الموسوعة الفقهية الكويتية

غَائِبٌ
اُنْظُرْ: غَيْبَة.

غَائِطٌ
اُنْظُرْ: قَضَاءُ الْحَاجَةِ.

(31/123)


غَارِمُونَ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْغَارِمُونَ جَمْعُ غَارِمٍ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْمَدِينُ، وَقِيل: هُوَ الَّذِي يَلْتَزِمُ مَا ضَمِنَهُ، وَتَكَفَّل بِهِ " قَال الزَّجَّاجُ: الْغَارِمُونَ هُمُ الَّذِينَ لَزِمَهُمُ الدَّيْنُ فِي الْحَمَالَةِ (1) .
وَفِي الأَْثَرِ: الدَّيْنُ مَقْضِيٌّ وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْغَارِمُونَ هُمْ: الْمَدِينُونَ الْعَاجِزُونَ عَنْ وَفَاءِ دُيُونِهِمْ. وَقَال مُجَاهِدٌ: الْغَارِمُونَ هُمْ قَوْمٌ رَكِبَتْهُمُ الدُّيُونُ مِنْ غَيْرِ فَسَادٍ وَلاَ تَبْذِيرٍ (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْكَفِيل:
2 - الْكَفِيل: هُوَ مَنِ الْتَزَمَ دَيْنًا، أَوْ إِحْضَارَ
__________
(1) لسان العرب.
(2) أثر:: " " الدين مقضي والزعيم غارم " ". أخرجه الترمذي (4 / 433) من حديث أبي أمامة الباهلي، وقال الترمذي:: حديث حسن صحيح.
(3) المغني لابن قدامة 6 / 432 وما بعدها، وتفسير الطبري 14 / 317، ونهاية المحتاج 6 / 156، وحاشية ابن عابدين 2 / 61.

(31/124)


عَيْنٍ أَوْ بَدَنٍ (1) وَالصِّلَةُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَحَمَّل دَيْنًا وَيَزِيدُ الْكَفِيل تَحَمُّلَهُ إِحْضَارَ عَيْنٍ أَوْ بَدَنٍ.

اسْتِحْقَاقُ الْغَارِمِينَ مِنْ الزَّكَاةِ:
3 - الْغَارِمُونَ مِنَ الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الَّذِينَ بَيَّنَتْهُمْ آيَةُ مَصَارِفِ الصَّدَقَةِ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيل اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيل فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} (2) .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اسْتِحْقَاقِهِمْ سَهْمًا مِنَ الزَّكَاةِ.
وَفِي الْغَارِمِينَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ، وَبَيَانُ الدُّيُونِ الَّتِي لَزِمَتْهُمْ، وَمِقْدَارُ مَا يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ تَفْصِيلٌ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاة ف 17) .

دَفْعُ الزَّكَاةِ لِغَرِيمِ الْمَدِينِ:
4 - صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ الْمُزَكِّي دَفْعَ زَكَاةِ مَالِهِ إِلَى الْغَارِمِ فَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ لِيَدْفَعَهَا إِلَى غَرِيمِهِ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْفَعَهَا
__________
(1) لسان العرب وحاشية القليوبي 2 / 323 - 327.
(2) سورة التوبة / 60.

(31/124)


إِلَى الْغَرِيمِ قَضَاءً عَنْ دَيْنِ الْغَارِمِ فَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: يَجُوزُ ذَلِكَ، قَال أَبُو الْحَارِثِ: قُلْتُ لأَِحْمَدَ: رَجُلٌ عَلَيْهِ أَلْفُ دِينَارٍ، وَكَانَ عَلَى رَجُلٍ أَلْفٌ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ، فَأَدَّاهَا عَنْ هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ يُجْزِئُ هَذَا عَنْ زَكَاتِهِ؟ قَال: نَعَمْ لاَ أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ دَفَعَ الزَّكَاةَ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ يَقْضِي بِهَا دَيْنَهُ،
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لاَ يَجُوزُ دَفْعُهُ إِلَى الْغَرِيمِ، قَال أَحْمَدُ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِ حَتَّى يَقِيضَ هُوَ عَنْ نَفْسِهِ، قِيل: هُوَ مُحْتَاجٌ يَخَافُ إِنْ دَفَعَ إِلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَهُ وَلاَ يَقْضِيَ دَيْنَهُ، قَال فَلْيُوَكِّل الْغَارِمُ الْمُزَكِّيَ لِيَقْضِيَ عَنْهُ، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْمُزَكِّيَ لاَ يَدْفَعُ الزَّكَاةَ إِلَى الْغَرِيمِ إِلاَّ بِوَكَالَةِ الْغَارِمِ؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْغَارِمِ، فَلاَ يَصِحُّ قَضَاؤُهُ عَنْهُ إِلاَّ بِتَوْكِيلِهِ أَوْ إِذْنِهِ، وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: يُحْتَمَل أَنْ يُحْمَل هَذَا عَلَى الاِسْتِحْبَابِ، وَيَكُونُ قَضَاؤُهُ عَنْهُ جَائِزًا، وَإِنْ كَانَ دَافِعُ الزَّكَاةِ الإِْمَامَ جَازَ أَنْ يَقْضِيَ بِهَا دَيْنَهُ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيلِهِ؛ لأَِنَّ لِلإِْمَامِ وِلاَيَةً عَلَيْهِ فِي إِيفَاءِ الدَّيْنِ، وَلِهَذَا يُجْبِرُهُ عَلَيْهِ إِنِ امْتَنَعَ مِنْهُ (1) .
__________
(1) المغني 6 / 433 - 434 بتصرف بسيط.

(31/125)


ادِّعَاءُ الْغُرْمِ:
5 - إِذَا ادَّعَى شَخْصٌ أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا، فَإِنْ خَفِيَ ذَلِكَ لَمْ يُقْبَل مِنْهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْغُرْمُ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ أَمْ لإِِصْلاَحِ ذَاتِ الْبَيْنِ لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الْغُرْمِ وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ.
وَمِنَ الْغَارِمِ الضَّامِنِ لِغَيْرِهِ لاَ لِتَسْكِينِ فِتْنَةٍ وَهُوَ مُعْسِرٌ، بِمَا عَلَى مُعْسِرٍ فَيُعْطَى، فَإِنْ وَفَّى فَلاَ رُجُوعَ، كَمُعْسِرٍ مُلْتَزِمٍ بِمَا عَلَى مُوسِرٍ بِلاَ إِذْنٍ، وَصَرْفُ الصَّدَقَةِ إِلَى الأَْصِيل الْمُعْسِرِ أَوْلَى أَوْ هُوَ مُوسِرٌ بِمَا عَلَى مُوسِرٍ فَلاَ يُعْطَى (1) .

الاِسْتِدَانَةُ لِعِمَارَةِ مَسْجِدٍ وَنَحْوِهِ:
6 - قَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إِنِ اسْتَدَانَ لِنَحْوِ عِمَارَةِ مَسْجِدٍ وَقِرَى ضَيْفٍ وَفَكِّ أَسِيرٍ يُعْطَى عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ النَّقْدِ، لاَ عَنْ غَيْرِهِ كَالْعَقَارِ. وَقَال آخَرُونَ مِنْهُمْ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُسْتَدِينِ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ.
وَقَال صَاحِبُ نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: لَوْ قِيل: لاَ أَثَرَ لِغِنَاهُ بِالنَّقْدِ أَيْضًا حَمْلاً عَلَى هَذِهِ الْمَكْرُمَةِ الْعَامِّ نَفْعُهَا لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا (2) .
__________
(1) القليوبي 3 / 199، والمغني 6 / 434، ونهاية المحتاج 6 / 155.
(2) نهاية المحتاج 6 / 158.

(31/125)


غَالِبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْغَالِبُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْغَلَبَةِ أَوِ الْغَلَبِ، وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: الْقَهْرُ وَالْكَثْرَةُ، يُقَال: غَلَبَهُ إِذَا قَهَرَهُ، وَغَلَبَ عَلَى فُلاَنٍ الْكَرَمُ: كَانَ أَكْثَرَ خِصَالِهِ. وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِلَفْظِ غَالِبٍ:
وَرَدَتِ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمُصْطَلَحِ غَالِبٍ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا:

أ - غَالِبُ مُدَّةِ الْحَيْضِ:
2 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ غَالِبَ مُدَّةِ الْحَيْضِ سِتَّةُ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةٌ (2) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ، ثُمَّ
__________
(1) لسان العرب، ومغني المحتاج 1 / 119.
(2) مغني المحتاج 1 / 109، وكشاف القناع 1 / 203.

(31/126)


اغْتَسِلِي (1) .

ب - غَالِبُ مُدَّةِ النِّفَاسِ:
3 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ غَالِبَ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتِ النُّفَسَاءُ تَجْلِسُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا (2) وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ أَوْ عَلَى نِسْوَةٍ مَخْصُوصَاتٍ (3) .

ج - غَالِبُ مُدَّةِ الْحَمْل:
4 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ غَالِبَ مُدَّةِ الْحَمْل تِسْعَةُ أَشْهُرٍ (4) .

د - اسْتِعْمَال مَا غَالِبُ حَالِهِ النَّجَاسَةُ.
5 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَال مَا الأَْصْل فِيهِ الطَّهَارَةُ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ فِيهِ النَّجَاسَةَ كَأَوَانِي وَمَلاَبِسِ
__________
(1) حديث:: " " تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله، ثم اغتسلي " ". أخرجه الترمذي (1 / 223323) وقال:: حديث حسن صحيح.
(2) حديث أم سلمة:: " " كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين يومًا " ". أخرجه الترمذي (1 / 256) وفي إسناده جهالة، كذا في التلخيص لابن حجر (1 / 171) .
(3) مغني المحتاج 1 / 119.
(4) مغني المحتاج 3 / 387.

(31/126)


الْكُفَّارِ، وَأَوَانِي وَمَلاَبِسِ الْخَمَّارِينَ، وَمَلاَبِسِ الْمَجَانِينِ وَالصِّبْيَانِ وَالْجَزَّارِينَ وَأَمْثَالِهِمْ، وَكَأَوَانِي وَأَلْبِسَةِ الْمُتَدَيِّنِينَ بِالنَّجَاسَةِ كَالْمَجُوسِ، وَكَطِينِ الشَّارِعِ وَالْمَقَابِرِ الْمَنْبُوشَةِ، وَعَرَقِ الدَّوَابِّ وَلُعَابِهَا، وَلُعَابِ الصِّبْيَانِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الأَْصْل بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ؛ وَلأَِنَّ الْيَقِينَ لاَ يَزُول بِالشَّكِّ.
وَقَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلاَنِ أَحَدُهُمَا: لاَ يَجُوزُ الاِسْتِعْمَال لِغَلَبَةِ النَّجَاسَةِ، وَالثَّانِي: يَجُوزُ لأَِنَّ الأَْصْل الطَّهَارَةُ.
أَمَّا إِذَا تَيَقَّنَ مِنْ حُصُول النَّجَاسَةِ فِي الشَّيْءِ فَيَجِبُ التَّجَنُّبُ مِنْهُ وَلاَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (نَجَاسَة، وَعُمُومُ الْبَلْوَى)

هـ - زَكَاةُ الإِْبِل
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الشَّاةِ الْوَاجِبَةِ فِيمَا دُونَ الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ الإِْبِل هَل تَجِبُ أَنْ تَكُونَ مِنْ غَالِبِ غَنْمِ الْبَلَدِ أَمْ أَنَّ الْمُزَكِّيَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الأَْغْنَامِ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ
__________
(1) قواعد الأحكام 2 / 46، ومغني المحتاج 1 / 29.

(31/127)


الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُزَكِّيَ بِالْخِيَارِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ الإِْبِل الْخَمْسِ مَثَلاً شَاةً مِنْ الضَّأْنِ أَوْ شَاةً مِنْ الْمَعْزِ، وَأَيُّهُمَا أَخْرَجَ أَجْزَأَهُ لِتَنَاوُل اسْمِ الشَّاةِ لَهُمَا، وَلاَ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُمَا مِنْ جِنْسِ غَنَمِهِ وَلاَ مِنْ جِنْسِ غَنْمِ بَلَدِهِ؛ لإِِطْلاَقِ الأَْخْبَارِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِنَ الإِْبِل فَفِيهَا شَاةٌ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ إِخْرَاجُ غَالِبِ أَغْنَامِ بَلَدِهِ كَمَا يَتَعَيَّنُ غَالِبُ قُوتِ الْبَلَدِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَالْقَوْل الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَغْنَامِ الْبَلَدُ، وَلَكِنْ لاَ يَجُوزُ لَهُ الاِنْتِقَال إِلَى غَنْمِ بَلَدٍ آخَرَ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهَا فِي الْقِيمَةِ أَوْ خَيْرًا مِنْهَا.
وَلَدَى الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ رَابِعٌ: أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ غَنَمِ نَفْسِهِ إِذَا كَانَ لَهُ غَنَمٌ (2)
وَلِلتَّفْصِيل اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (زَكَاة ف 43 وَمَا بَعْدَهَا)
__________
(1) حديث:: " " إذا بلغت خمسًا من الإبل ففيها شاة " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 317) من حديث أبي بكر في كتاب الزكاة.
(2) الفتاوى الخانية 1 / 246، والتاج والإكليل 2 / 258، مغني المحتاج 1 / 370، وروضة الطالبين 2 / 154، المجموع للنووي 5 / 39 وما بعدها، وكشاف القناع 2 / 185.

(31/127)


و - زَكَاةُ الْفِطْرِ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَاجِبِ مِنَ الأَْقْوَاتِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْوَجْهُ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ هُوَ غَالِبُ قُوتِ بَلَدِ الْمُخْرِجِ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ وَتَعَلَّقَ بِالطَّعَامِ، فَوَجَبَ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ، فَإِنْ عَدَل عَنْ قُوتِ الْبَلَدِ إِلَى قُوتِ بَلَدٍ آخَرَ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ الَّذِي انْتَقَل إِلَيْهِ أَجْوَدَ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ لَمْ يُجْزِهِ.
وَإِنْ كَانَ أَهْل الْبَلَدِ يَقْتَاتُونَ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً مِنَ الأَْطْعِمَةِ لَيْسَتْ بَعْضُهَا بِأَغْلَبَ مِنْ بَعْضٍ فَأَيُّهَا أَخْرَجَ أَجْزَأَهُ، وَلَكِنَّ الأَْفْضَل أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَحْسَنِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (1)
قَال الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُعْتَبَرُ هُوَ غَالِبُ قُوتِ الْبَلَدِ وَقْتَ وُجُوبِ الْفِطْرَةِ لاَ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ وَفِي قَوْلٍ لَهُ: الاِعْتِبَارُ هُوَ غَالِبُ قُوتِ الْبَلَدِ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرَةِ، إِلاَّ أَنَّ الرَّاجِحَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الاِعْتِبَارَ هُوَ غَالِبُ قُوتِ الْبَلَدِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ
__________
(1) سورة آل عمران / 92.

(31/128)


يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُزَكِّي غَالِبُ قُوتِ نَفْسِهِ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ مَا فَضَل عَنْ قُوتِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ قُوتِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الأَْقْوَاتِ الَّتِي تَصِحُّ بِهَا زَكَاةُ الْفِطْرَةِ، فَيُخْرِجُ مَا شَاءَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ قُوتِهِ وَغَيْرَ قُوتِ أَهْل بَلَدِهِ، لِظَاهِرِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ (1) .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَمْ يَكُنْ قُوتَ أَهْل الْمَدِينَةِ فَدَل عَلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْجَمِيعِ (2) .

ز - الإِْطْعَامُ الْوَاجِبُ فِي الْكَفَّارَاتِ:
8 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ غَالِبُ قُوتِ الْبَلْدَةِ، فِي حِينِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ
__________
(1) حديث أبي سعيد الخدري:: " " كنا نخرج زكاة الفطر صاعًا. . . " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 371) ، ومسلم (2 / 678) .
(2) الدر المختار 2 / 76، ومغني المحتاج 1 / 406، وجواهر الإكليل 1 / 142، ومواهب الجليل 2 / 367، وكشاف القناع 2 / 253.

(31/128)


أَقْوَاتِ الْبَلَدِ (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (كَفَّارَة)

ح - غَالِبُ النَّقْدِ فِي الْبَيْعِ:
9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدَانِ فَأَكْثَرُ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ وَاحِدٌ مِنْهَا غَالِبًا انْصَرَفَتِ الْعُقُودُ إِلَيْهِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ؛ لأَِنَّهُ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ عُرْفًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدَانِ فَأَكْثَرُ - وَلَمْ يَغْلِبْ أَحَدُهَا - اُشْتُرِطَ التَّعْيِينُ لَفْظًا وَلاَ يَكْفِي التَّعْيِينُ بِالنِّيَّةِ، أَمَّا إِذَا اتَّفَقَتِ النُّقُودُ بِأَنْ لَمْ تَتَفَاوَتْ فِي الْقِيمَةِ وَالْغَلَبَةِ فَإِنَّ الْعَقْدَ يَصِحُّ بِهَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَيُسَلِّمُ الْمُشْتَرِي أَيَّهَا شَاءَ، وَإِنْ عَيَّنَ فِي الْعَقْدِ غَيْرَ النَّقْدِ الْغَالِبِ تَعَيَّنَ، وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ تَقْوِيمَ الْمُتْلِفَاتِ يَكُونُ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ، فَإِنْ كَانَ لاَ غَالِبَ فِيهَا عَيَّنَ الْقَاضِي وَاحِدًا مِنَ النُّقُودِ لِلتَّقْوِيمِ بِهَا (2) .

مُعَامَلَةُ مَنْ غَالِبُ مَالِهِ حَرَامٌ:
10 - مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 582، المجموع للنووي 6 / 130، مغني المحتاج 3 / 367، 4 / 327، وجواهر الإكليل 1 / 378.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 26، ومواهب الجليل 4 / 277، مغني المحتاج 2 / 17، كشاف المخدرات ص 215، قواعد الأحكام لابن عبد السلام 2 / 120.

(31/129)


الْحَلاَل وَالْحَرَامُ غَلَبَ الْحَرَامُ، قَال الْجُوَيْنِيُّ: لَمْ يَخْرُجْ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ إِلاَّ مَا نَدَرَ.
قَال السُّيُوطِيُّ: خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فُرُوعٌ مِنْهَا: مُعَامَلَةُ مَنْ أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامٌ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ عَنِ الْحَرَامِ لاَ يَحْرُمُ فِي الأَْصَحِّ لَكِنْ يُكْرَهُ، وَكَذَا الأَْخْذُ مِنْ عَطَايَا السُّلْطَانِ إِذَا غَلَبَ الْحَرَامُ فِي يَدِهِ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا اشْتَرَى مِمَّنْ فِي مَالِهِ حَرَامٌ وَحَلاَلٌ كَالسُّلْطَانِ الظَّالِمِ وَالْمُرَابِي، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْمَبِيعَ مِنْ حَلاَل مَالِهِ فَهُوَ حَلاَلٌ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ حَرَامٌ فَهُوَ حَرَامٌ؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَا فِي يَدِ الإِْنْسَانِ مِلْكُهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ أَيِّهِمَا هُوَ كَرِهْنَاهُ لاِحْتِمَال التَّحْرِيمِ فِيهِ، وَلَمْ يَبْطُل الْبَيْعُ؛ لإِِمْكَانِ الْحَلاَل، قَل الْحَرَامُ أَوْ كَثُرَ، وَهَذَا هُوَ الشُّبْهَةُ، وَبِقَدْرِ قِلَّةِ الْحَرَامِ وَكَثْرَتِهِ تَكُونُ كَثْرَةُ الشُّبْهَةِ وَقِلَّتُهَا، قَال أَحْمَدُ: لاَ يُعْجِبُنِي أَنْ يَأْكُل مِنْهُ (1) ، لَمَا رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْحَلاَل بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَمَنِ اتَّقَى
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 50 وما بعدها و105 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 4 / 295، وانظر فتح المبين شرح الأربعين النووية مع حاشية المدابغي ص113 وما بعدها.

