الموسوعة الفقهية الكويتية

لِثَامٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - اللِّثَامُ فِي اللُّغَةِ هُوَ مَا عَلَى الْفَمِ أَوِ الشَّفَةِ مِنَ النِّقَابِ، وَالْجَمْعُ لُثُمٌ، وَالتَّلَثُّمُ هُوَ شَدُّ اللِّثَامِ، وَالْمَلْثَمُ: مَوْضِعُ اللَّثْمِ وَهُوَ الأَْنْفُ مَا حَوْلَهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقِنَاعُ
2 - الْقِنَاعُ وَالْمِقْنَعَةُ مَا تَتَقَنَّعُ بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ ثَوْبٍ تُغَطِّي رَأْسَهَا وَمَحَاسِنَهَا (2) .
وَالتَّقَنُّعُ - كَمَا عَرَّفَهُ الْعَيْنِيُّ - هُوَ تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ وَأَكْثَرِ الْوَجْهِ بِرِدَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ (3) .

ب - الْخِمَارُ:
3 - الْخِمَارُ بِكَسْرِ الْخَاءِ هُوَ مَا تُغَطِّي بِهِ الْمَرْأَةُ
__________
(1) المغرب للمطرزي، والمعجم الوسيط.
(2) لسان العرب، والقاموس المحيط.
(3) عمدة القاري 21 / 308.

(35/202)


رَأْسَهَا، وَكُل مَا سَتَرَ شَيْئًا فَهُوَ خِمَارٌ (1) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
شَدُّ اللِّثَامِ فِي الصَّلاَةِ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي كَرَاهَةِ التَّلَثُّمِ - وَهُوَ تَغْطِيَةُ الأَْنْفِ وَالْفَمِ - فِي الصَّلاَةِ (2) .
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: كُل مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ يَكْرَهُ التَّلَثُّمَ وَتَغْطِيَةَ الْفَمِ فِي الصَّلاَةِ إِلاَّ الْحَسَنَ، فَإِنَّهُ كَرِهَ التَّلَثُّمَ وَرَخَّصَ فِي تَغْطِيَةِ الْفَمِ. وَكَرِهَ ابْنُ عُمَرَ وَسَعِيدٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ التَّلَثُّمَ فِي الصَّلاَةِ (3) . وَلِلتَّفْصِيل (ر: صَلاَةٌ ف 86) .

شَدُّ اللِّثَامِ لِلْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ إِحْرَامَ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا فَلاَ يَجُوزُ لَهَا سَتْرُ وَجْهِهَا، وَإِذَا احْتَاجَتْ إِلَى سَتْرِ الْوَجْهِ لِمَنْعِ أَبْصَارِ الأَْجَانِبِ سَدَلَتْ ثَوْبًا عَلَى وَجْهِهَا مُتَجَافِيًا عَنْ بَشَرَةِ الْوَجْهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْرِمَاتٍ، فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا سَدَلَتْ إِحْدَانَا
__________
(1) المطلع على أبواب المقنع ص 22.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 107، والقوانين الفقهية ص57، وروضة الطالبين 1 / 289، وكشاف القناع 1 / 275.
(3) الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف لابن المنذر 3 / 265 - 266.

(35/202)


جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَإِذَا جَاوَزْنَا كَشَفْنَاهُ، وَقَالَتْ كَذَلِكَ: الْمُحْرِمَةُ تَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ مَا شَاءَتْ إِلاَّ ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ، وَلاَ تَتَبَرْقَعُ وَلاَ تَتَلَثَّمُ وَتُسْدِل الثَّوْبَ عَلَى وَجْهِهَا إِنْ شَاءَتْ (1) . وَلِلتَّفْصِيل (ر: إِحْرَامٌ ف 67) .
__________
(1) (1) شرح السنة للبغوي 7 / 240، وعمدة القاري 9 / 166، وفتح الباري 3 / 405 وحديث عائشة: كان الركبان يمرون بنا. . . أخرجه أبو داود (2 / 416) ، وذكر المنذري في مختصر السنن (2 / 354) في إسناده يزيد بن أبي زياد وقد تكلم فيه غير واحد وأما قولها: المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت. فأخرجه البيهقي في سننه (5 / 47) .

(35/203)


لَحَاق
التَّعْرِيفُ
1 - اللَّحَاقُ وَاللُّحُوقُ وَاللَّحْقُ لُغَةً الإِْدْرَاكُ.
يُقَال: لَحِقَ الشَّيْءَ وَأَلْحَقَهُ وَلَحِقَ بِهِ وَأَلْحَقَ لَحَاقًا أَدْرَكَهُ، وَلَحِقْتُ بِهِ أَلْحَقُ: مِنْ بَابِ تَعِبَ، وَمَصْدَرُهُ لَحَاقٌ بِالْفَتْحِ، وَأَلْحَقْتُ زَيْدًا بِعَمْرٍو أَتْبَعْتَهُ إِيَّاهُ فَلَحِقَ هُوَ بِهِ وَأَلْحَقَ أَيْضًا: وَفِي الدُّعَاءِ: إِنَّ عَذَابَكَ الْجَدُّ بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ.
وَأَلْحَقَ الْقَائِفُ الْوَلَدَ بِأَبِيهِ: أَخْبَرَ بِأَنَّهُ ابْنُهُ لِشَبَهٍ بَيْنَهُمَا يَظْهَرُ لَهُ، وَاسْتَلْحَقْتُ الشَّيْءَ ادَّعَيْتَهُ.
وَلَحِقَهُ الثَّمَنُ لُحُوقًا لَزِمَهُ، فَاللُّحُوقُ اللُّزُومُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِسْتِلْحَاقُ
2 - الاِسْتِلْحَاقُ لُغَةً مَصْدَرُ اسْتَلْحَقَ: يُقَال
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.

(35/203)


اسْتَلْحَقَهُ ادَّعَاهُ، وَالاِسْتِلْحَاقُ أَيْضًا طَلَبُ لُحُوقِ الشَّيْءِ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: ادِّعَاءُ رَجُلٍ أَنَّهُ أَبٌ لِهَذَا الْوَلَدِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ اللَّحَاقِ وَالاِسْتِلْحَاقِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، فَاللَّحَاقُ يَكُونُ فِي النَّسَبِ وَغَيْرِهِ وَالاِسْتِلْحَاقُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي النَّسَبِ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللَّحَاقِ:
تَتَعَلَّقُ بِاللَّحَاقِ أَحْكَامٌ مُتَنَوِّعَةٌ بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ مَوْضُوعِهَا وَمِنْ ذَلِكَ:

لَحَاقُ الْوَلَدِ فِي اللِّعَانِ بِأُمِّهِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجُل إِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ الْبَالِغَةَ الْحُرَّةَ بِالزِّنَا أَوْ نَفَى الْحَمْل وَلاَعَنَهَا لَمْ يَلْحَقِ الْوَلَدُ بِهِ وَلَحِقَ بِأُمِّهِ (3) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (لِعَانٌ ف 25) .

لَحَاقُ الْوَلَدِ لأَِقْصَى مُدَّةِ الْحَمْل
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ أَقْصَى مُدَّةِ الْحَمْل وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ لَحَاقِ الْوَلَدِ بِالزَّوْجِ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ طَلاَقٍ أَوْ مَوْتٍ وَلَمْ تَنْكِحْ حَتَّى أَتَتْ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة (لحق) .
(2) حاشية الدسوقي 3 / 112.
(3) فتح القدير 3 / 251، والخرشي 4 / 135، ومغني المحتاج 3 / 373، 380، والمغني لابن قدامة 7 / 397، 416.

(35/204)


بِوَلَدٍ لأَِرْبَعِ سِنِينَ فَإِنَّهُ يَلْحَقُ بِالزَّوْجِ وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِهِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ أَقْصَى مُدَّةِ الْحَمْل سَنَتَانِ فَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْمَبْتُوتَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِذَا أَتَتْ بِهِ فِي السَّنَتَيْنِ.
وَالْقَوْل الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ أَقْصَى مُدَّةِ الْحَمْل خَمْسُ سِنِينَ، وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ أَقْصَى مُدَّةِ الْحَمْل تِسْعَةُ أَشْهُرٍ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَمْلٌ ف 7، وَنَسَبٌ) .

لَحَاقُ اللَّقِيطِ بِالرَّجُل:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ نَسَبَ لَقِيطٍ لَحِقَ بِهِ، وَهُنَاكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِيمَا إِذَا أَقَامَ مُدَّعِي نَسَبِ اللَّقِيطِ بَيِّنَةً أَوْ كَانَتْ دَعْوَاهُ مَبْنِيَّةً عَلَى مُجَرَّدِ الإِْقْرَارِ وَفِيمَا إِذَا كَانَ مُدَّعِي النَّسَبِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَفِيمَا إِذَا ادَّعَاهُ رَجُلاَنِ أَوْ أَكْثَرُ (3) .
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (لَقِيطٌ، ف 11، وَنَسَبٌ) .
__________
(1) الخرشي 1 / 143، وجواهر الإكليل 1 / 387، وروضة الطالبين 2 / 141، 142، والمغني لابن قدامة 7 / 477، 483.
(2) الاختيار 3 / 179، 180، وفتح القدير 4 / 172، وحاشية الدسوقي 2 / 460، والمغني 7 / 477.
(3) بدائع الصنائع 6 / 197، 199، والخرشي 7 / 132، 133، وحاشية الدسوقي 3 / 412، والمغني 5 / 747، 772.

(35/204)


لَحَاقُ اللَّقِيطِ بِالْمَرْأَةِ
: 6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا ادَّعَتِ امْرَأَةٌ نَسَبَ لَقِيطٍ هَل يَلْحَقُ وَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهَا وَهَل يَلْحَقُ بِزَوْجِهَا؟ وَهَل لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَسْتَلْحِقَ مَجْهُول النَّسَبِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (لَقِيطٌ ف 11، وَنَسَبٌ) .

لَحَاقُ الْوَلَدِ الَّذِي تَخَلَّقَ مِنْ مَنِيٍّ بِغَيْرِ جِمَاعٍ
: 7 - قَال الْمَالِكِيَّةُ إِذَا حَمَلَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ مَنِيٍّ دَخَل فَرْجَهَا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ كَحَمَّامٍ وَنَحْوِهِ فَيَلْحَقُ الْوَلَدُ بِزَوْجِهَا إِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ وَأَمْكَنَ إِلْحَاقُهُ بِهِ، بِأَنْ مَضَى مِنْ يَوْمِ تَزَوَّجَهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ كَانَتْ وَلَكِنْ لاَ يُمْكِنُ إِلْحَاقُهُ بِهِ لَمْ يَلْحَقْهُ (2) .

لَحَاقُ وَلَدِ الْمُرْتَدِّ
: 8 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ وَلَدَ الْمُرْتَدِّ إِذَا حُمِل بِهِ فِي الإِْسْلاَمِ يَكُونُ مُسْلِمًا، وَكَذَا مَنْ حُمِل بِهِ فِي حَال رِدَّةِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ وَالآْخَرُ مُسْلِمٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ حَمْلُهُ خِلاَل رِدَّةِ أَبَوَيْهِ كِلَيْهِمَا فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رِدَّةٌ ف 46) .

لَحَاقُ الطَّلاَقِ لِلْمُطَلَّقَةِ رَجْعِيًّا
: 9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 200، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 412، وروضة الطالبين 5 / 441 - 442، والمغني 5 / 764 - 765.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 130.

(35/205)


الْمُطَلَّقَةَ الَّتِي يَمْلِكُ مُطَلِّقُهَا رَجْعَتَهَا يَلْحَقُهَا الطَّلاَقُ سَوَاءٌ كَانَ صَرِيحًا أَوْ كِنَايَةً، وَيَلْحَقُهَا الظِّهَارُ وَاللِّعَانُ، لأَِنَّ الطَّلاَقَ الرَّجْعِيَّ لاَ يُزِيل الْمِلْكَ وَلاَ الْحِل لِبَقَاءِ الْوِلاَيَةِ عَلَيْهَا، وَالرَّجْعِيَّةُ زَوْجَةٌ (1) .
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ رَجَّحَهُ الْغَزَالِيُّ: أَنَّ الطَّلاَقَ الرَّجْعِيَّ يَقْطَعُ النِّكَاحَ وَيُزِيل الْمِلْكَ بِدَلِيل تَحْرِيمِ الْوَطْءِ وَوُجُوبِ الْمَهْرِ وَمَنْعِ الْخُلْعِ عَلَى قَوْلٍ.
وَلَهُمْ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّ الطَّلاَقَ الرَّجْعِيَّ مَوْقُوفٌ فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ تَبَيَّنَ زَوَال الْمِلْكِ بِالطَّلاَقِ، وَإِنْ رَاجَعَ تَبَيَّنَ بَقَاءُ الزَّوْجِيَّةِ (2) .

لَحَاقُ وَلَدِ الْمَجْبُوبِ
: 10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِلْحَاقِ وَلَدِ الْمَجْبُوبِ.
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو سُلَيْمَانَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالإِْصْطَخْرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَيُحْكَى قَوْلاً لِلشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ امْرَأَةَ الْمَجْبُوبِ إِذَا أَتَتْ بِوَلَدٍ يَلْحَقُ بِهِ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ، لِتَوَهُّمِ شَغْل رَحِمِهَا بِمَائِهِ بِالسَّحْقِ، وَقَدْ أَتَتْ بِهِ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ احْتِيَاطًا اسْتِحْسَانًا
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 134، وحاشية الدسوقي 2 / 422، وروضة الطالبين 8 / 222، وكشاف القناع 5 / 343، والمغني 7 / 289.
(2) روضة الطالبين 8 / 222.

(35/205)


لِتَوَهُّمِ الشَّغْل، وَالْعِدَّةُ وَالْوَلَدُ حَقُّ الشَّرْعِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ مَقْطُوعَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَيَيْنِ لاَ يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ مِنَ امْرَأَتِهِ لأَِنَّهُ لاَ يَنْزِل وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنْ يُخْلَقَ لَهُ وَلَدٌ.
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَجْبُوبًا بَقِيَ أُنْثَيَاهُ وَكَذَا مَسْلُولٌ خُصْيَتَاهُ وَبَقِيَ ذَكَرُهُ يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيل: لاَ يَلْحَقُهُ (2) .
وَقَال مَالِكٌ إِنَّ الْخَصِيَّ وَالْمَجْبُوبَ أَرَى أَنْ يُسْأَل أَهْل الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ يُولَدُ لِمِثْلِهِ يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ وَإِلاَّ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ (3) .

لَحَاقُ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ
: 11 - إِذَا انْعَقَدَتِ الْجُمُعَةُ صَحِيحَةً وَانْفَضَّ عَدَدٌ مِنَ الْمَأْمُومِينَ مِمَّنْ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمُعَةُ ثُمَّ لَحِقَ بِالإِْمَامِ مَا يَكْمُل بِهِ الْعَدَدُ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ فَفِي ذَلِكَ لِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةُ الْجُمُعَةِ ف 20) .

النَّادِرُ هَل يَلْحَقُ بِالْغَالِبِ
: 12 - الأَْصْل أَنَّ " الْعِبْرَةَ لِلْغَالِبِ الشَّائِعِ لاَ لِلنَّادِرِ " وَقَال عَلِيٌّ حَيْدَرْ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ:
__________
(1) البناية شرح الهداية 4 / 208، وفتح القدير 3 / 218 - 219.
(2) المغني 7 / 480، والقليوبي وعميرة 4 / 50.
(3) المدونة 2 / 445.

(35/206)


الشَّائِعُ هُوَ الأَْمْرُ الَّذِي يُصْبِحُ مَعْلُومًا لِلنَّاسِ وَذَائِعًا بَيْنَهُمْ، مِثَال: إِنَّ الْحُكْمَ بِمَوْتِ الْمَفْقُودِ لِمُرُورِ 90 سَنَةً مِنْ عُمُرِهِ مُسْتَنِدٌ عَلَى الشَّائِعِ الْغَالِبِ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ أَنَّ الإِْنْسَانَ لاَ يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعِينَ عَامًا، عَلَى أَنَّ الْبَعْضَ قَدْ يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ أَنَّهُ نَادِرٌ وَالنَّادِرُ لاَ حُكْمَ لَهُ بَل يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ عَلَى الْعُرْفِ الشَّائِعِ وَتُقَسَّمُ أَمْوَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، كَذَلِكَ يُحْكَمُ بِبُلُوغِ مَنْ لَهُ مِنَ الْعُمُرِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لأَِنَّهُ هُوَ السِّنُّ الشَّائِعُ لِلْبُلُوغِ وَإِنْ كَانَ الْبَعْضُ لاَ يَبْلُغُ إِلاَّ فِي السَّابِعَةَ عَشْرَةَ أَوِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ إِلاَّ أَنَّهُ نَادِرٌ فَلاَ يُنْظَرُ إِلَيْهِ، كَذَلِكَ الْحُكْمُ بِسَبْعِ سِنِينَ لِمُدَّةِ حَضَانَةِ الصَّبِيِّ وَتِسْعٍ لِحِضَانَةِ الْبِنْتِ مَبْنِيٌّ عَلَى الشَّائِعِ الْمُتَعَارَفِ مِنْ أَنَّ الصَّبِيَّ إِذَا بَلَغَ السَّابِعَةَ مِنْ عُمُرِهِ يَسْتَغْنِي عَنْ مُعِينٍ لَهُ فِي لِبَاسِهِ وَأَكْلِهِ وَاسْتِنْجَائِهِ مَثَلاً، وَالْبِنْتُ إِذَا صَارَ عُمُرُهَا تِسْعَ سَنَوَاتٍ تُصْبِحُ مُشْتَهَاةً فِي الْغَالِبِ، وَاخْتِلاَفُ النُّمُوِّ فِي الْبَعْضِ زِيَادَةً وَنُقْصَانًا بِتَأْثِيرِ التَّرْبِيَةِ وَالإِْقْلِيمِ لاَ عِبْرَةَ لَهُ بَل الْمُعْتَبَرُ السَّبْعُ سَنَوَاتٍ لِلصَّبِيِّ وَالتِّسْعُ لِلْبِنْتِ، لأَِنَّهُ الشَّائِعُ الْغَالِبُ (1) .
إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اسْتَثْنَوْا مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَسَائِل وَأَلْحَقُوا النَّادِرَ فِيهَا بِالْغَالِبِ، فَقَدْ ذَكَرَ
__________
(1) شرح المجلة لعلي حيدر 1 / 45، 46، نشر مكتبة النهضة.

(35/206)


الْقَرَافِيُّ عِنْدَ شَرْحِ قَاعِدَةِ مَا اعْتُبِرَ مِنَ الْغَالِبِ وَبَيْنَ مَا لُغِيَ مِنَ الْغَالِبِ أَمْثِلَةً لِمَا لُغِيَ فِيهِ الْغَالِبُ وَقُدِّمَ النَّادِرُ عَلَيْهِ وَأُثْبِتَ حُكْمُهُ دُونَهُ مِنْهَا
: أ - غَالِبُ الْوَلَدِ أَنْ يُوضَعَ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ فَإِذَا جَاءَ بَعْدَ خَمْسِ سِنِينَ مِنَ امْرَأَةٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا دَارَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ زِنًا وَهُوَ الْغَالِبُ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ تَأَخَّرَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَهُوَ نَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وُقُوعِ الزِّنَا فِي الْوُجُودِ، أَلْغَى الشَّارِعُ الْغَالِبَ وَأَثْبَتَ حُكْمَ النَّادِرِ وَهُوَ تَأَخُّرُ الْحَمْل
. ب - طِينُ الْمَطَرِ الْوَاقِعُ فِي الطُّرُقَاتِ وَمَمَرِّ الدَّوَابِّ وَالْمَشْيِ بِالأَْحْذِيَةِ الَّتِي يُجْلَسُ بِهَا فِي الْمَرَاحِيضِ الْغَالِبُ عَلَيْهَا وُجُودُ النَّجَاسَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَإِنْ كُنَّا لاَ نُشَاهِدُ عَيْنَهَا وَالنَّادِرُ سَلاَمَتُهَا مِنْهَا وَمَعَ ذَلِكَ أَلْغَى الشَّارِعُ حُكْمَ الْغَالِبِ وَأَثْبَتَ حُكْمَ النَّادِرِ تَوْسِعَةً وَرَحْمَةً بِالْعِبَادِ فَيُصَلَّى بِهِ مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ (1)
. وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: يَنْقَسِمُ هَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا - مَا يَلْحَقُ قَطْعًا، كَمَنْ خُلِقَتْ بِلاَ بَكَارَةٍ دَاخِلَةٌ فِي حُكْمِ الأَْبْكَارِ قَطْعًا فِي الاِسْتِئْذَانِ فِي الزَّوَاجِ، وَكَمَا إِذَا خُلِقَ لَهُ وَجْهَانِ وَلَمْ يَتَمَيَّزِ الزَّائِدُ يَجِبُ غَسْلُهُمَا قَطْعًا، وَكَذَلِكَ إِلْحَاقُ الْوَلَدِ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ، فَإِنَّ
__________
(1) الفروق للقرافي 4 / 104 - 105.

(35/207)


بَقَاءَهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ نَادِرٌ جِدًّا فَأَلْحَقُوهُ بِالْغَالِبِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَتَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلَحْظَتَيْنِ مِنْ زَمَنِ الْوَطْءِ لَحِقَهُ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ جِدًّا وَلَكِنَّ الشَّارِعَ أَعْمَل النَّادِرَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ سَتْرًا لِلْعِبَادِ.
الثَّانِي - مَا لاَ يَلْحَقُ قَطْعًا: كَالأُْصْبُعِ الزَّائِدَةِ لاَ تَلْحَقُ بِالأَْصْلِيَّةِ فِي حُكْمِ الدِّيَةِ قَطْعًا وَنِكَاحِ مَنْ بِالْمَشْرِقِ مَغْرِبِيَّةً لاَ يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ.
الثَّالِثُ - مَا يَلْحَقُ بِهِ عَلَى الأَْصَحِّ كَنَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ الْمَقْطُوعِ إِلْحَاقًا بِالْغَالِبِ الْمُتَّصِل، وَقِيل لاَ، لِلنُّدْرَةِ بِخِلاَفِ مَسِّ الْعُضْوِ الْمُبَانِ مِنَ الْمَرْأَةِ لاَ يَنْقُضُ، وَكَالنَّقْضِ بِخُرُوجِ النَّادِرِ مِنَ الْفَرْجِ وَجِوَازِ الْحَجْرِ مِنَ الْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَنَحْوِهِمَا، وَكَذَلِكَ دَمُ الْبَرَاغِيثِ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ قَطْعًا، وَكَذَا كَثِيرُهُ فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّ هَذَا الْجِنْسَ يَشُقُّ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ فِي الْغَالِبِ فَأُلْحِقَ نَادِرُهُ بِغَالِبِهِ، وَكَذَا لَوْ طَال مُدَّةُ اجْتِمَاعِ الْمُتَبَايِعَيْنِ أَيَّامًا وَأَشْهُرًا وَهُوَ نَادِرٌ، فَالْمَذْهَبُ بَقَاءُ خِيَارِهِمَا إِذَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَقِيل: لاَ يَزِيدُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ كَالْغَالِبِ.
الرَّابِعُ - مَا لاَ يُلْحَقُ بِهِ عَلَى الأَْصَحِّ، كَالَّذِي يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لاَ يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي الأَْصَحِّ، وَلَوْ رَاجَتِ الْفُلُوسُ رَوَاجَ النُّقُودِ فَهَل تُعْطَى

(35/207)


حُكْمَهَا فِي بَابِ الرِّبَا؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لاَ اعْتِبَارًا بِالْغَالِبِ (1) .

لَحَاقُ التَّمْرِ بِأُصُول الشَّجَرِ عِنْدَ بَيْعِهِ
: 13 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي لَحَاقِ التَّمْرِ بِأُصُول الشَّجَرِ عِنْدَ بَيْعِهِ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا: اشْتِرَاطُ التَّأْبِيرِ وَعَدِمُهُ، وَمِنْهَا اشْتِرَاطُ بُدُوِّ الصَّلاَحِ، وَمِنْهَا لَحَاقُ بُرُوزِ النَّوْرِ أَوِ الثَّمَرِ بِتَشَقُّقِ الطَّلْعِ فِي النَّخْل.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (ثِمَارٌ ف 14) .

مَا يَلْحَقُ بِالثَّمَنِ
: 14 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى ثَمَنِ الْمَبِيعِ أَوِ الْحَطِّ مِنْهُ هَل يَلْتَحِقَانِ بِأَصْل الْعَقْدِ أَمْ لاَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَيْ (بَيْعٌ ف 56 وَمَا بَعْدَهَا، ثَمَنٌ ف 25 وَمَا بَعْدَهَا) .

لَحْد

انْظُرْ: قَبْر
__________
(1) المنثور للزركشي 3 / 243، 244.

(35/208)


لَحْمٌ

التَّعْرِيفُ
: 1 - اللَّحْمُ وَاللَّحَمُ لُغَتَانِ، وَهُوَ مِنْ جِسْمِ الْحَيَوَانِ وَالطَّيْرِ: الْجُزْءُ الْعَضَلِيُّ الرَّخْوُ بَيْنَ الْجِلْدِ وَالْعَظْمِ.
وَلَحْمُ كُل شَيْءٍ لُبُّهُ، وَاللَّحْمَةُ الْقِطْعَةُ مِنْهُ، وَجَمْعُهُ أَلْحُمٌ وَلُحُومٌ وَلِحَامٌ وَلُحْمَانٌ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الطَّعَامُ:
2 - الطَّعَامُ لُغَةً
: كُل مَا يُؤْكَل مُطْلَقًا (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالطَّعَامُ يَعُمُّ اللَّحْمَ وَغَيْرَهُ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ: 3 - الأَْصْل فِي اللُّحُومِ الْحِل وَلاَ يُصَارُ إِلَى
__________
(1) القاموس، ولسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط مادة (لحم) .
(2) لسان العرب، وتاج العروس مادة (طعم) .

(35/208)


التَّحْرِيمِ إِلاَّ لِدَلِيلٍ خَاصٍّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَْرْضِ جَمِيعًا} (1) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحِل لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} (2) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ بَعْضِ اللُّحُومِ مِنْ حَيْثُ الْحِل وَالْحُرْمَةُ وَالطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

اللَّحْمُ الْمَقْطُوعُ مِنْ حَيَوَانٍ
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ مَا أُبِينَ أَوْ قُطِعَ مِنْ حَيَوَانٍ حَيٍّ مَأْكُولٍ - غَيْرَ الصُّوفِ وَالشَّعَرِ - فَهُوَ كَمَيْتَتِهِ فَلاَ يَجُوزُ أَكْلُهُ لِنَجَاسَتِهِ (3) .
لِحَدِيثِ: مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ (4) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (أَطْعِمَةٌ ف 74) .

أَكْل اللَّحْمِ النَّتِنِ
: 5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى حُرْمَةِ أَكْل اللَّحْمِ إِذَا أَنْتَنَ لأَِنَّهُ يَضُرُّ لاَ لأَِنَّهُ نَجِسٌ (5) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَدِمُ كَرَاهَةِ أَكْل
__________
(1) سورة البقرة / 29.
(2) سورة الأعراف / 157.
(3) بدائع الصنائع 5 / 44 - 45، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 108، والبجيرمي على الخطيب 4 / 256، والقليوبي وعميرة 4 / 242، والمغني 11 / 53 - 54.
(4) (3) حديث: " ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة ". أخرجه الترمذي (4 / 74) من حديث أبي واقد الليثي، وقال: حديث حسن.
(5) الفتاوى الهندية 5 / 339.

(35/209)


اللَّحْمِ الْمُنْتِنِ كَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْمُنْتَهَى، وَكَرِهَ الْمَرْدَاوِيُّ أَكْل اللَّحْمِ الْمُنْتِنِ (1) .
وَاللَّحْمُ الْمُنْتِنُ إِنْ كَانَ لَحْمَ جَلاَّلَةٍ فَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ، وَقِيل: يَحْرُمُ. وَإِنْ كَانَ لَحْمَ غَيْرِ الْجَلاَّلَةِ وَذُكِّيَ تَذْكِيَةً شَرْعِيَّةً فَإِنَّهُ يُكْرَهُ عَلَى الصَّحِيحِ إِذَا نَتَنَ وَتَرَوَّحَ كَمَا قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ (2) .

اللَّحْمُ الْمَطْبُوخُ بِنَجِسٍ
: 6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ اللَّحْمَ الْمَطْبُوخَ بِنَجِسٍ لاَ يَطْهُرُ لأَِنَّ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ قَدْ تَأَصَّلَتْ فِيهِ (3) .
وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَطْهُرُ (4) ، وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي كَيْفِيَّةِ التَّطْهِيرِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (طَهَارَةٌ، فِقْرَةُ 31) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ طُبِخَ لَحْمٌ بِمَاءٍ نَجِسٍ كَفَى غَسْلُهُ
، قَال النَّوَوِيُّ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الشَّاشِيُّ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ (5) . وَقَال أَبُو يُوسُفَ: يُطْبَخُ بِالْمَاءِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ
__________
(1) الإنصاف 10 / 368، والفروع 6 / 302، وكشاف القناع 6 / 195، وشرح منتهى الإرادات 3 / 400.
(2) مغني المحتاج 4 / 304، والمجموع 9 / 28.
(3) البحر الرائق 1 / 251 - 252، وحاشية ابن عابدين 1 / 223، والفتاوى الهندية 1 / 42، ومواهب الجليل 1 / 114، والخرشي على خليل 1 / 95 - 96، والمبدع 1 / 243، والإنصاف 1 / 321، والمجموع 2 / 600، ومغني المحتاج 1 / 86.
(4) مواهب الجليل 1 / 114، والإنصاف 1 / 321.
(5) المجموع 2 / 600.

(35/209)


وَيُجَفَّفُ فِي كُل مَرَّةٍ (1) .

الْوُضُوءُ مِنْ أَكْل لَحْمِ الْجَزُورِ
: 7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ أَكْل لَحْمِ الْجَزُورِ لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ (2) لِمَا رَوَاهُ جَابِرٌ قَال: كَانَ آخِرُ الأَْمْرَيْنِ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا غَيَّرَتِ النَّارُ (3) . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ إِلَى أَنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ أَنَّ رَجُلاً سَأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَال: إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ وَإِنْ شِئْتَ فَلاَ تَوَضَّأْ قَال: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإِْبِل؟ قَال: نَعَمْ، فَتَوَضَّأَ مِنْ لُحُومِ الإِْبِل (4) ، وَمُقْتَضَى الأَْمْرِ الإِْيجَابُ (5) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وُضُوءٌ) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 42، والبحر الرائق 1 / 251.
(2) بدائع الصنائع 1 / 32، والكافي لابن عبد البر 1 / 151، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 1 / 92، وروضة الطالبين 1 / 72، والمجموع. 2 / 57 - 59، والمغني 1 / 179، والإنصاف 1 / 216.
(3) حديث جابر: " كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 133) ، ونقل ابن حجر في الفتح (1 / 311) عن ابن خزيمة وابن حبان أنهما صححاه.
(4) حديث جابر بن سمرة: " أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أأتوضأ من لحوم الغنم. . . ". أخرجه مسلم (1 / 275) .
(5) روضة الطالبين 1 / 72، والمجموع 2 / 57 - 59، وكشاف القناع 1 / 130، والمغني 1 / 179 - 182، والإنصاف 1 / 216.

(35/210)


لَحْمُ الأُْضْحِيَّةِ
: 8 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ مَسْنُونَاتِ الأُْضْحِيَّةِ أَنْ يَأْكُل الْمُضَحِّي مِنْ لَحْمِ أُضْحِيَّتِهِ وَيُطْعِمَ وَيَدَّخِرَ، وَالأَْفْضَل أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثُّلُثِ وَيَتَّخِذَ الثُّلُثَ ضِيَافَةً لأَِقَارِبِهِ وَأَصْدِقَائِهِ وَيَدَّخِرَ الثُّلُثَ.
أَمَّا الأُْضْحِيَّةُ الْمَنْذُورَةُ فَلاَ يَجُوزُ الأَْكْل مِنْهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَنْذُورَةَ كَغَيْرِهَا فِي جِوَازِ الأَْكْل.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (أُضْحِيَّةٌ ف 59) .

لَحْمُ الْعَقِيقَةِ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ طَبْخُ لَحْمِ الْعَقِيقَةِ كُلِّهَا حَتَّى مَا يُتَصَدَّقُ بِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْعَقِيقَةِ تَفْرِيقُهَا نِيئَةً وَمَطْبُوخَةً.
انْظُرْ (عَقِيقَةٌ ف 13) .

لَحْمُ الْخَيْل:
10 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ إِلَى إِبَاحَةِ أَكْل لَحْمِ الْخَيْل لِحَدِيثِ جَابِرٍ قَال: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَْهْلِيَّةِ وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيْل (1) .
__________
(1) حديث جابر: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 648) ومسلم (3 / 1541) واللفظ للبخاري.

(35/210)


وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَهُمْ - وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ لِلْمَالِكِيَّةِ إِلَى حِل أَكْلِهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ لاِخْتِلاَفِ الأَْحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ فِي الْبَابِ لاِخْتِلاَفِ السَّلَفِ (1) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ أَكْل لَحْمِ الْخَيْل مُحَرَّمٌ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَطْعِمَةٌ ف 44) .

لَحْمُ الْحِمَارِ الأَْهْلِيِّ:
11 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْقَوْل الرَّاجِحُ لِلْمَالِكِيَّةِ إِلَى حُرْمَةِ أَكْل لَحْمِ الْحِمَارِ الأَْهْلِيِّ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَْهْلِيَّةِ (3) .
وَالْقَوْل الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّ لَحْمَ الْحِمَارِ الأَْهْلِيِّ يُؤْكَل مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ (4) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَطْعِمَةٌ ف 46) .

لَحْمُ الْخِنْزِيرِ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ أَكْل لَحْمِ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 38 - 39، وحاشية ابن عابدين 5 / 193، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 117، ونهاية المحتاج 8 / 143، والمغني 11 / 69 - 70.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 177، والحطاب 3 / 235.
(3) حديث جابر: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية ". تقدم في (ف10) .
(4) بدائع الصنائع 5 / 37، والفتاوى الهندية 5 / 290، وابن عابدين 5 / 193، وحاشية الدسوقي 2 / 117، ونهاية المحتاج 8 / 144، والمغني 11 / 65 - 66.

(35/211)


الْخِنْزِيرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُل لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (1) . انْظُرْ مُصْطَلَحَ (خِنْزِيرٌ ف 3) .

لَحْمُ الْبَغْل:
13 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى حُرْمَةِ أَكْل لَحْمِ الْبَغْل لأَِنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ أَصْلَيْنِ اجْتَمَعَ فِيهِمَا الْحِل وَالْحُرْمَةُ فَيُغَلَّبُ جَانِبُ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْبَغْل يَتْبَعُ أُمَّهُ فِي الْحِل وَالْحُرْمَةِ (3) .
وَالْمَالِكِيَّةُ يَقُولُونَ بِقَاعِدَةِ التَّبَعِيَّةِ لِلأُْمِّ فِي الْحُكْمِ (4) ، مَعَ بَعْضِ الاِخْتِلاَفِ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَطْعِمَةٌ ف 59 - 60) .

لَحْمُ الْكَلْبِ:
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ - صَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ - إِلَى حُرْمَةِ أَكْل لَحْمِ الْكَلْبِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كُل ذِي نَابٍ مِنَ
__________
(1) سورة الأنعام / 145.
(2) نهاية المحتاج 8 / 144 - 146، والمغني 11 / 66.
(3) بدائع الصنائع 5 / 37.
(4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 117، وبداية المجتهد 1 / 455.

