الموسوعة الفقهية الكويتية

فَقِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْفَقِيرُ فِي اللُّغَةِ ضِدُّ الْغَنِيِّ، وَهُوَ مَنْ قَل مَالُهُ، وَالْفَقْرُ ضِدُّ الْغِنَى. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: مَنْ لاَ يَمْلِكُ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ، أَوْ يَجِدُ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ مَالٍ أَوْ كَسْبٍ لاَ يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ.
وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ: بِأَنَّهُ مَنْ يَمْلِكُ دُونَ نِصَابٍ، مِنَ الْمَال النَّامِي، أَوْ قَدْرَ نِصَابٍ غَيْرِ نَامٍ مُسْتَغْرَقٍ فِي حَاجَتِهِ.
وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّهُ مَنْ يَمْلِكُ شَيْئًا لاَ يَكْفِيهِ قُوتَ عَامِهِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمِسْكِينُ:
2 - الْمِسْكِينُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ: مَنْ لاَ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) ابن عابدين 2 / 58، وحاشية الدسوقي 1 / 492، وحاشية القليوبي 3 / 195، ومغني المحتاج 3 / 106، وكشاف القناع 2 / 271 - 272.

(32/199)


يَمْلِكُ شَيْئًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: مَنْ قَدَرَ عَلَى مَالٍ أَوْ كَسْبٍ يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ وَلاَ يَكْفِيهِ، وَقَال قَوْمٌ: إنَّ الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ صِنْفٌ وَاحِدٌ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: مَنْ يَجِدُ مُعْظَمَ الْكِفَايَةِ أَوْ نِصْفَهَا مِنْ كَسْبٍ أَوْ غَيْرِهِ. (1)
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ اسْمٌ يُنْبِئُ عَنِ الْحَاجَةِ، وَأَنَّ كِلَيْهِمَا مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَقِيرِ مِنْ أَحْكَامٍ:
الْفَقِيرُ الَّذِي تُعْطَى لَهُ الزَّكَاةُ:
3 - يُشْتَرَطُ فِي الْفَقِيرِ الَّذِي تُعْطَى لَهُ الزَّكَاةُ الشُّرُوطُ الآْتِيَةُ:
أ - الإِْسْلاَمُ: فَلاَ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى كَافِرٍ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، (2) لِحَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ (3) أَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِوَضْعِ الزَّكَاةِ فِي فُقَرَاءِ مَنْ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ، وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَلاَ يَجُوزُ فِي غَيْرِهِمْ.
__________
(1) ابن عابدين 2 / 58، ومغني المحتاج 3 / 106، المحلي مع القليوبي 3 / 100، 195، 199، وحاشية الدسوقي 1 / 492، وكشاف القناع 2 / 272.
(2) بدائع الصنائع 2 / 49، نهاية المحتاج 6 / 159، كشاف القناع 2 / 289، مواهب الخليل 2 / 343.
(3) حديث معاذ: " خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 261) ومسلم (1 / 50) من حديث ابن عباس.

(32/200)


أَمَّا مَا سِوَى الزَّكَاةِ مِنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ صَرْفِهَا لِفُقَرَاءِ أَهْل الذِّمَّةِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى فُقَرَاءِ أَهْل الذِّمَّةِ، لأَِنَّ فَقِيرَهُمْ كَافِرٌ فَلَمْ يَجُزِ الدَّفْعُ إلَيْهِ كَفُقَرَاءِ أَهْل الْحَرْبِ. (1)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إلَى جَوَازِ صَرْفِهَا إلَى فُقَرَاءِ أَهْل الذِّمَّةِ، وَقَالاَ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَال: {إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ، (2) مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ فَقِيرٍ وَفَقِيرٍ، وَعُمُومُ هَذَا النَّصِّ يَقْتَضِي جَوَازَ صَرْفِ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ، إلاَّ أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ زَكَاةَ الْمَال، لِحَدِيثِ مُعَاذٍ الْمُتَقَدِّمِ، وَلأَِنَّ صَرْفَ الصَّدَقَةِ إلَى أَهْل الذِّمَّةِ مِنْ بَابِ إيصَال الْبِرِّ إلَيْهِمْ، وَمَا نُهِينَا عَنْ ذَلِكَ، قَال تَعَالَى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} ، (3) وَظَاهِرُ هَذَا النَّصِّ جَوَازُ صَرْفِ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ، لأَِنَّهُ بِرٌّ بِهِمْ، إلاَّ أَنَّ الْبِرَّ بِطَرِيقِ زَكَاةِ الْمَال غَيْرُ مُرَادٍ، لِحَدِيثِ مُعَاذٍ، فَيَبْقَى غَيْرُهَا مِنْ طُرُقِ الْبِرِّ بِهِمْ جَائِزًا. (4)
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 366، المغني 7 / 376.
(2) سورة البقرة / 271.
(3) سورة الممتحنة / 8.
(4) بدائع الصنائع 2 / 49.

(32/200)


وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (كَفَّارَةٌ، وَنَذْرٌ) .
ب - أَنْ لاَ يَكُونَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، (1) لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَنْبَغِي لآِل مُحَمَّدٍ، إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ. (2)
ج - أَنْ لاَ يَكُونَ رَقِيقًا، وَلَوْ كَانَ سَيِّدُهُ فَقِيرًا، لأَِنَّ نَفَقَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَى سَيِّدِهِ فَهُوَ غَنِيٌّ بِغِنَاهُ، إلاَّ الْمُكَاتَبَ فَإِنَّهُ يُعْطَى لَهُ.
د - أَنْ لاَ يَكُونَ مَكْفِيًّا بِنَفَقَةِ قَرِيبٍ، أَوْ زَوْجٍ، وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ لِلْحَنَفِيَّةِ وَلِلتَّفْصِيل اُنْظُرْ: (زَكَاةٌ ف 16) .
4 - وَلاَ يَمْنَعُ الْفَقْرَ: مَسْكَنُ الْفَقِيرِ وَثِيَابُهُ وَإِنْ كَانَتْ لِلتَّجَمُّل، وَخَادِمُهُ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَمَالُهُ الْغَائِبُ فِي مَرْحَلَتَيْنِ، وَكَسْبٌ لاَ يَلِيقُ بِهِ، وَكُتُبُ الْعِلْمِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ، لأَِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ مِنَ الْحَوَائِجِ اللاَّزِمَةِ الَّتِي لاَ بُدَّ لِلإِْنْسَانِ مِنْهَا.
وَطَالِبُ الْعِلْمِ الَّذِي يَمْنَعُهُ الْكَسْبُ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ فَقِيرٌ، فَتُعْطَى لَهُ الزَّكَاةُ، وَيَتْرُكُ الْكَسْبَ لِتَعَدِّي نَفْعِهِ وَعُمُومِهِ، بِخِلاَفِ مَنْ تَفَرَّغَ لِلْعِبَادَةِ وَالنَّوَافِل، فَلاَ تُعْطَى لَهُ الزَّكَاةُ
__________
(1) البدائع 2 / 49، مغني المحتاج 3 / 366.
(2) حديث: " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس ". أخرجه مسلم (2 / 753) .

(32/201)


لِقُصُورِ نَفْعِهَا عَلَيْهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الاِكْتِسَابُ وَتَرْكُهَا. (1) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (طَالِبُ عِلْمٍ ف 4، زَكَاةٌ ف 162) .
وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي الْفَقِيرِ لِيُعْطَى الزَّكَاةَ: الزَّمَانَةُ، وَلاَ التَّعَفُّفُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ. (2)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ ف 177 - 178) .

الْقَدْرُ الْمُعْطَى لِلْفَقِيرِ:
5 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّ الْفَقِيرَ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ الْكِفَايَةَ لَهُ وَلِمَنْ يَعُولُهُ عَامًا كَامِلاً.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ الْمَنْصُوصِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إلَى أَنَّ الْفَقِيرَ يُعْطَى مَا تَحْصُل بِهِ الْكِفَايَةُ عَلَى الدَّوَامِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ مَنْ لاَ يَمْلِكُ نِصَابًا زَكَوِيًّا يُدْفَعُ إلَيْهِ أَقَل مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ تَمَامُهَا، وَيُكْرَهُ إعْطَاؤُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. (3)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ ف 164) .
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 152، والقليوبي 3 / 196، وكشاف القناع 2 / 273، وبدائع الصنائع 2 / 48 - 49، وابن عابدين 2 / 59.
(2) المصادر السابقة.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 68 ومواهب الخليل 2 / 348 ونهاية المحتاج 6 / 161، وكشاف القناع 2 / 285.

(32/201)


تَحَمُّل الْفَقِيرِ فِي الدِّيَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ:
6 - لاَ يَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُشَارَكَةُ فِيمَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ مِنَ الدِّيَاتِ لأَِنَّ الْعَقْل مُوَاسَاةٌ، وَلاَ مُوَاسَاةَ عَلَى فَقِيرٍ. (ر: عَاقِلَةٌ ف 6) .

تَحَمُّل الْفَقِيرِ نَفَقَةَ الأَْقَارِبِ:
7 - الأَْصْل فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ الْقَرِيبِ قُدْرَةُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ، بِأَنْ يَكُونَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ الَّذِي يُوَفِّرُ حَاجَتَهُ وَيَزِيدُ بِمِقْدَارِ النَّفَقَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (نَفَقَةٌ) .

ثُبُوتُ اسْتِحْقَاقِ الزَّكَاةِ بِالْفَقْرِ:
8 - إنْ عُلِمَ حَال الإِْنْسَانِ، وَأَنَّهُ فَقِيرٌ صُرِفَ لَهُ الزَّكَاةُ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ تَحَرَّى دَافِعُ الزَّكَاةِ فِي أَمْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ، وَادَّعَى فَقْرًا وَهُوَ مِمَّنْ لاَ يُعْرَفُ بِالْغِنَى قُبِل قَوْلُهُ، وَيُصْرَفُ لَهُ الزَّكَاةُ بِلاَ بَيِّنَةٍ وَلاَ يَمِينٍ، لأَِنَّ الأَْصْل اسْتِصْحَابُ الْحَال السَّابِقَةِ، وَالظَّاهِرُ صِدْقُهُ، وَلِعُسْرِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ ف 165) .

فِكَاكُ الأَْسْرَى

اُنْظُرْ: أَسْرَى

(32/202)


فِلاَحَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْفِلاَحَةُ فِي اللُّغَةِ: الْحِرَاثَةُ، يُقَال: فَلَحْتُ الأَْرْضَ فَلْحًا: شَقَقْتُهَا، وَالْفَلْحُ: الشَّقُّ وَالْقَطْعُ، يُقَال: فَلَحَ رَأْسَهُ، وَفَلَحَ الْحَدِيدَ: إذَا شَقَّهُ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ التَّعْرِيفُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الزِّرَاعَةُ:
2 - الزِّرَاعَةُ مِنْ مَعَانِيهَا: طَرْحُ الْبَذْرِ فِي الأَْرْضِ أَوِ الإِْنْبَاتُ.
وَالْعَلاَقَةُ أَنَّ الْفِلاَحَةَ مُقَدِّمَةٌ لِلزِّرَاعَةِ (2) .

ب - الْغَرْسُ:
3 - الْغَرْسُ: وَضْعُ صِغَارِ الشَّجَرِ فِي الأَْرْضِ لِلاِسْتِثْمَارِ.
__________
(1) لسان العرب.
(2) الصحاح للجوهري، والمدخل لابن الحاج 4 / 3، 4.

(32/202)


وَالْعَلاَقَةُ أَنَّ الْفِلاَحَةَ مُقَدِّمَةٌ لِلْغَرْسِ (1) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْفِلاَحَةِ:
حُكْمُ الْفِلاَحَةِ:
4 - الْفِلاَحَةُ فَرْضُ كِفَايَةٍ كَسَائِرِ الْحِرَفِ الَّتِي لاَ يَسْتَقِيمُ نِظَامُ الْحَيَاةِ بِدُونِهَا، فَيَأْثَمُ الْمُسْلِمُونَ بِتَرْكِهَا جَمِيعًا، وَيَسْقُطُ عَنْهُمُ الْفَرْضُ إذَا قَامَ بَعْضُهُمْ بِمَا يَسُدُّ حَاجَةَ الْمُسْلِمِينَ.
وَنَصَّ ابْنُ الْحَاجِّ فِي مَدْخَلِهِ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ يَقُومُ بِهَذَا الْفَرْضِ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ فِيهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، بِنِيَّةِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ لِيَسْقُطَ عَنْهُمْ، (2) فَيَدْخُل بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ. (3)
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الدِّرَايَةِ بِالصَّنْعَةِ، مَعَ النُّصْحِ وَالإِْخْلاَصِ فِي النِّيَّةِ، فَحِينَئِذٍ تَحْصُل الْبَرَكَاتُ، وَتَأْتِي الْخَيْرَاتُ.
وَالْفِلاَحَةُ مِنْ أَفْضَل الْمَكَاسِبِ، وَأَعْظَمِ أَسْبَابِ الرِّزْقِ، وَأَبْرَكِهَا، وَأَزْكَاهَا، وَأَكْثَرِهَا أَجْرًا إذَا كَانَتْ عَلَى وَجْهِهَا الشَّرْعِيِّ، لأَِنَّ خَيْرَهَا مُتَعَدٍّ لِلزَّارِعِ وَلإِِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَالطَّيْرِ، وَالْبَهَائِمِ، وَالْحَشَرَاتِ، (4) جَاءَ فِي
__________
(1) المرجعين السابقين.
(2) المدخل لابن الحاج 4 / 3.
(3) حديث: " والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ". أخرجه مسلم (4 / 2074) من حديث أبي هريرة.
(4) القليوبي 4 / 215، ونهاية المحتاج 8 / 50، والمدخل لابن الحاج 4 / 4، ومواهب الجليل 3 / 348.

(32/203)


الأَْثَرِ الصَّحِيحِ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُل مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ. (1)

إحْيَاءُ الْمَوَاتِ بِالْفِلاَحَةِ:
5 - إذَا قَامَ رَجُلٌ بِفِلاَحَةِ أَرْضٍ مَوَاتٍ صَارَ مُحْيِيًا لَهَا. فَيَمْلِكُهَا بِالإِْحْيَاءِ أَوْ يَخْتَصُّ بِهَا، عَلَى الْخِلاَفِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يُمْلَكُ بِهِ الْمَوَاتُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إحْيَاءُ الْمَوَاتِ ف 9، 24) .

سَقْيُ أَرْضِ الْفِلاَحَةِ بِمَاءٍ نَجِسٍ:
6 - يَجُوزُ سَقْيُ أَرْضِ الْفِلاَحَةِ بِمَاءٍ نَجِسٍ، وَلاَ يَحْرُمُ أَكْل مَا نَبَتَ بِالْمَاءِ الْمُتَنَجِّسِ، مِنْ حَبٍّ، وَثِمَارٍ، عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ طَاهِرٌ، إذْ لاَ يَظْهَرُ فِي ذَلِكَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إلَى نَجَاسَتِهِ، وَحُرْمَةِ أَكْلِهِ، حَتَّى يُسْقَى بِمَاءٍ طَاهِرٍ يَسْتَهْلِكُ عَيْنَ النَّجَاسَةِ.
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ هُوَ طَاهِرٌ كَمَا قَال الْجُمْهُورُ، وَجَزَمَ بِهِ فِي التَّبْصِرَةِ. (2)
__________
(1) حديث: " ما من مسلم يغرس غرسًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 3) ، ومسلم (3 / 1189) من حديث أنس.
(2) مواهب الجليل مع التاج والإكيل 1 / 97.

(32/203)


وَالتَّفْصِيل فِي (نَجَاسَةٌ، وَمَاءٌ، وَأَطْعِمَةٌ فِقْرَةُ 11) .

