الموسوعة الفقهية الكويتية

مِسْكِينٌ
:

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمِسْكِينُ فِي اللُّغَةِ: بِكَسْرِ الْمِيمِ، قَال الْفَيْرُوزَآبَادِيُّ: وَتُفْتَحُ مِيمُهُ: مَنْ لاَ شَيْءَ لَهُ، أَوْ لَهُ مَا لاَ يَكْفِيهِ، أَوْ أَسْكَنَهُ الْفَقْرُ، أَيْ قَلَّل حَرَكَتَهُ، وَالذَّلِيل وَالضَّعِيفُ (1) .
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ الْمِسْكِينِ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: هُوَ مَنْ لاَ يَمْلِكُ شَيْئًا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ مَنْ قَدَرَ عَلَى مَالٍ أَوْ كَسْبٍ يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ وَلاَ يَكْفِيهِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: هُوَ مَنْ يَجِدُ مُعْظَمَ الْكِفَايَةِ أَوْ نِصْفَهَا مِنْ كَسْبٍ أَوْ غَيْرِهِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْفَقِيرُ:
2 - الْفَقِيرُ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ الْغَنِيِّ، وَالْفَقِيرُ أَيْضًا الْمُحْتَاجُ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْحَنَفِيَّةُ: هُوَ مَنْ يَمْلِكُ
__________
(1) القاموس المحيط للفيروزآبادي.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 59، والدسوقي 1 / 492، ومغني المحتاج 3 / 108، وكشاف القناع 2 / 282.
(3) لسان العرب مادة " فقر ".

(37/297)


دُونَ نِصَابٍ مِنَ الْمَال النَّامِي أَوْ قَدْرَ نِصَابٍ غَيْرَ نَامٍ مُسْتَغْرَقٍ فِي حَاجَتِهِ.
وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: مَنْ يَمْلِكُ شَيْئًا لاَ يَكْفِيهِ قُوتَ عَامٍ
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: مَنْ لاَ مَال وَلاَ كَسْبَ يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ حَاجَتِهِ.
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: مَنْ لاَ يَجِدُ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ، أَوْ يَجِدُ شَيْئًا يَسِيرًا مِنَ الْكِفَايَةِ دُونَ نِصْفِهَا مِمَّا لاَ يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا اسْمٌ يُنْبِئُ عَنِ الْحَاجَةِ، وَأَنَّ كِلَيْهِمَا مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمِسْكِينِ مِنْ أَحْكَامٍ:
دَفْعُ الزَّكَاةِ لِلْمِسْكِينِ وَشُرُوطُهُ
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمِسْكِينَ يُعْتَبَرُ مَصْرِفًا مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ (2) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (3) .
وَيُشْتَرَطُ فِي إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ لَهُ شُرُوطٌ، تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةٌ ف 157 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 8، والدسوقي 1 / 492، ومغني المحتاج 3 / 106، وكشاف القناع 2 / 271، 272.
(2) الاختيار 1 / 118 ط. دار المعرفة، وحاشية ابن عابدين 2 / 59 ط. بولاق، وحاشية الدسوقي 1 / 492 ط. دار الفكر، وروضة الطالبين 2 / 311، وكشاف القناع 2 / 270، 271.
(3) سورة التوبة / 60

(37/297)


دَفْعُ الْكَفَّارَةِ وَالْفِدْيَةِ إِلَى الْمَسَاكِينِ
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ الصِّيَامِ فِي أَدَاءِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَكَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي رَمَضَانَ، لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الأَْعْذَارِ، كَفَّرَ بِإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ التَّمْلِيكِ فِي الإِْطْعَامِ، وَكَذَلِكَ فِي مِقْدَارِ مَا يُعْطَى لِكُل مِسْكِينٍ، وَتَكْرَارُ الإِْعْطَاءِ لِمِسْكِينٍ وَاحِدٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْفُرُوعِ سَبَقَ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (كَفَّارَةٌ ف 77، 78) .
وَدَفْعُ الْكَفَّارَةِ وَالْفِدْيَةِ إِلَى الْمَسَاكِينِ يَكُونُ بِإِطْعَامِهِمْ، إِلاَّ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ عَدَدُ الْمَسَاكِينِ الْوَاجِبُ إِطْعَامُهُمْ بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ الْكَفَّارَاتِ.
فَالإِْطْعَامُ قَدْ يَكُونُ لَسِتِّينَ مِسْكِينًا كَمَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} (2) .
(ر: مُصْطَلَحَ ظِهَارٍ ف 8) وَكَذَلِكَ كَفَّارَةُ الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا عَلَى
__________
(1) الاختيار 3 / 165، ونيل المآرب 2 / 262، والقوانين الفقهية 248، وروضة الطالبين 8 / 305، 306.
(2) سورة المجادلة / 3 - 4.

(37/298)


اخْتِلاَفِ الأَْقْوَال.
(ر: مُصْطَلَحَ صَوْمٍ ف 68) .
وَقَدْ يَكُونُ لِعَشَرَةِ مَسَاكِينَ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (1) (ر: مُصْطَلَحَ كَفَّارَةٍ ف 8) .
وَقَدْ يَكُونُ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ كَمَنْ فَعَل مِنْ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ شَيْئًا لِعُذْرٍ، أَوْ دَفْعِ أَذًى، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ يَتَخَيَّرُ فِيهَا بَيْنَ أَنْ يَذْبَحَ هَدْيًا أَوْ يَتَصَدَّقَ بِإِطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِينَ أَوْ يَصُومَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ.
(ر: مُصْطَلَحَ إِحْرَامٍ ف 148) .
وَقَدْ يَكُونُ لِمِسْكِينٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ، وَالْمُرْضِعُ وَالْحُبْلَى إِذَا خَافَتَا عَلَى أَوْلاَدِهِمَا وَأَفْطَرُوا فَعَلَيْهِمُ الْفِدْيَةُ، وَهُوَ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ مَكَانَ كُل يَوْمٍ عَلَى اخْتِلاَفِ الأَْقْوَال.
(ر: مُصْطَلَحَ فِدْيَةٍ ف 10) .
وَقَدْ يَكُونُ إِطْعَامُ الطَّعَامِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْمَسَاكِينِ كَمَا فِي فِدْيَةِ الْمُحْرِمِ لِقَتْل الصَّيْدِ إِذَا اشْتَرَى بِالْقِيمَةِ طَعَامًا وَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ.
(ر: مُصْطَلَحَ إِحْرَامٍ ف 160، 163)
__________
(1) سورة المائدة / 89

(37/298)


إِعْطَاءُ الْغَنِيمَةِ لِلْمَسَاكِينِ
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ لِلْمَسَاكِينِ سَهْمًا فِي خُمْسِ مَال الْغَنِيمَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل} (1)) .
وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ هَذَا السَّهْمِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ خُمْسُ الْخُمْسِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ثُلُثُ الْخُمْسِ، وَعِنْدَ طَائِفَةٍ سُدْسُ الْخُمْسِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (خُمْسٌ ف 7 - 12) .
وَالْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ صِنْفٌ وَاحِدٌ هَاهُنَا (2) .

الْوَقْفُ عَلَى الْمَسَاكِينِ
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ الْوَقْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ.
لأَِنَّ الْوَقْفَ إِزَالَةُ مِلْكٍ عَنِ الْمَوْقُوفِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، وَالْمِسْكِينُ مِمَّا تَحْصُل الْقُرْبَةُ بِالْوَقْفِ عَلَيْهِ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ) .
__________
(1) سورة الأنفال / 41.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 236، والاختيار 4 / 131، والقليوبي 3 / 189، والمغني 6 / 413.
(3) الاختيار 3 / 45، والقوانين الفقهية 376، والوجيز 1 / 245، ومطالب أولي النهى 4 / 282، والمغني 5 / 619، 620.

(37/299)


إِثْبَاتُ الْمَسْكَنَةِ:
7 - إِذَا عُرِفَ لِرَجُلٍ مَالٌ فَادَّعَى تَلَفَهُ، وَأَنَّهُ فَقِيرٌ أَوْ مِسْكِينٌ لَمْ يُقْبَل مِنْهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةِ، قَال صَاحِبُ الْمَجْمُوعِ: وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ، وَادَّعَى الْفَقْرَ أَوِ الْمَسْكَنَةَ، قُبِل قَوْلُهُ، وَلاَ يُطَالَبُ بِبَيِّنَةٍ بِلاَ خِلاَفٍ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي الإِْنْسَانِ الْفَقْرُ (1) .
__________
(1) المجموع 6 / 195، والإنصاف 3 / 245، وحاشية الدسوقي 1 / 492، وجواهر الإكليل 1 / 138.

(37/299)


مَسِيلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّيْل لُغَةً: مَعْرُوفٌ، جَمْعُهُ سُيُولٌ وَهُوَ مَصْدَرٌ فِي الأَْصْل، مِنْ سَال الْمَاءُ يَسِيل سَيْلاً مِنْ بَابِ بَاعَ، وَسَيَلاَنًا إِذَا طَغَى وَجَرَى، ثُمَّ غَلَبَ الْمَسِيل فِي الْمُجْتَمِعِ مِنَ الْمَطَرِ الْجَارِي فِي الأَْوْدِيَةِ، وَالْمَسِيل مَجْرَى السَّيْل، وَالْجَمْعُ مَسَايِل وَمُسُلٌ بِضَمَّتَيْنِ. وَرُبَّمَا قِيل مُسْلاَنٌ مِثْل رَغِيفٍ وَرُغْفَانٍ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
وَمِنْ صُوَرِ الْمَسِيل عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: أَنْ تَكُونَ لِشَخْصٍ دَارٌ لَهَا حَقُّ تَسْيِيل الْمَاءِ عَلَى أَسْطِحَةِ دَارٍ أُخْرَى، أَوْ عَلَى أَرْضِ دَارٍ أُخْرَى (3) .

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسِيل مِنْ أَحْكَامٍ:
يَتَعَلَّقُ بِالْمَسِيل أَحْكَامٌ مِنْهَا:

مَسِيل الْمَاءِ مِنْ حُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَرَافِقَ وَحُقُوقَ الْعَقَارِ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) القليوبي 2 / 317، ومجلة الأحكام العدلية المادة 144.
(3) الفتاوى الهندية 5 / 394، وحاشية ابن عابدين 4 / 118.

(37/300)


مِنْ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ، تَابِعَةٌ لَهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْهَا وَأَنَّهَا حُقُوقٌ مُقَرَّرَةٌ عَلَى مَحَالِّهَا وَمِنْهَا الْمَسِيل وَمَا يُمَاثِلُهُ وَلَهُ أَحْكَامٌ تَخُصُّهُ يَأْتِي بَيَانُهَا.

أ - التَّصَرُّفُ فِي الْمَسِيل:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْمَسِيل بِالْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَسِيل وَهِبَتُهُ لِجَهَالَتِهِ، إِذْ لاَ يَدْرِي قَدْرَ مَا يَشْغَلُهُ مِنَ الْمَاءِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْفَتْحِ: هَذَا إِذَا لَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ الْمَسِيل، أَمَّا لَوْ بَيَّنَ حَدَّ مَا يَسِيل فِيهِ الْمَاءُ، أَوْ بَاعَ أَرْضَ الْمَسِيل مِنْ نَهْرٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ حَقِّ التَّسْيِيل فَهُوَ جَائِزٌ بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ حُدُودَهُ (1) .
وَأَمَّا بَيْعُ حَقِّ التَّسْيِيل وَهِبَتُهُ دُونَ رَقَبَةِ الْمَسِيل فَلاَ يَصِحُّ بِاتِّفَاقِ الْمَشَائِخِ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الأَْرْضِ، أَوْ عَلَى السَّطْحِ، لأَِنَّهُ نَظِيرُ حَقِّ التَّعَلِّي، وَبَيْعُ حَقِّ التَّعَلِّي لاَ يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ حَقًّا مُتَعَلِّقًا بِمَا هُوَ مَالٌ بَل بِالْهَوَاءِ وَإِنْ كَانَ عَلَى الأَْرْضِ، وَهُوَ أَنْ يَسِيل الْمَاءُ عَنْ أَرْضِهِ كَيْلاَ يُفْسِدَهُ فَيُمِرَّهُ عَلَى أَرْضٍ لِغَيْرِهِ، فَهُوَ مَجْهُولٌ لِجَهَالَةِ مَحَلِّهِ الَّذِي يَأْخُذُهُ (2) .
وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ مَسِيل مَاءٍ فِي دَارِ رَجُلٍ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 118.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 118 - 119، والفتاوى الخانية على هامش الهندية 3 / 105.

(37/300)


فَلاَ بُدَّ وَأَنْ يُبَيِّنَ مَسِيل مَاءِ الْمَطَرِ أَوْ مَاءِ الْوُضُوءِ، وَكَذَا يَنْبَغِي بَيَانُ مَوْضِعِ مَسِيل الْمَاءِ أَنَّهُ فِي مُقَدَّمِ الْبَيْتِ أَوْ فِي مُؤَخَّرِهِ (1) .
وَإِذَا اشْتَرَى بَيْتًا فِي دَارٍ لاَ يَدْخُل مَسِيل الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ، وَلَوْ ذُكِرَ بِحُقُوقِهِ وَمَرَافِقِهِ يَدْخُل وَهُوَ الأَْصَحُّ، وَمَنِ اشْتَرَى مَنْزِلاً فِي دَارٍ أَوْ مَسْكَنًا فِيهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمَسِيل فِي هَذِهِ الدَّارِ إِلَى ذَلِكَ الْمُشْتَرِي، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِكُل حَقٍّ أَوْ بِمَرَافِقِهِ أَوْ بِكُل قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ.
وَلَوْ كَانَ لِلْبَائِعِ فِي الدَّارِ الْمَبِيعَةِ مَسِيلٌ لِدَارٍ لَهُ أُخْرَى بِجَنْبِهَا وَقَال بِكُل حَقٍّ فَذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمُشْتَرِي وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ، وَلَوْ بَاعَ رَجُلٌ دَارًا وَلآِخَرَ فِيهَا مَسِيل مَاءٍ، فَرَضِيَ صَاحِبُ الْمَسِيل بِبَيْعِ الدَّارِ، قَالُوا: إِنْ كَانَ لَهُ رَقَبَةُ الْمَسِيل كَانَ لَهُ حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ جَرْيِ الْمَاءِ فَقَطْ فَلاَ قِسْطَ لَهُ مِنَ الثَّمَنِ وَبَطَل حَقُّهُ إِذَا رَضِيَ بِالْبَيْعِ (2) .
وَإِذَا اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ دَارًا فَادَّعَى رَجُلٌ فِيهَا مَسِيل مَاءٍ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَهُوَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ، فَإِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي أَمْسَكَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا، فَإِنْ كَانَ قَدْ بَنَى فِيهَا بِنَاءً فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَ بِنَاءَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ بِنَائِهِ (3) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 211.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 30.
(3) الفتاوى الهندية 3 / 80.

(37/301)


وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْمَاءُ يَسِيل وَيَنْبُعُ فِي مِلْكٍ فَهُوَ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ الَّتِي يَنْبُعُ فِيهَا يُرْسِلُهُ مَتَى شَاءَ وَيَحْبِسُهُ مَتَى شَاءَ، فَإِنِ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ عَلَى إِجْرَاءِ مَاءٍ فِي سَانِيَةٍ إِلَى أَرْضِهِمْ لَمْ يُقَدَّمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى الآْخَرِ، وَإِنْ كَانَ أَعْلَى يَقْتَسِمُونَهُ بَيْنَهُمْ بِالْقُلَل أَوِ الْخَشَبِ أَوْ كَيْفَمَا اتَّفَقُوا عَلَى سَبِيل اشْتَرَاكِهِمْ أَوَّل إِجْرَائِهِمْ لَهُ (1) .
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنِ اشْتَرَيْتَ شِرْبَ يَوْمٍ مِنْ كُل شَهْرٍ بِغَيْرِ أَرْضٍ مِنْ قَنَاةٍ أَوْ مِنْ بِئْرٍ أَوْ مِنْ عَيْنٍ أَوْ مِنْ نَهْرٍ، أَيَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لاَ فِي قَوْل مَالِكٍ؟ قَال: قَال مَالِكٌ: ذَلِكَ جَائِزٌ، قَال: وَهَذَا الَّذِي قَال مَالِكٌ لاَ شُفْعَةَ فِيهِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ أَرْضٌ. قَال: وَقَال مَالِكٌ: إِذَا قُسِمَتِ الأَْرْضُ وَتُرِكَ الْمَاءُ فَبَاعَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ الَّذِي صَارَ لَهُ مِنْ أَرْضِهِ بِغَيْرِ مَاءٍ، ثُمَّ بَاعَ نَصِيبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنَّ مَالِكًا قَال لِي: هَذَا الْمَاءُ لاَ شُفْعَةَ فِيهِ وَالأَْرْضُ أَيْضًا لاَ شُفْعَةَ فِيهَا، وَإِنَّمَا الشُّفْعَةُ فِي الْمَاءِ إِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ بَيْنَ النَّفَرِ لَمْ يَقْتَسِمُوهَا فَبَاعَ أَحَدُهُمْ مَاءَهُ بِغَيْرِ أَرْضِهِ، فَقَال مَالِكٌ: فَفِي هَذَا الشُّفْعَةُ إِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ لَمْ تُقْسَمْ.
قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ بَاعَ أَحَدُهُمْ حِصَّتَهُ مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ بَاعَ آخَرُ بَعْدَهُ حِصَّتَهُ مِنَ الْمَاءِ أَيَضْرِبُ الْبَائِعُ الأَْوَّل مَعَهُمْ فِي الْمَاءِ بِحِصَّتِهِ
__________
(1) العقد المنظم 2 / 131 - 132.

(37/301)


مِنَ الأَْرْضِ؟ قَال: لاَ وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ حِصَّتَهُ مِنَ الأَْرْضِ وَتَرَكَ حِصَّتَهُ مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ بَاعَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضُ شُرَكَائِهِ حِصَّتَهُ مِنَ الأَْرْضِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا شُفْعَةٌ لِمَكَانِ مَا بَقِيَ لَهُ فِي الْمَاءِ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ قَوْمًا اقْتَسَمُوا أَرْضًا وَكَانَ بَيْنَهُمْ مَاءٌ يَسْقُونَ بِهِ وَكَانَ لَهُمْ شُرَكَاءُ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ، فَبَاعَ أَحَدٌ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمُ الْمَاءُ حِصَّتَهُ مِنَ الْمَاءِ أَيَضْرِبُ مَعَ شُرَكَائِهِ فِي الشُّفْعَةِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الأَْرْضِ؟ قَال: لاَ (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى إِجْرَاءِ الْمَاءِ أَوِ الصُّلْحِ عَلَى إِخْرَاجِ مِيزَابٍ (2) ، وَعَلَى إِلْقَاءِ الثَّلْجِ فِي مِلْكِهِ - أَيِ الْمُصَالَحِ مَعَهُ - عَلَى مَالٍ، لأَِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، لَكِنْ مَحَلُّهُ فِي الْمَاءِ الْمَجْلُوبِ مِنْ نَهْرٍ وَنَحْوِهِ إِلَى أَرْضِهِ، وَالْحَاصِل إِلَى سَطْحِهِ مِنَ الْمَطَرِ.
وَأَمَّا مَسِيل غُسَالَةِ الثِّيَابِ وَالأَْوَانِي فَلاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى إِجْرَائِهَا عَلَى مَالٍ، لأَِنَّهُ مَجْهُولٌ لاَ تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، قَالَهُ الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ (3) ، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ الْبُلْقِينِيُّ، وَقَال: إِنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ حَاجَةِ الْبِنَاءِ (4) ، فَلاَ مَانِعَ مِنْهُ إِذَا بَيَّنَ قَدْرَ الْجَارِي إِذَا كَانَ عَلَى السَّطْحِ، وَبَيَّنَ مَوْضِعَ الْجَرَيَانِ إِذَا كَانَ عَلَى
__________
(1) المدونة 6 / 192.
(2) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 4 / 402.
(3) نهاية المحتاج 4 / 402.
(4) مغني المحتاج 2 / 191.