(35/211)


السِّبَاعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ (1) .
وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَكْل لَحْمِ الْكَلْبِ (2) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (أَطْعِمَةٌ ف 24 - 29) مُصْطَلَحِ (كَلْبٌ) .

لَحْمُ الإِْنْسَانِ فِي غَيْرِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ:
15 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ أَكْل لَحْمِ الإِْنْسَانِ (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (4) وَوَرَدَ الْخِلاَفُ فِي حُكْمِ أَكْل الْمُضْطَرِّ لَحْمَ الإِْنْسَانِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (ضَرُورَةٌ ف 10) .

غَسْل الْفَمِ وَالْيَدِ مِنْ أَكْل اللَّحْمِ:
16 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى اسْتِحْبَابِ غَسْل الْيَدَيْنِ بَعْدَ الطَّعَامِ لِحَدِيثِ: مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ رِيحُ غَمْرٍ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ (5) .
وَصَرَّحَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِاسْتِحْبَابِ غَسْل
__________
(1) حديث أبي هريرة: " كل ذي ناب من السباع فأكله حرام ". أخرجه مسلم (3 / 1534) .
(2) بدائع الصنائع 5 / 39، وجواهر الإكليل 1 / 218، ونهاية المحتاج 8 / 143، والمجموع 9 / 8، والمغني 11 / 66.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 136، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 114، وفتح العزيز مع المجموع 1 / 162، والقليوبي وعميرة 4 / 262، ومطالب أولي النهى 6 / 323.
(4) سورة الإسراء / 70.
(5) حديث: " من بات وفي يده ريح غمر. . . ". أخرجه الترمذي 4 / 289 من حديث أبي هريرة، وقال: حديث حسن.

(35/212)


الْفَمِ وَالْيَدِ مِنْ أَكْل اللَّحْمِ خَاصَّةً، لِمَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ مِنَ السَّوِيقِ (1) ، وَهُوَ أَيْسَرُ مِنَ اللَّحْمِ، وَلِمَا وَرَدَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ غَسَل يَدَهُ مِنَ اللَّحْمِ وَتَمَضْمَضَ مِنْهُ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَكْلٌ ف 14 - 15، وَيَدٌ) .

الْحَلِفُ عَلَى عَدَمِ أَكْل اللَّحْمِ
17 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَالِفَ عَلَى تَرْكِ اللَّحْمِ يَحْنَثُ بِأَكْل مَا لَيْسَ بِلَحْمٍ مِنَ الشَّحْمِ وَنَحْوِهِ لأَِنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقَةً وَيُتَّخَذُ مِنْهُ مَا يُتَّخَذُ مِنَ اللَّحْمِ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ شَحْمَ الأَْلْيَةِ إِلاَّ إِذَا نَوَاهُ فِي الْيَمِينِ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحْنَثُ لأَِنَّهُ لاَ يُسْمَى لَحْمًا وَيَنْفَرِدُ عَنْهُ بِاسْمِهِ وَصِفَتِهِ (4) .

بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ:
18 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم تمضمض من السويق ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 312) من حديث سويد بن النعمان.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 337، والمنتقى 1 / 66، ومواهب الجليل 1 / 302، وروضة الطالبين 7 / 340، وشرح صحيح مسلم 4 / 46، والإنصاف 8 / 324، والمغني 8 / 120. وأثر عثمان. أخرجه مالك 1 / 26.
(3) الفتاوى الهندية 2 / 83، وجواهر الإكليل 1 / 235، والمغني 11 / 318.
(4) القليوبي وعميرة 4 / 280، والمغني 11 / 318.

(35/212)


عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِهِ كَلَحْمِ شَاةٍ بِشَاةٍ حَيَّةٍ (1) لِحَدِيثِ: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ (2) .
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الْبَيْعَ (3) ، وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ف 60) .
وَهُنَاكَ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي بَيْعِ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ وَبِحَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ف 60 - 62) .

السَّلَمُ فِي اللَّحْمِ:
19 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى صِحَّةِ السَّلَمِ فِي اللَّحْمِ بِشَرْطِ ضَبْطِ صِفَاتِهِ بِذِكْرِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ: مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ (4) ، وَلأَِنَّهُ إِذَا جَازَ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ فَاللَّحْمُ أَوْلَى (5) .
__________
(1) شرح الخرشي 5 / 68، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 174 - 175، والمغني4 / 146 - 149.
(2) حديث: " نهى عن بيع الحيوان باللحم. . . ". أخرجه مالك في الموطأ 2 / 665 من حديث سعيد بن المسيب مرسلا، وذكر له ابن حجر في التلخيص (2 / 10) شواهد تقويه.
(3) بدائع الصنائع 5 / 189، وتبيين الحقائق 4 / 91.
(4) حديث: " من أسلف في شيء ففي كيل معلوم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري / 429) ومسلم (3 / 1227) من حديث ابن عباس واللفظ للبخاري.
(5) بداية المجتهد 2 / 202، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 189، ومغني المحتاج 2 / 112، والمغني 4 / 316.

(35/213)


وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ السَّلَمِ فِي اللَّحْمِ لِوُجُودِ الْجَهَالَةِ. (1)

بَيْعُ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ:
20 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ وَهُوَ خِلاَفٌ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ اللَّحْمِ جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً، فَمَنْ قَال بِأَنَّ اللَّحْمَ جِنْسٌ وَاحِدٌ لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُ بَيْعُ لَحْمٍ بِلَحْمٍ إِلاَّ مُتَمَاثِلاً، وَمَنْ جَعَلَهُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً جَازَ عِنْدَهُ بَيْعُهُ مُتَفَاضِلاً، عَلَى تَفْصِيلٍ فِي كُل مَذْهَبٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رِبًا ف 27 - 30) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 210.

(35/213)


لَحْنٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - اللَّحْنُ: فِي اللُّغَةِ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ عِدَّةٍ. يُقَال: لَحِنَ فُلاَنٌ لِفُلاَنٍ لَحْنًا: قَال لَهُ قَوْلاً يَفْهَمُهُ عَنْهُ، وَيَخْفَى عَلَى غَيْرِهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْخَطَأِ فِي الإِْعْرَابِ وَمُخَالَفَةِ الصَّوَابِ فِيهِ، يُقَال: لَحِنَ الْقَارِئُ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْمُتَكَلِّمُ فِي كَلاَمِهِ، يَلْحَنُ لَحْنًا: أَخْطَأَ فِي الإِْعْرَابِ، وَخَالَفَ وَجْهَ الصَّوَابِ.
وَيُطْلَقُ عَلَى الْفِطْنَةِ، فَفِي الأَْثَرِ: إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَل بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ (1) . . . أَيْ أَفْطَنَ بِحُجَّتِهِ، قَال ابْنُ حَجَرٍ: الْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَفْطَنَ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ فِي حُجَّتِهِ مِنَ الآْخَرِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الأَْصْوَاتِ الْمَصُوغَةِ الْمَوْضُوعَةِ الَّتِي فِيهَا تَغْرِيدٌ، وَتَطْرِيبٌ، وَجَمْعُهُ أَلْحَانٌ، وَلُحُونٌ، وَيُقَال: لَحْنُ الْقَوْل أَيْ فَحْوَاهُ
__________
(1) حديث: " إنكم تختصمون إليَّ. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 339) من حديث أم سلمة.

(35/214)


وَمَعْنَاهُ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ النَّحْوِيِّينَ هُوَ: الْخَطَأُ فِي إِعْرَابِ الْكَلِمَةِ، أَوْ تَصْحِيحُ الْمُفْرَدِ. وَعِنْدَ الْقُرَّاءِ هُوَ: خَلَلٌ يَطْرَأُ عَلَى اللَّفْظِ فَيُخِل بِالْمَعْنَى (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللَّحْنِ:
تَعَمُّدُ اللَّحْنِ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
2 - الْقُرْآنُ كَلاَمُ اللَّهِ الْمُعْجِزُ الْمُنَزَّل عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَنْقُول بِالتَّوَاتُرِ، فَيَحْرُمُ تَعَمُّدُ اللَّحْنِ فِيهِ، سَوَاءٌ أَغَيَّرَ الْمَعْنَى أَمْ لَمْ يُغَيِّرْ، لأَِنَّ أَلْفَاظَهُ تَوْقِيفِيَّةٌ نُقِلَتْ إِلَيْنَا بِالتَّوَاتُرِ، فَلاَ يَجُوزُ تَغْيِيرُ لَفْظٍ مِنْهُ بِتَغْيِيرِ الإِْعْرَابِ أَوْ بِتَغْيِيرِ حُرُوفِهِ بِوَضَعِ حَرْفٍ مَكَانَ آخَرَ.
وَلأَِنَّ فِي تَعَمُّدِ اللَّحْنِ عَبَثًا بِكَلاَمِ اللَّهِ، وَاسْتِهْزَاءً بِآيَاتِهِ، وَهُوَ كُفْرٌ بَوَاحٌ (3) ، قَال تَعَالَى: {قُل أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (4) .
قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِجَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالأَْلْحَانِ إِذَا لَمْ تَتَغَيَّرِ الْكَلِمَةُ عَنْ وَضْعِهَا، وَلَمْ
__________
(1) لسان العرب ومتن اللغة، والكليات مادة (لحن) ، وفتح الباري 12 / 339.
(2) الكليات لأبي البقاء الكفوي 4 / 172.
(3) كشاف القناع 1 / 481.
(4) سورة التوبة / 66.

(35/214)


يَحْصُل بِاللَّحْنِ تَطْوِيلٌ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْحَرْفُ حَرْفَيْنِ، أَوْ يَصِل بِهِ إِلَى مَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الْقُرَّاءِ بَل كَانَ لِمُجَرَّدِ تَحْسِينِ الصَّوْتِ، وَتَزْيِينِ الْقِرَاءَةِ، بَل يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ (1) ، وَفِي أَثَرٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَاللَّحْنَ وَالسُّنَنَ كَمَا تَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ (2) .
وَنَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ الْمَاوَرْدِيَّ أَنَّهُ قَال: الْقِرَاءَةُ بِالأَْلْحَانِ الْمَوْضُوعَةِ إِنْ أَخْرَجَتْ لَفْظَ الْقُرْآنِ عَنْ صِيغَتِهِ بِإِدْخَال حَرَكَاتٍ فِيهِ أَوْ إِخْرَاجِ حَرَكَاتٍ مِنْهُ أَوْ قَصْرِ مَمْدُودٍ أَوْ مَدِّ مَقْصُورٍ، أَوْ تَمْطِيطٍ يَخْفَى بِهِ بَعْضُ اللَّفْظِ وَيَلْتَبِسُ الْمَعْنَى فَهُوَ حَرَامٌ يَفْسُقُ بِهِ الْقَارِئُ وَيَأْثَمُ بِهِ الْمُسْتَمِعُ، لأَِنَّهُ عَدَل بِهِ عَنْ نَهْجِهِ الْقَوِيمِ إِلَى الاِعْوِجَاجِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُول: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} (3) قَال: وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهُ اللَّحْنُ عَنْ لَفْظِهِ وَقِرَاءَتِهِ عَلَى تَرْتِيلِهِ كَانَ مُبَاحًا، لأَِنَّهُ زَادَ بِأَلْحَانِهِ فِي تَحْسِينِهِ (4) .
وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ عَنِ الشَّاشِيِّ أَنَّهُ نَسَبَ فِي حِلْيَتِهِ إِلَى الشَّافِعِيِّ مَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ (5) .
__________
(1) المحلي وعميرة 4 / 320، وابن عابدين 5 / 272، 1 / 424.
(2) أثر عمر: " تعلموا الفرائض. . . ". أخرجه الدارمي (2 / 341) .
(3) سورة الزمر / 27.
(4) التبيان في آداب حملة القرآن ص146 - 147.
(5) كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع بهامش الزواجر 1 / 70.

(35/215)


وَقَال فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: إِنْ قَرَأَ بِالأَْلْحَانِ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ إِنْ غَيَّرَ الْكَلِمَةَ وَيَقِفُ فِي مَوْضِعِ الْوَصْل أَوْ فَصَل فِي مَوْضِعِ الْوَقْفِ يُكْرَهُ وَإِلاَّ لاَ يُكْرَهُ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَاتِ: (قِرَاءَةٌ ف 9، غِنَاءٌ ف 11) .

اللَّحْنُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ تَعَمُّدَ اللَّحْنِ فِي الصَّلاَةِ إِنْ كَانَ فِي الْفَاتِحَةِ يُبْطِل الصَّلاَةَ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ إِذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ، أَوْ كَانَ فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ اللَّحْنُ لاَ يُغَيِّرُ الْمَعْنَى كَرَفْعِ هَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ كَانَتْ إِمَامَتُهُ مَكْرُوهَةً كَرَاهَةً تَنْزِيهِيَّةً وَصَحَّتْ صَلاَتُهُ وَصَلاَةُ مَنِ اقْتَدَى بِهِ.
وَإِنْ غَيَّرَ الْمَعْنَى كَضَمِّ " تَاءِ " أَنْعَمْتَ، وَكَسْرِهَا، وَكَقَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِينَ بَدَل " الْمُسْتَقِيمَ ".
فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ لَهُ التَّعَلُّمُ فَهُوَ مُرْتَكِبٌ لِلْحَرَامِ، وَيَلْزَمُهُ الْمُبَادَرَةُ بِالتَّعَلُّمِ، فَإِنْ قَصَّرَ، وَضَاقَ الْوَقْتُ لَزِمَهُ أَنْ يُصَلِّيَ، وَيَقْضِيَ، وَلاَ يَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ التَّعَلُّمُ لِعَجْزٍ فِي لِسَانِهِ، أَوْ لَمْ تَمْضِ مُدَّةٌ يُمْكِنُ لَهُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 317.

(35/215)


التَّعَلُّمُ فِيهَا فَصَلاَتُهُ صَحِيحَةٌ، وَكَذَا صَلاَةُ مَنْ خَلْفَهُ، هَذَا إِذَا وَقَعَ اللَّحْنُ فِي الْفَاتِحَةِ، وَإِنْ لَحِنَ فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ كَالسُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ صَحَّتْ صَلاَتُهُ، وَصَلاَةُ كُل أَحَدٍ صَلَّى خَلْفَهُ، لأَِنَّ تَرْكَ السُّورَةِ لاَ يُبْطِل الصَّلاَةَ فَلاَ يَمْنَعُ الاِقْتِدَاءَ بِهِ (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تَفْسُدُ الصَّلاَةُ بِاللَّحْنِ الَّذِي يُغَيِّرُ الْمَعْنَى تَغْيِيرًا يَكُونُ اعْتِقَادُهُ كُفْرًا سَوَاءٌ وُجِدَ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ أَمْ لاَ، إِلاَّ مَا كَانَ فِي تَبْدِيل الْجُمَل مَفْصُولاً بِوَقْفٍ تَامٍّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ، وَالْمَعْنَى بَعِيدٌ، وَيَتَغَيَّرُ بِهِ الْمَعْنَى تَغْيِيرًا فَاحِشًا تَفْسُدُ الصَّلاَةُ بِهِ أَيْضًا، كَـ " هَذَا الْغُبَارِ " بَدَل " هَذَا الْغُرَابِ " وَكَذَا إِنْ لَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ، وَلاَ مَعْنَى لَهُ مُطْلَقًا، كَالسَّرَائِل، بَدَل " السَّرَائِرِ ".
وَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهُ وَكَانَ الْمَعْنَى بَعِيدًا وَلَكِنْ لاَ يُغَيِّرُ الْمَعْنَى تَغْيِيرًا فَاحِشًا تَفْسُدُ الصَّلاَةُ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ تَفْسُدُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقُرْآنِ وَلَكِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ الْمَعْنَى نَحْوَ: " قَيَّامِينَ " بَدَل: " قَوَّامِينَ " فَالْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ بِالْعَكْسِ: فَالْمُعْتَبَرُ فِي عَدَمِ الْفَسَادِ عِنْدَ عَدَمِ تَغَيُّرِ الْمَعْنَى كَثِيرًا وُجُودُ الْمِثْل فِي الْقُرْآنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَالْمُوَافَقَةُ فِي الْمَعْنَى
__________
(1) المجموع 4 / 268 - 269، والمغني 2 / 297.

(35/216)


عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَهَذِهِ قَوَاعِدُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ: كَابْنِ مُقَاتِلٍ، وَابْنِ سَلاَّمٍ، وَإِسْمَاعِيل الزَّاهِدِ، وَأَبِي بَكْرٍ الْبَلْخِيِّ، وَالْهِنْدُوَانِيِّ، وَابْنِ الْفَضْل فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْخَطَأَ فِي الإِْعْرَابِ لاَ يُفْسِدُ الصَّلاَةَ مُطْلَقًا، وَإِنْ أَدَّى اعْتِقَادُهُ كُفْرًا، كَكَسْرِ " وَرَسُولِهِ "، فِي قَوْله تَعَالَى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} لأَِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ وُجُوهِ الإِْعْرَابِ، وَإِنْ كَانَ الْخَطَأُ بِإِبْدَال حَرْفٍ بِحَرْفٍ: فَإِنْ أَمْكَنَ الْفَصْل بَيْنَهُمَا بِلاَ كُلْفَةٍ كَالصَّادِ مَعَ الطَّاءِ بِأَنْ قَرَأَ الطَّالِحَاتِ، بَدَل " الصَّالِحَاتِ " فَهُوَ مُفْسِدٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِمَشَقَّةٍ كَالظَّاءِ مَعَ الضَّادِ وَالصَّادِ مَعَ السِّينِ فَأَكْثَرُهُمْ عَلَى عَدَمِ الْفَسَادِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى (1) ، وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَقَعَ اللَّحْنُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ فِي الْفَاتِحَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي أَصَحِّ الأَْقْوَال عِنْدَهُمْ: لاَ تَبْطُل الصَّلاَةُ بِلَحْنٍ فِي الْقِرَاءَةِ وَلَوْ بِالْفَاتِحَةِ، وَإِنْ غَيَّرَ الْمَعْنَى، وَأَثِمَ الْمُقْتَدِي بِهِ إِنْ وَجَدَ غَيْرَهُ، مِمَّنْ يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ (2) .

اللَّحْنُ بِمَعْنَى التَّغْرِيدِ وَالتَّطْرِيبِ
4 - اللَّحْنُ بِهَذَا الْمَعْنَى إِنْ كَانَ بِلاَ آلَةٍ، وَلَمْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 423، وفتح القدير 1 / 281.
(2) الشرح الصغير 1 / 437، مختصر خليل 1 / 78.

(35/216)


يَكُنْ فِي أَلْفَاظِهِ مَا يَحْرُمُ كَوَصْفِ امْرَأَةٍ، أَوْ أَمْرَدَ مُعَيَّنَيْنِ حَيَّيْنِ، وَوَصْفِ الْخَمْرِ الْمُهَيِّجِ إِلَيْهَا وَهِجَاءِ مُسْلِمٍ، أَوْ ذِمِّيٍّ فَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي الْجُمْلَةِ لِشَغْلِهِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ لَهْوٍ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ آلَةٍ، وَفُحْشِ الْقَوْل فَهُوَ حَرَامٌ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ حِكَمٌ، وَمَوَاعِظُ وَخَلاَ مِنَ الآْلَةِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ قَصَدَ مِنْهُ الاِسْتِشْهَادَ، أَوْ لِيَعْلَمَ فَصَاحَتَهُ، وَبَلاَغَتَهُ، أَوْ أَنْشَدَ فِي خَلْوَةٍ وَحْدَهُ لِيَطْرُدَ عَنْ نَفْسِهِ الْمَلَل، فَلاَ بَأْسَ بِهِ أَيْضًا.
وَالتَّفْصِيل فِي (غِنَاءٌ، شِعْرٌ ف 17، تَشْبِيبٌ ف 2 - 3) .

(35/217)


لُحُوقُ

التَّعْرِيفُ:
1 - اللُّحُوقُ فِي اللُّغَةِ: الإِْدْرَاكُ، مِنْ لَحِقَ بِهِ لَحْقًا وَلَحَاقًا: أَدْرَكَهُ، وَكُل شَيْءٍ أَدْرَكَ شَيْئًا فَهُوَ لاَحِقٌ بِهِ (1) .
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَيَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ بِاخْتِلاَفِ الأَْبْوَابِ الَّتِي يُسْتَعْمَل فِيهَا، وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ مَادَّةَ لَحِقَ وَمُشْتَقَّاتِهَا فِي مَسَائِل ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَالْتِحَاقِ الذِّمِّيِّ وَالْمُرْتَدِّ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَإِلْحَاقِ جَنِينِ الْمُذَكَّاةِ بِأُمِّهِ فِي الْحِل، وَإِلْحَاقِ صِغَارِ السَّائِمَةِ فِي الزَّكَاةِ، وَلُحُوقِ تَوَابِعِ الْمَبِيعِ بِهِ فِي الْبَيْعِ، كَمَا اسْتَعْمَلَهُ الأُْصُولِيُّونَ بِمَعْنَى الْقِيَاسِ وَهُوَ إِلْحَاقُ الْفَرْعِ بِالأَْصْل فِي الْحُكْمِ لِعِلَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُمَا.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللُّحُوقِ:
تَتَعَلَّقُ بِاللُّحُوقِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
__________
(1) لسان العرب، ومتن اللغة، ومختار الصحاح، والمعجم الوسيط.

(35/217)


اللُّحُوقُ فِي النَّسَبِ:
2 - اللُّحُوقُ فِي النَّسَبِ هُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ، وَانْتِسَابِهِ لِمَنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، لِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَأَسْبَابُ ذَلِكَ مَا يَأْتِي:

أَوَلاَ - الزَّوَاجُ الصَّحِيحُ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي تَأْتِي بِهِ الْمَرْأَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ زَوَاجًا صَحِيحًا يَلْحَقُ زَوْجَهَا، لِحَدِيثِ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ (1) ، وَالْمُرَادُ بِالْفِرَاشِ الزَّوْجَةُ وَمَا فِي حُكْمِهَا، وَذَلِكَ بِالشُّرُوطِ الآْتِيَةِ:
أ - أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْحَمْل عَادَةً، بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَأَنْ يَبْلُغَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً عِنْدَ بَعْضٍ، وَعَشْرَ سَنَوَاتٍ عِنْدَ آخَرِينَ، فَلاَ يَلْحَقُ بِالزَّوْجِ إِنْ كَانَ طِفْلاً دُونَ التَّاسِعَةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، كَمَا لاَ يَلْحَقُ بِالْمَجْبُوبِ وَهُوَ مَقْطُوعُ الذَّكَرِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ (2) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (جَبٌّ ف 9) .
ب - أَنْ تَأْتِيَ بِهِ فِي مُدَّةِ الْحَمْل سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ مِنْ وَقْتِ الزَّوَاجِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ،
__________
(1) حديث: " الولد للفراش ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 292) ومسلم (2 / 1080) من حديث عائشة.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 465، وحاشية الدسوقي 2 / 460، وروضة الطالبين 8 / 357، والمغني 7 / 427.

(35/218)


وَمِنْ وَقْتِ إِمْكَانِ الْوَطْءِ عِنْدَ آخَرِينَ، فَإِنْ أَتَتْ بِهِ لأَِقَل مِنَ الْحَدِّ الأَْدْنَى لِمُدَّةِ الْحَمْل لاَ يَلْحَقُهُ، وَكَذَا إِنْ أَتَتْ بِهِ لأَِكْثَرِ مُدَّةِ الْحَمْل مِنْ تَارِيخِ الْفِرَاقِ وَهِيَ سَنَتَانِ عِنْدَ الأَْحْنَافِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَأَرْبَعٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَخَمْسٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ إِنَّ أَقْصَى الْحَمْل تِسْعَةُ أَشْهُرٍ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَمْلٌ ف 6، 7) .
ج - إِمْكَانُ تَلاَقِي الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ الْعَقْدِ فَإِنْ طَلَّقَهَا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ أَوْ جَرَى الْعَقْدُ وَالزَّوْجَانِ مُتَبَاعِدَانِ: أَحَدُهُمَا بِالْمَشْرِقِ، وَالآْخَرُ بِالْمَغْرِبِ لَمْ يَلْحَقْهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ (1) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نَسَبٌ) .

ثَانِيًا - النِّكَاحُ الْفَاسِدُ:
4 - النِّكَاحُ الْفَاسِدُ كَالصَّحِيحِ فِي لُحُوقِ النَّسَبِ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نَسَبٌ، نِكَاحٌ) .

ثَالِثًا - الْوَطْءُ بِشُبْهَةٍ:
5 - إِنْ وَطِئَ امْرَأَةً لاَ زَوْجَ لَهَا بِشُبْهَةٍ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ مُضِيِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ مِنْ وَقْتِ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 396، والمغني 7 / 430، وحاشية الدسوقي 2 / 460.
(2) روضة الطالبين 8 / 320، 358، والمغني 7 / 427، وحاشية ابن عابدين 2 / 607، وحاشية الدسوقي 2 / 257.

(35/218)


الْوَطْءِ لَحِقَ نَسَبُهُ بِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَعَزَاهُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ - مِنْهُمْ -: أَنَّهُ لاَ يَلْحَقُ بِهِ، لأَِنَّ النَّسَبَ لاَ يَلْحَقُ إِلاَّ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، أَوْ فَاسِدٍ، أَوْ مِلْكٍ، أَوْ شُبْهَةِ مِلْكٍ، وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلأَِنَّهُ وَطْءٌ لاَ يَسْتَنِدُ إِلَى عَقْدٍ، فَلَمْ يُلْحَقِ الْوَلَدُ فِيهِ كَالزِّنَا.
وَقَال أَحْمَدُ: كُل مَنْ دَرَأْتَ عَنْهُ الْحَدَّ فِي وَطْءٍ أَلْحَقْتَ الْوَلَدَ بِهِ، وَلأَِنَّهُ وَطْءٌ اعْتَقَدَ الْوَاطِئُ حِلَّهُ، فَلَحِقَ بِهِ النَّسَبُ، وَإِنْ وَطِئَ ذَاتَ زَوْجٍ بِشُبْهَةٍ فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ زَوْجُهَا، فَاعْتَزَلَهَا بَعْدَ الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ حَتَّى أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ لَحِقَ الْوَاطِئَ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نَسَبٌ، نِكَاحٌ) .

رَابِعًا - الإِْقْرَارُ أَوِ الاِسْتِلْحَاقُ:
6 - وَهُوَ مَعَ الصِّدْقِ وَاجِبٌ، وَمَعَ الْكَذِبِ: فِي إِلْحَاقِهِ أَوْ نَفْيِهِ حَرَامٌ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
- إِقْرَارٌ عَلَى نَفْسِ الْمُقِرِّ.
- وَإِقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ.
وَالإِْقْرَارُ عَلَى نَفْسِ الْمُقِرِّ أَنْ يَقُول: هَذَا ابْنِي، أَوْ أَنَا أَبُوهُ، أَوْ هَذَا أَبِي، فَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ اللُّحُوقِ بِهَذَا الإِْقْرَارِ:
__________
(1) المغني 7 / 431 - 432، وابن عابدين 2 / 607، والقليوبي 4 / 350.

(35/219)


أ - أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ مُكَلَّفًا مُخْتَارًا وَإِنْ كَانَ سَفِيهًا أَوْ قِنًّا أَوْ كَافِرًا. وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِي الْمُقِرِّ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِقْرَارٌ ف 68) .
ب - أَنْ لاَ يُكَذِّبَهُ الْحِسُّ، بِأَنْ كَانَ الْمُقِرُّ فِي سِنٍّ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، فَإِنْ كَذَّبَهُ الْحِسُّ بِأَنْ يَكُونَ فِي سِنٍّ لاَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُولَدَ لِمِثْلِهِ مِثْل الْمُسْتَلْحَقِ: بِأَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ مِنْهُ سِنًّا أَوْ يَكُونَ فِي سِنِّهِ، أَوْ طَرَأَ عَلَى الْمُسْتَلْحَقِ قَطْعُ ذَكَرِهِ وَأُنْثَيَيْهِ قَبْل إِمْكَانِ عُلُوقِ ذَلِكَ الْوَلَدِ لَمْ يَلْحَقْهُ (1) .
ج - أَلاَّ يُكَذِّبَهُ الشَّرْعُ، فَإِنْ كَذَّبَهُ: بِأَنْ كَانَ مَعْرُوفَ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُسْتَلْحِقُ بِهِ، لأَِنَّ النَّسَبَ لاَ يَقْبَل النَّقْل.
د - وَأَنْ يُصَدِّقَ الْمُسْتَلْحِقَ إِنْ كَانَ أَهْلاً لِلتَّصْدِيقِ، فَإِنْ كَذَّبَهُ لَمْ يَلْحَقْهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِيَمِينٍ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَإِنِ اسْتَلْحَقَ صَغِيرًا، أَوْ مَجْنُونًا لَحِقَ بِهِ بِالشُّرُوطِ السَّابِقَةِ، مَا عَدَا التَّصْدِيقَ (2) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نَسَبٌ) .
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 109 - 110، وتحفة المحتاج 5 / 401، والمغني 5 / 199 - 200، 7 / 394 - 395، وحاشية الدسوقي 2 / 406، ورد المحتار 4 / 464 - 465، وبدائع الصنائع 6 / 252، 7 / 228.
(2) نهاية المحتاج 5 / 107 وما بعده، وتحفة المحتاج 5 / 400، وابن عابدين 4 / 465، والمغني 5 / 199 - 200.

(35/219)


وَيَجُوزُ أَنَّ يَسْتَلْحِقَ مَيِّتًا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا بِطَلَبِ الإِْرْثِ، أَوْ لِسُقُوطِ الْقَوَدِ (1) .
(ر: نَسَبٌ - إِقْرَارٌ ف 63) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ اسْتِلْحَاقُ مَنْفِيٍّ بِلِعَانِ وَلَدٍ عَلَى فِرَاشِ نِكَاحٍ صَحِيحٍ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَال حَقِّ النَّافِي، إِذْ لِلْمُلاَعِنِ اسْتِلْحَاقُهُ بَعْدَ نَفْيِهِ، وَأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ لاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ نَفْيُ قَائِفٍ وَلاَ انْتِسَابٌ يُخَالِفُ حُكْمَ الْفِرَاشِ (2) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (نَسَبٌ، لِعَانٌ ف 29 إِقْرَارٌ ف 63) .
7 - أَمَّا إِذَا أُلْحِقَ النَّسَبُ بِغَيْرِهِ مِمَّا يَتَعَدَّى النَّسَبُ مِنْهُ إِلَى نَفْسِهِ بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الأَْبُ كَهَذَا أَخِي، أَوْ بِثِنْتَيْنِ كَالأَْبِ وَالْجَدِّ كَهَذَا عَمِّي، أَوْ بِثَلاَثَةٍ: كَهَذَا ابْنُ عَمِّي لَحِقَ نَسَبُهُ مِنَ الْمُلْحَقِ بِهِ، لأَِنَّ الْوَارِثَ يَخْلُفُ مُوَرِّثَهُ فِي حُقُوقِهِ وَالنَّسَبُ مِنْهَا بِالشُّرُوطِ السَّابِقَةِ فِيمَا إِذَا أَلْحَقَهُ بِنَفْسِهِ.
وَيُشْتَرَطُ زِيَادَةً عَلَى الشُّرُوطِ السَّابِقَةِ: كَوْنُ الْمُلْحَقِ بِهِ مَيِّتًا، فَيَمْتَنِعُ الإِْلْحَاقُ بِالْحَيِّ، وَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا، لأَِنَّهُ قَدْ يَتَأَهَّل، فَلَوْ أَلْحَقَ حَيًّا، ثُمَّ صَدَّقَهُ لَحِقَهُ بِتَصْدِيقِهِ دُونَ الإِْلْحَاقِ. (ر: إِقْرَارٌ ف 63، نَسَبٌ) .
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) نهاية المحتاج 5 / 107 وما بعده، وتحفة المحتاج 5 / 401.

(35/220)


وَلاَ يُقِرُّ الْحَنَفِيَّةُ لُحُوقَ النَّسَبِ بِالإِْقْرَارِ بِوَاسِطَةِ الْغَيْرِ سَوَاءٌ كَانَ بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَسَوَاءٌ صَدَّقَهُ الْمَقَرُّ بِنَسَبِهِ أَوْ كَذَّبَهُ، لأَِنَّ إِقْرَارَ الإِْنْسَانِ حُجَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ لاَ عَلَى غَيْرِهِ، لأَِنَّهُ عَلَى غَيْرِهِ شَهَادَةٌ أَوْ دَعْوَى، وَالدَّعْوَى الْمُفْرَدَةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ، وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ فِيمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَال - وَهُوَ مِنْ بَابِ حُقُوقِ الْعِبَادِ - غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَالإِْقْرَارُ الَّذِي فِيهِ حَمْل نَسَبِ الْغَيْرِ عَلَى غَيْرِهِ - لاَ عَلَى نَفْسِهِ - شَهَادَةً أَوْ دَعْوَى، وَذَلِكَ لاَ يُقْبَل إِلاَّ بِحُجَّةٍ (1) (ر: نَسَبٌ، إِقْرَارٌ ف 63) .

خَامِسًا - الْقِيَافَةُ:
8 - لَوِ اسْتَلْحَقَ اثْنَانِ صَغِيرًا مَجْهُول النَّسَبِ وَلَمْ يَكُنْ لأَِحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ عُرِضَ عَلَى الْقَافَةِ فَيُلْحَقُ بِمَنْ أَلْحَقَتْهُ بِهِ مِنْهُمَا.
انْظُرْ: (لَقِيطٌ، قِيَافَةٌ) .
وَإِنِ اسْتَلْحَقَا بَالِغًا عَاقِلاً، وَوُجِدَتِ الشُّرُوطُ لَحِقَ بِمِنْ يُصَدِّقُهُ الْمُسْتَلْحَقُ، فَإِنْ سَكَتَ، وَلَمْ يُصَدِّقْ وَاحِدًا مِنْهُمَا عُرِضَ عَلَى الْقَافَةِ فَيُلْحَقُ بِمَنْ تُلْحِقُهُ بِهِ الْقَافَةُ (2) .
(ر: نَسَبٌ، إِقْرَارٌ ف 63، قِيَافَةٌ) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 228.
(2) تحفة المحتاج 5 / 403، ونهاية المحتاج 5 / 110 - 463، والمغني 5 / 766.

(35/220)


سَادِسًا - الشَّهَادَةُ:
9 - يَلْحَقُ النَّسَبُ بِالشَّهَادَةِ بِشُرُوطِهَا. انْظُرْ: (شَهَادَةٌ ف 29، 37، وَنَسَبٌ، وَتَسَامُعٌ ف 7 وَمَا بَعْدَهَا) .

سَابِعًا - الاِسْتِفْرَاشُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ
10 - إِذَا عَاشَرَ مَمْلُوكَتَهُ وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِمُدَّةِ الْحَمْل مِنْ يَوْمِ الْوَطْءِ لَحِقَهُ، بِهَذَا قَال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: لاَ تَصِيرُ فِرَاشًا حَتَّى يُقِرَّ بِوَلَدِهَا، فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ وَلَحِقَهُ أَوْلاَدُهَا بَعْدَ ذَلِكَ (1) . (ر: تَسَرِّي ف 18) .