اسْتِعْمَال الزِّبْل وَالسِّرْجِينِ فِي الْفِلاَحَةِ:
7 - قَال أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: يَجُوزُ اسْتِعْمَال الزِّبْل وَالسِّرْجِينِ فِي الْفِلاَحَةِ لِتَنْمِيَةِ الزَّرْعِ، وَقَالُوا: وَلاَ يَكُونُ النَّابِتُ نَجِسَ عَيْنٍ، وَلَكِنَّهُ يَنْجُسُ بِمُلاَقَاةِ النَّجَاسَةِ، فَيَطْهُرُ بِالْغَسْل.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (زِبْلٌ ف 4)

فَلْسٌ

اُنْظُرْ: إفْلاَسٌ

(32/204)


فُلُوسٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْفُلُوسُ لُغَةً: جَمْعُ فَلْسٍ لِلْكَثْرَةِ، أَمَّا جَمْعُ الْقِلَّةِ فَهُوَ: أَفْلُسُ وَبَائِعُهَا فَلاَّسٌ، وَأَفْلَسَ الرَّجُل: إذَا صَارَ ذَا فُلُوسٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ ذَا دَرَاهِمَ، فَكَأَنَّمَا صَارَتْ دَرَاهِمُهُ فُلُوسًا وَزُيُوفًا، وَفَلَّسَهُ الْقَاضِي تَفْلِيسًا: حَكَمَ بِإِفْلاَسِهِ (1) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ: كُل مَا يَتَّخِذُهُ النَّاسُ ثَمَنًا مِنْ سَائِرِ الْمَعَادِنِ عَدَا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ (2) .
__________
(1) تاج العروس من جواهر القاموس، ولسان العرب.
(2) بدائع الصنائع 5 / 236، والشرح الصغير 1 / 218، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص179. وتسترعي لجنة الموسوعة القارئ إلى أن مصطلح (فلوس) في زماننا يطلق واقعًا وعرفًا على جميع النقود ورقية أو معدنية، وأصبح الفلس يمثل جزءًا من الدينار والدرهم في عدة عملات جملة من البلاد العربية، إذ أن قيمة الفلس مرتبطة بقيمة

(32/204)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الدَّرَاهِمُ:
2 - الدَّرَاهِمُ جَمْعُ دِرْهَمٍ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ النَّقْدِ ضُرِبَ مِنَ الْفِضَّةِ وَسِيلَةً لِلتَّعَامُل. وَالصِّلَةُ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالْفُلُوسِ أَنَّهَا مِنَ الأَْثْمَانِ الَّتِي يُتَعَامَل بِهَا (1) .

ب - الدَّنَانِيرُ:
3 - الدَّنَانِيرُ جَمْعُ دِينَارٍ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ النَّقْدِ ضُرِبَ مِنَ الذَّهَبِ وَسِيلَةً لِلتَّعَامُل.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ أَنَّهَا مِنَ الأَْثْمَانِ الَّتِي يُتَعَامَل بِهَا (2) .

أَحْكَامُ الْفُلُوسِ:
لِلْفُلُوسِ أَحْكَامٌ عَدِيدَةٌ، مِنْهَا:

أَوَّلاً: زَكَاةُ الْفُلُوسِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَكَاةِ الْفُلُوسِ عَلَى اتِّجَاهَاتٍ: فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْفُلُوسَ كَالْعُرُوضِ فَلاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا إلاَّ إذَا عُرِضَتْ لِلتِّجَارَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إلَى أَنَّ الْفُلُوسَ الرَّائِجَةَ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ مُطْلَقًا كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، لأَِنَّهَا أَثْمَانٌ مُطْلَقًا، فَإِذَا
__________
(1) لسان العرب، والأموال لأبي عبيد ص629، وفتوح البلدان 451 ومقدمة ابن خلدون 183.
(2) المراجع السابقة.

(32/205)


كَسَدَتْ عُدَّتْ عُرُوضًا فَلَمْ تَجِبْ فِيهَا الزَّكَاةُ إلاَّ إذَا عُرِضَتْ لِلتِّجَارَةِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي الْفُلُوسِ النُّحَاسِيَّةِ فَلاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهَا لِخُرُوجِهَا عَمَّا وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ مِنَ النَّعَمِ وَالأَْصْنَافِ الْمَخْصُوصَةِ مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ فُلُوسٌ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا، إلاَّ أَنْ يَكُونَ مُدِيرًا (مُتَاجِرًا بِهَا) فَيُقَوِّمُهَا كَالْعُرُوضِ، أَمَّا الْمُحْتَكِرُ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ ثَمَنِهَا، وَحِينَ تَكُونُ الْفُلُوسُ لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ أَقَامَتْ - أَيْ بَقِيَتْ - عِنْدَ مَالِكِهَا سِنِينَ ثُمَّ بَاعَهَا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَلَيْسَ فِيهَا إلاَّ زَكَاةُ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ كَسَائِرِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ الْمُحْتَكَرَةِ. (1)

ثَانِيًا: رِبَوِيَّةُ الْفُلُوسِ:
5 - اتَّجَهَ الْفُقَهَاءُ فِي رِبَوِيَّةِ الْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ اتِّجَاهَاتٍ ثَلاَثَةً:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل الشَّيْخَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهَا لَيْسَتْ أَثْمَانًا رِبَوِيَّةً وَأَنَّهَا كَالْعُرُوضِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 300، وحاشية العدوي على الخرشي 2 / 177، 179، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 455، وتهذيب الفروق على هامش فروق القرافي 3 / 252، ومغني المحتاج 1 / 398، وكشاف القناع 2 / 235، ومطالب أولي النهى 2 / 89، وشرح منتهى الإرادات 1 / 401.

(32/205)


وَالاِتِّجَاهُ الثَّانِي: قَوْل مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهَا رِبَوِيَّةٌ وَهِيَ كَالنُّقُودِ.
الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهَا وَسَطٌ بَيْنَ الْعُرُوضِ وَالنُّقُودِ، فَهِيَ كَالنَّقْدِ فِي نَحْوِ الصَّرْفِ وَالرِّبَا، وَهِيَ كَالْعُرُوضِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا الاِتِّجَاهِ يُكْرَهُ التَّفَاضُل عِنْدَ بَيْعِ الْفُلُوسِ بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلاً مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ، وَالْكَرَاهَةُ تَنْزِيهِيَّةٌ عَنِ الرِّبَا وَتُسْتَحَبُّ شُرُوطُ الصَّرْفِ.
أَمَّا إذَا كَانَتِ الْفُلُوسُ كَاسِدَةً غَيْرَ رَائِجَةٍ فَهِيَ عُرُوضٌ بِاتِّفَاقٍ. (1)

تَغْيِيرُ الْفُلُوسِ:
6 - قَدْ تَتَغَيَّرُ الْفُلُوسُ بِمَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا مِنْ كَسَادٍ أَوِ انْقِطَاعٍ أَوْ رُخْصِ قِيمَتِهَا وَغَلاَئِهَا، وَهَذَا مِمَّا يُؤَدِّي إلَى عَدَمِ اعْتِمَادِهَا فِي سُوقِ التَّعَامُل.
وَتَكْسُدُ الْفُلُوسُ بِتَرْكِ التَّعَامُل بِهَا فِي جَمِيعِ الْبِلاَدِ، وَتَنْقَطِعُ بِأَنْ لاَ تُوجَدَ إلاَّ فِي أَيْدِي الصَّيَارِفَةِ أَوْ يُلْغِيَهَا السُّلْطَانُ، وَتَرْخُصُ
__________
(1) العناية شرح الهداية بهامش فتح القدير 5 / 287 ط بولاق، وحاشية ابن عابدين 5 / 180، وفتح القدير 5 / 14، وتهذيب الفروق 3 / 251 - 252، وحاشية القليوبي وعميرة 2 / 170 ومغني المحتاج 2 / 25، 4 / 159، والمغني مع الشرح الكبير 4 / 108 - 109، وكشاف القناع 3 / 264، وحاشية الدسوقي 3 / 517، والمحلي على منهاج الطالبين 2 / 170، 3 / 52، وشرح منتهى الإرادات 2 / 32.

(32/206)


قِيمَتُهَا وَتَزِيدُ بِحَسَبِ مَا تُسَاوِيهِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
فَإِذَا طَرَأَ مِثْل هَذِهِ الأُْمُورِ عَلَى الْفُلُوسِ وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي الذِّمَمِ، فَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ قَضَاءِ هَذِهِ الدُّيُونِ عَلَى النَّحْوِ الآْتِي:

أَوَّلاً - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:
7 - الْفُلُوسُ النَّافِقَةُ إذَا اشْتَرَى بِهَا أَحَدٌ ثُمَّ كَسَدَتْ أَوِ انْقَطَعَتْ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَبْطُل، وَيَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّ الْمَبِيعِ إنْ كَانَ قَائِمًا، فَإِنْ كَانَ هَالِكًا فَيَرُدُّ مِثْلَهُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَإِلاَّ فَيَرُدُّ قِيمَتَهُ، وَهَذَا إنْ كَانَ الْقَبْضُ حَاصِلاً، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَبِيعُ مَقْبُوضًا فَلاَ حُكْمَ لِهَذَا الْبَيْعِ أَصْلاً، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لاَ يَبْطُل الْبَيْعُ، لأَِنَّ الْمُتَعَذِّرَ إنَّمَا هُوَ التَّسْلِيمُ بَعْدَ الْكَسَادِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْفَسَادِ لاِحْتِمَال زَوَال الْكَسَادِ بِالرَّوَاجِ كَمَا لَوِ اشْتَرَى شَيْئًا بِالرَّطْبَةِ ثُمَّ انْقَطَعَ، فَإِذَا لَمْ يَتَقَرَّرْ بُطْلاَنُ الْبَيْعِ وَتَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ وَجَبَتْ قِيمَتُهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ فِي وَقْتِ الْقِيمَةِ، فَقَال أَبُو يُوسُفَ: تَجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْبَيْعِ، وَقَال مُحَمَّدٌ: تَجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْكَسَادِ وَهُوَ آخِرُ مَا يَتَعَامَل بِهِ النَّاسُ، وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْفَتْوَى عَلَى الْقَوْلَيْنِ، فَفِي الذَّخِيرَةِ الْبُرْهَانِيَّةِ: أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ، وَفِي الْمُحِيطِ

(32/206)


وَالتَّتِمَّةِ وَالْحَقَائِقِ: الْفَتْوَى عَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ رِفْقًا بِالنَّاسِ.
وَلَوْ غَلَتِ الْفُلُوسُ فَالْبَيْعُ عَلَى حَالِهِ وَلاَ خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، أَمَّا إذَا رَخُصَتْ قِيمَتُهَا وَنَقَصَتْ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلدَّائِنِ إلاَّ الْمِثْل، وَبِهِ قَال أَبُو يُوسُفَ أَوَّلاً، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ هَذَا الْقَوْل لِيَقُول قَوْلاً ثَانِيًا وَهُوَ: أَنَّ عَلَى الْمَدِينِ قِيمَةَ الْفُلُوسِ يَوْمَ الْبَيْعِ، وَالْفَتْوَى عَلَى هَذَا الْقَوْل.
وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْخِلاَفِ فِي الْفُلُوسِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَّةِ بِسَبَبِ الْبَيْعِ الْمُؤَجَّل الثَّمَنِ يُقَال فِي الْفُلُوسِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا بِسَبَبِ الْقَرْضِ وَالْمَهْرِ الْمُؤَجَّل وَشِبْهِهِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ يُؤَثِّرُ الاِنْقِطَاعُ وَالْكَسَادُ وَالرُّخْصُ وَالْغَلاَءُ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَدِينِ رَدُّ الْمِثْل، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَرُدُّ الْقِيمَةَ بِالذَّهَبِ يَوْمَ الْبَيْعِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَيَرُدُّ الْقِيمَةَ يَوْمَ الْكَسَادِ أَوِ الاِنْقِطَاعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، أَمَّا فِي الرُّخْصِ فَيَجِبُ رَدُّ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْقَرْضِ. (1)
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: إنَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْحَال هُوَ: دَفْعُ النَّوْعِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ مِنَ النُّقُودِ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا وَقَدْ أَفْتَى شَيْخُ ابْنِ عَابِدِينَ وَتَابَعَهُ ابْنُ عَابِدِينَ بِلُزُومِ الصُّلْحِ بَيْنَ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 242 ط2، فتح القدير 5 / 285، تنبيه الرقود على مسائل النقود لابن عابدين ضمن مجموعة رسائله ص58 وبعدها.

(32/207)


الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي عَلَى نَوْعِ الْوَفَاءِ. (1)
هَذَا وَقَدْ أَوْرَدَ الْكَاسَانِيُّ صُوَرًا مِنْ صَرْفِ الْفُلُوسِ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ظَهَرَ اسْتِحْقَاقُ الْفُلُوسِ.
مِثَالُهُ: لَوِ اشْتَرَى بِدِرْهَمٍ فُلُوسًا وَتَقَابَضَا وَافْتَرَقَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتِ الْفُلُوسُ مِنْ يَدِهِ، وَأَخَذَهَا الْمُسْتَحِقُّ، فَإِنَّ الْعَقْدَ لاَ يَبْطُل لأَِنَّهُ بِالاِسْتِحْقَاقِ وَإِنِ انْتَقَضَ الْقَبْضُ وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ إلاَّ أَنَّ الاِفْتِرَاقَ يَصِيرُ كَأَنَّهُ حَصَل عَنْ قَبْضِ الدَّرَاهِمِ دُونَ الْفُلُوسِ، وَهَذَا غَيْرُ مُوجِبٍ لِبُطْلاَنِ الْعَقْدِ، وَعَلَى بَائِعِ الْفُلُوسِ أَنْ يَنْقُدَ مِثْلَهَا، وَنَفْسُ الْحُكْمِ فِيمَا إذَا اُسْتُحِقَّ بَعْضُهَا، وَأُخِذَ قَدْرُ الْمُسْتَحَقِّ، فَعَلَى بَائِعِ الْفُلُوسِ أَنْ يَنْقُدَ مِثْل الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ، وَمِثْلُهُ لَوْ وَجَدَ بَعْضَ الْفُلُوسِ كَاسِدَةً يَرُدُّ الْبَائِعُ بِقَدْرِ الْكَاسِدِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ الْفُلُوسَ وَلَمْ يَنْقُدِ الدَّرَاهِمَ وَافْتَرَقَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتِ الْفُلُوسُ، فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ أَجَازَ نَقْدَ الْبَائِعِ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ، لأَِنَّ الإِْجَازَةَ اسْتَنَدَتْ إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ فَجَازَ النَّقْدُ وَالْعَقْدُ، وَيَرْجِعُ الْمُسْتَحِقُّ عَلَى بَائِعِ الْفُلُوسِ بِمِثْلِهَا، وَيَنْقُدُ الْمُشْتَرِي الدَّرَاهِمَ لِبَائِعِ الْفُلُوسِ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُجِزْ وَأَخَذَ الْفُلُوسَ وَبَطَل الْعَقْدُ لأَِنَّهُ
__________
(1) تنبيه الرقود ص64.

