الموسوعة الفقهية الكويتية

مُطَّلِبِيٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُطَّلِبِيُّ هُوَ مَنْ يُنْسَبُ إِِلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَهُوَ أَخُو هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، الْجَدِّ الثَّانِي لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُطَّلِبِيِّ:
وَرَدَتِ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِبَنِي الْمُطَّلِبِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كُتُبِ الْفُقَهَاءِ مِنْهَا:
أ - دَفْعُ الزَّكَاةِ إِِلَيْهِمْ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جِوَازِ دَفْعِ الزَّكَاةِ لِبَنِي الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ - وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ - إِِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِِلَى بَنِي الْمُطَّلِبِ.
وَتَفْصِيل هَذَا فِي مُصْطَلَحِ (آلٌ ف 7) .
ب - حُكْمُ كَوْنِ عَامِل الزَّكَاةِ مُطَّلِبِيًّا
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُ
__________
(1) تفسير القرطبي 8 / 11 - 13، ومغني المحتاج 3 / 94.

(38/112)


الزَّكَاةِ لِبَنِي الْمُطَّلِبِ، وَعَلَيْهِ فَيَجُوزُ كَوْنُهُ عَامِلاً وَآخِذَ الأُْجْرَةِ مِنَ الزَّكَاةِ (1) .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ - وَهُمُ الَّذِينَ حَرَّمُوا عَلَى بَنِي الْمُطَّلِبِ الزَّكَاةَ - فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ مَشْهُورَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الأَْصْحَابِ - لاَ يَجُوزُ (2) . لِحَدِيثِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ وَالْفَضْل بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَتَيَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلاَهُ أَنْ يُؤَمِّرَهُمَا عَلَى بَعْضِ الصَّدَقَاتِ، فَيُؤَدِّيَانِهِ إِِلَيْهِ كَمَا يُؤَدِّي النَّاسُ، وَيُصِيبَا كَمَا يُصِيبُونَ فَسَكَتَ طَوِيلاً ثُمَّ قَال: إِِنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَنْبَغِي لآِل مُحَمِّدٍ، إِِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ إِِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ وَإِِِنَّهَا لاَ تَحِل لِمُحَمِّدِ وَلاَ لآِل مُحَمِّدٍ. (3)
وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِلْمُطَّلِبِيِّ أَنْ يَكُونَ عَامِلاً فِي الزَّكَاةِ لأَِنَّ مَا يَأْخُذُهُ عَلَى وَجْهِ الْعِوَضِ، فَلَوِ اسْتَعْمَلَهُ الإِِِْمَامُ مَثَلاً فِي الْحِفْظِ أَوِ النَّقْل
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 66، ومواهب الجليل 1 / 138، والخرشي 2 / 214
(2) المجموع للنووي 6 / 167 - 168، 227، ومغني المحتاج 3 / 112
(3) حديث عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث أنه والفضل بن عباس أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه مسلم (2 / 752 - 754) .

(38/113)


جَازَ، وَلَهُ أُجْرَتُهُ، قَال النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَال أَصْحَابُنَا الْخُرَاسَانِيُونَ: هَذَانِ الْوَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْعَامِل هَل هُوَ أُجْرَةٌ أَوْ صَدَقَةٌ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ فَإِِِنْ قُلْنَا: هُوَ أُجْرَةٌ جَازَ وَإِِِلاَّ فَلاَ، وَهُوَ يُشْبِهُ الإِِِْجَارَةَ مِنْ حَيْثُ التَّقَدُّرُ بِأُجْرَةِ الْمِثْل، وَيُشْبِهُ الصَّدَقَةَ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ عَقْدُ إِِجَارَةٍ، وَلاَ مُدَّةٌ مَعْلُومَةٌ وَلاَ عَمَلٌ مَعْلُومٌ.
وَالْخِلاَفُ فِيمَنْ طَلَبَ عَلَى عَمَلِهِ سَهْمًا مِنَ الزَّكَاةِ، فَأَمَّا إِِذَا تَبَرَّعَ بِعَمَلِهِ بِلاَ عِوَضٍ، أَوْ دَفَعَ الإِِِْمَامُ إِِلَيْهِ أُجْرَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال فَإِِِنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُهُ هَاشِمِيًّا، أَوْ مُطَّلِبِيًّا بِلاَ خِلاَفٍ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: يَجُوزُ كَوْنُهُ هَاشِمِيًّا، وَمُطَّلِبِيًّا إِِذَا أَعْطَاهُ الإِِِْمَامُ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُطَّلِبِيُّ عَامِلاً عَلَى الزَّكَاةِ إِِذَا أَخَذَ أُجْرَتَهُ مِنْهَا، أَمَّا إِِذَا دُفِعَتْ لَهُ أُجْرَتُهُ مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ فَإِِِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامِلاً عَلَيْهَا (2) .

ج - حَقُّ الْمُطَّلِبِيِّ فِي خُمْسِ الْخُمْسِ:
4 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْدِيدِ ذَوِي الْقُرْبَى الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ بِسَبَبِ
__________
(1) المجموع للنووي 6 / 168، ومغني المحتاج 3 / 112
(2) كشاف القناع 2 / 275

(38/113)


قَرَابَتِهِمْ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ (قَرَابَةٌ ف 7 وَمَا بَعْدَهَا، آلٌ ف 14، فَيْءٌ ف 12، خُمُسٌ ف 8) .

(38/114)


مَطْلٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَطْل لُغَةً: الْمُدَافَعَةُ عَنْ أَدَاءِ الْحَقِّ، قَال الْجَوْهَرِيُّ: وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ مَطَلْتُ الْحَدِيدَةَ: إِِذَا ضَرَبْتَهَا وَمَدَدْتَهَا لِتَطُول، وَمِنْهُ يُقَال: مَطَلَهُ بِدَيْنِهِ مَطْلاً، وَمَاطَلَهُ مُمَاطَلَةً: إِِذَا سَوَّفَهُ بِوَعْدِ الْوَفَاءِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: حَكَى النَّوَوِيُّ وَعَلِيُّ الْقَارِي أَنَّ الْمَطْل شَرْعًا: مَنْعُ قَضَاءِ مَا اسْتُحِقَّ أَدَاؤُهُ (2) ، قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَيَدْخُل فِي الْمَطْل كُل مَنْ لَزِمَهُ حَقٌّ، كَالزَّوْحِ لِزَوْجَتِهِ، وَالْحَاكِمِ لِرَعِيَّتِهِ، وَبِالْعَكْسِ (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِِِْنْظَارُ:
2 - الإِِِْنْظَارُ وَالنَّظِرَةُ فِي اللُّغَةِ الإِِِْمْهَال وَالتَّأْخِيرُ، يُقَال: أَنْظَرْتُ الْمَدِينَ، أَيْ
__________
(1) معجم مقاييس اللغة 5 / 331، والمصباح المنير، وأساس البلاغة ص 432، والزاهر ص 231، وتحرير ألفاظ التنبيه للنووي ص 101، ومرقاة المفاتيح 3 / 337
(2) شرح النووي على صحيح مسلم 10 / 227، ومرقاة المفاتيح 3 / 337
(3) فتح الباري 4 / 466

(38/114)


أَخَّرْتُهُ، وَذَكَرَ الأَْزْهَرِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّظْرِةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِِِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِِلَى مَيْسَرَةٍ} (1) الإِِِْنْظَارُ وَالإِِِْمْهَال إِِلَى أَنْ يُوسِرَ وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَطْل وَالإِِِْنْظَارِ التَّأْخِيرُ فِي كُلٍّ، لَكِنَّهُ فِي الْمَطْل مِنْ جَانِبِ الْمَدِينِ وَفِي الإِِِْنْظَارِ مِنْ جَانِبِ الدَّائِنِ (2) .

ب - التَّعْجِيل:
3 - التَّعْجِيل لُغَةً: الإِِِْسْرَاعُ بِالشَّيْءِ، يُقَال: عَجَّلْتُ إِِلَيْهِ الْمَال أَسْرَعْتَ إِِلَيْهِ بِحُضُورِهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَطْل وَالتَّعْجِيل الضِّدِّيَّةُ (3) .
(ر: تَأْخِيرٌ ف 5) .

ج - الظُّلْمُ:
4 - الظُّلْمُ لُغَةً: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
وَاصْطِلاَحًا هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّعَدِّي عَنِ الْحَقِّ إِِلَى الْبَاطِل، وَهُوَ الْجَوْرُ (4) .
__________
(1) سورة البقرة / 280
(2) المصباح، والمفردات، والزاهر ص 227، والفروق للعسكري ص 196، والمعلم بفوائد مسلم للمازري 3 / 220، ومرقاة المفاتيح 3 / 335، والتسهيل لابن جزي ص 95، وبدائع الصنائع 7 / 173.
(3) المصباح المنير، ومغني المحتاج 2 / 434
(4) المصباح المنير، والتعريفات للجرجاني ص 76.

(38/115)


وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَطْل وَالظُّلْمِ أَنَّ الظُّلْمَ أَعَمُّ مِنَ الْمَطْل.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمَطْل بِاخْتِلاَفِ حَال الْمَدِينِ مِنْ يُسْرٍ أَوْ عُسْرٍ. فَإِِِنْ كَانَ مُوسِرًا قَادِرًا عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ بِهِ كَانَ مَطْلُهُ حَرَامًا، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَطْل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ. (1)
وَإِِِنْ كَانَ الْمَدِينُ مُعْسِرًا لاَ يَجِدُ وَفَاءً لِدَيْنِهِ أَوْ كَانَ غَنِيًّا وَمَنَعَهُ عُذْرٌ - كَغَيْبَةِ مَالِهِ - عَنِ الْوَفَاءِ لَمْ يَكُنْ مَطْلُهُ حَرَامًا وَجَازَ لَهُ التَّأْخِيرُ إِِلَى الإِِِْمْكَانِ (2) .

صُوَرُ الْمَطْل:
لِلْمَطْل صُوَرٌ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا بِاخْتِلاَفِ صُوَرِهِ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:

أَوَّلاً: مَطْل الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ الَّذِي لاَ يَجِدُ وَفَاءً لِدَيْنِهِ
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّهُ يُمْهَل حَتَّى يُوسِرَ (3) ، وَيُتْرَكُ يَطْلُبُ الرِّزْقَ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ
__________
(1) حديث: " مطل الغني ظلم. . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 466) من حديث أبي هريرة.
(2) شرح مسلم للنووي 10 / 227
(3) المغني 4 / 499، وكشاف القناع 3 / 418، والمبسوط 24 / 164، ونهاية المحتاج 4 / 319، وشرح السنة للبغوي 8 / 195، وشرح النووي على مسلم 10 / 218، 227، والمنتقى للباجي 5 / 66، وفتح الباري 4 / 466

(38/115)


وَالْوَفَاءُ لِدَائِنِيهِ، وَلاَ تَحِل مُطَالَبَتُهُ وَلاَ مُلاَزَمَتُهُ وَلاَ مُضَايَقَتُهُ، لأَِنَّ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ أَوَجَبَ إِِنْظَارُهُ إِِلَى وَقْتِ الْمَيْسَرَةِ فَقَال: {وَإِِِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِِلَى مَيْسَرَةٍ} . (1)
قَال ابْنُ رُشْدٍ: لأَِنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالدَّيْنِ إِِنَّمَا تَجِبُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الأَْدَاءِ، فَإِِِذَا ثَبَتَ الإِِِْعْسَارُ فَلاَ سَبِيل إِِلَى الْمُطَالَبَةِ، وَلاَ إِِلَى الْحَبْسِ بِالدَّيْنِ، لأَِنَّ الْخِطَابَ مُرْتَفِعٌ عَنْهُ إِِلَى أَنْ يُوسِرَ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ: لَوْ جَازَتْ مُؤَاخَذَتُهُ لَكَانَ ظَالِمًا، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَيْسَ بِظَالِمِ لِعَجْزِهِ (3) ، بَل إِِنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ قَال: إِِذَا لَمْ يَكُنِ الْمِدْيَانُ غَنِيًّا، فَمَطْلُهُ عَدْلٌ، وَيَنْقَلِبُ الْحَال عَلَى الْغَرِيمِ، فَتَكُونُ مُطَالَبَتُهُ ظُلْمًا (4) ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال: {وَإِِِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِِلَى مَيْسَرَةٍ} .
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ مُلاَزَمَةَ الدَّائِنِ لِمَدِينِهِ الْمُعْسِرِ مَعَ اسْتِحْقَاقِهِ الإِِِْنْظَارَ بِالنَّصِّ (5) .
وَقَدْ بَيَّنَ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضْل إِِنْظَارِ الْمُعْسِرِ وَثَوَابَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال، سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ
__________
(1) سورة البقرة / 280.
(2) المقدمات الممهدات 2 / 306
(3) فتح الباري 4 / 466.
(4) عارضة الأحوذي 6 / 47
(5) الاختيار شرح المختار 2 / 90

(38/116)


الْقِيَامَةِ تَحْتَ ظِل عَرْشِهِ يَوْمَ لاَ ظِل إِِلاَّ ظِلُّهُ. (1)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَدِينِ الْمُعْسِرِ إِِذَا لَمْ يَكُنِ الْقَدْرُ الَّذِي اسْتُحِقَّ عَلَيْهِ حَاضِرًا عِنْدَهُ، لَكِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِالتَّكَسُّبِ مَثَلاً، هَل يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَمْ لاَ؟
قَال الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: أَطْلَقَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمَ الْوُجُوبِ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِالْوُجُوبِ مُطْلَقًا.
وَفَصَّل آخَرُونَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَصْل الدَّيْنِ يَجِبُ بِسَبَبِ يَعْصِي بِهِ فَيَجِبُ، وَإِِِلاَّ فَلاَ. (2)
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي هَل يُجْبَرُ الْمَدِينُ الْمُعْدِمُ عَلَى إِِجَارَةِ نَفْسِهِ لِوَفَاءِ دَيْنِ الْغُرَمَاءِ مِنْ أُجْرَتِهِ إِِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْعَمَل أَمْ لاَ؟ (3)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِِفْلاَسٌ ف 55)

ثَانِيًا: مَطْل الْمَدِينِ الْغَنِيِّ الَّذِي مَنَعَهُ الْعُذْرُ عَنِ الْوَفَاءِ
7 - مَطْل الْمَدِينِ الْغَنِيِّ الَّذِي مَنَعَهُ الْعُذْرُ عَنِ الْوَفَاءِ، كَغَيْبَةِ مَالِهِ وَعَدَم وُجُودِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقْتَ الْوَفَاءِ بِغَيْرِ تَعَمُّدِهِ فَلاَ يَكُونُ مَطْلُهُ
__________
(1) حديث: " من أنظر معسرًا أو وضع له. . . " أخرجه الترمذي (3 / 590) وقال: حديث حسن صحيح.
(2) فتح الباري 4 / 465.
(3) أحكام القرآن للجصاص 2 / 202 - 204 والمقدمات الممهدات 2 / 306.

(38/116)


حَرَامًا، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَطْل الْمَنْهِيَّ عَنْهُ كَمَا قَال الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: تَأْخِيرُ مَا اسْتُحِقَّ أَدَاؤُهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ (1) ، وَهُوَ مَعْذُورٌ.