لُحُوقُ الذِّمِّيِّ بِدَارِ الْحَرْبِ
11 - يُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمَّةِ بِلُحُوقِ الذِّمِّيِّ بِدَارِ الْحَرْبِ، لأَِنَّهُ صَارَ بِلُحُوقِهِ دَارَ الْحَرْبِ حَرْبًا عَلَيْنَا، فَيَخْلُو عَقْدُ الذِّمَّةِ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَهُوَ دَفْعُ شَرِّهِ عَنَّا.
(ر: أَهْل الذِّمَّةِ ف 42) .

لُحُوقُ الْمُرْتَدِّ بِدَارِ الْحَرْبِ وَأَثَرُهُ فِي تَصَرُّفَاتِهِ
12 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ، وَقَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ صَارَ الْبَيْعُ لاَزِمًا (2) ، وَإِنِ ارْتَدَّ فِي الْمُضَارَبَةِ رَبُّ الْمَال وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتِ الْمُضَارَبَةُ، لأَِنَّ اللُّحُوقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 / 398، المحلي على المنهاج 3 / 243.
(2) تحفة الفقهاء 2 / 92 ط. دار الفكر - دمشق.

(35/221)


الْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الْمُرْتَدَّ اللاَّحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَالْمُضَارَبَةُ عَلَى حَالِهَا، لأَِنَّ لَهُ عِبَارَةٌ صَحِيحَةٌ وَلاَ يُوقَفُ مِلْكُ رَبِّ الْمَال فَبَقِيَتِ الْمُضَارَبَةُ (1) .
وَإِنِ ارْتَدَّ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ، لأَِنَّ الشَّرِكَةَ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ، وَلاَ بُدَّ مِنْهَا لَتَحَقُّقِ الشَّرِكَةِ، وَاللُّحُوقُ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ (2) .
وَتَبْطُل الْوَكَالَةُ بِلُحُوقِ الْوَكِيل بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا لأَِنَّ الْوَكَالَةَ تَصَرُّفٌ غَيْرُ لاَزِمٍ فَيَكُونُ لِدَوَامِهِ حُكْمُ ابْتِدَائِهِ، فَلاَ بُدَّ مِنْ بَقَاءِ الأَْمْرِ فَبَطَل بِعَارِضِ الرِّدَّةِ، لأَِنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ، فَكَذَا وَكَالَتُهُ، فَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَتْ، وَإِنْ قُتِل أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ صَاحِبَيْهِ: تَصَرُّفَاتُهُ نَافِذَةٌ فَلاَ تَبْطُل وَكَالَتُهُ إِلاَّ أَنْ يُقْتَل بِالرِّدَّةِ أَوْ يُحْكَمَ بِلَحَاقِهِ (3) . (ر: وَكَالَةٌ) .
__________
(1) الهداية 3 / 208.
(2) الهداية 3 / 12، وبدائع الصنائع 6 / 78.
(3) فتح القدير 6 / 126، والهداية 3 / 153، وبدائع الصنائع 6 / 38 - 39.

(35/221)


لِحْيَة
التَّعْرِيفُ:
1 - اللِّحْيَةُ لُغَةً: الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الْخَدَّيْنِ وَالذَّقْنِ، وَالْجَمْعُ اللِّحَى وَاللُّحَى. وَرَجُلٌ أَلْحَى وَلِحْيَانِيٌّ: طَوِيل اللِّحْيَةِ، وَاللَّحْيُ وَاحِدُ اللَّحْيَيْنِ وَهُمَا: الْعَظَمَاتُ اللَّذَانِ فِيهِمَا الأَْسْنَانُ مِنَ الإِْنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ، وَعَلَيْهِمَا تَنْبُتُ اللِّحْيَةُ (1) . وَاللِّحْيَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْمُرَادُ بِاللِّحْيَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِهِمُ الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الْخَدَّيْنِ مِنْ عَذَارٍ، وَعَارِضٍ، وَالذَّقْنِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعِذَارُ
2 - الْعِذَارَانِ كَمَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: جَانِبَا اللِّحْيَةِ، وَكَانَ الْفُقَهَاءُ أَكْثَرَ تَحْدِيدًا لِلْعِذَارِ مِنْ أَهْل اللُّغَةِ، فَقَدْ فَسَّرَهُ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ
__________
(1) لسان العرب.
(2) رد المحتار على الدر المختار المشهور بحاشية ابن عابدين 1 / 68 القاهرة، مطبعة بولاق 1272 هـ.

(35/222)


مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَابْنُ قُدَامَةَ وَالْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الْعَظْمِ النَّاتِئِ الْمُحَاذِي لِصِمَاخِ الأُْذُنِ (أَيْ خَرْقَهَا) يَتَّصِل مِنَ الأَْعْلَى بِالصُّدْغِ، وَمِنَ الأَْسْفَل بِالْعَارِضِ، وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: الَّذِي تُصَرِّحُ بِهِ عِبَارَاتُهُمْ أَنَّهُ إِذَا جُعِل خَيْطٌ مُسْتَقِيمٌ عَلَى أَعْلَى الأُْذُنِ وَأَعْلَى الْجَبْهَةِ فَمَا تَحْتَ ذَلِكَ الْخَيْطِ مِنَ الْمُلاَصِقِ لِلأُْذُنِ، الْمُحَاذِي لِلْعَارِضِ هُوَ الْعِذَارُ، وَمَا فَوْقَهُ هُوَ الصُّدْغُ، وَيَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: هُوَ الْقَدْرُ الْمُحَاذِي لِلأُْذُنِ.
وَيُصَرِّحُ ابْنُ عَابِدِينَ بِأَنَّ الْعِذَارَ جُزْءٌ مِنَ اللِّحْيَةِ، وَعَلَيْهِ فَتَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُهَا.
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: لاَ يَدْخُل مُنْتَهَى الْعِذَارِ (أَيْ أَعْلاَهُ الَّذِي فَوْقَ الْعَظْمِ النَّاتِئِ) لأَِنَّهُ شَعْرٌ مُتَّصِلٌ بِشَعْرِ الرَّأْسِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّهِ، أَشْبَهَ الصُّدْغَ، وَالصُّدْغُ مِنَ الرَّأْسِ (وَلَيْسَ مِنَ الْوَجْهِ) لِحَدِيثِ الرَّبِيعِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَصُدْغَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً (1) ، وَلَمْ يَنْقُل أَحَدٌ أَنَّهُ غَسَلَهُ مَعَ الْوَجْهِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ
__________
(1) حديث الربيع " أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وصدغيه مرة واحدة " أخرجه أبو داود (1 / 91) والترمذي (1 / 49) ، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 68، وحاشية القليوبي على شرح المحلي لمنهاج الطالبين 1 / 48، القاهرة ط. عيسى الحلبي، والمغني لابن قدامة الحنبلي شرح مختصر الخرقي 1 / 115 القاهرة، مكتبة المنار 1367 هـ، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي الحنبلي 1 / 52 القاهرة، مطبعة السنة المحمدية 1367هـ.

(35/222)


فَكُل عِذَارٍ لِحْيَةٌ وَلاَ عَكْسَ.

ب - الْعَارِضُ:
3 - الْعَارِضُ فِي اللُّغَةِ: الْخَدُّ، وَعَارِضَتَا الإِْنْسَانِ: صَفْحَتَا خَدَّيْهِ.
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ الْعَارِضُ الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الْخَدِّ وَيَمْتَدُّ مِنْ أَسْفَل الْعِذَارِ حَتَّى يُلاَقِيَ الشَّعْرَ النَّابِتَ عَلَى الذَّقْنِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: الْعَارِضُ هُوَ مَا نَزَل عَنْ حَدِّ الْعِذَارِ، وَهُوَ الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى اللَّحْيَيْنِ، وَنُقِل عَنِ الأَْصْمَعِيِّ وَالْمُفَضَّل بْنِ سَلَمَةَ: مَا جَاوَزَ وَتِدَ الأُْذُنِ عَارِضٌ، فَالْعَارِضَانِ مِنَ اللِّحْيَةِ. وَقِيل لَهُ الْعَارِضُ - فِيمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الأَْثِيرِ - لأَِنَّهُ يَنْبُتُ عَلَى عَرْضِ اللَّحْيِ فَوْقَ الذَّقْنِ (1) .

ج - الذَّقْنُ:
4 - الذَّقْنُ وَالذَّقْنُ: مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ مِنْ أَسْفَلِهِمَا (2) .

د - الْعَنْفَقَةُ:
5 - الْعَنْفَقَةُ:
مَا بَيْنَ الشَّفَةِ السُّفْلَى وَالذَّقْنِ قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِخِفَّةِ شَعْرِهَا، وَالْعَنْفَقُ: قِلَّةُ الشَّيْءِ وَخِفَّتُهُ. وَقِيل: الْعَنْفَقَةُ مَا نَبَتَ عَلَى الشَّفَةِ السُّفْلَى
__________
(1) المغني 1 / 115، وشرح المنتهى 1 / 52، ولسان العرب المحيط.
(2) لسان العرب عن ابن سيدة.

(35/223)


مِنَ الشَّعْرِ (1) . وَيُجَاوِزُ الْعَنْفَقَةَ يَمِينًا وَشِمَالاً الْفَنِيكَانِ، وَهُمَا: الْمَوْضِعَانِ الْخَفِيفَا الشَّعْرِ بَيْنَ الْعَنْفَقَةِ وَالْعَارِضَيْنِ وَقِيل: هُمَا جَانِبَا الْعَنْفَقَةِ (2) .

هـ - السِّبَال:
6 - السِّبَال لُغَةً: جَمْعُ السَّبَلَةِ، وَسَبَلَةُ الرَّجُل: الدَّائِرَةُ الَّتِي فِي وَسَطِ شَفَتِهِ الْعُلْيَا، وَقِيل: السَّبَلَةُ مَا عَلَى الشَّارِبِ مِنَ الشَّعْرِ، وَقِيل: طَرَفُهُ، وَقِيل: هِيَ مُقَدَّمُ اللِّحْيَةِ، وَقِيل: هِيَ اللِّحْيَةُ (3) ، وَعَلَى كَوْنِهِ بِمَعْنَى مَا عَلَى الشَّارِبِ مِنَ الشَّعْرِ وَرَدَ الْحَدِيثُ: قُصُّوا سِبَالَكُمْ، وَوَفِّرُوا عَثَانِينَكُمْ، وَخَالِفُوا أَهْل الْكِتَابِ (4) ، وَعَلَى كَوْنِهِ بِمَعْنَى اللِّحْيَةِ وَرَدَ قَوْل جَابِرٍ: " كُنَّا نُعْفِي السِّبَال إِلاَّ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ".
أَمَّا الْفُقَهَاءُ فَقَدْ جَعَلُوا السِّبَال مُفْرَدًا، وَهُوَ عِنْدَهُمْ: طَرَفُ الشَّارِبِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: السِّبَالاَنِ طَرَفَا الشَّارِبِ، قَال: قِيل: وَهُمَا مِنَ الشَّارِبِ،
__________
(1) لسان العرب، والفتاوى الهندية 5 / 358.
(2) ابن عابدين 5 / 261، ولسان العرب.
(3) لسان العرب.
(4) حديث: " قصوا سبالكم. . . ". أخرجه أحمد (5 / 265) وقال الهيثمي في المجمع (5 / 131) : رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد الصحيح خلا القاسم وهو ثقة وفيه كلام لا يضر.

(35/223)


وَقِيل مِنَ اللِّحْيَةِ.
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ مِثْل ذَلِكَ (1) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللِّحْيَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِاللِّحْيَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

إِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ:
7 - إِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا اتِّفَاقًا، لِلأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِذَلِكَ، مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ وَفِّرُوا اللِّحَى وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ (2) ، وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِلَفْظِ: جُزُّوا الشَّوَارِبَ، وَأَرْخُوا اللِّحَى، خَالِفُوا الْمَجُوسَ (3) ، وَمِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ (4) ، فَعَدَّ مِنْهَا " إِعْفَاءَ اللِّحْيَةِ ".
قَال ابْنُ حَجَرٍ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ مُخَالِفَةُ الْمَجُوسِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُصُّونَ لِحَاهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَحْلِقُهَا، وَقَال: ذَهَبَ الأَْكْثَرُونَ إِلَى أَنْ " أَعْفُوا " بِمَعْنَى كَثِّرُوا، أَوْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 204، وفتح الباري 10 / 346 القاهرة ط. المكتبة السلفية 1375 هـ.
(2) حديث ابن عمر: " خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 349) .
(3) حديث أبي هريرة: جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى. . . ". أخرجه مسلم (1 / 222) .
(4) حديث عائشة: " عشر من الفطرة ". أخرجه مسلم (1 / 223) .

(35/224)


وَفِّرُوا، وَنُقِل عَنِ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ: تَفْسِيرُ الإِْعْفَاءِ بِالتَّكْثِيرِ مِنْ إِقَامَةِ السَّبَبِ مُقَامَ الْمُسَبَّبِ لأَِنَّ حَقِيقَةَ الإِْعْفَاءِ التَّرْكُ، وَتَرْكُ التَّعَرُّضِ لِلِّحْيَةِ يَسْتَلْزِمُ تَكْثِيرَهَا.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ تَرْكُهَا حَتَّى تَكِثَّ وَتَكْثُرَ (1) .

تَكْثِيرُ اللِّحْيَةِ بِالْمُعَالَجَةِ
8 - قَال ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا فَهِمَ مِنَ الأَْمْرِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْفُوا اللِّحَى تَجْوِيزَ مُعَالَجَتِهَا بِمَا يُغْزِرُهَا، كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ، قَال: وَكَأَنَّ الصَّارِفَ عَنْ ذَلِكَ قَرِينَةُ السِّيَاقِ فِي قَوْلِهِ فِي بَقِيَّةِ الْخَبَرِ وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ ذَلِكَ مِنْ بَقِيَّةِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى مُجَرَّدِ التَّرْكِ (2) .

الأَْخَذُ مِنَ اللِّحْيَةِ:
9 - ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمُ النَّوَوِيُّ إِلَى أَنْ لاَ يُتَعَرَّضَ لِلْحَيَّةِ، فَلاَ يُؤْخَذُ مِنْ طُولِهَا أَوْ عَرْضِهَا لِظَاهِرِ الْخَبَرِ فِي الأَْمْرِ بِتَوْفِيرِهَا، قَال: الْمُخْتَارُ تَرْكُهَا عَلَى حَالِهَا، وَأَنْ لاَ يُتَعَرَّضَ لَهَا بِتَقْصِيرٍ وَلاَ غَيْرِهِ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا زَادَ طُول اللِّحْيَةِ عَنِ الْقَبْضَةِ يَجُوزُ أَخْذُ
__________
(1) فتح الباري 10 / 351، وحاشية ابن عابدين 2 / 205.
(2) فتح الباري 10 / 351.

(35/224)


الزَّائِدِ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ إِذَا حَلَقَ رَأْسَهُ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَخَذَ مِنْ لِحْيَتِهِ وَشَارِبِهِ (1) ، وَفِي رِوَايَةٍ " كَانَ إِذَا حَجَّ أَوِ اعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَمَا فَضَل أَخَذَهُ ". قَال ابْنُ حَجَرٍ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لاَ يَخُصُّ هَذَا بِالنُّسُكِ بَل كَانَ يَحْمِل الأَْمْرَ بِالإِْعْفَاءِ عَلَى غَيْرِ الْحَالَةِ الَّتِي تَتَشَوَّهُ فِيهَا الصُّورَةُ بِإِفْرَاطِ طُول شَعْرِ اللِّحْيَةِ أَوْ عَرْضِهِ (2) .
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ أَخْذَ مَا زَادَ عَنِ الْقَبْضَةِ سُنَّةٌ، جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: الْقَصُّ سُنَّةٌ فِيهَا، وَهُوَ أَنْ يَقْبِضَ الرَّجُل عَلَى لِحْيَتِهِ، فَإِنْ زَادَ مِنْهَا عَنْ قَبْضَتِهِ شَيْءٌ قَطَعَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، قَال: وَبِهِ نَأْخُذُ (3) .
وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَفِيَّةِ: يَجِبُ قَطْعُ مَا زَادَ عَنِ الْقَبْضَةِ وَمُقْتَضَاهُ كَمَا نَقَلَهُ الْحَصْكَفِيُّ (4) ، الإِْثْمُ بِتَرْكِهِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُكْرَهُ أَخْذُ مَا زَادَ عَنِ الْقَبْضَةِ مِنْهَا، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَنَقَلُوا عَنْهُ
__________
(1) أثر ابن عمر " أنه كان إذا حلق رأسه في حج أو عمرة أخذ من لحيته وشاربه ". أخرجه مالك في الموطأ (2 / 396) ، والرواية الأخرى أخرجها البخاري (فتح الباري 10 / 349) .
(2) فتح الباري 10 / 350.
(3) الفتاوى الهندية 5 / 358، وابن عابدين 2 / 113، 205 و5 / 261.
(4) ابن عابدين 2 / 113.

(35/225)


أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ عَارِضَيْهِ (1) .
وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَأْخُذُ مِنَ اللِّحْيَةِ شَيْئًا إِلاَّ إِذَا تَشَوَّهَتْ بِإِفْرَاطِ طُولِهَا أَوْ عَرْضِهَا، نَقَلَهُ الطَّبَرِيِّ عَنِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَحَمَل عَلَيْهِ فِعْل ابْنَ عُمَرَ، وَقَال: إِنَّ الرَّجُل لَوْ تَرَكَ لِحْيَتَهُ لاَ يَتَعَرَّضُ لَهَا حَتَّى أَفْحَشَ طُولُهَا أَوْ عَرْضُهَا لَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِمَنْ يَسْخَرُ بِهِ، وَقَال عِيَاضٌ: الأَْخَذُ مِنْ طُول اللِّحْيَةِ وَعَرْضِهَا إِذَا عَظُمَتْ حَسَنٌ، بَل تُكْرَهُ الشُّهْرَةُ فِي تَعْظِيمِهَا كَمَا تُكْرَهُ فِي تَقْصِيرِهَا (2) ، وَمِنَ الْحُجَّةِ لِهَذَا الْقَوْل مَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ مِنْ طُولِهَا وَعَرْضِهَا (3) ، أَمَّا الأَْخْذُ مِنَ اللِّحْيَةِ وَهِيَ دُونَ الْقَبْضَةِ لِغَيْرِ تَشَوُّهٍ فَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: لَمْ يُبِحْهُ أَحَدٌ (4) .

حَلْقُ اللِّحْيَةِ:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ حَلْقُ اللِّحْيَةِ لأَِنَّهُ مُنَاقِضٌ لِلأَْمْرِ النَّبَوِيِّ
__________
(1) شرح المنتهى 1 / 40، ونيل المآرب 1 / 57 الكويت، دار الفلاح 1403هـ.
(2) فتح الباري 10 / 350.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها ". أخرجه الترمذي (5 / 94) من حديث عمرو بن العاص وقال: هذا حديث غريب، وذكر ابن حجر في الفتح (10 / 350) تضعيف أحد رواته.
(4) ابن عابدين 2 / 113.

(35/225)


بِإِعْفَائِهَا وَتَوْفِيرِهَا، وَتَقَدَّمَ قَوْل ابْنِ عَابِدِينَ فِي الأَْخْذِ مِنْهَا وَهِيَ دُونَ الْقَبْضَةِ: لَمْ يُبِحْهُ أَحَدٌ، فَالْحَلْقُ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ.
وَفِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ الْمَالِكِيِّ: يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل حَلْقُ لِحْيَتِهِ، وَيُؤَدَّبُ فَاعِل ذَلِكَ، وَقَال أَبُو شَامَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: قَدْ حَدَثَ قَوْمٌ يَحْلِقُونَ لِحَاهُمْ، وَهُوَ أَشَدُّ مِمَّا نُقِل عَنِ الْمَجُوسِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُصُّونَهَا.
ثُمَّ قَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَلاَ يَحْلِقُ شَعْرَ حَلْقِهِ، وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ كَمَا فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى عَلَى أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ أَخْذُ الرَّجُل مَا تَحْتَ حَلْقِهِ مِنَ الشَّعْرِ أَيْ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنَ اللِّحْيَةِ (1) .
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ حَلْقَ اللِّحْيَةِ مَكْرُوهٌ (2) .

قَصُّ السِّبَالَيْنِ
11 - تَقَدَّمَ أَنَّ السِّبَالَيْنِ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِمَا هَل هُمَا مِنَ الشَّارِبَيْنِ أَمْ مِنَ اللِّحْيَةِ، وَعَلَيْهِ يَنْبَنِي الْخِلاَفُ فِيهِمَا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: أَمَّا طَرَفَا الشَّارِبِ وَهُمَا السِّبَالاَنِ، فَقِيل: هُمَا مِنَ الشَّارِبِ وَقِيل: مِنَ اللِّحْيَةِ، وَعَلَيْهِ فَقَدْ قِيل: لاَ بَأْسَ بِتَرْكِهِمَا، وَقِيل: يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 358، وحاشية الدسوقي على الدردير 1 / 90، 422، 423، وفتح الباري 10 / 351، وشرح المنتهى 1 / 40.
(2) القليوبي 4 / 205.

(35/226)


بِالأَْعَاجِمِ وَأَهْل الْكِتَابِ، قَال: وَهَذَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ (1) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: اخْتُلِفَ فِي السِّبَالَيْنِ فَقِيل: هُمَا مِنَ الشَّارِبِ وَيُشْرَعُ قَصُّهُمَا مَعَهُ، وَقِيل: هُمَا مِنْ جُمْلَةِ شَعْرِ اللِّحْيَةِ، وَأَمَّا الْقَصُّ فَهُوَ الَّذِي فِي أَكْثَرِ الأَْحَادِيثِ (2) . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السِّبَالَيْنِ مِنَ الشَّارِبِ فَيُشْرَعُ قَصُّهُمَا مَعَهُ (3) .
قَال ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: ذَكَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَجُوسَ فَقَال: إِنَّهُمْ يُوفُونَ سِبَالَهُمْ وَيَحْلِقُونَ لِحَاهُمْ فَخَالِفُوهُمْ (4) قَال: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْتَعْرِضُ سَبَلَتَهُ فَجَزَّهَا (5) .

الْعِنَايَةُ بِاللِّحْيَةِ:
12 - الْعِنَايَةُ بِاللِّحْيَةِ بِأَخْذِ مَا طَال مِنْهَا وَتَشَوَّهَ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ.
وَيُسَنُّ إِكْرَامُهَا (6) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ (7) ، قَال الْغَزَالِيُّ وَالنَّوَوِيُّ: وَيُكْرَهُ لِلرَّجُل تَرْكُ لِحْيَتِهِ شَعِثَةً
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 204، 205.
(2) فتح الباري 10 / 346.
(3) شرح المنتهى 1 / 41.
(4) حديث ابن عمر: " ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس. . . ". أخرجه البيهقي (1 / 151) وابن حبان في صحيحه (12 / 290 - الإحسان) .
(5) حديث ابن عمر: " ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس. . . ". أخرجه البيهقي (1 / 151) وابن حبان في صحيحه (12 / 290 - الإحسان) .
(6) المغني 1 / 89.
(7) حديث: " من كان له شعر فليكرمه ". أخرجه أبو داود (4 / 395) من حديث أبي هريرة، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (10 / 368) .

(35/226)


إِيهَامًا لِلزُّهْدِ (1) . لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: أَتَانَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى رَجُلاً شَعِثًا قَدْ تَفَرَّقَ شَعْرُهُ، فَقَال: أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يُسْكِنُ بِهِ شَعْرَهُ (2) .
وَيُسَنُّ تَرْجِيلُهَا، قَال ابْنُ بَطَّالٍ: التَّرْجِيل تَسْرِيحُ شَعْرِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ وَدَهْنُهُ، وَهُوَ مِنَ النَّظَافَةِ وَقَدْ نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَيْهِ (3) ، وَقَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُل مَسْجِدٍ} (4) ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ لاَ يُفَارِقُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِوَاكُهُ وَمُشْطُهُ، وَكَانَ يَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ إِذَا سَرَّحَ لِحْيَتَهُ (5) .
وَيُسَنُّ تَطْيِيبُهَا لِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُ، حَتَّى أَجِدَ وَبِيصَ الطِّيبِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ (6) .
وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: لاَ بَأْسَ بِغَالِيَةِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ (7) ، وَالْغَالِيَةُ: طِيبٌ يَجْمَعُ طُيُوبًا.
__________
(1) فتح الباري 10 / 351.
(2) حديث جابر: " أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 333) والحاكم (4 / 186) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) فتح الباري 10 / 368.
(4) سورة الأعراف / 31.
(5) حديث عائشة: " كان لا يفارق النبي صلى الله عليه وسلم سواكه ومشطه. . . ". أورده ابن حجر في فتح الباري (10 / 367) وعزاه إلى الطبراني في الأوسط ثم ذكر تضعيف أحد رواته.
(6) حديث عائشة: " كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم بأطيب ما يجد. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 366) .
(7) الفتاوى الهندية 5 / 359.

(35/227)


وَانْظُرْ (تَرْجِيلٌ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا، شَعْرٌ ف 16) .

صَبْغُ اللِّحْيَةِ:
13 - يُسَنُّ صَبْغُ اللِّحْيَةِ بِغَيْرِ السَّوَادِ إِذَا ظَهَرَ فِيهَا الشَّيْبُ، أَمَّا بِالسَّوَادِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ صَبْغُهَا بِالسَّوَادِ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَحْرُمُ لِغَيْرِ الْمُجَاهِدِينَ.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (اخْتِضَابٌ ف 9 - 11) .

أُمُورٌ تُكْرَهُ فِي اللِّحْيَةِ
14 - قَال ابْنُ حَجَرٍ: ذَكَرَ النَّوَوِيُّ مِمَّا يُكْرَهُ: تَبْيِيضَ اللِّحْيَةِ اسْتِعْجَالاً لِلشَّيْخُوخَةِ لِقَصْدِ التَّعَاظُمِ عَلَى الأَْقْرَانِ، وَنَتْفُهَا إِبْقَاءً لِلْمُرُودَةِ وَكَذَا تَحْذِيفُهَا وَنَتْفُ الشَّيْبِ، وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ تَحْرِيمَهُ لِثُبُوتِ الزَّجْرِ عَنْهُ، وَتَصْفِيفُهَا طَاقَةً فَوْقَ طَاقَةٍ تَصَنُّعًا وَمَخِيلَةً، وَعَقْدُهَا لِحَدِيثِ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ فَإِنَّ مُحَمَّدًا مِنْهُ بَرِيءٌ (1) ، قَال الْخَطَّابِيَّ: قِيل: الْمُرَادُ عَقْدُهَا فِي الْحَرْبِ، وَهُوَ مِنْ زِيِّ الأَْعَاجِمِ، وَقِيل: الْمُرَادُ مُعَالَجَةُ الشَّعْرِ حَتَّى يَنْعَقِدَ وَذَلِكَ مِنْ فِعْل أَهْل التَّأْنِيثِ (2) .
__________
(1) حديث: " من عقد لحيته فإن محمدًا منه بريء ". أخرجه أبو داود (1 / 35 - 36) .
(2) فتح الباري 10 / 350 - 351) .

(35/227)


غَسْل اللِّحْيَةِ فِي الْوُضُوءِ
15 - تَتَّفِقُ الْمَذَاهِبُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْوُضُوءِ غَسْل بَشَرَةِ الْوَجْهِ مِنْ شَعْرِ اللِّحْيَةِ إِنْ كَانَ خَفِيفًا تَظْهَرُ الْبَشَرَةُ مِنْ تَحْتِهِ، فَيَغْسِل الْبَشَرَةَ وَيَغْسِل اللِّحْيَةَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَالْمُرَادُ بِظُهُورِ الْبَشَرَةِ ظُهُورُهَا فِي مَجْلِسِ الْمُخَاطَبَةِ، وَوَجْهُ الْوُجُوبِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ فِي الْوُضُوءِ غَسْل الْوَجْهِ، وَالْوَجْهُ مِنَ الْمُوَاجَهَةِ، وَالْمُوَاجَهَةُ تَحْصُل فِي اللِّحْيَةِ ذَاتِ الشَّعْرِ الْخَفِيفِ بِبَشَرَةِ الْوَجْهِ وَبِالشَّعْرِ الَّذِي عَلَيْهَا.
وَهَذَا الاِتِّفَاقُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا كَانَ مِنَ الشَّعْرِ فِي حَيِّزِ دَائِرَةِ الْوَجْهِ، دُونَ الْمُسْتَرْسِل مِنَ اللِّحْيَةِ تَحْتَ الذَّقْنِ طُولاً، وَدُونَ الْخَارِجِ عَنْ حَدِّ الْوَجْهِ عَرْضًا، فَإِنَّ فِي هَذَا خِلاَفًا يَأْتِي بَيَانُهُ (1) .
أَمَّا اللِّحْيَةُ الْكَثِيفَةُ فَتَتَّفِقُ الأَْقْوَال الْمُعْتَمَدَةُ فِي الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ فِي الْوُضُوءِ غَسْل بَاطِنِهَا وَلاَ إِيصَال الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ وَمَنَابِتِ الشَّعْرِ، لِعَدَمِ حُصُول الْمُوَاجَهَةِ بِهِ لأَِنَّهُ لاَ يُرَى فِي مَجْلِسِ الْمُخَاطَبَةِ، فَلاَ يَكُونُ مِنَ الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِغَسْلِهِ، وَفِي نَيْل الْمَآرِبِ: لَوِ اجْتَزَأَ بِغَسْل بَاطِنِهَا عَنْ غَسْل ظَاهِرِهَا لَمْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 4، وحاشية ابن عابدين 1 / 68 - 69، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 86، والذخيرة للقرافي 1 / 249، وشرح المحلي على المنهاج وحاشية القليوبي 1 / 48، والمغني لابن قدامة 1 / 116 - 117، وشرح المنتهى 1 / 52.

(35/228)


يُجْزِئْهُ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ غُرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَل بِهَا وَجْهَهُ (1) قَالُوا: وَالْغُرْفَةُ لاَ تَكْفِي لِغَسْل الْوَجْهِ وَظَاهِرِ اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ وَبَاطِنِهَا، وَفِي هَذِهِ الْحَال يَنْتَقِل حُكْمُ مَا تَحْتَ اللِّحْيَةِ إِلَيْهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَيَجِبُ غَسْل ظَاهِرِ مَا فِي حَدِّ الْوَجْهِ مِنْهَا.
وَلاَ يُسَنُّ غَسْل بَاطِنِ اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُسْرِ، عَلَى مَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَرَجَّحَ صَاحِبُ الإِْنْصَافِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ غَسْل بَاطِنِهَا مَكْرُوهٌ وَتَبِعَهُ صَاحِبُ الإِْقْنَاعِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: لاَ يَغْسِل اللِّحْيَةَ الْكَثِيفَةَ فِي الْوُضُوءِ وَلاَ يَغْسِل مَا تَحْتَهَا أَيْضًا، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَ بِغَسْل الْوَجْهِ، وَالْوَجْهُ اسْمٌ لِلْبَشَرَةِ الَّتِي تَحْصُل بِهَا الْمُوَاجَهَةُ، وَالشَّعْرُ لَيْسَ بِبَشَرَةٍ، وَمَا تَحْتَهُ مِنَ الْبَشَرَةِ لاَ تَحْصُل بِهِ الْمُوَاجَهَةُ.
وَقَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ الرِّوَايَةَ الأُْولَى هِيَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمُفْتَى بِهِ، وَمَا عَدَاهَا مَرْجُوعٌ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ ابْنَ قُدَامَةَ ضَعَّفَ رِوَايَةَ عَدَمِ الْغَسْل عَنْ أَحْمَدَ وَأَوَّلَهَا. وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ يَجِبُ غَسْل الْبَشَرَةِ وَبَاطِنِ اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ غرفة من ماء فغسل بها وجهه ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 303) من حديث عبد الله بن زيد.

(35/228)


- كَغَيْرِ الْكَثِيفَةِ - فِي الْوُضُوءِ كَمَا فِي الْغَسْل، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِغَسْل الْوَجْهِ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْبَشَرَةِ، وَتَدْخُل اللِّحْيَةُ تَبَعًا، وَنَقَل الْقَرَافِيُّ قَوْلاً مِثْل هَذَا لِلْمَالِكِيَّةِ. قَال: لأَِنَّ الْخِطَابَ مُتَنَاوِلٌ لَهُ بِالأَْصَالَةِ، وَلِغَيْرِهِ بِالرُّخْصَةِ، وَالأَْصْل عَدَمُهَا.
وَعَلَى الْقَوْل الأَْوَّل، وَهُوَ قَوْل الأَْكْثَرِينَ، يَكُونُ غَسْل ظَاهِرِ اللِّحْيَةِ - عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ - بِإِمْرَارِ الْمَاءِ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْمُرَادُ بِغَسْل ظَاهِرِهَا إِمْرَارُ الْيَدِ عَلَيْهَا بِالْمَاءِ وَتَحْرِيكُهَا بِهِ لأَِنَّ الشَّعْرَ يَدْفَعُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ، فَإِذَا حَرَّكَهُ حَصَل الاِسْتِيعَابُ، قَالُوا: وَهَذَا التَّحْرِيكُ خِلاَفُ التَّخْلِيل (1) . 50

مَا اسْتَرْسَل مِنَ اللِّحْيَةِ أَوْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْوَجْهِ:
16 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي غَسْل مَا خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْفَرْضِ مِنَ اللِّحْيَةِ فِي الْوُضُوءِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ غَسْلُهُ وَلاَ مَسْحُهُ وَلاَ تَخْلِيلُهُ، لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْوَجْهِ، لأَِنَّهُ شَعْرٌ خَارِجٌ عَنْ مَحِل الْفَرْضِ، فَأَشْبَهَ مَا نَزَل
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 4، ابن عابدين 1 / 68، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 86، والذخيرة 1 / 249، 251، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي 1 / 48، والمغني لابن قدامة 1 / 105 - 116 - 117، ونيل المآرب 1 / 63.

(35/229)


مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ عَنِ الرَّأْسِ، لاَ يَجِبُ مَسْحُهُ مَعَ مَسْحِ الرَّأْسِ.
ثُمَّ قَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ غَسْل هَذَا الشَّعْرِ الْمُسْتَرْسِل مِنَ اللِّحْيَةِ مَسْنُونٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ، إِلَى وُجُوبِ غَسْل ظَاهِرِ اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ كُلِّهَا مِمَّا هُوَ نَابِتٌ فِي مَحَل الْفَرْضِ سَوَاءٌ حَاذَى مَحَل الْفَرْضِ أَوْ جَاوَزَهُ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَإِنَّمَا يَجِبُ غَسْل مَا جَاوَزَ مَحَل الْفَرْضِ بِالتَّبَعِ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لأَِنَّ اللِّحْيَةَ تُشَارِكُ الْوَجْهَ فِي مَعْنَى التَّوَجُّهِ وَالْمُوَاجَهَةِ، بِخِلاَفِ مَا نَزَل مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لاَ يُشَارِكُ الرَّأْسَ فِي التَّرَؤُّسِ (1) .

حَلْقُ شَعْرِ اللِّحْيَةِ بَعْدَ غَسْلِهِ فِي الْوُضُوءِ
إِذَا تَوَضَّأَ فَغَسَل ظَاهِرَ لِحْيَتِهِ، أَوْ ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا، ثُمَّ أَزَالَهَا بِحَلْقٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِعَادَةُ الْوُضُوءِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) .
وَانْظُرْ (وُضُوءٌ) .