(32/207)


تَبَيَّنَ أَنَّ افْتِرَاقَهُمَا حَصَل لاَ عَنْ قَبْضٍ أَصْلاً. (1)

ثَانِيًا - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:
8 - الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْفُلُوسَ إذَا قُطِعَ التَّعَامُل بِهَا أَوْ تَغَيَّرَتْ نَقْصًا أَوْ زِيَادَةً وَكَانَتْ ثَابِتَةً فِي الذِّمَّةِ بِسَبَبِ قَرْضٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّ لِلدَّائِنِ الْمِثْل.
أَمَّا إذَا عُدِمَتْ فَإِنَّ الْوَاجِبَ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْحُكْمِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْمَدِينِ الْمُمَاطِل وَغَيْرِهِ، وَقَيَّدَ بَعْضُهُمْ وُجُوبَ الْقِيمَةِ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنِ الْمَدِينُ مُمَاطِلاً، فَإِنْ كَانَ مُمَاطِلاً فَإِنَّ لَهُ الأَْحَظَّ مِنْ أَخْذِ الْقِيمَةِ أَوْ مِمَّا آل إلَيْهِ الأَْمْرُ مِنَ السِّكَّةِ الْجَدِيدَةِ الزَّائِدَةِ عَنِ الْقَدِيمَةِ، وَهَذَا هُوَ الأَْظْهَرُ - كَمَا يَقُول الصَّاوِيُّ - بِسَبَبِ ظُلْمِ الْمَدِينِ بِمَطْلِهِ. وَذَكَرَ الْخَرَشِيُّ أَنَّ لَهُ قِيمَتَهَا وَقْتَ أَبْعَدِ الأَْجَلَيْنِ عِنْدَ تَخَالُفِ الْوَقْتَيْنِ مِنَ الْعَدَمِ وَالاِسْتِحْقَاقِ، فَلَوْ كَانَ انْقِطَاعُ التَّعَامُل بِهَا أَوْ تَغَيُّرُهَا نَقْصًا أَوْ غَلاَءً أَوَّل الشَّهْرِ الْفُلاَنِيِّ وَإِنَّمَا حَل الأَْجَل آخِرَهُ فَلَهُ الْقِيمَةُ آخِرَهُ، وَبِالْعَكْسِ بِأَنْ حَل الأَْجَل أَوَّلَهُ وَعَدِمَتْ آخِرَهُ فَإِنَّ لَهُ الْقِيمَةَ يَوْمَ الْعَدَمِ. (2)
وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلٌ شَاذٌّ فِي
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 242.
(2) المدونة 8 / 153، الخرشي 5 / 55، حاشية الدسوقي 3 / 40، بلغة السالك 2 / 23.

(32/208)


الْمَذْهَبِ وَهُوَ وُجُوبُ الْقِيمَةِ إذَا بَطَلَتِ الْفُلُوسُ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ الصَّائِغِ وَمَعْزُوٌّ إلَى أَشْهَبَ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْل أَنَّ الْبَائِعَ دَفَعَ شَيْئًا مُنْتَفَعًا بِهِ لأَِخْذِ شَيْءٍ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَلاَ يُظْلَمُ بِإِعْطَاءِ مَا لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَقِيل: الْوَاجِبُ قِيمَةُ السِّلْعَةِ يَوْمَ دَفْعِهَا لاَ قِيمَةُ السِّكَّةِ الَّتِي انْقَطَعَتْ.
وَقَدْ قَال الرَّهُونِيُّ: ظَاهِرُ كَلاَمِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْل الْمَذْهَبِ وَصَرِيحُ كَلاَمِ آخَرِينَ مِنْهُمْ: أَنَّ الْخِلاَفَ السَّابِقَ مَحَلُّهُ إذَا قُطِعَ التَّعَامُل بِالسِّكَّةِ الْقَدِيمَةِ جُمْلَةً، وَأَمَّا إذَا تَغَيَّرَتْ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ فَلاَ، ثُمَّ أَرْدَفَ الرَّهُونِيُّ قَائِلاً: وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ ذَلِكَ بِمَا إذَا لَمْ يَكْثُرْ ذَلِكَ جِدًّا حَتَّى يَصِيرَ الْقَابِضُ لَهَا كَالْقَابِضِ لِمَا لاَ كَبِيرَ مَنْفَعَةٍ فِيهِ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الَّتِي عَلَّل بِهَا الْمُخَالِفُ. (1)

ثَالِثًا - مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ:
9 - الَّذِي عَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْفُلُوسَ الثَّابِتَةَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ سَلَفٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ أَبْطَلَهَا السُّلْطَانُ فَلَيْسَ لِلدَّائِنِ إلاَّ مِثْل فُلُوسِهِ الَّتِي سَلَفَ أَوْ بَاعَ بِهَا حِينَ الْعَقْدِ.
وَنَفْسُ الْحُكْمِ يُقَال فِيمَا لَوْ رَخُصَتْ أَوْ
__________
(1) شرح الزرقاني على مختصر تحليل خليل وحاشية الرهوني عليه 5 / 60.

(32/208)


غَلَتِ الْفُلُوسُ لَيْسَ لَهُ إلاَّ الْمِثْل، وَهَذَا هُوَ رَأْيُ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَجْهًا فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّ الْبَائِعَ بِالْفُلُوسِ الَّتِي أَبْطَلَهَا السُّلْطَانُ: إنْ شَاءَ أَجَازَ الْبَيْعَ بِذَلِكَ النَّقْدِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَهُ كَمَا لَوْ تَعَيَّبَ قَبْل الْقَبْضِ. (1)

رَابِعًا - مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ:
10 - يَذْهَبُ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ مَبْلَغَ الْقَرْضِ لَوْ كَانَ فُلُوسًا فَأَبْطَلَهَا السُّلْطَانُ وَتُرِكَتِ الْمُعَامَلَةُ بِهَا كَانَ لِلْمُقْرِضِ قِيمَتُهَا وَلَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ قَائِمَةً فِي يَدِهِ أَوِ اسْتَهْلَكَهَا، وَيُقَوِّمُهَا كَمْ تُسَاوِي يَوْمَ أَخَذَهَا ثُمَّ يُعْطِيهِ، وَسَوَاءٌ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا، فَإِذَا لَمْ يُبْطِلْهَا السُّلْطَانُ وَجَبَ رَدُّ الْمِثْل، سَوَاءٌ رَخُصَتْ أَوْ غَلَتْ أَوْ كَانَتْ بِحَالِهَا. (2)
__________
(1) الأم 3 / 33 طبعة دار المعرفة، وقطع المجادلة ضمن كتاب الحاوي 1 / 97، والمجموع شرح المهذب 9 / 282.
(2) المغني والشرح الكبير 4 / 365، 358، مطالب أولي النهى 3 / 241.

(32/209)


فَمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْفَمُ مِنَ الإِْنْسَانِ: فَتْحَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي الْوَجْهِ وَرَاءَهَا تَجْوِيفٌ يَحْتَوِي عَلَى جِهَازَيِ الْمَضْغِ وَالنُّطْقِ.
وَيُسْتَعْمَل لِغَيْرِ الإِْنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ مَجَازًا، فَيُقَال: فَمُ الْقِرْبَةِ وَفَمُ التُّرْعَةِ، لِمَدْخَل الْمَاءِ، وَفَمُ الْوَادِي: أَوَّلُهُ. (1)
وَفِي الْكُلِّيَّاتِ: الْفَمُ هُوَ الْوِعَاءُ الْكُلِّيُّ لأَِعْضَاءِ الْكَلاَمِ فِي الإِْنْسَانِ، وَالتَّصْوِيتِ فِي سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الْمُصَوِّتَةِ، وَالشَّفَتَانِ غِطَاؤُهُ (2) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْفَمِ:
يَتَعَلَّقُ بِالْفَمِ مِنَ الأَْحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ مَا يَأْتِي:

أ - غَسْل الْفَمِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الشَّفَتَيْنِ - وَهُوَ مَا يَظْهَرُ عِنْدَ انْضِمَامِهِمَا - جُزْءٌ مِنَ الْوَجْهِ،
__________
(1) المعجم الوسيط، والمصباح المنير
(2) الكليات للكفوي 3 / 355.

(32/209)


وَمِنْ ثَمَّ يَجِبُ غَسْلُهُ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل. (1)
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ غَسْل بَاطِنِ الْفَمِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - إلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ غَسْل بَاطِنِ الْفَمِ فِي الْوُضُوءِ، بَل يُسَنُّ وَذَلِكَ فِي الْمَضْمَضَةِ وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْغُسْل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ بِفَرْضِيَّةِ غَسْل الْفَمِ - الْمَضْمَضَةِ - فِي الْغُسْل. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْفَمَ مِنَ الْوَجْهِ، فَتَجِبُ الْمَضْمَضَةُ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل (3) لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْمَضْمَضَةُ وَالاِسْتِنْشَاقُ مِنَ الْوُضُوءِ الَّذِي لاَ بُدَّ مِنْهُ (4) .
وَفِي حَدِيثِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إذَا تَوَضَّأْتَ فَمَضْمِضْ. (5)

ب) تَغْطِيَةُ الْفَمِ فِي الصَّلاَةِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّلَثُّمِ فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 66، والفتاوى الهندية 1 / 4، وجواهر الإكليل 1 / 38، وكشاف القناع 1 / 96.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 102، والفتاوى الهندية 1 / 6، 13، وحاشية الدسوقي 1 / 97، 136، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 1 / 43، 63.
(3) كشاف القناع 1 / 96.
(4) حديث: " المضمضة والاستنشاق من. . . ". أخرجه الدارقطني (1 / 84) وأعله بأن الصواب إرساله.
(5) حديث: " إذا توضأت فمضمض ". أخرجه أبو داود (1 / 100) .

(32/210)


الصَّلاَةِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُل فَاهُ فِي الصَّلاَةِ. (1)
وَالتَّلَثُّمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ تَغْطِيَةُ الْفَمِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: هُوَ تَغْطِيَةُ الْفَمِ وَالأَْنْفِ.
وَهُوَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا يَصِل لآِخِرِ الشَّفَةِ السُّفْلَى. (2)

ج) تَقْبِيل الْفَمِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ تَقْبِيل الْفَمِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الرَّجُل مَعَ الرَّجُل، أَوِ الْمَرْأَةُ مَعَ الْمَرْأَةِ.
قَال الْحَنَابِلَةُ: لأَِنَّهُ قَل أَنْ يَقَعَ كَرَامَةً.
وَالْكَرَاهَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَرَاهَةٌ تَحْرِيمِيَّةٌ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا يَكُونُ عَنْ شَهْوَةٍ، أَمَّا إنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمَبَرَّةِ وَالإِْكْرَامِ فَجَائِزٌ.
وَمَنَعَ الْحَنَابِلَةُ أَنْ يُقَبِّل الرَّجُل مَحَارِمَهُ عَلَى الْفَمِ مُطْلَقًا.
وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا إنْ كَانَ بِلاَ حَاجَةٍ وَلاَ شَفَقَةٍ، وَأَجَازُوهُ إنْ كَانَ لَهُمَا.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ تَقْبِيل ابْنَتِهِ أَوْ أُخْتِهِ أَوْ أُمِّهِ
__________
(1) حديث: " نهى أن يغطي الرجل فاه. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 423) والحاكم (1 / 353) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 439، حاشية الدسوقي 1 / 218، المجموع 3 / 179، كشاف القناع 1 / 275.

(32/210)


فَمَهُ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ، أَمَّا تَقْبِيل الزَّوْجِ فَمَ زَوْجَتِهِ وَالْعَكْسُ فَجَائِزٌ بِالاِتِّفَاقِ. (1)

فَهْدٌ

اُنْظُرْ: أَطْعِمَةٌ

فَوَائِتُ

اُنْظُرْ: قَضَاءُ الْفَوَائِتِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 244، والبناية في شرح الهداية 9 / 326، والفواكه الدواني 2 / 425، وروض الطالب 3 / 114، وحواشي الشرواني وابن القاسم العبادي على تحفة المحتاج 7 / 202، وكشاف القناع 5 / 16، والآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 275، 279.

(32/211)


فَوَات
التَّعْرِيفُ:
1 - الْفَوَاتُ لُغَةً: مَصْدَرُ فَاتَ الأَْمْرُ يَفُوتُهُ فَوْتًا وَفَوَاتًا: ذَهَبَ عَنْهُ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا بِمَعْنَى السَّبْقِ، تَقُول: فَاتَنِي فُلاَنٌ بِكَذَا: أَيْ سَبَقَنِي بِهِ. (1)
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ خُرُوجُ الْعَمَل الْمَطْلُوبِ شَرْعًا عَنْ وَقْتِهِ الْمُحَدَّدِ لَهُ شَرْعًا. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: فَائِتُ الْحَجِّ هُوَ الَّذِي أَحْرَمَ بِهِ ثُمَّ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَلَمْ يُدْرِكْ شَيْئًا مِنْهُ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأَْدَاءُ:
2 - الأَْدَاءُ لُغَةً: الإِْيصَال، وَفِي اصْطِلاَحِ الْجُمْهُورِ مِنَ الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ: الأَْدَاءُ فِعْل بَعْضٍ، وَقِيل: كُل مَا دَخَل وَقْتُهُ قَبْل خُرُوجِهِ وَاجِبًا كَانَ أَوْ مَنْدُوبًا.
__________
(1) القاموس المحيط للفيروز آبادي، والنهاية، والمفردات للراغب الأصفهاني.
(2) المسلك المتقسط للقاري ص283، وبدائع الصنائع 2 / 133 - 136.

(32/211)


وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الأَْدَاءُ تَسْلِيمُ عَيْنِ مَا ثَبَتَ بِالأَْمْرِ.
وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي التَّعْرِيفِ التَّقْيِيدُ بِالْوَقْتِ لِيَشْمَل أَدَاءَ الزَّكَاةِ وَالأَْمَانَاتِ، وَالْمَنْذُورَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ، كَمَا أَنَّهُ يَعُمُّ فِعْل الْوَاجِبِ وَالنَّفَل. (1)
وَالأَْدَاءُ خِلاَفُ الْفَوَاتِ.

ب - الْقَضَاءُ:
3 - مِنْ مَعَانِي الْقَضَاءِ فِي اللُّغَةِ: الأَْدَاءُ يُقَال: قَضَيْتُ الْحَجَّ وَالدَّيْنَ: أَدَّيْتُهُ، قَال تَعَالَى {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} ، (2) أَيْ أَدَّيْتُمُوهَا، فَالْقَضَاءُ هُنَا بِمَعْنَى الأَْدَاءِ. وَاسْتَعْمَل الْعُلَمَاءُ الْقَضَاءَ فِي الْعِبَادَةِ الَّتِي تُفْعَل خَارِجَ وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ شَرْعًا، وَالأَْدَاءَ إذَا فُعِلَتْ فِي الْوَقْتِ الْمَحْدُودِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ لَكِنَّهُ اصْطِلاَحٌ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ. (3)
وَالْفَوَاتُ يَكُونُ سَبَبًا لِلْقَضَاءِ.

ج - الإِْحْصَارُ:
4 - الإِْحْصَارُ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ.
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ الْمَنْعُ مِنْ إتْمَامِ أَرْكَانِ
__________
(1) التوضيح والتلويح 1 / 161 - 162 وكشف الأسرار عن أصول البرذوي 1 / 135 - 136.
(2) سورة البقرة / 200.
(3) المصباح المنير.

(32/212)


الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ. (1)
وَالإِْحْصَارُ سَبَبٌ لِلْفَوَاتِ.

د - الإِْفْسَادُ:
5 - الإِْفْسَادُ لُغَةً: ضِدُّ الإِْصْلاَحِ. (2)
وَاصْطِلاَحًا: جَعْل الشَّيْءِ فَاسِدًا، سَوَاءٌ وُجِدَ صَحِيحًا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْمُفْسِدُ، كَمَا لَوِ انْعَقَدَ الْحَجُّ صَحِيحًا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ مَا يُفْسِدُهُ، كَالْجِمَاعِ قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، أَوْ وُجِدَ الْفَسَادُ مَعَ الْعَقْدِ، كَبَيْعِ الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ. (3)
وَالإِْفْسَادُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلْفَوَاتِ.

مَا يَحْصُل بِهِ الْفَوَاتُ فِي الْعِبَادَاتِ:
6 - الْعِبَادَاتُ الْمُحَدَّدَةُ بِوَقْتٍ تَفُوتُ بِذَهَابِ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لَهَا مِنْ غَيْرِ أَدَاءٍ، وَتَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ - أَيْ تُصْبِحُ دَيْنًا ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ - إلَى أَنْ تُقْضَى.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: أَدَاءٌ ف 7) .
7 - الْعِبَادَاتُ الْوَاجِبَةُ الْمُطْلَقَةُ: كَالْكَفَّارَاتِ، وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ اخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ وُجُوبِ أَدَائِهَا، هَل هُوَ عَلَى الْفَوْرِ، أَوْ عَلَى التَّرَاخِي، لَكِنَّ الْجَمِيعَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الأَْدَاءِ يَتَضَيَّقُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ فِي زَمَانٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ الأَْدَاءِ قَبْل مَوْتِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ غَالِبِ ظَنِّهِ.
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 473.
(2) لسان العرب.
(3) المنثور للزركشي 3 / 7، وحاشية ابن عابدين 4 / 199.

