الموسوعة الفقهية الكويتية

مُصَرَّاةٌ

انْظُرْ: تَصْرِيَةٌ

مَصْلَحَةٌ

انْظُرْ: اسْتِصْلاَحٌ

(38/28)


مُصَلًّى
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُصَلَّى لُغَةً: مَوْضِعُ الصَّلاَةِ أَوِ الدُّعَاءِ (1) ، قَال تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (2) أَيْ مَوْضِعًا لِلدُّعَاءِ.
وَاصْطِلاَحًا: الْفَضَاءُ وَالصَّحْرَاءُ، وَهُوَ الْمُجْتَمَعُ فِيهِ لِلأَْعْيَادِ وَنَحْوِهَا (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمَسْجِدُ:
2 - الْمَسْجِدُ فِي اللُّغَةِ: بَيْتُ الصَّلاَةِ وَمَوْضِعُ السُّجُودِ مِنْ بَدَنِ الإِِِْنْسَانِ، وَالْجَمْعُ مَسَاجِدُ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُسْجَدُ لِلَّهِ فِيهِ، وَقَال الزَّجَّاجُ: كُل مَوْضِعٍ يُتَعَبَّدُ فِيهِ فَهُوَ مَسْجِدٌ (4) .
وَالْمَسْجِدُ فِي الاِصْطِلاَحِ كَمَا قَال الْبَرَكَتِيُّ:
الأَْرْضُ الَّتِي جَعَلَهَا الْمَالِكُ مَسْجِدًا، بِقَوْلِهِ:
جَعَلْتُهُ مَسْجِدًا وَأَفْرَزَ طَرِيقَهُ وَأَذَّنَ بِالصَّلاَةِ فِيهِ (5) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) سورة البقرة / 125.
(3) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك / 336.
(4) اللسان، والمصباح المنير.
(5) قواعد الفقه للبركتي ص 383 - 384.

(38/29)


وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُصَلَّى وَالْمَسْجِدِ أَنَّ الْمُصَلَّى أَخَصُّ مِنَ الْمَسْجِدِ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُصَلَّى:
تَتَعَلَّقُ بِالْمُصَلَّى أَحْكَامٌ مِنْهَا:

أ - صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ فِي الْمُصَلَّى
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ الْخُرُوجَ لِصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ فِي الْمُصَلَّى سُنَّةٌ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالأَْضْحَى إِِلَى الْمُصَلَّى (2) ، وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ، وَلاَ يَتْرُكُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَْفْضَل مَعَ قُرْبِهِ وَيَتَكَلَّفُ فِعْل النَّاقِصِ مَعَ بُعْدِهِ، وَلاَ يَشْرَعُ لأُِمَّتِهِ تَرْكَ الْفَضَائِل، وَلأَِنَّنَا أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالاِقْتِدَاءِ بِهِ، وَلَمْ يُنْقَل عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى الْعِيدَ بِمَسْجِدِهِ إِِلاَّ مِنْ عُذْرٍ، وَلأَِنَّ هَذَا إِِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِِِنَّ النَّاسَ فِي كُل عَصْرٍ وَمِصْرٍ يَخْرُجُونَ إِِلَى الْمُصَلَّى فَيُصَلُّونَ الْعِيدَ فِي الْمُصَلَّى مَعَ سَعَةِ الْمَسْجِدِ وَضِيقِهِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 275، والدر المختار مع حاشية ابن عابدين عليه 1 / 581، والمغني لابن قدامة 2 / 372، وفتح القدير 2 / 41.
(2) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر. . . ". رواه البخاري (فتح الباري 2 / 448) من حديث أبي سعيد الخدري.

(38/29)


وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي الْمُصَلَّى مَعَ شَرَفِ مَسْجِدِهِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِنَّ صَلاَةَ الْعِيدَيْنِ فِي الْمُصَلَّى مَنْدُوبَةٌ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: وَنُدِبَ إِِيقَاعُهَا أَيْ صَلاَةُ الْعِيدِ بِالْمُصَلَّى أَيِ الصَّحْرَاءِ، وَصَلاَتُهَا بِالْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ بِدْعَةٍ (2) ، أَيْ مَكْرُوهَةٌ، وَقَال: وَالْحِكْمَةُ فِي صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ فِي الْمُصَلَّى لأَِجْل الْمُبَاعَدَةِ بَيْنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ، لأَِنَّ الْمَسَاجِدَ وَإِِِنْ كَبُرَتْ يَقَعُ الاِزْدِحَامُ فِيهَا وَفِي أَبْوَابِهَا بَيْنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ دُخُولاً وَخُرُوجًا فَتُتَوَقَّعُ الْفِتْنَةُ فِي مَحَل الْعِبَادَةِ (3) .
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالأَْضْحَى إِِلَى الْمُصَلَّى (4) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِِلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ إِِنْ كَانَ وَاسِعًا فَهُوَ أَفْضَل مِنَ الْمُصَلَّى، لأَِنَّ الأَْئِمَّةَ لَمْ
__________
(1) المغني لابن قدامة 3 / 372.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 399، والقوانين الفقهية ص 90.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 399.
(4) حديث أبي سعيد الخدري: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى ". سبق تخريجه آنفا.

(38/30)


يَزَالُوا يُصَلُّونَ صَلاَةَ الْعِيدِ بِمَكَّةَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلأَِنَّ الْمَسْجِدَ أَشْرَفُ وَأَنْظَفُ، وَأَنَّ أَفْضَلِيَّةَ الصَّلاَةِ فِي الصَّحْرَاءِ بِمَا إِِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ ضَيِّقًا، فَإِِِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ ضَيِّقًا فَصَلَّى فِيهِ وَلَمْ يَخْرُجْ إِِلَى الْمُصَلَّى كُرِهَ ذَلِكَ لِتَأَذِّي النَّاسِ بِالزِّحَامِ، وَرُبَّمَا فَاتَ بَعْضَهُمُ الصَّلاَةُ، قَال الشَّافِعِيُّ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُجُ فِي الْعِيدِ إِِلَى الْمُصَلَّى بِالْمَدِينَةِ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ بَعْدَهُ وَعَامَّةُ أَهْل الْبَلَدِ إِِلاَّ أَهْل مَكَّةَ فَإِِِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنَ السَّلَفِ صَلَّى بِهِمْ عِيدًا إِِلاَّ فِي مَسْجِدِهِمْ (1) .

ب - صَلاَةُ النِّسَاءِ فِي مُصَلَّى الْعِيدِ
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى اسْتِحْبَابِ خُرُوجِ النِّسَاءِ غَيْرِ ذَوَاتِ الْهَيْئَاتِ مِنْهُنَّ إِِلَى مُصَلَّى الْعِيدِ (2) ، وَكَرَاهَةِ خُرُوجِ الشَّابَّاتِ لِصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ، وَإِِِذَا خَرَجْنَ يُسْتَحَبُّ خُرُوجُهُنَّ فِي ثِيَابٍ بِذْلَةٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يُرَخَّصُ لِلشَّوَابِّ مِنْهُنَّ الْخُرُوجُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَشَيْءٍ مِنَ الصَّلاَةِ (3) .
__________
(1) الأم للشافعي 1 / 234، والمجموع 5 / 4، وشرح المنهاج 2 / 394.
(2) مواهب الجليل 2 / 196، وحاشية الدسوقي 1 / 398، والأم للشافعي 1 / 241، والمجموع 5 / 8 - 9، والمغني 2 / 275، والإنصاف 2 / 472.
(3) بدائع الصنائع 1 / 275.

(38/30)


وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ ف 5)

ج - إِِجْرَاءُ أَحْكَامِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْمُصَلَّى
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْمُصَلَّى.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَيْسَ لِمُصَلَّى الْعِيدِ وَالْجِنَازَةِ حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِي مَنْعِ دُخُول الْحَائِضِ، وَإِِِنْ كَانَ لَهُمَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِي صِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ مَعَ عَدَمِ اتِّصَال الصُّفُوفِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْمُصَلَّى الْمُتَّخَذُ لِلْعِيدِ وَغَيْرِهِ الَّذِي لَيْسَ بِمَسْجِدٍ لاَ يَحْرُمُ الْمُكْثُ فِيهِ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبَهْ قَطَعَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَذَكَرَ الدَّارِمِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ (2) .
وَنَقَل الزَّرْكَشِيُّ: عَنِ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ سُئِل عَنِ الْمُصَلَّى الَّذِي بُنِيَ لِصَلاَةِ الْعِيدِ خَارِجَ الْبَلَدِ فَقَال: لاَ يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِي الاِعْتِكَافِ وَمُكْثِ الْجُنُبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الأَْحْكَامِ، لأَِنَّ الْمَسْجِدَ هُوَ الَّذِي أُعِدَّ لِرَوَاتِبِ الصَّلاَةِ وَعُيِّنَ لَهَا حَتَّى لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي غَيْرِهَا، وَمَوْضِعُ صَلاَةِ الْعِيدِ مُعَدٌّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 194، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار 1 / 66.
(2) المجموع 2 / 180.

(38/31)


لِلاِجْتِمَاعَاتِ وَلِنُزُول الْقَوَافِل وَلِرُكُوبِ الدَّوَابِّ وَلَعِبِ الصِّبْيَانِ، وَلَمْ تَجْرِ عَادَةُ السَّلَفِ بِمَنْعِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ، وَلَوِ اعْتَقَدُوهُ مَسْجِدًا لَصَانُوهُ عَنْ هَذِهِ الأَْسْبَابِ وَلَقُصِدَ لإِِِِقَامَةِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَصَلَوَاتُ الْعِيدِ تَطَوُّعٌ وَهُوَ لاَ يَكْثُرُ تَكَرُّرُهُ بَل يُبْنَى لِقَصْدِ الاِجْتِمَاعِ، وَالصَّلاَةُ تَقَعُ فِيهِ بِالتَّبَعِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ عَلَى جُنُبٍ وَحَائِضٍ وَنُفَسَاءَ انْقَطَعَ دَمُهَا اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَوْ مُصَلَّى عِيدٍ، لأَِنَّهُ مَسْجِدٌ لاَ مُصَلَّى الْجَنَائِزِ فَلَيْسَ مَسْجِدًا (2) .
__________
(1) إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي ص 386.
(2) كشاف القناع 1 / 148، 149.

(38/31)


مُصَوِّرٌ

انْظُرْ: تَصْوِيرٌ

مُصِيبَةٌ

انْظُرْ: اسْتِرْجَاعٌ

مَصِيدٌ

انْظُرْ: صَيْدٌ

(38/32)


مُضَاجَعَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُضَاجَعَةُ مِنْ ضَاجَعَ الرَّجُل امْرَأَتَهُ: إِِذَا نَامَ مَعَهَا فِي شِعَارٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ ضَجِيعُهَا وَهِيَ ضَجِيعَتُهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِكَلِمَةِ الْمُضَاجَعَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

أَحْكَامُ الْمُضَاجَعَةِ:
مُضَاجَعَةُ الرَّجُل الرَّجُل، وَالْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ
2 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلرَّجُل مُضَاجَعَةُ الرَّجُل فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَجَرِّدَيْنِ لاَ حَاجِزَ بَيْنَهُمَا، لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُفْضِي الرَّجُل إِِلَى الرَّجُل فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَلاَ تُفْضِي الْمَرْأَةُ إِِلَى الْمَرْأَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ (2) ، وَأَمَّا إِِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ فَيُكْرَهُ تَنْزِيهًا (3) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ الْكَلاَمَ عَلَى الْمُضَاجَعَةِ
__________
(1) المعجم الوسيط، ولسان العرب.
(2) حديث: " لا يفضي الرجل إلى الرجل. . . ". أخرجه مسلم (1 / 266) .
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 245.

(38/32)


فَقَالُوا: يَحْرُمُ تَلاَصُقُ بَالِغَيْنِ بِعَوْرَتَيْهِمَا بِغَيْرِ حَائِلٍ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ قَصَدَا لَذَّةً أَوْ وَجَدَاهَا، أَوْ قَصَدَا وَوَجَدَا، أَوْ لاَ قَصَدَا وَلاَ وَجَدَا، سَوَاءٌ كَانَتْ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ أَمْ لاَ.
قَالُوا: وَيَحْرُمُ كَذَلِكَ تَلاَصُقُ بَالِغَيْنِ بِعَوْرَتَيْهِمَا وَلَوْ كَانَ بِحَائِلٍ: مَعَ قَصْدِ لَذَّةٍ، أَوْ وُجُودِهَا، أَوْ قَصْدِ اللَّذَّةِ وَوُجُودِهَا، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَحَدِهِمَا فِي الصُّوَرِ الثَّلاَثِ.
وَأَمَّا إِِذَا كَانَ تَلاَصُقُهُمَا بِحَائِلٍ بِدُونِ قَصْدِ لَذَّةٍ، وَبِدُونِ وُجُودِهَا فَيُكْرَهُ. وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ إِِذَا كَانَ تَلاَصُقُهُمَا بِغَيْرِ عَوْرَتَيْهِمَا مَعَ غَيْرِ حَائِلٍ، إِِلاَّ لِقَصْدِ لَذَّةٍ، أَوْ وِجْدَانِهَا فَيَحْرُمُ فِيمَا يَظْهَرُ.
وَأَمَّا تَلاَصُقُ غَيْرِ عَوْرَتَيْهِمَا بِحَائِلٍ فَجَائِزٌ.
وَجَازَ اجْتِمَاعُ الرَّجُلَيْنِ أَوِ الْمَرْأَتَيْنِ فِي كِسَاءٍ وَاحِدٍ وَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ وَسَطُ الْكِسَاءِ حَائِلاً حَيْثُ لَمْ يَرَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَوْرَةَ صَاحِبِهِ وَلاَ مَسَّهَا (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ نَوْمُ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ أَوْ ثَوْبٍ وَاحِدٍ، حَيْثُ وُجِدَ حَائِلٌ يَمْنَعُ الْمُمَاسَّةَ لِلأَْبْدَانِ، وَيَحْرُمُ ذَلِكَ
__________
(1) حاشية الزرقاني 1 / 150، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 451، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 420، 421.

(38/33)


مَعَ الْعُرْيِ وَإِِِنْ تَبَاعَدَا أَوِ اتَّحَدَ الْجَنْسُ وَكَانَ مَحْرَمِيَّةٌ كَأَبٍ وَأُمٍّ، أَوْ وُجِدَ صَغِيرٌ لَكِنْ مَعَ بُلُوغِ عَشْرِ سِنِينَ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَتَجَرَّدَ ذَكَرَانِ أَوْ أُنْثَيَانِ فِي إِِزَارٍ أَوْ لِحَافٍ وَلاَ ثَوْبَ يَحْجِزُ بَيْنَهُمَا (2) .

مُضَاجَعَةُ الصِّبْيَانِ الصِّبْيَانَ
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّهُ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الصِّبْيَانِ فِي الْمَضَاجِعِ وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسِّلاَمِ: وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ (3) ، وَقِيل: لِسَبْعٍ، وَقِيل: لَيْسَتْ، سَوَاءٌ كاَنَ بَيْنَ أَخَوَيْنِ أَوْ أُخْتَيْنِ، أَوْ أَخٍ وَأُخْتٍ، أَوْ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ أُمِّهِ وَأَبِيهِ (4) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إِِلَى أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الصِّبْيَانِ مَنْدُوبَةٌ عِنْدَ الْعَشْرِ، وَالأَْقْوَى عِنْدَهُمْ فِي مَعْنَى التَّفْرِقَةِ: أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ
__________
(1) حاشية القليوبي 3 / 213.
(2) الآداب الشرعية 3 / 543.
(3) حديث: " وفرقوا بينهم في المضاجع وهم أبناء عشر. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 334) وأحمد (2 / 180) ، وصححه أحمد شاكر في تخريجه لمسند الإمام أحمد (10 / 217 - 218) .
(4) ابن عابدين 5 / 244 - 245، والقوانين الفقهية ص 451، وحاشية الزرقاني 1 / 150، وروضة الطالبين 7 / 28، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 543، 544.

(38/33)


يَكُونَ لِكُل وَاحِدٍ ثَوْبٌ، بَل فِرَاشٌ مُسْتَقِلٌّ:
غِطَاءٌ وَوِطَاءٌ.
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: تَحْصُل التَّفْرِقَةُ وَلَوْ بِثَوْبٍ حَائِلٍ بَيْنَهُمَا.
وَأَمَّا إِِنْ لَمْ يَبْلُغُوا الْعَشْرَ فَلاَ حَرْجَ، لأَِنَّ طَلَبَ الْوَلِيِّ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الأَْوْلاَدِ فِي الْمَضَاجِعِ بَعْدَ بُلُوغِ الْعَشْرِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ (1) .

مُضَاجَعَةُ الصِّبْيَانِ الْكِبَارَ
4 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ الصِّبْيَانِ وَبَيْنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ فِي الْمَضَاجِعِ، لأَِنَّ ذَلِكَ يَدْعُو إِِلَى الْفِتْنَةِ وَلَوْ بَعْدَ حَيْنٍ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْبَزَّازِيَّةِ: إِِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ عَشْرًا لاَ يَنَامُ مَعَ أُمِّهِ وَأُخْتِهِ، وَامْرَأَةٍ إِِلاَّ امْرَأَتَهُ، وَهَذَا خَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْذُورِ، فَإِِِنَّ الْوَلَدَ إِِذَا بَلَغَ عَشْرًا عَقَل الْجِمَاعَ، وَلاَ دِيَانَةَ لَهُ تَرُدُّهُ، فَرُبَّمَا وَقَعَ عَلَى أُخْتِهِ أَوْ أُمِّهِ، فَإِِِنَّ النَّوْمَ وَقْتَ رَاحَةٍ، مُهَيِّجٌ لِلشَّهْوَةِ، وَتَرْتَفِعُ فِيهِ الثِّيَابُ عَنِ الْعَوْرَةِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، فَيُؤَدِّي إِِلَى الْمَحْذُورِ، وَإِِِلَى الْمُضَاجَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ.
وَكَذَلِكَ لاَ يُتْرَكُ الصَّبِيُّ يَنَامُ مَعَ وَالِدَيْهِ فِي فِرَاشِهِمَا، لأَِنَّهُ رُبَّمَا يَطَّلِعُ عَلَى مَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا،
__________
(1) حاشية الزرقاني 1 / 150.

(38/34)


بِخِلاَفِ مَا إِِذَا كَانَ نَائِمًا وَحْدَهُ، أَوْ مَعَ أَبِيهِ وَحْدَهُ، أَوِ الْبِنْتُ مَعَ أُمِّهَا وَحْدَهَا.
وَلاَ يُتْرَكُ أَيْضًا أَنْ يَنَامَ مَعَ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّيْنِ خَوْفًا مِنَ الْفِتْنَةِ، وَلاَ سِيَّمَا إِِذَا كَانَ صَبِيحًا، فَإِِِنَّهُ وَإِِِنْ لَمْ يَحْصُل فِي تِلْكَ النُّوَمَةِ شَيْءٌ، فَيَتَعَلَّقُ بِهِ قَلْبُ الرَّجُل أَوِ الْمَرْأَةِ، فَتَحْصُل الْفِتْنَةُ بَعْدَ حَيْنٍ، وَمَنْ لَمْ يَحْتَطْ فِي الأُْمُورِ يَقَعُ فِي الْمَحْذُورِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِنْ تَلاَصَقَ بَالِغٌ وَغَيْرُ بَالِغٍ بِغَيْرِ حَائِلٍ فَحَرَامٌ فِي حَقِّ الْبَالِغِ، مَكْرُوهٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَالْكَرَاهَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِوَلِيِّهِ، وَأَمَّا بِحَائِل فَمَكْرُوهٌ فِي حَقِّ الْبَالِغِ إِِلاَّ لِقَصْدِ لَذَّةٍ فَحَرَامٌ.
وَأَمَّا رَجُلٌ وَأُنْثَى فَلاَ شَكَّ فِي حُرْمَةِ تَلاَصُقِهِمَا تَحْتَ لِحَافٍ وَاحِدٍ وَلَوْ بِغَيْرِ عَوْرَةٍ، وَلَوْ مِنْ فَوْقِ حَائِلٍ (2) ، لأَِنَّ الرَّجُل لاَ يَحِل لَهُ الاِخْتِلاَطُ بِالأُْنْثَى، فَضْلاً عَنْ تَلاَصُقِهِمَا (3) .

مُضَاجَعَةُ الْحَائِضِ
5 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجْتَنِبُ الزَّوْجُ مُضَاجَعَةَ زَوْجَتِهِ الْحَائِضِ إِِذَا سَتَرَتْ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 244، 245.
(2) حاشية العدوي مع شرح الرسالة 2 / 421.
(3) الفواكه الدواني 2 / 409.

(38/34)


قَال الشِّيرَازِيُّ: هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، قَال: وَقَدْ نَقَل ابْنُ جَرِيرٍ إِِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَذَا، وَدَلاَئِلُهُ فِي الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ ظَاهِرَةٌ مَشْهُورَةٌ، مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اصْنَعُوا كُل شَيْءٍ إِِلاَّ النِّكَاحَ (1) ، وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الأَْحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِمَعْنَاهُ، مَعَ الإِِِْجْمَاعِ (2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (حَيْضٌ ف 42) .
__________
(1) حديث: " اصنعوا كل شيء إلا النكاح ". أخرجه مسلم (1 / 246) .
(2) المجموع 2 / 543.

(38/35)


مُضَارَبَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُضَارَبَةُ فِي اللُّغَةِ مُفَاعَلَةٌ مِنْ ضَرَبَ فِي الأَْرْضِ: إِِذَا سَارَ فِيهَا، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَْرْضِ} (1) وَهِيَ: أَنْ تُعْطِيَ إِِنْسَانًا مِنْ مَالِكَ مَا يَتَّجِرُ فِيهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَكُمَا، أَوْ يَكُونَ لَهُ سَهْمٌ مَعْلُومٌ مِنَ الرِّبْحِ (2) .
وَتَسْمِيَةُ الْمُضَارَبَةِ بِهَذَا الاِسْمِ فِي لُغَةِ أَهْل الْعِرَاقِ، أَمَّا أَهْل الْحِجَازِ فَيُسْمَوُنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ قِرَاضًا أَوْ مُقَارَضَةً، قَال الزَّمَخْشَرِيُّ: أَصْلُهَا مِنَ الْقَرْضِ فِي الأَْرْضِ وَهُوَ قُطْعُهَا بِالسَّيْرِ فِيهَا (3) .
وَاخْتَارَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ التَّسْمِيَةَ بِالْمُضَارَبَةِ، وَاخْتَارَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ التَّسْمِيَةَ بِالْقِرَاضِ (4) .
__________
(1) سورة المزمل / 20.
(2) لسان العرب.
(3) لسان العرب، والقاموس المحيط.
(4) بدائع الصنائع 6 / 79، والاختيار 2 / 19، والشرح الصغير 3 / 681، وروضة الطالبين 5 / 117، وكشاف القناع 3 / 508.

(38/35)


وَهِيَ فِي اصْطِلاَحِ الْحَنَفِيَّةِ: عَقْدُ شَرِكَةٍ فِي الرِّبْحِ بِمَالٍ مِنْ جَانِبٍ، وَعَمَلٍ مِنْ جَانِبٍ (1) ،.
وَلاَ تَخْرَجُ تَعْرِيفَاتُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِِِْبْضَاعُ
2 - الإِِِْبْضَاعُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ أَبْضَعَ، يُقَال أَبْضَعَ الشَّيْءَ أَيْ جَعَلَهُ بِضَاعَةً، وَهِيَ مَا يُتَّجَرُ فِيهِ، وَيُقَال: أَبْضَعْتَهُ غَيْرِي: جَعَلْتُهُ لَهُ بِضَاعَةً وَاسْتَبْضَعْتُهُ: جَعَلْتُهُ بِضَاعَةً لِنَفْسِي (3) .
وَالإِِِْبْضَاعُ فِي الاِصْطِلاَحِ: بَعْثُ الْمَال مَعَ مَنْ يَتَّجِرُ فِيهِ مُتَبَرِّعًا (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُضَارَبَةِ وَالإِِِْبْضَاعِ أَخْذُ مَالٍ مِنْ مَالِكِهِ لِيَتَّجِرَ فِيهِ آخِذُهُ، لَكِنَّ آخِذَ الْمَال فِي الْمُضَارَبَةِ لَهُ جُزْءٌ مِنَ الرِّبْحِ بِحَسَبِ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، فَهُوَ شَرِيكٌ فِيمَا يَكُونُ مِنْ رِبْحِ التِّجَارَةِ، أَمَّا فِي الإِِِْبْضَاعِ فَلاَ شَيْءَ لَهُ
__________
(1) رد المحتار 4 / 483.
(2) كشاف القناع 3 / 508، وحاشية الدسوقي 3 / 517، ومغني المحتاج 2 / 309 - 310.
(3) المصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(4) مغني المحتاج 2 / 312.

(38/36)


مِنَ الرِّبْحِ، وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ بِعَمَلِهِ، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْمَال.

ب - الْقَرْضُ
3 - الْقَرْضُ فِي اللُّغَةِ: مَا تُعْطِيهِ غَيْرَكَ مِنَ الْمَال لِتَتَقَاضَاهُ، وَهُوَ اسْمٌ مِنَ الإِِِْقْرَاضِ، يُقَال: أَقْرَضْتُهُ الْمَال إِِقْرَاضًا، وَاسْتَقْرَضَ: طَلَبَ الْقَرْضَ، وَاقْتَرَضَ: أَخَذَ الْقَرْضَ (1) .
وَالْقَرْضُ فِي الاِصْطِلاَحِ: دَفْعُ مَالٍ إِِرْفَاقًا لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَرُدُّ بَدَلَهُ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُضَارَبَةِ وَالْقَرْضِ: أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا دَفْعَ الْمَال إِِلَى الْغَيْرِ، إِِلاَّ أَنَّهُ فِي الْقَرْضِ عَلَى وَجْهِ الضَّمَانِ، وَفِي الْمُضَارَبَةِ عَلَى وَجْهِ الأَْمَانَةِ.

ج - الشَّرِكَةُ
4 - الشَّرِكَةُ فِي اللُّغَةِ: عَقْدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ لِلْقِيَامِ بِعَمَلٍ مُشْتَرَكٍ، وَهِيَ فِي الأَْصْل مَصْدَرُ الْفِعْل شَرِكَ، يُقَال: شَرِكْتُهُ فِي الأَْمْرِ أَشْرَكُهُ شِرْكًا وَشَرِكَةً: إِِذَا صِرْتَ لَهُ شَرِيكًا، وَالاِسْمُ الشِّرْكُ (3) .
__________
(1) المصباح المنير وقواعد الفقه للبركتي.
(2) كشاف القناع 3 / 312.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط.

(38/36)


وَالشَّرِكَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: الْخِلْطَةُ وَثُبُوتُ الْحِصَّةِ (1) ، أَوْ: ثُبُوتُ الْحَقِّ فِي شَيْءٍ لاِثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ عَلَى جِهَةِ الشُّيُوعِ (2) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ الشَّرِكَةَ أَعَمُّ مِنَ الْمُضَارَبَةِ.

مَشْرُوعِيَّةُ الْمُضَارَبَةِ
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُضَارَبَةِ وَجِوَازِهَا، وَذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الرُّخْصَةِ أَوِ الاِسْتِحْسَانِ (3) ، فَالْقِيَاسُ أَنَّهَا لاَ تَجُوزُ، لأَِنَّهَا اسْتِئْجَارٌ بِأَجْرٍ مَجْهُولٍ، بَل بِأَجْرٍ مَعْدُومٍ وَلِعَمَلٍ مَجْهُولٍ، وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ تَرَكُوا الْقِيَاسَ وَأَجَازُوا الْمُضَارَبَةَ تَرَخُّصًا أَوِ اسْتِحْسَانًا لأَِدِلَّةٍ قَامَتْ عِنْدَهُمْ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُضَارَبَةِ، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْكَاسَانِيُّ حَيْثُ قَال: تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ وَالإِِِْجْمَاعِ.
أَمَّا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ فَقَوْلُهُ عَزَّ شَأْنُهُ: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَْرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْل اللَّهِ} (4) . وَالْمُضَارِبُ يَضْرِبُ فِي الأَْرْضِ يَبْتَغِي مِنْ فَضْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
__________
(1) الاختيار 3 / 11.
(2) مغني المحتاج 2 / 211.
(3) بدائع الصنائع 6 / 79، ومواهب الجليل 5 / 356، ونهاية المحتاج 5 / 218، وكشاف القناع 3 / 507.
(4) سورة المزمل / 20.

(38/37)


أَنَّهُ قَال: كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِِذَا دَفَعَ مَالاً مُضَارَبَةً اشْتَرَطَ عَلَى صَاحِبِهِ أَنْ لاَ يَسْلُكَ بِهِ بَحْرًا، وَلاَ يَنْزِل بِهِ وَادِيًا، وَلاَ يَشْتَرِيَ بِهِ ذَاتَ كَبِدٍ رَطْبَةٍ، فَإِِِنْ فَعَل فَهُوَ ضَامِنٌ، فَرُفِعَ شَرْطُهُ إِِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجَازَهُ (1) وَكَذَا بُعِثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يَتَعَاقَدُونَ الْمُضَارَبَةَ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ تَقْرِيرٌ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَالتَّقْرِيرُ أَحَدُ وُجُوهِ السُّنَّةِ.
وَأَمَّا الإِِِْجْمَاعُ: فَإِِِنَّهُ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ دَفَعُوا مَال الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً، مِنْهُمْ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْرَانِهِمْ أَحَدٌ، وَمِثْلُهُ يَكُونُ إِِجْمَاعًا، وَعَلَى هَذَا تَعَامَل النَّاسُ مِنْ لَدُنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ إِِنْكَارٍ مِنْ أَحَدٍ، وَإِِِجْمَاعُ أَهْل كُل عَصْرٍ حُجَّةٌ، فَتُرِكَ بِهِ الْقِيَاسُ (2) .
وَقَالُوا فِي حِكْمَتِهَا: شُرِعَتْ لأَِنَّ الضَّرُورَةَ دَعَتْ إِِلَيْهَا، لِحَاجَةِ النَّاسِ إِِلَى التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِمْ وَتَنْمِيَتِهَا بِالتِّجَارَةِ فِيهَا، وَلَيْسَ كُل أَحَدٍ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، فَاضْطُرَّ فِيهَا إِِلَى
__________
(1) حديث ابن عباس: " أن العباس بن عبد المطلب إذا دفع مالاً مضاربة اشترط على صاحبه. . . ". أخرجه البيهقي (6 / 111) وضعف إسناده.
(2) بدائع الصنائع 6 / 79.

(38/37)


اسْتِنَابَةِ غَيْرِهِ، وَلَعَلَّهُ لاَ يَجِدُ مَنْ يَعْمَل لَهُ فِيهَا بِإِِِجَارَةٍ، لِمَا جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ فِيهِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، فَرُخِّصَ فِيهَا لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَاسْتُخْرِجَتْ بِسَبَبِ هَذِهِ الْعِلَّةِ مِنَ الإِِِْجَارَةِ الْمَجْهُولَةِ عَلَى نَحْوِ مَا رُخِّصَ فِيهِ فِي الْمُسَاقَاةِ (1) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: إِِنَّ الإِِِْنْسَانَ قَدْ يَكُونُ لَهُ مَالٌ لَكِنَّهُ لاَ يَهْتَدِي إِِلَى التِّجَارَةِ، وَقَدْ يَهْتَدِي إِِلَى التِّجَارَةِ لَكِنَّهُ لاَ مَال لَهُ، فَكَانَ فِي شَرْعِ هَذَا الْعَقْدِ دَفْعُ الْحَاجَتَيْنِ، وَاللَّهُ تَعَالَى مَا شَرَعَ الْعُقُودَ إِِلاَّ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَدَفْعِ حَوَائِجِهِمْ (2) .

صِفَّةُ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ تَنْفَسِخُ بِفَسْخِ أَحَدِهِمَا أَيَّهِمَا كَانَ، لأَِنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مَال غَيْرِهِ بِإِِِذْنٍ فَهُوَ كَالْوَكِيل، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَا قَبْل التَّصَرُّفِ وَبَعْدَهُ (3) .
وَيَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ لِجَوَازِ الْفَسْخِ عِلْمَ الطَّرَفِ الآْخَرِ بِالْفَسْخِ، وَأَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَال عَيْنًا وَقْتَ الْفَسْخِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ (4) .
__________
(1) مواهب الجليل 5 / 356، وكشاف القناع 3 / 507.
(2) بدائع الصنائع 6 / 79.
(3) بدائع الصنائع 6 / 109، ومغني المحتاج 2 / 319، والمغني 5 / 64.
(4) بدائع الصنائع 6 / 109.

(38/38)


وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَتَوَقَّفُ فَسْخُ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُضَارَبَةِ عَلَى حُضُورِ صَاحِبِهِ أَوْ رِضَاهُ، بَل يَجُوزُ وَلَوْ فِي غَيْبَةِ الآْخَرِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لِكُلٍّ مِنْ رَبِّ الْمَال وَالْعَامِل فَسْخُ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ قَبْل الشُّرُوعِ فِي شِرَاءِ السِّلَعِ بِالْمَال، وَلِرَبِّ الْمَال فَقَطْ فَسْخُ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ إِِنْ تَزَوَّدَ الْعَامِل مِنْ مَال الْقِرَاضِ وَلَمْ يَشْرَعْ فِي السَّفَرِ، فَإِِِنْ عَمِل الْمُضَارِبُ بِالْمَال فِي الْحَضَرِ أَوْ شَرَعَ فِي السَّفَرِ فَيَبْقَى الْمَال تَحْتَ يَدِ الْعَامِل إِِلَى نَضُوضِ الْمَال بِبَيْعِ السِّلَعِ، وَلاَ كَلاَمَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي فَسْخِ الْمُضَارَبَةِ (2) .

الْمُضَارَبَةُ الْمُطْلَقَةُ وَالْمُقَيَّدَةُ:
7 - قَسَّمَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ الْمُضَارَبَةَ قِسْمَيْنِ:

أ - الْمُضَارَبَةُ الْمُطْلَقَةُ وَهِيَ أَنْ يَدْفَعَ رَبُّ الْمَال لِلْعَامِل فِي الْمُضَارَبَةِ رَأْسَ الْمَال مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْعَمَل أَوِ الْمَكَانِ أَوِ الزَّمَانِ أَوْ صِفَةِ الْعَمَل أَوْ مَنْ يُعَامِلُهُ.

ب - الْمُضَارَبَةُ الْمُقَيَّدَةُ وَهِيَ الَّتِي يُعَيِّنُ فِيهَا رَبُّ الْمَال لِلْعَامِل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالُوا: إِِنَّ تَصْرِفَ الْمُضَارِبِ فِي كُلٍّ مِنَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 319، وروضة الطالبين 5 / 141.
(2) الشرح الصغير 3 / 705 - 706.

(38/38)


النَّوْعَيْنِ يَنْقَسِمُ إِِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أ - قِسْمٌ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَعْمَلَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِِلَى التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ وَلاَ إِِلَى قَوْل: اعْمَل بِرَأْيِكَ.
ب - قِسْمٌ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَل وَلَوْ قِيل لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ، إِِلاَّ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ.
ج - قِسْمٌ لَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ إِِذَا قِيل لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ، وَإِِِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ.
د - قِسْمٌ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ رَأْسًا وَإِِِنْ نَصَّ عَلَيْهِ (1) .
وَقَال الْمُوصِلِيُّ: الْمُضَارَبَةُ نَوْعَانِ، عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ. وَالْعَامَّةُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدْفَعَ الْمَال إِِلَى الْعَامِل مُضَارَبَةً، وَلاَ يَقُول لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ، فَيَمْلِكَ جَمِيعَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِِلَيْهَا فِي التِّجَارَةِ، وَيَدْخُل فِيهِ الرَّهْنُ وَالاِرْتِهَانُ وَالاِسْتِئْجَارُ وَالْحَطُّ بِالْعَيْبِ وَالاِحْتِيَال بِمَال الْمُضَارَبَةِ وَكُل مَا يَعْمَلُهُ التُّجَّارُ - غَيْرَ التَّبَرُّعَاتِ - وَالْمُضَارَبَةُ وَالشَّرِكَةُ وَالْخَلْطُ وَالاِسْتِدَانَةُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَقُول لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ، فَيَجُوزُ لَهُ مَا ذَكَرَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْخَلْطِ لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ التُّجَّارُ، وَلَيْسَ لَهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 87.

(38/39)


الإِِِْقْرَاضُ وَالتَّبَرُّعَاتُ، لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنَ التِّجَارَةِ فَلاَ يَتَنَاوَلُهُ الأَْمْرُ.
أَمَّا الْمُضَارَبَةُ الْخَاصَّةُ فَهِيَ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَخُصَّهُ بِبَلَدٍ، فَيَقُول: عَلَى أَنْ تَعْمَل بِالْكُوفَةِ أَوِ الْبَصْرَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَخُصَّهُ بِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ، بِأَنْ يَقُول: عَلَى أَنْ تَبِيعَ مِنْ فُلاَنٍ وَتَشْتَرِيَ مِنْهُ، فَلاَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ مَعَ غَيْرِهِ لأَِنَّهُ قَيْدٌ مَفِيدٌ، لِجَوَازِ وُثُوقِهِ بِهِ فِي الْمُعَامَلاَتِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخُصَّهُ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ بِأَنْ يَقُول لَهُ: عَلَى أَنْ تَعْمَل بِهِ مُضَارَبَةً فِي الْبَزِّ أَوْ فِي الطَّعَامِ أَوِ الصَّرْفِ وَنَحْوِهِ.
وَفِي كُل ذَلِكَ يَتَقَيَّدُ بِأَمْرِهِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ مُخَالَفَتُهُ لأَِنَّهُ مُقَيَّدٌ (1) .
وَلَمْ يُقَسِّمْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمُضَارَبَةَ إِِلَى مُطْلَقَةٍ وَمُقَيَّدَةٍ أَوْ عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ - كَمَا فَعَل الْحَنَفِيَّةُ - وَلَكِنَّهُمْ أَوْرَدُوا مَا شَمِلَهُ تَقْسِيمُ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَرْكَانِ الْمُضَارَبَةِ وَشُرُوطِهَا أَوْ فِي مَسَائِل أُخْرَى، وَخَالَفُوا الْحَنَفِيَّةَ أَوْ وَافَقُوهُمْ.

أَرْكَانُ الْمُضَارَبَةِ
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّ أَرْكَانَ
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 3 / 21.

(38/39)


الْمُضَارَبَةِ هِيَ: عَاقِدَانِ، وَرَأْسُ مَالٍ، وَعَمَلٌ، وَرِبْحٌ، وَصِيغَةٌ.
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِِنَّ الصِّيغَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَرْكَانِ الْمُضَارَبَةِ، وَلاَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهَا، وَإِِِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَصِحُّ دُونَ تَلَفُّظٍ بِالصِّيغَةِ.
وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يَكْفِي الْقَبُول بِالْفِعْل، وَذَلِكَ إِِذَا كَانَ الإِِِْيجَابُ بِلَفْظِ الأَْمْرِ، كَخُذْ، فَيَكْفِي أَخْذُ الدَّرَاهِمِ مَثَلاً (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّ رُكْنَ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ الإِِِْيجَابُ وَالْقَبُول بِأَلْفَاظٍ تَدُل عَلَيْهِمَا (2) .

شُرُوطُ الْمُضَارَبَةِ
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ شُرُوطًا وَهِيَ (3) :

مَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّيغَةِ مِنَ الشُّرُوطِ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ فِي الْمُضَارَبَةِ مِنَ الصِّيغَةِ، وَهِيَ الإِِِْيجَابُ وَالْقَبُول، وَتَنْعَقِدُ بِلَفْظٍ يَدُل عَلَى الْمُضَارَبَةِ، مِثْل قَوْل
__________
(1) التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 5 / 355، والفواكه الدواني 2 / 175، ومغني المحتاج 2 / 313، وبلغة السالك لأقرب المسالك على الشرح الصغير 2 / 160 ط. الحلبي.
(2) بدائع الصنائع 6 / 79.
(3) الدر المختار 4 / 484، 485، والشرح الصغير وحاشية الصاوي 3 / 683 ط. دار المعارف، والفواكه الدواني 2 / 175، وروضة الطالبين 5 / 124 وما بعدها، وكشاف القناع 3 / 507، 508.

(38/40)


رَبِّ الْمَال لِلْعَامِل - ضِمْنَ الصِّيغَةِ - ضَارَبْتُكَ أَوْ قَارَضْتُكَ أَوْ عَامَلْتُكَ، أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعَانِيَ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ الْمَعْنَى، فَجَازَ التَّعْبِيرُ بِكُل مَا يَدُل عَلَيْهِ، وَلأَِنَّهُ أَتَى بِلَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَى عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِمَعَانِيهَا لاَ لِصُوَرِ الأَْلْفَاظِ، حَتَّى يَنْعَقِدَ الْبَيْعُ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَقَبُول الْعَامِل يَكُونُ بِلَفْظٍ يَدُل عَلَى الرِّضَا وَالْمُوَافَقَةِ، مُتَّصِلاً بِالإِِِْيجَابِ بِالطَّرِيقِ الْمُعْتَبَرِ شَرْعًا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ.
وَاشْتِرَاطُ اللَّفْظِ فِي كُلٍّ مِنَ الإِِِْيجَابِ وَالْقَبُول فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَوْل جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْقَوْل الْمُقَابِل لِلأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْقَبُول قَوْل: قَبِلْتُ وَنَحْوُهُ أَوِ التَّلَفُّظُ بِهِ، بَل الْقَبُول بِالْفِعْل، وَتَكُونُ مُبَاشَرَتُهُ قَبُولاً لِلْمُضَارَبَةِ كَالْوَكَالَةِ.
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ - مِنْهُمْ ابْنُ الْحَاجِبِ - إِِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَنْعَقِدُ بِصِيغَةٍ دَالَّةٍ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَرْضَى الآْخَرُ، وَلاَ يُشْتَرَطُ اللَّفْظُ فِي صِيغَةِ الْمُضَارَبَةِ إِِذَا وُجِدَتِ الْقَرِينَةُ، لأَِنَّ

(38/40)


الْمُضَارَبَةَ عِنْدَهُمْ إِِجَارَةٌ عَلَى التَّجْرِ بِمَالٍ - أَيِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِتَحْصِيل الرِّبْحِ - بِجُزْءٍ مِنْ رِبْحِهِ وَالإِِِْجَارَةُ تَكْفِي فِيهَا الْمُعَاطَاةُ كَالْبَيْعِ، فَتَكْفِي الْمُعَاطَاةُ فِي انْعِقَادِ الْمُضَارَبَةِ كَذَلِكَ (1)

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِينَ مِنَ الشُّرُوطِ:
10 - يُشْتَرَطُ فِي كُلٍّ مِنْ طَرَفَيْ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ - وَهُمَا رَبُّ الْمَال وَالْعَامِل - شُرُوطٌ لاَ بُدَّ مِنْهَا لِصِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ أَنْ تَقَعَ مِنْ أَهْل التَّصَرُّفِ وَهُوَ الْحُرُّ الْبَالِغُ الرَّشِيدُ الَّذِي يَصِحُّ مِنْهُ التَّوْكِيل وَالتَّوَكُّل، أَيِ الْمُتَأَهِّل لأََنْ يُوَكِّل غَيْرَهُ وَيَتَوَكَّل لِغَيْرِهِ، لأَِنَّ الْعَاقِدَيْنِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكَيْلٌ عَنْ صَاحِبِهِ وَمُوَكِّلٌ لِصَاحِبِهِ، فَمَنْ جَازَ لَهُ أَنْ يُوَكِّل وَيَتَوَكَّل جَازَ لَهُ عَقْدُ شَرِكَةِ الْمُضَارَبَةِ، وَمَنْ لاَ فَلاَ، وَعَلَى ذَلِكَ لاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ مِنْ عَبْدٍ إِِلاَّ بِإِِِذْنِ سَيِّدِهِ أَوْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَكَذَا غَيْرُهُ مِنَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ.
وَقَال الرَّمْلِيُّ: وَيَجُوزُ لِوَلِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ مِنْ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَسَفِيهٍ أَنْ يُضَارِبَ مَنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 80 - 81، والشرح الصغير وحاشية الصاوي 3 / 682 - 683، وحاشية الدسوقي 3 / 517، وروضة الطالبين 5 / 124 وما بعدها، ونهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي 5 / 266، وكشاف القناع 3 / 508، وشرح منتهى الإرادات 2 / 327 - 328.

