الموسوعة الفقهية الكويتية

فَأْر
التَّعْرِيفُ:
1 - الْفَأْرُ مَعْرُوفٌ، وَجَمْعُهُ فِئْرَانٌ وَفِئَرَةٌ، وَالْفَأْرَةُ تُهْمَزُ وَلاَ تُهْمَزُ، وَتُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، مِثْل تَمْرَةٍ وَتَمْرٍ. (1) وَكُنْيَةُ الْفَأْرِ أُمُّ خَرَابٍ، (2) وَيُقَال لَهَا الْفُوَيْسِقَةُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " قِيل لَهُ: لِمَ قِيل لِلْفَأْرَةِ الْفُوَيْسِقَةُ؟ فَقَال: لأَِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَيْقَظَ لَهَا وَقَدْ أَخَذَتِ الْفَتِيلَةَ لِتُحْرِقَ الْبَيْتَ " (3)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْفَأْرِ:
(أ) حُكْمُ الْفَأْرِ مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ:
2 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْفَأْرَ طَاهِرٌ، ذَلِكَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقُولُونَ بِطَهَارَةِ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، وفي المعجم الوسيط: الفأر جنس حيوان من الفصيلة الفأرية ورتبة القوارض، وهو يشمل الجرَذ والفأرة أي الكبير والصغير.
(2) البجيرمي على الخطيب 4 / 264 ط مصطفى الحلبي 1951م.
(3) فتح الباري: 4 / 37. وحديث أبي سعيد: " قيل له: لم قيل للفأرة الفويسقة؟ أخرجه ابن ماجه (2 / 1032) ، وضعف البوصيري إسناده في مصباح الزجاجة (2 / 148) .

(32/5)


الْحَيَوَانِ الْحَيِّ مُطْلَقًا، قَال الدُّسُوقِيُّ: وَلَوْ كَافِرًا أَوْ كَلْبًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ شَيْطَانًا. (1)
وَقَال النَّوَوِيُّ: الْحَيَوَانُ كُلُّهُ طَاهِرٌ إِلاَّ الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ وَالْمُتَوَلِّدَ مِنْ أَحَدِهِمَا. (2)
وَفِي مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى: وَمَا لاَ يُؤْكَل مِنْ طَيْرٍ وَبَهَائِمَ مِمَّا فَوْقَ هِرٍّ خِلْقَةً نَجِسٌ، وَأَمَّا مَا دُونَ ذَلِكَ فِي الْخِلْقَةِ فَهُوَ طَاهِرٌ، كَالنِّمْسِ، وَالنَّسْنَاسِ، وَابْنِ عِرْسٍ، وَالْقُنْفُذِ، وَالْفَأْرِ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى نَجَاسَةِ الْفَأْرِ (4) .

(ب) حُكْمُ الْخَارِجِ مِنَ الْفَأْرِ:
3 - اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي بَوْل الْفَأْرَةِ وَخُرْئِهَا، فَفِي الْخَانِيَّةِ: إِنَّ بَوْل الْهِرَّةِ وَالْفَأْرَةِ وَخُرْءَهَا نَجِسٌ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَاتِ، يُفْسِدُ الْمَاءَ وَالثَّوْبَ، وَلَوْ طُحِنَ بَعْرُ الْفَأْرَةِ مَعَ الْحِنْطَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ يُعْفَى عَنْهُ لِلضَّرُورَةِ. وَقَال الْحَصْكَفِيُّ: بَوْل الْفَأْرَةِ طَاهِرٌ لِتَعَذُّرِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَخُرْؤُهَا لاَ يُفْسِدُ مَا لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ، وَفِي الْحُجَّةِ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ نَجِسٌ.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْحَاصِل أَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ نَجَاسَةُ الْكُل، لَكِنَّ الضَّرُورَةَ مُتَحَقَّقَةٌ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 50.
(2) المجموع للنووي 2 / 568، 572.
(3) مطالب أولي النهى 1 / 232.
(4) مراقي الفلاح مع حاشية الطحطاوي ص19.

(32/5)


فِي بَوْل الْهِرَّةِ فِي غَيْرِ الْمَائِعَاتِ، كَالثِّيَابِ، وَكَذَا فِي خُرْءِ الْفَأْرَةِ فِي نَحْوِ الْحِنْطَةِ، دُونَ الثِّيَابِ وَالْمَائِعَاتِ، وَأَمَّا بَوْل الْفَأْرَةِ فَالضَّرُورَةُ فِيهِ غَيْرُ مُتَحَقَّقَةٍ. (1)

(ج) سُؤْرُ الْفَأْرِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَهَارَةِ سُؤْرِ الْفَأْرَةِ، لَكِنْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَتِهِ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: لِلُزُومِ طَوَافِهَا وَحُرْمَةِ لَحْمِهَا النَّجِسِ.
وَالْكَرَاهَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَرَاهَةٌ تَنْزِيهِيَّةٌ، وَمَحَل كَرَاهَةِ سُؤْرِهَا إِذَا وُجِدَ غَيْرُهُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ فَلاَ يُكْرَهُ. (2)

(د) أَكْل الْفَأْرِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحِل أَكْل الْفَأْرِ.
قَال الْمَحَلِّيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لِحُرْمَتِهِ سَبَبَانِ: النَّهْيُ عَنْ أَكْلِهِ، وَالأَْمْرُ بِقَتْلِهِ.
فَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ:
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص19 وحاشية ابن عابدين 1 / 212.
(2) الطحطاوي على مراقي الفلاح 18، 19، وحاشية الدسوقي 1 / 44، 45، والمجموع للنووي 2 / 589، وكشاف القناع 1 / 195.

(32/6)


الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلاَنِ: قَوْلٌ بِالْحُرْمَةِ كَمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، وَقَوْلٌ بِالْكَرَاهَةِ. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَشَرَات ف 3) .

قَتْل الْفَأْرِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ قَتْل الْفَأْرِ فِي الْحِل وَالْحَرَمِ، لِلْمُحْرِمِ وَغَيْرِهِ (3) لِمَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ مَنْ قَتَلَهُنَّ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ: الْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ. (4)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَام، ف 89) .
__________
(1) حديث: " خمس من الدواب كلهن فاسق. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 34) ، ومسلم (2 / 857) من حديث عائشة.
(2) حاشية ابن عابدين 55 / 193، وحاشية الدسوقي 2 / 115، والخرشي على خليل 3 / 27، ومواهب الجليل 3 / 230، 231، والقليوبي وعميرة 4 / 259، وكشاف القناع 6 / 191.
(3) تبيين الحقائق للزيلعي 2 / 66، وحاشية ابن عابدين 2 / 218، 219، وحاشية الدسوقي 2 / 74، والقليوبي وعميرة 2 / 137، والمغني لابن قدامة 3 / 341، 342.
(4) حديث: " خمس من الدواب من قتلهن وهو محرم. . . ". أخرجه البخاري، فتح الباري 6 / 355.

(32/6)


فَأْفَأَة

انْظُرْ: أَلْثَغ

فَال

انْظُرْ: تَفَاؤُل

فَائِتَة

انْظُرْ: قَضَاءُ الْفَوَائِتِ

(32/7)


فَاتِحَةُ الْكِتَابِ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْفَاتِحَةُ لُغَةً: مَا يُفْتَتَحُ بِهِ الشَّيْءُ. وَالْكِتَابُ مِنْ مَعَانِيهِ: الصُّحُفُ الْمَجْمُوعَةُ. وَالْفَاتِحَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ هِيَ: أُمُّ الْكِتَابِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَِنَّهُ يُفْتَتَحُ بِهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لَفْظًا، وَتُفْتَتَحُ بِهَا الْكِتَابَةُ فِي الْمُصْحَفِ خَطًّا، وَتُفْتَتَحُ بِهَا الصَّلَوَاتُ. (1)
قَال النَّوَوِيُّ: لِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَشَرَةُ أَسْمَاءٍ، الصَّلاَةُ، وَسُورَةُ الْحَمْدِ، وَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَأُمُّ الْكِتَابِ، وَأُمُّ الْقُرْآنِ، وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي، وَالشِّفَاءُ، وَالأَْسَاسُ، وَالْوَافِيَةُ، وَالْكَافِيَةُ. (2)
وَزَادَ الْقُرْطُبِيُّ فِي أَسْمَائِهَا: الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَالرُّقْيَةَ، وَعَبَّرَ عَنِ السَّبْعِ الْمَثَانِي بِالْمَثَانِي فَقَطْ. (3)
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، وتفسير القرطبي 1 / 111 ط. دار الكتب المصرية 1952م.
(2) المجموع للنووي 3 / 331.
(3) تفسير القرطبي 1 / 111.

(32/7)


وَزَادَ السُّيُوطِيُّ مِنَ الأَْسْمَاءِ: فَاتِحَةَ الْقُرْآنِ، وَالْكَنْزَ، وَالنُّورَ، وَسُورَةَ الشُّكْرِ، وَسُورَةَ الْحَمْدِ الأُْولَى، وَسُورَةَ الْحَمْدِ الْقُصْرَى، وَالشَّافِيَةَ، وَسُورَةَ السُّؤَال، وَسُورَةَ الدُّعَاءِ، وَسُورَةَ تَعْلِيمِ الْمَسْأَلَةِ، وَسُورَةَ الْمُنَاجَاةِ، وَسُورَةَ التَّفْوِيضِ (1) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ:
أ - مَكَانُ نُزُول فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَعَدَدُ آيَاتِهَا:
2 - أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى أَنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَاخْتَلَفُوا أَهِيَ مَكِّيَّةٌ أَمْ مَدَنِيَّةٌ؟ فَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُمْ: هِيَ مَكِّيَّةٌ، وَقَال أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَالزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ، قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَالأَْوَّل أَصَحُّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} ، (2) وَسُورَةُ الْحِجْرِ مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ، وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ فَرْضَ الصَّلاَةِ كَانَ بِمَكَّةَ، وَمَا حُفِظَ أَنَّهُ كَانَ فِي الإِْسْلاَمِ قَطُّ صَلاَةٌ بِغَيْرِ " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ "، يَدُل عَلَى هَذَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ صَلاَةَ إِلاَّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ (3) وَهَذَا خَبَرٌ عَنِ الْحُكْمِ لاَ عَنْ
__________
(1) الإتقان في علوم القرآن 1 / 52 ط مصطفى البابي الحلبي 1935م.
(2) سورة الحجر / 87.
(3) حديث: " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " أخرجه أبو عوانة (2 / 125) ، وأصله في البخاري (فتح الباري 2 / 237) .

(32/8)


الاِبْتِدَاءِ (1) .

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ الْبَسْمَلَةِ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنَ الْفَاتِحَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (بَسْمَلَة ف 5) .

(ب) فَضْل فَاتِحَةِ الْكِتَابِ:
3 - وَرَدَ فِي فَضْل فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَلاَ فِي الإِْنْجِيل وَلاَ فِي الزَّبُورِ وَلاَ فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا، وَإِنَّهَا سَبْعٌ مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُهُ. (2)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَقَال لِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْل أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ؟ فَأَخَذَ بِيَدَيَّ، فَلَمَّا أَرَدْنَا أَنْ نَخْرُجَ قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّكَ قُلْتَ لأَُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ؟ قَال:
__________
(1) تفسير القرطبي 1 / 114، 115 ط. دار الكتب المصرية 1952م.
(2) حديث: " والذي نفسي بيده. . . . ". أخرجه الترمذي (5 / 155 - 156) وقال: حديث حسن صحيح.

(32/8)


الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ. (1)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: فِي الْفَاتِحَةِ مِنَ الصِّفَاتِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهَا، حَتَّى قِيل: إِنَّ جَمِيعَ الْقُرْآنِ فِيهَا، وَهِيَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ كَلِمَةً، تَضَمَّنَتْ جَمِيعَ عُلُومِ الْقُرْآنِ، وَمِنْ شَرَفِهَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَسَمَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِهِ.
وَالْفَاتِحَةُ تَضَمَّنَتِ التَّوْحِيدَ وَالْعِبَادَةَ وَالْوَعْظَ وَالتَّذْكِيرَ، وَلاَ يُسْتَبْعَدُ ذَلِكَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. (2)

ج - قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلاَةِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلاَةِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ، (3) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. (4)
__________
(1) حديث أبي سعيد بن المعلى: " كنت أصلي في المسجد. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 54) .
(2) تفسير القرطبي 1 / 110، 111 ط. دار الكتب المصرية 1952م، والإتقان في علوم القرآن 2 / 153 ط مصطفى البابي الحلبي 1935م.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 236، ومغني المحتاج 1 / 156، وشرح روض الطالب 1 / 149، وكشاف القناع 1 / 386، ومطالب أولي النهى 1 / 494.
(4) حديث: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 237) ، ومسلم (1 / 295) من حديث عبادة بن الصامت.

(32/9)


وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ وَاجِبٌ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ وَلَيْسَتْ رُكْنًا (1) لِثُبُوتِهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الزَّائِدِ عَلَى قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} . (2)
وَلِلتَّفْصِيل فِي حُكْمِ قِرَاءَتِهَا فِي الْفَرْضِ وَالنَّفْل لِلإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ، وَالْجَهْرِ وَالسِّرِّ يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ (صَلاَةٌ ف 19، 38) .

د - خَوَاصُّ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ:
5 - ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مِنْ خَوَاصِّ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ الاِسْتِشْفَاءَ بِهَا، وَقَدْ عَقَدَ الْبُخَارِيُّ بَابًا فِي الرَّقْيِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَقَدْ ثَبَتَ الرَّقْيُ بِهَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَوْا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَلَمْ يَقْرُوهُمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ، فَقَالُوا: هَل مَعَكُمْ مِنْ دَوَاءٍ أَوْ رَاقٍ؟ فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَمْ تَقْرُونَا، وَلاَ نَفْعَل حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً، فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعًا مِنَ الشَّاءِ، فَجَعَل يَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ وَيَتْفِل فَبَرَأَ، فَأَتَوْا بِالشَّاءِ فَقَالُوا: لاَ نَأْخُذُهُ حَتَّى نَسْأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ، فَضَحِكَ وَقَال: وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ خُذُوهَا، وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ. (3)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 306، وتبيين الحقائق 1 / 105.
(2) سورة المزمل / 20.
(3) حديث أبي سعيد الخدري " أن ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتوا على حي من أحياء العرب " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 198) .

(32/9)


قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِبَعْضِ الْكَلاَمِ خَوَاصَّ وَمَنَافِعَ، فَمَا الظَّنُّ بِكَلاَمِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ بِالْفَاتِحَةِ الَّتِي لَمْ يَنْزِل فِي الْقُرْآنِ وَلاَ غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ مِثْلُهَا، لِتَضَمُّنِهَا جَمِيعَ مَعَانِي الْكِتَابِ؟ فَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى ذِكْرِ أُصُول أَسْمَاءِ اللَّهِ وَمَجَامِعِهَا، وَإِثْبَاتِ الْمَعَادِ، وَذِكْرِ التَّوْحِيدِ، وَالاِفْتِقَارِ إِلَى الرَّبِّ فِي طَلَبِ الإِْعَانَةِ بِهِ وَالْهِدَايَةِ مِنْهُ، وَذِكْرِ أَفْضَل الدُّعَاءِ، وَهُوَ طَلَبُ الْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، الْمُتَضَمِّنِ كَمَال مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَعِبَادَتِهِ بِفِعْل مَا أَمَرَ بِهِ، وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ، وَالاِسْتِقَامَةِ عَلَيْهِ، وَلِتَضَمُّنِهَا ذِكْرَ أَصْنَافِ الْخَلاَئِقِ، وَقِسْمَتَهُمْ إِلَى مُنْعَمٍ عَلَيْهِ لِمَعْرِفَتِهِ بِالْحَقِّ وَالْعَمَل بِهِ، وَمَغْضُوبٍ عَلَيْهِ لِعُدُولِهِ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، وَضَالٍّ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ لَهُ، مَعَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ إِثْبَاتِ الْقَدَرِ، وَالشَّرْعِ، وَالأَْسْمَاءِ، وَالْمَعَادِ، وَالتَّوْبَةِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَإِصْلاَحِ الْقَلْبِ، وَالرَّدِّ عَلَى جَمِيعِ أَهْل الْبِدَعِ، وَحَقِيقٌ بِسُورَةٍ هَذَا بَعْضُ شَأْنِهَا أَنْ يُسْتَشْفَى بِهَا مِنْ كُل دَاءٍ. (1)
__________
(1) فتح الباري 10 / 198 ط. مكتبة الرياض الحديثة، والإتقان في علوم القرآن 2 / 163 ط مصطفى الحلبي 1935م.

(32/10)


فَاحِشَة

التَّعْرِيفُ:
1 - الْفَاحِشَةُ فِي اللُّغَةِ: الْفِعْلَةُ الْقَبِيحَةُ، وَالْقَبِيحُ مِنَ الْقَوْل وَالْفِعْل، وَجَمْعُهَا فَوَاحِشُ. يُقَال: أَفْحَشَ عَلَيْهِ فِي الْمَنْطِقِ، أَيْ قَال الْفُحْشَ، وَرَجُلٌ فَاحِشٌ أَيْ: ذُو فُحْشٍ، وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ. (1)
وَكُل مَا يَشْتَدُّ قُبْحُهُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي فَهُوَ فَاحِشَةٌ.
وَتُطْلَقُ الْفَاحِشَةُ بِإِطْلاَقَاتٍ كَثِيرَةٍ، أَهَمُّهَا: الزِّنَا - كَمَا قَال ابْنُ الأَْثِيرِ - كَمَا تُطْلَقُ بِمَعْنَى الْقَبِيحِ وَالتَّعَدِّي فِي الْقَوْل وَالْفِعْل، وَبِمَعْنَى الْكَثْرَةِ وَالزِّيَادَةِ، وَبِمَعْنَى الْبُخْل. (2)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
__________
(1) حديث: " إن الله لا يحب الفحش والتفحش. . . ". أخرجه مسلم (4 / 1707) من حديث عائشة.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، وغريب القرآن للأصفهاني، والتعريفات للجرجاني، والمغرب في ترتيب المعرب مادة: فحش.

(32/10)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْفُجُورُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْفُجُورِ فِي اللُّغَةِ: شَقُّ سِتْرِ الدِّيَانَةِ، يُقَال: فَجَرَ فُجُورًا فَهُوَ فَاجِرٌ، أَيِ: انْبَعَثَ فِي الْمَعَاصِي غَيْرَ مُكْتَرِثٍ وَيُقَال: يَمِينٌ فَاجِرَةٌ، أَيْ كَاذِبَةٌ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْجُرْجَانِيُّ: الْفُجُورُ هُوَ هَيْئَةٌ حَاصِلَةٌ لِلنَّفْسِ بِهَا يُبَاشِرُ أُمُورًا عَلَى خِلاَفِ الشَّرْعِ وَالْمُرُوءَةِ (1) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِفَاحِشَةٍ:
مِنَ الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمُصْطَلَحِ فَاحِشَةٍ مَا يَأْتِي:

أ - فِي مُبْطِلاَتِ الصَّلاَةِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّلاَةَ تَبْطُل بِالأَْفْعَال الْكَثِيرَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِهَا وَلاَ مِنْ مَصْلَحَتِهَا، وَأَنَّهَا لاَ تَبْطُل بِالْفِعْلَةِ الْوَاحِدَةِ مَا لَمْ تَتَفَاحَشْ، فَإِنْ تَفَاحَشَتْ كَالضَّرْبِ، وَالْوَثْبَةِ الْفَاحِشَةِ، بَطَلَتِ الصَّلاَةُ. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةٌ ف 107 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) المفردات في غريب القرآن والتعريفات للجرجاني.
(2) مغني المحتاج 1 / 199، والمجموع 4 / 93.

(32/11)


ب - الْغَبْنُ الْفَاحِشُ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ عَلَى الْعُقُودِ بِالنِّسْبَةِ لِلْخِيَارِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ - وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - عَلَى الْمَشْهُورِ - إِلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ لاَ يُثْبِتُ الْخِيَارَ، وَلاَ يُوجِبُ الرَّدَّ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْغَبْنَ الْفَاحِشَ يُوجِبُ لِلْمَغْبُونِ حَقَّ الْخِيَارِ. (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (غَبْنٌ ف 6) . .

ج - فِي وَلِيمَةِ الْعُرْسِ:
5 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي تَمْنَعُ وُجُوبَ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى وَلِيمَةِ الْعُرْسِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْوَلاَئِمِ الأُْخْرَى، وُجُودَ شَخْصٍ مُضْحِكٍ لِلنَّاسِ بِفَاحِشٍ مِنَ الْقَوْل أَوِ الْفِعْل أَوِ الْكَذِبِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (وَلِيمَة) .

د - فِي الْعِدَّةِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِخْرَاجُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 398، وجواهر الإكليل 2 / 127 ومغني المحتاج 2 / 224، والمغني لابن قدامة 5 / 135.
(2) مغني المحتاج 3 / 247، والقليوبي وعميرة 3 / 297، وكشاف القناع 5 / 167.

(32/11)


الْمُعْتَدَّةِ أَوْ خُرُوجُهَا هِيَ مِنْ مَسْكَنِ عِدَّتِهَا إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، وَإِلاَّ أَنْ تَأْتِيَ بِفَاحِشَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَل اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} . (1)
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى الْفَاحِشَةِ الْوَارِدَةِ فِي الآْيَةِ فَقَال بَعْضُهُمْ: هِيَ الزِّنَا، فَيَجُوزُ لِصَاحِبِ الْعِدَّةِ أَوْ وَرَثَتِهِ أَنْ يُخْرِجُوهَا مِنَ الْمَسْكَنِ إِذَا زَنَتْ وَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، كَمَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا مِنْ قِبَل الإِْمَامِ لإِِقَامَةِ حَدِّ الزِّنَا عَلَيْهَا، وَقَال بَعْضُهُمْ: مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} إِلاَّ أَنْ تَبْذُوَ عَلَى أَهْل زَوْجِهَا وَأَحْمَائِهَا، فَإِذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ حَل لَهُمْ أَنْ يُخْرِجُوهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَال فِي فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ - وَهِيَ الَّتِي أَذِنَ لَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالاِنْتِقَال مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا -: تِلْكَ امْرَأَةٌ اسْتَطَالَتْ عَلَى أَحْمَائِهَا بِلِسَانِهَا فَأَمَرَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ تَنْتَقِل (2) .
__________
(1) سورة الطلاق / 1.
(2) قول سعيد بن المسيب في فاطمة بنت قيس. أسنده الشافعي كما في ترتيب المسند (2 / 5) .

(32/12)


وَقَال آخَرُونَ: الْفَاحِشَةُ فِي الآْيَةِ خُرُوجُهَا مِنْ بَيْتِهَا فِي الْعِدَّةِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ.
وَقَال بَعْضُهُمُ: الْفَاحِشَةُ هِيَ كُل مَعْصِيَةٍ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْبَذَاءِ عَلَى الأَْهْل.
قَال أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ: هَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا مُرَادًا. (1)

هـ - فِي الشِّعْرِ:
7 - قَال الْفُقَهَاءُ: يَجُوزُ قَوْل الشِّعْرِ، وَإِنْشَادُهُ، وَاسْتِمَاعُهُ (2) ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ شُعَرَاءُ يُصْغِي إِلَيْهِمْ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: سُئِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشِّعْرِ فَقَال: هُوَ كَلاَمٌ، فَحَسَنُهُ حَسَنٌ، وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ (3) إِلاَّ أَنْ يَكُونَ هِجَاءً لِمُسْلِمٍ، أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَعْصُومِينَ، أَوْ إِلاَّ أَنْ يَفْحُشَ، وَهُوَ أَنْ يَتَجَاوَزَ الشَّاعِرُ الْحَدَّ فِي الْمَدْحِ وَالإِْطْرَاءِ، وَلَمْ يُمْكِنْ حَمْلُهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ
__________
(1) البدائع 3 / 205، مغني المحتاج 3 / 402، وكشاف القناع 5 / 430 وأحكام القرآن للجصاص 3 / 454 - 462، وتفسير القرطبي 18 / 155، وأحكام القرآن لابن العربي 4 / 1817 - 1819.
(2) مغني المحتاج 4 / 430.
(3) حديث عائشة: أنها قالت: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشعر. . . ". أخرجه أبو يعلى (8 / 200) ، وأورده الهيثمي في المجمع (8 / 122) وقال: فيه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وثقه دحيم وجماعة، وضعفه ابن معين وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح.

(32/12)


إِلاَّ شَانَهُ، وَمَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قَصِيدَةٌ، وَشِعْرٌ ف 7 - 17) .

