الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَنِي جِبْرِيل عَلَيْهِ
السَّلَامُ فَقَال: يَا مُحَمَّدُ مُرْ أَصْحَابَكَ أَنْ يَرْفَعُوا
أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ فَإِنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ (1)
، وَخَاصَّةً عِنْدَ تَغَيُّرِ الأَْحْوَال: كَرُكُوبٍ، وَنُزُولٍ،
وَصُعُودٍ وَهُبُوطٍ، وَاخْتِلاَطِ رُفْقَةٍ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (تَلْبِيَةٌ ف 5 - 6) .
__________
(1) حديث: جاءني جبريل فقال: " يا محمد مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم
بالتلبية. . . ". أخرجه الحاكم (1 / 450) من حديث زيد بن خالد الجهني
وأبي هريرة ثم قال: هذه الأسانيد كلها صحيحة وليس يعلل واحد منها
الآخر، ووافقه الذهبي.
(35/276)
لُغَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - اللُّغَةُ عِنْدَ اللُّغَوِيِّينَ: اللِّسْنُ، وَحَدُّهَا أَنَّهَا
أَصْوَاتٌ يُعَبِّرُ بِهَا كُل قَوْمٍ عَنْ أَغْرَاضِهِمْ، وَهِيَ
فِعْلَةٌ مِنْ لَغَوْتُ أَيْ تَكَلَّمْتَ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْكَلاَمُ:
2 - الْكَلاَمُ فِي أَصْل اللُّغَةِ: عِبَارَةً عَنْ أَصْوَاتٍ
مُتَتَابِعَةٍ لِمَعْنًى مَفْهُومٍ. وَقَال الرَّاغِبُ
الأَْصْفَهَانِيُّ: الْكَلاَمُ يَقَعُ عَلَى الأَْلْفَاظِ
الْمَنْظُومَةِ وَعَلَى الْمَعَانِي الَّتِي تَحْتَهَا مَجْمُوعَةٌ (3)
.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) لسان العرب مادة (لغا) .
(2) التعريفات للجرجاني، وقواعد الفقه للبركتي.
(3) المفردات والمصباح المنير.
(35/276)
وَاللُّغَةُ تُرَادِفُ الْكَلاَمَ فِي
بَعْضِ إِطْلاَقَاتِهِ.
ب - الْبَيَانُ:
3 - الْبَيَانُ لُغَةً: الإِْظْهَارُ وَالتَّوْضِيحُ وَالْكَشْفُ عَنِ
الْخَفِيِّ أَوِ الْمُبْهَمِ (1) .
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (2) أَيِ الْكَلاَمَ
الَّذِي يُبَيِّنُ بِهِ مَا فِي قَلْبِهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ.
وَالْبَيَانُ أَخَصُّ مِنَ اللُّغَةِ.
وَاضِعُ اللُّغَةِ
4 - اخْتُلِفَ فِي وَاضِعِ اللُّغَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: أَنَّ الْوَاضِعَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
فَهِيَ تَوْقِيفِيَّةٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الأَْشْعَرِيُّ
وَأَتْبَاعُهُ.
الثَّانِي: أَنَّ الْوَاضِعَ هُوَ الْبَشَرُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو
هَاشِمٍ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ فَهِيَ اصْطِلاَحِيَّةٌ.
الثَّالِثُ: ابْتِدَاءُ اللُّغَةِ تَوْقِيفِيٌّ وَقَعَ بِالتَّعْلِيمِ
مِنَ اللَّهِ، وَالْبَاقِي بِالاِصْطِلاَحِ.
الرَّابِعُ: ابْتِدَاؤُهَا وَقَعَ بِالاِصْطِلاَحِ، وَالْبَاقِي
تَوْقِيفِيٌّ.
الْخَامِسُ: أَنَّ نَفْسَ الأَْلْفَاظِ دَلَّتْ عَلَى مَعَانِيهَا
بِذَاتِهَا، وَبِهِ قَال عُبَادَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ.
__________
(1) المفردات للراغب.
(2) سورة الرحمن / 4.
(35/277)
السَّادِسُ: أَنَّهُ يَجُوزُ كُلٌّ مِنْ
هَذِهِ الأَْقْوَال مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ بِأَحَدِهَا، قَال
الشَّوْكَانِيُّ: وَبِهِ قَال الْجُمْهُورُ (1) .
وَقَال الْغَزَالِيُّ: أَمَّا الْوَاقِعُ فِي هَذِهِ الأَْقْسَامِ
فَلاَ مَطْمَعَ فِي مَعْرِفَتِهِ يَقِينًا، إِلاَّ بِبُرْهَانٍ
عَقْلِيٍّ، أَوْ بِتَوَاتُرِ خَبَرٍ، أَوْ سَمْعٍ قَاطِعٍ، وَلاَ
مَجَال لِبُرْهَانِ الْعَقْل فِي هَذَا، وَلَمْ يُنْقَل تَوَاتُرٌ،
وَلاَ فِيهِ سَمْعٌ قَاطِعٌ، فَلاَ يَبْقَى إِلاَّ رَجْمُ الظَّنِّ فِي
أَمْرٍ لاَ يَرْتَبِطُ بِهِ تَعَبُّدٌ عَمَلِيٌّ، وَلاَ تُرْهِقُ إِلَى
اعْتِقَادِهِ حَاجَةٌ، فَالْخَوْضُ فِيهِ إِذًا فُضُولٌ لاَ أَصْل لَهُ
(2) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللُّغَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أَوَّلاً: تَعَلُّمُ اللُّغَةِ:
5 - تَعَلُّمُ اللُّغَةِ مَشْرُوعٌ بَل وَمَطْلُوبٌ فِي الْجُمْلَةِ،
لَكِنَّ حُكْمَ تَعَلُّمِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ يَخْتَلِفُ عَنْ
حُكْمِ تَعَلُّمِ غَيْرِهَا مِنَ اللُّغَاتِ.
أ - تَعَلُّمُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ:
6 - قَال التُّمُرْتَاشِيُّ وَالْحَصْكَفِيُّ: لِلْعَرَبِيَّةِ فَضْلٌ
عَلَى سَائِرِ الأَْلْسُنِ، وَهُوَ لِسَانُ أَهْل الْجَنَّةِ، مَنْ
تَعَلَّمَهَا أَوْ عَلَّمَهَا غَيْرَهُ فَهُوَ
__________
(1) إرشاد الفحول ص / 14.
(2) المستصفى 1 / 318.
(35/277)
مَأْجُورٌ (1) ، وَفِي الْحَدِيثِ:
أَحِبُّوا الْعَرَبَ لِثَلاَثٍ: لأَِنِّي عَرَبِيٌّ، وَالْقُرْآنُ
عَرَبِيٌّ، وَكَلاَمُ أَهْل الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ (2) .
قَال الشَّافِعِيُّ: لِسَانُ الْعَرَبِ أَوْسَعُ الأَْلْسِنَةِ
مَذْهَبًا وَأَكْثَرُهَا أَلْفَاظًا، وَأَوْلَى النَّاسِ بِالْفَضْل
فِي اللِّسَانِ مَنْ لِسَانُهُ لِسَانُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلاَ يَجُوزُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ
يَكُونَ أَهْل لِسَانِهِ أَتْبَاعًا لأَِهْل لِسَانٍ غَيْرِ لِسَانِهِ
فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ، بَل كُل لِسَانٍ تَبَعٌ لِلِسَانِهِ، وَكُل أَهْل
دِينٍ قَبْلَهُ فَعَلَيْهِمُ اتِّبَاعُ دِينِهِ (3) .
وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ وَارِدَيْنِ
بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَكَانَ الْعِلْمُ بِهِمَا مُتَوَقِّفًا عَلَى
الْعِلْمِ بِهَا، وَلاَ سَبِيل إِلَى طَلَبِ فَهْمِهِمَا مِنْ غَيْرِ
هَذِهِ الْجِهَةِ كَانَ الْعِلْمُ بِهَا مِنْ أَهَمِّ الْوَاجِبَاتِ
(4) فَعَلَى كُل مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ مَا
بَلَغَ جَهْدُهُ حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَتْلُو بِهِ كِتَابَ
اللَّهِ، وَيَنْطِقُ بِالذِّكْرِ فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ مِنَ
التَّكْبِيرِ، وَأُمِرَ بِهِ فِي التَّسْبِيحِ وَالتَّشَهُّدِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ (5) ، وَأَمَّا التَّبَحُّرُ بِعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ مِمَّا
لاَ بُدَّ
__________
(1) الدر المختار 5 / 269.
(2) حديث: " أحبو العرب. . . ". أورده الهيثمي في المجمع (10 / 52)
وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط إلا أنه قال: " لسان أهل الجنة
عربي " وفيه العلاء ابن عمرو الحنفي وهو مجمع على ضعفه.
(3) الرسالة للشافعي ص42، 46.
(4) الموافقات 2 / 64 بتصرف بسيط.
(5) الرسالة للشافعي ص48.
(35/278)
مِنْهُ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
الْمُطَهَّرَةِ، وَأَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ،
إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ
الْبَاقِينَ، وَإِذَا أَهْمَلُوا جَمِيعًا أَثِمُوا (1) .
ب - تَعَلُّمُ غَيْرِ الْعَرَبِيِّ مِنَ اللُّغَاتِ
7 - يُبَاحُ تَعَلُّمُ غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِلأَْفْرَادِ، وَقَدْ
تُسْتَحَبُّ لَهُمْ، وَيَجِبُ تَعَلُّمُهَا وُجُوبَ كِفَايَةٍ
لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، كَاتِّقَاءِ شَرِّ الأَْعْدَاءِ، وَقَدْ
وَرَدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال:
أَمَرَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
أَتَعَلَّمَ لَهُ كِتَابَ يَهُودَ، قَال: إِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ
يَهُودَ عَلَى كِتَابٍ قَال فَمَا مَرَّ بِي نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى
تَعَلَّمْتُهُ لَهُ، قَال: فَلَمَّا تَعَلَّمْتُهُ كَانَ إِذَا كَتَبَ
إِلَى يَهُودَ كَتَبْتُ إِلَيْهِمْ، وَإِذَا كَتَبُوا لَهُ قَرَأْتُ
لَهُ كِتَابَهُمْ (2) وَفِي رِوَايَةٍ: " أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ
يَتَعَلَّمَ السُّرْيَانِيَّةَ "، (3) وَالإِْسْلاَمُ رِسَالَةٌ
عَالَمِيَّةٌ، قَال تَعَالَى: {قُل يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي
رَسُول اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (4) ، وَيَجِبُ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ إِلَى النَّاسِ جَمِيعًا
بِلُغَةٍ يَفْهَمُونَهَا وُجُوبَ كِفَايَةٍ (5) .
__________
(1) حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 9 / 214.
(2) حديث زيد بن ثابت: " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم
له كتاب. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 67 - 68) وقال: حديث حسن صحيح.
(3) حديث: " أنه أمر زيد بن ثابت أن يتعلم. . . ". أخرجه أحمد (5 /
182) والحاكم (3 / 422) .
(4) سورة الأعراف / 158.
(5) المغني 9 / 100، وفتح الباري 13 / 185 - 186.
(35/278)
ثَانِيًا: تَرْجَمَةُ اللُّغَةِ
الْعَرَبِيَّةِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ اللُّغَاتِ
8 - لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ أَلْفَاظٌ دَالَّةٌ
عَلَى مَعَانٍ نَظَرَانِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا أَلْفَاظًا وَعِبَارَاتٍ
مُطْلَقَةً دَالَّةً عَلَى مَعَانٍ مُطْلَقَةٍ وَهِيَ الدَّلاَلَةُ
الأَْصْلِيَّةُ.
وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا أَلْفَاظًا وَعِبَارَاتٍ
مُقَيَّدَةً دَالَّةً عَلَى مَعَانٍ خَادِمَةٍ وَهِيَ الدَّلاَلَةُ
الثَّابِتَةُ. وَقَدْ بَيَّنَ الشَّاطِبِيُّ حُكْمَ تَرْجَمَةِ
اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ اللُّغَاتِ بِحَسَبِ
كُل وَاحِدٍ مِنَ النَّظَرَيْنِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (تَرْجَمَةٌ ف 3) .
ثَالِثًا: اتِّخَاذُ الْقَاضِي مُتَرْجِمًا
9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مِنْ آدَابِ الْقَضَاءِ أَنْ
يَتَّخِذَ الْقَاضِي مُتَرْجِمًا فَقَدْ يَتَحَاكَمُ إِلَيْهِ
أَعْجَمِيَّانِ لاَ يَعْرِفُ لِسَانَهُمَا أَوْ عَرَبِيٌّ
وَأَعْجَمِيٌّ فَيُفَسِّرُ الْمُتَرْجِمُ لَهُ لُغَةَ
الْمُتَخَاصِمَيْنِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ اتِّخَاذِ الْقَاضِي
لِلْمُتَرْجِمِ وَفِي عَدَدِ مَنْ يَتَّخِذُهُ لِلتَّرْجَمَةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُدَّعِي أَوِ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَعْجَمِيًّا أَوْ لاَ يَعْرِفُ الْقَاضِي
لُغَتَهُ وَهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، أَوْ لاَ
يَعْرِفُ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَ
عَدْلَيْنِ يُتَرْجِمَانِ لِلْمُدَّعِي وَلِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَهُ
(35/279)
وَيَفْهَمُ هُوَ أَيْضًا ذَلِكَ، وَهَذَا
قَوْل مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَزُفَرَ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: يُقْبَل قَوْل الْوَاحِدِ
الْعَدْل فِي التَّرْجَمَةِ (1) .
وَقَال الْخَرَشِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: سَمِعَ الْقَرِينَانِ
أَشْهَبُ وَابْنُ نَافِعٍ إِنِ احْتَكَمَ لِلْقَاضِي خُصُومٌ
يَتَكَلَّمُونَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَلاَ يَفْقُهُ كَلاَمَهُمْ
يَنْبَغِي أَنْ يُتَرْجِمَ عَنْهُمْ رَجُلٌ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ مُسْلِمٌ،
وَاثْنَانِ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَيُجْزِئُ الْوَاحِدُ، وَلاَ تُقْبَل
تَرْجَمَةُ الْكَافِرِ أَوِ الْعَبْدِ أَوِ الْمَسْخُوطِ، وَلاَ بَأْسَ
بِتَرْجَمَةِ الْمَرْأَةِ إِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْل الْعَفَافِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَتَّخِذُ الْقَاضِي نَدْبًا مُتَرْجِمًا،
لأَِنَّهُ قَدْ يَجْهَل لِسَانَ الْخُصُومِ أَوِ الشُّهُودِ، فَإِنْ
كَانَ الْقَاضِي يَعْرِفُ لُغَةَ الْخُصُومِ لَمْ يَتَّخِذْهُ،
وَشَرْطُهُ أَيِ الْمُتَرْجِمُ عَدَالَةٌ وَحُرِّيَّةٌ وَعَدَدٌ، أَيِ
اثْنَانِ وَلَوْ فِي زِنًا وَإِنْ كَانَ شُهُودُهُ كُلُّهُمْ
أَعَجَمِيِّينَ لأَِنَّهُ يَنْقُل إِلَى الْقَاضِي قَوْلاً لاَ
يَعْرِفُهُ فَأَشْبَهَ الْمُزَكِّيَ وَالشَّاهِدَ، نَعَمْ يَكْفِي
رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فِيمَا يَثْبُتُ بِهِمَا، وَقِيسَ بِهِمَا
أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فِيمَا يَثْبُتُ بِهِنَّ، وَيَكْفِي اثْنَانِ عَنِ
الْخَصْمَيْنِ كَشُهُودِ الْفَرْعِ (3) .
__________
(1) روضة القضاة وطريق النجاة 1 / 189.
(2) الخرشي 7 / 149.
(3) نهاية المحتاج 8 / 240.
(35/279)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا تَحَاكَمَ
إِلَى الْقَاضِي الْعَرَبِيِّ أَعْجَمِيَّانِ لاَ يَعْرِفُ
لِسَانَهُمَا، أَوْ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ فَلاَ بُدَّ مِنْ
مُتَرْجِمٍ عَنْهُمَا وَلاَ تُقْبَل التَّرْجَمَةُ إِلاَّ مِنَ
اثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ. وَالتَّرْجَمَةُ عِنْدَهُمْ شَهَادَةٌ
تَفْتَقِرُ إِلَى الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ وَيُعْتَبَرُ فِيهَا مِنَ
الشُّرُوطِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الإِْقْرَارِ
بِذَلِكَ الْحَقِّ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْحُدُودِ
وَالْقِصَاصِ اعْتُبِرَ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ وَلَمْ يَكْفِ إِلاَّ
شَاهِدَانِ ذَكَرَانِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَتَعَلَّقُ بِهَا
كَفَى فِيهِ تَرْجَمَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَلَمْ تُعْتَبَرِ
الْحُرِّيَّةُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ فِي حَدِّ زِنًا خَرَجَ فِي
التَّرْجَمَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ يَكْفِي فِيهِ أَقَل مِنْ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ
أَحْرَارٍ عُدُولٍ، وَالثَّانِي: يَكْفِي فِيهِ اثْنَانِ (1) .
رَابِعًا: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ
قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلاَ تَصِحُّ
الصَّلاَةُ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا بِلُغَةِ غَيْرِ
الْعَرَبِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يُحْسِنِ الْمُصَلِّي الْعَرَبِيَّةَ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (2)
وَتَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ قُرْآنًا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ، جَوَازُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ فِيمَا
يُمْكِنُ تَرْجَمَتُهُ.
__________
(1) المغني 9 / 100 - 101.
(2) سورة المزمل / 20.
(35/280)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَرْجَمَةٌ
ف 6) .
أَمَّا الإِْحْرَامُ فِي الصَّلاَةِ بِالْعَجَمِيَّةِ وَالأَْذَانُ
بِهَا، وَإِلْقَاءُ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ بِهَا، وَالتَّشَهُّدُ،
وَأَذْكَارُ الصَّلاَةِ، فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ (تَكْبِيرَةُ
الإِْحْرَامِ ف 7، وَتَرْجَمَةٌ ف 9) .
(35/280)
لَغْوٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - اللَّغْوُ: لَهُ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ فِي اللُّغَةِ.
مِنْهَا: السَّقْطُ وَمَا لاَ يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْكَلاَمِ
وَغَيْرِهِ، وَلاَ يُحْصَل مِنْهُ عَلَى فَائِدَةٍ وَلاَ نَفْعٍ.
وَمِنْهَا: مَا لاَ يُعْقَدُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ مِثْل قَوْل الرَّجُل:
لاَ وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ.
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّمَا اللَّغْوُ فِي
الْمِرَاءِ وَالْهَزْل وَالْمُزَاحَةِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي لاَ
يُعْقَدُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ: اللَّغْوُ هُوَ الْكَلاَمُ غَيْرُ الْمَعْقُودِ
عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا: الإِْثْمُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ
اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (2) ، وَالْمَعْنَى لاَ
يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالإِْثْمِ فِي الْحَلِفِ إِذَا كَفَرْتُمْ.
وَمِنْهَا: اللَّغْطُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَال
__________
(1) قول عائشة: " إنما اللغو في
المراء والهزل. . . ". أخرجه أبو الشيخ الأصبهاني في تفسيره كما في
الدر المنثور للسيوطي (3 / 151) .
(2) سورة المائدة / 89
(35/281)
الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا
الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (1) أَيِ
الْغَطُوا فِيهِ.
وَمِنْهَا: النُّطْقُ: يُقَال هَذِهِ لُغَتُهُمُ الَّتِي يَلْغُونَ
بِهَا أَيْ يَنْطِقُونَ بِهَا، وَلَغْوُ الطَّيْرِ أَصْوَاتُهَا (2) .
وَاصْطِلاَحًا: ضَمُّ الْكَلاَمِ بِمَا هُوَ سَاقِطُ الْعِبْرَةِ
مِنْهُ، وَهُوَ الَّذِي لاَ مَعْنَى لَهُ فِي حَقِّ ثُبُوتِ الْحُكْمِ
وَغَيْرِهِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْبَاطِل:
2 - الْبَاطِل لُغَةً: مَا سَقَطَ حُكْمُهُ، يُقَال بَطَل الشَّيْءُ
يَبْطُل بَطَلاً وَبُطُولاً وَبُطْلاَنًا: فَسَدَ أَوْ سَقَطَ حُكْمُهُ
(4) .
وَاصْطِلاَحًا: عَرَّفَهُ الْبَرَكَتِيُّ: بِأَنَّهُ الَّذِي لاَ
يَكُونُ صَحِيحًا بِأَصْلِهِ أَوْ مَا لاَ يُعْتَدُّ بِهِ وَلاَ
يُفِيدُ شَيْئًا أَوْ مَا كَانَ فَائِتَ الْمَعْنَى مَعَ وُجُودِ
الصُّورَةِ إِمَّا لاِنْعِدَامِ الأَْهْلِيَّةِ أَوْ لاِنْعِدَامِ
الْمَحَلِّيَّةِ (5) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ اللَّغْوِ وَالْبَاطِل، الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ
فَالْبَاطِل أَعَمُّ مِنَ اللَّغْوِ، فَكُل لَغْوٍ بَاطِلٌ وَلَيْسَ
كُل بَاطِلٍ لَغْوًا.
__________
(1) سورة فصلت / 26.
(2) المصباح المنير، ولسان العرب.
(3) قواعد الفقه للبركتي ص454.
(4) المصباح المنير، ولسان العرب.
(5) قواعد الفقه ص202.
(35/281)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ
بِاللَّغْوِ:
أَوَّلاً - لَغْوُ الْيَمِينِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ لَغْوِ الْيَمِينِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَيْمَانٌ ف 103) .
كَفَّارَةُ لَغْوِ الْيَمِينِ
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّهُ لاَ كَفَّارَةَ فِي
لَغْوِ الْيَمِينِ وَلاَ إِثْمَ عَلَى صَاحِبِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَْيْمَانَ} (1) فَجَعَل اللَّهُ
تَعَالَى الْكَفَّارَةَ لِلْيَمِينِ الَّتِي يُؤَاخَذُ بِهَا وَنَفَى
الْمُؤَاخَذَةَ بِاللَّغْوِ فَيَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْكَفَّارَةِ.
وَمِمَّنْ قَال: لاَ كَفَّارَةَ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو مَالِكٍ وَزُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى
وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ
يَظُنُّهُ كَمَا حَلَفَ فَلَمْ يَكُنْ فَفِيهِ الْكَفَّارَةُ وَلَيْسَ
مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ، لأَِنَّ الْيَمِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى
وُجِدَتْ مَعَ الْمُخَالَفَةِ فَأَوْجَبَتِ الْكَفَّارَةَ كَالْيَمِينِ
عَلَى مُسْتَقْبَلٍ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (كَفَّارَةٌ ف 9) .
زَمَنُ لَغْوِ الْيَمِينِ
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ
__________
(1) سورة المائدة / 89.
(2) بدائع الصنائع 3 / 3، ومواهب الجليل 3 / 267، وكفاية الطالب
الرباني 2 / 16، وروضة الطالبين 3 / 7، والمغني لابن قدامة 8 / 687،
688.
(35/282)
يَكُونُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمَاضِي أَوِ
الْحَال أَوِ الْمُسْتَقْبَل، كَأَنْ يَقُول الإِْنْسَانُ وَاللَّهِ
مَا كَلَّمْتُ زَيْدًا وَفِي ظَنِّهِ وَاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ لَمْ
يُكَلِّمْهُ، أَوْ يَقُول وَاللَّهِ لَقَدْ كَلَّمْتُ زَيْدًا وَفِي
ظَنِّهِ أَنَّهُ كَلَّمَهُ وَهُوَ بِخِلاَفِهِ، أَوْ يَقُول وَاللَّهِ
هَذَا الْجَائِي لَزَيْدٌ وَهُوَ بِخِلاَفِهِ، أَوْ إِنَّ هَذَا
الطَّائِرَ لَغُرَابٌ وَفِي ظَنِّهِ كَذَلِكَ ثُمَّ تَبَيَّنَ
بِخِلاَفِهِ، وَمَا لاَ يَعْقِدُ عَلَيْهِ قَلْبَهُ وَلَمْ يَقْصِدَ
الْيَمِينَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا جَرَتْ عَلَى لِسَانِهِ فَهُوَ مِنْ
لَغْوِ الْيَمِينِ مَاضِيًا كَانَ أَوْ حَالاً أَوْ مُسْتَقْبَلاً (1)
.
وَكَلاَمُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَدُل عَلَى هَذَا
فَإِنَّهَا قَالَتْ: إِنَّمَا اللَّغْوُ فِي الْمِرَاءِ وَالْهَزْل
وَالْمُزَاحَةِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي لاَ يُعْقَدُ عَلَيْهِ
الْقَلْبُ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْعَدَوِيُّ وَابْنُ عَرَفَةَ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ لاَ لَغْوَ فِي يَمِينِ
الْمُسْتَقْبَل، لأَِنَّ الْيَمِينَ فِي الْمُسْتَقْبَل يَمِينٌ
مَعْقُودَةٌ سَوَاءٌ وُجِدَ الْقَصْدُ أَوْ لاَ. وَتُكَفَّرُ إِنْ
حَنِثَ.
وَقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَدُل عَلَى أَنَّ يَمِينَ
اللَّغْوِ مَا يَجْرِي فِي كَلاَمِ النَّاسِ لاَ وَاللَّهِ وَبَلَى
وَاللَّهِ فِي الْمَاضِي لاَ فِي الْمُسْتَقْبَل، وَأَنَّهَا
فَسَّرَتْهَا بِالْمَاضِي فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ حِينَمَا سُئِلَتْ
عَنْ يَمِينِ اللَّغْوِ فَقَالَتْ: قَوْل الرَّجُل:
__________
(1) مواهب الجليل 3 / 266، وبداية المجتهد 1 / 420 ط الكليات الأزهرية،
ونهاية المحتاج 8 / 169، 170، والمغني لابن قدامة 8 / 688.
(2) قول عائشة: " إنما اللغو في المراء والهزل. . تقدم (ف1) .
(35/282)
فَعَلْنَا وَاللَّهِ كَذَا وَضَعْنَا
وَاللَّهِ كَذَا، وَالْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ هِيَ الْيَمِينُ عَلَى
أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَل نَفْيًا أَوْ إِثْبَاتًا مِثْل قَوْل
الرَّجُل: وَاللَّهِ لاَ أَفْعَل كَذَا وَكَذَا، وَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ
لأََفْعَلَنَّ كَذَا.
وَلأَِنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ بِمُسْتَقْبَلٍ غَيْبٌ فَلاَ يَلْزَمُ
مِنْ تَرْكِ الْكَفَّارَةِ فِي حَلِفِهِ عَلَى مَا وَقَعَ تَرْكُهَا
فِي حَلِفِهِ عَلَى مَا لَمْ يَقَعْ لِعُذْرِ الأَْوَّل وَجَرَاءَةِ
الثَّانِي (1) .
ثَانِيًا - اللَّغْوُ أَثَنَاءَ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الإِْنْصَاتِ لِخُطْبَةِ
الْجُمُعَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ لَغْوِ مَنْ لاَ يُنْصِتُ
لِلْخُطْبَةِ، وَذَلِكَ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِمَاعٌ ف
12 - 14) .
