الموسوعة الفقهية الكويتية

قِبْلَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقِبْلَةُ فِي اللُّغَةِ: الْجِهَةُ، يُقَال: أَيْنَ قِبْلَتُكَ؟ وَاَلَّتِي يُصَلَّى إلَيْهَا، وَالْحَالَةُ الَّتِي عَلَيْهَا الإِْنْسَانُ مِنَ الاِسْتِقْبَال، يُقَال: مَا لِكَلاَمِهِ قِبْلَةٌ، ثُمَّ صَارَتْ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً فِي الْكَعْبَةِ 42 الْمُشَرَّفَةِ لاَ يُفْهَمُ مِنْهَا غَيْرُهَا (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الشَّطْرُ:
2 - شَطْرُ كُل شَيْءٍ نِصْفُهُ، وَالشَّطْرُ الْقَصْدُ وَالْجِهَةُ، قَال تَعَالَى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (2) أَيْ قَصْدَهُ وَجِهَتَهُ (3) .
وَالشَّطْرُ أَعَمُّ مِنَ الْقِبْلَةِ.

ب - النَّحْوُ:
3 - النَّحْوُ الْقَصْدُ، تَقُول: نَحَوْتُ نَحْوَ الشَّيْءِ - مِنْ بَابِ قَتَل - إذَا قَصَدْتُهُ (4) .
وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْقِبْلَةِ.
__________
(1) لسان العرب، ومغني المحتاج 1 / 142.
(2) سورة البقرة / 144.
(3) المصباح المنير.
(4) المصباح المنير.

(32/301)


الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقِبْلَةِ:
أَوَّلاً: تَشْرِيعُ التَّوَجُّهِ فِي الصَّلاَةِ إلَى الْكَعْبَةِ:
4 - كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ، فَفَرِحَتِ الْيَهُودُ بِذَلِكَ، وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ قِبْلَةَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ يَدْعُو اللَّهَ، وَيَنْظُرُ إلَى السَّمَاءِ، رَجَاءَ أَنْ يَنْزِل جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ بِاَلَّذِي سَأَل، فَأَنْزَل اللَّهُ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَل وَجْهَك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} . (1) أَيْ حَوِّل وَجْهَك نَحْوَ الْكَعْبَةِ، فَارْتَابَ الْيَهُودُ، فَأَنْشَئُوا يَقُولُونَ: قَدِ اشْتَاقَ الرَّجُل إلَى بَيْتِ أَبِيهِ، وَمَا لَهُمْ حَتَّى تَرَكُوا قِبْلَتَهُمْ، يُصَلُّونَ مَرَّةً وَجْهًا وَمَرَّةً وَجْهًا آخَرَ؟ وَفَرِحَ الْمُشْرِكُونَ، وَقَالُوا: إنَّ مُحَمَّدًا قَدِ الْتَبَسَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، وَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ عَلَى دِينِكُمْ، وَقَال الْمُنَافِقُونَ: مَا بَالُهُمْ كَانُوا عَلَى قِبْلَةٍ زَمَانًا، ثُمَّ تَرَكُوهَا، وَتَوَجَّهُوا إلَى غَيْرِهَا، وَقَال الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْل مَكَّةَ: تَحَيَّرَ عَلَى مُحَمَّدٍ دِينُهُ فَتَوَجَّهَ بِقِبْلَتِهِ إلَيْكُمْ، وَعَلِمَ أَنَّكُمْ أَهْدَى مِنْهُ، وَيُوشِكُ أَنْ يَدْخُل فِي دِينِكُمْ، فَأَنْزَل اللَّهُ الآْيَاتِ: {سَيَقُول السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ
__________
(1) سورة البقرة / 144.

(32/301)


عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} (1) وَالآْيَاتِ بَعْدَهَا (2) } .

ثَانِيًا: اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ التَّوَجُّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ فِي الصَّلاَةِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهَا لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَل وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} . (3)
وَالاِسْتِقْبَال لاَ يَجِبُ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ قِبَل الْكَعْبَةِ وَقَال: هَذِهِ الْقِبْلَةُ (4) ، مَعَ حَدِيثِ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (5) فَلاَ تَصِحُّ صَلاَةُ قَادِرٍ عَلَى اسْتِقْبَالِهَا بِدُونِهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
وَاحْتُرِزَ بِالْقَادِرِ عَنِ الْعَاجِزِ كَمَرِيضٍ عَجَزَ عَمَّنْ يُوَجِّهُهُ وَمَرْبُوطٍ عَلَى خَشَبَةٍ، وَغَرِيقٍ عَلَى لَوْحٍ يَخَافُ مِنَ اسْتِقْبَالِهِ الْغَرَقَ، وَمَنْ خَافَ مِنْ نُزُولِهِ عَنْ دَابَّتِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، أَوْ
__________
(1) سورة البقرة / 142 - 150.
(2) الدر المنثور في التفسير المأثور 1 / 359، تفسير الخازن 1 / 93، وتفسير البيضاوي 1 / 97.
(3) سورة البقرة / 144.
(4) حديث: " ركع ركعتين قبل الكعبة وقال: هذه القبلة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 501) ومسلم (2 / 968) من حديث ابن عباس.
(5) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 111 ط السلفية) من حديث مالك بن الحويرث.

(32/302)


انْقِطَاعًا عَنِ الرُّفْقَةِ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ.
وَعِنْدَ اشْتِدَادِ الْخَوْفِ، بِحَيْثُ لاَ يَتَمَكَّنُ مِنَ الصَّلاَةِ إلَى الْقِبْلَةِ، لاِلْتِحَامِ الْجَيْشِ، وَالْحَاجَةِ إلَى الْكَرِّ وَالْفَرِّ، وَالطَّعْنِ وَالضَّرْبِ وَالْمُطَارَدَةِ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ رَاجِلاً وَرَاكِبًا إلَى الْقِبْلَةِ إنْ أَمْكَنَ، وَإِلَى غَيْرِهَا إنْ لَمْ يُمْكِنْ.
وَالتَّفْصِيل فِي: (اسْتِقْبَالٌ ف 9) (وَصَلاَةُ الْخَوْفِ ف 9) .
وَاسْتُثْنِيَ أَيْضًا مِنْ وُجُوبِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ: صَلاَةُ الْمُتَطَوِّعِ فِي السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي: (اسْتِقْبَالٌ ف 9) .

ثَالِثًا: مَا يُجْزِئُ فِي الاِسْتِقْبَال:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى رُؤْيَةِ الْكَعْبَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى عَيْنِ الْكَعْبَةِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ الاِجْتِهَادُ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ غَابَ عَنِ الْكَعْبَةِ وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى رُؤْيَتِهَا لِبُعْدِهَا عَنْهُ، هَل فَرْضُهُ إصَابَةُ عَيْنِ الْكَعْبَةِ أَوِ الْجِهَةُ؟ فَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ الْفَرْضَ هُوَ الْعَيْنُ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّهُ الْجِهَةُ (1) .
__________
(1) رد المحتار 1 / 287، والدسوقي 1 / 223، ونهاية المحتاج 1 / 408، والشرح الكبير مع المغني 1 / 489.

(32/302)


وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِقْبَالٌ ف 12 - 19) .

قُبْلَةٌ

اُنْظُرْ: تَقْبِيلٌ

(32/303)


قَبُولٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَبُول فِي اللُّغَةِ مِنْ قَبِل الشَّيْءَ قَبُولاً وَقُبُولاً: أَخَذَهُ عَنْ طِيبِ خَاطِرٍ، يُقَال: قَبِل الْهَدِيَّةَ وَنَحْوَهَا.
وَقَبِلْتُ الْخَبَرَ: صَدَّقْتُهُ، وَقَبِلْتُ الشَّيْءَ قَبُولاً: إذَا رَضِيتُهُ، وَقَبِل الْعَمَل: رَضِيَهُ.
وَالْقَبُول: الرِّضَا بِالشَّيْءِ وَمَيْل النَّفْسِ إلَيْهِ، وَقَبِل اللَّهُ الدُّعَاءَ: اسْتَجَابَهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَيَجْعَلُهُ الْفُقَهَاءُ عَلاَمَةً عَلَى الرِّضَا بِالشَّيْءِ فِي الْعُقُودِ، كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبِمَعْنَى تَصْدِيقِ الْكَلاَمِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ، وَبِمَعْنَى الأَْخْذِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِالتَّعَاطِي، وَكَمَا فِي قَبْضِ الْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ (2) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن، والمعجم الوسيط مادة (قبل) .
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 4 / 6، 7، 11، 376، 508، 509، والحطاب 6 / 151، وحاشية الجمل 3 / 8، وجواهر الإكليل 2 / 2، والمغني 3 / 561.

(32/303)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِْيجَابُ:
2 - الإِْيجَابُ لُغَةً: الإِْلْزَامُ، يُقَال: أَوْجَبَ الأَْمْرَ عَلَى النَّاسِ إيجَابًا: أَيْ أَلْزَمَهُمْ إلْزَامًا، وَيُقَال: وَجَبَ الْبَيْعُ، أَيْ: لَزِمَ وَثَبَتَ.
وَمِنْ مَعَانِيهِ اصْطِلاَحًا: اللَّفْظُ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يُوجِبُ بِهِ أَمْرًا عَلَى نَفْسِهِ.
وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ شَطْرَ الصِّيغَةِ فِي الْعُقُودِ، وَيَكُونُ الْقَبُول هُوَ الشَّطْرُ الآْخَرُ الْمُتَمِّمُ لِلصِّيغَةِ.
وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: مَا يُذْكَرُ أَوَّلاً مِنْ كَلاَمِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَالْقَبُول مَا يُذْكَرُ ثَانِيًا مِنَ الآْخَرِ، سَوَاءٌ كَانَ: بِعْتُ أَوِ اشْتَرَيْتُ (1) .

مَا يَكُونُ بِهِ الْقَبُول:
3 - الْقَبُول قَدْ يَكُونُ بِاللَّفْظِ كَقَوْل الْمُشْتَرِي - بَعْدَ إيجَابِ الْبَائِعِ - قَبِلْتُ، أَوْ رَضِيتُ.
وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْل كَمَا فِي الْبَيْعِ بِالتَّعَاطِي (2) .
وَقَدْ يُعْتَبَرُ السُّكُوتُ قَبُولاً دَلاَلَةً، جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: الْقَبُول مِنَ الْمُودَعِ صَرِيحًا
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، وابن عابدين 4 / 6، 7، 11.
(2) الدسوقي 3 / 3، وشرح منتهى الإرادات 3 / 140 - 141، وابن عابدين 4 / 502، والمنثور 2 / 405.

(32/304)


كَقَبِلْتُ، أَوْ دَلاَلَةً كَمَا لَوْ سَكَتَ عِنْدَ وَضْعِهِ، فَإِنَّهُ قَبُولٌ دَلاَلَةً (1) .
وَقَدْ يَكُونُ الْقَبُول بِالإِْشَارَةِ، فَإِنَّ إشَارَةَ الأَْخْرَسِ الْمَفْهُومَةَ تَقُومُ مَقَامَ نُطْقِهِ (2) .
وَقَدْ يَكُونُ بِالْكِتَابَةِ، فَالْكِتَابَةُ بِالْقَبُول يَنْعَقِدُ بِهَا التَّصَرُّفُ لأَِنَّهَا قَبُولٌ (3) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الْقَبُول قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَمَنْ تَعَيَّنَ لِلْقَضَاءِ بِأَنْ لَمْ يَصْلُحْ غَيْرُهُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَبُول، فَإِنِ امْتَنَعَ عَصَى، وَلِلإِْمَامِ إجْبَارُهُ عَلَى الْقَبُول (4) .
وَقَدْ يَكُونُ الْقَبُول مُسْتَحَبًّا، كَقَبُول الْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ (5) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ دُعِيتُ إلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لأََجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ (6) ، وَقَبِل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةَ النَّجَاشِيِّ وَتَصَرَّفَ فِيهَا وَهَادَاهُ أَيْضًا (7)
وَقَدْ يَكُونُ الْقَبُول حَرَامًا، كَقَبُول الرِّشْوَةِ، وَخَاصَّةً مَا يُبْذَل لِلْحَاكِمِ لِيَحْكُمَ بِغَيْرِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 494، والاختيار 3 / 92.
(2) مغني المحتاج 2 / 7، والمغني 3 / 566، والدسوقي 3 / 3.
(3) البدائع 5 / 138، والدسوقي 3 / 3، ومغني المحتاج 2 / 5.
(4) مغني المحتاج 4 / 373، وجواهر الإكليل 2 / 221.
(5) الاختيار 3 / 48، ومغني المحتاج 2 / 396.
(6) حديث: " لو دعيت إلى ذراع. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 199) من حديث أبي هريرة.
(7) حديث: " قبول هدية النجاشي ". أخرجه البيهقي (1 / 282) ، وضعفه ابن التركماني في الجوهر النقي.

(32/304)


الْحَقِّ (1) لِقَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ. (2)
وَقَدْ يَكُونُ الْقَبُول مُبَاحًا، كَالْقَبُول فِي الْعُقُودِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ فِي الْوَدِيعَةِ مَا يَجْعَل قَبُولَهَا وَاجِبًا أَوْ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا وَمِثْل ذَلِكَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ (3) .

تَقَدُّمُ الْقَبُول عَلَى الإِْيجَابِ:
5 - الْقَبُول عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ هُوَ مَا يَصْدُرُ مِمَّنْ يَتَمَلَّكُ الْمَبِيعَ أَوِ الْقَرْضَ، أَوْ مِمَّنْ يَنْتَفِعُ بِهِ كَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ، أَوْ مِمَّنْ يَلْتَزِمُ بِعَمَلٍ كَالْمُضَارِبِ وَالْمُودَعِ، أَوْ مِمَّنْ يَمْلِكُ الاِسْتِمْتَاعَ بِالْبُضْعِ كَالزَّوْجِ، وَسَوَاءٌ صَدَرَ الْقَبُول أَوَّلاً أَوْ آخِرًا، وَالإِْيجَابُ عِنْدَهُمْ هُوَ مَا يَصْدُرُ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُؤَجِّرِ وَوَلِيِّ الزَّوْجَةِ وَهَكَذَا، وَسَوَاءٌ صَدَرَ الإِْيجَابُ أَوَّلاً أَوْ آخِرًا، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْقَبُول عَلَى الإِْيجَابِ أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ، وَذَلِكَ لِتَحْدِيدِ الْقَابِل وَالْمُوجِبِ.
إلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يُخَالِفُونَ الْمَالِكِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ
__________
(1) المغني 9 / 87، ومغني المحتاج 4 / 392.
(2) حديث عبد الله بن عمرو: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي ". أخرجه الترمذي (3 / 614) وقال: حديث حسن صحيح.
(3) منح الجليل 3 / 452 - 453، وابن عابدين 4 / 494.

(32/305)


فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ تَقَدُّمُ الإِْيجَابِ عَلَى الْقَبُول فِيهِ قَالُوا: لأَِنَّ الْقَبُول إنَّمَا يَكُونُ لِلإِْيجَابِ، فَمَتَى وُجِدَ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ قَبُولاً لِعَدَمِ مَعْنَاهُ، بِخِلاَفِ الْبَيْعِ، لأَِنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ بِالْمُعَاطَاةِ، وَلأَِنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ فِيهِ لَفْظٌ، بَل يَصِحُّ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ مِمَّا يُؤَدِّي الْمَعْنَى (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَالْقَبُول عِنْدَهُمْ هُوَ مَا يَذْكُرُهُ الطَّرَفُ الثَّانِي فِي الْعَقْدِ دَالًّا عَلَى رِضَاهُ بِمَا أَوْجَبَهُ الطَّرَفُ الأَْوَّل. فَهُمْ يَعْتَبِرُونَ الْكَلاَمَ الَّذِي يَصْدُرُ أَوَّلاً إيجَابًا وَالْكَلاَمَ الَّذِي يَصْدُرُ ثَانِيًا قَبُولاً، وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَابِل بَائِعًا أَوْ مُشْتَرِيًا، مُسْتَأْجِرًا أَوْ مُؤَجِّرًا، الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ أَوْ وَلِيَّهَا، يَقُول الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: الإِْيجَابُ: هُوَ إثْبَاتُ الْفِعْل الدَّال عَلَى الرِّضَا الْوَاقِعِ أَوَّلاً سَوَاءٌ وَقَعَ مِنَ الْبَائِعِ كَبِعْتُ، أَوْ مِنَ الْمُشْتَرِي كَأَنْ يَبْتَدِئَ الْمُشْتَرِي فَيَقُول: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ هَذَا بِأَلْفٍ، وَالْقَبُول: الْفِعْل الثَّانِي، وَإِلاَّ فَكُلٌّ مِنْهُمَا إيجَابٌ أَيْ إثْبَاتٌ، فَسُمِّيَ الإِْثْبَاتُ الثَّانِي بِالْقَبُول تَمْيِيزًا لَهُ عَنِ الإِْثْبَاتِ الأَْوَّل، وَلأَِنَّهُ يَقَعُ قَبُولاً وَرِضًا بِفِعْل الأَْوَّل (2) .
__________
(1) الحطاب 4 / 229 وجواهر الإكليل 2 / 2، ومنح الجليل 2 / 11، ومغني المحتاج 3 / 140، ونهاية المحتاج 3 / 366 - 367، 6 / 207، وشرح منتهى الإرادات 2 / 140، 3 / 12، والمغني 6 / 534 - 535.
(2) ابن عابدين 4 / 7، وفتح القدير 5 / 456، نشر دار إحياء التراث.

(32/305)


مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَبُول مِنْ أَحْكَامٍ:
6 - الْقَبُول قَدْ يَكُونُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

أَوَّلاً: الْقَبُول مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:
7 - الْقَبُول مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَأْتِي بِمَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: بِمَعْنَى الصَّفْحِ وَالسَّتْرِ وَالْغُفْرَانِ، وَذَلِكَ فِي قَبُول تَوْبَةِ الْعَبْدِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَل التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} . (1)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَوْبَةٌ ف 12) .
الثَّانِي: يَكُونُ الْقَبُول مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِمَعْنَى الإِْثَابَةِ عَلَى الْعَمَل، لَكِنْ هَل هُنَاكَ تَلاَزُمٌ بَيْنَ صِحَّةِ الْعَمَل وَإِجْزَائِهِ وَبَيْنَ قَبُولِهِ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَمْ لاَ تَلاَزُمَ بَيْنَهُمَا؟ .
يَقُول الْقَرَافِيُّ: هُنَا قَاعِدَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْقَبُول غَيْرُ الإِْجْزَاءِ وَغَيْرُ الْفِعْل الصَّحِيحِ، فَالْمُجْزِئُ مِنَ الأَْفْعَال وَهُوَ الصَّحِيحُ: مَا اجْتَمَعَتْ شَرَائِطُهُ وَأَرْكَانُهُ، وَانْتَفَتْ مَوَانِعُهُ، فَهَذَا يُبْرِئُ الذِّمَّةَ بِغَيْرِ خِلاَفٍ وَيَكُونُ فَاعِلُهُ
__________
(1) سورة الشورى / 25 وانظر مختصر تفسير ابن كثير 3 / 277.

(32/306)


مُطِيعًا بَرِيءَ الذِّمَّةِ، فَهَذَا أَمْرٌ لاَزِمٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، أَمَّا الثَّوَابُ عَلَيْهِ فَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى عَدَمِ لُزُومِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُبْرِئُ الذِّمَّةَ بِالْفِعْل وَلاَ يُثِيبُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْقَبُول.
وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ:

أَحَدُهَا: قَوْله تَعَالَى حِكَايَةٌ عَنِ ابْنَيْ آدَمَ {إنَّمَا يَتَقَبَّل اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (1) لَمَّا قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّل مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّل مِنَ الآْخَرِ، مَعَ أَنَّ قُرْبَانَهُ كَانَ عَلَى وَفْقِ الأَْمْرِ، وَيَدُل عَلَيْهِ أَنَّ أَخَاهُ عَلَّل عَدَمَ الْقَبُول بِعَدَمِ التَّقْوَى، وَلَوْ أَنَّ الْفِعْل مُخْتَلٌّ فِي نَفْسِهِ لَقَال لَهُ إنَّمَا يَتَقَبَّل اللَّهُ الْعَمَل الصَّحِيحَ الصَّالِحَ، لأَِنَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ الْقَرِيبُ لِعَدَمِ الْقَبُول، فَحَيْثُ عَدَل عَنْهُ دَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْفِعْل كَانَ صَحِيحًا مُجْزِئًا، وَإِنَّمَا انْتَفَى الْقَبُول لأَِجْل انْتِفَاءِ التَّقْوَى، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعَمَل الْمُجْزِئَ قَدْ لاَ يُقْبَل وَإِنْ بَرِئَتِ الذِّمَّةُ بِهِ وَصَحَّ فِي نَفْسِهِ.

وَثَانِيهَا: قَوْله تَعَالَى حِكَايَةٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيل رَبَّنَا تَقَبَّل مِنَّا إنَّك أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (2) فَسُؤَالُهُمَا الْقَبُول فِي فِعْلِهِمَا مَعَ أَنَّهُمَا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا
__________
(1) سورة المائدة / 27.
(2) سورة البقرة / 127.

(32/306)


وَسَلاَمُهُ لاَ يَفْعَلاَنِ إلاَّ فِعْلاً صَحِيحًا يَدُل عَلَى أَنَّ الْقَبُول غَيْرُ لاَزِمٍ لِلْفِعْل الصَّحِيحِ وَلِذَلِكَ دَعَوْا بِهِ لأَِنْفُسِهِمَا.

