الموسوعة الفقهية الكويتية

مَسْجِدٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَسْجِدُ فِي اللُّغَةِ: بَيْتُ الصَّلاَةِ، وَمَوْضِعُ السُّجُودِ مِنْ بَدَنِ الإِْنْسَانِ وَالْجَمْعُ مَسَاجِدُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عُرِّفَ بِتَعْرِيفَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: أَنَّهَا الْبُيُوتُ الْمَبْنِيَّةُ لِلصَّلاَةِ فِيهَا لِلَّهِ فَهِيَ خَالِصَةٌ لَهُ سُبْحَانَهُ وَلِعِبَادَتِهِ (2) .
وَكُل مَوْضِعٍ يُمْكِنُ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ فِيهِ وَيُسْجَدَ لَهُ (3) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جُعِلَتْ لِي الأَْرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا (4) .
وَخَصَّصَهُ الْعُرْفُ بِالْمَكَانِ الْمُهَيَّأِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، لِيَخْرُجَ الْمُصَلَّى الْمُجْتَمَعِ فِيهِ لِلأَْعْيَادِ وَنَحْوِهَا، فَلاَ يُعْطَى حُكْمَهُ، وَكَذَلِكَ الرُّبُطُ وَالْمَدَارِسُ فَإِنَّهَا هُيِّئَتْ لِغَيْرِ ذَلِكَ (5) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) تفسير النسفي 4 / 1 - 3 ط. دار الكتاب العربي - بيروت.
(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2 / 78 ط. دار الكتب المصرية 1935م.
(4) حديث: " جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 533) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(5) إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي 8 ط. المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.

(37/194)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجَامِعُ
2 - مِنْ مَعَانِي الْجَامِعِ فِي اللُّغَةِ: أَنَّهُ الْمَسْجِدُ الَّذِي تُصَلَّى فِيهِ الْجُمُعَةُ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لأَِنَّهُ جَمَعَ النَّاسَ لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا هِيَ أَنَّ الْجَامِعَ أَخَصُّ مِنَ الْمَسْجِدِ.

ب - الْمُصَلَّى
3 - الْمُصَلَّى فِي اللُّغَةِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُول: مَوْضِعُ الصَّلاَةِ أَوِ الدُّعَاءِ (3) .
وَيُرَادُ بِهِ فِي الاِصْطِلاَحِ الْفَضَاءُ وَالصَّحْرَاءُ (4) ، وَهُوَ الْمُجْتَمَعُ فِيهِ لِلأَْعْيَادِ وَنَحْوِهَا (5) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَالْمُصَلَّى أَنَّ الْمُصَلَّى أَخَصُّ مِنَ الْمَسْجِدِ.

ج - الزَّاوِيَةُ
4 - الزَّاوِيَةُ فِي اللُّغَةِ: وَاحِدَةُ الزَّوَايَا، وَزَاوِيَةُ الْبَيْتِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ ذَلِكَ لأَِنَّهَا جَمَعَتْ قُطْرَيْنِ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 91.
(3) المصباح المنير.
(4) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك للكشناوي 1 / 336.
(5) إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي 28.

(37/194)


مِنْهُ وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَسْجِدِ غَيْرِ الْجَامِعِ لَيْسَ فِيهِ مِنْبَرٌ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَسْجِدَ أَعَمُّ.

بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ وَعِمَارَتُهَا وَوَظَائِفُهَا
5 - يَجِبُ بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ فِي الأَْمْصَارِ وَالْقُرَى وَالْمَحَال - جَمْعُ مَحَلَّةٍ - وَنَحْوِهَا حَسَبَ الْحَاجَةِ وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ (3) .
وَالْمَسَاجِدُ هِيَ أَحَبُّ الْبِقَاعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الأَْرْضِ وَهِيَ بُيُوتُهُ الَّتِي يُوَحَّدُ فِيهَا وَيُعْبَدُ، يَقُول سُبْحَانَهُ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} ، قَال ابْنُ كَثِيرٍ: أَيْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَعَاهُدِهَا وَتَطْهِيرِهَا مِنَ الدَّنَسِ وَاللَّغْوِ وَالأَْقْوَال وَالأَْفْعَال الَّتِي لاَ تَلِيقُ فِيهَا، كَمَا قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنِ اللَّغْوِ فِيهَا، وَقَال قَتَادَةُ: هِيَ هَذِهِ الْمَسَاجِدُ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِبِنَائِهَا وَعِمَارَتِهَا وَرَفْعِهَا وَتَطْهِيرِهَا، وَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ كَعْبًا كَانَ يَقُول: مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: أَنَّ بُيُوتِي فِي الأَْرْضِ الْمَسَاجِدُ وَأَنَّهُ مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ زَارَنِي فِي بَيْتِي أَكَرَمْتُهُ، وَحَقٌّ عَلَى الْمَزُورِ
__________
(1) مختار الصحاح، والمصباح المنير.
(2) جواهر الإكليل 1 / 93، وشرح الزرقاني 1 / 275.
(3) كشاف القناع 2 / 364.

(37/195)


كَرَامَةُ الزَّائِرِ (1) .
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثٌ كَثِيرَةٌ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَاحْتِرَامِهَا وَتَوْقِيرِهَا وَتَطْيِيبِهَا وَتَبْخِيرِهَا.
فَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ (2) .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالْمَسَاجِدِ أَنْ تُبْنَى فِي الدُّورِ، وَأَنْ تُطَهَّرَ وَتُطَيَّبَ (3) . وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَْسْقَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وَسَل سُيُوفِكُمْ، وَاتَّخِذُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ - الْمَرَاحِيضَ - وَجَمِّرُوهَا فِي الْجُمَعِ (4) .
وَقَدْ بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ وَلِلصَّلاَةِ فِيهَا كَمَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلأَْعْرَابِيِّ الَّذِي بَال فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ: إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَيْءٍ
__________
(1) تفسير ابن كثير 3 / 292 ط. عيسى الحلبي.
(2) حديث: " من بنى مسجدًا يبتغي به وجه الله. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 544) ومسلم (1 / 378) .
(3) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالمساجد أن تبنى في الدور، وأن تطهر وتطيب ". أخرجه ابن ماجه (1 / 250) والترمذي (2 / 490) ، وصوب الترمذي إرساله.
(4) حديث: " جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 247) وضعفه البوصيري في " مصباح الزجاجة " (1 / 162) .

(37/195)


مِنْ هَذَا الْبَوْل وَلاَ الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ (1) فَهِيَ بُيُوتُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَمَوَاطِنُ عِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَتَنْزِيهِهِ (2) .
وَهَذَا دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآْصَال رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَْبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
وَلِذَا يُسْتَحَبُّ لُزُومُهَا وَالْجُلُوسُ فِيهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِحْيَاءِ الْبُقْعَةِ وَانْتِظَارِ الصَّلاَةِ، وَفِعْلِهَا فِي أَوْقَاتِهَا عَلَى أَكْمَل الأَْحْوَال (3) ، قَال أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لاِبْنِهِ: يَا بُنَيَّ لِيَكُنِ الْمَسْجِدُ بَيْتَكَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: الْمَسَاجِدُ بُيُوتُ الْمُتَّقِينَ وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل لِمَنْ كَانَ الْمَسَاجِدُ بُيُوتَهُ الرَّوْحَ وَالرَّحْمَةَ وَالْجَوَازَ عَلَى الصِّرَاطِ (4) .
__________
(1) حديث: " إن هذه المساجد لا تصلح لشيء. . . ". أخرجه مسلم (1 / 237) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2) تفسير ابن كثير 3 / 294.
(3) إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي 304 - 305.
(4) حديث: " المساجد بيوت المتقين. . . ". أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " (13 / 317) وفي إسناده جهالة.

(37/196)


فَضْل الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ
6 - تَفْضُل الْمَسَاجِدُ الثَّلاَثَةُ (الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ بِمَكَّةَ الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ بِالْمَدِينَةِ، الْمَسْجِدُ الأَْقْصَى بِالْقُدْسِ) غَيْرَهَا مِنَ الْمَسَاجِدِ الأُْخْرَى بِأَنَّهَا الَّتِي تُشَدُّ إِلَيْهَا الرِّحَال دُونَ غَيْرِهَا، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تُشَدُّ الرِّحَال إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الأَْقْصَى (1) .
وَلِذَا قَال الْعُلَمَاءُ: مَنْ نَذَرَ صَلاَةً فِي مَسْجِدٍ لاَ يَصِل إِلَيْهِ إِلاَّ بِرِحْلَةِ وَرَاحِلَةٍ فَلاَ يَفْعَل وَيُصَلِّي فِي مَسْجِدِهِ إِلاَّ فِي الثَّلاَثَةِ الْمَسَاجِدِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنَّ مَنْ نَذَرَ صَلاَةً فِيهَا خَرَجَ إِلَيْهَا، وَمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ لِمَسْجِدٍ غَيْرِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ لاِعْتِكَافٍ أَوْ صَوْمٍ فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ الإِْتْيَانُ لِذَلِكَ الْمَسْجِدِ وَيَفْعَل تَلِكَ الْعِبَادَةَ بِمَحَلِّهِ، أَمَّا مَنْ نَذَرَ الإِْتْيَانَ لِمَسْجِدٍ مِنَ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ لأَِجْل صَوْمٍ أَوْ صَلاَةٍ أَوِ اعْتِكَافٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الإِْتْيَانُ إِلَيْهِ (2) .
__________
(1) حديث: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1014) .
(2) فتح القدير 2 / 336، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 172 - 173، وجواهر الإكليل 1 / 250، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 211 - 212، ومنار السبيل في شرح الدليل 1 / 233 المكتب الإسلامي، وإعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي 269.

(37/196)


أَمَّا أَنَّ الرِّحَال لاَ تُشَدُّ لِغَيْرِهَا مِنَ الْمَسَاجِدِ فَلأَِنَّ غَيْرَهَا مِنَ الْمَسَاجِدِ لَيْسَ فِي مَعْنَاهَا، إِذْ هِيَ مُتَمَاثِلَةٌ، وَلاَ بَلَدَ إِلاَّ وَفِيهِ مَسْجِدٌ وَلاَ مَعْنَى لِلرِّحْلَةِ إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ، وَعَلَى هَذَا وَكَمَا قَال الْعُلَمَاءُ لَوْ عَيَّنَ مَسْجِدًا غَيْرَ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ لأَِدَاءِ فَرِيضَةٍ أَوْ نَافِلَةٍ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لِبَعْضِهَا فَضْلٌ عَلَى بَعْضٍ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ لأَِجْل ذَلِكَ مِنْهَا مَا عَيَّنَهُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
كَمَا تَفْضُل هَذِهِ الْمَسَاجِدُ الثَّلاَثَةُ بِزِيَادَةِ ثَوَابِ الصَّلاَةِ فِيهَا عَنْهُ فِي غَيْرِهَا وَإِنْ كَانَتْ تَتَفَاضَل فِي هَذَا الثَّوَابِ فِيمَا بَيْنَهَا.
فَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: فَضْل الصَّلاَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى غَيْرِهِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلاَةٍ، وَفِي مَسْجِدِي أَلْفُ صَلاَةٍ وَفِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَمْسُمِائَةِ صَلاَةٍ (2) .
قَال الزَّرْكَشِيُّ: إِنَّ هَذِهِ الْمُضَاعَفَةَ فِي الْمَسْجِدَيْنِ لاَ تَخْتَصُّ بِالْفَرِيضَةِ، بَل تَعُمُّ النَّفْل وَالْفَرْضَ كَمَا قَال النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: إِنَّهُ
__________
(1) إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي 104 - 105، 388 - 391.
(2) حديث: " فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره بمائة ألف صلاة. . . ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 7) وعزاه للطبراني في الكبير ثم قال: " رجاله ثقات، وفي بعضهم كلام، وهو حديث حسن ".

(37/197)


الْمَذْهَبُ، قُلْتُ: وَهُوَ لاَزِمٌ لِلأَْصْحَابِ مِنَ اسْتِثْنَائِهِمُ النَّفْل بِمَكَّةَ مِنَ الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ لأَِجْل زِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ.
وَقَال الطّحَاوِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ فِي شَرْحِ الآْثَارِ: وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْفَرْضِ وَأَنَّ فِعْل النَّوَافِل فِي الْبَيْتِ أَفَضْل مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَال ابْنُ أَبِي الصَّيْفِ الْيَمَنِيِّ: هَذَا التَّضْعِيفُ فِي الصَّلَوَاتِ يَحْتَمِل أَنْ يَعُمَّ الْفَرْضَ وَالنَّفَل، وَهُوَ ظَاهِرُ الأَْخْبَارِ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ الْفَرْضُ دُونَ النَّفْل، لأَِنَّ النَّفْل دُونَهُ (1) .
وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ هُوَ أَوَّل مَسْجِدٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ فِي الأَْرْضِ لِلتَّعَبُّدِ فِيهِ، قَال تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّل بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} ، وَلِذَلِكَ كَانَ أَفَضْل الْمَسَاجِدِ، فَهُوَ قِبْلَةُ الْمُصَلِّينَ وَكَعْبَةُ الزَّائِرِينَ وَفِيهِ الأَْمْنُ وَالأَْمَانُ (2) .
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَْرْضِ أَوَّل؟ قَال: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ
__________
(1) إعلام الساجد 124 - 125.
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 4 / 138، وإعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي 29 - 30.

(37/197)


قَال: الْمَسْجِدُ الأَْقْصَى قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَال: أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ فَإِنَّ الْفَضْل فِيهِ (1) .
وَأَمَّا مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ فَقَال الزَّرْكَشِيُّ: أَنْشَأَ أَصْلَهُ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ وَالْمُهَاجِرُونَ الأَْوَّلُونَ وَالأَْنْصَارُ الْمُتَقَدِّمُونَ خِيَارُ هَذِهِ الأُْمَّةِ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ مَزِيدِ الشَّرَفِ عَلَى غَيْرِهِ مَا لاَ يَخْفَى، وَاشْتِمَالُهَا عَلَى بُقْعَةٍ هِيَ أَفَضْل بِقَاعِ الأَْرْضِ بِالإِْجْمَاعِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي ضَمَّ أَعْضَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَكَى الإِْجْمَاعَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ، وَفِي ذَلِكَ قَال: بَعْضُهُمْ - وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبِسْكَرِيُّ الْمَغْرِبِيُّ -:

جَزَمَ الْجَمِيعُ بِأَنَّ خَيْرَ الأَْرْضِ مَا

قَدْ حَاطَ ذَاتَ الْمُصْطَفَى وَحَوَاهَا

وَنَعَمْ لَقَدْ صَدَقُوا بِسَاكِنِهَا عَلَتْ

كَالنَّفْسِ حَيْنَ زَكَتْ زَكَا مَأْوَاهَا (2)

وَلِذَا نَدَبَ الشَّارِعُ إِلَى زِيَارَتِهِ وَالصَّلاَةِ فِيهِ وَلِلْمَسْجِدِ الأَْقْصَى قَدَاسَتُهُ وَعَرَاقَتُهُ وَلَهُ مَكَانَتُهُ فِي الإِْسْلاَمِ حَيْثُ كَانَ قِبْلَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي فَتْرَةٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَكَانَ إِلَيْهِ مَسْرَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَيْهِ، قَال تَعَالَى: {
__________
(1) حديث: " قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ . . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 407) ومسلم (1 / 370) واللفظ للبخاري.
(2) إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي 242، والاختيار لتعليل المختار 1 / 175 وما بعدها.

(37/198)


سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
فَهَذِهِ الآْيَةُ تُعَظِّمُ قَدْرَهُ بِإِسْرَاءِ سَيِّدِنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمَكَّةَ، وَصَلاَتُهُ فِيهِ بِالأَْنْبِيَاءِ إِمَامًا قَبْل عُرُوجِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَبَعْدَ أَنْ صَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، هَذَا إِلَى إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَرَكَةِ حَوْلَهُ، إِمَّا بِأَنْ جَعَل حَوْلَهُ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ الْمُصْطَفَيْنَ الأَْخْيَارِ، وَإِمَّا بِكَثْرَةِ الثِّمَارِ وَمَجَارِي الأَْنْهَارِ (1) ، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: إِنَّ الْجَنَّةَ تَحِنُّ شَوْقًا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَصَخْرَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنْ جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ، وَهِيَ صُرَّةُ الأَْرْضِ (2) .

آدَابُ الدُّخُول إِلَى الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ وَغَيْرِهَا
7 - إِذَا عَايَنَ دَاخِل الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْبَيْتَ وَوَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهِ رَفَعَ يَدَيْهِ وَقَال: اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً وَزِدْ مِنْ شَرَفِهِ وَكَرَمِهِ وَعِظَمِهِ مِمَّنْ حَجَّهُ أَوِ اعْتَمَرَهُ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا وَبِرًّا (3) .
__________
(1) إعلام الساجد 286، تفسير ابن كثير 4 / 138 - ط. الأندلس.
(2) أثر أنس بن مالك: " إن الجنة تحن. . . ". أخرجه ابن الجوزي في فضائل القدس 139.
(3) ورد في ذلك حديث مرفوع أخرجه البيهقي في السنن (5 / 73) من حديث ابن جريج مرسلاً، وقال البيهقي بعده: " هذا منقطع ".

(37/198)


وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُول إِذَا لَقِيَ الْبَيْتَ: أَعُوذُ بِرَبِّ الْبَيْتِ مِنَ الدَّيْنِ وَالْفَقْرِ وَضِيقِ الصَّدْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَقُول: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلاَمِ (1) .
وَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَبْدَأَ حَيْنَ دُخُولِهِ بِتَقْدِيمِ الرِّجْل الْيُمْنَى وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَطْ، بَل بِالنِّسْبَةِ لِلْمَسَاجِدِ كُلِّهَا.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُول: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَيَقُول كَذَلِكَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ جِئْتُ لأُِؤَدِّيَ فَرْضَكَ وَأَطْلُبَ رَحْمَتَكَ وَأَلْتَمِسَ رِضَاكَ، مُتَّبِعًا لأَِمْرِكَ رَاضِيًا بِقَضَائِكَ، أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْمُضْطَرِّينَ الْمُشْفِقِينَ مِنْ عَذَابِكَ أَنْ تَسْتَقْبِلَنِي الْيَوْمَ بِعَفْوِكَ تَحْفَظُنِي بِرَحْمَتِكَ وَتَتَجَاوَزُ عَنِّي بِمَغْفِرَتِكَ وَتُعِينُنِي عَلَى أَدَاءِ فَرَائِضِكَ، اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ وَأَدْخِلْنِي فِيهَا وَأَعِذْنِي مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.
وَلَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِكُل لَفْظٍ فِيهِ التَّضَرُّعُ وَالْخُشُوعُ.
__________
(1) حديث عطاء: " أعوذ برب البيت. . . ". أورده البابرتي في العناية (2 / 147) ولم نهتد لمن أخرجه، وأخرج الشطر الثاني منه " اللهم أنت السلام ومنك السلام. . . " البيهقي في " السنن الكبرى " (5 / 73) عن مكحول مرسلاً، وضعفه البيهقي.

(37/199)


وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَدْخُل الْمَسْجِدَ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ الْمَعْرُوفِ الآْنَ بِبَابِ السَّلاَمِ إِذْ مِنْهُ دَخَل عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ (1) ، هَذَا مَا انْعَقَدَ إِجْمَاعُ الأَْئِمَّةِ عَلَيْهِ (2) .
8 - وَلاَ يَخْتَلِفُ دُخُول مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ عَنْ دُخُول غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ مِنْ حَيْثُ تَقْدِيمُ الدَّاخِل رِجْلَهُ الْيُمْنَى قَائِلاً: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَيَدْخُل مِنْ بَابِ جِبْرِيل أَوْ غَيْرِهِ وَيَقْصِدُ الرَّوْضَةَ الشَّرِيفَةَ وَهِيَ بَيْنَ الْمِنْبَرِ وَالْقَبْرِ الشَّرِيفِ فَيُصَلِّي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ مُسْتَقْبِلاً السَّارِيَةَ الَّتِي تَحْتَهَا الصُّنْدُوقُ بِحَيْثُ يَكُونُ عَمُودُ الْمِنْبَرِ حِذَاءَ مَنْكِبِهِ الأَْيْمَنِ إِنْ أَمْكَنَهُ وَتَكُونُ الْحَنِيَّةُ الَّتِي فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَذَلِكَ مَوْقِفُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قِيل قَبْل أَنْ يُغَيَّرَ الْمَسْجِدُ، ثُمَّ يَأْتِي الْقَبْرَ الشَّرِيفَ فَيَسْتَقْبِل جِدَارَهُ وَيَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ عَلَى نَحْوِ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ مِنَ السَّارِيَةِ الَّتِي عِنْدَ رَأْسِ الْقَبْرِ فِي زَاوِيَةِ جِدَارِهِ، ثُمَّ يَقُول فِي مَوْقِفِهِ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُول اللَّهِ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا خَيْرَ خَلْقِ اللَّهِ،
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل من باب بني شيبة ". أورده ابن حجر في التلخيص 2 / 243 وعزاه إلى الطبراني وقال: في إسناده: عبد الله بن نافع وهو ضعيف.
(2) فتح القدير والعناية بهامشه 2 / 147، والقليوبي وعميرة على منهاج الطالبين 2 / 101 - 102 ط. دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 227 - 228، وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك للكشناوي 1 / 459 - 460 ط. دار الفكر، والمغني لابن قدامة 3 / 368 - 370.

(37/199)


السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا خِيرَةَ اللَّهِ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا حَبِيبَ اللَّهِ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا سَيِّدَ وَلَدِ آدَمِ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّكَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَشْهَدُ أَنَّكَ يَا رَسُول اللَّهِ قَدْ بَلَّغْتَ الرِّسَالَةَ وَأَدَّيْتَ الأَْمَانَةَ وَنَصَحْتَ الأُْمَّةَ وَكَشَفْتَ الْغُمَّةَ فَجَزَاكَ اللَّهُ عَنَّا خَيْرًا، جَازَاكَ اللَّهُ عَنَّا أَفَضْل مَا جَازَى نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ، اللَّهُمَّ أَعْطِ سَيِّدَنَا عَبْدَكَ وَرَسُولَكَ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَالدَّرَجَةَ الْعَالِيَةَ الرَّفِيعَةَ وَابْعَثْهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي وَعَدَّتْهُ، وَأَنْزِلْهُ الْمَنْزِل الْمُقَرَّبَ عِنْدَكَ إِنَّكَ سُبْحَانَكَ ذُو الْفَضْل الْعَظِيمِ، وَيَسْأَل اللَّهَ تَعَالَى حَاجَتَهُ (1) .
هَذَا مَا عَلَيْهِ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ مَعَ اخْتِلاَفٍ يَسِيرٍ فِي صِيَغِ بَعْضِ الأَْدْعِيَةِ.
9 - وَآدَابُ دُخُول بَيْتِ الْمَقْدِسِ لاَ تَخْتَلِفُ عَنْ آدَابِ دُخُول غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ فَقَدْ دَخَلَهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى وَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَأَمَّ الأَْنْبِيَاءَ (2) .
10 - ثُمَّ آدَابُ دُخُول الْمَسَاجِدِ فِي غَيْرِ مَا ذُكِرَ أَنْ يُقَدِّمَ الدَّاخِل رِجْلَهُ الْيُمْنَى فِي الدُّخُول وَالْيُسْرَى فِي الْخُرُوجِ لِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ
__________
(1) فتح القدير 2 / 336 - 337.
(2) تفسير ابن كثير 3 / 22 - ط. الحلبي.

(37/200)


عَنْهُ: مِنَ السُّنَّةِ إِذَا دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ أَنْ تَبْدَأَ بِرِجْلِكَ الْيُمْنَى وَإِذَا خَرَجْتَ أَنْ تَبْدَأَ بِرِجْلِكَ الْيُسْرَى (1) . قَال الْبُخَارِيُّ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَبْدَأُ بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى فَإِذَا خَرَجَ بَدَأَ بِرِجْلِهِ الْيُسْرَى (2) ، وَذَلِكَ لِقَاعِدَةِ الشَّرْعِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ بَابِ التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ يُنْدَبُ فِيهِ التَّيَامُنُ وَمَا كَانَ بِضَدِّهِ يُنْدَبُ فِيهِ التَّيَاسُرُ، وَإِذَا أَخْرَجَ يُسْرَاهُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَضَعَهَا عَلَى ظَاهِرِ نَعْلِهِ، وَيُخْرِجُ يُمْنَاهُ وَيُقَدِّمُهَا فِي اللُّبْسِ، وَعِنْدَ الدُّخُول يَخْلَعُ يُسْرَاهُ وَيَضَعُهَا عَلَى ظَاهِرِ نَعْلِهِ، ثُمَّ يُخْرِجُ الْيُمْنَى وَيُقَدِّمُهَا دُخُولاً (3) .
وَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا دَخَل أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُل: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُل: اللَّهُمَّ إِنَّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ (4) .
وَعَنْ أَبِي هَرِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا دَخَل أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلْيَقُل: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ
__________
(1) أثر أنس: " من السنة إذا دخلت المسجد. . . ". أخرجه الحاكم (المستدرك 1 / 218) وقال: " صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي.
(2) إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي 347، وأثر ابن عمر ذكره البخاري في صحيحه تعليقًا (الفتح 1 / 523) .
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 108.
(4) حديث: " إذا دخل أحدكم المسجد. . . ". أخرجه مسلم (1 / 494) .

(37/200)


وَلْيَقُل: اللَّهُمَّ اعْصِمْنِي مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (1) .
وَعَنْ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِنْتِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَل الْمَسْجِدَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَال: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ. وَإِذَا خَرَجَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَال رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ (2) } .

تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ
11 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُسَنُّ لِكُل مَنْ يَدْخُل مَسْجِدًا غَيْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ - يُرِيدُ الْجُلُوسَ بِهِ وَكَانَ مُتَوَضِّئًا - أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ قَبْل الْجُلُوسِ.
أَمَّا تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَهِيَ عِنْدَهُمُ الطَّوَافُ لِلْقَادِمِ لِمَكَّةَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَحِيَّةٌ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .

الْبِنَاءُ لِلسَّكَنِ فَوْقَ الْمَسْجِدِ وَتَحْتَهُ وَبِنَاؤُهُ عَلَى الْقَبْرِ وَالدَّفْنُ فِيهِ:
12 - أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ اتِّخَاذَ مَنْزِلٍ لِلسَّكَنِ فِيهِ
__________
(1) حديث: " إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 254) ، وصحح إسناده البوصيري في: " مصباح الزجاجة " (1 / 165) .
(2) حديث: " ربِّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 128) وقال: " حديث حسن ".

(37/201)


تَحْتَ الْمَسْجِدِ وَلَمْ يُجِيزُوا اتِّخَاذَهُ فَوْقَهُ (1) .
وَلَمْ يُجِيزُوا الدَّفْنَ فِيهِ لأَِنَّهُ يُؤَدِّي لِنَبْشِهِ إِلاَّ لِمَصْلَحَةِ تَعُودُ عَلَى الْمَيِّتِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ - كَمَا نَقَل ابْنُ مُفْلِحٍ عَنِ الْمُسْتَوْعِبِ - إِنْ جَعَل أَسْفَل بَيْتِهِ مَسْجِدًا لَمْ يَنْتَفِعْ بِسَطْحِهِ، وَإِنْ جَعَل سَطْحَهُ مَسْجِدًا انْتَفَعَ بِأَسْفَلِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَقَال أَحْمَدُ: لأَِنَّ السَّطْحَ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى أَسْفَل (3) .
وَحَرَّمُوا الدَّفْنَ بِالْمَسَاجِدِ وَكَذَا بِنَاءَ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقَبْرِ لِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ (4) .
وَيَقُول الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا جَعَل السُّفْل مَسْجِدًا وَعَلَى ظَهْرِهِ مَسْكَنٌ فَهُوَ مَسْجِدٌ لأَِنَّ الْمَسْجِدَ مِمَّا يَتَأَبَّدُ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي السُّفْل دُونَ الْعُلْوِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ عَلَى عَكْسُ هَذَا لأَِنَّ الْمَسْجِدَ مُعَظَّمٌ، وَإِذَا كَانَ فَوْقَهُ مَسْكَنٌ أَوْ مُسْتَغَلٌّ يَتَعَذَّرُ تَعْظِيمُهُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ جَوَّزَ فِي الْوَجْهَيْنِ حَيْنَ قَدِمَ بَغْدَادَ وَرَأَى ضِيقَ الْمَنَازِل فَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ الضَّرُورَةَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ حِينَ دَخَل الرَّيَّ أَجَازَ ذَلِكَ كُلَّهُ.
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 203، والشرح الكبير 4 / 70.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 70.
(3) الآداب الشرعية 3 / 419.
(4) حديث: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 136) وقال: حديث حسن.

(37/201)


وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِذَا جَعَل السُّفْل مَسْجِدًا دُونَ الْعُلُوِّ جَازَ لأَِنَّهُ يَتَأَبَّدُ بِخِلاَفِ الْعُلُوِّ (1) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ جَعَل تَحْتَهُ سِرْدَابًا لِمَصَالِحِهِ جَازَ (2) .
وَكَرِهَ الشَّافِعِيَّةُ بِنَاءَ مَسْجِدٍ عَلَى الْقَبْرِ (3) ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَل قَبْرِي وَثَنًا، لَعَنَ اللَّهُ قَوْمًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ (4) ، قَال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَكْرَهُ أَنْ يُعَظَّمَ مَخْلُوقٌ حَتَّى يُجْعَل قَبْرُهُ مَسْجِدًا مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنَ النَّاسِ (5) ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ (6) .
وَنَقَل الزَّرْكَشِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَبْنِيَ مَسْجِدًا وَيَتَّخِذَ فَوْقَهُ مَسْكَنًا يَسْكُنَ فِيهِ بِأَهْلِهِ، قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَفِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ مَا يَقْتَضِي مَنْعَ مُكْثِ الْجُنُبِ فِيهِ لأَِنَّهُ جَعَل ذَلِكَ هَوَاءَ الْمَسْجِدِ وَهَوَاءُ الْمَسْجِدِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ (7) .
__________
(1) فتح القدير 5 / 63، وحاشية ابن عابدين 3 / 370.
(2) ابن عابدين والدر 1 / 441.
(3) الزواجر عن اقتراف الكبائر للهيتمي 1 / 165.
(4) حديث: " اللهم لا تجعل قبري وثناً، لعن الله قوماً. . . ". أخرجه أحمد في المسند (2 / 246) ، وصحح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على المسند (13 / 86) .
(5) المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 146 - 147.
(6) سبق تخريجه بهذه الفقرة.
(7) إعلام الساجد في أحكام المساجد ص407.

(37/202)


بِنَاءُ الْمَسْجِدِ بِمُتَنَجِّسٍ
13 - نَقَل الزَّرْكَشِيُّ عَنِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ قَوْلَهُ: لاَ يَجُوزُ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ بِاللَّبِنِ الْمَعْجُونِ بِالْمَاءِ النَّجِسِ بِنَاءً عَلَى نَجَاسَتِهِ وَيَطْهُرُ بِالْغَسْل ظَاهِرُهُ دُونَ بَاطِنِهِ عَلَى الْجَدِيدِ الأَْصَحِّ (1) .

تَرْمِيمُ الْمَسَاجِدِ
14 - لِلتَّرْمِيمِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ، مِنْهَا: الإِْصْلاَحُ، يُقَال: رَمَّمْتُ الْحَائِطَ وَغَيْرَهُ تَرْمِيمًا: أَصْلَحْتُهُ، وَيُقَال: رَمَمْتُ الشَّيْءَ أَرُمُّهُ وَأَرُمُّهُ رُمًّا وَمَرَمَّةً إِذَا أَصْلَحْتَهُ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالتَّرْمِيمُ قَدْ يَكُونُ بِقَصْدِ التَّقْوِيَةِ إِذَا كَانَ الشَّيْءُ مُعَرَّضًا لِلتَّلَفِ، وَقَدْ يَكُونُ بِقَصْدِ التَّحْسِينِ.
وَتَرْمِيمُ الْمَسَاجِدِ لاَ يَخْرُجُ فِي مَعْنَاهُ أَوِ الْغَرَضِ مِنْهُ عَمَّا سَبَقَ.
15 - وَتَرْمِيمُ الْمَسَاجِدِ مِنْ عِمَارَتِهَا الْمَأْمُورِ بِهَا شَرْعًا، وَالْعِمَارَةُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِنْ قَامَ بِهَا بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ سَقَطَ الإِْثْمُ عَنِ الْبَاقِينَ.
قَال اللَّهُ تَعَالَى:
__________
(1) إعلام الساجد بأحكام المساجد ص403.
(2) مختار الصحاح، والمصباح المنير.

(37/202)


{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} .
قَال الْقُرْطُبِيُّ: أَثْبَتَ الإِْيمَانَ فِي الآْيَةِ لِمَنْ عَمَّرَ الْمَسَاجِدَ بِالصَّلاَةِ فِيهَا وَتَنْظِيفِهَا وَإِصْلاَحِ مَا وَهِيَ مِنْهَا وَآمَنَ بِاللَّهِ (1) .
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ هِيَ الْبِنَاءُ وَالتَّرْمِيمُ وَالتَّجْصِيصُ لِلإِْحْكَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأُجْرَةُ الْقَيِّمِ وَمَصَالِحُهُ تَشْمَل ذَلِكَ.
وَقَال: لَوْ زَادَ رِيعُ مَا وَقَفَ عَلَى الْمَسْجِدِ لِمَصَالِحِهِ أَوْ مُطْلَقًا ادَّخَرَ لِعَمَارَتِهِ، وَلَهُ شِرَاءُ شَيْءٍ بِهِ مِمَّا فِيهِ زِيَادَةُ غَلَّتِهِ وَلَوْ زَادَ رِيعُ مَا وَقَفَ لِعَمَارَتِهِ وَلَمْ يُشْتَرَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيُقَدِّمُ عِمَارَةَ عَقَارِهِ عَلَى عِمَارَتِهِ وَعَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ الْوَاقِفُ، كَذَا فِي الْعُبَابِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: وَقْفٌ)

تَزْوِيقُ الْمَسَاجِدِ
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِنَقْشِ الْمَسْجِدِ خَلاَ مِحْرَابَهُ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لأَِنَّهُ يُلْهِي الْمُصَلِّيَ، وَكَرِهُوا التَّكَلُّفَ بِدَقَائِقِ النُّقُوشِ وَنَحْوِهَا خُصُوصًا فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ.
وَقِيل: يُكْرَهُ فِي الْمِحْرَابِ دُونَ السَّقْفِ وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِحْرَابِ جِدَارُ الْقِبْلَةِ.
__________
(1) تفسير القرطبي 8 / 90.
(2) القليوبي وعميرة 3 / 108.

(37/203)


وَالْمُرَادُ بِالنَّقْشِ هُنَا مَا كَانَ بِالْجِصِّ وَمَاءِ الذَّهَبِ لَوْ كَانَ بِمَال النَّاقِشِ، أَمَّا لَوْ كَانَ مِنْ مَال الْوَقْفِ فَهُوَ حَرَامٌ وَيَضْمَنُ مُتَوَلِّيهِ لَوْ فَعَلَهُ.
وَإِنِ اجْتَمَعَتْ أَمْوَال الْمَسْجِدِ وَخَافَ الْمُتَوَلِّي الضَّيَاعَ بِطَمَعِ الظَّلَمَةِ لاَ بَأْسَ بِهِ حِينَئِذٍ.
وَلَيْسَ بِمُسْتَحْسَنِ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْمَحَارِيبِ وَالْجُدَرَانِ مِمَّا يَخَافُ مِنْ سُقُوطِ الْكِتَابَةِ وَأَنْ تُوطَأَ، وَلاَ يَجُوزُ لِلْقَيِّمِ شِرَاءُ الْمُصَلَّيَاتِ لِتَعْلِيقِهَا بِالأَْسَاطِينِ وَيَجُوزُ لِلصَّلاَةِ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ لاَ تُعَلَّقُ بِالأَْسَاطِينِ وَلاَ يَجُوزُ إِعَارَتُهَا لِمَسْجِدٍ آخَرَ، قَال فِي الْقُنْيَةِ: هَذَا إِذَا لَمْ يُعْرَفْ حَال الْوَاقِفِ، أَمَّا إِذَا أَمَرَ بِتَعْلِيقِهَا وَأَمَرَ بِالدَّرْسِ فِيهِ وَبَنَاهُ لِلدَّرْسِ وَعَايَنَ الْعَادَةَ الْجَارِيَةَ فِي تَعْلِيقِهَا بِالأَْسَاطِينِ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي يُدَرَّسُ فِيهَا فَلاَ بَأْسَ بِشِرَائِهَا بِمَال الْوَقْفِ فِي مَصْلَحَتِهِ إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهَا وَلاَ يَضْمَنُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (1) .
وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ تَزْوِيقَ حِيطَانِ الْمَسْجِدِ وَسَقْفِهِ وَخَشْبِهِ وَالسَّاتِرِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِذَا كَانَ بِحَيْثُ يَشْغَل الْمُصَلِّيَ وَإِلاَّ فَلاَ، كَمَا يُكْرَهُ كَذَلِكَ عِنْدَهُمْ تَزْوِيقُ الْقِبْلَةِ بِالذَّهَبِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ فِيهَا، وَأَمَّا إِتْقَانُ الْمَسْجِدِ بِالْبِنَاءِ وَالتَّجْصِيصِ فَمَنْدُوبٌ (2) .
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 1 / 442 - 443، والفتاوى الهندية 1 / 109، 461، 5 / 319، 322.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 65، 255، وجواهر الإكليل 1 / 55.

(37/203)


وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: قَال الزَّرْكَشِيُّ: يُكْرَهُ نَقْشُ الْمَسْجِدِ، وَلاَ شَكَّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ صَرْفُ غَلَّةِ مَا وَقَفَ عَلَى عَمَارَتِهِ فِي ذَلِكَ، وَعِبَارَةُ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ: لاَ يَجُوزُ صَرْفُهَا إِلَى التَّجْصِيصِ وَالتَّزْوِيقِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ بِمَسْجِدٍ مُزَخْرَفٍ فَقَال: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ زَخْرَفَهُ، أَوْ قَال: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَعَل هَذَا، الْمَسَاكِينُ أَحْوَجُ مِنَ الأَْسَاطِينِ.
وَمَا يَفْعَلُهُ جَهَلَةُ النُّظَّارِ مِنْ ذَلِكَ سَفَهٌ مُضَمِّنٌ أَمْوَالَهُمْ.
وَقَال الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: لاَ يَجُوزُ تَنْقِيشُ الْمَسْجِدِ بِمَا لاَ إِحْكَامَ فِيهِ، وَقَال فِي الْفَتَاوَى فَإِنْ كَانَ فِي إِحْكَامٍ فَلاَ بَأْسَ، فَإِنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَنَى الْمَسْجِدَ بِالْقَصَّةِ - الْجِصِّ وَالْجِيرِ - وَالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ (1) ، قَال الْبَغَوِيُّ: وَمَنْ زَوَّقَ مَسْجِدًا أَيْ تَبَرُّعًا لاَ يُعَدُّ مِنَ الْمَنَاكِيرِ الَّتِي يُبَالَغُ فِيهَا كَسَائِرِ الْمُنْكَرَاتِ، لأَِنَّهُ يَفْعَلُهُ تَعْظِيمًا لِشَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ، وَقَدْ سَامَحَ فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَأَبَاحَهُ بَعْضُهُمْ، ثُمَّ قَال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لاَ يَجُوزُ نَقْشُ الْمَسْجِدِ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ وَيَغْرَمُ الْقِيمَةَ إِنْ فَعَلَهُ، فَلَوْ فَعَلَهُ رَجُلٌ بِمَالِهِ كُرِهَ، وَلأَِنَّهُ يَشْغَل قَلْبَ الْمُصَلِّينَ.
وَأَطْلَقَ غَيْرُهُ عَدَمَ الْجَوَازِ، لأَِنَّهُ بِدْعَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلأَِنَّ فِيهِ تَشَبُّهًا بِالْكُفَّارِ، فَقَدْ وَرَدَ مَرْفُوعًا " {
__________
(1) انظر عمدة القاري في باب بنيان المساجد 4 / 204.

(37/204)


مَا سَاءَ عَمَل قَوْمٍ قَطُّ إِلاَّ زَخْرَفُوا مَسَاجِدَهُمْ (1) .
وَإِذَا وَقَفَ عَلَى النَّقْشِ وَالتَّزْوِيقِ لاَ يَصِحُّ عَلَى الأَْصَحِّ لأَِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلأَِنَّهُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، لأَِنَّهُ مِمَّا يُلْهِي عَنِ الصَّلاَةِ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، وَقِيل: يَصِحُّ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ الْمَسْجِدِ وَإِعْزَازِ الدِّينِ.
وَيُكْرَهُ زَخْرَفَتُهَا، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: لَتُزَخْرِفَنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى (2) ، وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ (3) .
وَوَرَدَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ مَسْجِدٍ وَقَال: " أَكِنَّ النَّاسَ مِنَ الْمَطَرِ وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ (4) "، وَقَال أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِذَا حَلَّيْتُمْ مَصَاحِفَكُمْ، وَزَخْرَفْتُمْ مَسَاجِدَكُمْ فَالدَّبَارُ - الْهَلاَكُ - عَلَيْكُمْ، وَقَال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ الْقَوْمَ إِذَا رَفَعُوا مَسَاجِدَهُمْ فَسَدَتْ أَعْمَالُهُمْ.
وَيُكْرَهُ أَنْ يُكْتَبَ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ آيَةً مِنَ
__________
(1) حديث: " ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم ". أخرجه ابن ماجه (1 / 245) ، وضعفه البوصيري في " مصباح الزجاجة " (1 / 160) .
(2) انظر عمدة القاري 4 / 204.
(3) حديث: " لا تقوم الساعة حتى. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 311) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(4) أثر عمر: " أكن الناس من المطر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 539) معلقاً.

(37/204)


الْقُرْآنِ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ قَالَهُ مَالِكٌ، وَجَوَّزَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَقَال: لاَ بَأْسَ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ} الآْيَةَ، وَلِمَا رُوِيَ مِنْ فِعْل عُثْمَانَ ذَلِكَ بِمَسْجِدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ.
وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: وَفِي تَحْلِيَةِ الْمَسَاجِدِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَتَعْلِيقِ قَنَادِيلِهَا وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: التَّحْرِيمُ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنِ السَّلَفِ،
وَالثَّانِي: الْجِوَازُ كَمَا يَجُوزُ سَتْرُ الْكَعْبَةِ بِالدِّيبَاجِ، وَيَحِل الْحَرِيرُ لإِِلْبَاسِ الْكَعْبَةِ، وَأَمَّا بَاقِي الْمَسَاجِدِ فَقَال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: لاَ بَأْسَ بِسَتْرِ الْمَسْجِدِ بِالثِّيَابِ مِنْ غَيْرِ الْحَرِيرِ، وَأَمَّا الْحَرِيرُ فَيَحْتَمِل أَنْ يَلْحَقَ بِالتَّزْيِينِ بِقَنَادِيل الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ قَوْلاً وَاحِدًا لأَِنَّ أَمْرَهُ أَهْوَنُ، وَلَمْ تَزَل الْكَعْبَةُ تُسْتَرُ بِالْحَرِيرِ فَلاَ يَبْعُدُ إِلْحَاقُ غَيْرِهَا بِهَا. قُلْتُ: وَفِي فَتَاوَى الْغَزَالِيِّ: لاَ فَرْقَ فِي الإِْبَاحَةِ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَغَيْرِهَا، لأَِنَّ الْحَرِيرَ إِنَّمَا حُرِّمَ عَلَى الرِّجَال لاَ عَلَى النِّسَاءِ فَكَيْفَ الْجَمَادَاتُ وَالْمَسَاجِدُ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي فَتَاوَى قَاضِي الْقُضَاةِ أَبِي بَكْرٍ الشَّامِيِّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ عَلَى حِيطَانِ الْمَسْجِدِ سُتُورًا مِنْ حَرِيرٍ وَلاَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلاَ يَصِحُّ وَقْفُهَا عَلَيْهِ وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ.
وَيُسْتَحَبُّ فَرْشُ الْمَسَاجِدِ وَتَعْلِيقُ الْقَنَادِيل

(37/205)


وَالْمَصَابِيحِ (1) ، وَيُقَال: أَوَّل مَنْ فَعَل ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ، وَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اجْتِمَاعَ النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى الصَّلاَةِ وَالْقَنَادِيل تُزْهِرُ وَكِتَابُ اللَّهِ يُتْلَى: قَال: نَوَّرْتَ مَسَاجِدَنَا، نَوَّرَ اللَّهُ قَبْرَكَ يَا بْنَ الْخَطَّابِ، وَرُوِيَ عَنْ مَيْمُونَةَ مَوْلاَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، أَفْتِنَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَال: أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ ائْتُوهُ فَصَلُّوا فِيهِ فَإِنَّ صَلاَةً فِيهِ كَأَلْفِ صَلاَةٍ فِي غَيْرِهِ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَتَحَمَّل إِلَيْهِ؟ قَال: فَتُهْدِي لَهُ زَيْتًا يُسْرَجُ فِيهِ، فَمَنْ فَعَل ذَلِكَ فَهُوَ كَمَنْ أَتَاهُ (2) .
وَيَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ فَقَدْ قَالُوا: تَحْرُمُ زَخْرَفَةُ الْمَسْجِدِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَتَجِبُ إِزَالَتُهُ إِنْ تَحَصَّل مِنْهُ شَيْءٌ بِالْعَرْضِ عَلَى النَّارِ، وَأَوَّل مَنْ ذَهَّبَ الْكَعْبَةَ فِي الإِْسْلاَمِ وَزَخْرَفَهَا وَزَخْرَفَ الْمَسَاجِدَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ.
وَيُكْرَهُ أَنْ يُزَخْرَفَ الْمَسْجِدُ بِنَقْشٍ وَصَبْغٍ وَكِتَابَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا يُلْهِي الْمُصَلِّي عَنْ صَلاَتِهِ غَالِبًا، وَإِنْ فَعَل ذَلِكَ مِنْ مَال الْوَقْفِ حَرُمَ فِعْلُهُ، وَوَجَبَ ضَمَانُ مَال الْوَقْفِ الَّذِي
__________
(1) إعلام الساجد بأحكام المساجد ص340.
(2) حديث: " أرض المحشر والمنشر، ائتوه فصلوا فيه. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 451) ، وصححه البوصيري في " مصباح الزجاجة " (1 / 250 - 251) .

(37/205)


صَرَفَهُ فِيهِ، لأَِنَّهُ لاَ مَصْلَحَةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى جِهَةِ الْوَقْفِ، وَفِي الْغُنْيَةِ: لاَ بَأْسَ بِتَجْصِيصِهِ، أَيْ يُبَاحُ تَجْصِيصُ حِيطَانِهِ أَيْ تَبْيِيضُهَا، وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي سَعْدُ الدِّينِ الْحَارِثِيُّ، وَلَمْ يَرَهُ أَحْمَدُ، وَقَال: هُوَ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا، قَال فِي الشَّرْحِ: وَيُكْرَهُ تَجْصِيصُ الْمَسَاجِدِ وَزَخْرَفَتُهَا، فَعَلَيْهِ يَحْرُمُ مِنْ مَال الْوَقْفِ، وَيَجِبُ الضَّمَانُ لاَ عَلَى الأَْوَّل.
وَيُصَانُ عَنْ تَعْلِيقِ مُصْحَفٍ وَغَيْرِهِ فِي قِبْلَتِهِ دُونَ وَضْعِهِ بِالأَْرْضِ، قَال أَحْمَدُ: يُكْرَهُ أَنْ يُعَلَّقَ فِي الْقِبْلَةِ شَيْءٌ يَحُول بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، وَلَمْ يُكْرَهْ أَنْ يُوضَعَ فِي الْمَسْجِدِ الْمُصْحَفُ أَوْ نَحْوُهُ (1) .

تَعْلِيمُ الصِّبْيَانِ فِي الْمَسْجِدِ
17 - قَال ابْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: هَؤُلاَءِ الْمُكَتِّبُونَ الَّذِينَ يَجْتَمِعُ عِنْدَهُمُ الصِّبْيَانُ فِي الْمَسَاجِدِ لِلتَّعْلِيمِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُمْ، إِذْ هُمْ لاَ يَقْصِدُونَ الْعِبَادَةَ بَل الاِرْتِزَاقُ، وَمُعَلِّمُ الصِّبْيَانِ الْقُرْآنَ كَالْكَاتِبِ إِنْ كَانَ بِالأَْجْرِ لاَ يَجُوزُ وَحِسْبَةً لِلَّهِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّل هَذَا، إنْ كَانَ لِضَرُورَةِ الْحَرِّ وَغَيْرِهِ لاَ يُكْرَهُ وَإِلاَّ فَيُكْرَهُ، وَسَكَتَ عَنْ كَوْنِهِ بِأَجْرِ أَوْ غَيْرِهِ فَيَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا كَانَ حِسْبَةً، فَأَمَّا إنْ
__________
(1) كشاف القناع 2 / 366.

(37/206)


كَانَ بِأَجْرِ فَلاَ شَكَّ فِي الْكَرَاهَةِ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ حِسْبَةً وَلاَ ضَرُورَةَ يُكْرَهُ، لأَِنَّ نَفْسَ التَّعْلِيمِ وَمُرَاجَعَةُ الأَْطْفَال لاَ تَخْلُو عَمَّا يُكْرَهُ فِي الْمَسْجِدِ (1) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَفِي الْخُلاَصَةِ تَعْلِيمُ الصِّبْيَانِ فِي الْمَسْجِدِ لاَ بَأْسَ بِهِ (2) .
وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ تَعْلِيمَ الصَّبِيِّ فِي الْمَسْجِدِ إِلاَّ أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ رَوَى إِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ مَبْلَغَ الأَْدَبِ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ الْمَسْجِدَ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لاَ يَقِرُّ فِيهِ وَيَعْبَثُ فَلاَ أُحِبُّ ذَلِكَ (3) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ مَنْعُ تَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ فِيهِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ مَظِنَّةً لِلْعَبَثِ وَالتَّقْدِيرِ أَمْ لاَ، لأَِنَّ الْغَالِبَ عَدَمُ تَحَفُّظِهِمْ مِنَ النَّجَاسَةِ (4) .
وَأَمَّا إِحْضَارُ الصَّبِيِّ الْمَسْجِدَ فَأَجَازُوهُ حَيْثُ لاَ يَعْبَثُ بِهِ وَيَكُفُّ عَنِ الْعَبَثِ إِذَا نُهِيَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ الْعَبَثُ أَوْ عَدَمُ الْكَفِّ فَلاَ يَجُوزُ إِحْضَارُهُ فِيهِ (5) ، لِحَدِيثِ: جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ مَجَانِينَكُمْ وَصِبْيَانَكُمْ (6) .
وَنَقَل الزَّرْكَشِيُّ عَنِ الْقَفَّال أَنَّهُ سُئِل عَنْ تَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ فِي الْمَسْجِدِ؟ فَقَال: الأَْغْلَبُ مِنَ
__________
(1) فتح القدير 1 / 300.
(2) ابن عابدين 5 / 275.
(3) جواهر الإكليل 2 / 203.
(4) الشرح الكبير 4 / 71.
(5) جواهر الإكليل 1 / 80، الشرح الكبير 1 / 334.
(6) حديث: " جنبوا مساجدكم مجانينكم. . . ". تقدم تخريجه ف 5.

