الموسوعة
الفقهية الكويتية كِنَايَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكِنَايَةُ فِي اللُّغَةِ: أَنْ يُتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ يُسْتَدَل بِهِ
عَلَى الْمَكْنِيِّ عَنْهُ كَالرَّفَثِ وَالْغَائِطِ، وَهِيَ اسْمٌ
مَأْخُوذٌ مِنْ كَنَيْتُ بِكَذَا عَنْ كَذَا مِنْ بَابِ رَمَى (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ كَلاَمٌ اسْتُتِرَ الْمُرَادُ مِنْهُ
بِالاِسْتِعْمَال، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ ظَاهِرًا فِي اللُّغَةِ، سَوَاءٌ
أَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْحَقِيقَةَ أَمِ الْمَجَازَ، فَيَكُونُ
تَرَدُّدٌ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ، فَلاَ بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ أَوْ مَا
يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ دَلاَلَةِ الْحَال.
وَذَكَرَ صَاحِبُ فَتْحِ الْقَدِيرِ: أَنَّ الْكِنَايَةَ مَا خَفِيَ
الْمُرَادُ بِهِ لِتَوَارُدِ الاِحْتِمَالاَتِ عَلَيْهِ بِخِلاَفِ
الصَّرِيحِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصَّرِيحُ:
2 - الصَّرِيحُ فِي اللُّغَةِ مِنْ صَرُحَ الشَّيْءُ - بِالضَّمِّ - خَلَصَ
مِنْ تَعَلُّقَاتِ غَيْرِهِ فَهُوَ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) التعريفات للجرجاني، وفتح القدير 3 / 78 - 88.
(35/135)
صَرِيحٌ، وَكُل خَالِصٍ صَرِيحٌ، وَمِنْهُ
الْقَوْل الصَّرِيحُ، وَهُوَ الَّذِي لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى إِضْمَارٍ أَوْ
تَأْوِيلٍ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الصَّرِيحُ هُوَ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِمَعْنًى
لاَ يُفْهَمُ مِنْهُ غَيْرُهُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا الْمُقَابَلَةُ.
فَالصَّرِيحُ يُدْرَكُ الْمُرَادُ مِنْهُ بِمُجَرَّدِ النُّطْقِ بِهِ لاَ
يَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ، بِخِلاَفِ الْكِنَايَةِ فَتَحْتَاجُ إِلَى
النِّيَّةِ.
ب - الْمَجَازُ:
2 - الْمَجَازُ اسْمٌ لِمَا أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مَا وُضِعَ لَهُ
مُنَاسَبَةً بَيْنَهُمَا، كَتَسْمِيَةِ الشُّجَاعِ أَسَدًا، وَسُمِّيَ
مَجَازًا لأَِنَّهُ جَاوَزَ وَتَعَدَّى مَحَلَّهُ وَمَعْنَاهُ الْمَوْضُوعَ
لَهُ إِلَى غَيْرِهِ.
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْكِنَايَةَ قَدْ يُرَادُ بِهَا الْمَجَازُ (3) .
ج - التَّعْرِيضُ:
4 - التَّعْرِيضُ هُوَ: مَا يَفْهَمُ بِهِ السَّامِعُ مُرَادَ
الْمُتَكَلِّمِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ: أَنَّ التَّعْرِيضَ هُوَ
تَضْمِينُ الْكَلاَمِ دَلاَلَةً لَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ، كَقَوْل
الْمُحْتَاجِ: جِئْتُك لأُِسَلِّمَ عَلَيْك،
__________
(1) المصباح المنير.
(2) الأشباه للسيوطي ص293.
(3) التعريفات، والمصباح المنير.
(4) التعريفات.
(35/135)
فَيَقْصِدُ مِنَ اللَّفْظِ السَّلاَمَ
وَمِنَ السِّيَاقِ طَلَبَ الْحَاجَةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْكِنَايَةِ:
5 - التَّعْبِيرُ الْمُعْتَبَرُ شَرْعًا قَدْ يَكُونُ بِالصَّرِيحِ مِنَ
الْقَوْل أَوْ بِالْكِنَايَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَمْيِيزِ الْكِنَايَةِ مِنَ الصَّرِيحِ
وَفِي بَعْضِ أَحْكَامِ الْكِنَايَةِ، وَمَا يَلْزَمُ فِيهَا.
التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْكِنَايَةِ وَالصَّرِيحِ:
6 - لِلشَّافِعِيَّةِ ضَابِطٌ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْكِنَايَةِ
وَالصَّرِيحِ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَقْدِ وَالْفُسُوخِ وَمَا جَرَى
مَجْرَاهَا. قَالُوا: إِنَّ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ مِنَ الأَْلْفَاظِ
إِمَّا أَنْ يَتَكَرَّرَ أَوْ لاَ، فَإِنْ تَكَرَّرَ حَتَّى اشْتَهَرَ -
كَالْبَيْعِ وَالطَّلاَقِ - فَهُوَ صَرِيحٌ إِذَا اسْتُعْمِل فِي هَذِهِ
التَّصَرُّفَاتِ وَإِنْ لَمْ يَشِعْ فِي الْعَادَةِ، لأَِنَّ عُرْفَ
الشَّرْعِ هُوَ الْمُتَّبَعُ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا: يَحْمِل الدَّرَاهِمَ
فِي الأَْقَارِيرِ عَلَى النَّقْرَةِ (1) الْخَالِصَةِ قَطْعًا وَإِنْ
غَلَبَ الْعُرْفُ بِخِلاَفِهَا، وَأَلْحَقُوا الْفِرَاقَ وَالسَّرَاحَ
بِصَرِيحِ الطَّلاَقِ.
وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ، بَل ذُكِرَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ مَرَّةً فَقَطْ
وَلَمْ يَشِعْ عَلَى لِسَانِ الْفُقَهَاءِ كَالْمُفَادَاةِ فِي الْخُلْعِ
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا
__________
(1) النقرة: هي القطعة المذابة من الفضة، (المصباح المنير) .
(35/136)
افْتَدَتْ بِهِ} (1) ، وَالإِْمْسَاكُ فِي
الرَّجْعَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (2) ،
فَوَجْهَانِ: وَالأَْصَحُّ الاِلْتِحَاقُ بِالصَّرِيحِ فِي الْكُل.
أَمَّا مَا لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ وَلاَ فِي السُّنَّةِ، وَشَاعَ فِي
الْعُرْفِ كَقَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَإِنَّهُ
شَاعَ فِي الْعُرْفِ فِي الطَّلاَقِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَرِدْ شَرْعًا فِي
الطَّلاَقِ فَوَجْهَانِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمُ: الْتِحَاقُهُ
بِالْكِنَايَةِ.
وَمَا لَمْ يَرِدْ عَلَى لِسَانِ الشَّارِعِ، وَلَكِنْ شَاعَ عَلَى
أَلْسِنَةِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ وَكَانَ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعَقْدِ
كَلَفْظِ التَّمْلِيكِ فِي الْبَيْعِ، وَلَفْظِ الْفَسْخِ فِي الْخُلْعِ
فَفِي كَوْنِهِ كِنَايَةٌ وَجْهَانِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ: صَرَاحَتُهُ
(3) .
وَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لاَ يَكُونُ اللَّفْظُ صَرِيحًا إِلاَّ
فِيمَا لاَ يُسْتَعْمَل إِلاَّ فِي مَا وُضِعَ لَهُ (4) .
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
مَا يَقَعُ فِيهِ الْكِنَايَةُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ
7 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ كُل تَصَرُّفٍ يَسْتَقِل بِهِ
الشَّخْصُ كَالطَّلاَقِ وَالْعِتَاقِ وَالإِْبْرَاءِ يَنْعَقِدُ
__________
(1) سورة البقرة / 229.
(2) سورة البقرة / 231.
(3) المنثور في القواعد 2 / 306، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 293.
(4) بداية المجتهد 2 / 80، وكشاف القناع 5 / 245 - 246، وبدائع الصنائع 3 /
106.
(35/136)
بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ بِلاَ
خِلاَفٍ كَمَا يَنْعَقِدُ بِالصَّرِيحِ، وَأَمَّا مَا لاَ يَسْتَقِل بِهِ
الشَّخْصُ بَل يَفْتَقِرُ إِلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الإِْشْهَادُ كَالنِّكَاحِ، فَهَذَا لاَ
يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ، لأَِنَّ الشَّاهِدَ لاَ
يَعْلَمُ النِّيَّةَ.
ثَانِيهِمَا: مَا لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الإِْشْهَادُ وَهُوَ نَوْعَانِ:
الأَْوَّل: مَا يَقْبَل مَقْصُودُهُ التَّعْلِيقَ بِالْغَرَرِ
كَالْكِتَابَةِ وَالْخُلْعِ، فَيَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ،
لأَِنَّ مَقْصُودَ الْكِتَابَةِ الْعِتْقُ، وَمَقْصُودَ الْخُلْعِ
الطَّلاَقُ، وَهُمَا يَصِحَّانِ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ.
وَالثَّانِي: مَا لاَ يَقْبَلُهُ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ
وَالْمُسَاقَاةِ وَغَيْرِهَا، وَفِي انْعِقَادِ هَذِهِ الْعُقُودِ
بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الاِنْعِقَادُ (1)
.
وَنَقَل ابْنُ رَجَبٍ اخْتِلاَفَ الْحَنَابِلَةِ فِي انْعِقَادِ الْعُقُودِ
بِالْكِنَايَاتِ
قَال الْقَاضِي: لاَ كِنَايَةَ إِلاَّ فِي الطَّلاَقِ وَالْعِتَاقِ،
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الاِنْتِصَارِ نَحْوَهُ، وَزَادَ: وَلاَ
تَحِل الْعُقُودُ بِالْكِنَايَاتِ غَيْرِ النِّكَاحِ وَالرِّقِّ، وَقَال
فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ: تَدْخُل الْكِنَايَاتُ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ
سِوَى النِّكَاحِ
__________
(1) المجموع 9 / 153 تحقيق المطيعي، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 296.
(35/137)
لاِشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ وَهِيَ
لاَ تَقَعُ عَلَى النِّيَّةِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْمُغْنِي
أَيْضًا، وَكَلاَمُ كَثِيرٍ مِنَ الأَْصْحَابِ يَدُل عَلَيْهِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَقْدٌ ف 6) وَالْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.
أَلْفَاظُ الْكِنَايَةِ:
تَخْتَلِفُ أَلْفَاظُ الْكِنَايَةِ بِاخْتِلاَفِ التَّصَرُّفَاتِ
الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي:
أ - كِنَايَاتُ الطَّلاَقِ:
8 - كِنَايَاتُ الطَّلاَقِ كَثِيرَةٌ، بَل لاَ تَكَادُ تَنْحَصِرُ،
وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَمْثِلَةً لَهَا، اتَّفَقُوا فِي أَكْثَرِهَا
مِثْل: أَنْتِ بَائِنٌ، أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، خَلِيَّةٌ، بَرِيَّةٌ،
بَرِيئَةٌ، بَتَّةٌ، أَمْرُكِ بِيَدِكِ، اخْتَارِي، اعْتَدِّي،
اسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ، خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ، حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ،
خَالَعْتُكِ بِدُونِ ذِكْرِ الْعِوَضِ) لاَ سَبِيل لِي عَلَيْكِ، أَنْتِ
حُرَّةٌ، قُومِي، اخْرُجِي، اغْرُبِي، اعْزُبِي، انْطَلِقِي، انْتَقِلِي،
تَقَنَّعِي، اسْتَتِرِي، تَزَوَّجِي، وَنَحْوَ ذَلِكَ (2) .
وَاخْتَلَفُوا فِي لَفْظَيْنِ هُمَا: سَرَّحْتُكِ، وَفَارَقْتُكِ، فَقَال
الْجُمْهُورُ: إِنَّهُمَا كِنَايَتَانِ فِي الطَّلاَقِ، لأَِنَّهُمَا لَمْ
يَشْتَهِرَا فِيهِ اشْتِهَارَ الطَّلاَقِ،
__________
(1) القواعد لابن رجب ص50.
(2) نهاية المحتاج 6 / 430، وبدائع الصنائع 3 / 105، وبداية المجتهد 2 / 80
- 81، وكشاف القناع 5 / 250.
(35/137)
وَيُسْتَعْمَلاَنِ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ،
وَهُوَ مُقَابِل الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الْمَشْهُورِ وَالْخِرَقِيُّ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُمَا صَرِيحَانِ فِي الطَّلاَقِ، لاِشْتِهَارِهِمَا
فِيهِ وَوُرُودِهِمَا فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً} (2) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ
يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} (3) مُرَادَانِ
بِالطَّلاَقِ مَعَ تَكَرُّرِ الْفِرَاقِ فِيهِ، وَإِلْحَاقِ مَا لَمْ
يَتَكَرَّرْ فِيهِ مِنْهُمَا بِمَا تَكَرَّرَ، وَإِلْحَاقِ مَا لَمْ يَرِدْ
مِنْ مُشْتَقَّاتِهِمَا فِي الْقُرْآنِ بِمَا وَرَدَ فِيهِ لأَِنَّهُ
بِمَعْنَاهُ (4) .
9 - وَأَلْفَاظُ الْكِنَايَةِ هَذِهِ وَنَحْوُهَا تَحْتَمِل الطَّلاَقَ،
وَتَحْتَمِل غَيْرَهُ، فَاسْتَتَرَ الْمُرَادُ مِنْهَا عِنْدَ السَّامِعِ،
فَافْتَقَرَتْ إِلَى النِّيَّةِ لِتَعْيِينِ الْمُرَادِ مِنْهَا
فَقَوْلُهُ: أَنْتِ بَائِنٌ: يَحْتَمِل الْبَيْنُونَةَ عَنِ الشَّرِّ أَوِ
الْخَيْرِ أَوِ النِّكَاحِ، وَخَلِيَّةٌ: يَحْتَمِل الْخُلُوَّ عَنِ
الزَّوْجِ، وَالنِّكَاحِ، وَيَحْتَمِل الْخُلُوَّ عَنِ الأَْمْرَاضِ أَوِ
الْعَيْبِ، وَفَارَقْتُكِ: يَحْتَمِل الْمُفَارَقَةَ عَنِ النِّكَاحِ،
وَيَحْتَمِل الْمُفَارَقَةَ عَنِ الْمَضْجَعِ وَالْمَكَانِ، وَقَوْلُهُ:
أَنْتِ بَرِيئَةٌ مِنَ الْبَرَاءَةِ، يَحْتَمِل الْبَرَاءَةَ مِنَ
النِّكَاحِ، وَيَحْتَمِل
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 426، وبدائع الصنائع 3 / 106، وبداية المجتهد 2 / 80
- 81، وكشاف القناع 5 / 245، والإنصاف 8 / 462.
(2) سورة الأحزاب / 28.
(3) سورة النساء / 130.
(4) المراجع السابقة.
(35/138)
الْبَرَاءَةَ عَنِ الشَّرِّ أَوِ
الْخَيْرِ، وَقَوْلُهُ: بَتَّةٌ مِنَ الْبَتِّ وَهُوَ الْقَطْعُ،
فَيَحْتَمِل الْقَطْعَ عَنِ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِل الْقَطْعَ عَنِ
الشَّرِّ، وَقَوْلُهُ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ، يَحْتَمِل الطَّلاَقَ،
وَيَحْتَمِل أَمْرًا آخَرَ، وَهَكَذَا (1) .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الطَّلاَقَ يَقَعُ
بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ مَسَائِل الْكِنَايَةِ.
10 - فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكِنَايَةَ كُل لَفْظٍ
يُسْتَعْمَل فِي الطَّلاَقِ وَغَيْرِهِ نَحْوُ قَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ،
وَأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَخَلِيَّةٌ، وَبَرِيَّةٌ. وَنَحْوُ ذَلِكَ
فَإِنَّهُ يَحْتَمِل الطَّلاَقَ وَغَيْرَهُ، وَإِذَا احْتَمَلَتْ هَذِهِ
الأَْلْفَاظُ الطَّلاَقَ وَغَيْرَهُ فَقَدِ اسْتَتَرَ الْمُرَادُ مِنْهَا
عِنْدَ السَّامِعِ فَافْتَقَرَتْ إِلَى النِّيَّةِ لِتَعْيِينِ الْمُرَادِ.
وَلاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ إِلاَّ
بِالنِّيَّةِ، فَإِنْ نَوَى الطَّلاَقَ وَقَعَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ يَقَعْ فِيمَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَإِنْ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ قَال: مَا أَرَدْتُ بِهِ
الطَّلاَقَ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَل
يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ؟ هُنَاكَ تَفْصِيلٌ:
فَإِنْ كَانَتِ الْحَال حَال الرِّضَا وَابْتَدَأَ الزَّوْجُ بِالطَّلاَقِ
يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ.
وَإِنْ كَانَتِ الْحَال حَال مُذَاكَرَةِ الطَّلاَقِ
__________
(1) المصادر السابقة.
(35/138)
وَسُؤَالِهِ أَوْ حَالَةَ الْغَضَبِ
وَالْخُصُومَةِ فَالْكِنَايَاتُ أَقْسَامٌ ثَلاَثَةٌ:
الأَْوَّل: مَا كَانَ بِأَحَدِ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ الْخَمْسَةِ وَهِيَ:
أَمْرُكِ بِيَدِكِ، وَاخْتَارِي، وَاعْتَدِّي، وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ،
وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ، فَهَذِهِ لاَ يَدِينُ فِيهَا، وَيَقَعُ الطَّلاَقُ فِي
حَالَتَيِ الْمُذَاكَرَةِ وَالْغَضَبِ، وَلاَ يُعْتَدُّ قَضَاءً
بِإِنْكَارِهِ النِّيَّةَ.
وَالثَّانِي: مَا كَانَ بِأَحَدِ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ الْخَمْسَةِ: وَهِيَ:
خَلِيَّةٌ، وَبَرِيئَةٌ، وَبَتَّةٌ، وَبَائِنٌ، وَحَرَامٌ، فَهَذِهِ
يَدِينُ فِيهَا فِي حَالَةِ الْخُصُومَةِ وَالْغَضَبِ، وَلاَ يَدِينُ فِي
حَالَةِ ذِكْرِ الطَّلاَقِ، وَيَلْزَمُهُ الطَّلاَقُ قَضَاءً.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ بَقِيَّةُ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ، وَيَدِينُ فِيهَا
جَمِيعًا فِي كُل الأَْحْوَال (1) .
11 - وَقَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ الْكِنَايَةَ فِي الطَّلاَقِ إِلَى
نَوْعَيْنِ:
كِنَايَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَكِنَايَةٌ خَفِيَّةٌ.
وَأَلْفَاظُ الْكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ عِنْدَهُمْ هِيَ:
بَتَّةٌ، وَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، وَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ.
وَيَلْزَمُ بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا الثَّلاَثُ مُطْلَقًا، دَخَل بِهَا
أَمْ لاَ، لأَِنَّ الْبَتَّ الْقَطْعُ، وَقَطْعُ الْعِصْمَةِ شَامِلٌ
لِلثَّلاَثِ وَلَوْ لَمْ يَدْخُل، وَالْحَبْل عِبَارَةٌ عَنِ الْعِصْمَةِ
وَهُوَ إِذَا رَمَى الْعِصْمَةَ عَلَى كَتِفِهَا لَمْ يَبْقَ لَهُ فِيهَا
شَيْءٌ مُطْلَقًا.
وَالْبَيْنُونَةُ بَعْدَ الدُّخُول بِغَيْرِ عِوَضٍ إِنَّمَا
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 105 - 109.
(35/139)
تَكُونُ ثَلاَثًا، فَاعْتُبِرَ لَفْظُ
بَائِنَةٌ، وَأُلْغِيَ لَفْظُ وَاحِدَةٌ.
وَمِنَ الْكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ: خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ.
وَيَلْزَمُهُ فِي قَوْلِهِ: خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ الثَّلاَثُ مُطْلَقًا،
دَخَل بِهَا أَمْ لَمْ يَدْخُل مَا لَمْ يَنْوِ أَقَل مِنَ الثَّلاَثِ،
فَإِنْ نَوَى الأَْقَل لَزِمَهُ مَا نَوَاهُ.
وَهُنَاكَ عِنْدَهُمْ أَلْفَاظٌ تُشْبِهُ الْوَاحِدَةَ الْبَائِنَةَ.
وَهِيَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ،
وَوَهَبْتُكِ لأَِهْلِكِ، أَوْ رَدَدْتُكِ، أَوْ لاَ عِصْمَةَ لِي
عَلَيْكِ، وَأَنْتِ حَرَامٌ، أَوْ خَلِيَّةٌ لأَِهْلِكِ، أَوْ بَرِيَّةٌ،
أَوْ خَالِصَةٌ، أَوْ بَائِنَةٌ، أَوْ أَنَا بَائِنٌ مِنْكِ، أَوْ خَلِيٌّ،
أَوْ بَرِيءٌ، أَوْ خَالِصٌ، فَيَلْزَمُهُ الثَّلاَثُ فِي الْمَدْخُول
بِهَا، وَفِي غَيْرِ الْمَدْخُول بِهَا إِنْ لَمْ يَنْوِ أَقَل، فَإِنْ
نَوَى الأَْقَل لَزِمَهُ مَا نَوَاهُ وَحَلَفَ إِنْ أَرَادَ نِكَاحَهَا:
أَنَّهُ مَا أَرَادَ إِلاَّ الأَْقَل، لاَ إِنْ لَمْ يُرِدْهُ.
أَمَّا الأَْلْفَاظُ التَّالِيَةُ: وَجْهِي مِنْ وَجْهِكِ حَرَامٌ، أَوْ
وَجْهِي عَلَى وَجْهِكِ حَرَامٌ - وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مِنْ وَعَلَى -
وَقَوْلُهُ: لاَ نِكَاحَ بَيْنِي وَبَيْنَكِ، أَوْ لاَ مِلْكَ لِي
عَلَيْكِ، أَوْ لاَ سَبِيل لِي عَلَيْكِ، فَيَلْزَمُهُ الثَّلاَثُ فِي
الْمَدْخُول بِهَا فَقَطْ.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ الصِّيَغَ الثَّلاَثَ الأَْخِيرَةَ بِأَنْ لَمْ
يَقْصِدْ بِهَا الْعِتَابَ، فَإِنْ قَصَدَ الْعِتَابَ فَلاَ شَيْءَ
عَلَيْهِ، فَالْعِتَابُ قَرِينَةٌ وَبِسَاطٌ دَالٌّ عَلَى عَدَمِ
إِرَادَتِهِ الطَّلاَقَ.
(35/139)
أَمَّا لَفْظُ: فَارَقْتُكِ فَيَلْزَمُهُ
وَاحِدَةٌ مُطْلَقًا دَخَل أَوْ لَمْ يَدْخُل، إِلاَّ لِنِيَّةٍ أَكْثَرَ
وَهِيَ رَجْعِيَّةٌ فِي الْمَدْخُول بِهَا.
أَمَّا أَلْفَاظُ الْكِنَايَةِ الْخَفِيَّةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
فَهِيَ: ادْخُلِي وَاذْهَبِي وَانْطَلِقِي إِنْ نَوَى وَاحِدَةً بَائِنَةً
لَزِمَهُ الثَّلاَثُ فِي الْمَدْخُول بِهَا، وَوَاحِدَةٌ فَقَطْ فِي
غَيْرِهَا مَا لَمْ يَنْوِ أَكْثَرَ (1) .
12 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكِنَايَةَ يَقَعُ بِهَا
الطَّلاَقُ مَعَ النِّيَّةِ وَلاَ يَقَعُ بِلاَ نِيَّةٍ.
وَهِيَ أَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ، بَل لاَ تَنْحَصِرُ: كَأَنْتِ خَلِيَّةٌ،
وَبَرِيَّةٌ، وَبَتَّةٌ، وَبَتْلَةٌ، وَبَائِنٌ، وَاعْتَدِّي،
وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ، وَالْحَقِي بِأَهْلِكِ، وَحَبْلُكِ عَلَى
غَارِبِكِ، وَاعْزُبِي، وَاغْرُبِي، وَدَعِينِي، وَوَدِّعِينِي.
وَقَالُوا: إِنَّ الْكِنَايَةَ هِيَ مَا احْتَمَل الطَّلاَقَ وَغَيْرَهُ،
وَلَكِنْ بِنِيَّةٍ لإِِيقَاعِهِ، وَمَعَ قَصْدِ حُرُوفِهِ.
وَأَمَّا الأَْلْفَاظُ الَّتِي لاَ تَحْتَمِل الطَّلاَقَ إِلاَّ عَلَى
تَقْدِيرٍ مُتَعَسِّفٍ فَلاَ أَثَرَ لَهَا، فَلاَ يَقَعُ بِهَا طَلاَقٌ
وَإِنْ نَوَى، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، وَأَحْسَنَ
اللَّهُ جَزَاءَكَ.
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ قَوْلَهُمْ: إِنَّ شَرْطَ نِيَّةِ الْكِنَايَةِ
اقْتِرَانُهَا بِكُل اللَّفْظِ، وَقِيل: يَكْفِي بِأَوَّلِهِ.
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 566 - 567.
(35/140)
وَيَقَعُ الطَّلاَقُ - عِنْدَهُمْ -
بِالْكِنَايَةِ حَسْبَ مَا نَوَاهُ عَدَدًا، كَأَنْتِ بَائِنٌ إِذَا نَوَى
فِيهَا عَدَدًا وَقَعَ مَا نَوَاهُ لاِحْتِمَال اللَّفْظِ لَهُ، فَإِنْ
نَوَى وَاحِدَةً أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ لأَِنَّهُ
الْمُتَيَقَّنُ (1) .
13 - وَالْكِنَايَاتُ فِي الطَّلاَقِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ نَوْعَانِ:
ظَاهِرَةٌ، وَخَفِيَّةٌ.