(32/212)


وَلِلتَّفْصِيل (ر: أَدَاءٌ ف 8) .
وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ الْوَاجِبَ الْمُطْلَقَ يَفُوتُ الْمُكَلَّفَ بِوَفَاتِهِ. (1)

فَوَاتُ الْحَجِّ:
8 - اُخْتُصَّ الْحَجُّ بِأَنَّ لِفَوَاتِهِ حَالَيْنِ:
الأُْولَى: وَفَاةُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ قَبْل أَدَائِهِ، وَذَلِكَ سَوَاءٌ عَلَى الْقَوْل بِوُجُوبِهِ عَلَى التَّرَاخِي، أَوْ عَلَى الْفَوْرِ. (2)
الثَّانِيَةُ: أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ يَفُوتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ بِحَيْثُ لاَ يُدْرِكُ شَيْئًا مِنْهُ فِي وَقْتِهِ الْمُحَدَّدِ وَمَكَانِهِ الْمُحَدَّدِ، وَلَوْ سَاعَةً لَطِيفَةً، أَيْ أَدْنَى فَتْرَةٍ مِنَ الزَّمَنِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ إطْلاَقِهِمْ " فَوَاتُ " أَوْ " فَاتَهُ الْحَجُّ ".
وَلِلتَّفْصِيل (ر: حَجٌّ ف 123) .
9 - وَالأَْصْل فِي الْحُكْمِ بِفَوَاتِ الْحَجِّ بِفَوَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ هُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَجُّ عَرَفَةَ مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْل طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ. (3)
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَالاِسْتِدْلاَل بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَعَل الْحَجَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ،
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 221، والمسلك المتقسط ص285.
(2) بدائع الصنائع 2 / 221.
(3) حديث: " الحج عرفة. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 228) والحاكم (1 / 464) من حديث عبد الرحمن بن يعمر، وصححه ووافقه الذهبي.

(32/213)


فَإِذَا وُجِدَ فَقَدْ وُجِدَ الْحَجُّ، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ لاَ يَكُونُ مَوْجُودًا وَفَائِتًا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَل تَمَامَ الْحَجِّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّمَامُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النُّقْصَانِ، لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يَثْبُتُ بِالْوُقُوفِ وَحْدَهُ، فَيَدُل عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْخُرُوجُ عَنِ احْتِمَال الْفَوَاتِ. (1)
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَاتُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، فَلْيُحِل بِعُمْرَةٍ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ. (2) وَبِذَلِكَ ثَبَتَتِ الآْثَارُ عَنِ الصَّحَابَةِ، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: مَنْ لَمْ يُدْرِكْ عَرَفَةَ قَبْل أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، فَلْيَأْتِ الْبَيْتَ فَلْيَطُفْ بِهِ سَبْعًا وَيَطَّوَّفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا، ثُمَّ لِيَحْلِقْ أَوْ يُقَصِّرْ إنْ شَاءَ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيُهُ فَلْيَنْحَرْهُ قَبْل أَنْ يَحْلِقَ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ فَلْيَحْلِقْ أَوْ يُقَصِّرْ ثُمَّ لِيَرْجِعْ إلَى أَهْلِهِ (3) .
وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ حَاجًّا، حَتَّى
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 220.
(2) حديث: " من وقف بعرفات بليل. . . " أخرجه الدارقطني (2 / 241) من حديث ابن عمر، ثم ذكر تضعيف أحد رواته.
(3) أثر ابن عمر: " من لم يدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر. . . " أخرجه البيهقي (5 / 174) .

(32/213)


إذَا كَانَ بِالنَّازِيَّةِ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ ضَلَّتْ رَاحِلَتُهُ، فَقَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ النَّحْرِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَال لَهُ عُمَرُ: اصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْمُعْتَمِرُ ثُمَّ قَدْ حَلَلْتَ.
كَمَا رُوِيَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الآْثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ.
قَال ابْنُ رُشْدٍ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَأَنَّهُ مَنْ فَاتَهُ فَعَلَيْهِ حَجٌّ مِنْ قَابِلٍ (1) . وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَإِنَّهَا لاَ تَفُوتُ بَعْدَ الإِْحْرَامِ بِهَا بِالإِْجْمَاعِ، لأَِنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ، إنَّمَا تَفُوتُ بِفَوَاتِ الْعُمُرِ. (2)
(ر: عُمْرَةٌ) .

تَحَلُّل مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ:
10 - لَمَّا كَانَ لِلْحَجِّ وَقْتٌ مُحَدَّدٌ مِنَ الْعَامِ لاَ يُؤَدَّى فِي غَيْرِهِ، وَلاَ يَكُونُ الْحَجُّ فِي الْعَامِ إلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَمَّا كَانَ الإِْحْرَامُ بِالْحَجِّ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ، وَلَهُ مَحْظُورَاتٌ يَجِبُ اجْتِنَابُهَا، وَيَشُقُّ تَحَمُّلُهَا زَمَنًا طَوِيلاً، فَقَدْ شُرِعَ لِمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِفَوَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَنْ يَتَحَلَّل بِأَعْمَال الْعُمْرَةِ مِنْ إحْرَامِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَجُّ فَرْضًا أَوْ نَفْلاً، صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا،
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 335.
(2) المسلك المتقسط ص285.

(32/214)


وَسَوَاءٌ كَانَ الْفَوَاتُ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ.
وَهَذَا التَّحَلُّل وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ بَقِيَ مُحْرِمًا إلَى الْعَامِ الْقَادِمِ وَصَابَرَ الإِْحْرَامَ، فَحَجَّ بِذَلِكَ الإِْحْرَامِ لَمْ يَصِحَّ حَجُّهُ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بِمَا سَبَقَ مِنَ الأَْدِلَّةِ وَالآْثَارِ حَتَّى قِيل: هُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ. (1)
وَلأَِنَّ مُوجَبَ إحْرَامِ حَجِّهِ تَغَيَّرَ شَرْعًا بِالْفَوَاتِ، فَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ غَيْرُ مُوجَبِهِ (2) وَعَلَّل الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لِئَلاَّ يَصِيرَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ. (3)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ مُخَيَّرٌ، إنْ شَاءَ بَقِيَ عَلَى إحْرَامِهِ لِلْعَامِ الْقَابِل، وَإِنْ شَاءَ تَحَلَّل، وَالتَّحَلُّل أَفْضَل مُطْلَقًا حَسَبَ ظَاهِرِ الْحَنَابِلَةِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إنْ دَخَل مَكَّةَ أَوْ قَارَبَهَا فَالأَْفْضَل لَهُ التَّحَلُّل، وَكُرِهَ إبْقَاءُ إحْرَامِهِ، فَإِنْ هَذَا مَحَلُّهُ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهَا فَيُخَيَّرُ بَيْنَ الْبَقَاءِ عَلَى الإِْحْرَامِ وَالإِْحْلاَل عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ. (4) وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا التَّخْيِيرِ بِمَا قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ: إنَّ تَطَاوُل الْمُدَّةِ بَيْنَ الإِْحْرَامِ وَفِعْل
__________
(1) المجموع 8 / 234.
(2) المسلك المتقسط ص284.
(3) المجموع 8 / 234، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 489، 480، ط بولاق وهذا بناء على مذهب الشافعية أنه لا يصح الإحرام بالحج في غير أشهر الحج، كما سبق في الإحرام (ف 34) .
(4) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 95، والمغني 3 / 529.

(32/214)


النُّسُكِ لاَ يَمْنَعُ إتْمَامَهُ كَالْعُمْرَةِ، وَالْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ (1) .

كَيْفِيَّةُ تَحَلُّل مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ:
11 - يَظَل الْحَاجُّ الَّذِي فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ عَلَى إحْرَامِهِ، وَاجْتِنَابِ مَحْظُورَاتِهِ وَمُرَاعَاةِ أَحْكَامِهِ وَتَلْبِيَتِهِ، حَتَّى يَتَحَلَّل مِنْ إحْرَامِهِ.
وَيَحْصُل التَّحَلُّل لِمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَحَلْقِ الرَّأْسِ أَوْ تَقْصِيرِهِ، بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ، وَهَذِهِ هِيَ أَفْعَال الْعُمْرَةِ.
12 - لَكِنْ هَل هَذِهِ الأَْفْعَال هِيَ عَمْرَةٌ حَقِيقِيَّةٌ أَمْ لاَ؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهَا أَفْعَال عُمْرَةٍ، وَلَيْسَتْ عُمْرَةً حَقِيقِيَّةً، لِذَلِكَ عَبَّرُوا بِقَوْلِهِمْ " أَفْعَال عُمْرَةٍ " كَمَا ذَكَرْنَا " وَبِعَمَل عُمْرَةٍ " وَلاَ يَنْقَلِبُ إحْرَامُهُ عُمْرَةً، بَل إنَّ إحْرَامَهُ بِالْحَجِّ بَاقٍ إلَى أَنْ يَتَحَلَّل بِأَفْعَال الْعُمْرَةِ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَال ابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ. (2)
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجْعَل إحْرَامَهُ بِعُمْرَةٍ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ (3) ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ مِنَ
__________
(1) المغني 3 / 529.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 95، وبدائع الصنائع 2 / 220، ومغني المحتاج 1 / 537، والمغني 3 / 529.
(3) المغني 3 / 529.

(32/215)


الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَنْقَلِبُ إحْرَامُهُ بِعُمْرَةٍ. (1)
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِالآْثَارِ الْوَارِدَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَفِيهَا قَوْلُهُمْ: اصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْمُعْتَمِرُ، وَيَذْكُرُونَ الأَْعْمَال: الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ وَالْحِلاَقِ، وَلَمْ يُسَمُّوهَا عُمْرَةً.
وَبِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لاَ بِالْعُمْرَةِ حَقِيقَةً، وَاعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، فَالْقَوْل بِانْقِلاَبِ إحْرَامِ الْحَجِّ إحْرَامَ عُمْرَةٍ تَغْيِيرٌ لِلْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، أَوْ كَمَا قَال الرَّمْلِيُّ (2) : لأَِنَّ إحْرَامَهُ انْعَقَدَ بِنُسُكٍ فَلاَ يَنْصَرِفُ لآِخَرَ، كَعَكْسِهِ أَيْ كَمَا لاَ يَنْصَرِفُ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْل مَكَّةَ يَتَحَلَّل بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْحِلاَقِ كَمَا يَتَحَلَّل أَهْل الآْفَاقِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ إلَى الْحِل، وَلَوِ انْقَلَبَ إحْرَامُهُ إحْرَامَ عُمْرَةٍ وَصَارَ مُعْتَمِرًا لَلَزِمَهُ الْخُرُوجُ إلَى الْحِل، وَهُوَ التَّنْعِيمُ أَوْ غَيْرُهُ، وَالْحَال أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِانْقِلاَبِ إحْرَامِ فَائِتِ الْحَجِّ إلَى عُمْرَةٍ.
وَكَذَلِكَ فَائِتُ الْحَجِّ إذَا جَامَعَ قَبْل أَفْعَال الْعُمْرَةِ لِلتَّحَلُّل لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ، وَلَوْ كَانَ عُمْرَةً لَوَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا كَالْعُمْرَةِ
__________
(1) البدائع 2 / 220، والمسلك المتقسط ص284، ورد المحتار 2 / 259.
(2) نهاية المحتاج 2 / 480.

(32/215)


الْمُبْتَدَأَةِ. (1)
وَبِأَنَّ هَذِهِ الأَْفْعَال فِي الْحَقِيقَةِ تَحَلُّلٌ لاَ عُمْرَةٌ بِدَلِيل عَدَمِ تَجْدِيدِ إحْرَامٍ لَهَا. (2)
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ وَمَنْ مَعَهُمْ عَلَى أَنَّ إحْرَامَ فَائِتِ الْحَجِّ يَنْقَلِبُ عُمْرَةً بِحَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيِّ السَّابِقِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَفِيهِ " فَلْيُحِل بِعُمْرَةٍ ". (3)
وَبِأَنَّهُ يَجُوزُ فَسْخُ إحْرَامِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ فَوَاتٍ، فَمَعَ الْفَوَاتِ أَوْلَى (4) .

أَحْكَامُ التَّحَلُّل لِمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ:
13 - لاَ تَحْتَاجُ أَعْمَال التَّحَلُّل لِفَائِتِ الْحَجِّ إلَى إحْرَامٍ جَدِيدٍ بِالْعُمْرَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لأَِنَّ إحْرَامَهُ بِالْحَجِّ بَاقٍ، لَكِنْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ التَّحَلُّل، فَيَطُوفُ وَيَسْعَى وَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ بِنِيَّةِ التَّحَلُّل، (5) وَلَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقِيَاسُ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ فَسْخَ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ يُوجِبُ عَلَى فَائِتِ الْحَجِّ أَنْ يَنْوِيَ فَسْخَ حَجِّهِ إلَى عُمْرَةٍ. وَلِلتَّفْصِيل (ر: إحْرَامٌ ف 127) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 220.
(2) الدسوقي 2 / 96.
(3) بدائع الصنائع 2 / 220، وحديث: " فليحل بعمرة. . . " سبق تخريجه ف9.
(4) المغني 3 / 527.
(5) الدسوقي 2 / 95، ونهاية المحتاج 2 / 480.

(32/216)


14 - وَتَخْتَلِفُ كَيْفِيَّةُ تَحَلُّل مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِاخْتِلاَفِ إحْرَامِهِ: إفْرَادًا كَانَ أَوْ تَمَتُّعًا أَوْ قِرَانًا.
فَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا وَفَاتَهُ الْحَجُّ يَتَحَلَّل بِأَفْعَال الْعُمْرَةِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
وَالْمُتَمَتِّعُ إنْ فَاتَهُ الْحَجُّ يَتَحَلَّل مِنْ إحْرَامِهِ كَتَحَلُّل الْمُفْرِدِ أَيْضًا، وَيَبْطُل تَمَتُّعُهُ، لأَِنَّ شَرْطَ التَّمَتُّعِ وُجُودُ الْحَجِّ فِي سَنَةِ عُمْرَتِهِ وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُ التَّمَتُّعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ حَتَّى إنْ كَانَ سَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ لِتَمَتُّعِهِ يَفْعَل بِهِ مَا يَشَاءُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لاَ يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ التَّمَتُّعِ (1)
وَإِنْ كَانَ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ قَارِنًا فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ يَتَحَلَّل كَمَا يَتَحَلَّل الْمُفْرِدُ، لاِنْدِمَاجِ أَفْعَال الْعُمْرَةِ فِي الْحَجِّ، وَتَفُوتُ الْعُمْرَةُ بِفَوَاتِ الْحَجِّ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ الْحُكْمِ بِأَنَّ الْعُمْرَةَ لاَ تَفُوتُ، وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ بَل يَلْزَمُهُ إضَافَةً إلَى هَدْيِ التَّحَلُّل عِنْدَهُمْ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ فِي التَّحَلُّل فَقَالُوا: كُل مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ وَفَاتَهُ الْحَجُّ يُؤْمَرُ لأَِجْل التَّحَلُّل أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْحِل ثُمَّ يَقُومُ بِأَفْعَال الْعُمْرَةِ وَيَتَحَلَّل، وَذَلِكَ لِيَجْمَعَ فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 195، 196، والفواكه الدواني 1 / 434 والمجموع 8 / 222، والمغني 3 / 401.