(31/129)


الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْل الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ إِنَّ لِكُل مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ (1) . وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ (2)
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَمِنْ بَيْنِهِمْ الْغَزَالِيُّ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّعَامُل مَعَ مَنْ غَالِبُ مَالِهِ مِنَ الْحَرَامِ (3) .
وَقَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ فِي مُعَامَلَةِ مَنِ اعْتَرَفَ بِأَنَّ أَكْثَرَ مَالِهِ حَرَامٌ: إِنْ غَلَبَ الْحَرَامُ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَنْدُرُ الْخَلاَصُ مِنْهُ لَمْ تَجُزْ مُعَامَلَتُهُ، مِثْل أَنْ يُقِرَّ إِنْسَانٌ بِأَنَّ فِي يَدِهِ أَلْفَ دِينَارٍ كُلَّهَا حَرَامٌ إِلاَّ دِينَارًا وَاحِدًا، فَهَذَا لاَ تَجُوزُ مُعَامَلَتُهُ بِدِينَارٍ لِنُدْرَةِ الْوُقُوعِ فِي الْحَلاَل، كَمَا لاَ يَجُوزُ الاِصْطِيَادُ إِذَا اخْتَلَطَتْ حَمَامَةٌ بَرِّيَّةٌ بِأَلْفِ حَمَامَةٍ بَلَدِيَّةٍ، وَإِنْ عُومِل بِأَكْثَرَ مِنَ الدِّينَارِ أَوِ اُصْطِيدَ بِأَكْثَرَ مِنْ حَمَامَةٍ فَلاَ شَكَّ فِي
__________
(1) حديث:: " " الحلال بيِّنٌ والحرام بيِّنٌ وبينهما مشبهات. . . " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 126) ، ومسلم (3 / 1219 - 1220) من حديث النعمان بن بشير.
(2) حديث:: " " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ". أخرجه الترمذي (4 / 668) وقال:: حديث حسن صحيح.
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي ص50، 105، وفتح المبين شرح الأربعين النووية 3 / 113 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 4 / 295 - 298.

(31/130)


تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَإِنْ غَلَبَ الْحَلاَل بِأَنِ اخْتَلَطَ دِرْهَمٌ حَرَامٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حَلاَلٍ جَازَتِ الْمُعَامَلَةُ كَمَا لَوِ اخْتَلَطَتْ أُخْتُهُ مِنَ الرَّضَاعِ بِأَلْفِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، أَوِ اخْتَلَطَتْ أَلْفُ حَمَامَةٍ بَرِّيَّةٍ بِحَمَامَةٍ بَلَدِيَّةٍ فَإِنَّ الْمُعَامَلَةَ صَحِيحَةٌ جَائِزَةٌ لِنُدْرَةِ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ، وَكَذَلِكَ الاِصْطِيَادُ. ثُمَّ قَال: وَبَيْنَ هَاتَيْنِ الرُّتْبَتَيْنِ مِنْ قِلَّةِ الْحَرَامِ وَكَثْرَتِهِ مَرَاتِبُ مُحَرَّمَةٌ وَمَكْرُوهَةٌ وَمُبَاحَةٌ، وَضَابِطُهَا: أَنَّ الْكَرَاهَةَ تَشْتَدُّ بِكَثْرَةِ الْحَرَامِ وَتَخِفُّ بِكَثْرَةِ الْحَلاَل، فَاشْتِبَاهُ أَحَدِ الدِّينَارَيْنِ بِآخَرَ سَبَبُ تَحْرِيمٍ بَيِّنٍ، وَاشْتِبَاهُ دِينَارٍ حَلاَلٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ حَرَامٍ سَبَبُ تَحْرِيمٍ بَيِّنٍ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قِلَّةِ الْحَرَامِ وَكَثْرَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَلاَل، فَكُلَّمَا كَثُرَ الْحَرَامُ تَأَكَّدَتِ الشُّبْهَةُ، وَكُلَّمَا قَل خَفَّتِ الشُّبْهَةُ، إِلَى أَنْ يُسَاوِيَ الْحَلاَل الْحَرَامَ فَتَسْتَوِي الشُّبُهَاتُ (1) .
__________
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1 / 72 - 73، 2 / 18، 47، 89.

(31/130)


غَايَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْغَايَةِ فِي اللُّغَةِ: الْمَدَى وَالْمُنْتَهَى (1) ، يُقَال: غَايَتُكَ أَنْ تَفْعَل كَذَا، أَيْ نِهَايَةُ طَاقَتِكَ أَوْ فِعْلِكَ (2) . وَقَالُوا: هَذَا الشَّيْءُ غَايَةٌ فِي الْحُسْنِ، أَوْ فِي الْقِيمَةِ، أَيْ بَلَغَ الْحَدَّ الأَْقْصَى (3) . وَالْمُغَيَّا: ذُو الْغَايَةِ، أَيِ الْحُكْمُ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَى الْغَايَةِ (4) .
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَالْغَايَةُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ تُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: الأَْوَّل: الْمُنْتَهَى، كَمَا يَقُولُونَ: (إِلَى) لِلْغَايَةِ، أَيْ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا مُنْتَهَى حُكْمِ مَا قَبْلَهَا.
الثَّانِي: نِهَايَةُ الشَّيْءِ مِنْ طَرَفَيْهِ، أَيْ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ كَمَا يَقُولُونَ: لاَ تَدْخُل الْغَايَتَانِ فِي الْحُكْمِ، قَال ابْنُ الْهُمَامِ: تُطْلَقُ الْغَايَةُ بِالاِشْتِرَاكِ عُرْفًا بَيْنَ الْمُنْتَهَى وَنِهَايَةِ
__________
(1) لسان العرب.
(2) المصباح المنير.
(3) متن اللغة في المادة.
(4) نفس المرجع.

(31/131)


الشَّيْءِ مِنْ طَرَفَيْهِ.
وَالْمُرَادُ بِالْغَايَةِ هُنَا هُوَ الْمَعْنَى الأَْوَّل وَسُمِّيَتْ غَايَةً لأَِنَّ الْحُكْمَ يَنْتَهِي إِلَيْهَا، كَمَا يَقُول فَخْرُ الإِْسْلاَمِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل} (1) فَاللَّيْل غَايَةٌ لِلصِّيَامِ؛ لأَِنَّ حُكْمَهُ يَنْتَهِي إِلَيْهِ (2) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - ذَكَرَ أَهْل اللُّغَةِ وَالأُْصُولِيُّونَ أَنَّ كَلِمَتَيْ: (إِلَى وَحَتَّى) لِلْغَايَةِ، أَيْ دَالَّتَانِ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهُمَا مُنْتَهَى حُكْمِ مَا قَبْلَهُمَا (3) ، وَاخْتَلَفُوا فِي دُخُول الْغَايَةِ (أَيْ مَا بَعْدَ حَرْفَيْ حَتَّى وَإِلَى) فِي الْمُغَيَّا، (أَيْ حُكْمُ مَا قَبْلَهُمَا) إِلَى مَذَاهِبَ:
قَال بَعْضُهُمْ: تَدْخُل مُطْلَقًا، وَقَال آخَرُونَ: لاَ تَدْخُل مُطْلَقًا، وَفَصَّل بَعْضُهُمْ فَقَالُوا: إِنْ كَانَتِ الْغَايَةُ مِنْ جِنْسِ الْمُغَيَّا، بِأَنْ تَنَاوَلَهَا صَدْرُ الْكَلاَمِ، أَيْ قَبْل كَلِمَتَيْ (حَتَّى وَإِلَى) فَتَدْخُل فِي حُكْمِ الْمُغَيَّا، أَيْ
__________
(1) سورة البقرة / 187.
(2) تيسير التحرير 2 / 109 وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 2 / 179.
(3) التوضيح مع التلويح 1 / 377، 387، وما بعدهما.، وتيسير التحرير 2 / 109، وما بعدها.، ومسلم الثبوت 1 / 244، 245 وما بعدهما.

(31/131)


قَبْل هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ (1) ، كَالْمَرَافِقِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (2) وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْغَايَةُ مِنْ جِنْسِ الْمُغَيَّا، بِأَنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا صَدْرُ الْكَلاَمِ، أَيْ مَا قَبْل كَلِمَةِ إِلَى (3) كَاللَّيْل فِي قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل} فَلاَ تَدْخُل فِي حُكْمِ الْمُغَيَّا؛ لأَِنَّهَا كَانَتْ خَارِجَةً، فَبَقِيَتْ كَذَلِكَ (4) .
وَقَال بَعْضُهُمْ: دُخُول الْغَايَةِ فِي حُكْمِ الْمُغَيَّا وَعَدَمُ دُخُولِهَا فِيهِ مُرْتَبِطٌ بِالْقَرِينَةِ فَإِذَا وُجِدَتْ قَرِينَةُ الدُّخُول دَخَلَتْ وَإِذَا وُجِدَتْ قَرِينَةُ الْخُرُوجِ خَرَجَتْ، وَهَذَا مَا رَجَّحَهُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي التَّلْوِيحِ (5) ، لَكِنَّ الأَْشْهَرَ فِي (حَتَّى) الدُّخُول، وَفِي (إِلَى) عَدَمُ الدُّخُول، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ (6) وَهَذَا يُحْمَل عِنْدَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ ابْنِ الْهُمَامِ فِي التَّحْرِيرِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) كشف الأسرار عن أصول البزدوي 2 / 178.
(2) سورة المائدة / 6.
(3) مسلم الثبوت وشرحه فواتح الرحموت بذيل المستصفى 1 / 244، 245 وتيسير التحرير 2 / 109.
(4) مسلم الثبوت بذيل المستصفى 1 / 244، 245.
(5) التلويح على التوضيح 1 / 288 وتيسير التحرير 2 / 109 وانظر كشف الأسرار عن أصول البزدوي نقلاً عن الكشاف 2 / 178.
(6) مسلم الثبوت 1 / 244.

(31/132)


غَبَاءٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْغَبَاءُ فِي اللُّغَةِ: قِلَّةُ الْفَطِنَةِ، وَالْغَبِيُّ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ: الْغَافِل الْقَلِيل الْفَطِنَةِ (1) ، وَفُلاَنٌ ذُو غَبَاوَةٍ: أَيْ تَخْفَى عَلَيْهِ الأُْمُورُ، وَفِي حَدِيثِ الصَّوْمِ: " فَإِنْ غَبِيَ عَلَيْكُمْ " (2) أَيْ خَفِيَ عَلَيْكُمْ، وَجَمْعُ الْغَبِيِّ: أَغْبِيَاءٌ. وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ.

الْخِلاَبَةُ:
2 - الْخِلاَبَةُ: الْمُخَادَعَةُ. وَقِيل: الْمُخَادَعَةُ بِاللِّسَانِ (3) ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ فَقُل لاَ خِلاَبَةَ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْغَبَاءِ وَالْخِلاَبَةِ أَنَّ كُلًّا
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير.
(2) حديث:: " " فإن غبي عليكم. . . " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 119) من حديث أبي هريرة.
(3) لسان العرب، المصباح المنير.
(4) حديث:: " " قل:: لا خلابة " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 337) ومسلم (3 / 1165) ، من حديث ابن عمر، واللفظ للبخاري.

(31/132)


مِنْهُمَا قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لَلَغَبْنَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْعُقُودِ.

مَا يَتَّصِل بِالْغَبَاءِ مِنْ أَحْكَامٍ
أ - الزَّكَاةُ لِلْغَبِيِّ:
3 - نَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تُصْرَفُ لِلْفَقِيرِ الْقَادِرِ عَلَى الْكَسْبِ إِذَا مَنَعَهُ اشْتِغَالُهُ بِطَلَبِ الْعِلْمِ عَنِ الْكَسْبِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ نَجِيبًا يُرْجَى تَفَقُّهُهُ وَنَفْعُ الْمُسْلِمِينَ بِعِلْمِهِ، وَذَلِكَ كَأَنْ تَكُونَ فِيهِ قُوَّةٌ بِحَيْثُ إِذَا رَاجَعَ الْكَلاَمَ فَهِمَ كُل مَسَائِلِهِ، أَوْ بَعْضَهَا، وَإِلاَّ فَلاَ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ؛ لأَِنَّ نَفْعَهُ حِينَئِذٍ قَاصِرٌ عَلَيْهِ فَلاَ فَائِدَةَ فِي اشْتِغَالِهِ بِطَلَبِ الْعِلْمِ إِلاَّ حُصُول الثَّوَابِ لَهُ فَيَكُونُ كَنَوَافِل الْعِبَادَاتِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاة ف 162)

ب - سُكُوتُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِغَبَائِهِ:
4 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا سَكَتَ عَنِ الْجَوَابِ لِدَهْشَةٍ أَوْ غَبَاوَةٍ وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَشْرَحَ لَهُ الْحَال، وَكَذَا لَوْ نَكَل وَلَمْ يَعْرِفْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى النُّكُول يَجِبُ الشَّرْحُ لَهُ، ثُمَّ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاء)
__________
(1) تحفة المحتاج 7 / 152، المجموع للنووي 6 / 191.
(2) مغني المحتاج 4 / 468، القليوبي وعميرة 4 / 338.

(31/133)


غُبَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْغُبَارُ لُغَةً هُوَ: مَا دَقَّ مِنَ التُّرَابِ، أَوِ الرَّمَادِ، وَهُوَ أَيْضًا مَا يَبْقَى مِنَ التُّرَابِ الْمُثَارِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغُبَارِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوْرَدَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الْغُبَارِ فِي أَبْوَابٍ مِنْهَا:

أ - النَّجَاسَةُ:
2 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ غُبَارَ النَّجَاسَةِ نَجَسٌ إِلاَّ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ أَوْ فِي اللَّبَنِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْمَائِعَاتِ، وَكَذَا إِذَا عَلِقَ بِشَيْءٍ رَطْبٍ كَالثَّوْبِ الْمَبْلُول لِعُسْرِ التَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ لاَ تَظْهَرَ لَهُ صِفَةٌ فِي
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، المعجم الوسيط، غريب القرآن للأصفهاني.

(31/133)


الشَّيْءِ الطَّاهِرِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (نَجَاسَةٍ)

ب - التَّيَمُّمُ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ وُجُودِ الْغُبَارِ فِيمَا يُتَيَمَّمُ بِهِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ. وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَإِسْحَاقُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي التُّرَابِ الَّذِي يُتَيَمَّمُ بِهِ غُبَارٌ يَعْلَقُ عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (2) قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآْيَةِ: الصَّعِيدُ تُرَابُ الْحَرْثِ وَهُوَ التُّرَابُ الْخَالِصُ، وَقَال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الصَّعِيدُ تُرَابٌ لَهُ غُبَارٌ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ يَحْصُل الْمَسْحُ بِشَيْءٍ مِنْهُ - أَيِ الصَّعِيدِ - إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ذَا غُبَارٍ يَعْلَقُ بِالْيَدِ، فَإِنْ كَانَ جَرْشًا أَوْ نَدِيًّا لاَ يَرْتَفِعُ لَهُ غُبَارٌ لَمْ يَكْفِ التَّيَمُّمُ بِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ مِنْ غُبَارِ تُرَابٍ عَلَى صَخْرَةٍ أَوْ مِخَدَّةٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ حَصِيرٍ أَوْ جِدَارٍ أَوْ أَدَاةٍ، قَالُوا: لَوْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ فِيهِ غُبَارٌ، أَوْ عَلَى لِبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 147 - 216، مغني المحتاج 1 / 81، كشاف القناع 1 / 186 - 192.
(2) سورة المائدة / 6.

(31/134)


أَوْ جُوَالِقَ أَوْ بَرْذَعَةٍ فَعَلِقَ بِيَدَيْهِ غُبَارٌ فَتَيَمَّمَ بِهِ جَازَ، لأَِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ التُّرَابَ حَيْثُ هُوَ، فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الأَْرْضِ أَوْ عَلَى غَيْرِهَا، وَمِثْل هَذَا لَوْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى حَائِطٍ أَوْ عَلَى حَيَوَانٍ أَوْ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ فَصَارَ عَلَى يَدِهِ غُبَارٌ، لِحَدِيثِ أَبِي جَهْمِ بْنِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ: أَقْبَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَقْبَل عَلَى الْجِدَارِ فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ (1)
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذِهِ الأَْشْيَاءِ غُبَارٌ يَعْلَقُ عَلَى الْيَدِ فَلاَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهَا إِلاَّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَرَى أَنَّ الْغُبَارَ وَحْدَهُ لاَ يَكْفِي بَل يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ تُرَابٌ؛ لأَِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ عِنْدَهُ هُوَ التُّرَابُ الْخَالِصُ، وَالْغُبَارُ لَيْسَ بِتُرَابٍ خَالِصٍ بَل هُوَ تُرَابٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ (2) .
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ - مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ - وَالْمَالِكِيَّةُ التَّيَمُّمَ بِصَخْرَةٍ لاَ غُبَارَ عَلَيْهَا،
__________
(1) حديث أبي جهم بن الحارث:: " " أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل. . . " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 441) .
(2) البدائع 1 / 53 - 54، جواهر الإكليل 1 / 27، مغني المحتاج 1 / 96، المجموع 2 / 213 - 219، المغني 1 / 247.

(31/134)


وَبِتُرَابٍ نَدِيٍّ لاَ يَعْلَقُ مِنْهُ بِالْيَدِ غُبَارٌ، وَبِكُل مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الأَْرْضِ (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَيَمُّم ف 26)

ح - الصَّوْمُ.
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّائِمَ لاَ يُفْطِرُ بِوُصُول غُبَارِ الطَّرِيقِ إِلَى جَوْفِهِ إِذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ وَإِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ بِتَكْلِيفِهِ إِطْبَاقَ فَمِهِ أَوْ نَحْوِهِ عِنْدَ الْغُبَارِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ؛ وَلأَِنَّهُ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الصَّوْمُ فَرْضًا أَمْ نَفْلاً وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْغُبَارُ قَلِيلاً أَمْ كَثِيرًا مَاشِيًا أَوْ غَيْرَ مَاشٍ.
أَمَّا إِذَا تَعَمَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ فَتَحَ فَمَهُ عَمْدًا حَتَّى دَخَلَهُ الْغُبَارُ وَوَصَل إِلَى جَوْفِهِ فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ يُفْطِرُ بِذَلِكَ، لِتَقْصِيرِهِ وَإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يُفْطِرُ بِذَلِكَ لأَِنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْ جِنْسِهِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: غُبَارُ الطَّرِيقِ لاَ يُفْطِرُ الصَّائِمَ وَإِنْ قَصَدَ ابْتِلاَعَهُ؛ لأَِنَّ اتِّقَاءَ ذَلِكَ
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) البدائع 2 / 93، ابن عابدين 2 / 97، جواهر الإكليل 1 / 152، المجموع 6 / 317 - 328، مغني المحتاج 1 / 429، المغني 3 / 106، كشاف القناع 1 / 320.