فَالظَّاهِرَةُ: هِيَ الأَْلْفَاظُ الْمَوْضُوعَةُ لِلْبَيْنُونَةِ،
لأَِنَّ مَعْنَى الطَّلاَقِ فِيهَا أَظْهَرُ، وَهِيَ سِتَّ عَشْرَةَ
كِنَايَةً: أَنْتِ خَلِيَّةٌ، وَبَرِيئَةٌ، وَبَائِنٌ،. وَبَتَّةٌ،
وَبَتْلَةٌ، أَنْتِ حُرَّةٌ، وَأَنْتِ الْحَرَجُ، وَحَبْلُكِ عَلَى
غَارِبِكِ، وَتَزَوَّجِي مَنْ شِئْتِ، وَحَلَلْتِ لِلأَْزْوَاجِ، وَلاَ
سَبِيل لِي عَلَيْكِ، وَلاَ سُلْطَانَ لِي عَلَيْكِ، وَأَعْتَقْتُكِ،
وَغَطِّي شَعْرَكِ، وَتَقَنَّعِي، وَأَمْرُكِ بِيَدِكِ.
وَالْخَفِيَّةُ: هِيَ الأَْلْفَاظُ الْمَوْضُوعَةُ لِلطَّلْقَةِ
الْوَاحِدَةِ مَا لَمْ يَنْوِ أَكْثَرَ نَحْوَ: اخْرُجِي، وَاذْهَبِي،
وَتَجَرَّعِي، وَالْحَقِي بِأَهْلِكِ، وَلاَ حَاجَةَ لِي فِيكِ.
وَالْكِنَايَةُ - وَلَوْ ظَاهِرَةً - لاَ يَقَعُ بِهَا طَلاَقٌ إِلاَّ أَنْ
يَنْوِيَهُ، لأَِنَّ الْكِنَايَةَ لَمَّا قَصُرَتْ رُتْبَتُهَا عَنِ
الصَّرِيحِ وَقَفَ عَمَلُهَا عَلَى نِيَّةِ الطَّلاَقِ تَقْوِيَةً لَهَا،
وَلأَِنَّهَا لَفْظٌ يَحْتَمِل غَيْرَ مَعْنَى الطَّلاَقِ، فَلاَ
يَتَعَيَّنُ لَهُ بِدُونِ النِّيَّةِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 281 وما بعدها.
(35/140)
النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلَفْظِ
الْكِنَايَةِ، فَلَوْ تَلَفَّظَ بِالْكِنَايَةِ غَيْرَ نَاوٍ لِلطَّلاَقِ
ثُمَّ نَوَى بِهَا الطَّلاَقَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ، أَوْ يَأْتِي
مَعَ الْكِنَايَةِ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ نِيَّةِ الطَّلاَقِ كَحَال
خُصُومَةٍ وَغَضَبٍ وَجَوَابِ سُؤَالِهَا الطَّلاَقَ، فَيَقَعُ الطَّلاَقُ
مِمَّنْ أَتَى بِكِنَايَةٍ إِذَنْ وَلَوْ بِلاَ نِيَّةٍ، لأَِنَّ دَلاَلَةَ
الْحَال كَالنِّيَّةِ، فَلَوِ ادَّعَى فِي هَذِهِ الأَْحْوَال - أَيْ حَال
الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ وَسُؤَالِهَا الطَّلاَقَ - أَنَّهُ مَا أَرَادَ
الطَّلاَقَ، أَوِ ادَّعَى أَنَّهُ أَرَادَ غَيْرَهُ دِينَ لاِحْتِمَال
صِدْقِهِ، وَلَمْ يُقْبَل فِي الْحُكْمِ لأَِنَّهُ خِلاَفُ مَا دَلَّتْ
عَلَيْهِ الْحَال.
وَيَقَعُ مَعَ النِّيَّةِ بِالْكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ ثَلاَثٌ وَإِنْ
نَوَى وَاحِدَةً، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ
ثَابِتٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي
وَقَائِعَ مُخْتَلِفَةٍ (1) .
ب - أَلْفَاظُ الْكِنَايَةِ فِي الإِْيلاَءِ:
14 - الْكِنَايَةُ فِي الإِْيلاَءِ
كُل مَا يَحْتَمِل الْجِمَاعَ وَغَيْرَهُ وَلَمْ يَغْلِبِ اسْتِعْمَالُهُ
فِي الْجِمَاعِ عُرْفًا، كَأَنْ يَقُول: وَاللَّهِ لاَ يَجْتَمِعُ رَأْسُكِ
وَرَأْسِي بِشَيْءٍ، وَلاَ قَرُبْتُ فِرَاشَكِ، وَلأََسُوءَنَّكِ،
وَلأََغِيظَنَّكِ، وَلَتَطُولَنَّ غَيْبَتِي عَنْكِ، وَلاَ يَمَسُّ جِلْدِي
جِلْدَكِ، وَلاَ أَوَيْتُ مَعَكِ، وَلاَ أَنَامُ مَعَكِ، لأَِنَّ هَذِهِ
الأَْلْفَاظَ تُسْتَعْمَل فِي الْجِمَاعِ وَفِي غَيْرِهِ، فَلاَ بُدَّ مِنَ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 250، 251.
(35/141)
النِّيَّةِ، لِيَكُونَ إِيلاَءً (1) .
وَلِلتَّفْصِيل ر: (إِيلاَءٌ ف 5) .
ج - كِنَايَاتُ الظِّهَارِ:
15 - كِنَايَاتُ الظِّهَارِ كَثِيرَةٌ: كَأَنْتِ أُمِّي: أَنْتِ عَلَيَّ
كَعَيْنِ أُمِّي، أَوْ رَأْسِهَا أَوْ رُوحِهَا، وَكُل لَفْظٍ يَحْتَمِل
التَّحْرِيمَ وَيَحْتَمِل الْكَرَامَةَ فَهُوَ كِنَايَةٌ فِيهِ (2) .
ر: (ظِهَارٌ ف 13) .
د - كِنَايَاتُ الْقَذْفِ:
16 - كِنَايَاتُ الْقَذْفِ كَقَوْلِهِ يَا فَاجِرُ، يَا فَاسِقُ، يَا
خَبِيثُ، أَوْ أَنْتِ تُحِبِّينَ الْخَلْوَةَ، لاَ تَرُدِّينَ يَدَ
لاَمِسٍ، لَمْ أَجِدْكِ عَذْرَاءَ (3) ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَلِلتَّفْصِيل ر: (قَذْفٌ ف 7 وَمَا بَعْدَهَا) .
هـ - كِنَايَاتُ الْوَقْفِ:
11 - كِنَايَاتُ الْوَقْفِ كَقَوْلِهِ: تَصَدَّقْتُ، وَحَرَّمْتُ،
وَأَبَّدْتُ (4) ، فَإِنْ قَصَدَ الْوَقْفَ صَارَ مَوْقُوفًا، وَإِلاَّ
فَلاَ يَكُونُ، لِتَرَدُّدِ اللَّفْظِ بَيْنَ الْوَقْفِ وَغَيْرِهِ.
وَلِلتَّفْصِيل ر: (وَقْفٌ) .
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 162، والمغني 7 / 316، والأشباه والنظائر للسيوطي
ص304.
(2) نهاية المحتاج 7 / 183، والأشباه والنظائر للسيوطي ص305.
(3) كشاف القناع 6 / 111، والأشباه للسيوطي ص305.
(4) المغني 5 / 602
(35/141)
و - كِنَايَاتُ الْخُلْعِ:
18 - كِنَايَاتُ الْخُلْعِ كَقَوْلِهِ: بَارَأْتُكِ، وَأَبْرَأْتُكِ،
وَأَبَنْتُكِ، وَلاَ يَقَعُ الْخُلْعُ بِالْكِنَايَةِ إِلاَّ بِنِيَّةِ
مَنْ تَلَفَّظَ بِهِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (خُلْعٌ ف 30) .
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 360.
(35/142)
كَنْز
التَّعْرِيفُ:
1 - يُطْلَقُ الْكَنْزُ فِي اللُّغَةِ عَلَى عِدَّةِ مَعَانٍ أَوَّلُهَا:
الْجَمْعُ وَالاِدِّخَارُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: نَاقَةٌ كَنَّازُ
اللَّحْمِ أَيْ مُجْتَمِعَةٌ، وَكَنَزْتُ التَّمْرَ فِي وِعَائِهِ
أَكْنِزُهُ، وَزَمَنُ الْكِنَازِ هُوَ أَوَانُ كَنْزِ التَّمْرِ
وَجَمْعِهِ.
الثَّانِي: الْمَال الْمَدْفُونُ تَحْتَ الأَْرْضِ تَسْمِيَةً
بِالْمَصْدَرِ، وَجَمْعُهُ كُنُوزٌ، مِثْل فَلْسٍ وَفُلُوسٍ.
الثَّالِثُ: كُل كَثِيرٍ مَجْمُوعٍ يُتَنَافَسُ فِيهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرِّكَازُ:
2 - الرِّكَازُ لُغَةً بِمَعْنَى الْمَرْكُوزِ وَهُوَ مِنَ الرَّكْزِ أَيِ
الإِْثْبَاتُ، وَهُوَ الْمَدْفُونُ فِي الأَْرْضِ إِذَا خَفِيَ،
وَالرِّكْزُ بِكَسْرِ الرَّاءِ هُوَ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ.
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب مادة: كنز.
(2) التعريفات للجرجاني، والمفردات
للراغب الأصفهاني.
(35/142)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ:
مَا دَفَنَهُ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى كُل مَا كَانَ
مَالاً عَلَى اخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهِ.
وَخَصَّهُ الشَّافِعِيَّةُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ مَالٌ مَرْكُوزٌ تَحْتَ أَرْضٍ
أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ رَاكِزِهِ الْخَالِقَ أَوِ الْمَخْلُوقَ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْكَنْزِ وَالرِّكَازِ أَنَّ الْكَنْزَ أَعَمُّ
مِنَ الرِّكَازِ.
(ر: رِكَازٌ ف 1 - 3) .
ب - الْمَعْدِنُ:
3 - الْمَعْدِنُ لُغَةً: مَكَانُ كُل شَيْءٍ فِيهِ أَصْلُهُ وَمَرْكَزُهُ،
وَمَوْضِعُ اسْتِخْرَاجِ الْجَوْهَرِ مِنْ ذَهَبٍ وَنَحْوِهِ (1) .
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْكَمَال: أَصْل الْمَعْدِنِ الْمَكَانُ
بِقَيْدِ الاِسْتِقْرَارِ فِيهِ، ثُمَّ اشْتُهِرَ فِي نَفْسِ الأَْجْزَاءِ
الْمُسْتَقِرَّةِ الَّتِي رَكَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الأَْرْضِ
يَوْمَ خَلَقَ الأَْرْضَ حَتَّى صَارَ الاِنْتِقَال مِنَ اللَّفْظِ
إِلَيْهِ ابْتِدَاءً بِلاَ قَرِينَةٍ (2) .
أَنْوَاعُ الْكَنْزِ:
يُقَسِّمُ الْفُقَهَاءُ الْكَنْزَ تَقْسِيمَاتٍ مُتَنَوِّعَةً بِالنَّظَرِ
إِلَى عَدِيدٍ مِنَ الاِعْتِبَارَاتِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ.
__________
(1) المعجم الوسيط.
(2) فتح القدير 2 / 178.
(35/143)
وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل مَا يَتَعَلَّقُ
بِهَذِهِ التَّقْسِيمَاتِ.
أَوَّلاً: تَقْسِيمُ الْكَنْزِ بِالنَّظَرِ لِنِسْبَتِهِ التَّارِيخِيَّةِ:
أ - الْكُنُوزُ الإِْسْلاَمِيَّةُ:
أ - الْكُنُوزُ الإِْسْلاَمِيَّةُ هِيَ الَّتِي يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ
نِسْبَتُهَا إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ
عَلَيْهَا نَقْشٌ مِنَ النُّقُوشِ الإِْسْلاَمِيَّةِ، كَكَلِمَةِ
التَّوْحِيدِ أَوِ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أَوِ اسْمِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الإِْسْلاَمِ أَوْ أَيَّةِ
عَلاَمَةٍ أُخْرَى مِنَ الْعَلاَمَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نِسْبَةِ
الْكَنْزِ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (1) .
وَفِي الْحُكْمِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ اتِّجَاهَانِ:
أَوَّلُهُمَا: أَنَّهُ لاَ يَأْخُذُ حُكْمَ اللُّقَطَةِ وَيَلْزَمُ
وَاجِدُهُ أَنْ يَحْفَظَهُ أَبَدًا، قَال النَّوَوِيُّ: فَعَلَى هَذَا
يُمْسِكُهُ الْوَاجِدُ أَبَدًا وَلِلسُّلْطَانِ حِفْظُهُ فِي بَيْتِ
الْمَال كَسَائِرِ الأَْمْوَال الضَّائِعَةِ، فَإِنْ رَأَى الإِْمَامُ
حِفْظَهُ أَبَدًا فَعَل، وَإِنْ رَأَى اقْتِرَاضَهُ لِمَصْلَحَةٍ فَعَل،
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لاَ يَمْلِكُهُ الْوَاجِدُ بِحَالٍ، قَال أَبُو
عَلِيٍّ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللُّقَطَةِ أَنَّ اللُّقَطَةَ
تَسْقُطُ مِنْ مَالِكِهَا فِي مَضْيَعَةٍ، فَجَوَّزَ الشَّارِعُ
لِوَاجِدِهَا تَمَلُّكَهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ تَرْغِيبًا لِلنَّاسِ فِي
أَخْذِهَا وَحِفْظِهَا، وَأَمَّا الْكَنْزُ الْمَذْكُورُ فَمُحْرَزٌ
بِالدَّفْنِ غَيْرُ مُضَيَّعٍ، فَأَشْبَهَ الإِْبِل الْمُمْتَنِعَةَ مِنَ
السِّبَاعِ إِذَا
__________
(1) المجموع 6 / 97.
(35/143)
وَجَدَهَا فِي الصَّحْرَاءِ، فَإِنَّهُ لاَ
يَجُوزُ أَخْذُهَا لِلتَّمْلِيكِ (1) .
أَمَّا الاِتِّجَاهُ الآْخَرُ: فَهُوَ إِلْحَاقُ مَا يُعَدُّ مِنْ هَذِهِ
الْكُنُوزِ بِاللُّقَطَةِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ إِنْ عُرِفَ،
وَفِي التَّعْرِيفِ، وَفِي التَّصَرُّفِ فِيهَا التَّصَرُّفَ الْوَاجِبَ
فِي اللُّقَطَةِ، وَيُوَضِّحُ إِلْحَاقُ الْكَنْزِ بِاللُّقَطَةِ عِنْدَ
أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ إِغْفَالَهُمْ لِلرَّأْيِ السَّابِقِ وَعَدَمَ
إِشَارَتِهِمْ إِلَيْهِ فِي أَكْثَرِ الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ، جَاءَ فِي
الْمُغْنِي أَنَّ هَذَا الْكَنْزَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ، فَعَلَيْهِ
(أَيْ عَلَى وَاجِدِهِ) أَنْ يُعَرِّفَ مَا يَجِدُهُ مِنْهُ (2) .
أَمَّا وُجُوبُ التَّعْرِيفِ بِهَا وَعَدَمُ كِتْمَانِهَا أَوْ
إِخْفَائِهَا فَلاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنْ
يَضُرَّ بِهِ هَذَا التَّعْرِيفُ فَيُعْذَرُ عَنْهُ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ
الشَّبْرَامَلِّسِيُّ وَأَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ: اطَّرَدَتِ الْعَادَةُ فِي
زَمَانِنَا بِأَنَّ مَنْ نُسِبَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ تَسَلَّطَتْ
عَلَيْهِ الظُّلْمَةُ بِالأَْذَى وَاتِّهَامِهِ أَنَّ هَذَا بَعْضُ مَا
وَجَدَهُ، فَهَل يَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا فِي عَدَمِ الإِْعْلاَمِ،
وَيَكُونُ فِي يَدِهِ كَالْوَدِيعَةِ، فَيَجِبُ حِفْظُهُ وَمُرَاعَاتُهُ
أَبَدًا، أَوْ يَجُوزُ لَهُ صَرْفُهُ مَصْرِفَ بَيْتِ الْمَال كَمَنْ
وَجَدَ مَالاً أَيِسَ مِنْ مَالِكِهِ، وَخَافَ مِنْ دَفْعِهِ لأَِمِينِ
بَيْتِ الْمَال أَنَّ أَمِينَ بَيْتِ الْمَال لاَ يَصْرِفُهُ مَصْرِفَهُ؟
فِيهِ نَظَرٌ،
__________
(1) المجموع 6 / 98.
(2) المغني لابن قدامة 2 / 613، وانظر الدسوقي 1 / 492.
(35/144)
وَلاَ يَبْعُدُ الثَّانِي لِلْعُذْرِ
الْمَذْكُورِ، وَيَنْبَغِي لَهُ إِنْ أَمْكَنَ دَفْعُهُ لِمَنْ مَلَكَ
مِنْهُ تَقْدِيمُهُ عَلَى غَيْرِهِ إِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِبَيْتِ
الْمَال (1) .
وَمُدَّةُ التَّعْرِيفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سَنَةٌ فِيمَا تَزِيدُ
قِيمَتُهُ عَلَى عَشْرَةِ دَرَاهِمَ، وَمَا قَلَّتْ قِيمَتُهُ عَنْ ذَلِكَ
يُعَرَّفُ أَيَّامًا عِنْدَهُمْ (2) .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ دَفْعِ
الْكَنْزِ لِصَاحِبِهِ إِنْ وُجِدَ أَمَّا إِنْ لَمْ يُوجَدْ صَاحِبُهُ
فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِيمَا
يَجِبُ فِي اللُّقَطَةِ الَّتِي لاَ يُدْرَى صَاحِبُهَا بَعْدَ
تَعْرِيفِهَا التَّعْرِيفَ الْوَاجِبَ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (لُقَطَةٌ ف 14) .
ب - كُنُوزُ الْجَاهِلِيَّةِ:
5 - يُطْلَقُ اصْطِلاَحُ كُنُوزِ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى مَا يَنْتَسِبُ
إِلَى مَا قَبْل ظُهُورِ الإِْسْلاَمِ، سَوَاءٌ انْتَسَبَ إِلَى قَوْمٍ
أَهْل جَهْلٍ لاَ يَعْرِفُونَ شَيْئًا عَنِ الدِّينِ مِمَّنْ عَاشُوا فِي
فَتَرَاتِ الرُّسُل، أَوِ انْتَسَبَ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ أَوِ
النَّصَارَى، وَيَتَقَيَّدُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْكُنُوزِ بِمُقْتَضَى
هَذَا الْوَصْفِ بِكَوْنِهِ دَفِينَ غَيْرِ مُسْلِمٍ وَلاَ ذِمِّيٍّ.
وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ إِشَارَةِ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ إِلَى هَذَا
النَّوْعِ مِنَ الْكُنُوزِ بِأَنَّهُ دَفِينُ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ
هَذَا لاَ يَعْنِي اشْتِرَاطَ كَوْنِهِ مَدْفُونًا فِي بَاطِنِ
__________
(1) حاشية الشبراملسي مع نهاية المحتاج 3 / 99.
(2) الجامع الصغير لمحمد بن الحسن ص107.
(35/144)
الأَْرْضِ لِتَرَتُّبِ الأَْحْكَامِ
الْفِقْهِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِهِ، إِذْ يَذْكُرُ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ
فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ الدُّسُوقِيُّ.
أَنَّ مَا وُجِدَ فَوْقَ الأَْرْضِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَهُوَ رِكَازٌ،
وَأَنَّ التَّقْيِيدَ بِالدَّفْنِ لأَِنَّهُ شَأْنُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي
الْغَالِبِ (1) ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ
اشْتِرَاطَ الدَّفْنِ لاِعْتِبَارِهِ مِنَ الرِّكَازِ حَقِيقَةً، وَلَكِنْ
غَيْرُ الْمَدْفُونِ مِنَ الأَْمْوَال يَلْتَحِقُ بِالْمَدْفُونِ قِيَاسًا
عَلَيْهِ، يَدُل عَلَى هَذَا الرَّأْيِ مَا جَاءَ فِي حَاشِيَةِ
الدُّسُوقِيُّ: أَنَّ غَيْرَ الْمَدْفُونِ لَيْسَ بِرِكَازٍ وَإِنْ كَانَ
فِيهِ الْخُمُسُ قِيَاسًا عَلَيْهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ مَدْفُونًا،
فَلَوْ وَجَدَهُ ظَاهِرًا وَعَلِمَ أَنَّ السَّيْل أَوِ السَّبُعَ أَوْ
نَحْوَ ذَلِكَ أَظْهَرَهُ فَرِكَازٌ، أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ ظَاهِرًا
فَلُقَطَةٌ، فَإِنْ شَكَّ كَانَ لُقَطَةً كَمَا لَوْ تَرَدَّدَ فِي
كَوْنِهِ ضَرْبَ الْجَاهِلِيَّةِ أَوِ الإِْسْلاَمِ، قَالَهُ
الْمَاوَرْدِيُّ (3) .
وَقَدْ وَرَدَ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الإِْشَارَةُ إِلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْكُنُوزِ بِهَذَا الاِصْطِلاَحِ
الَّذِي اتَّبَعَهُ الْفُقَهَاءُ فِيمَا بَعْدُ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَجُلاً مِنْ مُزَيْنَةَ سَأَل رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ:
الْكَنْزُ نَجِدُهُ فِي الْخَرِبِ وَفِي الآْرَامِ فَقَال رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِيهِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 489.
(2) المرجع السابق 1 / 490.
(3) نهاية المحتاج 3 / 98.
(35/145)
وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ (1) .
وَالضَّابِطُ فِي الْتِحَاقِ مَا يُكْتَشَفُ مِنَ الأَْمْوَال بِكُنُوزِ
الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهَا مِنْ دَفْنِهِمْ، وَلَمْ تَدْخُل
فِي مِلْكِ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلاَ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ،
وَإِنَّمَا يُظَنُّ ذَلِكَ ظَنًّا غَالِبًا بِأَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ
عَلاَمَاتُهُمْ أَوْ نُقُوشُهُمْ أَوْ أَيُّ شَيْءٍ آخَرُ يَدُل
عَلَيْهِمْ، جَاءَ فِي الْمُغْنِي اعْتِبَارُ الْكَنْزِ دَفْنًا
جَاهِلِيًّا بِأَنْ تُرَى عَلَيْهِ عَلاَمَاتُهُمْ كَأَسْمَاءِ مُلُوكِهِمْ
وَصُوَرِهِمْ وَصُلُبِهِمْ وَصُوَرِ أَصْنَامِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) .
وَمِنْ هَذِهِ الْعَلاَمَاتِ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْبَعْضُ أَنْ يُوجَدَ
فِي قُبُورِهِمْ (3) ، أَوْ أَنْ يُوجَدَ فِي قِلاَعِهِمْ وَخَرَائِبِهِمْ
(4) .
وَحُكْمُ هَذَا الْكَنْزِ وُجُوبُ الْخُمُسِ فِيهِ بِاتِّفَاقِ
الْفُقَهَاءِ إِذَا تَوَافَرَتْ شُرُوطُهُ لِلنَّصِّ عَلَى هَذَا
الْوُجُوبِ (5) .
ج - الْكَنْزُ الْمُشْتَبِهُ الأَْصْل
6 - وَهُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنَ الْكُنُوزِ فَهِيَ الَّتِي لاَ
نَعْرِفُ حَقِيقَتَهَا، بِأَنْ لاَ يُوجَدَ عَلَيْهَا أَثَرٌ مُطْلَقًا
كَتِبْرٍ وَآنِيَةٍ وَحُلِيٍّ، أَوْ كَانَ عَلَيْهَا أَثَرٌ لاَ يَكْشِفُ
__________
(1) حديث: " أن رجلا من مزينة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ".
أخرجه أحمد (2 / 186) ، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (11 / 34)
.
(2) المغني لابن قدامة 2 / 613.
(3) تحفة المحتاج 3 / 288.
(4) نهاية المحتاج 3 / 98.
(5) المبسوط 2 / 211، البحر الرائق 2 / 252، حاشية الدسوقي 1 / 489 والمغني
2 / 615.
(35/145)
عَنْ أَصْلِهَا، كَمَا إِذَا كَانَتْ
نَقْدًا يُضْرَبُ مِثْلُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالإِْسْلاَمِ (1) .
وَإِنَّمَا يَصْدُقُ هَذَا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ
الْكَنْزِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ، كَمَا إِذَا وُجِدَ فِي
قَرْيَةٍ لَمْ يَسْكُنْهَا مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ يُعَدُّ جَاهِلِيًّا،
وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ هُمُ الَّذِينَ اخْتَطُّوهَا وَلَمْ
يَسْكُنْهَا جَاهِلِيٌّ فَإِنَّ الْمَوْجُودَ يُعَدُّ كَنْزًا
إِسْلاَمِيًّا.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا الْكَنْزِ، فَأَلْحَقَهُ
الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِكُنُوزِ
الْجَاهِلِيَّةِ فَيُعْطَى حُكْمَ الرِّكَازِ.
وَأَلْحَقَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ
بِالْكُنُوزِ الإِْسْلاَمِيَّةِ فَيُعْطَى حُكْمَ اللُّقَطَةِ (2) .
ثَانِيًا: تَقْسِيمُ الْكَنْزِ الْجَاهِلِيِّ بِالنَّظَرِ إِلَى الدَّارِ
الَّتِي وُجِدَ فِيهَا:
يُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْكَنْزِ الَّذِي يَجِدُهُ الْوَاجِدُ فِي
دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَبَيْنَ ذَلِكَ الَّذِي يُوجَدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ،
وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ هَذَا التَّقْسِيمِ.
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 98.
(2) بدائع الصنائع 2 / 65، والبحر الرائق 2 / 253، وحاشية الدسوقي 1 / 498
- 499، والمجموع 6 / 96، ونهاية المحتاج 3 / 98، والمغني مع الشرح الكبير 2
/ 613.