فَارِس

انْظُرْ: غَنِيمَة

فَارِسِيَّة

انْظُرْ: أَعْجَمِيّ

فَاسِد

انْظُرْ: فَسَاد

فَاسِق

انْظُرْ: فِسْق
__________
(1) حديث: " ما كان الفحش في شيء إلا شانه. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 349) من حديث أنس، وقال: حديث حسن.

(32/13)


فَتْح عَلَى الإِْمَامِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْفَتْحُ فِي اللُّغَةِ نَقِيضُ الإِْغْلاَقِ، يُقَال: فَتَحَ الْبَابَ يَفْتَحُهُ فَتْحًا: أَزَال غَلْقَهُ.
وَالإِْمَامُ كُل مَنْ يُقْتَدَى بِهِ. (1)
وَالْفَتْحُ عَلَى الإِْمَامِ فِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ: تَلْقِينُ الْمَأْمُومِ الإِْمَامَ الآْيَةَ عِنْدَ التَّوَقُّفِ فِيهَا (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - اللَّبْسُ:
2 - اللَّبْسُ: اخْتِلاَطُ الأَْمْرِ، مِنْ لَبَسَ الأَْمْرَ عَلَيْهِ يَلْبِسُ لَبْسًا فَالْتَبَسَ: إِذَا خَلَطَهُ عَلَيْهِ حَتَّى لاَ يَعْرِفَ جِهَتَهُ (3) وَفِي الْحَدِيثِ جَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَلَبَسَ عَلَيْهِ (4) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح.
(2) مغني المحتاج 1 / 158، ونهاية المحتاج 1 / 483، والمغني 2 / 56، وفتح القدير 1 / 347.
(3) لسان العرب مادة لبس.
(4) حديث: " جاءه الشيطان فلبس عليه ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 104، (ومسلم) 1 / 398) .

(32/13)


وَالصِّلَةُ أَنَّ اللَّبْسَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلْفَتْحِ عَلَى الإِْمَامِ.

ب - الْحَصْرُ:
3 - الْحَصْرُ: ضَرْبٌ مِنَ الْعِيِّ، مِنْ حَصِرَ الرَّجُل حَصْرًا: عَيِيَ، وَكُل مَنِ امْتَنَعَ مِنْ شَيْءٍ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَقَدْ حَصِرَ عَنْهُ. (1)
وَالْحَصْرُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلْفَتْحِ عَلَى الإِْمَامِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ فَتْحَ الْمُؤْتَمِّ عَلَى إِمَامِهِ إِذَا أُرْتِجَ عَلَيْهِ فِي الْقِرَاءَةِ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ وَرَدَّهُ إِذَا غَلِطَ فِي الْقِرَاءَةِ إِلَى الصَّوَابِ مَشْرُوعٌ إِجْمَالاً، (2) وَبِهِ قَال جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ وَابْنِ مَعْقِلٍ، وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلاَةً فَقَرَأَ فِيهَا فَلَبَسَ عَلَيْهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَال لأُِبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَصَلَّيْتَ مَعَنَا؟ قَال: نَعَمْ،
__________
(1) لسان العرب مادة حصر.
(2) ابن عابدين 1 / 418، والبحر الرائق 2 / 6 - 7، وفتح القدير 1 / 347، وشرح الزرقاني 1 / 242، وحاشية الدسوقي 1 / 282، والمجموع شرح المهذب 4 / 238، ومغني المحتاج 1 / 158، والقليوبي 1 / 149، والمغني 2 / 55 - 56.

(32/14)


قَال: فَمَا مَنَعَكَ؟ (1) وَبِحَدِيثِ الْمِسْوَرِ بْنِ يَزِيدَ الْمَالِكِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: شَهِدْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقْرَأُ فِي الصَّلاَةِ، فَتَرَكَ شَيْئًا لَمْ يَقْرَأْهُ فَقَال لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُول اللَّهِ تَرَكْتَ آيَةَ كَذَا وَكَذَا، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلاَّ أَذْكَرْتَنِيهَا. (2)
وَكَرِهَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَشُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ (3) .

أَحْكَامُ الْفَتْحِ عَلَى الإِْمَامِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ أَحْكَامِ الْفَتْحِ عَلَى الإِْمَامِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ إِجْمَالاً.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُؤْتَمَّ إِنْ فَتَحَ عَلَى إِمَامِهِ بَعْدَ تَوَقُّفِهِ فِي الْقِرَاءَةِ لَمْ يَكُنْ كَلاَمًا مُفْسِدًا لِلصَّلاَةِ، لأَِنَّهُ مُضْطَرٌّ إِلَى إِصْلاَحِ صَلاَتِهِ، سَوَاءٌ أَقَرَأَ الإِْمَامُ مِقْدَارَ الْفَرْضِ فِي الْقِرَاءَةِ أَمْ لَمْ يَقْرَأْ، لأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْتَحْ عَلَيْهِ رُبَّمَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ مَا يَكُونُ مُفْسِدًا لِلصَّلاَةِ، فَكَانَ فِي الْفَتْحِ عَلَيْهِ صَلاَحُ صَلاَتِهِ فِي
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة فقرأ فيها فلبس عليه. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 558 - 559) من حديث ابن عمر. وصحح إسناده النووي في المجموع 4 / 241.
(2) حديث المسور بن يزيد: " شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 558) وجود إسناده النووي في المجموع 4 / 241.
(3) المجموع 4 / 241.

(32/14)


الْحَالَيْنِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: إِذَا اسْتَطْعَمَكُمُ الإِْمَامُ فَأَطْعِمُوهُ (1) .
وَاسْتِطْعَامُهُ سُكُوتُهُ، وَيَنْوِي الْفَاتِحُ الْفَتْحَ لاَ التِّلاَوَةَ عَلَى الصَّحِيحِ، لأَِنَّهُ مُرَخَّصٌ فِيهِ، وَقِرَاءَتُهُ مَمْنُوعٌ عَنْهَا، وَلَوْ فَتَحَ عَلَيْهِ بَعْدَ انْتِقَالِهِ إِلَى آيَةٍ أُخْرَى لَمْ تَفْسُدْ صَلاَتُهُ، وَهُوَ قَوْل عَامَّةِ مَشَايِخِهِمْ، لإِِطْلاَقِ الْمُرَخِّصِ.
وَفِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ: وَفِي الْمُحِيطِ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ، فَإِنَّ فِيهِ: وَذَكَرَ فِي الأَْصْل وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ إِذَا فَتَحَ عَلَى إِمَامِهِ يَجُوزُ مُطْلَقًا، لأَِنَّ الْفَتْحَ وَإِنْ كَانَ تَعْلِيمًا، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِعَمَلٍ كَثِيرٍ، وَأَنَّهُ تِلاَوَةٌ حَقِيقِيَّةٌ فَلاَ يَكُونُ مُفْسِدًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ، وَصَحَّحَ فِي الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّهُ لاَ تَفْسُدُ صَلاَةُ الْفَاتِحِ عَلَى كُل حَالٍ، وَتَفْسُدُ صَلاَةُ الإِْمَامِ، إِذَا أَخَذَ مِنَ الْفَاتِحِ بَعْدَ أَنِ انْتَقَل إِلَى آيَةٍ أُخْرَى، وَفِي الْكَافِي: لاَ تَفْسُدُ صَلاَةُ الإِْمَامِ أَيْضًا.
وَالْحَاصِل أَنَّ الْفَتْحَ عَلَى إِمَامِهِ لاَ يُوجِبُ فَسَادَ صَلاَةِ أَحَدٍ لاَ الْفَاتِحِ، وَلاَ الآْخِذِ فِي الصَّحِيحِ، وَيُكْرَهُ لِلْمُقْتَدِي أَنْ يَعْجَل بِالْفَتْحِ، وَيُكْرَهُ لِلإِْمَامِ أَنْ يُلْجِئَهُمْ إِلَيْهِ بِأَنْ يَسْكُتَ بَعْدَ الْحَصْرِ، أَوْ يُكَرِّرَ الآْيَةَ، بَل يَرْكَعُ إِذَا جَاءَ أَوَانُهُ، أَوْ يَنْتَقِل إِلَى آيَةٍ أُخْرَى لَيْسَ
__________
(1) أثر علي: " إذا استطعمكم الإمام فأطعموه ". أخرجه الدارقطني (1 / 100) .

(32/15)


فِي وَصْلِهَا مَا يُفْسِدُ الصَّلاَةَ، أَوْ يَنْتَقِل إِلَى سُورَةٍ أُخْرَى.
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي أَوَانِ الرُّكُوعِ، فَفِي بَعْضِهَا: اعْتُبِرَ أَوَانُهُ إِذَا قَرَأَ الْمُسْتَحَبَّ، وَفِي بَعْضِهَا: اعْتُبِرَ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ: أَيْ إِذَا قَرَأَ مِقْدَارَ مَا يَجُوزُ بِهِ الصَّلاَةُ رَكَعَ. (1)
وَإِنْ فَتَحَ الْمُصَلِّي عَلَى غَيْرِ إِمَامِهِ فَسَدَتْ صَلاَتُهُ لأَِنَّهُ تَعْلِيمٌ وَتَعَلُّمٌ، فَكَانَ مِنْ جِنْسِ كَلاَمِ النَّاسِ، إِلاَّ إِذَا نَوَى التِّلاَوَةَ، فَإِنْ نَوَى التِّلاَوَةَ لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ عِنْدَ الْكُل، وَتَفْسُدُ صَلاَةُ الآْخِذِ، إِلاَّ إِذَا تَذَكَّرَ قَبْل تَمَامِ الْفَتْحِ، وَأَخَذَ فِي التِّلاَوَةِ قَبْل تَمَامِ الْفَتْحِ فَلاَ تَفْسُدُ، وَإِلاَّ فَسَدَتْ صَلاَتُهُ، لأَِنَّ تَذَكُّرَهُ يُضَافُ إِلَى الْفَتْحِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنْ حَصَل التَّذَكُّرُ بِسَبَبِ الْفَتْحِ تَفْسُدُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَشَرَعَ فِي التِّلاَوَةِ قَبْل تَمَامِ الْفَتْحِ أَمْ بَعْدَهُ، لِوُجُودِ التَّعَلُّمِ، وَإِنْ حَصَل تَذَكُّرُهُ مِنْ نَفْسِهِ لاَ بِسَبَبِ الْفَتْحِ لاَ تَفْسُدُ مُطْلَقًا، وَكَوْنُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ حَصَل بِالْفَتْحِ لاَ يُؤَثِّرُ بَعْدَ تَحَقُّقِ أَنَّهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَشْمَل هَذَا إِذَا كَانَ الْمَفْتُوحُ عَلَيْهِ مُصَلِّيًا أَوْ غَيْرَ مُصَلٍّ، وَإِنْ سَمِعَ الْمُؤْتَمُّ مِمَّنْ لَيْسَ فِي الصَّلاَةِ فَفَتَحَ بِهِ عَلَى إِمَامِهِ فَسَدَتْ
__________
(1) البحر الرائق 2 / 6، وابن عابدين 1 / 418، وفتح القدير 1 / 347.

(32/15)


صَلاَةُ الْكُل، لأَِنَّ التَّلْقِينَ مِنْ خَارِجٍ، وَفَتْحُ الْمُرَاهِقِ كَالْبَالِغِ فِيمَا ذُكِرَ.
هَذَا كُلُّهُ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ: إِنَّ الْفَتْحَ عَلَى الإِْمَامِ لاَ يَكُونُ مُفْسِدًا لِلصَّلاَةِ، فَلاَ تَفْسُدُ صَلاَةُ الْفَاتِحِ مُطْلَقًا، لأَِنَّهُ قِرَاءَةٌ فَلاَ تَتَغَيَّرُ بِقَصْدِ الْقَارِئِ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أُرْتِجَ عَلَى الإِْمَامِ فِي الْفَاتِحَةِ يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ يَفْتَحَ عَلَيْهِ عَلَى الْقَوْل: بِأَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ تَجِبُ فِي الصَّلاَةِ كُلِّهَا أَوْ جُلِّهَا.
أَمَّا عَلَى الْقَوْل: بِأَنَّ الْفَاتِحَةَ تَجِبُ فِي جُل الصَّلاَةِ لاَ فِي كُلِّهَا، وَحَصَل الرِّتَاجُ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي جُل الصَّلاَةِ، كَأَنْ يَقِفَ فِي ثَالِثَةِ الثُّلاَثِيَّةِ، أَوْ رَابِعَةِ الرَّبَاعِيَةِ، فَالْفَتْحُ عَلَيْهِ سُنَّةٌ، أَمَّا صَلاَةُ الإِْمَامِ فَصَحِيحَةٌ مُطْلَقًا، لأَِنَّهُ كَمَنْ طَرَأَ لَهُ الْعَجْزُ عَنْ رُكْنٍ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ، أَمَّا فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ فَيُسَنُّ الْفَتْحُ عَلَيْهِ إِنْ وَقَفَ حَقِيقَةً: بِأَنِ اسْتَفْتَحَ وَلَمْ يَنْتَقِل لِغَيْرِ سُورَةٍ وَلَمْ يُكَرِّرْ آيَةً، أَوْ وَقَفَ حُكْمًا: بِأَنْ رَدَّدَ آيَةً، إِذْ يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ لِلتَّبَرُّكِ أَوِ التَّلَذُّذِ بِهَا، وَيُحْتَمَل لِلاِسْتِطْعَامِ، كَقَوْلِهِ: " وَاللَّهُ " وَيُكَرِّرُهَا أَوْ يَسْكُتُ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ أَنَّ بَعْدَهَا " غَفُورٌ رَحِيمٌ ".
__________
(1) البحر الرائق 2 / 6 - 7، وابن عابدين 1 / 418، وفتح القدير 1 / 347.

(32/16)


وَمِنَ الْحُكْمِيِّ أَيْضًا: خَلْطُ آيَةِ رَحْمَةٍ بِآيَةِ عَذَابٍ، أَوْ تَغْيِيرُهُ آيَةً تَغْيِيرًا يَقْتَضِي الْكُفْرَ، أَوْ وَقْفُهُ وَقْفًا قَبِيحًا فَيَفْتَحُ عَلَيْهِ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى الصَّوَابِ، وَلاَ سُجُودَ عَلَيْهِ لِلْفَتْحِ عَلَى إِمَامِهِ، وَأَمَّا إِنِ انْتَقَل إِلَى آيَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ، أَوْ لَمْ يَقِفْ فَيُكْرَهُ الْفَتْحُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ وَلاَ تَبْطُل صَلاَةُ الْفَاتِحِ وَلاَ سُجُودَ عَلَيْهِ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفَتْحَ عَلَى الإِْمَامِ مُسْتَحَبٌّ، قَال النَّوَوِيُّ: إِذَا أُرْتِجَ عَلَى الإِْمَامِ وَوَقَفَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ اسْتُحِبَّ لِلْمَأْمُومِ تَلْقِينُهُ، وَكَذَا إِذَا كَانَ يَقْرَأُ فِي مَوْضِعٍ فَسَهَا وَانْتَقَل إِلَى غَيْرِهِ اسْتُحِبَّ تَلْقِينُهُ، وَإِذَا سَهَا عَنْ ذِكْرٍ فَأَهْمَلَهُ، أَوْ قَال غَيْرَهُ اسْتُحِبَّ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَقُولَهُ جَهْرًا لِيَسْمَعَهُ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " كَانَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَقِّنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الصَّلاَةِ (2) . وَالأَْخْبَارِ السَّابِقَةِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْفَتْحِ عَلَى الإِْمَامِ.
وَلاَ يَقْطَعُ الْفَتْحُ عَلَى الإِْمَامِ مُوَالاَةَ الْفَاتِحَةِ، لأَِنَّهُ فِي مَصْلَحَةِ الصَّلاَةِ، فَلاَ يَجِبُ اسْتِئْنَافُهَا، وَإِنْ كَانَ التَّوَقُّفُ فِي قِرَاءَةِ غَيْرِ
__________
(1) شرح الزرقاني 1 / 242، وحاشية الدسوقي 1 / 281.
(2) حديث: " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقن بعضهم بعضًا ". أخرجه الدارقطني 1 / 401، وضعف إسناده النووي في المجموع 4 / 239.

(32/16)


الْفَاتِحَةِ، لأَِنَّهُ إِعَانَةٌ لِلإِْمَامِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَطْلُوبَةِ.
وَلاَ بُدَّ فِي الْفَتْحِ عَلَيْهِ مِنْ قَصْدِ الْقِرَاءَةِ، وَلَوْ مَعَ الْفَتْحِ، وَإِلاَّ بَطَلَتْ صَلاَةُ الْفَاتِحِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ.
وَيَكُونُ الْفَتْحُ عَلَى الإِْمَامِ إِذَا تَوَقَّفَ عَنِ الْقِرَاءَةِ وَسَكَتَ، وَلاَ يَفْتَحُ عَلَيْهِ مَا دَامَ يُرَدِّدُ. (1)
فَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ الْقِرَاءَةَ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ إِنْ كَانَ عَالِمًا، وَإِلاَّ فَلاَ تَبْطُل، لأَِنَّهَا مِمَّا يَخْفَى عَلَى الْعَوَامِّ غَالِبًا، وَالْفَتْحُ مَنْدُوبٌ عِنْدَهُمْ وَلَوْ فِي الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ، وَفِي حَاشِيَةِ الْقَلْيُوبِيِّ: وَفِيهِ نَظَرٌ فِي الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى مِنَ الْجُمُعَةِ، وَقِيَاسُ نَظَائِرِهِ الْوُجُوبُ فِي هَذِهِ، وَأَنَّهُ لاَ يَقْطَعُ مُوَالاَةَ الْفَاتِحَةِ وَإِنْ طَال، وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا أُرْتِجَ عَلَى الإِْمَامِ فِي الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ كَالْفَاتِحَةِ لَزِمَ مَنْ وَرَاءَهُ الْفَتْحُ عَلَيْهِ، وَكَذَا إِنْ غَلِطَ فِي الْفَاتِحَةِ، لِتَوَقُّفِ صِحَّةِ صَلاَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَنْبِيهُهُ عِنْدَ نِسْيَانِ سَجْدَةٍ وَنَحْوِهَا مِنَ الأَْرْكَانِ الْفِعْلِيَّةِ.
وَإِنْ عَجَزَ الْمُصَلِّي عَنْ إِتْمَامِ الْفَاتِحَةِ
__________
(1) حاشية الجمل على شرح المنهج 1 / 348، والقليوبي 1 / 149 - 150، والمجموع شرح المهذب 4 / 238 وما بعده.
(2) المصادر السابقة.

(32/17)


بِالإِْرْتَاجِ عَلَيْهِ فَكَالْعَاجِزِ عَنِ الْقِيَامِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ، يَأْتِي بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ، وَلاَ يُعِيدُهَا كَالأُْمِّيِّ، فَإِنْ كَانَ إِمَامًا صَحَّتْ صَلاَةُ الأُْمِّيِّ خَلْفَهُ لِمُسَاوَاتِهِ لَهُ، وَالْقَارِئُ يُفَارِقُهُ لِلْعُذْرِ وَيُتِمُّ لِنَفْسِهِ، لأَِنَّهُ لاَ يَصِحُّ ائْتِمَامُ الْقَارِئِ بِالأُْمِّيِّ، هَذَا قَوْل ابْنِ عَقِيلٍ، وَقَال الْمُوَفَّقُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ. (1)
وَلاَ يَفْتَحُ الْمُصَلِّي عَلَى غَيْرِ إِمَامِهِ مُصَلِّيًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فَإِنْ فَعَل كُرِهَ وَلَمْ تَبْطُل الصَّلاَةُ بِهِ، لأَِنَّهُ قَوْلٌ مَشْرُوعٌ فِيهَا (2)
__________
(1) المغني: 2 / 55 - 56، وكشاف القناع 1 / 378 - 379.
(2) المغني 2 / 56، وكشاف القناع 1 / 379.

(32/17)


فِتْنَة

التَّعْرِيفُ:
1 - الْفِتْنَةُ فِي اللُّغَةِ كَمَا قَال الأَْزْهَرِيُّ: الاِبْتِلاَءُ وَالاِمْتِحَانُ وَالاِخْتِبَارُ، وَأَصْلُهَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِكَ: فَتَنْتُ الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ إِذَا أَذَبْتَهُمَا بِالنَّارِ لِتُمَيِّزَ الرَّدِيءَ مِنَ الْجَيِّدِ.
وَتَأْتِي الْفِتْنَةُ بِمَعْنَى الْكُفْرِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} (1) كَمَا تَأْتِي بِمَعْنَى الْفَضِيحَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ} (2) وَتَأْتِي الْفِتْنَةُ بِمَعْنَى الْعَذَابِ، وَبِمَعْنَى الْقَتْل، وَالْفَاتِنُ: الْمُضِل عَنِ الْحَقِّ. (3)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - تَظَاهَرَتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى التَّحْذِيرِ مِنَ الْفِتَنِ وَالأَْمْرِ بِتَجَنُّبِهَا وَاعْتِزَالِهَا وَعَدَمِ الْخَوْضِ فِيهَا، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى
__________
(1) سورة الأنفال / 39.
(2) سورة المائدة / 41.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح.

(32/18)


: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (1) وَمَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاَةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّال، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ (2) قَال ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِتْنَةُ الْمَحْيَا مَا يَعْرِضُ لِلإِْنْسَانِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ مِنَ الاِفْتِنَانِ بِالدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ وَالْجَهَالاَتِ، وَأَعْظَمُهَا وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ أَمْرُ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ. (3)
وَهُنَاكَ بَعْضُ الأَْحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْفِتْنَةِ وَمِنْهَا:

أ - بَيْعُ السِّلاَحِ زَمَنَ الْفِتْنَةِ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى حُرْمَةِ بَيْعِ مَا يُقْصَدُ بِهِ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ وَاعْتَبَرُوهُ مِنْ أَقْسَامِ الْبُيُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَمَثَّلُوا لَهُ بِبَيْعِ السِّلاَحِ زَمَنَ الْفِتْنَةِ، وَسَبَبُ النَّهْيِ عَنْهُ أَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى ضَرَرٍ مُطْلَقٍ وَعَامٍّ، وَفِي مَنْعِهِ سَدٌّ لِذَرِيعَةِ الإِْعَانَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ.
__________
(1) سورة الأنفال / 25.
(2) حديث عائشة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة اللهم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 317) ومسلم (1 / 412) .
(3) فتح الباري 2 / 319.

(32/18)


وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى كَرَاهَتِهِ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ بِعَدَمِ الْكَرَاهَةِ، لأَِنَّ الْمَعْصِيَةَ لاَ تَقُومُ بِعَيْنِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ف 100، 112، 115، 116) وَمُصْطَلَحِ (سَدُّ الذَّرَائِعِ ف 9) .

ب - اشْتِرَاطُ أَمْنِ الْفِتْنَةِ فِي جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ وَكَفَّيْهَا:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ وَكَفَّيْهَا عِنْدَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهَا عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (شَهْوَةٌ ف 11 وَعَوْرَةٌ ف 3) .

ج - الْفِتْنَةُ فِي عَزْل الإِْمَامِ الْجَائِرِ:
5 - اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ - مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ - قَيْدَ عَدَمِ وُقُوعِ الْفِتْنَةِ عِنْدَ عَزْل الإِْمَامِ، فَإِذَا فَسَقَ الإِْمَامُ أَوْ ظَلَمَ وَجَارَ اسْتَحَقَّ الْعَزْل إِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى عَزْلِهِ فِتْنَةٌ، فَإِنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ صَلَّوْا خَلْفَ أَئِمَّةِ الْجَوْرِ وَقَبِلُوا الْوِلاَيَةَ عَنْهُمْ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ لِلضَّرُورَةِ وَخَشْيَةَ الْفِتْنَةِ، فَإِنْ أَدَّى خَلْعُهُ إِلَى فِتْنَةٍ احْتُمِل أَدْنَى الْمَضَرَّتَيْنِ مِنْ جَوْرِهِ وَظُلْمِهِ أَوْ خَلْعِهِ وَعَزْلِهِ،

(32/19)


فَإِذَا قَامَ عَلَيْهِ إِمَامٌ عَدْلٌ فَيَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ وَإِعَانَةُ ذَلِكَ الْقَائِمِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِمَامَةٌ ف 12) .