وَثَالِثُهَا: الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ وَهُوَ قَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِْسْلاَمِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِل فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِْسْلاَمِ أُوخِذَ بِالأَْوَّل وَالآْخِرِ (1) فَاشْتَرَطَ فِي الْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ الثَّوَابُ أَنْ يُحْسِنَ فِي الإِْسْلاَمِ وَالإِْحْسَانُ فِي الإِْسْلاَمِ هُوَ التَّقْوَى.

وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الأُْضْحِيَّةِ لَمَّا ذَبَحَهَا: اللَّهُمَّ تَقَبَّل مِنْ مُحَمَّدٍ وَآل مُحَمَّدٍ (2) ، فَسَأَل عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْقَبُول مَعَ أَنَّ فِعْلَهُ فِي الأُْضْحِيَّةِ كَانَ عَلَى وَفْقِ الشَّرِيعَةِ، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقَبُول وَرَاءَ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ وَالإِْجْزَاءِ، وَإِلاَّ لَمَا سَأَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَإِنَّ سُؤَال تَحْصِيل الْحَاصِل لاَ يَجُوزُ.

وَخَامِسُهَا: أَنَّ صُلَحَاءَ الأُْمَّةِ وَخِيَارَهَا لاَ يَزَالُونَ يَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى الْقَبُول فِي الْعَمَل، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ طَلَبًا لِلصِّحَّةِ وَالإِْجْزَاءِ لَكَانَ هَذَا الدُّعَاءُ إنَّمَا يَحْسُنُ قَبْل الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل، فَيُسْأَل اللَّهُ تَعَالَى تَيْسِيرَ الأَْرْكَانِ
__________
(1) حديث: " من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 265) ومسلم (1 / 11) من حديث ابن مسعود.
(2) حديث: " اللهم تقبل من محمد وآل محمد ". أخرجه مسلم (3 / 1557) من حديث عائشة.

(32/307)


وَالشَّرَائِطِ وَانْتِفَاءَ الْمَوَانِعِ، أَمَّا بَعْدَ الْجَزْمِ بِوُقُوعِهَا فَلاَ يَحْسُنُ ذَلِكَ.
فَدَلَّتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ عَلَى أَنَّ الْقَبُول غَيْرُ الإِْجْزَاءِ وَغَيْرُ الصِّحَّةِ وَأَنَّهُ الثَّوَابُ.
وَسَاقَ الْقَرَافِيُّ أَدِلَّةً أُخْرَى غَيْرَ مَا سَبَقَ، ثُمَّ قَال: إذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْفَرْقُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ وَصْفَ التَّقْوَى شَرْطٌ فِي الْقَبُول بَعْدَ الإِْجْزَاءِ، وَالتَّقْوَى هَاهُنَا لَيْسَتْ مَحْمُولَةً عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَهُوَ مُجَرَّدُ الاِتِّقَاءِ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَلَكِنَّهَا اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ وَفِعْل الْوَاجِبَاتِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ الْغَالِبَ عَلَى الشَّخْصِ (1)

ثَانِيًا: قَبُول الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ:
8 - قَبُول الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ يَكُونُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَتِمُّ بَيْنَهُمْ.
وَمِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبُول، وَهِيَ الْعُقُودُ الَّتِي تَتِمُّ بِإِرَادَتَيْنِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ وَالْقِرَاضِ وَالصُّلْحِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهَا، فَهَذِهِ الْعُقُودُ يَتَوَقَّفُ تَمَامُهَا عَلَى الْقَبُول، إذْ هُوَ مُقَابِل الإِْيجَابِ، وَالْعَقْدُ لاَ يَتِمُّ إلاَّ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول، لأَِنَّهُمَا يُكَوِّنَانِ الصِّيغَةَ الَّتِي هِيَ رُكْنُ الْعَقْدِ.
وَمِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مَا لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبُول، وَهِيَ الَّتِي تَتِمُّ بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ، مِنْ
__________
(1) الفروق للقرافي 2 / 51 - 54.

(32/307)


ذَلِكَ: الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْوَقْفِ عَلَى الْمَسَاجِدِ وَعَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَكَذَا الْوَصِيَّةُ لِمِثْل ذَلِكَ، مِنْهَا الإِْسْقَاطَاتُ الْمَحْضَةُ كَالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ إذَا كَانَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا قَبُولٌ وَيَكْفِي لِتَمَامِهَا الإِْيجَابُ فَقَطْ.
وَمِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مَا اُخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبُول فِيهِ، كَالإِْبْرَاءِ بِنَاءً عَلَى الاِخْتِلاَفِ فِي أَنَّهُ إسْقَاطٌ أَوْ تَمْلِيكٌ (1) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (عَقْدٌ) .
9 - وَمِمَّا يَتَّصِل بِالْقَبُول مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ دَائِرَةِ الْعُقُودِ كَقَبُول شَهَادَةِ الشَّاهِدِ، وَقَبُول الدَّعْوَةِ لِلْوَلاَئِمِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

شُرُوطُ الْقَبُول فِي الْعُقُودِ:
لِلْقَبُول فِي الْعُقُودِ شُرُوطٌ مِنْهَا:

أ - أَنْ يَكُونَ الْقَبُول عَلَى وَفْقِ الإِْيجَابِ:
10 - وَهَذَا شَرْطٌ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ، فَفِي الْبَيْعِ مَثَلاً يُشْتَرَطُ أَنْ يَقْبَل الْمُشْتَرِي مَا أَوْجَبَهُ الْبَائِعُ، فَإِنْ خَالَفَهُ بِأَنْ قَبِل غَيْرَ مَا أَوْجَبَهُ أَوْ بَعْضَ مَا أَوْجَبَهُ لَمْ يَنْعَقِدِ
__________
(1) المنثور 2 / 397 - 398، والبدائع 2 / 299، 4 / 174، و5 / 33، و6 / 20، 79، والحطاب 6 / 22، 54، وابن عابدين 4 / 5، ومغني المحتاج 2 / 179، وأشباه السيوطي 303 وما بعدها، وشرح منتهى الإرادات 3 / 543.

(32/308)


الْعَقْدُ، فَلَوْ قَال الْبَائِعُ: بِعْتُكَ بِعَشَرَةٍ فَقَال الْمُشْتَرِي: قَبِلْتُهُ بِثَمَانِيَةٍ لَمْ يَنْعَقِدِ الْبَيْعُ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٌ ف 20) .

ب - أَنْ يَكُونَ الْقَبُول فِي مَجْلِسِ الإِْيجَابِ:
11 - هَذَا الشَّرْطُ يُعَبِّرُ عَنْهُ الْحَنَفِيَّةُ بِ (اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ) وَالْمُرَادُ بِهَذَا: أَلاَ يَتَفَرَّقَ الْعَاقِدَانِ قَبْل الْقَبُول، وَأَلاَّ يَشْتَغِل الْقَابِل أَوِ الْمُوجِبُ بِعَمَلٍ غَيْرِ مَا عُقِدَ لَهُ الْمَجْلِسُ، لأَِنَّ حَالَةَ الْمَجْلِسِ كَحَالَةِ الْعَقْدِ، فَإِنْ تَفَرَّقَا، أَوْ تَشَاغَلاَ بِمَا يَقْطَعُ الْمَجْلِسَ عُرْفًا فَلاَ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، لأَِنَّ ذَلِكَ إعْرَاضٌ عَنْهُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَلاَ يَضُرُّ تَرَاخِي الْقَبُول عَنِ الإِْيجَابِ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ وَلَمْ يَتَشَاغَلاَ بِمَا يَقْطَعُهُ عُرْفًا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: كُل مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبُول مِنَ الْعُقُودِ فَعَلَى الْفَوْرِ أَيْ أَنْ يَكُونَ عَقِبَ الإِْيجَابِ، وَلاَ يَضُرُّ عِنْدَهُمُ الْفَصْل الْيَسِيرُ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 5، والحطاب 4 / 230، وحاشية الجمل 3 / 14، وكشاف القناع 3 / 146 - 148، ومغني المحتاج 2 / 6.
(2) البدائع 5 / 137، والهداية 3 / 21، وابن عابدين 4 / 19 - 20، 2 / 266، والدسوقي 3 / 5، والحطاب 4 / 240، والجمل 3 / 12، ومغني المحتاج 2 / 6، وشرح منتهى الإرادات 2 / 141.

(32/308)


ج - عَدَمُ لُزُومِ الْقَبُول:
12 - إذَا صَدَرَ الإِْيجَابُ مِنْ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَالْعَاقِدُ الآْخَرُ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ قَبِل فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ، وَهُوَ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ الْحَنَفِيَّةُ بِ (خِيَارِ الْقَبُول) قَالُوا: لأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ خِيَارُ الْقَبُول يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَيَمْتَدُّ خِيَارُ الْقَبُول إلَى انْفِضَاضِ الْمَجْلِسِ، فَمَا دَامَ الْمَجْلِسُ قَائِمًا فَلَهُ أَنْ يَقْبَل أَوْ يَدَعَ مَا لَمْ يَرْجِعِ الْمُوجِبُ عَنْ إيجَابِهِ قَبْل انْقِضَاءِ الْمَجْلِسِ.
وَيُوَافِقُ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ، لأَِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ عَمَلاً بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إذَا تَبَايَعَ الرَّجُلاَنِ فَكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا. (1)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ عِنْدَهُمْ لِمَنْ تَقَدَّمَ كَلاَمُهُ أَوَّلاً وَلَوْ قَبْل رِضَا الآْخَرِ، إلاَّ فِي حَالَةِ مَا إذَا كَانَ كَلاَمُ الْمُتَقَدِّمِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ ثُمَّ يَدَّعِي أَنَّهُ مَا أَرَادَ الْبَيْعَ، إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْوَعْدَ أَوِ الْهَزْل، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَحْلِفُ وَيُصَدَّقُ (2) .
__________
(1) حديث: " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 333) ومسلم (3 / 1163) .
(2) البدائع 5 / 134، والهداية 3 / 21، وابن عابدين 4 / 29، والحطاب 4 / 240، والدسوقي 3 / 5، ومغني المحتاج 2 / 43 - 44، والمغني 3 / 563.

(32/309)


وَإِذَا صَدَرَ الْقَبُول بَعْدَ الإِْيجَابِ مُوَافِقًا لَهُ أَصْبَحَ التَّصَرُّفُ لاَزِمًا لاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ إنْ كَانَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ اللاَّزِمَةِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ يَلْزَمُ التَّصَرُّفُ إلاَّ بِانْفِضَاضِ الْمَجْلِسِ أَوِ الإِْلْزَامِ. (1)
وَيَسْتَدِل ابْنُ قُدَامَةَ بِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إذَا تَبَايَعَ الرَّجُلاَنِ فَكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَكَانَا جَمِيعًا، أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ، فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ. (2) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (خِيَارُ الْمَجْلِسِ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا) .

د - أَنْ يَكُونَ الْقَابِل أَهْلاً لِلتَّصَرُّفَاتِ:
13 - وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلاً، وَذَلِكَ شَرْطٌ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ، فَلاَ يَصِحُّ الْقَبُول مِنْ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ، وَإِنَّمَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا الأَْبُ أَوِ الْوَصِيُّ أَوِ الْقَاضِي.
__________
(1) ابن عابدين 4 / 20، والحطاب 4 / 228، وحاشية الجمل 3 / 10، والمغني 3 / 563 وما بعدها.
(2) حديث: " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار. . . ". سبق تخريجه ف 12.

(32/309)


أَمَّا فِي عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ كَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ فَيَصِحُّ الْقَبُول مِنْهُمَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْغِبْطَةِ لَهُمَا، وَلاَ يَتَوَقَّفُ الْقَبُول عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَهْلِيَّةٌ ف 21، 27) .

ثَالِثًا: قَبُول الشَّهَادَةِ:
14 - الْمَقْصُودُ بِقَبُول الشَّهَادَةِ: تَصْدِيقُ الْقَاضِي فِيمَا يَشْهَدُ بِهِ الشَّاهِدُ لِيُرَتِّبَ الْحُكْمَ عَلَى شَهَادَتِهِ، إذْ الشَّهَادَةُ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ تُظْهِرُ الْحَقَّ وَتُوجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِمُقْتَضَاهَا، لأَِنَّهَا إذَا اسْتَوْفَتْ شُرُوطَهَا كَانَتْ مُظْهِرَةً لِلْحَقِّ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ.
وَنَظَرًا لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا فَقَدْ وَضَعَ الْفُقَهَاءُ شُرُوطًا لِقَبُول الشَّهَادَةِ مِنْ حَيْثُ الشَّاهِدُ كَكَوْنِهِ بَالِغًا عَاقِلاً عَدْلاً غَيْرَ مُتَّهَمٍ. . . إلَخْ وَمِنْ حَيْثُ الْمَشْهُودُ بِهِ كَكَوْنِهِ مَعْلُومًا، وَمِنْ حَيْثُ عَدَدُ الشُّهُودِ. . . وَهَكَذَا.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَةٌ ف 9 وَمَا بَعْدَهَا) .

رَابِعًا: قَبُول الدَّعْوَةِ:
يُقْصَدُ بِالدَّعْوَةِ هُنَا أَمْرَانِ.

(32/310)


أَحَدُهُمَا: الدَّعْوَةُ إلَى الإِْيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالإِْيمَانِ بِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ:
15 - وَقَبُول الدَّعْوَةِ إلَى الإِْيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ إذِ الإِْقْبَال عَلَى مَا دَعَا إلَيْهِ الدَّاعِي وَمُتَابَعَتُهُ فِيمَا دَعَا إلَيْهِ هُوَ الْخَيْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي يَسُوقُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِمَنْ قَبِل الدَّعْوَةَ، فَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: جَاءَتْ مَلاَئِكَةٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَائِمٌ. . .، إلَى أَنْ قَال: فَقَالُوا: مَثَلُهُ كَمَثَل رَجُلٍ بَنَى دَارًا جَعَل فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَل الدَّارَ وَأَكَل مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُل الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُل مِنَ الْمَأْدُبَةِ، فَأَوَّلُوا الرُّؤْيَا فَقَالُوا: الدَّارُ: الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِي: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ " (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (دَعْوَةٌ ف 17) .

الأَْمْرُ الثَّانِي: الدَّعْوَةُ إلَى الطَّعَامِ:
16 - وَالْقَبُول هُنَا هُوَ إجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَالذَّهَابُ إلَى الْوَلِيمَةِ الَّتِي دُعِيَ إلَيْهَا.
وَقَبُول الدَّعْوَةِ إلَى الْوَلِيمَةِ وَاجِبٌ إنْ كَانَتِ الْوَلِيمَةُ وَلِيمَةَ عُرْسٍ.
__________
(1) حديث جابر: " جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 249) .

(32/310)


أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْوَلاَئِمِ كَالْعَقِيقَةِ وَالْعَذِيرَةِ وَالْوَكِيرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ قَبُول الدَّعْوَةِ إلَيْهَا، هَل هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (دَعْوَةٌ ف 32) .

(32/311)


قَبِيلَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَبِيلَةُ فِي اللُّغَةِ: جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ تَنْتَسِبُ إلَى أَبٍ أَوْ جَدٍّ وَاحِدٍ، وَقِيل: الْقَبِيلَةُ الْبَطْنُ، وَالْقَبِيل: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ تَتَكَوَّنُ مِنْ ثَلاَثَةٍ فَصَاعِدًا مِنْ قَوْمٍ شَتَّى.
وَالْقَبِيلَةُ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ: الصِّنْفُ، جَمْعُ قَبَائِل وَقَبِيلٍ، وَقَبَائِل الشَّجَرَةِ أَغْصَانُهَا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْقَبِيلَةُ هِيَ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
(أ) الشَّعْبُ:
2 - الشَّعْبُ بِفَتْحِ الشَّيْنِ: الْقَبِيلَةُ الْعَظِيمَةُ، وَقِيل: الْحَيُّ الْعَظِيمُ يَتَشَعَّبُ مِنَ الْقَبِيلَةِ، وَقِيل هُوَ الْقَبِيلَةُ نَفْسُهَا، وَجَمْعُهُ شُعُوبٌ.
وَالشَّعْبُ أَبُو الْقَبَائِل الَّذِي يَنْتَسِبُونَ إلَيْهِ
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، المعجم الوسيط، المفردات في غريب القرآن للأصفهاني.
(2) الحطاب 6 / 266 وما بعدها.

(32/311)


أَيْ يَجْمَعُهُمْ وَيَضُمُّهُمْ، وَقِيل: الشُّعُوبُ الْجُمَّاعُ، وَالْقَبَائِل الْبُطُونُ، وَالشَّعْبُ مَا تَشَعَّبَ مِنْ قَبَائِل الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَكُل جِيلٍ شَعْبٌ، وَالشَّعْبُ قَدْ يَكُونُ أَوْسَعَ مِنَ الْقَبِيلَةِ، وَهُوَ مَا انْقَسَمَتْ فِيهِ الْقَبَائِل، وَقَدْ يَكُونُ مُسَاوِيًا لِلْقَبِيلَةِ (1) .

(ب) الْعَشِيرَةُ:
3 - الْعَشِيرَةُ فِي أَصْل اللُّغَةِ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ وَهِيَ الْمُخَالَطَةُ، وَلاَ وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، وَالْجَمْعُ عَشَائِرُ وَعَشِيرَاتٌ، وَعَشِيرَةُ الرَّجُل بَنُو أَبِيهِ الأَْقْرَبُونَ، وَتُطْلَقُ عَلَى الرِّجَال دُونَ النِّسَاءِ، وَهُمْ أَهْل الرَّجُل الَّذِينَ يَتَكَثَّرُ بِهِمْ أَيْ يَصِيرُونَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَدِ الْكَامِل، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَشَرَةَ هُوَ الْعَدَدُ الْكَامِل، فَصَارَتِ اسْمًا لِكُل جَمَاعَةٍ مِنْ أَقَارِبِ الرَّجُل الَّذِينَ يَتَكَثَّرُ بِهِمْ. (2)
وَالْعَشِيرَةُ أَخَصُّ مِنَ الْقَبِيلَةِ.

(ح) الْقَوْمُ
4 - الْقَوْمُ فِي اللُّغَةِ: جَمَاعَةُ الرِّجَال لَيْسَ فِيهِمُ امْرَأَةٌ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى فِي التَّنْزِيل: {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} (3) الْوَاحِدُ مِنْهُ رَجُلٌ وَامْرُؤٌ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ، وَالْجَمْعُ أَقْوَامٌ، سُمُّوا
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، والمفردات للراغب.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن.
(3) سورة الحجرات / 11.

(32/312)


بِذَلِكَ لِقِيَامِهِمْ بِالْعَظَائِمِ وَالْمُهِمَّاتِ، وَلَفْظُ الْقَوْمِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ فَيُقَال: قَامَ الْقَوْمُ، وَقَامَتِ الْقَوْمُ، وَكَذَلِكَ كُل اسْمِ جَمْعٍ لاَ وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، نَحْوُ رَهْطٍ وَنَفَرٍ.
وَقَوْمُ الرَّجُل أَقْرِبَاؤُهُ الَّذِينَ يَجْتَمِعُونَ مَعَهُ فِي جَدٍّ وَاحِدٍ، وَقَدْ يُقِيمُ الرَّجُل بَيْنَ الأَْجَانِبِ فَيُسَمِّيهِمْ قَوْمَهُ مَجَازًا لِلْمُجَاوَرَةِ.
قَال الْعُلَمَاءُ: الْقَوْمُ فِي الأَْصْل جَمَاعَةُ الرِّجَال دُونَ النِّسَاءِ إلاَّ أَنَّهُ فِي عَامَّةِ الْقُرْآنِ أُرِيدَ بِهِ الرِّجَال وَالنِّسَاءُ جَمِيعًا (1) .
وَالْقَوْمُ أَخَصُّ مِنَ الْقَبِيلَةِ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَبِيلَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أ - الْكَفَاءَةُ فِي النِّكَاحِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ النَّسَبِ إلَى الْقَبِيلَةِ فِي الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إلَى اعْتِبَارِ الْقَبِيلَةِ فِي كَفَاءَةِ النِّكَاحِ، وَأَنَّ الرَّجُل لَيْسَ كُفْئًا لاِمْرَأَةٍ تُنْسَبُ إلَى قَبِيلَةٍ أَشْرَفَ مِنْ قَبِيلَتِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - إلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْقَبِيلَةِ أَوِ النَّسَبِ فِي كَفَاءَةِ النِّكَاحِ، وَأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فَقَطْ هُوَ الدِّينُ، (2) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ أَكْرَمَكُمْ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن.
(2) الرزقاني 3 / 202، جواهر الإكليل 1 / 288، تفسير القرطبي 16 / 346 وما بعدها، أحكام القرآن لابن العربي 4 / 1713 وما بعدها، حاشية ابن عابدين 2 / 318 وما بعدها، مغني المحتاج 3 / 165 - 166، المغني لابن قدامة 6 / 480 وما بعدها.

(32/312)


عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاحٌ، وَكَفَاءَةٌ) .