(31/135)


يَشُقُّ.
وَقَال الْمِرْدَاوِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَحَكَى فِي الرِّعَايَةِ قَوْلاً: إِنَّهُ يُفْطِرُ مَنْ طَارَ إِلَى حَلْقِهِ غُبَارٌ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَاشٍ أَوْ غَيْرَ نَخَّالٍ أَوْ غَيْرَ وَقَّادٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا (1)
5 - وَمِثْل غُبَارِ الطَّرِيقِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ غُبَارُ غَرْبَلَةِ الدَّقِيقِ سَوَاءٌ كَانَ الصَّائِمُ نَخَّالاً أَوْ لَمْ يَكُنْ نَخَّالاً؛ لأَِنَّهُ أَمْرٌ غَالِبٌ وَكَذَا غُبَارُ الْجِبْسِ لِصَانِعِهِ وَبَائِعِهِ، وَكَذَا غُبَارُ الْكَتَّانِ وَالْفَحْمِ وَالشَّعِيرِ وَالْقَمْحِ، قَال الْحَطَّابُ: قَال الْبُرْزُلِيُّ: مَسْأَلَةٌ، الْحُكْمُ فِي غُبَارِ الْكَتَّانِ وَغُبَارِ الْفَحْمِ وَغُبَارِ خَزْنِ الشَّعِيرِ وَالْقَمْحِ كَالْحُكْمِ فِي غُبَارِ الْجَبَّاسِينَ.
وَقَال أَشْهَبُ: إِنَّ غُبَارَ الدَّقِيقِ وَنَحْوَهُ يُفْطِرُ بِهِ الصَّائِمُ إِذَا كَانَ الصَّوْمُ فَرْضًا أَوْ وَاجِبًا. وَلاَ يُفْطِرُ بِهِ إِذَا كَانَ نَفْلاً.
وَقَال ابْنُ بَشِيرٍ: أَمَّا غُبَارُ الْجَبَّاسِينَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا لاَ يُغَذِّي وَيَنْفَرِدُ بِالاِضْطِرَارِ إِلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ فَهَل يَكُونُ كَغُبَارِ الدَّقِيقِ، أَوْ كَغُبَارِ الطَّرِيقِ؟ فَإِنْ عَلَّلْنَا غُبَارَ الطَّرِيقِ بِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا لاَ يُغَذِّي فَهَذَا مِثْلُهُ، وَإِنْ عَلَّلْنَاهُ بِعُمُومِ الاِضْطِرَارِ فَهَذَا بِخِلاَفِهِ.
__________
(1) الإنصاف 3 / 306 - 307، الفروع 3 / 55.

(31/135)


وَقَال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ غُبَارَ الدَّقِيقِ وَنَحْوَهُ يُفْطِرُ بِهِ غَيْرُ النَّخَّالِينَ وَالْوَقَّادِينَ وَنَحْوِهِمَا (1) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 97، البدائع 2 / 93، جواهر الإكليل 1 / 152، مواهب الجليل 2 / 441، الفواكه الدواني 1 / 359، مغني المحتاج 1 / 429، المجموع 6 / 318 - 328، المغني 3 / 106، كشاف القناع 1 / 320. (1) لسان العرب، القاموس المحيط.

(31/136)


غِبْطَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْغِبْطَةُ فِي اللُّغَةِ: حُسْنُ الْحَال وَالْمَسَرَّةُ، وَقَدْ تُسَمَّى الْغِبْطَةُ حَسَدًا مَجَازًا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يَتَمَنَّى الرَّجُل أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْل مَا لِغَيْرِهِ مِنْ نِعْمَةٍ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَزُول عَنِ الْغَيْرِ (2) .
وَتَأْتِي بِمَعْنَى الأَْصْلَحِ وَالأَْنْفَعِ وَالأَْحَظِّ، فَيَقُولُونَ مَثَلاً: لِلْوَلِيِّ أَنْ يَبِيعَ عَقَارَ مُوَلِّيهِ إِنْ كَانَ لَهُ فِيهِ غِبْطَةٌ: مَصْلَحَةٌ وَمَنْفَعَةٌ وَحَظٌّ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْحَسَدُ:
2 - الْحَسَدُ هُوَ أَنْ يَتَمَنَّى الْحَاسِدُ زَوَال نِعْمَةِ الْمَحْسُودِ (4) .
__________
(1) لسان العرب، القاموس المحيط.
(2) إحياء علوم الدين 3 / 189، ومنهاج القاصدين لابن قدامة ص192 - 193.
(3) القليوبي على المحليي 2 / 287 - 305، 3 / 234.
(4) الصحاح، القاموس.

(31/136)


وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَسَدِ وَالْغِبْطَةِ: أَنَّ الْحَاسِدَ يَتَمَنَّى زَوَال نِعْمَةِ الْمَحْسُودِ وَتَحَوُّلَهَا عَنْهُ، وَالْغَابِطُ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْل مَا لِغَيْرِهِ، وَلاَ يَتَمَنَّى زَوَال النِّعْمَةِ وَلاَ تَحَوُّلَهَا عَنِ الْمَغْبُوطِ.
قَال الْغَزَالِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لاَ حَسَدَ إِلاَّ عَلَى نِعْمَةٍ، فَإِذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى أَخِيكَ بِنِعْمَةٍ فَلَكَ فِيهَا حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَكْرَهَ تِلْكَ النِّعْمَةَ وَتُحِبَّ زَوَالَهَا. وَهَذِهِ الْحَالَةُ تُسَمَّى حَسَدًا، فَالْحَسَدُ حَدُّهُ كَرَاهَةُ النِّعْمَةِ وَحُبُّ زَوَالِهَا عَنِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لاَ تُحِبَّ زَوَالَهَا، وَلاَ تَكْرَهَ وُجُودَهَا وَدَوَامَهَا، وَلَكِنْ تَشْتَهِي لِنَفْسِكَ مِثْلَهَا وَهَذِهِ تُسَمَّى غِبْطَةً (1) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - الْغِبْطَةُ إِنْ كَانَتْ فِي الطَّاعَةِ فَهِيَ مَحْمُودَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَعْصِيَةِ فَهِيَ مَذْمُومَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْجَائِزَاتِ فَهِيَ مُبَاحَةٌ (2) .
فَتَكُونُ وَاجِبَةً إِنْ كَانَتِ النِّعْمَةُ دِينِيَّةً وَاجِبَةً كَالإِْيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَالصَّلاَةِ
__________
(1) إحياء علوم الدين 3 / 189.
(2) فتح الباري 1 / 167، والدر المنثور 1 / 403، والتعريفات.

(31/137)


وَالزَّكَاةِ؛ لأَِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ لِنَفْسِهِ ذَلِكَ، وَإِلاَّ كَانَ رَاضِيًا بِعَكْسِهِ وَهُوَ حَرَامٌ (1) .
وَقَدْ تَكُونُ مَنْدُوبَةً كَأَنْ كَانَتِ النِّعْمَةُ مِنَ الْفَضَائِل، كَإِنْفَاقِ الأَْمْوَال فِي الْمَكَارِمِ وَالصَّدَقَاتِ، فَالْغِبْطَةُ فِيهَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا.
وَقَدْ تَكُونُ مُبَاحَةً، كَأَنْ تَكُونَ النِّعْمَةُ يُنْتَفَعُ بِهَا عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ، فَالْمُنَافَسَةُ فِيهَا مُبَاحَةٌ.
وَقَدْ تَحْرُمُ، كَأَنْ يَكُونَ عِنْدَ غَيْرِهِ مَالٌ يُنْفِقُهُ فِي الْمَعَاصِي، فَيَقُول: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً مِثْل مَال فُلاَنٍ لَكُنْتُ أُنْفِقُهُ فِي مِثْل مَا يُنْفِقُهُ فِي الْمَعَاصِي (2) .
__________
(1) إحياء علوم الدين 3 / 189 - 191.
(2) إحياء علوم الدين 3 / 190 وما بعدها.

(31/137)


غَبْن
التَّعْرِيفُ:
1 - الْغَبْنُ فِي اللُّغَةِ. الْغَلَبُ وَالْخَدْعُ وَالنَّقْصُ (1) . قَال الْكَفَوِيُّ: الْغَبْنُ بِالْمُوَحَّدَةِ السَّاكِنَةِ يُسْتَعْمَل فِي الأَْمْوَال، وَبِالْمُتَحَرِّكَةِ فِي الآْرَاءِ (2) " وَقَال ابْنُ السِّكِّيتِ: وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ بِالْفَتْحِ، وَفِي الرَّأْيِ بِالإِْسْكَانِ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْحَطَّابُ: الْغَبْنُ عِبَارَةٌ عَنْ بَيْعِ السِّلْعَةِ بِأَكْثَرَ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ أَنَّ النَّاسَ لاَ يَتَغَابَنُونَ بِمِثْلِهِ إِذَا اشْتَرَاهَا كَذَلِكَ (4) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّدْلِيسُ:
2 - التَّدْلِيسُ: كِتْمَانُ عَيْبِ السِّلْعَةِ عَنْ
__________
(1) تحرير ألفاظ التنبيه للنووي ص186 ط دار القلم، وانظر المصباح المنير.
(2) الكليات لأبي البقاء الكفوي 3 / 310.
(3) تحرير ألفاظ التنبيه ص186.
(4) مواهب الجليل 4 / 468 - 469، والبهجة شرح التحفة 2 / 106.

(31/138)


الْمُشْتَرِي، يُقَال دَلَّسَ الْبَائِعُ تَدْلِيسًا: كَتَمَ عَيْبَ السِّلْعَةِ عَنِ الْمُشْتَرِي وَأَخْفَاهُ، وَمِنْهُ التَّدْلِيسُ فِي الإِْسْنَادِ. وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا اللَّفْظَ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ نَفْسِهِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ التَّدْلِيسِ وَالْغَبْنِ هُوَ: أَنَّ التَّدْلِيسَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلْغَبْنِ.

ب - الْغِشُّ:
3 - الْغِشُّ هُوَ الاِسْمُ مِنَ الْغِشِّ مَصْدَرُ غَشَّهُ: إِذَا لَمْ يَمْحَضْهُ النُّصْحَ وَزَيَّنَ لَهُ غَيْرَ الْمَصْلَحَةِ أَوْ أَظْهَرَ لَهُ خِلاَفَ مَا أَضْمَرَهُ (2) وَيَكُونُ الْغِشُّ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْغَبْنِ.

ح - الْغَرَرُ:
4 - الْغَرَرُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ مِنَ التَّغْرِيرِ وَهُوَ الْخَطَرُ وَالْخُدْعَةُ وَتَعْرِيضُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ أَوْ مَالَهُ لِلْهَلَكَةِ (3) .
وَقَال الْجُرْجَانِيِّ: الْغَرَرُ مَا يَكُونُ مَجْهُول الْعَاقِبَةِ، لاَ يُدْرَى أَيَكُونُ أَمْ لاَ (4) ؟
__________
(1) المصباح المنير والقاموس المحيط.
(2) المصباح المنير والقاموس المحيط.
(3) لسان العرب والقاموس المحيط.
(4) التعريفات للجرجاني.

(31/138)


الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الْغَبْنُ مُحَرَّمٌ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّغْرِيرِ لِلْمُشْتَرِي وَالْغِشِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَيَحْرُمُ تَعَاطِي أَسْبَابِهِ (1) . لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا (2) قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ الْغَبْنَ فِي الدُّنْيَا مَمْنُوعٌ بِإِجْمَاعٍ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا إِذْ هُوَ مِنْ بَابِ الْخِدَاعِ الْمُحَرَّمِ شَرْعًا فِي كُل مِلَّةٍ. لَكِنَّ الْيَسِيرَ مِنْهُ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ لأَِحَدٍ فَمَضَى فِي الْبُيُوعِ، إِذْ لَوْ حَكَمْنَا بِرَدِّهِ مَا نَفَذَ بَيْعٌ أَبَدًا؛ لأَِنَّهُ لاَ يَخْلُو مِنْهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ كَثِيرًا أَمْكَنَ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ وَجَبَ الرَّدُّ بِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ مَعْلُومٌ (3) .

أَنْوَاعُ الْغَبْنِ:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْغَبْنَ نَوْعَانِ: غَبْنٌ يَسِيرٌ وَغَبْنٌ فَاحِشٌ. وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَحْدِيدِ كُلٍّ مِنَ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ وَالْيَسِيرِ أَقْوَالٌ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْيَسِيرَ: مَا يَدْخُل تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ. وَالْفَاحِشَ:
__________
(1) الروض المربع شرح زاد المستنقنع 4 / 437.
(2) حديث:: " " من غشنا فليس منا " ". أخرجه مسلم (1 / 99) من حديث أبي هريرة.
(3) أحكام القرآن لابن العربي 4 / 1804.

(31/139)


مَا لاَ يَدْخُل تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، لأَِنَّ الْقِيمَةَ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ بَعْدَ الاِجْتِهَادِ، فَيُعْذَرُ فِيمَا يُشْتَبَهُ؛ لأَِنَّهُ يَسِيرٌ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ، وَلاَ يُعْذَرُ فِيمَا لاَ يُشْتَبَهُ لِفُحْشِهِ، وَلإِِمْكَانِ الاِحْتِرَازِ عَنْهُ، لأَِنَّهُ لاَ يَقَعُ فِي مِثْلِهِ عَادَةً إِلاَّ عَمْدًا.
وَقِيل: حَدُّ الْفَاحِشِ فِي الْعُرُوضِ نِصْفُ عُشْرِ الْقِيمَةِ، وَفِي الْحَيَوَانِ عُشْرُ الْقِيمَةِ، وَفِي الْعَقَارِ خُمُسُ الْقِيمَةِ، وَفِي الدَّرَاهِمِ رُبُعُ عُشْرِ الْقِيمَةِ؛ لأَِنَّ الْغَبْنَ يَحْصُل بِقِلَّةِ الْمُمَارَسَةِ فِي التَّصَرُّفِ، وَالصَّحِيحُ الأَْوَّل.
هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ سِعْرُهُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بَيْنَ النَّاسِ وَيَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَالْمَوْزِ لاَ يُعْفَى فِيهِ الْغَبْنُ وَإِنْ قَل وَإِنْ كَانَ فَلْسًا (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْغَبْنَ عِبَارَةٌ عَنْ بَيْعِ السِّلْعَةِ بِأَكْثَرَ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ أَنَّ النَّاسَ لاَ يَتَغَابَنُونَ بِمِثْلِهِ، وَهِيَ الزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ وَقِيل: الثُّلُثُ وَأَمَّا مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فَلاَ يُوجِبُ الرَّدَّ بِاتِّفَاقٍ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْغَبْنُ الْيَسِيرُ هُوَ مَا
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 272، والبحر الرائق 7 / 169.
(2) مواهب الجليل 4 / 472، والدسوقي 3 / 140.

(31/139)


يُحْتَمَل غَالِبًا فَيُغْتَفَرُ فِيهِ، وَالْغَبْنُ الْفَاحِشُ هُوَ مَا لاَ يُحْتَمَل غَالِبًا، وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ عُرْفُ بَلَدِ الْبَيْعِ وَالْعَادَةِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُرْجَعُ فِي الْغَبْنِ إِلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ نَصَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْل جَمَاهِيرِ الأَْصْحَابِ، وَقِيل: يُقَدَّرُ الْغَبْنُ بِالثُّلُثِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الإِْرْشَادِ. وَنَقَل الْمِرْدَاوِيُّ عَنْ الْمُسْتَوْعِبِ: الْمَنْصُوصُ أَنَّ الْغَبْنَ الْمُثْبِتَ لِلْفَسْخِ مَا لاَ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ. وَحَدَّهُ أَصْحَابُنَا بِقَدْرِ ثُلُثِ قِيمَةِ الْبَيْعِ (2) .

أَثَرُ الْغَبْنِ فِي الْعُقُودِ:
7 - إِذَا كَانَ الْغَبْنُ الْمُصَاحِبُ لِلْعَقْدِ يَسِيرًا فَلاَ يُؤَثِّرُ فِي صِحَّتِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. قَال ابْنُ هُبَيْرَةَ. اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْغَبْنَ فِي الْبَيْعِ بِمَا لاَ يُوحِشُ لاَ يُؤَثِّرُ فِي صِحَّتِهِ (3) .
إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اسْتَثْنَوْا بَعْضَ الْمَسَائِل، وَاعْتَبَرُوا الْغَبْنَ يُؤَثِّرُ فِيهَا حَتَّى لَوْ كَانَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 224، والجمل 3 / 408، 409.
(2) الإنصاف 4 / 394.
(3) الإفصاح 1 / 324 ط المؤسسة السعيدية بالرياض، وتفسير ابن العربي 4 / 1804.

(31/140)


يَسِيرًا (1) . أَمَّا الْغَبْنُ الْفَاحِشُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِهِ عَلَى الْعُقُودِ حَسَبَ الاِتِّجَاهَاتِ الآْتِيَةِ: الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ لاَ يُثْبِتُ الْخِيَارَ، وَلاَ يُوجِبُ الرَّدَّ (2) .
قَال الْحَصْكَفِيُّ: لاَ رَدَّ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَبِهِ أَفْتَى بَعْضُهُمْ مُطْلَقًا (3) .
وَقَال الدَّرْدِيرُ: وَلاَ يُرَدُّ الْمَبِيعُ بِغَبْنٍ بِأَنْ يَكْثُرَ الثَّمَنُ أَوْ يَقِل جِدًّا، وَلَوْ خَالَفَ الْعَادَةَ بِأَنْ خَرَجَ عَنْ مُعْتَادِ الْعُقَلاَءِ (4) .
وَجَاءَ فِي رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ: مُجَرَّدُ الْغَبْنِ لاَ يُثْبِتُ الْخِيَارَ وَإِنْ تَفَاحَشَ، وَلَوْ اشْتَرَى زُجَاجَةً بِثَمَنٍ كَبِيرٍ يَتَوَهَّمُهَا جَوْهَرَةً فَلاَ خِيَارَ لَهُ، وَلاَ نَظَرَ إِلَى مَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْغَبْنِ؛ لأَِنَّ التَّقْصِيرَ مِنْهُ حَيْثُ لَمْ يُرَاجِعْ أَهْل
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 22، والبحر الرائق 7 / 169، وتبيين الحقائق 4 / 272، والإنصاف 4 / 395 مطبعة السنة المحمدية.
(2) الدر المختار 4 / 159، والحطاب 4 / 470، وروضة الطالبين 3 / 470، وتكملة المجموع 12 / 326.
(3) الدر المختار 4 / 159، ورسالة تحبير التحرير في إبطال القضاء بالفسخ بالغبن الفاحش بلا تغرير لابن عابدين ضمن رسائله 2 / 69.
(4) الشرح الكبير مع الدسوقي 3 / 140.

(31/140)


الْخِبْرَةِ (1) .
وَقَدِ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بَعْضَ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ، وَقَالُوا بِأَثَرِ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يُصَاحِبْهُ تَغْرِيرٌ، وَمِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ:
أ - تَصَرُّفُ الأَْبِ وَالْجَدِّ وَالْوَصِيِّ وَالْمُتَوَلِّي وَالْمُضَارِبِ وَالْوَكِيل بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، يُعْفَى فِيهِ يَسِيرُ الْغَبْنِ دُونَ فَاحِشِهِ كَمَا قَال ابْنُ نُجَيْمٍ (2) .
وَقَال الْمَوَّاقُ نَقْلاً عَنْ أَبِي عُمَرَ الْمَالِكِيِّ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ النَّائِبَ عَنْ غَيْرِهِ فِي بَيْعٍ وَشِرَاءٍ مِنْ وَكِيلٍ أَوْ وَصِيٍّ إِذَا بَاعَ أَوِ اشْتَرَى مَا لاَ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ أَنَّهُ مَرْدُودٌ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَحْكَامِ خِيَارِ غَبْنِ الْقَاصِرِ وَشِبْهِهِ ر: (خِيَارُ الْغَبْنِ ف 13 وَمَا بَعْدَهَا)

ب - بَيْعُ الْمُسْتَسْلِمِ الْمُسْتَنْصِحِ (4) ، قَال الدَّرْدِيرُ: وَلاَ رَدَّ بِغَبْنٍ وَلَوْ خَالَفَ الْعَادَةَ، إِلاَّ أَنْ يَسْتَسْلِمَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ صَاحِبَهُ بِأَنْ يُخْبِرَهُ بِجَهْلِهِ، كَأَنْ يَقُول الْمُشْتَرِي: أَنَا لاَ أَعْلَمُ قِيمَةَ هَذِهِ السِّلْعَةِ، فَبِعْنِي كَمَا تَبِيعُ
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 470.
(2) البحر الرائق 7 / 169.
(3) التاج والإكليل 4 / 468.
(4) التاج والإكليل 4 / 468.

(31/141)


النَّاسَ فَقَال الْبَائِعُ: هِيَ فِي الْعُرْفِ بِعَشْرَةٍ فَإِذَا هِيَ بِأَقَل: أَوْ يَقُول الْبَائِعُ: أَنَا لاَ أَعْلَمُ قِيمَتَهَا فَاشْتَرِ مِنِّي كَمَا تَشْتَرِي مِنَ النَّاسِ فَقَال: هِيَ فِي عُرْفِهِمْ بِعَشْرَةٍ، فَإِذَا هِيَ بِأَكْثَرَ، فَلِلْمَغْبُونِ الرَّدُّ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، بَل بِاتِّفَاقٍ (1) .

الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ - مِنْهُمْ ابْنُ الْقَصَّارِ - وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلْمَغْبُونِ حَقَّ الْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ وَإِنْ لَمْ يُصَاحِبِ الْغَبْنَ تَغْرِيرٌ (2) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ الْحَمَوِيِّ: فَقَدْ تَحَرَّرَ أَنَّ الْمَذْهَبَ عَدَمُ الرَّدِّ بِهِ (بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ) وَلَكِنْ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَفْتَى بِالرَّدِّ مُطْلَقًا (3) .
وَقَال الْمَوَّاقُ نَقْلاً عَنْ الْمُتَيْطِيِّ: تَنَازَعَ الْبَغْدَادِيُّونَ فِي هَذَا، وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنْ زَادَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ عَلَى قِيمَةِ الثُّلُثِ فَأَكْثَرُ فُسِخَ الْبَيْعُ، وَكَذَلِكَ إِنْ بَاعَ بِنُقْصَانِ النَّاسِ مِنْ قِيمَتِهِ عَلَى مَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ، وَحَكَى ابْنُ الْقَصَّارِ أَنَّ
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 190.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 159، ورسالة تحبير التحرير لابن عابدين 2 / 70، وتبيين الحقائق 4 / 79، والبحر الرائق 6 / 126، ومواهب الجليل 4 / 468، والمغني 3 / 584.
(3) تحبير التحرير في إبطال القضاء بالفسخ بالغبن الفاحش بلا تغرير لابن عابدين ضمن رسائله 2 / 70.

(31/141)


مَذْهَبَ مَالِكٍ: لِلْمَغْبُونِ الرَّدُّ إِذَا كَانَ فَاحِشًا وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمَغْبُونُ جَاهِلاً بِالْقِيَمِ (1) .
وَالْحَنَابِلَةُ يَقُولُونَ بِإِعْطَاءِ الْعَاقِدِ الْمَغْبُونِ حَقَّ الْخِيَارِ فِي ثَلاَثِ صُوَرٍ (2) : إِحْدَاهَا: تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ تَلَقَّوُا الْجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ أَيْ صَاحِبُهُ السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ (3) (ر: بَيْع مَنْهِيّ عَنْهُ ف 129. 131) .
وَالثَّانِيَةُ: بَيْعُ النَّاجِشِ وَلَوْ بِلاَ مُوَاطَأَةٍ مِنَ الْبَائِعِ، وَمِنْهُ أُعْطِيتُ كَذَا وَهُوَ كَاذِبٌ وَالثَّالِثَةُ: الْمُسْتَرْسِل إِذَا اطْمَأَنَّ وَاسْتَأْنَسَ وَغَبَنَ، ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ وَلاَ أَرْشَ مَعَ إِمْسَاكٍ (4) .

الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: إِعْطَاءُ الْمَغْبُونِ حَقَّ الْخِيَارِ إِذَا صَاحَبَ الْغَبْنَ تَغْرِيرٌ بِهَذَا يَقُول بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَصَحَّحَهُ الزَّيْلَعِيُّ وَأَفْتَى بِهِ صَدْرُ الإِْسْلاَمِ وَغَيْرُهُ (5) . (ر: خِيَارُ الْغَبْنِ ف 12 وَمَا بَعْدَهَا)
__________
(1) التاج والإكليل 4 / 468.
(2) المغني 3 / 584، ومنتهى الإرادات 1 / 359، وكشاف القناع 3 / 211، والروض المربع 4 / 433.
(3) حديث:: " " لا تلقوا الجلب. . . " ". أخرجه مسلم (3 / 1157) من حديث أبي هريرة.
(4) الروض المربع شرح زاد المستنقنع 4 / 434 - 436.
(5) تبيين الحقائق 4 / 79، والبحر الرائق 6 / 126، والدر المختار 4 / 159، ورسالة تحبير التحرير لابن عابدين 2 / 70.

(31/142)


غَدْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْغَدْرُ لُغَةً: نَقْضُ الْعَهْدِ وَتَرْكُ الْوَفَاءِ بِهِ، وَغَدَرَ بِهِ غَدْرًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْغَوْل:
2 - مِنْ مَعَانِي الْغَوْل: إِهْلاَكُ الشَّيْءِ مِنْ حَيْثُ لاَ يُحِسُّ بِهِ، وَكُل مَا أَخَذَ الإِْنْسَانُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَدْرِي فَأَهْلَكَهُ فَهُوَ غَوْلٌ، وَالاِسْمُ: الْغِيلَةُ. (2)
وَالْغَدْرُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلْغَوْل.

ب - الْخُدْعَةُ:
3 - الْخَدِيعَةُ وَالْخُدْعَةُ: إِظْهَارُ الإِْنْسَانِ خِلاَفَ مَا يُخْفِيهِ، أَوْ هُوَ بِمَعْنَى الْخَتْل وَإِرَادَةِ
__________
(1) لسان العرب، غريب القرآن للأصفهاني، ودليل الفالحين شرح رياض الصالحين 3 / 159.
(2) لسان العرب، غريب القرآن للأصفهاني، ومغني المحتاج 4 / 239.

(31/142)


الْمَكْرُوهِ، وَمَا يُخْدَعُ بِهِ الإِْنْسَانُ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْخُدْعَةُ أَعَمُّ مِنَ الْغَدْرِ، إِذِ الْغَدْرُ حَرَامٌ، أَمَّا الْخُدْعَةُ فَتُبَاحُ أَحْيَانًا كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَرْبُ خُدْعَةٌ (2)

ج - الْخِيَانَةُ:
4 - مِنْ مَعَانِي الْخِيَانَةِ فِي اللُّغَةِ: نَقْصُ الْحَقِّ وَنَقْضُ الْعَهْدِ وَعَدَمُ أَدَاءِ الأَْمَانَةِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. (3)
وَالْخِيَانَةُ أَعَمُّ مِنَ الْغَدْرِ. (ر: الْخِيَانَة ف 1)

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى تَحْرِيمِ الْغَدْرِ لأَِنَّهُ مِنْ عَلاَمَاتِ النِّفَاقِ وَمِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَلاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْغَادِرُ مِنْ
__________
(1) لسان العرب.
(2) حديث: " الحرب خدعة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 158) ومسلم (3 / 1361) من حديث جابر بن عبد الله.
(3) المعجم الوسيط، وقواعد الفقه للبركتي.

(31/143)


أَصْحَابِ الْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ؛ لأَِنَّ ضَرَرَ غَدْرِهِ يَتَعَدَّى إِلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ. وَقِيل: لأَِنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَى الْغَدْرِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْوَفَاءِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى تَحْرِيمِ الْغَدْرِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} (1) ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ، إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ. وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ. (2)
وَالْغَدْرُ مُحَرَّمٌ بِشَتَّى صُوَرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَ فَرْدٍ أَمْ جَمَاعَةٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَعَ مُسْلِمٍ أَمْ ذِمِّيٍّ أَمْ مُعَاهِدٍ.
6 - وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَفَاءُ بِشُرُوطِ الْعَهْدِ مَعَ أَهْل الذِّمَّةِ وَالْمُعَاهِدِينَ، مَا لَمْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
__________
(1) سورة الإسراء / 34.
(2) حديث: " أربع من كن فيه كان منافقًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 89) ومسلم (1 / 78) من حديث عبد الله بن عمرو. وانظر: حاشية ابن عابدين 3 / 224، وجواهر الإكليل 1 / 257، ودليل الفالحين 4 / 435، 438، 3 / 156، والمغني لابن قدامة 8 / 465.

(31/143)


شُرُوطِهِمْ (1) وَلأَِنَّ أَبَا بَصِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَ الْكُفَّارُ فِي طَلَبِهِ - حَسَبَ الْعَهْدِ - قَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا بَصِيرٍ إِنَّ هَؤُلاَءِ الْقَوْمَ قَدْ صَالَحُونَا عَلَى مَا قَدْ عَلِمْتَ وَإِنَّا لاَ نَغْدِرُ، فَالْحَقْ بِقَوْمِكَ. . . فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا (2) ، وَلِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبَيْنَ الرُّومِ عَهْدٌ، وَكَانَ يَسِيرُ فِي بِلاَدِهِمْ، حَتَّى إِذَا انْقَضَى الْعَهْدُ أَغَارَ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رَجُلٌ عَلَى دَابَّةٍ أَوْ فَرَسٍ وَهُوَ يَقُول: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَفَاءٌ لاَ غَدْرٌ، فَإِذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَسَأَلَهُ مُعَاوِيَةُ عَنْ ذَلِكَ فَقَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ، فَلاَ يَحُلَّنَّ عَهْدًا وَلاَ يَشُدَّنَّهُ حَتَّى يَمْضِيَ أَمَدُهُ، أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى
__________
(1) حديث: " المسلمون على شروطهم ". أخرجه الترمذي (3 / 626) من حديث عمرو بن عوف المزني، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(2) حديث أبي بصير: " لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البيهقي (9 / 227) .

(31/144)


سَوَاءٍ قَال: فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ بِالنَّاسِ. (1) وَلأَِنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا غَدَرُوا وَعُلِمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَنْبِذُوا بِالْعَهْدِ عَلَى سَوَاءٍ لَمْ يَأْمَنْهُمْ أَحَدٌ عَلَى عَهْدٍ وَلاَ صُلْحٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مُنَفِّرًا عَنِ الدُّخُول فِي الدِّينِ، وَمُوجِبًا لِذَمِّ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. (2)
7 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا دَخَل كَافِرٌ حَرْبِيٌّ دَارَ الإِْسْلاَمِ بِأَمَانٍ فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَفَاءُ لَهُ وَالْكَفُّ عَنْهُ، حَتَّى تَنْتَهِيَ مُدَّةُ الأَْمَانِ وَيَبْلُغَ مَأْمَنَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ} ، (3) وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَل مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ. (4)
8 - كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى
__________
(1) حديث: " من كان بينه وبين قوم عهد. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 143) وقال: حديث حسن صحيح.
(2) البدائع 7 / 107، تفسير القرطبي 8 / 32، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 860، ومغني المحتاج 4 / 238، 262، والمغني لابن قدامة 8 / 463 - 465.
(3) سورة التوبة / 6.
(4) حديث: " ذمة المسلمين واحدة. . . ". أخرجه البخاري (13 / 275) ومسلم (2 / 999) من حديث أبي هريرة، واللفظ لمسلم.

(31/144)


مَنْ دَخَل مِنْ الْمُسْلِمِينَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ مِنْهُمْ أَنْ لاَ يَغْدِرَهُمْ وَلاَ يَخُونَهُمْ، لأَِنَّهُمْ إِنَّمَا أَعْطَوْهُ الأَْمَانَ مَشْرُوطًا بِتَرْكِهِ خِيَانَتَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي اللَّفْظِ فَهُوَ مَعْلُومٌ فِي الْمَعْنَى، فَإِنْ خَانَهُمْ أَوْ سَرَقَ مِنْهُمْ أَوِ اقْتَرَضَ مِنْهُمْ شَيْئًا وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ إِلَى أَرْبَابِهِ؛ لأَِنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهٍ حَرَامٍ، فَلَزِمَهُ رَدُّهُ كَمَا لَوْ أَخَذَ مَال مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَقَالُوا: لَوْ أَطْلَقَ الْكُفَّارُ الأَْسِيرَ الْمُسْلِمَ عَلَى أَنَّهُمْ فِي أَمَانِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ فِي أَمَانِهِمْ، حَرَامٌ عَلَيْهِ اغْتِيَالُهُمْ وَالتَّعَرُّضُ لأَِوْلاَدِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَفَاءً بِمَا الْتَزَمَهُ، وَكَذَا لَوِ اشْتَرَى مِنْهُمْ شَيْئًا لِيَبْعَثَ إِلَيْهِمْ ثَمَنَهُ، أَوِ الْتَزَمَ لَهُمْ قَبْل خُرُوجِهِ مَالاً فِدَاءً - وَهُوَ مُخْتَارٌ - فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ لِلأَْدِلَّةِ السَّابِقَةِ، وَلِيَعْتَمِدُوا الشَّرْطَ فِي إِطْلاَقِ أَسْرَانَا بَعْدَ ذَلِكَ.
إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ شَرَطُوا عَلَيْهِ: أَنْ لاَ يَخْرُجَ مِنْ دَارِهِمْ أَوْ لاَ يَهْرُبَ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ فَوَافَقَ عَلَى ذَلِكَ مُخْتَارًا، فَالْجُمْهُورُ يَرَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إِظْهَارُ دِينِهِ وَإِقَامَةُ شَعَائِرِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ وَالْهَرَبُ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ إِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسَهُمْ

(31/145)


قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَْرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} . (1) وَلأَِنَّ فِي ذَلِكَ تَرْكَ إِقَامَةِ الدِّينِ وَالْتِزَامَ مَا لاَ يَجُوزُ.
أَمَّا إِنْ أَمْكَنَهُ إِقَامَةُ شَعَائِرِ دِينِهِ وَإِظْهَارُهُ فِي دِيَارِ الْكُفْرِ فَلاَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لاَ يُوَفِّيَهُ. لِئَلاَّ يُكْثِرَ سَوَادَ الْكُفَّارِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمِثْل هَذَا الشَّرْطِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ الْهَرَبُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْغَدْرِ وَهُوَ حَرَامٌ. ذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ: أَنَّ الأَْسِيرَ إِذَا أَطْلَقَهُ الْعَدُوُّ عَلَى أَنْ يَأْتِيَهُ بِفِدَائِهِ - مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ - فَلَهُ بَعْثُ الْمَال دُونَ رُجُوعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِدَاءً فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ، أَمَّا لَوْ عُوهِدَ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ بِالْمَال فَعَجَزَ عَنْهُ فَلْيَجْتَهِدْ فِيهِ أَبَدًا وَلاَ يَرْجِعْ.
وَأَمَّا إِذَا وَافَقَ عَلَى مِثْل هَذَا الشَّرْطِ مُكْرَهًا فَلاَ يَجِبُ الْوَفَاءُ، سَوَاءٌ حَلَفَ أَوْ لَمْ يَحْلِفْ، حَتَّى لَوْ حَلَفَ بِالطَّلاَقِ لَمْ يَحْنَثْ بِتَرْكِهِ لِعَدَمِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ
__________
(1) سورة النساء / 97.

(31/145)


الْفُقَهَاءِ. (1)
وَلِلتَّفْصِيل اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ: (أَسْرَى ف 82)

الْجِهَادُ مَعَ الإِْمَامِ الْغَادِرِ:
9 - اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْجِهَادِ مَعَ الْوَالِي أَوِ الإِْمَامِ الْغَادِرِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا اتَّفَقُوا فِي فَرْضِ الْجِهَادِ مَعَ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا أَوْ جَائِرًا.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يُقَاتِل مَعَهُ؛ لأَِنَّ الْقِتَال مَعَهُ إِعَانَةٌ لَهُ عَلَى غَدْرِهِ.
وَقِيل: إِنَّهُ يُقَاتِل مَعَهُ لأَِنَّ تَرْكَ الْجِهَادِ مَعَهُ خِذْلاَنٌ لِلإِْسْلاَمِ، وَنُصْرَةُ الدِّينِ وَاجِبَةٌ، وَلِحَدِيثِ: الْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ أَنْ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ إِلَى آخِرِ عِصَابَةٍ تُقَاتِل الدَّجَّال، لاَ يَنْقُضُهُ جَوْرُ مَنْ جَارَ وَلاَ غَدْرُ مَنْ غَدَرَ (2) وَلِقَوْل الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حِينَ أَدْرَكُوا مَا حَدَثَ مِنَ الظُّلْمِ: اُغْزُ مَعَهُمْ عَلَى حَظِّكَ مِنَ الآْخِرَةِ، وَلاَ تَفْعَل مَا يَفْعَلُونَ مِنْ فَسَادٍ وَخِيَانَةٍ وَغُلُولٍ (3)
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 239، وجواهر الإكليل 1 / 254، والفواكه الدواني 1 / 467، والمغني 8 / 397، 457.
(2) حديث: " الجهاد ماض منذ أن بعث الله نبيه. . . ". أورده النفراوي المالكي في الفواكه الدواني (1 / 466) ، ولم نهتد إليه في المصادر الحديثية الموجودة لدينا.
(3) تفسير القرطبي 8 / 33، والفواكه الدواني 1 / 466، وجواهر الإكليل 1 / 251

(31/146)


غُدَّةٌ
.
اُنْظُرْ: أَطْعِمَة.

غَدِيرٌ
.
اُنْظُرْ: مِيَاه.

غُرَابٌ
.
اُنْظُرْ: أَطْعِمَةٌ.

غِرَاسٌ
.
اُنْظُرْ: غَرْسٌ.

(31/146)


غَرَامَاتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْغَرَامَاتُ جَمْعُ غَرَامَةٍ وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: مَا يَلْزَمُ أَدَاؤُهُ، وَكَذَلِكَ الْمَغْرَمُ وَالْغُرْمُ، وَالْغَرِيمُ الْمَدِينُ وَصَاحِبُ الدَّيْنِ أَيْضًا، (1) وَفِي الْحَدِيثِ فِي التَّمْرِ الْمُعَلَّقِ: فَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ. (2) وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الضَّمَانُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الضَّمَانِ فِي اللُّغَةِ الاِلْتِزَامُ وَالْغَرَامَةُ. (3) وَفِي الاِصْطِلاَحِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ:
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط.
(2) حديث: " فمن خرج بشيء منه فعليه. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 551) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مطولاً، وأخرج الترمذي (3 / 575) شطرًا منه وقال: حديث حسن.
(3) لسان العرب والقاموس المحيط.

(31/147)


الْتِزَامُ دَيْنٍ أَوْ إِحْضَارُ عَيْنٍ أَوْ بَدَنٍ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْغَرَامَةِ وَالضَّمَانِ أَنَّ الضَّمَانَ أَعَمُّ مِنَ الْغَرَامَةِ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْغَرَامَاتِ:
مُوجِبُ الْغَرَامَاتِ:
3 - مُوجِبُ الْغَرَامَةِ فِي الأَْصْل: التَّعَدِّي - وَهُوَ الظُّلْمُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ فِي الأَْفْعَال وَالتَّصَرُّفَاتِ - وَيَقَعُ عَلَى الأَْمْوَال وَالْفُرُوجِ وَالأَْنْفُسِ أَوِ الأَْبْدَانِ.
4 - وَأَسْبَابُهَا فِي الأَْمْوَال: عَقْدٌ وَيَدٌ وَإِتْلاَفٌ وَحَيْلُولَةٌ: فَالْعَقْدُ كَالْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنْ تَلِفَ الْمَبِيعُ قَبْل الْقَبْضِ بِفِعْل الْبَائِعِ أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَلاَ غَرَامَةَ عَلَى أَحَدٍ وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، وَإِنْ تَلِفَ الْمَبِيعُ بِفِعْل الْمُشْتَرِي، فَهُوَ قَبْضٌ لِلْمَبِيعِ، وَإِنْ تَلِفَ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ غَرَّمَ الأَْجْنَبِيَّ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْعَقْدَ وَرَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، وَيَغْرَمُ الأَْجْنَبِيُّ قِيمَةَ الْمُتْلَفِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا، وَمِثْلَهُ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَيْ: (بَيْع ف 56، 59، وَضَمَان ف 31، 33)
5 - أَمَّا الْيَدُ كَمَا قَال الزَّرْكَشِيُّ فَهِيَ
__________
(1) حاشية القليوبي 2 / 323.