(32/19)


فَتْوَى

التَّعْرِيفُ:
1 - الْفَتْوَى لُغَةً: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الإِْفْتَاءِ، وَالْجَمْعُ: الْفَتَاوَى وَالْفَتَاوِي، يُقَال: أَفْتَيْتُهُ فَتْوَى وَفُتْيَا إِذَا أَجَبْتَهُ عَنْ مَسْأَلَتِهِ، وَالْفُتْيَا تَبْيِينُ الْمُشْكِل مِنَ الأَْحْكَامِ، وَتَفَاتَوْا إِلَى فُلاَنٍ: تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ وَارْتَفَعُوا إِلَيْهِ فِي الْفُتْيَا، وَالتَّفَاتِي: التَّخَاصُمُ، وَيُقَال: أَفْتَيْتُ فُلاَنًا رُؤْيَا رَآهَا: إِذَا عَبَّرْتَهَا لَهُ (1) وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى حَاكِيًا: {يَا أَيُّهَا الْمَلأَُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ} . (2)
وَالاِسْتِفْتَاءُ لُغَةً: طَلَبُ الْجَوَابِ عَنِ الأَْمْرِ الْمُشْكِل، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} (3) وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى مُجَرَّدِ سُؤَالٍ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} (4) ، قَال الْمُفَسِّرُونَ: أَيِ اسْأَلْهُمْ. (5)
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط.
(2) سورة يوسف آية / 43.
(3) سورة الكهف آية / 22.
(4) سورة الصافات آية / 11.
(5) تفسير القرطبي 15 / 68 وتفسير ابن كثير 4 / 3 ط عيسى الحلبي.

(32/20)


وَالْفَتْوَى فِي الاِصْطِلاَحِ: تَبْيِينُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَنْ دَلِيلٍ لِمَنْ سَأَل عَنْهُ (1) وَهَذَا يَشْمَل السُّؤَال فِي الْوَقَائِعِ وَغَيْرِهَا.
وَالْمُفْتِي لُغَةً: اسْمُ فَاعِل أَفْتَى، فَمَنْ أَفْتَى مَرَّةً فَهُوَ مُفْتٍ، وَلَكِنَّهُ يُحْمَل فِي الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ بِمَعْنًى أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ، قَال الصَّيْرَفِيُّ: هَذَا الاِسْمُ مَوْضُوعٌ لِمَنْ قَامَ لِلنَّاسِ بِأَمْرِ دِينِهِمْ، وَعَلِمَ جُمَل عُمُومِ الْقُرْآنِ وَخُصُوصِهِ، وَنَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ، وَكَذَلِكَ السُّنَنُ وَالاِسْتِنْبَاطُ، وَلَمْ يُوضَعْ لِمَنْ عَلِمَ مَسْأَلَةً وَأَدْرَكَ حَقِيقَتَهَا، فَمَنْ بَلَغَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ سَمَّوْهُ بِهَذَا الاِسْمِ، وَمَنِ اسْتَحَقَّهُ أَفْتَى فِيمَا اسْتُفْتِيَ فِيهِ. (2)
وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: الْمُفْتِي مَنْ كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْفِعْل، وَهَذَا إِنْ قُلْنَا بِعَدَمِ تَجَزُّؤِ الاِجْتِهَادِ (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَضَاءُ:
2 - الْقَضَاءُ: هُوَ فَصْل الْقَاضِي بَيْنَ الْخُصُومِ، وَيُقَال لَهُ أَيْضًا: الْحُكْمُ، وَالْحَاكِمُ: الْقَاضِي.
__________
(1) شرح المنتهى 33 / 456، مطبعة أنصار السنة بالقاهرة، وصفة الفتوى والمستفتى لابن حمدان ص4.
(2) البحر المحيط 6 / 305.
(3) البحر المحيط 6 / 306.

(32/20)


وَالْقَضَاءُ شَبِيهٌ بِالْفَتْوَى إِلاَّ أَنَّ بَيْنَهُمَا فُرُوقًا: مِنْهَا: أَنَّ الْفَتْوَى إِخْبَارٌ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَالْقَضَاءَ إِنْشَاءٌ لِلْحُكْمِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْفَتْوَى لاَ إِلْزَامَ فِيهَا لِلْمُسْتَفْتِي أَوْ غَيْرِهِ، بَل لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِهَا إِنْ رَآهَا صَوَابًا وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهَا وَيَأْخُذَ بِفَتْوَى مُفْتٍ آخَرَ، أَمَّا الْحُكْمُ الْقَضَائِيُّ فَهُوَ مُلْزِمٌ، (1) وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ إِذَا دَعَا الآْخَرَ إِلَى فَتَاوَى الْفُقَهَاءِ لَمْ نُجْبِرْهُ، وَإِنْ دَعَاهُ إِلَى قَاضٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الإِْجَابَةُ، وَأُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ، لأَِنَّ الْقَاضِيَ مَنْصُوبٌ لِقَطْعِ الْخُصُومَاتِ وَإِنْهَائِهَا. (2)
وَمِنْهَا: مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ عَنْ أَيْمَانِ الْبَزَّازِيَّةِ: أَنَّ الْمُفْتِيَ يُفْتِي بِالدِّيَانَةِ - أَيْ عَلَى بَاطِنِ الأَْمْرِ، وَيُدَيِّنُ الْمُسْتَفْتِيَ، وَالْقَاضِيَ يَقْضِي عَلَى الظَّاهِرِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: مِثَالُهُ إِذَا قَال رَجُلٌ لِلْمُفْتِي: قُلْتُ لِزَوْجَتِي: أَنْتِ طَالِقٌ قَاصِدًا الإِْخْبَارَ كَاذِبًا فَإِنَّ الْمُفْتِيَ يُفْتِيهِ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ، أَمَّا الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالْوُقُوعِ. (3)
وَمِنْهَا: مَا قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ حُكْمَ
__________
(1) إعلام الموقعين 11 / 36، 38، 4 / 264، والإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام للقرافي ص20، حلب مكتبة المطبوعات الإسلامية 1387هـ.
(2) البحر المحيط للزركشي 6 / 315 الكويت، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية 1990م.
(3) رد المحتار على الدر المختار 4 / 306.

(32/21)


الْقَاضِي جُزْئِيٌّ خَاصٌّ لاَ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَلَهُ، وَفَتْوَى الْمُفْتِي شَرِيعَةٌ عَامَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَفْتِي وَغَيْرِهِ، فَالْقَاضِي يَقْضِي قَضَاءً مُعَيَّنًا عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَالْمُفْتِي يُفْتِي حُكْمًا عَامًّا كُلِّيًّا: أَنَّ مَنْ فَعَل كَذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ كَذَا، وَمَنْ قَال كَذَا لَزِمَهُ كَذَا. (1)
وَمِنْهَا: أَنَّ الْقَضَاءَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِلَفْظٍ مَنْطُوقٍ، وَتَكُونُ الْفُتْيَا بِالْكِتَابَةِ وَالْفِعْل وَالإِْشَارَةِ. (2)

ب - الاِجْتِهَادُ:
3 - الاِجْتِهَادُ: بَذْل الْفَقِيهِ وُسْعَهُ فِي تَحْصِيل الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الظَّنِّيِّ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الإِْفْتَاءِ: أَنَّ الإِْفْتَاءَ: يَكُونُ فِيمَا عُلِمَ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا. أَمَّا الاِجْتِهَادُ فَلاَ يَكُونُ فِي الْقَطْعِيِّ (3) وَأَنَّ الاِجْتِهَادَ يَتِمُّ بِمُجَرَّدِ تَحْصِيل الْفَقِيهِ الْحُكْمَ فِي نَفْسِهِ، وَلاَ يَتِمُّ الإِْفْتَاءُ إِلاَّ بِتَبْلِيغِ الْحُكْمِ لِلسَّائِل.
وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْمُفْتِيَ هُوَ الْمُجْتَهِدُ، أَرَادُوا بَيَانَ أَنَّ غَيْرَ الْمُجْتَهِدِ لاَ يَكُونُ مُفْتِيًا حَقِيقَةً، وَأَنَّ الْمُفْتِيَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مُجْتَهِدًا، وَلَمْ
__________
(1) إعلام الموقعين 1 / 38.
(2) الفروق للشيخ أحمد بن إدريس القرافي الصنهاجي المالكي 4 / 48، 54.
(3) مسلم الثبوت في أصول الفقه 2 / 362 بولاق، والإحكام للقرافي ص195.

(32/21)


يُرِيدُوا التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الاِجْتِهَادِ وَالإِْفْتَاءِ فِي الْمَفْهُومِ. (1)

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الْفَتْوَى فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، إِذْ لاَ بُدَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يُبَيِّنُ لَهُمْ أَحْكَامَ دِينِهِمْ فِيمَا يَقَعُ لَهُمْ، وَلاَ يُحْسِنُ ذَلِكَ كُل أَحَدٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَقُومَ بِهِ مَنْ لَدَيْهِ الْقُدْرَةُ.
وَلَمْ تَكُنْ فَرْضَ عَيْنٍ لأَِنَّهَا تَقْتَضِي تَحْصِيل عُلُومٍ جَمَّةٍ، فَلَوْ كُلِّفَهَا كُل وَاحِدٍ لأََفْضَى إِلَى تَعْطِيل أَعْمَال النَّاسِ وَمَصَالِحِهِمْ، لاِنْصِرَافِهِمْ إِلَى تَحْصِيل عُلُومٍ بِخُصُوصِهَا، وَانْصِرَافِهِمْ عَنْ غَيْرِهَا مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَمِمَّا يَدُل عَلَى فَرْضِيَّتِهَا قَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} (2) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سُئِل عَنْ عِلْمٍ ثُمَّ كَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ. (3)
قَال الْمَحَلِّيُّ: وَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الْقِيَامُ بِإِقَامَةِ الْحُجَجِ الْعِلْمِيَّةِ، وَحَل الْمُشْكِلاَتِ فِي
__________
(1) الورقات للجويني وشرحها لابن قاسم العبادي بهامش إرشاد الفحول ص247 والشوكاني في إرشاد الفحول ص265، وصفة الفتوى لابن حمدان ص13.
(2) سورة آل عمران / 187.
(3) حديث: " من سئل عن علم ثم كتمه. . . " أخرجه الترمذي (55 / 29) من حديث أبي هريرة، وقال: حديث حسن صحيح.

(32/22)


الدِّينِ، وَدَفْعُ الشُّبَهِ، وَالْقِيَامُ بِعُلُومِ الشَّرْعِ كَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ بِحَيْثُ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ وَالإِْفْتَاءِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِمَا. (1)
وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الْبِلاَدِ مُفْتُونَ لِيَعْرِفَهُمُ النَّاسُ، فَيَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِمْ بِسُؤَالِهِمْ يَسْتَفْتِيهِمُ النَّاسُ، وَقَدَّرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَكُونَ فِي كُل مَسَافَةِ قَصْرٍ وَاحِدٌ. (2)

تَعَيُّنُ الْفَتْوَى:
5 - مَنْ سُئِل عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مِنَ الْمُتَأَهِّلِينَ لِلْفَتْوَى يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْجَوَابُ، بِشُرُوطٍ:
الأَْوَّل: أَنْ لاَ يُوجَدَ فِي النَّاحِيَةِ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَتَمَكَّنُ مِنَ الإِْجَابَةِ، فَإِنْ وُجِدَ عَالِمٌ آخَرُ يُمْكِنُهُ الإِْفْتَاءُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَى الأَْوَّل، (3) بَل لَهُ أَنْ يُحِيل عَلَى الثَّانِي، قَال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى: أَدْرَكْتُ عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنَ الأَْنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَل أَحَدُهُمْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، فَيَرُدُّهَا هَذَا إِلَى هَذَا، وَهَذَا إِلَى هَذَا، حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى الأَْوَّل: وَقِيل: إِذَا لَمْ يَحْضُرْ الاِسْتِفْتَاءَ غَيْرُهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ. (4)
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَسْئُول عَالِمًا بِالْحُكْمِ
__________
(1) شرح المنهاج للمحلي 4 / 214.
(2) شرح المنهاج 4 / 214.
(3) شرح المنتهى 3 / 458، مكتبة المنيرة.
(4) المجموع للنووي شرح المهذب للشيرازي 1 / 45 القاهرة، المكتبة المنيرية.

(32/22)


بِالْفِعْل، أَوْ بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْفِعْل، وَإِلاَّ لَمْ يَلْزَمْ تَكْلِيفُهُ بِالْجَوَابِ، لِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي تَحْصِيلِهِ.
الثَّالِثُ: أَنْ لاَ يَمْنَعَ مِنْ وُجُوبِ الْجَوَابِ مَانِعٌ، كَأَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ عَنْ أَمْرٍ غَيْرِ وَاقِعٍ، أَوْ عَنْ أَمْرٍ لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلسَّائِل، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (1) .

مَنْزِلَةُ الْفَتْوَى:
6 - تَتَبَيَّنُ مَنْزِلَةُ الْفَتْوَى فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ، مِنْهَا:
أ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفْتَى عِبَادَهُ، وَقَال {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُل اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} (2) ، وَقَال: {يَسْتَفْتُونَكَ قُل اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} . (3)
ب - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَوَلَّى هَذَا الْمَنْصِبَ فِي حَيَاتِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَى رِسَالَتِهِ، وَقَدْ كَلَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ حَيْثُ قَال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّل إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (4) . فَالْمُفْتِي خَلِيفَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَدَاءِ وَظِيفَةِ الْبَيَانِ، وَقَدْ تَوَلَّى هَذِهِ الْخِلاَفَةَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابُهُ الْكِرَامُ، ثُمَّ أَهْل الْعِلْمِ بَعْدَهُمْ.
__________
(1) الموافقات 4 / 313.
(2) سورة النساء / 127.
(3) سورة النساء / 176.
(4) سورة النحل / 44.

(32/23)


ج - أَنَّ مَوْضُوعَ الْفَتْوَى هُوَ بَيَانُ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَطْبِيقُهَا عَلَى أَفْعَال النَّاسِ، فَهِيَ قَوْلٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَنَّهُ يَقُول لِلْمُسْتَفْتِي: حُقَّ عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَل، أَوْ حَرَامٌ عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَل، وَلِذَا شَبَّهَ الْقَرَافِيُّ الْمُفْتِيَ بِالتُّرْجُمَانِ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، وَجَعَلَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ بِمَنْزِلَةِ الْوَزِيرِ الْمُوَقِّعِ عَنِ الْمَلِكِ قَال: إِذَا كَانَ مَنْصِبُ التَّوْقِيعِ عَنِ الْمُلُوكِ بِالْمَحَل الَّذِي لاَ يُنْكَرُ فَضْلُهُ، وَلاَ يُجْهَل قَدْرُهُ، وَهُوَ مِنْ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ السَّنِيَّاتِ، فَكَيْفَ بِمَنْصِبِ التَّوْقِيعِ عَنْ رَبِّ الأَْرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ (1) ، نَقَل النَّوَوِيُّ: الْمُفْتِي مُوَقِّعٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَنُقِل عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ أَنَّهُ قَال: الْعَالِمُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ يَدْخُل بَيْنَهُمْ؟ (2) .

تَهَيُّبُ الإِْفْتَاءِ وَالْجُرْأَةُ عَلَيْهِ:
7 - وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ: أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ (3) ، وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْل عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى تَرَادُّ الصَّحَابَةِ لِلْجَوَابِ عَنِ الْمَسَائِل. وَقَدْ نَقَل النَّوَوِيُّ فِي حَدِيثِهِ عَنْهُمْ رِوَايَةً فِيهَا زِيَادَةُ: مَا مِنْهُمْ مَنْ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ إِلاَّ وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ إِيَّاهُ، وَلاَ
__________
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم 1 / 10.
(2) مقدمة المجموع 1 / 73 تكملة المطيعي وتحقيقه.
(3) حديث: " أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار. . . " أخرجه الدارمي (1 / 57) من حديث عبيد الله بن أبي جعفر مرسلاً.

(32/23)


يُسْتَفْتَى عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْفُتْيَا وَنُقِل عَنْ سُفْيَانَ وَسَحْنُونٍ: أَجْسَرُ النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْمًا، فَالَّذِي يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَكُونَ مُتَهَيِّبًا لِلإِْفْتَاءِ، لاَ يَتَجَرَّأُ عَلَيْهِ إِلاَّ حَيْثُ يَكُونُ الْحُكْمُ جَلِيًّا فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، أَوْ يَكُونُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، أَمَّا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا تَعَارَضَتْ فِيهِ الأَْقْوَال وَالْوُجُوهُ وَخَفِيَ حُكْمُهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَثَبَّتَ وَيَتَرَيَّثَ حَتَّى يَتَّضِحَ لَهُ وَجْهُ الْجَوَابِ، فَإِنْ لَمْ يَتَّضِحْ لَهُ تَوَقَّفَ.
وَفِيمَا نُقِل عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ يُسْأَل عَنْ خَمْسِينَ مَسْأَلَةً فَلاَ يُجِيبُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَكَانَ يَقُول: مَنْ أَجَابَ فَيَنْبَغِي قَبْل الْجَوَابِ أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَكَيْفَ خَلاَصُهُ، ثُمَّ يُجِيبُ، وَعَنِ الأَْثْرَمِ قَال: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يُكْثِرُ أَنْ يَقُول: لاَ أَدْرِي (1) .

الْفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ:
8 - الإِْفْتَاءُ بِغَيْرِ عِلْمٍ حَرَامٌ، لأَِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ، وَيَتَضَمَّنُ إِضْلاَل النَّاسِ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِْثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا
__________
(1) المجموع شرح المهذب 1 / 40، 41.

(32/24)


بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّل بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (1) ، فَقَرَنَهُ بِالْفَوَاحِشِ وَالْبَغْيِ وَالشِّرْكِ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صُدُورِ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا. (2)
مِنْ أَجْل ذَلِكَ كَثُرَ النَّقْل عَنِ السَّلَفِ إِذَا سُئِل أَحَدُهُمْ عَمَّا لاَ يَعْلَمُ أَنْ يَقُول لِلسَّائِل: لاَ أَدْرِي. نُقِل ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ، وَيَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يَسْتَعْمِل ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ وَيُعَوِّدَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنْ فَعَل الْمُسْتَفْتِي بِنَاءً عَلَى الْفَتْوَى أَمْرًا مُحَرَّمًا أَوْ أَدَّى الْعِبَادَةَ الْمَفْرُوضَةَ عَلَى وَجْهٍ فَاسِدٍ، حَمَل الْمُفْتِي بِغَيْرِ عِلْمٍ إِثْمَهُ، إنْ لَمْ يَكُنِ الْمُسْتَفْتِي قَصَّرَ فِي الْبَحْثِ عَمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْفُتْيَا، وَإِلاَّ فَالإِْثْمُ عَلَيْهِمَا (3) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ. (4)
__________
(1) سورة الأعراف / 33.
(2) حديث: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 194) ومسلم (4 / 2058) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص واللفظ للبخاري.
(3) إعلام الموقعين 4 / 173، 174، 217، 218.
(4) حديث: " من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه ". أخرجه الحاكم (1 / 126) من حديث أبي هريرة وصححه ووافقه الذهبي.

(32/24)


أَنْوَاعُ مَا يُفْتَى فِيهِ:
9 - يَدْخُل الإِْفْتَاءُ الأَْحْكَامَ الاِعْتِقَادِيَّةَ: مِنَ الإِْيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَسَائِرِ أَرْكَانِ الإِْيمَانِ.
وَيَدْخُل الأَْحْكَامَ الْعَمَلِيَّةَ جَمِيعَهَا: مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالأَْنْكِحَةِ، وَيَدْخُل الإِْفْتَاءُ الأَْحْكَامَ التَّكْلِيفِيَّةَ كُلَّهَا، وَهِيَ الْوَاجِبَاتُ وَالْمُحَرَّمَاتُ وَالْمَنْدُوبَاتُ وَالْمَكْرُوهَاتُ وَالْمُبَاحَاتُ، وَيَدْخُل الإِْفْتَاءُ فِي الأَْحْكَامِ الْوَضْعِيَّةِ كَالإِْفْتَاءِ بِصِحَّةِ الْعِبَادَةِ أَوِ التَّصَرُّفِ أَوْ بُطْلاَنِهِمَا. (1)

حَقِيقَةُ عَمَل الْمُفْتِي:
10 - لَمَّا كَانَ الإِْفْتَاءُ هُوَ الإِْخْبَارَ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَنْ دَلِيلِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أُمُورًا:
الأَْوَّل: تَحْصِيل الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْمُجَرَّدِ فِي ذِهْنِ الْمُفْتِي، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ مَشَقَّةَ فِي تَحْصِيلِهِ لَمْ يَكُنْ تَحْصِيلُهُ اجْتِهَادًا، كَمَا لَوْ سَأَلَهُ سَائِلٌ عَنْ أَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ مَا هِيَ؟ أَوْ عَنْ حُكْمِ الإِْيمَانِ بِالْقُرْآنِ؟ وَإِنْ كَانَ الدَّلِيل خَفِيًّا، كَمَا لَوْ كَانَ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرَ وَاضِحَةِ الدَّلاَلَةِ عَلَى الْمُرَادِ، أَوْ حَدِيثًا نَبَوِيًّا وَارِدًا بِطَرِيقِ الآْحَادِ، أَوْ غَيْرَ وَاضِحِ الدَّلاَلَةِ عَلَى الْمُرَادِ، أَوْ كَانَ الْحُكْمُ مِمَّا تَعَارَضَتْ فِيهِ الأَْدِلَّةُ أَوْ لَمْ يَدْخُل تَحْتَ شَيْءٍ
__________
(1) الفروق للقرافي 4 / 48، 54.