(38/41)


يَجُوزُ إِِيدَاعُهُ الْمَال الْمَدْفُوعَ إِِلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَلِيُّ أَبًا أَمْ جَدًّا أَمْ وَصِيًّا أَمْ حَاكِمًا أَمْ أَمِينَهُ، وَمَحَل ذَلِكَ أَنْ لاَ يَتَضَمَّنَ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ الإِِِْذْنَ فِي السَّفَرِ، فَإِِِنْ تَضَمَّنَ الإِِِْذْنَ فِي السَّفَرِ اتَّجَهَ كَوْنُهُ كَإِِِرَادَةِ الْوَلِيِّ السَّفَرَ بِنَفْسِهِ.
وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالْفَلِسِ فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يُضَارِبَ وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَامِلاً.
وَتَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ مِنَ الْمَرِيضِ وَلاَ يَحْسِبُ مَا زَادَ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْل مِنَ الثُّلُثِ، لأَِنَّ الْمَحْسُوبَ مِنْهُ مَا يَفُوتُهُ مِنْ مَالِهِ، وَالرِّبْحُ لَيْسَ بِحَاصِلٍ حَتَّى يَفُوتُهُ، وَإِِِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يُتَوَقَّعُ حُصُولُهُ، وَإِِِذَا حَصَل كَانَ بِتَصَرُّفِ الْعَامِل (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِي رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ أَهْلِيَّةُ التَّوْكِيل وَالْوَكَالَةِ لأَِنَّ الْمُضَارِبَ يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ رَبِّ الْمَال وَهَذَا مَعْنَى التَّوْكِيل، فَيُشْتَرَطُ فِي الْمُوَكَّل أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ فِعْل مَا وُكِّل بِهِ بِنَفْسِهِ، لأَِنَّ التَّوْكِيل تَفْوِيضُ مَا يَمْلِكُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ إِِلَى غَيْرِهِ، فَلاَ يَصِحُّ التَّوْكِيل مِنَ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يَعْقِل أَصْلاً، لأَِنَّ الْعَقْل مِنْ شَرَائِطِ الأَْهْلِيَّةِ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُمَا لاَ يَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ بِأَنْفُسِهِمَا.
__________
(1) الشرح الصغير وحاشية الصاوي 3 / 457 - 458، وشرح الخرشي وحاشية العدوي 6 / 203، والمدونة 5 / 107، ومغني المحتاج 2 / 314، ونهاية المحتاج 5 / 15، 226.

(38/41)


وَيُشْتَرَطُ فِي الْوَكِيل أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً، فَلاَ تَصِحُّ وَكَالَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يَعْقِل، وَأَمَّا الْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَا بِشَرْطِ لِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ، فَتَصِحُّ وَكَالَةُ الصَّبِيِّ الْعَاقِل وَالْعَبْدِ، مَأْذُونَيْنِ كَانَا أَوْ مَحْجُورَيْنِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَصِحُّ شَيْءٌ مِنَ الشَّرِكَةِ - وَمِنْهَا الْمُضَارَبَةُ - إِِلاَّ مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ، لأَِنَّهُ عَقْدٌ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَال فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ غَيْرِ جَائِزِ التَّصَرُّفِ كَالْبَيْعِ (2) .

مُضَارَبَةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُضَارَبَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى جَوَازِ مُضَارَبَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ فِي الْجُمْلَةِ. قَال الْكَاسَانِيُّ: وَلاَ يُشْتَرَطُ إِِسْلاَمُ رَبِّ الْمَال أَوِ الْمُضَارِبِ، فَتَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بَيْنَ أَهْل الذِّمَّةِ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ، حَتَّى لَوْ دَخَل حَرْبِيٌّ دَارَ الإِِِْسْلاَمِ بِأَمَانٍ، فَدَفَعَ مَالَهُ إِِلَى مُسْلِمٍ مُضَارَبَةً، أَوْ دَفَعَ إِِلَيْهِ مُسْلِمٌ مَالَهُ مُضَارَبَةً فَهُوَ جَائِزٌ، لأَِنَّ الْمُسْتَأْمَنَ فِي دَارِنَا بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ، وَالْمُضَارَبَةُ مَعَ الذِّمِّيِّ جَائِزَةٌ فَكَذَلِكَ مَعَ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ.
فَإِِِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الْمُسْلِمُ فَدَخَل دَارَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 20، 81، 82.
(2) المغني 5 / 1 - 2.

(38/42)


الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَعَمِل بِالْمَال فَهُوَ جَائِزٌ، لأَِنَّهُ دَخَل دَارَ رَبِّ الْمَال، فَلَمْ يُوجَدْ بَيْنَهُمَا اخْتِلاَفُ الدَّارَيْنِ، فَصَارَ كَأَنَّهُمَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ.
وَإِِِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الْحَرْبِيُّ فَرَجَعَ إِِلَى دَارِهِ: وَإِِِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِِذْنِ رَبِّ الْمَال بَطَلَتِ الْمُضَارَبَةُ، وَإِِِنْ كَانَ بِإِِِذْنِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا إِِنْ رَجَعَ إِِلَى دَارِ الإِِِْسْلاَمِ مُسْلِمًا أَوْ مُعَاهَدًا أَوْ بِأَمَانٍ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُل الْمُضَارَبَةُ.
وَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ: أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ بِأَمْرِ رَبِّ الْمَال صَارَ كَأَنَّ رَبَّ الْمَال دَخَل مَعَهُ، وَلَوْ دَخَل رَبُّ الْمَال مَعَهُ إِِلَى دَارِ الْحَرْبِ لَمْ تَبْطُل الْمُضَارَبَةُ، فَكَذَا إِِذَا دَخَل بِأَمْرِهِ، بِخِلاَفِ مَا إِِذَا دَخَل بِغَيْرِ أَمْرِهِ، لأَِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالدُّخُول انْقَطَعَ حُكْمُ رَبِّ الْمَال عَنْهُ، فَصَارَ تَصَرُّفُهُ لِنَفْسِهِ فَمَلَكَ الأَْمْرَ بِهِ.
وَوَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ لَمَّا عَادَ إِِلَى دَارِ الْحَرْبِ بَطَل أَمَانُهُ وَعَادَ إِِلَى حُكْمِ الْحَرْبِ كَمَا كَانَ، فَبَطَل أَمْرُ رَبِّ الْمَال عِنْدَ اخْتِلاَفِ الدَّارَيْنِ، فَإِِِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ فَقَدْ تَعَدَّى بِالتَّصَرُّفِ فَمَلَكَ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 81 - 82.

(38/42)


وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَمَّا الْمَجُوسِيُّ فَإِِِنَّ أَحْمَدَ كَرِهَ مُشَارَكَتَهُ وَمُعَامَلَتَهُ قَال: مَا أُحِبُّ مُخَالَطَتَهُ وَمُعَامَلَتَهُ، لأَِنَّهُ يَسْتَحِل مَا لاَ يَسْتَحِل غَيْرُهُ (1) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ فَذَهَبُوا إِِلَى أَنَّ مُضَارَبَةَ غَيْرِ الْمُسْلِمِ أَوْ مُشَارَكَتَهِ مَكْرُوهَةٌ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلٌ بِحُرْمَةِ مُضَارَبَةِ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ
وَقَال مَالِكٌ: لاَ أُحِبُّ لِلرَّجُل أَنْ يُقَارِضَ رَجُلاً إِِلاَّ رَجُلاً يَعْرِفُ الْحَرَامَ وَالْحَلاَل، وَإِِِنْ كَانَ رَجُلاً مُسْلِمًا فَلاَ أُحِبُّ لَهُ أَنْ يُقَارِضَ مِنْ يَسْتَحِل شَيْئًا مِنَ الْحَرَامِ (2) .

مَا يَتَعَلَّقُ بِرَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ مِنَ الشُّرُوطِ:
يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ شُرُوطٌ يَلْزَمُ تَحَقُّقُهَا فِي رَأْسِ الْمَال، وَهِيَ: أَنْ يَكُونَ نَقْدًا مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وَأَنْ يَكُونَ عَيْنًا لاَ دَيْنًا.

أَوَّلاً: كَوْنُ رَأْسِ الْمَال مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ - فِي الْجُمْلَةِ - عَلَى هَذَا
__________
(1) المغني 5 / 4.
(2) الشرح الصغير وحاشية الصاوي 3 / 455 - 458، والخرشي 6 / 203، والمدونة 5 / 107، ونهاية المحتاج 5 / 226، ومغني المحتاج 2 / 314.

(38/43)


الشَّرْطِ، وَاسْتَدَل بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ بِالإِِِْجْمَاعِ كَمَا نَقَلَهُ الْجُوَيْنِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، أَوْ بِإِِِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ كَمَا قَال غَيْرُهُ مِنْهُمْ (1) .
وَلِلْفُقَهَاءِ فِيمَا يَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ مِنْ مُحَتَرَزَاتٍ وَصُوَرٍ وَمَسَائِل. خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ:

أ - الْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ
13 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ، مِثْلِيَّةً كَانَتْ أَوْ مُتَقَوِّمَةً، وَلَهُمْ فِي الاِسْتِدْلاَل عَلَى هَذَا الْحُكْمِ وَالتَّفْرِيعِ عَلَيْهِ بَيَانٌ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِِنَّ رِبْحَ مَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، لأَِنَّ الْعُرُوضَ تَتَعَيَّنُ عِنْدَ الشِّرَاءِ بِهَا، وَالْمُعَيَّنُ غَيْرُ مَضْمُونٍ، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ قَبْل التَّسْلِيمِ لاَ شَيْءَ عَلَى الْمُضَارِبِ، فَالرِّبْحُ عَلَيْهَا يَكُونُ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَ: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ (2) ، وَمَا لاَ يَتَعَيَّنُ يَكُونُ مَضْمُونًا عِنْدَ الشِّرَاءِ بِهِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَتِ الْعَيْنُ قَبْل التَّسْلِيمِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 82، والشرح الصغير 3 / 682، ومغني المحتاج 2 / 310، وكشاف القناع 5 / 507.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن. . . ". ورد ضمن حديث عبد الله بن عمرو: " لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن ". أخرجه الترمذي (3 / 527) وقال: حديث حسن صحيح.

(38/43)


فَعَلَى الْمُشْتَرِي بِهِ ضَمَانُهُ، فَكَانَ الرِّبْحُ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ، فَيَكُونُ رِبْحُ الْمَضْمُونِ، وَلأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ بِالْعُرُوضِ تُؤَدِّي إِِلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ وَقْتَ الْقِسْمَةِ، لأَِنَّ قِيمَةَ الْعُرُوضِ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمُقَوِّمِينَ، وَالْجَهَالَةُ تُفْضِي إِِلَى الْمُنَازَعَةِ، وَالْمُنَازَعَةُ تُفْضِي إِِلَى الْفَسَادِ، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي تَعْلِيل عَدَمِ جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ بِالْعُرُوضِ: إِِنَّ الْمُضَارَبَةَ رُخْصَةٌ يُقْتَصَرُ فِيهَا عَلَى مَا وَرَدَ، وَيَبْقَى مَا عَدَاهُ عَلَى الأَْصْل مِنَ الْمَنْعِ، وَلاَ يَجُوزُ اعْتِبَارُ قِيمَةِ الْعَرْضِ رَأْسَ مَالٍ (2) .
وَعَلَّل الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ عَلَى عُرُوضٍ، بِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ عَقْدُ غَرَرٍ، إِِذِ الْعَمَل فِيهَا غَيْرُ مَضْبُوطٍ وَالرِّبْحُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ، وَإِِِنَّمَا جُوِّزَتْ لِلْحَاجَةِ، فَاخْتَصَّتْ بِمَا يَرُوجُ غَالِبًا وَتَسْهُل التِّجَارَةُ بِهِ وَهُوَ الأَْثْمَانُ (3) ، وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمُضَارَبَةِ رَدُّ رَأْسِ الْمَال وَالاِشْتِرَاكُ فِي الرِّبْحِ، وَمَتَى عُقِدَ عَلَى غَيْرِ الأَْثْمَانِ لَمْ يَحْصُل الْمَقْصُودُ، لأَِنَّهُ رُبَّمَا زَادَتْ قِيمَتُهُ،
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 82.
(2) الشرح الصغير وحاشية الصاوي 3 / 683، 686، وشرح الزرقاني وحاشية البناني 6 / 213.
(3) مغني المحتاج 2 / 310.

(38/44)


فَيَحْتَاجُ أَنْ يَصْرِفَ الْعَامِل جَمِيعَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي رَدِّ مِثْلِهِ إِِنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ، وَفِي رَدِّ قِيمَتِهِ إِِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ، وَفِي هَذَا إِِضْرَارٌ بِالْعَامِل، وَرُبَّمَا نَقَصَتْ قِيمَتُهُ فَيَصْرِفُ جُزْءًا يَسِيرًا مِنَ الْكَسْبِ فِي رَدِّ مِثْلِهِ أَوْ رَدِّ قِيمَتِهِ ثُمَّ يُشَارِكُ رَبَّ الْمَال فِي الْبَاقِي، وَفِي هَذَا إِِضْرَارٌ بِرَبِّ الْمَال، لأَِنَّ الْعَامِل يُشَارِكُهُ فِي أَكْثَرِ رَأْسِ الْمَال، وَهَذَا لاَ يُوجَدُ فِي الأَْثْمَانِ لأَِنَّهَا لاَ تُقَوَّمُ بِغَيْرِهَا (1) .
وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْعُرُوضَ لاَ تَجُوزُ الشَّرِكَةُ فِيهَا، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَحَرْبٍ وَحَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، لأَِنَّ الشَّرِكَةَ: إِِمَّا أَنْ تَقَعَ عَلَى أَعْيَانِ الْعُرُوضِ أَوْ قِيمَتِهَا أَوْ أَثْمَانِهَا، لاَ يَجُوزُ وُقُوعُهَا عَلَى أَعْيَانِهَا، لأَِنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي الرُّجُوعَ عِنْدَ الْمُفَاصَلَةِ بِرَأْسِ الْمَال أَوْ بِمِثْلِهِ، وَهَذِهِ لاَ مِثْل لَهَا فَيُرْجَعُ إِِلَيْهِ، وَقَدْ تَزِيدُ قِيمَةُ جَنْسِ أَحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ فَيَسْتَوْعِبُ بِذَلِكَ جَمِيعَ الرِّبْحِ أَوْ جَمِيعَ الْمَال، وَقَدْ تَنْقُصَ قِيمَتُهُ فَيُؤَدِّي إِِلَى أَنْ يُشَارِكَهُ الآْخَرُ فِي ثَمَنِ مِلْكِهِ الَّذِي لَيْسَ بِرِبْحٍ، وَلاَ يَجُوزُ وُقُوعُهَا عَلَى قِيمَتِهَا لأَِنَّ الْقِيمَةَ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةِ الْقَدْرِ، فَيُفْضِي إِِلَى التَّنَازُعِ، وَقَدْ يُقَوَّمُ الشَّيْءُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ،
__________
(1) المهذب 1 / 385.

(38/44)


وَلأَِنَّ الْقِيمَةَ قَدْ تَزِيدُ فِي أَحَدِهِمَا قَبْل بَيْعِهِ فَيُشَارِكُهُ الآْخَرُ فِي الْعَيْنِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ، وَلاَ يَجُوزُ وُقُوعُهَا عَلَى أَثْمَانِهَا لأَِنَّهَا مَعْدُومَةٌ حَال الْعَقْدِ وَلاَ يَمْلِكَانِهَا، وَلأَِنَّهُ إِِنْ أَرَادَ ثَمَنَهَا الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ مَكَانِهِ وَصَارَ لِلْبَائِعِ، وَإِِِنْ أَرَادَ ثَمَنَهَا الَّذِي يَبِيعُهَا بِهِ فَإِِِنَّهَا تَصِيرُ شَرِكَةً مُعَلَّقَةً عَلَى شَرْطٍ وَهُوَ بَيْعُ الأَْعْيَانِ، وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ الشَّرِكَةَ وَالْمُضَارَبَةَ تَجُوزُ بِالْعُرُوضِ، وَتُجْعَل قِيمَتُهَا وَقْتَ الْعَقْدِ رَأْسَ الْمَال، قَال أَحْمَدُ: إِِذَا اشْتَرَكَا فِي الْعُرُوضِ يُقْسَمُ الرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا، وَقَال الأَْثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَل عَنِ الْمُضَارَبَةِ بِالْمَتَاعِ، قَال: جَائِزٌ، فَظَاهِرُ هَذَا صِحَّةُ الشَّرِكَةِ بِهَا، وَاخْتَارَ هَذَا أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ وَصَوَّبَهُ الْمِرْدَاوِيُّ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَبِهِ قَال فِي الْمُضَارَبَةِ طَاوُوسٌ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، لأَِنَّ مَقْصُودَ الشَّرِكَةِ جَوَازُ تَصَرُّفِهِمَا فِي الْمَالَيْنِ جَمِيعًا، وَكَوْنُ رِبْحِ الْمَالَيْنِ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا يَحْصُل فِي الْعُرُوضِ كَحُصُولِهِ فِي الأَْثْمَانِ، فَيَجِبُ أَنْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ بِهَا كَالأَْثْمَانِ، وَيَرْجِعُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الْمُفَاصَلَةِ بِقِيمَةِ مَالِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، كَمَا أَنَّنَا

(38/45)


جَعَلْنَا نِصَابَ زَكَاتِهَا قِيمَتَهَا (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ دَفَعَ إِِلَيْهِ عُرُوضًا فَقَال لَهُ: بِعْهَا وَاعْمَل بِثَمَنِهَا مُضَارَبَةً، فَبَاعَهَا بِدَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ وَتَصَرَّفَ فِيهَا جَازَ، لأَِنَّهُ لَمْ يُضِفِ الْمُضَارَبَةَ إِِلَى الْعُرُوضِ وَإِِِنَّمَا أَضَافَهَا إِِلَى الثَّمَنِ، وَالثَّمَنُ تَصِحُّ بِهِ الْمُضَارَبَةُ، فَإِِِنْ بَاعَهَا بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الْوَكِيل بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا: أَنَّهُ يَبِيعُ بِالأَْثْمَانِ وَغَيْرِهَا، إِِلاَّ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ فَاسِدَةٌ لأَِنَّهَا صَارَتْ مُضَافَةً إِِلَى مَا لاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِهِ وَهُوَ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ، وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَالْبَيْعُ لاَ يَجُوزُ لأَِنَّ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا لاَ يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِغَيْرِ الأَْثْمَانِ، وَلاَ تَفْسُدُ الْمُضَارَبَةُ لأَِنَّهَا لَمْ تَصِرْ مُضَافَةً إِِلَى مَا لاَ يَصْلُحُ بِهِ رَأْسُ مَال الْمُضَارَبَةِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِنْ قَال لَهُ: بِعْهُ وَاجْعَل ثَمَنَهُ رَأْسَ مَالٍ فَمُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ، لِلْعَامِل فِيهَا أَجْرُ مِثْلِهِ فِي تَوْلِيَةِ وَمُضَارَبَةِ مِثْلِهِ فِي رِبْحِ الْمَال إِِنْ رَبِحَ، وَإِِِنْ لَمْ يَرْبَحْ فَلاَ شَيْءَ لَهُ فِي ذِمَّةِ رَبِّهِ، وَقَالُوا: لاَ تَجُوزُ بِغَيْرِ نَقْدٍ يُتَعَامَل بِهِ، وَلَوِ انْفَرَدَ التَّعَامُل بِهِ كَالْوَدْعِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: الظَّاهِرُ الْجَوَازُ (3) .
__________
(1) المغني 5 / 13 - 17.
(2) بدائع الصنائع 6 / 82.
(3) الشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه 3 / 686.

(38/45)


ب - الْمُضَارَبَةُ بِالتِّبْرِ
14 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ عَلَى تِبْرٍ وَلاَ حُلِيٍّ وَلاَ سَبَائِكَ لاِخْتِلاَفِ قِيمَتِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ بِتِبْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِشَرْطِ تَعَامُل النَّاسِ بِهِ، فَإِِِنْ كَانَ النَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَتَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهِ، وَإِِِنْ كَانُوا لاَ يَتَعَامَلُونَ بِهِ فَهُوَ كَالْعُرُوضِ فَلاَ تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهِ.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْمُضَارَبَةَ بِالتِّبْرِ وَنَحْوِهِ بِشَرْطَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنْ يُتَعَامَل بِالتِّبْرِ وَنَحْوِهِ فَقَطْ فِي بَلَدِ الْمُضَارَبَةِ.
الثَّانِي: أَنْ لاَ يُوجَدَ مَسْكُوكٌ يُتَعَامَل بِهِ، فَإِِِنْ وُجِدَ مَسْكُوكٌ يُتَعَامَل بِهِ أَيْضًا لَمْ يَجُزِ التِّبْرُ وَنَحْوُهُ لِوُجُودِ الأَْصْل (1) .

ج - الْمُضَارَبَةُ بِالْمَغْشُوشِ مِنَ النَّقْدَيْنِ
15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِِلَى جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ بِالْمَغْشُوشِ مِنَ النَّقْدَيْنِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 82، والشرح الصغير 3 / 683 - 684، وشرح الزرقاني 6 / 213، ومغني المحتاج 2 / 310، ونهاية المحتاج 5 / 219، وكشاف القناع 3 / 498.

(38/46)


وَهُوَ قَوْل السُّبْكِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِالْمَغْشُوشِ مِنَ الأَْثْمَانِ، لأَِنَّ الْغِشَّ الَّذِي فِيهَا عَرَضٌ، وَلأَِنَّ قِيمَتَهَا تَزِيدُ وَتَنْقُصُ، أَشْبَهَتِ الْعُرُوضَ.
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: لاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَغْشُوشَةِ وَإِِِنْ رَاجَتْ وَعُلِمَ مِقْدَارُ غِشِّهَا وَجَوَّزْنَا التَّعَامُل بِهَا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ فِي الْمَغْشُوشِ مِنَ النَّقْدَيْنِ غِشًّا كَثِيرًا عُرْفًا لأَِنَّهُ لاَ يَنْضَبِطُ غِشُّهُ، فَلاَ يَتَأَدَّى رَدُّ مِثْلِهِ، لأَِنَّ قِيمَتَهَا تَزِيدُ وَتَنْقُصُ فَهِيَ كَالْعُرُوضِ (3) .

د - الْمُضَارَبَةُ بِالْفُلُوسِ
16 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِِلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ لاَ تَصِحُّ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 82، والزرقاني 6 / 214، ومغني المحتاج 2 / 310.
(2) روضة الطالبين 5 / 117، ومغني المحتاج 2 / 310، والمهذب 1 / 385، ونهاية المحتاج 5 / 219.
(3) كشاف القناع 3 / 498.

(38/46)


بِالْفُلُوسِ (1) لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ عَقْدُ غَرَرٍ جُوِّزَ لِلْحَاجَةِ، فَاخْتَصَّ بِمَا يَرُوجُ غَالِبًا وَتَسْهُل التِّجَارَةُ بِهِ وَهُوَ الأَْثْمَانُ.
وَقَيَّدَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ الْمُضَارَبَةِ بِهَا بِقُيُودٍ:
قَال الْكَاسَانِيُّ: إِِنْ كَانَتِ الْفُلُوسُ كَاسِدَةً فَلاَ تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهَا لأَِنَّهَا عُرُوضٌ، وَإِِِنْ كَانَتْ نَافِقَةً فَكَذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمِّدٍ تَجُوزُ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْفُلُوسُ لاَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ رَأْسَ مَال الْمُضَارَبَةِ وَلَوْ تُعُومِل بِهَا عَلَى الْمَشْهُورِ، لأَِنَّ التِّبْرَ إِِذَا كَانَ لاَ يَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهِ إِِلاَّ إِِذَا انْفَرَدَ التَّعَامُل بِهِ - وَالْحَال أَنَّهُ لَيْسَ مَظِنَّةَ الْكَسَادِ - فَأَوْلَى الْفُلُوسُ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ الْكَسَادِ، فَلاَ يَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهَا إِِلاَّ أَنْ تَنْفَرِدَ بِالتَّعَامُل بِهَا، وَإِِِلاَّ جَازَ، وَقَال الدَّرْدِيرُ: وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَ الْعَامِل يَعْمَل بِهَا فِي الْمُحَقَّرَاتِ الَّتِي الشَّأْنُ فِيهَا التَّعَامُل بِهَا.
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِجِوَازِ الْمُضَارَبَةِ بِالْفُلُوسِ، لأَِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَيْسَتْ
__________
(1) الفلوس جمع فلس، وهو القطعة المضروبة من النحاس يتعامل بها، وهي أثمان عند المقابلة بغير جنسها (قواعد الفقه للبركتي، وبدائع الصنائع 5 / 236) .
(2) بدائع الصنائع 6 / 59.

(38/47)


مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا حَتَّى تَمْتَنِعَ بِغَيْرِهَا حَيْثُ انْفَرَدَ التَّعَامُل بِهَا، بَل هِيَ مَقْصُودَةٌ مِنْ حَيْثُ التَّنْمِيَةِ (1) .

هـ - الْمُضَارَبَةُ بِالْمَنْفَعَةِ
17 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ، وَقَالُوا: لاَ يَجُوزُ جَعْل رَأْسِ الْمَال سُكْنَى دَارٍ، لأَِنَّهُ إِِذَا لَمْ يُجْعَل الْعَرَضُ رَأْسَ مَالٍ فَالْمَنْفَعَةُ أَوْلَى (2) .

و الْمُضَارَبَةُ بِالصَّرْفِ
18 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ رَبَّ الْمَال لَوْ دَفَعَ نَقْدًا إِِلَى الْعَامِل لِيَصْرِفَهُ مِنْ غَيْرِهِ بِنَقْدِ آخَرَ ثُمَّ يَعْمَل بِمَا يَقْبِضُهُ مُضَارَبَةً فَلاَ يَجُوزُ، فَإِِِنْ عَمِل بِمَا قَبَضَهُ مِنَ الصَّرْفِ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي تَوَلِّيهِ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَال وَلَوْ تَلِفَ أَوْ خَسِرَ، ثُمَّ لَهُ أَيْضًا مُضَارَبَةُ مِثْلِهِ فِي رِبْحِهِ - أَيِ الْمَال - فَإِِِنْ تَلِفَ أَوْ لَمْ يَرْبَحْ فَلاَ شَيْءَ لَهُ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَال (3) .

ثَانِيًا: كَوْنُ رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ مَعْلُومًا 19 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِلْعَاقِدَيْنِ، قَدْرًا
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 519، والشرح الصغير وحاشية الصاوي 3 / 684.
(2) روضة الطالبين 5 / 119.
(3) جواهر الإكليل 2 / 171.

(38/47)


وَصِفَةً وَجِنْسًا، عِلْمًا تَرْتَفِعُ بِهِ الْجَهَالَةُ وَيُدْرَأُ النِّزَاعُ، فَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ رَأْسُ الْمَال مَعْلُومًا لَهُمَا كَذَلِكَ فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ.
وَقَالُوا فِي تَعْلِيل ذَلِكَ: إِِنَّ كَوْنَ رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ غَيْرَ مَعْلُومٍ لِلْعَاقِدَيْنِ عَلَى النَّحْوِ الْمَذْكُورِ يُؤَدِّي إِِلَى الْجَهْل بِالرِّبْحِ، وَكَوْنُ الرِّبْحِ مَعْلُومًا شَرْطُ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ (1) .

الْمُضَارَبَةُ بِأَحَدِ الْكِيسَيْنِ أَوِ الصُّرَّتَيْنِ
20 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ رَبَّ الْمَال إِِنْ دَفَعَ كِيسَيْنِ أَوْ صُرَّتَيْنِ مِنَ النَّقْدِ فِي كُلٍّ مِنَ الْكِيسَيْنِ أَوِ الصُّرَّتَيْنِ مَالٌ مَعْلُومٌ، وَقَال لِمَنْ دَفَعَ إِِلَيْهِ ذَلِكَ: ضَارَبْتُكَ عَلَى أَحَدِ الْكِيسَيْنِ أَوْ عَلَى إِِحْدَى الصُّرَّتَيْنِ. لَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ، حَتَّى لَوْ تَسَاوَى مَا فِيهِمَا لِلإِِِْبْهَامِ، وَفِيهِ غَرَرٌ لاَ ضَرُورَةَ إِِلَى احْتِمَالِهِ.
وَفِي وَجْهٍ مُقَابِلٍ لِلأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَصِحُّ عَلَى إِِحْدَى الصُّرَّتَيْنِ الْمُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي الْقَدْرِ وَالْجَنْسِ وَالصِّفَّةِ، فَيَتَصَرَّفُ الْعَامِل فِي أَيَّتِهِمَا شَاءَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 82، وحاشية ابن عابدين 4 / 484، وجواهر الإكليل 2 / 171، وحاشية الدسوقي 3 / 518، والمهذب 1 / 385، ونهاية المحتاج 5 / 219 - 220، ومغني المحتاج 2 / 310، والمغني 5 / 19.

(38/48)


فَتَتَعَيَّنُ لِلْمُضَارَبَةِ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِمَا مَعْلُومًا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَتَفَرَّعُ عَلَى الْقَوْل الأَْوَّل الأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّ رَبَّ الْمَال لَوْ ضَارَبَ الْعَامِل عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ ثُمَّ عَيَّنَهَا فِي الْمَجْلِسِ صَحَّ، وَقِيل: لاَ يَصِحُّ (1) .

ثَالِثًا: كَوْنُ رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ عَيْنًا
21 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ مَالِهَا عَيْنًا، فَلاَ تَجُوزُ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ، بِمَعْنَى أَنْ لاَ يَكُونَ رَأْسُ الْمَال دَيْنًا، فَإِِِنْ كَانَ دَيْنًا لَمْ تَصِحَّ.
وَالْمُضَارَبَةُ بِالدَّيْنِ لاَ تَخْلُو إِِمَّا أَنْ تَكُونَ بِالدَّيْنِ عَلَى الْعَامِل، وَإِِِمَّا بِالدِّينِ عَلَى غَيْرِ الْعَامِل.

أ - الْمُضَارَبَةُ بِالدَّيْنِ عَلَى الْعَامِل
22 - اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِِلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِدَيْنٍ لِرَبِّ الْمَال عَلَى الْعَامِل لاَ تَصِحُّ، وَقَال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ بِصِحَّتِهَا، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 118، ومغني المحتاج 2 / 310، وكشاف القناع 3 / 507، وروضة القضاة للسمناني 2 / 582.

(38/48)


ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَال عَيْنًا، فَإِِِنْ كَانَ دَيْنًا فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ، وَإِِِذَا كَانَ لِرَبِّ الْمَال عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَقَال لَهُ: اعْمَل بِدَيْنِي الَّذِي فِي ذِمَّتِكَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ بِلاَ خِلاَفٍ - أَيْ عِنْدَهُمْ - فَإِِِنِ اشْتَرَى هَذَا الْمُضَارِبُ وَبَاعَ فَلَهُ رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ (أَيْ خَسَارَتُهُ) وَالدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لأَِنَّ مَنْ وَكَّل رَجُلاً يَشْتَرِي لَهُ بِالدَّيْنِ الَّذِي فِي ذِمَّتِهِ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ، حَتَّى لَوِ اشْتَرَى لاَ يَبْرَأُ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ عِنْدَهُ، وَإِِِذَا لَمْ يَصِحَّ الأَْمْرُ بِالشِّرَاءِ فِي الذِّمَّةِ لَمْ تَصِحَّ إِِضَافَةُ الْمُضَارَبَةِ إِِلَى مَا فِي الذِّمَّةِ.
وَقَال الصَّاحِبَانِ: مَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ - فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ - وَبَاعَ هُوَ لِرَبِّ الْمَال لَهُ رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ، لأَِنَّهُ يَصِحُّ عِنْدَهُمَا التَّوْكِيل وَلاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ لأَِنَّ الشِّرَاءَ يَقَعُ لِلْمُوَكِّل، فَتَصِيرُ الْمُضَارَبَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مُضَارَبَةً بِالْعُرُوضِ، لأَِنَّهُ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ الْعُرُوضِ ثُمَّ دَفَعَهُ إِِلَيْهِ مُضَارَبَةً فَتَصِيرُ مُضَارَبَةً بِالْعُرُوضِ فَلاَ تَصِحُّ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِدَيْنٍ عَلَى الْعَامِل، فَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَال أَنْ يَقُول لِمَدِينِهِ: اعْمَل
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 83، ورد المحتار 4 / 484.

(38/49)


فِيهِ مُضَارَبَةً بِنِصْفِ رِبْحِهِ مَثَلاً لأَِنَّهُ سَلَفٌ بِزِيَادَةٍ، وَإِِِنْ قَال لَهُ ذَلِكَ اسْتَمَرَّ الدَّيْنُ عَلَى حَالِهِ فِي الضَّمَانِ وَاخْتِصَاصُ الْمَدِينِ بِرِبْحِهِ إِِنْ كَانَ وَعَلَيْهِ خَسْرُهُ، مَا لَمْ يَقْبِضِ الدَّيْنَ مِنَ الْمَدِينِ، فَإِِِنْ قَبَضَهُ رَبُّهُ مِنْهُ ثُمَّ دَفَعَهُ لَهُ مُضَارَبَةً صَحَّ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِِلَى أَنَّ رَبَّ الْمَال لَوْ قَال لِمَنْ لَهُ دَيْنٌ عَلَيْهِ: ضَارَبْتُكَ عَلَى الدَّيْنِ الَّذِي لِي عَلَيْكَ لَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ، بَل لَوْ قَال لَهُ: اعْزِل مَالِي الَّذِي فِي ذِمَّتِكَ مِنْ مَالِكَ، فَعَزَلَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ ثُمَّ ضَارَبَهُ عَلَيْهِ لَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ مَا عَزَلَهُ بِغَيْرِ قَبْضٍ، فَإِِِذَا تَصَرَّفَ الْعَامِل فَفِيمَا عَزَلَهُ نَظَرٌ، إِِنِ اشْتَرَى بِعَيْنِهِ لِلْمُضَارَبَةِ فَهُوَ كَالْفُضُولِيِّ يَشْتَرِي لِغَيْرِهِ بِعَيْنِ مَالِهِ، وَإِِِنِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ أَنَّهُ لِلْمَالِكِ لأَِنَّهُ اشْتَرَى لَهُ بِإِِِذْنِهِ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ أَبِي حَامِدٍ لِلْعَامِل.
وَحَيْثُ كَانَ الْمَعْزُول لِلْمَالِكِ فَالرِّبْحُ وَرَأْسُ الْمَال لَهُ لِفَسَادِ الْمُضَارَبَةِ، وَعَلَيْهِ الأُْجْرَةُ لِلْعَامِل (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ رَبَّ الْمَال لَوْ قَال
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 171، والشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه 3 / 683.
(2) روضة الطالبين 5 / 118، ومغني المحتاج 2 / 310.

(38/49)


لِمَدِينِهِ: ضَارِبْ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْكَ لَمْ يَصِحَّ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَنْ أَحْمَدَ: يَصِحُّ، وَبَنَاهُ الْقَاضِي عَلَى شِرَائِهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَبَنَاهُ فِي النِّهَايَةِ عَلَى قَبْضِهِ مِنْ نَفْسِهِ لِمُوَكِّلِهِ، وَفِيهِمَا رِوَايَتَانِ (1)

ب - الْمُضَارَبَةُ بِدَيْنٍ عَلَى غَيْرِ الْعَامِل
23 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ - إِِلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِدَيْنٍ عَلَى غَيْرِ الْعَامِل لاَ تَصِحُّ، كَمَا لَوْ قَال لِلْعَامِل: قَارَضْتُكَ عَلَى دَيْنِي عَلَى فُلاَنٍ فَاقْبِضْهُ وَاتَّجِرْ فِيهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَبِهَذَا يَقُول اللَّخْمِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَصَاحِبُ الرِّعَايَةِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: لَوْ قَال لِرَجُلٍ اقْبِضْ مَالِي عَلَى فُلاَنٍ مِنَ الدَّيْنِ وَاعْمَل بِهِ مُضَارَبَةً جَازَ، لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ هُنَا أُضِيفَتْ إِِلَى الْمَقْبُوضِ، فَكَانَ رَأْسُ الْمَال عَيْنًا لاَ دَيْنًا (3) .
__________
(1) الإنصاف 5 / 431.
(2) جواهر الإكليل 2 / 171، وروضة الطالبين 5 / 117 - 118، والإنصاف 5 / 431.
(3) بدائع الصنائع 6 / 83، وجواهر الإكليل 2 / 171، والإنصاف 5 / 431.

(38/50)


رَابِعًا: كَوْنُ رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ مُسَلَّمًا إِِلَى الْعَامِل
24 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي وَابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ الْعَامِل مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ فِي رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ وَمُسْتَقِلًّا بِالْيَدِ عَلَيْهِ، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَأْسِ الْمَال، وَعَبَّرَ عَنْهُ آخَرُونَ بِأَنَّهُ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَال إِِلَيْهِ، وَلِلْفُقَهَاءِ مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي التَّعْبِيرِ خِلاَفٌ فِي التَّعْلِيل وَالتَّفْصِيل.
فَقَال الْكَاسَانِيُّ: يُشْتَرَطُ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَال إِِلَى الْمُضَارِبِ لأَِنَّهُ أَمَانَةٌ، فَلاَ تَصِحُّ إِِلاَّ بِالتَّسْلِيمِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ كَالْوَدِيعَةِ وَلاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ مَعَ بَقَاءِ يَدِ الدَّافِعِ عَلَى الْمَال لِعَدَمِ التَّسْلِيمِ مَعَ بَقَاءِ يَدِهِ، حَتَّى لَوْ شَرَطَ بَقَاءَ يَدِ الْمَالِكِ عَلَى الْمَال فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ.
وَلَوْ شَرَطَ فِي الْمُضَارَبَةِ عَمَل رَبِّ الْمَال فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ، سَوَاءٌ عَمِل رَبُّ الْمَال مَعَهُ أَوْ لَمْ يَعْمَل، لأَِنَّ شَرْطَ عَمَلِهِ مَعَهُ شَرْطُ بَقَاءِ يَدِهِ عَلَى الْمَال وَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَالِكُ عَاقِدًا أَوْ غَيْرَ عَاقِدٍ، فَلاَ بُدَّ مِنْ زَوَال يَدِ رَبِّ الْمَال عَنْ مَالِهِ لِتَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ، حَتَّى إِِنَّ الأَْبَ أَوِ الْوَصِيَّ إِِذَا دَفَعَ مَال الصَّغِيرِ مُضَارَبَةً وَشَرَطَ عَمَل الصَّغِيرِ لَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ، لأَِنَّ

(38/50)


يَدَ الصَّغِيرِ بَاقِيَةٌ - لِبَقَاءِ مِلْكِهِ - فَتَمْنَعَ التَّسْلِيمَ (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِي رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ مُسَلَّمًا مِنْ رَبِّهِ لِلْعَامِل بِدُونِ أَمِينٍ عَلَيْهِ، لاَ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ أَوْ بِرَهْنٍ أَوْ وَدِيعَةٍ، وَإِِِلاَّ فَإِِِنَّ تَسْلِيمَهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ كَلاَ تَسْلِيمٍ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ مَالِهَا مُسَلَّمًا إِِلَى الْعَامِل، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: لَيْسَ الْمُرَادُ اشْتِرَاطَ تَسْلِيمِ الْمَال إِِلَيْهِ حَال الْعَقْدِ أَوْ فِي مَجْلِسِهِ، وَإِِِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ يَسْتَقِل الْعَامِل بِالْيَدِ عَلَيْهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ فَلاَ يَجُوزُ وَلاَ يَصِحُّ الإِِِْتْيَانُ بِمَا يُنَافِي ذَلِكَ، وَهُوَ شَرْطُ كَوْنِ الْمَال فِي يَدِ الْمَالِكِ أَوْ غَيْرِهِ لِيُوَفِّيَ مِنْهُ ثَمَنَ مَا اشْتَرَاهُ الْعَامِل، وَلاَ شَرْطَ مُرَاجَعَتِهِ أَوْ مُرَاجَعَةِ مُشْرِفٍ نَصَّبَهُ فِي التَّصَرُّفِ، لأَِنَّهُ قَدْ لاَ يَجِدُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلاَ شَرْطَ عَمَل الْمَالِكِ مَعَ الْعَامِل لأَِنَّ انْقِسَامَ التَّصَرُّفِ يُفْضِي إِِلَى انْقِسَامِ الْيَدِ، وَلأَِنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَاهَا مِنَ اسْتِقْلاَل الْعَامِل بِالْعَمَل (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إِِنْ أَخْرَجَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 84 - 85.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 517، وشرح الزرقاني 6 / 214.
(3)) روضة الطالبين 5 / 118 - 119، ونهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي 5 / 221، ومغني المحتاج 2 / 310، 311.

(38/51)


شَخْصٌ مَالاً لِيَعْمَل فِيهِ هُوَ وَآخَرُ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا صَحَّ، وَيَكُونُ مُضَارَبَةً (1) .

الْمُضَارَبَةُ بِالْوَدِيعَةِ
25 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَصِحُّ بِالْوَدِيعَةِ فِي يَدِ الْعَامِل أَوْ فِي يَدِ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ قَال رَبُّ الْوَدِيعَةِ لِلْمُودَعِ: ضَارِبْ بِالْوَدِيعَةِ الَّتِي عِنْدَكَ وَالرِّبْحُ مُنَاصَفَةً بَيْنَنَا، أَوْ قَال لآِخَرَ: ضَارِبْ بِالْوَدِيعَةِ الَّتِي لِي عِنْدَ فُلاَنٍ - مَعَ الْعِلْمِ بِقَدْرِهَا - فَقَبِل كُلٌّ مِنْهُمَا، فَإِِِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَنْعَقِدُ صَحِيحَةً، لأَِنَّ الْيَدَ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَصْفُهَا، فَهِيَ قَبْل الْمُضَارَبَةِ وَحَال كَوْنِهَا وَدِيعَةً يَدُ أَمَانَةٍ، وَهِيَ بَعْدَ الْمُضَارَبَةِ يَدُ أَمَانَةٍ كَذَلِكَ، وَلأَِنَّ الْوَدِيعَةَ مِلْكُ رَبِّ الْمَال فَجَازَ أَنْ يُضَارِبَ عَلَيْهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ حَاضِرَةً فِي زَاوِيَةِ الْبَيْتِ، فَإِِِنْ كَانَتْ تَلِفَتْ عِنْدَهُ عَلَى وَجْهٍ يَضْمَنُهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَارِبَ عَلَيْهَا لأَِنَّهَا صَارَتْ دَيْنًا (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِالْوَدِيعَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي يَدِ الْعَامِل، وَذَلِكَ لاِحْتِمَال كَوْنِ الْمُودَعِ أَنْفَقَهَا فَتَكُونُ دَيْنًا، وَالْمُضَارَبَةُ لاَ تَصِحُّ بِالدَّيْنِ، إِِلاَّ أَنْ يُحْضِرَ
__________
(1)) الإنصاف 5 / 432.
(2) بدائع الصنائع 6 / 83، وروضة الطالبين 5 / 118، ومطالب أولي النهى 3 / 522، 523.

(38/51)


الْمُودَعُ الْوَدِيعَةَ، وَيَقْبِضُهَا الْمُودَعُ وَيَدْفَعُهَا مُضَارَبَةً فَتَصِحُّ، أَوْ يُحْضِرُهَا الْمُودَعُ وَيَشْهَدُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَال الَّذِي أَحْضَرَ هُوَ وَدِيعَةُ فُلاَنٍ عِنْدِي، ثُمَّ يَدْفَعُهَا الْمُودَعُ مُضَارَبَةً فَتَجُوزُ، فَإِِِنْ لَمْ يَحْدُثْ شَيْءٌ مِنْ هَذَيْنِ الأَْمْرَيْنِ، وَقَال رَبُّ الْوَدِيعَةِ لِلْعَامِل: اتَّجِرْ بِمَا عِنْدَكَ مِنْ وَدِيعَةٍ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ مُنَاصَفَةٌ بَيْنَنَا مُضَارَبَةً، فَاتَّجَرَ الْعَامِل بِالْوَدِيعَةِ، فَإِِِنَّ رِبْحَهَا لِرَبِّهَا وَخُسْرَهَا عَلَيْهِ، وَلِلْعَامِل أَجْرُ مِثْلِهِ.
وَقَالُوا: لاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِالْوَدِيعَةِ عِنْدَ أَمِينٍ، فَإِِِنْ وَكَّل رَبُّ الْوَدِيعَةِ الْعَامِل عَلَى خَلاَصِهَا ثُمَّ يُضَارِبُ بِهَا أَوْ بِثَمَنِهَا بَعْدَ بَيْعِهَا كَانَتِ الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةً يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا - بَعْدَ الْعَمَل فِيهَا - لِلْعَامِل أَجْرُ مِثْلِهِ فِي تُوَلِّي تَخْلِيصِ الْوَدِيعَةِ، وَبَيْعِهَا إِِنْ حَدَثَ، فِي ذِمَّةِ رَبِّهَا، رَبِحَ الْعَامِل أَوْ لَمْ يَرْبَحْ، وَلِلْعَامِل كَذَلِكَ مُضَارَبَةُ مِثْلِهِ فِي رِبْحِ الْمَال، فَإِِِنْ رَبِحَ أُعْطِيَ مِنْهُ مُضَارَبَةً مِثْلُهُ، وَإِِِنْ لَمْ يَرْبَحْ فَلاَ شَيْءَ لَهُ لاَ فِي الْمَال وَلاَ فِي ذِمَّةِ رَبِّهِ (1) .