(32/216)


إحْرَامِهِ لِتَحَلُّلِهِ بَيْنَ الْحِل وَالْحَرَمِ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَل مَكَّةَ مُعْتَمِرًا ثُمَّ أَرْدَفَ الإِْحْرَامَ بِالْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ فِي مَكَّةَ وَفَاته الْحَجُّ يَخْرُجُ إلَى الْحِل وَيَعْمَل أَفْعَال الْعُمْرَةِ وَيَتَحَلَّل. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ قَدْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ وَيَسْعَى لَهَا، ثُمَّ يَطُوفُ طَوَافًا آخَرَ لِفَوَاتِ الْحَجِّ وَيَسْعَى لَهُ ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ، وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّةٍ لاَ غَيْرُ، لِفَرَاغِ ذِمَّتِهِ مِنْ إحْرَامِ عُمْرَتِهِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَارِنَ مُحْرِمٌ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، وَعَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ طَوَافٌ وَسَعْيٌ لِعُمْرَتِهِ، وَطَوَافٌ وَسَعْيٌ لِحَجِّهِ، وَالْعُمْرَةُ لاَ تَفُوتُ، لأَِنَّ جَمِيعَ الأَْوْقَاتِ وَقْتُهَا، فَيَأْتِي بِهَا، وَأَمَّا الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ لِلْحَجِّ فَلأَِنَّ الْحَجَّةَ قَدْ فَاتَتْهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا وَفَائِتُ الْحَجِّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ لاَ يَتَحَلَّل إلاَّ بِأَفْعَال الْعُمْرَةِ، فَيَطُوفُ وَيَسْعَى وَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ.
وَأَمَّا سُقُوطُ دَمِ الْقِرَانِ فَإِنَّ الْقِرَانَ يَجِبُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْجَمْعُ فَلاَ يَجِبُ الدَّمُ. (2)

قَضَاءُ الْفَوَائِتِ فِي الْعِبَادَاتِ:
14 - يَتَرَتَّبُ عَلَى فَوَاتِ الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ حُكْمَانِ: -
__________
(1) الدسوقي 2 / 94، ونهاية المحتاج 2 / 480، والمغني 3 / 398، 400.
(2) البدائع 2 / 221.

(32/217)


أَوَّلُهُمَا: ارْتِكَابُ الإِْثْمِ فِي تَفْوِيتِ الْوَاجِبِ إذَا كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ.
ثَانِيهِمَا: تَعَلُّقُ الْوَاجِبِ بِالذِّمَّةِ وَوُجُوبُ قَضَائِهِ فَيَجِبُ قَضَاءُ الْوَاجِبِ الْفَائِتِ سَوَاءٌ كَانَ تَرْكُهُ خَطَأً أَوْ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ بِاتِّفَاقٍ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَدَاءٌ ف 19) (وَقَضَاءُ الْفَوَائِتِ)
15 - أَمَّا النَّفَل، سَوَاءٌ مِنْهُ الْمُطْلَقُ أَوِ الْمُتَرَتِّبُ بِسَبَبٍ أَوْ وَقْتٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَضَائِهِ إذَا فَاتَ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: لاَ يُقْضَى شَيْءٌ مِنَ السُّنَنِ سِوَى سُنَّةِ الْفَجْرِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: النَّوَافِل قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا غَيْرُ مُؤَقَّتٍ، وَهَذَا إذَا فَاتَ لاَ يُقْضَى.
وَالثَّانِي: مُؤَقَّتٌ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ: الصَّحِيحُ مِنْهَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ قَضَاؤُهُ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَقْوَالٌ، اخْتَارَ صَاحِبُ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ أَنَّهُ يُسَنُّ قَضَاءُ الرَّوَاتِبِ، إلاَّ مَا فَاتَ مَعَ فَرْضِهِ وَكَثُرَ فَالأَْوْلَى تَرْكُهُ، إلاَّ سُنَّةَ الْفَجْرِ فَيَقْضِيهَا مُطْلَقًا لِتَأَكُّدِهَا (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَدَاءٌ ف 120) (وَقَضَاءُ الْفَوَائِتِ) .
__________
(1) المجموع 4 / 41.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 230.

(32/217)


فَوَاسِقُ

التَّعْرِيفُ:
1 - أَصْل الْفِسْقِ لُغَةً: الْخُرُوجُ عَنِ الأَْمْرِ، تَقُول الْعَرَبُ: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ عَنْ قِشْرِهَا إذَا خَرَجَتْ.
وَقَدْ سَمَّى الشَّارِعُ بَعْضَ الْحَيَوَانَاتِ فَوَاسِقَ عَلَى سَبِيل الاِسْتِعَارَةِ امْتِهَانًا لَهُنَّ لِكَثْرَةِ خُبْثِهِنَّ وَأَذَاهُنَّ، وَهَذِهِ الْحَيَوَانَاتُ هِيَ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْحَيَّةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ.
قَال الْخَطَّابِيُّ: أَصْل الْفِسْقِ الْخُرُوجُ عَنِ الاِسْتِقَامَةِ، وَالْجَوْرُ، وَبِهِ سُمِّيَ الْعَاصِي فَاسِقًا، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتُ فَوَاسِقَ عَلَى الاِسْتِعَارَةِ لِخُبْثِهِنَّ، وَقِيل: لِخُرُوجِهِنَّ عَنِ الْحُرْمَةِ فِي الْحِل وَالْحَرَمِ، أَيْ لاَ حُرْمَةَ لَهُنَّ بِحَالٍ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة (فسق) ، والمغرب ص360.
(2) فتح القدير 2 / 266.

(32/218)


مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَوَاسِقِ مِنْ أَحْكَامٍ:
الْفَوَاسِقُ مِنَ الدَّوَابِّ:
2 - سَمَّى الشَّارِعُ بَعْضَ الدَّوَابِّ فَوَاسِقَ. وَذَلِكَ فِي قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَمْسُ فَوَاسِق يُقْتَلْنَ فِي الْحِل وَالْحَرَمِ: الْحَيَّةُ، وَالْغُرَابُ الأَْبْقَعُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ. وَالْحُدَيَّا. (1)
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْغُرَابَ مِنَ الْفَوَاسِقِ، لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ خَصُّوا ذَلِكَ بِالْغُرَابِ الَّذِي يَأْكُل الْجِيَفَ أَيِ النَّجَاسَاتِ مَعَ غَيْرِهَا، فَيَأْكُل الْحَبَّ تَارَةً وَالنَّجَاسَةَ أُخْرَى وَلَيْسَ مِنْهُ الْعَقْعَقُ، لأَِنَّهُ لاَ يُسَمَّى غُرَابًا، وَلاَ يَبْتَدِئُ بِالأَْذَى، وَكَذَا غُرَابُ الزَّرْعِ وَهُوَ الَّذِي يَأْكُل الزَّرْعَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى عَدِّ الْغُرَابِ مِنَ الْفَوَاسِقِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ أَسْوَدَ أَوْ أَبْقَعَ وَهُوَ الَّذِي خَالَطَ سَوَادَهُ بَيَاضٌ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْغُرَابُ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا الأَْبْقَعُ وَهُوَ فَاسِقٌ مُحَرَّمٌ بِلاَ خِلاَفٍ، وَمِنْهَا الأَْسْوَدُ الْكَبِيرُ، وَيُقَال لَهُ: الْغُدَافُ الْكَبِيرُ. وَيُقَال: الْغُرَابُ الْجَبَلِيُّ، لأَِنَّهُ يَسْكُنُ الْجِبَال. وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الأَْصَحِّ، وَمِنْهَا: غُرَابُ الزَّرْعِ. وَهُوَ أَسْوَدُ صَغِيرٌ يُقَال لَهُ: الزَّاغُ، وَقَدْ يَكُونُ
__________
(1) حديث: " خمس فواسق يقتلن. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 355) ومسلم (2 / 856) من حديث عائشة واللفظ لمسلم.

(32/218)


مُحْمَرَّ الْمِنْقَارِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَهُوَ حَلاَلٌ عَلَى الأَْصَحِّ، وَمِنْهَا: غُرَابٌ آخَرُ صَغِيرٌ أَسْوَدُ، أَوْ رَمَادِيُّ اللَّوْنِ، وَقَدْ يُقَال لَهُ: الْغُدَافُ الصَّغِيرُ، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الأَْصَحِّ، وَكَذَا الْعَقْعَقُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ مَا يُبَاحُ أَكْلُهُ مِنَ الْغِرْبَانِ لَيْسَ مِنَ الْفَوَاسِقِ، فَلاَ يُبَاحُ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُهُ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يُبَاحُ أَكْل الْعَقْعَقِ وَالْقَاقِ وَغُرَابِ الْبَيْنِ وَالْغُرَابِ الأَْبْقَعِ. (1) كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحِدَأَةَ مِنَ الْفَوَاسِقِ. (2)
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْعَقْرَبَ مِنَ الْفَوَاسِقِ، قَال الْخَرَشِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَيَلْحَقُ بِهَا الرُّتَيْلاَ، وَهِيَ دَابَّةٌ صَغِيرَةٌ سَوْدَاءُ رُبَّمَا قَتَلَتْ مَنْ لَدَغَتْهُ، وَالزُّنْبُورُ وَهُوَ ذَكَرُ النَّحْل. (3)
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدِّ الْحَيَّةِ مِنَ الْفَوَاسِقِ.
قَال الْعَدَوِيُّ الْمَالِكِيُّ: وَيَدْخُل فِيهَا الأَْفْعَى، وَهِيَ حَيَّةٌ رَقْشَاءُ دَقِيقَةُ الْعُنُقِ (4) .
__________
(1) فتح القدير 2 / 266، حاشية الدسوقي 2 / 74، الخرشي على خليل 2 / 366، روضة الطالبين 3 / 272، القليوبي وعميرة 2 / 137، كشاف القناع 2 / 439، 5 / 190.
(2) فتح القدير 2 / 266، حاشية الدسوقي 2 / 74، نهاية المحتاج 3 / 333، كشاف القناع 2 / 439.
(3) فتح القدير 2 / 266، حاشية ابن عابدين 2 / 219، حاشية الدسوقي 2 / 74، الخرشي على خليل 2 / 366، حاشية القليوبي على المحلي 2 / 137، كشاف القناع 2 / 439.
(4) فتح القدير 2 / 266، ابن عابدين 2 / 219، حاشية الدسوقي 2 / 74، العدوي على الخرشي 2 / 366، حاشية القليوبي 2 / 137، كشاف القناع 2 / 439.

(32/219)


وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْفَأْرَ مِنَ الْفَوَاسِقِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ فَرْقَ بَيْنَ الأَْهْلِيَّةِ وَالْوَحْشِيَّةِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الضَّبَّ وَالْيَرْبُوعَ لَيْسَا مِنَ الْفَوَاسِقِ، لأَِنَّهُمَا لاَ يَبْدَآنِ بِالأَْذَى.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: وَيَلْحَقُ بِالْفَأْرَةِ ابْنُ عُرْسٍ وَمَا يَقْرِضُ الثِّيَابَ مِنَ الدَّوَابِّ.
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: الْفَأْرُ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا الْجُرَذُ، وَالْخُلْدُ، وَفَأْرَةُ الإِْبِل، وَفَأْرَةُ الْمِسْكِ، وَفَأْرَةُ الْغَيْطِ، وَحُكْمُهَا فِي تَحْرِيمِ الأَْكْل وَجَوَازِ الْقَتْل سَوَاءٌ (1) .
كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْكَلْبَ الْعَقُورَ مِنَ الْفَوَاسِقِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَلْبِ غَيْرِ الْعَقُورِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْكَلْبَ غَيْرَ الْعَقُورِ لَيْسَ مِنَ الْفَوَاسِقِ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ مِنْهَا. (2)
3 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَل يَلْحَقُ بِالْفَوَاسِقِ غَيْرُهَا مِنَ الدَّوَابِّ الَّتِي تُشَارِكُهَا فِي الْمَعْنَى أَمْ لاَ؟
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إلَى
__________
(1) فتح القدير 2 / 267، ابن عابدين 2 / 219، حاشية الدسوقي 2 / 74، الخرشي على خليل 2 / 366، نهاية المحتاج 3 / 333، كشاف القناع 2 / 439، فتح الباري 4 / 39
(2) فتح القدير 2 / 267، ابن عابدين 2 / 219، حاشية الدسوقي 2 / 72، الخرشي على خليل 2 / 366، نهاية المحتاج 3 / 333، حاشية الجمل 2 / 522، كشاف القناع 2 / 439، الإنصاف 3 / 488.

(32/219)


أَنَّهُ يَلْحَقُ بِالْفَوَاسِقِ غَيْرُهَا مِنَ الدَّوَابِّ الَّتِي تُشَارِكُهَا فِي الْمَعْنَى، فَأَلْحَقُوا بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ مَثَلاً: الذِّئْبَ وَالأَْسَدَ وَالنَّمِرَ وَالْفَهْدَ، وَقَال الْخَرَشِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ (بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ) هُوَ عَادِيُّ السِّبَاعِ مِنْ أَسَدٍ وَفَهْدٍ وَنَمِرٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَهَبِ بْنِ أَبِي لَهَبٍ: اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبَكَ. . . فَجَاءَ الأَْسَدُ فَانْتَزَعَهُ فَذَهَبَ بِهِ.
(1) وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى عَدَمِ الإِْلْحَاقِ وَالاِقْتِصَارِ عَلَى الْخَمْسَةِ، إلاَّ أَنَّهُمْ أَلْحَقُوا بِهَا الْحَيَّةَ وَالذِّئْبَ لِثُبُوتِ الْخَبَرِ.
قَال صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: الْقِيَاسُ عَلَى الْفَوَاسِقِ مُمْتَنِعٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَال الْعَدَدِ، وَاسْمُ الْكَلْبِ لاَ يَقَعُ عَلَى السَّبُعِ عُرْفًا (2) .

قَتْل الْفَوَاسِقِ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى جَوَازِ قَتْل الْفَوَاسِقِ مِنَ الدَّوَابِّ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَمْسُ فَوَاسِقَ يُقْتَلْنَ فِي الْحِل وَالْحَرَمِ: الْحَيَّةُ وَالْغُرَابُ الأَْبْقَعُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ
__________
(1) حديث: " اللهم سلط عليه كلبك. . . ". أخرجه الحاكم (2 / 539) من حديث أبي عقرب، وحسنه ابن حجر في فتح الباري (4 / 39) .
(2) فتح القدير 2 / 268، الخرشي على خليل 2 / 366، نهاية المحتاج 3 / 333، القليوبي وعميرة 2 / 137، كشاف القناع 2 / 439.

(32/220)


وَالْحُدَيَّا. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى اسْتِحْبَابِ قَتْلِهَا، لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، لَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ وَقَالُوا بِوُجُوبِ قَتْلِهِ وَلَوْ كَانَ مُعَلَّمًا، لِيُدْفَعَ شَرُّهُ عَنِ النَّاسِ.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ تُقْتَل كَلْبَةٌ عَقَرَتْ مَنْ قَرُبَ مِنْ وَلَدِهَا أَوْ خَرَقَتْ ثَوْبَهُ، لأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَادَةً لَهَا، بَل تُنْقَل بَعِيدًا عَنْ مُرُورِ النَّاسِ دَفْعًا لِشَرِّهَا. كَمَا نَصُّوا عَلَى قَتْل الْكَلْبِ الأَْسْوَدِ الْبَهِيمِ وَلَوْ كَانَ مُعَلَّمًا، لأََمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ (2) وَلاَ يُبَاحُ قَتْل غَيْرِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ وَالأَْسْوَدِ الْبَهِيمِ مِنَ الْكِلاَبِ.
وَخَصَّ الشَّافِعِيَّةُ سُنِّيَّةَ قَتْل الْكَلْبِ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ أَمَّا غَيْرُ الْعَقُورِ فَلاَ يَجُوزُ قَتْلُهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَلاَ فَرْقَ فِي تِلْكَ الأَْحْكَامِ بَيْنَ الْحِل وَالْحَرَمِ وَالْمُحْرِمِ، وَغَيْرِ الْمُحْرِمِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ جَزَاءَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ. (3)
__________
(1) حديث: " خمس فواسق يقتلن. . . " تقدم تخريجه ف2.
(2) حديث " أمره صلى الله عليه وسلم بقتل الكلب الأسود. . . " أخرجه مسلم (3 / 1200) من حديث جابر.
(3) فتح القدير 2 / 266، حاشية الدسوقي 2 / 74، الخرشي على خليل 2 / 366، حاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 512، كشاف القناع 2 / 439، 6 / 223، الإنصاف 3 / 488.