لَغْوُ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ
7 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ
الْخُطْبَةُ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَوُقُوعُهَا بِغَيْرِ
الْعَرَبِيَّةِ لَغْوٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْجَمَاعَةِ مَنْ
يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ وَالْخَطِيبُ يَعْرِفُهَا وَجَبَتْ، فَإِنْ
لَمْ يَعْرِفِ الْخَطِيبُ الْعَرَبِيَّةَ لَمْ تَجِبْ، وَلاَ بُدَّ
أَنْ تَكُونَ جَهْرًا فَإِسْرَارُهَا كَعَدِمِهَا وَتُعَادُ جَهْرًا،
وَلاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ لَهَا بَالٌ (2) .
(ر: خُطْبَةٌ ف 9) .
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 4، 5، ومواهب الجليل 3 / 266، والخرشي 3 / 54.
(2) العدوي على الخرشي 2 / 78.
(35/283)
لَفْظٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - اللَّفْظُ فِي اللُّغَةِ: أَنْ تَرْمِيَ بِشَيْءٍ كَانَ فِي فِيكَ،
وَاللَّفْظُ بِالشَّيْءِ: التَّكَلُّمُ بِهِ، وَلَفَظَ بِقَوْلٍ
حَسَنٍ: تَكَلَّمَ بِهِ، وَلَفَظَ بِالْكَلاَمِ: نَطَقَ كَتَلَفَّظَ،
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ جَل وَعَلاَ: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ
لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (1) ، وَفِي الْحَدِيثِ: وَيَبْقَى فِي
الأَْرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا تَلْفِظُهُمْ أَرْضُوهُمْ (2) " أَيْ
تَقْذِفُهُمْ وَتَرْمِيهِمْ (3) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: اللَّفْظُ هُوَ مَا يَتَلَفَّظُ بِهِ
الإِْنْسَانُ أَوْ مَنْ فِي حُكْمِهِ مُهْمَلاً كَانَ أَوْ
مُسْتَعْمَلاً (4) .
__________
(1) سورة ق / 18.
(2) حديث: " ويبقى في الأرض شرار أهلها. . . ". أخرجه أبو داود (3 /
10) من حديث عبد الله بن عمرو، وأورده المنذري في مختصر السنن (3 / 353
- 354) وذكر أن في إسناده راويًا قد تكلم فيه غير واحد.
(3) لسان العرب، والقاموس المحيط، والمصباح المنير.
(4) التعريفات للجرجاني.
(35/283)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْشَارَةُ:
2 - الإِْشَارَةُ لُغَةً: التَّلْوِيحُ بِشَيْءٍ يُفْهَمُ مِنْهُ مَا
يُفْهَمُ مِنَ النُّطْقِ، وَتَشْمَل الإِْيمَاءَ إِلَى الشَّيْءِ
بِالْكَفِّ وَالْعَيْنِ وَالْحَاجِبِ وَغَيْرِهَا، وَمِنْهُ: أَشَارَ
عَلَيْهِ بِكَذَا: إِذَا أَبْدَى لَهُ رَأْيَهُ، وَتَكُونُ حِسِّيَّةً
عِنْدَ الإِْطْلاَقِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الإِْشَارَةِ وَاللَّفْظِ: أَنَّ الإِْشَارَةَ
تُفِيدُ مَا يُفِيدُهُ اللَّفْظُ وَتَقُومُ مَقَامَهُ أَحْيَانًا.
ب - السُّكُوتُ:
3 - السُّكُوتُ هُوَ الصَّمْتُ، وَهُوَ ضِدُّ النُّطْقِ، يُقَال:
سَكَتَ الصَّائِتُ سُكُوتًا: إِذَا صَمَتَ (2) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: السُّكُوتُ مُخْتَصٌّ بِتَرْكِ
الْكَلاَمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ (3) ، وَعَلَى هَذَا
فَالسُّكُوتُ ضِدُّ التَّلَفُّظِ وَالنُّطْقِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللَّفْظِ:
أ - مَعْرِفَةُ الْمُرَادِ عَنْ طَرِيقِ الأَْلْفَاظِ:
4 - الأَْلْفَاظُ تُرْجُمَانُ الإِْرَادَةِ وَالرَّغْبَةِ فِي
الأَْشْيَاءِ وَالْحَاجَاتِ، وَلِهَذَا يَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ
اللَّهَ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير والكليات 1 / 184 - 185.
(2) المصباح المنير، ولسان العرب.
(3) المفردات للراغب، والتعريفات للجرجاني.
(35/284)
تَعَالَى وَضَعَ الأَْلْفَاظَ بَيْنَ
عِبَادِهِ تَعْرِيفًا وَدَلاَلَةً عَلَى مَا فِي نُفُوسِهِمْ، فَإِذَا
أَرَادَ أَحَدُهُمْ مِنَ الآْخَرِ شَيْئًا عَرَّفَهُ بِمُرَادِهِ وَمَا
فِي نَفْسِهِ بِلَفْظِهِ وَرَتَّبَ عَلَى تِلْكَ الإِْرَادَاتِ
وَالْمَقَاصِدِ أَحْكَامَهَا بِوَاسِطَةِ الأَْلْفَاظِ (1) .
ب - التَّصَرُّفَاتُ الْمُقَيَّدَةُ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ وَغَيْرُ
الْمُقَيَّدَةِ:
هُنَاكَ تَصَرُّفَاتٌ تَتَقَيَّدُ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْهَا:
أَوَّلاً: فِي الْعِبَادَةِ:
5 - تَتَقَيَّدُ بَعْضُ الْعِبَادَاتِ بِبَعْضِ الأَْلْفَاظِ فَلاَ
تَصِحُّ بِغَيْرِهَا، كَالأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ وَتَكْبِيرَةِ
الإِْحْرَامِ وَالتَّشَهُّدِ فِي الصَّلاَةِ، وَكَذَلِكَ بَعْضُ
الأَْذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ.
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: ذِكْرٌ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .
ثَانِيًا: فِي الْعُقُودِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْعُقُودَ - غَيْرَ
عَقْدَيِ النِّكَاحِ وَالسَّلَمِ - لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا لَفْظٌ
مُعَيَّنٌ، بَل كُل لَفْظٍ يُؤَدِّي إِلَى الْمَقْصُودِ يَتِمُّ بِهِ
الْعَقْدُ، وَعَلَى هَذَا بُنِيَتِ الْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ
الْمَعْرُوفَةُ (الْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَقَاصِدِ
وَالْمَعَانِي لاَ لِلأَْلْفَاظِ وَالْمَبَانِي (2)) .
__________
(1) إعلام الموقعين (3 / 105) .
(2) مجلة الأحكام العدلية المادة (3) .
(35/284)
أَمَّا عَقْدُ النِّكَاحِ فَقَدْ ذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ كَبَقِيَّةِ
الْعُقُودِ الأُْخْرَى يَتِمُّ بِأَيِّ لَفْظٍ يَدُل عَلَى
التَّأْبِيدِ مُدَّةَ الْحَيَاةِ (1) ، وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ لَفْظٍ
مُشْتَقٍّ مِنْ لَفْظَيِ التَّزْوِيجِ أَوِ الإِْنْكَاحِ، لأَِنَّهُمَا
وَرَدَتَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (
{زَوَّجْنَاكَهَا} (2)) وَقَوْلِهِ: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ
آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} (3) دُونَ
سِوَاهُمَا (4) .
وَانْفَرَدَ الشَّافِعِيَّةُ بِإِضَافَةِ عَقْدِ السَّلَمِ إِلَى
عَقْدِ النِّكَاحِ فِي تَقْيِيدِهِ بِأَلْفَاظٍ خَاصَّةٍ (5) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: صِيغَةٌ ف 6) .
ثَالِثًا: فِي الشَّهَادَةِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ فِي
أَدَاءِ الشَّهَادَةِ مِنْ لَفْظِ (أَشْهَدُ) فَلاَ يُقْبَل مِثْل
قَوْلِهِ: أَعْلَمُ أَوْ أَعْرِفُ أَوْ أَتَيَقَّنُ إِلاَّ أَنَّ
الْمَالِكِيَّةَ لَمْ يَشْتَرِطُوا لَفْظًا مَخْصُوصًا فِي
الشَّهَادَةِ، بَل يَكْفِي عِنْدَهُمْ كُل مَا يَدُل عَلَى حُصُول
عِلْمِ الشَّاهِدِ بِمَا شَهِدَ (6) .
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 380، وبدائع الصنائع 2 / 230 - 231.
(2) سورة الأحزاب / 37.
(3) سورة النساء / 22.
(4) مغني المحتاج 3 / 140، والمغني 6 / 532 - 533.
(5) المنثور 2 / 412، ومغني المحتاج 2 / 104.
(6) بدائع الصنائع 6 / 273، والشرح الصغير 2 / 348، والمغني 9 / 216،
والجمل على شرح المنهج 5 / 377.
(35/285)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: إِثْبَاتٌ ف 10،
شَهَادَةٌ. ف 27) .
رَابِعًا: فِي أَيْمَانِ اللِّعَانِ:
8 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي أَيْمَانِ اللِّعَانِ أَنْ تَرِدَ
فِيهَا أَلْفَاظٌ مَخْصُوصَةٌ هِيَ (أَشْهَدُ، لَعْنَةٌ، غَضَبٌ (1)) ،
وَذَلِكَ لِوُرُودِ النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ
شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ
شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ
أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ
وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ
بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ
اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (لِعَانٌ، وَأَيْمَانٌ ف 14) .
ج - الإِْكْرَاهُ عَلَى التَّلَفُّظِ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ:
9 - الإِْكْرَاهُ يُؤَثِّرُ فِي الإِْرَادَةِ وَيُعَدُّ عَيْبًا مِنْ
عُيُوبِهَا.
وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الإِْكْرَاهَ عَلَى
التَّلَفُّظِ بِلَفْظِ مَا يَمْنَعُ تَرْتِيبَ أَثَرِهِ عَلَيْهِ
وَلَوْ كَانَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَنْ
أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ} (3)
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 375، والاختيار 3 / 169، وبدائع الصنائع 3 / 242،
وشرح منتهى الإرادات 3 / 207، والفواكه الدواني 2 / 85.
(2) سورة النور / 6 - 9.
(3) سورة النحل / 106.
(35/285)
وَلِحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ
أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: إِكْرَاهٌ ف 18 - 24) .
د - قَصْدُ مَعَانِي الأَْلْفَاظِ:
10 - اللَّفْظُ هُوَ الصُّورَةُ الَّتِي تَحْمِل مُرَادَ
الْمُتَكَلِّمِ إِلَى السَّامِعِ، فَإِذَا كَانَ صَاحِبُ اللَّفْظِ
جَاهِلاً بِمَعْنَاهُ كَالأَْعْجَمِيِّ لَمْ يُعَدَّ اللَّفْظُ
صَالِحًا لِتَأْدِيَةِ هَذَا الْمَعْنَى، فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ.
جَاءَ فِي قَوَاعِدِ الأَْحْكَامِ: إِذَا نَطَقَ الأَْعْجَمِيُّ
بِكَلِمَةِ كُفْرٍ أَوْ إِيمَانٍ أَوْ طَلاَقٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ
شِرَاءٍ أَوْ صُلْحٍ أَوْ إِبْرَاءٍ لَمْ يُؤَاخَذْ بِشَيْءٍ مِنْ
ذَلِكَ، لأَِنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ مُقْتَضَاهُ وَلَمْ يَقْصِدْ
إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا نَطَقَ الْعَرَبِيُّ بِمَا يَدُل عَلَى
هَذِهِ الْمَعَانِي بِلَفْظٍ أَعْجَمِيٍّ لاَ يَعْرِفُ مَعْنَاهُ
فَإِنَّهُ لاَ يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لأَِنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ
فَإِنَّ الإِْرَادَةَ لاَ تَتَوَجَّهُ إِلاَّ إِلَى مَعْلُومٍ أَوْ
مَظْنُونٍ، وَإِنْ قَصَدَ الْعَرَبِيُّ النُّطْقَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا
الْكَلاَمِ مَعَ مُعْرِفَتِهِ بِمَعَانِيهِ نَفَذَ ذَلِكَ مِنْهُ (2) .
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ أَوْقَعُوا طَلاَقَ النَّاسِي
وَالْخَاطِئِ وَالذَّاهِل وَكَذَلِكَ يَمِينُهُ، إِذِ الْقَصْدُ
بِالنِّسْبَةِ لِلْيَمِينِ وَالطَّلاَقِ لَيْسَ بِشَرْطٍ
__________
(1) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان. . . ". أخرجه ابن
ماجه (1 / 659) من حديث أبي هريرة، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1
/ 353) هذا إسناده صحيح إن سلم من الانقطاع.
(2) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2 / 103.
(35/286)
عِنْدَهُمْ (1) ، كَمَا أَنَّهُمْ حَكَمُوا
بِإِسْلاَمِ الْكَافِرِ إِذَا أُجْبِرَ عَلَى التَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ
الإِْسْلاَمِ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ إِجْبَارِ الْمُسْلِمِ عَلَى
التَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ (2) .
وَإِذَا تَلَفَّظَ بِلَفْظٍ فَقَصَدَ صُورَتَهُ دُونَ مَعْنَاهُ
كَالْهَازِل أَوِ اللاَّعِبِ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى تَصَرُّفِهِ
أَحْكَامُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَكَانَ لَغْوًا إِلاَّ
خَمْسَةَ أُمُورٍ هِيَ: طَلاَقُهُ وَيَمِينُهُ وَنِكَاحُهُ
وَرَجْعَتُهُ وَعِتْقُهُ، فَإِنَّهَا تَقَعُ كُلُّهَا مِنْهُ،
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثٌ جَدُّهُنَّ
جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلاَقُ وَالرَّجْعَةُ (3)
، وَقَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَرْبَعٌ
جَائِزَاتٌ إِذَا تُكُلِّمَ بِهِنَّ: الطَّلاَقُ وَالْعِتَاقُ
وَالنِّكَاحُ وَالنَّذْرُ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَاتِ (صِيغَةٌ ف 9، وَعَقْدٌ ف 6،
وَطَلاَقٌ ف 28 وَمَا بَعْدَهَا، وَنِكَاحٌ، وَهَزْلٌ) .
هـ - اشْتِرَاكُ لَفْظٍ وَاحِدٍ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ:
11 - الْمُشْتَرَكُ اللَّفْظِيُّ هُوَ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لُغَةً
لِمَعْنَيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى سَبِيل الْبَدَل، أَوْ هُوَ أَنْ
يَتَّحِدَ اللَّفْظُ وَيَتَعَدَّدَ الْمَعْنَى عَلَى سَبِيل
الْحَقِيقَةِ فِيهِمَا كَالْقُرْءِ، فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْحَيْضِ
__________
(1) الأشباه لابن نجيم 303، وحاشية ابن عابدين 3 / 49، وبدائع الصنائع
3 / 100.
(2) بدائع الصنائع 3 / 100.
(3) حديث: " ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 481)
من حديث أبي هريرة، وقال: حديث حسن غريب
(35/286)
وَالطُّهْرِ (1) (ر: اشْتِرَاكٌ ف 3) .
وَلَوْ حَلَفَ: لاَ يَرْكَبُ دَابَّةً أَوْ لاَ يَأْكُل لَحْمًا أَوْ
لاَ يَجْلِسُ عَلَى فِرَاشٍ أَوْ لاَ يَشْرَبُ بَارِدًا فَإِنَّ كُلًّا
مِنْ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ (الدَّابَّةُ وَاللَّحْمُ وَالْفِرَاشُ
وَالْبَارِدُ) يَحْتَمِل عِدَّةَ مَعَانٍ: إِذْ تُطْلَقُ الدَّابَّةُ
عَلَى الْحِمَارِ وَالْفَرَسِ، وَيُطْلَقُ اللَّحْمُ عَلَى الْغَنَمِ
وَالإِْبِل وَالسَّمَكِ، وَيَشْمَل الْفِرَاشُ مَا أُعِدَّ لِلنَّوْمِ
وَالْجُلُوسِ، وَكَذَلِكَ الْبَارِدُ يَشْمَل الْمَاءَ وَغَيْرَهُ،
فَلِهَذَا يُلْجَأُ إِلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ أَوْ قَصْدِ
الْمُتَكَلِّمِ أَوْ إِلَى الْعُرْفِ، وَيُصْرَفُ اللَّفْظُ إِلَيْهَا.
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: مِمَّا تَتَغَيَّرُ بِهِ الْفَتْوَى
لِتَغَيُّرِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ مُوجَبَاتُ الأَْيْمَانِ
وَالإِْقْرَارِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِهَا، فَمَنْ حَلَفَ: لاَ رَكِبْتُ
دَابَّةً، وَكَانَ فِي بَلَدٍ عُرْفُهُمْ فِي لَفْظِ الدَّابَّةِ،
الْحِمَارُ خَاصَّةً اخْتَصَتْ يَمِينُهُ بِهِ، وَلاَ يَحْنَثُ
بِرُكُوبِ الْفَرَسِ وَلاَ الْجَمْل، ثُمَّ قَال: فَيُفْتَى فِي كُل
بَلَدٍ بِحَسَبِ عُرْفِ أَهْلِهِ، وَيُفْتِي كُل أَحَدٍ بِحَسَبِ
عَادَتِهِ (2) .
وَكَذَلِكَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ فَتَاوَى قَاسِمٍ
حَيْثُ قَال: لَفْظُ الْوَاقِفِ وَالْمُوصِي وَالْحَالِفِ وَالنَّاذِرِ
وَكُل عَاقِدٍ يُحْمَل عَلَى عَادَتِهِ فِي خِطَابِهِ وَلُغَتِهِ
الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا، سَوَاءٌ وَافَقَتْ
__________
(1) جمع الجوامع 3 / 274 - 275، وكشاف اصطلاحات الفنون 4 / 154.
(2) إعلام الموقعين 3 / 50.
(35/287)
لُغَةَ الْعَرَبِ وَلُغَةَ الشَّارِعِ أَوْ
لاَ (1) .
و الصَّرِيحُ وَالْكِنَايَةُ مِنَ الأَْلْفَاظِ:
12 - الصَّرِيحُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الَّذِي خَلَصَ مِنْ تَعَلُّقَاتِ
غَيْرِهِ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ: اسْمٌ لِكَلاَمٍ مَكْشُوفٍ الْمُرَادُ
بِهِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الاِسْتِعْمَال حَتَّى يَظْهَرَ ظُهُورًا
بَيِّنًا.
وَالْكِنَايَةُ لُغَةً: أَنْ يُتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ يُسْتَدَل بِهِ
عَلَى الْمُكَنَّى عَنْهُ، أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَهِيَ كَمَا قَال
الْجُرْجَانِيُّ: كَلاَمٌ اسْتَتَرَ الْمُرَادُ مِنْهُ
بِالاِسْتِعْمَال وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ ظَاهِرًا فِي اللُّغَةِ (2) .
وَلِهَذَا تَنْقَسِمُ الأَْلْفَاظُ إِلَى صَرِيحٍ يَظْهَرُ الْمُرَادُ
بِهِ وَكِنَايَةٌ يَخْفَى الْمُرَادُ بِهَا، إِلاَّ مَعَ قَرِينَةٍ
تُظْهِرُهُ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ يَدْخُل فِي أَلْفَاظِ كَثِيرٍ مِنَ
الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ كَالطَّلاَقِ وَالْوَقْفِ وَالْهِبَةِ
وَالْخِطْبَةِ وَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالظِّهَارِ وَالْقَذْفِ
وَالنَّذْرِ وَغَيْرِهَا مِمَّا تُسْتَعْمَل فِيهِ أَلْفَاظٌ صَرِيحَةٌ
وَأُخْرَى كِنَائِيَّةٌ. وَتُعْرَفُ تَفَاصِيل تِلْكَ الأَْلْفَاظِ فِي
مُصْطَلَحَاتِهَا وَفِي مُصْطَلَحِ (صَرِيحٌ ف 12 - 21، وَكِنَايَةٌ) .
ز - النَّهْيُ عَنْ أَلْفَاظٍ مُعَيَّنَةٍ:
13 - وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ بَعْضِ الأَْلْفَاظِ لِمَقَاصِدَ
__________
(1) مجموع رسائل ابن عابدين 1 / 48.
(2) المصباح المنير، والقاموس المحيط، والتعريفات للجرجاني، وفتح
القدير وبهامشه العناية 3 / 44 - 45.
(35/287)
شَرْعِيَّةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ
تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} (1) .
وَمِنْ ذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ تَسْمِيَةِ الْعِنَبِ بِالْكَرْمَةِ،
وَصَلاَةِ الْمَغْرِبِ بِالْعَتَمَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ أَلْفَاظِ
سِلاَمِ الْجَاهِلِيَّةِ عِمْ صَبَاحًا وَمُسَاءً، وَالنَّهْيِ عَنِ
ابْتِدَاءِ أَهْل الذِّمَّةِ بِأَلْفَاظِ السَّلاَمِ الْخَاصَّةِ
بِالْمُؤْمِنِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَتُنْظَرُ تَفْصِيلاَتُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
__________
(1) سورة البقرة / 104.
(35/288)
لَقَبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - اللَّقَبُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ مَا يُسَمَّى بِهِ الإِْنْسَانُ
بَعْدَ اسْمِهِ الأَْوَّل (الْعَلَمِ) مِنْ لَفْظٍ يَدُل عَلَى
الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ لِمَعْنًى فِيهِ، وَالْجَمْعُ أَلْقَابٌ.
وَاللَّقَبُ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ عَلَى سَبِيل التَّشْرِيفِ كَأَلْقَابِ
السَّلاَطِينِ، وَضَرْبٌ عَلَى سَبِيل النَّبْزِ.
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ
اللُّغَوِيِّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْمُ:
2 - الاِسْمُ لُغَةً: مَا وُضِعَ لِشَيْءٍ مِنَ الأَْشْيَاءِ وَدَل
عَلَى مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، جَوْهَرًا كَانَ أَوْ عَرَضًا.
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ مَا يُعْرَفُ بِهِ الشَّيْءُ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، والتعريفات
والمفردات، ومغني المحتاج 4 / 295، وتفسير القرطبي 16 / 328، وأحكام
القرآن لابن العربي 4 / 1711.
(35/288)
وَيُسْتَدَل بِهِ عَلَيْهِ، أَوْ هُوَ مَا
دَل عَلَى مَعْنًى فِي نَفْسِهِ غَيْرِ مُقْتَرِنٍ بِأَحَدِ
الأَْزْمِنَةِ الثَّلاَثَةِ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى اسْمِ عَيْنٍ،
وَهُوَ الدَّال عَلَى مَعْنًى يَقُومُ بِذَاتِهِ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو،
وَإِلَى اسْمِ مَعْنًى وَهُوَ مَا لاَ يَقَعُ بِذَاتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ
مَعْنًى وُجُودِيًّا كَالْعِلْمِ أَوْ عَدَمِيًّا كَالْجَهْل.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ اللَّقَبِ وَالاِسْمِ أَنَّ مَا قُصِدَ بِهِ
التَّعْظِيمُ أَوِ التَّحْقِيرُ فَهُوَ لَقَبٌ، وَإِلاَّ فَهُوَ اسْمٌ
(1) .
ب - الْكُنْيَةُ:
3 - الْكُنْيَةُ فِي اللُّغَةِ: تُطْلَقُ عَلَى الشَّخْصِ
لِلتَّعْظِيمِ، وَتَكُونُ عَلَمًا غَيْرَ الاِسْمِ وَاللَّقَبِ،
وَتُصَدَّرُ بِأَبٍ أَوْ أُمٍّ، وَذَلِكَ كَأَبِي حَفْصٍ وَأَبِي
الْحَسَنِ.
وَتُسْتَعْمَل الْكُنْيَةُ مَعَ الاِسْمِ وَمَعَ اللَّقَبِ أَوْ
بِدُونِهِمَا تَفْخِيمًا لِشَأْنِ صَاحِبِهَا أَنْ يُذْكَرَ اسْمُهُ
مُجَرَّدًا، وَتَكُونُ لأَِشْرَافِ النَّاسِ (2) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْكُنْيَةَ تَكُونُ - غَالِبًا - لِلتَّفْخِيمِ،
وَأَمَّا اللَّقَبُ فَقَدْ يَكُونُ لِلْمَدْحِ وَالتَّفْخِيمِ أَوِ
الذَّمِّ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ النَّبْزِ بِالأَْلْقَابِ إِلَى
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات، والمعجم الوسيط، والفروق
اللغوية ص17، والكليات 3 / 192.
(2) المصادر السابقة.
(35/289)
مُسْتَحَبٍّ وَجَائِزٍ وَمَكْرُوهٍ
وَحَرَامٍ.
4 - فَاللَّقَبُ إِنْ كَانَ مِنْ مُسْتَحَبِّ الأَْلْقَابِ،
وَمُسْتَحْسَنِهَا، وَلَيْسَ فِيهِ الإِْطْرَاءُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ
شَرْعًا فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُلَقَّبُ
رَاضِيًا عَنْهُ، لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ يَدْعُوَ الرَّجُل
بِأَحَبِّ أَسْمَائِهِ إِلَيْهِ وَأَحَبِّ كُنَاهُ (1) ، وَلأَِنَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَّبَ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ بِعَتِيقٍ (2) وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَبِي
تُرَابٍ (3) ، وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
بِسَيْفِ اللَّهِ (4) وَلأَِنَّهُ قَل مِنَ الْمَشَاهِيرِ فِي
الإِْسْلاَمِ مَنْ لَيْسَ لَهُ لَقَبٌ، وَلَمْ تَزَل هَذِهِ
الأَْلْقَابُ الْحَسَنَةُ فِي الأُْمَمِ كُلِّهَا مِنَ الْعَرَبِ
وَالْعَجَمِ تَجْرِي فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ وَمُكَاتَبَاتِهِمْ مِنْ
غَيْرِ نَكِيرٍ (5) .
__________
(1) حديث: " أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعجبه أن يدعو الرجل. .
. ". أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (4 / 13) في حديث حنظلة ابن حذيم،
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8 / 56) رجاله ثقات.
(2) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقب أبا بكر الصديق بعتيق
". أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (1 / 53) من حديث عبد الله ابن
الزبير، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9 / 40) وقال: رواه البزار
والطبراني بنحوه ورجالهما ثقات
(3) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقب عليًّا بأبي تراب. .
. ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 587) .
(4) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقب خالد بن الوليد بسيف
الله ". أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 512) من حديث أنس بن مالك.
(5) فتح الباري شرح صحيح البخاري 10 / 468، ومغني المحتاج 4 / 295،
وتفسير القرطبي 16 / 329، وأحكام القرآن لابن العربي 4 / 1711، وابن
عابدين 5 / 268.
(35/289)
5 - وَإِنْ كَانَ اللَّقَبُ عَادِيًّا لاَ
يُوصَفُ بِالْمُسْتَحْسَنِ وَلاَ بِالْمُسْتَقْبَحِ وَكَانَ
الْمُلَقَّبُ بِهِ رَاضِيًا عَنْهُ جَازَ، وَكَذَا إِنْ كَانَ
مُسْتَقْبَحًا وَلاَ يَرْضَى عَنْهُ الْمُلَقَّبُ إِلاَّ أَنَّهُ
تَعَيَّنَ طَرِيقًا إِلَى التَّعْرِيفِ بِهِ، حَيْثُ يَغْلِبُ عَلَيْهِ
الاِسْتِعْمَال وَيَشْتَهِرُ بِهِ وَلاَ يَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ
إِلاَّ بِذِكْرِ هَذَا اللَّقَبِ، فَهَذَا جَائِزٌ أَيْضًا عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَأَهْل الْعِلْمِ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكُونَ
إِلْقَاءُ اللَّقَبِ عَلَى وَجْهِ التَّعْيِيرِ وَالتَّنْقِيصِ.
