرجه الترمذي (4 /
384) من حديث عقبة بن عامر، وحسنه. وانظر الطب النبوي ص70.
(31/80)
عِيَافَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - تُطْلَقُ الْعِيَافَةُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا:
الْكَرَاهِيَةُ لِلطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ، يُقَال: عَافَ الطَّعَامَ
أَوِ الشَّرَابَ يَعَافُهُ عَيْفًا وَعِيَافَةً: كَرِهَهُ فَلَمْ
يَأْكُلْهُ وَالْعَائِفُ لِلشَّيْءِ: الْكَارِهُ الْمُتَقَذِّرُ لَهُ.
وَتُطْلَقُ الْعِيَافَةُ عَلَى زَجْرِ الطَّيْرِ لِلتَّشَاؤُمِ أَوِ
التَّفَاؤُل بِأَسْمَائِهَا وَأَصْوَاتِهَا وَمَمَرِّهَا. (1) وَمِنْهَا
الْعَائِفُ الَّذِي يَعِيفُ الطَّيْرَ فَيَزْجُرُهُ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الْعِيَافَةُ بِمَعْنَى زَجْرِ الطَّيْرِ وَالتَّفَاؤُل أَوِ
التَّشَاؤُمِ بِأَسْمَائِهَا وَبِأَصْوَاتِهَا وَمَمَرَّاتِهَا كَانَتْ
عَادَةً لِلْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَبْطَل الإِْسْلاَمُ ذَلِكَ
وَنَهَى عَنْهُ، وَأَرْجَعَ الأَْمْرَ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ
الْمُطْلَقَةِ، وَسُنَنِهِ الثَّابِتَةِ فِي
__________
(1) لسان العرب، متن اللغة، فتح الباري 10 / 212 - 216. .
(31/80)
الْكَوْنِ.
جَاءَ فِي الأَْثَرِ: الْعِيَافَةُ، وَالطِّيَرَةُ، وَالطَّرْقُ مِنَ
الْجِبْتِ. (1) (ر: تَطَيُّر ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .
أَمَّا الْعِيَافَةُ بِمَعْنَى كَرَاهَةِ الطَّعَامِ وَالاِمْتِنَاعِ عَنْ
تَنَاوُلِهِ، فَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَخَل مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَيْتَ مَيْمُونَةَ فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ فَأَهْوَى
إِلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ،
فَقَال بَعْضُ النِّسْوَةِ: أَخْبِرُوا رَسُول اللَّهِ بِمَا يُرِيدُ أَنْ
يَأْكُل، فَقَالُوا هُوَ ضَبٌّ يَا رَسُول اللَّهِ، فَرَفَعَ يَدَهُ،
فَقُلْتُ: أَحَرَامٌ يَا رَسُول اللَّهِ؟ فَقَال: لاَ، وَلَكِنْ لَمْ
يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ قَال خَالِدٌ:
فَاجْتَزَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ، وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَنْظُرُ. (2)
فَقَدْ أُكِل الضَّبُّ بِحَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ فَتَبَيَّنَ حِلُّهُ وَأَنَّ تَرْكَهُ لَهُ لِعَدَمِ
إِلْفِهِ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَطْعِمَة ف 54) .
__________
(1) حديث: " العيافة والطيرة والطرق ". . أخرجه أبو داود (4 / 299) وفي
إسناده اضطراب كما في التهذيب لابن حجر (3 / 68) .
(2) حديث: " لم يكن بأرض قومي ". . أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 663) من
حديث خالد بن الوليد.
(3) نهاية المحتاج / 144
(31/81)
عِيَال
انْظُرْ: أُسْرَة.
عَيْب
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَيْبُ لُغَةً: الْوَصْمَةُ وَالنَّقِيصَةُ، وَالْجَمْعُ أَعْيَابٌ
وَعُيُوبٌ، وَرَجُلٌ عَيَّابٌ وَعَيَّابَةٌ وَعَيْبٌ: كَثِيرُ الْعَيْبِ،
يُقَال: عَيَّبَ الشَّيْءَ فَعَابَ: إِذَا صَارَ ذَا عَيْبٍ فَهُوَ
مَعِيبٌ، أَوْ هُوَ: مَا يَخْلُو عَنْهُ أَصْل الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ.
(1)
وَاصْطِلاَحًا يَخْتَلِفُ تَعْرِيفُ الْعَيْبِ
__________
(1) لسان العرب، القاموس المحيط، وأحكام القرآن للقرطبي 11 / 34.
(31/81)
بِاخْتِلاَفِ أَقْسَامِهِ، قَال
النَّوَوِيُّ: حُدُودُهَا مُخْتَلِفَةٌ، فَالْعَيْبُ الْمُؤَثِّرُ فِي
الْبَيْعِ الَّذِي يَثْبُتُ بِسَبَبِهِ الْخِيَارُ: هُوَ مَا نَقَصَتْ بِهِ
الْمِلْكِيَّةُ أَوِ الرَّغْبَةُ أَوِ الْغَبْنُ، وَالْعَيْبُ فِي
الْكَفَّارَةِ: مَا أَضَرَّ بِالْعَمَل ضَرَرًا بَيِّنًا، وَالْعَيْبُ فِي
الأُْضْحِيَّةِ: هُوَ مَا نَقَصَ بِهِ اللَّحْمُ، وَالْعَيْبُ فِي
النِّكَاحِ: مَا يُنَفِّرُ عَنِ الْوَطْءِ وَيَكْسِرُ ثَوْرَةَ التَّوَاقِ،
وَالْعَيْبُ فِي الإِْجَارَةِ: مَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْفَعَةِ تَأْثِيرًا
يَظْهَرُ بِهِ تَفَاوُتُ الأُْجْرَةِ (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْغِشُّ:
2 - الْغِشُّ نَقِيضُ النُّصْحِ، يُقَال: غَشَّهُ يَغُشُّهُ غِشًّا إِذَا
تَرَكَ نُصْحَهُ وَزَيَّنَ لَهُ غَيْرَ الْمَصْلَحَةِ، وَالْغِشُّ يَكُونُ
عَيْبًا قَدْ يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ (2) .
ب - الْكَذِبُ:
3 - الْكَذِبُ: هُوَ الإِْخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ عَلَى خِلاَفِ مَا هُوَ
عَلَيْهِ، عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا. (3) وَالْكَذِبُ أَخَصُّ مِنَ
الْعَيْبِ.
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات 4 / 53.
(2) لسان العرب، بلغة السالك لأقرب المسالك 2 / 81.
(3) لسان العرب، المصباح المنير، وصحيح مسلم بشرح النووي 1 / 56.
(31/82)
ج - الْغَبْنُ:
4 - الْغَبْنُ الْوَكْسُ وَالْخَدِيعَةُ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي
الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، قَال الرَّاغِبُ: الْغَبْنُ أَنْ تَبْخَسَ
صَاحِبَكَ فِي مُعَامَلَةٍ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ بِضَرْبٍ مِنَ الإِْخْفَاءِ
(1) .
وَالْغَبْنُ إِذَا كَانَ فَاحِشًا يَكُونُ عَيْبًا يُؤَثِّرُ فِي عُقُودِ
الْمُعَاوَضَاتِ.
د - الْعَاهَةُ:
5 - الْعَاهَةُ: هِيَ مَا يُصِيبُ الإِْنْسَانَ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ
مِنَ الْبَلاَيَا وَالآْفَاتِ (2) . وَالْعَيْبُ أَعَمُّ مِنَ الْعَاهَةِ؛
لأَِنَّهُ يَكُونُ بِالْعَاهَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا
. الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَيْبِ:
يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْبِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ ذَكَرَهَا
الْفُقَهَاءُ فِي أَبْوَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ. حَصَرَهَا النَّوَوِيُّ فِي
سِتَّةِ أَقْسَامٍ. وَالْقَلْيُوبِيُّ فِي ثَمَانِيَةٍ
الْعَيْبُ فِي الْمَبِيعِ:
6 - ضَابِطُ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ عِنْدَ
__________
(1) لسان العرب، تهذيب الأسماء واللغات 4 / 58 والمفردات للراغب. .
(2) لسان العرب، وسبل السلام 3 / 46.
(31/82)
الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ
مَا أَوْجَبَ نُقْصَانَ الثَّمَنِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ؛ لأَِنَّ
التَّضَرُّرَ بِنُقْصَانِ الْمَالِيَّةِ، وَذَلِكَ بِانْتِقَاصِ الْقِيمَةِ
(1)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: هُوَ كُل مَا يُنْقِصُ الْعَيْنَ أَوِ
الْقِيمَةَ نَقْصًا يَفُوتُ بِهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ إِذَا غَلَبَ فِي جِنْسِ
الْمَبِيعِ عَدَمُهُ، سَوَاءٌ قَارَنَ الْعَقْدَ أَمْ حَدَثَ بَعْدَهُ
قَبْل الْقَبْضِ. (2)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: هُوَ وُجُودُ نَقْصٍ فِي الْمَبِيعِ أَوِ
الثَّمَنِ، الْعَادَةُ السَّلاَمَةُ مِنْهُ (3)
الْعُيُوبُ الَّتِي يُرَدُّ بِهَا الْمَبِيعُ:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ جُمْلَةً مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي يُرَدُّ بِهَا
الْمَبِيعُ نَذْكُرُ مِنْهَا:
أَوَّلاً - الْعُيُوبُ الظَّاهِرَةُ:
أ - عُيُوبُ الدَّوَابِّ:
7 - عُيُوبُ الدَّوَابِّ هِيَ الَّتِي تُزَهِّدُ فِيهَا، وَتُنْقِصُ مِنْ
أَثْمَانِهَا، وَهِيَ كَالْعَوَرِ وَالْحَرَدِ وَالرَّمَصِ وَالدَّبَرِ
وَالْفَحَجِ وَالْمَشَشِ وَالدَّخَسِ وَالْعَضِّ وَالْجَفْل (4)
وَالْجِمَاحِ
__________
(1) رد المحتار 4 / 71، والمغني لابن قدامة 4 / 168.
(2) حاشية القليوبي 2 / 198، 199.
(3) الشرح الصغير 3 / 152.
(4) الحرد: الغضب، والرمص: جمود الوسخ في موق العين، والدبر: قرحة الدابة
والبعير، والفحج: تباعد ما بين أوساط ساقي الحيوان، والمشش: ورم يأخذ في
مقدم عظم باطن الساق، والدخس: داء يأخذ في حافر الدابة، والجفل: شرود
الدابة (لسان العرب) .
(31/83)
وَمَقْطُوعَةِ الأُْذُنِ لِلأُْضْحِيَّةِ،
وَإِنِ اشْتَرَاهَا لِغَيْرِ الأُْضْحِيَّةِ فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ.
ب - عُيُوبُ الأَْرْضِ:
8 - مِنْ عُيُوبِ الأَْرْضِ وَمَا اتَّصَل بِهَا كَالْبِئْرِ: مَا يَضُرُّ
بِالزَّرْعِ كَغَوْرِ مَاءِ الْبِئْرِ أَوْ زُعَاقِ مَائِهَا وَفِقْدَانِ
الْمَسِيل وَتَعَذُّرِ الإِْنْبَاتِ فِيهَا، وَالْخَرَاجِ إِذَا كَانَتِ
الأَْرْضُ الْمُجَاوِرَةُ لَيْسَ عَلَيْهَا خَرَاجٌ، وَمِلْحِ مَاءِ
الْبِئْرِ. (1)
ج - عُيُوبُ الدُّورِ:
9 - مِنْ عُيُوبِ الدُّورِ، تَصَدُّعُ الْجُدْرَانِ أَوِ انْكِسَارُ
الأَْخْشَابِ أَوْ سُوءُ جَارِهَا أَوْ شُؤْمُهَا أَوْ جِنُّهَا، أَوْ
أَنَّهُ لاَ مِرْحَاضَ لَهَا أَوْ عَدَمُ الطَّرِيقِ أَوِ الْمَسِيل أَوْ
مُجَاوَرَةُ مَوْضِعِ صَنْعَةٍ تَضُرُّ بِالْبِنَاءِ أَوِ السَّاكِنِ.
وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ عُيُوبَ الدَّارِ ثَلاَثَةُ أَضْرُبٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ تَسْتَغْرِقَ الْعُيُوبُ مُعْظَمَ الثَّمَنِ فَيَرُدُّ
بِهِ وَيَرْجِعُ بِالثَّمَنِ
الثَّانِي: أَنْ لاَ يَنْقُصَ مِنَ الثَّمَنِ، فَهَذَا لاَ يُرَدُّ بِهِ
وَلاَ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ، كَسُقُوطِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 72، 73، وفتاوى قاضي خان على الهندية 2 / 194،
حاشية الدسوقي 3 / 104، والمنتقى للباجي 4 / 188، ومغني المحتاج 2 / 51،
وروضة الطالبين 3 / 460.
(31/83)
شُرَافَةٍ أَوْ كَسْرِ عَتَبَةٍ أَوْ رَفٍّ
أَوْ خَلْعِ بَلاَطَةِ أَرْضٍ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَنْقُصَ مِنَ الثَّمَنِ، وَلاَ يَنْقُصَ مُعْظَمُهُ،
فَهَذَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ وَلاَ تُرَدُّ بِهِ الدَّارُ -
وَعِنْدَ بَعْضِ الأَْنْدَلُسِيِّينَ أَنَّهُ تُرَدُّ بِهِ - وَهُوَ مَا
دُونَ الثُّلُثِ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، وَهُوَ الرَّاجِحُ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الدَّارَ تُخَالِفُ سَائِرَ
الْمَبِيعَاتِ، بِدَلِيل أَنَّهُ إِذَا اسْتَحَقَّ مِنْهَا الْيَسِيرَ
لَزِمَ الْبَاقِي بِالثَّمَنِ.
وَلَوِ اسْتَحَقَّ مِنَ الْعَبْدِ الْيَسِيرَ لَمْ يَلْزَمِ الْبَاقِي.
وَوَجْهُ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الدَّارِ وَغَيْرِهَا: أَنَّ هَذَا مَبِيعٌ
وُجِدَ بِهِ عَيْبٌ يُنْقِصُ الثَّمَنَ فَيَثْبُتُ فِيهِ الرَّدُّ
بِالْعَيْبِ مَا لَمْ يَفُتْ. (1)
د - عُيُوبُ الْكُتُبِ:
10 - مِنْ عُيُوبِ الْكُتُبِ تَلَفُ الْوَرَقِ وَاخْتِلاَفُهُ وَكَثْرَةُ
الْخَطَأِ فِيهِ. (2)
عُيُوبُ الثِّيَابِ:
11 - مِنْ عُيُوبِ الثِّيَابِ: الْخَرْقُ وَاخْتِلاَفُ النُّسَخِ،
وَتَنَجُّسُ مَا يُفْسِدُهُ الْغُسْل أَوْ يَنْقُصُ
__________
(1) المنتقى للباجي 4 / 189، 190 ط بيروت، ومواهب الجليل 4 / 434، وحاشية
الدسوقي 3 / 102، 103.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 73، 74، وروضة الطالبين 3 / 463.
(31/84)
مِنْ ثَمَنِهِ، وَثَوْبُ الأَْجْرَبِ
وَوُجُودُ الدُّهْنِ بِالثَّوْبِ وَنَحْوُهَا.
ثَانِيًا - الْعُيُوبُ الْخَفِيَّةُ فِي الْمَبِيعِ:
12 - مِنَ الْعُيُوبِ الْخَفِيَّةِ مَا يَكُونُ فِي جَوْفِ الْمَبِيعِ،
وَلِلْفُقَهَاءِ فِيهَا التَّفْصِيل التَّالِي:
إِذَا اشْتَرَى إِنْسَانٌ مَا مَأْكُولُهُ فِي جَوْفِهِ كَالرَّانَجِ
وَالْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانِ وَاللَّوْزِ وَالْبَيْضِ فَوَجَدَهُ فَاسِدًا،
فَإِمَّا أَنْ لاَ يَكُونَ لِفَاسِدِهِ قِيمَةٌ، أَوْ يَكُونَ لَهُ
قِيمَةٌ، أَوْ وُجِدَ بَعْضُهُ فَاسِدًا وَالْبَعْضُ صَحِيحًا.
13 - فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِفَاسِدِهِ مَكْسُورًا قِيمَةٌ، فَذَهَبَ
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ مُقَابِل الْمَشْهُورِ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ
بِالثَّمَنِ كُلِّهِ، لأَِنَّ هَذَا تَبَيَّنَ بِهِ فَسَادُ الْعَقْدِ مِنْ
أَصْلِهِ، لِكَوْنِهِ وَقَعَ عَلَى مَا لاَ نَفْعَ فِيهِ، وَلاَ يَصِحُّ
بَيْعُ مَا لاَ نَفْعَ فِيهِ كَالْحَشَرَاتِ وَالْمَيْتَاتِ، وَلَيْسَ
عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الْبَيْعَ إِلَى الْبَائِعِ؛ لأَِنَّهُ لاَ
فَائِدَةَ فِيهِ. إِذْ لاَ قِيمَةَ لَهُ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ: إِلَى أَنَّ مَا لاَ يُمْكِنُ
الاِطِّلاَعُ عَلَى عَيْبِهِ إِلاَّ بِتَغَيُّرٍ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 284، وروضة الطالبين 3 / 484، والمغني لابن قدامة 4
/ 185، 186، والخرشي 5 / 130، 131.
(31/84)
فِي ذَاتِ الْمَبِيعِ كَسُوسِ الْخَشَبِ
وَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ الْمُرِّ، فَإِنَّهُ
لاَ يَكُونُ عَيْبًا، وَلاَ قِيمَةَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ فِي
نَظِيرِ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الرَّدَّ فَيَعْمَل بِهِ؛
لأَِنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ غَرَضٌ وَمَالِيَّةٌ، وَالْعَادَةُ فِي الرَّدِّ
كَالشَّرْطِ (1) .
14 - وَإِنْ كَانَ لِفَاسِدِهِ قِيمَةٌ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ فِي
الْجُمْلَةِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي
لِلشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ هَذَا الْفَاسِدَ مَا دَامَ يُمْكِنُ
الاِنْتِفَاعُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي رَدُّهُ؛
لأَِنَّ شَرْطَ الرَّدِّ أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ وَقْتَ الرَّدِّ عَلَى
الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَقْتَ الْقَبْضِ، وَلَمْ يُوجَدْ؛
لأَِنَّهُ تَعَيَّبَ بِعَيْبٍ زَائِدٍ بِالْكَسْرِ، فَلَوْ رُدَّ لَرُدَّ
مَعِيبًا بِعَيْبَيْنِ، فَانْعَدَمَ شَرْطُ الرَّدِّ. (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الْعَيْبَ إِنْ كَانَ مِمَّا
يُمْكِنُ الاِطِّلاَعُ عَلَيْهِ قَبْل التَّغَيُّرِ كَالْبَيْضِ،
فَكَسَرَهُ وَوَجَدَهُ فَاسِدًا مُنْتِنًا لاَ يُؤْكَل فَإِنَّهُ يَرْجِعُ
عَلَى الْبَائِعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي
فِي كَسْرِهِ، دَلَّسَ الْبَائِعُ أَمْ لاَ. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ لَهُ
قِيمَةٌ كَالْبَيْضِ الْمَمْرُوقِ إِنْ دَلَّسَ الْبَائِعُ -
__________
(1) الخرشي 5 / 131.
(2) بدائع الصنائع 5 / 184، وروضة الطالبين 3 / 484، 485، والمغني لابن
قدامة 4 / 186.
(31/85)
كَسَرَهُ الْمُشْتَرِي أَمْ لاَ - أَوْ
لَمْ يُدَلِّسِ الْبَائِعُ وَلَمْ يَكْسِرْهُ الْمُشْتَرِي رَجَعَ
بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، فَإِنْ كَسَرَهُ رَدَّهُ وَمَا نَقَصَهُ، مَا لَمْ
يَفُتْ بِنَحْوِ قَلْيٍ فَلاَ رَدَّ، وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي بِمَا بَيْنَ
الْقِيمَتَيْنِ، فَيُقَوَّمُ سَالِمًا يَوْمَ الْبَيْعِ عَلَى أَنَّهُ
صَحِيحٌ غَيْرُ مَعِيبٍ وَصَحِيحٌ مَعِيبٌ، فَإِذَا قِيل: قِيمَتُهُ
صَحِيحًا غَيْرَ مَعِيبٍ عَشْرَةٌ، وَصَحِيحًا مَعِيبًا ثَمَانِيَةٌ،
فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِنِسْبَةِ ذَلِكَ مِنَ الثَّمَنِ وَهُوَ الْخُمُسُ،
وَهَذَا إِنْ كَانَ لَهُ قِيمَةٌ يَوْمَ الْبَيْعِ بَعْدَ الْكَسْرِ
وَإِلاَّ رَجَعَ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ. قَال ابْنُ الْقَاسِمِ: هَذَا إِذَا
كَسَرَهُ بِحَضْرَةِ الْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ لَمْ
يَرُدَّهُ، إِذْ لاَ يَدْرِي أَفَسَدَ عِنْدَ الْبَائِعِ أَوِ
الْمُبْتَاعِ، قَالَهُ مَالِكٌ، قَال ابْنُ نَاجِي: ظَاهِرُهَا وَلَوْ
بَيْضَ النَّعَامِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ يُرَدُّ بَيْضُ النَّعَامِ
لِكَثَافَةِ قِشْرِهِ، فَلاَ يُعْرَفُ فَسَادُهُ وَصِحَّتُهُ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: فِي الْقَوْل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الأَْكْثَرِينَ
إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَهُ الرَّدُّ قَهْرًا كَالْمُصَرَّاةِ إِنْ
كَانَ لاَ يُوقَفُ عَلَى ذَلِكَ الْفَسَادِ إِلاَّ بِكَسْرِهِ، وَلاَ
يَغْرَمُ أَرْشَ الْكَسْرِ عَلَى الأَْظْهَرِ؛ لأَِنَّهُ مَعْذُورٌ.
وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ: يَغْرَمُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ.
__________
(1) الخرشي 5 / 131، حاشية الدسوقي 3 / 113، 114.
(31/85)
صَحِيحًا فَاسِدَ اللُّبِّ، وَمَكْسُورًا
فَاسِدَ اللُّبِّ، وَلاَ يُنْظَرُ إِلَى الثَّمَنِ.
وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى ذَلِكَ الْفَسَادِ بِأَقَل مِنْ
ذَلِكَ الْكَسْرِ فَلاَ رَدَّ عَلَى الْمَذْهَبِ كَسَائِرِ الْعُيُوبِ
وَقِيل: يَطَّرِدُ الْقَوْلاَنِ، وَعَلَى هَذَا فَكَسْرُ الْجَوْزِ
وَنَحْوِهِ وَثَقْبُ الرَّانَجِ مِنْ صُوَرِ الْحَال الأَْوَّل، وَكَسْرُ
الرَّانَجِ وَتَرْضِيضُ بَيْضِ النَّعَامِ مِنْ صُوَرِ الْحَال الثَّانِي.
(1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِمَعِيبِهِ قِيمَةٌ
مَكْسُورًا، فَإِنْ كَانَ لاَ يُمْكِنُ اسْتِعْلاَمُ الْمَبِيعِ بِدُونِ
الْكَسْرِ فَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ رَدِّهِ وَرَدِّ أَرْشِ
الْكَسْرِ وَأَخْذِ الثَّمَنِ، وَبَيْنَ أَخْذِ أَرْشِ عَيْبِهِ وَهُوَ
قِسْطُ مَا بَيْنَ صَحِيحِهِ وَمَعِيبِهِ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلاَمِ
الْخِرَقِيِّ؛ لأَِنَّهُ نَقْصٌ لَمْ يَمْنَعِ الرَّدَّ، فَلَزِمَ رَدُّ
أَرْشِهِ؛ كَلَبَنِ الْمُصَرَّاةِ إِذَا حَلَبَهَا، وَالْبِكْرِ إِذَا
وَطِئَهَا.
وَقَال الْقَاضِي: لاَ أَرْشَ عَلَيْهِ لِكَسْرِهِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ حَصَل
بِطَرِيقِ اسْتِعْلاَمِ الْعَيْبِ، وَالْبَائِعُ سَلَّطَهُ عَلَيْهِ،
حَيْثُ عَلِمَ أَنَّهُ لاَ تُعْلَمُ صِحَّتُهُ مِنْ فَسَادِهِ بِغَيْرِ
ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ كَسْرًا يُمْكِنُ اسْتِعْلاَمُ الْمَبِيعِ بِدُونِهِ إِلاَّ
أَنَّهُ لاَ يَتْلَفُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَالْحُكْمُ
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 485.
(31/86)
فِيهِ كَالَّذِي قَبْلَهُ فِي قَوْل
الْخِرَقِيِّ وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي أَيْضًا، فَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ
بَيْنَ رَدِّهِ وَأَرْشِ الْكَسْرِ وَأَخْذِ الثَّمَنِ، وَبَيْنَ أَخْذِ
أَرْشِ الْعَيْبِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ،
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لَيْسَ لَهُ رَدُّهُ وَلَهُ أَرْشُ
الْعَيْبِ. وَإِنْ كَسَرَهُ كَسْرًا لاَ يَبْقَى لَهُ قِيمَةٌ فَلَهُ
أَرْشُ الْعَيْبِ لاَ غَيْرُ هَذَا إِذَا كَانَ كُل الْمَبِيعِ فَاسِدًا.
(1)
15 - أَمَّا إِنْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بَعْضَ الْمَبِيعِ فَاسِدًا دُونَ
الْبَعْضِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْفَاسِدُ
كَثِيرًا رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لأَِنَّهُ ظَهَرَ
أَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ فِي الْقَدْرِ الْفَاسِدِ بَاطِلاً، لأَِنَّهُ
تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَإِذَا بَطَل فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ
يَفْسُدُ فِي الْبَاقِي.
وَإِنْ كَانَ الْفَاسِدُ قَلِيلاً فَكَذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ، وَفِي
الاِسْتِحْسَانِ صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْكُل، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ
وَلاَ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ بِشَيْءٍ؛ لأَِنَّ قَلِيل الْفَسَادِ فِيهِ
مِمَّا لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ.
وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ فَصَّل تَفْصِيلاً آخَرَ فَقَال: إِذَا وُجِدَ
الْبَيْعُ كُلُّهُ فَاسِدًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ
فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مَا لَيْسَ
بِمَالٍ، وَإِنْ كَانَ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 186.
(31/86)
كَالرُّمَّانِ وَنَحْوِهِ. فَالْبَيْعُ لاَ
يَبْطُل؛ لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ كَانَ الْقِشْرُ
مَالاً، وَلَكِنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ
نَاقِصًا وَقَبِل قِشْرَهُ وَرَدَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ
يَقْبَل؛ لأَِنَّهُ تَعَيَّبَ بِعَيْبٍ زَائِدٍ، وَرَدَّ عَلَى
الْمُشْتَرِي حِصَّةَ الْمَعِيبِ جَبْرًا لِحَقِّهِ.
وَإِنْ وَجَدَ بَعْضَهُ فَاسِدًا فَعَلَى هَذَا التَّفْصِيل أَيْضًا؛
لأَِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ
بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ رَجَعَ
بِحِصَّةِ الْعَيْبِ دُونَ الْقِشْرِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُل،
إِلاَّ إِذَا كَانَ الْفَاسِدُ مِنْهُ قَلِيلاً قَدْرَ مَا لاَ يَخْلُو
مِثْلُهُ عَنْ مِثْلِهِ فَلاَ يَرُدُّ وَلاَ يَرْجِعُ بِشَيْءٍ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ لِبَعْضِهِ قِيمَةٌ - كَالْبَيْضِ
الْمَمْرُوقِ - فَإِنْ دَلَّسَ بَائِعُهُ رَجَعَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ،
كَسَرَهُ الْمُشْتَرِي أَمْ لاَ، أَوْ لَمْ يُدَلِّسْ وَلَمْ يَكْسِرْهُ.
فَإِنْ كَسَرَهُ فَلَهُ رَدُّهُ وَمَا نَقَصَهُ، مَا لَمْ يَفُتْ بِنَحْوِ
قَلْيٍ، وَإِلاَّ فَلاَ رَدَّ، وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي بِمَا بَيْنَ
الْقِيمَتَيْنِ سَالِمًا وَمَعِيبًا. فَيَقُومُ عَلَى أَنَّهُ صَحِيحٌ
غَيْرُ مَعِيبٍ وَصَحِيحٌ مَعِيبٌ. (2)
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 284.
(2) الدسوقي 3 / 113، 114.
(31/87)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ
الْفَاسِدُ مِنْ بَيْضٍ وَجَوْزٍ وَلَوْزٍ وَنَحْوِهِ فِي بَعْضِهِ دُونَ
كُلِّهِ رَجَعَ بِقِسْطِ الْفَاسِدِ مِنَ الثَّمَنِ، فَإِنْ كَانَ
الْفَاسِدُ النِّصْفَ رَجَعَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ الرُّبُعَ
رَجَعَ بِرُبُعِهِ (1) .
أَثَرُ الْعَيْبِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ:
16 - إِذَا وُجِدَ الْعَيْبُ بِشُرُوطِهِ ثَبَتَ حَقُّ الرَّدِّ
بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (2) وَيُرْجَعُ فِي مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ إِلَى
أَهْل الْخِبْرَةِ وَالْعُرْفِ، وَدَلِيل ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3)
وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَجُلاً
ابْتَاعَ غُلاَمًا فَاسْتَغَلَّهُ، ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ
بِالْعَيْبِ، فَقَال الْبَائِعُ: غَلَّةُ عَبْدِي، فَقَال النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَلَّةُ بِالضَّمَانِ (4) وَفِي
رِوَايَةٍ - الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ (5) وَمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 224.
(2) تبيين الحقائق 4 / 231، 232، الدسوقي 3 / 108، مغني المحتاج 2 / 63،
والمغني لابن قدامة 4 / 159.
(3) سورة النساء / 29.
(4) حديث: " الغلة بالضمان ". . أخرجه الحاكم (2 / 15) من حديث عائشة،
وصححه ووافقه الذهبي.
(5) حديث: " الخراج بالضمان ". . أخرجه أبو داود (3 / 780) من حديث عائشة،
وصححه ابن القطان كما في التلخيص لابن حجر (3 / 22) .
(31/87)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِرَجُلٍ يَبِيعُ طَعَامًا
فَأَدْخَل يَدَهُ فِيهِ فَإِذَا هُوَ مَبْلُولٌ، فَقَال: مَنْ غَشَّ
فَلَيْسَ مِنِّي (1)
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي رَدِّ السِّلْعَةِ الْمُبَاعَةِ
لِلْعَيْبِ وَكَانَ الْعَيْبُ مُنْقِصًا لِلْقِيمَةِ أَوْ مُفَوِّتًا
غَرَضًا صَحِيحًا شَرْعًا.
وَقَدْ قَاسَ الْفُقَهَاءُ الْعَيْبَ عَلَى الْمُصَرَّاةِ، لِمَا وَرَدَ
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُحَفَّلَةً
فَرَدَّهَا فَلْيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ (2)
وَهَذَا يَدُل عَلَى ثُبُوتِ الْعَيْبِ وَالرَّدِّ بِهِ؛ وَلأَِنَّ
الْمُشْتَرِيَ بَذَل الثَّمَنَ لِيُسَلِّمَ لَهُ الْمَبِيعَ سَلِيمًا
وَلَمَّا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ ذَلِكَ كَانَ لَهُ الرَّدُّ، وَلأَِنَّ
السَّلاَمَةَ فِي الْمَبِيعِ مَطْلُوبَةُ الْمُشْتَرِي عَادَةً؛ لأَِنَّ
غَرَضَ الْمُشْتَرِي الاِنْتِفَاعُ بِالْمَبِيعِ، وَلاَ يَتَكَامَل
الاِنْتِفَاعُ إِلاَّ بِسَلاَمَتِهِ؛ وَلأَِنَّهُ لَمْ يَدْفَعْ جَمِيعَ
الثَّمَنِ إِلاَّ لِيُسَلِّم لَهُ جَمِيعَ الْمَبِيعِ، فَكَانَتِ
السَّلاَمَةُ مَشْرُوطَةً فِي الْعَقْدِ دَلاَلَةً، فَهِيَ
كَالْمَشْرُوطَةِ نَصًّا، فَإِذَا فَاتَتِ الْمُسَاوَاةُ كَانَ لَهُ
الْخِيَارُ. (3)
__________
(1) حديث: " من غش فليس مني ". . أخرجه مسلم (1 / 99) .
(2) حديث: " من اشترى شاة محفلة فردها ". . أخرجه البخاري (فتح الباري 4 /
361) .
(3) المراجع السابقة. ونيل الأوطار 5 / 241.
(31/88)
إِعْلاَمُ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ:
17 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ إِذَا
عَلِمَ شَيْئًا بِالْمَبِيعِ يَكْرَهُهُ الْمُشْتَرِي أَنْ يُبَيِّنَهُ
بَيَانًا مُفَصَّلاً، وَأَنْ يَصِفَهُ وَصْفًا شَافِيًا زِيَادَةً عَلَى
الْبَيَانِ، إِنْ كَانَ شَأْنُهُ الْخَفَاءَ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يُغْتَفَرُ
فِي شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ، يَحْرُمُ عَلَيْهِ عَدَمُ الْبَيَانِ وَيَكُونُ
آثِمًا عَاصِيًا لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل
لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ إِلاَّ بَيَّنَهُ لَهُ
(1) وَلِمَا رَوَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْبَيِّعَانِ
بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ
لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ
بَيْعِهِمَا (2) وَكِتْمَانُ الْعَيْبِ غِشٌّ وَالْغِشُّ حَرَامٌ لِحَدِيثِ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا
(3)
__________
(1) حديث: " لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا. . . ". . أخرجه ابن ماجه (2 /
755) والحاكم (2 / 10) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) حديث: " البيعان بالخيار. . . ". . أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 328)
ومسلم (3 / 1164) .
(3) حديث: " من غشنا فليس منا ". . أخرجه مسلم (1 / 99) .
(31/88)
18 - وَلاَ يَقْتَصِرُ الإِْعْلاَمُ
بِالْعَيْبِ عَلَى الْبَائِعِ، بَل يَمْتَدُّ إِلَى كُل مَنْ عَلِمَ
بِالْعَيْبِ، وَيَتَأَكَّدُ الْوُجُوبُ فِي حَقِّهِ إِذَا انْفَرَدَ
بِعِلْمِ الْعَيْبِ دُونَ الْبَائِعِ.
وَوَقْتُ الإِْعْلاَمِ بِالْعَيْبِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَالأَْجْنَبِيِّ
قَبْل الْبَيْعِ، لِيَكُونَ الْمُشْتَرِي عَلَى عِلْمٍ وَبَيِّنَةٍ، فَإِنْ
لَمْ يَكُنِ الأَْجْنَبِيُّ حَاضِرًا أَوْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ فَبَعْدَ
الْعَقْدِ، لِيَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ. (1)
وَإِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ مَعَ كِتْمَانِ الْعَيْبِ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ
مَعَ الإِْثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ التَّصْرِيَةِ
(2) وَصَحَّحَ الْبَيْعَ.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ الْبَيْعَ
بَاطِلٌ؛ لأَِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ
(3) .
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 31، حاشية الدسوقي 3 / 119، والمغني لابن قدامة 4 /
159، نيل الأوطار للشوكاني 5 / 239، ومغني المحتاج 2 / 63.
(2) حديث: " نهى عن التصرية ". . أخرجه مسلم (3 / 1155) من حديث أبي هريرة.
(3) تبيين الحقائق 2 / 31، حاشية الدسوقي 2 / 119، 120، وحاشية عميرة على
المحلي 2 / 197، والمغني لابن قدامة 4 / 159. .
(31/89)
شُرُوطُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْعَيْبِ الَّذِي
يُرَدُّ بِهِ الْمَبِيعُ مَا يَلِي:
أ - أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ قَدِيمًا:
19 - وَذَلِكَ بِمَعْنَى: أَنَّهُ حَدَثَ عِنْدَ الْبَائِعِ سَوَاءٌ حَدَثَ
قَبْل الْعَقْدِ أَوْ مَعَهُ، أَوْ بَعْدَهُ قَبْل الْقَبْضِ وَتَسَلُّمِ
الْمَبِيعِ، فَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي الرَّدُّ إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ
إِزَالَتِهِ بِلاَ مَشَقَّةٍ، فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ إِزَالَتِهِ فَلاَ
رَدَّ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ كُل عَيْبٍ حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فِي
مُدَّةٍ لاَحِقَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَضَمَانُهُ مِنَ الْبَائِعِ لاَ مِنَ
الْمُشْتَرِي، وَيُسَمَّى هَذَا عِنْدَهُمْ بِالْعُهْدَةِ. وَقَدْ
عَرَّفَهَا الْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهَا: تَعَلُّقُ الْمَبِيعِ
بِضَمَانِ بَائِعِهِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً، وَهُوَ بِمَثَابَةِ قَيْدٍ عَلَى
شَرِيطَةِ قِدَمِ الْعَيْبِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ؛
لأَِنَّ الْعَيْبَ لَمْ يَبِنْ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ إِلاَّ بَعْدَ
إِبْرَامِ الْعَقْدِ وَتَمَامِهِ بِالْقَبْضِ، فَكَانَ الأَْصْل أَنْ
يَضْمَنَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ الْعَيْبَ الْحَادِثَ فِي مِلْكِهِ وَتَحْتَ
يَدِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَبِيعَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ
الْقَبْضِ إِلاَّ فِي الْعُهْدَةِ وَالْجَوَائِحِ (2) .
__________
(1) رد المحتار 4 / 72، ترتيب الأشباه ص 263، الفتاوى الهندية 3 / 66،
الدسوقي 3 / 129، المهذب 1 / 425، والمغني لابن قدامة 6 / 30، 31.
(2) بداية المجتهد 2 / 177، 184، والدسوقي 3 / 142، والحطاب 4 / 473.
(31/89)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ:
(عُهْدَة)
- عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْبَرَاءَةِ:
20 - وَصُورَةُ الْبَرَاءَةِ أَنْ يَقُول: بِعْتُ عَلَى أَنِّي بَرِيءٌ
مِنْ كُل عَيْبٍ، وَفِيهَا مَذَاهِبُ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ مَالِكٍ،
وَالْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ
الْبَرَاءَةِ مِنْ كُل عَيْبٍ جَائِزٌ. وَيَبْرَأُ مِنْ كُل عَيْبٍ، وَلاَ
يُرَدُّ بِحَالٍ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ حَقٌّ مِنْ
حُقُوقِ الْمُشْتَرِي قِبَل الْبَائِعِ. فَإِذَا أَسْقَطَهُ سَقَطَ
كَسَائِرِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ الْقَوْل الثَّالِثُ
لِلشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَبْرَأُ سَوَاءٌ عَلِمَ بِهِ
الْبَائِعُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ الْغَرَرِ
فِيمَا لَمْ يَعْلَمْهُ الْبَائِعُ، وَمِنْ بَابِ الْغَبْنِ وَالْغِشِّ
إِذَا عَلِمَهُ وَذَلِكَ لأَِثَرِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،
وَقَدْ بَاعَ غُلاَمًا لَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَبَاعَهُ عَلَى
الْبَرَاءَةِ، فَقَال الَّذِي ابْتَاعَهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ:
بِالْغُلاَمِ دَاءٌ لَمْ تُسَمِّهِ، وَقَال عَبْدُ اللَّهِ: بِعْتُهُ
بِالْبَرَاءَةِ. فَقَضَى عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ: لَقَدْ بَاعَهُ الْعَبْدَ
بِالْبَرَاءَةِ وَمَا بِهِ دَاءٌ يَعْلَمُهُ، فَأَبَى عَبْدُ اللَّهِ أَنْ
يَحْلِفَ وَارْتَجَعَ الْعَبْدَ،
(31/90)
فَصَحَّ الْعَبْدُ عِنْدَهُ، فَبَاعَهُ
عَبْدُ اللَّهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ.
وَالْقَوْل الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَبْرَأُ
الْبَائِعُ مِنْ كُل عَيْبٍ فِي الْحَيَوَانِ لاَ يَعْلَمُهُ دُونَ مَا لاَ
يَعْلَمُهُ، وَلاَ يَبْرَأُ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ بِحَالٍ (1) .
رِضَا الْبَائِعِ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ:
21 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لاَ
يَحْتَاجُ إِلَى رِضَا الْبَائِعِ وَلاَ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، سَوَاءٌ
كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي أَوِ الْبَائِعِ، وَإِنَّمَا
يَثْبُتُ بِإِرَادَةِ الْمُشْتَرِي الْمُنْفَرِدَةِ (2) وَذَلِكَ
بِالْقِيَاسِ عَلَى الطَّلاَقِ، فَإِنَّهُ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَا
الزَّوْجَةِ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلرَّدِّ بِالْعَيْبِ
رِضَا الْبَائِعِ أَوْ حُكْمُ حَاكِمٍ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ
الْمُشْتَرِي، أَمَّا إِذَا كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِ الْبَائِعِ فَهُمْ
مَعَ الْجُمْهُورِ فِي حُصُول
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 171، 172، والقوانين الفقهية ص270، وبداية المجتهد 2
/ 160، وروضة الطالبين 3 / 470، 471، وشرح الروض 2 / 63، والمغني لابن
قدامة 4 / 197.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 91، والمهذب للشيرازي 1 / 284، والمغني لابن قدامة 4
/ 273.
(31/90)
الرَّدِّ بِقَوْل الْمُشْتَرِي دُونَ
حَاجَةٍ إِلَى قَضَاءِ قَاضٍ أَوْ تَرَاضٍ.
تَمَسُّكُ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ الْمَعِيبِ مَعَ الأَْرْشِ:
22 - إِذَا تَمَسَّكَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ الْمَعِيبِ
وَالْمُطَالَبَةِ بِأَرْشِ الْعَيْبِ. دُونَ أَنْ يَطْرَأَ عَلَى
الْمَبِيعِ زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ أَوْ تَصَرُّفٌ يَمْنَعُ الرَّدَّ
وَيُعْطِي لِلْمُشْتَرِي الْحَقَّ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالأَْرْشِ فَقَدِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا عَلَى ثَلاَثَةِ مَذَاهِبَ:
أَوَّلاً - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ
الْمُشْتَرِيَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْمَبِيعِ الْمَعِيبِ
وَيَأْخُذَ نُقْصَانَ الْعَيْبِ؛ لأَِنَّ الْفَائِتَ وَصْفٌ،
وَالأَْوْصَافُ لاَ تُقَابَل بِشَيْءٍ مِنَ الثَّمَنِ فِي مُجَرَّدِ
الْعَقْدِ؛ وَلأَِنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَرْضَ بِزَوَال الْمَبِيعِ عَنْ
مِلْكِهِ بِأَقَل مِنَ الْمُسَمَّى فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ
عَنِ الْمُشْتَرِي أَيْضًا مُمْكِنٌ بِالرَّدِّ بِدُونِ تَضَرُّرِهِ،
وَلأَِنَّ التَّمَسُّكَ بِالْمَعِيبِ دَلاَلَةٌ عَلَى الرِّضَا بِهِ
وَيُمْتَنَعُ الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَل لِمُشْتَرِي الْمُصَرَّاةِ الْخِيَارَ
بَيْنَ الإِْمْسَاكِ مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ أَوِ الرَّدِّ (1) .
__________
(1) فتح القدير 6 / 403، بدائع الصنائع 5 / 288، روضة الطالبين 3 / 478. .
وحديث: " جعل مشتري المصراة بالخيار ". . أخرجه البخاري (فتح الباري 4 /
361) ومسلم (3 / 1155) من حديث أبي هريرة.