الْمُضَارَبَةُ بِالْمَغْصُوبِ
26 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَأَبُو يُوسُفَ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ إِِلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِالْمَغْصُوبِ تَصِحُّ.
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 171، والشرح الصغير 3 / 685، 686، وشرح الزرقاني 6 / 215.

(38/52)


قَال الْكَاسَانِيُّ: إِِنْ أَضَافَ الْمُضَارَبَةَ إِِلَى مَضْمُونَةٍ فِي يَدِهِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَغْصُوبَةِ فَقَال لِلْغَاصِبِ: اعْمَل بِمَا فِي يَدِكَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ جَازَ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ، لأَِنَّ مَا فِي يَدِهِ مَضْمُونٌ إِِلَى أَنْ يَأْخُذَ فِي الْعَمَل، فَإِِِذَا أَخَذَ فِي الْعَمَل وَهُوَ الشِّرَاءُ تَصِيرُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُضَارَبَةِ فَتَصِحُّ.
وَقَال جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ: تَصِحُّ مُضَارَبَةُ الْغَاصِبِ عَلَى الْمَغْصُوبِ لِتَعَيُّنِ الْمَال الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْعَامِل الْغَاصِبِ، بِخِلاَفِ مَا فِي الذِّمَّةِ فَإِِِنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ، وَتَصِحُّ مُضَارَبَةُ غَيْرِ الْغَاصِبِ عَلَى الْمَال الْمَغْصُوبِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ أَوِ الْعَامِل قَادِرًا عَلَى أَخْذِهِ، وَيَبْرَأُ الْغَاصِبُ بِتَسْلِيمِ الْمَغْصُوبِ لِمَنْ يُعَامِل، لأَِنَّهُ سَلَّمَهُ بِإِِِذْنِ مَالِكِهِ وَزَالَتْ عَنْهُ يَدُهُ، لاَ بِمُجَرَّدِ الْمُضَارَبَةِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ - فِي وَجْهٍ مُقَابِلٍ لِلأَْصَحِّ - وَزُفَرُ بِعَدِمِ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ بِالْمَال الْمَغْصُوبِ، لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَقْتَضِي كَوْنَ الْمَال أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ، وَالْمَغْصُوبُ مَغْصُوبٌ فِي يَدِهِ
__________
(1)) بدائع الصنائع 6 / 83، والفتاوى الهندية 4 / 286، وروضة الطالبين 5 / 118، والمهذب 1 / 385، وأسنى المطالب 2 / 381، ومغني المحتاج 2 / 310، ومطالب أولي النهى 3 / 523.

(38/52)


لَيْسَ كَذَلِكَ، فَلاَ يَتَحَقَّقُ التَّصَرُّفُ لِلْمُضَارَبَةِ، فَلاَ تَصِحُّ (1) .

الْمُضَارَبَةُ بِالْمَال الْمَشَاعِ
27 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَصِحُّ بِمَال مَشَاعٍ، فَلَوْ دَفَعَ رَجُلٌ مَالاً إِِلَى رَجُلٍ: بَعْضُهُ مُضَارَبَةً، وَبَعْضُهُ غَيْرُ مُضَارَبَةٍ، مَشَاعًا فِي الْمَال، فَالْمُضَارَبَةُ جَائِزَةٌ، لأَِنَّ الإِِِْشَاعَةَ لاَ تَمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَال، فَإِِِنَّ الْمُضَارِبَ يَتَمَكَّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَال الْمَشَاعِ، وَالإِِِْشَاعَةُ إِِنَّمَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْمُضَارَبَةِ وَصِحَّتَهَا إِِذَا كَانَتْ تَمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ بِأَنْ كَانَتْ مَعَ غَيْرِ الْعَامِل، أَمَّا مَعَ الْعَامِل فَلاَ تَمْنَعُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فَصَحَّتِ الْمُضَارَبَةُ (2) .

مَا يَتَعَلَّقُ بِالرِّبْحِ مِنَ الشُّرُوطِ:
أَوَّلاً: كَوْنُ الرِّبْحِ مَعْلُومًا:
28 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ كُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ مِنَ الرِّبْحِ مَعْلُومًا لأَِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الرِّبْحُ، وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 83، وروضة الطالبين 5 / 118، والمهذب 1 / 385، وأسنى المطالب وحاشية الرملي 2 / 381، ومغني المحتاج 2 / 310.
(2)) بدائع الصنائع 6 / 83، وروضة الطالبين 5 / 119، ومغني المحتاج 2 / 310، والمغني 5 / 23، 24.
(3)) بدائع الصنائع 6 / 85، والشرح الصغير 3 / 682، 687، ومغني المحتاج 2 / 313، وروضة الطالبين 5 / 122 - 124، ومطالب أولي النهى 3 / 514.

(38/53)


وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ: لَوْ دَفَعَ إِِلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الرِّبْحِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ الرِّبْحِ، جَازَ ذَلِكَ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، لأَِنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ (1) ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (2) .
وَقَال الدَّرْدِيرُ: لَوْ قَال الرِّبْحُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَنَا أَوْ شَرِكَةٌ فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ لَهُ النِّصْفَ، لأَِنَّهُ يُفِيدُ التَّسَاوِي عُرْفًا، بِخِلاَفِ مَا لَوْ قَال لَهُ: اعْمَل فِيهِ وَلَكَ فِي الرِّبْحِ شِرْكٌ، فَإِِِنَّ الْمُضَارَبَةَ لاَ تَجُوزُ إِِلاَّ إِِذَا كَانَتْ هُنَاكَ عَادَةٌ تُعَيِّنُ إِِطْلاَقَ الشِّرْكِ عَلَى النِّصْفِ مَثَلاً فَيَعْمَل عَلَيْهَا (3) .

ثَانِيًا: كَوْنُ الرِّبْحِ جُزْءًا شَائِعًا:
29 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوطُ لِكُلٍّ مِنَ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَال مِنَ الرِّبْحِ جُزْءًا شَائِعًا نِصْفًا أَوْ ثُلُثًا أَوْ رُبُعًا، فَإِِِنْ شَرَطَا عَدَدًا مُقَدَّرًا بِأَنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ لأَِحَدِهِمَا مِائَةٌ مِنَ الرِّبْحِ أَوْ أَقَل أَوْ أَكْثَرُ وَالْبَاقِي لِلآْخَرِ لاَ يَجُوزُ وَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ، لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ نَوْعٌ مِنَ الشَّرِكَةِ، وَهِيَ الشَّرِكَةُ فِي
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 65، وروضة الطالبين 5 / 123، وشرح المنتهى 2 / 328، والمغني 5 / 33.
(2) سورة النساء / 12.
(3) الشرح الصغير 3 / 687.

(38/53)


الرِّبْحِ، وَهَذَا شَرْطٌ يُوجِبُ قَطْعَ الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ، لِجَوَازِ أَنْ لاَ يَرْبَحَ الْمُضَارِبُ إِِلاَّ هَذَا الْقَدْرَ الْمَذْكُورَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ لأَِحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ فَلاَ تَتَحَقَّقُ الشَّرِكَةُ، فَلاَ يَكُونُ التَّصَرُّفُ مُضَارَبَةً (1) .
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَكَذَا إِِنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ لأَِحَدِهِمَا النِّصْفُ أَوِ الثُّلُثُ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ، أَوْ قَالاَ: إِِلاَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَإِِِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِنَّهُ شَرْطٌ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ، لأَِنَّهُ إِِذَا شَرَطَ لأَِحَدِهِمَا النِّصْفَ وَمِائَةً فَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مِائَتَيْنِ فَيَكُونُ كُل الرِّبْحِ لِلْمَشْرُوطِ لَهُ، وَإِِِذَا شَرَطَ لَهُ النِّصْفَ إِِلاَّ مِائَةً فَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الرِّبْحِ مِائَةً فَلاَ يَكُونُ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الرِّبْحِ.
وَلَوْ شَرَطَا فِي الْعَقْدِ أَنْ تَكُونَ الْوَضِيعَةُ عَلَيْهِمَا بَطَل الشَّرْطُ وَالْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةٌ، لأَِنَّ الْوَضِيعَةَ جُزْءٌ هَالِكٌ مِنَ الْمَال فَلاَ يَكُونُ إِِلاَّ عَلَى رَبِّ الْمَال، وَلأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ وَكَالَةٌ، وَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ لاَ يَعْمَل فِي الْوَكَالَةِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ شَرَطَ بَعْضَ الرِّبْحِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 85 - 86، والشرح الصغير 3 / 682 - 687، وروضة الطالبين 5 / 122 - 124، والمغني 5 / 29 - 32.
(2) بدائع الصنائع 6 / 85 - 86.

(38/54)


لِلْمَسَاكِينِ أَوْ لِلْحَجِّ أَوْ فِي الرِّقَابِ أَوْ لاِمْرَأَةِ الْمُضَارِبِ أَوْ مُكَاتَبِهِ صَحَّ الْعَقْدُ وَلَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ، وَيَكُونُ الْمَشْرُوطُ لِرَبِّ الْمَال.
وَلَوْ شَرَطَ الْبَعْضَ لِمَنْ شَاءَ الْمُضَارِبُ، فَإِِِنْ شَاءَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِرَبِّ الْمَال صَحَّ الشَّرْطُ، وَإِِِلاَّ بِأَنْ شَاءَهُ لأَِجْنَبِيٍّ لاَ يَصِحُّ.
وَمَتَى شَرَطَ الْبَعْضَ لأَِجْنَبِيٍّ. إِِنْ شَرَطَ عَمَلَهُ صَحَّ، وَإِِِلاَّ فَلاَ، وَفِي الْقَهَسْتَانِيِّ: يَصِحُّ مُطْلَقًا.
وَالْمَشْرُوطُ لِلأَْجْنَبِيِّ. إِِنْ شَرَطَ عَمَلَهُ وَإِِِلاَّ فَلِلْمَالِكِ.
وَلَوْ شَرَطَ الْبَعْضَ لِقَضَاءِ دَيْنِ الْمُضَارِبِ أَوْ دَيْنِ الْمَالِكِ جَازَ، وَيَكُونُ لِلْمَشْرُوطِ لَهُ قَضَاءُ دَيْنِهِ وَلاَ يُلْزَمُ بِدَفْعِهِ لِغُرَمَائِهِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لِلرِّبْحِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ:
الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِالْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَلَوْ شَرَطَ بَعْضَهُ لِثَالِثِ لَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ، إِِلاَّ أَنْ يَشْرِطَ عَلَيْهِ الْعَمَل مَعَهُ فَيَكُونُ قِرَاضًا مَعَ رَجُلَيْنِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، لِيَأْخُذَ الْمَالِكُ بِمِلْكِهِ وَالْعَامِل بِعَمَلِهِ فَلاَ يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدُهُمَا، فَلَوْ شَرَطَ اخْتِصَاصَ أَحَدِهِمَا بِالرِّبْحِ لَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، فَلَوْ قَال:
__________
(1) الدر المختار 4 / 485، 488، 489.

(38/54)


ضَارَبْتُكَ عَلَى أَنَّ لَكَ فِي الرِّبْحِ شِرْكًا فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ مِنْ حَيْثُ الْجُزْئِيَّةُ لاَ مِنْ حَيْثُ التَّقْدِيرُ، فَلَوْ قَال: لَكَ مِنَ الرِّبْحِ، أَوْ لِي مِنْهُ، دِرْهَمٌ أَوْ مِائَةٌ وَالْبَاقِي بَيْنَنَا نِصْفَانِ لَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ (1) .
30 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ شَرَطَ جَمِيعَ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ فَالْعَقْدُ قَرْضٌ، لأَِنَّهُ إِِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُهُ مُضَارَبَةً يُصَحَّحْ قَرْضًا، لأَِنَّهُ أَتَى بِمَعْنَى الْقَرْضِ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِمَعَانِيهَا.
وَعَلَى هَذَا لَوْ شَرَطَ جَمِيعَ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَال فَهُوَ إِِبْضَاعٌ لِوُجُودِ مَعْنَى الإِِِْبْضَاعِ (2) .
وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَالُوا: يَجُوزُ جَعْل الرِّبْحِ كُلِّهُ لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِغَيْرِهِمَا، لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّبَرُّعِ، وَإِِِطْلاَقُ الْقِرَاضِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ مَجَازٌ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِِنْ قَال رَبُّ الْمَال: خُذْ هَذَا الْمَال فَاتَّجِرْ بِهِ وَرِبْحُهُ كُلُّهُ لَكَ كَانَ قَرْضًا لاَ قِرَاضًا، لأَِنَّ قَوْلَهُ: خُذْهُ فَاتَّجِرْ بِهِ يَصْلُحُ لَهُمَا وَقَدْ قَرَنَ بِهِ حُكْمَ الْقَرْضِ فَانْصَرَفَ إِِلَيْهِ، وَإِِِنْ قَال مَعَ ذَلِكَ: وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْكَ فَهَذَا شَرْطٌ فِيهِ
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 122 - 124، ومغني المحتاج 2 / 312 - 313.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 485.
(3) الشرح الصغير 3 / 692، والخرشي 6 / 209.

(38/55)


نَفْيُ الضَّمَانِ فَلاَ يَنْتَفِي بِشَرْطِهِ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ فَقَال: خُذْ هَذَا قَرْضًا وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْكَ، وَإِِِنْ قَال: خُذْهُ فَاتَّجِرْ بِهِ وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِي كَانَ إِِبْضَاعًا، وَإِِِنْ قَال: خُذْهُ مُضَارَبَةً وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لَكَ أَوْ كُلُّهُ لِي فَهُوَ عَقْدٌ فَاسِدٌ، وَإِِِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ.
وَفِي قَوْلٍ مُقَابِلٍ لِلأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَنْ قَال لِلْعَامِل: قَارَضْتُكَ عَلَى أَنَّ كُل الرِّبْحِ لَكَ فَهُوَ مُضَارَبَةٌ صَحِيحَةٌ، وَإِِِنْ قَال رَبُّ الْمَال: كُل الرِّبْحِ لِي فَهُوَ إِِبْضَاعٌ (1) .

خَامِسًا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَمَل مِنَ الشُّرُوطِ:
31 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ - فِي الْجُمْلَةِ - إِِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْعَمَل بِالْمُضَارَبَةِ شُرُوطٌ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِوُجُودِهَا، وَتَفْسُدُ إِِنْ تَخَلَّفَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ أَوْ بَعْضُهَا، وَهِيَ:
أَنْ يَكُونَ الْعَمَل تِجَارَةً، وَأَنْ لاَ يُضَيِّقَ رَبُّ الْمَال عَلَى الْعَامِل فِي عَمَلِهِ، وَأَنْ لاَ يُخَالِفَ الْعَامِل مُقْتَضَى الْعَقْدِ.

تَصَرُّفَاتُ الْمُضَارِبِ
لاَ تَخْرَجُ تَصَرُّفَاتُ الْمُضَارِبِ عَنْ أَقْسَامٍ أَرْبَعَةٍ:

الأَْوَّل: مَا لَهُ عَمَلُهُ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ عَلَيْهِ:
32 - إِِذَا لَمْ يُعَيِّنْ رَبُّ الْمَال لِلْمُضَارِبِ الْعَمَل أَوِ
__________
(1) المغني 5 / 35، ومغني المحتاج 2 / 312.

(38/55)


الْمَكَانَ أَوِ الزَّمَانَ أَوْ صِفَةَ الْعَمَل أَوْ مَنْ يُعَامِلُهُ، بَل قَال لَهُ: خُذْ هَذَا الْمَال مُضَارَبَةً عَلَى كَذَا فَلَهُ الْبَيْعُ، وَلَهُ الاِسْتِئْجَارُ، وَلَهُ التَّوْكِيل، وَلَهُ الرَّهْنُ، وَلَهُ الإِِِْبْضَاعُ، وَالإِِِْحَالَةُ، لأَِنَّ كُل ذَلِكَ مِنْ عَمَل التُّجَّارِ.
بِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ (1) ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا ذَهَبَ إِِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ لِلْعَامِل الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِعَرْضِ وَإِِِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمَالِكُ إِِذِ الْغَرَضُ الرِّبْحُ وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ (2) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُضَارَبَةِ حُكْمُ الشَّرِكَةِ فِيمَا لِلْعَامِل أَنْ يَفْعَلَهُ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ أَوِ الْقَبْضِ وَالإِِِْقْبَاضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (3) .
وَإِِِنْ أَطْلَقَ رَبُّ الْمَال فَلاَ خِلاَفَ عِنْدَهُمْ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ حَالًّا.
وَفِي جَوَازِ الْبَيْعِ نَسِيئَةً رِوَايَتَانِ:
إِِحْدَاهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لأَِنَّهُ نَائِبٌ فِي الْبَيْعِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْبَيْعُ نَسِيئَةً بِغَيْرِ إِِذْنٍ صَرِيحٍ كَالْوَكِيل وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّائِبَ لاَ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ إِِلاَّ عَلَى وَجْهِ الْحَظِّ وَالاِحْتِيَاطِ، وَفِي النَّسِيئَةِ تَغْرِيرٌ بِالْمَال، وَقَرِينَةُ الْحَال تُقَيِّدُ مُطْلَقَ الْكَلاَمِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَال: بِعْهُ حَالًّا.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 87 - 90، وانظر الاختيار 3 / 20.
(2) نهاية المحتاج 5 / 229 - 231، والمهذب 1 / 387.
(3) كشاف القناع 3 / 511.

(38/56)


وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْبَيْعُ نَسَاءً - وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ - لأَِنَّ إِِذْنَهُ فِي التِّجَارَةِ وَالْمُضَارَبَةِ يَنْصَرِفُ إِِلَى التِّجَارَةِ الْمُعْتَادَةِ، وَهَذَا عَادَةُ التُّجَّارِ، وَلأَِنَّهُ يَقْصِدُ الرِّبْحَ، وَهُوَ فِي النَّسَاءِ أَكْثَرُ، وَيُفَارِقُ الْوَكَالَةَ الْمُطْلَقَةَ فَإِِِنَّهَا لاَ تَخْتَصُّ بِقَصْدِ الرِّبْحِ وَإِِِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَحْصِيل الثَّمَنِ فَحَسْبُ، فَإِِِذَا أَمْكَنَ تَحْصِيلُهُ مِنْ غَيْرِ خَطَرٍ كَانَ أَوْلَى (1) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ لِلْعَامِل شِرَاءَ الْمَعِيبِ إِِنْ رَأَى ذَلِكَ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ طَلَبُ الْحَظِّ، وَقَدْ يَكُونُ الرِّبْحُ فِي الْمَعِيبِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لِلْعَامِل الرِّدُّ بِعَيْبٍ تَقْتَضِيهِ مَصْلَحَةٌ، فَإِِِنِ اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ إِِمْسَاكَهُ فَلاَ يَرُدُّهُ فِي الأَْصَحِّ لإِِِِخْلاَلِهِ بِمَقْصُودِ الْعَقْدِ (3) .

33 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سَفَرِ الْعَامِل بِمَال الْمُضَارَبَةِ وَالأَْصْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - نَقَلَهُ الْبُوَيْطِيُّ - أَنَّ لِلْمُضَارِبِ السَّفَرَ بِمَال الْمُضَارَبَةِ إِِنْ أَطْلَقَ رَبُّ الْمَال الإِِِْذْنَ لِلْعَامِل وَلَمْ يُقَيِّدْهُ، لأَِنَّ الإِِِْذْنَ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إِِلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَهِيَ جَارِيَةٌ بِالتِّجَارَةِ
__________
(1) المغني 5 / 39 - 40.
(2) نهاية المحتاج 5 / 229 - 231، والمهذب 1 / 387، والمغني 5 / 44.
(3) المراجع السابقة.

(38/56)


سَفَرًا وَحَضَرًا، وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ اسْتِنْمَاءُ الْمَال وَهَذَا الْمَقْصُودُ بِالسَّفَرِ أَوْفَرُ، وَلأَِنَّ الْعَقْدَ صَدَرَ مُطْلَقًا عَنِ الْمَكَانِ فَيَجْرِي عَلَى إِِطْلاَقِهِ، وَلأَِنَّ مَأْخَذَ الاِسْمِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الضَّرْبِ فِي الأَْرْضِ وَهُوَ السَّيْرُ طَلَبًا لِلْفَضْل. فَمَلَكَ السَّفَرَ بِمُطْلَقِهَا، قَال تَعَالَى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَْرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْل اللَّهِ} (1) .
وَنَقَل أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَال: إِِذَا دَفَعَ إِِلَيْهِ الْمَال بِالْكُوفَةِ وَهُمَا مِنْ أَهْلِيهَا فَلَيْسَ لِلْعَامِل أَنْ يُسَافِرَ بِالْمَال، وَلَوْ كَانَ الدُّفَعُ فِي مِصْرٍ آخَرَ غَيْرِ الْكُوفَةِ فَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يَخْرُجَ بِهِ حَيْثُ شَاءَ، لأَِنَّ الْمُسَافَرَةَ بِالْمَال مُخَاطَرَةٌ بِهِ فَلاَ تَجُوزُ إِِلاَّ بِإِِِذْنِ رَبِّ الْمَال نَصًّا أَوْ دَلاَلَةً، فَإِِِذَا دَفَعَ إِِلَيْهِ الْمَال فِي بَلَدِهِمَا فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالسَّفَرِ نَصًّا وَلاَ دَلاَلَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ، وَإِِِذَا دَفَعَ إِِلَيْهِ فِي غَيْرِ بَلَدِهِمَا فَقَدْ وَجَدَ دَلاَلَةَ الإِِِْذْنِ بِالرُّجُوعِ إِِلَى الْوَطَنِ، لأَِنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الإِِِْنْسَانَ لاَ يَأْخُذُ الْمَال مُضَارَبَةَ وَيَتْرُكُ بَلَدَهُ، فَكَانَ دَفْعُ الْمَال فِي غَيْرِ بَلَدِهِمَا رِضًا بِالرُّجُوعِ إِِلَى الْوَطَنِ فَكَانَ إِِذْنًا دَلاَلَةً (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: سَفَرُ الْعَامِل بِمَال الْمُضَارَبَةِ
__________
(1) سورة المزمل / 20.
(2) بدائع الصنائع 6 / 88، والشرح الصغير 3 / 694، وروضة الطالبين 5 / 134، والإنصاف 5 / 418، والمغني 5 / 41.

(38/57)


يَجُوزُ إِِنْ لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ (أَيْ لَمْ يَمْنَعْهُ) رَبُّ الْمَال قَبْل شَغْل الْمَال، فَإِِِنْ حَجَرَ عَلَيْهِ قَبْل شَغْلِهِ وَلَوْ بَعْدَ الْعَقْدِ لَمْ يَجُزْ، فَإِِِنْ خَالَفَ وَسَافَرَ ضَمِنَ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ خَالَفَ وَسَافَرَ بَعْدَ شَغْلِهِ إِِذْ لَيْسَ لِرَبِّ الْمَال مَنْعُهُ مِنَ السَّفَرِ بَعْدَهُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِِنْ أَذِنَ رَبُّ الْمَال فِي السَّفَرِ أَوْ نَهَى عَنْهُ أَوْ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَحَدِ الأَْمْرَيْنِ تَعَيَّنَ ذَلِكَ، وَثَبَتَ مَا أَمَرَ بِهِ وَحَرُمَ مَا نَهَى عَنْهُ، وَلَيْسَ لَهُ السَّفَرُ فِي مَوْضِعٍ مَخُوفٍ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي السَّفَرِ مُطْلَقًا لَمْ يَكُنْ لَهُ السَّفَرُ فِي طَرِيقٍ مَخُوفٍ وَلاَ إِِلَى بَلَدٍ مَخُوفٍ، فَإِِِنْ فَعَل فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا يَتْلَفُ، لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِفِعْل مَا لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْل أَبِي يُوسُفَ - فِي رِوَايَةِ أَصْحَابِ الإِِِْمْلاَءِ عَنْهُ - أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَامِل أَنْ يُسَافِرَ بِالْمَال وَلَوْ كَانَ السَّفَرُ قَرِيبًا وَالطَّرِيقُ آمِنًا وَلاَ مُؤْنَةَ فِي السَّفَرِ بِلاَ إِِذْنٍ مِنَ الْمَالِكِ، لأَِنَّ السَّفَرَ مَظِنَّةُ الْخَطَرِ.
وَقَال الشَّبْرَامَلِّسِيُّ: مَحَل امْتِنَاعِ السَّفَرِ إِِلَى مَا يَقْرُبُ مِنْ بَلَدِ الْمُضَارَبَةِ إِِذَا لَمْ يَعْتَدْ أَهْل بَلَدِ
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 694.
(2) المغني 5 / 41، والإنصاف 5 / 418.

(38/57)


الْمُضَارَبَةِ الذَّهَابَ إِِلَيْهِ لِيَبِيعَ وَيَعْلَمُ الْمَالِكُ بِذَلِكَ، وَإِِِلاَّ جَازَ، لأَِنَّ هَذَا بِحَسَبِ عُرْفِهِمْ يُعَدُّ مِنْ أَسْوَاقِ الْبَلَدِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ ضَارَبَهُ بِمَحِل لاَ يَصْلُحُ لِلإِِِْقَامَةِ - كَالْمَفَازَةِ - فَالظَّاهِرُ كَمَا قَال الأَْذْرَعِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ السَّفَرُ بِالْمَال إِِلَى مَقْصِدِهِ الْمَعْلُومِ لَهُمَا، ثُمَّ لَيْسَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُحْدِثَ سَفَرًا إِِلَى غَيْرِ مَحِل إِِقَامَتِهِ، فَإِِِنْ أَذِنَ لَهُ جَازَ بِحَسَبِ الإِِِْذْنِ، وَإِِِنْ أَطْلَقَ الإِِِْذْنَ سَافَرَ لِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنَ الْبِلاَدِ الْمَأْمُونَةِ، فَإِِِنْ سَافَرَ بِغَيْرِ إِِذْنٍ أَوْ خَالَفَ فِيمَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ ضَمِنَ وَأَثِمَ، وَلَمْ تَنْفَسِخِ الْمُضَارَبَةُ وَلَوْ عَادَ مِنَ السَّفَرِ، ثُمَّ إِِنْ كَانَ الْمَتَاعُ بِالْبَلَدِ الَّذِي سَافَرَ إِِلَيْهِ أَكْثَرَ قِيمَةً، أَوْ تَسَاوَتِ الْقِيمَتَانِ، صَحَّ الْبَيْعُ وَاسْتَحَقَّ نَصِيبَهُ مِنَ الرِّبْحِ وَإِِِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا بِالسَّفَرِ، وَيَضْمَنُ الثَّمَنَ الَّذِي بَاعَ بِهِ مَال الْقِرَاضِ فِي سَفَرِهِ وَإِِِنْ عَادَ الثَّمَنُ مِنَ السَّفَرِ، لأَِنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ وَهُوَ السَّفَرُ لاَ يَزُول بِالْعَوْدِ، وَإِِِنْ كَانَ - الْمَتَاعُ هُنَاكَ - أَقَل مِنَ الْقِيمَةِ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ إِِلاَّ أَنْ يَكُونَ النَّقْصُ قَدْرًا يَتَغَابَنُ بِهِ.
وَقَالُوا: وَلاَ يُسَافِرُ فِي الْبَحْرِ إِِلاَّ إِِنْ نَصَّ لَهُ عَلَيْهِ لِخَطَرِهِ، فَلاَ يَكْفِي فِيهِ الإِِِْذْنُ فِي السَّفَرِ، نَعَمْ إِِنْ عَيَّنَ لَهُ بَلَدًا وَلاَ طَرِيقَ لَهُ إِِلاَّ الْبَحْرُ - كَسَاكِنِ الْجَزَائِرِ الَّتِي يُحِيطُ بِهَا الْبَحْرُ - كَانَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ فِيهِ وَإِِِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ وَالإِِِْذْنُ

(38/58)


مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، قَالَهُ الأَْذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالْمُرَادُ بِالْبَحْرِ الْمِلْحُ كَمَا قَالَهُ الإِِِْسْنَوِيُّ، وَهَل يُلْحَقُ بِالْبَحْرِ الأَْنْهَارُ الْعَظِيمَةُ كَالنِّيل وَالْفُرَاتِ؟ قَال الأَْذْرَعِيُّ: لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا، وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ الأَْحْسَنُ أَنْ يُقَال: إِِنْ زَادَ خَطَرُهَا عَلَى خَطَرِ الْبَرِّ لَمْ يَجُزْ إِِلاَّ أَنْ يَنُصَّ عَلَيْهِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ شُهْبَةَ (1) .

الثَّانِي: مَا لَيْسَ لِلْمُضَارِبِ عَمَلُهُ إِِلاَّ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ:
34 - يَنْتَظِمُ هَذَا النَّوْعُ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لاَ تَقَعُ مِنَ التُّجَّارِ عَادَةً وَلاَ يَنْتَظِمُهُ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ بِإِِِطْلاَقِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ الاِسْتِدَانَةُ عَلَى مَال الْمُضَارَبَةِ بِشِرَاءِ الْمُضَارِبِ شَيْئًا بِثَمَنِ دَيْنٍ لَيْسَ فِي يَدِهِ مِنْ جَنْسِهِ، فَلَوِ اسْتَدَانَ الْمُضَارِبُ كَانَ دَيْنًا عَلَيْهِ فِي مَالِهِ وَلَمْ يَجُزْ عَلَى رَبِّ الْمَال، لأَِنَّ الاِسْتِدَانَةَ إِِثْبَاتُ زِيَادَةٍ فِي رَأْسِ الْمَال مِنْ غَيْرِ رِضَا رَبِّ الْمَال، وَفِيهِ إِِثْبَاتُ زِيَادَةِ ضَمَانِ عَلَى رَبِّ الْمَال مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ؛ لأَِنَّ ثَمَنَ الْمُشْتَرِي بِرَأْسِ الْمَال فِي الْمُضَارَبَةِ مَضْمُونٌ عَلَى رَبِّ الْمَال، بِدَلِيل أَنَّ الْمُضَارِبَ لَوِ اشْتَرَى بِرَأْسِ الْمَال ثُمَّ هَلَكَ الْمُشْتَرَى قَبْل التَّسْلِيمِ فَإِِِنَّ الْمُضَارِبَ يَرْجِعُ إِِلَى
__________
(1)) مغني المحتاج 2 / 317، ونهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي 5 / 32 - 235، وروضة الطالبين 5 / 134، وبدائع الصنائع 6 / 88، والإنصاف 5 / 418، والمغني 5 / 41.

(38/58)


رَبِّ الْمَال بِمِثْلِهِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا الاِسْتِدَانَةَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لأََلْزَمَنَاهُ زِيَادَةَ ضَمَانٍ لَمْ يَرْضَ بِهِ وَهَذَا لاَ يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِدَانَةُ عَلَى إِِصْلاَحِ مَال الْمُضَارَبَةِ.
وَإِِِذَا أَذِنَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَسْتَدِينَ عَلَى مَال الْمُضَارَبَةِ جَازَ لَهُ الاِسْتِدَانَةُ، وَمَا يَسْتَدِينُهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا شَرِكَةَ وُجُوهٍ، وَلاَ يَأْخُذُ الْمُضَارِبُ سَفْتَجَةً لأَِنَّ أَخْذَهَا اسْتِدَانَةٌ وَهُوَ لاَ يَمْلِكُهَا إِِلاَّ بِالنَّصِّ عَلَيْهَا، وَكَذَا لاَ يُعْطَى سَفْتَجَةً لأَِنَّ إِِعْطَاءَهَا إِِقْرَاضٌ وَهُوَ لاَ يَمْلِكُهُ إِِلاَّ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَا لاَ يَتَغَابَنُ بِهِ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ وَإِِِنْ قَال لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ، وَلَوِ اشْتَرَى يَصِيرُ مُخَالِفًا لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَوْكِيلٌ بِالشِّرَاءِ، وَالتَّوْكِيل بِالشِّرَاءِ مُطْلَقًا يَنْصَرِفُ إِِلَى الْمُتَعَارَفِ، وَهُوَ مَا يَكُونُ بِمِثْل الْقِيمَةِ أَوْ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، وَلأَِنَّ الشِّرَاءَ بِمَا لاَ يَتَغَابَنُ فِي مِثْلِهِ مُحَابَاةٌ، وَالْمُحَابَاةُ تَبَرُّعٌ، وَالتَّبَرُّعُ لاَ يَدْخُل فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لِلْعَامِل أَنْ يُشَارِكَ بِإِِِذْنِ رَبِّ الْمَال، أَوْ يَخْلِطَ الْمَال بِمَالِهِ أَوْ بِمَال قِرَاضٍ عِنْدَهُ، وَلِلْعَامِل الإِِِْبْضَاعُ بِإِِِذْنِ رَبِّ الْمَال، وَإِِِذَا شَارَكَ الْعَامِل فِي مَال الْمُضَارَبَةِ غَيْرَهُ بِغَيْرِ إِِذْنِ رَبِّ الْمَال فَإِِِنَّهُ يَضْمَنُ، لأَِنَّ رَبَّ الْمَال لَمْ يَسْتَأْمِنْ غَيْرَهُ.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 90.

(38/59)


وَلاَ يَجُوزُ لِلْعَامِل أَنْ يَشْتَرِيَ سِلَعًا لِلْمُضَارَبَةِ بِنَسِيئَةِ وَإِِِنْ أَذِنَ لَهُ رَبُّ الْمَال فِي ذَلِكَ.
قَال الصَّاوِيُّ: إِِنَّمَا مُنِعَ ذَلِكَ لأَِكْل رَبِّ الْمَال رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ (1) ، ثُمَّ إِِنَّ الْمَنْعَ مُقَيَّدٌ بِمَا إِِذَا كَانَ الْعَامِل غَيْرَ مُدِيرٍ، وَأَمَّا الْمُدِيرُ فَلَهُ الشِّرَاءُ لِلْمُضَارَبَةِ بِالدَّيْنِ كَمَا فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَتَّجِرُ الْعَامِل إِِلاَّ فِيمَا أَذِنَ فِيهِ رَبُّ الْمَال، فَإِِِنْ أَذِنَ لَهُ فِي صِنْفٍ لَمْ يَتَّجِرْ فِي غَيْرِهِ لأَِنَّ تَصَرُّفَهُ بِالإِِِْذْنِ فَلَمْ يَمْلِكْ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ.
وَلاَ يَشْتَرِي الْعَامِل لِلْمُضَارَبَةِ بِأَكْثَرِ مِنْ رَأْسِ الْمَال وَرِبْحِهِ إِِلاَّ بِإِِِذْنِ الْمَالِكِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِأَنْ يَشْغَل الْعَامِل ذِمَّتَهُ إِِلاَّ بِذَلِكَ، فَإِِِنْ فَعَل لَمْ يَقَعِ الزَّائِدُ لِجِهَةِ الْمُضَارَبَةِ (3) .
وَلَوْ ضَارَبَ الْعَامِل شَخْصًا آخَرَ بِإِِِذْنِ الْمَالِكِ لِيُشَارِكَهُ فِي الْعَمَل وَالرِّبْحِ لَمْ تَجُزْ فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ، وَمَوْضُوعُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ مَالِكًا لاَ عَمَل لَهُ
__________
(1) حديث: " نهى عن ربح ما لم يضمن ". أخرجه الترمذي (3 / 527) من حديث عبد الله بن عمرو، وقال: حديث حسن صحيح.
(2) الشرح الصغير 3 / 695 - 698.
(3) المهذب 1 / 386 - 387، ومغني المحتاج 2 / 316.

(38/59)


وَالآْخَرُ عَامِلاً وَلَوْ مُتَعَدِّدًا لاَ مِلْكَ لَهُ، فَلاَ يَعْدِل إِِلَى أَنْ يَعْقِدَهَا عَامِلاَنِ، وَمَحِل الْمَنْعِ بِالنِّسْبَةِ لِلثَّانِي أَمَّا الأَْوَّل فَالْمُضَارَبَةُ بَاقِيَةٌ فِي حَقِّهِ، فَإِِِنْ تَصَرَّفَ الثَّانِي فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْل عَلَى الْمَالِكِ، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْمَالِكِ، وَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِل الأَْوَّل حَيْثُ لَمْ يَعْمَل شَيْئًا، قَال الشَّبْرَامَلِّسِيُّ: أَمَّا لَوْ عَمِل فَالأَْقْرَبُ أَنَّ الرِّبْحَ يَكُونُ لَهُمَا بِحَسَبِ مَا شَرَطَاهُ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: أَنَّهُ يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَارِبَ شَخْصَيْنِ فِي الاِبْتِدَاءِ.
وَلَوْ أَذِنَ الْمَالِكُ لِلْعَامِل فِي أَنْ يُضَارِبَ غَيْرَهُ لِيَنْسَلِخَ مِنَ الْمُضَارَبَةِ وَيَكُونَ وَكَيْلاً فَيَصِحُّ، وَمَحِلُّهُ - كَمَا قَال ابْنُ الرِّفْعَةِ - إِِذَا كَانَ الْمَال مِمَّا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْمُضَارَبَةُ لأَِنَّهُ ابْتِدَاءُ مُضَارَبَةٍ، فَلَوْ وَقَعَ بَعْدَ تَصَرُّفِهِ وَصَيْرُورَةِ الْمَال عَرَضًا لَمْ تَجُزْ.
وَلَوْ ضَارَبَ الْعَامِل شَخْصًا آخَرَ بِغَيْرِ إِِذْنِ الْمَالِكِ فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَقَصَدَ الْمُشَارَكَةَ فِي عَمَلٍ وَرِبْحٍ أَمْ رِبْحٍ فَقَطْ أَمْ قَصَدَ الاِنْسِلاَخَ، لاِنْتِفَاءِ إِِذْنِ الْمَالِكِ فِيهَا وَائْتِمَانِهِ عَلَى الْمَال غَيْرَهُ، فَإِِِنْ تَصَرَّفَ الْعَامِل الثَّانِي بِغَيْرِ إِِذْنِ الْمَالِكِ فَتَصَرُّفُ غَاصِبٍ فَيَضْمَنُ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ، لأَِنَّ الإِِِْذْنَ صَدَرَ مِمَّنْ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلاَ وَكِيلٍ، فَإِِِنِ اشْتَرَى لِلأَْوَّل فِي الذِّمَّةِ وَنَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ وَرَبِحَ فَالرِّبْحُ لِلْعَامِل الأَْوَّل فِي الأَْصَحِّ لأَِنَّ الثَّانِيَ تَصَرَّفَ بِإِِِذْنِهِ فَأَشْبَهَ الْوَكِيل، وَعَلَيْهِ

(38/60)


لِلثَّانِي أُجْرَتُهُ هُوَ مِنْ زِيَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ لأَِنَّهُ لَمْ يَعْمَل مَجَّانًا، وَقِيل: الرِّبْحُ كُلُّهُ لِلثَّانِي لأَِنَّهُ لَمْ يَتَصَرَّفْ بِإِِِذْنِ الْمَالِكِ فَأَشْبَهَ الْغَاصِبَ، وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ، أَمَّا لَوِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ لِنَفْسِهِ فَيَقَعُ لِنَفْسِهِ، وَإِِِنِ اشْتَرَى بِعَيْنِ مَال الْمُضَارَبَةِ فَبَاطِلٌ شِرَاؤُهُ لأَِنَّهُ فُضُولِيٌّ (1) .
وَلِلْعَامِل أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ بِنَسِيئَةٍ أَوْ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ إِِذَا أَذِنَ لَهُ رَبُّ الْمَال لأَِنَّ الْمَنْعَ لَحِقَهُ وَقَدْ زَال بِإِِِذْنِهِ، وَمَعَ الْجَوَازِ يَنْبَغِي أَنْ لاَ يُبَالِغَ فِي الْغَبْنِ فَيَبِيعَ مَا يُسَاوِي مِائَةً بِعَشَرَةٍ، بَل يَبِيعُ بِمَا تَدُل الْقَرِينَةُ عَلَى ارْتِكَابِهِ عَادَةً فِي مِثْل ذَلِكَ، فَإِِِنْ بَالَغَ لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ، وَيَجِبُ الإِِِْشْهَادُ فِي النَّسِيئَةِ وَإِِِلاَّ ضَمِنَ، بِخِلاَفِ الْحَال، لِعَدَمِ جَرَيَانِ الْعَادَةِ بِالإِِِْشْهَادِ فِي الْبَيْعِ الْحَال (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ لِرَبِّ الْمَال أَنْ يَنُصَّ لِلْمُضَارِبِ عَلَى التَّصَرُّفِ نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً وَلَمْ تَجُزْ مُخَالَفَتُهُ لأَِنَّ الْمُضَارِبَ مُتَصَرِّفٌ بِالإِِِْذْنِ، فَلاَ يَتَصَرَّفُ فِي غَيْرِ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ، وَلأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يَمْنَعُ مَقْصُودَ الْمُضَارَبَةِ، وَقَدْ يُطْلَبُ بِذَلِكَ الْفَائِدَةُ فِي الْعَادَةِ (3) .
وَقَالُوا: لَيْسَ لِلْعَامِل أَنْ يَشْتَرِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 227، 228، 232.
(2) نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي 5 / 229 - 231، والمهذب 1 / 387، ومغني المحتاج 2 / 315.
(3)) المغني 5 / 39.

(38/60)


رَأْسِ الْمَال لأَِنَّ الإِِِْذْنَ مَا تَنَاوَل أَكْثَرَ مِنْهُ، فَإِِِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَال أَلْفًا فَاشْتَرَى سِلْعَةً بِأَلْفِ، ثُمَّ اشْتَرَى أُخْرَى بِالأَْلْفِ عَيْنِهِ فَالشِّرَاءُ فَاسِدٌ لأَِنَّهُ اشْتَرَاهَا بِمَال يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَهُ فِي الْبَيْعِ الأَْوَّل، وَإِِِنِ اشْتَرَاهَا فِي ذِمَّتِهِ صَحَّ الشِّرَاءُ وَهِيَ لَهُ، لأَِنَّهُ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ لِغَيْرِهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي شِرَائِهِ فَوَقَعَ لَهُ (1) .
وَإِِِنْ أَذِنَ رَبُّ الْمَال فِي دَفْعِ الْمَال مُضَارَبَةً جَازَ ذَلِكَ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَلاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا وَيَكُونُ الْعَامِل الأَْوَّل وَكَيْلاً لِرَبِّ الْمَال فِي ذَلِكَ، فَإِِِنْ دَفَعَهُ إِِلَى آخَرَ وَلَمْ يَشْرِطْ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ الرِّبْحِ كَانَ صَحِيحًا، وَإِِِنْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ الرِّبْحِ لَمْ يَصِحَّ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِهَتِهِ مَالٌ وَلاَ عَمَلٌ، وَالرِّبْحُ إِِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا (2) .
وَإِِِذَا تَعَدَّى الْمُضَارِبُ وَفَعَل مَا لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَال لأَِنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مَال غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِِذْنِهِ، فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ كَالْغَاصِبِ، وَمَتَى اشْتَرَى مَا لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ فَرَبِحَ فِيهِ فَالرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَال، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُمَا يَتَصَدَّقَانِ بِالرِّبْحِ، قَال الْقَاضِي: قَوْل أَحْمَدَ يَتَصَدَّقَانِ بِالرِّبْحِ عَلَى سَبِيل الْوَرَعِ وَهُوَ لِرَبِّ الْمَال فِي الْقَضَاءِ (3) .
__________
(1) المغني 5 / 47.
(2) المغني 5 / 54.
(3) المرجع نفسه.

(38/61)


الثَّالِثُ: مَا لِلْمُضَارِبِ عَمَلُهُ إِِذَا قِيل لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ وَإِِِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ
35 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِِنَّ الْمُضَارِبَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ مَال الْمُضَارَبَةِ إِِلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً، وَأَنْ يُشَارِكَ غَيْرَهُ فِي مَال الْمُضَارَبَةِ شَرِكَةَ عَنَانٍ، وَأَنْ يَخْلِطَ مَال الْمُضَارَبَةِ بِمَال نَفْسِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِِذَا لَمْ يَقُل لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ.
أَمَّا الْمُضَارَبَةُ: فَلأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ مِثْل الْمُضَارَبَةِ، وَالشَّيْءُ لاَ يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ، فَلاَ يُسْتَفَادُ بِمُطْلَقِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ مِثْلُهُ.
وَأَمَّا الشَّرِكَةُ: فَهِيَ أَوْلَى أَنْ لاَ يَمْلِكَهَا بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، لأَِنَّهَا أَعَمُّ مِنَ الْمُضَارَبَةِ، وَالشَّيْءُ لاَ يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ فَمَا فَوْقَهُ أَوْلَى.
وَأَمَّا الْخَلْطُ فَلأَِنَّهُ يُوجِبُ فِي مَال رَبِّ الْمَال حَقًّا لِغَيْرِهِ فَلاَ يَجُوزُ إِِلاَّ بِإِِِذْنِهِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِِذَا قَال رَبُّ الْمَال لِلْمُضَارِبِ
اعْمَل بِرَأْيِكَ أَوْ تَصَرَّفْ كَيْفَ شِئْتَ فَلَهُ الْبَيْعُ بِالنَّسَاءِ، لأَِنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ لَفْظِهِ، وَقَرِينَةُ حَالِهِ تَدُل عَلَى رِضَائِهِ بِرَأْيِهِ فِي صِفَاتِ الْبَيْعِ وَفِي أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ وَهَذَا مِنْهَا، قَال ابْنُ قُدَامَةَ فَإِِِذَا قُلْنَا: لَهُ الْبَيْعُ نَسَاءً فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ وَمَهْمَا
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 95، وحاشية ابن عابدين 4 / 485.