(37/206)


الصِّبْيَانِ الضَّرَرُ بِالْمَسْجِدِ فَيَجُوزُ مَنْعُهُمْ (1) .
وَقَال الْجِرَاعِيُّ الْحَنْبَلِيُّ: يُسَنُّ أَنْ يُصَانَ الْمَسْجِدُ عَنْ عَمَل صَنْعَةٍ، وَنُقِل عَنِ السَّامِرِيِّ قَوْلُهُ: سَوَاءٌ كَانَ الصَّانِعُ يُرَاعِي الْمَسْجِدَ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَقَال فِي رِوَايَةِ الأَْثْرَمِ: مَا يُعْجِبُنِي مِثْل الْخَيَّاطِ وَالإِْسْكَافِ وَمَا أَشْبَهَهُ وَسَهَّل فِي الْكِتَابَةِ فِيهِ.
وَقَال الْقَاضِي سَعْدُ الدِّينِ: خَصَّ الْكِتَابَةَ لأَِنَّهَا نَوْعُ تَحْصِيلٍ لِلْعِلْمِ فَهِيَ فِي مَعْنَى الدِّرَاسَةِ، وَهَذَا يُوجِبُ التَّقَيُّدَ مِمَّا لاَ يَكُونُ تَكَسُّبًا.
وَنَقَل الْجِرَاعِيُّ عَنِ ابْنِ الصَّيْرَفِيِّ أَنَّهُ قَال فِي النَّوَادِرِ: لاَ يَجُوزُ التَّعْلِيمُ فِي الْمَسَاجِدِ.
وَقَال أَبُو الْعَبَّاسِ فِي الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ: لاَ يَجُوزُ - وَقَدْ سُئِل عَنْهَا - يُصَانُ الْمَسْجِدُ مِمَّا يُؤْذِيهِ وَيُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ حَتَّى رَفْعِ الصِّبْيَانِ أَصْوَاتَهُمْ فِيهِ، كَذَلِكَ تَوْسِيخُهُمْ لِحُصْرِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لاَ سِيَّمَا إِنْ كَانَ ذَلِكَ وَقْتَ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ، وَقَال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهَا: وَأَمَّا تَعْلِيمُ الصِّبْيَانِ فِي الْمَسْجِدِ بِحَيْثُ يُؤْذُونَ الْمَسْجِدَ فَيَكُونُونَ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ وَيَشْغَلُونَ الْمُصَلِّيَ فِيهِ فَهَذَا مِمَّا يَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُ وَالْمَنْعُ مِنْهُ.
وَأَضَافَ الْجِرَاعِيُّ: وَقَال صَاحِبُ الْفُرُوعِ -
__________
(1) إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي 327.

(37/207)


ابْنُ مُفْلِحٍ - عَقِيبَ كَلاَمِ الْقَاضِي سَعْدِ الدِّينِ الْمُتَقَدِّمِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُخَرَّجَ عَلَى هَذَا تَعْلِيمُ الصِّبْيَانِ لِلْكِتَابَةِ فِي الْمَسْجِدِ بِالأُْجْرَةِ، وَتَعْلِيمُهُمْ تَبَرُّعًا جَائِزٌ كَتَلْقِينِ الْقُرْآنِ، وَتَعْلِيمِ الْعِلْمِ، وَهَذَا كُلُّهُ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَحْصُل ضَرَرٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ (1) .

رَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ وَالْجَهْرُ فِيهِ
18 - قَال الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِذِكْرٍ فِي الْمَسْجِدِ إِلاَّ لِلْمُتَفَقِّهِ، وَفِي حَاشِيَةِ الْحَمَوِيِّ عَنِ الشَّعْرَانِيِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ سَلَفًا وَخَلَفًا عَلَى اسْتِحْبَابِ ذِكْرِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا، إِلاَّ أَنْ يُشَوِّشَ جَهْرُهُمْ عَلَى نَائِمٍ أَوْ مُصَلٍّ أَوْ قَارِئٍ.
وَصَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ الْكَلاَمِ الْمُبَاحِ فِي الْمَسْجِدِ وَقَيَّدَهُ فِي الظَّهِيرِيَّةِ بِأَنْ يُجْلَسَ لأَِجْلِهِ لأَِنَّ الْمَسْجِدَ مَا بُنِيَ لأُِمُورِ الدُّنْيَا.
وَفِي صَلاَةِ الْجَلاَّبِيِّ - كَمَا نَقَل عَنْهُ ابْنُ عَابِدِينَ - الْكَلاَمُ الْمُبَاحُ مِنْ حَدِيثِ الدُّنْيَا يَجُوزُ فِي الْمَسَاجِدِ وَإِنْ كَانَ الأَْوْلَى أَنْ يَشْتَغِل بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى قَوْل الْجَلاَّبِيِّ: فَقَدْ أَفَادَ أَنَّ الْمَنْعَ خَاصٌّ بِالْمُنْكَرِ مِنَ الْقَوْل أَمَّا الْمُبَاحُ فَلاَ (2) .
__________
(1) تحفة الراكع والساجد ص209 - 211، وانظر الآداب الشرعية 3 / 395 - 396.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 444، 445، 5 / 269.

(37/207)


وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ بِذِكْرٍ وَقُرْآنٍ وَعِلْمٍ فَوْقَ إِسْمَاعِ الْمُخَاطَبِ وَلَوْ بِغَيْرِ مَسْجِدٍ، وَمَحَل كَرَاهَةِ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ مَا لَمْ يُخَلِّطْ عَلَى مُصَلٍّ وَإِلاَّ حَرُمَ، بِخِلاَفِ مَسْجِدِ مَكَّةَ وَمِنَى فَيَجُوزُ رَفْعُ الصَّوْتِ فِيهِمَا عَلَى الْمَشْهُورِ (1) .
وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: يُكْرَهُ اللَّغَطُ وَرَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ (2) .
وَقَال ابْنُ مُفْلِحٍ: يُسَنُّ أَنْ يُصَانَ عَنْ لَغَطٍ وَكَثْرَةِ حَدِيثٍ لاَغٍ وَرَفْعِ صَوْتٍ بِمَكْرُوهِ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ مُبَاحًا أَوْ مُسْتَحَبًّا.
وَنُقِل عَنِ الْغُنْيَةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ إِلاَّ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَنُقِل عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالْمُنَاظَرَةِ فِي مَسَائِل الْفِقْهِ وَالاِجْتِهَادِ فِي الْمَسَاجِدِ إِذَا كَانَ الْقَصْدُ طَلَبَ الْحَقِّ، فَإِنْ كَانَ مُغَالَبَةً وَمُنَافَرَةً دَخَل فِي حَيِّزِ الْمُلاَحَاةِ وَالْجِدَال فِيمَا لاَ يَعْنِي وَلَمْ يَجُزْ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَمَّا الْمُلاَحَاةُ فِي غَيْرِ الْعُلُومِ فَلاَ تَجُوزُ فِي الْمَسْجِدِ.
وَنُقِل عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ يُكْرَهُ كَثْرَةُ الْحَدِيثِ وَاللَّغَطُ فِي الْمَسَاجِدِ (3) .
__________
(1) حاشية الدسوقي والشرح الكبير 4 / 71.
(2) إعلام الساجد بأحكام المساجد 326.
(3) الآداب الشرعية 3 / 397 - 398.

(37/208)


التَّقَاضِي فِي الْمَسْجِدِ
19 - أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ التَّقَاضِيَ فِي الْمَسْجِدِ، فَلِلْقَاضِي أَنْ يَجْلِسَ فِيهِ لِلْفَصْل فِي الْخُصُومَاتِ جُلُوسًا ظَاهِرًا فَإِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْصِل بَيْنَ الْخُصُومِ فِي الْمَسْجِدِ (1) ، وَكَذَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ، وَلِئَلاَّ يَشْتَبِهَ عَلَى الْغُرَبَاءِ مَكَانُهُ فَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ خَرَجَ الْقَاضِي إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَنَظَرَ فِي خُصُومَتِهَا أَوْ أَمَرَ مَنْ يَفْصِل بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ كَانَتِ الْمُنَازَعَةُ فِي دَابَّةٍ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ لاِسْتِمَاعِ الدَّعْوَى وَالإِْشَارَةِ إِلَيْهَا فِي الشَّهَادَةِ.
وَلِلْمَالِكِيَّةِ طَرِيقَتَانِ: الأُْولَى اسْتِحْبَابُ الْجُلُوسِ فِي الرِّحَابِ وَكَرَاهَتُهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالثَّانِيَةُ اسْتِحْبَابُ جُلُوسِهِ فِي نَفْسِ الْمَسْجِدِ (2) .
وَكَرِهَ الشَّافِعِيَّةُ لِلْقَاضِي أَنْ يَجْلِسَ لِلْقَضَاءِ
__________
(1) فصل النبي صلى الله عليه وسلم بين الخصوم في المسجد يدل عليه ما رواه البخاري (فتح الباري 1 / 551 - 552 ط. السلفية) ومسلم (3 / 1192) من حديث كعب بن مالك أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى: " يا كعب "، قال: لبيك يا رسول الله، قال: " ضع من دينك هذا "
(2) الاختيار شرح المختار 2 / 85 ط. مصطفى البابي الحلبي بمصر 1936م، وفتح القدير 5 / 465 - 466 ط. المطبعة الأميرية الكبرى 1315هـ، وجواهر الإكليل 2 / 223، والمغني لابن قدامة 9 / 46.

(37/208)


فِي الْمَسْجِدِ (1) ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ مُعَاذًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ وَحُدُودَكُمْ وَسَل سُيُوفِكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ ف 38) .

إِقَامَةُ الْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ فِيهِ:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وَجَمِّرُوهَا فِي جُمَعِكُمْ وَضَعُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ (3) .
وَلأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ خُرُوجُ النَّجَاسَةِ مِنَ الْمَحْدُودِ فَيَجِبُ نَفْيُهُ عَنِ الْمَسْجِدِ إِذْ بِالضَّرْبِ قَدْ يَنْشَقُّ الْجِلْدُ فَيَسِيل مِنْهُ الدَّمُ فَيَتَنَجَّسُ الْمَسْجِدُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حُدُودٌ ف 44) .

الأَْكْل وَالنَّوْمُ فِي الْمَسْجِدِ
21 - كَرِهَ الْحَنَفِيَّةُ الأَْكْل فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّوْمَ فِيهِ وَقِيل: لاَ بَأْسَ لِلْغَرِيبِ أَنْ يَنَامَ فِيهِ، وَأَمَّا
__________
(1) المهذب 2 / 294، ومنهاج الطالبين 4 / 302 ط. دار إحياء الكتب.
(2) حديث: " جنبوا مساجدكم صبيانكم. . . ". تقدم تخريجه في فقرة 5.
(3) حديث: " جنبوا مساجدكم صبيانكم. . . ". تقدم تخريجه في فقرة 5.

(37/209)


بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعْتَكِفِ فَلَهُ أَنْ يَشْرَبَ وَيَأْكُل وَيَنَامَ فِي مُعْتَكَفِهِ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَأْوِي فِي اعْتِكَافِهِ إِلاَّ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَلأَِنَّهُ يُمْكِنُ قَضَاءُ هَذِهِ الْحَاجَةِ فِي الْمَسْجِدِ فَلاَ ضَرُورَةَ إِلَى الْخُرُوجِ (1) .
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ إِنْزَال الضَّيْفِ بِمَسْجِدِ بَادِيَةٍ وَإِطْعَامَهُ فِيهِ الطَّعَامَ النَّاشِفَ كَالتَّمْرِ لاَ إِنْ كَانَ مُقَذِّرًا كَبِطِّيخِ أَوْ طَبِيخٍ فَيَحْرُمُ إِلاَّ بِنَحْوِ سُفْرَةٍ تُجْعَل تَحْتَ الإِْنَاءِ فَيُكْرَهُ، وَمِثْل مَسْجِدِ الْبَادِيَةِ مَسْجِدُ الْقَرْيَةِ الصَّغِيرَةِ وَأَمَّا التَّصْنِيفُ فِي مَسْجِدِ الْحَاضِرَةِ فَيُكْرَهُ وَلَوْ كَانَ الطَّعَامُ نَاشِفًا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِهِمْ.
كَمَا أَجَازُوا النَّوْمَ فِيهِ بِقَائِلَةٍ أَيْ نَهَارًا وَكَذَا بِلَيْلٍ لَمِنْ لاَ مَنْزِل لَهُ أَوْ عَسُرَ الْوُصُول إِلَيْهِ (2) .
أَمَّا الْمُعْتَكِفُ: فَاسْتَحَبُّوا لَهُ أَنْ يَأْكُل فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي صَحْنِهِ أَوْ فِي مَنَارَتِهِ وَكَرِهُوا أَكْلَهُ خَارِجَهُ، وَأَمَّا النَّوْمُ فِيهِ مُدَّةَ الاِعْتِكَافِ فَمِنْ لَوَازِمِهِ، إِذْ يَبْطُل اعْتِكَافُهُ بِعَدَمِ النَّوْمِ فِيهِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ أَكْل الْخُبْزِ وَالْفَاكِهَةِ وَالْبِطِّيخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَدْ رُوِيَ
__________
(1) فتح القدير 1 / 300، 2 / 111 - 112، وحاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 444.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 70، وجواهر الإكليل 2 / 203.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 547، وجواهر الإكليل 1 / 158.

(37/209)


عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيِّ قَال: كُنَّا نَأْكُل عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ (1) .
قَال: وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْسُطَ شَيْئًا خَوْفًا مِنَ التَّلَوُّثِ وَلِئَلاَّ يَتَنَاثَرَ شَيْءٌ مِنَ الطَّعَامِ فَتَجْتَمِعَ عَلَيْهِ الْهَوَامُّ، هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ كَالثُّومِ وَالْبَصَل وَالْكُرَّاثِ وَنَحْوِهِ فَيُكْرَهُ أَكْلُهُ فِيهِ وَيُمْنَعُ آكِلُهُ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَذْهَبَ رِيحُهُ، فَإِنْ دَخَل الْمَسْجِدَ أُخْرِجَ مِنْهُ لِحَدِيثِ: مَنْ أَكَل ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ لِيَعْتَزِل مَسْجِدَنَا وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ (2) .
وَقَالُوا أَيْضًا بِجِوَازِ النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ، فَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ وَهُوَ شَابٌّ أَعْزَبُ لاَ أَهْل لَهُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) ، وَأَنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ قَال: كُنَّا نَبِيتُ عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ وَعَطَاءً وَالشَّافِعِيَّ رَخَّصُوا فِيهِ (4) .
__________
(1) حديث عبد الله بن الحارث " كنا نأكل على عهد. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 1097) ، وقال البوصيري في " مصباح الزجاجة " (2 / 179) " هذا إسناد حسن ".
(2) حديث: " من أكل ثوماً أو بصلاً. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 339) ومسلم (1 / 394) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(3) أثر ابن عمر: " أنه كان ينام وهو شاب. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 535) .
(4) إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي 305 - 306 - 329.

(37/210)


أَمَّا الْمُعْتَكِفُ فَأَكْلُهُ وَمَبِيتُهُ فِي مَسْجِدِ اعْتِكَافِهِ، وَأُجِيزَ لَهُ أَنْ يَمْضِيَ إِلَى الْبَيْتِ لِيَأْكُل فِيهِ، وَلاَ يَبْطُل اعْتِكَافُهُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لأَِنَّ الأَْكْل فِي الْمَسْجِدِ يَنْقُصُ مِنَ الْمُرُوءَةِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَال ابْنُ مُفْلِحٍ: لاَ يَجُوزُ دُخُول الْمَسْجِدِ لِلأَْكْل وَنَحْوِهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ تَمِيمٍ وَابْنُ حَمْدَانَ، وَذَكَرَ فِي الشَّرْحِ وَالرِّعَايَةِ وَغَيْرِهِمَا بِأَنَّ لِلْمُعْتَكِفِ الأَْكْل فِي الْمَسْجِدِ وَغَسْل يَدِهِ فِي طَسْتٍ، وَذَكَرَ فِي الشَّرْحِ فِي آخِرِ بَابِ الأَْذَانِ: أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالاِجْتِمَاعِ فِي الْمَسْجِدِ وَالأَْكْل فِيهِ وَالاِسْتِلْقَاءِ فِيهِ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَأْكُل الْمُعْتَكِفُ فِي الْمَسْجِدِ وَيَضَعَ سُفْرَةً يَسْقُطُ عَلَيْهَا مَا يَقَعُ مِنْهُ كَيْلاَ يُلَوِّثَ الْمَسْجِدَ (2) .

الْغِنَاءُ وَالتَّصْفِيقُ وَالرَّقْصُ فِي الْمَسْجِدِ
22 - قَال ابْنُ مُفْلِحٍ: يُسَنُّ أَنْ يُصَانَ الْمَسْجِدُ عَنِ الْغِنَاءِ فِيهِ وَالتَّصْفِيقِ (3) .
وَأَمَّا لَعِبُ الْحَبَشَةِ بِدَرَقِهِمْ وَحِرَابِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ عِيدٍ وَجَعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتُرُ عَائِشَةَ وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَقَوْلُهُ لَهُمْ: دُونَكُمْ يَا بَنِي
__________
(1) المهذب 1 / 198 - 199، 201.
(2) الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 399، والمغني لابن قدامة 3 / 206.
(3) الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 407 - 408، والمغني لابن قدامة 3 / 206.

(37/210)


أَرْفَدَةَ (1) (بَنُو أَرْفَدَةَ: جِنْسٌ مِنَ الْحَبَشَةِ يَرْقُصُونَ) ، فَقَدْ قَال النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: فِيهِ جَوَازُ اللَّعِبِ بِالسِّلاَحِ وَنَحْوِهِ مِنْ آلاَتِ الْحَرْبِ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَلْحَقُ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الأَْسْبَابِ الْمُعِينَةِ عَلَى الْجِهَادِ، وَفِيهِ بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ.
وَلِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: " جَاءَ حَبَشٌ يَزْفِنُونَ (أَيْ يَرْقُصُونَ) فِي يَوْمِ عِيدٍ فِي الْمَسْجِدِ (2) "، وَنَقَل ابْنُ مُفْلِحٍ عَنْ شَرْحِ مُسْلِمٍ: حَمَلَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَى التَّوَثُّبِ بِسِلاَحِهِمْ وَلَعِبِهِمْ بِحِرَابِهِمْ عَلَى قَرِيبٍ مِنْ هَيْئَةِ الرَّاقِصِ لأَِنَّ مُعْظَمَ الرِّوَايَاتِ إِنَّمَا فِيهَا لَعِبُهُمْ بِحِرَابِهِمْ فَتَتَأَوَّل هَذِهِ اللَّفْظَةُ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: بَيْنَمَا الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِرَابِهِمْ إِذْ دَخَل عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَهْوَى إِلَى الْحَصْبَاءِ يَحْصِبُهُمْ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُمْ يَا عُمَرُ (3) ، قَال فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ هَذَا لاَ يَلِيقُ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ (4) .
قَال الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ شَارِحُ الْبُخَارِيِّ:
__________
(1) حديث: " دونكم يا بني أرفدة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 440) ، ومسلم (2 / 609) .
(2) حديث: " جاء حبش يزفنون في يوم عيد. . . ". أخرجه مسلم (2 / 609) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) حديث: " بينما الحبشة يلعبون. . ". أخرجه مسلم (2 / 610) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 401 - 402.

(37/211)


الْمَسْجِدُ مَوْضُوعٌ لأَِمْرِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَكُل مَا كَانَ مِنَ الأَْعْمَال الَّتِي تَجْمَعُ مَنْفَعَةَ الدِّينِ وَأَهْلِهِ، وَاللَّعِبُ بِالْحِرَابِ مِنْ تَدْرِيبِ الْجَوَارِحِ عَلَى مَعَانِي الْحُرُوبِ فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ (1) .

الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الأَْذَانِ
23 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ دَخَل مَسْجِدًا قَدْ أُذِّنَ فِيهِ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ حَتَّى يُصَلِّيَ إِلاَّ لِعُذْرِ كَانْتِقَاضِ طَهَارَةٍ أَوْ خَوْفِ فَوَاتِ رُفْقَةٍ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَنْتَظِمُ بِهِ أَمْرُ جَمَاعَةٍ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: لاَ يَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ النِّدَاءِ إِلاَّ مُنَافِقٌ، إِلاَّ رَجُلٌ يَخْرُجُ لِحَاجَتِهِ وَهُوَ يُرِيدُ الرَّجْعَةَ إِلَى الصَّلاَةِ (2) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَدْرَكَهُ الأَْذَانُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ خَرَجَ لَمْ يَخْرُجْ لِحَاجَةٍ وَهُوَ لاَ يُرِيدُ الرَّجْعَةَ فَهُوَ مُنَافِقٌ (3) ، وَعَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَال: كُنَّا مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ رَجُلٌ حِينَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِلْعَصْرِ فَقَال
__________
(1) عمدة القاري 4 / 220.
(2) حديث: " لا يخرج من المسجد بعد النداء. . ". أخرجه عبد الرزاق في " المصنف " (1 / 508) من حديث سعيد بن المسيب مرسلاً.
(3) حديث: " من أدركه الآذان في المسجد. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 242) من حديث عثمان بن عفان وضعفه البوصيري في " مصباح الزجاجة " (1 / 156 - 157) .

(37/211)


أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ (1) .
وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى وَكَانَتِ الظُّهْرُ أَوِ الْعِشَاءُ فَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ لأَِنَّهُ أَجَابَ دَاعِيَ اللَّهِ مَرَّةً، إِلاَّ إِذَا أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الإِْقَامَةِ لأَِنَّهُ يُتَّهَمُ بِمُخَالَفَةِ الْجَمَاعَةِ عِيَانًا، وَإِنْ كَانَتِ الْعَصْرَ أَوِ الْمَغْرِبَ أَوِ الْفَجْرَ خَرَجَ وَإِنْ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ فِيهَا لِكَرَاهَةِ التَّنَفُّل بَعْدَهَا (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ مَنْ دَخَل مَسْجِدًا قَدْ أُذِّنَ فِيهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ صَلَّى أَوْ لاَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ صَلَّى، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَسْجِدَ حَيِّهِ أَوْ لاَ، فَإِنْ كَانَ مَسْجِدَ حَيِّهِ كُرِهَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ قَبْل الصَّلاَةِ لأَِنَّ الْمُؤَذِّنَ دَعَاهُ لِيُصَلِّيَ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسْجِدَ حَيِّهِ فَإِنْ صَلَّى فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ فَكَذَلِكَ لأَِنَّهُ صَارَ بِالدُّخُول فِيهِ مِنْ أَهْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يُصَل فِيهِ وَهُوَ يَخْرُجُ لأَِنْ يُصَلِّيَ فِيهِ لاَ بَأْسَ بِهِ لأَِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ.
وَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى وَكَانَتِ الظُّهْرَ أَوِ الْعِشَاءَ فَلاَ بَأْسَ بِالْخُرُوجِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الأَْذَانِ بِلاَ عُذْرٍ أَوْ نِيَّةِ رُجُوعٍ لِحَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) أثر أبي هريرة: " أما هذا فقد عصى. . . ". أخرجه مسلم (1 / 454) .
(2) فتح القدير 1 / 338.
(3) العناية بهامش فتح القدير 1 / 338 - 339، وإعلام الساجد بأحكام المساجد 351، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 2 / 143 ط. الريان للتراث، وجواهر الإكليل 1 / 98، والشرح الكبير 1 / 385، والمغني لابن قدامة 1 / 408.

(37/212)


قَال: مَنْ أَدْرَكَهُ الأَْذَانُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ خَرَجَ لَمْ يَخْرُجْ لِحَاجَةِ وَهُوَ لاَ يُرِيدُ الرَّجْعَةَ فَهُوَ مُنَافِقٌ (1) ، وَقَال صَالِحٌ: لاَ يَخْرُجُ، وَنَقَل أَبُو طَالِبٍ: لاَ يَنْبَغِي، وَنَقَل ابْنُ الْحَكَمِ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ لاَ يَخْرُجَ، وَكَرِهَهُ أَبُو الْوَفَاءِ وَأَبُو الْمَعَالِي وَقَال ابْنُ تَمِيمٍ: يَجُوزُ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَخْرُجَ بَعْدَ أَذَانِ الْفَجْرِ، قَال الشَّيْخُ: إِنْ كَانَ التَّأْذِينُ لِلْفَجْرِ قَبْل الْوَقْتِ لَمْ يُكْرَهِ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ قَبْل الصَّلاَةِ (2) .

صَلاَةُ النَّوَافِل فِي الْمَسْجِدِ
24 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ صَلاَةَ النَّوَافِل فِي الْبَيْتِ أَفَضْل مِنْهَا فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمْ بِالصَّلاَةِ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ خَيْرَ صَلاَةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ (3) وَقَال: اجْعَلُوا مِنْ صَلاَتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا (4) ، وَقَال: أَفْضَل صَلاَةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ (5) .
__________
(1) سبق تخريجه في نفس الفقرة.
(2) كشاف القناع 1 / 244.
(3) حديث: " عليكم بالصلاة في بيوتكم. . . ". أخرجه مسلم (1 / 540) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.
(4) حديث: " اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 62) ، ومسلم (1 / 538) واللفظ لمسلم، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(5) حديث: " أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ". أخرجه النسائي (3 / 198) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وجود إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (1 / 356 - ط. دار ابن كثير) .

(37/212)


وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَا شُرِعَتْ لَهُ الْجَمَاعَةُ كَالتَّرَاوِيحِ فَإِنَّهَا تُصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ الرَّوَاتِبَ أَيْضًا (1) .

الصَّلاَةُ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْمَسْجِدِ
25 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الصَّلاَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْمَسْجِدِ فَكَرِهَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَجَازَهَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ فِيهِ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ بِجِوَازِهَا فِي الْمَسْجِدِ وَقَيَّدَ الْحُكْمَ بِأَمْنِ تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ، وَإِلاَّ كُرِهَ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (جَنَائِزٌ ف 38) .

السَّكَنُ وَالْبِنَاءُ فِي الْمَسْجِدِ
26 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِقَيِّمِ الْمَسْجِدِ أَنْ يَجْعَلَهُ سَكَنًا لأَِنَّهُ إِنْ فَعَل ذَلِكَ تَسْقُطُ حُرْمَتُهُ.
وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ حَوَانِيتَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي فِنَائِهِ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْعَل، لأَِنَّ الْفِنَاءَ تَبَعٌ لِلْمَسْجِدِ (3) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 313، 2 / 338، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 314، والمهذب 1 / 91 - 92، ومنار السبيل في شرح الدليل 1 / 110 المكتب الإسلامي والمغني لابن قدامة 2 / 141.
(2) فتح القدير 1 / 463 - 465، وجواهر الإكليل 1 / 113، وحاشية القليوبي 1 / 348، والمغني لابن قدامة 2 / 493.
(3) فتح القدير 5 / 64.

(37/213)


وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةِ لِرَجُلٍ تَجَرَّدَ لِلْعِبَادَةِ السُّكْنَى بِالْمَسْجِدِ وَذَلِكَ مَا لَمْ يَحْجُرْ فِيهِ وَيُضَيِّقْ عَلَى الْمُصَلِّينَ وَإِلاَّ مُنِعَ، لأَِنَّ السُّكْنَى فِي الْمَسْجِدِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التَّجَرُّدِ لِلْعِبَادَةِ مُمْتَنِعَةٌ، لأَِنَّهَا تَغْيِيرٌ لَهُ عَمَّا حُبِّسَ لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا أَوْ يُكْرَهُ وَلَوْ تَجَرَّدَتْ لِلْعِبَادَةِ لأَِنَّهَا قَدْ تَحِيضُ وَقَدْ يَلْتَذُّ بِهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْل الْمَسْجِدِ فَتَنْقَلِبُ الْعِبَادَةُ مَعْصِيَةً حَتَّى وَلَوْ كَانَتْ عَجُوزًا لاَ إِرَبَ لِلرِّجَال فِيهَا، قَال الدُّسُوقِيُّ: لأَِنَّ كُل سَاقِطَةٍ لَهَا لاَقِطَةٌ (1) .

الاِعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ
27 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ لِلرَّجُل أَنْ يَعْتَكِفَ إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْتَكِفْ إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ.
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا كَالرَّجُل لاَ يَصِحُّ أَنْ تَعْتَكِفَ إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ، مَا عَدَا الْحَنَفِيَّةَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهَا تَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا لأَِنَّهُ هُوَ مَوْضِعُ صَلاَتِهَا، وَلَوِ اعْتَكَفَتْ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اعْتِكَافٌ ف 14 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) الشرح الكبير 4 / 70، وجواهر الإكليل 2 / 203.

(37/213)


عَقْدُ النِّكَاحِ فِي الْمَسْجِدِ
28 - اسْتَحَبَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَقْدَ النِّكَاحِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْبَرَكَةِ، وَلأَِجْل شُهْرَتِهِ فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاجْعَلُوهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ (1) .
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ فِي إِجَازَتِهِمْ لِعَقْدِ النِّكَاحِ فِي الْمَسْجِدِ أَنْ يَكُونَ بِمُجَرَّدِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ شُرُوطٍ وَلاَ رَفْعِ صَوْتٍ أَوْ تَكْثِيرِ كَلاَمٍ وَإِلاَّ كُرِهَ فِيهِ.
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الزِّفَافَ بِهِ لاَ يُكْرَهُ إِذَا لَمْ يَشْتَمِل عَلَى مَفْسَدَةٍ دِينِيَّةٍ فَإِنِ اشْتَمَل عَلَيْهَا كُرِهَ فِيهِ (2) .

الْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ
29 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اسْتِحْبَابِ صِيَانَةِ الْمَسْجِدِ عَنِ الْبَصْقَةِ فِيهِ إِذْ هِيَ فِيهِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا لِمَا فِيهَا مِنْ تَقَزُّزِ النَّاسِ مِنْهَا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (بُصَاقٌ ف 4) .
__________
(1) حديث: " أعلنوا هذا النكاح. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 389 - 390) وضعفه ابن حجر في " فتح الباري " (9 / 226) .
(2) فتح القدير 2 / 343 - 344، وجواهر الإكليل 1 / 275، 2 / 203، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 70، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 201، وإعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي 360، 362، وتحفة الراكع والساجد في أحكام المساجد ص208.

(37/214)


الْبَيْعُ فِي الْمَسْجِدِ
30 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي الْمَسْجِدِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وَسَل سُيُوفِكُمْ وَاتَّخِذُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ وَجَمِّرُوهَا فِي الْجُمَعِ (1) .
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى عَنِ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ وَأَنْ تُنْشَدَ فِيهِ ضَالَّةٌ، وَأَنْ يُنْشَدَ فِيهِ شِعْرٌ (2) ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعْتَكِفِ فَإِنَّهُ لاَ بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ وَيَبْتَاعَ فِي الْمَسْجِدِ مَا كَانَ مِنْ حَوَائِجِهِ الأَْصْلِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْضِرَ السِّلْعَةَ لأَِنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ بِأَنْ لاَ يَجِدَ مَنْ يَقُومُ بِحَاجَتِهِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: يُكْرَهُ إِحْضَارُ السِّلْعَةِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، لأَِنَّ الْمَسْجِدَ مُحَرَّرٌ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَفِيهِ شُغْلُهُ بِهَا (3) .
وَكَذَلِكَ الْحَال عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي كَرَاهَةِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ سَمْسَرَةٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لاَ أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ (4) .
__________
(1) حديث: " جنبوا مساجدكم صبيانكم. . . ". تقدم تخريجه فقرة (17) .
(2) حديث: " نهى عن الشراء والبيع في المسجد. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 651) ، والترمذي (2 / 139) واللفظ لأبي داود، وقال الترمذي: " حديث حسن ".
(3) فتح القدير 2 / 112، والمغني لابن قدامة 2 / 202، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 394 - 395.
(4) حديث: " إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 603) وقال: " حديث حسن ".

(37/214)


فَإِنْ كَانَ بِسَمْسَرَةٍ أَيْ بِمُنَادَاةٍ عَلَى السِّلْعَةٍ بِأَنْ جَلَسَ صَاحِبُ السِّلْعَةِ فِي الْمَسْجِدِ وَأَتَاهُ الْمُشْتَرِي يُقَلِّبُهَا وَيَنْظُرُ فِيهَا وَيُعْطِي فِيهَا مَا يُرِيدُ مِنْ ثَمَنٍ حَرُمَ لِجَعْل الْمَسْجِدِ سُوقًا، ثُمَّ إِنَّ مَحَل الْكَرَاهَةِ إِذَا جَعَل الْمَسْجِدَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِأَنْ أَظْهَرَ السِّلْعَةَ فِيهِ مُعْرِضًا لَهَا لِلْبَيْعِ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ عَقْدِهِمَا فَلاَ يُكْرَهُ (1) .
وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْقَوْل بِكَرَاهَةِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيهِ (2) ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا لاَ أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ (3) .

نِشْدَانُ الضَّالَّةِ فِي الْمَسْجِدِ
31 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِلَى كَرَاهَةِ نِشْدَانِ الضَّالَّةِ فِي الْمَسْجِدِ (4) فَعَنْ عَمْرِو بْنِ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 203، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 71.
(2) إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي 324.
(3) حديث: " إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد. . . ". تقدم تخريجه آنفاً.
(4) فتح القدير 2 / 112، والشرح الكبير 4 / 71، وجواهر الإكليل 2 / 203، وإعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي 324، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 399 - 400.

(37/215)


شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ يُنْشَدَ فِيهِ ضَالَّةٌ أَوْ يُنْشَدَ فِيهِ شِعْرٌ (1) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لاَ أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً فَقُولُوا: لاَ رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ (2) ، وَعَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُل: لاَ رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا (3) .

صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ
31 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ صَلاَةَ الْعِيدَيْنِ سُنَّةٌ فِي الْمُصَلَّى - وَالْمُرَادُ الْفَضَاءُ وَالصَّحْرَاءُ - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهَا مَنْدُوبَةٌ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالأَْضْحَى إِلَى الْمُصَلَّى (4) ، وَكَذَا الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ وَكَرِهُوا صَلاَتَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشراء. . . ". تقدم تخريجه ف (30) .
(2) حديث: " إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد. . . ". تقدم تخريجه ف (30) .
(3) حديث: " من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد. . . ". أخرجه مسلم (1 / 397) .
(4) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 449) ، ومسلم (2 / 605) .

(37/215)


ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ إِلَى الصَّلاَةِ فِيهِ، وَذَلِكَ كَقِيَامِ عُذْرٍ يَمْنَعُ الْخُرُوجَ إِلَى الْمُصَلَّى مِنْ مَطَرٍ أَوْ وَحْلٍ أَوْ خَوْفٍ مِنْ لُصُوصٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنْ وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الأَْعْذَارِ وَمَثِيلاَتِهَا فَإِنَّهَا تُصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ بِلاَ كَرَاهَةٍ لِوُجُودِ الضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ لِذَلِكَ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَصَابَنَا مَطَرٌ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَصَلَّى بِنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ (1) ، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا صَلَّيَا فِي الْمَسْجِدِ فِي الْمَطَرِ، وَأَمَّا بِمَكَّةَ فَتُنْدَبُ صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِمُشَاهَدَةِ الْكَعْبَةِ (2) ، وَهِيَ عِبَادَةٌ لِخَبَرِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنَزِّل كُل يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عِشْرِينَ وَمِائَةَ رَحْمَةٍ، يَنْزِل عَلَى هَذَا الْبَيْتِ سِتُّونَ لِلطَّائِفِينَ وَأَرْبَعُونَ لِلْمُصَلِّينَ وَعِشْرُونَ لِلنَّاظِرِينَ (3) .
__________
(1) حديث: " أصابنا مطر في يوم عيد. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 416) وقال ابن حجر في " التلخيص الحبير " (2 / 83) : " وإسناده ضعيف ".
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 557، وفتح القدير 1 / 423، والاختيار شرح المختار 1 / 84 - 85، ومراقي الفلاح شرح نور الإيضاح 164 ط. محمد علي صبيح، وجواهر الإكليل 1 / 103، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 399، وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك للكشناوي 1 / 336 - 337، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 125، والقليوبي وعميرة على منهاج الطالبين 1 / 306 - 307، ومنار السبيل في شرح الدليل 1 / 149، ومغني المحتاج 1 / 312، والمغني لابن قدامة 2 / 372 - 373.
(3) حديث: " إن الله تعالى ينزل في كل يوم وليلة عشرين ومائة رحمة. . . ". أخرجه الطبراني في (المعجم الكبير 11 / 195) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3 / 292) : " وفيه يوسف بن سفر وهو متروك ".

(37/216)


وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْمَسْجِدَ إِنْ كَانَ وَاسِعًا فَهُوَ أَفْضَل مِنَ الْمُصَلَّى لأَِنَّ الأَْئِمَّةَ لَمْ يَزَالُوا يُصَلُّونَ صَلاَةَ الْعِيدِ بِمَكَّةَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلأَِنَّ الْمَسْجِدَ أَشْرَفُ وَأَنْظَفُ، وَإِنْ صَلَّى فِي الصَّحْرَاءِ فَلاَ بَأْسَ، لأَِنَّهُ إِذَا تَرَكَ الْمَسْجِدَ وَصَلَّى فِي الصَّحْرَاءِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ ضَرَرٌ، وَقِيل: فِعْلُهَا فِي الصَّحْرَاءِ أَفْضَل، لأَِنَّهَا أَرْفَقُ بِالرَّاكِبِ وَغَيْرِهِ، إِلاَّ لِعُذْرٍ كَمَطَرٍ وَنَحْوِهِ فَالْمَسْجِدُ أَفْضَل، وَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ ضَيِّقًا فَصَلَّى فِيهِ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى الْمُصَلَّى كُرِهَ ذَلِكَ لِتَأَذِّي النَّاسِ بِالزِّحَامِ، وَرُبَّمَا فَاتَ بَعْضَهُمُ الصَّلاَةُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: وَالْحِكْمَةُ فِي صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ فِي الْمُصَلَّى هِيَ مِنْ أَجْل الْمُبَاعَدَةِ بَيْنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ، لأَِنَّ الْمَسَاجِدَ وَإِنْ كَبُرَتْ يَقَعُ الاِزْدِحَامُ فِيهَا وَفِي أَبْوَابِهَا بَيْنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ دُخُولاً وَخُرُوجًا، فَتُتَوَقَّعُ الْفِتْنَةُ فِي مَحَل الْعِبَادَةِ (2) .
33 - وَهَل لِلْمُصَلَّى حُكْمُ الْمَسْجِدِ: سُئِل الْغَزَالِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فِي فَتَاوِيهِ عَنِ الْمُصَلَّى الَّذِي بُنِيَ لِصَلاَةِ الْعِيدِ خَارِجَ الْبَلَدِ فَقَال: لاَ يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِي الاِعْتِكَافِ وَمُكْثِ الْجُنُبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الأَْحْكَامِ، لأَِنَّ الْمَسْجِدَ هُوَ
__________
(1) المهذب 1 / 125، والقليوبي وعميرة على منهاج الطالبين 1 / 306 - 307.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 399.

(37/216)


الَّذِي أُعِدَّ لِرَوَاتِبِ الصَّلاَةِ وَعُيِّنَ لَهَا، حَتَّى لاَ يُنْتَفَعَ بِهِ فِي غَيْرِهَا، وَمَوْضِعُ صَلاَةِ الْعِيدِ مُعَدٌّ لِلاِجْتِمَاعَاتِ وَلِنُزُول الْقَوَافِل وَلِرُكُوبِ الدَّوَابِّ وَلَعِبِ الصِّبْيَانِ وَلَمْ تَجْرِ عَادَةُ السَّلَفِ بِمَنْعِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ، وَلَوِ اعْتَقَدُوهُ مَسْجِدًا لَصَانُوهُ عَنْ هَذِهِ الأَْسْبَابِ، وَلَقُصِدَ لإِِقَامَةِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَصَلاَةُ الْعِيدِ تَطَوُّعٌ وَهُوَ لاَ يَكْثُرُ تَكَرُّرُهُ، بَل يُبْنَى لِقَصْدِ الاِجْتِمَاعِ وَالصَّلاَةُ تَقَعُ فِيهِ بِالتَّبَعِ (1) .

صَلاَةُ النِّسَاءِ فِي الْمَسَاجِدِ
34 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلنِّسَاءِ أَنْ تَكُونَ صَلاَتُهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ، فَذَلِكَ لَهُنَّ أَفْضَل مِنْ صَلاَتِهِنَّ فِي الْمَسْجِدِ، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ (2) ، فَإِنْ أَرَادَتِ الْمَرْأَةُ حُضُورَ الْمَسْجِدِ مَعَ الرِّجَال: فَإِنْ كَانَتْ شَابَّةً أَوْ كَبِيرَةً يُشْتَهَى مِثْلُهَا كُرِهَ لَهَا الْحُضُورُ وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا لاَ تُشْتَهَى لَمْ يُكْرَهْ لَهَا، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: وَالَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ مَا صَلَّتِ امْرَأَةٌ صَلاَةً قَطُّ خَيْرٌ لَهَا مِنْ صَلاَةٍ تُصَلِّيهَا فِي بَيْتِهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَوْ مَسْجِدَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي 386، وراجع الموسوعة في (مصطلح صلاة العيدين ف 10) .
(2) حديث: " لا تمنعوا نساءكم المساجد. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 383) .

(37/217)


إِلاَّ عَجُوزًا فِي مَنْقَلِهَا (1) ، وَذَلِكَ حَيْثُ تَقِل الرَّغْبَةُ فِيهَا، وَلِذَا يَجُوزُ لَهَا حُضُورُ الْمَسَاجِدِ كَمَا فِي الْعِيدِ.
وَإِنْ كَانَتْ شَابَّةً غَيْرَ فَارِهَةٍ فِي الْجَمَال وَالشَّبَابِ جَازَ لَهَا الْخُرُوجُ لِتُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ، بِشَرْطِ عَدَمِ الطِّيبِ، وَأَنْ لاَ يُخْشَى مِنْهَا الْفِتْنَةُ، وَأَنْ تَخْرُجَ فِي رَدِيءِ ثِيَابِهَا، وَأَنْ لاَ تُزَاحِمَ الرِّجَال، وَأَنْ تَكُونَ الطَّرِيقُ مَأْمُونَةً مِنْ تَوَقُّعِ الْمَفْسَدَةِ، فَإِنْ لَمْ تَتَحَقَّقْ فِيهَا تِلْكَ الشُّرُوطُ كُرِهَ لَهَا الصَّلاَةُ فِيهِ، فَقَدْ كَانَتِ النِّسَاءُ يُبَاحُ لَهُنَّ الْخُرُوجُ إِلَى الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ لَمَّا صَارَ سَبَبًا لِلْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ مُنِعْنَ عَنْ ذَلِكَ (2) ، جَاءَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} (3) ، أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ النِّسْوَةِ
__________
(1) حديث: " والذي لا إله غيره ما صلت امرأة صلاة قط خير لها من صلاة تصليها في بيتها. . . ". أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " (3 / 131) ، وأخرجه الطبراني في " المعجم الكبير " (9 / 339) من حديث عبد الله بن مسعود موقوفاً، قال الهيثمي في مجموع الزوائد (2 / 35) : " رجاله رجال الصحيح ". والمنقل بفتح الميم الخف، ذكره على عادة العجائز في لبس المناقل وهي الخفاف
(2) فتح القدير والعناية بهامشه 1 / 259، والمهذب 1 / 100، وجواهر الإكليل 1 / 80 - 81، والشرح الكبير 1 / 335 - 336، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2 / 78، ومنار السبيل في شرح الدليل 1 / 123، وإعلام الساجد بأحكام المساجد 359 - 360.
(3) سورة الحجر / 24.

(37/217)


حَيْثُ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَتَأَخَّرُونَ لِلاِطِّلاَعِ عَلَى عَوْرَاتِهِنَّ، وَقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الصَّحِيحِ: " لَوْ أَدْرَكَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيل (1) ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَرْفَعُهُ أَيُّهَا النَّاسُ انْهُوا نِسَاءَكُمْ عَنْ لُبْسِ الزِّينَةِ وَالتَّبَخْتُرِ فِي الْمَسَاجِدِ، فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيل لَمْ يُلْعَنُوا حَتَّى لَبِسَ نِسَاؤُهُمُ الزِّينَةَ وَتَبَخْتَرُوا فِي الْمَسَاجِدِ (2) ، وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: خَيْرُ مَسَاجِدِ النِّسَاءِ قَعْرُ بُيُوتِهِنَّ (3) .

دُخُول الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ فِي الْمَسْجِدِ وَعُبُورُهُمْ لَهُ
35 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ دُخُول الْمَسْجِدِ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُجُوهُ بُيُوتِ أَصْحَابِهِ شَارِعَةٌ فِي الْمَسْجِدِ فَقَال: وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ عَنِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ دَخَل وَلَمْ يَصْنَعِ الْقَوْمُ شَيْئًا رَجَاءَ
__________
(1) حديث: " لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 349) ، ومسلم (1 / 329) واللفظ للبخاري
(2) حديث: " أيها الناس انهوا نساءكم عن لبس الزينة. . . " أورده ابن الهمام في فتح القدير (1 / 259) ، وعزاه لابن عبد البر في التمهيد ولم نهتد إليه في المطبوع.
(3) حديث: " خير مساجد النساء قعر بيوتهن ". أخرجه الحاكم في المستدرك (1 / 209) وأحمد في المسند (6 / 297) وصححه ابن خزيمة في صحيحه (3 / 92) .

(37/218)


أَنْ تَنْزِل فِيهِمْ رُخْصَةٌ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَال: وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ عَنِ الْمَسْجِدِ فَإِنِّي لاَ أُحِل الْمَسْجِدَ لِحَائِضِ وَلاَ جُنُبٍ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الْمُكْثُ فِي الْمَسْجِدِ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ الْعُبُورُ فِيهِ إِنْ خِيفَ تَلْوِيثُ الْمَسْجِدِ وَإِنْ لَمْ يُخَفِ التَّلْوِيثُ جَازَ الْعُبُورُ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَيْضٌ ف 41، وَجَنَابَةٌ ف 18، وَدُخُولٌ ف 6) .

حَيْضُ الْمَرْأَةِ وَجَنَابَةُ الرَّجُل فِي الْمَسْجِدِ
36 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ إِذَا حَاضَتْ، وَالرَّجُل إِذَا أَجْنَبَ، وَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ أَنْ يَبْقَيَا فِيهِ وَهُمَا عَلَى مَا هُمَا عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِمَا أَنْ يَخْرُجَا مِنْهُ حَتَّى يَطْهُرَ كُلٌّ مِنْهُمَا، فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ أُحِل الْمَسْجِدَ لِحَائِضِ وَلاَ جُنُبٍ (3) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الاِعْتِكَافَ لاَ يَفْسُدُ بِالاِحْتِلاَمِ، ثُمَّ إِنْ أَمْكَنَهُ الاِغْتِسَال فِي الْمَسْجِدِ
__________
(1) حديث: " وجهوا هذه البيوت عن المسجد. . . . " أخرجه أبو داود (1 / 158 - 159) ، وأخرجه البيهقي في (السنن الكبرى 2 / 442) ونقل عن البخاري تضعيفه.
(2) فتح القدير 1 / 114 - 115، ومراقي الفلاح شرح نور الإيضاح 42 ط. محمد علي صبيح، وجواهر الإكليل 1 / 32، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 173 - 175، والمهذب 1 / 45، 52، والإقناع للشربيني الخطيب 1 / 143 - 144
(3) حديث: " لا أحل المسجد. . . " سبق تخريجه ف (35)

(37/218)


مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَوَّثَ الْمَسْجِدُ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَإِلاَّ فَيَخْرُجُ وَيَغْتَسِل وَيَعُودُ إِلَى الْمَسْجِدِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ وَهِيَ فِي مَسْجِدِ اعْتِكَافِهَا - قَبْل إِتْمَامِ مَا نَوَتْهُ أَوْ نَذَرَتْهُ - خَرَجَتْ وُجُوبًا مِنْهُ وَعَلَيْهَا حُرْمَةُ الاِعْتِكَافِ، فَلاَ تَفْعَل مَا لاَ يَفْعَلُهُ الْمُعْتَكِفُ مِنْ جِمَاعٍ أَوْ مُقَدِّمَاتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا رَجَعَتْ فَوْرًا لِمُعْتَكَفِهَا لِلْبِنَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالْبِنَاءِ: الإِْتْيَانُ بِبَدَل مَا حَصَل فِيهِ الْمَانِعُ وَتَكْمِيل مَا نَذَرَتْهُ وَلَوْ أَخَّرَتْ رُجُوعَهَا إِلَيْهِ وَلَوْ نَاسِيَةً أَوْ مُكْرَهَةً بَطَل اعْتِكَافُهَا وَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَأْنِفَهُ.
وَإِذَا أَجْنَبَ الرَّجُل فِي الْمَسْجِدِ وَكَانَ مُعْتَكِفًا فَسَدَ اعْتِكَافُهُ وَابْتَدَأَهُ بَعْدَ أَنْ يَغْتَسِل، إِذْ يَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ مِنْ أَهْلِهِ بِاللَّيْل مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْهُنَّ بِالنَّهَارِ، وَلاَ يَحِل لِرَجُلٍ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَتَهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ (2) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (3) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا طَرَأَ الْحَيْضُ وَجَبَ الْخُرُوجُ، وَكَذَا الْجَنَابَةُ إِنْ تَعَذَّرَ الْغُسْل فِي
__________
(1) فتح القدير 2 / 113 - 114، والاختيار شرح المختار 1 / 137 ط. مصطفى الحلبي 1936، والفتاوى الهندية 1 / 213، وانظر الدر المختار ورد المحتار عليه 2 / 131 - 132.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 552، وجواهر الإكليل 1 / 160.
(3) سورة البقرة / 187.