وَمِنْ أَجْل هَذَا أَكْثَرَ الْعُلَمَاءُ مِنَ اسْتِعْمَال مِثْل
هَذِهِ الأَْلْقَابِ لِلْمُؤَلِّفِينَ وَالرُّوَاةِ وَالْفُقَهَاءِ
كَالأَْعْمَشِ وَالأَْعْرَجِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ
الأَْلْقَابِ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُسَمَّى بِحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ:
أَكَمَا يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ: مَا يَقُول ذُو
الْيَدَيْنِ (1) "، وَذَلِكَ لَمَّا سَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْ
صَلاَةِ الظُّهْرِ، وَلأَِنَّ دَاعِيَةَ التَّعْرِيفِ فِي الْجُمْلَةِ
مَصْلَحَةٌ يُفْتَقَرُ إِلَيْهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ قَال
الْعُلَمَاءُ: لَوْ أَمْكَنَ تَعْرِيفُ صَاحِبِ اللَّقَبِ بِغَيْرِ
ذَلِكَ اللَّقَبِ الْمَكْرُوهِ كَانَ أَوْلَى، لِحُصُول
__________
(1) حديث: " أكما يقول ذو اليدين ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 /
566) ، والرواية الأخرى أخرجها مسلم (1 / 403) .
(35/290)
الْمَقْصُودِ مَعَ السَّلاَمَةِ مِنَ
الْغِيبَةِ (1) .
6 - وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى حُرْمَةِ ذَلِكَ حَتَّى مَعَ
وُجُودِ الْحَاجَةِ إِلَى التَّعْرِيفِ بِالْمُلَقَّبِ، وَمِنْ
هَؤُلاَءِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فَقَدْ نُقِل عَنْهُ أَنَّهُ قَال:
أَخَافُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيل غِيبَةٌ، وَقَال
ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بَعْدَمَا ذَكَرَ
الْمَسْأَلَةَ: وَقَدْ وَرَدَ لَعَمْرُ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ فِي
كُتُبِهِمْ مَا لاَ أَرْضَاهُ. وَلاَ أَرَاهُ سَائِغًا فِي الدِّينِ،
وَقَدْ كَانَ مُوسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ الْمِصْرِيُّ يَقُول:
لاَ أَجْعَل أَحَدًا صَغَّرَ اسْمَ أَبِي فِي حِلٍّ، وَكَانَ
الْغَالِبُ عَلَى اسْمِ أَبِيهِ التَّصْغِيرُ بِضَمِّ الْعَيْنِ (2) .
7 - أَمَّا إِذَا كَانَ الشَّخْصُ لَمْ يَشْتَهِرْ بِهَذَا اللَّقَبِ،
أَوْ كَانَ يَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ هَذَا اللَّقَبِ مِنَ
الأَْسْمَاءِ وَالأَْلْقَابِ وَالْكُنَى، أَوْ كَانَ إِطْلاَقُ
اللَّقَبِ عَلَيْهِ لَيْسَ عَلَى جِهَةِ التَّعْرِيفِ بِهِ، وَإِنَّمَا
عَلَى جِهَةِ التَّنْقِيصِ وَالتَّعْيِيرِ فَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ
إِجْمَاعًا (3) لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنَابَزُوا
بِالأَْلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِْيمَانِ وَمَنْ
لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (4)
__________
(1) دليل الفالحين شرح رياض الصالحين 4 / 354. وفتح الباري 10 / 468،
تفسير القرطبي 16 / 328 وما بعدها، ومغني المحتاج 4 / 294 - 295،
وأحكام القرآن لابن العربي 4 / 1711.
(2) فتح الباري 10 / 468، وأحكام القرآن لابن العربي 4 / 1711، وتفسير
القرطبي 16 / 329.
(3) المراجع السابقة.
(4) سورة الحجرات / 11.
(35/290)
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يَغْتَبْ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُل لَحْمَ أَخِيهِ
مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} (1) .
الأَْلْقَابُ الْمُحَرَّمَةُ
8 - إِذَا كَانَ اللَّقَبُ مِنْ قَبِيل الإِْطْرَاءِ الْمَنْهِيِّ
عَنْهُ شَرْعًا كَمَلِكِ الأَْمْلاَكِ وَمَلِكِ الْمُلُوكِ، وَمَا
أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الأَْلْقَابِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ لاَ يُوصَفَ
بِهَا إِلاَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَل، فَيَحْرُمُ لِقَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَخْنَعَ اسْمٍ عِنْدَ
اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلَكَ الأَْمْلاَكِ (2) ، وَلأَِنَّ
إِطْلاَقَ مِثْل هَذِهِ الأَْلْقَابِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى
وَصْفٌ لِذَلِكَ الْغَيْرِ بِوَصْفِ الْخَالِقِ الَّذِي لاَ يَصِحُّ
قِيَامُهُ بِغَيْرِهِ سُبْحَانَهُ (3) .
إِطْلاَقُ أَلْقَابِ التَّفْخِيمِ عَلَى الْفُسَّاقِ
9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَلْقِيبُ الْفُسَّاقِ
وَالْعُصَاةِ وَالظَّالِمِينَ وَالسَّفَلَةِ بِالأَْلْقَابِ
الْعَلِيَّةِ الَّتِي تَدُل عَلَى التَّعْظِيمِ أَوِ التَّشْرِيفِ
كَسَيِّدٍ وَأُسْتَاذٍ وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِنْ أَلْقَابِ
التَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيل، لِمَا وَرَدَ عَنْ بُرَيْدَةُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لاَ تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ
__________
(1) سورة الحجرات / 12.
(2) حديث: " إن أخنع اسم عند الله رجل. . . ". أخرجه البخاري (فتح
الباري 10 / 588) ومسلم (3 / 1688) واللفظ لمسلم.
(3) دليل الفالحين 4 / 432، ومغني المحتاج 4 / 294، والفواكه الدواني 1
/ 461، وفتح الباري 10 / 268.
(35/291)
سَيِّدٌ، فَإِنَّهُ إِنْ يَكُ سَيِّدًا
فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَل (1) .
وَلأَِنَّ فِي هَذَا تَعْظِيمُ مَنْ أَهَانَهُ اللَّهُ بِسَبَبِ
مَعْصِيَتِهِ وَخَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ حِزْبِ الرَّحْمَنِ وَانْتَظَمَ
فِي إِخْوَانِ الشَّيَاطِينِ، فَعَلَى الْمُسْلِمِ إِهَانَتُهُ
وَتَرْكُ تَعْظِيمِهِ لِيَرْتَدِعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ فَيَرْجِعَ إِلَى
الطَّاعَةِ.
وَقَال الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدَمَا ذَكَرَ الأَْلْقَابَ الْجَائِزَةَ:
إِلاَّ مَا أَحْدَثَهُ النَّاسُ فِي زَمَانِنَا هَذَا مِنَ
التَّوَسُّعِ حَتَّى لَقَّبُوا السَّفَلَةَ بِالأَْلْقَابِ
الْعَلِيَّةِ.
فَمَا أَقُول فِي تَلْقِيبِ مَنْ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ فِي قَبِيلٍ
وَلاَ دَبِيرٍ بِفُلاَنِ الدِّينِ هِيَ لَعَمْرُ اللَّهِ الْغُصَّةُ
الَّتِي لاَ تُسَاغُ (2) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَنَظِيرُهُ مَا يُقَال لِلْمُدَرِّسِينَ
بِالتُّرْكِيِّ: أَفَنْدِي، وَسُلْطَانَمْ وَنَحْوُهُ (3) .
كَمَا تُكْرَهُ عِنْدَهُمُ الأَْلْقَابُ الْقَبِيحَةُ كَشَيْطَانٍ
وَظَالِمٍ وَشِهَابٍ وَحِمَارٍ وَكُلَيْبٍ (4) .
__________
(1) حديث: " لا تقولوا للمنافق سيد. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 257)
وصحح إسناده النووي في الأذكار ص558.
(2) دليل الفالحين 4 / 532، ومغني المحتاج 4 / 295، وحاشية ابن عابدين
5 / 265، 268 - 269، والفواكه الدواني 1 / 461.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 269.
(4) حاشية ابن عابدين 5 / 268، والفواكه الدواني 1 / 461، ومغني
المحتاج 4 / 294، وتفسير القرطبي 16 / 328 - 329.
(35/291)
لَقْطٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - اللَّقْطُ بِفَتْحِ اللاَّمِ وَسُكُونِ الْقَافِ كَالنَّصْرِ -
مَصْدَرُ لَقَطَ يَلْقُطُ - وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ أَخْذُ
الشَّيْءِ مِنَ الأَْرْضِ وَجَمْعُهُ، يُقَال: لَقَطَهُ يَلْقُطُهُ
لَقْطًا: أَخَذَهُ مِنَ الأَْرْضِ، وَمِنْهُ اللُّقَطَةُ وَهِيَ اسْمُ
الشَّيْءِ الَّذِي تَجِدُهُ مُلْقًى فَتَأْخُذُهُ، وَاللَّقِيطُ وَهُوَ
الْمَوْلُودُ الْمَنْبُوذُ (1) .
وَالْمُرَادُ بِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَخْذُ أَيَّامِ النَّقَاءِ
بَيْنَ الدَّمَيْنِ وَالْحُكْمُ عَلَيْهَا بِالطُّهْرِ، وَالْتِقَاطُ
أَزْمِنَةِ الدَّمِ وَالْحُكْمُ عَلَيْهَا بِالْحَيْضِ (2) .
وَيُسَمَّى الْقَوْل بِاللَّقْطِ كَذَلِكَ الْقَوْل بِالتَّلْفِيقِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السَّحْبُ:
2 - السَّحْبُ لُغَةً: جَرُّ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، وحاشية البجيرمي على الخطيب 1 / 308.
(2) الوجيز وشرحه فتح العزيز بهامش المجموع 2 / 536، 537.
(35/292)
الأَْرْضِ كَالثَّوْبِ وَغَيْرِهِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِإِعْطَاءِ
النَّقَاءِ الْمُتَخَلِّل بَيْنَ أَيَّامِ الْحَيْضِ حُكْمَ الْحَيْضِ،
وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِسَحْبِ حُكْمِ الْحَيْضِ عَلَى النَّقَاءِ
وَجَعْل الْكُل حَيْضًا (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - اللَّقْطُ لَفْظٌ يَسْتَعْمِلُهُ الشَّافِعِيَّةُ غَالِبًا فِيمَا
إِذَا انْقَطَعَ دَمُ الْمَرْأَةِ وَكَانَتْ تَرَى يَوْمًا دَمًا
وَيَوْمًا نَقَاءً أَوْ يَوْمَيْنِ وَيَوْمَيْنِ، وَيَخْتَلِفُ
الْحُكْمُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي انْقِطَاعِ دَمِ الْمَرْأَةِ حَسَبَ
اخْتِلاَفِ أَحْوَال الاِنْقِطَاعِ، فَالطُّهْرُ الْمُتَخَلِّل بَيْنَ
الدَّمَيْنِ إِذَا كَانَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا فَإِنَّهُ
طُهْرٌ فَاصِلٌ بَيْنَ الدَّمَيْنِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الطُّهْرِ بَيْنَ الدَّمَيْنِ أَقَل مِنْ
هَذِهِ الْمُدَّةِ، هَل يُعْتَبَرُ فَاصِلاً أَوْ لاَ؟ .
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الطُّهْرَ الْفَاصِل بَيْنَ
الدَّمَيْنِ إِذَا كَانَ أَقَل مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ لاَ يُعْتَبَرُ
فَاصِلاً.
وَفِيمَا زَادَ عَنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا
فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ رَوَى أَبُو يُوسُفَ
عَنْهُ أَنَّهُ قَال: الطُّهْرُ الْمُتَخَلِّل بَيْنَ الدَّمَيْنِ
إِذَا كَانَ أَقَل مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَكُونُ طُهْرًا
فَاسِدًا وَلاَ يَكُونُ فَاصِلاً بَيْنَ الدَّمَيْنِ بَل
__________
(1) لسان العرب.
(2) حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 1 / 385.
(35/292)
يَكُونُ كُلُّهُ كَدَمٍ مُتَوَالٍ ثُمَّ
يُقَدَّرُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَل حَيْضًا يُجْعَل حَيْضًا
وَالْبَاقِي يَكُونُ اسْتِحَاضَةً، وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّمَ إِذَا كَانَ فِي طَرَفَيِ الْعَشَرَةِ
فَالطُّهْرُ الْمُتَخَلِّل بَيْنَهُمَا لاَ يَكُونُ فَاصِلاً وَيُجْعَل
كُلُّهُ كَدَمٍ مُتَوَالٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الدَّمُ فِي طَرَفَيِ
الْعَشَرَةِ كَانَ الطُّهْرُ فَاصِلاً بَيْنَ الدَّمَيْنِ.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَل أَحَدُ الدَّمَيْنِ
حَيْضًا يُجْعَل ذَلِكَ حَيْضًا، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَل كُل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَل أَسْرَعُهُمَا حَيْضًا، وَهُوَ
أَوَّلُهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ جَعْل أَحَدِهِمَا حَيْضًا لاَ
يُجْعَل شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَيْضًا، وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّمَ إِذَا كَانَ فِي
طَرَفَيِ الْعَشَرَةِ وَكَانَ بِحَالٍ لَوْ جُمِعَتِ الدِّمَاءُ
الْمُتَفَرِّقَةُ تَبْلُغُ حَيْضًا لاَ يَصِيرُ الطُّهْرُ فَاصِلاً
بَيْنَ الدَّمَيْنِ، وَيَكُونُ كُلُّهُ حَيْضًا، وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ
لَوْ جُمِعَ لاَ يَبْلُغُ حَيْضًا يَصِيرُ فَاصِلاَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ
ثُمَّ يُنْظَرُ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَل أَحَدُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا
يُجْعَل ذَلِكَ حَيْضًا وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَل كُل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَل أَسْرَعُهُمَا حَيْضًا وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ
أَنْ يُجْعَل أَحَدُهُمَا حَيْضًا لاَ يُجْعَل شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
حَيْضًا، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الطُّهْرَ
الْمُتَخَلِّل بَيْنَ الدَّمَيْنِ إِذَا كَانَ أَقَل مِنْ ثَلاَثَةِ
أَيَّامٍ لاَ يَكُونُ فَاصِلاً بَيْنَ الدَّمَيْنِ وَكُلُّهُ
بِمَنْزِلَةِ الْمُتَوَالِي، وَإِذَا كَانَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ كَانَ
فَاصِلاً بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يُنْظَرُ إِنْ
(35/293)
أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَل أَحَدُ الدَّمَيْنِ
حَيْضًا جُعِل، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
حَيْضًا يُجْعَل أَسْرَعُهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَل
شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَيْضًا لاَ يُجْعَل حَيْضًا، وَاخْتَارَ مُحَمَّدٌ
لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ مَذْهَبًا فَقَال: الطُّهْرُ
الْمُتَخَلِّل بَيْنَ الدَّمَيْنِ إِذَا كَانَ أَقَل مِنْ ثَلاَثَةِ
أَيَّامٍ لاَ يُعْتَبَرُ فَاصِلاً وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ
الدَّمَيْنِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ الْمُتَوَالِي، وَإِذَا
كَانَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَهُوَ طُهْرٌ كَثِيرٌ
فَيُعْتَبَرُ، لَكِنْ يُنْظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ كَانَ الطُّهْرُ
مِثْل الدَّمَيْنِ أَوْ أَقَل مِنَ الدَّمَيْنِ فِي الْعَشَرَةِ لاَ
يَكُونُ فَاصِلاً وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الدَّمَيْنِ يَكُونُ
فَاصِلاً ثُمَّ يُنْظَرُ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَل أَحَدُهُمَا
حَيْضًا جُعِل وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
حَيْضًا يُجْعَل أَسْرَعُهُمَا حَيْضًا وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ
يُجْعَل أَحَدُهُمَا حَيْضًا لاَ يُجْعَل شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَيْضًا.
قَال فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَكَثِيرٌ مِنَ
الْمُتَأَخِّرِينَ أَفْتَوْا بِرِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ لأَِنَّهَا
أَسْهَل عَلَى الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي وَالأَْخْذُ بِهَا أَيْسَرُ
كَذَا فِي الْهِدَايَةِ وَعَلَيْهِ اسْتَقَرَّ رَأْيُ الصَّدْرِ
الشَّهِيدِ حُسَامِ الدِّينِ وَبِهِ يُفْتِي (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي مَسْأَلَةِ التَّقَطُّعِ هَذِهِ أَنَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 43، 44، والفتاوى الهندية 1 / 37، وفتح القدير 1
/ 120، 121.
(35/293)
الْمَرْأَةَ تُلَفِّقُ، أَيْ تَجْمَعُ
أَيَّامَ الدَّمِ فَقَطْ لاَ أَيَّامَ الطُّهْرِ، وَتَغْتَسِل وُجُوبًا
كُلَّمَا انْقَطَعَ الدَّمُ فِيهَا فِي أَيَّامِ التَّلْفِيقِ،
وَتَصُومُ إِنْ كَانَتْ قَبْل الْفَجْرِ طَاهِرًا، وَتُصَلِّي بَعْدَ
طُهْرِهَا، مَعَ تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ مُبْتَدَأَةٌ وَمُعْتَادَةٌ
وَحَامِلٌ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَ الاِنْقِطَاعُ قَبْل مُجَاوَزَةِ
الْخَمْسَةَ عَشَرَ قَوْلاَنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: قَوْل السَّحْبِ، وَهُوَ أَنَّ حُكْمَ الْحَيْضِ
يَنْسَحِبُ عَلَى أَيَّامِ النَّقَاءِ، فَتَحِيضُ فِيهَا جَمِيعًا،
لأَِنَّ زَمَانَ النِّقَاءِ نَاقِصٌ عَنْ أَقَل الطُّهْرِ فَيَكُونُ
حَيْضًا، كَسَاعَاتِ الْفَتْرَةِ بَيْنَ دُفَعَاتِ الدَّمِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: قَوْل اللَّقْطِ وَالتَّلْفِيقِ، وَهُوَ أَنْ
تَلْتَقِطَ أَيَّامَ النَّقَاءِ وَتُلَفِّقَ، وَيُحْكَمُ بِالطُّهْرِ
فِيهَا، وَحَيْضُهَا أَزْمِنَةَ الدَّمِ لاَ غَيْرُ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (2) أَيْ
يَنْقَطِعَ دَمُهُنَّ، وَقَدِ انْقَطَعَ فَيَجُوزُ الْقُرْبَانُ،
وَلأَِنَّهُ لاَ يُحْكَمُ فِي أَيَّامِ الدَّمِ حَقِيقَةً بِالطُّهْرِ
فَكَذَلِكَ لاَ يُحْكَمُ فِي أَيَّامِ النَّقَاءِ حَقِيقَةً
بِالْحَيْضِ تَوْفِيرًا لِحُكْمِ كُل وَاحِدَةٍ مِنَ الْحَالَتَيْنِ
عَلَيْهَا.
وَنَقَل النَّوَوِيُّ اخْتِلاَفَ الشَّافِعِيَّةِ فِي
__________
(1) الدسوقي 1 / 170 وما بعدها، وجواهر الإكليل 1 / 31، ومواهب الجليل
1 / 369، والزرقاني 1 / 135.
(2) سورة البقرة / 222.
(35/294)
الأَْصَحِّ مِنْهُمَا، ثُمَّ قَال:
وَالْحَاصِل أَنَّ الرَّاجِحَ عِنْدَنَا قَوْل السَّحْبِ (1) .
وَقَال الرَّمْلِيُّ: وَمَحَل الْقَوْلَيْنِ فِي الصَّلاَةِ
وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا، فَلاَ يُجْعَل النَّقَاءُ طُهْرًا فِي
انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إِجْمَاعًا، ثُمَّ قَال: وَشَرْطُ جَعْل
النَّقَاءِ بَيْنَ الدَّمِ حَيْضًا أَنْ لاَ يُجَاوِزَ خَمْسَةَ عَشَرَ
يَوْمًا وَلاَ يَنْقُصَ مَجْمُوعُ الدِّمَاءِ عَنْ أَقَل الْحَيْضِ،
وَأَنْ يَكُونَ النَّقَاءُ زَائِدًا عَلَى الْفَتَرَاتِ الْمُعْتَادَةِ
بَيْنَ دُفَعَاتِ الْحَيْضِ، فَإِنَّ تِلْكَ حَيْضٌ قَطْعًا (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي مَسْأَلَةِ تَقَطُّعِ الدَّمِ إِلَى أَنَّ
الْمَرْأَةَ تَغْتَسِل وَتُصَلِّي فِي زَمَنِ الطُّهْرِ حَتَّى وَلَوْ
كَانَ سَاعَةً، لِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لاَ
يَحِل لَهَا إِذَا رَأَتِ الطُّهْرَ سَاعَةً إِلاَّ أَنْ تَغْتَسِل.
وَقَال الرَّحِيبَانِيُّ: إِنَّ الطُّهْرَ فِي أَثْنَاءِ الْحَيْضَةِ
صَحِيحٌ تَغْتَسِل فِيهِ وَتُصَلِّي وَنَحْوَهُ أَيْ تَصُومُ وَتَطُوفُ
وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَلاَ يُكْرَهُ فِيهِ الْوَطْءُ، لأَِنَّهُ
طُهْرٌ حَقِيقَةً (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (تَلْفِيقٌ ف 4، 5) .
__________
(1) فتح العزيز شرح الوجيز بهامش المجموع 2 / 536 وما بعدها، والمجموع
شرح المهذب 2 / 502 وما بعدها.
(2) نهاية المحتاج 1 / 338.
(3) كشاف القناع 1 / 214 - 218، ومطالب أولي النهى 1 / 261.
(35/294)
لُقَطَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - اللُّقَطَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ لَقَطَ أَيْ أَخَذَ الشَّيْءَ
مِنَ الأَْرْضِ، وَكُل نُثَارَةٍ مِنْ سُنْبُلٍ أَوْ تَمْرٍ لَقْطٌ (1)
.
وَاللُّقَطَةُ شَرْعًا هِيَ الْمَال الضَّائِعُ مِنْ رَبِّهِ
يَلْتَقِطُهُ غَيْرُهُ، أَوِ الشَّيْءُ الَّذِي يَجِدُهُ الْمَرْءُ
مُلْقًى فَيَأْخُذُهُ أَمَانَةً (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - اللَّقِيطُ:
2 - سُمِّيَ لَقِيطًا وَمَلْقُوطًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُلْقَطُ،
وَمَنْبُوذًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُنْبَذُ، وَيُسَمَّى أَيْضًا
دَعِيًّا (3) ، وَشَرْعًا اللَّقِيطُ: اسْمُ الْمَوْلُودِ طَرَحَهُ
أَهْلُهُ خَوْفًا مِنَ الْعَيْلَةِ أَوْ فِرَارًا مِنْ تُهْمَةِ
الزِّنَا، أَوْ هُوَ طِفْلٌ نَبِيذٌ بِنَحْوِ شَارِعٍ لاَ يُعْرَفُ
لَهُ مُدَّعٍ (4) . قَال تَعَالَى: {فَالْتَقَطَهُ آل فِرْعَوْنَ
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط، ومعجم مقاييس اللغة.
(2) فتح القدير 6 / 118، ومغني المحتاج 2 / 406، وفتح الجواد 1 / 630،
والمغني والشرح الكبير 6 / 318.
(3) لسان العرب.
(4) التعريفات للجرجاني.
(35/295)
لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} (1)
وَاللُّقَطَةُ أَعَمُّ مِنَ اللَّقِيطِ.
ب - الْكَنْزُ:
3 - الْكَنْزُ هُوَ الْمَال الْمَدْفُونُ الَّذِي لاَ يُعْرَفُ
دَافِنُهُ (2) .
وَاللُّقَطَةُ وَالْكَنْزُ صَاحِبُهُمَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ.
حُكْمُ الاِلْتِقَاطِ
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الاِلْتِقَاطِ عَلَى مَا
يَأْتِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (3) إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ رَفْعُ اللُّقَطَةِ
مِنْ عَلَى الأَْرْضِ إِنْ أَمِنَ الْمُلْتَقِطُ عَلَى نَفْسِهِ
تَعْرِيفَهَا، وَإِلاَّ فَالتَّرْكُ أَوْلَى مِنَ الرَّفْعِ، وَإِنْ
أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ حَرُمَ، لأَِنَّهَا كَالْغَصْبِ فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ.
وَيُفْرَضُ عَلَيْهِ أَخْذُهَا إِذَا خَافَ مِنَ الضَّيَاعِ، لأَِنَّ
لِمَال الْمُسْلِمِ حُرْمَةً كَمَال نَفْسِهِ فَلَوْ تَرَكَهَا حَتَّى
ضَاعَتْ كَانَ آثِمًا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ
يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الْخِيَانَةَ كَانَ الاِلْتِقَاطُ حَرَامًا،
وَإِنْ كَانَ يَخَافُ أَنْ يَسْتَفِزَّهُ الشَّيْطَانُ وَلاَ
يَتَحَقَّقُ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ مَكْرُوهًا، وَإِنْ كَانَ
__________
(1) سورة القصص / 8.
(2) لسان العرب، والتعريفات للجرجاني.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 277، وشرح الكنز
للزيلعي 3 / 302، والمبسوط للسرخسي 11 / 2، وبدائع الصنائع 6 / 200.
(35/295)
يَثِقُ بِأَمَانَةِ نَفْسِهِ، فَإِمَّا
أَنْ يَكُونَ بَيْنَ نَاسٍ لاَ بَأْسَ بِهِمْ وَلاَ يَخَافُ عَلَيْهَا
الْخَوَنَةَ، وَإِمَّا أَنْ يَخَافَهُمْ فَإِنْ خَافَهُمْ وَجَبَ
عَلَيْهِ الاِلْتِقَاطُ، وَإِنْ لَمْ يَخَفْهُمْ فَلِمَالِكٍ ثَلاَثَةُ
أَقْوَالٍ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ:
الأَْوَّل: الاِسْتِحْبَابُ مُطْلَقًا.
الثَّانِي: الاِسْتِحْبَابُ فِيمَا لَهُ بَالٌ فَقَطْ.
الثَّالِثُ: الْكَرَاهَةُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ: إِذَا وَجَدَهَا بِمَضِيعَةِ وَأَمِنَ نَفْسَهُ
عَلَيْهَا فَالأَْفْضَل أَخْذُهَا، وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ
ذَلِكَ وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهُ يَجِبُ
أَخْذُهَا صِيَانَةً لِلْمَال عَنِ الضَّيَاعِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ} (2) . فَإِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ وَلِيًّا لِلْمُؤْمِنِ فَقَدْ
وَجَبَ عَلَيْهِ حِفْظُ مَالِهِ فَلاَ يَتْرُكُهُ عُرْضَةً
لِلضَّيَاعِ.
وَمِمَّنْ رَأَى أَخْذَهَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ بْنُ
صَالِحٍ وَأَخَذَهَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فِعْلاً (3) .
وَيَرَى أَحْمَدُ أَنَّ الأَْفْضَل تَرْكُ الاِلْتِقَاطِ وَرُوِيَ
مَعْنَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ
__________
(1) مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب 6 / 71، وبداية المجتهد لابن
رشد 2 / 336 - 337، وحاشية الدسوقي 4 / 120، والخرشي 7 / 123.
(2) سورة التوبة / 71.
(3) مغني المحتاج 2 / 406 - 407، ونهاية المحتاج 5 / 423، والمهذب 1 /
429.
(35/296)
وَبِهِ قَال جَابِرٌ وَابْنُ زَيْدٍ
وَالرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ وَعَطَاءٌ، وَحُجَّتُهُمْ: حَدِيثُ
الْجَارُودِ مَرْفُوعًا: ضَالَّةُ الْمُسْلِمِ حَرْقُ النَّارِ (1) .