تَخْلِيل اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ فِي الْوُضُوءِ:
17 - يُسَنُّ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ تَخْلِيل اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ فِي الْوُضُوءِ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ،
__________
(1) ابن عابدين 1 / 68 - 69، والذخيرة 1 / 249، 258، والقليوبي 1 / 48، والمغني 1 / 117، وشرح المنتهى 1 / 51.
(2) ابن عابدين 1 / 69، والفتاوى الهندية 1 / 4، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 90.

(35/229)


وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَقَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَذَلِكَ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ خَلَّل لِحْيَتَهُ (1) ، وَفَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ وَالْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: هُوَ فَضِيلَةٌ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَرَجَّحَ فِي الْمَبْسُوطِ قَوْل أَبِي يُوسُفَ، وَالأَْدِلَّةُ تُرَجِّحُهُ وَهُوَ الصَّوَابُ. اهـ.
وَقَدْ وَرَدَّ التَّرْخِيصُ فِي تَرْكِ التَّخْلِيل عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَطَاوُسٍ وَالنَّخَعِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَقَال مَنْ لَمْ يُوجِبْهُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِغَسْل الْوَجْهِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِالتَّخْلِيل، وَإِنَّ أَكْثَرَ مَنْ حَكَى وُضُوءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْكِ أَنَّهُ خَلَّل لِحْيَتَهُ مَعَ أَنَّهُ كَانَ كَثِيفَهَا، فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا أَخَل بِهِ.
وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ: التَّخْلِيل مَكْرُوهٌ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ عَلَى ظَاهِرِ مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ مِنْ قَوْل مَالِكٍ: تُحَرَّكُ اللِّحْيَةُ مِنْ غَيْرِ تَخْلِيلٍ.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ: التَّخْلِيل وَاجِبٌ، وَالتَّخْلِيل عِنْدَ مَنْ قَال بِهِ يَكُونُ مَعَ غَسْل الْوَجْهِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ نَقَلُوا عَنْ نَصِّ أَحْمَدَ أَنَّ التَّخْلِيل يَكُونُ مَعَ غَسْل الْوَجْهِ أَوْ إِنْ شَاءَ مَعَ مَسْحِ الرَّأْسِ.
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ خلل لحيته ". أخرجه أحمد (6 / 234) من حديث عائشة، وقال ابن حجر في التلخيص (1 / 86) : إسناده حسن.

(35/230)


وَصِفَتُهُ عَلَى مَا فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ أَنْ يَأْخُذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ يَضَعُهُ مِنْ تَحْتِهَا فَيُخَلِّلُهَا بِأَصَابِعِهِ مُشْتَبِكَةً، أَوْ يَضَعُهُ مِنْ جَانِبَيْهَا وَيُحَرِّكُهَا بِهِ (1) .

غَسْل الْعَنْفَقَةِ فِي الْوُضُوءِ
18 - يَجِبُ فِي الْوُضُوءِ غَسْل الْعَنْفَقَةِ وَالْبَشَرَةِ تَحْتَهَا إِنْ كَانَتْ خَفِيفَةً، فَإِنْ كَانَتْ كَثِيفَةً فَالأَْكْثَرُ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْل ظَاهِرِهَا فَقَطْ، كَاللِّحْيَةِ، وَقِيل: يَجِبُ غَسْلُهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِكُل حَالٍ لأَِنَّهَا لاَ تَسْتُرُ مَا تَحْتَهَا عَادَةً، وَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ كَانَ نَادِرًا فَلاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ (2) .

غَسْل اللِّحْيَةِ فِي الْغُسْل مِنَ الْجَنَابَةِ
19 - يَجِبُ فِي الْغُسْل مِنَ الْجَنَابَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ غَسْل الْبَشَرَةِ تَحْتَ اللِّحْيَةِ سَوَاءٌ كَانَ الشَّعْرُ كَثِيفًا أَوْ خَفِيفًا، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعْرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يَغْسِلْهَا فُعِل بِهِ كَذَا وَكَذَا مِنَ النَّارِ (3) قَال عَلِيٌّ: فَمِنْ ثَمَّ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 79، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 86، والذخيرة 1 / 250، والمغني 1 / 105، 106، 117، وشرح المنتهى 1 / 43، 52، ونيل المآرب 1 / 64.
(2) الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 86، والمغني لابن قدامة 1 / 116.
(3) حديث: " من ترك موضع شعرة من جنابة. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 173) وذكره ابن حجر في التلخيص (1 / 142) وقال: قيل: إن الصواب وقفه.

(35/230)


عَادَيْتُ شَعْرِي، وَكَانَ يَجِزُّ شَعْرَهُ، وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ تَحْتَ كُل شَعْرَةٍ جَنَابَةً فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ، وَأَنْقُوا الْبَشَرَ (1) .
وَالشَّعْرُ نَفْسُهُ يَجِبُ غَسْلُهُ وَإِيصَال الْمَاءِ إِلَى أَثْنَائِهِ حَتَّى مَا اسْتَرْسَل مِنْهُ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَجِبُ ذَلِكَ، وَيَجِبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَخْلِيل شَعْرِ اللِّحْيَةِ (2) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (غَسْلٌ ف 24) .

مَسْحُ اللِّحْيَةِ فِي التَّيَمُّمِ:
20 - يَجِبُ فِي التَّيَمُّمِ مَسْحُ اللِّحْيَةِ مَعَ مَسْحِ الْوَجْهِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، فَيَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ الشَّعْرِ سَوَاءٌ كَانَ الشَّعْرُ خَفِيفًا أَوْ كَثِيفًا، فَلاَ يَجِبُ وَلاَ يُنْدَبُ إِيصَال التُّرَابِ إِلَى الشَّعْرِ الْبَاطِنِ وَلاَ إِلَى الْبَشَرَةِ لِعُسْرِهِ، وَلأَِنَّ الْمَسْحَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ.
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ اسْتِيعَابَ ظَاهِرِ شَعْرِ الْوَجْهِ، قَال فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: حَتَّى لَوْ تَرَكَ شَعْرَةً لَمْ يَجُزْ، قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَيَجِبُ مَسْحُ مَا طَال مِنَ اللِّحْيَةِ، وَلاَ يُخَلِّلُهَا لأَِنَّ الْمَسْحَ مَبْنِيٌّ
__________
(1) حديث: " إن تحت كل شعرة جنابة. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 172) من حديث أبو هريرة، ثم ذكر تضعيف أحد رواته.
(2) ابن عابدين 1 / 102، والفتاوى الهندية 1 / 13، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 134، وحاشية القليوبي 1 / 66، والمغني لابن قدامة 1 / 228، وشرح المنتهى 1 / 81.

(35/231)


عَلَى التَّخْفِيفِ (1) .

مَا يَتَعَلَّقُ بِاللِّحْيَةِ مِنَ الأَْحْكَامِ فِي الإِْحْرَامِ:
21 - لاَ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ حَلْقُ لِحْيَتِهِ فِي الإِْحْرَامِ وَلاَ الأَْخْذُ مِنْهَا كَثِيرًا أَوْ قَلِيلاً، إِلاَّ لِعُذْرٍ إِجْمَاعًا، وَقِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ حَلْقِ الرَّأْسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (2) .
فَإِنْ حَلَقَ لِحْيَتَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ (3) ، وَإِنْ أَخَذَ أَقَل مِنْ ذَلِكَ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ ف 71،) . وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ دَهْنُ لِحْيَتِهِ وَلَوْ بِدُهْنٍ غَيْرِ مُطَيَّبٍ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَيْضًا تَطْيِيبُهَا.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِحْرَامٌ ف 73، 76،) .

الأَْخْذُ مِنَ اللِّحْيَةِ عِنْدَ التَّحَلُّل مِنَ الإِْحْرَامِ 22 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْمُحْرِمِ عِنْدَ تَحَلُّلِهِ مِنَ الإِْحْرَامِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِرَأْسِهِ شَعْرٌ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ شَارِبِهِ أَوْ مِنْ شَعْرِ لِحْيَتِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَوْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 26، وابن عابدين 1 / 158، والذخيرة للقرافي 1 / 355، والقليوبي 1 / 90، والمغني 1 / 254، وشرح المنتهى 1 / 93.
(2) سورة البقرة / 196.
(3) ابن عابدين 2 / 204، والشرح الكبير 2 / 60، 64، ونهاية المحتاج 2 / 64، وحاشية القليوبي 2 / 134، وشرح المنتهى 1 / 93، 3 / 305، والفتاوى الهندية 1 / 243.

(35/231)


أَخَذَ مِنْ لِحْيَتِهِ شَيْئًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُحْرِمِ عِنْدَ تَحَلُّلِهِ قَصُّ أَظَافِرِهِ وَشَارِبِهِ وَاسْتِحْدَادُهُ بَعْدَ حَلْقِ رَأْسِهِ وَلاَ يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ شَيْئًا، وَلَكِنْ إِنْ أَخَذَ مِنْهَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ (1) .

الدِّيَةُ أَوِ الأَْرْشُ فِي إِتْلاَفِ شَعْرِ اللِّحْيَةِ
23 - تَتَّفِقُ الْمَذَاهِبُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَزَال لِحْيَةَ رَجُلٍ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، بِحَلْقٍ أَوْ نَتْفٍ أَوْ مُعَالَجَةٍ بِدَوَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إِنْ عَادَ الشَّعْرُ فَنَبَتَ كَمَا كَانَ فَلاَ شَيْءَ مِنْ دِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا إِلاَّ الأَْدَبُ فِي الْعَمْدِ.
أَمَّا إِنْ لَمْ يَنْبُتِ الشَّعْرُ، لِفَسَادِ مَنْبَتِهِ، كَمَا لَوْ صَبَّ عَلَيْهِ مَاءً حَارًّا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ:
فَذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِيهَا دِيَةً كَامِلَةً إِنْ أَذْهَبَهَا كُلَّهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ خَفِيفَةً أَوْ كَثِيفَةً، قَالُوا: لأَِنَّهُ أَزَال الْجَمَال عَلَى الْكَمَال، وَفِي نِصْفِهَا نِصْفُ الدِّيَةِ. ثُمَّ قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَمَا كَانَ أَقَل مِنْ ذَلِكَ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: تَجِبُ كُل الدِّيَةِ لأَِنَّهُ فِي الشَّيْنِ فَوْقَ مَنْ لاَ لِحْيَةَ لَهُ أَصْلاً، قَال فِي شَرْحِ الْكَافِي: هُوَ الصَّحِيحُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُعْتَبَرُ قَدْرُ الذَّاهِبِ مِنْهَا
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 232، والقليوبي 2 / 119، ومغني المحتاج 1 / 503، والمغني 3 / 437، وفتح الباري 10 / 358.

(35/232)


بِالْمِسَاحَةِ، فَيُعْطَى مِنَ الدِّيَةِ بِنِسْبَةِ ذَلِكَ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلاَ شَيْءَ فِي إِذْهَابِ لِحْيَةِ كَوْسَجٍ عَلَى ذَقْنِهِ شَعَرَاتٌ مَعْدُودَةٌ، قَالُوا: لأَِنَّهَا تَشِينُهُ وَلاَ تَزِينُهُ.
وَلَوْ كَانَ عَلَى خَدِّهِ أَيْضًا وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ فَحُكُومَةُ عَدْلٍ لأَِنَّ فِيهِ بَعْضَ الْجَمَال، وَلَوْ مُتَّصِلاً فَفِيهِ كُل الدِّيَةِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِكَوْسَجٍ وَفِيهِ مَعْنَى الْجَمَال.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَزَالَهَا وَبَقِيَ مِنْهَا مَا لاَ جَمَال فِيهِ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةٌ لإِِذْهَابِهِ الْمَقْصُودَ مِنْهُ كُلَّهُ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى إِيجَابِ الدِّيَةِ فِي شَعْرِ اللِّحْيَةِ بِقَوْل عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " فِي الشَّعْرِ الدِّيَةُ ".
وَيُؤَجَّل سَنَةً لِيَتَحَقَّقَ مِنْ عَدَمِ نَبَاتِهَا، فَإِنْ مَاتَ فِيهَا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَسْقُطُ الدِّيَةُ، وَقَال الصَّاحِبَانِ: فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ.
وَإِنْ نَبَتَ الشَّعْرُ أَبْيَضَ قَال أَبُو حَنِيفَةَ كَذَلِكَ: لاَ شَيْءَ فِيهَا، وَقَال الصَّاحِبَانِ: فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ.
فَإِنْ عَادَ الشَّعْرُ فَنَبَتَ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَا فِيهِ مِنْ دِيَةٍ أَوْ بَعْضِهَا أَوْ حُكُومَةِ الْعَدْل رَدَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ وَرُجِيَ عَوْدُهُ انْتَظَرَ مَا يَقُولُهُ أَهْل الْخِبْرَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجِبُ

(35/232)


الدِّيَةُ فِي إِذْهَابِ شَعْرِ اللِّحْيَةِ بَل فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ (1) .

التَّعْزِيرُ بِحَلْقِ اللِّحْيَةِ:
24 - لاَ يَجُوزُ التَّعْزِيرُ بِحَلْقِ اللِّحْيَةِ لِكَوْنِهِ أَمْرًا مُحَرَّمًا فِي ذَاتِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَالَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ الْحَلْقَ فِي ذَاتِهِ مَكْرُوهٌ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، قَالُوا: لاَ يَجُوزُ التَّعْزِيرُ بِحَلْقِهَا (2) .

لِحْيَةُ الْمَيِّتِ:
25 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَسْرِيحُ لِحْيَةِ الْمَيِّتِ أَوْ قَصُّ شَعْرِهِ أَوْ حَلْقُهُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ حَلْقُ شَعْرِ الْمَيِّتِ الَّذِي لاَ يَحْرُمُ حَلْقُهُ حَال الْحَيَاةِ كَشَعْرِ الرَّأْسِ، فَإِنْ كَانَ يَحْرُمُ حَلْقُهُ حَال الْحَيَاةِ - وَهُوَ شَعْرُ اللِّحْيَةِ - حَرُمَ، قَال الدَّرْدِيرُ: وَهُوَ بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ لَمْ تُعْهَدْ مِنَ السَّلَفِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ تَسْرِيحُ شَعْرِهِ رَأْسًا كَانَ أَوْ لِحْيَةً لأَِنَّهُ يَقْطَعُهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَيْهِ. قَالُوا. وَيَحْرُمُ حَلْقُ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ تَسْرِيحَ لِحْيَةِ الْمَيِّتِ غَيْرِ الْمُحْرِمِ حَسَنٌ لإِِزَالَةِ مَا فِي أُصُول الشَّعْرِ مِنَ الْوَسَخِ أَوْ بَقَايَا السِّدْرِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمُشْطٍ
__________
(1) الفتاوى الهندية 6 / 24، 25، وحاشية ابن عابدين 5 / 370، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 277، وشرح المحلي على المنهاج مع حاشية القليوبي 4 / 144، والمغني لابن قدامة 8 / 10، وشرح منتهى الإرادات 3 / 321.
(2) حاشية القليوبي 4 / 205.

(35/233)


وَاسِعِ الأَْسْنَانِ، بِرِفْقٍ لِيَقِل الاِنْتِتَافُ.
ثُمَّ إِنْ أُزِيل بَعْضُ الشَّعْرِ بِحَلْقٍ أَوْ قَصٍّ أَوْ تَسْرِيحٍ يُجْعَل الزَّائِدُ مَعَ الْمَيِّتِ فِي كَفَنِهِ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 575، والفتاوى الهندية 1 / 158، والدسوقي 1 / 422 - 423، وشرح المنهاج للمحلي 1 / 324، وشرح المنتهى 1 / 329، 330.

(35/233)


لُزُومٌ
التَّعْرِيفُ
1 - اللُّزُومُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرٌ، فِعْلُهُ لَزِمَ يَلْزَمُ. يُقَال: لَزِمَ فُلاَنٌ فُلاَنًا أَيْ: كَانَ مَعَهُ فَلَمْ يُفَارِقْهُ، وَمِثْلُهُ فِي الْمَعْنَى لاَزَمَهُ مُلاَزَمَةً وَلِزَامًا، وَالْتَزَمَهُ بِمَعْنَى: اعْتَنَقَهُ، وَاللُّزُومُ أَيْضًا: الْمُلاَزَمَةُ لِلشَّيْءِ وَالتَّمَسُّكُ بِهِ أَوِ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا: " كَانَتْ إِذَا عَمِلَتِ الْعَمَل لَزِمَتْهُ " (1) .
وَلَزِمَهُ الْمَال: وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلَزِمَهُ الطَّلاَقُ وَجَبَ حُكْمُهُ وَهُوَ قَطْعُ الزَّوْجِيَّةِ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْجَوَازُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْجِوَازِ فِي اللُّغَةِ: الصِّحَّةُ وَالنَّفَاذُ يُقَال: جَازَ الْعَقْدُ: نَفَذَ وَمَضَى عَلَى
__________
(1) حديث عائشة: " كانت إذا عملت العمل لزمته ". # أخرجه مسلم (1 / 541) .
(2) لسان العرب، والقاموس المحيط، والمصباح المنير.

(35/234)


الصِّحَّةِ، وَأَجَزْتُ الْعَقْدَ: جَعَلْتَهُ جَائِزًا نَافِذًا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الزَّرْكَشِيُّ: يُطْلَقُ عَلَى أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ، أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا أَوْ مَكْرُوهًا.
الثَّانِي: عَلَى مُسْتَوَى الطَّرَفَيْنِ، وَهُوَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفِعْل وَالتَّرْكِ.
الثَّالِثُ: عَلَى مَا لَيْسَ بِلاَزِمٍ، وَهُوَ اصْطِلاَحُ الْفُقَهَاءِ فِي الْعُقُودِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ اللُّزُومِ وَالْجَوَازِ أَنَّ الْجَوَازَ فِي بَعْضِ مَعَانِيهِ يُضَادُّ اللُّزُومَ (2) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللُّزُومِ:
لُزُومُ الأَْمْرِ وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ
3 - مِنْهُ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ (لُزُومِ الْجَمَاعَةِ) فِي الْفِتَنِ، كَمَا فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهُ فِي شَأْنِ الْفِتَنِ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ فَقَال حُذَيْفَةُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَال: فَاعْتَزِل تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا (3) قَال ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ حُجَّةٌ لِجَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ لُزُومِ جَمَاعَةِ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) المنثور في القواعد للزركشي 2 / 7.
(3) حديث حذيفة: " تلزم جماعة المسلمين. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 35) .

(35/234)


الْمُسْلِمِينَ وَتَرْكِ الْخُرُوجِ عَلَى الأَْئِمَّةِ (1) ، وَقَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَتِهِ بِالْجَابِيَةِ: " عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ (2) ".
وَمِنْهُ (لُزُومُ الْعَمَل) بِمَعْنَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فِي التَّطَوُّعَاتِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحَبُّ الأَْعْمَال إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَل (3) ، وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا " كَانَتْ إِذَا عَمِلَتْ عَمَلاً لَزِمَتْهُ " (4) .
لَكِنْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَل الَّذِي دَخَل فِيهِ الْمُكَلَّفُ عَلَى نِيَّةِ الاِلْتِزَامِ لَهُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَشَقَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ، أَوْ يُورِثُ مَلَلاً، فَقَدْ ذَكَرَ الشَّاطِبِيُّ أَنَّهُ يَكُونُ مَكْرُوهًا ابْتِدَاءً، لأَِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلِخَوْفِ التَّقْصِيرِ أَوِ الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِمَا هُوَ أَوْلَى وَآكَدُ فِي الشَّرْعِ.
وَقَدْ نَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذَا، فَفِي الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهُ: أَلَمْ أُخْبِرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْل؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُول
__________
(1) فتح الباري 13 / 35، 36، القاهرة، المكتبة السلفية 1373هـ. وحاشية ابن عابدين 3 / 311.
(2) فتح الباري 13 / 316، 345.
(3) حديث: " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ". أخرجه مسلم (1 / 541) .
(4) فتح الباري 13 / 316، 345، وحديث عائشة تقدم تخريجه ف1.

(35/235)


اللَّهِ قَال: فَلاَ تَفْعَل، صُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُل شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ. (1)
وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَلْزَمَ طَرِيقَةً وَاحِدَةً مُخْتَرَعَةً فِي الْعِبَادَةِ بِحَيْثُ يَرَاهَا لاَزِمَةً كَلُزُومِ الْفَرَائِضِ، فَلاَ يَخْرُجُ عَنْهَا، وَيَقْدَحُ فِيمَنْ خَرَجَ عَنْهَا وَيَذُمُّهُ، أَوْ يَلْزَمُ مَكَانًا فِي الْمَسْجِدِ لِلصَّلاَةِ لاَ يُصَلِّي إِلاَّ فِيهِ (2) ، وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُوَطِّنَ الرَّجُل الْمَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا يُوَطِّنُ الْبَعِيرَ (3) .

لُزُومُ الْغَرِيمِ:
4 - لُزُومُ الْغَرِيمِ نَوْعٌ مِنَ الْعُقُوبَةِ ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، فَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الأَْسْلَمِيُّ دَيْنٌ فَلَقِيَهُ فَلَزِمَهُ فَتَكَلَّمَا حَتَّى
__________
(1) الاعتصام للشاطبي 1 / 295 - 300 القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى. وحديث عبد الله بن عمرو: " ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 217 - 218) .
(2) إغاثة اللهفان لابن القيم 1 / 133.
(3) حديث: " نهى أن يوطن الرجل المكان في المسجد. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 539) والحاكم (1 / 229) من حديث عبد الرحمن بن شبل، واللفظ لأبي داود، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(35/235)


ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَمَرَّ بِهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا كَعْبُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ كَأَنَّهُ يَقُول: النِّصْفُ، فَأَخَذَ نِصْفَ مَا عَلَيْهِ وَتَرَكَ نِصْفًا (1) .
وَيَأْخُذُ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ بِعُقُوبَةِ الْمُلاَزَمَةِ، وَجَعَلُوهَا حَقًّا لِصَاحِبِ الدَّيْنِ، وَقَدْ تَعَرَّضَ الْحَنَفِيَّةُ لِذَلِكَ فِي أَبْوَابِ الْحَبْسِ مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ، فَلِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يُلْزِمَ غَرِيمَهُ حَتَّى يَقْضِيَهُ حَقَّهُ، وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ لَهُ مُلاَزَمَتَهُ لَيْلاً وَنَهَارًا، وَلِطَالِبِ الْحَقِّ أَنْ يُلاَزِمَ الْغَرِيمَ، وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ الْقَاضِي بِمُلاَزَمَتِهِ، وَلاَ فَلَّسَهُ، وَهَذَا إِنْ كَانَ مُقِرًّا بِالْحَقِّ، أَوْ ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي وَأَطْلَقَهُ لإِِعْسَارِهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ قَاضٍ، وَالرَّأْيُ فِي الْمُلاَزَمَةِ لِصَاحِبِ الْحَقِّ، إِنْ شَاءَ لاَزَمَ الْمَدِينَ بِنَفْسِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمَدِينُ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ وَكَّل غَيْرَهُ بِمُلاَزَمَتِهِ، فَإِنْ وَكَّل أَحَدًا بِمُلاَزَمَتِهِ لَمْ يَكُنْ وَكِيلاً بِالْقَبْضِ وَلاَ بِالْخُصُومَةِ، مَا لَمْ يَجْعَل إِلَيْهِ ذَلِكَ.
وَصِفَةُ الْمُلاَزَمَةِ عَلَى مَا يَذْكُرُهُ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ فِي قِيَامِهِ وَقُعُودِهِ، وَلاَ يَمْنَعُهُ مِنَ الدُّخُول إِلَى أَهْلِهِ، أَوْ دُخُول بَيْتِهِ لِطَعَامٍ وَنَحْوِهِ. قَالُوا: وَلاَ يُلاَزِمُهُ فِي الْمَسْجِدِ، عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلاَ يُقِيمُهُ فِي الشَّمْسِ، أَوْ عَلَى الثَّلْجِ، أَوْ فِي
__________
(1) فتح الباري 1 / 551 و5 / 76 وحديث كعب بن مالك: " أنه كان له على عبد الله بن أبي حدرد. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 76) .

(35/236)


مَوْضِعٍ يَضُرُّ بِهِ، وَلاَ يَمْنَعُهُ مِنْ عَمَلٍ يَكْتَسِبُ مِنْهُ رِزْقَهُ، بَل يُلاَزِمُهُ وَهُوَ يَعْمَل، أَوْ يُعْطِيهِ نَفَقَتَهُ وَنَفَقَةَ عِيَالِهِ وَيَمْنَعُهُ مِنَ الْعَمَل.
قَالُوا: وَإِنْ كَانَ الْمَدِينُ امْرَأَةً وَالطَّالِبُ رَجُلاً فَلَهُ أَنْ يُلاَزِمَهَا حَيْثُ لاَ تُخْشَى الْفِتْنَةُ، كَالسُّوقِ وَنَحْوِهِ، أَمَّا حَيْثُ تُخْشَى الْفِتْنَةُ فَإِنَّهُ يُوَكِّل امْرَأَةً بِمُلاَزَمَتِهَا (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ أَرَادَ مُسْتَحِقُّ الدَّيْنِ لُزُومَ الْمَدِينِ بَدَلاً عَنِ الْحَبْسِ مُكِّنَ مَا لَمْ يَقُل تَشُقُّ عَلَيَّ الطَّهَارَةُ وَالصَّلاَةُ مَعَ مُلاَزَمَتِهِ، وَيَخْتَارُ الْحَبْسَ، فَيُجِيبُهُ الْقَاضِي إِلَى ذَلِكَ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَحْرُمُ مُطَالَبَةُ الْمُعْسِرِ وَمُلاَزَمَتُهُ وَيَجُوزُ مُلاَزَمَةُ الْمُوسِرِ الْمُمَاطِل إِنْ خِيفَ هُرُوبُهُ (3) .
وَكَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَحْرُمُ مُلاَزَمَةُ الْمُعْسِرِ، قَالُوا: يَحْرُمُ مُلاَزَمَتُهُ بِحَيْثُ كُلَّمَا يَأْتِيهِ شَيْءٌ يَأْخُذُ مِنْهُ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ إِنْظَارَ الْمُعْسِرِ إِلَى الْمَيْسَرَةِ (4) .

اللُّزُومُ بِمَعْنَى الْوُجُوبِ وَالتَّحَتُّمِ
5 - يَأْتِي اللُّزُومُ بِمَعْنَى الْوُجُوبِ وَالتَّحَتُّمِ،
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 415 - 416 مطبعة بولاق 1311 هـ، وحاشية ابن عابدين 4 / 315، 412.
(2) نهاية المحتاج للرملي 8 / 241 القاهرة، مصطفى الحلبي.
(3) شرح منتهى الإرادات 2 / 275 - 276.
(4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير لمختصر خليل 3 / 280 القاهرة، دار إحياء الكتب العربية.

(35/236)


قَال الطُّوفِيُّ: الْوَاجِبُ هُوَ اللاَّزِمُ الْمُسْتَحَقُّ (1) .

مَصَادِرُ اللُّزُومِ:
اللُّزُومُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِلْزَامِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ إِلْزَامِ الْغَيْرِ، أَوْ إِلْزَامِ الْمَرْءِ نَفْسِهِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

اللُّزُومُ بِإِلْزَامِ اللَّهِ تَعَالَى
6 - يَلْزَمُ الْعَبْدَ فِعْل مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ مِنَ الْعِبَادَاتِ عِنْدَ وُجُودِ أَسْبَابِهَا، وَتَحَقُّقِ شُرُوطِ الْوُجُوبِ، وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ، وَإِذَا فَسَدَتْ لَزِمَ قَضَاؤُهَا.
وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ إِلْزَامَهُ بِكُل مَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ، مِمَّا هُوَ مَقْدُورٌ لَهُ، كَالسَّفَرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَجِّ، وَالطَّهَارَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلاَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي قَاعِدَةِ " مَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ (2) ".
وَيَلْزَمُ الْمُكَلَّفَ الْكَفُّ عَنْ كُل مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الأَْفْعَال.

اللُّزُومُ بِإِلْزَامِ الْغَيْرِ.
7 - مِمَّنْ تَلْزَمُ طَاعَتُهُ شَرْعًا، وَتَلْزَمُ تَصَرُّفَاتُهُ عَلَى الْغَيْرِ، مَنْ يَلِي:
أ - وَلِيُّ الأَْمْرِ، وَهُوَ الإِْمَامُ الَّذِي صَحَّتْ وِلاَيَتُهُ
__________
(1) شرح مختصر الروضة للطوفي 1 / 266، بيروت، مؤسسة الرسالة 1410 هـ.
(2) البحر المحيط للزركشي 1 / 176 وما بعدها، والمستصفى للغزالي 1 / 71.

(35/237)


شَرْعًا، فَتَلْزَمُ طَاعَتُهُ الرَّعِيَّةَ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ} (1) ، وَنُوَّابُ الإِْمَامِ تَلْزَمُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا أَنَابَهُمُ الإِْمَامُ فِيهِ، كَأَمِيرِ الْجَيْشِ، وَالْوَالِي، وَالْمُتَوَلِّي جِبَايَةَ الزَّكَاةِ.
وَالطَّاعَةُ اللاَّزِمَةُ هُنَا هِيَ مَا كَانَ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أَمَرَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلاَ طَاعَةَ لَهُ، لأَِنَّ طَاعَةَ اللَّهِ أَلْزَمَ، وَلاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ. (ر: أُولُو الأَْمْرِ ف 5) .
ب - الْقَاضِي الَّذِي وَلاَّهُ الإِْمَامُ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ، فَمَا حَكَمَ بِهِ عَلَى إِنْسَانٍ فِي خُصُومَةٍ لَزِمَهُ الْحُكْمُ، وَكَذَا إِذَا حَجَرَ عَلَى سَفِيهٍ أَوْ مُفْلِسٍ لَزِمَتْهُ أَحْكَامُ الْحَجْرِ وَإِذَا تَصَرَّفَ فِي مَالٍ ضَالٍّ بِبَيْعِ أَوْ نَحْوِهِ لَزِمَ تَصَرُّفُهُ (2) ، وَلِلْقَاضِي إِلْزَامُ النَّاسِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، كَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ (3) .
(ر: قَضَاءٌ ف 27) .
ج - الزَّوْجُ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ زَوْجَتَهُ مِنَ الْمَعْرُوفِ.
(ر: طَاعَةٌ ف 10) .
د - التَّصَرُّفُ بِالْوِلاَيَةِ الشَّرْعِيَّةِ، كَتَصَرُّفِ الأَْبِ فِي مَال وَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوِ الْمَجْنُونِ بِمَا فِيهِ
__________
(1) سورة النساء / 59.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 138.
(3) انظر شرح المنتهى 2 / 292.

(35/237)


مَصْلَحَتُهُمَا، وَتَصَرُّفِ الْوَصِيِّ كَذَلِكَ. (ر: وِلاَيَةٌ) .
هـ - التَّصَرُّفُ بِالْوَكَالَةِ، فَتَصَرُّفَاتُ الْوَكِيل لاَزِمَةٌ لِلْمُوَكِّل فِيمَا وَكَّلَهُ فِيهِ. (ر: وَكَالَةٌ) .

اللُّزُومُ بِإِلْزَامِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ
8 - قَدْ يُلْزِمُ الإِْنْسَانُ نَفْسَهُ بِأَمْرٍ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ شَرْعًا إِنْ لَمْ يُخَالِفِ الشَّرْعَ، بِمَعْنَى أَنَّ الشَّرْعَ جَعَل الْتِزَامَهُ سَبَبًا لِلُّزُومِ، وَمِنْ ذَلِكَ:
أ - الْعَقْدُ، فَإِذَا عَقَدَا بَيْنَهُمَا عَقْدًا لَزِمَهُمَا حُكْمُهُ، كَعَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً يَلْزَمُ بِهِ انْتِقَال مِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَمِلْكِيَّةِ الثَّمَنِ إِلَى الْبَائِعِ، وَكَعَقْدِ الإِْجَارَةِ يَلْزَمُ بِهِ الأَْجِيرَ الْعَمَل، وَيَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ الأُْجْرَةُ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل أَيْضًا كُل شَرْطٍ صَحِيحٍ الْتَزَمَهُ الْعَاقِدُ فِي الْعَقْدِ، فَيَلْزَمُهُ، وَذَلِكَ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ (2) ، عَلَى أَنَّ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ اخْتِلاَفًا وَتَفْصِيلاً فِيمَا يَصِحُّ مِنَ الشُّرُوطِ وَمَا لاَ يَصِحُّ، وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اشْتِرَاطٌ ف 11 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) سورة المائدة / 1.
(2) حديث: " المسلمون على شروطهم ". أخرجه الترمذي (634 - 635) من حديث عمرو بن عوف، وقال: حديث حسن صحيح.

(35/238)


ب - تَصَرُّفَاتٌ فَرْدِيَّةٌ قَوْلِيَّةٌ تَلْزَمُ الْمُتَصَرِّفَ أَحْكَامُهَا بِمُجَرَّدِ صُدُورِ الْقَوْل عَنْهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْفُ وَالْكَفَالَةُ وَالْعَهْدُ وَالنَّذْرُ وَالْيَمِينُ وَالْعِتْقُ وَالطَّلاَقُ وَالرَّجْعَةُ، وَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ كُلٍّ مِنْهَا إِلَى مُصْطَلَحِهِ.
وَدُخُول الْكَافِرِ فِي الإِْسْلاَمِ الْتِزَامٌ إِجْمَالِيٌّ لأَِحْكَامِهِ (1) .

لُزُومُ الْعُقُودِ وَجِوَازُهَا
9 - يُقْصَدُ بِلُزُومِ الْعَقْدِ عَدَمُ جَوَازِ فَسْخِهِ مِنْ قِبَل أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ إِلاَّ بِرِضَا الْعَاقِدِ الآْخَرِ، وَمَا جَازَ لِلْعَاقِدِ فَسْخُهُ بِغَيْرِ رِضَا الْعَاقِدِ الآْخَرِ يُسَمَّى عَقْدًا جَائِزًا.
فَالْبَيْعُ وَالسَّلَمُ وَالإِْجَارَةُ عُقُودٌ لاَزِمَةٌ، إِذْ إِنَّهَا مَتَى صَحَّتْ لاَ يَجُوزُ فَسْخُهَا بِغَيْرِ التَّقَايُل، وَلَوِ امْتَنَعَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ عَنِ الْوَفَاءِ بِهَا أُجْبِرَ.
وَعَقْدُ النِّكَاحِ لاَزِمٌ لاَ يَقْبَل الْفَسْخَ بِالتَّرَاضِي أَصْلاً، دُونَ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ، لأَِنَّهُ وُضِعَ عَلَى الدَّوَامِ وَالتَّأْبِيدِ، وَإِنَّمَا يُفْسَخُ لِضَرُورَةٍ عَظِيمَةٍ، وَفِي قَوْلٍ: يَقْبَل الْفَسْخَ بِالتَّرَاضِي (2) .
وَالْوَدِيعَةُ وَالشَّرِكَةُ وَالْوَكَالَةُ عُقُودٌ جَائِزَةٌ، لِكُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ فَسْخُهَا وَلَوْ بِغَيْرِ رِضَا الْعَاقِدِ
__________
(1) شرح جمع الجوامع في أصول الفقه 2 / 306.
(2) المنثور للزركشي 3 / 47.