(31/91)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ وَجَدَ
الْمُشْتَرِي الْعَيْبَ بِبَعْضِ الْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ لِشَيْءٍ
مِنْهُ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ رَضِيَ بِالْكُل وَلَزِمَهُ
جَمِيعُ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْكُل وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ
الْمَعِيبَ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ؛ لأَِنَّ الصَّفْقَةَ لاَ
تَمَامَ لَهَا قَبْل الْقَبْضِ، وَتَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْل تَمَامِهَا
بَاطِلٌ.
وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ شَيْئًا
وَاحِدًا حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إِنْ شَاءَ رَضِيَ
بِالْكُل بِكُل الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْكُل وَاسْتَرَدَّ جَمِيعَ
الثَّمَنِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ قَدْرَ الْمَعِيبِ خَاصَّةً
بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ.
وَإِنْ كَانَ أَشْيَاءَ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ
الْكُل إِلاَّ عِنْدَ التَّرَاضِي، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ
خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ. (1)
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ لِمُشْتَرِي شَيْئَيْنِ فِي
صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ رَدُّ الْبَعْضِ إِنْ كَانَ الْبَاقِي مَا زَال
مِلْكَهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْقِيصِ عَلَى الْبَائِعِ، فَإِنْ رَضِيَ
بِهِ الْبَائِعُ جَازَ عَلَى الأَْصَحِّ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي زَال عَنْ
مِلْكِهِ بِأَنْ عَرَفَ الْعَيْبَ بَعْدَ بَيْعِ بَعْضِ الْمَبِيعِ، فَفِي
رَدِّ الْبَاقِي طَرِيقَانِ أَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 287.
(31/91)
بِالْمَنْعِ كَمَا لَوْ كَانَ بَاقِيًا فِي
مِلْكِهِ. (1)
ثَانِيًا: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا وَجَدَ
عَيْبًا فِي الْمَبِيعِ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِشَيْءٍ مِنَ الْعُيُوبِ
عِنْدَهُ. فَلاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَقَارًا أَوْ عُرُوضًا أَوْ
حَيَوَانًا
فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِي الْحَيَوَانِ فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ
الْمُشْتَرِيَ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْمَبِيعَ وَيَأْخُذَ
ثَمَنَهُ أَوْ يُمْسِكَ وَلاَ شَيْءَ لَهُ.
وَإِنْ كَانَ عَقَارًا فَمَالِكٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْعَيْبِ الْيَسِيرِ
وَالْكَثِيرِ، فَيَقُول: إِنْ كَانَ يَسِيرًا لَمْ يَجِبِ الرَّدُّ
وَوَجَبَتْ قِيمَةُ الْعَيْبِ وَهُوَ الأَْرْشُ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا
وَجَبَ الرَّدُّ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ يَتَمَسَّكُ بِإِسْقَاطِ
الْعَيْبِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ.
وَإِمَّا الْعُرُوضِ، فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهَا لَيْسَتْ
فِي هَذَا الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ الأُْصُول، وَقِيل: إِنَّهَا
بِمَنْزِلَةِ الأُْصُول فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ
الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ رِزْقٍ، وَكَانَ يَقُول: إِنَّهُ لاَ فَرْقَ
فِي هَذَا الْمَعْنَى بَيْنَ الأُْصُول وَالْعُرُوضِ، وَعَلَى هَذَا
يَلْزَمُ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْعَيْبِ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيل فِي
الأُْصُول أَنْ يُفَرِّقَ فِي الْعُرُوضِ. (2)
وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُشْتَرِيَ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ
الْمَبِيعَ وَيَأْخُذَ ثَمَنَهُ أَوْ يُمْسِكَ وَلاَ شَيْءَ لَهُ، فَإِنْ
اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُمْسِكَ الْمُشْتَرِي سِلْعَتَهُ
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 486.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 121 - 123، بداية المجتهد 2 / 155، والشرح الصغير 3
/ 182، 183.
(31/92)
وَيُعْطِيَهُ الْبَائِعُ قِيمَةَ الْعَيْبِ
فَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ يُجِيزُونَ ذَلِكَ إِلاَّ ابْنُ سُرَيْجٍ مِنْ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ قَال: لَيْسَ لَهُمَا ذَلِكَ، وَعَلَى
هَذَا فَإِذَا كَانَ الْمَعِيبُ الأَْكْثَرَ وَالسَّالِمُ الأَْقَل
بَاقِيًا عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَفُتْ فَالْجَمِيعُ يَرُدُّهُ،
وَيَأْخُذُ جَمِيعَ الثَّمَنِ، وَلَيْسَ لَهُ التَّمَسُّكُ بِالأَْقَل
السَّالِمِ وَرَدُّ الأَْكْثَرِ الْمَعِيبِ، وَلَوْ فَاتَ عِنْدَ
الْمُشْتَرِي لَكَانَ لَهُ رَدُّ الْمَعِيبِ مُطْلَقًا، قَل أَوْ كَثُرَ،
وَيَأْخُذُ حِصَّتَهُ مِنَ الثَّمَنِ إِلَى جَمِيعِ الْمَبِيعِ مِنْ
قِيمَةِ السِّلْعَةِ إِنْ وَقَعَتْ ثَمَنًا، أَوْ بِنِسْبَةِ قِيمَةِ
الْمَعِيبِ مِنْ قِيمَةِ السِّلْعَةِ.
وَقَال أَشْهَبُ: يَرْجِعُ شَرِيكًا فِي الثَّمَنِ الْمُقَوَّمِ بِمَا
يُقَابِل الْمَعِيبَ.
وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ: لاَ يَرْجِعُ شَرِيكًا فِي الثَّمَنِ لِضَرَرِ
الشَّرِكَةِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِالْقِيمَةِ، وَشَبَّهَ فِي رَدِّ
الْجَمِيعِ أَوِ التَّمَسُّكِ بِالْجَمِيعِ، أَوْ يَتَمَسَّكُ بِالْبَعْضِ
السَّالِمِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الأَْكْثَرَ كَأَحَدِ
مُزْدَوِجَيْنِ مِنْ خُفَّيْنِ وَنَعْلَيْنِ وَسِوَارَيْنِ وَقُرْطَيْنِ
وَمِصْرَاعَيْ بَابٍ - مِنْ كُل مَا لاَ يُسْتَغْنَى بِأَحَدِهِمَا عَنِ
الآْخَرِ - فَلَيْسَ لَهُ رَدُّ الْمَعِيبِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ
إِلاَّ أَنْ يَتَرَاضَيَا بِذَلِكَ.
وَلَوْ كَانَ الْمَعِيبُ أُمًّا وَوَلَدَهَا، فَلَيْسَ لَهُ رَدُّ
الْمَعِيبِ مِنْهُمَا وَالتَّمَسُّكُ بِالسَّلِيمِ وَلَوْ
(31/92)
تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنَ
التَّفْرِيقِ بَيْنَ الأُْمِّ وَوَلَدِهَا، مَا لَمْ تَرْضَ الأُْمُّ
بِذَلِكَ.
كَمَا لاَ يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِالأَْقَل إِنِ اسْتَحَقَّ الأَْكْثَرَ
إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مُقَوَّمًا مُتَعَدِّدًا مُعَيَّنًا فِي صَفْقَةٍ
وَالْبَاقِي لَمْ يَفُتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ فَاتَ فَلَهُ
التَّمَسُّكُ بِهِ، وَيَرْجِعُ بِمَا يَخُصُّ مَا اسْتُحِقَّ مِنَ
الثَّمَنِ.
وَإِذَا مَنَعَ التَّمَسُّكَ بِالأَْقَل إِذَا اسْتَحَقَّ الأَْكْثَرَ
تَعَيَّنَ الْفَسْخُ بِرَدِّ الأَْقَل وَالرُّجُوعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ،
أَوْ يَتَمَسَّكُ بِالْبَعْضِ الْبَاقِي بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَبِهِ قَال
أَبُو ثَوْرٍ وَالأَْوْزَاعِيُّ؛ لأَِنَّهُ كَإِنْشَاءِ عَقْدٍ بِثَمَنٍ
مَجْهُولٍ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ الأَْوَّل انْحَل مِنْ أَصْلِهِ حَيْثُ
اسْتَحَقَّ الأَْكْثَرَ أَوْ تَعَيَّبَ، لأَِنَّ اسْتِحْقَاقَ الأَْكْثَرِ
كَاسْتِحْقَاقِ الْكُل، وَإِذَا تَعَيَّبَ الأَْكْثَرُ وَرَدَّهُ كَانَ
كَرَدِّ الْكُل، فَكَانَ تَمَسُّكُ الْمُشْتَرِي بِالأَْقَل السَّالِمِ
كَإِنْشَاءِ عَقْدٍ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ الآْنَ، بِخِلاَفِ رَدِّ غَيْرِ
الأَْكْثَرِ أَوِ اسْتِحْقَاقِهِ.
وَأَجَازَ ابْنُ حَبِيبٍ رَدَّ الأَْكْثَرِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ
بِالتَّقْدِيرِ قَائِلاً: هَذِهِ جَهَالَةٌ طَارِئَةٌ (1) وَهَذَا إِذَا
لَمْ يَكُنْ قَدْ سَمَّى لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الأَْنْوَاعِ قِيمَةً، فَإِنْ
كَانَ قَدْ سَمَّى لِكُل وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الأَْنْوَاعِ قِيمَةً فَلاَ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 121، الشرح الصغير 3 / 182، 183، بداية المجتهد لابن
رشد 2 / 155.
(31/93)
خِلاَفَ فِي رَدِّ الْمَعِيبِ بِعَيْنِهِ
فَقَطْ وَكُل مَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَوَّمِ الْمُعَيَّنِ الْمُتَعَدِّدِ.
وَأَمَّا الْمِثْلِيُّ وَالْمُقَوَّمُ الْمُتَّحِدُ وَالْمَوْصُوفُ
فَحُكْمُهُ مُغَايِرٌ لِذَلِكَ، فَلَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ عَشْرَةَ أَثْوَابٍ
مَوْصُوفَةً أَوْ عَشْرَةَ أَرْطَالٍ أَوْ أَوْسُقَ مِنْ قَمْحٍ
فَاسْتَحَقَّ أَكْثَرَهَا أَوْ أَقَلَّهَا أَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَلاَ
يَنْقُضُ الْبَيْعَ، بَل يَرْجِعُ بِمِثْل الْمَوْصُوفِ أَوِ الْمِثْلِيِّ،
وَلَهُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ فِي
الاِسْتِحْقَاقِ، وَبِالسَّالِمِ وَالْمَعِيبِ فِي الْعَيْبِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مُتَّحِدًا كَدَارٍ وَغَيْرِهِ
فَاسْتَحَقَّ الْبَعْضَ قَل أَوْ كَثُرَ فَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ
التَّمَسُّكِ وَالرَّدِّ. (1)
وَجَازَ رَدُّ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ غَيْرَ الشَّرِكَةِ نَصِيبَهُ مِنْ
بَيْعٍ مُتَّحِدٍ أَوْ مُتَعَدِّدٍ، اشْتَرَيَاهُ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ
وَاطَّلَعَا فِيهِ عَلَى عَيْبٍ وَلَوْ أَبَى الْبَائِعُ فَقَال: لاَ
أَقْبَل إِلاَّ جَمِيعَهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَتَعَدَّدُ
بِتَعَدُّدِهِ.
وَأَمَّا الشَّرِيكَانِ فِي التِّجَارَةِ إِذَا اشْتَرَيَا مَعِيبًا فِي
صَفْقَةٍ وَأَرَادَ أَحَدُهُمَا الرَّدَّ فَلِصَاحِبِهِ مَنْعُهُ وَقَبُول
الْجَمِيعِ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلٌ عَنِ الآْخَرِ.
وَجَازَ لِمُشْتَرٍ مِنْ بَائِعَيْنِ غَيْرِ شَرِيكَيْنِ رَدُّ نَصِيبِهِ
دُونَ الرَّدِّ عَلَى الآْخَرِ. (2)
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 184.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 122، 123.
(31/93)
ثَالِثًا: ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا أَرَادَ إِمْسَاكَ الْمَعِيبِ وَأَخْذَ أَرْشِ
النَّقْصِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَتَعَذَّرِ الرَّدُّ، رَضِيَ
الْبَائِعُ بِدَفْعِ الأَْرْشِ أَوْ سَخِطَ بِهِ؛ لأَِنَّهُ ظَهَرَ عَلَى
عَيْبٍ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، فَكَانَ لَهُ الأَْرْشُ كَمَا لَوْ تَعَيَّبَ
عِنْدَهُ. وَلأَِنَّهُ فَاتَ عَلَيْهِ جُزْءٌ مِنَ الْمَبِيعِ، فَكَانَتْ
لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِعِوَضِهِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى عَشْرَةَ أَقْفِزَةٍ
فَبَانَتْ تِسْعَةً، وَلأَِنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ تَرَاضَيَا عَلَى أَنَّ
الْعِوَضَ فِي مُقَابَلَةِ الْمُعَوَّضِ، فَكُل جُزْءٍ مِنَ الْعِوَضِ
يُقَابِلُهُ جُزْءٌ مِنَ الْمُعَوَّضِ، وَمَعَ الْعَيْبِ فَاتَ جُزْءٌ
مِنْهُ فَيَرْجِعُ بِبَدَلِهِ وَهُوَ الأَْرْشُ مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى
الرِّبَا، كَشِرَاءِ حُلِيٍّ بِفِضَّةٍ بِزِنَتِهِ. (1)
وَإِنِ اشْتَرَى رَجُلٌ مَعِيبَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً، أَوِ اشْتَرَى
طَعَامًا أَوْ نَحْوَهُ فِي وِعَاءَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَلَيْسَ لَهُ
إِلاَّ رَدُّهُمَا مَعًا أَوْ إِمْسَاكُهُمَا وَالْمُطَالَبَةُ
بِالأَْرْشِ؛ لأَِنَّ فِي رَدِّ أَحَدِهِمَا تَفْرِيقًا لِلصَّفْقَةِ عَلَى
الْبَائِعِ مَعَ إِمْكَانِ أَنْ لاَ يُفَرِّقَهَا - أَشْبَهَ رَدَّ بَعْضِ
الْمَعِيبِ الْوَاحِدِ - فَإِنْ تَلِفَ أَحَدُ الْمَعِيبَيْنِ وَبَقِيَ
الآْخَرُ فَلِلْمُشْتَرِي رَدُّ الْبَاقِي بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ
لِتَعَذُّرِ رَدِّ التَّالِفِ، وَالْقَوْل
__________
(1) المغني 4 / 162، 163، وكشاف القناع 3 / 218، 225.
(31/94)
قَوْل الْمُشْتَرِي فِي قِيمَةِ التَّالِفِ
مَعَ يَمِينِهِ؛ لأَِنَّهُ مُنْكِرٌ لِمَا يَدَّعِيهِ الْبَائِعُ مِنْ
زِيَادَةِ قِيمَتِهِ.
وَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَعِيبًا وَالآْخَرُ سَلِيمًا، وَأَبَى
الْمُشْتَرِي أَخْذَ الأَْرْشِ عَنِ الْعَيْبِ فَلَهُ رَدُّهُ بِقِسْطِهِ
مِنَ الثَّمَنِ؛ لأَِنَّهُ رَدٌّ لِلْمَبِيعِ الْمَعِيبِ مِنْ غَيْرِ
ضَرَرٍ عَلَى الْبَائِعِ، وَلاَ يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي رَدَّ السَّلِيمِ
لِعَدَمِ عَيْبِهِ إِلاَّ أَنْ يَنْقُصَهُ تَفَرُّقٌ كَمِصْرَاعَيْ بَابٍ
وَزَوْجَيْ خُفٍّ، أَوْ يَحْرُمُ تَفْرِيقٌ كَجَارِيَةٍ وَوَلَدِهَا
وَنَحْوِهِ كَأَخِيهَا، فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي رَدُّ أَحَدِهِمَا
وَحْدَهُ، بَل لَهُ رَدُّهُمَا مَعًا أَوِ الأَْرْشُ دَفْعًا لِضَرَرِ
الْبَائِعِ أَوْ لِتَحْرِيمِ التَّفْرِيقِ. (1)
وَأَمَّا طُرُقُ إِثْبَاتِ الْعَيْبِ وَمَوَانِعُ الرَّدِّ بِهِ فَتَفْصِيل
ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ
(خِيَارُ الْعَيْبِ ف 6 وَمَا بَعْدَهَا)
الْعَيْبُ فِي الصَّرْفِ:
23 - الصَّرْفُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا بِمُعَيَّنٍ أَوْ فِي
الذِّمَّةِ.
وَالْعَيْبُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ نَفْسِ الْجِنْسِ أَوْ مِنْ غَيْرِ
الْجِنْسِ، وَالْعِوَضَانِ إِمَّا أَنْ
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 162، 163، كشاف القناع 3 / 218، 225.
(31/94)
يَكُونَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ
جِنْسَيْنِ، وَفِي كُلٍّ: إِمَّا أَنْ يَظْهَرَ الْعَيْبُ قَبْل الْقَبْضِ
أَوْ بَعْدَهُ، فَهَذِهِ ثَمَانِيَةٌ: أَرْبَعَةٌ فِي الصَّرْفِ
الْمُعَيَّنِ، وَمِثْلُهَا فِي الصَّرْفِ فِي الذِّمَّةِ.
أَوَّلاً - الْعَيْبُ مِنْ نَفْسِ الْجِنْسِ، اتَّحَدَ الْجِنْسُ أَوِ
اخْتَلَفَ، قَبْل الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ:
24 - إِذَا كَانَ الصَّرْفُ مُعَيَّنًا وَالْعَيْبُ فِي جَمِيعِ الْعِوَضِ،
كَأَنْ يَقُول بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّنَانِيرَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، أَوْ
بِهَذِهِ الدَّنَانِيرِ، وَيُشِيرُ إِلَى الْعِوَضَيْنِ. فَهَذَا هُوَ
الْمُعَيَّنُ بِمُعَيَّنٍ، وَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ هَذَا الْقِسْمِ
بِشُرُوطِهِ وَهُوَ الْحُلُول وَالتَّقَابُضُ.
ثُمَّ إِذَا ظَهَرَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ مَعِيبًا، مِثْل كَوْنِ
الْفِضَّةِ سَوْدَاءَ أَوْ خَشِنَةً تَنْفَطِرُ عِنْدَ الضَّرْبِ، أَوْ
كَانَتْ سِكَّتُهَا تُخَالِفُ سِكَّةَ السُّلْطَانِ، أَوْ وُجِدَتِ
الدَّرَاهِمُ زُيُوفًا، فَهَل يَصِحُّ الْعَقْدُ وَلاَ شَيْءَ لِوَاجِدِ
الْعَيْبِ إِذَا رَضِيَ بِهِ، أَمْ لَهُ الْبَدَل؟
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: مِنَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْعَيْبُ
مِنْ نَفْسِ الْجِنْسِ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ
بَيْنَ أَنْ يُمْسِكَ الْجَمِيعَ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ،
وَلَيْسَ لَهُ
(31/95)
الْبَدَل، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا يُعَيَّنُ عِنْدَهُمْ مِنْ غَيْرِ الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ، فَفِي الْمَبْسُوطِ: لَوْ كَانَتِ الْفِضَّةُ سَوْدَاءَ
أَوْ حَمْرَاءَ فِيهَا رَصَاصٌ أَوْ صُفْرٌ - وَهُوَ الَّذِي أَفْسَدَهَا -
فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا؛ لأَِنَّ
الْمُشَارَ إِلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى. فَإِنَّ مِثْلَهُ يُسَمَّى
إِنَاءَ فِضَّةٍ فِي النَّاسِ، إِلاَّ أَنَّهُ مَعِيبٌ لِمَا فِيهِ مِنَ
الْغِشِّ، فَيَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِالتَّسْمِيَةِ،
وَيَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي لِلْعَيْبِ.
وَإِنْ كَانَ رَدِيئَةً مِنْ غَيْرِ غِشٍّ فِيهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ
يَرُدَّهَا؛ لأَِنَّ الرَّدَاءَةَ لَيْسَتْ بِعَيْبٍ.
وَفِي تَكْمِلَةِ الْمَجْمُوعِ: وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ مِنْ جِنْسِ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، كَخُشُونَةِ الْفِضَّةِ وَرَدَاءَةِ الْمَعْدِنِ،
فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، فَإِنْ ظَهَرَ الْعَيْبُ وَالْمَبِيعُ بَاقٍ فَهُوَ
بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ وَيَسْتَرْجِعَ الثَّمَنَ، وَبَيْنَ أَنْ
يَرْضَى بِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالأَْصْحَابُ، وَلَيْسَ لَهُ
أَنْ يُطَالِبَ بِبَدَلِهِ، سَوَاءٌ قَبْل التَّفَرُّقِ أَوْ بَعْدَهُ،
فَإِنَّ مَوْرِدَ الْعَقْدِ مُعَيَّنٌ، اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الأَْصْحَابِ
عَلَى ذَلِكَ، وَلاَ يَأْخُذُ أَرْشَ الْمَعِيبِ؛ لأَِنَّ الأَْرْشَ لاَ
يُسْتَحَقُّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الرَّدِّ (1)
__________
(1) المبسوط 14 / 68، والفتاوى الهندية 3 / 238، وتكملة المجموع 10 / 121،
والمغني لابن قدامة 4 / 166 - 167.
(31/95)
الْمَذْهَبُ الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ:
فَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْمَغْشُوشَ الْمُعَيَّنَ مِنَ الْجِهَتَيْنِ
كَهَذَا الدِّينَارِ بِهَذِهِ الْعَشَرَةِ الدَّرَاهِمِ، فِيهِ طَرِيقَانِ
(1) :
الأَْوَّل أَنَّ الْمَذْهَبَ كُلَّهُ عَلَى إِجَازَةِ الْبَدَل.