(ب) التَّعَصُّبُ لِلْقَبِيلَةِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ التَّعَصُّبِ لِلْقَبِيلَةِ وَأَبْنَاءِ الْعَشِيرَةِ وَالاِنْحِيَازِ إلَى الْقَرَابَةِ، وَالْمُحَابَاةِ بِسَبَبِهَا، وَالاِقْتِتَال مِنْ أَجْلِهَا أَوْ تَحْتَ لِوَائِهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْحَقِّ.
وَقَدْ جَاءَ الإِْسْلاَمُ لِيُزِيل آثَارَ الْقَبَلِيَّةِ السَّيِّئَةِ فَأَلَّفَ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَمَنَعَ التَّقَاطُعَ، وَالتَّدَابُرَ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْل اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} ، (2) وَقَال تَعَالَى: {يَأَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِل لَتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} . (3)
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بَنِي بَيَاضَةَ أَنْ يُزَوِّجُوا أَبَا هِنْدٍ امْرَأَةً مِنْهُمْ فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ: نُزَوِّجُ بَنَاتَنَا مَوَالِيَنَا؟ فَأَنْزَل اللَّهُ عَزَّ وَجَل
__________
(1) سورة الحجرات / 13.
(2) سورة آل عمران / 103.
(3) سورة الحجرات / 13.

(32/313)


هَذِهِ الآْيَةَ. (1) وَعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَال: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ رَقَى بِلاَلٌ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، فَأَذَّنَ فَقَال بَعْضُ النَّاسِ: يَا عِبَادَ اللَّهِ، أَهَذَا الْعَبْدُ الأَْسْوَدُ يُؤَذِّنُ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ؟ فَقَال بَعْضُهُمْ: إنْ يَسْخَطِ اللَّهُ هَذَا يُغَيِّرْهُ فَأَنْزَل اللَّهُ تَعَالَى: {يَأَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} . (2)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: زَجَرَهُمْ عَنِ التَّفَاخُرِ بِالأَْنْسَابِ، وَالتَّكَاثُرِ بِالأَْمْوَال، وَالاِزْدِرَاءِ بِالْفُقَرَاءِ، فَإِنَّ الْمَدَارَ عَلَى التَّقْوَى (3) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا، إنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجُعَل الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخِرَاءَ بِأَنْفِهِ، إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، إنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ. (4)
__________
(1) حديث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بني بياضة أن يزوجوا أبا هند. . . ". أخرجه أبو داود في المراسيل (ص 195) من حديث الزهري مرسلاً.
(2) حديث ابن أبي مليكة: " لما كان يوم الفتح رقى بلال. . . ". أخرجه الواحدي في أسباب النزول (ص 418) من حديث ابن أبي مليكة مرسلاً.
(3) تفسير القرطبي 16 / 340 وما بعدها، 4 / 155، وأحكام القرآن لابن العربي 4 / 1713.
(4) حديث: " لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 734) وقال: حديث حسن غريب.

(32/313)


وَعَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَال: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَسْطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلاَ إنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْل لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلاَ لأَِحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلاَ لأَِسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إلاَّ بِالتَّقْوَى. أَبَلَّغْتُ؟ (1) الْحَدِيثَ.
وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَعْرِضِ ذَمِّهِ لِلْعَصَبِيَّةِ الْقَبَلِيَّةِ: دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ (2)
__________
(1) حديث أبي نضرة " عمن سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ". أخرجه أحمد (5 / 411) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (3 / 266) وقال: رجاله رجال الصحيح.
(2) حديث: " دعوها فإنها منتنة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 652) ومسلم (4 / 1999) من حديث جابر بن عبد الله.

(32/314)


قِتَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقِتَال مَصْدَرُ قَاتَل، وَمَصْدَرُ الثُّلاَثِيِّ مِنْهُ قَتْلٌ، وَأَصْل الْقَتْل: الإِْمَاتَةُ، وَهِيَ إزَالَةُ الرُّوحِ عَنِ الْجَسَدِ، لَكِنْ إذَا اُعْتُبِرَ بِفِعْل الْمُتَوَلِّي ذَلِكَ يُقَال: قَتْلٌ، وَإِذَا اُعْتُبِرَ بِفَوْتِ الْحَيَاةِ يُقَال: مَوْتٌ.
وَالْقِتَال مِنَ الْمُقَاتَلَةِ وَالْمُحَارَبَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَالْمُقَاتِلَةُ - بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا - الَّذِينَ يَشْتَرِكُونَ فِي الْقِتَال، لأَِنَّ الْفِعْل وَاقِعٌ مِنْ كُل وَاحِدٍ.
وَقَاتَلَهُ اللَّهُ: لَعَنَهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلَّفْظِ " قِتَالٌ " عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحِرَابَةُ:
2 - الْحِرَابَةُ لُغَةً: مِنَ الْحَرْبِ الَّتِي هِيَ نَقِيضُ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات للراغب.
(2) المهذب 2 / 218 - 219، وفتح القدير 4 / 411، وجواهر الإكليل 1 / 207.

(32/314)


السِّلْمِ، يُقَال: حَارَبَهُ مُحَارَبَةً وَحِرَابًا، أَوْ مِنَ الْحَرَبِ - بِفَتْحِ الرَّاءِ - وَهُوَ السَّلْبُ (1) .
وَالْحِرَابَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ هِيَ الْبُرُوزُ لِلنَّاسِ لأَِخْذِ الْمَال أَوْ لِلْقَتْل أَوْ لِلإِْرْعَابِ عَلَى سَبِيل الْمُجَاهَرَةِ (2) .
وَبَيْنَ الْقِتَال وَالْحِرَابَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ.

ب - الْجِهَادُ:
3 - الْجِهَادُ لُغَةً: قِتَال الْعَدُوِّ، يُقَال: جَاهَدَ الْعَدُوَّ مُجَاهَدَةً وَجِهَادًا إذَا قَاتَلَهُ (3) .
وَاصْطِلاَحًا: قِتَال الْمُسْلِمِينَ الْكُفَّارَ غَيْرَ الْمُعَاهِدِينَ إعْلاَءً لِكَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ دَعْوَتِهِمْ إلَى الإِْسْلاَمِ وَإِبَائِهِمْ (4) .
وَبَيْنَ الْقِتَال وَالْجِهَادِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الْقِتَال قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا وَذَلِكَ كَقِتَال الْكُفَّارِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَال وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} . (5) وَكَقِتَال الْبُغَاةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} . (6)
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) المغني 8 / 278، ومغني المحتاج 4 / 180.
(3) لسان العرب، والقاموس المحيط.
(4) فتح القدير 4 / 277، وجواهر الإكليل 1 / 250.
(5) سورة البقرة / 216.
(6) سورة الحجرات / 9.

(32/315)


وَقَدْ يَكُونُ الْقِتَال حَرَامًا، كَالْقِتَال الَّذِي يَحْدُثُ مِنَ الْبُغَاةِ الْخَارِجِينَ عَنِ الإِْمَامِ (1) .
وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا كَالْقِتَال لِدَفْعِ الصَّائِل عَنِ النَّفْسِ أَوِ الْبُضْعِ زَمَنَ الْفِتْنَةِ إذَا قَصَدَهُ وَحْدَهُ. قَال فِي مِنَحِ الْجَلِيل: إذَا قَصْدَهُ وَحْدَهُ فَالأَْمْرَانِ - أَيِ الدَّفْعُ وَعَدَمُهُ - سَوَاءٌ، وَالسَّاكِتُ عَنِ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى يُقْتَل لاَ يُعَدُّ آثِمًا وَلاَ قَاتِلاً لِنَفْسِهِ (2) .

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِتَال مِنْ أَحْكَامٍ:
أ - قِتَال الْكُفَّارِ:
5 - قِتَال الْكُفَّارِ فَرْضٌ فِي الْجُمْلَةِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَال وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} (3) وقَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ، (4) لَكِنَّ الْقِتَال يَكُونُ بَعْدَ دَعْوَتِهِمْ إلَى الإِْسْلاَمِ بِاللِّسَانِ وَإِقَامَةِ الدَّلِيل وَإِبَائِهِمْ، قَال الْكَاسَانِيُّ: إنْ كَانَتِ الدَّعْوَةُ إلَى الإِْسْلاَمِ لَمْ تَبْلُغِ الْكُفَّارَ فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ الدَّعْوَةُ إلَى الإِْسْلاَمِ بِاللِّسَانِ، لِقَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {اُدْعُ إلَى سَبِيل رَبِّك بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ
__________
(1) المهذب 2 / 219، 228، والبدائع 7 / 100، والمغني 8 / 107 - 108.
(2) منح الجليل 4 / 562، والفروق للقرافي 4 / 184.
(3) سورة البقرة / 216.
(4) سورة التوبة / 5.

(32/315)


أَحْسَنُ} ، (1) وَلاَ يَجُوزُ لَهُمُ الْقِتَال قَبْل الدَّعْوَةِ.
وَالدَّعْوَةُ دَعْوَتَانِ: دَعْوَةٌ بِالْبَنَانِ وَهِيَ الْقِتَال، وَدَعْوَةٌ بِالْبَيَانِ وَهُوَ اللِّسَانُ وَذَلِكَ بِالتَّبْلِيغِ، وَالثَّانِيَةُ أَهْوَنُ مِنَ الأُْولَى، لأَِنَّ فِي الْقِتَال مُخَاطَرَةً بِالرُّوحِ وَالنَّفْسِ وَالْمَال، وَلَيْسَ فِي دَعْوَةِ التَّبْلِيغِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا اُحْتُمِل حُصُول الْمَقْصُودِ بِأَهْوَنِ الدَّعْوَتَيْنِ لَزِمَ الاِفْتِتَاحُ بِهَا. هَذَا إذَا كَانَتِ الدَّعْوَةُ لَمْ تَبْلُغْهُمْ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ جَازَ لَهُمْ أَنْ يَفْتَتِحُوا الْقِتَال مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ، لأَِنَّ الْحُجَّةَ لاَزِمَةٌ، وَالْعُذْرَ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْقَطِعٌ، وَشُبْهَةَ الْعُذْرِ انْقَطَعَتْ بِالتَّبْلِيغِ مَرَّةً، لَكِنْ مَعَ هَذَا الأَْفْضَل أَنْ لاَ يَفْتَتِحُوا الْقِتَال إلاَّ بَعْدَ تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ لِرَجَاءِ الإِْجَابَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَاتَل قَوْمًا حَتَّى يَدْعُوَهُمْ (2) ، فَإِنْ أَسْلَمُوا كَفُّوا عَنْهُمُ الْقِتَال، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلاَّ بِحَقِّهَا، (3) فَإِنْ أَبَوُا الإِْجَابَةَ إلَى الإِْسْلاَمِ دَعَوْهُمْ إلَى الذِّمَّةِ إلاَّ
__________
(1) سورة النحل / 125.
(2) حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما قاتل قومًا حتى يدعوهم ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (5 / 304) وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني بأسانيد، ورجال أحدهما رجال الصحيح.
(3) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس. . . ". أخرجه مسلم (1 / 53) من حديث جابر بن عبد الله.

(32/316)


مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ، فَإِنْ أَجَابُوا كَفُّوا عَنْهُمْ لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَال: اُغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيل اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ، اُغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تُمَثِّلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ أَوْ خِلاَلٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَل مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى الإِْسْلاَمِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَل مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى التَّحَوُّل مِنْ دَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إلاَّ أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَل مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْل حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَل لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلاَ تَجْعَل لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلاَ ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَل لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ، فَإِنَّكُمْ إنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ

(32/316)


وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْل حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ، فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ (1) .

ب - قِتَال الْبُغَاةِ:
6 - الْبُغَاةُ هُمُ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ عَلَى الإِْمَامِ يَبْغُونَ خَلْعَهُ أَوْ مَنْعَ الدُّخُول فِي طَاعَتِهِ، أَوْ مَنْعَ حَقٍّ وَاجِبٍ بِتَأْوِيلٍ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ (2) .
وَالأَْصْل فِي مَشْرُوعِيَّةِ قِتَالِهِمْ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} (3) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَنِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إمَامَتِهِ وَبَيْعَتِهِ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ وَوَجَبَتْ مَعُونَتُهُ، وَمُحَرَّمٌ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ، لِمَا فِي الْخُرُوجِ عَلَيْهِ مِنْ شَقِّ عَصَا الطَّاعَةِ، وَيَدْخُل الْخَارِجُ فِي عُمُومِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي وَهُمْ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ
__________
(1) حديث بريدة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرًا. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1357 - 1358) ، وانظر البدائع 7 / 100.
(2) الفروق 4 / 171.
(3) سورة الحجرات / 9.

(32/317)


كَانَ، (1) فَمَنْ خَرَجَ عَلَى مَنْ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ بَاغِيًا وَجَبَ قِتَالُهُ، لَكِنْ لاَ يَجُوزُ قِتَال الْبُغَاةِ حَتَّى يَبْعَثَ إلَيْهِمُ الإِْمَامُ مَنْ يَسْأَلُهُمْ وَيَكْشِفُ لَهُمُ الصَّوَابَ، وَيُزِيل مَا يَذْكُرُونَهُ مِنَ الْمَظَالِمِ، فَإِنْ لَجُّوا قَاتَلَهُمْ حِينَئِذٍ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الآْيَةِ الأَْمْرَ بِالإِْصْلاَحِ قَبْل الْقِتَال.
وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رَاسَل أَهْل الْبَصْرَةِ قَبْل وَقْعَةِ الْجَمَل، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ لاَ يَبْدَءُوهُمْ بِالْقِتَال، وَكَذَلِكَ بَعَثَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إلَى الْحَرُورِيَّةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا (2) .
فَإِنْ أَبَى الْبُغَاةُ الرُّجُوعَ إلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَاعَةِ الإِْمَامِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْبَدْءِ بِقِتَالِهِمْ، هَل يَجُوزُ الْبَدْءُ بِقِتَالِهِمْ وَعَدَمُ الاِنْتِظَارِ، أَمْ لاَ يَبْدَؤُهُمْ الإِْمَامُ بِالْقِتَال حَتَّى يَبْدَءُوهُ، لأَِنَّ قِتَالَهُمْ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بُغَاةٌ ف 11) .

ح - قِتَال الْمُرْتَدِّينَ:
7 - إذَا ارْتَدَّ أَهْل بَلَدٍ وَجَرَتْ فِيهِ أَحْكَامُهُمْ صَارُوا دَارَ حَرْبٍ فِي اغْتِنَامِ أَمْوَالِهِمْ وَسَبْيِ
__________
(1) حديث: " من خرج على أمتي وهم جميع. . . ". أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (2 / 526) من حديث أسامة ابن شريك، وله شاهد من حديث عرفجة عند مسلم (3 / 1479) .
(2) المغني 8 / 107 - 108.

(32/317)


ذَرَارِيِّهِمُ الْحَادِثِينَ بَعْدَ الرِّدَّةِ، وَعَلَى الإِْمَامِ قِتَالُهُمْ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَاتَل أَهْل الرِّدَّةِ بِجَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَلأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِقِتَال الْكُفَّارِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، وَهَؤُلاَءِ أَحَقُّ مِنْهُمْ بِالْقِتَال، لأَِنَّ تَرْكَهُمْ رُبَّمَا أَغْرَى أَمْثَالَهُمْ بِالتَّشَبُّهِ بِهِمْ وَالاِرْتِدَادِ مَعَهُمْ، فَيَكْثُرَ الضَّرَرُ، وَإِذَا قَاتَلَهُمْ قَتَل مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَيَتَّبِعُ مُدْبِرَهُمْ، وَيُجْهِزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَتُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوِ ارْتَدَّ أَهْل مَدِينَةٍ اُسْتُتِيبُوا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا قُوتِلُوا، وَلاَ يُسْبَوْنَ وَلاَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (رِدَّةٌ ف 40 وَمَا بَعْدَهَا) ، وَمُصْطَلَحِ (سَبْيٌ ف 7 وَمَا بَعْدَهَا) ، مُصْطَلَحِ (اسْتِرْقَاقٌ ف 8 وَمَا بَعْدَهَا) .

د - الْقِتَال دِفَاعًا عَنِ الْعِرْضِ وَالنَّفْسِ وَالْمَال:
8 - إذَا تَعَرَّضَ شَخْصٌ لإِِنْسَانٍ يُرِيدُ الاِعْتِدَاءَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوْ مَالِهِ فَإِنْ أَمْكَنَهُ رَدُّهُ بِأَسْهَل طَرِيقَةٍ مُمْكِنَةٍ فَعَل ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ رَدُّهُ إلاَّ بِالْقِتَال قَاتَلَهُ، فَإِنْ قُتِل الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَإِنْ قُتِل الْمُعْتَدِي فَلاَ

(32/318)


قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَالأَْصْل فِي هَذَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قُتِل دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ. (1)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: جَاءَ رَجُلٌ، فَقَال يَا رَسُول اللَّهِ: أَرَأَيْتَ إنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَال: فَلاَ تُعْطِهِ مَالَكَ، قَال: أَرَأَيْتَ إنْ قَاتَلَنِي؟ قَال: قَاتِلْهُ، قَال: أَرَأَيْتَ إنْ قَتَلَنِي؟ قَال: فَأَنْتَ شَهِيدٌ، قَال: أَرَأَيْتَ إنْ قَتَلْتُهُ؟ قَال: هُوَ فِي النَّارِ. (2)
إلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يُفَرِّقُونَ فِي وُجُوبِ الدَّفْعِ وَالْقِتَال بَيْنَ مُحَاوِلَةِ الْعُدْوَانِ عَلَى النَّفْسِ أَوِ الْعِرْضِ أَوِ الْمَال، فَبِالنِّسْبَةِ لِلْعُدْوَانِ عَلَى الْعِرْضِ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ دَفْعِ الْمُعْتَدِي عَلَى الْعِرْضِ بِكُل مَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِهِ وَلَوْ بِالْقِتَال، لأَِنَّ الْعِرْضَ لاَ يَجُوزُ إبَاحَتُهُ، قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي امْرَأَةٍ أَرَادَهَا رَجُلٌ عَنْ
__________
(1) حديث: " من قتل دون ماله فهو شهيد. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 30) من حديث سعيد بن زيد، وقال: حديث حسن صحيح.
(2) حديث أبي هريرة: جاء رجل فقال: يا رسول اله: " أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي. . . ". أخرجه مسلم (1 / 124) .

(32/318)


نَفْسِهَا فَقَتَلَتْهُ لِتَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهَا: لاَ شَيْءَ عَلَيْهَا.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْعُدْوَانِ عَلَى النَّفْسِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ تَخْلِيصُ نَفْسِهِ إلاَّ بِالْقِتَال فَإِنَّهُ يُقَاتِلُهُ، وَفِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يَجِبُ الدَّفْعُ، وَيَجُوزُ الاِسْتِسْلاَمُ إذَا لَمْ يَكُنِ الْمُعْتَدِي مُهْدَرَ الدَّمِ، فَإِنْ كَانَ مُهْدَرَ الدَّمِ كَالْكَافِرِ وَجَبَ قِتَالُهُ، وَمَا سَبَقَ مِنَ الْحُكْمِ إنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ زَمَنِ الْفِتْنَةِ، أَمَّا فِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ فَلاَ يَجِبُ الْقِتَال، وَإِنَّمَا يَجُوزُ الاِسْتِسْلاَمُ.
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْعُدْوَانِ عَلَى الْمَال فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَابِلَةِ يَجِبُ الدِّفَاعُ عَنِ الْمَال بِالْقِتَال إذَا لَمْ يُمْكِنْ سِوَى ذَلِكَ، قَال أَحْمَدُ فِي اللُّصُوصِ يُرِيدُونَ نَفْسَكَ وَمَالَكَ: قَاتِلْهُمْ تَمْنَعْ نَفْسَكَ وَمَالَكَ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ يَجِبُ الدَّفْعُ عَنِ الْمَال، لأَِنَّ الْمَال يَجُوزُ بَذْلُهُ وَإِبَاحَتُهُ لِلْغَيْرِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (صِيَالٌ ف 5، 12) .
__________
(1) الهداية 4 / 164 - 165، وابن عابدين 5 / 351، ومنح الجليل 4 / 562، وجواهر الإكليل 2 / 297، والتبصرة بهامش فتح العلي المالك 2 / 185 - 186، 272 - 274، ومغني المحتاج 4 / 194، والمهذب 2 / 225 - 226، ومنتهى الإرادات 3 / 378، والمغني 8 / 330 - 332.

(32/319)


هـ - قِتَال مَانِعِ الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ عَنِ الْمُضْطَرِّ:
9 - مَنِ اُضْطُرَّ إلَى الطَّعَامِ فَلَمْ يَجِدْ إلاَّ طَعَامَ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُضْطَرًّا إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ مُضْطَرًّا إلَيْهِ لَزِمَهُ بَذْلُهُ لِلْمُضْطَرِّ، لأَِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ إحْيَاءُ نَفْسِ آدَمِيٍّ مَعْصُومٍ فَلَزِمَهُ بَذْلُهُ، لأَِنَّ الاِمْتِنَاعَ مِنْ بَذْلِهِ إعَانَةٌ عَلَى قَتْلِهِ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْل مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ (1) فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ بَذْلِهِ وَلَوْ بِالثَّمَنِ فَلِلْمُضْطَرِّ أَخْذُهُ، وَإِنِ احْتَاجَ فِي ذَلِكَ إلَى قِتَالٍ قَاتَلَهُ، فَإِنْ قُتِل الْمُضْطَرُّ فَهُوَ شَهِيدٌ وَعَلَى قَاتِلِهِ ضَمَانُهُ، وَإِنْ قُتِل صَاحِبُ الطَّعَامِ فَهُوَ هَدَرٌ لأَِنَّهُ ظَالِمٌ بِقِتَالِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لِلْمُضْطَرِّ قِتَال الْمُمْتَنِعِ مِنْ بَذْل الطَّعَامِ لَكِنْ بِدُونِ سِلاَحٍ (2) .
وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْل مَاءٍ مَمْلُوكٍ لَهُ مُحْرَزٍ فِي الأَْوَانِي وَنَحْوِهَا وَاحْتَاجَ إلَيْهِ غَيْرُهُ لِشُرْبِهِ أَوْ شُرْبِ مَاشِيَتِهِ وَجَبَ عَلَى صَاحِبِهِ بَذْلُهُ لَهُ،
__________
(1) حديث: " من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 874) ، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 83) .
(2) ابن عابدين 5 / 215، والبدائع 6 / 188، والتبصرة بهامش فتح العلل المالك 2 / 193، والمهذب 1 / 257، ومغني المحتاج 4 / 308، والمغني 8 / 602.