(32/220)


قَتْل الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ فِي الصَّلاَةِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ قَتْل الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ فِي الصَّلاَةِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُقْتُلُوا الأَْسْوَدَيْنِ فِي الصَّلاَةِ: الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ، (1) قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ الْحَنَفِيُّ: الْحَدِيثُ بِإِطْلاَقِهِ يَشْمَل مَا إذَا احْتَاجَ إلَى عَمَلٍ كَثِيرٍ فِي ذَلِكَ أَوْ قَلِيلٍ، وَقِيل: بَل إذَا كَانَ قَلِيلاً. وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ الْجَوَازَ فِي حَال مَا إذَا كَانَ الْعَقْرَبُ أَوِ الثُّعْبَانُ مُقْبِلَةً عَلَيْهِ، وَكَرِهُوا قَتْلَهَا فِي حَال عَدَمِ إقْبَالِهَا.
وَصَرَّحَ الدَّرْدِيرُ الْمَالِكِيُّ بِأَنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَبْطُل بِانْحِطَاطِهِ لأَِخْذِ حَجَرٍ يَرْمِيهَا بِهِ أَوْ لِقَتْلِهَا، لَكِنْ نَقَل الدُّسُوقِيُّ عَنِ الْحَطَّابِ أَنَّ الاِنْحِطَاطَ مِنْ قِيَامٍ لأَِخْذِ حَجَرٍ أَوْ قَوْسٍ مِنَ الْفِعْل الْكَثِيرِ الْمُبْطِل لِلصَّلاَةِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ لِقَتْل عَقْرَبٍ لَمْ تَرُدَّهُ أَوْ لِطَائِرٍ أَوْ صَيْدٍ.
وَنَصُّوا عَلَى كَرَاهَةِ قَتْل غَيْرِ الْعَقْرَبِ وَالثُّعْبَانِ مِنْ طَيْرٍ أَوْ دُودَةٍ أَوْ نَحْلَةٍ مُطْلَقًا أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ أَمْ لاَ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى عَدَمِ بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ عِنْدَ قَتْل الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ فِيهَا إذَا كَانَ الْعَمَل
__________
(1) حديث: " اقتلوا الأسودين في الصلاة. . . " أخرجه أبو داود (1 / 566) والترمذي (2 / 234) من حديث أبي هريرة واللفظ لأبي داود وقال الترمذي: حسن صحيح.

(32/221)


قَلِيلاً، وَبُطْلاَنِهَا إنْ كَانَ كَثِيرًا، وَالْمَرْجِعُ فِي ضَابِطِ الْعَمَل الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ الْعَادَةُ، فَمَا يَعُدُّهُ النَّاسُ قَلِيلاً لاَ يَضُرُّ، وَمَا يَعُدُّونَهُ كَثِيرًا يَضُرُّ، قَال النَّوَوِيُّ: قَال أَصْحَابُنَا: عَلَى هَذَا الْفَعْلَةُ الْوَاحِدَةُ كَالْخُطْوَةِ وَالضَّرْبَةِ قَلِيلٌ بِلاَ خِلاَفٍ، وَالثَّلاَثُ كَثِيرٌ بِلاَ خِلاَفٍ، وَفِي الاِثْنَيْنِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا قَلِيلٌ، وَاتَّفَقَ الأَْصْحَابُ عَلَى أَنَّ الْكَثِيرَ إنَّمَا يُبْطِل إذَا تَوَالَى، فَإِنْ تَفَرَّقَ لَمْ يَضُرَّ. (1)
__________
(1) فتح القدير 1 / 296، حاشية الدسوقي 1 / 284، المجموع للنووي 4 / 93، 94، كشاف القناع 1 / 376، مطالب أولي النهى 1 / 484.

(32/221)


فَوْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْفَوْرُ: مَصْدَرٌ لِلْفِعْل: فَارَ يَفُورُ فَوَرَانًا، يُقَال: فَارَتِ الْقِدْرُ تَفُورُ فَوَرَانًا، إذَا غَلَتْ، وَجَاشَتْ، وَفَارَ الْمَاءُ: نَبَعَ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي تَأْتِي أَوَّل الْوَقْتِ بِلاَ تَأْخِيرٍ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ وُجُوبُ أَدَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي أَوَّل أَوْقَاتِ الإِْمْكَانِ بِحَيْثُ يَلْحَقُهُ الذَّمُّ بِالتَّأْخِيرِ عَنْهُ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّرَاخِي:
2 - التَّرَاخِي فِي اللُّغَةِ: التَّقَاعُدُ عَنِ الشَّيْءِ وَالتَّقَاعُسُ عَنْهُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ كَوْنُ الأَْدَاءِ مُتَأَخِّرًا عَنْ أَوَّل وَقْتِ الإِْمْكَانِ إلَى مَظِنَّةِ الْفَوْتِ. (3)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي الضِّدِّيَّةُ.
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس.
(2) التعريفات للجرجاني.
(3) لسان العرب، والقاموس المحيط، والمصباح المنير، وكشاف اصطلاحات الفنون 3 / 594.

(32/222)


الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْفَوْرِ:
دَلاَلَةُ الأَْمْرِ عَلَى الْفَوْرِ:
3 - بَحَثَ عُلَمَاءُ الأُْصُول فِي مَبْحَثِ الأَْمْرِ مُقْتَضَى الأَْمْرِ هَل صِيغَةُ الأَْمْرِ " افْعَل " وَمَا بِمَعْنَاهَا تَقْتَضِي الْفَوْرَ أَوِ التَّرَاخِيَ؟ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إنْ صَرَّحَ الآْمِرُ فِيهِ بِفِعْل الْمَأْمُورِ بِهِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ الْمَأْمُورُ، أَوْ قَال: لَك التَّأْخِيرُ، فَهُوَ لِلتَّرَاخِي، وَإِنْ صَرَّحَ فِيهِ بِالتَّعْجِيل فَهُوَ لِلْفَوْرِ، وَإِنْ أَمَرَ مُطْلَقًا، أَيْ كَانَ مُجَرَّدًا عَنْ دَلاَلَةِ التَّعْجِيل أَوِ التَّأْخِيرِ وَجَبَ الْعَزْمُ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى الْفِعْل قَطْعًا، وَهَل يَقْتَضِي الأَْمْرُ الْمُطْلَقُ الْفِعْل عَلَى الْفَوْرِ أَوْ يَجُوزُ التَّرَاخِي فِيهِ؟
اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقَال قَائِلُونَ: هُوَ عَلَى التَّرَاخِي، وَلَهُ تَأْخِيرُهُ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي يَخْشَى فَوَاتَهُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْهُ. وَقَال آخَرُونَ: هُوَ عَلَى الْفَوْرِ، يَلْزَمُ عَلَى الْمَأْمُورِ فِعْلُهُ فِي أَوَّل أَحْوَال الإِْمْكَانِ. وَقَال قَوْمٌ: بِالْوَقْفِ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

الْفَوْرُ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ:
4 - بِنَاءً عَلَى الاِخْتِلاَفِ فِي مُقْتَضَى دَلاَلَةِ الأَْمْرِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ أَدَاءِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ عَلَى
__________
(1) الفصول في الأصول 2 / 153، والبحر المحيط 2 / 396، والمستصفى للغزالي 2 / 9.

(32/222)


الْفَوْرِ، أَوْ جَوَازِ تَأْخِيرِهَا إلَى وَقْتٍ يَخْشَى فَوَاتَهَا بِالتَّأْخِيرِ، وَمِنْ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ:

أ - الْحَجُّ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ أَدَاءِ الْحَجِّ فِي أَوَّل أَحْوَال الإِْمْكَانِ، وَجَوَازِ التَّرَاخِي فِي أَدَائِهِ بَعْدَ الْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْقَوْل الْمُخْتَارِ عِنْدَهُمْ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَدَاؤُهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَلاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ أَوَّل أَوْقَاتِ الإِْمْكَانِ، وَهِيَ السَّنَةُ الأُْولَى عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَيَأْثَمُ الْمُكَلَّفُ بِالتَّأْخِيرِ، وَيُفَسَّقُ بِهِ، وَتُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ إنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ: إنَّهُ يَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا مِنْ حَيْثُ الأَْدَاءُ، إنْ عَزَمَ عَلَى فِعْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَل، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ فَوْرًا، إلاَّ فِي حَالاَتٍ: كَأَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ فِي أَوَّل أَحْوَال الإِْمْكَانِ، أَوْ خَافَ مِنْ غَصْبٍ أَوْ تَلَفِ مَالٍ، أَوْ قَضَاءِ عَارِضٍ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَيْ (حَجٌّ ف 5 وَأَمْرٌ ف 7) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 119، وابن عابدين 2 / 140، وحاشية الدسوقي 2 / 2، والمغني 3 / 241 وما بعدها.
(2) نهاية المحتاج 3 / 235، والأم للشافعي 2 / 117 - 118، والمصادر السابقة.

(32/223)


ب - أَدَاءِ الزَّكَاةِ عَلَى الْفَوْرِ:
6 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَهُمْ إلَى أَنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ، حِينَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَدَائِهَا، وَيَأْثَمُ الْمُكَلَّفُ بِتَأْخِيرِهَا بَعْدَ التَّمَكُّنِ، حَتَّى عِنْدَ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ الأَْمْرَ الْمُطْلَقَ لاَ يَقْتَضِي الْفَوْرَ وَلاَ التَّرَاخِيَ، بَل مُجَرَّدَ طَلَبِ الْمَأْمُورِ بِهِ، لأَِنَّ الأَْمْرَ بِالصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ مَعَهُ قَرِينَةُ إرَادَةِ الْفَوْرِ مِنْهُ، وَلأَِنَّهُ حَقٌّ لَزِمَ الْمُزَكِّيَ وَقَدَرَ عَلَى أَدَائِهِ، وَدَلَّتِ الْقَرِينَةُ عَلَى طَلَبِهِ، وَهِيَ حَاجَةُ الأَْصْنَافِ، وَهِيَ مُعَجَّلَةٌ، فَمَتَى لَمْ تَجِبْ عَلَى الْفَوْرِ لَمْ يَحْصُل الْمَقْصُودُ مِنَ الإِْيجَابِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ عُلَمَائِهِمْ: أَنَّهَا عَلَى التَّرَاخِي وَأَنِ افْتِرَاضَهَا عُمْرِيٌّ، لِمَا قُلْنَا: مِنْ أَنَّ مُطْلَقَ الأَْمْرِ لاَ يَقْتَضِي الْفَوْرَ فَيَجُوزُ لِلْمُكَلَّفِ تَأْخِيرُهُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) . (ر: زَكَاةٌ ف 125) .

ج - وُجُوبُ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ بِدُخُول الْوَقْتِ:
7 - أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ
__________
(1) فتح القدير 2 / 114 ط دار إحياء التراث العربي بيروت، ونهاية المحتاج 3 / 135 ط شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، والمغني 2 / 510، والإنصاف 3 / 186.

(32/223)


الْخَمْسَ مُؤَقَّتَةٌ بِمَوَاقِيتَ مَعْلُومَةٍ، لاَ تَصِحُّ قَبْلَهَا، وَيَفُوتُ أَدَاؤُهَا بِخُرُوجِهَا، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِهَا أَوَّل أَوْقَاتِهَا فِي حَقِّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْل الْوُجُوبِ عِنْدَ دُخُول الْوَقْتِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهَا تَجِبُ فِي أَوَّل الْوَقْتِ عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ أَهْل الْوُجُوبِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا بِشَرْطِ أَنْ يَعْزِمَ فِي أَوَّل الْوَقْتِ عَلَى فِعْلِهَا فِيهِ، أَيْ إنَّ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يُؤَخِّرَهَا إلَى أَنْ يَبْقَى مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ لأَِدَائِهَا فَقَطْ، فَيَجِبُ حِينَئِذٍ أَدَاؤُهَا فَوْرًا وَيَأْثَمُ بِتَأْخِيرِهَا، وَلاَ يَأْثَمُ مَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُهَا وَإِنْ مَاتَ فِيهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (1) وَالأَْمْرُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ، وَلأَِنَّ دُخُول الْوَقْتِ سَبَبُ الْوُجُوبِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ حِينَ وُجُودِهِ، وَلأَِنَّهُ يُشْتَرَطُ لَهَا نِيَّةُ الْفَرْضِيَّةِ، فَلَوْ لَمْ تَجِبْ لَصَحَّتْ بِدُونِ نِيَّةِ الْوَاجِبِ كَالنَّافِلَةِ، وَتُفَارِقُ النَّافِلَةَ فَإِنَّهَا لاَ يُشْتَرَطُ لَهَا ذَلِكَ، وَيَجُوزُ تَرْكُهَا غَيْرَ عَازِمٍ عَلَى فِعْلِهَا، وَهَذِهِ إنَّمَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا مَعَ الْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهَا، كَمَا تُؤَخَّرُ صَلاَةُ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ مُزْدَلِفَةَ عَنْ وَقْتِهَا، وَكَمَا تُؤَخَّرُ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ عَنْ وَقْتِهَا إذَا كَانَ مُشْتَغِلاً بِتَحْصِيل شُرُوطِهَا (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تَجِبُ الصَّلاَةُ فَوْرَ دُخُول
__________
(1) سورة الإسراء / 78.
(2) المغني 1 / 373، ونهاية المحتاج 1 / 358 - 374.

(32/224)


أَوَّل الْوَقْتِ عَلَى التَّعْيِينِ، إنَّمَا تَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنَ الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا التَّعْيِينُ إلَى الْمُصَلِّي مِنْ حَيْثُ الْفِعْل، حَتَّى إنَّهُ إذَا شَرَعَ فِي أَوَّل الْوَقْتِ تَجِبُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَذَا فِي أَوْسَطِهِ، أَوْ آخِرِهِ، وَمَتَى لَمْ يُعَيِّنْ بِالْفِعْل حَتَّى بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي فِيهِ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْيِينُ ذَلِكَ الْوَقْتِ لِلأَْدَاءِ فِعْلاً، حَتَّى يَأْثَمُ بِتَرْكِ التَّعْيِينِ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَتَعَيَّنُ الأَْدَاءُ بِنَفْسِهِ (1)
اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (أَدَاءٌ ف 7) .

د - قَضَاءُ النُّسُكِ عَلَى الْفَوْرِ:
8 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إلَى أَنَّ مَنْ أَفْسَدَ نُسُكَهُ بَعْدَ الإِْحْرَامِ بِهِ وَجَبَ قَضَاؤُهُ عَلَى الْفَوْرِ، لِقَوْل جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ مُخَالِفٍ، بِأَنْ يَأْتِيَ بِالْعُمْرَةِ عَقِيبَ التَّحَلُّل مِنَ النُّسُكِ الْفَاسِدِ، وَبِالْحَجِّ فِي سَنَتِهِ إنْ أَمْكَنَهُ، بِأَنْ يَحْصُرَهُ الْعَدُوُّ بَعْدَ الإِْفْسَادِ فَيَتَحَلَّل، ثُمَّ يَزُول الإِْحْصَارُ، أَوْ يَتَحَلَّل كَذَلِكَ لِمَرَضٍ شُرِطَ التَّحَلُّل بِهِ، ثُمَّ شُفِيَ وَالْوَقْتُ بَاقٍ فَيَشْتَغِل بِالْقَضَاءِ، وَتَسْمِيَةُ مَا ذُكِرَ بِالْقَضَاءِ مَعَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي وَقْتِهِ، وَهُوَ الْعُمُرُ لاَ يُشْكِل عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ وَقْتَهُ الْعُمُرُ، لأَِنَّ الْقَضَاءَ هُنَا بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَتَى بِهِ مِنْ قَابِلٍ وُجُوبًا، لأَِنَّهُ بِالإِْحْرَامِ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 95، وفتح القدير 1 / 191.

(32/224)


بِالأَْدَاءِ تَضَيَّقَ وَقْتُهُ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى الْفَوْرِ (1) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إحْرَامٌ ف 185) .

