الموسوعة الفقهية الكويتية

فِسْق

التَّعْرِيفُ:
1 - الْفِسْقُ فِي اللُّغَةِ: الْخُرُوجُ عَنِ الطَّاعَةِ، وَعَنِ الدِّينِ، وَعَنِ الاِسْتِقَامَةِ.
وَالْفِسْقُ فِي الأَْصْل خُرُوجُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فَسَقَ الرُّطَبُ: إِذَا خَرَجَ عَنْ قِشْرِهِ. وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الشَّوْكَانِيُّ: هُوَ الْخُرُوجُ عَنِ الطَّاعَةِ وَتَجَاوُزُ الْحَدِّ بِالْمَعْصِيَةِ.
وَالْفِسْقُ يَقَعُ بِالْقَلِيل مِنَ الذُّنُوبِ إِذَا كَانَتْ كَبَائِرَ، وَبِالْكَثِيرِ، لَكِنْ تُعُورِفَ فِيمَا كَانَ كَثِيرًا، وَقَدْ يَكُونُ الْفِسْقُ شِرْكًا، وَقَدْ يَكُونُ إِثْمًا، وَأَكْثَرُ مَا يُقَال الْفَاسِقُ لِمَنِ الْتَزَمَ حُكْمَ الشَّرْعِ وَأَقَرَّ بِهِ ثُمَّ أَخَل بِجَمِيعِ أَحْكَامِهِ أَوْ بِبَعْضِهِ (1)
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات للراغب الأصفهاني، والتعريفات للجرجاني، والمعجم الوسيط، والفروق اللغوية لأبي هلال العسكري، وفتح القدير للشوكاني 4 / 8.

(32/140)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْكُفْرُ:
2 - الْكُفْرُ فِي اللُّغَةِ: سَتْرُ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ وُصِفَ اللَّيْل بِالْكَافِرِ لِسَتْرِهِ الأَْشْخَاصَ، وَالزُّرَّاعُ لِسَتْرِهِمُ الْبِذْرَ فِي الأَْرْضِ، وَكُفْرُ النِّعْمَةِ وَكُفْرَانُهَا: سَتْرُهَا بِالْجُحُودِ، وَاسْتِعْمَال الْكُفْرِ فِي جُحُودِ الدِّينِ أَكْثَرُ، وَاسْتِعْمَال الْكُفْرَانِ فِي جُحُودِ النِّعْمَةِ أَكْثَرُ.
قَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: وَالْكَافِرُ عَلَى الإِْطْلاَقِ مُتَعَارَفٌ فِيمَنْ يَجْحَدُ الْوَحْدَانِيَّةَ أَوِ النُّبُوَّةَ أَوِ الشَّرِيعَةَ أَوْ ثَلاَثَتَهَا، وَقَدْ يُقَال: كَفَرَ، لِمَنْ أَخَل بِالشَّرِيعَةِ وَتَرَكَ مَا لَزِمَهُ مِنْ شُكْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْفِسْقِ وَالْكُفْرِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ.
ب - الظُّلْمُ:
3 - الظُّلْمُ فِي اللُّغَةِ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَذَلِكَ إِمَّا بِنُقْصَانٍ أَوْ بِزِيَادَةٍ، وَإِمَّا بِعُدُولٍ عَنْ وَقْتِهِ أَوْ عَنْ مَكَانِهِ، وَالظُّلْمُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ.
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ
__________
(1) لسان العرب، والمعجم الوسيط، والمصباح المنير، والتعريفات للجرجاني، والمفردات للراغب.

(32/140)


اللُّغَوِيِّ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الظُّلْمَ يُؤَدِّي إِلَى الْفِسْقِ.

ج - الْعَدَالَةُ:
4 - الْعَدَالَةُ فِي اللُّغَةِ: التَّوَسُّطُ وَالاِعْتِدَال وَالاِسْتِقَامَةُ، وَهِيَ صِفَةٌ تُوجِبُ مُرَاعَاتُهَا الاِحْتِرَازَ عَمَّا يُخِل بِالْمُرُوءَةِ عَادَةً ظَاهِرًا، وَالْعَدَالَةُ: الْعَدْل، وَهُوَ الْحُكْمُ بِالْحَقِّ.
وَالْعَدَالَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ وَاجْتِنَابُ الإِْصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ، وَقِيل: اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ وَأَدَاءُ الْفَرَائِضِ، وَأَنْ تَغْلِبَ حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتِهِ، وَقَال الْبُهُوتِيُّ: الْعَدَالَةُ هِيَ اسْتِوَاءُ أَحْوَال الشَّخْصِ فِي دِينِهِ، وَاعْتِدَال أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ (2) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْفِسْقِ وَالْعَدَالَةِ الضِّدِّيَةُ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الْفِسْقُ حَرَامٌ وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، لأَِنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ أَحْكَامِ اللَّهِ، وَمُخَالَفَةٌ لأَِوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَيُعَاقَبُ صَاحِبُهُ بِالْحَدِّ أَوِ التَّعْزِيرِ (3) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات للراغب، والتعريفات للجرجاني.
(2) المراجع السابقة، وبدائع الصنائع 6 / 268، ومغني المحتاج 4 / 427، وكشاف القناع 6 / 418.
(3) التفسير الكبير للفخر الرازي 10 / 74، والزواجر لابن حجر 1 / 4، 5.

(32/141)


أَنْوَاعُ الْفِسْقِ:
6 - قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ الْفِسْقَ تَارَةً يَكُونُ بِتَرْكِ الْفَرَائِضِ، وَتَارَةً بِفِعْل الْمُحَرَّمَاتِ (1) .
وَجَاءَ فِي الزَّوَاجِرِ عَنِ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ لاِبْنِ حَجَرٍ: قَال بَعْضُ الأَْئِمَّةِ: كَبَائِرُ الْقُلُوبِ أَعْظَمُ مِنْ كَبَائِرِ الْجَوَارِحِ، لأَِنَّهَا كُلُّهَا تُوجِبُ الْفِسْقَ (2) .
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ نَاقِلاً عَنِ الإِْمَامِ الْقُرْطُبِيَّ: وَالْفِسْقُ فِي عُرْفِ الاِسْتِعْمَال الشَّرْعِيِّ: الْخُرُوجُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل، فَقَدْ يَقَعُ عَلَى مَنْ خَرَجَ بِكُفْرٍ، وَعَلَى مَنْ خَرَجَ بِعِصْيَانٍ (3) ، وَفِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ (4) .
الْفِسْقُ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ يَذْكُرُهَا الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ، كَالْفِسْقِ الْمِلِّيِّ أَوْ فِسْقِ أَهْل الْمِلَّةِ الَّذِينَ لَهُمْ حَسَنَاتٌ وَلَهُمْ سَيِّئَاتٌ، فَهُمْ غَيْرُ مُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ (5) .
وَمِنْ ذَلِكَ الْفَاسِقُ بِتَأْوِيلٍ، كَالَّذِي يَشْرَبُ الْخَمْرَ مُتَأَوِّلاً فِقْهَ الْعِرَاقِيِّينَ، فَإِذَا كَانَ تَأْوِيلُهُ
__________
(1) مجموعة الفتاوى 7 / 637.
(2) الزواجر 1 / 21.
(3) تفسير فتح القدير 1 / 56 - 57.
(4) حديث: " سباب المسلم فسوق. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 464) ، ومسلم (1 / 81) من حديث عبد الله بن مسعود.
(5) مجموعة الفتاوى ص7 / 670، 679.

(32/141)


لِمَقْطُوعٍ بِحُرْمَتِهِ فَلاَ يُعْذَرُ بِتَأْوِيلِهِ، أَوْ كَانَ غَيْرَ مُتَأَوِّلٍ فَلاَ يُعْذَرُ بِذَلِكَ (1) .
وَمِنْهُ الْفَاسِقُ بِالْجَارِحَةِ كَمَنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ أَوْ يَزْنِي (2) .
وَمِنْهُ الْفَاسِقُ بِالاِعْتِقَادِ كَالْقَدَرِيِّ وَالْجَبْرِيِّ.

إِمَامَةُ الْفَاسِقِ فِي الصَّلاَةِ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الصَّلاَةِ خَلْفَ الْفَاسِقِ:
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يَصْلُحُ لِلإِْمَامَةِ فِي الْجُمْلَةِ كُل عَاقِلٍ مُسْلِمٍ، حَتَّى تَجُوزَ إِمَامَةُ الْعَبْدِ وَالأَْعْرَابِيِّ وَالأَْعْمَى وَوَلَدِ الزِّنَا وَالْفَاسِقِ، وَإِنْ كَانَتْ مَكْرُوهَةً (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَصِحُّ الصَّلاَةُ - عَلَى الْمُعْتَمَدِ - مَعَ الْكَرَاهَةِ خَلْفَ الْفَاسِقِ بِجَارِحَةٍ، كَزَانٍ وَشَارِبِ خَمْرٍ، فَإِنْ تَعَلَّقَ فِسْقُهُ بِالصَّلاَةِ، كَقَصْدِهِ الْكِبْرَ بِإِمَامَتِهِ، فَلاَ تَصِحُّ.
وَمُقَابِل الْمُعْتَمَدِ أَنَّهَا لاَ تَصِحُّ خَلْفَ الْفَاسِقِ بِجَارِحَةٍ.
وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهَا تَصِحُّ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ الْمُخْتَلَفِ فِي تَكْفِيرِهِ بِبِدْعَتِهِ، كَالْحَرُورِيِّ
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 115، والفواكه الدواني على الرسالة 1 / 241.
(2) شرح ميارة الكبير علي ابن عاشر 2 / 40 - 45.
(3) بدائع الصنائع 1 / 156، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 70، ومراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي عليه 164 - 165.

(32/142)


وَالْقَدَرِيِّ (1) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يُجِيزُونَ الصَّلاَةَ وَرَاءَ الإِْمَامِ الْفَاسِقِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ خَلْفَهُ، وَمَحَل كَرَاهَةِ إِمَامَةِ الْفَاسِقِ لِغَيْرِ الْفَاسِقِ، أَمَّا لِمِثْلِهِ فَلاَ تُكْرَهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِسْقُ الإِْمَامِ أَفْحَشَ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ تَصِحُّ إِمَامَةُ فَاسِقٍ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ فِسْقُهُ بِالاِعْتِقَادِ أَوْ بِأَفْعَالٍ مُحَرَّمَةٍ، وَسَوَاءٌ أَعْلَنَ فِسْقَهُ أَوْ أَخْفَاهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ} (3) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلاً، وَلاَ يَؤُمُّ أَعْرَابِيٌّ مُهَاجِرًا، وَلاَ يَؤُمُّ فَاجِرٌ مُؤْمِنًا، إِلاَّ أَنْ يَقْهَرَهُ بِسُلْطَانٍ يَخَافُ سَيْفَهُ وَسَوْطَهُ (4) ، وَيُعِيدُ مَنْ صَلَّى خَلْفَ فَاسِقٍ مُطْلَقًا (5) .

الْفِسْقُ وَالإِْمَامَةُ الْكُبْرَى:
8 - مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي تُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَتَوَلَّى الإِْمَامَةَ الْكُبْرَى أَنْ يَكُونَ عَدْلاً.
وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لاَ يَجُوزُ أَنْ تُعْقَدَ الإِْمَامَةُ لِفَاسِقٍ، لأَِنَّ الإِْمَامَ يُقَامُ لإِِقَامَةِ الْحُدُودِ وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ، وَحِفْظِ أَمْوَال
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 78، والفواكه الدواني 1 / 239.
(2) حاشية البجيرمي على الخطيب 2 / 112.
(3) سورة السجدة / 18.
(4) حديث: " لا تؤمّنّ امرأة رجلاً. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 343) من حديث جابر بن عبد الله، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 203) .
(5) شرح منتهى الإرادات 1 / 257، وكشاف القناع 1 / 474.

(32/142)


الأَْيْتَامِ وَالْمَجَانِينِ، وَالنَّظَرِ فِي أُمُورِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْفِسْقِ يُقْعِدُهُ عَنِ الْقِيَامِ بِهَذِهِ الأُْمُورِ وَالنُّهُوضِ فِيهَا (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى ف 6) .

أَثَرُ الْفِسْقِ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ:
9 - ذَهَبَ جَمَاهِيرُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِ السَّلاَمَةُ مِنَ الْفِسْقِ.
وَذَكَرَ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ أَنَّ الْفَاسِقَ الْمُبْتَدِعَ الَّذِي لَمْ يُكَفَّرْ بِبِدْعَتِهِ إِذَا كَانَ دَاعِيَةً إِلَى بِدْعَتِهِ لَمْ تُقْبَل رِوَايَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً قُبِل، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ كَمَا قَال الْخَطِيبُ، وَقَال ابْنُ الصَّلاَحِ: وَهَذَا مَذْهَبُ الْكَثِيرِ وَالأَْكْثَرِ، وَهُوَ أَعْدَلُهَا وَأَوْلاَهَا (2) .

أَثَرُ الْفِسْقِ فِي الشَّهَادَةِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الشَّاهِدِ، وَأَنَّهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْفَاسِقِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (3) ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (4) ، فَلاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا،
__________
(1) تفسير القرطبي 1 / 232، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 10.
(2) شرح مقدمة ابن الصلاح ص114، وشرح الزين العراقي على ألفيته مخطوط ص49.
(3) سورة الطلاق / 2.
(4) سورة الحجرات / 6.

(32/143)


لأَِنَّ فِي الْحُكْمِ بِهَا تَعْدِيلاً لَهُ، وَلأَِنَّ اعْتِبَارَ الْعَدَالَةِ فِي الشَّاهِدِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى (1) .

أَثَرُ الْفِسْقِ فِي الْفَتْوَى:
11 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْفِسْقَ مَانِعٌ مِنْ قَبُول الْفَتْوَى، لأَِنَّ الإِْفْتَاءَ يَتَضَمَّنُ الإِْخْبَارَ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَخَبَرُ الْفَاسِقِ لاَ يُقْبَل.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْفَاسِقَ تُقْبَل فَتْوَاهُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (فَتْوَى ف 12) .

أَثَرُ الْفِسْقِ فِي الْحَضَانَةِ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ حَضَانَةَ لِفَاسِقٍ، لأَِنَّ الْفَاسِقَ لاَ يَلِي وَلاَ يُؤْتَمَنُ، وَلأَِنَّ الْمَحْضُونَ لاَ حَظَّ لَهُ فِي حَضَانَتِهِ، لأَِنَّهُ يَنْشَأُ عَلَى طَرِيقَتِهِ.
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ الْفِسْقَ الْمُسْقِطَ لِلْحَضَانَةِ بِأَنَّهُ الْمُضَيِّعُ لِلْوَلَدِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَضَانَة ف 3) .

الْفِسْقُ وَالْمُعَامَلاَتُ:
13 - نَصَّ الْجَصَّاصُ فِي كِتَابِهِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ أَهْل الْعِلْمِ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ قَبُول خَبَرِ
__________
(1) الفتاوى الخانية 2 / 460، والتبصرة لابن فرحون 1 / 173، والشرح الصغير 4 / 240، ومغني المحتاج 4 / 427، وشرح منتهى الإرادات 3 / 555، والمغني 9 / 63 - 67.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 633، وحاشية الدسوقي 2 / 528، وكشاف القناع 5 / 498، ومغني المحتاج 3 / 455.

(32/143)


الْفَاسِقِ فِي أَشْيَاءَ، مِنْهَا: أُمُورُ الْمُعَامَلاَتِ، فَيُقْبَل فِيهَا خَبَرُ الْفَاسِقِ، وَذَلِكَ نَحْوُ الْهَدِيَّةِ إِذَا قَال لَكَ: إِنَّ فُلاَنًا أَهْدَى إِلَيْكَ هَذَا، فَيَجُوزُ قَبُولُهُ وَقَبْضُهُ، وَنَحْوُ قَوْلِهِ: وَكَّلَنِي فُلاَنٌ بِبَيْعِ كَذَا، فَيَجُوزُ قَبُولُهُ وَشِرَاؤُهُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ أَخْبَارِ الْمُعَامَلاَتِ (1) .
وَنَصَّ الْقُرْطُبِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ رَسُولاً عَنْ غَيْرِهِ فِي قَوْلٍ يُبَلِّغُهُ، أَوْ شَيْءٍ يُوصِلُهُ، أَوْ إِذْنٍ يُعْلِمُهُ، إِذَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَقِّ الْمُرْسِل وَالْمُبَلِّغِ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِمَا لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ، وَهَذَا جَائِزٌ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَصَرَّفْ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي إِلاَّ الْعُدُول، لَمْ يَحْصُل مِنْهَا شَيْءٌ، لِعَدَمِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ نُدْرَتُهُمْ (2) .

الْفَاسِقُ وَوِلاَيَةُ النِّكَاحِ:
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفَاسِقَ يَكُونُ وَلِيًّا فِي النِّكَاحِ عَلَى مُوَلِّيَتِهِ، لأَِنَّهُ يَلِي مَالَهَا فَيَلِي بُضْعَهَا كَالْعَدْل، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا فِي دِينِهِ إِلاَّ أَنَّ غَيْرَتَهُ مُتَوَفِّرَةٌ، وَبِهَا يَحْمِي الْحَرِيمَ، وَقَدْ يَبْذُل الْمَال وَيَصُونُ الْحُرْمَةَ، وَإِذَا وَلِيَ الْمَال فَالنِّكَاحُ أَوْلَى.
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ كَرِهُوا لِلْوَلِيِّ الْفَاسِقِ أَنْ يَلِيَ زَوَاجَ مَنْ يَلِي عَلَيْهَا، وَقَدَّمُوا عَلَيْهِ الْوَلِيَّ الْعَدْل
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3 / 398 ط الأستانة.
(2) تفسير القرطبي 16 / 311.

(32/144)


الْمُسَاوِيَ لَهُ فِي الدَّرَجَةِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ لاَ يَنْعَقِدُ بِوَلِيٍّ فَاسِقٍ عَلَى الْمَذْهَبِ، غَيْرَ الإِْمَامِ الأَْعْظَمِ، مُجْبَرًا كَانَ أَمْ لاَ، أَعْلَنَ بِفِسْقِهِ أَمْ لاَ، فَلاَ يُزَوِّجُ الْوَلِيُّ الْفَاسِقُ وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ سُلِبَ الْوِلاَيَةَ لاَنْتَقَلَتْ إِلَى حَاكِمٍ فَاسِقٍ، وَالْوَلِيُّ الْخَاصُّ تُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ مُطْلَقًا بِخِلاَفِ الْحَاكِمِ، فَلاَ تُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ، لأَِنَّهُ يُزَوَّجُ لِلضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ يُغْتَفَرُ فِيهَا مَا لاَ يُغْتَفَرُ فِي غَيْرِهَا (2) .

الْخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَةِ الْفَاسِقِ:
15 - يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى خِطْبَةِ امْرَأَةٍ سَبَقَ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ خِطْبَتُهَا، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: لاَ يَخْطِبُ الرَّجُل عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ (3) .
لَكِنْ إِذَا كَانَ هَذَا الْخَاطِبُ السَّابِقُ فَاسِقًا، فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْخِطْبَةِ عَلَى خِطْبَتِهِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ تَحْرُمُ الْخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَةِ مَنْ صُرِّحَ بِإِجَابَتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَحْرُمُ خِطْبَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 295، وجواهر الإكليل 1 / 281.
(2) البجيرمي على الخطيب 3 / 306، ومغني المحتاج 3 / 155، وشرح منتهى الإرادات 3 / 18، 19.
(3) حديث: " لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 198) ومسلم (2 / 1032) من حديث ابن عمر، واللفظ للبخاري.

(32/144)


الْمُسْلِمِ، أَمَّا خِطْبَتُهُ عَلَى الْكَافِرِ فَتَجُوزُ (1) .

أَثَرُ الْفِسْقِ فِي عَزْل الْوَالِي:
16 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ الْفِسْقِ فِي عَزْل الْوَالِي بَعْدَ انْعِقَادِ وِلاَيَتِهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَنْعَزِل بِالْفِسْقِ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعَزْل بِهِ.
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْفِسْقِ الَّذِي يُعْزَل بِهِ وَالْفِسْقِ الَّذِي لاَ يُعْزَل بِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى ف 12) .

حُكْمُ التَّوَدُّدِ لِلْفَاسِقِ:
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّوَدُّدُ لِلْفَاسِقِ لأَِجْل فِسْقِهِ، وَلاَ الْجُلُوسُ مَعَهُ وَهُوَ يُمَارِسُ شَيْئًا مِنَ الْمَعَاصِي إِينَاسًا وَمُجَارَاةً لَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} (2) ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا وَلاَ يَأْكُل طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ (3) ، وَقَوْلِهِ: الرَّجُل عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِل (4) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 217، ومغني المحتاج 3 / 136، وكشاف القناع 5 / 18، 19.
(2) سورة هود / 113.
(3) حديث: " لا تصاحب إلا مؤمنًا. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 601) من حديث أبي سعيد الخدري، وقال: حديث حسن.
(4) حديث: " الرجل على دين خليله. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 589) من حديث أبي هريرة، وقال: حديث حسن صحيح.

(32/145)


كَمَا أَنَّهُ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ مُخَاطَبَةِ الْفَاسِقِ وَالْمُبْتَدِعِ وَنَحْوِهِمَا بِسَيِّدٍ وَنَحْوِهِ مِنَ الأَْلْقَابِ الَّتِي تَدُل عَلَى تَعْظِيمِهِ، لأَِنَّ فِي ذَلِكَ تَعْظِيمَ مَنْ أَهَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى (1) .
وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْجُلُوسَ مَعَ الْفَاسِقِ إِينَاسًا لَهُ يُعَدُّ مِنْ صَغَائِرِ الذُّنُوبِ الَّتِي تُغْفَرُ بِالْحَسَنَاتِ (2) .

حُكْمُ غِيبَةِ الْفَاسِقِ:
18 - الأَْصْل فِي الْغِيبَةِ الْحُرْمَةُ، لِنَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: {وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} (3) ، لَكِنَّهُ تَجُوزُ غِيبَةُ الْفَاسِقِ الْمُجَاهِرِ بِفِسْقِهِ فِيمَا جَاهَرَ بِهِ مِنَ الْفِسْقِ، دُونَ غَيْرِهِ (4) .

تَوْبَةُ الْفَاسِقِ:
19 - تُقْبَل تَوْبَةُ الْفَاسِقِ إِذَا اسْتَجْمَعَتْ شُرُوطَهَا، إِلاَّ ثَلاَثَةً اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُول تَوْبَتِهِمْ، هُمُ: الزِّنْدِيقُ وَالسَّاحِرُ وَمَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَوْبَة ف 12)
__________
(1) تفسير القرطبي 5 / 417 وما بعدها، 17 / 308، 18 / 52، ودليل الفالحين 2 / 226، 230، 231، 4 / 532 - 533، والفواكه الدواني 1 / 92، ومغني المحتاج 4 / 426، والآداب الشرعية 1 / 258 وما بعدها.
(2) الفواكه الدواني 1 / 92، ومغني المحتاج 4 / 426.
(3) سورة الحجرات / 12.
(4) أنواء الفروق بهامش الفروق 4 / 229.

(32/145)


فِصَال

انْظُرْ: رَضَاع، فِطَام

(32/146)


فَصْد
التَّعْرِيفُ:
1 - الْفَصْدُ لُغَةً: شَقُّ الْعِرْقِ، يُقَال: فَصَدَهُ يَفْصِدُهُ فَصْدًا وَفِصَادًا، فَهُوَ مَفْصُودٌ وَفَصِيدٌ (1) .
وَاصْطِلاَحًا الْفَصْدُ: هُوَ قَطْعُ الْعِرْقِ لاِسْتِخْرَاجِ الدَّمِ الَّذِي يُؤْذِي الْجَسَدَ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْحِجَامَةُ:
2 - الْحِجَامَةُ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْحَجْمِ، أَيِ الْمَصِّ، يُقَال: حَجَمَ الصَّبِيُّ ثَدْيَ أُمِّهِ: إِذَا مَصَّهُ.
وَالْحِجَامَةُ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ قُيِّدَتْ عِنْدَ الْبَعْضِ بِإِخْرَاجِ الدَّمِ مِنَ الْقَفَا بِوَاسِطَةِ الْمَصِّ بَعْدَ الشَّرْطِ بِالْحَجْمِ لاَ بِالْفَصْدِ. وَذَكَرَ الزَّرْقَانِيُّ أَنَّ الْحِجَامَةَ لاَ تَخْتَصُّ بِالْقَفَا، بَل تَكُونُ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ، وَإِلَى هَذَا
__________
(1) لسان العرب.
(2) كفاية الطالب الرباني 2 / 393 ط الحلبي، والشرح الصغير 4 / 771.

(32/146)


ذَهَبَ الْخَطَّابِيُّ (1) . وَالْحِجَامَةُ وَالْفَصْدُ يَجْتَمِعَانِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إِخْرَاجٌ لِلدَّمِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الْفَصْدَ شَقُّ الْعِرْقِ، وَالْحِجَامَةَ مَصُّ الدَّمِ بَعْدَ الشَّرْطِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - يَجُوزُ الْفَصْدُ بِشَرْطِ مَهَارَةِ الْقَائِمِ بِهِ، لأَِنَّ الْفَصَادَةَ - كَمَا قَال الأَْطِبَّاءُ - مَخْطَرَةٌ، فَلاَ يُؤْمَنُ بِهَا إِلاَّ مِنْ مَاهِرٍ، وَقَدْ قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الشِّفَاءُ فِي ثَلاَثٍ: شَرْبَةِ عَسَلٍ، وَشَرْطَةِ مِحْجَمٍ، وَكَيَّةِ نَارٍ، وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ (2) .
قِيل: الْمُرَادُ بِشَرْطَةِ مِحْجَمٍ: الْفَصْدُ (3) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْحَدِيثِ: إِنَّمَا خَصَّ الْحَجْمَ بِالذِّكْرِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَال الْعَرَبِ وَإِلْفِهِمْ لَهُ، بِخِلاَفِ الْفَصْدِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى الْحَجْمِ لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا لَهَا غَالِبًا، عَلَى أَنَّ فِي التَّعْبِيرِ بِقَوْلِهِ: " شَرْطَةِ مِحْجَمٍ " مَا قَدْ يَتَنَاوَل الْفَصْدَ، وَأَيْضًا فَالْحَجْمُ فِي الْبِلاَدِ الْحَارَّةِ أَنْجَحُ مِنَ الْفَصْدِ، وَالْفَصْدُ فِي الْبِلاَدِ الَّتِي لَيْسَتْ بِحَارَّةٍ
__________
(1) الزرقاني على الموطأ 2 / 187، وإكمال الإكمال 4 / 265، وفتح الباري 12 / 244.
(2) حديث: " الشفاء في ثلاث. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 136) من حديث ابن عباس.
(3) شرح زروق على متن الرسالة ص409.