(32/319)


وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ مَنْعُهُ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُمْنَعُ فَضْل الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلأَُ. (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يُقَاتِل الْمُمْتَنِعَ عَنْ بَذْل فَضْل الْمَاءِ لِيَأْخُذَهُ، لَكِنْ خَصَّ الْحَنَفِيَّةُ الْقِتَال هُنَا بِأَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ سِلاَحٍ كَمَا تَقَدَّمَ. (2)
وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ وَاضْطُرَّ نَاسٌ إلَى الْمَاءِ لِشُرْبِهِمْ وَسَقْيِ دَوَابِّهِمْ وَلَمْ يَجِدُوا غَيْرَ هَذَا الْمَاءِ فَإِنَّهُ يُقَال لِصَاحِبِ الْمَاءِ: إمَّا أَنْ تَأْذَنَ لِهَؤُلاَءِ النَّاسِ بِالدُّخُول، وَإِمَّا أَنْ تُعْطِيَ بِنَفْسِك، فَإِنْ لَمْ يُعْطِهِمْ وَمَنَعَهُمْ مِنَ الدُّخُول، فَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُ بِالسِّلاَحِ لِيَأْخُذُوا قَدْرَ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْهَلاَكُ عَنْهُمْ وَعَنْ دَوَابِّهِمْ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا وَرَدُوا مَاءً فَسَأَلُوا أَهْلَهُ أَنْ يَدُلُّوهُمْ عَلَى الْبِئْرِ فَأَبَوْا، وَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُعْطُوهُمْ دَلْوًا فَأَبَوْا، فَقَالُوا لَهُمْ، إنَّ أَعْنَاقَنَا وَأَعْنَاقَ مَطَايَانَا كَادَتْ تُقْطَعُ فَأَبَوْا، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِعُمَرِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَال: هَلاَّ وَضَعْتُمْ فِيهِمُ السِّلاَحَ (3) .
__________
(1) حديث: " لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلام ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 31) ومسلم (3 / 1198) من حديث أبي هريرة.
(2) البدائع 6 / 188، ومنح الجليل 4 / 26 - 28، ومغني المحتاج 2 / 375، والمهذب 1 / 435، ومنتهى الإرادات 2 / 461.
(3) البدائع 6 / 189، وابن عابدين 5 / 283، والهداية 4 / 104.

(32/320)


و - قِتَال الْمُمْتَنِعِينَ عَنْ أَدَاءِ الشَّعَائِرِ:
10 - يُعْتَبَرُ الأَْذَانُ مِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ وَخَصَائِصِهِ، وَلِذَلِكَ لَوِ اجْتَمَعَ أَهْل بَلْدَةٍ عَلَى تَرْكِهِ قَاتَلَهُمُ الإِْمَامُ، لأَِنَّ الاِجْتِمَاعَ عَلَى تَرْكِهِ اسْتِخْفَافٌ بِالدِّينِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: يُحْبَسُونَ وَيُضْرَبُونَ وَلاَ يُقَاتَلُونَ بِالسِّلاَحِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (أَذَانٌ ف 5) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 209، ومنح الجليل 1 / 117، ومغني المحتاج 1 / 134.

(32/320)


قَتْلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَتْل فِي اللُّغَةِ: فِعْلٌ يَحْصُل بِهِ زُهُوقُ الرُّوحِ (1) يُقَال: قَتَلَهُ قَتْلاً: أَزْهَقَ رُوحَهُ، وَالرَّجُل قَتِيلٌ وَالْمَرْأَةُ قَتِيلٌ إذَا كَانَ وَصْفًا، فَإِذَا حُذِفَ الْمَوْصُوفُ جُعِل اسْمًا وَدَخَلَتِ الْهَاءُ نَحْوُ: رَأَيْتُ قَتِيلَةَ بَنِي فُلاَنٍ.
وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ نَقْلاً عَنِ التَّهْذِيبِ يُقَال: قَتَلَهُ بِضَرْبٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ سُمٍّ: أَمَاتَهُ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، قَال الْبَابَرْتِيُّ: إنَّ الْقَتْل فِعْلٌ مِنَ الْعِبَادِ تَزُول بِهِ الْحَيَاةُ (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجَرْحُ:
2 - الْجَرْحُ بِالْفَتْحِ مَصْدَرُ جَرَحَ يَجْرَحُ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) لسان العرب.
(3) العناية على الهداية ونتائج الأفكار 8 / 244 ط. دار صادر للطباعة.

(32/321)


جَرْحًا: أَثَرٌ بِالسِّلاَحِ وَنَحْوِهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْجَرْحُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْقَتْل.

ب - الضَّرْبُ:
3 - مِنْ مَعَانِي الضَّرْبِ: الإِْصَابَةُ بِالْيَدِ أَوِ السَّوْطِ أَوِ السَّيْفِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ (2) .
وَالضَّرْبُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْقَتْل.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - تَجْرِي عَلَى قَتْل الآْدَمِيِّ الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْخَمْسَةُ:
فَيَكُونُ الْقَتْل حَرَامًا كَقَتْل النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ ظُلْمًا.
وَيَكُونُ وَاجِبًا كَقَتْل الْمُرْتَدِّ إذَا لَمْ يَتُبْ بَعْدَ الاِسْتِتَابَةِ، وَالزَّانِي الْمُحْصَنِ بَعْدَ ثُبُوتِ الزِّنَا عَلَيْهِ شَرْعًا.
وَيَكُونُ مَكْرُوهًا كَقَتْل الْغَازِي قَرِيبَهُ الْكَافِرَ إذَا لَمْ يَسْمَعْهُ يَسُبُّ اللَّهَ أَوْ رَسُولَهُ.
وَيَكُونُ مَنْدُوبًا كَقَتْل الْغَازِي قَرِيبَهُ الْكَافِرَ إذَا سَبَّ اللَّهَ أَوْ رَسُولَهُ.
__________
(1) لسان العرب.
(2) لسان العرب.

(32/321)


وَيَكُونُ مُبَاحًا: كَقَتْل الإِْمَامِ الأَْسِيرَ فَإِنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِ. (1)

قَتْل النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ:
5 - قَتْل النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلَهَا مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ، لأَِنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى صُنْعِ اللَّهِ، وَاعْتِدَاءٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَالْمُجْتَمَعِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِل مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْل إنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (2) وَقَال تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} . (3)
وَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قِيل: وَمَا هُنَّ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْل النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْل الرِّبَا، وَأَكْل مَال الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ. (4)
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 3، ونهاية المحتاج 7 / 245، وحاشية القليوبي 4 / 95.
(2) سورة الإسراء / 33.
(3) سورة النساء / 93.
(4) حديث: " اجتنبوا السبع الموبقات. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 393) ومسلم (1 / 92) من حديث أبي هريرة.

(32/322)


الْقَتْل الْمَشْرُوعُ:
6 - الْقَتْل الْمَشْرُوعُ هُوَ مَا كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ مِنَ الشَّارِعِ، وَهُوَ الْقَتْل بِحَقٍّ، كَقَتْل الْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ وَالزَّانِي الْمُحْصَنِ وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ، وَالْقَتْل قِصَاصًا، وَمَنْ شَهَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ سَيْفًا، كَالْبَاغِي، وَهَذَا الإِْذْنُ مِنَ الشَّارِعِ لِلإِْمَامِ لاَ لِلأَْفْرَادِ، لأَِنَّهُ مِنَ الأُْمُورِ الْمَنُوطَةِ بِالإِْمَامِ، لِتُصَانَ مَحَارِمُ اللَّهِ عَنِ الاِنْتِهَاكِ، وَتُحْفَظَ حُقُوقُ الْعِبَادِ، وَيُحْفَظَ الدِّينُ، وَفِي الْحَدِيثِ: لاَ يَحِل دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُول اللَّهِ إلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، الْمُفَارِقُ لِدِينِهِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ، (1) وَرُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ شَهَرَ سَيْفَهُ ثُمَّ وَضَعَهُ فَدَمُهُ هَدَرٌ. (2)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَاتِ: (رِدَّةٌ ف 4، وَأَهْل الْحَرْبِ ف 11، وَقِصَاصٌ، وَحِرَابَةٌ ف 16 وَمَا بَعْدَهَا) .

أَقْسَامُ الْقَتْل:
7 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ قَتْل النَّفْسِ
__________
(1) حديث: " لا يحل دم امرئ مسلم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 201) ومسلم (3 / 1302 - 1303) من حديث ابن مسعود واللفظ للبخاري.
(2) حديث: " من شهر سيفه. . . ". أخرجه النسائي (7 / 117) والحاكم (2 / 159) من حديث ابن الزبير وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(32/322)


بِحَسَبِ الْقَصْدِ وَعَدَمِهِ يَنْقَسِمُ إلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
(أ) - قَتْلٌ عَمْدٌ.
(ب) - قَتْلٌ شِبْهُ عَمْدٍ.
(ج) - قَتْلٌ خَطَأٌ.
وَيَزِيدُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ مَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ، وَالْقَتْل بِسَبَبٍ.
وَيَعْتَبِرُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةَ مَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ وَالْقَتْل بِسَبَبٍ قِسْمًا وَاحِدًا، فَالْقَتْل عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ.
اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (جِنَايَةٌ فِقْرَةُ 6) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالْقَتْل عِنْدَهُمْ نَوْعَانِ: عَمْدٌ وَخَطَأٌ (1) .
وَتَفْصِيل أَقْسَامِ الْقَتْل تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا (قَتْلٌ عَمْدٌ، وَقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ، وَقَتْلٌ خَطَأٌ وَقَتْلٌ بِسَبَبٍ) .

قَتْل غَيْرِ الآْدَمِيِّ:
8 - يَجْرِي فِي قَتْل غَيْرِ الآْدَمِيِّ الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْخَمْسَةُ:
فَقَدْ يَحْرُمُ كَقَتْل الصَّيْدِ الْبَرِّيِّ مِنَ الْمُحْرِمِ، وَلَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَتْل الصَّيْدِ الْبَرِّيِّ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 339 وما بعدها، وتكملة فتح القدير 9 / 137 وما بعدها، ونهاية المحتاج 7 / 249، ومغني المحتاج 4 / 3، والمغني 7 / 636، وكشاف القناع 5 / 520 - 521، وبداية المجتهد 2 / 429، وشرح الزرقاني على الموطأ 4 / 202.

(32/323)


حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي الْحِل وَالْحَرَمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (1) كَمَا ذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إلَى حُرْمَةِ قَتْل صَيْدِ الْحَرَمِ مِنْ الْمُحْرِمِ وَالْمُحِل، إلاَّ مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا الْبَلَدُ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ، لاَ يُعْضَدُ شَجَرُهُ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ. (2)
وَقَدْ يُسْتَحَبُّ كَقَتْل الْفَوَاسِقِ الْخَمْسِ فِي الْحِل وَالْحَرَمِ، وَهِيَ: الْحِدَأَةُ، وَالْغُرَابُ الأَْبْقَعُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْحَيَّةُ، لِخَبَرِ عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْل خَمْسِ فَوَاسِق فِي الْحِل وَالْحَرَمِ: الْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْغُرَابُ، وَالْحُدَيَّا، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ (3) وَكَذَا كُل سَبُعٍ ضَارٍ، كَالأَْسَدِ، وَالنَّمِرِ.
وَقَدْ يُكْرَهُ كَقَتْل مَا لاَ تَظْهَرُ مِنْهُ مَنْفَعَةٌ وَلاَ مَضَرَّةٌ، كَالْقِرْدِ، وَالْهُدْهُدِ، وَالْخُطَّافِ، وَالضُّفْدَعِ، وَالْخُنْفُسَاءِ.
وَقَدْ يَكُونُ جَائِزًا، كَقَتْل الْهَوَامِّ لِلْمُحْرِمِ وَالْحَلاَل، كَالْبُرْغُوثِ، وَالْبَعُوضِ وَالذُّبَابِ وَجَمِيعِ هَوَامِّ الأَْرْضِ، لأَِنَّهَا لَيْسَتْ صَيْدًا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْرِمِ.
__________
(1) سورة المائدة / 96.
(2) حديث: " هذا البلد حرام. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 47) ومسلم (2 / 986) من حديث ابن عباس.
(3) حديث عائشة: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق. . . ". أخرجه مسلم (2 / 857) .

(32/323)


وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَقَتْل الْحَيَوَانِ الصَّائِل الَّذِي يُهَدِّدُ حَيَاةَ الإِْنْسَانِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (صَيْدٌ ف 10، وَصِيَالٌ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .

قَتْلٌ أُجْرِيَ مُجْرَى الْخَطَأِ

اُنْظُرْ: قَتْلٌ خَطَأٌ
__________
(1) القليوبي 2 / 138، وبدائع الصنائع 2 / 196 وما بعدها، والمغني 3 / 506.

(32/324)


قَتْلٌ بِسَبَبٍ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَتْل بِسَبَبٍ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ، هُمَا: الْقَتْل وَالسَّبَبُ.
وَيُنْظَرُ تَعْرِيفُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُصْطَلَحِهِ.
وَالْقَتْل بِسَبَبٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الْقَتْل نَتِيجَةَ فِعْلٍ لاَ يُؤَدِّي مُبَاشَرَةً إلَى قَتْلٍ، كَحَفْرِ الْبِئْرِ، أَوْ وَضْعِ الْحَجَرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، وَأَمْثَالِهِمَا، فَيَعْطَبُ بِهِ إنْسَانٌ وَيُقْتَل (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَتْل الْعَمْدُ:
2 - الْقَتْل الْعَمْدُ هُوَ قَصْدُ الْفِعْل وَالشَّخْصِ بِمَا يَقْتُل قَطْعًا أَوْ غَالِبًا (2) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَتْل الْعَمْدَ يَكُونُ بِفِعْلٍ مُبَاشِرٍ يَقْتُل غَالِبًا، وَالْقَتْل بِسَبَبٍ يَكُونُ بِفِعْلٍ غَيْرِ مُبَاشِرٍ.
__________
(1) الاختيار 5 / 22، 26، ورد المحتار 5 / 341 - 342 ط دار إحياء التراث العربي.
(2) مغني المحتاج 4 / 3.

(32/324)


ب - الْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ:
3 - الْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ هُوَ قَصْدُ الْفِعْل وَالشَّخْصِ بِمَا لاَ يَقْتُل غَالِبًا (1) .
وَالْعَلاَقَةُ أَنَّ الْقَتْل شِبْهَ الْعَمْدِ يَكُونُ بِفِعْلٍ مُبَاشِرٍ لاَ يَقْتُل غَالِبًا.
وَالْقَتْل بِسَبَبٍ يَكُونُ بِفِعْلٍ غَيْرِ مُبَاشِرٍ.

ج - الْقَتْل الْخَطَأُ:
4 - هُوَ مَا وَقَعَ دُونَ قَصْدِ الْفِعْل وَالشَّخْصِ، أَوْ دُونَ قَصْدِ أَحَدِهِمَا (2) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْقَتْل الْخَطَأَ يَقَعُ نَتِيجَةَ فِعْلٍ مُبَاشِرٍ، بِخِلاَفِ الْقَتْل بِسَبَبٍ.
حَالاَتُ الْقَتْل بِسَبَبٍ:
5 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْقَتْل أَقْسَامًا اخْتَلَفُوا فِيهَا، وَمِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ الْقَتْل بِسَبَبٍ، فَاعْتَبَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ قِسْمًا مُسْتَقِلًّا مِنْ أَقْسَامِ الْقَتْل الْخَمْسَةِ عِنْدَهُمْ، لَكِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ لَمْ يَجْعَلُوهُ قِسْمًا مُسْتَقِلًّا وَإِنَّمَا أَوْرَدُوا أَحْكَامَهُ فِي الأَْقْسَامِ الأُْخْرَى وَمِنْ ذَلِكَ الْحَالاَتُ التَّالِيَةُ:

أ - الإِْكْرَاهُ:
6 - الْقَتْل بِسَبَبِ الإِْكْرَاهِ أَنْ يُكْرِهَ رَجُلاً عَلَى قَتْل آخَرَ فَيَقْتُلَهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 4.
(2) مغني المحتاج 4 / 4.

(32/325)


الْقِصَاصُ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إكْرَاهٌ ف 19 وَمَا بَعْدَهَا) .

ب - الشَّهَادَةُ بِالْقَتْل:
7 - إذَا شَهِدَ رَجُلاَنِ عَلَى رَجُلٍ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ، فَقُتِل بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا، وَاعْتَرَفَا بِتَعَمُّدِ الْكَذِبِ وَبِعِلْمِهِمَا بِأَنَّ مَا شَهِدَا بِهِ يُقْتَل بِهِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، لِمَا رَوَى الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ، فَقَطَعَهُ، ثُمَّ رَجَعَا فِي شَهَادَتِهِمَا، فَقَال عَلِيٌّ: " لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُ أَيْدِيَكُمَا، وَغَرَّمَهُمَا دِيَةَ يَدِهِ، وَلأَِنَّ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الرَّجُل بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ تَوَصَّلاَ إلَى قَتْلِهِ بِسَبَبٍ يَقْتُل غَالِبًا، فَوَجَبَ عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ كَالْمُكْرَهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ غَيْرَ أَشْهَبَ لاَ قِصَاصَ عَلَيْهِمَا بَل عَلَيْهِمَا الدِّيَةُ، لأَِنَّهُ تَسَبُّبٌ غَيْرُ مُلْجِئٍ، فَلاَ يُوجِبُ الْقِصَاصَ، كَحَفْرِ الْبِئْرِ (1) .

ج - حُكْمُ الْحَاكِمِ بِقَتْل رَجُلٍ:
8 - إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ عَلَى شَخْصٍ بِالْقَتْل بِنَاءً
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 / 646، حاشية الدسوقي 4 / 210، مغني المحتاج 4 / 706، البدائع 2 / 285، وجواهر الإكليل 2 / 246.

(32/325)


عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَاعْتَرَفَ بِعِلْمِهِ بِكَذِبِهِمَا حِينَ الْحُكْمِ أَوِ الْقَتْل دُونَ الْوَلِيِّ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْحَاكِمِ.
وَلَوْ أَنَّ الْوَلِيَّ الَّذِي بَاشَرَ قَتْلَهُ أَقَرَّ بِعِلْمِهِ بِكَذِبِ الشُّهُودِ وَتَعَمُّدِ قَتْلِهِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاصٌ) .

د - حَفْرُ الْبِئْرِ وَوَضْعُ الْحَجَرِ:
9 - مِنْ صُوَرِ الْقَتْل بِسَبَبٍ حَفْرُ الْبِئْرِ وَنَصْبُ حَجَرٍ أَوْ سِكِّينٍ تَعَدِّيًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِلاَ إذْنٍ، فَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْجِنَايَةَ وَأَدَّى إلَى قَتْل إنْسَانٍ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ قَتْل خَطَأٍ وَمُوجَبَهُ الدِّيَةُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ قَتْلٌ بِسَبَبٍ وَمُوجَبَهُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، لأَِنَّهُ سَبَبُ التَّلَفِ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ، وَلاَ كَفَّارَةَ فِيهِ، وَلاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ، لأَِنَّ الْقَتْل مَعْدُومٌ مِنْهُ حَقِيقَةً، فَأُلْحِقَ بِهِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ، فَبَقِيَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ عَلَى الأَْصْل، وَهُوَ إنْ كَانَ يَأْثَمُ بِالْحَفْرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لاَ يَأْثَمُ بِالْمَوْتِ.
أَمَّا إذَا قَصَدَ الْجِنَايَةَ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ إذَا قَصَدَ هَلاَكَ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَهَلَكَ فِعْلاً، فَعَلَى الْفَاعِل الْقِصَاصُ، وَإِنْ هَلَكَ
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 / 646.

(32/326)


غَيْرُ الْمُعَيَّنِ فَفِيهِ الدِّيَةُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ هُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، وَمُوجَبُهُ الدِّيَةُ، وَقَدْ يَقْوَى فَيَلْحَقُ بِالْعَمْدِ، كَمَا فِي الإِْكْرَاهِ وَالشَّهَادَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى اعْتِبَارِ حَفْرِ الْبِئْرِ شَرْطًا، لأَِنَّهُ لاَ يُؤَثِّرُ فِي الْهَلاَكِ وَلاَ يُحَصِّلُهُ، بَل يَحْصُل التَّلَفُ عِنْدَهُ بِغَيْرِهِ، وَيَتَوَقَّفُ تَأْثِيرُ ذَلِكَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْحَفْرَ لاَ يُؤَثِّرُ فِي التَّلَفِ، وَلاَ يُحَصِّلُهُ وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ التَّخَطِّي فِي صَوْبِ الْحُفْرَةِ، وَالْمُحَصِّل لِلتَّلَفِ التَّرَدِّي فِيهَا وَمُصَادَمَتُهَا، لَكِنْ لَوْلاَ الْحَفْرُ لَمَا حَصَل التَّلَفُ وَلاَ قِصَاصَ فِيهِ (1) .
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 253، الاختيار 5 / 26، وحاشية الدسوقي 4 / 243 - 244، مغني المحتاج 4 / 6، كشاف القناع 5 / 513، / 514.