ثَالِثًا: مَطْل الْمَدِينِ الْمُوسِرِ بِلاَ عُذْرٍ
8 - مَطْل الْمَدِينِ الْمُوسِرِ الْقَادِرِ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ بِلاَ عُذْرٍ وَذَلِكَ بَعْدَ مُطَالَبَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ، فَإِِِنَّهُ حَرَامٌ شَرْعًا، وَمِنْ كَبَائِرِ الإِِِْثْمِ، وَمِنَ الظُّلْمِ الْمُوجِبِ لِلْعُقُوبَةِ الْحَامِلَةِ عَلَى الْوَفَاءِ (2) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَطْل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، (3) قَال ابْنُ حَجَرٍ: الْمَعْنَى أَنَّهُ مِنَ الظُّلْمِ، وَأَطْلَقَ ذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْفِيرِ مِنَ الْمَطْل (4) ، وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مَطْل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ إِِذَا كَانَ وَاجِدًا لِجِنْسِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ فِي تَأْخِيرِ سَاعَةٍ يُمْكِنُهُ فِيهَا الأَْدَاءُ (5) ، وَقَال الْبَاجِيُّ: وَإِِِذَا كَانَ غَنِيًّا فَمَطَل بِمَا قَدِ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ فَقَدْ ظَلَمَ (6) وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِل عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ، (7) وَمَعْنَى " يُحِل عِرْضَهُ "
__________
(1) فتح الباري 4 / 465
(2) فتح الباري 4 / 465 - 466، والزواجر عن ارتكاب الكبائر 1 / 249، وإحكام الأحكام لابن دقيق العيد 3 / 198
(3) حديث: " مطل الغني ظلم. . . " تقدم تخريجه ف5.
(4) فتح الباري 4 / 465.
(5) عارضة الأحوذي 6 / 46.
(6) المنتقى 5 / 66
(7) حديث: " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته. . " أخرجه أحمد (4 / 222) من حديث الشريد بن سويد، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (5 / 64)

(38/117)


أَيْ يُبِيحُ أَنْ يَذْكُرَهُ الدَّائِنُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْمَطْل وَسُوءِ الْمُعَامَلَةِ (1) .
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَلاَ نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهِ، وَامْتَنَعَ مِنْهُ، أَنَّهُ يُعَاقَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ (2) .
وَالْعُقُوبَةُ الزَّاجِرَةُ هِيَ عُقُوبَةٌ تَعْزِيرِيَّةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا، الْمَقْصُودُ مِنْهَا حَمْلُهُ عَلَى الْوَفَاءِ وَإِِِلْجَاؤُهُ إِِلَى دَفْعِ الْحَقِّ إِِلَى صَاحِبِهِ دُونَ تَأْخِيرٍ.
أَمَّا قَبْل الطَّلَبِ، فَقَدْ وَقَعَ الْخِلاَفُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: هَل يَجِبُ الأَْدَاءُ مَعَ الْقُدْرَةِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ صَاحِبِ الْحَقِّ، حَتَّى يُعَدَّ مَطْلاً بِالْبَاطِل قَبْلَهُ؟ وَحَكَى ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِيهِ وَجْهَانِ، وَمَال الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ إِِلَى تَرْجِيحِ عَدَمِ الْوُجُوبِ قَبْل الطَّلَبِ، لأَِنَّ لَفْظَ " الْمَطْل " فِي الْحَدِيثِ يُشْعِرُ بِتَقْدِيمِ الطَّلَبِ وَتَوَقُّفِ الْحُكْمِ بِظُلْمِ الْمُمَاطِل عَلَيْهِ (3) .
وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمَطْل يَثْبُتُ بِالتَّأْجِيل وَالْمُدَافَعَةِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ (4) .
__________
(1) الزواجر عن اقتراف الكبائر 1 / 249، وجامع الأصول 4 / 455، وشرح السنة للبغوي 8 / 195، والمنتقى للباجي 5 / 66.
(2) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص 92
(3) إحكام الأحكام لابن دقيق العيد 3 / 198، وفتح الباري 4 / 466، والزواجر للهيتمي 1 / 249
(4) الفتاوى الهندية 3 / 412.

(38/117)


حَمْل الْمَدِينِ الْمُمَاطِل عَلَى الْوَفَاءِ
نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى طُرُقٍ تُتَّبَعُ لِحَمْل الْمَدِينِ الْمُمَاطِل عَلَى الْوَفَاءِ، مِنْهَا:

أ - قَضَاءُ الْحَاكِمِ دَيْنَهُ مِنْ مَالِهِ جَبْرًا:
9 - إِِذَا كَانَ لِلْمَدِينِ الْمُمَاطِل مَالٌ مِنْ جَنْسِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، فَإِِِنَّ الْحَاكِمَ يَسْتَوْفِيهِ جَبْرًا عَنْهُ، وَيَدْفَعُهُ لِلدَّائِنِ إِِنْصَافًا لَهُ، جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: الْمَحْبُوسُ فِي الدَّيْنِ إِِذَا امْتَنَعَ عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَلَهُ مَالٌ فَإِِِنْ كَانَ مَالُهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، بِأَنْ كَانَ مَالُهُ دَرَاهِمَ وَالدَّيْنُ دَرَاهِمُ، فَالْقَاضِي يَقْضِي دَيْنَهُ مِنْ دَرَاهِمِهِ بِلاَ خِلاَفٍ (1) .
وَقَال الْقَرَافِيُّ: وَلاَ يَجُوزُ الْحَبْسُ فِي الْحَقِّ إِِذَا تَمَكَّنَ الْحَاكِمُ مِنِ اسْتِيفَائِهِ، فَإِِِنِ امْتَنَعَ مِنْ دَفْعِ الدَّيْنِ، وَنَحْنُ نَعْرِفُ مَالَهُ أَخَذْنَا مِنْهُ مِقْدَارَ الدَّيْنِ، وَلاَ يَجُوزُ لَنَا حَبْسُهُ (2) .

ب - مَنْعُهُ مِنْ فُضُول مَا يَحِل لَهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ:
10 - قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: لَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ وَامْتَنَعَ، وَرَأَى الْحَاكِمُ مَنْعَهُ مِنْ فُضُول الأَْكْل وَالنِّكَاحِ فَلَهُ ذَلِكَ، إِِذِ التَّعْزِيرُ لاَ يَخْتَصُّ بِنَوْعِ مُعَيَّنٍ، وَإِِِنَّمَا يَرْجِعُ فِيهِ إِِلَى اجْتِهَادِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 419.
(2) الفروق للقرافي 4 / 80، وانظر تبصرة الحكام لابن فرحون 2 / 319، ومعين الحكام للطرابلسي ص 199

(38/118)


الْحَاكِمِ فِي نَوْعِهِ وَقَدْرِهِ، إِِذَا لَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ (1) .

ج - تَغْرِيمُهُ نَفَقَاتِ الشِّكَايَةِ وَرَفْعِ الدَّعْوَى
11 - قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَمَنْ عَلَيْهِ مَالٌ، وَلَمْ يُوَفِّهِ حَتَّى شَكَا رَبُّ الْمَال، وَغَرِمَ عَلَيْهِ مَالاً، وَكَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ، وَمَطَل حَتَّى أَحْوَجَ مَالِكَهُ إِِلَى الشَّكْوَى، فَمَا غَرِمَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَهُوَ عَلَى الظَّالِمِ الْمُمَاطِل، إِِذَا كَانَ غُرْمُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ (2) .

د - إِِسْقَاطُ عَدَالَتِهِ وَرَدُّ شَهَادَتِهِ:
12 - حَكَى الْبَاجِيُّ عَنْ أَصْبَغَ وَسَحْنُونٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِرِدِّ شَهَادَةِ الْمَدِينِ الْمُمَاطِل مُطْلَقًا، إِِذَا كَانَ غَنِيًّا مُقْتَدِرًا (3) ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهُ ظَالِمًا فِي قَوْلِهِ: مَطْل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، (4) وَنَقَل الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مُقْتَرِفَ ذَلِكَ يُفَسَّقُ (5) .
وَلَكِنْ هَل يَثْبُتُ فِسْقُهُ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ بِمَطْلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، أَمْ لاَ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ حَتَّى يَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ وَيَصِيرُ عَادَةً؟
__________
(1) الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية للبعلي ص 137.
(2) انظر الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية ص 136، وكشاف القناع 3 / 419.
(3) المنتقى للباجي 5 / 66.
(4) حديث: " مطل الغني ظلم. . . " سبق تخريجه في ف (5) .
(5) فتح الباري 4 / 466.

(38/118)


قَال النَّوَوِيُّ: مُقْتَضَى مَذْهَبِنَا اشْتِرَاطُ التَّكْرَارِ (1) ، وَقَال السُّبْكِيُّ: مُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُهُ، وَاسْتَدَل بِأَنْ مَنَعَ الْحَقَّ بَعْدَ طَلَبِهِ، وَابَتْعَاءُ الْعُذْرِ عَنْ أَدَائِهِ كَالْغَصْبِ، وَالْغَصْبُ كَبِيرَةٌ، وَتَسْمِيَتُهُ فِي الْحَدِيثِ ظُلْمًا يُشْعِرُ بِكَوْنِهِ كَبِيرَةً، وَالْكَبِيرَةُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّكْرَارُ، نَعَمْ لاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ إِِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَظْهَرَ عَدَمُ عُذْرِهِ (2) .
وَقَال الطِّيبِيُّ: قِيل: يَفْسُقُ بِمَرَّةٍ، وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ، وَقِيل: إِِذَا تَكَرَّرَ، وَهُوَ الأَْوْلَى (3) .
وَاخْتَلَفُوا هَل يَفْسُقُ بِالتَّأْخِيرِ مَعَ الْقُدْرَةِ قَبْل الطَّلَبِ أَمْ لاَ؟ قَال ابْنُ حَجَرٍ: الَّذِي يُشْعِرُ بِهِ حَدِيثُ الْبَابِ التَّوَقُّفُ عَلَى الطَّلَبِ، لأَِنَّ الْمَطْل يُشْعِرُ بِهِ (4) .

هـ - تَمْكِينُ الدَّائِنِ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ الْمُوجِبِ لِلدَّيْنِ:
13 - نَصَّ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ، عَلَى أَنَّ مِنْ حَقِّ الدَّائِنِ عِنْدَ مَطْل الْمَدِينِ بِغَيْرِ عُذْرٍ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ الَّذِي تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَيَسْتَرِدُّ الْبَدَل الَّذِي دَفَعَهُ، وَقَدْ جَعَل
__________
(1) شرح النووي على مسلم 10 / 227
(2) فتح الباري 4 / 466.
(3) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 3 / 337، وفتح الباري 4 / 466.
(4) فتح الباري 4 / 466.

(38/119)


لَهُ هَذَا الْخِيَارَ فِي الْفَسْخِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إِِزَالَةِ الضَّرَرِ اللاَّحِقِ بِهِ نَتِيجَةَ مَطْل الْمَدِينِ وَمُخَاصَمَتِهِ، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ حَامِلاً لِلْمَدِينِ الْمُقْتَدِرِ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالْوَفَاءِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوِ امْتَنَعَ - أَيِ الْمُشْتَرِي - مِنْ دَفْعِ الثَّمَنِ مَعَ يَسَارِهِ فَلاَ فَسْخَ فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّ التَّوَصُّل إِِلَى أَخْذِهِ بِالْحَاكِمِ مُمْكِنٌ (2) .

و حَبْسُ الْمَدِينِ
14 - نَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَدِينَ الْمُوسِرَ إِِذَا امْتَنَعَ مِنْ وَفَاءِ دَيْنِهِ مَطْلاً وَظُلْمًا، فَإِِِنَّهُ يُعَاقَبُ بِالْحَبْسِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَبْسٌ ف 79 وَمَا بَعْدَهَا) .
وَنَقَل ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ مُحَمِّدٍ فِي الْمَحْبُوسِ بِالدَّيْنِ إِِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لاَ مَال لَهُ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ،
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 30 / 22 وما بعدها، والاختيارات الفقهية ص 126
(2) مغني المحتاج 2 / 158 - 159
(3) بدائع الصنائع 7 / 173، وكشاف القناع 3 / 407، وشرح منتهى الإرادات 2 / 276، والخرشي على خليل 5 / 277، وروضة الطالبين 4 / 137، وروضة القضاة للسمناني 1 / 435، والمغني 4 / 499، وشرح السنة للبغوي 8 / 195، والسياسة الشرعية ص 67، والفتاوى الهندية 3 / 420، وانظر قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1 / 100، ومعين الحكام للطرابلسي ص 197، والفروق للقرافي 4 / 80

(38/119)


وَلَهُ مَالٌ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى، فَيُؤْمَرُ رَبُّ الدَّيْنِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ السِّجْنِ، وَيَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلاً بِنَفْسِهِ عَلَى قَدْرِ هَذِهِ الْمَسَافَةِ، وَيُؤْمَرُ أَنْ يَخْرُجَ وَيَبِيعَ مَالَهُ وَيَقْضِيَ دَيْنَهُ، فَإِِِنْ أُخْرِجَ مِنَ السِّجْنِ، فَلَمْ يَفْعَل ذَلِكَ، أُعِيدَ حَبْسُهُ (1) .
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَمَنْ حُبِسَ بِدَيْنِ، وَلَهُ رَهْنٌ لاَ وَفَاءَ لَهُ غَيْرُهُ، وَجَبَ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ إِِمْهَالُهُ حَتَّى يَبِيعَهُ، فَإِِِنْ كَانَ فِي بَيْعِهِ وَهُوَ فِي الْحَبْسِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ، وَجَبَ إِِخْرَاجُهُ لِيَبِيعَهُ، وَيَضْمَنُ عَلَيْهِ، أَوْ يَمْشِي مَعَهُ الدَّائِنُ أَوْ وَكِيلُهُ (2) .

ز - ضَرْبُ الْمَدِينِ الْمُمَاطِل
15 - قَال ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ: لاَ نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهِ، وَامْتَنَعَ مِنْهُ، أَنَّهُ يُعَاقَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ، وَنَصُّوا عَلَى عُقُوبَتِهِ بِالضَّرْبِ (3) ، ثُمَّ قَال مُعَلِّقًا عَلَى حَدِيثِ: لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِل عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ (4) : وَالْعُقُوبَةُ لاَ تَخْتَصُّ بِالْحَبْسِ، بَل هِيَ فِي الضَّرْبِ أَظْهَرُ مِنْهَا فِي الْحَبْسِ (5) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 420
(2) مختصر الفتاوى المصرية ص 346.
(3) الطرق الحكمية ص 92.
(4) حديث: " لي الواجد. . . " تقدم تخريجه ف 7.
(5) الطرق الحكمية ص 93.

(38/120)


وَجَاءَ فِي شَرْحِ الْخَرَشِيِّ: إِِنَّ مَعْلُومَ الْمَلاَءَةِ إِِذَا عَلِمَ الْحَاكِمُ بِالنَّاضِّ الَّذِي عِنْدَهُ، فَإِِِنَّهُ لاَ يُؤَخِّرُهُ، وَيَضْرِبُهُ بِاجْتِهَادِهِ إِِلَى أَنْ يَدْفَعَ، وَلَوْ أَدَّى إِِلَى إِِتْلاَفِ نَفْسِهِ، وَلأَِنَّهُ مُلِدٌّ (1) .

ح - بَيْعُ الْحَاكِمِ مَال الْمَدِينِ الْمُمَاطِل جَبْرًا
16 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَبِيعُ مَال الْمَدِينِ الْمُمَاطِل جَبْرًا عَلَيْهِ وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ.
غَيْرَ أَنَّ بَيْنَهُمُ اخْتِلاَفًا فِي تَأْخِيرِهِ عَنِ الْحَبْسِ، أَوِ اللُّجُوءِ إِِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَبْسِ الْمَدِينِ، أَوْ تَرْكِ الْخِيَارِ لِلْحَاكِمِ فِي اللُّجُوءِ إِِلَيْهِ عِنْدَ الاِقْتِضَاءِ عَلَى أَقْوَالٍ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْمَحْبُوسُ فِي الدَّيْنِ إِِذَا امْتَنَعَ عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ - وَلَهُ مَالٌ - فَإِِِنْ كَانَ مَالُهُ مِنْ جَنْسِ الدَّيْنِ، بِأَنْ كَانَ مَالُهُ دَرَاهِمَ وَالدَّيْنُ دَرَاهِمَ، فَالْقَاضِي يَقْضِي دَيْنَهُ مِنْ دَرَاهِمِهِ بِلاَ خِلاَفٍ، وَإِِِنْ كَانَ مَالُهُ مِنْ خِلاَفِ جَنْسِ دَيْنِهِ، بِأَنْ كَانَ الدَّيْنُ دَرَاهِمَ وَمَالُهُ عُرُوضًا أَوْ عَقَارًا أَوْ دَنَانِيرَ، فَعَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ لاَ يَبِيعُ الْعُرُوضَ وَالْعَقَارَ، وَفِي بَيْعِ الدَّنَانِيرِ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَدِيمُ حَبْسُهُ إِِلَى أَنْ يَبِيعَ بِنَفْسِهِ وَيَقْضِيَ الدَّيْنَ، وَعِنْدَ مُحَمِّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ يَبِيعُ الْقَاضِي دَنَانِيرَهُ وَعُرُوضَهُ رِوَايَةً
__________
(1) الخرشي على خليل 5 / 278.