(37/302)


الأَْرْضِ وَالْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى الْبِنَاءِ فَلَيْسَ كُل النَّاسِ يَبْنِي، وَغَسْل الثِّيَابِ وَالأَْوَانِي لاَ بُدَّ مِنْهُ لِكُل النَّاسِ أَوِ الْغَالِبِ وَهُوَ بِلاَ شَكٍّ يَزِيدُ عَلَى حَاجَةِ الْبِنَاءِ، فَمَنْ بَنَى حَمَّامًا وَبِجَانِبِهِ أَرْضٌ لِغَيْرِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ حَقَّ مَمَرِّ الْمَاءِ فَلاَ تَوَقُّفَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ، بَل الْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ حَاجَةِ الْبِنَاءِ عَلَى الأَْرْضِ.
قَال الرَّمْلِيُّ: وَلَعَل مُرَادَ الْمُتَوَلِّي مِنْ ذَلِكَ حَيْثُ كَانَ عَلَى السَّطْحِ وَلَمْ يَحْصُل الْبَيَانُ فِي قَدْرِ مَا يَصُبُّ (1) ، وَقَال الإِْسْنَوِيُّ: وَشَرْطُ الْمُصَالَحَةِ عَلَى إِجْرَاءِ مَاءِ الْمَطَرِ عَلَى سَطْحِ غَيْرِهِ أَنْ لاَ يَكُونَ لَهُ مَصْرِفٌ إِلَى الطَّرِيقِ إِلاَّ بِمُرُورِهِ عَلَى سَطْحِ جَارِهِ (2) .
وَمَحَل الْجَوَازِ فِي الثَّلْجِ إِذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ لاَ فِي سَطْحِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ، وَيُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ السَّطْحِ الَّذِي يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ أَوْ مِنْهُ الْمَاءُ، سَوَاءٌ كَانَ بِبَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ إِعَارَةٍ، لأَِنَّ الْمَطَرَ يَقِل بِصِغَرِهِ وَيَكْثُرُ بِكِبَرِهِ، وَمَعْرِفَةُ قَدْرِ السَّطْحِ الَّذِي يَجْرِي إِلَيْهِ وَقُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَحَمَّل قَلِيل الْمَاءِ دُونَ كَثِيرِهِ، وَلاَ يَضُرُّ الْجَهْل بِقَدْرِ مَاءِ الْمَطَرِ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ لأَِنَّهُ عَقْدٌ جُوِّزَ لِلْحَاجَةِ.
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 402.
(2) مغني المحتاج 2 / 191، ونهاية المحتاج 4 / 402.

(37/302)


ثُمَّ إِنْ عُقِدَ عَلَى الأَْوَّل بِصِيغَةِ الإِْجَارَةِ فَلاَ بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَوْضِعِ الإِْجْرَاءِ وَبَيَانِ طُولِهِ وَعَرْضِهِ وَعُمْقِهِ وَقَدْرِ الْمُدَّةِ إِنْ كَانَتِ الإِْجَارَةُ مُقَدَّرَةً بِهَا، وَإِلاَّ فَلاَ يُشْتَرَطُ بَيَانُ قَدْرِهَا، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ مَحْفُورًا وَإِلاَّ فَلاَ يَصِحُّ لأَِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لاَ يَمْلِكُ الْحَفْرَ (1) .
وَأَمَّا بَيْعُ مَسِيل الْمَاءِ فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَإِنْ عَقَدَ بِصِيغَةِ الْبَيْعِ بِأَنْ قَال: بِعْتُكَ مَسِيل الْمَاءِ وَجَبَ بَيَانُ الطُّول وَالْعَرْضِ، وَفِي الْعُمْقِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ هَل يَمْلِكُ مَوْضِعَ الْجَرَيَانِ أَمْ لاَ؟ قَال الرَّافِعِيُّ وَإِيرَادُ النَّاقِلِينَ يَمِيل إِلَى تَرْجِيحِ الْمِلْكِ، وَقَال الشِّرْبِينِيُّ: لاَ يَجِبُ بَيَانُ الْعُمْقِ لأَِنَّهُ مَلَكَ الْقَرَارَ، قَال الإِْسْنَوِيُّ: وَإِنْ عَقَدَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ فَهَل يَنْعَقِدُ بَيْعًا أَوْ إِجَارَةً؟ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ الشَّيْخَانِ، وَصَرَّحَ فِي الْكِفَايَةِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بَيْعًا سَوَاءٌ وَجَّهَ الْعَقْدَ إِلَى الْحَقِّ أَوِ الْعَيْنِ، قَال عَمِيرَةُ: قَدْ قَالُوا فِي مَسْأَلَةِ الْبِنَاءِ أَنَّهُ لاَ يُمْلَكُ عَيْنًا، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيمَا يَظْهَرُ وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ لَفْظَ مَسْأَلَةِ الْمَاءِ مَثَلاً يَنْصَرِفُ إِلَى الْعَيْنِ بِخِلاَفِ قَوْلِهِ: بِعْتُكَ رَأْسَ الْجِدَارِ لِلْبِنَاءِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ صَالَحَ رَجُلٌ عَلَى إِجْرَاءِ مَاءِ سَطْحِهِ مِنَ الْمَطَرِ عَلَى سَطْحٍ آخَرَ، أَوْ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) حاشية عميرة على شرح المحلي 3 / 317، ومغني المحتاج 2 / 191.

(37/303)


صَالَحَهُ عَلَى إِجْرَاءِ مَاءِ الْمَطَرِ فِي أَرْضِهِ حَال كَوْنِ الْمَاءِ مِنْ سَطْحِهِ، أَوْ صَالَحَهُ عَلَى إِجْرَاءِ مَاءِ الْمَطَرِ فِي أَرْضِهِ حَال كَوْنِهِ عَنْ أَرْضِهِ، جَازَ الصُّلْحُ فِي ذَلِكَ إِذَا كَانَ مَا يَجْرِي مَاؤُهُ مِنْ أَرْضٍ أَوْ سَطْحٍ مَعْلُومًا لَهُمَا إِمَّا بِالْمُشَاهَدَةِ وَإِمَّا بِمَعْرِفَةِ مِسَاحَةِ السَّطْحِ أَوِ الأَْرْضِ الَّتِي يَنْفَصِل مَاؤُهَا، لأَِنَّ الْمَاءَ يَخْتَلِفُ بِصِغَرِ السَّطْحِ وَالأَْرْضِ وَكِبَرِهِمَا، فَاشْتُرِطَ مَعْرِفَتُهُمَا.
وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا مَعْرِفَةُ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ إِلَى السَّطْحِ أَوْ إِلَى الأَْرْضِ، دَفْعًا لِلْجَهَالَةِ، وَلاَ تَفْتَقِرُ صِحَّةُ الإِْجَارَةِ إِلَى ذِكْرِ الْمُدَّةِ لِدَعْوَى الْحَاجَةِ إِلَى تَأْبِيدِ ذَلِكَ، فَيَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ غَيْرَ مُقَدَّرٍ مُدَّةً كَنِكَاحٍ. لَكِنْ قَال ابْنُ رَجَبٍ فِي الْقَوَاعِدِ فِي السَّابِعَةِ وَالثَّمَانِينَ: لَيْسَ بِإِجَارَةٍ مَحْضَةٍ؛ لِعَدَمِ تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ، بَل هُوَ شَبِيهٌ بِالْبَيْعِ، بِخِلاَفِ السَّاقِيَةِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا غَيْرُ مَاءِ الْمَطَرِ فَكَانَتْ بَيْعًا تَارَةً وَإِجَارَةً تَارَةً أُخْرَى، فَاعْتُبِرَ فِيهَا تَقْدِيرُ الْمُدَّةِ وَإِنْ كَانَتِ الأَْرْضُ أَوِ السَّطْحُ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ الْمَاءُ مُسْتَأْجَرًا أَوْ عَارِيَةً، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَالِحَ الْمُسْتَأْجِرَ أَوِ الْمُسْتَعِيرَ عَلَى إِجْرَاءِ الْمَاءِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ أَمَّا فِي السَّطْحِ فَلِتَضَرُّرِهِ بِذَلِكَ، وَأَمَّا فِي الأَْرْضِ فَلأَِنَّهُ يَجْعَل لِغَيْرِ صَاحِبِ الأَْرْضِ رَسْمًا، فَرُبَّمَا ادَّعَى مِلْكَهَا بَعْدُ. وَيَحْرُمُ إِجْرَاءُ مَاءٍ فِي مِلْكِ

(37/303)


إِنْسَانٍ بِلاَ إِذْنِهِ. وَلَوْ مَعَ عَدَمِ تَضَرُّرِهِ، أَوْ مَعَ عَدَمِ تَضَرُّرِ أَرْضِهِ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لِمِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَاءِ مَضْرُورًا إِلَى إِجْرَائِهِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ. فَلاَ يَجُوزُ لَهُ.
وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ مِنْ نَهْرِهِ، أَوْ مِنْ عَيْنِهِ أَوْ بِئْرِهِ مُدَّةً - وَلَوْ مُعَيَّنَةً - لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ لِعَدَمِ مِلْكِهِ الْمَاءَ، لأَِنَّ الْمَاءَ الْعِدَّ لاَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الأَْرْضِ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى سَهْمٍ مِنَ النَّهْرِ أَوِ الْعَيْنِ أَوِ الْبِئْرِ كَثُلُثٍ وَنَحْوِهِ مِنْ رُبُعٍ أَوْ خُمُسٍ جَازَ الصُّلْحُ، وَكَانَ ذَلِكَ بَيْعًا لِلْقَرَارِ أَيْ لِلْجُزْءِ الْمُسَمَّى مِنَ الْقَرَارِ وَالْمَاءُ تَابِعٌ لِلْقَرَارِ، فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مَا لِكُل مِنْهُمَا فِيهِ (1) .

ب - إِرْثُهُ وَالْوَصِيَّةُ بِهِ
4 - الْمَسِيل مِنَ الْحُقُوقِ الاِرْتِفَاقِيَّةِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى قَبُولِهِ التَّوَارُثَ لأَِنَّ الْوِرَاثَةَ خِلاَفَةٌ قَهْرِيَّةٌ بِحُكْمِ الشَّارِعِ وَلَيْسَتْ مِنْ قَبِيل التَّمَلُّكِ الاِخْتِيَارِيِّ فَلَمْ تُشْتَرَطْ فِيهَا الْمَالِيَّةُ وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهَا، لأَِنَّهَا تُشْبِهُ الْمِيرَاثَ مِنْ نَاحِيَةِ أَنَّ التَّمَلُّكَ فِيهَا إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلِذَا قَالُوا: إِنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، فَمَا يَجُوزُ التَّوَارُثُ فِيهِ يَجُوزُ الإِْيصَاءُ بِهِ، فَمَثَلاً إِذَا أَوْصَى صَاحِبُ شِرْبٍ لآِخَرَ بِأَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ مِنْ شِرْبِهِ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 402 - 403.

(37/304)


جَازَ ذَلِكَ وَكَانَ لِلْمُوصَى لَهُ سَقْيُ أَرْضِهِ، وَيَنْتَهِي حَقُّهُ فِي ذَلِكَ بِوَفَاتِهِ، لأَِنَّهَا وَصِيَّةٌ بِمَنَافِعَ وَهِيَ تَنْتَهِي بِمَوْتِ الْمُنْتَفِعِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْكَاسَانِيُّ فِي الْبَدَائِعِ (1) .

اعْتِبَارُ الْقِدَمِ فِي حَقِّ الْمَسِيل
5 - يُعْتَبَرُ الْقِدَمُ فِي حَقِّ الْمَسِيل - لَكِنِ الْقِدَمُ غَيْرُ مُنْشِئٍ لِلْحَقِّ (2) وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَعَ تَفْصِيلٍ أَوْرَدَهُ بَعْضُ الْمَذَاهِبِ وَمَعْنَى اعْتِبَارِهِ:
أَنْ يَتْرُكَ الْمَسِيل وَمَا يُمَاثِلَهُ كَالْمِيزَابِ عَلَى وَجْهِهِ الْقَدِيمِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الشَّيْءَ الْقَدِيمَ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ وَلاَ يَتَغَيَّرُ إِلاَّ أَنْ يَقُومَ الدَّلِيل عَلَى خِلاَفِهِ.
أَمَّا الْقَدِيمُ الْمُخَالِفُ لِلشَّرْعِ فَلاَ اعْتِبَارَ لَهُ، يَعْنِي إِذَا كَانَ الشَّيْءُ الْمَعْمُول غَيْرَ مَشْرُوعٍ فِي الأَْصْل فَلاَ اعْتِبَارَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا، وَيُزَال إِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَاحِشٌ، لأَِنَّ الْقَاعِدَةَ الْعَامَّةَ لِبَقَاءِ حَقِّ الْمَسِيل وَمَا يُمَاثِلُهُ مِنْ حُقُوقٍ: أَلاَّ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا ضَرَرٌ، وَإِلاَّ وَجَبَ إِزَالَةُ مَنْشَأِ هَذَا الضَّرَرِ، فَمَثَلاً إِذَا كَانَ لِدَارٍ مَسِيل مَاءٍ قَذِرٍ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ وَلَوْ مِنَ الْقَدِيمِ وَكَانَ فِيهِ ضَرَرٌ لِلْمَارَّةِ فَإِنَّ ضَرَرَهُ يُرْفَعُ، وَلاَ اعْتِبَارَ لِقِدَمِهِ، لأَِنَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 189 - 190، تبيين الحقائق 6 / 41 - 43، وحاشية ابن عابدين 4 / 113، وما بعدها، وحاشية الدسوقي 4 / 457، ومغني المحتاج 3 / 4 ولم ينص على حق المسيل وإنما ذكر الحقوق اللازمة.
(2) العقد المنظم للأحكام 2 / 127، وفتاوى قاضيخان 3 / 213.

(37/304)


الضَّرَرَ لاَ يَكُونُ قَدِيمًا لِوُجُوبِ إِزَالَتِهِ (1) .
قَال الْبُهُوتِيُّ: وَمَتَى وَجَدَ سَيْل مَائِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، أَوْ وَجَدَ مَجْرَى مَاءِ سَطْحِهِ عَلَى سَطْحِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ سَبَبَهُ فَهُوَ حَقٌّ لَهُ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ وَضْعُهُ بِحَقِّ مِنْ صُلْحٍ أَوْ غَيْرِهِ خُصُوصًا مَعَ تَطَاوُل الأَْزْمِنَةِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْقِدَمُ يَتَحَقَّقُ بِمُضِيِّ عَشْرِ سَنَوَاتٍ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَبِمُضِيِّ عِشْرِينَ سَنَةٍ عِنْدَ أَصْبَغٍ، وَعَنْ سَحْنُونٍ فِي مَصَبِّ مَاءٍ أَوْ مَسِيلٍ يَكْفِي مُضِيُّ أَرْبَعِ سَنَوَاتٍ عَلَيْهِ، قَال الْوَنْشَرِيسِيُّ: وَبِالأَْوَّل مَضَى الْعَمَل (3) .
وَقَدْ فَرَّعَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى ذَلِكَ فُرُوعًا:
فَقَدْ جَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: لِدَارٍ مَسِيل مَطَرٍ عَلَى دَارِ الْجَارِ مِنَ الْقَدِيمِ وَإِلَى الآْنِ، فَلَيْسَ لِلْجَارِ مَنْعُهُ قَائِلاً: لاَ أَدَعُهُ يَسِيل بَعْدَ ذَلِكَ (4) .
قَال فِي الْخَانِيَةِ: وَهَذَا جَوَابُ الاِسْتِحْسَانِ
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 393، 395، 401 وما بعدها، وكشاف القناع 3 / 412، ومجلة الأحكام العدلية بشرح الأتاسي المادة 1224، وانظر المادة (6) و (7) ، بدائع الصنائع 6 / 189 وما بعدها، والمعيار المعرب 9 / 41 - 42 - 43، 10 / 275 العقد المنظم للأحكام 2 / 127 - 128، وانظر الموسوعة الفقهية 3 / 11 ف 7.
(2) كشاف القناع 3 / 412.
(3) المعيار 9 / 41 - 43 العقد المنظم للأحكام 2 / 127 - 128.
(4) مجلة الأحكام العدلية المادة 1229 بشرح الأتاسي.

(37/305)


فِي الْمِيزَابِ وَمَسِيل مَاءِ السَّطْحِ، وَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ مَسِيل مَاءٍ فِي دَارِهِ، وَالْفَتْوَى عَلَى جَوَابِ الاِسْتِحْسَانِ (1) .
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ نَحْوَهُ قَال الْبُهُوتِيُّ: فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي أَنَّهُ وُضِعَ بِحَقِّ أَوَّلاً، فَقَوْل صَاحِبِ الْمَسِيل وَنَحْوِهِ إِنَّهُ وُضِعَ بِحَقِّ مَعَ يَمِينِهِ عَمَلاً بِظَاهِرِ الْحَال، فَإِنْ زَال فَلِرَبِّهِ إِعَادَتُهُ لأَِنَّ الظَّاهِرَ اسْتِمْرَارُ حَقِّهِ فِيهِ فَلاَ يَزُول حَتَّى يُوجَدَ مَا يُخَالِفُهُ (2) .
وَجَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ الْمَادَّةِ (1230) : (دُورٌ فِي طَرِيقٍ لَهَا مَيَازِيبٌ مِنْ قَدِيمٍ مُنَصَّبَةٌ عَلَى ذَلِكَ الطَّرِيقِ، وَمِنْهُ تَمْتَدُّ إِلَى عَرْصَةٍ وَاقِعَةٍ فِي أَسْفَلِهِ جَارِيَةٍ مِنَ الْقَدِيمِ لَيْسَ لِصَاحِبِ الْعَرْصَةِ سَدُّ ذَلِكَ الْمَسِيل الْقَدِيمِ، فَإِنْ سَدَّهُ يُرْفَعُ السَّدُّ مِنْ طَرَفِ الْحَاكِمِ وَيُعَادُ إِلَى وَضْعِهِ الْقَدِيمِ) لأَِنَّهُ يُرِيدُ بِالسَّدِّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ عَرْصَتِهِ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ بِالطَّرِيقِ الَّذِي تُنْصَبُ إِلَيْهِ الْمَيَازِيبُ وَهُوَ لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّ ذَلِكَ الطَّرِيقَ إِنْ كَانَ خَاصًّا فَفِيهِ دَفْعُ الضَّرَرِ الْخَاصِّ بِمِثْلِهِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَادَّةِ (25) أَنَّ الضَّرَرَ لاَ يُزَال بِمِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا فَفِيهِ دَفْعُ الضَّرَرِ الْخَاصِّ بِالضَّرَرِ الْعَامِّ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَادَّةِ (26) أَنَّهُ
__________
(1) فتاوى قاضيخان 3 / 213.
(2) كشاف القناع 3 / 412.