(35/146)
النَّوْعُ الأَْوَّل: الْكَنْزُ الَّذِي
يُوجَدُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ
7 - تَخْتَلِفُ أَحْكَامُ الْكُنُوزِ الَّتِي تُوجَدُ فِي دَارِ
الإِْسْلاَمِ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِ مِلْكِيَّةِ الأَْرْضِ الَّتِي وُجِدَتْ
فِيهَا وَسَبِيل هَذِهِ الْمِلْكِيَّةِ، وَيَخْتَلِفُ النَّظَرُ
الْفِقْهِيُّ إِلَى مَا يُوجَدُ مِنْ هَذِهِ الْكُنُوزِ فِي أَرْضٍ لاَ
مَالِكَ لَهَا، أَوْ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ مَسْلُوكٍ، أَوْ فِي أَرْضٍ
مَلَكَهَا صَاحِبُهَا بِشِرَاءٍ أَوْ بِمِيرَاثٍ، أَوْ فِي أَرْضٍ
مَلَكَهَا صَاحِبُهَا بِالإِْحْيَاءِ، عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي بَيْنَ
هَذِهِ الأَْنْوَاعِ:
أ - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْكَنْزَ الْجَاهِلِيَّ
الَّذِي يُوجَدُ فِي مَوَاتٍ أَوْ فِي أَرْضٍ لاَ يُعْلَمُ لَهَا مَالِكٌ
مِثْل الأَْرْضِ الَّتِي تُوجَدُ فِيهَا، آثَارُ الْمِلْكِ كَالأَْبْنِيَةِ
الْقَدِيمَةِ وَالتُّلُول وَجُدْرَانِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقُبُورِهِمْ.
فَهَذَا فِيهِ الْخُمُسُ وَلَوْ وَجَدَهُ فِي هَذِهِ الأَْرْضِ عَلَى
وَجْهِهَا أَوْ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ مَسْلُوكٍ أَوْ فِي قَرْيَةٍ خَرَابٍ
فَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ، لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَال: سُئِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَال: مَا كَانَ فِي طَرِيقٍ مَأْتِيٍّ أَوْ
فِي قَرْيَةٍ عَامِرَةٍ فَعَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا
وَإِلاَّ فَلَكَ، وَمَا لَمْ يَكُنْ فِي طَرِيقٍ مَأْتِيٍّ وَلاَ فِي
قَرْيَةٍ عَامِرَةٍ فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ (1) .
__________
(1) حديث: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة. . . ". أخرجه
النسائي (5 / 44) ، وإسناده حسن.
(35/146)
وَمِنْهُ كَذَلِكَ مَا يُوجَدُ فِي بِلاَدِ
الإِْسْلاَمِ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ لأَِحَدٍ كَالْجِبَال
وَالْمَفَاوِزِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَمْلِكُ الْوَاجِدُ الرِّكَازَ وَتَلْزَمُهُ
الزَّكَاةُ فِيهِ إِذَا وَجَدَهُ فِي مَوَاتٍ أَوْ فِي خَرَائِبِ أَهْل
الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ قِلاَعِهِمْ أَوْ قُبُورِهِمْ (2) .
ب - وَأَمَّا مَا يُوجَدُ مِنَ الْكُنُوزِ فِي أَرْضٍ أَوْ دَارٍ
يَمْلِكُهَا الْوَاجِدُ نَفْسُهُ بِشِرَاءٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَوْ هِبَةٍ
فَالاِتِّفَاقُ عَلَى وُجُوبِ الْخُمُسِ بِاعْتِبَارِهِ كَانَ مَال
الْكَفَرَةِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ فَيُخَمَّسُ (3)
.
وَأَمَّا الأَْرْبَعَةُ الأَْخْمَاسُ الْبَاقِيَةُ فَهِيَ لِصَاحِبِ
الْخُطَّةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ إِنْ كَانَ حَيًّا، وَإِنْ
كَانَ مَيِّتًا فَلِوَرَثَتِهِ إِنْ عُرِفُوا، وَإِنْ كَانَ لاَ يَعْرِفُ
صَاحِبَ الْخُطَّةِ وَلاَ وَرَثَتَهُ تَكُونُ لأَِقْصَى مَالِكٍ لِلأَْرْضِ
أَوْ لِوَرَثَتِهِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ (4) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ مِلْكِيَّةَ
الأَْخْمَاسِ الأَْرْبَعَةِ فِي الْكَنْزِ الْمَوْجُودِ فِي أَرْضٍ
مَمْلُوكَةٍ لِلْوَاجِدِ أَوْ غَيْرِهِ لَيْسَتْ لِلْوَاجِدِ وَلاَ
لِمَالِكِ
__________
(1) البحر الرائق 2 / 253، وحاشية الدسوقي 1 / 491، والمغني مع الشرح
الكبير 2 / 613.
(2) نهاية المحتاج 3 / 98.
(3) بدائع الصنائع 2 / 66.
(4) بدائع الصنائع 2 / 66.
(35/147)
الأَْرْضِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ هَذَا
الْمِلْكُ إِلَى الْمُخْتَطِّ لَهُ الأَْوَّل الَّذِي انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ
مِلْكِيَّةُ الأَْرْضِ بِمَا فِيهَا بَعْدَ تَقْسِيمِ الإِْمَامِ لَهَا
عَقِبَ فَتْحِهَا عَلَى أَيْدِي الْجَيْشِ الْمُسْلِمِ، وَيُعَرِّفُ
الْمَرْغِينَانِيُّ الْمُخْتَطَّ لَهُ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي مَلَّكَهُ
الإِْمَامُ هَذِهِ الْبُقْعَةَ أَوَّل الْفَتْحِ، وَيُعَقِّبُ الْكَمَال
عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ: لاَ نَقُول إِنَّ الإِْمَامَ يُمَلِّكُ
الْمُخْتَطَّ لَهُ الْكَنْزَ بِالْقِسْمَةِ، بَل يُمَلِّكُهُ الْبُقْعَةَ
وَيُقَرِّرُ يَدَهُ فِيهَا وَيَقْطَعُ مُزَاحَمَةَ سَائِرِ الْغَانِمِينَ
فِيهَا، وَإِذَا صَارَ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهَا أَقْوَى الاِسْتِيلاَءَاتِ،
وَهُوَ بِيَدِ خُصُوصِ الْمِلْكِ السَّابِقَةِ فَيَمْلِكُ بِهَا مَا فِي
الْبَاطِنِ مِنَ الْمَال الْمُبَاحِ، لِلاِتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ
الْغَانِمِينَ لَمْ يُعْتَبَرْ لَهُمْ مِلْكٌ فِي هَذَا الْكَنْزِ بَعْدَ
الاِخْتِطَاطِ، وَإِلاَّ لَوَجَبَ صَرْفُهُ إِلَيْهِمْ أَوْ إِلَى
ذَرَارِيِّهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفُوا وُضِعَ فِي بَيْتِ الْمَال
وَاللاَّزِمُ مُنْتَفٍ، ثُمَّ إِذَا مَلَكَهُ (أَيِ الْكَنْزَ) لَمْ يَصِرْ
مُبَاحًا فَلاَ يَدْخُل فِي بَيْعِ الأَْرْضِ، فَلاَ يَمْلِكُهُ مُشْتَرِي
الأَْرْضِ كَالدُّرَّةِ فِي بَطْنِ السَّمَكَةِ يَمْلِكُهَا الصَّائِدُ
لِسَبْقِ يَدِ الْخُصُوصِ إِلَى السَّمَكَةِ حَال إِبَاحَتِهَا، ثُمَّ لاَ
يَمْلِكُهَا مُشْتَرِي السَّمَكَةِ لاِنْتِفَاءِ الإِْبَاحَةِ، وَمَا
ذُكِرَ فِي السَّمَكَةِ مِنَ الإِْطْلاَقِ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.
أَمَّا إِنْ لَمْ يُعْرَفْ هَذَا الْمُخْتَطُّ لَهُ وَلاَ وَرَثَتُهُ
فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْكَنْزَ أَقْصَى مَالِكٍ يُعْرَفُ فِي
الإِْسْلاَمِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ السَّرَخْسِيِّ، خِلاَفًا لأَِبِي
الْيَسَرِ الْبَزْدَوِيِّ
(35/147)
الَّذِي اخْتَارَ اسْتِحْقَاقَ بَيْتِ
الْمَال لِلْكَنْزِ، يَقُول السَّرَخْسِيُّ: إِنْ كَانَ الْمُخْتَطُّ لَهُ
بَاقِيًا أَوْ وَارِثُهُ دُفِعَ إِلَيْهِ، وَإِلاَّ فَهُوَ لأَِقْصَى
مَالِكٍ يُعْرَفُ لِهَذِهِ الْبُقْعَةِ فِي الإِْسْلاَمِ، وَهَذَا قَوْل
أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَلَعَل أَبَا الْيَسَرِ قَدْ نَظَرَ إِلَى
تَعَذُّرِ التَّعَرُّفِ عَلَى الْمُخْتَطِّ لَهُ فِي عَصْرِهِ فَأَوْجَبَ
مِلْكَ الأَْرْبَعَةِ الأَْخْمَاسِ لِبَيْتِ الْمَال (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ مُلِّكَتِ الأَْرْضُ بِإِرْثٍ فَأَرْبَعَةُ
الأَْخْمَاسِ الْبَاقِيَةِ لِمَالِكِهَا، وَإِنْ مُلِّكَتْ بِشِرَاءٍ أَوْ
هِبَةٍ فَهِيَ لِلْبَائِعِ الأَْصْلِيِّ أَوِ الْوَاهِبِ إِنْ عُلِمَ
وَإِلاَّ فَلُقَطَةٌ، وَقِيل لِمَالِكِهَا فِي الْحَال (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ مِلْكَ مَا يُوجَدُ مِنَ الْكُنُوزِ فِي أَرْضٍ
مَمْلُوكَةٍ بِشِرَاءٍ أَوْ مَا يُشْبِهُهُ يَخْتَصُّ بِمَالِكِ تِلْكَ
الأَْرْضِ حُكْمًا وَهُوَ الْجَيْشُ الَّذِي فَتَحَهَا عَنْهُ، فَيُدْفَعُ
الْبَاقِي لِمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الْجَيْشُ
فَلِوَارِثِهِ إِنْ وُجِدَ، فَإِنِ انْقَرَضَ الْوَارِثُ فَقَال سَحْنُونٌ:
إِنَّهُ لُقَطَةٌ فَيَجُوزُ التَّصَدُّقُ بِهِ عَنْ أَرْبَابِهِ وَيُعْمَل
فِيهِ مَا يُعْمَل فِي اللُّقَطَةِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: إِذَا انْقَرَضَ
الْوَارِثُ حَل مَحَلَّهُ بَيْتُ الْمَال مِنْ أَوَّل الأَْمْرِ، لأَِنَّهُ
مَالٌ جُهِلَتْ أَرْبَابُهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَهُوَ مَا مَشَى
__________
(1) المبسوط 2 / 214، فتح القدير 1 / 540 ط. الأميرية.
(2) الشرح الصغير 1 / 655، والدسوقي 1 / 491.
(35/148)
عَلَيْهِ الشَّارِحُ، وَكَانَ مَالِكٌ
يَقُول: كُل كَنْزٍ وُجِدَ مِنْ دَفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي بِلاَدِ قَوْمٍ
صَالَحُوا عَلَيْهَا فَأَرَاهُ لأَِهْل تِلْكَ الدَّارِ الَّذِينَ
صَالَحُوا عَلَيْهَا، وَلَيْسَ هُوَ لِمَنْ أَصَابَهُ، وَمَا أُصِيبَ فِي
أَرْضِ الْعِتْقِ فَأَرَاهُ لِجَمَاعَةِ مُسْلِمِي أَهْل تِلْكَ الْبِلاَدِ
الَّذِينَ افْتَتَحُوهَا، وَلَيْسَ هُوَ لِمَنْ أَصَابَهُ دُونَهُمْ،
لأَِنَّ مَا فِي دَاخِلِهَا بِمَنْزِلَةِ مَا فِي خَارِجِهَا فَهُوَ
لِجَمِيعِ أَهْل تِلْكَ الْبِلاَدِ، وَيُخَمَّسُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَانَ الرِّكَازُ فِي أَرْضٍ انْتَقَلَتْ
إِلَى وَاجِدِهِ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَحِل لِلْوَاجِدِ أَخْذُهُ، بَل
يَلْزَمُهُ عَرْضُهُ عَلَى مَنْ مَلَكَ الأَْرْضَ عَنْهُ، ثُمَّ الَّذِي
قَبْلَهُ إِنْ لَمْ يَدَعْهُ، ثُمَّ هَكَذَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى
الْمُحْيِي (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّ الأَْرْبَعَةَ
الأَْخْمَاسَ لِوَاجِدِهَا لأَِنَّهَا مَال كَافِرٍ مَظْهُورٍ عَلَيْهِ فِي
الإِْسْلاَمِ، فَكَانَ لِمَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ كَالْغَنَائِمِ، وَهَذَا
قَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ
لِلْحَنَابِلَةِ هِيَ لِلْمَالِكِ قَبْلَهُ إِنِ اعْتَرَفَ بِهِ، وَإِنْ
لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ فَهِيَ لِلَّذِي قَبْلَهُ كَذَلِكَ إِلَى أَوَّل
مَالِكٍ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ أَوَّل مَالِكٍ فَهُوَ كَالْمَال
الضَّائِعِ الَّذِي لاَ يُعْرَفُ لَهُ مَالِكٌ (3) .
__________
(&# x661 ;) حاشية الدسوقي
1 / 499، والخرشي 2 / 211، والمدونة 1 / 291.
(2) المجموع 6 / 94.
(3) المغني مع الشرح الكبير 2 / 613.
(35/148)
ج - مَا يُوجَدُ مِنَ الْكَنْزِ فِي
بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ فِي أَرْضٍ مَلَكَهَا صَاحِبُهَا بِالإِْحْيَاءِ
فَيُخَمَّسُ مَا يُوجَدُ (1) ، وَيَسْتَحِقُّ الْمُحْيِي الأَْخْمَاسَ
الأَْرْبَعَةَ الْبَاقِيَةَ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْكَنْزَ لِلْوَاجِدِ إِنْ وَجَدَهُ
فِي أَرْضٍ مَلَكَهَا بِالإِْحْيَاءِ أَوِ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ بِمِيرَاثٍ
أَوْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (2) .
د - مَا يُوجَدُ مِنَ الْكَنْزِ فِي بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ فِي أَرْضٍ
مَوْقُوفَةٍ فَالْكَنْزُ لِمَنْ فِي يَدِهِ الأَْرْضُ، كَذَا ذَكَرَهُ
الْبَغَوِيُّ (3) .
النَّوْعُ الثَّانِي: الْكُنُوزُ الَّتِي يَجِدُهَا الْمُسْلِمُ أَوِ
الذِّمِّيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
8 - فَصَّل الْفُقَهَاءُ أَنْوَاعَ مَا يَجِدُهُ الْمُسْلِمُ أَوِ
الذِّمِّيُّ مِنْ كُنُوزٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: هُوَ كَمَوَاتِ دَارِ
الإِْسْلاَمِ فِيهِ الْخُمُسُ (4) لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ (5) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا وُجِدَ الْكَنْزُ فِي أَرْضٍ لَيْسَتْ
بِمَمْلُوكَةٍ لأَِحَدٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ
__________
(1) المجموع 6 / 94.
(2) كشاف القناع 2 / 227.
(3) المجموع 6 / 94.
(4) حاشية الدسوقي 1 / 491، والمغني مع الشرح الكبير 2 / 615.
(5) حديث: " وفي الركاز الخمس ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 364) ومسلم
(3 / 1334) من حديث أبي هريرة.
(35/149)
لِلْوَاجِدِ، وَلاَ يُخَمَّسُ، لأَِنَّهُ
مَالٌ أَخَذَهُ لاَ عَنْ طَرِيقِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ لاِنْعِدَامِ
غَلَبَةِ أَهْل الإِْسْلاَمِ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَلَمْ يَكُنْ
غَنِيمَةً، وَلاَ خُمُسَ فِيهِ، وَيَكُونُ الْكُل لَهُ، لأَِنَّهُ مُبَاحٌ
اسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُهُ كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ،
وَسَوَاءٌ دَخَل بِأَمَانٍ أَوْ بِغَيْرِ أَمَانٍ، لأَِنَّ حُكْمَ
الأَْمَانِ يَظْهَرُ فِي الْمَمْلُوكِ لاَ فِي الْمُبَاحِ (1) .
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: إِذَا وَجَدَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ
فِي مَوَاتٍ لاَ يَذُبُّونَ عَنْهُ فَهُوَ كَمَوَاتِ دَارِ الإِْسْلاَمِ
فِيهِ الْخُمُسُ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ.
وَإِنْ وَجَدَهُ فِي مَوَاتٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَذُبُّونَ عَنْهُ
ذَبَّهُمْ عَنِ الْعُمْرَانِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ رِكَازٌ كَالَّذِي لاَ
يَذُبُّونَ عَنْهُ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ (2) .
9 - أَمَّا إِنْ وُجِدَ الْكَنْزُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لأَِهْل هَذِهِ
الدَّارِ فَيُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ حَالَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا، أَنْ يَدْخُل بِأَمَانٍ فَلاَ يَحِل لَهُ أَخْذُ الْكَنْزِ
لاَ بِقِتَالٍ وَلاَ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ لَهُ خِيَانَتُهُمْ فِي
أَمْتِعَتِهِمْ، فَإِنْ أَخَذَهُ لَزِمَهُ رَدُّهُ، قَال الْحَنَفِيَّةُ:
وَيَرُدُّهُ إِلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ، وَإِلاَّ مَلَكَهُ مِلْكًا خَبِيثًا،
لِتَمَكُّنِ خَبَثِ الْخِيَانَةِ فِيهِ فَسَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ،
وَلَوْ بَاعَهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لَكِنْ لاَ يَطِيبُ لِلْمُشْتَرِي،
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 66، والسير الكبير 5 / 2165.
(2) المجموع 6 / 94.
(35/149)
بِخِلاَفِ بَيْعِ الْمُشْتَرَى شِرَاءً
فَاسِدًا (1) ، وَيُعَدُّ سَارِقًا إِنْ أَخَذَهُ خُفْيَةً، وَمُخْتَلِسًا
إِنْ أَخَذَهُ جِهَارًا (2) .
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَل بِغَيْرِ أَمَانٍ فَيَحِل
لِلْوَاجِدِ أَنْ يَأْخُذَ مَا يَظْفَرُ بِهِ مِنْ كُنُوزِهِمْ وَلاَ
شَيْءَ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَ أَخَذَهُ بِغَيْرِ قِتَالٍ،
أَمَّا إِنْ كَانَ أَخَذَهُ عَلَى سَبِيل الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ
بِقِتَالٍ وَحَرْبٍ كَمَا لَوْ دَخَل جَمَاعَةٌ مُمْتَنِعُونَ فِي دَارِ
الْحَرْبِ فَظَفِرُوا بِشَيْءٍ مِنْ كُنُوزِهِمْ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ.
لِكَوْنِهِ غَنِيمَةً لِحُصُول الأَْخْذِ عَنْ طَرِيقِ الْقَهْرِ
وَالْغَلَبَةِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ وُجِدَ فِي مَوْضِعٍ مَمْلُوكٍ لَهُمْ
نُظِرَ: إِنْ أُخِذَ بِقَهْرٍ وَقِتَالٍ فَهُوَ غَنِيمَةٌ كَأَخْذِ
أَمْوَالِهِمْ وَنُقُودِهِمْ مِنْ بُيُوتِهِمْ فَيَكُونُ خُمُسُهُ لأَِهْل
خُمُسِ الْغَنِيمَةِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِوَاجِدِهِ، وَإِذَا أُخِذَ
بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلاَ قَهْرٍ فَهُوَ فَيْءٌ وَمُسْتَحِقُّهُ أَهْل
الْفَيْءِ، كَذَا ذَكَرَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ (4) .
مِلْكِيَّةُ الْكَنْزِ:
تَنَاوَل الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ مِلْكِيَّةِ الْكَنْزِ مِنْ حَيْثُ
طَبِيعَةُ مِلْكِيَّةِ الْخُمُسِ وَسَبَبُ مِلْكِيَّةِ الأَْرْبَعَةِ
أَخْمَاسٍ الْبَاقِيَةِ وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ مِلْكِيَّةِ الأَْرْضِ
وَمِلْكِيَّةِ الْكُنُوزِ الَّتِي تُوجَدُ فِيهَا.
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 66.
(2) المجموع 6 / 64.
(3) بدائع الصنائع 2 / 66.
(4) المجموع 6 / 94.
(35/150)
أ - مِلْكِيَّةُ الْخُمُسِ:
10 - يُمَيِّزُ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ نَوْعَيْنِ مِنَ
الْحُقُوقِ:
أَوَّلُهُمَا: الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِذِمَّةِ أَحَدٍ مِنَ
الْعِبَادِ، كَدَيْنِ الْقَرْضِ فِي ذِمَّةِ الْمُقْتَرِضِ، وَالثَّمَنِ
فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي، وَالأُْجْرَةِ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ،
وَقِيمَةِ الْمَغْصُوبِ أَوْ مِثْلِهِ فِي ذِمَّةِ الْغَاصِبِ، وَالْمَهْرِ
وَالنَّفَقَةِ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ.
الثَّانِي: الْحُقُوقُ الْقَائِمَةُ بِنَفْسِهَا الْمُتَعَلِّقَةُ
بِالأَْشْيَاءِ ذَاتِهَا لاَ فِي ذِمَّةِ أَحَدٍ، وَهِيَ الَّتِي
عَرَّفَهَا صَدْرُ الشَّرِيعَةِ بِأَنَّهَا حُقُوقٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا
لاَ تَجِبُ فِي ذِمَّةِ أَحَدٍ كَخُمُسِ الْغَنَائِمِ وَالْمَعَادِنِ،
فَالْخُمُسُ فِيهِمَا مَفْرُوضٌ عَلَى عَيْنِ الْغَنَائِمِ وَالْمَعَادِنِ
قَبْل الاِسْتِيلاَءِ أَوِ الْكَشْفِ، دُونَ نَظَرٍ إِلَى شَخْصِ
الْغَانِمِ أَوِ الْوَاجِدِ لِلْمَعْدِنِ (1) .
وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ لِلْفُقَرَاءِ،
وَالْوَاجِدِ مِنْهُمْ، وَالأَْرْبَعَةُ الأَْخْمَاسُ لِلْوَاجِدِ إِذَا
لَمْ تَبْلُغْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَإِنْ بَلَغَتْ لَمْ يَجُزْ لَهُ
الأَْخْذُ مِنَ الْخُمُسِ.
قَال السَّرَخْسِيُّ: مَنْ أَصَابَ كَنْزًا أَوْ مَعْدِنًا وَسِعَهُ أَنْ
يَتَصَدَّقَ بِخُمُسِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَإِذَا أَطْلَعَ الإِْمَامَ
عَلَى ذَلِكَ أَمْضَى لَهُ مَا صَنَعَ، لأَِنَّ الْخُمُسَ حَقُّ
الْفُقَرَاءِ وَقَدْ
__________
(1) التوضيح لصدر الشريعة ص 736 طبعة كراتشي.
(35/150)
أَوْصَلَهُ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ (1) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: يَجُوزُ دَفْعُ الْخُمُسِ إِلَى الْوَالِدِينَ
وَالْمَوْلُودِينَ إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ بِخِلاَفِ الزَّكَاةِ
وَالْعُشْرِ، وَيَجُوزُ لِلْوَاجِدِ أَنْ يَصْرِفَهُ فِي مَصَالِحِهِ إِذَا
كَانَ مُحْتَاجًا وَلاَ تُغْنِيهِ الأَْرْبَعَةُ الأَْخْمَاسُ الْبَاقِيَةُ
بِأَنْ كَانَتْ تَقِل عَنِ الْمِائَتَيْنِ، أَمَّا إِذَا بَلَغَتِ
الأَْخْمَاسُ الأَْرْبَعَةُ الْمِائَتَيْنِ فَلَيْسَ لِلْوَاجِدِ الأَْخْذُ
مِنَ الْخُمُسِ لِغِنَاهُ، وَلاَ يُقَال يَنْبَغِي أَلاَّ يَجِبَ الْخُمُسُ
مَعَ الْفَقْرِ كَاللُّقَطَةِ، لأَِنَّا نَقُول إِنَّ النَّصَّ عَامٌّ
فَيَتَنَاوَلُهُ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: خُمُسُ الرِّكَازِ مَصْرِفُهُ لَيْسَ كَمَصْرِفِ
الزَّكَاةِ وَإِنَّمَا هُوَ كَخُمُسِ الْغَنَائِمِ يَحِل لِلأَْغْنِيَاءِ
وَغَيْرِهِمْ، وَيَجِبُ الْخُمُسُ فِي الرِّكَازِ وَلَوْ كَانَ الْوَاجِدُ
عَبْدًا أَوْ كَافِرًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَدِينًا، وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى
كَبِيرِ عَمَلٍ فِي تَخْلِيصِهِ وَإِخْرَاجِهِ مِنَ الأَْرْضِ فَفِيهِ
الزَّكَاةُ رُبُعُ الْعُشْرِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ
بُلُوغُ النِّصَابِ وَلاَ غَيْرُهُ مِنْ شُرُوطِ الزَّكَاةِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ يُصْرَفُ مَصْرِفَ
الزَّكَاةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، لأَِنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ فِي
الْمُسْتَفَادِ مِنَ الأَْرْضِ، فَأَشْبَهَ الْوَاجِبَ فِي الزَّرْعِ
وَالثِّمَارِ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِدُ أَهْلاً
__________
(1) المبسوط 3 / 17.
(2) بدائع الصنائع 2 / 68، 7 / 124 - 125، وانظر السير الكبير 5 / 2173،
والبحر الرائق 2 / 252.
(3) التاج والإكليل 2 / 339، وحاشية الدسوقي 1 / 489 - 490.
(35/151)
لِلزَّكَاةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُصْرَفُ لأَِهْل الْخُمُسِ، لأَِنَّهُ مَالٌ
جَاهِلِيٌّ حَصَل الظَّفْرُ بِهِ مِنْ غَيْرِ إِيجَافِ خَيْلٍ وَلاَ
رِكَابٍ، فَكَانَ كَالْفَيْءِ، وَعَلَيْهِ فَيَجِبُ عَلَى الْمُكَاتَبِ
وَالْكَافِرِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ لِنِيَّةٍ.
وَشَرْطُهُ النِّصَابُ - وَلَوْ بِالضَّمِّ - وَالنَّقْدِ أَيِ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَضْرُوبًا عَلَى الْمَذْهَبِ، لأَِنَّهُ
مَالٌ مُسْتَفَادٌ مِنَ الأَْرْضِ فَاخْتَصَّ بِمَا تَجِبُ فِيهِ
الزَّكَاةُ قَدْرًا وَنَوْعًا كَالْمَعْدِنِ.