(32/25)


مِنَ النُّصُوصِ أَصْلاً، احْتَاجَ أَخْذُ الْحُكْمِ إِلَى اجْتِهَادٍ فِي صِحَّةِ الدَّلِيل أَوْ ثُبُوتِهِ أَوِ اسْتِنْبَاطِ الْحُكْمِ مِنْهُ أَوِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ.
الثَّانِي: مَعْرِفَةُ الْوَاقِعَةِ الْمَسْئُول عَنْهَا، بِأَنْ يَذْكُرَهَا الْمُسْتَفْتِي فِي سُؤَالِهِ، وَعَلَى الْمُفْتِي أَنْ يُحِيطَ بِهَا إِحَاطَةً تَامَّةً فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَوَابُ، بِأَنْ يَسْتَفْصِل السَّائِل عَنْهَا، وَيَسْأَل غَيْرَهُ إِنْ لَزِمَ، وَيَنْظُرَ فِي الْقَرَائِنِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَعْلَمَ انْطِبَاقَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَاقِعَةِ الْمَسْئُول عَنْهَا، بِأَنْ يَتَحَقَّقَ مِنْ وُجُودِ مَنَاطِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي تَحَصَّل فِي الذِّهْنِ فِي الْوَاقِعَةِ الْمَسْئُول عَنْهَا لِيَنْطَبِقَ عَلَيْهَا الْحُكْمُ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَنُصَّ عَلَى حُكْمِ كُل جُزْئِيَّةٍ بِخُصُوصِهَا، وَإِنَّمَا أَتَتْ بِأُمُورٍ كُلِّيَّةٍ وَعِبَارَاتٍ مُطْلَقَةٍ، تَتَنَاوَل أَعْدَادًا لاَ تَنْحَصِرُ مِنَ الْوَقَائِعِ، وَلِكُل وَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ خُصُوصِيَّةٌ لَيْسَتْ فِي غَيْرِهَا. وَلَيْسَتِ الأَْوْصَافُ الَّتِي فِي الْوَقَائِعِ مُعْتَبَرَةً فِي الْحُكْمِ كُلُّهَا، وَلاَ هِيَ طَرْدِيَّةٌ كُلُّهَا، بَل مِنْهَا مَا يُعْلَمُ اعْتِبَارُهُ، وَمِنْهَا مَا يُعْلَمُ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ، وَبَيْنَهُمَا قِسْمٌ ثَالِثٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، فَلاَ تَبْقَى صُورَةٌ مِنَ الصُّوَرِ الْوُجُودِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ إِلاَّ وَلِلْمُفْتِي فِيهَا نَظَرٌ سَهْلٌ أَوْ صَعْبٌ، حَتَّى يُحَقِّقَ تَحْتَ أَيِّ دَلِيلٍ تَدْخُل؟ وَهَل يُوجَدُ مَنَاطُ الْحُكْمِ فِي الْوَاقِعَةِ أَمْ لاَ؟ فَإِذَا حَقَّقَ وُجُودَهُ فِيهَا أَجْرَاهُ عَلَيْهَا، وَهَذَا اجْتِهَادٌ

(32/25)


لاَ بُدَّ مِنْهُ لِكُل قَاضٍ وَمُفْتٍ، وَلَوْ فُرِضَ ارْتِفَاعُ هَذَا الاِجْتِهَادِ لَمْ تَتَنَزَّل الأَْحْكَامُ عَلَى أَفْعَال الْمُكَلَّفِينَ إِلاَّ فِي الذِّهْنِ، لأَِنَّهَا عُمُومَاتٌ وَمُطْلَقَاتٌ، مُنَزَّلَةٌ عَلَى أَفْعَالٍ مُطْلَقَةٍ كَذَلِكَ، وَالأَْفْعَال الَّتِي تَقَعُ فِي الْوُجُودِ لاَ تَقَعُ مُطْلَقَةً، وَإِنَّمَا تَقَعُ مُعَيَّنَةً مُشَخَّصَةً، فَلاَ يَكُونُ الْحُكْمُ وَاقِعًا عَلَيْهَا إِلاَّ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِأَنَّ هَذَا الْمُعَيَّنَ يَشْمَلُهُ ذَلِكَ الْمُطْلَقُ أَوْ ذَلِكَ الْعَامُّ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَهْلاً وَقَدْ لاَ يَكُونُ، وَذَلِكَ كُلُّهُ اجْتِهَادٌ.
وَمِثَال هَذَا: أَنْ يَسْأَلَهُ رَجُلٌ هَل يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى أَبِيهِ؟
فَيَنْظُرَ أَوَّلاً فِي الأَْدِلَّةِ الْوَارِدَةِ، فَيَعْلَمَ أَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الاِبْنِ الْغَنِيِّ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى أَبِيهِ الْفَقِيرِ، وَيَتَعَرَّفَ ثَانِيًا حَال كُلٍّ مِنَ الأَْبِ وَالاِبْنِ، وَمِقْدَارَ مَا يَمْلِكُهُ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، وَمَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِيَال، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَظُنُّ أَنَّ لَهُ فِي الْحُكْمِ أَثَرًا، ثُمَّ يَنْظُرَ فِي حَال كُلٍّ مِنْهُمَا لِيُحَقِّقَ وُجُودَ مَنَاطِ الْحُكْمِ - وَهُوَ الْغِنَى وَالْفَقْرُ - فَإِنَّ الْغِنَى وَالْفَقْرَ اللَّذَيْنِ عَلَّقَ بِهِمَا الشَّارِعُ الْحُكْمَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا طَرَفَانِ وَوَاسِطَةٌ، فَالْغِنَى مَثَلاً لَهُ طَرَفٌ أَعْلَى لاَ إِشْكَال فِي دُخُولِهِ فِي حَدِّ الْغِنَى، وَلَهُ طَرَفٌ أَدْنَى لاَ إِشْكَال فِي خُرُوجِهِ عَنْهُ، وَهُنَاكَ وَاسِطَةٌ يَتَرَدَّدُ النَّاظِرُ فِي دُخُولِهَا أَوْ خُرُوجِهَا،

(32/26)


وَكَذَلِكَ الْفَقْرُ لَهُ أَطْرَافٌ ثَلاَثَةٌ - فَيَجْتَهِدُ الْمُفْتِي فِي إِدْخَال الصُّورَةِ الْمَسْئُول عَنْهَا فِي الْحُكْمِ أَوْ إِخْرَاجِهَا بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ.
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الاِجْتِهَادِ لاَ بُدَّ مِنْهُ فِي كُل وَاقِعَةٍ - وَهُوَ الْمُسَمَّى تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ - لأَِنَّ كُل صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ النَّازِلَةِ نَازِلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ فِي نَفْسِهَا، لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا نَظِيرٌ، وَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّهُ تَقَدَّمَ مِثْلُهَا فَلاَ بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي تَحْقِيقِ كَوْنِهَا مِثْلَهَا أَوْ لاَ، وَهُوَ نَظَرُ اجْتِهَادٍ. (1)

شُرُوطُ الْمُفْتِي:
11 - لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي الْحُرِّيَّةُ وَالذُّكُورِيَّةُ وَالنُّطْقُ اتِّفَاقًا، فَتَصِحُّ فُتْيَا الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَالأَْخْرَسِ وَيُفْتِي بِالْكِتَابَةِ أَوْ بِالإِْشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ، (2) وَأَمَّا السَّمْعُ، فَقَدْ قَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهُ شَرْطٌ فَلاَ تَصِحُّ فُتْيَا الأَْصَمِّ وَهُوَ مَنْ لاَ يَسْمَعُ أَصْلاً، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: لاَ شَكَّ أَنَّهُ إِذَا كُتِبَ لَهُ السُّؤَال وَأَجَابَ عَنْهُ جَازَ الْعَمَل بِفَتْوَاهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُنَصَّبَ لِلْفَتْوَى، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ كُل أَحَدٍ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ (3) ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الشَّرْطَ غَيْرُهُمْ، وَكَذَا لَمْ يَذْكُرُوا فِي الشُّرُوطِ الْبَصَرَ، فَتَصِحُّ فُتْيَا
__________
(1) الموافقات للشاطبي 4 / 89، 95.
(2) شرح المنتهى 3 / 457، وإعلام الموقعين 4 / 220، وحاشية ابن عابدين 4 / 302، وصفه الفتوى لابن حمدان ص13، والمجموع 1 / 75 تحقيق المطيعي.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 4 / 302.

(32/26)


الأَْعْمَى، وَصَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ. (1)
أَمَّا مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي فَهُوَ أُمُورٌ:
12 - أ - الإِْسْلاَمُ: فَلاَ تَصِحُّ فُتْيَا الْكَافِرِ.

ب - الْعَقْل: فَلاَ تَصِحُّ فُتْيَا الْمَجْنُونِ.

ج - الْبُلُوغُ: فَلاَ تَصِحُّ فُتْيَا الصَّغِيرِ.

13 - د: الْعَدَالَةُ: فَلاَ تَصِحُّ فُتْيَا الْفَاسِقِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، لأَِنَّ الإِْفْتَاءَ يَتَضَمَّنُ الإِْخْبَارَ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَخَبَرُ الْفَاسِقِ لاَ يُقْبَل، وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ إِفْتَاءَ الْفَاسِقِ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ صِدْقَ نَفْسِهِ. (2)
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْفَاسِقَ يَصْلُحُ مُفْتِيًا، لأَِنَّهُ يَجْتَهِدُ لِئَلاَّ يُنْسَبَ إِلَى الْخَطَأِ. (3)
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: تَصِحُّ فُتْيَا الْفَاسِقِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُعْلِنًا بِفِسْقِهِ وَدَاعِيًا إِلَى بِدْعَتِهِ، وَذَلِكَ إِذَا عَمَّ الْفُسُوقُ وَغَلَبَ، لِئَلاَّ تَتَعَطَّل الأَْحْكَامُ، وَالْوَاجِبُ اعْتِبَارُ الأَْصْلَحِ فَالأَْصْلَحِ. (4)
وَأَمَّا الْمُبْتَدِعَةُ، فَإِنْ كَانَتْ بِدْعَتُهُمْ مُكَفِّرَةً أَوْ مُفَسِّقَةً لَمْ تَصِحَّ فَتَاوَاهُمْ، وَإِلاَّ صَحَّتْ فِيمَا لاَ يَدْعُونَ فِيهِ إِلَى بِدَعِهِمْ، قَال الْخَطِيبُ
__________
(&#
x661 ;) حديث الدسوقي 4 / 130.
(2) صفة الفتوى لابن حمدان ص29، والمجموع 1 / 41.
(3) مجمع الأنهر 2 / 145.
(4) إعلام الموقعين 4 / 220 وشرح المنتهى 3 / 457، وابن عابدين 4 / 301.

(32/27)


الْبَغْدَادِيُّ: تَجُوزُ فَتَاوَى أَهْل الأَْهْوَاءِ وَمَنْ لاَ نُكَفِّرُهُ بِبِدْعَتِهِ وَلاَ نُفَسِّقُهُ، وَأَمَّا الشُّرَاةُ وَالرَّافِضَةُ الَّذِينَ يَشْتُمُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَ السَّلَفَ فَإِنَّ فَتَاوِيَهُمْ مَرْذُولَةٌ وَأَقَاوِيلَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ (1) .

14 - هـ - الاِجْتِهَادُ وَهُوَ: بَذْل الْجَهْدِ فِي اسْتِنْبَاطِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مِنَ الأَْدِلَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِْثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّل بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (2) ، قَال الشَّافِعِيُّ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْخَطِيبُ: لاَ يَحِل لأَِحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ فِي دِينِ اللَّهِ، إِلاَّ رَجُلاً عَارِفًا بِكِتَابِ اللَّهِ: بِنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَتَأْوِيلِهِ وَتَنْزِيلِهِ، وَمَكِّيِّهِ وَمَدَنِيِّهِ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ، وَيَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ بَصِيرًا بِحَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْرِفُ مِنَ الْحَدِيثِ مِثْل مَا عَرَفَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَكُونُ بَصِيرًا بِاللُّغَةِ، بَصِيرًا بِالشِّعْرِ، وَمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلسُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ وَيَسْتَعْمِل هَذَا مَعَ الإِْنْصَافِ، وَيَكُونُ مُشْرِفًا عَلَى اخْتِلاَفِ أَهْل الأَْمْصَارِ، وَتَكُونُ لَهُ قَرِيحَةٌ بَعْدَ هَذَا، فَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَلَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَيُفْتِيَ فِي الْحَلاَل وَالْحَرَامِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَكَذَا
__________
(1) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي ص202 القاهرةهرة، نشر زكريا علي يوسف، والمجموع 1 / 42.
(2) سورة الأعراف / 33.

(32/27)


فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ. اهـ. وَهَذَا مَعْنَى الاِجْتِهَادِ.
وَنَقَل ابْنُ الْقَيِّمِ قَرِيبًا مِنْ هَذَا عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (1) .
وَمَفْهُومُ هَذَا الشَّرْطِ: أَنَّ فُتْيَا الْعَامِّيِّ وَالْمُقَلِّدِ الَّذِي يُفْتِي بِقَوْل غَيْرِهِ لاَ تَصِحُّ،

قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَفِي فُتْيَا الْمُقَلِّدِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْفُتْيَا بِالتَّقْلِيدِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِعِلْمٍ، وَلأَِنَّ الْمُقَلِّدَ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَالْفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ حَرَامٌ، قَال: وَهَذَا قَوْل جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ وَأَكْثَرِ الْحَنَابِلَةِ.
الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ، فَأَمَّا أَنْ يَتَقَلَّدَ لِغَيْرِهِ وَيُفْتِيَ بِهِ فَلاَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِ الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ، قَال: وَهُوَ أَصَحُّ الأَْقْوَال، وَعَلَيْهِ الْعَمَل (2) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ ابْنِ الْهُمَامِ: وَقَدِ اسْتَقَرَّ رَأْيُ الأُْصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ هُوَ الْمُجْتَهِدُ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ مِمَّنْ يَحْفَظُ أَقْوَال الْمُجْتَهِدِ فَلَيْسَ بِمُفْتٍ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إِذَا سُئِل أَنْ يَذْكُرَ قَوْل الْمُجْتَهِدِ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ، فَعُرِفَ أَنَّ مَا يَكُونُ فِي زَمَانِنَا مِنْ فَتْوَى الْمَوْجُودِينَ لَيْسَ بِفَتْوَى، بَل هُوَ نَقْل
__________
(1) إعلام الموقعين 1 / 46.
(2) إعلام الموقعين 1 / 46.

(32/28)


كَلاَمِ الْمُفْتِي لِيَأْخُذَ بِهِ الْمُسْتَفْتِي. اهـ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَهُ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ وَلاَ يَجْعَلُهُ كَأَنَّهُ مِنْ كَلاَمِهِ هُوَ، (1) وَمَقْصُودُهُمْ أَنَّ فُتْيَا الْمُقَلِّدِ لَيْسَتْ بِفُتْيَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، (2) وَتُسَمَّى فُتْيَا مَجَازًا لِلشَّبَهِ، وَيَجُوزُ الأَْخْذُ بِهَا فِي هَذِهِ الأَْزْمَانِ لِقِلَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ أَوِ انْعِدَامِهِمْ، وَلِذَا قَال صَاحِبُ تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ: الاِجْتِهَادُ شَرْطُ الأَْوْلَوِيَّةِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: مَعْنَاهُ: أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ الْمُجْتَهِدُ فَهُوَ الأَْوْلَى بِالتَّوْلِيَةِ. (3)
وَقَال ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: تَوْقِيفُ الْفُتْيَا عَلَى حُصُول الْمُجْتَهِدِ يُفْضِي إِلَى حَرَجٍ عَظِيمٍ، أَوِ اسْتِرْسَال الْخَلْقِ فِي أَهْوَائِهِمْ، فَالْمُخْتَارُ أَنَّ الرَّاوِيَ عَنِ الأَْئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ إِذَا كَانَ عَدْلاً مُتَمَكِّنًا مِنْ فَهْمِ كَلاَمِ الإِْمَامِ، ثُمَّ حَكَى لِلْمُقَلِّدِ قَوْلَهُ فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ، لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْعَامِّيِّ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ عِنْدَهُ، قَال: وَقَدِ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ فِي زَمَانِنَا عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْفُتْيَا.
قَال الزَّرْكَشِيُّ: أَمَّا مَنْ شَدَا (جَمَعَ) شَيْئًا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 47، والمجموع 1 / 45.
(2) ابن الصلاح: الفتوى ق10 مخطوط بدار الكتب المصرية برقم 1889 أصول، والمجموع للنووي 1 / 42.
(3) ابن عابدين 44 / 305، وأيضًا 4 / 306 وانظر إعلام الموقعين 1 / 46، وصفة الفتوى لابن حمدان ص24، وإرشاد الفحول ص296.

(32/28)


مِنَ الْعِلْمِ فَقَدْ نُقِل الإِْجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَحِل لَهُ أَنْ يُفْتِيَ (1) .

15 - وَلَيْسَ لِمَنْ يُفْتِي بِمَذْهَبِ إِمَامٍ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ إِلاَّ وَقَدْ عَرَفَ دَلِيلَهُ وَوَجْهَ الاِسْتِنْبَاطِ.
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: لاَ يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يُفْتِيَ فِي دِينِ اللَّهِ بِمَا هُوَ مُقَلِّدٌ فِيهِ وَلَيْسَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِيهِ سِوَى أَنَّهُ قَوْل مَنْ قَلَّدَهُ، هَذَا إِجْمَاعُ السَّلَفِ وَبِهِ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا. (2)
وَقَال الْجُوَيْنِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: مَنْ حَفِظَ نُصُوصَ الشَّافِعِيِّ وَأَقْوَال النَّاسِ بِأَسْرِهَا غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَعْرِفُ حَقَائِقَهَا وَمَعَانِيَهَا لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيَقِيسَ، وَلاَ يَكُونُ مِنْ أَهْل الْفَتْوَى، وَلَوْ أَفْتَى بِهِ لاَ يَجُوزُ، (3) وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي الْمَذْهَبِ مِنَ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ هُمْ أَصْحَابُ التَّرْجِيحِ لاَ يَلْزَمُهُ الأَْخْذُ بِقَوْل الإِْمَامِ عَلَى الإِْطْلاَقِ، بَل عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي الدَّلِيل وَتَرْجِيحُ مَا رَجَحَ عِنْدَهُ دَلِيلُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَعَلَيْهِ الأَْخْذُ بِأَقْوَال أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ بِتَرْتِيبٍ الْتَزَمُوهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مَا شَاءَ (4) وَكَذَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ
__________
(1) البحر المحيط للزركشي 6 / 306.
(2) إعلام الموقعين 44 / 195، 198 و1 / 45، ومثله في رسم المفتي لابن عابدين ص11.
(3) البحر المحيط للزركشي 6 / 307.
(4) حاشية ابن عابدين 4 / 302 و1 / 48.

(32/29)


لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَخَيَّرَ فِي مَسْأَلَةٍ ذَاتِ قَوْلَيْنِ، بَل عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ أَيَّهُمَا أَقْرَبَ إِلَى الأَْدِلَّةِ أَوْ قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِ فَيَعْمَل بِهِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَنَقَل الإِْجْمَاعَ عَلَيْهِ وَسَبَقَهُ إِلَى حِكَايَةِ الإِْجْمَاعِ فِيهِ ابْنُ الصَّلاَحِ وَالْبَاجِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الصَّوَابَ فِي قَوْل غَيْرِ إِمَامِهِ وَكَانَ لَهُ اجْتِهَادٌ فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ. (1)
وَلَيْسَ لِلْمُفْتِي الْمُقَلِّدِ أَنْ يُفْتِيَ بِالضَّعِيفِ وَالْمَرْجُوحِ مِنَ الأَْقْوَال عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، بَل نَقَل الْحَصْكَفِيُّ أَنَّ الْعَمَل بِالْقَوْل الْمَرْجُوحِ جَهْلٌ وَخَرْقٌ لِلإِْجْمَاعِ (2) وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنْ لَيْسَ لِلْمُفْتِي الْمُقَلِّدِ الإِْفْتَاءُ بِالضَّعِيفِ وَالْمَرْجُوحِ حَتَّى فِي حَقِّ نَفْسِهِ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ أَجَازُوا لَهُ الْعَمَل بِالضَّعِيفِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ. (3)
16 - وَحَيْثُ قُلْنَا: إِنَّ لِلْمُقَلِّدِ الإِْفْتَاءَ بِقَوْل الْمُجْتَهِدِ، فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ الْمُقَلِّدُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، قَال الشَّافِعِيُّ: الْمَذَاهِبُ لاَ تَمُوتُ بِمَوْتِ أَرْبَابِهَا. وَصَرَّحَ بِذَلِكَ صَاحِبُ الْمَحْصُول، وَادَّعَى الإِْجْمَاعَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ
__________
(1) شرح المنتهى 22 / 458، وإعلام الموقعين 4 / 237، وعقود رسم المفتي لابن عابدين ص11 والمجموع 1 / 68.
(2) الدر المختار بهامش حاشية ابن عابدين 11 / 51، و2 / 602، والدسوقي على الشرح الكبير 4 / 130، و1 / 20، وإعلام الموقعين 4 / 211، 177.
(3) ابن عابدين 1 / 51 وحاشية الدسوقي 4 / 130.

(32/29)


الْمُجْتَهِدَ الَّذِي يَسْتَنْبِطُ حُكْمًا فَهُوَ عِنْدَهُ حُكْمٌ دَائِمٌ.
وَفِي وَجْهٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ لأَِنَّهُ لَوْ عَاشَ فَإِنَّهُ كَانَ يُجَدِّدُ النَّظَرَ عِنْدَ النَّازِلَةِ إِمَّا وُجُوبًا أَوِ اسْتِحْبَابًا، وَلَعَلَّهُ لَوْ جَدَّدَ النَّظَرَ لَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ الأَْوَّل. (1)

17 - وَمَا رَجَعَ عَنْهُ الْمُجْتَهِدُ مِنْ أَقْوَالِهِ فَلاَ يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ الإِْفْتَاءُ بِهِ، لأَِنَّهُ بِرُجُوعِهِ عَنْهُ لَمْ يُعَدَّ قَوْلاً لَهُ، وَهَذَا مَا لَمْ يُرَجِّحْهُ أَهْل التَّرْجِيحِ، وَمِنْ هُنَا تُرِكَ الْقَدِيمُ مِنْ أَقْوَال الشَّافِعِيِّ الَّتِي خَالَفَهَا فِي الْجَدِيدِ، إِلاَّ مَسَائِل مَعْدُودَةً يُعْمَل فِيهَا بِالْقَدِيمِ رَجَّحَهَا أَهْل التَّرْجِيحِ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، قَال الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ فِي حِلٍّ مَنْ رَوَى عَنِّي الْقَدِيمَ. (2)

18 - و - جَوْدَةُ الْقَرِيحَةِ: وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كَثِيرَ الإِْصَابَةِ، صَحِيحَ الاِسْتِنْبَاطِ، فَلاَ تَصْلُحُ فُتْيَا الْغَبِيِّ، وَلاَ مَنْ كَثُرَ غَلَطُهُ، بَل يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِطَبْعِهِ شَدِيدَ الْفَهْمِ لِمَقَاصِدِ الْكَلاَمِ وَدَلاَلَةِ الْقَرَائِنِ، صَادِقَ الْحُكْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كَلاَمِ الشَّافِعِيِّ: أَنْ تَكُونَ لَهُ قَرِيحَةٌ، قَال النَّوَوِيُّ: شَرْطُ الْمُفْتِي كَوْنُهُ فَقِيهَ النَّفْسِ، سَلِيمَ الذِّهْنِ، رَصِينَ الْفِكْرِ، صَحِيحَ النَّظَرِ وَالاِسْتِنْبَاطِ. اهـ. (3)
__________
(1) إعلام الموقعين لابن القيم 2 / 215، 260، والمجموع للنووي 1 / 55.
(2) البحر المحيط 6 / 304، والمجموع 1 / 66، 68.
(3) المجموع شرح المهذب 1 / 41.

(32/30)


وَهَذَا يُصَحِّحُ فُتْيَاهُ مِنْ جِهَتَيْنِ:
الأُْولَى: صِحَّةُ أَخْذِهِ لِلْحُكْمِ مِنْ أَدِلَّتِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: صِحَّةُ تَطْبِيقِهِ لِلْحُكْمِ عَلَى الْوَاقِعَةِ الْمَسْئُول عَنْهَا، فَلاَ يَغْفُل عَنْ أَيٍّ مِنَ الأَْوْصَافِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْحُكْمِ، وَلاَ يَعْتَقِدُ تَأْثِيرَ مَا لاَ أَثَرَ لَهُ.

19 - ز - الْفَطَانَةُ وَالتَّيَقُّظُ: يُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي أَنْ يَكُونَ مُتَيَقِّظًا (1) ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: شَرَطَ بَعْضُهُمْ تَيَقُّظَ الْمُفْتِي، قَال: وَهَذَا شَرْطٌ فِي زَمَانِنَا، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُفْتِي مُتَيَقِّظًا يَعْلَمُ حِيَل النَّاسِ وَدَسَائِسَهُمْ، فَإِنَّ لِبَعْضِهِمْ مَهَارَةً فِي الْحِيَل وَالتَّزْوِيرِ وَقَلْبِ الْكَلاَمِ وَتَصْوِيرِ الْبَاطِل فِي صُورَةِ الْحَقِّ، فَغَفْلَةُ الْمُفْتِي يَلْزَمُ مِنْهَا ضَرَرٌ كَبِيرٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ (2) ، وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِمَكْرِ النَّاسِ وَخِدَاعِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ زَاغَ وَأَزَاغَ، فَالْغِرُّ يَرُوجُ عَلَيْهِ زَغَل الْمَسَائِل كَمَا يَرُوجُ عَلَى الْجَاهِل بِالنَّقْدِ زَغَل الدَّرَاهِمِ، وَذُو الْبَصِيرَةِ يُخْرِجُ زَيْفَهَا كَمَا يُخْرِجُ النَّاقِدُ زَغَل النُّقُودِ، وَكَمْ مِنْ بَاطِلٍ يُخْرِجُهُ الرَّجُل بِحُسْنِ لَفْظِهِ وَتَنْمِيقِهِ فِي صُورَةِ حَقٍّ، بَل هَذَا أَغْلَبُ أَحْوَال النَّاسِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُفْتِي فَقِيهًا فِي مَعْرِفَةِ أَحْوَال النَّاسِ تَصَوَّرَ لَهُ
__________
(1) المجموع 1 / 41.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 301.

