الموسوعة الفقهية الكويتية

قُدْسٌ

اُنْظُرْ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ

(32/352)


قِدَمٌ

اُنْظُرْ: تَقَادُمٌ

قُدْوَةٌ

اُنْظُرْ: اقْتِدَاءْ

(32/352)


قَذْفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَذْفُ لُغَةً: الرَّمْيُ مُطْلَقًا، وَالتَّقَاذُفُ التَّرَامِي، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: كَانَ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَيْنَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاذَفَتْ فِيهِ الأَْنْصَارُ مِنَ الأَْشْعَارِ يَوْمَ بُعَاثٍ (1) أَيْ: تَشَاتَمَتْ، وَفِيهِ مَعْنَى الرَّمْيِ؛ لأَِنَّ الشَّتْمَ رَمْيٌ بِمَا يَعِيبُهُ وَيَشِينُهُ (2) .
وَاصْطِلاَحًا: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: الرَّمْيُ بِالزِّنَا، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: " فِي مَعْرِضِ التَّعْيِيرِ "، وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: رَمْيُ مُكَلَّفٍ حُرًّا مُسْلِمًا بِنَفْيِ نَسَبٍ عَنْ أَبٍ أَوْ جَدٍّ أَوْ بِزِنًا (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - اللِّعَانُ:
2 - اللِّعَانُ لُغَةً: مَصْدَرُ لاَعَنَ كَقَاتَل مِنَ
__________
(1) حديث: " كان عند عائشة قينتان. . . " أخرجه البخاري (7 / 246) بلفظ " تعازفت " وذكر ابن حجر في الفتح (4412) أنه وقع في رواية: " تقاذفت ".
(2) الاختيار لتعليل المختار 3 / 280 طبعة المعاهد الأزهرية.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 43، 44، الشرح الصغير 2 / 425 - 424 ط. الحلبي، ومغني المحتاج 4 / 155، والمغني لابن قدامة 8 / 215.

(33/5)


اللَّعْنِ، وَهُوَ الطَّرْدُ وَالإِْبْعَادُ.
وَاصْطِلاَحًا: عِبَارَةٌ عَنْ كَلِمَاتٍ مَعْلُومَةٍ جُعِلَتْ حُجَّةً لِلْمُضْطَرِّ إِلَى قَذْفِ مَنْ لَطَّخَ فِرَاشَهُ وَأَلْحَقَ بِهِ الْعَارَ (1) ، أَوْ شَهَادَاتٍ مُؤَكَّدَاتٍ بِالأَْيْمَانِ، مَقْرُونَةٍ بِاللَّعْنِ مِنْ جِهَةٍ، وَبِالْغَضَبِ مِنَ الأُْخْرَى، قَائِمَةٍ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي حَقِّهِ، وَمَقَامَ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهَا (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقَذْفِ وَاللِّعَانِ أَنَّ اللِّعَانَ سَبَبٌ لِدَرْءِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنِ الزَّوْجِ.

ب - السَّبُّ:
3 - السَّبُّ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: هُوَ الشَّتْمُ، وَهُوَ: كُل كَلاَمٍ قَبِيحٍ (3) .
وَالصِّلَةُ: أَنَّ السَّبَّ أَعَمُّ مِنَ الْقَذْفِ.

ج - الرَّمْيُ:
4 - مِنْ مَعَانِي الرَّمْيِ: الْقَذْفُ وَالإِْلْقَاءُ، قَال تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} (4) ، أَيْ: يَقْذِفُونَ، وَيُقَال: رَمَيْتُ الْحَجَرَ: أَلْقَيْتُهُ.
وَالرَّمْيُ أَعَمُّ مِنَ الْقَذْفِ (5) .
__________
(1) كفاية الأخيار 2 / 75 طبعة دار المعرفة.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 482.
(3) الموسوعة مصطلح (سب ف 1 - 4) ، وحاشية الدسوقي 4 / 309.
(4) سورة النور / 4.
(5) لسان العرب والمصباح المنير، والموسوعة الفقهية. مصطلح (رمى 1 - 2) .

(33/5)


د - الزِّنَا:
5 - الزِّنَا بِالْقَصْرِ لُغَةُ أَهْل الْحِجَازِ، وَبِالْمَدِّ لُغَةُ أَهْل نَجْدٍ، وَمَعْنَاهُ الْفُجُورُ، يُقَال: زَنَى يَزْنِي زِنًا: فَجَرَ. وَاصْطِلاَحًا: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ وَطْءُ الرَّجُل الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُل فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْقَذْفَ اتِّهَامٌ بِالزِّنَا.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - قَذْفُ الْمُحْصَنِ وَالْمُحْصَنَةِ حَرَامٌ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَالأَْصْل فِي تَحْرِيمِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2) ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (3) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَال: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْل النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْل الرِّبَا، وَأَكْل مَال الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 4، وبداية المجتهد 2 / 324.
(2) سورة النور / 4.
(3) سورة النور / 23.

(33/6)


وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ (1) .
وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا وَهُوَ: أَنْ يَرَى امْرَأَتَهُ تَزْنِي فِي طُهْرٍ لَمْ يَطَأْهَا فِيهِ ثُمَّ يَعْتَزِلَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، فَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الزِّنَى وَأَمْكَنَهُ نَفْيُهُ عَنْهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ قَذْفُهَا وَنَفْيُ وَلَدِهَا.
وَمُبَاحٌ: وَهُوَ أَنْ يَرَى زَوْجَتَهُ تَزْنِي، أَوْ يَثْبُتَ عِنْدَهُ زِنَاهَا، وَلَيْسَ ثَمَّ وَلَدٌ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ.

صِيغَةُ الْقَذْفِ:
7 - الْقَذْفُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَضْرُبٍ: صَرِيحٌ، وَكِنَايَةٌ، وَتَعْرِيضٌ.
فَاللَّفْظُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْقَذْفُ: إِنْ لَمْ يَحْتَمِل غَيْرَهُ فَصَرِيحٌ، وَإِلاَّ فَإِنْ فُهِمَ مِنْهُ الْقَذْفُ بِوَضْعِهِ فَكِنَايَةٌ، وَإِلاَّ فَتَعْرِيضٌ (2) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَذْفَ بِصَرِيحِ الزِّنَا يُوجِبُ الْحَدَّ بِشُرُوطِهِ.
وَأَمَّا الْكِنَايَةُ: فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ:
إِذَا أَنْكَرَ الْقَذْفَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ عِنْدَ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، لِلإِْيذَاءِ، وَقَيَّدَهُ الْمَاوَرْدِيُّ بِمَا إِذَا خَرَجَ اللَّفْظُ مَخْرَجَ السَّبِّ وَالذَّمِّ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ حُبِسَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَإِنْ طَال حَبْسُهُ وَلَمْ يَحْلِفْ عُزِّرَ.
__________
(1) المغني 8 / 215. وحديث: " اجتنبوا السبع الموبقات. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 393) ، ومسلم (1 / 92) من حديث أبي هريرة.
(2) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 3 / 201.

(33/6)


وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الأَْلْفَاظِ:
فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا قَال لِرَجُلٍ: يَا فَاجِرُ، يَا فَاسِقُ، يَا خَبِيثُ، أَوْ لاِمْرَأَةٍ: يَا فَاجِرَةُ، يَا فَاسِقَةُ، يَا خَبِيثَةُ، أَوْ أَنْتِ تُحِبِّينَ الْخَلْوَةَ، أَوْ لاَ تَرُدِّينَ يَدَ لاَمِسٍ، فَإِنْ أَنْكَرَ إِرَادَةَ الْقَذْفِ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ؛ لأَِنَّهُ أَعْرَفُ بِمُرَادِهِ، فَيَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ الْقَذْفَ، ثُمَّ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا قَال لآِخَرَ: يَا فَاجِرُ، يَا فَاسِقُ، أَوْ يَا ابْنَ الْفَاجِرَةِ، أَوْ يَا ابْنَ الْفَاسِقَةِ، يُؤَدَّبُ، فَإِذَا قَال: يَا خَبِيثُ، أَوْ يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ قَذْفًا، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ يُحْبَسُ، فَإِنْ طَال حَبْسُهُ وَلَمْ يَحْلِفْ عُزِّرَ.
وَإِذَا قَال: يَا فَاجِرُ بِفُلاَنَةَ، فَفِيهِ قَوْلاَنِ: الأَْوَّل: حُكْمُهُ حُكْمُ مَا إِذَا قَال: يَا خَبِيثُ، أَوْ يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ.
الثَّانِي: أَنْ يُضْرَبَ حَدَّ الْقَذْفِ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى أَمْرٍ صَنَعَهُ مِنْ وُجُوهِ الْفُجُورِ، أَوْ مِنْ أَمْرٍ يَدَّعِيهِ، فَيَكُونُ فِيهِ مَخْرَجٌ لِقَوْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِذَا قَال لآِخَرَ: يَا مُخَنَّثُ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَيْهِ الْحَدُّ، إِلاَّ أَنْ يَحْلِفَ بِاللَّهِ، إِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ قَذْفًا، فَإِنْ حَلَفَ عُفِيَ عَنْهُ بَعْدَ الأَْدَبِ، وَلاَ يُضْرَبُ حَدَّ الْفِرْيَةِ، وَإِنَّمَا تُقْبَل يَمِينُهُ، إِذَا
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 369.

(33/7)


كَانَ الْمَقْذُوفُ فِيهِ تَأْنِيثٌ وَلِينٌ وَاسْتِرْخَاءٌ، فَحِينَئِذٍ يُصَدَّقُ، وَيَحْلِفُ إِنَّهُ لَمْ يُرِدْ قَذْفًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَأْنِيثَهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، ضُرِبَ الْحَدَّ، وَلَمْ تُقْبَل يَمِينُهُ، إِذَا زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ قَذْفًا (1) ، وَلَوْ قَال لاِمْرَأَةٍ: يَا قَحْبَةُ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لاَ حَدَّ إِلاَّ عَلَى مَنْ صَرَّحَ بِالْقَذْفِ، فَلَوْ قَال رَجُلٌ لآِخَرَ: يَا فَاسِقُ يَا خَبِيثُ، أَوْ يَا فَاجِرُ، أَوْ يَا فَاجِرُ ابْنَ الْفَاجِرِ، أَوْ يَا ابْنَ الْقَحْبَةِ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ مَا نَسَبَهُ وَلاَ أُمَّهُ إِلَى صَرِيحِ الزِّنَا، فَالْفُجُورُ قَدْ يَكُونُ بِالزِّنَا وَغَيْرِ الزِّنَا، وَالْقَحْبَةُ مَنْ يَكُونُ مِنْهَا هَذَا الْفِعْل، فَلاَ يَكُونُ هَذَا قَذْفًا بِصَرِيحِ الزِّنَا، فَلَوْ أَوْجَبْنَا الْحَدَّ، فَقَدْ أَوْجَبْنَاهُ بِالْقِيَاسِ، وَلاَ مَدْخَل لِلْقِيَاسِ فِي الْحَدِّ، لَكِنَّهُ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ؛ لأَِنَّهُ ارْتَكَبَ حَرَامًا، وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ؛ وَلأَِنَّهُ أَلْحَقَ بِهِ نَوْعَ شَيْنٍ بِمَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ، فَيَجِبُ التَّعْزِيرُ، لِدَفْعِ ذَلِكَ الشَّيْنِ عَنْهُ (3) .

8 - وَلَوْ قَال رَجُلٌ لآِخَرَ: زَنَأْتَ مَهْمُوزًا، كَانَ قَذْفًا صَرِيحًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ،
__________
(1) الدسوقي 4 / 330، والمدونة 4 / 387.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 328، ومغني المحتاج 3 / 368.
(3) المبسوط 9 / 119، والمغني 8 / 221، 222، وكشاف القناع 6 / 110.

(33/7)


وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ لِلشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّ عَامَّةَ النَّاسِ لاَ يَفْهَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ الْقَذْفَ، فَكَانَ قَذْفًا، كَمَا لَوْ قَال: زَنَيْتَ.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ لِلشَّافِعِيَّةِ:
أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْل اللُّغَةِ فَكِنَايَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَامَّةِ فَهُوَ قَذْفٌ؛ لأَِنَّ الْعَامَّةَ لاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ زَنَيْتَ وَزَنَأْتَ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ كِنَايَةٌ.
وَقَال ابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ كَانَ عَامِّيًّا فَهُوَ قَذْفٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْعَرَبِيَّةِ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا.

9 - وَلَوْ قَال لِرَجُلٍ: يَا زَانِيَةُ، لاَ يُحَدُّ اسْتِحْسَانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُ رَمَاهُ بِمَا يَسْتَحِيل مِنْهُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمُحَمَّدٍ يُحَدُّ؛ لأَِنَّهُ قَذَفَهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، فَإِنَّ التَّاءَ تُزَادُ لَهُ كَمَا فِي عَلاَّمَةٍ وَنَسَّابَةٍ، وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ، وَرَجَّحَهُ فِي الْمُغْنِي؛ لأَِنَّ مَا كَانَ قَذْفًا لأَِحَدِ الْجِنْسَيْنِ، كَانَ قَذْفًا لِلآْخَرِ، كَقَوْلِهِ: زَنَيْتَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا لَهُمَا جَمِيعًا؛ وَلأَِنَّ هَذَا خِطَابٌ لَهُ، وَإِشَارَةٌ إِلَيْهِ بِلَفْظِ الزِّنَا، وَذَلِكَ يُغْنِي عَنِ التَّمْيِيزِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَحَذْفِهَا، وَلَوْ قَال لاِمْرَأَةٍ: " يَا زَانِي " حُدَّ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لأَِنَّ التَّرْخِيمَ

(33/8)


شَائِعٌ، كَقَوْلِهِمْ فِي " مَالِكٍ ": " يَا مَال " وَفِي " حَارِثٍ ": " يَا حَارِ (1) ".

10 - وَإِنْ قَال زَنَى فَرْجُكِ، أَوْ ذَكَرُكَ، فَهُوَ قَذْفٌ؛ لأَِنَّ الزِّنَا يَقَعُ بِذَلِكَ، وَإِنْ قَال: زَنَتْ عَيْنُكَ، أَوْ يَدُكَ، أَوْ رِجْلُكَ، فَلَيْسَ بِقَذْفٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ قَوْلاَنِ: الْمَذْهَبُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ، إِنْ قَصَدَ الْقَذْفَ كَانَ قَذْفًا، وَإِلاَّ فَلاَ؛ لأَِنَّ الزِّنَا لاَ يُوجَدُ مِنْ هَذِهِ الأَْعْضَاءِ حَقِيقَةً، وَلِهَذَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ، وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ (2) ، وَمُقَابِل الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ قَذْفٌ، لأَِنَّهُ أَضَافَ الزِّنَا إِلَى عُضْوٍ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا إِذَا أَضَافَهُ إِلَى الْفَرْجِ (3) ، فَإِنْ قَال: زَنَى بَدَنُكَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ؛ لأَِنَّ الزِّنَا بِجَمِيعِ الْبَدَنِ يَكُونُ بِالْمُبَاشَرَةِ، فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي الْقَذْفِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَذْفٌ؛ لأَِنَّهُ أَضَافَهُ إِلَى جَمِيعِ
__________
(1) فتح القدير 4 / 191، والمهذب 2 / 291، والمغني 8 / 225.
(2) حديث: " إن الله كتب على ابن آدم. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 26) ، ومسلم (4 / 2046) من حديث أبي هريرة.
(3) مغني المحتاج 3 / 370.

(33/8)


الْبَدَنِ، وَالْفَرْجُ دَاخِلٌ فِيهِ (1) .
وَإِنْ قَال لِرَجُلٍ: أَنْتَ أَزْنَى مِنْ فُلاَنٍ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُطْلَقًا؛ لأَِنَّ أَفْعَل يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْعِلْمِ، فَكَانَ مَعْنَى كَلاَمِهِ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِالزِّنَا مِنْ فُلاَنٍ، أَوْ أَنْتَ أَقْدَرُ عَلَى الزِّنَا مِنْ فُلاَنٍ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَكُونُ قَذْفًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: يَكُونُ قَذْفًا فَيُحَدُّ، وَهَل يَكُونُ قَاذِفًا لِلثَّانِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ، لأَِنَّهُ أَضَافَ الزِّنَا إِلَيْهِمَا، وَجَعَل أَحَدَهُمَا فِيهِ أَبْلَغَ مِنَ الآْخَرِ، فَإِنَّ لَفْظَةَ: " أَفْعَل " لِلتَّفْضِيل، فَيَقْتَضِي اشْتِرَاكَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي أَصْل الْفِعْل، وَتَفْضِيل أَحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ فِيهِ، كَقَوْلِهِ: " أَجْوَدُ مِنْ حَاتِمٍ ".
وَالثَّانِي: يَكُونُ قَاذِفًا لِلْمُخَاطَبِ خَاصَّةً؛ لأَِنَّ لَفْظَةَ: " أَفْعَل " قَدْ تُسْتَعْمَل لِلْمُنْفَرِدِ بِالْفِعْل، كَقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى} (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَال لِرَجُلٍ:
__________
(1) المبسوط 9 / 129، والمهذب 2 / 290، 291.
(2) سورة يونس / 35.

(33/9)


يَا زَانِي، فَقَال آخَرُ: صَدَقْتَ، لَمْ يُحَدَّ الْمُصَدِّقُ؛ لأَِنَّهُ مَا صَرَّحَ بِنِسْبَتِهِ إِلَى الزِّنَا، وَتَصْدِيقُهُ إِيَّاهُ لَفْظٌ مُحْتَمَلٌ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ فِي الزِّنَا وَفِي غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ إِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ التَّصْدِيقُ فِي الزِّنَا، وَلَكِنَّ هَذَا الظَّاهِرَ لاَ يَكْفِي لإِِيجَابِ الْحَدِّ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَال: صَدَقْتَ هُوَ كَمَا قُلْتَ، فَحِينَئِذٍ قَدْ صَرَّحَ بِكَلاَمِهِ أَنَّ مُرَادَهُ التَّصْدِيقُ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى الزِّنَا، فَيَكُونُ قَاذِفًا لَهُ.
وَقَال زُفَرُ: فِي كِلْتَا الْمَسْأَلَتَيْنِ يُحَدَّانِ جَمِيعًا، وَإِنْ قَال لِرَجُلٍ: أَشْهَدُ أَنَّكَ زَانٍ، وَقَال آخَرُ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَيْضًا، لاَ حَدَّ عَلَى الآْخَرِ؛ لأَِنَّ قَوْلَهُ أَشْهَدُ كَلاَمٌ مُحْتَمَلٌ، فَلاَ يَتَحَقَّقُ بِهِ الْقَذْفُ إِلاَّ أَنْ يَقُول: أَنَا أَشْهَدُ عَلَيْهِ بِمِثْل مَا شَهِدْتَ بِهِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ (1) .

11 - وَمَنْ قَذَفَ رَجُلاً بِعَمَل قَوْمِ لُوطٍ إِمَّا فَاعِلاً أَوْ مَفْعُولاً، فَعَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ؛ لأَِنَّهُ قَذَفَهُ بِوَطْءٍ يُوجِبُ الْحَدَّ، فَأَشْبَهَ الْقَذْفَ بِالزِّنَا، وَهَذَا قَوْل الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَقَال عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لاَ حَدَّ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ قَذَفَهُ بِمَا لاَ يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَهُمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَذَفَ امْرَأَةً أَنَّهَا وُطِئَتْ فِي دُبُرِهَا،
__________
(1) المبسوط 9 / 120، 121.

(33/9)


أَوْ قَذَفَ رَجُلاً بِوَطْءِ امْرَأَةٍ فِي دُبُرِهَا.
وَإِنْ قَال لِرَجُلٍ: " يَا لُوطِيُّ "، وَقَال: أَرَدْتُ أَنَّكَ عَلَى دِينِ قَوْمِ لُوطٍ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ، وَمَا صَحَّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَلاَ يُسْمَعُ تَفْسِيرُهُ بِمَا يُحِيل الْقَذْفَ، لأَِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لاَ يُفْهَمُ مِنْهَا إِلاَّ الْقَذْفُ بِعَمَل قَوْمِ لُوطٍ، فَكَانَتْ صَرِيحَةً فِيهِ، كَقَوْلِهِ: " يَا زَانِي "، وَلأَِنَّ قَوْمَ لُوطٍ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَلاَ يُحْتَمَل أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِمْ.
وَقَال الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: إِذَا قَال: نَوَيْتُ أَنَّ دِينَهُ دِينُ قَوْمِ لُوطٍ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَال: أَرَدْتُ أَنَّكَ تَعْمَل عَمَل قَوْمِ لُوطٍ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ فَسَّرَ كَلاَمَهُ بِمَا لاَ يُوجِبُ الْحَدَّ، وَهُوَ يَحْتَمِل، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ فَسَّرَهُ بِهِ مُتَّصِلاً بِكَلاَمِهِ (1) .

حُكْمُ التَّعْرِيضِ:
12 - وَأَمَّا التَّعْرِيضُ بِالْقَذْفِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ قَذْفٌ، كَقَوْلِهِ: مَا أَنَا بِزَانٍ، وَأُمِّي لَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ، وَلَكِنَّهُ لاَ يُحَدُّ؛ لأَِنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 156، وحاشية الدسوقي 4 / 326، والشرح الصغير 2 / 426 ط الحلبي، والمهذب 2 / 290، والمغني 8 / 221.

(33/10)


لِلشُّبْهَةِ، وَيُعَاقَبُ بِالتَّعْزِيرِ؛ لأَِنَّ الْمَعْنَى: بَل أَنْتَ زَانٍ (1) .
وَذَهَبَ مَالِكٌ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا عَرَّضَ بِالْقَذْفِ غَيْرُ أَبٍ، يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ فُهِمَ الْقَذْفُ بِتَعْرِيضِهِ بِالْقَرَائِنِ، كَخِصَامٍ بَيْنَهُمْ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ، أَمَّا الأَْبُ إِذَا عَرَّضَ لِوَلَدِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُحَدُّ، لِبُعْدِهِ عَنِ التُّهْمَةِ (2) .
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلإِْمَامِ أَحْمَدَ؛ لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَشَارَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ فِي رَجُلٍ قَال لآِخَرَ: مَا أَنَا بِزَانٍ وَلاَ أُمِّي بِزَانِيَةٍ. فَقَالُوا: إِنَّهُ قَدْ مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، فَقَال عُمَرُ: قَدْ عَرَّضَ لِصَاحِبِهِ، فَجَلَدَهُ الْحَدَّ (3) .
وَالتَّعْرِيضُ بِالْقَذْفِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: يَا ابْنَ الْحَلاَل، وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ بِزَانٍ، وَأُمِّي لَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ، فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ وَإِنْ نَوَاهُ؛ لأَِنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا تُؤَثِّرُ إِذَا احْتَمَل اللَّفْظَ الْمَنْوِيَّ، وَلاَ دَلاَلَةَ هُنَا فِي اللَّفْظِ، وَلاَ احْتِمَال، وَمَا يُفْهَمُ مِنْهُ مُسْتَنَدُهُ قَرَائِنُ الأَْحْوَال، هَذَا هُوَ الأَْصَحُّ. وَقِيل: هُوَ كِنَايَةٌ، أَيْ عَنِ الْقَذْفِ، لِحُصُول الْفَهْمِ وَالإِْيذَاءِ، فَإِنْ أَرَادَ النِّسْبَةَ إِلَى الزِّنَا فَقَذْفٌ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حَالَةُ الْغَضَبِ وَغَيْرُهَا (4) ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 191.
(2) شرح الزرقاني 8 / 87.
(3) المغني 8 / 222.
(4) روضة الطالبين 8 / 312.

(33/10)


وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (1) .

شُرُوطُ حَدِّ الْقَذْفِ:
لِحَدِّ الْقَذْفِ شُرُوطٌ فِي الْقَاذِفِ، وَشُرُوطٌ فِي الْمَقْذُوفِ:

أ - شُرُوطُ الْقَاذِفِ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَاذِفِ: الْبُلُوغُ وَالْعَقْل وَالاِخْتِيَارُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شُرُوطٍ، مِنْهَا:
1 - الإِْقَامَةُ فِي دَارِ الْعَدْل: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ احْتِرَازًا عَنِ الْمُقِيمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ.
2 - النُّطْقُ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلاَ حَدَّ عَلَى الأَْخْرَسِ.
3 - الْتِزَامُ أَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَلاَ حَدَّ عَلَى حَرْبِيٍّ، لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ أَحْكَامَ الإِْسْلاَمِ.
4 - الْعِلْمُ بِالتَّحْرِيمِ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ احْتِمَالٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلاَ حَدَّ عَلَى جَاهِلٍ بِالتَّحْرِيمِ؛ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالإِْسْلاَمِ، أَوْ بُعْدِهِ عَنِ الْعُلَمَاءِ.
5 - عَدَمُ إِذْنِ الْمَقْذُوفِ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَلاَ حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ غَيْرَهُ بِإِذْنِهِ،
__________
(1) المغني 8 / 222.

(33/11)


كَمَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنِ الأَْكْثَرِينَ.
6 - أَنْ يَكُونَ الْقَاذِفُ غَيْرَ أَصْلٍ لِلْمَقْذُوفِ: وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُحَدُّ الأَْبُ بِقَذْفِ ابْنِهِ (1) .

ب - شُرُوطُ الْمَقْذُوفِ:
كَوْنُ الْمَقْذُوفِ مُحْصَنًا:
14 - يُشْتَرَطُ فِي الْمَقْذُوفِ - الَّذِي يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ - أَنْ يَكُونَ مُحْصَنًا، وَشُرُوطُ الإِْحْصَانِ فِي الْقَذْفِ: الْبُلُوغُ، وَالْعَقْل، وَالإِْسْلاَمُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْعِفَّةُ عَنِ الزِّنَا، فَإِنْ قَذَفَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ مَا رَمَى بِهِ الصَّغِيرَ وَالْمَجْنُونَ لَوْ تَحَقَّقَ لَمْ يَجِبْ بِهِ الْحَدُّ، فَلَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ، كَمَا لَوْ قَذَفَ عَاقِلاً بِمَا دُونَ الْوَطْءِ، وَإِنْ قَذَفَ كَافِرًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ (2) ، وَإِنْ قَذَفَ مَمْلُوكًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ نَقْصَ الرِّقِّ يَمْنَعُ كَمَال الْحَدِّ، فَيَمْنَعُ وُجُوبَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 167 - 168، وبدائع الصنائع 7 / 40، ومغني المحتاج 4 / 155 - 156، ومطالب أولي النهى 6 / 194، ونيل المآرب 2 / 360، وحاشية الدسوقي 4 / 325 و331.
(2) حديث: " من أشرك بالله فليس بمحصن " أخرجه الدارقطني (3 / 147) ، مرفوعًا وموقوفًا وصوب وقفه.

(33/11)


الْحَدِّ عَلَى قَاذِفِهِ، وَإِنْ قَذَفَ زَانِيًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (1) ، فَأَسْقَطَ الْحَدَّ عَنْهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ زَنَى، فَدَل عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَذَفَهُ وَهُوَ زَانٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَقَال مَالِكٌ فِي الصَّبِيَّةِ الَّتِي يُجَامَعُ مِثْلُهَا: يُحَدُّ قَاذِفُهَا، خُصُوصًا إِذَا كَانَتْ مُرَاهِقَةً، فَإِنَّ الْحَدَّ بِعِلَّةِ إِلْحَاقِ الْعَارِ، وَمِثْلُهَا يَلْحَقُهُ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِحْصَان ف 15 - 19) .

وُقُوعُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ دَارِ الإِْسْلاَمِ:
15 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ فِي غَيْرِ دَارِ الإِْسْلاَمِ، مَعَ مُرَاعَاةِ الشُّرُوطِ السَّابِقَةِ فِي الْقَاذِفِ، كَمَا يَجِبُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، لأَِنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الإِْسْلاَمِ فِيمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ مِنَ الْحُدُودِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُول: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (3) ، وَقَال تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ
__________
(1) سورة النور / 4.
(2) فتح القدير 4 / 192، 193، وحاشية الدسوقي 4 / 325، والقرطبي سورة النور ص 4565 طبعة دار الشعب، والمهذب 2 / 79، والمغني 8 / 216.
(3) سورة النور / 4.

(33/12)


ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ، وَقَال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (1) ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ مَنْ كَانَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَلاَ فِي دَارِ الْكُفْرِ، وَالْحَرَامُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ حَرَامٌ فِي دَارِ الْكُفْرِ، فَمَنْ أَصَابَ حَرَامًا فَقَدْ حَدَّهُ اللَّهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَلاَ تَضَعُ عَنْهُ بِلاَدُ الْكُفْرِ شَيْئًا، وَيُقَامُ الْحَدُّ فِي كُل مَوْضِعٍ؛ لأَِنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِإِقَامَتِهِ مُطْلَقٌ فِي كُل مَكَانٍ وَزَمَانٍ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُقَامُ الْحَدُّ إِلاَّ إِذَا رَجَعَ إِلَى بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ فِي غَيْرِ دَارِ الإِْسْلاَمِ؛ لأَِنَّهُ فِي دَارٍ لاَ حَدَّ عَلَى أَهْلِهَا؛ وَلأَِنَّهُ ارْتَكَبَ السَّبَبَ وَهُوَ لَيْسَ تَحْتَ وِلاَيَةِ الإِْمَامِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ لِلإِْمَامِ وِلاَيَةُ الاِسْتِيفَاءِ إِذَا ارْتَكَبَ السَّبَبَ وَهُوَ تَحْتَ وِلاَيَتِهِ، وَبِدُونِ الْمُسْتَوْفَى لاَ يَجِبُ الْحَدُّ.
وَلَوْ دَخَل الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَقَذَفَ مُسْلِمًا، لَمْ يُحَدَّ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ الأَْوَّل؛ لأَِنَّ الْمُغَلَّبَ فِي هَذَا الْحَدِّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَلأَِنَّهُ لَيْسَ لِلإِْمَامِ عَلَيْهِ وِلاَيَةُ الاِسْتِيفَاءِ، حِينَ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ بِدُخُولِهِ دَارَنَا بِأَمَانٍ.
وَيُحَدُّ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ الآْخَرِ، وَهُوَ قَوْل
__________
(1) سورة المائدة / 38.
(2) المغني 8 / 216، والأم 7 / 322، والخرشي 3 / 111.

(33/12)


أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، فَإِنَّ فِي هَذَا الْحَدِّ مَعْنَى حَقِّ الْعَبْدِ، وَهُوَ مُلْتَزِمٌ حُقُوقَ الْعِبَادِ؛ وَلأَِنَّهُ بِقَذْفِ الْمُسْلِمِ يَسْتَخِفُّ بِهِ، وَمَا أُعْطِيَ الأَْمَانَ عَلَى أَنْ يَسْتَخِفَّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلِهَذَا يُحَدُّ بِقَذْفِ الْمُسْلِمِ (1) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (دَارُ الْحَرْبِ ف 5)

ثُبُوتُ حَدِّ الْقَذْفِ: ثُبُوتُهُ بِالشَّهَادَةِ:
16 - يَثْبُتُ الْقَذْفُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، وَلاَ تُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَال فِي قَوْل عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، فَعَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَال: جَرَتِ السُّنَّةُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ، أَنْ لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ، وَلاَ تُقْبَل فِيهِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلاَ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي؛ لأَِنَّ مُوجِبَهُ حَدٌّ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهُوَ قَوْل النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ.
وَقَال مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْمَذْهَبِ: تُقْبَل فِيهِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَفِي كُل حَقٍّ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الأَْصْل، فَيَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، كَمَا يُقْبَل فِيهِ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي (2) .
__________
(1) المبسوط 9 / 118 - 119.
(2) المبسوط 9 / 111، وبداية المجتهد 2 / 348، والمدونة 4 / 410، ومغني المحتاج 4 / 442 و453، والمغني 9 / 206.

(33/13)


ثُبُوتُهُ بِالإِْقْرَارِ:
17 - وَيَثْبُتُ بِالإِْقْرَارِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَيَجِبُ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ، وَمَنْ أَقَرَّ بِالْقَذْفِ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يُقْبَل رُجُوعُهُ؛ لأَِنَّ لِلْمَقْذُوفِ فِيهِ حَقًّا، فَيُكَذِّبُهُ فِي الرُّجُوعِ، بِخِلاَفِ مَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لأَِنَّهُ لاَ مُكَذِّبَ لَهُ فِيهِ، فَيُقْبَل رُجُوعُهُ (1) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِقْرَار ف 59 - 60)
وَمُصْطَلَحَ (رُجُوع ف 38) .

حَدُّ الْقَذْفِ:
18 - حَدُّ الْقَذْفِ لِلْحُرِّ ثَمَانُونَ جَلْدَةً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (2) ، وَيُنَصَّفُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (3) .
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْجَلْدِ فِي الْحَدِّ، فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حُدُود ف 46، 47 وَ 48) .

وَيُشْتَرَطُ لإِِقَامَةِ الْحَدِّ بَعْدَ تَمَامِ الْقَذْفِ بِشُرُوطِهِ شَرْطَانِ.
الأَْوَّل: أَنْ لاَ يَأْتِيَ الْقَاذِفُ بِبَيِّنَةٍ لِقَوْل اللَّهِ
__________
(1) فتح القدير 4 / 199، والاختيار 3 / 280 طبعة الإدارة العامة للمعاهد الأزهرية، وجواهر الإكليل 2 / 132، ومغني المحتاج 4 / 157.
(2) سورة النور / 4.
(3) القرطبي سورة النور ص 4554، 4555، وفتح القدير 4 / 192.

(33/13)


تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} ، فَيُشْتَرَطُ فِي جَلْدِهِمْ عَدَمُ الْبَيِّنَةِ، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ عَدَمُ الإِْقْرَارِ مِنَ الْمَقْذُوفِ؛ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ زَوْجًا اشْتُرِطَ امْتِنَاعُهُ مِنَ اللِّعَانِ، وَلاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا.
الثَّانِي: مُطَالَبَةُ الْمَقْذُوفِ وَاسْتِدَامَةُ مُطَالَبَتِهِ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ؛ لأَِنَّهُ حَقُّهُ، فَلاَ يُسْتَوْفَى قَبْل طَلَبِهِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، وَمَنْ قَال: إِنَّ الْحَدَّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ لَمْ يَشْتَرِطِ الْمُطَالَبَةَ، بَل عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يُقِيمَهُ بِمُجَرَّدِ وُصُولِهِ إِلَيْهِ (1) .

مَا يَسْقُطُ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ:

أَوَّلاً: عَفْوُ الْمَقْذُوفِ عَنِ الْقَاذِفِ:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَفْوِ الْمَقْذُوفِ عَنِ الْقَاذِفِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إِلَى أَنَّ لِلْمَقْذُوفِ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْقَاذِفِ، سَوَاءٌ قَبْل الرَّفْعِ إِلَى الإِْمَامِ أَوْ بَعْدَ الرَّفْعِ إِلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ لاَ يُسْتَوْفَى إِلاَّ بَعْدَ مُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ بِاسْتِيفَائِهِ، فَيَسْقُطُ بِعَفْوِهِ كَالْقِصَاصِ، وَفَارَقَ سَائِرَ الْحُدُودِ، فَإِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ فِي إِقَامَتِهَا طَلَبُ اسْتِيفَائِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنِ الْحَدِّ فِي الْقَذْفِ، سَوَاءٌ رُفِعَ إِلَى الإِْمَامِ أَوْ لَمْ يُرْفَعْ.
__________
(1) المغني 8 / 217.