وَلأَِنَّهُ تَعْوِيضٌ لِنَفْسِهِ لأَِكْل الْحَرَامِ وَتَضْيِيعِ
الْوَاجِبِ فِي تَعْرِيفِهَا وَأَدَاءِ الأَْمَانَةِ فِيهَا فَكَانَ
تَرْكُهُ أَوْلَى وَأَسْلَمَ (2) .
مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الاِلْتِقَاطُ
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الاِلْتِقَاطُ
وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اتِّجَاهَانِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الاِلْتِقَاطُ مِنْ أَيِّ
إِنْسَانٍ سَوَاءٌ كَانَ مُكَلَّفًا أَمْ غَيْرَ مُكَلَّفٍ، رَشِيدًا
أَمْ لاَ.
وَعَلَى ذَلِكَ يَصِحُّ الاِلْتِقَاطُ مِنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ
وَالْمَعْتُوهِ وَالسَّفِيهِ وَمِنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ،
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الْمَجْنُونَ فَلاَ يَصِحُّ الْتِقَاطُهُ
عِنْدَهُمْ وَكَذَلِكَ الْمَعْتُوهُ فِي قَوْلٍ، وَقَدِ اسْتَدَلُّوا
عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَلِي:
أ - عُمُومُ الأَْخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي اللُّقَطَةِ، فَلَمْ
تُفَرِّقْ بَيْنَ مُلْتَقِطٍ وَآخَرَ.
__________
(1) حديث الجارود: " ضالة المسلم حرق النار ". أخرجه النسائي في السنن
الكبرى (3 / 418) وصحح إسناده ابن حجر في الفتح (5 / 92) .
(2) المغني لابن قدامة 5 / 693، والمقنع 2 / 295، ومنتهى الإرادات 1 /
554.
(35/296)
ب - أَنَّ الاِلْتِقَاطَ تَكَسُّبٌ فَصَحَّ
مِنْ هَؤُلاَءِ كَالاِصْطِيَادِ وَالاِحْتِشَاشِ (1) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي:
ذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ هُوَ كُل حُرٍّ مُسْلِمٍ،
بَالِغٍ، وَعَلَى ذَلِكَ لاَ يَصِحُّ الاِلْتِقَاطُ عِنْدَهُ مِنَ
الْعَبْدِ وَلاَ مِنَ الذِّمِّيِّ وَلاَ مِنَ الصَّبِيِّ، وَوَافَقَهُ
بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي عَدَمِ جَوَازِ الاِلْتِقَاطِ مِنَ
الذِّمِّيِّ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَأْتِي:
أ - أَنَّ اللُّقَطَةَ وِلاَيَةٌ وَلاَ وِلاَيَةَ لِلْعَبْدِ
وَالذِّمِّيِّ وَالصَّغِيرِ.
ب - أَنَّ اللُّقَطَةَ أَمَانَةٌ وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ أَهْلاً
لِلأَْمَانَاتِ.
وَإِنْ تَلِفَتِ اللُّقَطَةُ فِي يَدِ مَنْ يَجُوزُ لَهُ الاِلْتِقَاطُ
مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ، لأَِنَّهُ
أَخَذَ مَا لَهُ الْحَقُّ فِي أَخْذِهِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ التَّلَفُ بِتَفْرِيطِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا مِنْ
مَالِهِ هُوَ (2) .
وَإِذَا عَلِمَ الْوَلِيُّ بِالْتِقَاطِ مَنْ عَلَيْهِ الْوِلاَيَةُ
وَجَبَ عَلَيْهِ أَخْذُهَا مِنْهُ، لأَِنَّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ
لَيْسَ مِنْ أَهْل الْحِفْظِ وَالأَْمَانَةِ، فَإِنْ تَرَكَهَا
الْوَلِيُّ فِي
__________
(1) ابن عابدين 3 / 319، ومغني المحتاج 2 / 426، والمهذب 1 / 433،
والمغني 5 / 731 - 732، والمقنع 2 / 301، ومنتهى الإرادات 1 / 558.
(2) المراجع السابقة وبداية المجتهد لابن رشد 2 / 333.
(35/297)
يَدِهِ كَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا،
لأَِنَّهُ يَلْزَمُهُ حِفْظُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الصَّبِيِّ،
وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّهُ، فَإِذَا تَرَكَهَا فِي يَدِهِ كَانَ
مُضَيِّعًا لَهَا فَوَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا، وَإِذَا أَخَذَهَا
الْوَلِيُّ عَرَّفَهَا هُوَ، لأَِنَّ وَاجِدَهَا لَيْسَ مِنْ أَهْل
التَّعْرِيفِ، فَإِذَا عَرَّفَهَا خِلاَل مُدَّةِ التَّعْرِيفِ
دَخَلَتْ فِي مِلْكِ وَاجِدِهَا وَلَيْسَ فِي مِلْكِ الْوَلِيِّ
لأَِنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ تَمَّ شَرْطُهُ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ.
الإِْشْهَادُ عَلَى اللُّقَطَةِ
6 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ الإِْشْهَادُ عَلَى
اللُّقَطَةِ حِينَ يَجِدُهَا، لأَِنَّ فِي الإِْشْهَادِ صِيَانَةً
لِنَفْسِهِ عَنِ الطَّمَعِ فِيهَا وَكَتْمِهَا وَحِفْظِهَا مِنْ
وَرَثَتِهِ إِنْ مَاتَ، وَمِنْ غُرَمَائِهِ إِنْ أَفْلَسَ، وَيُشْهِدُ
عَلَيْهَا سَوَاءٌ أَكَانَ الاِلْتِقَاطُ لِلتَّمَلُّكِ أَمْ
لِلْحِفْظِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِل الْمَذْهَبِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الإِْشْهَادِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَا
عَدْلٍ أَوْ ذَوِي عَدْلٍ وَلاَ يَكْتُمْ وَلاَ يُغَيِّبْ (1) ،
وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا تَحَقَّقَ أَوْ
ظَنَّ ادِّعَاءَ مِلْكِيَّتِهَا.
وَيَكُونُ الإِْشْهَادُ بِقَوْلِهِ عَلَى مَسْمَعٍ مِنَ
__________
(1) حديث: " من وجد لقطة فليشهد. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 335) من
حديث عياض بن حمار وإسناده صحيح.
(35/297)
النَّاسِ: إِنِّي أَلْتَقِطُ لُقَطَةً،
أَوْ عِنْدِي لُقَطَةٌ، فَأَيُّ النَّاسِ أَنْشَدَهَا فَدُلُّوهُ
عَلَيَّ، فَإِذَا أَشْهَدَ عَلَيْهَا ثُمَّ هَلَكَتْ فَالْقَوْل قَوْل
الْمُلْتَقِطِ وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ.
وَيَذْكُرُ فِي الإِْشْهَادِ بَعْضَ صِفَاتِ اللُّقَطَةِ لِيَكُونَ فِي
الإِْشْهَادِ فَائِدَةٌ وَلاَ يَسْتَوْعِبُ صِفَاتِهَا لِئَلاَّ
يَنْتَشِرَ ذَلِكَ فَيَدَّعِيهَا مَنْ لاَ يَسْتَحِقُّهَا مِمَّنْ
يَذْكُرُ صِفَاتِهَا الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُلْتَقِطُ، وَلَكِنْ
يَذْكُرُ لِلشُّهُودِ مَا يَذْكُرُهُ فِي التَّعْرِيفِ مِنَ الْجِنْسِ
وَالنَّوْعِ، أَوْ عِفَاصِهَا أَوْ وِكَائِهَا (1) .
تَعْرِيفُ اللُّقَطَةِ
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
الْمُعْتَمَدِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى
الْمُلْتَقِطِ تَعْرِيفُ اللُّقَطَةِ سَوَاءٌ أَرَادَ تَمَلُّكَهَا
أَوْ حِفْظَهَا لِصَاحِبِهَا لِمَا وَرَدَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ
قَال: أَصَبْتُ صُرَّةً فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ، فَأَتَيْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَال: عَرِّفْهَا
حَوْلاً فَعَرَّفْتُهَا حَوْلاً فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، ثُمَّ
أَتَيْتُهُ فَقَال: عَرِّفْهَا حَوْلاً فَعَرَّفْتُهَا فَلَمْ أَجِدْ،
ثُمَّ أَتَيْتُهُ ثَلاَثًا فَقَال: احْفَظْ وِعَاءَهَا وَعَدَدَهَا
وَوِكَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلاَّ فَاسْتَمْتِعْ بِهَا
(2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 319، وحاشية الدسوقي 4 / 126، ومغني المحتاج
2 / 407، والمغني والشرح الكبير 6 / 335.
(2) حديث أبي بن كعب: " أصبت صرة فيها مائة دينار. . . ". أخرجه
البخاري (فتح الباري 5 / 78) ومسلم (3 / 1350) واللفظ للبخاري.
(35/298)
وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ أَرَادَ
حِفْظَهَا وَمَنْ أَرَادَ تَمَلُّكَهَا، وَلأَِنَّ حِفْظَهَا
لِصَاحِبِهَا إِنَّمَا يُقَيِّدُ بِاتِّصَالِهَا إِلَيْهِ وَطَرِيقَةِ
التَّعْرِيفِ، أَمَّا بَقَاؤُهَا فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ مِنْ غَيْرِ
وُصُولِهَا إِلَى صَاحِبِهَا وَهَلاَكِهَا سِيَّانِ، وَلأَِنَّ
إِمْسَاكَهَا مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ تَضْيِيعٌ لَهَا عَنْ صَاحِبِهَا
فَلَمْ يَجُزْ، وَلأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبِ التَّعْرِيفُ لَمَا جَازَ
الاِلْتِقَاطُ، لأَِنَّ بَقَاءَهَا فِي مَكَانِهَا إِذًا أَقْرَبُ
إِلَى وُصُولِهَا إِلَى صَاحِبِهَا، إِمَّا بِأَنْ يَطْلُبَهَا فِي
الْمَوْضِعِ الَّذِي ضَاعَتْ فِيهِ فَيَجِدُهَا، وَإِمَّا بِأَنْ
يَجِدَهَا مَنْ يَعْرِفُهَا، وَأَخْذُهَا يُفَوِّتُ الأَْمْرَيْنِ
فَيَحْرُمُ، فَلَمَّا جَازَ الاِلْتِقَاطُ وَجَبَ التَّعْرِيفُ كَيْ
لاَ يَحْصُل هَذَا الضَّرَرُ، وَلأَِنَّ التَّعْرِيفَ وَاجِبٌ عَلَى
مَنْ أَرَادَ تَمَلُّكَهُ، فَكَذَلِكَ عَلَى مَنْ أَرَادَ حِفْظَهَا.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَتَوَلَّى
التَّعْرِيفَ أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً ثِقَةً وَلاَ تُشْتَرَطُ فِيهِ
الْعَدَالَةُ إِذَا كَانَ مَوْثُوقًا بِقَوْلِهِ، كَمَا يُشْتَرَطُ
أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَشْهُورٍ بِالْخَلاَعَةِ وَالْمُجُونِ وَهُوَ
عَدَمُ الْمُبَالاَةِ بِمَا يَصْنَعُ (1) .
مُدَّةُ التَّعْرِيفِ:
8 - يَرَى مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ أَنَّ اللُّقَطَةَ
تُعَرَّفُ سَنَةً مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْقَلِيل
__________
(1) فتح القدير 6 / 120، والدسوقي 4 / 120، والمدونة 6 / 173، والأم 4
/ 66، والمغني والشرح الكبير 6 / 319، 320، وفتح الباري 5 / 78، 92،
ومغني المحتاج 2 / 412 - 413.
(35/298)
وَالْكَثِيرِ، وَهَذَا رَأْيُ مُحَمَّدِ
بْنِ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا، لأَِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ
الْجُهَنِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُعَرِّفَ اللُّقَطَةَ سَنَةً
مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ، وَلأَِنَّ
السُّنَّةَ لاَ تَتَأَخَّرُ عَنْهَا الْقَوَافِل، وَيَمْضِي فِيهَا
الزَّمَانُ الَّذِي تُقْصَدُ فِيهِ الْبِلاَدُ مِنَ الْحَرِّ
وَالْبَرْدِ وَالاِعْتِدَال فَصَلَحَتْ قَدْرًا.
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَبَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ التَّفْرِيقَ بَيْنَ
الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ فَإِنْ كَانَتْ أَقَل مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ
عَرَّفَهَا أَيَّامًا عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى أَنَّهَا كَافِيَةٌ
لِلإِْعْلاَمِ، وَأَنَّ صَاحِبَهَا لاَ يَطْلُبُهَا بَعْدَ هَذِهِ
الْمُدَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ عَشَرَةً فَصَاعِدًا عَرَّفَهَا حَوْلاً،
لأَِنَّ التَّقْدِيرَ بِالْحَوْل وَرَدَ فِي لُقَطَةٍ كَانَتْ مِائَةَ
دِينَارٍ تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ (1) .
لِمَا وَرَدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَال:
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَال: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا
ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلاَّ فَشَأْنُكَ
بِهَا قَال: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَال: هِيَ لَكَ أَوْ لأَِخِيكَ
أَوْ لِلذِّئْبِ قَال: فَضَالَّةُ الإِْبِل؟ قَال: مَا لَكَ وَلَهَا،
مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُل الشَّجَرَ
حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا (2) .
__________
(1) فتح القدير 6 / 122، والمدونة 6 / 173، ومغني المحتاج 2 / 413،
والمغني والشرح الكبير 6 / 320 - 325.
(2) حديث زيد بن خالد الجهني: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فسأله عن اللقطة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 46) مسلم (3 /
1346 - 1348) .
(35/299)
زَمَانُ التَّعْرِيفِ وَمَكَانُهُ:
9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ يُعَرِّفُ
اللُّقَطَةَ خِلاَل مُدَّةِ التَّعْرِيفِ، فِي النَّهَارِ دُونَ
اللَّيْل لأَِنَّ النَّهَارَ مَجْمَعُ النَّاسِ وَمُلْتَقَاهُمْ دُونَ
اللَّيْل، وَيَكُونُ التَّعْرِيفُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي وَجَدَهَا
فِيهِ وَلأُِسْبُوعٍ بَعْدَهُ، لأَِنَّ الطَّلَبَ فِيهِ أَكْثَرُ
فَيُعَرِّفُهَا فِي كُل يَوْمٍ.
وَيُعَرِّفُهَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي وَجَدَهَا فِيهِ، لأَِنَّ
ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى الْوُصُول إِلَى صَاحِبِهَا، لأَِنَّهُ
يَطْلُبُهَا غَالِبًا حَيْثُ افْتَقَدَهَا، كَمَا تُعَرَّفُ أَيْضًا
عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي
يَجْتَمِعُونَ فِيهِ كَأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ، وَلاَ يَنْشُدُهَا
دَاخِل الْمَسْجِدِ، لأَِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا،
وَلِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ (1) ، كَمَا يُعَرِّفُهَا أَيْضًا
فِي الأَْسْوَاقِ وَالْمَجَامِعِ وَالْمَحَافِل وَمَحَال الرِّحَال
وَمُنَاخِ الأَْسْفَارِ، وَإِنِ الْتَقَطَ فِي الصَّحْرَاءِ وَهُنَاكَ
قَافِلَةٌ تَبِعَهَا وَعَرَّفَ فِيهَا (2) .
مَرَّاتُ التَّعْرِيفِ وَمُؤْنَتُهُ:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ
__________
(1) حديث النهي عن إنشاد الضالة في المسجد. أخرجه مسلم (1 / 397) من
حديث أبي هريرة.
(2) ابن عابدين 3 / 319 - 320، وبدائع الصنائع 6 / 202، ومغني المحتاج
2 / 413، وروضة الطالبين 5 / 409، والمغني 6 / 321، 322، والمدونة 6 /
174، ومواهب الجليل 6 / 73.
(35/299)
عَلَى الْمُلْتَقِطِ أَنْ يَسْتَغْرِقَ
جَمِيعَ الْحَوْل بِالتَّعْرِيفِ كُل يَوْمٍ، بَل يُعَرِّفُ فِي أَوَّل
السَّنَةِ كُل يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَرَّةً كُل أُسْبُوعٍ، ثُمَّ
مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فِي كُل شَهْرٍ، وَإِنَّمَا جُعِل
التَّعْرِيفُ فِي أَوَّل السَّنَةِ أَكْثَرَ، لأَِنَّ طَلَبَ
الْمَالِكِ فِيهَا أَكْثَرُ، وَكُلَّمَا طَالَتِ الْمُدَّةُ عَلَى
فَقْدِ اللُّقَطَةِ قَل طَلَبُ الْمَالِكِ لَهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ
إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَخَذَهَا لِيَحْفَظَهَا لِمَالِكِهَا لاَ
تَلْزَمُهُ مُؤْنَةُ التَّعْرِيفِ إِنْ كَانَتْ لَهَا مُؤْنَةٌ بَل
يُرَتِّبُهَا الْقَاضِي مِنْ بَيْتِ الْمَال أَوْ يَقْتَرِضُ عَلَى
الْمَالِكِ، وَإِنْ أَخَذَهَا لِلتَّمَلُّكِ لَزِمَهُ مُؤْنَةُ
التَّعْرِيفِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ لَوِ اسْتَنَابَ
غَيْرَهُ لَتَعْرِيفِهَا فَالأَْجْرُ مِنَ اللُّقَطَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَتَوَلَّى
التَّعْرِيفَ بِنَفْسِهِ وَلَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ غَيْرَهُ،
فَإِنْ وَجَدَ مُتَبَرِّعًا بِذَلِكَ، وَإِلاَّ إِنِ احْتَاجَ إِلَى
أَجْرٍ فَهُوَ عَلَى الْمُلْتَقِطِ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ وَإِنْ أَرَادَ سَفَرًا اسْتَنَابَ مِنْ يَحْفَظُ
اللُّقَطَةَ وَيُعَرِّفُهَا بِإِذْنِ الْحَاكِمِ وَلاَ يُسَافِرُ
بِهَا، أَمَّا إِذَا الْتَقَطَ اثْنَانِ لُقَطَةً عَرَّفَهَا كُل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ سَنَةٍ، أَوْ عَرَّفَهَا أَحَدُهُمَا سَنَةً
كَامِلَةً نِيَابَةً عَنِ الآْخَرِ، وَيُعَرِّفُهَا كُلَّهَا لاَ
نِصْفَهَا لِيَكُونَ لِلتَّعْرِيفِ فَائِدَةٌ. وَإِنْ أَرَادَ
التَّخَلُّصَ مِنْ تَعَبِ التَّعْرِيفِ
(35/300)
دَفَعَهَا إِلَى حَاكِمٍ أَمِينٍ، أَوْ
إِلَى الْقَاضِي، وَيَلْزَمُهُمَا الْقَبُول حِفْظًا لَهَا عَلَى
صَاحِبِهَا (1) .
كَيْفِيَّةُ التَّعْرِيفِ
11 - يَجِبُ أَنْ يَذْكُرَ مَنْ يَتَوَلَّى التَّعْرِيفَ جِنْسَ
اللُّقَطَةِ وَنَوْعَهَا وَمَكَانَ وُجُودِهَا وَتَارِيخَ
الْتِقَاطِهَا، وَلاَ سِيَّمَا إِذَا تَأَخَّرَ فِي التَّعْرِيفِ،
كَمَا لَهُ أَنْ يَذْكُرَ عِفَاصَهَا أَوْ وِكَاءَهَا، لأَِنَّ فِي
ذِكْرِ الْجِنْسِ أَوِ النَّوْعِ أَوِ الْعِفَاصِ أَوِ الْوِكَاءِ مَا
يُؤَدِّي إِلَى انْتِشَارِ ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ فَيُؤَدِّي إِلَى
الظَّفَرِ بِالْمَالِكِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُعَرِّفِ أَنْ لاَ
يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ أَوْصَافِ اللُّقَطَةِ حَتَّى لاَ يَعْتَمِدَهَا
كَاذِبٌ فَيُفَوِّتُهَا عَلَى مَالِكِهَا (2) .
تَضْمِينُ الْمُلْتَقِطِ
12 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ إِذَا أَشْهَدَ
عَلَى اللُّقَطَةِ فَيَدُهُ عَلَيْهَا أَثَنَاءَ الْحَوْل يَدُ
أَمَانَةٍ، إِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا أَخَذَهَا بِزِيَادَتِهَا
الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ، لأَِنَّهَا نَمَاءُ مِلْكِهِ،
وَإِنْ تَلِفَتْ عِنْدَ الْمُلْتَقِطِ أَثْنَاءَ الْحَوْل بِغَيْرِ
تَفْرِيطِهِ أَوْ نَقَصَتْ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ كَالْوَدِيعَةِ،
وَإِنْ أَقَرَّ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ يَضْمَنُ
لأَِنَّهُ أَخَذَ مَال غَيْرِهِ
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 302، 303، البناية شرح الهداية 6 / 20، 23،
وحاشية الدسوقي 4 / 120، ومغني المحتاج 2 / 412 - 414، والمغني والشرح
الكبير 6 / 322.
(2) فتح القدير 6 / 122، 123، وبدائع الصنائع 6 / 202، ومغني المحتاج 2
/ 413، 414، وروضة الطالبين 5 / 408، والمغني والشرح الكبير 6 / 323.
(35/300)
بِدُونِ إِذْنِهِ وَبِدُونِ إِذْنِ
الشِّرْعِ.
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ أَنَّهُ إِذَا أَخَذَ اللُّقَطَةَ
وَلَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهَا وَقَال أَخَذْتُهَا لِلْحِفْظِ وَكَذَّبَهُ
الْمَالِكُ يَضْمَنُ، وَعِنْدَ الْبَقِيَّةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ لاَ
يَضْمَنُ، وَالْقَوْل قَوْل الْمُلْتَقِطِ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنَّمَا
قِيل بِعَدِمِ الضَّمَانِ لأَِنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ
لاِخْتِيَارِهِ الْحِسْبَةَ دُونَ الْمَعْصِيَةِ، لأَِنَّ فِعْل
الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَحِل لَهُ شَرْعًا، وَالَّذِي يَحِل
لَهُ هُوَ الأَْخَذُ لِلرِّدِّ لاَ لِنَفْسِهِ، فَيُحْمَل مُطْلَقُ
فِعْلِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الدَّلِيل الشَّرْعِيُّ قَائِمٌ.
مَقَامَ الإِْشْهَادِ مِنْهُ، وَأَمَّا أَنَّ الْقَوْل قَوْلُهُ
فَلأَِنَّ صَاحِبَهَا يَدِّعِي عَلَيْهِ سَبَبَ الضَّمَانِ وَوُجُوبَ
الْقِيمَةِ فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ مُنْكَرٌ لِذَلِكَ، وَالْقَوْل قَوْل
الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ، كَمَا لَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ الْغَصْبَ.
وَوَجْهُ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ
أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَهُوَ أَخَذُ مَال الْغَيْرِ، وَادَّعَى
مَا يُبَرِّئُهُ وَهُوَ الأَْخَذُ لِلْمَالِكِ، وَفِيهِ وَقَعَ
الشَّكُّ فَلاَ يَبْرَأُ.
وَإِنْ أَتْلَفَهَا الْمُلْتَقِطُ أَوْ تَلِفَتْ عِنْدَهُ
بِتَفْرِيطِهِ ضَمِنَهَا بِمِثْلِهَا إِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ
الأَْمْثَال وَبِقِيمَتِهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِثْلٌ، وَإِنْ
تَلِفَتْ بَعْدَ الْحَوْل ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ مِثْلُهَا أَوْ
قِيمَتُهَا بِكُل حَالٍ، لأَِنَّهَا دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ وَتَلِفَتْ
مِنْ مَالِهِ سَوَاءٌ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ،
وَإِنْ جَاءَ
(35/301)
صَاحِبُهَا بَعْدَ الْحَوْل وَوَجَدَ
الْعَيْنَ نَاقِصَةً أَخَذَ الْعَيْنَ وَأَرْشَ نَقْصِهَا، لأَِنَّ
جَمِيعَهَا مَضْمُونٌ إِذَا تَلِفَتْ فَكَذَلِكَ إِذَا نَقَصَتْ،
لِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ السَّابِقَيْنِ،
وَإِنْ وَجَدَ الْعَيْنَ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ مِلْكِ الْمُلْتَقِطِ
بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا، وَلَهُ
أَخْذُ بَدَلِهَا لأَِنَّ تَصَرُّفَ الْمُلْتَقِطِ وَقَعَ صَحِيحًا
لِكَوْنِهَا صَارَتْ فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ وَجَدَهَا رَجَعَتْ إِلَى
الْمُلْتَقِطِ بِفَسْخٍ أَوْ شِرَاءٍ فَلَهُ أَخْذُهَا لأَِنَّهُ
وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فِي يَدِ مُلْتَقِطِهِ فَكَانَ لَهُ أَخْذُهُ،
وَقِيمَةُ اللُّقَطَةِ تُعْتَبَرُ يَوْمَ التَّمَلُّكِ، لأَِنَّهُ
يَوْمُ دُخُول الْعَيْنِ فِي ضَمَانِهِ (1) .
رِدُّ اللُّقَطَةِ إِلَى مَوْضِعِهَا
13 - يَرَى أَبُو حَنِيفَةَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَمَالِكٌ أَنَّ
الْمُلْتَقِطَ إِذَا أَخَذَ اللُّقَطَةَ ثُمَّ رَدَّهَا إِلَى
مَكَانِهَا الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ،
لأَِنَّهُ أَخَذَهَا مُحْتَسِبًا مُتَبَرِّعًا لِيَحْفَظَهَا عَلَى
صَاحِبِهَا، فَإِذَا رَدَّهَا إِلَى مَكَانِهَا فَقَدْ فَسَخَ
التَّبَرُّعَ مِنَ الأَْصْل، فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهَا
أَصْلاً، وَهَذَا الْحُكْمُ إِذَا أَخَذَهَا لِيَحْفَظَهَا
لِصَاحِبِهَا وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالإِْشْهَادِ عَلَيْهَا حِينَ
الاِلْتِقَاطِ، أَمَّا إِذَا أَخَذَهَا لِيَتَمَلَّكَهَا فَإِنَّهُ
يَضْمَنُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
__________
(1) فتح القدير 6 / 118 - 120، والمدونة 6 / 178، وبدائع الصنائع 6 /
3866 - 3868، ومغني المحتاج 2 / 416، وروضة الطالبين 5 / 415، والمغني
والشرح الكبير 6 / 339 - 343.
(35/301)
لاَ يَضْمَنُ سَوَاءٌ أَشْهَدَ أَمْ لاَ،
وَيَكُونُ الْقَوْل قَوْل الْمُلْتَقِطِ مَعَ يَمِينِهِ. وَيَرَى
أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ إِذَا رَدَّ اللُّقَطَةَ
بَعْدَ أَخْذِهَا فَضَاعَتْ أَوْ هَلَكَتْ ضَمِنَهَا، لأَِنَّهَا
أَمَانَةٌ حَصَلَتْ فِي يَدِهِ فَلَزِمَهُ حِفْظُهَا فَإِذَا
ضَيَّعَهَا لَزِمَهُ ضَمَانُهَا كَمَا لَوْ ضَيَّعَ الْوَدِيعَةَ،
أَمَّا إِذَا ضَاعَتِ اللُّقَطَةُ مِنْ مُلْتَقِطِهَا بِغَيْرِ
تَفْرِيطٍ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ،
فَإِنْ ضَاعَتْ مِنَ الأَْوَّل فَالْتَقَطَهَا آخِرُ فَعَرَفَ أَنَّهَا
ضَاعَتْ مِنَ الأَْوَّل فَعَلَيْهِ رَدُّهَا إِلَيْهِ، لأَِنَّهُ قَدْ
ثَبَتَ لَهُ حَقُّ التَّمَوُّل، وَوِلاَيَةُ التَّعْرِيفِ وَالْحِفْظِ،
فَلاَ يَزُول ذَلِكَ بِالضَّيَاعِ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ الثَّانِي
مِمَّنْ ضَاعَتْ حَتَّى عَرَّفَهَا حَوْلاً مَلَكَهَا لأَِنَّ سَبَبَ
الْمِلْكِ وُجِدَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ عُدْوَانٍ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ
بِهِ، وَلاَ يَمْلِكُ الأَْوَّل انْتِزَاعَهَا مِنْهُ، لأَِنَّ
الْمِلْكَ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ التَّمَلُّكِ، وَإِذَا جَاءَ
صَاحِبُهَا فَلَهُ أَخْذُهَا مِنَ الثَّانِي وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ
الأَْوَّل لأَِنَّهُ لَمْ يُفَرِّطْ فِي الْحِفْظِ (1) .