(32/147)


أَنْجَحُ مِنَ الْحَجْمِ (1) .
وَكَرِهَ بَعْضُ أَهْل الْعِلْمِ التَّدَاوِيَ بِذَلِكَ، وَرَأَوْا أَنَّ تَرْكَهُ وَالاِتِّكَال عَلَى اللَّهِ أَفْضَل مِنْهُ (2)

أَثَرُ الْفَصْدِ عَلَى الْوُضُوءِ:
4 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِالْفَصْدِ، لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ حَرَسَا الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، فَقَامَ أَحَدُهُمَا يُصَلِّي فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْكُفَّارِ بِسَهْمٍ فَنَزَعَهُ وَصَلَّى وَدَمُهُ يَجْرِي، وَعَلِمَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ (3) قَال الرَّمْلِيُّ: وَأَمَّا صَلاَتُهُ مَعَ الدَّمِ فَلِقِلَّةِ مَا أَصَابَهُ مِنْهُ (4) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْفَصْدَ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ (5) .
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ خُرُوجَ الْكَثِيرِ مِنَ الدَّمِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ
__________
(1) فتح الباري 10 / 138 ط السلفية.
(2) شرح التتنوخي القروي على الرسالة، مطبوع مع شرح زروق ص408 - 409، وانظر كفاية الطالب الرباني 2 / 452 نشر دار المعرفة.
(3) حديث: " أن رجلين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم حرسا المسلمين في غزوة ذات الرقاع. . . " أخرجه أبو داود (1 / 136) من حديث جابر بن عبد الله، والراوي عنه فيه جهالة كما في الميزان للذهبي (3 / 88) .
(4) الدسوقي / 1 / 123، ونهاية المحتاج 1 / 96.
(5) حاشية الطحطاوي على الدر المختار 1 / 78.

(32/147)


فَدَعِي الصَّلاَةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي، ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُل صَلاَةٍ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ (1) ، وَلأَِنَّهُ نَجَاسَةٌ خَارِجَةٌ مِنَ الْبَدَنِ، فَأَشْبَهَتْ الْخَارِجَ مِنَ السَّبِيل (2) .

أَثَرُ الْفَصْدِ عَلَى الصَّوْمِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفَصْدَ مَكْرُوهٌ لِلصَّائِمِ إِذَا كَانَ يُضْعِفُهُ عَنِ الصَّوْمِ، أَمَّا إِذَا كَانَ لاَ يَخَافُهُ فَلاَ بَأْسَ (3) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ قَرِيبٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، إِذْ قَالُوا: تُكْرَهُ الْفَصَادَةُ لِلصَّائِمِ إِذَا كَانَ يَجْهَل نَفْسَهُ، وَأَمَّا مَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ السَّلاَمَةَ فَهِيَ جَائِزَةٌ، وَعَكْسُهُ عَكْسُهُ (4) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلصَّائِمِ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ الْفَصْدِ، لأَِنَّهُ يُضْعِفُهُ (5) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ فِطْرَ بِالْفَصْدِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُفْطِرُ الْمَفْصُودُ دُونَ الْفَاصِدِ (6) .
__________
(1) حديث فاطمة بنت أبي حبيش: " إنما ذلك عرق. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 332) .
(2) كشاف القناع 1 / 124، والمغني 1 / 85، ومطالب أولي النهى 1 / 141.
(3) مراقي الفلاح ص372، والبحر الرائق 2 / 294.
(4) الحطاب 2 / 416.
(5) شرح المحلي على المنهاج 2 / 62.
(6) مراقي الفلاح ص372، والحطاب 2 / 416، ومغني المحتاج 1 / 431، وكشاف القناع 2 / 320، والإنصاف 3 / 303، والروض المربع 1 / 140.

(32/148)


أَثَرُ الْفَصْدِ عَلَى الإِْحْرَامِ:
6 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ الْفَصْدَ ضِمْنَ مُبَاحَاتِ الإِْحْرَامِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: جَازَ فَصْدٌ لِحَاجَةٍ، وَإِلاَّ كُرِهَ فِيمَا يَظْهَرُ إِنْ لَمْ يَعْصِبْهُ، فَإِنْ عَصَبَهُ وَلَوْ لِضَرُورَةٍ افْتَدَى (2) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَفْتَصِدَ وَيَحْتَجِمَ مَا لَمْ يَقْطَعْ شَعْرًا (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَفْتَصِدَ وَلاَ يَقْطَعَ شَعْرًا (4) ، وَيُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا احْتَاجَ فِي الْفَصْدِ إِلَى قَطْعِ شَعْرٍ فَلَهُ قَطْعُهُ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُحَيْنَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ بِلَحْيِ جَمَلٍ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ (5) ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ قَطْعُ الشَّعْرِ، وَلأَِنَّهُ يُبَاحُ حَلْقُ الشَّعْرِ لإِِزَالَةِ أَذَى الْقَمْل، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ (6) .

الاِفْتِصَادُ فِي الْمَسْجِدِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
__________
(1) منحة الخالق بهامش البحر الرائق 2 / 350.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 58، والشرح الصغير 2 / 81.
(3) روضة الطالبين 3 / 135، وحلية العلماء 3 / 305، وشرح الإيضاح في مناسك الحج ص181 - 182.
(4) الكافي 1 / 560 نشر المكتب الإسلامي، والمغني 3 / 305.
(5) حديث عبد الله بن بحينة أن الرسول صلى الله عليه وسلم: " احتجم بلحيي جمل. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 152) .
(6) المغني 3 / 306.

(32/148)


الْفَصْدُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَوْ فِي إِنَاءٍ (1) ، وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا افْتَصَدَ فِي الْمَسْجِدِ وَاحْتَجَمَ، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ إِنَاءٍ فَحَرَامٌ، وَإِنْ قَطَّرَ دَمَهُ فِي إِنَاءٍ فَمَكْرُوهٌ، وَالأَْوْلَى تَرْكُهُ، وَجَزَمَ الْبَنْدَنِيجِيُّ فِي كِتَابِ تَذْهِيبِ الْمَذْهَبِ بِأَنَّهُ حَرَامٌ أَيْضًا (2) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: مَسْجِد) .

فَصْدُ الْبَهَائِمِ:
8 - يَجُوزُ فَصْدُ الْبَهَائِمِ وَكَيُّهَا وَكُل عِلاَجٍ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهَا (3) .

تَضْمِينُ الْفَاصِدِ:
9 - يُشْتَرَطُ لِعَدَمِ تَضْمِينِ الْفَاصِدِ مَا تَلِفَ بِعَمَلِهِ شُرُوطٌ، مِنْهَا:
أ - أَنْ يَكُونَ التَّدَاوِي بِالْفَصْدِ مِنْ مَاهِرٍ لِئَلاَّ يَكُونَ ضَرَرُهُ أَكْثَرَ مِنْ نَفْعِهِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنْ عَالَجَ الْعَالِمُ بِالطِّبِّ الْمَرِيضَ وَمَاتَ مِنْ مَرَضِهِ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، بِخِلاَفِ الْجَاهِل أَوِ الْمُقَصِّرِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا نَشَأَ مِنْ فِعْلِهِ (4) .
ب - أَنْ يَتِمَّ الْفَصْدُ بِإِذْنٍ مُعْتَبَرٍ، بِأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَفْصُودِ وَهُوَ مُسْتَقِلٌّ، أَوْ مِنْ وَلِيٍّ أَوْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 441، الزرقاني 2 / 226، والكافي 1 / 505.
(2) إعلام الساجد بأحكام المساجد ص310، والمجموع 2 / 175.
(3) تنوير الأبصار 5 / 479.
(4) الفواكه الدواني 2 / 440، وشرح زروق ص409.

(32/149)


إِمَامٍ، فَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى التَّلَفِ (1) .
ج - أَنْ لاَ يَتَجَاوَزَ الْفَاصِدُ الْمَوْضِعَ الْمُعْتَادَ، أَمَّا إِذَا تَجَاوَزَ الْمَوْضِعَ الْمُعْتَادَ، فَيَجِبُ الضَّمَانُ (2) .
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 166.
(2) تكملة فتح القدير 7 / 206 ط بولاق.

(32/149)


فَضَائِل
التَّعْرِيفُ:
1 - الْفَضَائِل فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ فَضِيلَةٍ، وَهِيَ الدَّرَجَةُ الرَّفِيعَةُ فِي الْفَضْل وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَفَضِيلَةُ الشَّيْءِ: مَرْتَبَتُهُ أَوْ وَظِيفَتُهُ الَّتِي قُصِدَتْ مِنْهُ، وَالْفَاضِلَةُ: النِّعْمَةُ الْعَظِيمَةُ، وَالْفَضْل وَالْفَضِيلَةُ: الْخَيْرُ وَالزِّيَادَةُ، وَهُوَ خِلاَفُ النَّقِيصَةِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْفَضَائِل:
أَوَّلاً - فَضَائِل الْقُرْآنِ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَفْضَل مِنَ الأَْذْكَارِ وَالأَْوْرَادِ الأُْخْرَى الَّتِي لاَ تَخْتَصُّ بِزَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ مُعَيَّنٍ (3) ، لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، وغريب القرآن للأصفهاني.
(2) دليل الفالحين 3 / 471.
(3) مغني المحتاج 1 / 38، ودليل الفالحين شرح رياض الصالحين 3 / 471 وما بعدها، والإتقان في علوم القرآن 2 / 151 وما بعدها، وفتح المبين شرح الأربعين ص270.

(32/150)


الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقُومُ} (1) ، وَقَوْلُهُ: {وَنُنَزِّل مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (2) وَقَوْلُهُ: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (3) .
وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُتَعْتِعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ (4) ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُول: الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلاَمٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ (5) ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُقَال لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّل كَمَا كُنْتَ تُرَتِّل فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا (6) .
3 - إِلاَّ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
__________
(1) سورة الإسراء / 9.
(2) سورة الإسراء / 82.
(3) سورة الحشر / 21.
(4) حديث: " الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام. . . ". أخرجه مسلم (1 / 550) من حديث عائشة.
(5) حديث: " من قرأ حرفًا من كتاب الله. . . " أخرجه الترمذي (5 / 175) من حديث ابن مسعود، وقال: حديث حسن صحيح غريب.
(6) حديث: " يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق. . . " أخرجه الترمذي (5 / 177) من حديث عبد الله بن عمرو، وقال: حديث حسن صحيح.

(32/150)


فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ بَعْضَ سُوَرِ وَآيَاتِ الْقُرْآنِ أَفْضَل مِنْ بَعْضٍ، لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، مِنْهَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتِ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ؟ قُل أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُل أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ ثَلاَثُونَ آيَةً، شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ، وَهِيَ سُورَةُ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ (2) ، وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيَّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، فَضَرَبَ فِي صَدْرِي، وَقَال: وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ (3) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَرَأَ بِالآْيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ (4) .
وَذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَبُو الْحَسَنِ الأَْشْعَرِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ أَفْضَل مِنْ شَيْءٍ، لأَِنَّ الْجَمِيعَ كَلاَمُ اللَّهِ،
__________
(1) حديث: " ألم تر آيات أنزلت الليلة. . . " أخرجه مسلم (1 / 558) من حديث عقبة بن عامر.
(2) حديث: " إن سورة في القرآن ثلاثون آية. . . . " أخرجه الترمذي (5 / 164) من حديث أبي هريرة، وقال: حديث حسن.
(3) حديث أُبي بن كعب: " يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله. . . " أخرجه مسلم (1 / 556) .
(4) حديث: " من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 55) ، ومسلم (1 / 555) من حديث أبي مسعود الأنصاري، واللفظ للبخاري.

(32/151)


فَكَيْفَ يَفْضُل بَعْضُهُ بَعْضًا، وَكَيْفَ يَكُونُ بَعْضُهُ أَشْرَفَ مِنْ بَعْضٍ؟ وَلِئَلاَّ يُوهِمَ التَّفْضِيل نَقْصَ الْمُفَضَّل عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ كَرِهَ الإِْمَامُ مَالِكٌ أَنْ تُعَادَ قِرَاءَةُ سُورَةٍ أَوْ تُرَدَّدَ دُونَ غَيْرِهَا.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالتَّفْضِيل فِي السَّبَبِ الَّذِي يُفَضَّل بِهِ بَعْضُ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ، فَقَال بَعْضُهُمْ: الْفَضْل رَاجِعٌ إِلَى عِظَمِ الأَْجْرِ وَمُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ، بِحَسَبِ انْتِقَالاَتِ النَّفْسِ وَخَشْيَتِهَا وَتَدَبُّرِهَا وَتَفَكُّرِهَا عِنْدَ وُرُودِ أَوْصَافِ الْعَلِيِّ الْحَكِيمِ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّ التَّفْضِيل يَرْجِعُ إِلَى أَمْرٍ تَعَبُّدِيٍّ لاَ يَظْهَرُ لَنَا، فَتَكُونُ سُورَةٌ أَفْضَل مِنْ سُورَةٍ، لأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَل قِرَاءَتَهَا كَقِرَاءَةِ أَضْعَافِهَا مِمَّا سِوَاهَا، وَأَوْجَبَ بِهَا مِنَ الثَّوَابِ مَا لَمْ يُوجِبْ بِغَيْرِهَا، كَمَا جَعَل يَوْمًا أَفْضَل مِنْ يَوْمٍ وَشَهْرًا أَفْضَل مِنْ شَهْرٍ، بِمَعْنَى أَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهِ تَفْضُل عَلَى الْعِبَادَةِ فِي غَيْرِهِ، وَالذَّنْبَ فِيهِ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ فِي غَيْرِهِ، وَكَمَا جَعَل الْحَرَمَ أَفْضَل مِنَ الْحِل، لأَِنَّهُ يَتَأَدَّى فِيهِ مِنَ الْمَنَاسِكِ مَا لاَ يَتَأَدَّى فِي غَيْرِهِ، وَالصَّلاَةُ فِيهِ يُضَاعَفُ أَجْرُهَا أَكْثَرَ مِنَ الصَّلاَةِ فِي غَيْرِهِ.
وَقَال آخَرُونَ: إِنَّ الْفَضْل يَرْجِعُ لِذَاتِ اللَّفْظِ، فَإِنَّ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِلَهُكُمْ

(32/151)


إِلَهٌ وَاحِدٌ} (1) وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ، وَآخِرُ سُورَةِ الْحَشْرِ، وَسُورَةُ الإِْخْلاَصِ، مِنَ الدَّلاَلاَتِ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ وَصِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لَيْسَ مَوْجُودًا مَثَلاً فِي: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} (2) وَأَمْثَالِهَا، فَالتَّفْضِيل إِنَّمَا هُوَ بِالْمَعَانِي الْعَجِيبَةِ وَكَثْرَتِهَا.
وَقَال الْحَلِيمِيُّ: مَعْنَى التَّفْضِيل يَرْجِعُ إِلَى أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْعَمَل بِآيَةٍ أَوْلَى مِنَ الْعَمَل بِأُخْرَى وَأَعْوَدُ عَلَى النَّاسِ، وَعَلَى هَذَا يُقَال: آيَةُ الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، خَيْرٌ مِنْ آيَاتِ الْقَصَصِ، لأَِنَّهَا إِنَّمَا أُرِيدَ بِهَا تَأْكِيدُ الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ وَالإِْنْذَارُ وَالتَّبْشِيرُ، وَلاَ غِنَى لِلنَّاسِ عَنْ هَذِهِ الأُْمُورِ، وَقَدْ يَسْتَغْنُونَ عَنِ الْقَصَصِ، فَكَانَ مَا هُوَ أَعْوَدُ عَلَيْهِمْ، وَأَنْفَعُ لَهُمْ، مِمَّا يَجْرِي مَجْرَى الأُْصُول، خَيْرًا لَهُمْ مِمَّا جُعِل تَبَعًا لِمَا لاَ بُدَّ مِنْهُ.
الثَّانِي: أَنْ يُقَال: الآْيَاتُ الَّتِي تَشْتَمِل عَلَى تَعْدِيدِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَبَيَانِ صِفَاتِهِ وَالدَّلاَلَةِ عَلَى عَظَمَتِهِ أَفْضَل مِنْ غَيْرِهَا.
الثَّالِثُ: أَنْ يُقَال: سُورَةٌ خَيْرٌ مِنْ سُورَةٍ، أَوْ آيَةٌ خَيْرٌ مِنْ آيَةٍ بِمَعْنَى: أَنَّ الْقَارِئَ يَتَعَجَّل لَهُ بِقِرَاءَتِهَا فَائِدَةً سِوَى الثَّوَابِ الآْجِل، وَيَتَأَدَّى مِنْهُ بِتِلاَوَتِهَا عِبَادَةٌ، كَقِرَاءَةِ
__________
(1) سورة البقرة / 163.
(2) سورة المسد / 1.

(32/152)


آيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَالإِْخْلاَصِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، فَإِنَّ الْقَارِئَ يَتَعَجَّل بِقِرَاءَتِهَا الاِحْتِرَازَ مِمَّا يَخْشَى، وَالاِعْتِصَامَ بِاللَّهِ، وَيَتَأَدَّى بِتِلاَوَتِهَا عِبَادَةُ اللَّهِ، لِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالصِّفَاتِ الْعُلَى، عَلَى سَبِيل الاِعْتِقَادِ لَهَا، وَسُكُونِ النَّفْسِ إِلَى فَضْل ذَلِكَ الذِّكْرِ وَبَرَكَتِهِ، فَأَمَّا آيَاتُ الْحُكْمِ فَلاَ يَقَعُ بِنَفْسِ تِلاَوَتِهَا إِقَامَةُ حُكْمٍ، وَإِنَّمَا يَقَعُ بِهَا عِلْمُ الْحُكْمِ (1) .

ثَانِيًا - فَضْل الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ وَطَلَبِهِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى فَضْل الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ وَفَضْل الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، وَأَنَّ الاِشْتِغَال بِطَلَبِهِ أَفْضَل مِنَ الاِشْتِغَال بِنَوَافِل الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالتَّسْبِيحِ وَغَيْرِهَا مِنْ نَوَافِل الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، لِتَكَاثُرِ الآْيَاتِ وَالأَْخْبَارِ وَالآْثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضْل الْعِلْمِ، وَالْحَثِّ عَلَى تَحْصِيلِهِ وَالاِجْتِهَادِ فِي اقْتِبَاسِهِ (2) .
وَمِنْ هَذِهِ الأَْدِلَّةِ: قَوْله تَعَالَى: {قُل هَل يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (3) وقَوْله تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (4)
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 38، ودليل الفالحين 3 / 471، وما بعدها و1 / 296، والإتقان في علوم القرآن 2 / 151، وفتح المبين شرح الأربعين ص270.
(2) المجموع للنووي 1 / 18 وما بعدها، ومغني المحتاج 1 / 8، وكشاف القناع 1 / 12، ودليل الفالحين 4 / 176.
(3) سورة الزمر / 9.
(4) سورة المجادلة / 11.

(32/152)


وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (1)
وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ (2) ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَهَّل اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَْرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْل الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْل الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَْنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَْنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ (3) قَال الشَّافِعِيُّ: طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَل مِنْ صَلاَةِ النَّافِلَةِ.
وَانْظُرْ فِي تَفْصِيل ذَلِكَ مُصْطَلَحَ: (طَلَبُ الْعِلْمِ ف 6 وَمَا بَعْدَهَا) .

ثَالِثًا: فَضْل الْفَرْضِ عَلَى النَّفْل:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ - سَوَاءٌ كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ أَوْ فَرْضَ كِفَايَةٍ - أَفْضَل مِنَ التَّطَوُّعِ وَالتَّنَفُّل، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ
__________
(1) سورة فاطر / 28.
(2) حديث: " من يرد الله به خيرًا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 164) ومسلم (2 / 718) من حديث معاوية بن أبي سفيان.
(3) حديث: " من سلك طريقًا يبتغي فيه علمًا. . . " أخرجه الترمذي (5 / 48 - 49) من حديث أبي الدرداء وأعله بالانقطاع.

(32/153)


الْقُدْسِيِّ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَال عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِل حَتَّى أُحِبَّهُ. . . (1) الْحَدِيثَ. لأَِنَّ الأَْمْرَ بِالْفَرْضِ جَازِمٌ فَيَتَضَمَّنُ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: الثَّوَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَالآْخَرُ: الْعِقَابُ عَلَى تَرْكِهِ، بِخِلاَفِ النَّفْل، فَلاَ عِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ، وَلأَِنَّ الْفَرْضَ كَالأَْسَاسِ، وَالنَّفَل كَالْبِنَاءِ عَلَى ذَلِكَ الأَْسَاسِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْفَرْضُ أَكْمَل وَأَحَبَّ إِلَى اللَّهِ وَأَشَدّ تَقَرُّبًا مِنَ النَّفْل، إِلاَّ فِي مَسَائِل مُسْتَثْنَاةٍ، النَّفَل فِيهَا أَفْضَل مِنَ الْفَرْضِ، وَهِيَ:
أ - تَقْدِيمُ الْوُضُوءِ عَلَى الْوَقْتِ لِغَيْرِ الْمَعْذُورِ مَنْدُوبٌ، وَبَعْدَ دُخُول الْوَقْتِ فَرْضٌ، الْمَنْدُوبُ - هُنَا - أَفْضَل مِنَ الْفَرْضِ، لأَِنَّ تَقْدِيمَ الْوُضُوءِ فِيهِ انْتِظَارُ الصَّلاَةِ، وَمُنْتَظِرُ الصَّلاَةِ كَمَنْ هُوَ فِيهَا، وَلأَِنَّ فِيهِ قَطْعَ طَمَعِ الشَّيْطَانِ عَنْ تَثْبِيطِهِ عَنِ الصَّلاَةِ.
ب - إِبْرَاءُ الْمُعْسِرِ عَنِ الدَّيْنِ سُنَّةٌ، وَإِنْظَارُهُ حَتَّى الْمَيْسَرَةَ فَرْضٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (2) ، وَلَكِنَّ الإِْبْرَاءَ أَفْضَل مِنَ الإِْنْظَارِ.
__________
(1) حديث: " من عادى لي وليًّا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 340 - 341) من حديث أبي هريرة.
(2) سورة البقرة / 280.

(32/153)


ج - الاِبْتِدَاءُ بِالسَّلاَمِ سُنَّةٌ، وَرَدُّ السَّلاَمِ فَرْضٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (1) وَابْتِدَاءُ السَّلاَمِ أَفْضَل مِنْ رَدِّهِ (2) ، لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرْفَعُهُ: إِذَا مَرَّ الرَّجُل بِالْقَوْمِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا عَلَيْهِ، كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ فَضْلٌ، لأَِنَّهُ ذَكَّرَهُمُ السَّلاَمَ (3) .

6 - وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا: هَل الْفَرْضُ الْعَيْنِيُّ أَفْضَل أَمِ الْفَرْضُ الْكِفَائِيُّ؟ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ فَرْضَ الْعَيْنِ أَفْضَل مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ، لأَِنَّ فَرْضَ الْعَيْنِ فُرِضَ حَقًّا لِلنَّفْسِ، فَهُوَ أَهَمُّ عِنْدَهَا وَأَكْثَرُ مَشَقَّةً، بِخِلاَفِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ، فَإِنَّهُ مَفْرُوضٌ حَقًّا لِلْكَافَّةِ، وَالأَْمْرُ إِذَا عَمَّ خَفَّ وَإِذَا خُصَّ ثَقُل.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ - مِنْهُمْ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ أَفْضَل مِنْ فَرْضِ الْعَيْنِ، لأَِنَّ فَاعِلَهُ يَسُدُّ مَسَدَّ الأُْمَّةِ، وَيُسْقِطُ الْحَرَجَ عَنْهَا بِأَسْرِهَا، وَبِتَرْكِهِ يَأْثَمُ
__________
(1) سورة النساء / 86.
(2) دليل الفالحين 1 / 296، 3 / 334، ومغني المحتاج 4 / 214، وفتح المبين شرح الأربعين ص268 - 270، وحاشية ابن عابدين 1 / 85، والمجموع للنووي 1 / 22، وقواعد الأحكام 1 / 55.
(3) حديث ابن مسعود: " إذا مر الرجل بالقوم فسلم عليهم. . . " أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6 / 432) مرفوعًا وموقوفًا، وضعف المرفوع.

(32/154)


الْمُتَمَكِّنُونَ مِنْهُ كُلُّهُمْ، وَلاَ شَكَّ فِي عِظَمِ وَقْعِ مَا هَذِهِ صِفَتُهُ (1) .

رَابِعًا - فَضْل بَعْضِ الأَْمْكِنَةِ عَلَى بَعْضٍ:
7 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الأَْمَاكِنِ أَفْضَل مِنَ الْبَعْضِ الآْخَرِ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهَا مِنْ فَضْلِهِ، وَمَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ إِكْرَامِهِ لِعِبَادِهِ، لاَ بِصِفَاتٍ قَائِمَةٍ فِيهَا، لأَِنَّ الأَْمَاكِنَ فِي الأَْصْل مُتَمَاثِلَةٌ وَمُتَسَاوِيَةٌ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةَ وَالْمَدِينَةَ الْمُنَوَّرَةَ هُمَا أَفْضَل بِقَاعِ الأَْرْضِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَيِّهِمَا أَفْضَل؟ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِلَى أَنَّ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةَ أَفْضَل مِنَ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، لِوُجُوهٍ عَدَّدَهَا الْعُلَمَاءُ:
أَحَدُهَا: وُجُوبُ قَصْدِهَا لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَهَذَانِ وَاجِبَانِ لاَ يَقَعُ مِثْلُهُمَا فِي الْمَدِينَةِ.
الثَّانِي: إِنْ فُضِّلَتِ الْمَدِينَةُ بِإِقَامَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا بَعْدَ النُّبُوَّةِ، كَانَتْ مَكَّةُ أَفْضَل مِنْهَا، لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ فِيهَا بَعْدَ النُّبُوَّةِ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرًا.
الثَّالِثُ: إِنْ فُضِّلَتِ الْمَدِينَةُ بِكَثْرَةِ الطَّارِقِينَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَمَكَّةُ أَفْضَل مِنْهَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 30، والمجموع للنووي 1 / 22، والقليوبي وعميرة 4 / 213، وقواعد الأحكام للعزّ ابن عبد السلام 1 / 48.

(32/154)


بِكَثْرَةِ مَنْ طَرَقَهَا مِنَ الأَْنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَالصَّالِحِينَ.
الرَّابِعُ: إِنَّ التَّقْبِيل وَالاِسْتِلاَمَ ضَرْبٌ مِنَ التَّقْدِيسِ وَالاِحْتِرَامِ، وَهُمَا مُخْتَصَّانِ بِالرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِثْل ذَلِكَ فِي الْمَدِينَةِ.
الْخَامِسُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْنَا اسْتِقْبَالَهَا فِي الصَّلاَةِ حَيْثُمَا كُنَّا مِنَ الْبِلاَدِ وَالْفَلَوَاتِ، وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْنَا مِثْل ذَلِكَ فِي الْمَدِينَةِ.
السَّادِسُ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْنَا اسْتِقْبَال الْكَعْبَةِ وَاسْتِدْبَارَهَا عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ.
السَّابِعُ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضَ، فَلَمْ تَحِل لأَِحَدٍ مِنَ الرُّسُل وَالأَْنْبِيَاءِ إِلاَّ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى جَمِيعِ الأَْنْبِيَاءِ، فَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لَهُ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ.
الثَّامِنُ: إِنَّ اللَّهَ بَوَّأَهَا لإِِبْرَاهِيمَ الْخَلِيل وَلاِبْنِهِ إِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَجَعَلَهَا مَوْلِدًا لِسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَخَاتَمِ الأَْنْبِيَاءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
التَّاسِعُ: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اغْتَسَل لِدُخُول مَكَّةَ " (1) ، وَهُوَ مَسْنُونٌ، وَلَمْ يُنْقَل عَنْهُ مِثْل ذَلِكَ لِدُخُول الْمَدِينَةِ.
الْعَاشِرُ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَثْنَى عَلَى
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل لدخوله مكة " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 435) من حديث ابن عمر.