(33/14)


وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ بَعْدَ أَنْ يُرْفَعَ إِلَى الإِْمَامِ، إِلاَّ الاِبْنُ فِي أَبِيهِ، أَوِ الَّذِي يُرِيدُ سَتْرًا، عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقْبَل الْعَفْوُ مِنْ أَصْحَابِ الْفَضْل الْمَعْرُوفِينَ بِالْعَفَافِ؛ لأَِنَّهُمْ لَيْسُوا مِمَّنْ يُدَارُونَ بِعَفْوِهِمْ سَتْرًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ (1) .
قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلاَفِهِمْ هَل هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ أَوْ حَقٌّ لِلآْدَمِيِّينَ أَوْ حَقٌّ لِكِلَيْهِمَا؟ فَمَنْ قَال حَقٌّ لِلَّهِ: لَمْ يُجِزِ الْعَفْوَ كَالزِّنَا، وَمَنْ قَال حَقٌّ لِلآْدَمِيِّينَ: أَجَازَ الْعَفْوَ، وَمَنْ قَال حَقٌّ لِكِلَيْهِمَا وَغَلَبَ حَقُّ الإِْمَامِ إِذَا وَصَل إِلَيْهِ، قَال بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَصِل الإِْمَامَ أَوْ لاَ يَصِل، وَقِيَاسًا عَلَى الأَْثَرِ الْوَارِدِ فِي السَّرِقَةِ فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فِي قِصَّةِ الَّذِي سَرَقَ رِدَاءَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَلاَّ يُقْطَعَ، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَهَلاَّ كَانَ هَذَا قَبْل أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ (2) ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قِصَّةِ الَّذِي سَرَقَ: فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِهِ، فَرَأَوْا مِنْهُ أَسَفًا عَلَيْهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، كَأَنَّكَ كَرِهْتَ قَطْعَهُ، قَال وَمَا يَمْنَعُنِي؟ لاَ تَكُونُوا عَوْنًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ، إِنَّهُ يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ إِذَا
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 106، 107، والمغني 8 / 217، وتبصرة الحكام 2 / 182، 183، والبدائع 7 / 56، وحاشية ابن عابدين 3 / 182.
(2) حديث صفوان بن أمية " فهلا كان هذا. . . " أخرجه أبو داود (4 / 555) وصححه ابن عبد الهادي كما في نصب الراية (3 / 369) .

(33/14)


انْتَهَى إِلَيْهِ حَدٌّ أَنْ يُقِيمَهُ، إِنَّ اللَّهَ عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ (1) .
وَعُمْدَةُ مَنْ قَال إِنَّهُ حَقٌّ لِلآْدَمِيِّينَ - وَهُوَ الأَْظْهَرُ -: أَنَّ الْمَقْذُوفَ إِذَا صَدَّقَهُ فِيمَا قَذَفَهُ بِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ (2) .

ثَانِيًا: اللِّعَانُ:
20 - وَذَلِكَ إِذَا رَمَى الرَّجُل زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا، أَوْ نَفَى حَمْلَهَا أَوْ وَلَدَهَا مِنْهُ، وَلَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً عَلَى مَا رَمَاهَا بِهِ، فَإِنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ عَنْهُ إِذَا لاَعَنَ زَوْجَتَهُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (لِعَان) .

ثَالِثًا: الْبَيِّنَةُ:
21 - إِذَا ثَبَتَ زِنَا الْمَقْذُوفِ بِشَهَادَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ حُدَّ الْمَقْذُوفُ وَسَقَطَ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (3) ، وَفِي بَيَانِ إِثْبَاتِ الزِّنَا بِالشَّهَادَةِ أَوِ الإِْقْرَارِ انْظُرِ الْمُصْطَلَحَاتِ (إِقْرَار ف 34 - 37، وَشَهَادَة ف 29، وَزِنًى ف 30 - 41) .
__________
(1) حديث ابن مسعود في قصة الذي سرق. أخرجه أحمد (1 / 438) ، والحاكم (4 / 382 - 283 +) وصححه الحاكم.
(2) المدونة 4 / 387، بداية المجتهد 2 / 331، والمغني 8 / 217.
(3) سورة النور / 4.

(33/15)


رَابِعًا: زَوَال الإِْحْصَانِ:
22 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: لَوْ قَذَفَ مُحْصَنًا، ثُمَّ زَال أَحَدُ أَوْصَافِ الإِْحْصَانِ عَنْهُ، كَأَنْ زَنَى الْمَقْذُوفُ أَوِ ارْتَدَّ أَوْ جُنَّ، سَقَطَ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ؛ لأَِنَّ الإِْحْصَانَ يُشْتَرَطُ فِي ثُبُوتِ الْحَدِّ، وَكَذَلِكَ اسْتِمْرَارُهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ: حَدَّ الْقَذْفِ يَسْقُطُ بِزِنَا الْمَقْذُوفِ قَبْل إِقَامَةِ الْحَدِّ؛ لأَِنَّ الإِْحْصَانَ لاَ يُسْتَيْقَنُ بَل يُظَنُّ، وَلَكِنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لاَ يَسْقُطُ بِرِدَّةِ الْمَقْذُوفِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّدَّةِ وَالزِّنَا أَنَّ الزِّنَا يُكْتَمُ مَا أَمْكَنَ، فَإِذَا ظَهَرَ أَشْعَرَ بِسَبْقِ مِثْلِهِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ لاَ يَهْتِكُ السِّتْرَ أَوَّل مَرَّةٍ كَمَا قَالَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالرِّدَّةُ عَقِيدَةٌ، وَالْعَقَائِدُ لاَ تَخْفَى غَالِبًا، فَإِظْهَارُهَا لاَ يَدُل عَلَى سَبْقِ الْخَفَاءِ، وَلاَ يَسْقُطُ كَذَلِكَ بِجُنُونِ الْمَقْذُوفِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقَذْفَ إِذَا ثَبَتَ لاَ يَسْقُطُ بِزَوَال شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الإِْحْصَانِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ زَنَى الْمَقْذُوفُ قَبْل إِقَامَةِ الْحَدِّ أَوْ جُنَّ فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ بِذَلِكَ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 168، وحاشية الدسوقي 4 / 326، ومغني المحتاج 3 / 371 - 372، وروضة الطالبين 8 / 327، والمغني مع الشرح الكبير 10 / 219، وكشاف القناع 6 / 105 - 106.

(33/15)


خَامِسًا: رُجُوعُ الشُّهُودِ أَوْ بَعْضِهِمْ عَنِ الشَّهَادَةِ:
23 - إِذَا ثَبَتَ الْحَدُّ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ، ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ قَبْل إِقَامَةِ الْحَدِّ، سَقَطَ الْحَدُّ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَكَذَلِكَ إِذَا رَجَعَ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَا يَثْبُتُ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِ مِنْهُمْ؛ لأَِنَّ رُجُوعَهُمْ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (رُجُوع ف 37) .

التَّعْزِيرُ فِي الْقَذْفِ:
24 - لاَ يُقَامُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى الْقَاذِفِ إِلاَّ بِشُرُوطِهِ، فَإِذَا انْعَدَمَ وَاحِدٌ مِنْهَا أَوِ اخْتَل، فَإِنَّ الْجَانِيَ لاَ يُحَدُّ، وَيُعَزَّرُ عِنْدَ طَلَبِ الْمَقْذُوفِ؛ لأَِنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً لاَ حَدَّ فِيهَا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (تَعْزِير ف 37) .

ثُبُوتُ فِسْقِ الْقَاذِفِ وَرَدُّ شَهَادَتِهِ:
25 - إِذَا قَذَفَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ، فَحُقِّقَ قَذْفُهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ لِعَانٍ، أَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً أَوْ أَجْنَبِيًّا، فَحُقِّقَ قَذْفُهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِ الْمَقْذُوفِ، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِقَذْفَةِ فِسْقٌ، وَلاَ حَدٌّ، وَلاَ رَدُّ شَهَادَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُحَقَّقْ قَذْفُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ بِفِسْقِهِ، وَرَدِّ شَهَادَتِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ

(33/16)


الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
فَإِنْ تَابَ الْقَاذِفُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ، وَزَال الْفِسْقُ بِلاَ خِلاَفٍ، وَتُقْبَل شَهَادَتُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ إِذَا جُلِدَ وَإِنْ تَابَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَوْبَة ف 21) .

تَكْرَارُ الْقَذْفِ:
26 - إِنْ قَذَفَ رَجُلاً مَرَّاتٍ فَلَمْ يُحَدَّ، وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، سَوَاءٌ قَذَفَهُ بِزِنًا وَاحِدٍ أَوْ بِزِنْيَاتٍ؛ لأَِنَّهُمَا حَدَّانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لِمُسْتَحِقٍّ وَاحِدٍ فَتَدَاخَلاَ كَمَا لَوْ زَنَى ثُمَّ زَنَى، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ حَدَّانِ؛ لأَِنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ، فَلَمْ تَتَدَاخَل، كَالدُّيُونِ (1) .
وَإِنْ قَذَفَهُ فَحُدَّ ثُمَّ أَعَادَ قَذْفَهُ، نُظِرَ: فَإِنْ قَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا الَّذِي حُدَّ مِنْ أَجْلِهِ لَمْ يُعَدْ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَعُزِّرَ لِلإِْيذَاءِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرَةَ لَمَّا حُدَّ بِقَذْفِ الْمُغِيرَةِ، أَعَادَ قَذْفَهُ، فَلَمْ يَرَوْا عَلَيْهِ حَدًّا ثَانِيًا، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ ظَبْيَانَ بْنِ عُمَارَةَ قَال: شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ أَنَّهُ زَانٍ
__________
(1) فتح القدير 4 / 208، وجواهر الإكليل 2 / 294، والمهذب 2 / 293، والمغني 8 / 235.

(33/16)


فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ وَقَال: شَاطَ ثَلاَثَةُ أَرْبَاعِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَجَاءَ زِيَادٌ فَقَال: أَمَّا عِنْدَكَ؟ فَلَمْ يَثْبُتْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَجُلِدُوا، وَقَال: شُهُودُ زُورٍ، فَقَال أَبُو بَكْرَةَ: أَلَيْسَ تَرْضَى إِنْ أَتَاكَ رَجُلٌ عَدْلٌ يَشْهَدُ بِرَجْمِهِ؟ قَال: نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، فَقَال أَبُو بَكْرَةَ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ زَانٍ، فَأَرَادَ أَنْ يُعِيدَ عَلَيْهِ الْجَلْدَ، فَقَال عَلِيٌّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكَ إِنْ أَعَدْتَ عَلَيْهِ الْجَلْدَ أَوْجَبْتَ عَلَيْهِ الرَّجْمَ (1) ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: فَلاَ يُعَادُ فِي فِرْيَةٍ جَلْدٌ مَرَّتَيْنِ.
فَأَمَّا إِنْ حُدَّ لَهُ، ثُمَّ قَذَفَهُ بِزِنًا ثَانٍ، نُظِرَ: فَإِنْ قَذَفَهُ بَعْدَ طُول الْفَصْل فَحَدٌّ ثَانٍ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُسْقِطُ حُرْمَةَ الْمَقْذُوفِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَاذِفِ أَبَدًا، بِحَيْثُ يُمَكَّنُ مِنْ قَذْفِهِ بِكُل حَالٍ. وَإِنْ قَذَفَهُ عَقِيبَ حَدِّهِ فَفِيهِ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: يُحَدُّ أَيْضًا؛ لأَِنَّهُ قَذْفٌ لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُهُ فِيهِ بِحَدٍّ، فَيَلْزَمُ فِيهِ حَدٌّ، كَمَا لَوْ طَال الْفَصْل؛ وَلأَِنَّ سَائِرَ أَسْبَابِ الْحَدِّ إِذَا تَكَرَّرَتْ بَعْدَ أَنْ حُدَّ لِلأَْوَّل، ثَبَتَ لِلثَّانِي حُكْمُهُ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الأَْسْبَابِ.
__________
(1) قصة المغيرة بن شعبة أنه شهد عليه ثلاثة نفر، أخرجه الأثرم كما في المغني لابن قدامة (8 / 235) ، وبمعناها أخرجها البيهقي (8 / 224 - 225) .

(33/17)


الثَّانِي: لاَ يُحَدُّ؛ لأَِنَّهُ قَدْ حُدَّ لَهُ مَرَّةً، فَلَمْ يُحَدَّ لَهُ بِالْقَذْفِ عَقِبَهُ، كَمَا لَوْ قَذَفَهُ بِالزِّنَا الأَْوَّل (1) .

حُكْمُ قَذْفِ مَنْ وَطِئَ بِشُبْهَةٍ:
27 - مَنْ قَذَفَ مَنْ وَطِئَ بِشُبْهَةٍ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ إِذَا لَمْ يَسْقُطْ بِهَذَا الْوَطْءِ إِحْصَانُهُ، فَإِنْ سَقَطَ بِهَذَا الْوَطْءِ إِحْصَانُهُ لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ؛ لأَِنَّهُ قَذَفَ غَيْرَ مُحْصَنٍ، وَيُعَزَّرُ لِلإِْيذَاءِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ قَذَفَ رَجُلاً اسْتَكْرَهَ امْرَأَةً عَلَى الزِّنَا، أَوْ قَذَفَهَا، فَلاَ حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ؛ لأَِنَّ قَذْفَهُ لِلزَّانِي كَانَ حَقًّا، وَلأَِنَّ الْمَرْأَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً، لَكِنَّ الزِّنَا بِهَا يُسْقِطُ إِحْصَانَهَا مَعَ رَفْعِ الإِْثْمِ عَنْهَا.
انْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْصَان ف 7) وَمُصْطَلَحِ (زِنًا ف 16 - 21)

حُكْمُ مَنْ قَذَفَ مَنْ وَطِئَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا:
28 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، عَلَى أَنَّ مَنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا لَمْ يَسْقُطْ إِحْصَانُهُ، وَيُحَدُّ قَاذِفُهُ؛ لأَِنَّ الْوَطْءَ فِي الْمِلْكِ، وَالْحُرْمَةَ بِعَارِضٍ عَلَى احْتِمَال الزَّوَال، وَهَذَا لأَِنَّ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ بِالْمَحَل لاَ يَكُونُ الْفِعْل زِنًا وَلاَ فِي مَعْنَاهُ (2) .
__________
(1) فتح القدير 4 / 205، والمبسوط 9 / 117، والإقناع 3 / 203، والمغني 8 / 235.
(2) المبسوط 9 / 116، وروضة الطالبين 8 / 322.

(33/17)


حُكْمُ قَذْفِ وَلَدِ الزِّنَا:
29 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ: مَنْ قَذَفَ وَلَدَ الزِّنَا فِي نَفْسِهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّهُ مُحْصَنٌ عَفِيفٌ، وَإِنَّمَا الذَّنْبُ لأَِبَوَيْهِ، وَفِعْلُهُمَا لاَ يُسْقِطُ إِحْصَانَهُ (1) .

حُكْمُ قَذْفِ وَلَدِ الْمُلاَعَنَةِ:
30 - وَمَنْ قَذَفَ وَلَدَ الْمُلاَعَنَةِ فَقَال: هُوَ وَلَدُ زِنًا، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي الْمُلاَعَنَةِ أَنْ لاَ تُرْمَى، وَلاَ يُرْمَى وَلَدُهَا، وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ (2) ؛ وَلأَِنَّهُ مُحْصَنٌ عَفِيفٌ. وَإِذَا قَال الْقَاذِفُ: هُوَ مِنَ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ أُمُّهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، أَمَّا إِنْ قَال: لَيْسَ هُوَ ابْنَ فُلاَنٍ يَعْنِي الْمُلاَعِنَ، وَأَرَادَ أَنَّهُ مَنْفِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ صَادِقٌ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ قَال لاِبْنِ الْمُلاَعَنَةِ: لَسْتَ لأَِبِيكَ الَّذِي لاَعَنَ أُمَّكَ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ (3) .

حُكْمُ مَنْ قَذَفَ مَنْ وَطِئَ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ:
31 - لاَ حَدَّ عَلَى قَاذِفِ مَنْ وَطِئَ بِنِكَاحٍ
__________
(1) المبسوط 9 / 127، وكشاف القناع 6 / 106.
(2) حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الملاعنة. . . . أخرجه أبو داود (2 / 690) وأشار ابن حجر إلى إعلاله في التلخيص (3 / 227) .
(3) المبسوط 9 / 127، وفتح القدير 4 / 203، ومواهب الجليل 6 / 301، وحاشية الدسوقي 4 / 327، وروضة الطالبين 8 / 319، والمغني 8 / 230.

(33/18)


فَاسِدٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْمِلْكِ، وَالْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فِي مَعْنَى الزِّنَا فَيَسْقُطُ إِحْصَانُهُ، فَلاَ يُحَدُّ قَاذِفُهُ.
وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّهُ وَطْءٌ لاَ يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ فَلَمْ يَسْقُطِ الإِْحْصَانُ، فَيُحَدُّ قَاذِفُهُ (1) .

حُكْمُ قَذْفِ اللَّقِيطِ:
32 - وَمَنْ قَذَفَ اللَّقِيطَ بَعْدَ بُلُوغِهِ مُحْصَنًا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ قَذْفَ الْمُحْصَنِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ.
وَمَنْ قَال لَهُ: يَا ابْنَ الزِّنَا، فَفِيهِ قَوْلاَنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الأَْوَّل: يُحَدُّ لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ نُبِذَ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ رُشْدٍ وَهُوَ الرَّاجِحُ. الثَّانِي: لاَ يُحَدُّ لأَِنَّ الْغَالِبَ فِي الْمَنْبُوذِ أَنْ يَكُونَ ابْنَ زِنًا، وَهُوَ قَوْل اللَّخْمِيِّ.
وَأَمَّا لَوْ قَال لَهُ: يَا ابْنَ الزَّانِي، أَوْ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ، فَهَذَا قَذْفٌ بِزِنَا أَبَوَيْهِ، لاَ بِنَفْيِ نَسَبٍ، فَلاَ حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ اتِّفَاقًا، وَعَلَّلَهُ ابْنُ رُشْدٍ بِجَهْل أَبَوَيْهِ (2) .
__________
(1) المبسوط 9 / 117، والمهذب 2 / 209.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 325.

(33/18)


قَذْفُ الْمَحْدُودِ فِي الزِّنَا:
33 - وَمَنْ ثَبَتَ زِنَاهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ فَلاَ حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ؛ لأَِنَّهُ صَادِقٌ سَوَاءٌ قَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ، أَوْ بِزِنًا آخَرَ أَوْ مُبْهَمًا؛ لأَِنَّهُ رَمَى غَيْرَ مُحْصَنٍ؛ لأَِنَّ الْمُحْصَنَ لاَ يَكُونُ زَانِيًا، وَمَنْ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعَدَمِ إِحْصَانِ الْمَقْذُوفِ يُعَزَّرُ؛ لأَِنَّهُ آذَى مَنْ لاَ يَجُوزُ أَذَاهُ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ وَلَوْ تَابَ بَعْدَ زِنَاهُ وَصَلُحَ حَالُهُ، فَلَمْ يَعُدْ مُحْصَنًا أَبَدًا، وَلَوْ لاَزَمَ الْعَدَالَةَ وَصَارَ مِنْ أَوْرَعِ خَلْقِ اللَّهِ وَأَزْهَدِهِمْ، فَلاَ يُحَدُّ قَاذِفُهُ، سَوَاءٌ أَقَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا أَمْ بِزِنًا بَعْدَهُ أَمْ أَطْلَقَ؛ لأَِنَّ الْعِرْضَ إِذَا انْخَرَمَ بِالزِّنَا لَمْ يَزُل خَلَلُهُ بِمَا يَطْرَأُ مِنَ الْعِفَّةِ، وَلاَ يَرِدُ حَدِيثُ: التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ (1) لأَِنَّ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الآْخِرَةِ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ: مِنْ شُرُوطِ الْمَقْذُوفِ أَنْ يَكُونَ عَفِيفًا عَنِ الزِّنَا فِي ظَاهِرِ حَالِهِ، وَلَوْ كَانَ تَائِبًا مِنْهُ؛ لأَِنَّ التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ، ثُمَّ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْمَقْذُوفَ إِذَا أَقَرَّ بِالزِّنَا، وَلَوْ دُونَ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ أَوْ حُدَّ لِلزِّنَا، فَلاَ حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ وَيُعَزَّرُ.
وَحُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى: أَنَّهُ إِنْ
__________
(1) حديث " التائب من الذنب. . . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 1420) من حديث ابن مسعود وحسنه ابن حجر كما في المقاصد الحسنة للسخاوي ص 249.

(33/19)


قَذَفَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ الزِّنَا، أَوْ بِالزِّنَا مُبْهَمًا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ الرَّمْيَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الرَّامِي صَادِقًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ صَادِقًا إِذَا نَسَبَهُ إِلَى ذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ، فَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ كَاذِبٌ مُلْحِقٌ لِلشَّيْنِ بِهِ (1) .

قَذْفُ الْمَرْأَةِ الْمُلاَعَنَةِ:
34 - وَمَنْ قَذَفَ الْمُلاَعَنَةَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهُوَ قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ؛ لأَِنَّ إِحْصَانَهَا لَمْ يَسْقُطْ بِاللِّعَانِ، وَلاَ يَثْبُتُ الزِّنَا بِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهَا بِهِ حَدٌّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي الْمُلاَعَنَةِ أَنْ لاَ تُرْمَى وَلاَ يُرْمَى وَلَدُهَا، وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ (2) .
وَاتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ مَعَ الْجُمْهُورِ إِذَا كَانَتِ الْمُلاَعَنَةُ بِغَيْرِ وَلَدٍ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ بِوَلَدٍ فَلاَ حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِقِيَامِ أَمَارَةِ الزِّنَا مِنْهَا، وَهِيَ وِلاَدَةُ وَلَدٍ لاَ أَبَ لَهُ، فَفَاتَتِ الْعِفَّةُ نَظَرًا إِلَيْهَا، وَالْعِفَّةُ شَرْطُ الإِْحْصَانِ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّ قَاذِفَ الْمُلاَعَنَةِ إِذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا، أَوْ كَانَ
__________
(1) المبسوط 9 / 116، وحاشية الدسوقي 4 / 326، ومغني المحتاج 3 / 372، وكشاف القناع 6 / 106، ومطالب أولي النهى 6 / 196، والمغني 8 / 230.
(2) حديث ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الملاعنة. . . " تقدم فقرة 30.

(33/19)


زَوْجًا وَقَذَفَهَا فِي غَيْرِ مَا لاَعَنَهَا فِيهِ حُدَّ مُطْلَقًا فَإِذَا كَانَ الْمُلاَعِنُ نَفْسُهُ وَقَذَفَهَا فِيمَا لاَعَنَهَا فِيهِ لَمْ يُحَدَّ، وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يُحَدُّ وَلَكِنْ يُعَزَّرُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَطْلَقَ الْقَذْفَ (1) .

قَذْفُ الْمَيِّتِ:
35 - أَوْجَبَ الْجُمْهُورُ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا مُحْصَنًا، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى إِذَا طَالَبَ بِالْحَدِّ مَنْ لَهُ الْحَقُّ مِنَ الْوَرَثَةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِاعْتِبَارِ إِحْصَانِ الْمَقْذُوفِ، وَالْمَوْتُ يُقَرِّرُ الإِْحْصَانَ وَلاَ يَنْفِيهِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ أُنْثَى، وَكَانَ لَهَا ابْنٌ مُحْصَنٌ فَإِنَّ لَهُ الْحَقَّ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْحَدِّ؛ لأَِنَّ قَذْفَ أُمِّهِ قَذْفٌ لَهُ لِنَفْيِ نَسَبِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ إِحْصَانُ الْمَقْذُوفِ وَاعْتُبِرَ إِحْصَانُ الْوَلَدِ، وَمَتَى كَانَ الْمَقْذُوفُ مِنْ غَيْرِ أُمَّهَاتِهِ لَمْ يَتَضَمَّنْ نَفْيَ نَسَبِهِ فَلاَ يُحَدُّ (2) .

قَذْفُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ بِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ:
36 - مَنْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا بِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَقَدْ قَذَفَهُمَا جَمِيعًا، فَإِنْ لاَعَنَهَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ لَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُلاَعِنْ فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمُطَالَبَةُ
__________
(1) فتح القدير 4 / 203، حاشية الدسوقي 4 / 327، وروضة الطالبين 8 / 338، والمغني 8 / 230.
(2) المبسوط 9 / 112، وحاشية الدسوقي 4 / 331، والمهذب 2 / 292، ومغني المحتاج 3 / 372، والمغني 8 / 233، 234.

(33/20)


بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَأَيُّهُمَا طَالَبَ حُدَّ لَهُ وَمَنْ لَمْ يُطَالِبْ فَلاَ يُحَدَّ لَهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَذْفَ لِلزَّوْجَةِ وَحْدَهَا، وَلاَ يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهَا حَقٌّ فِي الْمُطَالَبَةِ وَلاَ الْحَدُّ (1) .

حُكْمُ مَنْ قَذَفَ الأَْجْنَبِيَّةَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا:
37 - مَنْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَلاَ يُلاَعِنُ، لأَِنَّهُ قَذَفَهَا فِي حَال كَوْنِهَا أَجْنَبِيَّةً فَوَجَبَ الْحَدُّ، وَلاَ يَمْلِكُ اللِّعَانَ لأَِنَّهُ قَاذِفٌ غَيْرَ زَوْجَةٍ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ (2) .

مَنْ قَذَفَ امْرَأَةً لَهَا أَوْلاَدٌ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ أَبٌ:
38 - مَنْ قَذَفَ امْرَأَةً لَهَا أَوْلاَدٌ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ أَبٌ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ لِقِيَامِ أَمَارَةِ الزِّنَا، وَهِيَ وِلاَدَةُ وَلَدٍ لاَ أَبَ لَهُ فَفَاتَتِ الْعِفَّةُ نَظَرًا إِلَيْهَا، وَهِيَ شَرْطُ الإِْحْصَانِ وَيُعَزَّرُ لِلإِْيذَاءِ (3) .

قَذْفُ وَاحِدٍ لِجَمَاعَةٍ:
39 - مَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بِكَلِمَاتٍ فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، سَوَاءٌ طَالَبُوهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ طَالَبُوهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ. فَإِنْ حُدَّ لِلأَْوَّل لَمْ يُحَدَّ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ؛ لأَِنَّ حُضُورَ بَعْضِهِمْ لِلْخُصُومَةِ كَحُضُورِ كُلِّهِمْ، فَلاَ يُحَدُّ
__________
(1) المغني 8 / 230، وروضة الطالبين 8 / 313.
(2) ابن عابدين 2 / 585، وحاشية الدسوقي 2 / 458، وروضة الطالبين 8 / 335، والمغني 8 / 402.
(3) فتح القدير 4 / 203.

(33/20)


ثَانِيًا إِلاَّ إِذَا كَانَ بِقَذْفٍ آخَرَ مُسْتَأْنَفٍ، وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيِّ وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ، وَطَاوُسٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ.
وَعِنْدَ عَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ: إِذَا قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَاتٍ فَلِكُل وَاحِدٍ حَدٌّ؛ لأَِنَّهَا حُقُوقٌ لآِدَمِيِّينَ، فَلَمْ تَتَدَاخَل كَالدُّيُونِ.
وَأَمَّا إِذَا قَذَفَهُمْ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَال الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَرَجَّحَهَا فِي الْمُغْنِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (1) ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ قَذْفِ وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ؛ وَلأَِنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ قَذَفُوا امْرَأَةً، فَلَمْ يَحُدَّهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلاَّ حَدًّا وَاحِدًا؛ وَلأَِنَّهُ قَذْفٌ وَاحِدٌ فَلَمْ يَجِبْ إِلاَّ حَدٌّ وَاحِدٌ كَمَا لَوْ قَذَفَ وَاحِدًا؛ وَلأَِنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا وَجَبَ بِإِدْخَال الْمَعَرَّةِ عَلَى الْمَقْذُوفِ بِقَذْفِهِ، وَبِحَدٍّ وَاحِدٍ يَظْهَرُ كَذِبُ هَذَا الْقَاذِفِ وَتَزُول الْمَعَرَّةُ فَوَجَبَ أَنْ يُكْتَفَى بِهِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا قَذَفَ كُل وَاحِدٍ قَذْفًا مُفْرَدًا فَإِنَّ كَذِبَهُ فِي قَذْفٍ لاَ يَلْزَمُ مِنْهُ كَذِبُهُ فِي آخَرَ، وَلاَ تَزُول الْمَعَرَّةُ عَنْ أَحَدِ الْمَقْذُوفَيْنِ بِحَدِّهِ لِلآْخَرِ.
__________
(1) سورة النور / 4.

(33/21)


وَقَال الْحَسَنُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ: يَجِبُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدٌّ، لأَِنَّهُ أَلْحَقَ الْعَارَ بِقَذْفِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَلَزِمَهُ لِكُل وَاحِدِ مِنْهُمْ حَدٌّ، كَمَا لَوِ انْفَرَدَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْقَذْفِ (1) .
وَاخْتَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ فِيمَا إِذَا قَذَفَ إِنْسَانًا فَحُدَّ لَهُ وَفِي أَثْنَاءِ إِقَامَةِ الْحَدِّ قَذَفَ إِنْسَانًا آخَرَ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ يُقَامُ إِلاَّ حَدٌّ وَاحِدٌ وَلَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الضَّرْبِ إِلاَّ سَوْطٌ وَاحِدٌ، فَلاَ يُضْرَبُ إِلاَّ ذَلِكَ السَّوْطَ لِلتَّدَاخُل؛ لأَِنَّهُ اجْتَمَعَ حَدَّانِ؛ وَلأَِنَّ كَمَال الْحَدِّ الأَْوَّل بِالسَّوْطِ الَّذِي بَقِيَ.
وَعِنْدَ مَالِكٍ: إِنْ كَرَّرَ أَثْنَاءَ الْجَلْدِ فَإِنْ كَانَ مَا مَضَى مِنَ الْجَلْدِ أَقَلَّهُ أُلْغِيَ مَا مَضَى، وَابْتُدِئَ الْعَدَدُ وَبِذَلِكَ يُسْتَوْفَى الثَّانِي. وَإِنْ كَانَ مَا بَقِيَ قَلِيلاً فَيَكْمُل الأَْوَّل، ثُمَّ يَبْتَدِئُ لِلثَّانِي (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذَا قَذَفَ جَمَاعَةً لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ زُنَاةً عَادَةً لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا يَجِبُ لِنَفْيِ الْعَارِ، وَلاَ عَارَ عَلَى الْمَقْذُوفِ لأَِنَّا نَقْطَعُ بِكَذِبِهِ وَيُعَزَّرُ لِلْكَذِبِ (3) .
__________
(1) فتح القدير 4 / 208، وحاشية الدسوقي 4 / 327، والمهذب 2 / 292، 293، والمغني 8 / 233، 234.
(2) فتح القدير 4 / 208، وحاشية الدسوقي 4 / 327.
(3) المهذب 4 / 328، والإقناع في فقه الإمام أحمد 4 / 264.

(33/21)


قَذْفُ الرَّجُل نَفْسَهُ:
40 - مَنْ قَذَفَ نَفْسَهُ بِأَنْ قَال: أَنَا وَلَدُ زِنًا، حُدَّ لأَِنَّهُ قَذْفٌ لأُِمِّهِ (1) .

حُكْمُ قَذْفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمِّهِ:
41 - قَذْفُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَذْفُ أُمِّهِ رِدَّةٌ عَنِ الإِْسْلاَمِ، وَخُرُوجٌ عَنِ الْمِلَّةِ، وَمَنْ قَذَفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرَ وَقُتِل وَلَوْ تَابَ أَوْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ، لاَ إِنْ سَبَّهُ بِغَيْرِ الْقَذْفِ ثُمَّ أَسْلَمَ (2) .

قَذْفُ زَوْجَةٍ مِنْ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
42 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَدْ كَذَّبَ صَرِيحَ الْقُرْآنِ الَّذِي نَزَل بِحَقِّهَا، وَهُوَ بِذَلِكَ كَافِرٌ بَعْدَ أَنْ بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُو بِالإِْفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَل هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُل امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِْثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبَرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) .
أَمَّا سَائِرُ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي
__________
(1) الشرح الكبير على هامش حاشية الدسوقي 4 / 328.
(2) المغني 8 / 233، والإقناع 4 / 265.
(3) سورة النور / 11 - 17.

(33/22)


الصَّحِيحِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّهُنَّ مِثْل عَائِشَةَ فِي الْحُكْمِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} (1) ، وَقَذْفُهُنَّ طَعْنٌ بِالرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَارٌ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِوَى عَائِشَةَ كَسَائِرِ الصَّحَابَةِ، وَسَابُّهُنَّ يُجْلَدُ؛ لأَِنَّهُ قَاذِفٌ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل ر: (رِدَّة ف 18، وَسَبّ ف 18)

حُكْمُ قَذْفِ الأَْنْبِيَاءِ:
43 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ مَنْ قَذَفَ نَبِيًّا مِنَ الأَْنْبِيَاءِ يُقْتَل، وَلاَ تُقْبَل تَوْبَتُهُ (3) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رَسُول ف 3) ،
وَمُصْطَلَحَ: (سَبّ ف 11 - 13)

حَقُّ الْوَرَثَةِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحَدِّ الْقَذْفِ:
44 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: لاَ يُطَالَبُ بِحَدِّ الْقَذْفِ لِلْمَيِّتِ إِلاَّ مَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِ بِقَذْفِهِ، وَهُوَ الْوَالِدُ وَإِنْ عَلاَ وَالْوَلَدُ وَإِنْ سَفَل؛ لأَِنَّ الْعَارَ يُلْتَحَقُ بِهِمَا لِلْجُزْئِيَّةِ، فَيَكُونُ الْقَذْفُ مُتَنَاوِلاً مَعْنًى لَهُمَا، فَلِذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُمَا حَقُّ الْمُطَالَبَةِ، لَكِنَّ لُحُوقَهُ لَهُمَا بِوَاسِطَةِ لُحُوقِ
__________
(1) سورة النور / 26.
(2) الشفاء للقاضي عياض 2 / 1109، 1110.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 290، و، وجواهر الإكليل 2 / 280.