(31/147)


ضَرْبَانِ: مُؤْتَمَنَةٌ، وَغَيْرُ مُؤْتَمَنَةٍ.
فَالْيَدُ غَيْرُ الْمُؤْتَمَنَةِ كَيَدِ الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ وَالْمُنْتَهِبِ وَالْمُسْتَعِيرِ وَالآْخِذِ لِلسَّوْمِ وَالْمُشْتَرِي فَاسِدًا، فَعَلَيْهِمْ رَدُّ الْمَال إِلَى مَالِكِهِ إِنْ كَانَتْ عَيْنُ الْمَال قَائِمَةً، وَإِنْ هَلَكَ فَقِيمَتُهَا إِنْ كَانَتْ قِيَمِيَّةً، وَغَرَامَةُ مِثْلِهَا إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، وَكَذَا الإِْتْلاَفُ لِلْمَال، كَأَنْ يَقْتُل حَيَوَانًا أَوْ يَحْرِقَ ثَوْبًا أَوْ يَقْطَعَ أَشْجَارًا أَوْ يَسْتَهْلِكَ طَعَامًا وَشِبْهُ ذَلِكَ فَمَنْ فَعَل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مَا أَفْسَدَهُ أَوْ أَتْلَفَهُ أَوِ اسْتَهْلَكَهُ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْل عَمْدًا أَوْ خَطَأً، كَمَا لاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَعَدِّي مُكَلَّفًا أَمْ غَيْرَ مُكَلَّفٍ كَصَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ، فَيَحْكُمُ عَلَى غَيْرِ الْمُكَلَّفِ فِي التَّعَدِّي عَلَى الأَْمْوَال حُكْمَ الْمُكَلَّفِ، فَيَغْرَمُ مِنْ مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلاَّ أُتْبِعَ بِهِ. وَيَجْرِي مَجْرَى الْمُبَاشَرَةِ التَّسَبُّبُ، كَأَنْ فَتَحَ حَانُوتًا وَتَرَكَهُ مَفْتُوحًا فَسُرِقَ، أَوْ قَفَصَ طَائِرٍ فَطَارَ، أَوْ حَل دَابَّةً مَرْبُوطَةً فَنَدَّتْ، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا تَعَدِّيًا فَتَرَدَّى فِيهَا إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، أَوْ قَطَعَ وَثِيقَةً وَضَاعَ مَا فِيهَا مِنْ حُقُوقٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
أَمَّا يَدُ الأَْمَانَةِ فَكَيَدِ الْوَدِيعِ وَالشَّرِيكِ وَالْمُضَارِبِ وَالْوَكِيل، وَلاَ غَرَامَةَ فِيمَا تَلِفَ بِتِلْكَ الْيَدِ إِلاَّ إِنْ كَانَ مِنْهَا تَعَدٍّ أَوْ

(31/148)


تَقْصِيرٌ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (ضَمَان ف 66) .

6 - أَمَّا التَّعَدِّي فِي الْفُرُوجِ فَمَنِ اغْتَصَبَ امْرَأَةً وَزَنَى بِهَا فَعَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَا. وَغَرَامَةُ صَدَاقٍ مِنْهَا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (مَهْر)

7 - وَالْغَرَامَةُ بِسَبَبِ الْحَيْلُولَةِ، كَأَنْ غَصَبَ ثَوْبًا أَوْ بَهِيمَةً فَضَاعَ، أَوْ نَقَلَهُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ فَيَغْرَمُ الْغَاصِبُ الْقِيمَةَ لِلْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ وَمِلْكِهِ. (2)
أَمَّا التَّعَدِّي عَلَى الأَْنْفُسِ أَوِ الأَْبْدَانِ. فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوجِبُهُ الْقِصَاصَ أَوِ الدِّيَةَ أَوِ الأَْرْشَ أَوِ الْحُكُومَةَ أَوِ الْغُرَّةَ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاص، وَدِيَة ف 7، وَأَرْش ف 4. وَحُكُومَةُ عَدْلٍ ف 4) .
__________
(1) القواعد الفقهية ص325، والمنثور في القواعد 2 / 322.
(2) المنثور في القواعد 2 / 325.

(31/148)


غَرَر
التَّعْرِيفُ:
1 - الْغَرَرُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ مَصْدَرٍ مِنَ التَّغْرِيرِ، وَهُوَ الْخَطَرُ، وَالْخُدْعَةُ، وَتَعْرِيضُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ أَوْ مَالَهُ لِلْهَلَكَةِ، يُقَال: غَرَّهُ غَرًّا وَغُرُورًا وَغُرَّةً فَهُوَ مَغْرُورٌ وَغَرِيرٌ: خَدَعَهُ وَأَطْمَعَهُ بِالْبَاطِل، وَغَرَّتْهُ الدُّنْيَا غُرُورًا: خَدَعَتْهُ بِزِينَتِهَا، وَغَرَّرَ بِنَفْسِهِ تَغْرِيرًا وَتَغِرَّةً: عَرَّضَهَا لِلْهَلَكَةِ.
وَالتَّغْرِيرُ: حَمْل النَّفْسِ عَلَى الْغَرَرِ. (1)
وَعَرَّفَهُ الْجُرْجَانِيُّ: بِأَنَّهُ مَا يَكُونُ مَجْهُول الْعَاقِبَةِ لاَ يُدْرَى أَيَكُونُ أَمْ لاَ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجَهَالَةُ:
2 - الْجَهَالَةُ لُغَةً: أَنْ تَفْعَل فِعْلاً بِغَيْرِ عِلْمٍ. (3)
__________
(1) لسان العرب والقاموس المحيط والمصباح المنير ومتن اللغة.
(2) التعريفات.
(3) لسان العرب والمصباح المنير.

(31/149)


وَاصْطِلاَحًا: هِيَ الْجَهْل الْمُتَعَلِّقُ بِخَارِجٍ عَنِ الإِْنْسَانِ كَمَبِيعٍ وَمُشْتَرًى وَإِجَارَةٍ وَإِعَارَةٍ وَغَيْرِهَا.
(ر: جَهَالَة ف 1 - 3)
وَفَرَّقَ الْقَرَافِيُّ بَيْنَ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ فَقَال: أَصْل الْغَرَرِ هُوَ الَّذِي لاَ يُدْرَى هَل يَحْصُل أَمْ لاَ؟ كَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ، وَأَمَّا مَا عُلِمَ حُصُولُهُ وَجُهِلَتْ صِفَتُهُ فَهُوَ الْجَهُول، كَبَيْعِهِ مَا فِي كُمِّهِ، فَهُوَ يَحْصُل قَطْعًا، لَكِنْ لاَ يُدْرَى أَيْ شَيْءٍ هُوَ؟ فَالْغَرَرُ وَالْمَجْهُول كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعَمُّ مِنَ الآْخَرِ مِنْ وَجْهٍ وَأَخَصُّ مِنْ وَجْهٍ فَيُوجَدُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ الآْخَرِ وَبِدُونِهِ
أَمَّا وُجُودُ الْغَرَرِ بِدُونِ الْجَهَالَةِ: فَكَشِرَاءِ الْعَبْدِ الآْبِقِ الْمَعْلُومِ قَبْل الإِْبَاقِ لاَ جَهَالَةَ فِيهِ، وَهُوَ غَرَرٌ، لأَِنَّهُ لاَ يُدْرَى هَل يَحْصُل أَمْ لاَ؟
وَالْجَهَالَةُ بِدُونِ الْغَرَرِ: كَشِرَاءِ حَجَرٍ يَرَاهُ لاَ يَدْرِي أَزُجَاجٌ هُوَ أَمْ يَاقُوتٌ، مُشَاهَدَتُهُ تَقْتَضِي الْقَطْعَ بِحُصُولِهِ فَلاَ غَرَرَ، وَعَدَمُ مَعْرِفَتِهِ يَقْتَضِي الْجَهَالَةَ بِهِ.
وَأَمَّا اجْتِمَاعُ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ فَكَالْعَبْدِ الآْبِقِ، الْمَجْهُول الصِّفَةِ قَبْل الإِْبَاقِ (1) :
__________
(1) الفروق للقرافي 3 / 265.

(31/149)


ب - الْغَبْنُ:
3 - الْغَبْنُ فِي اللُّغَةِ: النُّقْصَانُ، يُقَال: غَبَنَهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ غَبْنًا أَيْ: نَقَصَهُ، وَغَبَنَ رَأْيَهُ غَبْنًا: قَلَّتْ فِطْنَتُهُ وَذَكَاؤُهُ. قَال الْفِيْرُوزَآبَادِيُّ.: غَبَنَهُ فِي الْبَيْعِ يَغْبِنُهُ غَبْنًا - وَيُحَرَّكُ - أَوْ بِالتَّسْكِينِ فِي الْبَيْعِ وَبِالتَّحْرِيكِ فِي الرَّأْيِ: خَدَعَهُ (1) .
وَيُقَسِّمُ الْفُقَهَاءُ الْغَبْنَ إِلَى فَاحِشٍ وَيَسِيرٍ، وَالْحَدُّ الْفَاصِل بَيْنَهُمَا - كَمَا يَقُول صَاحِبُ الْكُلِّيَّاتِ - هُوَ الدُّخُول تَحْتَ التَّقْوِيمِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ بَعْضِ الْمُقَوِّمِينَ، (2) فَالْفَاحِشُ مَا لاَ يَدْخُل تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، وَالْيَسِيرُ مَا يَدْخُل تَحْتَ تَقْوِيمِ بَعْضِ الْمُقَوِّمِينَ. (3)

ج - التَّدْلِيسُ:
4 - التَّدْلِيسُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: كَتْمُ عَيْبِ السِّلْعَةِ، قَال الأَْزْهَرِيُّ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُول: لَيْسَ لِي فِي الأَْمْرِ وَلْسٌ وَلاَ دَلْسٌ أَيْ: لاَ خِيَانَةٌ وَلاَ خَدِيعَةٌ. (4)
__________
(1) المصباح المنير، والقاموس المحيط مادة: (غبن) .
(2) الكليات 3 / 310، ودستور العلماء 3 / 3.
(3) البحر الرائق 7 / 169.
(4) المصباح المنير والمغرب مادة (دلس) والكليات 2 / 106.

(31/150)


وَالْغَرَرُ أَعَمُّ مِنَ التَّدْلِيسِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ
5 - الْغَرَرُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ خَدِيعَةً أَوْ تَدْلِيسًا حَرَامٌ وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَمِنْهُ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ. (1)
قَال النَّوَوِيُّ: النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُول كِتَابِ الْبُيُوعِ، يَدْخُل فِيهِ مَسَائِل كَثِيرَةٌ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ، وَقَال: وَبَيْعُ مَا فِيهِ غَرَرٌ ظَاهِرٌ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ وَلاَ تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ بَاطِلٌ. (2)

أَقْسَامُ الْغَرَرِ:
6 - يَنْقَسِمُ الْغَرَرُ مِنْ حَيْثُ تَأْثِيرُهُ عَلَى الْعَقْدِ إِلَى: غَرَرٍ مُؤَثِّرٍ فِي الْعُقْدَةِ وَغَرَرٍ غَيْرِ مُؤَثِّرٍ.
قَال ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْغَرَرَ يَنْقَسِمُ إِلَى مُؤَثِّرٍ فِي الْبُيُوعِ وَغَيْرِ مُؤَثِّرٍ. (3)
__________
(1) حديث أبي هريرة: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الحصاة. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1153) .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 11 / 156، والمجموع 9 / 258.
(3) بداية المجتهد 2 / 171، والمجموع 9 / 258.

(31/150)


شُرُوطُ الْغَرَرِ الْمُؤَثِّرِ:
يُشْتَرَطُ فِي الْغَرَرِ حَتَّى يَكُونَ مُؤَثِّرًا الشُّرُوطَ الآْتِيَةَ:

أ - أَنْ يَكُونَ الْغَرَرُ كَثِيرًا:
7 - يُشْتَرَطُ فِي الْغَرَرِ حَتَّى يَكُونَ مُؤَثِّرًا أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا، أَمَّا إِذَا كَانَ الْغَرَرُ يَسِيرًا فَإِنَّهُ لاَ تَأْثِيرَ لَهُ عَلَى الْعَقْدِ.
قَال الْقَرَافِيُّ: الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ - أَيْ فِي الْبَيْعِ - ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ: كَثِيرٌ مُمْتَنِعٌ إِجْمَاعًا، كَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَقَلِيلٌ جَائِزٌ إِجْمَاعًا، كَأَسَاسِ الدَّارِ وَقُطْنِ الْجُبَّةِ، وَمُتَوَسِّطٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ، هَل يُلْحَقُ بِالأَْوَّل أَمْ بِالثَّانِي؟ (1) وَقَال ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْغَرَرَ الْكَثِيرَ فِي الْمَبِيعَاتِ لاَ يَجُوزُ وَأَنَّ الْقَلِيل يَجُوزُ. (2)
وَقَال النَّوَوِيُّ: نَقَل الْعُلَمَاءُ الإِْجْمَاعَ فِي أَشْيَاءَ غَرَرُهَا حَقِيرٌ، مِنْهَا: أَنَّ الأُْمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ الْجُبَّةِ الْمَحْشُوَّةِ وَإِنْ لَمْ يُرَ حَشْوُهَا. وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ إِجَارَةِ الدَّارِ وَغَيْرِهَا شَهْرًا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ ثَلاَثِينَ يَوْمًا وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ،
__________
(1) الفروق للقرافي 3 / 265، 266 ط دار المعرفة، بيروت.
(2) بداية المجتهد 2 / 168.

(31/151)


وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ دُخُول الْحَمَّامِ بِأُجْرَةٍ، وَعَلَى جَوَازِ الشُّرْبِ مِنْ مَاءِ السِّقَاءِ بِعِوَضٍ مَعَ اخْتِلاَفِ أَحْوَال النَّاسِ فِي اسْتِعْمَال الْمَاءِ أَوْ مُكْثِهِمْ فِي الْحَمَّامِ، قَال: قَال الْعُلَمَاءُ: مَدَارُ الْبُطْلاَنِ بِسَبَبِ الْغَرَرِ وَالصِّحَّةِ مَعَ وُجُودِهِ هُوَ أَنَّهُ إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى ارْتِكَابِ الْغَرَرِ، وَلاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ إِلاَّ بِمَشَقَّةٍ، أَوْ كَانَ الْغَرَرُ حَقِيرًا جَازَ الْبَيْعُ، وَإِلاَّ فَلاَ. (1)
وَقَدْ وَضَعَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ ضَابِطًا لِلْغَرَرِ الْكَثِيرِ فَقَال: الْغَرَرُ الْكَثِيرُ هُوَ مَا غَلَبَ عَلَى الْعَقْدِ حَتَّى أَصْبَحَ الْعَقْدُ يُوصَفُ بِهِ (2)
ب - أَنْ يَكُونَ الْغَرَرُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَصَالَةً:
8 - يُشْتَرَطُ فِي الْغَرَرِ حَتَّى يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَصَالَةً. أَمَّا إِذَا كَانَ الْغَرَرُ فِيمَا يَكُونُ تَابِعًا لِلْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ فَإِنَّهُ. لاَ يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ. وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُقَرَّرَةِ: أَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي التَّوَابِعِ مَا لاَ يُغْتَفَرُ فِي
__________
(1) المجموع للنووي 9 / 258 ط المكتبة السلفية، المدينة المنورة.
(2) المنتقى 5 / 41 ط السعادة 1332هـ.

(31/151)


غَيْرِهَا (1) وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
1 - أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهَا مُفْرَدَةً، لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، (2) وَلَكِنْ لَوْ بِيعَتْ مَعَ أَصْلِهَا جَازَ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ ابْتَاعَ نَخْلاً بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ، فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ (3) وَقَدْ نَقَل ابْنُ قُدَامَةَ الإِْجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ هَذَا الْبَيْعِ، وَقَال: وَلأَِنَّهُ إِذَا بَاعَهَا مَعَ الأَْصْل حَصَلَتْ تَبَعًا فِي الْبَيْعِ، فَلَمْ يَضُرَّ احْتِمَال الْغَرَرِ فِيهَا. (4)
2 - لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْحَمْل فِي الْبَطْنِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْمَجْرِ " (5)
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص121 ط دار الهلال، الأشباه والنظائر للسيوطي 120 ط دار الكتب العلمية 1983م.
(2) حديث: " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 394) ومسلم (3 / 1165) من حديث ابن عمر.
(3) حديث: " من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 49) ومسلم (3 / 1172) من حديث ابن عمر، واللفظ للبخاري.
(4) المغني لابن قدامة 4 / 92، 93.
(5) حديث ابن عمر: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المجر ". أخرجه البيهقي (5 / 341) ثم أعله بضعف أحد رواته. والمجر: ما في بطون الحوامل من الإبل والغنم، وأن يشتري ما في بطونها، وأن يشتري البعير بما في بطن الناقة.

(31/152)


وَنَقَل ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالنَّوَوِيُّ إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى بُطْلاَنِ بَيْعِ الْجَنِينِ؛ لأَِنَّهُ غَرَرٌ، لَكِنْ لَوْ بَاعَ حَامِلاً بَيْعًا مُطْلَقًا صَحَّ الْبَيْعُ، وَدَخَل الْحَمْل فِي الْبَيْعِ بِالإِْجْمَاعِ (1) .
3 - لاَ يَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: " لاَ تَشْتَرُوا اللَّبَنَ فِي ضُرُوعِهَا، وَلاَ الصُّوفَ عَلَى ظُهُورِهَا " (2) وَلأَِنَّهُ مَجْهُول الْقَدْرِ، لأَِنَّهُ قَدْ يُرَى امْتِلاَءُ الضَّرْعِ مِنَ السِّمَنِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ مِنَ اللَّبَنِ، وَلأَِنَّهُ مَجْهُول الصِّفَةِ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ اللَّبَنُ صَافِيًا وَقَدْ يَكُونُ كَدِرًا، وَذَلِكَ غَرَرٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَلَمْ يَجُزْ، لَكِنْ لَوْ بِيعَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ مَعَ الْحَيَوَانِ جَازَ.
قَال النَّوَوِيُّ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ حَيَوَانٍ فِي ضَرْعِهِ لَبَنٌ، وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ مَجْهُولاً؛ لأَِنَّهُ تَابِعٌ لِلْحَيَوَانِ، (3) وَدَلِيلُهُ مِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ. (4)
وَنَقَل صَاحِبُ تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ عَنْ مَالِكٍ
__________
(1) المجموع 9 / 322 وما بعدها.
(2) أثر ابن عباس: " ولا تشتروا اللبن في. . . ". أخرجه الدارقطني (3 / 15) والبيهقي (5 / 340) وصحح إسناده النووي في المجموع (9 / 326) .
(3) المجموع 9 / 326.
(4) حديث المصراة. أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 368) ومسلم (3 / 1158) من حديث أبي هريرة.

(31/152)


أَنَّهُ أَجَازَ بَيْعَ لَبَنِ الْغَنَمِ أَيَّامًا مَعْدُودَةً إِذَا كَانَ مَا يُحْلَبُ فِيهَا مَعْرُوفًا فِي الْعَادَةِ، وَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي الشَّاةِ الْوَاحِدَةِ، وَجَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِبَيْعِ لَبَنِ الْغَنَمِ إِذَا كَانَتْ كَثِيرَةً، وَضَرَبَ لِذَلِكَ أَجَلاً شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي إِبَّانِ لَبَنِهَا وَعُلِمَ أَنَّ لَبَنَهَا لاَ يُقْطَعُ إِلَى ذَلِكَ الأَْجَل، إِذَا كَانَ قَدْ عُرِفَ وَجْهُ حِلاَبِهَا. (1)

ج - أَلاَّ تَدْعُوَ لِلْعَقْدِ حَاجَةٌ:
9 - يُشْتَرَطُ فِي الْغَرَرِ حَتَّى يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِي الْعَقْدِ: أَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ حَاجَةٌ فِي ذَلِكَ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ لِلنَّاسِ حَاجَةٌ لَمْ يُؤَثِّرِ الْغَرَرُ فِي الْعَقْدِ، وَكَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا.
قَال الْكَاسَانِيُّ عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ: إِنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ لِلْحَال فَكَانَ شَرْطًا مُغَيِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فِي الأَْصْل، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَإِنَّمَا جَازَ بِالنَّصِّ وَهُوَ مَا وَرَدَ أَنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُغْبَنُ فِي التِّجَارَاتِ، فَشَكَا أَهْلُهُ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال لَهُ: {
__________
(1) تهذيب الفروق 3 / 274، والمدونة 4 / 297.