(38/61)


فَاتَ مِنَ الثَّمَنِ لاَ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ، إِِلاَّ أَنْ يُفَرِّطَ بِبَيْعِ مَنْ لاَ يَوْثُقُ بِهِ أَوْ مَنْ لاَ يَعْرِفُهُ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الثَّمَنِ الَّذِي انْكَسَرَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِِِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ الْبَيْعُ نَسَاءً فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، لأَِنَّهُ فَعَل مَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ مِنَ الأَْجْنَبِيِّ، إِِلاَّ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُول: يَقِفُ بَيْعُ الأَْجْنَبِيِّ عَلَى الإِِِْجَازَةِ فَهَاهُنَا مِثْلُهُ، وَيَحْتَمِل قَوْل الْخِرَقِيِّ صِحَّةَ الْبَيْعِ. وَعَلَى كُل حَالٍ يَلْزَمُ الْعَامِل الضَّمَانُ لأَِنَّ ذَهَابَ الثَّمَنِ حَصَل بِتَفْرِيطِهِ.
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بِأَقَل مِنْ ثَمَنِ الْمِثْل وَلاَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ مِمَّا لاَ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ، فَإِِِنْ فَعَل فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ وَيَضْمَنُ النَّقْصَ لأَِنَّ الضَّرَرَ يَنْجَبِرُ بِضَمَانِ النَّقْصِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالْقِيَاسُ أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ لأَِنَّهُ بَيْعٌ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ فَأَشْبَهَ بَيْعَ الأَْجْنَبِيِّ، وَإِِِنْ تَعَذَّرَ رَدُّ الْمَبِيعِ ضَمِنَ النَّقْصَ أَيْضًا، وَإِِِنْ أَمْكَنَ رَدُّهُ وَجَبَ رَدُّهُ إِِنْ كَانَ بَاقِيًا أَوْ قِيمَتُهُ إِِنْ كَانَ تَالِفًا، وَلِرَبِّ الْمَال مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنَ الْعَامِل وَالْمُشْتَرِي.
وَبَيْعُ الْمُضَارِبِ أَوْ شِرَاؤُهُ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: الأُْولَى: جَوَازُهُ إِِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ وَالرِّبْحُ حَاصِلٌ بِهِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ عَرَضًا بِعَرَضِ وَيَشْتَرِيهِ بِهِ. وَالثَّانِيَةُ: لاَ يَجُوزُ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِِِنْ قُلْنَا لاَ يَمْلِكُ ذَلِكَ فَفَعَلَهُ فَحُكْمُهُ

(38/62)


حُكْمُ مَا لَوِ اشْتَرَى أَوْ بَاعَ بِغَيْرِ ثَمَنِ الْمِثْل، وَإِِِنْ قَال لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ فَلَهُ ذَلِكَ (1) .

الرَّابِعُ: مَا لَيْسَ لِلْمُضَارِبِ عَمَلُهُ أَصْلاً
36 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَامِل شِرَاءُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ (2) لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَتَضَمَّنُ الإِِِْذْنَ بِالتَّصَرُّفِ الَّذِي يَحْصُل بِهِ الرِّبْحُ، وَالرِّبْحُ لاَ يَحْصُل إِِلاَّ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، فَمَا لاَ يُمْلَكُ بِالشِّرَاءِ لاَ يَحْصُل فِيهِ الرِّبْحُ، وَمَا يُمْلَكُ بِالشِّرَاءِ لَكِنْ لاَ يُقْدَرُ عَلَى بَيْعِهِ لاَ يَحْصُل فِيهِ الرِّبْحُ أَيْضًا، فَلاَ يَدْخُل تَحْتَ الإِِِْذْنِ، فَإِِِنِ اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ لاَ لِلْمُضَارَبَةِ، فَإِِِنْ دَفَعَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ يَضْمَنُ (3) .

الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ
37 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الشُّرُوطَ الْفَاسِدَةَ مِنْ حَيْثُ أَثَرِهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ صِحَّةً أَوْ فَسَادًا.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ فِي الْمُضَارَبَةِ إِِذَا كَانَ يُؤَدِّي إِِلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ فَإِِِنَّهُ يُفْسِدُ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ، وَإِِِنْ كَانَ لاَ يُؤَدِّي إِِلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ فَإِِِنَّهُ يَبْطُل، وَتَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
__________
(1) المغني 5 / 40 - 43.
(2) بدائع الصنائع 6 / 98، وروضة الطالبين 5 / 147، والمغني 5 / 51.
(3) بدائع الصنائع 6 / 98.

(38/62)


قَال الْكَاسَانِيُّ: الأَْصْل فِي الشَّرْطِ الْفَاسِدِ إِِذَا دَخَل هَذَا الْعَقْدَ أَنَّهُ إِِنْ كَانَ يُؤَدِّي إِِلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ، لأَِنَّ الرِّبْحَ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ، وَإِِِنْ كَانَ لاَ يُؤَدِّي إِِلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ يَبْطُل الشَّرْطُ وَتَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ، لأَِنَّ هَذَا عَقْدٌ تَقِفُ صِحَّتُهُ عَلَى الْقَبْضِ، فَلاَ يُفْسِدُهُ الشَّرْطُ الزَّائِدُ الَّذِي لاَ يَرْجِعُ إِِلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ، وَلأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ وَكَالَةٌ وَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ لاَ يَعْمَل فِي الْوَكَالَةِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ مِثْل أَنْ يَشْتَرِطَ لُزُومَ الْمُضَارَبَةِ، أَوْ لاَ يَعْزِلَهُ مُدَّةً بِعَيْنِهَا، أَوْ لاَ يَبِيعَ إِِلاَّ مِمَّنِ اشْتَرَى مِنْهُ أَوْ بِرَأْسِ الْمَال أَوْ أَقَل، فَهَذِهِ شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ لأَِنَّهَا تُنَافِي الْمَقْصُودَ مِنَ الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ الرِّبْحُ، أَوْ تَمْنَعُ الْفَسْخَ الْجَائِزَ بِحُكْمِ الأَْصْل.
الثَّانِي: مَا يَعُودُ إِِلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ مِثْل أَنْ يَشْتَرِطَ لِلْمُضَارِبِ جُزْءًا مِنَ الرِّبْحِ مَجْهُولاً، أَوْ رِبْحَ أَحَدِ الأَْلْفَيْنِ أَوْ إِِحْدَى السَّفْرَتَيْنِ، فَهَذِهِ شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ لأَِنَّهَا تُفْضِي إِِلَى جَهْل حَقِّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الرِّبْحِ أَوْ إِِلَى فَوَاتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمِنْ شَرْطِ الْمُضَارَبَةِ كَوْنُ الرِّبْحِ مَعْلُومًا.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 86.

(38/63)


الثَّالِثُ: اشْتِرَاطُ مَا لَيْسَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْعَقْدِ لاَ مُقْتَضَاهُ، مِثْل أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْمُضَارِبِ ضَمَانَ الْمَال أَوْ سَهْمًا مِنَ الْوَضِيعَةِ أَوْ أَنْ يُضَارِبَ لَهُ فِي مَالٍ آخَرَ، فَهَذِهِ شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ.
وَمَتَى اشْتَرَطَ شَرْطًا فَاسِدًا يَعُودُ إِِلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ، لأَِنَّ الْفَسَادَ لِمَعْنَى فِي الْعِوَضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَأَفْسَدَ الْعَقْدَ، وَلأَِنَّ الْجَهَالَةَ تَمْنَعُ مِنَ التَّسْلِيمِ فَتُفْضِي إِِلَى التَّنَازُعِ وَالاِخْتِلاَفِ، وَلاَ يَعْلَمُ مَا يَدْفَعُهُ إِِلَى الْمُضَارِبِ.
وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ، لأَِنَّهُ عَقْدٌ يَصِحُّ عَلَى مَجْهُولٍ فَلَمْ تُبْطِلْهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ كَالنِّكَاحِ وَالْعَتَاقِ وَالطَّلاَقِ.
وَنَقَل الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهَا تُفْسِدُ الْعَقْدَ، لأَِنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَأَفْسَدَ الْعَقْدَ (1) .
وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ بَعْضَ الأَْمْثِلَةِ لِلشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ.

أ - شَرْطُ اشْتِرَاكِ الْمَالِكِ فِي الْعَمَل:
38 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ حَامِدٍ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِِلَى أَنَّ شَرْطَ عَمَل رَبِّ الْمَال فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ يُفْسِدُهَا، لأَِنَّ الْمَال أَمَانَةٌ فَلاَ يَتِمُّ إِِلاَّ بَعْدَ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَال إِِلَى
__________
(1) المغني 5 / 70 - 71.

(38/63)


الْمُضَارِبِ كَالْوَدِيعَةِ، وَإِِِذَا شَرَطَ عَمَل رَبِّ الْمَال مَعَهُ لاَ يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ، لأَِنَّ يَدَهُ تَبْقَى عَلَى الْمَحِل، فَيَمْنَعُ مِنْ تَمَامِ التَّسْلِيمِ (1) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ مَالاً لِيَعْمَل فِيهِ هُوَ وَآخَرُ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا صَحَّ (2) .

ب - شَرْطُ قَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الرِّبْحِ:
39 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّ اشْتِرَاطَ عَدَدِ مِقْدَارٍ مِنَ الرِّبْحِ لِلْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا يُفْسِدُ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ فَإِِِنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ لأَِحَدِهِمَا مِائَةُ دِرْهَمٍ مِنَ الرِّبْحِ أَوْ أَقَل أَوْ أَكْثَرُ وَالْبَاقِي لِلآْخَرِ لاَ يَجُوزُ وَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ، لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ نَوْعٌ مِنَ الشَّرِكَةِ، وَهِيَ الشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ، وَهَذَا شَرْطٌ يُوجِبُ قَطْعَ الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ، لِجَوَازِ أَنْ لاَ يَرْبَحَ الْمُضَارِبُ إِِلاَّ هَذَا الْقَدْرَ الْمَذْكُورَ فَيَكُونُ ذَلِكَ لأَِحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ، فَلاَ تَتَحَقَّقُ الشَّرِكَةُ، فَلاَ يَكُونُ التَّصَرُّفُ مُضَارَبَةً (3) .

ج - اشْتِرَاطُ ضَمَانِ الْمُضَارِبِ عِنْدَ التَّلَفِ
40 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ
__________
(1) حاشية الشلبي بهامش تبيين الحقائق 5 / 56، والشرح الصغير 3 / 609، وروضة الطالبين 5 / 118، ومغني المحتاج 2 / 309 - 310.
(2) الإنصاف 5 / 432.
(3) بدائع الصنائع 6 / 85 - 86، والشرح الصغير 3 / 682، وروضة الطالبين 5 / 123، ومغني المحتاج 2 / 313، والمغني 5 / 38.

(38/64)


رَبُّ الْمَال عَلَى الْعَامِل ضَمَانَ رَأْسِ الْمَال إِِذَا تَلِفَ أَوْ ضَاعَ بِلاَ تَفْرِيطٍ مِنْهُ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا (1) .
وَهَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْعَامِل أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ، فَإِِِنْ تَلِفَ الْمَال فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ لَمْ يَضْمَنْ، فَاشْتِرَاطُ ضَمَانِ الْمُضَارِبِ يَتَنَافَى مَعَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ (2) .

تَوْقِيتُ الْمُضَارَبَةِ أَوْ تَعْلِيقُهَا
41 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوْقِيتِ الْمُضَارَبَةِ أَوْ تَعْلِيقُهَا:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ تَوْقِيتُ الْمُضَارَبَةِ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، فَلَوْ قَال رَبُّ الْمَال لِلْمُضَارِبِ: ضَارَبْتُكَ عَلَى هَذِهِ الدَّرَاهِمِ أَوِ الدَّنَانِيرِ سَنَةً جَازَ، لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَصَرُّفٌ يَتَقَيَّدُ بِنَوْعِ مِنَ الْمَتَاعِ فَجَازَ تَقْيِيدُهُ بِالْوَقْتِ، وَلأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَوْكِيلٌ وَهُوَ يَحْتَمِل التَّخْصِيصَ بِوَقْتِ دُونَ وَقْتٍ.
وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ قَال رَبُّ الْمَال لِلْعَامِل: ضَارِبْ بِهَذَا الْمَال شَهْرًا، وَمَتَى مَضَى الأَْجَل فَهُوَ قَرْضٌ صَحَّ ذَلِكَ، فَإِِِنْ مَضَى الأَْجَل وَالْمَال
__________
(1) الفتاوى الأنقروية 2 / 232، والشرح الصغير 6 / 687، والكافي لابن عبد البر 2 / 112 ط. مطبعة حسان.
(2) المهذب 1 / 395، وكشاف القناع 3 / 522.

(38/64)


نَاضٌّ صَارَ قَرْضًا، وَإِِِنْ مَضَى وَهُوَ مَتَاعٌ فَعَلَى الْعَامِل تَنْضِيضُهُ، فَإِِِذَا بَاعَهُ وَنَضَّضَهُ صَارَ قَرْضًا لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِرَبِّ الْمَال فِيهِ غَرَضٌ.
وَقَالُوا: يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْمُضَارَبَةِ وَلَوْ عَلَى شَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ كَإِِِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَضَارِبْ بِهَذَا عَلَى كَذَا، لأَِنَّهُ إِِذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ، فَجَازَ تَعْلِيقُهُ كَالْوَكَالَةِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَوْقِيتُ الْمُضَارَبَةِ أَوْ تَعْلِيقُهَا، فَلَوْ أَجَّل الْعَمَل فِيهَا ابْتِدَاءً أَوِ انْتِهَاءً، كَاعْمَل فِيهَا سَنَةً مِنَ الآْنِ، أَوْ إِِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الْفُلاَنِيُّ فَاعْمَل فِيهَا، فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّحْجِيرِ الْمُنَافِي لِسُنَّةِ الْمُضَارَبَةِ، وَلأَِنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ يُبْطِل بِالْجَهَالَةِ فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَلإِِِِخْلاَل التَّوْقِيتِ بِمَقْصُودِ الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ الرِّبْحُ، فَقَدْ لاَ يَتَحَقَّقُ الرِّبْحُ فِي الْمُدَّةِ الْمُؤَقَّتَةِ (2) .

تَصَرُّفَاتُ رَبِّ الْمَال:
فَصَّل الْفُقَهَاءُ الْقَوْل فِيمَا لِرَبِّ الْمَال أَنْ يَعْمَلَهُ وَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ مِنْهَا:
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 99، والاختيار 3 / 21، وكشاف القناع 3 / 512، والإنصاف 5 / 430.
(2) الشرح الصغير 3 / 687، والمهذب 1 / 393، ومغني المحتاج 2 / 312.

(38/65)


أ - مُعَامَلَةُ الْمُضَارِبِ الْمَالِكَ بِمَال الْمُضَارَبَةِ
42 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُعَامَلَةِ الْمُضَارِبِ الْمَالِكَ بِمَال الْمُضَارَبَةِ. فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مَا نُقِل عَنْ أَحْمَدَ: يَجُوزُ شِرَاءُ رَبِّ الْمَال مِنَ الْمُضَارِبِ وَشِرَاءُ الْمُضَارِبِ مِنْ رَبِّ الْمَال وَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ، لأَِنَّ لِرَبِّ الْمَال فِي مَال الْمُضَارَبَةِ مِلْكَ رَقَبَةٍ لاَ مِلْكَ تَصَرُّفٍ، وَمِلْكُهُ فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ كَمِلْكِ الأَْجْنَبِيِّ، وَلِلْمُضَارِبِ فِيهِ مِلْكُ التَّصَرُّفِ لاَ الرِّقْبَةِ، فَكَانَ فِي حَقِّ مِلْكِ الرِّقْبَةِ كَمِلْكِ الأَْجْنَبِيِّ حَتَّى لاَ يَمْلِكَ رَبُّ الْمَال مَنْعَهُ عَنِ التَّصَرُّفِ، فَكَانَ مَال الْمُضَارَبَةِ فِي حَقِّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَال الأَْجْنَبِيِّ لِذَلِكَ جَازَ الشِّرَاءُ بَيْنَهُمَا.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ جَوَازَ شِرَاءِ رَبِّ الْمَال مِنَ الْعَامِل شَيْئًا مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ بِصِحَّةِ الْقَصْدِ، بِأَنْ لاَ يَتَوَصَّل إِِلَى أَخْذِ شَيْءٍ مِنَ الرِّبْحِ قَبْل الْمُفَاصَلَةِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ كَمَا يَشْتَرِي مِنَ النَّاسِ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ، قَال الْبَاجِيُّ: وَسَوَاءٌ اشْتَرَاهُ بِنَقْدِ أَوْ بِأَجَل، وَقَال الدُّسُوقِيُّ: وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَقْدِ وَإِِِلاَّ مُنِعَ.
وَقَالُوا: يَجُوزُ شِرَاءُ الْعَامِل مِنْ رَبِّ الْمَال سِلَعًا لِنَفْسِهِ لاَ لِتِجَارَةِ الْمُضَارَبَةِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَزُفَرُ: لاَ يُعَامِل الْمُضَارِبُ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 101، وحاشية الدسوقي 3 / 526، 528، والتاج والإكليل 5 / 365، والإنصاف 5 / 438 - 439.

(38/65)


الْمَالِكَ بِمَال الْمُضَارَبَةِ، أَيْ لاَ يَبِيعُهُ إِِيَّاهُ، لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِِلَى بَيْعِ مَالِهِ بِمَالِهِ، بِخِلاَفِ مَا لَوِ اشْتَرَى لَهُ مِنْهُ بِعَيْنِ أَوْ دَيْنٍ فَلاَ يَمْتَنِعُ لِكَوْنِهِ مُتَضَمِّنًا فَسْخَ الْمُضَارَبَةِ، وَلِهَذَا لَوِ اشْتَرَى ذَلِكَ مِنْهُ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْمُضَارَبَةِ بَطَل فِيمَا يَظْهَرُ، قَالَهُ الشَّمْسُ الرَّمْلِيُّ، وَلاَ فَرْقَ فِي مَنْعِ بَيْعِ مَال الْمُضَارَبَةِ لِلْمَالِكِ بَيْنَ أَنْ يَظْهَرَ فِي الْمَال رِبْحٌ أَوْ لاَ.
وَيَجُوزُ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يُعَامِل رَبَّ الْمَال بِغَيْرِ مَال الْمُضَارَبَةِ.
وَلَوْ كَانَ لِرَبِّ الْمَال عَامِلاَنِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدٌ بِمَال فَالأَْصَحُّ الْمُعْتَمَدُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِحَدِهِمَا الشِّرَاءُ مِنَ الآْخَرِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَيْسَ لِلْمُضَارِبِ الشِّرَاءُ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ إِِنْ ظَهَرَ فِي الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ لأَِنَّهُ شَرِيكٌ لِرَبِّ الْمَال فِيهِ، وَإِِِلاَّ بِأَنْ لَمْ يَظْهَرْ رِبْحٌ صَحَّ - قَال الْمِرْدَاوِيُّ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ - كَشِرَاءِ الْوَكِيل مِنْ مُوَكِّلِهِ، فَيَشْتَرِي مِنْ رَبِّ الْمَال أَوْ مِنْ نَفْسِهِ بِإِِِذْنِ رَبِّ الْمَال.
وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَال أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ - قَال الْمِرْدَاوِيُّ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ - لأَِنَّ مَال الْمُضَارَبَةِ مِلْكُهُ، وَكَشِرَاءِ الْمُوَكِّل مِنْ وَكِيلِهِ.
وَنَقَل الْمِرْدَاوِيُّ عَنِ الرِّعَايَتَيْنِ وَالْحَاوِي
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 316، ونهاية المحتاج 5 / 231، وبدائع الصنائع 6 / 101.

(38/66)


الصَّغِيرِ: لاَ يَشْتَرِي الْمَالِكُ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ شَيْئًا عَلَى الأَْصَحِّ (1) .

ب - الْمُرَابَحَةُ فِي الْمُضَارَبَةِ
43 - قَال الْحَنَفِيَّةُ الأَْصْل الْفِقْهِيُّ فِي ذَلِكَ: أَنَّ كُل مَا يُوجِبُ زِيَادَةً فِي الْعَيْنِ - حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا - فَهُوَ بِمَعْنَى رَأْسِ الْمَال، وَيُضَمُّ إِِلَيْهِ، وَكُل مَا لاَ يُوجِبُ زِيَادَةً فِي الْعَيْنِ - حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا - فَهُوَ لَيْسَ بِمَعْنَى رَأْسِ الْمَال، وَلاَ يُضَمُّ إِِلَيْهِ، وَإِِِذَا وَجَبَ الضَّمُّ يَقُول الْمُضَارِبُ عِنْدَ بَيْعِهِ مُرَابَحَةً: قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا، تَحَرُّزًا عَنِ الْكَذِبِ (2) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: تَجُوزُ الْمُرَابَحَةُ بَيْنَ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ، بِأَنْ يَشْتَرِيَ رَبُّ الْمَال مِنْ مُضَارِبِهِ فَيَبِيعَهُ مُرَابَحَةً أَوْ يَشْتَرِي الْمُضَارِبُ مِنْ رَبِّ الْمَال فَيَبِيعَهُ مُرَابَحَةً، لَكِنْ يَبِيعُهُ عَلَى أَقَل الثَّمَنَيْنِ، إِِلاَّ إِِذَا بَيَّنَ الأَْمْرَ عَلَى وَجْهِهِ فَيَبِيعَهُ كَيْفَ شَاءَ، وَإِِِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لأَِنَّ جَوَازَ شِرَاءِ رَبِّ الْمَال مِنَ الْمُضَارِبِ وَالْمُضَارِبِ مِنْ رَبِّ الْمَال ثَبَتَ مَعْدُولاً بِهِ عَنِ الْقِيَاسِ، لأَِنَّ رَبَّ الْمَال اشْتَرَى مَال نَفْسِهِ بِمَال نَفْسِهِ، وَالْمُضَارِبُ يَبِيعُ مَال رَبِّ الْمَال مِنْ رَبِّ الْمَال إِِذِ الْمَالاَنِ لَهُ، وَالْقِيَاسُ يَأْبَى ذَلِكَ، إِِلاَّ أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُضَارِبِ بِالْمَال وَهُوَ مِلْكُ التَّصَرُّفِ، فَجُعِل ذَلِكَ بَيْعًا فِي
__________
(1) كشاف القناع 3 / 415، 516، والإنصاف 5 / 438، 439.
(2) الفتاوى الهندية 4 / 301.

(38/66)


حَقِّهِمَا لاَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، بَل جُعِل فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا مُلْحَقًا بِالْعَدِمِ، وَلأَِنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ يُجْرِيهِ الْبَائِعُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ فَتَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنِ الْجِنَايَةِ وَعَنْ شُبْهَةِ الْجِنَايَةِ مَا أَمْكَنَ، وَقَدْ تَمَكَّنَتِ التُّهْمَةُ فِي الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا، لِجَوَازِ أَنَّ رَبَّ الْمَال بَاعَهُ مِنَ الْمُضَارِبِ بِأَكْثَرِ مِنْ قِيمَتِهِ وَرَضِيَ بِهِ الْمُضَارِبُ، لأَِنَّ الْجُودَ بِمَال الْغَيْرِ أَمْرٌ سَهْلٌ، فَكَانَتْ تُهْمَةُ الْجِنَايَةِ ثَابِتَةٌ، وَالتُّهْمَةُ فِي هَذَا الْبَابِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ، فَلاَ يَبِيعُ مُرَابَحَةً إِِلاَّ عَلَى أَقَل الثَّمَنَيْنِ إِِلاَّ إِِذَا بَيَّنَ الأَْمْرَ عَلَى وَجْهِهِ فَيَبِيعَهُ كَيْفَ شَاءَ، لأَِنَّ الْمَانِعَ هُوَ التُّهْمَةُ وَقَدْ زَالَتْ (1) .

ج - الشُّفْعَةُ فِي الْمُضَارَبَةِ
44 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّ الْمُضَارِبَ لَوِ اشْتَرَى دَارًا وَرَبُّ الْمَال شَفِيعُهَا بِدَارٍ أُخْرَى بِجَنْبِهَا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ، لأَِنَّ الْمُشْتَرَى وَإِِِنْ كَانَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَكِنَّهُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ، بِدَلِيل أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ انْتِزَاعَهُ مِنْ يَدِ الْمُضَارِبِ، وَلِهَذَا جَازَ شِرَاؤُهُ مِنَ الْمُضَارِبِ.
وَلَوْ بَاعَ الْمُضَارِبُ دَارًا مِنَ الْمُضَارَبَةِ وَرَبُّ الْمَال شَفِيعُهَا فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الدَّارِ الْمَبِيعَةِ رِبْحٌ وَقْتَ الْبَيْعِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، أَمَّا إِِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا رِبْحٌ فَلأَِنَّ الْمُضَارِبَ وَكِيلُهُ بِالْبَيْعِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 102، وانظر الدر المختار ورد المحتار 4 / 491.

(38/67)


وَالْوَكِيل بِبَيْعِ الدَّارِ إِِذَا بَاعَ لاَ يَكُونُ لِلْمُوَكِّل الأَْخَذُ بِالشُّفْعَةِ، وَإِِِنْ كَانَ فِيهَا رِبْحٌ: فَأَمَّا حِصَّةُ رَبِّ الْمَال فَكَذَلِكَ هُوَ وَكَيْل بَيْعِهَا، وَأَمَّا حِصَّةُ الْمُضَارِبِ فَلأَِنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ فِيهَا الشُّفْعَةُ لَتَفَرَّقَتِ الصَّفْقَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلأَِنَّ الرِّبْحَ تَابِعٌ لِرَأْسِ الْمَال، فَإِِِذَا لَمْ تَجِبِ الشُّفْعَةُ فِي الْمَتْبُوعِ لاَ تَجِبُ فِي التَّابِعِ.
وَلَوْ بَاعَ رَبُّ الْمَال دَارًا لِنَفْسِهِ وَالْمُضَارِبُ شَفِيعُهَا بِدَارٍ أُخْرَى مِنَ الْمُضَارَبَةِ: فَإِِِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ وَفَاءٌ بِثَمَنِ الدَّارِ لَمْ تَجِبِ الشُّفْعَةُ، لأَِنَّهُ لَوْ أَخَذَ بِالشُّفْعَةِ لَوَقَعَ لِرَبِّ الْمَال وَالشُّفْعَةُ لاَ تَجِبُ لِبَائِعِ الدَّارِ، وَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ وَفَاءٌ: فَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ رِبْحٌ فَلاَ شُفْعَةَ، لأَِنَّهُ أَخَذَهَا لِرَبِّ الْمَال، وَإِِِنْ كَانَ فِيهَا رِبْحٌ فَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ بِالشُّفْعَةِ، لأَِنَّ لَهُ نَصِيبًا فِي ذَلِكَ فَجَازَ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ.
وَلَوْ أَنَّ أَجْنَبِيًّا اشْتَرَى دَارًا إِِلَى جَانِبِ دَارِ الْمُضَارَبَةِ: فَإِِِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ وَفَاءٌ بِالثَّمَنِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ لِلْمُضَارَبَةِ، وَإِِِنْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ بَطَلَتْ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَال أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ، لأَِنَّ الشُّفْعَةَ وَجَبَتْ لِلْمُضَارَبَةِ وَمِلْكُ التَّصَرُّفِ فِي الْمُضَارَبَةِ لِلْمُضَارِبِ، فَإِِِذَا سَلَّمَ جَازَ تَسْلِيمُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى رَبِّ الْمَال.
وَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ وَفَاءٌ: فَإِِِنْ كَانَ فِي

(38/67)


الدَّارِ رِبْحٌ فَالشُّفْعَةُ لِلْمُضَارِبِ وَلِرَبِّ الْمَال جَمِيعًا، فَإِِِنْ سَلَّمَ أَحَدُهُمَا فَلِلآْخَرِ أَنْ يَأْخُذَهَا جَمِيعًا لِنَفْسِهِ بِالشُّفْعَةِ، وَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ رِبْحٌ فَالشُّفْعَةُ لِرَبِّ الْمَال خَاصَّةً، لأَِنَّهُ لاَ نَصِيبَ لِلْمُضَارِبِ فِيهِ (1) .
وَقَال الْمِرْدَاوِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لَوِ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ شِقْصًا لِلْمُضَارَبَةِ وَلَهُ فِيهِ شَرِكَةٌ فَهَل لَهُ الأَْخَذُ بِالشُّفْعَةِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْمُغْنِي وَالشَّارِحُ: إِِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَال رِبْحٌ، أَوْ كَانَ وَقُلْنَا: لاَ يَمْلِكُهُ بِالظُّهُورِ، فَلَهُ الأَْخَذُ بِالشُّفْعَةِ مِنْهُ وَإِِِنْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ وَقُلْنَا: يَمْلِكُهُ بِالظُّهُورِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى شِرَاءِ الْمُضَارِبِ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ بَعْدَ مِلْكِهِ مِنَ الرِّبْحِ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: مَا قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَمَنْ تَابَعَهُ، وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ يَمْلِكُ الأَْخَذَ بِالشُّفْعَةِ، وَاخْتَارَهُ فِي رُءُوسِ الْمَسَائِل.
وَالثَّانِي: لَهُ الأَْخَذُ، وَخَرَّجَهُ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ فِي حِصَّتِهِ، فَإِِِنَّهُ يَصِيرُ حِينَئِذٍ شَرِيكًا يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ وَلِشَرِيكِهِ، وَمَعَ تَصَرُّفِهِ لِنَفْسِهِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 101.

(38/68)


تَزُول التُّهْمَةُ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَسْأَلَةُ مُقَيَّدَةٌ بِحَالَةِ ظُهُورِ الرِّبْحِ وَلاَ بُدَّ (1) .

د - تَعَدُّدُ الْمُضَارِبِ أَوْ رَبِّ الْمَال
45 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِرَبِّ الْمَال أَنْ يُضَارِبَ أَكْثَرَ مِنْ عَامِلٍ عَلَى حِدَةٍ، بِأَنْ يُسَلِّمَ إِِلَى كُلٍّ مِنْهُمْ مَالاً يَتَصَرَّفُ فِيهِ وَحْدَهُ دُونَ أَنْ يُشْرِكَ مَعَهُ غَيْرَهُ فِي هَذَا الْمَال.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُضَارِبَ رَبُّ الْمَال أَكْثَرَ مِنْ عَامِلٍ مُجْتَمِعِينَ، بِأَنْ يُسَلِّمَ إِِلَيْهِمْ مَالاً مُعَيَّنًا يَشْتَرِكُونَ فِي تَحْرِيكِهِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ بِمَا يُنَاسَبُ الْمُضَارَبَةَ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّدَ فِي الْمُضَارَبَةِ الْوَاحِدَةِ رَبُّ الْمَال، بِأَنْ يُضَارِبَ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ أَرْبَابِ الْمَال عَامِلاً وَاحِدًا، وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ذَلِكَ بِأَنْ لاَ يَكُونَ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ لِرَبِّ الْمَال الَّذِي سَبَقَ فِي الْمُضَارَبَةِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّ نَصِيبَ كُل عَامِلٍ مِنَ الرِّبْحِ فِي حَال تَعَدُّدِ الْعُمَّال، يَكُونُ بِحَسَبِ الشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ: إِِنَّ الرِّبْحَ يَكُونُ بِحَسَبِ الْعَمَل (2) .
__________
(1) الإنصاف 5 / 446 - 447.
(2) بدائع الصنائع 6 / 90، 100، والفتاوى الهندية 4 / 296، والخرشي 6 / 217، ومغني المحتاج 2 / 315، والمغني 5 / 35 - 36.

(38/68)


وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ صُورَةً ثَالِثَةً: وَهِيَ تَعَدُّدُ طَرَفَيْ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، كَأَنْ يُضَارِبَ رَجُلاَنِ بِمَالِهِمَا رَجُلَيْنِ (1) .

يَدُ الْمُضَارِبِ
46 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّ يَدَ الْمُضَارِبِ عَلَى رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ يَدُ أَمَانَةٍ، فَلاَ يَضْمَنُ الْمُضَارِبُ إِِذَا تَلِفَ الْمَال أَوْ هَلَكَ إِِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّفْرِيطِ. كَالْوَكِيل (2) .
قَال الْمُوصِلِيُّ: إِِذَا سُلِّمَ رَأْسُ الْمَال إِِلَى الْمُضَارِبِ فَهُوَ أَمَانَةٌ لأَِنَّهُ قَبَضَهُ بِإِِِذْنِ الْمَالِكِ، فَإِِِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ فَهُوَ وَكِيلٌ فِيهِ، لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَال الْغَيْرِ بِأَمْرِهِ، فَإِِِذَا ظَهَرَ فِي الْمَال رِبْحٌ صَارَ شَرِيكًا فِيهِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ، لأَِنَّهُ مَلَكَ الْجُزْءَ الْمَشْرُوطَ لَهُ مِنَ الرِّبْحِ بِعَمَلِهِ، وَقَال الْكَاسَانِيُّ: فَإِِِذَا خَالَفَ الْمُضَارِبُ شَرْطَ رَبِّ الْمَال صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ، وَيَصِيرُ الْمَال مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَيَصِيرُ الرِّبْحُ كُلُّهُ لَهُ، لأَِنَّ الرِّبْحَ بِالضَّمَانِ، لَكِنَّهُ لاَ يَطِيبُ لَهُ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمِّدٍ، وَيَطِيبُ لَهُ فِي قَوْل أَبِي يُوسُفَ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوِ اشْتَرَطَ رَبُّ الْمَال عَلَى
__________
(1) المضاربة لأبي الحسن الماوردي ص 278.
(2) بدائع الصنائع 6 / 87، وحاشية الدسوقي 3 / 523، والمهذب 1 / 395، والمغني 5 / 54.
(3) الاختيار 3 / 19 - 20، والدر المختار ورد المحتار 4 / 486، وبدائع الصنائع 6 / 87.

(38/69)


الْعَامِل أَنْ لاَ يَنْزِل وَادِيًا، أَوْ لاَ يَمْشِيَ بِالْمَال لَيْلاً، أَوْ لاَ يَنْزِل بِبَحْرٍ، أَوْ لاَ يَبْتَاعَ بِهِ سِلْعَةً عَيَّنَهَا لَهُ لِغَرَضِ فَيَجُوزُ، وَضَمِنَ الْعَامِل إِِنْ خَالَفَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَتَلِفَ الْمَال أَوْ بَعْضُهُ زَمَنَ الْمُخَالِفَةِ، وَأَمَّا لَوْ تَجَرَّأَ وَاقْتَحَمَ النَّهْيَ وَسَلَّمَ، ثُمَّ حَصَل تَلَفٌ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الأَْمْرِ الَّذِي خَالَفَ فِيهِ فَلاَ ضَمَانَ، وَكَذَا لَوْ خَالَفَ اضْطِرَارًا بِأَنْ مَشَى فِي الْوَادِي الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ أَوْ سَافَرَ بِاللَّيْل أَوْ فِي الْبَحْرِ اضْطِرَارًا لِعَدَمِ الْمَنْدُوحَةِ فَلاَ ضَمَانَ وَلَوْ حَصَل تَلَفٌ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِِذَا تَعَدَّى الْمُضَارِبُ وَفَعَل مَا لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ أَوِ اشْتَرَى شَيْئًا نُهِيَ عَنْ شِرَائِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَال فِي قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، لأَِنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مَال غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِِذْنِهِ فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ كَالْغَاصِبِ (2) .

آثَارُ الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ
مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُضَارِبُ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ
يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ بِعَمَلِهِ فِي مَال الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ شَيْئَيْنِ: النَّفَقَةُ وَالرِّبْحُ الْمُسَمَّى (3) .
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 694.
(2) المغني 5 / 48.
(3) بدائع الصنائع 6 / 105.

(38/69)


أَوَّلاً: نَفَقَةُ الْمُضَارِبِ
47 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَفَقَةِ الْمُضَارَبَةِ:
قَال الْكَاسَانِيُّ: يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ النَّفَقَةَ بِعَمَلِهِ فِي مَال الْمُضَارَبَةِ عَلَى سَبِيل الْوُجُوبِ، لأَِنَّ الرِّبْحَ فِي الْمُضَارَبَةِ يَحْتَمِل الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، وَالْعَاقِل لاَ يُسَافِرُ بِمَال غَيْرِهِ لِفَائِدَةٍ تَحْتَمِل الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ مَعَ تَعْجِيل النَّفَقَةِ مِنْ مَال نَفْسِهِ، فَلَوْ لَمْ تُجْعَل نَفَقَتُهُ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ لاَمْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ قَبُول الْمُضَارَبَاتِ مَعَ مِسَاسِ الْحَاجَةِ إِِلَيْهَا، فَكَانَ إِِقْدَامُ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَال عَلَى هَذَا الْعَقْدِ - وَالْحَال مَا ذَكَرَ - إِِذْنًا مِنْ رَبِّ الْمَال لِلْمُضَارِبِ بِالإِِِْنْفَاقِ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ، فَكَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الإِِِْنْفَاقِ دَلاَلَةً، فَصَارَ كَمَا لَوْ أُذِنَ لَهُ بِهِ نَصًّا، وَلأَِنَّهُ يُسَافِرُ لأَِجْل الْمَال لاَ عَلَى سَبِيل التَّبَرُّعِ وَلاَ بِبَدَل وَاجِبٍ لَهُ لاَ مَحَالَةَ فَتَكُونَ نَفَقَتُهُ فِي الْمَال.
وَشَرْطُ الْوُجُوبِ خُرُوجُ الْمُضَارِبِ بِالْمَال مِنَ الْمِصْرِ الَّذِي أَخَذَ الْمَال مِنْهُ مُضَارَبَةً، سَوَاءٌ كَانَ مِصْرَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَمَا دَامَ يَعْمَل بِهِ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ فَإِِِنَّ نَفَقَتَهُ فِي مَال نَفْسِهِ لاَ فِي مَال الْمُضَارَبَةِ، وَإِِِنْ أَنْفَقَ مِنْهُ شَيْئًا ضَمِنَ، لأَِنَّ دَلاَلَةَ الإِِِْذْنِ لاَ تَثْبُتُ فِي الْمِصْرِ، وَكَذَا إِِقَامَتُهُ فِي الْحَضَرِ لاَ تَكُونُ لأَِجْل الْمَال، لأَِنَّهُ كَانَ مُقِيمًا قَبْل ذَلِكَ، فَلاَ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ ذَلِكَ

(38/70)


الْمِصْرِ، سَوَاءٌ كَانَ خُرُوجُهُ بِالْمَال مُدَّةَ سَفَرٍ أَوْ أَقَل مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى لَوْ خَرَجَ مِنَ الْمِصْرِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ لِوُجُودِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمِصْرِ لأَِجْل الْمَال، وَإِِِذَا انْتَهَى إِِلَى الْمِصْرِ الَّذِي قَصَدَهُ، فَإِِِنْ كَانَ ذَلِكَ مِصْرَ نَفْسِهِ أَوْ كَانَ لَهُ فِي هَذَا الْمِصْرِ أَهْلٌ سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ حَيْنَ دَخَل، لأَِنَّهُ يَصِيرُ مُقِيمًا بِدُخُولِهِ فِيهِ لاَ لأَِجْل الْمَال، وَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِصْرَهُ وَلاَ لَهُ فِيهِ أَهْلٌ، لَكِنَّهُ أَقَامَ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لاَ تَسْقُطُ نَفَقَتُهُ مَا أَقَامَ فِيهِ، وَإِِِنْ نَوَى الإِِِْقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا، مَا لَمْ يَتَّخِذْ ذَلِكَ الْمِصْرَ الَّذِي هُوَ فِيهِ دَارَ إِِقَامَةٍ لأَِنَّهُ إِِذَا لَمْ يَتَّخِذْهُ دَارَ إِِقَامَةٍ كَانَتْ إِِقَامَتُهُ فِيهِ لأَِجْل الْمَال، وَإِِِنِ اتَّخَذَهُ وَطَنًا كَانَتْ إِِقَامَتُهُ لِلْوَطَنِ لاَ لِلْمَال فَصَارَ كَالْوَطَنِ الأَْصْلِيِّ، وَلَوْ خَرَجَ مِنَ الْمِصْرِ الَّذِي دَخَلَهُ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِنِيَّةِ الْعَوْدِ إِِلَى الْمِصْرِ الَّذِي أَخَذَ الْمَال فِيهِ مُضَارَبَةً فَإِِِنَّ نَفَقَتَهُ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ حَتَّى يَدْخُلَهُ، فَإِِِذَا دَخَلَهُ: فَإِِِنْ كَانَ ذَلِكَ مِصْرَهُ أَوْ كَانَ لَهُ فِيهِ أَهْلٌ سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ، وَإِِِلاَّ فَلاَ.
وَكُل مَنْ كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ مِمَّنْ يُعِينُهُ عَلَى الْعَمَل فَنَفَقَتُهُ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ، كَأَجِيرٍ يَخْدُمُهُ أَوْ يَخْدُمُ دَابَّتَهُ، لأَِنَّ نَفَقَتَهُمْ كَنَفَقَةِ نَفْسِهِ، لأَِنَّهُ لاَ يَتَهَيَّأُ لِلسَّفَرِ إِِلاَّ بِهِمْ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 105 - 106.