(32/155)


الْبَيْتِ فِي كِتَابِهِ بِمَا لَمْ يُثْنِ بِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَال: {إِنَّ أَوَّل بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةِ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} (1) .
الْحَادِيَ عَشَرَ: مِنْ شَرَفِ مَكَّةَ أَنَّ الصَّلاَةَ لاَ تُكْرَهُ فِيهَا فِي الأَْوْقَاتِ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلاَةُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ، مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ (2) .
الثَّانِيَ عَشَرَ: الصَّلاَةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمَكَّةَ تَعْدِل مِائَةَ أَلْفِ صَلاَةٍ وَلَيْسَ مِثْل ذَلِكَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَدِينَةِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَل مِنْ مَكَّةَ. قَال الْحَطَّابُ: وَهُوَ - أَيْ كَوْنُ الْمَدِينَةِ أَفْضَل مِنْ مَكَّةَ - قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْمَدِينَةِ.
8 - وَهَذَا الْخِلاَفُ يَجْرِي فِيمَا عَدَا مَا ضَمَّ الأَْعْضَاءَ الشَّرِيفَةَ عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَل الصَّلاَةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ مِنْ أَرْضِ الْمَدِينَةِ.
أَمَّا الْمَوْضِعُ الَّذِي ضَمَّ أَعْضَاءَهُ الشَّرِيفَةَ مِنْ قَبْرِهِ الْكَرِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ قَال الْعُلَمَاءُ: إِنَّهُ أَفْضَل بِقَاعِ الأَْرْضِ حَتَّى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ،
__________
(1) سورة آل عمران / 96.
(2) حديث: " يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدًا. . . " أخرجه الترمذي (3 / 211) من حديث جبير بن مطعم، وقال: حديث حسن صحيح.

(32/155)


وَحَتَّى الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ، وَإِنَّهُ أَفْضَل مِنَ السَّمَاوَاتِ حَتَّى الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ. كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْكَعْبَةَ أَفْضَل مِنَ الْمَدِينَةِ مَا عَدَا الضَّرِيحَ الشَّرِيفَ عَلَى صَاحِبِهِ أَفْضَل الصَّلاَةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ (1) .
9 - وَبَعْدَ أَنِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَسْجِدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَفْضَل مِنْ مَسْجِدِ الْقُدْسِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ الأَْقْصَى أَفْضَل مِنْ بَقِيَّةِ الْمَسَاجِدِ، حَتَّى تِلْكَ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَسْجِدِ قُبَاءَ، وَمَسْجِدِ الْفَتْحِ، وَمَسْجِدِ الْعِيدِ، وَمَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تُشَدُّ الرِّحَال إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ، مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الأَْقْصَى، وَمَسْجِدِي هَذَا (2) .
وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ الأَْفْضَل بَعْدَ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ مَا كَانَ أَقْدَمَ أَوْ أَكْثَرَ جَمَاعَةً، فَإِنِ اسْتَوَى الْمَسْجِدَانِ فِي الْجَمَاعَةِ فَالأَْقْرَبُ مَسَافَةً لِحُرْمَةِ الْجِوَارِ، ثُمَّ مَا انْتَفَتْ فِيهِ الشُّبْهَةُ عَنْ مَال بَانِيهِ وَوَاقِفِهِ، ثُمَّ مَنْ سَمِعَ نِدَاءَهُ أَوَّلاً، لأَِنَّ مُؤَذِّنَهُ دَعَاهُ أَوَّلاً، ثُمَّ يَتَخَيَّرُ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 256، 257، وقواعد الأحكام لابن عبد السلام 1 / 39، ومواهب الجليل 3 / 344، 345، وجواهر الإكليل 1 / 250، والقليوبي وعميرة 2 / 101.
(2) حديث: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 241) ومسلم (2 / 976) من حديث أبي سعيد الخدري، واللفظ للبخاري.
(3) المصادر السابقة، وكشاف القناع 2 / 353، وكشف المخدرات ص166، ومغني المحتاج 3 / 377 و1 / 230 و4 / 367، وحاشية ابن عابدين 1 / 11 و2 / 257.

(32/156)


خَامِسًا: فَضْل بَعْضِ الأَْزْمِنَةِ عَلَى بَعْضٍ:
10 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الأَْزْمِنَةِ أَفْضَل مِنْ بَعْضِ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهَا مِنْ فَضْلِهِ، وَمَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ إِكْرَامِهِ لِعِبَادِهِ، لاَ بِصِفَاتٍ قَائِمَةٍ فِيهَا، لأَِنَّ الأَْزْمَانَ فِي الأَْصْل مُتَسَاوِيَةٌ وَمُتَمَاثِلَةٌ.
فَفَضَّل اللَّهُ شَهْرَ رَمَضَانَ عَلَى سَائِرِ الشُّهُورِ، وَجَعَل لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَجَعَل يَوْمَ الْجُمُعَةِ خَيْرَ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ كَمَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) وَسَيِّدَ أَيَّامِ الأُْسْبُوعِ، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ أَفْضَل أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلاَةِ فِيهِ، فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ (2) ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةً لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَل اللَّهَ شَيْئًا إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ (3) .
وَفَضَّل قِيَامَ اللَّيْل عَلَى غَيْرِهِ، وَالثُّلُثَ الأَْخِيرَ مِنْهُ عَلَى سَائِرِهِ، وَفَضَّل الْعَشْرَ الأُْوَل مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الأَْيَّامِ.
__________
(1) حديث: " خير يوم. . . " أخرجه النسائي (3 / 89 - 90) .
(2) حديث: " إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة. . . " أخرجه النسائي (3 / 91) والحاكم (1 / 278) من حديث أوس بن أوس الثقفي، والسياق للحاكم، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(3) حديث: " إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 415) ، من حديث أبي هريرة.

(32/156)


قَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: وَتَفْضِيل الأَْمَاكِنِ وَالأَْزْمَانِ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: دُنْيَوِيٌّ، كَتَفْضِيل الرَّبِيعِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الأَْزْمَانِ، وَكَتَفْضِيل بَعْضِ الْبُلْدَانِ عَلَى بَعْضٍ بِمَا فِيهَا مِنَ الأَْنْهَارِ وَالثِّمَارِ وَطِيبِ الْهَوَاءِ وَمُوَافَقَةِ الأَْهْوَاءِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: تَفْضِيلٌ دِينِيٌّ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ يَجُودُ عَلَى عِبَادِهِ فِيهَا بِتَفْضِيل أَجْرِ الْعَامِلِينَ، كَتَفْضِيل صَوْمِ رَمَضَانَ عَلَى صَوْمِ سَائِرِ الشُّهُورِ، وَكَذَلِكَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَعَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمُ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ وَشَعْبَانُ وَسِتَّةٌ مِنْ أَيَّامِ شَوَّالٍ، فَفَضْلُهَا رَاجِعٌ إِلَى جُودِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى عِبَادِهِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ فَضْل الثُّلُثِ الأَْخِيرِ مِنْ كُل لَيْلَةٍ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ يُعْطِي فِيهِ مِنْ إِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَإِعْطَاءِ السُّؤَال، وَنَيْل الْمَأْمُول، مَا لاَ يُعْطِيهِ فِي الثُّلُثَيْنِ الأَْوَّلَيْنِ (1) .

سَادِسًا - فَضْل الأَْذَانِ عَلَى الإِْمَامَةِ أَوِ الْعَكْسُ:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّهُ هَل الأَْذَانُ أَفْضَل أَمِ الإِْمَامَةُ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِ
__________
(1) قواعد الأحكام لابن عبد السلام 1 / 38، ودليل الفالحين 3 / 614، ومغني المحتاج 1 / 276، وكشاف القناع 2 / 20.

(32/157)


الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ أَحْمَدَ، إِلَى أَنَّ الإِْمَامَةَ أَفْضَل مِنَ الأَْذَانِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَلاَّهَا بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ، وَلَمْ يَتَوَلَّوُا الأَْذَانَ، وَهُمْ لاَ يَخْتَارُونَ إِلاَّ الأَْفْضَل، وَلأَِنَّ الإِْمَامَةَ يُخْتَارُ لَهَا مَنْ هُوَ أَكْمَل حَالاً وَأَفْضَل.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمَا، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الأَْذَانَ أَفْضَل مِنَ الإِْمَامَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِل صَالِحًا} (1) قَالَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: نَزَلَتْ فِي الْمُؤَذِّنِينَ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَْوَّل ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا (2) وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَل النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ (3) . وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإِْمَامُ ضَامِنٌ وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ، اللَّهُمَّ أَرْشِدِ الأَْئِمَّةَ وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ (4) . وَالأَْمَانَةُ أَعْلَى وَأَحْسَنُ مِنَ الضَّمَانِ، وَالْمَغْفِرَةُ أَعْلَى مِنَ الإِْرْشَادِ، قَالُوا: كَوْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُمْ بِمُهِمَّةِ الأَْذَانِ وَلاَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ يَعُودُ
__________
(1) سورة فصلت / 33.
(2) حديث: " لو يعلم الناس ما في النداء والصف والأول. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 96) ، ومسلم (1 / 325) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث: " المؤذنون أطول الناس أعناقًا. . . " أخرجه مسلم (1 / 290) من حديث معاوية بن أبي سفيان.
(4) حديث: " الإمام ضامن. . . " أخرجه الترمذي (1 / 402) من حديث أبي هريرة.

(32/157)


السَّبَبُ فِيهِ لِضِيقِ وَقْتِهِمْ عَنْهُ، لاِنْشِغَالِهِمْ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي لاَ يَقُومُ بِهَا غَيْرُهُمْ، فَلَمْ يَتَفَرَّغُوا لِلأَْذَانِ، وَمُرَاعَاةِ أَوْقَاتِهِ، قَال الْمَوَّاقُ: إِنَّمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَْذَانَ لأَِنَّهُ لَوْ قَال حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، وَلَمْ يُعَجِّلُوا لَحِقَتْهُمُ الْعُقُوبَةُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) ، وَقَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْلاَ الْخِلاَفَةُ لأََذَّنْتُ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْفَضْل.
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْقِيَامَ بِحُقُوقِ الإِْمَامَةِ وَجَمِيعِ خِصَالِهَا، فَهِيَ أَفْضَل، وَإِلاَّ فَالأَْذَانُ أَفْضَل (2) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ هَل الأَْذَانُ أَفْضَل أَمِ الإِْقَامَةُ؟ .
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الإِْقَامَةَ أَفْضَل مِنَ الأَْذَانِ، لأَِنَّ الأَْذَانَ يَسْقُطُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ دُونَ الإِْقَامَةِ، كَمَا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ، وَمَا بَعْدَ أُولَى الْفَوَائِتِ، وَثَانِيَةِ الصَّلاَتَيْنِ بِعَرَفَةَ.
__________
(1) سورة النور / 63.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 260، 370، ومواهب الجليل 1 / 422، والمجموع للنووي 3 / 78، وكشاف القناع 1 / 231، والمغني لابن قدامة 1 / 403.

(32/158)


وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الأَْذَانَ أَفْضَل مِنَ الإِْقَامَةِ، لِزِيَادَتِهِ عَلَيْهَا (1) .

سَابِعًا - فَضْل صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى غَيْرِهَا:
12 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ صَلاَةَ الْجَمَاعَةِ أَفْضَل مِنْ صَلاَةِ الْفَذِّ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُل صَلاَةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً (2) .
وَكَوْنُهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَل مِنْهَا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ ف 2) .

ثَامِنًا - فَضْل الصَّفِّ الأَْوَّل:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّفَّ الأَْوَّل مِنْ صُفُوفِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ أَفْضَل مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الصُّفُوفِ الأُْخْرَى، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَْوَّل ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا (4) وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ،
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) حديث: " صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 131) ، ومسلم (1 / 450) من حديث ابن عمر، واللفظ للبخاري.
(3) المغني لابن قدامة 2 / 180، ومغني المحتاج 1 / 230، وكشاف القناع 1 / 455، وجواهر الإكليل 1 / 76، وحاشية ابن عابدين 1 / 37.
(4) حديث: " لو يعلم الناس ما في النداء. . . " تقدم ف11.

(32/158)


فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ (1) .
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الصَّفَّ الثَّانِيَ أَفْضَل مِنَ الثَّالِثِ، وَأَنَّ الثَّالِثَ أَفْضَل مِنَ الرَّابِعِ، وَهَكَذَا، إِلاَّ النِّسَاءَ فَخَيْرُ صُفُوفِهِنَّ أَوَاخِرُهَا (2) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَال أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صَفّ ف 4) .

تَاسِعًا - فَضْل الْمُجَاهِدِ عَلَى الْقَاعِدِ:
14 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيل اللَّهِ مِنْ أَفْضَل الْقُرُبَاتِ إِلَى اللَّهِ، وَأَنَّ الْمُجَاهِدِينَ أَفْضَل مِنَ الْقَاعِدِينَ غَيْرِ الْمَعْذُورِينَ بِدَرَجَاتٍ كَثِيرَةٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيل اللَّهِ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّل اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّل اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا
__________
(1) حديث: " أتموا الصف المقدم. . . " أخرجه أبو داود (1 / 435) من حديث أنس بن مالك.
(2) دليل الفالحين 3 / 517، 563، وما بعدها، وحاشية ابن عابدين 1 / 382، ومغني المحتاج 1 / 247، وكشاف القناع 1 / 488.
(3) حديث: " خير صفوف الرجال أولها. . . " أخرجه مسلم (1 / 326) من حديث أبي هريرة.

(32/159)


دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (1) قَال بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْقَاعِدُونَ الأَْوَّل - فِي الآْيَةِ - هُمُ الأَْضِرَّاءُ، أَيْ هُمْ أُولُو الضَّرَرِ، فَإِنَّ الْمُجَاهِدِينَ أَفْضَل مِنْهُمْ بِدَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، لأَِنَّ لَهُمْ نِيَّةً بِلاَ عَمَلٍ، وَلِلْمُجَاهِدِينَ نِيَّةٌ وَعَمَلٌ، وَالْقَاعِدُونَ الثَّانِي: هُمْ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، فَإِنَّ بَيْنَ الْمُجَاهِدِينَ وَبَيْنَهُمْ دَرَجَاتٍ كَثِيرَةً (2) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سُئِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْعَمَل أَفْضَل؟ قَال: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيل: ثُمَّ مَاذَا؟ قَال الْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ (3) ، وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيل اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا (4) ، وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيل اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا (5) .

عَاشِرًا - فَضْل الإِْمَامِ وَالْقَاضِي عَلَى الْمُفْتِي وَغَيْرِهِ:
15 - أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْوِلاَيَاتِ مِنْ
__________
(1) سورة النساء / 95 - 96.
(2) دليل الفالحين 4 / 79 وما بعدها، ومغني المحتاج 4 / 208.
(3) حديث أبي هريرة: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أي العمل أفضل. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 77) ، ومسلم (1 / 88) .
(4) حديث: " لغدوة في سبيل الله أو روحة. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 13) ، ومسلم (3 / 1499) من حديث أنس بن مالك.
(5) حديث: " رباط يوم في سبيل الله. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 85) من حديث سهل بن سعد.

(32/159)


أَفْضَل الطَّاعَاتِ، وَأَنَّ الْوُلاَةَ الْمُقْسِطِينَ أَعْظَمُ أَجْرًا وَأَجَل قَدْرًا مِنْ غَيْرِهِمْ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَل وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ (1) ، وَلِكَثْرَةِ مَا يَجْرِي عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ، وَدَرْءِ الْبَاطِل، وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يَقُول الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ فَيَدْفَعُ بِهَا مَظَالِمَ كَثِيرَةً، أَوْ يَجْلِبُ بِهَا مَصَالِحَ كَثِيرَةً، فَإِذَا أَمَرَ الإِْمَامُ بِجَلْبِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ الْعَامَّةِ، كَانَ لَهُ أَجْرٌ بِحَسَبِ مَا دَعَا إِلَيْهِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَمَا زَجَرَ عَنْهُ مِنَ الْمَفَاسِدِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لأَُجِرَ عَلَيْهَا بِعَدَدِ مُتَعَلِّقَاتِهَا، وَكَذَلِكَ أَجْرُ أَعْوَانِهِ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ.
وَمِنْ أَجْل هَذَا أَصْبَحَ الْقَاضِي أَفْضَل وَأَعْظَم أَجْرًا مِنَ الْمُفْتِي، لأَِنَّ الْقَاضِيَ يُفْتِي وَيُلْزِمُ، فَلَهُ أَجْرَانِ، أَحَدُهُمَا: عَلَى فُتْيَاهُ، وَالآْخَرُ: عَلَى إِلْزَامِهِ، وَهَذَا إِذَا اسْتَوَتِ الْوَاقِعَةُ الَّتِي فِيهَا الْفُتْيَا وَالْحُكْمُ، وَإِلاَّ فَتَخْتَلِفُ أُجُورُهُمَا بِاخْتِلاَفِ مَا يَجْلِبَانِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَيَدْرَآنِهِ مِنَ الْمَفَاسِدِ، وَلَكِنَّ تَصَدِّي الْقَاضِي لِلْحُكْمِ أَفْضَل مِنْ تَصَدِّي الْمُفْتِي لِلْفُتْيَا.
__________
(1) حديث: " إن المقسطين عند الله على منابر من نور. . . " أخرجه مسلم (3 / 1458) من حديث عبد الله بن عمرو.

(32/160)


وَفِي الْمُقَابِل فَإِنَّ وُلاَةَ السُّوءِ وَقُضَاةَ الْجَوْرِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ وِزْرًا، وَأَحَطِّهِمْ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ، لِعُمُومِ مَا يَجْرِي عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ جَلْبِ الْمَفَاسِدِ الْعِظَامِ، وَدَرْءِ الْمَصَالِحِ الْجِسَامِ، وَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُول الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ فَيَأْثَمُ بِهَا أَلْفَ إِثْمٍ وَأَكْثَرَ، عَلَى حَسَبِ عُمُومِ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ، وَعَلَى حَسَبِ مَا يَدْفَعُهُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، كَأَنْ يَأْمُرَ - مَثَلاً - بِقِتَال طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ بِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ (1) ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ.

حَادِيَ عَشَرَ - الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي فَضَائِل الأَْعْمَال:
16 - قَال الْعُلَمَاءُ: يَجُوزُ الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ بِشُرُوطٍ، مِنْهَا:
أ - أَنْ لاَ يَكُونَ شَدِيدَ الضَّعْفِ، فَإِذَا كَانَ شَدِيدَ الضَّعْفِ كَكَوْنِ الرَّاوِي كَذَّابًا، أَوْ فَاحِشَ الْغَلَطِ، فَلاَ يَجُوزُ الْعَمَل بِهِ.
ب - أَنْ لاَ يَتَعَلَّقَ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَلاَ بِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الْعَقِيدَةِ، وَلاَ بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ مِنَ الْحَلاَل وَالْحَرَامِ وَنَحْوِهَا.
ج - أَنْ يَنْدَرِجَ تَحْتَ أَصْلٍ عَامٍّ مِنْ أُصُول الشَّرِيعَةِ.
__________
(1) قواعد الأحكام 1 / 120 - 122، ومغني المحتاج 4 / 34 وما بعدها.

(32/160)


د - أَنْ لاَ يُعْتَقَدَ عِنْدَ الْعَمَل بِهِ ثُبُوتُهُ، بَل يُعْتَقَدُ الاِحْتِيَاطُ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

فَضَالَة

انْظُرْ: فُضُولِيّ
__________
(1) علوم الحديث لابن الصلاح ص93، وتدريب الراوي ص196، ومغني المحتاج 1 / 62.

(32/161)


فِضَّة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْفِضَّةُ - كَمَا قَال الْجَوْهَرِيُّ - مَعْرُوفَةٌ، وَجَاءَ فِي الْمُعْجَمِ الْوَسِيطِ: الْفِضَّةُ عُنْصُرٌ أَبْيَضُ قَابِلٌ لِلسَّحْبِ وَالطَّرْقِ وَالصَّقْل، مِنْ أَكْثَرِ الْمَوَادِّ تَوْصِيلاً لِلْحَرَارَةِ وَالْكَهْرَبَاءِ، وَهُوَ مِنَ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ الَّتِي تُسْتَخْدَمُ فِي صَكِّ النُّقُودِ.
وَقَال الرَّاغِبُ: الْفِضَّةُ اخْتُصَّتْ بِأَدْوَنِ الْمُتَعَامَل بِهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الذَّهَبُ:
2 - الذَّهَبُ: الْمَعْدِنُ الْمَعْرُوفُ، وَصِلَتُهُ بِالْفِضَّةِ أَنَّهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي النَّقْدِيَّةِ، وَثَمَنِيَّةِ الأَْشْيَاءِ فِي أَصْل الْخِلْقَةِ (2) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْفِضَّةِ:
أ - اسْتِعْمَال الأَْوَانِي الْمَصْنُوعَةِ مِنَ الْفِضَّةِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشُّرْبَ مِنَ الأَْوَانِي
__________
(1) الصحاح، والمعجم الوسيط، والمفردات في غريب القرآن.
(2) المصباح المنير، ولسان العرب.

(32/161)


الْمَصْنُوعَةِ مِنَ الْفِضَّةِ حَرَامٌ، مُسْتَدِلِّينَ بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا:
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ (1) .
وَبِمَا رَوَاهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَال: نَهَانَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشُّرْبِ فِي الْفِضَّةِ، فَإِنَّهُ مَنْ شَرِبَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْ فِي الآْخِرَةِ (2) .
قَال النَّوَوِيُّ: قَال أَصْحَابُنَا: أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الاِسْتِعْمَال فِي إِنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ إِلاَّ مَا حُكِيَ عَنْ دَاوُدَ، وَإِلاَّ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ - وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ - وَلأَِنَّهُ إِذَا حَرُمَ الشُّرْبُ فَالأَْكْل أَوْلَى، لأَِنَّهُ أَطْوَل مُدَّةً وَأَبْلَغُ فِي السَّرَفِ (3) .
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ النَّوَوِيُّ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ فِي تَحْرِيمِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ، وَكَذَا سَائِرُ أَنْوَاعِ الاِسْتِعْمَالاَتِ، وَمِنْهَا تَزْيِينُ الْحَوَانِيتِ وَالْبُيُوتِ بِهَا، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ وَمِنْ قَبْلِهِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، مَعَ مُلاَحَظَةِ أَنَّ
__________
(1) حديث: " الذي يشرب في آنية الفضة. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 96) ، ومسلم (3 / 1634) من حديث أم سلمة.
(2) حديث: " نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 96) ، ومسلم (3 / 1634) من حديث البراء بن عازب واللفظ لمسلم.
(3) المجموع شرح المهذب (1 / 250) .

(32/162)


الْحَنَفِيَّةَ عَبَّرُوا فِي هَذَا الْمَقَامِ بِالْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ لاَ الْحَرَامِ، وَأَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ هِيَ: عَيْنُ الْفِضَّةِ، أَوِ الْخُيَلاَءُ وَالسَّرَفُ (1) .

ب - اقْتِنَاءُ الْفِضَّةِ دُونَ اسْتِعْمَالٍ:
4 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اقْتِنَاءَ الْفِضَّةِ عَلَى غَيْرِ صُورَةِ الأَْوَانِي لاَ يَحْرُمُ إِذَا كَانَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ الْفِضَّةِ عَلَى صُورَةِ الأَْوَانِي وَنَحْوِهَا مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ، فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ آرَاءٌ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الرَّاجِحَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهَؤُلاَءِ يَرَوْنَ أَنَّ اقْتِنَاءَ أَوَانِي الْفِضَّةِ تَحْرُمُ كَمَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا، لأَِنَّ مَا لاَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لاَ يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ، وَلأَِنَّ اتِّخَاذَهُ يُؤَدِّي إِلَى اسْتِعْمَال مُحَرَّمٍ، فَيَحْرُمُ، كَإِمْسَاكِ الْخَمْرِ، وَلأَِنَّ الْمَنْعَ مِنَ الاِسْتِعْمَال لِمَا فِيهِ مِنَ الْخُيَلاَءِ وَالسَّرَفِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الاِتِّخَاذِ، وَلأَِنَّ الاِتِّخَاذَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ
__________
(1) اللباب للميداني 4 / 158، وبدائع الصنائع 5 / 132، ونتائج الأفكار مع الهداية والعناية 10 / 7 - 6، والرسالة لابن أبي زيد القيرواني ص75، وشرح أبي الحسن على الرسالة بحاشية العدوي 2 / 430، والقوانين الفقهية ص26، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 64، والخرشي مع حاشية العدوي 1 / 100، والمجموع 1 / 250، وصحيح مسلم، بشرح النووي 14 / 27 - 37، والأم للشافعي 1 / 8، ومختصر المزني بهامش الأم 1 / 4، والمغني 1 / 75، والمبدع 1 / 66، وشرح منتهى الإرادات 1 / 24.

(32/162)


عَبَثٌ، فَيَحْرُمُ (1) .
الرَّأْيُ الثَّانِي: أَنَّ اتِّخَاذَ أَوَانِي الْفِضَّةِ لاَ يَحْرُمُ إِذَا لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ أَوْ وَجْهٌ عَنْ أَحْمَدَ، لأَِنَّ الْخَبَرَ إِنَّمَا وَرَدَ بِالاِسْتِعْمَال فَلاَ يَحْرُمُ الاِتِّخَاذُ، كَمَا لَوِ اتَّخَذَ الرَّجُل ثِيَابَ الْحَرِيرِ وَاقْتَنَاهَا دُونَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا، فَكَذَا اقْتِنَاءُ أَوَانِي الْفِضَّةِ دُونَ اسْتِعْمَالِهَا (2) .
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى تَحْرِيمِ الاِتِّخَاذِ فِي بَابِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ، فَقَال فِي الْمُخْتَصَرِ: فَإِنِ اتَّخَذَ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ إِنَاءَ ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ زَكَّيَاهُ فِي الْقَوْلَيْنِ (3) لأَِنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا اتِّخَاذُهُ (4) .
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: أَنَّ التَّحْرِيمَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ الاِتِّخَاذُ بِقَصْدِ الاِسْتِعْمَال، أَمَّا إِذَا كَانَ اتِّخَاذُهُ بِقَصْدِ الْعَاقِبَةِ، أَوْ لِزَوْجَتِهِ، أَوْ بِنْتِهِ، أَوْ لاَ لِشَيْءٍ، فَلاَ حُرْمَةَ، وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ الْعَدَوِيُّ (5) .
وَقَال الدَّرْدِيرُ: وَحَرُمَ اقْتِنَاؤُهُ - أَيِ ادِّخَارُهُ - وَلَوْ لِعَاقِبَةِ دَهْرٍ، لأَِنَّهُ ذَرِيعَةٌ لِلاِسْتِعْمَال، وَكَذَا التَّجَمُّل بِهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَقَوْلُنَا: " وَلَوْ لِعَاقِبَةِ
__________
(1) نتائج الأفكار مع الهداية 10 / 8، وحاشية العدوي على شرح أبي الحسن 2 / 430، المجموع للنووي 1 / 252، والمغني 1 / 77.
(2) المبدع 1 / 66، وشرح أبي الحسن مع حاشية العدوي 2 / 430.
(3) مختصر المزني بهامش الأم 1 / 238، والمجموع 1 / 252.
(4) المطلب العالي مخطوط ج1 ورقة 160 أ.
(5) حاشية العدوي على الخرشي 1 / 98.