(35/238)


الآْخَرِ، وَمِثْلُهَا الْمُسَاقَاةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَالْمُسَابَقَةُ وَالْعَارِيَةُ وَالْقَرْضُ وَالاِسْتِصْنَاعُ.
وَقَدْ يَكُونُ الْعَقْدُ لاَزِمًا مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ جَائِزًا بِالنِّسْبَةِ لِلآْخَرِ، كَالرَّهْنِ فَلِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُهُ دُونَ الرَّاهِنِ (1) .
وَقَدْ يَعْرِضُ لِلْعَقْدِ اللاَّزِمِ مَا يَجْعَلُهُ جَائِزًا كَالْبَيْعِ إِذَا اشْتُرِطَ فِيهِ خِيَارٌ، أَوْ تَبَيَّنَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ، فَيَكُونُ لِمَنْ لَهُ الْخِيَارُ الْفَسْخُ، كَالإِْجَارَةِ إِذَا طَرَأَ عُذْرٌ كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَ مُرْضِعًا لِطِفْلِهِ فَمَاتَ الطِّفْل (2) .
وَقَدْ يَعْرِضُ لِلْعَقْدِ الْجَائِزِ مَا يَجْعَلُهُ لاَزِمًا وَمِثَال ذَلِكَ الْوَكَالَةُ، فَهِيَ فِي الأَْصْل جَائِزَةٌ، فَلِلْوَكِيل أَنْ يَفْسَخَهَا وَيَعْزِل نَفْسَهُ عَنْهَا، كَمَا أَنَّ لِلْمُوَكِّل أَنْ يَعْزِلَهُ، لَكِنْ إِنْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَكِيل بِمَا وَكَّل فِيهِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوَكِّل أَنْ يَعْزِلَهُ، كَمَا لَوْ وَكَّل الْمُسْتَقْرِضُ الْمُقْرِضَ بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ لِيَكُونَ وَفَاءً لِلْقَرْضِ فَلاَ يَكُونُ لِلْمُسْتَقْرِضِ عَزْلُهُ، وَكَالرَّهْنِ الْمُشْتَرَطِ فِيهِ تَوْكِيل الْمَدِينِ لِلْمُرْتَهِنِ فِي بَيْعِ الْمَرْهُونِ، فَلاَ يَكُونُ لِلرَّاهِنِ عَزْلُهُ لِمَا فِي عَزْلِهِ مِنْ إِبْطَال حَقِّ الْمُرْتَهِنِ (3) وَكَالْمُضَارَبَةِ إِذَا شَرَعَ الْعَامِل فِي الْعَمَل تَلْزَمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلاَ تَلْزَمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (4)
__________
(1) القليوبي 4 / 368.
(2) الاختيار 2 / 12 - 18، 62.
(3) الاختيار لتعليل المختار 2 / 163.
(4) بداية المجتهد 2 / 240.

(35/239)


وَمَنْ أَثْبَتَ خِيَارَ الْمَجْلِسِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ مَثَلاً، وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، فَإِنَّ الْعَقْدَ فِي مُدَّةِ الْمَجْلِسِ يَكُونُ جَائِزًا، فَإِنِ انْفَضَّ الْمَجْلِسُ دُونَ أَنْ يَخْتَارَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ الْفَسْخَ، ابْتَدَأَ لُزُومُ الْعَقْدِ مِنْ حِينَئِذٍ (1) .
وَقَدْ يَكُونُ الْعَقْدُ مُخْتَلِفًا فِي مَدَى لُزُومِهِ أَوْ جَوَازِهِ كَالْهِبَةِ مَثَلاً، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهَا تَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّهَا لاَ تَلْزَمُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا قَبْل الْقَبْضِ جَائِزَةٌ فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ لاَ غَيْرُ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا جَائِزَةٌ بَعْدَ الْقَبْضِ أَيْضًا، فَلِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِيهَا، مَا لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ، كَأَنْ يَكُونَ الْوَاهِبُ زَوْجًا أَوْ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَلاَ يَصِحُّ الرُّجُوعُ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا أَوْ قَضَاءِ قَاضٍ (2) .
وَفِي كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ تَفْصِيلاَتٌ فِي مَدَى لُزُومِهَا أَوْ جِوَازِهَا، فَيُرْجَعُ فِي كُلٍّ مِنْهَا إِلَى مُصْطَلَحِهِ.

الْعَقْدُ الْفَاسِدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ غَيْرُ لاَزِمٍ
10 - الْعَقْدُ الْفَاسِدُ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ بِمَعْنَى الْبَاطِل، فَلَمْ يَنْعَقِدْ، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ مُنْعَقِدٌ مِنْ حَيْثُ الأَْصْل لِصُدُورِهِ عَنْ
__________
(1) شرح المنتهى 2 / 227، 305، والمغني لابن قدامة 4 / 315، والاختيار 2 / 5، والقليوبي 2 / 191، 195.
(2) بداية المجتهد 2 / 330، والاختيار 3 / 52 - 53، والقليوبي 3 / 112.

(35/239)


أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ وَتَمَامِ رُكْنِهِ وَهُوَ الصِّيغَةُ، لَكِنْ فَسَدَ لِوَصْفِهِ أَيْ لِفَقْدِهِ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ، كَاشْتِمَال الْبَيْعِ عَلَى جَهَالَةِ الْمَبِيعِ أَوِ الأَْجَل، أَوْ عَلَى شَرْطٍ مُفْسِدٍ، أَوْ رِبًا.
وَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ لاَ يَكُونُ لاَزِمًا، لأَِنَّهُ مُسْتَحَقُّ الْفَسْخِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى: لِمُخَالَفَتِهِ الشَّرْعَ، لَكِنْ قَدْ يَصِحُّ وَيَلْزَمُ إِنْ قَامَ الْعَاقِدَانِ بِإِزَالَةِ الْوَصْفِ الْمُفْسِدِ. كَإِسْقَاطِ الأَْجَل الْمَجْهُول مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ فِيهِ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَاهُ فَاسِدًا أَوْ رَهَنَهُ، فَإِنَّ شِرَاءَهُ يَلْزَمُ، فَلَوْ عَادَ إِلَيْهِ بِفَسْخٍ أَوْ إِقَالَةٍ، عَادَ الْجَوَازُ (1) .
(ر: بُطْلاَنٌ ف 10) .

حُكْمُ الْوَعْدِ مِنْ حَيْثُ الْجَوَازُ أَوِ اللُّزُومُ
11 - الْوَعْدُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ غَيْرُ لاَزِمٍ، وَقِيل يَلْزَمُ الْوَاعِدَ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ دِيَانَةً وَلاَ يَلْزَمُ قَضَاءً، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، ثَالِثُهَا: يَلْزَمُ إِنْ كَانَ عَلَى سَبَبٍ، وَرَابِعُهَا: يَلْزَمُ إِنْ كَانَ عَلَى سَبَبٍ وَدَخَل الْمَوْعُودُ بِنَاءً عَلَى الْوَعْدِ فِي شَيْءٍ، كَأَنْ قَال: تَزَوَّجْ وَأَنَا أُعْطِيكَ مَا تَدْفَعُهُ مَهْرًا، أَوِ: اهْدِمْ دَارَكَ وَأَنَا أُسَلِّفُكَ مَا تَبْنِيهَا بِهِ، فَتَزَوَّجَ أَوْ هَدَمَ دَارَهُ بِنَاءً عَلَى الْوَعْدِ (2) .
__________
(1) الاختيار 2 / 22، وابن عابدين 4 / 127.
(2) الفروق للقرافي: الفرق 214، والأذكار للنووي ص 270، وفتاوى الشيخ عليش 1 / 254 - 258، وكشاف القناع 6 / 284 طبع الرياض، وشرح المجلة للأتاسي 1 / 238.

(35/240)


(انْظُرِ: الْتِزَامٌ ف 43، وَوَعْدٌ) .

اللُّزُومُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ
12 - اللُّزُومُ أَنْ يَثْبُتَ أَمْرًا عِنْدَ ثُبُوتِ أَمْرٍ آخَرَ، كَلُزُومِ الْمُسَبَّبِ لِلسَّبَبِ أَوِ الْمَعْلُول لِلْعِلَّةِ، فَالأَْوَّل اللاَّزِمُ، وَالثَّانِي الْمَلْزُومُ (1) .
وَالتَّعْبِيرُ بِاللاَّزِمِ عَنِ الْمَلْزُومِ أَوْ عَكْسُهُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ، أَمَّا إِنِ اسْتُعْمِل اللَّفْظُ فِي حَقِيقَتِهِ وَأُرِيدَ لاَزِمُ الْمَعْنَى فَهُوَ كِنَايَةٌ، كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَدَلاَلَةُ الْكَلاَمِ عَلَى مَعْنًى غَيْرِ مَقْصُودٍ مِنْ سِيَاقِهِ، وَلَكِنَّهُ لاَزِمٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي سِيقَ الْكَلاَمُ لأَِجْلِهِ هُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّلاَلاَتِ اللَّفْظِيَّةِ يُسَمِّيهِ الْحَنَفِيَّةُ إِشَارَةَ النَّصِّ، كَدَلاَلَةِ {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا} (2) مَعَ {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} (3) عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الْحَمْل يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ (4) .
وَلاَزِمُ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ، فَمَنْ قَال كَلاَمًا يَلْزَمُ مِنْهُ الْكُفْرُ، وَلَيْسَ كُفْرًا فِي ذَاتِهِ، لَمْ يُحْكَمْ بِتَكْفِيرِهِ إِنْ لَمْ يَقْصِدْ هَذَا اللاَّزِمَ (5) .
__________
(1) إرشاد الفحول ص395، 397، والمستصفى 1 / 33، 35، وروضة الناظر ص19، 23.
(2) سورة الأحقاف / 15.
(3) سورة لقمان / 14.
(4) انظر أصول السرخسي 1 / 236، 237، والآمدي 3 / 92، 93.
(5) انظر المنثور في القواعد للزركشي 3 / 90، والقليوبي على شرح المنهاج 4 / 175.

(35/240)


وَحُكْمُ الْقَاضِي بِشَيْءٍ هَل هُوَ حُكْمٌ بِلاَزِمِهِ؟ قَال الْحَنَابِلَةُ: نَعَمْ، فَلاَ يَحْكُمُ قَاضٍ آخَرُ بِخِلاَفِ اللاَّزِمِ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، لأَِنَّهُ يَكُونُ نَقْضًا لِحُكْمِ الأَْوَّل، وَمَثَّلُوا لَهُ بِحُكْمِهِ بِبَيْعِ عَبْدٍ أَعْتَقَهُ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ حُكْمًا بِبُطْلاَنِ الْعِتْقِ، فَلاَ يَحْكُمُ قَاضٍ آخَرُ فِيهِ بِخِلاَفِهِ، لأَِنَّهُ يَكُونُ نَقْضًا لِحُكْمِ الأَْوَّل بِالاِجْتِهَادِ، وَالاِجْتِهَادُ لاَ يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 3 / 474.

(35/241)


لِسَانٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - اللِّسَانُ لُغَةً: جِسْمٌ لَحْمِيٌّ مُسْتَطِيلٌ مُتَحَرِّكٌ يَكُونُ فِي الْفَمِ، وَيَصْلُحُ لِلتَّذَوُّقِ وَالْبَلْعِ وَالنُّطْقِ، وَيُذْكَرُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَفْظٌ، فَيُجْمَعُ عَلَى أَلْسِنَةٍ وَأَلْسُنٌ وَلُسُنٌ وَهُوَ الأَْكْثَرُ.
يُقَال: لِسَانُهُ فَصِيحٌ أَيْ نُطْقُهُ فَصِيحٌ، وَيُؤَنَّثُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لُغَةٌ فَيُجْمَعُ عَلَى أَلْسُنٍ وَيُقَال: لُغَتُهُ فَصِيحَةٌ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
اللُّغَةُ:
2 - اللُّغَةُ هِيَ مَا يُعَبِّرُ بِهَا كُل قَوْمٍ عَنْ أَغْرَاضِهِمْ (2) .
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ اللِّسَانِ وَاللُّغَةِ أَنَّ اللِّسَانَ
__________
(1) لسان العرب، والمفردات، والمعجم الوسيط مادة (لسن) .
(2) لسان العرب.

(35/241)


يَكُونُ مُرَادِفًا لِلُّغَةِ فِي أَحَدِ إِطْلاَقَيْهِ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللِّسَانِ:
يَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ أَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ مِنْهَا:

أ - حِفْظُ اللِّسَانِ
3 - يُنْدَبُ حِفْظُ اللِّسَانِ عَنْ غَيْرِ مُحَرَّمٍ وَأَمَّا عَنْ مُحَرَّمٍ كَالْخَوْضِ فِي الْبَاطِل وَالْفُحْشِ وَالسَّبِّ وَالْبَذَاءِ وَالْغِيبَةِ وَالسُّخْرِيَّةِ وَالاِسْتِهْزَاءِ فَوَاجِبٌ وَيَتَأَكَّدُ وُجُوبُهُ فِي الصَّوْمِ (1) . فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَلْيَقُل خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ (2) ، فَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَتَكَلَّمَ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْكَلاَمُ خَيْرًا وَهُوَ الَّذِي ظَهَرَتْ لَهُ مَصْلَحَتُهُ، وَمَتَى شَكَّ فِي ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ فَلاَ يَتَكَلَّمُ.
وَقَدْ قَال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِذَا أَرَادَ الْكَلاَمَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفَكِّرَ قَبْل كَلاَمِهِ: فَإِنْ ظَهَرَتِ الْمَصْلَحَةُ تَكَلَّمَ، وَإِنْ شَكَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى تَظْهَرَ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ أَيُّ الإِْسْلاَمِ أَفْضَل؟ قَال: مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ
__________
(1) شرح الزرقاني 2 / 196، ومختصر منهاج القاصدين ص165 - 171.
(2) حديث: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 308) ومسلم (1 / 68) .

(35/242)


لِسَانِهِ وَيَدِهِ (1) ، فَاللِّسَانُ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ الْعَظِيمَةِ وَلِطَائِفِ صُنْعِهِ الْغَرِيبَةِ، فَإِنَّهُ صَغِيرٌ جِرْمُهُ عَظِيمٌ طَاعَتُهُ وَجُرْمُهُ، إِذْ لاَ يَسْتَبِينُ الْكُفْرُ وَالإِْيمَانُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ اللِّسَانِ، وَلاَ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ، وَلاَ يَنْجُو مِنْ شَرِّ اللِّسَانِ إِلاَّ مَنْ قَيَّدَهُ بِلِجَامِ الشَّرْعِ (2) ، قَال مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَال: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ (3) . وَلِلتَّفْصِيل (ر: لَفْظٌ ف 13) .

ب - سَبْقُ اللِّسَانِ فِي الطَّلاَقِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ طَلاَقِ مَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى الطَّلاَقِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (خَطَأٌ ف 60، وَطَلاَقٌ ف 20) .

ج - سَبْقُ اللِّسَانِ فِي الْيَمِينِ:
5 - مَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى لَفْظِ الْيَمِينِ بِلاَ قَصْدٍ لِمَعْنَاهَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِ يَمِينِهِ.
__________
(1) حديث أبي موسى الأشعري: " أي الإسلام أفضل. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 54) ومسلم (1 / 66) .
(2) الفتوحات الربانية 6 / 342، وإحياء علوم الدين 3 / 108.
(3) حديث معاذ: " يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 12) وقال: حديث حسن صحيح.

(35/242)


وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (أَيْمَانٌ ف 103 وَمَا بَعْدَهَا) .

د - سَبْقُ اللِّسَانِ فِي الظِّهَارِ
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ ظِهَارِ مَنْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ الظِّهَارُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (ظِهَارٌ ف 18) .

هـ - الْجِنَايَةُ عَلَى اللِّسَانِ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَخْذِ اللِّسَانِ بِاللِّسَانِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ف 22) .

دِيَةُ اللِّسَانِ
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ (1) ، وَلأَِنَّ فِيهِ جَمَالاً وَمَنْفَعَةً، وَكَذَلِكَ تَجِبُ الدِّيَةُ إِنْ جَنَى عَلَيْهِ فَخَرِسَ، لأَِنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ، فَأَشْبَهَ إِذَا جَنَى عَلَى الْيَدِ فَشُلَّتْ أَوِ الْعَيْنِ فَعَمِيَتْ، وَإِنْ ذَهَبَ بَعْضُ الْكَلاَمِ وَجَبَ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِهِ، لأَِنَّ مَا ضُمِنَ جَمِيعُهُ بِالدِّيَةِ ضُمِنَ بَعْضُهُ بِبَعْضِهَا كَالأَْصَابِعِ (2) .
__________
(1) حديث عمرو بن حزم: " وفي اللسان الدية ". أخرجه النسائي (8 / 58 - 59) وخرجه ابن حجر في التلخيص (4 / 17 - 18) ونقل تصحيحه عن جماعة من العلماء.
(2) تبيين الحقائق 6 / 129، وفتح القدير 8 / 308، وبدائع الصنائع 7 / 311، والخرشي 8 / 40، ومغني المحتاج 4 / 205، والمهذب 2 / 204، والمغني 8 / 15، وكشاف القناع 6 / 40 وما بعدها.

(35/243)


وَإِنْ جَنَى عَلَى لِسَانِهِ فَذَهَبَ ذَوْقُهُ فَلاَ يُحِسُّ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَذَاقِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، لأَِنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ حَاسَّةً لِمَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ عَلَيْهِ السَّمْعَ أَوِ الْبَصَرَ، وَإِنْ نَقَصَ بَعْضُ الذَّوْقِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ لاَ يَتَقَدَّرُ بِأَنْ كَانَ يُحِسُّ بِالْمَذَاقِ الْخَمْسِ وَهِيَ الْحَلاَوَةُ وَالْمَرَارَةُ وَالْحُمُوضَةُ وَالْمُلُوحَةُ وَالْعُذُوبَةُ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُدْرِكُهَا عَلَى كَمَالِهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْحُكُومَةُ، لأَِنَّهُ نَقْصٌ لاَ يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الأَْرْشِ فِيهِ فَوَجَبَتْ فِيهِ حُكُومَةٌ، وَإِنْ كَانَ نَقْصًا يَتَقَدَّرُ بِأَنْ لاَ يُدْرَكَ بِأَحَدِ الْمَذَاقِ الْخَمْسِ وَيُدْرَكُ بِالْبَاقِي وَجَبَ عَلَيْهِ خُمُسُ الدِّيَةِ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكِ اثْنَيْنِ وَجَبَ عَلَيْهِ خُمُسَانِ، لأَِنَّهُ يَتَقَدَّرُ الْمُتْلَفُ فَيُقَدَّرُ الأَْرْشُ (1) .
وَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ لِسَانٌ لَهُ طَرَفَانِ فَقَطَعَ رَجُلٌ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ فَذَهَبَ كَلاَمُهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، وَإِنْ ذَهَبَ نِصْفُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ ذَهَبَ رُبُعُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ رُبُعُ الدِّيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ مِنَ الْكَلاَمِ شَيْءٌ نُظِرَ فَإِنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْخِلْقَةِ فَهُمَا كَاللِّسَانِ الْمَشْقُوقِ وَيَجِبُ بِقَطْعِهِمَا الدِّيَةُ، وَبِقَطْعِ أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا تَامَّ الْخِلْقَةِ وَالآْخَرُ
__________
(1) شرح الزرقاني 8 / 35، والخرشي 8 / 40، والاختيار 5 / 37، والمهذب 2 / 205، والمغني 8 / 209.

(35/243)


نَاقِصَ الْخِلْقَةِ فَالتَّامُّ هُوَ اللِّسَانُ الأَْصْلِيُّ وَالآْخَرُ خِلْقَةٌ زَائِدَةٌ فَإِنْ قَطَعَهُمَا قَاطِعٌ وَجَبَ عَلَيْهِ دِيَةٌ وَحُكُومَةٌ، وَإِنْ قَطَعَ التَّامَّ وَجَبَ عَلَيْهِ دِيَةٌ، وَإِنْ قَطَعَ النَّاقِصَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حُكُومَةٌ (1) .
وَإِنْ جَنَى عَلَى لِسَانِهِ مَعَ بَقَائِهِ فَذَهَبَ كَلاَمُهُ وَقُضِيَ عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ، ثُمَّ عَادَ الْكَلاَمُ وَجَبَ رَدُّ الدِّيَةِ قَوْلاً وَاحِدًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لأَِنَّ الْكَلاَمَ إِذَا ذَهَبَ لَمْ يَعُدْ، فَلَمَّا عَادَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ وَإِنَّمَا امْتَنَعَ لِعَارِضٍ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (دِيَاتٌ ف 36) .

قَطْعُ لِسَانِ الأَْخْرَسِ وَالصَّغِيرِ
9 - لِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِي حُكْمِ قَطْعِ لِسَانِ الأَْخْرَسِ وَلِسَانِ الصَّغِيرِ يُنْظَرُ فِي (دِيَاتٌ ف 37) .

لِصٌّ

انْظُرْ: سَرِقَةٌ
__________
(1) المهذب 2 / 205، والمغني 8 / 29.
(2) المهذب 2 / 205.

(35/244)


لَطْمٌ
التَّعْرِيفُ
1 - اللَّطْمُ: فِي اللُّغَةِ الضَّرْبُ عَلَى الْخَدِّ بِبَسْطِ الْكَفِّ، يُقَال: لَطَمَتِ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا لَطْمًا: ضَرَبَتْهُ بِبَاطِنِ كَفِّهَا، وَاللَّطْمَةُ الْمَرَّةُ (1) .
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ هَذَا اللَّفْظَ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ نَفْسِهِ، قَال الزُّرْقَانِيُّ: اللَّطْمَةُ هِيَ ضَرْبَةٌ عَلَى الْخَدَّيْنِ بِبَاطِنِ الرَّاحَةِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصَّفْعُ:
2 - الصَّفْعُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ أَنْ يَبْسُطَ الرَّجُل كَفَّهُ فَيَضْرِبَ بِهَا قَفَا الإِْنْسَانِ أَوْ بَدَنَهُ (3) .
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا اللَّفْظَ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ نَفْسِهِ، فَقَدْ جَاءَ فِي حَاشِيَةِ أَبِي السُّعُودِ عَلَى شَرْحِ الْكَنْزِ: الصَّفْعُ هُوَ الضَّرْبُ عَلَى الْقَفَا بِالْكَفِّ (4) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ اللَّطْمَ يَكُونُ عَلَى الْوَجْهِ
__________
(1) الكليات لأبي البقاء الكفوي 4 / 177، والمصباح المنير.
(2) شرح الزرقاني 8 / 17.
(3) المصباح المنير.
(4) حاشية أبي السعود على شرح الكنز 2 / 385.

(35/244)


وَالصَّفْعَ عَلَى الْقَفَا.

ب - الْوَكْزُ
3 - الْوَكْزُ لُغَةً: الدَّفْعُ وَالطَّعْنُ وَالضَّرْبُ بِجَمِيعِ الْكَفِّ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا الْمَعْنَى عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، قَال الْبُهُوتِيُّ: الْوَكْزُ هُوَ الدَّفْعُ وَالضَّرْبُ بِجَمِيعِ الْكَفِّ (2) . وَالصِّلَةُ أَنَّ اللَّطْمَ يَكُونُ بِبَسْطِ الْكَفِّ وَالْوَكْزَ بِجَمِيعِ الْكَفِّ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللَّطْمِ:
لَطْمُ الْخُدُودِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ لَطْمُ الْخُدُودِ وَخَمْشُهَا وَشَقُّ الْجُيُوبِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الأَْفْعَال عِنْدَ الْمُصِيبَةِ (3) ، لِمَا فِي الصَّحِيحِ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ أَوْ شَقَّ الْجُيُوبَ أَوْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ (4) .

الْقِصَاصُ مِنَ اللَّطْمَةِ:
5 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ مِنْ لَطْمَةٍ عَلَى الْخَدِّ إِذَا لَمْ يَنْشَأْ عَنْهَا جُرْحٌ
__________
(1) القاموس المحيط.
(2) كشاف القناع 6 / 121، وانظر معين الحكام ص 221.
(3) غنية المتملي في شرح منية المصلي ص594 - 595، والقوانين الفقهية ص95، والمجموع 5 / 307، ومطالب أولي النهى 1 / 88، وفتح الباري 3 / 163 - 164، وعمدة القاري 8 / 87، 93.
(4) حديث: " ليس منا من ضرب الخدود. . . ". أخرجه مسلم (1 / 99) من حديث ابن مسعود.

(35/245)


وَلاَ ذَهَابُ مَنْفَعَةٍ بَل فِيهَا التَّعْزِيرُ لأَِنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيهَا غَيْرُ مُمْكِنَةٍ (1) .
وَذَهَبَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي اللَّطْمَةِ وَقَال: هُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ وَمَنْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ نَصِّ مَذْهَبِهِ وَأُصُولِهِ كَمَا خَرَجَ عَنْ مَحْضِ الْقِيَاسِ وَالْمِيزَانِ.
وَاسْتَدَل بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (2) ، وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (3) ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (4) فَأَمَرَ بِالْمُمَاثَلَةِ فِي الْعُقُوبَةِ وَالْقِصَاصِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا بِحَسَبِ الإِْمْكَانِ، وَالأَْمْثَل هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ، فَهَذَا الْمَضْرُوبُ قَدِ اعْتُدِيَ عَلَيْهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُفْعَل بِالْمُعْتَدِي كَمَا فُعِل بِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ كَانَ الْوَاجِبُ مَا هُوَ الأَْقْرَبُ وَالأَْمْثَل، وَسَقَطَ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْعَبْدُ مِنَ الْمُسَاوَاةِ مِنْ كُل وَجْهٍ، وَلاَ رَيْبَ أَنَّ لَطْمَةً بِلَطْمَةٍ وَضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ فِي مَحَلِّهِمَا بِالآْلَةِ الَّتِي لَطَمَهُ بِهَا أَوْ بِمِثْلِهَا أَقْرَبُ إِلَى الْمُمَاثَلَةِ
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 353، وشرح الزرقاني 8 / 15، وكشاف القناع 5 / 548، 6 / 121، ومعين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من أحكام ص221، والفتاوى الهندية 6 / 9، وأسنى المطالب 4 / 68.
(2) سورة الشورى / 40.
(3) سورة البقرة / 194.
(4) سورة النحل / 136.

(35/245)


الْمَأْمُورِ بِهَا حِسًّا وَشَرْعًا مِنْ تَعْزِيرِهِ بِهَا بِغَيْرِ جِنْسِ اعْتِدَائِهِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ (1) .

لُعَابٌ

انْظُرْ: رِيقٌ
__________
(1) إعلام الموقعين 1 / 318 - 319.

(35/246)


لِعَانٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - اللِّعَانُ مَصْدَرُ لاَعَنَ، وَفِعْلُهُ الثُّلاَثِيُّ لَعَنَ مَأْخُوذٌ مِنَ اللَّعْنِ، وَهُوَ الطَّرْدُ وَالإِْبْعَادُ مِنَ الْخَيْرِ، وَقِيل: الطَّرْدُ وَالإِْبْعَادُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنَ الْخَلْقِ السَّبُّ.
وَالْمُلاَعَنَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ: إِذَا قَذَفَ الرَّجُل امْرَأَتَهُ أَوْ رَمَاهَا بِرَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِهَا (1) .
وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: شَهَادَاتٌ تَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مُؤَكَّدَةٌ بِالأَْيْمَانِ مَقْرُونَةٌ بِاللَّعْنِ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ وَبِالْغَضَبِ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجَةِ (2) .
وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: حَلِفُ زَوْجٍ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ عَلَى زِنَا زَوْجَتِهِ أَوْ عَلَى نَفْيِ حَمْلِهَا مِنْهُ، وَحَلِفُهَا عَلَى تَكْذِيبِهِ أَرْبَعًا مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِصِيغَةِ أُشْهِدُ اللَّهَ بِحُكْمِ حَاكِمٍ (3) .
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: كَلِمَاتٌ مَعْلُومَةٌ
__________
(1) لسان العرب مادة " لعن ".
(2) بدائع الصنائع 3 / 241، وفتح القدير 3 / 248، وكشاف القناع 5 / 390.
(3) الشرح الصغير 2 / 657.

(35/246)


جُعِلَتْ حُجَّةً لِلْمُضْطَرِّ إِلَى قَذْفِ مَنْ لَطَّخَ فِرَاشَهُ وَأَلْحَقَ الْعَارَ بِهِ أَوْ إِلَى نَفْيِ وَلَدٍ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السَّبُّ:
2 - السَّبُّ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا هُوَ الشَّتْمُ: وَهُوَ كُل كَلاَمٍ قَبِيحٍ (2)
وَالسَّبُّ قَدْ يُوجِبُ اللِّعَانَ أَوْ لاَ يُوجِبُهُ بِحَسَبِ مَا إِذَا كَانَ فِيهِ رَمْيٌ لِلزَّوْجَةِ بِزِنًا أَوْ لاَ.

ب - الْقَذْفُ
3 - الْقَذْفُ فِي اللُّغَةِ: الرَّمْيُ مُطْلَقًا. وَاصْطِلاَحًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: الرَّمْيُ بِالزِّنَا (3) .
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: الرَّمْيُ بِالزِّنَا فِي مَعْرِضِ التَّعْيِيرِ (4) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ قَذْفَ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ اللِّعَانِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ قَذْفَ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ يُوجِبُ اللِّعَانَ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} (5) أَيْ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 367.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 309 وتاج العروس.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 43 - 44، والمغني لابن قدامة 8 / 215.
(4) مغني المحتاج 4 / 155.
(5) سورة النور / 6.

(35/247)


فَلْيَشْهَدْ أَحَدُهُمْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ. جَعَل اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُوجَبَ قَذْفِ الزَّوْجَاتِ اللِّعَانَ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَال عُلَيْشٌ: اللِّعَانُ يَجِبُ بِثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهَانِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِمَا: وَذَلِكَ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ رَآهَا تَزْنِي كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ ثُمَّ لَمْ يَطَأْ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ يَنْفِيَ حَمْلاً يَدَّعِي اسْتِبْرَاءً قَبْلَهُ، وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْذِفَهَا بِالزِّنَا وَلاَ يَدَّعِي رُؤْيَةً وَلاَ نَفْيَ حَمْلٍ، وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ قَالُوا: يُحَدُّ وَلاَ يُلاَعَنُ (2) .
وَاللِّعَانُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ لِدَفْعِ حَدِّ قَذْفِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ أَوْ نَفْيِ وَلَدِهِ مِنْهَا، وَلَهُ اللِّعَانُ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِلاَّ لِنَفْيِ نَسَبِ وَلَدٍ أَوْ حَمْلٍ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، لأَِنَّهُ لَوْ سَكَتَ لَكَانَ بِسُكُوتِهِ مُسْتَلْحِقًا لِمَنْ لَيْسَ مِنْهُ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا قَذَفَ الرَّجُل امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا فَلَهُ إِسْقَاطُ الْحَدِّ بِاللِّعَانِ (4) ، وَحَدُّ الْقَذْفِ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ فَإِنْ لَمْ تَطْلُبْهُ أَوْ أَبْرَأَتْهُ مِنْ قَذْفِهَا أَوْ أَسْقَطَتْهُ أَوْ أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ بِزِنَاهَا ثُمَّ أَرَادَ الزَّوْجُ لِعَانَهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَسَبٌ يُرِيدُ نَفِيَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُلاَعِنَ، وَإِنْ كَانَ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 238، والفتاوى الهندية 1 / 515.
(2) منح الجليل 2 / 357.
(3) نهاية المحتاج 7 / 106، ومغني المحتاج 3 / 382.
(4) الإنصاف 9 / 235.

(35/247)


هُنَاكَ وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ فَقَال الْقَاضِي: لَهُ أَنْ يُلاَعِنَ لِنَفْيِهِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: يُحْتَمَل أَنْ لاَ يُشْرَعَ اللِّعَانُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَمَا لَوْ قَذَفَهَا فَصَدَّقَتْهُ (1) .

رُكْنُ اللِّعَانِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُكْنَ اللِّعَانِ هُوَ الشَّهَادَاتُ الَّتِي تَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي تَعْرِيفِهِمْ، فَتَكُونُ رُكْنًا لَهُ (2) ، لأَِنَّ تَحَقُّقَ اللِّعَانِ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَحَقُّقِهَا وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي تَكْوِينِهِ.
وَنَصَّ ابْنُ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ أَرْكَانَ اللِّعَانِ أَرْبَعَةٌ هِيَ: الْمُلاَعِنُ، وَالْمُلاَعَنَةُ، وَالسَّبَبُ، وَاللَّفْظُ (3) .

شُرُوطُ اللِّعَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
6 - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُشْتَرَطُ فِي اللِّعَانِ شُرُوطٌ مُخْتَلِفَةٌ، بَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى الرَّجُل، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى الْمَرْأَةِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ مَعًا، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى الْمَقْذُوفِ بِهِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ - مَا يَرْجِعُ مِنَ الشُّرُوطِ إِلَى الزَّوْجِ:
7 - يُشْتَرَطُ فِي الزَّوْجِ لإِِجْرَاءِ اللِّعَانِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
__________
(1) المغني 7 / 405.
(2) البحر الرائق 4 / 122، وحاشية ابن عابدين 2 / 585، وفتح القدير 3 / 247.
(3) القوانين الفقهية لابن جزي ص210.

(35/248)


زَوْجَتِهِ أَلاَّ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى صِحَّةِ قَذْفِهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فِي اللِّعَانِ عَدَمَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ مِنَ الزَّوْجِ الْقَاذِفِ لِزَوْجَتِهِ فِي قَوْلِهِ جَل شَأْنُهُ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ} (1) ، وَعَلَى هَذَا لَوِ اتَّهَمَ رَجُلٌ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا، وَأَتَى بِأَرْبَعَةِ رِجَالٍ عُدُولٍ وَشَهِدُوا بِزِنَا الزَّوْجَةِ لاَ يَثْبُتُ اللِّعَانُ، وَيُقَامُ عَلَى الْمَرْأَةِ حَدُّ الزِّنَا، لأَِنَّ زِنَا الزَّوْجَةِ قَدْ ظَهَرَ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى اللِّعَانِ (2) .

ب - مَا يَرْجِعُ مِنَ الشُّرُوطِ إِلَى الزَّوْجَةِ:
8 - يُشْتَرَطُ فِي الزَّوْجَةِ لإِِجْرَاءِ اللِّعَانِ شَرْطَانِ الأَْوَّل: إِنْكَارُ الزَّوْجَةِ وُجُودَ الزِّنَا مِنْهَا حَتَّى لَوْ أَقَرَّتْ بِذَلِكَ لاَ يَجِبُ اللِّعَانُ، وَيَلْزَمُهَا حَدُّ الزِّنَا لِظُهُورِ زِنَاهَا بِإِقْرَارِهَا.
الثَّانِي: عِفَّةُ الزَّوْجَةِ مِنَ الزِّنَا فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَفِيفَةً لاَ يَجِبُ اللِّعَانُ بِقَذْفِهَا، لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ تَكُنْ عَفِيفَةً فَقَدْ صَدَّقَتْهُ بِفِعْلِهَا، فَصَارَ كَمَا لَوْ صَدَّقَتْهُ بِقَوْلِهَا (3) .
وَمِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى الْمَرْأَةِ أَيْضًا: أَنْ تَطْلُبَ مِنَ الْقَاضِي إِجْرَاءَ اللِّعَانِ إِذَا قَذَفَهَا زَوْجُهَا بِالزِّنَا أَوْ نَفَى نَسَبَ الْوَلَدِ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ تَطْلُبْ مِنَ الْقَاضِي إِجْرَاءَ اللِّعَانِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
__________
(1) سورة النور / 6.
(2) بدائع الصنائع 3 / 240، وحاشية ابن عابدين 2 / 963، ومغني المحتاج 3 / 381.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 267 ط. بولاق، وبدائع الصنائع 3 / 340.

