الموسوعة الفقهية الكويتية

قِيَاسٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْقِيَاسُ فِي اللُّغَةِ: تَقْدِيرُ شَيْءٍ عَلَى مِثَال شَيْءٍ، وَتَسْوِيَتُهُ بِهِ، لِذَلِكَ سُمِّيَ الْمِكْيَال: مِقْيَاسًا، يُقَال: فُلاَنٌ لاَ يُقَاسُ عَلَى فُلاَنٍ: لاَ يُسَاوِيهِ.
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الأُْصُول فِيهِ، حَتَّى قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يَتَعَذَّرُ الْحَدُّ الْحَقِيقِيُّ فِي الْقِيَاسِ؛ لاِشْتِمَالِهِ عَلَى حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ، كَالْحُكْمِ، وَالْعِلَّةِ، وَالْفَرْعِ وَالْجَامِعِ.
وَعَرَّفَهُ الْمُحَقِّقُونَ بِأَنَّهُ: مُسَاوَاةُ فَرْعٍ لأَِصْلٍ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ أَوْ زِيَادَتِهِ عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرِ فِي الْحُكْمِ، وَقِيل: حَمْل مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُمَا بِجَامِعِ حُكْمٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ نَفْيِهِمَا (1) .
__________
(1) القاموس المحيط، والبحر المحيط 5 / 7، وإرشاد الفحول ص181، والتحصيل في المحصول 2 / 155، ومنهاج الوصول في علم الأصول شرح الإسنوي 3 / 3.

(34/91)


أَرْكَانُ الْقِيَاسِ:
2 - لاَ تَتِمُّ مَاهِيَّةُ الْقِيَاسِ، إِلاَّ بِوُجُودِ أَرْكَانِهِ: وَهِيَ أَرْبَعَةٌ:
أ - الأَْصْل: وَهُوَ مَحَل الْحُكْمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ.
ب - وَالْفَرْعُ: وَهُوَ الْمُشَبَّهُ.
ج - وَالْحُكْمُ: وَهُوَ مَا ثَبَتَ بِالشَّرْعِ فِي الأَْصْل كَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ.
د - وَالْعِلَّةُ: وَهُوَ الْوَصْفُ الْجَامِعُ بَيْنَ الأَْصْل وَالْفَرْعِ (1) .
أَمَّا شُرُوطُ كُل رُكْنٍ مِنْ هَذِهِ الأَْرْكَانِ، وَآرَاءُ الْعُلَمَاءِ فَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقِيَاسِ:
حُجِّيَّةُ الْقِيَاسِ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ فِي الأُْمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَالأَْغْذِيَةِ، وَالأَْدْوِيَةِ.
أَمَّا الْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ إِذَا عَدِمَ النَّصَّ وَالإِْجْمَاعَ فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ أَصْلٌ مِنْ أُصُول التَّشْرِيعِ، يُسْتَدَل بِهِ عَلَى الأَْحْكَامِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ بِهَا السَّمْعُ، وَنُقِل عَنْ أَحْمَدَ: لاَ يَسْتَغْنِي أَحَدٌ عَنِ الْقِيَاسِ (2) .
__________
(1) إرشاد الفحول ص204، والبحر المحيط 5 / 83.
(2) البحر المحيط 5 / 16، التحصيل في المحصول 2 / 159 وما بعده، إرشاد الفحول ص 185 وما بعده.

(34/91)


مَا يَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ:
4 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَرَيَانِ الْقِيَاسِ فِي بَعْضِ الأُْمُورِ، كَالأَْسْبَابِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْمُقَدَّرَاتِ الَّتِي لاَ نَصَّ فِيهَا وَلاَ إِجْمَاعَ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
فَذَهَبَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَكَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الأُْصُول، إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجْرِي الْقِيَاسُ فِي الأَْسْبَابِ.
وَذَهَبَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ يَجْرِي فِيهَا.
وَمَعْنَى الْقِيَاسِ فِي الأَْسْبَابِ أَنْ يَجْعَل الشَّارِعُ وَصْفًا سَبَبًا لِحُكْمٍ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ وَصْفٌ آخَرُ، فَيُحْكَمُ بِكَوْنِهِ سَبَبًا.
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي جَرَيَانِهِ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَالْمُقَدَّرَاتِ الَّتِي لاَ نَصَّ وَلاَ إِجْمَاعَ فِيهَا، فَمَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَجَوَّزَهُ غَيْرُهُمْ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) إرشاد الفحول ص207 - 208، التحصيل في المحصول 2 / 243، والبحر المحيط 5 / 51، منهاج الوصول في علم الأصول مع شرح الإسنوي 3 / 41 وما بعده.

(34/92)


قِيَافَة

التَّعْرِيفُ:
1 - الْقِيَافَةُ مَصْدَرُ قَافَ بِمَعْنَى تَتَبَّعَ أَثَرَهُ لِيَعْرِفَهُ، يُقَال: فُلاَنٌ يَقُوفُ الأَْثَرَ وَيَقْتَافُهُ قِيَافَةً.
وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ الْقَائِفَ هُوَ: الَّذِي يَتَتَبَّعُ الآْثَارَ وَيَعْرِفُهَا، وَيُعْرَفُ شَبَهَ الرَّجُل بِأَخِيهِ وَأَبِيهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلْقِيَافَةِ وَمُشْتَقَّاتِهَا عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْمُتَعَلِّقِ بِتَتَبُّعِ الأَْثَرِ وَمَعْرِفَةِ الشَّبَهِ.
فَفِي التَّعْرِيفَاتِ لِلْجُرْجَانِيِّ وَفِي دُسْتُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقَائِفَ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُ النَّسَبَ بِفِرَاسَتِهِ وَنَظَرِهِ إِلَى أَعْضَاءِ الْمَوْلُودِ (2) ، وَيُعَرِّفُهُ ابْنُ رُشْدٍ وَابْنُ حَجَرٍ وَالصَّنْعَانِيُّ بِمَا لاَ يَبْعُدُ عَنْ ذَلِكَ (3) .
__________
(1) لسان العرب مادة (قوف) .
(2) التعريفات ص171، ودستور العلماء 3 / 52.
(3) فتح الباري 15 / 59، وبداية المجتهد 2 / 327، وسبل السلام 4 / 137.

(34/92)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعِيَافَةُ:
2 - تَأْتِي هَذِهِ الْمَادَّةُ فِي اللُّغَةِ وَيُرَادُ بِهَا الْكَرَاهَةُ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الضَّبِّ الْمَشْوِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْكُلْهُ: لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ (1) .
كَمَا يُرَادُ بِهَا التَّرَدُّدُ عَلَى الشَّيْءِ وَالْقُرْبُ مِنْهُ وَالْحَوْمُ عَلَيْهِ، فَعَافَتِ الطَّيْرُ أَيْ: تَحُومُ عَلَى الْمَاءِ، وَعَافَتْ عَلَى الْجِيَفِ أَيْ: تَطِيرُ حَوْلَهَا تُرِيدُ الْوُقُوعَ عَلَيْهَا.
وَتُطْلَقُ عَلَى زَجْرِ الطُّيُورِ وَالسَّوَانِحِ، وَالاِعْتِبَارُ بِأَسْمَائِهَا وَمَسَاقِطِهَا وَمَمَرِّهَا وَأَصْوَاتِهَا.
قَال الأَْزْهَرِيُّ: الْعِيَافَةُ زَجْرُ الطَّيْرِ، وَهُوَ أَنْ يَرَى طَائِرًا أَوْ غُرَابًا فَيَتَطَيَّرَ وَإِنْ لَمْ يَرَ شَيْئًا، فَقَال بِالْحَدْسِ كَانَ عِيَافَةً أَيْضًا (2) وَهَذَا هُوَ الَّذِي شُهِرَ بِهِ بَنُو لَهَبٍ وَبَنُو أَسَدٍ (3) .
وَكَانَ الْعَائِفُ هُوَ الْكَاهِنَ الَّذِي يَعْمِدُ إِلَى التَّضْلِيل، وَيَدَّعِي الاِتِّصَال بِعَالَمِ الْغَيْبِ، وَهُنَاكَ شَوَاهِدُ عَدِيدَةٌ عَلَى ارْتِبَاطِ الْعِيَافَةِ بِالْكَهَانَةِ، وَهِيَ بِهَذَا تَخْتَلِفُ عَنِ الْقِيَافَةِ الَّتِي
__________
(1) حديث: " لم يكن بأرض قومي. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 663) ، ومسلم (3 / 1543) من حديث ابن عباس.
(2) لسان العرب مادة (عيف) .
(3) لسان العرب، والقاموس المحيط مادة (عيف) .

(34/93)


لاَ تَعَلُّقَ لَهَا بِالْكَهَانَةِ، وَتَقُومُ عَلَى النَّظَرِ الْمَنْطِقِيِّ التَّجْرِيبِيِّ حَسْبَمَا يَتَّضِحُ مِنْ شُرُوطِ الْعَمَل بِهَا

ب - الْفِرَاسَةُ:
3 - الْفِرَاسَةُ: اسْمٌ فِعْلُهُ تَفَرَّسَ كَتَوَسَّمَ وَزْنًا وَمَعْنًى، أَمَّا الْفِرَاسَةُ بِفَتْحِ الْفَاءِ فَمَصْدَرُ الْفِعْل فَرَسَ يَفْرُسُ، وَمَعْنَاهَا: الْعِلْمُ بِرُكُوبِ الْخَيْل وَرَكْضِهَا مِنَ الْفُرُوسِيَّةِ، وَالْفَارِسُ: الْحَاذِقُ بِمَا يُمَارِسُ مِنَ الأَْشْيَاءِ كُلِّهَا، وَبِهَا سُمِّيَ الرَّجُل فَارِسًا (1) .
وَتُطْلَقُ الْفِرَاسَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
أَوَّلِهِمَا: نَوْعٌ يُتَعَلَّمُ بِالدَّلاَئِل وَالتَّجَارِبِ وَالْخُلُقِ وَالأَْخْلاَقِ فَتُعْرَفُ بِهِ أَحْوَال النَّاسِ (2) ، وَيُسْتَفَادُ إِطْلاَقُ الْفِرَاسَةِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعَلاَمَاتِ عِنْدَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنْ تَفْسِيرِهِ لِلتَّوَسُّمِ بِأَنَّهُ الْعَلاَمَةُ الَّتِي يُسْتَدَل بِهَا عَلَى مَطْلُوبِ غَيْرِهَا، وَهِيَ الْفِرَاسَةُ. . . وَذَلِكَ اسْتِدْلاَلٌ بِالْعَلاَمَةِ، وَمِنَ الْعَلاَمَاتِ مَا يَبْدُو لِكُل أَحَدٍ بِأَوَّل نَظَرٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ خَفِيٌّ لاَ يَبْدُو لِكُل أَحَدٍ، وَلاَ يُدْرَكُ بِبَادِئِ النَّظَرِ (3) .
__________
(1) لسان العرب مادة (فرس) .
(2) لسان العرب مادة (فرس) وأحكام القرآن لابن العربي 3 / 1119.
(3) أحكام القرآن لابن العربي 3 / 1119.

(34/93)


وَالثَّانِي: مَا يُوقِعُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ، فَيَعْلَمُونَ أَحْوَال بَعْضِ النَّاسِ بِنَوْعٍ مِنَ الْكَرَامَاتِ وَإِصَابَةِ الظَّنِّ وَالْحَدْسِ (1) ، وَلاَ يُكْتَسَبُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْفِرَاسَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ طِبْقًا لِمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِجَوْدَةِ الْقَرِيحَةِ وَحِدَّةِ الْخَاطِرِ وَصَفَاءِ الْفِكْرِ. . . وَتَفْرِيغِ الْقَلْبِ مِنْ حَشْوِ الدُّنْيَا، وَتَطْهِيرِهِ مِنْ أَدْنَاسِ الْمَعَاصِي، وَكُدُورَةِ الأَْخْلاَقِ وَفُضُول الدُّنْيَا (2) .
وَتَتَمَيَّزُ الْقِيَافَةُ عَنِ الْفِرَاسَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَائِفَ يَقُومُ بِجَمْعِ الأَْدِلَّةِ وَيَكْشِفُ عَنْهَا، مَعَ النَّظَرِ فِيهَا وَالْمُوَازَنَةِ بَيْنَهَا بِنَوْعِ خِبْرَةٍ لاَ تُتَاحُ إِلاَّ بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّمَرُّسِ وَمُدَاوَمَةِ النَّظَرِ وَالدِّرَاسَةِ، أَمَّا التَّفَرُّسُ فَيُخْتَصُّ بِإِعْمَال الذَّكَاءِ الشَّخْصِيِّ وَالْقُدْرَةِ الذِّهْنِيَّةِ الْخَاصَّةِ لِوَزْنِ الأَْدِلَّةِ الْمُتَعَارِضَةِ وَتَقْدِيرِهَا.
وَيُلْحِقُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْفِرَاسَةَ بِالإِْلْهَامِ وَالْكَرَامَةِ، وَلاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي الْحُكْمُ بِالْفِرَاسَةِ عِنْدَهُمْ لِهَذَا.

ج - الْقَرِينَةُ:
4 - الْقَرِينَةُ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمُقَارَنَةِ، وَهِيَ الْمُصَاحَبَةُ، يُقَال: فُلاَنٌ قَرِينٌ لِفُلاَنٍ أَيْ
__________
(1) لسان العرب مادة (فرس) وتفسير القرطبي 10 / 44.
(2) تفسير القرطبي 10 / 44.

(34/94)


مُصَاحِبٌ لَهُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْعَلاَمَةُ الدَّالَّةُ عَلَى شَيْءٍ مَطْلُوبٍ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقِيَافَةِ وَبَيْنَ الْقَرِينَةِ أَنَّ الْقِيَافَةَ نَوْعٌ مِنَ الْقَرَائِنِ.

نَوْعَا الْقِيَافَةِ:
5 - يَقْسِمُ صَاحِبُ كَشْفِ الظُّنُونِ الْقِيَافَةَ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أَوَّلِهِمَا: قِيَافَةُ الأَْثَرِ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْعِيَافَةُ كَذَلِكَ، وَيُعْرَفُ هَذَا النَّوْعُ بِأَنَّهُ: عِلْمٌ بَاحِثٌ عَنْ تَتَبُّعِ آثَارِ الأَْقْدَامِ وَالأَْخْفَافِ وَالْحَوَافِرِ فِي الطُّرُقِ الْقَابِلَةِ لِلأَْثَرِ.
أَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي فَهُوَ قِيَافَةُ الْبَشَرِ الَّذِي يُعَرِّفُهُ بِأَنَّهُ: عِلْمٌ بَاحِثٌ عَنْ كَيْفِيَّةِ الاِسْتِدْلاَل بِهَيْئَاتِ أَعْضَاءِ الشَّخْصَيْنِ عَلَى الْمُشَارَكَةِ وَالاِتِّحَادِ فِي النَّسَبِ وَالْوِلاَدَةِ وَسَائِرِ أَحْوَالِهِمَا (2) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقِيَافَةِ:

أ - إِثْبَاتُ النَّسَبِ بِالْقِيَافَةِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِثْبَاتِ النَّسَبِ بِالْقِيَافَةِ إِلَى رَأْيَيْنِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
__________
(1) التعريفات ص152.
(2) كشف الظنون 2 / 1366.

(34/94)


إِثْبَاتِ النَّسَبِ بِالْقِيَافَةِ، وَأَجَازُوا الاِعْتِمَادَ عَلَيْهَا فِي إِثْبَاتِهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ وَعَدَمِ الدَّلِيل الأَْقْوَى مِنْهَا، أَوْ عِنْدَ تَعَارُضِ الأَْدِلَّةِ الأَْقْوَى مِنْهَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل عَلَيَّ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فَقَال: أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا (1) نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَقَال: إِنَّ هَذِهِ الأَْقْدَامُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ (2) ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقْدَحُونَ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ؛ لأَِنَّهُ " كَانَ أَسْوَدَ شَدِيدَ السَّوَادِ مِثْل الْقَارِ، وَكَانَ زَيْدٌ أَبْيَضَ مِثْل الْقُطْنِ (3) ".
وَالْحُجَّةُ فِيهِ: أَنَّ سُرُورَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْل الْقَائِفِ إِقْرَارٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَوَازِ الْعَمَل بِهِ فِي إِثْبَاتِ النَّسَبِ (4) .
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ الأَْنْصَارِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَهِيَ أُمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَتْ:
__________
(1) سمي كذلك لوقوعه أسيرًا في الجاهلية، وكان الأسير تجزز ناصيته حينئذ ويطلق (فتح الباري 12 / 57) .
(2) حديث: " ألم تري أن مجززًا نظر آنفًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 56) ، ومسلم (2 / 1082) من حديث عائشة، واللفظ للبخاري.
(3) حديث: " كان أسود شديد السواد. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 700) من قول أحمد بن صالح.
(4) نيل الأوطار 7 / 81، وسبل السلام 4 / 137.

(34/95)


يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَل عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ فَقَال: تَرِبَتْ يَدَاكِ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا (1) .
وَالاِسْتِدْلاَل بِهِ: أَنَّ إِخْبَارَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ (أَيِ الشَّبَهَ) مَنَاطٌ شَرْعِيٌّ، وَإِلاَّ لَمَا كَانَ لِلإِْخْبَارِ فَائِدَةٌ يُعْتَدُّ بِهَا (2) .
وَمِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَلِيطُ - أَيْ: يُلْحِقُ - أَوْلاَدَ الْجَاهِلِيَّةِ بِمَنِ ادَّعَاهُمْ فِي الإِْسْلاَمِ فِي حُضُورِ الصَّحَابَةِ دُونَ إِنْكَارٍ مِنْهُمْ، وَكَانَ يَدْعُو الْقَافَةَ وَيَعْمَل بِقَوْلِهِمْ، فَدَل هَذَا عَلَى جَوَازِ الْعَمَل بِهِ (3) .
وَكَذَلِكَ فَإِنَّ أُصُول الشَّرْعِ وَقَوَاعِدَهُ وَالْقِيَاسَ الصَّحِيحَ يَقْتَضِي اعْتِبَارَ الشَّبَهِ فِي لُحُوقِ النَّسَبِ، وَالشَّارِعُ مُتَشَوِّفٌ إِلَى اتِّصَال الأَْنْسَابِ وَعَدَمِ انْقِطَاعِهَا، وَلِهَذَا اكْتَفَى فِي ثُبُوتِهَا بِأَدْنَى الأَْسْبَابِ مِنْ شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى الْوِلاَدَةِ وَالدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةِ مَعَ الإِْمْكَانِ وَظَاهِرِ الْفِرَاشِ، فَلاَ يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَكُونَ الشَّبَهُ
__________
(1) حديث أم سليم قالت: " يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 228 - 229) ، ومسلم (1 / 251) .
(2) نيل الأوطار 7 / 82.
(3) الموطأ 2 / 215.

(34/95)


الْخَالِي عَنْ سَبَبٍ مُقَاوِمٍ لَهُ كَافِيًا فِي ثُبُوتِهِ (1)
7 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ إِلَى أَنَّ الْقِيَافَةَ يَثْبُتُ بِهَا نَسَبُ الْوَلَدِ مِنَ الزَّوْجَةِ أَوِ الأَْمَةِ (2) .
وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ رُشْدٍ وَالْقَرَافِيُّ وَالْمَوَّاقُ أَنَّ الْقَافَةَ إِنَّمَا يُقْضَى بِهَا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ فَقَطْ لاَ فِي النِّكَاحِ (3) ، يَقُول الْقَرَافِيُّ: وَإِنَّمَا يُجِيزُهُ مَالِكٌ فِي وَلَدِ الأَْمَةِ يَطَؤُهَا رَجُلاَنِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، وَتَأْتِي بِوَلَدٍ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا، وَالْمَشْهُورُ عَدَمُ قَبُولِهِ فِي وَلَدِ الزَّوْجَةِ (4) .
كَمَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَطِئَ رَجُلاَنِ امْرَأَةً وَطْئًا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ، كَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ أَوْ فِي زَوَاجٍ فَاسِدٍ وَكَالأَْمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، فَإِنَّهَا إِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ وَاحْتَمَل أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِهِمَا، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ مُعْتَدَّةً وَأَتَتْ بِالْوَلَدِ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ الزَّوَاجِ وَقَبْل انْتِهَاءِ أَقْصَى مُدَّةِ الْحَمْل، كَانَ الْقَائِفُ هُوَ الَّذِي يُلْحِقُهُ بِأَيٍّ مِنْ
__________
(1) الطرق الحكمية ص222، والفروق 4 / 99، ومغني المحتاج 4 / 489، والمبدع 8 / 136.
(2) نهاية المحتاج 8 / 375، ومغني المحتاج 4 / 489، والمغني لابن قدامة 7 / 483، ومنتهى الإرادات 3 / 224، والمبدع 8 / 136، والفروق 4 / 99، ومواهب الجليل 5 / 247، وبداية المجتهد 2 / 328.
(3) بداية المجتهد 2 / 328، وذكر صاحب التبصرة (2 / 109) تعليل هذه الرواية بوقوع التساوي في ملك الأمة.
(4) الفروق 4 / 99، وتهذيب الفروق 4 / 164، ومواهب الجليل 5 / 247.

(34/96)


الرَّجُلَيْنِ (1) .
كَمَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَازَعَ شَخْصَانِ أَوْ أَكْثَرُ بُنُوَّةَ أَحَدٍ، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ قَوْل أَيٍّ مِنْهُمَا بِبَيِّنَةٍ، فَلَوِ ادَّعَيَا جَمِيعًا صَبِيًّا وَاحِدًا. . . يَقُول كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَذَا ابْنِي. . . الْوَاجِبُ فِي هَذَا عِنْدِي عَلَى أُصُولِهِمْ أَنْ تُدْعَى لَهُ الْقَافَةُ أَيْضًا (2) ، وَمِنْ جِنْسِهِ مَا أَوْرَدَهُ الْمَوَّاقُ عَنْ أَشْهَبَ فِيمَنْ نَزَل عَلَى رَجُلٍ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ حَامِلٌ، فَوَلَدَتْ هِيَ وَوَلَدَتِ امْرَأَةُ الضَّيْفِ فِي لَيْلَةٍ صَبِيَّيْنِ فَلَمْ تَعْرِفْ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدَهَا، دَعِي لَهُمَا الْقَافَةُ (3) ، وَكَذَا لَوْ وُضِعَ وَلِيدُهَا فِي مَكَانٍ فَاخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ مُتَعَدِّيَةً فِي تَرْكِهَا لَهُ، كَأَنْ قَصَدَتْ نَبْذَهُ وَالْخَلاَصَ مِنْهُ، فَلاَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهَا عِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَلاَ يُدْعَى لَهَا الْقَافَةُ.
وَيُتَصَوَّرُ الْحُكْمُ بِالْقَافَةِ فِي اللَّقِيطِ إِذَا تَنَازَعَ بُنُوَّتَهُ رَجُلاَنِ أَوْ أَكْثَرُ (4) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ النَّسَبُ بِقَوْل الْقَافَةِ، لاَ لأَِنَّ الْقِيَافَةَ كَالْكَهَانَةِ فِي الذَّمِّ وَالْحُرْمَةِ، أَوْ أَنَّ الشَّبَهَ لاَ يَثْبُتُ بِهَا، وَإِنَّمَا؛ لأَِنَّ
__________
(1) المغني 7 / 483، ومنتهى الإرادات 3 / 224، والمبدع 8 / 136.
(2) مواهب الجليل 5 / 247.
(3) مواهب الجليل 5 / 247، والتاج والإكليل للمواق بالموضع نفسه.
(4) بداية المجتهد 3 / 327.

(34/96)


الشَّرْعَ حَصَرَ دَلِيل النَّسَبِ فِي الْفِرَاشِ، وَغَايَةُ الْقِيَافَةِ إِثْبَاتُ الْمَخْلُوقِيَّةِ مِنَ الْمَاءِ لاَ إِثْبَاتُ الْفِرَاشِ، فَلاَ تَكُونُ حُجَّةً لإِِثْبَاتِ النَّسَبِ. وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل شَرَعَ حُكْمَ اللِّعَانِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ نَفْيِ النَّسَبِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِالرُّجُوعِ إِلَى قَوْل الْقَائِفِ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً لأََمَرَ بِالْمَصِيرِ إِلَيْهِ عِنْدَ الاِشْتِبَاهِ (1) .
؛ وَلأَِنَّ مُجَرَّدَ الشَّبَهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، فَقَدْ يُشْبِهُ الْوَلَدُ أَبَاهُ الأَْدْنَى، وَقَدْ يُشْبِهُ الأَْبَ الأَْعْلَى الَّذِي بِاعْتِبَارِهِ يَصِيرُ مَنْسُوبًا إِلَى الأَْجَانِبِ فِي الْحَال، وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَال: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلاَمًا أَسْوَدَ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَل لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَال: نَعَمْ. قَال: مَا أَلْوَانُهَا؟ قَال: حُمْرٌ، قَال: فَهَل فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ قَال: نَعَمْ، قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَنَّى هُوَ؟ فَقَال: لَعَلَّهُ يَا رَسُول اللَّهِ يَكُونُ نَزَعَهُ عِرْقٌ لَهُ (2) ، فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لاَ عِبْرَةَ لِلشَّبَهِ (3) ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ (4) . أَيِ الْوَلَدُ لِصَاحِبِ
__________
(1) المبسوط 17 / 70.
(2) حديث: " إن امرأتي ولدت غلامًا أسود. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 442) ، ومسلم (2 / 1137 - 1138) من حديث أبي هريرة واللفظ لمسلم.
(3) المبسوط 17 / 70.
(4) حديث: " الولد للفراش وللعاهر الحجر ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 292) ، ومسلم (2 / 1080) من حديث عائشة.