(37/219)


الْمَسْجِدِ لِحُرْمَةِ الْمُكْثِ فِيهِ عَلَى الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ، فَلَوْ أَمْكَنَ الْغُسْل فِيهِ جَازَ الْخُرُوجُ لَهُ وَلاَ يَلْزَمُ، بَل يَجُوزُ الْغُسْل فِيهِ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يُبَادِرَ بِهِ كَيْلاَ يَبْطُل تَتَابُعُ اعْتِكَافِهِ، وَلاَ يُحْسَبُ زَمَنُ الْحَيْضِ وَلاَ الْجَنَابَةِ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الاِعْتِكَافِ لِمُنَافَاتِهِمَا لَهُ (1) .
وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: إِذَا أَجْنَبَ الرَّجُل فِي الْمَسْجِدِ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُرَاعِيَ أَقْرَبَ الطُّرُقِ إِلَى الْخُرُوجِ (2) .
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ عَلَى الْحَائِضِ الْمُعْتَكِفَةِ أَنْ تَتَحَيَّضَ فِي خِبَاءٍ فِي رَحْبَةِ الْمَسْجِدِ إِنْ كَانَ لَهُ رَحْبَةٌ وَأَمْكَنَ ذَلِكَ بِلاَ ضَرَرٍ وَإِلاَّ فَفِي بَيْتِهَا، فَإِنْ طَهُرَتْ وَكَانَ الاِعْتِكَافُ مَنْذُورًا رَجَعَتْ فَأَتَمَّتِ اعْتِكَافَهَا وَقَضَتْ مَا فَاتَهَا وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهَا (3) .
وَقَال ابْنُ مُفْلِحٍ: وَفِي جَوَازِ مَبِيتِ الْجُنُبِ فِيهِ مُطْلَقًا بِلاَ ضَرُورَةٍ رِوَايَتَانِ، وَقِيل: يَجُوزُ إِنْ كَانَ مُسَافِرًا أَوْ مُجْتَازًا، وَإِلاَّ فَلاَ (4) .
وَإِذَا خَافَ الْجُنُبُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، أَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ، أَوْ لَمْ يَجِدْ مَكَانًا غَيْرَهُ، أَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْغُسْل وَلاَ الْوُضُوءُ تَيَمَّمَ ثُمَّ
__________
(1) منهاج الطالبين مع شرح المحلي 2 / 80 ط. دار إحياء الكتب العربية، والمهذب 1 / 200.
(2) إعلام الساجد بأحكام المساجد 316.
(3)) المغني لابن قدامة 3 / 209.
(4) الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 399.

(37/219)


أَقَامَ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِذَا تَوَضَّأَ الْجُنُبُ فَلَهُ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَال أَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ: لاَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ (1) .

تَخَطِّي الرِّقَابِ فِي الْمَسْجِدِ
37 - لِتَخَطِّي الرِّقَابِ فِي الْمَسْجِدِ أَحْكَامٌ تَخْتَلِفُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمُتَخَطِّي إِنْ كَانَ إِمَامًا أَوْ غَيْرَهُ، أَوْ كَانَ لِلصَّلاَةِ أَوْ لِغَيْرِهَا، وَمَعَ وُجُودِ فُرْجَةٍ أَوْ عَدَمِ وُجُودِهَا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَخَطِّي الرِّقَابِ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا) .

وَقْفُ الْمَسْجِدِ وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ
38 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ وَقْفِ الْمَسْجِدِ وَالْوَقْفِ عَلَيْهِ مِمَّنْ كَانَ مِنْ أَهْل التَّبَرُّعِ، لأَِنَّهُ قُرْبَةٌ وَعَلَى جِهَةِ بِرٍّ، إِلاَّ أَنَّهُمْ وَضَعُوا قَوَاعِدَ لِزَوَال مِلْكِ وَاقِفِهِ عَنْهُ وَلُزُومِهِ.
وَفِي هَذَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لَمْ يَزَل مِلْكُهُ عَنْهُ حَتَّى يُفْرِزَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِطَرِيقِهِ، وَيَأْذَنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلاَةِ فِيهِ، فَإِذَا صَلَّى فِيهِ وَاحِدٌ زَال عَنْ مِلْكِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا، وَفِي الأُْخْرَى: لاَ يَزُول إِلاَّ بِصَلاَةِ جَمَاعَةٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَزُول مِلْكُهُ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ: جَعَلْتُهُ مَسْجِدًا، لأَِنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، كَمَا يَصِحُّ الْوَقْفُ
__________
(1) المغني لابن قدامة 1 / 146.

(37/220)


عَلَيْهِ وَالْمَسْجِدُ جُعِل لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ مُحَرَّرًا عَنْ أَنْ يَمْلِكَ الْعِبَادُ فِيهِ شَيْئًا غَيْرَ الْعِبَادَةِ فِيهِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ (1) .
وَمَتَى زَال مِلْكُهُ عَنْهُ وَلَزِمَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَلاَ يَبِيعَهُ وَلاَ يُورَثَ عَنْهُ، لأَِنَّهُ تَجَرَّدَ عَنْ حَقِّ الْعِبَادِ وَصَارَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا لأَِنَّ الأَْشْيَاءَ كُلَّهَا لِلَّهِ وَإِذَا أَسْقَطَ الْعَبْدُ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنَ الْحَقِّ رَجَعَ إِلَى أَصْلِهِ فَانْقَطَعَ تَصَرُّفُهُ عَنْهُ كَمَا فِي الإِْعْتَاقِ (2) .
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا، وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ لِلصَّلاَةِ فِيهِ صَحَّ وَقْفُهُ وَلَزِمَ، فَإِذَا لَمْ يُخَل الْوَاقِفُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ بَطَل وَقْفُهُ، كَمَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ (3) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا وَصَلَّى فِيهِ، أَوْ أَذِنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلاَةِ، وَقَال: وَقَفْتُهُ مَسْجِدًا لِلصَّلاَةِ فِيهِ صَحَّ وَقْفُهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُل ذَلِكَ لَمْ يَصِرْ مَسْجِدًا، لأَِنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ مَعَ الْقُدْرَةِ كَالْعِتْقِ.
فَإِذَا صَحَّ لَزِمَ وَانْقَطَعَ تَصَرُّفُ الْوَاقِفِ فِيهِ،
__________
(1) فتح القدير 5 / 64.
(2) فتح القدير 5 / 64.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 81، وجواهر الإكليل 2 / 206.

(37/220)


لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا قَال فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، إِنَّهُ لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ (1) ، وَيَزُول مِلْكُهُ عَنِ الْعَيْنِ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ (2) .
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلاَةِ فِيهِ إِذْنًا عَامًّا كَانَ لاَزِمًا وَمُؤَبَّدًا لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ) .

الْوَصِيَّةُ لِلْمَسْجِدِ
39 - الْوَصِيَّةُ لِلْمَسْجِدِ أَجَازَهَا الْفُقَهَاءُ وَيُصْرَفُ الْمُوصَى بِهِ فِي مَصَالِحِهِ كَوُقُودِهِ وَعِمَارَتِهِ، لأَِنَّهُ مَقْصُودُ النَّاسِ بِالْوَصِيَّةِ لَهُ.
وَقَال الدُّسُوقِيُّ: إِنِ اقْتَضَى الْعُرْفُ صَرْفَهَا لِلْمُجَاوِرِينَ كَالْجَامِعِ الأَْزْهَرِ صُرِفَ لَهُمْ لاَ لِمَرَمَّتِهِ وَحُصْرِهِ، وَنَحْوِهِمَا (4) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وَصِيَّةٌ) .
__________
(1) حديث: " إن شئت حبست أصلها. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 354) ، ومسلم (3 / 1255) ، واللفظ للبخاري.
(2) المهذب 1 / 448 - 449، وشرح المحلي على المنهاج 3 / 100 - 101.
(3) منار السبيل في شرح الدليل 2 / 6 المكتب الإسلامي.
(4) جواهر الإكليل 2 / 317، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 426، وشرح المحلي على المنهاج 3 / 159، ومنار السبيل في شرح الدليل 2 / 40، والاختيار شرح المختار 3 / 201 مصطفى البابي الحلبي 1936م.

(37/221)


دُخُول الذِّمِّيِّ الْمَسْجِدَ
40 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِدُخُول الذِّمِّيِّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَل وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانُوا كُفَّارًا وَقَال: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الأَْرْضِ مِنْ أَنْجَاسِ النَّاسِ شَيْءٌ إِنَّمَا أَنْجَاسُ النَّاسِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ (1) ، وَتَأْوِيل الآْيَةِ أَنَّهُمْ لاَ يَدْخُلُونَ مُسْتَوْلِينَ أَوْ طَائِفِينَ عُرَاةً كَمَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ (2) .
وَمَنَعَ الْمَالِكِيَّةُ دُخُول الذِّمِّيِّ الْمَسْجِدَ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي الدُّخُول مَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ لِدُخُولِهِ كَعِمَارَةِ وَإِلاَّ فَلاَ (3) .
وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: يُمَكَّنُ الْكَافِرُ مِنْ دُخُول الْمَسْجِدِ وَاللُّبْثِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ جُنُبًا، فَإِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَدْخُلُونَ مَسْجِدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ شَكَّ أَنَّ فِيهِمُ الْجُنُبَ.
وَأَطْلَقَ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ يَدْخُل مَسَاجِدَ غَيْرَ الْحَرَمِ بِإِذْنِ الْمُسْلِمِ، فَإِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمُسْلِمُ فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ الدُّخُول عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِنْ دَخَل بِغَيْرِ إِذْنٍ عُزِّرَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ جَاهِلاً بِتَوَقُّفِهِ عَلَى الإِْذْنِ فَلاَ يُعَزَّرُ (4) .
__________
(1) حديث: " إنه ليس على الأرض. . . ". أخرجه البخاري في " شرح معاني الآثار " (1 / 13) من حديث الحسن البصري مرسلاً.
(2) الاختيار شرح المختار 3 / 121.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 139، وجواهر الإكليل 1 / 23، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2 / 78.
(4) إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي 318 - 320.

(37/221)


وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ لَيْسَ لِلذِّمِّيِّ دُخُول مَسَاجِدِ الْحِل (وَهِيَ كُل مَسْجِدٍ خَارِجِ نِطَاقِ حَرَمِ مَكَّةَ) بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لَهُمْ دُخُولُهُ (1) .

وَقْفُ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمَسْجِدِ
41 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْفِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمَسْجِدِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى صِحَّتِهِ لِعُمُومِ أَدِلَّةِ الْوَقْفِ، وَمَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْفٌ) .

الزَّكَاةُ لِلْمَسْجِدِ
42 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، لاِنْعِدَامِ التَّمْلِيكِ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (زَكَاةٌ ف) .
وَنَقَل الإِْمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ عَنِ الْقَفَّال فِي تَفْسِيرِهِ آيَةَ الزَّكَاةِ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ أَجَازُوا صَرْفَ الصَّدَقَاتِ إِلَى جَمِيعِ وُجُوهِ الْخَيْرِ مِنْ تَكْفِينِ الْمَوْتَى وَبِنَاءِ الْحُصُونِ وَعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ لأَِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَفِي سَبِيل اللَّهِ} (2) عَامٌّ فِي الْكُل (3) .

الصَّدَقَةُ عَلَى السَّائِلِينَ فِي الْمَسْجِدِ
43 - قَال الزَّرْكَشِيُّ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُعْطَى السَّائِل
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 532، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 406 - 407.
(2) سورة التوبة / 60.
(3) تفسير الرازي 16 / 87.

(37/222)


فِي الْمَسْجِدِ شَيْئًا لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَل مِنْكُمْ أَحَدٌ أَطْعَمَ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ فَقَال أَبُو بَكْرٍ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا أَنَا بِسَائِلٍ يَسْأَل فَوَجَدْتُ كِسْرَةَ خُبْزٍ فِي يَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَأَخَذْتُهَا مِنْهُ فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ (1) .
وَنَقَل الزَّرْكَشِيُّ عَنْ كِتَابِ الْكَسْبِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْمُخْتَارَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ السَّائِل لاَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَلاَ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي، وَلاَ يَسْأَل النَّاسَ إِلْحَافًا فَلاَ بَأْسَ بِالسُّؤَال وَالإِْعْطَاءِ، لأَِنَّ السُّؤَّال كَانُوا يَسْأَلُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يُرْوَى أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَصَدَّقَ بِخَاتَمِهِ وَهُوَ فِي الرُّكُوعِ (2) . فَمَدَحَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (3) ، وَإِنْ كَانَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَيَمُرُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي فَيُكْرَهُ إِعْطَاؤُهُ، لأَِنَّهُ إِعَانَةٌ لَهُ عَلَى أَذَى النَّاسِ حَتَّى قِيل: هَذَا فَلْسٌ وَاحِدٌ يَحْتَاجُ إِلَى سَبْعِينَ فَلْسًا لِكَفَّارَتِهِ (4) .
وَقَال ابْنُ مُفْلِحٍ: قَال بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُكْرَهُ السُّؤَال وَالتَّصَدُّقُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَمُرَادُهُمْ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - التَّصَدُّقُ عَلَى السُّؤَّال لاَ مُطْلَقًا،
__________
(1) حديث: " هل منكم أحد أطعم. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 309) ، ونقل المنذري في " مختصر السنن " (2 / 252) عن أبي بكر البزار أن إسناده مرسل.
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6 / 221.
(3)) سورة المائدة / 55.
(4)
) إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي 353 - 354.

(37/222)


وَقَطَعَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ، وَأَكْثَرُهُمْ لَمْ يَذْكُرِ الْكَرَاهَةَ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَأَل قَبْل خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ جَلَسَ لَهَا تَجُوزُ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ تَصَدَّقَ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْأَل أَوْ سَأَل الْخَطِيبُ الصَّدَقَةَ عَلَى إِنْسَانٍ جَازَ.
وَنَقَل ابْنُ مُفْلِحٍ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ بَدْرٍ قَال: صَلَّيْتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِذَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِقُرْبٍ مِنِّي، فَقَامَ سَائِلٌ فَسَأَل فَأَعْطَاهُ أَحْمَدُ قِطْعَةً (1) .
وَكَرِهَ الْحَنَفِيَّةُ التَّخَطِّيَ لِلسُّؤَال فَلاَ يَمُرُّ السَّائِل بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي وَلاَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَلاَ يَسْأَل النَّاسَ إِلْحَافًا إِلاَّ إِذَا كَانَ لأَِمْرٍ لاَ بُدَّ مِنْهُ (2) .

اسْتِبْدَال الْمَسْجِدِ
44 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ اسْتِبْدَال الْمَسْجِدِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ بَاعَ كَرْمًا فِيهِ مَسْجِدٌ قَدِيمٌ إِنْ كَانَ عَامِرًا يَفْسُدُ الْبَيْعُ وَإِلاَّ لاَ، وَلَوِ اشْتَرَى دَارًا بِطَرِيقِهَا ثُمَّ اسْتُحِقَّ الطَّرِيقُ: إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا بِحِصَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا إِنْ كَانَ الطَّرِيقُ مُخْتَلِطًا بِهَا، وَإِنْ كَانَ مُتَمَيِّزًا لَزِمَهُ الدَّارُ بِحِصَّتِهَا، وَمَعْنَى اخْتِلاَطِهِ كَوْنُهُ لَمْ يَذْكُرْ لَهُ
__________
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 408 ط. الرياض الحديثة.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 148، وحاشية ابن عابدين 1 / 554.

(37/223)


الْحُدُودَ، وَفِي الْمُنْتَقَى: إِذَا لَمْ يَكُنِ الطَّرِيقُ مَحْدُودًا فَسَدَ الْبَيْعُ، وَالْمَسْجِدُ الْخَاصُّ كَالطَّرِيقِ الْمَعْلُومِ وَلَوْ كَانَ مَسْجِدُ جَمَاعَةٍ فَسَدَ الْبَيْعُ فِي الْكُل، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَلَوْ كَانَ مَسْجِدٌ جَامِعٌ فَسَدَ فِي الْكُل، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَهْدُومًا أَوْ أَرْضًا سَاحَةً لاَ بِنَاءَ فِيهَا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ مَسْجِدًا جَامِعًا كَذَا فِي الْمُجْتَبَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُتَفَرِّعٌ عَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ فِي الْمَسْجِدِ: إِلاَّ إِنْ كَانَ مِنْ رِيعِهِ مَعْلُومٌ يُعَادُ بِهِ، وَلَوْ بَاعَ قَرْيَةً وَفِيهَا مَسْجِدٌ وَاسْتُثْنِيَ الْمَسْجِدُ جَازَ الْبَيْعُ (1) .
وَفِي هَذَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ: أَمَّا الْمَسْجِدُ فَلاَ خِلاَفَ فِي عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ خَرِبَ أَمْ لاَ، وَإِنِ انْتَقَلَتِ الْعِمَارَةُ عَنْ مَحَلِّهِ، وَمِثْل عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْمَسْجِدِ نَقْضُهُ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ نَقْضِ الْمَسْجِدِ بِمَعْنَى أَنْقَاضِهِ.
وَإِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ مَحْفُوفًا بِوُقُوفِ فَافْتَقَرَ إِلَى تَوْسِعَةٍ جَازَ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْهَا مَا يُوَسِّعُ بِهِ، يَعْنِي أَنَّ الْمَسْجِدَ إِذَا كَانَ مَحْفُوفًا بِوُقُوفِ وَكَانَ هَذَا الْمَسْجِدُ فِي حَاجَةٍ إِلَى تَوْسِعَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُوَسِّعُهُ إِلاَّ بِبَيْعِ بَعْضِ تِلْكَ الأَْوْقَافِ أَوْ كُلِّهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُبَاعَ لِتَوْسِعَةِ الْمَسْجِدِ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْحَبْسِ وَلَوْ صَارَ خَرِبًا إِلاَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهِيَ مَا إِذَا ضَاقَ الْمَسْجِدُ بِأَهْلِهِ،
__________
(1) فتح القدير 5 / 227 ط. المطبعة الكبرى الأميرية 1316هـ.

(37/223)


أَوِ احْتَاجَ إِلَى تَوْسِعَةٍ، وَبِجَانِبِهِ عَقَارُ حَبْسٍ أَوْ مِلْكٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْحَبْسِ لأَِجْل تَوْسِعَةِ الْمَسْجِدِ، وَإِنْ أَبَى صَاحِبُ الْحَبْسِ أَوْ صَاحِبُ الْمِلْكِ بَيْعَ ذَلِكَ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا يُجْبَرَانِ عَلَى بَيْعِ ذَلِكَ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِ الْحَبْسِ مَا يُجْعَل حَبْسًا كَالأَْوَّل، وَمِثْل تَوْسِعَةِ الْمَسْجِدِ تَوْسِعَةُ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَقْبَرَتِهِمْ.
وَفِي الْمَوَّاقِ: قَال سَحْنُونٌ: لَمْ يُجِزْ أَصْحَابُنَا بَيْعَ الْحَبْسِ بِحَالٍ إِلاَّ دَارًا بِجِوَارِ مَسْجِدٍ احْتِيجَ أَنْ تُضَافَ إِلَيْهِ لِيَتَوَسَّعَ بِهَا، فَأَجَازُوا بَيْعَ ذَلِكَ وَيُشْتَرَى بِثَمَنِهَا دَارٌ تَكُونُ حَبْسًا، وَقَدْ أُدْخِل فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُورٌ مُحَبَّسَةٌ كَانَتْ تَلِيهِ، وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَجُوزُ فِي مَسَاجِدِ الْجَوَامِعِ إِنِ احْتِيجَ إِلَى ذَلِكَ لاَ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ، إِذْ لَيْسَتِ الضَّرُورَةُ فِيهَا كَالْجَوَامِعِ (1) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ انْهَدَمَ مَسْجِدٌ وَتَعَذَّرَتْ إِعَادَتُهُ لَمْ يُبَعْ بِحَالٍ لإِِمْكَانِ الصَّلاَةِ فِيهِ فِي الْحَال، وَيَقُول الْقَلْيُوبِيُّ تَعْلِيقًا عَلَى قَوْل صَاحِبِ الْمِنْهَاجِ (وَتَعَذَّرَتْ إِعَادَتُهُ) : أَيْ بِنَقْضِهِ، ثُمَّ إِنْ رُجِيَ عَوْدُهُ حُفِظَ نَقْضُهُ وُجُوبًا - وَلَوْ بِنَقْلِهِ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ إِنْ خِيفَ عَلَيْهِ لَوْ بَقِيَ - وَلِلْحَاكِمِ هَدْمُهُ وَنَقْل نَقْضِهِ إِلَى مَحَلٍّ أَمِينٍ
__________
(1) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك 3 / 104 - 105 دار الفكر.

(37/224)


إِنْ خِيفَ عَلَى أَخْذِهِ لَوْ لَمْ يُهْدَمْ، فَإِنْ لَمْ يُرْجَ عَوْدُهُ بُنِيَ بِهِ مَسْجِدٌ آخَرُ لاَ نَحْوُ مَدْرَسَةٍ، وَكَوْنُهُ بِقُرْبِهِ أَوْلَى، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْمَسْجِدُ بُنِيَ بِهِ غَيْرُهُ.
وَأَمَّا غَلَّتُهُ الَّتِي لَيْسَ لأَِرْبَابِ الْوَظَائِفِ وَحُصْرُهُ وَقَنَادِيلُهُ فَكَنَقْضِهِ وَإِلاَّ فَهِيَ لأَِرْبَابِهَا، وَإِنْ تَعَذَّرَتْ، لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِمْ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُ الْمَسْجِدِ بِخَرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ، كَخَشَبٍ تَشَعَّثَ وَخِيفَ سُقُوطُهُ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُعْمَرُ بِهِ، فَيُبَاعُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ أَوْ بَعْضِ مِثْلِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ قَال: وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ خَشَبَاتٌ لاَ قِيمَةَ لَهَا جَازَ بَيْعُهَا وَصَرْفُ ثَمَنِهَا عَلَيْهِ، وَقَال: يُحَوَّل الْمَسْجِدُ خَوْفًا مِنَ اللُّصُوصِ وَإِذَا كَانَ مَوْضِعُهُ قَذِرًا، قَال أَبُو بَكْرٍ الْمَعْرُوفُ بِالْخَلاَّل: وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْمَسَاجِدَ لاَ تُبَاعُ إِنَّمَا تُنْقَل آلَتُهَا، قَال: وَبِالْقَوْل الأَْوَّل أَقُول، لإِِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْفَرَسِ الْحَبِيسِ إِذَا لَمْ يَصْلُحْ لِلْغَزْوِ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ثَمَنَ الْفَرَسِ أُعِينَ بِهِ فِي فَرَسٍ حَبِيسٍ، لأَِنَّ الْوَقْفَ مُؤَبَّدٌ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَأْبِيدُهُ بِعَيْنِهِ اسْتَبْقَيْنَا الْفَرَسَ - وَهُوَ الاِنْتِفَاعُ عَلَى الدَّوَامِ - فِي عَيْنٍ أُخْرَى وَاتِّصَال الأَْبْدَال يَجْرِي مَجْرَى الأَْعْيَانِ وَجُمُودُنَا عَلَى الْعَيْنِ مَعَ تَعَطُّلِهَا تَضْيِيعٌ لِلْغَرَضِ كَذَبْحِ الْهَدْيِ إِذَا أَعْطَبَ فِي مَوْضِعِهِ
__________
(1) منهاج الطالبين وحاشية القليوبي عليه 3 / 108 ط. دار إحياء الكتب العربية.

(37/224)


مَعَ اخْتِصَاصِهِ بِمَوْضِعٍ آخَرَ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ تَحْصِيل الْغَرَضِ بِالْكُلِّيَّةِ اسْتَوْفَى مِنْهُ مَا أَمْكَنَ، قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ.
وَبِمُجَرَّدِ شِرَاءِ الْبَدَل يَصِيرُ وَقْفًا، وَكَذَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ لَوْ ضَاقَ عَلَى أَهْلِهِ وَلَمْ تُمْكِنْ تَوْسِعَتُهُ فِي مَوْضِعِهِ، أَوْ خَرِبَتْ مَحَلَّتُهُ أَوِ اسْتُقْذِرَ مَوْضِعُهُ، قَال الْقَاضِي: يَعْنِي إِذَا كَانَ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الصَّلاَةِ فِيهِ فَيُبَاعُ.
وَيَجُوزُ نَقْل آلَتِهِ وَحِجَارَتِهِ لِمَسْجِدٍ آخَرَ احْتَاجَ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ بَيْعِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى سَعْدٍ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ بَيْتَ الْمَال الَّذِي فِي الْكُوفَةِ نُقِبَ، أَنِ انْقُل الْمَسْجِدَ الَّذِي بِالتَّمَّارِينَ وَاجْعَل بَيْتَ الْمَال فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَزَال فِي الْمَسْجِدِ مُصَلٍّ، وَكَانَ هَذَا بِمَشْهَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ خِلاَفُهُ فَكَانَ كَالإِْجْمَاعِ (1) .

بَيْعُ الْمَسْجِدِ أَوْ أَنْقَاضِهِ دُونَ أَرْضِهِ
45 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ لاَ يُبَاعُ، وَفِي هَذَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ: مَنِ اتَّخَذَ أَرْضَهُ مَسْجِدًا وَاسْتَوْفَى شُرُوطَ صِحَّةِ وَقْفِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَلاَ يَبِيعَهُ وَلاَ يُورَثَ عَنْهُ، لأَِنَّهُ تَجَرَّدَ عَنْ حَقِّ الْعِبَادِ وَصَارَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا لأَِنَّ الأَْشْيَاءَ كُلَّهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِذَا أَسْقَطَ
__________
(1) منار السبيل في شرح الدليل 2 / 18 - 19.

(37/225)


الْعَبْدُ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنَ الْحَقِّ رَجَعَ إِلَى أَصْلِهِ فَانْقَطَعَ تَصَرُّفُهُ عَنْهُ كَمَا فِي الإِْعْتَاقِ.
وَلَوْ خَرِبَ مَا حَوْل الْمَسْجِدِ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ يَبْقَى مَسْجِدًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لأَِنَّهُ إِسْقَاطٌ مِنْهُ فَلاَ يَعُودُ إِلَى مِلْكِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَعُودُ إِلَى مِلْكِ الْبَانِي (الْوَاقِفِ) إِنْ كَانَ حَيًّا أَوْ إِلَى وَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ بَانِيهِ وَلاَ وَرَثَتُهُ كَانَ لَهُمْ بَيْعُهُ وَالاِسْتِعَانَةُ بِثَمَنِهِ فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ آخَرَ لأَِنَّهُ عَيَّنَهُ لِنَوْعِ قُرْبَةٍ، وَقَدِ انْقَطَعَتْ، فَصَارَ كَحَصِيرِ الْمَسْجِدِ وَحَشِيشِهِ إِذَا اسْتُغْنِيَ عَنْهُ، إِلاَّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُول فِي الْحُصْرِ وَالْحَشِيشِ إِنَّهُ يُنْقَل إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ.
وَلَوْ ضَاقَ الْمَسْجِدُ وَبِجَنْبِهِ أَرْضٌ وَقْفٌ عَلَيْهِ أَوْ حَانُوتٌ جَازَ أَنْ يُؤْخَذَ وَيَدْخُل فِيهِ، وَلَوْ كَانَ مِلْكَ رَجُلٍ أُخِذَ بِالْقِيمَةِ كَرْهًا، فَلَوْ كَانَ طَرِيقًا لِلْعَامَّةِ أُدْخِل بَعْضُهُ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَضُرَّ بِالطَّرِيقِ.
وَفِي كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ مِنَ الْخُلاَصَةِ عَنِ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَل شَيْءٌ مِنَ الطَّرِيقِ مَسْجِدًا، أَوْ يُجْعَل شَيْءٌ مِنَ الْمَسْجِدِ طَرِيقًا لِلْعَامَّةِ، يَعْنِي إِذَا احْتَاجُوا إِلَى ذَلِكَ.
وَلأَِهْل الْمَسْجِدِ أَنْ يَجْعَلُوا الرَّحْبَةَ مَسْجِدًا وَكَذَا عَلَى الْقُلُبِ، وَيُحَوِّلُوا الْبَابَ أَوْ يُحْدِثُوا لَهُ بَابًا آخَرَ، وَلَوِ اخْتَلَفُوا يُنْظَرُ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ وِلاَيَةً لَهُ ذَلِكَ.

(37/225)


وَلَهُمْ أَنْ يَهْدِمُوهُ وَيُجَدِّدُوهُ، وَلَيْسَ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْمَحَلَّةِ ذَلِكَ، وَكَذَا لَهُمْ أَنْ يَضَعُوا الْحَبَابَ وَيُعَلِّقُوا الْقَنَادِيل وَيَفْرِشُوا الْحُصْرَ كُل ذَلِكَ مِنْ مَال أَنْفُسِهِمْ، وَأَمَّا مِنْ مَال الْوَقْفِ فَلاَ يَفْعَل غَيْرُ الْمُتَوَلِّي إِلاَّ بِإِذْنِ الْقَاضِي.
وَمِنْ كِتَابِ التَّجْنِيسِ: قَيِّمُ الْمَسْجِدِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ حَوَانِيتَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي فِنَائِهِ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْعَل، لأَِنَّهُ إِذَا جَعَل الْمَسْجِدَ سَكَنًا تَسْقُطُ حُرْمَةُ الْمَسْجِدِ، وَأَمَّا الْفِنَاءُ فَلأَِنَّهُ تَبَعٌ لِلْمَسْجِدِ، وَلَوْ خَرِبَ مَا حَوْل الْمَسْجِدِ وَاسْتَغْنَى عَنْهُ أَيِ اسْتَغْنَى عَنِ الصَّلاَةِ فِيهِ أَهْل تِلْكَ الْمَحَلَّةِ أَوِ الْقَرْيَةِ بِأَنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ فَخَرِبَتْ وَحُوِّلَتْ مَزَارِعَ يَبْقَى مَسْجِدًا عَلَى حَالِهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ (1) .
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ خَرِبَ أَمْ لاَ وَلَوِ انْتَقَلَتِ الْعِمَارَةُ عَنْ مَحَلِّهِ، وَمِثْل عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْمَسْجِدِ نَقْضُهُ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ نَقْضِ الْمَسْجِدِ بِمَعْنَى أَنْقَاضِهِ.
وَفِي الْقُرْطُبِيِّ: لاَ يَجُوزُ نَقْضُ الْمَسْجِدِ وَلاَ بَيْعُهُ وَلاَ تَعْطِيلُهُ وَإِنْ خَرِبَتِ الْمَحَلَّةُ (2) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ وَقَفَ مَسْجِدًا فَخَرِبَ
__________
(1) فتح القدير 5 / 64.
(2) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك 3 / 104 دار الفكر، وجواهر الإكليل 2 / 208 - 209، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2 / 78.

(37/226)


الْمَكَانُ وَانْقَطَعَتِ الصَّلاَةُ فِيهِ لَمْ يَعُدْ إِلَى الْمِلْكِ وَلَمْ يَجُزِ التَّصَرُّفُ فِيهِ، لأَِنَّ مَا زَال الْمِلْكُ فِيهِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَلاَ يَعُودُ إِلَى الْمِلْكِ بِالاِخْتِلاَل كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا ثُمَّ زَمِنَ (1) .
وَإِنْ وَقَفَ جُذُوعًا عَلَى مَسْجِدٍ فَتَكَسَّرَتْ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَالثَّانِي: يَجُوزُ بَيْعُهُ، لأَِنَّهُ لاَ يُرْجَى مَنْفَعَتُهُ، فَكَانَ بَيْعُهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ بِخِلاَفِ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ الْمَسْجِدَ يُمْكِنُ الصَّلاَةُ فِيهِ مَعَ خَرَابِهِ، وَقَدْ يُعْمَرُ الْمَوْضِعُ فَيُصَلَّى فِيهِ.
وَإِنْ وَقَفَ شَيْئًا عَلَى مَسْجِدٍ فَاخْتَل الْمَكَانُ حُفِظَ الاِرْتِفَاعُ (الْغَلَّةُ) وَلاَ يُصْرَفُ إِلَى غَيْرِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَرْجِعَ كَمَا كَانَ (2) .
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ بِتَحْرِيمِ بَيْعِ الْمَسْجِدِ إِلاَّ أَنْ تَتَعَطَّل مَنَافِعُهُ بِخَرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ كَخَشَبٍ تَشَعَّثَ وَخِيفَ سُقُوطُهُ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُعْمَرُ بِهِ، فَيُبَاعُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ أَوْ بَعْضِ مِثْلِهِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، قَال: وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ خَشَبَاتٌ لَهَا قِيمَةٌ جَازَ بَيْعُهَا وَصَرْفُ ثَمَنِهَا عَلَيْهِ (3) .

غَرْسُ الشَّجَرِ فِي الْمَسْجِدِ وَالزَّرْعُ فِيهِ وَحَفْرُ بِئْرٍ فِيهِ
46 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ غَرْسُ
__________
(1) المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 452.
(2) المهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 452.
(3) منار السبيل 2 / 18 المكتب الإسلامي.

(37/226)


الأَْشْجَارِ فِي الْمَسْجِدِ إِلاَّ إِذَا كَانَ ذَا نَزٍّ، والأُسْطُوَانَاتُ لاَ تَسْتَقِرُّ بِهِ، فَيَجُوزُ لِتَشْرَبَ ذَلِكَ الْمَاءَ فَيَحْصُل بِهَا النَّفْعُ، وَلاَ يُحْفَرُ فِيهِ بِئْرٌ، وَلَوْ كَانَتْ قَدِيمَةً - كَبِئْرِ زَمْزَمَ - تُرِكَتْ، وَلَوْ حَفَرَ فَتَلِفَ فِيهِ شَيْءٌ إِنْ حَفَرَ أَهْل الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرُهُمْ بِإِذْنِهِمْ لاَ يُضْمَنُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ ضُمِنَ أَضَرَّ ذَلِكَ بِأَهْلِهِ أَوْ لاَ (1) .
وَحَرَّمَ الْحَنَابِلَةُ حَفْرَ الْبِئْرِ وَغَرْسَ الشَّجَرِ بِالْمَسَاجِدِ لأَِنَّ الْبُقْعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ لِلصَّلاَةِ فَتَعْطِيلُهَا عُدْوَانٌ، فَإِنْ فَعَل طُمَّتِ الْبِئْرُ وَقُلِعَتِ الشَّجَرَةُ، نَصَّ عَلَيْهِ، قَال: هَذِهِ غُرِسَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالَّذِي غَرَسَهَا ظَالِمٌ غَرَسَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ.
وَتَحْرِيمُ حَفْرِ الْبِئْرِ فِي الْمَسْجِدِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، فَإِنْ كَانَ فِي حَفْرِهِ مَصْلَحَةٌ وَلَمْ يَحْصُل بِهِ ضِيقٌ لَمْ يَكْرَهْ أَحْمَدُ حَفْرَهَا فِيهِ، وَالزَّرْعُ فِيهِ مَكْرُوهٌ (2) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ يَجُوزُ أَنْ يُغْرَسَ فِي الْمَسْجِدِ شَجَرَةٌ وَإِنْ كَانَتِ النَّخْلَةُ فِي أَرْضٍ فَجَعَلَهَا صَاحِبُهَا مَسْجِدًا وَالنَّخْلَةُ فِيهَا فَلاَ بَأْسَ وَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهَا مِنَ الْجِيرَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ: لاَ تُبَاعُ وَتُجْعَل لِلْمُسْلِمِينَ وَأَهْل الدَّرْبِ يَأْكُلُونَهَا، وَقِيل: إِنَّ الْمَسْجِدَ إِذَا احْتَاجَ إِلَى
__________
(1) فتح القدير 1 / 299.
(2) منار السبيل في شرح الدليل 2 / 20، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 405.

(37/227)


ثَمَنِ ثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ بِيعَتْ وَصُرِفَ ثَمَنُهَا فِي عِمَارَتِهِ، أَمَّا إِنْ قَال صَاحِبُهَا: هَذِهِ وَقْفٌ عَلَى الْمَسْجِدِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَاعَ ثَمَرُهَا وَيُصْرَفَ إِلَيْهِ (1) .
وَالْمَالِكِيَّةُ لاَ يُجِيزُونَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنْ وَقَعَ قُلِعَ (2) .
وَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا بِكَرَاهَةِ غَرْسِ الشَّجَرِ وَالنَّخْل وَحَفْرِ الآْبَارِ فِي الْمَسَاجِدِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّضْيِيقِ عَلَى الْمُصَلِّينَ، وَلأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْل السَّلَفِ، وَالصَّحِيحُ تَحْرِيمُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْجِيرِ مَوْضِعِ الصَّلاَةِ وَالتَّضْيِيقِ وَجَلْبِ النَّجَاسَاتِ مِنْ ذَرْقِ الطُّيُورِ، وَقَال الْغَزَالِيُّ: لاَ يَجُوزُ الزَّرْعُ فِيهِ، وَإِنْ غَرَسَ غَرْسًا يَسْتَظِل بِهِ فَهَلَكَ بِهِ إِنْسَانٌ فَلاَ ضَمَانَ.
وَقَال الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ: وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُغْرَسَ فِي الْمَسْجِدِ شَجَرٌ لأَِنَّهُ يَمْنَعُ الْمُصَلِّينَ، قَال فِي الرَّوْضَةِ فِي بَابِ السَّجَدَاتِ: فَإِنْ غُرِسَ قَلَعَهُ الإِْمَامُ، وَقَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ فِي الصَّلاَةِ: لاَ يَجُوزُ الْغَرْسُ فِي الْمَسْجِدِ وَلاَ الْحَفْرُ فِيهِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَشْغَل الْمُصَلِّيَ.
وَقَال فِي آخِرِ كِتَابِ الْوَقْفِ: سُئِل أَبُو عَلِيٍّ عَبْدُ اللَّهِ الْحَنَّاطِيُّ عَنْ رَجُلٍ غَرَسَ شَجَرَةً فِي
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 634، 635.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 70 - 71.

(37/227)


الْمَسْجِدِ كَيْفَ يَصْنَعُ بِثِمَارِهَا؟ فَقَال: إنْ جَعَلَهَا لِلْمَسْجِدِ لَمْ يَجُزْ أَكْلُهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَيَجِبُ صَرْفُهَا إِلَى مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ، وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُغْرَسَ فِي الْمَسَاجِدِ الأَْشْجَارُ لأَِنَّهَا تَمْنَعُ الصَّلاَةَ، فَإِنْ غَرَسَهَا مُسَبَّلَةً لِلأَْكْل جَازَ أَكْلُهَا بِلاَ عِوَضٍ وَكَذَا إِنْ جُهِلَتْ نِيَّتُهُ حَيْثُ جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ (1) .

انْتِفَاعُ جَارِ الْمَسْجِدِ بِوَضْعِ خَشَبَةٍ عَلَى جِدَارِهِ
47 - لِلْمَالِكِيَّةِ قَوْلاَنِ فِي أَنَّهُ هَل لِنَاظِرِ وَقْفِ الْمَسْجِدِ أَنْ يُعِيرَ جَارَ الْمَسْجِدِ مَوْضِعًا لِغَرْزِ خَشَبَةٍ فِيهِ أَوْ لَيْسَ لَهُ هَذَا الْحَقُّ؟ أَحَدُهُمَا بِإِعْطَائِهِ هَذَا الْحَقَّ، وَالآْخَرُ بِمَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ (2) .
وَيَشْتَرِطُ الْحَنَابِلَةُ لِجَوَازِ وَضْعِ تِلْكَ الْخَشَبَةِ عَلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ أَنْ لاَ تَضُرَّ بِحَائِطِهِ فَيَضْعُفَ عَنْ حَمْلِهَا، وَأَنْ لاَ يُمْكِنَ التَّسْقِيفُ بِدُونِ وَضْعِهَا وَأَنْ لاَ يَكُونَ عِنْدَ صَاحِبِهَا غَنَاءٌ بِوَضْعِهَا عَلَى غَيْرِ جِدَارِ الْمَسْجِدِ، وَأَنْ تَكُونَ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إِلَى وَضْعِ تِلْكَ الْخَشَبَةِ عَلَى جِدَارِهِ، فَمَتَى كَانَ ذَلِكَ جَازَ وَضْعُ تِلْكَ الْخَشَبَةِ عَلَى جِدَارِهِ، وَقِيل: يُشْتَرَطُ لِلْجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَلاَثَةُ حِيطَانٍ وَلِجَارِهِ حَائِطٌ وَاحِدٌ.
فَإِنْ كَانَ غَرْزُهَا فِي جِدَارِ الْمَسْجِدِ يَضُرُّ
__________
(1) إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي 341 - 342.
(2) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك للكشناوي 3 / 58.

(37/228)


بِحَائِطِهِ فَيُضْعِفُهُ عَنْ حَمْلِهَا، أَوْ أَمْكَنَ التَّسْقِيفُ بِدُونِ وَضْعِهَا عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ عِنْدَهُ غَنَاءٌ بِوَضْعِهَا عَلَى غَيْرِ جِدَارِهِ، أَوْ لَمْ تَدْعُ الْحَاجَةُ إِلَى وَضْعِهَا عَلَى جِدَارِهِ لَمْ يَجُزْ وَضْعُهَا عَلَيْهِ (1) .

إِغْلاَقُ الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الصَّلاَةِ
48 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِإِغْلاَقِ الْمَسَاجِدِ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الصَّلاَةِ، صِيَانَةً لَهَا وَحِفْظًا لِمَا فِيهَا مِنْ مَتَاعٍ، وَتَحَرُّزًا عَنْ نَقْبِ بُيُوتِ الْجِيرَانِ مِنْهَا، وَخَوْفًا مِنْ سَرِقَةِ مَا فِيهَا (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا إِغْلاَقُ بَابِ الْمَسْجِدِ لأَِنَّهُ يُشْبِهُ الْمَنْعَ مِنَ الصَّلاَةِ وَالْمَنْعُ مِنَ الصَّلاَةِ حَرَامٌ (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} (4) .

تَعْطِيل الْمَسَاجِدِ
49 - قَال الزَّرْكَشِيُّ: إِذَا تَعَطَّل الْمَسْجِدُ بِتَفَرُّقِ النَّاسِ عَنِ الْبَلَدِ أَوْ خَرَابِهَا أَوْ بِخَرَابِ الْمَسْجِدِ فَلاَ يَعُودُ مَمْلُوكًا وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِحَالٍ وَلاَ التَّصَرُّفُ فِيهِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا ثُمَّ زَمِنَ
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 502 - 503.
(2) فتح القدير والعناية بهامشه 1 / 299، وإعلام الساجد بأحكام المساجد 340، 344، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 406.
(3) فتح القدير والعناية بهامشه 1 / 299.
(4) سورة البقرة / 114.

(37/228)


لاَ يَعُودُ مَمْلُوكًا.
ثُمَّ إِنْ خِيفَ أَنْ تَنْقُضَهُ الشَّيَاطِينُ، نُقِضَ وَحُفِظَ، وَإِنْ رَأَى الْقَاضِي أَنْ يَبْنِيَ بِنَقْضِهِ مَسْجِدًا آخَرَ، قَال الْقَاضِي وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمُتَوَلِّي: يَجُوزُ، وَقَال الْمُتَوَلِّي: الأَْوْلَى أَنْ يُنْقَل إِلَى أَقْرَبِ الْجِهَاتِ إِلَيْهِ، فَإِنْ نُقِل إِلَى الْبَعِيدِ جَازَ، وَلاَ يُصْرَفُ النَّقْضُ إِلَى غَيْرِ الْمَسْجِدِ كَالرِّبَاطَاتِ وَالْقَنَاطِرِ وَالآْبَارِ، كَمَا لاَ يَجُوزُ عَكْسُهُ، لأَِنَّ الْوَقْفَ لاَزِمٌ، وَقَدْ دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى تَبْدِيل الْمَحَل دُونَ الْجِهَةِ (1) .
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: لاَ يَجُوزُ نَقْضُ الْمَسْجِدِ وَلاَ بَيْعُهُ وَلاَ تَعْطِيلُهُ وَإِنْ خَرِبَتِ الْمَحَلَّةُ (2) .
وَإِذَا تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُ الْمَسْجِدِ بِخَرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ كَخَشَبٍ تَشَعَّثَ وَخِيفَ سُقُوطُهُ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُعْمَرُ بِهِ فَيُبَاعُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ أَوْ بَعْضِ مِثْلِهِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، قَال: إِذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ خَشَبَاتٌ لَهَا قِيمَةٌ جَازَ بَيْعُهَا وَصَرْفُ ثَمَنِهَا عَلَيْهِ، وَقَال يُحَوَّل الْمَسْجِدُ خَوْفًا مِنَ اللُّصُوصِ، وَإِذَا كَانَ مَوْضِعُهُ قَذِرًا (3) .
__________
(1) إعلام الساجد 345.
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2 / 78.
(3) منار السبيل في شرح الدليل 2 / 18.

(37/229)


مَسْجِدُ إبْرَاهِيمَ
التَّعْرِيفُ:
1 - مَسْجِدُ إِبْرَاهِيمَ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ: مَسْجِدُ وَإِبْرَاهِيمُ، فَالْمَسْجِدُ فِي اللُّغَةِ: بَيْتُ الصَّلاَةِ، وَمَوْضِعُ السُّجُودِ مِنْ بَدَنِ الإِْنْسَانِ. وَالْمَسْجِدُ فِي الاِصْطِلاَحِ: الأَْرْضُ الَّتِي جَعَلَهَا الْمَالِكُ مَسْجِدًا وَأَذِنَ بِالصَّلاَةِ فِيهَا (1) .
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ نَبِيُّ اللَّهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَى الصَّحِيحِ (2) .
وَقِيل: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ هُوَ أَحَدُ أُمَرَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ وَهُوَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ بَابُ إِبْرَاهِيمَ بِمَكَّةَ (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ
2 - الْمَقَامُ - بِفَتْحِ الْمِيمِ - اسْمُ مَكَانٍ مِنْ قَامَ يَقُومُ قَوْمًا وَقِيَامًا: أَيِ انْتَصَبَ، وَقَال أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ: الْحَجَرُ الَّذِي تَعْرِفُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ، يُصَلُّونَ عِنْدَهُ رَكْعَتَيِ
__________
(1) لسان العرب، وقواعد الفقه للبركتي.
(2) مغني المحتاج 1 / 496، ونهاية المحتاج 3 / 287، وحاشية القليوبي 2 / 113.
(3) المراجع السابقة.

(37/229)


الطَّوَافِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ وَمَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَنْسُوبٌ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ، غَيْرَ أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَتُسَنُّ رَكْعَتَا الطَّوَافِ عِنْدَهُ، وَمَسْجِدُ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ عَرَفَاتٍ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
يَتَعَلَّقُ بِمَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ أَحْكَامٌ مِنْهَا.

أ - الْوُقُوفُ بِمَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ
3 - قَال أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ مُقَدَّمَ مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ فِي طَرَفِ وَادِي عُرَنَةَ لاَ فِي عَرَفَاتٍ، وَآخِرُهُ فِي عَرَفَاتٍ قَال: فَمَنْ وَقَفَ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ الْمُسَمَّى بِمُصَلَّى إِبْرَاهِيمَ لاَ يَصِحُّ وُقُوفُهُ، وَمَنْ وَقَفَ فِي آخِرِهِ صَحَّ (2) .

ب - لُقَطَةُ مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ
4 - قَال الزَّرْكَشِيُّ فِي إِعْلاَمِ السَّاجِدِ نَقْلاً عَنِ الْحَاوِي: إِنَّ لُقَطَةَ عَرَفَةَ وَمُصَلَّى إِبْرَاهِيمَ (أَيْ مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ) فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: حِل لُقْطَتِهَا قِيَاسًا عَلَى الْحِل، وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَالْحَرَمِ لاَ تَحِل إِلاَّ لِمُنْشِدٍ، لأَِنَّهُ مَجْمَعُ الْحَاجِّ وَيَنْصَرِفُ الْقُصَّادُ مِنْهُ إِلَى سَائِرِ الْبِلاَدِ كَالْحَرَمِ.
وَأَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فَقَالُوا: لاَ فَرْقَ بَيْنَ
__________
(1) إعلام الساجد بأحكام المساجد ص154، والحاوي للماوردي 9 / 428، والقليوبي وعميرة 3 / 123.
(2) إعلام الساجد بأحكام المساجد ص72.

(37/230)


لُقَطَةِ الْحِل وَلُقَطَةِ الْحَرَمِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَرَمٌ ف 19) .

ج - صَلاَةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ بِمَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ
5 - يُنْدَبُ إِذَا قَصَدَ الْحَجِيجُ عَرَفَاتٍ لِلْوُقُوفِ بِهَا أَنْ يَتَوَجَّهُوا إِلَى مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وَيُسَمَّى الآْنَ مَسْجِدُ نَمِرَةَ وَيُصَلُّوا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمْعًا بَعْدَ خُطْبَتَيْنِ يُلْقِيهِمَا الإِْمَامُ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عَرَفَاتٌ ف 2)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 173، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 43، 44، ومغني المحتاج 1 / 496، وشرح المنهاج للمحلي 2 / 113، كشاف القناع 2 / 491.

(37/230)


الْمَسْجِدُ الأَْقْصَى

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَسْجِدُ الأَْقْصَى هُوَ الْمَسْجِدُ الْمَعْرُوفُ فِي مَدِينَةِ الْقُدْسِ، وَقَدْ بُنِيَ عَلَى سَفْحِ الْجَبَل (1) وَيُسَمَّى بَيْتَ الْمَقْدِسِ، أَيِ الْبَيْتُ الْمُطَهَّرُ الَّذِي يُتَطَهَّرُ فِيهِ مِنَ الذُّنُوبِ.
وَهُوَ أُولَى الْقِبْلَتَيْنِ وَثَالِثُ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَمَسْرَى رَحْمَةِ اللَّهِ لِلْعَالَمِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَحَدُ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ الَّتِي لاَ تُشَدُّ الرِّحَال إِلاَّ إِلَيْهَا، وَالْمَسْجِدُ الَّذِي بَارَكَ اللَّهُ حَوْلَهُ كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ (2) .
وَيُسَمَّى الأَْقْصَى لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَكَانَ أَبْعَدَ مَسْجِدٍ عَنْ أَهْل مَكَّةَ فِي الأَْرْضِ يُعَظَّمُ بِالزِّيَارَةِ (3) .