(33/22)


الْمَقْذُوفِ بِالذَّاتِ فَهُوَ الأَْصْل فِي الْخُصُومَةِ؛ لأَِنَّ الْعَارَ يَلْحَقُهُ مَقْصُودًا، فَلاَ يُطَالَبُ غَيْرُهُ بِمُوجِبِهِ إِلاَّ عِنْدَ الْيَأْسِ عَنْ مُطَالَبَتِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَيِّتًا، فَلِذَا لَوْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِهِ وَلاَ لِوَالِدِهِ الْمُطَالَبَةُ لأَِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَدِّقَهُ الْغَائِبُ،
وَيَثْبُتَ لِلأَْبْعَدِ مَعَ وُجُوبِ الأَْقْرَبِ، وَكَذَا يَثْبُتُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ، وَلَوْ عَفَا بَعْضُهُمْ كَانَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ؛ لأَِنَّهُ لِلدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ.
وَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مُحْصَنًا جَازَ لاِبْنِهِ الْكَافِرِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْحَدِّ خِلاَفًا لِزُفَرَ، إِذْ يَقُول: الْقَذْفُ يَتَنَاوَلُهُ مَعْنًى لِرُجُوعِ الْعَارِ إِلَيْهِ وَلَيْسَ طَرِيقُهُ الإِْرْثَ عِنْدَنَا، كَمَا إِذَا كَانَ مُتَنَاوِلاً لَهُ صُورَةً وَمَعْنًى، بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْقَذْفِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ لِعَدَمِ إِحْصَانِهِ، فَكَذَا إِذَا كَانَ مَقْذُوفًا مَعْنًى فَقَطْ.
وَلَكِنَّا نَقُول: إِنَّهُ عَيَّرَهُ بِقَذْفِ مُحْصَنٍ، فَيَأْخُذُهُ بِالْحَدِّ، وَهَذَا لأَِنَّ الإِْحْصَانَ فِي الَّذِي يُنْسَبُ إِلَى الزِّنَا شَرْطٌ لِيَقَعَ تَعْيِيرًا عَلَى الْكَمَال، ثُمَّ يَرْجِعُ هَذَا التَّعْيِيرُ الْكَامِل إِلَى وَلَدِهِ، وَالْكُفْرُ لاَ يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الاِسْتِحْقَاقِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا تَنَاوَل الْقَذْفُ نَفْسَهُ لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ تَعْيِيرٌ عَلَى الْكَمَال، لِفَقْدِ الإِْحْصَانِ فِي الْمَنْسُوبِ إِلَى الزِّنَا.
وَالْحَاصِل أَنَّ السَّبَبَ التَّعْيِيرُ الْكَامِل، وَهُوَ

(33/23)


بِإِحْصَانِ الْمَقْذُوفِ، فَإِنْ كَانَ حَيًّا كَانَتِ الْمُطَالَبَةُ لَهُ، أَوْ مَيِّتًا طَالَبَ بِهِ أَصْلُهُ أَوْ فَرْعُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا لَمْ يَتَحَقَّقِ التَّعْيِيرُ الْكَامِل فِي حَقِّهِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ: لِلْوَارِثِ حَقَّ الْقِيَامِ بِحَقِّ مُوَرِّثِهِ الْمَقْذُوفِ قَبْل مَوْتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ، وَهُوَ وَلَدٌ وَوَلَدُهُ وَإِنْ سَفَل، وَأَبٌ وَأَبُوهُ وَإِنْ عَلاَ، ثُمَّ الأَْخُ فَابْنُهُ. فَعَمٌّ فَابْنُهُ، وَهَكَذَا وَلِكُلٍّ مِنَ الْوَرَثَةِ الْقِيَامُ بِحَقِّ الْمُوَرِّثِ وَإِنْ وُجِدَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ. كَابْنِ الاِبْنِ مَعَ وُجُودِ الاِبْنِ؛ لأَِنَّ الْمَعَرَّةَ تَلْحَقُ الْجَمِيعَ وَلاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ أُنْثَى خِلاَفًا لأَِشْهَبَ الْقَائِل: يُقَدَّمُ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ فِي الْقِيَامِ بِحَقِّ الْمُوَرِّثِ الْمَقْذُوفِ كَالْقِيَامِ بِالدَّمِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: إِذَا مَاتَ مَنْ لَهُ الْحَدُّ أَوِ التَّعْزِيرُ وَهُوَ مِمَّنْ يُورَثُ انْتَقَل ذَلِكَ إِلَى الْوَارِثِ، وَفِيمَنْ يَرِثُهُ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ يَرِثُهُ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ، لأَِنَّهُ مَوْرُوثٌ فَكَانَ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ كَالْمَال، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ (3) .
الثَّانِي: أَنَّهُ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ إِلاَّ لِمَنْ يَرِثُ بِالزَّوْجِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْحَدَّ يَجِبُ لِدَفْعِ الْعَارِ، وَلاَ يَلْحَقُ الزَّوْجَ عَارٌ بَعْدَ الْمَوْتِ لأَِنَّهُ لاَ تَبْقَى
__________
(1) فتح القدير 4 / 194 - 196.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 331.
(3) روضة الطالبين 8 / 326.

(33/23)


زَوْجِيَّةٌ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَرِثُهُ الْعَصَبَاتُ دُونَ غَيْرِهِمْ لأَِنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لِدَفْعِ الْعَارِ، فَاخْتَصَّ بِهِ الْعَصَبَاتُ كَوِلاَيَةِ النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثَانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا ثَبَتَ لِلآْخَرِ الْحَدُّ لأَِنَّهُ جُعِل لِلرَّدْعِ، وَلاَ يَحْصُل الرَّدْعُ إِلاَّ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَل لِلرَّدْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ فَهُوَ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَسْتَوْفِيهِ السُّلْطَانُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ قُذِفَتْ أُمُّهُ وَهِيَ مَيِّتَةٌ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً، حُرَّةً أَوْ أَمَةً حُدَّ الْقَاذِفُ إِذَا طَالَبَ الاِبْنُ وَكَانَ حُرًّا مُسْلِمًا.
أَمَّا إِذَا قُذِفَتْ وَهِيَ فِي الْحَيَاةِ فَلَيْسَ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةُ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهَا فَلاَ يُطَالِبُ بِهِ غَيْرُهَا، وَلاَ يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْجُورًا عَلَيْهَا أَوْ غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ لِلتَّشَفِّي فَلاَ يَقُومُ غَيْرُ الْمُسْتَحِقِّ مَقَامَهُ كَالْقِصَاصِ، وَتُعْتَبَرُ حَصَانَتُهَا لأَِنَّ الْحَقَّ لَهَا، فَتُعْتَبَرُ حَصَانَتُهَا كَأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ، وَأَمَّا إِذَا قُذِفَتْ وَهِيَ مَيِّتَةٌ، فَإِنَّ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةَ لأَِنَّهُ قَدْحٌ فِي نَسَبِهِ؛ وَلأَِنَّهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ يَنْسُبُهُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ زِنًا، وَلاَ يُسْتَحَقُّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الإِْرْثِ، وَلِذَلِكَ لاَ تُعْتَبَرُ الْحَصَانَةُ فِي أُمِّهِ لأَِنَّ الْقَذْفَ لَهُ.
فَأَمَّا إِنْ قُذِفَتْ أُمُّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا وَهُوَ مُشْرِكٌ أَوْ
__________
(1) المهذب 2 / 292.

(33/24)


عَبْدٌ فَلاَ حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الأُْمُّ حُرَّةً مُسْلِمَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَإِنْ قُذِفَتْ جَدَّتُهُ فَهُوَ كَقَذْفِ أُمِّهِ.
فَأَمَّا إِنْ قَذَفَ أَحَدٌ أَبَاهُ أَوْ جَدَّهُ أَوْ أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ غَيْرَ أُمَّهَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ بِقَذْفِ أُمِّهِ حَقًّا لَهُ لِنَفْيِ نَسَبِهِ لاَحِقًا لِلْمَيِّتِ، وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ إِحْصَانُ الْمَقْذُوفَةِ وَاعْتُبِرَ إِحْصَانُ الْوَلَدِ، وَمَتَى كَانَ الْمَقْذُوفُ مِنْ غَيْرِ أُمَّهَاتِهِ لَمْ يَتَضَمَّنْ نَفْيَ نَسَبِهِ فَلَمْ يَجِبِ الْحَدُّ (1) .

قَذْفُ الْمَجْهُول:
45 - مَنْ قَذَفَ مَجْهُولاً لاَ حَدَّ عَلَيْهِ لِعَدَمِ تَعْيِينِ الْمَعَرَّةِ، إِذْ لاَ يُعْرَفُ مَنْ أَرَادَ وَالْحَدُّ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَعَرَّةِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ رَجُلاَنِ فِي شَيْءٍ فَقَال أَحَدُهُمَا: الْكَاذِبُ هُوَ ابْنُ زَانِيَةٍ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا بِالْقَذْفِ، وَإِذَا سَمِعَ السُّلْطَانُ رَجُلاً يَقُول: زَنَى رَجُلٌ، لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ؛ لأَِنَّ الْمُسْتَحِقَّ مَجْهُولٌ، وَلاَ يُطَالِبُهُ بِتَعْيِينِهِ لِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (2) ، وَلأَِنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، وَلِهَذَا قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا هُزَال، لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ (3) ، وَإِنْ قَال
__________
(1) المغني 8 / 230، 232.
(2) سورة المائدة / 101.
(3) حديث " يا هزال، لو سترته بثوبك كان خيرًا لك " أخرجه الحاكم (4 / 363) وصححه. ووافقه الذهبي.

(33/24)


سَمِعْتُ رَجُلاً يَقُول: إِنَّ فُلاَنًا زَنَى، لَمْ يُحَدَّ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِقَاذِفٍ وَإِنَّمَا هُوَ حَاكٍ، وَلاَ يَسْأَلُهُ عَنِ الْقَاذِفِ؛ لأَِنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، وَإِنْ قَال لِجَمَاعَةٍ: أَحَدُكُمْ زَانٍ أَوِ ابْنُ زَانِيَةٍ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَامُوا كُلُّهُمْ لِعَدَمِ تَعْيِينِهِ الْمَعَرَّةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ إِذْ لاَ يُعْرَفُ مَنْ أَرَادَ، وَهَذَا إِذَا كَثُرَتِ الْجَمَاعَةُ بِأَنْ زَادُوا عَلَى ثَلاَثَةٍ، فَإِنْ كَانُوا ثَلاَثَةً أَوِ اثْنَيْنِ حُدَّ إِنْ قَامُوا أَوْ قَامَ بَعْضُهُمْ وَعَفَا الْبَعْضُ الْبَاقِي، إِلاَّ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْقَائِمَ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ حُدَّ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ قَامَ بَعْضُهُمْ فَقَال: لَمْ أُرِدِ الْقَائِمَ لَمْ يُحَدَّ سَوَاءٌ عَفَا الْبَعْضُ أَوْ لَمْ يَعْفُ، وَسَوَاءٌ حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْقَائِمَ أَوْ لَمْ يَحْلِفْ؛ لأَِنَّ الْقَذْفَ وَقَعَ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ، حَيْثُ لَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا بِالْقَذْفِ (1) .

قَذْفُ الْمُرْتَدِّ وَالْكَافِرِ وَالذِّمِّيِّ وَالْفَاسِقِ:
46 - مَنْ قَذَفَ مُرْتَدًّا لاَ حَدَّ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْمُرْتَدَّ غَيْرُ مُحْصَنٍ بِأَنْ خَرَجَ عَنْ دِينِ الإِْسْلاَمِ، وَإِنِ ارْتَدَّ الْمَقْذُوفُ بَعْدَ قَذْفِهِ فَلاَ حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ وَلَوْ تَابَ بِأَنْ رَجَعَ لِلإِْسْلاَمِ، وَقَال الْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: إِنِ ارْتَدَّ الْمَقْذُوفُ بَعْدَ قَذْفِهِ فَإِنَّ رِدَّتَهُ لاَ تُسْقِطُ الْحَدَّ؛ لأَِنَّهَا أَمْرٌ طَرَأَ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَدِّ فَلاَ يَسْقُطُ مَا وَجَبَ مِنَ الْحَدِّ.
__________
(1) فتح القدير 4 / 211، حاشية الدسوقي 4 / 330، والمهذب 2 / 293، والمغني 8 / 236.

(33/25)


وَمَنْ قَذَفَ كَافِرًا وَلَوْ ذِمِّيًّا لاَ حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيُعَزَّرُ لِلإِْيذَاءِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ (1) ، وَقَال الزُّهْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: عَلَيْهِ الْحَدُّ إِذَا كَانَ لَهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَجُل الْعُلَمَاءِ مُجْمِعُونَ وَقَائِلُونَ بِالْقَوْل الأَْوَّل، وَلَمْ أُدْرِكْ أَحَدًا وَلاَ لَقِيتُهُ يُخَالِفُ ذَلِكَ (2) .
وَيُحَدُّ قَاذِفُ الْفَاسِقِ إِذَا كَانَ فِسْقُهُ بِغَيْرِ الزِّنَا؛ لِكَوْنِهِ عَفِيفًا عَنِ الزِّنَا فَهُوَ مُحْصَنٌ وَقَذْفُ الْمُحْصَنِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ (3) ، قَال تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} الآْيَةَ (4) .

قَذْفُ الْخَصِيِّ وَالْمَجْبُوبِ وَالْمَرِيضِ مَرَضًا مُدْنِفًا وَالرَّتْقَاءِ:
47 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْمَجْبُوبِ، وَكَذَلِكَ الرَّتْقَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِفِقْدَانِ آلَةِ الزِّنَا وَلأَِنَّهُ لاَ يَلْحَقُهُمَا الشَّيْنُ، فَإِنَّ الزِّنَا مِنْهُمَا لاَ يَتَحَقَّقُ وَيَلْحَقُ الشَّيْنُ الْقَاذِفَ فِي هَذَا الْقَذْفِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ قَذَفَ
__________
(1) حديث " من أشرك بالله فليس بمحصن " تقدم ف 14.
(2) فتح القدير 4 / 210، والمدونة 4 / 396، والقرطبي سورة النور 4516، والمهذب 2 / 289، 290.
(3) الدسوقي 4 / 326.
(4) سورة النور / 4.

(33/25)


خَصِيًّا أَوْ مَجْبُوبًا أَوْ مَرِيضًا مُدْنِفًا أَوْ رَتْقَاءَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (1) ، فَهُمْ دَاخِلُونَ فِي عُمُومِ الآْيَةِ، وَلأَِنَّهُ قَاذِفٌ لِمُحْصَنٍ فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ كَقَذْفِ الْقَادِرِ عَلَى الْوَطْءِ؛ وَلأَِنَّ إِمْكَانَ الْوَطْءِ أَمْرٌ خَفِيٌّ لاَ يَعْلَمُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَلاَ يَنْتَفِي الْعَارُ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْهُ بِدُونِ الْحَدِّ فَيَجِبُ كَقَذْفِ الْمَرِيضِ.
وَقَال الْحَسَنُ: لاَ حَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْخَصِيِّ؛ لأَِنَّ الْعَارَ مُنْتَفٍ عَنِ الْمَقْذُوفِ بِدُونِ الْحَدِّ لِلْعِلْمِ بِكَذِبِ الْقَاذِفِ، وَالْحَدُّ إِنَّمَا يَجِبُ لِنَفْيِ الْعَارِ (2) .

حُكْمُ مَنْ قَذَفَ وَلَدَهُ:
48 - إِذَا قَذَفَ وَلَدَهُ وَإِنْ نَزَل لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ سَوَاءٌ كَانَ الْقَاذِفُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَبِهَذَا قَال عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِقَذْفِ الاِبْنِ، وَهُوَ قَوْل عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ لإِِطْلاَقِ آيَةِ {فَاجْلِدُوهُمْ} (3) ، وَلأَِنَّهُ حَدٌّ
__________
(1) سورة النور / 4.
(2) المبسوط 9 / 111، وحاشية الدسوقي 4 / 326، والمغني 8 / 216، 217.
(3) سورة النور / 4.

(33/26)


هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ فَلاَ يَمْنَعُ مِنْ إِقَامَتِهِ قَرَابَةُ الْوِلاَدَةِ كَالزِّنَا.
وَالْجَوَابُ عَلَى مَنْ قَال بِوُجُوبِ الْحَدِّ: أَنَّ الإِْطْلاَقَ أَوِ الْعُمُومَ مُخْرَجٌ مِنْهُ الْوَلَدُ عَلَى سَبِيل الْمُعَارَضَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَقُل لَهُمَا أُفٍّ} (1) وَالْمَانِعُ مُقَدَّمٌ، وَلِهَذَا لاَ يُقَادُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ، وَإِهْدَارُ جِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِ الْوَلَدِ تُوجِبُ إِهْدَارَهَا فِي عِرْضِهِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَذْفِ وَالزِّنَا أَنَّ حَدَّ الزِّنَا خَالِصٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لاَ حَقَّ لِلآْدَمِيِّ فِيهِ، وَحَدُّ الْقَذْفِ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ، فَلاَ يَثْبُتُ لِلاِبْنِ عَلَى أَبِيهِ كَالْقِصَاصِ (2) .
__________
(1) سورة الإسراء / 23.
(2) فتح القدير 4 / 196، 197، الدسوقي 4 / 331، وتحفة المحتاج 9 / 120، والمغني 8 / 219.

(33/26)


قُرْءٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْقُرْءُ لُغَةً: بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ الْحَيْضُ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الطُّهْرِ، وَهُوَ مِنَ الأَْضْدَادِ، وَجَمْعُهُ قُرُوءٌ وَأَقْرُؤٌ مِثْل فَلْسٍ وَفُلُوسٍ وَأَفْلُسٍ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَقْرَاءٍ مِثْل قُفْلٍ وَأَقْفَالٍ.
وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ فِي الأَْصْل اسْمٌ لِلْوَقْتِ (1) .
وَيُطْلَقُ عَلَى الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ جَمِيعًا، حَيْثُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَهْل اللُّغَةِ فِي أَنَّ الْقُرْءَ مِنَ الأَْسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ يُذَكَّرُ وَيُرَادُ بِهِ الْحَيْضُ وَالطُّهْرُ عَلَى طَرِيقِ الاِشْتِرَاكِ، فَيَكُونُ حَقِيقَةً لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيِّ لِلْقُرْءِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، وَكَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) وَفُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالأَْقْرَاءِ فِي
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح، والمغرب، والقاموس المحيط، والمفردات.

(33/27)


الْعِدَّةِ الأَْطْهَارُ (1) ، لِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: الأَْقْرَاءُ الأَْطْهَارُ (2) .
الْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَالْخُلَفَاءِ الأَْرْبَعَةِ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَطَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْءِ الْحَيْضُ، قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ النَّيْسَابُورِيِّ: كُنْتُ أَقُول إِنَّهُ الأَْطْهَارُ، وَأَنَا أَذْهَبُ الْيَوْمَ إِلَى أَنَّ الأَْقْرَاءَ الْحِيَضُ (3) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقُرْءِ:
عِدَّةُ ذَوَاتِ الأَْقْرَاءِ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ وَمَنْ فِي حُكْمِهَا ذَاتِ الأَْقْرَاءِ أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلاَثَةِ قُرُوءٍ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} (4) ، سَوَاءٌ وَجَبَتِ الْعِدَّةُ بِالْفُرْقَةِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَوْ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ أَوِ الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ إِذَا كَانَتْ حُرَّةً وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الأَْقْرَاءِ ثَلاَثَةُ قُرُوءٍ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ
__________
(1) فتح القدير 4 / 308 ط بولاق، وبدائع الصنائع 3 / 193 ط. دار الكتاب العربي، والقرطبي 3 / 113، ومغني المحتاج 3 / 385 ط. مصطفى الحلبي، والمغني 7 / 452، وكشاف القناع 5 / 417 ط. عالم الكتب، وسبل السلام 3 / 204 ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت.
(2) أثر عائشة رضي الله عنها " الأقراء الأطهار ". أخرجه ابن جرير في تفسيره (4 / 506 - ط. دار المعارف) .
(3) المراجع الفقهية السابقة.
(4) سورة البقرة / 228.

(33/27)


أَهْل الْعِلْمِ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْقُرْءِ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْءِ الْحَيْضُ، وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ لاَ يُحْتَسَبُ ذَلِكَ الطُّهْرُ مِنَ الْعِدَّةِ، حَتَّى لاَ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مَا لَمْ تَحِضْ ثَلاَثَ حِيَضٍ كَوَامِل بَعْدَهُ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِثَلاَثَةِ قُرُوءٍ كَامِلَةٍ، فَلاَ يُعْتَدُّ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالاِعْتِدَادِ بِثَلاَثَةِ قُرُوءٍ، وَلَوْ حُمِل الْقُرْءُ عَلَى الطُّهْرِ لَكَانَ الاِعْتِدَادُ بِطُهْرَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ؛ لأَِنَّ بَقِيَّةَ الطُّهْرِ الَّذِي صَادَفَهُ الطَّلاَقُ مَحْسُوبٌ مِنَ الأَْقْرَاءِ، وَالثَّلاَثَةُ اسْمٌ لِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ، وَالاِسْمُ الْمَوْضُوعُ لِعَدَدٍ لاَ يَقَعُ عَلَى مَا دُونَهُ فَيَكُونُ تَرْكُ الْعَمَل بِالْكِتَابِ، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْحَيْضِ يَكُونُ الاِعْتِدَادُ بِثَلاَثٍ كَوَامِل؛ لأَِنَّ مَا بَقِيَ مِنَ الطُّهْرِ غَيْرُ مَحْسُوبٍ مِنَ الْعِدَّةِ، فَيَكُونُ عَمَلاً بِالْكِتَابِ؛ وَلأَِنَّ الْمَعْهُودَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ اسْتِعْمَال الْقُرْءِ بِمَعْنَى الْحَيْضِ، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْتَحَاضَةِ: إِذَا أَتَى قُرْؤُكِ فَلاَ تُصَلِّي (2) ؛ وَلأَِنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ
__________
(1) فتح القدير مع العناية 3 / 270، والدسوقي 2 / 469، ومغني المحتاج 3 / 384، والمغني 7 / 449، 450 ط. الرياض.
(2) حديث: " إذا أتى قرؤك فلا تصلي ". أخرجه أبو داود (1 / 191) .

(33/28)


وَجَبَتْ لِلتَّعَرُّفِ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَالْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ يَحْصُل بِالْحَيْضِ لاَ بِالطُّهْرِ، فَكَانَ الاِعْتِدَادُ بِالْحَيْضِ لاَ بِالطُّهْرِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرُوءِ فِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ الأَْطْهَارُ، فَإِنَّهَا لَوْ طُلِّقَتْ طَاهِرًا وَبَقِيَ مِنْ زَمَنِ طُهْرِهَا شَيْءٌ وَلَوْ لَحْظَةً حُسِبَتْ قُرْءًا؛ لأَِنَّ بَعْضَ الطُّهْرِ وَإِنْ قَل يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ قُرْءٍ، فَتُنَزَّل مَنْزِلَةَ طُهْرٍ كَامِلٍ.
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2) ، أَيْ فِي وَقْتِ عِدَّتِهِنَّ، لَكِنَّ الطَّلاَقَ فِي الْحَيْضِ مُحَرَّمٌ، فَيُصْرَفُ الإِْذْنُ إِلَى زَمَنِ الطُّهْرِ، وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِدَّةَ بِالطُّهْرِ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ، حَيْثُ قَال: فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ (3) ، فَدَل عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ بِالطُّهْرِ، وَلِدُخُول الْهَاءِ فِي الثَّلاَثَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} ، وَإِنَّمَا تَدْخُل الْهَاءُ فِي جَمْعِ الْمُذَكَّرِ لاَ فِي جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ يُقَال ثَلاَثَةُ رِجَالٍ وَثَلاَثُ نِسْوَةٍ، وَالْحَيْضُ مُؤَنَّثٌ وَالطُّهْرُ مُذَكَّرٌ، فَدَل عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا الأَْطْهَارُ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 194، والمغني لابن قدامة 7 / 455، وسبل السلام 3 / 205.
(2) سورة الطلاق / 1.
(3) حديث: " فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 346) من حديث ابن عمر.
(4) الكتاب مع اللباب 3 / 80، والقوانين الفقهية ص 235، والمغني 7 / 452، ومغني المحتاج 3 / 385، والإقناع للشربيني الخطيب 2 / 128.

(33/28)


انْتِقَال الْعِدَّةِ:
أ - انْتِقَال الْعِدَّةِ مِنَ الأَْقْرَاءِ إِلَى الأَْشْهُرِ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَحَوُّل الْعِدَّةِ مِنَ الْحَيْضِ إِلَى الأَْشْهُرِ فِي حَقِّ مَنْ حَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ أَصْبَحَتْ يَائِسَةً، فَتَنْتَقِل عِدَّتُهَا مِنَ الْحَيْضِ إِلَى الأَْشْهُرِ، فَتَسْتَقْبِل بِالأَْشْهُرِ؛ لأَِنَّهَا لَمَّا أَيِسَتْ قَدْ صَارَتْ عِدَّتُهَا بِالأَْشْهُرِ (1) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ} (2) ، فَالأَْشْهُرُ بَدَلٌ عَنِ الْحَيْضِ.

ب - انْتِقَال الْعِدَّةِ مِنَ الْقُرُوءِ أَوِ الأَْشْهُرِ إِلَى وَضْعِ الْحَمْل:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ بِالْقُرُوءِ أَوِ الأَْشْهُرِ أَوْ بَعْدَهَا أَنَّ الْمَرْأَةَ حَامِلٌ مِنَ الزَّوْجِ، فَإِنَّ الْعِدَّةَ تَتَحَوَّل إِلَى وَضْعِ الْحَمْل، وَسَقَطَ حُكْمُ مَا مَضَى مِنَ الْقُرُوءِ أَوِ الأَْشْهُرِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا رَأَتْهُ مِنَ الدَّمِ لَمْ يَكُنْ حَيْضًا؛ وَلأَِنَّ وَضْعَ الْحَمْل أَقْوَى مِنَ الدَّمِ فِي الدَّلاَلَةِ عَلَى
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 200، وحاشية الدسوقي 2 / 276، وروضة الطالبين 8 / 371، والمغني 9 / 103.
(2) سورة الطلاق / 4.

(33/29)


بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْ آثَارِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي انْقَضَتْ (1) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاَتُ الأَْحْمَال أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عِدَّة ف 38)

ج - انْتِقَال الْعِدَّةِ مِنَ الأَْشْهُرِ إِلَى الأَْقْرَاءِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَةَ إِذَا اعْتَدَّتْ بِبَعْضِ الأَْشْهُرِ، ثُمَّ رَأَتِ الدَّمَ، تَنْتَقِل عِدَّتُهَا مِنَ الأَْشْهُرِ إِلَى الأَْقْرَاءِ؛ لأَِنَّ الأَْشْهُرَ فِي حَقِّ الصَّغِيرَةِ بَدَلٌ عَنِ الأَْقْرَاءِ، وَقَدْ ثَبَتَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُبْدَل، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْمُبْدَل قَبْل حُصُول الْمَقْصُودِ بِالْبَدَل تُبْطِل حُكْمَ الْبَدَل (3) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ: (عِدَّة ف 28 - 31)
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 201، والدسوقي 2 / 474، ونهاية المحتاج 7 / 129، وروضة الطالبين 1 / 377، ومغني المحتاج 3 / 389، والمغني 9 / 103.
(2) سورة الطلاق / 4.
(3) البدائع 3 / 200، والدسوقي 3 / 473، ومغني المحتاج 3 / 386، وروضة الطالبين 8 / 372، والمغني 9 / 102، 103.

(33/29)


قُرْآنٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْقُرْآنُ لُغَةً: فِي الأَْصْل مَصْدَرٌ مِنْ قَرَأَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ، يُقَال: قَرَأَ قُرْآنًا، قَال تَعَالَى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (1) ، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا جَمَعْنَاهُ وَأَثْبَتْنَاهُ فِي صَدْرِكَ فَاعْمَل بِهِ، وَخُصَّ بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّل عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَارَ لَهُ كَالْعَلَمِ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال الْبَزْدَوِيُّ: هُوَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّل عَلَى رَسُول اللَّهِ، الْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ، الْمَنْقُول عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقْلاً مُتَوَاتِرًا، بِلاَ شُبْهَةٍ، وَهُوَ النَّظْمُ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا فِي قَوْل عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ (3) .
وَالْقُرْآنُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَجْمُوعِ وَعَلَى كُل جُزْءٍ مِنْهُ؛ لأَِنَّهُمْ يَبْحَثُونَ
__________
(1) سورة القيامة / 17، 18.
(2) القاموس المحيط، والمفردات في غريب القرآن.
(3) أصول البزدوي مع كشف الأسرار 1 / 67 - 72 نشر دار الكتاب العربي.

(33/30)


مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْحُكْمِ، وَذَلِكَ آيَةٌ آيَةٌ لاَ مَجْمُوعُ الْقُرْآنِ (1) .
وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ بِخَمْسَةٍ وَخَمْسِينَ اسْمًا: سَمَّاهُ كِتَابًا، وَمُبِينًا، وَقُرْآنًا، وَكَرِيمًا، وَكَلاَمًا، وَنُورًا، وَهُدًى، وَرَحْمَةً، وَفُرْقَانًا، وَشِفَاءً، وَمَوْعِظَةً، وَذِكْرًا، وَمُبَارَكًا، وَعَلِيًّا، وَحِكْمَةً. . . إِلَخْ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمُصْحَفُ:
2 - الْمُصْحَفُ - بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا وَفَتْحِهَا (3) -، مَا جُعِل جَامِعًا لِلصُّحُفِ الْمَكْتُوبَةِ، وَجَمْعُهُ مَصَاحِفُ (4) . وَرَوَى السُّيُوطِيُّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ أَوَّل مَنْ جَمَعَ كِتَابَ اللَّهِ وَسَمَّاهُ الْمُصْحَفَ (5) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْمُصْحَفَ مَا جُمِعَ فِيهِ الْقُرْآنُ.

حُجِّيَّةُ الْقُرْآنِ:
3 - الْقُرْآنُ هُوَ الأَْصْل الأَْوَّل مِنْ أُصُول الشَّرْعِ، وَهُوَ حُجَّةٌ مِنْ كُل وَجْهٍ لِتَوَقُّفِ حُجِّيَّةِ غَيْرِهِ مِنَ الأُْصُول عَلَيْهِ لِثُبُوتِهَا بِهِ، فَإِنَّ الرَّسُول
__________
(1) التلويح على التوضيح 1 / 157.
(2) الإتقان في علوم القرآن 1 / 159 - 161.
(3) تحرير ألفاظ التنبيه للنووي ص 34 نشر دار القلم، والقاموس المحيط.
(4) المفردات للراغب الأصفهاني.
(5) الإتقان في علوم القرآن 1 / 164 ط. دار ابن كثير، والبرهان في علوم القرآن 1 / 273 - 276.

(33/30)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِالْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَتَاكُمُ الرَّسُول فَخُذُوهُ} (1) ، وَكَذَا الإِْجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَدِلَّةِ حُجِّيَّةِ الْقُرْآنِ وَأُسْلُوبِ الْقُرْآنِ فِي الدَّلاَلَةِ عَلَى الأَْحْكَامِ يُنْظَرُ الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.

خَصَائِصُ الْقُرْآنِ:

أ - الْكِتَابَةُ فِي الْمَصَاحِفِ:
4 - الْقُرْآنُ هُوَ مَا نُقِل إِلَيْنَا بَيْنَ دَفَّتَيِ الْمُصْحَفِ نَقْلاً مُتَوَاتِرًا، وَقُيِّدَ بِالْمَصَاحِفِ؛ لأَِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بَالَغُوا فِي نَقْلِهِ وَتَجْرِيدِهِ عَمَّا سِوَاهُ، حَتَّى كَرِهُوا التَّعَاشِيرَ وَالنَّقْطَ كَيْ لاَ يَخْتَلِطَ بِغَيْرِهِ، فَنَعْلَمَ أَنَّ الْمَكْتُوبَ فِي الْمُصْحَفِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ هُوَ الْقُرْآنُ، وَأَنَّ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهُ لَيْسَ مِنْهُ، إِذْ يَسْتَحِيل فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ مَعَ تَوَافُرِ الدَّوَاعِي عَلَى حِفْظِ الْقُرْآنِ أَنْ يُهْمَل بَعْضُهُ فَلاَ يُنْقَل أَوْ يُخْلَطُ بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ (3) .

ب - التَّوَاتُرُ:
5 - لاَ خِلاَفَ أَنَّ كُل مَا هُوَ مِنَ الْقُرْآنِ يَجِبُ
__________
(1) سورة الحشر / 7.
(2) شرح المنار وحواشيه من علم الأصول ص 25 ط. دار سعادت.
(3) روضة الناظر لابن قدامة المقدسي ص 34 ط. دار الكتب العلمية، والمستصفى 1 / 101.

(33/31)


أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا فِي أَصْلِهِ وَأَجْزَائِهِ، وَأَمَّا فِي مَحَلِّهِ وَوَضْعِهِ وَتَرْتِيبِهِ فَعِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْل السُّنَّةِ كَذَلِكَ، أَيْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا (1) .
فَقَدْ جَاءَ فِي مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ وَشَرْحِهِ فَوَاتِحِ الرَّحَمُوتِ: مَا نُقِل آحَادًا فَلَيْسَ بِقُرْآنٍ قَطْعًا، وَلَمْ يُعْرَفْ فِيهِ خِلاَفٌ لِوَاحِدٍ مِنْ أَهْل الْمَذَاهِبِ، وَاسْتَدَل بِأَنَّ الْقُرْآنَ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ لِتَضَمُّنِهِ التَّحَدِّيَ؛ وَلأَِنَّهُ أَصْل الأَْحْكَامِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَالنَّظْمِ جَمِيعًا حَتَّى تَعَلَّقَ بِنَظْمِهِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ؛ وَلأَِنَّهُ يُتَبَرَّكُ بِهِ فِي كُل عَصْرٍ بِالْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ، وَلِذَا عُلِمَ جَهْدُ الصَّحَابَةِ فِي حِفْظِهِ بِالتَّوَاتُرِ الْقَاطِعِ، وَكُل مَا تَتَوَفَّرُ دَوَاعِي نَقْلِهِ يُنْقَل مُتَوَاتِرًا عَادَةً، فَوُجُودُهُ مَلْزُومٌ لِلتَّوَاتُرِ عِنْدَ الْكُل عَادَةً، فَإِذَا انْتَفَى اللاَّزِمُ وَهُوَ التَّوَاتُرُ انْتَفَى الْمَلْزُومُ قَطْعًا، وَالْمَنْقُول آحَادًا لَيْسَ مُتَوَاتِرًا، فَلَيْسَ قُرْآنًا.
كَمَا جَاءَ فِيهِ: عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ آيِ كُل سُورَةٍ تَوْقِيفِيٌّ بِأَمْرِ اللَّهِ وَبِأَمْرِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى هَذَا انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ، وَجَاءَ أَيْضًا: بَقِيَ أَمْرُ تَرْتِيبِ السُّوَرِ فَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَمْرِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيل هَذَا التَّرْتِيبُ بِاجْتِهَادٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. . . وَالْحَقُّ هُوَ الأَْوَّل (2) .
__________
(1) البرهان في علوم القرآن 2 / 125.
(2) فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت مع المستصفى 2 / 9.

(33/31)


وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (مُصْحَف) .