(38/70)


وَكُل مَا فِيهِ النَّفَقَةُ فَالنَّفَقَةُ فِي مَال الْمُضَارَبَةِ، وَلِلْعَامِل أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَال نَفْسِهِ مَا لَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَيَكُونُ دَيْنًا فِي الْمُضَارَبَةِ، حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا، لأَِنَّ الإِِِْنْفَاقَ مِنَ الْمَال وَتَدْبِيرِهِ إِِلَيْهِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِهِ وَيَرْجِعَ بِهِ عَلَى مَال الْمُضَارَبَةِ، لَكِنْ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْمَال، حَتَّى لَوْ هَلَكَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى رَبِّ الْمَال بِشَيْءِ - كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - لأَِنَّ نَفَقَةَ الْمُضَارِبِ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ، فَإِِِذَا هَلَكَ هَلَكَ بِمَا فِيهِ، كَالدَّيْنِ يَسْقُطُ بِهَلاَكِ الرَّهْنِ، وَالزَّكَاةُ تَسْقُطُ بِهَلاَكِ النِّصَابِ.
وَتُحْتَسَبُ النَّفَقَةُ مِنَ الرِّبْحِ أَوَّلاً إِِنْ كَانَ فِي الْمَال رِبْحٌ، فَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ فَهِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَال، لأَِنَّ النَّفَقَةَ جُزْءٌ هَالِكٌ مِنَ الْمَال، وَالأَْصْل أَنَّ الْهَلاَكَ يَنْصَرِفُ إِِلَى الرِّبْحِ، وَلأَِنَّا لَوْ جَعَلْنَاهَا مِنْ رَأْسِ الْمَال خَاصَّةً أَوْ فِي نَصِيبِ رَبِّ الْمَال مِنَ الرِّبْحِ لاَزْدَادَ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ عَلَى نَصِيبِ رَبِّ الْمَال.
وَالْمُرَادُ مِنَ النَّفَقَةِ هُنَا: الْكِسْوَةُ وَالطَّعَامُ وَالإِِِْدَامُ وَالشَّرَابُ وَأَجْرُ الأَْجِيرِ، وَفِرَاشٌ يَنَامُ عَلَيْهِ، وَعَلْفُ دَابَّتِهِ الَّتِي يَرْكَبُهَا فِي سَفَرِهِ وَيَتَصَرَّفُ عَلَيْهَا فِي حَوَائِجِهِ، وَغَسْل ثِيَابِهِ، وَدَهْنُ السِّرَاجِ وَالْحَطَبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَقَال: وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ، لأَِنَّ الْمُضَارِبَ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهَا، فَكَانَ الإِِِْذْنُ ثَابِتًا مِنْ رَبِّ

(38/71)


الْمَال دَلاَلَةً، وَأَمَّا ثَمَنُ الدَّوَاءِ وَالْحِجَامَةِ وَالْفَصْدِ وَالتَّنَوُّرِ وَالاِدِّهَانِ وَمَا يَرْجِعُ إِِلَى التَّدَاوِي وَصَلاَحِ الْبَدَنِ فَفِي مَالِهِ خَاصَّةً، لاَ فِي مَال الْمُضَارَبَةِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ خِلاَفَ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ فِي مَال الْمُضَارَبَةِ عِنْدَهُ، وَذَكَرَ فِي الْحِجَامَةِ وَالاِطِّلاَءِ بِالنُّورَةِ وَالْخِضَابِ قَوْل الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ يَكُونُ فِي مَال الْمُضَارَبَةِ عَلَى قِيَاسِ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَكُونُ فِي مَالِهِ خَاصَّةً، لأَِنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ لِلْمُضَارِبِ فِي الْمَال لِدَلاَلَةِ الإِِِْذْنِ الثَّابِتِ عَادَةً، وَهَذِهِ الأَْشْيَاءُ غَيْرُ مُعْتَادَةٍ، وَعَلَى هَذَا إِِذَا قَضَى الْقَاضِي بِالنَّفَقَةِ يَقْضِي بِالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَلاَ يَقْضِي بِهَذِهِ الأَْشْيَاءِ، وَأَمَّا الْفَاكِهَةُ فَالْمُعْتَادُ مِنْهَا يَجْرِي مَجْرَى الطَّعَامِ وَالإِِِْدَامِ، وَقَال بِشْرٌ: سَأَلْتُ أَبَا يُوسُفَ عَنِ اللَّحْمِ فَقَال: يَأْكُل كَمَا كَانَ يَأْكُل لأَِنَّهُ مِنَ الْمَأْكُول الْمُعْتَادِ.
وَإِِِذَا رَجَعَ الْمُضَارِبُ إِِلَى مِصْرِهِ فَمَا فَضَل عِنْدَهُ مِنَ الْكِسْوَةِ وَالطَّعَامِ رَدَّهُ إِِلَى الْمُضَارَبَةِ، لأَِنَّ الإِِِْذْنَ لَهُ بِالنَّفَقَةِ كَانَ لأَِجْل السَّفَرِ، فَإِِِذَا انْقَطَعَ السَّفَرُ لَمْ يَبْقَ الإِِِْذْنُ، فَيَجِبُ رَدُّ مَا بَقِيَ إِِلَى الْمُضَارَبَةِ.
وَقَدْرُ النَّفَقَةِ يَكُونُ بِالْمَعْرُوفِ عِنْدَ التُّجَّارِ مِنْ غَيْرِ إِِسْرَافٍ، فَإِِِنْ جَاوَزَ ذَلِكَ ضَمِنَ الْفَضْل، لأَِنَّ الإِِِْذْنَ ثَابِتٌ بِالْعَادَةِ فَيُعْتَبَرُ الْقَدْرُ الْمُعْتَادُ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 106، 107.

(38/71)


وَتَكُونُ نَفَقَةُ الْعَامِل فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ لاَ الْفَاسِدَةِ، لأَِنَّهُ أَجِيرٌ فِي الْفَاسِدَةِ فَلاَ نَفَقَةَ لَهُ، إِِذْ إِِنَّ نَفَقَةَ الأَْجِيرِ عَلَى نَفْسِهِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لِعَامِل الْمُضَارَبَةِ الإِِِْنْفَاقُ مِنْ مَالِهَا عَلَى نَفْسِهِ فِي زَمَنِ سَفَرِهِ لِلتِّجَارَةِ وَإِِِقَامَتِهِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي يَتَّجِرُ فِيهِ وَفِي حَال رُجُوعِهِ حَتَّى يَصِل إِِلَى وَطَنِهِ، وَيُقْضَى لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ بِشُرُوطٍ:
الأَْوَّل: أَنْ يُسَافِرَ فِعْلاً لِلتِّجَارَةِ، أَوْ يَشْرَعَ فِي السَّفَرِ، أَوْ يَحْتَاجَ لِمَا يَشْرَعُ بِهِ فِيهِ لِتَنْمِيَةِ الْمَال - وَلَوْ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ - مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَرُكُوبٍ وَمَسْكَنٍ وَحَمَّامٍ وَحِجَامَةٍ وَغَسْل ثَوْبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمَعْرُوفِ حَتَّى يَعُودَ لِوَطَنِهِ.
وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّهُ لاَ نَفَقَةَ لِلْعَامِل فِي الْحَضَرِ، قَال اللَّخْمِيُّ: مَا لَمْ يَشْغَلْهُ عَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي يَقْتَاتُ مِنْهَا، أَيْ بِأَنْ كَانَتْ لَهُ صَنْعَةٌ مَثَلاً يُنْفِقُ مِنْهَا فَعَطَّلَهَا لأَِجْل عَمَل الْمُضَارَبَةِ، فَلَهُ الإِِِْنْفَاقُ مِنْ مَالِهَا، قَال أَبُو الْحَسَنِ: وَهُوَ قَيْدٌ مُعْتَبَرٌ.
الثَّانِي: أَنْ لاَ يَبْنِيَ بِزَوْجَتِهِ الَّتِي تَزَوَّجَ بِهَا فِي الْبَلَدِ الَّتِي سَافَرَ إِِلَيْهَا لِتَنْمِيَةِ الْمَال، فَإِِِنْ بَنَى بِهَا سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ لأَِنَّهُ صَارَ كَالْحَاضِرِ، فَإِِِنْ بَنَى بِهَا فِي طَرِيقِهِ الَّتِي سَافَرَ فِيهَا لَمْ تَسْقُطْ.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 490، والاختيار 3 / 24.

(38/72)


الثَّالِثُ: أَنْ يَحْتَمِل مَال الْمُضَارَبَةِ الإِِِْنْفَاقَ بِأَنْ يَكُونَ كَثِيرًا عُرْفًا، فَلاَ نَفَقَةَ فِي الْيَسِيرِ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ سَفَرُهُ لأَِجْل تَنْمِيَةِ الْمَال، أَمَّا لَوْ كَانَ سَفَرُهُ لِزَوْجَةٍ مَدْخُولٍ بِهَا وَحَجٍّ وَغَزْوٍ فَلاَ نَفَقَةَ لَهُ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ، لاَ فِي حَال ذَهَابِهِ وَلاَ فِي حَال إِِقَامَتِهِ فِي الْبَلَدِ الَّتِي سَافَرَ إِِلَيْهَا، وَأَمَّا فِي حَال رُجُوعِهِ فَإِِِنْ رَجَعَ مِنْ قُرْبَةٍ فَلاَ نَفَقَةَ لَهُ، وَإِِِنْ رَجَعَ مِنْ عِنْدِ أَهْلٍ لِبَلَدِ لَهُ بِهَا أَهْلٌ فَلَهُ النَّفَقَةُ، لأَِنَّ سَفَرَ الْقُرْبَةِ وَالرُّجُوعَ مِنْهُ لِلَّهِ، وَلاَ كَذَلِكَ الرُّجُوعُ مِنْ عِنْدِ الأَْهْل.
وَالنَّفَقَةُ بِالْمَعْرُوفِ تَكُونُ فِي مَال الْمُضَارَبَةِ لاَ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَال، وَلَوْ أَنْفَقَ مِنْ مَال نَفْسِهِ رَجَعَ بِهِ فِي مَال الْمُضَارَبَةِ، فَإِِِنْ تَلِفَ فَلاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى رَبِّهِ، وَكَذَا لَوْ زَادَتِ النَّفَقَةُ عَلَى الْمَال لاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى رَبِّهِ بِالزَّائِدِ.
وَلِلْعَامِل أَنْ يَتَّخِذَ خَادِمًا مِنَ الْمَال فِي حَال سَفَرِهِ إِِنْ كَانَ أَهْلاً لأَِنْ يُخْدَمَ بِالشُّرُوطِ السَّابِقَةِ.
وَلَيْسَ لِلْعَامِل نَفَقَةُ الدَّوَاءِ، وَلَيْسَ مِنَ الدَّوَاءِ الْحِجَامَةُ وَالْحَمَّامُ وَحَلْقُ الرَّأْسِ بَل مِنَ النَّفَقَةِ.
وَلِلْعَامِل أَنْ يَكْتَسِيَ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ إِِنْ طَال سَفَرُهُ حَتَّى امْتَهَنَ مَا عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَتِ الْبَلَدُ الَّتِي أَقَامَ بِهَا غَيْرَ بَعِيدَةٍ، فَالْمَدَارُ عَلَى الطُّول بِبَلَدِ التَّجْرِ، وَالطُّول بِالْعُرْفِ، وَذَلِكَ مَعَ الشُّرُوطِ السَّابِقَةِ.

(38/72)


وَيُوَزَّعُ الإِِِْنْفَاقُ إِِنْ خَرَجَ الْعَامِل لِحَاجَةِ غَيْرِ الأَْهْل وَالْقُرْبَةِ مَعَ خُرُوجِهِ لِلْمُضَارَبَةِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَالْمُضَارَبَةِ، فَإِِِنْ كَانَ مَا يُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي حَاجَتِهِ مِائَةٌ وَفِي الْمُضَارَبَةِ مِائَةٌ فَأَنْفَقَ مِائَةَ كَانَ نِصْفُهَا عَلَيْهِ وَنِصْفُهَا مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ، وَإِِِنْ كَانَ مَا يُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي اشْتِغَالِهِ بِالْمُضَارَبَةِ مِائَتَيْنِ وَزَّعَ الإِِِْنْفَاقَ عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُنْفِقُ الْعَامِل مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ عَلَى نَفْسِهِ حَضَرًا جَزْمًا، وَكَذَا سَفَرًا فِي الأَْظْهَرِ كَمَا فِي الْحَضَرِ، لأَِنَّ لَهُ نَصِيبًا فِي الرِّبْحِ فَلاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا آخَرَ، وَلأَِنَّ النَّفَقَةَ قَدْ تَكُونُ قَدْرَ الرِّبْحِ فَيُؤَدِّي إِِلَى انْفِرَادِهِ بِهِ، وَقَدْ تَكُونُ أَكْثَرَ فَيُؤَدِّي إِِلَى أَنْ يَأْخُذَ جُزْءًا مِنْ رَأْسِ الْمَال وَهُوَ يُنَافِي مُقْتَضَاهُ، فَلَوْ شَرَطَ لَهُ النَّفَقَةَ فِي الْعَقْدِ فَسَدَ، وَفِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ أَنَّهُ يُنْفِقُ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَزِيدُ بِسَبَبِ السَّفَرِ كَالإِِِْدَاوَةِ وَالْخُفِّ وَالسُّفْرَةِ وَالْكِرَاءِ لأَِنَّهُ حَبَسَهُ عَنِ الْكَسْبِ بِالسَّفَرِ لأَِجْل الْمُضَارَبَةِ، فَأَشْبَهَ حَبْسَ الزَّوْجَةِ بِخِلاَفِ الْحَضَرِ، وَتُحْسَبُ النَّفَقَةُ مِنَ الرِّبْحِ فَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ فَهِيَ خُسْرَانٌ لَحِقَ الْمَال (2) .
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 530 - 531، والشرح الصغير 3 / 705.
(2) مغني المحتاج 2 / 317، ونهاية المحتاج 5 / 233، وروضة الطالبين 5 / 135 - 136.

(38/73)


وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَيْسَ لِلْمُضَارِبِ نَفَقَةٌ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ وَلَوْ مَعَ السَّفَرِ بِمَال الْمُضَارَبَةِ، لأَِنَّهُ دَخَل عَلَى أَنْ يَسْتَحِقَّ مِنَ الرِّبْحِ شَيْئًا فَلاَ يَسْتَحِقُّ غَيْرَهُ، إِِذْ لَوِ اسْتَحَقَّهَا لأََفْضَى إِِلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ حَيْثُ لَمْ يَرْبَحْ سِوَى النَّفَقَةِ إِِلاَّ بِشَرْطِ، قَال تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: أَوْ عَادَةً فَإِِِنْ شَرَطَهَا رَبُّ الْمَال وَقَدَّرَهَا فَحَسَنٌ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ، فَإِِِنْ لَمْ يُقَدِّرْهَا وَاخْتَلَفَا فَلَهُ نَفَقَةُ مِثْلِهِ عُرْفًا مِنْ طَعَامٍ وَكِسْوَةٍ، لأَِنَّ إِِطْلاَقَ النَّفَقَةِ يَقْتَضِي جَمِيعَ مَا هُوَ ضَرُورَاتُهُ الْمُعْتَادَةُ (1) .

ثَانِيًا: الرِّبْحُ الْمُسَمَّى:
48 - مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ الْمُضَارِبُ بِعَمَلِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ هُوَ الرِّبْحُ الْمُسَمَّى إِِنْ كَانَ فِي الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ، وَهَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ.
وَإِِِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَمْلِكُ الْمُضَارِبُ فِيهِ حِصَّتَهُ مِنْ رِبْحِ الْمُضَارَبَةِ (2) .
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِِلَى أَنَّ الْمُضَارِبَ يَمْلِكُ حِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ بِالْقِسْمَةِ لاَ بِالظُّهُورِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ بِعَمَلِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ الرِّبْحَ الْمُسَمَّى - إِِنْ كَانَ فِيهَا رِبْحٌ - وَإِِِنَّمَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ بِالْقِسْمَةِ، وَيُشْتَرَطُ لِجَوَازِ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 516 - 517، والمغني 5 / 72.
(2) بدائع الصنائع 6 / 107.

(38/73)


الْقِسْمَةِ قَبْضُ الْمَالِكِ رَأْسَ الْمَال، فَلاَ تَصِحُّ قِسْمَةُ الرِّبْحِ قَبْل قَبْضِ رَأْسِ الْمَال، حَتَّى لَوْ دَفَعَ رَجُلٌ إِِلَى آخَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَرَبِحَ أَلْفًا، فَاقْتَسَمَا الرِّبْحَ وَرَأْسُ الْمَال فِي يَدِ الْمُضَارِبِ لَمْ يَقْبِضْهُ رَبُّ الْمَال، فَهَلَكَتِ الأَْلْفُ الَّتِي فِي يَدِ الْمُضَارِبِ بَعْدَ قِسْمَتِهِمَا الرِّبْحَ، فَإِِِنَّ الْقِسْمَةَ الأُْولَى لَمْ تَصِحَّ، وَمَا قَبَضَ رَبُّ الْمَال فَهُوَ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَمَا قَبَضَهُ الْمُضَارِبُ دَيْنٌ عَلَيْهِ يَرُدُّهُ إِِلَى رَبِّ الْمَال حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَبُّ الْمَال رَأْسَ مَالِهِ، وَلاَ تَصِحُّ قِسْمَةُ الرِّبْحِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَبُّ الْمَال رَأْسَ الْمَال، وَالأَْصْل فِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَثَل الْمُصَلِّي كَمَثَل التَّاجِرِ لاَ يَخْلُصُ لَهُ رِبْحُهُ حَتَّى يَخْلُصَ لَهُ رَأْسُ مَالِهِ، كَذَلِكَ الْمُصَلِّي لاَ تُقْبَل نَافِلَتُهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْفَرِيضَةَ (1) ، فَدَل الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ قِسْمَةَ الرِّبْحِ قَبْل قَبْضِ رَأْسِ الْمَال لاَ تَصِحُّ، وَلأَِنَّ الرِّبْحَ زِيَادَةٌ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الشَّيْءِ لاَ تَكُونُ إِِلاَّ بَعْدَ سَلاَمَةِ الأَْصْل، وَلأَِنَّ الْمَال إِِذَا بَقِيَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ فَحُكْمُ الْمُضَارَبَةِ بِحَالِهَا، فَلَوْ صَحَّحْنَا قِسْمَةَ الرِّبْحِ لَثَبَتَتْ قِسْمَةُ الْفَرْعِ قَبْل الأَْصْل فَهَذَا لاَ يَجُوزُ، وَإِِِذَا لَمْ تَصِحَّ الْقِسْمَةُ فَإِِِذَا هَلَكَ
__________
(1) حديث: " مثل المصلي كمثل التاجر. . ". أخرجه البيهقي في السنن (2 / 387) من حديث علي بن أبي طالب، وذكر أن فيه راويًا ضعيفًا.

(38/74)


مَا فِي يَدِ الْمُضَارِبِ صَارَ الَّذِي اقْتَسَمَاهُ هُوَ رَأْسُ الْمَال، فَوَجَبَ عَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ يَرُدَّ مِنْهُ تَمَامَ رَأْسِ الْمَال (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُقْسَمُ الرِّبْحُ فِي الْمُضَارَبَةِ إِِلاَّ بَعْدَ كَمَال رَأْسِ الْمَال، وَمَا بَقِيَ بَعْدَ تَمَامِ رَأْسِ الْمَال يَكُونُ بِيَدِ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارَبَةُ عَلَى مَا شَرَطَا.
وَقَالُوا: لاَ يَقْتَسِمُ رَبُّ الْمَال وَالْعَامِل فِي الْمُضَارَبَةِ الرِّبْحَ حَتَّى يُنَضَّ رَأْسُ الْمَال، أَوْ يَتَرَاضَيَا عَلَى قَسْمِهِ، لأَِنَّهُ إِِذَا قُسِمَ قَبْل نَضُوضِهِ أَوِ التَّرَاضِي عَلَى قَسْمِهِ قَدْ تَهْلَكُ السِّلَعُ أَوْ تَتَحَوَّل أَسْوَاقُهَا فَيَنْقُصُ رَأْسُ الْمَال، فَيَحْصُل الضَّرَرُ لِرَبِّ الْمَال بِعَدِمِ جَبْرِ رَأْسِ الْمَال بِالرِّبْحِ، وَإِِِنْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا نَضُوضَهُ فَالْحَاكِمُ يَنْظُرُ فِي تَعْجِيل ذَلِكَ أَوْ تَأْخِيرِهِ، فَمَا كَانَ صَوَابًا فَعَلَهُ، وَتَجُوزُ قِسْمَةُ الْعُرُوضِ إِِذَا تَرَاضَوْا عَلَيْهَا وَتَكُونُ بَيْعًا (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الأَْظْهَرُ أَنَّ الْعَامِل فِي الْمُضَارَبَةِ يَمْلِكُ حِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ الْحَاصِل بِعَمَلِهِ بِالْقِسْمَةِ لِلْمَال لاَ بِظُهُورِ الرِّبْحِ، إِِذْ لَوْ مَلَكَ بِالظُّهُورِ لَكَانَ شَرِيكًا حَتَّى لَوْ هَلَكَ مِنْهُ شَيْءٌ هَلَكَ مِنَ الْمَالَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَل الرِّبْحُ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 107، 108.
(2) التاج والإكليل 5 / 366، والفواكه الدواني 2 / 177.

(38/74)


وَقَايَةٌ لِرَأْسِ الْمَال، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ يَمْلِكُ بِالظُّهُورِ قِيَاسًا عَلَى الْمُسَاقَاةِ.
وَلاَ يَسْتَقِرُّ مِلْكُ الْعَامِل فِي حِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ بِالْقِسْمَةِ، بَل إِِنَّمَا يَسْتَقِرُّ بِتَنْضِيضِ رَأْسِ الْمَال وَفَسْخِ الْعَقْدِ، لِبَقَاءِ الْعَقْدِ قَبْل الْفَسْخِ مَعَ عَدَمِ تَنْضِيضِ الْمَال، حَتَّى لَوْ حَصَل بَعْدَ الْقِسْمَةِ نَقْصٌ جُبِرَ بِالرِّبْحِ الْمَقْسُومِ، أَوْ بِتَنْضِيضِ الْمَال وَالْفَسْخِ بِلاَ قِسْمَةٍ لاِرْتِفَاعِ الْعَقْدِ وَالْوُثُوقِ بِحُصُول رَأْسِ الْمَال، أَوْ تَنْضِيضِ رَأْسِ الْمَال فَقَطْ وَاقْتِسَامِ الْبَاقِي مَعَ أَخْذِ الْمَالِكِ رَأْسَ الْمَال، وَكَالأَْخْذِ الْفَسْخُ كَمَا عَبَّرَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي
وَإِِِنْ طَلَبَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِي الْمُضَارَبَةِ قِسْمَةَ الرِّبْحِ قَبْل الْمُفَاصَلَةِ فَامْتَنَعَ الآْخَرُ لَمْ يُجْبَرْ، لأَِنَّهُ إِِنِ امْتَنَعَ رَبُّ الْمَال لَمْ يَجُزْ إِِجْبَارُهُ، لأَِنَّهُ يَقُول: الرِّبْحُ وَقَايَةٌ لِرَأْسِ الْمَال فَلاَ أُعْطِيكَ حَتَّى تُسَلِّمَ لِي رَأْسَ الْمَال، وَإِِِنْ كَانَ الَّذِي امْتَنَعَ هُوَ الْعَامِل لَمْ يَجُزْ إِِجْبَارُهُ، لأَِنَّهُ يَقُول: لاَ نَأْمَنُ أَنْ نَخْسِرَ فَنَحْتَاجَ أَنْ نَرُدَّ مَا أَخَذَ.
وَإِِِنْ تَقَاسَمَا - أَيْ قَبْل الْمُفَاصَلَةِ - جَازَ، لأَِنَّ الْمَنْعَ لَحِقَهُمَا وَقَدْ رَضِيَا، فَإِِِنْ حَصَل بَعْدَ الْقِسْمَةِ خُسْرَانٌ لَزِمَ الْعَامِل أَنْ يَجْبُرَهُ بِمَا أَخَذَ، لأَِنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ إِِلاَّ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ رَأْسَ الْمَال (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِِذَا ظَهَرَ رِبْحٌ فِي الْمُضَارَبَةِ لَمْ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 318، والمهذب 1 / 387.

(38/75)


يَكُنْ لِلْعَامِل أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ إِِلاَّ بِإِِِذْنِ رَبِّ الْمَال بِلاَ نِزَاعٍ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ مُقَابِلٌ لِلأَْظْهُرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْعَامِل يَمْلِكُ حِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ بِالظُّهُورِ قَبْل الْقِسْمَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَمْلِكُ الْعَامِل حِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ بِالْمُحَاسَبَةِ وَالتَّنْضِيضِ وَالْفَسْخِ قَبْل الْقِسْمَةِ وَالْقَبْضِ، وَنَصَّ عَلَيْهَا وَاخْتَارَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرُهُ.
وَقَال الْمِرْدَاوِيُّ: وَيَسْتَقِرُّ الْمِلْكُ فِيهَا بِالْمُقَاسَمَةِ عِنْدَ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ، وَلاَ يَسْتَقِرُّ بِدُونِهَا، وَمِنَ الأَْصْحَابِ - كَابْنِ أَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِ - مَنْ قَال: يَسْتَقِرُّ بِالْمُحَاسَبَةِ التَّامَّةِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو بَكْرٍ، قَال فِي الْقَوَاعِدِ: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ صَرِيحًا عَنْ أَحْمَدَ (1) .

الزِّيَادَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ 49 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: ثِمَارُ الشَّجَرِ وَالنِّتَاجُ مِنْ بَهِيمَةٍ، وَسَائِرُ الزَّوَائِدِ الْعَيْنِيَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ يَفُوزُ بِهَا الْمَالِكُ فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فَوَائِدِ التِّجَارَةِ الْحَاصِلَةِ بِتَصَرُّفِ الْعَامِل فِي مَال التِّجَارَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، بَل هِيَ نَاشِئَةٌ مِنْ عَيْنِ الْمَال مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ مِنَ الْعَامِل، أَمَّا لَوْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ غَيْرَ حَاصِلَةٍ مِنْ رَأْسِ الْمَال،
__________
(1) الإنصاف 5 / 445، 446.

(38/75)


كَمَا لَوِ اشْتَرَى حَيَوَانًا حَامِلاً أَوْ شَجَرًا عَلَيْهِ ثَمَرٌ، فَالأَْوْجَهُ أَنَّ الْوَلَدَ وَالثَّمَرَةَ مَال مُضَارَبَةٍ.
وَقِيل: كُل مَا يَحْصُل مِنْ هَذِهِ الْفَوَائِدِ مَال مُضَارَبَةٍ لِحُصُولِهَا بِسَبَبِ شِرَاءِ الْعَامِل الأَْصْل (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ - عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا ذَكَرَ الْمِرْدَاوِيُّ - مِنْ جُمْلَةِ الرِّبْحِ: الْمَهْرَ وَالثَّمَرَةَ وَالأُْجْرَةَ وَالأَْرْشَ وَكَذَا النِّتَاجُ، وَقَال فِي الْفُرُوعِ: وَيَتَوَجَّهُ فِيهِ وَجْهٌ (2) .

جَبْرُ تَلَفِ مَال الْمُضَارَبَةِ وَخَسَارَتُهُ 50 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهُ لَوْ تَلِفَ بَعْضُ مَال الْمُضَارَبَةِ بَعْدَ تَحْرِيكِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ أَوْ خَسِرَ فَإِِِنَّهُ يُجْبَرُ بِالرِّبْحِ إِِنْ كَانَ، أَيْ يُكْمِل مِنَ الرِّبْحِ مَا نَقَصَ بِالتَّلَفِ أَوِ الْخُسْرِ مِنْ رَأْسِ الْمَال، ثُمَّ إِِنْ لَمْ يَكُنْ رَبِحَ أَوْ زَادَ التَّلَفُ أَوِ الْخُسْرُ عَلَى الرِّبْحِ فَإِِِنَّهُ يَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَال. وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ.
قَال الْمَوْصِلِيُّ: مَا هَلَكَ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ فَمِنَ الرِّبْحِ لأَِنَّهُ تَبَعٌ كَالْعَفْوِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ، فَإِِِنْ زَادَ فَمِنْ رَأْسِ الْمَال لأَِنَّ الْمُضَارِبَ أَمِينٌ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، فَإِِِنِ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ وَالْمُضَارَبَةُ بِحَالِهَا ثُمَّ هَلَكَ رَأْسُ الْمَال أَوْ بَعْضُهُ رَجَعَ فِي
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 234، 235.
(2) الإنصاف 5 / 447.

(38/76)


الرِّبْحِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَأْسَ الْمَال، لأَِنَّ الرِّبْحَ فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَال، وَلاَ يُعْرَفُ الْفَضْل إِِلاَّ بَعْدَ سَلاَمَةِ رَأْسِ الْمَال، فَلاَ تَصِحُّ قِسْمَتُهُ فَيَنْصَرِفُ الْهَلاَكُ إِِلَيْهِ، وَلَوْ فُسِخَتِ الْمُضَارَبَةُ ثُمَّ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ، ثُمَّ عَقَدَا الْمُضَارَبَةَ فَهَلَكَ رَأْسُ الْمَال لَمْ يَتَرَادَّا الرِّبْحَ، لأَِنَّ هَذِهِ مُضَارَبَةٌ جَدِيدَةٌ، وَالأُْولَى قَدِ انْتَهَتْ فَانْتَهَى حُكْمُهَا، وَاشْتِرَاطُ الْوَضِيعَةِ عَلَى الْمُضَارِبِ بَاطِلٌ (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: النَّقْصُ الْحَاصِل بِرُخْصٍ فِي مَال الْقِرَاضِ هُوَ خُسْرَانٌ مَجْبُورٌ بِالرِّبْحِ، وَكَذَا النَّقْصُ بِالتَّعَيُّبِ وَالْمَرَضِ الْحَادِثَيْنِ، وَأَمَّا النَّقْصُ الْعَيْنِيُّ وَهُوَ تَلَفُ بَعْضِ الْمَال، فَإِِِنْ حَصَل بَعْدَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَال بَيْعًا وَشِرَاءً فَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الاِحْتِرَاقَ وَغَيْرَهُ مِنَ الآْفَاتِ السَّمَاوِيَّةِ خُسْرَانٌ يُجْبَرُ بِالرِّبْحِ، وَفِي التَّلَفِ بِالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ إِِذَا تَعَذَّرَ أَخْذُ الْبَدَل مِنَ الْمُتْلِفِ وَجْهَانِ، وَطَرَّدَ جَمَاعَةٌ الْوَجْهَيْنِ فِي الآْفَةِ السَّمَاوِيَّةِ، وَالأَْصَحُّ فِي الْجَمِيعِ الْجَبْرُ.
وَإِِِنْ حَصَل النَّقْصُ قَبْل التَّصَرُّفِ فَوَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ خُسْرَانٌ فَيُجْبَرُ بِالرِّبْحِ الْحَاصِل بَعْدُ، لأَِنَّهُ بِقَبْضِ الْعَامِل صَارَ مَال مُضَارَبَةٍ، وَأَصَحُّهُمَا: يَتْلَفُ مِنْ رَأْسِ الْمَال لاَ مِنَ الرِّبْحِ، لأَِنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتَأَكَّدْ بِالْعَمَل.
__________
(1) الاختيار 3 / 20، 24، 25.

(38/76)


هَذَا إِِذَا تَلِفَ بَعْضُ مَال الْمُضَارَبَةِ، أَمَّا إِِذَا تَلِفَ كُلُّهُ بِآفَةِ سَمَاوِيَّةٍ قَبْل التَّصَرُّفِ أَوْ بَعْدَهُ فَتَرْتَفِعُ الْمُضَارَبَةُ، وَكَذَا لَوْ أَتْلَفَهُ الْمَالِكُ، لَكِنْ لَوْ أَتْلَفَ أَجْنَبِيٌّ جَمِيعَ مَال الْمُضَارَبَةِ أَوْ بَعْضَهُ أُخِذَ مِنْهُ بَدَلُهُ وَاسْتَمَرَّتْ فِيهِ الْمُضَارَبَةُ (1) .
وَقَال الْبُهُوتِيُّ إِِنْ تَلِفَ رَأْسُ الْمَال أَوْ تَلِفَ بَعْضُهُ بَعْدَ تَصَرُّفِهِ، أَوْ تَعَيُّبِ رَأْسِ الْمَال، أَوْ خَسِرَ بِسَبَبِ مَرَضٍ، أَوْ تَغَيُّرِ صِفَةٍ، أَوْ نَزَل السِّعْرُ بَعْدَ تَصَرُّفِ الْمُضَارِبِ فِي رَأْسِ الْمَال. جُبِرَتِ الْوَضِيعَةُ مِنْ رِبْحِ بَاقِيهِ قَبْل قِسْمَتِهِ، نَاضًّا أَوْ مَعَ تَنْضِيضِهِ بِالْمُحَاسَبَةِ، لأَِنَّهُ مُضَارَبَةٌ وَاحِدَةٌ فَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِل إِِلاَّ بَعْدَ كَمَال رَأْسِ الْمَال.
وَإِِِنْ تَلِفَ بَعْضُ رَأْسِ الْمَال قَبْل تَصَرُّفِ الْعَامِل فِيهِ انْفَسَخَتِ الْمُضَارَبَةُ فِي التَّالِفِ، وَكَانَ رَأْسُ الْمَال هُوَ الْبَاقِيَ خَاصَّةً، لأَِنَّهُ مَالٌ هَلَكَ عَلَى جِهَةٍ قَبْل التَّصَرُّفِ، أَشْبَهَ التَّالِفَ قَبْل الْقَبْضِ، وَفَارَقَ مَا بَعْدَ التَّصَرُّفِ لأَِنَّهُ دَارَ فِي التِّجَارَةِ.
وَقَالُوا: وَمَهْمَا بَقِيَ الْعَقْدُ عَلَى رَأْسِ الْمَال وَجَبَ جَبْرُ خُسْرَانِهِ مِنْ رِبْحِهِ وَإِِِنِ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ لأَِنَّهَا مُضَارَبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَتَحْرُمُ قِسْمَتُهُ وَالْعَقْدُ بَاقٍ إِِلاَّ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى ذَلِكَ، لأَِنَّهُ مَعَ امْتِنَاعِ رَبِّ
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 138 - 139، ومغني المحتاج 2 / 318 - 319.

(38/77)


الْمَال وَقَايَةً لِرَأْسِ مَالِهِ لأَِنَّهُ لاَ يَأْمَنُ الْخُسْرَانَ فَيَجْبُرُهُ بِالرِّبْحِ، وَمَعَ امْتِنَاعِ الْعَامِل لاَ يَأْمَنُ أَنْ يَلْزَمَهُ رَدُّ مَا أَخَذَ فِي وَقْتٍ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَلاَ يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ يُجْبَرُ خُسْرُ مَال الْمُضَارَبَةِ بِالرِّبْحِ، هَذَا فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ أَوِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي فِيهَا قِرَاضُ الْمِثْل، وَأَمَّا الَّتِي فِيهَا أُجْرَةُ الْمِثْل فَلاَ يَتَأَتَّى فِيهَا جَبْرٌ، وَضَابِطُ ذَلِكَ أَنَّ كُل مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنْ حَقِيقَةِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ أَصْلِهَا فَفِيهَا أُجْرَةُ الْمِثْل، وَأَمَّا إِِنْ شَمِلَتْهَا الْمُضَارَبَةُ لَكِنِ اخْتَل مِنْهَا شَرْطٌ فَفِيهَا مُضَارَبَةُ الْمِثْل.
وَلَوْ دَخَل الْمُضَارِبُ وَرَبُّ الْمَال عَلَى عَدَمِ الْجَبْرِ بِالرِّبْحِ لَمْ يُعْمَل بِهِ وَالشَّرْطُ مُلْغًى، قَال الصَّاوِيُّ: هَذَا هُوَ ظَاهِرُ مَا لِمَالِكِ وَابْنِ الْقَاسِمِ، وَحَكَى بَهْرَامٌ مُقَابِلَهُ عَنْ جَمْعٍ فَقَالُوا: مَحِل الْجَبْرِ مَا لَمْ يَشْتَرِطَا خِلاَفَهُ وَإِِِلاَّ عُمِل بِذَلِكَ الشَّرْطِ، قَال بَهْرَامٌ: وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَهُوَ الأَْقْرَبُ لأَِنَّ الأَْصْل إِِعْمَال الشَّرْطِ لِخَبَرِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ (2) مَا لَمْ يُعَارِضْهُ نَصٌّ.
__________
(1) كشاف القناع 3 / 517 - 520.
(2) ديث: " المسلمون على شروطهم. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 626) من حديث عمرو بن عوف المزني وقال: حديث حسن صحيح.

(38/77)


وَقَالُوا: يُجْبَرُ أَيْضًا بِالرِّبْحِ مَا تَلِفَ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ بِسَمَاوِيٍّ، وَأُلْحِقَ بِهِ مَا أَخَذَهُ لِصٌّ أَوْ عَشَّارٌ، وَإِِِنْ وَقَعَ التَّلَفُ قَبْل الْعَمَل بِالْمَال، مَا لَمْ يَقْبِضْ رَبُّ الْمَال مِنَ الْعَامِل مَال الْمُضَارَبَةِ، فَإِِِنْ قَبَضَهُ نَاقِصًا عَنْ أَصْلِهِ ثُمَّ رَدَّهُ لَهُ فَلاَ يُجْبَرُ بِالرِّبْحِ لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ صَارَ مُضَارَبَةً مُسْتَأْنَفَةً، وَالْجَبْرُ إِِنَّمَا يَكُونُ إِِذَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ أَصْل الْمَال، فَلَوْ تَلِفَ جَمِيعُهُ فَأَتَى لَهُ رَبُّهُ بِبَدَلِهِ فَلاَ جَبْرَ لِلأَْوَّل بِرِبْحِ الثَّانِي (1) .

مَا يَسْتَحِقُّهُ رَبُّ الْمَال فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ
51 - يَسْتَحِقُّ رَبُّ الْمَال فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ الرِّبْحَ الْمُسَمَّى إِِذَا كَانَ فِي الْمَال رِبْحٌ، وَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ فَلاَ شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمُضَارِبِ (2) .

زَكَاةُ مَال الْمُضَارَبَةِ
52 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ زَكَاةَ رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ عَلَى رَبِّ الْمَال (3) .
وَأَمَّا زَكَاةُ الرِّبْحِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ ف 96) .
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 690، 699، 700.
(2) بدائع الصنائع 6 / 108.
(3) المبسوط للسرخسي 2 / 204، والقوانين الفقهية ص 108، والمدونة 5 / 98، والقليوبي 2 / 31، والمغني 3 / 38.

(38/78)


آثَارُ الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ
53 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى فَسَادِ الْمُضَارَبَةِ:
أ - أَنَّ الرِّبْحَ - إِِنْ حَدَثَ - يَكُونُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَال، لأَِنَّ الرِّبْحَ نَمَاءُ مَالِهِ، وَإِِِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ شَطْرًا مِنْهُ بِالشَّرْطِ، وَلَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ إِِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الشَّرْطُ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْمُضَارِبُ مِنَ الرِّبْحِ شَيْئًا، وَكَانَ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَال.
ب - أَنَّ الْمُضَارِبَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ - خَسِرَ الْمَال أَوْ رَبِحَ - لأَِنَّ عَمَلَهُ إِِنَّمَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ الْمُسَمَّى، فَإِِِذَا لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ وَجَبَ رَدُّ عَمَلِهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ، فَوَجَبَ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْل، وَلأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ الْفَاسِدَةَ فِي مَعْنَى الإِِِْجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، وَالأَْجِيرُ لاَ يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى فِي الإِِِْجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، وَإِِِنَّمَا يَسْتَحِقُّ أَجْرَ الْمِثْل (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَكُونُ لِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْل عَمَلِهِ مُطْلَقًا، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، رَبِحَ الْمَال أَوْ لاَ، بِلاَ زِيَادَةٍ عَلَى الْمَشْرُوطِ خِلاَفًا لِمُحَمَّدِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَال إِِذَا لَمْ يَرْبَحْ لاَ أَجْرَ لِلْمُضَارِبِ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِِنَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ لِئَلاَّ تَرْبُوَ الْمُضَارَبَةُ الْفَاسِدَةُ عَلَى الصَّحِيحَةِ، ثُمَّ قَال: الْخِلاَفُ فِيمَا إِِذَا رَبِحَ، وَأَمَّا إِِذَا لَمْ يَرْبَحْ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 108، وروضة الطالبين 5 / 125، وكشاف القناع 3 / 511 - 512.

(38/78)


فَأَجْرُ الْمِثْل بَالِغًا مَا بَلَغَ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ بِنِصْفِ الرِّبْحِ الْمَعْدُومِ، لَكِنْ فِي الْوَاقِعَاتِ: مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ مَخْصُوصٌ بِمَا إِِذَا رَبِحَ، وَمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ أَنَّ لَهُ أَجْرُ الْمِثْل بَالِغًا مَا بَلَغَ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ (1) .
وَالأَْصْل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ كُل مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنْ حَقِيقَةِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ أَصْلِهَا فَفِيهَا أُجْرَةُ الْمِثْل، وَأَمَّا إِِنْ شَمِلَتْهَا الْمُضَارَبَةُ لَكِنِ اخْتَل مِنْهَا شَرْطٌ فَفِيهَا مُضَارَبَةُ الْمِثْل.
وَقَالُوا: إِِذَا فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ فَإِِِنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُضَارِبُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْحْوَال، عَلَى مَا يَلِي:
أ - يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ أُجْرَةَ مِثْلِهِ وَمُضَارَبَةُ مِثْل الْمَال فِي رِبْحِهِ إِِنْ رَبِحَ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا إِِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَال عَرَضًا دَفَعَهُ رَبُّ الْمَال وَتَوَلَّى الْمُضَارِبُ بَيْعَهُ وَعَمِل بِثَمَنِهِ مُضَارَبَةً، أَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَال رَهْنًا أَوْ وَدِيعَةً، أَوْ دَيْنًا وَكَّل رَبَّ الْمَال الْمُضَارِبَ عَلَى تَخْلِيصِهِ وَالْعَمَل بِمَا خَلَّصَهُ مُضَارَبَةً، أَوْ كَانَ أَحَدَ النَّقْدَيْنِ دَفَعَهُ رَبُّ الْمَال إِِلَى الْمُضَارِبِ لِيَصْرِفَهُ ثُمَّ يَعْمَل بِمَا صَرَفَهُ مُضَارَبَةً. فَلِلْمُضَارِبِ إِِنْ عَمِل أَجْرُ مِثْلِهِ فِي تَوَلِّيهِ بَيْعَ الْعَرَضِ أَوْ تَخْلِيصَ الرَّهْنِ أَوِ الْوَدِيعَةِ أَوِ الدَّيْنِ، أَوْ فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 484.

(38/79)


تَوَلِّيهِ الصَّرْفَ، وَهَذَا الأَْجْرُ يَكُونُ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَال.
وَلِلْمُضَارِبِ فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ مَعَ أَجْرِ الْمِثْل مُضَارَبَةً مِثْل الْمَال فِي رِبْحِهِ - إِِنْ رَبِحَ - لاَ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَال، حَتَّى إِِذَا لَمْ يَحْصُل رِبْحٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ.
ب - يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ مُضَارَبَةَ مِثْل الْمَال.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا إِِذَا انْتَفَى عِلْمُ نَصِيبِ الْعَامِل مِنَ الرِّبْحِ، أَوْ إِِذَا أُبْهِمَتِ الْمُضَارَبَةُ، أَوْ أُجِّلَتِ ابْتِدَاءً أَوِ انْتِهَاءً، أَوْ ضَمِنَ الْعَامِل، أَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ شِرَاءَ مَا يَقِل وُجُودُهُ، فَلِلْمُضَارِبِ فِي كُل صُورَةٍ مُضَارَبَةُ الْمِثْل فِي الرِّبْحِ إِِنْ عَمِل وَرِبْحُ الْمَال، وَإِِِلاَّ فَلاَ شَيْءَ لَهُ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَال.
ج - يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ أَجْرَ مِثْلِهِ.
وَذَلِكَ فِي غَيْرِ مَا سَبَقَ - وَنَحْوِهِ - مِنَ الْمُضَارَبَاتِ الْفَاسِدَةِ، كَاشْتِرَاطِ يَدِهِ، أَوْ مُشَاوَرَتِهِ، أَوْ أَمِينٍ عَلَيْهِ، أَوْ كَخِيَاطَةٍ أَوْ فَرْزٍ، أَوْ تَعْيِينِ مَحَلٍّ، أَوْ زَمَنٍ، أَوْ شَخْصٍ، أَوْ مُشَارَكَةٍ، أَوْ خَلْطٍ.
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَا فِيهِ مُضَارَبَةُ الْمِثْل وَمَا فِيهِ أَجْرُ الْمِثْل مِنَ الْمُضَارَبَاتِ الْفَاسِدَةِ مِنْ وُجُوهٍ:
أ - أَنَّ مَا فِيهِ مُضَارَبَةُ الْمِثْل لاَ شَيْءَ لِلْمُضَارِبِ فِيهِ إِِنْ لَمْ يَحْصُل رِبْحٌ، بِخِلاَفِ أُجْرَةِ الْمِثْل فَإِِِنَّهَا لاَ تَرْتَبِطُ بِحُصُول رِبْحٍ، بَل تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ وَلَوْ لَمْ يَحْصُل رِبْحٌ.

(38/79)


ب - أَنَّ مَا فِيهِ مُضَارَبَةُ الْمِثْل يُفْسَخُ قَبْل الْعَمَل وَيَفُوتُ بِالْعَمَل، وَمَا فِيهِ أُجْرَةُ الْمِثْل يُفْسَخُ مَتَى اطَّلَعَ عَلَيْهِ وَلَهُ أُجْرَةُ مَا عَمِل.
ج - أَنَّ الْعَامِل يَكُونُ أَحَقَّ مِنَ الْغُرَمَاءِ إِِذَا كَانَ لَهُ مُضَارَبَةُ الْمِثْل، وَيَكُونُ أُسْوَتَهُمْ إِِذَا كَانَ لَهُ أَجْرُ الْمِثْل. عَلَى ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ، مَا لَمْ يَكُنِ الْفَسَادُ بِاشْتِرَاطِ عَمَل يَدِهِ - كَأَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ يَخِيطَ مَثَلاً - فَإِِِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ مِنَ الْغُرَمَاءِ لأَِنَّهُ صَانِعٌ (1) .
54 - نَقَل فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ عَنِ الْفُصُول الْعِمَادِيَّةِ أَنَّ كُل مَا جَازَ لِلْمُضَارِبِ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ شِرَاءٍ وَبَيْعٍ أَوْ إِِجَارَةٍ أَوْ بِضَاعَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تَصَرُّفَاتُ الْعَامِل فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ نَافِذَةٌ كَتَصَرُّفَاتِهِ فِي الصَّحِيحَةِ، لإِِِِذْنِ رَبِّ الْمَال لَهُ فِي التَّصَرُّفِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِِذَا فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ وَبَقِيَ الإِِِْذْنُ لِنَحْوِ فَوَاتِ شَرْطٍ - كَكَوْنِهِ غَيْرَ نَقْدٍ - نَفَذَ تَصَرُّفُ الْعَامِل نَظَرًا لِبَقَاءِ الإِِِْذْنِ كَالْوَكَالَةِ الْفَاسِدَةِ، هَذَا إِِذَا قَارَضَهُ الْمَالِكُ بِمَالِهِ، أَمَّا إِِذَا قَارَضَهُ بِمَال غَيْرِهِ بِوَكَالَةٍ أَوْ وِلاَيَةٍ أَوْ فَسَدَ الْقِرَاضُ لِعَدَمِ الأَْهْلِيَّةِ فَلاَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ (3) .
__________
(1) الشرح الصغير وبلغة السالك 3 / 686 - 690، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 519.
(2) الفتاوى الهندية 4 / 296.
(3) روضة الطالبين 5 / 125، ونهاية المحتاج 5 / 228 - 229، وكشاف القناع 3 / 511 - 512.