أَسْمَاءُ الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى
2 - لِلْمَسْجِدِ الأَْقْصَى أَسْمَاءٌ عِدَّةٌ ذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ مِنْهَا سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ أَهَمِّهَا:
__________
(1) مراصد الإطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع لصفي الدين البغدادي 3 / 1296.
(2) إعلام الساجد للزركشي ص277 - 279، وتحفة الراكع والساجد للجراعي ص184 - 186.
(3) تفسير القرطبي 10 / 212.

(37/231)


الأَْوَّل: مَسْجِدُ إِيلِيَاءَ: وَقِيل فِي مَعْنَاهُ: بَيْتُ اللَّهِ، وَعَنْ كَعْبِ الأَْحْبَارِ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُسَمَّى بِإِيلِيَاءَ، وَلَكِنْ بَيْتُ اللَّهِ الْمُقَدَّسِ، وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ الْوَاسِطِيُّ فِي فَضَائِلِهِ.

الثَّانِي: بَيْتُ الْمَقْدِسِ: بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ - أَيِ الْمَكَانِ الَّذِي يُطَّهَرُ فِيهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالْمَقْدِسُ: الْمُطَهِّرُ.

الثَّالِثُ: الْبَيْتُ الْمُقَدَّسُ: - بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَالدَّال الْمُشَدَّدَةِ - أَيِ الْمُطَهَّرُ، وَتَطْهِيرُهُ إِخْلاَؤُهُ مِنَ الأَْصْنَامِ (1) ، وَغَيْرُهَا مِنَ الأَْسْمَاءِ، وَقَدْ أَوْصَلَهَا الْجُرَاعِيُّ إِلَى اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ اسْمًا، فِي كِتَابِهِ تُحْفَةِ الرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ
3 - الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ هُوَ الْمَسْجِدُ الَّذِي أَسَّسَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، وَهُوَ ثَانِي الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَثَوَابُ الصَّلاَةِ فِيهِ يَرْبُو عَلَى الصَّلاَةِ فِي غَيْرِهِ بِأَلْفِ صَلاَةٍ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى وَالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ مِنَ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ الَّتِي لاَ تُشَدُّ الرِّحَال إِلاَّ إِلَيْهَا (3) .
__________
(1) تحفة الراكع للجراعي ص184، وإعلام الساجد للزركشي ص278.
(2) تحفة الراكع للجراعي ص184 - 186.
(3) تحفة الراكع والساجد ص131 - 137، وإعلام الساجد للزركشي ص246.

(37/231)


ب - الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ
4 - الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ هُوَ بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامُ بِمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةَ، وَهُوَ أَوَّل مَسْجِدٍ وُضِعَ عَلَى الأَْرْضِ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّل بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} (1) .
وَهُوَ أَوَّل الْحَرَمَيْنِ وَثَانِي الْقِبْلَتَيْنِ، وَفَضْل الصَّلاَةِ فِيهِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلاَةٍ عَمَّا سِوَاهُ، وَالصِّلَةُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنَ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ الَّتِي لاَ تُشَدُّ الرِّحَال إِلاَّ إِلَيْهَا (2) .

فَضَائِل الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى وَمَكَانَتُهُ فِي الإِْسْلاَمِ وَخَصَائِصُهُ
لِلْمَسْجِدِ الأَْقْصَى فَضَائِل أَهَمُّهَا:

1 - أَنَّهُ الْقِبْلَةُ الأُْولَى لِلْمُسْلِمِينَ:
5 - مِنَ الْفَضَائِل الَّتِي اخْتُصَّ بِهَا الْمَسْجِدُ الأَْقْصَى، أَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى أُولَى الْقِبْلَتَيْنِ، فَإِلَيْهِ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَوَجَّهُونَ فِي صَلاَتِهِمْ قَبْل أَنْ تُحَوَّل الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ.
وَفِي ذَلِكَ دَلاَلَةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ شَرَّفَهُ اللَّهُ وَكَرَّمَهُ، فَوَجَّهَ أَنْظَارَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ فَتْرَةً مِنَ الزَّمَنِ (3) .
__________
(1) سورة آل عمران / 96.
(2) إعلام الساجد ص29، 84.
(3) تفسير القرطبي 2 / 149 - 150.

(37/232)


ب - الإِْسْرَاءُ إِلَيْهِ وَالْمِعْرَاجُ مِنْهُ:
6 - إِلَى الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى كَانَ إِسْرَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل الْهِجْرَةِ، وَنَزَل فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (1) .
وَهَذِهِ الآْيَةُ هِيَ الْمُعَظِّمَةُ لِقَدْرِهِ بِإِسْرَاءِ سَيِّدِنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ قَبْل عُرُوجِهِ إِلَى السَّمَاءِ (2) . وَدَخَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ جِبْرِيل بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ (3) .

ج - شَدُّ الرِّحَال إِلَيْهِ:
7 - جَعَل الإِْسْلاَمُ هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدَ ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ تُشَدُّ إِلَيْهَا الرِّحَال (4) ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُشَدُّ الرِّحَال إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ، الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الأَْقْصَى (5) .

د - فَضْل الصَّلاَةِ فِيهِ:
8 - وَمِنْ خَصَائِصِ الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى وَفَضْلِهِ، مُضَاعَفَةُ الصَّلاَةِ فِيهِ، وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الأَْحَادِيثُ فِي مِقْدَارِهَا، قَال الْجُرَاعِيُّ: وَرَدَ أَنَّ الصَّلاَةَ فِيهِ
__________
(1) سورة الإسراء / 1.
(2) إعلام الساجد للزركشي ص 286.
(3) تفسير القرطبي 10 / 105 - 106.
(4) إعلام الساجد ص288، وتحفة الراكع والساجد ص187.
(5) حديث: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 63) ، ومسلم (2 / 976) .

(37/232)


بِخَمْسِمِائَةٍ، وَقَال الشَّيْخُ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّهُ الصَّوَابُ (1) .

هـ - مُبَارَكَةُ الأَْرْضِ حَوْلَهُ:
9 - أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى أَنَّهُ بَارَكَ حَوْلَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} ، وَفِي الآْيَةِ تَأْوِيلاَنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُبَارَكٌ بِمَنْ دُفِنَ حَوْلَهُ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ الْمُصْطَفَيْنَ الأَْخْيَارِ، وَالثَّانِي: بِكَثْرَةِ الثِّمَارِ وَمَجَارِي الأَْنْهَارِ (2) .

و كَوْنُهُ ثَانِي مَسْجِدٍ فِي الأَْرْضِ:
10 - أَوَّل مَسْجِدٍ وُضِعَ عَلَى الأَْرْضِ هُوَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ ثُمَّ الْمَسْجِدُ الأَْقْصَى.
فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَوَّل مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَْرْضِ قَال: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَال: الْمَسْجِدُ الأَْقْصَى، قُلْتُ: وَكَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَال: أَرْبَعُونَ عَامًا، ثُمَّ الأَْرْضُ لَكَ مَسْجِدًا فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ فَصَل (3) ، وَقَال الْبُخَارِيُّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ
__________
(1) تحفة الراكع والساجد للجراعي ص178 - 179، 180، وإعلام الساجد للزركشي ص289.
(2) إعلام الساجد ص286، وتحفة الراكع والساجد 179، وتفسير القرطبي 10 / 212
(3) حديث: " المسجد الحرام. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 458) ، ومسلم (1 / 370) .

(37/233)


الصَّلاَةُ فَصَل فِيهِ، فَإِنَّ الْفَضْل فِيهِ.
وَقَدْ أُشْكِل هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ كَابْنِ الْجَوْزِيِّ فَقَال: إِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ هُوَ الَّذِي بَنَى الأَْقْصَى كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يَرْفَعُهُ: أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَأَل اللَّهَ ثَلاَثًا: سَأَل اللَّهَ عَزَّ وَجَل حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فَأُوتِيَهُ، وَسَأَل اللَّهَ عَزَّ وَجَل مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأُوتِيَهُ، وَسَأَل اللَّهَ عَزَّ وَجَل حِينَ فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى أَلاَّ يَأْتِيَهُ أَحَدٌ لاَ يَنْهَزُهُ يُحَرِّكُهُ إِلاَّ الصَّلاَةُ فِيهِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ (1) .
وَسُلَيْمَانُ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ كَمَا قَال أَهْل التَّارِيخِ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ عَامٍ، وَأَجَابَ الزَّرْكَشِيُّ: بِأَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِنَّمَا كَانَ لَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى تَجْدِيدُهُ لاَ تَأْسِيسُهُ، وَالَّذِي أَسَّسَهُ هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بَعْدَ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ الْكَعْبَةَ بِهَذَا الْقَدْرِ (2) .

أَحْكَامُهُ
11 - تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْجِدِ الأَْقْصَى أَحْكَامٌ سَبَقَ ذِكْرُ بَعْضِهَا كَمُضَاعَفَةِ أَجْرِ الصَّلاَةِ فِيهِ، وَاسْتِحْبَابِ شَدِّ الرِّحَال إِلَيْهِ لِلْحَدِيثِ الشَّرِيفِ
__________
(1) سنن النسائي 1 / 112، وإعلام الساجد للزركشي ص29.
(2) إعلام الساجد للزركشي ص29 - 30، وتحفة الراكع والساجد ص175.

(37/233)


كَمَا تَقَدَّمَ (1) .
وَمِنْهَا مَا يَأْتِي:

الأَْوَّل: اسْتِحْبَابُ خَتْمِ الْقُرْآنِ فِيهِ وَعَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَال: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ لِمَنْ أَتَى الْمَسَاجِدَ الثَّلاَثَةَ، أَنْ يَخْتِمَ بِهَا الْقُرْآنَ قَبْل أَنْ يَخْرُجَ، الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَمَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
كَمَا رُوِيَ أَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ كَانَ يَخْتِمُ بِهِ الْقُرْآنَ (2) .

الثَّانِي: اسْتِحْبَابُ الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مِنْهُ ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَقَال: فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَهَل بِحَجَّةِ أَوْ عُمْرَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ أَوْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ (3) .
وَأَحْرَمَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُ، كَابْنِ عُمَرَ وَمُعَاذٍ وَكَعْبِ الأَْحْبَارِ وَغَيْرِهِمْ (4) .
__________
(1) إعلام الساجد ص 288.
(2) إعلام الساجد للزركشي ص288، وتحفة الراكع والساجد للجراعي ص187، وأثر أبي مجلز " كانوا يستحبون. . ". أخرجه سعيد بن منصور في " سننه " كما عزاه الزركشي في إعلام الساجد ص 288.
(3) حديث: " من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 356) ، وضعفه البخاري في " التاريخ الكبير " (1 / 161) .
(4) السنن الكبرى 5 / 3، وإعلام الساجد للزركشي ص289.

(37/234)


الثَّالِثُ: حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ السَّيِّئَاتِ تُضَاعَفُ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ كَعْبِ الأَْحْبَارِ، وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْوَاسِطِيُّ عَنْ نَافِعٍ قَال: قَال لِي ابْنُ عُمَرَ: اخْرُجْ بِنَا مِنْ هَذَا الْمَسْجِدِ فَإِنَّ السَّيِّئَاتِ تُضَاعَفُ فِيهِ كَمَا تُضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ.
وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ كَعْبِ الأَْحْبَارِ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي مِنْ حِمْصَ لِلصَّلاَةِ فِيهِ فَإِذَا صَارَ مِنْهُ قَدْرُ مِيلٍ اشْتَغَل بِالذِّكْرِ وَالتِّلاَوَةِ وَالْعِبَادَةِ حَتَّى يَخْرُجَ عَنْهُ بِقَدْرِ مِيلٍ أَيْضًا وَيَقُول: السَّيِّئَاتُ تُضَاعَفُ فِيهِ، (أَيْ تَزْدَادُ قُبْحًا وَفُحْشًا لأَِنَّ الْمَعَاصِيَ فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ شَرِيفٍ أَشَدُّ جُرْأَةً وَأَقَل خَوْفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى) (1) .

الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُحَذَّرُ مِنَ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ فِيهِ وَكَذَلِكَ فِي الْمَسْجِدَيْنِ فَإِنَّ عُقُوبَتَهَا عَاجِلَةٌ (2) .

الْخَامِسُ: يُكْرَهُ اسْتِقْبَال بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَاسْتِدْبَارُهُ بِالْبَوْل وَالْغَائِطِ وَلاَ يَحْرُمُ قَالَهُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ فِي الرَّوْضَةِ مِنْ زَوَائِدِهِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الأَْصْحَابِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءُ الْحَاجَةِ ف 5) .
__________
(1) إعلام الساجد للزركشي ص290، وتحفة الراكع والساجد ص188.
(2) تحفة الراكع والساجد ص189، 190، وإعلام الساجد ص290 - 291، 295.

(37/234)


السَّادِسُ: ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ إِقَامَةَ صَلاَةِ الْعِيدِ فِي الْمُصَلَّى أَوْلَى مِنْهَا فِي الْمَسْجِدِ إِلاَّ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ، قَال الرَّافِعِيُّ: وَأَلْحَقَ الصَّيْدَلاَنِيُّ بِهِ مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ (1) .

السَّابِعُ: اسْتِحْبَابُ الصِّيَامِ فِيهِ فَقَدْ رُوِيَ: صَوْمُ يَوْمٍ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ (2) .

الثَّامِنُ: قَال الزَّرْكَشِيُّ، قَال الدَّارِمِيُّ: لاَ يَجُوزُ الاِجْتِهَادُ بِمِحْرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَمْنَةً وَلاَ يَسْرَةً إِلْحَاقًا لَهُ بِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ (3) .
__________
(1) إعلام الساجد للزركشي ص297، وتحفة الراكع والساجد ص 191.
(2) إعلام الساجد ص289.
(3) إعلام الساجد ص297.

(37/235)


الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَسْجِدُ - بِكَسْرِ الْجِيمِ - فِي اللُّغَةِ: مَوْضِعُ السُّجُودِ مِنْ بَدَنِ الإِْنْسَانِ، وَبَيْتُ الصَّلاَةِ (1) .
وَالْمَسْجِدُ شَرْعًا هُوَ كُل مَوْضِعٍ مِنَ الأَْرْضِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُعِلَتْ لِي الأَْرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا (2) ، ثُمَّ إِنَّ الْعُرْفَ خَصَّصَ الْمَسْجِدَ بِالْمَكَانِ الْمُهَيَّأِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ (3) .
وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فِي الاِصْطِلاَحِ - كَمَا قَال النَّوَوِيُّ - قَدْ يُرَادُ بِهِ الْكَعْبَةُ فَقَطْ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَسْجِدُ حَوْلَهَا مَعَهَا، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَكَّةُ كُلُّهَا مَعَ الْحَرَمِ حَوْلَهَا، وَقَدْ جَاءَتْ نُصُوصُ الشَّرْعِ بِهَذِهِ الأَْقْسَامِ (4) .
وَسُمِّيَ الْمَسْجِدُ حَرَامًا لأَِنَّهُ لاَ يَحِل انْتِهَاكُهُ فَلاَ يُصَادُ عِنْدَهُ وَلاَ حَوْلَهُ وَلاَ يُخْتَلَى مَا عِنْدَهُ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) حديث: " جعلت لي الأرض طهورا ومسجدا " أخرجه مسلم (1 / 371) من حديث أبي هريرة.
(3) إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي ص27 - 28.
(4) تهذيب الأسماء واللغات 4 / 152، وانظر إعلام الساجد ص59 وما بعدها، وتفسير القرطبي 8 / 104.

(37/235)


مِنَ الْحَشِيشِ -.
قَال الْعُلَمَاءُ: وَأُرِيدَ بِتَحْرِيمِ الْبَيْتِ سَائِرُ الْحَرَمِ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ
2 - الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ هُوَ الْمَسْجِدُ الَّذِي بَنَاهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْقِعِهِ الْمَعْرُوفِ بِالْمَدِينَةِ حِينَ قَدِمَ مُهَاجِرًا إِلَيْهَا مِنْ مَكَّةَ، وَهُوَ ثَانِي الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ (2) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ مِنَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُشَدُّ إِلَيْهَا الرِّحَال وَيُضَاعَفُ فِيهَا الأَْجْرُ.

ب - الْمَسْجِدُ الأَْقْصَى
3 - الْمَسْجِدُ الأَْقْصَى هُوَ الْمَسْجِدُ الْمَعْرُوفُ فِي مَدِينَةِ الْقُدْسِ وَقَدْ بُنِيَ عَلَى سَفْحِ الْجَبَل، وَيُسَمَّى بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَيِ الْبَيْتُ الْمُطَهَّرُ الَّذِي يُتَطَهَّرُ فِيهِ مِنَ الذُّنُوبِ.
(ر: الْمَسْجِدُ الأَْقْصَى) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الأَْقْصَى مِنَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُشَدُّ إِلَيْهَا الرِّحَال وَيُضَاعَفُ فِيهَا الأَْجْرُ.

بِنَاءُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
4 - أَوَّل مَسْجِدٍ وُضِعَ عَلَى الأَْرْضِ الْمَسْجِدُ
__________
(1) المطلع على أبواب المقنع ص158، 188، والمصباح المنير.
(2) إعلام الساجد 223 وما بعدها، وتحفة الراكع والساجد 131 وما بعدها.

(37/236)


الْحَرَامُ، وَهُوَ مَسْجِدُ مَكَّةَ (1) ، كَمَا قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّل بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} (2) ، وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَْرْضِ أَوَّل؟ فَقَال: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَال: الْمَسْجِدُ الأَْقْصَى، قُلْتُ وَكَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَال: أَرْبَعُونَ عَامًا (3) .
قَال ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ كَانَ صَغِيرًا وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جِدَارٌ إِنَّمَا كَانَتِ الدُّورُ مُحْدِقَةً بِهِ، وَبَيْنَ الدُّورِ أَبْوَابٌ يَدْخُل النَّاسُ مِنْ كُل نَاحِيَةٍ فَضَاقَ عَلَى النَّاسِ الْمَسْجِدُ فَاشْتَرَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دُورًا فَهَدَمَهَا، ثُمَّ أَحَاطَ عَلَيْهِ جِدَارًا قَصِيرًا، ثُمَّ وَسَّعَ الْمَسْجِدَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاشْتَرَى مِنْ قَوْمٍ، ثُمَّ زَادَ ابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْمَسْجِدِ وَاشْتَرَى دُورًا وَأَدْخَلَهَا فِيهِ، وَأَوَّل مَنْ نَقَل إِلَيْهِ أَسَاطِينَ الرُّخَامِ وَسَقَفَهُ بِالسَّاجِ الْمُزَخْرَفِ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ زَادَ الْمَنْصُورُ فِي شِقِّهِ الشَّامِيِّ ثُمَّ زَادَ الْمَهْدِيُّ، وَكَانَتِ الْكَعْبَةُ فِي جَانِبٍ فَأَحَبَّ أَنْ تَكُونَ
__________
(1) إعلام الساجد ص29، وتفسير القرطبي 4 / 137.
(2) سورة آل عمران / 96.
(3) حديث أبي ذر قلت: " يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 407) ومسلم (1 / 370) .

(37/236)


وَسَطًا فَاشْتَرَى مِنَ النَّاسِ الدُّورَ وَوَسَطَهَا (1) .
ثُمَّ تَوَالَتِ الزِّيَادَاتُ فِيهِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا.

الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ
5 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ أَعْظَمَ الْمَسَاجِدِ حُرْمَةً الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ ثُمَّ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ ثُمَّ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ الْجَوَامِعُ ثُمَّ مَسَاجِدُ الْمَحَال ثُمَّ مَسَاجِدُ الشَّوَارِعِ ثُمَّ مَسَاجِدُ الْبُيُوتِ (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ أَفْضَل الْمَسَاجِدِ وَيَلِيهِ مَسْجِدُ مَكَّةَ وَيَلِيهِ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ (3) .

شَدُّ الرِّحَال إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
6 - الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ هُوَ أَحَدُ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ الَّتِي تُشَدُّ إِلَيْهَا الرِّحَال، وَفِي الْحَدِيثِ: لاَ تُشَدُّ الرِّحَال إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَسْجِدِ الأَْقْصَى (4) . هَذَا الْحَدِيثُ يَدُل عَلَى فَضِيلَةِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ وَمَزِيَّتِهَا لِكَوْنِهَا مَسَاجِدِ الأَْنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، وَلأَِنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ
__________
(1) مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن لأبي الفرج بن الجوزي 1 / 358 نشر دار الراية.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص371 نشر دار ومكتبة الهلال.
(3) كفاية الطالب الرباني 2 / 32 - 33 نشر دار المعرفة.
(4) حديث: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 63) ومسلم (2 / 1014) من حديث أبي هريرة واللفظ للبخاري.

(37/237)


قِبْلَةُ النَّاسِ وَإِلَيْهِ حَجُّهُمْ، وَمَسْجِدُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَالْمَسْجِدُ الأَْقْصَى كَانَ قِبْلَةَ الأُْمَمِ السَّابِقَةِ، وَأُولَى الْقِبْلَتَيْنِ (1) .

تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَوَّل مَا يَبْدَأُ بِهِ دَاخِل الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الطَّوَافُ مُحْرِمًا أَوْ غَيْرَ مُحْرِمٍ دُونَ الصَّلاَةِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ، أَوْ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِيَّةِ وَلَوِ الْوِتْرَ، أَوْ سُنَّةً رَاتِبَةً، أَوْ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ، فَيُقَدِّمُ الصَّلاَةَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ عَلَى الطَّوَافِ (2) .
قَال الْمُنْلاَ عَلِيٌّ: مَنْ دَخَل الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لاَ يَشْتَغِل بِتَحِيَّةِ لأَِنَّ تَحِيَّةَ هَذَا الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ هِيَ الطَّوَافُ لِمَنْ عَلَيْهِ الطَّوَافُ أَوْ أَرَادَهُ، بِخِلاَفِ مَنْ لَمْ يُرِدْهُ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْلِسَ فَلاَ يَجْلِسُ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مَكْرُوهًا (3) .
وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ لاَ يُصَلِّي مُرِيدُ الطَّوَافِ لِلتَّحِيَّةِ أَصْلاً لاَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ، وَلَعَل وَجْهَهُ انْدِرَاجُهَا فِي رَكْعَتَيْهِ (4) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 265، وكفاية الطالب الرباني 2 / 33 ط دار المعرفة، وعمدة القاري 7 / 253 ط دار الفكر، وفتح الباري 3 / 65 ط. السلفية.
(2) فتح القدير 2 / 181 ط الأميرية.
(3) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص215، وحاشية ابن عابدين 1 / 457.
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 457.

(37/237)


حَقِّ الآْفَاقِيِّ، وَكَذَلِكَ الْمَكِّيُّ الْمَأْمُورُ بِالطَّوَافِ الطَّوَافُ، وَأَمَّا الْمَكِّيُّ الَّذِي لَمْ يُؤْمَرْ بِطَوَافٍ وَلَمْ يَدْخُلْهُ لأَِجْل الطَّوَافِ، بَل لِلْمُشَاهَدَةِ أَوْ لِلصَّلاَةِ أَوْ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَتَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ فِي حَقِّهِ الصَّلاَةُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ الصَّلاَةُ وَتَحِيَّةَ الْبَيْتِ الطَّوَافُ، وَلَيْسَ الطَّوَافُ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ (2) ، وَلَكِنْ تَدْخُل التَّحِيَّةُ فِي رَكْعَتَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا (3) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الصَّلاَةُ وَتُجْزِئُ عَنْهَا الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الطَّوَافِ (4) .
وَنَقَل ابْنُ مُسْدِيٍّ فِي " إِعْلاَمِ النَّاسِكِ " عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يُحَيِّي الْمَسْجِدَ أَوَّلاً بِرَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقْصِدُ الطَّوَافَ (5) .

فَضْل الصَّلاَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
8 - إِنَّ صَلاَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَل مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ (6) ، رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَل
__________
(1) حاشية الصاوي مع الشرح الصغير 1 / 406 - 407.
(2) إعلام الساجد ص107.
(3) مغني المحتاج 1 / 223، 484.
(4) كشاف القناع 2 / 477.
(5) إعلام الساجد 115، ومثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن لابن الجوزي 1 / 359، وتحفة الراكع والساجد ص 29.

(37/238)


مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلاَةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَل مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ (1) .
ثُمَّ إِنَّ التَّضْعِيفَ الْمَذْكُورَ يَرْجِعُ إِلَى الثَّوَابِ وَلاَ يَتَعَدَّى إِلَى الإِْجْزَاءِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ كَمَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ صَلاَتَانِ فَصَلَّى فِي أَحَدِ الْمَسْجِدَيْنِ (الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ) صَلاَةً لَمْ تُجْزِئْ إِلاَّ عَنْ وَاحِدَةٍ (2) .
9 - وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى فَضِيلَةِ الْفَرْضِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى الْفَرْضِ فِي غَيْرِهِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي شُمُول هَذَا الْفَضْل الْفَرْضَ وَالنَّفْل.
قَال الْفَاسِيُّ الْمَالِكِيُّ: إِنَّ الْفَضْل يَخْتَصُّ بِالْفَرْضِ وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِنَا وَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ (3) ، وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ قَوْل الْفَاسِيِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَقِّبَ عَلَيْهِ، وَنَسَبَ الْعَيْنِيُّ هَذَا الْقَوْل إِلَى الطَّحَاوِيِّ أَيْضًا (4) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ لاَ تَخْتَصُّ بِالْفَرِيضَةِ بَل تَعُمُّ النَّفْل وَالْفَرْضَ، قَال الزَّرْكَشِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ
__________
(1) حديث: " صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 450 - 451) وصحح إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 250) وقال أصله في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وفي مسلم وغيره من حديث ابن عمر.
(2) تحفة الراكع والساجد ص30، وانظر عمدة القاري 7 / 257، وفتح الباري 3 / 68.
(3) شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1 / 82.
(4) حاشية ابن عابدين 2 / 187، وعمدة القاري 7 / 257.

(37/238)


مَذْهَبَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ: وَهُوَ لاَزِمٌ لِلأَْصْحَابِ مِنِ اسْتِثْنَائِهِمُ النَّفْل بِمَكَّةَ مِنَ الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ لأَِجْل زِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ (1) .
وَقَال الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ الْحَنْبَلِيُّ: ظَاهِرُ الأَْخْبَارِ أَنَّ النَّفْل فِي الْبَيْتِ أَفْضَل، قَال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: أَفْضَل الصَّلاَةِ صَلاَةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ (2) ، قَال: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ إِلاَّ النِّسَاءَ لأَِنَّ صَلاَتَهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ أَفْضَل، وَالأَْخْبَارُ مَشْهُورَةٌ فِي ذَلِكَ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ (3) .

الْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي تُضَاعَفُ فِيهِ الصَّلاَةُ
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ تَعُمُّ جَمِيعَ حَرَمِ مَكَّةَ (4) ، فَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَال: بَيْنَمَا ابْنُ الزُّبَيْرِ يَخْطُبُنَا إِذْ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَل مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلاَةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ تَفْضُل بِمِائَةٍ، قَال
__________
(1) إعلام الساجد 124، وتحفة الراكع والساجد 29.
(2) حديث: " أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 214) من حديث زيد بن ثابت.
(3) تحفة الراكع والساجد ص 29 - 30.
(4) حاشية ابن عابدين 2 / 188، وشفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1 / 80، وتحفة الراكع والساجد ص30، وإعلام الساجد بأحكام المساجد ص119.

(37/239)


عَطَاءٌ فَكَأَنَّهُ مِائَةُ أَلْفٍ، قَال: قُلْتُ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ هَذَا الْفَضْل الَّذِي يُذْكَرُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحْدَهُ أَوْ فِي الْحَرَمِ؟ قَال: بَل فِي الْحَرَمِ، فَإِنَّ الْحَرَمَ كُلَّهُ مَسْجِدٌ (1) .
وَقَال ابْنُ مُفْلِحٍ: ظَاهِرُ كَلاَمِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنَّهُ نَفْسُ الْمَسْجِدِ، وَمَعَ هَذَا فَالْحَرَمُ أَفْضَل مِنَ الْحِل، فَالصَّلاَةُ فِيهِ أَفْضَل (2) .
وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: يَتَحَصَّل فِي الْمُرَادِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي تُضَاعَفُ فِيهِ الصَّلاَةُ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ.
الأَْوَّل: أَنَّهُ الْمَكَانُ الَّذِي يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ الإِْقَامَةُ فِيهِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ مَكَّةُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْحَرَمُ كُلُّهُ إِلَى الْحُدُودِ الْفَارِقَةِ بَيْنَ الْحِل وَالْحَرَمِ، قَالَهُ عَطَاءٌ وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُهُ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَال الرُّويَانِيُّ: فُضِّل الْحَرَمُ عَلَى سَائِرِ الْبِقَاعِ فَرُخِّصَ فِي الصَّلاَةِ فِيهِ فِي جَمِيعِ الأَْوْقَاتِ لِفَضِيلَةِ الْبُقْعَةِ وَحِيَازَةِ الثَّوَابِ الْمُضَاعَفِ، وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: وَهَذَا فِيهِ تَصْرِيحٌ بِهَذَا الْقَوْل.
__________
(1) حديث عطاء بن أبي رياح قال: " بينما ابن الزبير يخطبنا. . . ". أخرجه أبو داود الطيالسي في المسند (ص195) ، وأخرج أحمد (4 / 5) الشطر المرفوع منه فقط، وفيه في آخره: " تفضل بمائة صلاة في هذا " وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 6) وعزاه إلى الطبراني في الكبير وقال: رجاله رجال الصحيح.
(2) تحفة الراكع والساجد ص 30.

(37/239)


الرَّابِعُ: أَنَّهُ الْكَعْبَةُ، قَال الزَّرْكَشِيُّ وَهُوَ أَبْعَدُهَا.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ الْكَعْبَةُ وَالْمَسْجِدُ حَوْلَهَا، وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ.
السَّادِسُ: أَنَّهُ جَمِيعُ الْحَرَمِ وَعَرَفَةَ، قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ.
السَّابِعُ: أَنَّهُ الْكَعْبَةُ وَمَا فِي الْحَجَرِ مِنَ الْبَيْتِ، وَهُوَ قَوْل صَاحِبِ الْبَيَانِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَحَكَى الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ خِلاَفَ الْفُقَهَاءِ فِي مَكَانِ الْمُضَاعَفَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّلاَةِ، وَرَجَّحَ أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ تَخْتَصُّ بِمَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ (2) .

تَقَدُّمُ الْمَأْمُومِ عَلَى الإِْمَامِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
11 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا صَلَّى الإِْمَامُ خَارِجَ الْكَعْبَةِ وَتَحَلَّقَ الْمُقْتَدُونَ حَوْلَهَا جَازَ لِمَنْ فِي غَيْرِ جِهَتِهِ أَنْ يَكُونَ أَقْرَبَ إِلَيْهَا مِنْهُ، لاَ لِمَنْ كَانَ فِي جِهَتِهِ، لأَِنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ إِنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِهَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَقِفَ خَلْفَ الْمَقَامِ، وَيَقِفَ الْمَأْمُومُونَ مُسْتَدِيرِينَ بِالْكَعْبَةِ، بِحَيْثُ يَكُونُ الإِْمَامُ أَقْرَبَ إِلَى الْكَعْبَةِ
__________
(1) إعلام الساجد 120 - 121.
(2) المرجع السابق ص120.

(37/240)


مِنْهُمْ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَقْرَبَ إِلَيْهَا مِنْهُ وَهُوَ فِي جِهَةِ الإِْمَامِ فَفِي صِحَّةِ صَلاَتِهِ قَوْلاَنِ: الْجَدِيدُ بُطْلاَنُهَا، وَالْقَدِيمُ صِحَّتُهَا.
وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ جِهَتِهِ فَطَرِيقَانِ: الْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِصِحَّتِهَا وَهُوَ نَصُّهُ فِي الأُْمِّ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ.
وَالثَّانِي فِيهِ الْقَوْلاَنِ، حَكَاهُ الأَْصْحَابُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ (1) .

الْمُرُورُ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُمْنَعُ الْمَارُّ دَاخِل الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ الْمُطَّلِبِ ابْنِ أَبِي وَدَاعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِمَّا يَلِي بَابَ بَنِي سَهْمٍ وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا سُتْرَةٌ (2) ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الطَّائِفِينَ فِيمَا يَظْهَرُ لأَِنَّ الطَّوَافَ صَلاَةٌ فَصَارَ كَمَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ صُفُوفٌ مِنَ الْمُصَلِّينَ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَرُمَ الْمُرُورُ إِنْ كَانَ لَهُ مَنْدُوحَةٌ وَصَلَّى لِسُتْرَةِ، وَإِلاَّ جَازَ، هَذَا إِذَا كَانَ الْمَارُّ غَيْرَ طَائِفٍ، وَأَمَّا هُوَ فَلاَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا، ثُمَّ إِنْ كَانَ لَهُ سُتْرَةٌ
__________
(1) المجموع 4 / 299 - 300.
(2) حديث المطلب بن أبي وداعة: " أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي مما يلي باب بني سهم. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 518) وفي إسناده جهالة.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 427، 2 / 172.

(37/240)


كُرِهَ حَيْثُ كَانَ لِلطَّائِفِ مَنْدُوحَةٌ (1) .
وَنَصَّ الرَّمْلِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَصَّرَ الْمُصَلِّي، بِأَنْ وَقَفَ فِي قَارِعَةِ الطَّرِيقِ أَوْ بِشَارِعٍ أَوْ دَرْبٍ ضَيِّقٍ أَوْ نَحْوِ بَابِ مَسْجِدٍ كَالْمَحَل الَّذِي يَغْلِبُ مُرُورُ النَّاسِ بِهِ فِي وَقْتِ الصَّلاَةِ وَلَوْ فِي الْمَسْجِدِ كَالْمَطَافِ، وَكَأَنْ تَرَكَ فُرْجَةً فِي صَفِّ إِمَامِهِ فَاحْتِيجَ لِلْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ لِفُرْجَةِ قَبْلَهُ فَلاَ يَحْرُمُ الْمُرُورُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَلَوْ فِي حَرِيمِ الْمُصَلَّى وَهُوَ قَدْرُ إِمْكَانِ سُجُودِهِ، خِلاَفًا لِلْخَوَارِزْمِيِّ، بَل وَلاَ يُكْرَهُ عِنْدَ التَّقْصِيرِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْمُصَلِّي بِمَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ لاَ يَرُدُّ الْمَارَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَال أَحْمَدُ: لأَِنَّ مَكَّةَ لَيْسَتْ كَغَيْرِهَا لأَِنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ بِهَا وَيَزْدَحِمُونَ فَمَنْعُهُمْ تَضْيِيقٌ عَلَيْهِمْ، وَلأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِمَكَّةَ وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا سِتْرٌ.
وَأَلْحَقَ الْمُوَفَّقُ بِمَكَّةَ سَائِرَ الْحَرَمِ لِمُشَارَكَتِهِ لَهَا فِي الْحُرْمَةِ.
وَقَال الرَّحِيبَانِيُّ: إِنَّمَا يَتَمَشَّى كَلاَمُ الْمُوَفَّقِ فِي زَمَنِ حَاجٍّ لِكَثْرَةِ النَّاسِ وَاضْطِرَارِهِمْ إِلَى الْمُرُورِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْحَجِّ فَلاَ حَاجَةَ لِلْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي لِلاِسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، وَكَلاَمُ أَحْمَدَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الصَّلاَةِ فِي
__________
(1) حاشية الصاوي مع الشرح الصغير 1 / 336 - 337.
(2) نهاية المحتاج 2 / 53 - 54.

(37/241)


الْمَطَافِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ وَهُوَ مُتَّجَهٌ (1) .

أَفْضَلِيَّةُ صَلاَةِ الْعِيدِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
13 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى نَدْبِ إِيقَاعِ صَلاَةِ الْعِيدِ بِالْمُصَلَّى فِي الصَّحْرَاءِ، وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ أَفْضَلِيَّةَ الصَّلاَةِ فِي الصَّحْرَاءِ بِمَا إِذَا كَانَ مَسْجِدُ الْبَلَدِ ضَيِّقًا.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ صَلاَةَ الْعِيدِ بِمَكَّةَ، فَمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَإِيقَاعُهُ صَلاَةَ الْعِيدِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَل لِلْمَزَايَا الَّتِي تَقَعُ فِيهِ لِمَنْ يُصَلِّي الْعِيدَ وَهِيَ النَّظَرُ وَالطَّوَافُ الْمَعْدُومَانِ فِي غَيْرِهِ (2) ، لِخَبَرِ يُنَزِّل اللَّهُ عَلَى أَهْل الْمَسْجِدِ مَسْجِدِ مَكَّةَ كُل يَوْمٍ عِشْرِينَ وَمِائَةَ رَحْمَةً: سِتِّينَ مِنْهَا لِلطَّائِفِينَ، وَأَرْبَعِينَ لِلْمُصَلِّينَ، وَعِشْرِينَ مِنْهَا لِلنَّاظِرِينَ (3) .

نَذْرُ الإِْتْيَانِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
14 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَصَحِّ الطَّرِيقَيْنِ إِلَى أَنَّ
__________
(1) مطالب أولي النهى 1 / 482.
(2) غنية المتملي شرح منية المصلي ص571 - 572، وحاشية ابن عابدين 1 / 557، والفتاوى الهندية 1 / 150، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي عليه 1 / 529، والمجموع 5 / 4، والمغني 2 / 372، وتحفة الراكع والساجد ص108.
(3) حديث: " ينزل الله على أهل المسجد مسجد مكة كل يوم عشرين ومائة رحمة. . . ". أخرجه الطبراني في الأوسط (7 / 169) من حديث ابن عباس، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (3 / 292) وذكر أن فيه راوياً متروكاً.

(37/241)


مَنْ نَذَرَ إِتْيَانَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْتَيْتُهُ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ (1) ، وَلأَِنَّ مُطْلَقَ كَلاَمِ النَّاذِرِينَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ثَبَتَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، وَالْعُرْفُ قَصْدُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَيُحْمَل نَذْرُهُ عَلَيْهِ (2) .
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ لُزُومَ الْمَشْيِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمَا إِذَا نَذَرَ النَّاذِرُ الْمَشْيَ لَهُ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ لِصَلاَةٍ فِيهِ فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلاً (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا لَزِمَهُ الْمَشْيُ مَشَى مِنْ حَيْثُ نَذَرَ الْمَشْيَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ مَحَلًّا مَخْصُوصًا فَمِنَ الْمَكَانِ الْمُعْتَادِ لِمَشْيِ الْحَالِفِينَ بِالْمَشْيِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَكَانًا مُعْتَادًا لِلْحَالِفِينَ فَمِنْ حَيْثُ حَلَفَ أَوْ نَذَرَ وَأَجْزَأَ الْمَشْيُ مِنْ مِثْلِهِ فِي الْمَسَافَةِ، وَجَازَ رُكُوبٌ لِحَاجَةٍ كَأَنْ يَرْجِعَ لِشَيْءِ نَسِيَهُ أَوِ احْتَاجَ إِلَيْهِ كَمَا يَجُوزُ لَهُ الرُّكُوبُ فِي الطَّرِيقِ لِبَحْرٍ اعْتِيدَ رُكُوبُهُ لِلْحَالِفِينَ أَوِ اضْطُرَّ إِلَى رُكُوبِهِ، وَيَسْتَمِرُّ
__________
(1) حديث عقبة بن عامر: " نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 79) ومسلم (3 / 1264) .
(2) الشرح الصغير 2 / 255 - 256، والهداية 2 / 90 - 91 ط مصطفى الحلبي، والبناية 5 / 315 - 316، وإعلام الساجد ص208، وتحفة الراكع والساجد ص123.
(3) الشرح الصغير 2 / 255.

(37/242)


مَاشِيًا لِتَمَامِ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ أَوْ تَمَامِ السَّعْيِ إِنْ كَانَ سَعْيُهُ بَعْدَ الإِْفَاضَةِ (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ مَنْ قَال: عَلَيَّ الْمَشْيُ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لأَِنَّ الْتِزَامَ الإِْحْرَامِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ عَلَيْهِ، وَلاَ يُمْكِنُ إِيجَابُهُ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ فَامْتَنَعَ أَصْلاً (2) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: نَذْرٌ) .

حَاضِرُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ:
15 - قَال الْقُرْطُبِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ - بَعْدَ الإِْجْمَاعِ عَلَى أَنَّ أَهْل مَكَّةَ وَمَا اتَّصَل بِهَا مِنْ حَاضِرِيهِ - وَقَال الطَّبَرِيُّ: بَعْدَ الإِْجْمَاعِ عَلَى أَهْل الْحَرَمِ. قَال ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَيْسَ كَمَا قَال - فَقَال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ فَهُوَ حَضَرِيٌّ، وَمَنْ كَانَ أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بَدَوِيٌّ، فَجَعَل اللَّفْظَةَ مِنَ الْحَضَارَةِ وَالْبَدَاوَةِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ: هُمْ أَهْل مَكَّةَ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ مِنْ أَهْل دَاخِل الْمَوَاقِيتِ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ الْمُعْتَمَدِ
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 256.
(2) الهداية 2 / 90 - 91 ط. الحلبي، وانظر البناية 5 / 315 - 316.
(3) تفسير القرطبي 2 / 404، وحاشية ابن عابدين 2 / 197، وجواهر الإكليل 1 / 172.

(37/242)


الْمُخْتَارِ إِلَى أَنَّ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ دُونَ مَرْحَلَتَيْنِ مِنَ الْحَرَمِ.
وَفِي الْقَوْل الْمُقَابِل لِلأَْصَحِّ: حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ دُونَ مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ (1) .
وَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي الإِْشْرَافِ: حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُمْ أَهْل مَكَّةَ وَأَهْل ذِي طُوًى: وَقَال مُجَاهِدٌ وَطَاوُسٌ: هُمْ أَهْل الْحَرَمِ (2) .

دُخُول الْكَافِرِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ
16 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ لَهُ دُخُول الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِحَالٍ (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (4) .
وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ إِذْ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْكَافِرَ يُمْنَعُ مِنْ دُخُول الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا وَإِنْ أَذِنَ لَهُ مُسْلِمٌ مَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ لِدُخُولِهِ كَعِمَارَةِ (5) ، وَقَالُوا: إِنَّ الآْيَةَ: {فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ
__________
(1) حاشية القليوبي على شرح المحلي 2 / 128.
(2) تحفة الراكع والساجد ص63.
(3) نهاية المحتاج 8 / 86، وإعلام الساجد للزركشي ص173، والمغني 8 / 531، والدر المختار 3 / 275، وتفسير القرطبي 8 / 105، وأحكام أهل الذمة 1 / 184 - 187.
(4) سورة التوبة / 28.
(5) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 139.

(37/243)


هَذَا} عَامَّةٌ فِي سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ وَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ، وَبِذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عُمَّالِهِ، وَنَزَعَ فِي كِتَابِهِ بِهَذِهِ الآْيَةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (1) ، وَدُخُول الْكُفَّارِ فِيهَا مُنَاقِضٌ لِتَرْفِيعِهَا (2) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِدُخُول أَهْل الذِّمَّةِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَسَائِرَ الْمَسَاجِدِ (3) .
__________
(1) سورة النور / 36.
(2) تفسير القرطبي 8 / 104 - 105.
(3) الفتاوى الهندية 5 / 246، والبناية 9 / 372، وتكملة فتح القدير 8 / 130 ط. الأميرية.

(37/243)


الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَسْجِدُ - لُغَةً - بِكَسْرِ الْجِيمِ - الْمَوْضِعُ الَّذِي يُسْجَدُ فِيهِ، قَال الزَّجَّاجُ: كُل مَوْضِعٍ يُتَعَبَّدُ فِيهِ فَهُوَ مَسْجِدٌ، وَالْمَسْجَدُ بِالْفَتْحِ مَوْضِعُ وُقُوعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الأَْرْضِ (1) .
وَشَرْعًا: عَرَّفَهُ الزَّرْكَشِيُّ بِأَنَّهُ: كُل مَوْضِعٍ مِنَ الأَْرْضِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُعِلَتْ لِي الأَْرْضُ مَسْجِدًا (2) قَال: وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الأُْمَّةِ، ثُمَّ قَال: إِنَّ الْعُرْفَ خَصَّصَ الْمَسْجِدَ بِالْمَكَانِ الْمُهَيَّأِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ حَتَّى يَخْرُجَ الْمُصَلَّى الْمُجْتَمَعُ فِيهِ لِلأَْعْيَادِ وَنَحْوِهَا فَلاَ يُعْطَى حُكْمَهُ (3) .
وَالْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ: هُوَ الْمَسْجِدُ الَّذِي بَنَاهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْقِعِهِ الْمَعْرُوفِ بِالْمَدِينَةِ حِينَ قَدِمَ مُهَاجِرًا إِلَيْهَا مِنْ مَكَّةَ، وَهُوَ ثَانِي الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ (4) .
__________
(1) تاج العروس - ط، الكويت، وسبل السلام 1 / 152.
(2) حديث: " جعلت لي الأرض مسجداً ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 533) .
(3) إعلام الساجد للزركشي ص27، 28، وتحفة الراكع والساجد للجراعي ص12.
(4) إعلام الساجد ص223، وتحفة الراكع والساجد للجراعي ص12.

(37/244)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
1 - الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ:
2 - وَهُوَ الْمَسْجِدُ الَّذِي بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَمَعَهُ ابْنُهُ إِسْمَاعِيل، فِي مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ (1) ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّل بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} (2) .

ب - الْمَسْجِدُ الأَْقْصَى:
3 - وَيُسَمَّى بَيْتَ الْمَقْدِسِ (3) ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى} (4) وَالصِّلَةُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَالْمَسْجِدِ الأَْقْصَى مِنَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُشَدُّ إِلَيْهَا الرِّحَال وَيُضَاعَفُ فِيهَا الأَْجْرُ.

تَأْسِيسُ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ
4 - قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا إِلَيْهَا مِنْ مَكَّةَ حِينَ اشْتَدَّ الضُّحَى مِنْ يَوْمِ الاِثْنَيْنِ لاِثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَْوَّل - عَلَى مَا صَحَّحَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ النَّجَّارِ وَالنَّوَوِيُّ فَمَكَثَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ أَيَّامَ
__________
(1) إعلام الساجد ص29، 45.
(2) سورة آل عمران / 96.
(3) إعلام الساجد ص275 - 283.
(4) سورة الإسراء / 1.

(37/244)


الاِثْنَيْنِ وَالثُّلاَثَاءِ وَالأَْرْبِعَاءِ وَالْخَمِيسِ وَبَنَى فِيهِمْ مَسْجِدَ قُبَاءٍ وَصَلَّى فِيهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ رَكِبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَمَرَّ عَلَى بَنِي سَالِمٍ فَجَمَعَ بِهِمْ وَبِمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَسْجِدِهِمْ فَكَانَتْ أَوَّل جُمُعَةٍ صَلاَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَأَصْبَحَ ذَلِكَ الْمَسْجِدُ يُسَمَّى مَسْجِدَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْيَوْمِ، ثُمَّ رَكِبَ مِنْ بَنِي سَالِمٍ فَجَعَل كُلَّمَا مَرَّ دَارًا مِنْ دُورِ الأَْنْصَارِ يَدْعُونَهُ إِلَى الْمُقَامِ عِنْدَهُمْ يَقُولُونَ يَا رَسُول اللَّهِ هَلُمَّ إِلَى الْقُوَّةِ وَالْمَنَعَةِ فَيَقُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَلُّوا سَبِيلَهَا (1) - يَعْنِي نَاقَتَهُ الْقَصْوَاءَ - فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ "، وَقَدْ أَرْخَى زِمَامَهَا وَمَا يُحَرِّكُهَا وَهِيَ تَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالاً حَتَّى إِذَا أَتَتْ مَوْضِعَ الْمَسْجِدِ بَرَكَتْ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مِرْبَدٌ لِلتَّمْرِ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ - ثُمَّ ثَارَتِ النَّاقَةُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا حَتَّى بَرَكَتْ عَلَى بَابِ دَارِ أَبِي أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ ثَارَتْ مِنْهُ وَبَرَكَتْ فِي مَبْرَكِهَا الأَْوَّل وَأَلْقَتْ جِرَانَهَا - أَيْ بَاطِنَ عُنُقِهَا - بِالأَْرْضِ وَأَرْزَمَتْ أَيْ صَوَّتَتْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَفْتَحَ فَاهَا - فَنَزَل عَنْهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَال: هَذَا الْمَنْزِل إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاحْتَمَل أَبُو أَيُّوبَ رَحْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَدْخَلَهُ فِي بَيْتِهِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَرْءُ مَعَ رَحْلِهِ (2) .
وَنَقَل السُّيُوطِيُّ عَنِ ابْنِ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ
__________
(1) حديث: " خلوا سبيلها. . . ". أخرجه ابن سعد مع القصة في الطبقات (1 / 1 / 160) .
(2) إعلام الساجد ص223 - 225، وتحفة الراكع والساجد ص131، ووفاء الوفا ص322، والدرة الثمينة ص355.

(37/245)


عَنِ الزُّهْرِيِّ قَال: بَرَكَتْ نَاقَةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ يُصَلِّي فِيهِ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِرْبَدًا لِسَهْلٍ وَسُهَيْلٍ - غُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ مِنَ الأَْنْصَارِ وَكَانَا فِي حِجْرِ أَبِي أُمَامَةَ: أَسْعَدِ بْنِ زُرَارَةَ، فَدَعَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغُلاَمَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالاَ: بَل نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُول اللَّهِ، فَأَبَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُعْطِيَهُمَا ذَلِكَ (1) ، فَأَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّخْل الَّذِي فِي الْحَدِيقَةِ وَبِالْغَرْقَدِ الَّذِي فِيهِ أَنْ يُقْطَعَ، وَأَمَرَ بِاللَّبِنِ فَضُرِبَ، وَكَانَ فِي الْمِرْبَدِ قُبُورٌ جَاهِلِيَّةٌ فَأَمَرَ بِهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُبِشَتْ، وَأَمَرَ بِالْعِظَامِ أَنْ تُغَيَّبَ، وَأَسَّسُوا الْمَسْجِدَ فَجَعَلُوا طُولَهُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ إِلَى مُؤَخَّرِهِ مِائَةَ ذِرَاعٍ، وَفِي هَذَيْنِ الْجَانِبَيْنِ مِثْل ذَلِكَ فَهُوَ مُرَبَّعٌ، وَيُقَال كَانَ أَقَل مِنَ الْمِائَةِ وَجَعَلُوا الأَْسَاسَ قَرِيبًا مِنْ ثَلاَثَةِ أَذْرُعٍ عَلَى الأَْرْضِ بِالْحِجَارَةِ ثُمَّ بَنَوْهُ بِاللَّبِنِ، وَبَنَاهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَجَعَل يَنْقُل الْحِجَارَةَ مَعَهُمْ بِنَفْسِهِ وَيَقُول:
اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشَ الآْخِرَةِ فَاغْفِرْ لِلأَْنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ (2) .
__________
(1)) حديث: " بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه ابن سعد في الطبقات (1 / 2 / 1) وفي إسناده محمد بن عمر الواقدي وقد ضعفه المزي في " تهذيب الكمال " (26 / 180) .
(2) أبيات الشعر: " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة. . . ". قد ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم حين حفر الخندق كما أخرجها البخاري (فتح الباري 7 / 118) .