(37/305)


يُتَحَمَّل الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ وَلاَ سَبِيل إِلَى رَفْعِ الْمَيَازِيبِ عَنِ الطَّرِيقِ الْخَاصِّ لأَِنَّهَا قَدِيمَةٌ وَلاَ عَنِ الطَّرِيقِ الْعَامِّ لأَِنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقِ الضَّرَرُ حَيْثُ كَانَ مَسِيل الْمَاءِ إِلَى الْعَرْصَةِ الْمَذْكُورَةِ قَدِيمًا فَاتَّضَحَ بِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّرِيقِ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ مَا يَعُمُّ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الإِْطْلاَقِ (1) .
وَقَال فِي الْمَادَّةِ (1232) مِنَ الْمَجَلَّةِ (حَقُّ مَسِيلٍ لِسِيَاقٍ مَالِحٍ فِي دَارٍ لَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّارِ أَوْ لِمُشْتَرِيهَا إِذَا بَاعَهَا مَنْعُ جَرْيِهِ بَل يَبْقَى كَمَا فِي السَّابِقِ) قَال شَارِحُهَا: نَعَمْ لِلْمُشْتَرِي إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِذَلِكَ وَقْتَ الْبَيْعِ خِيَارُ الْفَسْخِ لأَِنَّهُ عَيْبٌ وَهُوَ ثَابِتٌ بِحَقٍّ لاَزِمٍ وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي مَنْعُهُ كَمَا فِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ (2) .

نَفَقَةُ إِصْلاَحِ الْمَسِيل
6 - قَال ابْنُ هُبَيْرَةَ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ حَقٌّ فِي إِجْرَاءِ مَاءٍ عَلَى سَطْحِ غَيْرِهِ أَنَّ نَفَقَةَ السَّطْحِ عَلَى صَاحِبِهِ (3) .

قِسْمَةُ الْمَسِيل وَدُخُولُهُ فِي الْمَقْسُومِ
7 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ مَسِيل مَاءٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَأَرَادَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ ذَلِكَ وَأَبَى الآْخَرُ، فَإِنْ
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية المادة 1230 و 1232 بشرح الأتاسي.
(2) شرح المجلة للأتاسي 4 / 173.
(3) الإفصاح 1 / 381.

(37/306)


كَانَ فِيهِ مَوْضِعٌ يَسِيل مِنْهُ مَاؤُهُ سِوَى هَذَا قُسِمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ إِلاَّ بِضَرَرٍ لَمْ يُقْسَمْ (1) .
وَأَمَّا دُخُول الْمَسِيل فِي الْعَقَارِ الْمَقْسُومِ فَقَدْ نَصَّتِ الْمَادَّةُ (1165) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ عَلَى أَنَّ حَقَّ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيل فِي الأَْرَاضِيِ الْمُجَاوِرَةِ لِلْمَقْسُومِ دَاخِلٌ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى كُل حَالٍ فِي أَيِّ حِصَّةٍ وَقَعَ يَكُونُ مِنْ حُقُوقِ صَاحِبِهَا، سَوَاءٌ قِيل: بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا أَوْ لَمْ يُقَل.
قَال شَارِحُهَا الأَْتَاسِيُّ: احْتُرِزَ بِقَوْلِهِ فِي الأَْرَاضِيِ الْمُجَاوِرَةِ عَمَّا إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ أَوِ الْمَسِيل فِي الْحِصَّةِ الأُْخْرَى فَحُكْمُهُ كَمَا فِي الْمَادَّةِ الآْتِيَةِ (1166) ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ: (سَوَاءٌ قِيل بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا) هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي مُخْتَصَرِهِ (كَمَا فِي (الْهِنْدِيَّةِ) .
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الأَْصْل: إِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ بَيْنَ قَوْمٍ مِيرَاثًا اقْتَسَمُوهَا بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَأَصَابَ كُل إِنْسَانٍ مِنْهُمْ قَرَاحٌ عَلَى حِدَةٍ، فَلَهُ مَسِيل مَائِهِ وَكُل حَقٍّ لَهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا لاَ يَدْخُلاَنِ (كَذَا فِي الْمُحِيطِ) .
وَنَقَل شَارِحُ الْمَجَلَّةِ عَنِ الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ عَازِيًا لِلذَّخِيرَةِ مَا نَصُّهُ: وَذَكَرَ شَيْخُ الإِْسْلاَمِ فِي قِسْمَةِ الأَْرَاضِيِ وَالْقُرَى: أَنَّ الطَّرِيقَ وَمَسِيل الْمَاءِ يَدْخُلاَنِ فِي الْقِسْمَةِ بِدُونِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 207.

(37/306)


وَالْمَرَافِقِ إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ وَمَسِيل الْمَاءِ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ، وَلَمْ يَكُونَا فِي أَنْصِبَائِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ لِكُل وَاحِدٍ إِحْدَاثُ هَذِهِ الْحُقُوقِ فِي أَنْصِبَائِهِ حَتَّى لاَ تَفْسُدَ الْقِسْمَةُ.
وَعَلَيْهِ مَحْمَل كَوْنِ الصَّحِيحِ أَنَّ الطَّرِيقَ وَالْمَسِيل لاَ يَدْخُلاَنِ، عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُونَا فِي أَرْضِ الْغَيْرِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْمَادَّةِ (فِي الأَْرَاضِي الْمُجَاوِرَةِ) . (1)
وَنَصَّتِ الْمَادَّةُ (1166) مِنَ الْمَجَلَّةِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا شُرِطَ حِينَ الْقِسْمَةِ كَوْنَ طَرِيقِ الْحِصَّةِ أَوْ مَسِيلِهَا فِي الْحِصَّةِ الأُْخْرَى فَالشَّرْطُ مُعْتَبَرٌ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُونَا مَوْجُودَيْنِ قَبْل الْقِسْمَةِ، وَمِثْلُهُ - بَل أَوْلَى - مَا إِذَا كَانَا مَوْجُودَيْنِ قَبْلَهَا فَاشْتَرَطَا تَرْكَهُمَا عَلَى حَالِهِمَا.
وَقَوْلُهُ: (إِذَا شُرِطَ) احْتِرَازٌ عَمَّا إِذَا لَمْ يُشْتَرَطْ شَيْءٌ وَحُكْمُهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَادَّةِ وَهُوَ (إِذَا كَانَ طَرِيقُ حِصَّتِهِ فِي حِصَّةٍ أُخْرَى، وَلَمْ يُشْتَرَطْ بَقَاؤُهُ حِينَ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ كَانَ قَابِل التَّحْوِيل إِلَى طَرَفٍ آخَرَ يُحَوَّل سَوَاءٌ قِيل حِينَ الْقِسْمَةِ: بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا أَوْ لَمْ يُقَل، أَمَّا إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ غَيْرَ قَابِلٍ التَّحْوِيل إِلَى طَرَفٍ آخَرَ فَيُنْظَرُ إِنْ قِيل حِينَ الْقِسْمَةِ بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا فَالطَّرِيقُ دَاخِلٌ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يُذْكُرِ التَّعْبِيرُ الْعَامُّ كَقَوْلِهِمْ بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية المادة 1165 بشرح الأتاسي، والفتاوى الهندية 5 / 211.

(37/307)


تَنْفَسِخِ الْقِسْمَةُ (1) ، وَالْمَسِيل فِي هَذَا الْخُصُوصِ كَالطَّرِيقِ بِعَيْنِهِ.

الْمَسِيل الْوَاقِعُ فِي دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ
8 - نَصَّتِ الْمَادَّةُ (1168) مِنَ الْمَجَلَّةِ عَلَى أَنَّهُ: (إِذَا كَانَ لِوَاحِدٍ حَقُّ مَسِيلٍ فِي دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ فَفِي قِسْمَةِ الدَّارِ بَيْنَهُمَا يُتْرَكُ الْمَسِيل عَلَى حَالِهِ) (2) .

إِحْدَاثُ الْمَسِيل فِي مِلْكٍ عَامٍّ أَوْ مِلْكٍ خَاصٍّ
9 - نَصَّتِ الْمَادَّةُ (1231) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ: عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يُجْرِيَ مَسِيل مَحَلِّهِ الْمُحْدَثِ إِلَى دَارِ آخَرَ، الْمُرَادُ أَنَّهُ لَيْسَ لأَِحَدٍ إِحْدَاثُ مَسِيل مَحَلِّهِ إِلَى دَارِ آخَرَ حَتَّى لَوْ كَانَ مَحَلُّهُ قَدِيمًا.
فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَوِّل مَسِيلَهُ إِلَى دَارِ غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُضِرًّا أَوْ لاَ، لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِلاَ إِذْنِهِ، وَكَمَا جَاءَ فِي الْمَادَّةِ (96) أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ، حَتَّى لَوْ أَذِنَ لَهُ بِذَلِكَ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ كَمَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْمَادَّةُ (1226) (لِلْمُبِيحِ صَلاَحِيَةُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ إِبَاحَتِهِ وَالضَّرَرُ لاَ يَكُونُ لاَزِمًا بِالإِْذْنِ وَالرِّضَا. .) . (3)
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية المادة 1167، وانظر الفتاوى الهندية 5 / 211 لإيرادها تفصيلات وتفريعات وكذا شرح المجلة للشيخ الأتاسي.
(2) انظر مجلة الأحكام العدلية بشرح الشيخ الأتاسي المادة المذكورة.
(3) انظر مجلة الأحكام العدلية بشرح الأتاسي المادة المذكورة.

(37/307)


وَقَال الْبُهُوتِيُّ: (وَيَحْرُمُ إِجْرَاءُ مَاءٍ فِي مِلْكِ إِنْسَانٍ بِلاَ إِذْنِهِ وَلَوْ مَعَ عَدَمِ تَضَرُّرِهِ أَوْ مَعَ عَدَمِ تَضَرُّرِ أَرْضِهِ بِذَلِكَ، لأَِنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لِمِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَاءِ مَضْرُورًا إِلَى إِجْرَائِهِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ (1) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
قَال الْوَنْشَرِيسِيُّ: الْمَرَافِقُ الَّتِي لاَ ضَرَرَ فِيهَا لاَ يُمْنَعُ مِنْهَا مَنْ أَرَادَ إِحْدَاثَهَا لأَِنَّهُ يَنْتَفِعُ هُوَ وَغَيْرُهُ لاَ يَسْتَضِرُّ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَرَافِقِ الَّتِي فِيهَا يَسِيرُ ضَرَرٍ عَلَى الْجَارِ هَل يُقْضَى بِهَا عَلَيْهِ أَوْ يُنْدَبُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ عَلَى قَوْلَيْنِ كَغَرْزِ الرَّجُل خَشَبَةَ حَائِطِهِ فِي جِدَارِ جَارِهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي مَال الْجَارِ مَعَ شَيْءٍ مِنْ ضَرَرٍ فَكَيْفَ مَا لاَ ضَرَرَ فِيهِ بِوَجْهٍ.
أَمَّا إِنْ أَحْدَثَ الرَّجُل فِي طَرِيقٍ مَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى مَنْ يَمُرُّ فِيهِ فَلاَ يَسُوغُ لَهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فِي الطَّرِيقِ الْمُتَمَلَّكَةِ كَمَا فِي النَّازِلَةِ، وَلاَ يَسُوغُ ذَلِكَ فِي الْمَحَجَّاتِ وَلاَ فِي الطَّرِيقِ غَيْرِ الْمُتَمَلَّكَةِ بِإِذْنٍ وَلاَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ غَيْرُ خَاصَّةٍ بِالإِْذْنِ فَلاَ إِذْنَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ.
ثُمَّ قَال: رَجُلٌ لَهُ مَسْكَنٌ نَازَعَهُ جَارُهُ فِي مِرْحَاضٍ بِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي قِدَمِهِ وَحُدُوثِهِ.
وَسَاقَ تَفْصِيل الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ قَال: إِنْ كَانَ مَا
__________
(1) كشاف القناع 3 / 402 - 403.

(37/308)


ذُكِرَ مِنَ الْمَجْرَى مُضِرَّةٌ بِالطَّرِيقِ بِسَبَبِ الْمِرْحَاضِ فَالْحُكْمُ الْمَنْعُ مِنْ كُل مَا يَضُرُّ بِالطَّرِيقِ وَلاَ تُسْتَحَقُّ عَلَى الطُّرُقِ إِذَا كَانَ فِيهِ إِضْرَارٌ بِهَا لأَِنَّ الطَّرِيقَ قَدِيمَةٌ وَمَصَالِحَهَا عَامَّةٌ وَالإِْحْدَاثَاتُ الْمُضِرَّةُ بِهَا تُرْفَعُ عَنْهَا وَإِنْ قَدُمَتْ، فَيُتْرَكُ الْكُرْسِيُّ فِي دَارِ صَاحِبِه وَالْمَجْرَى إِذَا لَمْ يَثْبُتْ حُدُوثُ مَضَرَّةٍ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَلَى أَحَدٍ، وَيُمْنَعُ مَالِكُ الْمَجْرَى مِنْ إِجْرَاءِ مِرْحَاضِهِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَتْ تُفْضِي إِلَى طَرِيقِ النَّاسِ (1) .
وَقَال فِي الْبَهْجَةِ: إِذَا تَنَازَعَا فِي قِدَمِهِ وَحُدُوثِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْحُدُوثِ حَتَّى يُثْبِتَا خِلاَفَهُ (2) .

مُشَاعٌ

انْظُرْ: شُيُوعٌ
__________
(1) المعيار المعرب للونشريسي 10 / 277 - 278.
(2) البهجة 2 / 338.

(37/308)


مُشَافَهَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُشَافَهَةُ لُغَةً: مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ: مُفَاعَلَةٍ الدَّال غَالِبًا عَلَى الْمُشَارَكَةِ الْحَاصِلَةِ أَوِ الْمُتَوَقَّعَةِ، مِنْ شَفَهَهُ يُشَافِهُهُ إِذَا خَاطَبَهُ مُتَكَلِّمًا مَعَهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
1 - الْمُجَادَلَةُ:
2 - أَصْل الْجَدَل الْمُنَاظَرَةُ وَالْمُخَاصَمَةُ بِمَا يَشْغَل عَنْ ظُهُورِ الْحَقِّ وَوُضُوحِ الصَّوَابِ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُجَادَلَةِ وَالْمُشَافَهَةِ التَّلاَزُمُ، فَالْمُجَادَلَةُ لاَ تَتِمُّ غَالِبًا إِلاَّ مُشَافَهَةً.
__________
(1) المصباح المنير والمعجم الوسيط.
(2) جواهر الإكليل شرح مختصر خليل 2 / 231 ط. دار المعرفة. بيروت، والوجيز في فقه مذهب الإمام الشافعي 2 / 244 ط. مطبعة الآداب.
(3) المصباح المنير.
(4) قواعد الفقه للبركتي.

(37/309)


ب - الْمُنَاجَاةُ:
2 - الْمُنَاجَاةُ مِنْ نَاجَيْتُ فُلاَنًا مُنَاجَاةً إِذَا سَارَرْتَهُ، وَتَنَاجَى الْقَوْمُ: نَاجَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُنَاجَاةِ وَالْمُشَافَهَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ التَّعْبِيرِ عَمَّا فِي النَّفْسِ بِدُونِ وَاسِطَةٍ إِلاَّ أَنَّ الْمُنَاجَاةَ خَاصَّةٌ بِحَدِيثِ السِّرِّ وَالْمُشَافَهَةَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُشَافَهَةِ:
شُمُول خِطَابِ الشَّارِعِ
4 - اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ فِي الْخِطَابِ الْوَارِدِ مِنَ الْمُشَرِّعِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ مِنْ قَبِيل " يَا أَيُّهَا النَّاسُ " " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا "، " يَا بَنِي آدَمَ " {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} .
وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مُشَافَهَةٌ لِلْمُسْتَمِعِ مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ هَل يَخْتَصُّ بِالْمَوْجُودِينَ حَالَةَ الْخِطَابِ أَوْ يَعُمُّ بِلَفْظِهِ كُل الأُْمَّةِ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللَّهُ الأَْرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا؟ .
فَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْل الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَتَنَاوَل
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والنهاية في غريب الحديث 5 / 25.

(37/309)


بِلَفْظِهِ إِلاَّ مَنْ كَانَ مَوْجُودًا حَالَةَ الْخِطَابِ دُونَ سِوَاهُمْ، وَأَنَّ شُمُول الْحُكْمِ لِمَنْ بَعْدَهُمْ لَمْ يُسْتَفَدْ - فِي الْحَقِيقَةِ - مِنْ صِيغَةِ الْخِطَابِ وَلَفْظِهِ وَإِنَّمَا اسْتُفِيدَ مِنْ أَدِلَّةٍ مُنْفَصِلَةٍ مُجْمَلُهَا مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةَ بِأَهْل زَمَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَدَّى إِلَى جَمِيعِ الأُْمَّةِ حَتَّى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَعُمُّ بِلَفْظِهِ الْجَمِيعَ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

الْقَضَاءُ بِمُشَافَهَةِ الْقَاضِي لِلْقَاضِي
5 - الإِْنْهَاءُ بِالْمُشَافَهَةِ أَوِ الْقَضَاءُ بِالْمُشَافَهَةِ أَنْ يَحْكُمَ الْقَاضِي بِمَا شَافَهَهُ بِهِ قَاضٍ آخَرُ أَوْ يُنَفِّذُهُ، وَشَرْطُ الاِعْتِدَادِ بِهِ - عِنْدَ جُمْهُورِ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ - أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي مَوْضِعِ وِلاَيَتِهِ.
وَلَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ ف 54) .

تَوْلِيَةُ الْقَاضِي وَعَزْلُهُ بِالْمُشَافَهَةِ
6 - تَنْعَقِدُ وِلاَيَةُ الْقَاضِي بِالْمُشَافَهَةِ كَمَا تَنْعَقِدُ بِالْمُرَاسَلَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَكَذَلِكَ عَزْلُهُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ ف 25. وَتَوْلِيَةٌ ف 10) .
__________
(1) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق في علم الأصول ص 128.