(35/248)


زَوْجِهَا لاَ يُقَامُ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ لأَِنَّ اللِّعَانَ شُرِعَ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنِ الزَّوْجَةِ فَكَانَ حَقًّا لَهَا فَلاَ يُقَامُ إِلاَّ بِطَلَبٍ مِنْهَا كَسَائِرِ حُقُوقِهَا (1) .

ج - مَا يَرْجِعُ مِنَ الشُّرُوطِ إِلَى الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ:
9 - يُشْتَرَطُ فِي الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ مَعًا لإِِجْرَاءِ اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا قِيَامُ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ وَقْتَ الْقَذْفِ فَإِذَا كَانَ الزَّوَاجُ قَائِمًا بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ وَقْتَ الْقَذْفِ وَكَانَ الزَّوَاجُ صَحِيحًا - دَخَل الزَّوْجُ بِالْمَرْأَةِ أَوْ لَمْ يَدْخُل - أُقِيمَ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ خَصَّ اللِّعَانَ بِالأَْزْوَاجِ، فَيَدُل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قِيَامَ الزَّوَاجِ شَرْطٌ لإِِجْرَاءِ اللِّعَانِ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ.
وَإِنْ كَانَ الزَّوَاجُ فَاسِدًا وَقَذَفَ الرَّجُل الْمَرْأَةَ بِالزِّنَا أَوْ نَفَى نَسَبَ وَلَدِهَا مِنْهُ لاَ يَثْبُتُ اللِّعَانُ بِهَذَا الْقَذْفِ (2) ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ اللِّعَانَ بِالأَْزْوَاجِ، وَلاَ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إِلاَّ إِذَا كَانَ الزَّوَاجُ صَحِيحًا وَإِذَا انْتَفَى اللِّعَانُ تَرَتَّبَ عَلَى الْقَذْفِ مُوجِبُهُ وَهُوَ الْحَدُّ (3) .
وَيُشْتَرَطُ كَذَلِكَ فِي الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْل الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَذَلِكَ بِأَنْ
__________
(1) الهداية وفتح القدير 3 / 250، والدر وحاشية ابن عابدين 2 / 966.
(2) بدائع الصنائع 3 / 241، وحاشية ابن عابدين 2 / 585.
(3) بدائع الصنائع 3 / 241.

(35/249)


يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مُسْلِمًا بَالِغًا عَاقِلاً حُرًّا قَادِرًا عَلَى النُّطْقِ غَيْرَ مَحْدُودٍ فِي قَذْفٍ وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا وَالزَّوْجَةُ كِتَابِيَّةً لاَ يُقَامُ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَخْرَسَ لاَ يُقَامُ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ (1) .
قَال الْمَرْغِينَانِيُّ: إِذَا كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَقَذَفَ امْرَأَتَهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لأَِنَّهُ تَعَذَّرَ اللِّعَانُ لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ فَيُصَارُ إِلَى الْمُوجِبِ الأَْصْلِيِّ وَهُوَ الثَّابِتُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} (2) ، وَاللِّعَانُ خَلَفٌ عَنْهُ.
وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مِنْ أَهْل الشَّهَادَةِ وَهِيَ أَمَةٌ أَوْ كَافِرَةٌ أَوْ مَحْدُودَةٌ فِي قَذْفٍ، أَوْ كَانَتْ مِمَّنْ لاَ يُحَدُّ قَاذِفُهَا بِأَنْ كَانَتْ صَبِيَّةً أَوْ مَجْنُونَةً أَوْ زَانِيَةً فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ وَلاَ لِعَانَ، لاِنْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَعَدَمِ الإِْحْصَانِ فِي جَانِبِهَا وَامْتِنَاعِ اللِّعَانِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا، فَيَسْقُطُ الْحَدُّ كَمَا إِذَا صَدَّقَتْهُ (3) .
وَيُشْتَرَطُ كَذَلِكَ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَحَضْرَةُ الْحَاكِمِ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 241، والدر وحاشية ابن عابدين 2 / 963 و964.
(2) سورة النور / 4.
(3) الهداية مع فتح القدير 3 / 251 - 252.
(4) بدائع الصنائع 3 / 242.

(35/249)


د - مَا يَرْجِعُ مِنَ الشُّرُوطِ إِلَى الْمَقْذُوفِ بِهِ
10 - يُشْتَرَطُ فِي الْمَقْذُوفِ بِهِ لِوُجُوبِ اللِّعَانِ أَوْ جَوَازِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا بِالزِّنَا أَوْ نَفْيِ النَّسَبِ (1) .

شُرُوطُ اللِّعَانِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ:
11 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لإِِجْرَاءِ اللِّعَانِ مَا يَلِي:
أَوَّلاً: قِيَامُ الزَّوْجِيَّةِ وَأَنْ يَكُونَ الزَّوْجَانِ عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَا حُرَّيْنِ أَوْ مَمْلُوكَيْنِ، عَدْلَيْنِ أَوْ فَاسِقَيْنِ، وَيُشْتَرَطُ الإِْسْلاَمُ فِي الزَّوْجِ.
ثَانِيًا: الْقَذْفُ بِرُؤْيَةِ الزِّنَا أَوْ بِنَفْيِ الْحَمْل.
ثَالِثًا: تَعْجِيل اللِّعَانِ بَعْدَ الْعِلْمِ لِنَفْيِ الْحَمْل أَوِ الْوَلَدِ.
رَابِعًا: عَدَمُ الْوَطْءِ بَعْدَ الْقَذْفِ.
خَامِسًا: لَفْظُ: أَشْهَدُ فِي الأَْرْبَعِ، وَاللَّعْنُ مِنَ الزَّوْجِ فِي الْخَامِسَةِ، وَالْغَضَبُ مِنَ الزَّوْجَةِ فِي الْخَامِسَةِ.
سَادِسًا: بَدْءُ الزَّوْجِ بِالْحَلِفِ، فَإِنْ بَدَأَتِ الزَّوْجَةُ أَعَادَتْ بَعْدَهُ.
سَابِعًا: حُضُورُ جَمَاعَةٍ لِلِّعَانِ أَقَلُّهَا أَرْبَعَةٌ مِنَ الْعُدُول (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ اللِّعَانِ:
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 243.
(2) القوانين الفقهية ص241، والشرح الصغير 2 / 657 - 665.

(35/250)


أَوَّلاً: أَنْ يَكُونَ الْمُلاَعِنُ زَوْجًا يَصِحُّ طَلاَقُهُ وَأَهْلِيَّتُهُ لِلْيَمِينِ، لأَِنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ مُؤَكَّدَةٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلاً مُخْتَارًا، وَيَكْفِي أَنْ يَكُونَ زَوْجًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ أَوْ فِي الصُّورَةِ، وَيَنْطَبِقُ ذَلِكَ عَلَى الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ وَالرَّشِيدِ وَالسَّفِيهِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمَحْدُودِ وَالْمُطْلَقِ رَجْعِيًّا وَغَيْرِهِمْ.
ثَانِيًا: أَنْ يَسْبِقَ اللِّعَانَ قَذْفٌ لِلزَّوْجَةِ.
ثَالِثًا: أَنْ يَأْمُرَ الْقَاضِي أَوْ نَائِبُهُ بِاللِّعَانِ.
رَابِعًا: أَنْ يُلَقِّنَ الْقَاضِي أَوْ نَائِبُهُ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ لِلْمُتَلاَعِنَيْنِ.
خَامِسًا: أَنْ يَكُونَ اللِّعَانُ بِأَلْفَاظِ الشَّهَادَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الشَّرْعُ.
سَادِسًا: أَنْ يُتِمَّ الْمُتَلاَعِنَانِ شَهَادَاتِ اللِّعَانِ.
سَابِعًا: الْمُوَالاَةُ بَيْنَ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ.
ثَامِنًا: أَنْ يَتَأَخَّرَ لِعَانُ الزَّوْجَةِ عَنْ لِعَانِ الزَّوْجِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ لِلِّعَانِ ثَلاَثَةُ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: كَوْنُ اللِّعَانِ بَيْنَ زَوْجَيْنِ عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ سَوَاءٌ كَانَا مُسْلِمَيْنِ أَوْ ذِمِّيَّيْنِ حُرَّيْنِ أَوْ رَقِيقَيْنِ عَدْلَيْنِ أَوْ فَاسِقَيْنِ أَوْ مَحْدُودَيْنِ فِي قَذْفٍ
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 334، ومغني المحتاج 3 / 367 - 376، 378، ونهاية المحتاج 7 / 113.

(35/250)


أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَذَلِكَ.
الثَّانِي: أَنْ يَقْذِفَهَا بِالزِّنَا فِي الْقُبُل أَوِ الدُّبُرِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الأَْعْمَى وَالْبَصِيرُ.
الثَّالِثُ: أَنْ تُكَذِّبَهُ الزَّوْجَةُ فِي قَذْفِهِ إِيَّاهَا وَيَسْتَمِرُّ تَكْذِيبُهَا إِلَى انْقِضَاءِ اللِّعَانِ (1) .

مَا يَثْبُتُ بِهِ اللِّعَانُ عِنْدَ الْقَاضِي
12 - يَثْبُتُ اللِّعَانُ عِنْدَ الْقَاضِي بِوَاحِدٍ مِنْ أَمْرَيْنِ:

الأَْمْرُ الأَْوَّل: الإِْقْرَارُ بِالْقَذْفِ مِنَ الزَّوْجِ أَمَامَ الْقَاضِي، فَإِذَا قَذَفَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا فَرَفَعَتِ الزَّوْجَةُ الأَْمْرَ إِلَى الْقَاضِي، وَطَالَبَتْ بِاللِّعَانِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، وَأَقَرَّ الزَّوْجُ أَنَّهُ رَمَاهَا بِالزِّنَا حَكَمَ الْقَاضِي بِإِجْرَاءِ اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا، مَتَى تَوَافَرَتْ شَرَائِطُ وُجُوبِهِ.

الأَْمْرُ الثَّانِي: الْبَيِّنَةُ، وَذَلِكَ إِذَا ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ زَوْجَهَا اتَّهَمَهَا بِالزِّنَا، وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ ذَلِكَ فَأَقَامَتِ الزَّوْجَةُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَتْهُ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَحْكُمُ الْقَاضِي بِإِجْرَاءِ اللِّعَانِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا بِنَاءً عَلَى مَا شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ.
وَالْبَيِّنَةُ الَّتِي يَتَثَبَّتُ الْقَذْفُ بِهَا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، وَلاَ يُقْبَل فِي إِثْبَاتِ الْقَذْفِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ، لأَِنَّ اللِّعَانَ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي حَقِّ الرَّجُل، وَقَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ،
__________
(1) كشاف القناع 5 / 394 - 399، ونيل المآرب 2 / 266 - 267.

(35/251)


وَأَسْبَابُ الْحُدُودِ لاَ تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ فِي شَهَادَتِهِنَّ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَعَلَى هَذَا فَلَوِ ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ زَوْجَهَا رَمَاهَا بِالزِّنَا وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ مَا ادَّعَتْهُ زَوْجَتُهُ، وَلَمْ تَسْتَطِعِ الزَّوْجَةُ إِثْبَاتَ مَا ادَّعَتْهُ بِالْبَيِّنَةِ فَلاَ تُوَجَّهُ الْيَمِينُ إِلَى الزَّوْجِ، وَلاَ يَجِبُ الْحَدُّ بِامْتِنَاعِهِ عَنِ الْحَلِفِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ فَائِدَةَ تَوْجِيهِ الْيَمِينِ هِيَ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ يُوَجَّهُ إِلَيْهِ إِذَا نَكَل عَنِ الْحَلِفِ، وَالنُّكُول لَيْسَ إِقْرَارًا صَرِيحًا، وَإِنَّمَا هُوَ إِقْرَارٌ فِي الْمَعْنَى، وَالإِْقْرَارُ فِي الْمَعْنَى تَكُونُ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَالشُّبْهَةُ يَنْدَرِئُ الْحَدُّ بِهَا (1) .

كَيْفِيَّةُ اللِّعَانِ
13 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ بِهِ فِي اللِّعَانِ هُوَ الزِّنَا فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُقِيمَ الْمُتَلاَعِنَيْنِ بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَمَاثِلَيْنِ، فَيَأْمُرُ الزَّوْجَ أَوَّلاً أَنْ يَقُول أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا، وَيَقُول فِي الْخَامِسَةِ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا، ثُمَّ يَأْمُرُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَقُول أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ بِأَنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا، وَتَقُول فِي
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 243، والدر وحاشية ابن عابدين 2 / 907 و908، والمغني 7 / 408، وما بعدها، ومغني المحتاج 3 / 369.

(35/251)


الْخَامِسَةِ: غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى لَفْظِ الْمُوَاجَهَةِ، فَيَقُول الزَّوْجُ: فِيمَا رَمَيْتُكِ بِهِ مِنَ الزِّنَا، وَتَقُول الْمَرْأَةُ: فِيمَا رَمَيْتَنِي بِهِ مِنَ الزِّنَا، وَهُوَ قَوْل زُفَرَ.
وَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ بِهِ نَفْيَ نَسَبِ الْوَلَدِ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الزَّوْجَ يَقُول فِي كُل مَرَّةٍ: فِيمَا رَمَيْتُكِ بِهِ مِنْ نَفْيِ وَلَدِكِ، وَتَقُول الْمَرْأَةُ: فِيمَا رَمَيْتَنِي بِهِ مِنْ نَفْيِ وَلَدِي.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الزَّوْجَ يَقُول فِي كُل مَرَّةٍ: فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا فِي نَفْيِ وَلَدِهَا، وَتَقُول الْمَرْأَةُ: فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا فِي نَفْيِ وَلَدِهِ (1) .
14 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ بِهِ هُوَ الزِّنَا يَقُول الزَّوْجُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَرَأَيْتُهَا تَزْنِي إِذَا كَانَ بَصِيرًا، فَإِنْ كَانَ أَعْمَى يَقُول: لَعَلِمْتُهَا تَزْنِي أَوْ لَتَيَقَّنْتُهَا تَزْنِي، ثُمَّ يَقُول فِي الْخَامِسَةِ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ عَلَيْهَا، وَتَقُول الزَّوْجَةُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ مَا زَنَيْتُ أَوْ مَا رَآنِي أَزْنِي، وَتُخَمِّسُ: غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ بِهِ هُوَ نَفْيَ الْحَمْل
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 237.

(35/252)


فَيَقُول الزَّوْجُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ مَا هَذَا الْحَمْل مِنِّي، وَيَقُول فِي الْخَامِسَةِ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَتَقُول الْمَرْأَةُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: مَا زَنَيْتُ، وَتَقُول فِي الْخَامِسَةِ: غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (1) .
15 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: اللِّعَانُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِدَرْءِ حَدِّ قَذْفِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ فَقَطْ، أَوْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ لِنَفْيِ الْوَلَدِ، أَوْ يَكُونَ لِنَفْيِ الْوَلَدِ فَقَطْ.
فَإِنْ كَانَ اللِّعَانُ لِدَرْءِ حَدِّ الْقَذْفِ فَقَطْ فَإِنَّ صِفَتَهُ مِنَ الرَّجُل أَنْ يَقُول أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتِي هَذِهِ - إِنْ حَضَرَتْ - أَوْ زَوْجَتِي فُلاَنَةَ بِنْتَ فُلاَنٍ - وَيُسَمِّيهَا وَيَرْفَعُ نَسَبَهَا أَوْ يَذْكُرُ وَصْفَهَا بِمَا يُمَيِّزُهَا إِنْ غَابَتْ - مِنَ الزِّنَا، وَيَقُول فِي الْخَامِسَةِ: وَعَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا.
وَإِنْ كَانَ اللِّعَانُ لِدَرْءِ الْحَدِّ وَنَفْيِ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ يَقُول فِي كُلٍّ مِنْهَا: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتِي هَذِهِ إِنْ حَضَرَتْ - أَوْ زَوْجَتِي فُلاَنَةً - وَيُسَمِّيهَا وَيَرْفَعُ نَسَبَهَا أَوْ يَذْكُرُ وَصْفَهَا بِمَا يُمَيِّزُهَا إِنْ غَابَتْ - مِنَ الزِّنَا، وَأَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي وَلَدَتْهُ - إِنْ غَابَ - أَوْ هَذَا الْوَلَدُ - إِنْ حَضَرَ -
__________
(1) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 2 / 465 - 466، والشرح الصغير 2 / 664 - 665.

(35/252)


مِنْ زِنًا وَلَيْسَ مِنِّي، وَيَقُول فِي الْخَامِسَةِ: وَعَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا وَمِنْ نَفْيِ الْوَلَدِ.
وَإِنْ كَانَ اللِّعَانُ لِنَفْيِ وَلَدٍ وَلَيْسَ لِدَرْءِ حَدٍّ فَيَقُول أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتِي هَذِهِ - إِنْ حَضَرَتْ - أَوْ زَوْجَتِي فُلاَنَةَ بِنْتَ فُلاَنٍ - وَيُسَمِّيهَا وَيَرْفَعُ نَسَبَهَا أَوْ يَذْكُرُ صِفَتَهَا بِمَا يُمَيِّزُهَا إِنْ غَابَتْ - مِنْ إِصَابَةِ غَيْرِي لَهَا عَلَى فِرَاشِي وَأَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ لاَ مِنِّي، وَيَقُول فِي الْخَامِسَةِ: وَعَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتِي مِنْ نَفْيِ الْوَلَدِ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا لاَ تُلاَعِنُ فِي الْحَالَةِ الثَّالِثَةِ، إِذْ لاَ حَدَّ عَلَيْهَا بِلِعَانِ الرَّجُل.
أَمَّا فِي الْحَالَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ فَصِيغَةُ لِعَانِ الْمَرْأَةِ أَنْ تَقُول (أَرْبَعَ مَرَّاتٍ) بَعْدَ لِعَانِهِ أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ - وَتُشِيرُ إِلَيْهِ إِنْ حَضَرَ وَإِلاَّ مَيَّزَتْهُ كَمَا مَرَّ فِي لِعَانِ الرَّجُل - مِنَ الزِّنَا، وَلاَ تَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ الْوَلَدِ لأَِنَّهُ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي لِعَانِهَا حُكْمٌ، وَتَقُول فِي الشَّهَادَةِ الْخَامِسَةِ: وَعَلَيَّ غَضَبُ اللَّهِ إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا.
وَقَالُوا: خُصَّ الْغَضَبُ بِهَا لأَِنَّ جَرِيمَةَ زِنَاهَا الَّتِي لاَعَنَتْ لإِِسْقَاطِ حَدِّهِ أَقْبَحُ مِنْ جَرِيمَةِ قَذْفِهِ، وَالْغَضَبُ وَهُوَ الاِنْتِقَامُ بِالْعَذَابِ أَغْلَظُ مِنَ اللَّعْنِ الَّذِي هُوَ الْبُعْدُ

(35/253)


عَنِ الرَّحْمَةِ (1) .
وَلاَ يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ اللِّعَانِ إِلاَّ إِذَا تَمَّتِ الْكَلِمَاتُ الْخَمْسُ، وَلَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِالْفُرْقَةِ بِأَكْثَرِ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ، لأَِنَّ حُكْمَهُ غَيْرُ جَائِزٍ بِالإِْجْمَاعِ، فَلاَ يَنْفُذُ كَسَائِرِ الأَْحْكَامِ الْبَاطِلَةِ.
وَلَوْ قَال بَدَل كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ، أَوْ أُقْسِمُ، أَوْ أُولِي بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ، أَوْ قَال: بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، أَوْ أَبْدَل لَفْظَ اللَّعْنِ بِالإِْبْعَادِ، أَوْ لَفْظَ الْغَضَبِ بِالسَّخَطِ، أَوِ الْغَضَبَ بِاللَّعْنِ أَوْ عَكَسَهُ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الأَْصَحِّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَقِيل: لاَ يَصِحُّ قَطْعًا فِي إِبْدَال الْغَضَبِ بِاللَّعْنِ، وَلاَ فِي الاِقْتِصَارِ عَلَى: بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَيُشْتَرَطُ تَأْخِيرُ لَفْظَتَيِ اللَّعْنِ وَالْغَضَبِ عَنِ الْكَلِمَاتِ الأَْرْبَعِ عَلَى الأَْصَحِّ، وَيُشْتَرَطُ الْمُوَالاَةُ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسِ عَلَى الأَْصَحِّ، فَيُؤَثِّرُ الْفَصْل الطَّوِيل.
وَيُشْتَرَطُ فِي لِعَانِ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ أَنْ يَأْمُرَ الْحَاكِمُ بِهِ، فَيَقُول لِلْمُلاَعِنِ: قُل: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ. . . إِلَى آخِرِهَا.
وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ لِعَانِهَا بَعْدَ لِعَانِ الرَّجُل.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلأَْخْرَسِ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ، وَلاَ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 107 - 109، ومغني المحتاج 3 / 374، 375.

(35/253)


كِتَابَةٌ، لَمْ يَصِحَّ قَذْفُهُ وَلاَ لِعَانُهُ، وَلاَ سَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ، أَوْ كِتَابَةٌ، صَحَّ قَذْفُهُ وَلِعَانُهُ، كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ وَغَيْرِهَا، وَذَكَرَ الْمُتَوَلِّي: أَنَّهُ إِذَا لاَعَنَ بِالإِْشَارَةِ، أَشَارَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ بِكَلِمَةِ اللَّعْنِ، وَإِنْ لاَعَنَ بِالْكِتَابَةِ كَتَبَ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ وَكَلِمَةَ اللَّعْنِ، وَيُشِيرُ إِلَى كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَلاَ يُكَلَّفُ أَنْ يَكْتُبَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَلَوْ لاَعَنَ الأَْخْرَسُ بِالإِْشَارَةِ، ثُمَّ عَادَ نُطْقُهُ وَقَال: لَمْ أُرِدِ اللِّعَانَ بِإِشَارَتِي، قُبِل قَوْلُهُ فِيمَا عَلَيْهِ، فَيَلْحَقُهُ النَّسَبُ وَالْحَدُّ، وَلاَ يُقْبَل فِيمَا لَهُ، فَلاَ تَرْتَفِعُ الْفُرْقَةُ وَالتَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ، وَلَهُ أَنْ يُلاَعِنَ فِي الْحَال لإِِسْقَاطِ الْحَدِّ، وَلَهُ اللِّعَانُ لِنَفْيِ الْوَلَدِ إِنْ لَمْ يَفُتْ زَمَنُ النَّفْيِ، وَلَوْ قَال: لَمْ أُرِدِ الْقَذْفَ أَصْلاً، لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ.
وَلَوْ قَذَفَ نَاطِقٌ، ثُمَّ عَجَزَ عَنِ الْكَلاَمِ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يُرْجَ زَوَال مَا بِهِ، فَهُوَ كَالأَْخْرَسِ، وَإِنْ رُجِيَ، فَثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: لاَ يَنْظُرُ، بَل يُلاَعِنُ بِالإِْشَارَةِ لِحُصُول الْعَجْزِ، وَرُبَّمَا مَاتَ فَلَحِقَهُ نَسَبٌ بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: يُنْتَظَرُ وَإِنْ طَالَتْ مُدَّتُهُ.
وَأَصَحُّهَا: يُنْتَظَرُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَقَطْ، وَنَقَل الإِْمَامُ أَنَّ الأَْئِمَّةَ صَحَّحُوهُ.
وَعَلَى هَذَا، فَالْوَجْهُ أَنْ

(35/254)


يُقَال: إِنْ كَانَ يُرْجَى زَوَالُهُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يُنْتَظَرُ، وَإِلاَّ فَلاَ يُنْتَظَرُ أَصْلاً.
وَمَنْ لاَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، يُلاَعِنُ بِلِسَانِهِ، وَيُرَاعَى تَرْجَمَةُ الشَّهَادَةِ وَاللَّعْنِ وَالْغَضَبِ، فَإِنْ أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ، فَهَل يَتَعَيَّنُ اللِّعَانُ بِهَا، أَمْ لَهُ أَنْ يُلاَعِنَ بِأَيِّ لِسَانٍ شَاءَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي.
وَإِذَا لاَعَنَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يُحْسِنُ تِلْكَ اللُّغَةَ، فَلاَ حَاجَةَ إِلَى مُتَرْجِمٍ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْضُرَهُ أَرْبَعَةٌ مِمَّنْ يُحْسِنُهَا، وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْهَا، فَلاَ بُدَّ مِنْ مُتَرْجِمَيْنِ، وَيَكْفِيَانِ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ، فَإِنَّهَا تُلاَعِنُ لِنَفْيِ الزِّنَا لاَ لإِِثْبَاتِهِ، وَفِي جَانِبِ الرَّجُل طَرِيقَانِ.
أَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بِالاِكْتِفَاءِ بِاثْنَيْنِ، وَبِهِ قَال أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ سَلَمَةَ.
وَالثَّانِي: عَلَى قَوْلَيْنِ: بِنَاءً عَلَى الإِْقْرَارِ بِالزِّنَا يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ، أَمْ يُشْتَرَطُ أَرْبَعَةٌ؟ وَالأَْظْهُرُ ثُبُوتُهُ بِشَاهِدَيْنِ (1) .
16 - وَصِفَةُ اللِّعَانِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ يَقُول الزَّوْجُ بِحَضْرَةِ حَاكِمٍ أَوْ نَائِبِهِ، وَكَذَا لَوْ حَكَّمَ رَجُلاً أَهْلاً لِلْحُكْمِ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ امْرَأَتِي هَذِهِ مِنَ الزِّنَا مُشِيرًا إِلَيْهَا إِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً، وَمَا دَامَتْ حَاضِرَةً فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى تَسْمِيَتِهَا وَبَيَانِ نَسَبِهَا،
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 351 - 353.

(35/254)


وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَاضِرَةً بِالْمَجْلِسِ سَمَّاهَا وَنَسَبَهَا بِمَا تَتَمَيَّزُ بِهِ حَتَّى تَنْتِفِي الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا، وَيُعِيدُ قَوْلَهُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ. . . إِلَخْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى يُكْمِل ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَلاَ يُشْتَرَطُ حُضُورُهُمَا (الْمُتَلاَعِنَيْنِ) مَعًا، بَل لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا عَنْ صَاحِبِهِ جَازَ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ، ثُمَّ يَقُول فِي الْمَرَّةِ الْخَامِسَةِ: وَإِنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا.
ثُمَّ تَقُول هِيَ بَعْدَ ذَلِكَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّ زَوْجِي هَذَا لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا وَتُشِيرُ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ حَاضِرًا بِالْمَجْلِسِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَنِ الْمَجْلِسِ سَمَّتْهُ وَنَسَبَتْهُ، وَتُكَرِّرُ ذَلِكَ، فَإِذَا كَمَّلَتْ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ تَقُول فِي الْخَامِسَةِ: وَأَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، وَتَزِيدُ اسْتِحْبَابًا فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهُ، فَإِنْ نَقَصَ أَحَدُ الْمُتَلاَعِنَيْنِ مِنَ الْجُمَل الْخَمْسَةِ شَيْئًا لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ الْحُكْمَ عَلَيْهَا، كَمَا لاَ يُعْتَدُّ بِهِ إِذَا بَدَأَتِ الْمَرْأَةُ بِاللِّعَانِ قَبْلَهُ، أَوْ تَلاَعَنَا بِغَيْرِ حَضْرَةِ حَاكِمٍ، أَوْ أَبْدَل أَحَدُهُمَا لَفْظَةَ: أَشْهَدُ بِأُقْسِمُ أَوْ أَحْلِفُ أَوْ أُولِي لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ، أَوْ أَبْدَل لَفْظَةَ اللَّعْنَةِ بِالإِْبْعَادِ أَوْ بِالْغَضَبِ، أَوْ أَبْدَلَتِ الْمَرْأَةُ لَفْظَةَ الْغَضَبِ بِالسَّخَطِ أَوْ بِاللَّعْنَةِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ، أَوْ قَدَّمَ الرَّجُل اللَّعْنَةَ قَبْل الْخَامِسَةِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ.

(35/255)


وَلَوْ عَلَّقَ أَحَدُهُمَا اللِّعَانَ بِشَرْطِ، أَوْ لَمْ يُوَال أَحَدُهُمَا بَيْنَ الْكَلِمَاتِ عُرْفًا، أَوْ أَتَى بِاللِّعَانِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ مَنْ يُحْسِنُهَا لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ.
وَإِنْ أَتَى الزَّوْجُ بِاللِّعَانِ قَبْل مُطَالَبَتِهَا لَهُ بِالْحَدِّ مَعَ عَدَمِ وَلَدٍ يُرِيدُ نَفْيَهُ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ.
وَإِذَا فُهِمَتْ إِشَارَةُ الأَْخْرَسِ مِنْهُمَا أَوْ كِتَابَتُهُ صَحَّ لِعَانُهُ بِهَا وَإِلاَّ فَلاَ (1) .
17 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْقَوْل الصَّحِيحِ: لَوْ بَدَأَ الْقَاضِي بِلِعَانِ الْمَرْأَةِ لاَ يُعْتَدُّ بِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ لِعَانَهَا بَعْدَ لِعَانِ الرَّجُل، لأَِنَّهُ أَتَى بِاللِّعَانِ عَلَى غَيْرِ مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ فَلاَ يَكُونُ صَحِيحًا، كَمَا لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلأَِنَّ لِعَانَ الرَّجُل لإِِثْبَاتِ زِنَا الْمَرْأَةِ وَنَفْيِ وَلَدِهَا، وَلِعَانَ الْمَرْأَةِ لِلإِْنْكَارِ، فَقُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الإِْثْبَاتِ كَتَقْدِيمِ الشُّهُودِ عَلَى الأَْيْمَانِ، وَلأَِنَّ لِعَانَ الْمَرْأَةِ لِدَرْءِ الْعَذَابِ عَنْهَا، وَلاَ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهَا الْعَذَابُ إِلاَّ بِلِعَانِ الرَّجُل، فَإِذَا قُدِّمَ لِعَانُهَا عَلَى لِعَانِهِ كَانَ تَقْدِيمًا لَهُ عَلَى وَقْتِهِ فَلاَ يَكُونُ صَحِيحًا كَمَا لَوْ قُدِّمَ عَلَى الْقَذْفِ (2) .
18 - وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) ، وَالْمَالِكِيَّةِ فِي أَحَدِ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 391.
(2) مغني المحتاج 3 / 376، والمغني لابن قدامة 7 / 417، والدسوقي 2 / 465.
(3) بدائع الصنائع 3 / 237 و238، والدر وحاشية ابن عابدين 2 / 997.

(35/255)


الْقَوْلَيْنِ (1) أَنَّ وُجُوبَ الْبَدَاءَةِ بِشَهَادَةِ الرَّجُل فِي اللِّعَانِ لأَِنَّهُ الْمُدَّعِي، وَفِي الدَّعَاوَى يُبْدَأُ بِشَهَادَةِ الْمُدَّعِي، فَلَوْ حَصَل الْعَكْسُ وَقَدَّمَ الْقَاضِي الْمَرْأَةَ فِي اللِّعَانِ عَلَى الرَّجُل فَقَدْ أَخْطَأَ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعِيدَ لِعَانَ الْمَرْأَةِ بَعْدَ الرَّجُل حَتَّى يَقَعَ اللِّعَانُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْوَارِدِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.
فَإِنْ لَمْ يُعِدِ الْقَاضِي لِعَانَ الْمَرْأَةِ وَفَرَّقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ نَفَذَ قَضَاؤُهُ بِالْفُرْقَةِ لأَِنَّهُ قَضَاءٌ فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، وَالْقَضَاءُ إِذَا صَدَرَ فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ يَكُونُ نَافِذًا.

مَا يَجِبُ عِنْدَ امْتِنَاعِ الزَّوْجِ عَنِ اللِّعَانِ
19 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنِ اللِّعَانِ لاَ يُحْبَسُ وَلَكِنْ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ (2) هَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنِ اللِّعَانِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ حُرَّةً مُسْلِمَةً، فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ أَمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً فَعَلَيْهِ الأَْدَبُ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا طَلَبَ الْقَاضِي مِنَ الزَّوْجِ الْمُلاَعَنَةَ فَامْتَنَعَ حَبَسَهُ حَتَّى يُلاَعِنَ أَوْ تُصَدِّقَهُ الْمَرْأَةُ فِيمَا ادَّعَاهُ، أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 465، والتاج والإكليل شرح مختصر خليل 4 / 137.
(2) التاج والإكليل 4 / 138، ومغني المحتاج 3 / 380، والمغني لابن قدامة 7 / 404.
(3) حاشية الدسوقي 2 / 466.

(35/256)


فَيُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ (1) .
وَهَذَا الْخِلاَفُ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي الْمُوجِبِ الأَْصْلِيِّ لِقَذْفِ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ أَهُوَ اللِّعَانُ أَوِ الْحَدُّ وَاللِّعَانُ مُسْقِطٌ لَهُ؟ فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ الْمُوجِبُ الأَْصْلِيُّ لِلْقَذْفِ هُوَ الْحَدُّ، وَاللِّعَانُ مُسْقِطٌ لَهُ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (2) فَإِنَّهُ أَوْجَبَ الْحَدَّ عَلَى كُل قَاذِفٍ سَوَاءٌ أَكَانَ زَوْجًا أَمْ غَيْرَهُ، ثُمَّ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} . . . الآْيَاتُ مُبَيِّنًا أَنَّ الْقَاذِفَ إِنْ كَانَ زَوْجًا فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْحَدَّ عَنْهُ بِاللِّعَانِ، فَإِذَا امْتَنَعَ عَنْهُ ثَبَتَ الْمُوجِبُ الأَْصْلِيُّ وَهُوَ الْحَدُّ (3) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْمُوجِبُ الأَْصْلِيُّ لِلْقَذْفِ هُوَ اللِّعَانُ، فَإِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنْهُ حُبِسَ حَتَّى يُلاَعِنَ أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ فَيُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ، وَذَلِكَ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} إِلَى قَوْلِهِ {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (4)
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 238، والدر وحاشية ابن عابدين 2 / 966.
(2) سورة النور / 4.
(3) المغني لابن قدامة 7 / 404، ونهاية المحتاج 7 / 115.
(4) سورة النور 6 - 9.

(35/256)


فَإِنَّهُ تَعَالَى جَعَل مُوجَبَ قَذْفِ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ إِذَا لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى صِحَّةِ قَذْفِهِ اللِّعَانَ فَقَطْ، بَعْدَ أَنْ كَانَ مُوجَبُهُ الْحَدَّ بِمُقْتَضَى عُمُومِ الآْيَةِ الَّتِي قَبْل هَذِهِ الآْيَاتِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (1) ، وَبِذَلِكَ صَارَتْ آيَةُ الْقَذْفِ مَنْسُوخَةً فِي حَقِّ الأَْزْوَاجِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الأَْصْل الْمُقَرَّرَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْخَاصَّ إِذَا تَأَخَّرَ وُرُودُهُ عَنِ الْعَامِّ كَانَ نَاسِخًا لِلْعَامِّ فِيمَا تَعَارَضَا فِيهِ، وَهُوَ هُنَا الأَْزْوَاجُ، فَإِنَّ آيَةَ اللِّعَانِ، تَأَخَّرَ نُزُولُهَا عَنْ آيَةِ الْقَذْفِ وَإِنْ كَانَتْ مَذْكُورَةً عَقِبَهَا فِي الْمُصْحَفِ، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: إِنَّا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَْنْصَارِ فَقَال: لَوْ أَنَّ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً وَتَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ، أَوْ قَتَل قَتَلْتُمُوهُ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ، وَاللَّهِ لأََسْأَلَنَّ عَنْهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَلَمَّا كَانَ فِي الْغَدِ أَتَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ، فَقَال: لَوْ أَنَّ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً فَتَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ، أَوْ قَتَل قَتَلْتُمُوهُ، أَوْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ، فَقَال: " اللَّهُمَّ
__________
(1) سورة النور / 4.