هـ - الْفَوْرُ فِي قَضَاءِ الصَّوْمِ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ قَضَاءَ رَمَضَانَ يَكُونُ عَلَى التَّرَاخِي، وَقَيَّدُوهُ بِمَا إذَا لَمْ يَفُتْ وَقْتُ قَضَائِهِ، بِأَنْ يُهِل رَمَضَانُ آخَرُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ قَضَاءُ الصَّوْمِ عَلَى الْفَوْرِ، فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: يَوْمُ الشَّكِّ إنْ بَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْمُتَعَدِّي بِالْفِطْرِ، وَالْمُرْتَدُّ بَعْدَ رُجُوعِهِ إلَى الإِْسْلاَمِ، وَتَارِكُ النِّيَّةِ لَيْلاً عَمْدًا (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَوْمٌ ف 86) .

و قَضَاءُ الصَّلاَةِ فَوْرًا:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ قَضَاءَ الصَّلاَةِ الْفَائِتَةِ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ وَلاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا مَعَ الْقُدْرَةِ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ بِعُذْرٍ كَنَوْمٍ، وَنِسْيَانٍ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاؤُهَا فَوْرًا، وَلَكِنْ يُسَنُّ لَهُ الْمُبَادَرَةُ بِقَضَائِهَا، أَمَّا إذَا
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 331، والقليوبي 2 / 136، والدسوقي 6 / 69، ومطالب أولي النهى 1 / 943.
(2) حاشية القليوبي 2 / 64، ونهاية المحتاج 3 / 211.

(32/225)


فَاتَتْ بِلاَ عُذْرٍ لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا فَوْرًا (1) .
(ر: قَضَاءُ الْفَوَائِتِ) .

ثَانِيًا: الْفَوْرُ فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ:
أ - الرَّدُّ بِخِيَارِ الْعَيْبِ:
11 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إلَى أَنَّ الرَّدَّ بِخِيَارِ الْعَيْبِ عَلَى التَّرَاخِي، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي إلَى يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إلَى أَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ عَلَى الْفَوْرِ بِأَنْ يَرُدَّ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ حَال اطِّلاَعِهِ عَلَى الْعَيْبِ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي الْمَبِيعِ اللُّزُومُ، فَيَبْطُل بِالتَّأْخِيرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَلأَِنَّهُ خِيَارٌ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمَال، فَكَانَ فَوْرِيًّا كَالشُّفْعَةِ، هَذَا إذَا كَانَ الْعَيْبُ فِي مَبِيعٍ مُعَيَّنٍ، فَلَوْ قَبَضَ شَيْئًا عَمَّا فِي الذِّمَّةِ بِنَحْوِ بَيْعٍ أَوْ سَلَمٍ، فَوَجَدَهُ مَعِيبًا لَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّهُ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى الأَْصَحِّ، لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُهُ إلاَّ بِالرِّضَا بِعَيْبِهِ، وَلأَِنَّهُ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ (2) . . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (خِيَارُ الْعَيْبِ ف 27 - 29) .

ب - طَلَبُ الشُّفْعَةِ عَلَى الْفَوْرِ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 328.
(2) ابن عابدين 4 / 95، وحاشية الدسوقي 3 / 121، ونهاية المحتاج 2 / 47، ومغني المحتاج 2 / 56، والمغني 4 / 160.

(32/225)


أَنَّ حَقَّ طَلَبِ الشُّفْعَةِ عَلَى الْفَوْرِ، فَيَطْلُبُ سَاعَةَ يَعْلَمُ بِالْبَيْعِ، لأَِنَّهُ خِيَارٌ ثَبَتَ بِنَفْسِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ (1) . (ر: شُفْعَةٌ ف 28 - 32)

ج - الْفَوْرُ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ بِاللِّعَانِ:
13 - إذَا أَتَتِ امْرَأَةٌ بِوَلَدٍ لَزِمَ زَوْجَهَا نَسَبُهُ بِالْفِرَاشِ، فَإِذَا أَرَادَ نَفْيَهُ بِاللِّعَانِ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدِ اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ عَلَى الأَْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ لِصِحَّةِ النَّفْيِ أَنْ يَكُونَ فَوْرَ الْعِلْمِ بِالْوِلاَدَةِ مَعَ إمْكَانِهِ، فَلَوْ أَخَّرَهُ زَمَنًا لِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَنْتِفْ عَنْهُ بِحَالٍ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْقَدِيمِ إلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ النَّفْيِ مُدَّةً قَدَّرَهَا أَبُو حَنِيفَةَ بِمُدَّةِ التَّهْنِئَةِ، وَهِيَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَدِيمِ، وَفِي قَوْلٍ لأَِبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ.
وَقَدَّرَهَا الصَّاحِبَانِ بِمُدَّةِ النِّفَاسِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْقَدِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ لَهُ النَّفْيَ مَتَى شَاءَ وَلاَ يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ (2) .
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 243، وحاشية الدسوقي 3 / 484، ونهاية المحتاج 5 / 215، ومغني المحتاج 2 / 307، والمغني 4 / 324.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 591، والخرشي 4 / 129، والمغني 7 / 424، وكشاف القناع 5 / 403، ومغني المحتاج 3 / 380.

(32/226)


د - فَوْرِيَّةُ الْقَبُول عَقِبَ الإِْيجَابِ فِي الْعُقُودِ:
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْقَبُول عَنِ الإِْيجَابِ فِي الْعُقُودِ مُدَّةَ الْمَجْلِسِ، فَإِذَا انْقَطَعَ الْمَجْلِسُ بِتَشَاغُلٍ أَوْ غَيْرِهِ سَقَطَ الإِْيجَابُ وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ قَبُولٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى وُجُوبِ الْفَوْرِيَّةِ بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول (1) .

هـ - الْفَوْرُ فِي الْفَسْخِ بِعَيْبٍ فِي أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ:
15 - خِيَارُ فَسْخِ النِّكَاحِ بِعَيْبٍ فِي أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى التَّرَاخِي لاَ يَسْقُطُ مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ طَالِبِ الْفَسْخِ مِنْهُمَا مَا يَدُل عَلَى الرِّضَا بِهِ مِنَ الْقَوْل، وَالاِسْتِمْتَاعِ مِنَ الزَّوْجِ، أَوِ التَّمْكِينِ مِنَ الْمَرْأَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إنَّ خِيَارَ فَسْخِ النِّكَاحِ بِعَيْبٍ فِي أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْفَوْرِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، لأَِنَّهُ خِيَارُ عَيْبٍ شُرِعَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ، كَالْبَيْعِ، وَالشُّفْعَةِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ عَلَى الْفَوْرِ هُنَا: أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْفَسْخِ، وَالرَّفْعَ إلَى الْحَاكِمِ يَكُونَانِ عَلَى الْفَوْرِ، وَلاَ يُنَافِي ذَلِكَ ضَرْبَ الْمُدَّةِ فِي الْعُنَّةِ، فَإِنَّهَا تَتَحَقَّقُ حِينَئِذٍ،
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 137، وحاشية الدسوقي 3 / 5، ومغني المحتاج 2 / 6، وشرح منتهى الإرادات 2 / 141.

(32/226)


فَيُبَادِرُ بِالرَّفْعِ إلَى الْحَاكِمِ. ثُمَّ يُبَادِرُ بِالْفَسْخِ عِنْدَ ثُبُوتِ سَبَبِهِ عِنْدَهُ، وَإِلاَّ سَقَطَ خِيَارُهُ (1) .
__________
(1) فتح القدير 3 / 264، والخرشي 3 / 241، ومغني المحتاج 3 / 204، ونهاية المحتاج 6 / 312، المغني 6 / 654.

(32/227)


فَيْء

التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْفَيْءِ فِي اللُّغَةِ: الظِّل، وَالْجَمْعُ أَفَيَاءٌ وَفُيُوءٌ، وَتَفَيَّأَ فِيهِ: تَظَلَّل، وَالْفَيْءُ: مَا بَعْدَ الزَّوَال مِنَ الظِّل.
وَمِنْهَا: الرُّجُوعُ، يُقَال: فَاءَ إلَى الأَْمْرِ يَفِيءُ وَفَاءً وَفَيْئًا وَفُيُوءًا: رَجَعَ إلَيْهِ، وَيُقَال: فِئْتُ إلَى الأَْمْرِ فَيْئًا: إذَا رَجَعْتُ إلَيْهِ النَّظَرَ، وَفَاءَ مِنْ غَضَبِهِ: رَجَعَ.
وَمِنْهَا: الْغَنِيمَةُ وَالْخَرَاجُ، وَمَا رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَهْل دِينِهِ مِنْ أَمْوَال مَنْ خَالَفَ دِينَهُ بِلاَ قِتَالٍ (1) .
وَالْفَيْءُ فِي الاِصْطِلاَحِ لَهُ مَعْنَيَانِ:
(الْمَعْنَى الأَْوَّل) : اسْمٌ لِمَا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ، نَحْوُ الأَْمْوَال الْمَبْعُوثَةِ بِالرِّسَالَةِ إلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَالأَْمْوَال الْمَأْخُوذَةِ عَلَى مُوَادَعَةِ أَهْل الْحَرْبِ (2) .
__________
(1) لسان العرب.
(2) بدائع الصنائع للكاساني 7 / 116، وانظر روضة الطالبين 6 / 354، والمغني لابن قدامة 6 / 402، وتفسير القرطبي 18 / 14.

(32/227)


(الْمَعْنَى الثَّانِي) : رُجُوعُ الزَّوْجِ إلَى جِمَاعِ زَوْجَتِهِ الَّذِي مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْهُ بِالْيَمِينِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ أَوِ الْوَعْدِ بِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْغَنِيمَةُ:
2 - الْغَنِيمَةُ وَالْمَغْنَمُ وَالْغَنِيمُ وَالْغُنْمُ بِالضَّمِّ لُغَةً: الْفَيْءُ، يُقَال: غَنِمَ الشَّيْءَ غُنْمًا فَازَ بِهِ، وَغَنِمَ الْغَازِي فِي الْحَرْبِ: ظَفِرَ بِمَال عَدُوِّهِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْغَنِيمَةُ اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ عَلَى سَبِيل الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْفَيْءِ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل وَالْغَنِيمَةِ: أَنَّ اسْمَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقَعُ عَلَى الآْخَرِ إذَا أُفْرِدَ بِالذِّكْرِ، فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا افْتَرَقَا كَاسْمَيِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ.
(ر: غَنِيمَةٌ) .

ب - النَّفَل:
3 - النَّفَل بِالتَّحْرِيكِ لُغَةً: الْغَنِيمَةُ، وَالْجَمْعُ أَنْفَالٌ.
وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا خَصَّهُ الإِْمَامُ لِبَعْضِ الْغُزَاةِ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى الْقِتَال سُمِّيَ نَفَلاً لِكَوْنِهِ زِيَادَةً عَلَى مَا يُسْهَمُ لَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ. وَالنَّفَل قَدْ يُؤْخَذُ مِنَ الْفَيْءِ أَوْ مِنَ الْغَنِيمَةِ
__________
(1) المهذب 2 / 110.
(2) المصباح المنير، وروضة الطالبين 6 / 354.

(32/228)


أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَال وَيُعْطَى لِمَنْ خَصَّهُمُ الإِْمَامُ (1) . وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْفَيْءِ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل وَالنَّفَل هِيَ الْبَعْضِيَّةُ.

ج - السَّلَبُ:
4 - السَّلَبُ: مَا يَأْخُذُهُ أَحَدُ الْقِرْنَيْنِ فِي الْحَرْبِ مِنْ قِرْنِهِ، مِمَّا يَكُونُ عَلَيْهِ وَمَعَهُ مِنْ ثِيَابٍ وَسِلاَحٍ وَدَابَّةٍ، وَهُوَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ مَسْلُوبٍ.
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
وَالسَّلَبُ زِيَادَةٌ عَلَى سَهْمِ الْمُقَاتِل مِمَّا مَعَ الْقَتِيل إذَا قَتَلَهُ وَلاَ يُخَمَّسُ، وَالْفَيْءُ يُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ وَيُخَمَّسُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْفَيْءِ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل وَالسَّلَبِ أَنَّهُمَا جَمِيعًا مِنَ الْمَأْخُوذِ مِنْ مَال الْكُفَّارِ، إلاَّ أَنَّ الْفَيْءَ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَالسَّلَبُ بِقِتَالٍ.

د - الرَّضْخُ:
5 - الرَّضْخُ لُغَةً: الرَّمْيُ بِالسِّهَامِ، وَالدَّقُّ وَالْكَسْرُ، وَمِنْهُ، الْعَطِيَّةُ الْقَلِيلَةُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَالٌ مَوْكُولٌ تَقْدِيرُهُ
__________
(1) المصباح المنير، وروضة الطالبين 6 / 368، والقوانين الفقهية ص148.
(2) لسان العرب، وروضة الطالبين 6 / 372، وبدائع الصنائع 7 / 115.

(32/228)


لِلإِْمَامِ مَحَلُّهُ الْخُمُسُ لِمَنْ لاَ يَلْزَمُهُ الْقِتَال إلاَّ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ (1) . وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْفَيْءِ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل وَالرَّضْخِ أَنَّهُمَا جَمِيعًا مِنَ الْمَأْخُوذِ مِنْ مَال الْكُفَّارِ

هـ - الصَّفِيُّ:
6 - الصَّفِيُّ لُغَةً: هُوَ الْخَالِصُ مِنْ كُل شَيْءٍ، وَمَا اخْتَارَهُ الرَّئِيسُ مِنَ الْمَغْنَمِ.
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَخْتَارُهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْغَنَائِمِ كَالثَّوْبِ وَالسَّيْفِ، وَهَذَا الصَّفِيُّ لَيْسَ لأَِحَدٍ غَيْرِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْفَيْءِ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل وَالصَّفِيِّ أَنَّهُمَا جَمِيعَهُمَا مَأْخُوذَانِ مِنْ مَال الْكُفَّارِ، إلاَّ أَنَّ الصَّفِيَّ خَاصٌّ بِالرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

و الظِّهَارُ:
7 - الظِّهَارُ هُوَ: تَشْبِيهُ الرَّجُل زَوْجَتَهُ أَوْ جُزْءًا شَائِعًا مِنْهَا أَوْ جُزْءًا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْهَا بِامْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، أَوْ بِجُزْءٍ مِنْهَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظَرُ إلَيْهِ كَالظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَالْفَخِذِ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْفَيْءِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي وَالظِّهَارِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 126، وحاشية الدسوقي 2 / 171، وروضة الطالبين 6 / 370، والمغني لابن قدامة 8 / 410.
(2) لسان العرب، وبداية المجتهد لابن رشد 1 / 333، وبدائع الصنائع 7 / 125، والدر المختار 3 / 237.
(3) مغني المحتاج 3 / 353، وفتح القدير 3 / 225، وحاشية الدسوقي 2 / 439، وكشاف القناع 5 / 368.

(32/229)


هِيَ أَنَّ الظِّهَارَ مَانِعٌ مِنَ الْفَيْءِ حَتَّى يُكَفِّرَ.

ز - الإِْيلاَءُ:
8 - الإِْيلاَءُ: أَنْ يَحْلِفَ الزَّوْجُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا أَلاَّ يَقْرَبَ زَوْجَتَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَر (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْفَيْءِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي وَالإِْيلاَءِ هِيَ الضِّدِّيَّةُ، وَأَنَّ الْفَيْءَ فِي الْمُدَّةِ يُنْهِي حُكْمَ الإِْيلاَءِ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَيْءِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوَّلاً: الْفَيْءُ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل:
أ - مَشْرُوعِيَّةُ الْفَيْءِ:
9 - الْفَيْءُ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالأَْثَرِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوَجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) وَقَوْلُهُ جَل شَأْنُهُ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْل الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُول وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَْغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (3) .
وَأَمَّا الأَْثَرُ فَمَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 171، والخرشي 3 / 230، ومغني المحتاج 3 / 334، والمغني 7 / 298.
(2) سورة الحشر / 6.
(3) سورة الحشر / 7.