ج - الإِْعْجَازُ:
6 - مِنْ خَصَائِصِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ كَلاَمُ اللَّهِ الْمُعْجِزُ، الْمُتَحَدَّى بِإِعْجَازِهِ، وَالْمُرَادُ بِالإِْعْجَازِ ارْتِقَاؤُهُ فِي الْبَلاَغَةِ إِلَى حَدٍّ خَارِجٍ عَنْ طَوْقِ الْبَشَرِ (1) ، قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُقَلاَءِ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ مُعْجِزٌ؛ لأَِنَّ الْعَرَبَ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ (2) ، قَال تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (3) .
قَال الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: ذَهَبَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا - وَهُوَ قَوْل أَبِي الْحَسَنِ الأَْشْعَرِيِّ فِي كُتُبِهِ - إِلَى أَنَّ أَقَل مَا يُعْجَزُ عَنْهُ مِنَ الْقُرْآنِ السُّورَةُ قَصِيرَةً كَانَتْ أَوْ طَوِيلَةً، أَوْ مَا كَانَ بِقَدْرِهَا، قَال: فَإِذَا كَانَتِ الآْيَةُ بِقَدْرِ حُرُوفِ سُورَةٍ وَإِنْ كَانَتْ كَسُورَةِ الْكَوْثَرِ، فَذَلِكَ مُعْجِزٌ (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) إرشاد الفحول ص 30، والتلويح على التوضيح 1 / 157.
(2) البحر المحيط 1 / 446.
(3) سورة البقرة / 23، 24.
(4) البرهان في علوم القرآن 2 / 108.

(33/32)


د - كَوْنُهُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ:
7 - لَقَدْ أَنْزَل اللَّهُ الْقُرْآنَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ (1) ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (2) .
قَال الزَّرْكَشِيُّ: لاَ خِلاَفَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ كَلاَمٌ مُرَكَّبٌ عَلَى غَيْرِ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ، وَأَنَّ فِيهِ أَسْمَاءَ أَعْلاَمٍ لِمَنْ لِسَانُهُ غَيْرُ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، كَإِسْرَائِيل، وَجَبْرَائِيل، وَنُوحٍ، وَلُوطٍ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَل فِي الْقُرْآنِ أَلْفَاظٌ غَيْرُ أَعْلاَمٍ مُفْرَدَةٍ مِنْ غَيْرِ كَلاَمِ الْعَرَبِ؟
فَذَهَبَ الْقَاضِي إِلَى أَنَّهُ لاَ يُوجَدُ ذَلِكَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ نُقِل عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ (3) .
وَاحْتَجَّ هَذَا الْفَرِيقُ بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} (4) ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ لُغَةُ الْعَجَمِ لَمْ يَكُنْ عَرَبِيًّا مَحْضًا، وَآيَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ وَلأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ تَحَدَّاهُمْ بِالإِْتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَلاَ يَتَحَدَّاهُمْ بِمَا لَيْسَ مِنْ لِسَانِهِمْ وَلاَ يُحْسِنُونَهُ (5) .
قَال الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ: وَالْقُرْآنُ يَدُل عَلَى أَنْ لَيْسَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ إِلاَّ بِلِسَانِ
__________
(1) البحر المحيط 1 / 444.
(2) سورة إبراهيم / 4.
(3) البحر المحيط 1 / 449.
(4) سورة فصلت / 44.
(5) روضة الناظر ص 35.

(33/32)


الْعَرَبِ (1) .
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ فِيهِ لُغَةُ غَيْرِ الْعَرَبِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ " الْمِشْكَاةَ " هِنْدِيَّةٌ، " وَالإِْسْتَبْرَقَ " فَارِسِيَّةٌ (2) .
وَقَال مَنْ نَصَرَ هَذَا: اشْتِمَال الْقُرْآنِ عَلَى كَلِمَتَيْنِ وَنَحْوِهِمَا أَعْجَمِيَّةٍ لاَ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا وَعَنْ إِطْلاَقِ هَذَا الاِسْمِ عَلَيْهِ، وَلاَ يُمَهِّدُ لِلْعَرَبِ حُجَّةً، فَإِنَّ الشِّعْرَ الْفَارِسِيَّ يُسَمَّى فَارِسِيًّا وَإِنْ كَانَ فِيهِ آحَادُ كَلِمَاتٍ عَرَبِيَّةٍ (3) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ أَصْلُهَا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ ثُمَّ عَرَّبَتْهَا الْعَرَبُ وَاسْتَعْمَلَتْهَا، فَصَارَتْ مِنْ لِسَانِهَا بِتَعْرِيبِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا لَهَا، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا أَعْجَمِيًّا (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

هـ - كَوْنُهُ مَحْفُوظًا بِحِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى:
8 - تَكَفَّل اللَّهُ تَعَالَى بِحِفْظِ كِتَابِهِ الْكَرِيمِ، قَال تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (5) ، قَال الْقُرْطُبِيُّ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الْقُرْآنُ وَالْمُرَادُ بِالْحِفْظِ أَنْ يُحْفَظَ مِنْ أَنْ يُزَادَ فِيهِ
__________
(1) الرسالة ص 42 ط. الحلبي.
(2) المستصفى 1 / 105، وانظر إرشاد الفحول ص 32.
(3) روضة الناظر ص 35، وانظر المستصفى 1 / 106.
(4) روضة الناظر 1 / 35.
(5) سورة الحجر / 9.

(33/33)


أَوْ يُنْقَصَ مِنْهُ، قَال قَتَادَةُ وَثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: حَفِظَهُ اللَّهُ مِنْ أَنْ تَزِيدَ فِيهِ الشَّيَاطِينُ بَاطِلاً أَوْ تُنْقِصَ مِنْهُ حَقًّا، فَتَوَلَّى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِفْظَهُ، فَلَمْ يَزَل مَحْفُوظًا، وَقَال فِي غَيْرِهِ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَْحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} (1) ، فَوَكَّل حِفْظَهُ إِلَيْهِمْ فَبَدَّلُوا وَغَيَّرُوا (2) .

و نَسْخُ الْقُرْآنِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ وَاخْتَلَفُوا فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ عَلَى أَقْوَالٍ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي شُرُوطِ النَّسْخِ وَأَحْوَالِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

7 - جَمْعُ الْقُرْآنِ:
ز - جُمِعَ الْقُرْآنُ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَثَانِيَةً فِي عَهْدِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مُصْحَف) :

8 - تَنْجِيمُ الْقُرْآنِ:
ح - نَزَل الْقُرْآنُ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَجَّمًا لِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ.
__________
(1) سورة المائدة / 44.
(2) القرطبي 10 / 5.

(33/33)


وَالتَّفْصِيل فِي (مُصْحَفٍ) .

ط - رَسْمُ الْمُصْحَفِ:
12 - كُتِبَ الْقُرْآنُ فِي عَهْدِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى شَكْلٍ مُعَيَّنٍ وَعَلَى يَدِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَوُزِّعَتِ النُّسَخُ الَّتِي كَتَبُوهَا عَلَى الْعَوَاصِمِ الإِْسْلاَمِيَّةِ وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ الرَّسْمَ الْعُثْمَانِيَّ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْتِزَامِهَا فِي كِتَابَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَوْ جَوَازِ الْخُرُوجِ عَنْهَا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مُصْحَف) .

الأَْحْكَامُ الْفِقْهِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقُرْآنِ:
أَوَّلاً: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الصَّلاَةِ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي الصَّلاَةِ رُكْنٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ لِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ (1) ، وَفِي صِحَّةِ الصَّلاَةِ بِالْقِرَاءَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: صَلاَة. ف 19 وَقِرَاءَة) .

ثَانِيًا: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ خَارِجَ الصَّلاَةِ:
14 - يُسْتَحَبُّ الإِْكْثَارُ مِنْ تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ خَارِجَ الصَّلاَةِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 300، والاختيار لتعليل المختار 1 / 56 نشر دار المعرفة، والقوانين الفقهية ص 63 دار الكتاب العربي، ومغني المحتاج 1 / 156، ومطالب أولي النهى 1 / 494.

(33/34)


سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} (1) ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُول الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلاَمٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ (2) ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ (3) ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَِصْحَابِهِ (4) .

آدَابُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:
15 - يَنْبَغِي لِلْقَارِئِ أَنْ يَسْتَحْضِرَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ يُنَاجِي اللَّهَ تَعَالَى، وَيَقْرَأُ عَلَى حَال مَنْ يَرَى اللَّهَ تَعَالَى، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرَاهُ (5) ، وَيَنْبَغِي إِذَا أَرَادَ الْقِرَاءَةَ أَنْ يُنَظِّفَ فَاهُ بِالسِّوَاكِ وَغَيْرِهِ (6) .
__________
(1) سورة فاطر / 29.
(2) حديث: " من قرأ حرفًا من كتاب الله. . . " أخرجه الترمذي (5 / 175) من حديث ابن مسعود وقال: حديث حسن صحيح.
(3) حديث عائشة: " الماهر بالقرآن مع السفرة. . . " أخرجه مسلم (1 / 55) . والتتعتع: التردد في الكلام عيًا وصعوبة (تفسير القرطبي 1 / 7) .
(4) حديث: " اقرأوا القرآن. . . " أخرجه مسلم (1 / 553) من حديث أبي أمامة، وتفسير القرطبي 1 / 7، وإحياء علوم الدين 1 / 279.
(5) التبيان في آداب حملة القرآن ص 95 نشر دار الدعوة.
(6) التبيان ص 95، والإتقان في علوم القرآن 1 / 329 ط. دار ابن كثير.

(33/34)


وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ وَهُوَ عَلَى طَهَارَةٍ وَإِنْ قَرَأَ مُحْدِثًا حَدَثًا أَصْغَرَ دُونَ مَسِّ الْمُصْحَفِ جَازَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ (1) .
وَالْجُنُبُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) .
وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ: يَقْرَأُ الْجُنُبُ وِرْدَهُ، وَقَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: يَقْرَأُ الْقُرْآنَ (3) .
وَيَحْرُمُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (4) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَجُوزُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِلْحَائِضِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَلَبِّسَةً بِجَنَابَةٍ قَبْل الْحَيْضِ، إِلاَّ أَنْ يَنْقَطِعَ عَنْهَا دَمُهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا كَمُسْتَحَاضَةٍ، فَإِنَّهَا لاَ تَقْرَأُ إِنْ كَانَتْ مُتَلَبِّسَةً بِجَنَابَةٍ (5) .
(ر: حَيْض ف 39) .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِي مَكَانٍ نَظِيفٍ مُخْتَارٍ، وَلِهَذَا اسْتَحَبَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِي الْمَسْجِدِ، لِكَوْنِهِ
__________
(1) التبيان ص 97، والآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 325، والإتقان 1 / 328، والمجموع 2 / 69 نشر المكتبة السلفية.
(2) الاختيار لتعليل المختار 1 / 13، والقوانين الفقهية ص 36 ط. دار الكتاب العربي، والمجموع 2 / 162، والمغني 1 / 143، 144.
(3) المغني 1 / 144، والموسوعة الفقهية 16 / 53، 54.
(4) الاختيار 1 / 13، والمجموع 2 / 162، والمغني 1 / 143، والقوانين الفقهية ص 44.
(5) الزرقاني 1 / 138.

(33/35)


جَامِعًا لِلنَّظَافَةِ وَشَرَفِ الْبُقْعَةِ، وَمُحَصِّلاً لِفَضِيلَةٍ أُخْرَى وَهِيَ الاِعْتِكَافُ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي الأَْمَاكِنِ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ (ر: قِرَاءَة) .
وَيُسْتَحَبُّ لِلْقَارِئِ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ أَنْ يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ، وَيَجْلِسَ مُتَخَشِّعًا بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ مُطْرِقًا رَأْسَهُ، وَيَكُونَ جُلُوسُهُ وَحْدَهُ فِي تَحْسِينِ أَدَبِهِ وَخُضُوعِهِ كَجُلُوسِهِ بَيْنَ يَدَيْ مُعَلِّمِهِ، فَهَذَا هُوَ الأَْكْمَل، وَلَوْ قَرَأَ قَائِمًا أَوْ مُضْطَجِعًا أَوْ فِي فِرَاشِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْحْوَال جَازَ وَلَهُ أَجْرٌ، وَلَكِنْ دُونَ الأَْوَّل (2) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي الأَْحْوَال الَّتِي تَجُوزُ أَوْ تُكْرَهُ فِيهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ (ر: قِرَاءَة) .
وَإِذَا أَرَادَ الشُّرُوعَ فِي الْقِرَاءَةِ اسْتَعَاذَ فَقَال: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، هَكَذَا قَال الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
وَقَال بَعْضُ السَّلَفِ: يَتَعَوَّذُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ (3)
قَال الزَّرْكَشِيُّ: يُسْتَحَبُّ التَّعَوُّذُ قَبْل الْقِرَاءَةِ فَإِنْ قَطَعَهَا قَطْعَ تَرْكٍ وَأَرَادَ الْعَوْدَ جَدَّدَ، وَإِنْ قَطَعَهَا لِعُذْرٍ عَازِمًا عَلَى الْعَوْدِ كَفَاهُ التَّعَوُّذُ
__________
(1) التبيان ص 100، والإتقان 1 / 329.
(2) التبيان ص 102 - 104، والإتقان 1 / 329 ط. دار ابن كثير، والآداب الشرعية ص 325.
(3) التبيان ص 105، والإتقان 1 / 329.

(33/35)


الأَْوَّل مَا لَمْ يَطُل الْفَصْل (1) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي مَحَل الاِسْتِعَاذَةِ مِنَ الْقِرَاءَةِ (ر: اسْتِعَاذَة ف 7 وَتِلاَوَة ف 6) .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافِظَ عَلَى قِرَاءَةِ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَوَّل كُل سُورَةٍ سِوَى سُورَةِ " بَرَاءَةٌ (2) "، (ر: تِلاَوَة ف 7) . وَلِلتَّفْصِيل فِي اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي كَوْنِ الْبَسْمَلَةِ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ وَمِنْ كُل سُورَةٍ يُنْظَرُ (بَسْمَلَة ف 2) .
فَإِذَا شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ فَلْيَكُنْ شَأْنُهُ الْخُشُوعَ وَالتَّدَبُّرَ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ، فَهُوَ الْمَقْصُودُ وَالْمَطْلُوبُ، وَبِهِ تَنْشَرِحُ الصُّدُورُ وَتَسْتَنِيرُ الْقُلُوبُ (3) ، (ر: تِلاَوَة ف 10) .
وَيُسْتَحَبُّ الْبُكَاءُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالتَّبَاكِي لِمَنْ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَالْحُزْنُ وَالْخُشُوعُ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَخِرُّونَ لِلأَْذْقَانِ يَبْكُونَ} (4) ، وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْقُرْآنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي حَدِيثِهِ: فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ (5) ، وَطَرِيقُهُ فِي تَحْصِيل الْبُكَاءِ أَنْ يَحْضُرَ فِي قَلْبِهِ الْحُزْنُ بِأَنْ يَتَأَمَّل مَا فِيهِ مِنَ
__________
(1) البرهان في علوم القرآن 1 / 460.
(2) البرهان في علوم القرآن 1 / 460، والإتقان 1 / 331، والتبيان ص 106.
(3) التبيان ص 107.
(4) سورة الإسراء / 109.
(5) الإتقان 1 / 335، والتبيان ص 112. وحديث " فإذا عيناه تذرفان " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 94) ، ومسلم (1 / 551) واللفظ للبخاري.

(33/36)


التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَالْمَوَاثِيقِ وَالْعُهُودِ، ثُمَّ يَتَأَمَّل تَقْصِيرَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ حُزْنٌ وَبُكَاءٌ كَمَا يَحْضُرُ الْخَوَاصَّ فَلْيَبْكِ عَلَى فَقْدِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ (1) .
وَيُسَنُّ التَّرْتِيل فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ (2) ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَرَتِّل الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} (3) .
(ر: تِلاَوَة ف 9) .
وَمِمَّا يُعْتَنَى بِهِ وَيَتَأَكَّدُ الأَْمْرُ بِهِ احْتِرَامُ الْقُرْآنِ مِنْ أُمُورٍ قَدْ يَتَسَاهَل فِيهَا بَعْضُ الْغَافِلِينَ الْقَارِئِينَ مُجْتَمِعِينَ، فَمِنْ ذَلِكَ اجْتِنَابُ الضَّحِكِ وَاللَّغَطِ وَالْحَدِيثِ فِي خِلاَل الْقِرَاءَةِ إِلاَّ كَلاَمًا يُضْطَرُّ إِلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْعَبَثُ بِالْيَدِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَلاَ يَعْبَثُ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ النَّظَرُ إِلَى مَا يُلْهِي وَيُبَدِّدُ الذِّهْنَ (4) .

آدَابُ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ:
16 - اسْتِمَاعُ الْقُرْآنِ وَالتَّفَهُّمُ لِمَعَانِيهِ مِنَ الآْدَابِ الْمَحْثُوثِ عَلَيْهَا، وَيُكْرَهُ التَّحَدُّثُ بِحُضُورِ الْقِرَاءَةِ (5) .
__________
(1) التبيان ص 114، وإحياء علوم الدين 1 / 284 ط. الحلبي، والإتقان 1 / 335.
(2) الإتقان 1 / 331، والتبيان ص 114.
(3) سورة المزمل / 4.
(4) التبيان ص 120.
(5) الإتقان 1 / 343، والبرهان في علوم القرآن 1 / 475، وشرح منتهى الإرادات 1 / 242.

(33/36)


قَال الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: وَالاِشْتِغَال عَنِ السَّمَاعِ بِالتَّحَدُّثِ بِمَا لاَ يَكُونُ أَفْضَل مِنَ الاِسْتِمَاعِ سُوءُ أَدَبٍ عَلَى الشَّرْعِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالتَّحَدُّثِ لِلْمَصْلَحَةِ (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِوُجُوبِ الاِسْتِمَاعِ لِلْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا، أَيْ فِي الصَّلاَةِ وَخَارِجِهَا (2) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَحْكَامِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ خَارِجَ الصَّلاَةِ (ر: اسْتِمَاع ف 3 وَمَا بَعْدَهَا) .

آدَابُ حَامِل الْقُرْآنِ:
17 - آدَابُ حَامِل الْقُرْآنِ مُقْرِئًا كَانَ أَوْ قَارِئًا هِيَ فِي الْجُمْلَةِ آدَابُ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ الَّتِي سَبَقَ تَفْصِيلُهَا فِي (تَعَلُّم وَتَعْلِيم ف 9 - 10) .
وَمِنْ آدَابِهِ أَيْضًا: أَنْ يَكُونَ عَلَى أَكْمَل الأَْحْوَال وَأَكْرَمِ الشَّمَائِل، وَأَنْ يَرْفَعَ نَفْسَهُ عَنْ كُل مَا نَهَى الْقُرْآنُ عَنْهُ إِجْلاَلاً لِلْقُرْآنِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَصَوِّنًا عَنْ دَنِيءِ الاِكْتِسَابِ، شَرِيفَ النَّفْسِ، مُتَرَفِّعًا عَلَى الْجَبَابِرَةِ وَالْجُفَاةِ مِنْ أَهْل الدُّنْيَا، مُتَوَاضِعًا لِلصَّالِحِينَ وَأَهْل الْخَيْرِ وَالْمَسَاكِينِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَخَشِّعًا ذَا سَكِينَةٍ وَوَقَارٍ، فَقَدْ جَاءَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ فَقَدْ وَضَحَ لَكُمُ الطَّرِيقُ، وَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ لاَ
__________
(1) البرهان في علوم القرآن 1 / 475.
(2) ابن عابدين 1 / 366، وتفسير الجصاص 1 / 49 ط. البهية المصرية.

(33/37)


تَكُونُوا عِيَالاً عَلَى النَّاسِ (1) .
وَمِنْ أَهَمِّ مَا يُؤْمَرُ بِهِ أَنْ يَحْذَرَ كُل الْحَذَرِ مِنِ اتِّخَاذِ الْقُرْآنِ مَعِيشَةً يَكْتَسِبُ بِهَا (2) ، فَقَدْ جَاءَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلاَ تَغْلُوا فِيهِ وَلاَ تَجْفُوا عَنْهُ وَلاَ تَأْكُلُوا بِهِ (3) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَخْذِ الأُْجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، مِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ أَخْذَ الأُْجْرَةِ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: إِجَارَة ف 109 - 110) .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافِظَ عَلَى تِلاَوَتِهِ وَيُكْثِرَ مِنْهَا (4) ، قَال اللَّهُ تَعَالَى مُثْنِيًا عَلَى مَنْ كَانَ دَأْبُهُ تِلاَوَةَ آيَاتِ اللَّهِ: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ أَنَاءَ اللَّيْل} (5) وَسَمَّاهُ ذِكْرًا وَتَوَعَّدَ الْمُعْرِضَ عَنْهُ، وَمَنْ تَعَلَّمَهُ ثُمَّ نَسِيَهُ (6) ، فَقَدْ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإِْبِل فِي عُقُلِهَا (7)
__________
(1) التبيان في آداب حملة القرآن ص 71.
(2) التبيان ص 73.
(3) حديث: " اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه. . . " أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 73) وقال: رواه الطبراني، و، ورجاله ثقات.
(4) التبيان ص 78.
(5) سورة آل عمران / 113.
(6) البرهان في علوم القرآن 1 / 458.
(7) حديث: " تعاهدوا هذا القرآن. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 79) ، ومسلم (1 / 545) من حديث أبي موسى الأشعري، و، واللفظ لمسلم.

(33/37)


وَقَال: بِئْسَمَا لأَِحَدِهِمْ يَقُول: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، بَل هُوَ نُسِّيَ، اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَال مِنَ النَّعَمِ بِعُقُلِهَا (1) .

آدَابُ النَّاسِ كُلِّهِمْ مَعَ الْقُرْآنِ:
18 - أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ عَلَى الإِْطْلاَقِ وَتَنْزِيهِهِ وَصِيَانَتِهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ جَحَدَ مِنْهُ حَرْفًا مِمَّا أُجْمِعَ عَلَيْهِ، أَوْ زَادَ حَرْفًا لَمْ يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ وَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ، فَهُوَ كَافِرٌ (2) .

تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ:
19 - كِتَابُ اللَّهِ بَحْرُهُ عَمِيقٌ، وَفَهْمُهُ دَقِيقٌ، لاَ يَصِل إِلَى فَهْمِهِ إِلاَّ مَنْ تَبَحَّرَ فِي الْعُلُومِ وَعَامَل اللَّهَ بِتَقْوَاهُ فِي السِّرِّ وَالْعَلاَنِيَةِ، وَأَجَلَّهُ عِنْدَ مَوَاقِفِ الشُّبُهَاتِ (3) ، وَلِهَذَا قَال الْعُلَمَاءُ: يَحْرُمُ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَالْكَلاَمُ فِي مَعَانِيهِ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ لِلْعُلَمَاءِ فَجَائِزٌ حَسَنٌ، وَالإِْجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَيْهِ، فَمَنْ كَانَ أَهْلاً لِلتَّفْسِيرِ جَامِعًا لِلأَْدَوَاتِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا مَعْنَاهُ، غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الْمُرَادُ، فَسَّرَهُ إِنْ كَانَ مِمَّا يُدْرَكُ بِالاِجْتِهَادِ،
__________
(1) حديث: " بئس ما لأحدهم أن يقول نسيت آية كيت. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 79) ، ومسلم (1 / 544) واللفظ لمسلم.
(2) التبيان ص 202.
(3) البرهان في علوم القرآن 2 / 153.

(33/38)


كَالْمَعَانِي وَالأَْحْكَامِ الْخَفِيَّةِ وَالْجَلِيَّةِ وَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالإِْعْرَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يُدْرَكُ بِالاِجْتِهَادِ، كَالأُْمُورِ الَّتِي طَرِيقُهَا النَّقْل وَتَفْسِيرُ الأَْلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ الْكَلاَمُ فِيهِ إِلاَّ بِنَقْلٍ صَحِيحٍ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتَمَدِينَ مِنْ أَهْلِهِ (1) .
وَأَمَّا مَنْ كَانَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ جَامِعٍ لأَِدَوَاتِهِ، فَحَرَامٌ عَلَيْهِ التَّفْسِيرُ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يَنْقُل التَّفْسِيرَ عَنِ الْمُعْتَمَدِينَ مِنْ أَهْلِهِ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: تَفْسِير ف 9، 10) .

تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ:
20 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلاَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ سَوَاءٌ أَحْسَنَ الْقِرَاءَةَ بِالْعَرَبِيَّةِ أَمْ لَمْ يُحْسِنْ (2) .
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ جَوَازَ الْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ اللُّغَاتِ سَوَاءٌ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ لاَ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لاَ تَجُوزُ إِذَا كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ؛ لأَِنَّ الْقُرْآنَ اسْمٌ لِمَنْظُومٍ عَرَبِيٍّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (3) ، وَالْمُرَادُ نَظْمُهُ (4) .
__________
(1) التبيان ص 204.
(2) مواهب الجليل 1 / 519، وروضة الطالبين 1 / 244، وكشاف القناع 1 / 340.
(3) سورة الزخرف / 3.
(4) بدائع الصنائع 1 / 112، وتبيين الحقائق 1 / 110.

(33/38)


وَلِلتَّفْصِيل (ر: تَرْجَمَة ف 6 وَقِرَاءَة) .
وَأَمَّا تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ خَارِجَ الصَّلاَةِ، وَبَيَانُ مَعْنَاهُ لِلْعَامَّةِ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَهْمٌ يَقْوَى عَلَى تَحْصِيل مَعْنَاهُ، فَهُوَ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ أَهْل الإِْسْلاَمِ (1) .
وَتَكُونُ تِلْكَ التَّرْجَمَةُ عِبَارَةً عَنْ مَعْنَى الْقُرْآنِ، وَتَفْسِيرًا لَهُ بِتِلْكَ اللُّغَةِ (2) .
(ر: تَرْجَمَة ف 3 - 5) .

سُوَرُ الْقُرْآنِ:
21 - انْعَقَدَ إِجْمَاعُ الأَْئِمَّةِ عَلَى أَنَّ عَدَدَ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِائَةٌ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً، الَّتِي جَمَعَهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَتَبَ بِهَا الْمَصَاحِفَ، وَبَعَثَ كُل مُصْحَفٍ إِلَى مَدِينَةٍ مِنْ مُدُنِ الإِْسْلاَمِ، وَلاَ يُعَرَّجُ إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ أُبَيٍّ أَنَّ عَدَدَهَا مِائَةٌ وَسِتَّ عَشْرَةَ سُورَةً، وَلاَ عَلَى قَوْل مَنْ قَال: مِائَةٌ وَثَلاَثَ عَشْرَةَ سُورَةً بِجَعْل الأَْنْفَال وَبَرَاءَةٌ سُورَةً، وَجَعَل بَعْضُهُمْ سُورَةَ الْفِيل وَسُورَةَ قُرَيْشٍ سُورَةً وَاحِدَةً، وَبَعْضُهُمْ جَعَل الْمُعَوِّذَتَيْنِ سُورَةً، وَكُل ذَلِكَ أَقْوَالٌ شَاذَّةٌ لاَ الْتِفَاتَ إِلَيْهَا (3) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي تَرْتِيبِ نُزُول سُوَرِ الْقُرْآنِ وَآيَاتِهِ وَشَكْلِهِ وَنَقْطِهِ وَتَحْزِيبِهِ وَتَعْشِيرِهِ وَعَدَدِ
__________
(1) الموافقات 2 / 68.
(2) كشاف القناع 1 / 340 - 341.
(3) بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز لمجد الدين الفيروز آبادي 1 / 97 ط. المكتبة العلمية.

(33/39)


حُرُوفِهِ وَأَجْزَائِهِ وَكَلِمَاتِهِ وَآيِهِ يُنْظَرُ (مُصْحَف) .

خَتْمُ الْقُرْآنِ:
22 - كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَهُمْ عَادَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي قَدْرِ مَا يَخْتِمُونَ فِيهِ (1) .
فَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَرَّةً، وَبَعْضُهُمْ مَرَّتَيْنِ، وَانْتَهَى بَعْضُهُمْ إِلَى ثَلاَثٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتِمُ فِي الشَّهْرِ (2) .
قَال النَّوَوِيُّ: وَالاِخْتِيَارُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ فَمَنْ كَانَ يَظْهَرُ لَهُ بِدَقِيقِ الْفِكْرِ لَطَائِفُ وَمَعَارِفُ فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى قَدْرِ مَا يَحْصُل لَهُ كَمَال فَهْمِ مَا يَقْرَؤُهُ، وَكَذَا مَنْ كَانَ مَشْغُولاً بِنَشْرِ الْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ، فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى قَدْرٍ لاَ يَحْصُل بِسَبَبِهِ إِخْلاَلٌ بِمَا هُوَ مُرْصَدٌ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلاَءِ الْمَذْكُورِينَ فَلْيَسْتَكْثِرْ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ إِلَى حَدِّ الْمَلَل وَالْهَذْرَمَةِ (3) .
وَقَدْ كَرِهَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ الْخَتْمَ فِي كُل يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ (4) .
وَقَال أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَنْ يَخْتِمَ فِي سَبْعٍ أَوْ
__________
(1) التبيان ص 78.
(2) إحياء علوم الدين 1 / 282.
(3) التبيان ص 81 - 82 (والهذرمة: السرعة في القراءة) .
(4) التبيان ص 82.

(33/39)


ثَلاَثٍ، (1) يُحْتَمَل أَنَّهُ الأَْفْضَل فِي الْجُمْلَةِ، أَوْ أَنَّهُ الأَْفْضَل فِي حَقِّ ابْنِ عَمْرٍو، لِمَا عُلِمَ مِنْ تَرْتِيلِهِ فِي قِرَاءَتِهِ، وَعُلِمَ مِنْ ضَعْفِهِ عَنِ اسْتِدَامَتِهِ أَكْثَرُ مِمَّا حُدَّ لَهُ، وَأَمَّا مَنِ اسْتَطَاعَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلاَ تُمْنَعُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَسُئِل مَالِكٌ عَنِ الرَّجُل يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُل لَيْلَةٍ فَقَال: مَا أُحْسِنُ ذَلِكَ. إِنَّ الْقُرْآنَ إِمَامُ كُل خَيْرٍ (2) .
23 - وَيُسَنُّ الدُّعَاءُ عَقِبَ خَتْمِ الْقُرْآنِ، لِحَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ مَرْفُوعًا مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فَلَهُ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ (3) . وَيُسَنُّ إِذَا فَرَغَ مِنَ الْخَتْمَةِ أَنْ يَشْرَعَ فِي أُخْرَى عَقِبَ الْخَتْمِ (4) ، لِحَدِيثِ: أَحَبُّ الأَْعْمَال إِلَى اللَّهِ الْحَال الْمُرْتَحِل، الَّذِي يَضْرِبُ مِنْ أَوَّل الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ، كُلَّمَا حَل ارْتَحَل (5) .
__________
(1) حديث: " أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو أن يختم في سبع أو ثلاث " ورد ضمن حديثين الأول فيه ذكر السبع. أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 94) والثاني فيه ذكر الثلاث. أخرجه أحمد (2 / 198) .
(2) البرهان في علوم القرآن 1 / 471.
(3) حديث: " من ختم القرآن فله دعوة مستجابة " أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (18 / 259) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (7 / 172) وقال: فيه عبد الحميد بن سليمان وهو ضعيف.
(4) الإتقان 1 / 346.
(5) حديث: " أحب الأعمال إلى الله الحال المرتحل. . . " أخرجه الترمذي (5 / 198) من حديث ابن عباس وقال: إسناده ليس بالقوي.

(33/40)


نَقْشُ الْحِيطَانِ بِالْقُرْآنِ:
24 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ نَقْشُ الْحِيطَانِ بِالْقُرْآنِ:
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: يُرْجَى أَنْ يَجُوزَ (1) .

النُّشْرَةُ:
25 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي النُّشْرَةِ وَهِيَ أَنْ يَكْتُبَ شَيْئًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَوْ مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ يَغْسِلَهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ يَمْسَحَ بِهِ الْمَرِيضَ أَوْ يَسْقِيَهُ، فَأَجَازَهَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، قِيل: الرَّجُل يُؤْخَذُ عَنِ امْرَأَتِهِ أَيُحَل عَنْهُ وَيُنَشَّرُ؟ قَال: لاَ بَأْسَ بِهِ، وَمَا يَنْفَعُ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ (2) .
وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِالْجَوَازِ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مِنْهُمُ الْعِمَادُ النِّيهِيُّ تِلْمِيذُ الْبَغَوِيِّ قَال: لاَ يَجُوزُ ابْتِلاَعُ رُقْعَةٍ فِيهَا آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَلَوْ غَسَلَهَا وَشَرِبَ مَاءَهَا جَازَ، وَجَزَمَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالرَّافِعِيُّ بِجَوَازِ أَكْل الأَْطْعِمَةِ الَّتِي كُتِبَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ (3) .
قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: النُّشْرَةُ مِنْ جِنْسِ الطِّبِّ فَهِيَ غُسَالَةُ شَيْءٍ لَهُ فَضْلٌ، فَهِيَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 323، والزرقاني 1 / 93، وروضة الطالبين 1 / 80، والتبيان ص 213، وكشاف القناع 1 / 137.
(2) تفسير القرطبي 10 / 318، والآداب الشرعية 3 / 73.
(3) البرهان في علوم القرآن 1 / 476، وكشاف القناع 2 / 77، وشرح منتهى الإرادات 1 / 320، ومطالب أولي النهى 1 / 836.

(33/40)


كَوُضُوءِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ (2) ، وَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَل (3) .
وَمَنَعَهَا الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ (4) .
__________
(1) تفسير القرطبي 10 / 319.
(2) حديث: " لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك " أخرجه مسلم (4 / 1727) من حديث عوف بن مالك الأشجعي.
(3) حديث: " من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل " أخرجه مسلم (4 / 1726) من حديث جابر بن عبد الله.
(4) تفسير القرطبي 10 / 318.

(33/41)


قِرَاءَاتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقِرَاءَاتُ فِي اللُّغَةِ جَمْعُ قِرَاءَةٍ وَهِيَ التِّلاَوَةُ (1) .
وَالْقِرَاءَاتُ فِي الاِصْطِلاَحِ: عِلْمٌ بِكَيْفِيَّةِ أَدَاءِ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَاخْتِلاَفِهَا مَعْزُوًّا لِنَاقِلِهِ.
وَمَوْضُوعُ عِلْمِ الْقِرَاءَاتِ: كَلِمَاتُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ.
وَفَائِدَتُهُ: صِيَانَتُهُ عَنِ التَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِيرِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ فَوَائِدَ كَثِيرَةٍ تُبْنَى عَلَيْهَا الأَْحْكَامُ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقُرْآنُ:
2 - الْقُرْآنُ: هُوَ الْكَلاَمُ الْمُنَزَّل عَلَى رَسُول اللَّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ، الْمَنْقُول إِلَيْنَا نَقْلاً مُتَوَاتِرًا (3) .
__________
(1) القاموس المحيط، والمعجم الوسيط مادة (قرأ) .
(2) إتحاف فضلاء البشر ص 5، وإبراز المعاني من حرز الأماني ص 12.
(3) إرشاد الفحول للشوكاني ص 29.

(33/41)


قَال الزَّرْكَشِيُّ: الْقُرْآنُ وَالْقِرَاءَاتُ حَقِيقَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ، فَالْقُرْآنُ هُوَ الْوَحْيُ الْمُنَزَّل عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْبَيَانِ وَالإِْعْجَازِ، وَالْقِرَاءَاتُ اخْتِلاَفُ أَلْفَاظِ الْوَحْيِ الْمَذْكُورِ، مِنَ الْحُرُوفِ وَكَيْفِيَّتِهَا مِنْ تَخْفِيفٍ وَتَشْدِيدٍ وَغَيْرِهِمَا (1) .