وَالثَّانِي أَنَّهُ كَغَيْرِ الْمُعَيَّنِ. فَيَكُونُ فِيهِ قَوْلاَنِ،
وَالْمَشْهُورُ مِنْهُمَا النَّقْضُ، (2) وَعَلَى هَذَا الْقَوْل يَكُونُ
مُتَّفِقًا مَعَ الْمَذْهَبِ الأَْوَّل. وَالْقَوْل الثَّانِي: جَوَازُ
الْبَدَل وَهُوَ لاِبْنِ وَهْبٍ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (3) ،
عَلَى أَسَاسِ أَنَّ النُّقُودَ لاَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَذَلِكَ
لأَِنَّ الْمُصْطَرِفَيْنِ لَمْ يَفْتَرِقَا وَفِي ذِمَّةِ أَحَدِهِمَا
لِلآْخَرِ شَيْءٌ وَلَمْ يَزَل الْمُعَيَّنُ مَقْبُوضًا لِوَقْتِ الْبَدَل،
فَلَمْ يَلْزَمْ عَلَى الْبَدَل صَرْفٌ مُؤَخَّرٌ بِخِلاَفِ غَيْرِ
الْمُعَيَّنِ فَيَفْتَرِقَانِ وَذِمَّةُ أَحَدِهِمَا مَشْغُولَةٌ
لِصَاحِبِهِ، فَفِي الْبَدَل صَرْفٌ مُؤَخَّرٌ.
ثَانِيًا - أَخْذُ الأَْرْشِ عَنِ الْمَعِيبِ:
أ - إِذَا كَانَ الْعِوَضَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ:
25 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى الْقَوْل بِرُجُوعِهِ بِنُقْصَانِ
الْعَيْبِ إِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ أَوْ حَدَثَ
__________
(1) شرح الخرشي 5 / 45، والشرح الصغير4 / 72.
(2) شرح الخرشي 5 / 45، حاشية الصاوي على الشرح الصغير 4 / 72 - 73.
(3) المغني لابن قدامة 4 / 167.
(31/96)
فِيهِ عَيْبٌ آخَرُ، مَا لَمْ يَقُل
الْبَائِعُ: أَنَا أَقْبَلُهُ كَذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ
إِذَا كَانَ أَخْذُ الأَْرْشِ قَبْل التَّفَرُّقِ، أَوْ كَانَ الأَْرْشُ
مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ.
فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: لَوِ اشْتَرَى قَلْبَ فِضَّةٍ بِذَهَبٍ،
فَوَجَدَ فِيهِ عَيْبًا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ، فَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ
أَوْ حَدَثَ فِيهِ عَيْبٌ آخَرُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنُقْصَانِ
الْعَيْبِ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَقُول: أَنَا أَقْبَلُهُ كَذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ فِضَّةً لَمْ يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ (1) .
وَفِي الْمُغْنِي: وَإِنْ كَانَ الصَّرْفُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ فَلَهُ أَخْذُ
الأَْرْشِ فِي الْمَجْلِسِ؛ لأَِنَّ الْمُمَاثَلَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ،
وَتَخَلُّفُ قَبْضِ بَعْضِ الْعِوَضِ عَنْ بَعْضٍ مَا دَامَا فِي
الْمَجْلِسِ لاَ يَضُرُّ، فَجَازَ كَمَا فِي سَائِرِ الْبَيْعِ، وَإِنْ
كَانَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ لَمْ يَجُزْ؛ لأَِنَّهُ يُفْضِي إِلَى حُصُول
التَّفَرُّقِ قَبْل الْقَبْضِ لأَِحَدِ الْعِوَضَيْنِ، إِلاَّ أَنْ
يَجْعَلاَ الأَْرْشَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ كَأَنَّهُ أَخَذَ أَرْشَ
عَيْبِ الْفِضَّةِ قَفِيزَ حِنْطَةٍ فَيَجُوزُ. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى الْقَوْل بِعَدَمِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 238.
(2) المغني لابن قدامة 4 / 168.
(31/96)
جَوَازِ أَخْذِ الأَْرْشِ (1) ، وَهُوَ
مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ أَخْذُ الأَْرْشِ بَعْدَ
التَّفَرُّقِ.
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ: بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ
أَخْذُ الأَْرْشِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الرَّدِّ، بِمَعْنَى أَنَّهُ
إِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ وَيَسْتَرْجِعَ الثَّمَنَ
الَّذِي دَفَعَهُ فَلاَ حَاجَةَ إِلَى الْقَوْل بِأَخْذِ الأَْرْشِ،
فَإِمَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِمَّا أَنْ يَفْسَخَ.
ب - إِذَا كَانَ الْعِوَضَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ:
26 - وَذَلِكَ كَدَنَانِيرَ بِدَنَانِيرَ، أَوْ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ،
أَوْ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ، أَوْ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ فَهَل يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ
الأَْرْشِ فِي مُتَّحِدَيِ الْجِنْسِ؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى الْقَوْل
بِعَدَمِ أَخْذِ الأَْرْشِ عَنِ الْمَعِيبِ فِي مُتَّحِدَيْ الْجِنْسِ؛
لأَِنَّ الأَْرْشَ يُؤَدِّي إِلَى حُصُول الزِّيَادَةِ فِي أَحَدِ
الْعِوَضَيْنِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى فَوَاتِ الْمُمَاثَلَةِ
الْمُشْتَرَطَةِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدَةِ، فَيَتَحَقَّقُ رِبَا
الْفَضْل. وَهُوَ لاَ يَجُوزُ (2) .
__________
(1) تكملة المجموع 10 / 121، والمغني 4 / 168.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 238، تكملة المجموع 10 / 126 - 127، المغني لابن
قدامة 4 / 168.
(31/97)
وَذَهَبَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ
إِلَى تَخْرِيجِ وَجْهٍ بِجَوَازِ أَخْذِ الأَْرْشِ فِي الْمَجْلِسِ،
لأَِنَّ الزِّيَادَةَ طَرَأَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ (1) ، وَأَمَّا
الْمَالِكِيَّةُ: فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَخْذُ الْبَدَل فَلاَ حَاجَةَ
إِلَى الْقَوْل بِالأَْرْشِ.
ثَالِثًا - الصَّرْفُ مُعَيَّنٌ وَالْعَيْبُ مِنْ نَفْسِ الْجِنْسِ
وَالْمَعِيبُ الْبَعْضُ:
27 - لَقَدْ سَبَقَ الْحُكْمُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْعَيْبُ فِي جَمِيعِ
الْعِوَضِ، فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ الإِْمْسَاكُ أَوِ الرَّدُّ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَخْذِ الأَْرْشِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي مُتَّحِدَيِ
الْجِنْسِ أَوْ مُخْتَلِفَيْهِ.
وَأَيْضًا إِذَا كَانَ الْعَيْبُ فِي بَعْضِ الْعِوَضِ فَلَهُ إِمَّا رَدُّ
الْكُل أَوْ إِمْسَاكُ الْكُل،
وَهُنَا نَتَنَاوَل الْحُكْمَ فِي إِمْسَاكِ الْجَيِّدِ وَرَدِّ الْمَعِيبِ
فَإِذَا وُجِدَ الْبَعْضُ مَعِيبًا، فَهَل لَهُ إِمْسَاكُ الْجَيِّدِ
وَرَدُّ الْمَعِيبِ وَحْدَهُ؟ أَوْ يَرُدُّ الْجَمِيعَ؟ أَوْ يُمْسِكُ
الْجَمِيعَ وَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ غَيْرُ ذَلِكَ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ مَذَاهِبَ:
الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ
عَيْبًا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ كُلَّهُ أَوْ يَأْخُذَهُ
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 168.
(31/97)
كُلَّهُ، وَذَلِكَ فِيمَا لَوْ كَانَ
حُلِيُّ ذَهَبٍ فِيهِ جَوْهَرٌ مُفَضَّضٌ، فَوَجَدَ بِالْجَوْهَرِ عَيْبًا،
فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّهُ دُونَ الْحُلِيِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ،
لأَِنَّ الْكُل كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، لِمَا فِي تَمْيِيزِ الْبَعْضِ مِنَ
الْبَعْضِ مِنَ الضَّرَرِ.
وَمَنْعُ الْحَنَفِيَّةِ رَدَّ الْبَعْضِ هُنَا، لَيْسَ عَلَى أَسَاسِ
تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَإِنَّمَا عَلَى أَصْلٍ آخَرَ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ
أَنَّ الَّذِي يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ غَيْرُ الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ كَالْحُلِيِّ وَالتِّبْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ
بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ لاَ يُمْكِنُ فَصْلُهُ (1) .
وَقَدْ وَافَقَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَا لَوْ كَانَتِ الدَّنَانِيرُ
مُخْتَلِفَةَ الأَْجْنَاسِ وَالْقِيَمِ، فَفِي الْمُنْتَقَى: وَإِنْ
كَانَتِ الدَّنَانِيرُ مُخْتَلِفَةَ الأَْجْنَاسِ وَالْقِيَمِ فَفِي
الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنِ
اشْتَرَى حُلِيًّا مَصُوغًا: أَسْوِرَةً وَخَلاَخِل وَغَيْرَ ذَلِكَ
بِدَرَاهِمَ فَوَجَدَ بِهَا دِرْهَمًا زَائِفًا، أَنَّهُ يُنْتَقَضُ
الصَّرْفُ كُلُّهُ (2) .
ثُمَّ قَال: وَلَوْ وَجَدَ فِي جَمِيعِ الْحُلِيِّ مِسْمَارَ نُحَاسٍ
فَقَدْ رَوَى أَبُو زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ ذَلِكَ إِنْ كَانَ
فِي سِوَارَيْنِ مِنَ الْحُلِيِّ انْتَقَضَ الصَّرْفُ فِي السِّوَارَيْنِ
جَمِيعًا؛ لأَِنَّ السِّوَارَيْنِ جَمِيعًا بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ
الْوَاحِدِ. فَإِذَا انْتَقَضَ الصَّرْفُ فِي أَحَدِهِمَا
__________
(1) المبسوط 14 / 67.
(2) المنتقى للباجي 4 / 275.
(31/98)
انْتَقَضَ فِيهِمَا، لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ
أَنْ يَفْتَرِقَا فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ بَاعَهُمَا مُجْتَمِعَيْنِ،
لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَسَادِ، وَلأَِنَّ النَّقْضَ لَمَّا طَرَأَ مِنْ
جِهَتِهِمَا وَالْعِوَضُ الَّذِي يُقَارِبُ مُسَاوٍ لَمْ يَدْخُلْهُ
التَّقْسِيطُ.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ بَعْضَ الْعِوَضِ مَعِيبًا فَلَهُ
إِمَّا إِمْسَاكُ الْكُل أَوْ رَدُّ الْكُل، وَلَيْسَ لَهُ رَدُّ
الْمَعِيبِ وَحْدَهُ، فَإِذَا صَرَفَ الرَّجُل مِنَ الرَّجُل دِينَارًا
بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ، فَوَجَدَ فِيهَا
دِرْهَمًا زَائِفًا، فَإِنْ كَانَ زَافَ مِنْ قِبَل السِّكَّةِ أَوْ قُبْحِ
الْفِضَّةِ فَلاَ بَأْسَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَقْبَلَهُ، وَلَهُ
رَدُّهُ، فَإِنْ رَدَّهُ رَدَّ الْبَيْعَ كُلَّهُ؛ لأَِنَّهَا بَيْعَةٌ
وَاحِدَةٌ، وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنَّ لَهُ رَدَّهُ فَالْبَيْعُ
جَائِزٌ، وَذَلِكَ لَهُ شَرَطَهُ أَوْ لَمْ يَشْرِطْهُ.
وَإِنْ شَرَطَ أَنَّهُ لاَ يَرُدُّ الصَّرْفَ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ إِذَا
عَقَدَ عَلَى هَذَا عُقْدَةَ الْبَيْعِ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَى عَدَمِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ؛
لأَِنَّ الصَّفْقَةَ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُهَا فِي جَمِيعِ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَطَلَتْ فِي الْكُل، كَالْجَمْعِ بَيْنَ
الأُْخْتَيْنِ وَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، وَعَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ
إِلاَّ إِمْسَاكُ الْكُل أَوْ فَسْخُ الْكُل (1) .
__________
(1) الأم 3 / 43، الشرح الكبير لابن قدامة بذيل المغني 4 / 31.
(31/98)
وَيَقُول السُّبْكِيّ: وَهَذَا الْكَلاَمُ
قَدْ يُوهِمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ التَّفْرِيقُ، وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ
بِهِ أَبُو حَامِدٍ فِي مَسْأَلَةِ الْعَبْدَيْنِ، وَأَكْثَرُ الأَْصْحَابِ
أَطْبَقُوا عَلَى تَخْرِيجِهِ عَلَى قَوْلَيْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي
الدَّرَاهِمِ (1) .
وَفِي الْمُغْنِي: وَهَل لَهُ رَدُّ الْمَعِيبِ وَإِمْسَاكُ الصَّحِيحِ؟
عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ (2) .
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ - وَهُوَ قَوْلٌ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - أَنَّ الصَّرْفَ يُنْقَضُ فِي
الْمَعِيبِ بِقَدْرِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَيُمْسِكُ الْجَيِّدَ، وَقِيل
بِالنَّقْضِ بَعْدَ الطُّول، فَإِذَا كَانَ الصَّرْفُ دَنَانِيرَ
بِدَرَاهِمَ، فَوَجَدَ بِالدَّرَاهِمِ زَيْفًا فَأَصْغَرُ دِينَارٍ، مَا
لَمْ يَكُنِ الزَّيْفُ يَزِيدُ عَنْ أَصْغَرِ دِينَارٍ فَأَكْبَرُ
دِينَارٍ، وَهَكَذَا كُلَّمَا زَادَ الزَّيْفُ يُنْقِصُ مِنَ الصَّرْفِ مَا
يُقَابِلُهُ عَلَى التَّرْتِيبِ السَّابِقِ. لأَِنَّ كُل دِينَارٍ
كَأَنَّهُ مُفْرَدٌ بِنَفْسِهِ، إِذْ لاَ تَخْتَلِفُ قِيمَتُهُ عَنْ
قِيمَةِ مُصَاحِبِهِ.
وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ
الْقَاسِمِ أَنَّهُ يُنْتَقَضُ الْجَمِيعُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ
الْمَجْمُوعَ مُقَابِل الْمَجْمُوعِ، وَلَكِنْ يَسْتَوِي فِي الْمَشْهُورِ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ
__________
(1) تكملة المجموع 10 / 121.
(2) المغني لابن قدامة 4 / 167.
(31/99)
يُسَمُّوا عِنْدَ الْعَقْدِ لِكُل دِينَارٍ
عَدَدًا مِنَ الدَّرَاهِمِ أَوْ لَمْ يُسَمُّوا لِكُل دِينَارٍ عَدَدًا،
بَل جَعَلُوا كُل الدَّرَاهِمِ فِي مُقَابَلَةِ كُل الدَّنَانِيرِ.
وَإِنْ تَسَاوَتِ الدَّنَانِيرُ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالْجَوْدَةِ
وَالرَّدَاءَةِ فَوَاحِدٌ مِنْهَا يُنْتَقَضُ، مَا لَمْ يَزِدْ مُوجِبُ
النَّقْضِ فَآخَرُ وَهَكَذَا (1) .
وَالْقَوْل بِجَوَازِ رَدِّ الْمَعِيبِ وَحْدَهُ بِنَاءً عَلَى الْقَوْل
بِجَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ لِكُل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا لَهُ حُكْمٌ لَوْ كَانَ مُفْرَدًا، فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا
ثَبَتَ لِكُل وَاحِدٍ حُكْمُهُ، كَمَا لَوْ بَاعَ شِقْصًا وَسَيْفًا؛
وَلأَِنَّ الْبَيْعَ سَبَبٌ اقْتَضَى الْحُكْمَ فِي مَحَلَّيْنِ
فَامْتَنَعَ حُكْمُهُ فِي أَحَدِ الْمَحَلَّيْنِ فَيَصِحُّ فِي الآْخَرِ،
كَمَا لَوْ وَصَّى بِشَيْءٍ لآِدَمِيٍّ وَبَهِيمَةٍ (2) .
رَابِعًا إِذَا تَلِفَ الْعِوَضُ بَعْدَ الْعَقْدِ ثُمَّ عَلِمَ عَيْبَهُ:
إِذَا تَلِفَ الْعِوَضُ بَعْدَ الْعَقْدِ ثُمَّ عَلِمَ عَيْبَهُ،
وَالصَّرْفُ مُعَيَّنٌ وَالْعَيْبُ مِنْ نَفْسِ الْجِنْسِ، وَلَمْ يَعْلَمِ
الْعَيْبَ إِلاَّ بَعْدَ تَلَفِ الْعِوَضِ الْمَعِيبِ، فَهَل يَصِحُّ
الْعَقْدُ أَوْ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 38، والشرح الصغير 4 / 73 - 74.
(2) الشرح الكبير لابن قدامة بذيل المغني 4 / 38.
(31/99)
يُفْسَخُ وَيَرُدُّ مِثْل التَّالِفِ؟
وَلَوْ أَمْسَكَ هَل لَهُ أَخْذُ الأَْرْشِ؟ بَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - حُكْمُ الْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ الإِْمْضَاءُ أَوِ الْفَسْخُ
28 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْعِوَضَ فِي الصَّرْفِ إِذَا تَلِفَ
بَعْدَ الْقَبْضِ ثُمَّ عَلِمَ عَيْبَهُ فُسِخَ الْعَقْدُ وَرَدَّ
الْمَوْجُودَ، وَتَبْقَى قِيمَةُ الْمَعِيبِ فِي ذِمَّةِ مَنْ تَلِفَ فِي
يَدِهِ. سَوَاءٌ كَانَ الصَّرْفُ بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، كَمَا
إِذَا صَارَفَ ذَهَبًا بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقًا بِوَرِقٍ. وَلاَ يَأْخُذُ
الأَْرْشَ؛ لأَِنَّهُ يَحْصُل مَعَهُ فِي الْبَيْعِ تَفَاضُلٌ، وَلاَ
يُمْكِنُ الرَّدُّ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ تَالِفٌ لاَ يُمْكِنُ رَدُّهُ، يُمْكِنُ
أَنْ يُقَال: إِنَّهُ يُقِرُّ الْعَقْدَ وَلاَ شَيْءَ لَهُ؛ لأَِنَّهُ قَدْ
عَلِمَ بِالْعَيْبِ، فَلاَ بُدَّ لَهُ مِنَ اسْتِدْرَاكِ ظِلاَمَتِهِ،
فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى فَسْخِ الْعَقْدِ وَرَدِّ الْمَوْجُودِ،
وَتَبْقَى قِيمَةُ الْمَعِيبِ فِي ذِمَّةِ مَنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ،
فَيَرُدُّ مِثْلَهَا أَوْ عِوَضَهَا (1) .
وَفِي الْمُغْنِي إِنْ تَلِفَ الْعِوَضُ فِي الصَّرْفِ بَعْدَ الْقَبْضِ
ثُمَّ عَلِمَ عَيْبَهُ، فُسِخَ
__________
(1) تكملة المجموع شرح المهذب 10 / 125.
(31/100)
الْعَقْدُ وَرَدَّ الْمَوْجُودَ، وَتَبْقَى
قِيمَةُ الْمَعِيبِ فِي ذِمَّةِ مَنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ. فَيَرُدُّ
مِثْلَهَا أَوْ عِوَضَهَا إِنِ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ
الصَّرْفُ بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ. ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ (1)
الْمَذْهَبُ الثَّانِي لأَِبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ أَنَّ
الْبَيْعَ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ عَلَى الْبَائِعِ، فَلَوِ
اشْتَرَى دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَتَقَابَضَا وَالدَّرَاهِمُ
زُيُوفٌ فَأَنْفَقَهَا الْمُشْتَرِي وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ، فَلاَ شَيْءَ
لَهُ عَلَى الْبَائِعِ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ: يَرُدُّ مِثْل مَا قَبَضَ
وَيَرْجِعُ بِالْجِيَادِ.
وَذَكَرَ فَخْرُ الإِْسْلاَمِ وَغَيْرُهُ أَنَّ قَوْلَهُمَا قِيَاسٌ،
وَقَوْل أَبِي يُوسُفَ اسْتِحْسَانٌ (2) .
وَحَيْثُ إِنَّ الْحَنَفِيَّةَ ذَكَرُوا الأَْمْثِلَةَ فِي الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ، وَهِيَ لاَ تَتَعَيَّنُ عِنْدَهُمْ، وَالْكَلاَمُ فِي
الْمُعَيَّنِ، لَمْ نَجِدْ لَهُمْ نَصًّا صَرِيحًا فِي هَذَا، وَلَكِنَّ
الْحُكْمَ لاَ يَخْتَلِفُ؛ لأَِنَّهُ سَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ مُعَيَّنًا
أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَبِالتَّلَفِ تَسَاوَيَا فِي عَدَمِ الْقُدْرَةِ
عَلَى الرَّدِّ أَوِ الاِسْتِبْدَال إِنْ قِيل بِهِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ
طَرِيقٌ آخَرُ يُمْكِنُ الْقَوْل بِهِ غَيْرَ هَذَا.
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 169.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 238، الجامع الكبير لمحمد بن الحسن ص228.
(31/100)
ب - حُكْمُ أَخْذِ الأَْرْشِ فِي
الْمَعِيبِ التَّالِفِ بَعْدَ الْقَبْضِ:
29 - إِذَا كَانَ الصَّرْفُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، كَذَهَبٍ بِذَهَبٍ أَوْ
فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ، فَفِيهِ مَذْهَبَانِ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل لِلْحَنَفِيَّةِ وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ
وَالأَْوْلَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الأَْرْشِ
أَوْ نُقْصَانُ الْعَيْبِ فِي مُتَّحِدَيِ الْجِنْسِ لأَِنَّ أَخْذَ
الأَْرْشِ فِي مُتَّحِدَيِ الْجِنْسِ يُؤَدِّي إِلَى التَّفَاضُل فِي
الْجِنْسِ الْوَاحِدِ (1) .