(38/120)


وَاحِدَةً، وَفِي الْعَقَارِ رِوَايَتَانِ.
وَفِي الْخَانِيَّةِ: وَعِنْدَهُمَا فِي رِوَايَةٍ: يَبِيعُ الْمَنْقُول وَهُوَ الصَّحِيحُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِِلَى أَنَّ الْمَدِينَ إِِنِ امْتَنَعَ مِنْ دَفْعِ الدَّيْنِ، وَنَحْنُ نَعْرِفُ مَالَهُ، أَخَذْنَا مِنْهُ مِقْدَارَ الدَّيْنِ، وَلاَ يَجُوزُ لَنَا حَبْسُهُ، وَكَذَلِكَ إِِذَا ظَفِرْنَا بِمَالِهِ أَوْ دَارِهِ أَوْ شَيْءٌ يُبَاعُ لَهُ فِي الدَّيْنِ - كَانَ رَهْنًا أَمْ لاَ - فَعَلْنَا ذَلِكَ، وَلاَ نَحْبِسُهُ، لأَِنَّ فِي حَبْسِهِ اسْتِمْرَارَ ظُلْمِهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَأَمَّا الَّذِي لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَيَجِبُ أَدَاؤُهُ إِِذَا طَلَبَ، فَإِِِذَا امْتَنَعَ أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِهِ، فَإِِِنِ امْتَنَعَ بَاعَ الْحَاكِمُ مَالَهُ وَقَسَمَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ (3) .
قَال النَّوَوِيُّ: قَال الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالأَْصْحَابُ: إِِذَا امْتَنَعَ الْمَدِينُ الْمُوسِرُ الْمُمَاطِل مِنَ الْوَفَاءِ، فَالْحَاكِمُ بِالْخِيَارِ: إِِنْ شَاءَ بَاعَ مَالَهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِِذْنِهِ وَإِِِنْ شَاءَ أَكْرَهَهُ عَلَى بَيْعِهِ وَعَزَّرَهُ بِالْحَبْسِ وَغَيْرِهِ حَتَّى يَبِيعَهُ (4) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِِنْ أَبَى مَدِينٌ لَهُ مَالٌ يَفِي بِدَيْنِهِ الْحَال الْوَفَاءِ، حَبَسَهُ الْحَاكِمُ، وَلَيْسَ لَهُ إِِخْرَاجُهُ مِنَ الْحَبْسِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَمْرُهُ، أَوْ يَبْرَأَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 419.
(2) الفروق للقرافي 4 / 80.
(3) روضة الطالبين 4 / 137.
(4) المرجع السابق

(38/121)


مِنْ غَرِيمِهِ بِوَفَاءٍ أَوْ إِِبْرَاءٍ أَوْ حَوَالَةٍ، أَوْ يَرْضَى الْغَرِيمُ بِإِِِخْرَاجِهِ مِنَ الْحَبْسِ، لأَِنَّ حَبْسَهُ حَقٌّ لِرَبِّ الدَّيْنِ وَقَدْ أَسْقَطَهُ، فَإِِِنْ أَصَرَّ الْمَدِينُ عَلَى الْحَبْسِ بَاعَ الْحَاكِمُ مَالَهُ وَقَضَى دَيْنَهُ (1) .
__________
(1) كشاف القناع 3 / 419، 420.

(38/121)


مُطْلَقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُطْلَقُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ الإِِِْطْلاَقِ وَمِنْ مَعَانِيهِ: الإِِِْرْسَال وَالتَّخْلِيَةُ وَعَدَمُ التَّقْيِيدِ، يُقَال: أَطْلَقْتُ الأَْسِيرَ: إِِذَا حَلَلْتَ إِِسَارَهُ وَخَلَّيْتَ عَنْهُ، كَمَا يُقَال أَطْلَقْتُ الْقَوْل: أَرْسَلْتَهُ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ وَلاَ شَرْطٍ، وَأَطْلَقْتُ الْبَيِّنَةَ الشَّهَادَةُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِتَأْرِيخِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْمُطْلَقُ: مَا دَل عَلَى الْمَاهِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَلاَلَةٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ قُيُودِهَا (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمُقَيَّدُ:
2 - الْمُقَيَّدُ مِنَ الأَْقْوَال مَا فِيهِ صِفَةٌ أَوْ شَرْطٌ أَوِ اسْتِثْنَاءٌ، فَهُوَ نَقِيضٌ لِلْمُطْلَقِ (3) .

الْحُكْمُ الإِِِْجْمَالِيُّ:
3 - إِِذَا وَرَدَ الْخِطَابُ مُطْلَقًا لاَ مُقَيِّدَ لَهُ حُمِل
__________
(1) المصباح المنير.
(2) البحر المحيط 3 / 413.
(3) الكليات لأبي البقاء.

(38/122)


عَلَى إِِطْلاَقِهِ، أَوْ مُقَيَّدًا لاَ مُطْلَقَ لَهُ أُجْرِيَ عَلَى تَقْيِيدِهِ، وَإِِِنْ وَرَدَ فِي مَوْضِعٍ مُقَيَّدًا وَفِي آخَرَ مُطْلَقًا فَفِيهِ هَذَا التَّفْصِيل:
إِِنِ اخْتَلَفَا فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ فَلاَ يُحْمَل أَحَدُهُمَا عَلَى الآْخَرِ: كَتَقْيِيدِ الشَّهَادَةِ بِالْعَدَالَةِ وَإِِِطْلاَقِ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ.
وَإِِِنِ اتَّفَقَا فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ: يُحْمَل الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، كَمَا إِِذَا قَال الشَّارِعُ: إِِنْ ظَاهَرْتَ فَأَعْتِقْ رَقَبَةً، وَقَال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِِنْ ظَاهَرْتَ فَأَعْتِقْ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً (1) .
وَإِِِنِ اخْتَلَفَا فِي السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ فَهَذَا هُوَ مَوْضِعُ الْخِلاَفِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِِلَى أَنَّهُ يُحْمَل الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وُجُوبًا وَبِنَاءً عَلَى هَذَا: اشْتَرَطُوا فِي إِِجْزَاءِ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَتَيِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ: الإِِِْيمَانَ مَعَ أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُطْلَقًا خِلْوًا عَنْ قَيْدِ الإِِِْيمَانِ: حَمْلاً لِلْمُطْلَقِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْل (2) . فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} . (3)
__________
(1) البحر المحيط 3 / 416 - 417، والكليات مادة مطلق، الحاوي الكبير 13 / 376. ط. دار الفكر - لبنان.
(2) البحر المحيط 3 / 416، 417 وما بعدها، والحاوي الكبير 13 / 376، مغني المحتاج 3 / 360، وتحفة المحتاج 6 / 190، والشرح الصغير 2 / 643، 649، 211، 213، والمغني 7 / 360
(3) سورة النساء / 92.

(38/122)


قَال الشَّافِعِيُّ: إِِنَّ لِسَانَ الْعَرَبِ وَعُرْفَ خِطَابِهِمْ يَقْتَضِي حَمْل الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ إِِذَا كَانَ مِنْ جَنْسِهِ، فَحَمْل عُرْفِ الشَّرْعِ عَلَى مُقْتَضَى لِسَانِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} ، (1) وَكَمَا فِي الْعَدَالَةِ وَالشُّهُودِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} ، (2) وَقَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، (3) فَحُمِل الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فَكَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ، فَيُحْمَل مُطْلَقُ الْعِتْقِ فِي كَفَّارَتَيِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ عَلَى الْعِتْقِ الْمُقَيَّدِ بِالإِِِْيمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْل (4) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} . (5)
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يُحْمَل الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، لأَِنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ إِِعْتَاقُ رَقَبَةٍ وَهِيَ اسْمٌ لِذَاتِ مَرْقُوقَةٍ مَمْلُوكَةٍ مِنْ كُل وَجْهٍ وَقَدْ وُجِدَ، وَالتَّقْيِيدُ بِالإِِِْيمَانِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ وَلاَ يُنْسَخُ الْقُرْآنُ إِِلاَّ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِأَخْبَارِ التَّوَاتُرِ، وَلأَِنَّ الإِِِْطْلاَقَ: أَمْرٌ مَقْصُودٌ، لأَِنَّهُ يُنْبِئُ عَنِ التَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُكَلَّفِ،
__________
(1) سورة الأحزاب / 35
(2) سورة البقرة / 282
(3) سورة الطلاق / 2.
(4) الحاوي الكبير 13 / 375 ط. دار الفكر - بيروت، والبحر المحيط 3 / 420
(5) سورة النساء / 92.

(38/123)


كَمَا أَنَّ التَّقْيِيدَ أَمْرٌ مَقْصُودٌ يُنْبِئُ عَنِ التَّضْيِيقِ، وَعِنْدَ إِِمْكَانِ الْعَمَل بِهِمَا لاَ يَجُوزُ إِِبْطَال أَحَدِهِمَا بِالآْخَرِ، وَلأَِنَّ حَمْل أَحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ حَمْل مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ عَلَى مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ وَهُوَ بَاطِلٌ، لأَِنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنَّ يَتَعَدَّى الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ بِعَيْنِهِ إِِلَى فَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ وَلاَ نَصَّ فِيهِ، هَذَا وَلأَِنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لاَ يُصَارُ إِِلَيْهِ إِِلاَّ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ أَوْ شُبْهَتِهِ حَتَّى صَارَ مُؤَخَّرًا عَنْ قَوْل الصَّحَابِيِّ، وَهُنَا نَصٌّ يُمْكِنُ الْعَمَل بِهِ وَهُوَ إِِطْلاَقُ الْكِتَابِ، وَلأَِنَّ الْفَرْعَ لَيْسَ نَظِيرَ الأَْصْل، لأَِنَّ قَتْل النَّفْسِ أَعْظَمُ، وَلِهَذَا لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ الإِِِْطْعَامُ وَلاَ يَجُوزُ إِِلْحَاقُهُ بِغَيْرِهِ فِي حَقِّ جِوَازِ الإِِِْطْعَامِ تَغْلِيظًا لِلْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَتَعْظِيمًا لِلْجَرِيمَةِ حَتَّى تَتِمَّ صِيَانَةُ النَّفْسِ، فَكَذَا لاَ يَجُوزُ إِِلْحَاقُ غَيْرِهِ بِهِ فِي التَّغْلِيظِ، لأَِنَّ قَيْدَ الرَّقَبَةِ بِالإِِِْيمَانِ أَغْلَظُ فَيُنَاسِبُهُ دُونَ غَيْرِهِ، لأَِنَّ جَرِيمَةَ الْقَتْل أَعْظَمُ، وَلأَِنَّ الرَّقَبَةَ فِي كَفَّارَتَيِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ مُطْلَقَةٌ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِصِفَةِ أَوْ شَرْطٍ، فَتَتَنَاوَل كُل رَقَبَةٍ عَلَى أَيَّةِ صِفَةٍ كَانَتْ، لأَِنَّ مَعْنَى الإِِِْطْلاَقِ التَّعَرُّضُ لِلذَّاتِ دُونَ الصِّفَاتِ فَتَتَنَاوَل الْكَافِرَةَ وَالْمُؤْمِنَةَ وَالصَّغِيرَةَ وَالْكَبِيرَةَ، وَالْبَيْضَاءَ وَالسَّوْدَاءَ، وَالذَّكَرَ وَالأُْنْثَى، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الأَْوْصَافِ

(38/123)


الْمُتَضَادَّةِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل يُرْجَعُ إِِلَى الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

شُرُوطُ الْعَمَل بِالْخَبَرِ الْمُطْلَقِ
4 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهُ إِِذَا أَخْبَرَ مَقْبُول الرِّوَايَةِ عَنْ نَجَاسَةِ مَاءٍ فَإِِِنْ كَانَ فَقِيهًا مُوَافِقًا لِلْمُخْبِرِ فِي مَذْهَبِهِ اعْتُمِدَ خَبَرُهُ وَإِِِنْ أَطْلَقَ، لأَِنَّهُ خَبَرٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ التَّنْجِيسُ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

الْجَرْحُ الْمُطْلَقُ فِي الْعَدَالَةِ
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُول الْجَرْحِ الْمُطْلَقِ كَأَنْ يَقُول: إِِنَّهُ فَاسِقٌ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّهُ يُقْبَل الْجَرْحُ الْمُطْلَقُ، لأَِنَّ التَّعْدِيل يُسْمَعُ مُطْلَقًا فَكَذَلِكَ الْجَرْحُ، وَلأَِنَّ التَّصْرِيحَ بِالسَّبَبِ قَدْ يُفْضِي إِِلَى مُخَاطَرَ كَالْقَذْفِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ ذِكْرُ السَّبَبِ لِلاِخْتِلاَفِ فِيهِ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَزْكِيَةٌ ف (15) وَالْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ) .
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 6 - 7، والكليات 3 / 360 - 361، ومغني المحتاج 1 / 28، والمنثور للزركشي 3 / 176 وما بعدها، وتحفة المحتاج 1 / 116.
(2) المنثور 3 / 176.
(3) الكفاية في علم الرواية للنفراوي ص 17 - 108

(38/124)


إِِطْلاَقُ الشَّهَادَةِ بِالرَّضَاعِ:
6 - إِِذَا أَطْلَقَ شُهُودُ الرَّضَاعِ شَهَادَتَهُمْ كَأَنْ قَالُوا: بَيْنَهُمَا رَضَاعٌ مُحَرِّمٌ لَمْ يُقْبَل، بَل يَجِبُ ذِكْرُ وَقْتِ الإِِِْرْضَاعِ وَعَدَدِ الرَّضَعَاتِ، كَأَنْ يَقُولاَ: نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا ارْتَضَعَ مِنْ هَذِهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ خَلَصَ اللَّبَنُ فِيهِنَّ إِِلَى جَوْفِهِ فِي الْحَوْلَيْنِ أَوْ قَبْل الْحَوْلَيْنِ، وَذَلِكَ لاِخْتِلاَفِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي (مُصْطَلَحِ رَضَاعٌ ف 34) .

الْمُطْلَقُ يُحْمَل عَلَى الْغَالِبِ
7 - إِِذَا بَاعَ بِثَمَنٍ مُطْلَقٍ حُمِل عَلَى نَقْدِ الْبَلَدِ، فَإِِِنْ لَمْ يُوجَدْ نَقْدٌ غَالِبٌ وَكَانَ هُنَاكَ مَحْمَلاَنِ: أَخَفُّ وَأَثْقَل، حُمِل عَلَى أَخَفِّهِمَا عَمَلاً بِأَقَل مَا يَقْتَضِيهِ الاِسْمُ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ صُوَرًا مِنْهَا: إِِذَا غَمَسَ الْمُتَوَضِّئُ يَدَهُ فِي الإِِِْنَاءِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ غَسْل الْوَجْهِ بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلاً، وَإِِِنْ نَوَى الاِغْتِرَافَ لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلاً، وَإِِِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ صَيْرُورَتُهُ مُسْتَعْمَلاً، لأَِنَّ تَقَدُّمَ نِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ شَمَلَتْهُ فَحُمِل عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي جِوَازِ قَصْرِ الصَّلاَةِ
__________
(1) المغني 7 / 559، ومغني المحتاج 3 / 425.