(32/326)


قَتْلٌ خَطَأٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَتْل الْخَطَأُ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ هُمَا: قَتْلٌ، وَخَطَأٌ، وَقَدْ سَبَقَ تَعْرِيفُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي مُصْطَلَحِهِ.
وَالْقَتْل الْخَطَأُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ مَا وَقَعَ دُونَ قَصْدِ الْفِعْل وَالشَّخْصِ، أَوْ دُونَ قَصْدِ أَحَدِهِمَا (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَتْل الْعَمْدُ:
2 - الْقَتْل الْعَمْدُ هُوَ قَصْدُ الْفِعْل وَالشَّخْصِ بِمَا يَقْتُل قَطْعًا أَوْ غَالِبًا (2) .
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْعَمْدَ يَتَوَفَّرُ فِيهِ قَصْدُ الْفِعْل وَالشَّخْصِ، بِخِلاَفِ الْخَطَأِ.

ب - الْجِنَايَةُ:
3 - الْجِنَايَةُ فِي اللُّغَةِ: الذَّنْبُ وَالْجُرْمُ،
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 4.
(2) مغني المحتاج 4 / 3.

(32/327)


وَشَرْعًا: اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ حَل بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ (1) .
فَالْجِنَايَةُ أَعَمُّ مِنَ الْقَتْل الْخَطَأِ.

ج - الإِْجْهَاضُ:
4 - يُطْلَقُ الإِْجْهَاضُ فِي اللُّغَةِ عَلَى صُورَتَيْنِ:
إلْقَاءُ الْحَمْل نَاقِصَ الْخَلْقِ، أَوْ نَاقِصَ الْمُدَّةِ سَوَاءٌ مِنَ الْمَرْأَةِ أَوْ غَيْرِهَا.
وَالإِْطْلاَقُ اللُّغَوِيُّ يَصْدُقُ عَلَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الإِْلْقَاءُ بِفِعْل فَاعِلٍ أَمْ تِلْقَائِيًّا.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِكَلِمَةِ " إجْهَاضٍ " عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (2) ، وَكَثِيرًا مَا يُعَبِّرُونَ عَنِ الإِْجْهَاضِ بِمُرَادِفَاتِهِ: كَالإِْسْقَاطِ وَالإِْلْقَاءِ وَالطَّرْحِ وَالإِْمْلاَصِ.
وَالْعَلاَقَةُ أَنَّ الإِْجْهَاضَ جِنَايَةٌ عَلَى الْحَمْل وَهُوَ غَيْرُ مُتَيَقَّنِ الْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ، وَأَمَّا الْقَتْل الْخَطَأُ فَجِنَايَةٌ عَلَى مُتَيَقَّنِ الْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ.

د - الْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ:
5 - الْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ هُوَ قَصْدُ الْفِعْل وَالشَّخْصِ بِمَا لاَ يَقْتُل غَالِبًا (3) .
وَالْعَلاَقَةُ أَنَّ الْقَتْل شِبْهَ الْعَمْدِ فِيهِ قَصْدٌ بِمَا لاَ يَقْتُل غَالِبًا، بِخِلاَفِ الْقَتْل الْخَطَأِ.
__________
(1) لسان العرب، والدر المختار 5 / 339.
(2) لسان العرب، والبحر الرائق 8 / 389، وحاشية البجيرمي 2 / 250.
(3) مغني المحتاج 4 / 4.

(32/327)


هـ - الْقَتْل بِسَبَبٍ:
6 - الْقَتْل بِسَبَبٍ هُوَ الْقَتْل نَتِيجَةَ فِعْلٍ لاَ يُؤَدِّي مُبَاشَرَةً إلَى قَتْلٍ (1) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْقَتْل الْخَطَأَ بِفِعْلٍ مُبَاشِرٍ، وَالْقَتْل بِسَبَبٍ بِفِعْلٍ غَيْرِ مُبَاشِرٍ.

أَقْسَامُ الْقَتْل الْخَطَأِ:
7 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْقَتْل الْخَطَأَ إلَى قِسْمَيْنِ: الْخَطَأُ فِي الْفِعْل، وَالْخَطَأُ فِي الْقَصْدِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الرَّمْيَ إلَى شَيْءٍ مَثَلاً يَشْتَمِل عَلَى فِعْل الْجَارِحَةِ وَهُوَ الرَّمْيُ وَفِعْل الْقَلْبِ وَهُوَ الْقَصْدُ فَإِنِ اتَّصَل الْخَطَأُ بِالأَْوَّل فَهُوَ الْخَطَأُ فِي الْفِعْل، وَإِنِ اتَّصَل بِالثَّانِي فَهُوَ الْخَطَأُ فِي الْقَصْدِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الْقَتْل الْخَطَأَ عَلَى أَوْجُهٍ:
الأَْوَّل: أَنْ لاَ يَقْصِدَ ضَرْبًا، كَرَمْيِهِ شَيْئًا أَوْ حَرْبِيًّا فَيُصِيبَ مُسْلِمًا، فَهَذَا خَطَأٌ بِإِجْمَاعٍ.
الثَّانِي: أَنْ يَقْصِدَ الضَّرْبَ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ، فَهُوَ خَطَأٌ عَلَى قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ وَرِوَايَتُهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ، خِلاَفًا لِمُطَرَّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْخَطَأُ نَوْعَانِ: الأَْوَّل: أَنْ لاَ يَقْصِدَ أَصْل الْفِعْل.
__________
(1) الاختيار 5 / 26، ورد المحتار 5 / 341، 342.
(2) فتح القدير 9 / 147، والاختيار 5 / 25.
(3) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 383.

(32/328)


وَالثَّانِي: أَنْ يَقْصِدَهُ دُونَ الشَّخْصِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْخَطَأُ عَلَى ضَرْبَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْمِيَ الصَّيْدَ أَوْ يَفْعَل مَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ فَيَئُول إلَى إتْلاَفِ حُرٍّ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْتُل فِي بِلاَدِ الرُّومِ مَنْ عِنْدَهُ أَنَّهُ كَافِرٌ وَيَكُونَ قَدْ أَسْلَمَ وَكَتَمَ إسْلاَمَهُ إلَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَى التَّخَلُّصِ إلَى أَرْضِ الإِْسْلاَمِ (2) .

مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْقَتْل الْخَطَأِ:
يَتَرَتَّبُ عَلَى الْقَتْل الْخَطَأِ مَا يَلِي:

أ - وُجُوبُ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ إلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} . (3)
وَيَجْرِي هَذَا الْحُكْمُ عَلَى الْكَافِرِ الْمُعَاهَدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} . (4)
قَال الْمَاوَرْدِيُّ: قَدَّمَ فِي قَتْل الْمُسْلِمِ الْكَفَّارَةَ عَلَى الدِّيَةِ وَفِي الْكَافِرِ الدِّيَةَ، لأَِنَّ الْمُسْلِمَ يَرَى
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 4.
(2) المغني 7 / 650 - 651.
(3) سورة النساء / 92.
(4) سورة النساء / 92.

(32/328)


تَقْدِيمَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ وَالْكَافِرَ يَرَى تَقْدِيمَ حَقِّ نَفْسِهِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ شَيْءٍ فِي قَتْل كَافِرٍ لاَ عَهْدَ لَهُ. (1)

ب - وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فَقَطْ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يُقْتَل فِي بِلاَدِ الْكُفَّارِ أَوْ فِي حُرُوبِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْكُفَّارِ فَعَلَى قَاتِلِهِ الْكَفَّارَةُ فَقَطْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (2) قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ يُوجِبُ قِصَاصًا لأَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ قَتْل مُسْلِمٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ظَنَّهُ صَيْدًا فَبَانَ آدَمِيًّا، إلاَّ أَنَّ هَذَا لاَ تَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ إنَّمَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ فِيهِ الدِّيَةَ وَالْكَفَّارَةَ (3) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} (4)
__________
(1) ابن عابدين 5 / 341، والاختيار 5 / 25، وتكملة فتح القدير 9 / 147، وبداية المجتهد 2 / 534، وحاشية الجمل 5 / 102، والمغني 7 / 651، ونيل المآرب 2 / 315.
(2) سورة النساء / 92.
(3) فتح القدير 4 / 355، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 240، والجامع لأحكام القرآن 5 / 323 - 324، وحاشية الجمل 5 / 120، والمغني 7 / 651 - 652.
(4) سورة النساء / 92.

(32/329)


وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إذَا قَتَل إنْسَانًا يَظُنُّهُ عَلَى حَالٍ فَكَانَ بِخِلاَفِهِ كَمَا إذَا قَتَل مُسْلِمًا ظَنَّ كُفْرَهُ، لأَِنَّهُ رَآهُ يُعَظِّمُ آلِهَتَهُمْ، أَوْ كَانَ عَلَيْهِ زِيُّ الْكُفَّارِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، لاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ جَزْمًا لِلْعُذْرِ الظَّاهِرِ، وَكَذَا لاَ دِيَةَ فِي الأَْظْهَرِ لأَِنَّهُ أَسْقَطَ حُرْمَةَ نَفْسِهِ بِمُقَامِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ الَّتِي هِيَ دَارُ الإِْبَاحَةِ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ تَجِبُ الدِّيَةُ لأَِنَّهَا تَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ.
أَمَّا الْكَفَّارَةُ فَتَجِبُ جَزْمًا (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (2) .

ج - الْحِرْمَانُ مِنَ الْمِيرَاثِ:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ الْقَتْل الْخَطَأَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْحِرْمَانِ مِنَ الْمِيرَاثِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْقَاتِل لاَ يَرِثُ، (3) وَلأَِنَّ الْقَتْل قَطَعَ الْمُوَالاَةَ وَهِيَ سَبَبُ الإِْرْثِ (4) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ مَنْ قَتَل مُوَرِّثَهُ خَطَأً فَإِنَّهُ يَرِثُ مِنَ الْمَال وَلاَ يَرِثُ مِنَ الدِّيَةِ. (5)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْقَتْل الْمَضْمُونَ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 13.
(2) سورة النساء / 92.
(3) حديث: " القاتل لا يرث. . . ". أخرجه البيهقي (6 / 220) من حديث أبي هريرة وأعله بضعف أحد رواته ثم قال: شواهد تقويه.
(4) تكملة فتح القدير 9 / 148، ومغني المحتاج 3 / 25.
(5) حاشية الدسوقي 4 / 486.

(32/329)


بِقِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ لاَ إرْثَ فِيهِ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ، كَمَنْ قَصَدَ مُوَلِّيَهُ مِمَّا لَهُ فِعْلُهُ مِنْ سَقْيِ دَوَاءٍ أَوْ رَبْطِ جِرَاحَةٍ فَمَاتَ فَيَرِثُهُ، لأَِنَّهُ تَرَتَّبَ عَنْ فِعْلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُوَفَّقُ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: وَلَعَلَّهُ أَصْوَبُ لِمُوَافَقَتِهِ لِلْقَوَاعِدِ (1) .

د - الْحِرْمَانُ مِنَ الْوَصِيَّةِ:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِل، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْقَتْل الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فِي هَذَا.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ، وَابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِل، وَبِهِ قَال أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا لأَِنَّ الْهِبَةَ لَهُ تَصِحُّ، فَصَحَّتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ كَالذِّمِّيِّ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَأَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ عَدَمَ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لَهُ، لأَِنَّ الْقَتْل يَمْنَعُ الْمِيرَاثَ الَّذِي هُوَ آكَدُ مِنَ الْوَصِيَّةِ، فَالْوَصِيَّةُ أَوْلَى، وَلأَِنَّ الْوَصِيَّةَ أُجْرِيَتْ مُجْرَى الْمِيرَاثِ فَيَمْنَعُهَا مَا يَمْنَعُهُ، وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ أَيْضًا.
وَفَرَّقَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْجَرْحِ، وَالْوَصِيَّةِ قَبْلَهُ، فَقَال: إنْ وَصَّى
__________
(1) كشاف القناع 4 / 492 - 493.

(32/330)


لَهُ بَعْدَ جَرْحِهِ صَحَّ، وَإِنْ وَصَّى لَهُ قَبْلَهُ ثُمَّ طَرَأَ الْقَتْل عَلَى الْوَصِيَّةِ أَبْطَلَهَا، وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ أَيْضًا وَهُوَ الْمَذْهَبُ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: هَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الْجَرْحِ صَدَرَتْ مِنْ أَهْلِهَا فِي مَحَلِّهَا، وَلَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ مَا يُبْطِلُهَا بِخِلاَفِ مَا إذَا تَقَدَّمَتْ، فَإِنَّ الْقَتْل طَرَأَ عَلَيْهَا فَأَبْطَلَهَا، لأَِنَّهُ يُبْطِل مَا هُوَ آكَدُ مِنْهَا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ إنْ عَلِمَ الْمُوصِي بِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ هُوَ الَّذِي ضَرَبَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً صَحَّ الإِْيصَاءُ مِنْهُ، وَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ فِي الْخَطَأِ فِي الْمَال وَالدِّيَةِ، وَفِي الْعَمْدِ فِي الْمَال فَقَطْ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُوصِي فَتَأْوِيلاَنِ فِي صِحَّةِ إيصَائِهِ وَعَدَمِهَا. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (وَصِيَّةٌ) .

أَنْوَاعُ الْقَتْل الَّتِي حُكْمُهَا حُكْمُ الْخَطَأِ:

أ - عَمْدُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ:
12 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ كَالْخَطَأِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلاَ قِصَاصَ فِيهِ، لأَِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْل الْقَصْدِ الصَّحِيحِ (2) . وَالأَْصْل فِي هَذَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 338 - 340، وحاشية الدسوقي 4 / 426، ومغني المحتاج 3 / 43، والمغني 6 / 111، 112، وكشاف القناع 4 / 358.
(2) المغني 7 / 637.

(32/330)


حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِل أَوْ يُفِيقَ. (1)
وَلأَِنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ مُغَلَّظَةٌ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الصَّبِيِّ وَزَائِل الْعَقْل كَالْحُدُودِ، وَلأَِنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قَصْدٌ صَحِيحٌ، فَهُمْ كَالْقَاتِل خَطَأً (2) .
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَغَيْرِ الْمُمَيِّزِ فَقَالُوا: إنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ عَمْدٌ فِي الأَْظْهَرِ أَمَّا الصَّبِيُّ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ فَعَمْدُهُ خَطَأٌ بِاتِّفَاقِهِمْ، وَأَضَافُوا أَنَّ الصَّبِيَّ مُمَيِّزًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ لاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ، وَلَكِنَّ الأَْمْرَ يَخْتَلِفُ فِي الدِّيَةِ فَهِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي الْخَطَأِ، وَفِي مَالِهِ إنِ اُعْتُبِرَ عَمْدُهُ عَمْدًا. (3)

ب - مَا أُجْرِيَ مُجْرَى الْخَطَأِ:
13 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْحَنَابِلَةِ قِسْمًا آخَرَ لِلْقَتْل سَمَّوْهُ مَا أُجْرِيَ مُجْرَى الْخَطَأِ، وَيُعْتَبَرُ الْقَتْل الْجَارِي مَجْرَى الْخَطَأِ كَالْخَطَأِ فِي الْحُكْمِ، فَمِثْل النَّائِمِ يَنْقَلِبُ عَلَى رَجُلٍ فَيَقْتُلُهُ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْخَطَأِ فِي الشَّرْعِ، وَلَكِنَّهُ دُونَ الْخَطَأِ حَقِيقَةً، لأَِنَّ النَّائِمَ لَيْسَ مِنْ أَهْل
__________
(1) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . ". أخرجه النسائي (6 / 156) والحاكم (2 / 59) من حديث عائشة، واللفظ للنسائي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) المغني 7 / 664.
(3) مغني المحتاج 4 / 10.

(32/331)


الْقَصْدِ أَصْلاً، فَلاَ يُوصَفُ فِعْلُهُ بِالْعَمْدِ وَلاَ بِالْخَطَأِ، إلاَّ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْخَطَأِ لِحُصُول الْمَوْتِ بِفِعْلِهِ كَالْخَاطِئِ.
وَتَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ لِتَرْكِ التَّحَرُّزِ عَنْ نَوْمِهِ فِي مَوْضِعٍ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَصِيرَ قَاتِلاً، وَالْكَفَّارَةُ فِي قَتْل الْخَطَأِ إنَّمَا تَجِبُ لِتَرْكِ التَّحَرُّزِ، وَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ لِمُبَاشَرَتِهِ الْقَتْل، لأَِنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ مُتَنَاوِمًا، وَلَمْ يَكُنْ نَائِمًا، قَصْدًا مِنْهُ إلَى اسْتِعْجَال الإِْرْثِ، أَمَّا الَّذِي سَقَطَ مِنْ سَطْحٍ فَوَقَعَ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ، فَمِثْل النَّائِمِ يَنْقَلِبُ عَلَى رَجُلٍ فَيَقْتُلَهُ، لِكَوْنِهِ قَتْلاً لِلْمَعْصُومِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَكَانَ جَارِيًا مَجْرَى الْخَطَأِ.
وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ هَذِهِ الصُّوَرَ بِالْقَتْل الْخَطَأِ (1) .
__________
(1) تكملة فتح القدير 9 / 148، والاختيار 5 / 26، وابن عابدين 5 / 341، 342، والقوانين الفقهية 338 - 339 ط دار الكتاب العربي، وشرح الزرقاني 8 / 8 ط دار الفكر، والقليوبي 4 / 96 ط دار إحياء الكتب العربية، والمغني 7 / 637 وما بعدها ط الرياض، ونيل المآرب 2 / 315، وكشاف القناع 5 / 505، 513، مغني المحتاج 4 / 4 - 5.

(32/331)


قَتْلٌ شِبْهُ الْعَمْدِ

التَّعْرِيفُ:
1 - قَتْلٌ شِبْهُ الْعَمْدِ مُرَكَّبٌ مِنْ: قَتْلٌ، وَشِبْهٌ، وَعَمْدٌ، وَقَدْ سَبَقَ تَعْرِيفُ كُلٍّ مِنْهَا فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: بِأَنَّهُ تَعَمُّدُ شَخْصٍ ضَرْبَ آخَرَ بِمَا لَيْسَ بِسِلاَحٍ وَلاَ مَا جَرَى مَجْرَى السِّلاَحِ.
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ قَصْدُ ضَرْبِ الشَّخْصِ عُدْوَانًا بِمَا لاَ يَقْتُل غَالِبًا، كَالسَّوْطِ وَالْعَصَا (1) .
وَلَمْ يُعَرِّفْهُ الْمَالِكِيَّةُ لأَِنَّ الْقَتْل عِنْدَهُمْ عَمْدٌ وَخَطَأٌ فَقَطْ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَتْل الْعَمْدُ:
2 - الْقَتْل الْعَمْدُ هُوَ قَصْدُ الْفِعْل وَالشَّخْصِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 6 / 2 - 3، روضة الطالبين 9 / 124، مغني المحتاج 4 / 403، المغني لابن قدامة 7 / 650.
(2) المنتقى للباجي 7 / 100، والقوانين الفقهية / 339.

(32/332)


بِمَا يَقْتُل قَطْعًا أَوْ غَالِبًا (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقَتْل الْعَمْدِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ أَنَّ الْجَانِيَ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ يَسْتَعْمِل آلَةً تَقْتُل غَالِبًا كَالسَّيْفِ بِخِلاَفِ شِبْهِ الْعَمْدِ.

ب - الْقَتْل الْخَطَأُ:
3 - الْقَتْل الْخَطَأُ: مَا وَقَعَ دُونَ قَصْدِ الْفِعْل وَالشَّخْصِ، أَوْ دُونَ قَصْدِ أَحَدِهِمَا (2) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْقَتْل الْخَطَأَ لاَ يُقْصَدُ فِيهِ الْفِعْل غَالِبًا، وَأَمَّا الْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ فَيُقْصَدُ فِيهِ الْفِعْل وَلاَ يُقْصَدُ إزْهَاقُ الرُّوحِ.

ج - الْقَتْل بِسَبَبٍ:
4 - الْقَتْل بِسَبَبٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الْقَتْل نَتِيجَةَ فِعْلٍ لاَ يُؤَدِّي مُبَاشَرَةً إلَى قَتْلٍ، كَوَضْعِ حَجَرٍ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَفِنَائِهِ، فَيَعْطَبُ بِهِ إنْسَانٌ وَيُقْتَل (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْقَتْل بِسَبَبٍ أَنَّ الْقَتْل شِبْهَ الْعَمْدِ قَتْلٌ بِفِعْلٍ مُبَاشِرٍ وَالْقَتْل بِسَبَبٍ قَتْلٌ بِفِعْلٍ غَيْرِ مُبَاشِرٍ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ حَرَامٌ إنْ كَانَ نَتِيجَةً لِضَرْبٍ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 3.
(2) مغني المحتاج 4 / 4.
(3) بدائع الصنائع 7 / 339.