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: لِلْقَاضِي حُسَيْنٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا
فَسَخَ الْعَقْدَ فِي الْمَعِيبِ التَّالِفِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِأَرْشِ
الْعَيْبِ، مِثْل أَنْ يَكُونَ التَّالِفُ مَعِيبًا بِعُشْرِ قِيمَتِهِ،
فَإِنَّهُ يَسْتَرِدُّ مِنْهُ عُشْرَ الْقِيمَةِ؛ لأَِنَّ الْمُمَاثَلَةَ
فِي مَال الرِّبَا تُشْتَرَطُ حَالَةَ الْعَقْدِ، وَاسْتِرْجَاعُ بَعْضِ
الثَّمَنِ حَقٌّ ثَبَتَ لَهُ ابْتِدَاءً، فَلاَ يُرَاعَى فِيهِ مَعْنَى
الرِّبَا.
وَالْقَوْل بِأَخْذِ الأَْرْشِ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَإِنْ
كَانَتْ خِلاَفَ الأَْوْلَى (2) .
30 - إِذَا كَانَ الصَّرْفُ مِنْ جِنْسَيْنِ، كَدَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ
فَفِيهِ مَذْهَبَانِ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 238، تكملة المجموع 10 / 127، المغني لابن قدامة 4
/ 169.
(2) تكملة المجموع 10 / 126، المغني لابن قدامة 4 / 169.
(31/101)
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل لِلْحَنَفِيَّةِ
وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ أَخْذُ الأَْرْشِ.
وَأَجَازَ ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ؛
لأَِنَّهُ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَأْخِيرٌ فِي قَبْضِ الْعِوَضِ، بَل
يَتِمُّ الْقَبْضُ قَبْل التَّفَرُّقِ، وَلأَِنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي
مُخْتَلِفَيْ الْجِنْسِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فَلاَ مَانِعَ مِنْ أَخْذِ
الأَْرْشِ مَعَ عَدَمِ إِمْكَانِ الرَّدِّ لِتَلَفِ الْعِوَضِ (1) .
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: لاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ بِأَرْشِ عَيْبِ
الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، قَال السُّبْكِيُّ: هَذَا قَوْل الشُّيُوخِ
مِنْ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ وَالْجُمْهُورِ مِنْ غَيْرِهِمْ؛
لأَِنَّ الصَّرْفَ أَضْيَقُ مِنَ الْبِيَاعَاتِ، فَلَمْ يَتَّسِعْ لِدُخُول
الأَْرْشِ فِيهِ (2) .
خَامِسًا - الْعَيْبُ عَنْ غَيْرِ الْجِنْسِ:
31 - الصَّرْفُ هُنَا مُعَيَّنٌ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ،
كَدَنَانِيرَ بِدَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ، أَوْ مِنْ
جِنْسَيْنِ كَدَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ، وَالْعَيْبُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ
كَأَنْ يَجِدَ الدَّنَانِيرَ نُحَاسًا أَوْ يَجِدَ الدَّرَاهِمَ رَصَاصًا
أَوْ سُتُّوقًا، وَسَوَاءٌ وَجَدَ ذَلِكَ قَبْل الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ،
فَهَل يَبْطُل الصَّرْفُ مُطْلَقًا؟ أَوْ يَجُوزُ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 138، تكملة المجموع 10 / 125، المغني لابن قدامة 4
/ 169
(2) تكملة المجموع 10 / 127.
(31/101)
لَهُ الإِْبْدَال فِي الْمَجْلِسِ
وَبَعْدَهُ؟ أَوْ يَجُوزُ لَهُ الرِّضَا بِهِ؟ وَهَل لَهُ الرَّدُّ
وَالإِْبْدَال لَوْ كَانَ عَلِمَ بِهَذَا الْعَيْبِ عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْ
عِنْدَ الْقَبْضِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ
أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّ الصَّرْفَ بَاطِلٌ وَيَسْتَرْجِعُ جَمِيعَ
الثَّمَنِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ
الشَّافِعِيُّ. وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ مُعْظَمُ الأَْصْحَابِ، وَمَا
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَغْشُوشُ عِنْدَهُمْ نَقْصَ عَدَدٍ
أَوْ وَزْنٍ أَوْ رَصَاصٍ أَوْ نُحَاسٍ خَالِصَيْنِ أَوْ مَغْشُوشَيْنِ.
فَالْمَغْشُوشُ الْمُعَيَّنُ فِيهِ قَوْلاَنِ: الْمَشْهُورُ مِنْهُمَا
نَقْضُ الصَّرْفِ وَعَدَمُ إِجَازَةِ الْبَدَل؛ لأَِنَّ الْمُشَارَ
إِلَيْهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى وَالْعَقْدُ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ
بِالْمُسَمَّى. لأَِنَّ انْعِقَادَهُ بِالتَّسْمِيَةِ، وَالْمُسَمَّى
مَعْدُومٌ، فَلاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا، قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ. وَلأَِنَّهُ بَاعَهُ غَيْرَ مَا سَمَّى لَهُ فَلَمْ
يَصِحَّ، كَمَا لَوْ قَال: بِعْتُكَ هَذِهِ الْبَغْلَةَ فَإِذَا هُوَ
حِمَارٌ، أَوْ هَذَا الثَّوْبَ الْقَزَّ فَوَجَدَهُ كَتَّانًا (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ
__________
(1) المبسوط للسرخسي 14 / 68، حاشية الصاوي على الشرح الصغير 4 / 71، الأم
للشافعي 3 / 43، تكملة المجموع 10 / 119، المغني لابن قدامة 4 / 165.
(31/102)
وَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ
الإِْمْسَاكِ وَالرَّدِّ وَأَخْذِ الْبَدَل. وَيَصِحُّ أَيْضًا إِذَا
رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ مَجَّانًا، سَوَاءٌ قَبْل التَّفَرُّقِ
أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ رَضِيَ الْبَائِعُ بِإِبْدَالِهِ، قَالَهُ
الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي
الإِْفْصَاحِ فَقَدْ قَال: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَال: الْبَيْعُ صَحِيحٌ
يَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى عَيْنِهِ.
وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي رَوَاهَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ
أَحْمَدَ؛ لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ فَالْبَيْعُ
صَحِيحٌ وَلَيْسَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَرْضَ
فَالْعَقْدُ وَارِدٌ عَلَى عَيْنِهِ. وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ
الإِْمْسَاكِ أَوِ الرَّدِّ وَأَخْذِ الْبَدَل (1) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: يُفَرِّقُ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل بَيْنَ مَا إِذَا
ظَهَرَ الْعَيْبُ فِي الْمَجْلِسِ قَبْل التَّفَرُّقِ أَوْ بَعْدَ
التَّفَرُّقِ.
فَإِذَا كَانَ قَبْل التَّفَرُّقِ كَانَ لَهُ الْبَدَل أَوِ الْفَسْخُ،
وَبَعْدَهُ لاَ يَجُوزُ وَيَبْطُل الصَّرْفُ وَلَوْ بَدَّل بَعْدَ
الْمَجْلِسِ، قَال بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ لاَ يَتِمُّ
بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالتَّفَرُّقِ بِالأَْبْدَانِ أَوِ التَّخْيِيرِ،
فَإِذَا رَدَّهَا فِي الْمَجْلِسِ وَقَبَضَ الْجِيَادَ جَازَ، وَجُعِل
كَأَنَّهُ أَخَّرَ الْقَبْضَ إِلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ. أَمَّا بَعْدَ
__________
(1) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 4 / 71، تكملة المجموع 10 / 119، المغني
لابن قدامة 4 / 165.
(31/102)
التَّفْرِيقِ فَلاَ يَجُوزُ وَالصَّرْفُ
بَاطِلٌ (1) .
الْقَوْل الرَّابِعُ: أَنَّ الْعَقْدَ يَلْزَمُ وَلَيْسَ لَهُ رَدٌّ وَلاَ
إِبْدَالٌ عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى ذَلِكَ بِشَرْطِ عِلْمِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ
الْقَبْضِ بِالْعَيْبِ، وَكَذَا عِنْدَ الْعَقْدِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ
يَرُدَّهَا وَيَأْخُذَ الدَّرَاهِمَ الْجِيَادَ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ الَّتِي رَوَاهَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَحْمَدَ
أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْعَقْدُ وَلَيْسَ لَهُ رَدُّهُ وَلاَ إِبْدَالُهُ؛
لأَِنَّ الْعَقْدَ وَارِدٌ عَلَى مُعَيَّنٍ، وَقَدْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي
بِعَيْنِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِعَيْبِهَا وَلِهَذَا لَوْ كَانَ لاَ يَعْلَمُ
أَحَدُهُمَا، أَوْ لاَ يَعْلَمَانِ بِعَيْبِهَا لاَ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ
بِعَيْنِهَا وَلأَِنَّهُ أَتَى بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَعَيَّنَ، فَهُوَ
مُطْلَقُ بَيْعٍ إِنْ كَانَ لَهُ قِيمَةٌ، وَلاَ يَكُونُ لَهُ الرَّدُّ
إِلاَّ إِذَا كَانَ جَاهِلاً بِالْعَيْبِ (2) .
حُكْمُ الْعَيْبِ فِي الصَّرْفِ فِي الذِّمَّةِ وَأَخْذِ الْبَدَل
وَالأَْرْشِ فِيهِ:
32 - الْعَيْبُ إِمَّا أَنْ يَظْهَرَ قَبْل الاِفْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ،
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ مِنْ نَفْسِ الْجِنْسِ أَوْ مِنْ غَيْرِ
الْجِنْسِ.
وَالْحُكْمُ هُنَا بِالنِّسْبَةِ لأَِخْذِ الْبَدَل يَخْتَلِفُ فِيمَا
إِذَا ظَهَرَ الْعَيْبُ قَبْل الاِفْتِرَاقِ أَوْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 238.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 237، المغني لابن قدامة 4 / 265.
(31/103)
بَعْدَهُ وَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي ثَلاَثِ
مَسَائِل:
الْمَسْأَلَةُ الأُْولَى:
إِذَا ظَهَرَ الْعَيْبُ قَبْل التَّفَرُّقِ وَالْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ
مِنْ غَيْرِهِ.
33 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ الْعَيْبُ فِي
الْمَجْلِسِ قَبْل التَّفَرُّقِ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْبَدَل سَوَاءٌ
كَانَ الْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ وَأَضَافَ
الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَنْ إِتْمَامِ الصَّرْفِ
بِدَفْعِ الْبَدَل.
كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا رَضِيَ وَاجِدُ الْعَيْبِ
بِهِ صَحَّ الصَّرْفُ إِذَا كَانَ الْعَيْبُ لاَ يُخْرِجُهُ عَنِ
الْجِنْسِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَيْبُ يُخْرِجُهُ عَنِ الْجِنْسِ
فَلَيْسَ لَهُ الرِّضَا بِهِ، إِلاَّ مَا قَالَهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ
أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْضَى بِهِ.
وَفِي حَالَةِ مَا إِذَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ الَّذِي لَمْ يُخْرِجْهُ عَنِ
الْجِنْسِ فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ أَرْشِ الْعَيْبِ إِذَا كَانَ الصَّرْفُ
مُتَّحِدَ الْجِنْسِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ.
وَإِذَا كَانَ الصَّرْفُ فِي مُخْتَلِفِ الْجِنْسِ جَازَ أَخْذُ الأَْرْشِ،
نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ (1)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى مُطْلَقٍ لاَ
عَيْبَ فِيهِ. فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ،
كَالْمُسْلَمِ فِيهِ، وَبِأَنَّ الْمَعْقُودَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 3156، 3157، حاشية الدسوقي 3 / 36، المهذب 1 / 276،
تكملة المجموع 10 / 107، المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 4 / 170 - 171.
(31/103)
عَلَيْهِ مَا فِي الذِّمَّةِ - وَقَدْ
قَبَضَ قَبْل التَّفَرُّقِ أَوْ كَأَنَّهُ أَخَّرَ الْقَبْضَ إِلَى آخِرِ
الْمَجْلِسِ. وَبِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ صَحِيحٌ لاَ عَيْبَ فِيهِ،
فَإِذَا قَبَضَ مَعِيبًا كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِمَا فِي ذِمَّتِهِ
مِمَّا يَتَأَوَّلُهُ الْعَقْدُ، كَمَا إِذَا قَبَضَ الْمُسْلَمَ فِيهِ
ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِبَدَلِهِ،
وَبِأَنَّ شَرْطَ الْمُمَاثَلَةِ فِي مُتَّحِدِ الْجِنْسِ يَمْنَعُ مِنْ
أَخْذِ الأَْرْشِ لِمَا يُؤَدِّي إِلَى الْمُفَاضَلَةِ غَيْرِ
الْجَائِزَةِ. وَلاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي مُخْتَلِفِ الْجِنْسِ إِذَا
كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ قَبْل التَّفَرُّقِ لأَِنَّهُ لاَ
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَأْخِيرٌ فِي قَبْضِ بَعْضِ الْعِوَضِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
إِذَا ظَهَرَ الْعَيْبُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ وَالْعَيْبُ مِنْ نَفْسِ
الْجِنْسِ وَالْفَرْضُ أَنَّ الصَّرْفَ فِي الذِّمَّةِ فَهَل لَهُ أَخْذُ
الْبَدَل كَمَا كَانَ قَبْل التَّفَرُّقِ؟ أَوْ يَبْطُل الصَّرْفُ إِنْ
لَمْ يَرْضَ بِهِ؟
34 - لِلْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبَانِ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل لأَِبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ:
أَنَّهُ إِذَا رَضِيَ بِهِ جَازَ سَوَاءٌ كَانَ قَبْل الاِفْتِرَاقِ أَوْ
بَعْدَهُ؛ لأَِنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ.
وَإِنِ اسْتَبْدَلَهَا فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ جَازَ أَيْضًا، لأَِنَّ
اسْتِبْدَالَهَا قَبْل الاِفْتِرَاقِ جَائِزٌ
(31/104)
إِجْمَاعًا
وَالْقَوْل بِجَوَازِ أَخْذِ الْبَدَل هُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ اخْتَارَهَا
الْخَلاَّل وَالْخِرَقِيُّ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الزُّيُوفِ وَقَعَ
صَحِيحًا؛ لأَِنَّهُ قَبَضَ جِنْسَ حَقِّهِ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لَوْ
تَجَوَّزَ بِهَا جَازَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ لَمَا
جَازَ كَالسَّتُّوقِ، إِلاَّ أَنَّهُ فَاتَتْهُ صِفَةُ الْجَوْدَةِ
بِالزِّيَافَةِ فَكَانَتْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَصْلاً لاَ وَصْفًا
فَكَانَتِ الزِّيَافَةُ فِيهَا عَيْبًا، وَالْعَيْبُ لاَ يَمْنَعُ صِحَّةَ
الْقَبْضِ، كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مَعِيبًا.
وَبِالرَّدِّ يُنْتَقَضُ الْقَبْضُ لَكِنْ مَقْصُورًا عَلَى حَالَةِ
الرَّدِّ. وَلاَ يَسْتَنِدُ الاِنْتِقَاضُ إِلَى وَقْتِ الْقَبْضِ
فَيَبْقَى الْقَبْضُ صَحِيحًا.
وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لاَ يُشْتَرَطَ قَبْضُ بَدَلِهِ فِي مَجْلِسِ
الرَّدِّ، لأَِنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِعَقْدِ السَّلَمِ الْقَبْضُ مَرَّةً
وَاحِدَةً. إِلاَّ أَنَّهُ شَرْطٌ؛ لأَِنَّ لِلرَّدِّ شَبَهًا بِالْعَقْدِ،
حَيْثُ لاَ يَجِبُ الْقَبْضُ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ إِلاَّ بِالرَّدِّ،
كَمَا لاَ يَجِبُ الْقَبْضُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ إِلاَّ بِالْعَقْدِ،
فَأُلْحِقَ مَجْلِسُ الرَّدِّ بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَهَذَا وَجْهُ قَوْل
الصَّاحِبَيْنِ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 205 ط بيروت.
(31/104)
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَا جَازَ
إِبْدَالُهُ قَبْل التَّفَرُّقِ جَازَ إِبْدَالُهُ مَعَ صِحَّةِ الْعَقْدِ
بَعْدَ التَّفَرُّقِ كَالسَّلَمِ، وَكَمَا أَنَّ مَا لَمْ يَجُزْ
إِبْدَالُهُ قَبْل التَّفَرُّقِ مِنَ الْمُعَيَّنِ لَمْ يَجُزْ إِبْدَالُهُ
بَعْدَ التَّفَرُّقِ.
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِأَنَّهُ مَضْمُونٌ فِي الذِّمَّةِ، فَجَازَ
إِبْدَال مَعِيبِهِ مَعَ صِحَّةِ الْعَقْدِ اعْتِبَارًا بِمَا قَبْل
التَّفَرُّقِ؛ وَلأَِنَّ قَبْضَ الثَّانِي يَدُل عَلَى الأَْوَّل قَال
بِهَذَا الْوَجْهِ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
(1) .
الْمَذْهَبُ الثَّانِي لأَِبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ
الْمَالِكِيَّةِ وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَاخْتَارَهُ
الْمُزَنِيّ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ
أَنَّهُ إِذَا رَضِيَ بِهِ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ بَطَل
الصَّرْفُ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ.
الْوَجْهُ الأَْوَّل: أَنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ حَقِّ الْمُسْلَمِ
إِلَيْهِ لَكِنْ أَصْلاً لاَ وَصْفًا. وَلِهَذَا ثَبَتَ لَهُ حَقُّ
الرَّدِّ بِفَوَاتِ حَقِّهِ عَنِ الْوَصْفِ، فَكَانَ حَقُّهُ فِي الأَْصْل
وَالْوَصْفِ جَمِيعًا، فَصَارَ بِقَبْضِ الزُّيُوفِ قَابِضًا حَقَّهُ مِنْ
حَيْثُ الأَْصْل لاَ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا رَضِيَ
بِهِ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ عَنِ الْوَصْفِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ
الْمُسْتَحَقَّ هُوَ قَبْضُ الأَْصْل دُونَ الْوَصْفِ لإِِبْرَائِهِ عَنِ
الْوَصْفِ، فَإِذَا قَبَضَهُ.
__________
(1) المهذب 2 / 279، المغني لابن قدامة 4 / / 170.
(31/105)
فَقَدْ قَبَضَ حَقَّهُ فَيَبْطُل
الْمُسْتَحَقُّ.
وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ حَقَّهُ؛ لأَِنَّ
حَقَّهُ فِي الأَْصْل وَالْوَصْفِ جَمِيعًا فَتَبَيَّنَ أَنَّ
الاِفْتِرَاقَ حَصَل لاَ عَنْ قَبْضِ رَأْسِ مَال السَّلَمِ (أَوْ يُقَال
تَفَرَّقَ لاَ عَنْ قَبْضِ بَدَل الصَّرْفِ) قَال بِهَذَا الْوَجْهِ أَبُو
حَنِيفَةَ وَزُفَرٌ (1)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْل بِالْبَدَل فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْتَرِقَا وَذِمَّةُ أَحَدِهِمَا مَشْغُولَةٌ
لِصَاحِبِهِ، فَفِي الْبَدَل صَرْفٌ مُؤَخَّرٌ، قَالَهُ الْمَالِكِيَّةُ
(2) .
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الصَّرْفَ يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ كَمَا
يَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْدِل مَا تَعَيَّنَ
بِالْعَقْدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْدِل مَا تَعَيَّنَ بِالْقَبْضِ.
لأَِنَّهُ لَوْ أَبْدَل بَعْدَ التَّفَرُّقِ لَبَطَل الْقَبْضُ قَبْل
التَّفَرُّقِ، وَإِذَا لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ قَبْل التَّفَرُّقِ بَطَل
الصَّرْفُ، فَكَانَ فِي إِثْبَاتِ الْبَدَل إِبْطَال الْعَقْدِ، فَمُنِعَ
مِنَ الْبَدَل لِيَصِحَّ الْعَقْدُ؛ وَلأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ الصَّرْفُ
الْمُعَيَّنُ وَمَا فِي الذِّمَّةِ يَسْتَوِيَانِ فِي الْفَسَادِ
بِالتَّفَرُّقِ قَبْل الْقَبْضِ وَيَسْتَوِيَانِ فِي الصِّحَّةِ
بِالْقَبْضِ قَبْل التَّفَرُّقِ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي حُكْمِ
الْعَيْبِ. فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْدَل مَعِيبُ مَا كَانَ مَعِيبًا
لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْدَل
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 205.
(2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 4 / 72، 73.
(31/105)
مَعِيبُ مَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ، وَهَذَا
هُوَ الْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ إِذَا تَمَّ الإِْبْدَال بَعْدَ
التَّفَرُّقِ صَارَ الْقَبْضُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ، وَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ
فِي الصَّرْفِ، قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
إِذَا ظَهَرَ الْعَيْبُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ وَكَانَ مِنْ غَيْرِ
الْجِنْسِ:
35 - سَبَقَ أَنَّ الصَّرْفَ فِي الذِّمَّةِ إِذَا ظَهَرَ مَعِيبًا فِي
الْمَجْلِسِ كَانَ لَهُ إِبْدَالُهُ. سَوَاءٌ كَانَ الْعَيْبُ مِنَ
الْجِنْسِ أَوْ غَيْرِ الْجِنْسِ.
أَمَّا بَعْدَ التَّفَرُّقِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ مِنَ
الْجِنْسِ وَقَدْ مَرَّتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِيهِ. وَإِمَّا أَنْ
يَكُونَ الْعَيْبُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، كَأَنْ يَكُونَ الذَّهَبُ
نُحَاسًا أَوِ الْفِضَّةُ رَصَاصًا.
فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى الْقَوْل بِبُطْلاَنِ
الصَّرْفِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِذَا وُجِدَ الْعِوَضُ كُلُّهُ مَعِيبًا،
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (3) . وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ
الشَّافِعِيَّةِ وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ قَوْل ابْنِ
__________
(1) المهذب 1 / 279.
(2) المهذب 1 / 279، والمغني 4 / 170.
(3) بدائع الصنائع 5 / 205.
(31/106)
الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ (1) : إِذَا طَالَبَ بِالْبَدَل، أَوْ تَتْمِيمِ
النَّاقِصِ وَأَخَذَ الْبَدَل بِالْفِعْل، نُقِضَ الصَّرْفُ.
وَإِذَا رَضِيَ بِهِ مَجَّانًا صَحَّ. وَقِيل عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إِذَا
أَخَذَ الْبَدَل فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ لَمْ يُبْطِلْهُ كَمَا لَوْ كَانَ
الْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهِ، وَدَلِيل الْبُطْلاَنِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ
أَنَّ السَّتُّوقَ - وَكَذَا الرَّصَاصُ - لَيْسَ مِنْ جِنْسِ
الدَّرَاهِمِ. لأَِنَّهَا لاَ تَرُوجُ فِي مُعَامَلاَتِ النَّاسِ، فَلَمْ
تَكُنْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَصْلاً وَوَصْفًا، فَكَانَ الاِفْتِرَاقُ عَنِ
الْمَجْلِسِ لاَ عَنْ قَبْضٍ حَتَّى لَوْ رَضِيَ بِهِ لاَ يَجُوزُ؛
لأَِنَّهُ يَكُونُ اسْتِبْدَالاً قَبْل الْقَبْضِ، وَهُوَ لاَ يَجُوزُ.
كَمَا أَنَّهُمَا إِنِ افْتَرَقَا قَبْل رَدِّهِ فَالصَّرْفُ فِيهِ
فَاسِدٌ؛ لأَِنَّهُمَا تَفَرَّقَا قَبْل قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ،
وَلَمْ يَقْبِضْ مَا يَصْلُحُ عِوَضًا عَنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ
الَّذِي قَبَضَهُ غَيْرُ الْعِوَضِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعُقْدَةُ
وَلاَ يَجُوزُ لَهُ إِمْسَاكُهُ.
كَذَلِكَ اسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الصَّرْفُ مِنْ جِنْسٍ
وَاحِدٍ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى التَّفَاضُل فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ،
وَهُوَ لاَ يَجُوزُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْعَيْبُ فِي جَمِيعِ الْعِوَضِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ فِي بَعْضِهِ بَطَل الصَّرْفُ فِي
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 37.
(31/106)
هَذَا الْبَعْضِ وَصَحَّ فِي الْبَاقِي،
كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ
مِنَ الْمَذْهَبِ، وَإِنْ كَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ يُخَرِّجُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ
(1) .
الاِسْتِحْقَاقُ فِي الصَّرْفِ:
36 - تَعَرَّضَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
لِمَسْأَلَةِ الاِسْتِحْقَاقِ فِي الصَّرْفِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ فِيهَا
تَفْصِيلٌ يَحْسُنُ مَعَهُ إِفْرَادُ كُل مَذْهَبٍ عَلَى حِدَةٍ.
وَحَاصِل مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا لَوِ اسْتَحَقَّ الْعِوَضَ فِي
الصَّرْفِ أَنَّهُ لَوْ أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ جَازَ، سَوَاءٌ كَانَتِ
الإِْجَازَةُ قَبْل التَّفَرُّقِ أَوْ بَعْدَهُ وَالْمُسْتَحَقُّ قَائِمٌ
إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُسْتَحَقُّ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ
وَكَانَ ذَلِكَ قَبْل الْقَبْضِ فَوُجُودُ الإِْجَازَةِ وَعَدَمُهَا
سَوَاءٌ، لأَِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ عِنْدَهُمْ لاَ
تَتَعَيَّنُ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ غَيْرَهَا، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ بَطَل
الصَّرْفُ فِي الْمُسْتَحَقِّ.
فَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ وَارِدًا عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ،
وَالْمُسْتَحَقُّ الْبَعْضُ، صَحَّ الصَّرْفُ فِي الْبَاقِي وَلاَ خِيَارَ.
__________
(1) المراجع السابقة.
(31/107)
أَمَّا إِذَا كَانَ مَعِيبًا -
كَالإِْنَاءِ الْمَصُوغِ أَوْ قَلْبُ فِضَّةٍ بِذَهَبٍ - فَإِنْ شَاءَ
الْمُشْتَرِي إِمْسَاكَ الْبَاقِي كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِلاَّ فَلَهُ
الرِّدَّةُ؛ لأَِنَّ الشَّرِكَةَ فِي الإِْنَاءِ أَوِ الْقَلْبِ عَيْبٌ (1)
.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا وَقَعَ الصَّرْفُ عَلَى غَيْرِ الْمَصُوغِ -
وَهُوَ يَشْمَل الْمَسْكُوكَ وَغَيْرَهُ عَدَا الصَّوْغَ - فَإِنْ كَانَ
الاِسْتِحْقَاقُ بَعْدَ مُفَارَقَةِ أَحَدِهِمَا الْمَجْلِسَ أَوْ بَعْدَ
طُولٍ فَإِنَّ عَقْدَ الصَّرْفِ يُنْقَضُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ
مُعَيَّنًا حَال الْعَقْدِ أَمْ لاَ عَلَى الْمَشْهُورِ.
وَإِنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الْعَقْدِ صَحَّ عَقْدُ الصَّرْفِ، سَوَاءٌ كَانَ
مُعَيَّنًا أَمْ لاَ، إِلاَّ أَنَّ غَيْرَ الْمُعَيَّنِ يُجْبَرُ فِيهِ
عَلَى الْبَدَل مَنْ أَرَادَ نَقْضَ الصَّرْفِ، وَأَمَّا الْمُعَيَّنُ
فَإِنَّ صِحَّةَ الْعَقْدِ فِيهِ بِمَا إِذَا تَرَاضَيَا عَلَى الْبَدَل،
وَلاَ جَبْرَ فِيهِ، وَقِيل: غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ.
أَمَّا الْمَصُوغُ، فَإِنِ اسْتَحَقَّ نَقْضَ الصَّرْفِ كَانَ
اسْتِحْقَاقُهُ بِحَضْرَةِ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَ طُولٍ، مُعَيَّنًا أَمْ
لاَ؛ لأَِنَّ الصَّوْغَ يُرَادُ لِعَيْنِهِ وَغَيْرُهُ لاَ يَقُومُ
مَقَامَهُ. هَذَا إِذَا لَمْ يُجِزِ الْمُسْتَحِقُّ أَمَّا إِذَا أَجَازَهُ
فَلَهُ إِجَازَتُهُ، وَيَأْخُذُ مُقَابِلَهُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 236، بدائع الصنائع 5 / 206.
(31/107)
وَلَوْ فِي الْحَالَةِ الَّتِي يُنْقَضُ
فِيهَا فِي الْمَصُوغِ مُطْلَقًا، وَفِي غَيْرِهِ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ
أَوِ الطُّول (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ذَكَرُوا أَثْنَاءَ الْكَلاَمِ عَلَى الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ هَل تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أَمْ لاَ؟ أَنَّ لَهُمْ
فِي ذَلِكَ رِوَايَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ فِي
الْمَذْهَبِ: أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ تَتَعَيَّنُ
بِالتَّعْيِينِ. وَمِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ بَانَ
الثَّمَنُ مُسْتَحَقًّا فَعَلَى الصَّحِيحِ فِي الْمَذْهَبِ تُبْطِل
الْعَقْدَ لأَِنَّهُ وَقَعَ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ (2) .
الْعَيْبُ فِي السَّلَمِ:
37 - إِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِي رَأْسِ مَال السَّلَمِ بِأَنْ وَجَدَ فِي
الثَّمَنِ زُيُوفًا بَعْدَ التَّفَرُّقِ رَدَّهُ وَلَوْ بَعْدَ شَهْرٍ،
وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُعَجِّل لَهُ الْبَدَل، وَإِلاَّ فَسَدَ
مَا يُقَابِلُهُ.
وَيُغْتَفَرُ التَّأْخِيرُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَوْ بِالشَّرْطِ،
وَأَمَّا التَّأْخِيرُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا فَلاَ يَجُوزُ. وَهَذَا هُوَ
مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: فَفِي الْمُدَوَّنَةِ الْكُبْرَى: إِنْ
أَسْلَمْتَ فِي حِنْطَةٍ. فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا أَصَابَ رَأْسُ الْمَال
نُحَاسًا أَوْ رَصَاصًا أَوْ زُيُوفًا بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ
فَجَاءَ لِيُبَدِّل فَيُبَدَّل وَلاَ
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 38 - 39 والشرح الصغير 4 / 75، 76.
(2) القواعد لابن رجب ص383، شرح منتهى الإرادات 2 / 206.
(31/108)
يُنْتَقَضُ السَّلَفُ، وَكَذَلِكَ لَوْ
أَسْلَمْتَ دَرَاهِمَ فِي عُرُوضٍ أَوْ طَعَامٍ. فَأَتَى الْبَائِعُ
بِبَعْضِ الدَّرَاهِمِ بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ أَيَّامٍ فَقَال: أَصَبْتُهَا
زُيُوفًا، فَقُلْتَ: دَعْهَا فَأَنَا أُبْدِلُهَا لَكَ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ
يَوْمَيْنِ لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ (1) .
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَهُوَ الْوَجْهُ الأَْوَّل لِلْحَنَابِلَةِ بِشَرْطِ قَبْضِ الْبَدَل فِي
مَجْلِسِ الرَّدِّ، لأَِنَّ الْقَبْضَ الأَْوَّل كَانَ صَحِيحًا. وَلأَِنَّ
لِلرَّدِّ شَبَهًا بِالْعَقْدِ حَيْثُ لاَ يَجِبُ الْقَبْضُ فِي مَجْلِسِ
الرَّدِّ إِلاَّ بِالرَّدِّ. كَمَا لاَ يَجِبُ الْقَبْضُ فِي مَجْلِسِ
الْعَقْدِ إِلاَّ بِالْعَقْدِ، فَأُلْحِقَ مَجْلِسُ الرَّدِّ بِمَجْلِسِ
الْعَقْدِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ: إِنْ وَجَدَ فِي الثَّمَنِ زُيُوفًا بَعْدَ التَّفَرُّقِ
فَرَدَّهُ بَطَل السَّلَمُ سَوَاءٌ اُسْتُبْدِل فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ أَوْ
لاَ؛ لأَِنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ حَقِّ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ. لَكِنْ
أَصْلاً لاَ وَصْفًا، وَلِهَذَا ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ بِفَوَاتِ
حَقِّهِ عَنِ الْوَصْفِ. فَكَانَ حَقُّهُ فِي الأَْصْل وَالْوَصْفِ
جَمِيعًا، فَصَارَ بِقَبْضِ الزُّيُوفِ قَابِضًا حَقَّهُ مِنْ حَيْثُ
الأَْصْل لاَ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا رَضِيَ بِهِ،
فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ عَنِ الْوَصْفِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 197، المدونة الكبرى 9 / 30.
(31/108)
الْمُسْتَحَقَّ هُوَ قَبْضُ الأَْصْل دُونَ
الْوَصْفِ لإِِبْرَائِهِ إِيَّاهُ عَنِ الْوَصْفِ فَإِذَا قَبَضَهُ فَقَدْ
قَبَضَ حَقَّهُ، فَيَبْطُل الْمُسْتَحَقُّ.
وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ حَقَّهُ؛ لأَِنَّ
حَقَّهُ فِي الأَْصْل وَالْوَصْفِ جَمِيعًا، فَتَبَيَّنَ أَنَّ
الاِفْتِرَاقَ حَصَل لاَ عَنْ قَبْضِ رَأْسِ مَال السَّلَمِ (1) .
الْعَيْبُ فِي الإِْجَارَةِ:
38 - لَوْ اطَّلَعَ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى عَيْبٍ فِي الشَّيْءِ
الْمُسْتَأْجَرِ فِي مُدَّةِ الْعَقْدِ، وَكَانَ هَذَا الْعَيْبُ يُخِل
بِالاِنْتِفَاعِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَيُفَوِّتُ الْمَقْصُودَ
بِالْعَقْدِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، فَلَهُ الْفَسْخُ سَوَاءٌ أَكَانَ
الْعَيْبُ قَدِيمًا أَمْ حَدِيثًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ قَبْل الْقَبْضِ أَمْ
بَعْدَهُ.
فَكُل مَا يَحُول بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمَنْفَعَةِ مِنْ تَلَفِ
الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ أَوْ غَصْبِهَا أَوْ تَعَيُّبِهَا كَجُمُوحِ
الدَّابَّةِ وَحُدُوثِ خَوْفٍ عَامٍّ يَمْنَعُ مِنْ سُكْنَى الدَّارِ أَوْ
كَانَ الْجَارُ سُوءًا تُفْسَخُ بِهِ الإِْجَارَةُ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِجَارَة ف 74)
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 205 ط بيروت، فتح العزيز 9 / 245، المغني لابن قدامة
4 / 337.
(2) رد المحتار 4 / 63، المغني لابن قدامة 5 / 435، بداية المجتهد لابن رشد
2 / 193.
(31/109)
الْعَيْبُ فِي الْقِسْمَةِ:
39 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ) : إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ أَحَدُ الْمُتَقَاسِمَيْنِ
عَيْبًا فِي نَصِيبِهِ فَلَهُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ كَمَا فِي الْبَيْعِ،
فَيُشْتَرَطُ فِيهِ شُرُوطُ الْبَيْعِ.
وَفِي قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ يُشْتَرَطُ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي
الإِْجَارَةِ.
وَكَذَلِكَ فِي الاِسْتِحْقَاقِ، بِأَنْ يَسْتَحِقَّ بَعْضَ مُعَيَّنٍ مِنْ
نَصِيبٍ وَاحِدٍ فَقَطْ فَلَهُ الْخِيَارُ إِنْ شَاءَ رَجَعَ بِقِسْطِهِ
وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْقِسْمَةَ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ تَوَسَّعُوا فِي مَبْدَأِ الرَّدِّ
بِالْعَيْبِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ عَقَارٍ وَمَنْقُولٍ، أَوْ قِسْمَةِ
إِجْبَارٍ أَوْ قِسْمَةِ اخْتِيَارٍ، ثُمَّ فَرَّقُوا فِي الرَّدِّ بَيْنَ
أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ فِي أَكْثَرِ نَصِيبِهِ أَوْ أَقَلِّهِ.
وَيَرَوْنَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ مِنْهُ إِنْ شَاءَ تَمَسَّكَ لَمْ
يَرْجِعْ بِشَيْءٍ عَلَى شَرِيكِهِ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَيْهِ شَرِيكًا
فِي نَصِيبِهِ بِقَدْرِ مَا يَخُصُّهُ هُوَ فِيمَا اسْتَحَقَّ مِنْهُ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قِسْمَة) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 225، الخرشي 4 / 414، نهاية المحتاج 8 / 276،
المغني لابن قدامة 11 / 509.
(31/109)
الْعَيْبُ فِي بَدَل الصُّلْحِ:
40 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ بِبَدَل الصُّلْحِ
عَيْبًا ثَبَتَ الرَّدُّ مِنَ الْجَانِبَيْنِ إِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ
إِقْرَارٍ؛ لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إِنْكَارٍ
يَثْبُتُ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي وَلاَ يَثْبُتُ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ، لأَِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فِي حَقِّهِ، لاَ فِي
حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
وَلَوْ وَجَدَ بِبَدَل الصُّلْحِ عَيْبًا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ
لِمَانِعٍ كَالْهَلاَكِ أَوِ الزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ فِي هَذَا
الْبَدَل فِي يَدِ الْمُدَّعِي، فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ
يَرْجِعُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ فِي الْمُدَّعِي،
وَإِنْ كَانَ عَنْ إِنْكَارٍ رَجَعَ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ عَلَى الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ فِي دَعْوَاهُ (أَيْ فَيَرْجِعُ إِلَى دَعْوَاهُ الأُْولَى) ،
فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَخَذَ حِصَّةَ الْعَيْبِ، وَكَذَلِكَ إِذَا
حَلَّفَهُ فَنَكَل، وَإِنْ حَلَفَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ وَجَدَ الْمُصَالِحُ فِيمَا صَالَحَ بِهِ
مِنْ عَبْدٍ أَوْ تُرْسٍ أَوْ ثَوْبٍ عَيْبًا ظَهَرَ فِيهِ بَعْدَ
الصُّلْحِ، أَوِ اسْتَحَقَّ الصُّلْحَ بِهِ، أَوْ أَخَذَ بِشُفْعَةٍ ثَبَتَ
حَقُّ الرَّدِّ، وَرَجَعَ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ عَقْدِ الصُّلْحِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الصُّلْحَ قَدْ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 5335، الفتاوى الهندية 4 / 261.
(2) جواهر الإكليل 2 / 105.
(31/110)
يَجْرِي بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ عَنْ
إِقْرَارٍ عَلَى عَيْنٍ غَيْرِ الْمُدَّعَاةِ، فَيَكُونُ بَيْعًا بِلَفْظِ
الصُّلْحِ تَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُهُ. وَمِنْهَا الرَّدُّ بِالْعَيْبِ.
وَقَدْ يَجْرِي بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالأَْجْنَبِيِّ، فَيُصَالِحُ
الأَْجْنَبِيَّ عَنِ الْعَيْنِ لِنَفْسِهِ بِعَيْنِ مَالِهِ أَوْ بِدَيْنٍ
فِي ذِمَّتِهِ، فَيَصِحُّ الصُّلْحُ لِلأَْجْنَبِيِّ وَكَأَنَّهُ
اشْتَرَاهُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ صَالَحَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ دَارٍ أَوْ
عَبْدٍ بِعِوَضٍ فَبَانَ الْعِوَضُ مُسْتَحَقًّا. أَوْ بَانَ الْعَبْدُ
حُرًّا، رَجَعَ الْمُدَّعِي فِي الدَّارِ الْمُصَالَحِ عَنْهَا إِنْ كَانَ
بَاقِيًا، أَوْ بِقِيمَتِهِ إِنْ كَانَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ تَالِفًا.
وَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا فَبِمِثْلِهِ؛ لأَِنَّ الصُّلْحَ هُنَا بَيْعٌ
حَقِيقَةً إِذَا كَانَ عَنْ إِقْرَارٍ. فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ
إِنْكَارٍ وَظَهَرَ الْعِوَضُ مُسْتَحَقًّا رَجَعَ الْمُدَّعِي
بِالدَّعْوَى قَبْل الصُّلْحِ لِتَبَيُّنِ بُطْلاَنِ الصُّلْحِ (2) .
الْعَيْبُ فِي الْمَال الْمَغْصُوبِ:
41 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَيَّبَ الْمَغْصُوبُ
عِنْدَ الْغَاصِبِ بِمَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي قِيمَتِهِ أَوْ يُفَوِّتُ
جُزْءًا مِنْهُ، أَوْ يُفَوِّتُ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 177.
(2) كشاف القناع 3 / 400.
(31/110)
صِفَةً مَرْغُوبًا فِيهَا أَوْ مَعْنًى
مَرْغُوبًا فِيهِ ضَمِنَ ذَلِكَ كُلَّهُ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا غَصَبَ الرَّجُل ثَوْبًا فَلَبِسَهُ
فَأَبْلاَهُ، فَنَقَصَ نِصْفُ قِيمَتِهِ لَزِمَهُ رَدُّهُ وَأَرْشُ
نَقْصِهِ، فَلَوْ غَصَبَ ثَوْبًا قِيمَتُهُ عَشْرَةٌ، فَنَقَصَهُ لَبِسَهُ
حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةً ثُمَّ زَادَتْ قِيمَتُهُ فَصَارَتْ
عَشْرَةً رَدَّهُ وَرَدَّ خَمْسَةً؛ لأَِنَّ مَا تَلِفَ قَبْل غَلاَءِ
الثَّوْبِ ثَبَتَتْ قِيمَتُهُ فِي الذِّمَّةِ خَمْسَةً، فَلاَ يُعْتَبَرُ
ذَلِكَ بِغَلاَءِ الثَّوْبِ وَلاَ رُخْصِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ رَخُصَتِ الثِّيَابُ فَصَارَتْ قِيمَتُهُ ثَلاَثَةً لَمْ
يَلْزَمِ الْغَاصِبَ إِلاَّ خَمْسَةٌ مَعَ رَدِّ الثَّوْبِ.
وَلَوْ تَلِفَ الثَّوْبُ كُلُّهُ وَقِيمَتُهُ عَشْرَةٌ، ثُمَّ غَلَتِ
الثِّيَابُ فَصَارَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ عِشْرِينَ، لَمْ يَضْمَنْ إِلاَّ
عَشْرَةً؛ لأَِنَّهَا ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ عَشْرَةً فَلاَ تَزْدَادُ
بِغَلاَءِ الثِّيَابِ وَلاَ تَنْقُصُ بِرُخْصِهَا (1) .
الْعَيْبُ فِي الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ:
42 - اتَّفَقَ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى جَوَازِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 155، وحاشية الدسوقي 3 / 152، ومغني المحتاج 2 /
287، والمهذب 1 / 369، والمغني لابن قدامة 5 / 260.
(31/111)
التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجِ لِلْعُيُوبِ
الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ (1) وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَفْصِيل
ذَلِكَ وَفِي تَعْيِينِ الْعُيُوبِ الَّتِي يُفْسَخُ بِهَا النِّكَاحُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (طَلاَق ف 93 وَمَا بَعْدَهَا)
الْعَيْبُ فِي الأُْضْحِيَّةِ:
43 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّضْحِيَةِ مِنْ جَمِيعِ
بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي الأَْفْضَل مِنْهَا.
كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ الْمُصَابَ بِعَيْبٍ
مِنَ الْعُيُوبِ الأَْرْبَعَةِ لاَ يَجُوزُ ذَبْحُهُ فِي الأُْضْحِيَّةِ،
وَهِيَ الْعُيُوبُ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا حَدِيثُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَال: قَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْبَعٌ لاَ تَجُوزُ
فِي الأَْضَاحِيِّ، الْعَوْرَاءُ بَيِّنٌ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ
بَيِّنٌ مَرَضُهَا. وَالْعَرْجَاءُ بَيِّنٌ ظَلَعُهَا، وَالْكَسِيرُ
الَّتِي لاَ تَنْقَى (2) ، وَنَقَل النَّوَوِيُّ وَابْنُ رُشْدٍ
الإِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ
__________
(1) رد المحتار 2 / 123، والخرشي 3 / 73، ومغني المحتاج 3 / 202، والمهذب 2
/ 48، والمغني والشرح الكبير 7 / 582، ونيل الأوطار للشوكاني 6 / 176 ط
الحلبي.
(2) حديث:: " " أربع لا تجوز في الأضاحي. . . " ". أخرجه أبو داود 3 / 235،
والترمذي 4 / 86، واللفظ لأبي داود، وقال الترمذي:: حديث حسن صحيح.
(31/111)
الأَْرْبَعَ لاَ تُجْزِي فِي
الأُْضْحِيَّةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَا كَانَ أَخَفَّ مِنْ هَذِهِ
الْعُيُوبِ الأَْرْبَعَةِ لاَ يُؤَثِّرُ، وَمَا كَانَ مِنَ الْعُيُوبِ
أَشَدُّ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ الأَْرْبَعَةِ فَهِيَ أَحْرَى أَنْ
تُمْنَعَ كَالْعَمَى وَكَسْرِ السَّاقِ مَثَلاً.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا كَانَ مِنَ الْعُيُوبِ مُسَاوِيًا لَهَا فِي نَقْصِ
اللَّحْمِ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أُضْحِيَّة ف 24 وَمَا
بَعْدَهَا)
الْعَيْبُ فِي الْهَدْيِ:
44 - الْهَدْيُ إِنْ كَانَ تَطَوُّعًا غَيْرَ وَاجِبٍ فَقَدْ ذَهَبَ
الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَيَّبَ بِعَيْبٍ يَمْنَعُ
الإِْجْزَاءَ أَوْ عَطَبٍ أَوْ ضَل لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لأَِنَّهُ
نَوَى الصَّدَقَةَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ (2) لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ أَهْدَى تَطَوُّعًا ثُمَّ ضَلَّتْ، فَإِنْ
شَاءَ أَبْدَلَهَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَإِنْ كَانَتْ فِي نَذْرٍ
فَلْيُبْدِل وَفِي رِوَايَةٍ قَال: مَنْ أَهْدَى بَدَنَةً تَطَوُّعًا
فَعَطِبَتْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ بَدَلٌ، وَإِنْ كَانَ نَذْرًا فَعَلَيْهِ
الْبَدَل (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 75، حاشية الدسوقي 2 / 125، بداية المجتهد لابن رشد
1 / 430، القوانين الفقهية ص 127، وروضة الطالبين 3 / 216، المغني لابن
قدامة 3 / 553.
(2) فتح القدير 3 / 83، والدسوقي 2 / 882، وروضة الطالبين 3 / 211، وكشاف
القناع 3 / 15.
(3) حديث:: " " من أهدى تطوعًا. . . " ". أخرجه البيهقي 5 / 244 بروايتيه،
وصوب وقفه على ابن عمر.
(31/112)
وَأَمَّا الْهَدْيُ الْوَاجِبُ، سَوَاءٌ
كَانَ وَاجِبًا بِالنَّذْرِ فِي ذِمَّتِهِ أَوْ وَاجِبًا بِغَيْرِهِ،
كَهَدْيِ التَّمَتُّعِ، أَوْ بِتَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْل مَحْظُورٍ مِنْ
مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَتَعَيَّبَ أَوْ
عَطِبَ لَمْ يُجْزِئْهُ ذَبْحُهُ، وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ الَّذِي كَانَ
وَاجِبًا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (هَدْي) .
الْعَيْبُ فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْخُوذِ فِي الزَّكَاةِ:
45 - الْحَيَوَانُ الْمُصَابُ بِعَيْبٍ كَالْعَمَى وَالْعَوَرِ وَالْهَرَمِ
وَغَيْرِهَا مِنَ الْعُيُوبِ، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَخْذِهِ فِي
الزَّكَاةِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ حَيَوَانَاتِ
النِّصَابِ إِذَا كَانَتْ كُلُّهَا مَعِيبَةً فَإِنَّ فَرْضَ الزَّكَاةِ
يُؤْخَذُ مِنَ الْمَعِيبِ، وَيُرَاعَى الْوَسَطُ، وَلاَ يُكَلَّفُ رَبُّ
الْمَال شِرَاءَ صَحِيحَةٍ لإِِخْرَاجِهَا فِي الزَّكَاةِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا
إِلَى الْيَمَنِ قَال لَهُ إِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ (1)
وَقَوْلِهِ
__________
(1) حديث:: " " إياك وكرائم أموالهم " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 /
357) ، ومسلم (11 / 50) .
(31/112)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْغَاضِرِيِّ مِنْ
غَاضِرَةِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِ: وَلاَ يُعْطِي
الْهَرِمَةَ وَلاَ الدَّرَنَةَ، وَلاَ الْمَرِيضَةَ، وَلاَ الشَّرَطَ
اللَّئِيمَةَ، وَلَكِنْ مِنْ وَسَطِ أَمْوَالِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ
يَسْأَلْكُمْ خَيْرَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ بِشَرِّهِ (1) .
وَأَيْضًا فَإِنَّ أَخْذَ الصَّحِيحَةِ عَنِ الْمِرَاضِ إِخْلاَلٌ
بِالْمُوَاسَاةِ، وَالزَّكَاةُ عَلَى الْمُوَاسَاةِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى
أَنَّهُ لاَ تُجْزِئُ إِلاَّ صَحِيحَةٌ، فَفِي الْمُنْتَقَى لِلْبَاجِيِّ:
وَلاَ يُخْرِجُ فِي زَكَاةِ الْحَيَوَانِ مَعِيبَةً كَتَيْسٍ وَهَرِمَةٍ
وَلاَ ذَاتِ عَوَارٍ - بِالْفَتْحِ وَهُوَ الْعَيْبُ - وَإِنَّمَا يَأْخُذُ
فِي الزَّكَاةِ مَا فِيهِ مَنْفَعَةُ النَّسْل، فَمَا كَانَ مِنَ
الأَْنْعَامِ مَرِيضًا أَوْ جَرِبًا أَوْ أَعْوَرَ فَلَيْسَ عَلَى
الْمُصَدِّقِ أَخْذُهُ، إِلاَّ أَنْ يَرَى الْمُصَدِّقُ أَنَّهَا أَغْبَطُ
وَأَفْضَل مِمَّا يُجْزِئُ عَنْهُ مِنَ الصَّحِيحِ فَإِنَّ لَهُ أَخْذَهَا،
وَيُجْزِئُ عَنْ رَبِّهَا ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَتِ الْغَنَمُ كُلُّهَا تُيُوسًا أَوْ هَرِمَةً أَوْ ذَاتَ
عَوَارٍ فَإِنَّ عَلَى رَبِّ الْغَنَمِ أَنْ يَأْتِيَهُ
__________
(1) حديث:: " " ولا يعطي الهرمة. . . " " أخرجه أبو داود (3 / 240) .
(2) فتح القدير 2 / 247، الأم 2 / 5، المغني لابن قدامة 2 / 600.
(31/113)
بِمَا يُجْزِئُ.
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ عَلَى عَدَمِ الأَْخْذِ مِنَ الأَْنْعَامِ
الْمَعِيبَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ
مِنَ الأَْرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ
وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} (1) .
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا حَيَوَانٌ يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ
فَكَانَ مِنْ شَرْطِهِ السَّلاَمَةُ كَالضَّحَايَا (2) .
وَنُقِل عَنْ الإِْمَامِ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ قَوْلُهُ: يُحْسَبُ
عَلَى رَبِّ الْغَنَمِ كُل ذَاتِ عَوَارٍ، وَلاَ يَأْخُذُ مِنْهَا،
وَالْعَمْيَاءُ مِنْ ذَوَاتِ الْعَوَارِ، وَلاَ تُؤْخَذُ مِنْهَا وَلاَ
مِنْ ذَوَاتِ الْعَوَارِ (3) .
وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَتْ حَيَوَانَاتُ النِّصَابِ كُلُّهَا مَرِيضَةً
مَعِيبَةً، أَمَّا إِذَا كَانَتْ صَحِيحَةً فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ
إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْمَعِيبَةِ عَنِ الصَّحِيحَةِ
لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.
وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا مَعِيبًا وَبَعْضُهَا صَحِيحًا لاَ يُقْبَل إِلاَّ
الصَّحِيحُ عَنْهَا فِي الزَّكَاةِ (4) .
__________
(1) سورة البقرة / 267.
(2) المنتقى للباجي 2 / 130، 134، حاشية الدسوقي 2 / 435.
(3) المدونة الكبرى 1 / 312.
(4) المغني لابن قدامة 2 / 600.
(31/113)
عِيد
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِيدُ لُغَةً مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَوْدِ، وَهُوَ الرُّجُوعُ
وَالْمُعَاوَدَةُ لأَِنَّهُ يَتَكَرَّرُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ،
وَهُوَ يَوْمَانِ: يَوْمُ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ أَوَّل يَوْمٍ
مِنْ شَوَّالٍ، وَيَوْمُ الأَْضْحَى وَهُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ، لَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ عِيدٌ غَيْرَهُمَا (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعِيدِ. تَتَعَلَّقُ بِالْعِيدِ
أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ - صَلاَةُ الْعِيدِ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ صَلاَةِ الْعِيدِ. فَذَهَبَ
الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ،
لِحَدِيثِ الأَْعْرَابِيِّ الَّذِي ذَكَرَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَقَال: هَل عَلَيَّ
غَيْرُهُنَّ؟ قَال: " لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ " (3) وَذَلِكَ مَعَ
فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) القاموس المحيط.
(2) المجموع 5 / 2، والجمل على شرح المنهج 2 / 92.
(3) حديث الأعرابي الذي ذكر له النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلوات
الخمس. . . " "،. أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 106) ومسلم (1 / 41) من
حديث طلحة بن عبيد الله.
(31/114)
لَهَا وَمُدَاوَمَتِهِ عَلَيْهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - عَلَى الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَهُمْ - إِلَى
أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، لِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَيْهَا مِنْ دُونِ تَرْكِهَا وَلَوْ مَرَّةً؛ وَلأَِنَّهَا
تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ، فَلَوْ كَانَتْ سُنَّةً وَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً
لاَسْتَثْنَاهَا الشَّارِعُ، كَمَا اسْتَثْنَى التَّرَاوِيحَ وَصَلاَةَ
الْخُسُوفِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَصَل لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (1) وَلِمُدَاوَمَةِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فِعْلِهَا (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا)
. ب - التَّكْبِيرُ فِي الْعِيدَيْنِ:
3 - التَّكْبِيرُ فِي الْعِيدَيْنِ يَكُونُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ وَفِي
الطَّرِيقِ إِلَيْهَا وَبَعْدَ انْقِضَائِهَا.
أَمَّا التَّكْبِيرُ فِي الْغُدُوِّ إِلَيْهَا، فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ
إِلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ عِنْدَ الْغُدُوِّ إِلَى الصَّلاَةِ فِي
الْمَنَازِل وَالأَْسْوَاقِ وَالطُّرُقِ إِلَى أَنْ تَبْدَأَ الصَّلاَةُ.
__________
(1) سورة الكوثر / 2.
(2) بدائع الصنائع 1 / 274، جواهر الإكليل 1 / 101، المجموع 5 / 3، والمغني
لابن قدامة 2 / 304.
(31/114)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ:
(صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ ف 13) .
أَمَّا التَّكْبِيرُ فِي أَثْنَاءِ صَلاَةِ الْعِيدِ (التَّكْبِيرَاتُ
الزَّوَائِدُ) فَهِيَ سُنَّةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَاجِبَةٌ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَفِي بَيَانِ عَدَدِ هَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ وَمَوْضِعِهَا فِي الصَّلاَةِ
اخْتِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ ف
11، 12) .
أَمَّا التَّكْبِيرُ فِي أَدْبَارِ الصَّلاَةِ فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ
مَنْدُوبٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَلِلتَّفْصِيل فِي صِفَةِ تَكْبِيرِ التَّشْرِيقِ وَوَقْتِهِ وَمَحَل
أَدَائِهِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (أَيَّامُ التَّشْرِيقِ ف 13)
ج - الأُْضْحِيَّةُ فِي الْعِيدِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الأُْضْحِيَّةِ فِي عِيدِ
الأَْضْحَى، وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهَا. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى
أَنَّهَا سُنَّةٌ وَقَال الْحَنَفِيَّةُ بِوُجُوبِهَا.
وَفِي بَيَانِ شُرُوطِهَا وَأَحْكَامِهَا وَوَقْتِهَا اخْتِلاَفٌ
وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ:
(31/115)
(أُضْحِيَّة ف 7 وَمَا بَعْدَهَا)
د - مَا يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ فِي الْعِيدَيْنِ:
5 - يُسْتَحَبُّ إِحْيَاءُ لَيْلَتَيِ الْعِيدِ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى
مِنْ ذِكْرٍ وَصَلاَةٍ وَتِلاَوَةٍ وَتَكْبِيرٍ وَتَسْبِيحٍ
وَاسْتِغْفَارٍ، لِحَدِيثِ مَنْ أَحْيَا لَيْلَةَ الْفِطْرِ وَلَيْلَةَ
الأَْضْحَى مُحْتَسِبًا لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ
(1) .
وَيُسْتَحَبُّ الْغُسْل لِلْعِيدِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْفَاكِهُ
بْنُ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِل يَوْمَ الْفِطْرِ وَالأَْضْحَى (2)
وَلأَِنَّهُ يَوْمٌ يَجْتَمِعُ النَّاسُ فِيهِ لِلصَّلاَةِ فَاسْتُحِبَّ
الْغُسْل فِيهِ كَيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْوُضُوءِ
أَجْزَأَهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَزَيَّنَ وَيَتَنَظَّفَ وَيَحْلِقَ
شَعْرَهُ وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ مَا يَجِدُ وَيَتَطَيَّبَ وَيَتَسَوَّكَ،
لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ فِي
__________
(1) حديث:: " " من أحيا ليلة الفطر وليلة الأضحى. . . " ". أورده الهيثمي
في مجمع الزوائد (2 / 198) وقال:: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه
عمر بن هارون البلخي، والغالب عليه الضعف، وأثنى عليه ابن مهدي وغيره، ولكن
ضعفه جماعة كثيرة، والله أعلم.
(2) حديثا ابن عباس والفاكه بن سعد:: " " أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم. - كان يغتسل يوم الفطر والأضحى " ". أخرجهما ابن ماجهة (1 / 415)
وضعف إسناديهما ابن حجر في التلخيص الحبير (2 / 80) .
(31/115)
الْعِيدَيْنِ بُرْدَيْ حِبَرَةٍ (1) .
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا عَلَى أَحَدِكُمْ أَنْ
يَكُونَ لَهُ ثَوْبَانِ سِوَى ثَوْبِ مِهْنَتِهِ لِجُمُعَتِهِ أَوْ
لِعِيدِهِ (2) وَقَال مَالِكٌ: سَمِعْتُ أَهْل الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّونَ
الطِّيبَ وَالزِّينَةَ فِي كُل عِيدٍ، وَالإِْمَامُ بِذَلِكَ أَحَقُّ،
لأَِنَّهُ مَنْظُورٌ إِلَيْهِ مِنْ بَيْنِهِمْ.
وَأَفْضَل أَلْوَانِ الثِّيَابِ الْبَيَاضُ، فَعَلَى هَذَا إِنِ اسْتَوَى
ثَوْبَانِ فِي الْحُسْنِ وَالنَّفَاسَةِ فَالأَْبْيَضُ أَفْضَل، فَإِنْ
كَانَ الأَْحْسَنُ غَيْرَ أَبْيَضَ فَهُوَ أَفْضَل مِنَ الأَْبْيَضِ فِي
هَذَا الْيَوْمِ.
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ ثَوْبًا اُسْتُحِبَّ أَنْ يَغْسِلَهُ لِلْعِيدِ.
وَيَسْتَوِي فِي اسْتِحْبَابِ تَحْسِينِ الثِّيَابِ وَالتَّنْظِيفِ
وَالتَّطَيُّبِ وَإِزَالَةِ الشَّعْرِ وَالرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ،
الْخَارِجُ إِلَى الصَّلاَةِ وَالْقَاعِدُ فِي بَيْتِهِ؛ لأَِنَّهُ يَوْمُ
الزِّينَةِ فَاسْتَوَوْا فِيهِ، وَهَذَا فِي حَقِّ غَيْرِ النِّسَاءِ.
وَأَمَّا النِّسَاءُ إِذَا خَرَجْنَ فَإِنَّهُنَّ لاَ يَتَزَيَّنَّ،
__________
(1) حديث ابن عباس:: " " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبس في
العيدين بردي حيبرة " ". أخرجه ابن مردويه، كما في الدر المنثور للسيوطي (3
/ 79) .
(2) حديث عائشة:: " " ما على أحدكم أن يكون له ثوبان. . . " ". أخرجه ابن
السكن في صحيحه، كما في التلخيص الحبير لابن حجر (2 / 70) .
(31/116)
بَل يَخْرُجْنَ فِي ثِيَابِ الْبِذْلَةِ،
وَلاَ يَلْبَسْنَ الْحَسَنَ مِنَ الثِّيَابِ وَلاَ يَتَطَيَّبْنَ لِخَوْفِ
الاِفْتِتَانِ بِهِنَّ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْعَجُوزُ وَغَيْرُ
ذَوَاتِ الْهَيْئَةِ يَجْرِي ذَلِكَ فِي حُكْمِهَا، وَلاَ يُخَالِطْنَ
الرِّجَال بَل يَكُنَّ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهُمْ (1) .
وَيُسْتَحَبُّ تَزْيِينُ الصِّبْيَانِ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا
بِالْمُصَبَّغِ وَبِحُلِيِّ الذَّهَبِ وَلُبْسِ الْحَرِيرِ فِي الْعِيدِ،
قَال النَّوَوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى إِبَاحَةِ تَزْيِينِهِمْ
بِالْمُصَبَّغِ وَحُلِيِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَوْمَ الْعِيدِ؛
لأَِنَّهُ يَوْمُ زِينَةٍ، وَلَيْسَ عَلَى الصِّبْيَانِ تَعَبُّدٌ فَلاَ
يُمْنَعُونَ لُبْسَ الذَّهَبِ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ يَوْمِ
الْعِيدِ فَفِي تَحْلِيَتِهِمْ بِالذَّهَبِ وَلِبَاسِهِمُ الْحَرِيرَ
ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: جَوَازُهُ. وَالثَّانِي: تَحْرِيمُهُ،
وَالثَّالِثُ: جَوَازُهُ قَبْل سَبْعِ سِنِينَ وَمَنْعُهُ بَعْدَهَا (2) .
وَتُسْتَحَبُّ الْعِمَامَةُ فِي الْعِيدِ.
هـ - التَّهْنِئَةُ بِيَوْمِ الْعِيدِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّهْنِئَةِ
بِالْعِيدِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ. وَلِلتَّفْصِيل اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ
(تَهْنِئَة ف 10)
__________
(1) مواهب الجليل شرح مختصر خليل 2 / 194، والمجموع 5 / 8، والمغني 2 / 194
- 37037.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 169، والمجموع 5 / 309.
(31/116)
و - التَّزَاوُرُ فِي الْعِيدَيْنِ:
7 - التَّزَاوُرُ مَشْرُوعٌ فِي الإِْسْلاَمِ، وَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُل
عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الزِّيَارَةِ فِي الْعِيدِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَل عَلَيَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ
بِغِنَاءِ بُعَاثٍ. فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّل وَجْهَهُ،
وَدَخَل أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي، وَقَال مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ
عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَأَقْبَل عَلَيْهِ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: دَعْهُمَا زَادَ
فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ لِكُل قَوْمٍ عِيدًا،
وَهَذَا عِيدُنَا (1) قَال فِي الْفَتْحِ: قَوْلُهُ: " وَجَاءَ أَبُو
بَكْرٍ " وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ بْنِ عُرْوَةَ " دَخَل عَلَيَّ أَبُو
بَكْرٍ " وَكَأَنَّهُ جَاءَ زَائِرًا لَهَا بَعْدَ أَنْ دَخَل النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَهُ (2) .
وَنَقَل فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي الْحِكْمَةِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّرِيقَ يَوْمَ الْعِيدِ أَقْوَالاً
مِنْهَا: لِيَزُورَ أَقَارِبَهُ مِنَ الأَْحْيَاءِ وَالأَْمْوَاتِ وَلَمْ
يُضَعِّفْهُ كَمَا فَعَل مَعَ بَعْضِهَا وَمِثْلُهُ فِي عُمْدَةِ
__________
(1) حديث عائشة:: " " دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي
جاريتان. . . " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 440) ، ومسلم (2 / 609) .
(2) فتح الباري 2 / 442.