(37/245)


وَجَعَل لَهُ ثَلاَثَةَ أَبْوَابٍ، بَابًا فِي مُؤَخَّرِهِ، وَبَابًا يُقَال لَهُ بَابُ الرَّحْمَةِ وَهُوَ الْبَابُ الَّذِي يُدْعَى بَابُ عَاتِكَةَ، وَالْبَابُ الثَّالِثُ الَّذِي يَدْخُل مِنْهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْبَابُ الَّذِي يَلِي آل عُثْمَانَ وَجَعَل طُول الْجِدَارِ بَسْطَةً، وَعُمُدَهُ الْجُذُوعَ، وَسَقْفَهُ جَرِيدًا فَقِيل لَهُ أَلاَ تُسْقِفُهُ؟ فَقَال: عَرِيشٌ كَعَرِيشِ مُوسَى خُشَيْبَاتٌ وَتَمَامُ الشَّأْنِ أَعْجَل مِنْ ذَلِكَ، وَبَنَى بُيُوتًا إِلَى جَنْبِهِ بِاللَّبِنِ وَسُقُفُهَا بِجُذُوعِ النَّخْل وَالْجَرِيدِ (1) وَكَانَتْ تِلْكَ الْبُيُوتُ مَكَانَ حُجْرَتِهِ الْيَوْمَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ أَزْوَاجُهُ خُلِطَتِ الْبُيُوتُ وَالْحُجَرُ بِالْمَسْجِدِ فِي زَمَنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ (2) .

تَوْسِعَةُ الْمَسْجِدِ وَعِمَارَتُهُ:
5 - قَال الزَّرْكَشِيُّ: رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَال: كَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْل (3) فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَيْئًا، وَزَادَ فِيهِ
__________
(1) الحاوي للفتاوى للسيوطي 2 / 76 (ط. التجارية الكبرى - الثالثة) . وحديث: " عريش كعريش موسى. . . ". أخرجه البيهقي في " دلائل النبوة " (2 / 542) من طريقين، قال ابن كثير في " البداية والنهاية " (3 / 215) قال عن الطريق الأول " مرسل " من حديث الحسن البصري، والثاني: " حديث غريب ".
(2) إعلام الساجد ص224.
(3) حديث: " كان المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 540) .

(37/246)


عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبَنَاهُ عَلَى بِنَائِهِ فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا، ثُمَّ غَيَّرَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَبِيرَةً وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ (1) ، وَجَعَل عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ وَسُقُفُهُ بِالسَّاجِ، وَقَال خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ: بَنَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدَهُ سَبْعِينَ ذِرَاعًا فِي سِتِّينَ ذِرَاعًا أَوْ يَزِيدُ، قَال أَهْل السِّيَرِ: جَعَل عُثْمَانُ طُول الْمَسْجِدِ مِائَةً وَسِتِّينَ ذِرَاعًا وَعَرْضَهُ مِائَةً وَخَمْسِينَ ذِرَاعًا وَجَعَل أَبْوَابَهُ سِتَّةً كَمَا كَانَتْ فِي زَمَنِ عُمَرَ ثُمَّ زَادَ فِيهِ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَجَعَل طُولَهُ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ وَعَرْضَهُ فِي مُقَدَّمِهِ مِائَتَيْنِ وَفِي مُؤَخَّرِهِ مِائَةً وَثَمَانِينَ ثُمَّ زَادَ فِيهِ الْمَهْدِيُّ مِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ جِهَةِ الشَّامِ فَقَطْ دُونَ الْجِهَاتِ الثَّلاَثِ (2) .

الرَّوْضَةُ الشَّرِيفَةُ
6 - وَرَدَ فِي فَضْل الرَّوْضَةِ الشَّرِيفَةِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ، مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ،
__________
(1) القَصَّة: الجص والجير، القاموس المحيط.
(2) إعلام الساجد للزركشي ص224، 225، ثم إنه لم تزل أيدي الخلفاء والملوك تتوالى على الحرمين الشريفين بالتوسعة والبناء على مر العصور وكان آخرها التوسعة التي أمر بها الملك عبد العزيز بن سعود عام 1370هـ ثم التوسعة الحالية التي أمر بها خادم الحرمين الشريفين الملك

(37/246)


وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي (1) ، وَمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَيْنَ مِنْبَرِي إِلَى حُجْرَتِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ وَإِنَّ مِنْبَرِي عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْجَنَّةِ (2) وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: مَا بَيْنَ هَذِهِ الْبُيُوتِ - يَعْنِي بُيُوتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ (3) .
قَال النَّوَوِيُّ: ذَكَرُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بِعَيْنِهِ يُنْقَل إِلَى الْجَنَّةِ، وَالثَّانِي أَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهِ تُؤَدِّي إِلَى الْجَنَّةِ (4) ، وَقَال مُحِبُّ الدِّينِ الطَّبَرِيُّ قَال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَمَّا كَانَ جُلُوسُهُ وَجُلُوسُ النَّاسِ إِلَيْهِ يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ وَالدِّينَ وَالإِْيمَانَ هُنَاكَ شَبَّهَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بِالرَّوْضَةِ لِكَرَمِ مَا يُجْتَنَى فِيهِ، وَأَضَافَهُ إِلَى الْجَنَّةِ لأَِنَّهَا تُؤَوَّل إِلَى الْجَنَّةِ، كَمَا قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْجَنَّةُ تَحْتَ ظِلاَل السُّيُوفِ (5) .
__________
(1) حديث: " ما بين بيتي ومنبري. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 70) .
(2) حديث: " ما بين منبري إلى حجرتي. . . ". أخرجه أحمد في المسند (2 / 412) .
(3) حديث: " ما بين هذه البيوت. . . ". أخرجه أحمد في " المسند " (4 / 41) .
(4) شرح النووي على مسلم 9 / 163، وإعلام الساجد ص251، 252، وتحفة الراكع والساجد ص143.
(5) حديث: " الجنة تحت ظلال السيوف ". أخرجه مسلم (3 / 1362 - 1363) .

(37/247)


أَسَاطِينُ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ الأَْصْلِيِّ
7 - مِنْ أَسَاطِينِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ أُسْطُوَانَةُ الْمُخَلَّقِ الَّتِي هِيَ عَلَمٌ عَلَى الْمُصَلَّى الشَّرِيفِ، فَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَْكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى الصَّلاَةَ عِنْدَهَا. وَمِنْهَا: أُسْطُوَانَةُ الْقُرْعَةِ وَتُعْرَفُ بِأُسْطُوَانَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا وَبِأُسْطُوَانَةِ الْمُهَاجِرِينَ أَيْضًا، رُوِيَ عَنِ ابْنِ زَبَالَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَاثْنَيْنِ مَعَهُ دَخَلُوا عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فَتَذَاكَرُوا الْمَسْجِدَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ إِنِّي لأََعْلَمُ سَارِيَةً مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الصَّلاَةِ إِلَيْهَا لاَضْطَرَبُوا عَلَيْهَا بِالسُّهْمَانِ، فَخَرَجَ الرَّجُلاَنِ وَبَقِيَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ خَرَجَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مُسْرِعًا فَصَلَّى إِلَى هَذِهِ السَّارِيَةِ، وَعَنِ ابْنِ زَبَالَةَ أَيْضًا: وَبَلَغَنَا أَنَّ الدُّعَاءَ فِيهَا مُسْتَجَابٌ.
وَمِنْهَا: أُسْطُوَانَةُ التَّوْبَةِ وَتُعْرَفُ بِأُسْطُوَانَةِ أَبِي لُبَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَهِيَ الَّتِي رَبَطَ أَبُو لُبَابَةَ نَفْسَهُ إِلَيْهَا حَتَّى نَزَلَتْ تَوْبَتُهُ.
وَمِنْهَا: أُسْطُوَانَةُ السَّرِيرِ وَهِيَ الَّتِي كَانَ يُوضَعُ عِنْدَهَا سَرِيرُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اعْتَكَفَ.
وَمِنْهَا: أُسْطُوَانَةُ الْحَرَسِ وَهِيَ الَّتِي كَانَ يَجْلِسُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي صَفْحَتِهَا الَّتِي تَلِي الْقَبْرَ مِمَّا يَلِي بَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْرُسُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

(37/247)


وَمِنْهَا: أُسْطُوَانَةُ الْوُفُودِ وَهِيَ الَّتِي كَانَ يَجْلِسُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا لِوُفُودِ الْعَرَبِ إِذَا جَاءَتْهُ.
وَمِنْهَا: أُسْطُوَانَةُ التَّهَجُّدِ وَهِيَ الَّتِي كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ إِذَا انْكَفَّتِ النَّاسُ فَيُصَلِّي عِنْدَهَا صَلاَةَ اللَّيْل (1) .

حُجُرَاتُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
8 - قَال ابْنُ النَّجَّارِ: لَمَّا بَنَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدَهُ بَنَى بَيْتَيْنِ لِزَوْجَتَيْهِ عَائِشَةَ وَسَوْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَلَى نَعْتِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ مِنْ لَبِنٍ وَجَرِيدِ النَّخْل، وَلَمَّا تَزَوَّجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ بَنَى لَهُنَّ حُجَرًا وَهِيَ تِسْعَةُ أَبْيَاتٍ وَهِيَ مَا بَيْنَ بَيْتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى الْبَابِ الَّذِي يَلِي بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَال أَهْل السِّيَرِ: ضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُجُرَاتِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ وَالشَّرْقِ إِلَى الشَّامِيِّ وَلَمْ يَضْرِبْهَا غَرْبِيَّهُ، وَكَانَتْ خَارِجَةً مِنَ الْمَسْجِدِ مُدِيرَةً بِهِ إِلاَّ مِنَ الْمَغْرِبِ وَكَانَتْ أَبْوَابُهَا شَارِعَةً فِي الْمَسْجِدِ.
وَكَانَ بَيْتُ فَاطِمَةَ بِنْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَ بَيْتِهِ عَنْ يَسَارِ الْمُصَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ وَكَانَ فِيهِ خَوْخَةٌ إِلَى بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْل إِلَى الْمَخْرَجِ اطَّلَعَ مِنْهَا يَعْلَمُ خَبَرَهُمْ (2) ، وَكَانَ يَأْتِي بَابَهَا كُل صَبَاحٍ فَيَأْخُذُ بِعِضَادَتَيْهِ وَيَقُول: الصَّلاَةَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ
__________
(1) وفاة الوفا بأخبار دار المصطفى للسمهودي 2 / 439 - 453.
(2) الدرة الثمينة ص359، وفاء الوفا 2 / 463.

(37/248)


الرِّجْسَ أَهْل الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (1) .

مِنْبَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
9 - وَرَدَتْ عِدَّةُ رِوَايَاتٍ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْطُبَ وَأَطَال الْقِيَامَ يُسْنِدُ ظَهْرَهُ إِلَى إِحْدَى سَوَارِي مَسْجِدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي كَانَتْ مِنْ جُذُوعِ النَّخْل، وَكَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ طُول قِيَامِهِ فَأُتِيَ بِجِذْعٍ فَحُفِرَ لَهُ فَصَارَ يَخْطُبُ إِلَى جَنْبِهِ وَإِذَا طَال قِيَامُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَنَدَ فَاتَّكَأَ عَلَيْهِ، وَلَمَّا رَأَى الصَّحَابَةُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْكُو ضَعْفًا فِي رِجْلَيْهِ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ طُول الْقِيَامِ عَمِلُوا لَهُ مِنْبَرًا مِنْ خَشَبِ الطَّرْفَاءِ وَكَانَ بِمِرْقَاتَيْنِ - أَيْ دَرَجَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثٍ (2) فَلَمَّا تَحَوَّل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ عَلَيْهِ سُمِعَ لِذَلِكَ الْجِذْعِ حَنِينٌ كَصَوْتِ الْعِشَارِ فَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ فَاحْتَضَنَهُ وَضَمَّهُ فَسَكَنَ (3) .

مَوْضِعُ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ
10 - قَال ابْنُ هِشَامٍ: لَمَّا فَرَغَ مِنْ جِهَازِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الثُّلاَثَاءِ وُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ فِي بَيْتِهِ وَقَدْ
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة ". أخرجه الترمذي (5 / 352) من حديث أنس بن مالك دون ذكر صفة بيت فاطمة رضي الله عنها، وقال الترمذي: " حديث حسن غريب " والآية من سورة الأحزاب / 33.
(2) الدرة الثمينة ص360، وتاريخ ابن كثير 6 / 124، ووفاء الوفا 1 / 388.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخطب. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 601 - 602) والدرامي (1 / 29) واللفظ للدرامي.

(37/248)


كَانَ الْمُسْلِمُونَ اخْتَلَفُوا فِي دَفْنِهِ فَقَال قَائِلٌ نَدْفِنُهُ فِي مَسْجِدِهِ، وَقَال قَائِلٌ بَل نَدْفِنُهُ مَعَ أَصْحَابِهِ (1) ، فَقَال أَبُو بَكْرٍ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلاَّ دُفِنَ حَيْثُ قُبِضَ (2) ، فَرُفِعَ فِرَاشُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي تُوُفِّيَ عَلَيْهِ فَحُفِرَ لَهُ تَحْتَهُ ثُمَّ دَخَل النَّاسُ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ أَرْسَالاً - جَمَاعَةً بَعْدَ جَمَاعَةٍ -.
وَقَال ابْنُ كَثِيرٍ: قَدْ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ دُفِنَ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ الَّتِي كَانَتْ تَخْتَصُّ بِهَا شَرْقِيَّ مَسْجِدِهِ فِي الزَّاوِيَةِ الْغَرْبِيَّةِ الْقِبْلِيَّةِ مِنَ الْحُجْرَةِ، ثُمَّ دُفِنَ بَعْدَهُ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (3) .

مَكَانُ أَهْل الصُّفَّةِ
11 - الصُّفَّةُ: بِضَمِّ الصَّادِ الْمُشَدَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ - مَكَانٌ مُظَلَّلٌ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَإِلَيْهَا يُنْسَبُ أَهْل الصُّفَّةِ (4) ، وَهُمْ أَنَاسٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَنَازِل وَلاَ مَأْوًى، أَنْزَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام 4 / 662 ط. مصطفى الحلبي.
(2) حديث: " ما قبض نبيّ. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 338) وابن ماجه (1 / 520 - 521) بإسنادين مختلفين وكلا الإسنادين ضعيف، الأول ضعفه الترمذي والآخر ضعفه البوصيري في " مصباح الزجاجة " (1 / 291) .
(3) البداية والنهاية 5 / 272 مكتبة المعارف - بيروت.
(4) القاموس المحيط.

(37/249)


الْمَسْجِدَ وَسَمَّاهُمْ أَهْل الصُّفَّةِ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَالِسُهُمْ وَيَأْنَسُ بِهِمْ، وَكَانَ إِذَا جَاءَتْهُ هَدِيَّةٌ أَصَابَ مِنْهَا وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مِنْهَا، وَإِذَا جَاءَتْهُ الصَّدَقَةُ أَرْسَل بِهَا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يُصِبْ مِنْهَا (1) .
قَال ابْنُ النَّجَّارِ (2) : رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا فُقَرَاءَ، وَرُوِيَ - أَيْضًا - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أَهْل الصُّفَّةِ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ، إِمَّا إِزَارٌ وَإِمَّا كِسَاءٌ قَدْ رَبَطُوهُ فِي أَعْنَاقِهِمْ، فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْنِ وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الْكَعْبَيْنِ فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ كَرَاهَةَ أَنْ تُرَى عَوْرَتُهُ (3) .

آدَابُ دُخُول الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ
12 - يُسْتَحَبُّ لِمَنْ دَخَل الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ أَنْ يَقُول الذِّكْرَ الْوَارِدَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ دُخُول الْمَسَاجِدِ، فَيُقَدِّمَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَيَقُول: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ، رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ.
وَعِنْدَ الْخُرُوجِ يُقَدِّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَقُول ذَلِكَ، وَلَكِنْ بِلَفْظِ: (وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ) ، وَيُصَلِّيَ عِنْدَ الدُّخُول رَكْعَتَيْنِ تَحِيَّةَ
__________
(1) تاريخ ابن كثير 6 / 102.
(2) وفاء الوفا 2 / 454.
(3) أثر أبي هريرة رضي الله عنه: " رأيت سبعين من أهل الصفة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 536) .

(37/249)


الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَإِنَّ تَحِيَّتَهُ الطَّوَافُ.
ثُمَّ يَقْصِدَ الْحُجْرَةَ الشَّرِيفَةَ الَّتِي فِيهَا قَبْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَسْتَقْبِل الْقَبْرَ وَيَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ، وَيَدْعُوَ بِالدُّعَاءِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ (1) .
ر: مُصْطَلَحُ (زِيَارَةُ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ف 7) .

الأَْحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِلْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ مَا لِلْمَسَاجِدِ مِنْ أَحْكَامٍ، وَيَخْتَصُّ بِأَحْكَامٍ مِنْهَا

1 - شَدُّ الرِّحَال إِلَيْهِ:
13 - فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تُشَدُّ الرِّحَال إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَسْجِدِ الأَْقْصَى (2) .
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ أَحَدُ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِمَزِيَّةِ جَوَازِ شَدِّ الرِّحَال إِلَيْهَا.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَضِيلَةُ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ وَمَزِيَّتُهَا عَلَى غَيْرِهَا لِكَوْنِهَا مَسَاجِدَ الأَْنْبِيَاءِ، وَلأَِنَّ الأَْوَّل قِبْلَةُ النَّاسِ وَإِلَيْهِ حَجُّهُمْ وَالثَّانِي كَانَ
__________
(1) فتح القدير 3 / 94، والشرح الصغير 1 / 405 - 407، وإعلام الساجد ص347، والمغني 3 / 577، 558.
(2) حديث: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 63) ، ومسلم (2 / 1014) .

(37/250)


قِبْلَةَ الأُْمَمِ السَّالِفَةِ، وَالثَّالِثُ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى.
وَاخْتُلِفَ فِي شَدِّ الرِّحَال إِلَى غَيْرِهَا كَالذَّهَابِ إِلَى زِيَارَةِ الصَّالِحِينَ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَإِلَى الْمَوَاضِعِ الْفَاضِلَةِ لِقَصْدِ التَّبَرُّكِ بِهَا وَالصَّلاَةِ فِيهَا، فَقَال أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ: يَحْرُمُ شَدُّ الرِّحَال إِلَى غَيْرِهَا عَمَلاً بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَبِهِ قَال عِيَاضٌ وَطَائِفَةٌ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ (1) .

2 - ثَوَابُ الصَّلاَةِ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ فَرْضًا وَنَفْلاً
14 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ (2) .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي حُصُول هَذِهِ الأَْفْضَلِيَّةِ وَمُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ الْوَارِدَةِ فِي الْحَدِيثِ - لِصَلاَةِ الْفَرْضِ.
أَمَّا فِي صَلاَةِ النَّفْل فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - عَلَى الصَّحِيحِ - وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّ الأَْفْضَلِيَّةَ وَمُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ الْوَارِدَةَ فِي الْحَدِيثِ خَاصَّةٌ بِالْفَرَائِضِ دُونَ النَّوَافِل، لأَِنَّ صَلاَةَ النَّافِلَةِ فِي
__________
(1) فتح الباري شرح البخاري 3 / 305 - 308 ط، مصطفى الحلبي، وصحيح مسلم بشرح النووي 9 / 106، وصحيح مسلم بشرح الأبي 3 / 480.
(2) حديث: " صلاة في مسجدي هذا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 63) ، ومسلم (2 / 1012) .

(37/250)


الْبَيْتِ أَفْضَل وَأَقْرَبُ إِلَى الإِْخْلاَصِ وَأَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَل مِنْ صَلاَتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ (1) ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا قَضَى أَحَدُكُمُ الصَّلاَةَ فِي مَسْجِدِهِ فَلْيَجْعَل لِبَيْتِهِ نَصِيبًا مِنْ صَلاَتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صَلاَتِهِ خَيْرًا (2) .
لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ فَرَّقُوا بَيْنَ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْمَدِينَةِ وَبَيْنَ مَنْ كَانَ مِنَ الْغُرَبَاءِ عَنْهَا، فَقَالُوا إِنَّ صَلاَةَ أَهْل الْمَدِينَةِ النَّفْل الْمُطْلَقَ فِي بُيُوتِهِمْ أَفْضَل مِنْ فِعْلِهَا فِي الْمَسْجِدِ بِخِلاَفِ الرَّوَاتِبِ وَمَا تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ فَإِنَّ فِعْلَهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَل.
أَمَّا الْغُرَبَاءُ عَنِ الْمَدِينَةِ فَإِنَّ صَلاَتَهُمُ النَّافِلَةَ فِي مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَل مِنْ صَلاَتِهِمْ لَهَا فِي بُيُوتِهِمْ وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ النَّافِلَةُ مِنَ الرَّوَاتِبِ أَمْ كَانَتْ نَفْلاً مُطْلَقًا.
وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْغَرِيبِ عَنِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ مَنْ لاَ يُعْرَفُ فِيهَا، وَإِنَّ الْمُجَاوِرَ بِهَا حُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِهَا حَيْثُ كَانَ يُعْرَفُ (3) .
__________
(1) حديث: " صلاة المرء في بيته أفضل. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 632) ، والترمذي (2 / 312) من حديث زيد بن ثابت، وقال الترمذي: " حديث حسن ".
(2) حديث: " إذا قضى أحدكم الصلاة. . . ". أخرجه مسلم (1 / 539) .
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 659 ط. دار الفكر، وفتح القدير 3 / 96، وحاشية الدسوقي 1 / 314، وكفاية الطالب الرباني وبهامشه حاشية العدوي 4 / 59 (طبع المدني - الأولى) ، والمغني لابن قدامة 2 / 141 - الرياض.

(37/251)


وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ - وَمُطَرِّفٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ - أَنَّ التَّفْضِيل الْوَارِدَ بِالْحَدِيثِ يَعُمُّ صَلاَةَ الْفَرْضِ وَصَلاَةَ النَّفْل.
قَال النَّوَوِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لاَ يَخْتَصُّ هَذَا التَّفْضِيل بِالصَّلاَةِ فِي هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ - أَيِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ - بِالْفَرِيضَةِ بَل يَعُمُّ الْفَرْضَ وَالنَّفْل جَمِيعًا، وَبِهِ قَال مُطَرِّفٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: ذُكِرَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَنَّ التَّحْقِيقَ: أَنَّ صَلاَةَ النَّفْل فِي بَيْتِهِ أَفْضَل مِنَ الْمَسْجِدِ (1) .

3 - حُكْمُ مَا زِيدَ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ
15 - طَرَأَتْ عَلَى بِنَاءِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ تَوْسِعَةٌ وَزِيَادَاتٌ فِي بِنَائِهِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ بَحَثَ الْعُلَمَاءُ حُكْمَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ مِنْ جِهَةِ نَيْل الثَّوَابِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَال إِنَّ الْفَضْل الثَّابِتَ لِمَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتٌ لِمَا زِيدَ فِيهِ.
قَال مُحِبُّ الدِّينِ الطَّبَرِيُّ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال: زَادَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ شَامِيِّهِ وَقَال: (لَوْ زِدْنَا فِيهِ حَتَّى تَبْلُغَ الْجَبَّانَةَ كَانَ مَسْجِدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (2) ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 9 / 164، وإعلام الساجد ص246، وشرح الأبي على مسلم 3 / 477، دار الكتب العلمية - بيروت.
(2) أثر عمر: لو زدنا فيه حتى بلغ الجبانة. أورده ابن تيمية في كتاب الرد على الإخنائي (ص198 - بهامش تلخيص كتاب الاستغاثة) ، وعزاه لعمر بن شبة في تاريخ المدينة.

(37/251)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ بُنِيَ هَذَا الْمَسْجِدُ إِلَى صَنْعَاءَ كَانَ مَسْجِدِي (1) ، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُول: ظَهْرُ الْمَسْجِدِ كَقَعْرِهِ.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ زِيدَ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، فَقَدْ زَادَ فِيهِ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ الْوَلِيدُ ثُمَّ الْمَهْدِيُّ، وَالإِْشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْمَسْجِدِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ جَمِيعَ الْمَسْجِدِ الْمَوْجُودِ الآْنَ يُسَمَّى مَسْجِدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِ اتَّفَقَتِ الإِْشَارَةُ وَالتَّسْمِيَةُ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فَلَمْ تُلْغَ التَّسْمِيَةُ فَتَحْصُل الْمُضَاعَفَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ، فِيمَا زِيدَ فِيهِ " (2) .
وَنَقَل الْجُرَاعِيُّ عَنِ ابْنِ رَجَبٍ مِثْل ذَلِكَ، وَأَنَّهُ قَدْ قِيل إِنَّهُ لاَ يُعْلَمُ عَنِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ (3) .
وَرُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ التَّوَقُّفُ (4) .
وَرَجَّحَ السَّمَهُودِيُّ - مِنَ الْمَالِكِيَّةِ - أَنَّ مَا زِيدَ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ دَاخِلٌ فِي الأَْفْضَلِيَّةِ
__________
(1) حديث: " لو بني هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي ". أورده ابن تيمية في الرد على الإخنائي (ص198 - بهامش تلخيص كتاب الاستغاثة) وعزاه إلى تاريخ المدينة لابن شبة، وقد ضعف غير واحد أحد رواته كما في الميزان للذهبي (2 / 429)
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 427، 659، والإقناع 1 / 323، والفتاوى لابن تيمية 26 / 146.
(3) تحفة الراكع والساجد ص139.
(4) الإقناع 1 / 323.

(37/252)


الْوَارِدَةِ بِالْحَدِيثِ، وَنَقَل عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِل عَنْ حَدِّ الْمَسْجِدِ الَّذِي جَاءَ فِيهِ الْخَبَرُ هَل هُوَ عَلَى مَا كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ هُوَ عَلَى مَا عَلَيْهِ الآْنَ؟ فَقَال بَل هُوَ عَلَى مَا هُوَ الآْنَ، وَقَال لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِمَا يَكُونُ بَعْدَهُ وَزُوِيَتْ لَهُ الأَْرْضُ فَأُرِيَ مَشَارِقَ الأَْرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَتَحَدَّثَ بِمَا يَكُونُ بَعْدَهُ فَحَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَنَسِيَ ذَلِكَ مَنْ نَسِيَهُ، وَلَوْلاَ هَذَا مَا اسْتَجَازَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ أَنْ يَزِيدُوا فِيهِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ مُنْكِرٌ (1) .
لَكِنْ قَال الأُْبِّيُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ: صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ. . . (2) إِنَّ التَّفْضِيل مُخْتَصٌّ بِمَسْجِدِهِ الَّذِي كَانَ فِي زَمَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ مَا زِيدَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلاَ يَتَنَاوَل التَّفْضِيل مَا زَادَ فِيهِ عُثْمَانُ لأَِنَّهُ مِنَ اتِّخَاذِهِ، وَيَدُل عَلَى أَنَّهُ مِنَ اتِّخَاذِهِ احْتِجَاجُهُ حِينَ أُنْكِرَ عَلَيْهِ فِيهِ الزِّيَادَةُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ بَنَى مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ (3) ، فَجَعَلَهُ مِنْ بِنَائِهِ لِنَفْسِهِ (4) .
__________
(1) وفاء الوفا 1 / 357، 2 / 424.
(2) حديث: " صلاة في مسجدي هذا. . . ". تقدم ف14.
(3) حديث: " من بنى مسجدًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 544) ومسلم (4 / 2287) .
(4) شرح صحيح مسلم للآبي 3 / 477 ط. دار الكتب العلمية بيروت.

(37/252)


وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ مُخْتَصَّةٌ بِنَفْسِ مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَانَ فِي زَمَانِهِ دُونَ مَا زِيدَ فِيهِ بَعْدَهُ (1) .
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَجَمْعٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (2) .

4 - نَذْرُ الْمَشْيِ إِلَى الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ
16 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْوَفَاءِ عَلَى مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، لأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ النَّذْرِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً مَقْصُودَةً وَأَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ أَوْ فَرْضٌ، وَالذَّهَابُ إِلَى الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ غَيْرُ وَاجِبٍ بِخِلاَفِ مَا لَوْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ (3) .
وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ (4) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وُجُوبَ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ إِنْ نَوَى صَلاَةً أَوْ صَوْمًا أَوِ اعْتِكَافًا، لَكِنْ لاَ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ وَلَهُ أَنْ يَذْهَبَ رَاكِبًا (5) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ لُزُومَ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ مَاشِيًا، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُشَدُّ الرِّحَال إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي
__________
(1) إعلام الساجد ص 247، ومغني المحتاج 1 / 513، ونهاية المحتاج 3 / 311، وحاشية الجمل 2 / 483، والمجموع 8 / 277.
(2) الإقناع 1 / 323.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 735.
(4) مغني المحتاج 4 / 363.
(5) بداية المجتهد 1 / 445، والشرح الصغير 2 / 255.

(37/253)


هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الأَْقْصَى (1) .
وَقَالُوا إِنَّهُ يَلْزَمُهُ - حِينَئِذٍ - أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ رَكْعَتَيْنِ لأَِنَّ الْقَصْدَ بِالنَّذْرِ الْقُرْبَةُ وَالطَّاعَةُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ تَحْصِيل ذَلِكَ بِالصَّلاَةِ فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ نَذْرَهُ كَمَا يَلْزَمُ نَاذِرَ الْمَشْيِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (نَذْرٌ)

5 - زِيَارَةُ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
17 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ زِيَارَةَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ إِنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ تَقْرُبُ مِنْ دَرَجَةِ الْوَاجِبَاتِ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (3) .
وَذَهَبَ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ أَبُو عِمْرَانَ مُوسَى بْنُ عِيسَى الْفَاسِيُّ إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ (4) .
وَمِنْ أَدِلَّةِ مَشْرُوعِيَّتِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُول لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (5) ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَوْتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي (6) .
__________
(1) حديث: " لا تشد الرحال. . . ". تقدم (ف 13) .
(2) المغني 9 / 16.
(3) فتح القدير 3 / 94، وحاشية ابن عابدين 2 / 626، والمغني 3 / 556.
(4) الشفا 2 / 150.
(5) سورة النساء / 64.
(6) حديث: " من زارني بعد موتي. . . ". أخرجه الدارقطني في " السنن " (2 / 278) وضعفه ابن حجر في " التلخيص الحبير " (2 / 266 - 267) .

(37/253)


وَلِلتَّفْصِيل: ر: مُصْطَلَحُ (زِيَارَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ف 2) .

آدَابُ وَدَاعِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ
18 - يُسْتَحَبُّ لِمَنْ عَزَمَ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى بَلَدِهِ أَنْ يُوَدِّعَ الْمَسْجِدَ بِصَلاَةٍ وَيَدْعُوَ بَعْدَهَا بِمَا أَحَبَّ وَأَنْ يَأْتِيَ الْقَبْرَ الشَّرِيفَ فَيُسَلِّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْعُوَ اللَّهَ بِمَا أَحَبَّ وَيَسْأَلَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُوصِلَهُ إِلَى أَهْلِهِ سَالِمًا غَانِمًا وَيَقُول: غَيْرَ مُوَدَّعٍ يَا رَسُول اللَّهِ، وَيَسْأَل اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى حَرَمِهِ وَحَرَمِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَافِيَةٍ (1) .
__________
(1) فتح القدير 3 / 97 وحاشية ابن عابدين 2 / 626، والمغني 3 / 546.

(37/254)


مَسْحٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - لِلْمَسْحِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ يُقَال مَسَحَ الشَّيْءَ الْمُتَلَطِّخَ أَوِ الْمُبْتَل مَسْحًا: أَمَرَّ يَدَهُ عَلَيْهِ لإِِذْهَابِ مَا عَلَيْهِ مِنْ أَثَرِ مَاءٍ وَنَحْوِهِ، وَمَسَحَ عَلَى الشَّيْءِ بِالْمَاءِ أَوِ الدُّهْنِ: أَمَرَّ يَدَهُ عَلَيْهِ بِهِ، وَيُقَال: مَسَحَ بِالشَّيْءِ، وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (1) ، وَمَسَحَ اللَّهُ الْعِلَّةَ عَنِ الْعَلِيل: شَفَاهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ (2) .
وَالْمَسْحُ فِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْغَسْل:
2 - الْغَسْل لُغَةً: بِفَتْحِ الْغَيْنِ، مَصْدَرُ غَسَل، وَالاِسْمُ: الْغُسْل وَهُوَ تَمَامُ غَسْل الْجَسَدِ كُلِّهِ (4) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: هُوَ سَيَلاَنُ الْمَاءِ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ بِنِيَّةٍ (5) .
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) المعجم الوسيط.
(3) ابن عابدين 1 / 67.
(4) المصباح المنير والمعجم الوسيط.
(5) مغني المحتاج 1 / 68.

(37/254)


ب - التَّيَمُّمُ:
3 - التَّيَمُّمُ التَّيَمُّمُ لُغَةً: الْقَصْدُ وَالتَّوَخِّي وَالتَّعَمُّدُ، يُقَال: تَيَمَّمَهُ بِالرُّمْحِ، تَقَصَّدَهُ وَتَوَخَّاهُ وَتَعَمَّدَهُ دُونَ مَنْ سِوَاهُ (1) ، وَمِثْلُهُ تَأَمَّمَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (2) . وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ: فَهُوَ مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِتُرَابٍ طَهُورٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ كَمَا قَال الْحَنَابِلَةُ (3) .
وَالْمَسْحُ أَعَمُّ مِنَ التَّيَمُّمِ.

أَحْكَامُ الْمَسْحِ:
لِلْمَسْحِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

أَوَّلاً: مَسْحُ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ:
الْكَلاَمُ عَلَى مَسْحِ الرَّأْسِ فِي مَوَاضِعَ كَمَا يَلِي:

أ - مَسْحُ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ مُطْلَقًا مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (4) .

ب - الْقَدْرُ الْمُجْزِئُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسْحِ الْقَدْرِ الْمُجْزِئِ، فَذَهَبَ
__________
(1) تاج العروس، ولسان العرب.
(2) سورة البقرة / 267.
(3) كشاف القناع 1 / 160.
(4) سورة المائدة / 6.

(37/255)


الْحَنَفِيَّةُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْقَدْرَ الْمُجْزِئَ هُوَ مَسْحُ رُبْعِ الرَّأْسِ، كَمَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْل زُفَرَ أَيْضًا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْمُعْتَمَدَ رِوَايَةُ الرُّبْعِ وَعَلَيْهِ مَشَى الْمُتَأَخِّرُونَ.
وَوَجْهُ التَّقْدِيرِ بِالرُّبْعِ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ اعْتِبَارُ الرُّبْعِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَْحْكَامِ كَمَا فِي حَلْقِ رُبْعِ الرَّأْسِ أَنَّهُ يَحِل بِهِ الْمُحْرِمُ، وَلاَ يَحِل بِدُونِهِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: مِقْدَارُ النَّاصِيَةِ، ذَكَرَهَا الْكَرْخِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ وَبِهِ قَال الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَاخْتَارَهُ الْقُدُورِيُّ، وَفِي الْهِدَايَةِ: وَهِيَ الرُّبْعُ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ النَّاصِيَةَ أَقَل مِنَ الرُّبْعِ. وَوَجْهُ التَّقْدِيرِ بِالنَّاصِيَةِ، أَنَّ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ لَيْسَ بِمُرَادٍ مِنَ الآْيَةِ بِالإِْجْمَاعِ، فَلاَ يُمْكِنُ حَمْل الآْيَةِ عَلَى جَمِيعِ الرَّأْسِ، وَلاَ عَلَى بَعْضٍ مُطْلَقٍ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الْحَمْل عَلَى مِقْدَارٍ يُسَمَّى الْمَسْحُ عَلَيْهِ مَسْحًا فِي الْمُتَعَارَفِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، لَكِنْ بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِفِعْلِهِ وَهُوَ مَا وَرَدَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ بَال وَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ (1) ". فَصَارَ فِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ بَيَانًا لِمُجْمَل الْكِتَابِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: مِقْدَارُ ثَلاَثَةِ أَصَابِعَ، رَوَاهَا هِشَامٌ، وَقِيل هِيَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَذُكِرَ فِي الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّ عَلَيْهَا الْفَتْوَى.
وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ الأَْمْرَ بِالْمَسْحِ يَقْتَضِي
__________
(1) حديث المغيرة: " أنه صلى الله عليه وسلم بال وتوضأ ومسح على ناصيته ". أخرجه مسلم (1 / 231) .

(37/255)


آلَةً، إِذِ الْمَسْحُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالآْلَةِ، وَآلَةُ الْمَسْحِ هِيَ أَصَابِعُ الْيَدِ عَادَةً، وَثَلاَثُ أَصَابِعِ الْيَدِ أَكْثَرُهَا، وَلِلأَْكْثَرِ حُكْمُ الْكُل، فَصَارَ كَأَنَّهُ نَصَّ عَلَى الثَّلاَثِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ مَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ. وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (2) .
وَالْبَاءُ فِي الآْيَةِ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَالْمَعْنَى وَامْسَحُوا رُءُوسَكُمْ (3) .
كَمَا اسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ بِنَفْسِ الآْيَةِ وَقَالُوا: إِنَّ الآْيَةَ تُفِيدُ الاِسْتِيعَابَ، وَفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَعَ بَيَانًا لِلآْيَةِ، وَالْبَاءُ فِي الآْيَةِ لِلإِْلْصَاقِ أَيْ إِلْصَاقِ الْفِعْل بِالْمَفْعُول (4) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ فِي فَرْضِ الْوُضُوءِ مُسَمَّى مَسْحٍ لِبَعْضِ بَشَرَةِ رَأْسِهِ أَوْ بَعْضِ شَعَرٍ وَلَوْ وَاحِدَةً أَوْ بَعْضَهَا فِي حَدِّ الرَّأْسِ بِأَنْ لاَ يَخْرُجَ الشَّعَرُ بِالْمَدِّ عَنْهُ فَلَوْ خَرَجَ بِهِ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ نُزُولِهِ لَمْ يَكْفِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} وَوَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ
__________
(1) فتح القدير 1 / 15 وما بعدها ط. دار إحياء التراث العربي، وبدائع الصنائع 1 / 4، والاختيار 1 / 7 - 8. وحاشية ابن عابدين 1 / 67.
(2) سورة المائدة / 6.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 88، وتفسير القرطبي 6 / 87، وبداية المجتهد 1 / 27.
(4) كشاف القناع 1 / 98، والإنصاف 1 / 161.

(37/256)


بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ (1) ، وَاكْتَفَى بِمَسْحِ الْبَعْضِ لأَِنَّهُ الْمَفْهُومُ مِنَ الْمَسْحِ عِنْدَ إِطْلاَقِهِ (2) . وَلِلْفُقَهَاءِ فِي كَيْفِيَّةِ مَسْحِ الرَّأْسِ وَتَكْرَارِ الْمَسْحِ وَغَسْل الرَّأْسِ بَدَل الْمَسْحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (وُضُوءٍ) .

ثَانِيًا: مَسْحُ الأُْذُنَيْنِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسْحِ الأُْذُنَيْنِ هَل هُوَ سُنَّةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ، وَهَل يُجَدَّدُ لَهُمَا الْمَاءُ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (وُضُوءٍ) .

ثَالِثًا: مَسْحُ الرَّقَبَةِ:
7 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ مَا عَدَا الرَّافِعِيَّ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُنْدَبُ مَسْحُ الرَّقَبَةِ بَل يُكْرَهُ، لأَِنَّهُ مِنَ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ، وَقَال النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ بِدْعَةٌ (3) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ مَسْحُ الرَّقَبَةِ (4) ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (رَقَبَةٌ ف 2) .

رَابِعًا: الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ، وَلأَِنَّهُ لاَ تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ فِي نَزْعِهَا فَلَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهَا كَالْكُمَّيْنِ، لأَِنَّ الْمَسْحَ
__________
(1) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعلى العمامة ". أخرجه مسلم 1 / 131.
(2) مغني المحتاج 1 / 53.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 103، 104، والجمل 1 / 129، 130.
(4) الاختيار 1 / 9.

(37/256)


عَلَى الْخُفَّيْنِ لِلْحَرَجِ وَلاَ حَرَجَ فِي نَزْعِ الْعِمَامَةِ، وَقَال مُحَمَّدٌ فِي مُوَطَّئِهِ: بَلَغَنَا أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ كَانَ ثُمَّ تُرِكَ، وَبِهَذَا قَال عُرْوَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْقَاسِمُ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ إِلاَّ إِذَا خِيفَ بِنَزْعِهَا ضَرَرٌ وَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى مَسْحِ مَا هِيَ مَلْفُوفَةٌ عَلَيْهِ كَالْقَلَنْسُوَةِ، وَلَوْ أَمْكَنَهُ مَسْحُ بَعْضِ الرَّأْسِ أَتَى بِهِ وَكَمَّل عَلَى الْعِمَامَةِ وُجُوبًا عَلَى الْمُعْتَمَدِ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ لأَِدَاءِ فَرْضِ مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ بَل لاَ بُدَّ مِنْ مَسْحِ شَيْءٍ مِنْ شَعَرِ الرَّأْسِ وَالأَْفْضَل أَنْ لاَ يَقْتَصِرَ عَلَى أَقَل مِنَ النَّاصِيَةِ، ثُمَّ يَجُوزُ لأَِدَاءِ سُنَّةِ مَسْحِ كُل الرَّأْسِ مَسْحُ مَا ذُكِرَ وَالتَّكْمِيل عَلَى الْعِمَامَةِ بِشُرُوطٍ ذَكَرَهَا الْجَمَل هِيَ:
أَنْ لاَ يَكُونَ عَلَيْهَا نَحْوُ دَمِ الْبَرَاغِيثِ، وَأَنْ لاَ يَمْسَحَ مِنْهُ مَا حَاذَى الْقَدْرَ الْمَسْمُوحَ مِنَ الرَّأْسِ وَأَنْ لاَ يَكُونَ عَاصِيًا بِلُبْسِ الْعِمَامَةِ (3) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَمِمَّنْ مَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَبِهِ قَال عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمَكْحُولٌ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 181، والاختيار 1 / 25، وحاشية الدسوقي 1 / 164، وبداية المجتهد 1 / 28، 29، والمغني 1 / 300 وما بعدها.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 164، 165.
(3) حاشية الجمل 1 / 128، 129.

(37/257)


وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَال: تَوَضَّأَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْعِمَامَةِ (1) ، وَلأَِنَّهُ حَائِلٌ فِي مَحَل وُرُودِ الشَّرْعِ بِمَسْحِهِ، فَجَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ كَالْخُفَّيْنِ، وَلأَِنَّ الرَّأْسَ عُضْوٌ يَسْقُطُ فَرْضُهُ فِي التَّيَمُّمِ، فَجَازَ الْمَسْحُ عَلَى حَائِلِهِ كَالْقَدَمَيْنِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُجْزِئُ مَسْحُ أَكْثَرِ الْعِمَامَةِ لأَِنَّهَا أَحَدُ الْمَمْسُوحَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْبَدَل (2) .

شُرُوطُ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ
9 - وَيُشْتَرَطُ لِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهِ مَا يَلِي:
أ - أَنْ تَكُونَ سَاتِرَةً لِجَمِيعِ الرَّأْسِ إِلاَّ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِكَشَفِهِ كَمُقَدَّمِ الرَّأْسِ وَالأُْذُنَيْنِ، لأَِنَّ هَذَا الْكَشْفَ جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ لِمَشَقَّةِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الرَّأْسِ مَكْشُوفًا مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ بِكَشْفِهِ اسْتُحِبَّ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ مَعَ الْعِمَامَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى عِمَامَتِهِ وَنَاصِيَتِهِ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَهَل الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَاجِبٌ؟ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْهُ، فَيَخْرُجُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وُجُوبُهُ لِلْخَبَرِ، وَلأَِنَّ الْعِمَامَةَ نَابَتْ عَمَّا اسْتَتَرَ،
__________
(1) حديث: " توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح على الخفين والعمامة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 308) ، ومسلم (1 / 230) .
(2) المغني 1 / 300، والإنصاف 1 / 187، وشرح منتهى الإرادات 1 / 62.

(37/257)


فَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى مُقْتَضَى الأَْصْل كَالْجَبِيرَةِ، وَالثَّانِي: لاَ يَجِبُ: لأَِنَّ الْعِمَامَةَ نَابَتْ عَنِ الرَّأْسِ، فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهَا، وَانْتَقَل الْفَرْضُ إِلَيْهَا، فَلَمْ يَبْقَ لِمَا ظَهَرَ حُكْمٌ، وَلأَِنَّ وُجُوبَهُمَا مَعًا يُفْضِي إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ بَدَلٍ وَمُبْدَلٍ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ يَجُزْ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ كَالْخُفِّ. فَإِنْ كَانَ تَحْتَ الْعِمَامَةِ قَلَنْسُوَةٌ يَظْهَرُ بَعْضُهَا، فَالظَّاهِرُ جَوَازُ الْمَسْحِ عَلَيْهِمَا لأَِنَّهُمَا صَارَا كَالْعِمَامَةِ الْوَاحِدَةِ.
ب - أَنْ تَكُونَ عَلَى صِفَةِ عَمَائِمِ الْمُسْلِمِينَ، بِأَنْ تَكُونَ تَحْتَ الْحَنَكِ مِنْهَا شَيْءٌ، لأَِنَّ هَذِهِ عَمَائِمُ الْعَرَبِ، وَهِيَ أَكْثَرُ سَتْرًا مِنْ غَيْرِهَا وَيَشُقُّ نَزْعُهَا، فَيَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ لَهَا ذُؤَابَةٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَ الْحَنَكِ مِنْهَا شَيْءٌ.
ج - أَنْ لاَ تَكُونَ الْعِمَامَةُ مُحَرَّمَةً كَعِمَامَةِ الْحَرِيرِ وَالْمَغْصُوبَةِ.
د - أَنْ يَكُونَ لاَبِسُ الْعِمَامَةِ رَجُلاً، فَلاَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ لأَِنَّهَا مَنْهِيَّةٌ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالرِّجَال، فَكَانَتْ مُحَرَّمَةً فِي حَقِّهَا، وَإِنْ كَانَ لَهَا عُذْرٌ فَهَذَا يُنْدَرُ، وَلاَ يَرْتَبِطُ الْحُكْمُ بِالنَّادِرِ (1) .

التَّوْقِيتُ فِي مَسْحِ الْعِمَامَةِ:
10 - التَّوْقِيتُ فِي مَسْحِ الْعِمَامَةِ كَالتَّوْقِيتِ فِي مَسْحِ الْخُفِّ، لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يُمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْعِمَامَةِ ثَلاَثًا فِي
__________
(1) المراجع السابقة.

(37/258)


السَّفَرِ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ (1) ، وَلأَِنَّهُ مَمْسُوحٌ عَلَى وَجْهِ الرُّخْصَةِ فَتُوَقَّتُ بِذَلِكَ كَالْخُفِّ (2) .

نَزْعُ الْعِمَامَةِ بَعْدَ الْمَسْحِ:
11 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ نَزَعَ الْعِمَامَةَ بَعْدَ الْمَسْحِ عَلَيْهَا بَطَلَتْ طَهَارَتُهُ، وَكَذَلِكَ إِنِ انْكَشَفَ رَأْسُهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا، وَكَذَلِكَ إِنِ انْتَقَضَتْ بَعْدَ مَسْحِهَا، لأَِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ نَزْعِهَا.
وَإِنِ انْتَقَضَ بَعْضُهَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: لاَ تَبْطُل طَهَارَتُهُ، لأَِنَّهُ زَال بَعْضُ الْمَمْسُوحِ عَلَيْهِ مَعَ بَقَاءِ الْعُضْوِ مَسْتُورًا، فَلَمْ تَبْطُل الطَّهَارَةُ كَكَشْطِ الْخُفِّ مَعَ بَقَاءِ الْبِطَانَةِ.
وَالأُْخْرَى تَبْطُل طَهَارَتُهُ، قَال الْقَاضِي: وَلَوِ انْتَقَضَ مِنْهَا كَوْرٌ وَاحِدٌ بَطَل الْمَسْحُ، لأَِنَّهُ زَال الْمَمْسُوحُ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ نَزْعَ الْخُفِّ (3) .

خَامِسًا: الْمَسْحُ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ فِي الْوُضُوءِ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْمَسْحُ فِي الْوُضُوءِ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ بَدَلاً مِنَ الرَّأْسِ لِعَدَمِ الْحَرَجِ فِي نَزْعِهَا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ إِنْ خِيفَ مِنْ نَزْعِهَا ضَرَرٌ.
__________
(1) حديث أبي أمامة: " يمسح على الخفين والعمامة ثلاثاً في السفر ". أورده ابن قدامة في المغني (1 / 383 - ط دار هجر) وعزاه إلى الخلال، وأشار إلى إعلاله.
(2) المغني 1 / 304.
(3) المغني 1 / 303.

(37/258)


وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ عَسُرَ رَفْعُ قَلَنْسُوَةٍ أَوْ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ كَمَّل بِالْمَسْحِ عَلَيْهَا وَحَصَل لَهُ سُنَّةُ مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ وَإِنْ لَبِسَهَا عَلَى حَدَثٍ (1) .

سَادِسًا: الْمَسْحُ عَلَى الْقُفَّازَيْنِ:
13 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْقُفَّازَيْنِ لأَِنَّ الْمَسْحَ شُرِعَ دَفْعًا لِلْحَرَجِ لِتَعَذُّرِ النَّزْعِ، وَلاَ حَرَجَ فِي نَزْعِ الْقُفَّازَيْنِ (2) .