وَالثَّانِي: لاَ يَشْتَرِطَانِ لِلْخَبَرِ الْمَارِّ، وَلاَ يُشْتَرَطُ
الْحَوْل بِلاَ خِلاَفٍ (1) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْخُمُسَ يَكُونُ مَصْرِفُهُ
مَصْرِفَ الْفَيْءِ، اخْتَارَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَالْقَاضِي وَابْنُ
عَقِيلٍ، وَيَجِبُ الْخُمُسُ عَلَى كُل مَنْ وَجَدَهُ مِنْ مُسْلِمٍ
وَذِمِّيٍّ وَحُرٍّ وَعَبْدٍ وَمُكَاتَبٍ وَكَبِيرٍ وَصَغِيرٍ وَعَاقِلٍ
وَمَجْنُونٍ، إِلاَّ أَنَّ الْوَاجِدَ لَهُ إِذَا كَانَ عَبْدًا فَهُوَ
لِسَيِّدِهِ، وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَهُوَ لَهُمَا
وَيُخْرِجُ عَنْهُمَا وَلِيُّهُمَا.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ زَكَاةٌ، جَزَمَ بِهِ
الْخِرَقِيُّ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ أَجْزَأَهُ
لأَِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ صَاحِبَ
الْكَنْزِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ.
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 97 - 98.
(35/151)
وَإِذَا كَانَ الْخُمُسُ زَكَاةً فَلاَ
تَجِبُ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا (1) .
ب - مِلْكِيَّةُ الأَْخْمَاسِ الأَْرْبَعَةِ:
11 - يَمْلِكُ وَاجِدُ الْكَنْزِ مَا يَبْقَى مِنْهُ بَعْدَ صَرْفِ
الْخُمُسِ بِالشُّرُوطِ التَّالِيَةِ:
أَوَّلاً: أَنْ يَكُونَ الْوَاجِدُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، فَإِنْ كَانَ
حَرْبِيًّا اشْتُرِطَ سَبْقُ إِذْنِ الإِْمَامِ لَهُ بِالْعَمَل فِي
التَّنْقِيبِ عَنِ الْكُنُوزِ، وَيَتَقَيَّدُ حَقُّهُ فِي الْكَنْزِ
بِاتِّفَاقِهِ مَعَ الإِْمَامِ، وَقَدْ نَصَّ فُقَهَاءُ الْمَذْهَبِ
الْحَنَفِيِّ عَلَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا عَمِل فِي الْمَفَاوِزِ
بِإِذْنِ الإِْمَامِ عَلَى شَرْطٍ فَلَهُ الْمَشْرُوطُ (2) .
ثَانِيًا: أَنْ يَكُونَ الْكَنْزُ مِنْ دَفِينِ الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ
يَدْخُل فِي مِلْكِ مُسْلِمٍ وَلاَ ذِمِّيٍّ وَإِلاَّ أَخَذَ الْكَنْزُ
حُكْمَ اللُّقَطَةِ.
ثَالِثًا: أَنْ يُوجَدَ الْكَنْزُ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ لأَِحَدٍ
كَالْجِبَال وَالْمَفَاوِزِ وَالطُّرُقِ الْمَهْجُورَةِ الَّتِي لاَ
يَأْتِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَلاَ أَهْل الذِّمَّةِ (3) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِدَ يَمْلِكُ الرِّكَازَ،
لأَِنَّهُ كَسْبٌ لَهُ فَيَمْلِكُهُ بِالاِكْتِسَابِ، وَإِذَا مَلَكَهُ
وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِيهِ وَهِيَ الْخُمُسُ لأَِنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا (4)
.
__________
(1) الإنصاف 3 / 123 - 125، والمغني مع الشرح الكبير 2 / 615 - 616.
(2) البحر الرائق 2 / 253، وحاشية ابن عابدين 2 / 51.
(3) البحر الرائق 2 / 253، وحاشية الدسوقي 1 / 491، والإنصاف 3 / 126.
(4) المجموع 6 / 92.
(35/152)
ج - مِلْكِيَّةُ الْكَنْزِ الْمَوْجُودِ
فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ
12 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا وُجِدَ الْكَنْزُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ
فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ أَوْ مَمْلُوكَةً
لِمُعَيَّنٍ، وَالأَْرَاضِي الْمَمْلُوكَةُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ هِيَ
الَّتِي آلَتْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ بِلاَ قِتَالٍ وَلاَ إِيجَافِ خَيْلٍ
وَلاَ رِكَابٍ، وَكَذَا الَّتِي آلَتْ إِلَى بَيْتِ الْمَال لِمَوْتِ
الْمَالِكِ مِنْ غَيْرِ وَارِثٍ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ
فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَرَاضِي مِصْرَ (1) ، وَتَنْتَقِل مِلْكِيَّةُ هَذَا
النَّوْعِ مِنَ الأَْرَضِينَ إِلَى بَيْتِ الْمَال وَتَصِيرُ أَمْلاَكَ
دَوْلَةٍ، فَيَمْلِكُهَا جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ، وَاعْتَبَرَهَا بَعْضُ
الْفُقَهَاءِ وَقْفًا، وَحُكْمُ مَا يُوجَدُ مِنْ كَنْزٍ فِي هَذَا
النَّوْعِ مِنَ الأَْرَاضِيِ أَنْ يَذْهَبَ خُمُسُهُ لِبَيْتِ الْمَال
أَمَّا الْبَاقِي وَهُوَ الأَْرْبَعَةُ الأَْخْمَاسُ فَالْقِيَاسُ أَنْ
يَذْهَبَ إِلَى الْوَاجِدِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَنَابِلَةِ،
أَوْ إِلَى الْمُخْتَطِّ لَهُ الأَْوَّل إِنْ عُرِفَ، وَإِلاَّ فَلِبَيْتِ
الْمَال أَوْ لِلْجَيْشِ وَوَرَثَتِهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ حَسْبَمَا
يَأْتِي تَفْصِيلُهُ، وَفِي هَذَا يَذْكُرُ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ لَمْ
يَرَ حُكْمَ مَا وُجِدَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ
يَقُول: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْكُل لِبَيْتِ الْمَال، أَمَّا
الْخُمُسُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْبَاقِي فَلِوُجُودِ الْمَالِكِ - وَهُوَ
جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ - فَيَأْخُذُهُ وَكِيلُهُمْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 44.
(35/152)
وَهُوَ السُّلْطَانُ (1) .
وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي صَرْفِ
الْبَاقِي بَعْدَ الْخُمُسِ أَوْ دَفْعِ نِسْبَةِ الزَّكَاةِ إِلَى مَالِكِ
الأَْرْضِ، وَيُفَسِّرُ الْخَرَشِيُّ هَذَا الأَْصْل بِقَوْلِهِ: بَاقِي
الرِّكَازِ سَوَاءٌ وَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ أَوِ الزَّكَاةُ، وَهُوَ
الأَْرْبَعَةُ الأَْخْمَاسُ فِي الأَْوَّل وَالْبَاقِي بَعْدَ رُبُعِ
الْعُشْرِ فِي الثَّانِي لِمَالِكِ الأَْرْضِ، وَأَرَادَ بِالْمَالِكِ
حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، بِدَلِيل قَوْلِهِ: وَلَوْ جَيْشًا، فَإِنَّ
الأَْرْضَ لاَ تُمَلَّكُ لِلْجَيْشِ، لأَِنَّهَا بِمُجَرَّدِ
الاِسْتِيلاَءِ 1تَصِيرُ وَقْفًا، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَهُوَ مَالٌ
جُهِلَتْ أَرْبَابُهُ، قَال مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ
نَافِعٍ: لِوَاجِدِهِ، وَحَكَى ابْنُ شَاسٍ عَنْ سَحْنُونٍ أَنَّهُ
كَاللُّقَطَةِ، وَمُفَادُهُ أَنَّ الأَْرْبَعَةَ الأَْخْمَاسَ تَذْهَبُ
إِلَى مَالِكِ الأَْرْضِ، سَوَاءٌ كَانَ مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ
(2) .
مِلْكِيَّةُ الْكُنُوزِ الإِْسْلاَمِيَّةِ
13 - تَأْخُذُ هَذِهِ الْكُنُوزُ حُكْمَ اللُّقَطَةِ فِي الْمَذَاهِبِ
الْمُخْتَلِفَةِ، لأَِنَّهَا مَال مُسْلِمٍ لاَ يُعْرَفُ عَلَى
التَّعْيِينِ، مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ الاِلْتِقَاطِ، وَالتَّعْرِيفُ
وَمُدَّتُهُ وَالتَّمَلُّكُ وَالاِنْتِفَاعُ بِهَا، وَضَمَانُهَا بَعْدَ
التَّصَدُّقِ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ. (ر: لُقَطَةٌ) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 48.
(2) الخرشي 2 / 211.
(35/153)
مَسَائِل فِقْهِيَّةٌ خَاصَّةٌ
بِالْكَنْزِ.
أ - حُكْمُ التَّنْقِيبِ عَنِ الْكُنُوزِ:
14 - بَحَثَ الْفُقَهَاءُ الْمُسْلِمُونَ حُكْمَ التَّنْقِيبِ عَنِ
الْكُنُوزِ وَلَمْ يَرَوْا حُرْمَتَهُ فِيمَا نَصُّوا عَلَيْهِ، لإِِيجَابِ
الشَّرِيعَةِ الْخُمُسَ فِيمَا خَرَجَ مِنْهَا، مِمَّا يَدُل بِوَجْهِ
الاِقْتِضَاءِ عَلَى حِل اسْتِخْرَاجِهِ وَجَوَازِ الْبَحْثِ عَنْهُ، وَمَا
رُوِيَ عَنْهُمْ مِنَ الْكَرَاهَةِ أَوِ الْحُرْمَةِ فَإِنَّمَا هُوَ
لِمَعْنًى آخَرَ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا قَدْ كَرِهَ الْحَفْرَ فِي
الْقُبُورِ وَلَوْ كَانَتْ لِمَوْتَى الْجَاهِلِيَّةِ تَعْظِيمًا
لِحُرْمَةِ الْمَوْتِ، فِي الْمُدَوَّنَةِ: قَال مَالِكٌ: أَكْرَهُ حَفْرَ
قُبُورِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالطَّلَبَ فِيهَا وَلَسْتُ أَرَاهُ حَرَامًا،
فَمَا نِيل فِيهَا مِنْ أَمْوَال الْجَاهِلِيَّةِ فَفِيهِ الْخُمُسُ (1) ،
وَذَلِكَ - كَمَا جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيُّ - لإِِخْلاَلِهِ
بِالْمُرُوءَةِ، وَخَوْفِ مُصَادَفَةِ قَبْرِ صَالِحٍ مِنْ نَبِيٍّ أَوْ
وَلِيٍّ، وَاعْلَمْ أَنَّ مِثْل قَبْرِ الْجَاهِلِيِّ فِي كَرَاهَةِ
الْحَفْرِ لأَِجْل أَخْذِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَال قَبْرُ مَنْ لاَ يُعْرَفُ
هَل هُوَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْكُفَّارِ، وَكَذَا قُبُورُ أَهْل
الذِّمَّةِ، أَيِ الْكُفَّارِ تَحْقِيقًا، وَأَمَّا نَبْشُ قُبُورِ
الْمُسْلِمِينَ فَحَرَامٌ، وَحُكْمُ مَا وُجِدَ فِيهَا حُكْمُ اللُّقَطَةِ
(2) ، وَقَدْ خَالَفَ أَشْهَبُ فِي هَذَا، وَرَأَى جَوَازَ نَبْشِ قَبْرِ
الْجَاهِلِيِّ وَأَخْذَ مَا فِيهِ مِنْ مَالٍ وَعَرَضٍ، وَفِيهِ
__________
(1) المدونة 1 / 290.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 490، والخرشي 2 / 211.
(35/153)
الْخُمُسُ (1) ، وَهُوَ مَذْهَبُ
الأَْحْنَافِ، فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِنَبْشِ قُبُورِ
الْكُفَّارِ طَلَبًا لِلْمَال (2) .
وَلاَ يُشْتَرَطُ إِذْنُ الإِْمَامِ فِي التَّنْقِيبِ عَنِ الْكُنُوزِ
وَالْمَعَادِنِ لِيَأْخُذَ الْوَاجِدُ حَقَّهُ عِنْدَ الأَْحْنَافِ، فَفِي
السِّيَرِ: أَنَّهُ إِنْ أَصَابَ الذِّمِّيُّ أَوِ الْعَبْدُ أَوِ
الْمُكَاتَبُ أَوِ الصَّبِيُّ أَوِ الْمَرْأَةُ مَعْدِنًا فِي دَارِ
الإِْسْلاَمِ أَوْ رِكَازًا خُمِّسَ مَا أَصَابَ، وَكَانَتِ الْبَقِيَّةُ
لِمَنْ أَصَابَهُ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ، لأَِنَّ
هَؤُلاَءِ يَثْبُتُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ حَقٌّ وَإِنْ أَصَابُوهَا
بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ، فَإِنَّهُمْ لَوْ غَزَوْا مَعَ عَسْكَرٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ رَضَخَ لَهُمْ مِنَ
الْغَنِيمَةِ، فَكَذَلِكَ ثَبَتَ لَهُمْ حَقٌّ فِيمَا أَصَابُوا فِي دَارِ
الإِْسْلاَمِ (3) .
وَلَوْ أَذِنَ الإِْمَامُ لأَِحَدٍ فِي اسْتِخْرَاجِ الْمَعَادِنِ أَوِ
الْكُنُوزِ عَلَى شَرْطٍ لَزِمَ هَذَا الشَّرْطُ، فَكُل شَيْءٍ قَدَّرَهُ
الإِْمَامُ صَارَ كَالَّذِي ظَهَرَ تَقْدِيرُهُ بِالشَّرِيعَةِ (4) ،
فِيمَا لاَ يُصَادِمُ نَصًّا وَلاَ أَصْلاً مِنَ الأُْصُول الشَّرْعِيَّةِ،
وَلِذَا لاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ الاِتِّفَاقُ عَلَى إِسْقَاطِ شَيْءٍ مِنَ
الْخُمُسِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ لِحَظِّ الْفُقَرَاءِ، فَلَوْ
أَنَّ مُسْلِمًا حُرًّا أَوْ عَبْدًا أَوْ مُكَاتِبًا أَوِ امْرَأَةً
أَذِنَ لَهُ الإِْمَامُ فِي طَلَبِ الْكُنُوزِ وَالْمَعَادِنِ مِنَ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
__________
(1) المرجع السابق.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 246.
(3) السير الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني 5 / 2168.
(4) المرجع السابق 5 / 2169.
(35/154)
وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا أَصَابَ
مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ لَهُ لاَ خُمُسَ فِيهِ فَأَصَابَ مَالاً كَثِيرًا مِنَ
الْمَعَادِنِ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ أَنْ يُسَلِّمَ ذَلِكَ لَهُ
إِنْ كَانَ مُوسِرًا، لأَِنَّ مَا يُصَابُ مِنَ الرِّكَازِ وَالْمَعْدِنِ
هُوَ غَنِيمَةٌ، وَالْخُمُسُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ فِي الْغَنِيمَةِ، وَلاَ
يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُبْطِل حَقَّ الْفُقَرَاءِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي
أَصَابَهُ مُحْتَاجًا عَلَيْهِ دَيْنٌ كَثِيرٌ لاَ يَصِيرُ غَنِيًّا
بِالأَْرْبَعَةِ الأَْخْمَاسِ فَرَأَى الإِْمَامُ أَنْ يُسَلِّمَ ذَلِكَ
الْخُمُسَ لَهُ جَازَ، لأَِنَّ الْخُمُسَ حَقُّ الْفُقَرَاءِ، هَذَا
الَّذِي أَصَابَهُ فَقِيرٌ، فَقَدْ صَرَفَ الْحَقَّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ
فَيَجُوزُ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ قَال لِذَلِكَ الرَّجُل الَّذِي أَصَابَ الرِّكَازَ: إِنْ
وَجَدْتَهَا فِي أَرْضٍ خَرِبَةٍ فَالْخُمُسُ لَنَا وَأَرْبَعَةُ
أَخْمَاسِهِ لَكَ، ثُمَّ قَال: وَسَنُتِمُّهَا لَكَ، وَإِنَّمَا قَال
ذَلِكَ لأَِنَّهُ رَآهُ أَهْلاً لِلصَّدَقَةِ (1) ، وَلَوِ اشْتَرَطَ
الزِّيَادَةَ عَلَى الْخُمُسِ لَمْ يَجُزْ هَذَا الشَّرْطُ، فَفِي
السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا أَذِنَ لِمُسْلِمٍ أَوْ
ذِمِّيٍّ فِي طَلَبِ الْكُنُوزِ وَالْمَعَادِنِ عَلَى أَنَّ لَهُ النِّصْفَ
وَلِلْمُسْلِمِينَ النِّصْفَ فَأَصَابَ كَنْزًا أَوْ أَمْوَالاً مِنَ
الْمَعَادِنِ، فَإِنَّ الإِْمَامَ يَأْخُذُ مِنْهُ الْخُمُسَ وَمَا بَقِيَ
فَهُوَ لِمَنْ أَصَابَهُ (2) ، وَهَذَا لأَِنَّ اسْتِحْقَاقَهُ
بِالإِْصَابَةِ لاَ بِالشَّرْطِ، وَلِذَا لاَ يُعْتَبَرُ الشَّرْطُ.
__________
(1) السير الكبير 5 / 2173.
(2) السير الكبير 5 / 2170.
(35/154)
احْتِفَارُ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ
لِلْكُنُوزِ:
15 - الذِّمِّيُّ كَالْمُسْلِمِ فِي إِيجَابِ الْخُمُسِ وَفِي عَدَمِ
اشْتِرَاطِ إِذْنِ الإِْمَامِ لاِسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ.
يَقُول الشَّيْبَانِيُّ: وَمَا أَصَابَ الذِّمِّيُّ مِنْ رِكَازٍ فِي دَارِ
الإِْسْلاَمِ أَوْ مَعْدِنٍ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ رَصَاصٍ أَوْ
زِئْبَقٍ فَهُوَ وَالْمُسْلِمُ فِيهِ سَوَاءٌ، يُخَمَّسُ مَا أَصَابَ وَمَا
بَقِيَ فَهُوَ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِ الإِْمَامِ أَوْ بِغَيْرِ
إِذْنِ الإِْمَامِ، لأَِنَّهُ مِنْ أَهْل دَارِنَا وَيَجْرِي عَلَيْهِ
حُكْمُنَا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ (1)
أَمَّا الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ فَقَال الشَّيْبَانِيُّ: إِذَا دَخَل
الْحَرْبِيُّ دَارَ الإِْسْلاَمِ بِأَمَانٍ فَأَصَابَ رِكَازًا أَوْ
مَعْدِنًا، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا أَوْ حَدِيدًا
فَإِنَّ إِمَامَ الْمُسْلِمِينَ يَأْخُذُهُ مِنْهُ كُلَّهُ، وَلاَ يَكُونُ
لَهُ شَيْءٌ، لأَِنَّ هَذَا غَنِيمَةٌ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَوْجَفُوا
عَلَيْهَا الْخَيْل، أَلاَ تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ كَانَ هُوَ
الَّذِي أَصَابَ يُخَمَّسُ وَالْبَاقِي لَهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً
لَكَانَ لاَ خُمُسَ فِيهِ، وَالْحَرْبِيُّ لاَ حَقَّ لَهُ فِي غَنَائِمِ
الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ اسْتَأْذَنَ
إِمَامَ الْمُسْلِمِينَ فِي طَلَبِ ذَلِكَ وَالْعَمَل فِيهِ حَتَّى
يَسْتَخْرِجَهُ فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَعَمِل فَأَصَابَ شَيْئًا
خُمِّسَ مَا أَصَابَ وَكَانَ مَا بَقِيَ لِلْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ،
لأَِنَّ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ لَوْ قَاتَل
__________
(1) السير الكبير 5 / 2163.
(35/155)
الْمُشْرِكِينَ بِإِذْنِ الإِْمَامِ صَارَ
لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ نَصِيبٌ، حَتَّى أَنَّهُ يُرْضَخُ لَهُ كَمَا
يُرْضَخُ لِلذِّمِّيِّ (1) .
وَقَال: لَوْ أَنَّ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ اسْتَأْذَنَ الإِْمَامَ
فِي طَلَبِ الْكُنُوزِ وَالْمَعَادِنِ، فَأَذِنَ لَهُ الإِْمَامُ عَلَى
أَنَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِمَّا يُصِيبُ النِّصْفَ وَلَهُ النِّصْفُ، فَعَمِل
عَلَى هَذَا فَأَصَابَ رِكَازًا مَعْدِنًا فَإِنَّ الإِْمَامَ يَأْخُذُ
نِصْفَ مَا أَصَابَ وَالْحَرْبِيُّ نِصْفَهُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ
الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ مِنَ الرِّكَازِ
الَّذِي أَصَابَهُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ مَا اسْتَحَقَّهُ بِشَرْطِ
إِذْنِ الإِْمَامِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَصَابَهُ بَعْدَ إِذْنِ الإِْمَامِ
أُخِذَ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ اسْتِحْقَاقُهُ بِالشَّرْطِ. وَالإِْمَامُ
شَرَطَ لَهُ النِّصْفَ فَلاَ يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ.
ثُمَّ الإِْمَامُ يَأْخُذُ خُمُسَ مَا أَصَابَ الْحَرْبِيُّ مِنَ النِّصْفِ
الَّذِي أَخَذَهُ مِنَ الْحَرْبِيِّ فَيَجْعَلُهُ لِلْفُقَرَاءِ، وَيَجْعَل
النِّصْفَ لِلْمُقَاتِلَةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ إِذْنَ الإِْمَامِ يُصَيِّرُ
مَا أَصَابَهُ الْحَرْبِيُّ غَنِيمَةً يَجِبُ فِيهَا الْخُمُسُ (2) .
ب - الاِسْتِئْجَارُ عَلَى الْعَمَل فِي اسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ:
1 - أَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الاِسْتِئْجَارَ عَلَى الْعَمَل فِي
اسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ شَرِيطَةَ
__________
(1) السير الكبير 5 / 2161 - 2163.
(2) المرجع السابق 5 / 2170.
(35/155)
اسْتِجْمَاعِ شُرُوطِ صِحَّةِ
الإِْجَارَةِ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ الأُْجْرَةُ مَعْلُومَةً وَأَنْ يَكُونَ
الْعَمَل مَضْبُوطًا بِزَمَنٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يَحْصُل بِهِ
الضَّبْطُ، كَحَفْرِ كَذَا وَإِزَالَةِ جِدَارٍ أَوْ نَقْل قَدْرٍ
مُعَيَّنٍ مِنَ التُّرَابِ، وَيَسْتَحِقُّ الْعَامِل الأَْجْرَ وَيَذْهَبُ
مَا يُخْرِجُ مِنَ الْكُنُوزِ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ، جَاءَ فِي الْبَحْرِ
الرَّائِقِ: أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ لِلْعَمَل فِي
الْمَعْدِنِ فَالْمُصَابُ لِلْمُسْتَأْجِرِ لأَِنَّهُمْ يَعْمَلُونَ لَهُ
(1) .
وَفِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُهُ أَيِ الْمَعْدِنِ
لِمَنْ يَعْمَل فِيهِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ يَأْخُذُهَا مِنَ الْعَامِل
فِي نَظِيرِ أَخْذِهِ مَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْمَعْدِنِ بِشَرْطِ كَوْنِ
الْعَمَل مَضْبُوطًا بِزَمَنٍ أَوْ عَمَلٍ خَاصٍّ كَحَفْرِ قَامَةٍ أَوْ
قَامَتَيْنِ نَفْيًا لِلْجَهَالَةِ فِي الإِْجَارَةِ، وَسُمِّيَ الْعِوَضُ
الْمَدْفُوعُ أُجْرَةً لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي مُقَابَلَةِ ذَاتٍ، بَل فِي
مُقَابَلَةِ إِسْقَاطِ الاِسْتِحْقَاقِ (2) ، وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ
أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْجَرَهُ عَلَى أَنَّ مَا يَخْرُجُ لِرَبِّهِ
وَالأُْجْرَةُ يَدْفَعُهَا رَبُّهُ لِلْعَامِل فَيَجُوزُ وَلَوْ بِأُجْرَةِ
نَقْدٍ. وَفِي جَوَازِ دَفْعِ الْمَعْدِنِ بِجُزْءٍ لِلْعَامِل مِمَّا
يَخْرُجُ مِنْهُ كَنِصْفٍ أَوْ رُبُعٍ كَالْقِرَاضِ وَمَنْعِهِ. . .
قَوْلاَنِ رُجِّحَ كُلٌّ مِنْهُمَا (3) .
وَإِنَّمَا جَازَتِ الإِْجَارَةُ فِي اسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ
__________
(1) البحر الرائق 2 / 252.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 488.
(3) المرجع السابق 1 / 489.
(35/156)
لِجَوَازِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَى هَذِهِ
الْمَنْفَعَةِ، يَقُول السَّرَخْسِيُّ: وَإِذَا تَقَبَّل الرَّجُل مِنَ
السُّلْطَانِ مَعْدِنًا ثُمَّ اسْتَأْجَرَ فِيهِ أُجَرَاءَ،
وَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ مَالاً قَال يُخَمَّسُ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ
لِلْمُتَقَبِّل، لأَِنَّ عَمَل أُجَرَائِهِ كَعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ،
وَلأَِنَّ عَمَلَهُمْ صَارَ مُسَلَّمًا إِلَيْهِ حُكْمًا بِدَلِيل وُجُوبِ
الأُْجْرَةِ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَمِلُوا فِيهِ بِغَيْرِ
أَمْرِهِ فَالأَْرْبَعَةُ الأَْخْمَاسُ لَهُمْ دُونَهُ، لأَِنَّهُمْ
وَجَدُوا الْمَال، وَالأَْرْبَعَةُ الأَْخْمَاسُ لِلْوَاجِدِ،
وَالتَّقَبُّل مِنَ السُّلْطَانِ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا، لأَِنَّ
الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَا هُوَ عَيْنٌ، وَالتَّقَبُّل فِي مِثْلِهِ لاَ
يَصِحُّ، كَمَنْ تَقَبَّل أَجَمَةً فَاصْطَادَ فِيهَا السَّمَكَ غَيْرُهُ
كَانَ لِلَّذِي اصْطَادَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَقَبَّل بَعْضَ الْمَقَانِصِ
مِنَ السُّلْطَانِ فَاصْطَادَ فِيهَا غَيْرُهُ كَانَ الصَّيْدُ لِمَنْ
أَخَذَهُ، وَلاَ يَصِحُّ ذَلِكَ التَّقَبُّل مِنْهُ، فَهَذَا مِثْلُهُ (1)
.