(32/163)


دَهْرٍ " هُوَ مُقْتَضَى النَّقْل، وَيُشْعِرُ بِهِ التَّعْلِيل، وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي الْجَزْمُ بِهِ، إِذِ الإِْنَاءُ لاَ يَجُوزُ لِرَجُلٍ وَلاَ لاِمْرَأَةٍ، فَلاَ مَعْنَى لاِِتِّخَاذِهِ لِلْعَاقِبَةِ، بِخِلاَفِ الْحُلِيِّ (1) .
وَقَال الدُّسُوقِيُّ: وَالْحَاصِل أَنَّ اقْتِنَاءَهُ إِنْ كَانَ بِقَصْدِ الاِسْتِعْمَال فَحَرَامٌ بِاتِّفَاقٍ، وَإِنْ كَانَ لِقَصْدِ الْعَاقِبَةِ أَوِ التَّجَمُّل أَوْ لاَ لِقَصْدِ شَيْءٍ، فَفِي كُلٍّ قَوْلاَنِ، وَالْمُعْتَمَدُ الْمَنْعُ (2) .

ج - الْوُضُوءُ وَالْغُسْل مِنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ:
5 - إِذَا تَوَضَّأَ إِنْسَانٌ - رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً - مِنْ إِنَاءِ فِضَّةٍ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهِ مَذْهَبَانِ:
الأَْوَّل لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ وَالاِغْتِسَال مِنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، قَال الدُّسُوقِيُّ: فَلاَ يَجُوزُ فِيهِ أَكْلٌ وَلاَ شُرْبٌ، وَلاَ طَبْخٌ وَلاَ طَهَارَةٌ، وَإِنْ صَحَّتِ الصَّلاَةُ (3) ، كَالصَّلاَةِ فِي الأَْرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، تَصِحُّ مَعَ الْحُرْمَةِ.
الثَّانِي: الْمَذْهَبُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَأَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الطَّهَارَةُ مِنْهُ (4) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (آنِيَة ف 3) .
__________
(1) الشرح الكبير 1 / 64.
(2) الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 64.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 1 / 64.
(4) المجموع 1 / 249، والإنصاف 1 / 80 - 81.

(32/163)


د - التَّخَتُّمُ بِالْفِضَّةِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ تَخَتُّمِ الرَّجُل بِخَاتَمِ الْفِضَّةِ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَرَادَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى بَعْضِ الأَْعَاجِمِ، فَقِيل لَهُ: إِنَّهُمْ لاَ يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلاَّ بِخَاتَمٍ، فَاِتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ وَنَقَشَ فِيهِ: مُحَمَّدٌ رَسُول اللَّهِ (1) .
وَيَذْكُرُ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ زِيَادَةً عَلَى هَذَا فِي رِوَايَةٍ: فَكَانَ فِي يَدِهِ حَتَّى قُبِضَ، وَفِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى قُبِضَ، وَفِي يَدِ عُمَرَ حَتَّى قُبِضَ، وَفِي يَدِ عُثْمَانَ، فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَ بِئْرٍ إِذْ سَقَطَ فِي الْبِئْرِ فَأَمَرَ بِهَا فَنُزِحَتْ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ (2) .
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ تَعَدُّدِ خَوَاتِمِ الرَّجُل وَمِقْدَارِ وَزْنِ خَاتَمِهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَخَتُّم ف 9) .

هـ - اتِّخَاذُ السِّنِّ وَنَحْوِهَا مِنَ الْفِضَّةِ:
7 - يَجُوزُ اتِّخَاذُ السِّنِّ وَنَحْوِهَا وَشَدُّهَا مِنَ الْفِضَّةِ، قِيَاسًا عَلَى الأَْنْفِ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ طَرَفَةَ أَنَّ جَدَّهُ عَرْفَجَةَ بْنَ
__________
(1) حديث أنس بن مالك: " أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 323) ، ومسلم (3 / 1656) ، وأبو داود (4 / 123) واللفظ لأبي داود.
(2) رواية: " فكان في يده حتى قبض. . . " أخرجها البخاري (فتح الباري 10 / 323 - 324) ، ومسلم (3 / 1656) ، وأبو داود (4 / 424) من حديث ابن عمر واللفظ لأبي داود.

(32/164)


أَسْعَدَ قُطِعَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكِلاَبِ، فَاِتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ، فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ (1) .
وَمِنَ النُّصُوصِ الْمَذْهَبِيَّةِ فِي هَذَا مَا يَلِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ شَدَّهَا - يَعْنِي السِّنَّ - بِالْفِضَّةِ، لاَ يُكْرَهُ بِالإِْجْمَاعِ، وَكَذَلِكَ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الأَْنْفِ وَالسِّنِّ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، أَوْ رَبْطِ سِنٍّ تَخَلْخَل بِشَرِيطٍ مُطْلَقًا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ.
وَقَال الْمَحَلِّيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَقِيسَ عَلَى الأَْنْفِ الأُْنْمُلَةُ وَالسِّنُّ، وَتَجْوِيزُ الثَّلاَثَةِ مِنَ الْفِضَّةِ أَوْلَى.
وَيَقُول النَّوَوِيُّ: شَدُّ السِّنِّ الْعَلِيلَةِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ جَائِزٌ، وَيُبَاحُ أَيْضًا الأُْنْمُلَةُ مِنْهُمَا، وَفِي جَوَازِ الأُْصْبُعِ وَالْيَدِ مِنْهُمَا وَجْهَانِ.
وَالْحَنَابِلَةُ أَبَاحُوا اتِّخَاذَ السِّنِّ وَحِلْيَةِ السَّيْفِ وَالْكَثِيرِ مِنَ الأَْشْيَاءِ مِنَ الْفِضَّةِ، فَمِنْ بَابِ أَوْلَى يَكُونُ حُكْمُ اتِّخَاذِ الأَْنْفِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْجِرَاحَاتِ، مِنَ الْفِضَّةِ (2) .
__________
(1) حديث عبد الرحمن بن طرفة: " أن جده عرفجة بن أسعد قطع أنفه. . . " أخرجه أبو داود (4 / 134) ، والترمذي (4 / 240) ، واللفظ لأبي داود. وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
(2) بدائع الصنائع 5 / 132، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 63، والأم 1 / 46، والمجموع 1 / 255، والمحلي على المنهاج 2 / 24، والمغني 3 / 15.

(32/164)


و - تَزْيِينُ أَدَوَاتِ الْجِهَادِ وَنَحْوِهَا بِالْفِضَّةِ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ تَزْيِينِ أَدَوَاتِ الْجِهَادِ وَنَحْوِهَا بِالْفِضَّةِ، وَإِلَى جَوَازِ تَزْيِينِ الْمُصْحَفِ بِهَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا قَالَهُ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَتْ قَبِيعَةُ سَيْفِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِضَّةً (1) وَالْقَبِيعَةُ مَا كَانَ عَلَى رَأْسِ قَائِمِ السَّيْفِ وَطَرَفِ مِقْبَضِهِ، وَمَا رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَال: كَانَ سَيْفُ زُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُحَلًّى فِضَّةً (2) وَقَال الْكَاسَانِيُّ: أَمَّا السَّيْفُ الْمُضَبَّبُ وَالسِّكِّينُ فَلاَ بَأْسَ بِهِ بِالإِْجْمَاعِ، وَكَذَلِكَ الْمِنْطَقَةُ الْمُضَبَّبَةُ، لِوُرُودِ الآْثَارِ بِالرُّخْصَةِ بِذَلِكَ فِي السِّلاَحِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَصُرُوا إِبَاحَةَ التَّزْيِينِ بِالْفِضَّةِ - وَكَذَا بِالذَّهَبِ - عَلَى الْمُصْحَفِ وَالسَّيْفِ، وَكَذَلِكَ اتِّخَاذُ الأَْنْفِ مِنْهَا، أَوْ رَبْطُ السِّنِّ بِهَا (3) .

ز - الضَّبَّةُ مِنَ الْفِضَّةِ وَالتَّطْعِيمُ بِهَا:
9 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ الضَّبَّةِ مِنَ
__________
(1) حديث أنس: " كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فضة " أخرجه أبو داود (3 / 68) ، والترمذي (4 / 201) ، وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
(2) أثر هشام بن عروة: كان سيف زبير محلى بفضة أخرجه البخاري (فتح الباري (7 / 299) .
(3) بدائع الصنائع 5 / 132:، واللباب 4 / 160، 179، والهداية مع نتائج الأفكار 10 / 7. الخرشي 1 / 99، والدسوقي 1 / 63، والأم 2 / 35، والقليوبي 2 / 24، وشرح منتهى الإرادات 1 / 406، والمبدع 2 / 371.

(32/165)


الْفِضَّةِ فِي الإِْنَاءِ.
وَالأَْصْل فِي هَذَا الْخِلاَفِ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ شَرِبَ مِنْ إِنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ إِنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ (1) .
فَأَبُو حَنِيفَةَ يَرَى أَنَّ الإِْنَاءَ الْمُضَبَّبَ بِالذَّهَبِ لاَ بَأْسَ بِالأَْكْل وَالشُّرْبِ فِيهِ، وَبِالأَْوْلَى يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْمُضَبَّبِ بِالْفِضَّةِ لأَِنَّهَا أَخَفُّ حُرْمَةً مِنَ الذَّهَبِ.
وَاشْتَرَطَ الْمَرْغِينَانِيُّ لِذَلِكَ شَرْطًا، وَهُوَ أَنْ يَتَّقِيَ مَوْضِعَ الْفَمِ، وَأَلْحَقَ بِذَلِكَ الرُّكُوبَ عَلَى السَّرْجِ الْمُفَضَّضِ، وَاشْتَرَطَ عَدَمَ الْمُبَاشَرَةِ لِلضَّبَّةِ مِنَ الْفِضَّةِ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمُضَبَّبِ قَوْلاَنِ: الْحُرْمَةُ وَالْجَوَازُ، إِمَّا مُطْلَقًا أَوْ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَرَجَّحَ الدَّرْدِيرُ وَالدُّسُوقِيُّ وَالْحَطَّابُ وَابْنُ الْحَاجِبِ الْحُرْمَةَ (3) .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ: أَنَّ الْمُضَبَّبَ مِنَ الإِْنَاءِ بِفِضَّةٍ ضَبَّةً كَبِيرَةً لِزِينَةٍ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ، وَمَا ضُبِّبَ
__________
(1) حديث ابن عمر: " من شرب من إناء ذهب أو فضة أو إناء فيه شيء من ذلك. . . " أخرجه الدارقطني (1 / 40) ، وأعله ابن حجر في فتح الباري (10 / 101) بجهالة راويين.
(2) بدائع الصنائع 1 / 132، والهداية مع نتائج الأفكار 10 / 7.
(3) الخرشي 1 / 100، والدسوقي 1 / 64.

(32/165)


بِفِضَّةٍ ضَبَّةً صَغِيرَةً بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَلاَ يَحْرُمُ، وَإِنْ ضُبِّبَ بِفِضَّةٍ ضَبَّةً صَغِيرَةً لِزِينَةٍ، أَوْ كَبِيرَةً لِحَاجَةٍ، جَازَ فِي الأَْصَحِّ مَعَ الْكَرَاهَةِ نَظَرًا لِلصِّغَرِ وَالْحَاجَةِ، وَضَبَّةُ مَوْضِعِ الاِسْتِعْمَال نَحْوِ الشُّرْبِ كَغَيْرِهِ فِيمَا ذُكِرَ فِي الأَْصَحِّ، وَالْقَوْل الثَّانِي أَنَّهُ يَحْرُمُ إِنَاؤُهَا مُطْلَقًا لِمُبَاشَرَتِهَا بِالاِسْتِعْمَال (1) .
وَفِي ضَابِطِ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ عِنْدَهُمْ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الَّذِي يَسْتَوْعِبُ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الإِْنَاءِ بِكَمَالِهِ، وَالآْخَرُ: الْعُرْفُ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْكَثِيرَ مَا يَلْمَعُ لِلنَّاظِرِ عَلَى بُعْدٍ، وَالْقَلِيل خِلاَفُهُ.
وَاخْتَارَ الرَّافِعِيُّ الثَّانِيَ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ الثَّالِثَ (2) .
وَجُمْلَةُ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الضَّبَّةَ تُبَاحُ بِثَلاَثَةِ شُرُوطٍ، أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ يَسِيرَةً، وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مِنَ الْفِضَّةِ، وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ لِلْحَاجَةِ؛ أَيْ لِمَصْلَحَةٍ وَانْتِفَاعٍ، مِثْل أَنْ تُجْعَل عَلَى شَقٍّ أَوْ صَدْعٍ وَإِنْ قَامَ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، وَقَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: لَيْسَ هَذَا بِشَرْطٍ، وَيَجُوزُ الْيَسِيرُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِذَا لَمْ يُبَاشِرِ الاِسْتِعْمَال.
وَكَرِهَ أَحْمَدُ أَنْ يُبَاشَرَ مَوْضِعَ الضَّبَّةِ
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج 1 / 28 و29، وانظر نهاية المحتاج 1 / 92، 93.
(2) المجموع 1 / 258.

(32/166)


بِالاِسْتِعْمَال، فَلاَ يَشْرَبُ مِنْ مَوْضِعِ الضَّبَّةِ، لأَِنَّهُ يَصِيرُ كَالشَّارِبِ مِنْ إِنَاءِ فِضَّةٍ، وَكَرِهَ الْحَلْقَةَ مِنَ الْفِضَّةِ، لأَِنَّ الْقَدَحَ يُرْفَعُ بِهَا، فَيُبَاشِرُهَا بِالاِسْتِعْمَال، وَكَذَا مَا أَشْبَهَهُ (1) .

ح - الإِْنَاءُ الْمُمَوَّهُ بِفِضَّةٍ وَعَكْسُهُ:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْوَانِيَ الْمُمَوَّهَةَ بِمَاءِ الْفِضَّةِ إِذَا كَانَ لاَ يَخْلُصُ مِنْهُ شَيْءٌ فَلاَ بَأْسَ بِالاِنْتِفَاعِ بِهَا فِي الأَْكْل وَالشُّرْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا يَخْلُصُ مِنْهُ شَيْءٌ لاَ يَحْرُمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا، وَيُكْرَهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي الأَْشْهَرِ عَنْهُ، كَالْمُضَبَّبِ (2) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ قَوْلاَنِ فِي الْمُمَوَّهِ، كَالْقَوْلَيْنِ فِي الْمُضَبَّبِ، وَهُمَا التَّحْرِيمُ وَالْكَرَاهَةُ، أَوِ الْمَنْعُ وَالْجَوَازُ.
وَاسْتَظْهَرَ بَعْضُهُمُ الْجَوَازَ نَظَرًا لِقُوَّةِ الْبَاطِنِ (3) .
وَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ جَوَازَ اسْتِعْمَال الْمُمَوَّهِ بِالْفِضَّةِ فِي الأَْصَحِّ، لِقِلَّةِ الْمُمَوَّهِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ مَعْدُومٌ.
وَالْقَوْل الثَّانِي الْمُقَابِل لِلأَْصَحِّ، أَنَّهُ يَحْرُمُ لِلْخُيَلاَءِ وَكَسْرِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ.
فَإِنْ كَثُرَ الْمُمَوَّهُ بِحَيْثُ يَحْصُل مِنْهُ شَيْءٌ
__________
(1) المغني 1 / 78، والمبدع 1 / 68.
(2) بدائع الصنائع 5 / 133، واللباب 4 / 160.
(3) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 64.

(32/166)


بِالْعَرْضِ عَلَى النَّارِ حَرُمَ جَزْمًا، وَإِنْ كَانَ لاَ يَحْصُل مِنْهُ شَيْءٌ، فَلاَ يَحْرُمُ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوِ اتَّخَذَ إِنَاءً مِنَ الْفِضَّةِ (أَوِ الذَّهَبِ) وَمَوَّهَهُ بِنُحَاسٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ حَصَل مِنْهُ شَيْءٌ بِالْعَرْضِ عَلَى النَّارِ حَل اسْتِدَامَتُهُ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَمَحَل مَا ذُكِرَ بِالنِّسْبَةِ لاِسْتِدَامَتِهِ، أَمَّا الْفِعْل فَحَرَامٌ مُطْلَقًا وَلَوْ عَلَى سَقْفٍ أَوْ جِدَارٍ أَوْ عَلَى الْكَعْبَةِ (1) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَحْرُمُ اتِّخَاذُ الإِْنَاءِ وَنَحْوِهِ، إِذَا كَانَ مُمَوَّهًا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَكَذَا الْمُطَعَّمُ وَالْمَطْلِيُّ وَالْمُكَفَّتُ (2) .

ط - الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ مِنْ فِضَّةٍ:
11 - الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ الْمُتَّخَذَيْنِ مِنَ الْفِضَّةِ (وَكَذَا الذَّهَبُ) لاَ يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَلِعَدَمِ إِمْكَانِ مُتَابَعَةِ الْمَشْيِ فِيهِمَا.
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَلِعَدَمِ كَوْنِهِمَا مُتَّخَذَيْنِ مِنَ الْجِلْدِ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَكْفِي الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ مِنَ الْفِضَّةِ لِلرَّجُل وَغَيْرِهِ.
وَقَال الْجُمْهُورُ: إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 91، وشرح المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي 1 / 28.
(2) كشاف القناع 1 / 51، 52.

(32/167)


(فِي الْجُمْلَةِ) لُبْسُ الْخُفَّيْنِ مِنَ الْفِضَّةِ (وَكَذَا الذَّهَبُ) وَلاَ سِيَّمَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لأَِنَّهُمَا مِنَ الْمَلْبُوسِ، لَكِنَّ جَوَازَ اللُّبْسِ لاَ يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَيْهِمَا، لِتَخَلُّفِ بَعْضِ الشُّرُوطِ، كَالْجِلْدِيَّةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُتَابَعَةِ الْمَشْيِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .

الْجُزْء الثَّانِي وَالثَّلاَثُونَ ي - بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَبَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ وَعَكْسُهُ:
12 - أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ بِشُرُوطٍ ثَلاَثَةٍ هِيَ: الْحُلُول، وَالتَّقَابُضُ قَبْل التَّفَرُّقِ، وَالتَّمَاثُل، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْقَلِيل وَالْكَثِيرُ، وَمَا نُقِل عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الْقَلِيل، فَهَذَا خَاصٌّ بِمَا لاَ يُسْتَطَاعُ كَيْلُهُ مِمَّا يُكَال، لأَِنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ الْكَيْل وَلَمْ تُوجَدْ، أَمَّا الْيَسِيرُ مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ فَهَذَا مَوْزُونٌ يُمْكِنُ وَزْنُهُ بِمِثْلِهِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَعَ شُرُوطِهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِسَنَدِهِ إِلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ،
__________
(1) مراقي الفلاح ص70، والقوانين الفقهية ص43، والشرح الصغير 1 / 54، ومغني المحتاج 1 / 66، وكشاف القناع 1 / 66.

(32/167)


فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ (1) .
وَإِذَا اخْتَل شَرْطٌ مِنَ الشُّرُوطِ الثَّلاَثَةِ كَانَ بَيْعًا رِبَوِيًّا مُحَرَّمًا، أَمَّا بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ وَعَكْسُهُ فَجَائِزٌ بِشَرْطِ التَّقَابُضِ، يَدُل لِهَذَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِسَنَدِهِ إِلَى مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ أَنَّهُ قَال: أَقْبَلْتُ أَقُول: مَنْ يَصْطَرِفُ الدَّرَاهِمَ؟ فَقَال طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَرِنَا ذَهَبَكَ ثُمَّ ائْتِنَا إِذَا جَاءَ خَادِمُنَا نُعْطِكَ وَرِقَكَ، فَقَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: كَلاَ وَاللَّهِ لَتُعْطِيَنَّهُ وَرِقَهُ أَوْ لَتَرُدَّنَّ إِلَيْهِ ذَهَبَهُ، فَإِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْوَرِقُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (رِبًا ف 12 وَمَا بَعْدَهَا) ، مُصْطَلَحُ (صَرْف ف 20 وَمَا بَعْدَهَا) .

كَ - الْغِشُّ فِي الْفِضَّةِ وَأَثَرُهُ فِي الأَْحْكَامِ:
13 - يَجُوزُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ التَّعَامُل بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَغْشُوشَةِ إِنْ رَاجَتْ، نَظَرًا لِلْعُرْفِ.
__________
(1) حديث عبادة بن الصامت: " الذهب بالذهب والفضة بالفضة. . . " أخرجه مسلم (3 / 1211) .
(2) العناية مع الهداية 7 / 3، وحاشية العدوي على شرح أبي الحسن 2 / 130، بداية المجتهد 2 / 199، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 167، والمغني 4 / 503. وحديث مالك بن أوس " الورق بالذهب. . . " أخرجه مسلم (3 / 1209 - 1210) .

(32/168)


أَمَّا إِذَا بِيعَتْ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ مُصَارَفَةً، فَقَدْ فَصَّلُوا صُوَرَهَا وَأَحْكَامَهَا عَلَى النَّحْوِ الْمَذْكُورِ فِي مُصْطَلَحِ (صَرْف ف 41 وَمَا بَعْدَهَا) .
وَهَذَا فِي التَّعَامُل بِالْمَغْشُوشِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ بِجِنْسِهِ، أَمَّا التَّعَامُل بِهِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، أَوْ فِي غَيْرِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالسَّلَفِ وَنَحْوِهِ، فَتَفْصِيلُهُ كَمَا يَأْتِي:
فَالْكَاسَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ رَتَّبَ الْكَلاَمَ فِي الْمُرَادِ هُنَا وَهُوَ اسْتِقْرَاضُ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ وَالشِّرَاءُ بِهَا عَلَى الْكَلاَمِ فِي الأَْنْوَاعِ الثَّلاَثَةِ مِنَ الْغِشِّ.
أَمَّا النَّوْعُ الأَْوَّل - وَهُوَ مَا كَانَتْ فِضَّتُهُ غَالِبَةً عَلَى غِشِّهِ، فَلاَ يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ وَلاَ الشِّرَاءُ بِهِ إِلاَّ وَزْنًا، لأَِنَّ الْغِشَّ إِذَا كَانَ مَغْلُوبًا فِيهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ الزَّائِفَةِ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ الزَّائِفَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ عَدَدًا، لأَِنَّهَا وَزْنِيَّةٌ، فَلَمْ يُعْتَبَرِ الْعَدَدُ فِيهَا، فَكَانَ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُجَازَفَةً، فَلَمْ يَجُزْ، فَلاَ يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهَا وَلاَ التَّعَامُل بِهَا إِلاَّ وَزْنًا، صِيَانَةً لَهَا عَنِ الرِّبَا، وَعَنْ شُبْهَةِ الرِّبَا.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي - وَهُوَ مَا اسْتَوَى فِيهِ الْفِضَّةُ وَالْغِشُّ - فَكَذَلِكَ، لأَِنَّ الْفِضَّةَ إِذَا كَانَتْ تَبْقَى بَعْدَ السَّبْكِ وَيَذْهَبُ الْغِشُّ

(32/168)


كَانَتْ مُلْحَقَةً بِالدَّرَاهِمِ الزُّيُوفِ، وَلاَ تَجُوزُ عَدَدًا، وَإِنَّمَا تَجُوزُ وَزْنًا لإِِبْعَادِهَا عَنْ شُبْهَةِ الرِّبَا، وَإِنْ بَقِيَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى حَالِهِ بَعْدَ السَّبْكِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا جِنْسٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وَالْفِضَّةُ لاَ تَجُوزُ عَدَدًا لأَِنَّهَا وَزْنِيَّةٌ، وَالصُّفْرُ يُجَوِّزُهُ، وَإِذَا اجْتَمَعَ الْمَانِعُ وَالْمُجِيزُ فَالْحُكْمُ بِالْفَسَادِ عِنْدَ تَعَارُضِ جِهَتَيِ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ أَحْوَطُ.
أَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ - وَهُوَ مَا كَانَ الْغِشُّ فِيهِ غَالِبًا، فَيُنْظَرُ فِيهِ إِلَى عَادَةِ النَّاسِ، فَإِنْ تَعَامَلُوا بِهِ وَزْنًا وَجَبَ التَّعَامُل فِيهِ وَزْنًا، لأَِنَّ الْوَزْنَ صِفَةٌ أَصْلِيَّةٌ، وَإِنْ تَعَامَلُوا فِيهِ عَدَدًا جَازَ التَّعَامُل بِهِ عَدَدًا، وَمِثْل الاِسْتِقْرَاضِ الشِّرَاءُ بِهَا كَمَا سَلَفَ.
هَذَا إِذَا اشْتَرَى بِالأَْنْوَاعِ الثَّلاَثَةِ وَلَمْ يُعَيِّنْهَا، فَأَمَّا إِذَا عَيَّنَهَا وَاشْتَرَى بِهَا عَرَضًا، بِأَنْ قَال: اشْتَرَيْتُ هَذَا الْعَرَضَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ وَأَشَارَ إِلَيْهَا، فَلاَ شَكَّ فِي جَوَازِ الشِّرَاءِ بِهَا، وَلاَ تَتَعَيَّنُ بِالإِْشَارَةِ إِلَيْهَا، وَلاَ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهَا، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ قَبْل أَنْ يَنْقُدَهَا الْمُشْتَرِي لاَ يَبْطُل الْبَيْعُ، وَيُعْطَى مَكَانَهَا مِثْلَهَا مِنْ جِنْسِهَا وَنَوْعِهَا وَقَدْرِهَا وَصِفَتِهَا (1) .
وَالْمَالِكِيَّةُ نَظَرُوا فِي التَّعَامُل بِهَا إِلَى مَنْعِ الْغِشِّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا بِجَوَازِ التَّعَامُل
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 198.

(32/169)


بِهَا وَبَيْعِهَا لِمَنْ يَكْسِرُهَا وَلاَ يَغُشُّ بِهَا، فَإِنْ أُمِنَ ذَلِكَ جَازَ الْبَيْعُ، وَقَدْ حَكَى ابْنُ رُشْدٍ الاِتِّفَاقَ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ حِينَئِذٍ.
فَإِنْ لَمْ يُؤْمَنْ غِشُّ الْمُسْلِمِينَ بِهِ كُرِهَ الْبَيْعُ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ يَغُشُّ بِهِ الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ وَيَفْسَخَ بَيْعَهُ إِنْ كَانَ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ لِذَهَابِ عَيْنِهِ أَوْ نَحْوِهِ، فَهَل يَمْلِكُ الثَّمَنَ وَيُنْدَبُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهِ وُجُوبًا، أَوْ يَتَصَدَّقُ بِالزَّائِدِ عَلَى فَرْضِ بَيْعِهِ مِمَّنْ لاَ يَغُشُّ؟ أَقْوَالٌ ثَلاَثَةٌ، وَرَجَّحَ الأَْخِيرَ الشَّيْخُ الْعَدَوِيُّ (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالأَْصْل عِنْدَهُمْ مَنْعُ التَّعَامُل فِي هَذِهِ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ إِذَا بِيعَتْ بِمِثْلِهَا أَوْ بِخَالِصِ جِنْسِهَا، أَمَّا شِرَاءُ سِلْعَةٍ أُخْرَى بِهَا فَقَال أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إِنْ كَانَ الْغِشُّ مِمَّا لاَ قِيمَةَ لَهُ جَازَ الشِّرَاءُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ قِيمَةٌ، فَفِي جَوَازِ إِنْفَاقِهَا وَجْهَانِ (2) .
وَعَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ، أَظْهَرُهُمَا الْجَوَازُ، وَالثَّانِيَةُ التَّحْرِيمُ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالأَْوْلَى أَنْ يُحْمَل كَلاَمُ أَحْمَدَ فِي الْجَوَازِ عَلَى الْخُصُوصِ فِيمَا ظَهَرَ غِشُّهُ وَاصْطُلِحَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُعَامَلَةَ بِهِ جَائِزَةٌ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ اشْتِمَالِهِ عَلَى جِنْسَيْنِ لاَ غَرَرَ فِيهِمَا، فَلاَ يُمْنَعُ
__________
(1) الخرشي مع حاشية العدوي 3 / 52.
(2) شرح الجلال على المنهاج مع حاشية القليوبي 2 / 170، والمهذب 1 / 272.