تَمَلُّكُ اللُّقَطَةِ
14 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ
جِوَازَ تَمَلُّكِ الْمُلْتَقِطِ اللُّقَطَةَ إِذَا عَرَّفَهَا
لِلتَّمَلُّكِ سَنَةً أَوْ دُونَهَا وَلَمْ تُعْرَفْ، وَصَارَتْ مِنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 3867 - 3868، والمدونة الكبرى 6 / 178، والمغني
والشرح الكبير 6 / 341 - 343.
(35/302)
مَالِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ غَنِيًّا أَمْ
فَقِيرًا وَتَدْخُل فِي مِلْكِهِ عِنْدَ تَمَامِ التَّعْرِيفِ، كَمَا
أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَرَى أَنَّ اللُّقَطَةَ لاَ تَدْخُل مِلْكَ
الْمُلْتَقِطِ حَتَّى يَخْتَارَ التَّمَلُّكَ بِلَفْظٍ يَدُل عَلَى
الْمِلْكِ كَتَمَلَّكْتُ مَا الْتَقَطْتُهُ، أَمَّا الأَْخْرَسُ
فَتَكْفِي إِشَارَتُهُ الْمُفْهِمَةُ كَسَائِرِ عُقُودِهِ.
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَمَلُّكُ اللُّقَطَةِ
وَالاِنْتِفَاعُ بِهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمُلْتَقِطُ فَقِيرًا،
لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَحْقِيقِ النَّظَرِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ،
نَظَرُ الثَّوَابِ لِلْمَالِكِ، وَنَظَرُ الاِنْتِفَاعِ
لِلْمُلْتَقِطِ، وَلِهَذَا جَازَ الدَّفْعُ إِلَى فَقِيرٍ غَيْرِهِ،
كَمَا يَجُوزُ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى أَبِيهِ أَوِ
ابْنِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ وَإِنْ كَانَ هُوَ
غَنِيًّا.
وَوَلَدُ اللُّقَطَةِ كَاللُّقَطَةِ إِنْ كَانَتْ حَامِلاً عِنْدَ
الْتِقَاطِهَا وَانْفَصَل مِنْهَا قَبْل تَمَلُّكِهَا، وَإِلاَّ
مَلَكَهُ تَبَعًا لأُِمِّهِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ
الْهَاشِمِيِّ وَغَيْرِهِ، وَلاَ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فِي
جِوَازِ تَمَلُّكِ اللُّقَطَةِ، أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيَرَى
أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَمَلُّكُ اللُّقَطَةِ لِمَنْ لاَ تَحِل لَهُ
الصَّدَقَةُ كَالْغَنِيِّ.
وَإِذَا الْتَقَطَهَا اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ مَلَكَاهَا جَمِيعًا،
وَإِنْ رَآهَا أَحَدُهُمَا وَأَخَذَهَا الآْخَرُ مَلَكَهَا الآْخِذُ
دُونَ مَنْ رَآهَا، لأَِنَّ اسْتِحْقَاقَ اللُّقَطَةِ بِالأَْخَذِ
(35/302)
لاَ بِالرُّؤْيَةِ كَالاِصْطِيَادِ (1) .
وَاللُّقَطَةُ تُمْلَكُ مِلْكًا مُرَاعًى يَزُول بِمَجِيءِ صَاحِبِهَا،
وَيَضْمَنُ لَهُ بَدَلَهَا إِنْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا، وَالظَّاهِرُ
أَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ،
وَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ وُجُوبُ الْعِوَضِ بِمَجِيءِ صَاحِبِهَا.
وَاسْتَدَل مَنْ ذَهَبَ إِلَى جِوَازِ تَمَلُّكِ اللُّقَطَةِ بَعْدَ
حَوْل التَّعْرِيفِ، بِالْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً
فَلْيُشْهِدْ ذَا عَدْلٍ أَوْ ذَوِي عَدْلٍ وَلاَ يَكْتُمْ وَلاَ
يُغَيِّبْ، فَإِنْ وَجَدَ صَاحِبَهَا فَلْيَرُدَّهَا عَلَيْهِ،
وَإِلاَّ فَهُوَ مَال اللَّهِ عَزَّ وَجَل يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ (2)
.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ جِوَازِ التَّمَلُّكِ الْحَالاَتِ
الآْتِيَةَ:
أ - اللُّقَطَةُ الَّتِي دَفَعَهَا لِلْحَاكِمِ وَتَرَكَ التَّعْرِيفَ
وَالتَّمَلُّكَ ثُمَّ نَدِمَ وَأَرَادَ أَنْ يُعَرِّفَ وَيَتَمَلَّكَ
فَإِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ لأَِنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ.
ب - أَخْذُ اللُّقَطَةِ لِلْخِيَانَةِ.
ج - لُقَطَةُ الْحَرَمِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِذَا مَاتَ الْمُلْتَقِطُ وَاللُّقَطَةُ
مَوْجُودَةٌ عِنْدَهُ بِعَيْنِهَا قَامَ مُوَرَّثُهُ مَقَامَهُ
بِإِتْمَامِ تَعْرِيفِهَا إِنْ مَاتَ قَبْل الْحَوْل، وَيَمْلِكُهَا
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 307، وحاشية الدسوقي 4 / 121، ومغني المحتاج 2 /
415، والمغني والشرح الكبير 6 / 326 - 330.
(2) حديث: " من وجد لقطة فليشهد. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 335) من
حديث عياض بن حمار.
(35/303)
بَعْدَ إِتْمَامِ التَّعْرِيفِ، فَإِنْ
مَاتَ بَعْدَ الْحَوْل وَرِثَهَا الْوَارِثُ كَسَائِرِ أَمْوَال
الْمَيِّتِ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا أَخَذَهَا مِنَ الْوَارِثِ كَمَا
يَأْخُذُهَا مِنَ الْمُوَرِّثِ، فَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةَ الْعَيْنِ
فَصَاحِبُهَا غَرِيمٌ لِلْمَيِّتِ بِمِثْلِهَا إِنْ كَانَتْ مِنْ
ذَوَاتِ الأَْمْثَال، أَوْ بِقِيمَتِهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ،
فَيَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ تَرِكَتِهِ إِنِ اتَّسَعَتْ لِذَلِكَ، فَإِنْ
ضَاقَتِ التَّرِكَةُ زَاحَمَ الْغُرَمَاءَ بِبَدَلِهَا، سَوَاءٌ
تَلِفَتْ بَعْدَ الْحَوْل بِفِعْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ،
لأَِنَّهَا دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ بِمُضِيِّ الْحَوْل، وَإِنْ عَلِمَ
أَنَّهَا تَلِفَتْ قَبْل الْحَوْل بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ فَلاَ ضَمَانَ
عَلَيْهِ، وَلاَ شَيْءَ لِصَاحِبِهَا لأَِنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ
تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ فَلَمْ يَضْمَنْهَا كَالْوَدِيعَةِ،
وَكَذَلِكَ إِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ الْحَوْل قِيل يَمْلِكُهَا مِنْ
غَيْرِ تَفْرِيطٍ عَلَى رَأْيِ مَنْ رَأَى أَنَّهَا لاَ تَدْخُل فِي
مِلْكِهِ حَتَّى يَتَمَلَّكَهَا وَذَلِكَ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ (1) .
الاِتِّجَارُ فِي اللُّقَطَةِ
15 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ يَدَ الْمُلْتَقِطِ عَلَى
اللُّقَطَةِ يَدُ أَمَانَةٍ وَحِفْظٍ خِلاَل الْحَوْل، وَلِذَلِكَ لاَ
يَجُوزُ لَهُ الاِتِّجَارُ فِيهَا خِلاَل هَذِهِ الْمُدَّةِ، لأَِنَّ
فِي ذَلِكَ تَعْرِيضًا لِلْهَلاَكِ أَوِ الضَّيَاعِ أَوِ النَّقْصِ
بِفِعْلٍ مِنَ الْمُلْتَقِطِ عَنْ قَصْدٍ، إِذِ التِّجَارَةُ تَحْتَمِل
الرِّبْحَ وَالْخَسَارَةَ، وَالْمُلْتَقِطُ مَمْنُوعٌ مِنْ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 415 - 417 والمغني والشرح الكبير 6 / 349.
(35/303)
تَعْرِيضِ مَا الْتَقَطَهُ لِلْهَلاَكِ
أَوِ الضَّيَاعِ أَوِ النُّقْصَانِ، وَإِذَا اتَّجَرَ فِيهَا خِلاَل
الْحَوْل فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا، أَوْ ضَامِنٌ لأَِرْشِ نَقْصِهَا
عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَإِذَا رَبِحَتْ خِلاَل الْحَوْل
وَجَاءَ صَاحِبُهَا فَيَجِبُ عَلَى الْمُلْتَقِطِ رَدُّهَا إِلَيْهِ
مَعَ زِيَادَتِهَا الْمُتَّصِلَةِ أَوِ الْمُنْفَصِلَةِ (1) .
النَّفَقَةُ عَلَى اللُّقَطَةِ
16 - اللُّقَطَةُ خِلاَل مُدَّةِ التَّعْرِيفِ إِمَّا أَنْ تَحْتَاجَ
إِلَى نَفَقَةٍ لِلإِْبْقَاءِ عَلَيْهَا كَمَا هُوَ الْحَال
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الأَْنْعَامِ مِثْل نَفَقَةِ الطَّعَامِ
وَالشَّرَابِ وَأُجْرَةِ الرَّاعِي، وَإِمَّا أَنْ لاَ تَحْتَاجَ إِلَى
نَفَقَةٍ كَمَا فِي النُّقُودِ، وَإِمَّا أَنْ تَحْتَاجَ إِلَى بَعْضِ
النَّفَقَةِ كَمَا فِي أُجْرَةِ الْحَمْل بِالنِّسْبَةِ
لِلأَْمْتِعَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ
مُلْتَقِطَ الأَْنْعَامِ إِذَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا بِإِذْنِ الْحَاكِمِ
وَأَمْرِهِ كَانَ مَا أَنْفَقَهُ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهَا لأَِنَّ
لِلْحَاكِمِ وَالْقَاضِي وِلاَيَةً فِي مَال الْغَائِبِ نَظَرًا لَهُ،
وَقَدْ يَكُونُ النَّظَرُ بِالإِْنْفَاقِ، وَكَذَلِكَ الْحَال إِذَا
أَنْفَقَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ عَلَى رَأْيِ مَالِكٍ بَيْنَمَا
يَرَى الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ أَنَّهُ إِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا
بِغَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ أَوِ الْقَاضِي فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ بِمَا
أَنْفَقَهُ لِقُصُورِ وِلاَيَتِهِ فِي مَال الْغَائِبِ بِإِشْغَال
ذِمَّتِهِ بِالدَّيْنِ بِدُونِ أَمْرِهِ، وَيَجْرِي الْخِلاَفُ
__________
(1) فتح القدير 6 / 118 - 120، وبدائع الصنائع 6 / 202 - 203، والمدونة
الكبرى 6 / 175، 178، ومغني المحتاج 2 / 416، وروضة الطالبين 5 / 415،
والمغني والشرح الكبير 6 / 339 - 343.
(35/304)
السَّابِقُ فِيمَا إِذَا الْتَقَطَ مَا
يُمْكِنُ بَقَاؤُهُ بِلاَ إِنْفَاقٍ عَلَيْهِ كَالرُّطَبِ الَّذِي
يَتَتَمَّرُ وَالْعِنَبِ الَّذِي يَتَزَبَّبُ وَاللَّبَنِ الَّذِي
يَتَحَوَّل إِلَى أَقِطٍ إِنْ كَانَ الأَْحَظَّ وَالأَْفْضَل
لِصَاحِبِهِ الإِْبْقَاءُ عَلَيْهِ وَالاِحْتِفَاظُ بِهِ، وَإِلاَّ
أَمَرَهُ الْقَاضِي بِبَيْعِهِ وَالاِحْتِفَاظِ بِثَمَنِهِ.
وَإِذَا رَفَعَ الْمُلْتَقِطُ الأَْمْرَ إِلَى الْحَاكِمِ نَظَرَ
فِيهِ، فَإِنْ كَانَ لِلْبَهِيمَةِ مَنْفَعَةٌ وَثَمَّ مَنْ
يَسْتَأْجِرُهَا أَجَّرَهَا وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنْ أُجْرَتِهَا،
لأَِنَّ فِيهِ إِبْقَاءً لِلْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا مِنْ
غَيْرِ إِلْزَامِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا
مَنْفَعَةٌ وَخَافَ أَنْ تَسْتَغْرِقَ النَّفَقَةُ قِيمَتَهَا بَاعَهَا
وَأَمَرَ بِحِفْظِ ثَمَنِهَا، إِبْقَاءً لَهُ مَعْنًى عِنْدَ تَعَذُّرِ
إِبْقَائِهِ صُورَةً، لأَِنَّ الثَّمَنَ يَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ
إِذْ يَصِل بِهِ إِلَى مِثْلِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ
الأَْصْلَحُ الإِْنْفَاقَ عَلَيْهَا أَذِنَ فِي ذَلِكَ وَجَعَل
النَّفَقَةَ دَيْنًا عَلَى مَالِكِهَا، لأَِنَّهُ نُصِبَ نَاظِرًا،
وَفِي هَذَا نَظَرٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَإِنَّمَا يَأْمُرُ
بِالإِْنْفَاقِ مُدَّةَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ عَلَى قَدْرِ مَا
يُرْجَى أَنْ يَظْهَرَ مَالِكُهَا، فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ يَأْمُرُ
بِبَيْعِهَا لأَِنَّ دَوَامَ النَّفَقَةِ مُسْتَأْصِلَةٌ بِالْعَيْنِ
مَعْنًى، بَل رُبَّمَا تَذْهَبُ بِالْعَيْنِ وَيَبْقَى الدَّيْنُ عَلَى
مَالِكِهَا وَلاَ نَظَرَ فِي ذَلِكَ أَصْلاً، بَل يَنْبَغِي أَنْ لاَ
يَنْفُذَ ذَلِكَ مِنَ الْقَاضِي لَوْ أَمَرَ بِهِ لِلتَّيَقُّنِ
بِعَدِمِ النَّظَرِ، وَإِذَا بَاعَهَا أُعْطِيَ الْمُلْتَقِطُ مِنْ
ثَمَنِهَا مَا
(35/304)
أَنْفَقَ فِي الْيَوْمَيْنِ أَوِ
الثَّلاَثَةِ، لأَِنَّ الثَّمَنَ مَال صَاحِبِهَا وَالنَّفَقَةَ دَيْنٌ
عَلَيْهِ بِعِلْمِ الْقَاضِي، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ إِذَا ظَفِرَ
بِجَنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، فَإِنْ بَاعَهَا
الْمُلْتَقِطُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْقَاضِي لاَ يَنْفُذُ الْبَيْعُ
وَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِذْنِ الْمَالِكِ، فَإِنْ جَاءَ وَهِيَ قَائِمَةٌ
فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ شَاءَ أَجَازَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ
أَبْطَلَهُ وَأَخَذَهَا مِنْ يَدِهِ، وَإِنْ جَاءَ وَهِيَ هَالِكَةٌ
فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ قِيمَتَهَا، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ
الْبَائِعَ، فَإِنْ ضَمِنَ الْبَائِعُ نَفَذَ الْبَيْعُ لأَِنَّهُ
مَلَكَ اللُّقَطَةَ مِنْ حِينِ أَخْذِهَا، وَكَانَ الثَّمَنُ
لِلْبَائِعِ وَيَتَصَدَّقُ بِمَا زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ.
وَإِذَا حَضَرَ الْمَالِكُ وَقَدْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا الْمُلْتَقِطُ
فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ حَتَّى يُحْضِرَ النَّفَقَةَ،
لأَِنَّهَا حَيَّةٌ بِنَفَقَتِهِ، فَصَارَ الْمَالِكُ كَأَنَّهُ
اسْتَفَادَ الْمِلْكَ مِنْ جِهَةِ الْمُلْتَقِطِ فَأَشْبَهَ
الْمَبِيعَ، ثُمَّ لاَ يَسْقُطُ دَيْنُ النَّفَقَةِ بِهَلاَكِ
اللُّقَطَةِ فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ قَبْل الْحَبْسِ، وَيَسْقُطُ إِذَا
هَلَكَ بَعْدَ الْحَبْسِ لأَِنَّهَا تَصِيرُ بِالْحَبْسِ شَبِيهَةً
بِالرَّهْنِ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ حَقِّهِ بِهَا.
أَمَّا إِنْ أَنْفَقَ الْمُلْتَقِطُ عَلَى اللُّقَطَةِ وَانْتَفَعَ
بِهَا كَأَنْ تَكُونَ دَابَّةً فَرَكِبَهَا أَوْ مَاشِيَةً فَحَلَبَهَا
وَشَرِبَ لَبَنَهَا فَلاَ يَرْجِعُ عَلَى مَالِكِهَا " بِالنَّفَقَةِ
(1)
__________
(1) فتح القدير 6 / 125 - 127، وبدائع الصنائع 6 / 3871، ومختصر
الطحاوي ص140، 141، والمدونة الكبرى 6 / 176، ومغني المحتاج 2 / 410 -
414، والمغني والشرح الكبير 6 / 366، 367.
(35/305)
التَّصَدُّقُ بِاللُّقَطَةِ
17 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جِوَازِ التَّصَدُّقِ
بِاللُّقَطَةِ إِذَا عَرَّفَهَا الْمُلْتَقِطُ وَلَمْ يَحْضُرْ
صَاحِبُهَا مُدَّةَ التَّعْرِيفِ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى
إِذْنِ الْحَاكِمِ، وَيَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ.
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ صَاحِبَ اللُّقَطَةِ إِذَا جَاءَ
بَعْدَمَا تَصَدَّقَ بِهَا الْمُلْتَقِطُ فَهُوَ بِأَحَدِ خِيَارَاتٍ
ثَلاَثٍ:
أ - إِنْ شَاءَ أَمَضَى الصَّدَقَةَ، لأَِنَّ التَّصَدُّقَ وَإِنْ
حَصَل بِإِذْنِ الشِّرْعِ لَمْ يَحْصُل بِإِذْنِ الْمَالِكِ،
فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَتِهِ، وَحُصُول الثَّوَابِ لِلإِْنْسَانِ
يَكُونُ بِفِعْلٍ مُخْتَارٍ لَهُ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ قَبْل لُحُوقِ
الإِْذْنِ وَالرِّضَا، فَبِالإِْجَازَةِ وَالرِّضَا يَصِيرُ كَأَنَّهُ
فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ لِرِضَاهُ بِذَلِكَ.
ب - وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُلْتَقِطُ، لأَِنَّهُ سَلَّمَ مَالَهُ
إِلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ بِإِبَاحَةٍ مِنْ
جِهَةِ الشَّرْعِ، وَهَذَا لاَ يُنَافِي الضَّمَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ،
كَمَا فِي تَنَاوُل مَال الْغَيْرِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ،
وَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ مَعَ ثُبُوتِ الضَّمَانِ.
ج - وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمِسْكِينُ إِذَا هَلَكَ
(35/305)
الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ فِي يَدِهِ،
لأَِنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَأَيَّهَا ضَمِنَ لَمْ
يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ (1) .
تَرْكُ الْمَتَاعِ
18 - سَبَقَ الْقَوْل أَنَّ مِلْكَ الْمَالِكِ لاَ يَزُول إِلاَّ
بِسَبَبٍ مَشْرُوعٍ، وَقَدْ يَظْهَرُ مِنْ فِعْلِهِ مَا يَدُل عَلَى
تَخَلِّيهِ عَنْ مِلْكِهِ لِعَدَمِ حَاجَتِهِ، أَوْ لِتَقْصِيرِهِ عَنِ
النَّفَقَةِ عَلَيْهِ، أَوْ لِحَقَارَةِ مَا فَقَدَهُ أَوْ سَقَطَ
مِنْهُ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْمَالِكَ قَدْ تَخَلَّى عَنْهُ لِمَا
تَقَدَّمَ فَيَجُوزُ أَخْذُهُ وَتَمَلُّكُهُ، وَلاَ يُعَرِّفُهُ
الآْخِذُ لأَِنَّ التَّعْرِيفَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ أَجْل مَعْرِفَةِ
صَاحِبِهِ وَالْوُصُول إِلَيْهِ لِرِدِّ مَا فَقَدَهُ، أَمَّا وَأَنَّ
الْمَالِكَ قَدْ تَخَلَّى عَنْهُ فَلاَ يُرَدُّ إِلَيْهِ، كَمَا فِي
إِلْقَاءِ بَعْضِ الأَْثَاثِ فِي مَوَاضِعِ الْقُمَامَةِ أَوْ خَارِجَ
الْبُيُوتِ لَيْلاً، وَكَمَا هُوَ الْحَال بِالنِّسْبَةِ لِلسَّنَابِل
السَّاقِطَةِ أَثْنَاءَ الْحَصَادِ وَعَلَى الطُّرُقَاتِ وَكَسُقُوطِ
السَّوْطِ وَالْعَصَا وَحَبَّاتٍ مِنَ التَّمْرِ فِي الطَّرِيقِ،
فَمِثْل هَذِهِ الأَْشْيَاءِ يَجُوزُ أَخْذُهَا وَالاِنْتِفَاعُ بِهَا
وَلاَ تُعَرَّفُ (2) .
الْجُعْل عَلَى اللُّقَطَةِ
19 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ جِوَازَ أَخْذِ الْجُعْل، إِنْ
جَعَل صَاحِبُ اللُّقَطَةِ جُعْلاً مَعْلُومًا لِمَنْ
__________
(1) فتح القدير 6 / 124، وتبيين الحقائق 3 / 304، وبدائع الصنائع 6 /
3870، والمدونة الكبرى 6 / 180، ومغني المحتاج 2 / 410، والقواعد لابن
رجب ص 240.
(2) الشرح الكبير مع الدسوقي 4 / 120، ومغني المحتاج 2 / 414، وكشاف
القناع 4 / 209.
(35/306)
وَجَدَهَا، فَلِلْمُلْتَقِطِ أَخْذُ
الْجُعْل إِنْ كَانَ الْتَقَطَهَا بَعْدَ أَنْ بَلَغَهُ الْجُعْل،
لأَِنَّ الْجَعَالَةَ فِي رَدِّ الضَّالَّةِ وَالآْبِقِ وَغَيْرِهِمَا
جَائِزَةٌ بِدَلِيل قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْل
بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (1) .
وَمِنَ الْحَدِيثِ مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَوْا حَيًّا مِنَ الْعَرَبِ فَلَمْ
يَقْرُوهُمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ
فَقَالُوا: هَل فِيكُمْ رَاقٍ؟ فَقَالُوا: لَمْ تَقْرُونَا فَلاَ
نَفْعَل حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعَ
شِيَاهٍ، فَجَعَل رَجُلٌ يَجْمَعُ بُزَاقَهُ وَيَتْفُل وَيَقْرَأُ
بِأُمِّ الْقُرْآنِ، فَبَرَأَ الرَّجُل فَأَتَوْا بِالشَّاةِ
فَقَالُوا: لاَ نَأْخُذُهَا حَتَّى نَسْأَل عَنْهَا رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ فَقَال: وَمَا
يَدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ، اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ
سَهْمًا (2) .
وَالْحَاجَةُ تَدْعُو أَحْيَانًا كَثِيرَةً إِلَى جَعْل جُعْلٍ عَلَى
رِدِّ اللُّقَطَةِ، طَلَبًا لِلسُّرْعَةِ فِي رَدِّهَا، وَلأَِنَّهُ
قَدْ لاَ يَجِدُ مَنْ يَتَبَرَّعُ بِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَل الْجُعْل لِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ فَيَقُول: إِنْ
رَدَدْتَ لُقَطَتِي فَلَكَ دِينَارٌ مَثَلاً،
__________
(1) سورة يوسف / 72.
(2) حديث أبي سعيد: " أن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
أتوا حيًّا من العرب. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 453) ومسلم
(4 / 1727) .
(35/306)
فَيَجْتَهِدُ هَذَا فِي الْبَحْثِ عَنْهَا
وَرَدِّهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَل الْجُعْل لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ
فَيَقُول: مَنْ رَدَّ عَلَيَّ ضَالَّتِي فَلَهُ كَذَا فَمَنْ رَدَّهَا
عَلَيْهِ اسْتَحَقَّ الْجُعْل (1) ، أَمَّا إِنْ رَدَّ اللُّقَطَةَ
أَوِ الضَّالَّةَ عَلَى صَاحِبِهَا وَلَمْ يَجْعَل جُعْلاً عَلَيْهَا
فَلاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، لأَِنَّهُ عَمَلٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ
الْعِوَضَ مَعَ الْمُعَاوَضَةِ فَلاَ يَسْتَحِقُّ مَعَ عَدِمِهَا
كَالْعَمَل فِي الإِْجَارَةِ، كَمَا أَنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ الْجُعْل
إِنِ الْتَقَطَ قَبْل أَنْ يَبْلُغَهُ الْجُعْل فَرَدَّهَا لِعِلَّةِ
الْجُعْل، لأَِنَّهُ الْتَقَطَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَعَمِل فِي مَال
غَيْرِهِ بِغَيْرِ جَعْل جُعْلٍ فَلاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، كَمَا لَوِ
الْتَقَطَهَا وَلَمْ يَجْعَل رَبُّهَا فِيهَا شَيْئًا (2) .
رَدُّ اللُّقَطَةِ إِلَى صَاحِبِهَا
20 - يُشْتَرَطُ لِرِدِّ اللُّقَطَةِ إِلَى صَاحِبِهَا أَنْ يَصِفَهَا
وَيَتَعَرَّفَ عَلَيْهَا بِذِكْرِ عَلاَمَاتٍ تُمَيِّزُهَا عَنْ
غَيْرِهَا، كَذِكْرِ عَدَدِهَا أَوْ بَعْضِ عَلاَمَاتِ الدَّابَّةِ
وَمَكَانِ فَقْدِهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَوْ يَثْبُتُ أَنَّهَا
لَهُ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِذَا ذَكَرَ عَلاَمَاتِهَا مِنَ الْعِفَاصِ
وَالْوِكَاءِ وَالْعَدَدِ وَالْوَزْنِ فَيَجُوزُ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ
يَدْفَعَهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلاً زِيَادَةً
فِي الاِسْتِيثَاقِ، لأَِنَّ رَدَّهَا إِلَيْهِ إِذَا وَصَفَهَا مِمَّا
وَرَدَ بِهِ الشِّرْعُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ
__________
(1) المغني 5 / 724، 725.
(2) المغني والشرح الكبير 6 / 350 - 358، والبناية شرح الهداية 6 / 35.