(38/80)


55 - وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ ضَمَانَ عَلَى الْعَامِل فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ، لأَِنَّ مَا لاَ ضَمَانَ فِي صَحِيحِهِ لاَ ضَمَانَ فِي فَاسِدِهِ (1) .

اخْتِلاَفُ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ
قَدْ يَخْتَلِفُ رَبُّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِل مِنْهَا:

أَوَّلاً - اخْتِلاَفُ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ:
56 - فَصَّل الْحَنَفِيَّةُ اخْتِلاَفَ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَقَالُوا: إِِنِ اخْتَلَفَا فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَالْقَوْل قَوْل مَنْ يَدَّعِي الْعُمُومَ، بِأَنِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْمُضَارَبَةَ فِي عُمُومِ التِّجَارَاتِ أَوْ فِي عُمُومِ الأَْمْكِنَةِ أَوْ مَعَ عُمُومِ الأَْشْخَاصِ، وَادَّعَى الآْخَرُ نَوْعًا دُونَ نَوْعٍ وَمَكَانًا دُونَ مَكَانٍ وَشَخْصًا دُونَ شَخْصٍ، لأَِنَّ قَوْل مَنْ يَدَّعِي الْعُمُومَ مُوَافِقٌ لِلْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ الرِّبْحُ، وَهَذَا فِي الْعُمُومِ أَوْفَرُ. وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الإِِِْطْلاَقِ وَالتَّقْيِيدِ فَالْقَوْل قَوْل مَنْ يَدَّعِي الإِِِْطْلاَقَ لأَِنَّهُ أَقْرَبُ إِِلَى الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ الرِّبْحُ.
وَقَال الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: إِِنَّ الْقَوْل قَوْل رَبِّ الْمَال فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، وَقِيل: إِِنَّهُ قَوْل زُفَرَ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 484، وكشاف القناع 3 / 512.

(38/80)


وَوَجْهُهُ أَنَّ الإِِِْذْنَ يُسْتَفَادُ مِنْ رَبِّ الْمَال فَكَانَ الْقَوْل فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ.
فَإِِِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ لَهُمَا فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ مُدَّعِي الْعُمُومِ فِي الاِخْتِلاَفِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ لأَِنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةً، وَبَيِّنَةُ مُدَّعِي التَّقْيِيدِ عِنْدَ الاِخْتِلاَفِ فِي الإِِِْطْلاَقِ وَالتَّقْيِيدِ لأَِنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةً فِيهِ وَبَيِّنَةُ الإِِِْطْلاَقِ سَاكِتَةٌ.
وَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى الْخُصُوصِ لَكِنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ الْخَاصِّ، فَقَال رَبُّ الْمَال: دَفَعْتُ إِِلَيْكَ مُضَارَبَةً فِي الْبَزِّ، وَقَال الْمُضَارِبُ: فِي الطَّعَامِ. فَالْقَوْل قَوْل رَبِّ الْمَال - بِاتِّفَاقِهِمْ - لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ التَّرْجِيحُ هُنَا بِالْمَقْصُودِ مِنَ الْعَقْدِ لاِسْتِوَائِهِمَا فِي ذَلِكَ فَتَرَجَّحَ بِالإِِِْذْنِ وَأَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ رَبِّ الْمَال.
فَإِِِنْ أَقَامَا بَيِّنَةً. فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ لأَِنَّ بَيِّنَتَهُ مُثْبِتَةٌ وَبَيِّنَةُ رَبِّ الْمَال نَافِيَةٌ، لأَِنَّهُ لاَ يَحْتَاجُ إِِلَى الإِِِْثْبَاتِ وَالْمُضَارِبُ يَحْتَاجُ إِِلَى الإِِِْثْبَاتِ لِدَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ، فَالْبَيِّنَةُ الْمُثْبِتَةُ لِلزِّيَادَةِ أَوْلَى (1) .

ثَانِيًا - اخْتِلاَفُ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي قَدْرِ رَأْسِ الْمَال
57 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّهُ إِِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الْمَال وَالْعَامِل فِي قَدْرِ رَأْسِ الْمَال الْمَدْفُوعِ لِلْمُضَارَبَةِ فَقَال رَبُّ الْمَال: دَفَعْتُ أَلْفَيْنِ، وَقَال الْعَامِل: بَل
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 109، والفتاوى الهندية 4 / 323.

(38/81)


دَفَعْتُ أَلْفًا. فَالْقَوْل قَوْل الْعَامِل، لأَِنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَهُوَ أَمِينٌ، وَلأَِنَّ الْقَوْل فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ لِلْقَابِضِ أَمِينًا أَوْ ضَمِينًا كَمَا لَوْ أَنْكَرَهُ، وَلأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الْقَبْضِ فَلاَ يَلْزَمُهُ إِِلاَّ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَلأَِنَّ رَبَّ الْمَال يَدَّعِي عَلَيْهِ قَبْضَ شَيْءٍ وَهُوَ يُنْكِرُهُ، وَالْقَوْل قَوْل الْمُنْكِرِ.
وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ قَوْلَهُ: أَجْمَعَ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُمْ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ أَنَّ الْقَوْل قَوْل الْعَامِل فِي قَدْرِ رَأْسِ الْمَال.
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الْحُكْمَ السَّابِقَ بِمَا إِِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَال رِبْحٌ، فَأَمَّا إِِنْ كَانَ فِي الْمَال رِبْحٌ فَفِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقَوْل قَوْل الْعَامِل، وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ، لأَِنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِيمَا يَسْتَحِقَّانِ مِنَ الرِّبْحِ فَتَحَالَفَا كَمَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الرِّبْحِ الْمَشْرُوطِ، قَال الشِّيرَازِيُّ: وَالصَّحِيحُ هُوَ الأَْوَّل لأَِنَّ الاِخْتِلاَفَ فِي الرِّبْحِ الْمَشْرُوطِ اخْتِلاَفٌ فِي صِفَةِ الْعَقْدِ فَتَحَالَفَا، كَالْمُتَبَايِعَيْنِ إِِذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ، وَهَذَا اخْتِلاَفٌ فِيمَا قُبِضَ، فَكَانَ الظَّاهِرُ مَعَ الَّذِي يُنْكِرُ، كَالْمُتَبَايِعَيْنِ إِِذَا اخْتَلَفَا فِي قَبْضِ الثَّمَنِ فَإِِِنَّ الْقَوْل قَوْل الْبَائِعِ.
وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الاِخْتِلاَفُ مَعَ ذَلِكَ فِي مِقْدَارِ الرِّبْحِ فَالْقَوْل لِرَبِّ الْمَال فِي مِقْدَارِ الرِّبْحِ فَقَطْ لأَِنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ، وَأَيُّهُمَا

(38/81)


أَقَامَ بَيِّنَةً تُقْبَل، وَإِِِنْ أَقَامَاهَا فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَال فِي دَعْوَاهُ الزِّيَادَةَ فِي رَأْسِ الْمَال لأَِنَّهَا فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ إِِثْبَاتًا، وَبَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ فِي دَعْوَاهُ الزِّيَادَةَ فِي الرِّبْحِ لأَِنَّهَا فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ إِِثْبَاتًا (1) .

ثَالِثًا - الاِخْتِلاَفُ بَيْنَ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي أَصْل الْمُضَارَبَةِ
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لِلاِخْتِلاَفِ بَيْنَ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي أَصْل الْمُضَارَبَةِ صُوَرًا، مِنْهَا:

أ - اخْتِلاَفُهُمَا فِي كَوْنِ رَأْسِ الْمَال مُضَارَبَةً أَوْ قَرْضًا:
58 - فَصَّل الْفُقَهَاءُ حُكْمَ اخْتِلاَفِ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي كَوْنِ رَأْسِ الْمَال كَانَ مُضَارَبَةً أَوْ قَرْضًا
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ قَال رَبُّ الْمَال: دَفَعْتُ إِِلَيْكَ الْمَال مُضَارَبَةً، وَقَال الْمُضَارِبُ: أَقْرَضْتَنِي الْمَال وَالرِّبْحُ لِي، فَالْقَوْل قَوْل رَبِّ الْمَال لأَِنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ التَّمْلِيكَ وَهُوَ مُنْكِرٌ، فَإِِِنْ أَقَامَا بَيِّنَةً، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ لأَِنَّهَا تُثْبِتُ التَّمْلِيكَ، وَلأَِنَّهُ لاَ تَنَافِي بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَعْطَاهُ مُضَارَبَةً ثُمَّ أَقْرَضَهُ.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 492، والمدونة 5 / 127، والمهذب 1 / 396، وروضة الطالبين 5 / 146 - 147، والمغني 5 / 78.

(38/82)


وَلَوْ قَال الْمُضَارِبُ: دَفَعْتُ إِِلَيَّ مُضَارَبَةً، وَقَال رَبُّ الْمَال: بَل أَقْرَضْتُكَ، فَالْقَوْل قَوْل الْمُضَارِبِ لأَِنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الأَْخْذَ كَانَ بِإِِِذْنِ رَبِّ الْمَال، وَرَبُّ الْمَال يَدَّعِي عَلَى الْمُضَارِبِ الضَّمَانَ وَهُوَ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْل لَهُ، فَإِِِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ لَهُمَا فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَال لأَِنَّهَا تُثْبِتُ أَصْل الضَّمَانِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ قَال رَبُّ الْمَال: أَعْطَيْتُكَ الْمَال مُضَارَبَةً، وَقَال الْعَامِل: بَل سَلَفًا. فَالْقَوْل قَوْل الْعَامِل، لأَِنَّ رَبَّ الْمَال هُنَا مُدَّعٍ فِي الرِّبْحِ فَلاَ يُصَدَّقُ.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً قَال لِرَجُل: لَكَ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً، وَقَال رَبُّ الْمَال بَل هِيَ عِنْدَكَ سَلَفًا، فَالْقَوْل قَوْل رَبِّ الْمَال (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - كَمَا قَال الشِّهَابُ الرَّمْلِيُّ - لَوْ قَال الْمَالِكُ: مُضَارَبَةً، وَقَال الآْخَرُ: قَرْضًا، عِنْدَ بَقَاءِ الْمَال وَرِبْحِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَوْل قَوْل مُدَّعِي الْقَرْضِ لأُِمُورِ مِنْهَا: أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى جَعْل الرِّبْحِ لَهُ بِقَوْلِهِ: اشْتَرَيْتُ هَذَا لِي فَإِِِنَّهُ يَكُونُ الْقَوْل قَوْلَهُ، وَلَوِ انْعَكَسَ قَوْلُهُمَا بَعْدَ تَلَفِ الْمَال فِي يَدِ الْعَامِل صُدِّقَ الْعَامِل - كَمَا أَفَتَى الأَْنْصَارِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَابْنُ الصَّلاَحِ - لأَِنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ وَالأَْصْل عَدَمُ الضَّمَانِ، وَإِِِنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 110.
(2) المدونة 5 / 127.

(38/82)


أَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ فَوَجْهَانِ: أَوْجَهُهُمَا تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ الْمَالِكِ لأَِنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ دَفَعَ إِِلَيْهِ مَا لاَ يَتَّجِرُ بِهِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَال رَبُّ الْمَال: كَانَ مُضَارَبَةً عَلَى النِّصْفِ - مَثَلاً - فَرِبْحُهُ بَيْنَنَا، وَقَال الْعَامِل: كَانَ قَرْضًا فَرِبْحُهُ كُلُّهُ لِي. فَالْقَوْل قَوْل رَبِّ الْمَال، لأَِنَّ الأَْصْل بَقَاءُ مِلْكِهِ عَلَيْهِ، فَيَحْلِفُ رَبُّ الْمَال، وَيُقْسَمُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِِِنْ أَقَامَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ وَسَقَطَتَا، وَقُسِمَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، لأَِنَّ الأَْصْل بَقَاءُ مِلْكِ رَبِّ الْمَال عَلَيْهِ وَتَبِعَهُ الرِّبْحُ، لَكِنْ قَدِ اعْتَرَفَ بِنِصْفِ الرِّبْحِ لِلْعَامِل فَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى الأَْصْل، وَالْمَذْهَبُ: تَقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْعَامِل (2) .

ب - اخْتِلاَفُهُمَا فِي كَوْنِ رَأْسِ الْمَال مُضَارَبَةً أَوْ بِضَاعَةً:
59 - لِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي اخْتِلاَفِ طَرَفَيِ الْمُضَارَبَةِ فِي كَوْنِ رَأْسِ الْمَال مُضَارَبَةً أَوْ بِضَاعَةً
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ قَال رَبُّ الْمَال: دَفَعْتُ إِِلَيْكَ بِضَاعَةً وَقَال الْمُضَارِبُ: مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَالْقَوْل قَوْل رَبِّ الْمَال؛ لأَِنَّ الْمُضَارِبَ
__________
(1) أسنى المطالب وحاشية الرملي 2 / 392.
(2) كشاف القناع 3 / 523 - 524.

(38/83)


يَسْتَفِيدُ الرِّبْحَ بِشَرْطِهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَكَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ، وَلأَِنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقًا فِي مَال الْغَيْرِ فَالْقَوْل قَوْل صَاحِبِ الْمَال.
وَلَوْ قَال الْمُضَارِبُ: أَقْرَضْتَنِي الْمَال وَالرِّبْحُ لِي، وَقَال رَبُّ الْمَال: دَفَعْتُهُ إِِلَيْكَ بِضَاعَةً فَالْقَوْل قَوْل رَبِّ الْمَال، لأَِنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ التَّمْلِيكَ وَهُوَ مُنْكِرٌ، فَإِِِنْ أَقَامَا بَيِّنَةً فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِنِ ادَّعَى الْعَامِل أَنَّهُ مُضَارَبَةٌ، وَقَال رَبُّ الْمَال: بَل أَبْضَعْتُهُ مَعَكَ لِتَعْمَل لِي بِهِ، فَإِِِنَّ الْقَوْل حِينَئِذٍ قَوْل رَبِّ الْمَال بِيَمِينِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُضَارَبَةٍ، وَيَكُونُ لِلْعَامِل أَجْرُ مِثْلِهِ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا ادَّعَاهُ فَلاَ يُزَادُ، وَإِِِنْ نَكَل كَانَ الْقَوْل قَوْل الْعَامِل مَعَ يَمِينِهِ إِِذَا كَانَ مِمَّنْ يُسْتَعْمَل مِثْلُهُ فِي الْمُضَارَبَةِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ إِِنْ قَال رَبُّ الْمَال: كَانَ بِضَاعَةً فَرِبْحُهُ لِي، وَقَال الْعَامِل: كَانَ مُضَارَبَةً فَرِبْحُهُ لَنَا. حَلَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى إِِنْكَارِ مَا ادَّعَاهُ خَصْمُهُ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُنْكِرٌ لِمَا ادَّعَاهُ خَصْمُهُ عَلَيْهِ، وَالْقَوْل قَوْل الْمُنْكِرِ، وَكَانَ لِلْعَامِل أُجْرَةُ مِثْلِهِ، وَالْبَاقِي لِرَبِّ الْمَال؛ لأَِنَّهُ نَمَاءُ مَالِهِ تَابِعٌ لَهُ (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 110.
(2) المدونة 5 / 127، والخرشي 6 / 224.
(3) كشاف القناع 3 / 24.

(38/83)


ج - اخْتِلاَفُهُمَا فِي كَوْنِ رَأْسِ الْمَال مُضَارَبَةً أَوْ غَصْبًا
60 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ قَال الْمُضَارِبُ: دَفَعْتَهُ إِِلَيَّ مُضَارَبَةً، وَقَدْ ضَاعَ الْمَال قَبْل أَنْ أَعْمَل بِهِ، وَقَال رَبُّ الْمَال: أَخَذْتَهُ غَصْبًا، فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ لأَِنَّهُ مَا أَقَرَّ بِوُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ وَإِِِنَّمَا أَقَرَّ بِتَسْلِيمِ رَبِّ الْمَال إِِلَيْهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَرَبُّ الْمَال يَدَّعِي عَلَيْهِ الْغَصْبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ وَهُوَ يُنْكِرُ، فَإِِِنْ كَانَ عَمِل بِهِ ثُمَّ ضَاعَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَال، لأَِنَّ عَمَلَهُ فِي مَال الْغَيْرِ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَثْبُتْ إِِذْنُ صَاحِبِهِ فِيهِ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ لإِِِِنْكَارِهِ، فَأَمَّا إِِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ. فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ فِي الْوَجْهَيْنِ لأَِنَّهُ يُثْبِتُ تَسْلِيمَ رَبِّ الْمَال وَالإِِِْذْنَ لَهُ فِي الْعَمَل بِبَيِّنَةِ.
وَلَوْ قَال الْمُضَارِبُ: أَخَذْتُ مِنْكَ هَذَا الْمَال مُضَارَبَةً فَضَاعَ قَبْل أَنْ أَعْمَل بِهِ أَوْ بَعْدَ مَا عَمِلْتُ، وَقَال رَبُّ الْمَال: أَخَذْتَهُ مِنِّي غَصْبًا. فَالْقَوْل قَوْل رَبِّ الْمَال، وَالْمُضَارِبُ ضَامِنٌ، لأَِنَّهُ أَقَرَّ بِالأَْخَذِ وَهُوَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، ثُمَّ ادَّعَى الْمُسْقِطَ وَهُوَ إِِذْنُ صَاحِبِهِ فَلاَ يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إِِلاَّ بِحُجَّةٍ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِذَا قَال الْعَامِل: الْمَال بِيَدِي
__________
(1) المبسوط 22 / 94، والفتاوى الهندية 2 / 335.

(38/84)


مُضَارَبَةً أَوْ وَدِيعَةً، وَقَال رَبُّ الْمَال: بَل غَصَبْتَهُ مِنِّي أَوْ سَرَقْتَهُ مِنِّي، فَإِِِنَّ الْقَوْل قَوْل الْعَامِل مَعَ يَمِينِهِ وَالْبَيِّنَةُ عَلَى رَبِّ الْمَال، لأَِنَّهُ مُدَّعٍ، وَلأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَلَوْ كَانَ مِثْلُهُ يُشْبِهُ أَنْ يُغْصَبَ أَوْ يُسْرَقَ (1) .

د - اخْتِلاَفُهُمَا فِي كَوْنِ الْعَقْدِ مُضَارَبَةً أَوْ وَكَالَةً
61 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِِذَا اخْتَلَفَ الْعَامِل وَرَبُّ الْمَال فِي أَصْل الْمُضَارَبَةِ فَقَال الْعَامِل ضَارَبْتَنِي وَقَال الْمَالِكُ: بَل وَكَّلْتُكَ. صُدِّقَ الْمَالِكُ بِيَمِينِهِ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ مُقَابَلَةِ الْعَمَل بِشَيْءِ، فَإِِِذَا حَلَفَ أَخَذَ الْمَال وَرِبْحَهُ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِلآْخَرِ، فَإِِِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ فَالظَّاهِرُ - كَمَا قَال الأَْنْصَارِيُّ - تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ الْعَامِل لأَِنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ.
وَقَال الشِّهَابُ الرَّمْلِيُّ: صُدِّقَ الْمَالِكُ بِيَمِينِهِ، إِِذِ الْقَاعِدَةُ أَنَّ مَنْ كَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ فِي أَصْل الشَّيْءِ كَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ فِي صِفَتِهِ، مَعَ أَنَّ الأَْصْل عَدَمُ الاِئْتِمَانِ الدَّافِعِ لِلضَّمَانِ (2) .

هـ - جُحُودُ الْعَامِل الْمُضَارَبَةَ
62 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ جَحَدَ الْمُضَارِبُ الْمُضَارَبَةَ
__________
(1) شرح الخرشي 6 / 224 - 225.
(2) أسنى المطالب وحاشية الرملي 2 / 392، وروضة الطالبين 5 / 147.

(38/84)


أَصْلاً وَرَبُّ الْمَال يَدَّعِي دَفْعَ الْمَال إِِلَيْهِ مُضَارَبَةً فَالْقَوْل قَوْل الْمُضَارِبِ، لأَِنَّ رَبَّ الْمَال يَدَّعِي عَلَيْهِ قَبْضَ مَالِهِ وَهُوَ يُنْكِرُ، فَكَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ، وَلَوْ جَحَدَ ثُمَّ أَقَرَّ. فَرَوَى ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَوْلَهُ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِِلَى رَجُلٍ مَالاً مُضَارَبَةً ثُمَّ طَلَبَهُ مِنْهُ فَقَال: لَمْ تَدْفَعْ إِِلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ قَال: بَلَى أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ قَدْ دَفَعْتَ إِِلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً. هُوَ ضَامِنٌ لِلْمَال، لأَِنَّهُ أَمِينٌ وَالأَْمِينُ إِِذَا جَحَدَ الأَْمَانَةَ ضَمِنَ كَالْمُودَعِ، وَهَذَا لأَِنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ لَيْسَ بِعَقْدٍ لاَزِمٍ، بَل هُوَ عَقْدٌ جَائِزٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ، فَكَانَ جُحُودُهُ فَسْخًا لَهُ أَوْ رَفْعًا لَهُ، وَإِِِذَا ارْتَفَعَ الْعَقْدُ صَارَ الْمَال مَضْمُونًا عَلَيْهِ، فَإِِِنِ اشْتَرَى بِهِ مَعَ الْجُحُودِ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ لأَِنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمَال فَلاَ يَبْقَى حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ، لأَِنَّ مِنْ حُكْمِ الْمُضَارِبِ أَنْ يَكُونَ الْمَال أَمَانَةً فِي يَدِهِ، فَإِِِذَا صَارَ ضَمِينًا لَمْ يَبْقَ أَمِينًا، فَإِِِنْ أَقَرَّ بَعْدَ الْجُحُودِ لاَ يَرْتَفِعُ الضَّمَانُ، لأَِنَّ الْعَقْدَ قَدِ ارْتَفَعَ بِالْجُحُودِ فَلاَ يَعُودُ إِِلاَّ بِسَبَبِ جَدِيدٍ (1) .

رَابِعًا - اخْتِلاَفُ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي كَوْنِ مَا اشْتُرِيَ لِلْمُضَارَبَةِ أَوْ لِلْعَامِل
63 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ الْعَامِل إِِنْ قَال: اشْتَرَيْتُ هَذِهِ السِّلْعَةَ لِنَفْسِي، وَقَال رَبُّ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 110 - 111.

(38/85)


الْمَال: اشْتَرَيْتَهَا لِلْمُضَارَبَةِ، أَوْ قَال الْعَامِل: اشْتَرَيْتُهَا لِلْمُضَارَبَةِ، وَقَال رَبُّ الْمَال: بَل لِنَفْسِكَ. فَالْقَوْل قَوْل الْعَامِل، لأَِنَّهُ قَدْ يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ وَقَدْ يَشْتَرِي لِلْمُضَارَبَةِ وَلاَ يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا عَنِ الآْخَرِ إِِلاَّ بِالنِّيَّةِ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِِلَيْهِ، وَلأَِنَّ الاِخْتِلاَفَ هُنَا فِي نِيَّةِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا نَوَاهُ لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ سِوَاهُ، فَكَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ فِيمَا نَوَاهُ.
وَفَرَّقَ النَّوَوِيُّ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَقَال: إِِذَا قَال الْعَامِل: اشْتَرَيْتُ هَذَا لِلْمُضَارَبَةِ، فَقَال الْمَالِكُ: بَل لِنَفْسِكَ. فَالْقَوْل قَوْل الْعَامِل عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي قَوْلٍ: قَوْل الْمَالِكِ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ وُقُوعِهِ عَنِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَوْ قَال الْعَامِل: اشْتَرَيْتُهُ لِنَفْسِي، فَقَال الْمَالِكُ: بَل لِلْمُضَارَبَةِ. صُدِّقَ الْعَامِل بِيَمِينِهِ قَطْعًا.
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: يُصَدَّقُ الْعَامِل فِي قَوْلِهِ: اشْتَرَيْتُ هَذَا الشَّيْءَ لِلْمُضَارَبَةِ وَإِِِنْ كَانَ خَاسِرًا، أَوْ لِي وَإِِِنْ كَانَ رَابِحًا، لأَِنَّهُ مَأْمُونٌ وَهُوَ أَعْرَفُ بِقَصْدِهِ، وَلأَِنَّهُ فِي الثَّانِيَةِ فِي يَدِهِ.
وَقَال: مَحَل قَبُول قَوْلِهِ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ إِِذَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى الذِّمَّةِ لأَِنَّ التَّعْوِيل فِيهِ عَلَى النِّيَّةِ، أَمَّا إِِذَا ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ وَأَقَامَ الْمَالِكُ بَيِّنَةً أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِعَيْنِ مَال الْمُضَارَبَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: رَجَّحَ ابْنُ الْمُقْرِي مِنْهُمَا أَنَّهُ يَبْطُل الْعَقْدُ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالشَّاشِيُّ وَالْفَارِقِيُّ وَغَيْرُهُمْ.

(38/85)


كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ الأَْذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ لأَِنَّهُ قَدْ يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ بِمَال الْمُضَارَبَةِ عُدْوَانًا، وَرَجَّحَ صَاحِبُ الأَْنْوَارِ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِهِ لِلْمُضَارَبَةِ، ثُمَّ قَال: قَال الإِِِْمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَالْقُشَيْرِيُّ: كُل شِرَاءٍ وَقَعَ بِمَال الْمُضَارَبَةِ لاَ شَكَّ فِي وُقُوعِهِ لَهَا وَلاَ أَثَرَ لِنِيَّةِ الْعَامِل، لإِِِِذْنِ الْمَالِكِ لَهُ فِي الشِّرَاءِ.
ثُمَّ قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَالْقَوْل بِالْبُطْلاَنِ أَوْجَهُ كَمَا اعْتَمَدَهُ الشِّهَابُ الرَّمْلِيُّ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ مَنْ دَفَعَ إِِلَى آخَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى دَابَّةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُل عِنْدَ الشِّرَاءِ إِِنَّهُ اشْتَرَاهَا لِلْمُضَارَبَةِ، فَلَمَّا قَبَضَهَا قَال: اشْتَرَيْتُهَا وَأَنَا أَنْوِي أَنْ تَكُونَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَكَذَّبَهُ رَبُّ الْمَال فَقَال: اشْتَرَيْتَهَا لِنَفْسِكَ، هَل يُصَدَّقُ الْمُضَارِبُ فِيمَا قَال؟ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لاَ تَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إِِمَّا أَنْ يَكُونَ مَال الْمُضَارَبَةِ وَالدَّابَّةِ قَائِمَيْنِ وَقْتَ إِِقْرَارِ الْمُضَارِبِ، أَوْ كَانَا هَالِكَيْنِ، أَوْ كَانَتِ الدَّابَّةُ قَائِمَةً وَمَال الْمُضَارَبَةِ هَالِكًا، أَوْ كَانَ مَال الْمُضَارَبَةِ قَائِمًا وَالدَّابَّةُ هَالِكَةً. فَفِي الْوَجْهِ الأَْوَّل: الْقَوْل قَوْل الْمُضَارِبِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِِِنْ هَلَكَ مَال الْمُضَارَبَةِ فِي يَدِهِ قَبْل التَّسْلِيمِ إِِلَى الْبَائِعِ فَإِِِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَال بِثَمَنِهِ وَيُسَلِّمُهُ إِِلَى الْبَائِعِ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي:. لاَ يُصَدَّقُ
__________
(1) المهذب 1 / 389، وروضة الطالبين 5 / 146، ومغني المحتاج 2 / 321، وكشاف القناع 3 / 523، والمغني 5 / 76.

(38/86)


الْمُضَارِبُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَيَضْمَنُ الْمُضَارِبُ لِلْبَائِعِ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَلاَ يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَال بِشَيْءِ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ، وَفِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ: ذَكَرَ أَنَّ الْمُضَارِبَ يُصَدَّقُ عَلَى رَبِّ الْمَال فِي حَقِّ تَسْلِيمِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ إِِلَى الْبَائِعِ، وَإِِِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ وَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى رَبِّ الْمَال بِأَلْفٍ آخَرَ فَإِِِنَّهُ لاَ يَكُونُ مُصَدَّقًا.
وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَى الدَّابَّةَ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ، ثُمَّ نَقَدَ ثَمَنَهَا مِنْ مَال نَفْسِهِ، وَقَال اشْتَرَيْتُهَا لِنَفْسِي، وَكَذَّبَهُ رَبُّ الْمَال فَالْقَوْل قَوْل رَبِّ الْمَال، وَيَأْخُذُ الْمُضَارِبُ أَلْفَ الْمُضَارَبَةِ قِصَاصًا بِمَا أَدَّاهُ، وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى الدَّابَّةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يُسَمِّ مُضَارَبَةً وَلاَ غَيْرَهَا، ثُمَّ قَال اشْتَرَيْتُهَا لِنَفْسِي فَالْقَوْل قَوْلُهُ.
وَإِِِنِ اتَّفَقَا أَنَّهُ لَمْ تَحْضُرْ لِلْمُضَارِبِ نِيَّةٌ وَقْتَ الشِّرَاءِ، فَعَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ يَحْكُمُ النَّقْدُ إِِنْ نَقَدَ مِنْ مَال الْمُضَارِبِ كَانَ الشِّرَاءُ لِلْمُضَارَبَةِ، وَإِِِنْ نَقَدَ مِنْ مَالِهِ كَانَ الشِّرَاءُ لَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُ الشِّرَاءُ وَاقِعًا لِلْمُضَارِبِ نَقَدَ مِنْ مَالِهِ أَوْ مِنْ مَال الْمُضَارِبِ، كَمَا فِي الْوَكِيل الْخَاصِّ (1) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 322 - 323، وانظر روضة القضاة للسمناني 5 / 595 - 596.

(38/86)


خَامِسًا - اخْتِلاَفُهُمَا فِي النَّهْيِ بَعْدَ الإِِِْذْنِ
64 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّ الْقَوْل قَوْل الْمُضَارِبِ إِِذَا قَال رَبُّ الْمَال لَهُ: كُنْتُ نَهَيْتُكَ عَنْ شِرَاءِ هَذَا، فَقَال: لَمْ تَنْهَنِي، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ النَّهْيِ، وَلأَِنَّ قَوْل رَبِّ الْمَال دَعْوَى خِيَانَةٍ عَلَى الْمُضَارِبِ، فَكَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ (1) .

سَادِسًا - اخْتِلاَفُ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ أَوْ فَسَادِهِ
65 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ إِِلَى أَنَّهُ إِِذَا ادَّعَى الْمُضَارِبُ فَسَادَ الْمُضَارَبَةِ فَالْقَوْل لِرَبِّ الْمَال، وَإِِِذَا ادَّعَى رَبُّ الْمَال فَسَادَهَا فَالْقَوْل لِلْمُضَارِبِ، بِمَعْنَى أَنَّ الْقَوْل لِمُدَّعِي الصِّحَّةِ مِنْ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: وَلَوْ غَلَبَ الْفَسَادُ، لأَِنَّ هَذَا الْبَابَ لَيْسَ مِنَ الأَْبْوَابِ الَّتِي يَغْلِبُ فِيهَا الْفَسَادُ، وَهَذَا هُوَ الْمُعَوَّل عَلَيْهِ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ هَذَا الأَْصْل مَا إِِذَا قَال رَبُّ الْمَال: شَرَطْتُ لَكَ الثُّلُثَ وَزِيَادَةَ عَشَرَةٍ، وَقَال الْمُضَارِبُ: الثُّلُثُ، فَالْقَوْل لِلْمُضَارِبِ.
وَيُؤْخَذُ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ عِنْدَ الاِخْتِلاَفِ فِي فَسَادِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ أَوْ صِحَّتِهِ يَكُونُ الْقَوْل لِمُدَّعِي الصِّحَّةِ مِنْهُمَا.
__________
(1) روضة القضاة 2 / 596، والمدونة 5 / 127 - 128، وروضة الطالبين 5 / 146، والمغني 5 / 69.

(38/87)


وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ أَنَّهُ عِنْدَ غَلَبَةِ الْفَسَادِ يَكُونُ الْقَوْل لِمَنِ ادَّعَى الْفَسَادَ (1) .

سَابِعًا - اخْتِلاَفُ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي تَلَفِ رَأْسِ الْمَال
66 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِِذَا اخْتَلَفَ الْعَامِل وَرَبُّ الْمَال فِي تَلَفِ الْمَال، بِأَنِ ادَّعَاهُ الْعَامِل وَأَنْكَرَهُ رَبُّ الْمَال. فَالْقَوْل قَوْل الْعَامِل لأَِنَّهُ أَمِينٌ وَالأَْصْل عَدَمُ الْخِيَانَةِ.
قَال النَّوَوِيُّ: يُصَدَّقُ الْعَامِل بِيَمِينِهِ، هَذَا إِِذَا لَمْ يُذْكَرْ سَبَبُ التَّلَفِ وَلاَ يُكَلَّفُ بَيَانَ سَبَبِهِ، أَمَّا إِِذَا ذَكَرَ سَبَبَ التَّلَفِ وَكَانَ السَّبَبُ خَفِيًّا كَالسَّرِقَةِ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَإِِِنِ ادَّعَاهُ بِسَبَبِ ظَاهِرٍ كَالْحَرِيقِ وَالْغَارَةِ وَالسَّيْل فَإِِِنْ لَمْ يُعْرَفْ مَا ادَّعَاهُ بِتِلْكَ الْبُقْعَةِ لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ فِي الْهَلاَكِ بِهِ، وَإِِِنْ عُرِفَ بِالْمُشَاهَدَةِ أَوِ الاِسْتِفَاضَةِ، نُظِرَ إِِنْ عُرِفَ عُمُومُهُ صُدِّقَ بِلاَ يَمِينٍ وَإِِِنْ لَمْ يُعْرَفْ عُمُومُهُ وَاحْتَمَل أَنَّهُ لَمْ يُصِبْ مَال الْمُضَارَبَةِ صُدِّقَ بِالْيَمِينِ.
وَأَضَافَ الدَّرْدِيرُ وَالْبُهُوتِيُّ: مَحَل ذَلِكَ إِِذَا لَمْ تَقُمْ عَلَى كَذِبِهِ أَوْ تَشْهَدْ بِخِلاَفِ ذَلِكَ قَرِينَةٌ أَوْ بَيِّنَةٌ إِِنْ قَبَضَهُ بِلاَ بَيِّنَةٍ تُوَثَّقُ، وَزَادَ الْبُهُوتِيُّ:
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 262، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي عليه 3 / 708، والخرشي 6 / 225، والأشباط للسيوطي ص 67، والقواعد لابن رجب ص 341.

(38/87)


وَإِِِنِ ادَّعَى الْهَلاَكَ بِأَمْرِ ظَاهِرٍ كُلِّفَ بَيِّنَةً تَشْهَدُ بِهِ، ثُمَّ حَلَفَ أَنَّهُ تَلِفَ بِهِ.
وَقَال الصَّاوِيُّ: تَوَجُّهُ الْيَمِينِ هُوَ الرَّاجِحُ، وَقِيل: بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَالْحَلِفُ جَارٍ عَلَى الْخِلاَفِ فِي أَيْمَانِ التُّهْمَةِ، وَفِيهَا أَقْوَالٌ ثَلاَثَةٌ: قِيل تَتَوَجَّهُ مُطْلَقًا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقِيل: لاَ مُطْلَقًا، وَقِيل: تَتَوَجَّهُ إِِنْ كَانَ مُتَّهَمًا عِنْدَ النَّاسِ وَإِِِلاَّ فَلاَ (1) .

ثَامِنًا - اخْتِلاَفُ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ الْحَاصِل بِالْمُضَارَبَةِ
67 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهُ إِِذَا اخْتَلَفَ الْعَامِل وَالْمَالِكُ فِي الرِّبْحِ، فَقَال الْعَامِل: مَا رَبِحْتُ، أَوْ مَا رَبِحْتُ إِِلاَّ أَلْفًا، فَقَال الْمَالِكُ: أَلْفَيْنِ، فَالْقَوْل قَوْل الْعَامِل، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْعَامِل يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ (2) . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: إِِذَا قَال الْمُضَارِبُ:
رَبِحْتُ أَلْفًا، وَادَّعَى أَنَّهُ غَلِطَ فِيهِ، وَأَظْهَرَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ نَزْعِ الْمَال مِنْ يَدِهِ لَمْ يُقْبَل مِنْهُ، لأَِنَّ هَذَا رُجُوعٌ عَنْ إِِقْرَارِهِ بِمَال غَيْرِهِ فَلَمْ يُقْبَل فِي حِصَّةِ الآْخَرِ (3) .
__________
(1) روضة القضاة للسمناني 2 / 593، والشرح الصغير وحاشية الصاوي 3 / 706 - 707، وروضة الطالبين 5 / 145، 6 / 346، والمغني 5 / 76.
(2) روضة الطالبين 5 / 145، وكشاف القناع 3 / 523.
(3) روضة القضاة للسمناني 2 / 598، وروضة الطالبين 5 / 145.

(38/88)


تَاسِعًا - اخْتِلاَفُ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي قَدْرِ الْجُزْءِ الْمَشْرُوطِ مِنَ الرِّبْحِ
68 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهُ إِِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي قَدْرِ الْجُزْءِ الْمَشْرُوطِ مِنَ الرِّبْحِ فَادَّعَى الْعَامِل النِّصْفَ - مَثَلاً - وَقَال رَبُّ الْمَال: الثُّلُثُ، فَالْقَوْل قَوْل رَبِّ الْمَال لأَِنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ الرِّبْحَ رَأْسًا كَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ قَدْرُهُ، فَإِِِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ.
وَقَال زُفَرُ: الْقَوْل قَوْل الْعَامِل لأَِنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْمُضَارَبَةَ، وَظَاهِرُ الْحَال التَّسَاوِي فَكَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْقَوْل لِلْعَامِل بِيَمِينِهِ فِي قَدْرِ جُزْءِ الرِّبْحِ إِِذَا تَنَازَعَا بَعْدَ الْعَمَل وَأَمَّا قَبْل الْعَمَل فَلاَ فَائِدَةَ لِكَوْنِ الْقَوْل قَوْل الْعَامِل لأَِنَّ لِرَبِّ الْمَال فَسْخُهُ بِشَرْطَيْنِ:
الأَْوَّل - إِِنِ ادَّعَى شَبَهًا، أَيْ جُزْءًا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ جُزْءَ قِرَاضٍ فِي الْعَادَةِ كَالثُّلُثِ أَوِ النِّصْفِ وَقَدْ جَرَتْ بِهِمَا عَادَةُ النَّاسِ، سَوَاءٌ أَشْبَهَ رَبُّ الْمَال أَمْ لاَ، وَأَمَّا لَوِ انْفَرَدَ رَبُّ الْمَال بِالشَّبَهِ فَيَكُونُ الْقَوْل قَوْلَهُ.
الثَّانِي - أَنْ يَكُونَ الْمَال بِيَدِ الْعَامِل وَلَوْ
__________
(1) روضة القضاة للسمناني 2 / 594، والفتاوى الهندية 4 / 324، وكشاف القناع 3 / 523.

(38/88)


حُكْمًا، فَلَوْ سَلَّمَهُ لِرَبِّهِ عَلَى وَجْهِ الْمُفَاصَلَةِ لَمْ يَكُنِ الْقَوْل قَوْل الْعَامِل وَلَوْ مَعَ وُجُودِ شَبَهِهِ إِِنْ بَعُدَ قِيَامُهُ، فَإِِِنْ قَرُبَ فَالْقَوْل قَوْلُهُ. كَمَا قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ.
وَقَالُوا: الْقَوْل لِرَبِّ الْمَال بِيَمِينِهِ - سَوَاءٌ كَانَ تَنَازُعُهُمَا قَبْل الْعَمَل أَوْ بَعْدَهُ إِِنِ ادَّعَى فِي قَدْرِ جُزْءِ الرِّبْحِ الشَّبَهَ وَلَمْ يُشَبِّهِ الْعَامِل، فَإِِِنْ لَمْ يُشَبِّهْ رَبُّهُ أَيْضًا فَمُضَارَبَةُ الْمِثْل. أَيْ جُزْءُ مُضَارَبَةِ الْمِثْل (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِِلَى أَنَّ طَرَفَيْ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ إِِنِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الرِّبْحِ الْمَشْرُوطِ لِلْعَامِل - فَقَال الْعَامِل: النِّصْفُ، وَقَال الْمَالِكُ بَل الثُّلُثُ - تَحَالَفَا كالمتبايعين، فَإِِِذَا حَلَفَا فُسِخَ الْعَقْدُ، وَاخْتَصَّ الرِّبْحُ وَالْخُسْرَانُ بِالْمَالِكِ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ لِلْعَامِل أُجْرَةُ مِثْلِهِ وَإِِِنْ زَادَتْ عَلَى مُدَّعَاهُ، لأَِنَّ مُقْتَضَى التَّحَالُفِ وَالْفَسْخِ رُجُوعُ كُلٍّ مِنَ الْعِوَضَيْنِ لِصَاحِبِهِ، فَإِِِنْ تَعَذَّرَ فَقِيمَتُهُ، وَقَدْ رَجَعَ الْمَال وَرِبْحُهُ لِلْمَالِكِ وَقِيَاسُهُ رُجُوعُ الْعَمَل لِلْعَامِل لَكِنَّهُ تَعَذَّرَ، فَأَوْجَبْنَا قِيمَتَهُ وَهِيَ الأُْجْرَةُ.
وَفِي وَجْهٍ: أَنَّ الأُْجْرَةَ إِِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَاهُ الْعَامِل فَلَيْسَ لَهُ إِِلاَّ مَا ادَّعَاهُ (2) .
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 520 - 537
(2) روضة الطالبين 5 / 145 - 146، وأسنى المطالب 2 / 392.

(38/89)


عَاشِرًا - اخْتِلاَفُ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ فِي رَدِّ رَأْسِ الْمَال
69 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِِلَى أَنَّهُ إِِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الْمَال وَالْعَامِل فِي رَدِّ رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ إِِلَى مَالِكِهِ أَوْ عَدَمِ رَدِّهِ. فَإِِِنَّ الْقَوْل هُوَ قَوْل الْعَامِل.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْقَوْل قَوْل الْعَامِل أَنَّهُ رَدَّ مَال الْمُضَارَبَةِ إِِلَى رَبِّهِ حَيْثُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَإِِِلاَّ فَلاَ بُدَّ مِنْ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ بِالرَّدِّ عَلَى الْمَشْهُورِ، لأَِنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ كُل شَيْءٍ أُخِذَ بِإِِِشْهَادٍ لاَ يُبْرَأُ مِنْهُ إِِلاَّ بِإِِِشْهَادٍ، وَلاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ مَقْصُودَةً لِلتَّوَثُّقِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ حَلِفِهِ عَلَى دَعْوَى الرَّدِّ وَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمَا اتِّفَاقًا. أَيْ عِنْدَهُمْ.
وَقَالُوا: هَذَا فِيمَا إِِذَا ادَّعَى الْعَامِل رَدَّ رَأْسِ الْمَال وَرِبْحَهُ، أَوِ ادَّعَى رَدَّ رَأْسِ الْمَال وَحِصَّةَ رَبِّ الْمَال مِنَ الرِّبْحِ حَيْثُ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ، وَأَمَّا إِِنِ ادَّعَى رَدَّ رَأْسِ الْمَال دُونَ رِبْحٍ حَيْثُ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ فَقَال اللَّخْمِيُّ: يُقْبَل قَوْلُهُ، وَقَال الْقَابِسِيُّ: لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ، وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ عَدَمُ قَبُول قَوْلِهِ وَلَوْ أَبْقَى الْعَامِل بِيَدِهِ قَدْرَ حِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ، وَقَال الْعَدَوِيُّ: كَلاَمُ ابْنِ رُشْدٍ يَقْتَضِي اعْتِمَادَ الْقَوْل الأَْوَّل.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِِنِ ادَّعَى الْعَامِل رَدَّ

(38/89)


الْمَال فَأَنْكَرَ رَبُّ الْمَال. فَالْقَوْل قَوْل رَبِّ الْمَال مَعَ يَمِينِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، لأَِنَّ الْعَامِل قَبَضَ الْمَال لِنَفْعِ نَفْسِهِ فَلَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ فِي رَدِّهِ، وَلأَِنَّ رَبَّ الْمَال مُنْكِرٌ وَالْقَوْل قَوْل الْمُنْكِرِ، وَلأَِنَّ الْمُضَارِبَ لَمْ يَقْبِضْ رَأْسَ الْمَال إِِلاَّ لِنَفْعِ نَفْسِهِ وَلَمْ يَأْخُذْهُ لِنَفْعِ رَبِّ الْمَال (1) .