(37/310)


الْمُشَافَهَةُ فِي الْعُقُودِ
7 - الأَْصْل فِي الْعُقُودِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنْ تَكُونَ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ بِالْمُشَافَهَةِ، وَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ طُرُقِ التَّعْبِيرِ عَنِ الإِْرَادَةِ كَالْكِتَابَةِ وَالْمُرَاسَلَةِ وَالإِْشَارَةِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عَقْدٌ ف 10 وَمَا بَعْدَهَا، تَعْبِيرٌ ف 3، وَصِيغَةٌ ف 10) .

الإِْجَازَةُ بِالْمُشَافَهَةِ
8 - الإِْجَازَةُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ أَنْ يَقُول الشَّيْخُ لِلرَّاوِي - مُشَافَهَةً أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ مُرَاسَلَةً: أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي الْكِتَابَ الْفُلاَنِيَّ أَوْ مَا صَحَّ عِنْدِي مِنْ أَحَادِيثَ سَمِعْتَهَا.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُحَدِّثُونَ عَلَى أَنَّ أَعْلَى دَرَجَاتِ الإِْجَازَةِ الْمُشَافَهَةُ بِهَا، لاِنْتِفَاءِ الاِحْتِمَالاَتِ فِيهَا، وَتَتْلُوهَا - مِنْ حَيْثُ الدَّرَجَةُ - الْمُرَاسَلَةُ لأَِنَّ الرَّسُول يَضْبِطُ وَيَنْطِقُ، وَبَعْدَهُمَا تَأْتِي الْمُكَاتَبَةُ لأَِنَّ الْكِتَابَةَ لاَ تَنْطِقُ وَإِنْ كَانَتْ تُضْبَطُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ بِالإِْجَازَةِ وَالْعَمَل بِهِ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى الْمَنْعِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي طَاهِرٍ الدَّبَّاسِ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَكِنِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَمَل وَقَال بِهِ جَمَاهِيرُ أَهْل الْعِلْمِ: مِنْ أَهْل الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمُ الْقَوْل بِتَجْوِيزِ الإِْجَازَةِ وَإِبَاحَةِ الرِّوَايَةِ

(37/310)


بِهَا، وَوُجُوبِ الْعَمَل بِالْمَرْوِيِّ بِهَا.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِجَازَةٌ ف 15، 26) .

مُشَافَهَةُ الْمَرْأَةِ
9 - يُبَاحُ لِلْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ أَنْ تُشَافِهَ الرُّفْقَةَ الْمَأْمُونَةَ مِنَ الرِّجَال الَّذِينَ يُمْكِنُ أَنْ تُرَافِقَهُمْ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ لأَِدَاءِ فَرِيضَةِ الْحَجِّ، وَأَنْ يُشَافِهُوهَا حَسْبَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، وَلَهَا أَيْضًا أَنْ تُشَافِهَ الرِّجَال وَأَنْ يُشَافِهُوهَا فِي حَالاَتِ الإِْفْتَاءِ وَالاِسْتِفْتَاءِ، وَالدَّرْسِ وَالتَّدْرِيسِ وَالْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَتَأَكَّدُ حَاجَتُهَا إِلَيْهِ كَالْعِلاَجِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَافَهَ أَكْثَرَ مِنِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ عَنْهُ (1) ، وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَعَل ذَلِكَ أَيْضًا، وَأَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ تَشَافَهَ مَعَ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَخْفَتْ كِتَابَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ وَرَاوَغَتْ فِي الْحِوَارِ وَتَمَادَتْ فِي الإِْنْكَارِ إِلَى أَنِ اشْتَدَّ عَلَيْهَا وَهَدَّدَهَا قَائِلاً: (لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لأَُجَرِّدَنَّكِ) فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ فِي قَوْلِهِ أَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا.
__________
(1) ومثال ذلك ما أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 507) ، ومسلم (3 / 1138) من حديث عائشة " أن هنداً بنت عتبة قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ".

(37/311)


وَالضَّابِطُ فِي إِبَاحَةِ الْمُشَافَهَةِ هُوَ عَدَمُ الْفِتْنَةِ (1) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (عَوْرَةٌ ف 3) ، وَمُصْطَلَحَ اخْتِلاَطٌ ف 4) .
__________
(1) الطرق الحكمية في السياسة الشريعة لابن القيم ص 11 ط. المؤسسة العربية للطباعة والنشر، القاهرة 1961 م.

(37/311)


مُشَاهَدَةٌ

انْظُرْ: رُؤْيَةٌ

مُشَاوَرَةٌ

انْظُرْ: شُورَى

مُشْتَرَكٌ

انْظُرِ: اشْتِرَاكٌ

(37/312)


مُشْتَهَاةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُشْتَهَاةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ مَفْعُولٍ: يُقَال اشْتَهَى الشَّيْءَ: اشْتَدَّتْ رَغْبَتُهُ فِيهِ (1) .
وَاصْطِلاَحًا قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْمُشْتَهَاةُ مِنَ النِّسَاءِ هِيَ مَنْ وَصَلَتْ تِسْعَ سِنِينَ أَوْ أَكْثَرَ، وَنُقِل عَنِ الْمِعْرَاجِ: أَنَّ بِنْتَ خَمْسٍ لاَ تَكُونُ مُشْتَهَاةً اتِّفَاقًا وَبِنْتَ تِسْعٍ فَصَاعِدًا مُشْتَهَاةٌ اتِّفَاقًا، وَفِيمَا بَيْنَ الْخَمْسِ وَالتِّسْعِ اخْتِلاَفُ الرِّوَايَةِ وَالْمَشَايِخِ، وَالأَْصَحُّ أَنَّهَا لاَ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ - أَيْ لَيْسَتْ مُشْتَهَاةً - (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمُشْتَهَاةَ هِيَ الَّتِي يُلْتَذُّ بِهَا الْتِذَاذًا مُعْتَادًا لِغَالِبِ النَّاسِ (3) .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ تَحْدِيدَ الْمُشْتَهَاةِ وَضَبْطَهَا يَرْجِعُ إِلَى الْعُرْفِ (4) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الصَّغِيرَةُ الَّتِي تُشْتَهَى هِيَ بِنْتُ سَبْعِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ (5) .
__________
(1) المعجم الوسيط.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 281، 283.
(3) جواهر الإكليل 1 / 20.
(4) المجموع 2 / 28.
(5) كشاف القناع 1 / 129.

(37/312)


مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُشْتَهَاةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
يَتَعَلَّقُ بِالْمُشْتَهَاةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

أَثَرُ لَمْسِ الْمُشْتَهَاةِ عَلَى الْوُضُوءِ
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ لَمْسَ الْمَرْأَةِ الْمُشْتَهَاةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي الْجُمْلَةِ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حَدَثٌ ف 12، 13، وَلَمْسٌ ف 4) .

الْغُسْل مِنْ جِمَاعِ غَيْرِ الْمُشْتَهَاةِ
3 - قَال الْحَصْكَفِيُّ: جِمَاعُ الصَّغِيرَةِ غَيْرِ الْمُشْتَهَاةِ لاَ يُوجِبُ الْغُسْل وَلاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَإِنْ غَابَتْ فِيهَا الْحَشَفَةُ وَذَلِكَ بِأَنْ تَصِيرَ مُفْضَاةً بِالْوَطْءِ مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِنْزَالٌ، لِقُصُورِ الشَّهْوَةِ فَلاَ يَلْزَمُ مِنْهُ إِلاَّ غَسْل الذَّكَرِ.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: فِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ فَقِيل: يَجِبُ الْغُسْل مُطْلَقًا، وَقِيل: لاَ يَجِبُ مُطْلَقًا، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ الإِْيلاَجُ فِي مَحَل الْجِمَاعِ مِنَ الصَّغِيرَةِ وَلَمْ يَفُضَّهَا - أَيْ لَمْ يَجْعَلْهَا مُخْتَلِطَةَ السَّبِيلَيْنِ - فَهِيَ مِمَّنْ تُجَامَعُ فَيَجِبُ الْغُسْل، وَالْوُجُوبُ مَشْرُوطٌ بِمَا إِذَا زَالَتِ الْبَكَارَةُ لأَِنَّهُ مَشْرُوطٌ فِي الْكَبِيرَةِ فَفِي الصَّغِيرَةِ بِالأَْوْلَى (1) .
وَفِي تَحْدِيدِ الْفَرْجِ الَّذِي يَجِبُ الْغُسْل بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ فِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 1 / 112، 99.

(37/313)


مُصْطَلَحِ (غُسْلٌ ف 10) .

أَثَرُ مُبَاشَرَةِ الْمُشْتَهَاةِ فِي انْتِشَارِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ
4 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ تَنْتَشِرُ بِوَطْءِ الْمُشْتَهَاةِ أَوْ مَسِّهَا بِشَهْوَةٍ، وَقَالُوا بِنْتُ سِنِّهَا دُونَ تِسْعٍ لَيْسَتْ بِمُشْتَهَاةٍ وَبِهِ يُفْتَى وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ سَمِينَةً أَوْ لاَ، وَلِذَا قَال فِي الْمِعْرَاجِ: بِنْتُ خَمْسٍ لاَ تَكُونُ مُشْتَهَاةً اتِّفَاقًا وَبِنْتُ تِسْعٍ فَصَاعِدًا مُشْتَهَاةٌ اتِّفَاقًا وَفِيمَا بَيْنَ الْخَمْسِ وَالتِّسْعِ اخْتِلاَفُ الرِّوَايَةِ وَالْمَشَايِخِ، وَالأَْصَحُّ أَنَّهَا لاَ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ. وَلاَ فَرْقَ فِي انْتِشَارِ الْحُرْمَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ الْوَطْءِ بِالزِّنَا وَالنِّكَاحِ، فَلَوْ تَزَوَّجَ صَغِيرَةً غَيْرَ مُشْتَهَاةٍ فَدَخَل بِهَا فَطَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ جَازَ لِلأَْوَّل التَّزَوُّجُ بِبِنْتِهَا، لِعَدَمِ الاِشْتِهَاءِ، أَمَّا أُمُّهَا فَحَرُمَتْ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَكَذَا تُشْتَرَطُ الشَّهْوَةُ فِي الذَّكَرِ فَلَوْ جَامَعَ صَبِيٌّ غَيْرُ مُرَاهِقٍ امْرَأَةَ أَبِيهِ لاَ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ أَيْ لاَ تَحْرُمُ عَلَى أَبِيهِ، لأَِنَّ مَنْ لاَ يَشْتَهِي لاَ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِجِمَاعِهِ، أَمَّا الصَّبِيُّ الَّذِي وَصَل إِلَى حَدِّ الْمُرَاهَقَةِ وَهُوَ الَّذِي يُجَامِعُ مِثْلُهُ وَيَشْتَهِي وَتَسْتَحِي النِّسَاءُ مِنْ مِثْلِهِ فَهُوَ كَالْبَالِغِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: كَمَا تَنْتَشِرُ الْحُرْمَةُ بِالْوَطْءِ الْحَلاَل فَإِنَّهَا تَنْتَشِرُ بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ بِشُرُوطٍ هِيَ:
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 2 / 281، 282، والفتاوى الهندية 1 / 274 - 275.

(37/313)


1
- بُلُوغُ الْوَاطِئِ.
2 - أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ مِمَّنْ يُتَلَذَّذُ بِهَا.
3 - أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ دَارِئًا لِلْحَدِّ، أَمَّا الْوَطْءُ الْحَرَامُ الَّذِي لاَ يَدْرَأُ الْحَدَّ كَالزِّنَا فَفِيهِ خِلاَفٌ فِي نَشْرِ الْحُرْمَةِ، وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ نَشْرِ الْحُرْمَةِ. وَمُقَدِّمَاتُ الْوَطْءِ كَالْوَطْءِ فِي نَشْرِ الْحُرْمَةِ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ بِسَائِرِ أَنْوَاعِهِ مُوجِبٌ لِلتَّحْرِيمِ، فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ مُبَاحًا أَوْ مُحَرَّمًا بِحَائِلٍ غَيْرِ صَفِيقٍ إِنْ أَحَسَّ بِالْحَرَارَةِ أَوْ بِدُونِهِ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ، لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي فَرْجٍ أَصْلِيٍّ، وَهُوَ يُسَمَّى نِكَاحًا، فَدَخَل فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (2) .
وَقَالُوا: يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ التَّحْرِيمِ حَيَاةُ الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ، فَلَوْ أَوْلَجَ ذَكَرَهُ فِي فَرْجِ مَيِّتَةٍ أَوْ أَدْخَلَتِ امْرَأَةٌ حَشَفَةَ مَيِّتٍ فِي فَرْجِهَا، لَمْ يُؤَثِّرْ فِي تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ مِثْلِهِمَا يَطَأُ وَيُوطَأُ فَلاَ يَتَعَلَّقُ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ بِوَطْءِ صَغِيرٍ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ.
وَعَلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ مِثْلِهِمَا يَطَأُ وَيُوطَأُ فَلَوْ عَقَدَ ابْنُ تِسْعٍ عَلَى امْرَأَةٍ وَأَصَابَهَا وَفَارَقَهَا، حَلَّتْ لَهُ: بِنْتُهَا إِذْ لاَ تَأْثِيرَ لِهَذِهِ الإِْصَابَةِ، فَوُجُودُهَا كَعَدِمِهَا وَكَذَا عَكْسُهُ كَمَا لَوْ أَصَابَ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 240، 251.
(2) سورة النساء / 22.

(37/314)


ابْنُ عَشْرٍ فَأَكْثَرَ مَنْ دُونَ تِسْعِ سِنِينَ، وَفَارَقَهَا، فَبَلَغَتْ، وَاتَّصَلَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَأَتَتْ مِنْهُ بِبِنْتِ، حَلَّتْ تِلْكَ الْبِنْتُ لِمُصِيبِ أُمِّهَا حَال صِغَرِهَا، لأَِنَّهُ لاَ يَحْرُمُ، وَلاَ يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ بِذَلِكَ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ تَحْرِيمَ بِوَطْءِ مَيِّتَةٍ وَمُبَاشَرَةٍ وَنَظَرٍ إِلَى فَرْجٍ لِشَهْوَةِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ بَقِيَّةِ الْبَدَنِ (1) .

حَضَانَةُ الْمُشْتَهَاةِ
5 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ ثُبُوتِ حَقِّ الْحَضَانَةِ لِلْحَاضِنِ غَيْرِ الْمَحْرَمِ كَابْنِ الْعَمِّ وَابْنِ الْعَمَّةِ وَابْنِ الْخَال وَابْنِ الْخَالَةِ أَنْ لاَ تَبْلُغَ الْبِنْتُ الْمَحْضُونَةُ حَدًّا يُشْتَهَى بِمِثْلِهَا.
فَإِذَا بَلَغَتْ هَذَا الْحَدَّ، فَلاَ تُسَلَّمُ إِلَى الْحَاضِنِ الْمَذْكُورِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهَا فَيَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الْحَضَانَةِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ الْمَحْضُونُ ذَكَرًا وَالْحَاضِنُ أُنْثَى غَيْرَ مَحْرَمٍ كَبِنْتِ الْخَالَةِ وَبِنْتِ الْخَال وَبِنْتِ الْعَمَّةِ وَبِنْتِ الْعَمِّ وَنَحْوِهِنَّ فَتَسْتَمِرُّ حَضَانَتُهُ مَعَهَا حَتَّى يَبْلُغَ حَدًّا يَشْتَهِي مِثْلُهُ فَإِذَا بَلَغَ هَذَا الْحَدَّ سَقَطَ حَقُّهَا فِي حَضَانَتِهِ لِعَدَمِ الْمَحْرَمِيَّةِ (2) .
وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَضَانَةٌ ف 9 - 14) .
__________
(1) مطالب أولي النهى 5 / 94 - 95.
(2) كفاية الأخيار 2 / 152، 154، وكشاف القناع 5 / 497، والفتاوى الهندية 1 / 542.

(37/314)


اشْتِرَاطُ كَوْنِ الْفَرْجِ الْمَزْنِيِّ بِهِ مُشْتَهًى لِوُجُوبِ حَدِّ الزِّنَا
6 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَا أَنْ يَكُونَ الْفَرْجُ الْمَزْنِيُّ بِهِ مُشْتَهًى طَبْعًا أَيْ يَشْتَهِيهِ ذَوُو الطَّبَائِعِ السَّلِيمَةِ مِنَ النَّاسِ بِأَنْ كَانَ فَرْجَ آدَمِيٍّ حَيٍّ، وَذَلِكَ احْتِرَازًا عَنْ وَطْءِ الْمَيِّتَةِ فَلاَ يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّهُ مِمَّا يَنْفِرُ عَنْهُ الطَّبْعُ السَّلِيمُ، وَتَعَافُهُ النَّفْسُ، فَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى الزَّجْرِ عَنْهُ بِحَدِّ الزِّنَا (1) .
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ عَلَى مَنْ وَطِئَ مَيِّتَةً، لأَِنَّهُ وَطْءٌ فِي فَرْجِ آدَمِيَّةٍ فَأَشْبَهَ وَطْءَ الْحَيَّةِ، وَلأَِنَّهُ أَعْظَمُ ذَنْبًا وَأَكْثَرُ إِثْمًا، لأَِنَّهُ انْضَمَّ إِلَى الْفَاحِشَةِ هَتْكُ حُرْمَةِ الْمَيِّتَةِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ (2) .
وَاحْتِرَازًا كَذَلِكَ عَنْ وَطْءِ صَغِيرَةٍ غَيْرِ مُشْتَهَاةٍ فَلاَ يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ (3) لاَ عَلَى الرَّجُل الْفَاعِل وَلاَ عَلَى الصَّغِيرَةِ غَيْرِ الْمُشْتَهَاةِ وَلاَ تُحَدُّ الْمَرْأَةُ إِذَا كَانَ الْوَاطِئُ غَيْرَ بَالِغٍ، قَال
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 3 / 141 - 142، وجواهر الإكليل 2 / 283، ومغني المحتاج 4 / 144 - 146، وكفاية الأخيار 2 / 182، والمغني لابن قدامة 8 / 181.
(2) مغني المحتاج 4 / 145، والمغني لابن قدامة 8 / 181.
(3) رد المحتار على الدر المختار 3 / 141، والقوانين الفقهية ص347، والمغني لابن قدامة 8 / 181 - 182، ومغني المحتاج 4 / 146.

(37/315)


الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ حَدَّ عَلَى مَنْ وَطِئَ صَغِيرَةً لَمْ تَبْلُغْ تِسْعًا، لأَِنَّهَا لاَ يُشْتَهَى مِثْلُهَا فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَدْخَل أُصْبُعَهُ فِي فَرْجِهَا، وَكَذَلِكَ لَوِ اسْتَدْخَلَتِ امْرَأَةٌ ذَكَرَ صَبِيٍّ لَمْ يَبْلُغْ عَشْرًا لاَ حَدَّ عَلَيْهَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ وَطْؤُهَا وَمَكَّنَتِ الْمَرْأَةُ مَنْ أَمْكَنَهُ الْوَطْءُ فَوَطِئَهَا أَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْهُمَا فَلاَ يَجُوزُ تَحْدِيدُ ذَلِكَ بِتِسْعِ، وَلاَ عَشْرٍ، لأَِنَّ التَّحْدِيدَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالتَّوْقِيفِ وَلاَ تَوْقِيفَ فِي هَذَا وَكَوْنُ التِّسْعِ وَقْتًا لإِِمْكَانِ الاِسْتِمْتَاعِ غَالِبًا لاَ يَمْنَعُ وُجُودَهُ قَبْل، كَمَا أَنَّ الْبُلُوغَ يُوجَدُ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا غَالِبًا وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ وُجُودِهِ قَبْلَهُ (1) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 181 - 182.