(35/307)
الْفُقَهَاءِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا
بَعْدَ ذَلِكَ هَل يُجْبَرُ قَضَاءً عَلَى رَدِّهَا لِصَاحِبِهَا
بِمُجَرَّدِ ذِكْرِ عَلاَمَاتِهَا الْمُمَيَّزَةِ أَمْ لاَ بُدَّ مِنَ
الْبَيِّنَةِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ مِنَ
الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ لاَ يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ
اللُّقَطَةِ إِلَى مُدَّعِيهَا بِلاَ بَيِّنَةٍ، لأَِنَّهُ مُدَّعٍ
فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ كَغَيْرِهِ، وَلأَِنَّ اللُّقَطَةَ مَالٌ
لِلْغَيْرِ فَلاَ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ بِالْوَصْفِ كَالْوَدِيعَةِ،
لَكِنْ يَرَى الْحَنَفِيَّةُ جِوَازَ تَسْلِيمِهَا لِمُدَّعِيهَا
عِنْدَ إِصَابَةِ عَلاَمَتِهَا، كَمَا يَرَى الشَّافِعِيَّةُ جِوَازَ
تَسْلِيمِهَا إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُلْتَقِطِ صَدْقُ
مُدَّعِيهَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ".
فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَعَرَفَ عِفَاصَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا
فَأَعْطِهَا إِيَّاهُ، وَإِلاَّ فَهِيَ لَكَ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ
يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ اللُّقَطَةِ لِصَاحِبِهَا إِذَا وَصَفَهَا
بِصِفَاتِهَا الْمَذْكُورَةِ، سَوَاءٌ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صَدْقُهُ
أَمْ لاَ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ، عَمَلاً بِظَاهِرِ حَدِيثِ
زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ السَّابِقِ وَفِيهِ:. . . اعْرِفْ
وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ لَمْ
تَعْرِفْ فَاسْتَنْفِقْهَا، وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ، فَإِنْ
جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ فَأَدِّهَا إِلَيْهِ (2) .
__________
(1) حديث: " فإن جاءها صاحبها فعرف عفاصها. . . ". أخرجه مسلم (3 /
1349) من حديث زيد بن خالد الجهني.
(2) حديث: " اعرف وكاءها وعفاصها. . . ". أخرج هذه الرواية مسلم (3 /
1349) .
(35/307)
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِعَدَدِهَا وَوِعَائِهَا
وَوِكَائِهَا فَأَعْطِهَا إِيَّاهُ (1) .
وَلأَِنَّهُ مِنَ الْمُتَعَذِّرِ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى
اللُّقَطَةِ، لأَِنَّهَا ضَاعَتْ مِنْ صَاحِبِهَا حَال السَّهْوِ
وَالْغَفْلَةِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ شُهُودٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ،
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الأَْوْصَافِ وَالْعِفَاصِ
وَالْوِكَاءِ مِنَ الْبَيِّنَةِ (2) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ لاَ
يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا لِمُدَّعِيهَا إِذَا لَمْ يَصِفْهَا
بِصِفَاتِهَا وَلَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً عَلَيْهَا، وَلَمْ يَعْلَمِ
الْمُلْتَقِطُ أَنَّهَا لَهُ، وَلاَ يُجْبِرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى
دَفْعِهَا إِلَيْهِ، لأَِنَّ النَّاسَ لاَ يُعْطَوْنَ بِمُجَرَّدِ
الدَّعْوَى، فَإِنِ ادَّعَاهَا اثْنَانِ وَوَصَفَاهَا، أَوْ أَقَامَا
بَيِّنَتَيْنِ مُتَسَاوِيَتَيْنِ أَقْرَعَ الْمُلْتَقِطُ بَيْنَهُمَا،
فَمَنْ وَقَعَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ حَلَفَ وَدُفِعَتْ إِلَيْهِ،
لأَِنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِيمَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الدَّفْعُ
فَتَسَاوَيَا فِيهِ (3) .
اللُّقَطَةُ فِي الْحَرَمِ
21 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ لُقَطَةِ
__________
(1) حديث: " فإن جاء أحد يخبرك بعددها. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1351) .
(2) فتح القدير 6 / 129، 130، والمدونة الكبرى 6 / 174، 175، وتبيين
الحقائق 3 / 306، ومغني المحتاج 2 / 416، 417، والمغني والشرح الكبير 6
/ 336، 337.
(3) المغني والشرح الكبير 6 / 337.
(35/308)
الْحِل وَلُقَطَةِ الْحَرَمِ مِنْ حَيْثُ
جِوَازِ الاِلْتِقَاطِ وَالتَّعْرِيفِ لِمُدَّةِ سَنَةٍ، لأَِنَّ
اللُّقَطَةَ كَالْوَدِيعَةِ فَلَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهَا بِالْحِل
وَالْحَرَمِ، وَالأَْحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ الشَّرِيفَةُ لَمْ
تُفَرِّقْ بَيْنَ لُقَطَةِ الْحِل وَالْحَرَمِ، مِثْل قَوْلِهِ:
اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً (1) .
وَيَرَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ لُقَطَةَ الْحَرَمِ لاَ يَحِل أَخْذُهَا
إِلاَّ لِلتَّعْرِيفِ وَأَنَّهَا تُعَرَّفُ عَلَى الدَّوَامِ، إِذْ
إِنَّ الأَْحَادِيثَ الْخَاصَّةَ بِلُقَطَةِ الْحَرَمِ لَمْ تُوَقِّتِ
التَّعْرِيفَ بِسَنَةٍ كَغَيْرِهَا، فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ
التَّعْرِيفَ عَلَى الدَّوَامِ، وَإِلاَّ فَلاَ فَائِدَةَ مِنَ
التَّخْصِيصِ، وَلأَِنَّ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ، مَثَابَةٌ
لِلنَّاسِ يَعُودُونَ إِلَيْهَا الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ،
فَرُبَّمَا يَعُودُ مَالِكُهَا مِنْ أَجْلِهَا مَرَّةً ثَانِيَةً، أَوْ
يَبْعَثُ فِي طَلَبِهَا، فَكَأَنَّهُ جَعَل مَالَهُ بِهِ مَحْفُوظًا
مِنَ الضَّيَاعِ (2) .
اللُّقَطَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ
22 - مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ كَانَ فِي
الْجَيْشِ عَرَّفْهَا سَنَةً فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ ثُمَّ يَطْرَحُهَا
فِي الْمَغْنَمِ، وَإِنَّمَا يُعَرِّفُهَا فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ
لأَِنَّ أَمْوَال أَهْل الْحَرْبِ مُبَاحَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ
لِمُسْلِمٍ، وَلأَِنَّهُ قَدْ لاَ يُمْكِنُهُ الْمُقَامُ فِي
__________
(1) حديث: " اعرف وكاءها. . . ". تقدم تخريجه ف8.
(2) فتح القدير 6 / 128، الأم 4 / 67، مغني المحتاج 2 / 417، والمغني
والشرح الكبير 6 / 332.
(35/308)
دَارِ الْحَرْبِ لِتَعْرِيفِهَا،
وَابْتِدَاءُ التَّعْرِيفِ يَكُونُ فِي الْجَيْشِ الَّذِي هُوَ فِيهِ،
لاِحْتِمَال أَنَّهَا لأَِحَدِ أَفْرَادِهِ، فَإِذَا قَفَل رَاجِعًا
أَتَمَّ التَّعْرِيفَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، أَمَّا إِنْ دَخَل دَارَ
الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَوَجَدَ لُقَطَةً فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَهَا
فِي دَارِهِمْ، لأَِنَّ أَمْوَالَهُمْ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا
لَمْ تُعَرَّفْ مَلَكَهَا كَمَا يَمْلِكُهَا فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ،
وَإِنْ دَخَل دَارَهُمْ مُتَلَصَّصًا فَوَجَدَ لُقَطَةً عَرَّفَهَا فِي
دَارِ الإِْسْلاَمِ، لأَِنَّ أَمْوَالَهُمْ مُبَاحَةٌ لَهُ، ثُمَّ
يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ غَنِيمَتِهِ (1) .
زَكَاةُ اللُّقَطَةِ
23 - اللُّقَطَةُ الَّتِي لاَ يَعْرِفُ عَنْهَا صَاحِبُهَا شَيْئًا لاَ
يَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاتُهَا خِلاَل فَتْرَةِ فَقْدِهَا وَضَيَاعِهَا،
لأَِنَّ مِلْكَهُ لَهَا لَيْسَ تَامًّا إِذْ إِنَّهَا لَيْسَتْ تَحْتَ
يَدِهِ حَتَّى يَتَصَرَّفَ فِيهَا، وَلاَ يُزَكِّيهَا الْمُلْتَقِطُ
فِي عَامِ التَّعْرِيفِ لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُهَا خِلاَل هَذِهِ
الْمُدَّةِ، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ خِلاَل حَوْل
التَّعْرِيفِ زَكَّاهَا لِلْحَوْل الَّذِي كَانَ الْمُلْتَقِطُ
مَمْنُوعًا مِنْهَا إِنْ بَلَغَتِ النِّصَابَ، فَإِنْ كَانَتْ
مَاشِيَةً فَإِنَّمَا تَجِبُ زَكَاتُهَا عَلَى صَاحِبِهَا إِذَا
كَانَتْ سَائِبَةً عِنْدَ الْمُلْتَقِطِ، فَإِنْ عَلَفَهَا فَلاَ
زَكَاةَ عَلَى صَاحِبِهَا، وَزَكَاتُهَا بَعْدَ الْحَوْل الأَْوَّل
عَلَى الْمُلْتَقِطِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ
__________
(1) المغني والشرح الكبير 6 / 348، نهاية المحتاج 5 / 426.
(35/309)
أَحْمَدَ لأَِنَّهَا تَدْخُل فِي مِلْكِهِ
كَالْمِيرَاثِ فَتَصِيرُ كَسَائِرِ مَالِهِ.
أَمَّا إِذَا أَخَذَ اللُّقَطَةَ لِلتَّمَلُّكِ فَإِنَّهُ يُزَكِّيهَا
لِلْعَامِ الَّذِي عَرَّفَهَا فِيهِ، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا لَمْ
يُزَكِّهَا لِذَلِكَ الْحَوْل، وَلاَ يَرْجِعُ الْمُلْتَقِطُ عَلَى
مَالِكِهَا بِزَكَاتِهَا كَمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ
عَلَيْهَا (1) .
__________
(1) فتح القدير 6 / 119، والبناية شرح الهداية 6 / 17، والمغني والشرح
الكبير 6 / 449، 450، ومغني المحتاج 4 / 412.
(35/309)
لَقِيطٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - اللَّقِيطُ فِي اللُّغَةِ: الطِّفْل الَّذِي يُوجَدُ مَرْمِيًّا
عَلَى الطُّرُقِ لاَ يُعْرَفُ أَبُوهُ وَلاَ أُمُّهُ (1) .
وَفِي الْمِصْبَاحِ: وَقَدْ غَلَبَ اللَّقِيطُ عَلَى الْمَوْلُودِ
الْمَنْبُوذِ (2) .
وَاصْطِلاَحًا عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: اسْمٌ لِحَيٍّ
مَوْلُودٍ طَرَحَهُ أَهْلُهُ خَوْفًا مِنَ الْعَيْلَةِ أَوْ فِرَارًا
مِنْ تُهْمَةِ الرِّيبَةِ (3) .
وَعَرَّفَهُ ابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهُ: صَغِيرٌ
آدَمِيٌّ لَمْ يُعْلَمْ أَبُوهُ وَلاَ رِقُّهُ (4) .
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: كُل صَبِيٍّ ضَائِعٍ لاَ
كَافِل لَهُ (5) .
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: طِفْلٌ غَيْرُ مُمَيِّزٍ لاَ
يُعْرَفُ نَسَبُهُ وَلاَ رِقُّهُ طُرِحَ فِي شَارِعٍ أَوْ ضَل
الطَّرِيقَ مَا بَيْنَ وِلاَدَتِهِ إِلَى سِنِّ التَّمْيِيزِ (6) .
__________
(1) لسان العرب.
(2) المصباح المنير.
(3) الدر المختار على رد المحتار 3 / 314.
(4) الخرشي 7 / 130.
(5) روضة الطالبين 5 / 418.
(6) كشاف القناع 4 / 226.
(35/310)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - اللُّقَطَةُ:
2 - اللُّقَطَةُ فِي اللُّغَةِ - بِفَتْحِ الْقَافِ كَمَا قَال
الأَْزْهَرِيُّ - اسْمُ الشَّيْءِ الَّذِي تَجِدُهُ مُلْقًى
فَتَأْخُذُهُ.
وَاللَّقَطُ - بِفَتْحَتَيْنِ - مَا يُلْقَطُ مِنْ مَعْدِنٍ وَسُنْبُل
وَغَيْرِهِ، وَاللُّقَطَةُ: مَا الْتُقِطَ (1) .
وَشَرْعًا هِيَ: مَالٌ يُوجَدُ ضَائِعًا.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَخُصَّ اللَّقِيطُ بِبَنِي آدَمَ،
وَاللُّقَطَةُ بِغَيْرِهِمْ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا (2) .
ب - الضَّائِعُ:
3 - الضَّائِعُ فِي اللُّغَةِ مِنْ ضَاعَ الشَّيْءُ يَضِيعُ ضَيَاعًا:
إِذَا فُقِدَ وَهَلَكَ، وَخَصَّهُ أَهْل اللُّغَةِ بِغَيْرِ
الْحَيَوَانِ كَالْعِيَال وَالْمَال، يُقَال: أَضَاعَ الرَّجُل
عِيَالَهُ وَمَالَهُ. وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالضَّائِعُ أَعَمُّ مِنَ اللَّقِيطِ لأَِنَّهُ
يَشْمَل الإِْنْسَانَ وَالْمَال.
حُكْمُ الْتِقَاطِ اللَّقِيطِ
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ الْتِقَاطَ
الْمَنْبُوذِ فَرْضُ كِفَايَةٍ
__________
(1) لسان العرب.
(2) الدر المختار 3 / 318، وانظر: كشاف القناع 4 / 209.
(3) الصحاح ولسان العرب والمصباح المنير والمعجم الوسيط.
(35/310)
إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنِ
الْبَاقِينَ وَإِلاَّ أَثِمُوا جَمِيعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) وَلأَِنَّ فِيهِ
إِحْيَاءَ نَفْسٍ، قَال تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا
أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (2) ، إِذْ بِإِحْيَائِهَا يَسْقُطُ
الْحَرَجُ عَنِ النَّاسِ لأَِنَّهُ آدَمِيٌّ مُحْتَرَمٌ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: هَذَا إِذَا لَمْ يُوجَدْ
غَيْرُهُ سَيَرَاهُ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لاَ يُوجَدُ غَيْرُهُ كَانَ
الْتِقَاطُهُ فَرْضَ عَيْنٍ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْتِقَاطَ الْمَنْبُوذِ
مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً أَتَى سَيِّدَنَا
عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِلَقِيطٍ فَقَال: هُوَ حُرٌّ
وَلأََنْ أَكُونَ وَلِيتُ مِنْ أَمْرِهِ مِثْل الَّذِي وَلِيتَ أَنْتَ
كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا، عَدَّ جُمْلَةً مِنْ
أَعْمَال الْخَيْرِ، فَقَدْ رَغِبَ فِي الاِلْتِقَاطِ وَبَالَغَ فِي
التَّرْغِيبِ فِيهِ حَيْثُ فَضَلَّهُ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ أَعْمَال
الْخَيْرِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي النَّدْبِ إِلَيْهِ، وَلأَِنَّهُ -
نَفْسٌ لاَ حَافِظَ لَهَا بَل هِيَ مَضْيَعَةٌ فَكَانَ الْتِقَاطُهَا
إِحْيَاءً لَهَا مَعْنًى (4) .
وَهَذَا إِذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ هَلاَكُهُ، فَإِنْ
__________
(1) سورة المائدة / 2.
(2) سورة المائدة / 32.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 124، ونهاية المحتاج 5 / 444،
ومغني المحتاج 2 / 418، والمغني 5 / 747 ط الرياض، وكشاف القناع 4 /
226.
(4) بدائع الصنائع 6 / 198.
(35/311)
غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ هَلاَكُهُ لَوْ لَمْ
يَرْفَعْهُ بِأَنْ وَجَدَهُ فِي مَفَازَةٍ وَنَحْوِهَا مِنَ
الْمَهَالِكِ كَانَ الْتِقَاطُهُ فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَإِذَا كَانَ لاَ
يَعْلَمُ بِهِ غَيْرُهُ كَانَ الْتِقَاطُهُ فَرْضَ عَيْنٍ (1) .
الإِْشْهَادُ عَلَى الاِلْتِقَاطِ
5 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: يَنْبَغِي لِلْمُلْتَقِطِ الإِْشْهَادُ
عِنْدَ الاِلْتِقَاطِ عَلَى أَنَّهُ الْتَقَطَهُ خَوْفَ طُول
الزَّمَانِ فَيَدَّعِي الْوَلَدِيَّةَ أَوِ الاِسْتِرْقَاقَ، فَإِنْ
تَحَقَّقَ أَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ ذَلِكَ وَجَبَ الإِْشْهَادُ (2)
.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ الإِْشْهَادُ عَلَى الاِلْتِقَاطِ فِي
الأَْصَحِّ وَإِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ مَشْهُورَ الْعَدَالَةِ
لِئَلاَّ يُسْتَرَقَّ وَيَضِيعَ نَسَبُهُ، وَيَجِبُ الإِْشْهَادُ عَلَى
مَا مَعَهُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: لاَ يَجِبُ الإِْشْهَادُ اعْتِمَادًا عَلَى
الأَْمَانَةِ.
وَمَحَل وُجُوبِ الإِْشْهَادِ مَا لَمْ يُسَلِّمْهُ لَهُ الْحَاكِمُ
فَإِنْ سَلَّمَهُ لَهُ سُنَّ وَلاَ يَجِبُ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ لِلْمُلْتَقِطِ الإِْشْهَادُ
عَلَيْهِ كَاللُّقَطَةِ دَفْعًا لِنَفْسِهِ لِئَلاَّ تُرَاوِدَهُ
بِاسْتِرْقَاقِهِ، كَمَا يُسْتَحَبُّ الإِْشْهَادُ عَلَى مَا مَعَ
__________
(1) فتح القدير 5 / 342 نشر دار إحياء التراث، وحاشية ابن عابدين 3 /
314.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 126.
(3) نهاية المحتاج 5 / 444، ومغني المحتاج 2 / 418.
(35/311)
اللَّقِيطِ مِنْ مَالٍ صَوْنًا لِنَفْسِهِ
عَنْ جَحْدِهِ (1) .
الأَْحَقُّ بِإِمْسَاكِ اللَّقِيطِ
6 - الْمُلْتَقِطُ أَحَقُّ بِإِمْسَاكِ اللَّقِيطِ مِنْ غَيْرِهِ
وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ لأَِنَّهُ هُوَ الَّذِي
أَحْيَاهُ بِالْتِقَاطِهِ وَلأَِنَّهُ مُبَاحُ الأَْخَذِ سَبَقَتْ يَدُ
الْمُلْتَقِطِ إِلَيْهِ، وَالْمُبَاحُ مُبَاحُ مَنْ سَبَقَ لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا
لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ (2) ، وَهَذَا
أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ إِذَا تَحَقَّقَتْ فِي
الْمُلْتَقِطِ الشُّرُوطُ الَّتِي اعْتَبَرَهَا كُل مَذْهَبٍ فَإِنْ
تَخَلَّفَ شَرْطٌ مِنْهَا انْتُزِعَ مِنْ يَدِهِ (3) .
7 - وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَنْتَزِعُهُ مِنْ يَدِ
الْمُلْتَقِطِ فِي الأَْحْوَال الآْتِيَةِ:
أ - إِذَا الْتَقَطَهُ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ لِعَدَمِ
أَهْلِيَّتِهِمَا وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ
الْمَالِكِيَّةِ (4) .
ب - إِذَا الْتَقَطَهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ فَإِنَّهُ
يُنْتَزَعُ
__________
(1) كشاف القناع 4 / 229، والمغني 5 / 756.
(2) حديث: " من سبق إلى ما لم يسبق إليه. . . ". أخرجه أبو داود (3 /
453) من حديث أسمر بن مضرس، واستغربه المنذري كما في مختصر السنن (4 /
264) .
(3) بدائع الصنائع 6 / 198، والهداية وفتح القدير 5 / 343، نشر دار
إحياء التراث، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 126، ونهاية المحتاج
5 / 447، وكشاف القناع 4 / 228.
(4) حاشية ابن عابدين 3 / 314، ومغني المحتاج 2 / 418، وكشاف القناع 4
/ 229، والشرح الكبير للدردير 4 / 126، ونهاية المحتاج 5 / 446.
(35/312)
مِنْهُ لأَِنَّهُ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ عَلَى
نَفْسِهِ فَعَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَلاَ يُشْتَرَطُ
ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذْ يَجُوزُ عِنْدَهُمُ الْتِقَاطُ
السَّفِيهِ وَلاَ يُنْتَزَعُ مِنْ يَدِهِ فَقَدْ قَال ابْنُ عَابِدِينَ
الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ يَصِحُّ الْتِقَاطُهُ فَالْمَحْجُورُ
لِسَفَهٍ أَوْلَى (1) .
ج - إِذَا الْتَقَطَهُ فَاسِقٌ فَإِنَّهُ يُنْتَزَعُ مِنْهُ لأَِنَّ
الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي إِقْرَارِهِ فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ وَهَذَا
مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَأَمَّا مَنْ ظَاهِرُ حَالِهِ الأَْمَانَةُ:
إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُخْتَبَرْ فَلاَ يُنْتَزَعُ مِنْ يَدِهِ لَكِنْ
يُوَكِّل الْقَاضِي بِهِ مَنْ يُرَاقِبُهُ بِحَيْثُ لاَ يَعْلَمُ
لِئَلاَّ يَتَأَذَّى (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا الْتَقَطَ اللَّقِيطَ مَنْ هُوَ
مَسْتُورُ الْحَال لَمْ تُعْرَفْ مِنْهُ حَقِيقَةُ الْعَدَالَةِ وَلاَ
الْخِيَانَةُ أُقِرَّ اللَّقِيطُ فِي يَدَيْهِ، لأَِنَّ حُكْمَهُ
حُكْمُ الْعَدْل فِي لُقَطَةِ الْمَال وَالْوِلاَيَةِ فِي النِّكَاحِ
وَالشَّهَادَةِ فِيهِ، وَلأَِنَّ الأَْصْل فِي الْمُسْلِمِ
الْعَدَالَةُ، وَلِذَلِكَ قَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ:
الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ (3) .
وَلاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَدْ جَاءَ فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 314، والفواكه الدواني 2 / 243، ونهاية
المحتاج 5 / 446، وروضة الطالبين 5 / 419، وكشاف القناع 4 / 229.
(2) روضة الطالبين 5 / 419، ومغني المحتاج 2 / 418.
(3) المغني 5 / 757، وكشاف القناع 4 / 229.
(35/312)
حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: الْتِقَاطُ
الْكَافِرِ صَحِيحٌ وَالْفَاسِقِ أَوْلَى، لَكِنْ قَال ابْنُ
عَابِدِينَ لَوْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ فَاسِقًا فَإِنَّهُ يُنْتَزَعُ
مِنْهُ إِنْ خَشِيَ عَلَيْهِ الْفُجُورَ بِاللَّقِيطِ فَيُنْتَزَعُ
مِنْهُ قَبْل حَدِّ الاِشْتِهَاءِ (1) .
د - إِذَا الْتَقَطَهُ عَبْدٌ دُونَ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَإِنَّهُ
يُنْتَزَعُ مِنْهُ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي الْتِقَاطِهِ
أَوْ عَلِمَ السَّيِّدُ بَعْدَ الْتِقَاطِهِ وَأَقَرَّهُ فِي يَدِهِ
فَلاَ يُنْتَزَعُ مِنْهُ وَكَانَ السَّيِّدُ هُوَ الْمُلْتَقِطَ وَهُوَ
نَائِبُهُ فِي الأَْخْذِ وَالتَّرْبِيَةِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2) .
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَفِيَّةُ الْحُرِّيَّةَ فِي الاِلْتِقَاطِ
فَقَالُوا: يَصِحُّ الْتِقَاطُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ (3) .
هـ - إِذَا الْتَقَطَهُ كَافِرٌ وَكَانَ اللَّقِيطُ مَحْكُومًا
بِإِسْلاَمِهِ فَإِنَّهُ يُنْتَزَعُ مِنْهُ لأَِنَّهُ يُشْتَرَطُ
الإِْسْلاَمُ فِي الْتِقَاطِ الْمُسْلِمِ وَلأَِنَّ الْكَفَالَةَ
وِلاَيَةٌ وَلاَ وِلاَيَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَلأَِنَّهُ
لاَ يُؤْمِنُ أَنْ يَفْتِنَهُ فِي دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ
مَحْكُومًا بِكُفْرِهِ أُقِرَّ فِي يَدِهِ لأَِنَّهُ عَلَى دِينِهِ،
وَلأَِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 314.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 126، 127، والفواكه الدواني 2 / 243، وروضة
الطالبين 5 / 419، والمغني 5 / 759، ومنتهى الإرادات 2 / 483.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 314.
(35/313)
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ
إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) ،
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَفِيَّةُ الإِْسْلاَمَ فِيمَنْ يَلْتَقِطُ (2)
.
و وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ شَرْطًا عَامًّا وَهُوَ كَوْنُ
الْمُلْتَقِطِ أَهْلاً لِحِفْظِ اللَّقِيطِ، قَالُوا: وَيَنْبَغِي أَنْ
يُنْتَزَعَ مِنْهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلاً لِحِفْظِهِ (3) ، كَمَا
أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُلْتَقِطُ ذَكَرًا عِنْدَ
جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ فَيَصِحُّ الْتِقَاطُ الْمَرْأَةِ وَلاَ
يُنْتَزَعُ مِنْهَا إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا ذَلِكَ
بِمَا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ حُرَّةً خَالِيَةً مِنَ الأَْزْوَاجِ
أَوْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ وَأَذِنَ لَهَا زَوْجُهَا (4) .
ز - فِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا الْتَقَطَهُ
فَقِيرٌ فَإِنَّهُ لاَ يُقَرُّ فِي يَدِهِ، لأَِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ
عَلَى الْقِيَامِ بِحَضَانَتِهِ وَفِي ذَلِكَ إِضْرَارٌ بِاللَّقِيطِ،
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ يُقَرُّ فِي يَدِهِ لأَِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَقُومُ بِكِفَايَةِ الْجَمِيعِ.
هَذَا مَا ذَكَرَهُ الشِّيرَازِيُّ إِلاَّ أَنَّ النَّوَوِيَّ ذَكَرَ
بِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الْغِنَى (5) .
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 127، والمهذب 1 / 442، ومغني
المحتاج 2 / 418، والمغني 5 / 759.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 314.
(3) المرجع السابق ص314 - 315.
(4) الفواكه الدواني 2 / 243، وروضة الطالبين 5 / 419، والمغني 5 /
761.
(5) المهذب 1 / 443، وروضة الطالبين 5 / 419.