انْفِسَاخُ الْمُضَارَبَةِ
الْمُضَارَبَةُ تَنْفَسِخُ بِأَسْبَابٍ مِنْهَا:

أَوَّلاً: مَوْتُ رَبِّ الْمَال أَوِ الْمُضَارِبِ
70 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَال أَوِ الْمُضَارِبِ، لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ كَالْوَكَالَةِ، أَوْ تَشْتَمِل عَلَيْهَا، وَالْوَكَالَةُ تَبْطُل بِمَوْتِ الْمُوَكِّل أَوِ الْوَكِيل، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِِنَّ رَأْسَ الْمَال إِِذَا كَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ عَرَضًا فَإِِِنَّ لِلْمُضَارِبِ الْبَيْعَ لِتَنْضِيضِهِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ: إِِنْ مَاتَ عَامِل الْمُضَارَبَةِ قَبْل نَضُوضِ رَأْسِ مَالِهَا فَلِوَارِثِهِ الأَْمِينِ - لاَ غَيْرِهِ - أَنْ يُكْمِل الْعَمَل عَلَى حُكْمِ مُوَرِّثِهِ، فَيَبِيعُ مَا بَقِيَ مِنْ سِلَعِ الْمُضَارَبَةِ وَيَأْخُذُ
__________
(1) روضة القضاة للسمناني 2 / 594، والمدونة 5 / 128، وحاشية الدسوقي 3 / 536، وشرح الخرشي وحاشية العدوي 6 / 224، والمهذب 1 / 396، وروضة الطالبين 5 / 145، والمغني 5 / 77، والإنصاف 5 / 455
(2) بدائع الصنائع 6 / 122، وحاشية ابن عابدين 4 / 489، ومغني المحتاج 2 / 319 - 320، ونهاية المحتاج 5 / 237، وكشاف القناع 3 / 522.

(38/90)


حَظَّ مُوَرِّثِهِ مِنَ الرِّبْحِ، وَلاَ يَنْفَسِخُ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ بِمَوْتِ الْعَامِل ارْتِكَابًا لأَِخَفِّ الضَّرَرَيْنِ، وَهُمَا: ضَرَرُ الْوَرَثَةِ فِي الْفَسْخِ، وَضَرَرُ رَبِّ الْمَال فِي إِِبْقَائِهِ عِنْدَهُمْ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ ضَرَرَ الْوَرَثَةِ بِالْفَسْخِ أَشَدُّ لِضَيَاعِ حَقِّهِمْ فِي عَمَل مُوَرِّثِهِمْ.
وَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثُ الْعَامِل أَمِينًا أَتَى الْوَارِثُ بِأَمِينٍ، كَالْعَامِل الأَْوَّل الَّذِي مَاتَ فِي الأَْمَانَةِ وَالثِّقَةِ، يُكْمِل الْعَمَل فِي مَال الْمُضَارَبَةِ وَيَكُونُ بَصِيرًا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، بِخِلاَفِ أَمَانَةِ الْوَارِثِ فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا مُسَاوَاتُهَا لأَِمَانَةِ الْمُوَرِّثِ، وَالْفَرْقُ أَنَّهُ يُحْتَاطُ فِي الأَْجْنَبِيِّ مَا لاَ يُحْتَاطُ فِي الْوَارِثِ، قَال الدُّسُوقِيُّ: وَبَعْضُهُمُ اكْتَفَى بِمُطْلَقِ الأَْمَانَةِ فِي الأَْجْنَبِيِّ وَإِِِنْ لَمْ تَكُنْ مِثْل الأَْمَانَةِ فِي الأَْوَّل.
وَإِِِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَارِثُ أَمِينًا وَلَمْ يَأْتِ بِأَمِينٍ كَالأَْوَّل سَلَّمَ الْوَارِثُ الْمَال لِرَبِّهِ تَسْلِيمًا هَدَرًا، أَيْ بِغَيْرِ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ رِبْحٍ أَوْ أُجْرَةٍ فِي نَظِيرِ عَمَل مَنْ مَاتَ، لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ كَالْجَعَالَةِ لاَ يُسْتَحَقُّ جُعْلُهَا إِِلاَّ بِتَمَامِ الْعَمَل، أَيْ فَكَذَلِكَ عَامِل الْمُضَارَبَةِ لاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا إِِلاَّ بِتَمَامِ الْعَمَل فِيهَا، وَالْفَرْضُ هُنَا أَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ (1) .
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ - بَعْدَ مِثْل مَا سَبَقَ مِنَ التَّفْصِيل لِلْمَالِكِيَّةِ - إِِنْ مَاتَ رَبُّ الْمَال فَهَؤُلاَءِ عَلَى مُضَارَبَتِهِمْ بِحَال مَا كَانُوا إِِنْ أَرَادَ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ،
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 536.

(38/90)


فَإِِِنْ أَرَادَ الْوَرَثَةُ أَخْذَ مَالِهِمْ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ، وَلَكِنْ يُنْظَرُ فِي السِّلَعِ: فَإِِِنْ رَأَى السُّلْطَانُ وَجْهَ بَيْعٍ بَاعَ فَأَوْفَى رَأْسَ الْمَال، وَمَا بَقِيَ مِنَ الرِّبْحِ عَلَى مَا اشْتَرَطَا، وَإِِِنْ لَمْ يَرَ السُّلْطَانُ وَجْهَ بَيْعٍ أَخَّرَ السِّلَعَ حَتَّى يَرَى وَجْهَ بَيْعٍ.
وَفِيهَا: إِِنْ مَاتَ رَبُّ الْمَال وَالْمَال فِي يَدَيِ الْمُضَارِبِ وَلَمْ يَعْمَل بِهِ بَعْدُ فَلاَ يَنْبَغِي - فِي قَوْل مَالِكٍ - أَنْ يَعْمَل بِهِ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ، فَإِِِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْعَامِل بِمَوْتِ رَبِّ الْمَال حَتَّى اشْتَرَى بِالْمَال بَعْدَ مَوْتِ رَبِّهِ، فَقَال مَالِكٌ: هُوَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ حَتَّى يَعْلَمَ بِمَوْتِهِ (1) .

ثَانِيًا: فِقْدَانُ أَهْلِيَّةِ أَحَدِهِمَا أَوْ نَقْصُهَا:
قَدْ يَعْرِضُ لأَِهْلِيَّةِ رَبِّ الْمَال أَوِ الْمُضَارِبِ مِنْ عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ مَا يُذْهِبُهَا أَوْ يُنْقِصُهَا، مِمَّا قَدْ يَكُونُ سَبَبًا فِي إِِنْهَاءِ الْمُضَارَبَةِ، وَمِنْ هَذِهِ الْعَوَارِضِ:

أ - الْجُنُونُ:
71 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّ الْجُنُونَ الْمُطْبِقَ إِِذَا اعْتَرَى أَحَدَ طَرَفَيْ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ فَإِِِنَّهُ يُبْطِل الْعَقْدَ (2) .
__________
(1) المدونة 5 / 128 - 130.
(2) بدائع الصنائع 6 / 112، ونهاية المحتاج 5 / 237، وكشاف القناع 3 / 522

(38/91)


ب - الإِِِْغْمَاءُ:
72 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الإِِِْغْمَاءَ سَبَبٌ تَنْفَسِخُ بِهِ الْمُضَارَبَةُ، فَقَالُوا: إِِذَا أُغْمِيَ عَلَى أَحَدِ طَرَفَيْ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ كَمَا يَنْفَسِخُ بِالْجُنُونِ وَالْمَوْتِ (1) .

ج - الْحَجْرُ:
73 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَبْطُل بِالْحَجْرِ يَطْرَأُ عَلَى أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِِذَا تَوَسْوَسَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِي الْمُضَارَبَةِ بِحَيْثُ لاَ يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ انْفَسَخَتِ الْمُضَارَبَةُ، لأَِنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ فَبَطَل بِذَلِكَ كَالْوَكَالَةِ (2) .

ثَالِثًا: فَسْخُ الْمُضَارَبَةِ:
74 - فَسْخُ الْمُضَارَبَةِ يَكُونُ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ بِإِِِرَادَتِهِمَا، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا بِإِِِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ.
وَيَحْصُل الْفَسْخُ بِقَوْل: فَسَخْتُ الْمُضَارَبَةَ أَوْ رَفَعْتُهَا أَوْ أَبْطَلْتُهَا، أَوْ بِقَوْل الْمَالِكِ لِلْعَامِل: لاَ تَتَصَرَّفْ بَعْدَ هَذَا. وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ يَحْدُثُ بِالْفِعْل كَاسْتِرْجَاعِ رَبِّ الْمَال رَأْسَ مَال الْمُضَارَبَةِ كُلَّهُ. وَغَيْرَ ذَلِكَ.
وَعَقْدُ الْمُضَارَبَةِ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ، وَالأَْصْل فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلٍّ مِنْ رَبِّ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 319.
(2) الدر المختار 4 / 489، وكشاف القناع 3 / 522

(38/91)


الْمَال وَالْمُضَارِبِ فَسْخُ الْعَقْدِ بِإِِِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ مَتَى شَاءَ، وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ، غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ: فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لِكُل مِنَ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ مَتَى شَاءَ دُونَ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الآْخَرِ وَكَوْنُ رَأْسِ الْمَال نَاضًّا.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لِكُل مِنْ رَبِّ الْمَال وَالْمُضَارِبِ الْفَسْخُ بِشَرْطِ عِلْمِ صَاحِبِهِ وَكَوْنِ رَأْسِ الْمَال عَيْنًا عِنْدَ الْفَسْخِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: حَقُّ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْفَسْخِ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِ قَبْل شِرَاءِ السِّلَعِ بِالْمَال (1) .
وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ تَفْصِيلٌ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِذَا نَهَى رَبُّ الْمَال الْمُضَارِبَ عَنِ الْعَمَل بِمَالِهِ قَبْل الْعَمَل انْحَل عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ وَيَصِيرُ الْمَال كَالْوَدِيعَةِ، فَإِِِذَا عَمِل بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ الرِّبْحُ وَحْدَهُ وَعَلَيْهِ الْخُسْرُ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَال عَلَيْهِ إِِلاَّ رَأْسُ الْمَال (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ نَهَى رَبُّ الْمَال الْمُضَارِبَ عَنِ التَّصَرُّفِ وَرَأْسُ الْمَال عُرُوضٌ وَقْتَ النَّهْيِ لَمْ يَصِحَّ نَهْيُهُ، أَيْ وَلاَ يَنْعَزِل بِهَذَا النَّهْيِ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ الْعُرُوضَ لأَِنَّهُ يَحْتَاجُ إِِلَى بَيْعِهَا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِيَظْهَرَ الرِّبْحُ، فَكَانَ النَّهْيُ وَالْفَسْخُ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 109، والشرح الصغير 3 / 705، ومغني المحتاج 2 / 319، والمغني 5 / 58
(2) الشرح الصغير 3 / 797.

(38/92)


إِِبْطَالاً لِحَقِّهِ فِي التَّصَرُّفِ فَلاَ يَمْلِكُ ذَلِكَ، وَإِِِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَال دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَقْتَ الْفَسْخِ وَالنَّهْيِ صَحَّ الْفَسْخُ وَالنَّهْيُ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ الدَّرَاهِمَ إِِلَى دَنَانِيرَ وَالدَّنَانِيرَ إِِلَى دَرَاهِمَ اسْتِحْسَانًا - أَيْ لِتَوَافُقِ جِنْسِ رَأْسِ الْمَال - لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يُعَدُّ بَيْعًا - أَيْ لِلْعَيْنِ - لاِتِّحَادِهِمَا فِي الثَّمَنِيَّةِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلِلْعَامِل بَعْدَ الْفَسْخِ بَيْعُ مَال الْمُضَارَبَةِ إِِذَا تَوَقَّعَ فِيهِ رِبْحًا كَأَنْ ظَفِرَ بِسُوقِ أَوْ رَاغِبٍ، وَلاَ يَشْتَرِي لاِرْتِفَاعِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ مَعَ انْتِفَاءِ حَظِّهِ فِيهِ.
وَيَلْزَمُ الْعَامِل اسْتِيفَاءُ دَيْنِ مَال الْمُضَارَبَةِ إِِذَا فَسَخَ أَحَدُهُمَا، أَوْ فَسَخَا، أَوِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ، لأَِنَّ الدَّيْنَ نَاقِصٌ وَقَدْ أَخَذَ الْعَامِل مِنَ الْمَالِكِ مِلْكًا تَامًّا فَلْيَرُدَّ كَمَا أَخَذَ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْمَال رِبْحٌ أَمْ لاَ، وَلَوْ رَضِيَ بِقَبُول الْحَوَالَةِ جَازَ. وَيَلْزَمُ الْعَامِل أَيْضًا تَنْضِيضُ رَأْسِ الْمَال إِِنْ كَانَ عِنْدَ الْفَسْخِ عَرَضًا وَطَلَبَ الْمَالِكُ تَنْضِيضَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْمَال رِبْحٌ أَمْ لاَ. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِِذَا انْفَسَخَتِ الْمُضَارَبَةُ وَالْمَال نَاضٌّ لاَ رِبْحَ فِيهِ أَخَذَهُ رَبُّهُ، وَإِِِنْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ قَسَمَاهُ عَلَى مَا شَرْطَاهُ، وَإِِِنِ انْفَسَخَتْ وَالْمَال
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 109، 112، وحاشية ابن عابدين 4 / 489.
(2) مغني المحتاج 2 / 319، 320.

(38/92)


عَرَضٌ فَاتَّفَقَا عَلَى بَيْعِهِ أَوْ قَسْمِهِ جَازَ، لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُمَا لاَ يَعْدُوهُمَا.
وَإِِِنْ طَلَبَ الْعَامِل الْبَيْعَ وَأَبَى رَبُّ الْمَال - وَقَدْ ظَهَرَ فِي الْمَال رِبْحٌ - أُجْبِرَ رَبُّ الْمَال عَلَى الْبَيْعِ، لأَِنَّ حَقَّ الْعَامِل فِي الرِّبْحِ وَلاَ يَظْهَرُ إِِلاَّ بِالْبَيْعِ، وَإِِِنْ لَمْ يَظْهَرْ رِبْحٌ لَمْ يُجْبَرْ.
وَإِِِنِ انْفَسَخَتِ الْمُضَارَبَةُ وَالْمَال دَيْنٌ لَزِمَ الْعَامِل تَقَاضِيهِ، سَوَاءٌ ظَهَرَ فِي الْمَال رِبْحٌ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ (1) .

رَابِعًا: تَلَفُ رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ: 75 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَنْفَسِخُ بِتَلَفِ مَال الْمُضَارَبَةِ الَّذِي تَسَلَّمَهُ الْمُضَارِبُ وَلَمْ يُحَرِّكْهُ بَعْدُ لِلْمُضَارَبَةِ بِالشِّرَاءِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَال الَّذِي تَعَيَّنَ لِلْمُضَارَبَةِ وَتَعَلَّقَ بِهِ عَقْدُهَا قَدْ هَلَكَ وَزَال. وَهَذَا إِِذَا تَلِفَ الْمَال كُلُّهُ، أَمَّا إِِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْمَال فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِِِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَنْفَسِخُ بِقَدْرِ مَا تَلِفَ مِنْ رَأْسِ الْمَال وَيَظَل بَاقِيهِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ.
وَقَالُوا: إِِذَا هَلَكَ مَال الْمُضَارَبَةِ كُلُّهُ بَعْدَ تَحْرِيكِهِ فِي عَمَلِيَّاتِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِلْمُضَارَبَةِ ارْتَفَعَ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ وَانْفَسَخَ. وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِِِذَا هَلَكَ بَعْضُ مَال الْمُضَارَبَةِ بَعْدَ الْعَمَل فِيهَا ارْتَفَعَتِ الْمُضَارَبَةُ بِقَدْرِ مَا تَلِفَ أَوْ
__________
(1) المغني 5 / 64 - 65

(38/93)


هَلَكَ، وَيَكُونُ رَأْسُ مَالِهَا مَا بَقِيَ بَعْدَ الْهَلاَكِ.
وَذَلِكَ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَفِي أَحْوَالٍ ذَكَرُوهَا.
قَال الْكَاسَانِيُّ: تَبْطُل الْمُضَارَبَةُ بِهَلاَكِ مَال الْمُضَارَبَةِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ قَبْل أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ شَيْئًا فِي قَوْل أَصْحَابِنَا، لأَِنَّهُ تَعَيَّنَ لِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ بِالْقَبْضِ فَيَبْطُل الْعَقْدُ بِهَلاَكِهِ كَالْوَدِيعَةِ، وَكَذَا لَوِ اسْتَهْلَكَهُ الْمُضَارِبُ أَوْ أَنْفَقَهُ أَوْ دَفَعَهُ إِِلَى غَيْرِهِ فَاسْتَهْلَكَهُ، فَإِِِنْ أَخَذَ مِثْلَهُ مِنَ الَّذِي اسْتَهْلَكَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ. كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لأَِنَّهُ أَخَذَ عِوَضَ رَأْسِ الْمَال فَكَانَ أَخْذُ عِوَضِهِ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِ ثَمَنِهِ فَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَوْ أَقْرَضَهَا الْمُضَارِبُ رَجُلاً فَإِِِنْ رَجَعَ إِِلَيْهِ الدَّرَاهِمَ بِعَيْنِهَا رَجَعَتْ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، لأَِنَّهُ وَإِِِنْ تَعَدَّى يَضْمَنُ لَكِنْ زَال التَّعَدِّي فَيَزُول الضَّمَانُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ، وَإِِِنْ أَخَذَ مِثْلَهَا لَمْ يَرْجِعْ فِي الْمُضَارَبَةِ، لأَِنَّ الضَّمَانَ قَدِ اسْتَقَرَّ بِهَلاَكِ الْعَيْنِ، وَحُكْمُ الْمُضَارَبَةِ مَعَ الضَّمَانِ لاَ يَجْتَمِعَانِ.
هَذَا إِِذَا هَلَكَ مَال الْمُضَارَبَةِ قَبْل أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُضَارِبُ شَيْئًا.
فَإِِِنْ هَلَكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِأَنْ كَانَ مَال الْمُضَارَبَةِ أَلْفًا فَاشْتَرَى بِهَا سِلْعَةً وَلَمْ يَنْقُدِ الْمُضَارِبُ الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ حَتَّى هَلَكَتِ الأَْلْفُ، فَقَدْ قَال أَصْحَابُنَا: السِّلْعَةُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَيَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَال بِالأَْلْفِ فَيُسَلِّمُهَا إِِلَى الْبَائِعِ، وَكَذَلِكَ

(38/93)


إِِنْ هَلَكَتِ الثَّانِيَةُ الَّتِي قَبَضَ يَرْجِعُ بِمِثْلِهَا عَلَى رَبِّ الْمَال، وَكَذَلِكَ سَبِيل الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ أَبَدًا حَتَّى يُسَلِّمَ إِِلَى الْبَائِعِ، وَيَكُونُ مَا دَفَعَهُ أَوَّلاً رَبُّ الْمَال وَمَا غَرِمَ كُلُّهُ مِنْ رَأْسِ الْمَال، لأَِنَّ الْمُضَارِبَ مُتَصَرِّفٌ لِرَبِّ الْمَال فَيَرْجِعُ بِمَا لَحِقَهُ مِنَ الضَّمَانِ بِتَصَرُّفِهِ لَهُ كَالْوَكِيل، غَيْرَ أَنَّ الْفَرَقَ بَيْنَ الْوَكِيل وَالْمُضَارِبِ: أَنَّ الْوَكِيل إِِذَا هَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ فَرَجَعَ بِمِثْلِهِ إِِلَى الْمُوَكِّل ثُمَّ هَلَكَ الثَّانِي لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُوَكِّل، وَالْمُضَارِبُ يَرْجِعُ فِي كُل مَرَّةٍ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِنْ تَلِفَ جَمِيعُ مَال الْمُضَارَبَةِ مِنْ يَدِ الْعَامِل انْفَسَخَ الْعَقْدُ، وَإِِِنْ تَلِفَ بَعْضُ الْمَال انْفَسَخَتْ فِيمَا تَلِفَ وَظَلَّتْ قَائِمَةً فِيمَا بَقِيَ.
وَقَالُوا: إِِنْ تَلِفَ كُل الْمَال أَوْ بَعْضُهُ فَلِرَبِّ الْمَال دَفْعُ خُلْفِ مَا تَلِفَ إِِلَى الْعَامِل لِيَتَّجِرَ بِهِ - إِِنْ أَرَادَ رَبُّ الْمَال ذَلِكَ، وَلاَ جَبْرَ عَلَيْهِ فِيهِ قَبْل الْعَمَل أَوْ بَعْدَهُ - وَيَلْزَمُ الْعَامِل قَبُول الْخُلْفِ إِِنْ كَانَ بَعْضُ الْمَال هُوَ مَا تَلِفَ وَكَانَ تَلَفُهُ بَعْدَ الْعَمَل لاَ قَبْلَهُ، لأَِنَّ لِكُل مِنْهُمَا الْفَسْخُ قَبْل الْعَمَل. أَمَّا إِِنْ تَلِفَ جَمِيعُ مَال الْمُضَارَبَةِ مِنْ يَدِ الْعَامِل، وَأَرَادَ رَبُّ الْمَال الْخُلْفَ فَإِِِنَّ الْعَامِل لاَ يَلْزَمُهُ قَبُول الْخُلْفِ لاِنْفِسَاخِ الْمُضَارَبَةِ وَانْقِطَاعِ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَهُمَا. وَحَيْثُ كَانَ لاَ يَلْزَمُ رَبَّ الْمَال
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 113.

(38/94)


الْخُلْفُ وَاشْتَرَى الْعَامِل سِلْعَةً لِلْمُضَارَبَةِ فَذَهَبَ لِيَأْتِيَ لِبَائِعِهَا بِثَمَنِهَا فَوَجَدَ الْمَال قَدْ ضَاعَ وَأَبَى رَبُّ الْمَال الْخُلْفَ لَزِمَتِ السِّلْعَةُ الْعَامِل، فَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ بِيعَتْ وَرِبْحُهَا لَهُ وَخُسْرُهَا عَلَيْهِ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يُجْبَرُ التَّالِفُ بِرِبْحِ الْخُلْفِ، سَوَاءٌ كَانَ التَّالِفُ كُل الْمَال أَوْ بَعْضَهُ كَمَا قَال اللَّخْمِيُّ، وَنَحْوُهُ لاَبْنِ عَرَفَةَ عَنِ التُّونُسِيِّ، وَقَال بَعْضُهُمْ: إِِذَا تَلِفَ الْبَعْضُ وَأَخْلَفَهُ رَبُّهُ فَإِِِنَّهُ يُجْبَرُ تَلَفُ الأَْوَّل بِرِبْحِ الثَّانِي.
وَقَالُوا: لَوْ جَنَى رَبُّ الْمَال أَوِ الْعَامِل عَلَى بَعْضِ مَال الْقِرَاضِ، أَوْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ شَيْئًا قَرْضًا فَكَأَجْنَبِيٍّ، فَيَتْبَعُ الآْخِذَ وَالْجَانِيَ بِمَا أَخَذَهُ أَوْ أَتْلَفَهُ بِجِنَايَتِهِ، وَلاَ يُجْبَرُ ذَلِكَ بِالرِّبْحِ لأَِنَّ الرِّبْحَ إِِنَّمَا يَجْبُرُ الْخُسْرَ وَالتَّلَفَ، وَأَمَّا الْجِنَايَةُ وَالأَْخْذُ مِنْهُ قَرْضًا فَلاَ يُجْبَرَانِ بِهِ، لأَِنَّ الْجَانِيَ يُتْبَعُ بِمَا جَنَى عَلَيْهِ وَالآْخِذُ قَرْضًا يُتْبَعُ بِمَا أَخَذَهُ، وَرَأْسُ الْمَال هُوَ الْبَاقِي بَعْدَ الأَْخْذِ وَالْجِنَايَةُ وَالرِّبْحُ لَهُ خَاصَّةً، لأَِنَّ رَأْسَ الْمَال وَالرِّبْحَ إِِنَّمَا هُوَ لَهُ، وَلاَ يُعْقَل رِبْحٌ لِلْمَأْخُوذِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُحَرَّكْ، وَلأَِنَّ رَبَّ الْمَال إِِنْ كَانَ هُوَ الْجَانِي فَقَدْ رَضِيَ بِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ هُوَ رَأْسُ الْمَال وَفَسَخَ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ فِيمَا أَخَذَهُ، وَإِِِنْ كَانَ الْعَامِل اتُّبِعَ بِهِ فِي ذِمَّتِهِ كَالأَْجْنَبِيِّ وَلاَ رِبْحَ لِمَا فِي الذِّمَّةِ، وَلاَ فَرْقَ فِي الْجِنَايَةِ أَوِ الأَْخَذِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَا قَبْل الْعَمَل أَوْ

(38/94)


بَعْدَهُ، قَال الدُّسُوقِيُّ: أَيْ فِي كَوْنِ رَأْسِ الْمَال هُوَ الْبَاقِيَ، وَلاَ يُجْبَرُ ذَلِكَ بِالرِّبْحِ وَيُتْبَعُ الآْخِذُ بِمَا أَخَذَهُ وَالْجَانِي بِمَا جَنَى عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ: لَوْ تَلِفَ بَعْضُ مَال الْمُضَارَبَةِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ كَحَرْقِ وَغَرَقٍ أَوْ بِغَصْبِ أَوْ سَرِقَةٍ، وَتَعَذَّرَ أَخْذُهُ أَوْ أَخْذُ بَدَلِهِ بَعْدَ تَصَرُّفِ الْعَامِل فِيهِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَهُوَ مَحْسُوبٌ مِنَ الرِّبْحِ لأَِنَّهُ نَقْصٌ حَصَل فَأَشْبَهَ نَقْصَ الْعَيْبِ وَالْمَرَضِ.
وَفِي مُقَابِل الأَْصَحِّ: لاَ يُحْسَبُ مِنَ الرِّبْحِ، لأَِنَّهُ نَقْصٌ لاَ تَعَلُّقَ لَهُ بِتَصَرُّفِ الْعَامِل وَتِجَارَتِهِ بِخِلاَفِ الْحَاصِل بِالرُّخْصِ فَلَيْسَ نَاشِئًا مِنْ نَفْسِ الْمَال، بِخِلاَفِ الْمَرَضِ وَالْعَيْبِ.
وَإِِِنْ تَلِفَ بِمَا ذُكِرَ قَبْل تَصَرُّفِهِ فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ فَيُحْسَبُ مَا تَلِفَ مِنْ رَأْسِ الْمَال لاَ مِنَ الرِّبْحِ فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتَأَكَّدْ بِالْعَمَل، وَالثَّانِي: مِنَ الرِّبْحِ لأَِنَّهُ بِقَبْضِ الْعَامِل صَارَ مَال مُضَارَبَةٍ.
وَلَوْ تَلِفَ مَال الْمُضَارَبَةِ كُلُّهُ ارْتَفَعَتِ الْمُضَارَبَةُ، سَوَاءٌ أَتَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَمْ بِإِِِتْلاَفِ الْمَالِكِ أَمِ الْعَامِل أَمْ أَجْنَبِيٍّ، لَكِنْ يَسْتَقِرُّ نَصِيبُ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 528 - 529، وشرح الزرقاني وحاشية البناني 6 / 225 - 226، وبلغة السالك والشرح الصغير 3 / 697، وشرح الخرشي 4 / 431.

(38/95)


الْعَامِل مِنَ الرِّبْحِ فِي حَالَةِ إِِتْلاَفِ الْمَالِكِ، وَتَبْقَى الْمُضَارَبَةُ فِي الْبَدَل إِِنْ أَخَذَهُ فِي حَالَةِ إِِتْلاَفِ الأَْجْنَبِيِّ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِِنْ تَلِفَ بَعْضُ رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ قَبْل تَصَرُّفِ الْعَامِل فِيهِ انْفَسَخَتِ الْمُضَارَبَةُ فِي التَّالِفِ، وَكَانَ رَأْسُ الْمَال هُوَ الْبَاقِيَ خَاصَّةً، لأَِنَّهُ مَالٌ هَلَكَ عَلَى جِهَتِهِ قَبْل التَّصَرُّفِ أَشْبَهَ التَّالِفَ قَبْل الْقَبْضِ، وَفَارَقَ مَا بَعْدَ التَّصَرُّفِ لأَِنَّهُ دَارَ فِي التِّجَارَةِ.
وَإِِِنْ تَلِفَ الْمَال قَبْل التَّصَرُّفِ ثُمَّ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ سِلْعَةً فِي ذِمَّتِهِ لِلْمُضَارَبَةِ فَهِيَ لَهُ وَثَمَنُهَا عَلَيْهِ، سَوَاءٌ عَلِمَ تَلَفَ الْمَال قَبْل نَقْدِ الثَّمَنِ أَوْ جَهِلَهُ، لأَِنَّهُ اشْتَرَاهَا فِي ذِمَّتِهِ وَلَيْسَتْ مِنَ الْمُضَارَبَةِ لاِنْفِسَاخِهَا بِالتَّلَفِ فَاخْتَصَتْ بِهِ، وَلَوْ كَانَتْ لِلْمُضَارَبَةِ لَكَانَ مُسْتَدِينًا عَلَى غَيْرِهِ، وَالاِسْتِدَانَةُ عَلَى الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِِذْنِهِ لاَ تَجُوزُ، إِِلاَ أَنْ يَجْبُرَهُ رَبُّ الْمَال فَيَكُونَ لَهُ.
وَإِِنْ تَلِفَ مَال الْمُضَارَبَةِ بَعْدَ الشِّرَاءِ قَبْل نَقْدِ الثَّمَنِ بِأَنِ اشْتَرَى لِلْمُضَارَبَةِ سِلْعَةً فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ تَلِفَ مَال الْمُضَارَبَةِ قَبْل إِِقْبَاضِهِ، أَوْ تَلِفَ مَال الْمُضَارَبَةِ وَالسِّلْعَةُ، فَالْمُضَارَبَةُ بَاقِيَةٌ بِحَالِهَا، لأَِنَّ الْمُوجِبَ هُوَ التَّلَفُ وَلَمْ يُوجَدَّ حِينَ الشِّرَاءِ وَلاَ قَبْلَهُ، وَالثَّمَنُ عَلَى رَبِّ الْمَال لأَِنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 319، ونهاية المحتاج 5 / 236.

(38/95)


مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ كَالْمُوَكَّل، وَيَصِيرُ رَأْسُ الْمَال الثَّمَنَ دُونَ التَّالِفِ لِفَوَاتِهِ، وَلِصَاحِبِ السِّلْعَةِ مُطَالَبَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالثَّمَنِ لِبَقَاءِ الإِِْذْنِ مِنْ رَبِّ الْمَال وَلِمُبَاشَرَةِ الْعَامِل، فَإِِنْ غَرِمَهُ رَبُّ الْمَال لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ، لأَِنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ، وَيَرَجِعُ بِهِ الْعَامِل إِِنْ غَرِمَهُ عَلَى رَبِّ الْمَال (1) .

خَامِسًا: اسْتِرْدَادُ رَبِّ الْمَال رَأْسَ مَال الْمُضَارَبَةِ:
76 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّ اسْتِرْدَادَ رَبِّ الْمَال رَأْسَ مَال الْمُضَارَبَةِ كُلَّهُ تَنْفَسِخُ بِهِ الْمُضَارَبَةُ لِعَدَمِ وُجُودِ الْمَال الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ الْمُضَارَبَةُ، وَأَنَّ اسْتِرْدَادَهُ بَعْضَ رَأْسِ الْمَال تَنْفَسِخُ بِهِ الْمُضَارَبَةُ فِيمَا اسْتَرَدَّ وَتَظَل قَائِمَةً فِيمَا سِوَاهُ.
قَال الْحَصْكَفِيُّ: إِِنْ أَخَذَ الْمَالِكُ الْمَال بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُضَارِبِ وَبَاعَ وَاشْتَرَى بَطَلَتْ إِِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَال نَقْدًا لأَِنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، وَإِِِنْ صَارَ عَرَضًا لاَ تَبْطُل لأَِنَّ النَّقْضَ الصَّرِيحَ لَهَا لاَ يَعْمَل حِينَئِذٍ فَهَذَا أَوْلَى، ثُمَّ إِِنْ بَاعَ بِعَرَضٍ بَقِيَتْ وَإِِِنْ بِنَقْدِ بَطَلَتْ، لأَِنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْبَحْرِ: لَوْ بَاعَ رَبُّ الْمَال الْعُرُوضَ بِنَقْدٍ ثُمَّ اشْتَرَى عُرُوضًا كَانَ لِلْمُضَارِبِ حِصَّتُهُ مِنْ رِبْحِ الْعُرُوضِ الأُْولَى لاَ الثَّانِيَةِ لأَِنَّهُ لَمَّا بَاعَ الْعُرُوضَ وَصَارَ الْمَال نَقْدًا فِي يَدِهِ كَانَ ذَلِكَ نَقْضًا
__________
(1) كشاف القناع 3 / 518.

(38/96)


لِلْمُضَارَبَةِ فَشِرَاؤُهُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لِنَفْسِهِ، فَلَوْ بَاعَ الْعُرُوضَ بِعُرُوضٍ مِثْلِهَا أَوْ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ وَرَبِحَ كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا (1) .
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ وَقَالُوا: تَرْتَفِعُ الْمُضَارَبَةُ بِاسْتِرْجَاعِ الْمَالِكِ رَأْسَ الْمَال كُلِّهِ مِنَ الْمُضَارِبِ، وَلَوِ اسْتَرَدَّ الْمَالِكُ بَعْضَ الْمَال قَبْل ظُهُورِ رِبْحٍ وَخُسْرَانٍ فِيهِ رَجَعَ رَأْسُ الْمَال إِِلَى الْبَاقِي بَعْدَ الْمُسْتَرَدِّ، لأَِنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ غَيْرَهُ فَصَارَ كَمَا لَوِ اقْتَصَرَ فِي الاِبْتِدَاءِ عَلَى إِِعْطَائِهِ لَهُ، وَانْفَسَخَتِ الْمُضَارَبَةُ فِيمَا اسْتَرَدَّ.
وَإِِِنِ اسْتَرَدَّ الْمَالِكُ بَعْضَ رَأْسِ الْمَال بِغَيْرِ رِضَا الْعَامِل بَعْدَ ظُهُورِ الرِّبْحِ فَالْمُسْتَرَدُّ مِنْهُ شَائِعٌ: رِبْحًا وَرَأْسَ مَالٍ عَلَى النِّسْبَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ جُمْلَةِ الرِّبْحِ وَرَأْسِ الْمَال، لأَِنَّهُ غَيْرُ مُمَيَّزٍ، وَيَسْتَقِرُّ مِلْكُ الْعَامِل عَلَى مَا خَصَّهُ مِنَ الرِّبْحِ فَلاَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِيهِ وَلاَ يَسْقُطُ بِخُسْرٍ وَقَعَ بَعْدَهُ، مِثَالُهُ: رَأْسُ الْمَال مِائَةٌ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالرِّبْحُ عِشْرُونَ وَاسْتَرَدَّ الْمَالِكُ عِشْرِينَ، فَالرِّبْحُ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَال وَهُوَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمَا، فَيَكُونُ الْمُسْتَرَدُّ وَهُوَ الْعِشْرُونَ سُدُسُهُ مِنَ الرِّبْحِ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ، فَيَسْتَقِرُّ لِلْعَامِل الْمَشْرُوطُ مِنْهُ - وَهُوَ دِرْهَمٌ وَثُلُثَانِ إِِنْ شَرَطَ نِصْفَ الرِّبْحِ -
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 4 / 490، والخرشي 6 / 215، وبلغة السالك 3 / 697، وروضة الطالبين 5 / 142، ومغني المحتاج 2 / 320، 321، وكشاف القناع 3 / 518 - 519.

(38/96)


وَبَاقِيهِ مِنْ رَأْسِ الْمَال، فَيَعُودُ رَأْسُ الْمَال إِِلَى ثَلاَثَةٍ وَثَمَانِينَ وَثُلُثٍ، فَلَوْ عَادَ مَا فِي يَدِ الْعَامِل إِِلَى ثَمَانِينَ لَمْ تَسْقُطْ حِصَّةُ الْعَامِل بَل يَأْخُذُ مِنْهَا - أَيْ مِنَ الثَّمَانِينَ - دِرْهَمًا وَثُلُثَيِ الدِّرْهَمِ وَيَرُدُّ الْبَاقِيَ، وَاسْتِقْلاَل الْعَامِل بِأَخْذِ حِصَّتِهِ - وَهُوَ مَا اسْتَشْكَل عَلَيْهِ الإِِِْسْنَوِيُّ تَبَعًا لاَبْنِ الرِّفْعَةِ - لأَِنَّ الْمَالِكَ لَمَّا تَسَلَّطَ بِاسْتِرْدَادِ مَا عَلِمَ لِلْعَامِل فِيهِ جُزْءٌ مُكِّنَ الْعَامِل مِنَ الاِسْتِقْلاَل بِأَخْذِ مِثْلِهِ لِيَحْصُل التَّكَافُؤُ بَيْنَهُمَا.
وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ لَوِ اسْتَرَدَّ الْمَالِكُ بَعْضَ رَأْسِ الْمَال بَعْدَ ظُهُورِ الرِّبْحِ بِرِضَا الْعَامِل وَصَرَّحَا بِالإِِِْشَاعَةِ أَوْ أَطْلَقَا.
وَإِِِنْ كَانَ الاِسْتِرْدَادُ فِي الْمِثَال السَّابِقِ بِرِضَا الْعَامِل، وَقَصَدَ هُوَ وَالْمَالِكُ الأَْخْذَ مِنْ رَأْسِ الْمَال اخْتَصَّ بِهِ، أَوْ مِنَ الرِّبْحِ اخْتَصَّ بِهِ، وَحِينَئِذٍ يَمْلِكُ الْعَامِل مِمَّا فِي يَدِهِ قَدْرَ حِصَّتِهِ عَلَى الإِِِْشَاعَةِ. قَال الشَّبْرَامَلِّسِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ الاِسْتِقْلاَل بِأَخْذِهِ مِمَّا فِي يَدِهِ، وَإِِِنْ لَمْ يَقْصِدَا شَيْئًا حُمِل عَلَى الإِِِْشَاعَةِ، وَنَصِيبُ الْعَامِل قَرْضٌ لِلْمَالِكِ لاَ هِبَةٌ. . كَمَا رَجَّحَهُ فِي الْمَطْلَبِ وَنَقَلَهُ الإِِِْسْنَوِيُّ وَأَقَرَّهُ.
وَإِِِنِ اسْتَرَدَّ الْمَالِكُ بَعْضَ رَأْسِ الْمَال بَعْدَ ظُهُورِ الْخُسْرَانِ. فَالْخُسْرَانُ مُوَزَّعٌ عَلَى الْمُسْتَرَدِّ وَالْبَاقِي بَعْدَهُ، وَحِينَئِذٍ فَلاَ يَلْزَمُ جَبْرُ حِصَّةِ الْمُسْتَرَدِّ وَهُوَ عِشْرُونَ لَوْ رَبِحَ الْمَال بَعْدَ ذَلِكَ،

(38/97)


مِثَالُهُ: رَأْسُ الْمَال مِائَةٌ وَالْخُسْرَانُ عِشْرُونَ، ثُمَّ اسْتَرَدَّ الْمَالِكُ عِشْرِينَ، فَرُبُعُ الْعِشْرِينَ الَّتِي هِيَ جَمِيعُ الْخُسْرَانِ حِصَّةُ الْمُسْتَرَدِّ مِنْهَا خَمْسَةٌ، فَكَأَنَّ الْمَالِكَ اسْتَرَدَّ خَمْسَةَ وَعِشْرِينَ، وَيَعُودُ رَأْسُ الْمَال الْبَاقِي بَعْدَ الْمُسْتَرَدِّ وَبَعْدَ حِصَّتِهِ مِنَ الْخُسْرَانِ إِِلَى خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ، فَلَوْ رَبِحَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا قُسِّمَ بَيْنَهُمَا عَلَى حَسَبِ مَا شَرْطَاهُ (1) .

سَادِسًا: رِدَّةُ رَبِّ الْمَال أَوِ الْمُضَارِبِ
77 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوِ ارْتَدَّ رَبُّ الْمَال فَبَاعَ الْمُضَارِبُ وَاشْتَرَى بِالْمَال بَعْدَ الرِّدَّةِ فَذَلِكَ كُلُّهُ مَوْقُوفٌ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ: إِِنْ رَجَعَ إِِلَى الإِِِْسْلاَمِ بَعْدَ ذَلِكَ نَفَذَ كُلُّهُ وَالْتَحَقَتْ رِدَّتُهُ بِالْعَدِمِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِ الْمُضَارَبَةِ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرْتَدَّ أَصْلاً، وَكَذَلِكَ إِِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا قَبْل أَنْ يُحْكَمَ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ - عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَشْتَرِطُ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِلَحَاقِهِ لِلْحُكْمِ بِمَوْتِهِ وَصَيْرُورَةِ أَمْوَالِهِ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ - فَإِِِنْ مَاتَ أَوْ قُتِل عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ بَطَلَتِ الْمُضَارَبَةُ مِنْ يَوْمِ ارْتَدَّ، عَلَى أَصْل أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفٌ إِِنْ مَاتَ أَوْ قُتِل أَوْ لَحِقَ فَحُكِمَ بِاللَّحَاقِ يَزُول مِلْكُهُ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ إِِلَى وَرَثَتِهِ،
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 142، ونهاية المحتاج 5 / 237، ومغني المحتاج 2 / 320 - 321.

(38/97)


وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَبْطُل تَصَرُّفُ الْمُضَارِبِ بِأَمْرِهِ لِبُطْلاَنِ أَهْلِيَّةِ الآْمِرِ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ، فَإِِِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَال يَوْمَئِذٍ قَائِمًا فِي يَدِهِ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ، ثُمَّ اشْتَرَى بَعْدَ ذَلِكَ فَالْمُشْتَرَى وَرِبْحُهُ يَكُونُ لَهُ لأَِنَّهُ زَال مِلْكُ رَبِّ الْمَال عَنِ الْمَال فَيَنْعَزِل الْمُضَارِبُ عَنِ الْمُضَارَبَةِ، فَصَارَ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ، وَإِِِنْ كَانَ صَارَ رَأْسُ الْمَال مَتَاعًا فَبَيْعُ الْمُضَارِبِ فِيهِ وَشِرَاؤُهُ جَائِزٌ حَتَّى يَنِضَّ رَأْسُ الْمَال، لأَِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يَنْعَزِل بِالْعَزْل وَالنَّهْيِ وَلاَ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَال فَكَذَلِكَ رِدَّتُهُ، فَإِِِنْ حَصَل فِي يَدِ الْمُضَارِبِ دَنَانِيرُ وَرَأْسُ الْمَال دَرَاهِمُ أَوِ الْعَكْسُ فَالْقِيَاسُ أَنْ لاَ يَجُوزَ لَهُ التَّصَرُّفُ، لأَِنَّ الَّذِي حَصَل فِي يَدِهِ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَال مَعْنًى، لاِتِّحَادِهِمَا فِي الثَّمَنِيَّةِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ عَيْنَ الْمَال قَائِمٌ فِي يَدِهِ إِِلاَّ أَنَّهُمُ اسْتَحْسَنُوا فَقَالُوا: إِِنْ بَاعَهُ بِجِنْسِ رَأْسِ الْمَال جَازَ، لأَِنَّ عَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ يَرُدَّ مِثْل رَأْسِ الْمَال فَكَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مَا فِي يَدِهِ كَالْعُرُوضِ.
وَأَمَّا عَلَى أَصْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَالرِّدَّةُ لاَ تَقْدَحُ فِي مِلْكِ الْمُرْتَدِّ فَيَجُوزُ تَصَرُّفُ الْمُضَارِبِ بَعْدَ رِدَّةِ رَبِّ الْمَال كَمَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ رَبِّ الْمَال بِنَفْسِهِ عِنْدَهُمَا، فَإِِِنْ مَاتَ رَبُّ الْمَال أَوْ قُتِل كَانَ مَوْتُهُ كَمَوْتِ الْمُسْلِمِ فِي بُطْلاَنِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، وَكَذَلِكَ إِِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَحُكِمَ

(38/98)


بِلَحَاقِهِ، لأَِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ بِدَلِيل أَنَّ مَالَهُ يَصِيرُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ فَبَطَل أَمْرُهُ فِي الْمَال.
وَإِِِنْ لَمْ يَرْتَدَّ رَبُّ الْمَال وَلَكِنَّ الْمُضَارِبَ ارْتَدَّ، فَالْمُضَارَبَةُ عَلَى حَالِهَا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، لأَِنَّ وُقُوفَ تَصَرُّفِ رَبِّ الْمَال بِنَفْسِهِ لِوُقُوفِ مِلْكِهِ وَلاَ مِلْكَ لِلْمُضَارِبِ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بَل الْمِلْكُ لِرَبِّ الْمَال وَلَمْ تُوجَدْ مِنْهُ الرِّدَّةُ فَبَقِيَتِ الْمُضَارَبَةُ، إِِلاَّ أَنَّهُ لاَ عُهْدَةَ عَلَى الْمُضَارِبِ وَإِِِنَّمَا الْعُهْدَةُ عَلَى رَبِّ الْمَال. فِي قِيَاسِ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ؛ لأَِنَّ الْعُهْدَةَ تَلْزَمُ بِسَبَبِ الْمَال فَتَكُونُ عَلَى رَبِّ الْمَال، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ، لأَِنَّ تَصَرُّفَهُ كَتَصَرُّفِ الْمُسْلِمِ.
وَإِِِنْ مَاتَ الْمُضَارِبُ أَوْ قُتِل عَلَى الرِّدَّةِ بَطَلَتِ الْمُضَارَبَةُ لأَِنَّ مَوْتَهُ فِي الرِّدَّةِ كَمَوْتِهِ قَبْل الرِّدَّةِ، وَكَذَا إِِذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقُضِيَ بِلَحَاقِهِ، لأَِنَّ رِدَّتَهُ مَعَ اللَّحَاقِ وَالْحُكْمِ بِهِ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ فِي بُطْلاَنِ تَصَرُّفِهِ، فَإِِِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ رِدَّتِهِ فَبَاعَ وَاشْتَرَى هُنَاكَ ثُمَّ رَجَعَ مُسْلِمًا فَجَمِيعُ مَا اشْتَرَى وَبَاعَ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَكُونُ لَهُ وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ، لأَِنَّهُ لَمَّا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ صَارَ كَالْحَرْبِيِّ إِِذَا اسْتَوْلَى عَلَى مَال إِِنْسَانٍ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ: أَنَّهُ يَمْلِكُهُ فَكَذَا الْمُرْتَدُّ.
وَارْتِدَادُ الْمَرْأَةِ وَعَدَمُ ارْتِدَادِهَا سَوَاءٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، كَانَ الْمَال لَهَا أَوْ كَانَتْ هِيَ

(38/98)


مُضَارِبَةً، لأَِنَّ رِدَّتَهَا لاَ تُؤَثِّرُ فِي مِلْكِهَا إِِلاَّ أَنْ تَمُوتَ فَتَبْطُل الْمُضَارَبَةُ كَمَا لَوْ مَاتَتْ قَبْل الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ وَحُكِمَ بِلَحَاقِهَا لأَِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ (1) .