(32/169)


مِنْ بَيْعِهِمَا كَمَا لَوْ كَانَا مُتَمَيِّزَيْنِ، وَلأَِنَّ هَذَا مُسْتَفِيضٌ فِي الأَْعْصَارِ جَارٍ بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَفِي تَحْرِيمِهِ مَشَقَّةٌ وَضَرَرٌ، وَلَيْسَ شِرَاؤُهَا بِهَا غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ وَلاَ تَغْرِيرًا لَهُمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا ظَاهِرٌ مَرْئِيٌّ مَعْلُومٌ (1) .

ل - نِصَابُ الزَّكَاةِ مِنَ الْفِضَّةِ:
14 - نِصَابُ الْفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ (2) ، لاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الإِْسْلاَمِ، وَقَدْ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ، وَلاَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلاَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ (3) .
وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قَال:. . . فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ (4) .
__________
(1) المغني 4 / 57 - 58 وهناك فروع أخرى كثيرة تراجع في مظانها.
(2) والمائتا درهم تعادل في أيامنا حسبما ذكره بعض المحققين المتأخرين أن الدرهم 2. 975 غرامًا فيكون نصاب الفضة = 2. 975 × 200 = 595 غرامًا. ونصاب الذهب = 4. 250 × 20 = 85غرامًا.
(3) حديث أبي سعيد الخدري: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 310) ، ومسلم (2 / 673) واللفظ لمسلم.
(4) المغني 3 / 3. وحديث علي " فإذا بلغت مائتين. . . " أخرجه أبو داود (2 / 232) ، والترمذي (3 / 7) ، ونقل الترمذي عن البخاري أنه صححه.

(32/170)


وَالتَّفْصِيل يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاة ف 67) وَمَا بَعْدَهَا.

م - الدِّيَةُ وَمِقْدَارُهَا مِنَ الْفِضَّةِ:
15 - عِنْدَ الْجُمْهُورِ دِيَةُ الرَّجُل الْمُسْلِمِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ دِيَةَ الرَّجُل الْمُسْلِمِ عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ مِنَ الْفِضَّةِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَات ف 28 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) الأم 6 / 91، وبداية المجتهد 2 / 411، وشرح منتهى الإرادات 3 / 306، وتبلغ الدية من الفضة عند الحنفية = 10000 × 2. 975 = 29750 جرامًا من الفضة، ومن الذهب = 10000 × 4. 25 = 4250 جرامًا من الذهب ويقاس على هذا دية المرأة والذمي، ودية الأطراف، مع مراعاة ما تقرر من قواعد الدية. (ر: ديات، ف 29 - 74) .

(32/170)


فُضُولِيّ
تَعْرِيفُهُ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْفُضُولِيُّ لُغَةً مَنْ يَشْتَغِل بِمَا لاَ يَعْنِيهِ، نِسْبَةً إِلَى الْفُضُول، جَمْعُ فَضْلٍ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ. غَيْرَ أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ - الْفُضُول - غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى مَا لاَ خَيْرَ فِيهِ، حَتَّى صَارَ بِالْغَلَبَةِ كَالْعَلَمِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَمِنْ أَجْل ذَلِكَ كَانَ فِي النِّسْبَةِ إِلَيْهِ تِلْكَ الدَّلاَلَةُ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ يُطْلَقُ الْفُضُولِيُّ عَلَى مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِلاَ إِذْنٍ شَرْعِيٍّ (2) وَذَلِكَ لِكَوْنِ تَصَرُّفِهِ صَادِرًا مِنْ غَيْرِ مِلْكٍ وَلاَ وَكَالَةٍ وَلاَ وِلاَيَةٍ (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْوَلِيُّ:
2 - الْوَلِيُّ لُغَةً: مِنَ الْوَلْيِ، بِمَعْنَى الْقُرْبِ وَالنُّصْرَةِ، وَالْوَلِيُّ خِلاَفُ الْعَدُوِّ.
__________
(1) المغرب، والمصباح المنير، ومعجم مقاييس اللغة.
(2) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 4 / 103، والبحر الرائق لابن نجيم 6 / 160، والعناية على الهداية للبايرتي 7 / 51 ط. المكتبة الإسلامية.
(3) المحلي على المنهاج 2 / 160، وفتح القدير 7 / 51، البهجة شرح التحفة 2 / 68، ومغني المحتاج 2 / 15.

(32/171)


وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْوَلِيُّ مَنْ يَمْلِكُ الْوِلاَيَةَ، وَهِيَ تَنْفِيذُ الْقَوْل عَلَى الْغَيْرِ (1) .
وَيَخْتَلِفُ مَعْنَى الْوَلِيِّ حَسَبَ اخْتِلاَفِ الْمَوَاضِيعِ، قَال التُّمُرْتَاشِيُّ فِي بَابِ النِّكَاحِ: هُوَ الْبَالِغُ الْعَاقِل الْوَارِثُ (2) .
وَيُمْكِنُ تَعْرِيفُ الْوَلِيِّ بِوَجْهٍ عَامٍّ أَنَّهُ مَنْ يَتَصَرَّفُ لِلْغَيْرِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، كَالْوَالِدِ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوِ الْمَجْنُونِ، وَكَذَا الْقَاضِي وَالإِْمَامُ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفُضُولِيِّ، أَنَّ الْوَلِيَّ لَهُ حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ شَرْعًا، بِخِلاَفِ الْفُضُولِيِّ.

ب - الْوَكِيل:
3 - مِنْ مَعَانِي الْوَكِيل لُغَةً: الْحَافِظُ وَالْكَافِي (3) ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} (4) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْوَكِيل فَعِيلٌ مِنَ الْوَكَالَةِ، وَهِيَ تَفْوِيضُ وَاحِدٍ أَمْرَهُ لآِخَرَ وَإِقَامَتُهُ مُقَامَهُ فِي ذَلِكَ الأَْمْرِ.
فَالْوَكِيل هُوَ الْمُفَوَّضُ وَالنَّائِبُ عَنِ الْغَيْرِ فِي أَمْرٍ قَابِلٍ لِلنِّيَابَةِ (5) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفُضُولِيِّ أَنَّ
__________
(1) المصباح المنير، وابن عابدين 2 / 395.
(2) رد المختار 2 / 395.
(3) المفردات للأصفهاني.
(4) سورة الأحزاب / 3.
(5) قواعد الفقه للبركتي، ومجلة الأحكام العدلية م 1449، وجواهر الإكليل 2 / 125.

(32/171)


كِلَيْهِمَا يَتَصَرَّفُ لِلْغَيْرِ، لَكِنَّ الْوَكِيل بِالتَّفْوِيضِ مِنَ الْغَيْرِ، وَالْفُضُولِيَّ بِغَيْرِ تَفْوِيضٍ.

ج - الْمَالِكُ:
4 - الْمَالِكُ فَاعِلٌ مِنَ الْمِلْكِ، وَهُوَ شَرْعًا اخْتِصَاصُ الْعَمَل فِي التَّصَرُّفِ، وَالْمَالِكُ صَاحِبُ الْمِلْكِ (1) .
وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ: الْمِلْكُ قُدْرَةٌ يُثْبِتُهَا الشَّارِعُ ابْتِدَاءً عَلَى التَّصَرُّفِ إِلاَّ لِمَانِعٍ (2) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَمَالِكُ الشَّيْءِ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ ابْتِدَاءً، فَهُوَ مُقَابِل الْفُضُولِيِّ الَّذِي لَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا تَصِحُّ بَعْضُ تَصَرُّفَاتِهِ بِإِجَازَةِ الْمَالِكِ انْتِهَاءً عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِتَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ:
بَيْعُ الْفُضُولِيِّ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ - فِي الْجُمْلَةِ - عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: هُوَ أَنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ وَإِنْ رَدَّهُ بَطَل (3) .
__________
(1) قواعد الفقه للبركتي نقلاً عن البدائع.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص346.
(3) تبيين الحقائق 4 / 103 وما بعدها، والبحر الرائق 6 / 160، والمبسوط 13 / 153 وما بعدها، والشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 12 والبهجة شرح التحفة 2 / 68 والفروق للقرافي 3 / 243 ونهاية المحتاج 3 / 390 والمجموع 9 / 258 وما بعدها، وكشف القناع 3 / 157، والمبدع 4 / 16.

(32/172)


وَالثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَهُوَ أَنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ بَاطِلٌ، فَلاَ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا وَلَوْ أَجَازَهُ الْمَالِكُ بَعْدُ (1) . (ر: بَيْعُ الْفُضُولِيِّ ف 6)

شِرَاءُ الْفُضُولِيِّ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ شِرَاءِ الْفُضُولِيِّ لِغَيْرِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا لِلْمَالِكِيَّةِ، وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: وَهُوَ أَنَّ شِرَاءَ الْفُضُولِيِّ كَبَيْعِهِ، يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ مَنِ اشْتَرَى لَهُ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ، وَإِنْ رَدَّهُ بَطَل (2) .
وَالثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ: وَهُوَ أَنَّ شِرَاءَ الْفُضُولِيِّ بَاطِلٌ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَيْ حُكْمٍ أَوْ أَثَرٍ (3) .
وَالثَّالِثُ لِلْحَنَفِيَّةِ: حَيْثُ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا أَضَافَ الْعَقْدَ إِلَى نَفْسِهِ، وَبَيْنَ مَا إِذَا أَضَافَهُ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 15، ونهاية المحتاج 3 / 390، والوجيز 1 / 134، وفتح العزيز 8 / 221، والإنصاف للمرداوي 4 / 283، وكشاف القناع 3 / 157.
(2) القوانين الفقهية لابن جزي ص271 ط. دار العلم للملايين، والإنصاف للمرداوي 4 / 283، وبداية المجتهد 2 / 143 ط. دار الفكر بيروت والمغني لابن قدامة 4 / 154 ط. مكتبة القاهرة بمصر.
(3) المجموع شرح المهذب 9 / 260، وفتح العزيز للرافعي 8 / 122، والإنصاف للمرداوي 4 / 283، ونيل المآرب للشيباني 1 / 83.

(32/172)


إِلَى الَّذِي اشْتَرَاهُ لَهُ، وَقَالُوا: إِذَا أَضَافَهُ الْفُضُولِيُّ إِلَى نَفْسِهِ، كَانَتِ الْعَيْنُ الْمُشْتَرَاةُ لَهُ، سَوَاءٌ وُجِدَتِ الإِْجَازَةُ مِنَ الَّذِي اشْتَرَاهُ لَهُ أَوْ لَمْ تُوجَدْ، لأَِنَّ الشِّرَاءَ إِذَا وُجِدَ نَفَاذًا عَلَى الْعَاقِدِ أُمْضِيَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الأَْصْل أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُ الإِْنْسَانِ لِنَفْسِهِ لاَ لِغَيْرِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} (1) وَشِرَاءُ الْفُضُولِيِّ كَسْبُهُ حَقِيقَةً، فَالأَْصْل أَنْ يَكُونَ لَهُ إِلاَّ إِذَا جَعَلَهُ لِغَيْرِهِ، أَوْ لَمْ يَجِدْ نَفَاذًا عَلَيْهِ لِعَدَمِ الأَْهْلِيَّةِ، فَعِنْدَئِذٍ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ مَنِ اشْتَرَى لَهُ، بِأَنْ كَانَ الْفُضُولِيُّ عَبْدًا مَحْجُورًا، أَوْ صَبِيًّا مُمَيِّزًا وَاشْتَرَى لِغَيْرِهِ، فَإِنَّ شِرَاءَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ، إِذِ الشِّرَاءُ لَمْ يَجِدْ نَفَاذًا عَلَيْهِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الَّذِي اشْتُرِيَ لَهُ ضَرُورَةً، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ، وَإِنْ رَدَّهُ بَطَل.
وَإِنْ أَضَافَ الْفُضُولِيُّ الْعَقْدَ إِلَى الَّذِي اشْتَرَاهُ لَهُ، بِأَنْ قَال الْفُضُولِيُّ لِلْبَائِعِ: بِعْ دَابَّتَكَ هَذِهِ مِنْ فُلاَنٍ بِكَذَا، فَقَال: بِعْتُ، وَقَال الْفُضُولِيُّ: قَبِلْتُ الْبَيْعَ فِيهِ لأَِجْل فُلاَنٍ، أَوْ قَال الْبَائِعُ: بِعْتُ هَذَا الثَّوْبَ مِنْ فُلاَنٍ بِكَذَا، وَقَبِل الْمُشْتَرِي الْفُضُولِيُّ مِنْهُ الشِّرَاءَ لأَِجْل فُلاَنٍ، فَإِنَّ هَذَا الْعَقْدَ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُشْتَرَى لَهُ (2) .
__________
(1) سورة البقرة / 134.
(2) الفتاوى الخانية 2 / 173، والبحر الرائق 6 / 162، والفتاوى الهندية 3 / 152، وبدائع الصناع 6 / 2023 وما بعدها، وتبيين الحقائق 4 / 105 وما بعدها، وجامع الفصولين 1 / 317 المطبعة الأزهرية 1300هـ.

(32/173)


وَالرَّابِعُ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَحُكِيَ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ (1) وَقَدْ قَسَّمَ شِرَاءَ الْفُضُولِيِّ إِلَى أَرْبَعِ حَالاَتٍ، وَافَقَهُ الْحَنَابِلَةُ (2) فِي ثَلاَثٍ مِنْهَا فِي الْقِسْمَةِ لاَ فِي الْحُكْمِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: أَنْ يَشْتَرِيَ لِلْغَيْرِ بِعَيْنِ مَال الْغَيْرِ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلاَنِ: الْوَقْفُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ. وَالْبُطْلاَنُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَال نَفْسِهِ لِلْغَيْرِ، وَقَدْ فَرَّقَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بَيْنَ مَا إِذَا سَمَّى فِي الْعَقْدِ مَنِ اشْتَرَى لَهُ، وَبَيْنَ مَا إِذَا لَمْ يُسَمِّهِ، فَإِنْ سَمَّاهُ نُظِرَ: فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَغَتِ التَّسْمِيَةُ، وَفِي وُقُوعِهِ عَنِ الْفُضُولِيِّ وَجْهَانِ: الْوَقْفُ، وَالْبُطْلاَنُ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ، فَهَل تَلْغُو التَّسْمِيَةُ أَمْ لاَ؟ فَإِنْ قُلْنَا: تَلْغُو، فَهَل يَقَعُ عَنِ الْمُبَاشِرِ، أَمْ يَبْطُل مِنْ أَصْلِهِ؟ وَجْهَانِ، وَإِنْ قُلْنَا: لاَ تَلْغُو، وَقَعَ الْعَقْدُ عَنِ الآْذِنِ.
وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ وَقَعَ عَنِ الْمُبَاشِرِ سَوَاءٌ أَذِنَ ذَلِكَ الْغَيْرُ أَمْ لاَ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ فِي هَذِهِ
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 353 وما بعدها، والمجموع 9 / 260، وفتح العزيز 8 / 122، والمحلي على المنهاج، وحاشيتي القليوبي وعميرة عليه 2 / 160.
(2) الإنصاف للمرداوي 4 / 283، والمقنع لابن قدامة 2 / 8.

(32/173)


الْحَالَةِ هُوَ بُطْلاَنُ الشِّرَاءِ مُطْلَقًا، إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ فُقَهَائِهِمْ مِنْ طَرْدِ قَوْلَيِ الْوَقْفِ وَالْبُطْلاَنِ فِيهَا.
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَشْتَرِيَ الْفُضُولِيُّ لِغَيْرِهِ فِي الذِّمَّةِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُنْظَرُ:
فَإِنْ لَمْ يُسَمِّ ذَلِكَ الْغَيْرَ فِي الْعَقْدِ، فَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ قَال: يَقَعُ عَنِ الْمُبَاشِرِ، وَفِي الْقَدِيمِ قَال: يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُشْتَرِي لَهُ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ رَدَّهُ نَفَذَ فِي حَقِّ الْفُضُولِيِّ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ - عَلَى الصَّحِيحِ - وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى الإِْجَازَةِ.
وَإِنْ سَمَّاهُ فِي الْعَقْدِ، فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ كَشِرَائِهِ بِعَيْنِ مَال الْغَيْرِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَوْلاَنِ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ، وَالثَّانِي أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَا إِذَا لَمْ يُسَمِّهِ فِي الْعَقْدِ، وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُضِيفَ الشِّرَاءَ إِلَى الْغَيْرِ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ انْفَرَدَ بِذِكْرِهَا الشَّافِعِيَّةُ، وَلَهُمْ حَسَبَ الْمَحْكِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَلْغُو الْعَقْدُ، وَالثَّانِي، يَقَعُ عَنِ الْمُبَاشِرِ.

إِجَارَةُ الْفُضُولِيِّ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إِجَارَةِ الْفُضُولِيِّ لأَِعْيَانِ الْغَيْرِ، هَل هِيَ صَحِيحَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى

(32/174)


الإِْجَارَةِ أَمْ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ شَرْعًا؟ وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: وَهُوَ أَنَّ إِجَارَةَ الْفُضُولِيِّ تَنْعَقِدُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ أَوْ وَلِيِّهِ، فَإِنْ أَجَازَهَا نَفَذَتْ، وَإِنْ رَدَّهَا بَطَلَتْ (1) .
وَالثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الْمَذْهَبِ: وَهُوَ أَنَّ إِجَارَةَ الْفُضُولِيِّ بَاطِلَةٌ، لأَِنَّهَا عَقْدٌ صَدَرَ مِنْ غَيْرِ مَالِكٍ أَوْ ذِي وِلاَيَةٍ فِي إِبْرَامِهِ، فَيَكُونُ بَاطِلاً (2) ثُمَّ إِنَّ الْحَنَفِيَّةَ فَرَّقُوا بَيْنَ كَوْنِ الْفُضُولِيِّ فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ مُؤَجِّرًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُسْتَأْجِرًا، فَجَعَلُوا إِجَارَتَهُ كَبَيْعِهِ، وَاسْتِئْجَارَهُ كَشِرَائِهِ (3) .

إِنْكَاحُ الْفُضُولِيِّ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إِنْكَاحِ الْفُضُولِيِّ مِنْ غَيْرِ وِلاَيَةٍ أَوْ نِيَابَةٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا لِلْحَنَابِلَةِ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ: هُوَ أَنَّ إِنْكَاحَ الْفُضُولِيِّ بَاطِلٌ لاَ تُؤَثِّرُ فِيهِ
__________
(1) المدونة 5 / 376 ط مؤسسة الحلبي بمصر، والتاج والإكليل 5 / 297، ومنح الجليل 3 / 564، والقوانين الفقهية ص301، ومغني المحتاج 2 / 15، والمجموع للنووي 9 / 259، والإنصاف للمرداوي4 / 283، وانظر م446، 447 من مجلة الأحكام العدلية، ودرر الحكام لعلي حيدر 1 / 422 وما بعدها.
(2) المجموع شرح المهذب 9 / 259، ومغني المحتاج 2 / 15، وكشاف القناع 3 / 558.
(3) بدائع الصنائع 5 / 2562 وما بعدها.

(32/174)


إِجَازَةُ الْوَلِيِّ (1) .
وَالثَّانِي لأَِحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَأَبِي يُوسُفَ: وَهُوَ أَنَّ إِنْكَاحَ الْفُضُولِيِّ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ، وَإِنْ رَدَّهُ بَطَل (2) .
وَالثَّالِثُ لأَِبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُتَوَلِّي لِطَرَفَيِ النِّكَاحِ شَخْصًا وَاحِدًا فُضُولِيًّا، كَانَ الْعَقْدُ بَاطِلاً، سَوَاءٌ تَكَلَّمَ بِكَلاَمٍ وَاحِدٍ أَوْ بِكَلاَمَيْنِ (3) وَمِثْل ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ إِذَا كَانَ فُضُولِيًّا بِالنِّسْبَةِ لأَِحَدِ الطَّرَفَيْنِ، وَلَوْ كَانَ أَصِيلاً أَوْ وَكِيلاً أَوْ وَلِيًّا عَنِ الطَّرَفِ الآْخَرِ، مَا دَامَ قَدْ تَوَلَّى الْعَقْدَ عَنِ الطَّرَفَيْنِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُتَوَلِّي لِطَرَفَيِ النِّكَاحِ فُضُولِيًّا، فَيَكُونُ عَقْدُهُ مَوْقُوفًا عَلَى الإِْجَازَةِ، سَوَاءٌ قَبِل فِيهِ فُضُولِيٌّ آخَرُ أَوْ أَصِيلٌ أَوْ وَكِيلٌ (4) .
وَالرَّابِعُ لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ كَوْنِ الْوَلِيِّ مُجْبِرًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُجْبِرٍ، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ
__________
(1) الأم 5 / 12، والمجموع 9 / 259 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 15، والإنصاف للمرداوي 8 / 67، والمغني لابن قدامة 7 / 28.
(2) المجموع 9 / 259 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 15، والإنصاف 8 / 67، والمغني 8 / 28، ورد المحتار 3 / 97 ط البابي الحلبي 1386هـ، وبدائع الصنائع للكاساني 3 / 1334 وما بعدها، ومجمع الأنهر 1 / 343.
(3) رد المحتار 3 / 97.
(4) حاشية ابن عابدين 3 / 97، والبدائع 3 / 1334 وما بعدها، والمبسوط للسرخسي 5 / 15.

(32/175)


مُجْبِرًا، لَمْ يَجُزِ النِّكَاحُ الْوَاقِعُ مِنَ الْفُضُولِيِّ وَلَوْ أَجَازَهُ الْوَلِيُّ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ الإِْجْبَارُ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْمُزَوَّجَةُ ذَاتَ قَدْرٍ أَوْ دَنِيئَةً، فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ قَدْرٍ، فَقَال مَالِكٌ: مَا فَسْخُهُ بِالْبَيِّنِ، وَلَكِنَّهُ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ: لَهُ إِجَازَةُ ذَلِكَ وَرَدُّهُ مَا لَمْ يَبْنِ بِهَا الزَّوْجُ، وَقَال بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ دَخَل بِهَا الزَّوْجُ، وَطَال مُكْثُهُ مَعَهَا بِمُضِيِّ ثَلاَثِ سِنِينَ، أَوْ وِلاَدَةِ وَلَدَيْنِ فَأَكْثَرَ، لَمْ يُفْسَخِ النِّكَاحُ، وَإِلاَّ كَانَ الْوَلِيُّ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإِْمْضَاءِ.
وَإِنْ كَانَتْ دَنِيئَةً، فَعِنْدَهُمْ فِي إِنْكَاحِهِ قَوْلاَنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّكَاحَ مَاضٍ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا كَذَاتِ الْقَدْرِ الشَّرِيفَةِ (1) .

وَصِيَّةُ الْفُضُولِيُّ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ وَصِيَّةِ الْفُضُولِيِّ مِنْ مَال غَيْرِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْقَدِيمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَحُكِيَ فِي الْجَدِيدِ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْفُضُولِيِّ، لَكِنَّهَا تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ تَصِحُّ بِالْمَعْدُومِ،
__________
(1) الخرشي 3 / 182 وما بعدها، وفتاوى عليش 1 / 395، 401، والقوانين الفقهية لابن جزى ص223 ط. دار العلم للملايين، وحاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 2 / 42.

(32/175)


فَأَوْلَى أَنْ تَصِحَّ مِنَ الْفُضُولِيِّ (1) .
وَالثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ - وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْقَوْل الْجَدِيدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ -: وَهُوَ أَنَّ وَصِيَّةَ الْفُضُولِيِّ لاَ تَصِحُّ مُطْلَقًا، لأَِنَّهُ تَبَرُّعٌ مِمَّنْ لاَ مِلْكَ لَهُ وَلاَ وِلاَيَةَ وَلاَ نِيَابَةَ، فَيَكُونُ بَاطِلاً (2) .

هِبَةُ الْفُضُولِيِّ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هِبَةِ الْفُضُولِيِّ لِمَال غَيْرِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَعَلَيْهِ الْمَذْهَبُ: وَهُوَ أَنَّ هِبَةَ الْفُضُولِيِّ بَاطِلَةٌ، إِذْ يَسْتَحِيل عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُمَلِّكَ مَا لاَ يَمْلِكُ (3) .
وَالثَّانِي لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ هِبَةَ الْفُضُولِيِّ تَنْعَقِدُ صَحِيحَةً، غَيْرَ أَنَّهَا تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، فَإِنْ رَدَّهَا
__________
(1) البحر الرائق 6 / 164، ومجمع الأنهر 2 / 704، وروضة الطالبين 6 / 116، والمجموع شرح المهذب 9 / 259، والأنوار لأعمال الأبرار 2 / 23 وما بعدها.
(2) الخرشي 8 / 168، والشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 375، وحاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 2 / 205، وروضة الطالبين 6 / 116، 119، والمجموع 9 / 261، والأنوار لأعمال الأبرار 2 / 23، ومنتهى الإرادات 1 / 430، 2 / 49، والتنقيح المشبع للمرداوي ص197، والفروع 4 / 36.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 87 وما بعدها، والخرشي 7 / 79، والقوانين الفقهية ص397، والمجموع للنووي 9 / 259، ومغني المحتاج 2 / 15، وكشاف القناع 4 / 352، ومنتهى الإرادات 2 / 28، والمغني لابن قدامة 6 / 64، والمحرر 1 / 375.

(32/176)


بَطَلَتْ، وَإِنْ أَجَازَهَا كَانَ لإِِجَازَتِهِ حُكْمُ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْفَرْقُ بَيْنَ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَهِبَتِهِ أَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ فِي نَظِيرِ عِوَضٍ، أَمَّا الْهِبَةُ فَالتَّمْلِيكُ فِيهَا مَجَّانًا، وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا (2) .

وَقْفُ الْفُضُولِيِّ:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ وَقْفِ الْفُضُولِيِّ لِمَال غَيْرِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ: وَهُوَ أَنَّ وَقْفَ الْفُضُولِيِّ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ أَجَازَهُ الْمَالِكُ بَعْدُ أَمْ لاَ (3) .
وَالثَّانِي لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: وَهُوَ أَنَّ وَقْفَ الْفُضُولِيِّ صَحِيحٌ، غَيْرَ أَنَّهُ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ، وَإِنْ رَدَّهُ بَطَل (4) .
__________
(1) البحر الرائق 6 / 163، وتكملة رد المختار 8 / 424، والبدائع 8 / 3679، والبهجة شرح التحفة 2 / 71، والعدوي على الخرشي 7 / 79، والمجموع للنووي 9 / 259، ومغني المحتاج 2 / 15، ودرر الحكام لعلي حيدر 1 / 85، 2 / 385، 386.
(2) الشرح الصغير وحاشية الصاوي 5 / 433.
(3) الخرشي 7 / 79، وحاشية الدسوقي 4 / 87، والشرح الصغير للدردير وحاشية الصاوي عليه 5 / 433، والقوانين الفقهية ص397، ومغني المحتاج 2 / 15، والمجموع للنووي 9 / 259، وكشاف القناع 4 / 279.
(4) البحر الرائق 5 / 203، وأحكام الأوقاف للخصاف ص129، والإسعاف في أحكام الأوقاف للطرابلسي ص15، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 88، والخرشي 7 / 97، والبهجة 2 / 71، وحاشية العدوي على الخرشي 7 / 97، والمجموع للنووي 9 / 259، ومغني المحتاج 2 / 15، والإنصاف للمرداوي 7 / 11، 12، والمقنع لابن قدامة 2 / 310.