(37/315)


مُشْرِفٌ

انْظُرْ: إِشْرَافٌ

مُشْرِكٌ

انْظُرْ: إِشْرَاكٌ

الْمُشَرِّكَةُ

انْظُرْ: عُمَرِيَّةٌ

(37/316)


مَشْرُوبٌ

انْظُرْ: أَشْرِبَةٌ

(37/316)


مَشْرُوعِيَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَشْرُوعِيَّةُ مَنْسُوبَةٌ لِمَشْرُوعٍ، وَهُوَ مَصْدَرٌ صِنَاعِيٌّ، وَالْمَشْرُوعُ مَا سَوَّغَهُ الشَّرْعُ، وَالشِّرْعَةُ بِالْكَسْرِ فِي اللُّغَةِ: الدِّينُ، وَالشَّرْعُ وَالشَّرِيعَةُ مِثْلُهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ مَوْرِدُ النَّاسِ لِلاِسْتِقَاءِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِوُضُوحِهَا وَظُهُورِهَا وَشَرَعَ اللَّهُ لَنَا كَذَا يَشْرَعُهُ، أَظْهَرَهُ وَأَوْضَحَهُ (1) .
وَقَال التَّهَانَوِيُّ: وَتُطْلَقُ الْمَشْرُوعِيَّةُ عَلَى مَا تَكْتَسِبُهُ الأَْفْعَال أَوِ الأَْشْيَاءُ مِنْ أَحْكَامٍ كَالْبَيْعِ فَإِنَّ لَهُ وُجُودًا حِسِّيًّا، وَمَعَ هَذَا لَهُ وُجُودٌ شَرْعِيٌّ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الصِّحَّةُ:
2 - الصِّحَّةُ لُغَةً: فِي الْبَدَنِ حَالَةٌ طَبِيعِيَّةٌ تَجْرِي أَفْعَالُهُ مَعَهَا عَلَى الْمَجْرَى الطَّبِيعِيِّ، وَقَدِ اسْتُعِيرَتِ الصِّحَّةُ لِلْمَعَانِي فَقِيل صَحَّتِ الصَّلاَةُ إِذَا أُسْقِطَتْ، الْقَضَاءُ، وَصَحَّ الْعَقْدُ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ، وَصَحَّ الْقَوْل إِذَا طَابَقَ
__________
(1) المعجم الوسيط، والمصباح المنير.
(2) كشاف اصطلاحات الفنون 4 / 222.

(37/317)


الْوَاقِعَ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الصِّحَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الْفِعْل مُسْقِطًا لِلْقَضَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ أَوْ سَبَبًا لِتَرَتُّبِ ثَمَرَاتِهِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ شَرْعًا فِي الْمُعَامَلاَتِ وَبِإِزَائِهِ الْبُطْلاَنُ (2) .
وَقَال الْغَزَالِيُّ: إِطْلاَقُ الصِّحَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ عِبَارَةُ عَمَّا وَافَقَ الشَّرْعَ وَجَبَ الْقَضَاءُ أَوْ لَمْ يَجِبْ، وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ عِبَارَةُ عَمَّا أَجْزَأَ وَأَسْقَطَ الْقَضَاءَ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْمَشْرُوعِيَّةِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ.

الْحُكْمُ:
3 - الْحُكْمُ هُوَ الْقَضَاءُ لُغَةً.
وَاصْطِلاَحًا: إِذَا قُيِّدَ بِالشَّرْعِيِّ فَهُوَ خِطَابُ الشَّارِعِ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَال الْمُكَلَّفِينَ اقْتِضَاءً أَوْ تَخْيِيرًا أَوْ وَضْعًا.
هَذَا عِنْدَ عُلَمَاءِ الأُْصُول، أَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ أَثَرُ الْخِطَابِ وَلَيْسَ عَيْنَ الْخِطَابِ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَشْرُوعِيَّةِ وَالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ أَنَّ الْمَشْرُوعِيَّةَ هِيَ أَحَدُ أَوْصَافِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ.
__________
(1) المصباح المنير.
(2) قواعد الفقه للبركتي، وانظر التعريفات للجرجاني.
(3) المستصفى 1 / 94.
(4) مسلم الثبوت 1 / 54، وجمع الجوامع 1 / 35، وإرشاد الفحول ص 6.

(37/317)


الْجَوَازُ:
4 - مِنْ مَعَانِي الْجَوَازِ فِي اللُّغَةِ: الصِّحَّةُ وَالنَّفَاذُ، وَمِنْهُ: أَجَزْتُ الْعَقْدَ جَعَلْتُهُ جَائِزًا نَافِذًا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ مَا لاَ مَنْعَ فِيهِ عَنِ الْفِعْل وَالتَّرْكِ شَرْعًا (2) .

أَدِلَّةُ الْمَشْرُوعِيَّةِ:
5 - قَال الْقَرَافِيُّ: أَدِلَّةُ مَشْرُوعِيَّةِ الأَْحْكَامِ مَحْصُورَةٌ شَرْعًا تَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّارِعِ وَهِيَ نَحْوُ الْعِشْرِينَ، ثُمَّ قَال: فَأَدِلَّةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْقِيَاسُ وَالإِْجْمَاعُ وَالْبَرَاءَةُ الأَْصْلِيَّةُ وَإِجْمَاعُ أَهْل الْمَدِينَةِ وَالاِسْتِحْسَانُ وَالاِسْتِصْحَابُ وَفِعْل الصَّحَابِيِّ وَنَحْوُ ذَلِكَ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

الْخَلَل فِي التَّصَرُّفَاتِ وَأَثَرُهُ فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَاتِ يَنْبَغِي أَنْ تُؤَدَّى كَمَا شُرِعَتْ دُونَ نُقْصَانٍ أَوْ خَلَلٍ حَتَّى تَكُونَ صَحِيحَةً مُجْزِئَةً، وَكُل عِبَادَةٍ تَفْقِدُ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِهَا أَوْ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِهَا فَهِيَ بَاطِلَةٌ، وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَثَرُهَا الشَّرْعِيُّ مِنَ الثَّوَابِ الأُْخْرَوِيِّ وَسُقُوطِ الْقَضَاءِ فِي الدُّنْيَا.
__________
(1) المصباح، والمعجم الوسيط، وفتح القدير 3 / 203 ط. الأميرية.
(2) قواعد الفقه للبركتي.
(3) الفروق 1 / 128.

(37/318)


وَكُل مَا لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ الشَّرْعِيُّ فَهُوَ فَاسِدٌ أَوْ بَاطِلٌ.
وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْعُقُودِ وَالْمُعَامَلاَتِ.
فَالْجُمْهُورُ يُلْحِقُونَ الْمُعَامَلاَتِ بِالْعِبَادَاتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ فِعْلَهَا عَلَى غَيْرِ الصُّورَةِ الْمَشْرُوعَةِ يُلْحِقُ بِهَا الْبُطْلاَنَ وَالْفَسَادَ دُونَ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَهُمُ اصْطِلاَحٌ خَاصٌّ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِل مِنَ الْمُعَامَلاَتِ وَالْعُقُودِ.
وَقَالُوا: إِنَّ الْبَاطِل فِيهَا مَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا لاَ بِأَصْلِهِ وَلاَ بِوَصْفِهِ، كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ.
أَمَّا مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ، وَغَيْرَ مَشْرُوعٍ بِوَصْفِهِ فَإِنَّهُ فَاسِدٌ لاَ بَاطِلٌ كَالْبَيْعِ الرِّبَوِيِّ مَثَلاً، فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بَيْعٌ، وَغَيْرُ مَشْرُوعٍ بِوَصْفِهِ وَهُوَ الْفَضْل، فَكَانَ فَاسِدًا لِمُلاَزَمَتِهِ لِلزِّيَادَةِ وَهِيَ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ فَلَوْ حُذِفَتِ الزِّيَادَةُ لَصَحَّ الْبَيْعُ وَعَادَ إِلَى أَصْلِهِ مِنَ الْمَشْرُوعِيَّةِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ، وَمُصْطَلَحِ (بُطْلاَنٌ ف 10 - 12) .
__________
(1) جمع الجوامع 1 / 105 - 107، والتلويح 1 / 218، وكشف الأسرار 1 / 259، وحاشية الدسوقي 3 / 54، ونهاية المحتاج 3 / 429، والمنثور 3 / 7.

(37/318)


دُخُول الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ
7 - قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّل الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} (1) .
وَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ لاَ عَنْ نِسْيَانٍ فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا (2) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ فِعْل شَيْءٍ مَسْكُوتٍ عَنْهُ عَلَى أَقْوَالٍ وَتَفْصِيلاَتٍ (3) تُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

الأَْسْبَابُ الْمَشْرُوعَةُ أَسْبَابٌ لِلْمَصَالِحِ لاَ لِلْمَفَاسِدِ
8 - قَال الشَّاطِبِيُّ: الأَْسْبَابُ الْمَمْنُوعَةُ أَسْبَابٌ لِلْمَفَاسِدِ لاَ لِلْمَصَالِحِ، كَمَا أَنَّ الأَْسْبَابَ الْمَشْرُوعَةَ أَسْبَابٌ لِلْمَصَالِحِ لاَ لِلْمَفَاسِدِ، مِثَال ذَلِكَ: الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ لأَِنَّهُ سَبَبٌ لإِِقَامَةِ الدِّينِ وَإِظْهَارِ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ وَإِخْمَادِ الْبَاطِل عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَلَيْسَ بِسَبَبٍ فِي الْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ لإِِتْلاَفِ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ وَلاَ نَيْلٍ مِنْ عِرْضٍ، وَإِنْ أَدَّى إِلَى
__________
(1) سورة المائدة / 101.
(2) حديث: " وسكت عن أشياء. . ". أخرجه الدارقطني في سننه (4 / 298) ، وضعفه ابن رجب في " شرح الأربعين النووية " ص 200.
(3) الموافقات 1 / 161 - 176، والبحر المحيط 1 / 167 - 168.

(37/319)


ذَلِكَ فِي الطَّرِيقِ، وَالطَّلَبُ بِالزَّكَاةِ مَشْرُوعٌ لإِِقَامَةِ ذَلِكَ الرُّكْنِ مِنْ أَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ وَإِنْ أَدَّى إِلَى الْقِتَال كَمَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (1) .

الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ

انْظُرْ: مُزْدَلِفَةُ
__________
(1) الموافقات 1 / 237.

(37/319)


مَشَقَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَشَقَّةُ فِي اللُّغَةِ: بِمَعْنَى الْجُهْدِ وَالْعَنَاءِ وَالشِّدَّةِ وَالثِّقَل، يُقَال: شَقَّ عَلَيْهِ الشَّيْءُ يَشُقُّ شَقًّا وَمَشَقَّةً إِذَا أَتْعَبَهُ (1) ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَْنْفُسِ} (2) مَعْنَاهُ: إِلاَّ بِجُهْدِ الأَْنْفُسِ، وَالشِّقُّ: الْمَشَقَّةُ، وَقَال فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: وَشَقَّ الأَْمْرُ عَلَيْنَا يَشُقُّ مِنْ بَابِ قَتَل أَيْضًا فَهُوَ شَاقٌّ، وَشَقَّ عَلَيَّ الأَْمْرُ يَشُقُّ شَقًّا وَمَشَقَّةً أَيْ ثَقُل عَلَيَّ (3) وَالْمَشَقَّةُ اسْمٌ مِنْهُ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَرَجُ:
2 - الْحَرَجُ فِي اللُّغَةِ: بِمَعْنَى الضِّيقِ، وَحَرِجَ صَدْرُهُ حَرَجًا مِنْ بَابِ تَعِبَ: ضَاقَ (4) .
__________
(1) لسان العرب، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير 2 / 491.
(2) سورة النحل / 7.
(3) المصباح المنير.
(4) لسان العرب، والمصباح المنير، والقاموس المحيط، والصحاح في اللغة.

(37/320)


وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْحَرَجُ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ فَوْقَ الْمُعْتَادِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ هِيَ: أَنَّ الْحَرَجَ أَخَصُّ مِنَ الْمَشَقَّةِ.

ب - الرُّخْصَةُ:
3 - الرُّخْصَةُ فِي اللُّغَةِ: الْيُسْرُ وَالسُّهُولَةُ يُقَال: رَخُصَ السِّعْرُ إِذَا تَرَاجَعَ وَسَهُل الشِّرَاءُ (2) .
وَاصْطِلاَحًا: عِبَارَةٌ عَمَّا وُسِّعَ لِلْمُكَلَّفِ فِي فِعْلِهِ لِعُذْرٍ وَعَجْزٍ عَنْهُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ: كَتَنَاوُل الْمَيْتَةِ عِنْدَ الاِضْطِرَارِ، وَجَوَازِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ لِلْمُسَافِرِ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَشَقَّةِ وَالرُّخْصَةِ: هِيَ أَنَّ الْمَشَقَّةَ سَبَبٌ لِلرُّخْصَةِ.

ج - الضَّرُورَةُ:
4 - الضَّرُورَةُ اسْمٌ مِنَ الاِضْطِرَارِ (4) .
وَفِي الشَّرْعِ: بُلُوغُ الإِْنْسَانِ حَدًّا إِنْ لَمْ يَتَنَاوَل الْمَمْنُوعَ هَلَكَ أَوْ قَارَبَ (5) .
وَالصِّلَةُ هِيَ أَنَّ الْمَشَقَّةَ أَعَمُّ مِنَ الضَّرُورَةِ.
__________
(1) الموافقات للشاطبي 2 / 159.
(2) التعريفات للجرجاني، والمصباح المنير.
(3) الموافقات للشاطبي 1 / 301، والتعريفات للجرجاني والمستصفى للغزالي 1 / 98 - 99.
(4) المصباح المنير، والمنثور في القواعد للزركشي 2 / 319، والأشباه للسيوطي ص 85.
(5) المنثور في القواعد 2 / 319، والأشباه للسيوطي ص 85.

(37/320)


د - الْحَاجَةُ
5 - الْحَاجَةُ تُطْلَقُ عَلَى الاِفْتِقَارِ، وَعَلَى مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ مَعَ مَحَبَّتِهِ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ التَّوْسِعَةُ وَرَفْعُ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إِلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ اللاَّحِقَةِ بِفَوْتِ الْمَطْلُوبِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَشَقَّةِ وَالْحَاجَةِ أَنَّ الْحَاجَةَ وَإِنْ كَانَتْ حَالَةَ جُهْدٍ فَهِيَ دُونَ الْمَشَقَّةِ وَمَرْتَبَتُهَا أَدْنَى مِنْهَا (2) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَشَقَّةِ:
أَوَّلاً: أَوْجُهُ الْمَشَقَّةِ
6 - يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمَشَقَّةِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ وَرُخَصٌ مُتَعَدِّدَةٌ، تَعْتَمِدُ عَلَى نَوْعِ الْمَشَقَّةِ وَدَرَجَتِهَا.
وَلاَ تَخْلُو جَمِيعُ التَّكَالِيفِ فِي الشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ مِنْ جِنْسِ الْمَشَقَّةِ أَصْلاً، بَل إِنَّ التَّكْلِيفَ مَا سُمِّيَ بِهَذَا إِلاَّ لأَِنَّهُ طَلَبُ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ، فَلاَ يَخْلُو شَيْءٌ مِنَ التَّكَالِيفِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي أَنَّ أَوْجُهَ الْمَشَقَّةِ أَرْبَعَةٌ.

الْوَجْهُ الأَْوَّل: مَشَقَّةُ مَا لاَ يُطَاقُ
7 - وَهِيَ الْمَشَقَّةُ الَّتِي لاَ يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَى حَمْلِهَا أَصْلاً، فَهَذَا النَّوْعُ لَمْ يَرِدِ التَّكْلِيفُ بِهِ فِي الشَّرْعِ أَصْلاً، إِذْ لاَ قُدْرَةَ لِلْمُكَلَّفِ عَلَيْهِ فِي
__________
(1) المفردات للراغب الأصبهاني.
(2) الموافقات للشاطبي 2 / 10، 11، والأشباه للسيوطي ص 85.

(37/321)


الْعَادَةِ فَلاَ يَقَعُ التَّكْلِيفُ بِهِ شَرْعًا، وَإِنْ جَازَ عَقْلاً، فَتَكْلِيفُ مَا لاَ يُطَاقُ يُسَمَّى مَشَقَّةً مِنْ حَيْثُ كَانَ تَكَلُّفُ الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ بِحَمْلِهِ مُوقِعًا فِي عَنَاءٍ وَتَعَبٍ لاَ يُجْدِي، كَالْمُقْعَدِ إِذَا تَكَلَّفَ الْقِيَامَ، وَالإِْنْسَانُ إِذَا تَكَلَّفَ الطَّيَرَانَ فِي الْهَوَاءِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَحِينَ اجْتَمَعَ مَعَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ الشَّاقُّ الْحَمْل إِذَا تَحَمَّل فِي نَفْسِ الْمَشَقَّةِ سُمِّيَ الْعَمَل شَاقًّا وَالتَّعَبُ فِي تَكَلُّفِ حَمْلِهِ مَشَقَّةٌ (1) .

الْوَجْهُ الثَّانِي: الْمَشَقَّةُ الَّتِي تُطَاقُ لَكِنْ فِيهَا شِدَّةٌ:
8 - الْمَشَقَّةُ الَّتِي تُطَاقُ وَيُمْكِنُ احْتِمَالُهَا، لَكِنْ فِيهَا شِدَّةٌ، وَهَذَا الْوَجْهُ يَكُونُ خَاصًّا بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الْمُعْتَادِ فِي الأَْعْمَال الْعَادِيَةِ، بِحَيْثُ يُشَوِّشُ عَلَى النَّفُوسِ فِي تَصَرُّفِهَا وَيُقْلِقُهَا فِي الْقِيَامِ بِمَا فِيهِ تِلْكَ الْمَشَقَّةُ.
إِلاَّ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْمَشَقَّةُ مُخْتَصَّةً بِأَعْيَانِ الأَْفْعَال الْمُكَلَّفِ بِهَا، بِحَيْثُ لَوْ وَقَعَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً لَوُجِدَتْ فِيهَا، وَهَذَا هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ الرُّخَصُ الْمَشْهُورَةُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ، كَالصَّوْمِ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، وَالإِْتْمَامِ فِي السَّفَرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
__________
(1) الموافقات للشاطبي 2 / 107، 119 - 120، ومسلم الثبوت 1 / 123، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2 / 7.