أَرْكَانُ الْقِرَاءَةِ الصَّحِيحَةِ:
3 - قَال ابْنُ الْجَزَرِيِّ: كُل قِرَاءَةٍ وَافَقَتِ الْعَرَبِيَّةَ - وَلَوْ بِوَجْهٍ - وَوَافَقَتْ أَحَدَ الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ - وَلَوِ احْتِمَالاً - وَصَحَّ سَنَدُهَا، فَهِيَ الْقِرَاءَةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي لاَ يَجُوزُ رَدُّهَا، وَلاَ يَحِل إِنْكَارُهَا، بَل هِيَ مِنَ الأَْحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي نَزَل بِهَا الْقُرْآنُ، وَوَجَبَ عَلَى النَّاسِ قَبُولُهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ عَنِ الأَْئِمَّةِ السَّبْعَةِ، أَمْ عَنِ الْعَشَرَةِ، أَمْ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الأَْئِمَّةِ الْمَقْبُولِينَ، وَمَتَى اخْتَل رُكْنٌ مِنْ هَذِهِ الأَْرْكَانِ الثَّلاَثَةِ، أُطْلِقَ عَلَيْهَا ضَعِيفَةً، أَوْ شَاذَّةً، أَوْ بَاطِلَةً، سَوَاءٌ كَانَتْ عَنِ السَّبْعَةِ، أَمْ عَمَّنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُمْ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَئِمَّةِ التَّحْقِيقِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
قَال أَبُو شَامَةَ: فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُغْتَرَّ بِكُل قِرَاءَةٍ تُعْزَى إِلَى أَحَدِ السَّبْعَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا لَفْظُ الصِّحَّةِ، وَأَنَّهَا أُنْزِلَتْ هَكَذَا، إِلاَّ إِذَا دَخَلَتْ فِي ذَلِكَ الضَّابِطِ، فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ
__________
(1) الإتقان في علوم القرآن 1 / 80، وإتحاف فضلاء البشر ص 5.

(33/42)


الْمَنْسُوبَةَ إِلَى كُل قَارِئٍ مِنَ السَّبْعَةِ وَغَيْرِهِمْ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ وَالشَّاذِّ، غَيْرَ أَنَّ هَؤُلاَءِ السَّبْعَةَ لِشُهْرَتِهِمْ وَكَثْرَةِ الصَّحِيحِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ فِي قِرَاءَتِهِمْ تَرْكَنُ النَّفْسُ إِلَى مَا نُقِل عَنْهُمْ فَوْقَ مَا يُنْقَل عَنْ غَيْرِهِمْ (1) .

الْفَرْقُ بَيْنَ الْقِرَاءَاتِ وَالرِّوَايَاتِ وَالطُّرُقِ:
4 - الْخِلاَفُ فِي الْقِرَاءَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إِلَى الإِْمَامِ، أَوْ إِلَى الرَّاوِي عَنِ الإِْمَامِ، أَوْ إِلَى الآْخِذِ عَنِ الرَّاوِي.
فَإِنْ كَانَ الْخِلاَفُ مَنْسُوبًا لإِِمَامٍ مِنَ الأَْئِمَّةِ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الرُّوَاةُ فَهُوَ قِرَاءَةٌ، وَإِنْ كَانَ مَنْسُوبًا لِلرَّاوِي عَنِ الإِْمَامِ فَهُوَ رِوَايَةٌ، وَكُل مَا نُسِبَ لِلآْخِذِ عَنِ الرَّاوِي وَإِنْ سَفَل فَهُوَ طَرِيقٌ.
وَهَذَا هُوَ الْخِلاَفُ الْوَاجِبُ، فَهُوَ عَيْنُ الْقِرَاءَاتِ وَالرِّوَايَاتِ وَالطُّرُقِ، بِمَعْنَى أَنَّ الْقَارِئَ مُلْزَمٌ بِالإِْتْيَانِ بِجَمِيعِهَا، فَلَوْ أَخَل بِشَيْءٍ مِنْهَا عُدَّ ذَلِكَ نَقْصًا فِي رِوَايَتِهِ.
وَأَمَّا الْخِلاَفُ الْجَائِزُ، فَهُوَ خِلاَفُ الأَْوْجُهِ الَّتِي عَلَى سَبِيل التَّخْيِيرِ وَالإِْبَاحَةِ، كَأَوْجُهِ الْبَسْمَلَةِ، وَأَوْجُهِ الْوَقْفِ عَلَى عَارِضِ السُّكُونِ، فَالْقَارِئُ مُخَيَّرٌ فِي الإِْتْيَانِ بِأَيِّ وَجْهٍ
__________
(1) النشر في القراءات العشر 1 / 9 ط. المكتبة التجارية الكبرى، والإتقان 1 / 75 ط. مصطفى الحلبي 1935 م، وإتحاف فضلاء البشر ص 6.

(33/42)


مِنْهَا، غَيْرُ مُلْزَمٍ بِالإِْتْيَانِ بِهَا كُلِّهَا، فَلَوْ أَتَى بِوَجْهٍ وَاحِدٍ مِنْهَا أَجْزَأَهُ، وَلاَ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ تَقْصِيرًا مِنْهُ، وَلاَ نَقْصًا فِي رِوَايَتِهِ.
وَهَذِهِ الأَْوْجُهُ الاِخْتِيَارِيَّةُ لاَ يُقَال لَهَا قِرَاءَاتٌ، وَلاَ رِوَايَاتٌ، وَلاَ طُرُقٌ، بَل يُقَال لَهَا أَوْجُهٌ فَقَطْ (1) .

أَنْوَاعُ الْقِرَاءَاتِ:
5 - قَال الإِْمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ: جَمِيعُ مَا رُوِيَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ يُقْرَأُ بِهِ الْيَوْمَ، وَذَلِكَ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ ثَلاَثُ خِلاَلٍ وَهُنَّ: أَنْ يُنْقَل عَنِ الثِّقَاتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكُونَ وَجْهُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَل بِهَا الْقُرْآنُ سَائِغًا، وَيَكُونَ مُوَافِقًا لِخَطِّ الْمُصْحَفِ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخِلاَل الثَّلاَثُ قُرِئَ بِهِ، وَقُطِعَ عَلَى مَغِيبِهِ وَصِحَّتِهِ وَصِدْقِهِ؛ لأَِنَّهُ أُخِذَ عَنْ إِجْمَاعٍ مِنْ جِهَةِ مُوَافَقَةِ خَطِّ الْمُصْحَفِ، وَكَفَرَ مَنْ جَحَدَهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا صَحَّ نَقْلُهُ عَنِ الآْحَادِ، وَصَحَّ وَجْهُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَخَالَفَ لَفْظُهُ خَطَّ الْمُصْحَفِ، فَهَذَا يُقْبَل وَلاَ يُقْرَأُ بِهِ لِعِلَّتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ بِإِجْمَاعٍ، إِنَّمَا أُخِذَ بِأَخْبَارِ الآْحَادِ، وَلاَ يَثْبُتُ قُرْآنٌ يُقْرَأُ بِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
__________
(1) إتحاف فضلاء البشر 17 - 18، والبدور الزاهرة ص 10.

(33/43)


وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا قَدْ أُجْمِعَ عَلَيْهِ، فَلاَ يُقْطَعُ عَلَى مَغِيبِهِ وَصِحَّتِهِ، وَمَا لَمْ يُقْطَعْ عَلَى صِحَّتِهِ لاَ يَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهِ، وَلاَ يَكْفُرُ مَنْ جَحَدَهُ، وَلَبِئْسَ مَا صَنَعَ إِذَا جَحَدَهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: هُوَ مَا نَقَلَهُ غَيْرُ ثِقَةٍ، أَوْ نَقَلَهُ ثِقَةٌ وَلاَ وَجْهَ لَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَهَذَا لاَ يُقْبَل وَإِنْ وَافَقَ خَطَّ الْمُصْحَفِ.
وَقَدْ نَقَل ابْنُ الْجَزَرِيِّ وَالسُّيُوطِيُّ كَلاَمَ أَبِي مُحَمَّدٍ مَكِّيٍّ (1) .
6 - وَتَنْقَسِمُ الْقِرَاءَاتُ مِنْ حَيْثُ السَّنَدُ إِلَى الأَْنْوَاعِ الآْتِيَةِ:
الأَْوَّل: الْمُتَوَاتِرُ، وَهُوَ مَا نَقَلَهُ جَمْعٌ لاَ يُمْكِنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، عَنْ مِثْلِهِمْ إِلَى مُنْتَهَاهُ، وَغَالِبُ الْقِرَاءَاتِ كَذَلِكَ.
الثَّانِي: الْمَشْهُورُ، وَهُوَ مَا صَحَّ سَنَدُهُ وَلَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْمُتَوَاتِرِ، وَوَافَقَ الْعَرَبِيَّةَ وَالرَّسْمَ، وَاشْتَهَرَ عِنْدَ الْقُرَّاءِ فَلَمْ يَعُدُّوهُ مِنَ الْغَلَطِ، وَلاَ مِنَ الشُّذُوذِ، وَيُقْرَأُ بِهِ، وَمِثَالُهُ مَا اخْتَلَفَتِ الطُّرُقُ فِي نَقْلِهِ عَنِ السَّبْعَةِ، فَرَوَاهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْهُمْ دُونَ بَعْضٍ.
الثَّالِثُ: الآْحَادُ، وَهُوَ مَا صَحَّ سَنَدُهُ، وَخَالَفَ الرَّسْمَ أَوِ الْعَرَبِيَّةَ، أَوْ لَمْ يَشْتَهِرِ
__________
(1) النشر في القراءات العشر 1 / 14 ط، المكتبة التجارية الكبرى. والإتقان في علوم القرآن 1 / 76 ط. مصطفى الحلبي 1935 م.

(33/43)


الاِشْتِهَارَ الْمَذْكُورَ، وَلاَ يُقْرَأُ بِهِ، وَقَدْ عَقَدَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ لِذَلِكَ بَابًا أَخْرَجَا فِيهِ شَيْئًا كَثِيرًا صَحِيحَ الإِْسْنَادِ.
الرَّابِعُ: الشَّاذُّ، وَهُوَ مَا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ.
الْخَامِسُ: الْمَوْضُوعُ، كَقِرَاءَاتِ الْخُزَاعِيِّ.
قَال السُّيُوطِيُّ: وَظَهَرَ لِي سَادِسٌ يُشْبِهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَدِيثِ الْمُدْرَجِ، وَهُوَ مَا زِيدَ فِي الْقِرَاءَاتِ عَلَى وَجْهِ التَّفْسِيرِ، كَقِرَاءَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمٍّ) (1) ، وَقِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ) (2)

الْقِرَاءَاتُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَالشَّاذَّةُ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُتَوَاتِرِ مِنَ الْقِرَاءَاتِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ، وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةَ هِيَ قِرَاءَاتُ قُرَّاءِ الإِْسْلاَمِ الْمَشْهُورِينَ الْعَشَرَةِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْقُرْآنُ الَّذِي تَجُوزُ بِهِ الصَّلاَةُ بِالاِتِّفَاقِ هُوَ الْمَضْبُوطُ فِي الْمَصَاحِفِ
__________
(1) قوله تعالى: (وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس) سورة النساء / 12.
(2) قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم) سورة البقرة / 198. انظر الإتقان في علوم القرآن 1 / 241، 242، 243 ط. دار ابن كثير 1987 م.

(33/44)


الأَْئِمَّةِ الَّتِي بَعَثَ بِهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الأَْمْصَارِ، وَهُوَ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الأَْئِمَّةُ الْعَشَرَةُ، وَهَذَا هُوَ الْمُتَوَاتِرُ جُمْلَةً وَتَفْصِيلاً، فَمَا فَوْقَ السَّبْعَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ غَيْرُ شَاذٍّ، وَإِنَّمَا الشَّاذُّ مَا وَرَاءَ الْعَشَرَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَقَال الْعَدَوِيُّ: الشَّاذُّ عِنْدَ ابْنِ السُّبْكِيِّ مَا وَرَاءَ الْعَشَرَةِ، وَعِنْدَ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي أُصُولِهِ مَا وَرَاءَ السَّبْعَةِ، وَقَوْل ابْنِ السُّبْكِيِّ هُوَ الصَّحِيحُ فِي الأُْصُول، وَقَوْل ابْنِ الْحَاجِبِ مَرْجُوعٌ فِيهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةَ هِيَ سَبْعٌ فَقَطْ، وَهِيَ قِرَاءَاتُ أَبِي عَمْرٍو، وَنَافِعٍ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَابْنِ عَامِرٍ، وَعَاصِمٍ، وَحَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ، وَمَا وَرَاءَ السَّبْعَةِ شَاذٌّ
وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الشَّاذَّ مَا وَرَاءَ الْعَشَرَةِ، وَصَوَّبَهُ ابْنُ السُّبْكِيِّ وَغَيْرُهُ (1) .

أَشْهَرُ الْقُرَّاءِ وَرُوَاتُهُمْ:
8 - الْقِرَاءَاتُ ثَلاَثَةُ أَصْنَافٍ، قِرَاءَاتٌ مُتَّفَقٌ عَلَى تَوَاتُرِهَا، وَقِرَاءَاتٌ مُخْتَلَفٌ فِي تَوَاتُرِهَا، وَقِرَاءَاتٌ شَاذَّةٌ.
فَأَصْحَابُ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَوَاتُرِهَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 326، وحاشية العدوي على الخرشي 2 / 25، وشرح روض الطالب 1 / 63، ومطالب أولي النهى 1 / 439، وكشاف القناع 1 / 345.

(33/44)


سَبْعَةٌ، وَهُمْ:
1 - نَافِعٌ الْمَدَنِيُّ: وَهُوَ أَبُو رُوَيْمٍ نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ اللَّيْثِيُّ وَرَاوِيَاهُ: قَالُونُ، وَوَرْشٌ.
2 - ابْنُ كَثِيرٍ: وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ الْمَكِّيُّ. وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ، وَرَاوِيَاهُ: الْبَزِّيُّ، وَقُنْبُلٌ.
3 - أَبُو عَمْرٍو الْبَصْرِيُّ: وَهُوَ زَبَّانُ بْنُ الْعَلاَءِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَازِنِيُّ الْبَصْرِيُّ، وَرَاوِيَاهُ: الدُّورِيُّ، وَالسُّوسِيُّ.
4 - ابْنُ عَامِرٍ الشَّامِيُّ: وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ الشَّامِيُّ الْيَحْصُبِيُّ، وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ، قَاضِي دِمَشْقَ فِي خِلاَفَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَيُكَنَّى أَبَا عِمْرَانَ، وَرَاوِيَاهُ: هِشَامٌ، وَابْنُ ذَكْوَانَ.
5 - عَاصِمٌ الْكُوفِيُّ: وَهُوَ عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ، وَيُقَال لَهُ ابْنُ بَهْدَلَةَ، وَيُكَنَّى أَبَا بَكْرٍ، وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ، وَرَاوِيَاهُ: شُعْبَةُ، وَحَفْصٌ.
6 - حَمْزَةُ الْكُوفِيُّ: وَهُوَ حَمْزَةُ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عُمَارَةَ الزَّيَّاتُ الْفَرَضِيُّ التَّيْمِيُّ، وَيُكَنَّى أَبَا عُمَارَةَ، وَرَاوِيَاهُ: خَلَفٌ، وَخَلاَّدٌ.
7 - الْكِسَائِيُّ الْكُوفِيُّ، وَهُوَ عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ النَّحْوِيُّ، وَيُكَنَّى أَبَا الْحَسَنِ، وَرَاوِيَاهُ: أَبُو الْحَارِثِ، وَحَفْصٌ الدُّورِيُّ.

(33/45)


وَأَصْحَابُ الْقِرَاءَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِي تَوَاتُرِهَا ثَلاَثَةٌ، وَهُمْ:
1 - أَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ: وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، وَرَاوِيَاهُ: ابْنُ وَرْدَانَ، وَابْنُ جَمَّازٍ.
2 - يَعْقُوبُ الْبَصْرِيُّ: وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ زَيْدٍ الْحَضْرَمِيُّ، وَرَاوِيَاهُ: رُوَيْسٌ، وَرَوْحٌ.
3 - خَلَفٌ: وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ خَلَفُ بْنُ هِشَامِ بْنِ ثَعْلَبٍ الْبَزَّازُ الْبَغْدَادِيُّ، وَرَاوِيَاهُ: إِسْحَاقُ، وَإِدْرِيسُ.

(وَأَصْحَابُ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ هُمْ:
1 - ابْنُ مَحِيصٍ: وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَكِّيُّ، وَرَاوِيَاهُ: الْبَزِّيُّ السَّابِقُ، وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ شَنَبُوذَ.
2 - الْيَزِيدِيُّ: وَهُوَ يَحْيَى بْنُ الْمُبَارَكِ، وَرَاوِيَاهُ: سُلَيْمَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَأَحْمَدُ بْنُ فَرْحٍ.
3 - الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَهُوَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ يَسَارٍ، وَرَاوِيَاهُ: شُجَاعُ بْنُ أَبِي نَصْرٍ الْبَلْخِيُّ، وَالدُّورِيُّ أَحَدُ رَاوِيَيْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلاَءِ.
4 - الأَْعْمَشُ: وَهُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ، وَرَاوِيَاهُ: الْحَسَنُ بْنُ سَعِيدٍ الْمُطَّوِّعِيُّ، وَأَبُو الْفَرَجِ الشَّبَنُوذِيُّ الشَّطَوِيُّ (1) .
__________
(1) النشر في القراءات 1 / 54، وإتحاف فضلاء البشر ص 7.

(33/45)


الْقِرَاءَةُ بِالْقِرَاءَاتِ فِي الصَّلاَةِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِالْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي الصَّلاَةِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَاخْتَارَ الْحَنَفِيَّةُ قِرَاءَةَ أَبِي عَمْرٍو، وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ.
وَاخْتَارَ الْحَنَابِلَةُ قِرَاءَةَ نَافِعٍ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيل بْنِ جَعْفَرٍ، ثُمَّ قِرَاءَةَ عَاصِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَيَّاشٍ (1) .
وَقَدْ تَمَّ تَفْصِيل ذَلِكَ، وَحُكْمُ الْقِرَاءَةِ بِالشَّاذِّ مِنَ الْقِرَاءَاتِ، فِي مُصْطَلَحِ: (قِرَاءَة) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 326، وحاشية العدوي على الخرشي 2 / 25، والمجموع شرح المهذب 3 / 392، وكشاف القناع 1 / 345.

(33/46)


قِرَاءَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْقِرَاءَةُ فِي اللُّغَةِ: التِّلاَوَةُ، يُقَال قَرَأَ الْكِتَابَ قِرَاءَةً وَقُرْآنًا: تَتَبَّعَ كَلِمَاتِهِ نَظَرًا، نَطَقَ بِهَا أَوْ لَمْ يَنْطِقْ.
وَقَرَأَ الآْيَةَ مِنَ الْقُرْآنِ: نَطَقَ بِأَلْفَاظِهَا عَنْ نَظَرٍ أَوْ عَنْ حِفْظٍ فَهُوَ قَارِئٌ، وَالْجَمْعُ قُرَّاءٌ، وَقَرَأَ السَّلاَمَ عَلَيْهِ قِرَاءَةً: أَبْلَغَهُ إِيَّاهُ، وَقَرَأَ الشَّيْءَ قُرْءًا وَقُرْآنًا: جَمَعَهُ وَضَمَّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ.
وَاقْتَرَأَ الْقُرْآنَ وَالْكِتَابَ: قَرَأَهُ، وَاسْتَقْرَأَهُ: طَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ، وَقَارَأَهُ مُقَارَأَةً وَقِرَاءً: دَارَسَهُ.
وَالْقَرَّاءُ: الْحَسَنُ الْقِرَاءَةِ (1) .
وَالْقِرَاءَةُ اصْطِلاَحًا: هِيَ تَصْحِيحُ الْحُرُوفِ بِلِسَانِهِ بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ، وَفِي قَوْلٍ وَإِنْ لَمْ يُسْمِعْ نَفْسَهُ (2) .
__________
(1) القاموس المحيط والمعجم الوسيط مادة (قرأ) .
(2) غنية المتملي في شرح منية المصلي 275 ط. دار سعادت 1325 هـ، وجواهر الإكليل 1 / 47، وشرح روض الطالب 1 / 150، وكشاف القناع 1 / 332.

(33/46)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التِّلاَوَةُ:
2 - التِّلاَوَةُ فِي اللُّغَةِ: الْقِرَاءَةُ، تَقُول: تَلَوْتُ الْقُرْآنَ تِلاَوَةً قَرَأْتَهُ، وَتَأْتِي بِمَعْنَى تَبِعَ، تَقُول: تَلَوْتُ الرَّجُل أَتْلُوهُ تُلُوًّا: تَبِعْتَهُ، وَتَتَالَتِ الأُْمُورُ: تَلاَ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَتَأْتِي بِمَعْنَى التَّرْكِ وَالْخِذْلاَنِ (1) .
وَالتِّلاَوَةُ اصْطِلاَحًا: هِيَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مُتَتَابِعَةً (2) .
وَفِي فُرُوقِ أَبِي هِلاَلٍ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالتِّلاَوَةِ: أَنَّ التِّلاَوَةَ لاَ تَكُونُ إِلاَّ لِكَلِمَتَيْنِ فَصَاعِدًا، وَالْقِرَاءَةُ تَكُونُ لِلْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، يُقَال قَرَأَ فُلاَنٌ اسْمَهُ، وَلاَ يُقَال تَلاَ اسْمَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ أَصْل التِّلاَوَةِ اتِّبَاعُ الشَّيْءِ الشَّيْءَ، يُقَال تَلاَهُ: إِذَا تَبِعَهُ، فَتَكُونُ التِّلاَوَةُ فِي الْكَلِمَاتِ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلاَ تَكُونُ فِي الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ إِذْ لاَ يَصِحُّ فِيهَا التُّلُوُّ (3) .
وَقَال صَاحِبُ الْكُلِّيَّاتِ: الْقِرَاءَةُ أَعَمُّ مِنَ التِّلاَوَةِ (4) .

ب - التَّرْتِيل:
3 - التَّرْتِيل فِي اللُّغَةِ: التَّمَهُّل وَالإِْبَانَةُ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة (تلو) .
(2) الكليات 2 / 95.
(3) الفروق لأبي هلال العسكري ص 48.
(4) الكليات 2 / 95.

(33/47)


يُقَال رَتَّل الْكَلاَمَ: أَحْسَنَ تَأْلِيفَهُ وَأَبَانَهُ وَتَمَهَّل فِيهِ.
وَالتَّرْتِيل فِي الْقِرَاءَةِ: التَّرَسُّل فِيهَا وَالتَّبْيِينُ مِنْ غَيْرِ بَغْيٍ (1) .
وَالتَّرْتِيل اصْطِلاَحًا: التَّأَنِّي فِي الْقِرَاءَةِ وَالتَّمَهُّل وَتَبْيِينُ الْحُرُوفِ وَالْحَرَكَاتِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالتَّرْتِيل عُمُومٌ وَخُصُوصٌ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقِرَاءَةِ
أَوَّلاً: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ:
أ - الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلاَةِ:
مَا يَجِبُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ:
4 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ، فَتَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي كُل رَكْعَةٍ مِنْ كُل صَلاَةٍ، فَرْضًا أَوْ نَفْلاً، جَهْرِيَّةً كَانَتْ أَوْ سِرِّيَّةً، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَفِي رِوَايَةٍ: لاَ تُجْزِئُ صَلاَةٌ لاَ يَقْرَأُ الرَّجُل فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. (3)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُكْنَ الْقِرَاءَةِ فِي
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) تفسير القرطبي 1 / 17 ط. دار الكتب المصرية، والمغرب 183.
(3) حديث: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 237) ، ومسلم (1 / 295) من حديث عبادة بن الصامت، والرواية الأخرى أخرجها الدارقطني (1 / 322) . وصحح إسنادها.

(33/47)


الصَّلاَةِ يَتَحَقَّقُ بِقِرَاءَةِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} . (1)
أَمَّا قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فَهِيَ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَة ف 38) .
وَيَقْصِدُونَ بِالآْيَةِ هُنَا الطَّائِفَةَ مِنَ الْقُرْآنِ مُتَرْجَمَةً - أَيِ اعْتُبِرَ لَهَا مَبْدَأٌ وَمَقْطَعٌ - وَأَقَلُّهَا سِتَّةُ أَحْرُفٍ وَلَوْ تَقْدِيرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَمْ يَلِدْ} . (2)
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: أَدْنَى مَا يُجْزِئُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ ثَلاَثُ آيَاتٍ قِصَارٍ أَوْ آيَةٌ طَوِيلَةٌ (3) .

مَا يُسَنُّ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ:
5 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقْرَأَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ.
كَمَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ قِرَاءَةَ أَقْصَرِ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ، فَإِنْ أَتَى بِهَا انْتَفَتِ الْكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِيَّةُ، أَمَّا مَا يَحْصُل بِهِ أَصْل السُّنَّةِ مِنَ الْقِرَاءَةِ فَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي
__________
(1) سورة المزمل / 20.
(2) سورة الإخلاص / 3.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 300، 360، وفتح القدير 1 / 234، وحاشية الدسوقي 1 / 231، 236، ومغني المحتاج 1 / 155، 156، وكشاف القناع 1 / 336، 386.

(33/48)


مُصْطَلَحِ: (صَلاَة ف 66) .
كَمَا سَبَقَ تَفْصِيل مَا يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقْرَأَهُ مِنَ الْمُفَصَّل فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَة ف 66) .
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمُفَصَّل:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ طِوَال الْمُفَصَّل مِنَ (الْحُجُرَاتِ) إِلَى (الْبُرُوجِ) ، وَالأَْوْسَاطَ مِنْهَا إِلَى (لَمْ يَكُنْ) ، وَالْقِصَارَ مِنْهَا إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ طِوَال الْمُفَصَّل مِنَ (الْحُجُرَاتِ) إِلَى (النَّازِعَاتِ) ، وَأَوْسَاطُهُ مِنْ (عَبَسَ) إِلَى (الضُّحَى) ، وَقِصَارُهُ مِنَ (الضُّحَى) إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: طِوَال الْمُفَصَّل كَالْحُجُرَاتِ وَاقْتَرَبَتْ وَالرَّحْمَنُ، وَأَوْسَاطُهُ كَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْل إِذَا يَغْشَى، وَقِصَارُهُ كَالْعَصْرِ وَقُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَوَّل الْمُفَصَّل سُورَةُ ق، لِحَدِيثِ أَوْسِ بْنِ حُذَيْفَةَ قَال: " سَأَلْتُ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ؟ قَالُوا: ثَلاَثٌ وَخَمْسٌ، وَسَبْعٌ، وَتِسْعٌ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ، وَثَلاَثَ عَشْرَةَ، وَحِزْبُ الْمُفَصَّل وَحْدَهُ ". (1)
قَالُوا: وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أَوَّل الْمُفَصَّل
__________
(1) حديث أوس بن حذيفة: سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه أبو داود (2 / 116) .

(33/48)


السُّورَةُ التَّاسِعَةُ وَالأَْرْبَعُونَ مِنْ أَوَّل الْبَقَرَةِ لاَ مِنَ الْفَاتِحَةِ.
وَآخِرَ طِوَالِهِ سُورَةُ عَمَّ، وَأَوْسَاطَهُ مِنْهَا لِلضُّحَى، وَقِصَارَهُ مِنْهَا لآِخِرِ الْقُرْآنِ (1) .

مَا يُكْرَهُ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَمَا يَجُوزُ فِي الصَّلاَةِ:
6 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ سُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ فِي الصَّلاَةِ، بَل اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيَّةُ قِرَاءَةَ السَّجْدَةِ وَالإِْنْسَانِ فِي صُبْحِ الْجُمُعَةِ، وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تُسْتَحَبُّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِمَا لِيُعْرَفَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ.
قَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُكْرَهُ مُلاَزَمَةُ سُورَةٍ يُحْسِنُ غَيْرَهَا مَعَ اعْتِقَادِهِ جَوَازَ غَيْرِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يُوَقِّتَ بِشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ لِشَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ كَالسَّجْدَةِ وَالإِْنْسَانِ لِفَجْرِ الْجُمُعَةِ، وَالْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ لِلْجُمُعَةِ.
قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: الْمُدَاوَمَةُ مُطْلَقًا مَكْرُوهَةٌ سَوَاءٌ رَآهُ حَتْمًا يُكْرَهُ غَيْرُهُ أَوْ لاَ، لإِِيهَامِهِ التَّعْيِينَ، كَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْرَأَ بِذَلِكَ أَحْيَانًا تَبَرُّكًا بِالْمَأْثُورِ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 362، وتبيين الحقائق 1 / 129، وحاشية الدسوقي 1 / 242، 247، والخرشي على خليل 1 / 274، وشرح روض الطالب 1 / 154، ومغني المحتاج 1 / 161، وكشاف القناع 1 / 342، ومطالب أولي النهى 1 / 435، 436.
(2) فتح القدير 1 / 238، حاشية الدسوقي 1 / 242، مغني المحتاج 1 / 163، شرح روض الطالب 1 / 155، كشاف القناع 1 / 374.

(33/49)


وَكَرِهَ مَالِكٌ الاِقْتِصَارَ عَلَى بَعْضِ السُّورَةِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.
كَمَا يُكْرَهُ عِنْدَ الأَْكْثَرِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَقْرَأَ آخِرَ سُورَةٍ فِي كُل رَكْعَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ آخِرَ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ قِرَاءَةُ بَعْضِ السُّورَةِ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} (1) ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ يَقْرَأُ فِي الأُْولَى مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِل إِلَيْنَا} (2) وَفِي الثَّانِيَةِ قَوْله تَعَالَى: {قُل يَا أَهْل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} . (3)
لَكِنْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ السُّورَةَ الْكَامِلَةَ أَفْضَل مِنْ قَدْرِهَا مِنْ طَوِيلَةٍ؛ لأَِنَّ الاِبْتِدَاءَ بِهَا وَالْوَقْفَ عَلَى آخِرِهَا صَحِيحَانِ بِالْقَطْعِ بِخِلاَفِهِمَا فِي بَعْضِ السُّورَةِ، فَإِنَّهُمَا يَخْفَيَانِ، وَمَحَلُّهُ فِي غَيْرِ التَّرَاوِيحِ، أَمَّا فِيهَا فَقِرَاءَةُ بَعْضِ الطَّوِيلَةِ أَفْضَل، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ السُّنَّةَ فِيهَا الْقِيَامُ بِجَمِيعِ الْقُرْآنِ، بَل صَرَّحُوا بِأَنَّ كُل مَحَلٍّ وَرَدَ فِيهِ الأَْمْرُ بِالْبَعْضِ فَالاِقْتِصَارُ عَلَيْهِ أَفْضَل كَقِرَاءَةِ آيَتَيِ الْبَقَرَةِ وَآل عِمْرَانَ فِي
__________
(1) سورة المزمل / 20.
(2) سورة البقرة / 136.
(3) سورة آل عمران / 64، والحديث أخرجه مسلم (1 / 502) .

(33/49)


رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا قَرَأَ الْمُصَلِّي سُورَةً وَاحِدَةً فِي رَكْعَتَيْنِ فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ، لَكِنْ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَل، وَلَوْ فَعَل لاَ بَأْسَ بِهِ.
وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِكَرَاهَةِ الاِنْتِقَال مِنْ آيَةٍ مِنْ سُورَةٍ إِلَى آيَةٍ مِنْ سُورَةٍ أُخْرَى، أَوْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَبَيْنَهُمَا آيَاتٌ (2) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ قِرَاءَةِ كُل الْقُرْآنِ فِي فَرْضٍ وَاحِدٍ لِعَدَمِ نَقْلِهِ وَلِلإِْطَالَةِ، وَلاَ تُكْرَهُ قِرَاءَتُهُ كُلِّهِ فِي نَفْلٍ؛ لأَِنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ، وَلاَ تُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ كُلِّهِ فِي الْفَرَائِضِ عَلَى تَرْتِيبِهِ.
قَال حَرْبٌ: قُلْتُ لأَِحْمَدَ: الرَّجُل يَقْرَأُ عَلَى التَّأْلِيفِ فِي الصَّلاَةِ، الْيَوْمَ سُورَةً وَغَدًا الَّتِي تَلِيهَا؟ قَال: لَيْسَ فِي هَذَا شَيْءٌ، إِلاَّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ فَعَل ذَلِكَ فِي الْمُفَصَّل وَحْدَهُ (3) .

مَا يَحْرُمُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ:
7 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَوْ تَرَكَ تَرْتِيبَ السُّوَرِ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مَعَ كَوْنِهِ وَاجِبًا؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ وَاجِبًا أَصْلِيًّا مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ (4) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 242، وحاشية الدسوقي 1 / 242، ومغني المحتاج 1 / 162، كشاف القناع 1 / 374.
(2) فتح القدير 1 / 242 - 243.
(3) كشاف القناع 1 / 375.
(4) ابن عابدين 1 / 497.

(33/50)


وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِحُرْمَةِ تَنْكِيسِ الآْيَاتِ الْمُتَلاَصِقَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّهُ يُبْطِل الصَّلاَةَ؛ لأَِنَّهُ كَكَلاَمٍ أَجْنَبِيٍّ (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَاتِحَةِ مُرَتَّبَةً فَإِذَا بَدَأَ بِنِصْفِهَا الثَّانِي لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ بَدَأَ بِهِ عَامِدًا أَمْ سَاهِيًا وَيَسْتَأْنِفُ الْقِرَاءَةَ. هَذَا مَا لَمْ يُغَيِّرِ الْمَعْنَى. فَإِنْ غَيَّرَ الْمَعْنَى بَطَلَتْ صَلاَتُهُ (2) .
كَمَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِحُرْمَةِ تَنْكِيسِ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ وَتَبْطُل الصَّلاَةُ بِهِ، قَالُوا: لأَِنَّهُ يَصِيرُ بِإِخْلاَل نَظْمِهِ كَلاَمًا أَجْنَبِيًّا يُبْطِل الصَّلاَةَ عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ، كَمَا صَرَّحُوا بِحُرْمَةِ الْقِرَاءَةِ عَمَّا يَخْرُجُ عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ لِعَدَمِ تَوَاتُرِهِ وَلاَ تَصِحُّ صَلاَتُهُ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: قَال فِي شَرْحِ الْفُرُوعِ " وَظَاهِرُهُ وَلَوْ وَافَقَ قِرَاءَةَ أَحَدٍ مِنَ الْعَشَرَةِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ " (3)

الْجَهْرُ وَالإِْسْرَارُ فِي الْقِرَاءَةِ:
8 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَجْهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ الْجَهْرِيَّةِ: كَالصُّبْحِ وَالْجُمُعَةِ وَالأُْولَيَيْنِ مِنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَيُسِرُّ فِي الصَّلاَةِ السِّرِّيَّةِ.
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 242.
(2) حاشية القليوبي وعميرة 1 / 149، وروض الطالب 1 / 151.
(3) كشاف القناع 1 / 345.