(34/97)


الْفِرَاشِ. . . وَالْمُرَادُ مِنَ الْفِرَاشِ هُوَ الْمَرْأَةُ.
وَفِي التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} أَنَّهَا نِسَاءُ أَهْل الْجَنَّةِ.
وَدَلاَلَةُ الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ ثَلاَثَةٍ:
أَحَدِهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْرَجَ الْكَلاَمَ مَخْرَجَ الْقِسْمَةِ، فَجَعَل الْوَلَدَ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ وَالْحَجَرَ لِلزَّانِي، فَاقْتَضَى أَلاَّ يَكُونَ الْوَلَدُ لِمَنْ لاَ فِرَاشَ لَهُ، كَمَا لاَ يَكُونُ الْحَجَرُ لِمَنْ لاَ زِنَا مِنْهُ، إِذِ الْقِسْمَةُ تَنْفِي الشَّرِكَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَل الْوَلَدَ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ، وَنَفَاهُ عَنِ الزَّانِي بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ؛ لأَِنَّ مِثْل هَذَا الْكَلاَمِ يُسْتَعْمَل فِي النَّفْيِ.
وَالثَّالِثِ: أَنَّهُ جَعَل كُل جِنْسِ الْوَلَدِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ، فَلَوْ ثَبَتَ نَسَبُ وَلَدٍ لِمَنْ لَيْسَ بِصَاحِبِ الْفِرَاشِ لَمْ يَكُنْ كُل جِنْسِ الْوَلَدِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ، وَهَذَا خِلاَفُ النَّصِّ، فَعَلَى هَذَا إِذَا زَنَى رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فَادَّعَاهُ الزَّانِي لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ لاِنْعِدَامِ الْفِرَاشِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهَا؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ فِي جَانِبِهَا يَتْبَعُ الْوِلاَدَةَ (1) .
وَمُفَادُ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ لِلرَّجُل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِثُبُوتِ سَبَبِهِ وَهُوَ النِّكَاحُ أَوْ مِلْكُ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 242.

(34/97)


الْيَمِينِ، وَلاَ يَرْجِعُ عَمَل الْقَائِفِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى مَعْرِفَةِ التَّخَلُّقِ مِنَ الْمَاءِ وَهُوَ لاَ يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ، حَتَّى لَوْ تَيَقَّنَّا مِنْ هَذَا التَّخَلُّقِ وَلاَ فِرَاشَ، فَإِنَّ النَّسَبَ لاَ يَثْبُتُ (1) .

شُرُوطُ الْقَائِفِ:
8 - يُشْتَرَطُ فِي الْقَائِفِ مَا يَلِي:
أ - الْخِبْرَةُ وَالتَّجْرِبَةُ: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُوثَقُ بِقَوْل الْقَائِفِ إِلاَّ بِتَجْرِبَتِهِ فِي مَعْرِفَةِ النَّسَبِ عَمَلِيًّا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ وَلَدٌ فِي نِسْوَةٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أُمُّهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ فِي نِسْوَةٍ فِيهِنَّ أُمُّهُ، فَإِنْ أَصَابَ فِي الْمَرَّاتِ جَمِيعًا اعْتُمِدَ قَوْلُهُ. . . وَالأَْبُ مَعَ الرِّجَال كَذَلِكَ عَلَى الأَْصَحِّ، فَيُعْرَضُ عَلَيْهِ الْوَلَدُ فِي رِجَالٍ كَذَلِكَ (2) .
وَإِذَا حَصَلَتِ التَّجْرِبَةُ وَتَوَلَّدَتِ الثِّقَةُ بِخِبْرَتِهِ فَلاَ حَاجَةَ لِتَكْرَارِ هَذَا الاِخْتِبَارِ عِنْدَ كُل إِلْحَاقٍ (3) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُتْرَكُ الصَّبِيُّ مَعَ عَشَرَةٍ مِنَ الرِّجَال غَيْرِ مَنْ يَدَّعِيهِ وَيَرَى إِيَّاهُمْ، فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ سَقَطَ قَوْلُهُ لأَِنَّا تَبَيَّنَّا خَطَأَهُ،
__________
(1) المبسوط 17 / 70، وشرح معاني الآثار للطحاوي 3 / 116، 180، 4 / 161.
(2) حاشية الجمل 5 / 435.
(3) المرجع السابق.

(34/98)


وَإِنْ لَمْ يُلْحِقْهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرَيْنَاهُ إِيَّاهُ مَعَ عِشْرِينَ فِيهِمْ مُدَّعِيهِ، فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِهِ لَحِقَ، وَلَوِ اعْتُبِرَ بِأَنْ يُرَى صَبِيًّا مَعْرُوفَ النَّسَبِ مَعَ قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُوهُ أَوْ أَخُوهُ، فَإِذَا أَلْحَقَهُ بِقَرِيبِهِ عُلِمَتْ إِصَابَتُهُ، وَإِنْ أَلْحَقَهُ بِغَيْرِهِ سَقَطَ قَوْلُهُ جَازَ وَهَذِهِ التَّجْرِبَةُ عِنْدَ عَرْضِهِ عَلَى الْقَائِفِ لِلاِحْتِيَاطِ فِي مَعْرِفَةِ إِصَابَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُجَرَّبْ فِي الْحَال بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا بِالإِْصَابَةِ وَصِحَّةِ الْمَعْرِفَةِ فِي مَرَّاتٍ كَثِيرَةٍ جَازَ (1) .
ب - الْعَدَالَةُ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ مَالِكٍ فِي اشْتِرَاطِ عَدَالَةِ الْقَائِفِ لِلْعَمَل بِقَوْلِهِ، فَرِوَايَةُ ابْنِ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِي (الْقَائِفِ) الْوَاحِدِ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ الاِجْتِزَاءَ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْعَدَالَةَ (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَيَشْتَرِطُونَ الْعَدَالَةَ لِلْعَمَل بِقَوْل الْقَائِفِ؛ لأَِنَّهُ حُكْمٌ فَتُشْتَرَطُ فِيهِ (3) .
ج - التَّعَدُّدُ: الأَْصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ التَّعَدُّدُ لإِِثْبَاتِ النَّسَبِ بِقَوْل الْقَائِفِ، وَيُكْتَفَى بِقَوْل قَائِفٍ وَاحِدٍ كَالْقَاضِي وَالْمُخْبِرِ، لَكِنْ وُجِدَ فِي هَذِهِ الْمَذَاهِبِ رَأْيٌ آخَرُ يَقْضِي
__________
(1) المغني 5 / 770.
(2) تبصرة الحكام 2 / 108.
(3) المغني 5 / 769، ومنتهى الإرادات 2 / 489، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 435.

(34/98)


بِاشْتِرَاطِ التَّعَدُّدِ، جَاءَ فِي " التَّبْصِرَةِ " حِكَايَةُ الْخِلاَفِ عَنْ مَالِكٍ فِي الاِجْتِزَاءِ بِقَائِفٍ وَاحِدٍ كَالأَْخْبَارِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ أَوْ لاَ بُدَّ مِنْ قَائِفَيْنِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَهُ ابْنُ دِينَارٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ كَالشَّهَادَةِ، قَال بَعْضُ الشُّيُوخِ وَالْقِيَاسُ عَلَى أُصُولِهِمْ أَنْ يُحْكَمَ بِقَوْل الْقَائِفِ الْوَاحِدِ (1) ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ كَمَا جَاءَ فِي الْمُغْنِي أَنَّهُ لاَ يُقْبَل إِلاَّ قَوْل اثْنَيْنِ. . . فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ. . . وَقَال الْقَاضِي: يُقْبَل قَوْل الْوَاحِدِ؛ لأَِنَّهُ حُكْمٌ، وَيُقْبَل فِي الْحُكْمِ قَوْل وَاحِدٍ، وَحَمَل كَلاَمَ أَحْمَدَ عَلَى مَا إِذَا تَعَارَضَ قَوْل الْقَائِفَيْنِ (2) ، وَالرَّاجِحُ فِي الْمَذْهَبِ الاِكْتِفَاءُ بِقَوْل قَائِفٍ وَاحِدٍ فِي إِلْحَاقِ النَّسَبِ، وَهُوَ كَحَاكِمٍ، فَيَكْفِي مُجَرَّدُ خَبَرِهِ؛ لأَِنَّهُ يَنْفُذُ مَا يَقُولُهُ بِخِلاَفِ الشَّاهِدِ (3) ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَذَلِكَ (4) .
وَمَبْنَى الْخِلاَفِ فِي اشْتِرَاطِ التَّعَدُّدِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ هُوَ التَّرَدُّدُ فِي اعْتِبَارِ قَوْل الْقَائِفِ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ أَوِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ رَجَّحَ الْقَرَافِيُّ إِلْحَاقَ قَوْل الْقَائِفِ بِالشَّهَادَةِ لِلْقَضَاءِ بِهِ فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ وَاحْتِمَال وُقُوعِ الْعَدَاوَةِ أَوِ التُّهْمَةِ
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 108.
(2) المغني 5 / 770.
(3) شرح منتهى الإرادات 2 / 488.
(4) حاشية الجمل 5 / 435.

(34/99)


لِذَلِكَ، وَلاَ يَقْدَحُ انْتِصَابُهُ لِهَذَا الْعَمَل عَلَى الْعُمُومِ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ مَعَ الشَّاهِدِ (1) ، أَمَّا السُّيُوطِيُّ فَيُرَجِّحُ إِلْحَاقَ قَوْل الْقَائِفِ بِالرِّوَايَةِ، يَقُول: وَالأَْصَحُّ الاِكْتِفَاءُ بِالْوَاحِدِ تَغْلِيبًا لِشَبَهِ الرِّوَايَةِ؛ لأَِنَّهُ مُنْتَصِبٌ انْتِصَابًا عَامًّا لإِِلْحَاقِ النَّسَبِ (2) .
د - الإِْسْلاَمُ: نَصَّ عَلَى اشْتِرَاطِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) ، وَهُوَ الرَّاجِحُ فِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ، وَقَدْ سَبَقَتِ الإِْشَارَةُ إِلَى الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى فِي هَذَا الْمَذْهَبِ، وَهِيَ الْقَاضِيَةُ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ، وَلاَ يُسَلِّمُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ بِوُجُوبِ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ لِلْعَمَل بِقَوْل الْقَائِفِ فِي مَذْهَبِهِمْ (4) .
هـ - الذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ: الأَْصَحُّ فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ اشْتِرَاطُ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْمَرْجُوحُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ (5) .
و الْبَصَرُ وَالسَّمْعُ، وَانْتِفَاءُ مَظِنَّةِ التُّهْمَةِ، بِحَيْثُ لاَ يَكُونُ عَدُوًّا لِمَنْ يَنْفِي نَسَبَهُ، وَلاَ أَصْلاً أَوْ فَرْعًا لِمَنْ يُثْبِتُ نَسَبَهُ، نَصَّ عَلَى
__________
(1) الفروق 1 / 8.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص419.
(3) مغني المحتاج 4 / 88، ونهاية المحتاج 8 / 375، ومنتهى الإرادات 2 / 489.
(4) المبدع 5 / 310.
(5) منتهى الإرادات 2 / 489، والمبدع 5 / 310، ومغني المحتاج 4 / 88.

(34/99)


اشْتِرَاطِ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ (1) .
وَيَتَخَرَّجُ اعْتِبَارُ هَذِهِ الشُّرُوطِ كَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ أَلْحَقُوا الْقَائِفَ بِالشَّاهِدِ أَوِ الْقَاضِي أَوِ الْمُفْتِي فَيُشْتَرَطُ فِي الْقَائِفِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِمْ.

شُرُوطُ الْقِيَافَةِ:
9 - يُشْتَرَطُ فِي الْقِيَافَةِ لإِِلْحَاقِ النَّسَبِ بِهَا مَا يَلِي:
أ - عَدَمُ قِيَامِ مَانِعٍ شَرْعِيٍّ مِنَ الإِْلْحَاقِ بِالشَّبَهِ، فَلَوْ نَفَى نَسَبَ وَلَدِهِ مِنْ زَوْجَتِهِ، فَإِنَّهُ يُلاَعِنُهَا وَلاَ يُلْتَفَتُ إِلَى إِثْبَاتِ الشَّبَهِ بِقَوْل الْقَافَةِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل شَرَعَ إِجْرَاءَ اللِّعَانِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ نَفْيِ النَّسَبِ، وَإِلْغَاءُ الشَّبَهِ بِاللِّعَانِ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ أَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ عَلَى أَضْعَفِهِمَا (2) .
وَلاَ يُعْتَبَرُ الشَّبَهُ كَذَلِكَ إِذَا تَعَارَضَ مَعَ الْفِرَاشِ، يَدُل عَلَيْهِ وَيُوَضِّحُهُ قَضِيَّةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ، فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ، فَقَال سَعْدٌ: أَوْصَانِي أَخِي عُتْبَةُ إِذَا قَدِمْتُ مَكَّةَ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ فَأَقْبِضُهُ فَإِنَّهُ ابْنُهُ، وَقَال عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي ابْنُ أَمَةِ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 375.
(2) زاد المعاد 5 / 422.

(34/100)


أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي، فَرَأَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَال: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ. . . وَاحْتَجِبِي عَنْهُ يَا سَوْدَةُ (1) فَقَدْ أَلْغَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّبَهَ وَأَلْحَقَ النَّسَبَ بِزَمْعَةَ صَاحِبِ الْفِرَاشِ.
ب - وُقُوعُ التَّنَازُعِ فِي الْوَلَدِ نَفْيًا أَوْ إِثْبَاتًا وَعَدَمُ وُجُودِ دَلِيلٍ يَقْطَعُ هَذَا التَّنَازُعَ، كَمَا إِذَا ادَّعَاهُ رَجُلاَنِ أَوِ امْرَأَتَانِ، وَكَمَا إِذَا وَطِئَ رَجُلاَنِ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَنْفِيهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ التَّرْجِيحَ يَكُونُ بِقَوْل الْقَافَةِ. أَمَّا إِذَا ادَّعَاهُ وَاحِدٌ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ، وَلاَ يَقُومُ التَّنَازُعُ حَقِيقَةً فِيمَا بَيْنَهُمَا إِذَا تَعَيَّنَ الْوَلَدُ لأَِحَدِهِمَا، فَلَوْ ادَّعَى اللَّقِيطَ رَجُلاَنِ، وَقَال أَحَدُهُمَا: هُوَ ابْنِي، وَقَال الآْخَرُ: بِنْتِي، فَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ ابْنًا فَهُوَ لِمُدَّعِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ بِنْتًا فَهِيَ لِمُدَّعِيهَا؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لاَ يَسْتَحِقُّ غَيْرَ مَا ادَّعَاهُ (2) .
ج - إِمْضَاءُ الْقَاضِي قَوْل الْقَائِفِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، فَلاَ يَلْزَمُ قَوْلُهُ عَلَى هَذَا إِلاَّ بِإِمْضَاءِ الْقَاضِي لَهُ، جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الْجَمَل: وَلاَ يَصِحُّ إِلْحَاقُ الْقَائِفِ حَتَّى يَأْمُرَ الْقَاضِي، وَإِذَا أَلْحَقَهُ اشْتَرَطَ تَنْفِيذَ الْقَاضِي إِنْ
__________
(1) حديث عائشة: " اختصم سعد بن أبي وقاص. . . ". تقدم تخريجه ف 7.
(2) المغني 5 / 776.

(34/100)


لَمْ يَكُنْ قَدْ حَكَمَ بِأَنَّهُ قَائِفٌ (1) ، وَرَأَى الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْقَائِفَ إِنْ أَلْحَقَهُ بِأَحَدِهِمَا فَإِنْ رَضِيَا بِذَلِكَ بَعْدَ الإِْلْحَاقِ ثَبَتَ نَسَبُهُ، وَإِلاَّ فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي اسْتَخْلَفَهُ وَجَعَلَهُ حَاكِمًا بَيْنَهُمَا جَازَ، وَنَفَذَ حُكْمُهُ بِمَا رَآهُ، وَإِلاَّ فَلاَ يَثْبُتُ النَّسَبُ بِقَوْلِهِ وَإِلْحَاقِهِ حَتَّى يَحْكُمَ الْحَاكِمُ (2) .
د - حَيَاةُ مَنْ يُرَادُ إِثْبَاتُ نَسَبِهِ بِالْقِيَافَةِ، وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، جَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيل: أَنَّهَا إِنْ وَضَعَتْهُ تَمَامًا مَيِّتًا لاَ قَافَةَ فِي الأَْمْوَاتِ، وَنَقَل الصَّقَلِّيُّ عَنْ سَحْنُونٍ: إِنْ مَاتَ بَعْدَ وَضْعِهِ حَيًّا دُعِيَ لَهُ الْقَافَةُ، قَال الْحَطَّابُ: وَيُحْتَمَل رَدُّهُمَا إِلَى وِفَاقٍ؛ لأَِنَّ السَّمَاعَ (أَيْ لاِبْنِ الْقَاسِمِ) فِيمَنْ وُلِدَ مَيِّتًا، وَقَوْل سَحْنُونَ فِيمَا وُلِدَ حَيًّا (3) .
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ حَيَاةَ الْمَقُوفِ، فَإِذَا كَانَ مَيِّتًا جَازَ إِثْبَاتُ نَسَبِهِ بِالْقَافَةِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ أَوْ يُدْفَنْ (4) .
هـ - حَيَاةُ مَنْ يُلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ: اشْتَرَطَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ حَيَاةَ الْمُلْحَقِ بِهِ، فَعَنْ سَحْنُونَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّهُ لاَ تُلْحِقُ الْقَافَةُ الْوَلَدَ إِلاَّ بِأَبٍ حَيٍّ، فَإِنْ مَاتَ فَلاَ قَوْل لِلْقَافَةِ فِي ذَلِكَ مِنْ
__________
(1) حاشية الجمل 5 / 436.
(2) المرجع السابق.
(3) مواهب الجليل 5 / 248.
(4) مغني المحتاج 4 / 489.

(34/101)


جِهَةِ قَرَابَتِهِ إِذْ لاَ تَعْتَمِدُ عَلَى شَبَهِ غَيْرِ الأَْبِ (1) ، وَيَجُوزُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ عَرْضُ الأَْبِ عَلَى الْقَافَةِ إِنْ مَاتَ وَلَمْ يُدْفَنْ، جَاءَ فِي التَّبْصِرَةِ: وَلاَ تَعْتَمِدُ الْقَافَةُ إِلاَّ عَلَى أَبٍ مَوْجُودٍ بِالْحَيَاةِ. قَال بَعْضُهُمْ: أَوْ مَاتَ وَلَمْ يُدْفَنْ، قِيل: وَيَعْتَمِدُ عَلَى الْعَصَبَةِ (2) .
وَلاَ يَشْتَرِطُ هَذَا الشَّرْطَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (3) .

اخْتِلاَفُ الْقَافَةِ:
10 - إِذَا اخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْقَافَةِ جُمِعَ بَيْنَهَا إِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ أَلْحَقَ أَحَدُ الْقَائِفِينَ نَسَبَ اللَّقِيطِ بِرَجُلٍ، وَأَلْحَقَهُ الآْخَرُ بِامْرَأَةٍ فَإِنَّهُ يُنْسَبُ إِلَيْهِمَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَتَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا، فَإِنَّ الرَّاجِحَ هُوَ الَّذِي يُؤْخَذُ بِهِ.
وَتَفْرِيعًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِقَوْل قَائِفَيْنِ اثْنَيْنِ خَالَفَهُمَا قَائِفٌ ثَالِثٌ، كَبَيْطَارَيْنِ خَالَفَهُمَا بَيْطَارٌ فِي عَيْبٍ وَكَطَبِيبَيْنِ خَالَفَهُمَا طَبِيبٌ فِي عَيْبٍ، قَالَهُ فِي الْمُنْتَخَبِ، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ (4) ، وَذَلِكَ؛ لأَِنَّهُمَا شَاهِدَانِ فَقَوْلُهُمَا مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْل شَاهِدٍ وَاحِدٍ، لَكِنْ لاَ يَتَرَجَّحُ قَوْل ثَلاَثَةِ قَافَةٍ عَلَى قَوْل قَائِفَيْنِ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ
__________
(1) التاج والإكليل للمواق بهامش مواهب الجليل 5 / 248.
(2) تبصرة الحكام 2 / 109.
(3) مغني المحتاج 4 / 489، ومنتهى الإرادات 2 / 487.
(4) منتهى الإرادات 2 / 488.

(34/101)


فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ قُدَامَةَ (1) .
أَمَّا إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ وَلاَ التَّرْجِيحُ، كَأَنْ يُلْحِقَ الْقَائِفُ الْمَقُوفَ بِأَحَدِ الْمُتَنَازِعَيْنِ، وَيُلْحِقَهُ الآْخَرُ بِغَيْرِهِ، فَفِيهِ خِلاَفُ الْفُقَهَاءِ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُلْحَقُ الْوَلَدُ إِلاَّ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ، وَيُؤَخَّرُ الْوَلَدُ إِذْ قَضَى الْقَافَةُ بِاشْتِرَاكِ رَجُلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِيهِ إِلَى حِينِ بُلُوغِهِ، فَيُخَيَّرُ فِي الاِلْتِحَاقِ بِمَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ، بِنَاءً عَلَى مَا يَنْعَقِدُ مِنْ مَيْلٍ فِطْرِيٍّ بَيْنَ الْوَلَدِ وَأَصْلِهِ قَدْ يُعِينُهُ عَلَى التَّعَرُّفِ عَلَيْهِ، جَاءَ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ: الْحُكْمُ عِنْدَ مَالِكٍ إِذَا قَضَى الْقَافَةُ بِالاِشْتِرَاكِ أَنْ يُؤَخَّرَ الصَّبِيُّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَيُقَال لَهُ: وَال أَيَّهُمَا شِئْتَ، وَلاَ يُلْحَقُ وَاحِدٌ بِاثْنَيْنِ، وَبِهِ قَال الشَّافِعِيُّ (2) .
وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: لَوْ عَدِمَ الْقَائِفُ بِدُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، أَوْ أَشْكَل عَلَيْهِ الْحَال بِأَنْ تَحَيَّرَ، أَوْ أَلْحَقَهُ بِهِمَا، أَوْ نَفَاهُ عَنْهُمَا، وُقِفَ الأَْمْرُ حَتَّى يَبْلُغَ عَاقِلاً وَيَخْتَارَ الاِنْتِسَابَ إِلَى أَحَدِهِمَا بِحَسَبِ الْمَيْل الَّذِي يَجِدُهُ، وَيُحْبَسُ لِيَخْتَارَ إِنِ امْتَنَعَ مِنَ الاِنْتِسَابِ، إِلاَّ إِنْ لَمْ يَجِدْ مَيْلاً إِلَى أَحَدِهِمَا فَيُوقَفُ الأَْمْرُ.
وَلاَ يُقْبَل رُجُوعُ قَائِفٍ إِلاَّ قَبْل الْحُكْمِ بِقَوْلِهِ، ثُمَّ لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ فِي حَقِّهِ لِسُقُوطِ الثِّقَةِ
__________
(1) المغني 5 / 770.
(2) بداية المجتهد 2 / 328.