(37/321)


وَالثَّانِي: أَنْ لاَ تَكُونَ مُخْتَصَّةً وَلَكِنْ إِذَا نَظَرَ إِلَى كُلِّيَّاتِ الأَْعْمَال وَالدَّوَامِ عَلَيْهَا صَارَتْ شَاقَّةً وَلَحِقَتِ الْمَشَقَّةُ الْعَامِل بِهَا، وَيُوجَدُ هَذَا فِي النَّوَافِل وَحْدَهَا إِذَا تَحَمَّل الإِْنْسَانُ مِنْهَا فَوْقَ مَا يَحْتَمِلُهُ عَلَى وَجْهٍ مَا إِلاَّ أَنَّهُ فِي الدَّوَامِ يُتْعِبُهُ (1) .
وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى التَّكْلِيفِ بِالشَّاقِّ وَالإِْعْنَاتِ فِيهِ، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَْغْلاَل الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (2) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِل عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} (3) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (4) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (5) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِْنْسَانُ ضَعِيفًا} (6) ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا (7)
__________
(1) الموافقات 2 / 120، ومسلم الثبوت 1 / 123، وقواعد الأحكام 2 / 7.
(2) سورة الأعراف / 157.
(3) سورة البقرة / 286.
(4) سورة البقرة / 286.
(5) سورة الحج / 78.
(6) سورة النساء / 28.
(7) حديث عائشة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 86) ومسلم (4 / 1813) واللفظ لمسلم.

(37/322)


وَإِنَّمَا قَالَتْ: مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا لأَِنَّ تَرْكَ الإِْثْمِ لاَ مَشَقَّةَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ كَانَ مُجَرَّدَ تَرْكٍ إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى وَلَوْ كَانَ قَاصِدًا لِلْمَشَقَّةِ لَمَا كَانَ مُرِيدًا لِلْيُسْرِ وَلاَ لِلتَّخْفِيفِ وَلَكَانَ مُرِيدًا لِلْحَرَجِ وَالْعُسْرِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ.
كَمَا يُسْتَدَل عَلَى ذَلِكَ بِمَا ثَبَتَ أَيْضًا مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الرُّخَصِ، وَهُوَ أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ وَمِمَّا عُلِمَ مِنْهُ دِينُ الأُْمَّةِ بِالضَّرُورَةِ: كَرُخَصِ السَّفَرِ، وَالْفِطْرِ، وَالْجَمْعِ، وَتَنَاوُل الْمُحَرَّمَاتِ فِي الاِضْطِرَارِ (1) ، فَإِنَّ هَذَا نَمَطٌ يَدُل قَطْعًا عَلَى مُطْلَقِ رَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، وَكَذَلِكَ بِمَا جَاءَ فِي النَّهْيِ عَنِ التَّعَمُّقِ وَالتَّكَلُّفِ وَالتَّسَبُّبِ فِي الاِنْقِطَاعِ عَنْ دَوَامِ الأَْعْمَال، وَلَوْ كَانَ الشَّارِعُ قَاصِدًا لِلْمَشَقَّةِ فِي التَّكْلِيفِ لَمَا كَانَ ثَمَّ تَرْخِيصٌ وَلاَ تَخْفِيفٌ وَهُوَ يَدُل عَلَى عَدَمِ قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ (2) ، فَإِنَّهُ لاَ يُنَازَعُ فِي أَنَّ الشَّارِعَ قَاصِدٌ لِلتَّكْلِيفِ بِمَا يَلْزَمُ فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ مَا، وَلَكِنْ لاَ تُسَمَّى فِي الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ مَشَقَّةً كَمَا لاَ يُسَمَّى فِي الْعَادَةِ مَشَقَّةً طَلَبُ الْمَعَاشِ بِالتَّحَرُّفِ وَسَائِرِ الصَّنَائِعِ، لأَِنَّهُ مُمْكِنٌ مُعْتَادٌ لاَ يَقْطَعُ مَا فِيهِ مِنَ الْكُلْفَةِ عَنِ الْعَمَل فِي الْغَالِبِ الْمُعْتَادِ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يَرْجِعُ الْفَرْقُ بَيْنَ
__________
(1) الموافقات للشاطبي 2 / 122.
(2) الموافقات 2 / 122 - 123.

(37/322)


الْمَشَقَّةِ الَّتِي لاَ تُعَدُّ مَشَقَّةً عَادَةً، وَالَّتِي تُعَدُّ مَشَقَّةً، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْعَمَل يُؤَدِّي الدَّوَامُ عَلَيْهِ إِلَى الاِنْقِطَاعِ عَنْهُ أَوْ عَنْ بَعْضِهِ وَإِلَى وُقُوعِ خَلَلٍ فِي صَاحِبِهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالٍ، أَوْ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ فَالْمَشَقَّةُ هُنَا خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ فَلاَ يُعَدُّ فِي الْعَادَةِ مَشَقَّةً وَإِنْ سُمِّيَتْ كُلْفَةً (1) .
فَمَا تَضَمَّنَ التَّكْلِيفَ الثَّابِتَ عَلَى الْعِبَادِ مِنَ الْمَشَقَّةِ الْمُعْتَادَةِ أَيْضًا لَيْسَ بِمَقْصُودِ الطَّلَبِ لِلشَّارِعِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِ الْمَشَقَّةِ، بَل مِنْ جِهَةِ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَائِدَةِ عَلَى الْمُكَلَّفِ (2) .

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: الزِّيَادَةُ فِي الْفِعْل عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ:
9 - وَهُوَ إِذَا كَانَ الْفِعْل خَاصًّا بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي تَعَبِ النَّفْسِ خُرُوجٌ عَنِ الْمُعْتَادِ فِي الأَْعْمَال الْعَادِيَّةِ، وَلَكِنَّ نَفْسَ التَّكْلِيفِ بِهِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَاتُ قَبْل التَّكْلِيفِ شَاقٌّ عَلَى النَّفْسِ، وَلِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ التَّكْلِيفِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ يَقْتَضِي مَعْنَى الْمَشَقَّةِ لأَِنَّ الْعَرَبَ تَقُول: كَلَّفْتُهُ تَكْلِيفًا إِذَا حَمَّلْتَهُ أَمْرًا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَأَمَرْتُهُ بِهِ، وَتَكَلَّفْتُ الشَّيْءَ: إِذَا تَحَمَّلْتَهُ عَلَى مَشَقَّةٍ، وَحَمَلْتُ الشَّيْءَ تَكَلَّفْتُهُ: إِذَا لَمْ تُطِقْهُ إِلاَّ تَكَلُّفًا، فَمِثْل
__________
(1) الموافقات 2 / 123.
(2) الموافقات 2 / 123 - 124.

(37/323)


هَذَا يُسَمَّى مَشَقَّةً بِهَذَا الاِعْتِبَارِ، لأَِنَّهُ إِلْقَاءٌ بِالْمَقَالِيدِ وَدُخُول أَعْمَالٍ زَائِدَةٍ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا (1) .

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مُلْزِمًا بِمَا قَبْلَهُ:
10 - وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ خَاصًّا بِمَا يَلْزَمُ مَا قَبْلَهُ، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ إِخْرَاجُ الْمُكَلَّفِ عَنْ هَوَى نَفْسِهِ، وَمُخَالَفَةُ الْهَوَى شَاقَّةٌ عَلَى صَاحِبِ الْهَوَى مُطْلَقًا، وَيَلْحَقُ الإِْنْسَانَ بِسَبَبِهَا تَعَبٌ وَعَنَاءٌ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فِي الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ فِي الْخَلْقِ، وَذَلِكَ أَنَّ مُخَالَفَةَ مَا تَهْوَى الأَْنْفُسُ شَاقٌّ عَلَيْهَا، وَالشَّارِعُ إِنَّمَا قَصَدَ بِوَضْعِ شَرِيعَةٍ إِخْرَاجَ الْمُكَلَّفِ عَنِ اتِّبَاعِ هَوَاهُ حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ، فَإِذًا مُخَالَفَةُ الْهَوَى لَيْسَتْ مِنَ الْمَشَقَّاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي التَّكْلِيفِ (2) .

ثَانِيًا: الْقَوَاعِدُ الْفِقْهِيَّةُ الْمُنَظِّمَةُ لأَِحْكَامِ الْمَشَقَّةِ:
11 - وَضَعَ الْفُقَهَاءُ مَجْمُوعَةً مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ لِضَبْطِ أَحْكَامِ الْمَشَقَّةِ، وَمِنْ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ (الْمَشَقَّةُ تَجْلُبُ التَّيْسِيرَ) يَعْنِي أَنَّ الصُّعُوبَةَ تَصِيرُ سَبَبًا لِلتَّسْهِيل، وَيَلْزَمُ التَّوْسِيعُ فِي وَقْتِ الْمُضَايَقَةِ.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الأَْصْل كَثِيرٌ مِنَ الأَْحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ كَالْقَرْضِ وَالْحَوَالَةِ وَالْحَجْرِ وَغَيْرِ
__________
(1) الموافقات 2 / 121.
(2) الموافقات 2 / 121 - 153.

(37/323)


ذَلِكَ، وَمَا جَوَّزَهُ الْفُقَهَاءُ مِنَ الرُّخَصِ وَالتَّخْفِيفَاتِ فِي الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ:
وَتُعْتَبَرُ الْمَشَقَّةُ سَبَبًا هَامًّا مِنْ أَسْبَابِ الرُّخَصِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، بِحَسَبِ الأَْحْوَال، وَبِحَسَبِ قُوَّةِ الْعَزَائِمِ وَضَعْفِهَا، وَبِحَسَبِ الأَْعْمَال، فَلَيْسَ لِلْمَشَقَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي التَّخْفِيفَاتِ ضَابِطٌ مَخْصُوصٌ، وَلاَ حَدٌّ مَحْدُودٌ يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ أَقَامَ الشَّرْعُ السَّبَبَ مَقَامَ الْعِلَّةِ وَاعْتَبَرَ السَّفَرَ لأَِنَّهُ أَقْرَبُ مَظَانِّ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ. وَلَيْسَتْ أَسْبَابُ الرُّخَصِ بِدَاخِلَةٍ تَحْتَ قَانُونٍ أَصْلِيٍّ، وَلاَ ضَابِطٍ مَأْخُوذٍ بِالْيَدِ، بَل هِيَ إِضَافِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُل مُخَاطَبٍ فِي نَفْسِهِ (1) .
وَالأَْصْل فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (&#
x662 ;) .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (3) ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَاءِ (4) ، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: أَحَبُّ الأَْدْيَانِ
__________
(1) الموافقات 1 / 314، 3 / 155، ومجلة الأحكام العدلية ص 18، وشرح المجلة للأتاسي 1 / 51، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 75، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 76.
(2) سورة البقرة / 185.
(3) سورة الحج / 78.
(4) حديث: " بعثت بالحنيفية السمحاء ". أخرجه أحمد (5 / 266) من حديث أبي أمامة.

(37/324)


إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ (1) .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ (2) .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا خُيِّرَ رَسُول اللَّهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا (3) .
وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ جَمِيعُ رُخَصِ الشَّرْعِ وَتَخْفِيفَاتِهِ.
هَذَا وَقَدْ خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا نُصَّ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَعَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى، قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: الْمَشَقَّةُ وَالْحَرَجُ إِنَّمَا يُعْتَبَرَانِ فِي مَوْضِعٍ لاَ نَصَّ فِيهِ وَأَمَّا مَعَ النَّصِّ بِخِلاَفِهِ فَلاَ (4) .
وَبِمَعْنَى قَاعِدَةِ: الْمَشَقَّةُ تَجْلُبُ التَّيْسِيرَ قَوْل الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " إِذَا ضَاقَ الأَْمْرُ اتَّسَعَ " وَمَعْنَاهَا: إِذَا ظَهَرَتْ مَشَقَّةٌ فِي أَمْرٍ يُرَخَّصُ فِيهِ وَيُوَسَّعُ، فَعَكْسُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ " إِذَا اتَّسَعَ الأَْمْرُ ضَاقَ "، وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي الْحَمَّامَاتِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي لاَ يَحْضُرُهَا الرِّجَال
__________
(1) حديث: " أحب الأديان إلى الله الحنيفية السمحة ". أخرجه أحمد (1 / 236) من حديث ابن عباس، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (1 / 94) .
(2) حديث: " إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 525) .
(3) حديث عائشة: " ما خير رسول الله. . ". سبق تخريجه في التعليق على ف 8.
(4) غمز عيون البصائر 1 / 271، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 77.

(37/324)


دَفْعًا لِحَرَجِ ضَيَاعِ الْحُقُوقِ.
وَمِنْهَا قَبُول شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ (1)

الْمَشَاقُّ الْمُوجِبَةُ لِلتَّخْفِيفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ
قَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: الْمَشَاقُّ ضَرْبَانِ:
12 - أَحَدُهُمَا: مَشَقَّةٌ لاَ تَنْفَكُّ الْعِبَادَةُ عَنْهَا كَمَشَقَّةِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْل فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ، وَكَمَشَقَّةِ إِقَامَةِ الصَّلاَةِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَلاَ سِيَّمَا فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ، وَكَمَشَقَّةِ الصَّوْمِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَطُول النَّهَارِ، وَكَمَشَقَّةِ السَّفَرِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ الَّتِي لاَ انْفِكَاكَ عَنْهَا غَالِبًا، وَكَمَشَقَّةِ الاِجْتِهَادِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَالرِّحْلَةِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْمَشَقَّةُ فِي رَجْمِ الزُّنَاةِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْجُنَاةِ وَلاَ سِيَّمَا فِي حَقِّ الآْبَاءِ وَالأُْمَّهَاتِ وَالْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مَشَقَّةً عَظِيمَةً عَلَى مُقِيمِ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ بِمَا يَجِدُهُ مِنَ الرِّقَّةِ وَالْمَرْحَمَةِ بِهَا لِلسُّرَّاقِ وَالزُّنَاةِ وَالْجُنَاةِ مِنَ الأَْجَانِبِ وَالأَْقَارِبِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ (2) ، وَلِمِثْل هَذَا قَال تَعَالَى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} (3) ، وَقَال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ
__________
(1) غمز عيون البصائر 1 / 271، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 77.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 84، والأشباه للسيوطي ص 83، ومجلة الأحكام العدلية ص 18، وشرح مجلة الأحكام للأتاسي 1 / 51 وغمز عيون البصائر 1 / 273.
(3) سورة النور / 2.

(37/325)


يَدَهَا (1) وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِتَحَمُّل هَذِهِ الْمَشَاقِّ مِنْ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصَفَهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ بِقَوْلِهِ: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (2) فَهَذِهِ الْمَشَاقُّ كُلُّهَا لاَ أَثَرَ لَهَا فِي إِسْقَاطِ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ (3) .
13 - الضَّرْبُ الثَّانِي: مَشَقَّةٌ تَنْفَكُّ عَنْهَا الْعِبَادَاتُ غَالِبًا وَهِيَ أَنْوَاعٌ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ فَادِحَةٌ كَمَشَقَّةِ الْخَوْفِ عَلَى النَّفُوسِ وَالأَْطْرَافِ وَمَنَافِعِ الأَْطْرَافِ، فَهَذِهِ مَشَقَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلتَّخْفِيفِ وَالتَّرْخِيصِ لأَِنَّ حِفْظَ الْمُهَجِ وَالأَْطْرَافِ لإِِقَامَةِ مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ أَوْلَى مِنْ تَعْرِيضِهَا لِلْفَوَاتِ فِي عِبَادَةٍ أَوْ عِبَادَاتٍ ثُمَّ تَفُوتُ أَمْثَالُهَا (4) .
النَّوْعُ الثَّانِي: مَشَقَّةٌ خَفِيفَةٌ كَأَدْنَى وَجَعٍ فِي إِصْبَعٍ أَوْ أَدْنَى صُدَاعٍ أَوْ سُوءِ مِزَاجٍ خَفِيفٍ، فَهَذَا لاَ أَثَرَ لَهُ وَلاَ الْتِفَاتَ إِلَيْهِ لأَِنَّ تَحْصِيل مَصَالِحِ الْعِبَادَةِ أَوْلَى مِنْ دَفْعِ هَذِهِ الْمَشَقَّةِ الَّتِي لاَ أَثَرَ لَهَا (5) .
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَشَاقُّ وَاقِعَةٌ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَشَقَّتَيْنِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْخِفَّةِ وَالشِّدَّةِ فَمَا دَنَا
__________
(1) حديث: " لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 513) ، ومسلم (3 / 1315) من حديث عائشة.
(2) سورة التوبة / 128.
(3) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2 / 7.
(4) قواعد الأحكام 2 / 7 - 8.
(5) قواعد الأحكام 2 / 7 - 8.

(37/325)


مِنْهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ الْعُلْيَا أَوْجَبَ التَّخْفِيفَ، وَمَا دَنَا مِنْهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ الدُّنْيَا لَمْ يُوجِبِ التَّخْفِيفَ.
كَمَرِيضٍ فِي رَمَضَانَ يَخَافُ مِنَ الصَّوْمِ زِيَادَةَ مَرَضٍ أَوْ بُطْءَ الْبُرْءِ، فَيَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ، وَهَكَذَا فِي الْمَرَضِ الْمُبِيحِ لِلتَّيَمُّمِ وَالْحُمَّى الْخَفِيفَةِ وَوَجَعِ الضُّرُوسِ الْيَسِيرِ وَمَا وَقَعَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الرُّتْبَتَيْنِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، مِنْهُمْ مَنْ يُلْحِقُهُ بِالْعُلْيَا وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْحِقُهُ بِالدُّنْيَا، وَتُضْبَطُ مَشَقَّةُ كُل عِبَادَةٍ بِأَدْنَى الْمَشَاقِّ الْمُعْتَبَرَةِ فِي تَخْفِيفِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَهَا أَوْ أَزْيَدَ ثَبَتَتِ الرُّخْصَةُ وَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ فِي مَشَقَّةِ الْمَرَضِ الْمُبِيحِ لِلْفِطْرِ فِي الصَّوْمِ أَنْ يَكُونَ كَزِيَادَةِ مَشَقَّةِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ عَلَيْهِ فِي الْحَضَرِ (1) .
وَكَذَلِكَ الْمَشَاقُّ فِي الْحَجِّ وَفِي إِبَاحَةِ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ: أَنْ يَحْصُل بِتَرْكِهَا مِثْل مَشَقَّةِ الْقُمَّل الْوَارِدِ فِيهِ الرُّخْصَةُ، وَأَمَّا أَصْل الْحَجِّ فَلاَ يُكْتَفَى بِتَرْكِهِ بِذَلِكَ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ مَشَقَّةٍ لاَ يُحْتَمَل مِثْلُهَا كَالْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَال، وَعَدَمِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَفِي إِبَاحَةِ تَرْكِ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ: أَنْ يَحْصُل بِهِ مَا يُشَوِّشُ الْخُشُوعَ وَإِلَى الاِضْطِجَاعِ أَشَقُّ، لأَِنَّهُ مُنَافٍ لِتَعْظِيمِ الْعِبَادَاتِ.
وَالْمَشَاقُّ فِي الْحَجِّ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ: مِنْهَا
__________
(1) قواعد الأحكام 2 / 8، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 82، والأشباه والنظائر للسيوطي ص81.