(33/50)


وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْجَهْرِ عَلَى الإِْمَامِ فِي الصَّلاَةِ الْجَهْرِيَّةِ وَالإِْسْرَارِ فِي الصَّلاَةِ غَيْرِ الْجَهْرِيَّةِ (1) .
كَمَا يُسَنُّ لِلْمُنْفَرِدِ الْجَهْرُ فِي الصُّبْحِ وَالأُْولَيَيْنِ مِنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ يُخَيَّرُ فِيمَا يَجْهَرُ بِهِ إِنْ شَاءَ جَهَرَ وَإِنْ شَاءَ خَافَتْ، وَالْجَهْرُ أَفْضَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (جَهْر ف 7) .
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لاِعْتِبَارِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يُسْمِعَ الْقَارِئُ نَفْسَهُ، فَلاَ تَكْفِي حَرَكَةُ اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ إِسْمَاعٍ؛ لأَِنَّ مُجَرَّدَ حَرَكَةِ اللِّسَانِ لاَ يُسَمَّى قِرَاءَةً بِلاَ صَوْتٍ؛ لأَِنَّ الْكَلاَمَ اسْمٌ لِمَسْمُوعٍ مَفْهُومٍ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْهِنْدُوَانِيِّ وَالْفَضْلِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَرَجَّحَهُ الْمَشَايِخُ.
وَاخْتَارَ الْكَرْخِيُّ عَدَمَ اعْتِبَارِ السَّمَاعِ؛ لأَِنَّ الْقِرَاءَةَ فِعْل اللِّسَانِ وَذَلِكَ بِإِقَامَةِ الْحُرُوفِ دُونَ الصِّمَاخِ؛ لأَِنَّ السَّمَاعَ فِعْل السَّامِعِ لاَ الْقَارِئِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا.
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 126، 127، وحاشية الدسوقي 1 / 242، 243، ومغني المحتاج 1 / 162، وكشاف القناع 1 / 332.
(2) المراجع السابقة، وكشاف القناع 1 / 343.

(33/51)


وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ وَتَكْفِي عِنْدَهُمْ حَرَكَةُ اللِّسَانِ، أَمَّا إِجْرَاؤُهَا عَلَى الْقَلْبِ دُونَ تَحْرِيكِ اللِّسَانِ فَلاَ يَكْفِي، لَكِنْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ إِسْمَاعَ نَفْسِهِ أَوْلَى مُرَاعَاةً لِمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ (1) .

اللَّحْنُ فِي الْقِرَاءَةِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّحْنَ فِي الْقِرَاءَةِ إِنْ كَانَ لاَ يُغَيِّرُ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّ وَتَصِحُّ الصَّلاَةُ مَعَهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي اللَّحْنِ الَّذِي يُغَيِّرُ الْمَعْنَى.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ اللَّحْنَ إِنْ غَيَّرَ الْمَعْنَى تَغْيِيرًا فَاحِشًا بِأَنْ قَرَأَ: {وَعَصَى آدَمَ رَبُّهُ} (2) ، بِنَصَبِ الْمِيمِ وَرَفْعِ الرَّبِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ - مِمَّا لَوْ تَعَمَّدَ بِهِ يَكْفُرُ - إِذَا قَرَأَهُ خَطَأً فَسَدَتْ صَلاَتُهُ فِي قَوْل الْمُتَقَدِّمِينَ.
وَقَال الْمُتَأَخِّرُونَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، وَأَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَّمٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلْخِيُّ، وَالْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْل، وَالشَّيْخُ الإِْمَامُ الزَّاهِدُ وَشَمْسُ الأَْئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ.
وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: مَا قَالَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ
__________
(1) غنية المتملي 275، وفتح القدير 1 / 233، وجواهر الإكليل 1 / 47، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 237، ومغني المحتاج 1 / 156، وكشاف القناع 1 / 332.
(2) والآية (وعصى آدم ربه فغوى) سورة طه / 121.

(33/51)


أَحْوَطُ؛ لأَِنَّهُ لَوْ تَعَمَّدَ يَكُونُ كُفْرًا، وَمَا يَكُونُ كُفْرًا لاَ يَكُونُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمَا قَالَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ أَوْسَعُ؛ لأَِنَّ النَّاسَ لاَ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ إِعْرَابٍ وَإِعْرَابٍ، وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْل الْمُتَأَخِّرِينَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ اللَّحْنَ وَلَوْ غَيَّرَ الْمَعْنَى لاَ يُبْطِل الصَّلاَةَ، وَسَوَاءٌ ذَلِكَ فِي الْفَاتِحَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ اللَّحْنَ إِذَا كَانَ يُغَيِّرُ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّ فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ إِلاَّ إِذَا كَانَ عَامِدًا عَالِمًا قَادِرًا، وَأَمَّا فِي الْفَاتِحَةِ فَإِنْ قَدَرَ وَأَمْكَنَهُ التَّعَلُّمُ لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ، وَإِلاَّ فَصَلاَتُهُ صَحِيحَةٌ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ اللَّحْنَ إِنْ كَانَ يُحِيل الْمَعْنَى فَإِنْ كَانَ لَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى إِصْلاَحِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ، لأَِنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ كَوْنِهِ قُرْآنًا، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ إِصْلاَحِهِ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ فَقَطِ الَّتِي هِيَ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ لِحَدِيثِ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (1) ، وَلاَ يَقْرَأُ مَا زَادَ عَنِ الْفَاتِحَةِ، فَإِنْ قَرَأَ عَامِدًا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ وَيَكْفُرُ إِنِ اعْتَقَدَ إِبَاحَتَهُ، وَإِنْ قَرَأَ نِسْيَانًا أَوْ جَهْلاً أَوْ خَطَأً لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ (2) .
__________
(1) حديث: " إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم " أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 251) ، ومسلم (2 / 975) .
(2) الفتاوى الهندية 1 / 81، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 236، والقليوبي وعميرة 1 / 231، وكشاف القناع 1 / 481، والإنصاف 2 / 270.

(33/52)


قِرَاءَةُ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الإِْمَامِ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الإِْمَامِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجِبُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمَأْمُومِ سَوَاءٌ كَانَتِ الصَّلاَةُ جَهْرِيَّةً أَوْ سِرِّيَّةً لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الإِْمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ (1) ، قَال ابْنُ قُنْدُسٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قِرَاءَةَ الإِْمَامِ إِنَّمَا تَقُومُ عَنْ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ إِذَا كَانَتْ صَلاَةُ الإِْمَامِ صَحِيحَةً، احْتِزَازًا عَنِ الإِْمَامِ إِذَا كَانَ مُحْدِثًا أَوْ نَجِسًا وَلَوْ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَقُلْنَا بِصِحَّةِ صَلاَةِ الْمَأْمُومِ، فَإِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ لِعَدَمِ صِحَّةِ صَلاَةِ الإِْمَامِ، فَتَكُونُ قِرَاءَتُهُ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى رُكْنِ الصَّلاَةِ فَلاَ تَسْقُطُ عَنِ الْمَأْمُومِ.
وَهَذَا ظَاهِرٌ، لَكِنْ لَمْ أَجِدْ مِنْ أَعْيَانِ مَشَايِخِ الْمَذْهَبِ مَنِ اسْتَثْنَاهُ. نَعَمْ وَجَدْتُهُ فِي بَعْضِ كَلاَمِ الْمُتَأَخِّرِينَ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: وَظَاهِرُ كَلاَمِ الأَْشْيَاخِ وَالأَْخْبَارِ خِلاَفُهُ لِلْمَشَقَّةِ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي السِّرِّيَّةِ.
__________
(1) حديث: " من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة " أخرجه ابن ماجه (1 / 277) من حديث جابر بن عبد الله، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 175) .

(33/52)


وَعَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهَا تَجِبُ فِي صَلاَةِ السِّرِّ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ قَال بِلُزُومِهَا لِلْمَأْمُومِ فِي السِّرِّيَّةِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ لاَ يَقْرَأُ مُطْلَقًا خَلْفَ الإِْمَامِ حَتَّى فِي الصَّلاَةِ السِّرِّيَّةِ، وَيُكْرَهُ تَحْرِيمًا أَنْ يَقْرَأَ خَلْفَ الإِْمَامِ، فَإِنْ قَرَأَ صَحَّتْ صَلاَتُهُ فِي الأَْصَحِّ.
قَالُوا: وَيَسْتَمِعُ الْمَأْمُومُ إِذَا جَهَرَ الإِْمَامُ وَيُنْصِتُ إِذَا أَسَرَّ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ خَلْفَهُ قَوْمٌ، فَنَزَلَتْ {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} .
(2) قَال أَحْمَدُ: أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الآْيَةَ فِي الصَّلاَةِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْبَحْرِ: وَحَاصِل الآْيَةِ: أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِهَا أَمْرَانِ: الاِسْتِمَاعُ وَالسُّكُوتُ فَيُعْمَل بِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَالأَْوَّل يُخَصُّ بِالْجَهْرِيَّةِ وَالثَّانِي لاَ، فَيَجْرِي عَلَى إِطْلاَقِهِ فَيَجِبُ السُّكُوتُ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَال: لاَ قِرَاءَةَ مَعَ الإِْمَامِ فِي شَيْءٍ.
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 236 - 237، والخرشي على خليل 1 / 269، وكشاف القناع 1 / 386، والإنصاف 2 / 228.
(2) حديث ابن عباس: " صلى النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه ابن مردويه كما في الدر المنثور للسيوطي (3 / 155) . والآية من سورة الأعراف / 204.

(33/53)


وَمَنْعُ الْمُؤْتَمِّ مِنَ الْقِرَاءَةِ مَأْثُورٌ عَنْ ثَمَانِينَ نَفَرًا مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ؛ وَلأَِنَّ الْمَأْمُومَ مُخَاطَبٌ بِالاِسْتِمَاعِ إِجْمَاعًا فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ مَا يُنَافِيهِ، إِذْ لاَ قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، فَصَارَ نَظِيرَ الْخُطْبَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا أُمِرَ بِالاِسْتِمَاعِ لاَ يَجِبُ عَلَى كُل وَاحِدٍ أَنْ يَخْطُبَ لِنَفْسِهِ بَل لاَ يَجُوزُ، فَكَذَا هَذَا (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ فِي الصَّلاَةِ مُطْلَقًا سِرِّيَّةً كَانَتْ أَوْ جَهْرِيَّةً (2) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ (3) ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُجْزِئُ صَلاَةٌ لاَ يَقْرَأُ الرَّجُل فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. (4)
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ حَال جَهْرِ الإِْمَامِ، وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ حَال مَا إِذَا كَانَ يَخَافُ فَوْتَ بَعْضِ الْفَاتِحَةِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ إِمَامَهُ لاَ يَقْرَأُ السُّورَةَ أَوْ إِلاَّ سُورَةً قَصِيرَةً وَلاَ يَتَمَكَّنُ مِنْ إِتْمَامِ الْفَاتِحَةِ فَإِنَّهُ يَقْرَؤُهَا مَعَ الإِْمَامِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَقْرَأَ فِي سَكَتَاتِ الإِْمَامِ أَوْ إِذَا كَانَ لاَ يَسْمَعُ الإِْمَامَ
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 131، وحاشية ابن عابدين 1 / 366.
(2) مغني المحتاج 1 / 156، وشرح روض الطالب 1 / 149.
(3) حديث: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " تقدم فقرة 4.
(4) حديث: " لا تجزئ صلاة لا يقرأ الرجل فيها. . . ". تقدم ف 4.

(33/53)


لِبُعْدِهِ أَوْ لِصَمَمٍ.
قَال الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي سَكَتَاتِ الإِْمَامِ الْفَاتِحَةَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: مُقْتَضَى نُصُوصِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِغَيْرِ الْفَاتِحَةِ أَفْضَل.
قَال فِي جَامِعِ الاِخْتِيَارَاتِ: مُقْتَضَى هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ غَيْرُهَا أَفْضَل إِذَا سَمِعَهَا وَإِلاَّ فَهِيَ أَفْضَل مِنْ غَيْرِهَا (1) .

الْقِرَاءَةُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَل، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ (2) .
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: نَهَانِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَأَنَا رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ. (3)
وَلأَِنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ حَالَتَا ذُلٍّ فِي
__________
(1) البجيرمي على الخطيب 1 / 58، والإنصاف 2 / 229 وما بعدها.
(2) حديث: " ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا. . . " أخرجه مسلم (1 / 348) من حديث ابن عباس.
(3) حديث: " نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن وأنا راكع أو ساجد " أخرجه مسلم (1 / 349) .

(33/54)


الظَّاهِرِ، وَالْمَطْلُوبُ مِنَ الْقَارِئِ التَّلَبُّسُ بِحَالَةِ الرِّفْعَةِ وَالْعَظَمَةِ ظَاهِرًا تَعْظِيمًا لِلْقُرْآنِ.
قَال الزَّرْكَشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: مَحَل الْكَرَاهَةِ مَا إِذَا قَصَدَ بِهَا الْقِرَاءَةَ، فَإِنْ قَصَدَ بِهَا الدُّعَاءَ وَالثَّنَاءَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَمَا لَوْ قَنَتَ بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ (1) .

قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الصَّلاَةِ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الصَّلاَةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ عَجَزَ وَتَفْسُدُ بِذَلِكَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلاَةِ، فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَال: أَقْرَأَنِيهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: كَذَبْتَ. فَإِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 440، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 253، وشرح روض الطالب 1 / 157، والمجموع شرح المهذب للنووي 3 / 414، وكشاف القناع 1 / 348.

(33/54)


إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ. ثُمَّ قَال: اقْرَأْ يَا عُمَرُ، فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِل عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ. (1)
قَال النَّوَوِيُّ: فَلَوْ جَازَتِ التَّرْجَمَةُ لأََنْكَرَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتِرَاضَهُ فِي شَيْءٍ جَائِزٍ.
وَلأَِنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ قُرْآنًا؛ لأَِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ هَذَا النَّظْمُ الْمُعْجِزُ، وَبِالتَّرْجَمَةِ يَزُول الإِْعْجَازُ فَلَمْ تَجُزْ، وَكَمَا أَنَّ الشِّعْرَ يُخْرِجُهُ تَرْجَمَتُهُ عَنْ كَوْنِهِ شِعْرًا فَكَذَا الْقُرْآنُ إِضَافَةً إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ مَبْنَاهَا عَلَى التَّعَبُّدِ وَالاِتِّبَاعِ وَالنَّهْيِ عَنِ الاِخْتِرَاعِ، وَطَرِيقُ الْقِيَاسِ مَفْسَدَةٌ فِيهَا (2) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلاَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَبِأَيِّ لِسَانٍ آخَرَ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَْوَّلِينَ} (3) ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا بِهَذَا النَّظْمِ، وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُْولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ
__________
(1) حديث عمر بن الخطاب: " سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 23) .
(2) المجموع شرح المهذب للنووي 3 / 379 - 381، وكشاف القناع 1 / 340.
(3) سورة الشعراء / 196.

(33/55)


وَمُوسَى} (1) ، فَصُحُفُ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، وَصُحُفُ مُوسَى بِالْعِبْرَانِيَّةِ فَدَل عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ قُرْآنًا؛ لأَِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ النَّظْمُ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا حَيْثُ وَقَعَ الإِْعْجَازُ بِهِمَا، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَل النَّظْمَ رُكْنًا لاَزِمًا فِي حَقِّ جَوَازِ الصَّلاَةِ خَاصَّةً رُخْصَةً؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ بِحَالَةِ الإِْعْجَازِ، وَقَدْ جَاءَ التَّخْفِيفُ فِي حَقِّ التِّلاَوَةِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِل عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَكَذَا هُنَا.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ إِذَا كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ؛ لأَِنَّ الْقُرْآنَ اسْمٌ لِمَنْظُومٍ عَرَبِيٍّ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (2) ، وَقَال تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (3) ، وَالْمُرَادُ نَظْمُهُ، وَلأَِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْمُنَزَّل بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ الْمَنْظُومِ هَذَا النَّظْمَ الْخَاصَّ الْمَكْتُوبِ فِي الْمَصَاحِفِ الْمَنْقُول إِلَيْنَا نَقْلاً مُتَوَاتِرًا، وَالأَْعْجَمِيُّ إِنَّمَا يُسَمَّى قُرْآنًا مَجَازًا وَلِذَا يَصِحُّ نَفْيُ اسْمِ الْقُرْآنِ عَنْهُ.
وَالْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْل الصَّاحِبَيْنِ، وَيُرْوَى رُجُوعُ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى قَوْلِهِمَا.
__________
(1) سورة الأعلى / 19.
(2) سورة الزخرف / 3.
(3) سورة يوسف / 2.

(33/55)


قَال الشَّلَبِيُّ نَقْلاً عَنِ الْعَيْنِيِّ: صَحَّ رُجُوعُ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى قَوْلِهِمَا.
وَقَدِ اتَّفَقَ الثَّلاَثَةُ - أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ - عَلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَصِحَّةِ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْقِرَاءَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ (1) .

الْقِرَاءَةُ بِالْمُتَوَاتِرِ وَالشَّاذِّ مِنَ الْقِرَاءَاتِ:
13 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِالْمُتَوَاتِرِ مِنَ الْقِرَاءَاتِ فِي الصَّلاَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِرَاءَاتِ غَيْرِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (قِرَاءَات ف 7) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الأَْوْلَى أَنْ لاَ يَقْرَأَ بِالرِّوَايَاتِ الْغَرِيبَةِ وَالإِْمَالاَتِ عِنْدَ الْعَوَامِّ صِيَانَةً لِدِينِهِمْ؛ لأَِنَّ بَعْضَ السُّفَهَاءِ يَقُولُونَ مَا لاَ يَعْلَمُونَ فَيَقَعُونَ فِي الإِْثْمِ وَالشَّقَاءِ، وَلاَ يَنْبَغِي لِلأَْئِمَّةِ أَنْ يَحْمِلُوا الْعَوَامَّ عَلَى مَا فِيهِ نُقْصَانُ دِينِهِمْ فَلاَ يُقْرَأُ عِنْدَهُمْ مِثْل قِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَعَلِيِّ بْنِ حَمْزَةَ، إِذْ لَعَلَّهُمْ يَسْتَخِفُّونَ وَيَضْحَكُونَ وَإِنْ كَانَ كُل الْقِرَاءَاتِ وَالرِّوَايَاتِ صَحِيحَةً فَصِيحَةً.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَمَشَايِخُنَا اخْتَارُوا قِرَاءَةَ أَبِي عَمْرٍو حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ الصَّلاَةِ بِقِرَاءَةِ
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 109 - 110، وحاشية ابن عابدين 1 / 325.

(33/56)


مَا وَافَقَ الْمُصْحَفَ الْعُثْمَانِيَّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْعَشَرَةِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مُصْحَفِ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ.
زَادَ فِي الرِّعَايَةِ: وَصَحَّ سَنَدُهُ عَنْ صَحَابِيٍّ، قَال فِي شَرْحِ الْفُرُوعِ: وَلاَ بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ.
وَكَرِهَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ قِرَاءَةَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْكَسْرِ وَالإِْدْغَامِ وَزِيَادَةِ الْمَدِّ، وَأَنْكَرَهَا بَعْضُ السَّلَفِ كَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ.
وَاخْتَارَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ قِرَاءَةَ نَافِعٍ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيل بْنِ جَعْفَرٍ، ثُمَّ قِرَاءَةَ عَاصِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَيَّاشٍ.
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي الْقِرَاءَةِ بِالشَّاذِّ مِنَ الْقِرَاءَاتِ فِي الصَّلاَةِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَفْسُدُ بِقِرَاءَةِ الشَّاذِّ، وَلَكِنْ لاَ تُجْزِئُهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَمِنْ ثَمَّ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ إِذَا لَمْ يَقْرَأْ مَعَهُ بِالتَّوَاتُرِ، فَالْفَسَادُ لِتَرْكِهِ الْقِرَاءَةَ بِالْمُتَوَاتِرِ لاَ لِلْقِرَاءَةِ بِالشَّاذِّ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى حُرْمَةِ الْقِرَاءَةِ بِالشَّاذِّ مِنَ الْقِرَاءَاتِ، لَكِنْ لاَ تَبْطُل الصَّلاَةُ بِالشَّاذِّ إِلاَّ إِذَا خَالَفَ الْمُصْحَفَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلاَةِ بِالشَّاذِّ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ قُرْآنًا، فَإِنَّ الْقُرْآنَ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِالتَّوَاتُرِ، وَتَبْطُل بِهِ الصَّلاَةُ إِنْ غَيَّرَ الْمَعْنَى فِي الْفَاتِحَةِ.

(33/56)


وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ حُرْمَةُ قِرَاءَةِ مَا خَرَجَ عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ وَلَوْ وَافَقَ قِرَاءَةَ أَحَدٍ مِنَ الْعَشَرَةِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَلاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ بِهِ.
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ: يُكْرَهُ أَنْ يُقْرَأَ بِمَا يَخْرُجُ عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَصِحُّ صَلاَتُهُ إِذَا صَحَّ سَنَدُهُ، لأَِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُصَلُّونَ بِقِرَاءَاتِهِمْ فِي عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَهُ، وَكَانَتْ صَلاَتُهُمْ صَحِيحَةً بِغَيْرِ شَكٍّ (1) .

الْقِرَاءَةُ مِنَ الْمُصْحَفِ فِي الصَّلاَةِ:
14 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ مِنَ الْمُصْحَفِ فِي الصَّلاَةِ، قَال أَحْمَدُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ الْقِيَامَ وَهُوَ يَنْظُرُ فِي الْمُصْحَفِ، قِيل لَهُ: الْفَرِيضَةُ؟ قَال: لَمْ أَسْمَعْ فِيهَا شَيْئًا.
وَسُئِل الزُّهْرِيُّ عَنْ رَجُلٍ يَقْرَأُ فِي رَمَضَانَ فِي الْمُصْحَفِ، فَقَال: كَانَ خِيَارُنَا يَقْرَءُونَ فِي الْمَصَاحِفِ.
وَفِي شَرْحِ رَوْضِ الطَّالِبِ لِلشَّيْخِ زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيِّ: قَرَأَ فِي مُصْحَفٍ وَلَوْ قَلَّبَ أَوْرَاقَهُ أَحْيَانًا لَمْ تَبْطُل - أَيِ الصَّلاَةُ - لأَِنَّ ذَلِكَ يَسِيرٌ
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 326، 363 - 364، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 328، وحاشية العدوي على شرح الخرشي 2 / 25، والمجموع شرح المهذب 3 / 392، وشرح روض الطالب 1 / 63، 151، والبجيرمي على الخطيب 2 / 22، وكشاف القناع 1 / 345.

(33/57)


أَوْ غَيْرُ مُتَوَالٍ لاَ يُشْعِرُ بِالإِْعْرَاضِ، وَالْقَلِيل مِنَ الْفِعْل الَّذِي يُبْطِل كَثِيرُهُ إِذَا تَعَمَّدَهُ بِلاَ حَاجَةٍ مَكْرُوهٌ (1) .
وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ الْقِرَاءَةَ مِنَ الْمُصْحَفِ فِي صَلاَةِ الْفَرْضِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ فِي أَوَّلِهِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ، وَفَرَّقُوا فِي صَلاَةِ النَّفْل بَيْنَ الْقِرَاءَةِ مِنَ الْمُصْحَفِ فِي أَثْنَائِهَا وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ فِي أَوَّلِهَا، فَكَرِهُوا الْقِرَاءَةَ مِنَ الْمُصْحَفِ فِي أَثْنَائِهَا لِكَثْرَةِ اشْتِغَالِهِ بِهِ، وَجَوَّزُوا الْقِرَاءَةَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ فِي أَوَّلِهَا؛ لأَِنَّهُ يُغْتَفَرُ فِيهَا مَا لاَ يُغْتَفَرُ فِي الْفَرْضِ (2) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى فَسَادِ الصَّلاَةِ بِالْقِرَاءَةِ مِنَ الْمُصْحَفِ مُطْلَقًا، قَلِيلاً كَانَ أَوْ كَثِيرًا إِمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا أُمِّيًّا لاَ يُمْكِنُهُ الْقِرَاءَةُ إِلاَّ مِنْهُ أَوْ لاَ، وَذَكَرُوا لأَِبِي حَنِيفَةَ فِي عِلَّةِ الْفَسَادِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَمْل الْمُصْحَفِ وَالنَّظَرَ فِيهِ وَتَقْلِيبَ الأَْوْرَاقِ عَمَلٌ كَثِيرٌ، وَالثَّانِي أَنَّهُ تَلَقَّنَ مِنَ الْمُصْحَفِ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَلَقَّنَ مِنْ غَيْرِهِ، وَعَلَى الثَّانِي لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُول عِنْدَهُ، وَعَلَى الأَْوَّل يَفْتَرِقَانِ.
وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ كَانَ حَافِظًا لِمَا قَرَأَهُ وَقَرَأَ بِلاَ حَمْلٍ فَإِنَّهُ لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ مُضَافَةٌ إِلَى حِفْظِهِ لاَ إِلَى تَلَقُّنِهِ مِنَ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 156، مطالب أولي النهى 1 / 483 - 484، شرح روض الطالب 1 / 183.
(2) جواهر الإكليل 1 / 74.

(33/57)


الْمُصْحَفِ وَمُجَرَّدُ النَّظَرِ بِلاَ حَمْلٍ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِعَدَمِ وَجْهَيِ الْفَسَادِ.
وَقِيل: لاَ تَفْسُدُ مَا لَمْ يَقْرَأْ آيَةً؛ لأَِنَّهُ مِقْدَارُ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلاَةُ عِنْدَهُ.
وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ - أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - إِلَى كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ مِنَ الْمُصْحَفِ إِنْ قَصَدَ التَّشَبُّهَ بِأَهْل الْكِتَابِ (1) .

ب - الْقِرَاءَةُ خَارِجَ الصَّلاَةِ
حُكْمُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:
15 - يُسْتَحَبُّ الإِْكْثَارُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ خَارِجَ الصَّلاَةِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْل} (2) ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ، رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْل وَآنَاءَ النَّهَارِ. . . (3) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَدَدِ الأَْيَّامِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَخْتِمَ فِيهَا الْقُرْآنَ.
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ خَتْمُ الْقُرْآنِ فِي كُل أُسْبُوعٍ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: اقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ، وَلاَ تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ. (4)
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 419.
(2) سورة آل عمران / 113.
(3) التبيان في آداب حملة القرآن 78، شرح روض الطالب 1 / 64. وحديث: " لا حسد إلا في اثنتين. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 502) ، ومسلم (1 / 558) من حديث ابن عمر، واللفظ لمسلم.
(4) حديث: " اقرأه في سبع ولا تزد على ذلك " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 95) ، ومسلم (2 / 823) .

(33/58)


قَالُوا: وَإِنْ قَرَأَهُ فِي ثَلاَثٍ فَحَسَنٌ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لِي قُوَّةً، قَال: اقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُل ثَلاَثٍ. (1)
لَكِنْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ التَّفَهُّمَ مَعَ قِلَّةِ الْقُرْآنِ أَفْضَل مِنْ سَرْدِ حُرُوفِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} . (2)
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ تَأْخِيرِ خَتْمِ الْقُرْآنِ فَوْقَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا بِلاَ عُذْرٍ لأَِنَّهُ يُفْضِي إِلَى نِسْيَانِهِ وَالتَّهَاوُنِ فِيهِ، وَبِتَحْرِيمِ تَأْخِيرِ الْخَتْمِ فَوْقَ أَرْبَعِينَ إِنْ خَافَ نِسْيَانَهُ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَنْبَغِي لِحَافِظِ الْقُرْآنِ أَنْ يَخْتِمَ فِي كُل أَرْبَعِينَ يَوْمًا مَرَّةً؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَهْمُ مَعَانِيهِ وَالاِعْتِبَارُ بِمَا فِيهِ لاَ مُجَرَّدُ التِّلاَوَةِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (4) ، وَذَلِكَ يَحْصُل بِالتَّأَنِّي لاَ بِالتَّوَانِي فِي الْمَعَانِي، فَقَدَّرَ لِلْخَتْمِ أَقَلَّهُ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، كُل يَوْمٍ حِزْبٌ وَنِصْفٌ أَوْ ثُلُثَا حِزْبٍ، وَقِيل: يَنْبَغِي أَنْ يَخْتِمَهُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ، رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَال: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي
__________
(1) حديث: " اقرأ القرآن في كل ثلاث. . . " أخرجه أحمد (2 / 198) .
(2) سورة النساء / 82.
(3) العدوي على شرح الرسالة 2 / 448، ومطالب أولي النهى 1 / 604.
(4) سورة محمد / 24.

(33/58)


السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ فَقَدْ قَضَى حَقَّهُ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْتِمَ فِي أَقَل مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ (1) ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يَفْقَهْ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَل مِنْ ثَلاَثٍ.
(2) قَال النَّوَوِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ آثَارًا عَنِ السَّلَفِ فِي مُدَّةِ خَتْمِ الْقُرْآنِ: وَالاِخْتِيَارُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ، فَمَنْ كَانَ يَظْهَرُ لَهُ بِدَقِيقِ الْفِكْرِ لَطَائِفُ وَمَعَارِفُ فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى قَدْرِ مَا يَحْصُل لَهُ كَمَال فَهْمِ مَا يَقْرَؤُهُ، وَكَذَا مَنْ كَانَ مَشْغُولاً بِنَشْرِ الْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى قَدْرٍ لاَ يَحْصُل بِسَبَبِهِ إِخْلاَلٌ بِمَا هُوَ مُرْصَدٌ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلاَءِ الْمَذْكُورِينَ فَلْيَسْتَكْثِرْ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ إِلَى حَدِّ الْمَلَل وَالْهَذْرَمَةِ (3)

قِرَاءَةُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْجُنُبِ لِلْقُرْآنِ:
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلاَ الْجُنُبُ
__________
(1) غنية المتملي 496، تبيين الحقائق 6 / 229، الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 5 / 482.
(2) حديث: " لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث " أخرجه الترمذي (5 / 198) وقال: حديث حسن صحيح.
(3) التبيان في آداب حملة القرآن 81 - 82، والفتاوى الحديثية 58.

(33/59)


شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ لِلْقُرْآنِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَيْض ف 39) .
وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ (3) ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لاَ يَحْجُبُهُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ جُنُبًا. (4) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (جَنَابَة ف 17) .

قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْمُحْتَضَرِ وَالْقَبْرِ:
17 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى نَدْبِ قِرَاءَةِ سُورَةِ يس عِنْدَ الْمُحْتَضَرِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْرَءُوا يس عَلَى مَوْتَاكُمْ (5) ،
__________
(1) حديث: " لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئًا من القرآن " أخرجه الترمذي (1 / 236) من حديث ابن عمر، ونقل عن البخاري إعلاله بأحد رواته.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 195، 199، وحاشية الدسوقي 1 / 174 - 175، ومغني المحتاج 1 / 72، والمجموع 1 / 356، وكشاف القناع 1 / 147، والإنصاف 1 / 347.
(3) بدائع الصنائع 1 / 72، حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 67، مغني المحتاج 1 / 37، والمغني لابن قدامة 1 / 143، 144.
(4) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يحجبه عن قراءة القرآن. . . " أخرجه الترمذي (1 / 204) ، والدارقطني (1 / 119) واللفظ للدارقطني، وذكره النووي في المجموع (2 / 159) ونقل عن الشافعي أنه قال: لم يكن أهل الحديث يثبتونه.
(5) حديث: " اقرءوا يس على موتاكم " أخرجه أبو داود (3 / 489) ، ونقل ابن حجر في التلخيص (2 / 104) عن ابن القطان أنه أعله بالاضطراب والوقف.

(33/59)


أَيْ مَنْ حَضَرَهُ مُقَدِّمَاتُ الْمَوْتِ (1) .
كَمَا ذَهَبُوا إِلَى اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَبْرِ (2) ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: مَنْ دَخَل الْمَقَابِرَ فَقَرَأَ سُورَةَ يس خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَكَانَ لَهُ بِعَدَدِ مَنْ دُفِنَ فِيهَا حَسَنَاتٌ (3) ، وَلِمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَوْصَى إِذَا دُفِنَ أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَهُ بِفَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتِهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْمُحْتَضَرِ وَعَلَى الْقَبْرِ (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (احْتِضَار ف 9) وَمُصْطَلَحِ (قَبْر) .

قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِلْمَيِّتِ وَإِهْدَاءُ ثَوَابِهَا لَهُ:
18 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلْمَيِّتِ وَإِهْدَاءِ ثَوَابِهَا لَهُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْبَدَائِعِ: وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَجْعُول لَهُ مَيِّتًا أَوْ حَيًّا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ عِنْدَ الْفِعْل لِلْغَيْرِ أَوْ يَفْعَلَهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَجْعَل ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ.
وَقَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: الْمَيِّتُ يَصِل إِلَيْهِ كُل
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 157، ونهاية المحتاج 2 / 427، 428، والمغني 2 / 450.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 605، 607، والقليوبي وعميرة 1 / 351، وكشاف القناع 2 / 147.
(3) حديث: " من دخل المقابر فقرأ سورة يس. . . " أورده الزبيدي في إتحاف السادة (10 / 173) وعزاه إلى عبد العزيز صاحب الخلال.
(4) حاشية الدسوقي 1 / 423، والشرح الصغير 1 / 228.

(33/60)


شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ، لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِيهِ؛ وَلأَِنَّ النَّاسَ يَجْتَمِعُونَ فِي كُل مِصْرٍ وَيَقْرَءُونَ يُهْدُونَ لِمَوْتَاهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إِجْمَاعًا، قَالَهُ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَذَهَبَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى كَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلْمَيِّتِ وَعَدَمِ وُصُول ثَوَابِهَا إِلَيْهِ، لَكِنِ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَجَعْل الثَّوَابِ لِلْمَيِّتِ وَيَحْصُل لَهُ الأَْجْرُ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: فِي آخِرِ نَوَازِل ابْنِ رُشْدٍ فِي السُّؤَال عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (2) ، قَال: وَإِنْ قَرَأَ الرَّجُل وَأَهْدَى ثَوَابَ قِرَاءَتِهِ لِلْمَيِّتِ جَازَ ذَلِكَ وَحَصَل لِلْمَيِّتِ أَجْرُهُ.
وَقَال ابْنُ هِلاَلٍ: الَّذِي أَفْتَى بِهِ ابْنُ رُشْدٍ وَذَهَبَ إِلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا الأَْنْدَلُسِيِّينَ أَنَّ الْمَيِّتَ يَنْتَفِعُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَيَصِل إِلَيْهِ نَفْعُهُ وَيَحْصُل لَهُ أَجْرُهُ إِذَا وَهَبَ الْقَارِئُ ثَوَابَهُ لَهُ، وَبِهِ جَرَى عَمَل الْمُسْلِمِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَوَقَّفُوا عَلَى ذَلِكَ أَوْقَافًا، وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ الأَْمْرُ مُنْذُ أَزْمِنَةٍ سَالِفَةٍ (3) .
وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 605، وكشاف القناع 2 / 147، الإنصاف 2 / 558 - 560.
(2) سورة النجم / 39.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 423.