(34/102)


بِقَوْلِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَكَذَا لاَ يُصَدَّقُ لِغَيْرِ الآْخَرِ إِلاَّ بَعْدَ مُضِيِّ إِمْكَانِ تَعَلُّمِهِ مَعَ امْتِحَانٍ لَهُ بِذَلِكَ.
وَلَوِ اسْتَلْحَقَ مَجْهُولاً نَسَبَهُ وَلَهُ زَوْجَةٌ فَأَنْكَرَتْهُ زَوْجَتُهُ لَحِقَهُ عَمَلاً بِإِقْرَارِهِ دُونَهَا، لِجَوَازِ كَوْنِهِ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ زَوْجَةٍ أُخْرَى، وَإِنِ ادَّعَتْهُ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ، امْرَأَةٌ أُخْرَى وَأَنْكَرَهُ زَوْجُهَا، وَأَقَامَ زَوْجُ الْمُنْكِرَةِ بَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا فَيَسْقُطَانِ، وَيُعْرَضُ عَلَى الْقَائِفِ، فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِهَا لَحِقَهَا، وَكَذَا زَوْجُهَا عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَنْصُوصِ كَمَا قَالَهُ الإِْسْنَوِيُّ خِلاَفًا لِمَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي، أَوْ بِالرَّجُل لَحِقَهُ وَزَوْجَتَهُ، فَإِنْ لَمْ يُقِمْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بَيِّنَةً، فَالأَْصَحُّ كَمَا قَال الإِْسْنَوِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ وَلَدًا لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.
وَلاَ يَسْقُطُ حُكْمُ قَائِفٍ بِقَوْل قَائِفٍ آخَرَ، وَلَوْ أَلْحَقَهُ قَائِفٌ بِالأَْشْبَاهِ الظَّاهِرَةِ، وَآخَرُ بِالأَْشْبَاهِ الْخَفِيَّةِ كَالْخُلُقِ وَتَشَاكُل الأَْعْضَاءِ، فَالثَّانِي أَوْلَى مِنَ الأَْوَّل؛ لأَِنَّ فِيهَا زِيَادَةَ حِذْقٍ وَبَصِيرَةٍ، وَلَوْ أَلْحَقَ الْقَائِفُ التَّوْأَمَيْنِ بِاثْنَيْنِ، بِأَنْ أَلْحَقَ أَحَدَهُمَا بِأَحَدِهِمَا، وَالآْخَرَ بِالآْخَرِ بَطَل قَوْلُهُ حَتَّى يُمْتَحَنَ وَيَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ فَيُعْمَل بِقَوْلِهِ، كَمَا لَوْ أَلْحَقَ الْوَاحِدَ بِاثْنَيْنِ، وَيَبْطُل أَيْضًا قَوْل قَائِفَيْنِ اخْتَلَفَا فِي الإِْلْحَاقِ حَتَّى يُمْتَحَنَا وَيَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُمَا.
وَيَلْغُو انْتِسَابُ بَالِغٍ أَوْ تَوْأَمَيْنِ إِلَى اثْنَيْنِ،

(34/102)


فَإِنْ رَجَعَ، أَحَدُ التَّوْأَمَيْنِ إِلَى الآْخَرِ قُبِل، وَيُؤْمَرُ الْبَالِغُ بِالاِنْتِسَابِ إِلَى أَحَدِهِمَا، وَمَتَى أَمْكَنَ كَوْنُهُ مِنْهُمَا عُرِضَ عَلَى الْقَائِفِ وَإِنْ أَنْكَرَهُ الآْخَرُ أَوْ أَنْكَرَاهُ؛ لأَِنَّ لِلْوَلَدِ حَقًّا فِي النَّسَبِ فَلاَ يَثْبُتُ بِالإِْنْكَارِ مِنْ غَيْرِهِ وَيُنْفِقَانِ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يُعْرَضَ عَلَى الْقَائِفِ أَوْ يَنْتَسِبَ، وَيَرْجِعَ بِالنَّفَقَةِ مَنْ لَمْ يَلْحَقْهُ الْوَلَدُ عَلَى مَنْ لَحِقَهُ إِنْ أَنْفَقَ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ وَلَمْ يَدَّعِ الْوَلَدَ، وَيَقْبَلاَنِ لَهُ الْوَصِيَّةَ الَّتِي أُوصِيَ لَهُ بِهَا فِي مُدَّةِ التَّوَقُّفِ؛ لأَِنَّ أَحَدَهُمَا أَبُوهُ، وَنَفَقَةُ الْحَامِل عَلَى الْمُطَلِّقِ فَيُعْطِيهَا لَهَا وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الآْخَرِ إِنْ أُلْحِقَ الْوَلَدُ بِالآْخَرِ، فَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْل الْعَرْضِ عَلَى الْقَائِفِ عُرِضَ عَلَيْهِ مَيِّتًا، لاَ إِنْ تَغَيَّرَ أَوْ دُفِنَ، وَإِنْ مَاتَ مُدَّعِيهِ عُرِضَ عَلَى الْقَائِفِ مَعَ أَبِيهِ أَوْ أَخِيهِ وَنَحْوِهِ مِنْ سَائِرِ الْعَصَبَةِ (1) .
وَرَجَّحَ الْحَنَابِلَةُ إِطْلاَقَ الْعَمَل بِقَوْل الْقَافَةِ، فَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِوَاحِدٍ مِنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ لَحِقَ بِهِ، وَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِاثْنَيْنِ لَحِقَ بِهِمَا، وَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِأَكْثَرَ مِنَ اثْنَيْنِ الْتُحِقَ بِهِمْ وَإِنْ كَثُرُوا؛ لأَِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لأَِجْلِهِ أُلْحِقَ بِالاِثْنَيْنِ مَوْجُودٌ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ، وَدَلِيل الْحَنَابِلَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا وَلَدًا كِلاَهُمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 490، 491.

(34/103)


ابْنُهُ، فَدَعَا عُمَرُ لَهُمَا بِالْقَافَةِ فَنَظَرُوا وَقَالُوا نَرَاهُ يُشْبِهُهُمَا فَأَلْحَقَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهِمَا وَجَعَلَهُ يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ (1) .
وَإِنِ ادَّعَتِ امْرَأَتَانِ نَسَبَ وَلَدٍ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَرْجِيحُ قَوْل إِحْدَاهُمَا بِبَيِّنَةٍ، فَفِيهِ الاِخْتِلاَفُ السَّابِقُ (2) .

الإِْثْبَاتُ بِقِيَافَةِ الأَْثَرِ فِي الْمُعَامَلاَتِ:
11 - ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ جَوَازَ اعْتِمَادِ الْقَاضِي عَلَى الْقِيَافَةِ فِي الْمُعَامَلاَتِ وَالأَْمْوَال، يَقُول: وَيَتَوَجَّهُ أَنْ يُحْكَمَ بِالْقِيَافَةِ فِي الأَْمْوَال كُلِّهَا، كَمَا حَكَمْنَا بِذَلِكَ فِي الْجِذْعِ الْمَقْلُوعِ إِذَا كَانَ لَهُ مَوْضِعٌ فِي الدَّارِ، وَكَمَا حَكَمْنَا فِي الاِشْتِرَاكِ فِي الْيَدِ الْحِسِّيَّةِ بِمَا يَظْهَرُ مِنَ الْيَدِ الْعُرْفِيَّةِ، فَأَعْطَيْنَا كُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مَا يُنَاسِبُهُ فِي الْعَادَةِ، وَكُل وَاحِدٍ مِنَ الصَّانِعَيْنِ مَا يُنَاسِبُهُ، وَكَمَا حَكَمْنَا بِالْوَصْفِ فِي اللُّقَطَةِ إِذَا تَدَاعَاهَا اثْنَانِ، وَهَذَا نَوْعُ قِيَافَةٍ أَوْ شَبِيهٌ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَنَازَعَا غِرَاسًا أَوْ تَمْرًا فِي أَيْدِيهِمَا، فَشَهِدَ أَهْل الْخِبْرَةِ أَنَّهُ مِنْ هَذَا الْبُسْتَانِ، وَيَرْجِعُ إِلَى أَهْل الْخِبْرَةِ حَيْثُ يَسْتَوِي الْمُتَدَاعِيَانِ، كَمَا رُجِعَ إِلَى أَهْل الْخِبْرَةِ بِالنَّسَبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَنَازَعَ اثْنَانِ لِبَاسًا مِنْ لِبَاسِ أَحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ، أَوْ تَنَازَعَا
__________
(1) منتهى الإرادات 2 / 488.
(2) المغني 5 / 775، وبداية المجتهد 2 / 328، ومغني المحتاج 4 / 490 - 491، والمهذب 1 / 572.

(34/103)


دَابَّةً تَذْهَبُ مِنْ بَعِيدٍ إِلَى إِصْطَبْل أَحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ، أَوْ تَنَازَعَا زَوْجَ خُفٍّ أَوْ مِصْرَاعَ بَابٍ مَعَ الآْخَرِ شَكْلُهُ، أَوْ كَانَ عَلَيْهِ عَلاَمَةٌ لأَِحَدِهِمَا كَالزُّرْبُول الَّتِي لِلْجُنْدِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُدَّعَى فِي أَيْدِيهِمَا أَوْ فِي يَدِ ثَالِثٍ (1) .
وَكَذَلِكَ لَوْ تَدَاعَيَا بَهِيمَةً أَوْ فَصِيلاً فَشَهِدَ الْقَائِفُ أَنَّ دَابَّةَ هَذَا أَنْتَجَتْهَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَتُقَدَّمُ عَلَى الْيَدِ الْحِسِّيَّةِ (2) ، وَقَدْ حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالأَْثَرِ فِي السَّيْفِ فِي قَضِيَّةِ ابْنَيْ عَفْرَاءَ (3) .
فَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِهِمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُمَا: أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ قَال كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَال: هَل مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ قَالاَ: لاَ، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَال: كِلاَكُمَا قَتَلَهُ (4) .

الإِْثْبَاتُ بِقِيَافَةِ الأَْثَرِ فِي الْجِنَايَاتِ:
12 - يُرْجَعُ إِلَى قَائِفِ الأَْثَرِ لِلْقَبْضِ عَلَى الْمُتَّهَمِينَ وَإِحْضَارِهِمْ مَجْلِسَ الْقَاضِي، كَمَا
__________
(1) الفتاوى الكبرى لابن تيمية 4 / 587، وانظر هذه الأمثلة في البحر الرائق لابن نجيم 7 / 225، وحاشية ابن عابدين 8 / 53، 38، ورمز الحقائق 2 / 110، 115، والمبسوط 17 / 63، 78، 87، 94، ومعين الحكام 130، 163، والمغني لابن قدامة 9 / 320 - 325، والطرق الحكمية ص10، وتبصرة الحكام 2 / 70، 123.
(2) الفتاوى الكبرى 4 / 587.
(3) تبصرة الحكام 2 / 121.
(4) حديث " ابني عفراء ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 246 - 247) ، ومسلم (3 / 1372) من حديث عبد الرحمن بن عوف.

(34/104)


حَدَثَ فِي قَضِيَّةِ الْعُرَنِيِّينَ، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ قَوْمًا مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلُوا رَاعِيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَبَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِهِمْ قَافَةً فَأُتِيَ بِهِمْ (1) .
وَيُرْجَعُ إِلَيْهِ كَذَلِكَ فِي جَمْعِ الأَْدِلَّةِ وَالْكَشْفِ عَنْ كَيْفِيَّةِ ارْتِكَابِ الْجِنَايَةِ.
وَيُعَدُّ رَأْيُ الْقَائِفِ شَهَادَةً تَثْبُتُ بِهَا الْحُقُوقُ وَالدَّعَاوَى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، مِثَالُهُ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: أَنْ يَدَّعِيَ شَخْصٌ أَنَّهُ ذَهَبَ مِنْ مَالِهِ شَيْءٌ، وَيَثْبُتَ ذَلِكَ، فَيَقْتَصُّ الْقَائِفُ أَثَرَ الْوَطْءِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، فَشَهَادَةُ الْقَائِفِ أَنَّ الْمَال دَخَل إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ تُوجِبُ أَحَدَ الأَْمْرَيْنِ: إِمَّا الْحُكْمُ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بِهِ مَعَ الْيَمِينِ لِلْمُدَّعِي، وَهُوَ الأَْقْرَبُ، فَإِنَّ هَذِهِ الأَْمَارَاتِ تُرَجِّحُ جَانِبَ الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ مَشْرُوعَةٌ فِي أَقْوَى الْجَانِبَيْنِ (2) ، وَقَدْ حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالأَْثَرِ فِي السَّيْفِ كَمَا يَذْكُرُ ابْنُ فَرْحُونَ (3) فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمَّا دَخَلُوا الْحِصْنَ عَلَى ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ لِيَقْتُلُوهُ، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلاً، فَوَقَعُوا فِيهِ بِالسُّيُوفِ، وَوَضَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ السَّيْفَ
__________
(1) حديث " العرينين ". أخرجه أبو داود (2 / 532 - 533) وأصله في مسلم (3 / 1298) .
(2) الفتاوى الكبرى 4 / 587.
(3) تبصرة الحكام 2 / 121.

(34/104)


فِي بَطْنِهِ وَتَحَامَل عَلَيْهِ حَتَّى نَبَعَ ظَهْرُهُ، فَلَمَّا رَجَعُوا وَقَدْ قَتَلُوهُ نَظَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى سُيُوفِهِمْ فَقَال: هَذَا قَتَلَهُ لأَِنَّهُ رَأَى عَلَى السَّيْفِ أَثَرَ الطِّعَانِ (1) .
وَقَدِ اسْتَنَدَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ إِلَى الأَْثَرِ حِينَ اخْتَصَمَ عِنْدَهُ رَجُلاَنِ فِي قَطِيفَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا حَمْرَاءُ وَالأُْخْرَى خَضْرَاءُ، وَأَحَدُهُمَا يَدَّعِي الَّتِي بِيَدِ الآْخَرِ، وَأَنَّهُ تَرَكَ قَطِيفَتَهُ لِيَغْتَسِل، فَأَخَذَهَا الآْخَرُ وَتَرَكَ قَطِيفَتَهُ هُوَ فِي مَحَلِّهَا، وَلَمْ تُوجَدْ بَيِّنَةٌ، فَطَلَبَ إِيَاسٌ أَنْ يُؤْتَى بِمُشْطٍ، فَسَرَّحَ رَأْسَ هَذَا وَرَأْسَ هَذَا، فَخَرَجَ مِنْ رَأْسِ أَحَدِهِمَا صُوفٌ أَحْمَرُ، وَمِنْ رَأْسِ الآْخَرِ صُوفٌ أَخْضَرُ، فَقَضَى بِالْحَمْرَاءِ لِلَّذِي خَرَجَ مِنْ رَأْسِهِ الصُّوفُ الأَْحْمَرُ وَبِالْخَضْرَاءِ لِلَّذِي خَرَجَ مِنْ رَأْسِهِ الصُّوفُ الأَْخْضَرُ (2) .
وَفِي إِحْدَى الْقَضَايَا هَرَبَ الْقَاتِل وَانْدَسَّ بَيْنَ النَّاسِ فَلَمْ يُعْرَفْ، فَمَرَّ الْمُعْتَضِدُ عَلَى النَّاسِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى قَلْبِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَيَجِدُهُ سَاكِنًا، حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى فُؤَادِ ذَلِكَ الْغُلاَمِ، فَإِذَا بِهِ يَخْفِقُ خَفْقًا شَدِيدًا، فَرَكَضَهُ بِرِجْلِهِ، وَاسْتَقَرَّهُ فَأَقَرَّ فَقَتَلَهُ (3) .
__________
(1) حديث " قصة عبد الله بن أنيس ". ذكره ابن سعد في الطبقات (2 / 91 - 92) بدون إسناد.
(2) الطرق الحكمية ص32.
(3) الطرق الحكمية ص41.

(34/105)


وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الاِسْتِنَادَ إِلَى الأَْثَرِ لَيْسَ قَرِينَةً قَطْعِيَّةً عَلَى ارْتِكَابِ الْجَرِيمَةِ، تُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَضِيَّةُ الْقَصَّابِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَى خَرِبَةٍ لِلتَّبَوُّل وَمَعَهُ سِكِّينُهُ، فَإِذَا بِهِ أَمَامَ مَقْتُولٍ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ، وَمَا أَفَاقَ مِنْ ذُهُولِهِ حَتَّى وَجَدَ الْعَسَسَ يَقْبِضُونَ عَلَيْهِ، وَقَدْ عَجَزَ الرَّجُل عَنِ الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّ الأَْدِلَّةَ جَمِيعَهَا ضِدُّهُ، وَلَمْ يُنْقِذْهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ الْمَحْتُومَةِ - وَهِيَ الْقَتْل - إِلاَّ إِقْرَارُ الْقَاتِل الْحَقِيقِيِّ بِالْجَرِيمَةِ (1) .
__________
(1) الطرق الحكمية ص28 - 29.

(34/105)


قِيَامٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقِيَامُ لُغَةً: مِنْ قَامَ يَقُومُ قَوْمًا وَقِيَامًا: انْتَصَبَ، وَهُوَ نَقِيضُ الْجُلُوسِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اصْطِلاَحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقُعُودُ:
2 - الْقُعُودُ فِي اللُّغَةِ: الْجُلُوسُ، أَوْ هُوَ مِنَ الْقِيَامِ، وَالْجُلُوسُ مِنَ الضَّجْعَةِ وَمِنَ السُّجُودِ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ اصْطِلاَحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ التَّضَادُّ.

الاِضْطِجَاعُ:
3 - الاِضْطِجَاعُ: وَضْعُ الْجَنْبِ بِالأَْرْضِ،
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) نهاية المحتاج 1 / 347، ومغني المحتاج 1 / 153 - 154.
(3) القاموس المحيط.
(4) الدر المختار 1 / 415، ومغني المحتاج 1 / 153، ونهاية المحتاج 1 / 347، وقواعد الفقه للبركتي.

(34/106)


وَالاِضْطِجَاعُ فِي السُّجُودِ: أَنْ يَتَضَامَّ وَيُلْصِقَ صَدْرَهُ بِالأَْرْضِ.
وَلاَ يَخْرُجُ اصْطِلاَحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالاِضْطِجَاعِ التَّضَادُّ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - يَتَرَدَّدُ حُكْمُ الْقِيَامِ فِي الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ حَرَامًا أَوْ سُنَّةً أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا، بِحَسَبِ نَوْعِ الْفِعْل الْمُرْتَبِطِ بِهِ، وَالدَّلِيل الْوَارِدِ فِيهِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

الْقِيَامُ فِي الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ فِي الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهِ، وَكَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ، كَنَذْرٍ وَسُنَّةِ صَلاَةِ الْفَجْرِ فِي الأَْصَحِّ (2) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أَيْ: مُطِيعِينَ، وَمُقْتَضَى هَذَا الأَْمْرِ الاِفْتِرَاضُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَفْرِضِ الْقِيَامَ خَارِجَ الصَّلاَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الاِفْتِرَاضُ
__________
(1) الصحاح، والقاموس المحيط.
(2) فتح القدير 1 / 192، وتبيين الحقائق 1 / 104، والدر المختار 1 / 414 - 415، والشرح الكبير للدردير 1 / 231، والشرح الصغير للدردير 1 / 307، ونهاية المحتاج 1 / 346، ومغني المحتاج 1 / 153، وكشاف القناع 1 / 450، والمغني 1 / 463، وغاية المنتهى 1 / 138.

(34/106)


الْوَاقِعُ فِي الصَّلاَةِ. إِعْمَالاً لِلنَّصِّ فِي حَقِيقَتِهِ حَيْثُ أَمْكَنَ.
وَأَكَّدَتِ السُّنَّةُ فَرْضِيَّةَ الْقِيَامِ فِيمَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلاَّ مُسْلِمًا، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَال: كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلاَةِ فَقَال: صَل قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ (1) .

كَيْفِيَّةُ الْقِيَامِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ الْمَطْلُوبَ شَرْعًا فِي الصَّلاَةِ هُوَ الاِنْتِصَابُ مُعْتَدِلاً، وَلاَ يَضُرُّ الاِنْحِنَاءُ الْقَلِيل الَّذِي لاَ يَجْعَلُهُ أَقْرَبَ إِلَى أَقَل الرُّكُوعِ بِحَيْثُ لَوْ مَدَّ يَدَيْهِ لاَ يَنَال رُكْبَتَيْهِ (2) .
مِقْدَارُ الْقِيَامِ:
7 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) إِلَى أَنَّ الْقِيَامَ الْمَفْرُوضَ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ يَكُونُ بِقَدْرِ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فَقَطْ؛ لأَِنَّ
__________
(1) حديث عمران بن حصين: " كانت بي بواسير. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 587 ط. السلفية) .
(2) الدر المختار ورد المحتار 1 / 414 ط. الأميرية والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 231، ونهاية المحتاج 1 / 347، ومغني المحتاج 1 / 153، 154، وكشاف القناع 1 / 451، والمغني 1 / 463.
(3) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 307، 309، والشرح الكبير مع الدسوقي 1 / 255، والمهذب 1 / 72 - 73، 82، وكشاف القناع 1 / 451، وغاية المنتهى 1 / 138

(34/107)


الْفَرْضَ عِنْدَهُمْ ذَلِكَ؛ وَلأَِنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْقِرَاءَةِ وَبَدَلِهَا مِنَ الذِّكْرِ، وَقَفَ بِقَدْرِهَا، وَأَمَّا السُّورَةُ بَعْدَهَا فَهِيَ سُنَّةٌ.
فَإِنْ أَدْرَكَ الْمَأْمُومُ الإِْمَامَ فِي الرُّكُوعِ فَقَطْ، فَالرُّكْنُ مِنَ الْقِيَامِ بِقَدْرِ التَّحْرِيمَةِ؛ لأَِنَّ الْمَسْبُوقَ يُدْرِكُ فَرْضَ الْقِيَامِ بِذَلِكَ، وَهَذَا رُخْصَةٌ فِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ خَاصَّةً، لإِِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (1) إِلَى أَنَّ فَرْضَ الْقِيَامِ وَوَاجِبَهُ وَمَسْنُونَهُ وَمَنْدُوبَهُ لِقَادِرٍ عَلَيْهِ وَعَلَى السُّجُودِ يَكُونُ بِقَدْرِ الْقِرَاءَةِ الْمَطْلُوبَةِ فِيهِ، وَهُوَ بِقَدْرِ آيَةٍ فَرْضٌ، وَبِقَدْرِ الْفَاتِحَةِ وَسُورَةٍ وَاجِبٌ، وَبِطِوَال الْمُفَصَّل وَأَوْسَاطِهِ وَقِصَارِهِ فِي مَحَالِّهَا الْمَطْلُوبَةِ مَسْنُونٌ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فِي نَحْوِ تَهَجُّدٍ مَنْدُوبٌ، فَلَوْ قَدَرَ الْمُصَلِّي عَلَى الْقِيَامِ دُونَ السُّجُودِ، نُدِبَ إِيمَاؤُهُ قَاعِدًا، لِقُرْبِهِ مِنَ السُّجُودِ، وَجَازَ إِيمَاؤُهُ قَائِمًا.

سُقُوطُ الْقِيَامِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ يَسْقُطُ فِي الْفَرْضِ وَالنَّافِلَةِ لِعَاجِزٍ عَنْهُ، لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ، لِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ الْمُتَقَدِّمِ: صَل قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ (2) .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 1 / 414 - 415، 422.
(2) انظر فقرة 5.

(34/107)


فَإِنْ قَدَرَ الْمَرِيضُ عَلَى بَعْضِ الْقِرَاءَةِ وَلَوْ آيَةً قَائِمًا، لَزِمَهُ بِقَدْرِهَا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةُ الْمَرِيضِ ف 5، 6) .
وَيَسْقُطُ الْقِيَامُ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَنِ الْعَارِي، فَإِنَّهُ يُصَلِّي قَاعِدًا بِالإِْيمَاءِ إِذَا لَمْ يَجِدْ سَاتِرًا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي عِنْدَهُمْ قَائِمًا وُجُوبًا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عُرْيَانٌ ف 7) .
وَيَسْقُطُ الْقِيَامُ كَذَلِكَ حَالَةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، فَيُصَلِّي قَاعِدًا أَوْ مُومِيًا، وَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةُ الْخَوْفِ ف 9) .

الاِسْتِقْلاَل فِي الْقِيَامِ:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى اشْتِرَاطِ الاِسْتِقْلاَل فِي الْقِيَامِ أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ فِي الْفَرَائِضِ دُونَ النَّوَافِل، عَلَى تَفْصِيلٍ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (1) ، إِلَى أَنَّ مَنِ اتَّكَأَ عَلَى عَصَاهُ، أَوْ عَلَى حَائِطٍ وَنَحْوِهِ، بِحَيْثُ يَسْقُطُ لَوْ زَال لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ، فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ صَحَّتْ، أَمَّا فِي التَّطَوُّعِ أَوِ النَّافِلَةِ: فَلاَ
__________
(1) الدر المختار 1 / 411، 414، 415، والكتاب للقدوري وشرحه اللباب 1 / 69.

(34/108)


يُشْتَرَطُ الاِسْتِقْلاَل بِالْقِيَامِ، سَوَاءٌ أَكَانَ لِعُذْرٍ أَمْ لاَ، إِلاَّ أَنَّ صَلاَتَهُ تُكْرَهُ؛ لأَِنَّهُ إِسَاءَةُ أَدَبٍ، وَثَوَابُهُ يَنْقُصُ إِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ.
وَالْقِيَامُ فَرْضٌ بِقَدْرِ التَّحْرِيمَةِ وَالْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي فَرْضٍ، وَمُلْحَقٌ بِهِ كَنَذْرٍ وَسُنَّةِ فَجْرٍ فِي الأَْصَحِّ، لِقَادِرٍ عَلَيْهِ وَعَلَى السُّجُودِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (1) إِلَى إِيجَابِ الْقِيَامِ مُسْتَقِلًّا فِي الْفَرَائِضِ لِلإِْمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ حَال تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَالْهُوِيِّ لِلرُّكُوعِ، فَلاَ يُجْزِئُ إِيقَاعُ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ وَالْفَاتِحَةِ فِي الْفَرْضِ لِلْقَادِرِ عَلَى الْقِيَامِ جَالِسًا أَوْ مُنْحَنِيًا، وَلاَ قَائِمًا مُسْتَنِدًا لِعِمَادٍ بِحَيْثُ لَوْ أُزِيل الْعِمَادُ لَسَقَطَ، وَأَمَّا حَال قِرَاءَةِ السُّورَةِ فَالْقِيَامُ سُنَّةٌ، فَلَوِ اسْتَنَدَ إِلَى شَيْءٍ لَوْ أُزِيل لَسَقَطَ، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ قِرَاءَةِ السُّورَةِ، بَطَلَتْ صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْفَرْضِ الرُّكْنِيِّ، وَإِنْ كَانَ فِي حَال قِرَاءَةِ السُّورَةِ لَمْ تَبْطُل، وَكُرِهَ اسْتِنَادُهُ، وَلَوْ جَلَسَ فِي حَال قِرَاءَةِ السُّورَةِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ؛ لإِِخْلاَلِهِ بِهَيْئَةِ الصَّلاَةِ، أَمَّا الْمَأْمُومُ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، فَلَوِ اسْتَنَدَ حَال قِرَاءَتِهَا لِعَمُودٍ بِحَيْثُ لَوْ أُزِيل لَسَقَطَ، صَحَّتْ صَلاَتُهُ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ (2) فِي الأَْصَحِّ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا
__________
(1) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 312.
(2) نهاية المحتاج 1 / 347، والمجموع 3 / 258 - 260.