(35/257)


افْتَحْ " وَجَعَل يَدْعُو فَنَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ (1) فَإِنَّ قَوْلَهُ: " وَإِنْ تَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ " يَدُل عَلَى أَنَّ مُوجَبَ قَذْفِ الزَّوْجَةِ كَانَ الْجَلْدَ قَبْل نُزُول آيَةِ اللِّعَانِ ثُمَّ صَارَ بَعْدَ نُزُول الآْيَةِ الْخَاصَّةِ بِالأَْزْوَاجِ اللِّعَانَ، وَبِهَذَا كَانَ الْوَاجِبُ بِقَذْفِ الزَّوْجِ الزَّوْجَةَ هُوَ اللِّعَانُ، فَإِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنْهُ حُبِسَ حَتَّى يُلاَعِنَ، لاِمْتِنَاعِهِ عَنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، كَمَا يُحْبَسُ الْمَدِينُ إِذَا امْتَنَعَ عَنْ إِيفَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ (2) .

مَا يَجِبُ إِذَا امْتَنَعَتِ الْمَرْأَةُ عَنِ اللِّعَانِ
20 - إِذَا لاَعَنَ الزَّوْجُ وَامْتَنَعَتِ الْمَرْأَةُ عَنِ اللِّعَانِ لاَ تُحَدُّ حَدَّ الزِّنَا، وَلَكِنْ تُحْبَسُ حَتَّى تُلاَعِنَ، أَوْ تُصَدِّقَ الزَّوْجَ فِيمَا ادَّعَاهُ، فَإِنْ صَدَّقَتْهُ خُلِّيَ سَبِيلُهَا مِنْ غَيْرِ حَدٍّ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَوِجْهَتُهُمْ فِي الْحَبْسِ: أَنَّ اللِّعَانَ هُوَ الْمُوجِبُ الأَْصْلِيُّ لِلْقَذْفِ فِي حَقِّ الزَّوْجَيْنِ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَيَكُونُ وَاجِبًا عَلَى الْمَرْأَةِ بَعْدَ لِعَانِ زَوْجِهَا، فَإِذَا امْتَنَعَتْ عَنْهُ أُجْبِرَتْ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ، كَالْمَدِينِ إِذَا امْتَنَعَ عَنْ إِيفَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يُوَفِّيَ مَا عَلَيْهِ.
وَوِجْهَتُهُمْ فِي إِخْلاَءِ سَبِيلِهَا بِدُونِ حَدٍّ إِذَا
__________
(1) حديث ابن مسعود: " إنا ليلة الجمعة في المسجد. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1133) .
(2) بدائع الصنائع 3 / 238، والهداية وفتح القدير 3 / 250، والبحر الرائق لابن نجيم 4 / 124.

(35/257)


صَدَّقَتِ الزَّوْجَ: أَنَّ تَصْدِيقَهَا لَيْسَ بِإِقْرَارٍ قَصْدًا يَثْبُتُ بِهِ الْحَدُّ وَلَوْ أَعَادَتْ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ.
وَلأَِنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ عَنْ إِقْرَارِهَا لَمْ تُحَدَّ، وَامْتِنَاعُهَا عَنِ اللِّعَانِ أَقَل دَلاَلَةً عَلَى الزِّنَا مِنَ الإِْقْرَارِ الَّذِي رَجَعَتْ عَنْهُ فَلاَ يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ بِالطَّرِيقِ الأَْوْلَى (1)
وَالْحَنَابِلَةُ يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تُحَدُّ حَدَّ الزِّنَا إِذَا امْتَنَعَتْ عَنِ اللِّعَانِ، وَيُخَالِفُونَهُمْ فِيمَا يُصْنَعُ بِهَا إِذَا امْتَنَعَتْ، فَفِي رِوَايَةٍ - وَهِيَ الأَْصَحُّ كَمَا قَال الْقَاضِي - تُحْبَسُ حَتَّى تُلاَعِنَ أَوْ تُقِرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ بِالزِّنَا، فَإِنْ لاَعَنَتْ سَقَطَ عَنْهَا الْحَدُّ، وَإِنْ أَقَرَّتْ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ حُدَّتْ حَدَّ الزِّنَا، وَفِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ: يُخَلَّى سَبِيلُهَا لأَِنَّهُ لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَيْهَا فَيَجِبُ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهَا، كَمَا لَوْ لَمْ تَكْمُل الْبَيِّنَةُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ إِذَا لَمْ يَتِمَّ الْتِعَانُهُمَا جَمِيعًا فَلاَ تَزُول الزَّوْجِيَّةُ وَلاَ يَنْتَفِي نَسَبُ الْوَلَدِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِذَا امْتَنَعَتِ الْمَرْأَةُ عَنِ اللِّعَانِ بَعْدَ لِعَانِ الزَّوْجِ حُدَّتْ حَدَّ الزِّنَا (3) ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا
__________
(1) الهداية وفتح القدير 3 / 251، وحاشية ابن عابدين 2 / 967.
(2) المغني لابن قدامة 7 / 444 و445، والمغني مع الشرح الكبير 9 / 373.
(3) التاج والإكليل 3 / 138، ومغني المحتاج 3 / 380، وروضة الطالبين 8 / 356.

(35/258)


الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} (1) .
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ: أَنَّ الْحَدَّ عَلَيْهَا إِنْ كَانَتْ مُسْلِمَةً، وَإِنْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً فَفِيهَا الأَْدَبُ (2) .

آثَارُ اللِّعَانِ
أَوَّلاً: آثَارُ اللِّعَانِ فِي حَقِّ الزَّوْجَيْنِ:
إِذَا تَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَامْرَأَتِهِ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ آثَارٌ فِي حَقِّهِمَا، مِنْهَا:

21 - الأَْوَّل: انْتِفَاءُ الْحَدِّ عَنِ الزَّوْجَيْنِ، فَلاَ يُقَامُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى الزَّوْجِ، وَلاَ يُقَامُ حَدُّ الزِّنَا عَلَى الْمَرْأَةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الشَّارِعَ خَفَّفَ عَنِ الزَّوْجَيْنِ، فَشَرَعَ لَهُمَا اللِّعَانُ لإِِسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُمَا، فَإِذَا أُجْرِيَ اللِّعَانُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ سَقَطَ عَنِ الزَّوْجِ حَدُّ الْقَذْفِ وَسَقَطَ عَنِ الْمَرْأَةِ حَدُّ الزِّنَا (3) .

22 - الثَّانِي: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ حُكْمَ اللِّعَانِ حُرْمَةُ الْوَطْءِ وَالاِسْتِمْتَاعِ وَلَكِنْ لاَ تَقَعُ التَّفْرِقَةُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ.
وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَلَوْ دَلاَلَةً حُدَّ لِلْقَذْفِ،
__________
(1) سورة النور / 8.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 466، والخرشي 4 / 135.
(3) الهداية مع فتح القدير 3 / 250 - 251، وحاشية ابن عابدين 2 / 587، وحاشية الدسوقي 2 / 466، والخرشي 4 / 135، ومغني المحتاج 3 / 380، وكشاف القناع 5 / 399 - 400.

(35/258)


وَلَهُ بَعْدَمَا كَذَّبَ نَفْسَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا: حُدَّ أَوْ لاَ (1) .
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: إِذَا افْتَرَقَ الْمُتَلاَعِنَانِ فَلاَ يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، فَيَثْبُتُ بَيْنَهُمَا حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ كَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ بِتَمَامِ لِعَانِ الزَّوْجَيْنِ تَتَأَبَّدُ الْحُرْمَةُ بَيْنَهُمَا (3) ، لِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " الْمُتَلاَعِنَانِ إِذَا تَلاَعَنَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَلاَ يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا " (4) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا لاَعَنَ الزَّوْجُ لِدَرْءِ حَدِّ قَذْفِ الزَّوْجَةِ بِالزِّنَا عَنْهُ ثَبَتَتِ الْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى هَذَا اللِّعَانِ، فَإِنْ لاَعَنَ لِنَفْيِ النَّسَبِ وَحْدَهُ لَمْ يَنْقَطِعْ بِهِ نِكَاحٌ وَلَمْ تَسْقُطْ بِهِ عُقُوبَةٌ بِأَنْ كَانَ أَبَانَهَا أَوْ عَفَتْ عَنِ الْعُقُوبَةِ أَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِزِنَاهَا.
وَقَالُوا: وَالْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى لِعَانِ الزَّوْجِ لِدَرْءِ حَدِّ قَذْفِهِ زَوْجَتَهُ تَقْتَضِي أَنَّهُ لاَ يَحِل لَهُ نِكَاحُهَا بَعْدَ اللِّعَانِ، وَلاَ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ لَوْ كَانَتْ أَمَةً وَاشْتَرَاهَا، لِمَا وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ قَال: لاَ سَبِيل لَكَ عَلَيْهَا (5) "، وَلِقَوْلِهِ: الْمُتَلاَعِنَانِ إِذَا تَفَرَّقَا لاَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 515، والدر المختار 2 / 585 و590.
(2) فتح القدير 3 / 256.
(3) حاشية الدسوقي 2 / 467، وشرح منتهى الإرادات 3 / 210.
(4) أثر عمر: المتلاعنان إذا تلاعنا. . . ". أخرجه البيهقي في سننه (7 / 410) .
(5) حديث: أنه صلى الله عليه وسلم " فرق بينهما. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 457) ومسلم (3 / 1132) من حديث ابن عمر.

(35/259)


يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا (1) ".
وَإِنْ أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ فَلاَ يُفِيدُهُ ذَلِكَ عَوْدَ النِّكَاحِ وَلاَ رَفْعَ تَأْبِيدِ الْحُرْمَةِ لأَِنَّهُمَا حَقٌّ لَهُ وَقَدْ بَطَلاَ فَلاَ يُتَمَكَّنُ مِنْ عَوْدِهِمَا، بِخِلاَفِ الْحَدِّ وَلُحُوقِ النَّسَبِ فَإِنَّهُمَا يَعُودَانِ لأَِنَّهُمَا حَقٌّ عَلَيْهِ، وَأَمَّا حَدُّهَا فَفِي كَلاَمِ الإِْمَامِ مَا يُفْهِمُ سُقُوطَهُ بِإِكْذَابِهِ نَفْسَهُ (2) .

23 - الثَّالِثُ: حُصُول الْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ.
غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ لاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) وَأَحَمْدَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ (4) فَلَوْ تَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يَحْكُمِ الْقَاضِي بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فَالزَّوْجِيَّةُ تُعْتَبَرُ قَائِمَةً فِي حَقِّ بَعْضِ الأَْحْكَامِ كَالْمِيرَاثِ وَوُقُوعِ الطَّلاَقِ، فَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ اللِّعَانِ وَقَبْل الْحُكْمِ بِالتَّفْرِيقِ وَرِثَهُ الآْخَرُ، وَلَوْ طَلَّقَ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ وَقَبْل التَّفْرِيقِ وَقَعَ الطَّلاَقُ، وَلَوْ أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ حِينَئِذٍ فَإِنَّهَا تَحِل لَهُ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ عَقْدِ الزَّوَاجِ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ، مَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ الْمُتَلاَعِنَيْنِ مِنْ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث: " المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدًا ". أخرجه الدارقطني (3 / 276) من حديث ابن عمر، ونقل الزيلعي في نصب الراية، (3 / 251) عن ابن عبد الهادي أنه قال: إسناده جيد.
(2) مغني المحتاج 3 / 385.
(3) بدائع الصنائع 3 / 244.
(4) المغني لابن قدامة 7 / 410.

(35/259)


" فَرَّقَ بَيْنَهُمَا " (1) فَإِنَّهُ يَدُل عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لاَ تَقَعُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَلاَ بِلِعَانِ الزَّوْجَةِ، إِذْ لَوْ وَقَعَتْ لَمَا حَصَل التَّفْرِيقُ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا بِنَفْسِ اللِّعَانِ (2) ، وَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلاَنِيِّ أَنَّهُ قَال: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُول اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلاَثًا قَبْل أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (3) فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي إِمْكَانَ إِمْسَاكِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ اللِّعَانِ وَأَنَّهُ وَقَعَ طَلاَقُهُ، وَلَوْ كَانَتِ الْفُرْقَةُ وَقَعَتْ قَبْل ذَلِكَ بِاللِّعَانِ لَمَا وَقَعَ طَلاَقُهُ وَلاَ أَمْكَنَهُ إِمْسَاكُهَا، وَأَيْضًا فَإِنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْفُرْقَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْحَاكِمِ فَالْفُرْقَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ لاَ تَقَعُ إِلاَّ بِحُكْمِهِ قِيَاسًا عَلَى الْفُرْقَةِ بِالْعُنَّةِ وَنَحْوِهَا (4) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (5) فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى حُكْمِ الْقَاضِي، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْفُرْقَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَإِنْ لَمْ تُلاَعِنِ الزَّوْجَةُ، وَذَلِكَ لِمَا
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين ". تقدم تخريجه ف22.
(2) البدائع 3 / 245.
(3) حديث عويمر العجلاني أنه قال: " كذبتُ عليها يا رسول الله. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 361) ومسلم (2 / 1229 - 1230) .
(4) المغني لابن قدامة 7 / 410.
(5) التاج والإكليل 3 / 138. ومغني المحتاج 3 / 380. والمغني لابن قدامة 7 / 410، وكشاف القناع 5 / 402.

(35/260)


وَرَدَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَال: " الْمُتَلاَعِنَانِ إِذَا تَلاَعَنَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَلاَ يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا " (1) وَلأَِنَّ اللِّعَانَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ الْمُؤَبَّدَ فَلاَ يَحْتَاجُ لِلتَّفْرِيقِ بِهِ إِلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ كَالرَّضَاعِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفُرْقَةَ لَوْ لَمْ تَحْصُل إِلاَّ بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ لَسَاغَ تَرْكُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا كَرِهَا الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَرْضَيَا بِهَا، كَالتَّفْرِيقِ لِلْعَيْبِ وَالإِْعْسَارِ، وَتَرْكُ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا لاَ يَجُوزُ رَضِيَا بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَرْضَيَا (2) .
24 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَوْعِ الْفُرْقَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى اللِّعَانِ أَهِيَ طَلاَقٌ أَوْ فَسْخٌ؟ وَفِي الْحُرْمَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى اللِّعَانِ أَهِيَ حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ فَلاَ تَحِل الْمَرْأَةُ لِلرَّجُل وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ؟ أَوْ هِيَ حُرْمَةٌ مُؤَقَّتَةٌ تَنْتَهِي إِذَا أَكْذَبَ الرَّجُل نَفْسَهُ؟ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ بِاللِّعَانِ فَسْخٌ (3) ، وَهِيَ تُوجِبُ التَّحْرِيمَ الْمُؤَبَّدَ كَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ، فَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ الْمُتَلاَعِنَانِ إِلَى الزَّوَاجِ بَعْدَ اللِّعَانِ أَبَدًا وَلَوْ أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ أَوْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ
__________
(1) سبق تخريج هذا الأثر ف22.
(2) مغني المحتاج 3 / 380.
(3) فتح القدير 3 / 255، وبدائع الصنائع 3 / 245، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 467، والبهجة شرح التحفة 1 / 334، ومغني المحتاج 3 / 380، والمغني لابن قدامة 7 / 412 - 414.

(35/260)


الشَّهَادَةِ أَوْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي قَذْفِهِ، وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُتَلاَعِنَيْنِ لاَ يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا (1) ". وَلِمَا رَوَى سَهْل بْنُ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: " مَضَتِ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلاَعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ لاَ يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا " (2) وَلأَِنَّ اللِّعَانَ قَدْ وُجِدَ، وَهُوَ سَبَبُ التَّفْرِيقِ، وَتَكْذِيبُ الزَّوْجِ نَفْسَهُ أَوْ خُرُوجُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَنْ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ لاَ يَنْفِي وُجُودَ السَّبَبِ، بَل هُوَ بَاقٍ فَيَبْقَى حُكْمُهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الرَّجُل إِنْ كَانَ صَادِقًا فِي قَذْفِ امْرَأَتِهِ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَعُودَ إِلَى مُعَاشَرَتِهَا مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهَا حَتَّى لاَ يَكُونَ زَوْجَ بَغِيٍّ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي قَذْفِهَا فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُمَكَّنَ مِنْ مُعَاشَرَتِهَا لإِِسَاءَتِهِ إِلَيْهَا وَاتِّهَامِهَا بِهَذِهِ الْفِرْيَةِ الْعَظِيمَةِ وَإِحْرَاقِ قَلْبِهَا، وَلاَ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْفُرْقَةِ بِاللِّعَانِ طَلاَقًا لأَِنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الطَّلاَقِ وَلاَ نَوَى بِهِ الطَّلاَقَ، وَلأَِنَّهُ لَوْ كَانَ طَلاَقًا لَوَقَعَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ دُونَ لِعَانِ الْمَرْأَةِ، وَالْفُرْقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ - عِنْدَ غَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ - لاَ تَقَعُ إِلاَّ بِلِعَانِهِمَا (3) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ اللِّعَانِ تَكُونُ طَلاَقًا بَائِنًا لاَ فَسْخًا، لأَِنَّهَا فُرْقَةٌ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ، وَالْقَاضِي قَامَ
__________
(1) حديث: " المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدًا ". تقدم تخريجه ف22.
(2) قول سهل بن سعد: " مضت السنة. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 682) .
(3) المغني لابن قدامة 7 / 413 - 414، ومغني المحتاج 3 / 380.

(35/261)


بِالتَّفْرِيقِ، نِيَابَةً عَنْهُ، فَيَكُونُ فِعْلُهُ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ، وَالْفُرْقَةُ مَتَى كَانَتْ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ وَأَمْكَنَ جَعْلُهَا طَلاَقًا كَانَتْ طَلاَقًا لاَ فَسْخًا، وَإِنَّمَا كَانَتْ طَلاَقًا بَائِنًا، لِتَوَقُّفِهَا عَلَى الْقَضَاءِ، وَكُل فُرْقَةٍ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ تُعْتَبَرُ طَلاَقًا بَائِنًا، وَقَالاَ: إِنَّ الْحُرْمَةَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى اللِّعَانِ تَزُول إِذَا أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ أَوْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ، أَوْ خَرَجَتْ هِيَ عَنْ أَهْلِيَّتِهَا لِلشَّهَادَةِ، لأَِنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ اعْتُبِرَ تَكْذِيبُهُ رُجُوعًا عَنِ اللِّعَانِ، وَاللِّعَانُ شَهَادَةٌ فِي رَأْيِهِمَا، وَالشَّهَادَةُ لاَ حُكْمَ لَهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ عَنْهَا، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُحَدُّ الرَّجُل حَدَّ الْقَذْفِ، وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ إِنْ كَانَ الْقَذْفُ نَفْيَ الْوَلَدِ.
وَإِذَا خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَنْ أَهْلِيَّتِهِ لِلشَّهَادَةِ انْتَفَى السَّبَبُ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ كَانَ التَّفْرِيقُ وَهُوَ اللِّعَانُ، فَيَزُول حُكْمُهُ وَهُوَ التَّحْرِيمُ (1) .

ثَانِيًا: آثَارُ اللِّعَانِ فِي حَقِّ نَسَبِ الْوَلَدِ
25 - إِذَا تَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَكَانَ مَوْضُوعُهُ نَفْيَ نَسَبِ الْوَلَدِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ انْتِفَاءُ نَسَبِ الْوَلَدِ عَنِ الزَّوْجِ وَأُلْحِقَ بِأُمِّهِ، وَذَلِكَ إِذَا تَوَافَرَتِ الشُّرُوطُ الآْتِيَةُ:
__________
(1) فتح القدير 3 / 255.

(35/261)


الشَّرْطُ الأَْوَّل: الْفَوْرِيَّةُ:
26 - أَنْ يَنْفِيَ الزَّوْجُ الْوَلَدَ عِنْدَ الْوِلاَدَةِ أَوْ فِي مُدَّةِ التَّهْنِئَةِ بِالْمَوْلُودِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَقْدِيرُ هَذِهِ الْمُدَّةِ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، بَل جُعِل تَقْدِيرُهَا مُفَوَّضًا إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي لأَِنَّ نَفْيَ الْوَلَدِ أَوْ عَدَمَ نَفْيِهِ يَحْتَاجُ إِلَى التَّفْكِيرِ وَالتَّرَوِّي قَبْل الإِْقْدَامِ عَلَيْهِ، إِذْ رُبَّمَا يَنْفِي نَسَبَهُ وَهُوَ مِنْهُ، أَوْ يَعْتَرِفُ بِهِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْهُ، وَكِلاَهُمَا لاَ يَحِل شَرْعًا، وَعَلَى هَذَا لاَ بُدَّ مِنْ إِعْطَاءِ الزَّوْحِ مُدَّةً يُفَكِّرُ فِيهَا وَيُتَرَوَّى، وَهَذِهِ الْمُدَّةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ وَالأَْحْوَال، فَلاَ يُمْكِنُ تَحْدِيدُ زَمَنٍ يُطَبَّقُ بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ الأَْفْرَادِ وَالْحَالاَتِ، فَيَجِبُ تَفْوِيضُ ذَلِكَ إِلَى الْقَاضِي.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: نَفْيُ الْوَلَدِ يَتَقَدَّرُ بِأَكْثَرِ مُدَّةِ النِّفَاسِ وَهِيَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، لأَِنَّ النِّفَاسَ أَثَرُ الْوِلاَدَةِ، فَيَأْخُذُ حُكْمَهَا، فَكَمَا يَكُونُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَنْفِيَ الْوَلَدَ عِنْدَ الْوِلاَدَةِ يَكُونُ لَهُ أَيْضًا أَنْ يَنْفِيَهُ مَا دَامَ أَثَرُهَا بَاقِيًا (1) وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّعْجِيل شَرْطٌ لِنَفْيِ الْحَمْل أَوِ الْوَلَدِ عَنِ الزَّوْجِ، فَلَوْ عَلِمَ الزَّوْجُ بِالْحَمْل أَوِ الْوِلاَدَةِ فَسَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ، ثُمَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 246، والهداية مع فتح القدير 3 / 260، 261.

(35/262)


أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ، فَإِنَّهُ لاَ يُمَكَّنُ مِنْهُ وَيُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ، سَوَاءٌ طَال زَمَنُ سُكُوتِهِ كَالشَّهْرِ أَوْ قَصُرَ كَالْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ لِعُذْرٍ (1) .
وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: وَالنَّفْيُ لِنَسَبِ وَلَدٍ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ فِي الأَْظْهَرِ الْجَدِيدِ، لأَِنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ ضَرَرٍ مُحَقَّقٍ فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَخِيَارِ الشُّفْعَةِ، وَيُعْذَرُ الزَّوْجُ فِي تَأْخِيرِ النَّفْيِ لِعُذْرٍ، كَأَنْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ لَيْلاً فَأَخَّرَ حَتَّى يُصْبِحَ أَوْ كَانَ جَائِعًا فَأَكَل أَوْ عَارِيًا فَلَبِسَ، فَإِنْ كَانَ مَحْبُوسًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ خَائِفًا ضَيَاعَ مَالٍ أَرْسَل إِلَى الْقَاضِي لِيَبْعَثَ إِلَيْهِ نَائِبًا يُلاَعِنُ عِنْدَهُ، أَوْ لِيُعْلِمَهُ أَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى النَّفْيِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل بَطَل حَقُّهُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الإِْرْسَال أَشْهَدَ إِنْ أَمْكَنَهُ، فَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ بَطَل حَقُّهُ (2) .
وَفِي الْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ: إِذَا وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ فَسَكَتَ زَوْجُهَا عَنْ نَفْيِ وَلَدِهَا مَعَ إِمْكَانِهِ لَزِمَهُ نَسَبُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلاَ يَتَقَرَّرُ ذَلِكَ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، بَل هُوَ عَلَى حَسَبِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، إِنْ كَانَ لَيْلاً فَحَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْتَشِرَ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ جَائِعًا أَوْ ظَمْآنَ فَحَتَّى يَأْكُل أَوْ يَشْرَبَ، أَوْ يَنَامَ إِنْ كَانَ نَاعِسًا، أَوْ يَلْبَسَ ثِيَابَهُ وَيُسَرِّجَ دَابَّتَهُ وَيَرْكَبَ، وَيُصَلِّيَ إِنْ
__________
(1) البهجة في شرح التحفة 1 / 335، والشرح الصغير 3 / 18.
(2) مغني المحتاج 3 / 380 - 381.

(35/262)


حَضَرَتِ الصَّلاَةُ وَيُحَرِّزُ مَالَهُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُحَرَّزٍ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنْ أَشْغَالِهِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ (1) .

الشَّرْطُ الثَّانِي: عَدَمُ الإِْقْرَارِ:
27 - يُشْتَرَطُ أَلاَ يَكُونَ الزَّوْجُ أَقَرَّ بِالْوَلَدِ صَرَاحَةً أَوْ دَلاَلَةً، مِثَال الإِْقْرَارِ صَرَاحَةً أَنْ يَقُول الرَّجُل: هَذَا وَلَدِي، أَوْ هَذَا الْوَلَدُ مِنِّي، وَمِثَال الإِْقْرَارِ دَلاَلَةً أَنْ يَقْبَل التَّهْنِئَةَ بِالْمَوْلُودِ أَوْ يَسْكُتَ عِنْدَ التَّهْنِئَةِ، وَلاَ يَرُدَّ عَلَى الْمُهَنِّئِ، لأَِنَّ الْعَاقِل لاَ يَسْكُتُ عَادَةً عِنْدَ التَّهْنِئَةِ بِوَلَدٍ لَيْسَ مِنْهُ، فَإِذَا سَكَتَ كَانَ سُكُوتُهُ اعْتِرَافًا بِالنَّسَبِ دَلاَلَةً (2) .
وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِالْوَلَدِ صَرَاحَةً أَوْ دَلاَلَةً، أَوْ سَكَتَ عَنْ نَفْيِ نَسَبٍ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ التَّهْنِئَةِ، أَوْ أَكْثَرُ مُدَّةِ النِّفَاسِ، أَوْ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةٌ يُمْكِنُهُ النَّفْيُ فِيهَا وَلَمْ يَنْفِهِ ثُمَّ نَفَى نَسَبَهُ لاَ يَنْتَفِي نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ، لأَِنَّ سُكُوتَهُ عَنِ النَّفْيِ حَتَّى مَضَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ يُعْتَبَرُ إِقْرَارًا مِنْهُ بِالْوَلَدِ، وَالإِْقْرَارُ بِالنَّسَبِ لاَ يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهِ.
وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْحَقُّ فِي طَلَبِ اللِّعَانِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، لأَِنَّهُ لَمَّا نَفَى نَسَبَ الْوَلَدِ مِنْهُ كَانَ مُتَّهِمًا لَهَا بِالزِّنَا،
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 / 424 - 425.
(2) بدائع الصنائع 3 / 247، وفتح القدير 3 / 260، والدر وحاشية ابن عابدين 2 / 973، والمغني لابن قدامة 7 / 426، ومغني المحتاج 3 / 381.

(35/263)


فَيَكُونُ لَهَا أَنْ تَدْفَعَ الْعَارَ عَنْ نَفْسِهَا بِاللِّعَانِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ، وَلَوْ تَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى طَلَبِ الْمَرْأَةِ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ قَطْعُ نَسَبِ الْوَلَدِ عَنِ الزَّوْجِ، لأَِنَّ نَسَبَهُ قَدْ ثَبَتَ بِالإِْقْرَارِ صَرَاحَةً أَوْ دَلاَلَةً فَلاَ يُمْكِنُ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ (1) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ إِذَا امْتَنَعَ إِجْرَاؤُهُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِنَفْيِ نَسَبِ الْوَلَدِ، كَأَنْ وَطِئَ الْمُلاَعِنُ زَوْجَتَهُ بَعْدَ رُؤْيَتِهَا تَزْنِي، أَوْ بَعْدَ عِلْمِهِ بِوَضْعٍ أَوْ حَمْلٍ، أَوْ أَخَّرَ اللِّعَانَ بَعْدَ عِلْمِهِ بِوَضْعٍ أَوْ حَمْلٍ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ بِلاَ عُذْرٍ فِي التَّأْخِيرِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالاَتِ يَمْتَنِعُ لِعَانُهُ وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ وَبَقِيَتْ زَوْجَةً، وَإِنَّمَا يُحَدُّ الزَّوْجُ حَدَّ الْقَذْفِ إِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ مُسْلِمَةً (2) .

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: حَيَاةُ الْوَلَدِ:
28 - أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ حَيًّا عِنْدَ اللِّعَانِ وَعِنْدَ الْحُكْمِ بِقَطْعِ نَسَبِهِ وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَوْ وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ وَلَدًا، وَنَفَى الزَّوْحُ نَسَبَهُ مِنْهُ، ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْل حُصُول اللِّعَانِ، أَوْ مَاتَ بَعْدَ حُصُولِهِ وَلَكِنْ قَبْل الْحُكْمِ بِقَطْعِ نَسَبِهِ مِنَ الزَّوْجِ لاَ يَنْتَفِي عَنْهُ، لأَِنَّ النَّسَبَ يَتَقَرَّرُ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 247، والهداية مع فتح القدير 3 / 260 - 261، والدر وحاشية ابن عابدين 2 / 973.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 463.

(35/263)


بِالْمَوْتِ، وَالشَّيْءُ إِذَا تَقَرَّرَ لاَ يُمْكِنُ نَفْيُهُ، وَلَكِنْ لِلزَّوْجَةِ الْحَقُّ فِي طَلَبِ إِجْرَاءِ اللِّعَانِ إِنْ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْل إِجْرَائِهِ لِدَفْعِ عَارِ الزِّنَا عَنْهَا (1) .
وَالْمَالِكِيَّةُ يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ لِلزَّوْجِ الْحَقَّ فِي طَلَبِ اللِّعَانِ بَعْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ، وَذَلِكَ لإِِسْقَاطِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: حَيَاةُ الْوَلَدِ عِنْدَ اللِّعَانِ لَيْسَتْ شَرْطًا لِنَفْيِ نَسَبِهِ بِاللِّعَانِ، لأَِنَّ نَسَبَهُ لاَ يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ، بَل يُقَال: مَاتَ وَلَدُ فُلاَنٍ، وَهَذَا قَبْرُ وَلَدِ فُلاَنٍ، وَيَلْزَمُ الزَّوْجَ تَجْهِيزُهُ وَتَكْفِينُهُ، فَيَكُونُ لَهُ نَفْيُ نَسَبِهِ وَإِسْقَاطُ مُؤْنَتِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ حَيًّا (3) .

أَثَرُ اللِّعَانِ مِنْ حَيْثُ جَعْل الْوَلَدِ الْمَنْفِيِّ نَسَبُهُ أَجْنَبِيًّا
الْوَلَدُ الَّذِي يُقْطَعُ نَسَبُهُ مِنَ الأَْبِّ، وَيَلْحَقُ بِأُمِّهِ بِنَاءً عَلَى اللِّعَانِ يَكُونُ أَجْنَبِيًّا مِنْهُ فِي بَعْضِ الأَْحْكَامِ، وَلاَ يَكُونُ أَجْنَبِيًّا مِنْهُ فِي بَعْضِهَا:
29 - فَيَكُونُ أَجْنَبِيًّا مِنْهُ فِي الأَْحْكَامِ الآْتِيَةِ:
أ - الإِْرْثُ: فَلاَ تَوَارُثَ بَيْنَ الْمُلاَعِنِ وَبَيْنَ الْوَلَدِ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 247.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 459، والتاج والإكليل 4 / 133، وشرح الخرشي مع حاشية العدوي 4 / 265، والمغني لابن قدامة 7 / 419.
(3) مغني المحتاج 3 / 380.

(35/264)


الَّذِي نَفَى نَسَبَهُ بِاللِّعَانِ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، بِمَعْنَى أَنَّ قَرَابَةَ الأُْبُوَّةِ لاَ تَكُونُ مُعْتَبَرَةً فِي الإِْرْثِ، فَلَوْ مَاتَ الْوَلَدُ الَّذِي نُفِيَ نَسَبُهُ بِاللِّعَانِ وَتَرَكَ مَالاً فَلاَ يَرِثُهُ أَحَدٌ بِقَرَابَةِ الأُْبُوَّةِ، وَإِنَّمَا تَرِثُهُ أُمُّهُ وَأَقْرِبَاؤُهُ مِنْ جِهَتِهَا (1) .
ب - النَّفَقَةُ: فَلاَ تَجِبُ بَيْنَ الْمُلاَعِنِ وَبَيْنَ مَنْ نَفَى نَسَبَهُ بِاللِّعَانِ نَفَقَةُ الأَْبْنَاءِ عَلَى الآْبَاءِ، وَلاَ نَفَقَةُ الآْبَاءِ عَلَى الأَْبْنَاءِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (2) .
30 - وَلاَ يَكُونُ الْوَلَدُ أَجْنَبِيًّا مِنَ الْمُلاَعِنِ فِي الأَْحْكَامِ الآْتِيَةِ:
أ - الشَّهَادَةُ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الأَْصْل الْوَاحِدِ مِنْ فُرُوعِهِ، وَبِالْعَكْسِ كَذَلِكَ لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْمُلاَعِنِ وَأُصُولُهُ لِمَنْ نَفَى نَسَبَهُ بِاللِّعَانِ، وَلاَ شَهَادَةُ مَنْ نَفَى نَسَبَهُ وَأَحَدِ فُرُوعِهِ لِمَنْ نَفَاهُ وَلاَ لأُِصُولِهِ، وَذَلِكَ لِصِحَّةِ اسْتِلْحَاقِهِ أَيِ الْوَلَدِ الْمُلاَعَنِ (3) .
ب - الْقِصَاصُ: فَلَوْ قَتَل الْمُلاَعِنُ الْوَلَدَ الَّذِي نَفَاهُ بِاللِّعَانِ لاَ يُقْتَل فِيهِ كَمَا لَوْ قَتَل الأَْبُ وَلَدَهُ.
ج - الاِلْتِحَاقُ بِالْغَيْرِ: فَلَوِ ادَّعَى غَيْرُ الْمُلاَعِنِ الْوَلَدَ الَّذِي نَفَى نَفْسَهُ بِاللِّعَانِ لاَ يَصِحُّ
__________
(1) المبسوط 29 / 198، ومنح الجليل 4 / 752، وروضة الطالبين 6 / 43، وشرح مسلم 10 / 124، والمغني 6 / 259.
(2) فتح القدير 3 / 262، والحطاب 4 / 191، والمغني 7 / 608.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 168، وفتح القدير 3 / 262.