(35/313)
السَّفَرُ بِاللَّقِيطِ
8 - ذَكَرَ حُكْمَ السَّفَرِ بِاللَّقِيطِ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ مَعَ تَفْصِيلٍ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَيَانُهُ فِيمَا
يَلِي:
فَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْتِقَاطِ الْمُقِيمِ فِي مَكَانٍ
وَالْغَرِيبِ عَنْ مَكَانِ الْمُلْتَقِطِ فَقَالُوا:
أ - الأَْصَحُّ أَنَّ الْغَرِيبَ إِذَا كَانَ أَمِينًا وَاخْتُبِرَتْ
أَمَانَتُهُ وَوَجَدَ لَقِيطًا بِبَلَدٍ فَلَهُ أَنْ يَنْقُلَهُ إِلَى
بَلَدِهِ لِتَقَارُبِ الْمَعِيشَةِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَمْنِ الطَّرِيقِ
وَتَوَاصُل الأَْخْبَارِ، فَإِنْ لَمْ تُخْتَبَرْ أَمَانَتُهُ وَجُهِل
حَالُهُ لَمْ يُقَرَّ فِي يَدِهِ لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ
يَسْتَرِقَّهُ إِذَا غَابَ وَمُقَابِل الأَْصَحِّ لاَ يَجُوزُ لَهُ
نَقْلُهُ خَشْيَةَ ضَيَاعِ النَّسَبِ (1) .
ب - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا وَجَدَ بَلَدِيٌّ لَقِيطًا بِبَلَدٍ
فَلَيْسَ لَهُ نَقْلُهُ إِلَى بَادِيَةٍ لِخُشُونَةِ عَيْشِهَا
وَتَفْوِيتِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالصَّنْعَةِ، وَقِيل لِضَيَاعِ
النَّسَبِ.
وَالأَْصَحُّ أَنَّ لَهُ نَقْلَهُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ. وَهَذَا
الْخِلاَفُ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ أَمْنِ الطَّرِيقِ وَتَوَاصُل
الأَْخْبَارِ، فَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا أَوِ انْقَطَعَتِ
الأَْخْبَارُ بَيْنَهُمَا لَمْ يُقَرَّ اللَّقِيطُ فِي يَدِهِ قَطْعًا.
وَلَمْ يُفَرِّقَ الْجُمْهُورُ (أَيْ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 420، ونهاية المحتاج 5 / 448.
(35/314)
الشَّافِعِيَّةِ) بَيْنَ مَسَافَةِ
الْقَصْرِ وَدُونِهَا، وَجَعَل الْمَاوَرْدِيُّ الْخِلاَفَ فِي
مَسَافَةِ الْقَصْرِ وَقَطَعَ فِيمَا دُونَهَا بِالْجِوَازِ وَمَنَعَهُ
فِي الْكِفَايَةِ، وَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ (1)
.
ج - وَإِنْ وَجَدَ اللَّقِيطَ بَلَدِيٌّ بِبَادِيَةٍ فِي حِلَّةٍ أَوْ
قَبِيلَةٍ فَلَهُ نَقْلُهُ إِلَى قَرْيَةٍ وَإِلَى بَلَدٍ يَقْصِدُهُ
لأَِنَّهُ أَرْفَقُ بِهِ، وَقِيل وَجْهَانِ، فَإِنْ كَانَتِ
الْبَادِيَةُ فِي مَهْلَكَةٍ فَلَهُ نَقْلُهُ لِمَقْصِدِهِ قَطْعًا.
د - وَإِنْ وَجَدَ اللَّقِيطَ بَدْوِيٌّ بِبَادِيَةٍ أُقِرَّ بِيَدِهِ
وَإِنْ كَانَ أَهْل حِلَّتِهِ يَنْتَقِلُونَ لأَِنَّهَا فِي حَقِّهِ
كَبَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ، وَقِيل: إِنْ كَانُوا يَنْتَقِلُونَ
لِلنُّجْعَةِ - أَيِ الاِنْتِقَال لِطَلَبِ الْمَرْعَى - لَمْ يُقَرَّ
فِي يَدِهِ لأَِنَّ فِيهِ تَضْيِيعًا لِنَسَبِهِ.
قَال الرَّمْلِيُّ: وَعُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ لِلْمُلْتَقِطِ
نَقْل اللَّقِيطِ مِنْ بَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ أَوْ بَادِيَةٍ لِمِثْلِهِ
أَوْ أَعَلَى مِنْهُ لاَ لِدُونِهِ، وَأَنَّ شَرْطَ جِوَازِ النَّقْل
مُطْلَقًا إِنْ أُمِنَ الطَّرِيقُ وَالْمَقْصِدُ وَتَوَاصُل
الأَْخْبَارِ وَاخْتِبَارُ أَمَانَةِ الْمُلْتَقِطِ (2) .
وَيُفَرِّقُ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ السَّفَرِ بِاللَّقِيطِ لِغَيْرِ
النَّقْلَةِ وَالسَّفَرِ بِهِ إِلَى مَكَانٍ لِلإِْقَامَةِ بِهِ. كَمَا
يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُلْتَقِطِ إِذَا كَانَ مَسْتُورَ الْحَال لَمْ
تُعْرَفْ مِنْهُ حَقِيقَةُ الْعَدَالَةِ وَلاَ الْخِيَانَةِ وَبَيْنَ
مَنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ وَظَهَرَتْ أَمَانَتُهُ.
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 448، ومغني المحتاج 2 / 419، 420.
(2) مغني المحتاج 2 / 420، ونهاية المحتاج 5 / 449.
(35/314)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَنْ كَانَ
مَسْتُورَ الْحَال لَمْ تُعْرَفْ مِنْهُ حَقِيقَةُ الْعَدَالَةِ وَلاَ
الْخِيَانَةِ وَأَرَادَ السَّفَرَ بِاللَّقِيطِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ يُقَرَّ فِي يَدَيْهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يُتَحَقَّقْ
أَمَانَتُهُ فَلَمْ تُؤْمَنِ الْخِيَانَةُ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: يُقَرُّ فِي يَدَيْهِ، لأَِنَّهُ يُقَرُّ فِي يَدَيْهِ
فِي الْحَضَرِ مِنْ غَيْرِ مُشْرِفٍ يُضَمُّ إِلَيْهِ فَأَشْبَهَ
الْعَدْل وَلأَِنَّ الظَّاهِرَ السَّتْرُ وَالصِّيَانَةُ.
أَمَّا مَنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ وَظَهَرَتْ أَمَانَتُهُ فَيُقَرُّ
اللَّقِيطُ فِي يَدِهِ فِي سَفَرِهِ وَحَضَرِهِ، لأَِنَّهُ مَأْمُونٌ
عَلَيْهِ إِذَا كَانَ سَفَرُهُ لِغَيْرِ النُّقْلَةِ.
فَإِنْ كَانَ سَفَرُ الْمُلْتَقِطِ الأَْمِينِ بِاللَّقِيطِ إِلَى
مَكَانٍ يُقِيمُ بِهِ نَظَرْنَا، فَإِنْ كَانَ الْتَقَطَهُ مِنَ
الْحَضَرِ فَأَرَادَ الاِنْتِقَال بِهِ إِلَى الْبَادِيَةِ لَمْ
يُقَرَّ فِي يَدِهِ، لأَِنَّ مُقَامَهُ فِي الْحَضَرِ أَصْلَحُ لَهُ
فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَأَرْفَهُ لَهُ، وَلأَِنَّهُ إِذَا وُجِدَ
فِي الْحَضَرِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وُلِدَ فِيهِ فَبَقَاؤُهُ فِيهِ
أَرْجَى لِكَشْفِ نَسَبِهِ وَظُهُورِ أَهْلِهِ وَاعْتِرَافِهِمْ بِهِ.
فَإِنْ أَرَادَ الاِنْتِقَال بِهِ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ مِنَ الْحَضَرِ
فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ يُقَرُّ فِي يَدِهِ، لأَِنَّ بَقَاءَهُ فِي بَلَدِهِ
أَرْجَى لِكَشْفِ نَسَبِهِ، فَلَمْ يُقَرَّ فِي يَدِ الْمُنْتَقِل
عَنْهُ قِيَاسًا عَلَى الْمُنْتَقِل بِهِ إِلَى الْبَادِيَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقَرُّ فِي يَدِهِ، لأَِنَّ وِلاَيَتَهُ
ثَابِتَةٌ، وَالْبَلَدُ الثَّانِي كَالأَْوَّل فِي الرَّفَاهِيَةِ
فَيُقَرُّ فِي
(35/315)
يَدِهِ كَمَا لَوِ انْتَقَل مِنْ أَحَدِ
جَانِبَيِ الْبَلَدِ إِلَى الْجَانِبِ الآْخَرِ.
وَإِنْ كَانَ الاِلْتِقَاطُ مِنَ الْبَادِيَةِ فَلَهُ نَقْلُهُ إِلَى
الْحَضَرِ، لأَِنَّهُ يَنْقُلُهُ مِنْ أَرْضِ الْبُؤْسِ وَالشَّقَاءِ
إِلَى الرَّفَاهِيَةِ وَالدَّعَةِ وَالدِّينِ، وَإِنْ أَقَامَ فِي
حِلَّةٍ يَسْتَوْطِنُهَا فَلَهُ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ يَنْتَقِل بِهِ إِلَى الْمَوَاضِعِ احْتَمَل أَنْ يُقَرُّ
فِي يَدَيْهِ لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ ابْنُ بَدْوِيَّيْنِ
وَإِقْرَارُهُ فِي يَدِ مُلْتَقِطِهِ أَرْجَى لِكَشْفِ نَسَبِهِ،
وَيَحْتَمِل أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ فَيُدْفَعَ إِلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ،
لأَِنَّهُ أَرْفَهُ لَهُ وَأَخَفُّ عَلَيْهِ. وَكُل مَوْضِعٍ قُلْنَا
يُنْزَعُ مِنْ مُلْتَقِطِهِ فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إِذَا وُجِدَ
مَنْ يُدْفَعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ
مَنْ يَقُومُ بِهِ أُقِرَّ فِي يَدَيْ مُلْتَقِطِهِ، وَإِنْ لَمْ
يُوجَدْ إِلاَّ مِثْل مُلْتَقِطِهِ فَمُلْتَقِطُهُ أَوْلَى بِهِ إِذْ
لاَ فَائِدَةُ فِي نَزْعِهِ مِنْ يَدِهِ (1) .
حُرِّيَّةُ اللَّقِيطِ وَرِقُّهُ
9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ اللَّقِيطَ حُرٌّ مِنْ حَيْثُ
الظَّاهِرُ لأَِنَّ الأَْصْل فِي بَنِي آدَمَ إِنَّمَا هُوَ
الْحُرِّيَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ
أَحْرَارًا وَإِنَّمَا الرِّقُّ لِعَارِضٍ فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ
ذَلِكَ الْعَارِضُ فَلَهُ حُكْمُ الأَْصْل، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ
عُمَرَ
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 757 - 759.
(35/315)
وَعَلِيٍّ وَبِهِ قَال عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالثَّوْرِيُّ
وَإِسْحَاقُ (1) .
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (رِقٌّ ف 3 وَمَا
بَعْدَهَا) .
الْحُكْمُ بِإِسْلاَمِ اللَّقِيطِ أَوْ كُفْرِهِ
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الأَْصْل الَّذِي يُحْكَمُ بِهِ عَلَى
اللَّقِيطِ مِنْ حَيْثُ الإِْسْلاَمُ أَوِ الْكُفْرُ، هَل يَكُونُ
الأَْصْل فِي ذَلِكَ هُوَ الدَّارُ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا مِنْ حَيْثُ
كَوْنُهَا دَارَ إِسْلاَمٍ أَوْ دَارَ كُفْرٍ أَوْ أَنَّ الأَْصْل فِي
ذَلِكَ هُوَ حَال الْوَاجِدِ مِنْ كَوْنِهِ مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ
مُسْلِمٍ؟ .
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ
فِي ذَلِكَ هُوَ الدَّارُ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا اللَّقِيطُ فَإِنْ
كَانَتِ الدَّارُ دَارَ إِسْلاَمٍ حُكِمَ بِإِسْلاَمِهِ تَبَعًا
لِلدَّارِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا، وَالدَّارُ الَّتِي تُعْتَبَرُ دَارَ
إِسْلاَمٍ عِنْدَهُمْ هِيَ:
أ - دَارٌ يَسْكُنُهَا الْمُسْلِمُونَ وَلَوْ كَانَ فِيهَا أَهْل
ذِمَّةٍ تَغْلِيبًا لِلإِْسْلاَمِ وَلِظَاهِرِ الدَّارِ وَلأَِنَّ
الإِْسْلاَمَ يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى عَلَيْهِ.
ب - دَارٌ فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ وَقَبْل مِلْكِهَا أَقَرُّوهَا
بِيَدِ الْكُفَّارِ صُلْحًا.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 197، وفتح القدير 5 / 342 نشر دار إحياء التراث،
والدسوقي 4 / 125، والخرشي وحاشية العدوي بهامشه 7 / 132، ومغني
المحتاج 2 / 425، والمغني 5 / 747، وكشاف القناع 4 / 226.
(35/316)
ج - دَارٌ فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ
وَمَلَكُوهَا عَنْوَةً وَأَقَرُّوا أَهْلَهَا عَلَيْهَا بِجِزْيَةٍ.
د - دَارٌ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسْكُنُونَهَا ثُمَّ أَجْلاَهُمُ
الْكُفَّارُ عَنْهَا. فَفِي هَذِهِ الأَْمَاكِنِ يُعْتَبَرُ اللَّقِيطُ
الَّذِي يُوجَدُ فِيهَا مُسْلِمًا لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُوجَدَ بِهَا
مُسْلِمٌ يَمْكَنُ أَنْ يَكُونَ اللَّقِيطُ مِنْهُ لأَِنَّهُ يُحْتَمَل
أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ الْمُسْلِمِ تَغْلِيبًا لِلإِْسْلاَمِ (1) .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُسْلِمٌ، بَل كَانَ جَمِيعُ مَنْ فِيهَا
كُفَّارًا فَهُوَ كَافِرٌ كَمَا إِذَا وُجِدَ بِدَارِ كُفَّارٍ لَمْ
يَسْكُنْهَا مُسْلِمٌ يُحْتَمَل إِلْحَاقُهُ بِهِ، فَإِنْ كَانَتِ
الدَّارُ دَارَ كُفْرٍ وَكَانَ فِيهَا مُسْلِمُونَ كَتُجَّارٍ
وَأَسْرَى فَأَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي
احْتِمَالٍ لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّ اللَّقِيطَ فِيهَا يُعْتَبَرُ
مُسْلِمًا تَغْلِيبًا لِلإِْسْلاَمِ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالاِحْتِمَال الآْخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ يُحْكَمُ
بِكُفْرِهِ تَغْلِيبًا لِلدَّارِ وَالأَْكْثَرِ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَخْلُو حَال اللَّقِيطِ مِنْ أُمُورٍ
أَرْبَعَةٍ:
أ - أَنْ يَجِدَهُ مُسْلِمٌ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ
أَوْ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ، فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ
يُحْكَمُ بِإِسْلاَمِهِ حَتَّى لَوْ مَاتَ يُغَسَّل
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 422، والروضة 5 / 433، والمغني 5 / 748، وكشاف
القناع 4 / 226 - 227.
(2) الروضة 5 / 433، 434، ومغني المحتاج 2 / 422، وكشاف القناع 4 /
226، 227، والمغني 5 / 748، 749.
(35/316)
وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ فِي
مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ.
ب - أَنْ يَجِدَهُ ذِمِّيٌّ فِي بَيْعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ أَوْ فِي
قَرْيَةٍ لَيْسَ فِيهَا مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ يَكُونُ ذِمِّيًّا
تَحْكِيمًا لِلظَّاهِرِ.
ج - أَنْ يَجِدَهُ مُسْلِمٌ فِي بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ أَوْ فِي
قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْل الذِّمَّةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ ذِمِّيًّا
أَيْضًا.
د - أَنْ يَجِدَهُ ذِمِّيٌّ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ
أَوْ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا (1) .
كَذَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ اللَّقِيطِ مِنَ الأَْصْل وَاعْتُبِرَ
الْمَكَانُ، وَرَوَى ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ اعْتَبَرَ
حَال الْوَاجِدِ مِنْ كَوْنِهِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَفِي
كِتَابِ الدَّعْوَى اعْتُبِرَ الإِْسْلاَمُ إِلَى أَيِّهِمَا نُسِبَ
إِلَى الْوَاجِدِ أَوْ إِلَى الْمَكَانِ، قَال الْكَاسَانِيُّ:
وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ هَذَا الْكِتَابِ (أَيْ كِتَابِ اللَّقِيطِ،
وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي الْعِنَايَةِ عَلَى الْهِدَايَةِ) لأَِنَّ
الْمَوْجُودَ فِي مَكَانٍ هُوَ فِي أَيْدِي أَهْل الإِْسْلاَمِ
وَتَصَرُّفِهِمْ فِي أَيْدِيهِمْ، وَاللَّقِيطُ الَّذِي هُوَ فِي يَدِ
الْمُسْلِمِ وَتَصَرُّفِهِ يَكُونُ مُسْلِمًا ظَاهِرًا، وَالْمَوْجُودُ
فِي الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِي أَيْدِي أَهْل الذِّمَّةِ،
وَتَصَرُّفِهِمْ فِي أَيْدِيهِمْ، وَاللَّقِيطُ الَّذِي هُوَ فِي يَدِ
الذِّمِّيِّ وَتَصَرُّفِهِ يَكُونُ ذِمِّيًّا
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 198، وفتح القدير والعناية 5 / 345 والمبسوط 10
/ 215.
(35/317)
ظَاهِرًا فَكَانَ اعْتِبَارُ الْمَكَانِ
أَوْلَى (1) .
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ يُعْتَبَرُ الزِّيُّ وَالْعَلاَمَةُ، جَاءَ
فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَفِي كِفَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ: قِيل
يُعْتَبَرُ بِالسِّيمَا وَالزِّيِّ لأَِنَّهُ حُجَّةٌ (2) ، قَال
اللَّهُ تَعَالَى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} (3) ، {يُعْرَفُ
الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} (4) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا وُجِدَ اللَّقِيطُ فِي بِلاَدِ
الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلاَمِهِ، لأَِنَّهُ الأَْصْل
وَالْغَالِبُ وَسَوَاءٌ الْتَقَطَهُ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ، وَإِذَا
وُجِدَ فِي قَرْيَةٍ لَيْسَ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ سِوَى
بَيْتَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلاَمِهِ أَيْضًا
تَغْلِيبًا لِلإِْسْلاَمِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الَّذِي الْتَقَطَهُ
مُسْلِمٌ، فَإِنِ الْتَقَطَهُ ذِمِّيٌّ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ
عَلَى الْمَشْهُورِ، وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ مَا قَالَهُ أَشْهَبُ
وَهُوَ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلاَمِهِ مُطْلَقًا أَيْ سَوَاءٌ
الْتَقَطَهُ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ.
وَإِذَا وُجِدَ فِي قُرَى الشِّرْكِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ
سَوَاءٌ الْتَقَطَهُ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ تَغْلِيبًا لِلدَّارِ
وَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ، وَأَمَّا
أَشْهَبُ فَيَقُول: إِنِ الْتَقَطَهُ مُسْلِمٌ فَهُوَ مُسْلِمٌ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 198، والعناية وفتح القدير 5 / 345، 346 نشر دار
إحياء التراث، والمبسوط 10 / 215.
(2) فتح القدير 5 / 346.
(3) سورة البقرة / 273.
(4) سورة الرحمن / 41.
(35/317)
تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الإِْسْلاَمِ
لأَِنَّهُ يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى عَلَيْهِ (1) .
نَسَبُ اللَّقِيطِ
11 - إِذَا ادَّعَى اللَّقِيطَ شَخْصٌ وَاحِدٌ سَوَاءٌ أَكَانَ هُوَ
الْمُلْتَقِطَ أَوْ غَيْرَهُ فَإِنْ كَانَ رَجُلاً مُسْلِمًا حُرًّا
لَحِقَ نَسَبُهُ بِهِ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بِأَنْ
تَتَحَقَّقَ فِيهِ شُرُوطُ الاِسْتِلْحَاقِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ
إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لأَِنَّ الإِْقْرَارَ
مَحْضُ نَفْعٍ لِلطِّفْل لاِتِّصَال نَسَبِهِ، وَلاَ مَضَرَّةَ عَلَى
غَيْرِهِ فِيهِ فَقُبِل كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِمَالٍ (2) .
وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا فِي
الاِسْتِحْسَانِ لأَِنَّ فِي إِثْبَاتِ النَّسَبِ نَظَرًا مِنَ
الْجَانِبَيْنِ، جَانِبِ اللَّقِيطِ بِشَرَفِ النَّسَبِ
وَالتَّرْبِيَةِ وَالصِّيَانَةِ عَنْ أَسِبَابِ الْهَلاَكِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ، وَجَانِبِ الْمُدَّعِي بِوَلَدٍ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى
مَصَالِحِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ.
وَفِي الْقِيَاسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ تُسْمَعُ الدَّعْوَى
إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ لأَِنَّهُ يَدَّعِي أَمْرًا جَائِزَ الْوُجُودِ
وَالْعَدِمِ فَلاَ بُدَّ لِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى
الآْخِرِ مِنْ مُرَجِّحٍ وَذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ وَلَمْ تُوجَدْ (3) .
وَإِذَا كَانَ الْمُدَّعِي ذِمِّيًّا تَصِحُّ دَعْوَاهُ وَيَثْبُتُ
نَسَبُهُ مِنْهُ لَكِنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا لأَِنَّهُ - كَمَا يَقُول
الْكَاسَانِيُّ - ادَّعَى شَيْئَيْنِ يُتَصَوَّرُ انْفِصَال
__________
(1) شرح الخرشي 7 / 132.
(2) روضة الطالبين 5 / 437، والمغني 5 / 763.
(3) بدائع الصنائع 6 / 199.
(35/318)
أَحَدِهِمَا عَنِ الآْخَرِ فِي الْجُمْلَةِ
وَهُوَ نَسَبُ الْوَلَدِ وَكَوْنُهُ كَافِرًا، وَيُمْكِنُ تَصْدِيقُهُ
فِي أَحَدِهِمَا لِكَوْنِهِ نَفْعًا لِلَّقِيطِ وَهُوَ كَوْنُهُ ابْنًا
لَهُ وَلاَ يُمْكِنُ تَصْدِيقُهُ فِي الآْخَرِ لِكَوْنِهِ ضَرَرًا بِهِ
وَهُوَ كَوْنُهُ كَافِرًا فَيُصَدَّقُ فِيمَا فِيهِ نَفْعُهُ
فَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ، وَلاَ يُصَدَّقُ فِيمَا يَضُرُّهُ
فَلاَ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا: وَلاَ
حَقَّ لَهُ أَيْضًا فِي حَضَانَتِهِ.
وَقَالُوا: إِنَّمَا يَكُونُ مُسْلِمًا فِي ادِّعَاءِ الذِّمِّيِّ لَهُ
إِذَا كَانَ ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ الإِْقْرَارِ أَمَّا إِذَا أَقَامَ
الذِّمِّيُّ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّ اللَّقِيطَ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ
مِنْهُ وَيَكُونُ عَلَى دِينِهِ خِلاَفًا لِلإِْقْرَارِ (1) .
وَإِذَا كَانَ الْمُدَّعِي عَبْدًا تَصِحُّ دَعْوَاهُ وَيَثْبُتُ
نَسَبُهُ مِنْهُ لَكِنَّهُ يَكُونُ حُرًّا لأَِنَّهُ ادَّعَى
شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا نَفْعٌ لِلَّقِيطِ وَالآْخَرُ مَضَرَّةٌ هُوَ
الرِّقُّ فَيُصَدَّقُ فِيمَا يَنْفَعُهُ لاَ فِيمَا يَضُرُّهُ، وَلاَ
حَضَانَةَ لِلْعَبْدِ عَلَيْهِ لاِشْتِغَالِهِ بِالسَّيِّدِ فَيَضِيعُ
فَلاَ يَتَأَهَّل لِلْحَضَانَةِ، فَإِذَا أَذِنَ السَّيِّدُ جَازَ
لاِنْتِفَاءِ مَانِعُ الشُّغْل، كَمَا أَنَّهُ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ
نَفَقَتُهُ لأَِنَّهُ لاَ مَال لَهُ وَلاَ عَلَى سَيِّدِهِ، لأَِنَّ
الطِّفْل مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ فَتَكُونُ نَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ
الْمَال، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 199، وروضة الطالبين 5 / 437، ومغني المحتاج 2 /
422، والمغني 5 / 763 - 764، وكشاف القناع 4 / 235.
(35/318)
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
يَلْحَقُ الْمُلْتَقَطُ بِالْعَبْدِ إِنْ صَدَّقَهُ السَّيِّدُ وَقِيل
لاَ يَلْحَقُ مُطْلَقًا، وَقِيل: يَلْحَقُ قَطْعًا إِنْ كَانَ
مَأْذُونًا لَهُ فِي النِّكَاحِ وَمَضَى زَمَانُ إِمْكَانِهِ وَإِلاَّ
فَقَوْلاَنِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى اللَّقِيطُ
الْمُلْتَقِطَ أَوْ غَيْرَهُ فَلاَ يَلْحَقُ نَسَبُهُ بِهِ إِلاَّ
بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ.
الأَْمْرُ الأَْوَّل: أَنْ يَأْتِيَ الْمُدَّعِي بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ
لَهُ بِأَنَّهُ ابْنُهُ وَلاَ يَكْفِي قَوْل الْبَيِّنَةِ ذَهَبَ لَهُ
وَلَدٌ أَوْ طُرِحَ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ لَحِقَ بِهِ سَوَاءٌ
كَانَ اللَّقِيطُ مَحْكُومًا بِإِسْلاَمِهِ أَوْ كُفْرِهِ وَسَوَاءٌ
كَانَ الْمُسْتَلْحَقُ لَهُ الَّذِي شَهِدَتْ لَهُ الْبَيِّنَةُ
مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا.
الأَْمْرُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِدَعْوَاهُ وَجْهٌ كَرَجُلٍ عُرِفَ
أَنَّهُ لاَ يَعِيشُ لَهُ وَلَدٌ فَزَعَمَ أَنَّهُ رَمَاهُ لِقَوْل
النَّاسِ: إِذَا طُرِحَ عَاشَ وَنَحْوُهُ مِمَّا يَدُل عَلَى صِدْقِهِ
فَإِنَّهُ يَلْحَقُ بِصَاحِبِ الْوَجْهِ الْمُدَّعِي، سَوَاءٌ كَانَ
اللَّقِيطُ مَحْكُومًا بِإِسْلاَمِهِ أَوْ كُفْرِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ
الْمُسْتَلْحَقُ لَهُ صَاحِبُ الْوَجْهِ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا
وَهَذَا عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَرَفَةَ وَالتَّتَائِيُّ
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَْجْهُورِيُّ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى
أَنَّهُ لاَ يَلْحَقُ بِصَاحِبِ الْوَجْهِ إِلاَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 199، وروضة الطالبين 5 / 437، والمغني 5 / 763.
(35/319)
إِذَا كَانَ صَاحِبُ الْوَجْهِ مُسْلِمًا
وَأَمَّا إِذَا اسْتَلْحَقَهُ ذِمِّيٌّ فَلاَ بُدَّ مِنَ الْبَيِّنَةِ
(1) .
12 - وَإِنِ ادَّعَى نَسَبَ اللَّقِيطِ اثْنَانِ، مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ
أَوْ حُرٌّ وَعَبْدٌ فَهُمَا سَوَاءٌ، لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ لَوِ
انْفَرَدَ صَحَّتْ دَعْوَاهُ، فَإِذَا تَنَازَعُوا تُسَاوَوْا فِي
الدَّعْوَى كَالأَْحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ فَلاَ بُدَّ مِنْ مُرَجِّحٍ،
فَإِنْ كَانَ لأَِحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ فَهُوَ ابْنُهُ، وَإِنْ أَقَامَا
بَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا وَسَقَطَتَا وَلاَ يُمْكِنُ
اسْتِعْمَالُهُمَا هَاهُنَا.