(38/124)


فِي السَّفَرِ: نِيَّةُ الْقَصْرِ عِنْدَ الإِِِْحْرَامِ فَإِِِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَنْوِ قَصْرًا وَلاَ إِِتْمَامًا لَزِمَهُ الإِِِْتْمَامُ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي الصَّلاَةِ الإِِِْتْمَامُ فَيَنْصَرِفُ عِنْدَ الإِِِْطْلاَقِ إِِلَيْهِ، لأَِنَّهُ الْمَعْهُودُ. وَمِنْهَا: إِِذَا تَلَفَّظَ بِمَا يَحْتَمِل مَعْنَيَيْنِ يَرْجِعُ إِِلَيْهِ فِي تَعْيِينِ الْمُرَادِ.
كَأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنَانِ وَبِأَحَدِهِمَا رَهْنٌ فَدَفَعَ مَبْلَغًا مِنَ الْمَال لِلدَّائِنِ عَنْ أَحَدِهِمَا مُبْهَمًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَلَهُ التَّعْيِينُ (1) .
وَمِنْهَا: لَوْ قَال لَزَوْجَتَيْهِ: إِِحْدَاكُمَا طَالِقٌ وَلَمْ يَقْصِدْ مُعَيَّنَةً طَلُقَتْ إِِحْدَاهُمَا، وَعَلَيْهِ تَعْيِينُ إِِحْدَاهُمَا لِلطَّلاَقِ.
وَمِنْهَا: يَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ مُطْلَقًا وَيَصْرِفُهُ بِالتَّعْيِينِ إِِلَى مَا شَاءَ مِنَ النُّسُكَيْنِ أَوْ إِِلَيْهِمَا (2) .

شَرْطُ حَمْل الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ
8 - اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ لاَ يُحْمَل عَلَى الْمُقَيَّدِ إِِلاَّ إِِذَا كَانَ لَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمُقَيَّدِ لَصَحَّ وَإِِِلاَّ فَلاَ.
وَخَرَّجُوا عَلَى ذَلِكَ صُوَرًا مِنْهَا: إِِذَا أَقَرَّ الأَْبُ: بِأَنَّ الْعَيْنَ مِلْكٌ لِوَلَدِهِ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ وَأَرَادَ الرُّجُوعَ فَلَهُ ذَلِكَ فِيمَا ذَهَبَ إِِلَيْهِ الْقَاضِيَانِ: الْحُسَيْنُ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَقَال النَّوَوِيُّ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّهُ الأَْصَحُّ الْمُخْتَارُ (3) .
__________
(1) المنثور للزركشي 3 / 176 وما بعدها
(2) المنثور للزركشي 3 / 178 وما بعدها.
(3) المنثور 3 / 180.

(38/125)


الْمُطْلَقُ يُنَزَّل عَلَى أَقَل الْمَرَاتِبِ
9 - لَوْ نَذَرَ صَوْمًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِعَدَدٍ بِلَفْظٍ وَلاَ نِيَّةَ يُحْمَل عَلَى يَوْمٍ، لأَِنَّ الصَّوْمَ اسْمُ جَنْسٍ يَقَعُ عَلَى الْكَثِيرِ وَالْقَلِيل، وَلاَ صَوْمَ أَقَل مِنْ يَوْمٍ، وَالْمُتَيَقَّنُ يَوْمٌ، فَلاَ يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَإِِِنْ نَذَرَ أَيَّامًا فَثَلاَثَةٌ لأَِنَّهَا أَقَل مَرَاتِبِ الْجَمْعِ، أَوْ نَذَرَ صَدَقَةً، فَأَقَل مَا يُتَمَوَّل أَوْ صَلاَةً فَيُجْزِئُ بِرَكْعَتَيْنِ حَمْلاً عَلَى وَاجِبِ الشَّرْعِ (1) .

مُطَهِّرَاتٌ

انْظُرْ: طَهَارَةٌ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 368، والمنثور 3 / 178، وتحفة المحتاج 10 / 96، والكليات 3 / 261

(38/125)


مَظَالِمُ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَظَالِمُ لُغَةً: جَمْعُ مَظْلَمَةٍ بِفَتْحِ اللاَّمِ وَكَسْرِهَا، مَصْدَرُ ظَلَمَ يَظْلِمُ، اسْمٌ لِمَا أُخِذَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهِيَ مَا تَطْلُبُهُ عِنْدَ الظَّالِمِ، وَأَصْل الظُّلْمِ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَعِنْدَ فُلاَنٍ ظُلاَمَتِي وَمَظْلِمَتِي: أَيْ حَقِّي الَّذِي ظُلِمْتُهُ (1) .
وَالظُّلْمُ فِي الاِصْطِلاَحِ: التَّعَدِّي عَنِ الْحَقِّ إِِلَى الْبَاطِل، وَهُوَ الْجَوْرُ، وَقِيل: هُوَ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ (2) .
وَالظُّلْمُ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
الأَْوَّل: ظُلْمٌ بَيْنَ الإِِِْنْسَانِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَعْظَمُهُ: الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ وَالنِّفَاقُ، قَال تَعَالَى: {إِِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، (3) وَقَال تَعَالَى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} . (4)
الثَّانِي: ظُلْمٌ بَيْنَ الإِِِْنْسَانِ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِِنَّمَا السَّبِيل عَلَى الَّذِينَ
__________
(1) القاموس المحيط، ولسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح، وأساس البلاغة مادة (ظلم) .
(2) التعريفات للجرجاني، وكشاف اصطلاحات الفنون 4 / 938 ط. خياط - بيروت، ودستور العلماء 2 / 287.
(3) سورة لقمان / 13
(4) سورة الزمر / 32.

(38/126)


يَظْلِمُونَ النَّاسَ} ، (1) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِل مَظْلُومًا} . (2)
الثَّالِثُ: ظُلْمٌ بَيْنَ الإِِِْنْسَانِ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} ، (3) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} . (4)
وَكُل هَذِهِ الثَّلاَثَةِ فِي الْحَقِيقَةِ ظُلْمٌ لِلنَّفْسِ، فَإِِِنَّ الإِِِْنْسَانَ فِي أَوَّل مَا يَهِمُّ بِالظُّلْمِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، فَإِِِذًا الظَّالِمُ أَبَدًا مُبْتَدِئٌ فِي الظُّلْمِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَْرْضِ جَمِيعًا} ، (5) يَتَنَاوَل الأَْنْوَاعَ الثَّلاَثَةَ مِنَ الظُّلْمِ فَمَا مِنْ أَحَدٍ كَانَ مِنْهُ ظُلْمٌ فِي الدُّنْيَا إِِلاَّ وَلَوْ حَصَل لَهُ مَا فِي الأَْرْضِ وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَكَانَ يَفْتَدِي بِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} ، (6) تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الظُّلْمَ لاَ يُجْدِي وَلاَ يُخَلِّصُ بَل يُرْدِي (7) .
فَالْمَظَالِمُ هِيَ الْحُقُوقُ الَّتِي أُخِذَتْ ظُلْمًا، وَقَدْ دَعَا الشَّرْعُ الْحَنِيفُ إِِلَى إِِقَامَةِ الْعَدْل فِيهَا
__________
(1) سورة الشورى / 42
(2) سورة الإسراء / 33.
(3) سورة فاطر / 32.
(4) سورة البقرة / 231.
(5) سورة الزمر / 47.
(6) سورة النجم / 52
(7) المفردات للأصفهاني، وبصائر ذوي التمييز 3 / 540.

(38/126)


وَأَنْشَأَ لَهَا دِيوَانَ الْمَظَالِمِ وَقَضَاءَ الْمَظَالِمِ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَضَاءُ:
2 - الْقَضَاءُ فِي اللُّغَةِ: الْحُكْمُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الإِِِْخْبَارُ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى سَبِيل الإِِِْلْزَامِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ. (2)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْمَظَالِمِ بِاعْتِبَارِهَا وِلاَيَةٌ خَاصَّةٌ هِيَ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، فَالْقَضَاءُ أَعَمُّ.

ب - الدَّعْوَى:
3 - الدَّعْوَى فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنَ الاِدِّعَاءِ، أَيْ أَنَّهَا اسْمٌ لِمَا يُدَّعَى، وَهُوَ الطَّلَبُ، وَتُجْمَعُ عَلَى دَعَاوَى.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَوْلٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْقَاضِي يُقْصَدُ بِهِ طَلَبُ حَقٍّ قِبَل الْغَيْرِ، أَوْ دَفْعُ الْخَصْمِ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 77، وانظر: الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء ص 73، وصبح الأعشى 3 / 273.
(2) تبصرة الحكام 1 / 12، ومعين الحكام للطرابلسي ص 6، وانظر: رد المختار 5 / 351، وشرح حدود ابن عرفة للرصاع ص 433، ومغني المحتاج 4 / 371، وكشاف القناع 6 / 285، والروض المربع 2 / 365، وبدائع الصنائع للكاساني 9 / 4078، ودرر الحكام 2 / 404، والتعريفات للجرجاني، وتحرير ألفاظ التنبيه للنووي ص 331 ط. دار القلم، ولسان العرب

(38/127)


عَنْ حَقِّ نَفْسِهِ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمَظَالِمِ وَالدَّعْوَى هِيَ أَنَّ الدَّعْوَى وَسِيلَةٌ شَرْعِيَّةٌ لِرَفْعِ الْمَظَالِمِ.

ج - التَّحْكِيمُ:
4 - التَّحْكِيمُ لُغَةً: مَصْدَرُ حَكَّمَهُ فِي الأَْمْرِ وَالشَّيْءِ أَيْ جَعَلَهُ حَكَمًا، وَفَوَّضَ الْحُكْمَ إِِلَيْهِ، وَحَكَّمَهُ بَيْنَهُمْ: أَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، فَهُوَ حَكَمٌ وَمُحَكَّمٌ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: التَّحْكِيمُ: تَوْلِيَةُ الْخَصْمَيْنِ حَكَمًا يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا (2) ، وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} . (3)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمَظَالِمِ وَالتَّحْكِيمِ أَنَّ التَّحْكِيمَ وَسِيلَةٌ لِفَضِّ النِّزَاعِ بَيْنَ النَّاسِ، وَرَفْعِ الْمَظَالِمِ.

أَقْسَامُ الْمَظَالِمِ بِاعْتِبَارِ مَا تُضَافُ إِِلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ
5 - تَنْقَسِمُ الْمَظَالِمُ بِاعْتِبَارِ مَا تُضَافُ إِِلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ إِِلَى قِسْمَيْنِ:
__________
(1) التعريفات للجرجاني، والفروق للقرافي 4 / 72، ودرر الحكام 2 / 329، ونتائج الأفكار تكملة فتح القدير 7 / 137، ومغني المحتاج 4 / 541 المغني 14 / 275 ط. هجر، ولسان العرب.
(2) القاموس المحيط، ولسان العرب، ومادة حكم، ورد المحتار 5 / 428 ط. الحلبي.
(3) سورة النساء

(38/127)


أ - مَظَالِمُ تَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَالْحُدُودِ وَالْعِبَادَاتِ وَارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ.
ب - مَظَالِمُ تَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ كَالْغُصُوبِ، وَإِِِنْكَارِ الْوَدَائِعِ، وَالأَْرْزَاقِ، وَالْجِنَايَاتِ فِي النَّفْسِ وَالأَْعْرَاضِ.
قَال الْغَزَالِيُّ: وَمَظَالِمُ الْعِبَادِ إِِمَّا فِي النُّفُوسِ أَوِ الأَْمْوَال أَوِ الأَْعْرَاضِ أَوِ الْقُلُوبِ (1) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِرَفْعِ الْمَظَالِمِ
6 - الْمَظَالِمُ مِنَ الظُّلْمِ، وَالظُّلْمُ حَرَامٌ قَطْعًا بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ الشَّرِيفَةِ وَإِِِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
وَرَفْعُ الظُّلْمِ وَاجِبٌ شَرْعًا عَلَى كُل مُسْلِمٍ، وَهُوَ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الْخَلِيفَةِ أَوِ الإِِِْمَامِ الَّذِي أُنِيطَ بِهِ حِفْظُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَإِِِقَامَةُ الْعَدْل، وَرَفْعُ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ (2) .
وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: يَا عِبَادِي، إِِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ
__________
(1) إحياء علوم الدين 4 / 53 - 54 ط. دار الهادي - بيروت.
(2) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 27، ومقدمة ابن خلدون ص 191

(38/128)


مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَّالَمُوا. (1) وَالْمُرَادُ لاَ يَظْلِمُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا.
وَالْخَلِيفَةُ إِِمَّا أَنْ يَقُومَ بِذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَإِِِمَّا أَنْ يُنِيبَ عَنْهُ وَالِيًا أَوْ أَمِيرًا أَوْ قَاضِيًا، أَوْ يَجْمَعَ بَيْنَ الأَْمْرَيْنِ، وَتَوَلِّي الْقَضَاءِ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِمَنْ تَتَوَفَّرُ فِيهِ الشُّرُوطُ، وَرَفْعُ الْمَظَالِمِ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الْقَاضِي الْمُعَيَّنِ مِنَ الإِِِْمَامِ (2) .
وَرَغَّبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَدِّ الْمَظَالِمِ إِِلَى أَهْلِهَا قَبْل أَنْ يُحَاسَبَ الإِِِْنْسَانُ عَلَيْهَا، فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: غَلاَ السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ سَعِّرْ لَنَا، فَقَال: إِِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ الرَّازِقُ، وَإِِِنِّي لأََرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةِ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ. (3)
وَنَظَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَظَالِمِ بِنَفْسِهِ لِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَْنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْل، فَقَال الأَْنْصَارِيُّ: سَرِّحِ الْمَاءَ يَمُرَّ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال رَسُول اللَّهِ
__________
(1) حديث: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي. . . ". أخرجه مسلم (4 / 1994) من حديث أبي ذر.
(2) شرح صحيح مسلم 16 / 134.
(3) حديث أنس: " غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه الترمذي (3 / 597) وقال: " حديث حسن صحيح ".

(38/128)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِل الْمَاءَ إِِلَى جَارِكَ، فَغَضِبَ الأَْنْصَارِيُّ فَقَال: إِِنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكِ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَال: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِِلَى الْجَدْرِ، فَقَال الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ، إِِنِّي لأََحْسِبُ هَذِهِ الآْيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} .
(1) وَلأَِنَّ رَفْعَ الْمَظَالِمِ يُعْتَبَرُ مِنَ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى الْخُلَفَاءِ وَالْوُلاَةِ وَالْقُضَاةِ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ (2) .

حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ قَضَاءِ الْمَظَالِمِ:
7 - إِِنَّ الْحِكْمَةَ مِنْ قَضَاءِ الْمَظَالِمِ هِيَ إِِقَامَةُ الْعَدْل، وَمَنْعُ الظُّلْمِ، لأَِنَّ الإِِِْسْلاَمَ حَارَبَ الظُّلْمَ وَجَعَلَهُ مِنْ أَشَدِّ الرَّذَائِل، وَأَمَرَ بِالْعَدْل وَجَعَلَهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمَقَاصِدِ.
وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّل مَنْ نَظَرَ فِي الْمَظَالِمِ، وَفَصَل فِي الْمُنَازَعَاتِ الَّتِي تَقَعُ مِنَ الْوُلاَةِ وَذَوِي النُّفُوذِ وَالأَْقَارِبِ، وَسَارَ عَلَى
__________
(1) حديث عبد الله بن الزبير: " أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير. . . . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 34) ومسلم (4 / 1829 - 1830) .
(2) أحكام القرآن للجصاص 2 / 35 - 40، والأحكام السلطانية للماوردي ص 77، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 73

(38/129)


سُنَّتِهِ الشَّرِيفَةِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ (1) .
وَكَانَ قَضَاءُ الْمَظَالِمِ دَاخِلاً - بِحَسَبِ أَصْلِهِ - فِي الْقَضَاءِ الْعَادِيِّ، وَكَانَ يَتَوَلَّى الْفَصْل فِي الْمَظَالِمِ الْقُضَاةُ وَالْخُلَفَاءُ وَالأُْمَرَاءُ، ثُمَّ صَارَ قَضَاءً مُسْتَقِلًّا، وَلَهُ وِلاَيَةٌ خَاصَّةٌ.
قَال أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَأَمَّا وِلاَيَةُ الْمَظَالِمِ فَهِيَ وِلاَيَةٌ غَرِيبَةٌ، أَحْدَثَهَا مَنْ تَأَخَّرَ مِنَ الْوُلاَةِ لِفَسَادِ الْوِلاَيَةِ، وَفَسَادِ النَّاسِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كُل حُكْمٍ يَعْجِزُ عَنْهُ الْقَاضِي، فَيَنْظُرُ فِيهِ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ يَدًا، وَذَلِكَ أَنَّ التَّنَازُعَ إِِذَا كَانَ بَيْنَ ضَعِيفَيْنِ قَوَّى أَحَدَهُمَا الْقَاضِي، وَإِِِذَا كَانَ بَيْنَ قَوِيٍّ وَضَعِيفٍ، أَوْ قَوِيَّيْنِ، وَالْقُوَّةُ فِي أَحَدِهِمَا بِالْوِلاَيَةِ، كَظُلْمِ الأُْمَرَاءِ وَالْعُمَّال، فَهَذَا مِمَّا نَصَبَ لَهُ الْخُلَفَاءُ أَنْفُسَهُمْ (2) .
وَبَيَّنَ الْمَاوَرْدِيُّ الْحِكْمَةَ مِنْ ظُهُورِ قَضَاءِ الْمَظَالِمِ، فَقَال: وَلَمْ يُنْتَدَبْ لِلْمَظَالِمِ مِنَ الْخُلَفَاءِ الأَْرْبَعَةِ (الرَّاشِدِينَ) أَحَدٌ، لأَِنَّهُمْ كَانُوا فِي الصَّدْرِ الأَْوَّل، مَعَ ظُهُورِ الدِّينِ عَلَيْهِمْ، بَيْنَ مَنْ يَقُودُهُ التَّنَاصُفُ إِِلَى الْحَقِّ، أَوْ يَزْجُرُهُ الْوَعْظُ عَنِ الظُّلْمِ، وَإِِِنَّمَا كَانَتِ الْمُنَازَعَاتُ تَجْرِي بَيْنَهُمْ فِي أُمُورٍ مُشْتَبِهَةٍ،
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 372، والحسبة لابن تميمة ص 82.
(2) أحكام القرآن لابن العربي 4 / 1631 ط. عيسى الحلبي

(38/129)


يُوَضِّحُهَا حُكْمُ الْقَضَاءِ.، فَاقْتَصَرَ خُلَفَاءُ السَّلَفِ عَلَى فَصْل التَّشَاجُرِ بِالْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ تَعْيِينًا لِلْحَقِّ فِي جِهَتِهِ لاِنْقِيَادِهِمْ إِِلَى الْتِزَامِهِ، وَاحْتَاجَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ تَأَخَّرَتْ إِِمَامَتُهُ، وَاخْتَلَطَ النَّاسُ فِيهَا وَتَجَوَّرُوا إِِلَى فَضْل صَرَامَةٍ فِي السِّيَاسَةِ، وَزِيَادَةِ تَيَقُّظٍ فِي الْوُصُول إِِلَى غَوَامِضِ الأَْحْكَامِ، فَكَانَ أَوَّل مَنْ سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، وَاسْتَقَل بِهَا، وَلَمْ يَخْرُجْ فِيهَا إِِلَى نَظَرِ الْمَظَالِمِ الْمَحْضِ لاِسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ، ثُمَّ انْتَشَرَ الأَْمْرُ بَعْدَهُ حَتَّى تَجَاهَرَ النَّاسُ بِالظُّلْمِ وَالتَّغَالُبِ، وَلَمْ يَكْفِهِمْ زَوَاجِرُ الْعِظَةِ عَنِ التَّمَانُعِ وَالتَّجَاذُبِ، فَاحْتَاجُوا فِي رَدْعِ الْمُتَغَلِّبِينَ وَإِِِنْصَافِ الْمَغْلُوبِينَ إِِلَى نَظَرِ الْمَظَالِمِ الَّذِي تَمْتَزِجُ بِهِ قُوَّةُ السَّلْطَنَةِ بِنَصَفَةِ الْقَضَاءِ، فَكَانَ أَوَّل مَنْ أَفْرَدَ لِلظُّلاَمَاتِ يَوْمًا يَتَصَفَّحُ فِيهِ قَصَصَ الْمُتَظَلِّمِينَ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ لِلنَّظَرِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ. .، ثُمَّ زَادَ مِنْ جَوْرِ الْوُلاَةِ وَظُلْمِ الْعُتَاةِ مَا لَمْ يَكْفِهِمْ عَنْهُ إِِلاَّ أَقْوَى الأَْيْدِي وَأَنْفَذُ الأَْوَامِرِ، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوَّل مَنْ نَدَبَ نَفْسَهُ لِلنَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ. وَقَال: كُل يَوْمٍ أَتَّقِيهِ وَأَخَافُهُ دُونَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ وُقِيتُهُ، ثُمَّ جَلَسَ لَهَا مِنْ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ جَمَاعَةٌ، فَكَانَ أَوَّل مَنْ جَلَسَ لَهَا

(38/130)


الْمَهْدِيُّ ثُمَّ الْهَادِي ثُمَّ الرَّشِيدُ ثُمَّ الْمَأْمُونُ فَآخِرُ مَنْ جَلَسَ لَهَا الْمُهْتَدِي (1) .
وَهَكَذَا صَارَ النَّظَرُ فِي الْمَظَالِمِ وَرَدِّهَا مِنْ وَاجِبَاتِ الْخَلِيفَةِ، وَهُوَ الإِِِْمَامُ الأَْعْظَمُ، وَمِنْهُ تَنْتَقِل إِِلَى اخْتِصَاصِ الأَْمِيرِ الْمُعَيَّنِ عَلَى إِِقْلِيمٍ أَوْ بَلَدٍ، عِنْدَمَا يَكُونُ عَامَّ النَّظَرِ، وَيَتَعَاوَنُ مَعَ الْقُضَاةِ، وَهُوَ مَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الْوَالِي وَالأَْمِيرِ: " وَأَمَّا نَظَرُهُ فِي الْمَظَالِمِ، فَإِِِنْ كَانَ مِمَّا نُفِّذَتْ فِيهِ الأَْحْكَامُ، وَأَمْضَاهُ الْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ، جَازَ لَهُ النَّظَرُ فِي اسْتِيفَائِهِ، مَعُونَةً لِلْمُحِقِّ عَلَى الْمُبْطِل، وَانْتِزَاعًا لِلْحَقِّ مِنَ الْمُعْتَرِفِ الْمُمَاطِل، لأَِنَّهُ مَوْكُولٌ إِِلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّظَالُمِ وَالتَّغَالُبِ، وَمَنْدُوبٌ إِِلَى الأَْخْذِ بِالتَّعَاطُفِ وَالتَّنَاصُفِ، فَإِِِنْ كَانَتِ الْمَظَالِمُ مِمَّا تُسْتَأْنَفُ فِيهَا الأَْحْكَامُ، وَيُبْتَدَأُ فِيهَا الْقَضَاءُ، مَنَعَ هَذَا الأَْمِيرُ، لأَِنَّهُ مِنَ الأَْحْكَامِ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا عَقْدُ إِِمَارَتِهِ، وَرَدَّهُمْ إِِلَى حَاكِمِ بَلَدِهِ، فَإِِِنْ نَفَّذَ حُكْمَهُ لأَِحَدِهِمْ بِحَقٍّ، قَامَ بِاسْتِيفَائِهِ إِِنْ ضَعُفَ عَنْهُ الْحَاكِمُ ". (2)
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 77 - 78، وانظر: الأحكام السلطانية، لأبي يعلى ص 75، ومقدمة ابن خلدون ص 222، والإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي ص 162 ط. حلب.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 32 - 33، والأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء ص 36 ط. الثانية، البابي الحلبي.

(38/130)


وَاسْتَقَرَّ الأَْمْرُ عَلَى انْفِرَادِ الْمَظَالِمِ بِوِلاَيَةِ مُسْتَقِلَّةٍ، وَيُسَمَّى الْمُتَوَلِّي: صَاحِبُ الْمَظَالِمِ، وَيَخْتَلِفُ اسْمُهُ حَسَبَ الأَْزْمَانِ وَالأَْمَاكِنِ، وَصَارَ يَنْظُرُ فِي كُل أَمْرٍ عَجَزَ عَنْهُ الْقُضَاةُ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِي اخْتِصَاصِهِ، وَصَارَ قَضَاءُ الْمَظَالِمِ مُلاَزِمًا لِلدَّوْلَةِ الإِِِْسْلاَمِيَّةِ طُوَال التَّارِيخِ، وَاسْتَقَرَّ عَلَى ذَلِكَ (1) .

قَاضِي الْمَظَالِمِ
أَوَّلاً: تَعْيِينُ قَاضِي الْمَظَالِمِ
8 - إِِنَّ الْمُتَصَدِّيَ لِلْفَصْل فِي الْمَظَالِمِ إِِمَّا أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةَ نَفْسَهُ، لأَِنَّهُ فِي الأَْصْل هُوَ قَاضِي الأُْمَّةِ، وَهُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ الأَْسَاسِيِّ فِي إِِقَامَةِ الْعَدْل، وَمَنْعِ الظُّلْمِ، وَالْفَصْل فِي الْمَظَالِمِ، وَهُوَ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِمُقْتَضَى الْبَيْعَةِ وَوِلاَيَتِهِ الْعَامَّةِ، فَلاَ يَحْتَاجُ إِِلَى تَعْيِينٍ.
وَإِِِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُخَوَّل فِي نَظَرِ الْمَظَالِمِ مَنْ لَهُ وِلاَيَةٌ عَامَّةٌ كَالْحُكَّامِ وَالْوُلاَةِ وَالأُْمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ، فَهَؤُلاَءِ لاَ يَحْتَاجُونَ فِي النَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ إِِلَى تَقْلِيدٍ وَتَعْيِينٍ، وَكَانَ لَهُمْ بِمُقْتَضَى وِلاَيَتِهِمُ الْعَامَّةِ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ.
وَإِِِمَّا أَنْ يُعَيَّنَ شَخْصٌ خَاصٌّ لِقَضَاءِ الْمَظَالِمِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ وِلاَيَةٌ عَامَّةٌ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِِلَى
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 372، وانظر: الحسبة لابن تيمية ص 82 ط. المكتبة العلمية.

(38/131)


تَقْلِيدٍ مِنْ صَاحِبِ الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ كَالْخَلِيفَةِ وَالْحُكَّامِ الْمُفَوَّضِ لَهُمْ ذَلِكَ (1) .

ثَانِيًا: شُرُوطُ قَاضِي الْمَظَالِمِ
9 - يُشْتَرَطُ فِي قَاضِي الْمَظَالِمِ - بِالإِِِْضَافَةِ إِِلَى شُرُوطِ الْقَاضِي الْعَامِّ - أَنْ يَكُونَ جَلِيل الْقَدْرِ نَافِذَ الأَْمْرِ، عَظِيمَ الْهَيْبَةِ، ظَاهِرَ الْعِفَّةِ، قَلِيل الطَّمَعِ، كَثِيرَ الْوَرَعِ لأَِنَّهُ يَحْتَاجُ فِي نَظَرِهِ إِِلَى سَطْوَةِ الْحُمَاةِ وَتَثَبُّتِ الْقُضَاةِ فَيَحْتَاجُ إِِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ صِفَاتِ الْفَرِيقَيْنِ (2) .
قَال ابْنُ خَلْدُونٍ عَنْ وِلاَيَةِ الْمَظَالِمِ: هِيَ وَظِيفَةٌ مُمْتَزِجَةٌ مِنْ سَطْوَةِ السَّلْطَنَةِ وَنَصَفَةِ الْقَضَاءِ فَتَحْتَاجُ إِِلَى عُلُوِّ يَدٍ وَعَظِيمِ رَهْبَةٍ تَقْمَعُ الظَّالِمَ مِنَ الْخَصْمَيْنِ وَتَزْجُرُ الْمُعْتَدِيَ وَكَأَنَّهُ يُمْضِي مَا عَجَزَ الْقُضَاةُ أَوْ غَيْرُهُمْ عَنْ إِِمْضَائِهِ (3) .
وَتَفْصِيل شُرُوطِ الْقَاضِي فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ ف 18) .

ثَالِثًا: رِزْقُ قَاضِي الْمَظَالِمِ
10 - الرِّزْقُ هُوَ مَا يُرَتِّبُهُ الإِِِْمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَال
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 77، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 73، وكشاف القناع 6 / 283.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 77، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 73
(3) مقدمة ابن خلدون ص 571 ط. لجنة البيان العربي.

(38/131)


لِمَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَإِِِنْ كَانَ يُخْرِجُهُ كُل شَهْرٍ سُمِّيَ رِزْقًا، وَإِِِنْ كَانَ يُخْرِجُهُ كُل عَامٍ سُمِّيَ عَطَاءً (1) .
وَنَاظِرُ الْمَظَالِمِ إِِنْ كَانَ خَلِيفَةً أَوْ أَمِيرًا أَوْ وَالِيًا فَرِزْقُهُ حَسَبُ عَمَلِهِ، وَلاَ يُخْتَصُّ بِرِزْقٍ خَاصٍّ لِنَظَرِهِ فِي الْمَظَالِمِ، وَإِِِنْ كَانَ نَاظِرُ الْمَظَالِمِ قَاضِيًا مُعَيَّنًا لِذَلِكَ فَيُعْطَى كِفَايَتَهُ مِنْ بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَالْعُشُورِ، لأَِنَّهُ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَحَبَسَ نَفْسَهُ لِمَصْلَحَتِهِمْ، لِذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُ وَرَاتِبُهُ، كَسَائِرِ الْوُلاَةِ وَالْقُضَاةِ وَالْمُفْتِينَ وَالْمُعَلِّمِينَ، وَهَذَا رَأْيُ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٌ ف 58) .

رَابِعًا: اخْتِصَاصَاتُ قَاضِي الْمَظَالِمِ
11 - الأَْصْل فِي اخْتِصَاصِ الْمَظَالِمِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْحُقُوقِ، وَمَنْعُ الظُّلاَمَاتِ، وَمُحَاسَبَةُ الْوُلاَةِ وَالْجُبَاةِ وَمُرَاقَبَةُ مُوَظَّفِي الدَّوْلَةِ إِِذَا تَجَاوَزُوا حُدُودَ سُلْطَتِهِمْ وَصَلاَحِيَّتِهِمْ أَوْ
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون 4 / 1076 ط. خياط
(2) المغني لابن قدامة 14 / 9، السياسة الشرعية لابن تيمية ص 49، وأدب القاضي للماوردي لابن أبي الدم ص 101، والمهذب 2 / 291، وروضة القضاة للسمناني 1 / 85، وأخبار القضاة لوكيع 1 / 134، 342، وبدائع الصنائع 9 / 4104

(38/132)


ظَلَمُوا النَّاسَ فِي أَعْمَالِهِمْ.
وَالأَْصْل أَنَّ اخْتِصَاصَ قَاضِي الْمَظَالِمِ عَامٌّ وَشَامِلٌ، وَهُوَ مَا يُمَارِسُهُ الْخُلَفَاءُ، وَمَنْ لَهُ وِلاَيَةٌ عَامَّةٌ كَالْوُزَرَاءِ الْمُفَوَّضِينَ، وَأُمَرَاءِ الأَْقَالِيمِ، وَمَنْ يَنُوبُ عَنْهُمْ مِنَ الْقُضَاةِ، وَهَذِهِ الْوِلاَيَةُ الْعَامَّةُ تَشْمَل عَشَرَةَ أُمُورٍ ذَكَرَهَا الْمَاوَرْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَتَبِعَهُ الْعُلَمَاءُ وَالْفُقَهَاءُ (1) ، وَهِيَ:
1 - النَّظَرُ فِي تَعَدِّي الْوُلاَةِ عَلَى الرَّعِيَّةِ وَأَخْذِهِمْ بِالْعَسْفِ فِي السِّيرَةِ، فَهَذَا مِنْ لَوَازِمِ النَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ الَّذِي لاَ يَقِفُ عَلَى ظُلاَمَةِ مُتَظَلِّمٍ فَيَكُونُ لِسِيرَةِ الْوُلاَةِ مُتَصَفِّحًا وَمُكْتَشِفًا أَحْوَالَهُمْ لِيُقَوِّيَهُمْ إِِنْ أَنْصَفُوا، وَيَكُفَّهُمْ إِِنْ عَسَّفُوا، وَيَسْتَبْدِل بِهِمْ إِِنْ لَمْ يُنْصِفُوا، وَلَمْ يُؤَدُّوا وَاجِبَهُمُ الْمَنُوطَ بِهِمْ.
2 - جَوْرُ الْعُمَّال فِي جِبَايَةِ الأَْمْوَال بِمُقَارَنَتِهَا بِالْقَوَانِينِ الْعَادِلَةِ فِي دَوَاوِينِ الأَْئِمَّةِ، فَيَحْمِل النَّاسَ عَلَيْهَا، وَيَأْخُذُ الْعُمَّال بِهَا، وَيَنْظُرُ فِيمَا اسْتَزَادُوهُ، فَإِِِنْ رَفَعُوهُ إِِلَى بَيْتِ الْمَال، أَمَرَ بِرَدِّهِ، وَإِِِنْ أَخَذُوهُ لأَِنْفُسِهِمُ اسْتَرْجَعَهُ لأَِرْبَابِهِ (2) .
3 - النَّظَرُ فِي كُتَّابِ الدَّوَاوِينِ لأَِنَّهُمْ أُمَنَاءُ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 80، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 76، ومقدمة ابن خلدون ص 222.
(2) المراجع السابقة.