(34/108)


الاِسْتِقْلاَل فِي الْقِيَامِ، فَلَوِ اسْتَنَدَ الْمُصَلِّي إِلَى شَيْءٍ بِحَيْثُ لَوْ رُفِعَ السِّنَادُ لَسَقَطَ أَجْزَأَهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، لِوُجُودِ اسْمِ الْقِيَامِ، وَالثَّانِي يُشْتَرَطُ وَلاَ تَصِحُّ مَعَ الاِسْتِنَادِ فِي حَال الْقُدْرَةِ بِحَالٍ، وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ يَجُوزُ الاِسْتِنَادُ إِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ رُفِعَ السِّنَادُ لَمْ يَسْقُطْ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ (1) إِلَى أَنَّهُ لَوِ اسْتَنَدَ اسْتِنَادًا قَوِيًّا عَلَى شَيْءٍ بِلاَ عُذْرٍ، بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، وَالْقِيَامُ فَرْضٌ بِقَدْرِ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى، وَفِيمَا بَعْدَ الرَّكْعَةِ الأُْولَى بِقَدْرِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فَقَطْ.

صَلاَةُ الْقَاعِدِ خَلْفَ الْقَائِمِ وَبِالْعَكْسِ:
10 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ صَلاَةِ الْقَاعِدِ لِعُذْرٍ خَلْفَ الْقَائِمِ، لِمَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ مِنْ وَقَائِعَ، مِنْهَا: مَا وَرَدَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: صَلَّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ قَاعِدًا، فِي ثَوْبٍ، مُتَوَشِّحًا بِهِ (2) وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: صَلَّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ قَاعِدًا (3) .
__________
(1) كشاف القناع 1 / 450 - 451، 587.
(2) حديث أنس: " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه خلف أبي بكر. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 197 - 198) وقال: حديث حسن صحيح.
(3) حديث عائشة: " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر في مرضه. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 196) وقال: حديث حسن صحيح.

(34/109)


وَأَمَّا صَلاَةُ الْقَائِمِ خَلْفَ الْجَالِسِ أَوِ الْقَاعِدِ: فَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى آخِرَ صَلاَتِهِ قَاعِدًا وَالنَّاسُ قِيَامٌ، وَأَبُو بَكْرٍ يَأْتَمُّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ بِصَلاَةِ أَبِي بَكْرٍ وَهِيَ صَلاَةُ الظُّهْرِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى عَدَمِ الْجَوَازِ، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا (2) ؛ وَلأَِنَّ حَال الْقَائِمِ أَقْوَى مِنْ حَال الْقَاعِدِ، وَلاَ يَجُوزُ بِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ اسْتَثْنَوْا مِنْ عَدَمِ الْجَوَازِ إِمَامَ الْحَيِّ الْمَرْجُوَّ زَوَال عِلَّتِهِ، وَهَذَا فِي غَيْرِ النَّفْل، أَمَّا فِي النَّفْل فَيَجُوزُ اتِّفَاقًا (3) .

الْقِيَامُ فِي النَّوَافِل:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّنَفُّل قَاعِدًا لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ، أَمَّا الاِضْطِجَاعُ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ
__________
(1) حديث: " صلى آخر صلاته قاعدًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 173) ، ومسلم (1 / 311، 312) من حديث عائشة.
(2) حديث: " لا يؤمن أحد بعدي جالسًا. . . ". أخرجه الدارقطني (1 / 398) من حديث الشعبي مرسلاً، وذكر الدارقطني أن فيه راويًا متروكًا.
(3) الدر المختار ورد المحتار 1 / 551، ومغني المحتاج 1 / 240، وحاشية الدسوقي 1 / 327، ومنار السبيل 1 / 124، وكشاف القناع 1 / 476، 477. ط. دار الفكر.

(34/109)


الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْقَادِرِ عَلَى الْقِيَامِ أَوِ الْجُلُوسِ أَنْ يُصَلِّيَ النَّفَل مُضْطَجِعًا إِلاَّ لِعُذْرٍ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّنَفُّل مُضْطَجِعًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ فِي الأَْصَحِّ، لِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّهُ سَأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلاَةِ الرَّجُل قَاعِدًا قَال: مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَل وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ (1) .
وَالأَْفْضَل أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى شِقِّهِ الأَْيْمَنِ فَإِنِ اضْطَجَعَ عَلَى الأَْيْسَرِ جَازَ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقْعُدَ لِلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ قِيل: يُومِئُ بِهِمَا أَيْضًا (2) .

الْجَمْعُ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (3) إِلَى أَنَّ لِلْمُصَلِّي تَطَوُّعًا الْقِيَامَ إِذَا ابْتَدَأَ الصَّلاَةَ جَالِسًا، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا لَمْ تَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي صَلاَةَ اللَّيْل قَاعِدًا
__________
(1) حديث عمران بن حصين: " من صلى قائمًا فهو أفضل. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 586) .
(2) الدر المختار 1 / 468، 652 وما بعدها، وفتح القدير 1 / 328، والشرح الصغير 1 / 359 وما بعدها، والشرح الكبير 1 / 258، والقوانين الفقهية ص59، ومغني المحتاج 1 / 155، وكشاف القناع 1 / 451، 516، 517، 588، وغاية المنتهى 1 / 158.
(3) الدر المختار ورد المحتار 1 / 652، وفتح القدير 1 / 328، والشرح الصغير 1 / 359، ونهاية المحتاج 1 / 452، وكشاف القناع 1 / 517، ونيل الأوطار 3 / 83، وغاية المنتهى 1 / 158، والقوانين الفقهية ص 59.

(34/110)


قَطُّ حَتَّى أَسَنَّ، فَكَانَ يَقْرَأُ قَاعِدًا حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ نَحْوًا مِنْ ثَلاَثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً، ثُمَّ رَكَعَ (1) .
وَيَجُوزُ لِلْمُصَلِّي أَيْضًا أَنْ يُصَلِّيَ بَعْضَ الرَّكْعَةِ قَائِمًا ثُمَّ يَجْلِسَ أَوِ الْعَكْسُ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى كَرَاهَةِ الْقُعُودِ بَعْدَ الْقِيَامِ، وَمَنَعَ أَشْهَبُ الْجُلُوسَ بَعْدَ أَنْ نَوَى الْقِيَامَ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةُ التَّطَوُّعِ فِقْرَةُ 20) .

الْقِيَامُ فِي الصَّلاَةِ فِي السَّفِينَةِ:
13 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الأَْظْهَرُ فِي الْمَذْهَبِ، إِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ فَرْضًا فِي السَّفِينَةِ وَنَحْوِهَا كَالْمِحَفَّةِ وَالْهَوْدَجِ وَالطَّائِرَةِ وَالسَّيَّارَةِ قَاعِدًا إِلاَّ لِعُذْرٍ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ صَلَّى فِي الْفُلْكِ قَاعِدًا بِلاَ عُذْرٍ صَحَّ لِغَلَبَةِ الْعَجْزِ وَأَسَاءَ، أَيْ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ لاَ مُومِئًا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لِغَلَبَةِ الْعَجْزِ أَيْ؛ لأَِنَّ دَوَرَانَ الرَّأْسِ فِيهَا غَالِبٌ وَالْغَالِبُ كَالْمُتَحَقِّقِ فَأُقِيمَ مَقَامَهُ، ثُمَّ قَال: وَأَسَاءَ: أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْقِيَامَ أَفْضَل؛ لأَِنَّهُ أَبْعَدُ
__________
(1) حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: " أنها لم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 589) .

(34/110)


عَنْ شُبْهَةِ الْخِلاَفِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سَفِينَةٌ ف 3) .

الْقِيَامُ فِي الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْمُؤَذِّنِ وَالْمُقِيمِ أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ قَائِمًا، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي حَدِيثِ بَدْءِ الأَْذَانِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يَا بِلاَل، قُمْ فَنَادِ بِالصَّلاَةِ (2) ؛ وَلأَِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الإِْعْلاَمِ، وَتَرْكُ الْقِيَامِ مَكْرُوهٌ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَذَانٌ ف 37، وَإِقَامَةٌ ف 15) .

بَقَاءُ الدَّاخِل إِلَى الْمَسْجِدِ قَائِمًا أَثْنَاءَ الأَْذَانِ:
15 - إِذَا دَخَل الْمُسْلِمُ الْمَسْجِدَ، وَالْمُؤَذِّنُ يُؤَذِّنُ، فَهَل يَظَل قَائِمًا أَوْ يَجْلِسُ؟ لِلْفُقَهَاءِ اتِّجَاهَانِ:
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) إِلَى أَنَّهُ إِذَا دَخَل الْمُصَلِّي الْمَسْجِدَ، وَالْمُؤَذِّنُ قَدْ شَرَعَ فِي الأَْذَانِ، لَمْ يَأْتِ بِتَحِيَّةٍ وَلاَ بِغَيْرِهَا، بَل يُجِيبُ الْمُؤَذِّنَ وَاقِفًا، حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ أَذَانِهِ، لِيَجْمَعَ بَيْنَ أَجْرِ الإِْجَابَةِ وَالتَّحِيَّةِ.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 1 / 415، 713 - 717، والشرح الصغير 1 / 300، 302، 307، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 225، 228 - 230، ومغني المحتاج 1 / 153، وكشاف القناع 1 / 593.
(2) حديث ابن عمر: " قم فناد بالصلاة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 77) ، ومسلم (1 / 258) .
(3) مغني المحتاج 1 / 140، وكشاف القناع 1 / 285.

(34/111)


وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (1) إِلَى أَنَّهُ إِذَا دَخَل الْمُصَلِّي الْمَسْجِدَ، وَالْمُؤَذِّنُ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ قَعَدَ حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ أَذَانِهِ، فَيُصَلِّي التَّحِيَّةَ بَعْدَئِذٍ، لِيَجْمَعَ بَيْنَ أَجْرِ الإِْجَابَةِ وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ.

وَقْتُ الْقِيَامِ لِلصَّلاَةِ:
16 - يَنْبَغِي أَنْ لاَ يَقُومَ الْمُصَلُّونَ لِلصَّلاَةِ عِنْدَ الإِْقَامَةِ حَتَّى يَقُومَ الإِْمَامُ أَوْ يُقْبِل، أَيْ عِنْدَ الإِْمَامِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي قَدْ خَرَجْتُ (2) .
وَأَمَّا تَعْيِينُ وَقْتِ قِيَامِ الْمُصَلِّينَ إِلَى الصَّلاَةِ، فَفِيهِ اخْتِلاَفٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ.
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ مَا عَدَا زُفَرَ إِلَى أَنَّ الْقِيَامَ لِلإِْمَامِ وَالْمُؤْتَمِّ حِينَ قَوْل الْمُقِيمِ: حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ، أَيْ عِنْدَ الْحَيْعَلَةِ الثَّانِيَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ عِنْدَ قَوْلِهِ: حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، أَيْ عِنْدَ الْحَيْعَلَةِ الأُْولَى؛ لأَِنَّهُ أُمِرَ بِهِ فَيُجَابُ، هَذَا إِذَا كَانَ الإِْمَامُ حَاضِرًا بِقُرْبِ الْمِحْرَابِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا، يَقُومُ كُل صَفٍّ حِينَ يَنْتَهِي إِلَيْهِ الإِْمَامُ عَلَى الأَْظْهَرِ، وَإِنْ دَخَل الإِْمَامُ مِنْ قُدَّامٍ، قَامُوا حِينَ يَقَعُ بَصَرُهُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ
__________
(1) الدر المختار 1 / 371.
(2) حديث: " إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 119) ، ومسلم (1 / 452) من حديث أبي قتادة واللفظ لمسلم.

(34/111)


أَقَامَ الإِْمَامُ بِنَفْسِهِ فِي مَسْجِدٍ، فَلاَ يَقِفُ الْمُؤْتَمُّونَ حَتَّى يُتِمَّ إِقَامَتَهُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُصَلِّي الْقِيَامُ حَال الإِْقَامَةِ أَوْ أَوَّلَهَا أَوْ بَعْدَهَا، فَلاَ يُطْلَبُ لَهُ تَعْيِينُ حَالٍ، بَل بِقَدْرِ الطَّاقَةِ لِلنَّاسِ، فَمِنْهُمُ الثَّقِيل وَالْخَفِيفُ، إِذْ لَيْسَ فِي هَذَا شَرْعٌ مَسْمُوعٌ إِلاَّ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال: إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي قَدْ خَرَجْتُ، وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: فَإِنْ صَحَّ هَذَا وَجَبَ الْعَمَل بِهِ، وَإِلاَّ فَالْمَسْأَلَةُ بَاقِيَةٌ عَلَى أَصْلِهَا الْمَعْفُوِّ عَنْهُ، أَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا شَرْعٌ، وَأَنَّهُ مَتَى قَامَ كُل وَاحِدٍ، فَحَسَنٌ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ وَالإِْمَامِ أَنْ لاَ يَقُومَا حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ مِنَ الإِْقَامَةِ، وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: يَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ شَيْخًا بَطِيءَ النَّهْضَةِ أَنْ يَقُومَ عِنْدَ قَوْلِهِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ، وَلِسَرِيعِ النَّهْضَةِ أَنْ يَقُومَ بَعْدَ الْفَرَاغِ، لِيَسْتَوُوا قِيَامًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
فَإِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ وَلَيْسَ الإِْمَامُ مَعَ الْقَوْمِ بَل يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ فَإِنَّ الْمَأْمُومِينَ لاَ يَقُومُونَ حَتَّى يَرَوُا الإِْمَامَ لِمَا رَوَاهُ أَبُو قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 1 / 372، 447.
(2) الشرح الصغير 1 / 256، وبداية المجتهد 1 / 150. ط. دار المعرفة، والدسوقي 1 / 200.

(34/112)


تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي قَدْ خَرَجْتُ (1) .
وَرَأْيُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُومَ الْمُصَلِّي عِنْدَ قَوْل الْمُؤَذِّنِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ: " أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ إِذَا قَال الْمُؤَذِّنُ: قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ (2) ".

الْقِيَامُ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَنَحْوِهِمَا:
17 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ قِيَامِ الْخَطِيبِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالاِسْتِسْقَاءِ وَالْكُسُوفَيْنِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) وَابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، إِلَى أَنَّ قِيَامَ الْخَطِيبِ فِي الْخُطْبَةِ سُنَّةٌ، لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَجِبْ؛ لأَِنَّهُ ذِكْرٌ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ، فَلَمْ يَجِبْ لَهُ الْقِيَامُ، كَالأَْذَانِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ قِيَامَ الْخَطِيبِ حَال الْخُطْبَةِ شَرْطٌ، إِنْ قَدَرَ، وَذَهَبَ الدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الأَْظْهَرَ أَنَّ الْقِيَامَ وَاجِبٌ غَيْرُ شَرْطٍ، فَإِنْ جَلَسَ أَسَاءَ وَصَحَّتْ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ خَطَبَ قَاعِدًا ثُمَّ مُضْطَجِعًا كَالصَّلاَةِ،
__________
(1) المجموع 3 / 255، 256 ط. السلفية.
(2) المغني 1 / 458.
(3) الدر المختار ورد المحتار 1 / 760، وفتح القدير 1 / 414، وكشاف القناع 2 / 43، 39، والمغني 2 / 302 وما بعدها.

(34/112)


وَيَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ بِهِ، وَالأَْوْلَى لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا لِلْقِيَامِ فِي الْخُطْبَةِ بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمًا، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ كَمَا يَفْعَلُونَ الْيَوْمَ (2) . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ حَال الْخُطْبَةِ مَشْرُوعٌ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَل أَهْل الْعِلْمِ مِنْ عُلَمَاءِ الأَْمْصَارِ.

الْقِيَامُ فِي حَال تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالذِّكْرِ:
18 - تَجُوزُ تِلاَوَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَتَرْدَادُ الأَْذْكَارِ مِنْ تَهْلِيلٍ وَتَسْبِيحٍ وَتَحْمِيدٍ وَغَيْرِهَا فِي أَيِّ حَالٍ، قِيَامًا وَقُعُودًا، وَفِي حَالَةِ الْوُقُوفِ وَالْمَشْيِ، قَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ قَائِمًا، أَوْ رَاكِبًا، أَوْ جَالِسًا، أَوْ مُضْطَجِعًا، أَوْ فِي فِرَاشِهِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْحْوَال، جَازَ، وَلَهُ أَجْرٌ (3) ، قَال اللَّهُ عَزَّ وَجَل: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} .
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 499، والشرح الكبير 1 / 379، المهذب 1 / 285، ومغني المحتاج 1 / 287.
(2) حديث ابن عمر: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائمًا. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 32 / 401) ، ومسلم (2 / 589) واللفظ لمسلم.
(3) التبيان في آداب حملة القرآن للنووي: ص43.

(34/113)


الْقِيَامُ لِلْجِنَازَةِ عِنْدَ مُرُورِهَا:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْقِيَامِ لِلْجِنَازَةِ عِنْدَ مُرُورِهَا:
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ الْقِيَامُ لِلْجِنَازَةِ إِذَا مَرُّوا بِهَا عَلَى جَالِسٍ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ عَمَل السَّلَفِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الْمُخْتَارُ أَنْ لاَ يَقُومَ لَهَا، وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: يُنْدَبُ الْقِيَامُ لِلْجِنَازَةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَأَنْ يَدْعُوَ لَهَا وَيُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا، إِنْ كَانَتْ أَهْلاً لَهُ (1) .

الْقِيَامُ عِنْدَ الأَْكْل وَالشُّرْبِ:
20 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ قَائِمًا تَنْزِيهًا، وَاسْتَثْنَوُا الشُّرْبَ مِنْ زَمْزَمَ وَالشُّرْبَ مِنْ مَاءِ الْوُضُوءِ بَعْدَهُ، حَيْثُ نَفَوُا الْكَرَاهَةَ عَنْهُمَا (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُبَاحُ الأَْكْل وَالشُّرْبُ قَائِمًا (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ شُرْبَ الشَّخْصِ قَائِمًا بِلاَ عُذْرٍ خِلاَفُ الأَْوْلَى (4) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ كَرَاهَةِ الشُّرْبِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 598، والشرح الصغير 1 / 570، والبدائع 1 / 310، والقليوبي 1 / 330، وغاية المنتهى 1 / 246.
(2) ابن عابدين 1 / 387، 88.
(3) الفواكه الدواني 2 / 417، والقوانين الفقهية ص288.
(4) روضة الطالبين 7 / 340، ومغني المحتاج 1 / 250.

(34/113)


قَائِمًا، أَمَّا الأَْكْل قَائِمًا فَقَدْ قَال الْبُهُوتِيُّ: وَظَاهِرُ كَلاَمِهِمْ لاَ يُكْرَهُ أَكْلُهُ قَائِمًا، وَيَتَوَجَّهُ كَشُرْبٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يُكْرَهُ الأَْكْل وَالشُّرْبُ، قَائِمًا (1) .
وَسَبَبُ الاِخْتِلاَفِ أَنَّهُ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ مُتَعَارِضَةٌ فِي الأَْكْل وَالشُّرْبِ قَائِمًا.
مِنْهَا: عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَجَرَ وَفِي رِوَايَةٍ: نَهَى عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا، قَال قَتَادَةَ: فَقُلْنَا: فَالأَْكْل، فَقَال: ذَاكَ شَرٌّ وَأَخْبَثُ (2) "، وَيَدُل هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى مَنْعِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ قَائِمًا.
وَهُنَاكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى تُجِيزُ الأَْكْل وَالشُّرْبَ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَمَاشِيًا.
مِنْهَا: مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كُنَّا نَأْكُل عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَمْشِي، وَنَشْرَبُ وَنَحْنُ قِيَامٌ (3) .
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ قَال: شَرِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زَمْزَمَ وَهُوَ قَائِمٌ (4) .
__________
(1) كشاف القناع 5 / 177. والآداب الشرعية 3 / 175، 176.
(2) حديث أنس بن مالك: " أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر (وفي رواية: نهى) عن الشرب قائمًا ". أخرجه مسلم (2 / 1600 - 1601) .
(3) حديث ابن عمر: " كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 300) وقال: حديث حسن صحيح.
(4) حديث ابن عباس: " شرب النبي صلى الله عليه وسلم من زمزم وهو قائم ". أخرجه الترمذي (4 / 301) وقال: حديث حسن صحيح.

(34/114)


الْقِيَامُ حَال التَّبَوُّل:
21 - يُسْتَحَبُّ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (1) أَنْ يَبُول الإِْنْسَانُ قَاعِدًا؛ لأَِنَّهُ أَسْتَرُ وَأَبْعَدُ مِنْ مُمَاسَّةِ الْبَوْل؛ وَلِئَلاَّ يُصِيبَهُ الرَّشَاشُ، فَيَتَنَجَّسَ، وَيُكْرَهُ الْبَوْل قَائِمًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِلاَّ لِعُذْرٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءُ الْحَاجَةِ ف 9) .

الْقِيَامُ لِلْقَادِمِ وَالْوَالِدِ وَالْحَاكِمِ وَالْعَالِمِ وَأَشْرَافِ الْقَوْمِ:
22 - وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْقِيَامِ لِلْقَادِمِ إِذَا كَانَ بِقَصْدِ الْمُبَاهَاةِ وَالسُّمْعَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّل لَهُ الرِّجَال قِيَامًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ (2) ، وَثَبَتَ جَوَازُ الْقِيَامِ لِلْقَادِمِ إِذَا كَانَ بِقَصْدِ إِكْرَامِ أَهْل الْفَضْل، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ أَهْل قُرَيْظَةَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ - سَيِّدِ الأَْوْسِ - فَأَرْسَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَعْدٍ، فَأَتَاهُ عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْمَسْجِدِ، قَال لِلأَْنْصَارِ: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ أَوْ
__________
(1) الدر المختار 1 / 318، والشرح الصغير 1 / 87، والمهذب 1 / 26، ومغني المحتاج 1 / 40، والمغني 1 / 164.
(2) حديث: " من سره أن يتمثل له الرجال قيامًا. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 91) من حديث معاوية بن أبي سفيان، وحسنه الترمذي.

(34/114)


خَيْرِكُمْ (1) . .
قَال النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ (2) مُعَلِّقًا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: فِيهِ إِكْرَامُ أَهْل الْفَضْل، وَتَلَقِّيهِمْ بِالْقِيَامِ لَهُمْ، إِذَا أَقْبَلُوا، وَاحْتَجَّ بِهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ لاِسْتِحْبَابِ الْقِيَامِ، قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْقِيَامِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِيمَنْ يَقُومُونَ عَلَيْهِ، وَهُوَ جَالِسٌ، وَيَمْثُلُونَ قِيَامًا طِوَال جُلُوسِهِ، وَأَضَافَ النَّوَوِيُّ: قُلْتُ: الْقِيَامُ لِلْقَادِمِ مِنْ أَهْل الْفَضْل مُسْتَحَبٌّ، وَقَدْ جَاءَ فِيهِ أَحَادِيثُ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي النَّهْيِ عَنْهُ شَيْءٌ صَرِيحٌ.
وَيُسْتَحَبُّ الْقِيَامُ لأَِهْل الْفَضْل كَالْوَالِدِ وَالْحَاكِمِ؛ لأَِنَّ احْتِرَامَ هَؤُلاَءِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا وَأَدَبًا.
وَقَال الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ أَبُو الْمَعَالِي فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: وَإِكْرَامُ الْعُلَمَاءِ وَأَشْرَافِ الْقَوْمِ بِالْقِيَامِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ (3) .
وَنَقَل ابْنُ الْحَاجِّ عَنِ ابْنِ رُشْدٍ - فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيل - أَنَّ الْقِيَامَ يَكُونُ عَلَى أَوْجُهٍ:
الأَْوَّل: يَكُونُ الْقِيَامُ مَحْظُورًا، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ
__________
(1) حديث أبي سعيد الخدري: " أن أهل قريظة نزلوا على حكم سعد بن معاذ. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 411) .
(2) شرح مسلم 12 / 93.
(3) الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 260.