سَابِعًا: مَسْحُ الْمَرْأَةِ عَلَى الْخِمَارِ:
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْسَحَ عَلَى خِمَارِهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا أَدْخَلَتْ يَدَهَا تَحْتَ الْخِمَارِ، وَمَسَحَتْ بِرَأْسِهَا، وَقَالَتْ: بِهَذَا أَمَرَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) ، وَبِهِ قَال نَافِعٌ وَالنَّخَعِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، لأَِنَّهُ مَلْبُوسٌ لِرَأْسِ الْمَرْأَةِ، فَلَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهِ كَالْوِقَايَةِ وَالْوِقَايَةُ لاَ يُجْزِئُ الْمَسْحُ عَلَيْهَا بِلاَ خِلاَفٍ كَالطَّاقِيَّةِ لِلرَّجُل.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا لأَِنَّ الْوِقَايَةَ لاَ يُشَقُّ نَزْعُهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْخِمَارُ رَقِيقًا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 181، والشرح الكبير 1 / 163، 164، ومغني المحتاج 1 / 60، والمغني 1 / 304.
(2) بدائع الصنائع 1 / 11، وحاشية ابن عابدين 1 / 181، والاختيار 1 / 25.
(3) حديث عائشة رضي الله عنها " أنها أدخلت يدها تحت الخمار. . . ". أورده الكاساني في " البدائع " (1 / 5) ولم نهتد لمن أخرجه.

(37/259)


يُنْفِذُ الْمَاءَ إِلَى شَعَرِهَا، فَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِوُجُودِ الإِْصَابَةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَصِحُّ الْمَسْحُ عَلَى خُمُرِ النِّسَاءِ الْمُدَارَةِ تَحْتَ حُلُوقِهِنَّ لأَِنَّ أُمَّ سَلَمَةَ كَانَتْ تَمْسَحُ عَلَى خِمَارِهَا (1) ، وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ (2) ، وَلأَِنَّهُ مَلْبُوسٌ لِلرَّأْسِ مُعْتَادٌ يُشَقُّ نَزْعُهُ فَأَشْبَهَ الْعِمَامَةَ (3) .

ثَامِنًا: الْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ:
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ نِيَابَةً عَنِ الْغُسْل أَوِ الْمَسْحِ الأَْصْلِيِّ فِي الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْل أَوِ التَّيَمُّمِ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَال: كُسِرَ زَنْدِي يَوْمَ أُحُدٍ، فَسَقَطَ اللِّوَاءُ مِنْ يَدِي، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْعَلُوهَا فِي يَسَارِهِ، فَإِنَّهُ صَاحِبُ لِوَائِي فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ: مَا أَصْنَعُ بِالْجَبَائِرِ؟ فَقَال: امْسَحْ عَلَيْهَا (4) ".
__________
(1) أثر أم سلمة رضي الله عنها " أنها كانت تمسح على خمارها ". أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " (1 / 25) ، وفي إسناده الحسن البصري وهو ثقة مدلس كما في " ميزان الاعتدال " (2 / 527) وقد عنعن.
(2) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالمسح على الخفين والخمار ". أخرجه مسلم (1 / 231) من حديث بلال رضي الله عنه.
(3) الاختيار لتعليل المختار 1 / 25، والبدائع 1 / 5، وابن عابدين 1 / 181، والمغني 1 / 305، وكشاف القناع 1 / 121.
(4) حديث: " اجعلوها في يساره فإنه صاحب لوائي. . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 215) مختصراً، والبيهقي (1 / 228) وضعفه البوصيري في الزوائد (1 / 84) ، وقال البيهقي في " السنن الكبرى " (1 / 228) " ولا يثبت في هذا الباب شيء

(37/259)


وَالتَّفْصِيل فِي: (جَبِيرَةٌ ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) .

كَيْفِيَّةُ الْمَسْحِ فِي التَّيَمُّمِ
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَسْحَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ مِنْ أَرْكَانِ التَّيَمُّمِ (1) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (2) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (تَيَمُّمٌ فِقْرَةُ 11) .

مَا يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ:
أ - الْجِسْمُ الصَّقِيل:
17 - فِي طَهَارَةِ الْجِسْمِ الصَّقِيل بِالْمَسْحِ إِذَا أَصَابَهُ نَجَاسَةٌ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ نَقَلَهُ الْبَاجِيُّ عَنْ مَالِكٍ إِلَى أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ كُل صَقِيلٍ لاَ مَسَامَّ لَهُ كَمِرْآةٍ، وَظُفُرٍ، وَعَظْمٍ، وَزُجَاجٍ، وَآنِيَةٍ مَدْهُونَةٍ، سَوَاءٌ أَصَابَهُ نَجَسٌ لَهُ جُرْمٌ أَوْ لاَ، رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا، لأَِنَّهُ لِصَلاَبَتِهَا لاَ يَتَدَاخَلُهَا شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَيَزُول بِالْمَسْحِ، وَلأَِنَّ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَقْتُلُونَ الْكُفَّارَ بِسُيُوفِهِمْ، ثُمَّ يَمْسَحُونَهَا، وَيُصَلُّونَ مَعَهَا، وَلأَِنَّهُ لاَ تَتَدَاخَلُهَا النَّجَاسَةُ، وَمَا عَلَى ظَاهِرِهِ يَزُول بِالْمَسْحِ.
وَأَمَّا الْحَدِيدُ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ صَدَأٌ أَوْ كَانَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 163، وبدائع الصنائع 1 / 55 وما بعدها، وحاشية الدسوقي 1 / 154، ومغني المحتاج 1 / 98، وكشاف القناع 1 / 173 - 174.
(2) سورة المائدة / 6.

(37/260)


مَنْقُوشًا فَلاَ يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ لأَِنَّهُ غَيْرُ صَقِيلٍ، وَكَذَلِكَ الثَّوْبُ الصَّقِيل لاَ يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ لأَِنَّ لَهُ مَسَامًّا (1) .
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُعْفَى مَا أَصَابَ كُل صَقِيلٍ لاَ مَسَامَّ لَهُ كَسَيْفٍ، وَمِرْآةٍ وَجَوْهَرٍ سَوَاءٌ مَسَحَهُ مِنَ الدَّمِ أَمْ لاَ، وَعَلَّلُوا الْحُكْمَ بِفَسَادِ هَذِهِ الأَْشْيَاءِ بِالْغُسْل، وَبَكَوْنِ الدَّمِ مُبَاحًا كَدَمِ جِهَادٍ وَقِصَاصٍ وَذَبْحٍ وَعَقْرِ صَيْدٍ فَإِذَا كَانَ دَمَ عُدْوَانٍ يَجِبُ الْغَسْل (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَصَابَتِ النَّجَاسَةُ شَيْئًا صَقِيلاً كَسَيْفٍ وَسِكِّينٍ وَمِرْآةٍ لَمْ يَطْهُرْ بِالْمَسْحِ بَل لاَ بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ (3) .

ب - مَوْضِعُ الْحِجَامَةِ:
18 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ مَوْضِعُ الْحِجَامَةِ إِذَا مَسَحَهَا بِثَلاَثِ خِرَقٍ رَطَبَاتٍ نِظَافٍ، وَقَاسَ صَاحِبُ الْفَتْحِ عَلَيْهِ مَا حَوْل مَحَل الْفَصْدِ إِذَا تَلَطَّخَ، وَيُخَافُ مِنَ الإِْسَالَةِ السَّرَيَانُ إِلَى الثُّقْبِ (4) .
وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ فِي مَوْضِعِ الْحِجَامَةِ بِقَوْلِهِمْ: يُعْفَى عَنْ أَثَرِ دَمِ مَوْضِعِ الْحِجَامَةِ أَوِ الْفَصَادَةِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 206، 209، وبدائع الصنائع 1 / 84، 85، والاختيار 1 / 33، وحاشية الدسوقي 1 / 77، 78.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 77، 78.
(3) حاشية الجمل 1 / 190، والمغني 1 / 57.
(4) ابن عابدين 1 / 206، والاختيار 1 / 33.

(37/260)


الْمَوْضِعُ مُسِحَ عَنْهُ الدَّمُ، لِتَضَرُّرِ الْمُحْتَجِمِ مِنْ وُصُول الْمَاءِ لِذَلِكَ الْمَحَل، وَيَسْتَمِرُّ الْعَفْوُ إِلَى أَنْ يَبْرَأَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ، فَإِذَا بَرِئَ غُسِل الْمَوْضِعُ، ثُمَّ إِنَّ مَحَل الْعَفْوِ إِذَا كَانَ أَثَرُ الدَّمِ الْخَارِجِ أَكْثَرَ مِنْ دِرْهَمٍ، وَإِلاَّ فَلاَ يُعْتَبَرُ فِي الْعَفْوِ مَسْحٌ (1) .؟

ج - الْخُفُّ وَالنَّعْل:
19 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَصَابَ الْخُفَّ وَالنَّعْل نَجَاسَةٌ: فَإِنْ كَانَتْ رَطْبَةً لاَ تَزُول إِلاَّ بِالْغَسْل كَيْفَمَا كَانَتْ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ عَلَى التُّرَابِ كَيْفَمَا كَانَتْ: مُتَجَسِّدَةً أَوْ مَائِعَةً، وَإِنْ كَانَتْ يَابِسَةً: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا جُرْمٌ كَالْبَوْل، وَالْخَمْرِ، وَالْمَاءِ النَّجَسِ، لاَ يَطْهُرُ إِلاَّ بِالْغَسْل، وَإِنْ كَانَ لَهَا جُرْمٌ كَثِيفٌ: فَإِنْ كَانَ مَنِيًّا فَإِنَّهُ يَطْهُرُ بِالْحَتِّ بِالإِْجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ كَالْعَذِرَةِ وَالدَّمِ الْغَلِيظِ، وَالرَّوْثِ يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لاَ يَطْهُرُ إِلاَّ بِالْغَسْل (2) .
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي: (طَهَارَةٍ ف 24) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 73.
(2) بدائع الصنائع 1 / 84، ومراقي الفلاح ص 43 - 44.

(37/261)


مَسْحٌ عَلَى الْخُفَّيْنِ
التَّعْرِيفُ
1 - الْمَسْحُ لُغَةً مَصْدَرُ مَسَحَ، وَمَعْنَاهُ: إِمْرَارُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ بَسْطًا (1) .
وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ: إِصَابَةُ الْبَلَّةِ لِخُفٍّ مَخْصُوصٍ فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ وَزَمَنٍ مَخْصُوصٍ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْغَسْل:
2 - الْغَسْل لُغَةً بِفَتْحِ الْغَيْنِ مَصْدَرُ غَسَل، وَهُوَ سَيَلاَنُ الْمَاءِ عَلَى الشَّيْءِ مُطْلَقًا.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: إِفَاضَةُ الْمَاءِ الطَّهُورِ عَلَى الشَّيْءِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ (3) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْغَسْل يَكُونُ سَبَبًا لإِِزَالَةِ الْحَدَثِ.

مَشْرُوعِيَّةُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ:
2 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ بِالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُطَهَّرَةِ (4) ، وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
__________
(1) انظر القاموس المحيط، ومقاييس اللغة، والتعريفات للجرجاني.
(2) الدر المختار 1 / 174.
(3) مختار الصحاح واللباب 1 / 14.
(4) شرح السنة 1 / 464، والفتح الرباني 2 / 69، وأبو داود 1 / 36، وصحيح مسلم 3 / 175، وتحفة الأحوذي 1 / 316.

(37/261)


رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ " لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَل الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلاَهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ (1) .
وَمَا رَوَاهُ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ بَال ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، فَقِيل لَهُ: أَتَفْعَل هَذَا؟ فَقَال: نَعَمْ، رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَال ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ (2) ، وَإِسْلاَمُ جَرِيرٍ كَانَ بَعْدَ نُزُول الْمَائِدَةِ الَّتِي فِيهَا قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (3) ، وَالَّتِي قِيل إِنَّهَا نَاسِخَةٌ لِلْمَسْحِ. وَقَدْ رَوَى مَشْرُوعِيَّةَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَانِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْهُمُ الْعَشَرَةُ (4) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ:
4 - الأَْصْل فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ الْجَوَازُ، وَالْغَسْل أَفْضَل عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ رُخْصَةٌ مِنَ الشَّارِعِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ أَنْ
__________
(1) حديث: " لو كان الدين بالرأي. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 114) وصححه ابن حجر في " التلخيص الحبير " (1 / 160) .
(2) نصب الراية 1 / 162، وسنن النسائي 1 / 69، وسنن ابن ماجه 1 / 102، وتحفة الأحوذي 3 / 313، 315.
(3) سورة المائدة / 6.
(4) الدر المختار 1 / 177.

(37/262)


تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُجْتَنَبَ نَوَاهِيهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الأَْفْضَل الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَخْذًا بِالرُّخْصَةِ وَلأَِنَّ كُلًّا مِنَ الْغَسْل وَالْمَسْحِ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ (1) .
وَقَدْ يَجِبُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ كَأَنْ خَافَ فَوْتَ عَرَفَةَ أَوْ إِنْقَاذَ أَسِيرٍ أَوِ انْصَبَّ مَاؤُهُ عِنْدَ غَسْل رِجْلَيْهِ وَوَجَدَ بَرْدًا لاَ يَذُوبُ يَمْسَحُ بِهِ، أَوْ ضَاقَ الْوَقْتُ وَلَوِ اشْتَغَل بِالْغَسْل لَخَرَجَ الْوَقْتُ، أَوْ خَشِيَ أَنْ يَرْفَعَ الإِْمَامُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ الثَّانِي فِي الْجُمُعَةِ، أَوْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ عَلَى مَيِّتٍ وَخِيفَ انْفِجَارُهُ لَوْ غَسَل أَوْ كَانَ لاَبِسَ الْخُفِّ بِشَرْطِهِ مُحْدِثًا وَدَخَل الْوَقْتُ وَعِنْدَهُ مَا يَكْفِي الْمَسْحَ فَقَطْ (2) .

حِكْمَةُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ:
5 - الْحِكْمَةُ مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ التَّيْسِيرُ وَالتَّخْفِيفُ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ الَّذِينَ يُشَقُّ عَلَيْهِمْ نَزْعُ الْخُفِّ وَغَسْل الرِّجْلَيْنِ خَاصَّةً فِي أَوْقَاتِ الشِّتَاءِ وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ، وَفِي السَّفَرِ وَمَا يُصَاحِبُهُ مِنَ الاِسْتِعْجَال وَمُوَاصَلَةِ السَّفَرِ.
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 63، منتهى الإرادات 1 / 23، الشرح الصغير 1 / 227، والمجموع 1 / 502 والفواكه الدواني 1 / 187، 188، وفتح القدير 1 / 126 - 128، وابن عابدين 1 / 264.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 176 ط. بولاق، ونهاية المحتاج 1 / 184 ومطالب أولي النهى 1 / 125.

(37/262)


مُدَّةُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوْقِيتِ مُدَّةِ الْمَسْحِ عَلَى رَأْيَيْنِ:
الأَْوَّل: يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ تَوْقِيتَ مُدَّةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي الْحَضَرِ، وَثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا لِلْمُسَافِرِ (1) ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: جَعَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهِنَّ لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ (2) " وَسَوَاءٌ كَانَ سَفَرَ طَاعَةٍ أَوْ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ الْمُسَافِرَ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ يَمْسَحُ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَقَطْ كَالْمُقِيمِ، لأَِنَّ مَا زَادَ يَسْتَفِيدُهُ بِالسَّفَرِ وَهُوَ مَعْصِيَةٌ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَفَادَ بِهَا رُخْصَةٌ (3) .
الثَّانِي: يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَلَوْ لِمَعْصِيَةٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ بِزَمَانٍ، فَلاَ يَنْزِعُهُمَا إِلاَّ لِمُوجِبِ الْغُسْل، وَيُنْدَبُ لِلْمُكَلَّفِ نَزْعُهُمَا فِي كُل أُسْبُوعٍ مَرَّةً يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَوْ لَمْ يُرِدِ الْغَسْل لَهَا، وَنَزْعُهُمَا مَرَّةً فِي كُل أُسْبُوعٍ فِي مِثْل الْيَوْمِ الَّذِي لَبِسَهُمَا فِيهِ، فَإِذَا نَزَعَهُمَا لِسَبَبٍ أَوْ لِغَيْرِهِ
__________
(1) فتح القدير 1 / 127، 130.
(2) حديث: " جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام. . ". أخرجه مسلم (1 / 232) .
(3) مغني المحتاج 1 / 64، ومنتهى الإرادات 1 / 22، والمجموع 1 / 504، 510، وروضة الطالبين 1 / 131.

(37/263)


وَجَبَ غَسْل الرِّجْلَيْنِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ أُبَيُّ بْنُ عِمَارَةَ قَال: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ، أَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ قَال: نَعَمْ قُلْتُ: يَوْمًا؟ قَال: يَوْمًا قُلْتُ: يَوْمَيْنِ؟ قَال: يَوْمَيْنِ قُلْتُ: وَثَلاَثَةً:؟ قَال: وَمَا شِئْتَ (2) ".
وَلأَِنَّهُ مَسَحَ فِي طَهَارَةٍ فَلَمْ يَتَوَقَّتْ بِوَقْتٍ كَمَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ، وَلأَِنَّ التَّوْقِيتَ لاَ يُؤَثِّرُ فِي نَقْضِ الطَّهَارَةِ، إِنَّمَا النَّاقِضُ لِلطَّهَارَةِ الْحَدَثُ مِنَ الْبَوْل وَالْغَائِطِ وَالْجَنَابَةِ (3) .

13 15 شُرُوطُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ 7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغَسْل، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ نَزْعُ الْخُفِّ وَالاِغْتِسَال، كَمَا ذَهَبُوا إِلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مِنَ الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ بِشُرُوطٍ مُعَيَّنَةٍ، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ، شُرُوطٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَشُرُوطٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، اشْتَرَطَهَا الْبَعْضُ، وَلَمْ يَشْتَرِطْهَا الْبَعْضُ الآْخَرُ.
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 152، 153، 158، وجواهر الإكليل 1 / 24.
(2) حديث: " يا رسول الله، أمسح على الخفين؟ : قال: " نعم. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 109) والدارقطني في السنن (1 / 198) وقال الدارقطني: " هذا إسناد لا يثبت "، وضعفه ابن حجر في " التلخيص الحبير " (1 / 162) .
(3) الفتح الرباني 2 / 67، ونصب الراية 1 / 167، والفواكه الدواني 1 / 188، ونيل الأوطار 1 / 218.

(37/263)


الشُّرُوطُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا:
8 - أ - أَنْ يَلْبَسَ الْخُفَّيْنِ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ، لِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَال: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَأَهْوَيْتُ لأَِنْزِعَ خُفَّيْهِ فَقَال: دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ، فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا (1) ".
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ جُزْئِيَّاتِ هَذَا الشَّرْطِ، فَالْجُمْهُورُ غَيْرُ الشَّافِعِيَّةِ يَشْتَرِطُونَ أَنْ تَكُونَ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ مِنْ وُضُوءٍ أَوْ غُسْلٍ، أَمَا الشَّافِعِيَّةُ فَيُجَوِّزُونَ أَنْ تَكُونَ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ أَوْ بِالتَّيَمُّمِ، وَلَكِنْ لَيْسَ لِفَقْدِ الْمَاءِ مَثَلاً، بَل لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ.
وَيَرَى الْجُمْهُورُ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ تَكُونَ الطَّهَارَةُ كَامِلَةً بِأَنْ يَلْبَسَهُمَا بَعْدَ تَمَامِ الطَّهَارَةِ بِالْوُضُوءِ أَوْ بِالْغُسْل، بَيْنَمَا يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنْ تَكُونَ الطَّهَارَةُ كَامِلَةً وَلَوْ لَمْ يُرَاعِ فِيهَا التَّرْتِيبَ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ، إِذْ أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الْوُضُوءِ لَيْسَ شَرْطًا عِنْدَهُمْ، وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَلَوْ غَسَل رِجْلَيْهِ أَوَّلاً ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، وَغَسَل وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثُمَّ لَبِسَ الْخُفَّ فَيَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ عِنْدَ انْتِقَاضِ وُضُوئِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ دُونَ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 230، والمبسوط 2 / 135، مغني المحتاج 1 / 65، وفتح القدير 1 / 128. وحديث المغيرة بن شعبة: " كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 309) .

(37/264)


الْجُمْهُورِ (1) .
ب - أَنْ يَكُونَ الْخُفُّ طَاهِرًا، فَلاَ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى خُفٍّ نَجِسٍ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْل الدَّبْغِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَلاَ بَعْدَ الدَّبْغِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ الدِّبَاغَ مُطَهِّرٌ عِنْدَ الأَْوَّلِينَ غَيْرُ مُطَهِّرٍ عِنْدَ الآْخِرِينَ، وَالنَّجَسُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
ج - أَنْ يَكُونَ الْخُفُّ سَاتِرًا لِلْمَحَل الْمَفْرُوضِ غَسْلُهُ فِي الْوُضُوءِ فَلاَ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى خُفٍّ غَيْرِ سَاتِرٍ لِلْكَعْبَيْنِ مَعَ الْقَدَمِ (2) .
د - إِمْكَانِيَّةُ مُتَابَعَةِ الْمَشْيِ فِيهِمَا، وَتَفْصِيل هَذَا الشَّرْطِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
يَرَى الْحَنَفِيَّةُ إِمْكَانِيَّةَ مُتَابَعَةِ الْمَشْيِ الْمُعْتَادِ فِيهِمَا فَرْسَخًا فَأَكْثَرَ، وَفِي قَوْلٍ: مُدَّةُ السَّفَرِ الشَّرْعِيِّ لِلْمُسَافِرِ، فَلاَ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ الرَّقِيقِ الَّذِي يَتَخَرَّقُ مِنْ مُتَابَعَةِ الْمَشْيِ فِي هَذِهِ الْمَسَافَةِ، كَمَا لاَ يَجُوزُ اتِّخَاذُ الْخُفِّ مِنَ الْخَشَبِ أَوِ الزُّجَاجِ أَوِ الْحَدِيدِ، كَمَا لاَ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ الَّذِي لاَ يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرِّجْل مِنْ غَيْرِ شَدٍّ (3) .
__________
(1) منتهى الإرادات 1 / 22، والمجموع 1 / 522، ومغني المحتاج 1 / 65، وأوجز المسالك 1 / 251، والفواكه الدواني 1 / 188، وفتح القدير 1 / 130.
(2) مغني المحتاج 1 / 65، ومنتهى الإرادات 1 / 23، والشرح الصغير 1 / 229، والدر المختار 1 / 47، ونيل الأوطار 1 / 78، 79، وابن عابدين 1 / 261، 262.
(3) ابن عابدين 1 / 263، 264.

(37/264)


وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ لِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِمْكَانِيَّةَ مُتَابَعَةِ الْمَشْيِ فِيهِ عَادَةً فَلاَ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى خُفٍّ وَاسِعٍ لاَ يَسْتَمْسِكُ عَلَى الْقَدَمِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ لِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِمْكَانِيَّةَ التَّرَدُّدِ فِيهِمَا لِقَضَاءِ الْحَاجَاتِ مُدَّةَ الْمَسْحِ الْمُقَرَّرَةِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُتَّخَذِ مِنْ جِلْدٍ أَوْ غَيْرِهِ كَلِبْدٍ وَزُجَاجٍ وَنَحْوِهِمَا.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنْ يَكُونَ الْخُفَّانِ مِنْ جِلْدٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ نَحْوِهِ، بِشَرْطِ إِمْكَانِيَّةِ مُتَابَعَةِ الْمَشْيِ فِيهِمَا عُرْفًا، بِشَرْطِ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى الْقَدَمِ (1) . 13 15

الشُّرُوطُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا
9 - أ - أَنْ يَكُونَ الْخُفُّ سَلِيمًا مِنَ الْخُرُوقِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي مِقْدَارِ الْخَرْقِ الَّذِي مَنَعَ مِنَ الْمَسْحِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ الَّذِي بِهِ خَرْقٌ يَسِيرٌ دَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ، إِذْ أَنَّ الْخِفَافَ لاَ تَخْلُو عَنْ خَرْقٍ فِي الْعَادَةِ، وَمِقْدَارُ ثَلاَثِ أَصَابِعَ مِنْ أَصْغَرِ أَصَابِعِ الْقَدَمِ أَوْ قَدْرُ ثُلُثِ الْقَدَمِ مِقْدَارٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ عِنْدَهُمَا عَلَى التَّوَالِي:
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى خُفٍّ بِهِ خَرْقٌ مَهْمَا كَانَ صَغِيرًا لأَِنَّهُ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 66، والشرح الصغير 1 / 229 ومنتهى الإرادات 1 / 22.

(37/265)


عِنْدَئِذٍ لاَ يَكُونُ سَاتِرًا لِجَمِيعِ الْقَدَمِ، وَمَا انْكَشَفَ مِنَ الْقَدَمِ حُكْمُهُ الْغَسْل وَمَا اسْتَتَرَ حُكْمُهُ الْمَسْحُ، وَلاَ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْغَسْل وَالْمَسْحِ فِي آنٍ وَاحِدٍ (1) .
ب - أَنْ يَكُونَ الْخُفُّ مِنَ الْجِلْدِ، وَهَذَا الشَّرْطُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ تَمَسَّكُوا بِهَذَا الشَّرْطِ فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ الْمُتَّخَذِ مِنَ الْقُمَاشِ كَمَا لاَ يَصِحُّ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوَارِبِ الْمَصْنُوعَةِ مِنَ الصُّوفِ أَوِ الْقُطْنِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ إِلاَّ إِذَا كُسِيَتْ بِالْجِلْدِ، كَمَا اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الْجِلْدُ مَخْرُوزًا أَوْ مَخِيطًا، فَلاَ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الَّذِي يَتَمَاسَكُ بِاللِّزْقِ. وَيَرَى الْجُمْهُورُ غَيْرُ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ الْمَصْنُوعِ مِنَ الْجِلْدِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْخُفُّ مَانِعًا مِنْ وُصُول الْمَاءِ إِلَى الْقَدَمِ مَعَ بَقِيَّةِ الشُّرُوطِ الأُْخْرَى، لأَِنَّ الْغَالِبَ فِي الْخُفِّ كَوْنُهُ كَذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ يَسْتَمْسِكُ عَلَى الْقَدَمِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالشَّدِّ بِوَاسِطَةِ الْعُرَى وَالسُّيُورِ وَالرِّبَاطِ (2) .

ج - أَنْ يَكُونَ الْخُفُّ مُفْرَدًا، بِأَنْ يَلْبَسَهُ وَحْدَهُ، فَلَوْ لَبِسَ فَوْقَهُ غَيْرَهُ كَمَا هُوَ الْحَال بِالنِّسْبَةِ لِلْجُرْمُوقِ - وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُلْبَسُ فَوْقَ
__________
(1) منتهى الإرادات 1 / 22، والمجموع 1 / 522، ومغني المحتاج 1 / 67 وشرح معاني الآثار 1 / 98.
(2) الشرح الصغير 1 / 229، وجواهر الإكليل 1 / 24، وفتح القدير 1 / 127.

(37/265)


الْخُفِّ - فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.
يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْجُرْمُوقِ لِحَدِيثِ رُؤْيَةِ بِلاَل بْنِ رَبَاحٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى مُوقَيْهِ وَهُوَ الْجُرْمُوقُ عِنْدَهُمْ (1) .
وَيَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ ثَلاَثَةَ شُرُوطٍ لِصِحَّةِ الْمَسْحِ عَلَى الْجُرْمُوقِ
الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الأَْعْلَى مِنَ الْجِلْدِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ جِلْدٍ صَحَّ الْمَسْحُ عَلَيْهِ إِنْ وَصَل الْمَاءُ إِلَى الأَْسْفَل.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الأَْعْلَى صَالِحًا لِلْمَشْيِ فِيهِ وَحْدَهُ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُلْبَسَا عَلَى طَهَارَةٍ، فَكَمَا لَبِسَ الأَْسْفَل عَلَى طَهَارَةٍ يَجِبُ أَنْ يَلْبَسَ الأَْعْلَى عَلَى طَهَارَةٍ كَذَلِكَ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَال النَّوَوِيُّ: الْجُرْمُوقُ: هُوَ الَّذِي يُلْبَسُ فَوْقَ الْخُفِّ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ غَالِبًا - فَإِذَا لَبِسَ خُفًّا فَوْقَ خُفٍّ، فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الأَْعْلَى صَالِحًا لِلْمَسْحِ عَلَيْهِ دُونَ الأَْسْفَل، لِضَعْفِهِ أَوْ لِخَرْقِهِ، فَالْمَسْحُ عَلَى الأَْعْلَى خَاصَّةً.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 179، وجواهر الإكليل 1 / 24، 25 وحديث بلال رضي الله عنه: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم. . الخ. أخرجه أبو داود (1 / 106 - 107) ، والحاكم في " المستدرك " (1 / 170) وقال الحاكم: " هذا حديث صحيح ".
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 179.

(37/266)


الثَّانِي: عَكْسُهُ، فَالْمَسْحُ عَلَى الأَْسْفَل خَاصَّةً، فَلَوْ مَسَحَ الأَْعْلَى فَوَصَل الْبَلَل إِلَى الأَْسْفَل، فَإِنْ قَصَدَ مَسْحَ الأَْسْفَل أَجْزَأَهُ، وَكَذَا إِنْ قَصَدَهُمَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِنْ قَصَدَ الأَْعْلَى لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ وَاحِدًا، بَل قَصَدَ الْمَسْحَ فِي الْجُمْلَةِ، أَجْزَأَهُ عَلَى الأَْصَحِّ، لِقَصْدِهِ إِسْقَاطَ فَرْضِ الرِّجْل بِالْمَسْحِ.
الثَّالِثُ: أَنْ لاَ يَصْلُحَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَيُتَعَذَّرُ الْمَسْحُ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَصْلُحَا كِلاَهُمَا، فَفِي الْمَسْحِ عَلَى الأَْعْلَى وَحْدَهُ قَوْلاَنِ: الْقَدِيمُ جَوَازُهُ، وَالْجَدِيدُ مَنْعُهُ.
قُلْتُ: الأَْظْهَرُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْجَدِيدُ، وَصَحَّحَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي شَرْحِ " الْفُرُوعِ " الْقَدِيمَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَإِنْ لَبِسَ خُفًّا فَلَمْ يُحْدِثْ حَتَّى لَبِسَ عَلَيْهِ آخَرَ وَكَانَ الْخُفَّانِ صَحِيحَيْنِ مَسَحَ أَيَّهُمَا شَاءَ، إِنْ شَاءَ مَسَحَ الْفَوْقَانِيَّ لأَِنَّهُ خُفٌّ سَاتِرٌ ثَبَتَ بِنَفْسِهِ، أَشْبَهَ الْمُنْفَرِدَ، وَإِنْ شَاءَ مَسَحَ التَّحْتَانِيَّ، بِأَنْ يُدْخِل يَدَهُ مِنْ تَحْتِ الْفَوْقَانِيِّ فَيَمْسَحُ عَلَيْهِ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحِلٌّ لِلْمَسْحِ فَجَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَبِسَ أَحَدَ الْجُرْمُوقَيْنِ فِي أَحَدِ الرِّجْلَيْنِ فَوْقَ خُفِّهَا دُونَ الرِّجْل الأُْخْرَى فَلَمْ يَلْبَسْ فِيهَا جَوْرَبًا بَل الْخُفَّ فَقَطْ جَازَ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبِ الَّذِي
__________
(1) الروضة 1 / 127.

(37/266)


لَبِسَهُ فَوْقَ الْخُفِّ وَعَلَى الْخُفِّ الَّذِي فِي الرِّجْل الأُْخْرَى لأَِنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِهِ وَبِالْخُفِّ الَّذِي فِي الرِّجْل الأُْخْرَى، فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ شَيْءٌ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْخُفَّيْنِ صَحِيحًا وَالآْخَرُ مُفَتَّقًا جَازَ الْمَسْحُ عَلَى الْفَوْقَانِيِّ لأَِنَّهُمَا كَخُفٍّ وَاحِدٍ، وَكَذَا إِنْ لَبِسَ عَلَى صَحِيحٍ مُخَرَّقًا نَصَّ عَلَيْهِ، وَلاَ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ التَّحْتَانِيِّ إِذَا كَانَ أَحَدُ الْخُفَّيْنِ صَحِيحًا وَالآْخَرُ مُفَتَّقًا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ التَّحْتَانِيُّ هُوَ الصَّحِيحُ فَيَصِحُّ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ سَاتِرٌ بِنَفْسِهِ أَشْبَهَ مَا لَوِ انْفَرَدَ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ الْفَوْقَانِيُّ هُوَ الصَّحِيحُ فَلاَ يَصِحُّ الْمَسْحُ عَلَى التَّحْتَانِيِّ، لأَِنَّهُ غَيْرُ سَاتِرٍ بِنَفْسِهِ، قَال فِي الإِْنْصَافِ: وَكُلٌّ مِنَ الْخُفِّ الْفَوْقَانِيِّ وَالتَّحْتَانِيِّ بَدَلٌ مُسْتَقِلٌّ مِنَ الْغَسْل عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانَ الْخُفَّانِ مُخَرَّقَيْنِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا فَوْقَ الآْخَرِ وَسَتَرَا مَحِل الْفَرْضِ لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا وَلاَ عَلَى أَحَدِهِمَا، لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ صَالِحٍ لِلْمَسْحِ عَلَى انْفِرَادِهِ، كَمَا لَوْ لَبِسَ مُخَرَّقًا فَوْقَ لِفَافَةٍ وَإِنْ نَزَعَ الْفَوْقَانِيَّ قَبْل مَسْحِهِ لَمْ يُؤَثِّرْ كَمَا لَوِ انْفَرَدَ، وَإِنْ تَوَضَّأَ وَلَبِسَ خُفًّا ثُمَّ أَحْدَثَ ثُمَّ لَبِسَ الْخُفَّ الآْخَرَ لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ لَبِسَهُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، بَل يَمْسَحُ عَلَى الأَْسْفَل أَوْ مَسَحَ الْخُفَّ الأَْوَّل بَعْدَ حَدَثِهِ ثُمَّ لَبِسَ الْخُفَّ الثَّانِيَ وَلَوْ عَلَى طَهَارَةٍ لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَى الثَّانِي، لأَِنَّ الْخُفَّ

(37/267)


الْمَمْسُوحَ بَدَلٌ عَنْ غَسْل مَا تَحْتَهُ، وَالْبَدَل لاَ يَجُوزُ لَهُ بَدَلٌ آخَرُ، بَل يَمْسَحُ عَلَى الأَْسْفَل لأَِنَّ الرُّخْصَةَ تَعَلَّقَتْ بِهِ، وَإِنْ لَبِسَ خُفًّا عَلَى آخَرَ قَبْل الْحَدَثِ وَمَسَحَ الأَْعْلَى، ثُمَّ نَزَعَ الْمَمْسُوحَ الأَْعْلَى لَزِمَهُ نَزْعُ التَّحْتَانِيِّ وَإِعَادَةُ الْوُضُوءِ، لأَِنَّهُ مَحَل الْمَسْحِ، وَنَزْعُهُ كَنَزْعِهِمَا، وَالرُّخْصَةُ تَعَلَّقَتْ بِهِمَا، فَصَارَ كَانْكِشَافِ الْقَدَمِ (1) .

د - أَنْ يَكُونَ لُبْسُ الْخُفِّ مُبَاحًا:
وَهَذَا الشَّرْطُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَهُمْ لاَ يُجَوِّزُونَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ الْمَغْصُوبِ أَوِ الْمَسْرُوقِ أَوِ الْمُتَّخَذِ مِنْ جِلْدِ الْخِنْزِيرِ أَوِ الْحَرِيرِ، وَلَوْ كَانَ لُبْسُ الْمُحَرَّمِ لِضَرُورَةِ الْبَرْدِ وَالثَّلْجِ كَمَا يَرَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُبَاحًا (2) ، وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْمَسْحُ لِلْمُحْرِمِ بِحَجِّ أَوْ عُمْرَةٍ لأَِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ.
هـ - أَنْ لاَ يَكُونَ شَفَّافًا تَظْهَرُ الْقَدَمُ مِنْ خِلاَلِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي.
يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْخُفِّ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ وُصُول الْمَاءِ إِلَى الْقَدَمِ سَوَاءٌ أَكَانَ رَقِيقًا أَمْ سَمِيكًا، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ وُصُول الْمَاءِ.
__________
(1) كشاف القناع 1 / 117، 118.
(2) الشرح الصغير 1 / 229، والمجموع 1 / 531 - 534، 538، ومغني المحتاج 1 / 66، 67.

(37/267)


وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْخُفُّ مِنْ جِلْدٍ كَمَا سَبَقَ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْخُفِّ أَنْ لاَ يَصِفَ الْبَشَرَةَ لِصَفَائِهِ أَوْ خِفَّتِهِ (1) .
و أَنْ يَبْقَى مِنْ مَحَل الْغَسْل فِي الْوُضُوءِ مِنَ الْقَدَمِ شَيْءٌ.
قَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ لَهُ رِجْلٌ وَاحِدَةٌ لَمْ يَبْقَ مِنْ فَرْضِ الرِّجْل الأُْخْرَى شَيْءٌ فَلَبِسَ مَا يَصِحُّ الْمَسْحُ عَلَيْهِ فِي الْبَاقِيَةِ جَازَ لَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ سَاتِرٌ لِفَرْضِهِ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ لَبِسَ خُفًّا فِي إِحْدَى رِجْلَيْهِ مَعَ بَقَاءِ الأُْخْرَى أَوْ بَعْضِهَا وَأَرَادَ الْمَسْحَ عَلَيْهِ وَغَسَل الأُْخْرَى أَوْ مَا بَقِيَ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ، بَل يَجِبُ غَسْل مَا فِي الْخُفِّ تَبَعًا لِلَّتِي غَسَلَهَا؛ لِئَلاَّ يَجْمَعَ بَيْنَ الْبَدَل وَالْمُبْدَل فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ (2) .

كَيْفِيَّةُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَمِقْدَارُهُ
10 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْوَاجِبَ الْمَسْحُ بِقَدْرِ ثَلاَثِ أَصَابِعَ مِنْ أَصْغَرِ أَصَابِعِ الْيَدِ عَلَى ظَاهِرِ الْخُفِّ فَقَطْ مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَكَيْفِيَّتُهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الْقَدَمِ خُطُوطًا إِلَى جِهَةِ السَّاقِ، فَيَضَعُ
__________
(1) منتهى الإرادات 1 / 23، والدر المختار 1 / 50، كشف الحقائق 1 / 24، وجواهر الإكليل 1 / 24.
(2) كشاف القناع 1 / 111، 112.

(37/268)


أَصَابِعَ يَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى مُقَدَّمِ خُفِّ رِجْلِهِ الْيُمْنَى، وَيَضَعُ أَصَابِعَ يَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى مُقَدَّمِ خُفِّ رِجْلِهِ الْيُسْرَى، وَيُفَرِّجُ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدِهِ قَلِيلاً، بِحَيْثُ يَعُمُّ الْمَسْحُ أَكْبَرَ قَدْرٍ مُمْكِنٍ مِنَ الْخُفِّ، وَلَذَلِكَ لاَ يَصِحُّ الْمَسْحُ عَلَى بَاطِنِ الْقَدَمِ وَلاَ عَلَى جَوَانِبِهِ وَلاَ عَلَى عَقِبِهِ وَلاَ سَاقِهِ، كَمَا لاَ يُسَنُّ تَكْرَارُ الْمَسْحِ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وُجُوبَ مَسْحِ جَمِيعِ ظَاهِرِ الْخُفِّ، كَمَا يُسْتَحَبُّ مَسْحُ أَسْفَلِهِ أَيْضًا، فَيَضَعُ أَصَابِعَ يَدِهِ الْيُمْنَى فَوْقَ أَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلِهِ الْيُمْنَى وَيَضَعُ أَصَابِعَ يَدِهِ الْيُسْرَى تَحْتَ أَصَابِعِ رِجْلِهِ الْيُمْنَى، وَيَمُرُّ بِكِلْتَا يَدَيْهِ عَلَى خُفِّ رِجْلِهِ الْيُمْنَى بِاتِّجَاهِ الْكَعْبَيْنِ، وَيَضَعُ أَصَابِعَ يَدِهِ الْيُسْرَى فَوْقَ أَطْرَافِ رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَيَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ أَصَابِعِهَا، وَيَمُرُّ بِكِلْتَا يَدَيْهِ عَلَى خُفِّ رِجْلِهِ الْيُسْرَى بِاتِّجَاهِ الْكَعْبَيْنِ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ قَدْ مَسَحَ جَمِيعَ الْخُفِّ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ (2) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْمَسْحَ الْوَاجِبَ هُوَ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مُسَمَّى مَسْحٍ فِي مَحِل الْفَرْضِ، وَهُوَ مَسْحُ ظَاهِرِ الْخُفِّ، فَلاَ يَمْسَحُ أَسْفَلَهُ وَلاَ عَقِبَهُ وَلاَ جَوَانِبَهُ، لإِِطْلاَقِ الْمَسْحِ بِدُونِ تَقْدِيرٍ، فَيُكْتَفَى بِمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ، إِلاَّ
__________
(1) تحفة الأحوذي 3 / 324، 325، والدر المختار 1 / 48، كشف الحقائق 1 / 24، فتح القدير 1 / 131، 132، وابن عابدين 1 / 267.
(2) الشرح الصغير 1 / 235، أوجز المسالك 1 / 252، والفواكه الدواني 1 / 189.

(37/268)


أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُعَمِّمَ الْمَسْحَ عَلَى ظَاهِرِ وَبَاطِنِ الْخُفِّ خُطُوطًا (1) ، كَالْمَالِكِيَّةِ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي مَسْحِ الْخُفِّ هُوَ مَسْحُ أَكْثَرِ مُقَدَّمِ ظَاهِرِ الْخُفِّ خُطُوطًا بِالأَْصَابِعِ، وَلاَ يُسَنُّ مَسْحُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ بَاطِنِ الْخُفِّ أَوْ جَوَانِبِهِ أَوْ عَقِبِهِ أَوْ سَاقِهِ (2) ، لأَِنَّ لَفْظَ الْمَسْحِ وَرَدَ مُطْلَقًا فِي الأَْحَادِيثِ وَفَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِعْلِهِ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى خُفِّهِ الأَْيْمَنِ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى خُفِّهِ الأَْيْسَرِ، ثُمَّ مَسَحَ أَعْلاَهُمَا مَسْحَةً وَاحِدَةً، حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَثَرِ أَصَابِعِهِ عَلَى الْخُفَّيْنِ (3) .

14 نَوَاقِضُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ
11 - يُنْتَقَضُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي الْحَالاَتِ التَّالِيَةِ:
1 - نَوَاقِضُ الْوُضُوءِ، فَكُل مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ يَنْقُضُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، لأَِنَّ الْمَسْحَ بَدَلٌ عَنْ بَعْضِ الْوُضُوءِ، وَالْبَدَل يَنْقُضُهُ نَاقِضُ الأَْصْل، فَإِذَا انْتَقَضَ وُضُوءُ مَنْ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ تَوَضَّأَ مِنْ جَدِيدٍ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ إِنْ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 67، وروضة الطالبين 1 / 130.
(2) منتهى الإرادات 1 / 23، وكشاف القناع 1 / 118.
(3) فتح القدير 1 / 131. وحديث المغيرة بن شعبة: " توضأ النبي صلى الله عليه وسلم ومسح على الخفين ". أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " (1 / 292) وضعفه ابن حجر في " التلخيص الحبير " (1 / 161) .

(37/269)


كَانَتْ مُدَّةُ الْمَسْحِ بَاقِيَةً، وَإِلاَّ خَلَعَ خُفَّيْهِ وَغَسَل رِجْلَيْهِ.
2 - وُجُودُ مُوجِبٍ لِلْغُسْل كَالْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُ هَذِهِ الْمُوجِبَاتِ انْتَقَضَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَوَجَبَ نَزْعُهُمَا وَغَسْل جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَيُجَدِّدُ الْمَسْحَ عَلَى خُفَّيْهِ بَعْدَ لُبْسِهِمَا بَعْدَ تَمَامِ الطَّهَارَةِ إِنْ أَرَادَ ذَلِكَ (1) .
3 - نَزْعُ الْخُفَّيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَإِذَا خَرَجَتْ رِجْلاَهُ أَوْ إِحْدَاهُمَا بِنَزْعِ الْخُفِّ أَوْ بِخُرُوجِ قَدَمَيْهِ أَوْ إِحْدَاهُمَا أَوْ خُرُوجِ أَكْثَرِ الْقَدَمِ خَارِجَ الْخُفِّ انْتَقَضَ الْمَسْحُ، وَذَلِكَ لِمُفَارَقَةِ مَحَل الْمَسْحِ - الْقَدَمَيْنِ - مَكَانَهُ، وَالأَْكْثَرُ لَهُ حُكْمُ الْكُل مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَجِبُ غَسْل قَدَمَيْهِ جَمِيعًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ غَيْرِ الْحَنَابِلَةِ لِبُطْلاَنِ طُهْرِهِمَا بِزَوَال الْبَدَل وَهُوَ الْمَسْحُ، وَبِزَوَال الْبَدَل نَرْجِعُ إِلَى الأَْصْل وَهُوَ الْغَسْل. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا نَزَعَ خُفَّيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا أَوْ خَرَجَتْ قَدَمَاهُ أَوْ إِحْدَاهُمَا أَوْ أَكْثَرُهَا مِنَ الْخُفِّ وَجَبَ إِعَادَةُ الْوُضُوءِ كُلِّهِ، لأَِنَّ الْمَسْحَ أُقِيمَ مَقَامَ الْغَسْل فَإِذَا أَزَال الْمَمْسُوحَ بَطَلَتِ الطَّهَارَةُ فِي الْقَدَمَيْنِ فَتَبْطُل فِي جَمِيعِهَا
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 232، والدر المختار 1 / 49، 50، والفواكه الدواني 1 / 190، ومغني المحتاج 1 / 68، وروضة الطالبين 1 / 133، وجواهر الإكليل 1 / 25، وفتح القدير 1 / 132، 133.

(37/269)


لِكَوْنِهَا لاَ تَتَبَعَّضُ (1) .
4 - مُضِيُّ الْمُدَّةِ: فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْمَسْحِ وَهِيَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ لِلْمُقِيمِ وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا لِلْمُسَافِرِ، انْتَقَضَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَوَجَبَ نَزْعُهُمَا وَغَسْل الرِّجْلَيْنِ فَقَطْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِذَا ظَل مُتَوَضِّئًا وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، لأَِنَّ الْحَدَثَ اقْتَصَرَ عَلَى مَوْضِعِ الْخُفِّ وَهُوَ الْقَدَمَانِ فَقَطْ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجِبُ إِعَادَةُ الْوُضُوءِ كُلِّهِ إِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمَسْحِ الَّتِي يُنْتَقَضُ مَعَهَا الْوُضُوءُ لاِنْتِقَاضِهِ فِي الْقَدَمَيْنِ، لأَِنَّ الْحَدَثَ كُلٌّ لاَ يَتَبَعَّضُ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
5 - ظُهُورُ الرِّجْلَيْنِ أَوْ بَعْضِهِمَا بِتَخَرُّقِ الْخُفَّيْنِ أَوْ بِسُقُوطِهِمَا عَنْ مَوْضُوعِ الْمَسْحِ، وَيُنْتَقَضُ كَذَلِكَ بِظُهُورِ قَدْرِ ثَلاَثِ أَصَابِعَ مِنْ أَصَابِعِ أَحَدِ الرِّجْلَيْنِ كَمَا يَرَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، أَوْ بِظُهُورِ قَدْرِ ثُلُثِ الْقَدَمِ كَمَا يَرَى ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَجِبُ غَسْل الرِّجْلَيْنِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ غَيْرِ الْحَنَابِلَةِ لاِقْتِصَارِ النَّقْضِ عَلَى مَحَلِّهِ وَهُوَ الرِّجْلَيْنِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجِبُ إِعَادَةُ الْوُضُوءِ كُلِّهِ لأَِنَّهُ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 233، أوجز المسالك 1 / 251، كشف الحقائق 1 / 24، وروضة الطالبين 1 / 132، 133، وجواهر الإكليل 1 / 25، وفتح القدير 1 / 132، وكشاف القناع 1 / 121.
(2) كشف الحقائق 1 / 24، وروضة الطالبين 1 / 131، وفتح القدير 1 / 135، وكشاف القناع 1 / 121.

(37/270)


كُلٌّ لاَ يَتَبَعَّضُ (1) .
6 - إِصَابَةُ الْمَاءِ لِلرِّجْلَيْنِ مَعًا أَوْ لأَِكْثَرِ إِحْدَاهُمَا فِي الْخُفِّ، فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ نَاقِضًا لِلْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَيَجِبُ نَزْعُهُمَا وَغَسْل الرِّجْلَيْنِ إِذَا ظَل مُتَوَضِّئًا، لِلاِقْتِصَارِ عَلَى مَحِل الْحَدَثِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لاَ يُعْتَبَرُ وُصُول الْمَاءِ إِلَى الْقَدَمِ أَوْ إِلَى كِلَيْهِمَا نَاقِضًا لِلْمَسْحِ إِذَا كَانَ الْمَاءُ طَاهِرًا (2) . 14

مَكْرُوهَاتُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْمَسْحِ لأَِنَّ الأَْحَادِيثَ النَّبَوِيَّةَ حَدَّدَتِ الْمَسْحَ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا يُكْرَهُ غَسْل الْخُفَّيْنِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُجْزِئُ غَسْل الْخُفَّيْنِ بَدَل مَسْحِهِمَا إِذَا نَوَى بِذَلِكَ رَفْعَ الْحَدَثِ عَنْ رِجْلَيْهِ وَلَوْ مَعَ نِيَّةِ إِزَالَةِ الْوَسَخِ، أَمَا إِذَا نَوَى قَلْعَ نَجَاسَةٍ عَلِقَتْ بِالْخُفِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ فَلاَ يُجْزِئُهُ (3) .
__________
(1) منتهى الإرادات 1 / 24، والدر المختار 1 / 49، جواهر الإكليل 1 / 24، وفتح القدير 1 / 132، وابن عابدين 1 / 273.
(2) مغني المحتاج 1 / 66، وجواهر الإكليل 1 / 24، 25، وابن عابدين 1 / 277، والشرح الصغير 1 / 157.
(3) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 144، 145، وتحفة المحتاج 1 / 254، ومنتهى الإرادات 1 / 24.