(32/176)


صُلْحُ الْفُضُولِيِّ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَرَيَانِ الصُّلْحِ مِنَ الْفُضُولِيِّ كَجَرَيَانِهِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَاخْتَلَفُوا فِي ضِمْنِ ذَلِكَ إِلَى أَقْوَالٍ وَصُوَرٍ وَشُرُوطٍ كَثِيرَةٍ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صُلْح ف 19 - 22)

الْجُزْء الثَّانِي وَالثَّلاَثُونَ

فَضِيخ

انْظُرْ: أَشْرِبَة

(32/177)


فِطَام
تَعْرِيفُهُ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْفِطَامُ لُغَةً: الْقَطْعُ، يُقَال: فَطَمَ الْعُودَ يَفْطِمُهُ فَطْمًا وَفِطَامًا: قَطَعَهُ، وَفَطَمَتِ الأُْمُّ وَلَدَهَا فَطْمًا، فَصَلَتْهُ عَنْ رَضَاعِهَا، فَهُوَ فَطِيمٌ وَمَفْطُومٌ، وَالأُْنْثَى فَطِيمٌ وَفَطِيمَةٌ، وَكُل دَابَّةٍ تَفْطِمُ، وَفِطَامُ الصَّبِيِّ فِصَالُهُ عَنْ أُمِّهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الرَّضَاعُ:
2 - الرَّضَاعُ - بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا - لُغَةً: مَصْدَرُ رَضَعَ، يُقَال: رَضَعَ أُمَّهُ يَرْضِعُهَا - بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ - أَيِ امْتَصَّ ثَدْيَهَا أَوْ ضَرْعَهَا وَشَرِبَ لَبَنَهُ، وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا فَهِيَ مُرْضِعٌ وَمُرْضِعَةٌ، وَهُوَ رَضِيعٌ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: اسْمٌ لِوُصُول لَبَنِ امْرَأَةٍ
__________
(1) لسان العرب والصحاح للجوهري.

(32/177)


أَوْ مَا حَصَل مِنْ لَبَنِهَا فِي جَوْفِ طِفْلٍ بِشُرُوطٍ مُعَيَّنَةٍ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْفِطَامَ نِهَايَةُ الرَّضَاعِ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفِطَامِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أ - وَقْتُ الْفِطَامِ:
3 - حَدَّدَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ مُدَّةَ الْحَمْل وَالرَّضَاعِ بِثَلاَثِينَ شَهْرًا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا} (2) وَنَصَّ فِي آيَةٍ أُخْرَى عَلَى مُدَّةِ الرَّضَاعِ فَقَطْ فَقَال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (3) وَصَرَّحَ فِي آيَةٍ ثَالِثَةٍ بِأَنَّ الْفِطَامَ يَكُونُ بَعْدَ سَنَتَيْنِ فَقَال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} (4) ، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الْعَامَيْنِ يَبْدَآنِ مِنَ الْوِلاَدَةِ.
قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ: الْحَوْلاَنِ غَايَةٌ لإِِرْضَاعِ كُل مَوْلُودٍ (5) .
وَعَنْ قَتَادَةَ بْنِ دِعَامَةَ السَّدُوسِيِّ أَنَّ إِرْضَاعَ الأُْمِّ الْحَوْلَيْنِ كَانَ فَرْضًا، ثُمَّ خُفِّفَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (6) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 403، نهاية المحتاج 7 / 172، وأسنى المطالب 3 / 415.
(2) سورة الأحقاف / 15.
(3) سورة البقرة / 233.
(4) سورة لقمان / 14.
(5) التحرير والتنوير لابن عاشور 2 / 432 (الدار التونسية للنشر) .
(6) سورة البقرة / 233، وانظر قول قتادة في: فتح الباري 9 / 505 دار المعرفة بيروت.

(32/178)


وَقَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ إِرْضَاعَ الأُْمِّ الْحَوْلَيْنِ مُخْتَصٌّ بِمَنْ وَضَعَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَمَهْمَا وَضَعَتْ لأَِكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ نَقَصَ مِنْ مُدَّةِ الْحَوْلَيْنِ.
وَالْغَايَةُ مِنَ التَّحْدِيدِ دَفْعُ اخْتِلاَفِ الزَّوْجَيْنِ فِي وَقْتِ الْفِطَامِ، إِذِ الْمُدَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا لِلرَّضَاعِ هِيَ سَنَتَانِ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمَا التَّنْقِيصُ مِنْهُمَا لأَِمْرٍ مَا إِذَا تَشَاوَرَا وَتَرَاضَيَا (1) .
عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّرَاضِي عَنْ تَفَكُّرٍ لِئَلاَّ يَتَضَرَّرَ الرَّضِيعُ، وَاعْتُبِرَ اتِّفَاقُ الأَْبَوَيْنِ لِمَا لِلأَْبِ مِنَ النَّسَبِ وَالْوِلاَيَةِ، وَلِلأُْمِّ مِنَ الشَّفَقَةِ وَالْعِنَايَةِ (2) . قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} (3) . قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا جَعَل مُدَّةَ الرَّضَاعِ حَوْلَيْنِ بَيَّنَ أَنَّ فِطَامَهَا هُوَ الْفِطَامُ، وَفِصَالَهَا هُوَ الْفِصَال، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ عَنْهُ مَنْزَعٌ، إِلاَّ أَنْ يَتَّفِقَ الأَْبَوَانِ عَلَى أَقَل مِنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ مِنْ غَيْرِ مُضَارَّةٍ بِالْوَلَدِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ بِهَذَا الْبَيَانِ (4) .

ب - أَثَرُ الْفِطَامِ فِي التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعِ:
4 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3 / 160 (دار الكتاب العربي بيروت) .
(2) إرشاد الساري للقسطلاني 8 / 202 (دار الكتاب العربي) .
(3) سورة البقرة / 233.
(4) أحكام القرآن 1 / 205 (دار الفكر) ، والبدائع 4 / 6، وأسنى المطالب 3 / 416، 443، والمغني 7 / 542.

(32/178)


وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ شَرْطَ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعِ أَنْ يَكُونَ الرَّضَاعُ فِي الْحَوْلَيْنِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِوَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالأَْوْزَاعِيُّ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ أَثَرَ لِلْفِطَامِ فِي ذَلِكَ، فَالاِعْتِبَارُ بِالْعَامَيْنِ لاَ بِالْفِطَامِ، فَلَوْ فُطِمَ قَبْل الْحَوْلَيْنِ ثُمَّ ارْتَضَعَ فِيهِمَا لَحَصَل التَّحْرِيمُ، وَلَوْ لَمْ يُفْطَمْ حَتَّى تَجَاوَزَ الْحَوْلَيْنِ ثُمَّ ارْتَضَعَ بَعْدَهُمَا قَبْل الْفِطَامِ لَمْ يَثْبُتِ التَّحْرِيمُ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (1) قَالُوا: جَعَل اللَّهُ الْحَوْلَيْنِ الْكَامِلَيْنِ تَمَامَ مُدَّةِ الرَّضَاعِ، وَلَيْسَ وَرَاءَ التَّمَامِ حُكْمٌ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا} . (2) وَأَقَل مُدَّةِ الْحَمْل سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَبَقِيَ مُدَّةُ الْفِصَال حَوْلَيْنِ، وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ رَضَاعَ إِلاَّ مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ (3) وَالْفِطَامُ مُعْتَبَرٌ بِمُدَّتِهِ لاَ بِنَفْسِهِ
__________
(1) سورة البقرة / 233.
(2) سورة الأحقاف / 15.
(3) حديث: " لا رضاع إلا ما كان في الحولين " أخرجه الدارقطني (4 / 174) من حديث ابن عباس، ورجح ابن القطان وقفه على ابن عباس كما في نصب الراية للزيلعي (3 / 219) .

(32/179)


كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ (1) .
وَاتَّفَقَ أَبُو حَنِيفَةَ مَعَ الْجُمْهُورِ فِي أَنَّ الْفِطَامَ لاَ أَثَرَ لَهُ فِي التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعِ لَكِنَّهُ خَالَفَهُمْ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ فَقَال: إِنَّهَا ثَلاَثُونَ شَهْرًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا} أَيْ مُدَّةُ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْحَمْل وَالْفِصَال ثَلاَثُونَ شَهْرًا، إِلاَّ أَنَّهُ قَامَ الْمُنَقِّصُ فِي أَحَدِهِمَا - يَعْنِي مُدَّةَ الْحَمْل - وَهُوَ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا تَزِيدُ الْمَرْأَةُ فِي الْحَمْل عَلَى سَنَتَيْنِ وَلاَ قَدْرِ مَا يَتَحَوَّل ظِل عُودِ الْمِغْزَل (2) فَتَبْقَى مُدَّةُ الْفِصَال عَلَى ظَاهِرِهَا، وَهِيَ ثَلاَثُونَ شَهْرًا، فَإِذَا حَصَل الرَّضَاعُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ سَوَاءٌ أَفُطِمَ أَمْ لَمْ يُفْطَمْ، وَإِذَا مَضَتِ الْمُدَّةُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالرَّضَاعِ تَحْرِيمٌ، قَال الْكَاسَانِيُّ: لَوْ فُصِل الرَّضِيعُ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ ثُمَّ سُقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمُدَّةِ كَانَ ذَلِكَ رَضَاعًا مُحَرِّمًا، وَلاَ يُعْتَبَرُ الْفِطَامُ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْوَقْتُ، وَإِذَا مَضَتِ الْمُدَّةُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالرَّضَاعِ تَحْرِيمٌ، فُطِمَ أَوْ لَمْ يُفْطَمْ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَال: إِذَا
__________
(1) البدائع 4 / 706، وفتح القدير مع الهداية 3 / 308، 309، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 2 / 503، ونهاية المحتاج 7 / 166 - 175، ومغني المحتاج 3 / 414، 416، والمغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9 / 201 - 203.
(2) أثر عائشة: " ما تزيد المرأة في الحمل على سنتين ولا قدر ما يتحول ظل عود المغزل " أخرجه البيهقي (7 / 443) .

(32/179)


فُطِمَ فِي السَّنَتَيْنِ حَتَّى اسْتَغْنَى بِالْفِطَامِ ثُمَّ ارْتَضَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي السَّنَتَيْنِ أَوِ الثَّلاَثِينَ شَهْرًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رَضَاعًا، لأَِنَّهُ لاَ رَضَاعَ بَعْدَ الْفِطَامِ، وَإِنْ هِيَ فَطَمَتْهُ فَأَكَل أَكْلاً ضَعِيفًا لاَ يَسْتَغْنِي بِهِ عَنِ الرَّضَاعِ ثُمَّ عَادَ فَأُرْضِعَ كَمَا كَانَ يَرْضِعُ أَوَّلاً فِي الثَّلاَثِينَ شَهْرًا، فَهُوَ رَضَاعٌ مُحَرِّمٌ، كَمَا يُحَرِّمُ رَضَاعُ الصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يُفْطَمْ (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَفِي أَثَرِ الْفِطَامِ عِنْدَهُمُ التَّفْصِيل التَّالِي:
قَال الدَّرْدِيرُ: يُحَرِّمُ الرَّضَاعُ فِي الْحَوْلَيْنِ أَوْ بِزِيَادَةِ شَهْرَيْنِ عَلَيْهِمَا إِلاَّ أَنْ يَسْتَغْنِيَ الصَّبِيُّ بِالطَّعَامِ عَنِ اللَّبَنِ اسْتِغْنَاءً بَيِّنًا وَلَوْ فِي الْحَوْلَيْنِ، بِأَنْ فُطِمَ أَوْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ مُرْضِعٌ فِي الْحَوْلَيْنِ فَاسْتَغْنَى بِالطَّعَامِ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمَيْنِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا فَأَرْضَعَتْهُ امْرَأَةٌ فَلاَ يُحَرِّمُ، قَال ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ فُطِمَ فَأَرْضَعَتْهُ امْرَأَةٌ بَعْدَ فِطَامِهِ بِيَوْمٍ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ حَرَّمَ، لأَِنَّهُ لَوْ أُعِيدَ لِلَّبَنِ لَكَانَ غِذَاءً لَهُ، وَأَمَّا مَا دَامَ مُسْتَمِرًّا عَلَى الرَّضَاعِ فَهُوَ مُحَرِّمٌ، وَلَوْ كَانَ يَسْتَعْمِل الطَّعَامَ وَلَوْ عَلَى فَرْضِ لَوْ فُطِمَ لاَسْتَغْنَى بِهِ عَنِ الرَّضَاعِ. (2)
وَقَال الدُّسُوقِيُّ: إِذَا حَصَل الرَّضَاعُ فِي الْحَوْلَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِأَنْ لَمْ يُفْطَمْ أَصْلاً أَوْ
__________
(1) البدائع 4 / 706، وفتح القدير 3 / 308، 309.
(2) الشرح الصغير 1 / 515.

(32/180)


فُطِمَ وَلَكِنْ أَرْضَعَتْهُ بَعْدَ فِطَامِهِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ نَشَرَ الْحُرْمَةَ بِاتِّفَاقٍ، وَإِنِ اسْتَغْنَى فَإِمَّا أَنْ يَحْصُل الرَّضَاعُ بَعْدَ الاِسْتِغْنَاءِ بِمُدَّةٍ قَرِيبَةٍ أَوْ بَعِيدَةٍ، فَإِنْ كَانَ بِمُدَّةٍ بَعِيدَةٍ لَمْ يُعْتَبَرْ، وَكَذَا إِنْ كَانَ بِمُدَّةٍ قَرِيبَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، وَمُقَابِلُهُ لِمُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغَ أَنَّهُ يُحَرِّمُ إِلَى تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ وَلَوْ حَصَل بَعْدَ الاِسْتِغْنَاءِ بِمُدَّةٍ قَرِيبَةٍ أَوْ بَعِيدَةٍ. (1)
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّ الرَّضَاعَ بَعْدَ الْفِطَامِ لاَ يُؤَثِّرُ فِي التَّحْرِيمِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلاَّ مَا فَتَقَ الأَْمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ وَكَانَ قَبْل الْفِطَامِ (2) ، قَالُوا: وَمَنِ اسْتَغْنَى عَنِ اللِّبَانِ - أَيِ الرَّضَاعِ - فَقَدْ فُتِقَتْ أَمْعَاؤُهُ بِالطَّعَامِ بِحَيْثُ صَارَ صَلاَحُهَا بِهِ لاَ بِاللِّبَانِ. (3)
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِحَدِيثِ: إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ (4) وَفَسَّرُوهُ بِأَنَّ الرَّضَاعَةَ الْمُحَرِّمَةَ هِيَ مَا كَانَتْ قَبْل الْفِطَامِ، وَدَفَعَتْ عَنِ الرَّضِيعِ الْجُوعَ، أَمَّا إِذَا فُطِمَ أَثْنَاءَ الْحَوْلَيْنِ فَإِنَّ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 503، 504.
(2) حديث: " لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام ". أخرجه الترمذي (3 / 449) من حديث أم سلمة، وقال: حديث حسن صحيح.
(3) كفاية الطالب مع حاشية العدوي 2 / 105، 106.
(4) حديث: " إنما الرضاعة من المجاعة " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 146) ومسلم (2 / 1078) من حديث عائشة.

(32/180)


رَضَاعَتَهُ لَيْسَتْ مِنَ الْمَجَاعَةِ لأَِنَّهُ اسْتَغْنَى بِالطَّعَامِ عَنِ اللَّبَنِ. (1)

ج - أَثَرُ الْفِطَامِ فِي حَضَانَةِ الأُْمِّ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ فِطَامَ الصَّبِيِّ لاَ يُخَوِّل نَزْعَهُ مِنْ حَضَانَةِ أُمِّهِ عِنْدَ الطَّلاَقِ إِذَا لَمْ تَحْدُثْ أَسْبَابٌ أُخْرَى لِتَحْوِيلِهِ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، لِمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَزَعَمَ أَبُوهُ أَنَّهُ يَنْزِعُهُ مِنِّي، فَقَال: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي.
(2) قَال الْقُرْطُبِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} ، (3) الآْيَةُ فِي الْمُطَلَّقَاتِ اللاَّتِي لَهُنَّ أَوْلاَدٌ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ، فَهُنَّ أَحَقُّ بِرَضَاعِ أَوْلاَدِهِنَّ مِنَ الأَْجْنَبِيَّاتِ، لأَِنَّهُنَّ أَحْنَى وَأَرَقُّ، وَانْتِزَاعُ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ إِضْرَارٌ بِهِ وَبِهَا، وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ وَإِنْ فُطِمَ فَالأُْمُّ أَحَقُّ بِحَضَانَتِهِ، لِفَضْل حُنُوِّهَا وَشَفَقَتِهَا، وَإِنَّمَا تَكُونُ أَحَقَّ بِالْحَضَانَةِ إِذَا لَمْ تَتَزَوَّجْ. (4)
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 27، 28.
(2) حديث: " أنت أحق به ما لم تنكحي " أخرجه أبو داود (2 / 708) والحاكم (2 / 207) من حديث عبد الله بن عمرو، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) سورة البقرة / 233.
(4) رد المحتار 2 / 641، وحاشية الدسوقي 2 / 526 وما بعدها، ومغني المحتاج 3 / 356 وما بعدها، وكشاف القناع 5 / 396، 500، وما بعدها، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3 / 160.

(32/181)


وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (حَضَانَة ف 10، 19 وَمَا بَعْدَهَا) .

د - أَثَرُ الْفِطَامِ فِي تَنْفِيذِ الْحَدِّ عَلَى أُمِّ الْفَطِيمِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ تَأْخِيرِ الْحَدِّ عَلَى الْحَامِل حَتَّى تَضَعَ، فَإِذَا وَضَعَتْ فَفِيهِ التَّفْصِيل التَّالِي:
إِنْ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا لَمْ تُرْجَمْ حَتَّى تَسْقِيَهُ اللِّبَأَ، (1) ثُمَّ إِذَا سَقَتْهُ اللِّبَأَ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ أَوْ تَكَفَّل أَحَدٌ بِرَضَاعِهِ رُجِمَتْ، وَإِلاَّ تُرِكَتْ حَتَّى تَفْطِمَهُ، لِيَزُول عَنْهُ الضَّرَرُ.
وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا فَلاَ أَثَرَ لِلْفِطَامِ فِيهِ، فَتُحَدُّ بَعْدَ انْقِطَاعِ النِّفَاسِ إِذَا كَانَتْ قَوِيَّةً يُؤْمَنُ مَعَهُ تَلَفُهَا، وَإِلاَّ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ حَتَّى تَطْهُرَ وَتَقْوَى لِيُسْتَوْفَى الْحَدُّ عَلَى وَجْهِ الْكَمَال. (2)
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ حَدِيثُ الْغَامِدِيَّةِ وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ: فَجَاءَتِ الْغَامِدِيَّةُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي، وَأَنَّهُ رَدَّهَا، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ لِمَ تَرُدُّنِي؟ لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى، قَال: إِمَّا لاَ، فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي،
__________
(1) اللبأ مهموز وزان عنب: أول اللبن عند الولادة. (المصباح المنير) .
(2) رد المختار 3 / 148 ومواهب الجليل 6 / 296، والقليوبي 4 / 183، والمغني لابن قدامة 8 / 171 وما بعدها.

(32/181)


فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي خِرْقَةٍ، قَالَتْ: هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ، قَال: اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ، فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ، فَقَالَتْ: هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْتُهُ، وَقَدْ أَكَل الطَّعَامَ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا، فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا، وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا. (1)
__________
(1) حديث الغامدية. أخرجه مسلم (3 / 1323) .

(32/182)


فِطْرَة

التَّعْرِيفُ:
1 - الْفِطْرَةُ لُغَةً: مِنْ مَادَّةِ فَطَرَ، وَتَأْتِي بِمَعْنَى الشَّقِّ، يُقَال: فَطَرَهُ؛ أَيْ شَقَّهُ، وَتَفَطَّرَ الشَّيْءُ: انْشَقَّ، وَكَذَلِكَ انْفَطَرَ.
وَتَأْتِي بِمَعْنَى الْخَلْقِ، يُقَال: فَطَرَ اللَّهُ الْخَلْقَ؛ أَيْ خَلَقَهُمْ وَأَنْشَأَهُمْ، وَالْفِطْرَةُ: الاِبْتِدَاءُ وَالاِخْتِرَاعُ وَالْخِلْقَةُ، وَفِي التَّنْزِيل: {قُل أَغْيَرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ} . (1)
قَال أَبُو الْهَيْثَمِ: الْفِطْرَةُ الْخِلْقَةُ الَّتِي يُخْلَقُ عَلَيْهَا الْمَوْلُودُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ. (2)
وَالْفَطُورُ - بِفَتْحِ الْفَاءِ - هُوَ مَا يُفْطِرُ عَلَيْهِ الصَّائِمُ، وَبِضَمِّ الْفَاءِ مَصْدَرٌ، (3) وَالْفِطْرَةُ - بِكَسْرِ الْفَاءِ - جَاءَتْ بِمَعْنَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ أَيْضًا، وَأَفْطَرَ الصَّائِمُ: أَيْ حَانَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَدَخَل وَقْتُهُ، كَمَا يُقَال أَصْبَحَ وَأَمْسَى: إِذَا دَخَل فِي وَقْتِ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ، فَالْهَمْزَةُ
__________
(1) سورة الأنعام / 14.
(2) لسان العرب.
(3) المصباح المنير

(32/182)


لِلصَّيْرُورَةِ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجِبِلَّةُ
2 - الْجِبِلَّةُ مِنْ جَبَل، تَقُول: جَبَل اللَّهُ الْخَلْقَ يَجْبِلُهُمْ؛ أَيْ خَلَقَهُمْ، وَجَبَلَهُ عَلَى الشَّيْءِ: طَبَعَهُ عَلَيْهِ، وَجُبِل فُلاَنٌ عَلَى هَذَا الأَْمْرِ، أَيْ طُبِعَ عَلَيْهِ. (2)
وَالصِّلَةُ التَّرَادُفُ بَيْنَ الْفِطْرَةِ وَالْجِبِلَّةِ فِي بَعْضِ مَعَانِي الْفِطْرَةِ.

ب - السَّجِيَّةُ:
3 - السَّجِيَّةُ الطَّبِيعَةُ وَالْخُلُقُ. (3)
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ السَّجِيَّةَ تُرَادِفُ الْفِطْرَةَ فِي بَعْضِ مَعَانِيهَا.

خِصَال الْفِطْرَةِ:
4 - وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي بَيَانِ خِصَال الْفِطْرَةِ، مِنْهَا:
مَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ، قَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ وَالسِّوَاكُ وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ وَقَصُّ الأَْظْفَارِ وَغَسْل
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير، ولسان العرب.
(2) لسان العرب.
(3) لسان العرب.

(32/183)


الْبَرَاجِمِ وَنَتْفُ الإِْبْطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ، قَال زَكَرِيَّاءُ: قَال مُصْعَبٌ، أَحَدُ الرُّوَاةِ: وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ. (1) زَادَ قُتَيْبَةُ قَال وَكِيعٌ: انْتِقَاصُ الْمَاءِ يَعْنِي الاِسْتِنْجَاءَ (2) .
وَبِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْفِطْرَةُ خَمْسٌ، أَوْ: خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ - شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي -: الْخِتَانُ وَالاِسْتِحْدَادُ وَتَقْلِيمُ الأَْظْفَارِ وَنَتْفُ الإِْبْطِ وَقَصُّ الشَّارِبِ. (3)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الاِخْتِتَانُ وَالاِسْتِحْدَادُ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمُ الأَْظْفَارِ وَنَتْفُ الإِْبْطِ. (4)
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ الْحَدِيثَ السَّابِقَ بِهَذَا اللَّفْظِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْفِطْرَةُ خَمْسٌ، الْخِتَانُ وَالاِسْتِحْدَادُ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمُ الأَْظْفَارِ
__________
(1) حديث: " عشر من الفطرة. . . " أخرجه مسلم (1 / 223) من حديث عائشة.
(2) صحيح مسلم، بشرح النووي 3 / 147 الطبعة الثانية سنة 1392هـ 1972م.
(3) المصدر السابق 3 / 146 وحديث " الفطرة خمس. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 334) ، ومسلم (1 / 221) من حديث أبي هريرة واللفظ لمسلم.
(4) المصدر السابق وحديث: " الفطرة خمس: الاختتان. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 349) ، ومسلم (1 / 222) من حديث أبي هريرة واللفظ لمسلم.

(32/183)


وَنَتْفُ الآْبَاطِ. (1)
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ الْفِطْرَةِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ فَجَاءَتْ بِلَفْظِ: " عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ "، وَبِلَفْظِ: " خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ "، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَهَذَا لاَ يُرَادُ بِهِ الْحَصْرُ، وَإِنَّمَا يُشَارُ بِهِ إِلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ الْبَيِّنُ الْمَحْسُوسُ مِنْهَا، وَالَّذِي يُدْرِكُهُ كُل إِنْسَانٍ بِطَبْعِهِ، وَهَذَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ النَّوَوِيُّ وَبَيَّنَ أَنَّ الْخِصَال غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِي الْعَشَرَةِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ مُعْظَمَهَا عَشْرَةٌ فَهُوَ كَقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَجُّ عَرَفَةَ (2) وَعَضَّدَ قَوْلَهُ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُول: خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ. . . . (3)
وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ أَنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ قَال: خِصَال الْفِطْرَةِ تَبْلُغُ ثَلاَثِينَ خَصْلَةً، وَقَدْ عَقَّبَ عَلَى هَذَا الْقَوْل فَقَال: فَإِنْ أَرَادَ خُصُوصَ مَا وَرَدَ بِلَفْظِ الْفِطْرَةِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ فَلاَ يَنْحَصِرُ فِي الثَّلاَثِينَ بَل يَزِيدُ كَثِيرًا. (4)
فَخِصَال الْفِطْرَةِ إِذَنْ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: أُمَّهَاتُ الأَْخْلاَقِ، وَكُل مَا هُوَ بِرٍّ كَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ
__________
(1) حديث: " الفطرة خمس. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 349) .
(2) حديث: " الحج عرفة " أخرجه الترمذي (3 / 228) ، والحاكم (2 / 278) من حديث عبد الرحمن بن يعمر وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) المجموع شرح المهذب 1 / 284، 285 نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
(4) فتح الباري شرح البخاري 12 / 456 ط مطبعة مصطفى البابي الحلبي سنة 1378هـ - 1959م.

(32/184)


الرَّحِمِ، وَأَدَاءِ حُقُوقِ الْجَارِ، وَمُعَاوَنَةِ الْمُحْتَاجِ مَادِّيًّا وَمَعْنَوِيًّا، وَإِكْرَامِ الضَّيْفِ، وَالصِّدْقِ فِي الْقَوْل وَالْعَمَل، وَالْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ وَبِالْعَهْدِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْخِصَال الْحَمِيدَةِ.