وَمَعْنَى التَّقَبُّل الاِلْتِزَامُ بِالْعَمَل بِعَقْدٍ
(ر: تَقَبُّلٌ ف 1) .
لَكِنْ لَوْ فَسَدَتِ الإِْجَارَةُ فَالْقِيَاسُ أَلاَّ تَجِبَ الأُْجْرَةُ
لِلأَْجِيرِ وَأَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ فِي اسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ
لِنَفْسِهِ، وَقَدْ نَصَّ ابْنُ عَابِدِينَ فِيمَا لَوْ لَمْ يَتَّفِقَا
عَلَى تَعْيِينِ الْعَمَل بِمَا لاَ يَضْبِطُهُ - كَأَنْ لاَ يَذْكُرَا
وَقْتًا يُحَدِّدَانِهِ لِهَذَا الْعَمَل - أَنَّ الرِّكَازَ هُنَا
لِلْعَامِل أَيْضًا، إِذَا لَمْ يُوَقِّتَا، لأَِنَّهُ إِذَا فَسَدَ
__________
(1) المبسوط 2 / 217، وانظر في هذه المسألة بنصها أو بما يقاربه في الأصل
لمحمد 2 / 139.
(35/156)
الاِسْتِئْجَارُ بَقِيَ مُجَرَّدُ
التَّوْكِيل، وَالتَّوْكِيل فِي أَخْذِ الْمُبَاحِ لاَ يَصِحُّ بِخِلاَفِ
مَا إِذَا حَصَّلَهُ أَحَدُهُمَا بِإِعَانَةِ الآْخَرِ، فَإِنَّ
لِلْمُعِينِ أَجْرَ مِثْلِهِ، لأَِنَّهُ عَمِل لَهُ غَيْرَ مُتَبَرِّعٍ،
هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فَتَأَمَّلْهُ (1) .
ج - الاِشْتِرَاكُ فِي اسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ:
17 - انْقَسَمَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الاِشْتِرَاكِ فِي اسْتِخْرَاجِ
الْكُنُوزِ إِلَى فَرِيقَيْنِ:
الأَْوَّل: الْحُكْمُ بِفَسَادِ الشَّرِكَةِ فِي اسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ
وَرُجُوعِ مَا يَسْتَخْرِجُهُ كُل شَرِيكٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ لِنَفْسِهِ
وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، قَال الْحَصْكَفِيُّ: لَوْ عَمِل
رَجُلاَنِ فِي طَلَبِ الرِّكَازِ فَهُوَ لِلْوَاجِدِ، قَال ابْنُ
عَابِدِينَ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِلآْخَرِ وَهَذَا
ظَاهِرٌ فِيمَا إِذَا حَفَرَ أَحَدُهُمَا مَثَلاً، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ
وَأَتَمَّ الْحَفْرَ وَاسْتَخْرَجَ الرِّكَازَ، أَمَّا لَوِ اشْتَرَكَا فِي
طَلَبِ ذَلِكَ فَسَيُذْكَرُ فِي بَابِ الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ أَنَّهَا
لاَ تَصِحُّ فِي احْتِشَاشٍ وَاصْطِيَادٍ وَاسْتِقَاءٍ وَسَائِرِ
مُبَاحَاتٍ كَاجْتِنَاءِ ثِمَارٍ مِنْ جِبَالٍ وَطَلَبِ مَعْدِنٍ مِنْ
كَنْزٍ وَطَبْخِ آجُرٍّ مِنْ طِينٍ مُبَاحٍ لِتَضَمُّنِهَا الْوَكَالَةَ،
وَالتَّوْكِيل فِي أَخْذِ الْمُبَاحِ لاَ يَصِحُّ، وَمَا حَصَّلَهُ
أَحَدُهُمَا فَلَهُ، وَمَا حَصَّلاَهُ مَعًا فَلَهُمَا نِصْفَيْنِ إِنْ
لَمْ يُعْلَمْ مَا لِكُلٍّ، وَمَا حَصَّلَهُ أَحَدُهُمَا بِإِعَانَةِ
صَاحِبِهِ فَلَهُ، وَلِصَاحِبِهِ أَجْرُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 52.
(35/157)
مِثْلٍ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَ
مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لاَ يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ ثَمَنِ
ذَلِكَ (1) ، وَإِنَّمَا كَانَتْ شَرِكَةً فِي تَحْصِيل الْمَعَادِنِ
الْخِلْقِيَّةِ أَوِ الْكُنُوزِ الْجَاهِلِيَّةِ فَاسِدَةً عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْمْوَال مِنَ الْمُبَاحَاتِ فَلاَ
تَقْبَل التَّوْكِيل فِي أَخْذِهَا، وَالشَّرِكَةُ إِنَّمَا تَقُومُ عَلَى
مَعْنَى الْوَكَالَةِ، فَكُلٌّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ وَكِيلٌ عَنِ الآْخَرِ
فِي التَّقَبُّل وَالْعَمَل حَتَّى يَشْتَرِكَا فِي الرِّبْحِ الْحَاصِل
لَهُمَا، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الاِشْتِرَاكِ فِي التَّحْصِيل
بِآلَةٍ يَسْتَخْدِمُهَا كُلٌّ مِنْهُمَا فِي عَمَلِهِ أَوْ بِآلاَتٍ
مُشْتَرَكَةٍ (2) .
الثَّانِي: جَوَازُ الاِشْتِرَاكِ فِي اسْتِخْرَاجِ الْمَعَادِنِ
وَالْكُنُوزِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، خِلاَفًا
لاِتِّجَاهِ الْحَنَفِيَّةِ، فَفِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ جَوَازُ
الاِشْتِرَاكِ فِي الْحَفْرِ عَلَى الرِّكَازِ وَالْمَعْدِنِ وَالآْبَارِ
وَالْعُيُونِ وَكَذَا الْبُنْيَانُ بِشَرْطِ اتِّحَادِ الْمَوْضِعِ، فَلاَ
يَجُوزُ أَنْ يَحْفِرَ هَذَا فِي غَارٍ فِيهِ مَعْدِنٌ وَهَذَا فِي غَارٍ
آخَرَ (3) ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ جَوَازَ الاِشْتِرَاكِ فِي
الْمُبَاحِ كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالثِّمَارِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ
الْجِبَال وَالْمَعَادِنِ وَالتَّلَصُّصِ عَلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَهَذَا
جَائِزٌ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ (4) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 52، 3 / 382.
(2) الفتاوى الخانية مع الفتاوى الهندية 3 / 624 - 625، والمبسوط 11 / 217.
(3) حاشية الدسوقي 3 / 362.
(4) المغني لابن قدامة 5 / 111.
(35/157)
وَيَسْتَدِل الْحَنَابِلَةُ لِمَذْهَبِهِمْ
مِنَ الْمَنْقُول بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَال: "
100 اشْتَرَكْتُ أَنَا وَعَمَّارٌ وَسَعْدٌ يَوْمَ بَدْرٍ، فَجَاءَ سَعْدٌ
بِأَسِيرَيْنِ وَلَمْ أَجِئْ أَنَا وَعَمَّارٌ بِشَيْءٍ " (1) ، قَال ابْنُ
قُدَامَةَ: وَمِثْل هَذَا لاَ يَخْفَى عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ.
أَمَّا مِنَ الْمَعْقُول فَيَسْتَدِلُّونَ بِأَنَّ الْعَمَل أَحَدُ
جِهَتَيِ الْمُضَارَبَةِ وَصِحَّةُ الشَّرِكَةِ عَلَيْهِ كَالْمَال (2) .
د - الاِخْتِصَاصُ وَالْمُزَاحَمَةُ:
18 - لاَ يَتَوَقَّفُ الْعَمَل فِي اسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ وَالْمَعَادِنِ
عَلَى إِذْنِ الإِْمَامِ إِلاَّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ
اشْتَرَطُوا إِذْنَ الإِْمَامِ لِلْعَمَل فِي الْمَعَادِنِ مَنْعًا
لِلْهَرْجِ وَالنِّزَاعِ بَيْنَ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ
الْمَعَادِنَ قَدْ يَجِدُهَا شِرَارُ النَّاسِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ
حُكْمُهُ إِلَى الإِْمَامِ لأََدَّى ذَلِكَ إِلَى الْفِتَنِ وَالْهَرْجِ
(3)
وَلاَ يَعْنِي عَدَمُ اشْتِرَاطِ إِذْنِ الإِْمَامِ فِي الْعَمَل فِي
الْكُنُوزِ وَالْمَعَادِنِ إِثْبَاتَ حَقِّ كُل أَحَدٍ فِي مُزَاحَمَةِ
الْعَامِل فِيهَا، فَلاَ تَجُوزُ مُزَاحَمَتُهُ فِيمَا اخْتُصَّ بِهِ
بِسِبْقِ يَدِهِ عَلَيْهِ، جَاءَ فِي الأَْصْل لِلشَّيْبَانِيِّ فِيمَا
لَوْ كَانَ الرَّجُل يَعْمَل فِي
__________
(1) حديث " ابن مسعود اشتركت أنا وعمار بن ياسر. . . ". أخرجه أبو داود (3
/ 681) وقال المنذري في مختصر السنن (53: 5) : هو منقطع، فإن أبا عبيدة لم
يسمع من أبيه.
(2) المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 5 / 112.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 487.
(35/158)
الْمَكَانِ يَوْمًا فَيَجِئُ آخَرُ مِنَ
الْغَدِ فَيَعْمَل فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَيُصِيبُ مِنْهُ الْمَال
مُعْتَبِرًا أَحَقِّيَّتَهُ، قَال مُحَمَّدٌ: يُخَمَّسُ وَمَا بَقِيَ
بَعْدَ الْخُمُسِ فَهُوَ لِلَّذِي عَمِل فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَخِيرًا (1)
، إِذْ فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُسْتَخْرِجَ الأَْوَّل تَرَكَ
مَكَانَ الْحَفْرِ فِي الْفَتْرَةِ الَّتِي عَمِل فِيهَا الآْخَرُ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَنْقَطِعْ عَنِ الْعَمَل فِيهِ فَإِنَّهُ لاَ حَقَّ
لأَِحَدٍ فِي مُزَاحَمَتِهِ، لِسَبْقِ اخْتِصَاصِهِ بِهِ (2) وَمُقْتَضَاهُ
أَنَّ مُجَرَّدَ الْعَمَل فِي مَكَانٍ لِلْبَحْثِ عَمَّا فِيهِ مِنْ
كُنُوزٍ أَوْ مَعَادِنَ لاَ يُوجِبُ مِلْكَ مَا يُوجَدُ فِيهِ، إِذِ
الْوَاقِعُ أَنَّ مَنْ مَلَكَ أَنْ يَمْلِكَ لَمْ يَعُدْ مَالِكًا، طِبْقًا
لِمَا حَرَّرَهُ الْقَرَافِيُّ (3) .
إِقْطَاعُ الْمَعَادِنِ:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إِقْطَاعِ الْمَعَادِنِ وَهِيَ
الْبِقَاعُ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى جَوَاهِرَ الأَْرْضِ،
بَعْدَ أَنْ قَسَّمُوهَا إِلَى مَعَادِنَ ظَاهِرَةٍ وَمَعَادِنَ بَاطِنَةٍ،
فَأَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ
بَيْنَ الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ وَالْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي: (إِقْطَاعٌ ف 17، 18 وَمَعْدِنٌ) .
__________
(1) الأصل أو المبسوط للشيباني 2 / 129.
(2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2 / 86.
(3) الفروق 3 / 20 وما بعدها.
(35/158)
أَثَرُ النَّفَقَةِ فِي وُجُوبِ الْخُمُسِ:
20 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ طِبْقًا لِمَا ذَكَرَهُ
الدُّسُوقِيُّ أَنَّ الرِّكَازَ فِيهِ الْخُمُسُ إِلاَّ فِي حَالَتَيْنِ
وَهُمَا: إِذَا مَا تَوَقَّفَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الأَْرْضِ عَلَى كَبِيرِ
نَفَقَةٍ، أَوْ عَمَلٍ، وَأَمَّا فِيهِمَا فَالْوَاجِبُ إِخْرَاجُ رُبُعِ
الْعُشْرِ، وَيُخَالِفُ ابْنُ يُونُسَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ وَيُوجِبُ
الْخُمُسَ فِي الرِّكَازِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ افْتَقَرَ إِخْرَاجُهُ مِنَ
الأَْرْضِ إِلَى كَبِيرِ نَفَقَةٍ وَإِلَى كَبِيرِ جُهْدٍ وَعَمَلٍ أَمْ
لَمْ يَفْتَقِرْ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْوَاجِبُ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ، وَلاَ
اعْتِبَارَ بِالنَّفَقَةِ أَوِ الْعَمَل فِي الْحُصُول عَلَيْهِ حَيْثُ
إِنَّهُ لاَ نَفَقَةَ لِتَحْصِيلِهِ غَالِبًا، لأَِنَّهُ يَصِل إِلَى
الْوَاجِدِ مِنْ غَيْرِ نَفَقَةٍ وَلاَ تَعَبٍ، أَوْ بِقَلِيلٍ مِنْ ذَلِكَ
خِلاَفًا لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْمُسْتَخْرَجَيْنِ مِنَ الْمَعْدِنِ
فَاعْتُبِرَتِ النَّفَقَةُ وَالْعَمَل فِي مِقْدَارِ مَا يَجِبُ فِيهِمَا،
لأَِنَّ الْوَاجِبَ يَزْدَادُ بِقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ وَيَنْقُصُ
بِكَثْرَتِهَا كَالْمُعَشَّرَاتِ (2) .
نَوْعُ وُجُوبِ الْخُمُسِ:
21 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَكْيِيفِ الْخُمُسِ الَّذِي يَجِبُ فِي
الْكَنْزِ، هَل هُوَ كَالزَّكَاةِ أَوْ كَخُمُسِ الْغَنِيمَةِ؟ فَقَال
بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مِنْ قَبِيل الْغَنِيمَةِ،
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 490.
(2) مغني المحتاج 1 / 95، ونهاية المحتاج 3 / 97، والمهذب مع المجموع 9 /
91.
(35/159)
وَقَال آخَرُونَ: إِنَّهُ مِنْ قَبِيل
الزَّكَاةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (رِكَازٌ ف 10 - 15) .
شُرُوطُ وُجُوبِ الْخُمُسِ:
أ - التَّمَوُّل وَالتَّقَوُّمُ:
22 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى اشْتِرَاطِ تَمَوُّل الْخَارِجِ مِنَ
الأَْرْضِ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِ، أَمَّا مَا لاَ يَتَمَوَّلُهُ
النَّاسُ فِي الْعَادَةِ وَلاَ يَبْذُلُونَ الأَْثْمَانَ لِلْحُصُول
عَلَيْهِ فَلاَ شَيْءَ فِيهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْخَارِجِ مِنَ الأَْثْمَانِ
لِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِ أَوْ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ
مُقَابِل الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ
فِي الْكَنْزِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ كَوْنُهُ مِنَ الأَْثْمَانِ
بَل قَالُوا: إِنَّ الْخُمُسَ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ عَيْنًا كَانَ أَوْ
عَرَضًا كَنُحَاسٍ وَحَدِيدٍ وَجَوْهَرٍ وَرُخَامٍ وَصُخُورٍ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِي الْخَارِجِ
مِنَ الأَْرْضِ أَنْ يَكُونَ نَقْدًا أَيْ ذَهَبًا وَفِضَّةً، سَوَاءٌ
أَكَانَا مَضْرُوبَيْنِ أَمْ غَيْرَ مَضْرُوبَيْنِ كَالسَّبَائِكِ عَلَى
الْمَذْهَبِ، لأَِنَّهُ مَالٌ مُسْتَفَادٌ مِنَ الأَْرْضِ، فَاخْتَصَّ
بِمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ قَدْرًا وَنَوْعًا كَالْمَعْدِنِ (1) .
__________
(1) البحر الرائق 2 / 254، وتبيين الحقائق 1 / 291، والشرح الصغير 1 / 653،
وحاشية الدسوقي 1 / 490، ومغني المحتاج 1 / 395 - 396، وكشاف القناع 2 /
226.
(35/159)
ب - سَبْقُ الْيَدِ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى
مِلْكِ الْكَنْزِ:
23 - يُشْتَرَطُ لاِعْتِبَارِ الْمَال الْمَدْفُونِ فِي بَاطِنِ الأَْرْضِ
مِنَ الْكُنُوزِ الَّتِي يَجِبُ تَخْمِيسُهَا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ
أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكًا لأَِهْل الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمُرَادُ
بِالْجَاهِلِيَّةِ مَا قَبْل مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ الْمَال مِنْ ضَرْبِ
الْجَاهِلِيَّةِ وَصِنَاعَتِهِمْ، بَل أَنْ يَكُونَ مِنْ دَفْنِهِمْ،
لِيُعْلَمَ أَنَّهُ كَانَ فِي مِلْكِهِمْ (1) .
ج - اسْتِخْرَاجُ الْكَنْزِ مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ لاَ مِنْ دَارِ
الْحَرْبِ:
24 - أَوْجَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ اسْتِخْرَاجَ الْكَنْزِ
مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِ، فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ
لاَ يُخَمَّسُ رِكَازٌ مَعْدِنًا كَانَ أَوْ كَنْزًا وُجِدَ فِي صَحْرَاءِ
دَارِ الْحَرْبِ، بَل كُلُّهُ لِلْوَاجِدِ، وَلَوْ مُسْتَأْمَنًا،
لأَِنَّهُ كَالْمُتَلَصِّصِ (2) .
وَيُخَالِفُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي هَذَا، فَيُخَمَّسُ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا يُوجَدُ مِنَ الْكُنُوزِ فِي أَرْضٍ غَيْرِ
مَمْلُوكَةٍ لأَِحَدٍ كَمَوَاتِ أَرْضِ الإِْسْلاَمِ وَأَرْضِ الْحَرْبِ،
وَلِوَاجِدِهِ الْبَاقِي بَعْدَ الْخُمُسِ، وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ
أَنَّ الرِّكَازَ هُوَ الْمَوْجُودُ الْجَاهِلِيُّ فِي مَوَاتٍ مُطْلَقًا،
سَوَاءٌ كَانَ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ أَمْ بِدَارِ الْحَرْبِ إِنْ كَانُوا
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 396، وانظر نهاية المحتاج 3 / 98.
(2) تنوير الأبصار بهامش حاشية ابن عابدين 2 / 52، والمغني 2 / 615.
(35/160)
يَذُبُّونَا عَنْهُ، وَسَوَاءٌ أَحْيَاهُ
الْوَاجِدُ أَمْ أَقْطَعَهُ أَمْ لاَ (1) .
د - الاِسْتِخْرَاجُ مِنَ الْبَرِّ لاَ مِنَ الْبَحْرِ:
25 - اشْتَرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَخْذَ الْكَنْزِ مِنَ الْبَرِّ
لِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِ عَلَى حِينِ لَمْ يَشْتَرِطْ بَعْضُهُمْ هَذَا
الشَّرْطَ، وَمَبْنَاهُ اخْتِلاَفُهُمْ فِي إِلْحَاقِ الْكُنُوزِ
بِالْغَنِيمَةِ أَوْ بِالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَفِي تَحْقِيقِ
الاِسْتِيلاَءِ عَلَى الْكُنُوزِ، وَهِيَ فِي الْبَحْرِ، عَلَى النَّحْوِ
الَّذِي يَرِدُ تَوْضِيحُهُ فِيمَا يَلِي:
يَحْكِي الْكَاسَانِيُّ اخْتِلاَفَ الْحَنَفِيَّةِ فِي حُكْمِ مَا
يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ بِقَوْلِهِ: أَمَّا الْمُسْتَخْرَجُ مِنَ
الْبَحْرِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَالْعَنْبَرِ وَكُل حِلْيَةٍ
تُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ فَلاَ شَيْءَ فِيهِ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ لِلْوَاجِدِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ الْخُمُسُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ
عَامِل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَيْهِ فِي لُؤْلُؤَةٍ
وُجِدَتْ، مَا فِيهَا؟ قَال: فِيهَا الْخُمُسُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ
أَيْضًا أَخَذَ الْخُمُسَ مِنَ الْعَنْبَرِ. . . وَلأَِنَّ الْمَعْنَى هُوَ
كَوْنُ ذَلِكَ مَالاً مُنْتَزَعًا مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ بِالْقَهْرِ،
إِذِ الدُّنْيَا كُلُّهَا بَرُّهَا وَبَحْرُهَا كَانَتْ تَحْتَ
أَيْدِيهِمُ، انْتَزَعْنَاهَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ
غَنِيمَةً فَيَجِبُ الْخُمُسُ كَسَائِرِ الْغَنَائِمِ، وَلَهُمَا مَا
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سُئِل عَنِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 491، ونهاية المحتاج 3 / 98.
(35/160)
الْعَنْبَرِ؟ فَقَال: هُوَ شَيْءٌ دَسَرَهُ
الْبَحْرُ لاَ خُمُسَ فِيهِ، وَلأَِنَّ يَدَ الْكَفَرَةِ لَمْ تَثْبُتْ
عَلَى بَاطِنِ الْبِحَارِ الَّتِي يُسْتَخْرَجُ مِنْهَا اللُّؤْلُؤُ
وَالْعَنْبَرُ، فَلَمْ يَكُنِ الْمُسْتَخْرَجُ مِنْهَا مَأْخُوذًا مِنْ
أَيْدِي الْكَفَرَةِ عَلَى سَبِيل الْقَهْرِ، فَلاَ يَكُونُ غَنِيمَةً
فَلاَ يَكُونُ فِيهِ الْخُمُسُ، وَعَلَى هَذَا قَال أَصْحَابُنَا: إِنِ
اسْتَخْرَجَ مِنَ الْبَحْرِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً فَلاَ شَيْءَ فِيهِ.
وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي اللُّؤْلُؤِ
وَالْعَنْبَرِ مَحْمُولٌ عَلَى لُؤْلُؤٍ وَعَنْبَرٍ وُجِدَ فِي خَزَائِنِ
مُلُوكِ الْكَفَرَةِ، فَكَانَ مَالاً مَغْنُومًا فَأَوْجَبَ فِيهِ
الْخُمُسَ (1) ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ فِي الْمَذْهَبِ، فَفِي حَاشِيَةِ
ابْنِ عَابِدِينَ: وَالْحَاصِل أَنَّ الْكَنْزَ يُخَمَّسُ كَيْفَ كَانَ.
سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ الأَْرْضِ أَوْ لاَ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَالاً
مُتَقَوِّمًا، وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ جَمِيعُ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ
الْبَحْرِ مِنْ حِلْيَةٍ وَلَوْ ذَهَبًا كَانَ كَنْزًا فِي قَعْرِ
الْبَحْرِ. أَيْ وَلَوْ كَانَ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ ذَهَبًا
مَكْنُوزًا بِصُنْعِ الْعِبَادِ فِي قَعْرِ الْبَحْرِ، فَإِنَّهُ لاَ
خُمُسَ فِيهِ، وَكُلُّهُ لِلْوَاجِدِ. لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ
الْقَهْرُ، فَلَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً -. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مَخْصُوصٌ
فِيمَا لَيْسَ عَلَيْهِ عَلاَمَةُ الإِْسْلاَمِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي الْمُسْتَخْرَجِ
مِنَ الْبَحْرِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَنَحْوِهِ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 68.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 51، وانظر هذا الخلاف في البحر الرائق 2 / 254.
وتبيين الحقائق 1 / 291.
(35/161)
فِي ظَاهِرِ قَوْل الْخِرَقِيِّ
وَاخْتِيَارِ أَبِي بَكْرٍ، وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَبِهِ قَال عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وعَطَاءٌ والثَّوْرِيُّ وَابْنُ
أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ،
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ لأَِنَّهُ
خَارِجٌ مِنْ مَعْدِنٍ فَأَشْبَهَ الْخَارِجَ مِنْ مَعْدِنِ الْبَرِّ (1)
وَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِيمَا يَخْرُجُ مِنَ
الْبَحْرِ (2) لأَِنَّهُ لَمْ تَأْتِ فِيهِ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَالأَْصْل
عَدَمُ الْوُجُوبِ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَا لَفَظَهُ الْبَحْرُ كَعَنْبَرٍ مِمَّا لَمْ
يَسْبِقْ عَلَيْهِ مِلْكٌ لأَِحَدٍ فَلِوَاجِدِهِ بِلاَ تَخْمِيسٍ، فَإِنْ
تَقَدَّمَ مِلْكٌ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ لِجَاهِلِيٍّ أَوْ شُكَّ فِيهِ
فَرِكَازٌ، وَإِنْ كَانَ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَلُقَطَةٌ (4) .
هـ - النِّصَابُ:
26 - لاَ يَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ النِّصَابَ لِوُجُوبِ
الْخُمُسِ فِي الْكُنُوزِ فَكُل مَا يُوجَدُ مِنْهُ، قَلِيلاً أَوْ
كَثِيرًا مَحَلٌّ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِ كَالْغَنِيمَةِ فِي ذَلِكَ،
نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِل
الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِلُهُ مَا قَالَهُ ابْنُ سَحْنُونٍ مِنْ أَنَّ
الْيَسِيرَ الَّذِي يَقِل عَنِ
__________
(1) المغني لابن قدامة 2 / 620.
(2) الشرح الكبير مع المغني 2 / 584.
(3) كشاف القناع 2 / 225، والمبدع 2 / 357.
(4) حاشية الدسوقي 1 / 492.
(35/161)
النِّصَابِ لاَ يُخَمَّسُ. وَالْمَذْهَبُ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اشْتِرَاطُ النِّصَابِ، وَلَوْ بِالضَّمِّ
لأَِنَّهُ مَالٌ مُسْتَفَادٌ مِنَ الأَْرْضِ فَاخْتَصَّ بِمَا تَجِبُ فِيهِ
الزَّكَاةُ قَدْرًا وَنَوْعًا كَالْمَعَادِنِ (1) .