(32/30)


الْمَظْلُومُ فِي صُورَةِ الظَّالِمِ وَعَكْسُهُ (1) ، وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا مَا نَبَّهَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي أَنْ يَكُونَ عَلَى عِلْمٍ بِالأَْعْرَافِ اللَّفْظِيَّةِ لِلْمُسْتَفْتِي، لِئَلاَّ يُفْهَمَ كَلاَمُهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، وَهَذَا إِنْ كَانَ إِفْتَاؤُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالأَْلْفَاظِ كَالأَْيْمَانِ وَالإِْقْرَارِ وَنَحْوِهَا. (2)

20 - وَالْقَرَابَةُ وَالصَّدَاقَةُ وَالْعَدَاوَةُ لاَ تُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْفَتْوَى كَمَا تُؤَثِّرُ فِي الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُفْتِيَ أَبَاهُ أَوِ ابْنَهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَوْ شَرِيكَهُ أَوْ يُفْتِيَ عَلَى عَدُوِّهِ، فَالْفَتْوَى فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الرِّوَايَةِ، لأَِنَّ الْمُفْتِيَ فِي حُكْمِ الْمُخْبِرِ عَنِ الشَّرْعِ بِأَمْرٍ عَامٍّ لاَ اخْتِصَاصَ لَهُ بِشَخْصٍ، وَلأَِنَّ الْفَتْوَى لاَ يَرْتَبِطُ بِهَا إِلْزَامٌ، بِخِلاَفِ حُكْمِ الْقَاضِي.
وَيَجُوزُ أَنْ يُفْتِيَ نَفْسَهُ، قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: لَكِنْ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُحَابِيَ نَفْسَهُ أَوْ قَرِيبَهُ فِي الْفُتْيَا، بِأَنْ يُرَخِّصَ لِنَفْسِهِ أَوْ قَرِيبِهِ، وَيُشَدِّدَ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ فَعَل قَدَحَ ذَلِكَ فِي عَدَالَتِهِ، وَنَقَل أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلاَحِ عَنْ صَاحِبِ الْحَاوِي أَنَّ الْمُفْتِيَ إِذَا نَابَذَ فِي فُتْيَاهُ شَخْصًا مُعَيَّنًا صَارَ خَصْمًا، فَتُرَدُّ فَتْوَاهُ عَلَى مَنْ عَادَاهُ، كَمَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ إِذَا وَقَعَتْ. (3)
__________
(1) إعلام الموقعين 4 / 229، 205.
(2) المجموع 1 / 46.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 302، والمجموع للنووي 1 / 41، وشرح المنتهى 3 / 472، 473، وإعلام الموقعين 4 / 210.

(32/31)


وَقَدْ نَبَّهَ أَحْمَدُ إِلَى خِصَالٍ مُكَمِّلَةٍ لِلْمُفْتِي حَيْثُ قَال: لاَ يَنْبَغِي لِلرَّجُل أَنْ يَنْصِبَ نَفْسَهُ لِلْفُتْيَا حَتَّى يَكُونَ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ: أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نُورٌ، وَلاَ عَلَى كَلاَمِهِ نُورٌ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ عِلْمٌ وَحِلْمٌ وَوَقَارٌ وَسَكِينَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ قَوِيًّا عَلَى مَا هُوَ فِيهِ وَعَلَى مَعْرِفَتِهِ، وَالْكِفَايَةُ وَإِلاَّ مَضَغَهُ النَّاسُ، وَمَعْرِفَةُ النَّاسِ. (1)

إِفْتَاءُ الْقَاضِي:
21 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ فِي الْعِبَادَاتِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لاَ مَدْخَل فِيهِ لِلْقَضَاءِ كَالذَّبَائِحِ وَالأَْضَاحِيِّ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِفْتَائِهِ فِي الأُْمُورِ الَّتِي يَدْخُلُهَا الْقَضَاءُ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ إِلَى أَنَّهُ يُفْتِي فِيهَا أَيْضًا بِلاَ كَرَاهَةٍ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّهُ مَوْضِعُ تُهْمَةٍ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ إِنْ أَفْتَى فِيهَا تَكُونُ فُتْيَاهُ كَالْحُكْمِ عَلَى الْخَصْمِ، وَلاَ يُمْكِنُ نَقْضُهُ وَقْتَ الْمُحَاكَمَةِ، وَلأَِنَّهُ قَدْ يَتَغَيَّرُ اجْتِهَادُهُ وَقْتَ الْحُكْمِ، أَوْ تَظْهَرُ لَهُ قَرَائِنُ لَمْ تَظْهَرْ لَهُ عِنْدَ الإِْفْتَاءِ، فَإِنْ حَكَمَ بِخِلاَفِ
__________
(1) إعلام الموقعين 4 / 199، 205.

(32/31)


مَا أَفْتَى بِهِ جَعَل لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ سَبِيلاً لِلتَّشْنِيعِ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَال شُرَيْحٌ: أَنَا أَقْضِي لَكُمْ وَلاَ أُفْتِي، وَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: يُكْرَهُ لِلْقَاضِي الإِْفْتَاءُ فِي مَسَائِل الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالأَْحْكَامِ وَغَيْرِهَا، مَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَفْتِي خُصُومَةٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُ خُصُومَةٌ فَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَهُ فِيهَا. (2)
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ فِيمَا شَأْنُهُ أَنْ يُخَاصَمَ فِيهِ، كَالْبَيْعِ وَالشُّفْعَةِ وَالْجِنَايَاتِ.
قَال الْبُرْزُلِيُّ: وَهَذَا إِذَا كَانَ فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَوْ جَاءَهُ السُّؤَال مِنْ خَارِجِ الْبَلَدِ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ فَلاَ كَرَاهَةَ. (3)
ثُمَّ إِنْ أَفْتَى الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُكْمًا، وَيَجُوزُ التَّرَافُعُ إِلَى غَيْرِهِ، فَلَوْ حَكَمَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ فِي النَّازِلَةِ بِعَيْنِهَا بِخِلاَفِهِ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا لِحُكْمِهِ (4) ، وَإِنْ رَدَّ شَهَادَةَ وَاحِدٍ بِرُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ بِعَدَالَتِهِ، وَلاَ
__________
(1) المجموع للنووي 1 / 42، وإعلام الموقعين 4 / 220، وصفة الفتوى لابن حمدان ص29.
(2) حاشية ابن عابدين والدر المختار 4 / 302.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 139.
(4) إعلام الموقعين 4 / 221، وحاشية الدسوقي 4 / 157، وابن عابدين 4 / 326.

(32/32)


يُقَال: إِنَّهُ حَكَمَ بِكَذِبِهِ أَوْ بِأَنَّهُ لَمْ يَرَ الْهِلاَل، لأَِنَّ الْقَضَاءَ لاَ يَدْخُل الْعِبَادَاتِ. (1)
كَمَا تَقَدَّمَ (ف 2، 9) .

مَا تَسْتَنِدُ إِلَيْهِ الْفَتْوَى:
22 - الْمُجْتَهِدُ يُفْتِي بِمُقْتَضَى الأَْدِلَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ بِالتَّرْتِيبِ الْمُعْتَبَرِ، فَيُفْتِي أَوَّلاً بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ بِمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بِالإِْجْمَاعِ، وَأَمَّا الأَْدِلَّةُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا كَالاِسْتِحْسَانِ وَشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، فَإِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا أَفْتَى بِهِ، وَإِذَا تَعَارَضَتْ عِنْدَهُ الأَْدِلَّةُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْتِيَ بِالرَّاجِحِ مِنْهَا.
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِي السَّعَةِ بِمَذْهَبِ أَحَدِ الْمُجْتَهِدِينَ، مَا لَمْ يُؤَدِّهِ اجْتِهَادُهُ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا هُوَ الْمَرْجُوحُ فِي نَظَرِهِ، نَقَل الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ قُدَامَةَ وَالْبَاجِيُّ (2) ، وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ - حَيْثُ قُلْنَا: يَجُوزُ إِفْتَاؤُهُ - فَإِنَّهُ يُفْتِي بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنْ أَقْوَال الْمُجْتَهِدِينَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْأَل عَنْ أَعْلَمِهِمْ وَأَفْضَلِهِمْ لِيَأْخُذَ بِقَوْلِهِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَرَجِ، وَلأَِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانَ السَّائِل مِنْهُمْ يَسْأَل مَنْ تَيَسَّرَ لَهُ سُؤَالُهُ مِنَ
__________
(1) شرح المنتهى 3 / 501.
(2) روضة الناظر 2 / 438، والموافقات 4 / 140، وإرشاد الفحول ص267.

(32/32)


الْمُفْتِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقِيل: عَلَيْهِ أَنْ يَبْحَثَ عَنِ الأَْفْضَل لِيَأْخُذَ بِقَوْلِهِ.
أَمَّا مَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ اجْتِهَادُ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ، وَلَيْسَ هُوَ بِالْخِيَارِ يَأْخُذُ مَا شَاءَ وَيَتْرُكُ مَا شَاءَ، قَال النَّوَوِيُّ: لَيْسَ لِلْمُفْتِي وَالْعَامِل فِي مَسْأَلَةِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يَعْمَل بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا بِغَيْرِ نَظَرٍ، بَل عَلَيْهِ الْعَمَل بِأَرْجَحِهِمَا (1) ، وَإِنْ بَنَى الْمُفْتِي فُتْيَاهُ عَلَى حَدِيثٍ نَبَوِيٍّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِصِحَّتِهِ: إِمَّا بِتَصْحِيحِهِ هُوَ إِنْ كَانَ أَهْلاً لِذَلِكَ، أَوْ يَعْرِفَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْل الشَّأْنِ الْحُكْمَ بِصِحَّتِهِ.
وَإِنْ كَانَ بَنَى فُتْيَاهُ عَلَى قَوْل مُجْتَهِدٍ - حَيْثُ يَجُوزُ ذَلِكَ - فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ مِنْهُ مُشَافَهَةً وَجَبَ أَنْ يَتَوَثَّقَ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: طَرِيقَةُ نَقْلِهِ لِذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ سَنَدٌ إِلَى الْمُجْتَهِدِ، أَوْ يَأْخُذَهُ عَنْ كِتَابٍ مَعْرُوفٍ تَنَاقَلَتْهُ الأَْيْدِي، نَحْوِ كُتُبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَنَحْوِهَا مِنَ التَّصَانِيفِ الْمَشْهُورَةِ، لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ الْمَشْهُورِ، وَكَذَا لَوْ وَجَدَ الْعُلَمَاءَ يَنْقُلُونَ عَنِ الْكِتَابِ، وَرَأَى مَا نَقَلُوهُ عَنْهُ مَوْجُودًا فِيهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ، كَمَا لَوْ رَأَى عَلَى
__________
(1) المجموع شرح المهذب 1 / 68.

(32/33)


الْكِتَابِ خَطَّ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ. (1)
وَلْيَحْذَرْ مِنَ الاِعْتِمَادِ عَلَى كُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ غَيْرِ الْمُحَرَّرَةِ. (2)

الإِْفْتَاءُ بِالرَّأْيِ:
23 - الرَّأْيُ هُوَ: مَا يَرَاهُ الْقَلْبُ بَعْدَ فِكْرٍ وَتَأَمُّلٍ وَطَلَبٍ لِمَعْرِفَةِ وَجْهِ الصَّوَابِ، مِمَّا تَتَعَارَضُ فِيهِ الأَْمَارَاتُ، وَلاَ يُقَال لِمَا لاَ تَخْتَلِفُ فِيهِ الأَْمَارَاتُ: إِنَّهُ رَأْيٌ (3) وَالرَّأْيُ يَشْمَل الْقِيَاسَ وَالاِسْتِحْسَانَ وَغَيْرَهُمَا (4) .
وَلاَ يَجُوزُ الإِْفْتَاءُ بِالرَّأْيِ الْمُخَالِفِ لِلنَّصِّ أَوِ الإِْجْمَاعِ، وَلاَ يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَى الرَّأْيِ قَبْل الْعَمَل عَلَى تَحْصِيل النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ، أَوِ الْقَوْل بِالرَّأْيِ غَيْرِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بَل بِمُجَرَّدِ الْخَرْصِ وَالتَّخْمِينِ.
وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَيْفَ تَقْضِي؟ قَال: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَال: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَال: فَبِسُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَال: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَال: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، فَقَال:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 306، وانظر أيضًا المجموع. للنووي 1 / 47.
(2) عقود رسم المفتي لابن عابدين ص13 ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين.
(3) إعلام الموقعين 1 / 66.
(4) الإحكام للآمدي 4 / 46.

(32/33)


الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُول رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (1)
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال لِشُرَيْحٍ: مَا اسْتَبَانَ لَكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلاَ تَسْأَل عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَبِنْ لَكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَمِنَ السُّنَّةِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فِي السُّنَّةِ فَاجْتَهِدْ رَأْيَكَ (2) .

الإِْفْتَاءُ بِمَا سَبَقَ لِلْمُفْتِي أَنْ أَفْتَى بِهِ:
24 - إِذَا اسْتُفْتِيَ فِي مِثْل مَا سَبَقَ لَهُ أَنْ أَفْتَى فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَحْضِرًا لِفُتْيَاهُ وَلِدَلِيلِهَا فَلاَ حَاجَةَ إِلَى إِعَادَةِ النَّظَرِ، لأَِنَّهُ تَحْصِيل حَاصِلٍ، وَلأَِنَّ الْغَرَضَ مِنَ النَّظَرِ أَنْ تَكُونَ فُتْيَاهُ عَنْ عِلْمٍ بِمَا يُفْتِي بِهِ، مَا لَمْ يَظُنَّ أَنَّهُ لَوْ أَعَادَ النَّظَرَ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ.
وَإِنْ ذَكَرَ الْفَتْوَى الأُْولَى وَلَمْ يَذْكُرْ دَلِيلَهَا، وَلاَ طَرَأَ مَا يَجِبُ رُجُوعُهُ، فَقِيل: لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِذَلِكَ، وَالأَْصَحُّ: وُجُوبُ تَجْدِيدِ النَّظَرِ. (3)

التَّخَيُّرُ فِي الْفَتْوَى عِنْدَ التَّعَارُضِ:
25 - إِذَا تَعَارَضَتِ الأَْدِلَّةُ فِي نَظَرِ الْمُفْتِي الْمُجْتَهِدِ، أَوْ تَعَارَضَتِ الأَْقْوَال الْمُعْتَبَرَةُ فِي نَظَرِ
__________
(1) حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: " كيف تقضي. . . " أخرجه الترمذي (3 / 607) وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل.
(2) إعلام الموقعين 1 / 67 وما بعدها و79، 85.
(3) المجموع للنووي 1 / 47، وصفة الفتوى لابن حمدان ص39، ومنتهى السول 3 / 71، جمع الجوامع وشرحه 2 / 394، إعلام الموقعين 4 / 232، والبحر المحيط 6 / 302.

(32/34)


الْمُقَلِّدِ، فَقَدْ ذَهَبَ الأَْكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ لَيْسَ مُخَيَّرًا يَأْخُذُ بِمَا شَاءَ وَيَتْرُكُ مَا شَاءَ، بَل عَلَيْهِ أَنْ يُرَجِّحَ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الأَْدِلَّةِ عَلَى مَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي عِلْمِ أُصُول الْفِقْهِ.
وَفِي تَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.

تَتَبُّعُ الْمُفْتِي لِلرُّخَصِ:
26 - ذَهَبَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ وَصَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي فَتَاوِيهِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُفْتِي تَتَبُّعُ رُخَصِ الْمَذَاهِبِ، بِأَنْ يَبْحَثَ عَنِ الأَْسْهَل مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَوِ الْوَجْهَيْنِ وَيُفْتِيَ بِهِ، وَخَاصَّةً إِنْ كَانَ يُفْتِي بِذَلِكَ مَنْ يُحِبُّهُ مِنْ صَدِيقٍ أَوْ قَرِيبٍ، وَيُفْتِي بِغَيْرِ ذَلِكَ مَنْ عَدَاهُمْ، وَقَدْ خَطَّأَ الْعُلَمَاءُ مَنْ يَفْعَل ذَلِكَ، نَقَلَهُ الشَّاطِبِيُّ عَنِ الْبَاجِيِّ وَالْخَطَّابِيِّ، وَنَصَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَابْنُ الْقَيِّمِ عَلَى فِسْقِ مَنْ يَفْعَل ذَلِكَ، لأَِنَّ الرَّاجِحَ فِي نَظَرِ الْمُفْتِي هُوَ فِي ظَنِّهِ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى، فَتَرْكُهُ وَالأَْخْذُ بِغَيْرِهِ لِمُجَرَّدِ الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ اسْتِهَانَةٌ بِالدِّينِ، شَبِيهٌ بِالاِنْسِلاَخِ مِنْهُ، وَلأَِنَّهُ شَبِيهٌ بِرَفْعِ التَّكْلِيفِ بِالْكُلِّيَّةِ، إِذِ الأَْصْل أَنَّ فِي التَّكْلِيفِ نَوْعًا مِنَ الْمَشَقَّةِ، فَإِنْ أَخَذَ فِي كُل مَسْأَلَةٍ بِالأَْخَفِّ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ أَخَفَّ، فَإِنَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يُسْقِطَ تَكْلِيفًا - مِنْ غَيْرِ مَا فِيهِ إِجْمَاعٌ - إِلاَّ

(32/34)


أَسْقَطَهُ، فَيُسْقِطُ فِي الزَّكَاةِ مَثَلاً زَكَاةَ مَال الصَّغِيرِ، وَزَكَاةَ مَال التِّجَارَةِ، وَزَكَاةَ الْفُلُوسِ وَمَا شَابَهَهَا، وَزَكَاةَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُعَشَّرَاتِ، وَيُسْقِطُ تَحْرِيمَ الْمُتْعَةِ، وَيُجِيزُ النَّبِيذَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، قَال أَحْمَدُ: لَوْ أَنَّ رَجُلاً عَمِل بِكُل رُخْصَةٍ: بِقَوْل أَهْل الْكُوفَةِ فِي النَّبِيذِ، وَأَهْل الْمَدِينَةِ فِي السَّمَاعِ، وَأَهْل مَكَّةَ فِي الْمُتْعَةِ، كَانَ فَاسِقًا. اهـ وَقَال الأَْوْزَاعِيُّ: مَنْ أَخَذَ بِنَوَادِرِ الْعُلَمَاءِ خَرَجَ مِنَ الإِْسْلاَمِ.
وَإِنْ أَفْتَى كُل أَحَدٍ بِمَا يَشْتَهِي انْخَرَمَ قَانُونُ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ، الَّذِي يَقُومُ عَلَى الْعَدَالَةِ وَالتَّسْوِيَةِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى الْفَوْضَى وَالْمَظَالِمِ وَتَضْيِيعِ الْحُقُوقِ بَيْنَ النَّاسِ.
قَال ابْنُ سُرَيْجٍ: سَمِعْتُ إِسْمَاعِيل الْقَاضِيَ قَال: دَخَلْتُ عَلَى الْمُعْتَضِدِ، فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا نَظَرْتُ فِيهِ وَقَدْ جَمَعَ فِيهِ الرُّخَصَ مِنْ زَلَل الْعُلَمَاءِ، وَمَا احْتَجَّ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمْ، فَقُلْتُ: مُؤَلِّفُ هَذَا الْكِتَابِ زِنْدِيقٌ، فَقَال: لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الأَْحَادِيثُ؟ قُلْتُ: الأَْحَادِيثُ عَلَى مَا رُوِيَتْ، وَلَكِنْ مَنْ أَبَاحَ الْمُسْكِرَ لَمْ يُبِحِ الْمُتْعَةَ، وَمَنْ أَبَاحَ الْمُتْعَةَ لَمْ يُبِحِ الْمُسْكِرَ، وَمَا مِنْ عَالِمٍ إِلاَّ وَلَهُ زَلَّةٌ، وَمَنْ جَمَعَ زَلَل الْعُلَمَاءِ ثُمَّ أَخَذَ بِهَا ذَهَبَ دِينُهُ، فَأَمَرَ الْمُعْتَضِدُ بِإِحْرَاقِ هَذَا الْكِتَابِ.
عَلَى أَنَّ الذَّاهِبِينَ إِلَى هَذَا الْقَوْل لَمْ يَمْنَعُوا

(32/35)


الإِْفْتَاءَ بِمَا فِيهِ تَرْخِيصٌ إِنْ كَانَ لَهُ مُسْتَنَدٌ صَحِيحٌ.
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَتَبُّعَ الْمُفْتِي الرُّخَصَ لِمَنْ أَرَادَ نَفْعَهُ: فَإِنْ حَسُنَ قَصْدُ الْمُفْتِي فِي حِيلَةٍ جَائِزَةٍ لاَ شُبْهَةَ فِيهَا، وَلاَ مَفْسَدَةَ لِتَخْلِيصِ الْمُسْتَفْتِي بِهَا مِنْ حَرَجٍ جَازَ ذَلِكَ، بَل اسْتُحِبَّ، وَقَدْ أَرْشَدَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنَ الْحِنْثِ: بِأَنْ يَأْخُذَ بِيَدِهِ ضِغْثًا فَيَضْرِبَ بِهِ الْمَرْأَةَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، قَال: فَأَحْسَنُ الْمَخَارِجِ مَا خَلَّصَ مِنَ الْمَآثِمِ، وَأَقْبَحُهَا مَا أَوْقَعَ فِي الْمَحَارِمِ. (1)

إِحَالَةُ الْمُفْتِي عَلَى غَيْرِهِ:
27 - لِلْمُفْتِي أَنْ يُحِيل الْمُسْتَفْتِيَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُفْتِينَ، إِمَّا بِقَصْدِ أَنْ يَبْرَأَ مِنْ عُهْدَةِ الْفَتْوَى، وَإِمَّا لِكَوْنِ الآْخَرِ أَعْلَمَ، وَإِمَّا لِظَرْفٍ يَسْتَدْعِي ذَلِكَ، وَلاَ تَجُوزُ لَهُ الإِْحَالَةُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمُحَال عَلَيْهِ أَهْلاً لِلْفُتْيَا، سَوَاءٌ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُوَافِقُهُ فِي الرَّأْيِ أَوْ يُخَالِفُهُ، فَإِنْ أَحَال عَلَى مَنْ لَيْسَ أَهْلاً فَإِنَّهُ يَكُونُ مُعِينًا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ، قَال أَبُو دَاوُدَ: قُلْتُ لأَِحْمَدَ: الرَّجُل يَسْأَل عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَدُلُّهُ عَلَى إِنْسَانٍ؟ قَال: إِذَا كَانَ مُتَّبِعًا وَيُفْتِي بِالسُّنَّةِ، قُلْتُ: إِنَّهُ يُرِيدُ
__________
(1) الموافقات 4 / 118، وما بعدها 134،140، 155، 259 والبحر المحيط 6 / 324، 327، وإرشاد الفحول ص272، وإعلام الموقعين 4 / 222، والمجموع للنووي 1 / 55.

(32/35)


الاِتِّبَاعَ وَلَيْسَ كُل قَوْلِهِ يُصِيبُ، قَال: وَمَنْ يُصِيبُ فِي كُل شَيْءٍ؟ .
لَكِنْ لاَ يَحِل أَنْ يَدُل عَلَى مَنْ يُخَالِفُهُ فِي الْقَوْل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةً، فَيَجُوزُ ذَلِكَ، لأَِنَّ اجْتِهَادَهُ لَيْسَ أَوْلَى مِنَ اجْتِهَادِ غَيْرِهِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ صَحِيحٌ أَوْ إِجْمَاعٌ، أَوْ كَانَ الْمُحَال عَلَيْهِ مِمَّنْ يَتَسَاهَل فِي الْفَتْوَى فَلاَ تَجُوزُ الإِْحَالَةُ. (1)

تَشْدِيدُ الْمُفْتِي وَتَسَاهُلُهُ:
28 - الشَّرِيعَةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ شَرِيعَةٌ تَتَمَيَّزُ بِالْوَسَطِيَّةِ وَالْيُسْرِ، وَلِذَا فَالَّذِي يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي - وَهُوَ الْمُخْبِرُ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى - أَنْ يَكُونَ كَمَا قَال الشَّاطِبِيُّ: الْمُفْتِي الْبَالِغُ ذُرْوَةَ الدَّرَجَةِ هُوَ الَّذِي يَحْمِل النَّاسَ عَلَى الْوَسَطِ الْمَعْهُودِ فِيمَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ، فَلاَ يَذْهَبُ بِهِمْ مَذْهَبَ الشِّدَّةِ، وَلاَ يَمِيل بِهِمْ إِلَى طَرَفِ الاِنْحِلاَل، وَهَذَا هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ، فَلاَ إِفْرَاطَ وَلاَ تَفْرِيطَ، وَمَا خَرَجَ عَنِ الْوَسَطِ مَذْمُومٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ، وَقَدْ رَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ التَّبَتُّل (2) وَقَال لِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) إعلام الموقعين 4 / 207 وصفة المفتي لابن حمدان ص82.
(2) حديث: " رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 117) ومسلم (2 / 1020) .