(34/115)


إِكْبَارًا وَتَعْظِيمًا لِمَنْ يُحِبُّ أَنْ يُقَامَ إِلَيْهِ تَكَبُّرًا وَتَجَبُّرًا.
الثَّانِي: يَكُونُ مَكْرُوهًا، وَهُوَ قِيَامُهُ إِكْبَارًا وَتَعْظِيمًا وَإِجْلاَلاً لِمَنْ لاَ يُحِبُّ أَنْ يُقَامَ إِلَيْهِ، وَلاَ يَتَكَبَّرُ عَلَى الْقَائِمِينَ إِلَيْهِ.
الثَّالِثِ: يَكُونُ جَائِزًا، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ تَجِلَّةً وَإِكْبَارًا لِمَنْ لاَ يُرِيدُ ذَلِكَ، وَلاَ يُشْبِهُ حَالُهُ حَال الْجَبَابِرَةِ، وَيُؤْمَنُ أَنْ تَتَغَيَّرَ نَفْسُ الْمَقُومِ إِلَيْهِ.
الرَّابِعِ: يَكُونُ حَسَنًا، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ لِمَنْ أَتَى مِنْ سَفَرٍ فَرَحًا بِقُدُومِهِ، أَوْ لِلْقَادِمِ عَلَيْهِ سُرُورًا بِهِ لِتَهْنِئَتِهِ بِنِعْمَةٍ، أَوْ يَكُونَ قَادِمًا لِيُعَزِّيَهُ بِمُصَابٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ (1) .
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَقَدْ قَال الْعُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ الْقِيَامُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالإِْمَامِ الْعَادِل وَفُضَلاَءِ النَّاسِ، وَقَدْ صَارَ هَذَا كَالشِّعَارِ بَيْنَ الأَْفَاضِل. فَإِذَا تَرَكَهُ الإِْنْسَانُ فِي حَقِّ مَنْ يَصْلُحُ أَنْ يَفْعَل فِي حَقِّهِ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَنْسُبَهُ إِلَى الإِْهَانَةِ وَالتَّقْصِيرِ فِي حَقِّهِ، فَيُوجِبُ ذَلِكَ حِقْدًا، وَاسْتِحْبَابُ هَذَا فِي حَقِّ الْقَائِمِ لاَ يَمْنَعُ الَّذِي يُقَامَ لَهُ أَنْ يَكْرَهَ ذَلِكَ، وَيَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ (2) .
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَيُسَنُّ الْقِيَامُ لِنَحْوِ عَالِمٍ وَمُصَالِحٍ وَصَدِيقٍ وَشَرِيفٍ لاَ لأَِجْل غِنًى،
__________
(1) المدخل لابن الحاج 1 / 139 طبع. الإسكندرية سنة 1291هـ.
(2) مختصر منهاج القاصدين ص249.

(34/115)


وَبَحَثَ بَعْضُهُمْ وُجُوبَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الأَْزْمِنَةِ؛ لأَِنَّ تَرْكَهُ صَارَ قَطِيعَةً (1) .
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَخَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهِ قَامَ إِلَيْهَا فَقَبَّلَهَا وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَل عَلَيْهَا قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا فَقَبَّلَتْهُ وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا (2) .
وَوَرَدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ هِلاَلٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَال: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ قُمْنَا لَهُ حَتَّى يَدْخُل بَيْتَهُ (3) .
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا، فَقُمْنَا لَهُ، فَقَال: لاَ تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الأَْعَاجِمُ، يُعَظِّمُ بَعْضُهَا بَعْضًا (4) .
وَوَرَدَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا
__________
(1) القليوبي 3 / 213.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخلت عليه فاطمة. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 700) من حديث عائشة، وقال: حديث حسن غريب.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج قمنا له. . . ". أورده الهيثمي في مجمع الزاوئد (8 / 40) وعزاه إلى البزار وقال: رجاله ثقات.
(4) حديث ابن أمامة: " لا تقوموا كما تقوم الأعاجم. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 398) ، ونقل ابن حجر في الفتح (11 / 50) عن الطبري ضعفه بالاضطراب في السند وجهالة فيه.

(34/116)


إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا، لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ (1) .

الْقِيَامُ فِي الْعُقُوبَاتِ:
إِقَامَةُ الْحَدِّ جَلْدًا أَوْ رَجْمًا أَثْنَاءَ الْقِيَامِ أَوِ الْقُعُودِ:
23 - إِذَا كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا فِي الزِّنَا وَالْقَذْفِ، فَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُل قَائِمًا، وَلَمْ يُوثَقْ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُحْفَرْ لَهُ، سَوَاءٌ أَثَبَتَ الزِّنَا بِبَيِّنَةٍ أَمْ بِإِقْرَارٍ، وَتُضْرَبُ الْمَرْأَةُ قَاعِدَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2)) ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لِلْمَرْأَةِ، وَلِقَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُضْرَبُ الرِّجَال فِي الْحُدُودِ قِيَامًا وَالنِّسَاءُ قُعُودًا.
وَذَهَبَ الإِْمَامُ مَالِكٌ (3) إِلَى أَنَّ الرَّجُل يُضْرَبُ قَاعِدًا، وَكَذَا الْمَرْأَةُ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا، كَمَا فِي رَجْمِ الزُّنَاةِ الْمُحْصَنِينَ، فَتُرْجَمُ الْمَرْأَةُ بِالاِتِّفَاقِ قَاعِدَةً.
وَيُخَيَّرُ الإِْمَامُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْحَفْرِ لَهَا: إِنْ شَاءَ حَفَرَ لَهَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ الْحَفْرَ، أَمَّا الْحَفْرُ؛ فَلأَِنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا، وَقَدْ رُوِيَ {أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفَرَ لِلْمَرْأَةِ الْغَامِدِيَّةِ إِلَى ثَنْدُوَتِهَا (أَيْ
__________
(1) حديث أنس: " لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 90) وقال: حديث حسن صحيح.
(2) فتح القدير مع العناية 4 / 128، والمغني 8 / 158، وبداية المجتهد 2 / 429.
(3) بداية المجتهد 2 / 429.

(34/116)


ثَدْيِهَا) ، وَأَمَّا تَرْكُ الْحَفْرِ فَلأَِنَّ الْحَفْرَ لِلسَّتْرِ، وَهِيَ مَسْتُورَةٌ بِثِيَابِهَا؛ لأَِنَّهَا لاَ تُجَرَّدُ عِنْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ.
وَهَذَا قَوْل بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا بِالْحَفْرِ لِلْمَرْأَةِ إِلَى الصَّدْرِ إِنْ ثَبَتَ زِنَاهَا بِالْبَيِّنَةِ، أَمَّا إِنْ ثَبَتَ زِنَاهَا بِالإِْقْرَارِ، فَلَمْ يُحْفَرْ لَهَا.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اسْتِحْبَابُ الْحَفْرِ لِلْمَرْأَةِ إِنْ ثَبَتَ زِنَاهَا بِالْبَيِّنَةِ لِئَلاَّ تَنْكَشِفَ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا ثَبَتَ زِنَاهَا بِالإِْقْرَارِ، لِتَتَمَكَّنَ مِنَ الْهَرَبِ إِنْ رَجَعَتْ عَنْ إِقْرَارِهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الرَّاجِحِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُحْفَرُ لِلْمَرْأَةِ وَلاَ لِلرَّجُل، لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: أَكْثَرُ الأَْحَادِيثِ عَلَى تَرْكِ الْحَفْرِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْفِرْ لِلْجُهَنِيَّةِ وَلاَ لِمَاعِزٍ وَلاَ لِلْيَهُودِيَّيْنِ.
وَأَمَّا الرَّجُل فَيُرْجَمُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ قَائِمًا، وَقَال مَالِكٌ: يُرْجَمُ قَاعِدًا (1) .
__________
(1) فتح القدير 4 / 129، والقوانين الفقهية: ص356، وبداية المجتهد 2 / 429، والمجموع 18 / 275، 283، ومغني المحتاج 4 / 153 - 154، والمغني 8 / 158 وما بعدها.

(34/117)


قِيَامُ اللَّيْل
التَّعْرِيفُ:
1 - (الْقِيَامُ فِي اللُّغَةِ: نَقِيضُ الْجُلُوسِ) .
وَاللَّيْل فِي اللُّغَةِ مِنْ مَغْرِبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: قَضَاءُ اللَّيْل وَلَوْ سَاعَةً بِالصَّلاَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَغْرِقًا لأَِكْثَرِ اللَّيْل.
وَيَرَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ يَحْصُل بِصَلاَةِ الْعِشَاءِ جَمَاعَةً وَالْعَزْمِ عَلَى صَلاَةِ الصُّبْحِ جَمَاعَةً، لِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْل، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْل كُلَّهُ (2) » .
وَجَاءَ فِي مَرَاقِي الْفَلاَحِ: مَعْنَى الْقِيَامِ أَنْ يَكُونَ مُشْتَغِلاً مُعْظَمَ اللَّيْل بِطَاعَةٍ، وَقِيل: سَاعَةً مِنْهُ، يَقْرَأُ الْقُرْآنَ أَوْ يَسْمَعُ الْحَدِيثَ أَوْ
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير.
(2) حديث: " من صلى العشاء في جماعة. . . ". أخرجه مسلم (1 / 454) من حديث عثمان بن عفان.

(34/117)


يُسَبِّحُ أَوْ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّهَجُّدُ:
2 - التَّهَجُّدُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْهُجُودِ، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّوْمِ وَالسَّهَرِ: يُقَال: هَجَدَ: نَامَ بِاللَّيْل، فَهُوَ هَاجِدٌ، وَالْجَمْعُ هُجُودٌ، وَهَجَدَ: صَلَّى بِاللَّيْل، وَيُقَال تَهَجَّدَ: إِذَا نَامَ، وَتَهَجَّدَ إِذَا صَلَّى، فَهُوَ مِنَ الأَْضْدَادِ، وَمِنْهُ قِيل لِصَلاَةِ اللَّيْل: التَّهَجُّدُ (2) .
قَال الأَْزْهَرِيُّ: الْمَعْرُوفُ فِي كَلاَمِ الْعَرَبِ: أَنَّ الْهَاجِدَ هُوَ النَّائِمُ، هَجَدَ، هُجُودًا إِذَا نَامَ، وَأَمَّا الْمُتَهَجِّدُ فَهُوَ الْقَائِمُ إِلَى الصَّلاَةِ مِنَ النَّوْمِ، وَكَأَنَّهُ قِيل لَهُ مُتَهَجِّدٌ لإِِلْقَائِهِ الْهُجُودَ عَنْ نَفْسِهِ (3) .
وَقَدْ فَسَّرَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَمُجَاهِدٌ، قَوْله تَعَالَى: {نَاشِئَةَ اللَّيْل} ، بِالْقِيَامِ لِلصَّلاَةِ مِنَ النَّوْمِ، فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِلتَّهَجُّدِ (4) .
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ: فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ التَّهَجُّدَ فِي
__________
(1) مراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص219 ط. المطبعة العثمانية، وابن عابدين 1 / 460 - 461. ط. دار إحياء التراث العربي.
(2) مختار الصحاح، والمصباح المنير.
(3) لسان العرب.
(4) تفسير القرطبي 19 / 39.

(34/118)


الاِصْطِلاَحِ هُوَ صَلاَةُ التَّطَوُّعِ فِي اللَّيْل بَعْدَ النَّوْمِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: يَحْسِبُ أَحَدُكُمْ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْل يُصَلِّي حَتَّى يُصْبِحَ أَنَّهُ قَدْ تَهَجَّدَ، إِنَّمَا التَّهَجُّدُ: الْمَرْءُ يُصَلِّي الصَّلاَةَ بَعْدَ رَقْدَةٍ (1) ، وَقِيل: إِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى صَلاَةِ اللَّيْل مُطْلَقًا (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَهَجُّدٌ ف 4 - 6) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ قِيَامِ اللَّيْل وَالتَّهَجُّدِ: أَنَّ قِيَامَ اللَّيْل أَعَمُّ مِنَ التَّهَجُّدِ (3) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ قِيَامِ اللَّيْل، وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَمَنْدُوبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (4) .
وَاخْتَلَفُوا فِي فَرْضِيَّتِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (اخْتِصَاصٌ ف 4) .
كَمَا صَرَّحُوا بِأَنَّ صَلاَةَ اللَّيْل أَفْضَل مِنْ صَلاَةِ النَّهَارِ، قَال أَحْمَدُ: لَيْسَ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ عِنْدِي أَفْضَل مِنْ قِيَامِ اللَّيْل، وَقَدْ صَرَّحَتِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 459. ومغني المحتاج 1 / 228.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 211.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 460.
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 460، الفواكه الدواني 2 / 360 - 361، والمجموع 4 / 47، وكشاف القناع 1 / 435.

(34/118)


الأَْحَادِيثُ بِفَضْلِهِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ، كَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْل، فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ قُرْبَةٌ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الإِْثْمِ (1) .

الْوَقْتُ الأَْفْضَل لِقِيَامِ اللَّيْل:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ قِيَامَ اللَّيْل لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ، سَوَاءٌ سَبَقَهُ نَوْمٌ أَوْ لَمْ يَسْبِقْهُ، وَأَنَّ كَوْنَهُ بَعْدَ النَّوْمِ أَفْضَل.
وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَفْضَل الأَْوْقَاتِ لِقِيَامِ اللَّيْل عَلَى أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الأَْفْضَل مُطْلَقًا السُّدُسُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ مِنَ اللَّيْل، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْل، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا (2) .
وَأَمَّا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَل اللَّيْل نِصْفَيْنِ:
__________
(1) حديث: " عليكم بقيام الليل. . . ". أخرجه الحاكم (1 / 308) من حديث أبي أمامة الباهلي، وصححه ووافقه الذهبي.
(2) حديث عبد الله بن عمرو: " أحب الصلاة إلى الله صلاة داود. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 16) .

(34/119)


أَحَدَهُمَا لِلنَّوْمِ، وَالآْخَرَ لِلْقِيَامِ، فَالنِّصْفُ الأَْخِيرُ أَفْضَل، لِقِلَّةِ الْمَعَاصِي فِيهِ غَالِبًا، وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَنْزِل رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُل لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْل الآْخِرِ، يَقُول: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مِنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ (1) .
وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ أَثْلاَثًا، فَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ ثُلُثَيْهِ، فَالثُّلُثُ الأَْوْسَطُ أَفْضَل مِنْ طَرَفَيْهِ؛ لأَِنَّ الْغَفْلَةَ فِيهِ أَتَمُّ، وَالْعِبَادَةَ فِيهِ أَثْقَل، وَالْمُصَلِّينَ فِيهِ أَقَل، وَلِهَذَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ مِثْل الشَّجَرَةِ الْخَضْرَاءِ فِي وَسَطِ الشَّجَرِ (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الأَْفْضَل قِيَامُ ثُلُثِ اللَّيْل الآْخِرِ لِمَنْ تَكُونُ عَادَتُهُ الاِنْتِبَاهَ آخِرَ اللَّيْل، أَمَّا مَنْ كَانَ غَالِبُ حَالِهِ أَنْ لاَ يَنْتَبِهَ آخِرَهُ، فَالأَْفْضَل أَنْ يَجْعَلَهُ أَوَّل اللَّيْل احْتِيَاطًا (3) .
أَمَّا اللَّيْل كُلُّهُ، فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ قِيَامِهِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا:
__________
(1) حديث: " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 29) ومسلم (1 / 521) .
(2) حديث: " ذكر الله في الغافلين مثل الشجرة الخضراء. . . ". أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (6 / 181) وضعف إسناده العراقي كما في فيض القدير للمناوي (3 / 559) .
(3) ابن عابدين 1 / 460، والفواكه الدواني 1 / 234 دار المعرفة، وحاشية الجمل 1 / 495، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 162، والمغني لابن قدامة 2 / 136، ونيل المآرب 1 / 162.

(34/119)


لاَ أَعْلَمُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ، وَلاَ صَلَّى لَيْلَةً إِلَى الصُّبْحِ، وَلاَ صَامَ شَهْرًا كَامِلاً غَيْرَ رَمَضَانَ (1) .
وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْل؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُول اللَّهِ، فَقَال: فَلاَ تَفْعَل، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنْ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا (2) .
وَاسْتَثْنَوْا لَيَالِيَ مَخْصُوصَةً لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَخَل الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْل وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ (3) .

عَدَدُ رَكَعَاتِهِ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ افْتِتَاحُ قِيَامِ اللَّيْل بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، لِمَا رَوَى
__________
(1) حديث عائشة: " لا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة. . . ". أخرجه مسلم (1 / 514) .
(2) حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو بن العاص: " ألم أخبر أنك تصوم بالنهار. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 218) .
(3) حديث عائشة: " كان إذا دخل العشر أحيا الليل. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 269) ومسلم (2 / 832) واللفظ لمسلم.

(34/120)


أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْل فَلْيَفْتَتِحْ صَلاَتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ (1) .
وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مُنْتَهَى رَكَعَاتِهِ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ (2) ، وَهُوَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَشْرُ رَكَعَاتٍ، أَوِ اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ حَصْرَ لِعَدَدِ رَكَعَاتِهِ (4) لِخَبَرِ: الصَّلاَةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَسْتَكْثِرَ فَلْيَسْتَكْثِرْ (5) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي عَدَدِ رَكَعَاتِ صَلاَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْل (6) : قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْل ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً (7) ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: مَا كَانَ
__________
(1) حديث: " إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين ". أخرجه مسلم (1 / 532) .
(2) ابن عابدين 1 / 460 ط. دار إحياء التراث العربي، وفتح القدير 1 / 390 دار إحياء التراث العربي.
(3) الفواكه الدواني 1 / 234 ط. دار المعرفة، والمغني لابن قدامة 1 / 138.
(4) نهاية المحتاج للرملي 2 / 134 - 148.
(5) حديث: " الصلاة خير موضوع. . . ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (2 / 249) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبد المنعم بن بشير وهو ضعيف.
(6) المغني 2 / 138 ط. مطبعة الرياض الحديثة، وانظر نيل المآرب 1 / 163.
(7) حديث ابن عباس: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة. ". أخرجه مسلم (1 / 531) .

(34/120)


رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلاَ فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً: يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسْأَل عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلاَ تَسْأَل عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاَثًا (1) ، وَفِي لَفْظٍ قَالَتْ: كَانَتْ صَلاَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ بِاللَّيْل ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، مِنْهَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ (2) .
وَفِي كُل ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ (تَهَجُّدٌ ف 6، وَصَلاَةُ التَّرَاوِيحِ ف 11) .
وَهَل يُصَلِّي أَرْبَعًا أَرْبَعًا، أَوْ مَثْنَى مَثْنَى؟
ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ يُصَلِّي مَثْنَى مَثْنَى، احْتِجَاجًا بِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: صَلاَةُ اللَّيْل مَثْنَى مَثْنَى (3) . . .؛ وَلأَِنَّ عَمَل الأُْمَّةِ فِي التَّرَاوِيحِ مَثْنَى مَثْنَى، مِنْ لَدُنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، فَدَل أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَل.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يُصَلَّى أَرْبَعًا أَرْبَعًا،
__________
(1) حديث عائشة: " ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 33) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1 / 282) .
(2) حديث: " كانت صلاته صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان وغيره. . . ". أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1 / 282) .
(3) حديث: " صلاة الليل مثنى مثنى. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 477) ، ومسلم (1 / 516) .

(34/121)


لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا السَّابِقِ (1) .
وَقَال الْمَوْصِلِيُّ: صَلاَةُ اللَّيْل رَكْعَتَانِ بِتَسْلِيمَةٍ، أَوْ سِتٌّ أَوْ ثَمَانٍ؛ لأَِنَّ كُل ذَلِكَ نُقِل فِي تَهَجُّدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُنْقَل (2) .

تَرْكُ قِيَامِ اللَّيْل لِمُعْتَادِهِ:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَرْكُ تَهَجُّدٍ اعْتَادَهُ بِلاَ عُذْرٍ (3) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: يَا عَبْدَ اللَّهِ لاَ تَكُنْ مِثْل فُلاَنٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْل فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْل (4) ، فَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ الأَْخْذُ مِنَ الْعَمَل بِمَا يُطِيقُهُ، وَلِذَا قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحَبُّ الأَْعْمَال إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَل (5) .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 294 - 295، وابن عابدين 1 / 460، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد 1 / 255.
(2) الاختيار 1 / 67.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 460، والإقناع للشربيني الخطيب 1 / 107 ط. دار المعرفة، وحاشية الجمل 1 / 496، والمغني لابن قدامة 2 / 140 - 141 ط. الرياض الحديثة.
(4) حديث: " يا عبد الله لا تكن مثل فلان. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 37) ، ومسلم (2 / 814) .
(5) حديث: " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 294) ، ومسلم (1 / 541) من حديث عائشة واللفظ لمسلم.

(34/121)


النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلاَةً دَاوَمَ عَلَيْهَا (1) .
وَقَالَتْ: كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً (2) ، وَقَالَتْ: كَانَ إِذَا عَمِل عَمَلاً أَثْبَتَهُ (3) .

الاِجْتِمَاعُ لِقِيَامِ اللَّيْل:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ جَمَاعَةً وَفُرَادَى؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَل الأَْمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا.
وَالأَْفْضَل فِي غَيْرِ التَّرَاوِيحِ الْمَنْزِل، لِحَدِيثِ: عَلَيْكُمْ بِالصَّلاَةِ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ خَيْرَ صَلاَةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ (4) .
وَفِي رِوَايَةٍ: صَلاَةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَل مِنْ صَلاَتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ (5) .
وَلَكِنْ إِذَا كَانَ فِي بَيْتِهِ مَا يَشْغَل بَالَهُ، وَيُقَلِّل خُشُوعَهُ، فَالأَْفْضَل أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي الْمَسْجِدِ فُرَادَى؛ لأَِنَّ اعْتِبَارَ الْخُشُوعِ أَرْجَحُ (6) .
__________
(1) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة دوام عليها ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 213) من حديث عائشة.
(2) حديث: " كان عمله ديمة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 294) ، ومسلم (1 / 541) .
(3) حديث: " كان إذا عمل عملاً أثبته ". أخرجه مسلم (1 / 515) .
(4) حديث: " عليكم بالصلاة في بيوتكم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 517) ، ومسلم (1 / 540) من حديث زيد بن ثابت.
(5) حديث: " صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 632 - 633) .
(6) حاشية ابن عابدين 1 / 458 ط. دار إحياء التراث العربي، وحاشية الجمل 1 / 478، والمغني لابن قدامة 2 / 242.

(34/122)


وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ الْجَمَاعَةِ فِي التَّطَوُّعِ إِذَا كَانَ عَلَى سَبِيل التَّدَاعِي، بِأَنْ يَقْتَدِيَ أَرْبَعَةٌ بِوَاحِدٍ (1) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ الْجَمْعُ فِي النَّافِلَةِ غَيْرِ التَّرَاوِيحِ إِنْ كَثُرَتِ الْجَمَاعَةُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَكَانُ الَّذِي أُرِيدَ الْجَمْعُ فِيهِ مُشْتَهِرًا كَالْمَسْجِدِ، أَوْ لاَ كَالْبَيْتِ، أَوْ قَلَّتِ الْجَمَاعَةُ وَكَانَ الْمَكَانُ مُشْتَهِرًا، وَذَلِكَ لِخَوْفِ الرِّيَاءِ.
فَإِنْ قَلَّتْ وَكَانَ الْمَكَانُ غَيْرَ مُشْتَهِرٍ فَلاَ كَرَاهَةَ، إِلاَّ فِي الأَْوْقَاتِ الَّتِي صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ بِبِدْعَةِ الْجَمْعِ فِيهَا، كَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَأَوَّل جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَلَيْلَةِ عَاشُورَاءَ، فَإِنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي الْكَرَاهَةِ مُطْلَقًا (2) .

قِيَامُ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ:
8 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى نَدْبِ إِحْيَاءِ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ (3) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ تَخْصِيصُ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ. أَيْ بِصَلاَةٍ (4) ، لِحَدِيثِ: لاَ تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي (5) .
أَمَّا تَخْصِيصُ غَيْرِهَا، سَوَاءٌ كَانَ بِالصَّلاَةِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 476.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 136، 137.
(3) مراقي الفلاح ص219.
(4) حاشية الجمل 1 / 496، 497.
(5) حديث: " لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ". أخرجه مسلم (2 / 801) من حديث أبي هريرة.

(34/122)


أَوْ بِغَيْرِهَا، فَلاَ يُكْرَهُ.
وَكَذَلِكَ لاَ يُكْرَهُ تَخْصِيصُ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ بِغَيْرِ الصَّلاَةِ، كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوِ الذِّكْرِ، أَوِ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .

قِيَامُ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ قِيَامُ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ (2) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَامَ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ مُحْتَسِبًا لِلَّهِ لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْيَاءُ اللَّيْل ف 11) .

قِيَامُ لَيَالِي رَمَضَانَ:
10 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي سُنِّيَّةِ قِيَامِ لَيَالِي رَمَضَانَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ (4) .
وَقَال الْفُقَهَاءُ: إِنَّ التَّرَاوِيحَ هِيَ قِيَامُ رَمَضَانِ، وَلِذَلِكَ فَالأَْفْضَل اسْتِيعَابُ أَكْثَرِ
__________
(1) حاشية الجمل 1 / 497.
(2) مراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص218، وابن عابدين 1 / 460، والمجموع 4 / 45، وشرح المنهاج 2 / 172، الشرح الصغير 1 / 527، وكشف المخدرات ص86.
(3) حديث: " من قام ليلتي العيدين محتسبًا. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 567) من حديث أبي أمامة، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 313) .
(4) حديث: " من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 92) ، ومسلم (1 / 523) من حديث أبي هريرة.

(34/123)


اللَّيْل بِهَا؛ لأَِنَّهَا قِيَامُ اللَّيْل (1) .