(37/326)


مَا يَعْظُمُ فَيَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَجِّ، وَمِنْهَا مَا يَخِفُّ وَلاَ يَمْنَعُ الْوُجُوبَ، وَمِنْهَا مَا يَتَوَسَّطُ فَيُرَدَّدُ فِيهِ، وَمَا قَرُبَ مِنْهُ إِلَى الْمَشَقَّةِ الْعُلْيَا كَانَ أَوْلَى بِمَنْعِ الْوُجُوبِ، وَمَا قَرُبَ مِنْهُ إِلَى الْمَشَقَّةِ الدُّنْيَا كَانَ أَوْلَى بِأَنْ لاَ يَمْنَعَ الْوُجُوبَ.
وَتَخْتَلِفُ الْمَشَاقُّ بِاخْتِلاَفِ الْعِبَادَاتِ فِي اهْتِمَامِ الشَّرْعِ، فَمَا اشْتَدَّ اهْتِمَامُهُ بِهِ شَرَطَ فِي تَخْفِيفِهِ الْمَشَاقَّ الشَّدِيدَةَ أَوِ الْعَامَّةَ، وَمَا لَمْ يَهْتَمَّ بِهِ خَفَّفَهُ بِالْمَشَاقِّ الْخَفِيفَةِ، وَقَدْ تُخَفَّفُ مَشَاقُّهُ مَعَ شَرَفِهِ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ لِتَكَرُّرِ مَشَاقِّهِ، كَيْلاَ يُؤَدِّيَ إِلَى الْمَشَاقِّ الْعَامَّةِ الْكَثِيرَةِ الْوُقُوعِ.
مِثَالُهُ: تَرْخِيصُ الشَّرْعِ فِي الصَّلاَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْضَل الأَْعْمَال تُقَامُ مَعَ الْخَبَثِ الَّذِي يَشُقُّ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ وَمَعَ الْحَدَثِ فِي حَقِّ الْمُتَيَمِّمِ وَالْمُسْتَحَاضَةِ، وَمَنْ كَانَ عُذْرُهُ كَعُذْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ (1) .
أَمَّا الصَّلاَةُ فَيَنْتَقِل فِيهَا الْقَائِمُ إِلَى الْقُعُودِ بِالْمَرَضِ الَّذِي يُشَوِّشُ عَلَيْهِ الْخُشُوعَ وَالأَْذْكَارَ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا الضَّرُورَةُ وَلاَ الْعَجْزُ عَنْ تَصْوِيرِ الْقِيَامِ اتِّفَاقًا، وَيُشْتَرَطُ فِي الاِنْتِقَال مِنَ الْقُعُودِ إِلَى الاِضْطِجَاعِ عُذْرًا أَشَقَّ مِنْ عُذْرِ الاِنْتِقَال مِنَ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ، لأَِنَّ الاِضْطِجَاعَ مُنَافٍ لِتَعْظِيمِ الْعِبَادَاتِ وَلاَ سِيَّمَا وَالْمُصَلِّي مُنَاجٍ رَبَّهُ (2) .
__________
(1) قواعد الأحكام 2 / 8 - 9، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 81.
(2) قواعد الأحكام 2 / 9.

(37/326)


وَأَمَّا الأَْعْذَارُ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَاتِ وَالْجُمُعَاتِ فَخَفِيفَةٌ، لأَِنَّ الْجَمَاعَاتِ سُنَّةٌ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِذَلِكَ، وَالْجُمُعَاتِ بَدَلٌ.
وَأَمَّا الصَّوْمُ فَالأَْعْذَارُ فِيهِ خَفِيفَةٌ كَالسَّفَرِ وَالْمَرَضِ الَّذِي يَشُقُّ الصَّوْمُ مَعَهُ لِمَشَقَّةِ الصَّوْمِ عَلَى الْمُسَافِرِ، وَهَذَانِ عُذْرَانِ خَفِيفَانِ، وَمَا كَانَ أَشَدَّ مِنْهُمَا كَالْخَوْفِ عَلَى الأَْطْرَافِ وَالأَْرْوَاحِ كَانَ أَوْلَى بِجَوَازِ الْفِطْرِ.
وَأَمَّا التَّيَمُّمُ: فَقَدْ جَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَارَةً بِأَعْذَارٍ خَفِيفَةٍ، وَمَنَعَهُ تَارَةً عَلَى قَوْلٍ بِأَعْذَارٍ أَثْقَل مِنْهَا، وَالأَْعْذَارُ عِنْدَهُ رُتَبٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْمَشَقَّةِ.
الرُّتْبَةُ الأُْولَى: مَشَقَّةٌ فَادِحَةٌ كَالْخَوْفِ عَلَى النَّفُوسِ وَالأَْعْضَاءِ، وَمَنَافِعِ الأَْعْضَاءِ فَيُبَاحُ بِهَا التَّيَمُّمُ.
الرُّتْبَةُ الثَّانِيَةُ: مَشَقَّةٌ دُونَ هَذِهِ الْمَشَقَّةِ فِي الرُّتْبَةِ كَالْخَوْفِ مِنْ حُدُوثِ الْمَرَضِ الْمَخُوفِ فَهَذَا مُلْحَقٌ بِالرُّتْبَةِ الْعُلْيَا عَلَى الأَْصَحِّ.
الرُّتْبَةُ الثَّالِثَةُ: خَوْفُ إِبْطَاءِ الْبُرْءِ وَشِدَّةُ الضَّنَى فَفِي إِلْحَاقِهِ بِالرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ خِلاَفٌ وَالأَْصَحُّ الإِْلْحَاقُ.
الرُّتْبَةُ الرَّابِعَةُ: خَوْفُ الشَّيْنِ إِنْ كَانَ بَاطِنًا لَمْ يَكُنْ عُذْرًا، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فَفِيهِ خِلاَفٌ وَالْمُخْتَارُ الإِْبَاحَةُ، وَقَدْ جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ التَّيَمُّمَ

(37/327)


بِمَشَاقَّ خَفِيفَةٍ دُونَ هَذِهِ الْمَشَاقِّ (1) .
14 - وَلاَ تَخْتَصُّ الْمَشَاقُّ بِالْعِبَادَاتِ بَل تَجْرِي فِي الْمُعَامَلاَتِ مِثَالُهُ: الْغَرَرُ فِي الْبُيُوعِ وَهُوَ أَيْضًا ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا يَعْسُرُ اجْتِنَابُهُ كَبَيْعِ الْفُسْتُقِ وَالْبُنْدُقِ وَالرُّمَّانِ وَالْبِطِّيخِ فِي قُشُورِهَا فَيُعْفَى عَنْهُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لاَ يَعْسُرُ اجْتِنَابُهُ فَلاَ يُعْفَى عَنْهُ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَقَعُ بَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ وَفِيهِ اخْتِلاَفٌ، مِنْهُمْ مَنْ يُلْحِقُهُ بِمَا عَظُمَتْ مَشَقَّتُهُ لاِرْتِفَاعِهِ عَمَّا خَفَّتْ مَشَقَّتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْحِقُهُ بِمَا خَفَّتْ مَشَقَّتُهُ لاِنْحِطَاطِهِ عَمَّا عَظُمَتْ مَشَقَّتُهُ، إِلاَّ أَنَّهُ تَارَةً يَعْظُمُ الْغَرَرُ فِيهِ فَلاَ يُعْفَى عَنْهُ عَلَى الأَْصَحِّ كَبَيْعِ الْجَوْزِ الأَْخْضَرِ فِي قِشْرَتِهِ (2) .
15 - وَإِذَا كَانَتِ الْمَشَاقُّ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا هُوَ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الشِّدَّةِ وَإِلَى مَا هُوَ فِي أَدْنَاهَا، وَإِلَى مَا يَتَوَسَّطُ بَيْنَهُمَا، فَكَيْفَ تُعْرَفُ الْمَشَاقُّ الْمُتَوَسِّطَةُ الْمُبِيحَةُ الَّتِي لاَ ضَابِطَ لَهَا، مَعَ أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ رَبَطَ التَّخْفِيفَاتِ بِالشَّدِيدِ وَالأَْشَدِّ وَالشَّاقِّ وَالأَْشَقِّ، مَعَ أَنَّ مَعْرِفَةَ الشَّدِيدِ وَالشَّاقِّ مُتَعَذِّرَةٌ لِعَدَمِ الضَّابِطِ؟ وَأَجَابَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ بِقَوْلِهِ: لاَ وَجْهَ لِضَبْطِ هَذَا وَأَمْثَالِهِ إِلاَّ
__________
(1) قواعد الأحكام 2 / 9 - 10.
(2) المرجع السابق.

(37/327)


بِالتَّقْرِيبِ، فَإِنَّ مَا لاَ يُحَدُّ ضَابِطُهُ لاَ يَجُوزُ تَعْطِيلُهُ وَيَجِبُ تَقْرِيبُهُ، فَالأَْوْلَى فِي ضَابِطِ مَشَاقِّ الْعِبَادَاتِ أَنْ تُضْبَطَ مَشَقَّةُ كُل عِبَادَةٍ بِأَدْنَى الْمَشَاقِّ الْمُعْتَبَرَةِ فِي تِلْكَ الْعِبَادَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَهَا أَوْ أَزْيَدَ ثَبَتَتِ الرُّخْصَةُ بِهَا، وَلَنْ يُعْلَمَ التَّمَاثُل إِلاَّ بِالزِّيَادَةِ، إِذْ لَيْسَ فِي قُدْرَةِ الْبَشَرِ الْوُقُوفُ عَلَى تَسَاوِي الْمَشَاقِّ، فَإِذَا زَادَتْ إِحْدَى الْمَشَقَّتَيْنِ عَلَى الأُْخْرَى عُلِمَا أَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَتَا، فَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْمَشَقَّةُ الدُّنْيَا مِنْهُمَا كَانَ ثُبُوتُ التَّخْفِيفِ وَالتَّرْخِيصِ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ، وَأَمْثَال ذَلِكَ أَنَّ التَّأَذِّي بِالْقَمْل مُبِيحٌ لِلْحَلْقِ فِي حَقِّ النَّاسِكِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ تَأَذِّيهِ بِالأَْمْرَاضِ بِمِثْل مَشَقَّةِ الْقَمْل (1) .
كَذَلِكَ سَائِرُ الْمَشَاقِّ الْمُبِيحَةِ لِلُّبْسِ وَالطِّيبِ وَالدُّهْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تُقَرَّبَ الْمَشَاقُّ الْمُبِيحَةُ لِلتَّيَمُّمِ بِأَدْنَى مَشَقَّةٍ أُبِيحَ بِمِثْلِهَا التَّيَمُّمُ، وَفِي هَذَا إِشْكَالٌ، فَإِنَّ مَشَقَّةَ الزِّيَادَةِ الْيَسِيرَةِ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْل وَمَشَقَّةَ الاِنْقِطَاعِ مِنْ سَفَرِ النُّزْهَةِ خَفِيفَةٌ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ بِهَا الأَْمْرَاضُ، وَأَمَّا الْمُبِيحُ لِلْفِطْرِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُقَرَّبَ مَشَقَّتُهُ بِمَشَقَّةِ الصِّيَامِ فِي الْحَضَرِ، فَإِذَا شَقَّ الصَّوْمُ مَشَقَّةً تُرْبِي عَلَى مَشَقَّةِ الصَّوْمِ فِي الْحَضَرِ فَلْيَجُزِ الإِْفْطَارُ بِذَلِكَ.
وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا مَقَادِيرُ الإِْغْرَارِ فِي
__________
(1) قواعد الأحكام 2 / 12 - 13.

(37/328)


الْمُعَامَلاَتِ، وَمِنْهَا تَوَقَانُ الْجَائِعِ إِلَى الطَّعَامِ وَقَدْ حَضَرَتِ الصَّلاَةُ، وَمِنْهَا التَّأَذِّي بِالرِّيَاحِ الْبَارِدَةِ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ، كَذَلِكَ التَّأَذِّي بِالْمَشْيِ فِي الْوَحْل (1) .

ضَابِطُ الْمَشَقَّةِ
16 - يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْمَشَقَّةُ عَامَّةً، وَوُقُوعُهَا كَثِيرًا، فَلَوْ كَانَ وُقُوعُهَا نَادِرًا لَمْ تُرَاعَ الْمَشَقَّةُ، وَالْمَشَقَّةُ يَخْتَلِفُ ضَابِطُهَا بِاخْتِلاَفِ أَعْذَارِهَا، كَمَا فِي التَّيَمُّمِ، إِذْ يُعْدَل عَنِ الْمَاءِ إِذَا خِيفَ إِتْلاَفُ عُضْوٍ أَوْ بُطْءُ الْبُرْءِ أَوْ شَيْنٌ فَاحِشٌ (2) .
قَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: إِنْ قِيل مَا ضَابِطُ الْفِعْل الشَّاقِّ الَّذِي يُؤْجَرُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا يُؤْجَرُ عَلَى الْخَفِيفِ؟ قُلْتُ: إِذَا اتَّحَدَ الْفِعْلاَنِ فِي الشَّرَفِ وَالشَّرَائِطِ وَالسُّنَنِ وَالأَْرْكَانِ - وَكَانَ أَحَدُهُمَا - شَاقًّا فَقَدِ اسْتَوَيَا فِي أَجْرِهِمَا لِتَسَاوِيهِمَا فِي جَمِيعِ الْوَظَائِفِ وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِتَحَمُّل الْمَشَقَّةِ لأَِجْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَأُثِيبَ عَلَى تَحَمُّل الْمَشَقَّةِ لاَ عَلَى عَيْنِ الْمَشَاقِّ، إِذْ لاَ يَصِحُّ التَّقَرُّبُ بِالْمَشَاقِّ لأَِنَّ الْقُرَبَ كُلَّهَا تَعْظِيمٌ لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَيْسَ عَيْنُ الْمَشَاقِّ تَعْظِيمًا وَلاَ تَوْقِيرًا، وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَحَمَّل مَشَقَّةً فِي خِدْمَةِ إِنْسَانٍ فَإِنَّهُ يَرَى ذَلِكَ لَهُ لأَِجْل كَوْنِهِ شَقَّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا
__________
(1) قواعد الأحكام 2 / 13.
(2) المنثور في القواعد للزركشي 3 / 171 - 172.

(37/328)


يَرَاهُ لَهُ بِسَبَبِ تَحَمُّل مَشَقَّةِ الْخِدْمَةِ لأَِجْلِهِ.
وَيَخْتَلِفُ أَجْرُ تَحَمُّل الْمَشَاقِّ بِشِدَّةِ الْمَشَاقِّ وَخِفَّتِهَا (1) .
وَقَال الشَّاطِبِيُّ: كَمَا أَنَّ الْمَشَقَّةَ تَكُونُ دُنْيَوِيَّةً، كَذَلِكَ تَكُونُ أُخْرَوِيَّةً، فَإِنَّ الأَْعْمَال إِذَا كَانَ الدُّخُول فِيهَا يُؤَدِّي إِلَى تَعْطِيل وَاجِبٍ أَوْ فِعْل مُحَرَّمٍ فَهُوَ أَشَدُّ مَشَقَّةً - بِاعْتِبَارِ الشَّرْعِ - مِنَ الْمَشَقَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُخِلَّةٍ بِدِينٍ، وَاعْتِبَارُ الدِّينِ مُقَدَّمٌ عَلَى اعْتِبَارِ النَّفْسِ وَالأَْعْضَاءِ وَغَيْرِهَا فِي نَظَرِ الشَّارِعِ، فَالْمَشَقَّةُ الدِّينِيَّةُ مُقَدَّمَةٌ فِي الاِعْتِبَارِ عَلَى الدُّنْيَوِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ لِلشَّارِعِ قَصْدٌ فِي إِدْخَال الْمَشَقَّةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ (2) .
فَالْمَشَقَّةُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ تَكُونُ غَيْرَ مَطْلُوبَةٍ وَلاَ الْعَمَل الْمُؤَدِّي إِلَى الْمَشَقَّةِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْمُعْتَادِ مَطْلُوبًا، فَقَدْ نَشَأَ هُنَا نَظَرٌ فِي تَعَارُضِ مَشَقَّتَيْنِ، فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ إِنْ لَزِمَ مِنِ اشْتِغَالِهِ بِنَفْسِهِ فَسَادٌ وَمَشَقَّةٌ لِغَيْرِهِ فَيَلْزَمُ أَيْضًا مِنَ الاِشْتِغَال بِغَيْرِهِ فَسَادٌ وَمَشَقَّةٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَصَدَّى النَّظَرُ فِي وَجْهِ اجْتِمَاعِ الْمَصْلَحَتَيْنِ مَعَ انْتِفَاءِ الْمَشَقَّتَيْنِ إِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّرْجِيحِ، فَإِذَا كَانَتِ الْمَشَقَّةُ الْعَامَّةُ أَعْظَمَ اعْتُبِرَ جَانِبُهَا
__________
(1) قواعد الأحكام 1 / 31.
(2) الموافقات للشاطبي 2 / 153 - 154.

(37/329)


وَأُهْمِل جَانِبُ الْخَاصَّةِ.
ثُمَّ إِنَّ الْمَشَقَّةَ فِي الأَْعْمَال الْمُعْتَادَةِ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلاَفِ تِلْكَ الأَْعْمَال فَلَيْسَتِ الْمَشَقَّةُ فِي صَلاَةِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ كَالْمَشَقَّةِ فِي رَكْعَتَيِ الصُّبْحِ، وَلاَ الْمَشَقَّةُ فِي الصَّلاَةِ كَالْمَشَقَّةِ فِي الصِّيَامِ وَلاَ الْمَشَقَّةُ فِي الصِّيَامِ كَالْمَشَقَّةِ فِي الْحَجِّ، وَلاَ الْمَشَقَّةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَالْمَشَقَّةِ فِي الْجِهَادِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَال التَّكْلِيفِ وَلَكِنْ كُل عَمَلٍ فِي نَفْسِهِ لَهُ مَشَقَّةٌ مُعْتَادَةٌ فِيهِ، تُوَازِي مَشَقَّةَ مِثْلِهِ مِنَ الأَْعْمَال الْعَادِيَّةِ (1) .

الْمَوَاطِنُ الَّتِي تُظَنُّ فِيهَا الْمَشَقَّةُ وَالأَْحْكَامُ الْمَنُوطَةُ بِهَا:
17 - شَرَعَ الإِْسْلاَمُ أَنْوَاعًا مِنَ الرُّخَصِ لِظُرُوفٍ تُوجِدُ لِلْمُكَلَّفِ نَوْعًا مِنَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي تُثْقِل كَاهِلَهُ وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَسْبَابَ التَّخْفِيفِ فِي الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى الأَْعْذَارِ وَقَدْ رَخَّصَ الشَّارِعُ لأَِصْحَابِهَا بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ وَالْحُدُودِ وَغَيْرِهَا، فَكُل مَا تَعَسَّرَ أَمْرُهُ وَشَقَّ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَضْعُهُ خَفَّفَتْهُ الشَّرِيعَةُ وَمِنْ أَهَمِّ هَذِهِ الأَْعْذَارِ الَّتِي جُعِلَتْ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ عَنِ الْعِبَادِ وَالْمَوَاطِنِ الَّتِي تُظَنُّ فِيهَا الْمَشَقَّةُ هِيَ: السَّفَرُ - الْمَرَضُ - الْحَمْل - الإِْرْضَاعُ - الشَّيْخُوخَةُ وَالْهَرَمُ -
__________
(1) الموافقات 2 / 155 - 156.