(32/36)


لَمَّا أَطَال بِالنَّاسِ الصَّلاَةَ يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟ (1) ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الْوِصَال، وَلأَِنَّهُ إِذَا ذَهَبَ بِالْمُسْتَفْتِي مَذْهَبَ الْعَنَتِ وَالْحَرَجِ بَغَّضَ إِلَيْهِ الدِّينَ، وَإِذَا ذَهَبَ بِهِ مَذْهَبَ الاِنْحِلاَل كَانَ مَظِنَّةً لِلْمَشْيِ مَعَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ. (2)
وَجَاءَ فِي الْمُنْتَهَى وَشَرْحِهِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ: يَحْرُمُ تَسَاهُل مُفْتٍ فِي الإِْفْتَاءِ، لِئَلاَّ يَقُول عَلَى اللَّهِ مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَيَحْرُمُ تَقْلِيدُ مُتَسَاهِلٍ فِي الإِْفْتَاءِ لِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِهِ، وَقَال مِثْل ذَلِكَ النَّوَوِيُّ.
وَبَيَّنَ السَّمْعَانِيُّ وَالنَّوَوِيُّ أَنَّ التَّسَاهُل نَوْعَانِ:
الأَْوَّل: تَتَبُّعُ الرُّخَصِ وَالشُّبَهِ وَالْحِيَل الْمَكْرُوهَةِ وَالْمُحَرَّمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَتَسَاهَل فِي طَلَبِ الأَْدِلَّةِ وَطُرُقِ الأَْحْكَامِ وَيَأْخُذَ بِمَبَادِئِ النَّظَرِ وَأَوَائِل الْفِكْرِ، فَهَذَا مُقَصِّرٌ فِي حَقِّ الاِجْتِهَادِ، فَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يُفْتِيَ كَذَلِكَ مَا لَمْ تَتَقَدَّمْ مَعْرِفَتُهُ بِالْمَسْئُول عَنْهُ. (3)
لَكِنْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ لِلْمُفْتِي أَنْ يَتَشَدَّدَ فِي
__________
(1) حديث: أنه قال لمعاذ: " يا معاذ أفتان أنت ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 200) ومسلم (1 / 339) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) الموافقات 4 / 258.
(3) شرح المنتهى 33 / 457، والمجموع 1 / 46 وصفة المفتي لابن حمدان ص31.

(32/36)


الْفَتْوَى عَلَى سَبِيل السِّيَاسَةِ لِمَنْ هُوَ مُقْدِمٌ عَلَى الْمَعَاصِي مُتَسَاهِلٌ فِيهَا، وَأَنْ يَبْحَثَ عَنِ التَّيْسِيرِ وَالتَّسْهِيل عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الأَْدِلَّةُ لِمَنْ هُوَ مُشَدِّدٌ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، لِيَكُونَ مَآل الْفَتْوَى أَنْ يَعُودَ الْمُسْتَفْتِي إِلَى الطَّرِيقِ الْوَسَطِ. (1)

آدَابُ الْمُفْتِي:
29 - أ - يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يُحْسِنَ زِيَّهُ، مَعَ التَّقَيُّدِ بِالأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي ذَلِكَ، فَيُرَاعِيَ الطَّهَارَةَ وَالنَّظَافَةَ، وَاجْتِنَابَ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَالثِّيَابِ الَّتِي فِيهَا شَيْءٌ مِنْ شِعَارَاتِ الْكُفَّارِ، وَلَوْ لَبِسَ مِنَ الثِّيَابِ الْعَالِيَةِ لَكَانَ أَدْعَى لِقَبُول قَوْلِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُل هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (2) وَلأَِنَّ تَأْثِيرَ الْمَظْهَرِ فِي عَامَّةِ النَّاسِ لاَ يُنْكَرُ، وَهُوَ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَالْقَاضِي (3) .
ب - وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْسِنَ سِيرَتَهُ، بِتَحَرِّي مُوَافَقَةِ الشَّرِيعَةِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، لأَِنَّهُ قُدْوَةٌ لِلنَّاسِ فِيمَا يَقُول وَيَفْعَل، فَيَحْصُل بِفِعْلِهِ قَدْرٌ عَظِيمٌ مِنَ الْبَيَانِ، لأَِنَّ الأَْنْظَارَ إِلَيْهِ مَصْرُوفَةٌ، وَالنُّفُوسَ عَلَى
__________
(1) المجموع 1 / 50، 46.
(2) سورة الأعراف / 32.
(3) الإحكام للقرافي ص271، وشرح المنتهى 3 / 468.

(32/37)


الاِقْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ مَوْقُوفَةٌ (1) .
ج - وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُصْلِحَ سَرِيرَتَهُ وَيَسْتَحْضِرَ عِنْدَ الإِْفْتَاءِ النِّيَّةَ الصَّالِحَةَ مِنْ قَصْدِ الْخِلاَفَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيَانِ الشَّرْعِ، وَإِحْيَاءِ الْعَمَل بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِصْلاَحِ أَحْوَال النَّاسِ بِذَلِكَ، وَيَسْتَعِينَ بِاللَّهِ عَلَى ذَلِكَ، وَيَسْأَلَهُ التَّوْفِيقَ وَالتَّسْدِيدَ، وَعَلَيْهِ مُدَافَعَةُ النِّيَّاتِ الْخَبِيثَةِ مِنْ قَصْدِ الْعُلُوِّ فِي الأَْرْضِ وَالإِْعْجَابِ بِمَا يَقُول، وَخَاصَّةً حَيْثُ يُخْطِئُ غَيْرُهُ وَيُصِيبُ هُوَ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ سَحْنُونٍ: فِتْنَةُ الْجَوَابِ بِالصَّوَابِ أَعْظَمُ مِنْ فِتْنَةِ الْمَال. (2)
د - وَعَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ عَامِلاً بِمَا يُفْتِي بِهِ مِنَ الْخَيْرِ، مُنْتَهِيًا عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ، لِيَتَطَابَقَ قَوْلُهُ وَفِعْلُهُ، فَيَكُونُ فِعْلُهُ مُصَدِّقًا لِقَوْلِهِ مُؤَيِّدًا لَهُ، فَإِنْ كَانَ بِضِدِّ ذَلِكَ كَانَ فِعْلُهُ مُكَذِّبًا لِقَوْلِهِ، وَصَادًّا لِلْمُسْتَفْتِي عَنْ قَبُولِهِ وَالاِمْتِثَال لَهُ، لِمَا فِي الطَّبَائِعِ الْبَشَرِيَّةِ مِنَ التَّأَثُّرِ بِالأَْفْعَال، وَلاَ يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الإِْفْتَاءُ فِي تِلْكَ الْحَال، إِذْ مَا مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَلَهُ زَلَّةٌ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ فِي الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ مُؤْتَمِرًا مُنْتَهِيًا، وَهَذَا مَا لَمْ
__________
(1) تبصرة الحكام لابن فرحون ص21.
(2) صفة الفتوى لابن حمدان ص11، وإعلام الموقعين 4 / 172.

(32/37)


تَكُنْ مُخَالَفَتُهُ مُسْقِطَةً لِعَدَالَتِهِ، فَلاَ تَصِحُّ فُتْيَاهُ حِينَئِذٍ. (1)
هـ - أَنْ لاَ يُفْتِيَ حَال انْشِغَال قَلْبِهِ بِشِدَّةِ غَضَبٍ أَوْ فَرَحٍ أَوْ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ أَوْ إِرْهَاقٍ أَوْ تَغَيُّرِ خُلُقٍ، أَوْ كَانَ فِي حَال نُعَاسٍ، أَوْ مَرَضٍ شَدِيدٍ، أَوْ حَرٍّ مُزْعِجٍ، أَوْ بَرْدٍ مُؤْلِمٍ، أَوْ مُدَافَعَةِ الأَْخْبَثَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْحَاجَاتِ الَّتِي تَمْنَعُ صِحَّةَ الْفِكْرِ وَاسْتِقَامَةَ الْحُكْمِ. (2) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ (3) فَإِنْ حَصَل لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَنِ الإِْفْتَاءِ حَتَّى يَزُول مَا بِهِ وَيَرْجِعَ إِلَى حَال الاِعْتِدَال. فَإِنْ أَفْتَى فِي حَال انْشِغَال الْقَلْبِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الصَّوَابِ صَحَّتْ فُتْيَاهُ وَإِنْ كَانَ مُخَاطِرًا (4) لَكِنْ قَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِكَوْنِ ذَلِكَ لَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ أَصْل الْفِكْرِ.
فَإِنْ أَخْرَجَهُ الدَّهَشُ عَنْ أَصْل الْفِكْرِ لَمْ تَصِحَّ فُتْيَاهُ قَطْعًا وَإِنْ وَافَقَتِ الصَّوَابَ. (5)
و إِنْ كَانَ عِنْدَهُ مَنْ يَثِقُ بِعِلْمِهِ وَدِينِهِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُشَاوِرَهُ، وَلاَ يَسْتَقِل بِالْجَوَابِ تَسَامِيًا
__________
(1) الموافقات للشاطبي 4 / 252 - 258.
(2) إعلام الموقعين 4 / 227، وصفة الفتوى لابن حمدان ص34.
(3) حديث: " لا يقضين حَكَمٌ بين اثنين وهو. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 136) ومسلم (3 / 1343) من حديث أبي بكرة، واللفظ للبخاري.
(4) إعلام الموقعين 4 / 227، وصفة الفتوى لابن حمدان ص34.
(5) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 140.

(32/38)


بِنَفْسِهِ عَنِ الْمُشَاوَرَةِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَْمْرِ} (1) وَعَلَى هَذَا كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَخَاصَّةً عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَالْمَنْقُول مِنْ مُشَاوَرَتِهِ لِسَائِرِ الصَّحَابَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ، وَيُرْجَى بِالْمُشَاوَرَةِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ مَا قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ، وَهَذَا مَا لَمْ تَكُنِ الْمُشَاوَرَةُ مِنْ قَبِيل إِفْشَاءِ السِّرِّ. (2)
ز - الْمُفْتِي كَالطَّبِيبِ يَطَّلِعُ مِنْ أَسْرَارِ النَّاسِ وَعَوْرَاتِهِمْ عَلَى مَا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَقَدْ يَضُرُّ بِهِمْ إِفْشَاؤُهَا أَوْ يُعَرِّضُهُمْ لِلأَْذَى، فَعَلَيْهِ كِتْمَانُ أَسْرَارِ الْمُسْتَفْتِينَ، وَلِئَلاَّ يَحُول إِفْشَاؤُهُ لَهَا بَيْنَ الْمُسْتَفْتِي وَبَيْنَ الْبَوْحِ بِصُوَرِهِ الْوَاقِعَةِ إِذَا عَرَفَ أَنَّ سِرَّهُ لَيْسَ فِي مَأْمَنٍ. (3)

مُرَاعَاةُ حَال الْمُسْتَفْتِي:
30 - يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي مُرَاعَاةُ أَحْوَال الْمُسْتَفْتِي، وَلِذَلِكَ وُجُوهٌ، مِنْهَا:
أ - إِذَا كَانَ الْمُسْتَفْتِي بَطِيءَ الْفَهْمِ، فَعَلَى الْمُفْتِي التَّرَفُّقُ بِهِ وَالصَّبْرُ عَلَى تَفَهُّمِ سُؤَالِهِ وَتَفْهِيمِ جَوَابِهِ. (4)
ب - إِذَا كَانَ بِحَاجَةٍ إِلَى تَفْهِيمِهِ أُمُورًا شَرْعِيَّةً لَمْ يَتَطَرَّقْ إِلَيْهَا فِي سُؤَالِهِ، فَيَنْبَغِي لِلْمُفْتِي
__________
(1) سورة آل عمران / 159.
(2) إعلام الموقعين 4 / 256، والمجموع للنووي 1 / 48.
(3) بصرة الحكام لابن فرحون 11 / 220 بهامش فتح العلي المالك وإعلام الموقعين 4 / 257.
(4) المجموع للنووي 1 / 48.

(32/38)


بَيَانُهَا لَهُ زِيَادَةً عَلَى جَوَابِ سُؤَالِهِ، نُصْحًا وَإِرْشَادًا، وَقَدْ أَخَذَ الْعُلَمَاءُ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ، فَقَال: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِل مَيْتَتُهُ (1) وَلِلْمُفْتِي أَنْ يَعْدِل عَنْ جَوَابِ السُّؤَال إِلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُل مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَْقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (2) فَقَدْ سَأَل النَّاسُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُنْفَقِ فَأَجَابَهُمْ بِذِكْرِ الْمَصْرِفِ إِذْ هُوَ أَهَمُّ مِمَّا سَأَلُوا عَنْهُ. (3)
ج - أَنْ يَسْأَلَهُ الْمُسْتَفْتِي عَمَّا هُوَ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ فَيُفْتِيَهِ بِالْمَنْعِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى مَا هُوَ عِوَضٌ مِنْهُ، كَالطَّبِيبِ الْحَاذِقِ إِذَا مَنَعَ الْمَرِيضَ مِنْ أَغْذِيَةٍ تَضُرُّهُ يَدُلُّهُ عَلَى أَغْذِيَةٍ تَنْفَعُهُ. (4)
د - أَنْ يُسْأَل عَمَّا لَمْ يَقَعْ، وَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةً، فَيَتْرُكُ الْجَوَابَ إِشْعَارًا لِلْمُسْتَفْتِي بِأَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ السُّؤَال عَمَّا يَعْنِيهِ مِمَّا لَهُ فِيهِ نَفْعٌ وَوَرَاءَهُ عَمَلٌ، لِحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ
__________
(1) حديث: " هو الطهور ماؤه. . . ". أخرجه الترمذي (1 / 101) من حديث أبي هريرة، وقال: حديث حسن صحيح.
(2) سورة البقرة / 215.
(3) إعلام الموقعين 4 / 158.
(4) إعلام الموقعين 4 / 159.

(32/39)


ثَلاَثًا: قِيل وَقَال، وَإِضَاعَةَ الْمَال، وَكَثْرَةَ السُّؤَال (1) وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَا كَانُوا يَسْأَلُونَ إِلاَّ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ لِعِكْرِمَةَ: مَنْ سَأَلَكَ عَمَّا لاَ يَعْنِيهِ فَلاَ تُفْتِهِ (2) .
هـ - أَنْ يَكُونَ عَقْل السَّائِل لاَ يَحْتَمِل الْجَوَابَ، فَيَتْرُكُ إِجَابَتَهُ وُجُوبًا، لِقَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُرِيدُونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ وَقَال ابْنُ مَسْعُودٍ: " مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً (3) .
و تَرْكُ الْجَوَابِ إِذَا خَافَ الْمُفْتِي غَائِلَةَ الْفُتْيَا (4) أَيْ هَلاَكًا أَوْ فَسَادًا أَوْ فِتْنَةً يُدَبِّرُهَا الْمُسْتَفْتِي أَوْ غَيْرُهُ.
وَالأَْصْل وُجُوبُ الْبَيَانِ وَتَحْرِيمُ الْكِتْمَانِ إِنْ كَانَ الْحُكْمُ جَلِيًّا (5) فَلاَ يَتْرُكُ الْمُفْتِي بَيَانَهُ لِرَغْبَةٍ وَلاَ رَهْبَةٍ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا
__________
(1) حديث: " إن الله كره لكم ثلاثًا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 68) ومسلم (3 / 1341) من حديث المغيرة بن شعبة واللفظ لمسلم.
(2) شرح المنتهى 3 / 457، وإعلام الموقعين 4 / 221، والموافقات 4 / 286 - 290.
(3) شرح المنتهى 3 / 457، والموافقات 4 / 313.
(4) شرح المنتهى 3 / 458.
(5) إعلام الموقعين 4 / 175.

(32/39)


بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (1) .
لَكِنْ إِنْ خَافَ الْغَائِلَةَ فَلَهُ تَرْكُ الْجَوَابِ وَكَذَا لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْفُتْيَا إِنْ خَافَ أَنْ يَسْتَغِلَّهَا الظَّلَمَةُ أَوْ أَهْل الْفُجُورِ لِمَآرِبِهِمْ (2) .

صِيغَةُ الْفَتْوَى:
31 - يَنْبَغِي لِسَلاَمَةِ الْفُتْيَا وَصِدْقِهَا وَصِحَّةِ الاِنْتِفَاعِ بِهَا أَنْ يُرَاعِيَ الْمُفْتِي أُمُورًا مِنْهَا:
أ - تَحْرِيرُ أَلْفَاظِ الْفُتْيَا، لِئَلاَّ تُفْهَمَ عَلَى وَجْهٍ بَاطِلٍ، قَال ابْنُ عَقِيلٍ: يَحْرُمُ إِطْلاَقُ الْفُتْيَا فِي اسْمٍ مُشْتَرَكٍ إِجْمَاعًا، فَمَنْ سُئِل: أَيُؤْكَل أَوْ يُشْرَبُ فِي رَمَضَانَ بَعْدَ الْفَجْرِ؟ لاَ بُدَّ أَنْ يَقُول: الْفَجْرُ الأَْوَّل أَوِ الثَّانِي؟ وَمِثْلُهُ مَنْ سُئِل عَنْ بَيْعِ رِطْل تَمْرٍ بِرِطْل تَمْرٍ هَل يَصِحُّ؟ فَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يُطْلِقَ الْجَوَابَ بِالإِْجَازَةِ أَوِ الْمَنْعِ، بَل يَقُول: إِنْ تَسَاوَيَا كَيْلاً جَازَ وَإِلاَّ فَلاَ، لَكِنْ لاَ يَلْزَمُ التَّنْبِيهُ عَلَى احْتِمَالٍ بَعِيدٍ، كَمَنْ سُئِل عَنْ مِيرَاثِ بِنْتٍ وَعَمٍّ؟ فَلَهُ أَنْ يَقُول: لَهَا النِّصْفُ، وَلَهُ الْبَاقِي، وَلاَ يَلْزَمُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ قَاتِلَةً لأَِبِيهَا فَلاَ شَيْءَ لَهَا، وَكَذَا سَائِرُ مَوَانِعِ الإِْرْثِ. (3)
عَلَى أَنَّ الَّذِي يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي إِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ: أَنْ يَسْتَفْصِل السَّائِل لِيَصِل
__________
(1) سورة آل عمران / 187.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 264.
(3) شرح المنتهى 3 / 458.

(32/40)


إِلَى تَحْدِيدِ الْوَاقِعَةِ تَحْدِيدًا تَامًّا، فَيَكُونُ جَوَابُهُ عَنْ أَمْرٍ مُحَدَّدٍ، وَهَذَا أَوْلَى وَأَسْلَمُ، وَإِنْ عَلِمَ أَيَّ الأَْقْسَامِ هُوَ الْوَاقِعُ فَلَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى جَوَابِ ذَلِكَ الْقِسْمِ، ثُمَّ يَقُول: هَذَا إِنْ كَانَ الأَْمْرُ كَذَا، وَلَهُ أَنْ يُفَصِّل الأَْقْسَامَ فِي جَوَابِهِ وَيَذْكُرَ حُكْمَ كُل قِسْمٍ، وَلَكِنْ لاَ يَحْسُنُ هَذَا إِلاَّ إنْ كَانَ الْمُسْتَفْتِي غَائِبًا وَلَمْ يُمْكِنْ مَعْرِفَةُ صِفَةِ الْوَاقِعِ، فَيَجْتَهِدُ فِي بَيَانِ الأَْقْسَامِ وَحُكْمِ كُل قِسْمٍ؛ لِئَلاَّ يُفْهَمَ جَوَابُهُ عَلَى غَيْرِ مَا يُرِيدُ. (1)
ب - أَنْ لاَ تَكُونَ الْفَتْوَى بِأَلْفَاظٍ مُجْمَلَةٍ، لِئَلاَّ يَقَعَ السَّائِل فِي حَيْرَةٍ، كَمَنْ سُئِل عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الْمَوَارِيثِ فَقَال: تُقْسَمُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل، أَوْ سُئِل عَنْ شِرَاءِ الْعَرَايَا بِالتَّمْرِ فَقَال: يَجُوزُ بِشُرُوطِهِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ لاَ يَدْرِي مَا شُرُوطُهُ، لَكِنْ إِنْ كَانَ السَّائِل مِنْ أَهْل الْعِلْمِ الَّذِينَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِثْل هَذَا، بَل يُرِيدُ أَنْ يَعْرِفَ قَوْل الْمُفْتِي جَازَ ذَلِكَ. (2)
ج - يَحْسُنُ ذِكْرُ دَلِيل الْحُكْمِ فِي الْفُتْيَا سَوَاءٌ كَانَ آيَةً أَوْ حَدِيثًا حَيْثُ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ، وَيَذْكُرُ عِلَّتَهُ أَوْ حِكْمَتَهُ، وَلاَ يُلْقِيهِ إِلَى الْمُسْتَفْتِي مُجَرَّدًا، فَإِنَّ الأَْوَّل أَدْعَى لِلْقَبُول بِانْشِرَاحِ صَدْرٍ
__________
(1) المجموع للنووي 1 / 48، وإعلام الموقعين 4 / 255، 256 و187 - 194.
(2) إعلام الموقعين 4 / 177، 179.

(32/40)


وَفَهْمٍ لِمَبْنَى الْحُكْمِ، وَذَلِكَ أَدْعَى إِلَى الطَّاعَةِ وَالاِمْتِثَال، وَفِي كَثِيرٍ مِنْ فَتَاوَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْحِكَمَ، (1) كَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُزَوَّجَ الْمَرْأَةُ عَلَى الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَقَال: إِنَّكُنَّ إِذَا فَعَلْتُنَّ ذَلِكَ قَطَعْتُنَّ أَرْحَامَكُنَّ (2) وَقَوْلِهِ فِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ: أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَال أَخِيهِ؟ (3) وَقَال الصَّيْمَرِيُّ: لاَ يَذْكُرُ الْحُجَّةَ إِنْ أَفْتَى عَامِّيًّا، وَيَذْكُرُهَا إِنْ أَفْتَى فَقِيهًا، وَإِنْ تَعَلَّقَتِ الْفَتْوَى بِقَضَاءِ قَاضٍ فَيُومِئُ فِيهَا إِلَى طَرِيقِ الاِجْتِهَادِ وَيُلَوِّحُ بِالنُّكْتَةِ، وَكَذَا إِنْ أَفْتَى فِيمَا غَلِطَ فِيهِ غَيْرُهُ فَيُبَيِّنُ وَجْهَ الاِسْتِدْلاَل.
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: لاَ يَذْكُرُ الْحُجَّةَ لِئَلاَّ يَخْرُجَ مِنَ الْفَتْوَى إِلَى التَّصْنِيفِ. (4)
د - لاَ يَقُول فِي الْفُتْيَا: هَذَا حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلاَّ بِنَصٍّ قَاطِعٍ، أَمَّا الأُْمُورُ الاِجْتِهَادِيَّةُ فَيَتَجَنَّبُ فِيهَا ذَلِكَ لِحَدِيثِ: وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْل حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي
__________
(1) إعلام الموقعين 4 / 160، 259.
(2) حديث ابن عباس قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تزوج المرأة على العمة والخالة. . . ". أخرجه ابن حبان، (9 / 426 - الإحسان) .
(3) حديث: " أرأيت إذا منع الله الثمرة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 398) من حديث أنس ابن مالك.
(4) المجموع للنووي 1 / 52.

(32/41)


أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ؟ . (1)
وَهَذَا عَلَى قَوْل مَنْ يَجْعَل الصَّوَابَ فِي قَوْل أَحَدِ الْمُخْتَلِفِينَ، أَمَّا مَنْ يَقُول: كُل مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَقُول: هَذَا حُكْمُ اللَّهِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ. (2)
هـ - يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْفُتْيَا بِكَلاَمٍ مُوجَزٍ وَاضِحٍ مُسْتَوْفٍ لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسْتَفْتِي مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِسُؤَالِهِ، وَيَتَجَنَّبُ الإِْطْنَابَ فِيمَا لاَ أَثَرَ لَهُ، لأَِنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَحْدِيدٍ، لاَ مَقَامُ وَعْظٍ أَوْ تَعْلِيمٍ أَوْ تَصْنِيفٍ. (3)
قَال الْقَرَافِيُّ: إِلاَّ فِي نَازِلَةٍ عَظِيمَةٍ تَتَعَلَّقُ بِوُلاَةِ الأُْمُورِ، وَلَهَا صِلَةٌ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَيَحْسُنُ الإِْطْنَابُ بِالْحَثِّ وَالإِْيضَاحِ وَالاِسْتِدْلاَل، وَبَيَانِ الْحِكَمِ وَالْعَوَاقِبِ، لِيَحْصُل الاِمْتِثَال التَّامُّ. (4)
وَإِنْ كَانَ لِكَلاَمِهِ قَبُولٌ وَيَحْرِصُ النَّاسُ عَلَى الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ، فَلاَ بَأْسَ بِالإِْطَالَةِ وَاسْتِيفَاءِ جَوَانِبِ الْمَسْأَلَةِ.

الإِْفْتَاءُ بِالإِْشَارَةِ:
32 - تَجُوزُ الْفُتْيَا بِالإِْشَارَةِ إِنْ كَانَتْ مُفْهِمَةً لِلْمُرَادِ (5) وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَفْتَى
__________
(1) حديث: " إذا حاصرت أهل حصن. . . " أخرجه مسلم (3 / 1358) من حديث بريدة.
(2) إعلام الموقعين 4 / 175، 1 / 39، 44.
(3) صفة الفتوى لابن حمدان ص60.
(4) الإحكام للقرافي ص364، وانظر مجموع النووي 1 / 49.
(5) حاشية ابن عابدين 4 / 302، وشرح المحلي على منهاج الطالبين 3 / 327، والموافقات 4 / 247.