قِيَامُ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَالاِجْتِمَاعُ لَهُ:
11 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى نَدْبِ قِيَامِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ (2) ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَقُومُوا لَيْلَهَا، وَصُومُوا نَهَارَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْزِل فِيهَا لِغُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُول: أَلاَ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ لِي فَأَغْفِرَ لَهُ، أَلاَ مِنْ مُسْتَرْزِقٍ فَأَرْزُقَهُ، أَلاَ مُبْتَلًى فَأُعَافِيَهُ. . . أَلاَ كَذَا. . . أَلاَ كَذَا. . . حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي (إِحْيَاءُ اللَّيْل ف 13) .

قِيَامُ لَيَالِي الْعَشْرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ:
12 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ قِيَامُ اللَّيَالِيِ الْعَشْرِ الأُْوَّل مِنْ ذِي الْحِجَّةِ (4) ،
__________
(1) مراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص218، وابن عابدين 1 / 460، والاختيار 1 / 69، وحاشية الدسوقي 1 / 315، وحاشية الجمل 1 / 496، ومغني المحتاج 1 / 227، والمغني لابن قدامة 2 / 166.
(2) مراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص219، ومواهب الجليل 1 / 74، والفروع 1 / 440، وإحياء علوم الدين 3 / 423.
(3) حديث: " إذا كانت ليلة النصف من شعبان. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 444) من حديث علي بن أبي طالب، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 247) : هذا إسناد فيه لين ابن أبي سبرة، واسمه أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة قال أحمد: وابن معين يضع الحديث.
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 460، ومراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص 219، والفروع 1 / 398.

(34/123)


لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، يَعْدِل صِيَامُ كُل يَوْمٍ مِنْهَا بِصِيَامِ سَنَةٍ، وَقِيَامُ كُل لَيْلَةٍ مِنْهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) .

قِيَامُ أَوَّل لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ:
13 - يَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ قِيَامُ أَوَّل لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ؛ لأَِنَّهَا مِنَ اللَّيَالِي الْخَمْسِ الَّتِي لاَ يُرَدُّ فِيهَا الدُّعَاءُ، وَهِيَ: لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ، وَأَوَّل لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَلَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَيْلَتَا الْعِيدِ (2) .

مَا يُسْتَحَبُّ فِي قِيَامِ اللَّيْل:
يُسْتَحَبُّ فِي قِيَامِ اللَّيْل مَا يَلِي:

أ - الاِفْتِتَاحُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ:
14 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِقَائِمِ اللَّيْل أَنْ يَفْتَتِحَ تَهَجُّدَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ (3) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْل فَلْيَفْتَتِحْ صَلاَتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ
__________
(1) حديث: " ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد فيها. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 122) ، وأورده الذهبي في الميزان (4 / 100) في ترجمة أحد رواته، وذكر تضعيف ذلك الراوي وكذا ضعف راويًا آخر.
(2) مراقي الفلاح 219، والفروع 1 / 438.
(3) حاشية الجمل 1 / 496، والمغني 2 / 138، ونيل المآرب 1 / 163.

(34/124)


خَفِيفَتَيْنِ (1) ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: لأََرْمُقَنَّ صَلاَةَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّيْلَةَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ. . . الْحَدِيثَ (2) .

ب - مَا يَقُولُهُ الْقَائِمُ لِلتَّهَجُّدِ:
15 - اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَقُولُهُ قَائِمُ اللَّيْل إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْل يَتَهَجَّدُ، تَبَعًا لاِخْتِلاَفِ الرِّوَايَاتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَال سُلَيْمَانُ الْجَمَل: إِنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْسَحَ الْمُسْتَيْقِظُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَأَنْ يَنْظُرَ إِلَى السَّمَاءِ وَلَوْ أَعْمَى وَتَحْتَ سَقْفٍ، وَأَنْ يَقْرَأَ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ} إِلَى آخِرِ الآْيَاتِ (3) .
وَعَنْ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ تَعَارَّ اسْتَيْقَظَ (4) ، مِنَ اللَّيْل فَقَال: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، ثُمَّ قَال:
__________
(1) حديث: " إذا قام أحدكم من الليل. . . ". تقدم تخريجه ف / 5.
(2) حديث زيد بن خالد " لأرمقن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ". أخرجه مسلم (1 / 531 - 532) .
(3) حاشية الجمل 1 / 496، والمغني لابن قدامة 2 / 137، ونيل المآرب 1 / 162.
(4) النهاية لابن الأثير.

(34/124)


اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا، اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلاَتُهُ (1) .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْل يَتَهَجَّدُ، قَال: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَوْ لاَ إِلَهَ غَيْرُكَ وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: " وَلاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ (2) ".

ج - كَيْفِيَّةُ الْقِرَاءَةِ فِي قِيَامِ اللَّيْل:
16 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ قَائِمَ اللَّيْل
__________
(1) حديث عباد بن الصامت: " من تعار من الليل. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 39) .
(2) حديث ابن عباس: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 3) ، ومسلم (1 / 532 - 533) واللفظ للبخاري.

(34/125)


مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ وَالإِْسْرَارِ بِهَا، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: إِنَّ الْجَهْرَ أَفْضَل مَا لَمْ يُؤْذِ نَائِمًا وَنَحْوَهُ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الْجَهْرُ أَنْشَطَ لَهُ فِي الْقِرَاءَةِ، أَوْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ، أَوْ يَنْتَفِعُ بِهَا، فَالْجَهْرُ أَفْضَل، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ مَنْ يَتَهَجَّدُ، أَوْ مَنْ يَسْتَضِرُّ بِرَفْعِ صَوْتِهِ، فَالإِْسْرَارُ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لاَ هَذَا وَلاَ هَذَا فَلْيَفْعَل مَا شَاءَ (1) ، قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَيْسٍ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، كَيْفَ كَانَ قِرَاءَةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: كُل ذَلِكَ قَدْ كَانَ يَفْعَل، رُبَّمَا أَسَرَّ بِالْقِرَاءَةِ، وَرُبَّمَا جَهَرَ (2) ، وَقَال أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللَّيْل يَرْفَعُ طَوْرًا وَيَخْفِضُ طَوْرًا (3) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ الْجَهْرُ فِي صَلاَةِ اللَّيْل مَا لَمْ يُشَوِّشْ عَلَى مُصَلٍّ آخَرَ، وَإِلاَّ حَرُمَ، وَالسِّرُّ فِيهَا خِلاَفُ الأَْوْلَى.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ التَّوَسُّطُ بَيْنَ الإِْسْرَارِ
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 138، والمغني لابن قدامة 2 / 139.
(2) حديث عبد الله بن أبي قيس: " سألت عائشة رضي الله عنها: كيف كان قراءة النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 311) وقال: " حديث حسن صحيح ".
(3) حديث أبي هريرة: " كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل يرفع طورًا ويخفض طورًا ". أخرجه أبو داود (2 / 81) ، والحاكم (م 1 / 310) وصححه ووافقه الذهبي.

(34/125)


وَالْجَهْرِ إِنْ لَمْ يُشَوِّشْ عَلَى نَائِمٍ أَوْ مُصَلٍّ أَوْ نَحْوِهِمَا (1) .

د - إِيقَاظُ مِنْ يُرْجَى تَهَجُّدُهُ:
17 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَامَ يَتَهَجَّدُ أَنْ يُوقِظَ مَنْ يَطْمَعُ فِي تَهَجُّدِهِ إِذَا لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا (2) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْل وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ (3) .

هـ - إِطَالَةُ الْقِيَامِ وَتَكْثِيرُ الرَّكَعَاتِ:
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ فِي قَوْلٍ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ طُول الْقِيَامِ أَفْضَل مِنْ كَثْرَةِ الْعَدَدِ، فَمَنْ صَلَّى أَرْبَعًا مَثَلاً وَطَوَّل الْقِيَامَ أَفْضَل مِمَّنْ صَلَّى ثَمَانِيًا وَلَمْ يُطَوِّلْهُ، لِلْمَشَقَّةِ الْحَاصِلَةِ بِطُول الْقِيَامِ، وَلِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْضَل الصَّلاَةِ طُول الْقُنُوتِ (4) وَالْقُنُوتُ: الْقِيَامُ.
؛ وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَكْثَرُ صَلاَتِهِ التَّهَجُّدَ، وَكَانَ يُطِيلُهُ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يُدَاوِمُ إِلاَّ عَلَى الأَْفْضَل.
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 313، وحاشية الجمل 1 / 496.
(2) حاشية الجمل 1 / 496.
(3) حديث: " من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 147) ، والحاكم (1 / 316) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(4) حديث: " أفضل الصلاة طول القنوت ". أخرجه مسلم (1 / 520) من حديث جابر بن عبد الله.

(34/126)


وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ قَوْلَهُمْ: هَذَا إِنْ صَلَّى قَائِمًا، فَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَالأَْقْرَبُ أَنَّ كَثْرَةَ الْعَدَدِ أَفْضَل، لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْقُعُودِ الَّذِي لاَ مَشَقَّةَ فِيهِ، حَيْثُ زَادَتْ كَثْرَةُ الْعَدَدِ بِالرُّكُوعَاتِ وَالسُّجُودَاتِ وَغَيْرِهَا.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وِرْدٌ فَطُول الْقِيَامِ أَفْضَل، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لَهُ وِرْدٌ مِنَ الْقُرْآنِ يَقْرَؤُهُ، فَكَثْرَةُ السُّجُودِ أَفْضَل (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ الأَْفْضَل كَثْرَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ، فَإِنَّكَ لاَ تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلاَّ رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً (2) ؛ وَلأَِنَّ السُّجُودَ فِي نَفْسِهِ أَفْضَل وَآكَدُ، بِدَلِيل أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَل، وَلاَ يُبَاحُ بِحَالٍ إِلاَّ لِلَّهِ تَعَالَى، بِخِلاَفِ الْقِيَامِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ فِي النَّفْل، وَيُبَاحُ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ لِلْوَالِدَيْنِ، وَالْحَاكِمِ، وَسَيِّدِ الْقَوْمِ وَالاِسْتِكْثَارُ مِمَّا هُوَ آكَدُ وَأَفْضَل أَوْلَى.
وَلِلْحَنَابِلَةِ وَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، لِتَعَارُضِ الأَْخْبَارِ فِي ذَلِكَ (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 295.
(2) حديث: " عليك بكثرة السجود. . . ". أخرجه مسلم (1 / 353) من حديث ثوبان.
(3) بدائع الصنائع 1 / 215، وحاشية الدسوقي 1 / 319، وحاشية الجمل 1 / 493، والمغني لابن قدامة 2 / 140 - 141، ونيل المآرب 1 / 163.

(34/126)


و - نِيَّةُ قِيَامِ اللَّيْل عِنْدَ النَّوْمِ:
19 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ أَنْ يَنْوِيَ الشَّخْصُ قِيَامَ اللَّيْل عِنْدَ النَّوْمِ (1) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْل فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَل (2) .
__________
(1) حاشية الجمل 1 / 496، ونيل المآرب 1 / 163.
(2) حديث: " من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم. . . ". أخرجه النسائي (3 / 258) والحاكم (1 / 311) من حديث أبي الدرداء، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.

(34/127)


قَيْحٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَيْحُ فِي اللُّغَةِ: الْمِدَّةُ الْخَالِصَةُ الَّتِي لاَ يُخَالِطُهَا دَمٌ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصَّدِيدُ:
2 - الصَّدِيدُ هُوَ مَاءُ الْجُرْحِ الرَّقِيقُ الْمُخْتَلِطُ بِدَمٍ قَبْل أَنْ تَغْلُظَ الْمِدَّةُ (3) ، وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصَّدِيدَ يَكُونُ فِي الْجُرْحِ قَبْل الْقَيْحِ.

ب - الدَّمُ:
3 - الدَّمُ - بِالتَّخْفِيفِ - هُوَ ذَلِكَ السَّائِل الأَْحْمَرُ الَّذِي يَجْرِي فِي عُرُوقِ الْحَيَوَانَاتِ وَعَلَيْهِ
__________
(1) لسان العرب مادة (قيح) .
(2) حاشية الدسوقي 1 / 56، والحطاب 1 / 104، ومغني المحتاج 1 / 79.
(3) المصباح المنير، والمعجم الوسيط، ولسان العرب مادة (صدد) .

(34/127)


تَقُومُ الْحَيَاةُ (1) .
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ الدَّمَ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ بِمَعْنَى الْقِصَاصِ وَالْهَدْيِ (2) .
وَالدَّمُ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل أَصْل الْقَيْحِ.

الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْقَيْحِ:

(حُكْمُ الْقَيْحِ مِنْ حَيْثُ النَّجَاسَةُ وَالطَّهَارَةُ:)
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَيْحَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَدَنِ الإِْنْسَانِ فَهُوَ نَجِسٌ؛ لأَِنَّهُ مِنَ الْخَبَائِثِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} ، وَالطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ تَسْتَخْبِثُهُ، وَالتَّحْرِيمُ لاَ لِلاِحْتِرَامِ دَلِيل النَّجَاسَةِ؛ لأَِنَّ مَعْنَى النَّجَاسَةِ مَوْجُودٌ فِي الْقَيْحِ إِذِ النَّجِسُ اسْمٌ لِلْمُسْتَقْذَرِ وَهَذَا مِمَّا تَسْتَقْذِرُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ لاِسْتِحَالَتِهِ إِلَى خَبَثٍ وَنَتْنِ رَائِحَةٍ؛ وَلأَِنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ الدَّمِ وَالدَّمُ نَجِسٌ (3) .

انْتِقَاضُ الْوُضُوءِ بِالْقَيْحِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِالْقَيْحِ، فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُنْتَقَضُ
__________
(1) متن اللغة، ولسان العرب، ومختار الصحاح مادة (دمي) .
(2) الاختيار 1 / 30، 43، والقوانين الفقهية ص44، 137، وروضة الطالبين 1 / 134، 174.
(3) بدائع الصنائع 1 / 60، وحاشية الدسوقي 1 / 56 ط. دار الفكر، ومغني المحتاج 1 / 77 - 79 ط. مصطفى الحلبي، والمغني لابن قدامة 1 / 186 ط. الرياض، والإنصاف 1 / 325.

(34/128)


الْوُضُوءُ بِخُرُوجِ الْقَيْحِ مِنَ الْبَدَنِ؛ لأَِنَّ النَّجَاسَةَ الَّتِي تَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَهُمْ هِيَ مَا خَرَجَتْ مِنَ السَّبِيلَيْنِ فَقَطْ، فَلاَ يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِالنَّجَاسَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ كَالْحِجَامَةِ وَالْقَيْحِ؛ لِمَا رُوِيَ: أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَسَا الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ فَقَامَ أَحَدُهُمَا يُصَلِّي فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْكُفَّارِ بِسَهْمٍ فَنَزَعَهُ وَصَلَّى وَدَمُهُ يَجْرِي (1) . وَعَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ خُرُوجَ الْقَيْحِ مِنَ الْبَدَنِ إِلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، قَال السَّرَخْسِيُّ: لَوْ تَوَرَّمَ رَأْسُ الْجُرْحِ فَظَهَرَ بِهِ قَيْحٌ وَنَحْوُهُ لاَ يَنْقُضُ مَا لَمْ يَتَجَاوَزِ الْوَرَمَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجِبُ غَسْل مَوْضِعِ الْوَرَمِ فَلَمْ يَتَجَاوَزْ إِلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ؛ لأَِنَّ الدَّمَ إِذَا لَمْ يَسِل كَانَ فِي مَحَلِّهِ؛ لأَِنَّ الْبَدَنَ مَحَل الدَّمِ وَالرُّطُوبَاتِ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَتِرًا بِالْجِلْدَةِ وَانْشِقَاقُهَا يُوجِبُ زَوَال السُّتْرَةِ لاَ زَوَال الدَّمِ عَنْ مَحَلِّهِ وَلاَ حُكْمَ لِلنَّجِسِ مَا دَامَ فِي مَحَلِّهِ وَكَذَا هَاهُنَا، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ تَجُوزُ الصَّلاَةُ مَعَ مَا
__________
(1) حديث: " أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حرسا المسلمين في غزوة ذات الرقاع. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 136) ، والحاكم (1 / 157) من حديث جابر بن عبد الله وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 115، وشرح الزرقاني 1 / 43، والإقناع شرح أبي شجاع 1 / 54. ط. مصطفى الحلبي، والغاية القصوى 1 / 214. ط. دار الإصلاح، ومغني المحتاج 1 / 32.

(34/128)


فِي الْبَطْنِ مِنَ الأَْنْجَاسِ (1) .
وَقَال زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ سَوَاءٌ سَال الْقَيْحُ أَوْ لَمْ يَسِل؛ لأَِنَّ ظُهُورَ النَّجِسِ اعْتُبِرَ حَدَثًا فِي السَّبِيلَيْنِ سَال عَنْ رَأْسِ الْمَخْرَجِ أَوْ لَمْ يَسِل كَذَا فِي غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ (2) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ انْتِقَاضُ الْوُضُوءِ بِالْقَيْحِ إِلاَّ أَنَّ الَّذِي يَنْقُضُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْكَثِيرُ مِنْ ذَلِكَ دُونَ الْيَسِيرِ، أَمَّا كَوْنُ الْكَثِيرِ يَنْقُضُ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ، فَتَوَضَّئِي لِكُل صَلاَةٍ (3) ؛ وَلأَِنَّهَا نَجَاسَةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْبَدَنِ أَشْبَهَتِ الْخَارِجَ مِنَ السَّبِيل، وَأَمَّا كَوْنُ الْيَسِيرِ مِنْ ذَلِكَ لاَ يَنْقُضُ فَلِمَفْهُومِ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الدَّمِ: إِذَا كَانَ فَاحِشًا فَعَلَيْهِ الإِْعَادَةُ.
قَال أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إِنَّ الْكَثِيرَ هُوَ مَا فَحُشَ فِي نَفْسِ كُل أَحَدٍ بِحَسْبِهِ، لِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " الْفَاحِشُ مَا فَحُشَ فِي قَلْبِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ يَنْقُضُ قَل أَوْ كَثُرَ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 25، والعناية بهامش فتح القدير 1 / 25.
(2) المراجع السابقة.
(3) حديث: " إنما ذلك عرق. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 332) من حديث عائشة.
(4) كشاف القناع 1 / 124، والإنصاف 1 / 197، والمغني لابن قدامة 1 / 184.

(34/129)


صَلاَةُ مَنْ كَانَ فِي ثَوْبِهِ أَوْ بَدَنِهِ قَيْحٌ:
6 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْل جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِنْ أَصَابَ بَدَنَ الإِْنْسَانِ أَوْ ثَوْبَهُ شَيْءٌ مِنَ الْقَيْحِ فَإِنَّهُ لاَ تَجُوزُ الصَّلاَةُ إِنْ كَانَ كَثِيرًا؛ لأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ الصَّلاَةِ طَهَارَةَ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَالْمَكَانِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْقَيْحُ يَسِيرًا فَإِنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ يُعْفَى عَنِ الْيَسِيرِ وَتَجُوزُ الصَّلاَةُ بِهِ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ غَالِبًا لاَ يَسْلَمُ مِنْ مِثْل هَذَا؛ وَلأَِنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَدْرِ الْيَسِيرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ، انْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَدِيدٌ ف 17) .

قِيرَاط

انْظُرْ: مَقَادِير

(34/129)


قَيْلُولَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَيْلُولَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ قَال يَقِيل قَيْلاً وَقَيْلُولَةً، وَقَائِلَةً: نَامَ نِصْفَ النَّهَارِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: الْقَيْلُولَةُ هِيَ النَّوْمُ قَبْل الزَّوَال (2) .
وَقَال الْعَيْنِيُّ: الْقَيْلُولَةُ مَعْنَاهَا النَّوْمُ فِي الظَّهِيرَةِ (3) .
وَقَال الْمُنَاوِيُّ: الْقَيْلُولَةُ: النَّوْمُ وَسْطَ النَّهَارِ عِنْدَ الزَّوَال وَمَا قَارَبَهُ مِنْ قَبْل أَوْ بَعْدُ (4) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - نَوْمُ الْقَائِلَةِ مُسْتَحَبٌّ (5) .
قَال الْمَوْصِلِيُّ: تُسْتَحَبُّ الْقَيْلُولَةُ (6) .
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير.
(2) الإقناع للشربيني الخطيب 1 / 106.
(3) عمدة القاري 6 / 201.
(4) فيض القدير 1 / 494.
(5) عمدة القاري 6 / 253.
(6) الاختيار 4 / 168.

(34/130)


قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: قِيلُوا فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لاَ تَقِيل (1) ، وَقَال: اسْتَعِينُوا بِطَعَامِ السَّحَرِ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ، وَبِالْقَيْلُولَةِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْل (2) ، يَعْنِي الصَّلاَةَ فِيهِ. وَهُوَ التَّهَجُّدُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ ذِكْرٍ وَقِرَاءَةٍ فَإِنَّ النَّفْسَ إِذَا أَخَذَتْ حَظَّهَا مِنْ نَوْمِ النَّهَارِ اسْتَقْبَلَتِ السَّهَرَ بِنَشَاطٍ وَقُوَّةِ انْبِسَاطٍ، فَأَفَادَ نَدْبَ التَّسَحُّرِ وَالنَّوْمِ وَسْطَ النَّهَارِ وَبِقَصْدِ التَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ (3) .
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: يُسَنُّ لِلْمُتَهَجِّدِ الْقَيْلُولَةُ وَهِيَ النَّوْمُ قَبْل الزَّوَال وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ السُّحُورِ لِلصَّائِمِ (4) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: نَوْمٌ) .

الاِسْتِئْذَانُ لِلدُّخُول وَقْتَ الْقَيْلُولَةِ:
3 - وَقْتُ الْقَائِلَةِ هُوَ مِنَ الأَْوْقَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي عَادَةُ النَّاسِ الاِنْكِشَافَ فِيهَا وَمُلاَزَمَةَ التَّعَرِّي، وَهِيَ ثَلاَثَةُ أَوْقَاتٍ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {مِنْ قَبْل صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ
__________
(1) حديث: " قيلوا فإن الشياطين لا تقيل ". أخرجه أبو نعيم الأصبهاني في ذكر أخبار أصبهان (1 / 195) من حديث أنس بن مالك.
(2) حديث: " استعينوا بطعام السحر على صيام النهار ". أخرجه ابن ماجه (1 / 540) من حديث ابن عباس، وأورده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 302) ، وذكر أن في إسناده راويًا ضعيفًا.
(3) فيض القدير 1 / 494، والآداب للبيهقي ص277.
(4) القناع 1 / 106.

(34/130)


الْعِشَاءِ} ، فَمَا قَبْل الْفَجْرِ وَقْتُ انْتِهَاءِ النَّوْمِ وَوَقْتُ وَضْعِ ثِيَابِ النَّوْمِ وَلُبْسِ ثِيَابِ النَّهَارِ، وَوَقْتُ الْقَائِلَةِ وَقْتُ التَّجَرُّدِ أَيْضًا وَهِيَ الظَّهِيرَةُ، وَبَعْدَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ وَقْتُ التَّعَرِّي لِلنَّوْمِ فَالتَّكَشُّفُ غَالِبٌ فِي هَذِهِ الأَْوْقَاتِ، يُرْوَى أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ غُلاَمًا مِنَ الأَْنْصَارِ يُقَال لَهُ مُدْلِجٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ظَهِيرَةً لِيَدْعُوَهُ فَوَجَدَهُ نَائِمًا قَدْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ الْبَابَ فَدَقَّ الْغُلاَمُ الْبَابَ فَنَادَاهُ وَدَخَل فَاسْتَيْقَظَ عُمَرُ وَجَلَسَ فَانْكَشَفَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَقَال عُمَرُ: وَدِدْتُ أَنَّ اللَّهَ نَهَى أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا وَخَدَمَنَا عَنِ الدُّخُول عَلَيْنَا فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ إِلاَّ بِإِذْنٍ، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ هَذِهِ الآْيَةَ قَدْ أُنْزِلَتْ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْل صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} ، فَخَرَّ سَاجِدًا شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى (1) ، فَقَدْ أَدَّبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل عِبَادَهُ فِي هَذِهِ الآْيَةِ بِأَنْ يَكُونَ الْعَبِيدُ إِذْ لاَ بَال لَهُمْ، وَالأَْطْفَال الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ إِلاَّ أَنَّهُمْ عَقَلُوا مَعَانِيَ الْكَشْفَةِ
__________
(1) سبب نزول آية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) . أورده القرطبي في تفسيره (12 / 304) ولم يعزه إلى أي مصدر، وأورده البغوي في تفسيره (3 / 335) مختصرًا بدون إسناد.