(37/270)


أَمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنْ غَسَل الْخُفَّ لِقَلْعِ النَّجَاسَةِ يُجْزِئُ عَنِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَنْوِ الْمَسْحَ لإِِتْيَانِهِ بِالْوَاجِبِ مِنَ الْمَسْحِ وَزِيَادَةٍ فِي مَحِلِّهِ (1) .

الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ:
13 - الْجَوْرَبُ هُوَ مَا يَلْبَسُهُ الإِْنْسَانُ فِي قَدَمَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ مَصْنُوعًا مِنَ الصُّوفِ أَوِ الْقُطْنِ أَوِ الْكَتَّانِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ فِي حَالَتَيْنِ.
1 - أَنْ يَكُونَ الْجَوْرَبَانِ مُجَلَّدَيْنِ، يُغَطِّيهِمَا الْجِلْدُ لأَِنَّهُمَا يَقُومَانِ مَقَامَ الْخُفِّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
2 - أَنْ يَكُونَ الْجَوْرَبَانِ مُنَعَّلَيْنِ، أَيْ لَهُمَا نَعْلٌ وَهُوَ يُتَّخَذُ مِنَ الْجِلْدِ، وَفِي الْحَالَتَيْنِ لاَ يَصِل الْمَاءُ إِلَى الْقَدَمِ، لأَِنَّ الْجِلْدَ لاَ يَشِفُّ الْمَاءَ (2) .
وَيَرَى الإِْمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبِ بِشَرْطَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ ثَخِينًا لاَ يَبْدُو مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْقَدَمِ.
الثَّانِي: أَنْ يُمْكِنَ مُتَابَعَةُ الْمَشْيُ فِيهِ وَأَنْ يَثْبُتَ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ شَدٍّ بِالْعُرَى وَنَحْوِهَا، وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَابِلَةُ أَنْ يَكُونَا مَنْعُولَيْنِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِالآْتِي:
__________
(1) الدر المختار 1 / 48.
(2) الشرح الصغير 1 / 229، وكشف الحقائق 1 / 25، والمجموع 1 / 526، وفتح القدير 1 / 138، 139.

(37/271)


أ - مَا رَوَاهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ (1) ".
وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ النَّعْلَيْنِ لَمْ يَكُونَا عَلَيْهِمَا، لأَِنَّهُمَا لَوْ كَانَا كَذَلِكَ لَمْ يَذْكُرِ النَّعْلَيْنِ فَإِنَّهُ لاَ يُقَال مَسَحْتُ عَلَى الْخُفِّ وَنَعْلِهِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ مَسَحُوا عَلَى الْجَوَارِبِ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ مُخَالِفٌ فِي عَصْرِهِمْ فَكَانَ إِجْمَاعًا (3) .
__________
(1) حديث: " توضأ ومسح على الجوربين والنعلين ". أخرجه أبو داود (1 / 112) ، والترمذي (1 / 167) وقال الترمذي: " هذا حديث حسن صحيح ".
(2) منتهى الإرادات 1 / 21، والمغني 1 / 294، 295.
(3) المغني 1 / 294، 295

(37/271)


مُسَخَّرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُسَخَّرُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ الْفِعْل سَخَّرَ، يُقَال: سَخَّرَهُ تَسْخِيرًا: كَلَّفَهُ عَمَلاً بِلاَ أُجْرَةٍ، وَرَجُلٌ سُخْرٌ يُسَخَّرُ فِي الأَْعْمَال.
وَالسُّخْرَةُ - وِزَانُ غُرْفَةٍ - مَا سَخَّرْتَ مِنْ خَادِمٍ أَوْ دَابَّةٍ بِلاَ أَجْرٍ وَلاَ ثَمَنٍ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهُ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْبَحْرِ فَقَال: الْمُسَخَّرُ: هُوَ أَنْ يَنْصِبَ الْقَاضِي وَكِيلاً عَنِ الْغَائِبِ لِيَسْمَعَ الْخُصُومَةَ عَلَيْهِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْوَكِيل:
2 - الْوَكِيل فِي اللُّغَةِ: مِنْ وَكَّلْتَ الأَْمْرَ إِلَى فُلاَنٍ: فَوَّضْتَهُ إِلَيْهِ وَاكْتَفَيْتَ بِهِ، وَوَكِيل الرَّجُل هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِأَمْرِهِ، وَوَكَّل إِلَيْهِ الأَْمْرَ: أَسْلَمَهُ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 339.

(37/272)


وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَكِيل وَالْمُسَخَّرِ هِيَ أَنَّ الْوَكِيل أَعَمُّ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِنَصْبِ الْقَاضِي وَقَدْ يَكُونُ بِنَصْبِ آحَادِ النَّاسِ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - يَنْبَنِي حُكْمُ نَصْبِ الْمُسَخَّرِ عَنِ الْغَائِبِ فِي الْخُصُومَةِ عَلَى حُكْمِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ إِلاَّ بِحُضُورِ نَائِبِهِ كَوَكِيلِهِ وَوَصِيِّهِ وَمُتَوَلِّي الْوَقْفِ أَوْ نَائِبِهِ شَرْعًا كَوَصِيِّ نَصَبَهُ الْقَاضِي (2) .
وَأَفْتَى خُوَاهَرْ زَادَهْ بِجَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ، وَلَذَلِكَ أَجَازَ الْقَضَاءَ عَلَى الْمُسَخَّرِ الَّذِي يَنْصِبُهُ الْقَاضِي وَكِيلاً عَنِ الْغَائِبِ، لأَِنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْمُسَخَّرِ هُوَ عَيْنُ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ (3) .
لَكِنِ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَلَى الْمُسَخَّرِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ وَذَلِكَ فِي خَمْسِ مَسَائِل.
الأُْولَى: اشْتَرَى بِالْخِيَارِ وَأَرَادَ الرَّدَّ فِي الْمُدَّةِ،
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، والتعريفات للجرجاني، والمغرب في ترتيب المعرب.
(2) الدر المختار على حاشية ابن عابدين 4 / 335، 336.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 339.

(37/272)


فَاخْتَفَى الْبَائِعُ فَطَلَبَ الْمُشْتَرِي مِنَ الْقَاضِي أَنْ يَنْصِبَ خَصْمًا عَنِ الْبَائِعِ لِيَرُدَّهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْنِ عَزَاهُمَا فِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ إِلَى الْخَانِيَةِ.
الثَّانِيَةُ: كَفَل بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَدَيْنُهُ عَلَى الْكَفِيل، فَغَابَ الطَّالِبُ فِي الْغَدِ فَلَمْ يَجِدْهُ الْكَفِيل، فَرُفِعَ الأَْمْرُ إِلَى الْقَاضِي فَنَصَبَ وَكِيلاً عَنِ الطَّالِبِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ الْمَكْفُول عَنْهُ، فَإِنَّهُ يَبْرَأُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهُوَ خِلاَفُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، إِنَّمَا هُوَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، قَال أَبُو اللَّيْثِ: لَوْ فَعَل بِهِ قَاضٍ عُلِمَ أَنَّ الْخَصْمَ تَغَيَّبَ لِذَلِكَ فَهُوَ حَسَنٌ (1) .
الثَّالِثَةُ: حَلِفُ الْمَدِينِ لَيُوفِيَنَّ الدَّائِنَ الْيَوْمَ، وَعَلَّقَ الْعِتْقَ أَوِ الطَّلاَقَ عَلَى عَدَمِ قَضَائِهِ الْيَوْمَ، ثُمَّ غَابَ الطَّالِبُ وَخَافَ الْحَالِفُ الْحِنْثَ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَنْصِبُ وَكِيلاً عَنِ الْغَائِبِ وَيَدْفَعُ الدَّيْنَ إِلَيْهِ وَلاَ يَحْنَثُ الْحَالِفُ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَفِي حَاشِيَةِ مِسْكِينٍ عَنْ شَرَفِ الدِّينِ الْغَزِّيِّ: أَنَّهُ لاَ حَاجَةَ إِلَى نَصْبِ الْوَكِيل لِقَبْضِ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ إِذَا دُفِعَ إِلَى الْقَاضِي بَرَّ فِي يَمِينِهِ عَلَى الْمُخْتَارِ الْمُفْتَى بِهِ كَمَا فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْمَذْهَبِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ قَاضٍ حَنِثَ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ (2) .

الرَّابِعَةُ: جَعَل الزَّوْجُ أَمْرَ زَوْجَتِهِ بِيَدِهَا إِنْ لَمْ تَصِلْهَا نَفَقَتُهَا، فَتَغَيَّبَتْ، لإِِيقَاعِ الطَّلاَقِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَنْصِبُ مَنْ يَقْبِضُ لَهَا (3) .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 4 / 339.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 4 / 339، 340.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 339 - 340.

(37/273)


الْخَامِسَةُ: لَوْ قَال رَجُلٌ لِلْقَاضِي: لِي عَلَى فُلاَنٍ حَقٌّ وَقَدْ تَوَارَى عَنِّي فِي مَنْزِلِهِ، فَأَتَى بِشَاهِدَيْنِ أَنَّهُ فِي مَنْزِلِهِ وَطَلَبَ الْمُدَّعِي أَنْ يَنْصِبَ لَهُ وَكِيلاً يَعْذُرُهُ الْقَاضِي فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ نَصَبَ لَهُ الْقَاضِي وَكِيلاً وَسَمِعَ شُهُودَ الْمُدَّعِي، وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِمَحْضَرِ وَكِيلِهِ (1) .
4 - أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يُجِيزُونَ الْحُكْمَ عَلَى الْغَائِبِ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ هَل يُقَدِّمُ الْقَاضِي لَهُ وَكِيلاً أَوْ لاَ؟
فَيَرَى ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبُغُ: أَنَّهُ لاَ تُرْجَى حُجَّةٌ لِغَائِبِ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنْ يُقَدِّمَ الْقَاضِي لَهُ وَكِيلاً يَقُومُ بِحُجَّتِهِ وَيُعْذِرُ إلَيْهِ، فَهُوَ عِنْدَهُمَا كَالْحَاضِرِ، وَيَرَى ابْنُ الْقَاسِمِ إِرْجَاءَ الْحُجَّةِ لِلْغَائِبِ، لأَِنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ لاَ يُقِيمُ لَهُ وَكِيلاً، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ مِنْ كِتَابِ الْقِسْمَةِ: لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُوَكِّل لِلْغَائِبِ مَنْ يُعْذِرُ إِلَيْهِ فِي شَهَادَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ، وَلاَ يُقِيمُ لِصَبِيٍّ وَلاَ لِغَائِبٍ وَكِيلاً يَقُومُ بِحُجَّتِهِمَا، وَفِي الْوَاضِحَةِ خِلاَفُهُ مِنْ قَوْل عَبْدِ الْمَلِكِ (2) .

5 - وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ نَصْبَ الْمُسَخَّرِ مِنْ قِبَل الْقَاضِي فِي مَسَائِل:

الأُْولَى: الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ:
يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 4 / 339، 340.
(2) التبصرة لابن فرحون بهامش فتح العلي المالك 1 / 88 نشر دار المعرفة.

(37/273)


وَادَّعَى الْمُدَّعِي جُحُودَهُ، فَإِنْ قَال: هُوَ مُقِرٌّ لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ وَلَغَتْ دَعْوَاهُ، وَإِنْ أَطْلَقَ أَيْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِجُحُودِهِ وَلاَ إِقْرَارِهِ فَالأَْصَحُّ أَنَّ بَيِّنَتَهُ تُسْمَعُ.
وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الْقَاضِيَ نَصْبُ مُسَخَّرٍ يُنْكِرُ عَنِ الْغَائِبِ لأَِنَّهُ قَدْ لاَ يَكُونُ مُنْكِرًا.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: يَلْزَمُهُ نَصْبُ مُسَخَّرٍ لِتَكُونَ الْبَيِّنَةُ عَلَى إِنْكَارِ مُنْكِرٍ.
قَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ نَصْبَ الْمُسَخَّرِ مُسْتَحَبٌّ (1) .

الثَّانِيَةُ: الرَّدُّ بِالْعَيْبِ
الرَّدُّ بِالْعَيْبِ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ بِالْبَلَدِ رَدَّهُ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى وَكِيلِهِ بِالْبَلَدِ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ غَائِبًا عَنِ الْبَلَدِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَكِيلٌ بِالْبَلَدِ رُفِعَ الأَْمْرُ إِلَى الْحَاكِمِ، قَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ: فَيَدَّعِي شِرَاءَ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِنْ فُلاَنٍ الْغَائِبِ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ قَبَضَهُ، ثُمَّ ظَهَرَ الْعَيْبُ، وَأَنَّهُ فَسَخَ الْبَيْعَ، وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فِي وَجْهِ مُسَخَّرٍ يَنْصِبُهُ الْحَاكِمُ، وَيَحْلِفُ الْمُدَّعِي: أَنَّ الأَْمْرَ جَرَى كَذَلِكَ، وَيُحْكَمُ بِالرَّدِّ عَلَى الْغَائِبِ، وَيَبْقَى الثَّمَنُ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَيَأْخُذُ الْمَبِيعَ وَيَضَعُهُ عِنْدَ عَدْلٍ، وَيَقْضِي الدَّيْنَ مِنْ مَال الْغَائِبِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ سِوَى الْمَبِيعِ بَاعَهُ فِيهِ (2) .
__________
(1) المحلي وحاشية القليوبي عليه 4 / 308، وينظر نهاية المحتاج 8 / 256.
(2) المحلي وحاشية القليوبي عليه 2 / 203 - 204.

(37/274)


الثَّالِثَةُ: الْقَسَامَةُ:
إِذَا ثَبَتَتِ الْقَسَامَةُ فَإِنَّ مُسْتَحِقَّ الدَّمِ يَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتُوَزَّعُ بِحَسَبِ الإِْرْثِ
وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا، وَكَانَ لاَ يَحُوزُ جَمِيعَ التَّرِكَةِ، كَمَا إِذَا كَانَ الْوَارِثُ زَوْجَةً فَقَطْ مَعَ بَيْتِ الْمَال، فَإِنَّ الزَّوْجَةَ تَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَأْخُذُ الرُّبْعَ، وَلاَ يَثْبُتُ حَقُّ بَيْتِ الْمَال بِحَلِفِهَا بَل يَنْصِبُ الإِْمَامُ مُسَخَّرًا يَدَّعِي عَلَى الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ الْقَتْل وَيَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا، فَإِنْ حَلَفَ لَمْ يُطَالَبْ بِغَيْرِ حِصَّةِ الزَّوْجَةِ، وَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْحَلِفِ حُبِسَ إِلَى أَنْ يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ، لأَِنَّ الْمُسَخَّرَ لاَ يَحْلِفُ (1) .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْقَتِيل وَارِثٌ أَصْلاً فَلاَ قَسَامَةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ لِعَدَمِ الْمُسْتَحِقِّ الْمُعَيَّنِ لأَِنَّ دِيَتَهُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَحْلِيفُهُمْ غَيْرُ مُمْكِنٍ، لَكِنْ يَنْصِبُ الْقَاضِي مَنْ يَدَّعِي عَلَى مَنْ نُسِبَ الْقَتْل إِلَيْهِ، وَيُحَلِّفُهُ، فَإِنْ نَكَل فَهَل يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُول أَوْ لاَ؟ وَجْهَانِ، جَزَمَ فِي الأَْنْوَارِ بِالأَْوَّل، وَمُقْتَضَى مَا صَحَّحَهُ الشَّيْخَانِ - فِيمَنْ مَاتَ بِلاَ وَارِثٍ فَادَّعَى الْقَاضِي أَوْ مَنْصُوبُهُ دَيْنًا لَهُ عَلَى آخَرَ فَأَنْكَرَ وَنَكَل أَنَّهُ لاَ يُقْضَى لَهُ بِالنُّكُول، بَل يُحْبَسُ لِيُحَلَّفَ أَوْ يُقِرَّ - تَرْجِيحُ الثَّانِي وَهُوَ أَوْجَهُ (2) .
__________
(1) المحلي وحاشية القليوبي عليه 4 / 166 - 167.
(2) مغني المحتاج 4 / 118.

(37/274)


6 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ: فَمَنِ ادَّعَى عَلَى مُمْتَنِعٍ مِنَ الْحُضُورِ لِمَجْلِسِ الْحُكْمِ - أَيْ مُسْتَتِرٍ - إمَّا فِي الْبَلَدِ أَوْ دُونَ مَسَافَةِ قَصْرٍ بِلاَ بَيِّنَةٍ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ، وَلَمْ يُحْكَمْ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ سَمِعَهَا الْحَاكِمُ وَحَكَمَ بِهَا فِي حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ، وَلاَ يَلْزَمُ الْقَاضِيَ نَصْبُ مَنْ يُنْكِرُ أَوْ يُحْبَسُ بِغَيْرِهِ عَنِ الْغَائِبِ، لأَِنَّ تَقَدُّمَ الإِْنْكَارِ لَيْسَ بِشَرْطِ (1) .

مُسْرِفٌ

انْظُرْ: إِسْرَافٌ
__________
(1) كشاف القناع 6 / 353، / 354.

(37/275)


مَس
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَسُّ فِي اللُّغَةِ: مِنْ مَسِسْتُهُ مِنْ بَابِ تَعِبَ، وَفِي لُغَةٍ مَسَسْتُهُ مَسًّا مِنْ بَابِ قَتَل: أَفْضَيْتُ إِلَيْهِ بِيَدِي مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ هَكَذَا قَيَّدُوهُ - وَالاِسْمُ: الْمَسِيسُ مِثْل كَرِيمٍ.
وَمَسَّ امْرَأَتَهُ مِنْ بَابِ تَعِبَ مَسًّا وَمَسِيسًا: كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ، وَمَاسَّهَا مُمَاسَّةً. وَتَمَاسَّا: مَسَّ كُل وَاحِدٍ الآْخَرَ، وَالْمَسُّ: مَسْكُ الشَّيْءِ بِيَدِكَ (1) .
وَالْمَسُّ: الْجُنُونُ، وَرَجُلٌ مَمْسُوسٌ: بِهِ مَسٌّ مِنَ الْجُنُونِ كَمَا قَال تَعَالَى: {كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (2) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: الْمَسُّ مُلاَقَاةُ جِسْمٍ لآِخَرَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - اللَّمْسُ:
50 2 - اللَّمْسُ لُغَةً: الْجَسُّ مِنْ بَابَيْ قَتَل وَضَرَبَ أَفْضَى إِلَيْهِ بِالْيَدِ (4) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والقاموس المحيط.
(2) سورة البقرة / 275.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 119.
(4) المصباح المنير.

(37/275)


وَاللَّمْسُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مُلاَقَاةُ جِسْمٍ لِجِسْمٍ لِطَلَبِ مَعْنًى فِيهِ كَحَرَارَةِ أَوْ بُرُودَةٍ أَوْ صَلاَبَةٍ أَوْ رَخَاوَةٍ أَوْ عِلْمِ حَقِيقَةٍ لِيَعْلَمَ هَل هُوَ آدَمِيٌّ أَوْ لاَ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ اللَّمْسِ وَالْمَسِّ هِيَ أَنَّ اللَّمْسَ أَخَصُّ مِنَ الْمَسِّ.

ج - الْمُبَاشَرَةُ
3 - الْمُبَاشَرَةُ فِي اللُّغَةِ مِنْ بَاشَرَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ: تَمَتَّعَ بِبَشَرَتِهَا وَبَاشَرَ الأَْمْرَ: تَوَلاَّهُ بِبَشَرَتِهِ وَهِيَ يَدُهُ وَبَاشَرَ الرَّجُل امْرَأَتَهُ: أَيْ جَامَعَهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (2) ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْمُبَاشَرَةُ أَنْ تَكُونَ بِتَمَاسِّ الْفَرْجَيْنِ مَعَ الاِنْتِشَارِ وَلَوْ بِلاَ بَلَلٍ (3) .
وَالْمَسُّ أَعَمُّ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَسِّ:
مَسُّ الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ الْمُصْحَفَ
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ مَسُّ الْمُصْحَفِ لِغَيْرِ الطَّاهِرِ طَهَارَةً كَامِلَةً مِنَ الْحَدَثَيْنِ الأَْصْغَرِ وَالأَْكْبَرِ (4) ، لَكِنْ تَخْتَلِفُ عِبَارَاتُهُمْ فِي الشُّرُوطِ وَالتَّفْصِيل.
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 119.
(2) سورة البقرة / 187.
(3) بدائع الصنائع 1 / 30، وحاشية ابن عابدين 1 / 99.
(4) بدائع الصنائع 1 / 156، والفتاوى الهندية 1 / 38 - 39، والهداية مع الفتح 1 / 168، والمدونة 1 / 112، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 125، ومواهب الجليل 1 / 374، ونهاية المحتاج 1 / 123 وما بعدها، وشرح روض الطالب 1 / 60 - 61، والمجموع شرح المهذب 1 / 69، والمغني 1 / 147، والإنصاف 1 / 222، وكشاف القناع 1 / 134، والفروع 1 / 188.

(37/276)


فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَحْرُمُ مَسُّ الْمُصْحَفِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ أَيْ مَسَّ الْمَكْتُوبِ مِنْهُ، وَلَوْ آيَةً عَلَى نُقُودِ دِرْهَمٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ جِدَارٍ، لأَِنَّ حُرْمَةَ الْمُصْحَفِ كَحُرْمَةِ مَا كُتِبَ مِنْهُ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْكِتَابَةُ فِي الْمُصْحَفِ وَعَلَى الدَّرَاهِمِ، كَمَا يَحْرُمُ مَسُّ غِلاَفِ الْمُصْحَفِ الْمُتَّصِل بِهِ، لأَِنَّهُ تَبَعٌ لَهُ، فَكَانَ مَسُّهُ مَسًّا لِلْقُرْآنِ.
وَلاَ يَحْرُمُ مَسُّ الْغِلاَفِ الْمُنْفَصِل عَنِ الْقُرْآنِ كَالْكِيسِ وَالصُّنْدُوقِ، وَيَجُوزُ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِنَحْوِ عُودٍ أَوْ قَلَمٍ أَوْ غِلاَفٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ، وَيُكْرَهُ لَمْسُهُ بِالْكُمِّ وَالْحَائِل كَالْخَرِيطَةِ فِي الصَّحِيحِ، وَالْمَقْصُودُ بِالْخَرِيطَةِ الْوِعَاءُ مِنْ جِلْدٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلاَ تَحْرُمُ كِتَابَةُ آيَةٍ عَلَى وَرَقَةٍ، لأَِنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ مَسُّ الْمَكْتُوبِ بِالْيَدِ، أَمَّا الْقَلَمُ فَهُوَ وَاسِطَةٌ مُنْفَصِلَةٌ كَالثَّوْبِ الْمُنْفَصِل الَّذِي يَمَسُّ بِهِ الْقُرْآنَ، لأَِنَّ الْمُفْتَى بِهِ جَوَازُ مَسِّ الْمُصْحَفِ بِغِلاَفٍ مُنْفَصِلٍ أَوْ بِصُرَّةٍ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ مَسُّ الْمُصْحَفِ، سَوَاءٌ كَانَ مُصْحَفًا جَامِعًا مَعًا أَوْ جُزْءًا أَوْ وَرَقَةً فِيهَا بَعْضُ سُورَةٍ أَوْ لَوْحًا أَوْ كَتِفًا مَكْتُوبَةً، وَيُمْنَعُ غَيْرُ الطَّاهِرِ مِنْ حَمْل الْمُصْحَفِ وَلَوْ عَلَى وِسَادَةٍ أَوْ بِعَلاَّقَةٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ كُرْسِيٍّ تَحْتَهُ، وَيَحْرُمُ الْمَسُّ وَلَوْ كَانَ الْمَسُّ بِحَائِلٍ أَوْ عُودٍ، وَإِنْ قَصَدَ حَمْل الْمُصْحَفِ مَعَ الأَْمْتِعَةِ حَرُمَ الْحَمْل،
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 156، والفتاوى الهندية 1 / 38 - 39.

(37/276)


وَإِنْ قَصَدَ الأَْمْتِعَةَ بِالْحَمْل جَازَ.
وَيَجُوزُ الْمَسُّ وَالْحَمْل لِمُعَلِّمٍ وَمُتَعَلِّمٍ بَالِغٍ وَإِنْ كَانَ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِمَا عَلَى الْمَانِعِ، وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْجُنُبِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى إِزَالَةِ الْمَانِعِ بِالْغُسْل أَوِ التَّيَمُّمِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ مَسُّ الْمُصْحَفِ وَحَمْلُهُ سَوَاءٌ حَمَلَهُ بِعَلاَّقَتِهِ أَوْ فِي كُمِّهِ أَوْ عَلَى رَأْسِهِ، وَحَكَى الْقَاضِي وَالْمُتَوَلِّي وَجْهًا أَنَّهُ يَجُوزُ حَمْلُهُ بِعَلاَّقَتِهِ وَهُوَ شَاذٌّ فِي الْمَذْهَبِ وَضَعِيفٌ وَسَوَاءٌ مَسَّ نَفْسَ الأَْسْطُرِ أَوْ مَا بَيْنَهَا أَوِ الْحَوَاشِيَ أَوِ الْجِلْدَ فَكُل ذَلِكَ حَرَامٌ.
وَفِي مَسِّ الْجِلْدِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَحَكَى الدَّارِمِيُّ وَجْهًا شَاذًّا بَعِيدًا أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ مَسُّ الْجِلْدِ وَلاَ الْحَوَاشِي وَلاَ مَا بَيْنَ الأَْسْطُرِ وَلاَ يَحْرُمُ إِلاَّ نَفْسُ الْمَكْتُوبِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ تَحْرِيمُ الْجَمِيعِ.
وَفِي مَسِّ الْعَلاَّقَةِ وَالْخَرِيطَةِ وَالصُّنْدُوقِ إِذَا كَانَ الْمُصْحَفُ فِيهَا وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ: أَصَحُّهُمَا يَحْرُمُ وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ لأَِنَّهُ مُتَّخَذٌ لِلْمُصْحَفِ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ كَالْجِلْدِ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ فِي مَسِّ الصُّنْدُوقِ.
وَأَمَّا حَمْل الصُّنْدُوقِ وَفِيهِ الْمُصْحَفُ فَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِهِ.
__________
(1) المدونة 1 / 112، وحاشية الدسوقي 1 / 125، ومواهب الجليل 1 / 374.

(37/277)


وَكَذَا يَحْرُمُ تَحْرِيكُهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ.
وَأَمَّا إِذَا تَصَفَّحَ أَوْرَاقَهُ بِعُودٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ أَصَحُّهُمَا يَجُوزُ وَالثَّانِي لاَ يَجُوزُ وَرَجَّحَهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ لأَِنَّهُ حَمَل الْوَرَقَةَ وَهِيَ بَعْضُ الْمُصْحَفِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ مَسُّ الْمُصْحَفِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَيَحْرُمُ مَسُّ كِتَابَتِهِ وَجِلْدِهِ وَبَعْضِهِ وَحَوَاشِيهِ لِشُمُول اسْمِ الْمُصْحَفِ وَلَوْ آيَةً مِنْهُ، وَلاَ يَجُوزُ مَسُّهُ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ لأَِنَّهُ مِنْ جَسَدِهِ فَأَشْبَهَ يَدَهُ، وَيَجُوزُ مَسُّهُ بِحَائِلٍ أَوْ عُودٍ طَاهِرَيْنِ، وَحَمْلُهُ بِعَلاَّقَةٍ أَوْ وِعَاءٍ، وَلَوْ كَانَ الْمُصْحَفُ مَقْصُودًا بِالْحَمْل، وَكِتَابَتِهِ وَلَوْ لِذِمِّيِّ مِنْ غَيْرِ مَسٍّ، وَحَمْلُهُ بِحِرْزٍ سَاتِرٍ طَاهِرٍ، وَإِنِ احْتَاجَ الْمُحْدِثُ إِلَى مَسِّ الْمُصْحَفِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، تَيَمَّمَ وَجَازَ مَسُّهُ (2) وَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ (الْجُنُبُ، وَالْحَائِضُ، وَالنُّفَسَاءُ) بِطَرِيقِ الأَْوْلَى لأَِنَّ الْحَدَثَ الأَْكْبَرَ أَغْلَظُ مِنَ الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ.
وَاسْتَدَل الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ مَسِّ الْمُصْحَفِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3) ،
__________
(1) المجموع شرح المهذب 2 / 69 - 70 ونهاية المحتاج 1 / 123 - 124، وشرح روض الطالب 1 / 60 - 61، ورحمة الأمة ص 13.
(2) المغني 1 / 147، والإنصاف 1 / 223، وكشاف القناع 1 / 134، والفروع 1 / 188.
(3) سورة الواقعة / 77 - 80.

(37/277)


دَلَّتِ الآْيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى عَنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ لِغَيْرِ الطَّاهِرِ. وَأَنَّ الْمُحْدِثَ لَيْسَ بِطَاهِرٍ، فَدَل عَلَى عَدَمِ جَوَازِ مَسِّهِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْقُرْآنَ بِالتَّنْزِيل. وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْقُرْآنُ الْمَوْجُودُ بَيْنَ أَيْدِينَا فَلاَ يُصْرَفُ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلاَّ بِصَارِفٍ شَرْعِيٍّ، وَأَنَّ الْخَبَرَ فِيهِ النَّهْيُ عَنْ مَسِّهِ (1) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَمَسُّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ (2) وَلأَِنَّ تَعْظِيمَ الْقُرْآنِ وَاجِبٌ وَلَيْسَ مِنَ التَّعْظِيمِ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِيَدٍ حَلَّهَا الْحَدَثُ، وَكِتَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنْ لاَ تَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ عَلَى طُهْرٍ (3) ".
وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ لِمَنْ كَانَ مُحْدِثًا حَدَثًا أَصْغَرَ بِغَيْرِ مَسٍّ وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (مُصْحَفٌ، حَدَثٌ، ف 26، 27) .
وَمَا سَبَقَ مِنْ أَحْكَامِ مَسِّ الْمُصْحَفِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْدِثِ إِنَّمَا هُوَ إِذَا كَانَ مَكْتُوبًا بِالْعَرَبِيَّةِ أَمَّا
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 156، والمغني 1 / 147، والمجموع 2 / 72.
(2) حديث ابن عمر: " لا يمس القرآن إلا طاهر ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 276) وقال: رواه الطبراني في الكبير والصغير ورجاله موثقون.
(3) المغني لابن قدامة 1 / 147، وشرح السنة للبغوي 2 / 48، ونيل الأوطار 1 / 207 وحديث: عمرو بن حزم " أن لا تمس القرآن إلا على طهر ". أخرجه الدارقطني (1 / 121) وقال: مرسل ورواته ثقات.

(37/278)


التَّرْجَمَاتُ غَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَسِّهَا عَلَى أَقْوَالٍ.
تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَرْجَمَةٌ ف 7) .

مَسُّ الصَّبِيِّ الْمُصْحَفَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ مَسِّ الصِّبْيَانِ الْقُرْآنَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ لِلصَّبِيِّ مَسُّ الْقُرْآنِ أَوْ لَوْحٍ فِيهِ قُرْآنٌ لِلضَّرُورَةِ مِنْ أَجْل التَّعَلُّمِ وَالْحِفْظِ وَلأَِنَّ الصِّبْيَانَ لاَ يُخَاطَبُونَ بِالطَّهَارَةِ وَلَكِنْ أُمِرُوا بِهِ تَخَلُّقًا وَاعْتِيَادًا (1) .
وَقَال مَالِكٌ فِي الْمُخْتَصَرِ: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ مَسُّ الصِّبْيَانِ لِلْمَصَاحِفِ لِلتَّعْلِيمِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ جَائِزًا، وَقِيل: إِنَّ الصَّغِيرَ لاَ يَمَسُّ الْمُصْحَفَ الْكَامِل وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْمُسَيَّبِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُمْنَعُ صَبِيٌّ مُمَيِّزٌ مِنْ مَسٍّ وَحَمْل مُصْحَفٍ أَوْ لَوْحٍ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ لِحَاجَةِ تَعَلُّمِهِ وَمَشَقَّةِ اسْتِمْرَارِهِ مُتَطَهِّرًا، وَقَال النَّوَوِيُّ: أُبِيحَ حَمْل الصِّبْيَانِ الأَْلْوَاحَ لِلضَّرُورَةِ لِلْحَاجَةِ وَعُسْرِ الْوُضُوءِ لَهَا (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَفِي مَسِّ صِبْيَانِ الْكَتَاتِيبِ أَلْوَاحَهُمُ الَّتِي فِيهَا الْقُرْآنُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ لأَِنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ فَلَوِ اشْتَرَطْنَا الطَّهَارَةَ
__________
(1) فتح القدير لابن الهمام 1 / 150، والفتاوى الهندية 1 / 39.
(2) مواهب الجليل 1 / 304 - 305، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 126.
(3) شرح روض الطالب من أسنى المطالب 1 / 62، ونهاية المحتاج 1 / 627، والمجموع شرح المهذب 2 / 75.

(37/278)


أَدَّى إِلَى تَنْفِيرِهِمْ مِنْ حِفْظِهِ، قَال فِي الإِْنْصَافِ: وَفِي مَسِّ الصِّبْيَانِ كِتَابَةَ الْقُرْآنِ رِوَايَتَانِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَعَنْهُ: لاَ يَجُوزُ وَهُوَ وَجْهٌ.
قَال فِي الْفُرُوعِ: وَيَجُوزُ فِي رِوَايَةٍ مَسُّ صَبِيٍّ لَوْحًا كُتِبَ فِيهِ قُرْآنٌ، قَال ابْنُ رَزِينٍ وَهُوَ أَظْهَرُ (1) .

كِتَابَةُ الْمُحْدِثِ الْمُصْحَفَ
6 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ لَكِنْ تَخْتَلِفُ عِبَارَاتُهُمْ فِي الشُّرُوطِ وَالتَّفْصِيل.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ لِلْمُحْدِثِ الْكِتَابَةُ وَمَسُّ الْمَوْضِعِ الْمَكْتُوبِ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا يُفْرَشُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ التَّعْظِيمِ، وَكَذَا عَلَى الْمَحَارِيبِ وَالْجُدْرَانِ لِمَا يُخَافُ مِنْ سُقُوطِ الْكِتَابَةِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ كَتْبُهُ عَلَى الرَّاجِحِ أَيْ لَيْسَ لِلنَّاسِخِ أَنْ يَكْتُبَ وَيَمَسَّ الْمُصْحَفَ مُحْدِثًا، وَقِيل: يَجُوزُ كِتَابَةُ الْمُحْدِثِ لِمَشَقَّةِ الْوُضُوءِ كُل سَاعَةٍ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِشَيْءٍ نَجَسٍ وَإِذَا كَتَبَ الْمُحْدِثُ أَوِ الْجُنُبُ مُصْحَفًا نُظِرَ إِنْ حَمَلَهُ أَوْ مَسَّهُ فِي حَال كِتَابَتِهِ حَرُمَ، وَإِلاَّ
__________
(1) المغني 1 / 148، والفروع 1 / 189، وكشاف القناع 1 / 135، والإنصاف 1 / 223.
(2) تبيين الحقائق 1 / 58، وبدائع الصنائع 1 / 156، ورد المحتار على الدر المختار 1 / 195.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 125، ومواهب الجليل 1 / 305.

(37/279)


فَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ لأَِنَّهُ غَيْرُ حَامِلٍ وَلاَ مَاسٍّ، وَفِيهِ وَجْهٌ مَشْهُورٌ يَحْرُمُ، وَوَجْهٌ ثَالِثٌ يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ دُونَ الْمُحْدِثِ.
وَإِذَا كَتَبَ الْقُرْآنَ فِي لَوْحٍ فَلَهُ حُكْمُ الْمُصْحَفِ فَيَحْرُمُ مَسُّهُ وَحَمْلُهُ عَلَى الْبَالِغِ الْمُحْدِثِ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الأَْكْثَرُونَ، وَفِيهِ وَجْهٌ مَشْهُورٌ أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ لأَِنَّهُ لاَ يُرَادُ لِلدَّوَامِ بِخِلاَفِ الْمُصْحَفِ فَعَلَى هَذَا يُكْرَهُ وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَكْتُوبُ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا فَيَحْرُمُ عَلَى الصَّحِيحِ قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَوْ كَانَ عَلَى اللَّوْحِ آيَةٌ أَوْ بَعْضُ آيَةٍ كُتِبَ لِلدِّرَاسَةِ حَرُمَ مَسُّهُ وَحَمْلُهُ (1) ، وَيُكْرَهُ نَقْشُ الْحِيطَانِ وَالثِّيَابِ بِالْقُرْآنِ وَبِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى قَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ وَإِذَا كَتَبَ قُرْآنًا عَلَى حَلْوَى فَلاَ بَأْسَ بِأَكْلِهِ. وَإِنْ كَانَ عَلَى خَشَبَةٍ كُرِهَ إِحْرَاقُهَا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ كَمَا فِي الإِْنْصَافِ: يَجُوزُ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ مِنْ غَيْرِ مَسٍّ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ جَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ.
وَقَالَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ، وَعَنْهُ يَحْرُمُ وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْفُرُوعِ. وَقِيل: هُوَ كَالتَّقْلِيبِ بِالْعُودِ. وَقِيل لاَ يَجُوزُ وَإِنْ جَازَ التَّقْلِيبُ بِالْعُودِ. وَلِلْمَجْدِ
__________
(1) المجموع 2 / 72، وشرح روض الطالب 1 / 61 - 62.
(2) المراجع السابقة.

(37/279)


احْتِمَالٌ بِالْجَوَازِ لِلْمُحْدِثِ دُونَ الْجُنُبِ (1) .

مَسُّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ التَّفْسِيرِ
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسِّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ التَّفْسِيرِ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ مَسُّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ لأَِنَّهُ يَصِيرُ بِمَسِّهِ مَاسًّا لِلْقُرْآنِ وَقَال فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَيُكْرَهُ مَسُّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالسُّنَّةِ وَلاَ بَأْسَ بِمَسِّهَا بِالْكُمِّ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ مَسُّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَحَمْلُهَا وَالْمُطَالَعَةُ فِيهَا لِلْمُحْدِثِ وَلَوْ كَانَ جُنُبًا، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعَانِي الْقُرْآنِ لاَ تِلاَوَتُهُ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كُتِبَتْ فِيهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مُتَوَالِيَةٌ وَقَصَدَهَا، خِلاَفًا لاِبْنِ عَرَفَةَ الْقَائِل بِمَنْعِ مَسِّ تِلْكَ التَّفَاسِيرِ الَّتِي فِيهَا الآْيَاتُ الْكَثِيرَةُ مُتَوَالِيَةٌ مَعَ قَصْدِ الآْيَاتِ بِالْمَسِّ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: بِحُرْمَةِ حَمْل التَّفْسِيرِ وَمَسِّهِ إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ أَكْثَرَ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَكَذَلِكَ إِنْ تَسَاوَيَا عَلَى الأَْصَحِّ، وَيَحِل مَسُّهُ إِذَا كَانَ التَّفْسِيرُ أَكْثَرَ عَلَى الأَْصَحِّ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَحْرُمُ لإِِخْلاَلِهِ بِالتَّعْظِيمِ، وَقَال النَّوَوِيُّ: إِنْ كَانَ التَّفْسِيرُ أَكْثَرَ فَفِيهِ أَوْجُهٌ أَصَحُّهَا لاَ يَحْرُمُ، لأَِنَّهُ
__________
(1) الإنصاف 1 / 225 - 226، والفروع 1 / 191، وكشاف القناع 1 / 135 - 137.
(2) بدائع الصنائع 1 / 33، والفتاوى الهندية 1 / 39.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 125.

(37/280)


لَيْسَ بِمُصْحَفٍ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: بِجَوَازِ مَسِّ كِتَابِ التَّفْسِيرِ وَنَحْوِهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الأَْصْحَابُ وَحَكَى الْقَاضِي رِوَايَةً بِالْمَنْعِ وَالصَّحِيحُ جَوَازُ مَسِّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ بِدَلِيل أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ كِتَابًا فِيهِ آيَةٌ (2) ، وَلأَِنَّهَا لاَ يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمُصْحَفِ وَلاَ تَثْبُتُ لَهَا حُرْمَتُهُ (3) .

مَسُّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ الْفِقْهِ وَغَيْرِهَا:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى جَوَازِ مَسِّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ الْفِقْهِ وَغَيْرِهَا وَإِنْ كَانَ فِيهَا آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
وَهُوَ أَصَحُّ وَجْهَيْنِ مَشْهُورَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَال: وَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لاَ يَفْعَل (4) .
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ كِتَابًا قَال فِيهِ آيَةً (5) "،
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 80، ونهاية المحتاج 1 / 125 - 126، والمجموع 2 / 69، وشرح روض الطالب 1 / 61.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر كتابه فيه آية ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 32) ومسلم (3 / 1394) من حديث ابن عباس.
(3) كشاف القناع 1 / 135، والإنصاف 1 / 225، والمغني 1 / 148، والفروع 1 / 190.
(4) بدائع الصنائع 1 / 156، فتح القدير 1 / 150، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 125، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 1 / 94، والمجموع شرح المهذب 2 / 70، ونهاية المحتاج 1 / 126، والإنصاف 1 / 225، والمغني 1 / 148.
(5) سبق تخريجه ف 7.

(37/280)


وَلأَِنَّهَا لاَ يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمُصْحَفِ، وَلاَ تَثْبُتُ لَهَا حُرْمَتُهُ (1) .

مَسُّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ الْحَدِيثِ
9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ مَسِّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ فِي الْجُمْلَةِ.
جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَيُكْرَهُ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ مَسُّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالسُّنَنِ، وَلاَ بَأْسَ بِمَسِّهَا بِالْكُمِّ لأَِنَّهَا لاَ تَخْلُو عَنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ مَسُّ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَأَمَّا كُتُبُ حَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطْلَقَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ جَوَازَ مَسِّهَا وَحَمْلِهَا مَعَ الْحَدَثِ، وَقَال الْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيُّ: يُكْرَهُ، وَالْمُخْتَارُ مَا قَالَهُ آخَرُونَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ جَازَ، وَالأَْوْلَى أَنْ لاَ يَفْعَل إِلاَّ بِطَهَارَةٍ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا قُرْآنٌ فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ (4) .
__________
(1) المغني 1 / 148.
(2) بدائع الصنائع 1 / 33، والفتاوى الهندية 1 / 39، وفتح القدير لابن الهمام 1 / 150.
(3) شرح الزرقاني على مختصر خليل 1 / 94، ومواهب الجليل 1 / 304، وحاشية الدسوقي 1 / 125 - 126.
(4) المجموع شرح المهذب 1 / 72، وشرح روض الطالب من أسنى المطالب 1 / 61.

(37/281)


وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ مَسُّ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الأَْصْحَابُ، وَحَكَى الْقَاضِي رِوَايَةً بِالْمَنْعِ (1) .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ لِجَوَازِ مَسِّ كُتُبِ الْحَدِيثِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ كِتَابًا فِيهِ آيَةٌ (2) ، وَلأَِنَّهَا لاَ يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمُصْحَفِ وَلاَ تَثْبُتُ لَهَا حُرْمَتُهُ.

مَسُّ الْمُحْدِثِ لِلنُّقُودِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَسِّ الْمُحْدِثِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ الَّتِي عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَأَجَازَ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (4) ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ كِتَابًا إِلَى هِرَقْل وَفِيهِ آيَةُ {قُل يَا أَهْل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ} (5) ، وَلَمْ
__________
(1) المغني 1 / 148، والإنصاف 1 / 225، وكشاف القناع (1 / 135) .
(2) سبق تخريجه ف 7.
(3) شرح الزرقاني على مختصر خليل 1 / 94، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 125 - 126، ونهاية المحتاج 1 / 126، وشرح روض الطالب من أسنى المطالب 1 / 61 والمجموع شرح المهذب 2 / 70 والفروع 1 / 190، والمغني 1 / 148، وكشاف القناع 1 / 135، والإنصاف 1 / 224.
(4) سبق تخريجه ف 7.
(5) سورة آل عمران / 64.

(37/281)


يَأْمُرْ حَامِلَهَا بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الطَّهَارَةِ وَلأَِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ لاَ تُقْصَدُ بِإِثْبَاتِ الْقُرْآنِ فِيهَا قِرَاءَتُهُ فَلاَ تَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْقُرْآنِ (1) ، وَلأَِنَّ الدَّرَاهِمَ لاَ يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمُصْحَفِ فَأَشْبَهَتْ كُتُبَ الْفِقْهِ، وَلأَِنَّ فِي الاِحْتِرَازِ مِنْهَا مَشَقَّةً أَشْبَهَتْ أَلْوَاحَ الصِّبْيَانِ (2) وَقَال فِي الْفُرُوعِ: لاَ يَجُوزُ مَسُّ الدَّرَاهِمِ بِيَدِهِ وَإِنْ كَانَتْ فِي صُرَّةٍ فَلاَ بَأْسَ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي إِلَى عَدَمِ جَوَازِ مَسِّ شَيْءٍ مَكْتُوبٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ لَوْحٍ أَوْ دَرَاهِمَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ آيَةً تَامَّةً، وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ مَكْتُوبًا بِالْفَارِسِيَّةِ يُكْرَهُ لَهُمْ مَسُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَذَا عِنْدَهُمَا عَلَى الصَّحِيحِ، لأَِنَّ حُرْمَةَ الْمُصْحَفِ كَحُرْمَةِ مَا كُتِبَ فِيهِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْكِتَابَةُ فِي الْمُصْحَفِ وَعَلَى الدَّرَاهِمِ، وَكَرِهَ ذَلِكَ عَطَاءٌ وَالْقَاسِمُ وَالشَّعْبِيُّ، لأَِنَّ الْقُرْآنَ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا فَأَشْبَهَتِ الْوَرَقَ (4) .

مَسُّ الْكَافِرِ الْمُصْحَفَ
11 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى مَنْعِ الْكَافِرِ مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ لأَِنَّ الْكَافِرَ نَجِسٌ فَيَجِبُ تَنْزِيهُ
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 126، وشرح روض الطالب من أسنى المطالب 1 / 61، والمجموع 2 / 70.
(2) شرح روض الطالب 1 / 61، والفروع 1 / 190، والمغني 1 / 148، وكشاف القناع 1 / 135.
(3) الفروع 1 / 190، والإنصاف 1 / 224.
(4) بدائع الصنائع 1 / 156، والفتاوى الهندية 1 / 39، والمغني 1 / 148.

(37/282)


الْمُصْحَفِ عَنْ مَسِّهِ (1) .
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مُحَمَّدٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَال: لاَ بَأْسَ أَنْ يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِذَا اغْتَسَل لأَِنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْحَدَثُ وَقَدْ زَال بِالْغُسْل، وَإِنَّمَا بَقِيَ نَجَاسَةُ اعْتِقَادِهِ وَذَلِكَ فِي قَلْبِهِ لاَ فِي يَدِهِ (2) .

مَسُّ الْمُحْدِثِ التَّوْرَاةَ وَالإِْنْجِيل:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ مَسِّ الْمُحْدِثِ التَّوْرَاةَ وَالإِْنْجِيل وَالزَّبُورَ فِي الْجُمْلَةِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ مَانِعَ مِنْ مَسِّ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ الأُْخْرَى الْمُبَدَّلَةِ، لَكِنْ يُكْرَهُ لِلْحَائِضِ وَالْجُنُبِ قِرَاءَةُ التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل وَالزَّبُورِ لأَِنَّ الْكُل كَلاَمُ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ مَا بُدِّل مِنْهَا، وَمَا بُدِّل مِنْهَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ مَسُّ التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل وَالزَّبُورِ وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُبَدَّلَةٍ (4) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ مَسُّ التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل وَحَمْلُهُمَا وَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ:
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 164، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 125 - 126، وشرح روض الطالب من أسنى المطالب 1 / 62، والمجموع شرح المهذب 2 / 74، وكشاف القناع 1 / 135.
(2) بدائع الصنائع 1 / 165.
(3) تبيين الحقائق 1 / 57 وفتح القدير 1 / 149، ورد المحتار على الدر المختار 1 / 195، والفتاوى الهندية 1 / 39، والبحر الرائق 1 / 210 وما بعدها.
(4) شرح الزرقاني 1 / 93، وحاشية الدسوقي 1 / 125.

(37/282)


أَحَدُهُمَا: لاَ يَجُوزُ، وَالثَّانِي: قَالاَ - وَهُوَ قَوْل جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا -: يَجُوزُ لأَِنَّهَا مُبَدَّلَةٌ مَنْسُوخَةٌ، قَال الْمُتَوَلِّي: فَإِنْ ظَنَّ أَنَّ فِيهَا شَيْئًا غَيْرَ مُبَدَّلٍ كُرِهَ مَسُّهُ وَلاَ يَحْرُمُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَلَهُ مَسُّ التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل وَالزَّبُورِ وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ إِنْ وُجِدَتْ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ قُرْآنًا، وَقَال فِي الإِْنْصَافِ: يَجُوزُ مَسُّ الْمَنْسُوخِ تِلاَوَتُهُ وَالْمَأْثُورُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَقِيل: لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ (2) .

مَسُّ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَحْرِيمِ مَسِّ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ بِمَعْنَى اسْتِعْمَالِهِ بِأَيَّةِ صِفَةٍ كَانَتْ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ ف 74 وَمَا بَعْدَهَا) .

الْمَسُّ وَالإِْنْزَال لِلصَّائِمِ
14 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى فَسَادِ الصَّوْمِ بِالإِْنْزَال بِالْمَسِّ
قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَفْسُدُ الصَّوْمُ بِالإِْنْزَال عَنِ الْمَسِّ وَلاَ يَفْسُدُ بِالإِْنْزَال عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ (4) .
__________
(1) المجموع 2 / 72، وشرح روض الطالب 1 / 61.
(2) كشاف القناع 1 / 135، والإنصاف 1 / 225.
(3) بدائع الصنائع 2 / 191، والمبسوط 4 / 122 - 123، والمدونة 1 / 456 - 457، والمجموع 7 / 269، والمغني 3 / 499.
(4) بدائع الصنائع 2 / 261.