(31/153)


إِذَا بَايَعْتَ فَقُل: لاَ خِلاَبَةَ وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ أَنْتَ فِي كُل سِلْعَةٍ تَبْتَاعُهَا بِالْخِيَارِ ثَلاَثَ لَيَالٍ (1) وَلِلْحَاجَةِ إِلَى دَفْعِ الْغَبْنِ بِالتَّأَمُّل وَالنَّظَرِ. (2)
وَقَال الْكَمَال عَنْ عَقْدِ السَّلَمِ: وَلاَ يَخْفَى أَنَّ جَوَازَهُ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ. إِذْ هُوَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ بِالنَّصِّ وَالإِْجْمَاعِ لِلْحَاجَةِ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَحْتَاجُ إِلَى الاِسْتِرْبَاحِ لِنَفَقَةِ عِيَالِهِ، وَهُوَ بِالسَّلَمِ أَسْهَل، إِذْ لاَ بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْبَيْعِ نَازِلاً عَنِ الْقِيمَةِ فَيُرْبِحُهُ الْمُشْتَرِي، وَالْبَائِعُ قَدْ يَكُونُ لَهُ حَاجَةٌ فِي الْحَال إِلَى السَّلَمِ، وَقُدْرَةٌ فِي الْمَال عَلَى الْبَيْعِ بِسُهُولَةٍ، فَتَنْدَفِعُ بِهِ حَاجَتُهُ الْحَالِيَّةُ إِلَى قُدْرَتِهِ الْمَآلِيَّةِ، فَلِهَذِهِ الْمَصَالِحِ شُرِعَ (3) .
وَقَال الْبَاجِيُّ: إِنَّمَا جُوِّزَ الْجُعْل فِي الْعَمَل الْمَجْهُول وَالْغَرَرُ لِلضَّرُورَةِ. (4)
وَقَال النَّوَوِيُّ: الأَْصْل أَنَّ بَيْعَ الْغَرَرِ بَاطِلٌ. لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
__________
(1) حديث حبان بن منقذ أنه كان يغبن في التجارات. أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 337) والبيهقي (5 / 273) والزيادة له.
(2) بدائع الصنائع 5 / 174.
(3) فتح القدير 5 / 324 ط الأميرية 1316هـ.
(4) المنتقى للباجي 5 / 110، 112 ط السعادة 1332هـ.

(31/153)


أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ (1) . وَالْمُرَادُ مَا كَانَ فِيهِ غَرَرٌ ظَاهِرٌ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ، فَأَمَّا مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ. وَلاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ كَأَسَاسِ الدَّارِ، وَشِرَاءِ الْحَامِل مَعَ احْتِمَال أَنَّ الْحَمْل وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ، وَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى، وَكَامِل الأَْعْضَاءِ أَوْ نَاقِصُهَا، وَكَشِرَاءِ الشَّاةِ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا يَصِحُّ بَيْعُهُ بِالإِْجْمَاعِ (2) .
وَبَعْدَ أَنْ قَرَّرَ ابْنُ قُدَامَةَ عَدَمَ جَوَازِ بَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ قَال: وَأَمَّا لَبَنُ الظِّئْرِ فَإِنَّمَا جَازَ لِلْحَضَانَةِ؛ لأَِنَّهُ مَوْضِعُ الْحَاجَةِ. (3)

د - أَنْ يَكُونَ الْغَرَرُ فِي عَقْدٍ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ:
10 - وَقَدِ اشْتَرَطَ هَذَا الشَّرْطَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَطْ، حَيْثُ يَرَوْنَ أَنَّ الْغَرَرَ الْمُؤَثِّرَ هُوَ مَا كَانَ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَأَمَّا عُقُودُ التَّبَرُّعَاتِ فَلاَ يُؤَثِّرُ فِيهَا الْغَرَرُ.
قَال الْقَرَافِيُّ: فَصَل مَالِكٌ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُجْتَنَبُ فِيهِ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ، وَهُوَ بَابُ الْمُمَاكَسَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِتَنْمِيَةِ
__________
(1) حديث أبي هريرة: تقدم تخريجه ف / 5.
(2) المجموع للنووي 9 / 258.
(3) المغني لابن قدامة 4 / 231.

(31/154)


الأَْمْوَال وَمَا يُقْصَدُ بِهِ تَحْصِيلُهَا، وَقَاعِدَةِ مَا لاَ يُجْتَنَبُ فِيهِ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ، وَهُوَ مَا لاَ يُقْصَدُ لِذَلِكَ. (1)
وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْغَرَرَ يُؤَثِّرُ فِي التَّبَرُّعَاتِ كَمَا يُؤَثِّرُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، لَكِنَّهُمْ يَسْتَثْنُونَ الْوَصِيَّةَ مِنْ ذَلِكَ وَسَيَأْتِي تَفْصِيل الْقَوْل فِي ذَلِكَ

الْغَرَرُ فِي الْعُقُودِ:
أَوَّلاً - الْغَرَرُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ:
أ - الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ:
الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي صِيغَةِ الْعَقْدِ، أَوْ يَكُونَ فِي مَحَل الْعَقْدِ.

1 - الْغَرَرُ فِي صِيغَةِ الْعَقْدِ:
11 - قَدْ يَنْعَقِدُ عَقْدُ الْبَيْعِ عَلَى صِفَةٍ تَجْعَل فِيهِ غَرَرًا، بِمَعْنَى أَنَّ الْغَرَرَ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ - الإِْيجَابِ وَالْقَبُول - لاَ بِمَحَلِّهِ - الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ -
وَيَدْخُل فِي الْغَرَرِ فِي صِيغَةِ الْعَقْدِ عِدَّةُ بُيُوعٍ نَهَى الشَّارِعُ عَنْهَا صَرَاحَةً، مِنْهَا
__________
(1) الفروق للقرافي 1 / 151.

(31/154)


الْبَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَة ف 1 وَمَا بَعْدَهَا)
وَمِنْهَا بَيْعُ الْحَصَاةِ، كَأَنْ يَقُول الْبَائِعُ: إِذَا رَمَيْتَ هَذِهِ الْحَصَاةَ فَهَذَا الثَّوْبُ مَبِيعٌ مِنْكَ بِكَذَا، وَذَلِكَ بِالتَّفْسِيرِ الَّذِي يَجْعَل الرَّمْيَ صِيغَةَ الْبَيْعِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ. (2)
(ر: بَيْعُ الْحَصَاةِ ف 4) .
وَمِنْهَا بَيْعُ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ. (3)
(ر: بَيْعُ الْمُلاَمَسَةِ ف 3 و 4، وَبَيْعُ الْمُنَابَذَةِ ف 2) .
وَيَدْخُل أَيْضًا فِي الْغَرَرِ فِي صِيغَةِ الْعَقْدِ
__________
(1) حديث أبي هريرة " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 524) وقال: " حديث حسن صحيح ".
(2) حديث أبي هريرة تقدم تخريجه ف / 5.
(3) حديث أبي هريرة: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الملامسة والمنابذة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 359) ومسلم (3 / 1151) .

(31/155)


تَعْلِيقُ الْبَيْعِ وَإِضَافَتُهُ لِلزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَل (1) . قَال الشِّيرَازِيُّ: وَلاَ يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْبَيْعِ عَلَى شَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ، كَمَجِيءِ الشَّهْرِ وَقُدُومِ الْحَاجِّ؛ لأَِنَّهُ بَيْعُ غَرَرٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. فَلَمْ يَجُزْ. (2)
2 - الْغَرَرُ فِي مَحَل الْعَقْدِ:
12 - مَحَل الْعَقْدِ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ يَشْمَل الْمَبِيعَ وَالثَّمَنَ.
وَالْغَرَرُ فِي مَحَل الْعَقْدِ يَرْجِعُ إِلَى الْجَهَالَةِ بِهِ، لِذَا شَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْبَيْعِ الْعِلْمَ بِالْمَحَل. (3)
وَالْغَرَرُ فِي الْمَبِيعِ يَرْجِعُ إِلَى أَحَدِ الأُْمُورِ التَّالِيَةِ: الْجَهْل بِذَاتِ الْبَيْعِ أَوْ جِنْسِهِ أَوْ نَوْعِهِ أَوْ صِفَتِهِ أَوْ مِقْدَارِهِ أَوْ أَجَلِهِ، أَوْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِهِ، أَوِ التَّعَاقُدِ عَلَى الْمَحَل الْمَعْدُومِ، أَوْ عَدَمِ رُؤْيَتِهِ.
13 - فَمِثَال الْجَهْل بِذَاتِ الْمَبِيعِ: بَيْعُ شَاةٍ مِنْ قَطِيعٍ، أَوْ ثَوْبٍ مِنْ ثِيَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَالْمَبِيعُ هُنَا - وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ - إِلاَّ أَنَّهُ مَجْهُول الذَّاتِ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص367، الفتاوى الهندية 4 / 396، الفروق للقرافي 1 / 229، المجموع 9 / 340، كشاف القناع 3 / 194، 195.
(2) المجموع للنووي 9 / 340.
(3) بدائع الصنائع 5 / 156 والقوانين الفقهية 272 ومغني المحتاج 2 / 16 وكشاف القناع 3 / 163.

(31/155)


حُصُول نِزَاعٍ فِي تَعْيِينِهِ. (1) وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْبَيْعَ إِنْ جَعَل لِلْمُشْتَرِي خِيَارَ التَّعْيِينِ، وَيُسَمَّى عِنْدَهُمْ بَيْعَ الاِخْتِيَارِ، وَكَذَا أَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ إِنْ جَعَل لِلْمُشْتَرِي خِيَارَ التَّعْيِينِ وَكَانَ اخْتِيَارُهُ مِنْ ثَلاَثَةٍ فَمَا دُونَ.
وَمِثَال الْجَهْل بِجِنْسِ الْمَحَل: بَيْعُ الْحَصَاةِ عَلَى بَعْضِ التَّفَاسِيرِ، وَبَيْعُ الْمَرْءِ مَا فِي كُمِّهِ " وَأَنْ يَقُول بِعْتُكَ سِلْعَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَمِّيَهَا. (2)
(ر: بَيْعُ الْحَصَاةِ ف 3) . وَمِثَال الْجَهْل بِنَوْعِ الْمَحَل: مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ مِنْ أَنَّهُ لَوْ قَال بِعْتُكَ كُرًّا - وَهُوَ كَيْلٌ - مِنْ حِنْطَةٍ " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُل الْكُرِّ فِي مِلْكِهِ بَطَل، وَلَوْ بَعْضُهُ فِي مِلْكِهِ بَطَل فِي الْمَعْدُومِ وَفَسَدَ فِي الْمَوْجُودَةِ، وَلَوْ كُلُّهُ فِي مِلْكِهِ لَكِنْ فِي مَوْضِعَيْنِ، أَوْ مِنْ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لاَ يَجُوزُ، وَلَوْ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ جَازَ وَإِنْ لَمْ يُضِفِ الْبَيْعَ إِلَى تِلْكَ الْحِنْطَةِ. (3)
وَقَال الْقَرَافِيُّ: الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ يَقَعَانِ فِي سَبْعَةِ أَشْيَاءَ، ثُمَّ قَال: رَابِعُهَا النَّوْعُ،
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 156، 157، حاشية الدسوقي 3 / 15، المجموع 9 / 288، كشاف القناع 3 / 163.
(2) الفروق للقرافي 3 / 265، القوانين الفقهية ص282، نهاية المحتاج 3 / 402، كشاف القناع 3 / 163.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 21.

(31/156)


كَعَبْدٍ لَمْ يُسَمِّهِ. (1)
وَقَال الشِّيرَازِيُّ: وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ إِذَا جُهِل جِنْسُهَا أَوْ نَوْعُهَا، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، (2) وَفِي بَيْعِ مَا لاَ يُعْرَفُ جِنْسُهُ أَوْ نَوْعُهُ غَرَرٌ كَثِيرٌ. (3)
وَمِثَال الْجَهْل بِصِفَةِ الْمَحَل. بَيْعُ الْحَمْل، وَبَيْعُ الْمَضَامِينِ، وَبَيْعُ الْمَلاَقِيحِ، وَبَيْعُ الْمَجْرِ، وَبَيْعُ عَسْبِ الْفَحْل.
(ر: بَيْع مَنْهِيّ عَنْهُ ف 5، 6، 69)
وَمِثَال الْجَهْل بِمِقْدَارِ الْمَبِيعِ: بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ، وَالْمُحَاقَلَةِ، وَبَيْعُ ضَرْبَةِ الْغَائِصِ.
وَمِثَال الْجَهْل بِالأَْجَل. بَيْعُ حَبَل الْحَبَلَةِ.
(ر: بَيْع مَنْهِيّ عَنْهُ ف 5)
وَمِثَال عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَحَل: بَيْعُ الْبَعِيرِ الشَّارِدِ، وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ (4) ، وَبَيْعُ الإِْنْسَانِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَبَيْعُ الدَّيْنِ، وَبَيْعُ الْمَغْصُوبِ.
(ر: بَيْع مَنْهِيّ عَنْهُ ف 32 وَمَا بَعْدَهَا)
وَمِثَال التَّعَاقُدِ عَلَى الْمَحَل الْمَعْدُومِ: بَيْعُ الثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ، وَبَيْعُ الْمُعَاوَمَةِ
__________
(1) الفروق 3 / 265.
(2) حديث أبي هريرة تقدم تخريجه ف / 5.
(3) المجموع للنووي 9 / 288.
(4) حاشية ابن عابدين 4 / 5، 6، القوانين الفقهية ص282، المجموع 9 / 149، 284، المغني لابن قدامة 4 / 221.

(31/156)


وَالسِّنِينَ، وَبَيْعُ نِتَاجِ النِّتَاجِ (1) .
(ر: بَيْع مَنْهِيّ عَنْهُ ف 72، 88) .
14 - كَمَا أَنَّ الْغَرَرَ فِي الثَّمَنِ يَرْجِعُ إِلَى الْجَهْل بِهِ.
وَالْجَهْل بِالثَّمَنِ قَدْ يَكُونُ جَهْلاً بِالذَّاتِ، كَمَا لَوْ بَاعَ سِلْعَةً بِمِائَةِ شَاةٍ مِنْ هَذَا الْقَطِيعِ، فَلاَ يَجُوزُ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ. (2)
وَقَدْ يَكُونُ جَهْلاً بِالنَّوْعِ قَال النَّوَوِيُّ: إِذَا قَال: بِعْتُكَ بِدِينَارٍ فِي ذِمَّتِكَ أَوْ قَال: بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِي ذِمَّتِكَ، أَوْ أَطْلَقَ الدَّرَاهِمَ، فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِنَوْعِهَا. (3)
وَقَدْ يَكُونُ جَهْلاً بِصِفَةِ الثَّمَنِ، فَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ مَجْهُول الصِّفَةِ؛ لأَِنَّ الصِّفَةَ إِذَا كَانَتْ مَجْهُولَةً تَحْصُل الْمُنَازَعَةُ، فَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ دَفْعَ الأَْدْوَنِ وَالْبَائِعُ يَطْلُبُ الأَْرْفَعَ، فَلاَ يَحْصُل مَقْصُودُ شَرْعِيَّةِ الْبَيْعِ، وَهُوَ دَفْعُ الْحَاجَةِ بِلاَ مُنَازَعَةٍ. (4)
وَقَدْ يَكُونُ جَهْلاً بِمِقْدَارِ الثَّمَنِ، إِذْ يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ الْعِلْمَ بِمِقْدَارِ الثَّمَنِ إِذَا لَمْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 5، القوانين الفقهية ص282، المجموع 9 / 258، كشاف القناع 3 / 166.
(2) تحفة الفقهاء 2 / 63 ط جامعة دمشق 1958م، كشاف القناع 3 / 173.
(3) المجموع للنووي 9 / 328، 329.
(4) فتح القدير 5 / 83، مواهب الجليل 4 / 276، كشاف القناع 3 / 174.

(31/157)


يَكُنْ مُشَارًا إِلَيْهِ. فَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ مَجْهُول الْقَدْرِ اتِّفَاقًا. (1)
وَقَدْ يَكُونُ جَهْلاً بِأَجَل الثَّمَنِ، قَال النَّوَوِيُّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ (2) . وَقَال الْكَمَال: جَهَالَةُ الأَْجَل تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ فِي التَّسَلُّمِ وَالتَّسْلِيمِ، فَهَذَا يُطَالِبُهُ فِي قَرِيبِ الْمُدَّةِ وَذَاكَ فِي بِعِيدِهَا، وَلأَِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَوْضِعِ شَرْطِ الأَْجَل - وَهُوَ السَّلَمُ - أَوْجَبَ فِيهِ التَّعْيِينَ، حَيْثُ قَال: مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ. (3)
وَعَلَى كُل ذَلِكَ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ (4)

ب - الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ:
15 - الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ قَدْ يَرِدُ عَلَى صِيغَةِ الْعَقْدِ، وَقَدْ يَرِدُ عَلَى مَحَل الْعَقْدِ.
__________
(1) فتح القدير 5 / 83، القوانين الفقهية ص251 ط الدار العربية للكتاب 1982م، المجموع 9 / 332، 333، كشاف القناع 3 / 174.
(2) المجموع 9 / 339
(3) حديث: " من أسلف في تمر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 428) ومسلم (3 / 1227) من حديث ابن عباس، واللفظ لمسلم.
(4) فتح القدير 5 / 84.

(31/157)


فَمِنَ الْغَرَرِ فِي صِيغَةِ عَقْدِ الإِْجَارَةِ: التَّعْلِيقُ، فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَقُول: إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَقَدْ آجَرْتُكَ، بِسَبَبِ أَنَّ انْتِقَال الأَْمْلاَكِ يَعْتَمِدُ الرِّضَا، وَالرِّضَا إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْجَزْمِ، وَلاَ جَزْمَ مَعَ التَّعْلِيقِ، فَإِنَّ شَأْنَ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَرِضَهُ عَدَمُ الْحُصُول، وَفِي ذَلِكَ غَرَرٌ. (1)
وَأَمَّا الْغَرَرُ فِي مَحَل الْعَقْدِ فَلاَ يَخْتَلِفُ عَمَّا ذُكِرَ فِي الْبَيْعِ، لِذَا يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ فِي مَحَل الإِْجَارَةِ مَا يَشْتَرِطُونَهُ فِي مَحَل الْبَيْعِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الأُْجْرَةُ وَالْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَتَيْنِ؛ لأَِنَّ جَهَالَتَهُمَا تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، (2) فَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ اسْتِئْجَارِ الأَْجِيرِ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُ أَجْرَهُ. (3)
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا: أَنْ يَكُونَ مَحَل الإِْجَارَةِ مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَلاَ تَجُوزُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 396، الفروق للقرافي 1 / 229، المنثور في القواعد 1 / 374.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 3، حاشية الدسوقي 4 / 3، القوانين الفقهية ص301، مغني المحتاج 2 / 334، مطالب أولي النهى 3 / 582، 587.
(3) حديث أبي سعيد: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره ". أخرجه أحمد (3 / 59) والبيهقي (6 / 120) ، وأعله البيهقي بالانقطاع بين أبي سعيد والراوي عنه.

(31/158)


إِجَارَةُ مُتَعَذِّرِ التَّسْلِيمِ حِسًّا، كَإِجَارَةِ الْبَعِيرِ الشَّارِدِ، أَوْ شَرْعًا كَإِجَارَةِ الْحَائِضِ لِكَنْسِ الْمَسْجِدِ، وَالطَّبِيبِ لِقَلْعِ سِنٍّ صَحِيحٍ، وَالسَّاحِرِ عَلَى تَعْلِيمِ السِّحْرِ. (1)

ج - الْغَرَرُ فِي عَقْدِ السَّلَمِ:
16 - الْقِيَاسُ عَدَمُ جَوَازِ بَيْعِ السَّلَمِ، إِذْ هُوَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَإِنَّمَا جَوَّزَهُ الشَّارِعُ لِلْحَاجَةِ.
قَال الْكَمَال: وَلاَ يَخْفَى أَنَّ جَوَازَهُ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ، إِذْ هُوَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ بِالنَّصِّ وَالإِْجْمَاعِ لِلْحَاجَةِ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي. (2)
وَيُشْتَرَطُ فِي السَّلَمِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْبَيْعِ.
وَزَادَ الْفُقَهَاءُ شُرُوطًا أُخْرَى لِتَخْفِيفِ الْغَرَرِ فِيهِ مِنْهَا: تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَال فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، قَال الْغَزَالِيُّ: مِنْ شَرَائِطِهِ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَال فِي الْمَجْلِسِ جَبْرًا لِلْغَرَرِ فِي الْجَانِبِ. (3)
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ تَأْخِيرَ التَّسْلِيمِ إِلَى
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 187، حاشية الدسوقي 4 / 3، مغني المحتاج 2 / 336، 339، مطالب أولي النهى 3 / 604، 610، 616.
(2) فتح القدير 5 / 324.
(3) فتح العزيز شرح الوجيز بذيل المجموع 9 / 205.