(33/60)


لاَ يَصِل ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ إِلَى الْمَيِّتِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى وُصُول ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ.
قَال سُلَيْمَانُ الْجَمَل: ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ - لِلْقَارِئِ، وَيَحْصُل مِثْلُهُ أَيْضًا لِلْمَيِّتِ لَكِنْ إِنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ، أَوْ بِنِيَّتِهِ، أَوْ يَجْعَل ثَوَابَهَا لَهُ بَعْدَ فَرَاغِهَا عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي ذَلِكَ.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ ثَوَابُ الْقَارِئِ لِمُسْقِطٍ كَأَنْ غَلَبَ الْبَاعِثُ الدُّنْيَوِيُّ كَقِرَاءَتِهِ بِأُجْرَةٍ فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ مِثْلُهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَيِّتِ.
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوِ اسْتُؤْجِرَ لِلْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ وَلَمْ يَنْوِهِ وَلاَ دَعَا لَهُ بَعْدَهَا وَلاَ قَرَأَ لَهُ عِنْدَ قَبْرِهِ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ وَاجِبِ الإِْجَارَةِ (1) .

قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِلاِسْتِشْفَاءِ:
19 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِجَوَازِ الاِسْتِشْفَاءِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْمَرِيضِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَعَلَى الْجَوَازِ عَمَل النَّاسِ الْيَوْمَ وَبِهِ وَرَدَتِ الآْثَارُ، فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ؛ لأَِنَّهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدِي.
(2)
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 93، وحاشية القليوبي وعميرة 3 / 175 - 176، وحاشية الجمل على شرح المنهج 4 / 67، 68.
(2) حديث عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات. . . " أخرجه مسلم (4 / 1723) .

(33/61)


قَال النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَ الْمَرِيضِ بِالْفَاتِحَةِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ. (1)
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَهُ: {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وَ {قُل أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، وَ {قُل أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} مَعَ النَّفْثِ فِي الْيَدَيْنِ، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ فِعْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .

الاِجْتِمَاعُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:
20 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الاِجْتِمَاعَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مُسْتَحَبٌّ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ. (3)
وَرَوَى ابْنُ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يَدْرُسُ الْقُرْآنَ مَعَ نَفَرٍ يَقْرَءُونَ جَمِيعًا.
__________
(1) حديث: " وما أدراك أنها رقية " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 198) ، ومسلم (4 / 1727) .
(2) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 5 / 232، وحاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 2 / 453، والتبيان في آداب حملة القرآن للنووي 225 ط. دار الدعوة 1987 م، والآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 363.
(3) حديث: " ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله. . . " أخرجه مسلم (4 / 2074) .

(33/61)


قَال الرَّحِيبَانِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَكَرِهَ أَصْحَابُنَا قِرَاءَةَ الإِْدَارَةِ، وَهِيَ أَنْ يَقْرَأَ قَارِئٌ ثُمَّ يَقْطَعَ، ثُمَّ يَقْرَأَ غَيْرُهُ بِمَا بَعْدَ قِرَاءَتِهِ، وَأَمَّا لَوْ أَعَادَ مَا قَرَأَهُ الأَْوَّل وَهَكَذَا فَلاَ يُكْرَهُ؛ لأَِنَّ جِبْرِيل كَانَ يُدَارِسُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ بِرَمَضَانَ (1) .
حَكَى ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ قِرَاءَةَ الإِْدَارَةِ حَسَنَةٌ كَالْقِرَاءَةِ مُجْتَمِعِينَ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ.
وَقَال النَّوَوِيُّ عَنْ قِرَاءَةِ الإِْدَارَةِ: هَذَا جَائِزٌ حَسَنٌ، قَدْ سُئِل مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَال: لاَ بَأْسَ بِهِ، وَصَوَّبَهُ الْبُنَانِيُّ وَالدُّسُوقِيُّ.
لَكِنْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِكَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ مَعًا بِصَوْتٍ وَاحِدٍ لِتَضَمُّنِهَا تَرْكَ الاِسْتِمَاعِ وَالإِْنْصَاتِ وَلِلُزُومِ تَخْلِيطِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.
قَال صَاحِبُ غُنْيَةِ الْمُتَمَلِّي: يُكْرَهُ لِلْقَوْمِ أَنْ يَقْرَءُوا الْقُرْآنَ جُمْلَةً لِتَضَمُّنِهَا تَرْكَ الاِسْتِمَاعِ وَالإِْنْصَاتِ، وَقِيل: لاَ بَأْسَ بِهِ (2) .
__________
(1) حديث مدارسة جبريل النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 30) .
(2) غنية المتملي شرح منية المصلي 497. ط. دار سعادت 1325 هـ، وحاشية الدسوقي 1 / 308، والتبيان في آداب حملة القرآن 128، 134، ومطالب أولي النهى 1 / 597 - 598.

(33/62)


الأَْمَاكِنُ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ:
21 - يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِي مَكَانٍ نَظِيفٍ مُخْتَارٍ، وَلِهَذَا اسْتَحَبَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِي الْمَسْجِدِ لِكَوْنِهِ جَامِعًا لِلنَّظَافَةِ وَشَرَفِ الْبُقْعَةِ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ.
وَصَرَّحَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِكَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْمَوَاضِعِ الْقَذِرَةِ، وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ الآْيَاتِ الْيَسِيرَةَ لِلتَّعَوُّذِ وَنَحْوِهِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: تُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ فِي الْمَسْلَخِ وَالْمُغْتَسَل وَمَوَاضِعِ النَّجَاسَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِرَاءَةِ فِي الْحَمَّامِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِهَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِكَرَاهَتِهَا إِلاَّ الآْيَاتِ الْيَسِيرَةَ لِلتَّعَوُّذِ وَنَحْوِهِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْقِرَاءَةُ فِي الْحَمَّامِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ وَكَانَ الْحَمَّامُ طَاهِرًا تَجُوزُ جَهْرًا وَخُفْيَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنْ قَرَأَ فِي نَفْسِهِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ وَيُكْرَهُ الْجَهْرُ.
وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ الْقُبُورِ، وَأَجَازَهَا مُحَمَّدٌ وَبِقَوْلِهِ أَخَذَ مَشَايِخُ الْحَنَفِيَّةِ لِوُرُودِ الآْثَارِ بِهِ، مِنْهَا مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا اسْتَحَبَّ أَنْ يُقْرَأَ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ أَوَّل سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتُهَا.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ بِأَسْوَاقٍ

(33/62)


يُنَادَى فِيهَا بِبَيْعٍ، وَيَحْرُمُ رَفْعُ صَوْتِ الْقَارِئِ بِهَا، لِمَا فِيهِ مِنَ الاِمْتِهَانِ لِلْقُرْآنِ (1) .

الأَْحْوَال الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَالَّتِي تُكْرَهُ:
22 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ فِي الطَّرِيقِ إِذَا لَمْ يَلْتَهِ عَنْهَا صَاحِبُهَا، فَإِنِ الْتَهَى صَاحِبُهَا عَنْهَا كُرِهَتْ.
قَال فِي غُنْيَةِ الْمُتَمَلِّي: الْقِرَاءَةُ مَاشِيًا أَوْ وَهُوَ يَعْمَل عَمَلاً إِنْ كَانَ مُنْتَبِهًا لاَ يَشْغَل قَلْبَهُ الْمَشْيُ وَالْعَمَل جَائِزَةٌ وَإِلاَّ تُكْرَهْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لِلْمَاشِي فِي الطَّرِيقِ وَالرَّاكِبِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ.
وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ لِلْمَاشِي مِنْ قَرْيَةٍ إِلَى قَرْيَةٍ أَوْ إِلَى حَائِطِهِ، وَكَرِهُوا الْقِرَاءَةَ لِلْمَاشِي إِلَى السُّوقِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَاشِيَ لِلسُّوقِ فِي قِرَاءَتِهِ ضَرْبٌ مِنَ الإِْهَانَةِ لِلْقُرْآنِ بِقِرَاءَتِهِ فِي الطُّرُقَاتِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَاشِي مِنْ قَرْيَةٍ إِلَى قَرْيَةٍ؛ لأَِنَّ قِرَاءَتَهُ مُعِينَةٌ لَهُ عَلَى طَرِيقِهِ.
وَأَجَازَ الْفُقَهَاءُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ لِلْمُضْطَجِعِ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ:
__________
(1) غنية المتملي في شرح منية المصلي 496 ط. دار سعادت 1325 هـ، حاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 447، التبيان في آداب حملة القرآن ص 100 - 101، مطالب أولي النهى 1 / 596.

(33/63)


كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّكِئُ فِي حِجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَفِي رِوَايَةٍ: يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِي.
(1) قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَيَضُمُّ رِجْلَيْهِ لِمُرَاعَاةِ التَّعْظِيمِ بِحَسَبِ الإِْمْكَانِ (2) .
وَقَالُوا: يَجِبُ عَلَى الْقَارِئِ احْتِرَامُ الْقُرْآنِ بِأَنْ لاَ يَقْرَأَهُ فِي الأَْسْوَاقِ وَمَوَاضِعِ الاِشْتِغَال، فَإِذَا قَرَأَهُ فِيهِمَا كَانَ هُوَ الْمُضَيِّعُ لِحُرْمَتِهِ فَيَكُونُ الإِْثْمُ عَلَيْهِ دُونَ أَهْل الاِشْتِغَال دَفْعًا لِلْحَرَجِ فِي إِلْزَامِهِمْ تَرْكَ أَسْبَابِهِمُ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا، فَلَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَبِجَنْبِهِ رَجُلٌ يَكْتُبُ الْفِقْهَ وَلاَ يُمْكِنُ الْكَاتِبَ الاِسْتِمَاعُ فَالإِْثْمُ عَلَى الْقَارِئِ لِقِرَاءَتِهِ جَهْرًا فِي مَوْضِعِ اشْتِغَال النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْكَاتِبِ، وَلَوْ قَرَأَ عَلَى السَّطْحِ فِي اللَّيْل جَهْرًا وَالنَّاسُ نِيَامٌ يَأْثَمُ (3) .
وَمِثْل ذَلِكَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَابِلَةُ مِنْ كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ بِأَسْوَاقٍ يُنَادَى فِيهَا بِبَيْعٍ، وَمُحَرَّمٌ عَلَى الْقَارِئِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهَا (4) .
وَصَرَّحَ النَّوَوِيُّ بِكَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ لِلنَّاعِسِ،
__________
(1) حديث عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 401) ، والرواية الأخرى لمسلم (1 / 246) .
(2) غنية المتملي 496، والعدوي على شرح الرسالة 2 / 448، والتبيان في آداب حملة القرآن 102 - 104، مطالب أولي النهى 1 / 596.
(3) غنية المتملي 496 - 497.
(4) مطالب أولي النهى 1 / 596.

(33/63)


قَال: كَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِرَاءَةَ لِلنَّاعِسِ مَخَافَةً مِنَ الْغَلَطِ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ حَال خُرُوجِ الرِّيحِ، فَإِذَا غَلَبَهُ الرِّيحُ أَمْسَكَ عَنِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى يُخْرِجَهُ ثُمَّ يَشْرَعَ بِهَا.
قَال النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يُمْسِكَ عَنِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى يَتَكَامَل خُرُوجُهُ ثُمَّ يَعُودَ إِلَى الْقِرَاءَةِ، وَهُوَ أَدَبٌ حَسَنٌ، وَإِذَا تَثَاءَبَ أَمْسَكَ عَنِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى يَنْقَضِيَ التَّثَاؤُبُ ثُمَّ يَقْرَأَ (2) .

آدَابُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:
23 - يُسْتَحَبُّ لِلْقَارِئِ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَكْمَل أَحْوَالِهِ مِنْ طَهَارَةِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ مُسْتَقْبِلاً لِلْقِبْلَةِ، وَيَجْلِسَ مُتَخَشِّعًا بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تِلاَوَة ف 6) .

الاِسْتِئْجَارُ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:
24 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الاِسْتِئْجَارِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَأَخْذِ الأُْجْرَةِ عَلَيْهَا.
__________
(1) التبيان في آداب حملة القرآن ص 102، وحديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كره القراءة للناعس "، ورد من حديث أبي هريرة ونصه: " إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول فليضطجع ". أخرجه مسلم (1 / 543) .
(2) مطالب أولي النهى 1 / 596، والتبيان في آداب حملة القرآن.
(3) مطالب أولي النهى 1 / 596، التبيان في آداب حملة القرآن 102.

(33/64)


فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الاِسْتِئْجَارِ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَإِذَا قَرَأَ جُنُبًا وَلَوْ نَاسِيًا لاَ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةً.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الاِسْتِئْجَارُ عَلَى الْقِرَاءَةِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالاِسْتِئْجَارُ عَلَى التِّلاَوَةِ وَإِنْ صَارَ مُتَعَارَفًا، فَالْعُرْفُ لاَ يُجِيزُهُ؛ لأَِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ، وَهُوَ مَا اسْتَدَل بِهِ أَئِمَّتُنَا مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلاَ تَغْلُوا فِيهِ، وَلاَ تَجْفُوا عَنْهُ، وَلاَ تَأْكُلُوا بِهِ، وَلاَ تَسْتَكْبِرُوا بِهِ (1) ، وَالْعُرْفُ إِذَا خَالَفَ النَّصَّ يُرَدُّ بِالاِتِّفَاقِ، وَالَّذِي أَفْتَى بِهِ الْمُتَأَخِّرُونَ جَوَازُ الاِسْتِئْجَارِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ لاَ عَلَى تِلاَوَتِهِ خِلاَفًا لِمَنْ وَهَمَ.
لَكِنْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْجَعَالَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ بِلاَ شَرْطٍ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ (2) .

ثَانِيًا: قِرَاءَةُ غَيْرِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:
قِرَاءَةُ كُتُبِ الْحَدِيثِ:
25 - سُئِل ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ عَنِ الْجُلُوسِ
__________
(1) حديث: " اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه. . . " أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (40 / 73) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 442، جواهر الإكليل 2 / 189، القليوبي وعميرة 3 / 73، كشاف القناع 4 / 12، الإنصاف 6 / 46، 47.

(33/64)


لِسَمَاعِ الْحَدِيثِ وَقِرَاءَتِهِ هَل فِيهِ ثَوَابٌ أَمْ لاَ؟ فَقَال: إِنْ قَصَدَ بِسَمَاعِهِ الْحِفْظَ وَتَعَلُّمَ الأَْحْكَامِ أَوِ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ اتِّصَال السَّنَدِ فَفِيهِ ثَوَابٌ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ مُتُونِ الأَْحَادِيثِ فَقَال أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: إِنَّ قِرَاءَةَ مُتُونِهَا لاَ يَتَعَلَّقُ بِهَا ثَوَابٌ خَاصٌّ لِجَوَازِ قِرَاءَتِهَا وَرِوَايَتِهَا بِالْمَعْنَى. قَال ابْنُ الْعِمَادِ: وَهُوَ ظَاهِرٌ إِذْ لَوْ تَعَلَّقَ بِنَفْسِ أَلْفَاظِهَا ثَوَابٌ خَاصٌّ لَمَا جَازَ تَغْيِيرُهَا وَرِوَايَتُهَا بِالْمَعْنَى لأَِنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ لاَ يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ بِخِلاَفِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ مُعْجِزٌ، وَإِذَا كَانَتْ قِرَاءَتُهُ الْمُجَرَّدَةُ لاَ ثَوَابَ فِيهَا لَمْ يَكُنْ فِي اسْتِمَاعِهِ الْمُجَرَّدِ عَمَّا مَرَّ ثَوَابٌ بِالأَْوْلَى، وَأَفْتَى بَعْضُهُمْ بِالثَّوَابِ وَهُوَ الأَْوْجَهُ عِنْدِي؛ لأَِنَّ سَمَاعَهَا لاَ يَخْلُو مِنْ فَائِدَةٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ إِلاَّ عَوْدُ بَرَكَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقَارِئِ وَالْمُسْتَمِعِ، فَلاَ يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَهُمْ إِنَّ سَمَاعَ الأَْذْكَارِ مُبَاحٌ لاَ سُنَّةٌ (1) .

قِرَاءَةُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ:
26 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ النَّظَرُ فِي كُتُبِ أَهْل الْكِتَابِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضِبَ حِينَ رَأَى مَعَ عُمَرَ صَحِيفَةً مِنَ التَّوْرَاةِ (2) .
__________
(1) الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي 278 ط. دار المعرفة بيروت.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب حين رأى مع عمر صحيفة من التوراة " أخرجه أحمد (3 / 387) وأورده ابن حجر في الفتح (13 / 334) وقال: رجاله موثقون إلا أن في مجالد ضعفًا.

(33/65)


وَمِثْل الْحَنَابِلَةِ الشَّافِعِيَّةُ حَيْثُ نَصُّوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الاِسْتِئْجَارِ لِتَعْلِيمِ التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل وَعَدُّوهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ (1) .

قِرَاءَةُ كُتُبِ السِّحْرِ بِقَصْدِ تَعَلُّمِهِ:
27 - لِلْفُقَهَاءِ فِي قِرَاءَةِ كُتُبِ السِّحْرِ بِقَصْدِ التَّعَلُّمِ أَوِ الْعَمَل تَفْصِيلاَتٌ اتَّفَقُوا فِي بَعْضِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (سِحْر ف 13) .

قَرَائِن

انْظُرْ: قَرِينَة
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 272، القليوبي وعميرة 3 / 70، مطالب أولي النهى 1 / 607.

(33/65)


قَرَابَة

التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَرَابَةُ لُغَةً: هِيَ الْقُرْبُ فِي الرَّحِمِ، قَال الرَّازِيُّ: الْقَرَابَةُ وَالْقُرْبَى: الْقُرْبُ فِي الرَّحِمِ وَهُوَ فِي الأَْصْل مَصْدَرٌ، تَقُول: بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ وَقُرْبٌ وَقُرْبَى وَمَقْرَبَةٌ - بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا - وَقُرْبَةٌ - بِسُكُونِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا - وَهُوَ قَرِيبِي وَذُو قَرَابَتِي وَهُمْ أَقْرِبَائِي وَأَقَارِبِي (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَطَرَّقَ الْفُقَهَاءُ إِلَى تَعْرِيفِ الْقَرَابَةِ عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِلأَْقَارِبِ أَوِ الْهِبَةِ لَهُمْ، وَيُمْكِنُ حَصْرُ تَعْرِيفَاتِهِمْ لِلْقَرَابَةِ فِي اتِّجَاهَاتٍ سَبْعَةٍ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: تَضْيِيقُ دَائِرَةِ الْقَرَابَةِ وَقَصْرُهَا عَلَى الْقَرَابَةِ مِنْ جِهَةِ الأَْبِ دُونَ مَنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الرَّاجِحَةُ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَيُقْتَصَرُ بِهَا عَلَى أَرْبَعَةِ آبَاءٍ فَقَطْ، فَلَوْ قَال: أَوْصَيْتُ لِقَرَابَةِ فُلاَنٍ دَخَل فِيهَا أَوْلاَدُهُ وَأَوْلاَدُ أَبِيهِ وَأَوْلاَدُ جَدِّهِ وَأَوْلاَدُ جَدِّ أَبِيهِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يُصْرَفُ إِلَى
__________
(1) مختار الصحاح للرازي محمد بن أبي بكر.

(33/66)


قَرَابَةِ أُمِّهِ إِنْ كَانَ يَصِلُهُمْ فِي حَيَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَصِلُهُمْ لَمْ يُعْطَوْا شَيْئًا.
وَحَكَى النَّوَوِيُّ أَنَّ قَرَابَةَ الأُْمِّ لاَ تَدْخُل فِي الْوَصِيَّةِ لِلأَْقَارِبِ فِي الأَْصَحِّ (1) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: تُوَسَّعُ دَائِرَةُ الْقَرَابَةِ بَعْضَ الشَّيْءِ فَتَشْمَل قَرَابَةَ الأُْمِّ وَقَرَابَةَ الأَْبِ مِنَ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ الأَْقْرَبَ فَالأَْقْرَبَ غَيْرَ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ، وَقَدْ نَقَلَهَا عُلَمَاءُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَرَجَّحَهَا الْكَاسَانِيُّ (2) ؛ لأَِنَّ الْقَرَابَةَ الْمُطْلَقَةَ هِيَ قَرَابَةُ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَلأَِنَّ الاِسْمَ يَتَكَامَل بِهَا، وَأَمَّا غَيْرُهَا مِنَ الرَّحِمِ غَيْرِ الْمَحْرَمِ فَنَاقِصٌ، فَكَانَ الاِسْمُ لِلرَّحِمِ الْمَحْرَمِ لاَ لِغَيْرِهِ.
وَلاَ يَدْخُل فِيهَا الآْبَاءُ وَالأَْجْدَادُ وَالأَْوْلاَدُ وَالأَْحْفَادُ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (3) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَصْكَفِيُّ أَنَّ مَنْ قَال لِلْوَالِدِ أَنَّهُ قَرِيبٌ فَهُوَ عَاقٌّ (4) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ لاَ يُسَمَّيَانِ قَرَابَتَيْنِ عُرْفًا وَحَقِيقَةً أَيْضًا؛ لأَِنَّ الأَْبَ أَصْلٌ وَالْوَلَدَ جُزْؤُهُ، وَالْقَرِيبَ مَنْ تَقَرَّبَ إِلَى الإِْنْسَانِ بِغَيْرِهِ لاَ بِنَفْسِهِ، وَقَال تَعَالَى: {الْوَصِيَّةُ
__________
(1) المغني لابن قدامة 6 / 118، ومغني المحتاج 3 / 63.
(2) بدائع الصنائع للكاساني 7 / 348.
(3) بدائع الصنائع للكاساني 7 / 349.
(4) الدر المختار بهامش رد المحتار 5 / 429.

(33/66)


لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَْقْرَبِينَ} (1) ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ فِي الأَْصْل (2) .
الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: إِطْلاَقُ الْقَرَابَةِ عَلَى ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَوَلَدِ الصُّلْبِ، وَيَدْخُل فِيهَا الأَْجْدَادُ وَالأَْحْفَادُ، وَقَدْ نُقِل هَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الزِّيَادَاتِ فَذَكَرَ أَنَّ الأَْجْدَادَ وَالأَْحْفَادَ يَدْخُلاَنِ وَلَمْ يَذْكُرْ خِلاَفًا (3) .
الاِتِّجَاهُ الرَّابِعُ: إِطْلاَقُ الْقَرَابَةِ عَلَى كُل ذِي رَحِمٍ وَإِنْ بَعُدَ، سَوَاءٌ كَانَ مَحْرَمًا أَوْ غَيْرَ مَحْرَمٍ، غَيْرَ الأَْصْل وَالْفُرُوعِ ذَكَرَهَا الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ (4) .
الاِتِّجَاهُ الْخَامِسُ: إِطْلاَقُ الْقَرَابَةِ عَلَى كُل ذِي رَحِمٍ وَإِنْ بَعُدَ إِلاَّ الأَْبَ وَالأُْمَّ وَالاِبْنَ وَالْبِنْتَ مِنْ أَوْلاَدِ الصُّلْبِ وَرَجَّحَهَا النَّوَوِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ (5) ، وَهُوَ رَأْيُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَقَوْلٌ لأَِبِي يُوسُفَ (6) .
الاِتِّجَاهُ السَّادِسُ: إِطْلاَقُ الْقَرَابَةِ عَلَى أَيِّ قَرَابَةٍ وَإِنْ بَعُدَتْ وَيَدْخُل فِيهَا الأَْبُ وَالأُْمُّ وَوَلَدُ الصُّلْبِ، كَمَا يَدْخُل فِيهَا الأَْجْدَادُ وَالأَْحْفَادُ وَرَجَّحَهَا السُّبْكِيُّ وَقَال: هَذَا أَظْهَرُ بَحْثًا وَنَقْلاً (7) ، وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي
__________
(1) سورة البقرة / 180.
(2) بدائع الصنائع للكاساني 7 / 348.
(3) بدائع الصنائع 7 / 348.
(4) مغني المحتاج للخطيب الشربيني، شرح المنهاج للنووي 3 / 63.
(5) منهاج الطالبين مع مغني المحتاج 3 / 63.
(6) المبسوط للسرخسي 14 / 157.
(7) مغني المحتاج للشربيني 3 / 63.

(33/67)


الأُْمِّ (1) ، وَهُوَ مَعْنَى كَلاَمِ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ (2) .
الاِتِّجَاهُ السَّابِعُ: إِطْلاَقُ الْقَرَابَةِ عَلَى أَيِّ قَرَابَةٍ وَإِنْ بَعُدَتْ مِنْ جِهَةِ الأَْبِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ أَوْ مِنَ الأَْوْلاَدِ، وَيُحْمَل عَلَيْهَا الزَّوْجِيَّةُ وَالْوَلاَءُ وَالرَّضَاعُ.
وَهَذَا الاِتِّجَاهُ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ كَلاَمِ الْعُلَمَاءِ فِي أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ (3) . .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النَّسَبُ:
2 - النَّسَبُ فِي اللُّغَةِ وَاحِدُ الأَْنْسَابِ، وَالنِّسْبَةُ وَالنُّسْبَةُ مِثْلُهُ وَانْتَسَبَ إِلَى أَبِيهِ أَيِ اعْتَزَى. وَتَنَسَّبَ أَيِ ادَّعَى أَنَّهُ نَسِيبُكَ، وَفِي الْمَثَل: " الْقَرِيبُ مَنْ تَقَرَّبَ لاَ مَنْ تَنَسَّبَ ".
وَفُلاَنٌ يُنَاسِبُ فُلاَنًا فَهُوَ نَسِيبُهُ أَيْ قَرِيبُهُ (4) .
وَشَرْعًا عَبَّرَ عَنْهُ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ بِأَنَّهُ الْقَرَابَةُ.
وَعَبَّرَ عَنْهُ الْبُهُوتِيُّ بِأَنَّهُ الرَّحِمُ وَتَابَعَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ عَلَيْهِ، فَبَدَل أَنْ يَذْكُرَ كُلٌّ مِنْهُمَا
__________
(1) الأم للإمام الشافعي 4 / 38.
(2) المدونة لسحنون عن الإمام مالك 6 / 96.
(3) بدائع الصنائع للكاساني 7 / 350، والأم للإمام الشافعي 6 / 102، وشرح المارديني على الرحبية ص 54، العذب الفائض شرح عمدة الفرائض للعلامة إبراهيم بن عبد الله الفرضي 1 / 8، ونيل الأوطار للشوكاني 6 / 319.
(4) الصحاح مادة (نسب) .

(33/67)


النَّسَبَ فِي أَسْبَابِ الْمِيرَاثِ ذَكَرَ مَا ذَكَرَ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا الْفَرَضِيُّ فِي قَوْلِهِ: أَوْ بِقَرَابَةٍ لَهَا انْتِسَابٌ.
وَقَصَرَهُ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ وَالْبُجَيْرِمِيُّ عَلَى غَيْرِ ذَوِي الرَّحِمِ.
وَحَصَرَ ابْنُ الْجَلاَّبِ النَّسَبَ فِي الْبُنُوَّةِ وَالأُْبُوَّةِ وَالأُْخُوَّةِ وَالْعُمُومَةِ وَمَا تَنَاسَل مِنْهُمْ (1) .
وَمِمَّا تَقَدَّمَ لَنَا فِي تَعْرِيفِ الْقَرَابَةِ هَذَا نَرَى أَنَّ النَّسَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَرَابَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، يَجْتَمِعَانِ فِي الاِتِّصَال بَيْنَ إِنْسَانَيْنِ بِالاِشْتِرَاكِ فِي وِلاَدَةٍ قَرِيبَةٍ أَوْ بَعِيدَةٍ، وَيَنْفَرِدُ الأَْعَمُّ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَرَابَةِ.

ب - الْمُصَاهَرَةُ:
3 - قَال الْجَوْهَرِيُّ: الأَْصْهَارُ أَهْل بَيْتِ الْمَرْأَةِ، عَنِ الْخَلِيل. وَقَال: مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَجْعَل الصِّهْرَ مِنَ الأَْحْمَاءِ وَالأُْخْتَانِ جَمِيعًا.
يُقَال: صَاهَرْتُ إِلَيْهِمْ: إِذَا تَزَوَّجْتَ فِيهِمْ.
وَأَصْهَرْتُ بِهِمْ: إِذَا اتَّصَلْتَ بِهِمْ، وَتَحَرَّمْتُ بِجِوَارٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ تَزَوُّجٍ (2) .
وَشَرْعًا تُطْلَقُ عَلَى قَرَابَةٍ سَبَبُهَا النِّكَاحُ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَسْبَابِ الْمِيرَاثِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 486، حاشية البجيرمي على المنهج 3 / 174، 246، العذب الفائض 1 / 19، مغني المحتاج 3 / 4، التفريع 2 / 338، هداية الراغب 422.
(2) الصحاح مادة (صهر) .

(33/68)


وَعَلَى مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ (1) .
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَيْنَ الْقَرَابَةِ وَبَيْنَ الْمُصَاهَرَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ أَيْضًا.

ج - الرَّحِمُ:
4 - الرَّحِمُ فِي اللُّغَةِ: رَحِمُ الأُْنْثَى وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ.
وَالرَّحِمُ أَيْضًا الْقَرَابَةُ (2) .
وَشَرْعًا أَطْلَقَهُ الْفُقَهَاءُ بِمَا يُرَادِفُ الْقَرَابَةَ أَحْيَانًا، وَبِمَا يَدُل عَلَى نَوْعٍ مِنْهَا وَهُمُ الأَْقَارِبُ غَيْرُ ذَوِي الْفَرْضِ أَوِ الْعُصُوبَةِ أَحْيَانًا، فَعَلَى الأَْوَّل هِيَ مُرَادِفَةٌ لِلْقَرَابَةِ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الرَّحِمُ أَخَصَّ مِنَ الْقَرَابَةِ (3) .

د - الْوَلاَءُ:
5 - قَال الْجَوْهَرِيُّ: الْوَلاَءُ: وَلاَءُ الْمُعْتِقِ، وَالْمَوْلَى: الْمُعْتَقُ وَالْمُعْتِقُ (4) .
وَيُطْلَقُ شَرْعًا عَلَى: عُصُوبَةٍ سَبَبُهَا نِعْمَةُ الْمُعْتِقِ مُبَاشَرَةً أَوْ سِرَايَةً أَوْ شَرْعًا كَعِتْقِ أَصْلِهِ وَفَرْعِهِ (5) ، وَفِيهِ يَقُول رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلاَءُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ (6) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 4، 246، والتفريع لابن الجلاب 2 / 44، 338.
(2) الصحاح مادة (رحم) .
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 486 و 504، وهداية الراغب 422.
(4) الصحاح مادة (ولي) .
(5) مغني المحتاج 3 / 4، ونيل الأوطار 6 / 70.
(6) حديث: " الولاء بمنزلة النسب " أخرجه البيهقي (10 / 294) من حديث علي بن أبي طالب.

(33/68)


وَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَيْنَ الْوَلاَءِ وَبَيْنَ الْقَرَابَةِ حَسَبَ الاِتِّجَاهِ السَّابِعِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ أَيْضًا.

هـ - الرَّضَاعُ:
6 - الرَّضَاعُ لُغَةً اسْمٌ لِمَصِّ الثَّدْيِ.
وَشَرْعًا اسْمٌ لِوُصُول لَبَنِ امْرَأَةٍ أَوْ مَا حَصَل مِنْ لَبَنِهَا فِي جَوْفِ طِفْلٍ بِشُرُوطٍ مَخْصُوصَةٍ (1) .
وَبَيْنَ الرَّضَاعِ وَالْقَرَابَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّضَاعَ يَجْرِي مَجْرَى الْوِلاَدَةِ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقَرَابَةِ:
أَوَّلاً: قَرَابَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ذَوُو الْقُرْبَى) :
الْمُرَادُ بِهِمْ:
7 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِقَرَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ آلُهُ عَلَى مَذَاهِبَ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: أَنَّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ فَقَطْ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ (2) ، وَيُعَلِّل الْخَرَشِيُّ لِذَلِكَ فَيَقُول: لأَِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ آلَهُ مَنِ اجْتَمَعَ مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَاشِمٍ، وَالْمُطَّلِبُ لَمْ يَجْتَمِعْ مَعَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَاشِمٍ، لأَِنَّ الْمُطَّلِبَ أَخُو هَاشِمٍ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 403، نهاية المحتاج 7 / 172.
(2) عمدة القاري بشرح صحيح البخاري للعيني 9 / 80، والخرشي على مختصر خليل 2 / 214.

(33/69)


وَلَهُمَا أَيْضًا أَخَوَانِ: عَبْدُ شَمْسٍ وَنَوْفَلٌ، فَفَرْعُ كُلٍّ مِنْ عَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ لَيْسَ بِآلٍ قَطْعًا، وَفَرْعُ هَاشِمٍ آلٌ قَطْعًا، وَفَرْعُ الْمُطَّلِبِ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَيْسَ بِآلٍ. . . وَالْمُطَّلِبُ وَهَاشِمٌ شَقِيقَانِ وَأُمُّهُمَا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، وَعَبْدُ شَمْسٍ وَنَوْفَلٌ شَقِيقَانِ وَأُمُّهُمَا مِنْ بَنِي عَدِيٍّ (1) .
وَيُبَيِّنُ الْعَيْنِيُّ الْمُرَادَ بِبَنِي هَاشِمٍ فَيَقُول: وَبَنُو هَاشِمٍ هُمْ آل عَلِيٍّ وَآل عَبَّاسٍ وَآل جَعْفَرٍ وَآل عَقِيلٍ وَآل الْحَارِثِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ (2) .
يَقُول الشَّوْكَانِيُّ: وَلَمْ يَدْخُل فِي ذَلِكَ آل أَبِي لَهَبٍ، لِمَا قِيل مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَرُدُّهُ مَا فِي جَامِعِ الأُْصُول أَنَّهُ أَسْلَمَ عُتْبَةُ وَمُعَتِّبٌ ابْنَا أَبِي لَهَبٍ عَامَ الْفَتْحِ وَسُرَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْلاَمِهِمَا وَدَعَا لَهُمَا، وَشَهِدَا مَعَهُ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ وَلَهُمَا عَقِبٌ عِنْدَ أَهْل النَّسَبِ (3) ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (4) .
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى هُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فَقَطْ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (5) ، وَالْحَنَابِلَةِ (6) ، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقَال زَرُّوقٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّهُ
__________
(1) الخرشي 2 / 216.
(2) عمدة القاري للعيني 9 / 80.
(3) نيل الأوطار 4 / 172. وحديث إسلام عتبة ومعتب ابني أبي لهب أخرجه ابن سعد في الطبقات (4 / 60) .
(4) نيل الأوطار 4 / 172.
(5) شرح النووي لصحيح مسلم 7 / 176.
(6) المغني لابن قدامة 6 / 410.

(33/69)


الْمَذْهَبُ (1) .
وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: أَنَّهُ قَال: مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، أَعْطَيْتُ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ. (2)
وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَغَيْرَهَا وَفِي بَعْضِهَا زِيَادَةٌ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ (3) ، وَيُلْحَقُ بِهِمْ مَوَالِيهِمْ لأَِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ.
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى هُمْ بَنُو قُصَيٍّ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَصْبَغَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، حَكَاهُ عَنْهُ الْعَيْنِيُّ (4) .
الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: أَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى قُرَيْشٌ كُلُّهَا، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَْقْرَبِينَ} (5) ، دَعَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ فَقَال: يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب 2 / 344.
(2) حديث: جبير بن مطعم أنه قال: " مشيت أنا وعثمان بن عفان. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 533) .
(3) الأم 4 / 71 هذه الرواية ذكرها في المسند (2 / 128 - ترتيبه) في حديث علي بن الحسين مرسلا.
(4) عمدة القاري 9 / 80.
(5) سورة الشعراء / 214.