(31/117)
الْقَارِيَّ، وَذَلِكَ تَعْلِيقًا عَلَى
حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ يَوْمَ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ (1)
ز - الْغِنَاءُ وَاللَّعِبُ وَالزَّفْنُ يَوْمَ الْعِيدِ:
8 - يَجُوزُ الْغِنَاءُ وَاللَّعِبُ وَالزَّفْنُ فِي أَيَّامِ
الْعِيدَيْنِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
قَالَتْ: دَخَل عَلَيَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثٍ، فَاضْطَجَعَ عَلَى
الْفِرَاشِ، وَحَوَّل وَجْهَهُ، وَدَخَل أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي،
وَقَال: مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؟ فَأَقْبَل عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَال: دَعْهُمَا. فَلَمَّا غَفَل غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا،
وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ،
فَإِمَّا سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِمَّا
قَال: تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟ فَقُلْتُ نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ،
خَدِّي عَلَى خَدِّهِ. وَهُوَ يَقُول: دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ،
حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قَال: حَسْبُكِ؟ قُلْتُ نَعَمْ،
__________
(1) حديث جابر:: " " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم عيد
خالف الطريق " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 472) .
(31/117)
قَال: فَاذْهَبِي (1)
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: بَيْنَمَا
الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِحِرَابِهِمْ إِذْ دَخَل عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ فَأَهْوَى إِلَى الْحَصْبَاءِ يَحْصِبُهُمْ بِهَا، فَقَال
لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُمْ يَا
عُمَرُ (2) . وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَتِ الْحَبَشَةُ
يَزْفِنُونَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَيَرْقُصُونَ وَيَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ، فَقَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَقُولُونَ؟
قَالُوا: يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ (3)
ح - زِيَارَةُ الْمَقَابِرِ فِي الْعِيدِ:
9 - تُسْتَحَبُّ فِي الْعِيدِ زِيَارَةُ الْقُبُورِ وَالسَّلاَمُ عَلَى
أَهْلِهَا وَالدُّعَاءُ لَهُمْ، لِحَدِيثِ: نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ
الْقُبُورِ فَزُورُوهَا وَفِي رِوَايَةٍ " فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ
__________
(1) حديث عائشة:: " " دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي
جاريتان " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 440) ، ومسلم (2 / 609) .
(2) حديث أبي هريرة:: " " بينما الحبشة يلعبون عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم. . . " ". أخرجه مسلم (2 / 610) .
(3) حديث أنس:: " " كانت الحبشة يزفنون. . . " ". أخرجه أحمد (3 / 152) .
(31/118)
الآْخِرَةَ " (1) وَحَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ
(2) . وَكَرِهَ زِيَارَتَهَا ابْنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ
وَالشَّعْبِيُّ (3) .
ط - عِظَةُ النِّسَاءِ:
10 - يُسْتَحَبُّ وَعْظُ النِّسَاءِ بَعْدَ صَلاَةِ الْعِيدِ،
وَتَعْلِيمُهُنَّ أَحْكَامَ الإِْسْلاَمِ، وَتَذْكِيرُهُنَّ بِمَا يَجِبُ
عَلَيْهِنَّ. وَيُسْتَحَبُّ حَثُّهُنَّ عَلَى الصَّدَقَةِ،
وَتَخْصِيصُهُنَّ بِذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ مُنْفَرِدٍ، وَمَحَل ذَلِكَ
كُلِّهِ إِذَا أُمِنَتِ الْفِتْنَةُ وَالْمَفْسَدَةُ " (4) قَال ابْنُ
جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: سَمِعْتُهُ يَقُول قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفِطْرِ فَصَلَّى، فَبَدَأَ
بِالصَّلاَةِ ثُمَّ خَطَبَ، فَلَمَّا فَرَغَ نَزَل فَأَتَى النِّسَاءَ،
فَذَكَّرَهُنَّ وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى يَدِ بِلاَلٍ، وَبِلاَلٌ بَاسِطٌ
ثَوْبَهُ يُلْقِي فِيهِ النِّسَاءُ الصَّدَقَةَ قُلْتُ: (يَعْنِي ابْنَ
جُرَيْجٍ لِعَطَاءٍ) أَتَرَى حَقًّا عَلَى الإِْمَامِ ذَلِكَ
وَيُذَكِّرُهُنَّ؟ قَال: إِنَّهُ لَحَقٌّ عَلَيْهِمْ، وَمَا لَهُمْ لاَ
يَفْعَلُونَهُ؟
__________
(1) حديث:: " " نهيتكم عن زيارة القبور. . . " ". أخرجه مسلم (2 / 672) من
حديث بريدة، والرواية الأخرى أخرجها النسائي (7 / 235) .
(2) حديث:: " " زوروا القبور فإنها تذكر الموت " ". أخرجه مسلم (2 / 671) .
(3) فتح الباري:: 5 / 153 و 6 / 179، وعمدة القاري 6 / 306.
(4) فتح الباري 5 / 145، 147.
(31/118)
قَال فِي الْفَتْحِ: ظَاهِرُهُ أَنَّ
عَطَاءً كَانَ يَرَى وُجُوبَ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَال عِيَاضٌ: لَمْ يَقُل
بِذَلِكَ غَيْرُهُ، وَأَمَّا النَّوَوِيُّ فَحَمَلَهُ عَلَى
الاِسْتِحْبَابِ، وَقَال: لاَ مَانِعَ مِنَ الْقَوْل بِهِ إِذَا لَمْ
يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ (1) .
__________
(1) حديث جابر:: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفطر. . . ". أخرجه
البخاري (فتح الباري 2 / 466) ، وانظر ص 2 / 467.
(31/119)
عَيْن
التَّعْرِيفُ:
1 - تُطْلَقُ الْعَيْنُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ ضَبَطَتْهَا
كُتُبُ اللُّغَةِ (1) .
وَالْعَيْنُ فِي مَوْضُوعِنَا يُقْصَدُ بِهَا الْعَيْنُ الَّتِي تُسَبِّبُ
الإِْصَابَةَ بِهَا، يُقَال: عَانَهُ يُعِينُهُ عَيْنًا أَصَابَهُ
بِعَيْنِهِ فَهُوَ عَائِنٌ وَالْمُصَابُ مَعِينٌ - بِفَتْحِ الْمِيمِ -
وَمَا أَعْيَنَهُ،. . أَيْ: مَا أَشَدَّ إِصَابَتَهُ بِالْعَيْنِ،
وَالْعَيُونُ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ - وَالْمِعْيَانُ الشَّدِيدُ
الإِْصَابَةِ بِالْعَيْنِ، وَالْمَعِينُ وَالْمَعْيُونُ الْمُصَابُ بِهَا
وَالْعَائِنَةُ مُؤَنَّثُ الْعَائِنِ.
وَاسْتَعْمَل الْعَرَبُ مَادَّةَ: نَجَأَ، لِلدَّلاَلَةِ عَلَى
الإِْصَابَةِ بِالْعَيْنِ فَيُقَال: نَجَأَهُ نَجَأً أَصَابَهُ بِالْعَيْنِ
وَرَجُلٌ نَجُوءُ الْعَيْنِ أَيْ خَبِيثُهَا شَدِيدُ الإِْصَابَةِ بِهَا،
وَأَيْضًا يُقَال: رَجُلٌ مَسْفُوعٌ أَيْ أَصَابَتْهُ سَفْعَةٌ -
بِالْفَتْحِ - أَيْ عَيْنٌ، وَيُقَال أَيْضًا: رَجُلٌ نَفُوسٌ إِذَا كَانَ
حَسُودًا يَتَعَنَّ أَمْوَال النَّاسِ لِيُصِيبَهَا بِعَيْنٍ وَأَصَابَتْ
فُلاَنًا نَفْسٌ أَيْ عَيْنٌ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ:
__________
(1) تاج العروس شرح القاموس، ولسان العرب.
(31/119)
نَظَرٌ بِاسْتِحْسَانٍ مَشُوبٌ بِحَسَدٍ
مِنْ خَبِيثِ الطَّبْعِ يَحْصُل لِلْمَنْظُورِ مِنْهُ ضَرَرٌ.
وَعَرَّفَهَا أَبُو الْحَسَنِ الْمَنُوفِيُّ بِأَنَّهَا: سُمٌّ جَعَلَهُ
اللَّهُ فِي عَيْنِ الْعَائِنِ إِذَا تَعَجَّبَ مِنْ شَيْءٍ وَنَطَقَ بِهِ
وَلَمْ يُبَارِكْ فِيمَا تَعَجَّبَ مِنْهُ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَسَدُ:
2 - الْحَسَدُ فِي اللُّغَةِ: كُرْهُ النِّعْمَةِ عِنْدَ الْغَيْرِ
وَتَمَنِّي زَوَالِهَا، يُقَال: حَسَدْتُهُ النِّعْمَةَ: إِذَا كَرِهْتَهَا
عِنْدَهُ.
وَاصْطِلاَحًا: عَرَّفَهَا الْجُرْجَانِيُّ بِأَنَّهَا تَمَنِّي زَوَال
نِعْمَةِ الْمَحْسُودِ إِلَى الْحَاسِدِ.
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْحَسَدَ أَصْل الإِْصَابَةِ بِالْعَيْنِ (2) .
ب - الْحِقْدُ:
3 - الْحِقْدُ لُغَةً: الاِنْطِوَاءُ عَلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ.
وَاصْطِلاَحًا: سُوءُ الظَّنِّ فِي الْقَلْبِ عَلَى الْخَلاَئِقِ لأَِجْل
الْعَدَاوَةِ (3) . وَالصِّلَةُ أَنَّ الْحِقْدَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا
لِلإِْصَابَةِ بِالْعَيْنِ.
__________
(1) فتح الباري 10 / 169 طبع بولاق، سنة 1301، وحاشية العدوي على شرح رسالة
ابن أبي زيد القيرواني 2 / 351.
(2) المصباح المنير والتعريفات للجرجاني، وزاد المعاد 3 / 118.
(3) المصباح والتعريفات للجرجاني.
(31/120)
ثُبُوتُ الْعَيْنِ:
4 - الإِْصَابَةُ بِالْعَيْنِ ثَابِتٌ مَوْجُودٌ أَخْبَرَ الشَّرْعُ
بِوُقُوعِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَقَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ
يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} (1) أَيْ
يَعْتَانُونَكَ بِعُيُونِهِمْ فَيُزِيلُونَكَ عَنْ مَقَامِكَ الَّذِي
أَقَامَكَ اللَّهُ فِيهِ عَدَاوَةً وَبُغْضًا فِيكَ، فَهُمْ كَانُوا
يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ نَظَرَ حَاسِدٍ شَدِيدِ الْعَدَاوَةِ يَكَادُ
يُزْلِقُهُ لَوْلاَ حِفْظُ اللَّهِ وَعِصْمَتُهُ لَهُ.
وَقَدْ أَرَادُوا بِالْفِعْل أَنْ يُصِيبُوهُ بِالْعَيْنِ فَنَظَرَ
إِلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا مُشْتَهِرِينَ بِذَلِكَ فَقَالُوا:
مَا رَأَيْنَا مِثْلَهُ وَلاَ مِثْل حُجَجِهِ، بِقَصْدِ إِصَابَتِهِ
بِالْعَيْنِ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ مِنْ شُرُورِهِمْ وَأَنْزَل عَلَيْهِ
هَذِهِ الآْيَةَ الْكَرِيمَةَ (2) .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْعَيْنُ حَقٌّ (3) وَرَوَى
أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْعَيْنُ تُدْخِل الرَّجُل الْقَبْرَ
وَالْجَمَل الْقِدْرَ (4) .
__________
(1) سورة القلم / 51.
(2) تفسير القرطبي 20 / 255، وتفسير ابن كثير 3 / 485، وفتح الباري 10 /
203.
(3) حديث:: " " العين حق. . . " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 203) .
(4) حديث:: " " العين تدخل الرجل القبر. . . " ". أخرجه الخطيب في تاريخ
بغداد (9 / 244) من حديث جابر، واستنكره الذهبي في ميزان الاعتدال (2 /
275) .
(31/120)
وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِإِرَادَةِ
اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ، قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ اللَّهَ
يَخْلُقُ عِنْدَ نَظَرِ الْعَائِنِ إِلَى الْمُعَايَنِ وَإِعْجَابِهِ بِهِ
إِذَا شَاءَ مَا شَاءَ مِنْ أَلَمٍ أَوْ هَلَكَةٍ، وَكَمَا يَخْلُقُهُ
بِإِعْجَابِهِ وَبِقَوْلِهِ فِيهِ فَقَدْ يَخْلُقُهُ ثُمَّ يَصْرِفُهُ
دُونَ سَبَبٍ، وَقَدْ يَصْرِفُهُ قَبْل وُقُوعِهِ بِالاِسْتِعَاذَةِ،
فَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ
وَالْحُسَيْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهِ
إِبْرَاهِيمُ ابْنَيْهِ إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاقَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ
بِقَوْلِهِ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُل شَيْطَانٍ
وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُل عَيْنٍ لاَمَّةٍ (1)
مَا يُسْتَطَبُّ بِهِ مِنْ الْعَيْنِ:
أ - التَّبْرِيكُ:
5 - الْمَقْصُودُ بِالتَّبْرِيكِ هُنَا الدُّعَاءُ مِنَ الْعَائِنِ
لِلْمَعِينِ بِالْبَرَكَةِ عِنْدَ نَظَرِهِ إِلَيْهِ فَذَلِكَ -
بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ - يَحُول دُونَ إِحْدَاثِ
أَيِّ ضَرَرٍ بِالْمَعِينِ وَيُبْطِل كُل أَثَرٍ مِنْ آثَارِ الْعَيْنِ
رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْل بْنِ حُنَيْفٍ
أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُول: اغْتَسَل أَبِي سَهْل بْنُ حُنَيْفٍ
بِالْخَرَّارِ، فَنَزَعَ جُبَّةً كَانَتْ عَلَيْهِ وَعَامِرُ بْنُ
__________
(1) شرح ابن العربي على سنن الترمذي 8 / 217. وحديث:: " " كان عليه الصلاة
والسلام يعوذ الحسن والحسين. . . " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 408)
من حديث ابن عباس.
(31/121)
رَبِيعَةَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، قَال:
وَكَانَ سَهْل رَجُلاً أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِلْدِ قَال: فَقَال لَهُ
عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلاَ جِلْدَ عَذْرَاءَ
قَال: فَوُعِكَ سَهْلٌ مَكَانَهُ وَاشْتَدَّ وَعْكُهُ - أَيْ صُرِعَ -
فَأُتِيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُخْبِرَ
أَنَّ سَهْلاً وُعِكَ، وَأَنَّهُ غَيْرُ رَائِحٍ مَعَكَ يَا رَسُول
اللَّهِ، فَأَتَاهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
فَأَخْبَرَهُ سَهْلٌ بِاَلَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ،
فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلاَمَ يَقْتُل
أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟ أَلاَّ بَرَّكْتَ - مُخَاطِبًا بِذَلِكَ عَامِرًا
مُتَغَيِّظًا عَلَيْهِ وَمُنْكِرًا - أَيْ قُلْتَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ
فَإِنَّ ذَلِكَ يُبْطِل الْمَعْنَى الَّذِي يُخَافُ مِنَ الْعَيْنِ
وَيُذْهِبُ تَأْثِيرَهُ - ثُمَّ قَال: إِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ، تَوَضَّأْ
لَهُ فَتَوَضَّأَ لَهُ عَامِرٌ، فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ (1) .
قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يَقُول لَهُ: تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ
الْخَالِقِينَ، اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ وَلاَ تَضُرَّهُ، وَأَيْضًا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ رَأَى
شَيْئًا فَأَعْجَبَهُ فَقَال: مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ
بِاَللَّهِ لَمْ يَضُرَّهُ (2)
__________
(1) حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف:: " " اغتسل أبي بالخرار. . . " ".
أخرجه مالك في الموطأ (2 / 938) ، وصححه ابن حبان (13 / 470) .
(2) حديث:: " " من رأى شيئًا فأعجبه " ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (5
/ 109) وقال:: رواه البزار من رواية أبي بكر الهذلي، وأبو بكر ضعيف جدًا.
(31/121)
قَال الْعَدَوِيُّ: فَوَاجِبٌ عَلَى كُل
مَنْ أَعْجَبَهُ شَيْءٌ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ أَنْ يُبَارِكَ لِيَأْمَنَ مِنَ
الْمَحْذُورِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُول: تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ
الْخَالِقِينَ، اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ (1) .
ب - الْغُسْل:
6 - يَجِبُ عَلَى الْعَائِنِ إِذَا دَعَاهُ الْمَعِينُ لِلاِغْتِسَال أَنْ
يَغْتَسِل لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْعَيْنُ
حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ،
وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا (2) .
قَال الذَّهَبِيُّ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
اسْتُغْسِلْتُمْ أَيْ إِذَا طَلَبَ مِنْكُمْ مَنْ أَصَبْتُمُوهُ
بِالْعَيْنِ أَنْ تَغْسِلُوا لَهُ فَأَجِيبُوهُ وَهُوَ أَنْ يَغْسِل
الْعَائِنُ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ
رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى
الْمَعِينِ وَيَكْفَأَ الْقَدَحَ وَرَاءَهُ عَلَى ظَهْرِ الأَْرْضِ وَقِيل:
يَغْسِلُهُ بِذَلِكَ حِينَ يَصُبُّهُ عَلَيْهِ فَيَبْرَأُ بِإِذْنِ اللَّهِ
تَعَالَى (3) .
__________
(1) شرح الموطأ للزرقاني 4 / 148، وحاشية العدوي على كفاية الطالب 2 / 392.
(2) شرح الزرقاني على الموطأ 4 / 151. وحديث ابن عباس:: " " العين حق، ولو
كان شيء سابق القدر. . . " ". أخرجه مسلم (4 / 1719) .
(3) الطب النبوي ص 275.
(31/122)
ج - الرُّقْيَةُ:
7 - الرُّقِيُّ مِمَّا يُسْتَطَبُّ بِهِ لِلإِْصَابَةِ بِالْعَيْنِ
مَشْرُوعٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
أَمَرَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَمَرَ أَنْ
يُسْتَرْقَى مِنَ الْعَيْنِ (1) وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةً فَقَال: اسْتَرْقُوا
لَهَا فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ (2) .
وَقَال الذَّهَبِيُّ: الرُّقِيُّ وَالتَّعَاوُذُ إِنَّمَا تُفِيدُ إِذَا
أُخِذَتْ بِقَبُولٍ وَصَادَفَتْ إِجَابَةً وَأَجَلاً، فَالرُّقِيُّ
وَالتَّعَوُّذُ الْتِجَاءٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِيَهَبَ
الشِّفَاءَ كَمَا يُعْطِيهِ بِالدَّوَاءِ (3) .
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّمَا يُسْتَرْقَى مِنَ الْعَيْنِ إِذَا لَمْ
يُعْرَفِ الْعَائِنُ. أَمَّا إِذَا عُرِفَ الْعَائِنُ الَّذِي أَصَابَهُ
بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالاِغْتِسَال (4) .
__________
(1) حديث عائشة:: أمرني النبي - صلى الله عليه وسلم -. . . " ". أخرجه
البخاري (فتح الباري 10 / 199) .
(2) حديث أم سلمة أنه رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة. أخرجه البخاري
(فتح الباري 10 / 199) . والسفعة بفتح أولها وضمه، وهو تغير لون البعض من
الوجه فيخرجه عن لونه الأصلي، فإن كان أحمر فالسفعة سوداء، وإن كان أبيض
فالسفعة صفرة، والنظرة تدل على الإصابة بالعين (فتح الباري 10 / 202) .
(3) الطب النبوي للذهبي ص276.
(4) بدائع الفوائد لابن القيم 2 / 246.
(31/122)
عُقُوبَةُ الْعَائِنِ:
8 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَتْلَفَ الْعَائِنُ شَيْئًا فَإِنَّهُ
يَضْمَنُهُ أَمَّا إِذَا قَتَل بِعَيْنِهِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ أَوِ
الدِّيَةُ إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَصِيرُ عَادَةً.
وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ عَنْ النَّوَوِيِّ قَوْلَهُ: لاَ يُقْتَل الْعَائِنُ
وَلاَ دِيَةَ وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لأَِنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا
يَتَرَتَّبُ عَلَى الأَْمْرِ الْمُنْضَبِطِ الْعَامِّ دُونَ مَا يَخْتَصُّ
بِبَعْضِ النَّاسِ وَبَعْضِ الأَْحْوَال مِمَّا لاَ انْضِبَاطَ لَهُ،
كَيْفَ وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ فِعْلٌ أَصْلاً، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ حَسَدٌ
وَتَمَنٍّ لِزَوَال النِّعْمَةِ، وَأَيْضًا فَاَلَّذِي يَنْشَأُ عَنِ
الإِْصَابَةِ بِالْعَيْنِ حُصُول مَكْرُوهٍ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَلاَ
يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْمَكْرُوهُ فِي زَوَال الْحَيَاةِ، فَقَدْ يَحْصُل
لَهُ مَكْرُوهٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَثَرِ الْعَيْنِ. وَالنُّقُول مِنْ
مُخْتَلِفِ الْمَذَاهِبِ مُتَضَافِرَةٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ
مِنْ كَوْنِ الإِْمَامِ يَمْنَعُ الْعَائِنَ مِنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ
إِذَا عَرَفَ بِذَلِكَ وَيُجْبِرُهُ عَلَى لُزُومِ بَيْتِهِ؛ لأَِنَّ
ضَرَرَهُ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْمَجْذُومِ وَآكِل الْبَصَل وَالثُّومِ فِي
مَنْعِهِ مِنْ دُخُول الْمَسَاجِدِ، وَإِنِ افْتَقَرَ فَبَيْتُ الْمَال
تَكْفِيهِ الْحَاجَةَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَكَفِّ
الأَْذَى (1) .
__________
(1) عن الرزقاني على الموطأ 4 / 150، وعن شرح التاودي لكتاب أدبي خليل
صصفحة 3 كراس 36 طبع فاس، والدسوقي 4 / 245، وفتح الباري 10 / 205، وانظر
روضة الطالبين 9 / 348.
(31/123)
عِينَةٌ
اُنْظُرْ: بَيْعُ الْعِينَةِ |