(31/158)


يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ. (1)
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ عَامَّ الْوُجُودِ عِنْدَ مَحَلِّهِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَمْكَنَ تَسْلِيمُهُ عِنْدَ وُجُوبِ تَسْلِيمِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَامَّ الْوُجُودِ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْمَحَل بِحُكْمِ الظَّاهِرِ، فَلَمْ يُمْكِنْ تَسْلِيمُهُ، فَلَمْ يَصِحَّ كَبَيْعِ الآْبِقِ بَل أَوْلَى، فَإِنَّ السَّلَمَ اُحْتُمِل فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْغَرَرِ لِلْحَاجَةِ، فَلاَ يُحْتَمَل فِيهِ غَرَرٌ آخَرُ؛ لِئَلاَّ يَكْثُرَ الْغَرَرُ فِيهِ. (2)
وَمِنْهَا: مَعْرِفَةُ أَوْصَافِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا يَنْضَبِطُ بِالصِّفَاتِ، قَال الرَّافِعِيُّ: لأَِنَّ الْبَيْعَ لاَ يَحْتَمِل جَهَالَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ عَيْنٌ، فَلأََنْ لاَ يَحْتَمِلَهَا السَّلَمُ وَهُوَ دَيْنٌ كَانَ أَوْلَى.
وَعَلَّل ابْنُ عَابِدِينَ ذَلِكَ بِنَفْسِ الْعِلَّةِ، فَقَال: لأَِنَّهُ دَيْنٌ وَهُوَ لاَ يُعْرَفُ إِلاَّ بِالْوَصْفِ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ ضَبْطُهُ بِهِ يَكُونُ مَجْهُولاً جَهَالَةً تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، فَلاَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 208، حاشية الدسوقي 3 / 195، فتح العزيز بذيل المجموع 9 / 205، المغني 4 / 329.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 205، حاشية الدسوقي 3 / 211، فتح العزيز مع المجموع 9 / 241، والمغني 4 / 325.

(31/159)


يَجُوزُ كَسَائِرِ الدُّيُونِ. (1)

د - الْغَرَرُ فِي الْجَعَالَةِ:
17 - الْقِيَاسُ عَدَمُ جَوَازِ عَقْدِ الْجَعَالَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ؛ لِجَهَالَةِ الْعَمَل وَجَهَالَةِ الأَْجَل حَيْثُ إِنَّ الْعَامِل يَسْتَحِقُّ الْجُعْل بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْعَمَل، وَهُوَ وَقْتٌ مَجْهُولٌ، إِلاَّ أَنَّهُ جُوِّزَ اسْتِثْنَاءً لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ.
قَال ابْنُ رُشْدٍ: هُوَ فِي الْقِيَاسِ غَرَرٌ، إِلاَّ أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ جَوَّزَهُ. (2)
لَكِنْ مُنِعَتْ بَعْضُ الصُّوَرِ مِنَ الْجَعَالَةِ، مِنْهَا: مَا لَوْ قَال لِرَجُلٍ: بِعْ لِي ثَوْبِي وَلَكَ مِنْ كُل دِينَارٍ دِرْهَمٌ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُسَمِّ ثَمَنًا يَبِيعُهُ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ مَعْلُومًا كَأَنْ جَعَل الْعَامِل مَجْهُولاً، إِذْ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْجَهَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْجُعْل مَعْلُومًا. قَال مَالِكٌ: كُلَّمَا نَقَصَ دِينَارٌ مِنْ ثَمَنِ السِّلْعَةِ نَقَصَ فِي حَقِّهِ الَّذِي سَمَّى لَهُ، فَهَذَا غَرَرٌ لاَ يَدْرِي كَمْ جُعِل لَهُ. (3)
وَمِنْهَا: مَا لَوْ قَال لآِخَرَ: بِعْ هَذَا الثَّوْبَ فَمَا زَادَ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَهُوَ لَكَ فَلاَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 203، حاشية الدسوقي 3 / 207، 208، فتح العزيز بذيل المجموع 9 / 268، المغني 4 / 305.
(2) المقدمات لابن رشد 2 / 304.
(3) المنتقى 5 / 112.

(31/159)


يَجُوزُ، قَال مَالِكٌ: لاَ يَجُوزُ لأَِنَّ الْجُعْل مَجْهُولٌ قَدْ دَخَلَهُ غَرَرٌ. (1)
ثَانِيًا - الْغَرَرُ فِي عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ:
أ - عَقْدُ الْهِبَةِ:
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ الْغَرَرِ عَلَى عَقْدِ الْهِبَةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْغَرَرَ يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْهِبَةِ، كَمَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ، يَدُل لِذَلِكَ أَنَّهُمُ اشْتَرَطُوا فِي الْمَوْهُوبِ مَا اشْتَرَطُوهُ فِي الْمَبِيعِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: الشَّرَائِطُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى الْمَوْهُوبِ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْهِبَةِ، فَلاَ تَجُوزُ هِبَةُ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَقْتَ الْعَقْدِ، بِأَنْ وَهَبَ مَا يُثْمِرُ نَخْلُهُ الْعَامَ، وَتَلِدُهُ أَغْنَامُهُ السَّنَةَ. (2)
وَقَال النَّوَوِيُّ: وَمَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ هِبَتُهُ، وَمَا لاَ - كَمَجْهُولٍ وَمَغْصُوبٍ وَضَالٍّ - فَلاَ. (3)
وَعَرَّفَ الْحَنَابِلَةُ الْهِبَةَ: بِأَنَّهَا التَّبَرُّعُ بِتَمْلِيكِ مَالِهِ الْمَعْلُومِ الْمَوْجُودِ فِي حَيَاتِهِ غَيْرَهُ، قَال الْبُهُوتِيُّ: خَرَجَ بِالْمَال نَحْوُ
__________
(1) المرجع السابق.
(2) بدائع الصنائع 6 / 119.
(3) المنهاج مع مغني المحتاج 2 / 399.

(31/160)


الْكَلْبِ، وَبِالْمَعْلُومِ الْمَجْهُول، وَبِالْمَوْجُودِ الْمَعْدُومُ، فَلاَ تَصِحُّ الْهِبَةُ فِيهَا. (1)
كَمَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ عَقْدِ الْهِبَةِ فِي حَالَةِ التَّعْلِيقِ وَالإِْضَافَةِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْغَرَرَ لاَ تَأْثِيرَ لَهُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْهِبَةِ، قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَلاَ خِلاَفَ فِي الْمَذْهَبِ فِي جَوَازِ هِبَةِ الْمَجْهُول وَالْمَعْدُومِ الْمُتَوَقَّعِ الْوُجُودُ، وَبِالْجُمْلَةِ كُل مَا لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ فِي الشَّرْعِ مِنْ جِهَةِ الْغَرَرِ. (3)
وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ تَأْثِيرَ لِلْغَرَرِ عَلَى عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ، قَال الْقَرَافِيُّ: انْقَسَمَتِ التَّصَرُّفَاتُ فِي قَاعِدَةِ مَا يُجْتَنَبُ فِيهِ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ وَمَا لاَ يُجْتَنَبُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: طَرَفَانِ وَوَاسِطَةٌ، فَالطَّرَفَانِ:
أَحَدُهُمَا: مُعَاوَضَةٌ صِرْفَةٌ، فَيُجْتَنَبُ فِيهَا ذَلِكَ إِلَى مَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ عَادَةً،
وَثَانِيهُمَا: مَا هُوَ إِحْسَانٌ صِرْفٌ لاَ يُقْصَدُ بِهِ تَنْمِيَةُ الْمَال كَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ وَالإِْبْرَاءِ، فَإِنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لاَ يُقْصَدُ بِهَا تَنْمِيَةُ الْمَال، بَل إِنْ فَاتَتْ عَلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ بِهَا لاَ
__________
(1) كشاف القناع 4 / 298.
(2) بدائع الصنائع 6 / 118، المهذب 1 / 453، المغني 5 / 658.
(3) بداية المجتهد 2 / 300 ط المكتبة التجارية الكبرى.

(31/160)


ضَرَرَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَبْذُل شَيْئًا، بِخِلاَفِ الْقِسْمِ الأَْوَّل إِذَا فَاتَ بِالْغَرَرِ وَالْجَهَالاَتِ ضَاعَ الْمَال الْمَبْذُول فِي مُقَابَلَتِهِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ مَنْعَ الْجَهَالَةِ فِيهِ، أَمَّا الإِْحْسَانُ الصِّرْفُ فَلاَ ضَرَرَ فِيهِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ وَحَثُّهُ عَلَى الإِْحْسَانِ التَّوْسِعَةَ فِيهِ بِكُل طَرِيقٍ بِالْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُول، فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْسَرُ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ قَطْعًا، وَفِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إِلَى تَقْلِيلِهِ، فَإِذَا وُهِبَ لَهُ عَبْدُهُ الآْبِقُ جَازَ أَنْ يَجِدَهُ فَيَحْصُل لَهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَلاَ ضَرَرَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَجِدْهُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَبْذُل شَيْئًا، ثُمَّ إِنَّ الأَْحَادِيثَ لَمْ يَرِدْ فِيهَا مَا يَعُمُّ هَذِهِ الأَْقْسَامَ حَتَّى نَقُول يَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ نُصُوصِ صَاحِبِ الشَّرْعِ، بَل إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا الْوَاسِطَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فَهُوَ النِّكَاحُ. (1)

ب - الْوَصِيَّةُ:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ تَأْثِيرَ لِلْغَرَرِ عَلَى الْوَصِيَّةِ، لِذَا لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي الْمُوصَى بِهِ مَا اشْتَرَطُوهُ فِي الْمَبِيعِ، وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِالْمَعْدُومِ وَالْمَجْهُول؛ لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ - كَمَا قَال ابْنُ عَابِدِينَ - لاَ تَمْتَنِعُ بِالْجَهَالَةِ،
__________
(1) الفروق للقرافي 1 / 151.

(31/161)


وَلأَِنَّهَا - كَمَا قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ - احْتَمَل فِيهَا وُجُوهٌ مِنَ الْغَرَرِ رِفْقًا بِالنَّاسِ وَتَوْسِعَةً عَلَيْهِمْ.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ كَذَلِكَ الْوَصِيَّةَ بِمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ كَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ (1) .

ثَالِثًا - الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ:
20 - مَنَعَ الشَّافِعِيَّةُ شَرِكَةَ الأَْبْدَانِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْغَرَرِ، إِذْ لاَ يَدْرِي أَنَّ صَاحِبَهُ يَكْسِبُ أَمْ لاَ. (2) وَمَنَعُوا أَيْضًا شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ. قَال الشَّافِعِيُّ: إِنْ لَمْ تَكُنْ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ بَاطِلَةً فَلاَ بَاطِل أَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا. يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى كَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْغَرَرِ. (3)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ لِلْغَرَرِ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ عَاوَضَ صَاحِبَهُ بِكَسْبٍ غَيْرِ مَحْدُودٍ بِصِنَاعَةٍ وَلاَ عَمَلٍ مَخْصُوصٍ. (4)
كَمَا يَرَى كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ لاَ تَجُوزُ فِي الْقِيَاسِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 416، 429، والدسوقي 4 / 435، والفروق للقرافي 1 / 151، ومغني المحتاج 3 / 45، والمهذب للشيرازي 1 / 459، والمغني لابن قدامة 6 / 31، 56، 58، 64.
(2) مغني المحتاج 2 / 212.
(3) المرجع السابق.
(4) بداية المجتهد 2 / 226 ط المكتبة التجارية، مغني المحتاج 2 / 212.

(31/161)


قَال الْكَاسَانِيُّ: الْقِيَاسُ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ لاَ تَجُوزُ؛ لأَِنَّهَا اسْتِئْجَارٌ بِأَجْرٍ مَجْهُولٍ - بَل مَعْدُومٍ - وَلِعَمَلٍ مَجْهُولٍ، لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ (1) . وَقَال ابْنُ جُزَيٍّ: الْقِرَاضُ جَائِزٌ مُسْتَثْنًى مِنَ الْغَرَرِ وَالإِْجَارَةِ الْمَجْهُولَةِ. (2)
وَقَدِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ عِدَّةَ شُرُوطٍ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ بِاخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهَا مَنْعًا لِوُقُوعِ الْغَرَرِ فِيهَا.
وَلِلْوُقُوفِ عَلَى تَعْرِيفِ الشَّرِكَاتِ وَمَا يَعْتَرِيهِ الْغَرَرُ مِنْهَا وَمَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (شَرِكَة)

رَابِعًا - الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ:
21 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَا لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ لاَ يَصِحُّ رَهْنُهُ؛ لأَِنَّ مَقْصُودَ الرَّهْنِ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ، وَمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ لاَ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ، وَمِنْ ثَمَّ يَرَوْنَ أَنَّ الْغَرَرَ يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الرَّهْنِ، لِذَا يَشْتَرِطُونَ فِي الْمَرْهُونِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَمَوْجُودًا وَمَقْدُورًا عَلَى
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 79.
(2) القوانين الفقهية ص 309 ط دار العلم للملايين 1979م.

(31/162)


تَسْلِيمِهِ. (1)
وَجَوَّزَ الْمَالِكِيَّةُ الْغَرَرَ فِي الرَّهْنِ. فَقَدْ نَصُّوا عَلَى جَوَازِ رَهْنِ مَا لاَ يَحِل بَيْعُهُ فِي وَقْتِ الاِرْتِهَانِ كَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ، وَالزَّرْعِ وَالثَّمَرِ الَّذِي لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ، وَلاَ يُبَاعُ فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ إِلاَّ إِذَا بَدَا صَلاَحُهُ، وَإِنْ حَل أَجَل الدَّيْنِ. (2)
وَقَيَّدَ الدَّرْدِيرُ الْغَرَرَ الَّذِي يَجُوزُ فِي الرَّهْنِ بِالْغَرَرِ الْيَسِيرَةِ وَمَثَّل لَهُ بِالْبَعِيرِ الشَّارِدِ، وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَدَّ الْغَرَرُ - كَالْجَنِينِ فِي الْبَطْنِ - فَلاَ يَجُوزُ الرَّهْنُ. (3)

خَامِسًا - الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الْكَفَالَةِ:
22 - تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالْمَال الْمَجْهُول عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّوَسُّعِ، كَمَا يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ (4) .
وَلأَِنَّهَا الْتِزَامُ حَقٍّ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ مُعَاوَضَةٍ فَصَحَّ فِي الْمَجْهُول، قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ (5) .
وَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَعَ جَهَالَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 135، مغني المحتاج 2 / 122، كشاف القناع 3 / 321، والمغني 4 / 374، 384، 386.
(2) بداية المجتهد 2 / 243 ط المكتبة التجارية الكبرى.
(3) حاشية الدسوقي 3 / 232.
(4) حاشية ابن عابدين 4 / 263.
(5) المغني لابن قدامة 4 / 592.

(31/162)


الْمَكْفُول إِذَا كَانَ وَاحِدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ مِنْ أَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ، نَحْوَ: كَفَلْتُ مَالَكَ عَلَى فُلاَنٍ أَوْ فُلاَنٍ وَيَكُونُ التَّعْيِينُ لِلْكَفِيل، وَنَحْوُ: إِنْ غَصَبَ مَالَكَ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ فَأَنَا ضَامِنٌ.
أَمَّا لَوْ عَمَّمَ فَقَال: إِنْ غَصَبَكَ إِنْسَانٌ شَيْئًا فَأَنَا لَهُ ضَامِنٌ لاَ يَصِحُّ، كَمَا لاَ تَصِحُّ عِنْدَهُمُ الْكَفَالَةُ مَعَ جَهَالَةِ الْمَكْفُول لَهُ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ الضَّمَانِ مَعَ جَهَالَةِ الْمَكْفُول لَهُ نَحْوُ: أَنَا ضَامِنٌ زَيْدًا فِي الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ لِلنَّاسِ. (2)
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ الْعِلْمَ بِالْمَضْمُونِ جِنْسًا وَقَدْرًا وَصِفَةً وَعَيْنًا، فَلاَ يَصِحُّ ضَمَانُ الْمَجْهُول (3) .
وَالْحَنَابِلَةُ لاَ يَشْتَرِطُونَ مَعْرِفَةَ الضَّامِنِ لِلْمَضْمُونِ وَلاَ لِلْمَضْمُونِ لَهُ. (4)

سَادِسًا - الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ:
23 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَكَالَةِ الْعَامَّةِ، فَأَجَازَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ. (5)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 267، مجمع الضمانات 270.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 334.
(3) مغني المحتاج 2 / 201، 202.
(4) المغني لابن قدامة 4 / 591.
(5) حاشية ابن عابدين 4 / 399، حاشية الدسوقي 3 / 380، 381، بداية المجتهد 2 / 271.

(31/163)


وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى مَنْعِ الْوَكَالَةِ الْعَامَّةِ؛ لِكَثْرَةِ الْغَرَرِ فِيهَا.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَال: وَكَّلْتُكَ فِي كُل قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَفِي كُل أُمُورِي، أَوْ فَوَّضْتُ إِلَيْكَ كُل شَيْءٍ، لَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيل لِكَثْرَةِ الْغَرَرِ فِيهِ. (1)
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّ فِي هَذَا غَرَرًا عَظِيمًا وَخَطَرًا كَبِيرًا؛ لأَِنَّهُ تَدْخُل فِيهِ هِبَةُ مَالِهِ وَطَلاَقُ نِسَائِهِ وَإِعْتَاقُ رَقِيقِهِ وَتَزَوُّجُ نِسَاءٍ كَثِيرَةٍ، وَيَلْزَمُهُ الْمُهُورُ الْكَثِيرَةُ وَالأَْثْمَانُ الْعَظِيمَةُ فَيَعْظُمُ الْغَرَرُ. (2)
وَأَمَّا الْوَكَالَةُ الْخَاصَّةُ فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِهَا.
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِيهَا الْعِلْمَ بِالْمُوَكَّل بِهِ عِلْمًا تَنْتَفِي بِهِ الْجَهَالَةُ الْفَاحِشَةُ وَالْمُتَوَسِّطَةُ، أَمَّا الْجَهَالَةُ الْيَسِيرَةُ فَلاَ تَضُرُّ وَالْجَهَالَةُ الْفَاحِشَةُ هِيَ جَهَالَةُ الْجِنْسِ، فَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ دَابَّةٍ لَمْ يَصِحَّ، لأَِنَّ الدَّابَّةَ تَشْمَل الْفَرَسَ وَالْحِمَارَ وَالْبَغْل،
وَالْجَهَالَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ هِيَ جَهَالَةُ النَّوْعِ الَّذِي تَتَفَاوَتُ قِيَمُ آحَادِهِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا، كَأَنْ يُوَكِّلَهُ بِشِرَاءِ دَارٍ، فَهَذِهِ الْوَكَالَةُ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 221.
(2) المغني لابن قدامة 5 / 94، 95، كشاف القناع 3 / 482.