(32/332)


مُتَعَمَّدٍ عُدْوَانًا، وَالْعُدْوَانُ مُحَرَّمٌ، لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلاَ تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . (1)

أَنْوَاعُ الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى الْقَوْل بِالْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى إثْبَاتِهِ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ وَإِنَّ قَتِيل الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا وَالْحَجَرِ مِائَةٌ مِنَ الإِْبِل (2) وَفِي رِوَايَةٍ: عَقْل شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّظٌ مِثْل عَقْل الْعَمْدِ وَلاَ يُقْتَل صَاحِبُهُ.
(3) وَقَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْقَتْل شِبْهَ الْعَمْدِ إلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ:
قَال الْكَاسَانِيُّ: شِبْهُ الْعَمْدِ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
مِنْهَا أَنْ يَقْصِدَ الْقَتْل بِعَصًا صَغِيرَةٍ أَوْ بِحَجَرٍ صَغِيرٍ أَوْ لَطْمَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يَكُونُ الْغَالِبُ فِيهَا الْهَلاَكَ، كَالسَّوْطِ وَنَحْوِهِ إذَا ضَرَبَ ضَرْبَةً أَوْ ضَرْبَتَيْنِ وَلَمْ يُوَال فِي الضَّرَبَاتِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَضْرِبَ بِالسَّوْطِ الصَّغِيرِ وَيُوَالِيَ
__________
(1) سورة البقرة / 190.
(2) حديث: " ألا وإن قتيل الخطأ شبه العمد. . . ". أخرجه النسائي (8 / 41) من حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وصححه ابن القطان كما في التلخيص لابن حجر (4 / 15) .
(3) حديث: " عقل شبه العمد. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 695) من حديث عبد الله بن عمرو.

(32/333)


فِي الضَّرَبَاتِ إلَى أَنْ يَمُوتَ.
وَهَاتَانِ الصُّورَتَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا بَيْنَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَمِنْهَا: مَا قَصَدَ قَتْلَهُ بِمَا يَغْلِبُ فِيهِ الْهَلاَكُ مِمَّا لَيْسَ بِجَارِحٍ وَلاَ طَاعِنٍ، كَمِدَقَّةِ الْقَصَّارِينَ، وَالْحَجَرِ الْكَبِيرِ، وَالْعَصَا الْكَبِيرَةِ وَنَحْوِهَا، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَمْدٌ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ.
وَقَال جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ إنَّ الْقَتْل شِبْهَ الْعَمْدِ يَكُونُ بِقَصْدِ الْفِعْل وَالشَّخْصِ بِمَا لاَ يَقْتُل غَالِبًا.
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ صُورَتَيْنِ لِلْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ:
الأُْولَى: أَنْ يَقْصِدَ ضَرْبَهُ عُدْوَانًا بِمَا لاَ يَقْتُل غَالِبًا كَخَشَبَةٍ صَغِيرَةٍ أَوْ حَجَرٍ صَغِيرٍ أَوْ لَكْزَةٍ وَنَحْوِهَا.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْصِدَ ضَرْبَهُ تَأْدِيبًا وَيُسْرِفَ فِي الضَّرْبِ فَيُفْضِيَ إلَى الْقَتْل. (1)
7 - وَكَمَا يَكُونُ الْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ بِالْفِعْل يَكُونُ بِالْمَنْعِ، فَإِذَا امْتَنَعَ الْجَانِي عَنْ عَمَلٍ مُعَيَّنٍ فَأَدَّى هَذَا إلَى قَتْل الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ الْقَتْل يُعْتَبَرُ هَذَا الْقَتْل عَمْدًا، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ يُعْتَبَرُ شِبْهَ عَمْدٍ أَوْ خَطَأً عِنْدَ بَعْضِهِمْ، كَمَنْ حَبَسَ إنْسَانًا وَمَنَعَهُ الطَّعَامَ أَوِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 233 بتصرف، روضة الطالبين 9 / 124، والمغني 7 / 650.

(32/333)


الشَّرَابَ فَمَاتَ
، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِهِ عَمْدًا وَشِبْهَ عَمْدٍ أَوْ خَطَأً، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ هَذَا لاَ يُعْتَبَرُ قَتْلاً، لاَ شِبْهَ عَمْدٍ وَلاَ خَطَأً، لأَِنَّ الْهَلاَكَ حَصَل بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَلاَ صُنْعَ لأَِحَدٍ فِي ذَلِكَ.
وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، لأَِنَّهُ لاَ بَقَاءَ لِلآْدَمِيِّ إلاَّ بِالأَْكْل وَالشُّرْبِ، فَالْمَنْعُ عِنْدَ اسْتِيلاَءِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ عَلَيْهِ يَكُونُ إهْلاَكًا لَهُ، فَأَشْبَهَ حَفْرَ الْبِئْرِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إلَى أَنَّ هَذَا قَتْل عَمْدٍ إذَا مَاتَ فِي مُدَّةٍ يَمُوتُ مِثْلُهُ فِيهَا غَالِبًا، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ النَّاسِ وَالزَّمَانِ وَالأَْحْوَال، فَإِذَا كَانَ عَطَشًا فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، مَاتَ فِي الزَّمَنِ الْقَلِيل، وَإِنْ كَانَ رَيَّانَ وَالزَّمَنُ بَارِدٌ أَوْ مُعْتَدِلٌ لَمْ يَمُتْ إلاَّ فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ، فَيُعْتَبَرُ هَذَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَمُوتُ فِي مِثْلِهَا غَالِبًا فَهُوَ عَمْدُ الْخَطَأِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَشِبْهُ عَمْدٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. (2)
8 - أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، فَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْقَتْل نَوْعَانِ: عَمْدٌ وَخَطَأٌ، لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إلاَّ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ، فَمَنْ زَادَ قِسْمًا ثَالِثًا زَادَ عَلَى النَّصِّ، يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 234 - 235.
(2) مغني المحتاج 4 / 5، نهاية المحتاج 7 / 239، المغني لابن قدامة 7 / 643.

(32/334)


أَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا إلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ إلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} . (1)
فَلاَ وَاسِطَةَ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، فَالْعَمْدُ عِنْدَ مَالِكٍ هُوَ كُل فِعْلٍ تَعَمَّدَهُ الإِْنْسَانُ بِقَصْدِ الْعُدْوَانِ، فَأَدَّى لِلْمَوْتِ، أَيًّا كَانَتِ الآْلَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي الْقَتْل، أَمَّا إذَا كَانَ مَوْتُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ نَتِيجَةَ فِعْلٍ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ وَالتَّأْدِيبِ فَهُوَ قَتْلٌ خَطَأٌ.
وَفِي غَيْرِ الْمَشْهُورِ يَقُول ابْنُ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِثُبُوتِ شِبْهِ الْعَمْدِ، رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْهُ، وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَرَبِيعَةَ، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَحَكَاهُ الْعِرَاقِيُّونَ عَنْ مَالِكٍ، وَصُورَتُهُ عِنْدَ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ مَا كَانَ بِعَصًا أَوْ وَكْزَةٍ أَوْ لَطْمَةٍ، فَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْغَضَبِ فَفِيهِ الْقَوَدُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ فَفِيهِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ وَهُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ.
__________
(1) سورة النساء / 92 - 93.

(32/334)


وَيَرَى الْعِرَاقِيُّونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الضَّرْبَ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ إنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْغَضَبِ فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، لأَِنَّهُ قَصَدَ الضَّرْبَ عَلَى وَجْهِ الْغَضَبِ (1) .

مَا يَجِبُ فِي الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ:
9 - يَجِبُ عَلَى الْجَانِي فِي الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ وَالْحِرْمَانُ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَيَلْحَقُهُ الإِْثْمُ نَتِيجَةَ جِنَايَتِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ - الدِّيَةُ:
10 - الدِّيَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ تَكُونُ مُغَلَّظَةً، وَتَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِشِبْهِ الْعَمْدِ، وَلاَ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْجَانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيَشْتَرِكُ فِيهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَاتٌ ف 15 - 16) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ تَغْلِيظِ الدِّيَةِ، وَمَا يَكُونُ فِيهِ التَّغْلِيظُ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَاتٌ ف 16) وَمُصْطَلَحِ: (تَغْلِيظٌ فِقْرَةُ 4) .

ب - الْكَفَّارَةُ:
11 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْكَرْخِيُّ مِنَ
__________
(1) المدونة الكبرى 16 / 108، الخرشي 8 / 31، المنتقى للباجي 7 / 100 - 101، بداية المجتهد 2 / 433.

(32/335)


الْحَنَفِيَّةِ إلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ عَدَا الْكَرْخِيَّ: لاَ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ الْمَحْضِ، لأَِنَّ هَذِهِ جِنَايَةٌ مُغَلَّظَةٌ وَالْمُؤَاخَذَةُ فِيهَا ثَابِتَةٌ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (كَفَّارَةٌ) .

ج - الْحِرْمَانُ مِنَ الْمِيرَاثِ فِي الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ:
12 - الْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ مَانِعٌ مِنَ الْمِيرَاثِ لِعُمُومِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إرْثٌ ف 18) .

(32/335)


قَتْلٌ عَمْدٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَتْل الْعَمْدُ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ هُمَا: " الْقَتْل " " وَالْعَمْدُ "، وَسَبَقَ تَعْرِيفُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي مُصْطَلَحِهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ الْقَتْل الْعَمْدِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّ الْقَتْل الْعَمْدَ: هُوَ قَصْدُ الْفِعْل وَالشَّخْصِ بِمَا يَقْتُل قَطْعًا أَوْ غَالِبًا.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَتْل الْعَمْدُ: هُوَ أَنْ يَتَعَمَّدَ ضَرْبَ الْمَقْتُول فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ جَسَدِهِ بِآلَةٍ تُفَرِّقُ الأَْجْزَاءَ كَالسَّيْفِ، وَاللِّيطَةِ، وَالْمَرْوَةِ وَالنَّارِ، لأَِنَّ الْعَمْدَ فِعْل الْقَلْبِ، لأَِنَّهُ الْقَصْدُ، وَلاَ يُوقَفُ عَلَيْهِ إلاَّ بِدَلِيلِهِ، وَهُوَ مُبَاشَرَةُ الآْلَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَتْل عَادَةً (1) .
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 5 / 22، 25 ط. دار المعرفة، وابن عابدين 5 / 339 ط. دار إحياء التراث العربي، والبدائع 7 / 233 ط. دار الكتب العلمية، والشرح الصغير 4 / 338 وما بعدها، والقوانين الفقهية ص339، والقليوبي 4 / 96، وروضة الطالبين 9 / 123، 124، والمغني 7 / 639، ونيل المآرب 2 / 313 - 314، وكشاف القناع 5 / 504 - 505.

(32/336)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجِنَايَةُ:
2 - الْجِنَايَةُ فِي اللُّغَةِ الذَّنْبُ وَالْجُرْمُ
وَشَرْعًا: اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ حَل بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ، وَقِيل: كُل فِعْلٍ مَحْظُورٍ يَتَضَمَّنُ ضَرَرًا عَلَى النَّفْسِ أَوْ غَيْرِهَا، إلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ خَصَّصُوا لَفْظَ الْجِنَايَةِ بِمَا حَل بِنَفْسٍ أَوْ أَطْرَافٍ، وَالْغَصْبَ وَالسَّرِقَةَ بِمَا حَل بِمَالٍ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْجِنَايَةِ وَالْقَتْل الْعَمْدِ، أَنَّ الْقَتْل تَتَحَقَّقُ بِهِ الْحِنَايَةُ لأَِنَّهُ فِعْلٌ مَحْظُورٌ يَحِل بِالنَّفْسِ، وَأَنَّ كُل قَتْلٍ جِنَايَةٌ وَلاَ عَكْسَ.

ب - الْجِرَاحُ:
3 - الْجِرَاحُ لُغَةً جَمْعُ جُرْحٍ، وَهُوَ مِنَ الْجَرْحِ بِفَتْحِ الْجِيمِ، يُقَال: جَرَحَهُ إذَا أَثَّرَ فِيهِ بِالسِّلاَحِ.
وَالْجُرْحُ - بِضَمِّ الْجِيمِ - الاِسْمُ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءُ لِلْجِرَاحِ عَنْ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقَتْل الْعَمْدِ وَالْجِرَاحِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ.
__________
(1) لسان العرب، وابن عابدين 5 / 339 والطحطاوي 1 / 519 ط. دار المعرفة، والتعريفات للجرجاني مادة " جناية ".
(2) لسان العرب، والمصباح المنير.
(3) نهاية المحتاج 7 / 233.

(32/336)


ح - الْقَتْل الْخَطَأُ:
4 - الْقَتْل الْخَطَأُ: مَا وَقَعَ دُونَ قَصْدِ الْفِعْل وَالشَّخْصِ أَوْ دُونَ قَصْدِ أَحَدِهِمَا (1) .
وَالْعَلاَقَةُ الضِّدْيَةُ فِي الْقَصْدِ.

د - الْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ:
5 - الْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ: قَصْدُ الْفِعْل وَالشَّخْصِ بِمَا لاَ يَقْتُل غَالِبًا.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ إنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ أَنْ يَتَعَمَّدَ الضَّرْبَ بِمَا لاَ يُفَرِّقُ الأَْجْزَاءَ كَالْحَجَرِ، وَالْعَصَا، وَالْيَدِ.
وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْقَتْل الْعَمْدِ وَالْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ بِأَدَاةِ الْقَتْل (2) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ
6 - أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَتْل بِغَيْرِ حَقٍّ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ} ، (3) وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} ، (4) وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ
__________
(1) مغني المحتاج. 4 / 4
(2) الاختيار 5 / 25، البدائع 7 / 234، ابن عابدين 5 / 341، والقوانين الفقهية 339، والشرح الصغير 4 / 340 وما بعدها، القليوبي 4 / 96، والمغني 7 / 652، ونيل المآرب 2 / 315.
(3) سورة الأنعام / 151.
(4) سورة النساء / 93.

(32/337)


يَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُول اللَّهِ إلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمُفَارِقُ لِدِينِهِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ (1) .

صُوَرُ الْقَتْل الْعَمْدِ:
الصُّورَةُ الأُْولَى: الضَّرْبُ بِمُحَدَّدٍ:
7 - إذَا ضَرَبَ شَخْصٌ آخَرَ بِمُحَدَّدٍ وَهُوَ مَا يَقْطَعُ وَيَدْخُل فِي الْبَدَنِ، كَالسَّيْفِ، وَالسِّكِّينِ، وَالسِّنَانِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا يُحَدِّدُ فَيَجْرَحُ مِنَ الْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ، وَالرَّصَاصِ، وَالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالزُّجَاجِ، وَالْحَجَرِ، وَالْقَصَبِ، وَالْخَشَبِ، وَأَمْثَالِهَا، فَجَرَحَ بِهِ جُرْحًا كَبِيرًا فَمَاتَ فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّهُ قَتْلٌ عَمْدٌ.
وَأَمَّا إذَا جَرَحَهُ جُرْحًا صَغِيرًا كَشَرْطَةِ الْحَجَّامِ، أَوْ غَرَزَهُ بِإِبْرَةٍ: فَإِنْ كَانَ فِي مَقْتَلٍ كَالْعَيْنِ، وَالْفُؤَادِ، وَأَصْل الأُْذُنِ، فَمَاتَ فَهُوَ عَمْدٌ أَيْضًا، لأَِنَّ الإِْصَابَةَ بِذَلِكَ فِي الْمَقْتَل كَالْجَرْحِ بِالسِّكِّينِ فِي غَيْرِ الْمَقْتَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) وَالشَّافِعِيَّةِ (3) وَالْحَنَابِلَةِ (4) .
وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ فِي
__________
(1) حديث: " لا يحل دم امرئ مسلم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 201) من حديث ابن مسعود.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 340.
(3) مغني المحتاج 4 / 4.
(4) المغني / 637 - 638.

(32/337)


الْمَذْهَبُ: إنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِيهِ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ فِيهِ الْقِصَاصَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إنْ غَرَزَ إبْرَةً فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ فَتَوَرَّمَ وَتَأَلَّمَ حَتَّى مَاتَ فَعَمْدٌ، لِحُصُول الْهَلاَكِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَثَرٌ فَمَاتَ فِي الْحَال فَشِبْهُ عَمْدٍ فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّهُ لاَ يَقْتُل غَالِبًا، فَأَشْبَهَ الضَّرْبَ بِالسَّوْطِ الْخَفِيفِ، وَقِيل: هُوَ عَمْدٌ، لأَِنَّ فِي الْبَدَنِ مَقَاتِل خَفِيَّةً وَمَوْتُهُ حَالاً يُشْعِرُ بِإِصَابَةِ بَعْضِهَا، وَقِيل: لاَ شَيْءَ، إحَالَةً لِلْمَوْتِ عَلَى سَبَبٍ آخَرَ.
أَمَّا إذَا تَأَخَّرَ الْمَوْتُ عَنِ الْغَرْزِ فَلاَ ضَمَانَ قَطْعًا كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَهَذَا كُلُّهُ فِي بَدَنِ الْمُعْتَدِل، أَمَّا الشَّيْخُ وَالصَّغِيرُ وَنِضْوُ الْخِلْقَةِ، فَفِيهِ الْقِصَاصُ.
وَلَوْ غَرَزَهَا فِيمَا لاَ يُؤْلِمُ، كَجِلْدَةِ عَقِبٍ وَلَمْ يُبَالِغْ فِي إدْخَالِهَا فَمَاتَ، فَلاَ شَيْءَ سَوَاءٌ أَمَاتَ فِي الْحَال أَمْ بَعْدَهُ، لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ مِنْهُ، أَمَّا إذَا بَالَغَ فَيَجِبُ الْقَوَدُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إنْ كَانَ قَدْ بَالَغَ فِي إدْخَالِهَا فِي الْبَدَنِ فَهُوَ كَالْجُرْحِ الْكَبِيرِ، لأَِنَّ هَذَا يَشْتَدُّ أَلَمُهُ، وَيُفْضِي إلَى الْقَتْل كَالْكَبِيرِ، وَإِنْ كَانَ الْغَوْرُ يَسِيرًا، أَوْ جَرَحَهُ بِالْكَبِيرِ جُرْحًا لَطِيفًا كَشَرْطَةِ الْحَجَّامِ فَمَا دُونَهَا فَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إنْ بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ زَمَنًا حَتَّى مَاتَ فَفِيهِ الْقَوَدُ،
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 5.

(32/338)


لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْهُ، وَإِنْ مَاتَ فِي الْحَال فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ فِيهِ الْقِصَاصَ، لأَِنَّ الْمُحَدَّدَ لاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي حُصُول الْقَتْل بِهِ، وَلأَِنَّ فِي الْبَدَنِ مَقَاتِل خَفِيَّةً وَهَذَا لَهُ سِرَايَةٌ، فَأَشْبَهَ الْجُرْحَ الْكَبِيرَ.
وَالثَّانِي: لاَ قِصَاصَ فِيهِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ حَامِدٍ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ مِنْهُ. (1)

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَتْل بِغَيْرِ الْمُحَدَّدِ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ حُصُول الزُّهُوقِ بِهِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهِ:
8 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ عَمْدٌ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ.
وَبِهِ قَال النَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَحَمَّادٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقُ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَل جَارِيَةً عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا بِحَجَرٍ، فَقَتَلَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ حَجَرَيْنِ. (2)
__________
(1) المغني 7 / 638.
(2) ابن عابدين 5 / 341، وحاشية الدسوقي 4 / 242، ومغني المحتاج 4 / 4، المغني 7 / 638، 639. وحديث أنس: " أن يهوديًا قتل جارية. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 200) ومسلم (3 / 1299) .

(32/338)


وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ لاَ قَوَدَ فِي ذَلِكَ إلاَّ أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُ بِالنَّارِ، وَحُجَّتُهُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ إنَّ قَتِيل الْعَمْدِ الْخَطَأِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا شِبْهِ الْعَمْدِ فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الإِْبِل (1) فَسَمَّاهُ عَمْدَ الْخَطَأِ، وَأَوْجَبَ فِيهِ الدِّيَةَ دُونَ الْقِصَاصِ، وَلأَِنَّ الْعَمْدَ لاَ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ بِنَفْسِهِ، فَيَجِبُ ضَبْطُهُ بِمَظِنَّتِهِ، وَلاَ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِمَا يَقْتُل غَالِبًا لِحُصُول الْعَمْدِ بِدُونِهِ فِي الْجُرْحِ الصَّغِيرِ، فَوَجَبَ ضَبْطُهُ بِالْجُرْحِ، وَبِهِ قَال الْحَسَنُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَيْضًا.
وَقَال ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُوسٌ: الْعَمْدُ مَا كَانَ بِالسِّلاَحِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مُثَقَّل الْحَدِيدِ رِوَايَتَانِ: الْمَذْهَبُ أَنَّ فِيهِ الْقَوَدَ (2) .

9 - وَمِنَ الضَّرْبِ بِغَيْرِ مُحَدَّدٍ: الضَّرْبُ بِمُثَقَّلٍ كَبِيرٍ يَقْتُل مِثْلُهُ غَالِبًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ حَدِيدٍ كَالسِّنْدَانِ وَالْمِطْرَقَةِ، أَوْ حَجَرٍ ثَقِيلٍ، أَوْ خَشَبَةٍ كَبِيرَةٍ، وَحَدَّ الْخِرَقِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ الْخَشَبَةَ الْكَبِيرَةَ بِمَا فَوْقَ عَمُودِ الْفُسْطَاطِ: يَعْنِي الْعُمُدَ الَّتِي يَتَّخِذُهَا الأَْعْرَابُ لِبُيُوتِهِمْ، وَفِيهَا دِقَّةٌ، وَأَمَّا عُمُدُ الْخِيَامِ فَكَبِيرَةٌ تَقْتُل غَالِبًا فَلَمْ يُرِدْهَا الْخِرَقِيُّ.
__________
(1) حديث: " ألا إن قتيل. . . ". أخرجه النسائي (8 / 42) وصححه ابن القطان كما في التلخيص لابن حجر (4 / 15) .
(2) حاشية ابن عابدين: 5 / 339 - 340، والمغني 7 / 638 - 639.