(32/41)


بِالإِْشَارَةِ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل يَوْمَ النَّحْرِ عَنِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ؟ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ أَنْ لاَ حَرَجَ (1) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلاَ بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ - أَوْ يَرْحَمُ. (2)

الإِْفْتَاءُ بِالْكِتَابَةِ:
33 - تَجُوزُ الْفُتْيَا كِتَابَةً، وَلَكِنْ فِيهَا خُطُورَةٌ مِنْ حَيْثُ إِمْكَانُ التَّبْدِيل وَالتَّغْيِيرِ فِيهَا وَنِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى الْمُفْتِي، وَلِذَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَحَرَّزَ فِي كِتَابَتِهَا بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ فِيهَا الإِْضَافَةُ وَالتَّزْوِيرُ. (3)

أَخْذُ الرِّزْقِ عَلَى الْفُتْيَا:
34 - الأَْوْلَى لِلْمُفْتِي أَنْ يَكُونَ مُتَبَرِّعًا بِعَمَلِهِ وَلاَ يَأْخُذَ عَلَيْهِ شَيْئًا.
وَإِنْ تَفَرَّغَ لِلإِْفْتَاءِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ رِزْقًا مِنْ بَيْتِ الْمَال عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَاشْتَرَطَ الْفَرِيقَانِ لِجَوَازِ ذَلِكَ شَرْطَيْنِ:
__________
(1) حديث ابن عباس: " أنه سئل يوم النحر عن التقديم والتأخير. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 181) .
(2) حديث: " إن الله لا يعذب بدمع العين. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 175) من حديث ابن عمر.
(3) المجموع للنووي 1 / 47، 49، 50، وصفة الفتوى لابن حمدان ص63.

(32/42)


الأَْوَّل: أَنْ لاَ يَكُونَ لَهُ كِفَايَةٌ.
وَالثَّانِي: أَنْ لاَ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، بِأَنْ لَمْ يَكُنْ بِالْبَلَدِ عَالِمٌ يَقُومُ مَقَامَهُ، أَوْ كَانَ لَهُ كِفَايَةٌ لَمْ يَجُزْ (1) وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا فَفِيهِ وَجْهَانِ، لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْقِيَاسِ عَلَى عَامِل الزَّكَاةِ أَوْ عَلَى الْعَامِل فِي مَال الْيَتِيمِ. (2)
وَأَلْحَقَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَالصَّيْمَرِيُّ بِذَلِكَ: أَنْ يَحْتَاجَ أَهْل بَلَدٍ إِلَى مَنْ يَتَفَرَّغُ لِفَتَاوِيهِمْ، وَيَجْعَلُوا لَهُ رِزْقًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَيَحُوزُ، وَلاَ يَصْلُحُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ لَهُ رِزْقٌ مِنْ بَيْتِ الْمَال، قَال الْخَطِيبُ: وَعَلَى الإِْمَامِ أَنْ يَفْرِضَ لِمَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلْفَتْوَى فِي الأَْحْكَامِ مَا يُغْنِيهِ عَنْ الاِحْتِرَافِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَال، ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْطَى كُل رَجُلٍ مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ مِائَةَ دِينَارٍ فِي السَّنَةِ (3) .
وَأَمَّا الأُْجْرَةُ، فَلاَ يَجُوزُ أَخْذُهَا مِنْ أَعْيَانِ الْمُسْتَفْتِينَ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، قَال الْحَنَابِلَةُ: لأَِنَّ الْفُتْيَا عَمَلٌ يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْل الْقُرْبَةِ، وَلأَِنَّهُ مَنْصِبُ تَبْلِيغٍ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلاَ تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَال لَهُ: لاَ
__________
(1) المجموع للنووي 1 / 46، وشرح المنتهى 3 / 462.
(2) إعلام الموقعين 4 / 432.
(3) المجموع 1 / 46.

(32/42)


أُعَلِّمُكَ الإِْسْلاَمَ أَوِ الْوُضُوءَ أَوِ الصَّلاَةَ إِلاَّ بِأُجْرَةٍ، قَالُوا: فَهَذَا حَرَامٌ قَطْعًا، وَعَلَيْهِ رَدُّ الْعِوَضِ، وَلاَ يَمْلِكُهُ، قَالُوا: وَيَلْزَمُهُ الإِْجَابَةُ مَجَّانًا لِلَّهِ بِلَفْظِهِ أَوْ خَطِّهِ إِنْ طَلَبَ الْمُسْتَفْتِي الْجَوَابَ كِتَابَةً، لَكِنْ لاَ يَلْزَمُهُ الْوَرَقُ وَالْحِبْرُ.
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَخْذَ الْمُفْتِي الأُْجْرَةَ عَلَى الْكِتَابَةِ، لأَِنَّهُ كَالنَّسْخِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى الْفَتْوَى إِنْ لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ. (2)

أَخْذُ الْمُفْتِي الْهَدِيَّةَ:
35 - الأَْصْل أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَخْذُ الْهَدِيَّةِ مِنَ النَّاسِ بِخِلاَفِ الْقَاضِي، وَالأَْوْلَى لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا وَيُكَافِئَ عَلَيْهَا، اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ يَقْبَل الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا (3) وَهَذَا إِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ سَبَبِ الْفُتْيَا، لأَِنَّهُ إِنَّمَا يُهْدَى إِلَيْهِ لِعِلْمِهِ، بِخِلاَفِ الْقَاضِي.
وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ الْفُتْيَا فَالأَْوْلَى عَدَمُ الْقَبُول، لِيَكُونَ إِفْتَاؤُهُ خَالِصًا لِلَّهِ، وَهَذَا إِنْ كَانَ إِفْتَاؤُهُ لاَ يَخْتَلِفُ بَيْنَ مَنْ يُهْدِيهِ وَمَنْ لاَ يُهْدِيهِ، وَإِنْ كَانَ يُهْدِيهِ لِتَكُونَ سَبَبًا إِلَى أَنْ يُفْتِيَهُ بِمَا لاَ يُفْتِي بِهِ غَيْرَهُ مِنَ الرُّخَصِ قَال ابْنُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 311، وإعلام الموقعين 4 / 232، وشرح المنتهى 3 / 462.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 20.
(3) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان يقبل الهدية ويثيب عليها. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 260) من حديث عائشة.

(32/43)


الْقَيِّمِ: لاَ يَجُوزُ لَهُ قَبُولُهَا، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنْ كَانَتْ سَبَبًا لِيُرَخِّصَ لَهُ بِوَجْهٍ صَحِيحٍ فَأَخْذُهَا مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَإِنْ كَانَ بِوَجْهٍ بَاطِلٍ فَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ، يُبَدِّل أَحْكَامَ اللَّهِ، وَيَشْتَرِي بِهَا ثَمَنًا قَلِيلاً (1) .
وَفِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ لِلْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ لِلْمُفْتِي قَبُول الْهَدِيَّةِ مِمَّنْ لاَ يَرْجُو مِنْهُ جَاهًا وَلاَ عَوْنًا عَلَى خَصْمٍ. (2)

الْخَطَأُ فِي الْفُتْيَا:
36 - إِذَا أَخْطَأَ الْمُفْتِي، فَإِنْ كَانَ خَطَؤُهُ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ، أَوْ كَانَ أَهْلاً لَكِنَّهُ لَمْ يَبْذُل جَهْدَهُ بَل تَعَجَّل، يَكُونُ آثِمًا، لِحَدِيثِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صُدُورِ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُهُ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا (3) .
أَمَّا إِنْ كَانَ أَهْلاً وَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ، بَل لَهُ أَجْرُ اجْتِهَادِهِ، قِيَاسًا عَلَى مَا وَرَدَ فِي خَطَأِ الْقَاضِي، وَهُوَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 311، وشرح المنتهى 3 / 471، وإعلام الموقعين 4 / 232.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 140.
(3) حديث: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا. . . " تقدم تخريجه ف8.

(32/43)


وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ (1) .

رُجُوعُ الْمُفْتِي عَنْ فُتْيَاهُ:
37 - إِذَا تَبَيَّنَ لِلْمُفْتِي أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي الْفُتْيَا وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ عَنِ الْخَطَأِ إِذَا أَفْتَى فِي وَاقِعَةٍ أُخْرَى مُمَاثِلَةٍ، لِكِتَابِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلاَ يَمْنَعَنَّكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَ فِيهِ الْيَوْمَ، فَرَاجَعْتَ فِيهِ رَأْيَكَ، فَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ أَنْ تُرَاجِعَ فِيهِ الْحَقَّ فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ لاَ يُبْطِلُهُ شَيْءٌ، وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِل (2) .
ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُسْتَفْتِي لَمْ يَعْمَل بِالْفُتْيَا الأُْولَى لَزِمَ الْمُفْتِيَ إِعْلاَمُهُ بِرُجُوعِهِ، لأَِنَّ الْعَامِّيَّ يَعْمَل بِهَا لأَِنَّهَا قَوْل الْمُفْتِي، وَإِذَا رَجَعَ عَنْهَا فَلَيْسَتْ قَوْلاً لَهُ فِي تِلْكَ الْحَال.
وَإِنْ كَانَ قَدْ عَمِل بِهَا قَال النَّوَوِيُّ: يَلْزَمُهُ إِعْلاَمُهُ حَيْثُ يَجِبُ النَّقْضُ. (3) أَيْ إِذَا خَالَفَ قَاطِعًا مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، لأَِنَّ مَا رَجَعَ عَنْهُ قَدِ اعْتَقَدَ بُطْلاَنَهُ.
38 - وَإِنْ رَجَعَ الْمُفْتِي عَنْ فُتْيَاهُ، أَوْ تَبَيَّنَ
__________
(1) حديث: " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 318) ومسلم (3 / 1342) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
(2) إعلام الموقعين 1 / 86.
(3) المجموع للنووي 1 / 45، والبحر المحيط 6 / 304.

(32/44)


خَطَؤُهُ، فَلَيْسَ لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يَسْتَنِدَ فِي الْمُسْتَقْبَل إِلَيْهَا فِي وَاقِعَةٍ أُخْرَى مُمَاثِلَةٍ.
وَأَمَّا مَا فَعَلَهُ وَمَضَى فَلَهُ أَحْوَالٌ:
أ - إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُفْتِيَ خَالَفَ نَصَّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ لاَ مُعَارِضَ لَهَا أَوْ خَالَفَ الإِْجْمَاعَ، أَوِ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ، يُنْقَضُ مَا عَمِل، فَإِنْ كَانَ بَيْعًا فَسَخَاهُ، وَإِنْ كَانَ نِكَاحًا وَجَبَ عَلَيْهِ فِرَاقُهَا، وَإِنْ كَانَ اسْتَحَل بِهَا مَالاً وَجَبَ عَلَيْهِ إِعَادَتُهُ إِلَى أَرْبَابِهِ.
ب - إنْ كَانَتْ فُتْيَاهُ الأُْولَى عَنِ اجْتِهَادٍ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ، فَلاَ يَلْزَمُ الْمُسْتَفْتِيَ نَقْضُ مَا عَمِل، لأَِنَّ الاِجْتِهَادَ لاَ يُنْقَضُ بِالاِجْتِهَادِ، وَالْفُتْيَا فِي هَذَا نَظِيرُ الْقَضَاءِ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْطَى الإِْخْوَةَ لأُِمٍّ الثُّلُثَ، وَحَرَمَ الإِْخْوَةَ الأَْشِقَّاءَ، ثُمَّ وَقَعَتْ وَاقِعَةٌ أُخْرَى فَأَرَادَ أَنْ يَحْكُمَ بِمِثْل ذَلِكَ، فَقَال لَهُ بَعْضُ الأَْشِقَّاءِ: هَبْ أَنَّ أَبَانَا كَانَ حِمَارًا، أَلَيْسَتْ أُمُّنَا وَاحِدَةً؟ فَشَرَكَ بَيْنَهُمْ فِي الثُّلُثِ، فَقِيل لَهُ فِي نَقْضِ الأُْولَى فَقَال: تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَهَذِهِ عَلَى مَا نَقْضِي، وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ النِّكَاحَ، فَرَأَوْا أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يُفَارِقَهَا. (1)
__________
(1) المجموع للنووي 1 / 45، والبحر المحيط 6 / 304، وشرح المنتهى 3 / 502، والأشباه والنظائر للسيوطي ص101، 102، قاعدة: (الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد) .

(32/44)


ضَمَانُ مَا يَتْلَفُ بِنَاءً عَلَى الْخَطَأِ فِي الْفَتْوَى:
39 - إِنْ أَتْلَفَ الْمُسْتَفْتِي بِنَاءً عَلَى الْفُتْيَا شَيْئًا، كَأَنْ قَتَل فِي شَيْءٍ ظَنَّهُ الْمُفْتِي رِدَّةً، أَوْ قَطَعَ فِي سَرِقَةٍ لاَ قَطْعَ فِيهَا، أَوْ جَلَدَ بِشُرْبٍ لاَ يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ - كَمَنْ شَرِبَ مُكْرَهًا - فَمَاتَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُفْتِي عَلَى أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: قَوْل الْمَالِكِيَّةِ، عَلَى مَا نَقَلَهُ الدُّسُوقِيُّ عَنِ الْحَطَّابِ: أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ بِفَتْوَاهُ شَيْئًا وَتَبَيَّنَ خَطَؤُهُ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا ضَمِنَ إِنِ انْتَصَبَ وَتَوَلَّى بِنَفْسِهِ فِعْل مَا أَفْتَى فِيهِ، وَإِلاَّ كَانَتْ فَتْوَاهُ غُرُورًا قَوْلِيًّا لاَ ضَمَانَ فِيهِ، وَيُزْجَرُ.
فَأَمَّا إنْ كَانَ جَاهِلاً لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ اشْتِغَالٌ بِالْعِلْمِ أُدِّبَ. (1)
الثَّانِي: وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَكْسُ هَذَا، قَال النَّوَوِيُّ: عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الإِْسْفِرَايِينِيِّ: إِنَّ الْمُفْتِيَ يَضْمَنُ إِنْ كَانَ أَهْلاً لِلْفَتْوَى فَبَانَ خَطَؤُهُ وَأَنَّهُ خَالَفَ الْقَاطِعَ، وَلاَ يَضْمَنُ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلاً لأَِنَّ الْمُسْتَفْتِيَ قَصَّرَ - أَيْ بِسُؤَالِهِ مَنْ لَيْسَ أَهْلاً - كَذَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلاَحِ وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَاسْتَشْكَلَهُ النَّوَوِيُّ، وَمَال إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي تَخْرِيجُهُ عَلَى قَوْلَيِ الْغُرُورِ فِي بَابَيِ الْغَصْبِ وَالنِّكَاحِ، أَوْ يُقْطَعُ بِعَدَمِ
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 20.

(32/45)


الضَّمَانِ إِذْ لاَ إِلْجَاءَ فِي الْفَتْوَى وَلاَ إِلْزَامَ.
وَذَهَبَ ابْنُ حَمْدَانَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى مِثْل قَوْل أَبِي إِسْحَاقَ (1) .
الثَّالِثُ: ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَهْلاً لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَإِلاَّ ضَمِنَ، وَقَاسَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْمُتَطَبِّبِ الْجَاهِل، وَهُوَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ (2) ، وَلِكَوْنِهِ غَرَّ الْمُسْتَفْتِيَ بِتَصَدُّرِهِ لِلْفَتْوَى وَهُوَ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ. (3)

الإِْمَامُ وَشُئُونُ الْفَتْوَى:
40 - عَلَى الإِْمَامِ نَصْبُ الْمُفْتِينَ فِي الْمَنَاطِقِ الْمُتَبَاعِدَةِ إِنْ ظَهَرَتِ الْحَاجَةُ وَلَمْ يُوجَدْ مُتَبَرِّعُونَ بِالْفُتْيَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَلاَ يَنْصِبُ إِلاَّ مَنْ كَانَ لِذَلِكَ أَهْلاً وَعَلَيْهِ الْكِفَايَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَال لِمَنْ يَتَفَرَّغُ لِذَلِكَ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ فِي أَحْوَال الْمُفْتِينَ: فَيَمْنَعُ مَنْ يَتَصَدَّرُ لِذَلِكَ وَلَيْسَ بِأَهْلٍ، أَوْ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يُسِيءُ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُحْجَرُ عَلَى الْمُفْتِي الْمَاجِنِ وَالطَّبِيبِ الْجَاهِل وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ، وَمُرَادُهُمْ بِالْمَاجِنِ: مَنْ يُعَلِّمُ الْحِيَل الْبَاطِلَةَ،
__________
(1) المجموع 1 / 45، وروضة الطالبين 11 / 107، وإعلام الموقعين 4 / 225.
(2) حديث: " من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن ". أخرجه أبو داود (4 / 710) والحاكم (4 / 213) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(3) شرح المنتهى 3 / 502، وإعلام الموقعين 4 / 226.

(32/45)


كَمَنْ يُعَلِّمُ الزَّوْجَةَ أَنْ تَرْتَدَّ لِتَبِينَ مِنْ زَوْجِهَا، أَوْ يُعَلِّمُ مَا تَسْقُطُ بِهِ الزَّكَاةُ، وَكَذَا مَنْ يُفْتِي عَنْ جَهْلٍ (1) .
وَقَال الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ أَنْ يَتَصَفَّحَ أَحْوَال الْمُفْتِينَ، فَمَنْ صَلَحَ لِلْفُتْيَا أَقَرَّهُ، وَمَنْ لاَ يَصْلُحُ مَنَعَهُ وَنَهَاهُ وَتَوَاعَدَهُ بِالْعُقُوبَةِ إِنْ عَادَ، قَال: وَطَرِيقُ الإِْمَامِ إِلَى مَعْرِفَةِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْفُتْيَا أَنْ يَسْأَل عَنْهُ عُلَمَاءَ وَقْتِهِ، وَيَعْتَمِدَ إِخْبَارَ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ. (2)
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: مَنْ أَفْتَى وَلَيْسَ بِأَهْلٍ فَهُوَ آثِمٌ عَاصٍ، وَمَنْ أَقَرَّهُمْ مِنْ وُلاَةِ الأُْمُورِ فَهُوَ آثِمٌ أَيْضًا، وَنُقِل عَنِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ قَوْلُهُ: يَلْزَمُ وَلِيَّ الأَْمْرِ مَنْعُهُمْ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَدُل الرَّكْبَ وَلاَ يَعْلَمُ الطَّرِيقَ، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ يُرْشِدُ النَّاسَ إِلَى الْقِبْلَةِ وَهُوَ أَعْمَى، بَل أَسْوَأُ حَالاً، وَإِذَا تَعَيَّنَ عَلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ مَنْعُ مَنْ لَمْ يُحْسِنِ الطِّبَّ مِنْ مُدَاوَاةِ الْمَرْضَى فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَلَمْ يَتَفَقَّهْ فِي الدِّينِ. (3)

حُكْمُ الاِسْتِفْتَاءِ:
41 - اسْتِفْتَاءُ الْعَامِّيِّ الَّذِي لاَ يَعْلَمُ حُكْمَ الْحَادِثَةِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، لِوُجُوبِ الْعَمَل حَسَبَ حُكْمِ الشَّرْعِ، وَلأَِنَّهُ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى الْعَمَل مِنْ
__________
(1) ابن عابدين على الدر المختار 5 / 93.
(2) المجموع للنووي 1 / 41.
(3) إعلام الموقعين 4 / 217.

(32/46)


غَيْرِ عِلْمٍ فَقَدْ يَرْتَكِبُ الْحَرَامَ، أَوْ يَتْرُكُ فِي الْعِبَادَةِ مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ، قَال الْغَزَالِيُّ: الْعَامِّيُّ يَجِبُ عَلَيْهِ سُؤَال الْعُلَمَاءِ، لأَِنَّ الإِْجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْعَامِّيَّ مُكَلَّفٌ بِالأَْحْكَامِ، وَتَكْلِيفُهُ طَلَبَ رُتْبَةِ الاِجْتِهَادِ مُحَالٌ، لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى انْقِطَاعِ الْحَرْثِ وَالنَّسْل، وَتَعَطُّل الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ، وَإِذَا اسْتَحَال هَذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ سُؤَال الْعُلَمَاءِ وَوُجُوبُ اتِّبَاعِهِمْ. (1)
وَقَال النَّوَوِيُّ: مَنْ نَزَلَتْ بِهِ حَادِثَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ عِلْمُ حُكْمِهَا، أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الاِسْتِفْتَاءُ عَنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِبَلَدِهِ مَنْ يَسْتَفْتِيهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّحِيل إِلَى مَنْ يُفْتِيهِ وَإِنْ بَعُدَتْ دَارُهُ، وَقَدْ رَحَل خَلاَئِقُ مِنَ السَّلَفِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ اللَّيَالِيَ وَالأَْيَّامَ. (2)

مَنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُفْتِيهِ فِي وَاقِعَتِهِ:
42 - إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُكَلَّفُ مَنْ يُفْتِيهِ فِي وَاقِعَتِهِ يَسْقُطُ عَنْهُ التَّكْلِيفُ بِالْعَمَل إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، لاَ مِنَ اجْتِهَادٍ مُعْتَبَرٍ وَلاَ مِنْ تَقْلِيدٍ، لأَِنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ بِمَا لاَ يُطَاقُ، وَلأَِنَّ شَرْطَ التَّكْلِيفِ الْعِلْمُ بِهِ، وَقِيَاسًا عَلَى الْمُجْتَهِدِ إِذَا تَعَارَضَتْ عِنْدَهُ الأَْدِلَّةُ وَتَكَافَأَتْ فَلَمْ يُمْكِنْهُ التَّرْجِيحُ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا قَبْل وُرُودِ الشَّرْعِ، وَكَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ. (3)
__________
(1) المستصفى للغزالي 2 / 124 القاهرة، المكتبة التجارية 1356هـ.
(2) المجموع للنووي 1 / 54 وانظر الموافقات للشاطبي 4 / 261.
(3) الموافقات 4 / 291، والمجموع للنووي 1 / 58.

(32/46)


وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ آخَرُ، أَنَّهُ يُخَرَّجُ حُكْمُهَا عَلَى الْخِلاَفِ فِي مَسْأَلَةِ تَعَارُضِ الأَْدِلَّةِ، وَفِيهَا الأَْقْوَال: أَنَّهُ يَأْخُذُ بِالأَْشَدِّ، أَوْ بِالأَْخَفِّ، أَوْ يَتَخَيَّرُ. ثُمَّ قَال: وَالصَّوَابُ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى الْحَقَّ بِجَهْدِهِ وَمَعْرِفَةِ مِثْلِهِ وَيَتَّقِيَ اللَّهَ، قَال: وَقَدْ نَصَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْحَقِّ أَمَارَاتٍ كَثِيرَةً، وَلَمْ يُسَوِّ بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ وَمَا يَسْخَطُهُ مِنْ كُل وَجْهٍ، بِحَيْثُ لاَ يَتَمَيَّزُ هَذَا مِنْ هَذَا، وَالْفِطَرُ السَّلِيمَةُ تَمِيل إِلَى الْحَقِّ وَتُؤْثِرُهُ، فَإِنْ قُدِّرَ ارْتِفَاعُ ذَلِكَ كُلِّهِ يَسْقُطُ عَنْهُ التَّكْلِيفُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ وَإِنْ كَانَ مُكَلَّفًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهَا. (1)

مَعْرِفَةُ الْمُسْتَفْتِي حَال مَنْ يَسْتَفْتِيهِ:
43 - يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَفْتِي إِنْ وَقَعَتْ لَهُ حَادِثَةٌ أَنْ يَسْأَل مُتَّصِفًا بِالْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْكَمَال بْنِ الْهُمَامِ: الاِتِّفَاقُ عَلَى حِل اسْتِفْتَاءِ مَنْ عُرِفَ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ بِالاِجْتِهَادِ وَالْعَدَالَةِ، أَوْ رَآهُ مُنْتَصِبًا وَالنَّاسُ يَسْتَفْتُونَهُ مُعَظِّمِينَ لَهُ، وَعَلَى امْتِنَاعِهِ مِنَ الاِسْتِفْتَاءِ إِنْ ظَنَّ عَدَمَ أَحَدِهِمَا أَيْ عَدَمَ الاِجْتِهَادِ أَوِ الْعَدَالَةِ. (2)
وَقَال النَّوَوِيُّ: يَسْأَل الْمُسْتَفْتِي مَنْ عَرَفَ عِلْمَهُ وَعَدَالَتَهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ الْعِلْمَ بَحَثَ عَنْهُ
__________
(1) إعلام الموقعين 4 / 219.
(2) رد المحتار 4 / 301.