(38/132)


الْمُسْلِمِينَ عَلَى بُيُوتِ أَمْوَالِهِمْ فِيمَا يَسْتَوْفُونَهُ لَهُ، وَيُوفُونَهُ مِنْهُ، فَيَتَصَفَّحُ أَحْوَالَهُمْ فِيمَا وُكِل إِِلَيْهِمْ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ.
وَهَذِهِ الأَْقْسَامُ الثَّلاَثَةُ لاَ يَحْتَاجُ وَالِي الْمَظَالِمِ فِي تَصَفُّحِهَا إِِلَى مُتَظَلِّمٍ، وَيُبَادِرُ إِِلَيْهَا بِنَفْسِهِ بِدُونِ دَعْوَى (1) .
4 - تَظَلُّمُ الْمُسْتَرْزِقَةِ، وَهُمُ الْمُوَظَّفُونَ مِنْ نَقْصِ أَرْزَاقِهِمْ، أَوْ تَأَخُّرِهَا عَنْهُمْ، وَإِِِجْحَافِ النُّظَّارِ بِهِمْ فَيَرْجِعُ إِِلَى دِيوَانِهِ فِي فَرْضِ الْعَطَاءِ الْعَادِل فَيُجْرِيهِمْ عَلَيْهِ، وَيَنْظُرُ فِيمَا نُقِصُوهُ، أَوْ مُنِعُوهُ مِنْ قَبْل، فَإِِِنْ أَخَذَهُ وُلاَةُ أُمُورِهِمُ اسْتَرْجَعَهُ مِنْهُمْ، وَإِِِنْ لَمْ يَأْخُذُوهُ قَضَاهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال (2) .
5 - رَدُّ الْغُصُوبِ، وَهِيَ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: غُصُوبٌ سُلْطَانِيَّةٌ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا وُلاَةُ الْجَوْرِ، كَالأَْمْوَال الْمَقْبُوضَةِ عَنْ أَرْبَابِهَا، إِِمَّا لِرَغْبَةٍ فِيهَا، وَإِِِمَّا لِتَعَدٍّ عَلَى أَهْلِهَا، فَهَذَا إِِنْ عَلِمَ بِهِ وَالِي الْمَظَالِمِ عِنْدَ تَصَفُّحِ الأُْمُورِ أَمَرَ بِرَدِّهِ قَبْل التَّظَلُّمِ إِِلَيْهِ، وَإِِِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى تَظَلُّمِ أَرْبَابِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ عِنْدَ تَظَلُّمِهِمْ إِِلَى دِيوَانِ السَّلْطَنَةِ، فَإِِِذَا وَجَدَ فِيهِ ذِكْرَ قَبْضِهَا عَلَى مَالِكِهَا عَمِل عَلَيْهِ، وَأَمَرَ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 80، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 77
(2) المرجعان السابقان.

(38/133)


بِرَدِّهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِِلَى بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِهِ، وَكَانَ مَا وَجَدَهُ فِي الدِّيوَانِ كَافِيًا (1) .
ثَانِيهِمَا: مَا تَغَلَّبَ عَلَيْهِ ذَوُو الأَْيْدِي الْقَوِيَّةِ، وَتَصَرَّفُوا فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَهَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى تَظَلُّمِ أَرْبَابِهِ، وَلاَ يُنْتَزَعُ مِنْ يَدِ غَاصِبِهِ إِِلاَّ بِأَحَدِ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ، إِِمَّا بِاعْتِرَافِ الْغَاصِبِ وَإِِِقْرَارِهِ، وَإِِِمَّا بِعِلْمِ وَالِي الْمَظَالِمِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِعِلْمِهِ، وَإِِِمَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى الْغَاصِبِ بِغَصْبِهِ، أَوْ تَشْهَدُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِمِلْكِهِ، وَإِِِمَّا بِتَظَاهُرِ الأَْخْبَارِ الَّتِي يُنْفَى عَنْهَا التَّوَاطُؤُ، وَلاَ يُخْتَلَجُ فِيهَا الشُّكُوكُ، لأَِنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلشُّهُودِ أَنْ يَشْهَدُوا فِي الأَْمْلاَكِ بِتَظَاهُرِ الأَْخْبَارِ كَانَ حُكْمُ وُلاَةِ الْمَظَالِمِ بِذَلِكَ أَحَقَّ. (2)
6 - مُشَارَفَةُ الْوُقُوفِ وَهِيَ ضَرْبَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ.
فَأَمَّا الْعَامَّةُ فَيَبْدَأُ بِتَصَفُّحِهَا، وَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُتَظَلِّمٌ لِيُجْرِيَهَا عَلَى سَبِيلِهَا، وَيُمْضِيَهَا عَلَى شُرُوطِ وَاقِفِهَا إِِذَا عَرَفَهَا إِِمَّا مِنْ دَوَاوِينِ الْحُكَّامِ الْمَنْدُوبِينَ لِحِرَاسَةِ الأَْحْكَامِ، وَإِِِمَّا مِنْ دَوَاوِينِ السَّلْطَنَةِ عَلَى مَا جَرَى فِيهَا مِنْ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 82، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 77
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 82، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 78

(38/133)


مُعَامَلَةٍ، أَوْ ثَبَتَ لَهَا مِنْ ذِكْرٍ وَتَسْمِيَةٍ، وَإِِِمَّا مِنْ كُتُبٍ فِيهَا قَدِيمَةٍ تَقَعُ فِي النَّفْسِ صِحَّتُهَا، وَإِِِنْ لَمْ يَشْهَدِ الشُّهُودُ بِهَا، لأَِنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ الْخَصْمُ فِيهَا، فَكَانَ الْحُكْمُ أَوْسَعَ مِنْهُ فِي الْوُقُوفِ الْخَاصَّةِ.
وَأَمَّا الْوُقُوفُ الْخَاصَّةُ فَإِِِنَّ نَظَرَهُ فِيهَا مَوْقُوفٌ عَلَى تَظَلُّمِ أَهْلِهَا عِنْدَ التَّنَازُعِ فِيهَا، لِوَقْفِهَا عَلَى خُصُومٍ مُتَعَيَّنِينَ، فَيَعْمَل عِنْدَ التَّشَاجُرِ فِيهَا عَلَى مَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُقُوقُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِِلَى دِيوَانِ السَّلْطَنَةِ، وَلاَ إِِلَى مَا يَثْبُتُ مِنْ ذِكْرِهَا مِنَ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ إِِذَا لَمْ يَشْهَدْ بِهَا شُهُودٌ مُعَدَّلُونَ (1) .
7 - تَنْفِيذُ مَا وَقَفَ مِنْ أَحْكَامِ الْقُضَاةِ لِضَعْفِهِمْ عَنْ إِِنْفَاذِهَا، وَعَجْزِهِمْ عَنِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، لِتَعَذُّرِهِ وَقُوَّةِ يَدِهِ، أَوْ لِعُلُوِّ قَدْرِهِ، وَعِظَمِ خَطَرِهِ، فَيَكُونُ نَاظِرُ الْمَظَالِمِ أَقْوَى يَدًا، وَأَنْفَذَ أَمْرًا، فَيَنْفُذُ الْحُكْمُ عَلَى مَنْ تَوَجَّهَ إِِلَيْهِ بِانْتِزَاعِ مَا فِي يَدِهِ، أَوْ بِإِِِلْزَامِهِ الْخُرُوجَ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ (2) .
8 - النَّظَرُ فِيمَا عَجَزَ عَنْهُ النَّاظِرُونَ فِي الْحِسْبَةِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَالْمُجَاهَرَةِ بِمُنْكَرٍ ضَعُفَ عَنْ دَفْعِهِ، وَالتَّعَدِّي فِي طَرِيقٍ عَجَزَ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 83، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 78
(2) المرجعان السابقان.

(38/134)


عَنْ مَنْعِهِ، وَالتَّحَيُّفِ فِي حَقٍّ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ، فَيَأْخُذُهُمْ وَالِي الْمَظَالِمِ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْجَمِيعِ، وَيَأْمُرُ بِحَمْلِهِمْ عَلَى مُوجِبِهِ (1) .
9 - مُرَاعَاةُ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ كَالْجُمَعِ وَالأَْعْيَادِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ، وَالزَّكَاةِ، عِنْدَ التَّقْصِيرِ فِيهَا، وَإِِِخْلاَل شُرُوطِهَا، فَإِِِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى أَنْ تُسْتَوْفَى وَفُرُوضَهُ أَحَقُّ أَنْ تُؤَدَّى، وَهَذَا مِنَ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالتَّنَاصُحِ، وَالدَّعْوَةِ وَالتَّذْكِيرِ (2) .
10 - النَّظَرُ بَيْنَ الْمُتَشَاجِرَيْنِ وَالْحُكْمُ بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ، فَلاَ يَخْرُجُ فِي النَّظَرِ بَيْنَهُمْ عَنْ مُوجِبِ الْحَقِّ وَمُقْتَضَاهُ، وَلاَ يَسُوغُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِِلاَّ بِمَا يَحْكُمُ بِهِ الْحُكَّامُ وَالْقُضَاةُ، وَرُبَّمَا اشْتَبَهَ حُكْمُ الْمَظَالِمِ عَلَى النَّاظِرِينَ فِيهَا، فَيَجُورُونَ فِي أَحْكَامِهَا، وَيَخْرُجُونَ إِِلَى الْحَدِّ الَّذِي لاَ يَسُوغُ، وَهَذَا مِنْ عَمَل الْقُضَاةِ (3) .

الْفَرْقُ بَيْنَ اخْتِصَاصِ الْمَظَالِمِ وَاخْتِصَاصِ الْقَضَاءِ
12 - الْفَرْقُ بَيْنَ قَضَاءِ الْمَظَالِمِ وَالْقَضَاءِ
__________
(1) المرجعان السابقان.
(2) المرجعان السابقان.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 83، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 78.

(38/134)


الْعَادِيِّ يَظْهَرُ فِي الْجَوَانِبِ التَّالِيَةِ (1) :
1 - إِِنَّ لِنُظَّارِ الْمَظَالِمِ مِنْ فَضْل الْهَيْبَةِ، وَقُوَّةِ الْيَدِ مَا لَيْسَ لِلْقُضَاةِ فِي كَفِّ الْخُصُومِ عَنِ التَّجَاحُدِ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي إِِنْكَارِ الْحَقِّ فِي كِلاَ الْجَانِبَيْنِ، وَمَنْعِ الظَّلَمَةِ مِنَ التَّغَالُبِ، وَالتَّجَاذُبِ.
2 - إِِنَّ نَظَرَ الْمَظَالِمِ يَخْرُجُ عَنْ ضِيقِ الْوُجُوبِ فِي التَّحْقِيقِ وَالإِِِْثْبَاتِ وَالأَْحْكَامِ وَالتَّنْفِيذِ إِِلَى سِعَةِ الْجَوَازِ، فَيَكُونُ أَفْسَحَ مَجَالاً، وَأَوْسَعَ مَقَالاً.
3 - يَسْتَعْمِل نَاظِرُ الْمَظَالِمِ مِنْ فَضْل الإِِِْرْهَابِ، وَكَشْفِ الأَْسْبَابِ بِالأَْمَارَاتِ الدَّالَّةِ، وَشَوَاهِدِ الأَْحْوَال اللاَّئِحَةِ، مَا يُضَيِّقُ عَلَى الْحُكَّامِ، فَيَصِل بِهِ إِِلَى ظُهُورِ الْحَقِّ، وَمَعْرِفَةِ الْمُبْطِل مِنَ الْمُحِقِّ.
4 - يُقَابِل نَاظِرُ الْمَظَالِمِ مَنْ ظَهَرَ ظُلْمُهُ بِالتَّأْدِيبِ، وَيَأْخُذُ مَنْ بَانَ عُدْوَانُهُ بِالتَّقْوِيمِ وَالتَّهْذِيبِ.
5 - لِنَاظِرِ الْمَظَالِمِ اسْتِمْهَال الْخُصُومِ، وَتَأْجِيل الْفَصْل فِي النِّزَاعِ، وَالتَّأَنِّي فِي تَرْدَادِ الأَْطْرَافِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الأُْمُورِ، وَاسْتِبْهَامِ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 83، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 79، وتبصرة الحكام 1 / 21، 145، ومعين الحكام ص 12، 170 ط. الأولى بالمطبعة الأميرية ببولاق، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي ص 93، 164.

(38/135)


الْحُقُوقِ، لِيُمْعِنَ فِي الْكَشْفِ عَنِ الأَْسْبَابِ وَأَحْوَال الْخُصُومِ مَا لَيْسَ لِلْقُضَاةِ إِِذَا سَأَلَهُمْ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ فَصْل الْحُكْمِ، فَلاَ يَسُوغُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ الْحَاكِمُ، وَيَسُوغُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ وَالِي الْمَظَالِمِ.
6 - لِنَاظِرِ الْمَظَالِمِ رَدُّ الْخُصُومِ إِِذَا أَعْضَلُوا، أَيْ تَعَذَّرَ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمْ، إِِلَى وَسَاطَةِ الأُْمَنَاءِ، لِيَفْصِلُوا فِي التَّنَازُعِ بَيْنَهُمْ صُلْحًا عَنْ تَرَاضٍ، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي ذَلِكَ إِِلاَّ عَنْ رِضَا الْخَصْمَيْنِ بِالرَّدِّ إِِلَى الصُّلْحِ.
7 - لِنَاظِرِ الْمَظَالِمِ أَنْ يَفْسَحَ فِي مُلاَزَمَةِ الْخَصْمَيْنِ إِِذَا وَضَحَتْ أَمَارَاتُ التَّجَاحُدِ، وَيَأْذَنَ فِي إِِلْزَامِ الْكَفَالَةِ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ التَّكَفُّل، لِيَنْقَادَ الْخُصُومُ إِِلَى التَّنَاصُفِ، وَيَعْدِلُوا عَنِ التَّجَاحُدِ وَالتَّكَاذُبِ.
8 - لِنَاظِرِ الْمَظَالِمِ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ شَهَادَاتِ الْمَسْتُورِينَ مَا يَخْرُجُ عَنْ عُرْفِ الْقَضَاءِ فِي شَهَادَةِ الْمُعَدِّلِينَ فَقَطْ.
9 - يَجُوزُ لِنَاظِرِ الْمَظَالِمِ إِِحْلاَفُ الشُّهُودِ عِنْدَ ارْتِيَابِهِ بِهِمْ إِِذَا بَذَلُوا أَيْمَانَهُمْ طَوْعًا، وَيَسْتَكْثِرُ مِنْ عَدَدِهِمْ لِيَزُول عَنْهُ الشَّكُّ، وَيَنْفِي عَنْهُ الاِرْتِيَابَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْحَاكِمِ الْعَادِيِّ.
10 - يَجُوزُ لِنَاظِرِ الْمَظَالِمِ أَنْ يَبْتَدِئَ

(38/135)


بِاسْتِدْعَاءِ الشُّهُودِ، وَيَسْأَل عَمَّا عِنْدَهُمْ فِي تَنَازُعِ الْخُصُومِ، أَمَّا عَادَةُ الْقُضَاةِ فَهِيَ تَكْلِيفُ الْمُدَّعِي إِِحْضَارَ بَيِّنَتِهِ، وَلاَ يَسْمَعُونَهَا إِِلاَّ بَعْدَ مَسْأَلَتِهِ وَطَلَبِهِ (1) .