(32/339)


وَإِنَّمَا حَدَّ الْمُوجِبَ لِلْقِصَاصِ بِمَا فَوْقَ عَمُودِ الْفُسْطَاطِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِل عَنِ الْمَرْأَةِ الَّتِي ضَرَبَتْ ضَرَّتَهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ فَقَتَلَتْهَا وَجَنِينَهَا، قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةٍ، وَقَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا، (1) وَالْعَاقِلَةُ لاَ تَحْمِل الْعَمْدَ، فَدَل عَلَى أَنَّ الْقَتْل بِعَمُودِ الْفُسْطَاطِ لَيْسَ بِعَمْدٍ، وَإِنْ كَانَ أَعْظَمَ مِنْهُ فَهُوَ عَمْدٌ، لأَِنَّهُ يَقْتُل غَالِبًا.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ أَيْضًا أَنْ يُلْقِيَ عَلَيْهِ حَائِطًا أَوْ صَخْرَةً، أَوْ خَشَبَةً عَظِيمَةً أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يُهْلِكُهُ غَالِبًا، فَفِيهِ الْقَوَدُ، لأَِنَّهُ يَقْتُل غَالِبًا. (2)

10 - وَإِنْ ضَرَبَهُ بِمُثَقَّلٍ صَغِيرٍ كَالْعَصَا وَالسَّوْطِ، وَالْحَجَرِ الصَّغِيرِ، أَوْ لَكَزَهُ بِيَدِهِ فِي مَقْتَلٍ، أَوْ فِي حَال ضَعْفٍ مِنَ الْمَضْرُوبِ لِمَرَضٍ أَوْ صِغَرٍ، أَوْ فِي زَمَنٍ مُفْرِطِ الْحَرِّ أَوْ الْبَرْدِ بِحَيْثُ تَقْتُلُهُ تِلْكَ الضَّرْبَةُ، أَوْ كَرَّرَ الضَّرْبَ حَتَّى قَتَلَهُ بِمَا يَقْتُل غَالِبًا، فَفِيهِ الْقَوَدُ، لأَِنَّهُ قَتَلَهُ بِمَا يَقْتُل مِثْلُهُ غَالِبًا فَأَشْبَهَ الضَّرْبَ بِمُثَقَّلٍ كَبِيرٍ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (3) .
__________
(1) حديث: " المرأة التي ضربت ضرتها بعمود فسطاط. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1310 - 1311) من حديث المغيرة بن شعبة.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 242، مغني المحتاج 4 / 4، المغني 7 / 638 - 639.
(3) المراجع السابقة.

(32/339)


الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَتْل بِالْخَنْقِ:
11 - أَنْ يَجْعَل فِي عُنُقِهِ خُرَاطَةً، ثُمَّ يُعَلِّقَهُ فِي خَشَبَةٍ أَوْ شَيْءٍ بِحَيْثُ يَرْتَفِعُ عَنِ الأَْرْضِ فَيَخْتَنِقَ وَيَمُوتَ، فَهَذَا عَمْدٌ سَوَاءٌ مَاتَ فِي الْحَال أَوْ بَقِيَ زَمَنًا، لأَِنَّ هَذَا أَوْحَى أَنْوَاعِ الْخَنْقِ، وَكَذَا أَنْ يَخْنُقَهُ وَهُوَ عَلَى الأَْرْضِ بِيَدَيْهِ أَوْ بِمِنْدِيلٍ أَوْ بِحَبْلٍ، أَوْ شَيْءٍ يَضَعُهُ عَلَى فَمِهِ وَأَنْفِهِ، أَوْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمَا فَيَمُوتَ، فَهَذَا إنْ فَعَل بِهِ ذَلِكَ مُدَّةً يَمُوتُ فِي مِثْلِهَا غَالِبًا فَمَاتَ فَهُوَ عَمْدٌ فِيهِ الْقِصَاصُ، وَبِهِ قَال عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالنَّخَعِيُّ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (خَنْقٌ ف 3)

الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُلْقِيَهُ فِي مَهْلَكَةٍ:
وَذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ:

الضَّرْبُ الأَْوَّل:
12 - أَنْ يُلْقِيَهُ مِنْ شَاهِقٍ كَرَأْسِ جَبَلٍ، أَوْ حَائِطٍ عَالٍ يَهْلِكُ بِهِ غَالِبًا فَيَمُوتَ، فَهُوَ عَمْدٌ، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ.

الضَّرْبُ الثَّانِي:
13 - أَنْ يُلْقِيَهُ فِي نَارٍ أَوْ مَاءٍ يُغْرِقُ، وَلاَ يُمْكِنُهُ
__________
(1) الاختيار 5 / 29، حاشية الدسوقي 4 / 242، مغني المحتاج 4 / 6، المغني 7 / 640.

(32/340)


التَّخَلُّصُ مِنْهُ، إمَّا لِكَثْرَةِ الْمَاءِ أَوِ النَّارِ، وَإِمَّا لِعَجْزِهِ عَنِ التَّخَلُّصِ لِمَرَضٍ أَوْ صِغَرٍ، أَوْ كَوْنِهِ مَرْبُوطًا، أَوْ مَنَعَهُ مِنَ الْخُرُوجِ، أَوْ كَوْنِهِ فِي حَفِيرَةٍ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الصُّعُودِ مِنْهَا، وَنَحْوِ هَذَا، فَهَذَا كُلُّهُ عَمْدٌ، لأَِنَّهُ يَقْتُل غَالِبًا، وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ أَلْقَاهُ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ بِأَدْنَى حَرَكَةٍ فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى مَاتَ فَلاَ قَوَدَ فِيهِ وَلاَ دِيَةَ، لأَِنَّ هَذَا الْفِعْل لَمْ يَقْتُلْهُ، وَإِنَّمَا حَصَل مَوْتُهُ بِلُبْثِهِ فِيهِ وَهُوَ فِعْل نَفْسِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ النَّارُ إذَا كَانَ يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا لِقِلَّتِهَا (1) .

الضَّرْبُ الثَّالِثُ:
14 - أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَسَدٍ أَوْ نَمِرٍ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ كَذُبْيَةٍ وَنَحْوِهَا فَيَقْتُلَهُ، فَهَذَا أَيْضًا عَمْدٌ فِيهِ الْقِصَاصُ إذَا فَعَل السَّبُعُ بِهِ فِعْلاً يَقْتُل مِثْلُهُ، وَإِنْ فَعَل بِهِ فِعْلاً لَوْ فَعَلَهُ الآْدَمِيُّ لَمْ يَكُنْ عَمْدًا لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ بِهِ، لأَِنَّ السَّبُعَ صَارَ آلَةً لِلآْدَمِيِّ فَكَانَ فِعْلُهُ كَفِعْلِهِ. وَإِنْ أَلْقَاهُ مَكْتُوفًا بَيْنَ يَدَيِ الأَْسَدِ أَوِ النَّمِرِ فِي فَضَاءٍ فَأَكَلَهُ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَكَذَلِكَ إنْ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَيَّةٍ فِي مَكَان ضَيِّقٍ فَنَهَشَتْهُ، فَقَتَلَتْهُ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، لأَِنَّ هَذَا يَقْتُل غَالِبًا
__________
(1) ابن عابدين 5 / 340، حاشية الدسوقي 4 / 243، مغني المحتاج 4 / 8، روضة الطالبين 9 / 143، المغني 7 / 641.

(32/340)


فَكَانَ عَمْدًا مَحْضًا كَسَائِرِ الصُّوَرِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ (1) .

الضَّرْبُ الرَّابِعُ:
15 - أَنْ يَحْبِسَهُ فِي مَكَان وَيَمْنَعَهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ مُدَّةً لاَ يَبْقَى فِيهَا حَتَّى يَمُوتَ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، لأَِنَّ هَذَا يَقْتُل غَالِبًا، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ النَّاسِ وَالزَّمَانِ وَالأَْحْوَال، فَإِذَا كَانَ عَطْشَانَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، مَاتَ فِي الزَّمَنِ الْقَلِيل، وَإِنْ كَانَ رَيَّانَ، وَالزَّمَنُ بَارِدٌ أَوْ مُعْتَدِلٌ لَمْ يَمُتْ إلاَّ فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ، فَيُعْتَبَرُ هَذَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ فِي مُدَّةٍ يَمُوتُ فِي مِثْلِهَا غَالِبًا فَفِيهِ الْقَوَدُ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (تَرْكٌ ف 13) .

الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ: الْقَتْل بِالسُّمِّ:
16 - إذَا قَدَّمَ طَعَامًا مَسْمُومًا لِصَبِيٍّ غَيْرِ مُمَيِّزٍ أَوْ مَجْنُونٍ فَمَاتَ، فَفِيهِ الْقَوَدُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
فَإِنْ قَدَّمَهُ لِبَالِغٍ عَاقِلٍ فَفِيهِ خِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (سُمٌّ ف 7) .

الصُّورَةُ السَّادِسَةُ: الْقَتْل بِالسِّحْرِ:
17 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ مَنْ قَتَل غَيْرَهُ بِسِحْرٍ يَقْتُل غَالِبًا يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ، لأَِنَّهُ قَتَلَهُ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) بدائع الصنائع 7 / 234، الدسوقي 4 / 242، مغني المحتاج 4 / 5، وروضة الطالبين 9 / 126، المغني 7 / 643.

(32/341)


بِمَا يَقْتُل غَالِبًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَهُ بِسِكِّينٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَقْتُل غَالِبًا فَفِيهِ الدِّيَةُ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (سِحْرٌ ف 16) .

الصُّورَةُ السَّابِعَةُ: الْقَتْل بِسَبَبٍ:
18 - الْقَتْل بِسَبَبٍ قَدْ يَدْخُل تَحْتَ الْقَتْل الْعَمْدِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ وَيَكُونُ فِيهِ الْقِصَاصُ، كَأَنْ يُكْرِهَ رَجُلاً عَلَى قَتْل آخَرَ إكْرَاهًا مُلْجِئًا، أَوْ يَشْهَدَ رَجُلاَنِ عَلَى رَجُلٍ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ وَيَعْتَرِفَا بِكَذِبِهِمَا فِي الشَّهَادَةِ.
أَوْ يَحْكُمَ حَاكِمٌ عَلَى رَجُلٍ بِالْقَتْل بِالشَّهَادَةِ الْكَاذِبَةِ وَكَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ مُتَعَمِّدًا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَتْلٌ بِسَبَبٍ ف 6 وَ 7) .

مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْقَتْل الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ:
إذَا تَحَقَّقَ الْقَتْل الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا يَلِي:

أ - الْقِصَاصُ:
19 - إذَا كَانَ الْمَقْتُول حُرًّا، مُسْلِمًا، مُكَافِئًا لِلْقَاتِل، فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِالْقَتْل الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ إذَا اجْتَمَعَتْ شُرُوطُهُ خِلاَفًا، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الآْيَاتُ وَالأَْخْبَارُ بِعُمُومِهَا قَال تَعَالَى:

(32/341)


{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُْنْثَى بِالأُْنْثَى} (1) .
إلاَّ أَنَّهُ يُقَيَّدُ الْقَتْل بِوَصْفِ الْعَمْدِيَّةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَمْدُ قَوَدٌ، إلاَّ أَنْ يَعْفُوَ وَلِيُّ الْمَقْتُول (2) وَفِي لَفْظٍ: مَنْ قُتِل عَمْدًا فَهُوَ قَوَدٌ. (3)
وَلأَِنَّ الْجِنَايَةَ بِالْعَمْدِيَّةِ تَتَكَامَل، وَحِكْمَةُ الزَّجْرِ عَلَيْهَا تَتَوَفَّرُ، وَالْعُقُوبَةُ الْمُتَنَاهِيَةُ لاَ شَرْعَ لَهَا بِدُونِ الْعَمْدِيَّةِ (4) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاصٌ) .

ب - الدِّيَةُ:
20 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الدِّيَةَ لَيْسَتْ عُقُوبَةً أَصْلِيَّةً لِلْقَتْل الْعَمْدِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ بِالصُّلْحِ بِرِضَا الْجَانِي، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا بَدَلٌ عَنِ الْقِصَاصِ وَلَوْ بِغَيْرِ رِضَا الْجَانِي، فَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ وَجَبَتِ الدِّيَةُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّ الدِّيَةَ عُقُوبَةٌ أَصْلِيَّةٌ بِجَانِبِ الْقِصَاصِ فِي
__________
(1) سورة البقرة / 178.
(2) حديث: " العمد قود. . . ". أخرجه ابن أبي شيبة (9 / 365) من حديث ابن عباس.
(3) حديث: " من قتل عمدًا فهو قود ". أخرجه النسائي (8 / 40) من حديث ابن عباس.
(4) تكملة فتح القدير 9 / 140، والمغني 7 / 647.

(32/342)


الْقَتْل الْعَمْدِ، فَالْوَاجِبُ عِنْدَهُمْ أَحَدُ شَيْئَيْنِ: الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ، فَيُخَيَّرُ الْوَلِيُّ بَيْنَهُمَا وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الْجَانِي.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَاتٌ ف 17) .

ج - الْكَفَّارَةُ:
21 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ، سَوَاءٌ وَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ أَوْ لَمْ يَجِبْ، لأَِنَّ الْقَتْل الْعَمْدَ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ، وَفِي الْكَفَّارَةِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ، فَلاَ يُنَاطُ بِهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، لأَِنَّ الْحَاجَةَ إلَى التَّكْفِيرِ فِي الْعَمْدِ أَمَسُّ مِنْهَا إلَيْهِ فِي الْخَطَأِ، فَكَانَ أَدْعَى إلَى إيجَابِهَا (1) .

د - الْحِرْمَانُ مِنَ الْوَصِيَّةِ:
22 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِل وَعَدَمِ جَوَازِهَا عَلَى أَقْوَالٍ:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ وَابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إلَى جَوَازِ الْوَصِيَّة لِلْقَاتِل وَهَذَا قَوْل أَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، لأَِنَّ الْهِبَةَ لَهُ تَصِحُّ، فَصَحَّتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ كَالذِّمِّيِّ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ
__________
(1) تكملة فتح القدير 9 / 140، 143، وابن عابدين 5 / 339 - 340، والقوانين الفقهية 339، وحاشية القليوبي 4 / 96، وروضة الطالبين 9 / 122، والمغني 7 / 639، 647.

(32/342)


الشَّافِعِيَّةِ وَأَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إلَى عَدَمِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لَهُ، وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ أَيْضًا، لأَِنَّ الْقَتْل يَمْنَعُ الْمِيرَاثَ الَّذِي هُوَ آكَدُ مِنَ الْوَصِيَّةِ، فَالْوَصِيَّةُ أَوْلَى، وَلأَِنَّ الْوَصِيَّةَ أُجْرِيَتْ مُجْرَى الْمِيرَاثِ فَيَمْنَعُهَا مَا يَمْنَعُهُ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَصِيَّةٌ) .

هـ - الْحِرْمَانُ مِنَ الْمِيرَاثِ:
23 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَتْل الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ يَمْنَعُ الْقَاتِل الْبَالِغَ الْعَاقِل مِنَ الْمِيرَاثِ إذَا كَانَ الْقَتْل مُبَاشِرًا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إرْثٌ ف 17) .

و الإِْثْمُ فِي الآْخِرَةِ:
24 - انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى التَّأْثِيمِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} . (2)
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ: إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا (3) وَمَا رُوِيَ
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 242، حاشية الدسوقي 4 / 426، روضة الطالبين 6 / 107، والمغني 6 / 111، 112.
(2) سورة النساء / 93.
(3) حديث: " إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 573) من حديث ابن عباس.

(32/343)


عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَال: لَزَوَال الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْل مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ. (1)
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَلأَِنَّ حُرْمَتَهُ أَشَدُّ مِنْ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ لِجَوَازِهِ لِمُكْرَهٍ بِخِلاَفِ الْقَتْل. (2)

قِدَاحٌ

اُنْظُرْ: أَزْلاَمٌ، مَيْسِرٌ

قَدَحٌ

اُنْظُرْ: مَقَادِيرُ
__________
(1) حديث: " لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق ". أخرجه ابن ماجه (2 / 874) من حديث البراء بن عازب، وحسن إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (3 / 256) .
(2) ابن عابدين 5 / 340، وتكملة فتح القدير 9 / 140 - 141، والاختيار 5 / 23.

(32/343)


قَدْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - قَدْرُ الشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ مَبْلَغُهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلاَ نُقْصَانٍ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: التَّسَاوِي فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ الْمُوجِبِ لِلْمُمَاثَلَةِ صُورَةً وَهُوَ الْكَيْل وَالْوَزْنُ، قَال الرَّاغِبُ: الْقَدْرُ وَالتَّقْدِيرُ تَبْيِينُ كَمْيَّةِ الشَّيْءِ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِلاَل: فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ (2) أَيْ قَدِّرُوا عَدَدَ الشَّهْرِ حَتَّى تُكْمِلُوا ثَلاَثِينَ يَوْمًا (3) .

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَدْرِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أ - الْقَدْرُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ مِنَ النَّجَاسَةِ:
2 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ قَدْرَ الدِّرْهَمِ وَمَا دُونَهُ مِنَ النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ كَالدَّمِ وَالْبَوْل وَالْخَمْرِ
__________
(1) المغرب للمطرزي ص373، والمصباح المنير.
(2) حديث: " فإن غم عليكم فاقدروا له ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 119) ومسلم (2 / 950) من حديث ابن عمر.
(3) قواعد الفقه للبركتي.

(32/344)


وَنَحْوِهَا مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَجَازَتِ الصَّلاَةُ مَعَهُ.
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الدَّمِ وَمَا مَعَهُ مِنْ قَيْحٍ وَصَدِيدٍ وَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ، فَيَقُولُونَ بِالْعَفْوِ عَنْ قَدْرِ دِرْهَمٍ مِنْ دَمٍ وَقَيْحٍ وَصَدِيدٍ، لأَِنَّ الإِْنْسَانَ لاَ يَخْلُو عَنْهُ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا بِالْعَفْوِ عَنِ الْيَسِيرِ مِنَ الدَّمِ وَالْقَيْحِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يَعْسُرُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ وَلَوْ لَمْ يُدْرِكْهَا الطَّرَفُ، وَإِنَّمَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ وَمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مِنَ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (عَفْوٌ ف 7) .

ب - قَدْرُ النِّصَابِ فِي الزَّكَاةِ وَقَدْرُ الْوَاجِبِ فِيهَا:
3 - يَخْتَلِفُ قَدْرُ النِّصَابِ فِي أَنْوَاعِ الأَْمْوَال الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ كَنِصَابِ زَكَاةِ الأَْنْعَامِ، فَفِي الإِْبِل إذَا بَلَغَتْ خَمْسًا شَاةٌ وَفِي الْبَقَرِ إذَا بَلَغَتْ ثَلاَثِينَ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ وَفِي الْغَنَمِ إذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ شَاةٌ.
وَفِي زَكَاةِ الذَّهَبِ إذَا بَلَغَ النِّصَابُ عِشْرِينَ مِثْقَالاً وَالْفِضَّةِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَالْمِقْدَارُ الْوَاجِبُ فِيهِمَا رُبْعُ الْعُشْرِ، وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ تُقَوَّمُ ثُمَّ تُعَامَل مُعَامَلَةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
وَفِي زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ إذَا بَلَغَتْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فِيهَا الْعُشْرُ إنْ سُقِيَتْ بِغَيْرِ كُلْفَةٍ وَنِصْفُ الْعُشْرِ إنْ سُقِيَتْ بِكُلْفَةٍ.

(32/344)


وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ ف 44، 51، 57، 72، 87، 115) .

ج - الْقَدْرُ مِنَ الْعِلَل الرِّبَوِيَّةِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ الرِّبَا فِي الأَْشْيَاءِ السِّتَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا (1) فِي حَدِيثِ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مِثْلاً بِمِثْلٍ. . . . (2)
كَمَا اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الأَْمْصَارِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الرِّبَا غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الأَْشْيَاءِ السِّتَّةِ وَأَنَّ فِيهَا مَعْنًى وَيَتَعَدَّى الْحُكْمُ بِذَلِكَ الْمَعْنَى إلَى غَيْرِهَا مِنَ الأَْمْوَال. (3)
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاحِدَةٌ، وَعِلَّةَ الأَْعْيَانِ الأَْرْبَعَةِ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْعِلَّةِ (4) .
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْجِنْسِيَّةُ وَالْقَدْرُ، عُرِفَتِ الْجِنْسِيَّةُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ (5) وَعُرِفَ الْقَدْرُ
__________
(1) المغني 4 / 4.
(2) حديث: " الذهب بالذهب مثلاً بمثل. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1211) والترمذي (3 / 532) من حديث عبادة بن الصامت، واللفظ للترمذي.
(3) المبسوط 12 / 112، والاختيار 2 / 30.
(4) المغني 4 / 5.
(5) حديث: " التمر بالتمر. . . ". أحرجه مسلم (2 / 1211) من حديث أبي هريرة.