(31/163)


لاَ تَصِحُّ أَيْضًا إِلاَّ إِذَا بَيَّنَ الثَّمَنَ أَوِ الصِّفَةَ لِتَقِل الْجَهَالَةُ.
وَالْجَهَالَةُ الْيَسِيرَةُ هِيَ جَهَالَةُ النَّوْعِ الْمَحْضِ - النَّوْعُ الَّذِي لاَ تَتَفَاوَتُ قِيَمُ آحَادِهِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا - كَأَنْ يُوَكِّلَهُ بِشِرَاءِ فَرَسٍ فَإِنَّ الْوَكَالَةَ تَصِحُّ. (1)
وَتَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْوَكَالَةُ الْخَاصَّةُ مَعَ جَهَالَةِ الْمُوَكِّل عَلَيْهِ وَيُعَيِّنُهُ الْعُرْفُ (2) .
وَيَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُوَكَّل فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ عِلْمُهُ مِنْ كُل وَجْهٍ. لأَِنَّ تَجْوِيزَ الْوَكَالَةِ لِلْحَاجَةِ يَقْتَضِي الْمُسَامَحَةَ، فَيَكْفِي أَنْ يَكُونَ الْمُوَكَّل فِيهِ مَعْلُومًا عِلْمًا يَقِل مَعَهُ الْغَرَرُ.
وَيَشْتَرِطُونَ فِي الْوَكَالَةِ بِالشِّرَاءِ بَيَانَ النَّوْعِ، وَإِذَا تَبَايَنَتْ أَوْصَافُ نَوْعٍ وَجَبَ بَيَانُ الصِّنْفِ أَيْضًا، وَلَكِنْ لاَ يُشْتَرَطُ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الأَْوْصَافِ، وَهَذَا فِيمَا يُشْتَرَى لِغَيْرِ التِّجَارَةِ، أَمَّا مَا يُشْتَرَى لِلتِّجَارَةِ فَلاَ يَجِبُ فِيهِ ذِكْرُ النَّوْعِ وَلاَ غَيْرُهُ، بَل يَكْفِي أَنْ يَقُول: اشْتَرِ لِي مَا شِئْتَ مِنَ الْعُرُوضِ. (3)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ قَال اشْتَرِ لِي فَرَسًا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 403.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 381.
(3) مغني المحتاج 2 / 221، 222.

(31/164)


بِمَا شِئْتَ لَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيل حَتَّى يَذْكُرَ النَّوْعَ وَقَدْرَ الثَّمَنِ؛ لأَِنَّهُ مَا يُمْكِنُ شِرَاؤُهُ وَالشِّرَاءُ بِهِ يَكْثُرُ، فَيَكْثُرُ فِيهِ الْغَرَرُ، فَإِنْ ذَكَرَ النَّوْعَ وَقَدَّرَ الثَّمَنَ صَحَّ لاِنْتِفَاءِ الْغَرَرِ، وَاقْتَصَرَ الْقَاضِي عَلَى ذِكْرِ النَّوْعِ؛ لأَِنَّهُ إِذَا ذَكَرَ نَوْعًا فَقَدْ أَذِنَ فِي أَعْلاَهُ ثَمَنًا فَيَقِل الْغَرَرُ.
وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ مَالِهِ كُلِّهِ صَحَّ؛ لأَِنَّهُ يَعْرِفُ مَالَهُ فَيَقِل الْغَرَرُ. (1)

سَابِعًا: الْغَرَرُ فِي عَقْدِ الزَّوَاجِ:
24 - يَرِدُ الْغَرَرُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى الْمَهْرِ، وَلاَ يُؤَثِّرُ عَلَى الْعَقْدِ؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ لاَ يَبْطُل بِجَهَالَةِ الْعِوَضِ. (2)
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ صُوَرًا لِلْغَرَرِ فِي الْمَهْرِ، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَنَّ جَهَالَةَ نَوْعِ الْمَهْرِ تُفْسِدُ التَّسْمِيَةَ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى دَابَّةٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ دَارٍ، فَالتَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ لِلْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ وَيَجِبُ حِينَئِذٍ عَلَى الزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْل.
كَمَا صَرَّحُوا بِعَدَمِ ثُبُوتِ الأَْجَل إِذَا كَانَتْ جَهَالَتُهُ مُتَفَاحِشَةً، وَيَجِبُ الْمَهْرُ حَالاً، وَذَلِكَ كَالتَّأْجِيل إِلَى هُبُوبِ الرِّيَاحِ أَوْ إِلَى أَنْ تُمْطِرَ السَّمَاءُ، أَوْ إِلَى
__________
(1) كشاف القناع 3 / 482.
(2) كشاف القناع 5 / 135.

(31/164)


الْمَيْسَرَةِ. (1)
وَقَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ - كَمَا سَبَقَ - التَّصَرُّفَاتِ مِنْ حَيْثُ تَأْثِيرُ الْغَرَرِ فِيهَا وَعَدَمُهُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: طَرَفَانِ وَوَاسِطَةٌ. فَالطَّرَفَانِ: مُعَاوَضَةٌ صِرْفَةٌ، فَيُجْتَنَبُ فِيهَا الْغَرَرُ، إِلاَّ مَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ عَادَةً.
وَإِحْسَانٌ صِرْفٌ لاَ يُقْصَدُ بِهِ تَنْمِيَةُ الْمَال، فَيُغْتَفَرُ فِيهِ الْغَرَرُ.
وَأَمَّا الْوَاسِطَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فَهُوَ النِّكَاحُ، قَال الْقَرَافِيُّ: هُوَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَال فِيهِ لَيْسَ مَقْصُودًا، وَإِنَّمَا مَقْصِدُهُ الْمَوَدَّةُ وَالأُْلْفَةُ وَالسُّكُونُ، يَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ فِيهِ الْجَهَالَةُ وَالْغَرَرُ مُطْلَقًا، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ اشْتَرَطَ فِيهِ الْمَال بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (2) الآْيَةُ. يَقْتَضِي امْتِنَاعَ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ فِيهِ، فَلِوُجُودِ الشَّبَهَيْنِ تَوَسَّطَ مَالِكٌ فَجَوَّزَ فِيهِ الْغَرَرَ الْقَلِيل دُونَ الْكَثِيرِ، نَحْوُ عَبْدٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَشُورَةِ بَيْتٍ، وَلاَ يَجُوزُ عَلَى الْعَبْدِ الآْبِقِ وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ؛ لأَِنَّ الأَْوَّل يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى الْوَسَطِ الْمُتَعَارَفِ، وَالثَّانِي لَيْسَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 334، 335، 348، 359.
(2) سورة النساء / 24.

(31/165)


لَهُ ضَابِطٌ فَامْتَنَعَ، (1) وَصَرَّحُوا بِعَدَمِ جَوَازِ تَأْجِيل الْمَهْرِ إِلاَّ لِزَمَنٍ مُحَدَّدٍ، فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمُ التَّأْجِيل لِلْمَوْتِ أَوِ الْفِرَاقِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا تَأْجِيل الْمَهْرِ إِلَى الْمَيْسَرَةِ إِذَا كَانَ الزَّوْجُ مَلِيًّا. (2)
وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّدَاقِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا كَالثَّمَنِ، قَال الْبُهُوتِيُّ: لأَِنَّ الصَّدَاقَ عِوَضٌ فِي حَقِّ مُعَاوَضَةٍ فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ؛ وَلأَِنَّ غَيْرَ الْمَعْلُومِ مَجْهُولٌ لاَ يَصِحُّ عِوَضًا فِي الْبَيْعِ، فَلَمْ تَصِحَّ تَسْمِيَتُهُ كَالْمُحَرَّمِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ يَضُرُّ الْجَهْل الْيَسِيرُ وَالْغَرَرُ الَّذِي يُرْجَى زَوَالُهُ، وَمَثَّلُوا لِذَلِكَ بِالزَّوَاجِ عَلَى الآْبِقِ، وَالْمَغْصُوبِ، وَدَيْنِ السَّلَمِ، وَالْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ وَلَوْ مَكِيلاً وَنَحْوَهُ، قَال الْبُهُوتِيُّ: لأَِنَّ الصَّدَاقَ لَيْسَ رُكْنًا فِي النِّكَاحِ، فَاغْتُفِرَ الْجَهْل الْيَسِيرُ وَالْغَرَرُ الَّذِي يُرْجَى زَوَالُهُ. (3)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْغَرَرَ يُؤَثِّرُ فِي الْمَهْرِ كَمَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، لِذَا يَشْتَرِطُونَ فِي الْمَهْرِ شُرُوطَ الْمَبِيعِ. قَال النَّوَوِيُّ: مَا صَحَّ مَبِيعًا صَحَّ صَدَاقًا.
__________
(1) الفروق للقرافي 1 / 151، المقدمات لابن رشد 2 / 41 ط السعادة 1325هـ.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 303، 304، بداية المجتهد 2 / 19، 20.
(3) كشاف القناع 5 / 130، 133.

(31/165)


وَلَوْ سَمَّى صَدَاقًا فَاقِدًا لأَِحَدِ شُرُوطِ الْمَبِيعِ فَسَدَ الصَّدَاقُ وَتَبْطُل التَّسْمِيَةُ، وَيَجِبُ لِلزَّوْجَةِ مَهْرُ الْمِثْل. (1)
الْغَرَرُ فِي الشُّرُوطِ:
25 - يُمْكِنُ تَقْسِيمُ الشُّرُوطِ مِنْ حَيْثُ تَأْثِيرُ الْغَرَرِ فِيهَا إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: شَرْطٌ فِي وُجُودِهِ غَرَرٌ، وَشَرْطٌ يُحْدِثُ غَرَرًا فِي الْعَقْدِ، وَشَرْطٌ يَزِيدُ مِنَ الْغَرَرِ الَّذِي فِي الْعَقْدِ.

أَوَّلاً - الشَّرْطُ الَّذِي فِي وُجُودِهِ غَرَرٌ:
26 - قَال الْكَاسَانِيُّ: مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ الْخُلُوُّ عَنِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَهِيَ أَنْوَاعٌ، مِنْهَا شَرْطٌ فِي وُجُودِهِ غَرَرٌ، نَحْوُ مَا إِذَا اشْتَرَى نَاقَةً عَلَى أَنَّهَا حَامِلٌ؛ لأَِنَّ الْمَشْرُوطَ يَحْتَمِل الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، وَلاَ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ لِلْحَال، لأَِنَّ عِظَمَ الْبَطْنِ وَالتَّحَرُّكَ يَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ لِعَارِضِ دَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَكَانَ فِي وُجُودِهِ غَرَرٌ، فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ. (2)
وَقَدْ وَافَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 20، المحلي على المنهاج مع حاشيتي القليوبي وعميرة 3 / 276، 278، 279.
(2) بدائع الصنائع 5 / 168.

(31/166)


قَوْلٍ - الْحَنَفِيَّةَ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْبَيْعِ بِهَذَا الشَّرْطِ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ بِهَذَا الشَّرْطِ. (2)
وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلاً بِالصِّحَّةِ؛ لأَِنَّ كَوْنَهَا حَامِلاً بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ كَوْنِ الْعَبْدِ كَاتِبًا أَوْ خَيَّاطًا وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَذَا جَائِزٌ فَكَذَا هَذَا، (3) وَهُوَ قَوْل أَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، (4) وَمِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي فِي وُجُودِهَا غَرَرٌ، مَا لَوْ اشْتَرَى نَاقَةً وَهِيَ حَامِلٌ عَلَى أَنَّهَا تَضَعُ حَمْلَهَا إِلَى شَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ، قَال الْكَاسَانِيُّ: فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لأَِنَّ فِي وُجُودِ هَذَا الشَّرْطِ غَرَرًا، وَكَذَا لَوِ اشْتَرَى بَقَرَةً عَلَى أَنَّهَا تَحْلُبُ كَذَا وَكَذَا رِطْلاً. (5) قَال النَّوَوِيُّ: لَوْ شَرَطَ كَوْنَهَا تُدِرُّ كُل يَوْمٍ قَدْرًا مَعْلُومًا مِنَ اللَّبَنِ بَطَل الْبَيْعُ بِلاَ خِلاَفٍ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ وَضَبْطُهُ فَلَمْ يَصِحَّ. (6)
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 59، 60، المنتقى شرح الموطأ 4 / 183.
(2) المجموع للنووي 9 / 322.
(3) بدائع الصنائع 5 / 168.
(4) المنتقى 4 / 183.
(5) بدائع الصنائع 5 / 169.
(6) المجموع 9 / 324. ملاحظة: ترى لجنة الموسوعة أن بعض ما كان يعتبر غررًا يترتب عليه الفساد في زمن الفقهاء السابقين، لم يعد الآن وفي ضوء العلم الحديث غررًا يترتب عليه الفساد؛ لأن الجهالة به لم تعد كاملة، بل وصل العلم إلى جوانب منه.

(31/166)


ثَانِيًا - الشَّرْطُ الَّذِي يُحْدِثُ غَرَرًا فِي الْعَقْدِ:
27 - مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي تُحْدِثُ غَرَرًا فِي الْعَقْدِ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُل شَيْئًا وَيَسْتَثْنِيَ بَعْضَهُ غَيْرَ الْمَعْلُومِ، وَهُوَ مَا يُعْرَفُ بِبَيْعِ الثُّنْيَا.
وَبَيْعُ الثُّنْيَا مِنَ الْبُيُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالثُّنْيَا إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ. (1)
وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِعَدَمِ صِحَّةِ بَيْعِ الثُّنْيَا إِنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مَجْهُولاً؛ لأَِنَّ اسْتِثْنَاءَ الْمَجْهُول مِنَ الْمَعْلُومِ يَجْعَل الْبَاقِي مَجْهُولاً. (2)
وَمِنْ أَمْثِلَةِ بَيْعِ الثُّنْيَا: أَنْ يَبِيعَ الشَّاةَ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ مَا فِي بَطْنِهَا، فَإِنَّ هَذَا الْبَيْعَ لاَ يَصِحُّ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ النَّاشِئِ عَنْ جَهَالَةِ الْمَبِيعِ.
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: وَإِذَا بَاعَ الرَّجُل بَقَرَةً أَوْ نَاقَةً أَوْ شَاةً وَهُنَّ حَوَامِل، وَاسْتَثْنَى مَا فِي بُطُونِهَا، فَإِنَّ الْبَيْعَ عَلَى
__________
(1) حديث جابر: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المحاقلة والمزابنة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 50) ومسلم (3 / 1174) دون قوله: " وعن الثنيا إلا أن تعلم "، فقد أخرجه الترمذي (3 / 576) .
(2) المجموع 9 / 310، المغني لابن قدامة 4 / 113.

(31/167)


هَذَا فَاسِدٌ لاَ يَجُوزُ. (1)

ثَالِثًا - الشَّرْطُ الَّذِي يَزِيدُ الْغَرَرَ فِي الْعَقْدِ
28 - هَذَا الشَّرْطُ يَكُونُ فِي الْعُقُودِ الَّتِي فِي أَصْلِهَا غَرَرٌ، وَالأَْصْل مَنْعُهَا، لَكِنَّهَا جَازَتِ اسْتِثْنَاءً وَذَلِكَ كَعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ.
قَال ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: أَجْمَعُوا بِالْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَقْتَرِنُ بِهِ - أَيِ الْقِرَاضِ - شَرْطٌ يَزِيدُ فِي مَجْهَلَةِ الرِّبْحِ أَوْ فِي الْغَرَرِ الَّذِي فِيهِ. (2)
ر: (مُضَارَبَة) .
__________
(1) الأصل 92، 99 ط مطبعة جامعة القاهرة 1954م.
(2) بداية المجتهد 2 / 208.

(31/167)


غَرَّاوَانِ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْغَرَّاوَانِ تَثْنِيَةُ غَرَّاءَ بِمَعْنَى الْبَيْضَاءِ، وَهُوَ مُؤَنَّثُ الأَْغَرِّ أَيِ الأَْبْيَضِ، يُقَال: فَرَسٌ أَغَرُّ، وَمُهْرَةٌ غَرَّاءُ أَيْ بَيْضَاءُ الْجَبْهَةِ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْمُرَادُ بِالْغَرَّاوَيْنِ مَسْأَلَتَانِ مِنْ مَسَائِل الْمِيرَاثِ: يَمُوتُ فِي إِحْدَاهُمَا زَوْجٌ عَنْ زَوْجَةٍ فَأَكْثَرُ وَأَبَوَيْنِ، وَفِي الأُْخْرَى تَمُوتُ عَنْ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ.
وَتُسَمَّى هَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ بِالْغَرَّاوَيْنِ لِشُهْرَتِهِمَا وَوُضُوحِهِمَا، تَشْبِيهًا لَهُمَا بِالْكَوْكَبِ الأَْغَرِّ. (2)
وَتُلَقَّبَانِ كَذَلِكَ بِالْعُمَرِيَّتَيْنِ لِقَضَاءِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِيهِمَا، كَمَا تُلَقَّبَانِ بِالْغَرِيبَتَيْنِ لِغَرَابَتِهِمَا وَعَدَمِ النَّظِيرِ لَهُمَا. (3)
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) شرح المنهاج للمحلي مع حاشيتي القليوبي وعميرة 3 / 143، ومغني المحتاج 3 / 15.
(3) المرجعان السابقان.

(31/168)


الْحُكْمُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ:
2 - تَرِثُ الأُْمُّ سُدُسَ التَّرِكَةِ فَرْضًا إِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ فَرْعٌ وَارِثٌ، وَتَرِثُ ثُلُثَ التَّرِكَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ فَرْعٌ وَارِثٌ. (1)
وَهُنَاكَ حَالَتَانِ هُمَا الْغَرَّاوَانِ لاَ تَأْخُذُ فِيهِمَا الأُْمُّ الثُّلُثَ مِنْ جَمِيعِ التَّرِكَةِ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الْفَرْعِ الْوَارِثِ، بَل تَأْخُذُ ثُلُثَ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ:

الأُْولَى: إِذَا تُوُفِّيَ الزَّوْجُ عَنْ أُمٍّ وَأَبٍ وَزَوْجَةٍ فَأَكْثَرُ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَأْخُذُ الزَّوْجَةُ الرُّبُعَ، وَالأُْمُّ ثُلُثَ الْبَاقِي، وَهُوَ الرُّبُعُ أَيْضًا مِنْ أَصْل التَّرِكَةِ، وَيَأْخُذُ الأَْبُ ثُلُثَيِ الْبَاقِي أَيْ نِصْفَ أَصْل التَّرِكَةِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَتَكُونُ أَصْل الْمَسْأَلَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ أَرْبَعَةٍ.

الثَّانِيَةُ: إِذَا تُوُفِّيَتِ الزَّوْجَةُ عَنْ أُمٍّ وَأَبٍ وَزَوْجٍ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَأْخُذُ الزَّوْجُ النِّصْفَ فَرْضًا، وَتَأْخُذُ الأُْمُّ ثُلُثَ مَا بَقِيَ مِنَ التَّرِكَةِ، وَيَأْخُذُ الأَْبُ ثُلُثَيْ مَا بَقِيَ، وَتَكُونُ أَصْل الْمَسْأَلَةِ مِنْ سِتَّةٍ: النِّصْفُ وَهُوَ ثَلاَثَةٌ لِلزَّوْجِ، وَثُلُثُ الْبَاقِي وَهُوَ وَاحِدٌ لِلأُْمِّ، وَثُلُثَا الْبَاقِي وَهُمَا اثْنَانِ لِلأَْبِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ، لِقَضَاءِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) شرح السراجية 127 وما بعدها، والتحفة الخيرية ص 83، ومغني المحتاج 3 / 15، وحاشية القليوبي 3 / 143.

(31/168)


فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ بِذَلِكَ. (1)
وَنُقِل عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْخِلاَفَ فِي ذَلِكَ قَائِلاً: بِأَنَّ لِلأُْمِّ الثُّلُثَ كَامِلاً فِي الْحَالَيْنِ لِظَاهِرِ الآْيَةِ، وَهِيَ: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ} . (2)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عُمَرِيَّة ف 2 وَمَا بَعْدَهَا) ، وَفِي مُصْطَلَحِ (إِرْث ف 28) .
__________
(1) السراجية مع شرحها ص 127 وما بعدها، والتحفة الخيرية ص85 وما بعدها، وحاشية القليوبي 3 / 143، 144، ومغني المحتاج 3 / 15.
(2) سورة النساء / 11.

(31/169)