(32/229)


أَنَّهُ قَال: كَانَتْ أَمْوَال بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، فَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ وَمَا بَقِيَ يَجْعَلُهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلاَحِ (1) .

ب - مَوَارِدُ الْفَيْءِ:
10 - مِنْ مَوَارِدِ الْفَيْءِ:
(1) مَا جَلاَ عَنْهُ الْكُفَّارُ خَوْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الأَْرَاضِيِ وَالْعَقَارَاتِ.
(2) مَا تَرَكَهُ الْكُفَّارُ وَجَلَوْا عَنْهُ مِنَ الْمَنْقُولاَتِ.
(3) مَا أُخِذَ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ خَرَاجٍ أَوْ أُجْرَةٍ عَنِ الأَْرَاضِيِ الَّتِي مَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَدُفِعَتْ بِالإِْجَارَةِ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، أَوْ عَنِ الأَْرَاضِيِ الَّتِي أُقِرَّتْ بِأَيْدِي أَصْحَابِهَا مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً عَلَى أَنَّهَا لَهُمْ، وَلَنَا عَلَيْهَا الْخَرَاجُ.
(4) الْجِزْيَةُ.
(5) عُشُورُ أَهْل الذِّمَّةِ.
(6) مَا صُولِحَ عَلَيْهِ الْحَرْبِيُّونَ مِنْ مَالٍ يُؤَدُّونَهُ إلَى الْمُسْلِمِينَ.
(7) مَال الْمُرْتَدِّ إنْ قُتِل أَوْ مَاتَ.
(8) مَال الذِّمِّيِّ إنْ مَاتَ وَلاَ وَارِثَ لَهُ وَمَا
__________
(1) أثر عمر: " كانت أموال بني النضير. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 93) ومسلم (3 / 1376 - 1377) من حديث مالك بن أوس. وانظر أحكام القرآن للقرطبي 18 / 11.

(32/230)


فَضَل مِنْ مَالِهِ عَنْ وَارِثِهِ فَهُوَ فَيْءٌ.
(9) الأَْرَاضِيُ الْمَغْنُومَةُ بِالْقِتَال وَهِيَ الأَْرَاضِيُ الزِّرَاعِيَّةُ عِنْدَ مَنْ يَرَى عَدَمَ تَقْسِيمِهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (بَيْتُ الْمَال ف 6) .

ج - تَخْمِيسُ الْفَيْءِ:
11 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إلَى أَنَّ الْفَيْءَ لاَ يُخَمَّسُ، وَإِنَّمَا كُلُّهُ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ ذُكِرُوا مَعَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْل الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُول وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل} إلَى قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ جَاءُو مِنْ بَعْدِهِمْ} (1) فَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُمْ وَلَمْ يَذْكُرْ خُمُسًا وَلأَِنَّ الْخُمُسَ إنَّمَا يَجِبُ فِي الْغَنَائِمِ، وَالْغَنِيمَةُ اسْمٌ لِلْمَال الْمَأْخُوذِ عَنْوَةً وَقَهْرًا بِإِيجَافِ الْخَيْل وَالرِّكَابِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا فِي الْفَيْءِ لِحُصُولِهِ فِي أَيْدِيهِمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَكَانَ مُبَاحًا مُلِكَ لاَ عَلَى سَبِيل الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَلاَ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ، وَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلاَ نَحْفَظُ مِنْ أَحَدٍ قَبْل الشَّافِعِيِّ فِي الْفَيْءِ الْخُمُسَ كَخُمُسِ الْغَنِيمَةِ. كَمَا لَوْ صُولِحُوا عَلَى
__________
(1) سورة الحشر / 7 - 10.

(32/230)


الضِّيَافَةِ فَإِنَّهُ لاَ حَقَّ لأَِهْل الْخُمُسِ فِي مَال الضِّيَافَةِ بَل يَخْتَصُّ بِهِ الطَّارِقُونَ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَالرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إلَى أَنَّ الْفَيْءَ يُخَمَّسُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْل الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُول وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَْغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (2) ،
فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ جَمِيعَ الْفَيْءِ لِهَؤُلاَءِ، وَهُمْ أَهْل الْخُمُسِ.
وَلَمَّا قَرَأَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الآْيَةَ قَال: اسْتَوْعَبَتْ هَذِهِ الآْيَةُ النَّاسَ فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إلاَّ لَهُ فِي هَذَا الْمَال حَقٌّ (3) ، وَجَاءَتِ الأَْخْبَارُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَالَّةً عَلَى اشْتِرَاكِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ، فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، كَيْ لاَ تَتَنَاقَضَ الآْيَةُ وَالأَْخْبَارُ وَتَتَعَارَضَ، وَفِي إيجَابِ الْخُمُسِ فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ النُّصُوصِ وَتَوْفِيقٌ بَيْنَهَا، فَإِنَّ خُمُسَهُ لِلَّذِي سُمِّيَ فِي الآْيَةِ وَسَائِرَهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَنْ فِي الْخَبَرِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 116، وحاشية الدسوقي 2 / 169، والمغني لابن قدامة 6 / 404، وبداية المجتهد لابن رشد 1 / 343، وكشاف القناع 3 / 101.
(2) سورة الحشر / 7.
(3) أثر عمر: " استوعبت هذه الآية الناس لم يبق أحد من المسلمين إلا له. . . ". أخرجه النسائي (7 / 137) من حديث مالك بن أوس، وأصله في البخاري (فتح الباري 6 / 197 - 198) ومسلم (3 / 1377 - 1378) .

(32/231)


كَالْغَنِيمَةِ، وَلأَِنَّهُ مَالٌ مُشْتَرَكٌ مَظْهُورٌ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يُخَمَّسَ كَالْغَنِيمَةِ وَالرِّكَازِ، وَلأَِنَّ الْمِلْكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَثْبُتُ بِأَخْذِهِ، وَإِنَّمَا أُخِذَ عَلَى سَبِيل الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَكَانَ فِي حُكْمِ الْغَنَائِمِ (1) .
وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: لَقِيت عَمِّي وَمَعَهُ رَايَةٌ، فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَال: بَعَثَنِي رَسُول اللَّهِ إلَى رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةَ أَبِيهِ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ وَآخُذَ مَالَهُ (2) .

د - تَقْسِيمُ خُمُسِ الْفَيْءِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِتَخْمِيسِهِ:
12 - يُقْسَمُ مَال الْفَيْءِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِتَخْمِيسِهِ:
السَّهْمُ الأَْوَّل الْمُضَافُ إلَى اللَّهِ عَزَّ جَل وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، وَمَا فَضَل جَعَلَهُ فِي السِّلاَحِ عِدَّةً فِي سَبِيل اللَّهِ تَعَالَى وَفِي سَائِرِ الْمَصَالِحِ.
وَأَمَّا سَهْمُ اللَّهِ الَّذِي أَضَافَهُ إلَيْهِ - فَهُوَ لاِفْتِتَاحِ الْكَلاَمِ بِاسْمِهِ تَبَرُّكًا بِهِ، لاَ لإِِفْرَادِهِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 117، وروضة الطالبين 6 / 354، والمغني لابن قدامة 6 / 404.
(2) حديث البراء بن عازب: " لقيت عمي ومعه راية. . . " أخرجه أبو داود (4 / 602 - 604) والترمذي (3 / 634) واللفظ لأبي داود، وقال الترمذي: حسن غريب.

(32/231)


بِسَهْمٍ، فَإِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى الدُّنْيَا وَالآْخِرَةَ (1) .
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا بَعَثَ سَرِيَّةً فَغَنِمُوا خَمَّسَ الْغَنِيمَةَ فَضَرَبَ ذَلِكَ الْخُمُسَ فِي خُمُسِهِ. . (2) .
السَّهْمُ الثَّانِي: لِذَوِي الْقُرْبَى، وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِيَّ نَوْفَلٍ - لأَِنَّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِيَّ الْمُطَّلِبِ لَمْ يُفَارِقُوا الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلاَ إسْلاَمٍ، كَمَا قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ (3) ، وَيَشْتَرِكُ فِيهِ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ وَصَغِيرُهُمْ، وَلاَ يُفَضَّل أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ إلاَّ بِالذُّكُورَةِ، فَلِلذَّكْرِ سَهْمَانِ وَلِلأُْنْثَى سَهْمٌ.
وَقَال الْمُزَنِيُّ: يُسَوَّى بَيْنَهُمَا، وَقَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ: الْمُدْلِي بِجِهَتَيْنِ يُفَضَّل عَلَى الْمُدْلِي بِجِهَةٍ.
السَّهْمُ الثَّالِثُ: لِلْيَتَامَى، وَالْيَتِيمُ الصَّغِيرُ الَّذِي لاَ أَبَ لَهُ وَقِيل: وَلاَ جَدَّ لَهُ قَبْل الْحُلُمِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يُتْمَ بَعْدَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 124، والمغني لابن قدامة 6 / 406، 407.
(2) حديث ابن عباس قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية فغنموا خمس الغنيمة فضرب ذلك الخمس في خمسة ". أخرجه الطبراني في الكبير (12 / 124) ، وقال الهيثمي في المجمع (5 / 340) فيه نهشل بن سعيد وهو متروك.
(3) حديث: " بنو هاشم وبنو المطلب لم يفارقوا الرسول. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 244) ، وأبو داود (3 / 383 - 384) ، من حديث جبير بن مطعم واللفظ له.

(32/232)


احْتِلاَمٍ (1) وَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْفَقْرُ.
السَّهْمُ الرَّابِعُ: الْمَسَاكِينُ، وَالْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي يَمْلِكُ مَا يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ وَلاَ يَكْفِيهِ، وَيَدْخُل فِيهِ الْفَقِيرُ.
السَّهْمُ الْخَامِسُ: ابْنُ السَّبِيل وَهُوَ كُل مَنْ أَنْشَأَ سَفَرًا مِنْ بَلَدِهِ أَوْ بَلَدٍ كَانَ مُقِيمًا بِهِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي سَفَرِهِ، فَيُعْطَى مَنْ لاَ مَال لَهُ أَصْلاً، وَكَذَا مَنْ لَهُ مَالٌ فِي غَيْرِ الْبَلَدِ الْمُنْتَقِل إلَيْهِ مِنْهُ.
وَإِذَا فُقِدَ بَعْضُ الأَْصْنَافِ وُزِّعَ نَصِيبُهُ عَلَى الْبَاقِينَ كَالزَّكَاةِ.
13 - وَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ فَهِيَ لِلرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ (2) .

هـ - مَصْرِفُ الْفَيْءِ وَمَا يَخُصُّ الرَّسُول بَعْدَ وَفَاتِهِ:
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْفَيْءَ وَمَا يَخُصُّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخُمُسِ، سَوَاءٌ أَكَانَ خُمُسَ الْفَيْءِ عِنْدَ مَنْ قَال بِهِ، أَمْ خُمُسَ الْغَنِيمَةِ لِسُقُوطِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، يُوضَعُ فِي بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ وَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِهِمُ الْعَامَّةِ.
__________
(1) حديث: " لا يتم بعد احتلام ". أخرجه أبو داود (3 / 293 - 394) من حديث علي، وحسن إسناده النووي في رياض الصالحين (609) .
(2) روضة الطالبين 6 / 358، وكشاف القناع 3 / 101، والمغني لابن قدامة 6 / 410، ونيل الأوطار للشوكاني 8 / 73.

(32/232)


وَذَكَرَ أَحْمَدُ الْفَيْءَ فَقَال: فِيهِ حَقٌّ لِكُل الْمُسْلِمِينَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إلاَّ لَهُ فِي هَذَا الْمَال حَقٌّ (1) .
وَعِنْدَ أَبِي يَعْلَى أَنَّ مَال الْفَيْءِ مَوْقُوفٌ عَلَى اجْتِهَادِ الأَْئِمَّةِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ أَهْل الْفَيْءِ هُمْ أَهْل الْجِهَادِ وَمَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ، لأَِنَّ ذَلِكَ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ لِحُصُول النُّصْرَةِ وَالْمَصْلَحَةِ بِهِ، فَلَمَّا مَاتَ صَارَتْ بِالْخَيْل وَالْجُنْدِ وَمَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَيَكُونُ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، لأَِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الأَْئِمَّةِ فِي الْمَال الْمَبْعُوثِ إلَيْهِمْ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ، أَنَّهُ يَكُونُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً أَنَّ الإِْمَامَ إنَّمَا أَشْرَكَ قَوْمَهُ فِي الْمَال الْمَبْعُوثِ إلَيْهِ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ لأَِنَّ هَيْبَتَهُ بِسَبَبِ قَوْمِهِ، فَكَانَتْ شَرِكَةً بَيْنَهُمْ، وَأَمَّا هَيْبَةُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ بِمَا نُصِرَ مِنَ الرُّعْبِ لاَ بِأَصْحَابِهِ، كَمَا قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ (2) لِذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ لِنَفْسِهِ (3) .
__________
(1) أثر عمر: " فلم يبقَ أحد من المسلمين. . . ". تقدم ف11.
(2) حديث: " نصرت بالرعب مسيرة شهر ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 436) ومسلم (1 / 370) من حديث جابر واللفظ للبخاري.
(3) بدائع الصنائع 7 / 116، وحاشية الدسوقي 2 / 190، وروضة الطالبين 6 / 354، والمغني لابن قدامة 6 / 414، 485، وكشاف القناع 3 / 100 - 101، والقوانين الفقهية ص101، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص136.

(32/233)


وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْتُ الْمَال ف 12 - 13 - 14) .
15 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْفَيْءِ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ يُصْرَفُ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:
أ - خُمُسُ خُمُسِ الْفَيْءِ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَسَدِّ الثُّغُورِ وَعِمَارَةِ الْحُصُونِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْمَسَاجِدِ وَأَرْزَاقِ الْقُضَاةِ وَالأَْئِمَّةِ وَيُقَدَّمُ الأَْهَمُّ فَالأَْهَمُّ.
ب - أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ تُصْرَفُ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ لِلْمُرْتَزِقَةِ الْمُرْصَدَيْنِ لِلْجِهَادِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي أَنَّهَا لِلْمَصَالِحِ وَالثَّالِثُ أَنَّهَا تُقْسَمُ كَمَا يُقْسَمُ الْخُمُسُ (1) .

ثَانِيًا: الْفَيْءُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي:
16 - وَأَمَّا الْفَيْءُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي وَهُوَ رُجُوعُ الزَّوْجِ إلَى جِمَاعِ زَوْجَتِهِ الَّذِي مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْهُ بِالْيَمِينِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ أَوِ الْوَعْدِ بِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ، فَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَيْءِ فِي قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُو فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (2) هُوَ الْجِمَاعُ، وَسُمِّيَ الْجِمَاعُ مِنَ
__________
(1) روضة الطالبين 6 / 355 - 356.
(2) سورة البقرة / 226 - 227.

(32/233)


الْمُولِي فَيْئَةً، لأَِنَّهُ رَجَعَ إلَى فِعْل مَا تَرَكَهُ.
وَقَدْ حَدَّدَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ وَطِئَ قَبْل انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ انْحَل الإِْيلاَءُ وَلَزِمَهُ جَزَاءُ يَمِينِهِ، فَإِنْ كَانَتْ بِاَللَّهِ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَإِنْ كَانَ طَلاَقًا وَقَعَ، وَإِنْ كَانَ عِتْقًا لَزِمَهُ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إيلاَءٌ ف 20 وَمَا بَعْدَهَا) .

فَيْئَةٌ

اُنْظُرْ: إيلاَءٌ

فِيلٌ

اُنْظُرْ: أَطْعِمَةٌ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 161، 162، وحاشية الدسوقي 2 / 379، والمغني لابن قدامة 7 / 398.

(32/234)