مُضَارَّةٌ

انْظُرْ: ضَرَرٌ

مَضَامِينُ

انْظُرْ: بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، غَرَرٌ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 112 - 113، والدر المختار ورد المحتار 4 / 489.

(38/99)


مُضَبَّبٌ

انْظُرْ: آنِيَةٌ

مُضْطَرٌّ

انْظُرْ: ضَرُورَةٌ

(38/99)


مُضْغَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُضْغَةُ فِي اللُّغَةِ: الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ قَدْرَ مَا يَمْضُغُ وَجَمْعُهَا مُضَغٌ (1) .
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِِِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} . (2)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعَلَقَةُ:
2 - الْعَلَقَةُ فِي اللُّغَةِ: قِطْعَةٌ مِنَ الدَّمِ الْجَامِدِ مُتَكَوِّنَةٌ مِنَ الْمَنِيِّ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْمُضْغَةَ طَوْرٌ مِنْ أَطْوَارِ الْجَنِينِ وَكَذَلِكَ الْعَلَقَةُ، فَالْمُضْغَةُ مَرْحَلَةٌ بَعْدَ مَرْحَلَةِ
__________
(1) المصباح المنير، والصحاح، والنهاية في غريب الحديث والآثار 4 / 98.
(2) سورة الحج / 5
(3) المصباح المنير، وتفسير روح المعاني 17 / 116، وتفسير القرطبي 12 / 6.

(38/100)


الْعَلَقَةِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِِِْنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} . (1)

النُّطْفَةُ:
3 - النُّطْفَةُ لُغَةً: مَاءُ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، وَجَمْعُهَا نُطَفٌ (2) ، وَفِي التَّنْزِيل: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} . (3)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. وَالصِّلَةُ أَنَّ النُّطْفَةَ مَرْحَلَةٌ مِنْ مَرَاحِل الْجَنِينِ تَسْبِقُ الْعَلَقَةَ وَالْمُضْغَةَ.

الْجَنِينُ:
4 - الْجَنِينُ فِي اللُّغَةِ: كُل مَسْتُورٍ وَأَجْنَتْهُ الْحَامِل سَتَرَتْهُ، وَالْجَنِينُ وَصْفٌ لَهُ مَا دَامَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ (4) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْجَنِينَ يَكُونُ بَعْدَ مَرْحَلَةِ الْمُضْغَةِ.
__________
(1) سورة المؤمنون 12 - 14.
(2) المصباح المنير، وتفسير روح المعاني 17 / 116.
(3) سورة القيامة / 37.
(4) المصباح المنير.

(38/100)


الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُضْغَةِ:
حُكْمُهَا مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِِلَى أَنَّ الْمُضْغَةَ نَجَسٌ، لأَِنَّهَا دَمٌ وَالدَّمُ نَجَسٌ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْوَجْهِ الآْخَرِ وَابْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِِلَى أَنَّ الْمُضْغَةَ لَيْسَتْ بِنَجَسٍ بَل طَاهِرَةٌ، لأَِنَّ الْمُضْغَةَ أَصْل حَيَوَانٍ طَاهِرٍ كَالْمَنِيِّ (2) .

عُقُوبَةُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمُضْغَةِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى امْرَأَةٍ حَامِلٍ إِِذَا أَلْقَتْ مُضْغَةً فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أَلْقَتْ مُضْغَةً وَلَمْ يَتَبَيَّنْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ فَشَهِدَتْ ثِقَاتٌ مِنَ الْقَوَابِل أَنَّهُ مَبْدَأُ خَلْقِ آدَمِيٍّ وَلَوْ بَقِيَ لَتَصَوَّرَ فَلاَ غُرَّةَ فِيهِ وَتَجِبُ فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِذَا أَلْقَتِ الْمَرْأَةُ مُضْغَةً بِضَرْبٍ أَوْ تَخْوِيفٍ أَوْ شَمِّ رِيحٍ فَفِيهِ عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ أَوْ غُرَّةٌ، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْغُرَّةِ لِلْجَانِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 208 ط. بولاق، والبحر الرائق 1 / 236، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 1 / 328، والكافي 1 / 88، وبلغة السالك 1 / 35.
(2) مغني المحتاج 1 / 81، والقليوبي وعميرة 1 / 71، وحاشية ابن عابدين 1 / 208.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 378، 379

(38/101)


لاَ لِمُسْتَحِقِّهَا، وَهَذَا الْوَاجِبُ عَلَى التَّخْيِيرِ إِِنَّمَا هُوَ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ، أَمَّا جَنِينُ الأَْمَةِ فَيَتَعَيَّنُ فِيهِ النَّقْدُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِِنْ ضُرِبَ بَطْنُ امْرَأَةٍ فَأَلْقَتْ مُضْغَةً لَمْ تَظْهَرْ فِيهَا صُورَةُ الآْدَمِيِّ فَشَهِدَ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ أَنَّ فِيهَا صُورَةَ الآْدَمِيِّ وَجَبَتْ فِيهَا الْغُرَّةُ لأَِنَّهُنَّ يُدْرِكْنَ مِنْ ذَلِكَ مَا لاَ يُدْرِكُ غَيْرُهُنَّ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَيَكْفِي الظُّهُورُ فِي طَرَفٍ وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي كُل الأَْطْرَافِ، وَلَوْ لَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَشَهِدَ الْقَوَابِل أَنَّ فِيهِ صُورَةً خَفِيَّةً يَخْتَصُّ بِمُعْرِفَتِهَا أَهْل الْخِبْرَةِ وَجَبَتِ الْغُرَّةُ أَيْضًا، وَإِِِنْ قُلْنَ: لَيْسَ فِيهِ صُورَةٌ خَفِيَّةٌ لَكِنَّهُ أَصْل آدَمِيٌّ وَلَوْ بَقِيَ لَتَصَوَّرَ لَمْ تَجِبِ الْغُرَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِِِنْ شَكَكْنَ هَل هُوَ أَصْل آدَمِيٌّ لَمْ تَجِبْ قَطْعًا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَإِِِنْ أَلْقَتْ مُضْغَةً فَشَهِدَ ثِقَاتٌ مِنَ الْقَوَابِل أَنَّ فِيهِ صُورَةً خَفِيَّةً فَفِيهِ غُرَّةٌ، وَإِِِنْ شَهِدَتْ أَنَّهُ مُبْتَدَأُ خَلْقِ آدَمِيٍّ لَوْ بَقِيَ تَصَوَّرَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا لاَ شَيْءَ فِيهِ لأَِنَّهُ لَمْ يَتَصَوَّرْ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ كَالْعَلَقَةِ، وَلأَِنَّ الأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَلاَ تَشْغَلْهَا بِالشَّكِّ.
وَالثَّانِي: فِيهِ غُرَّةٌ لأَِنَّهُ مُبْتَدَأُ خَلْقِ آدَمِيٍّ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 268.
(2) روضة الطالبين 9 / 370.

(38/101)


أَشْبَهَ مَا لَوْ تَصَوَّرَ (1) .

أَثَرُ إِِسْقَاطِ الْمُضْغَةِ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِإِِِسْقَاطِ الْمَرْأَةِ الْحَامِل مُضْغَةً.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِِلَى أَنَّهُ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِإِِِسْقَاطِ مُضْغَةٍ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ الآْدَمِيِّ وَلَوْ صُورَةً خَفِيَّةً تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الثِّقَاتِ مِنَ الْقَوَابِل.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِِلَى أَنَّ إِِسْقَاطَ الْعَلَقَةِ فَمَا فَوْقَهَا مِنَ الْمُضْغَةِ أَوْ غَيْرِهَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عِدَّةٌ ف 22) .

أَثَرُ إِِسْقَاطِ الْمُضْغَةِ فِي وُقُوعِ الطَّلاَقِ الْمُعَلَّقِ وَفِي النِّفَاسِ
8 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الْمُضْغَةُ الَّتِي لَيْسَتْ فِيهَا صُورَةُ آدَمِيٍّ لاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ الْمُعَلَّقُ بِهَا لأَِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ وَلَدٌ بِالْمُشَاهَدَةِ وَلاَ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِِِنْ كَانَتْ فِيهَا صُورَةُ آدَمِيٍّ أَوْ بِهَا صُورَةُ آدَمِيٍّ وَلَوْ خَفِيَّةً وَشَهِدَتِ الثِّقَاتُ بِهَا مِنَ الْقَوَابِل بِأَنَّهَا لَوْ بَقِيَتْ لَتَصَوَّرَ وَلَتَخَلَّقَ فَإِِِنَّهَا يَقَعُ الطَّلاَقُ الْمُعَلَّقُ عَلَى الْوِلاَدَةِ، وَيُعِدُّ الْمَالِكِيَّةُ الْمُضْغَةَ حَمْلاً فَيَقَعُ فِيهَا الطَّلاَقُ
__________
(1) المغني 7 / 802.

(38/102)


الْمُعَلَّقُ (1) .
وَأَمَّا أَثَرُهَا فِي النِّفَاسِ فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِذَا أَسَقَطَتِ الْمَرْأَةُ مُضْغَةً لَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ فَإِِِنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تَصِيرُ بِهِ نُفَسَاءَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِِلَى اعْتِبَارِهَا نُفَسَاءَ وَلَوْ بِإِِِلْقَاءِ مُضْغَةٍ هِيَ أَصْل آدَمِيٍّ أَوْ بِإِِِلْقَاءِ عَلَقَةٍ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِِجْهَاضٌ ف 17) .

مَضْغُوطٌ

انْظُرْ: إِِكْرَاهٌ
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 376، والقليوبي وعميرة 4 / 44، وتفسير القرطبي 12 / 8، وحاشية ابن عابدين 1 / 201

(38/102)


مَضْمَضَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَضْمَضَةُ فِي اللُّغَةِ: التَّحْرِيكُ، وَمِنْهُ: مَضْمَضَ النُّعَاسُ فِي عَيْنَيْهِ إِِذَا تَحَرَّكَتَا بِالنُّعَاسِ، ثُمَّ اشْتُهِرَ بِاسْتِعْمَالِهَا فِي وَضْعِ الْمَاءِ فِي الْفَمِ وَتَحْرِيكِهِ.
قَال الْفَيُّومِيُّ: هِيَ تَحْرِيكُ الْمَاءِ فِي الْفَمِ، يُقَال: مَضْمَضْتُ الْمَاءَ فِي فَمِي: إِِذَا حَرَّكْتَهُ بِالإِِِْدَارَةِ فِيهِ، وَتَمَضْمَضْتُ فِي وُضُوئِي: إِِذَا حَرَّكْتَ الْمَاءَ فِي فَمِي (1) .
وَاصْطِلاَحًا قَال الدَّرْدِيرُ وَالنَّوَوِيُّ: أَنْ يَجْعَل الْمَاءَ فِي فِيهِ وَيُدِيرَهُ فِيهِ ثُمَّ يَمُجَّهُ، أَيْ يَطْرَحُهُ (2)
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: اسْتِيعَابُ الْمَاءِ جَمِيعَ الْفَمِ ثُمَّ مَجُّهُ (3) .
وَعَرَّفَهَا ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّهَا: إِِدَارَةُ الْمَاءِ فِي الْفَمِ (4) .
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ التَّعَارِيفِ أَنَّ الْفُقَهَاءَ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح، والمعجم الوسيط.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 97، والمجموع 1 / 351.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 79 ط. بولاق، ومراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص 38.
(4) المغني 1 / 120 ط. مكتبة ابن تيمية

(38/103)


مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُضَمْضِمَةَ إِِدْخَال الْمَاءِ إِِلَى الْفَمِ، وَاخْتَلَفُوا فِي إِِدَارَةِ الْمَاءِ فِي الْفَمِ وَمَجِّهِ. وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ عَدَمُ اشْتِرَاطِهِمَا، وَالأَْفْضَل عِنْدَهُمْ فِعْلُهُمَا.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ اشْتِرَاطُهُمَا، وَإِِِلاَّ فَلاَ يُعْتَدُّ بِهَا (1) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْمَضْمَضَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: إِِنَّ الْمَضْمَضَةَ سُنَّةٌ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل، وَبَهْ قَال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَقَتَادَةُ وَيَحْيَى الأَْنْصَارِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِِذَا قُمْتُمْ إِِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِِلَى الْمَرَافِقِ} (2) فَالْوَجْهُ عِنْدَ الْعَرَبِ: مَا حَصَلَتْ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ، وَدَاخِل الْفَمِ لَيْسَ مِنَ الْوَجْهِ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ وَذَكَرَ مِنْهَا الْمَضْمَضَةَ وَالاِسْتِنْشَاقَ، (3) وَالْفِطْرَةَ سُنَّةٌ، وَذِكْرُهُمَا مِنَ الْفِطْرَةِ يَدُل عَلَى مُخَالَفَتِهِمَا لِسَائِرِ الْوُضُوءِ،
__________
(1) المراجع السابق
(2) سورة المائدة / 6.
(3) حديث: " عشر من الفطرة. . . " أخرجه الترمذي (1 / 223) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.

(38/103)


وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلأَْعْرَابِيِّ: تَوَضَّأَ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ. (1) قَال النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَحْسَنِ الأَْدِلَّةِ، لأَِنَّ هَذَا الأَْعْرَابِيَّ صَلَّى ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يُحْسِنْهَا، فَعَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ أَنَّهُ لاَ يَعْرِفُ الصَّلاَةَ الَّتِي تُفْعَل بِحَضْرَةِ النَّاسِ وَتُشَاهَدُ أَعْمَالُهَا، فَعَلَّمَهُ وَاجِبَاتِهَا وَوَاجِبَاتِ الْوُضُوءِ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَوَضَّأَ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ سُنَنَ الصَّلاَةِ وَالْوُضُوءِ لِئَلاَّ يُكْثِرَ عَلَيْهِ فَلاَ يَضْبِطْهَا، فَلَوْ كَانَتِ الْمَضْمَضَةُ وَاجِبَةً لَعَلَّمَهُ إِِيَّاهَا، فَإِِِنَّهُ مِمَّا يَخْفَى، لاَ سِيمَا فِي حَقِّ هَذَا الرَّجُل الَّذِي خَفِيَتْ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ الَّتِي تُشَاهَدُ، فَكَيْفَ الْوُضُوءُ الَّذِي يَخْفَى (2) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْمَضْمَضَةَ وَاجِبَةٌ فِي الْغُسْل، وَسُنَّةٌ فِي الْوُضُوءِ، وَبَهْ قَال سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، لأَِنَّ الْوَاجِبَ فِي بَابِ الْوُضُوءِ غَسْل الأَْعْضَاءِ الثَّلاَثَةِ وَمَسْحُ الرَّأْسِ، وَدَاخِل الْفَمِ لَيْسَ مِنْ جُمْلَتِهَا، أَمَّا مَا سِوَى الْوَجْهِ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا الْوَجْهُ، لأَِنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُوَاجِهُ بِهِ الإِِِْنْسَانُ عَادَةً، وَالْفَمُ لاَ يُوَاجِهُ بِهِ بِكُل حَالٍ فَلاَ يَجِبُ غَسْلُهُ.
وَأَمَّا وُجُوبُ الْمَضْمَضَةِ فِي الْغُسْل فَلأَِنَّ
__________
(1) حديث: " توضأ كما أمرك الله ". أخرجه الترمذي (2 / 102) من حديث رفاعة بن رافع، وقال: حديث حسن
(2) حاشية الدسوقي 1 / 97، وجواهر الإكليل 1 / 23، والمجموع 1 / 362 - 365، والمغني لابن قدامة 1 / 118

(38/104)


الْوَاجِبَ هُنَاكَ تَطْهِيرُ الْبَدَنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِِِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (1) أَيْ طَهِّرُوا أَبْدَانَكُمْ فَيَجِبُ غَسْل مَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ مِنْ غَيْرِ حَرْجٍ، ظَاهِرًا كَانَ أَوْ بَاطِنًا، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ وُجُوبَ الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِِنَّ تَحْتَ كُل شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ، فَاغْسِلُوا الشَّعَرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ، (2) وَقَالُوا: فِي الأَْنْفِ شَعَرٌ وَفِي الْفَمِ بَشَرَةٌ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَشْهُورِ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَإِِِسْحَاقُ وَعَطَاءٌ: إِِنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالاِسْتِنْشَاقَ وَاجِبَةٌ فِي الطَّهَارَتَيْنِ أَيِ الْغُسْل وَالْوُضُوءُ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْمَضْمَضَةُ وَالاِسْتِنْشَاقُ مِنَ الْوُضُوءِ الَّذِي لاَ بُدَّ مِنْهُ، (4) وَلأَِنَّ كُل مَنْ وَصَفَ وُضُوءَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَقْصِيًا ذَكَرَ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، وَمُدَاوَمَتُهُ عَلَيْهِمَا تَدُل عَلَى وُجُوبِهِمَا، لأَِنَّ فِعْلَهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا وَتَفْصِيلاً لِلْوُضُوءِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي
__________
(1) سورة المائدة / 6
(2) حديث: " تحت كل شعر جنابة. . . " أخرجه أبو داود (1 / 172) من حديث أبي هريرة، ثم ذكر أن في إسناده راويًا ضعيفًا
(3) بدائع الصنائع 1 / 21 ط دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان، ومراقي الفلاح ص 32، والمغني لابن قدامة 1 / 120 ط. الرياض.
(4) حديث: " المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لا بد منه " أخرجه الدارقطني (1 / 84) من حديث عائشة، وصوب الدارقطني إرساله

(38/104)


كِتَابِ اللَّهِ. (1)
كَيْفِيَّةُ الْمَضْمَضَةِ
3 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَمَضْمَضَ وَيَسْتَنْشِقَ بِيُمْنَاهُ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَعَا بِوَضُوءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ فَغَسَلَهُمَا ثُمَّ أَدْخَل يَمِينَهُ فِي الإِِِْنَاءِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثُمَّ غَسَل وَجْهَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. . . ثُمَّ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ (2) ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَنَّهُ أَدْخَل يَدَهُ الْيُمْنَى فِي الإِِِْنَاءِ فَمَلأََ فَمَهُ فَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى، فَفَعَل ذَلِكَ ثَلاَثًا ".
(3) وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْمَضْمَضَةُ وَالاِسْتِنْشَاقُ بِالْيَمِينِ سُنَّةٌ، لِمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ اسْتَنْثَرَ بِيَمِينِهِ، فَقَال مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: جَهِلْتُ السُّنَّةَ، فَقَال الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَيْفَ أَجْهَل وَالسُّنَّةُ خَرَجَتْ مِنْ بُيُوتِنَا، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) المغني لابن قدامة 1 / 118 - 119 ط. الرياض، والمجموع 1 / 362، 363
(2) حديث " عثمان أنه دعا بوضوء ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 266) ، ومسلم (1 / 204 - 205) ، واللفظ لمسلم.
(3) أثر علي: " أنه أدخل يده اليمنى في الإناء فتمضمض واستنشق. . . ". أخرجه البيهقي (1 / 48) .

(38/105)


قَال: الْيُمْنُ لِلْوَجْهِ، وَالْيَسَارُ لِلْمَقْعَدِ (1) . وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: الْمَضْمَضَةُ بِالْيَمِينِ وَالاِسْتِنْشَاقُ بِالْيَسَارِ، لأَِنَّ الْفَمَ مَطْهَرَةٌ، وَالأَْنْفَ مَقْذَرَةٌ، وَالْيَمِينُ لِلأَْطْهَارِ، وَالْيَسَارُ لِلأَْقْذَارِ (2) .
4 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِِنَّ السُّنَّةَ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ الْفَصْل بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَتِمَّ كُلٌّ مِنْهُمَا بِثَلاَثِ غَرَفَاتٍ، أَيْ أَنْ تَتِمَّ الْمَضْمَضَةُ بِثَلاَثِ وَالاِسْتِنْشَاقِ بِثَلاَثِ، لأَِنَّ الَّذِينَ حَكَوْا وُضُوءَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذُوا لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاءً جَدِيدًا، وَلأَِنَّهُمَا عُضْوَانِ مُنْفَرِدَانِ فَيُفْرِدُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَاءٍ عَلَى حِدَةٍ كَسَائِرِ الأَْعْضَاءِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ: إِِنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالاِسْتِنْشَاقَ مُسْتَحَبَّانِ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، قَال الأَْثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَل: أَيُّهُمَا أَعْجَبُ إِِلَيْكَ الْمَضْمَضَةُ وَالاِسْتِنْشَاقُ بِغَرْفَةِ وَاحِدَةٍ، أَوْ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ؟ قَال: بِغَرْفَةِ وَاحِدَةٍ، وَذَلِكَ
__________
(1) حديث: " أن الحسن بن علي استنثر بيمينه ". أورده الكاساني في بدائع الصنائع (1 / 21) ولم يعزه إلى أي مصدر، ولم نهتد لمن أخرجه
(2) بدائع الصنائع 1 / 21، وحاشية الدسوقي 1 / 97، والمجموع 1 / 351، والمغني 1 / 120 - 121
(3) بدائع الصنائع 1 / 21، وحاشية الدسوقي مع الدردير 1 / 97.

(38/105)


لِحَدِيثِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
قَال الْبُوَيْطِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِِنْ أَفْرَدَ الْمَضْمَضَةَ بِثَلاَثِ غَرَفَاتٍ، وَالاِسْتِنْشَاقَ بِثَلاَثِ جَازَ، لأَِنَّهُ رُوِيَ فِي حَدِيثِ طَلْحَةِ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ فَصَّل بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ، (1) لأَِنَّ الْفَصْل أَبْلَغُ فِي النَّظَافَةِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْغَسْل.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْفْضَلِيَّةِ، فَقَالُوا: إِِنَّ فِيهَا طَرِيقَيْنِ، الصَّحِيحُ: أَنَّ فِيهَا قَوْلَيْنِ: أَظْهَرُهُمَا: الْفَصْل بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ أَفْضَل. وَالثَّانِي: الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَفَضْل (2) .

التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَغَيْرِهَا:
5 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ سُنَّةٌ، وَهُوَ تَقْدِيمُ الْمَضْمَضَةِ عَلَى الاِسْتِنْشَاقِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى التَّقْدِيمِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَجِبُ التَّرْتِيبُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَسْل بَقِيَّةِ الْوَجْهِ،
__________
(1) حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فصل بين المضمضة والاستنشاق ". أخرجه أبو داود (1 / 96)
(2) المجموع 1 / 358، وروضة الطالبين 1 / 58، والمغني 1 / 120.
(3) بدائع الصنائع 1 / 21، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 102.

(38/106)


لأَِنَّ الأَْنْفَ وَالْفَمَ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَلَكِنْ مِنَ الْمُسْتَحَبِّ أَنْ يَبْدَأَ بِهِمَا قَبْل الْوَجْهِ، لأَِنَّ كُل مَنْ وَصَفَ وُضُوءَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ أَنَّهُ بَدَأَ بِهِمَا إِِلاَّ شَيْئًا نَادِرًا.
وَقَال النَّوَوِيُّ: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الْمَضْمَضَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الاِسْتِنْشَاقِ سَوَاءٌ جَمَعَ أَوْ فَصَل بِغَرْفَةٍ أَوْ بِغَرَفَاتٍ، وَفِي هَذَا التَّقْدِيمِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمِّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَوَلَدُهُ إِِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ، أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ شَرْطٌ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فَلاَ يُحْسَبُ الاِسْتِنْشَاقُ إِِلاَّ بَعْدَ الْمَضْمَضَةِ، لأَِنَّهُمَا عُضْوَانِ مُخْتَلِفَانِ فَاشْتُرِطَ فِيهِمَا التَّرْتِيبُ كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ (1) .
6 - أَمَّا التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَسَائِرِ الأَْعْضَاءِ غَيْرَ الْوَجْهِ فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:
إِِحْدَاهُمَا: يَجِبُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ لأَِنَّهَا مِنَ الْوَجْهِ فَوَجَبَ غَسْلُهَا قَبْل غَسْل الْيَدَيْنِ لِلآْيَةِ وَقِيَاسًا عَلَى سَائِرِ أَجْزَائِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: لاَ يَجِبُ، بَل لَوْ تَرَكَهَا فِي وُضُوئِهِ وَصَلَّى تَمَضْمَضَ وَأَعَادَ الصَّلاَةَ وَلَمْ يُعِدِ الْوُضُوءَ، لِمَا رَوَى الْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ
__________
(1) المجموع 1 / 362، والقليوبي وعميرة 1 / 53، والقوانين الفقهية ص 30 والمغني 1 / 122.

(38/106)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أُتِيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوُضَوءٍ فَتَوَضَّأَ فَغَسَل كَفَّيْهِ ثَلاَثًا وَغَسَل وَجْهَهُ ثَلاَثًا ثُمَّ غَسَل ذِرَاعَيْهِ ثَلاَثًا ثَلاَثًا ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلاَثًا ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا، (1) وَلأَِنَّ وُجُوبَهَا بِغَيْرِ الْقُرْآنِ، وَإِِِنَّمَا وَجَبَ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الأَْعْضَاءِ الْمَذْكُورَةِ لأَِنَّ فِي الآْيَةِ مَا يَدُل عَلَى إِِرَادَةِ التَّرْتِيبِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِيهَا (2) .

الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَضْمَضَةِ:
7 - قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَضْمَضَةِ: أَنْ يَبْلُغَ الْمَاءُ إِِلَى أَقْصَى الْحَنَكِ وَوَجْهَيِ الأَْسْنَانِ وَاللِّثَاتِ (3) .
قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِِنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ سُنَّةٌ لِغَيْرِ الصَّائِمِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِِذَا تَوَضَّأْتَ فَأَبْلِغْ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ مَا لَمْ تَكُنْ صَائِمًا. (4) وَلأَِنَّ الْمُبَالَغَةَ فِيهِمَا مِنْ بَابِ التَّكْمِيل فِي التَّطْهِيرِ فَكَانَتْ مَسْنُونَةً إِِلاَّ فِي
__________
(1) حديث: " المقدام بن معدي كرب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء. . . " أخرجه أبو داود (مختصر سنن أبي داود للمنذري 1 / 99 ط. دار المعرفة) انظر سنن أبي داود (1 / 88 ط حمص)
(2) المغني 1 / 122.
(3) مغني المحتاج 1 / 58.
(4) حديث: " إذا توضأت فأبلغ في المضمضة " أورده السيوطي في الجامع الكبير (1 / 51) وعزاه إلى أبي بشر الدولابي، ونقل صاحب مغني المحتاج (1 / 58) عن ابن القطان أنه صححه

(38/107)


حَال الصَّوْمِ لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْرِيضِ الصَّوْمِ لِلْفَسَادِ (1) . وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ وَالصَّيْمَرِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يُبَالِغُ الصَّائِمُ فِي الْمَضْمَضَةِ دُونَ الاِسْتِنْشَاقِ لأَِنَّ الْمُتَمَضْمِضَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ رَدِّ الْمَاءِ عَنْ وُصُولِهِ إِِلَى جَوْفِهِ، بِطَبَقِ حَلْقِهِ، وَلاَ يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالْخَيْشُومِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِنَّهَا مَنْدُوبَةٌ لِغَيْرِ الصَّائِمِ، وَأَمَّا الصَّائِمُ فَتُكْرَهُ لَهُ الْمُبَالَغَةُ لِئَلاَّ يَفْسُدَ صَوْمُهُ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فَإِِِنْ وَقَعَ وَوَصَل إِِلَى حَلْقِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ (3) .

الْمَضْمَضَةُ فِي الصَّوْمِ:
8 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِِنْ تَمَضْمَضَ الصَّائِمُ فَدَخَل الْمَاءُ جَوْفَهُ فَسَدَ صَوْمُهُ إِِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ (4) وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِنْ وَصَل لِحَلْقِهِ أَوْ مَعِدَتِهِ شَيْءٌ يَغْلِبُ سَبْقُهُ إِِلَى حَلْقِهِ مِنْ أَثَرِ مَاءِ مَضْمَضَةٍ أَوْ رُطُوبَةِ سِوَاكٍ أَفْطَرَ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي الْفَرْضِ خَاصَّةً، وَأَمَّا وُصُول أَثَرِ الْمَضْمَضَةِ لِلْحَلْقِ فِي صَوْمِ النَّفَل فَلاَ يَفْسُدُ (5) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِِنْ تَمَضْمَضَ الصَّائِمُ أَوِ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 21، ومغني المحتاج 1 / 58، وحاشية القليوبي 1 / 53، والمجموع 6 / 326 وكشاف القناع 1 / 105
(2) المجموع 1 / 356، ومغني المحتاج 1 / 58.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 97، وجواهر الإكليل 1 / 58
(4) الفتاوى الهندية 1 / 202
(5) حاشية الدسوقي 1 / 525

(38/107)


اسْتَنْشَقَ فَسَبَقَ الْمَاءُ إِِلَى جَوْفِهِ أَوْ دِمَاغِهِ فَثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: أَصَحُّهَا عِنْدَ الأَْصْحَابِ: إِِنْ بَالَغَ أَفْطَرَ وَإِِِلاَّ فَلاَ، وَالثَّانِي: يُفْطِرُ مُطْلَقًا، وَالثَّالِثُ: لاَ يُفْطِرُ مُطْلَقًا، وَالْخِلاَفُ فِيمَنْ هُوَ ذَاكِرٌ لِلصَّوْمِ عَالِمٌ بِالتَّحْرِيمِ فَإِِِنْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلاً لَمْ يَبْطُل بِلاَ خِلاَفٍ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِِنْ تَمَضْمَضَ الصَّائِمُ أَوِ اسْتَنْشَقَ فِي الطَّهَارَةِ فَسَبَقَ الْمَاءُ إِِلَى حَلْقِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَلاَ إِِسْرَافٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ وَصَل إِِلَى حَلْقِهِ مِنْ غَيْرِ إِِسْرَافٍ وَلاَ قَصْدٍ، فَأَمَّا إِِنْ أَسْرَفَ فَزَادَ عَلَى الثَّلاَثِ أَوْ بَالَغَ فَقَدْ فَعَل مَكْرُوهًا لأَِنَّهُ يُتَعَرَّضُ بِذَلِكَ بِإِِِيصَال الْمَاءِ إِِلَى حَلْقِهِ، فَإِِِنْ وَصَل إِِلَى حَلْقِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: يُفْطِرُ، وَالثَّانِي: لاَ يُفْطِرُ بِهِ لأَِنَّهُ وَصَل مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَأَشْبَهَ غُبَارَ الدَّقِيقِ وَالْحُكْمُ فِي الْمَضْمَضَةِ لِغَيْرِ الطَّهَارَةِ كَالْحُكْمِ فِي الْمَضْمَضَةِ لِلطَّهَارَةِ إِِنْ كَانَتْ لِحَاجَةِ (2) .

الْمَضْمَضَةُ بَعْدَ الطَّعَامِ
9 - الْمَضْمَضَةُ مُسْتَحَبَّةٌ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الطَّعَامِ، لَمَا رَوَى سُوَيْدٌ بْنُ النُّعْمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِِنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَرَ، حَتَّى إِِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ - وَهِيَ أَدْنَى خَيْبَرَ - صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ
__________
(1) المجموع 6 / 326
(2) المغني 3 / 108

(38/108)


دَعَا بِالأَْزْوَادِ فَلَمْ يُؤْتَ إِِلاَّ بِالسَّوِيقِ، فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِّيَ - أَيْ بُل بِالْمَاءِ لِمَا لَحِقَهُ مِنَ الْيُبْسِ - فَأَكَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلْنَا ثُمَّ قَامَ إِِلَى الْمَغْرِبِ فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. (1)
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْمَضْمَضَةِ بَعْدَ الطَّعَامِ، فَفَائِدَةُ الْمَضْمَضَةِ قَبْل الدُّخُول فِي الصَّلاَةِ مِنْ أَكْل السَّوِيقِ وَإِِِنْ كَانَ لاَ دَسَمَ لَهُ أَنْ تَحْتَبِسَ بَقَايَاهُ بَيْنَ الأَْسْنَانِ وَنَوَاحِي الْفَمِ فَيَشْغَلُهُ تَتَبُّعُهُ عَنْ أَحْوَال الصَّلاَةِ (2) .
وَكَذَلِكَ تُسْتَحَبُّ الْمَضْمَضَةُ بَعْدَ شُرْبِ اللَّبَنِ لَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ لَبَنًا فَمَضْمَضَ وَقَال: إِِنَّ لَهُ دَسَمًا، (3) فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِلَّةَ فِي الْمَضْمَضَةِ مِنَ اللَّبَنِ فَيَدُل عَلَى اسْتِحْبَابِهَا مِنْ كُل شَيْءٍ دَسِمٍ (4) .
وَقَال ابْنُ مُفْلِحٍ: تُسَنُّ الْمَضْمَضَةُ مِنْ شُرْبِ اللَّبَنِ، لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَضْمَضَ بَعْدَهُ بِمَاءِ، وَقَال:
__________
(1) حديث: سويد بن النعمان " أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 312) .
(2) فتح الباري 1 / 377 ط. دار الريان للتراث
(3) حديث: ابن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب لبنًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 313) ، ومسلم (1 / 274)
(4) فتح الباري 1 / 374.

(38/108)


إِِنَّ لَهُ دَسَمًا، وَشِيبَ لَهُ بِمَاءِ فَشَرِبَ، ثُمَّ قَال ابْنُ مُفْلِحٍ: ذَكَرَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الأَْطِبَّاءِ مِنْ أَنَّ الإِِِْكْثَارَ مِنْهُ يَضُرُّ بِالأَْسْنَانِ وَاللِّثَةِ، وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَضْمَضَ بَعْدَهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْخَبَرَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسِّلاَمُ تَمَضْمَضَ وَقَال: إِِنَّ لَهُ دَسَمًا.
وَقَال النَّوَوِيُّ: قَال الْعُلَمَاءُ: تُسْتَحَبُّ مِنْ غَيْرِ اللَّبَنِ مِنَ الْمَأْكُول وَالْمَشْرُوبِ، لِئَلاَّ يَبْقَى مِنْهُ بَقَايَا يَبْتَلِعُهَا فِي الصَّلاَةِ (1) .

مَضْمُونٌ
انْظُرْ: ضَمَانٌ.
__________
(1) الآداب الشرعية 3 / 229 - 230

(38/109)


مَطَافٌ
انْظُرْ: طَوَافٌ

(38/109)


مَطَالِعُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَطَالِعُ فِي اللُّغَةِ جَمْعُ مَطْلَعٍ - بِفَتْحِ اللاَّمِ وَكَسْرِهَا - وَهُوَ مَوْضِعُ الطُّلُوعِ أَوِ الظُّهُورِ (1) ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} ، (2) أَيْ مُنْتَهَى الأَْرْضِ الْمَعْمُورَةِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ مَوْضِعُ الطُّلُوعِ أَوِ الظُّهُورِ، وَيُقْصَدُ بِهِ - هُنَا - مَوْضِعُ طُلُوعِ الْهِلاَل مِنَ الْغَرْبِ (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
رُؤْيَةُ الْهِلاَل:
2 - الرُّؤْيَةُ: إِِدْرَاكُ الشَّيْءِ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ، وَقَال ابْنُ سِيدَهْ: الرُّؤْيَةُ. النَّظَرُ بِالْعَيْنِ وَالْقَلْبِ، وَهِيَ مَصْدَرُ رَأَى (4) .
وَالْمَقْصُودُ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل: مُعَايَنَتُهُ وَمُشَاهَدَتُهُ بِالْعَيْنِ الْبَاصِرَةِ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ السَّابِقِ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ
__________
(1) مختار الصحاح طبعة دار الحكمة بدمشق.
(2) سورة الكهف / 90
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 393.
(4) الصحاح للجوهري ط. دار الكتاب العربي بمصر، ولسان العرب لابن منظور.

(38/110)


خَبَرُهُ وَتُقْبَل شَهَادَتُهُ، فَيَثْبُتُ دُخُول الشَّهْرِ بِرُؤْيَتِهِ (1) .

اخْتِلاَفُ الْمَطَالِعِ فِي رُؤْيَةِ الْهِلاَل
3 - إِِنَّ اخْتِلاَفَ الْمَطَالِعِ تَعْبِيرٌ فِقْهِيٌّ يُرَادُ بِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: ظُهُورُ الْقَمَرِ وَرُؤْيَتُهُ فِي أَوَّل الشَّهْرِ بَيْنَ بَلَدٍ وَبَلَدٍ، حَيْثُ يَرَاهُ أَهْل بَلَدٍ مَثَلاً، بَيْنَمَا الآْخَرُونَ لاَ يَرَوْنَهُ، فَتَخْتَلِفُ مَطَالِعُ الْهِلاَل.
لِذَا تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لأَِحْكَامِ اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ نَظَرًا لِتَعَلُّقِ فَرْضِيَّةِ أَوْ صِحَّةِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ بِهَا، فَضْلاً عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُعَامَلاَتِ وَالأُْسْرَةِ وَغَيْرِهِمَا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (رُؤْيَةُ الْهِلاَل ف 14، وَرَمَضَانُ ف 3) .

أَسِبَابُ اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ
4 - تُثَارُ مَسْأَلَةُ اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ دَائِمًا عِنْدَمَا يَثُورُ الْقَوْل بِاعْتِبَارِ رُؤْيَةِ بَعْضِ الْبِلاَدِ رُؤْيَةً لِجَمِيعِهَا عَلَى سَبِيل الإِِِْلْزَامِ، وَهَذَا مَرْدُودٌ بِسَبَبِ اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ.
وَذَهَبَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ إِِلَى إِِثْبَاتِ اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: أَنَّ الرُّؤْيَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ التَّشْرِيقِ وَالتَّغْرِيبِ.
ثَانِيهِمَا: اخْتِلاَفُ الرُّؤْيَةِ بِاخْتِلاَفِ الْمَسَافَةِ أَوِ الإِِِْقْلِيمِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 95.

(38/110)


وَهُمَا بِلاَ شَكٍّ مِنْ أُمُورِ الْوَاقِعِ الْمُشَاهَدِ الَّذِي لاَ يَقْوَى عَلَى إِِنْكَارِهِ إِِلاَّ مُكَابِرٌ، فَهُوَ اخْتِلاَفٌ وَاقِعٌ بَيْنَ الْبِلاَدِ الْبَعِيدَةِ كَاخْتِلاَفِ مَطَالِعِ الشَّمْسِ (1) .
وَذَلِكَ لأَِنَّ الْهِلاَل إِِذَا رُئِيَ فِي الْمَشْرِقِ وَجَبَ أَنْ يُرَى فِي الْمَغْرِبِ وَلاَ يَنْعَكِسُ، لأَِنَّ وَقْتَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِالْمَغْرِبِ يَتَأَخَّرُ عَنْ وَقْتِ غُرُوبِهَا بِالْمَشْرِقِ، فَإِِِذَا كَانَ قَدْ رُئِيَ بِالْمَشْرِقِ ازْدَادَ بِالْمَغْرِبِ نُورًا وَبُعْدًا عَنِ الشَّمْسِ وَشُعَاعُهَا قَبْل غُرُوبِهَا، فَيَكُونُ أَحَقَّ بِالرُّؤْيَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِِذَا رُئِيَ بِالْمَغْرِبِ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبُ الرُّؤْيَةِ تَأَخُّرَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَهُمْ، فَازْدَادَ بُعْدًا وَضَوْءًا، وَلَمَّا غَرَبَتْ بِالْمَشْرِقِ كَانَ قَرِيبًا مِنْهَا، ثُمَّ إِِنَّهُ لَمَّا رُئِيَ بِالْمَغْرِبِ كَانَ قَدْ غَرَبَ عَنْ أَهْل الْمَشْرِقِ، فَهَذَا أَمْرٌ مَحْسُوسٌ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ وَالْهِلاَل وَسَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَلِذَلِكَ إِِذَا دَخَل وَقْتُ الْمَغْرِبِ بِالْمَغْرِبِ دَخَل بِالْمَشْرِقِ وَلاَ يَنْعَكِسُ، وَكَذَلِكَ الطُّلُوعُ، إِِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ بِالْمَغْرِبِ طَلَعَتْ بِالْمَشْرِقِ وَلاَ يَنْعَكِسُ (2) .

أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ وَأَدِلَّتُهُمْ
5 - تَعَدَّدَتْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ وَأَدِلَّتُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ
__________
(1) أحكام الصيام لتقي الدين ابن تيمية الطبعة الأولى بدار الكتب العلمية بلبنان ص 13 وما بعدها.
(2) أحكام الصيام لابن تيمية ص 14، والفروق للقرافي 2 / 203، 204

(38/111)


اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ مِنْ حَيْثُ اعْتِبَارُهَا أَوْ عَدَمُ اعْتِبَارِهَا بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهَا مِنْ أُمُورِ الْوَاقِعِ الْمَلْمُوسِ كَاخْتِلاَفِ مَطَالِعِ الشَّمْسِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (رُؤْيَةُ الْهِلاَل ف 14، وَرَمَضَانُ ف 3) .

حُكْمُ الأَْخَذِ بِالتَّأْقِيتِ وَالْحِسَابِ فِي إِِثْبَاتِ الأَْهِلَّةِ
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الأَْخَذِ بِقَوْل الْحَاسِبِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رُؤْيَةُ الْهِلاَل ف 11 - 13) .

طَلَبُ الرُّؤْيَةِ:
7 - لَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَلَبِ رُؤْيَةِ الْهِلاَل وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (رُؤْيَةُ الْهِلاَل فِقْرَةُ 2) .

أَهَمُّ الآْثَارِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى اعْتِبَارِ اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ:
8 - تَتَرَتَّبُ عَلَى اعْتِبَارِ اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ آثَارٌ تَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ الْعِبَادَاتِ كَالصِّيَامِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَبَعْضِ الْمُعَامَلاَتِ كَالْبَيْعِ إِِلَى أَجَلٍ، وَالسَّلَمِ، وَالإِِِْجَارَةِ، وَبَعْضِ أَحْكَامِ الأُْسْرَةِ كَالطَّلاَقِ وَالْعِدَّةِ وَالْحَضَانَةِ وَالنَّفَقَةِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا وَمُصْطَلَحُ (رُؤْيَةِ الْهِلاَل) .

(38/111)


مُطْبِقٌ
انْظُرْ: جُنُونٌ
مُطَرَّزٌ
انْظُرْ: أَلْبِسَةٌ

(38/112)