(34/131)


وَنَحْوَهَا يَسْتَأْذِنُونَ عَلَى أَهْلِيهِمْ فِي هَذِهِ الأَْوْقَاتِ الثَّلاَثَةِ وَهِيَ الأَْوْقَاتُ الَّتِي تَقْتَضِي عَادَةُ النَّاسِ الاِنْكِشَافَ فِيهَا وَمُلاَزَمَةَ التَّعَرِّي (1) .
ثُمَّ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي هَذِهِ الآْيَةِ هَل هِيَ مُحْكَمَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ؟ فَقَال ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هِيَ مُحْكَمَةٌ: يَعْنِي فِي الرِّجَال خَاصَّةً، وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَدْ ذَهَبَ حُكْمُهَا. رَوَى عِكْرِمَةُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَهْل الْعِرَاقِ سَأَلُوا ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالُوا: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، كَيْفَ تَرَى فِي هَذِهِ الآْيَةِ الَّتِي أُمِرْنَا فِيهَا بِمَا أُمِرْنَا فَلاَ يَعْمَل بِهَا أَحَدٌ، قَوْل اللَّهِ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. . .} ، وَقَرَأَهَا. فَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ بِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ السَّتْرَ وَكَانَ النَّاسُ لَيْسَ لِبُيُوتِهِمْ سُتُورٌ وَلاَ حِجَالٌ (2) ، فَرُبَّمَا دَخَل الْخَادِمُ أَوْ وَلَدُهُ أَوْ يَتِيمُهُ، وَالرَّجُل عَلَى أَهْلِهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِالاِسْتِئْذَانِ فِي تِلْكَ الْعَوْرَاتِ. فَجَاءَهُمُ اللَّهُ بِالسُّتُورِ وَالْخَيْرِ، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَعْمَل بِذَلِكَ (3) .
__________
(1) تفسير القرطبي 12 / 304.
(2) الحجال: جمع الحجلة - بالتحريك - وهو بيت كالقبة يستر بالثياب.
(3) أحكام القرآن لابن العربي (3 / 1384) .

(34/131)


قِيمَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقِيمَةُ فِي اللُّغَةِ: الثَّمَنُ الَّذِي يُقَوَّمُ بِهِ الْمَتَاعُ، وَالْقِيمَةُ وَاحِدَةُ الْقِيَمِ، وَهِيَ ثَمَنُ الشَّيْءِ بِالتَّقْوِيمِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَا قُوِّمَ بِهِ الشَّيْءُ بِمَنْزِلَةِ الْمِعْيَارِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلاَ نُقْصَانٍ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الثَّمَنُ:
2 - الثَّمَنُ فِي اللُّغَةِ: الْعِوَضُ، وَالْجَمْعُ أَثْمَانٌ، وَثَمَّنْتُهُ تَثْمِينًا: جَعَلْتُ لَهُ ثَمَنًا، وَالثَّمَنُ: اسْمٌ لِمَا يَأْخُذُهُ الْبَائِعُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَبِيعِ، عَيْنًا كَانَ أَوْ سِلْعَةً، كُل مَا يَحْصُل عِوَضًا عَنْ شَيْءٍ فَهُوَ ثَمَنُهُ (3) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: مَا يَبْذُلُهُ الْمُشْتَرِي مِنْ عِوَضٍ لِلْحُصُول عَلَى الْمَبِيعِ، وَتُطْلَقُ الأَْثْمَانُ أَيْضًا عَلَى الدَّرَاهِمِ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، وتاج العروس.
(2) جواهر الإكليل 2 / 21. وحاشية ابن عابدين 4 / 51، 166.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، وتاج العروس.

(34/132)


وَالدَّنَانِيرِ (1) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالثَّمَنُ مَا يَقَعُ بِهِ التَّرَاضِي بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ سَوَاءٌ أَكَانَ مُسَاوِيًا لِلْقِيمَةِ أَمْ أَزْيَدَ مِنْهَا أَمْ أَنْقَصَ.

ب - السِّعْرُ:
3 - السِّعْرُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الَّذِي يُقَوَّمُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، وَالْجَمْعُ أَسْعَارٌ، وَقَدْ سَعَّرُوا: اتَّفَقُوا عَلَى سِعْرٍ، وَسَعَّرْتُ الشَّيْءَ تَسْعِيرًا: جَعَلْتُ لَهُ سِعْرًا مَعْلُومًا يَنْتَهِي إِلَيْهِ.
وَيُقَال: لَهُ سِعْرٌ: إِذَا زَادَتْ قِيمَتُهُ، وَلَيْسَ لَهُ سِعْرٌ: إِذَا أَفْرَطَ رُخْصُهُ، وَسِعْرُ السُّوقِ: مَا يَكُونُ شَائِعًا بَيْنَ التُّجَّارِ، وَالتَّسْعِيرُ: تَقْدِيرُ السُّلْطَانِ لِلنَّاسِ سِعْرًا مُحَدَّدًا (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ سِعْرٍ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالسِّعْرُ: مَا يُحَدِّدُهُ الْبَائِعُ ثَمَنًا لِلسِّلْعَةِ أَوْ مَا يُحَدِّدُهُ السُّلْطَانُ.
أَمَّا الْقِيمَةُ فَهِيَ مَا يُسَاوِيهِ الشَّيْءُ فِي تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ.

ج - الْمِثْل:
4 - الْمِثْل فِي اللُّغَةِ: الشَّبَهُ، يُقَال: هَذَا مِثْلُهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 134، والبحر الرائق 5 / 277.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، وتاج العروس.
(3) شرح منتهى الإرادات 2 / 156 - 157، وقواعد الفقه للبركتي ص321، وأسنى المطالب 2 / 38.

(34/132)


وَمَثَلُهُ كَمَا يُقَال: شَبِيهُهُ وَشَبَهُهُ (1) .
وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الْمِثْلِيَّ عَلَى مَا تَمَاثَلَتْ آحَادُهُ وَأَجْزَاؤُهُ مِنَ الأَْمْوَال بِحَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ دُونَ فَرْقٍ يُعْتَدُّ بِهِ.
وَفِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: هُوَ مَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي السُّوقِ بِدُونِ تَفَاوُتٍ يُعْتَدُّ بِهِ، وَهُوَ يَشْمَل الْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ، وَالْمِثْلِيُّ مِنَ الأَْمْوَال قَسِيمُ الْقِيَمِيِّ (2) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْقِيمَةُ يُقَدَّرُ بِهَا الأَْشْيَاءُ الْقِيَمِيَّةُ، أَمَّا الْمِثْل فَيُقَدَّرُ بِهِ الْمِثْلِيَّاتُ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِيمَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
مَا تَجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ:
تَجِبُ الْقِيمَةُ فِيمَا يَأْتِي:

أَوَّلاً - فِي الأَْشْيَاءِ الْقِيَمِيَّةِ إِذَا وَجَبَ ضَمَانُهَا:
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:

أ - الْمَبِيعُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ:
5 - الْبَيْعُ الْفَاسِدُ وَاجِبُ الْفَسْخِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَيَجِبُ رَدُّ الْمَبِيعِ إِلَى الْبَائِعِ، وَرَدُّ الثَّمَنِ إِلَى الْمُشْتَرِي، فَإِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَكَانَ قِيَمِيًّا كَالْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ وَالْعَقَارِ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) مجلة الأحكام العدلية مادة 145 - 146، وبدائع الصنائع 5 / 158 و7 / 150 - 151، ومغني المحتاج 2 / 281.

(34/133)


الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَأَبِي طَالِبٍ.
وَحَكَى الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُول عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ يُضْمَنُ بِالْمُسَمَّى، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ وَقَال: إِنَّهُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ (1) .
وَيُفَصِّل الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِي فَسَادِهِ وَبَيْنَ الْفَاسِدِ الْمُتَّفَقِ عَلَى فَسَادِهِ.
فَفِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِي فَسَادِهِ - وَلَوْ خَارِجَ الْمَذْهَبِ - إِذَا فَاتَ الْمَبِيعُ بِيَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ إِلاَّ مَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ إِنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا، وَمِثْلُهُ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَهَذَا مَا مَشَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَهِيَ طَرِيقَةُ ابْنِ شَاسٍ وَابْنِ الْحَاجِبِ، وَأَصْلُهَا لاِبْنِ يُونُسَ وَعَزَاهَا لاِبْنِ الْقَاسِمِ فِي غَيْرِ الْمُدَوَّنَةِ.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ لاِبْنِ رُشْدٍ وَابْنِ بَشِيرٍ وَاللَّخْمِيِّ وَالْمَازِرِيِّ أَنَّ اللاَّزِمَ مَعَ الْفَوَاتِ هُوَ الْقِيمَةُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ قِيَمِيًّا أَمْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 125، والاختيار 2 / 23، وشرح منتهى الإرادات 2 / 419، والقواعد لابن رجب ص67 - 68، والمغني 4 / 253.

(34/133)


مِثْلِيًّا (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَضْمَنُ مِثْلَهُ فِي الْمِثْلِيِّ، وَأَقْصَى قِيَمِهِ إِنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا، وَهَذَا مَا جَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ كَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ وَأَسْنَى الْمَطَالِبِ، وَقَال الشِّهَابُ الرَّمْلِيُّ تَعْلِيقًا عَلَى قَوْل الرَّوْضِ: (يُضْمَنُ الْمَبِيعُ التَّالِفُ بِالْمِثْل فِي الْمِثْلِيِّ) ، هَذَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَإِنْ صَحَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ يُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ أَيْضًا، وَادَّعَى فِي الْبَحْرِ أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِيهِ.
كَذَلِكَ ذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الرَّافِعِيَّ أَطْلَقَ وُجُوبَ الْقِيمَةِ دُونَ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمِثْلِيِّ وَالْمُتَقَوِّمِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ، لَكِنَّ الزَّرْكَشِيَّ قَال: إِنَّهُ ضَعِيفٌ (2) .
هَذَا الَّذِي سَبَقَ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ وَالْبَاطِل سَوَاءٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْبَيْعِ الْبَاطِل فَإِنَّ الْمَبِيعَ إِذَا تَلِفَ بِيَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنَفِيَّةَ؛ لأَِنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ فَيَهْلِكُ بِغَيْرِ شَيْءٍ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ؛ لأَِنَّ
__________
(1) منح الجليل 2 / 580 - 581، وجواهر الإكليل 2 / 27، وحاشية الدسوقي 3 / 71 - 72.
(2) مغني المحتاج 2 / 40، وأسنى المطالب 2 / 36، والمنثور في القواعد 2 / 339 - 340.

(34/134)


الْبَائِعَ مَا رَضِيَ بِقَبْضِهِ مَجَّانًا (1) .
وَقْتُ وُجُوبِ الْقِيمَةِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ:
6 - إِذَا وَجَبَتْ قِيمَةُ الْمَبِيعِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَلِلْفُقَهَاءِ اتِّجَاهَاتٌ فِي وَقْتِ وُجُوبِ الْقِيمَةِ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَجِبُ ضَمَانُ الْقِيمَةِ يَوْمَ قَبْضِ الْمَبِيعِ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ زَادَتْ قِيمَتُهُ فِي يَدِهِ فَأَتْلَفَهُ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا يَدْخُل فِي ضَمَانِهِ بِالْقَبْضِ فَلاَ يَتَغَيَّرُ كَالْغَصْبِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ - وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَجِبُ ضَمَانُ الْقِيمَةِ يَوْمَ تَلَفِ الْمَبِيعِ قَالُوا:؛ لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ فِي إِمْسَاكِهِ فَأَشْبَهَ الْعَارِيَّةَ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْقِيمَةَ تَجِبُ بِأَقْصَى الْقِيَمِ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ إِلَى حِينِ التَّلَفِ؛ لأَِنَّهُ مُخَاطَبٌ فِي كُل لَحْظَةٍ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ بِرَدِّهِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ذَكَرَهُ الْخِرَقِيُّ فِي الْغَصْبِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَيَخْرُجُ هَاهُنَا (الْبَيْعُ الْفَاسِدُ) ، بَل هُوَ هُنَا أَوْلَى؛ لأَِنَّ الْعَيْنَ كَانَتْ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا فِي حَال زِيَادَتِهَا وَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِهَا مَعَ زِيَادَتِهَا، فَكَذَلِكَ فِي حَال تَلَفِهَا.
__________
(1) الاختيار 2 / 23.

(34/134)


وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْبَيْعِ (1) .

ب - الْمَغْصُوبُ:
7 - مَنْ غَصَبَ شَيْئًا لَزِمَهُ رَدُّهُ مَا كَانَ بَاقِيًا لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ (2) ، فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ بَدَلُهُ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ وَجَبَ رَدُّ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا فِي الْمَالِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ كَالْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ فَعَلَى الْغَاصِبِ مِثْلُهُ؛ لأَِنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ اعْتِدَاءٍ، وَالاِعْتِدَاءُ لَمْ يُشْرَعْ إِلاَّ بِالْمِثْل، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ، وَالْمِثْل الْمُطْلَقُ هُوَ الْمِثْل صُورَةً وَمَعْنًى، فَأَمَّا الْقِيمَةُ فَمِثْلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ.
وَلأَِنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ جَبْرِ الْفَائِتِ، وَمَعْنَى الْجَبْرِ بِالْمِثْل أَكْمَل مِنْهُ مِنَ الْقِيمَةِ، فَلاَ يُعْدَل عَنِ الْمِثْل إِلَى الْقِيمَةِ إِلاَّ عِنْدَ التَّعَذُّرِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 125، والاختيار 2 / 23، وحاشية الدسوقي3 / 71 - 72، وجواهر الإكليل 2 / 27، والمجموع 9 / 364 - 365 تحقيق المطيعي، وأسنى المطالب 2 / 36، والمغني 4 / 253، ومنتهى الإرادات 2 / 419.
(2) حديث: " على اليد ما أخذت. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 557) من حديث سمرة بن جندب يرويه عن الحسن البصري، وقال ابن حجر في التلخيص (3 / 53) : الحسن مختلف في سماعه عن سمرة.

(34/135)


وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ مِثْل لَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لأَِنَّهُ تَعَذَّرَ إِيجَابُ الْمِثْل مَعْنًى وَهُوَ الْقِيمَةُ؛ لأَِنَّهَا الْمِثْل الْمُمْكِنُ.
وَالأَْصْل فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَدْل (1) ، فَأَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّقْوِيمِ فِي حِصَّةِ الشَّرِيكِ؛ لأَِنَّهَا مُتْلَفَةٌ بِالْعِتْقِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِالْمِثْل؛ وَلأَِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ لاَ تَتَسَاوَى أَجْزَاؤُهَا وَتَتَبَايَنُ صِفَاتُهَا، فَالْقِيمَةُ فِيهَا أَعْدَل وَأَقْرَبُ إِلَيْهَا فَكَانَتْ أَوْلَى، وَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْعَبْدِ يَكُونُ وَارِدًا فِي إِتْلاَفِ كُل مَا لاَ مِثْل لَهُ دَلاَلَةً.
وَحُكِيَ عَنِ الْعَنْبَرِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ فِي كُل شَيْءٍ مِثْلُهُ مِثْلِيًّا كَانَ أَوْ مُتَقَوِّمًا (2) ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ صَانِعَةَ طَعَامٍ مِثْل صَفِيَّةَ أَهْدَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَاءً فِيهِ طَعَامٌ، فَمَا مَلَكَتْ نَفْسِي أَنْ كَسَرَتْهُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَفَّارَتِهِ فَقَال: إِنَاءٌ كَإِنَاءٍ، وَطَعَامٌ كَطَعَامٍ (3) .
__________
(1) حديث: " من أعتق شركًا له في عبد. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 137) ، ومسلم (2 / 1139) واللفظ لمسلم.
(2) بدائع الصنائع 7 / 150 - 151، والهداية 4 / 11 - 12، وجواهر الإكليل 2 / 149، ومغني المحتاج 2 / 282 - 283، والمهذب 1 / 374 - 375، والمغني 5 / 238 - 239، ومنتهى الإرادات 2 / 418 - 419.
(3) حديث عائشة: " من رأيت صانعة طعام مثل صفية. . . ". أخرجه النسائي (7 / 71) وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (5 / 125) .

(34/135)


وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِمٍ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا فَكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ فَضَمَّهَا وَجَعَل فِيهَا الطَّعَامَ، وَقَال: كُلُوا، وَحَبَسَ الرَّسُول وَالْقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا، فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ، وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ (1) .
؛ وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ بَعِيرًا وَرَدَّ مِثْلَهُ (2)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (غَصْبٌ ف 19، 20، 23) .
وَقْتُ وُجُوبِ الْقِيمَةِ فِي الْمَغْصُوبِ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُ قِيمَةَ الْمُتَقَوِّمِ التَّالِفِ يَوْمَ الْغَصْبِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَضْمَنُ بِأَقْصَى قِيمَةٍ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ؛ لأَِنَّهُ غَاصِبٌ فِي الْحَال الَّتِي زَادَتْ فِيهَا قِيمَتُهُ فَلَزِمَهُ ضَمَانُ قِيمَتِهِ فِيهَا:
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: وُجُوبُ الْقِيمَةِ يَوْمَ
__________
(1) حديث أنس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 124) .
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بعيرًا ورد مثله ". أخرجه مسلم (3 / 1224) من حديث أبي رافع.

(34/136)


تَلَفِ الْمَغْصُوبِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (غَصْبٌ ف 24) .

ثَانِيًا - تَعَذُّرُ الْمِثْل:
9 - مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ أَيْضًا الْمَضْمُونُ الْمِثْلِيُّ إِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْمِثْل، وَذَلِكَ كَالْمَبِيعِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إِذَا كَانَ مِثْلِيًّا، وَكَالْمَغْصُوبِ الْمِثْلِيِّ كَذَلِكَ.
وَيُوَضِّحُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ كَيْفِيَّةَ تَعَذُّرِ الْمِثْل فِي أَنَّهُ إِمَّا لِعَدَمِ وُجُودِهِ، أَوْ لِبُعْدِهِ وَعَدَمِ إِمْكَانِ الْوُصُول إِلَيْهِ، أَوْ لِوُجُودِهِ بِزِيَادَةٍ عَلَى ثَمَنِ مِثْلِهِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالاَتِ تَجِبُ قِيمَةُ الْمِثْل وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَقْصَى قِيمَةٍ مِنْ وَقْتِ قَبْضِ الْمَبِيعِ الْفَاسِدِ أَوْ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى وَقْتِ تَعَذُّرِ الْمِثْل، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنَّمَا تَجِبُ قِيمَةُ الْمِثْل يَوْمَ إِعْوَازِ الْمِثْل لِوُجُوبِ الْقِيمَةِ فِي الذِّمَّةِ حِينَ انْقِطَاعِ الْمِثْل فَاعْتُبِرَتِ الْقِيمَةُ حِينَئِذٍ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَجِبُ قِيمَةُ الْمِثْل يَوْمَ الْخُصُومَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ تَجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْغَصْبِ، وَقَال مُحَمَّدٌ تَجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الاِنْقِطَاعِ (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 151، والهداية 4 / 11 - 12، والدسوقي 3 / 443، وجواهر الإكليل 2 / 149، ومغني المحتاج 2 / 284، والمغني 5 / 279، ومنتهى الإرادات 2 / 419.
(2) المنثور في القواعد 2 / 328، 336، ومغني المحتاج 2 / 282 - 283، وشرح منتهى الإرادات 2 / 419.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 125، 425، 5 / 116، والاختيار 3 / 59.

(34/136)


وَيُفَرِّقُ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَا يَجِبُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمِثْل فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَبَيْنَ تَعَذُّرِهِ فِي الْغَصْبِ، فَقَالُوا: إِنَّ الْمَبِيعَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إِذَا تَلِفَ وَكَانَ مِثْلِيًّا فَإِنَّهُ يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ فِي الأَْحْوَال الآْتِيَةِ:
أ - إِذَا تَعَذَّرَ وُجُودُهُ.
ب - إِذَا بِيعَ جُزَافًا وَلَمْ يُعْلَمْ كَيْلُهُ أَوْ وَزْنُهُ بَعْدَ الْبَيْعِ.
ج - إِذَا بِيعَ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ عَدٍّ وَلَكِنْ نُسِيَ ذَلِكَ وَقْتَ الْقَضَاءِ بِالرَّدِّ.
د - إِذَا عُلِمَ كَيْلُهُ أَوْ وَزْنُهُ أَوْ عَدَدُهُ وَلَكِنْ تَعَذَّرَ وُجُودُهُ يَوْمَ الْقَضَاءِ بِالرَّدِّ.
فَفِي هَذِهِ الأَْحْوَال يَضْمَنُ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْقَضَاءِ بِالرَّدِّ.
أَمَّا الْمَغْصُوبُ الْمِثْلِيُّ إِذَا تَلِفَ فَإِنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ يَصْبِرُ لِوَقْتِ الْوُجُودِ لِيَأْخُذَ الْمِثْل (1) .

ثَالِثًا - الْمَبِيعُ فِي الْبَيْعِ الْمَفْسُوخِ لِلاِخْتِلاَفِ فِي الثَّمَنِ:
10 - إِذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ فَقَال الْبَائِعُ: بِعْتُكَ بِكَذَا، وَقَال الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ بِكَذَا وَلاَ بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، تَحَالَفَا وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ إِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا.
فَإِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَقَدِ اخْتَلَفَ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 71 - 82، وجواهر الإكليل 2 / 148 - 149.

(34/137)


الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ.
فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل النَّوَوِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَصَحَّحَهُ فِي الْحَاوِي، وَهُوَ مَا مَشَى عَلَيْهِ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا فِي التَّوْضِيحِ وَغَيْرِهِ: أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَضْمَنُ الْمَبِيعَ بِالْقِيمَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِثْلِيًّا أَمْ قِيَمِيًّا.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَضْمَنُ الْمِثْل إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَالْقِيمَةَ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا (1) .

مَا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ وَالْمِثْل مَعًا:
11 - مِنَ الْمَضْمُونَاتِ مَا تَجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ وَالْمِثْل مَعًا، وَذَلِكَ فِي الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ إِذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ أَوْ قَتَلَهُ الْحَلاَل فِي الْحَرَمِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ بِالْقِيمَةِ لِلْمَالِكِ وَبِالْمِثْل الصُّورِيِّ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا اسْتَعَارَ صَيْدًا مَمْلُوكًا مِنْ حَلاَلٍ وَتَلِفَ عِنْدَهُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ لَهُ مِثْلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْل مَا قَتَل مِنَ النَّعَمِ} .
فَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ مِثْل لَهُ مِنَ النَّعَمِ
__________
(1) منح الجليل 2 / 743، ومغني المحتاج 2 / 97، والمهذب 1 / 301، وشرح منتهى الإرادات 2 / 185.

(34/137)


كَالْعَصَافِيرِ الْمَمْلُوكَةِ وَجَبَتْ فِيهِ قِيمَتَانِ: إِحْدَاهُمَا تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَالأُْخْرَى تَجِبُ لِمَالِكِهِ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 203، والمنثور 2 / 333 - 334، وشرح منتهى الإرادات 2 / 41، 43، وجواهر الإكليل 1 / 199 - 200.

(34/138)


قِيَمِيَّاتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقِيَمِيَّاتُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعٌ مُفْرَدُهُ قِيَمِيٌّ، يُقَال: شَيْءٌ قِيَمِيٌّ نِسْبَةً إِلَى الْقِيمَةِ عَلَى لَفْظِهَا؛ لأَِنَّهُ لاَ وَصْفَ لَهُ يَنْضَبِطُ بِهِ فِي أَصْل الْخِلْقَةِ حَتَّى يُنْسَبَ إِلَيْهِ.
وَالْقِيمَةُ: ثَمَنُ الشَّيْءِ بِالتَّقْوِيمِ (1) .
وَالْقِيَمِيُّ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا لاَ يُوجَدُ لَهُ مِثْلٌ فِي السُّوقِ، أَوْ يُوجَدُ لَكِنْ مَعَ التَّفَاوُتِ الْمُعْتَدِّ بِهِ فِي الْقِيمَةِ كَالْمِثْلِيِّ الْمَخْلُوطِ بِغَيْرِهِ، وَكَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ الَّتِي يَكُونُ بَيْنَ أَفْرَادِهَا وَآحَادِهَا تَفَاوُتٌ فِي الْقِيمَةِ كَالأَْنْعَامِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمِثْلِيَّاتُ:
2 - الْمِثْلِيَّاتُ جَمْعُ مِثْلِيٍّ، وَالْمِثْل فِي اللُّغَةِ: الشَّبَهُ يُقَال: هَذَا مِثْلُهُ وَمَثَلُهُ، كَمَا يُقَال شَبِيهُهُ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 / 105 وما بعدها المادة (146، 148) وحاشية ابن عابدين 5 / 116 - 118، وحاشية الدسوقي 3 / 215، ونهاية المحتاج 5 / 159، ومنتهى الإرادات 2 / 419، والمغني 5 / 239 - 240.

(34/138)


وَشَبَهُهُ (1) .
وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الْمِثْلِيَّ عَلَى مَا تَمَاثَلَتْ آحَادُهُ وَأَجْزَاؤُهُ مِنَ الأَْمْوَال بِحَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ دُونَ فَرْقٍ يُعْتَدُّ بِهِ.
وَفِي الْمَجَلَّةِ: الْمِثْلِيُّ مَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي السُّوقِ بِدُونِ تَفَاوُتٍ يُعْتَدُّ بِهِ كَالْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ (2) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْمِثْلِيُّ قَسِيمُ الْقِيَمِيِّ مِنَ الأَْمْوَال.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً - مِنَ الْعُقُودِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِيهَا مِنَ الأَْمْوَال الْقِيَمِيَّةِ بِاتِّفَاقٍ:
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا يَلِي:

أ - الْبَيْعُ:
3 - يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الأَْمْوَال الْقِيَمِيَّةُ كَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، مَعَ مُرَاعَاةِ اسْتِيفَاءِ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي ذَلِكَ مِنْ كَوْنِ هَذِهِ الأَْمْوَال مَمْلُوكَةً لِلْعَاقِدِ طَاهِرَةً مُنْتَفَعًا بِهَا مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهَا مَعْلُومَةً لِكُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعٌ ف 28 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة (قوم) و (مثل) .
(2) مجلة الأحكام العدلية مادة (145) ، وابن عابدين 4 / 171، وبدائع الصنائع 7 / 150 - 151، وأشباه السيوطي / 389، ومغني المحتاج 2 / 281.