(37/283)


وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ مَسَّ أَوْ قَبَّل أَوْ بَاشَرَ فَسَلِمَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَنْزَل فَثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ مُطْلَقًا، وَالثَّانِي: قَوْل أَشْهَبَ - وَهُوَ أَصَحُّ الأَْقْوَال - لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يُنْزِل، وَالثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسِّ وَالْقُبْلَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ فَيُكَفِّرُ مُطْلَقًا، وَبَيْنَ التَّذَكُّرِ وَالنَّظَرِ فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَقَال فِي الْمُدَوَّنَةِ: إِنْ أَمْذَى مِنْ مَسٍّ أَوْ قُبْلَةٍ يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَقَال أَشْهَبُ: وَالْمَسُّ بِالْيَدِ أَيْسَرُ مِنْهَا، وَالْقُبْلَةُ أَيْسَرُ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ، وَالْمُبَاشَرَةُ أَيْسَرُ مِنَ الْعَبَثِ بِالْفَرْجِ، وَتَرْكُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَحَبُّ إِلَيْنَا، وَقَال فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيل: إِنْ أَمْذَى فَسَدَ صَوْمُهُ وَيَقْضِي (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَحْرُمُ الْمَسُّ فِي الصِّيَامِ لأَِنَّ الْمَسَّ أَبْلَغُ فِي إِثَارَةِ الشَّهْوَةِ إِذْ لَوْ أَنْزَل بِهِ أَفْطَرَ وَفَسَدَ صَوْمُهُ وَإِنْ خَرَجَ الْمَنِيُّ بِمَسٍّ أَوْ قُبْلَةٍ أَوْ مُضَاجَعَةٍ بِلاَ حَائِلٍ يُفْطِرُ بِهِ الصَّائِمُ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا مَسَّ أَوْ قَبَّل فَأَمْذَى فَسَدَ صَوْمُهُ. هَذَا الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ نَصَّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الأَْصْحَابِ، وَقَال فِي الإِْنْصَافِ: لَوْ هَاجَتْ شَهْوَتُهُ فَأَمْنَى أَوْ أَمْذَى وَلَمْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ لَمْ يُفْطِرْ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ.
وَقَال أَيْضًا: إِذَا قَبَّل أَوْ لَمَسَ فَأَمْنَى فَسَدَ
__________
(1) حاشية العدوي 1 / 404 - 405، والمدونة 1 / 195، وشرح الزرقاني 2 / 199، ومواهب الجليل 2 / 416.
(2) نهاية المحتاج 6 / 195، والإقناع للخطيب الشربيني 2 / 69، والمجموع 6 / 322.

(37/283)


صَوْمُهُ، هَذَا الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ الأَْصْحَابُ. وَوَجْهٌ فِي الْفُرُوعِ احْتِمَالاً بِأَنَّهُ لاَ يُفْطِرُ (1) .

أَثَرُ الْمَسِّ فِي وُجُوبِ الصَّدَاقِ
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّدَاقَ يَجِبُ كُلُّهُ بِالدُّخُول أَوِ الْمَوْتِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْمَهْرِ بِالْمَسِّ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مَهْرٌ) .

أَثَرُ الْمَسِّ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ
16 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَسَّ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لاَ يُؤَثِّرُ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ فَمَنْ مَسَّ امْرَأَةً بِغَيْرِ شَهْوَةٍ أَوْ قَبَّلَهَا فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَهَا أَوْ أُمَّهَا وَيَجُوزُ لَهَا الزَّوَاجُ بِأُصُولِهِ أَوْ فُرُوعِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ مَسَّ أُمَّ امْرَأَتِهِ أَوْ قَبَّلَهَا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لاَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ (2) .
أَمَّا الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ فَاخْتَلَفُوا فِي انْتِشَارِ الْحُرْمَةِ بِهِ فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْمَسَّ وَالْمُبَاشَرَةَ فِي غَيْرِ الْفَرْجِ وَالتَّقْبِيل وَلَوْ بِشَهْوَةٍ لاَ يُحَرِّمُ أُصُول مَنْ مَسَّهَا أَوْ قَبَّلَهَا وَلاَ فُرُوعَهَا، زَوْجَةً كَانَتْ أَمْ أَجْنَبِيَّةً (3) لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُحِل لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (4) .
__________
(1) الإنصاف 3 / 301، وكشاف القناع 2 / 319، والمغني 3 / 312 - 313.
(2) فتح القدير 3 / 129 - 130، وحاشية ابن عابدين 2 / 280 - 383، وحاشية الدسوقي 2 / 251، وجواهر الإكليل 1 / 289، وقليوبي 3 / 241، والمغني 6 / 579.
(3) المصادر السابقة ونهاية المحتاج 6 / 193 - 195.
(4) سورة النساء / 24.

(37/284)


وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَسَّ بِشَهْوَةٍ يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ فَمَنْ مَسَّتْهُ امْرَأَةٌ بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا، وَلاَ تَحِل لَهُ أُصُولُهَا وَلاَ فُرُوعُهَا، وَحَرُمَ عَلَيْهَا أُصُولُهُ وَفُرُوعُهُ، وَمَنْ مَسَّ أَوْ قَبَّل أُمَّ امْرَأَتِهِ بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الأَْسْبَابَ الدَّاعِيَةَ إِلَى الْوَطْءِ فِي إِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ كَالْوَطْءِ فِي إِثْبَاتِهَا، وَإِنَّ الْمَسَّ وَالنَّظَرَ سَبَبٌ دَاعٍ إِلَى الْوَطْءِ فَيُقَامُ مَقَامَهُ فِي مَوْضِعِ الاِحْتِيَاطِ ثُمَّ الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ أَنْ تَنْتَشِرَ الآْلَةُ ثُمَّ شَرَطَ الْحُرْمَةَ بِالنَّظَرِ أَوِ الْمَسِّ أَنْ لاَ يُنْزِل، فَإِنْ أَنْزَل لاَ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ الشَّهْوَةَ حَال الْمَسِّ، فَلَوْ مَسَّ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ ثُمَّ اشْتَهَى بَعْدَ ذَلِكَ الْمَسِّ لاَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ، إِذْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَسَّ بِالإِْنْزَال غَيْرُ مُفْضٍ إِلَى الْوَطْءِ، وَالْمَسُّ الْمُفْضِي إِلَيْهِ هُوَ الْمُحَرَّمُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ لاَ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ بِالإِْنْزَال هُوَ أَنَّ الْحُرْمَةَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْمَسِّ بِشَهْوَةٍ كَانَ حُكْمُهَا مَوْقُوفًا إِلَى أَنْ تَبِينَ بِالإِْنْزَال فَإِنْ أَنْزَل لَمْ تَثْبُتْ وَإِلاَّ ثَبَتَتْ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} (1) ، قَالُوا: الْمُرَادُ مِنَ النِّكَاحِ الْوَطْءُ، وَالْمَسُّ وَالتَّقْبِيل بِشَهْوَةٍ دَاعٍ إِلَى الْوَطْءِ فَيُقَامُ مَقَامَهُ احْتِيَاطًا لِلْحُرْمَةِ (2) .
__________
(1) سورة النساء / 22.
(2) بدائع الصنائع 2 / 260 - 261، وحاشية ابن عابدين 2 / 281 - 283، وفتح القدير 3 / 129 - 131.

(37/284)


أَثَرُ الْمَسِّ فِي الظِّهَارِ:
17 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ إِلَى حُرْمَةِ دَوَاعِي الْوَطْءِ مِنْ مَسٍّ أَوْ مُبَاشَرَةٍ أَوْ تَقْبِيلٍ قَبْل التَّكْفِيرِ فِي الظِّهَارِ (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} (2) .
دَلَّتِ الآْيَةُ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ الْمُظَاهِرَ بِالْكَفَّارَةِ قَبْل التَّمَاسِّ، وَالتَّمَاسُّ يَصْدُقُ عَلَى الْمَسِّ بِالْيَدِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَجْزَاءِ الْجِسْمِ، كَمَا يَصْدُقُ عَلَى الْوَطْءِ، وَالْوَطْءُ قَبْل التَّكْفِيرِ حَرَامٌ بِالاِتِّفَاقِ، فَالْمَسُّ بِالْيَدِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ يَكُونُ حَرَامًا مِثْلَهُ وَلأَِنَّ الْمَسَّ وَالتَّقْبِيل بِشَهْوَةٍ وَالْمُبَاشَرَةَ دُونَ الْفَرْجِ تَدْعُو إِلَى الْوَطْءِ، وَمَتَى كَانَ الْوَطْءُ حَرَامًا كَانَتِ الدَّوَاعِي إِلَيْهِ حَرَامًا أَيْضًا بِنَاءً عَلَى الْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ (مَا أَدَّى إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى إِبَاحَةِ الدَّوَاعِي فِي الْوَطْءِ (3) ، وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَسِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} (4)
الْجِمَاعُ: وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (5) ، فَلاَ يَحْرُمُ
__________
(1) فتح القدير 4 / 87، وبدائع الصنائع 3 / 234، وحاشية الدسوقي 2 / 445، والمغني 7 / 348، والمبسوط 4 / 207.
(2) سورة المجادلة / 3.
(3) مغني المحتاج 3 / 357، وحاشية الدسوقي 2 / 447، والمغني 7 / 383.
(4) سورة المجادلة / 3.
(5) سورة البقرة / 237.

(37/285)


مَا عَدَاهُ مِنَ الْمَسِّ بِشَهْوَةٍ وَالْمُبَاشَرَةِ وَالتَّقْبِيل فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَلأَِنَّ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ بِالظِّهَارِ يُشْبِهُ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ بِالْحَيْضِ مِنْ نَاحِيَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَطْءٌ مُحَرَّمٌ وَلاَ يُخِل بِالنِّكَاحِ، وَتَحْرِيمُ الْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ لاَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الدَّوَاعِي إِلَيْهِ، فَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْوَطْءِ بِالظِّهَارِ لاَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الدَّوَاعِي إِلَيْهِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ (1) .

مَسُّ الذَّكَرِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ
18 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ أَصْحَابِهِ أَنَّ مَسَّ الذَّكَرِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ (2) .
وَقَال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لاَ يَنْقُضُ مَسُّهُ إِلاَّ بِبَاطِنِ كَفِّهِ وَلاَ يَنْقُضُ بِظَهْرِ الْكَفِّ لأَِنَّ ظَاهِرَ الْكَفِّ لَيْسَ بِآلَةِ الْمَسِّ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ مَسَّهُ بِفَخِذِهِ (3) .
وَلاَ فَرْقَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَ بَطْنِ الْكَفِّ وَظَاهِرِهِ (4) .
وَلِلتَّفْصِيل يُرَاجَعُ (مُصْطَلَحُ وُضُوءٌ) .
__________
(1) فتح القدير 4 / 87، والفتاوى الهندية 1 / 456، وحاشية الدسوقي 2 / 447، والمغني لابن قدامة 7 / 383.
(2) المدونة 1 / 8، ومواهب الجليل 1 / 299، وحاشية الدسوقي 1 / 121، والمجموع 2 / 34، 35، وشرح روض الطالب 1 / 57 - 58، والمغني 1 / 178، والإنصاف 1 / 202، والفروع 1 / 179.
(3) المدونة 1 / 8، والمجموع 1 / 34 - 41، وكفاية الأخيار 1 / 22.
(4) المغني 1 / 179، والفروع 1 / 179.

(37/285)


مَسُّ الأَْجْنَبِيِّ أَوِ الأَْجْنَبِيَّةِ
19 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ مَسِّ الرَّجُل شَيْئًا مِنْ جَسَدِ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ الْحَيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ شَابَّةً أَمْ عَجُوزًا (1) غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: لاَ بَأْسَ بِمُصَافَحَةِ الْعَجُوزِ وَمَسِّ يَدِهَا لاِنْعِدَامِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ (2) .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا مَسَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ امْرَأَةً قَطُّ (3) ، وَلأَِنَّ الْمَسَّ أَبْلَغُ مِنَ النَّظَرِ فِي اللَّذَّةِ وَإِثَارَةِ الشَّهْوَةِ (4) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَحِل لِرَجُلٍ مَسُّ وَجْهِ أَجْنَبِيَّةٍ وَإِنْ حَل نَظَرُهُ بِنَحْوِ خِطْبَةٍ أَوْ شَهَادَةٍ أَوْ تَعْلِيمٍ، وَلاَ لِسَيِّدَةِ مَسُّ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِ عَبْدِهَا وَعَكْسُهُ وَإِنْ حَل النَّظَرُ (5) .

مَسُّ الْمَرْأَةِ لِلْعِلاَجِ
20 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلطَّبِيبِ الْمُسْلِمِ إِنْ لَمْ تُوجَدْ طَبِيبَةٌ أَنْ يُدَاوِيَ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 290، وبدائع الصنائع 6 / 259، وتبيين الحقائق 6 / 18، ومغني المحتاج 3 / 132، ونهاية المحتاج 6 / 195 - 196، والمجموع 1 / 34 - 41، والمغني 1 / 338.
(2) بدائع الصنائع 6 / 259، وتكملة فتح القدير 8 / 98، وتبيين الحقائق 6 / 18.
(3) حديث: عائشة " ما مس رسول الله صلى الله عليه وسلم. . ". أخرجه مسلم (3 / 1489) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4) الشرح الصغير 1 / 290، ومغني المحتاج 3 / 132، والمغني 1 / 338، والمجموع 1 / 26.
(5) نهاية المحتاج 6 / 192.

(37/286)


الْمَرِيضَةَ الأَْجْنَبِيَّةَ الْمُسْلِمَةَ وَيَنْظُرَ مِنْهَا وَيَمَسَّ مَا تُلْجِئُ الْحَاجَةُ إِلَى نَظَرِهِ، وَمَسِّهِ فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ طَبِيبَةٌ وَلاَ طَبِيبٌ مُسْلِمٌ جَازَ لِلطَّبِيبِ الذِّمِّيِّ ذَلِكَ، وَتُقَدَّمُ الْمَرْأَةُ الْكَافِرَةُ مَعَ وُجُودِ طَبِيبٍ مُسْلِمٍ لأَِنَّ نَظَرَ الْكَافِرَةِ وَمَسَّهَا أَخَفُّ مِنَ الرَّجُل.
وَيَجُوزُ لِلطَّبِيبَةِ أَنْ تَنْظُرَ وَتَمَسَّ مِنَ الْمَرِيضِ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ الْمُلْجِئَةُ إِلَى نَظَرِهِ وَمَسِّهِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ طَبِيبٌ يَقُومُ بِمُدَاوَاةِ الْمَرِيضِ (1) ، وَقَدِ اشْتَرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ شُرُوطًا لِذَلِكَ.
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَيُبَاحَانِ أَيِ النَّظَرُ وَالْمَسُّ لِفَصْدٍ وَحِجَامَةٍ وَعِلاَجٍ لِلْحَاجَةِ لَكِنْ بِحَضْرَةِ مَانِعِ خَلْوَةٍ كَمَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ أَوِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ لِحِل خَلْوَةِ رَجُلٍ بِامْرَأَتَيْنِ ثِقَتَيْنِ، وَشَرَطَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنْ يَأْمَنَ الاِفْتِنَانَ وَلاَ يَكْشِفَ إِلاَّ قَدْرَ الْحَاجَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ كَذَلِكَ: يَحْرُمُ النَّظَرُ دُونَ الْمَسِّ كَأَنْ أَمْكَنَ لِطَبِيبٍ مَعْرِفَةُ الْعِلَّةِ بِالْمَسِّ فَقَطْ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَلِطَبِيبٍ نَظَرُ وَمَسُّ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى نَظَرِهِ وَلَمْسِهِ نَصَّ عَلَيْهِ (3) ، حَتَّى فَرْجِهَا وَبَاطِنِهِ لأَِنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ ذِمِّيًّا، وَلِيَكُنْ ذَلِكَ مَعَ حُضُورِ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ،
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 261، والفواكه الدواني 2 / 410، ومغني المحتاج 3 / 133، ونهاية المحتاج 6 / 196 - 197، وكفاية الأخيار 2 / 29، والمغني 3 / 113، والإنصاف 8 / 22.
(2) نهاية المحتاج 6 / 195، والإقناع للشربيني 2 / 69.
(3) الإنصاف 8 / 22، وكشاف القناع 5 / 13.

(37/286)


لأَِنَّهُ لاَ يَأْمَنُ مَعَ الْخَلْوَةِ مُوَاقَعَةَ الْمَحْظُورِ، وَيَسْتُرُ مِنْهَا مَا عَدَا مَوْضِعَ الْحَاجَةِ لأَِنَّهَا عَلَى الأَْصْل فِي التَّحْرِيمِ، وَكَالطَّبِيبِ مَنْ يَلِي خِدْمَةَ مَرِيضٍ أَوْ مَرِيضَةٍ فِي وُضُوءٍ وَاسْتِنْجَاءٍ وَغَيْرِهِمَا وَكَتَخْلِيصِهَا مِنْ غَرَقٍ وَحَرْقٍ وَنَحْوِهِمَا، وَكَذَا لَوْ حَلَقَ عَانَةَ مَنْ لاَ يُحْسِنُ حَلْقَ عَانَتِهِ، وَكَذَا لِمَعْرِفَةِ بَكَارَةٍ وَثُيُوبَةٍ وَبُلُوغٍ، وَأَمَّا الْمَسُّ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ كَمَسِّ يَدِهَا لِيَعْرِفَ مَرَضَهَا فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ بِحَالٍ (1) .
__________
(1) كشاف القناع 5 / 13.

(37/287)


مَسْعَى

انْظُرْ: سَعْيٌ

مُسْقِطَاتٌ

انْظُرْ: إِسْقَاطٌ

(37/287)


مِسْكٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمِسْكُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ السِّينِ: طِيبٌ مَعْرُوفٌ، وَثَوْبٌ مُمَسَّكٌ: مَصْبُوغٌ بِهِ، وَدَوَاءٌ مُمَسَّكٌ: فِيهِ مِسْكٌ.
قَال الْجَوْهَرِيُّ: الْمِسْكُ مِنَ الطِّيبِ، فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ قَال: وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّيهِ الْمَشْمُومَ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْبُنَانِيُّ نَقْلاً عَنِ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ: الْمِسْكُ دَمٌ يَجْتَمِعُ فِي سُرَّةِ الْغَزَال فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ مِنَ السَّنَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ وَرِمَ الْمَوْضِعُ، فَيَمْرَضُ الْغَزَال إِلَى أَنْ يَسْقُطَ مِنْهُ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعَنْبَرُ:
2 - الْعَنْبَرُ فِي اللُّغَةِ: مَادَّةٌ صُلْبَةٌ لاَ طَعْمَ لَهَا وَلاَ رِيحَ إِلاَّ إِذَا سُحِقَتْ أَوْ أُحْرِقَتْ، يُقَال: إِنَّهُ رَوْثُ دَابَّةٍ بَحْرِيَّةٍ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ الْعَنْبَرَ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ -
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) حاشية البناني على هامش الزرقاني 1 / 27.
(3) المعجم الوسيط.

(37/288)


أَيْ رَمَى بِهِ - إِلَى السَّاحِل (1) .
وَالْعِلاَقَةُ بَيْنَ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا طِيبٌ، وَلَهُمَا أَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ مُشْتَرَكَةٌ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمِسْكِ:
أ - طَهَارَةُ الْمِسْكِ وَأَكْلُهُ
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمِسْكَ طَاهِرٌ حَلاَلٌ، يَجُوزُ أَكْلُهُ وَالاِنْتِفَاعُ بِهِ بِكُل حَالٍ فِي الأَْطْعِمَةِ وَالأَْدْوِيَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ لِضَرُورَةٍ أَمْ لاَ، لأَِنَّهُ وَإِنْ كَانَ دَمًا فَقَدْ تَغَيَّرَ، وَاسْتَحَال أَصْلُهُ إِلَى صَلاَحٍ، فَيَصِيرُ طَاهِرًا، وَلِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ الْمِسْكَ أَطْيَبُ الطِّيبِ (2) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: حَكَى النَّوَوِيُّ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى طَهَارَتِهِ وَجَوَازِ بَيْعِهِ (3) .
وَأَمَّا نَافِجَةُ الْمِسْكِ (4) فَطَاهِرَةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفَاصِيل:
__________
(1) الفروع لابن مفلح 1 / 251، ونهاية المحتاج 1 / 224، وابن عابدين 1 / 140، والاختيار 1 / 115، وأسنى المطالب 1 / 11.
(2) حديث: " أن المسك أطيب الطيب ". أخرجه مسلم (4 / 1766) من حديث أبي سعيد الخدري.
(3) ابن عابدين 1 / 139، 140، وفتح القدير 1 / 141، والأشباه والنظائر لابن نجيم 76، والفتاوى الخانية على هامش الفتاوى الهندية 1 / 24، وحاشية الدسوقي 1 / 52، وجواهر الإكليل 1 / 29، وحاشية الزرقاني 1 / 27، 52، وأسنى المطالب 1 / 11، والإقناع للخطيب الشربيني 1 / 25، وروضة الطالبين 3 / 130، ومطالب أولي النهى 6 / 308.
(4) النافجة بكسر الفاء، وقيل بفتحها، وفتح الجيم: جلدة يتجمع فيها المسك (ابن عابدين 1 / 140، وفتح القدير 1 / 67، والقاموس المحيط هامش مادة نفج) .

(37/288)


فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى طَهَارَتِهَا مُطْلَقًا، أَيْ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ رَطْبِهَا وَيَابِسِهَا، وَبَيْنَ مَا انْفَصَل مِنَ الْمَذْبُوحِ أَوْ غَيْرِهِ، وَقِيل: إِنْ كَانَتْ بِحَال لَوْ أَصَابَهَا الْمَاءُ لَمْ تَفْسُدْ فَهِيَ طَاهِرَةٌ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فَأْرَةُ الْمِسْكِ مَيْتَةٌ طَاهِرَةٌ إِجْمَاعًا لاِنْتِقَالِهَا عَنِ الدَّمِ، كَالْخَمْرِ لِلْخَل (2) .
وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنِ انْفَصَلَتْ مِنْ حَيَّةٍ أَوْ مُذَكَّاةٍ فَطَاهِرَةٌ وَتَكُونُ كَالرِّيشِ، وَإِنِ انْفَصَلَتْ مِنْ مَيْتَةٍ فَنَجِسَةٌ كَاللَّبَنِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْمِسْكُ وَفَأْرَتُهُ (وِعَاؤُهُ) طَاهِرَانِ، لأَِنَّهُ مُنْفَصِلٌ بِطَبْعِهِ، أَشْبَهَ الْوَلَدَ (4)

ب - زَكَاةُ الْمِسْكِ
4 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي الْمِسْكِ (5) .

ج - بَيْعُ الْمِسْكِ وَفَأْرَتِهِ
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمِسْكِ فِي الْجُمْلَةِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: حَكَى النَّوَوِيُّ إِجْمَاعَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 140، وفتح القدير 1 / 67، والفتاوى الهندية 1 / 24، والأشباه والنظائر لابن نجيم 76.
(2) حاشية الزرقاني 1 / 27.
(3) أسنى المطالب 1 / 11، والإقناع للخطيب الشربيني 1 / 25، وروضة الطالبين 1 / 17.
(4) كشاف القناع 1 / 57.
(5) روضة الطالبين 2 / 260، وكشاف القناع 2 / 225.

(37/289)


الْمُسْلِمِينَ عَلَى طَهَارَتِهِ وَجَوَازِ بَيْعِهِ (1) .
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ الْقَوْل فِيهِ فَقَالُوا: لاَ يَصِحُّ بَيْعُ مِسْكٍ اخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ لِجَهْل الْمَقْصُودِ، وَلَوْ كَانَ قَدْرُ الْمِسْكِ مَعْلُومًا صَحَّ الْبَيْعُ، هَذَا إِذَا خَالَطَهُ لاَ عَلَى وَجْهِ التَّرْكِيبِ، فَإِنْ كَانَ مَعْجُونًا بِغَيْرِهِ كَالْغَالِيَةِ، وَالنِّدِّ (2) ، صَحَّ الْبَيْعُ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ جَمِيعُهَا لاَ الْمِسْكُ وَحْدَهُ.
وَكَذَلِكَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْمِسْكِ فِي فَأْرَتِهِ مَعَهَا، أَوْ دُونَهَا، وَلَوْ فَتَحَ رَأْسَهَا كَاللَّحْمِ فِي الْجِلْدِ.
أَمَّا لَوْ رَأَى الْمِسْكَ خَارِجَ الْفَأْرَةِ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ بَعْدَ رَدِّهِ إِلَيْهَا، أَوْ رَأَى الْفَأْرَةَ فَارِغَةً، ثُمَّ مُلِئَتْ مِسْكًا لَمْ يَرَهُ، ثُمَّ رَأَى أَعْلاَهُ مِنْ رَأْسِهَا جَازَ، وَإِلاَّ فَلاَ، لأَِنَّهُ بَيْعُ غَائِبٍ.
وَأَمَّا لَوْ بَاعَ الْمِسْكَ وَفَأْرَتَهُ كُل رَطْلٍ أَوْ قِيرَاطٍ مَثَلاً بِدِرْهَمٍ صَحَّ الْبَيْعُ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ قِيمَتُهُمَا، شَرِيطَةَ أَنْ يَعْرِفَ وَزْنَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَانَ لِلْفَأْرَةِ قِيمَةٌ، وَإِلاَّ فَلاَ يَصِحُّ لأَِنَّ الْبَيْعَ اشْتَمَل عَلَى اشْتِرَاطِ بَذْل مَالٍ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ (3) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ مِسْكٍ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 140، وأسنى المطالب 2 / 20، 21، والجمل 3 / 60، 41، 39، والإقناع 2 / 10، ونهاية المحتاج 3 / 404، ومطالب أولي النهى 3 / 300.
(2) الغالية: مركب من مسك وعنبر وعود وكافور، والند: تركيب من عود هندي ومسك وعنبر وقد يعمل منهما (أسنى المطالب 1 / 21، والآداب الشرعية 2 / 420، 426) .
(3) مراجع الشافعية السابقة.

(37/289)


فِي فَأْرَتِهِ مَا لَمْ يُفْتَحْ وَيُشَاهَدْ، لأَِنَّهُ مَجْهُولٌ كَاللُّؤْلُؤِ فِي الصَّدَفِ، قَال الرَّحِيبَانِيُّ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الأَْصْحَابِ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا اشْتَرَى نَافِجَةَ مِسْكٍ، وَأَخْرَجَ الْمِسْكَ مِنْهَا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا لِرُؤْيَةٍ أَوْ عَيْبٍ، لأَِنَّ الإِْخْرَاجَ يُدْخِل فِيهِ عَيْبًا (2) .

د - السَّلَمُ فِي الْمِسْكِ
6 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِي الْمِسْكِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَتَعَيَّنُ وَزْنُ فُتَاتِ الْمِسْكِ، وَلاَ يَجُوزُ كَيْلاً لأَِنَّ الْكَيْل لاَ يُعَدُّ ضَابِطًا فِيهِ لِعِظَمِ خَطَرِهِ؛ لأَِنَّ يَسِيرَهُ مَالِيَّةٌ كَثِيرَةٌ.
قَال الْحَنَابِلَةُ: وَيَصِفُهُ، وَيَضْبِطُهُ بِاللَّوْنِ، وَالْبَلَدِ وَمَا يُخْتَلَفُ بِهِ (3) .

هـ - ضَمَانُ رَائِحَةِ الْمِسْكِ الْمَغْصُوبِ
7 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُ نَقْصَ رَائِحَةِ الْمِسْكِ أَوْ نَحْوِهِ كَعَنْبَرٍ، لأَِنَّ قِيمَتَهُ تَخْتَلِفُ بِالنَّظَرِ إِلَى قُوَّةِ رَائِحَتِهِ، وَضَعْفِهَا، وَلأَِنَّهُ لَوْ فَاتَ الْجَمِيعُ لَوَجَبَ قِيمَتُهُ، فَإِذَا فَاتَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَجَبَ قَدْرُهُ مِنَ الْقِيمَةِ (4) .
__________
(1) مطالب أولي النهى 3 / 30.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 63.
(3) ابن عابدين 4 / 207، ونهاية المحتاج 4 / 191 ط. المكتبة الإسلامية، وروضة الطالبين 4 / 14، / 16، 27، ومطالب أولي النهى 3 / 212، والمغني 4 / 318.
(4) مطالب أولي النهى 4 / 25.

(37/290)


و - اسْتِعْمَال الْمِسْكِ لِلْمُحْرِمِ وَغَيْرِهِ
8 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ التَّطَيُّبِ بِالْمِسْكِ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ (1) ، لِخَبَرِ مُسْلِمٍ: الْمِسْكُ أَطْيَبُ الطِّيبِ (2) ".
وَفِي اسْتِعْمَالِهِ لِلْمُحْرِمِ، وَالتَّدَاوِي بِهِ، وَأَكْلِهِ، وَشَمِّهِ خِلاَفٌ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٌ ف 74 - 78) .

ز - اسْتِعْمَال الْمِسْكِ لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ
9 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، بِأَنَّهُ يُسَنُّ اسْتِعْمَال الْمِسْكِ لِكُل مُغْتَسِلَةٍ مِنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مِسْكًا فَطِيبًا آخَرَ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ غُسْلِهَا مِنَ الْمَحِيضِ، فَأَمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِل، قَال: خُذِي فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ، فَتَطَهَّرِي بِهَا قَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا؟ قَال: تَطَهَّرِي بِهَا قَالَتْ: كَيْفَ؟ قَال: سُبْحَانَ اللَّهِ! تَطَهَّرِي، تَقُول عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: فَجَذَبْتُهَا إِلَيَّ، فَقُلْتُ: تَتَّبِعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ (3) .
وَكَيْفِيَّةُ اسْتِعْمَالِهِ كَمَا ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 140، وروضة الطالبين 3 / 129، وما بعدها، ونهاية المحتاج 1 / 224، والإقناع للخطيب الشربيني 1 / 224، وفتح القدير 2 / 225، 227.
(2) حديث: " المسك أطيب الطيب ". سبق تخريجه ف 3.
(3) حديث: " خذي فرصة من مسك. . ". أخرجه البخاري " فتح الباري " (1 / 414) ، ومسلم (1 / 260) واللفظ للبخاري.

(37/290)


تَأْخُذَ الْمِسْكَ، وَتَجْعَلَهُ فِي قُطْنٍ، وَيُقَال لَهَا الْكُرْسُفُ أَوِ الْفِرْصَةُ (1) ، وَتُدْخِلُهَا الْفَرْجَ، لِيَقْطَعَ رَائِحَةَ دَمِ الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ (2) .

ح - إِفْطَارُ الصَّائِمِ بِشَمِّ رَائِحَةِ الْمِسْكِ
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ شَمَّ الْمِسْكَ وَلَوْ ذَاكِرًا، أَوْ شَمَّ هَوَاءً تَطَيَّبَ بِرِيحِ الْمِسْكِ أَوْ شَبَهِهِ فَلاَ يُفْطِرُ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ مَنْ شَمَّ رَائِحَةَ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالزَّبَادِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُل الْحَلْقَ فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا وَصَل إِلَى الْحَلْقِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، أَمَّا لَوْ وَصَل إِلَى الْحَلْقِ بِاخْتِيَارِهِ، أَيْ بِاسْتِنْشَاقِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَنْشِقُ صَانِعَهُ أَوْ غَيْرَهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ (4) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ شَمُّ مَا لاَ يَأْمَنُ أَنْ يَجْذِبَهُ نَفْسُهُ إِلَى حَلْقِهِ كَسَحِيقِ مِسْكٍ وَكَافُورٍ، وَكَبُخُورٍ، وَعَنْبَرٍ (5) .
__________
(1) الكرسف: القطن، وفي اصطلاح الفقهاء ما يوضع على فم الفرج، والفرصة بكسر الراء القطعة من كل شيء، وقيل: القطعة من مسك (رسائل ابن عابدين 1 / 84، وعمدة القاري 2 / 114) .
(2) رسائل ابن عابدين 1 / 84، وعمدة القاري 2 / 113، ومغني المحتاج 1 / 74، وفتح الباري 1 / 416، وكشاف القناع 1 / 153، ومطالب أولي النهى 1 / 182.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 97.
(4) حاشية الدسوقي 1 / 525.
(5) كشاف القناع 2 / 330.

(37/291)


مُسْكِرٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُسْكِرُ فِي اللُّغَةِ: مَا أَزَال الْعَقْل، يُقَال: أَسْكَرَهُ الشَّرَابُ: أَزَال عَقْلَهُ، فَهُوَ مُسْكِرٌ، وَالاِسْمُ مِنْهُ: السُّكْرُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ تَنَاوُل الشَّيْءِ الْمُسْكِرِ حَرَامٌ، وَيَجِبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْحَدُّ عَلَى شَارِبِهِ، قَل أَمْ كَثُرَ، إِذَا كَانَ مُسْلِمًا مُكَلَّفًا، مُخْتَارًا عَالِمًا بِأَنَّ مَا شَرِبَهُ مُسْكِرٌ، مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ (3) ، لِمَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كُل شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ (4) ". وَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: كُل مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُل خَمْرٍ حَرَامٌ (5) ".
__________
(1) المصباح المنير.
(2) مغني المحتاج 4 / 187.
(3) مغني المحتاج 4 / 187، وجواهر الإكليل 2 / 195 والمغني 8 / 306.
(4) حديث: " كل شراب أسكر فهو حرام ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 41) ومسلم (3 / 1585) .
(5) حديث: " كل مسكر خمر، وكل خمر حرام ". أخرجه مسلم (3 / 1587) .

(37/291)


وَيُحَدُّ شَارِبُهُ، وَإِنْ كَانَ لاَ يُسْكِرُ، حَسْمًا لِمَادَّةِ الْفَسَادِ وَلِحَدِيثِ: مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ (1) "، وَقِيسَ بِهِ النَّبِيذُ وَغَيْرُهُ.
وَالْمُرَادُ بِالشَّارِبِ: الْمُتَعَاطِي شُرْبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا تَعَاطَاهُ جَامِدًا أَوْ مَائِعًا مَطْبُوخًا أَوْ نِيئًا، وَسَوَاءٌ أَتَنَاوَلَهُ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ أَمْ إِبَاحَتَهُ، لِضَعْفِ أَدِلَّةِ الإِْبَاحَةِ، وَقَال أَبُو ثَوْرٍ: مَنْ شَرِبَهُ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ حُدَّ، وَمَنْ شَرِبَهُ مُتَأَوِّلاً فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ بِلاَ وَلِيٍّ (2) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا اشْتَدَّ عَصِيرُ الْعِنَبِ وَقَذَفَ زَبَدَهُ، أَوْ طُبِخَ فَذَهَبَ أَقَل مِنْ ثُلُثَيْهِ، وَنَقِيعُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إِذَا اشْتَدَّا بِغَيْرِ طَبْخٍ فَهَذَا حَرَامٌ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَحُدَّ شَارِبُهُ، أَمَّا إِذَا طُبِخَ عَصِيرُ الْعِنَبِ فَذَهَبَ ثُلُثَاهُ، وَنَقِيعُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إِذَا طُبِخَا وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُمَا، أَوْ نَبِيذُ الْحِنْطَةِ وَالذُّرَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُطْبَخْ، فَكُل ذَلِكَ حَلاَلٌ، نَقِيعًا كَانَ أَوْ مَطْبُوخًا إِلاَّ مَا بَلَغَ السُّكْرَ أَوْ كَانَ بِلَهْوٍ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَشْرِبَةٌ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) حديث: " من شرب الخمر فاجلدوه ". أخرجه الترمذي (4 / 48) ونقل الزيلعي في نصب الراية (3 / 347) عن الذهبي أنه صححه.
(2) مغني المحتاج 4 / 187، والمغني 8 / 306، وجواهر الإكليل 2 / 195 - 196.
(3) رد المحتار 5 / 289 وما بعده.

(37/292)


مَسْكَنٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَسْكَنُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِهَا فِي اللُّغَةِ: الْبَيْتُ وَالْمَنْزِل، وَسَكَنَ فُلاَنٌ مَكَانَ كَذَا أَيِ اسْتَوْطَنَهُ، وَاسْمُ الْمَكَانِ مَسْكَنٌ، وَالْجَمْعُ مَسَاكِنٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمَأْوَى:
2 - الْمَأْوَى بِفَتْحِ الْوَاوِ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ أَوَى يَأْوِي أَوْيًا وَمَأْوًى، وَالْمَأْوَى لِكُل حَيَوَانٍ: سَكَنُهُ، أَيِ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي التَّنْزِيل: {جَنَّةُ الْمَأْوَى} (3) وَأَوَى إِلَى مَنْزِلِهِ مِنْ بَابِ ضَرَبَ أَوْيًا: أَقَامَ وَرُبَّمَا عُدِّيَ بِنَفْسِهِ فَقِيل: أَوَى مَنْزِلَهُ وَآوَاهُ.
__________
(1) سورة الأحقاف / 25.
(2) المصباح المنير، والقاموس المحيط، والمفردات في غريب القرآن، والمعجم الوسيط.
(3) سورة النجم / 15.

(37/292)


غَيْرُهُ يُؤْوِيهِ إِيوَاءً (1) ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} (2) .
وَالْمَسْكَنُ أَخَصُّ مِنَ الْمَأْوَى.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَسْكَنِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْكَنِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

بَيْعُ الْمَسْكَنِ لِلْحَجِّ
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ الْمَسْكَنِ لِلْحَجِّ كَسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الاِسْتِطَاعَةِ، فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمَسْكَنَ لاَ يُبَاعُ لِلْحَجِّ إِذَا كَانَ عَلَى قَدْرِ حَاجَةِ الشَّخْصِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَلْزَمُهُ بَيْعُ الْمَسْكَنِ لِلْحَجِّ مُطْلَقًا، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سُكْنَى ف 32)

بَيْعُ مَسْكَنِ الْمُفْلِسِ
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ مَسْكَنِ الْمُفْلِسِ لِتَقْسِيمِ ثَمَنِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ.
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةُ وَإِسْحَاقُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُبَاعُ دَارُهُ الَّتِي لاَ غِنَى لَهُ عَنْ سُكْنَاهَا، فَلَمْ يُصْرَفْ فِي دَيْنِهِ كَثِيَابِهِ وَقُوتِهِ (3) .
__________
(1) المصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن، ولسان العرب.
(2) سورة الكهف / 10.
(3) المغني لابن قدامة 4 / 492، ورد المحتار على الدر المختار 5 / 95.

(37/293)


وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَشُرَيْحٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَمُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ - وَبِقَوْلِهِمَا يُفْتَى - إِلَى أَنَّهُ يُبَاعُ مَسْكَنُهُ وَيُكْتَرَى لَهُ بَدَلُهُ، لأَِنَّ تَحْصِيل السَّكَنِ بِالْكِرَاءِ يَسْهُل (1) .
فَإِنْ كَانَ لَهُ دَارَانِ يَسْتَغْنِي بِسُكْنَى إِحْدَاهُمَا عَنِ الأُْخْرَى فَتُبَاعُ الأُْخْرَى، وَكَذَا إِنْ كَانَ مَسْكَنُهُ وَاسِعًا لاَ يَسْكُنُ مِثْلُهُ فِي مِثْلِهِ بِيعَ وَاشْتُرِيَ لَهُ مَسْكَنٌ مِثْلَهُ وَرُدَّ الْفَضْل عَلَى الْغُرَمَاءِ.
وَلَوْ كَانَ الْمَسْكَنُ الَّذِي لاَ يَسْتَغْنِي عَنْهُ هُوَ عَيْنُ مَال بَعْضِ الْغُرَمَاءِ أَوْ كَانَ جَمِيعُ مَالِهِ أَعْيَانَ أَمْوَالٍ أَفْلَسَ بِأَثْمَانِهَا وَوَجَدَهَا أَصْحَابُهَا فَلَهُمْ أَخْذُهَا (2) .

مَسْكَنُ الْمُعْتَدَّةِ
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ عَنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ وَالْمُعْتَدَّةُ عَنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ إِذَا كَانَتْ حَامِلاً فَإِنَّهُ يَجِبُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا السُّكْنَى عَلَى مُطَلِّقِهَا، أَمَّا الْمُعْتَدَّةُ عَنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ وَهِيَ غَيْرُ حَامِلٍ وَكَذَا الْمُعْتَدَّةُ عَنْ وَفَاةٍ، وَالْمُعْتَدَّةُ عَنْ فَسْخٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ السُّكْنَى لِكُلٍّ مِنْهُنَّ أَوْ عَدَمِ وُجُوبِهَا، وَذَلِكَ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي مُصْطَلَحِ (سُكْنَى ف 12 - 15) .
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 89 - 90، ومغني المحتاج 2 / 154، وحاشية ابن عابدين 5 / 95.
(2) المغني لابن قدامة 4 / 493.

(37/293)


مَسْكَنُ الزَّوْجَةِ
6 - السُّكْنَى لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا وَاجِبَةٌ وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَل لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ السُّكْنَى عَلَى زَوْجِهَا فَوُجُوبُ السُّكْنَى لِلَّتِي هِيَ فِي صُلْبِ النِّكَاحِ أَوْلَى.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سُكْنَى ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) .

(37/294)


مَسْكُوكٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَسْكُوكُ فِي اللُّغَةِ: الْمَضْرُوبُ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، أَيِ الْمُعَلَّمَةُ بِالسِّكَّةِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التِّبْرُ:
2 - التِّبْرُ لُغَةً: هُوَ مَا كَانَ غَيْرَ مَسْكُوكٍ مِنَ الذَّهَبِ، فَإِنْ ضُرِبَ فَدَنَانِيرٌ، قَال ابْنُ فَارِسٍ: التِّبْرُ مَا كَانَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ غَيْرَ مَصُوغٍ، وَقَال الزَّجَّاجُ: التِّبْرُ كُل جَوْهَرٍ قَبْل اسْتِعْمَالِهِ كَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ.
وَالتِّبْرُ اصْطِلاَحًا: اسْمٌ لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قَبْل ضَرْبِهِمَا أَوْ لِلأَْوَّل فَقَطْ (2) .

ب - السِّكَّةُ:
3 - مِنْ مَعَانِي السِّكَّةِ فِي اللُّغَةِ: أَنَّهَا حَدِيدَةٌ مَنْقُوشَةٌ تُطْبَعُ بِهَا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَتُطْلَقُ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) لسان العرب، وحاشية ابن عابدين 2 / 30، وجواهر الإكليل 2 / 171.

(37/294)


عَلَى الْمَسْكُوكِ مِنَ النَّقْدَيْنِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَسْكُوكِ:
أ - حُكْمُ السَّكِّ
4 - سَكُّ النُّقُودِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ التَّعَامُل بِهَا وَهِيَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لأَِنَّ النَّقْدَ لاَ يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي الْمُعَامَلاَتِ الْيَوْمِيَّةِ إِلاَّ إِذَا خَلَصَ مِنَ الْغِشِّ، فَلاَ تَصْلُحُ نِقَارُ الْفِضَّةِ وَسَبَائِكُ الذَّهَبِ لِذَلِكَ، لأَِنَّهُ لاَ يُوثَقُ بِهِمَا إِلاَّ بِالسَّكِّ وَالتَّصْفِيَةِ، وَالْمَطْبُوعُ مَوْثُوقٌ بِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ هُوَ الثَّابِتَ بِالذِّمَمِ فِيمَا يُطْلَقُ مِنْ أَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ فَلَزِمَ سَكُّهَا، لأَِنَّهَا مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الاِنْتِفَاعِ بِهَا.
وَالْمَطْبُوعُ بِالسِّكَّةِ السُّلْطَانِيَّةِ الْمَوْثُوقُ بِسِلاَمَةِ طَبْعِهِ الْمَأْمُونُ مِنْ تَبْدِيلِهِ وَتَلْبِيسِهِ أَوْلَى بِالْوُثُوقِ فَصَارَ سَكُّ النُّقُودِ مِنْ وَظِيفَةِ الإِْمَامِ وَيُكْرَهُ لِغَيْرِ الإِْمَامِ مِنَ الأَْفْرَادِ سَكُّ النُّقُودِ وَإِنْ كَانَتْ خَالِصَةً، لأَِنَّهُ مِنْ شَأْنِ الإِْمَامِ، وَفِي سَكِّ غَيْرِهِ افْتِيَاتٌ عَلَيْهِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (دَرَاهِمُ ف 7) .

ب - كَسْرُ الْمَسْكُوكِ 5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ كَسْرِ الْمَسْكُوكِ:
فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ أَهْل الْمَدِينَةِ إِلَى أَنَّهُ
__________
(1) لسان العرب.
(2) مقدمة ابن خلدون ص 183 المطبعة البهية المصرية، ومغني المحتاج 1 / 390، والأحكام السلطانية للماوردي ص 155.

(37/295)


مَكْرُوهٌ، لأَِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَسَادِ فِي الأَْرْضِ وَيُنْكَرُ عَلَى فَاعِلِهِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (دَرَاهِمُ ف 8) .

ج - زَكَاةُ الْمَسْكُوكِ الْمَغْشُوشِ
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْمَغْشُوشِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمَغْشُوشِ مِنَ النَّقْدَيْنِ حَتَّى يَبْلُغَ خَالِصُهُ نِصَابًا، فَإِذَا بَلَغَهُ أَخْرَجَ الْوَاجِبَ خَالِصًا، أَوْ أَخْرَجَ مِنَ الْمَغْشُوشِ مَا يَعْلَمُ اشْتِمَالَهُ عَلَى خَالِصٍ بِقَدْرِ الْوَاجِبِ مَعَ مُرَاعَاةِ دَرَجَةِ الْجَوْدَةِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْوَرِقِ الْمَسْكُوكِ الْفِضَّةِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَضْرُوبِ، فَتَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ كَأَنَّهُ كُلُّهُ فِضَّةٌ، وَلاَ تُزَكَّى زَكَاةَ الْعُرُوضِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْغَالِبُ الْغِشَّ فَلاَ يَكُونُ لَهَا حُكْمُ الْفِضِّيَّةِ بَل حُكْمُ الْعُرُوضِ، فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا إِلاَّ إِنْ نَوَاهَا لِلتِّجَارَةِ وَبَلَغَتْ نِصَابًا بِالْقِيمَةِ (3) .
قَال الْمَالِكِيَّةُ إِنْ كَانَتْ مَسْكُوكُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَغْشُوشَةِ رَائِجَةً كَرَوَاجِ غَيْرِ الْمَغْشُوشَةِ فَإِنَّهَا تُعَامَل كَالْكَامِلَةِ، فَتَكُونُ فِيهَا
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 140، والأحكام السلطانية للماوردي 155.
(2) مغني المحتاج 1 / 390، والمغني 3 / 7.
(3) تبيين الحقائق 1 / 279، وحاشية ابن عابدين 2 / 31.

(37/295)


الزَّكَاةُ إِنْ بَلَغَ وَزْنَهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الْغِشِّ نِصَابًا، وَإِلاَّ بِأَنْ لَمْ تَرُجْ رَوَاجَ الْكَامِلَةِ حُسِبَ الْخَالِصُ فَإِنْ بَلَغَ نِصَابًا زُكِّيَ وَإِلاَّ فَلاَ (1) .

وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ حُكْمَ إِخْرَاجِ غَيْرِ الْمَسْكُوكِ عَنِ الْمَسْكُوكِ فِي الزَّكَاةِ فَقَالُوا: جَازَ إِخْرَاجُ ذَهَبٍ عَنْ وَرِقٍ وَإِخْرَاجُ وَرِقٍ عَنْ ذَهَبٍ بِلاَ أَوْلَوِيَّةٍ لأَِحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ بِاعْتِبَارِ صَرْفِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ الْجَارِي بَيْنَ النَّاسِ فِي وَقْتِ إِخْرَاجِ أَحَدِهِمَا عَنِ الآْخَرِ حَال كَوْنِ صَرْفِ الْوَقْتِ مُطْلَقًا عَنْ تَقْيِيدِهِ بِمُسَاوَاةِ الصَّرْفِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ كَوْنُ الدِّينَارِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَبِاعْتِبَارِ قِيمَةٍ لِلسِّكَّةِ فِي النِّصَابِ الْمُزَكَّى إِنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ غَيْرَ مَسْكُوكٍ، فَمَنْ أُوجِبَ عَلَيْهِ دِينَارٌ مَسْكُوكٌ وَصَرَفَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مَسْكُوكَةً وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى وَزْنِ الْعَشَرَةِ مِنَ الْفِضَّةِ غَيْرِ الْمَسْكُوكَةِ قِيمَةَ سِكَّتِهَا عِنْدَ أَهْل الْمَعْرِفَةِ، هَذَا إِذَا كَانَ غَيْرُ الْمَسْكُوكِ مِنْ غَيْرِ نَوْعِ النِّصَابِ كَمَا فِي الْمِثَال، بَل وَلَوْ كَانَ إِخْرَاجُ غَيْرِ الْمَسْكُوكِ عَنِ الْمَسْكُوكِ فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَا ابْنُ الْحَاجِبِ وَابْنُ بَشِيرٍ وَابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ وَخَلِيلٌ لاَ بِاعْتِبَارِ قِيمَةِ الصِّيَاغَةِ فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ، فَمَنْ عِنْدَهُ ذَهَبٌ مَصُوغٌ وَزْنُهُ أَرْبَعُونَ دِينَارًا وَقِيمَتُهُ خَمْسُونَ دِينَارًا لِصِيَاغَتِهِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الأَْرْبَعِينَ لاَ الْخَمْسِينَ.
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 456.

(37/296)


وَفِي إِلْغَاءِ قِيمَةِ الصِّيَاغَةِ فِي غَيْرِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ كَمَنْ عِنْدَهُ ذَهَبٌ مَصُوغٌ وَزْنُهُ أَرْبَعُونَ دِينَارًا وَقِيمَتُهُ خَمْسُونَ دِينَارًا لأَِجْل الصِّيَاغَةِ وَأَرَادَ أَنْ يُزَكِّيَهُ بِدَرَاهِمَ فَهَل يُلْغِي قِيمَةَ الصِّيَاغَةِ وَيُخْرِجُ صَرْفَ دِينَارٍ أَوْ يَعْتَبِرُهَا وَيُخْرِجُ صَرْفَ دِينَارٍ وَرُبْعٍ، تَرَدُّدٌ بَيْنَ أَبِي عِمْرَانَ وَابْنِ الْكَاتِبِ لِعَدَمِ نَصِّ الْمُتَقَدِّمِينَ (1) .

د - التَّعَامُل بِالْمَسْكُوكِ الْمَغْشُوشِ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّعَامُل بِالْمَسْكُوكِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِذَا كَانَ مَغْشُوشًا
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ، مَعَ تَقْيِيدِ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنْ لاَ تُبَاعَ لِمَنْ يَغُشُّ بِهَا النَّاسَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الْغِشُّ خَافِيًا لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دَرَاهِمُ ف 9) .
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 140.

(37/296)