الْفَرْقُ بَيْنَ اخْتِصَاصِ الْمَظَالِمِ وَالْحِسْبَةِ
13 - تَتَّفِقُ الْمَظَالِمُ مَعَ الْحِسْبَةِ فِي أُمُورٍ وَتَخْتَلِفُ فِي أُمُورٍ أُخْرَى (2) .
أَمَّا وَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَ الْمَظَالِمِ وَالْحِسْبَةِ، فَهِيَ أَمْرَانِ وَهُمَا:
1 - أَنَّ مَوْضُوعَ الْمَظَالِمِ وَالْحِسْبَةِ يَعْتَمِدُ عَلَى الرَّهْبَةِ وَقُوَّةِ الصَّرَامَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالسَّلْطَنَةِ.
2 - يَجُوزُ لِلْقَائِمِ فِي الْمَظَالِمِ وَالْحِسْبَةِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَفِي حُدُودِ اخْتِصَاصِهِ لأَِسْبَابِ الْمَصَالِحِ، وَإِِِنْكَارِ الْعُدْوَانِ، وَالإِِِْلْزَامِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، بِدُونِ حَاجَةٍ إِِلَى مُدَّعٍ فِي ذَلِكَ.
أَمَّا أَوْجُهُ الاِخْتِلاَفِ بَيْنَ الْمَظَالِمِ وَالْحِسْبَةِ فَهِيَ:
1 - إِِنَّ النَّظَرَ فِي الْمَظَالِمِ مَوْضُوعٌ لِمَا عَجَزَ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 84، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 79، وتبصرة الحكام 2 / 142، ومعين الحكام ص 169، والإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام ص 164.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 241 - 242، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 286 - 287، وتبصرة الحكام 1 / 19.

(38/136)


عَنْهُ الْقُضَاةُ، أَمَّا النَّظَرُ فِي الْحِسْبَةِ فَمَوْضُوعٌ لِمَا تَرَفَّعَ عَنْهُ الْقُضَاةُ، أَوْ لاَ حَاجَةَ لِعَرْضِهِ عَلَى الْقَضَاءِ، فَكَانَتْ رُتْبَةُ الْمَظَالِمِ أَعْلَى وَرُتْبَةُ الْحِسْبَةِ أَخْفَضَ مِنْهُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِوَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يُوَقِّعَ (يُخَاطِبَ وَيُرَاسِل) إِِلَى الْقُضَاةِ وَالْمُحْتَسِبِ، وَلَمْ يَجُزْ لِلْقَاضِي أَنْ يُوَقِّعَ إِِلَى وَالِي الْمَظَالِمِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَقِّعَ إِِلَى الْمُحْتَسِبِ، وَلاَ يَجُوزُ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يُوَقِّعَ إِِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
2 - يَجُوزُ لِوَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يَنْظُرَ فِي دَعَاوَى الْمُتَخَاصِمِينَ، وَيَفْصِل بَيْنَهُمَا، وَيُصْدِرَ حُكْمًا، قَضَائِيًّا قَابِلاً لِلتَّنْفِيذِ، أَمَّا وَالِي الْحِسْبَةِ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصْدُرَ حُكْمًا لأَِنَّهُ مُخْتَصٌّ فِي الأُْمُورِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهَا وَلاَ تَنَازُعَ، وَلاَ تَحْتَاجُ إِِلَى بَيِّنَةٍ وَإِِِثْبَاتٍ وَحِجَاجٍ (1) .

طُرُقُ النَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ وَمَكَانُهُ وَأَوْقَاتُهُ
أَوَّلاً: مَجْلِسُ النَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ
14 - يَسْتَعِينُ قَاضِي الْمَظَالِمِ بِالأَْعْوَانِ الَّذِينَ يُسَاعِدُونَهُ فِي أَدَاءِ مُهِمَّتِهِ الْجَسِيمَةِ، وَيَسْتَكْمِل بِهِمْ مَجْلِسَ نَظَرِهِ، وَلاَ يَسْتَغْنِي عَنْهُمْ، وَلاَ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 242 - 243، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 286 - 287، وتبصرة الحكام 1 / 19.

(38/136)


يَنْتَظِمُ نَظَرُهُ إِِلاَّ بِهِمْ (1) ، وَلِذَلِكَ فَإِِِنَّ مَجْلِسَ النَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ يَتِمُّ تَشْكِيلُهُ كَمَا يَلِي:
1 - رَئِيسُ الْمَجْلِسِ، وَهُوَ وَالِي الْمَظَالِمِ، أَوْ قَاضِي الْمَظَالِمِ.
2 - الْحُمَاةُ وَالأَْعْوَانُ لِجَذْبِ الْقَوِيِّ، وَتَقْوِيمِ الْجَرِيءِ.
3 - الْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ، لاِسْتِعْلاَمِ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ، وَمَعْرِفَةِ مَا يَجْرِي فِي مَجَالِسِهِمْ بَيْنَ الْخُصُومِ.
4 - الْفُقَهَاءُ، لِيَرْجِعَ إِِلَيْهِمْ فِيمَا أَشْكَل، وَيَسْأَلَهُمْ عَمَّا اشْتَبَهَ وَأَعْضَل.
5 - الْكُتَّابُ، لِيُثْبِتُوا مَا جَرَى بَيْنَ الْخُصُومِ، وَمَا تَوَجَّهَ لَهُمْ أَوْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُقُوقِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْكَاتِبِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالشُّرُوطِ وَالأَْحْكَامِ، وَالْحَلاَل وَالْحَرَامِ، مَعَ جَوْدَةِ الْخَطِّ، وَحُسْنِ الضَّبْطِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الطَّمَعِ، وَالأَْمَانَةِ وَالْعَدَالَةِ.
6 - الشُّهُودُ، لِيَشْهَدُوا عَلَى مَا أَوْجَبَهُ قَاضِي الْمَظَالِمِ مِنْ حَقٍّ، وَأَمْضَاهُ مِنْ حُكْمٍ وَهُمْ شُهُودٌ لِلْقَاضِي نَفْسِهِ حَتَّى يَتِمَّ التَّنْفِيذُ، وَيَسْتَبْعِدُ الإِِِْنْكَارَ وَالْجُحُودَ.
فَإِِِنِ اسْتَكْمَل مَجْلِسُ الْمَظَالِمِ هَؤُلاَءِ السِّتَّةَ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 80، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 76.

(38/137)


شَرَعَ حِينَئِذٍ فِي نَظَرِ الْمَظَالِمِ (1) .

ثَانِيًا: التَّدَابِيرُ الْمُؤَقَّتَةُ فِي النَّظَرِ بِالْمَظَالِمِ
15 - يَحِقُّ لِقَاضِي الْمَظَالِمِ الْقِيَامُ بِتَدَابِيرَ مُؤَقَّتَةٍ، وَإِِِجْرَاءَاتٍ خَاصَّةٍ، قَبْل النَّظَرِ فِي دَعْوَى الْمَظَالِمِ، وَأَثْنَاءَ النَّظَرِ فِيهَا، أَهَمُّهَا:
1 - الْكَفَالَةُ: وَذَلِكَ بِتَكْلِيفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (الْمَدِينِ) بِتَقْدِيمِ كَفَالَةٍ بِأَصْل الدِّينِ، رَيْثَمَا يَفْصِل فِي الأَْمْرِ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: " وَعَلَى وَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الدَّعْوَى، فَإِِِنْ كَانَتْ مَالاً، فِي الذِّمَّةِ كَلَّفَهُ الْقَاضِي إِِقَامَةَ كَفِيلٍ " (2) .
2 - الْحَجْرُ: قَال الْمَاوَرْدِيُّ: " وَإِِِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى عَيْنًا قَائِمَةً كَالْعَقَارِ حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهَا حَجْرًا لاَ يَرْتَفِعُ بِهِ حُكْمُ يَدِهِ " (3) ، وَيَرُدُّ اسْتِغْلاَلَهَا إِِلَى أَمِينٍ يَحْفَظُهُ عَلَى مُسْتَحِقِّهِ مِنْهُمَا، وَبِمَا أَنَّ الْحَجْرَ مِنْ جِهَةٍ، وَوَضْعَ الْمَال عِنْدَ أَمِينٍ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، قَدْ يُنْتَجُ عَنْهُمَا ضَرَرٌ وَأَذًى لِصَاحِبِ الْحَقِّ، وَلِذَلِكَ تَشَدَّدَ فِيهِمَا الْفُقَهَاءُ، فَقَالُوا: " فَأَمَّا الْحَجْرُ عَلَيْهِ فِيهَا، وَحِفْظُ اسْتِغْلاَلِهَا مُدَّةَ الْكَشْفِ وَالْوَسَاطَةِ فَمُعْتَبَرٌ بِشَوَاهِدِ أَحْوَالِهِمَا، وَاجْتِهَادِ وَالِي
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 85، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 80.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 85، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 80.

(38/137)


الْمَظَالِمِ فِيمَا يَرَاهُ بَيْنَهُمَا إِِلَى أَنْ يُثْبِتَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا " (1) .
3 - إِِجْرَاءُ الْمُعَايَنَةِ وَالتَّحْقِيقِ الْمَحَلِّيِّ، فَإِِِنَّ لِوَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يَكْشِفَ عَنِ الْحَال مِنْ جِيرَانِ الْمِلْكِ، وَمِنْ جِيرَانِ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِيهِ، لِيَتَوَصَّل بِهِمْ إِِلَى وُضُوحِ الْحَقِّ، وَمَعْرِفَةِ الْمُحِقِّ (2) .
4 - الاِسْتِكْتَابُ وَالتَّطْبِيقُ وَالْمُضَاهَاةُ، وَذَلِكَ إِِذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْخَطَّ، فَإِِِنَّ وَالِيَ الْمَظَالِمِ يَخْتَبِرُ خَطَّهُ، بِاسْتِكْتَابِهِ بِخُطُوطِهِ الَّتِي يَكْتُبُهَا، وَيُكَلِّفَهُ الإِِِْكْثَارَ مِنَ الْكِتَابَةَ لِيَمْنَعَهُ مِنَ التَّصَنُّعِ فِيهَا، ثُمَّ يَجْمَعَ بَيْنَ الْخَطَّيْنِ، فَإِِِذَا تَشَابَهَا حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ (3) ، وَهَذَا قَوْل مَنْ جَعَل اعْتِرَافَهُ الْخَطَّ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ بِهِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لاَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لإِِِِرْهَابِهِ وَتَكُونُ الشُّبْهَةُ مَعَ إِِنْكَارِهِ لِلْخَطِّ أَضْعَفَ مِنْهَا مَعَ اعْتِرَافِهِ بِهِ، وَتُرْفَعُ الشُّبْهَةُ إِِنْ كَانَ الْخَطُّ مُنَافِيًا لِخَطِّهِ، وَيَعُودُ الإِِِْرْهَابُ عَلَى الْمُدَّعِي ثُمَّ يُرَدَّانِ إِِلَى الْوَسَاطَةِ فَإِِِنْ أَفْضَى الْحَال إِِلَى الصُّلْحِ وَإِِِلاَّ بَتَّ الْقَاضِي الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 85، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 80.
(2) قضاة قرطبة للخشني ص 192، 217 ط. الدار المصرية، القاهرة.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 87، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 82.

(38/138)


بِالأَْيْمَانِ.

ثَالِثًا: التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ
16 - يَقْتَضِي نِظَامُ الْقَضَاءِ عَامَّةً، وَقَضَاءُ الْمَظَالِمِ خَاصَّةً، التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ أَمَامَ الْقَاضِي، فِي الْجُلُوسِ وَالإِِِْقْبَال، وَالإِِِْشَارَةِ وَالنَّظَرِ، دُونَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ، وَرَاعٍ وَرَعِيَّةٍ، وَشَرِيفٍ وَغَيْرِهِ، فَالْكُل أَمَامَ الْعَدْل سَوَاءٌ، لِمَا رَوَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنِ ابْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ، فَلْيَعْدِل بَيْنَهُمْ فِي لَحْظِهِ وَإِِِشَارَتِهِ، وَمَقْعَدِهِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (تَسْوِيَةٌ ف 9، وَقَضَاءٌ ف 41) .

رَابِعًا: وَقْتُ النَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ
17 - عَلَى الْوُلاَةِ الَّذِينَ يُمَارِسُونَ قَضَاءَ الْمَظَالِمِ بِجَانِبِ أَعْمَالِهِمْ أَنْ يُخَصِّصُوا يَوْمًا مَعْلُومًا فِي الأُْسْبُوعِ لِلنَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ، لِيَقْصِدَهُ الْمُتَظَلِّمُونَ، وَيَتَفَرَّغُ الْوُلاَةُ فِي سَائِرِ الأَْيَّامِ لأَِعْمَالِهِمُ الأُْخْرَى، وَكَانَتِ الْمَظَالِمُ فِي الْعُهُودِ الأُْولَى قَلِيلَةً وَمَحْدُودَةً، وَكَانَ بَعْضُ الْخُلَفَاءِ يَنْظُرُ فِي الْمَظَالِمِ فِي جَمِيعِ الأَْوْقَاتِ
__________
(1) حديث أم سلمة: " من ابتلي بالقضاء بين الناس. . . " أخرجه الدارقطني (4 / 205) ، وفي إسناده راوٍ فيه جهالة كما في الميزان للذهبي (4 / 544) .

(38/138)


مَتَى حَضَرَتْ مَظْلَمَةٌ، فَكَانَ الْمَهْدِيُّ مَثَلاً يَجْلِسُ فِي كُل وَقْتٍ لِرَدِّ الْمَظَالِمِ (1) .
أَمَّا إِِنْ كَانَ قَاضِي الْمَظَالِمِ مُتَعَيِّنًا لِذَلِكَ، وَمُتَفَرِّغًا لَهُ، فَيَكُونُ نَظَرُهُ فِيهَا فِي جَمِيعِ الأَْيَّامِ، وَفِي جَمِيعِ الأَْوْقَاتِ (2) .

خَامِسًا: مَكَانُ الْمَظَالِمِ
18 - كَانَ النَّظَرُ فِي الْمَظَالِمِ فِي مَكَانِ الْخَلِيفَةِ فِي دَارِ الْخِلاَفَةِ، أَوْ مَكَانِ الْوَالِي، أَوْ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمَّا أُفْرِدَتِ الْمَظَالِمُ بِدِيوَانِ خَاصٍّ، وَكِيَانٍ مُسْتَقِلٍّ خُصِّصَتْ لَهَا دَارٌ مُعَيَّنَةٌ يَقْصِدُهَا الْمُتَظَلِّمُونَ، وَتُعْقَدُ فِيهَا جَلَسَاتُ النَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ، وَيَجْتَمِعُ فِيهَا أَصْحَابُ الْعَلاَقَةِ فِي الأَْمْرِ.
وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ فِي أَيَّامِ الْعَبَّاسِيِّينَ خُصِّصَتْ دَارٌ لِلْمَظَالِمِ فِي بَغْدَادَ (3) ، ثُمَّ بَنَى السُّلْطَانُ الصَّالِحُ الْعَادِل نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زِنْكِيٍّ الشَّهِيدُ دَارَ الْعَدْل بِدِمَشْقَ لِكَشْفِ الظُّلاَمَاتِ بِسَبَبِ مَا جَرَى فِيهَا مِنْ ظُلْمِ بَعْضِ أُمَرَائِهِ لِلنَّاسِ، فَكَانَ يُنْصِفُ مِنْ وُزَرَائِهِ وَأُمَرَائِهِ الرَّعِيَّةَ (4) ، وَكَذَلِكَ أَنْشَأَ الظَّاهِرُ بِيبَرْسُ
__________
(1) الفخري، لابن طباطبا ص 131.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 79، 80، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 76.
(3) تاريخ الطبري 8 / 216 ط. دار المعارف، القاهرة 1960.
(4) البداية والنهاية لابن كثير 12 / 280، تصوير مكتبة المعارف - بيروت، ومكتبة النصر - الرياض.

(38/139)


بِمِصْرِ دَارَ الْعَدْل، وَحَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَنْصَفَ الْمَظْلُومَ، وَخَلَّصَ الْحُقُوقَ (1) .
وَلِزِيَادَةِ التَّفْصِيل يُرْجَعُ إِِلَى مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ ف 37 وَمَا بَعْدَهَا) .