و حَوَلاَنُ الْحَوْل:
27 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ
الْخُمُسِ حَوَلاَنُ الْحَوْل عَلَى الْخَارِجِ لِحُصُولِهِ دُفْعَةً
وَاحِدَةً كَالزَّرْعِ وَالثِّمَارِ فَلَمْ يُنَاسِبْهُ الْحَوْل لأَِنَّ
اشْتِرَاطَ الْحَوْل لِلنَّمَاءِ وَهَذَا كُلُّهُ نَمَاءٌ (2) .
ز - إِسْلاَمُ الْوَاجِدِ:
28 - لاَ يَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِسْلاَمَ الْوَاجِدِ
لِوُجُوبِ الْخُمُسِ، فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ أَصَابَ
الذِّمِّيُّ أَوِ الْمُسْلِمُ كَنْزًا خُمِّسَ مَا أَصَابَ وَكَانَتِ
الْبَقِيَّةُ لِمَنْ أَصَابَهُ (3) ، وَيَسْتَوِي - كَمَا قَال
السَّرَخْسِيُّ - أَنْ يَكُونَ الْوَاجِدُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا،
صَبِيًّا أَوْ بَالِغًا، لأَِنَّ اسْتِحْقَاقَ هَذَا الْمَال
كَاسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ، وَلِجَمِيعِ مَنْ سَمَّيْنَا حَقٌّ فِي
الْغَنِيمَةِ إِمَّا سَهْمًا وَإِمَّا رَضْخًا (4) .
__________
(1) حاشية الشلبي وتبيين الحقائق 1 / 288، والمهذب 1 / 163، تحفة المحتاج 3
/ 287، والمجموع 6 / 79، وحاشية الجمل 2 / 261، ومغني المحتاج 1 / 395،
وحاشية الدسوقي 1 / 490، الخرشي 2 / 210، وكشاف القناع 2 / 226، والإنصاف 3
/ 123، المبدع 2 / 358.
(2) تبيين الحقائق 1 / 288، وحاشية الدسوقي 1 / 456، وتحفة المحتاج 3 /
287، والمغني مع الشرح الكبير 2 / 619.
(3) السير الكبير 5 / 2168، والمجموع 6 / 101.
(4) المبسوط للسرخسي 2 / 212.
(35/162)
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ يُخَمَّسُ
مَا يُصِيبُ الرَّجُل مِنْ كُنُوزٍ وَلاَ يُلْتَفَتُ إِلَى دِينِهِ (1) ،
وَفِي الإِْنْصَافِ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُخَمِّسَ كُل أَحَدٍ وَجَدَ
ذَلِكَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ. وَاخْتَارَ ابْنُ حَامِدٍ أَنْ
يُؤْخَذَ الرِّكَازُ كُلُّهُ مِنَ الذِّمِّيِّ لِبَيْتِ الْمَال وَلاَ
خُمُسَ عَلَيْهِ، وَالْمَذْهَبُ هُوَ الأَْوَّل وَهُوَ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ
بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي وُجُوبِ الْخُمُسِ (2) .
وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ حُكْمَ الذِّمِّيِّ فِي الرِّكَازِ
حُكْمُهُ فِي الْمَعْدِنِ. فَلاَ يُمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ فِي دَارِ
الإِْسْلاَمِ، فَإِنْ وَجَدَهُ مَلَكَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ.
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِي الرِّكَازِ كَوْنَ
وَاجِدِهِ مُسْلِمًا لأَِنَّ خُمُسَ الرِّكَازِ يُصْرَفُ مَصْرِفَ
الزَّكَاةِ عِنْدَهُمْ، وَلَيْسَ غَيْرُ الْمُسْلِمِ كَالذِّمِّيِّ مِنْ
أَهْل الزَّكَاةِ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ (3) .
وَأَوْجَبَ الْخُرَاسَانِيُّونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الذِّمِّيِّ
الْخُمُسَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَصْرِفَهُ مَصْرِفُ الْفَيْءِ، فَلاَ
يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْل الزَّكَاةِ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ
عَلَيْهِ (4) .
__________
(1) المدونة 1 / 290.
(2) الإنصاف للمرداوي 3 / 124.
(3) المجموع 6 / 91.
(4) المجموع 6 / 101 - 102.
(35/162)
ح - أَهْلِيَّةُ الْوَاجِدِ:
29 - يُقْصَدُ بِهَذِهِ الأَْهْلِيَّةِ صَلاَحِيَةُ الْوَاجِدِ
لِلاِسْتِحْقَاقِ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَهَذَا هُوَ تَفْسِيرُ
الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ،
وَلِذَا يَجِبُ الْخُمُسُ عَلَى الْوَاجِدِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَهُ
لِتَعَلُّقِ الْوَاجِبِ بِالْعَيْنِ، فَيَسْتَوِي عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ
الْوَاجِدُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا صَبِيًّا أَوْ
بَالِغًا رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخُمُسُ،
وَالْبَاقِي يَكُونُ لِلْوَاجِدِ، سَوَاءٌ وَجَدَهُ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ
أَوْ أَرْضِ الْخَرَاجِ، لأَِنَّ اسْتِحْقَاقَ هَذَا الْمَال
كَاسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ، وَلِجَمِيعِ مَنْ سَمَّيْنَا حَقٌّ فِي
الْغَنِيمَةِ إِمَّا سَهْمًا وَإِمَّا رَضْخًا فَإِنَّ الصَّبِيَّ
وَالْعَبْدَ وَالذِّمِّيَّ وَالْمَرْأَةَ يُرْضَخُ لَهُمْ (1) ،
وَيَسْتَدِل الْجُمْهُورُ عَلَى مَذْهَبِهِمْ بِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ (2) ، وَلأَِنَّهُ
أَشْبَهُ بِالْغَنِيمَةِ فِي تَعَلُّقِ الْوَاجِبِ بِعَيْنِهَا،
وَلأَِنَّهُ اكْتِسَابُ مَالٍ فَكَانَ لِمُكْتَسِبِهِ حُرًّا أَوْ عَبْدًا
صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا أَوِ امْرَأَةً (3) .
مَوَانِعُ وُجُوبِ الْخُمُسِ فِي الْكَنْزِ
يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْخُمُسِ أَوْ بَعْضِهِ لِعِدَّةِ أَسْبَابٍ
أَهَمُّهَا:
تَلَفُ الْكَنْزِ بَعْدَ خُرُوجِهِ تَلَفًا
__________
(1) المبسوط 2 / 212.
(2) حديث: " وفي الركاز الخمس ". سبق تخريجه ف5.
(3) المغني مع الشرح الكبير 2 / 616، والخرشي 2 / 210.
(35/163)
جُزْئِيًّا أَوْ كُلِّيًّا وَظُهُورُ
مَالِكِهِ، وَاشْتِرَاطُ الإِْمَامِ عَلَى الْوَاجِدِ الْعَمَل فِي
احْتِفَارِ الْكُنُوزِ وَاسْتِخْرَاجِهَا لِبَيْتِ الْمَال، وَمَا إِلَى
ذَلِكَ، وَفِيمَا يَلِي تَوْضِيحُ هَذِهِ الْمَوَانِعِ بِوَجْهِ
الإِْجْمَال وَالإِْيجَازِ:
أ - تَلَفُ الْكَنْزِ جُزْئِيًّا أَوْ كُلِّيًّا:
30 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الرِّكَازَ يَأْخُذُ مَأْخَذَ الزَّكَاةِ
إِذَا احْتَاجَ لِكَبِيرِ نَفَقَةٍ أَوْ عَمَلٍ فِي تَخْلِيصِهِ فَإِذَا
تَلِفَ بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ بَعْدَ إِمْكَانِ الأَْدَاءِ لاَ تَسْقُطُ
عَنْهُ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ التَّلَفُ قَبْل التَّمَكُّنِ مِنَ
الأَْدَاءِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا تَلِفَ الرِّكَازُ قَبْل التَّمَكُّنِ مِنْ
إِخْرَاجِ الْوَاجِبِ فِيهِ، وَكَانَ التَّلَفُ بِدُونِ تَفْرِيطٍ فِي
حِفْظِهِ، فَلاَ يَجِبُ الْخُمُسُ، قِيَاسًا عَلَى الْمَال الْمُزَكَّى
قَبْل أَنْ يَتَمَكَّنَ الْمَالِكُ مِنْ إِخْرَاجِ زَكَاتِهِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: زَكَاةٌ -) .
ب - مَدْيُونِيَّةُ الْوَاجِدِ:
31 - لاَ يَمْنَعُ الدَّيْنُ عَلَى الْوَاجِدِ وُجُوبَ الْخُمُسِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ
لِلْوَاجِدِ أَنْ يَكْتُمَ الْخُمُسَ لِنَفْسِهِ وَلاَ يُخْرِجَهُ إِذَا
كَانَ فَقِيرًا أَوْ مَدِينًا مُحْتَاجًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَتَأَوَّل
أَنَّ لَهُ حَقًّا فِي بَيْتِ الْمَال وَنَصِيبًا فِي الْفَيْءِ
فَأَجَازُوا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْخُمُسَ لِنَفْسِهِ
__________
(1) حاشية العدوي مع الخرشي 2 / 209 - 210.
(2) مغني المحتاج 1 / 418.
(35/163)
عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ، لاَ أَنَّهُمْ
أَسَقَطُوا الْخُمُسَ عَنِ الْمَعَادِنِ (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَأَظْهَرُ الأَْقْوَال عِنْدَهُمْ أَنَّ الدَّيْنَ
لاَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، وَالْمَرْجُوحُ عِنْدَهُمْ أَنَّ
الدَّيْنَ يَمْنَعُ الْوَاجِبَ فِي الْمَال الْبَاطِنِ وَهُوَ النَّقْدُ،
وَالرِّكَازُ وَالْعَرَضُ، وَلاَ يَمْنَعُ فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ
الْمَاشِيَةُ وَالزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ وَالْمَعْدِنُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ
الظَّاهِرَ يَنْمُو بِنَفْسِهِ، وَالْبَاطِنَ إِنَّمَا يَنْمُو
بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ، وَالدَّيْنُ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَيُحْوِجُ إِلَى
صَرْفِهِ فِي قَضَائِهِ (2) ، وَمَحَل الْخِلاَفِ كَمَا جَاءَ فِي
حَاشِيَةِ الْجَمَل أَلاَّ يَزِيدَ الْمَال عَلَى الدَّيْنِ بِمِقْدَارِ
النِّصَابِ، فَإِنْ زَادَ بِمَا يَبْلُغُ النِّصَابَ زَكَّى الزَّائِدَ،
وَأَلاَّ يَكُونَ لَهُ مَا يُؤَدِّي دَيْنَهُ مِنْهُ غَيْرُ الْمَال
الْمُزَكَّى، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَمْنَعْ قَطْعًا عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ (3)
.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الدَّيْنُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي
الأَْمْوَال الْبَاطِنَةِ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ الأَْثْمَانُ
وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ، وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ
وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ
وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَال رَبِيعَةُ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي
سُلَيْمَانَ لاَ يَمْنَعُ، لأَِنَّهُ حُرٌّ
__________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 3 / 365، والبحر الرائق 2 / 252، والخرشي
2 / 210.
(2) مغني المحتاج 1 / 411.
(3) حاشية الجمل 2 / 289.
(35/164)
مُسْلِمٌ مَلَكَ نِصَابًا حَوْلاً
فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ كَمَنْ لاَ دَيْنَ عَلَيْهِ (1) ، وَدَلِيل
الْقَوْل بِمَنْعِ الدَّيْنِ زَكَاةَ مَا يُقَابِلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ صَدَقَةَ إِلاَّ عَنْ ظَهْرِ غِنًى (2) .
أَمَّا الأَْمْوَال الظَّاهِرَةُ وَهِيَ الْمَوَاشِي وَالْحُبُوبُ
وَالثِّمَارُ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيهَا لِمَا
ذَكَرْنَا، قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ:
يَبْتَدِئُ بِالدَّيْنِ فَيَقْضِيهِ ثُمَّ يَنْظُرُ مَا بَقِيَ عِنْدَهُ
بَعْدَ إِخْرَاجِ النَّفَقَةِ فَيُزَكِّيهِ، وَلاَ يَكُونُ عَلَى أَحَدٍ
دَيْنُهُ أَكْثَرُ مِنْ مَالِهِ، صَدَقَةٌ فِي إِبِلٍ أَوْ بَقَرٍ أَوْ
غَنَمٍ أَوْ زَرْعٍ، وَهَذَا قَوْل عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ
وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَالثَّوْرِيِّ واللَّيْثِ وَإِسْحَاقَ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لاَ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ فِيهَا، وَهُوَ
قَوْل الأَْوْزَاعِيِّ (3)
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لاَ يَمْنَعُ الدَّيْنُ الزَّكَاةَ
فِي الأَْمْوَال الظَّاهِرَةِ إِلاَّ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ فِيمَا
اسْتَدَانَهُ لِلإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا خَاصَّةً، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلاَمِ
الْخِرَقِيِّ (4) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: زَكَاةٌ ف 33 - 34) .
__________
(1) الشرح الكبير مع المغني 2 / 450.
(2) حديث: " لا صدقة إلا عن ظهر غنى ". أخرجه أحمد (2 / 230) من حديث أبي
هريرة وإسناده صحيح.
(3) الشرح الكبير مع المغني 2 / 452.
(4) الشرح الكبير مع المغني 2 / 452.
(35/164)
ج - الشَّرْطُ وَالاِتِّفَاقُ مَعَ
الإِْمَامِ:
32 - إِذَا لَمْ يَأْذَنِ الإِْمَامُ فِي الْعَمَل لاِسْتِخْرَاجِ
الْكُنُوزِ إِلاَّ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ كَأَنْ يَأْخُذَ الْوَاجِدُ أُجْرَةً
مُعَيَّنَةً وَيَكُونُ الْخَارِجُ لِبَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ
مِثْل هَذَا الشَّرْطِ يَصِحُّ وَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ لأَِنَّ
الْمُسْلِمِينَ عَلَى شُرُوطِهِمْ.
يَقُول الْكَاسَانِيُّ: فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ. سَوَاءٌ كَانَ
الْوَاجِدُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا كَبِيرًا أَوْ
صَغِيرًا. . . إِلاَّ إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الإِْمَامِ وَقَاطَعَهُ
عَلَى شَيْءٍ فَلَهُ أَنْ يَفِيَ بِشَرْطِهِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ (1) ،
وَلأَِنَّهُ إِذَا قَاطَعَهُ عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ جَعَل الْمَشْرُوطَ
أُجْرَةً لِعَمَلِهِ فَيَسْتَحِقُّهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ (2) ، وَيَذْكُرُ
الْخَرَشِيُّ اعْتِبَارَ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الاِتِّفَاقِ (هِبَةً
لِلثَّوَابِ) حَتَّى لاَ يُنَازَعَ فِي صِحَّةِ الإِْجَارَةِ لِجَهَالَةِ
الأُْجْرَةِ أَوِ الْمَأْجُورِ عَلَيْهِ (3) .
كَنْزُ الْمَال:
33 - اتَّجَهَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ مَفْهُومِ كَنْزِ الْمَال
اتِّجَاهَاتٍ ثَلاَثَةً:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: تَعْرِيفُ الْكَنْزِ بِأَنَّهُ هُوَ " مَا فَضَل
عَنِ الْحَاجَةِ (4) "، وَأَشْهَرُ مَنْ دَعَا إِلَى
__________
(1) حديث: " المسلمون على شروطهم ". أخرجه الترمذي (3 / 635) من حديث عمرو
بن عوف المزني، وقال: حديث حسن صحيح.
(2) بدائع الصنائع 2 / 65 - 66.
(3) الخرشي 2 / 209.
(4) تفسير القرطبي 8 / 125، وانظر الأحاديث الواردة في ذم الكنز في صحيح
مسلم في كتاب الزكاة.
(35/165)
هَذَا الاِتِّجَاهِ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ.
قَال الرَّازِيُّ: الْمَال الْكَثِيرُ إِذَا جُمِعَ فَهُوَ الْكَنْزُ
الْمَذْمُومُ سَوَاءٌ أُدِّيَتْ زَكَاتُهُ أَوْ لَمْ تُؤَدَّ لِعُمُومِ (1)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} (2)
فَظَاهِرُ الآْيَةِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ جَمْعِ الْمَال، وَلِمَا
رَوَى ثَوْبَانُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ قَال رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَبًّا لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ،
قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ: فَأَيُّ مَالٍ نَكْنِزُ؟ قَال: قَلْبًا
شَاكِرًا وَلِسَانًا ذَاكِرًا وَزَوْجَةً صَالِحَةً (3) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: تَعْرِيفُ الْكَنْزِ بِأَنَّهُ جَمْعُ الْمَال
الَّذِي لاَ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ، أَمَّا مَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَلَيْسَ
بِكَنْزٍ، قَال ابْنُ عُمَرَ: مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ
وَإِنْ كَانَ تَحْتَ سَبْعِ أَرَضِينَ، وَكُل مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ
فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ كَانَ فَوْقَ الأَْرْضِ (4) .
وَهُوَ الْكَنْزُ الْمَذْمُومُ كَمَا قَال الأَْكْثَرُونَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا قَال ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ
يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل اللَّهِ} (5) ،
__________
(1) تفسير الرازي 16 / 44.
(2) سورة التوبة / 34.
(3) حديث: لما نزلت آية (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ)
أخرجه الترمذي (5 / 277) والواحدي في أسباب النزول (ص244) واللفظ للواحدي،
وقال الترمذي: حديث حسن.
(4) التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي 8 / 125 وصحيح سنن ابن ماجه ترتيب
الألباني 1 / 298.
(5) سورة التوبة / 34.
(35/165)
يُرِيدُ الَّذِينَ لاَ يُؤَدُّونَ زَكَاةَ
أَمْوَالِهِمْ، وَبِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} (1) ،
فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُل عَلَى أَنَّ كُل مَا اكْتَسَبَهُ الإِْنْسَانُ فَهُوَ
حَقُّهُ (2) ، وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: نِعْمَ
الْمَال الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ (3) .
الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: تَعْرِيفُ الْكَنْزِ لِلْمَال بِأَنَّهُ مَا لَمْ
تُؤَدَّ مِنْهُ الْحُقُوقُ الْعَارِضَةُ كَفَكِّ الأَْسِيرِ وَإِطْعَامِ
الْجَائِعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (4) .
كَنِيسَةٌ
انْظُرْ: مَعَابِدُ.
__________
(1) سورة البقرة / 134.
(2) تفسير الرازي 16 / 44.
(3) حديث: " نعم المال الصالح للمرء الصالح ". أخرجه أحمد (4 / 197)
والحاكم (2 / 136) من حديث عمرو بن العاص، واللفظ لأحمد وصححه الحاكم
ووافقه الذهبي.
(4) القرطبي 8 / 126.
(35/166)
كُنْيَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكُنْيَةُ اسْمٌ يُطْلَقُ عَلَى الشَّخْصِ لِلتَّعْظِيمِ
وَالتَّكْرِيمِ كَأَبِي حَفْصٍ وَأَبِي الْحَسَنِ، أَوْ عَلاَمَةً عَلَيْهِ
كَأَبِي تُرَابٍ (1) ، وَهُوَ مَا كَنَّى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَخْذًا مِنْ حَالَتِهِ عِنْدَمَا وَجَدَهُ مُضْطَجِعًا إِلَى جِدَارِ
الْمَسْجِدِ وَفِي ظَهْرِهِ تُرَابٌ (2) .
قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: الْكُنْيَةُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُكَنَّى عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي يُسْتَفْحَشُ ذِكْرُهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُكَنَّى الرَّجُل بِاسْمٍ تَوْقِيرًا وَتَعْظِيمًا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَقُومَ الْكُنْيَةُ مَقَامَ الاِسْمِ فَيُعْرَفُ
صَاحِبُهَا بِهَا كَمَا يُعْرَفُ بِاسْمِهِ كَأَبِي لَهَبٍ اسْمُهُ عَبْدُ
الْعُزَّى عُرِفَ بِكُنْيَتِهِ فَسَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا (3) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كنى علي بن أبي طالب بأبي تراب ".
أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 587) من حديث سهل بن سعد.
(3) لسان العرب.
(35/166)
وَالْكُنْيَةُ: مَا صُدِّرَ بِأَبٍ أَوْ
بِأُمٍّ، كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأُمِّ الْخَيْرِ (1) ، وَقَال
الْجُرْجَانِيُّ: الْكُنْيَةُ مَا صُدِّرَ بِأَبٍ أَوْ أُمٍّ أَوِ ابْنٍ
أَوْ بِنْتٍ (2) .
وَتَكُونُ عَلَمًا غَيْرِ الاِسْمِ وَاللَّقَبِ وَتُسْتَعْمَل مَعَهُمَا
أَوْ بِدُونِهِمَا تَفْخِيمًا لِشَأْنِ صَاحِبِهَا أَنْ يُذْكَرَ اسْمُهُ
مُجَرَّدًا وَتَكُونُ لأَِشْرَافِ النَّاسِ.
وَقَدِ اشْتُهِرَتِ الْكُنَى فِي الْعَرَبِ حَتَّى رُبَّمَا غَلَبَتْ عَلَى
الأَْسْمَاءِ كَأَبِي طَالِبٍ وَأَبِي لَهَبٍ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ
يَكُونُ لِلْوَاحِدِ كُنْيَةٌ وَاحِدَةٌ فَأَكْثَرُ وَقَدْ يَشْتَهِرُ
بِاسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ جَمِيعًا (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - اللَّقَبُ:
2 - اللَّقَبُ فِي اللُّغَةِ هُوَ مَا يُسَمَّى بِهِ الإِْنْسَانُ بَعْدَ
اسْمِهِ الْعَلَمِ مِنْ لَفْظٍ يَدُل عَلَى الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ
لِمَعْنًى فِيهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ
(4) .
وَاللَّقَبُ وَالْكُنْيَةُ مُشْتَرِكَانِ فِي تَعْرِيفِ الْمَدْعُوِّ
بِهِمَا، وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ اللَّقَبَ يُفْهِمُ مَدْحًا أَوْ
ذَمًّا، وَالْكُنْيَةُ مَا صُدِّرَ بِأَبٍ أَوْ أُمٍّ (5) .
__________
(1) شرح ابن عقيل 1 / 119، وفتح الباري 6 / 560.
(2) التعريفات للجرجاني.
(3) فتح الباري 6 / 560.
(4) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، والتعريفات، والمفردات
مادة: لقب، ومغني المحتاج 4 / 295، وتفسير القرطبي 16 / 328، وفتح الباري 6
/ 560.
(5) تحفة المودود ص115.
(35/167)
ب - الاِسْمُ:
3 - الاِسْمُ فِي اللُّغَةِ: مَا يُعْرَفُ بِهِ الشَّيْءُ وَيُسْتَدَل بِهِ
عَلَيْهِ، وَهُوَ مِنَ السُّمُوِّ وَهُوَ الْعُلُوُّ، أَوْ مِنَ الْوَسْمِ
وَهُوَ الْعَلاَمَةُ عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ أَهْل اللُّغَةِ.
وَهُوَ عِنْدَ النُّحَاةِ مَا دَل عَلَى مَعْنًى فِي نَفْسِهِ غَيْرُ
مُقْتَرِنٍ بِزَمَنٍ كَرَجُلٍ وَفَرَسٍ، وَالاِسْمُ الأَْعْظَمُ الاِسْمُ
الْجَامِعُ لِمَعَانِي صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل، اسْمُ الْجَلاَلَةِ
اسْمُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكُنْيَةِ وَالاِسْمِ أَنَّ الْكُنْيَةَ مَا صُدِّرَ
بِأَبٍ أَوْ أُمٍّ وَنَحْوِهِمَا، وَالاِسْمُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْكُنْيَةِ:
حُكْمُ التَّكَنِّي بِكُنْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ
(2) .
4 - الأَْوَّل: لاَ يَجُوزُ التَّكَنِّي بِكُنْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ: أَبُو الْقَاسِمِ وَهُوَ اسْمُ
وَلَدِهِ الْقَاسِمِ وَكَانَ أَكْبَرَ أَوْلاَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي زَمَنِ حَيَاتِهِ، وَيَجُوزُ
بَعْدَ وَفَاتِهِ سَوَاءٌ كَانَ اسْمُ صَاحِبِ الْكُنْيَةِ مُحَمَّدًا أَوْ
لَمْ يَكُنْ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَمُّوا
بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي (3) ،
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات، والمعجم الوسيط، فتح الباري 6
/ 560.
(2) فتح الباري 10 / 572 - 573.
(3) حديث: " سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 /
339) .
(35/167)
حَيْثُ إِنَّ مِنْ أَسْبَابِ وُرُودِ هَذَا
الْحَدِيثِ: أَنَّ رَجُلاً قَال فِي السُّوقِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْجُودٌ فِيهِ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَالْتَفَتَ
إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنَّمَا
دَعَوْتُ هَذَا، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي فَفَهِمُوا أَنَّ عِلَّةَ
النَّهْيِ خَاصَّةٌ بِزَمَنِ حَيَاتِهِ لِلسَّبَبِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ
زَالَتِ الْعِلَّةُ بِوَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَلِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قُلْتُ يَا رَسُول
اللَّهِ: إِنْ وُلِدَ لِي مِنْ بَعْدِكَ وَلَدٌ أُسَمِّيهِ بِاسْمِكَ
وَأُكَنِّيهِ بِكُنْيَتِكَ؟ قَال: نَعَمْ (1) ، وَلأَِنَّ بَعْضَ
الصَّحَابَةِ سَمَّى ابْنَهُ مُحَمَّدًا، وَكَنَّاهُ أَبَا الْقَاسِمِ
مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ،
وَسَعْدٌ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عَوْفٍ، وَحَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَالأَْشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِمَّا يَدُل عَلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوا النَّهْيَ
الْوَارِدَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَمُّوا
بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي، مُخَصَّصٌ بِزَمَنِ حَيَاتِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ مَا بَعْدَهُ.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (2) مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ الأَْقْوَال عِنْدَ كُلٍّ
__________
(1) حديث: علي: " إن ولد لي. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 250) والترمذي (5
/ 137) وقال: حديث صحيح.