(37/329)


الإِْكْرَاهُ - النِّسْيَانُ - الْجَهْل - الْعُسْرُ وَعُمُومُ الْبَلْوَى - النَّقْصُ.

أ - السَّفَرُ:
18 - السَّفَرُ سَبَبٌ لِلتَّخْفِيفِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَشَقَّةٍ، وَلِحَاجَةِ الْمُسَافِرِ إِلَى التَّقَلُّبِ فِي حَاجَاتِهِ، وَيُعْتَبَرُ السَّفَرُ مِنْ أَسْبَابِ الْمَشَقَّةِ فِي الْغَالِبِ فَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ نَفْسُ السَّفَرِ سَبَبًا لِلرُّخَصِ وَأُقِيمَ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (سَفَرٌ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) ، وَمُصْطَلَحَاتِ: (صَلاَةُ الْمُسَافِرِ، وَصَوْمٌ، وَتَطَوُّعٌ، وَتَيَمُّمٌ) .

ب - الْمَرَضُ:
19 - قَال الْقُرْطُبِيُّ: الْمَرِيضُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ بَدَنُهُ عَنْ حَدِّ الاِعْتِدَال وَالاِعْتِيَادِ فَيَضْعُفُ عَنِ الْقِيَامِ بِالْمَطْلُوبِ (2) .
وَقَدْ خَصَّتِ الشَّرِيعَةُ الْمَرِيضَ بِحَظِّ وَافِرٍ مِنَ التَّخْفِيفِ لأَِنَّ الْمَرَضَ مَظِنَّةٌ لِلْعَجْزِ فَخَفَّفَ عَنْهُ الشَّارِعُ.
وَلِلْمَرِيضِ رُخَصٌ كَثِيرَةٌ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَيْسِيرٌ ف 32) .
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 75، والأشباه والنظائر للسيوطي ص / 77، كشف الأسرار 4 / 376، وتيسير التحرير 2 / 258 - 303.
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5 / 216.

(37/330)


ج - الشَّيْخُوخَةُ وَالْهَرَمُ:
20 - لَقَدْ خَفَّفَ الشَّارِعُ عَنِ الشَّيْخِ الْهَرَمِ، فَخَصَّهُ بِجَوَازِ إِخْرَاجِ الْفِدْيَةِ بَدَلاً عَنِ الصِّيَامِ الَّذِي عَجَزَ عَنْ أَدَائِهِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ، وَنَقَل ابْنُ الْمُنْذِرِ الإِْجْمَاعَ عَلَيْهِ وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ إِذَا كَانَ الصَّوْمُ يُجْهِدُهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً (1) .

5 - جَوَازُ الْفِطْرِ لِلْحَامِل وَالْمُرْضِعِ فِي رَمَضَانَ
21 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَامِل وَالْمُرْضِعَ لَهُمَا أَنْ تُفْطِرَا فِي رَمَضَانَ بِشَرْطِ أَنْ تَخَافَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ عَلَى وَلَدِهِمَا الْمَرَضَ أَوْ زِيَادَتَهُ أَوِ الضَّرَرَ أَوِ الْهَلاَكَ وَالْمَشَقَّةَ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَةِ صَوْمِهِمَا كَالْمَرِيضِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْحَمْل مَرَضٌ حَقِيقَةً، وَالرَّضَاعُ فِي حُكْمِ الْمَرَضِ وَلَيْسَ مَرَضًا حَقِيقَةً (2) .
__________
(1) مراقي الفلاح ص 375 - 376، والقوانين الفقهية ص 82، والمجموع 6 / 58، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 64، وكشاف القناع 2 / 309، والمغني والشرح الكبير 3 / 79.
(2) المغني والشرح الكبير 3 / 2، وجواهر الإكليل 1 / 153، وبدائع الصنائع 2 / 97، وكشاف القناع 2 / 313، وحاشية البجيرمي على الإقناع 2 / 346، وحاشية القليوبي على شرح المحلي 2 / 68.

(37/330)


هـ - الإِْكْرَاهُ:
22 - الإِْكْرَاهُ هُوَ حَمْل الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ لاَ يَرْضَاهُ، وَذَلِكَ بِتَهْدِيدِهِ بِالْقَتْل أَوْ بِقَطْعِ طَرَفٍ أَوْ نَحْوِهِمَا إِنْ لَمْ يَفْعَل مَا يُطْلَبُ مِنْهُ.
وَقَدْ عَدَّ الشَّارِعُ الإِْكْرَاهَ بِغَيْرِ حَقٍّ عُذْرًا مِنَ الأَْعْذَارِ الْمُخَفَّفَةِ الَّتِي تَسْقُطُ بِهَا الْمُؤَاخَذَةُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، فَتُخَفِّفُ عَنِ الْمُكْرَهِ مَا يُنْتَجُ عَمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ مِنْ آثَارٍ دُنْيَوِيَّةٍ أَوْ أُخْرَوِيَّةٍ بِحُدُودِهِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِكْرَاهٌ ف 6 و 12) .
وَنَصَّ السُّيُوطِيُّ عَلَى أَنَّ الْفِطْرَ فِي رَمَضَانَ مُبَاحٌ بِالإِْكْرَاهِ بَل يَجِبُ عَلَى الصَّحِيحِ (2) .

و النِّسْيَانُ:
23 - النِّسْيَانُ هُوَ جَهْلٌ ضَرُورِيٌّ بِمَا كَانَ يَعْلَمُهُ، لاَ بِآفَةٍ مَعَ عِلْمِهِ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ (3) .
وَقَدْ جَعَلَتْهُ الشَّرِيعَةُ عُذْرًا وَسَبَبًا مُخَفَّفًا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (4) فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَفَعَ عَنَّا إِثْمَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ غَيْرِ الْمَقْصُودِ، فَفِي
__________
(1) المبسوط للسرخسي 24 / 39، والمهذب 2 / 78، والأم 2 / 210، والمغني 8 / 261، كشف الأسرار 4 / 383.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 207.
(3) كشف الأسرار للبزدوي 2 / 364، 365 ط كراتشي.
(4) سورة البقرة / 286.

(37/331)


أَحْكَامِ الآْخِرَةِ يُعْذَرُ النَّاسُ وَيُرْفَعُ عَنْهُمُ الإِْثْمُ مُطْلَقًا (1) ، فَالنِّسْيَانُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ السُّيُوطِيُّ: مُسْقِطٌ لِلإِْثْمِ مُطْلَقًا وَذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَيَقُول الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (2) .
أَمَّا النِّسْيَانُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَلاَ يُعَدُّ عُذْرًا مُخَفَّفًا، لأَِنَّ حَقَّ اللَّهِ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، وَحُقُوقَ الْعِبَادِ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُشَاحَّةِ وَالْمُطَالَبَةِ، فَلاَ يَكُونُ النِّسْيَانُ عُذْرًا فِيهَا (3) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (نِسْيَانٌ) .

ز - الْجَهْل:
24 - الْجَهْل هُوَ: عَدَمُ الْعِلْمِ بِالأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ بِأَسْبَابِهَا.
وَيُعْتَبَرُ الْجَهْل عُذْرًا مُخَفَّفًا فِي أَحْكَامِ الآْخِرَةِ، فَلاَ إِثْمَ عَلَى مَنْ فَعَل الْمُحَرَّمَ أَوْ تَرَكَ الْوَاجِبَ جَاهِلاً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (جَهْلٌ ف 5)
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 206.
(2) حديث: " تجاوز الله عن أمتي الخطأ والنسيان ". أخرجه الحاكم (2 / 198) من حديث ابن عباس، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) الموافقات للشاطبي 1 / 103، وتيسير التحرير 2 / 426.
(4) سورة الإسراء / 15.

(37/331)


ح - الْعُسْرُ وَعُمُومُ الْبَلْوَى:
25 - يَدْخُل فِي الْعُسْرِ الأَْعْذَارُ الْغَالِبَةُ الَّتِي تَكْثُرُ الْبَلْوَى بِهَا وَتَعُمُّ فِي النَّاسِ دُونَ مَا كَانَ مِنْهَا نَادِرًا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَيْسِيرٌ ف 38) .

ط - النَّقْصُ:
26 - النَّقْصُ نَوْعٌ مِنَ الْمَشَقَّةِ، إِذِ النَّفُوسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ الْكَمَال وَيُنَاسِبُ النَّقْصَ التَّخْفِيفُ فِي التَّكْلِيفَاتِ، فَمَنْ ذَلِكَ عَدَمُ تَكْلِيفِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَفُوِّضَ أَمْرُ أَحْوَالِهِمَا إِلَى الْوَلِيِّ وَتَرْبِيَتِهِ، وَحَضَانَتِهِ إِلَى النِّسَاءِ رَحْمَةً بِهِ وَلَمْ يُجْبِرُهُنَّ عَلَى الْحَضَانَةِ، وَمِنْهُ عَدَمُ تَكْلِيفِ النِّسَاءِ بِكَثِيرٍ مِمَّا وَجَبَ عَلَى الرِّجَال كَالْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ وَالشَّهَادَةِ وَالْجِزْيَةِ وَتَحَمُّل الْعَقْل وَإِبَاحَةِ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَحُلِيِّ الذَّهَبِ، وَعَدَمِ تَكْلِيفِ الْعَبِيدِ بِكَثِيرٍ مِمَّا وَجَبَ عَلَى الأَْحْرَارِ لِكَوْنِهِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الْحُرِّ فِي الْحُدُودِ وَالْعَدَدِ (1) .
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 81 - 82، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 80.

(37/332)


مُشْكِلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُشْكِل لُغَةً: الْمُخْتَلِطُ وَالْمُلْتَبِسُ، يُقَال: أَشْكَل الأَْمْرُ: الْتَبَسَ وَاخْتَلَطَ، وَكُل مُخْتَلِطٍ مُشْكِلٌ، وَالإِْشْكَال: الأَْمْرُ الَّذِي يُوجِبُ الْتِبَاسًا فِي الْفَهْمِ، وَالشَّكْل: الْمِثْل (1) .
وَالْمُشْكِل عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ هُوَ: اسْمٌ لِمَا يُشْتَبَهُ الْمُرَادُ مِنْهُ بِدُخُولِهِ فِي أَشْكَالِهِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يُعْرَفُ الْمُرَادُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ يَتَمَيَّزُ بِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الأَْشْكَال (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُتَشَابِهُ:
2 - الْمُتَشَابِهُ لُغَةً: مَأْخُوذٌ مِنَ اشْتَبَهَتِ الأُْمُورُ وَتَشَابَهَتْ: إِذَا الْتَبَسَتْ فَلَمْ تَتَمَيَّزْ وَلَمْ تَظْهَرْ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْجُرْجَانِيُّ: الْمُتَشَابِهُ مَا خَفِيَ بِنَفْسِ اللَّفْظِ وَلاَ يُرْجَى دَرْكُهُ أَصْلاً كَالْمُقَطَّعَاتِ فِي أَوَائِل السُّوَرِ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُشْكِل
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 81 - 82، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 80.
(2) كشف الأسرار لعلاء الدين البخاري 1 / 52 ط. دار الكتاب العربي.
(3) المصباح المنير.
(4) التعريفات للجرجاني، وانظر كشف الأسرار 1 / 55.

(37/332)


وَالْمُتَشَابِهِ يَخْفَى مَعْنَاهُ ابْتِدَاءً.

ب - الْمُجْمَل:
3 - الْمُجْمَل هُوَ مَا خَفِيَ الْمُرَادُ مِنْهُ بِحَيْثُ لاَ يُدْرَكُ بِنَفْسِ اللَّفْظِ إِلاَّ بِبَيَانٍ مِنَ الْمُجْمَل، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِتَزَاحُمِ الْمَعَانِي الْمُتَسَاوِيَةِ، أَوْ لِغَرَابَةِ اللَّفْظِ، أَوْ لاِنْتِقَالِهِ مِنْ مَعْنَاهُ الظَّاهِرِ إِلَى مَا هُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُشْكِل وَالْمُجْمَل أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا نَوْعُ خَفَاءٍ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - حُكْمُ الْمُشْكِل بِمَعْنَاهُ الأُْصُولِيِّ: اعْتِقَادُ الْحَقِّيَّةِ فِيمَا هُوَ الْمُرَادُ ثُمَّ الإِْقْبَال عَلَى الطَّلَبِ وَالتَّعَامُل فِيهِ إِلَى أَنْ يُبَيَّنَ الْمُرَادُ فَيُعْمَل بِهِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) التعريفات للجرجاني.
(2) أصول السرخسي 1 / 168.

(37/333)


مَشْهُورٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ مَفْعُولٍ لِفِعْل شَهَرَ، وَمِنْ مَعَانِي هَذِهِ الْمَادَّةِ: الإِْبْرَازُ: يُقَال شَهَرْتُ الرَّجُل بَيْنَ النَّاسِ: أَبَرَزْتُهُ حَتَّى صَارَ مَشْهُورًا، وَمِنْ مَعَانِيهِ أَيْضًا الإِْفْشَاءُ، يُقَال: شَهَرْتُ الْحَدِيثَ شَهْرًا وَشُهْرَةً: أَفْشَيْتُهُ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الأُْصُولِيِّينَ: الْمَشْهُورُ مِنَ الْحَدِيثِ هُوَ مَا كَانَ رُوَاتُهُ بَعْدَ الْقَرْنِ الأَْوَّل فِي كُل عَهْدٍ قَوْمًا لاَ يُحْصَى عَدَدُهُمْ، وَلاَ يُمْكِنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ لِكَثْرَتِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ وَتَبَايُنِ أَمَاكِنِهِمْ (2) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْمُحَدِّثِينَ: هُوَ مَا لَمْ يَجْمَعُ شُرُوطَ الْمُتَوَاتِرِ وَلَهُ طُرُقٌ مَحْصُورَةٌ بِأَكْثَرَ مِنَ اثْنَيْنِ (3) .
أَمَّا الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَلِلْمَالِكِيَّةِ فِيهِ قَوْلاَنِ:
أَشَهْرُهُمَا: مَا قَوِيَ دَلِيلُهُ، فَالدَّلِيل هُوَ الْمُرَاعَى عِنْدَ الإِْمَامِ مَالِكٍ لاَ كَثْرَةُ الْقَائِل.
__________
(1) المصباح المنير مادة: شهر.
(2) التوضيح بهامش التلويح 2 / 2.
(3) اليواقيت والدرر شرح نخبة الفكر للمناوي 1 / 147.

(37/333)


وَقِيل: إِنَّ الْمَشْهُورَ هُوَ مَا كَثُرَ قَائِلُهُ وَلاَ بُدَّ أَنْ تَزِيدَ نَقَلْتُهُ عَلَى ثَلاَثَةٍ (1) .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَا كَانَ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَوِ الأَْقْوَال لِلشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْمُشْعِرُ بِغَرَابَةِ مُقَابِلِهِ لِضَعْفِ مُدْرِكِهِ قَال الْفَيُّومِيُّ: وَمَدَارِكُ الشَّرْعِ مَوَاضِعُ طَلَبِ الأَْحْكَامِ وَهِيَ حَيْثُ يُسْتَدَل بِالنُّصُوصِ وَالاِجْتِهَادِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
1 - الْمُتَوَاتِرُ
2 - التَّوَاتُرُ فِي اللُّغَةِ التَّتَابُعُ أَوْ مَعَ فَتَرَاتٍ (3) ، وَالْمُتَوَاتِرُ هُوَ اسْمُ الْفَاعِل.
وَفِي اصْطِلاَحِ الأُْصُولِيِّينَ هُوَ: خَبَرُ أَقْوَامٍ بَلَغُوا فِي الْكَثْرَةِ إِلَى حَيْثُ حَصَل الْعِلْمُ بِقَوْلِهِمْ (4) ، وَلَهُ عِنْدَهُمْ تَعْرِيفَاتٌ أُخْرَى.
وَالْعِلاَقَةُ بَيْنَ الْمَشْهُورِ وَالْمُتَوَاتِرِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ.

ب - خَبَرُ الآْحَادِ
3 - هُوَ مَا لَمْ يَجْمَعْ شُرُوطَ التَّوَاتُرِ (5) .
وَالْعِلاَقَةُ بَيْنَ الْمَشْهُورِ وَالآْحَادِ أَنَّ خَبَرَ الآْحَادِ أَعَمُّ مِنَ الْمَشْهُورِ.
__________
(1) فتح العلي المالك 1 / 83.
(2) مغني المحتاج 1 / 12، والمصباح المنير.
(3) القاموس المحيط.
(4) إرشاد الفحول ص 46.
(5) شرح نخبة الفكر 1 / 169، وحاشية البناني على جمع الجوامع 2 / 129.

(37/334)


مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَشْهُورِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوَّلاً - دِلاَلَةُ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ
4 - قَال صَدْرُ الشَّرِيعَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الْمَحْبُوبِيُّ: الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ يُوجِبُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ وَهُوَ عِلْمٌ تَطْمَئِنُّ بَهِ النَّفْسُ وَتَظُنُّهُ يَقِينًا (1) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

ثَانِيًا: الْقَوْل الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ
5 - قَال الْقَرَافِيُّ: إِنَّ الْحَاكِمَ إِذَا كَانَ مُجْتَهِدًا فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ وَيُفْتِيَ إِلاَّ بِالرَّاجِحِ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا جَازَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِالْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِهِ وَأَنْ يَحْكُمَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَاجِحًا عِنْدَهُ مُقَلِّدًا فِي رُجْحَانِ الْقَوْل الْمَحْكُومِ بِهِ إِمَامَهُ الَّذِي يُقَلِّدُهُ، كَمَا يُقَلِّدُهُ فِي الْفُتْيَا، وَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فِي الْحُكْمِ أَوِ الْفُتْيَا فَحَرَامٌ إِجْمَاعًا (2) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: لَيْسَ لِلْمُفْتِي وَلاَ لِلْعَامِل الْمُنْتَسِبِ إِلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يَعْمَل بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا بِغَيْرِ نَظَرٍ بَل عَلَيْهِ فِي الْقَوْلَيْنِ الْعَمَل بِآخِرِهِمَا إِنْ عَلِمَهُ وَإِلاَّ فَبِالَّذِي رَجَّحَهُ الشَّافِعِيُّ، فَإِنْ قَالَهُمَا فِي حَالَةٍ وَلَمْ يُرَجِّحْ وَاحِدًا مِنْهُمَا وَلَمْ يُعْلَمْ أَقَالَهُمَا فِي وَقْتٍ أَمْ فِي وَقْتَيْنِ، وَجَهِلْنَا السَّابِقَ وَجَبَ الْبَحْثُ عَنْ أَرْجَحِهِمَا فَيُعْمَل بِهِ (3) .
__________
(1) التوضيح بهامش التلويح 2 / 3 ط. صبيح.
(2) الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والأمام للقرافي ص 20، 21.
(3) المجموع 1 / 68، ونهاية المحتاج 1 / 42.

(37/334)