أَحْكَامُ خِصَال الْفِطْرَةِ:
أ - فِطْرَةُ الدِّينِ:
5 - أَوْدَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كُل وَاحِدٍ مِنَ الْبَشَرِ عِنْدَ خَلْقِهِ وَوِلاَدَتِهِ فِطْرَةً سَلِيمَةً يُمْكِنُ أَنْ تُوَجِّهَهُ إِلَى طَرِيقِ الْهِدَايَةِ، وَتَصِل بِهِ إِلَى سَبِيل الرَّشَادِ، وَذَلِكَ إِنْ لَمْ تَشُبْهَا الشَّوَائِبُ، وَدَلِيل ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، (1) هَل تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ. (2)
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (3) قَال طَائِفَةٌ مِنْ أَهْل الْفِقْهِ وَالنَّظَرِ: الْفِطْرَةُ هِيَ الْخِلْقَةُ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْمَوْلُودَ فِي الْمَعْرِفَةِ بِرَبِّهِ، فَكَأَنَّهُ قَال: كُل مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى خِلْقَةٍ يَعْرِفُ بِهَا رَبَّهُ إِذَا بَلَغَ
__________
(1) أي سليمة من العيوب مجتمعة الأعضاء كاملتها.
(2) الجدعاء، هي التي قطعت أذنها. وحديث: " ما من مولود يولد إلا يولد على الفطرة " أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 512) ومسلم (4 / 2047) من حديث أبي هريرة.
(3) سورة الروم / 30.

(32/184)


مَبْلَغَ الْمَعْرِفَةِ. (1)
وَجَاءَ فِي شَرْحِ الْعَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ: يَظْهَرُ لِكُل عَاقِلٍ أَنَّ لِهَذَا الْوُجُودِ خَالِقًا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِالْفِطْرَةِ الَّتِي فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهَا (2) .

ب - قَصُّ الشَّارِبِ:
6 - لاَ خِلاَفَ فِي قَصِّ الشَّارِبِ (3) بِدَلِيل مَا سَبَقَ مِنَ الأَْحَادِيثِ، وَلِمَا رَوَاهُ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنَّا. (4)
وَضَابِطُ قَصِّ الشَّارِبِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (شَارِب ف 10 - 14) ب

ج - إِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ:
7 - إِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ مِنْ خِصَال الْفِطْرَةِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَفْهُومِ الإِْعْفَاءِ. . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: " لِحْيَة ".

د - السِّوَاكُ:
8 - السِّوَاكُ يَأْتِي بِمَعْنَى الْفِعْل وَهُوَ الاِسْتِيَاكُ، وَبِمَعْنَى الآْلَةِ الَّتِي يُسْتَاكُ بِهَا الَّتِي يُقَال لَهَا الْمِسْوَاكُ، بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَالسِّوَاكُ مُشْتَقٌّ مِنْ سَاكَ الشَّيْءَ: إِذَا دَلَكَهُ (5)
وَالسِّوَاكُ سُنَّةٌ عِنْدَ
__________
(1) تفسير القرطبي 1414 ? / 29 - الناشر دار الكتاب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة.
(2) شرح العقيدة الطحاوية ص212 نشر دار الكتاب العربي.
(3) المجموع للنووي 1 / 287.
(4) حديث: " من لم يأخذ من شاربه فليس منا " أخرجه الترمذي (5 / 93) وقال: " حديث حسن صحيح ".
(5) المجموع 1 / 270.

(32/185)


الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (1) بِدَلِيل مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ وَمَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ (2) وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأََمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُل صَلاَةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَعَ كُل وُضُوءٍ. (3)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: " اسْتِيَاكَ ف 4 وَمَا بَعْدَهَا ".

هـ - غَسْل الْبَرَاجِمِ:
9 - الْبَرَاجِمُ هِيَ رُءُوسِ السُّلاَمَيَاتِ فِي ظَهْرِ الْكَفِّ (4) وَغَسْل الْبَرَاجِمِ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ، وَهُوَ سُنَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ غَيْرُ مُخَصَّصَةٍ بِالْوُضُوءِ، وَأَلْحَقَ الْغَزَالِيُّ بِهَا إِزَالَةَ مَا يَجْتَمِعُ مِنَ الْوَسَخِ فِي مَعَاطِفِ الأُْذُنِ وَقَعْرِ الصِّمَاخِ فَيُزِيلُهُ بِالْمَسْحِ (5) وَقَال الْغَزَالِيُّ: كَانَتِ الْعَرَبُ لاَ تَغْسِل الْيَدَ عَقِبَ الطَّعَامِ فَيَجْتَمِعُ فِي تِلْكَ الْغُضُوفِ وَسَخٌ، فَأَمَرَ بِغَسْلِهَا (6) .
__________
(1) المجموع 1 / 270 - 271، فتح القدير لابن الهمام 1 / 15، 16 طبعة بولاق، بدائع الصنائع للكاساني 1 / 124، الناشر زكريا علي يوسف، مطبعة العاصمة بالقاهرة، والمغني 1 / 96.
(2) حديث: " السواك مطهرة للفم. . . " أخرجه النسائي (11 / 10) وصححه النووي في المجموع (1 / 267) .
(3) حديث: " لولا أن أشق على أمتي. . . " أخرجه مسلم (1 / 220) والرواية الأخرى أخرجها ابن خزيمة (1 / 73) .
(4) المصباح المنير.
(5) المجموع 1 / 288.
(6) فتح الباري 12 / 457.

(32/185)


و - نَتْفُ الإِْبِطِ:
10 - نَتْفُ الإِْبِطِ مُتَّفَقٌ عَلَى سُنِّيَّتِهِ، وَالتَّوْقِيتُ فِيهِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ وَالأَْحْوَال، وَالسُّنَّةُ نَتْفُهُ، فَلَوْ حَلَقَهُ جَازَ، قَال الْغَزَالِيُّ: الْمُسْتَحَبُّ نَتْفُهُ وَذَلِكَ سَهْلٌ لِمَنْ تَعَوَّدَهُ، فَإِنْ حَلَقَهُ جَازَ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ النَّظَافَةُ وَعَدَمُ اجْتِمَاعِ الْوَسَاخَةِ فِيهِ، إِذْ يَحْصُل بِسَبَبِهِ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ. (1)
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: النَّتْفُ سُنَّةٌ، لأَِنَّهُ مِنَ الْفِطْرَةِ، وَيَفْحُشُ تَرْكُهُ، وَيَجُوزُ إِزَالَتُهُ بِالْحَلْقِ وَالنُّورَةِ غَيْرَ أَنَّ نَتْفَهُ أَفْضَل لِمُوَافَقَتِهِ الْخَبَرَ (2) وَأَفْضَلِيَّةُ النَّتْفِ هِيَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا (3) .

ز - الْخِتَانُ:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْخِتَانِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الْخِتَانَ سُنَّةٌ فِي حَقِّ الرِّجَال، وَأَمَّا فِي النِّسَاءِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ مَكْرُمَةٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الرِّجَال وَالنِّسَاءِ.
__________
(1) المجموع 1 / 288، 289.
(2) المغني 1 / 87.
(3) الاختيار 3 / 121.

(32/186)


وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: " خِتَان ف 2 وَمَا بَعْدَهَا "

ح - تَقْلِيمُ الأَْظْفَارِ:
12 - تَقْلِيمُ الأَْظْفَارِ سُنَّةٌ إِجْمَاعًا سَوَاءٌ فِيهِ الرَّجُل وَالْمَرْأَةُ وَسَوَاءٌ فِيهِ الْيَدَانِ وَالرِّجْلاَنِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْيَدِ الْيُمْنَى ثُمَّ الْيُسْرَى ثُمَّ الرِّجْل الْيُمْنَى ثُمَّ الْيُسْرَى.
أَمَّا التَّوْقِيتُ فِي التَّقْلِيمِ فَالاِعْتِبَارُ بِالطُّول، فَمَتَى طَالَتِ الأَْظْفَارُ يَتِمُّ تَقْلِيمُهَا، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ وَالأَْحْوَال كَمَا هُوَ الضَّابِطُ فِي قَصِّ الشَّارِبِ وَنَتْفِ الإِْبْطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: " أَظْفَار ف 2 وَمَا بَعْدَهَا ".

ط - حَلْقُ الْعَانَةِ:
13 - حَلْقُ شَعْرِ الْعَانَةِ مُتَّفَقٌ عَلَى سُنِّيَّتِهِ، وَفِي وُجُوبِهِ عَلَى الزَّوْجَةِ إِذَا أَمَرَهَا الزَّوْجُ بِالْحَلْقِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ، أَصَحُّهُمَا الْوُجُوبُ، هَذَا إِذَا لَمْ يَفْحُشْ بِحَيْثُ يُنَفِّرُ الزَّوْجَ وَيُؤَثِّرُ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْمُخَالَطَةِ وَيُقَلِّل التَّوَقَانَ، أَمَّا إِذَا نَفَّرَ الزَّوْجَ فَيَجِبُ عَلَيْهَا الْحَلْقُ قَطْعًا.
وَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَحْلِقَ عَانَتَهُ بِنَفْسِهِ وَيَحْرُمُ
__________
(1) المجموع 1 / 285، والمنتقى 7 / 232، والمغني 1 / 87، الاختيار 3 / 121.

(32/186)


إِسْنَادُ الْقِيَامِ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ لأَِنَّهُ إِظْهَارٌ لِلْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ وَهُوَ لاَ يَجُوزُ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ تَتَوَلَّى الْحَلْقَ زَوْجَتُهُ الَّتِي يُبَاحُ لَهَا النَّظَرُ إِلَى عَوْرَتِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: " عَانَة ف 2 وَمَا بَعْدَهَا ".

ى - الْمَضْمَضَةُ وَالاِسْتِنْشَاقُ:
14 - فِي الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ أَرْبَعَةُ آرَاءٍ وَهِيَ:
أ - أَنَّهُمَا سُنَّتَانِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل، وَهُوَ مَا يَرَاهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَالْحَكَمِ وَقَتَادَةَ وَرَبِيعَةَ وَيَحْيَى الأَْنْصَارِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ عَطَاءٍ.
ب - أَنَّهُمَا وَاجِبَانِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، وَبِهِ قَال ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَحَمَّادٌ وَإِسْحَاقُ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَعَطَاءٍ.
ج - أَنَّهُمَا وَاجِبَانِ فِي الْغُسْل سُنَّتَانِ فِي الْوُضُوءِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ.
د - الاِسْتِنْشَاقُ وَاجِبٌ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل أَمَّا الْمَضْمَضَةُ فَسُنَّةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَدَاوُدَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ (2) .
__________
(1) المجموع 1 / 289، المغني 1 / 86، الاختيار 3 / 121.
(2) تبيين الحقائق 1 / 10، والمجموع 1 / 362، المغني 1 / 118، وجواهر الإكليل 1 / 14، 22.

(32/187)


وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (مَضْمَضَة) .

كَ - الْفِطْرَةُ بِمَعْنَى زَكَاةِ الْفِطْرِ:
15 - أَضَافَ الْفُقَهَاءُ إِلَى لَفْظِ الْفِطْرَةِ لَفْظَ الزَّكَاةِ الَّتِي تَجِبُ بِالْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ لأَِنَّهُ سَبَبُ وُجُوبِهَا، وَقِيل لَهَا فِطْرَةٌ كَأَنَّهَا مِنَ الْفِطْرَةِ الَّتِي هِيَ الْخِلْقَةُ، قَال النَّوَوِيُّ: يُقَال لِلْمُخْرَجِ فِطْرَةٌ. (1)
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 401، وكشاف القناع 2 / 245.

(32/187)


فِعْل الرَّسُول

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُصْطَلَحُ مُرَكَّبٌ مِنْ لَفْظَيْنِ تَرْكِيبَ إِضَافَةٍ: فِعْلٌ، وَالرَّسُول.
وَالْفِعْل بِالْكَسْرِ فِي اللُّغَةِ: حَرَكَةُ الإِْنْسَانِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَمَلٍ، يُقَال: فَعَل الشَّيْءَ وَبِهِ يَفْعَلُهُ: عَمِلَهُ.
وَلاَ يَخْرُجُ التَّعْرِيفُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ ذَلِكَ.
وَالرَّسُول فِي اللُّغَةِ: هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ الْمُرْسِل بِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ بِالتَّسْلِيمِ أَوِ الْقَبْضِ، وَالَّذِي يُتَابِعُ أَخْبَارَ الَّذِي بَعَثَهُ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى الرِّسَالَةِ، يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ، (1) قَال تَعَالَى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاَ إِنَّا رَسُول رَبِّ الْعَالَمِينَ} . (2)
وَمِنْ مَعَانِي الرَّسُول فِي الاِصْطِلاَحِ: الْوَاحِدُ مِنْ رُسُل اللَّهِ، وَالرَّسُول مِنَ الْبَشَرِ هُوَ: ذَكَرٌ حُرٌّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ وَأَمَرَهُ
__________
(1) لسان العرب، ومتن اللغة، وتاج العروس.
(2) سورة الشعراء / 16.

(32/188)


بِتَبْلِيغِهِ (ر: رَسُول ف 1) .
وَإِذَا وَرَدَ هَذَا اللَّفْظُ الْمُرَكَّبُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مُطْلَقًا بِلاَ قَرِينَةٍ يُقْصَدُ بِهِ: مَا نُقِل إِلَيْنَا مِنْ أَفْعَال الرَّسُول مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - قَوْل الرَّسُول:
2 - هُوَ مَا تَلَفَّظَ بِهِ الرَّسُول، وَإِذَا وَرَدَ هَذَا اللَّفْظُ مُطْلَقًا عَنِ الْقَرِينَةِ أَوْ أُضِيفَ إِلَى رَسُول اللَّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مَا نُقِل إِلَيْنَا مِنْ أَقْوَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كِلَيْهِمَا فِيهِ إِعْرَابٌ عَنِ الْمُرَادِ، وَكِلاَهُمَا مِنْ أَقْسَامِ السُّنَّةِ، إِذَا أَضِيفَا إِلَى الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ب - تَقْرِيرُ الرَّسُول:
3 - تَقْرِيرُ الرَّسُول هُوَ مَا فَعَلَهُ غَيْرُهُ بِحَضْرَتِهِ أَوْ عِلْمِهِ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ، بِأَنْ سَكَتَ عَنْهُ، أَوْ ظَهَرَتْ مِنْهُ عَلاَمَةُ الرِّضَا بِهِ، وَهُوَ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ عَنِ الْقَرِينَةِ أَوْ إِضَافَتِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يُصْرَفُ إِلَى تَقْرِيرِ الرَّسُول مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ فِعْل الرَّسُول وَقَوْلِهِ وَتَقْرِيرِهِ أَنَّهَا جَمِيعًا مِنَ السُّنَّةِ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى الرَّسُول مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِفِعْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَنْوَاعُ أَفْعَال الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
4 - عُنِيَ عُلَمَاءُ الأُْصُول بِأَفْعَال الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ

(32/188)


عِنَايَتَهُمْ بِأَقْوَالِهِ، فَتَكَلَّمُوا فِي دَلاَلَتِهَا عَلَى الأَْحْكَامِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي التَّأَسِّي بِأَفْعَالِهِ، وَتَخْصِيصِ الْعَامِّ، وَتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ، وَبَيَانِ الْمُجْمَل، وَالنَّسْخِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَفْعَال الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
أَوَّلاً: جِبِلِّيٌّ، كَالأَْكْل وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ وَاللُّبْسِ، وَمَا شَاكَل ذَلِكَ.
ثَانِيًا: قُرَبٌ، كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ.
ثَالِثًا: مُعَامَلاَتٌ، كَالْبَيْعِ وَالزَّوَاجِ.
فَالأَْفْعَال الْجِبِلِّيَّةُ لاَ يَقْتَضِي فِعْلُهُ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ إِبَاحَتِهَا اتِّفَاقًا.
أَمَّا غَيْرُهَا، فَإِنْ ثَبَتَتْ خُصُوصِيَّتُهُ بِهَا بِدَلِيلٍ، كَانَتْ خَاصَّةً بِهِ، وَلَيْسَتْ أُمَّتُهُ مِثْلَهُ فِيهَا، كَمُوَاصَلَةِ الصَّوْمِ، وَالزَّوَاجِ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ.
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَفْعَالُهُ مُخْتَصَّةً بِهِ، فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا بَيَانٌ لِمُجْمَلٍ، أَوْ تَقْيِيدٌ لِمُطْلَقٍ، أَوْ تَخْصِيصٌ لِعَامٍّ، كَانَ حُكْمُهَا حُكْمَهُ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنْ عُرِفَتْ صِفَتُهُ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ إِبَاحَةٍ، فَإِنَّ أُمَّتَهُ فِي ذَلِكَ مِثْلُهُ، لأَِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَرْجِعُونَ إِلَى فِعْلِهِ احْتِجَاجًا وَاقْتِدَاءً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

(32/189)


{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُول اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (1) ، وَالتَّأَسِّي: أَنْ تَفْعَل مِثْل مَا يَفْعَلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ.
أَمَّا الْفِعْل الْمُجَرَّدُ مِنَ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى وُقُوعِهِ مِنْهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ أَحْكَامٍ عَلَيْنَا اخْتِلاَفًا طَوِيلاً، فَمِنْ قَائِلٍ بِالْوُجُوبِ عَلَيْنَا، وَمِنْ قَائِلٍ بِالنَّدْبِ، وَمِنْ قَائِلٍ بِالإِْبَاحَةِ، وَمِنْ قَائِلٍ بِالتَّوَقُّفِ. (2) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

تَخْصِيصُ الْعَامِّ بِفِعْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
5 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى تَخْصِيصِ الْعَامِّ بِفِعْل الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَال الْغَزَالِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: هَذَا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا عَلَى الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا بِالتَّوَقُّفِ فَلاَ يُتَصَوَّرُ التَّخْصِيصُ، لأَِنَّهَا غَيْرُ دَالَّةٍ عَلَى شَيْءٍ، وَقَال الْكَرْخِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِالْمَنْعِ إِذَا فَعَلَهُ مَرَّةً، لاِحْتِمَال أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِ، أَمَّا إِذَا تَكَرَّرَ فَإِنَّهُ يُخَصَّصُ بِهِ الْعَامُّ بِالإِْجْمَاعِ (3) .
__________
(1) سورة الأحزاب / 21.
(2) الفصول من الأصول 3 / 215 وما بعدها، وحاشية البناني 2 / 96 وما بعدها، والتحصيل من المحصول تحقيق محيي الدين عبد الحميد 1 / 436 وما بعدها والمستصفى للغزالي 2 / 214 وما بعدها.
(3) البحر المحيط 33 / 387 - 389، وحاشية البنان على شرح المحلي على متن جمع الجوامع 2 / 31، والمستصفى للغزالي 2 / 106 - 107.

(32/189)


بَيَانُ الْمُجْمَل بِفِعْل الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
6 - اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الأُْصُول فِي وُقُوعِ بَيَانِ الْمُجْمَل بِفِعْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَقَعُ بَيَانًا لَهُ، وَمَنَعَهُ إِسْحَاقُ الْمَرْوَزِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْكَرْخِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَفِي الْمَحْصُول: لاَ يُعْلَمُ كَوْنُ الْفِعْل بَيَانًا لِمُجْمَلٍ إِلاَّ بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلاَثَةٍ:
أَوَّلاً - أَنْ يُعْلَمَ ذَلِكَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ قَصْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثَانِيًا - أَوْ بِالدَّلِيل اللَّفْظِيِّ، كَقَوْلِهِ مَثَلاً: هَذَا بَيَانٌ لِهَذَا الْمُجْمَل.
ثَالِثًا: أَوْ بِالدَّلِيل الْعَقْلِيِّ: بِأَنْ يَذْكُرَ الْمُجْمَل وَقْتَ الْحَاجَةِ إِلَى الْعَمَل بِهِ، ثُمَّ يَفْعَل فِعْلاً يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لَهُ.
وَقَال صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الأَْحْمَرِ: الصَّحِيحُ عِنْدِي: أَنَّ الْفِعْل يَصْلُحُ بَيَانًا بِشَرْطِ انْضِمَامِ بَيَانٍ قَوْلِيٍّ إِلَيْهِ، كَمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى ثُمَّ قَال: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (1) فَصَارَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ} ، (2) وَاشْتَغَل بِأَفْعَال الْحَجِّ ثُمَّ قَال: خُذُوا عَنِّي
__________
(1) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 111) من حديث مالك بن الحويرث.
(2) سورة البقرة / 43.

(32/190)


مَنَاسِكَكُمْ، (1) أَمَّا الْفِعْل الْمُجَرَّدُ فَلاَ يَصْلُحُ لِلْبَيَانِ، لأَِنَّهُ بِذَاتِهِ سَاكِتٌ عَنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ فَلاَ تَتَعَيَّنُ وَاحِدَةٌ إِلاَّ بِدَلِيلٍ، قَال: اللَّهُمَّ إِلاَّ إِذَا تَكَرَّرَ الْفِعْل عِنْدَهُ فَيَحْصُل بِهِ الْبَيَانُ (2) .

وُرُودُ قَوْلٍ وَفِعْلٍ بَعْدَ الْمُجْمَل:
7 - إِذَا وَرَدَ قَوْلٌ وَفِعْلٌ بَعْدَ الْمُجْمَل، وَكِلاَهُمَا صَالِحٌ لِبَيَانِهِ، فَإِنِ اتَّفَقَا فِي الْحُكْمِ وَعُلِمَ سَبْقُ أَحَدِهِمَا فَهُوَ الْمُبَيِّنُ - قَوْلاً كَانَ أَوْ فِعْلاً - وَالثَّانِي تَأْكِيدٌ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ فَلاَ يُقْضَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنَّهُ الْمُبَيِّنُ بِعَيْنِهِ، بَل يُقْضَى بِحُصُول الْبَيَانِ بِوَاحِدٍ لَمْ يُطَّلَعْ عَلَيْهِ، وَهُوَ الأَْوَّل فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الأَْمْرِ، وَالثَّانِي تَأْكِيدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمُبَيِّنَ هُوَ الْقَوْل، سَوَاءٌ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْفِعْل أَمْ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ، كَأَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْقَارِنَ بَعْدَ تَشْرِيعِ الْحَجِّ أَنْ يَطُوفَ طَوَافًا وَاحِدًا، (3) وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَرَنَ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافَيْنِ، (4) وَيُحْمَل الْفِعْل
__________
(1) حديث: " خذوا عني مناسككم ". أخرجه مسلم (2 / 943) ، والبيهقي (5 / 125) من حديث جابر واللفظ للبيهقي.
(2) البحر المحيط 3 / 486 وما بعده، والتحصيل من المحصول 1 / 419.
(3) حديث: " أمره القارن أن يطوف طوافًا واحدًا ". أخرجه الترمذي (3 / 275) من حديث ابن عمر، وقال: حديث حسن صحيح غريب.
(4) حديث: " أنه قرن فطاف لهما طوافين ". أخرجه الدارقطني (2 / 258) من حديث ابن عمر، ثم ذكر أن في إسناده راويًا متروكًا.

(32/190)


عَلَى النَّدْبِ، لأَِنَّ دَلاَلَةَ الْقَوْل عَلَى الْبَيَانِ بِنَفْسِهِ، بِخِلاَفِ الْفِعْل، فَإِنَّهُ لاَ يَدُل إِلاَّ بِوَاسِطَةِ انْضِمَامِ الْقَوْل إِلَيْهِ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

تَعَارُضُ فِعْلَيْنِ:
8 - إِذَا حَصَل مِنَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلاَنِ مُخْتَلِفَانِ، كَأَنْ صَامَ يَوْمَ السَّبْتِ مَثَلاً، ثُمَّ أَفْطَرَ فِي سَبْتٍ آخَرَ، فَلاَ يُقَال بِتَعَارُضِ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ، لأَِنَّهُ لاَ عُمُومَ لِلأَْفْعَال، أَمَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِالْفِعْل الأَْوَّل مَا يَدُل عَلَى حُكْمِهِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ، وَتَكَرَّرَ سَبَبُ الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ، فَالثَّانِي مِنَ الْفِعْلَيْنِ نَاسِخٌ لِمَا اسْتُفِيدَ مِنْ حُكْمِ الْفِعْل الأَْوَّل. (2)
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

فُقَّاع

انْظُرْ: أَشْرِبَة

فَقْد

انْظُرْ: مَفْقُود
__________
(1) البحر المحيط 3 / 488، والتحصيل من المحصول 1 / 419.
(2) المصادر السابقة.

(32/191)


فَقْدُ الطَّهُورَيْنِ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْفَقْدُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ فَقَدَ الشَّيْءَ يَفْقِدُهُ فَقْدًا وَفِقْدَانًا وَفُقُودًا؛ أَيْ عَدِمَهُ، (1) وَالطَّهُورُ فِي اللُّغَةِ كُل مَاءٍ نَظِيفٍ، قَال ثَعْلَبٌ: الطَّهُورُ هُوَ الطَّاهِرُ فِي نَفْسِهِ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ، وَقَال الأَْزْهَرِيُّ: الطَّهُورُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الطَّاهِرُ الْمُطَهِّرُ، وَقَال الزَّمَخْشَرِيُّ: الطَّهُورُ الْبَلِيغُ فِي الطَّهَارَةِ.
وَالْمَاءُ الطَّهُورُ بِالْفَتْحِ: هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَيُزِيل النَّجَسَ. (2)
وَالطَّهُورَانِ فِي الاِصْطِلاَحِ: الْمَاءُ وَالتُّرَابُ (3) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ فَقَدَ الطَّهُورَيْنِ: الْمَاءَ وَالتُّرَابَ، فِي حَقِّ الصَّلاَةِ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، والمطلع على أبواب المقنع ص6.
(3) الدر المختار 1 / 168.

(32/191)


كَالْمَحْبُوسِ فِي مَكَانٍ قَذِرٍ لاَ يَجِدُ صَعِيدًا طَيِّبًا وَلاَ مَاءً يَتَوَضَّأُ مِنْهُ، وَمَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ الَّذِي لَمْ يَجِدْ مَنْ يُيَمِّمُهُ أَوْ يُوَضِّئُهُ، وَالْمَصْلُوبِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ فَقَطْ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، (1) لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ، لأَِنَّ الْعَجْزَ فِي الشَّرْطِ لاَ يُوجِبُ تَرْكَ الْمَشْرُوطِ، كَمَا لَوْ عَجَزَ عَنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ أَوِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ.
وَلاَ يُصَلِّي النَّافِلَةَ حِينَئِذٍ، إِذْ لاَ ضَرُورَةَ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ الْفَرْضُ لِدَاعِي الضَّرُورَةِ إِلَيْهِ، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَهَذِهِ الصَّلاَةُ تُوصَفُ بِالصِّحَّةِ، وَلِهَذَا قَال فِي الْمَجْمُوعِ: تَبْطُل بِالْحَدَثِ وَالْكَلاَمِ وَنَحْوِهِمَا، وَبِهَذَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ إِذَا كَانَ يَرْجُو أَحَدَ الطَّهُورَيْنِ حَتَّى يَضِيقَ الْوَقْتُ، كَمَا قَال الأَْذْرَعِيُّ.
وَيُعِيدُ الصَّلاَةَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا وَجَدَ أَحَدَ الطَّهُورَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ، لأَِنَّ هَذَا الْعُذْرَ نَادِرٌ وَلاَ دَوَامَ لَهُ.
وَمَا سَبَقَ هُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَمُقَابِلُهُ أَقْوَالٌ:
__________
(1) حديث: " إذا أمرتكم بشيء. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 251) ، ومسلم (2 / 975) من حديث أبي هريرة.