(2) ابن عابدين 5 / 268، مواهب الجليل 3 / 256، فتح الباري 6 / 560، 10 /
572 وما بعدها، ومغني المحتاج 1 / 9، 4 / 295، المغني 8 / 647، والفروع 3 /
562 - 565.
(35/168)
مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَمَنْ كَانَ اسْمُهُ مُحَمَّدًا لاَ بَأْسَ بِأَنْ
يُكَنَّى أَبَا الْقَاسِمِ لأَِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي قَدْ نُسِخَ
وَعَلَّقَ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى النَّسْخِ بِقَوْلِهِ: لَعَل وَجْهَهُ
زَوَال عِلَّةِ النَّهْيِ بِوَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(1) .
وَقَال عِيَاضٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ
وَفُقَهَاءِ الأَْمْصَارِ عَلَى جَوَازِ التَّسْمِيَةِ وَالتَّكْنِيَةِ
بِأَبِي الْقَاسِمِ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ مَنْسُوخٌ (2) .
5 - الثَّانِي: لاَ يَجُوزُ التَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ اسْمُ صَاحِبِ
الْكُنْيَةِ مُحَمَّدًا أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لاَ، لِحَدِيثِ:
سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي.
وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ وَالْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِهِ، وَهُوَ
رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (3) .
6 - الثَّالِثُ: لاَ يَجُوزُ التَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ،
سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِحَدِيثِ: لاَ تَجْمَعُوا بَيْنَ اسْمِي وَكُنْيَتِي (4) ، وَلِحَدِيثِ:
__________
(1) ابن عابدين 5 / 268، والفتاوى الهندية 5 / 362.
(2) مواهب الجليل 3 / 256، وانظر الفتح 10 / 573.
(3) فتح الباري 10 / 572 - 574، 6 / 560، ومغني المحتاج 1 / 9، الفروع 3 /
565 وما بعدها.
(4) حديث: " لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي ". أخرجه أحمد (2 / 433) من حديث
أبي هريرة، وأورده الهيثمي في المجمع (8 / 48) وقال: رجاله رجال الصحيح.
(35/168)
00 سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا
بِكُنْيَتِي وَلِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَال:
نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَجْمَعَ
بَيْنَ اسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ وَقَال: أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ وَاللَّهُ
يُعْطِي وَأَنَا أَقْسِمُ (1) ، وَلِحَدِيثِ: مَنْ تَسَمَّى بِاسْمِي فَلاَ
يُكَنَّى بِكُنْيَتِي (2) .
قَال الرَّافِعِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الأَْصَحُّ، لأَِنَّ
النَّاسَ لَمْ يَزَالُوا يَفْعَلُونَهُ فِي جَمِيعِ الأَْعْصَارِ مِنْ
غَيْرِ إِنْكَارٍ.
وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (3) .
7 - الرَّابِعُ: لاَ يَجُوزُ التَّسْمِيَةُ بِمُحَمَّدٍ مُطْلَقًا وَلاَ
التَّكَنِّي بِأَبِي الْقَاسِمِ مُطْلَقًا، حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ
وَاحْتَجَّ لِصَاحِبِ هَذَا الْقَوْل بِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: تُسَمُّونَهُمْ مُحَمَّدًا ثُمَّ
تَلْعَنُونَهُمْ (4) ، وَلِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ كَتَبَ: لاَ تُسَمُّوا أَحَدًا بِاسْمِ نَبِيٍّ، قَال عِيَاضٌ:
وَالأَْشْبَهُ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) حديث أبي هريرة أنه قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع
بين اسمه وكنيته " أخرجه البخاري في الأدب المفرد ص294 وأخرجه الترمذي (5 /
136) مختصرًا وقال: حديث حسن صحيح.
(2) حديث: " من تسمى باسمي فلا يكنى بكنيتي ". أخرجه أحمد (3 / 312) .
(3) فتح الباري 10 / 572، والفروع 3 / 565 - 566.
(4) حديث: " تسمونهم محمدًا ثم تلعنونهم ". أخرجه أبو يعلى (6 / 116) وقال
الهيثمي في المجمع (8 / 48) : فيه الحكم بن عطية وثقه ابن معين وضعفه غيره.
(35/169)
إِنَّمَا فَعَل ذَلِكَ إِعْظَامًا لاِسْمِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِئَلاَّ يُنْتَهَكَ،
وَقَدْ سَمِعَ رَجُلاً يَقُول لِمُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ
يَا مُحَمَّدُ فَعَل اللَّهُ بِكَ وَفَعَل فَدَعَاهُ وَقَال: لاَ أَرَى
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَبُّ بِكَ فَغَيَّرَ
اسْمَهُ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ (1) .
8 - الْخَامِسُ: لاَ يَجُوزُ التَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ أَكَانَ اسْمُ صَاحِبِ الْكُنْيَةِ مُحَمَّدًا
أَمْ لاَ، وَيُفْصَل بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَيْنَ مَنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ أَوْ أَحْمَدُ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُكَنَّى
بِكُنْيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ مَنْ لَيْسَ
اسْمُهُ مُحَمَّدًا أَوْ أَحْمَدَ فَيَجُوزُ أَنْ يُكَنَّى بِكُنْيَتِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ:
هُوَ أَعْدَل الْمَذَاهِبِ مَعَ غَرَابَتِهِ (2) .
حُكْمُ التَّكَنِّي:
9 - قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: يُسَنُّ أَنْ يُكَنَّى أَهْل الْفَضْل
مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ لأَِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يُكَنَّى وَكَذَا كِبَارُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ.
كَمَا يُسَنُّ أَنْ يُكَنَّى الرَّجُل بِأَكْبَرِ أَوْلاَدِهِ إِذَا كَانَ
لَهُ أَوْلاَدٌ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ يُسَنُّ أَنْ تُكَنَّى بِأَكْبَرِ
أَوْلاَدِهَا إِذَا كَانَ لَهَا أَوْلاَدٌ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
__________
(1) فتح الباري 10 / 572 وما بعدها، والفروع 3 / 565.
(2) فتح الباري 10 / 574 والفروع 3 / 565 - 566.
(35/169)
يُكَنَّى أَبَا الْقَاسِمِ بِوَلَدِهِ
الْقَاسِمِ وَكَانَ أَكْبَرَ أَوْلاَدِهِ (1) ، وَلِمَا وَرَدَ عَنْ
هَانِئِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ لَمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ، يُكَنُّونَهُ
بِأَبِي الْحَكَمِ، فَدَعَاهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَال: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ
فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ؟ فَقَال: إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا
فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ فَرَضِيَ كِلاَ
الْفَرِيقَيْنِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا، فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ؟ قَال: لِي
شُرَيْحٌ وَمُسْلِمٌ وَعَبْدُ اللَّهِ، قَال: فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ؟ قُلْتُ:
شُرَيْحٌ قَال: فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ (2) .
قَال ابْنُ مُفْلِحٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بَعْدَ هَذَا الْحَدِيثِ: وَهَذَا
يَدُل عَلَى أَنَّ الأَْوْلَى أَنْ يُكَنَّى الإِْنْسَانُ بِأَكْبَرِ
أَوْلاَدِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّكَنِّي بِغَيْرِهِ مِنَ
الأَْوْلاَدِ لِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ جِبْرِيل
عَلَيْهِ السَّلَامُ قَال لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا أَبَا إِبْرَاهِيمَ (3) ، وَقَدْ وُلِدَ لَهُ
إِبْرَاهِيمُ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ مِنْ مَارِيَةَ
الْقِبْطِيَّةِ.
__________
(1) فتح الباري 6 / 560، ومواهب الجليل 3 / 256، ومغني المحتاج 4 / 295،
والفروع 3 / 562 وما بعدها، وتفسير القرطبي 6 / 330، والآداب الشرعية 1 /
508 - 509.
(2) حديث هانئ بن يزيد: " لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. . .
". أخرجه أبو داود (5 / 240) .
(3) حديث: " أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم يا أبا
إبراهيم. . . ". أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (ص110 - قسم السيرة
النبوية) وأشار الذهبي في تاريخ الإسلام (ص 34 قسم السيرة) إلى ضعفه.
(35/170)
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلرَّجُل
وَالْمَرْأَةِ وَلَدٌ فَيَجُوزُ تَكَنِّيهِمَا بِوَلَدِ غَيْرِهِمَا
لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (1) حِينَ وَجَدَتْ عَلَى
كَوْنِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ تَتَكَنَّى بِهِ فَقَال لَهَا عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: فَاكْتَنِي بِابْنِكِ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي
ابْنَ أُخْتِهَا قَال مُسَدَّدٌ - رَاوِي الْحَدِيثِ - عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (2) .
وَكَذَلِكَ تَجُوزُ الْكُنَى بِالْحَالَةِ الَّتِي يَتَّصِفُ بِهَا
الشَّخْصُ كَأَبِي تُرَابٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَمَا أَشَبَهَهُمَا (3) .
الْكُنْيَةُ لِلْعَاصِي:
10 - قَال الْفُقَهَاءُ: لاَ يُكَنَّى كَافِرٌ وَلاَ فَاسِقٌ وَلاَ
مُبْتَدِعٌ لأَِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْل التَّعْظِيمِ وَالتَّكْرِيمِ
بَل أُمِرْنَا بِالإِْغْلاَظِ عَلَيْهِمْ إِلاَّ لِخَوْفِ فِتْنَةٍ مِنْ
ذِكْرِهِ بِاسْمِهِ، أَوْ تَعْرِيفٍ كَمَا قِيل بِهِ فِي أَبِي لَهَبٍ فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} (4) وَاسْمُهُ عَبْدُ
الْعُزَّى (5) .
الْكُنْيَةُ لِلصَّبِيِّ:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ كُنْيَةِ الصَّغِيرِ
__________
(1) فتح الباري 6 / 560، 10 / 571، والفروع 3 / 63، ومواهب الجليل 3 / 256،
وسبل السلام 1 / 54.
(2) حديث عائشة: " حين وجدت على كونها لم يكن لها ولد تتكنى به. . . ".
أخرجه أبو داود (5 / 253) .
(3) فتح الباري 10 / 582 - 587 - 588، ومواهب الجليل 3 / 256، 257.
(4) سورة المسد / 1.
(5) مغني المحتاج 4 / 295، وتفسير القرطبي 16 / 330، ودليل الفالحين 4 /
532.
(35/170)
وَكَذَا كُل مَنْ لاَ يُولَدُ لَهُ،
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِكُنْيَةِ الصَّغِيرِ،
أَوْ مَنْ لاَ يُولَدُ لَهُ (1) لِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ
النَّاسِ خَلْقًا وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَال لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ - قَال:
أَحْسِبُهُ فَطِيمًا - وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَال: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا
فَعَل النُّغَيْرُ؟ (2) وَلِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَجِّلُوا
بِكُنَى أَوْلاَدِكُمْ لاَ تُسْرِعُ إِلَيْهِمُ الأَْلْقَابُ السُّوءُ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنَّاهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَبْل أَنْ
يُولَدَ لَهُ (3) .
قَال الْعُلَمَاءُ: كَانُوا يُكَنُّونَ الصَّبِيَّ تَفَاؤُلاً بِأَنَّهُ
سَيَعِيشُ حَتَّى يُولَدَ لَهُ وَلِلأَْمْنِ مِنَ التَّلْقِيبِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ كَنَّى ابْنَهُ الصَّغِيرَ بِأَبِي بَكْرٍ
وَغَيْرِهِ كَرِهَهُ بَعْضُهُمْ، وَعَامَّتُهُمْ لاَ يَكْرَهُ، لأَِنَّ
النَّاسَ يُرِيدُونَ بِهِ التَّفَاؤُل (4) .
__________
(1) فتح الباري 10 / 582 - 584، وابن عابدين 5 / 268، ومواهب الجليل 3 /
256، ومغني المحتاج 4 / 295، والآداب الشرعية 1 / 509.
(2) حديث أنس: " كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا. . . ".
أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 582) ومسلم (4 / 1692) .
(3) حديث ابن مسعود: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كناه أبا عبد الرحمن
قبل أن يولد له ". أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (9 / 58) وقال الهيثمي
في مجمع الزوائد (8 / 56) : رجاله رجال الصحيح.
(4) حاشية ابن عابدين 5 / 268.
(35/171)
كَهَانَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكَهَانَةُ
فِي اللُّغَةِ: مِنْ كَهَنَ يَكْهَنُ كَهَانَةً: قَضَى لَهُ بِالْغَيْبِ،
وَالْكَاهِنُ: هُوَ الَّذِي يَتَعَاطَى الْخَبَرَ عَنِ الْكَائِنَاتِ فِي
مُسْتَقْبَل الزَّمَانِ، وَيَدَّعِي مَعْرِفَةَ الأَْسْرَارِ وَمُطَالَعَةَ
الْغَيْبِ (1) .
وَتُطْلِقُ الْعَرَبُ عَلَى الَّذِي يَقُومُ بِأَمْرِ الرَّجُل وَيَسْعَى
فِي حَاجَتِهِ: كَاهِنًا، كَمَا يُسَمُّونَ كُل مَنْ يَتَعَاطَى عِلْمًا
دَقِيقًا كَاهِنًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي الْمُنَجِّمَ وَالطَّبِيبَ كَاهِنًا.
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّنْجِيمُ:
1 - التنجيم
عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ الاِسْتِدْلاَل بِالتَّشَكُّلاَتِ الْفَلَكِيَّةِ
عَلَى الْحَوَادِثِ
__________
(1) لسان العرب، والتعريفات للجرجاني، والمغرب، وحاشية ابن عابدين 1 / 30 -
31.
(2) المصادر السابقة.
(35/171)
السُّفْلِيَّةِ (1) .
وَالتَّنْجِيمُ بِهَذَا الْمَعْنَى ضَرْبٌ مِنَ الْكَهَانَةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْكَهَانَةِ:
3 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّكَهُّنَ وَالْكَهَانَةَ
بِمَعْنَى ادِّعَاءِ عِلْمِ الْغَيْبِ وَالاِكْتِسَابُ بِهِ حَرَامٌ، كَمَا
أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ إِتْيَانَ الْكَاهِنِ لِلسُّؤَال عَنْ عَوَاقِبِ
الأُْمُورِ حَرَامٌ، وَأَنَّ التَّصْدِيقَ بِمَا يَقُولُهُ: كُفْرٌ، لِمَا
وَرَدَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَال: مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُول فَقَدْ
كَفَرَ بِمَا أُنْزِل عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(2) ، وَنَهَى عَنْ أَكْل مَا اكْتَسَبَهُ بِالْكَهَانَةِ، لأَِنَّهُ
سُحْتٌ، جَاءَ عَنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، كَأُجْرَةِ الْبَغِيِّ،
رَوَى أَبُو مَسْعُودٍ الأَْنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ
الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ (3) "، وَهُوَ مَا
يَأْخُذُهُ عَلَى كَهَانَتِهِ، وَتَشْمَل الْكَهَانَةُ كُل ادِّعَاءٍ
بِعِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَيَشْمَل
اسْمُ الْكَاهِنِ: كُل مَنْ يَدَّعِي ذَلِكَ مِنْ مُنَجِّمٍ وَعَرَّافٍ
وَضَرَّابٍ بِالْحَصْبَاءِ وَنَحْوِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 31.
(2) حديث: " من أتى كاهنًا أو عرافًا. . . ". أخرجه أحمد (2 / 429) والحاكم
(1 / 8) من حديث أبي هريرة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) حديث أبي مسعود الأنصاري " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن
الكلب. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1198) .
(35/172)
ذَلِكَ. (1)
وَكَانَ لِلْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَهَانَةٌ قَبْل مَبْعَثِ
الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ لَهُمْ كَهَنَةٌ،
فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ: أَنَّ تَابِعًا مِنَ الْجِنِّ وَرَئِيًّا
(2) ، يُلْقِي إِلَيْهِ الأَْخْبَارَ (3) .
وَيُرْوَى أَنَّ الشَّيَاطِينَ كَانَتْ تَسْتَرِقُ السَّمْعَ فَتُلْقِيهِ
إِلَى الْكَهَنَةِ فَتَزِيدُ فِيهِ مَا تَزِيدُهُ فَيَقْبَلُهُ الْكُفَّارُ
مِنْهُمْ.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: تَصْعَدُ
الشَّيَاطِينُ أَفْوَاجًا تَسْتَرِقُ السَّمْعَ فَيَنْفَرِدُ الْمَارِدُ
مِنْهَا فَيَعْلُو فَيُرْمَى بِالشِّهَابِ فَيُصِيبُ جَبْهَتَهُ، أَوْ
جَنْبَهُ حَيْثُ يَشَاءُ اللَّهُ مِنْهُ فَيَلْتَهِبُ فَيَأْتِي
أَصْحَابَهُ وَهُوَ يَلْهَبُ فَيَقُول: إِنَّهُ كَانَ مِنَ الأَْمْرِ كَذَا
وَكَذَا فَيَذْهَبُ أُولَئِكَ إِلَى إِخْوَانِهِمْ مِنَ الْكَهَنَةِ
فَيَزِيدُونَ عَلَيْهِ أَضْعَافَهُ مِنَ الْكَذِبِ فَيُخْبِرُونَهُمْ بِهِ،
فَإِذَا رَأَوْا شَيْئًا مِمَّا قَالُوا قَدْ كَانَ، صَدَّقُوهُمْ بِمَا
جَاءُوهُمْ مِنَ الْكَذِبِ (4) ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَرَسَتِ السَّمَاءُ بَطَلَتِ الْكَهَانَةُ
بِالْقُرْآنِ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِل،
وَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ
__________
(1) سبل السلام 3 / 14، وحاشية ابن عابدين 1 / 31، 5 / 272.
(2) الرَّئِيّ كَفَتِيّ: جِنّيّ.
(3) لسان العرب مادة: كهن، وحاشية ابن عابدين 1 / 30، 31، 5 / 272، وسبل
السلام 3 / 14.
(4) جامع البيان لابن جرير الطبري 14 / 11 ط. دار المعرفة ببيروت.
(35/172)
الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ بِالْوَحْيِ عَلَى
مَا يَشَاءُ مِنْ عِلْمِ الْغُيُوبِ الَّتِي عَجَزَتِ الْكَهَانَةُ عَنِ
الإِْحَاطَةِ بِهِ وَأَغْنَاهُ بِالتَّنْزِيل، وَأَزْهَقَ أَبَاطِيل
الْكَهَانَةِ (1) .
وَأَبْطَل الإِْسْلاَمُ الْكَهَانَةَ بِأَنْوَاعِهَا، وَحَرَّمَ
مُزَاوَلَتَهَا وَقَرَّرَ أَنَّ الْغَيْبَ لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللَّهُ،
فَقَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {قُل لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأَْرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} (2) ، وَكَذَّبَ مَزَاعِمَ
الْكَهَنَةِ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَأْتِي لَهُمْ بِخَبَرِ السَّمَاءِ،
وَقَال تَعَالَى: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ
عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} (3)
حُكْمُ الْكَاهِنِ مِنْ حَيْثُ الرِّدَّةِ وَعَدَمِهَا:
4 - قَال الْفُقَهَاءُ: الْكَاهِنُ يَكْفُرُ بِادِّعَاءِ عِلْمِ الْغَيْبِ
(4) ، لأَِنَّهُ يَتَعَارَضُ مَعَ نَصِّ الْقُرْآنِ، قَال تَعَالَى:
{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ
ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (5) أَيْ عَالِمُ الْغَيْبِ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ
فَلاَ يُطْلِعُ عَلَيْهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ إِلاَّ مَنِ ارْتَضَاهُ
لِلرِّسَالَةِ، فَإِنَّهُ يُطْلِعُهُ عَلَى مَا يَشَاءُ فِي غَيْبِهِ،
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ أَتَى كَاهِنًا
أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 31، 5 / 272.
(2) سورة النمل / 65.
(3) سورة الشعراء / 211، 212.
(4) حاشية ابن عابدين 3 / 297.
(5) سورة الجن / 25.
(35/173)
يَقُول فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِل عَلَى
مُحَمَّدٍ (1) ".
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ التَّتَارْخَانِيَّةَ: يَكْفُرُ
بِقَوْلِهِ أَنَا أَعْلَمُ الْمَسْرُوقَاتِ، أَوْ أَنَا أُخْبِرُ عَنْ
إِخْبَارِ الْجِنِّ إِيَّايَ (2) ، وَقَال: كُل مُسْلِمٍ ارْتَدَّ
فَإِنَّهُ يُقْتَل إِنْ لَمْ يَتُبْ وَلاَ تُقْبَل تَوْبَةُ أَحَدَ عَشَرَ،
وَذَكَرَ مِنْهُمَ الْكَاهِنَ (3) .
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: لَيْسَ الْمُنَجِّمُ وَمَنْ ضَاهَاهُ مِمَّنْ
يَضْرِبُ بِالْحَصَى وَيَنْظُرُ فِي الْكُتُبِ وَيَزْجُرُ بِالطَّيْرِ
مِمَّنِ ارْتَضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ رَسُولٍ فَيُطْلِعُهُ عَلَى مَا
يَشَاءُ مِنْ غَيْبِهِ بَل هُوَ كَافِرٌ بِاللَّهِ مُفْتَرٍ عَلَيْهِ
بِحَدْسِهِ وَتَخْمِينِهِ وَكَذِبِهِ (4) .
وَقَال الْقَرَافِيُّ: وَأَمَّا مَا يُخْبِرُ بِهِ الْمُنَجِّمُ مِنَ
الْغَيْبِ مِنْ نُزُول الأَْمْطَارِ وَغَيْرِهِ فَقِيل ذَلِكَ كُفْرٌ
يُقْتَل بِغَيْرِ اسْتِتَابَةٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَال
اللَّهُ عَزَّ وَجَل: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِي
فَأَمَّا مَنْ قَال: مُطِرْنَا بِفَضْل اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَهُوَ
مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَال: مُطِرْنَا
بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ (5)
"، وَقِيل: يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِل قَالَهُ أَشْهَبُ،
وَقِيل يُزْجَرُ عَنْ
__________
(1) حديث: " من أتى كاهنًا أو عرافًا. . . ". تقدم في فقرة (3) .
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 297.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 298.
(4) تفسير القرطبي 19 / 28.
(5) حديث: قال الله: " أصبح من عبادي مؤمن بي. . . ". أخرجه البخاري (فتح
الباري 7 / 439) ومسلم (1 / 83 - 84) من حديث زيد بن خالد، واللفظ لمسلم.
(35/173)
ذَلِكَ وَيُؤَدَّبُ وَلَيْسَ اخْتِلاَفًا
فِي قَوْلٍ بَل اخْتِلاَفٌ فِي حَالٍ، فَإِنْ قَال إِنَّ الْكَوَاكِبَ
مُسْتَقِلَّةٌ بِالتَّأْثِيرِ قُتِل وَلَمْ يُسْتَتَبْ إِنْ كَانَ
يُسِرُّهُ لأَِنَّهُ زِنْدِيقٌ وَإِنْ أَظْهَرَهُ فَهُوَ مُرْتَدٌّ
يُسْتَتَابُ، وَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْفَاعِل
عِنْدَهَا زُجِرَ عَنِ الاِعْتِقَادِ الْكَاذِبِ، لأَِنَّهُ بِدْعَةٌ
تُسْقِطُ الْعَدَالَةَ (1) .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ: يَقُول فِي إِحْدَاهُمَا: يُسْتَتَابُ، قِيل
لَهُ أَيُقْتَل؟ قَال: لاَ. يُحْبَسُ لَعَلَّهُ يَرْجِعُ، وَفِي رِوَايَةٍ
عَنْهُ: السَّاحِرُ، وَالْكَاهِنُ حُكْمُهُمَا: الْقَتْل، أَوِ الْحَبْسُ
حَتَّى يَتُوبَا، لأَِنَّهُمَا يُلْبِسَانِ أَمْرَهُمَا، وَحَدِيثُ عُمَرَ:
اقْتُلُوا كُل سَاحِرٍ وَكَاهِنٍ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَمْرِ الإِْسْلاَمِ
(2) ".
وَجَاءَ فِي الْفُرُوعِ: الْكَاهِنُ وَالْمُنَجِّمُ كَالسَّاحِرِ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا وَإِنَّ ابْنَ عَقِيلٍ فَسَّقَهُ فَقَطْ إِنْ قَال: أَصَبْتُ
بِحَدْسِي وَفَرَاهَتِي، فَإِنْ أَوْهَمَ قَوْمًا بِطَرِيقَتِهِ: أَنَّهُ
يَعْلَمُ الْغَيْبَ، فَلِلإِْمَامِ قَتْلُهُ لِسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ (3) .
كَوْسَج
انْظُرْ: أَمْرَد
__________
(1) الفروق للقرافي 4 / 259.
(&# x662 ;) المغني 8 /
155.
(3) الفروع 6 / 177.
(35/174)
كُوعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الكوع فِي اللُّغَةِ: طَرَفُ
الزَّنْدِ الَّذِي يَلِي الإِْبْهَامَ، وَالْجَمْعُ أَكْوَاعٌ، وَالْكَاعُ
لُغَةٌ، قَال الأَْزْهَرِيُّ: الْكُوعُ طَرَفُ الْعَظْمِ الَّذِي يَلِي
رُسْغَ الْيَدِ الْمُحَاذِي لِلإِْبْهَامِ، وَهُمَا عَظْمَانِ
مُتَلاَصِقَانِ فِي السَّاعِدِ، أَحَدُهُمَا أَدَقُّ مِنَ الآْخَرِ
وَطَرَفَاهُمَا يَلْتَقِيَانِ عِنْدَ مَفْصِل الْكَفِّ، فَالَّذِي يَلِي
الْخِنْصَرَ يُقَال لَهُ: الْكُرْسُوعُ، وَالَّذِي يَلِي الإِْبْهَامَ
يُقَال لَهُ: الْكُوعُ، وَهُمَا عَظْمَا سَاعِدِ الذِّرَاعِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْكُوعِ:
أ - غَسْل الْكُوعِ فِي الْوُضُوءِ
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ غَسْل الْكَفَّيْنِ إِلَى
الْكُوعَيْنِ فِي أَوَّل الْوُضُوءِ لِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (كَفٌّ ف 3) .