(34/139)


ب - الإِْجَارَةُ:
4 - يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْفَعَةُ الأَْمْوَال الْقِيَمِيَّةِ مَحَلًّا لِعَقْدِ الإِْجَارَةِ كَاسْتِئْجَارِ دَارٍ لِلسُّكْنَى، وَحَيَوَانٍ لِلرُّكُوبِ أَوْ لِنَقْل مَتَاعٍ، مَعَ مُرَاعَاةِ اسْتِيفَاءِ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي ذَلِكَ مِنْ كَوْنِ الْمَنْفَعَةِ مَعْلُومَةً وَمَقْدُورًا عَلَى اسْتِيفَائِهَا. . .
وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِجَارَةٌ ف 29 وَمَا بَعْدَهَا) .

ثَانِيًا - مِنَ الْعُقُودِ مَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ الأَْمْوَال الْقِيَمِيَّةِ مَحَلًّا لِلْعَقْدِ فِيهَا:
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا يَلِي:

أ - السَّلَمُ:
5 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُضْبَطَ قَدْرُهُ وَصِفَتُهُ بِالْوَصْفِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَبْقَى بَعْدَ الْوَصْفِ إِلاَّ تَفَاوُتٌ يَسِيرٌ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْمِثْلِيَّاتِ كَالْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ؛ لأَِنَّهَا مُمْكِنَةُ الضَّبْطِ قَدْرًا وَصِفَةً، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
وَكَذَلِكَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْقِيَمِيَّاتِ الَّتِي تَنْضَبِطُ بِالصِّفَاتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ السَّلَمِ فِي الْقِيَمِيَّاتِ إِلاَّ أَنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا بَعْضَهَا اسْتِحْسَانًا.
قَال الْكَاسَانِيُّ: أَمَّا الذَّرْعِيَّاتُ كَالثِّيَابِ وَالْبُسُطِ وَالْحُصْرِ وَالْبَوَارِي وَنَحْوِهَا فَالْقِيَاسُ أَنْ

(34/139)


لاَ يَجُوزَ السَّلَمُ فِيهَا؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الأَْمْثَال لِلتَّفَاوُتِ الْفَاحِشِ بَيْنَ ثَوْبٍ وَثَوْبٍ، وَلِهَذَا لَمْ تُضْمَنْ بِالْمِثْل فِي ضَمَانِ الْعَدَدِيَّاتِ بَل بِالْقِيمَةِ فَأَشْبَهَ السَّلَمَ فِي اللآَّلِئِ وَالْجَوَاهِرِ إِلاَّ أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ لِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل فِي آيَةِ الدَّيْنِ: {وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} ، وَالْمَكِيل وَالْمَوْزُونُ لاَ يُقَال فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَإِنَّمَا يُقَال ذَلِكَ فِي الذَّرْعِيَّاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ؛ وَلأَِنَّ النَّاسَ تَعَامَلُوا السَّلَمَ فِي الثِّيَابِ لِحَاجَتِهِمْ إِلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى الْجَوَازِ فَيُتْرَكُ الْقِيَاسُ بِمُقَابَلَتِهِ؛ وَلأَِنَّهُ إِذَا بُيِّنَ جِنْسُهُ وَصِفَتُهُ وَنَوْعُهُ وَطُولُهُ وَعَرْضُهُ يَتَقَارَبُ التَّفَاوُتُ فَيُلْحَقُ بِالْمِثْل فِي بَابِ السَّلَمِ لِحَاجَةِ النَّاسِ (1) .
(ر: سَلَمٌ ف 21)
6 - وَاخْتَلَفَ الْجُمْهُورُ فِيمَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِالصِّفَاتِ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ وَمَا لاَ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِالصِّفَاتِ فَلاَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ كُل الْقِيَمِيَّاتِ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا؛ لأَِنَّهَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا بِالصِّفَاتِ، وَلِذَلِكَ أَجَازُوا السَّلَمَ فِي الثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْجَوَاهِرِ الْكَبِيرَةِ؛ لأَِنَّ كُل ذَلِكَ يُمْكِنُ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 208 - 209.

(34/140)


ضَبْطُهُ بِالصِّفَاتِ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا فِي اللُّؤْلُؤِ: يُمْكِنُ حَصْرُ صِفَتِهِ بِذِكْرِ جِنْسِهِ وَعَدَدِهِ وَوَزْنِ كُل حَبَّةٍ وَبَيَانِ صِفَتِهَا وَهَكَذَا (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الثِّيَابِ وَالأَْصْوَافِ وَالأَْخْشَابِ وَالأَْحْجَارِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ عِنْدَهُمْ ضَبْطُهُ بِالْوَصْفِ كَمَا أَجَازُوا السَّلَمَ فِي الْحَيَوَانِ، قَالُوا:؛ لأَِنَّهُ ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ قَرْضًا بِحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِل الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُل بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَال: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلاَّ خِيَارًا رَبَاعِيًا، فَقَال: أَعْطِهِ إِيَّاهُ. إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً (2) فَقِيسَ السَّلَمُ عَلَى الْقَرْضِ، وَلَمْ يُجِيزُوا السَّلَمَ فِي الْجَوَاهِرِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْعَقِيقِ وَالْيَاقُوتِ وَلاَ فِي الْجُلُودِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِالْوَصْفِ (3) .
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي السَّلَمِ فِي الأَْشْيَاءِ الْقِيَمِيَّةِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ، فَرُوِيَ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيِّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْجُوزَجَانِيِّ؛ لِمَا
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 72 - 73، حاشية الدسوقي 3 / 215.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرًا. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1224) .
(3) المهذب 1 / 304، ومغني المحتاج 2 / 107 - 110.

(34/140)


رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَال: إِنَّ مِنَ الرِّبَا أَبْوَابًا لاَ تَخْفَى وَإِنَّ مِنْهَا السَّلَمَ فِي السِّنِّ؛ وَلأَِنَّ الْحَيَوَانَ يَخْتَلِفُ اخْتِلاَفًا مُتَبَايِنًا فَلاَ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ صِحَّةُ السَّلَمِ فِيهِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الأَْثْرَمِ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَمِمَّنْ رَوَيْنَا عَنْهُ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَالزُّهْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ؛ وَلأَِنَّ أَبَا رَافِعٍ قَال: اسْتَسْلَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا؛ وَلأَِنَّهُ ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ صَدَاقًا فَثَبَتَ فِي السَّلَمِ كَالثِّيَابِ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي السَّلَمِ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ مِمَّا لاَ يُكَال وَلاَ يُوزَنُ وَلاَ يُذْرَعُ فَنَقَل إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَال: لاَ أَرَى السَّلَمَ إِلاَّ فِيمَا يُكَال أَوْ يُوزَنُ أَوْ يُوقَفُ عَلَيْهِ، قَال أَبُو الْخَطَّابِ: مَعْنَاهُ يُوقَفُ عَلَيْهِ بِحَدٍّ مَعْلُومٍ لاَ يَخْتَلِفُ كَالذَّرْعِ، فَأَمَّا الرُّمَّانُ وَالْبَيْضُ فَلاَ أَرَى السَّلَمَ فِيهِ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ وَعَنْ إِسْحَاقَ: أَنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي الرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَل وَالْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُكَال وَلاَ يُوزَنُ وَمِنْهُ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لاَ يَصِحُّ السَّلَمُ فِي كُل مَعْدُودٍ مُخْتَلِفٍ كَالْبُقُول؛ لأَِنَّهُ يَخْتَلِفُ وَلاَ يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الْبَقْل بِالْحُزَمِ؛ لأَِنَّ

(34/141)


الْحُزَمَ يُمْكِنُ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فَلَمْ يَصِحَّ السَّلَمُ فِيهِ كَالْجَوَاهِرِ، وَنَقَل إِسْمَاعِيل بْنُ سَعِيدٍ وَابْنُ مَنْصُورٍ جَوَازَ السَّلَمِ فِي الْفَوَاكِهِ وَالسَّفَرْجَل وَالرُّمَّانِ وَالْمَوْزِ وَالْخَضْرَاوَاتِ وَنَحْوِهَا؛ لأَِنَّ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ مِمَّا يَتَقَارَبُ وَيَنْضَبِطُ بِالصِّغَرِ وَالْكُبْرِ، وَمَا لاَ يَتَقَارَبُ يَنْضَبِطُ بِالْوَزْنِ (1) .

ب - الْقَرْضُ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَرْضِ الأَْشْيَاءِ الْقِيَمِيَّةِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَصِحُّ قَرْضُ الْقِيَمِيَّاتِ كَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ وَكُل شَيْءٍ مُتَفَاوِتٍ؛ لأَِنَّ الْقَرْضَ إِعَارَةٌ ابْتِدَاءً حَتَّى صَحَّ بِلَفْظِهَا، مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ إِلاَّ بِاسْتِهْلاَكِ عَيْنِهِ فَيَسْتَلْزِمُ إِيجَابَ الْمِثْل فِي الذِّمَّةِ، وَهَذَا لاَ يَتَأَتَّى فِي غَيْرِ الْمِثْلِيِّ، قَال فِي الْبَحْرِ: وَلاَ يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْمِثْلِيِّ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجِبُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَيَمْلِكُهُ الْمُسْتَقْرِضُ بِالْقَبْضِ الصَّحِيحِ، وَالْمَقْبُوضُ بِقَرْضٍ فَاسِدٍ يَتَعَيَّنُ لِرَدٍّ، وَفِي الْقَرْضِ الْجَائِزِ لاَ يَتَعَيَّنُ بَل يُرَدُّ الْمِثْل وَإِنْ كَانَ قَائِمًا.
وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ قَرْضَ مَا لاَ يَجُوزُ قَرْضُهُ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ يُعْتَبَرُ عَارِيَّةً مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَجِبُ رَدُّ عَيْنِهِ (2) .
__________
(1) المغني 4 / 307 - 309.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 171 - 172.

(34/141)


وَفِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ الْقِيَمِيَّاتِ الَّتِي لاَ تَنْضَبِطُ أَوْ يَنْدُرُ وُجُودُهَا لاَ يَجُوزُ قَرْضُهَا؛ لأَِنَّهُ يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ رَدُّ الْمِثْل، وَرَدُّ الْمِثْل هُوَ الْوَاجِبُ فِي الأَْظْهَرِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ قَرْضُ الْقِيَمِيَّاتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ رَدُّ مِثْل الْمُتَقَوِّمِ صُورَةً؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ بَكْرًا وَرَدَّ رَبَاعِيًا (1) ؛ وَلأَِنَّهُ لَوْ وَجَبَتِ الْقِيمَةُ لاَفْتَقَرَ إِلَى الْعِلْمِ بِهَا (2) .
قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَرْضُ كُل شَيْءٍ وَاسْتِقْرَاضُهُ جَائِزٌ مِنَ الْعُرُوضِ وَالْعَيْنِ وَالْحَيَوَانِ (3) .

ج - الشَّرِكَةُ:
8 - لاَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ مَال الشَّرِكَةِ مِنَ الأَْمْوَال الْقِيَمِيَّةِ؛ لِتَعَذُّرِ الْخَلْطِ فِي الْمُتَقَوَّمَاتِ؛ لأَِنَّهَا أَعْيَانٌ مُتَمَيِّزَةٌ، حِينَئِذٍ تَتَعَذَّرُ الشَّرِكَةُ؛ لأَِنَّ بَعْضَهَا قَدْ يَتْلَفُ فَيَذْهَبُ عَلَى صَاحِبِهِ وَحْدَهُ؛ وَلأَِنَّهَا تَقْتَضِي الرُّجُوعَ عِنْدَ فَسْخِهَا بِرَأْسِ الْمَال أَوْ مِثْلِهِ، وَلاَ مِثْل لَهَا يُرْجَعُ إِلَيْهِ
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكرًا. . . ". سبق تخريجه ف6.
(2) مغني المحتاج 2 / 119، والمغني 4 / 350، وكشاف القناع 3 / 314 - 315.
(3) الكافي لابن عبد البر 2 / 728.

(34/142)


وَقِيمَتُهَا لاَ يَجُوزُ عَقْدُهَا عَلَيْهَا؛ لأَِنَّهَا قَدْ تَزِيدُ فِي أَحَدِهِمَا قَبْل بَيْعِهِ فَيُشَارِكُهُ الآْخَرُ فِي الْعَيْنِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ وَثَمَنُهَا مَعْدُومٌ حَال الْعَقْدِ وَغَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُمَا (1) .
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ فِي الْمُتَقَوِّمِ كَالْعُرُوضِ وَالأَْعْيَانِ، وَكُلٌّ بِالْقِيمَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (شَرِكَةٌ ف 44) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 59، وجواهر الإكليل 2 / 116، ونهاية المحتاج 5 / 6، ومنتهى الإرادات 2 / 320.

(34/142)


قَيِّمٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَيِّمُ فِي اللُّغَةِ: مَنْ قَامَ بِالأَْمْرِ قِيَامًا وَقَوْمًا: اهْتَمَّ بِهِ بِالرِّعَايَةِ وَالْحِفْظِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} ، وَالْقَوَّامُ اسْمٌ لِمَنْ يَكُونُ مُبَالِغًا فِي الْقِيَامِ بِالأَْمْرِ، وَقَيِّمُ الْيَتِيمِ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِأَمْرِهِ، وَيَتَعَهَّدُ شُئُونَهُ بِالرِّعَايَةِ وَالْحِفْظِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ مَنْ يُعَيِّنُهُ الْحَاكِمُ لِتَنْفِيذِ وَصَايَا مَنْ لَمْ يُوصِ مُعَيَّنًا لِتَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِ، وَالْقِيَامِ بِأَمْرِ الْمَحْجُورِينَ مِنْ أَوْلاَدِهِ مِنْ أَطْفَالٍ، وَمَجَانِينَ وَسُفَهَاءَ، وَحِفْظِ أَمْوَال الْمَفْقُودِينَ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُمْ وَكِيلٌ (2) .
وَيُسَمِّيهِ الْمَالِكِيَّةُ: مُقَدَّمَ الْقَاضِي أَوْ نَائِبَ الْقَاضِي (3)
__________
(1) لسان العرب.
(2) المحلي مع القليوبي 3 / 177.
(3) الخرشي 5 / 297، والدسوقي 3 / 299.

(34/143)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْوَصِيُّ:
2 - الْوَصِيُّ هُوَ مَنْ يَعْهَدُ إِلَيْهِ الأَْبُ أَوِ الْجَدُّ أَوِ الْقَاضِي بِالتَّصَرُّفِ بَعْدَ مَوْتِ الأَْبِ أَوِ الْجَدِّ فِيمَا كَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ فِي حَيَاتِهِ مِنْ شُئُونِهِ: كَقَضَاءِ دُيُونِهِ وَاقْتِضَائِهَا، وَرَدِّ الْمَظَالِمِ وَالْوَدَائِعِ، وَاسْتِرْدَادِهَا، وَتَنْفِيذِ وَصَايَاهُ وَالْوِلاَيَةِ عَلَى أَوْلاَدِهِ الَّذِينَ لَهُ الْوِلاَيَةُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَطْفَالٍ وَمَجَانِينَ وَسُفَهَاءَ، وَالنَّظَرِ فِي أَمْوَالِهِمْ، بِحِفْظِهَا وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا بِمَا لَهُمْ فِيهِ الْحَظُّ (1) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْوَصِيَّ أَعَمُّ مِنَ الْقَيِّمِ.

ب - الْوَكِيل:

3 - الْوَكِيل هُوَ مَنْ يَقُومُ بِشُئُونِ الْغَيْرِ بِتَفْوِيضٍ مِنْهُ فِي حَال حَيَاتِهِ (2) ، وَالْوَكِيل يُنَصِّبُهُ الشَّخْصُ فِي حَال حَيَاتِهِ، وَالْقَيِّمُ يُنَصِّبُهُ الْقَاضِي. الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقَيِّمِ:
يَتَعَلَّقُ بِالْقَيِّمِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

تَرْتِيبُهُ فِي وِلاَيَةِ الْمَحْجُورِينَ:
4 - وِلاَيَةُ الْقَيِّمِ، بَعْدَ وِلاَيَةِ الأَْبِ، وَالْجَدِّ، وَوَصِيِّهِمَا وَوَصِيِّ وَصِيِّهِمَا مُطْلَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهُ الْوَلِيُّ مِنَ الإِْيصَاءِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 461، ومغني المحتاج 3 / 74، والمحلي 3 / 177، والمغني 6 / 134 - 135.
(2) مغني المحتاج 2 / 217، والدسوقي 3 / 296.

(34/143)


وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ فِي الإِْيصَاءِ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُ: يَسْتَفِيدُهَا مِنَ الْقَاضِي، وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ هَؤُلاَءِ (1) ، لِخَبَرِ: السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ (2) ؛ وَلأَِنَّ الأُْبُوَّةَ دَاعِيَةٌ إِلَى كَمَال النَّظَرِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ لِوُفُورِ شَفَقَةِ الأَْبِ، وَوَصِيُّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ؛ لأَِنَّهُ اخْتَارَهُ وَرَضِيَهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَا اخْتَارَهُ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ إِلاَّ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ شَفَقَتَهُ عَلَى وَرَثَتِهِ مِثْل شَفَقَتِهِ عَلَيْهِمْ وَكَذَا الْجَدُّ، وَوَصِيُّهُ؛ وَلأَِنَّ شَفَقَةَ الأَْبِ وَالْجَدِّ تَنْشَأُ عَنِ الْقَرَابَةِ، وَوَصِيُّهُمَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا، بِخِلاَفِ الْقَاضِي وَوَصِيِّهِ، فَإِنَّهَا تَنْشَأُ لِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ الْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ وَالتَّقْوَى فَتَأَخَّرَتْ وِلاَيَتُهُ عَنْ وِلاَيَتِهِمَا، وَوَصِيُّهُ نَائِبٌ عَنْهُ (3) .

تَصَرُّفَاتُ الْقَيِّمِ:
5 - الْقَيِّمُ كَوَصِيِّ الْمَيِّتِ فِي التَّصَرُّفَاتِ (4) إِلاَّ فِي بَعْضِ الْمَسَائِل ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ، وَخَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ فِي مُعْظَمِهَا.
الأُْولَى: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَيِّمِ الشِّرَاءُ لِنَفْسِهِ وَلاَ أَنْ يَبِيعَ مِمَّنْ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَهُ، بِخِلاَفِ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 155، والشرح الصغير وحاشية الصاوي 2 / 474 ط. الحلبي، ومغني المحتاج 2 / 173، 3 / 76، والمحلي 3 / 304، والروض المربع 2 / 249.
(2) حديث: " السلطان ولي من لا ولي له ". أخرجه الترمذي (3 / 399) من حديث أبي موسى وقال: حديث حسن.
(3) بدائع الصنائع 5 / 152، والدسوقي 3 / 299، والمغني 6 / 141، والمحلي 3 / 179.
(4) القليوبي 2 / 304.

(34/144)


وَصِيِّ الأَْصْل فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ فِيهِ لِلْمَحْجُورِ غِبْطَةٌ ظَاهِرَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَشْتَرِي الْوَصِيُّ مُطْلَقًا مِنَ التَّرِكَةِ عَلَى جِهَةِ الْكَرَاهَةِ؛ لأَِنَّهُ يُتَّهَمُ عَلَى الْمُحَابَاةِ فَإِنِ اشْتَرَى شَيْئًا مِنَ التَّرِكَةِ تَعَقَّبَهُ الْحَاكِمُ بِالنَّظَرِ فِي الْمَصْلَحَةِ فَإِنْ كَانَ صَوَابًا أَمْضَاهُ وَإِلاَّ رَدَّهُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ لِلْوَصِيِّ بَيْعُ مَال الْمُوصَى عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ وَلاَ بَيْعُ مَال نَفْسِهِ لَهُ، وَالْقَاضِي وَأَمِينُهُ كَالْوَصِيِّ، وَالْمَجْنُونُ وَالسَّفِيهُ كَالطِّفْل أَمَّا الأَْبُ وَالْجَدُّ فَلَهُمَا ذَلِكَ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَصِحُّ أَنْ يَبِيعَ وَلِيُّ صَغِيرٍ وَسَفِيهٍ وَمَجْنُونٍ مِنْ مَال مُوَلِّيهِ لِنَفْسِهِ أَوْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ؛ لأَِنَّهُ مَظِنَّةُ التُّهْمَةِ أَمَّا الأَْبُ فَلَهُ ذَلِكَ (3) .
الثَّانِيَةُ: إِذَا خَصَّصَ الْقَاضِي وِلاَيَةَ الْقَيِّمِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ تَخَصَّصَ بِهِ فَلاَ يُجَاوِزُهُ، بِخِلاَفِ وَصِيِّ الأَْصْل.
وَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: لَيْسَ لِلْوَصِيِّ مُطْلَقًا أَنْ يَتَجَاوَزَ مَا خَصَّصَ لَهُ الْمُوصِي فِي التَّصَرُّفَاتِ وَلاَ يَكُونُ وَصِيًّا فِي غَيْرِ مَا خَصَّصَ لَهُ الْمُوصِي؛ لأَِنَّهُ اسْتَفَادَ التَّصَرُّفَ بِإِذْنِ الْمُوصِي
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 476 ط. الحلبي.
(2) أسنى المطالب 2 / 212.
(3) مطالب أولي النهى 3 / 408، 409.

(34/144)


فَكَانَ مَقْصُورًا عَلَى مَا أَذِنَ لَهُ (1) .
الثَّالِثَةُ: جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ لاَ يَجُوزُ لِلْقَيِّمِ أَنْ يُؤَجِّرَ الصَّغِيرَ لِعَمَلٍ مَا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى تَسْلِيمُهُ فِي حِرْفَةٍ. وَفِي أَدَبِ الأَْوْصِيَاءِ: لِلْوَصِيِّ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَ الْيَتِيمِ وَعَقَارَاتِهِ وَسَائِرَ أَمْوَالِهِ وَلَوْ بِيَسِيرِ الْغَبْنِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ وَلِلْحَاكِمِ أَوْ مَنْ يُقِيمُهُ أَنْ يَبِيعَ مَا تَدْعُو الضَّرُورَةُ لِبَيْعِهِ مِنْ مَال الْيَتِيمِ وَالتَّسَوُّقُ بِالْمَبِيعِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يُجْبِرُ الْقَاضِي الصَّبِيَّ وَالسَّفِيهَ عَلَى الاِكْتِسَابِ إِنْ كَانَ لَهُمَا كَسْبٌ لِيَرْتَفِقَا بِهِ فِي النَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا (2) .
الرَّابِعَةُ: لَيْسَ لِلْقَاضِي عَزْل وَصِيِّ الأَْصْل إِنْ ضَعُفَ عَنِ الْكِفَايَةِ، بَل يَضُمُّ إِلَيْهِ مَنْ يُعِينُهُ، فَمَنْصُوبُ الأَْصْل يُحْتَفَظُ بِهِ مَا أَمْكَنَ وَلاَ يُعْزَل عَنِ التَّصَرُّفِ، وَلَهُ عَزْل الْقَيِّمِ؛ لأَِنَّهُ هُوَ الَّذِي وَلاَّهُ (3) .
الْخَامِسَةُ: لاَ يَمْلِكُ الْقَيِّمُ الْقَبْضَ إِلاَّ بِإِذْنٍ مُبْتَدَأٍ مِنَ الْقَاضِي بَعْدَ الإِْيصَاءِ، بِخِلاَفِ وَصِيِّ الأَْصْل (4) .
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 473 ط. الحلبي، والقليوبي 3 / 179، والمغني 6 / 134 - 135.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 461، وحاشية الدسوقي 3 / 300، وأسنى المطالب 2 / 214.
(3) روضة الطالب 3 / 67، والمغني 6 / 141، وابن عابدين 5 / 462، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 294.
(4) الأشباه لابن نجيم ص 294.

(34/145)


السَّادِسَةُ: لِلْقَاضِي نَهْيُ الْقَيِّمِ عَنْ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ وَلَيْسَ لَهُ نَهْيُ وَصِيِّ الْمَيِّتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: يَسْتَوِيَانِ فِي امْتِنَاعِ مَا مَنَعَ مِنْهُمَا (1) .
(ر: وَصِيٌّ) .
السَّابِعَةُ: لَيْسَ لِلْقَيِّمِ نَصْبُ وَصِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ وَإِذَا فَعَل لاَ يَصِيرُ الثَّانِي وَصِيًّا، بِخِلاَفِ وَصِيِّ الأَْصْل، هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَال الْجُمْهُورُ: لاَ يَكُونُ وَصِيُّ وَصِيِّ الأَْصْل وَصِيًّا إِلاَّ إِذَا أَذِنَ الأَْصْل فِي حَيَاتِهِ لِوَصِيِّهِ بِذَلِكَ (2) .
(ر: وَصِيٌّ) .