فَإِذَا لَمْ تَكُنْ لأَِحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ أَوْ كَانَتْ لَهُمَا
بَيِّنَتَانِ وَتَعَارَضَتَا وَسَقَطَتَا فَإِنَّهُ يُعْرَضُ عَلَى
الْقَافَةِ مَعَ الْمُدَّعِيَيْنِ فَيَلْحَقُ بِمَنْ أَلْحَقَتْهُ بِهِ
مِنْهُمَا، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل عَلَيْهَا يَوْمًا
مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ فَقَال: أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ
مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ دَخَل عَلَيَّ فَرَأَى أُسَامَةَ وَزَيْدًا
وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ
أَقْدَامُهُمَا فَقَال: إِنَّ هَذِهِ الأَْقْدَامُ بَعْضُهَا مِنْ
بَعْضٍ (2) ، فَلَوْلاَ جَوَازُ الاِعْتِمَادِ عَلَى الْقَافَةِ لَمَا
سُرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ
اعْتَمَدَ عَلَيْهِ.
هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 126، والتاج والإكليل بهامش
الحطاب 6 / 82.
(2) حديث عائشة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يومًا
مسرورًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 56) ومسلم (2 / 1082)
واللفظ للبخاري.
(35/319)
قَوْل أَنَسٍ وَعَطَاءٍ وَيَزِيدَ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ وَأَبِي ثَوْرٍ (1) .
فَإِنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِأَحَدِهِمَا لَحِقَ بِهِ وَإِنْ
أَلْحَقَتْهُ بِهِمَا فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ سَقَطَ قَوْلُهُمَا
وَلاَ يَلْحَقُ بِهِمَا وَيُتْرَكُ حَتَّى يَبْلُغَ فَإِذَا بَلَغَ
أُمِرَ بِالاِنْتِسَابِ إِلَى مَنْ يَمِيل طَبْعُهُ إِلَيْهِ فَمَنِ
انْتَسَبَ إِلَيْهِ مِنْهُمَا لَحِقَ بِهِ " لِمَا وَرَدَ أَنَّ
رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا رَجُلاً لاَ يُدْرَى أَيُّهُمَا أَبُوهُ فَقَال
عُمَرُ: اتَّبِعْ أَيَّهُمَا شِئْتَ (2) ، وَلأَِنَّ طَبْعَ الْوَلَدِ
يَمِيل إِلَى وَالِدِهِ وَيَجِدُ بِهِ مَا لاَ يَجِدُ بِغَيْرِهِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَلْحَقُ بِهِمَا وَكَانَ ابْنُهُمَا
يَرِثُهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ وَيَرِثَانِهِ جَمِيعًا مِيرَاثَ أَبٍ
وَاحِدٍ وَهَذَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُمَا وَهُوَ قَوْل أَبِي ثَوْرٍ وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عُمَرَ فِي امْرَأَةٍ وَطِئَهَا
رَجُلاَنِ فِي طُهْرٍ فَقَال الْقَائِفُ: قَدِ اشْتَرَكَا فِيهِ
جَمِيعًا فَجَعَلَهُ بَيْنَهُمَا، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَال: وَعَلِيٌ
يَقُول: هُوَ ابْنُهَا وَهُمَا أَبَوَاهُ يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ
(3) .
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ إِنِ ادَّعَاهُ أَكْثَرُ مِنَ
اثْنَيْنِ فَأَلْحَقَتْهُ بِهِمُ الْقَافَةُ أَنَّهُ يَلْحَقُ
بِالثَّلاَثَةِ، وَقَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: لاَ يَلْحَقُ
بِأَكْثَرَ مِنَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 428، والمغني 5 / 765 - 766.
(2) أثر: " أن رجلين ادعيا رجلا. . . ". أخرجه البيهقي (10 / 263) .
(3) روضة الطالبين 5 / 439، والمهذب 1 / 444، ومغني المحتاج 2 / 428،
والمغني 5 / 771 - 772، 766.
(35/320)
اثْنَيْنِ، وَقَال الْقَاضِي لاَ يَلْحَقُ
بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةٍ لأَِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لأَِجْلِهِ
لَحِقَ بِاثْنَيْنِ مَوْجُودٌ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ فَيُقَاسُ
عَلَيْهِ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يَلْحَقَ مِنَ اثْنَيْنِ جَازَ أَنْ
يَلْحَقَ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوِ ادَّعَى رَجُلاَنِ أَنَّ اللَّقِيطَ
ابْنُهُمَا وَلاَ بَيِّنَةَ لَهُمَا فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا
مُسْلِمًا وَالآْخَرُ ذِمِّيًّا فَالْمُسْلِمُ أَوْلَى لأَِنَّهُ
أَنْفَعُ لِلَّقِيطِ وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا
وَالآْخَرُ عَبْدًا فَالْحُرُّ أَوْلَى لأَِنَّهُ أَنْفَعُ لَهُ.
وَإِنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ حُرَّيْنِ فَإِنْ وَصَفَ أَحَدُهُمَا
عَلاَمَةً فِي جَسَدِهِ فَالْوَاصِفُ أَوْلَى بِهِ لأَِنَّ
الدَّعْوَتَيْنِ مَتَى تَعَارَضَتَا يَجِبُ الْعَمَل بِالرَّاجِحِ
مِنْهُمَا وَقَدْ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا بِالْعَلاَمَةِ لأَِنَّهُ
إِذَا وَصَفَ الْعَلاَمَةَ وَلَمْ يَصِفِ الآْخَرُ دَل عَلَى أَنَّ
يَدَهُ عَلَيْهِ سَابِقَةٌ فَلاَ بُدَّ لِزَوَالِهَا مِنْ دَلِيلٍ.
وَالدَّلِيل عَلَى جِوَازِ الْعَمَل بِالْعَلاَمَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ
الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ
وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ
قَال إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} (2) ، حَكَى
اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْحُكْمِ بِالْعَلاَمَةِ عَنِ الأُْمَمِ
السَّالِفَةِ وَلَمْ يُغَيَّرْ
__________
(1) المغني 5 / 772 - 773.
(2) سورة يوسف / 26 - 28.
(35/320)
عَلَيْهِمْ وَالْحَكِيمُ " إِذَا حَكَى
عَنْ مُنْكَرٍ غَيْرِهِ فَصَارَ الْحُكْمُ بِالْعَلاَمَةِ شَرِيعَةً
لَنَا مُبْتَدَأَةً وَإِنْ لَمْ يَصِفْ أَحَدُهُمَا عَلاَمَةً
فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ ابْنًا لَهُمَا إِذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا
بِأَوْلَى مِنَ الآْخَرِ فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ
فَهُوَ أَوْلَى بِهِ وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ يُحْكَمُ
بِكَوْنِهِ ابْنًا لَهُمَا لأَِنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى
مِنَ الآْخَرِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ فِي مِثْل هَذَا
أَنَّهُ قَال: إِنَّهُ ابْنُهُمَا يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ، فَإِنِ
ادَّعَاهُ أَكْثَرُ مِنْ رَجُلَيْنِ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ رُوِيَ
عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تُسْمَعُ مِنْ خَمْسَةٍ وَقَال أَبُو
يُوسُفَ مِنَ اثْنَيْنِ وَلاَ تُسْمَعُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ
وَقَال مُحَمَّدٌ تُسْمَعُ مِنْ ثَلاَثَةٍ وَلاَ تُسْمَعُ مِنْ
أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ (1) .
13 - وَإِنِ ادَّعَى اللَّقِيطُ امْرَأَةً وَقَالَتْ: إِنَّهُ ابْنِي
فَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ فَلاَ تُقْبَل دَعْوَاهَا إِلاَّ
بِبَيِّنَةٍ لأَِنَّ فِي ادِّعَائِهَا بُنُوَّتَهُ تَحْمِيل النَّسَبِ
عَلَى الْغَيْرِ وَهُوَ الزَّوْجُ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَيْهِ فَلاَ
يُقْبَل قَوْلُهَا فِيمَا يَلْحَقُ الضَّرَرُ بِهِ فَإِنْ أَقَامَتِ
الْبَيِّنَةَ صَحَّتْ دَعْوَتُهَا وَلَحِقَ بِهَا اللَّقِيطُ وَلَحِقَ
زَوْجُهَا إِنْ أَمْكَنَ الْعُلُوقُ مِنْهُ وَلاَ يَنْتَفِي عَنْهُ
إِلاَّ بِلِعَانٍ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: هَذَا إِذَا قُيِّدَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهَا
وَلَدَتْهُ عَلَى فِرَاشِهِ فَإِنْ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِلْفِرَاشِ فَفِي
ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنَ الزَّوْجِ وَجْهَانِ: قَال النَّوَوِيُّ:
الأَْصَحُّ الْمَنْعُ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ
وَهُوَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 199 - 200.
(35/321)
أَحَدُ الأَْقْوَال عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَرِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ
خَلِيَّةً مِنَ الزَّوْجِ وَادَّعَتْ أَنَّ اللَّقِيطَ ابْنُهَا فَفِي
الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يَلْحَقُهَا إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ
لإِِمْكَانِهَا إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ بِالْوِلاَدَةِ مِنْ طَرِيقِ
الْمُشَاهَدَةِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ
الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَلْحَقُهَا لأَِنَّهَا أَحَدُ
الأَْبَوَيْنِ فَصَارَتْ كَالرَّجُل.
وَرُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ نَقَلَهَا
الْكَوْسَجُ عَنْهُ فِي امْرَأَةٍ ادَّعَتْ وَلَدًا قَال: إِنْ كَانَ
لَهَا إِخْوَةٌ أَوْ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ لاَ تُصَدَّقُ إِلاَّ
بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا دَافِعٌ لَمْ يَحِل بَيْنَهَا
وَبَيْنَهُ لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ لَهَا أَهْلٌ وَنَسَبٌ مَعْرُوفٌ
لَمْ تَخْفَ وِلاَدَتُهَا عَلَيْهِمْ وَيَتَضَرَّرُونَ بِإِلْحَاقِ
النَّسَبِ بِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْيِيرِهِمْ بِوِلاَدَتِهَا مِنْ
غَيْرِ زَوْجِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَهْلٌ،
وَيُحْتَمَل أَنْ لاَ يَثْبُتَ النَّسَبُ بِدَعْوَاهَا بِحَالٍ (1) .
14 - وَإِنِ ادَّعَتْهُ امْرَأَتَانِ وَأَقَامَتْ إِحْدَاهُمَا
الْبَيِّنَةَ فَهِيَ أَوْلَى بِهِ، وَإِنْ أَقَامَتَا بَيِّنَتَيْنِ
فَهُوَ ابْنُهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لاَ
يَكُونُ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ يُجْعَل
ابْنَهُمَا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ لاَ يُجْعَل ابْنَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 200، وفتح القدير 5 / 345، ومغني المحتاج 2 /
427، وروضة الطالبين 5 / 428، والمغني 5 / 764 - 765.
(35/321)
وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ تَنَازَعَتِ امْرَأَتَانِ لَقِيطًا
وَأَقَامَتَا بَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا عُرِضَ مَعَهُمَا عَلَى
الْقَائِفِ فَلَوْ أَلْحَقَهُ بِإِحْدَاهُمَا لَحِقَهَا وَلَحِقَ
زَوْجَهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ لَمْ يُعْرَضْ عَلَى
الْقَائِفِ لأَِنَّ اسْتِلْحَاقَ الْمَرْأَةِ إِنَّمَا يَصِحُّ مَعَ
الْبَيِّنَةِ (2) وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِذْ
إِنَّهُمْ قَالُوا: لاَ يَلْتَحِقُ الْوَلَدُ بِأَكْثَرَ مِنْ أُمٍّ
وَاحِدَةٍ لأَِنَّهُ يَسْتَحِيل أَنْ يَكُونَ مِنْ أُمَّيْنِ فَإِنْ
أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِأَكْثَرَ مِنْ أُمٍّ سَقَطَ قَوْلُهَا
وَلَمْ يَلْحَقْ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِتَبَيُّنِ خَطَأِ الْقَافَةِ
وَلَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا أَوْلَى مِنَ الأُْخْرَى (3) .
نَفَقَةُ اللَّقِيطِ
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ اللَّقِيطِ تَكُونُ
فِي مَالِهِ إِنْ وُجِدَ مَعَهُ مَالٌ مِنْ دَرَاهِمَ وَغَيْرِهَا
كَذَهَبٍ وَحُلِيٍّ وَثِيَابٍ مَلْفُوفَةٍ عَلَيْهِ وَمَفْرُوشَةٍ
تَحْتَهُ وَدَابَّةٍ مَشْدُودَةٍ فِي وَسَطِهِ، أَوْ كَانَ
مُسْتَحِقًّا فِي مَالٍ عَامٍّ كَالأَْمْوَال الْمَوْقُوفَةِ عَلَى
اللُّقَطَاءِ أَوِ الْمُوصَى بِهَا لَهُمْ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ خَاصٌّ وَلَمْ تُوجَدْ أَمْوَالٌ
مَوْقُوفَةٌ عَلَى اللُّقَطَاءِ أَوْ مُوصًى لَهُمْ بِهَا فَإِنَّ
نَفَقَتَهُ تَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَال لِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 200.
(2) مغني المحتاج 2 / 428.
(3) كشاف القناع 4 / 237.
(35/322)
تَعَالَى عَنْهُ فِي حَدِيثِ أَبِي
جَمِيلَةَ: اذْهَبْ فَهُوَ حُرٌّ وَلَكَ وَلاَؤُهُ وَعَلَيْنَا
نَفَقَتُهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ بَيْتِ الْمَال (1) ، وَلأَِنَّ
بَيْتَ الْمَال وَارِثُهُ وَمَالُهُ مَصْرُوفٌ إِلَيْهِ فَتَكُونُ
نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ
يُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَال وَإِنَّمَا يُقْتَرَضُ عَلَيْهِ
مِنْ بَيْتِ الْمَال أَوْ غَيْرِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ مَالٌ
(2) .
16 - فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَال شَيْءٌ أَوْ كَانَ لَكِنْ
هُنَاكَ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ كَسَدِّ ثَغْرٍ يَعْظُمُ
ضَرَرُهُ لَوْ تُرِكَ أَوْ حَالَتِ الظَّلَمَةُ دُونَهُ
فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ بَيَانُهُ مَا يَلِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَال مَالٌ
وَأَبَى الْمُلْتَقِطُ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِالإِْنْفَاقِ فَتَمَامُ
النَّظَرِ بِالأَْمْرِ بِالإِْنْفَاقِ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ لاَ يَبْقَى
بِدُونِ النَّفَقَةِ عَادَةً وَلِلْقَاضِي عَلَيْهِ وِلاَيَةُ
الإِْلْزَامِ لأَِنَّهُ وَلِيُّ كُل مَنْ عَجَزَ عَنِ التَّصَرُّفِ
بِنَفْسِهِ يَثْبُتُ وِلاَيَتُهُ بِحَقِّ الدِّينِ فَيُعْتَبَرُ
أَمْرُهُ فِي إِلْزَامِ الدِّينِ عَلَيْهِ، قَال السَّرْخَسِيُّ:
وَقَدْ قَال بَعْضُ مَشَايِخِنَا:
__________
(1) أثر عمر: " اذهب فهو حر ولك ولاؤه. . . ". أخرجه مالك في الموطأ (2
/ 738) ، والرواية الأخرى أخرجها عبد الرزاق (9 / 14) .
(2) بدائع الصنائع 6 / 198 - 199، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 /
124 - 125، والخرشي 7 / 130 - 131، ومغني المحتاج 2 / 421، والمغني 5 /
751 - 752، وشرح منتهى الإرادات 2 / 482.
(35/322)
مُجَرَّدُ أَمْرِ الْقَاضِي بِالإِْنْفَاقِ
عَلَيْهِ يَكْفِي وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ
وَلأَِنَّ أَمْرَ الْقَاضِي نَافِذٌ عَلَيْهِ كَأَمْرِهِ بِنَفْسِهِ
أَنْ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِالإِْنْفَاقِ
عَلَيْهِ كَانَ مَا يُنْفِقُ دَيْنًا عَلَيْهِ - أَيْ عَلَى اللَّقِيطِ
- فَكَذَلِكَ إِذَا أَمَرَ الْقَاضِي بِهِ، وَالأَْصَحُّ أَنْ
يَأْمُرَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ لأَِنَّ مُطْلَقَهُ
يَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ لِلْحَثِّ وَالتَّرْغِيبِ فِي تَمَامِ مَا
شُرِعَ فِيهِ مِنَ التَّبَرُّعِ فَإِنَّمَا يَزُول هَذَا الاِحْتِمَال
إِذَا اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا " لَهُ عَلَيْهِ فَلِهَذَا
قَيَّدَ الأَْمْرَ بِهِ فَإِذَا ادَّعَى بَعْدَ بُلُوغِ اللَّقِيطِ
أَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَيْهِ كَذَا وَصَدَّقَهُ اللَّقِيطُ فِي ذَلِكَ
رَجَعَ عَلَيْهِ بِهِ وَإِنْ كَذَّبَهُ فَالْقَوْل قَوْل اللَّقِيطِ
وَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ لأَِنَّهُ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ
دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ لَيْسَ بِأَمِينٍ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا
يَكُونُ أَمِينًا فِيمَا يَنْفِي بِهِ الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ
فَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ إِثْبَاتُ مَا يَدَّعِيهِ بِالْبَيِّنَةِ (1)
.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَعَ اللَّقِيطِ مَالٌ
وَلَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَال شَيْءٌ فَتَكُونُ نَفَقَتُهُ عَلَى
الْمُلْتَقِطِ وُجُوبًا لأَِنَّهُ بِالْتِقَاطِهِ أَلْزَمَ نَفْسَهُ
ذَلِكَ وَيَسْتَمِرُّ الإِْنْفَاقُ عَلَى الذَّكَرِ حَتَّى يَبْلُغَ
قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ وَعَلَى الأُْنْثَى إِلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ
وَيَدْخُل الزَّوْجُ بِهَا بَعْدَ إِطَاقَتِهَا، وَلاَ رُجُوعَ
لِلْمُلْتَقِطِ بِمَا أَنْفَقَ لأَِنَّهُ أَلْزَمَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ
__________
(1) المبسوط للسرخسي 10 / 211.
(35/323)
بِالاِلْتِقَاطِ.
لَكِنْ لَوْ أَنْفَقَ الْمُلْتَقِطُ وَكَانَ لِلَّقِيطِ مَالٌ يَعْلَمُ
بِهِ الْمُلْتَقِطُ حَال إِنْفَاقِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ
إِذَا حَلَفَ أَنَّهُ أَنْفَقَ لِيَرْجِعَ.
وَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ قَدْ طَرَحَهُ أَبُوهُ عَمْدًا وَثَبَتَ
ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ فَإِنَّ الْمُلْتَقِطَ يَرْجِعُ
بِمَا أَنْفَقَهُ عَلَى أَبِيهِ إِنْ كَانَ الأَْبُ مُوسِرًا حِينَ
الإِْنْفَاقِ وَأَنْ يَحْلِفَ الْمُنْفِقُ أَنَّهُ أَنْفَقَ لِيَرْجِعَ
لاَ حِسْبَةً، فَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ قَدْ ضَل عَنْ أَبِيهِ أَوْ
هَرَبَ وَلَمْ يَطْرَحْهُ أَبُوهُ فَلاَ يَرْجِعُ الْمُنْفِقُ عَلَى
الأَْبِ الْمُوسِرِ لأَِنَّ الإِْنْفَاقَ حِينَئِذٍ مَحْمُولٌ عَلَى
التَّبَرُّعِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ تَعَذَّرَ الإِْنْفَاقُ مِنْ بَيْتِ
الْمَال اقْتَرَضَ لَهُ الإِْمَامُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذِمَّةِ
اللَّقِيطِ كَالْمُضْطَرِّ إِلَى الطَّعَامِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ
الاِقْتِرَاضُ قَامَ الْمُسْلِمُونَ بِكِفَايَتِهِ قَرْضًا حَتَّى
يَثْبُتَ لَهُمُ الرُّجُوعُ بِمَا أَنْفَقُوا عَلَى اللَّقِيطِ
وَيُقَسِّطُهَا الإِْمَامُ عَلَى الأَْغْنِيَاءِ مِنْهُمْ وَيَجْعَل
نَفْسَهُ مِنْهُمْ، فَإِنْ تَعَذَّرَ اسْتِيعَابُهُمْ لِكَثْرَتِهِمْ.
قَسَّطَهَا عَلَى مَنْ رَآهُ مِنْهُمْ بِاجْتِهَادِهِ، فَإِنِ
اسْتَوَوْا فِي اجْتِهَادِهِ تَخَيَّرَ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ سَيِّدٌ
رَجَعُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ حُرًّا وَظَهَرَ لَهُ مَالٌ أَوِ
اكْتَسَبَ مَالاً فَالرُّجُوعُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ
__________
(1) الخرشي وحاشية العدوي عليه 7 / 131، والدسوقي على الشرح الكبير 4 /
124 - 125.
(35/323)
مَالٌ وَلاَ قَرِيبٌ وَلاَ كَسْبٌ وَلاَ
لِلْعَبْدِ سَيِّدٌ فَالرُّجُوعُ عَلَى بَيْتِ الْمَال مِنْ سَهْمِ
الْفُقَرَاءِ أَوِ الْغَارِمِينَ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ الإِْمَامُ،
وَفِي قَوْلٍ يَقُومُ الْمُسْلِمُونَ بِكِفَايَتِهِ نَفَقَةً لاَ
قَرْضًا لأَِنَّهُ مُحْتَاجٌ عَاجِزٌ، وَإِنْ قَامَ بِهَا بَعْضُهُمُ
انْدَفَعَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ تَعَذَّرَ الإِْنْفَاقُ عَلَيْهِ مِنْ
بَيْتِ الْمَال فَعَلَى مَنْ عَلِمَ حَالَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
الإِْنْفَاقُ عَلَيْهِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى
الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (2) ، وَلأَِنَّ فِي تَرْكِ الإِْنْفَاقِ
عَلَيْهِ هَلاَكَهُ وَحِفْظَهُ عَنْ ذَلِكَ وَاجِبٌ كَإِنْقَاذِهِ مِنَ
الْغَرَقِ وَهَذَا فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ قَوْمٌ سَقَطَ
عَنِ الْبَاقِينَ فَإِنْ تَرَكَهُ الْكُل أَثِمُوا، وَمَنْ أَنْفَقَ
عَلَيْهِ مُتَبَرِّعًا فَلاَ شَيْءَ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُلْتَقِطَ
أَوْ غَيْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَرَّعْ بِالإِْنْفَاقِ عَلَيْهِ
فَأَنْفَقَ عَلَيْهِ الْمُلْتَقِطُ أَوْ غَيْرُهُ مُحْتَسِبًا
بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِ إِذَا أَيْسَرَ وَكَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِ
الْحَاكِمِ لَزِمَ اللَّقِيطَ ذَلِكَ إِذَا كَانَتِ النَّفَقَةُ
قَصْدًا بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْحَاكِمِ
مُحْتَسِبًا الرُّجُوعَ عَلَيْهِ فَقَال أَحْمَدُ: تُؤَدَّى
النَّفَقَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَال، لأَِنَّهُ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَى
غَيْرِهِ فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى مَنْ كَانَ الْوُجُوبُ
عَلَيْهِ كَالضَّامِنِ إِذَا قَضَى عَنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَقَال
شُرَيْحٌ وَالنَّخَعِيُّ: يَرْجِعُ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 421.
(2) سورة المائدة / 2.
(35/324)
عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ إِذَا أَشْهَدَ
عَلَيْهِ، وَقَال عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَحْلِفُ مَا أَنْفَقَ
مُحْتَسِبًا (1) .
جِنَايَةُ اللَّقِيطِ وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ
17 - إِنْ جَنَى اللَّقِيطُ الْجِنَايَةَ الَّتِي تَتَحَمَّلُهَا
الْعَاقِلَةُ كَالْخَطَأِ فَأَرْشُهَا عَلَى بَيْتِ الْمَال لأَِنَّ
مِيرَاثَهُ وَنَفَقَتَهُ فِي بَيْتِ الْمَال فَكَانَ عَقْلُهُ فِيهِ
كَعَصَبَاتِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا فَحُكْمُهُ فِيهِ
حُكْمُ غَيْرِ اللَّقِيطِ: فَإِنْ كَانَ بَالِغًا عَاقِلاً اقْتَصَّ
مِنْهُ، وَإِلاَّ فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَفِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُوسِرَ
كَسَائِرِ الدُّيُونِ (2) .
18 - وَإِنْ جَنَى أَحَدٌ عَلَى اللَّقِيطِ فَإِنْ قُتِل خَطَأً
فَفِيهِ الدِّيَةُ وَتَكُونُ لِبَيْتِ الْمَال لأَِنَّهَا مِنْ
مِيرَاثِهِ كَسَائِرِ مَالِهِ وَهَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ،
فَإِنْ كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ مَثَلاً فَلَهَا الرُّبُعُ وَالْبَاقِي
لِبَيْتِ الْمَال.
وَإِنْ قَتَلَهُ أَحَدٌ عَمْدًا عُدْوَانًا فَوَلِيُّهُ الإِْمَامُ
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: السُّلْطَانُ
وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ (3) ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلِلإِْمَامِ
إِنْ شَاءَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْقَاتِل وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ
الدِّيَةَ حَسَبَ
__________
(1) المغني 5 / 752.
(2) المبسوط 10 / 210، ومغني المحتاج 2 / 424، وكشاف القناع 4 / 233.
(3) حديث: " السلطان ولي من لا ولي له ". أخرجه الترمذي (3 / 399) من
حديث عائشة، وقال: حديث حسن.
(35/324)
الأَْصْلَحِ لأَِنَّهُ حُرٌّ مَعْصُومٌ،
وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي
مَالِهِ وَلاَ يُقْتَل بِهِ، قَال أَبُو يُوسُفَ لأَِنَّا نَعْلَمُ
أَنَّ لِلَّقِيطِ وَلِيًّا فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ مِنْ عَصَبَةٍ أَوْ
غَيْرِ ذَلِكَ وَإِنْ بَعُدَ إِلاَّ أَنَّا لاَ نَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ
وَحَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ يَكُنْ إِلَى الْوَلِيِّ كَمَا قَال
اللَّهُ تَعَالَى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} (1)
فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً مَانِعَةً لِلإِْمَامِ مِنَ اسْتِيفَاءِ
الْقِصَاصِ وَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِشُبْهَةٍ
وَجَبَتِ الدِّيَةُ فِي مَال الْقَاتِل (2) .
وَإِنْ قُطِعَ طَرَفُ اللَّقِيطِ عَمْدًا انْتَظَرَ بُلُوغَهُ مَعَ
رُشْدِهِ لِيُقْتَصَّ أَوْ يَعْفُوَ وَيُحْبَسُ الْجَانِي إِلَى
أَوَانِ الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ، وَإِذَا كَانَ اللَّقِيطُ فَقِيرًا
فَلِلإِْمَامِ الْعَفْوُ عَلَى مَالٍ لأَِنَّهُ أَحَظُّ لِلَّقِيطِ
لِيُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْهُ (3) .
__________
(1) سورة الإسراء / 33.
(2) المبسوط 10 / 218 - 219، مغني المحتاج 2 / 424، كشاف القناع 4 /
232.
(3) مغني المحتاج 2 / 424، وكشاف القناع 4 / 232 - 233.
(35/325)