(35/264)


ادِّعَاؤُهُ وَلاَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَذَلِكَ لاِحْتِمَال أَنْ يُكَذِّبَ الْمُلاَعِنُ نَفْسَهُ فَيَعُودُ نَسَبُ الْوَلَدِ لَهُ، وَمَنْ أَجْل هَذَا قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْحُكْمَ بِعَدِمِ ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ مِمَّنِ ادَّعَاهُ مُشْكِلٌ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ وَكَانَ ادِّعَاؤُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُلاَعِنِ لأَِنَّ النَّسَبَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِي إِثْبَاتِهِ، وَالْوَلَدُ مَقْطُوعُ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِ الْمُدَّعِي وَوَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ ثُبُوتِهِ مِنَ الْمُلاَعِنِ، وَثُبُوتُ النَّسَبِ مِنَ الأُْمِّ لاَ يُنَافِي ثُبُوتَهُ مِنَ الْمُدَّعِي، لإِِمْكَانِ كَوْنِهِ وَطْأَهَا بِشُبْهَةٍ (1) .
د - الْمَحْرَمِيَّةُ: فَلَوْ كَانَ لِلْمُلاَعِنِ بِنْتٌ مِنَ امْرَأَةٍ أُخْرَى، وَأَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا لِمَنْ نَفَى نَسَبَهُ بِاللِّعَانِ أَوْ لاَبْنِهِ فَلاَ يَحِل هَذَا الزَّوَاجُ، لأَِنَّ الْوَلَدَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْنًا لِلْمُلاَعِنِ، خُصُوصًا وَأَنَّ الْفِرَاشَ الَّذِي يَثْبُتُ النَّسَبُ بِهِ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ وِلاَدَتِهِ، وَمَعَ هَذَا الاِحْتِمَال لاَ يَحِل الزَّوَاجُ شَرْعًا (2) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّةَ بِاللِّعَانِ حُكْمُهَا أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَى نَافِيهَا وَلَوْ لَمْ يَدْخُل بِأُمِّهَا، لأَِنَّهَا لاَ تَنْتِفِي عَنْهُ قَطْعًا لِدَلِيل لُحُوقِهَا بِهِ لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَلأَِنَّهَا رَبِيبَةٌ فِي الْمَدْخُول بِهَا، وَتَتَعَدَّى حُرْمَتُهَا إِلَى سَائِرِ مَحَارِمِهِ، وَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ بِقَتْلِهِ لَهَا وَالْحَدِّ بِقَذْفِهِ
__________
(1) فتح القدير 3 / 262.
(2) بدائع الصنائع 3 / 248، وفتح القدير 3 / 263، والدر وحاشية ابن عابين 2 / 975.

(35/265)


لَهَا وَالْقَطْعِ بِسَرِقَةِ مَالِهَا، وَقَبُول شَهَادَتِهِ لَهَا وَجْهَانِ: أَوْجَهُهُمَا عَدَمُ الْوُجُوبِ (1) .
31 - وَمِنْ آثَارِ اللِّعَانِ أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:
أ - تَشْطِيرُ صَدَاقِ الْمُلاَعَنَةِ قَبْل الدُّخُول بِهَا.
ب - سُقُوطُ حَضَانَةِ الْمَرْأَةِ إِنْ لَمْ تُلاَعِنْ.
ج - اسْتِبَاحَةُ نِكَاحِ أُخْتِ الْمُلاَعَنَةِ وَمَنْ يَحْرُمُ جَمْعُهُ مَعَهَا أَوْ أَرْبَعٍ سِوَاهَا فِي عِدَّتِهَا (2) .

تَغْلِيظُ اللِّعَانِ
32 - تَغْلِيظُ اللِّعَانِ سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ يُسَنُّ التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ وَلاَ بِالزَّمَانِ. وَالتَّغْلِيظُ يَكُونُ بِأَحَدِ أُمُورٍ هِيَ:

أ - التَّغْلِيظُ بِالزَّمَانِ:
33 - يُغَلَّظُ لِعَانُ الْمُسْلِمِ بِزَمَانٍ وَهُوَ بَعْدَ صَلاَةِ عَصْرِ كُل يَوْمٍ إِنْ كَانَ طَلَبُ اللِّعَانِ حَثِيثًا، لأَِنَّ الْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ أَغْلَظُ عُقُوبَةً لِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَعَدَّ مِنْهُمْ رَجُلاً حَلَفَ يَمِينًا كَاذِبَةً بَعْدَ الْعَصْرِ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 175.
(2) مغني المحتاج 3 / 380.

(35/265)


يَقْتَطِعُ بِهَا مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ (1) ". فَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَلَبٌ حَثِيثٌ فَبَعْدَ صَلاَةِ عَصْرِ يَوْمِ جُمُعَةٍ أَوْلَى لأَِنَّ سَاعَةَ الإِْجَابَةِ فِيهِ. وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمْ بِعَصْرِ الْجُمُعَةِ الأَْوْقَاتَ الشَّرِيفَةَ كَشَهْرِ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ وَيَوْمَيِ الْعِيدِ وَعَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ.

ب - التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ:
34 - يُغَلَّظُ اللِّعَانُ بِالْمَكَانِ، بِأَنْ يَكُونَ فِي أَشْرَفِ مَوَاضِعِ بَلَدِهِ، لأَِنَّ فِي ذَلِكَ تَأْثِيرًا فِي الزَّجْرِ عَنِ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ.
فَفِي مَكَّةَ يَكُونُ بَيْنَ الرُّكْنِ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ الأَْسْوَدُ وَبَيْنَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَاللِّعَانُ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ يَكُونُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ مِمَّا يَلِي الْقَبْرَ الشَّرِيفَ، وَقَال فِي الأُْمِّ وَالْمُخْتَصَرِ: يَكُونُ فِي الْمِنْبَرِ. وَاللِّعَانُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، لأَِنَّهَا أَشْرَفُ بِقَاعِهِ إِذْ هِيَ قِبْلَةُ الأَْنْبِيَاءِ، وَقَدْ وَرَدَ " أَنَّهَا مِنَ الْجَنَّةِ " (2) . وَالتَّغْلِيظُ بِالْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ لِمَنْ هُوَ بِهَا، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا لَمْ يَجُزْ نَقْلُهُ إِلَيْهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ.
__________
(1) حديث: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 34) ومسلم (1 / 103) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " إنها من الجنة ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9 / 217 - 218) وقال: رواه الطبراني وفيه محمد بن مخلد الرعيني وهذا الحديث من منكراته.

(35/266)


وَالتَّغْلِيظُ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ عِنْدَ مِنْبَرِ الْجَامِعِ لأَِنَّهُ الْمُعَظَّمُ.
وَتُلاَعِنُ الْمَرْأَةُ الْحَائِضُ بِبَابِ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ لِتَحْرِيمِ مُكْثِهَا فِيهِ.
وَيُلاَعِنُ كِتَابِيٌّ فِي بَيْعَةٍ وَكَنِيسَةٍ وَيَقُول الْيَهُودِيُّ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَل التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَيَقُول النَّصْرَانِيُّ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَل الإِْنْجِيل عَلَى عِيسَى.
وَيُلاَعِنُ الْمَجُوسِيُّ فِي بَيْتِ نَارِهِمْ فِي الأَْصَحِّ لأَِنَّهُمْ يُعَظِّمُونَهُ، وَالْمَقْصُودُ الزَّجْرُ عَنِ الْكَذِبِ.
أَمَّا تَغْلِيظُ الْكَافِرِ بِالزَّمَانِ فَيُعْتَبَرُ بِأَشْرَفِ الأَْوْقَاتِ عِنْدَهُمْ كَمَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيَّ.

ج - التَّغْلِيظُ بِحُضُورِ جَمْعٍ:
35 - يُغَلَّظُ اللِّعَانُ بِحُضُورِ جَمْعٍ مِنْ عُدُول أَعْيَانِ بَلَدِ اللِّعَانِ وَصُلَحَائِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ وَلأَِنَّ فِيهِ رَدْعًا عَنِ الْكَذِبِ، وَأَقَلُّهُ أَرْبَعَةٌ لِثُبُوتِ الزِّنَا بِهِمْ، فَاسْتُحِبَّ أَنْ يَحْضُرَ ذَلِكَ الْعَدَدُ إِتْيَانَهُ بِاللِّعَانِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ حُضُورِ الْحَاكِمِ كَمَا سَبَقَ (1) .
__________
(1) مواهب الجليل مع هامشه التاج والإكليل 4 / 137، والدسوقي 2 / 464، والشرح الصغير 2 / 464، ومغني المحتاج 3 / 376 - 378، وروضة الطالبين 8 / 354 - 356، والإنصاف 9 / 239 - 240، والمغني 7 / 434 - 437، وكشاف القناع 5 / 393.

(35/266)


سُنَنُ اللِّعَانِ
أ - وَعْظُ الْقَاضِي الْمُتَلاَعِنَيْنِ:
36 - يُسَنُّ لِلْقَاضِي أَوْ نَائِبِهِ وَعْظُ الْمُتَلاَعِنَيْنِ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِلاَلٍ: عَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآْخِرَةِ (1) وَيَقْرَأُ عَلَيْهِمَا: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً} (2) وَيَقُول لَهُمَا: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُتَلاَعِنَيْنِ: اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَل مِنْكُمَا تَائِبٌ (3) ، وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْكَلِمَاتِ الأَْرْبَعِ يُبَالِغُ الْقَاضِي وَمَنْ فِي حُكْمِهِ فِي وَعْظِهِمَا عِنْدَ الْخَامِسَةِ مِنْ لِعَانِهِمَا قَبْل شُرُوعِهِمَا فِيهَا.

ب - قِيَامُ الْمُتَلاَعِنَيْنِ:
37 - يُسَنُّ لِلْمَتَلاَعِنَيْنِ أَنْ يَتَلاَعَنَا قَائِمَيْنِ لِيَرَاهُمَا النَّاسُ وَيَشْتَهِرُ أَمْرُهُمَا، فَيَقُومُ الرَّجُل عِنْدَ لِعَانِهِ وَالْمَرْأَةُ جَالِسَةٌ، وَتَقُومُ الْمَرْأَةُ عِنْدَ لِعَانِهَا وَيَجْلِسُ الرَّجُل، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ لاَعَنَ قَاعِدًا أَوْ مُضَّجِعًا (4) .
__________
(1) قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ". أخرجه مسلم (1 / 1131) من حديث ابن عمر.
(2) سورة آل عمران / 77.
(3) قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والله يعلم أن أحدكما كاذب. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1132) من حديث ابن عمر.
(4) المراجع السابقة.

(35/267)


لَعِبٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - اللَّعِبُ - بِفَتْحِ اللاَّمِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ وَيَجُوزُ لِعْبٌ بِكَسْرِ اللاَّمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ - فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ الْجَدِّ، يُقَال: لِعْبُ فُلاَنٍ إِذَا كَانَ فَعَلَهُ غَيْرَ قَاصِدٍ بِهِ مَقْصِدًا صَحِيحًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ} (1) ، وَلَعِبَ: عَمِل عَمَلاً لاَ يُجْدِي نَفْعًا، وَاللُّعْبَةُ: كُل مَا يُلْعَبُ بِهِ، وَهُوَ بِكَسْرِ اللاَّمِ اسْمٌ لِلْحَال وَالْهَيْئَةِ الَّتِي يَكُونُ اللاَّعِبُ عَلَيْهَا، وَبِالْفَتْحِ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ.
وَقِيل: اللَّعِبُ عَمَلٌ لِلَّذَّةِ لاَ يُرَاعَى فِيهِ دَاعِيَ الْحِكْمَةِ كَعَمَل الصَّبِيِّ، لأَِنَّهُ لاَ يَعْرِفُ الْحِكْمَةَ وَإِنَّمَا يَعْمَل لِلَّذَّةِ.
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ (2) .
__________
(1) سورة الأنبياء / 55.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، والمفردات في غريب القرآن.

(35/267)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
اللَّهْوُ:
2 - اللَّهْوُ فِي اللُّغَةِ: السُّلْوَانُ، وَالتَّرْوِيحُ عَنِ النَّفْسِ بِمَا لاَ تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ، وَهُوَ أَيْضًا: مَا يَشْغَل الإِْنْسَانَ عَمَّا يَعْنِيهِ أَوْ يُهِمُّهُ مِنْ هَوًى وَطَرَبٍ وَنَحْوِهِمَا.
وَالْفَرَقُ بَيْنَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ أَنَّهُ لاَ لَهْوَ إِلاَّ وَهُوَ لَعِبٌ، وَقَدْ يَكُونُ لَعِبٌ لَيْسَ بِلَهْوٍ، لأَِنَّ اللَّعِبَ يَكُونُ لِلتَّأْدِيبِ كَاللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ وَغَيْرِهِ، وَلاَ يُقَال لِذَلِكَ لَهْوٌ، وَإِنَّمَا اللَّهْوُ لَعِبٌ لاَ يُعْقِبُ نَفْعًا (1) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - اللَّعِبُ مِنْهُ مَا هُوَ مُبَاحٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَمِنْهُ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ.
فَمِنَ اللَّعِبِ الْمُبَاحِ (2) الْمُسَابَقَةُ الْمَشْرُوعَةُ عَلَى الأَْقْدَامِ وَالسُّفُنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي سَفَرٍ مَعَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَسَابَقَتْهُ عَلَى رِجْلِهَا فَسَبَقَتْهُ قَالَتْ: فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي فَقَال: هَذِهِ بِتِلْكَ السِّبْقَةِ (3) ".
__________
(1) المصادر السابقة، والفروق اللغوية ص210.
(2) مغني المحتاج 4 / 311، 428، والمغني 8 / 651 وما بعدها و9 / 170 وما بعدها، والقوانين الفقهية ص154، وبدائع الصنائع 6 / 206.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر مع عائشة. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 66) من حديث عائشة، وإسناده صحيح.

(35/268)


وَإِبَاحَةُ اللَّعِبِ إِنَّمَا يَكُونُ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهِ دَنَاءَةٌ يَتَرَفَّعُ عَنْهَا ذَوُو الْمَرُوءَاتِ، وَبِشَرْطِ أَنْ لاَ يَتَضَمَّنَ ضَرَرًا فَإِنْ تَضَمَّنَ ضَرَرًا لإِِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ كَالتَّحْرِيشِ بَيْنَ الدُّيُوكِ وَالْكِلاَبِ وَنِطَاحِ الْكِبَاشِ وَالتَّفَرُّجِ عَلَى هَذِهِ الأَْشْيَاءِ فَهَذَا حَرَامٌ، وَبِشَرْطِ أَنْ لاَ يَشْغَل عَنْ صَلاَةٍ أَوْ فَرْضٍ آخَرَ أَوْ عَنْ مُهِمَّاتٍ وَاجِبَةٍ فَإِنْ شَغَلَهُ عَنْ هَذِهِ الأُْمُورِ وَأَمْثَالِهَا حَرُمَ، وَبِشَرْطِ أَنْ لاَ يُخْرِجَهُ إِلَى الْحَلِفِ الْكَاذِبِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ (1)
وَمِنَ اللَّعِبِ الْمُبَاحِ الْمِزَاحُ وَالاِنْبِسَاطُ مَعَ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ لِيُعْطِيَ الزَّوْجَةَ وَالنَّفْسَ وَالْوَلَدَ حَقَّهُمْ (2) .
وَمِنَ اللَّعِبِ الْمُسْتَحَبِّ الْمُنَاضَلَةُ عَلَى السِّهَامِ وَالرِّمَاحِ وَالْمَزَارِيقِ وَكُل نَافِعٍ فِي الْحَرْبِ لِقَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} (3) ، وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْقُوَّةِ فِي الآْيَةِ: أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 269، وجواهر الإكليل 2 / 233، ومغني المحتاج 4 / 311، 428، 432، والمغني لابن قدامة 8 / 651 وما بعدها، 9 / 170، وما بعدها، والآداب الشرعية 3 / 357.
(2) المغني لابن قدامة 8 / 652، والآداب الشرعية 3 / 247، ومغني المحتاج 3 / 127، 4 / 311.
(3) سورة الأنفال / 60.

(35/268)


ثَلاَثَ مَرَّاتٍ (1) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (سِبَاقٌ ف 5 وَمَا بَعْدَهُ) .

وَمِنَ اللَّعِبِ الْمَكْرُوهِ اللَّعِبُ بِالطَّيْرِ وَالْحَمَامِ لأَِنَّهُ لاَ يَلِيقُ بِأَصْحَابِ الْمَرُوءَاتِ وَالإِْدْمَانُ عَلَيْهِ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى إِهْمَال الْمَصَالِحِ وَيَشْغَل عَنِ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ (2) .
وَمِنَ اللَّعِبِ الْمُحَرَّمِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: كُل لُعْبَةٍ فِيهَا قِمَارٌ لأَِنَّهَا مِنَ الْمَيْسِرِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِاجْتِنَابِهِ (3) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصَابُ وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَل أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (4) .

اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ
أ - اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ:
4 - اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ مُحَرَّمٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ
__________
(1) حديث: " ألا إن القوة الرمي ". أخرجه مسلم (3 / 1522) من حديث عقبة بن عامر.
(2) بدائع الصنائع 6 / 269، والخرشي 7 / 177، وشرح الزرقاني 7 / 159، ومغني المحتاج 4 / 428، 432، والمغني 9 / 170، 172، 173، وكشاف القناع 6 / 423.
(3) بدائع الصنائع 6 / 269، والخرشي على خليل 7 / 177، ومغني المحتاج 4 / 428، والمغني 9 / 170.
(4) سورة المائدة / 90،91.

(35/269)


الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِشِيرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ (1) . وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ كَمَا يُكْرَهُ الشِّطْرَنْجُ عِنْدَهُمْ (2) .

ب - اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ:
5 - أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ اللَّعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ حَرَامٌ إِذَا كَانَ عَلَى عِوَضٍ أَوْ تَضَمَّنَ تَرْكَ وَاجِبٍ مِثْل تَأْخِيرِ الصَّلاَةِ عَنْ وَقْتِهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا تَضَمَّنَ كَذِبًا أَوْ ضَرَرًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْحَلِيمِيِّ وَالرُّويَانِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ حُرْمَةُ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ مُطْلَقًا.
وَمِمَّنْ قَال بِالتَّحْرِيمِ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْقَاسِمُ وَسَالِمٌ وَعُرْوَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ وَمَطَرٌ الْوَرَّاقُ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَثَرِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ فَقَال: مَا هَذِهِ
__________
(1) حديث: " من لعب بالنردشير. . . ". أخرجه مسلم (4 / 1770) من حديث بريدة بن الحصيب.
(2) مغني المحتاج 4 / 428، والمغني لابن قدامة 9 / 170.

(35/269)


التَّمَاثِيل الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ؟ لأََنْ يَمَسَّ جَمْرًا حَتَّى يُطْفَى خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمَسَّهَا (1) .
وَرَوَى مَالِكٌ بَلاَغًا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلِيَ مَال يَتِيمٍ فَوَجَدَهَا فِيهِ فَأَحْرَقَهَا. كَمَا اسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى النَّرْدِ، بَل إِنَّ الشِّطْرَنْجَ شَرٌّ مِنَ النَّرْدِ فِي الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ وَهُوَ أَكْثَرُ إِيقَاعًا لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، لأَِنَّ لاَعِبَهَا يَحْتَاجُ إِلَى إِعْمَال فِكْرِهِ وَشَغْل خَاطِرِهِ أَكْثَرَ مِنَ النَّرْدِ، وَلأَِنَّ فِيهِمَا صَرْفُ الْعُمُرِ إِلَى مَا لاَ يُجْدِي، إِلاَّ أَنَّ النَّرْدَ آكَدُ فِي التَّحْرِيمِ لِوُرُودِ النَّصِّ بِتَحْرِيمِهِ وَلاِنْعِقَادِ الإِْجْمَاعِ عَلَى حُرْمَتِهِ مُطْلَقًا.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ اللَّعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ مَكْرُوهٌ.
وَمَأْخَذُ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ مِنَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَجَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل شَيْءٍ لَيْسَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل فَهُوَ لَهْوٌ أَوْ سَهْوٌ إِلاَّ أَرْبَعَ خِصَالٍ: مَشْيُ الرَّجُل بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ، وَتَأْدِيبُهُ فَرَسَهُ، وَمُلاَعَبَةُ أَهْلِهِ، وَتَعَلُّمُ السِّبَاحَةِ (2) "
. وَفِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) أثر علي " أنه مر على قوم يلعبون الشطرنج. . . ". أخرجه البيهقي (10 / 212) .
(2) حديث جابر بن عمير: " كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو أو سهو. . . ". أخرجه الطبراني (2 / 193) وجود إسناده المنذري في الترغيب (2 / 243) .

(35/270)


عَنِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَيْسَ مِنَ اللَّهْوِ ثَلاَثَةٌ: تَأْدِيبُ الرَّجُل فَرَسَهُ، وَمُلاَعَبَتُهُ زَوْجَهُ، وَرَمْيُهُ بِنَبْلِهِ عَنْ قَوْسِهِ (1) .
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ قَوْلَهُمْ بِأَنْ يَكُونَ لَعِبُ الشِّطْرَنْجِ مَعَ مَنْ يَعْتَقِدُ حِلَّهُ وَإِلاَّ كَانَ حَرَامًا، لأَِنَّ فِيهِ إِعَانَةً عَلَى مَعْصِيَةٍ لاَ يُمْكِنُ الاِنْفِرَادُ بِهَا.
وَمَأْخَذُ الْكَرَاهَةِ كَذَلِكَ أَنَّهُ يُلْهِي عَنِ الذِّكْرِ وَالصَّلاَةِ فِي أَوْقَاتِهَا الْفَاضِلَةِ، وَقَدْ يَسْتَغْرِقُ لاَعِبُهُ فِي لَعِبِهِ حَتَّى يَشْغَلَهُ عَنْ مَصَالِحِهِ الأُْخْرَوِيَّةِ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى إِبَاحَةِ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ لِمَا فِيهِ مِنْ شَحْذِ الْخَوَاطِرِ وَتَذْكِيَةِ الأَْفْهَامِ وَلأَِنَّ الأَْصْل الإِْبَاحَةُ وَلَمْ يَرِدْ بِتَحْرِيمِهِ نَصٌّ وَلاَ هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ قَوْلَهُمْ بِالإِْبَاحَةِ بِأَلاَّ يَلْعَبَهُ مَعَ الأَْوْبَاشِ فِي الطَّرِيقِ بَل مَعَ نَظَائِرِهِ فِي الْخَلْوَةِ بِلاَ إِدْمَانٍ وَتَرْكِ مُهِمٍّ وَلَهْوٍ عَنْ عِبَادَةٍ.
وَيُخَالِفُ الشِّطْرَنْجُ النَّرْدَ فِي أَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّ الْمُعَوِّل فِي النَّرْدِ مَا يُخْرِجُهُ اللُّعْبَانُ فَهُوَ يَعْتَمِدُ عَلَى الْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ الْمُؤَدِّي إِلَى غَايَةٍ مِنَ السَّفَاهَةِ وَالْحُمْقِ فَأَشْبَهَ الأَْزْلاَمَ.
__________
(1) حديث: " ليس من اللهو ثلاثة. . . ". أخرجه الحاكم (2 / 95) وصححه ووافقه الذهبي.

(35/270)


وَالْمُعَوَّل فِي الشِّطْرَنْجِ عَلَى الْحِسَابِ الدَّقِيقِ وَالْفِكْرِ الصَّحِيحِ وَعَلَى الْحِذْقِ وَالتَّدْبِيرِ فَأَشْبَهَ الْمُسَابَقَةَ بِالسِّهَامِ.
الثَّانِي: أَنَّ فِي الشِّطْرَنْجِ تَدْبِيرَ الْحَرْبِ فَأَشْبَهَ اللَّعِبَ بِالْحِرَابِ وَالرَّمْيَ بِالنُّشَّابِ وَالْمُسَابَقَةَ بِالْخَيْل. وَنُقِل الْقَوْل بِالإِْبَاحَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِهِ هِشَامٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَعَطَاءٍ (1) .

شَهَادَةُ اللاَّعِبِ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ
6 - مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ لَمْ تُقْبَل شَهَادَتُهُ سَوَاءٌ لَعِبَ بِهِ قِمَارًا أَوْ غَيْرَ قِمَارٍ.
قَال مَالِكٌ: مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ فَلاَ أَرَى شَهَادَتَهُ طَائِلَةً، لأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَال: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَل} (2) وَهَذَا لَيْسَ مِنَ الْحَقِّ فَيَكُونُ مِنَ الضَّلاَل (3) .
__________
(1) المغني 9 / 171، ومواهب الجليل 6 / 153، وحاشية ابن عابدين 5 / 252، والبناية 9 / 384، وروضة الطالبين 11 / 225. وحاشية الدسوقي 4 / 167، وكشاف القناع 6 / 423، ومطالب أولي النهى 3 / 702، ومجموع فتاوى ابن تيمية 4 / 260.
(2) سورة يونس / 32.
(3) المغني لابن قدامة 9 / 170 وما بعدها، والخرشي مع حاشية العدوي 7 / 177، وجواهر الإكليل 2 / 233.

(35/271)


وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ بَاشَرَ لَعِبَهَا وَلَوْ مَرَّةً لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ. وَأَمَّا لاَعِبُ الشِّطْرَنْجِ فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى رَدِّ شَهَادَتِهِ فِي الأَْحْوَال الَّتِي يَحْرُمُ لَعِبُهَا إِجْمَاعًا، وَذَلِكَ لِلإِْجْمَاعِ عَلَى فِسْقِهِ فِيهَا. وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ فَلِلْفُقَهَاءِ أَقْوَالٌ بِحَسَبِ أَقْوَالِهِمْ فِي إِبَاحَةِ الشِّطْرَنْجِ أَوْ تَحْرِيمِهِ. فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ لاَعِبِ الشِّطْرَنْجِ لاَ تَسْقُطُ إِلاَّ عِنْدَ الإِْدْمَانِ عَلَيْهَا لأَِنَّ الْمُدْمِنَ لاَ يَخْلُو مِنَ الأَْيْمَانِ الْحَانِثَةِ وَالاِشْتِغَال عَنِ الْعِبَادَةِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُرَدُّ شَهَادَةُ لاَعِبِ الشِّطْرَنْجِ إِلاَّ إِذَا اقْتَرَنَ بِقِمَارٍ أَوْ فُحْشٍ أَوْ إِخْرَاجِ صَلاَةٍ عَنْ وَقْتِهَا عَمْدًا وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ بِذَلِكَ الْمُقَارِنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ قَبُول شَهَادَةِ لاَعِبِ الشِّطْرَنْجِ مُطْلَقًا لِتَحْرِيمِهِ وَإِنْ عَرِيَ عَنِ الْقِمَارِ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ عِنْدَهُمْ بِأَنْ يَكُونَ لاَعِبُهُ غَيْرَ مُقَلِّدٍ فِي إِبَاحَتِهِ فَإِنْ قَلَّدَ مَنْ يَرَى حِلَّهُ لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى رَدِّ شَهَادَةِ لاَعِبِ الشِّطْرَنْجِ بِوَاحِدٍ مِمَّا يَلِي: إِذَا كَانَ عَنْ قِمَارٍ أَوْ فَوَّتَ الصَّلاَةَ بِسَبَبِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنَ الْحَلِفِ عَلَيْهِ أَوِ اللَّعِبِ بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ ذَكَرَ عَلَيْهِ فِسْقًا.

(35/271)


وَإِنَّمَا لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ مُطْلَقًا لِشُبْهَةِ الاِخْتِلاَفِ فِي إِبَاحَتِهِ (1) .

لُعْبَةٌ

انْظُرْ: لَعِبٌ، تَصْوِيرٌ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 383، وكفاية الطالب 2 / 401، وحاشية الدسوقي 4 / 167، وروضة الطالبين 11 / 225، وكشاف القناع 6 / 423.

(35/272)


لَعْنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - اللَّعْنُ فِي اللُّغَةِ: الإِْبْعَادُ وَالطَّرْدُ مِنَ الْخَيْرِ، وَقِيل الطَّرْدُ وَالإِْبْعَادُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنَ الْخَلْقِ: السَّبُّ وَالدُّعَاءُ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُحَيِّي مُلُوكَهَا: " أَبَيْتَ اللَّعْنَ " وَمَعْنَاهُ: أَبَيْتَ أَيُّهَا الْمَلِكُ أَنْ تَأْتِيَ مَا تُلْعَنُ عَلَيْهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السَّبُّ:
2 - السَّبُّ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا هُوَ: الشَّتْمُ، وَهُوَ مُشَافَهَةُ الْغَيْرِ بِمَا يَكْرَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَدٌّ (2) .
قَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: اللَّعْنُ أَبْلَغُ فِي
__________
(1) لسان العرب.
(2) تاج العروس، وإعانة الطالبين 2 / 250، ومنح الجليل 4 / 476.

(35/272)


الْقُبْحُ مِنَ السَّبِّ الْمُطْلَقِ (1) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاللَّعْنِ:
مَنْ يَجُوزُ لَعْنُهُ وَمَنْ لاَ يَجُوزُ
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الدُّعَاءَ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمَصُونِ بِاللَّعْنِ حَرَامٌ. أَمَّا الْمُسْلِمُ الْفَاسِقُ الْمُعَيَّنُ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ: فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَعْنُهُ لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَتَى بِشَارِبِ خَمْرٍ مِرَارًا فَقَال بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (2) ". وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَعْنُ الْفَاسِقِ الْمُعَيَّنِ (3) لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى أَحَدٍ أَوْ لأَِحَدٍ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، كَانَ يَقُول فِي بَعْضِ صَلاَةِ الْفَجْرِ: اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا
__________
(1) قواعد الأحكام 1 / 20.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بشارب خمر مرارًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 75) .
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 541، والقرطبي 2 / 189، والقليوبي 3 / 204، وكشاف القناع 6 / 126، والآداب الشرعية 1 / 303 - 308، وفتح الباري 12 / 75 وما بعدها، والأذكار ص548 ط. دار ابن كثير بيروت.

(35/273)


لأَِحْيَاءٍ مِنَ الْعَرَبِ (1) ". وَقَال الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ حَجَرٍ: إِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَعْنُ مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لأَِنَّ الْحَدَّ قَدْ كَفَّرَ عَنْهُ الذَّنْبَ، وَمَنْ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَيَجُوزُ لَعْنُهُ سَوَاءٌ سُمِّيَ أَوْ عُيِّنَ أَمْ لاَ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَلْعَنُ إِلاَّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ مَا دَامَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِلَّعْنِ، فَإِذَا تَابَ مِنْهَا وَأَقْلَعَ وَطَهَّرَهُ الْحَدُّ فَلاَ لَعْنَةَ تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ (2) .

4 - وَيَجُوزُ لَعْنُ غَيْرِ الْمُعَيَّنِينَ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُسْلِمِينَ الْعُصَاةِ لِمَا وَرَدَ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ (3) ، وَلَعَنَ آكِل الرِّبَا (4) ، وَلَعَنَ الْمُصَوِّرَ (5) ، وَقَال: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الأَْرْضِ (6) ، وَلَعَنَ رَعْلاً وَذَكْوَانًا وَعَصِيَّةَ (7) ، وَهَذِهِ الثَّلاَثَةُ قَبَائِل
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 226) من حديث أبي هريرة.
(2) القرطبي 2 / 189، وفتح الباري 12 / 76.
(3) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة والمستوصلة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 374) ومسلم (3 / 1676) من حديث أسماء بنت أبي بكر.
(4) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا ". أخرجه مسلم (3 / 1219) من حديث عبد الله بن مسعود.
(5) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المصور ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 426) من حديث أبي جحيفة.
(6) حديث: " لعن الله من غير منار الأرض ". أخرجه مسلم (3 / 1567) من حديث علي بن أبي طالب.
(7) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن رعلا. . . ". أخرجه مسلم (1 / 467) من حديث أبي هريرة.

(35/273)


مِنَ الْعَرَبِ، وَلَعَنَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، لأَِنَّ الْمُرَادَ: الْجِنْسُ لاَ الأَْفْرَادُ وَفِيهِمْ مَنْ يَمُوتُ كَافِرًا. وَيَكُونُ اللَّعْنُ لِبَيَانِ أَنَّ تِلْكَ الأَْوْصَافِ: لِلتَّنْفِيرِ عَنْهُ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ، لاَ لِقَصْدِ اللَّعْنِ عَلَى كُل فَرْدٍ مِنْ هَذِهِ الأَْجْنَاسِ، لأَِنَّ لَعْنَ الْوَاحِدِ الْمُعَيَّنِ كَهَذَا الظَّالِمِ لاَ يَجُوزُ، فَكَيْفَ كُل فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ هَذِهِ الأَْجْنَاسِ، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ الْجِنْسَ لَمَا قُلْنَا مِنَ التَّنْفِيرِ وَالتَّحْذِيرِ، لاَ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَعَاصِي مِنَ الْكَبَائِرِ خِلاَفًا لِمَنْ نَاطَ اللَّعْنَ بِالْكَبَائِرِ، لأَِنَّهُ وَرَدَ اللَّعْنُ فِي غَيْرِهَا (1) .
5 - أَمَّا الْكَافِرُ الْمُعَيَّنُ فَإِنْ كَانَ حَيًّا فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَعْنُهُ لأَِنَّ حَالَهُ عِنْدَ الْوَفَاةِ لاَ تُعْلَمُ وَقَدْ شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى فِي إِطْلاَقِ اللَّعْنَةِ الْوَفَاةَ عَلَى الْكُفْرِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (2) ، وَلأَِنَّا لاَ نَدْرِي مَا يُخْتَمُ بِهِ لِهَذَا الْكَافِرِ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْل ابْنِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 541، وحاشية القليوبي 3 / 204، وإحياء علوم الدين 3 / 123، والأذكار ص373، وفتح الباري 12 / 76، والقرطبي 2 / 189، وما بعدها، والآداب الشرعية 1 / 303، وكشاف القناع 6 / 126.
(2) سورة البقرة / 161.

(35/274)


الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَعْنُ الْكَافِرِ الْمُعَيَّنِ، قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لِظَاهِرِ حَالِهِ وَلِجَوَازِ قَتْلِهِ وَقِتَالِهِ.
أَمَّا لَعْنُ الْكُفَّارِ جُمْلَةً مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَلَى الْكُفْرِ فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ لَعْنُهُمْ، لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّهُ سَمِعَ الأَْعْرَجَ يَقُول: مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ إِلاَّ وَهُمْ يَلْعَنُونَ الْكَفَرَةَ فِي رَمَضَانَ، قَال الْقُرْطُبِيُّ قَال عُلَمَاؤُنَا: وَسَوَاءٌ كَانَتْ لَهُمْ ذِمَّةٌ أَمْ لَمْ تَكُنْ (1) .
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَعْنُ الْحَيَوَانِ وَالْجَمَادِ (2) لِمَا وَرَدَ عَنْ عِمْرَانِ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: بَيْنَمَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَامْرَأَةٌ مِنَ الأَْنْصَارِ عَلَى نَاقَةٍ فَضَجِرَتْ فَلَعَنَتْهَا فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ قَال عِمْرَانُ: فَكَأَنِّي أَرَاهَا الآْنَ تَمْشِي فِي النَّاسِ مَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 542، والقليوبي 3 / 204، والقرطبي 2 / 188، وكشاف القناع 6 / 125، والآداب الشرعية 1 / 303، والأذكار ص548.
(2) إحياء علوم الدين 3 / 119، والأذكار ص545 - 546، والقليوبي 3 / 204.
(3) حديث: " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره. . . ". أخرجه مسلم (4 / 2004) .

(35/274)