(32/47)


بِسُؤَال النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ الْعَدَالَةَ فَقَدْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ، وَأَشْبَهُهُمَا: الاِكْتِفَاءُ، لأَِنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَال الْعُلَمَاءِ الْعَدَالَةُ، بِخِلاَفِ الْبَحْثِ عَنِ الْعِلْمِ فَلَيْسَ الْغَالِبُ مِنَ النَّاسِ الْعِلْمَ. (1)
وَقَال النَّوَوِيُّ: يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَفْتِي قَطْعًا الْبَحْثُ الَّذِي يَعْرِفُ بِهِ أَهْلِيَّةَ مَنْ يَسْتَفْتِيهِ لِلإِْفْتَاءِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِأَهْلِيَّتِهِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ اسْتِفْتَاءُ مَنِ انْتَسَبَ إِلَى الْعِلْمِ، وَانْتَصَبَ لِلتَّدْرِيسِ وَالإِْقْرَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَنَاصِبِ الْعُلَمَاءِ بِمُجَرَّدِ انْتِسَابِهِ وَانْتِصَابِهِ لِذَلِكَ، وَيَجُوزُ اسْتِفْتَاءُ مَنِ اسْتَفَاضَ كَوْنُهُ أَهْلاً لِلْفَتْوَى، وَقَال بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّمَا يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ: أَنَا أَهْلٌ لِلْفَتْوَى، لاَ شُهْرَتُهُ بِذَلِكَ، وَلاَ يُكْتَفَى بِالاِسْتِفَاضَةِ وَلاَ بِالتَّوَاتُرِ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الأَْوَّل. (2)

تَخَيُّرُ الْمُسْتَفْتِي مَنْ يُفْتِيهِ:
44 - إِنْ وَجَدَ الْمُسْتَفْتِي أَكْثَرَ مِنْ عَالِمٍ، وَكُلُّهُمْ عَدْلٌ وَأَهْلٌ لِلْفُتْيَا، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَهُمْ يَسْأَل مِنْهُمْ مَنْ يَشَاءُ وَيَعْمَل بِقَوْلِهِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَعْيَانِهِمْ لِيَعْلَمَ أَفْضَلَهُمْ عِلْمًا فَيَسْأَلَهُ، بَل
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 103.
(2) المجموع 1 / 54.

(32/47)


لَهُ أَنْ يَسْأَل الأَْفْضَل إِنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ سَأَل الْمَفْضُول مَعَ وُجُودِ الْفَاضِل، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِعُمُومِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (1) ، وَبِأَنَّ الأَْوَّلِينَ كَانُوا يَسْأَلُونَ الصَّحَابَةَ مَعَ وُجُودِ أَفَاضِلِهِمْ وَأَكَابِرِهِمْ وَتَمَكُّنِهِمْ مِنْ سُؤَالِهِمْ.
وَقَال الْقَفَّال وَابْنُ سُرَيْجٍ وَالإْسْفَرايِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَيْسَ لَهُ إِلاَّ سُؤَال الأَْعْلَمِ وَالأَْخْذُ بِقَوْلِهِ. (2)

مَا يَلْزَمُ الْمُسْتَفْتِيَ إِنِ اخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ أَجْوِبَةُ الْمُفْتِينَ:
45 - إِنْ سَأَل الْمُسْتَفْتِي أَكْثَرَ مِنْ مُفْتٍ، فَاتَّفَقَتْ أَجْوِبَتُهُمْ، فَعَلَيْهِ الْعَمَل بِذَلِكَ إِنِ اطْمَأَنَّ إِلَى فَتْوَاهُمْ.
وَإِنِ اخْتَلَفُوا، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ طَرِيقَانِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، وَابْنُ سُرَيْجٍ وَالسَّمْعَانِيُّ وَالْغَزَالِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْعَامِّيَّ لَيْسَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَقْوَالِهِمْ يَأْخُذُ بِمَا شَاءَ وَيَتْرُكُ مَا شَاءَ، بَل عَلَيْهِ الْعَمَل بِنَوْعٍ مِنَ التَّرْجِيحِ، ثُمَّ ذَهَبَ الأَْكْثَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ
__________
(1) سورة النحل / 43.
(2) روضة الطالبين للنووي 11 / 104، والمجموع 1 / 54، والبحر المحيط 6 / 311، وإعلام الموقعين 4 / 261.

(32/48)


التَّرْجِيحَ يَكُونُ بِاعْتِقَادِ الْمُسْتَفْتِي فِي الَّذِينَ أَفْتَوْهُ أَيُّهُمْ أَعْلَمُ، فَيَأْخُذُ بِقَوْلِهِ، وَيَتْرُكُ قَوْل مَنْ عَدَاهُ.
قَال الْغَزَالِيُّ: التَّرْجِيحُ بِالأَْعْلَمِيَّةِ وَاجِبٌ، لأَِنَّ الْخَطَأَ مُمْكِنٌ بِالْغَفْلَةِ عَنْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ، وَبِالْحُكْمِ قَبْل تَمَامِ الاِجْتِهَادِ وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ، وَالْغَلَطُ أَبْعَدُ عَنِ الأَْعْلَمِ لاَ مَحَالَةَ، كَالْمَرِيضِ إِذَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ طَبِيبَانِ، فَإِنْ خَالَفَ أَفْضَلَهُمَا عُدَّ مُقَصِّرًا، وَيُعْلَمُ أَفْضَل الطَّبِيبَيْنِ أَوِ الْعَالِمَيْنِ بِتَوَاتُرِ الأَْخْبَارِ، وَبِإِذْعَانِ الْمَفْضُول لَهُ، وَبِالتَّسَامُعِ وَالْقَرَائِنِ دُونَ الْبَحْثِ عَنْ نَفْسِ الْعِلْمِ، وَالْعَامِّيُّ أَهْلٌ لِذَلِكَ، فَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُخَالِفَ الأَْفْضَل بِالتَّشَهِّي. اهـ.
وَقَال الشَّاطِبِيُّ: لاَ يَتَخَيَّرُ، لأَِنَّ فِي التَّخْيِيرِ إِسْقَاطَ التَّكْلِيفِ، وَمَتَى خَيَّرْنَا الْمُقَلِّدِينَ فِي اتِّبَاعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَرْجِعٌ إِلاَّ اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ وَالْهَوَى فِي الاِخْتِيَارِ، وَلأَِنَّ مَبْنَى الشَّرِيعَةِ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، هُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الأَْمْرِ اهـ، وَقِيَاسًا عَلَى الْمُفْتِي: فَإِنَّهُ لاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِأَيِّ الرَّأْيَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ دُونَ نَظَرٍ فِي التَّرْجِيحِ إِجْمَاعًا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَال الْغَزَالِيُّ: إِنْ تَسَاوَى الْمُفْتِيَانِ فِي اعْتِقَادِ الْمُسْتَفْتِي، وَعَجَزَ عَنِ التَّرْجِيحِ تَخَيَّرَ، لأَِنَّ هَذَا مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ، وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ وَصَاحِبُ الْمَحْصُول: عَلَيْهِ التَّرْجِيحُ

(32/48)


بِالأَْمَارَاتِ، فَإِنَّ الْحَقَّ وَالْبَاطِل لاَ يَسْتَوِيَانِ فِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ.
وَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّ التَّرْجِيحَ يَكُونُ بِالأَْخْذِ بِالأَْشَدِّ احْتِيَاطًا، وَقَال الْكَعْبِيُّ: يَأْخُذُ بِالأَْشَدِّ فِيمَا كَانَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، أَمَّا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَأْخُذُ بِالأَْيْسَرِ.
وَالأَْصَحُّ وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ تَخَيُّرَ الْعَامِّيِّ بَيْنَ الأَْقْوَال الْمُخْتَلِفَةِ لِلْمُفْتِينَ جَائِزٌ، لأَِنَّ فَرْضَ الْعَامِّيِّ التَّقْلِيدُ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِتَقْلِيدِهِ لأَِيِّ الْمُفْتِيَيْنِ شَاءَ. (1)

أَدَبُ الْمُسْتَفْتِي مَعَ الْمُفْتِي:
46 - يَنْبَغِي لِلْمُسْتَفْتِي حِفْظُ الأَْدَبِ مَعَ الْمُفْتِي، وَأَنْ يُجِلَّهُ وَيُعَظِّمَهُ لِعِلْمِهِ وَلأَِنَّهُ مُرْشِدٌ لَهُ (2) . وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُ عِنْدَ هَمٍّ أَوْ ضَجَرٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَشْغَل الْقَلْبَ. (3)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَل لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يُطَالِبَ الْمُفْتِيَ بِالْحُجَّةِ وَالدَّلِيل؟ فَقَال ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: لَهُ ذَلِكَ لأَِجْل احْتِيَاطِهِ لِنَفْسِهِ، وَيَلْزَمُ الْعَالِمَ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ الدَّلِيل إِنْ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ، لإِِشْرَافِهِ عَلَى الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ، وَلاَ
__________
(1) شرح المنتهى للبهوتي الحنبلي 3 / 458، وابن عابدين 4 / 303، وإعلام الموقعين 4 / 254، 264، والمجموع للنووي 1 / 56، والبحر المحيط للزركشي 6 / 318، 113، والمستصفى للغزالي 2 / 125، والموافقات 4 / 130، 133، 262.
(2) شرح المنتهى 3 / 457، والمجموع 1 / 57.
(3) شرح المنتهى 3 / 457.

(32/49)


يَلْزَمُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْطُوعًا بِصِحَّتِهِ، لاِفْتِقَارِهِ إِلَى اجْتِهَادٍ يَقْصُرُ عَنْهُ فَهْمُ الْعَامِّيِّ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَشَارِحُ الْمُنْتَهَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَنْبَغِي لِلْعَامِّيِّ أَنْ لاَ يُطَالِبَ الْمُفْتِيَ بِالدَّلِيل، قَال الْخَطِيبُ: فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ تَسْكُنَ نَفْسُهُ لِسَمَاعِ الْحُجَّةِ طَلَبَهَا فِي مَجْلِسٍ آخَرَ، أَوْ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ بَعْدَ قَبُول الْفُتْيَا مُجَرَّدَةً. (1)
وَيُكْرَهُ كَثْرَةُ السُّؤَال، وَالسُّؤَال عَمَّا لاَ يَنْفَعُ فِي الدِّينِ، وَالسُّؤَال عَمَّا لَمْ يَقَعْ، وَأَنْ يَسْأَل عَنْ صِعَابِ الْمَسَائِل، وَعَنِ الْحِكْمَةِ فِي الْمَسَائِل التَّعَبُّدِيَّةِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَبْلُغَ بِالسُّؤَال حَدَّ التَّعَمُّقِ وَالتَّكَلُّفِ، وَأَنْ يَسْأَل عَلَى سَبِيل التَّعَنُّتِ وَالإِْفْحَامِ وَطَلَبِ الْغَلَبَةِ فِي الْخِصَامِ (2) ، لِمَا فِي الْحَدِيثِ: إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَال إِلَى اللَّهِ الأَْلَدُّ الْخَصِمُ. (3)

هَل يَلْزَمُ الْمُسْتَفْتِيَ الْعَمَل بِقَوْل الْمُفْتِي؟
47 - لاَ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَفْتِي الْعَمَل بِقَوْل الْمُفْتِي لِمُجَرَّدِ إِفْتَائِهِ، وَهَذَا هُوَ الأَْصْل، وَلَكِنْ قَدْ يَجِبُ فِي أَحْوَالٍ، مِنْهَا:
أ - أَنْ لاَ يَجِدَ إِلاَّ مُفْتِيًا وَاحِدًا، فَيَلْزَمُهُ الْعَمَل بِقَوْلِهِ.
__________
(1) المجموع 1 / 57، وشرح المنتهى 3 / 457.
(2) الموافقات للشاطبي 4 / 319 - 321.
(3) حديث: " إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 106) ومسلم (4 / 2054) من حديث عائشة.

(32/49)


وَكَذَا إِنِ اتَّفَقَ قَوْل مَنْ وَجَدَهُ مِنْهُمْ، أَوْ حَكَمَ بِقَوْل الْمُفْتِي حَاكِمٌ. (1)
ب - أَنْ يُفْتِيَهُ بِقَوْلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ، لِعَدَمِ جَوَازِ مُخَالَفَةِ الإِْجْمَاعِ (2) .
ج - أَنْ يَكُونَ الَّذِي أَفْتَاهُ هُوَ الأَْعْلَمَ الأَْوْثَقَ. (3)
د - إِذَا اسْتَفْتَى الْمُتَنَازِعَانِ فِي حَقٍّ فَقِيهًا، وَالْتَزَمَا الْعَمَل بِفُتْيَاهُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمَا الْعَمَل بِمَا أَفْتَاهُمَا.
فَلَوِ ارْتَفَعَا إِلَى قَاضٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ مَا أَفْتَاهُمَا بِهِ الْفَقِيهُ لَزِمَهُمَا فُتْيَا الْفَقِيهِ فِي الْبَاطِنِ، وَحُكْمُ الْحَاكِمِ فِي الظَّاهِرِ، قَالَهُ السَّمْعَانِيُّ، وَقِيل: يَلْزَمُهُمَا حُكْمُ الْحَاكِمِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. (4)
هـ - إِذَا اسْتَفْتَى فَقِيهًا فَأَفْتَاهُ فَعَمِل بِفَتْوَاهُ لَزِمَهُ ذَلِكَ، فَلَوِ اسْتَفْتَى آخَرَ فَأَفْتَاهُ بِغَيْرِ فَتْوَى الأَْوَّل لَمْ يَجُزِ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، نَقَل الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ الْهِنْدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ (5) .

حُكْمُ الْمُسْتَفْتِي إِنْ لَمْ يَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ إِلَى الْفُتْيَا:
48 - قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: الْمُسْتَفْتِي لاَ تُخَلِّصُهُ
__________
(1) المجموع 1 / 56، وشرح المنتهى 3 / 458، والبحر المحيط 6 / 316.
(2) البحر المحيط 6 / 316.
(3) المجموع 1 / 56.
(4) البحر المحيط 6 / 315 - 316.
(5) شرح المنتهى 3 / 458.

(32/50)


فَتْوَى الْمُفْتِي مِنَ اللَّهِ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الأَْمْرَ فِي الْبَاطِنِ بِخِلاَفِ مَا أَفْتَاهُ، كَمَا لاَ يَنْفَعُهُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِذَلِكَ، لِحَدِيثِ: مَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلاَ يَأْخُذْهَا، (1) وَالْمُفْتِي وَالْقَاضِي فِي هَذَا سَوَاءٌ، وَلاَ يَظُنُّ الْمُسْتَفْتِي أَنَّ مُجَرَّدَ فَتْوَى الْفَقِيهِ تُبِيحُ لَهُ مَا سَأَل عَنْهُ، سَوَاءٌ تَرَدَّدَ أَوْ حَاكَ فِي صَدْرِهِ، لِعِلْمِهِ بِالْحَال فِي الْبَاطِنِ، أَوْ لِشَكِّهِ فِيهِ، أَوْ لِجَهْلِهِ بِهِ، أَوْ لِعِلْمِهِ بِجَهْل الْمُفْتِي، أَوْ بِمُحَابَاتِهِ لَهُ فِي فَتْوَاهُ، أَوْ لأَِنَّهُ مَعْرُوفٌ بِالْفَتْوَى بِالْحِيَل وَالرُّخَصِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنَ الثِّقَةِ بِفَتْوَاهُ وَسُكُونِ النَّفْسِ إِلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ عَدَمُ الثِّقَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، لأَِجْل الْمُفْتِي يَسْأَل ثَانِيًا وَثَالِثًا حَتَّى تَحْصُل لَهُ الطُّمَأْنِينَةُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا، وَالْوَاجِبُ تَقْوَى اللَّهِ بِحَسَبِ الاِسْتِطَاعَةِ (2) . اهـ.
__________
(1) حديث: " من قضيت له بحق أخيه شيئًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 288) من حديث أم سلمة.
(2) إعلام الموقعين 4 / 254.

(32/50)


2

فُتُوَّة

التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْفُتُوَّةِ فِي اللُّغَةِ: الْحُرِّيَّةُ وَالْكَرَمُ، (1) قَال الْجَوْهَرِيُّ: الْفَتَى السَّخِيُّ الْكَرِيمُ، يُقَال هُوَ فَتًى بَيِّنُ الْفُتُوَّةِ. (2)
وَجَاءَ فِي الْمُعْجَمِ الْوَسِيطِ: الْفُتُوَّةُ: الشَّبَابُ بَيْنَ طَوْرَيِ الْمُرَاهَقَةِ وَالرُّجُولَةِ وَالنَّجْدَةِ، وَمَسْلَكٌ أَوْ نِظَامٌ يُنَمِّي خُلُقَ الشُّجَاعَةِ وَالنَّجْدَةِ فِي الْفَتَى. (3)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ بِأَنَّهَا اسْتِعْمَال الأَْخْلاَقِ الْكَرِيمَةِ مَعَ الْخَلْقِ. (4)
وَقِيل: الْفُتُوَّةُ اجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ وَاسْتِعْجَال الْمَكَارِمِ، قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا الْقَوْل حَسَنٌ جِدًّا، لأَِنَّهُ يَعُمُّ بِالْمَعْنَى جَمِيعَ مَا قِيل فِي الْفُتُوَّةِ (5) .
__________
(1) أساس البلاغة للزمخشري مادة (فتى) .
(2) لسان العرب.
(3) المعجم الوسيط.
(4) مدارج السالكين 2 / 340.
(5) تفسير القرطبي 10 / 364.

(32/51)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُرُوءَةُ:
2 - الْمُرُوءَةُ هِيَ: اسْتِعْمَال مَا يُجَمِّل الْعَبْدَ وَيُزَيِّنُهُ وَتَرْكُ مَا يُدَنِّسُهُ وَيَشِينُهُ (1) .
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفُتُوَّةِ وَالْمُرُوءَةِ أَنَّ الْمُرُوءَةَ أَعَمُّ مِنْهَا.
فَالْفُتُوَّةُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُرُوءَةِ (2) .

ب - الشَّجَاعَةُ:
3 - حَقِيقَةُ الشَّجَاعَةِ: ثَبَاتُ الْجَأْشِ وَذَهَابُ الرُّعْبِ وَزَوَال هَيْبَةِ الْخَصْمِ أَوِ اسْتِصْغَارُهُ عِنْدَ لِقَائِهِ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ هَذَا رَأْيٌ ثَاقِبٌ، وَنَظَرٌ صَائِبٌ، وَحِيلَةٌ فِي التَّدْبِيرِ، وَخِدَاعٌ فِي الْمُمَارَسَةِ، فَقَدْ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَرْبُ خُدْعَةٌ (3) .
وَالْفُتُوَّةُ مَسْلَكٌ يُؤَدِّي إِلَى الشَّجَاعَةِ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - الْفُتُوَّةُ - كَمَا قَال ابْنُ الْقَيِّمِ - اسْتِعْمَال الأَْخْلاَقِ الْكَرِيمَةِ مَعَ الْخَلْقِ، (4) وَالْخُلُقُ الْحَسَنُ صِفَةُ الْمُرْسَلِينَ، وَأَفْضَل أَعْمَال الصِّدِّيقِينَ وَهُوَ عَلَى التَّحْقِيقِ شَطْرُ الدِّينِ،
__________
(1) مدارج السالكين 2 / 253.
(2) مدارج السالكين 2 / 340.
(3) المنهج المسلوك في سياسة الملوك ص265، 267.، وحديث: " الحرب خدعة " أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 158) من حديث جابر ابن عبد الله.
(4) مدارج السالكين 2 / 340.

(32/51)


وَثَمَرَةُ مُجَاهَدَةِ الْمُتَّقِينَ، وَرِيَاضَةُ الْمُتَعَبِّدِينَ (1) ، فَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ وَحَبِيبِهِ مُثْنِيًا عَلَيْهِ وَمُظْهِرًا نِعْمَتَهُ لَدَيْهِ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (2) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُِتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَْخْلاَقِ (3) . وَقَدْ أَتَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَارِمَ الأَْخْلاَقِ وَحَثَّ عَلَى الرُّسُوخِ فِيهَا (4) . وَقَال: اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ.

(5) دَرَجَاتُ الْفُتُوَّةِ:
5 - مِنْ دَرَجَاتِ الْفُتُوَّةِ: تَرْكُ الْخُصُومَةِ، وَالتَّغَافُل عَنِ الزَّلَّةِ وَنِسْيَانُ الأَْذِيَّةِ. أَمَّا تَرْكُ الْخُصُومَةِ فَهُوَ: أَلاَّ يُخَاصِمَ بِلِسَانِهِ، وَلاَ يَنْوِيَ الْخُصُومَةَ بِقَلْبِهِ، وَلاَ يَخْطِرَهَا عَلَى بَالِهِ، هَذَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ رَبِّهِ: فَالْفُتُوَّةُ أَنْ يُخَاصِمَ بِاللَّهِ وَفِي اللَّهِ، وَيُحَاكِمَ إِلَى اللَّهِ، وَأَمَّا التَّغَافُل عَنِ الزَّلَّةِ فَهُوَ أَنَّهُ إِذَا رَأَى مِنْ أَحَدٍ زَلَّةً
__________
(1) إحياء علوم الدين 2 / 47.
(2) سورة القلم / 4.
(3) حديث: " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ". أخرجه الحاكم (2 / 613) ، والبيهقي (10 / 192) من حديث أبي هريرة واللفظ للبيهقي، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.، وانظر إحياء علوم الدين 2 / 48.
(4) الأدب المفرد للبخاري 1 / 371.
(5) حديث: " اتقِ الله حيثما كنت. . . " أخرجه الترمذي (4 / 355) من حديث أبي ذر وقال حديث حسن صحيح.، انظر تحفة الأحوذي 6 / 122، وتفسير القرطبي 18 / 228.

(32/52)


أَظْهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَرَهَا، لِئَلاَّ يُعَرِّضَ صَاحِبَهَا لِلْوَحْشَةِ، وَيُرِيحَهُ مِنْ تَحَمُّل الْعُذْرِ.
وَأَمَّا نِسْيَانُ الأَْذِيَّةِ فَهُوَ بِأَنْ تَنْسَى أَذِيَّةَ مَنْ نَالَكَ بِأَذًى لِيَصْفُوَ قَلْبُكَ لَهُ وَلاَ تَسْتَوْحِشَ مِنْهُ.
قَال ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ: وَهُنَا نِسْيَانٌ آخَرُ أَيْضًا وَهُوَ مِنَ الْفُتُوَّةِ، وَهُوَ نِسْيَانُ إِحْسَانِكَ إِلَى مَنْ أَحْسَنْتَ إِلَيْهِ حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْكَ، وَهَذَا النِّسْيَانُ أَكْمَل مِنَ الأَْوَّل. (1)
وَمِنْ دَرَجَاتِهَا كَذَلِكَ: أَنْ تُقَرِّبَ مَنْ يُقْصِيكَ، وَتُكْرِمَ مَنْ يُؤْذِيكَ، وَتَعْتَذِرَ إِلَى مَنْ يَجْنِي عَلَيْكَ، سَمَاحَةً لاَ كَظْمًا، وَمَوَدَّةً لاَ مُصَابَرَةً.
وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا وَأَصْعَبُ، فَإِنَّ الأُْولَى تَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْمُقَابَلَةِ وَالتَّغَافُل، وَهَذِهِ تَتَضَمَّنُ الإِْحْسَانَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، وَمُعَامَلَتَهُ بِضِدِّ مَا عَامَلَكَ بِهِ، فَيَكُونُ الإِْحْسَانُ وَالإِْسَاءَةُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ خُطَّتَيْنِ: فَخُطَّتُكَ الإِْحْسَانُ، وَخُطَّتُهُ الإِْسَاءَةُ.
وَمَعْنَى الاِعْتِذَارِ إِلَى مَنْ يَجْنِي عَلَيْكَ أَنَّكَ تُنَزِّل نَفْسَكَ مَنْزِلَةَ الْجَانِي لاَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَالْجَانِي خَلِيقٌ بِالْعُذْرِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: مُرُوءَة) .
__________
(1) مدارج السالكين 2 / 344، 345.
(2) مدارج السالكين 2 / 345، 346.

(32/52)


فُتْيَا

انْظُرْ: فَتْوَى

فَجْر

انْظُرْ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَفْرُوضَةُ

فُجُور

انْظُرْ: فِسْق

(32/53)