(33/70)


عَبْدِ شَمْسٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلاَلِهَا. (1)
قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ: فَهَذِهِ قَرَابَاتُهُ الَّتِي دَعَا عَلَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ حِينَ أُمِرَ أَنْ يَدْعُوَهُمْ، لَكِنْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُثْمَانَ قَال لَهُ: يَا رَسُول اللَّهِ، أَعْطَيْتَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَال: إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلاَ إِسْلاَمٍ. (2)

حُكْمُ أَخْذِهِمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ:
8 - قَرَابَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ هُمْ: بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ وَمَوَالِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِ أَخْذِهِمْ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (آل ف 6 - 10) .
__________
(1) حديث: لما نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا. . أخرجه مسلم (1 / 192) .
(2) أحكام القرآن لابن العربي 2 / 860، وحديث: " إنهم لم يفارقوني. . . " أخرجه النسائي (7 / 131) .

(33/70)


حُكْمُ أَخْذِ ذَوِي الْقُرْبَى مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ:
9 - لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا مَذَاهِبُ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى وَهُمْ هُنَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ يُعْطَوْنَ مِنَ الْفَيْءِ وَالْخُمُسِ، يَشْتَرِكُ فِي هَذَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ وَالذَّكَرُ وَالأُْنْثَى وَلَكِنَّ الذَّكَرَ يَأْخُذُ ضِعْفَ الأُْنْثَى كَمَا فِي الْمِيرَاثِ (1) ، وَإِعْطَاءُ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ هُنَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَهُمْ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ فِي إِعْطَاءِ بَنِي الْمُطَّلِبِ مِنَ الزَّكَاةِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} . (3)
وَهَذِهِ تُحْمَل عَلَى عُمُومِهَا فَيَدْخُل الأَْغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ فِيهَا، وَلَيْسَ لَهَا مَا يُخَصِّصُهَا، بَل دَل عَلَى عُمُومِهَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلُهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ فَمَا رَوَاهُ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ قَال: لَمَّا قَسَمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَ الْقُرْبَى مِنْ خَيْبَرَ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ جِئْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، هَؤُلاَءِ بَنُو هَاشِمٍ لاَ يُنْكَرُ فَضْلُهُمْ لِمَكَانِكَ الَّذِي
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 94، والمغني 6 / 410.
(2) المغني 2 / 657.
(3) سورة الأنفال / 41.

(33/71)


وَضَعَكَ اللَّهُ عَزَّ جَل مِنْهُمْ، أَرَأَيْتَ إِخْوَانَنَا مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَقَال: إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلاَ إِسْلاَمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ قَال: ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. (1)
وَأَمَّا فِعْلُهُ فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الزُّبَيْرَ سَهْمًا وَأُمَّهُ سَهْمًا وَفَرَسَهُ سَهْمَيْنِ. (2)
وَإِنَّمَا أَعْطَى أُمَّهُ مِنْ سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى وَقَدْ كَانَتْ مُوسِرَةً؛ وَلأَِنَّهُ عَطِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَسْتَحِقُّ بِقَرَابَةِ الأَْبِ فَفُضِّل فِيهِ الذَّكَرُ عَلَى الأُْنْثَى (3) .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ قَوْل أَبِي ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ يُسَوَّى بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى مِنْ قَرَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِعْطَائِهِمْ مِنَ الْخُمُسِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ أُعْطُوا بِاسْمِ الْقَرَابَةِ، وَالذَّكَرُ وَالأُْنْثَى فِيهَا سَوَاءٌ؛ وَلأَِنَّهُ سَهْمٌ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ
__________
(1) حديث: جبير بن مطعم لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذوي القربى. أخرجه أحمد (4 / 81) ، وهو في صحيح البخاري (فتح الباري 6 / 533) بسياق مختصر.
(2) حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم " أعطى الزبير سهمًا. . . " أخرجه أحمد (1 / 166) ، وأشار أحمد شاكر إلى انقطاع في سنده كما في التعليق عليه (3 / 18 ط دار المعارف) .
(3) مغني المحتاج 3 / 94، والمغني 6 / 411، وعمدة القاري 15 / 63.

(33/71)


وَالأُْنْثَى كَسَائِرِ سِهَامِهِ (1) .
الْمَذْهَبُ الثَّانِي لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْفَيْءَ لاَ حَقَّ لَهُمْ فِيهِ بِوَصْفِهِمْ ذَوِي قُرْبَى لأَِنَّهُ لاَ يُخَمَّسُ وَإِنَّمَا هُوَ خَاصٌّ بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ يَشَاءُ، وَيُنْفِقُ مِنْهُ مَا يُرِيدُ وَبَعْدَهُ يَكُونُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِهِمْ، وَأَمَّا الْخُمُسُ فِي الْغَنِيمَةِ فَلاَ يَسْتَحِقُّونَ مِنْهُ شَيْئًا إِلاَّ إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْحَال فِي حَيَاةِ رَسُول اللَّهِ: أَنَّهُ كَانَ يُعْطِي الْفُقَرَاءَ مِنْهُمْ خَاصَّةً كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ السِّيَرِ أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ، وَسَيِّدَنَا عُمَرَ، وَسَيِّدَنَا عُثْمَانَ، وَسَيِّدَنَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَسَمُوا الْغَنَائِمَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لأَِبْنَاءِ السَّبِيل بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ (2) .

مَوَدَّةُ آل الْبَيْتِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَوَدَّةِ آل الْبَيْتِ؛ لأَِنَّ فِي مَوَدَّتِهِمْ مَوَدَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مِنْهَا مَا وَرَدَ مِنْ
__________
(1) المغني 6 / 411.
(2) بدائع الصنائع 7 / 125.

(33/72)


حَدِيثٍ طَوِيلٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ جَاءَ فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْل بَيْتِي، قَالَهَا ثَلاَثًا. (1)
وَمِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: ارْقُبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْل بَيْتِهِ (2) . وَقَوْلُهُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِل مِنْ قَرَابَتِي (3) .

ثَانِيًا: الْقَرَابَةُ النَّسَبِيَّةُ:
أَقْسَامُهَا مِنْ حَيْثُ الْمَحْرَمِيَّةُ وَغَيْرُهَا:
11 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَرَابَةَ النَّسَبِيَّةَ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: مَحَارِمُ وَغَيْرُ مَحَارِمَ.
فَالْمَحَارِمُ كُل شَخْصَيْنِ لاَ يَصِحُّ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْقَرَابَةِ النَّسَبِيَّةِ.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَحَارِمَ النَّسَبِيَّةَ مِنَ النِّسَاءِ هُنَّ الْمَذْكُورَاتُ فِي قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَْخِ وَبَنَاتُ الأُْخْتِ} (4) ، فَهَؤُلاَءِ سَبْعٌ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ كَمَا يَقُول السَّرَخْسِيُّ (5) .
__________
(1) حديث: زيد بن أرقم: " أذكركم الله في أهل بيتي ". أخرجه مسلم (4 / 1873) .
(2) البخاري مع عمدة القاري 16 / 222، وقول أبي بكر: " ارقبوا محمدًا في أهل بيته " أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 78) .
(3) قول أبي بكر: " والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم " أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 78) .
(4) سورة النساء / 23.
(5) المبسوط 4 / 198.

(33/72)


الأَْوَّل: الأُْمَّهَاتُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} فَأُمُّ الرَّجُل حَرَامٌ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ جَدَّاتُهُ مِنْ قِبَل أَبِيهِ أَوْ مِنْ قِبَل أُمِّهِ، فَعَلَى قَوْل مَنْ يَقُول إِنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ فِي مَحَلَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ يَقُول حُرِّمَتِ الْجَدَّاتُ بِالنَّصِّ لأَِنَّ اسْمَ الأُْمَّهَاتِ يَتَنَاوَلُهُنَّ مَجَازًا.
وَعَلَى قَوْل مَنْ يَقُول لاَ يُرَادُ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ يَقُول: حُرِّمَتِ الْجَدَّاتُ بِدَلِيل الإِْجْمَاعِ (1) .
وَالثَّانِي: الْبَنَاتُ فَعَلَى الْقَوْل الأَْوَّل بَنَاتُ الْبَنَاتِ وَبَنَاتُ الْبَنِينَ وَإِنْ سَفَلْنَ حُرْمَتُهُنَّ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ أَيْضًا لأَِنَّ الاِسْمَ يَتَنَاوَلُهُنَّ مَجَازًا، وَعَلَى الْقَوْل الآْخَرِ حُرْمَتُهُنَّ بِدَلِيل الإِْجْمَاعِ.
وَالثَّالِثُ: الأَْخَوَاتُ تَثْبُتُ حُرْمَتُهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَخَوَاتُكُمْ} وَهُنَّ أَصْنَافٌ ثَلاَثَةٌ: الأُْخْتُ لأَِبٍ وَأُمٍّ، وَالأُْخْتُ لأَِبٍ، وَالأُْمُّ لأُِمٍّ، وَهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ بِالنَّصِّ فَالأُْخْتِيَّةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُجَاوَرَةِ فِي الرَّحِمِ أَوْ فِي الصُّلْبِ فَكَانَ الاِسْمُ حَقِيقَةً يَتَنَاوَل الْفِرَقَ الثَّلاَثَ.
وَالرَّابِعُ: الْعَمَّاتُ تَثْبُتُ حُرْمَتُهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَمَّاتُكُمْ} وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ أَخَوَاتُ الأَْبِ لأَِبٍ وَأُمٍّ، أَوْ لأَِبٍ، أَوْ لأُِمٍّ.
__________
(1) راجع في بحث هذه القاعدة الأصولية الإحكام للآمدي 2 / 87.

(33/73)


وَالْخَامِسُ: الْخَالاَتُ: تَثْبُتُ حُرْمَتُهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخَالاَتُكُمْ} وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ أَخَوَاتُ الأُْمِّ لأَِبٍ وَأُمٍّ، أَوْ لأَِبٍ، أَوْ لأُِمٍّ.
وَالسَّادِسُ: بَنَاتُ الأَْخِ تَثْبُتُ حُرْمَتُهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَنَاتُ الأَْخِ} وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ بَنَاتُ الأَْخِ لأَِبٍ وَأُمٍّ، أَوْ لأَِبٍ، أَوْ لأُِمٍّ.
وَالسَّابِعُ: بَنَاتُ الأُْخْتِ تَثْبُتُ حُرْمَتُهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَنَاتُ الأُْخْتِ} وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ بَنَاتُ الأُْخْتِ لأَِبٍ وَأُمٍّ، أَوْ لأَِبٍ، أَوْ لأُِمٍّ (1) .
أَمَّا غَيْرُ الْمَحَارِمِ فَبَقِيَّةُ الْقَرَابَاتِ غَيْرُ مَنْ ذُكِرَتْ كَبِنْتِ الْخَال وَبِنْتِ الْخَالَةِ وَبِنْتِ الْعَمِّ وَبِنْتِ الْعَمَّةِ وَبَنَاتِ هَؤُلاَءِ.

جَوَازُ النِّكَاحِ وَعَدَمُهُ بَيْنَ الْقَرَابَةِ النَّسَبِيَّةِ:
12 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ - وَهُنَّ السَّبْعُ الْمُحَرَّمَاتُ مِنَ الْقَرَابَاتِ النَّسَبِيَّةِ - أَنَّهُ يَحْرُمُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَى التَّأْبِيدِ.
وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْبِنْتِ الْمَخْلُوقَةِ مِنْ مَاءِ زِنَا الرَّجُل هَل يَحِل لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي (نِكَاح - وَمُحَرَّمَات وَوَلَدُ زِنًا) .

الْعِتْقُ بِالْقَرَابَةِ:
13 - فِي الْعِتْقِ بِالْقَرَابَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ بَيْنَ
__________
(1) المبسوط للسرخسي 4 / 198.

(33/73)


الْفُقَهَاءِ يُنْظَرُ فِي (عِتْق ف 14) .

الْقَرَابَةُ الْمُسْقِطَةُ لِلْقِصَاصِ:
14 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَتْل الْعَمْدَ الْمُسْتَوْفِيَ لِشُرُوطِهِ فِيهِ الْقِصَاصُ وَلَوْ وُجِدَتْ قَرَابَةٌ، مَا عَدَا الأَْصْل إِذَا قَتَل فَرْعَهُ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى مَذَاهِبَ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (قِصَاص) .

مَنْ يَتَحَمَّل الدِّيَةَ مِنْ ذَوِي الْقَرَابَةِ:
15 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ يَتَحَمَّل الدِّيَةَ مِنْ ذَوِي الْقَرَابَةِ هُمُ الْعَاقِلَةُ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الزَّوْجَيْنِ لاَ يَدْخُلاَنِ فِي الْعَصَبَةِ فَلاَ يَتَحَمَّلاَنِ شَيْئًا مِنَ الدِّيَةِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي (دِيَات ف 76، وَعَاقِلَة ف 3) .

الْوَصِيَّةُ لِذَوِي الْقَرَابَةِ:
16 - أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَصِيَّةِ لِغَيْرِ الْوَارِثِ، أَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ فَقَدْ جَرَى فِيهَا اخْتِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (وَصِيَّة) .

مَا يَقْطَعُ أَحْكَامَ الْقَرَابَةِ مِنَ الرِّدَّةِ أَوِ اخْتِلاَفِ الدِّينِ:
17 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ
__________
(1) نتائج الأفكار 1 / 399، وابن عابدين 5 / 411، والخرشي 8 / 44 - 46، ومغني المحتاج 4 / 96، والمبدع 9 / 17.

(33/74)


الْقَرَابَةِ تَتَأَثَّرُ بِالْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (اخْتِلاَفُ الدَّارَيْنِ ف 3، وَاخْتِلاَفُ الدِّينِ ف 2، وَرِدَّة ف 47، وَإِرْث ف 18) .

ثَالِثًا: الْقَرَابَةُ بِالْمُصَاهَرَةِ:
18 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْقَرَابَةِ هُوَ النِّكَاحُ، وَلِمَعْرِفَةِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَوِ الْمَحَارِمِ. وَأَحْكَامُ ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (مُصَاهَرَة، وَنَفَقَة، وَزَكَاة ف 177، وَصَدَقَة ف 17) .

رَابِعًا: الْقَرَابَةُ بِالرَّضَاعِ:
19 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْقَرَابَةِ هُوَ حُصُول لَبَنِ الْمَرْأَةِ فِي جَوْفِ الطِّفْل، وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ لِتَحَقُّقِ الرَّضَاعِ شَرْعًا، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (رَضَاع ف 7) .

خَامِسًا: الْقَرَابَةُ بِسَبَبِ الْوَلاَءِ:
20 - الْوَلاَءُ كَمَا قَال الْجُرْجَانِيُّ: هُوَ مِيرَاثٌ يَسْتَحِقُّهُ الْمَرْءُ بِسَبَبِ عِتْقِ شَخْصٍ فِي مِلْكِهِ أَوْ بِسَبَبِ عَقْدِ الْمُوَالاَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (عِتْق، وَوَلاَء) .

مُرَاعَاةُ حُقُوقِ الْقَرَابَةِ وَبِمَ تَكُونُ:
21 - مِنْ حُقُوقِ الْقَرَابَةِ غَيْرُ مَا قَدَّمْنَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ جُزَيٍّ فِي قَوْلِهِ: حُقُوقُ الْمُسْلِمِ عَلَى

(33/74)


الْمُسْلِمِ عَشَرَةٌ:
أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ، وَيَعُودَهُ إِذَا مَرِضَ، وَيُجِيبَهُ إِذَا دَعَاهُ، وَيُشَمِّتَهُ إِذَا عَطَسَ، وَيَشْهَدَ جِنَازَتَهُ إِذَا مَاتَ، وَيُبِرَّ قَسَمَهُ إِذَا أَقْسَمَ، وَيَنْصَحَ لَهُ إِذَا اسْتَنْصَحَهُ، وَيُحِبَّ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَكُفَّ عَنْهُ شَرَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَيَبْذُل لَهُ مِنْ خَيْرِهِ مَا اسْتَطَاعَ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ فَكَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ.
فَإِنْ كَانَ مِنَ الْقَرَابَةِ فَيَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ حَقُّ صِلَةِ الرَّحِمِ بِالإِْحْسَانِ وَالزِّيَارَةِ وَحُسْنِ الْكَلاَمِ وَاحْتِمَال الْجَفَاءِ (1) .
وَأَمَّا إِنْ كَانَ أَحَدَ الْوَالِدَيْنِ فَيَزِيدُ عَلَى هَذَا مَا أَشَارَ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّل مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (2) ، وَيُخَصِّصُ هَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} . (3)
__________
(1) القوانين الفقهية 291.
(2) سورة الإسراء / 23 - 24.
(3) سورة لقمان / 15.

(33/75)


وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ رَاغِبَةً وَهِيَ مُشْرِكَةٌ - فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آصِلُهَا؟ قَال: نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ. (1)
وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ صِلَةَ ذَوِي الأَْرْحَامِ وَاجِبَةٌ وَأَنَّ قَطِيعَتَهَا مُحَرَّمَةٌ (2) .
وَيَقُول ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَْرْحَامَ} (3) ، اتَّقُوا اللَّهَ بِطَاعَتِكُمْ إِيَّاهُ، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تُعَاقِدُونَ وَتُعَاهِدُونَ بِهِ، وَاتَّقُوا الأَْرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا وَلَكِنْ بِرُّوهَا وَصِلُوهَا (4) .
__________
(1) حديث: أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: " إن أمي قدمت علي راغبة " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 413) .
(2) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 307.
(3) سورة النساء / 1.
(4) تفسير ابن كثير 1 / 675.

(33/75)


قَرَارٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - فِي اللُّغَةِ: قَرَّ الشَّيْءُ قَرًّا: اسْتَقَرَّ بِالْمَكَانِ، وَالاِسْمُ الْقَرَارُ.
وَقَرَّ فِي الْمَكَانِ يَقِرُّ قَرَارًا: إِذَا ثَبَتَ ثُبُوتًا جَامِدًا، وقَوْله تَعَالَى: {أَمَّنْ جَعَل الأَْرْضَ قَرَارًا} (1) أَيْ مُسْتَقَرًّا.
وَالْقَرَارُ وَالْقَرَارَةُ مِنَ الأَْرْضِ: الْمُطْمَئِنُّ الْمُسْتَقِرُّ.
وَالْقَرَارُ وَالْقَرَارَةُ: مَا قَرَّ فِيهِ الْمَاءُ (2) .
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ الْقَرَارِ بِعِدَّةِ مَعَانٍ هِيَ:
أ - بِمَعْنَى الأَْرْضِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُسَايِرُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ.
جَاءَ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: إِذَا حَصَل فِي هَوَاءِ الإِْنْسَانِ غُصْنُ شَجَرِ غَيْرِهِ لَزِمَهُ إِزَالَتُهُ لِيُخَلِّيَ مِلْكَهُ الْوَاجِبَ إِخْلاَؤُهُ، وَالْهَوَاءُ تَابِعٌ
__________
(1) سورة النمل / 61.
(2) لسان العرب والمصباح المنير والمفردات في غريب القرآن للأصفهاني.

(33/76)


لِلْقَرَارِ (1) .
ب - بِمَعْنَى الثُّبُوتِ وَعَدَمِ الاِنْفِصَال، وَيُطْلِقُونَ عَلَى الاِتِّصَال بِالأَْشْيَاءِ بِهَذَا الْمَعْنَى اتِّصَال قَرَارٍ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْمُتَّصِل اتِّصَال قَرَارٍ: مَا وُضِعَ لاَ لِيُفْصَل كَالْبِنَاءِ (2) ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا يُسَايِرُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ.
ج - يَسْتَعْمِلُونَهُ مُضَافًا إِلَى لَفْظِ (حَقٍّ) فَيَقُولُونَ: حَقُّ الْقَرَارِ، وَيَقْصِدُونَ بِهِ ثُبُوتَ حَقِّ الاِنْتِفَاعِ بِالْعَقَارِ الْمُسْتَأْجَرِ وَالْبَقَاءِ فِيهِ دُونَ أَنْ يُطَالِبَهُ أَحَدٌ بِإِخْلاَئِهِ، فَهُوَ حَقُّ التَّمَسُّكِ بِالْعَقَارِ (3) ، لأَِسْبَابٍ سَيَأْتِي بَيَانُهَا فِي الْبَحْثِ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْكِرْدَارُ:
2 - الْكِرْدَارُ - بِكَسْرِ الْكَافِ - مِثْل الْبِنَاءِ وَالأَْشْجَارِ وَالْكَبْسِ إِذَا كَبَسَهُ مِنْ تُرَابٍ نَقَلَهُ مِنْ مَكَانٍ كَانَ يَمْلِكُهُ (4) .
وَفِي ابْنِ عَابِدِينَ: الْكِرْدَارُ هُوَ أَنْ يُحْدِثَ الْمُزَارِعُ أَوِ الْمُسْتَأْجِرُ فِي الأَْرْضِ بِنَاءً أَوْ غَرْسًا أَوْ كَبْسًا بِالتُّرَابِ بِإِذْنِ الْوَاقِفِ أَوِ النَّاظِرِ.
وَعَلاَقَةُ الْكِرْدَارِ بِالْقَرَارِ: أَنَّ الْكِرْدَارَ أَحَدُ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 268.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 4 / 17.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 16.
(4) المغرب والقاموس المحيط.

(33/76)


الأُْمُورِ الَّتِي تُثْبِتُ حَقَّ الْقَرَارِ (1) .

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَرَارِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوَّلاً: الْقَرَارُ بِمَعْنَى الأَْرْضِ:
حُكْمُ الاِرْتِفَاقِ بِمَا يَتْبَعُ الْقَرَارَ:
لِلاِرْتِفَاقِ بِمَا يَتْبَعُ الْقَرَارَ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا:
3 - مَنْ أَخْرَجَ جَنَاحًا إِلَى الطَّرِيقِ، فَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ نَافِذًا وَالْجَنَاحُ لاَ يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ جَازَ؛ لأَِنَّهُ ارْتِفَاقٌ بِمَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ مِلْكُ أَحَدٍ مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ فَجَازَ كَالْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ؛ وَلأَِنَّ الْهَوَاءَ تَابِعٌ لِلْقَرَارِ فَلَمَّا مَلَكَ الاِرْتِفَاقَ بِالطُّرُقِ مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ، مَلَكَ الاِرْتِفَاقَ بِالْهَوَاءِ مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ بِإِذْنِ الإِْمَامِ، وَهَذَا عَلَى مَا جَاءَ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ، لَكِنَّ ابْنَ قُدَامَةَ ذَكَرَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُشْرِعَ أَحَدٌ إِلَى طَرِيقٍ نَافِذٍ جَنَاحًا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ فِي الْعَادَةِ بِالْمَارَّةِ أَوْ لاَ يَضُرُّ، ثُمَّ قَال: وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ جَازَ بِإِذْنِ الإِْمَامِ (2) .
وَإِنْ صَالَحَهُ الإِْمَامُ عَنِ الْجَنَاحِ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ، لأَِنَّ الْهَوَاءَ تَابِعٌ لِلْقَرَارِ فَلاَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 16.
(2) البدائع 6 / 49 - 50، وجواهر الإكليل 2 / 123، والفروق للقرافي 4 / 16، والمهذب 1 / 141، وشرح منتهى الإرادات 2 / 269، والمغني 4 / 551.

(33/77)


يُفْرَدُ بِالْعَقْدِ؛ وَلأَِنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَهُ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ عِوَضٌ عَلَى حَقِّهِ كَالاِجْتِيَازِ فِي الطَّرِيقِ.
هَذَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَلاَ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلطَّرِيقِ الْعَامِّ (1) .
وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ غَيْرَ نَافِذٍ فَلاَ يَجُوزُ إِشْرَاعُ جَنَاحٍ فِيهِ إِلاَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَإِنْ صَالَحَ أَهْل الدَّرْبِ عَلَى عِوَضٍ مَعْلُومٍ جَازَ؛ لأَِنَّهُ مِلْكٌ لَهُمْ فَجَازَ أَخْذُ عِوَضِهِ كَالْقَرَارِ.
وَقَال الْجَصَّاصُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنْ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ بَيْعٌ لِلْهَوَاءِ دُونَ الْقَرَارِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الطَّرِيقُ الَّذِي لاَ يَنْفُذُ لاَ يَجُوزُ لِغَيْرِ أَهْل السِّكَّةِ إِشْرَاعُ الْجَنَاحِ فِيهِ بِلاَ خِلاَفٍ، وَلاَ لَهُمْ عَلَى الأَْصَحِّ الَّذِي قَالَهُ الأَْكْثَرُونَ إِلاَّ بِرِضَاهُمْ سَوَاءٌ تَضَرَّرُوا أَمْ لاَ.
وَالثَّانِي وَهُوَ قَوْل الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَمَنْ تَابَعَهُ: يَجُوزُ إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِالْبَاقِينَ، فَإِنْ أَضَرَّ وَرَضِيَ أَهْل السِّكَّةِ جَازَ، وَلَوْ صَالَحُوهُ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَصِحَّ بِلاَ خِلاَفٍ لأَِنَّ الْهَوَاءَ تَابِعٌ، فَلاَ
__________
(1) المراجع السابقة، ومغني المحتاج 2 / 183.
(2) البدائع 6 / 49 - 50، والمغني 4 / 553، وشرح منتهى الإرادات 2 / 270، والفروق 4 / 16.

(33/77)


يُفْرَدُ بِالْمَال صُلْحًا كَمَا لاَ يُفْرَدُ بِهِ بَيْعًا (1) .

4 - مِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْهَوَاءِ الَّذِي فَوْقَ الْقَرَارِ كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ؛ لأَِنَّ مَنْ مَلَكَ الْقَرَارَ مَلَكَ الْهَوَاءَ الَّذِي فَوْقَهُ.
جَاءَ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: جَازَ بَيْعُ هَوَاءٍ فَوْقَ هَوَاءٍ. وَأَوْلَى فَوْقَ بِنَاءٍ، كَأَنْ يَقُول الْمُشْتَرِي لِصَاحِبِ أَرْضٍ: بِعْنِي عَشْرَةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْهَوَاءِ فَوْقَ مَا تَبْنِيهِ بِأَرْضِكَ إِنْ وَصَفَ الْبِنَاءَ الأَْعْلَى وَالأَْسْفَل لِلأَْمْنِ مِنَ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ.
وَجَاءَ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: يَصِحُّ شِرَاءُ عُلُوِّ بَيْتٍ وَلَوْ لَمْ يَبْنِ الْبَيْتَ إِذَا وَصَفَ الْبَيْتَ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْعُلُوَّ مِلْكٌ لِلْبَائِعِ فَجَازَ لَهُ بَيْعُهُ كَالْقَرَارِ.
وَمَنَعَ ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ؛ لأَِنَّ الْهَوَاءَ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَهُمْ (2) .

5 - وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ مَنْ صَالَحَ غَيْرَهُ عَلَى أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ مِنْ نَهْرِهِ مُدَّةً وَلَوْ مُعَيَّنَةً لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ لِعَدَمِ مِلْكِهِ الْمَاءَ، لأَِنَّ الْمَاءَ لاَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الأَْرْضِ.
وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى سَهْمٍ مِنَ النَّهْرِ كَثُلُثٍ وَنَحْوِهِ مِنْ رُبْعٍ أَوْ خُمُسٍ جَازَ الصُّلْحُ، وَكَانَ ذَلِكَ بَيْعًا لِلْقَرَارِ أَيْ لِلْجُزْءِ الْمُسَمَّى مِنَ الْقَرَارِ
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 206 و207، والمهذب 1 / 341.
(2) البدائع 5 / 145، والفروق 4 / 16، والشرح الصغير 2 / 9، وشرح منتهى الإرادات 2 / 267.

(33/78)


وَهُوَ الثُّلُثُ أَوِ الرُّبُعُ أَوِ الْخُمُسُ، وَالْمَاءُ تَابِعٌ لِلْقَرَارِ، فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا فِيهِ.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْعَ الْمَاءِ الْمَمْلُوكِ دُونَ الْقَرَارِ (1) .

ثَانِيًا: الْقَرَارُ بِمَعْنَى الثُّبُوتِ وَعَدَمِ الاِنْفِصَال:
بَيْعُ مَا يَتَّصِل بِغَيْرِهِ اتِّصَال قَرَارٍ:
6 - التَّوَابِعُ الْمُسْتَقِرَّةُ الْمُتَّصِلَةُ بِالْمَبِيعِ اتِّصَال قَرَارٍ تَدْخُل فِي الْبَيْعِ (وَاتِّصَال الْقَرَارِ: وَضْعُ الشَّيْءِ بِحَيْثُ لاَ يُفْصَل مِنْ مَحَلِّهِ) فَيَدْخُل الشَّجَرُ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ، فَإِذَا بِيعَتِ الأَْرْضُ فَالشَّجَرُ الْمَغْرُوسُ فِيهَا يَدْخُل فِي الْبَيْعِ؛ لأَِنَّ الأَْشْجَارَ مُتَّصِلَةٌ بِالأَْرْضِ اتِّصَال الْقَرَارِ، أَمَّا الأَْشْجَارُ الْيَابِسَةُ فَلاَ تَدْخُل فِي الْبَيْعِ؛ لأَِنَّ تِلْكَ الأَْشْجَارَ عَلَى شَرَفِ الْقَلْعِ، فَهِيَ فِي حُكْمِ الْحَطَبِ فَلَيْسَ اتِّصَالُهَا بِالأَْرْضِ اتِّصَال قَرَارٍ.
وَإِذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي قَرَارِ الأَْشْيَاءِ مَثَلاً، كَأَنْ يَدَّعِيَ الْمُشْتَرِي أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ قَدْ وُضِعَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِرًّا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْبَيْعِ، وَيَدَّعِيَ الْبَائِعُ أَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ
__________
(1) فتح القدير 5 / 205، والبدائع 6 / 1289، وجواهر الإكليل 2 / 204، ومغني المحتاج 2 / 191، وحواشي الشرواني وابن قاسم على تحفة المحتاج 5 / 221، وكشاف القناع 3 / 403.

(33/78)


عَلَى أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِرًّا فَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْمَبِيعِ، فَيَجْرِي فِيهِ التَّحَالُفُ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (شَجَر ف 4) (وَبَيْع ف 39) .

ثَالِثًا - حَقُّ الْقَرَارِ وَمَا يَثْبُتُ بِهِ:
7 - مَا يَثْبُتُ لِلإِْنْسَانِ مِنْ حَقِّ دَوَامِ الاِنْتِفَاعِ بِالْعَقَارِ الْمُسْتَأْجَرِ مِنَ الْوَقْفِ دُونَ أَنْ يُطَالِبَهُ أَحَدٌ بِإِخْلاَئِهِ يُسَمَّى حَقَّ الْقَرَارِ.
وَهُوَ حَقٌّ يَثْبُتُ لِلْمُسْتَأْجِرِ بِمَا يَأْتِي:
أ - بِمَا يُحْدِثُهُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ غَرْسٍ فِي أَرْضِ الْوَقْفِ، فَقَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ وَغَيْرِهِ: بَنَى الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ غَرَسَ فِي أَرْضِ الْوَقْفِ صَارَ لَهُ فِيهَا حَقُّ الْقَرَارِ، فَلَهُ الاِسْتِبْقَاءُ بِأَجْرِ الْمِثْل، وَفِي الْخَيْرِيَّةِ: وَقَدْ صَرَّحَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ لِصَاحِبِ الْكِرْدَارِ حَقَّ الْقَرَارِ، وَهُوَ أَنْ يُحْدِثَ الْمُزَارِعُ وَالْمُسْتَأْجِرُ فِي الأَْرْضِ بِنَاءً أَوْ غَرْسًا أَوْ كَبْسًا بِالتُّرَابِ بِإِذْنِ الْوَاقِفِ أَوِ النَّاظِرِ فَتَبْقَى فِي يَدِهِ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (وَقْف) .
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْبَحْرِ أَنَّ
__________
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 / 180 - 181 مادة 232، وانظر ابن عابدين 4 / 35، والدسوقي 3 / 171، ونهاية المحتاج 4 / 116 و 117، والمغني 4 / 86 و 87.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 16.

(33/79)


لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَسْتَبْقِيَهَا بِأَجْرِ الْمِثْل إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ، وَلَوْ أَبَى الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ إِلاَّ الْقَلْعَ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ (1) .
ب - أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ مُعَطَّلَةً فَيَسْتَأْجِرَهَا مِنَ الْمُتَوَلِّي عَلَيْهَا لِيُصْلِحَهَا لِلزِّرَاعَةِ وَيَحْرُثَهَا وَيَكْبِسَهَا، فَلاَ تُنْزَعُ مِنْ يَدِهِ مَا دَامَ يَدْفَعُ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْقِسْمِ الْمُتَعَارَفِ كَالْعُشْرِ وَنَحْوِهِ، وَإِذَا مَاتَ عَنِ ابْنٍ تُوَجَّهُ لاِبْنِهِ، فَيَقُومُ مَقَامَهُ فِيهَا (2) .
ج - مَنْ كَانَ يَنْتَفِعُ بِأَرْضِ الْوَقْفِ ثَلاَثَ سِنِينَ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ فِيهَا حَقُّ الْقَرَارِ، كَمَا يَثْبُتُ حَقُّ الْقَرَارِ لِمَنْ كَانَ يَنْتَفِعُ بِالأَْرْضِ الأَْمِيرِيَّةِ عَشْرَ سِنِينَ، وَقِيل: ثَلاَثِينَ سَنَةً (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (وَقْف) .
د - الْخُلُوُّ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَال الَّذِي يَدْفَعُهُ الْمُسْتَأْجِرُ لِلْمُتَوَلِّي أَوِ الْمَالِكِ، فَلاَ يَمْلِكُ صَاحِبُ الْحَانُوتِ إِخْرَاجَهُ وَلاَ إِجَارَتَهُ لِغَيْرِهِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَمِمَّنْ أَفْتَى بِلُزُومِ الْخُلُوِّ الَّذِي يَكُونُ مُقَابِل مَالٍ يَدْفَعُهُ لِلْمَالِكِ أَوِ الْمُتَوَلِّي عَلَى الْوَقْفِ الْعَلاَّمَةُ الْمُحَقِّقُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْعِمَادِيُّ قَال: فَلاَ يَمْلِكُ صَاحِبُ الْحَانُوتِ
__________
(1) مجموعة رسائل ابن عابدين 2 / 147.
(2) مجموعة رسائل ابن عابدين 2 / 150 - 151.
(3) العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 218، ومجموعة رسائل ابن عابدين 2 / 153.

(33/79)


إِخْرَاجَهُ مِنْهَا وَلاَ إِجَارَتَهَا لِغَيْرِهِ مَا لَمْ يَدْفَعْ لَهُ الْمَبْلَغَ الْمَرْقُومَ، فَيُفْتِي بِجَوَازِ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ، قِيَاسًا عَلَى بَيْعِ الْوَفَاءِ الَّذِي تَعَارَفَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ (1) .
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (خُلُوّ ف 17) .