(32/192)


أَحَدُهَا: تَجِبُ الصَّلاَةُ بِلاَ إِعَادَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ، وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ، قَال: لأَِنَّهُ أَدَّى وَظِيفَةَ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ.
ثَانِيهَا: يُنْدَبُ لَهُ الْفِعْل وَتَجِبُ الإِْعَادَةُ.
ثَالِثُهَا: يُنْدَبُ لَهُ الْفِعْل وَلاَ إِعَادَةَ.
رَابِعُهَا: يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِعْلُهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلاَدَةً فَضَلَّتْهَا، فَبَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجَالاً فِي طَلَبِهَا فَوَجَدُوهَا، فَأَدْرَكَتْهُمُ الصَّلاَةُ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فَشَكَوْا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَل اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ (1) ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالإِْعَادَةِ، وَلأَِنَّهُ أَحَدُ شُرُوطِ الصَّلاَةِ، فَسَقَطَ عِنْدَ الْعَجْزِ كَسَائِرِ شُرُوطِهَا، وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ فَاقِدَ الطَّهُورَيْنِ الَّذِي بِهِ حَدَثٌ أَكْبَرُ لاَ يَقْرَأُ فِي الصَّلاَةِ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: لاَ يَقْرَأُ مَنْ بِهِ حَدَثٌ أَكْبَرُ فِي الصَّلاَةِ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ عِنْدَ النَّوَوِيِّ، وَيُمْنَعُ مِنْ قِرَاءَتِهَا عِنْدَ الرَّافِعِيِّ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَزِيدُ عَلَى مَا يُجْزِئُ فِي الصَّلاَةِ مِنْ قِرَاءَةٍ وَغَيْرِهَا، فَلاَ يَقْرَأُ زَائِدًا عَلَى
__________
(1) حديث: " نزول آية التيمم ". أخرجه البخاري (7 / 106) من حديث عائشة.

(32/192)


الْفَاتِحَةِ، وَلاَ يُسَبِّحُ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَلاَ يَزِيدُ عَلَى مَا يُجْزِئُ فِي طُمَأْنِينَةِ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ أَوْ جُلُوسٍ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِالْمُصَلِّينَ احْتِرَامًا لِلْوَقْتِ، فَيَرْكَعُ وَيَسْجُدُ إِنْ وَجَدَ مَكَانًا يَابِسًا، وَإِلاَّ فَيُومِئُ قَائِمًا، وَيُعِيدُ الصَّلاَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ يَقْرَأُ، سَوَاءٌ كَانَ حَدَثُهُ أَصْغَرَ أَمْ أَكْبَرَ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لاَ يَنْوِي أَيْضًا، لأَِنَّهُ تَشَبُّهٌ بِالْمُصَلِّي وَلَيْسَ بِصَلاَةٍ.
وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْل الصَّاحِبَيْنِ، قَال التُّمُرْتَاشِيُّ: بِهِ يُفْتَى وَإِلَيْهِ صَحَّ رُجُوعُهُ.
وَقَوْل أَبِي حَنِيفَةَ الْمَرْجُوعُ عَنْهُ أَنَّهُ يُؤَخِّرُهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ الصَّلاَةِ عَنْ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا فِي الْوَقْتِ، وَلاَ قَضَاؤُهَا فِي الْمُسْتَقْبَل إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ أَوِ التُّرَابَ، قَال الدُّسُوقِيُّ: وَإِنَّمَا سَقَطَ عَنْهُ الأَْدَاءُ وَالْقَضَاءُ لأَِنَّ وُجُودَ الْمَاءِ وَالصَّعِيدِ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ أَدَائِهَا، وَقَدْ عُدِمَ، وَشَرْطُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ تَعَلُّقُ الأَْدَاءِ بِالْقَاضِي، وَهَذَا قَوْل مَالِكٍ، وَقَال أَصْبَغُ: يَقْضِي وَلاَ يُؤَدِّي، وَقَال أَشْهَبُ: يَجِبُ الأَْدَاءُ فَقَطْ، وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ: يَجِبُ الأَْدَاءُ وَالْقَضَاءُ احْتِيَاطًا. (1)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 168، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 162، ومغني المحتاج 1 / 105، وكشاف القناع 1 / 171.

(32/193)


فِقْه
التَّعْرِيفُ:
1 - الْفِقْهُ فِي اللُّغَةِ: الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ وَالْفَهْمُ لَهُ، وَالْفَطِنَةُ فِيهِ، وَغَلَبَ، عَلَى عِلْمِ الدِّينِ لِشَرَفِهِ، (1) قَال تَعَالَى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُول} ، (2) وَقِيل: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كُل مَعْلُومٍ تَيَقَّنَهُ الْعَالِمُ عَنْ فِكْرٍ. (3)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ: الْعِلْمُ بِالأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، الْمُكْتَسَبُ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ (4) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الشَّرِيعَةُ:
2 - الشَّرِيعَةُ وَالشِّرْعَةُ فِي اللُّغَةِ: مَوْرِدُ الْمَاءِ لِلاِسْتِسْقَاءِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِوُضُوحِهِ وَظُهُورِهِ، وَالشَّرْعُ مَصْدَرُ شَرَعَ بِمَعْنَى: وَضَحَ وَظَهَرَ، وَتُجْمَعُ عَلَى شَرَائِعَ، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَال هَذِهِ
__________
(1) القاموس المحيط.
(2) سورة هود / 91.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، والبحر المحيط 1 / 19.
(4) البحر المحيط للزركشي 1 / 21.

(32/193)


الأَْلْفَاظِ فِي الدِّينِ وَجَمِيعِ أَحْكَامِهِ، قَال تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَْمْرِ فَاتَّبِعْهَا} ، (1) وَقَال سُبْحَانَهُ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} . (2)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ مَا نَزَل بِهِ الْوَحْيُ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الأَْحْكَامِ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَائِدِ وَالْوِجْدَانِيَّاتِ وَأَفْعَال الْمُكَلَّفِينَ، قَطْعِيًّا كَانَ أَوْ ظَنِّيًّا. (3)
وَبَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالْفِقْهِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، يَجْتَمِعَانِ فِي الأَْحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي وَرَدَتْ بِالْكِتَابِ أَوْ بِالسُّنَّةِ أَوْ ثَبَتَتْ بِإِجْمَاعِ الأُْمَّةِ، وَتَنْفَرِدُ الشَّرِيعَةُ فِي أَحْكَامِ الْعَقَائِدِ، وَيَنْفَرِدُ الْفِقْهُ فِي الأَْحْكَامِ الاِجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ فِيهَا نَصٌّ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ وَلَمْ يُجْمِعْ عَلَيْهِ أَهْل الإِْجْمَاعِ.

ب - أُصُول الْفِقْهِ:
3 - أُصُول الْفِقْهِ: أَدِلَّتُهُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، لاَ مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيل. (4)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْفِقْهِ وَأُصُول الْفِقْهِ أَنَّ الْفِقْهَ يُعْنَى بِالأَْدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ لاِسْتِنْبَاطِ الأَْحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ مِنْهَا، أَمَّا أُصُول الْفِقْهِ فَمَوْضُوعُهُ
__________
(1) سورة الجاثية / 18.
(2) سورة المائدة / 48.
(3) التوضيح على التنقيح 1 / 69، ونهاية المحتاج 1 / 32.
(4) روضة الناظر لابن قدامة 1 / 20 - 21.

(32/194)


الأَْدِلَّةُ الإِْجْمَالِيَّةُ مِنْ حَيْثُ وُجُوهُ دَلاَتِهَا عَلَى الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - تَعَلُّمُ الْفِقْهِ قَدْ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْمُكَلَّفِ كَتَعَلُّمِهِ مَا لاَ يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ الَّذِي تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ إِلاَّ بِهِ، كَكَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلاَةِ، وَالصَّوْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ حَمَل بَعْضُهُمُ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ (1) وَلاَ يَلْزَمُ الإِْنْسَانَ تَعَلُّمُ كَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلاَةِ وَنَحْوِهِمَا إِلاَّ بَعْدَ وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ لَوْ أَخَّرَ إِلَى دُخُول الْوَقْتِ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَمَامِ تَعَلُّمِهَا مَعَ الْفِعْل فِي الْوَقْتِ، فَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ تَقْدِيمُ التَّعَلُّمِ عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ، كَمَا يَلْزَمُ السَّعْيُ إِلَى الْجُمُعَةِ لِمَنْ بَعُدَ مَنْزِلُهُ قَبْل الْوَقْتِ (2) لأَِنَّ مَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، ثُمَّ إِذَا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْفَوْرِ كَانَ تَعَلُّمُ الْكَيْفِيَّةِ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى التَّرَاخِي كَالْحَجِّ فَتَعَلُّمُ الْكَيْفِيَّةِ عَلَى التَّرَاخِي
__________
(1) حديث: " طلب العلم فريضة على كل مسلم ". أخرجه ابن ماجه (1 / 8) من حديث أنس بن مالك بإسناد ضعيف، وذكر السخاوي في المقاصد الحسنة (ص275 - 276) طرقًا أخرى وشواهد عن جماعة من الصحابة، ونقل عن المزي أنه حسنه، وعن العراقي أنه قال: صحح بعض الأئمة بعض طرقه.
(2) المجموع للنووي 1 / 24 - 25، وحاشية ابن عابدين 1 / 26 وما بعدها.

(32/194)


ثُمَّ مَا يَجِبُ وُجُوبَ عَيْنٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ مَا يَتَوَقَّفُ أَدَاءُ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ غَالِبًا، دُونَ مَا يَطْرَأُ نَادِرًا، فَإِنْ حَدَثَ النَّادِرُ وَجَبَ التَّعَلُّمُ حِينَئِذٍ، أَمَّا الْبُيُوعُ وَالنِّكَاحُ وَسَائِرُ الْمُعَامَلاَتِ مِمَّا لاَ يَجِبُ أَصْلُهُ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ يُرِيدُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ تَعَلُّمُ أَحْكَامِهِ لِيَحْتَرِزَ عَنِ الشُّبُهَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ، وَكَذَا كُل أَهْل الْحِرَفِ، فَكُل مَنْ يُمَارِسُ عَمَلاً يَجِبُ عَلَيْهِ تَعَلُّمُ الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ لِيَمْتَنِعَ عَنِ الْحَرَامِ.
وَقَدْ يَكُونُ تَعَلُّمُ الْفِقْهِ فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَهُوَ مَا لاَ بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْهُ فِي إِقَامَةِ دِينِهِمْ، كَحِفْظِ الْقُرْآنِ وَالأَْحَادِيثِ وَعُلُومِهِمَا وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَدْ يَكُونُ تَعَلُّمُ الْفِقْهِ نَافِلَةً، وَهُوَ التَّبَحُّرُ فِي أُصُول الأَْدِلَّةِ وَالإِْمْعَانُ فِيمَا وَرَاءَ الْقَدْرِ الَّذِي يَحْصُل بِهِ فَرْضُ الْكِفَايَةِ، وَتَعَلُّمُ الْعَامِّيِّ نَوَافِل الْعِبَادَاتِ لِغَرَضِ الْعَمَل، لاَ مَا يَقُومُ بِهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ تَمْيِيزِ الْفَرْضِ مِنَ النَّفْل، فَإِنَّ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِي حَقِّهِمْ (1) .

فَضْل الْفِقْهِ:
5 - وَرَدَتْ آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ فِي فَضْل الْفِقْهِ وَالْحَثِّ عَلَى تَحْصِيلِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُل فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي
__________
(1) المجموع للنووي 1 / 24 - 25، وحاشية ابن عابدين 1 / 29.

(32/195)


الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} . (1) فَقَدْ جَعَل وِلاَيَةَ الإِْنْذَارِ وَالدَّعْوَةَ لِلْفُقَهَاءِ، وَهِيَ وَظِيفَةُ الأَْنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ، وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ. (2)

مَوْضُوعُ الْفِقْهِ:
6 - مَوْضُوعُ عِلْمِ الْفِقْهِ هُوَ أَفْعَال الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْعِبَادِ، فَيُبْحَثُ فِيهِ عَمَّا يَعْرِضُ لأَِفْعَالِهِمْ مِنْ حِلٍّ وَحُرْمَةٍ، وَوُجُوبٍ وَنَدْبٍ وَكَرَاهَةٍ. (3)

نَشْأَةُ الْفِقْهِ وَتَطَوُّرُهُ:
7 - نَشَأَ الْفِقْهُ الإِْسْلاَمِيُّ بِنَشْأَةِ الدَّعْوَةِ وَبَدْءِ الرِّسَالَةِ، وَمَرَّ بِأَطْوَارٍ كَثِيرَةٍ وَلَكِنَّهَا غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ مِنْ حَيْثُ الزَّمَنُ تَمَيُّزًا دَقِيقًا، إِلاَّ الطُّورَ الأَْوَّل وَهُوَ عَصْرُ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّهُ مُتَمَيِّزٌ عَمَّا بَعْدَهُ بِكُل دِقَّةٍ بِانْتِقَال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الرَّفِيقِ الأَْعْلَى.
وَكَانَ مَصْدَرُ الْفِقْهِ فِي هَذَا الطُّورِ الْوَحْيَ، بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ مِنْ أَحْكَامٍ، أَوْ بِمَا اجْتَهَدَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَحْكَامٍ كَانَ الْوَحْيُ أَسَاسَهَا، أَوْ كَانَ يُتَابِعُهَا بِالتَّسْدِيدِ، وَكَذَلِكَ
__________
(1) سورة التوبة / 22.
(2) المجموع 1 / 18، نهاية المحتاج 1 / 6، المبسوط1 / 2، بدائع الصنائع.، وحديث: " من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 164) ومسلم (2 / 719) من حديث معاوية بن أبي سفيان.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 26 - 27، وتخريج الفروع على الأصول ص1.

(32/195)


كَانَ اجْتِهَادُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ مَرَدُّهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقِرُّهُ أَوْ يُنْكِرُهُ. . وَعَلَى ذَلِكَ كَانَ الْوَحْيُ مَصْدَرَ التَّشْرِيعِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ.
ثُمَّ تَتَابَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْوَارٌ مُتَعَدِّدَةٌ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي ف 13 وَمَا بَعْدَهَا مِنْ مُقَدِّمَةِ الْجُزْءِ الأَْوَّل مِنَ الْمَوْسُوعَةِ الْفِقْهِيَّةِ.

الاِخْتِلاَفُ فِي أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ وَأَسْبَابُهُ:
8 - كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي فِيمَا يُرْفَعُ إِلَيْهِ مِنْ وَقَائِعَ وَكَانَ يُقِرُّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ أَوْ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ كُل مَا قَضَى بِهِ أَوْ أَقَرَّهُ أَوْ أَنْكَرَهُ مَكْتُوبًا أَوْ بِمَشْهَدٍ مِنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ، فَرَأَى كُل صَحَابِيٍّ مَا يَسَّرَ اللَّهُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ فَحَفِظَ وَعَرَفَ وَجْهَهُ، ثُمَّ تَفَرَّقَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْبِلاَدِ، وَصَارَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ قُدْوَةً لَهُ أَتْبَاعٌ، وَكَثُرَتِ الْوَقَائِعُ وَالْمَسَائِل فَاسْتُفْتُوا فِيهَا، فَأَجَابَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَسَبَ مَا حَفِظَهُ أَوِ اسْتَنْبَطَهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِيمَا حَفِظَهُ أَوِ اسْتَنْبَطَهُ مَا يَصْلُحُ لِلْجَوَابِ اجْتَهَدَ بِرَأْيِهِ (1) اسْتِنَادًا إِلَى حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ بَعَثَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ، وَقَال لَهُ: كَيْفَ
__________
(1) الإنصاف في بيان الخلاف لولي الله الدهلوي ص16 وما بعدها.

(32/196)


تَقْضِي؟ فَقَال: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَال: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَال: فَبِسُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَال: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَجْتَهِدُ رَأْيِي. قَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُول رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (1)
وَهَذَا مَنْشَأُ الاِخْتِلاَفِ فِي أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ.

وَيَقَعُ الاِخْتِلاَفُ فِي هَذَا عَلَى ضُرُوبٍ:
9 - الأَْوَّل: أَنَّ صَحَابِيًّا سَمِعَ حُكْمًا فِي قَضِيَّةٍ أَوْ فَتْوَى وَلَمْ يَسْمَعْهُ الآْخَرُ، فَاجْتَهَدَ بِرَأْيِهِ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا عَلَى وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَقَعَ اجْتِهَادُهُ مُوَافِقًا لِلْحَدِيثِ، مِثَالُهُ مَا وَرَدَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: إِنَّهُ أَتَاهُ قَوْمٌ فَقَالُوا: إِنَّ رَجُلاً مِنَّا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ يَجْمَعْهَا إِلَيْهِ حَتَّى مَاتَ، فَقَال عَبْدُ اللَّهِ: مَا سُئِلْتُ مُنْذُ فَارَقْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ هَذِهِ، فَأْتُوا غَيْرِي، فَاخْتَلَفُوا إِلَيْهِ فِيهَا شَهْرًا، ثُمَّ قَالُوا لَهُ فِي آخِرِ ذَلِكَ: مَنْ نَسْأَل إِنْ لَمْ نَسْأَلْكَ وَأَنْتَ مِنْ جُلَّةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَلاَ نَجِدُ غَيْرَكَ؟ قَال: سَأَقُول
__________
(1) حديث معاذ حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن. أخرجه الترمذي (3 / 607) وقال: ليس إسناده عندي بمتصل.

(32/196)


فِيهَا بِجَهْدِ رَأْيِي، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بُرَآءٌ، أَرَى أَنْ أَجْعَل لَهَا صَدَاقَ نِسَائِهَا، لاَ وَكْسَ وَلاَ شَطَطَ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشَرًا، قَال: وَذَلِكَ بِمَسْمَعِ أُنَاسٍ مِنْ أَشْجَعَ، فَقَامُوا فَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَضَيْتَ بِمَا قَضَى بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَةٍ مِنَّا، يُقَال لَهَا: بِرْوَعَ بِنْتُ وَاشِقٍ، قَال: فَمَا رُئِيَ عَبْدُ اللَّهِ فَرِحَ فَرْحَةً يَوْمَئِذٍ إِلاَّ بِإِسْلاَمِهِ (1) .
ثَانِيهَا: أَنْ يُفْتِيَ الصَّحَابِيُّ وَيَظْهَرَ الْحَدِيثُ عَلَى خِلاَفِ مَا أَفْتَى بِهِ، فَيَرْجِعَ عَنِ اجْتِهَادِهِ إِلَى الْحَدِيثِ، وَمِنْ هَذَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُفْتِي أَنَّهُ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلاَ صَوْمَ لَهُ، حَتَّى بَلَغَهُ حَدِيثُ عَائِشَة وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا لاَ عَنِ احْتِلاَمٍ ثُمَّ يَغْتَسِل وَيَصُومُ فَرَجَعَ عَنِ اجْتِهَادِهِ (2) .
ثَالِثُهَا: أَنْ يَبْلُغَهُ الْحَدِيثُ لَكِنْ لاَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ غَالِبُ الظَّنِّ، وَمِنْ هَذَا مَا وَرَدَ
__________
(1) المغني لابن قدامة 6 / 712، والإنصاف في بيان أسباب الاختلاف ص 16 وما بعدها، ونهاية المحتاج 1 / 350. وحديث ابن مسعود " أنه أتاه قوم. . . ". أخرجه النسائي 6 / 122، 123.
(2) سبل السلام 2 / 165، وبيان أسباب الاختلاف لولي الله الدهلوي ص23.، وحديث: " أن أبا هريرة أنه كان يفتي أنه من أصبح جنبًا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 143) ومسلم (2 / 779 - 780) .

(32/197)


أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا شَهِدَتْ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا كَانَتْ مُطَلَّقَةً ثَلاَثًا فَلَمْ يَجْعَل لَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَقَةً، وَلاَ سُكْنَى، فَرَدَّ عُمَرُ شَهَادَتَهَا، وَقَال: لاَ نَتْرُكُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْل امْرَأَةٍ لاَ نَدْرِي لَعَلَّهَا حَفِظَتْ أَوْ نَسِيَتْ: لَهَا النَّفَقَةُ، وَالسُّكْنَى (1) .
رَابِعُهَا: أَنْ لاَ يَصِل الْحَدِيثُ إِلَيْهِ أَصْلاً، مِنْ هَذَا مَا وَرَدَ أَنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بَلَغَهَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَأْمُرُ النِّسَاءَ إِذَا اغْتَسَلْنَ أَنْ يَنْقُضْنَ رُءُوسَهُنَّ، فَقَالَتْ: يَا عَجَبًا لاِبْنِ عَمْرٍو هَذَا، يَأْمُرُ النِّسَاءَ إِذَا اغْتَسَلْنَ أَنْ يَنْقُضْنَ رُءُوسَهُنَّ، أَفَلاَ يَأْمُرُهُنَّ أَنْ يَحْلِقْنَ رُءُوسَهُنَّ، لَقَدْ كُنْت أَغْتَسِل أَنَا وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَلاَ أَزِيدُ عَلَى أَنْ أُفْرِغَ عَلَى رَأْسِي ثَلاَثَ إِفْرَاغَاتٍ (2) .
10 - الثَّانِي: مِنْ أَسْبَابِ الاِخْتِلاَفِ: أَنْ يَرَى النَّاسُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَل فِعْلاً، فَحَمَلَهُ الْبَعْضُ عَلَى الْقُرْبَةِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى الإِْبَاحَةِ.
__________
(1) الإنصاف في بيان سبب الاختلاف ص6.، وحديث فاطمة بنت قيس " أنها شهدت عند عمر ابن الخطاب. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1118 - 1119) .
(2) الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف ص7. وحديث عائشة " أنها بلغها أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء. . . ". أخرجه مسلم (1 / 260) .

(32/197)


مِثَالُهُ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ الأُْصُول فِي قِصَّةِ التَّحْصِيبِ - أَيِ النُّزُول بِالأَْبْطُحِ عِنْدَ النَّفْرِ - نَزَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ (1) : ذَهَبَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَجَعَلاَهُ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ، وَذَهَبَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى وَجْهِ الاِتِّفَاقِ، وَلَيْسَ مِنَ السُّنَنِ.
11 - الثَّالِثُ: السَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ: كَأَنْ يَنْقُل صَحَابِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرًا فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالسَّهْوِ، مِنْ هَذَا مَا وَرَدَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقُول: اعْتَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَجَبٍ، (2) فَسَمِعَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ فَقَضَتْ عَلَيْهِ بِالسَّهْوِ.
12 - الرَّابِعُ: اخْتِلاَفُ الضَّبْطِ، وَمِنْ هَذَا قَوْل ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ (3) ، فَقَضَتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ بِالْوَهْمِ.
13 - الْخَامِسُ: اخْتِلاَفُهُمْ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ، وَمِنْ هَذَا: الْقِيَامُ لِلْجِنَازَةِ، فَقَال بَعْضُهُمْ: لِتَعْظِيمِ الْمَلاَئِكَةِ، فَيَعُمُّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَقَال
__________
(1) حديث نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأبطح عند النفر. أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 391) .
(2) قول ابن عمر " أن رسول الله اعتمر في رجب ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 599) ومسلم (2 / 917) .
(3) حديث ابن عمر: " أن الميت يعذب ببكاء أهله ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 151 - 152) ومسلم (2 / 642) .

(32/198)


قَائِل: لِهَوْل الْمَوْتِ، فَيَعُمُّهُمَا، وَقَال قَائِلٌ: مَرَّتْ جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ لَهَا، (1) كَرَاهِيَةَ أَنْ تَعْلُوَ فَوْقَ رَأْسِهِ، فَيَخُصُّ الْكَافِرَ.
14 - السَّادِسُ: اخْتِلاَفُهُمْ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَمِنْهُ: نَهْيُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، (2) فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى عُمُومِ هَذَا الْحُكْمِ وَكَوْنِهِ غَيْرَ مَنْسُوخٍ، وَرَآهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " يَبُول قَبْل أَنْ يُتَوَفَّى بِعَامٍ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ "، (3) فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ نَسْخٌ لِلنَّهْيِ الْمُتَقَدِّمِ، وَرَآهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " قَضَى حَاجَتَهُ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ مُسْتَقْبِل الشَّامِ "، (4) فَرَدَّ بِهِ قَوْلَهُمْ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَقَالُوا: إِنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالصَّحْرَاءِ، فَإِذَا كَانَ فِي الْمَرَاحِيضِ فَلاَ بَأْسَ بِالاِسْتِقْبَال وَالاِسْتِدْبَارِ. (5)
__________
(1) حديث: " مرت جنازة يهودي على رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه مسلم (2 / 661) .
(2) حديث: " النهي عن استقبال القبلة عند قضاء الحاجة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 245) ، ومسلم (1 / 224) من حديث أبي أيوب.
(3) حديث ابن عمر: " أن الميت يعذب بكاء أهله ". يتوفى بعام. . . " أخرجه الترمذي (1 / 15) وقال: حديث حسن غريب.
(4) حديث ابن عمر أنه " رأى النبي صلى الله عليه وسلم قضى حاجته مستدبر القبلة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 247) ، ومسلم (1 / 225) .
(5) الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف ص15 وما بعدها.

(32/198)


وَبِالْجُمْلَةِ اخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَأَخَذَ التَّابِعُونَ الْعِلْمَ مِنْهُمْ، فَأَقْبَل أَبْنَاءُ كُل قُطْرٍ عَلَى مَنْ نَزَل فِي قُطْرِهِمْ يَسْتَفْتُونَهُمْ، وَيَرْوُونَ عَنْهُمْ، وَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمْ، وَلَمْ تَكُنِ الصَّحَابَةُ سَوَاءً فِيمَا يَعْلَمُونَ، وَلَمْ يَكُنْ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَحْفَظُ كُل مَا يَحْفَظُهُ غَيْرُهُ، وَلَمْ يَكُونُوا سَوَاءً فِي اسْتِعْمَال الرَّأْيِ فِيمَا لاَ نَصَّ فِيهِ، وَلاَ فِي الأَْخْذِ بِأَخْبَارِ الآْحَادِ، فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَتَوَسَّعُ فِي الرَّأْيِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ الْوَرَعُ وَالاِحْتِيَاطُ عَلَى الْوُقُوفِ عِنْدَ النُّصُوصِ وَالتَّمَسُّكِ بِالآْثَارِ.

أَهَمُّ مَرَاكِزِ الْفِقْهِ:
15 - تَرَتَّبَ عَلَى تَفَرُّقِ الصَّحَابَةِ فِي الأَْمْصَارِ وَاخْتِلاَفِ مَنَاهِجِهِمْ فِي الْفَتْوَى وَالاِجْتِهَادِ - لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ مِنْ أَسْبَابٍ - وَأَخْذِ التَّابِعِينَ فِي كُل مِصْرٍ عَمَّنْ نَزَل بِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ - تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ وُجُودُ اتِّجَاهَاتٍ فِقْهِيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ، مِنْ أَشْهَرِهَا الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل الَّذِي سَادَ فِي الْحِجَازِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَالاِتِّجَاهُ الثَّانِي الَّذِي ظَهَرَ فِي الْعِرَاقِ بِالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَمِنْ هَذَيْنِ الاِتِّجَاهَيْنِ كَانَ غَالِبُ الْفِقْهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُقَدِّمَةِ الْمَوْسُوعَةِ الْفِقْهِيَّةِ (الْجُزْءُ الأَْوَّل ف 16 وَمَا بَعْدَهَا) .

(32/199)