(32/345)


بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِثْلاً بِمِثْلٍ وَيَعْنِي بِالْقَدْرِ الْكَيْل فِيمَا يُكَال وَالْوَزْنَ فِيمَا يُوزَنُ (1) ، فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْكَيْل وَالْوَزْنُ (2) .
وَرُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ وَأَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا وُزِنَ مِثْلٌ بِمِثْلٍ إذَا كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا، وَمَا كِيل فَمِثْل ذَلِكَ، فَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، (3) وَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَى الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ، وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّهُمَا عِلَّةُ الْحُكْمِ، لِمَا عُرِفَ أَنَّ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى الاِسْمِ الْمُشْتَقِّ يُنْبِئُ عَنْ عِلِّيَّةِ مَأْخَذِ الاِشْتِقَاقِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: الْمَكِيل وَالْمَوْزُونُ مِثْلاً بِمِثْلٍ بِسَبَبِ الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ مَعَ الْجِنْسِ، وَاَلَّذِي يَدُل عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَل رَجُلاً عَلَى خَيْبَرَ فَجَاءَهُمْ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَال: أَكُل تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ فَقَال إنَّا نَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلاَثَةِ، فَقَال: فَلاَ تَفْعَل، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا، وَقَال: فِي الْمِيزَانِ مِثْل ذَلِكَ، (4) أَيْ
__________
(1) المبسوط 12 / 113.
(2) الاختيار 2 / 30.
(3) حديث أنس: " ما وزن مثل بمثل. . . ". أخرجه الدارقطني (3 / 18) .
(4) حديث أبي سعيد وأبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 317) ومسلم (2 / 1215) .

(32/345)


فِي الْمَوْزُونِ، إذْ نَفْسُ الْمِيزَانِ لَيْسَ مِنْ أَمْوَال الرِّبَا، وَهُوَ أَقْوَى حُجَّةً فِي عِلِّيَّةِ الْقَدْرِ، وَهُوَ بِعُمُومِهِ يَتَنَاوَل الْمَوْزُونَ كُلَّهُ الثَّمَنَ وَالْمَطْعُومَ وَغَيْرَهُمَا (1) .
هَذَا وَلِمَعْرِفَةِ أَقْوَال بَقِيَّةِ الْفُقَهَاءِ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (رِبَا ف 21 - 25) .
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 86.

(32/346)


قُدْرَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْقُدْرَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنْ قَدَرْتُ عَلَى الشَّيْءِ أَقْدِرُ - مِنْ بَابِ ضَرَبَ - قَوِيتُ عَلَيْهِ وَتَمَكَّنْتُ مِنْهُ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: هِيَ الصِّفَةُ الَّتِي تُمَكِّنُ الْحَيَّ مِنَ الْفِعْل وَتَرْكِهِ بِالإِْرَادَةِ (2) .
قَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: الْقُدْرَةُ إذَا وُصِفَ بِهَا الإِْنْسَانُ فَاسْمٌ لِهَيْئَةٍ لَهُ بِهَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فِعْل شَيْءٍ مَا، وَإِذَا وُصِفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فَهِيَ نَفْيُ الْعَجْزِ عَنْهُ، وَمُحَالٌ أَنْ يُوصَفَ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ الْمُطْلَقَةِ مَعْنًى، وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظًا (3) .

الْقُدْرَةُ شَرْطُ التَّكْلِيفِ:
2 - يَقُول الأُْصُولِيُّونَ: جَوَازُ التَّكْلِيفِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقُدْرَةِ الَّتِي يُوجَدُ بِهَا الْفِعْل الْمَأْمُورُ بِهِ، وَهَذَا شَرْطٌ فِي أَدَاءِ كُل أَمْرٍ، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) التعريفات للجرجاني والكليات للكفوي 4 / 13.
(3) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني.

(32/346)


قَوْله تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} (1) أَيْ طَاقَتَهَا وَقُدْرَتَهَا.
وَيَقُول الْجَصَّاصُ: نَصُّ التَّنْزِيل قَدْ أَسْقَطَ التَّكْلِيفَ عَمَّنْ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْفِعْل وَلاَ يُطِيقُهُ، مِنْ ذَلِكَ سُقُوطُ الْفَرْضِ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ فِيمَا لاَ تَتَّسِعُ لَهُ قُوَاهُمْ، لأَِنَّ الْوُسْعَ هُوَ دُونَ الطَّاقَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمُ اسْتِفْرَاغُ الْجَهْدِ فِي أَدَاءِ الْفَرْضِ، نَحْوُ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَيُؤَدِّي إلَى ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فِي جِسْمِهِ وَإِنْ لَمْ يَخْشَ الْمَوْتَ بِفِعْلِهِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ صَوْمُهُ، لأَِنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفْهُ إلاَّ مَا يَتَّسِعُ لِفِعْلِهِ.
وَقَدْ قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْقُدْرَةَ إلَى قُدْرَةٍ مُمْكِنَةٍ، وَهِيَ مُفَسَّرَةٌ بِسَلاَمَةِ الآْلاَتِ وَصِحَّةِ الأَْسْبَابِ، وَإِلَى قُدْرَةٍ مُيَسَّرَةٌ، وَهِيَ الَّتِي يَقْدِرُ بِهَا الإِْنْسَانُ عَلَى الْفِعْل مَعَ يُسْرٍ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِطَاعَةٌ ف 10) وَالْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ:
يَخْتَلِفُ مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ بِاخْتِلاَفِ التَّصَرُّفَاتِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ أَمْ فِي
__________
(1) سورة البقرة / 286.
(2) كشف الأسرار 1 / 192 - 193، والتلويح على التوضيح 1 / 198 وما بعدها، ومسلم الثبوت 1 / 135 - 137، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 537 - 538.

(32/347)


الْمُعَامَلاَتِ،

الْقُدْرَةُ فِي الْعِبَادَاتِ:
أَوَّلاً - الْقُدْرَةُ عَلَى الطَّهَارَةِ الْمَائِيَّةِ:
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ لِلْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْل تَتَحَقَّقُ بِمَا يَأْتِي:
أ - وُجُودُ الْمَاءِ الْكَافِي لِلطَّهَارَةِ وَالْفَائِضِ عَنِ الْحَاجَةِ الضَّرُورِيَّةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} . (1)
ب - إمْكَانُ اسْتِعْمَال الْمَاءِ بِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَضُرُّهُ، أَوِ اسْتِعْمَالِهِ بِمُسَاعِدٍ وَلَوْ بِأَجْرٍ، لأَِنَّ الْعَاجِزَ عَنِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ بِنَفْسِهِ إذَا وَجَدَ مَنْ يُوَضِّئُهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْل يُعْتَبَرُ قَادِرًا بِقُدْرَةِ الْغَيْرِ.
فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ وُجُودُ الْمَاءِ أَوْ إمْكَانُ الاِسْتِعْمَال، فَلاَ يُعْتَبَرُ الشَّخْصُ قَادِرًا، وَيَنْتَقِل مِنَ الطَّهَارَةِ الْمَائِيَّةِ إلَى التَّيَمُّمِ (2) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَيَمُّمٌ ف 21 وَمَا بَعْدَهَا) .

ثَانِيًا - الْقُدْرَةُ عَلَى أَدَاءِ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ:
4 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّهُ تَتَحَقَّقُ الْقُدْرَةُ عَلَى أَدَاءِ الصَّلاَةِ بِسَلاَمَةِ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ الَّتِي
__________
(1) سورة النساء / 43.
(2) فتح القدير مع الكفاية والعناية 1 / 117 - 125، وابن عابدين 1 / 155 - 158، 170، والدسوقي 1 / 147 وما بعدها، والمهذب 1 / 39 - 41، وكشاف القناع 1 / 162 - 167.

(32/347)


يَتَمَكَّنُ بِهَا الْمُصَلِّي مِنَ الإِْتْيَانِ بِالأَْرْكَانِ عَلَى الْوَجْهِ الأَْكْمَل الَّذِي بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي. (1)
وَإِذَا عَجَزَتْ أَعْضَاءُ الْبَدَنِ عَنِ الإِْتْيَانِ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الأَْكْمَل، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ يُعْتَبَرُ قَادِرًا بِمَا يُمْكِنُهُ الإِْتْيَانُ بِهِ وَلَوْ بِإِيمَاءَةٍ بِرَأْسِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الإِْتْيَانُ بِذَلِكَ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الصَّلاَةَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لاَ تَسْقُطُ عَنِ الْمُكَلَّفِ إلاَّ لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ، كَالْحَيْضِ وَالْجُنُونِ الْمُطْبِقِ (2) .
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَل قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ وَفِي رِوَايَةٍ:
فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا، لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا. (3)

ثَالِثًا - الْقُدْرَةُ عَلَى أَدَاءِ الزَّكَاةِ:
5 - ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى
__________
(1) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 111) من حديث مالك ابن الحويرث.
(2) الهداية 1 / 77، وجواهر الإكليل 1 / 55، ومغني المحتاج 1 / 151 - 153، وشرح منتهى الإرادات 1 / 270 - 271.
(3) حديث: " صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا. . . ط. أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 487) . والرواية الأخرى عزاها ابن حجر في التلخيص (1 / 225) إلى النسائي.

(32/348)


الأَْدَاءِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ عَلَى الْفَوْرِ، وَتَتَحَقَّقُ هَذِهِ الْقُدْرَةُ بِحُضُورِ الْمَال وَحُضُورِ الْمُسْتَحِقِّينَ أَوْ حُضُورِ الإِْمَامِ أَوِ السَّاعِي، لأَِنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ، فَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهَا إمْكَانُ أَدَائِهَا، كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الأَْدَاءِ لَيْسَتْ شَرْطًا لِوُجُوبِهَا، لأَِنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ فَيَثْبُتُ وُجُوبُهَا فِي الذِّمَّةِ مَعَ عَدَمِ إمْكَانِ الأَْدَاءِ، كَثُبُوتِ الدُّيُونِ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ ف 14 وَمَا بَعْدَهَا) .

رَابِعًا - الْقُدْرَةُ عَلَى أَدَاءِ الْحَجِّ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ الاِسْتِطَاعَةُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} . (1)
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّ الاِسْتِطَاعَةَ، أَيِ الْقُدْرَةَ تَتَحَقَّقُ بِمَا يَأْتِي:
أ - وُجُودُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَهُوَ وُجُودُ الْمَال الَّذِي يَكْفِي النَّفَقَةَ ذَهَابًا وَإِيَابًا.
ب - سَلاَمَةُ الْبَدَنِ مِنَ الأَْمْرَاضِ وَالْعَاهَاتِ الَّتِي تَعُوقُ عَنِ الْحَجِّ، وَيُعْتَبَرُ الْعَاجِزُ بِنَفْسِهِ قَادِرًا بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ، كَالأَْعْمَى الَّذِي يَجِدُ مَنْ
__________
(1) سورة آل عمران / 97.

(32/348)


يَقُودُهُ، وَالْمُقْعَدِ الَّذِي يَجِدُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ.
ج - أَمْنُ الطَّرِيقِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الإِْنْسَانُ آمِنًا عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ.
د - وُجُودُ مَحْرَمٍ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ أَوْ رُفْقَةٍ مَأْمُونَةٍ كَمَا يَقُول بَعْضُ الْفُقَهَاءِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (حَجٌّ ف 14 وَمَا بَعْدَهَا) .

الْقُدْرَةُ فِي الْمُعَامَلاَتِ:
أَوَّلاً - الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ:
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ، لأَِنَّ غَيْرَ الْمَقْدُورِ عَلَى تَسْلِيمِهِ كَالْمَعْدُومِ، وَتَتَحَقَّقُ الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بِأَنْ يَكُونَ الإِْنْسَانُ مَالِكًا لَهُ مُتَمَكِّنًا مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَتَسْلِيمِهِ لِلْمُشْتَرِي، وَلِذَلِكَ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَلاَ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ، وَلاَ الْجَمَل الشَّارِدِ، وَلاَ مَا لاَ يَمْلِكُهُ الإِْنْسَانُ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ف 32) .

ثَانِيًا - الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فِي الإِْجَارَةِ:
8 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمَنْفَعَةِ لِصِحَّةِ الإِْجَارَةِ الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِيفَائِهَا حَقِيقَةً أَوْ شَرْعًا، وَتَتَحَقَّقُ الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 5، مغني المحتاج 2 / 12 - 13، ومنتهى الإرادات 2 / 145.

(32/349)


مِنَ الشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الاِسْتِيفَاءِ حَقِيقَةً أَوْ شَرْعًا، وَلِذَلِكَ لاَ تَصِحُّ إجَارَةُ الدَّابَّةِ الْفَارَّةِ، كَمَا لاَ تَصِحُّ إجَارَةُ الأَْقْطَعِ أَوِ الأَْشَل لِلْخِيَاطَةِ بِنَفْسِهِ، لأَِنَّهَا مَنَافِعُ لاَ تَحْدُثُ إلاَّ عِنْدَ سَلاَمَةِ الأَْسْبَابِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إجَارَةٌ ف 30)

ثَالِثًا - الْقُدْرَةُ عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ:
9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى وُجُوبِ أَدَاءِ الدَّيْنِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الأَْدَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} . (2)
وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا فَإِنَّهُ يَجِبُ أَدَاؤُهُ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَ طَلَبِهِ مَتَى كَانَ الْمَدِينُ قَادِرًا عَلَى الأَْدَاءِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَطْل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ (3) وَيَتَحَقَّقُ الْمَطْل عِنْدَ عَدَمِ الأَْدَاءِ بَعْدَ الطَّلَبِ.
أَمَّا إذَا كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلاً فَلاَ يَجِبُ أَدَاؤُهُ قَبْل حُلُول الأَْجَل، لَكِنْ لَوْ أُدِّيَ قَبْلَهُ صَحَّ وَسَقَطَ عَنْ ذِمَّةِ الْمَدِينِ.
وَإِذَا مَاطَل الْقَادِرُ وَلَمْ يُؤَدِّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ أَلْزَمَهُ الْحَاكِمُ بِالأَْدَاءِ بَعْدَ طَلَبِ الْغُرَمَاءِ، فَإِذَا امْتَنَعَ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ لِظُلْمِهِ بِتَأْخِيرِ الْحَقِّ مِنْ
__________
(1) البدائع 4 / 187، والقليوبي 3 / 69 - 72.
(2) سورة البقرة / 283.
(3) حديث: " مطل الغني ظلم ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 464) ومسلم (3 / 1197) .

(32/349)


غَيْرِ ضَرُورَةٍ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِل عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ، (1) وَالْحَبْسُ عُقُوبَةٌ فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ وَكَانَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ بَاعَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَاعَ عَلَى مُعَاذٍ مَالَهُ وَقَضَى دُيُونَهُ.
(2) وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بَاعَ مَال أُسَيْفِعَ وَقَسَمَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ (3) .
وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَدِينُ قَادِرًا عَلَى الأَْدَاءِ بِأَنْ كَانَ مُعْسِرًا أَوْ أَفْلَسَ، فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إعْسَارٌ ف 15) (وَإِفْلاَسٌ ف 6) .

رَابِعًا - الْقُدْرَةُ عَلَى الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ:
10 - الأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
__________
(1) حديث: " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته ". أخرجه ابو داود (4 / 45 - 46) من حديث الشريد بن سويد وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (5 / 62) .
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم باع على معاذ ماله وقضى ديونه ". أخرجه الدارقطني (4 / 231) من حديث كعب بن مالك، وأعله عبد الحق الإشبيلي بالإرسال كما في التلخيص لابن حجر (3 / 37) .
(3) البدائع 7 / 173، وجواهر الإكليل 2 / 92، ومغني المحتاج 2 / 157، والمغني 4 / 484 - 485، وشرح منتهى الإرادات 2 / 274 - 275، وأثر عمر أخرجه البيهقي في سننه (6 / 49) .

(32/350)


بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، (1) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِْيمَانِ. (2)
قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْقُدْرَةُ أَصْلٌ، وَتَكُونُ فِي النَّفْسِ وَتَكُونُ فِي الْبَدَنِ إنِ احْتَاجَ إلَى النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِيَدِهِ.
وَقَال الْغَزَالِيُّ: يَجِبُ قِتَال الْمُقِيمِينَ عَلَى الْمَعَاصِي الْمُصِرِّينَ عَلَيْهَا، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الإِْنْسَانُ ذَلِكَ فَلْيُنْكِرْ بِلِسَانِهِ، فَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ، وَلاَ يَسْقُطُ الإِْنْكَارُ بِالْقَلْبِ عَنِ الْمُكَلَّفِ بِالْيَدِ أَوِ اللِّسَانِ أَصْلاً (3) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ ف 5) .

خَامِسًا - الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُحَارِبِ:
11 - الْحِرَابَةُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَالْمُحَارِبُونَ مُفْسِدُونَ فِي الأَْرْضِ، وَجَزَاؤُهُمْ هُوَ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَْرْضِ
__________
(1) سورة آل عمران / 104.
(2) حديث: " من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده. . . ". أخرجه مسلم (1 / 69) من حديث أبي سعيد الخدري.
(3) جواهر الإكليل 1 / 251، والفتاوى الهندية 5 / 353، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 266 - 267، وإحياء علوم الدين 2 / 319، والزواجر 2 / 161.

(32/350)


فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ} (1) .
وَلَكِنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ إنَّمَا تُنَفَّذُ فِيهِمْ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِمُ الْحَاكِمُ وَتَمَكَّنَ مِنَ الْقَبْضِ عَلَيْهِمْ قَبْل أَنْ يَتُوبُوا وَيَأْتُوا مُعْلِنِينَ تَوْبَتَهُمْ، وَلِذَلِكَ إذَا تَابُوا قَبْل أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِمُ الْحَاكِمُ سَقَطَتِ الْعُقُوبَةُ عَنْهُمْ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْل أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حِرَابَةٌ ف 24)

سَادِسًا الْقُدْرَةُ عَلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْغَيْرِ:
12 - مَنْ أَمْكَنَهُ إنْقَاذُ شَخْصٍ مِنَ الْهَلاَكِ كَمَنْ كَانَ مَعَهُ طَعَامٌ وَكَانَ غَيْرُهُ مُضْطَرًّا إلَيْهِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ لَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ وَجَدَ أَعْمَى كَادَ أَنْ يَتَرَدَّى فِي بِئْرٍ، أَوْ وَجَدَ إنْسَانًا كَادَ أَنْ يَغْرَقَ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ إنْقَاذُهُ مَتَى كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي صَلاَةٍ وَجَبَ قَطْعُهَا لإِِنْقَاذِ غَيْرِهِ مِنَ الْهَلاَكِ.
فَإِنِ امْتَنَعَ الإِْنْسَانُ مِنْ بَذْل الطَّعَامِ الزَّائِدِ عَنْ حَاجَتِهِ، أَوِ امْتَنَعَ عَنْ إنْقَاذِ الْغَرِيقِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ آثِمًا، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ ضَيَاعًا بَيْنَ أَقْوَامٍ أَغْنِيَاءَ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ
__________
(1) سورة المائدة / 33.
(2) سورة المائدة / 34.

(32/351)


ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ (1)
يَقُول الْكَاسَانِيُّ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَاءٌ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ وَاضْطُرَّ قَوْمٌ إلَيْهِ وَخَافُوا الْهَلاَكَ يُقَال لَهُ: إمَّا أَنْ تَأْذَنَ بِالدُّخُول وَإِمَّا أَنْ تُعْطِيَ بِنَفْسِك، فَإِنْ لَمْ يُعْطِهِمْ وَمَنَعَهُمْ مِنَ الدُّخُول فَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُ بِالسِّلاَحِ لِيَأْخُذُوا قَدْرَ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْهَلاَكُ، وَالأَْصْل فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا وَرَدُوا مَاءً فَسَأَلُوا أَهْلَهُ أَنْ يَدُلُّوهُمْ عَلَى الْبِئْرِ فَأَبَوْا، وَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُعْطُوهُمْ دَلْوًا فَأَبَوْا، فَقَالُوا لَهُمْ: إنَّ أَعْنَاقَنَا وَأَعْنَاقَ مَطَايَانَا كَادَتْ تُقْطَعُ فَأَبَوْا، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِعُمَرِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَال: هَلاَّ وَضَعْتُمْ فِيهِمُ السِّلاَحَ (2) .
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: دَفْعُ ضَرَرِ الْمُسْلِمِينَ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الْمُوسِرِينَ، كَكِسْوَةِ عَارٍ وَإِطْعَامِ جَائِعٍ.
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: يَضْمَنُ مَنْ تَرَكَ تَخْلِيصَ شَيْءٍ مُعَرَّضٍ لِلْهَلاَكِ، مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ، وَسَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى تَخْلِيصِهِ بِيَدِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ أَوْ جَاهِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ (3) .
__________
(1) حديث: " أيما رجل مات ضياعًا. . . ". أورده الموصلي في الاختبار (4 / 175) ولم يعزه إلى أي مصدر، ولم نهتد إلى من أخرجه
(2) أثر عمر: أخرجه يحيى بن آدم في كتاب الخراج (ص 112) .
(3) البدائع 6 / 189، والاختيار 4 / 175، وجواهر الإكليل 1 / 215، ومغني المحتاج 4 / 212، 309، ومنتهى الإرادات 3 / 401 - 402.

(32/351)


وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (ضَمَانٌ) .

سَابِعًا - الْقُدْرَةُ عَلَى تَرْبِيَةِ الْمَحْضُونِ:
13 - يُشْتَرَطُ فِيمَنْ تَثْبُتُ لَهُ الْحَضَانَةُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى صَوْنِ الصَّغِيرِ فِي خُلُقِهِ وَصِحَّتِهِ، وَلِذَلِكَ لاَ تَثْبُتُ الْحَضَانَةُ لِلْعَاجِزِ لِكِبَرِ سِنٍّ أَوْ مَرَضٍ يَعُوقُ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ عَاهَةٍ كَالْعَمَى وَالْخَرَسِ وَالصَّمَمِ، أَوْ كَانَتِ الْحَاضِنَةُ تَخْرُجُ كَثِيرًا لِعَمَلٍ أَوْ غَيْرِهِ وَتَتْرُكُ الْوَلَدَ ضَائِعًا.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (حَضَانَةٌ ف 14) .

قَدَرِيَّةٌ

اُنْظُرْ: فِرَقُ الأُْمَّةِ