__________
(1) المصباح المنير والكليات للكفوي 5 / 124، والقليوبي 4 / 114، وحاشية
الشلبي بهامش الزيلعي 3 / 224.
(35/174)
ب - مَسْحُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْكُوعَيْنِ
فِي التَّيَمُّمِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ أَرْكَانِ التَّيَمُّمِ مَسْحَ
الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْحَدِّ الَّذِي
يَبْلُغُهُ بِالتَّيَمُّمِ فِي الْيَدَيْنِ. فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَاللَّيْثُ
بُلُوغَ الْمِرْفَقَيْنِ بِالتَّيَمُّمِ فَرْضًا وَاجِبًا، وَبِهِ قَال
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَابْنُ نَافِعٍ،
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْمَاعِيل الْقَاضِي (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَبْلُغُ بِهِ
إِلَى الْكُوعَيْنِ وَهُمَا الرُّسْغَانِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ فِي
رِوَايَةٍ، وَبِهِ قَال إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَالطَّبَرِيُّ (2) ،
وَقَال ابْنُ شِهَابٍ: يَبْلُغُ بِهِ إِلَى الْمَنَاكِبِ (3) .
وَحُكِيَ عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ: أَنَّ الْكُوعَيْنِ فَرْضٌ وَالآْبَاطَ
فَضِيلَةٌ (4) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: تَيَمُّمٌ ف 11) .
ج - قَطْعُ الْيَدِ مِنَ الْكُوعِ فِي السَّرِقَةِ:
4 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 26، ومغني المحتاج 1 / 99، وتفسير القرطبي 5 /
239.
(2) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 151 ط. الحلبي، والمبدع 1 / 222، وشرح
الزركشي لمختصر الخرقي 1 / 351، وتفسير القرطبي 5 / 240.
(3) تفسير القرطبي 5 / 239.
(4) تفسير القرطبي 5 / 240.
(35/175)
أَنَّ أَوَّل مَا يُقْطَعُ مِنَ السَّارِقِ
يَدُهُ الْيُمْنَى مِنْ مَفْصِل الْكَفِّ وَهُوَ الْكُوعُ، وَرُوِيَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ يَدَ سَارِقٍ مِنَ
الْمَفْصِل (1) (الْكُوعِ) ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
وَعُمَرَ أَنَّهُمَا قَالاَ: إِذَا سَرَقَ سَارِقٌ فَاقْطَعُوا يَمِينَهُ
مِنَ الْكُوعِ وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ (2) ، وَلأَِنَّ
كُل مَنْ قَطَعَ مِنَ الأَْئِمَّةِ قَطَعَ مِنَ الرُّسْغِ فَصَارَ
إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا فَلاَ يَجُوزُ خِلاَفُهُ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سَرِقَةٌ ف 66) .
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق من المفصل ". أخرجه
البيهقي (8 / 271) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) المغني مع الشرح الكبير 10 / 264، وشرح الزرقاني 8 / 92، ونهاية
المحتاج 7 / 445، والمبسوط 9 / 133، والفتاوى الهندية 2 / 182، وبدائع
الصنائع 7 / 88.
(3) تبيين الحقائق 3 / 224.
(35/175)
كَوَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الكوة - بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ
مَعَ تَشْدِيدِ الْوَاوِ - فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الثُّقْبَةِ فِي
الْحَائِطِ، وَجَمْعُ الْمَفْتُوحِ عَلَى لَفْظِهِ كَوَّاتٍ مِثْل حَبَّةٍ
وَحَبَّاتٍ، وَكِوَاةٌ أَيْضًا بِالْكَسْرِ مِثْل ظَبْيَةٍ وَظِبَاءٍ،
وَجَمْعُ الْمَضْمُومِ كُوًى بِالضَّمِّ وَالْقَصْرِ مِثْل مُدْيَةٍ
وَمُدًى، وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا الرَّوْشَنُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْمُرَادُ بِهَا
(بِالْكَوَّةِ) مَا يُفْتَحُ - فِي حَائِطِ الْبَيْتِ لأَِجْل الضَّوْءِ
أَوْ مَا يُخْرَقُ فِيهِ بِلاَ نَفَاذٍ لأَِجْل وَضْعِ مَتَاعٍ وَنَحْوِهِ
(2) . وَفَسَّرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْكَوَّةَ بِالطَّاقَةِ (3) .
قَال أَبُو الْحَسَنِ: كَوَّةٌ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ، وَالْفَتْحُ
أَشْهَرُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الطَّاقِ (4) .
__________
(1) المصباح المنير، والمغرب للمطرزي ص418، ولسان العرب مادة رشن.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 358.
(3) الدر المختار 4 / 358، وحاشية الدسوقي 3 / 369.
(4) حاشية العدوي على الخرشي 4 / 59.
(35/176)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَصَرُّفِ الإِْنْسَانِ فِي مِلْكِهِ بِمَا
يَضُرُّ بِجَارِهِ كَفَتْحِ كَوَّةٍ نَافِذَةٍ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى
جَوَازِهِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى مَنْعِهِ، وَفَصَّل آخَرُونَ
الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ، وَبَيَانُهُ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ جِوَارٌ
فِقْرَةٌ (5) ، وَمُصْطَلَحِ حَائِطٌ فِقْرَةٌ (3) ، وَمُصْطَلَحِ
ارْتِفَاقٌ فِقْرَةٌ (17) ، وَمُصْطَلَحِ إِشْرَافٌ فِقْرَةٌ (4) .
(35/176)
كَيْلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكَيْل فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ كَال يَكِيل، يُقَال: كِلْتُ زَيْدًا
الطَّعَامَ كَيْلاً مِنْ بَابِ بَاعَ، وَكَال الطَّعَامَ كَيْلاً: عَرَفَ
مِقْدَارَهُ، وَكَال الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ: قَاسَهُ بِهِ.
وَيُطْلَقُ الْكَيْل عَلَى مَا يُعْرَفُ بِهِ الْمِقْدَارُ بِالْقَفِيزِ
وَالْمُدِّ وَالصَّاعِ، وَالاِسْمُ (الْكِيلَةُ) بِالْكَسْرِ،
وَالْمِكْيَال مَا يُكَال بِهِ، قَال الْفَيُّومِيُّ: وَالْكَيْل مِثْلُهُ
(1) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْكَيْل يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ،
كَمَا يُطْلَقُ عَلَى وِعَاءٍ يُكَال بِهِ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ
نَحْوِهِمَا (2) ، وَالْكَيْلِيُّ مَا يُقَدَّرُ بِالْكَيْل، وَكَذَلِكَ
الْمَكِيل (3) . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِلْكَيْل.
__________
(1) المصباح المنير، ومتن اللغة، ولسان العرب.
(2) المعجم الوسيط.
(3) كشاف اصطلاحات الفنون، وقواعد الفقه للبركتي، والمفردات للراغب
الأصفهاني.
(35/177)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْوَزْنُ:
1 - الْوَزْنُ فِي اللُّغَةِ: التَّقْدِيرُ، يُقَال: وَزَنَ الشَّيْءَ:
قَدَّرَهُ بِوَسَاطَةِ الْمِيزَانِ (1) ، وَقَال الأَْصْفَهَانِيُّ:
الْوَزْنُ مَعْرِفَةُ قَدْرِ الشَّيْءِ، وَالْمُتَعَارَفُ فِي الْوَزْنِ
عِنْدَ الْعَامَّةِ مَا يُقَدَّرُ بِالْقِسْطِ وَالْقَبَّانِ (2) . وَلاَ
يَخْتَلِفُ مَعْنَى الْوَزْنِ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنْ مَعْنَاهُ
اللُّغَوِيِّ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَيْل وَالْوَزْنِ أَنَّ الْكَيْل يُعْرَفُ بِهِ
مِقْدَارُ الشَّيْءِ مِنْ حَيْثُ الْحَجْمِ، وَالْوَزْنُ يُعْرَفُ بِهِ
مِقْدَارُ الشَّيْءِ مِنْ حَيْثُ الثِّقَل.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْكَيْل
الْحَثُّ عَلَى إِيفَاءِ الْكَيْل:
3 - حَثَّ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ عَلَى إِيفَاءِ الْكَيْل، قَال تَعَالَى:
{أَوْفُوا الْكَيْل وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} (3) وَتَوَعَّدَ
الْمُطَفِّفِينَ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ
وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (4) .
__________
(1) المعجم الوسيط.
(2) المفردات للأصفهاني.
(3) سورة الشعراء / 181.
(4) سورة المطففين / 1 - 3. والمطفف من الطفيف وهو القليل، فالمطفف هو
المقل حق صاحبه بنقصانه عن الحق في كيل أو وزن (تفسير القرطبي 20 / 248) .
(35/177)
قَال الْقُرْطُبِيُّ نَقْلاً عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: هِيَ أَوَّل سُورَةٍ
نَزَلَتْ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةَ
نَزَل الْمَدِينَةَ، وَكَانَ هَذَا فِيهِمْ، كَانُوا إِذَا اشْتَرَوُا
اسْتَوْفَوْا بِكَيْلٍ رَاجِحٍ، فَإِذَا بَاعُوا بَخَسُوا الْمِكْيَال
وَالْمِيزَانَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ انْتَهَوْا، فَهُمْ
أَوْفَى النَّاسِ كَيْلاً إِلَى يَوْمِهِمْ هَذَا (1) .
وَنَقَل الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَال: مَا نَقَصَ قَوْمٌ الْمِكْيَال وَالْمِيزَانَ إِلاَّ قُطِعَ مِنْهُمُ
الرِّزْقُ (2) ، وَعَدَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْبَخْسَ فِي الْكَيْل مِنَ
الْكَبَائِرِ (3) .
أُجْرَةُ الْكَيَّال
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أُجْرَةَ كَيْل الْمَبِيعِ فِي
بَيْعِ الْمَكِيل وَأُجْرَةَ وَزْنِهِ فِي بَيْعِ الْمَوْزُونِ عَلَى
الْبَائِعِ لأَِنَّ عَلَيْهِ تَقْبِيضَ الْمَبِيعِ، وَالْقَبْضُ لاَ
يَحْصُل إِلاَّ بِذَلِكَ (4) ، قَال الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْل} (5) كَانَ يُوسُفُ - عَلَيْهِ
السَّلاَمُ - هُوَ الَّذِي يَكِيل، وَكَذَلِكَ الْوَزَّانُ وَالْعَدَّادُ،
لأَِنَّ الرَّجُل إِذَا بَاعَ عِدَةً مَعْلُومَةً مِنْ طَعَامِهِ
وَأَوْجَبَ الْعَقْدَ عَلَيْهِ
__________
(1) تفسير القرطبي 20 / 248، 249، وتفسير روح المعاني للألوسي 30 / 89.
(2) القرطبي 7 / 136.
(3) الزواجر للهيثمي 1 / 192.
(4) مجلة الأحكام العدلية المادة (289) ، والقرطبي 9 / 254، وجواهر الإكليل
2 / 50، ومغني المحتاج 2 / 273، والمغني لابن قدامة 4 / 126.
(5) سورة يوسف / 88.
(35/178)
وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبْرِزَهَا
وَيُمَيِّزَ حَقَّ الْمُشْتَرِي مِنْ حَقِّهِ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لاَ
يَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ إِلاَّ بَعْدَ التَّوْفِيَةِ، وَإِنْ
تَلِفَ فَهُوَ مِنْهُ قَبْل التَّوْفِيَةِ (1) .
أَمَّا أُجْرَةُ كَيْل الثَّمَنِ وَمُؤْنَةِ إِحْضَارِهِ إِلَى مَحَل
الْعَقْدِ إِذَا كَانَ غَائِبًا فَهِيَ عَلَى الْمُشْتَرِي لأَِنَّهُ هُوَ
الْمُكَلَّفُ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ (2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعٌ ف 58) .
اعْتِبَارُ الْكَيْل فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا
5 - وَرَدَ النَّصُّ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الأَْشْيَاءِ السِّتَّةِ
الْوَارِدَةِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ
بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ،
وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ
بِالْمِلْحِ مِثْلاً بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ (3) .
وَقَال الْفُقَهَاءُ: إِنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا فِي الأَْجْنَاسِ
الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا إِنَّمَا هُوَ لِعِلَّةٍ، وَإِنَّ الْحُكْمَ
بِالتَّحْرِيمِ يَتَعَدَّى إِلَى مَا تَثْبُتُ فِيهِ هَذِهِ الْعِلَّةُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْعِلَّةِ الَّتِي يَتَعَدَّى الْحُكْمُ بِهَا
إِلَى سَائِرِ الأَْجْنَاسِ. قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْعِلَّةُ هِيَ
الْجِنْسُ وَالْقَدْرُ، وَعُرِفَ الْجِنْسُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّمْرُ بِالتَّمْرِ،
__________
(1) تفسير القرطبي 9 / 254.
(2) المراجع السابقة، ومجلة الأحكام المادة (288) .
(3) حديث: " الذهب بالذهب. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1211) من حديث عبادة بن
الصامت.
(35/178)
وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ (1) ،
وَعُرِفَ الْقَدْرُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مِثْلاً
بِمِثْلٍ، وَيُعْنَى بِالْقَدْرِ الْكَيْل فِيمَا يُكَال، وَالْوَزْنُ
فِيمَا يُوزَنُ، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: " وَكَذَلِكَ
كُل مَا يُكَال وَيُوزَنُ " (2) ، وَلِحَدِيثِ: لاَ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ
وَلاَ دِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمٍ (3) ، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُل مَكِيلٍ
سَوَاءٌ أَكَانَ مَطْعُومًا أَمْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، فَحَرُمَ الرِّبَا فِي
كُل مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِيعَ بِجِنْسِهِ (4) .
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا قَالَهُ الْحَنَابِلَةُ فِي أَشْهَرِ
الرِّوَايَاتِ عِنْدَهُمْ، قَال الْخِرَقِيُّ: وَكُل مَا كِيل أَوْ وُزِنَ
مِنْ سَائِرِ الأَْشْيَاءِ لاَ يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُل إِذَا كَانَ
جِنْسًا وَاحِدًا (5) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ ثَلاَثُ
رِوَايَاتٍ أَشْهَرُهُنَّ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ كَوْنُهُمَا مَوْزُونَيْ جِنْسٍ، وَعِلَّةُ الأَْعْيَانِ
الأَْرْبَعَةِ مَكِيل جِنْسٍ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَجْرِي
الرِّبَا فِي كُل مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِجِنْسِهِ مَطْعُومًا كَانَ أَوْ
غَيْرَ مَطْعُومٍ، وَلاَ يَجْرِي
__________
(1) حديث: " التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1211)
من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " وكذلك كل ما يكال. . . ". أورد هذا الشطر الموصلي في الاختيار
(2 / 30) ، ولم نهتد إلى من أخرجه.
(3) حديث: " لا صاعين بصاع ولا درهمين بدرهم ". أخرجه البخاري (فتح الباري
4 / 311) ومسلم (2 / 1216) من حديث أبي سعيد الخدري واللفظ للبخاري.
(4) المبسوط للسرخسي 12 / 113، والاختيار للموصلي 2 / 30.
(5) المغني مع الشرح الكبير 4 / 123.
(35/179)
فِي مَطْعُومٍ لاَ يُكَال وَلاَ يُوزَنُ.
ثُمَّ عُلِّل هَذَا الْقَوْل بِأَنَّ قَضِيَّةَ الْبَيْعِ الْمُسَاوَاةُ،
وَالْمُؤَثِّرُ فِي تَحْقِيقِهَا الْكَيْل وَالْوَزْنُ وَالْجِنْسُ،
فَإِنَّ الْوَزْنَ أَوِ الْكَيْل يُسَوِّي بَيْنَهُمَا صُورَةً،
وَالْجِنْسُ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا مَعْنًى، فَكَانَا عِلَّةً.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الأَْثْمَانِ
الثَّمَنِيَّةُ وَفِيمَا عَدَاهَا كَوْنُهُ مَطْعُومَ جِنْسٍ فَيَخْتَصُّ
بِالْمَطْعُومَاتِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا عَدَاهَا.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْعِلَّةُ فِيمَا
عَدَا الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَوْنُهُ مَطْعُومَ جِنْسٍ مَكِيلاً أَوْ
مَوْزُونًا، فَلاَ يَجْرِي الرِّبَا فِي مَطْعُومٍ لاَ يُكَال وَلاَ
يُوزَنُ (1) .
وَهَذَا قَوْل الشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَدِيمِ.
وَأَمَّا فِي الْجَدِيدِ عِنْدَهُمْ فَالْعِلَّةُ فِي الأَْجْنَاسِ
الأَْرْبَعَةِ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَنَّهَا مَطْعُومَةٌ،
وَأَمَّا فِيهِمَا فَالْعِلَّةُ كَوْنُهُمَا جِنْسَ الأَْثْمَانِ غَالِبًا
(2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْعِلَّةُ فِي النُّقُودِ غَلَبَةُ
الثَّمَنِيَّةِ، أَوْ مُطْلَقُ الثَّمَنِيَّةِ، وَأَمَّا فِي الطَّعَامِ
فَالاِقْتِيَاتُ وَالاِدِّخَارُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (رِبًا ف 21 - 25) .
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 4 / 125، 126.
(2) مغني المحتاج 2 / 22 - 25.
(35/179)
تَعْيِينُ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِالْكَيْل
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ السَّلَمِ
أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَعْلُومًا مُبَيَّنًا بِمَا يَرْفَعُ
الْجَهَالَةَ وَيَسُدُّ بَابَ الْمُنَازَعَةِ عِنْدَ تَسْلِيمِهِ، كَمَا
يُشْتَرَطُ بَيَانُ قَدْرِهِ (1) ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ
وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ (2) .
وَهَل يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْمِقْدَارِ بِالْكَيْل فِي الْمَكِيلاَتِ؟
اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُشْتَرَطُ تَقْدِيرُ
الْمَكِيل بِالْكَيْل، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ سَوَاءٌ
بِالْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ (3) ، قَال الْكَاسَانِيُّ: لَوْ كَانَ
الْمُسْلَمُ فِيهِ مَكِيلاً فَأَعْلَمَ قَدْرَهُ بِالْوَزْنِ الْمَعْلُومِ،
أَوْ كَانَ مَوْزُونًا فَأَعْلَمَ قَدْرَهُ بِالْكَيْل الْمَعْلُومِ جَازَ،
لأَِنَّ الشَّرْطَ كَوْنُهُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ بِمِعْيَارٍ يُؤْمَنُ
فَقْدُهُ وَقَدْ وُجِدَ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا بَاعَ الْمَكِيل بِالْمَكِيل
وَزْنًا بِوَزْنٍ مُتَسَاوِيًا فِي الْوَزْنِ أَوْ بَاعَ الْمَوْزُونَ
بِالْمَوْزُونِ كَيْلاً بِكَيْلٍ مُتَسَاوِيًا فِي الْكَيْل أَنَّهُ لاَ
يَجُوزُ مَا لَمْ يَتَسَاوَيَا فِي الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ، لأَِنَّ
شَرْطَ السَّلَمِ كَوْنُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ،
وَالْعِلْمُ بِالْقَدْرِ كَمَا يَحْصُل
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 207، والخرشي 5 / 213، ونهاية المحتاج 4 / 190،
والمغني 4 / 310.
(2) حديث: " من أسلف في شيء. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 429)
ومسلم (3 / 1227) من حديث ابن عباس، واللفظ للبخاري.
(3) بدائع الصنائع 5 / 208، ومغني المحتاج 2 / 107.
(35/180)
بِالْكَيْل يَحْصُل بِالْوَزْنِ.
فَأَمَّا شَرْطُ الْكَيْل وَالْوَزْنِ فِي الأَْشْيَاءِ الَّتِي وَرَدَ
الشَّرْعُ فِيهَا بِاعْتِبَارِ الْكَيْل وَالْوَزْنِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ
فَثَبَتَ نَصًّا، فَكَانَ بَيْعُهَا بِالْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ مُجَازَفَةً
فَلاَ يَجُوزُ (1) .
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ، لَكِنِ اسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ
بَعْضَ الأَْجْنَاسِ، فَلاَ يُسْلَمُ فِيهَا إِلاَّ بِالْوَزْنِ، قَال
الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَيَصِحُّ سَلَمُ الْمَكِيل وَزْنًا،
وَعَكْسُهُ أَيِ الْمَوْزُونُ الَّذِي يَتَأَتَّى كَيْلُهُ كَيْلاً،
وَحَمَل الإِْمَامُ إِطْلاَقَ الأَْصْحَابِ جَوَازَ كَيْل الْمَوْزُونِ
عَلَى مَا يُعَدُّ الْكَيْل فِي مِثْلِهِ ضَابِطًا، بِخِلاَفِ نَحْوِ
فُتَاتِ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ لأَِنَّ لِلْقَدْرِ الْيَسِيرِ مِنْهُ
مَالِيَّةً كَثِيرَةً وَالْكَيْل لاَ يُعَدُّ ضَابِطًا فِيهِ.
وَاسْتَثْنَى الْجُرْجَانِيُّ وَغَيْرُهُ النَّقْدَيْنِ أَيْضًا، فَلاَ
يُسْلَمُ فِيهِمَا إِلاَّ بِالْوَزْنِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ
كَذَلِكَ فِي كُل مَا فِيهِ خَطَرٌ فِي التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْكَيْل
وَالْوَزْنِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مِنْ شُرُوطِ السَّلَمِ عِلْمُ قَدْرِ الْمُسْلَمِ
فِيهِ بِمِعْيَارِهِ الْعَادِيِّ فَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ
الْمُسْلَمُ فِيهِ مُقَدَّرًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ عَدَدٍ مِمَّا
جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُ (3) . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي جَوَازِ سَلَمِ
الْمَكِيل وَزْنًا أَوْ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 208.
(2) مغني المحتاج 2 / 107.
(3) المواق بهامش الحطاب 4 / 530.
(35/180)
بِالْعَكْسِ رِوَايَتَانِ: قَال ابْنُ
قُدَامَةَ: إِنْ أَسْلَمَ فِيمَا يُكَال وَزْنًا، أَوْ فِيمَا يُوزَنُ
كَيْلاً فَنَقَل الأَْثْرَمُ أَنَّهُ سَأَل أَحْمَدَ فِي التَّمْرِ
وَزْنًا، فَقَال: لاَ، إِلاَّ كَيْلاً، قُلْتُ: إِنَّ النَّاسَ هَاهُنَا
لاَ يَعْرِفُونَ الْكَيْل، قَال: وَإِنْ كَانُوا لاَ يَعْرِفُونَ الْكَيْل،
فَيَحْتَمِل هَذَا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ فِي الْمَكِيل إِلاَّ كَيْلاً،
وَلاَ فِي الْمَوْزُونِ إِلاَّ وَزْنًا. ثُمَّ نَقَل قَوْل الْمَرْوَزِيِّ
عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي اللَّبَنِ كَيْلاً أَوْ
وَزْنًا. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا يَدُل عَلَى إِبَاحَةِ السَّلَمِ
فِي الْمَكِيل وَزْنًا، وَفِي الْمَوْزُونِ كَيْلاً، لأَِنَّ اللَّبَنَ لاَ
يَخْلُو مِنْ كَوْنِهِ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا، وَقَدْ أَجَازَ السَّلَمَ
فِيهِ بِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا (1) .
اشْتِرَاطُ الْكَيْل فِي بَيْعِ الْمَكِيل
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ
الْمَكِيلاَتِ قَبْل الْقَبْضِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مَنِ اشْتَرَى مَكِيلاً مُكَايَلَةً أَوْ
مَوْزُونًا مُوَازَنَةً فَاكْتَالَهُ أَوِ اتَّزَنَهُ ثُمَّ بَاعَهُ
مُكَايَلَةً أَوْ مُوَازَنَةً لَمْ يَجُزْ لِلْمُشْتَرِي مِنْهُ أَنْ
يَبِيعَهُ، وَلاَ أَنْ يَأْكُلَهُ حَتَّى يُعِيدَ الْكَيْل وَالْوَزْنَ (2)
، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 318 - 319.
(2) الهداية مع الفتح 5 / 267.
(35/181)
الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ
الصَّاعَانِ: صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي (1) ".
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ كَيْل الْمَبِيعِ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ
فَقَالُوا: لَوْ بِيعَ الشَّيْءُ تَقْدِيرًا. كَحِنْطَةٍ كَيْلاً اشْتُرِطَ
فِي قَبْضِهِ مَعَ النَّقْل كَيْلَهُ بِأَنْ يُكَال، وَذَلِكَ لِوُرُودِ
النَّصِّ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ ابْتَاعَ
طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ (2) "، قَال الشِّرْبِينِيُّ:
فَدَل عَلَى أَنَّهُ لاَ يَحْصُل فِيهِ الْقَبْضُ إِلاَّ بِالْكَيْل.
فَتَعَيَّنَ فِيمَا قُدِّرَ بِكَيْلٍ الْكَيْل (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَخْبَرَهُ الْبَائِعُ بِكَيْلِهِ ثُمَّ
بَاعَهُ بِذَلِكَ الْكَيْل فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَلَوْ كَانَ طَعَامًا
وَآخَرُ يُشَاهِدُهُ فَلِمَنْ شَاهَدَ الْكَيْل شِرَاؤُهُ بِغَيْرِ كَيْلٍ
ثَانٍ، لأَِنَّهُ شَاهَدَ كَيْلَهُ أَشْبَهَ مَا لَوْ كِيل لَهُ، وَعَنْ
أَحْمَدَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى كَيْلٍ لِلْخَبَرِ (4) .
__________
(1) حديث: " نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان. . . ". أخرجه ابن
ماجه (2 / 570) من حديث جابر، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 /
16) .
(2) حديث: " من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله ". أخرجه مسلم (3 / 1160)
من حديث ابن عباس.
(3) مغني المحتاج 2 / 73.
(4) الشرح الكبير بذيل المغني 4 / 36.
(35/181)
كَيْلِيّ
انْظُرْ: مِثْلِيّ
كَيّ
انْظُرْ: تَدَاوِي
(35/182)
|