سَادِسًا: الدَّعْوَى فِي الْمَظَالِمِ
19 - الأَْصْل فِي رَدِّ الْمَظَالِمِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الإِِِْمَامِ وَالْخَلِيفَةِ، وَالْوَالِي وَالأَْمِيرِ، وَالْمُحْتَسِبِ وَقَاضِي الْمَظَالِمِ، وَيَجُوزُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَخْذُهُ بِلاَ دَعْوَى إِِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ.
قَال الْقَرَافِيُّ: كُل أَمْرٍ مُجْمَعٍ عَلَى ثُبُوتِهِ، وَتَعَيَّنَ الْحَقُّ فِيهِ، وَلاَ يُؤَدِّي أَخْذُهُ إِِلَى فِتْنَةٍ وَتَشَاجُرٍ، وَلاَ فَسَادِ عِرْضٍ أَوْ عُضْوٍ يَجُوزُ أَخْذُهُ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ لِلْحَاكِمِ (2) .

سَابِعًا: الْقَضَاءُ بِالسِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْمَظَالِمِ
20 - إِِنَّ التَّحْقِيقَ وَالإِِِْثْبَاتَ فِي قَضَاءِ الْمَظَالِمِ أَوْسَعُ مِنَ الْقَضَاءِ الْعَادِيِّ، وَيَسْتَطِيعُ وَالِي الْمَظَالِمِ أَوْ قَاضِي الْمَظَالِمِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَامَّةِ فِي قَضَائِهِ، لِذَلِكَ قَال الْمَاوَرْدِيُّ: " فَأَمَّا نَظَرُ الْمَظَالِمِ الْمَوْضُوعُ عَلَى الأَْصْلَحِ فَعَلَى الْجَائِزِ، دُونَ الْوَاجِبِ، فَيَسُوغُ فِيهِ مِثْل هَذَا عِنْدَ ظُهُورِ الرِّيبَةِ وَقَصْدِ
__________
(1) النجوم الزاهرة 7 / 163.
(2) الفروق 4 / 76 - 77.

(38/139)


الْعِنَادِ، وَيُبَالِغُ فِي الْكَشْفِ بِالأَْسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إِِلَى ظُهُورِ الْحَقِّ، وَيَصُونُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا اتَّسَعَ فِي الْحُكْمِ (1) ".
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: " وَرُبَّمَا تَلَطَّفَ وَالِي الْمَظَالِمِ فِي إِِيصَال الْمُتَظَلِّمِ إِِلَى حَقِّهِ، بِمَا يَحْفَظُ مَعَهُ حِشْمَةَ الْمُتَظَلِّمِ مِنْهُ، أَوْ مُوَاضَعَةَ الْمَطْلُوبِ عَلَى مَا يَحْفَظُ بِهِ حِشْمَةَ نَفْسِهِ " (2) .
فَإِِِذَا كَانَ الظُّلْمُ وَاضِحًا اكْتَفَى قَاضِي الْمَظَالِمِ بِالْبَيِّنَةِ الْيَسِيرَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِِلَى الْقَنَاعَةِ الْوِجْدَانِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَال ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَرُدُّ الْمَظَالِمَ إِِلَى أَهْلِهَا بِغَيْرِ الْبَيِّنَةِ الْقَاطِعَةِ، وَكَانَ يَكْتَفِي بِالْيَسِيرِ إِِذَا عَرَفَ وَجْهَ مَظْلَمَةِ الرَّجُل رَدَّهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُ تَحْقِيقَ الْبَيِّنَةِ، كَمَا يُعْرَفُ مِنْ غَشْمِ (ظُلْمِ) الْوُلاَةِ قَبْلَهُ عَلَى النَّاسِ، وَلَقَدْ أَنْفَذَ بَيْتَ مَال الْعِرَاقِ فِي رَدِّ الْمَظَالِمِ حَتَّى حُمِل إِِلَيْهَا مِنَ الشَّامِ (3) .
وَفِي ذَلِكَ إِِطْلاَقٌ لِيَدِ صَاحِبِ الْمَظَالِمِ وَتَوْسِعَةٌ عَلَيْهِ، لِمُوَاجَهَةِ حَالاَتِ الضَّرُورَاتِ وَالنَّوَازِل وَالْحَوَادِثِ، وَهُوَ مَا قَصَدَهُ الْخَلِيفَةُ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 91، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 86، وتاريخ قضاة الأندلس للنباهي المالقي ص 17، 18.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 90، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 85.
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز، لابن عبد الحكم ص 325.

(38/140)


الرَّاشِدُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِقَوْلِهِ: " تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الْفُجُورِ " وَهُوَ مَا يَقُومُ بِهِ الْقَاضِي بِالاِجْتِهَادِ وَالتَّحَرِّي.
فَالْقَضَاءُ بِالسِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَادِلَةِ الَّتِي تُخْرِجُ الْحَقَّ مِنَ الظَّالِمِ، وَتَرْفَعُ كَثِيرًا مِنَ الْمَظَالِمِ، وَتَرْدَعُ أَهْل الْفَسَادِ، هِيَ جُزْءٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَبَابٌ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَلَيْسَتْ مُخَالِفَةً لَهَا (1) .

ثَامِنًا: التَّنْفِيذُ
21 - وَهُوَ تَنْفِيذُ الأَْحْكَامِ وَهُوَ الْهَدَفُ الأَْخِيرُ مِنْ وُجُودِ الْقَضَاءِ وَالْمَحَاكِمِ، وَلاَ سِيَّمَا فِي قَضَاءِ الْمَظَالِمِ، إِِذَا عَجَزَ الْقُضَاةُ عَنْ تَنْفِيذِ أَحْكَامِهَا عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، لِتَعَزُّزِهِ وَقُوَّةِ يَدِهِ، أَوْ لِعُلُوِّ قَدْرِهِ، وَعِظَمِ خَطَرِهِ، فَيَكُونُ نَاظِرُ الْمَظَالِمِ أَقْوَى يَدًا، وَأَنْفَذَ أَمْرًا، فَيُنَفَّذُ الْحُكْمُ عَلَى مَنْ يُوَجَّهُ إِِلَيْهِ، بِانْتِزَاعِ مَا فِي يَدِهِ، أَوْ بِإِِِلْزَامِهِ الْخُرُوجَ مِمَّا فِي ذِمَّتِهِ (2) .

تَوْقِيعَاتُ قَاضِي الْمَظَالِمِ
22 - التَّوْقِيعُ: هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الاِدِّعَاءَ مِنْ شَخْصٍ، وَالْجَوَابَ مِنْ آخَرَ،
__________
(1) إعلام الموقعين 4 / 462، والطرق الحكمية لابن القيم ص 4، تبصرة الحكام لابن فرحون 2 / 132، 141.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 83.

(38/140)


وَالْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ (1) ، وَالْمَقْصُودُ بِالتَّوْقِيعَاتِ هُنَا: هِيَ الْكُتُبُ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْ وَالِي الْمَظَالِمِ، وَيُرْسِلُهَا إِِلَى غَيْرِهِ بِإِِِحَالَةِ مَوْضُوعِ الْمُنَازَعَةِ إِِلَى شَخْصٍ أَوْ لَجْنَةٍ، لِيُطْلِعَهُمْ عَلَى مَا جَرَى عِنْدَهُ مِنْ تَظَلُّمٍ وَأَحْكَامٍ وَقِصَصِ الْمُتَظَلِّمِينَ إِِلَيْهِ، بِقَصْدِ تَحْضِيرِ الدَّعْوَى، أَوِ التَّحْقِيقِ فِيهَا، أَوِ النَّظَرِ بَيْنَهُمْ، وَالْفَصْل فِيهَا.
23 - وَقَسَّمَ الْمَاوَرْدِيُّ (2) ، تَوْقِيعَاتِ قَاضِي الْمَظَالِمِ إِِلَى قِسْمَيْنِ حَسَبَ حَال الْمُوَقَّعِ إِِلَيْهِ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الْمُوَقَّعُ إِِلَيْهِ مُخْتَصًّا أَصْلاً بِالنَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ، كَالتَّوْقِيعِ إِِلَى الْقَاضِي الْمُكَلَّفِ بِالنَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ، وَهَذَا يَنْقَسِمُ إِِلَى نَوْعَيْنِ:
أ - أَنْ يَكُونَ التَّوْقِيعُ إِِذْنًا لِلْقَاضِي لِلْفَصْل فِي الدَّعْوَى وَالْحُكْمِ فِيهَا، وَهُنَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِأَصْل الْوِلاَيَةِ، وَيَكُونُ التَّوْقِيعُ تَأْكِيدًا لاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ قُصُورُ مَعَانِيهِ.
ب - أَنْ يَقْتَصِرَ التَّوْقِيعُ عَلَى مُجَرَّدِ الْكَشْفِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْوَسَاطَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ لإِِِِنْهَاءِ النِّزَاعِ، وَقَدْ يَقْتَرِنُ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنِ الْحُكْمِ فِيهِ،
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون 3 / 689، ونقل التهانوي أن الشخص إذا ادعى على آخر فالمكتوب هو المحضر، وإذا أجاب الآخر وأقام البينة فالتوقيع، وإذا حكم فالسجل، وانظر: التعريفات للجرجاني ص 109.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 93، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 87.

(38/141)


فَلاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ فِي الْقَضِيَّةِ وَإِِِنْ لَمْ يَنْهَهُ الْكَاتِبُ فِي التَّوْقِيعِ عَنِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ نَظَرُ الْقَاضِي عَلَى عُمُومِهِ فِي جَوَازِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا، وَفِي قَوْلٍ ضَعِيفٍ يَكُونُ ذَلِكَ مَنْعًا مِنَ الْحُكْمِ، وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ: يَكُونُ مَمْنُوعًا مِنَ الْحُكْمِ وَمَقْصُورًا عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ التَّوْقِيعُ مِنَ الْكَشْفِ وَالْوَسَاطَةِ، لأَِنَّ فَحْوَى التَّوْقِيعِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ.
وَإِِِذَا كَانَ التَّوْقِيعُ بِمُجَرَّدِ الْوَسَاطَةِ فَلاَ يُلْزَمُ الْقَاضِي الْمُحَال إِِلَيْهِ بِإِِِنْهَاءِ الْحَال، وَإِِِخْطَارِهِ إِِلَى قَاضِي الْمَظَالِمِ بَعْدَ الْوَسَاطَةِ، وَإِِِنْ كَانَ التَّوْقِيعُ بِكَشْفِ الصُّورَةِ، أَوْ بِالتَّحْقِيقِ وَإِِِبْدَاءِ الرَّأْيِ لَزِمَهُ إِِنْهَاءُ حَالِهِمَا إِِلَيْهِ، لأَِنَّهُ اسْتِخْبَارٌ مِنْهُ فَلَزِمَ إِِجَابَتُهُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُوَقَّعُ إِِلَيْهِ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ فِي نَظَرِ الْمَظَالِمِ، كَتَوْقِيعِهِ إِِلَى فَقِيهٍ أَوْ شَاهِدٍ، وَهَذَا الْقِسْمُ لَهُ ثَلاَثُ صُوَرٍ:
أ - أَنْ يَكُونَ التَّوْقِيعُ لِلتَّحْقِيقِ وَكَشْفِ الصُّورَةِ وَإِِِبْدَاءِ الرَّأْيِ، فَعَلَى الْمُوَقَّعِ إِِلَيْهِ أَنْ يَكْشِفَهَا، وَيُنْهِيَ مِنْهَا لِقَاضِي الْمَظَالِمِ مَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ، وَيَجُوزُ لِوَالِي الْمَظَالِمِ الْمُوَقِّعِ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ، وَإِِِلاَّ كَانَ مُجَرَّدَ خَبَرٍ لاَ يَجُوزُ لِلْمُوَقِّعِ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ، وَلَكِنْ يَجْعَلُهُ فِي نَظَرِ الْمَظَالِمِ مِنَ الأَْمَارَاتِ الَّتِي يَغْلِبُ بِهَا حَال

(38/141)


أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فِي الإِِِْرْهَابِ، وَفَضْل الْكَشَفِ.
ب - أَنْ يَكُونَ التَّوْقِيعُ بِالْوَسَاطَةِ، فَيَتَوَسَّطُ الْمُوَقَّعُ إِِلَيْهِ بَيْنَهُمَا، فَإِِِنْ أَفْضَتِ الْوَسَاطَةُ إِِلَى صُلْحِ الْخَصْمَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِِنْهَاؤُهَا إِِلَى وَالِي الْمَظَالِمِ، وَيُعْتَبَرُ شَاهِدًا فِيهَا، إِِذَا اسْتُدْعِيَ لِلشَّهَادَةِ بِشَأْنِهَا مُسْتَقْبَلاً، وَإِِِنْ لَمْ تُفْضِ الْوَسَاطَةُ إِِلَى الصُّلْحِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ كَانَ الْوَسِيطُ شَاهِدًا فِيمَا اعْتَرَفَا بِهِ عِنْدَهُ يُؤَدِّيهِ إِِلَى النَّاظِرِ فِي الْمَظَالِمِ إِِنْ عَادَ الْخَصْمَانِ إِِلَى التَّظَلُّمِ وَطَلَبِ الشَّهَادَةِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهَا إِِنْ لَمْ يَعُودَا.
ج - أَنْ يَكُونَ التَّوْقِيعُ لِلشَّخْصِ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، فَهَذَا يَعْنِي إِِسْنَادَ وِلاَيَةٍ لَهُ، وَيَتَعَيَّنُ مُرَاعَاةُ فَحْوَى قَرَارِ الإِِِْحَالَةِ لأَِعْمَال الْقَضَاءِ، لِيَكُونَ نَظَرُهُ مَحْمُولاً عَلَى مُوجِبِهِ.
24 - كَمَا قَسَّمَ الْمَاوَرْدِيُّ تَوْقِيعَاتِ قَاضِي الْمَظَالِمِ حَسْبَ مَضْمُونِ الْكِتَابِ إِِلَى قِسْمَيْنِ (1) ، وَهُمَا:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: أَنْ تَكُونَ عِبَارَةُ الإِِِْحَالَةِ مُتَضَمِّنَةً إِِجَابَةَ الْخَصْمِ إِِلَى مُلْتَمَسِهِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ حِينَئِذٍ مَا سَأَل الْخَصْمُ فِي ظُلاَمَتِهِ، وَيَصِيرُ النَّظَرُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، فَإِِِنْ سَأَل
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 94، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 88.

(38/142)


الْوَسَاطَةَ أَوِ الْكَشْفَ لِلصُّورَةِ، أَيِ التَّحْقِيقَ فِيهَا، كَانَتِ الإِِِْحَالَةُ مُوجِبَةً لَهُ، وَكَانَ النَّظَرُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، سَوَاءٌ خَرَجَ التَّوْقِيعُ مَخْرَجَ الأَْمْرِ، كَقَوْلِهِ: أَجِبْهُ إِِلَى مُلْتَمَسِهِ، أَوْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْحِكَايَةِ، كَقَوْلِهِ: رَأْيُكَ فِي إِِجَابَةِ مُلْتَمَسِهِ، كَانَ مُوقِعًا، لأَِنَّهُ لاَ يَقْتَضِي وِلاَيَةً يَلْزَمُ حُكْمُهَا، فَكَانَ أَمْرُهَا أَخَفَّ، وَإِِِنْ سَأَل الْمُتَظَلِّمُ الْحُكْمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْخَصْمُ مُسَمًّى، وَالْخُصُومَةُ مَذْكُورَةٌ، لِتَصِحَّ وِلاَيَةُ الْفَصْل فِي النِّزَاعِ عَلَيْهِمَا.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الإِِِْحَالَةُ أَوِ التَّفْوِيضُ مُتَضَمِّنًا إِِجَابَةَ الْخَصْمِ إِِلَى مَا سَأَل، عَلَى أَنْ يَسْتَأْنِفَ فِيهِ الأَْمْرَ، وَتَتَحَدَّدُ الْوِلاَيَةُ بِمَضْمُونِ قَرَارِ الإِِِْحَالَةِ، وَلَهَا ثَلاَثُ صُوَرٍ:
أ - أَنْ تَكُونَ الإِِِْحَالَةُ كَامِلَةً فِي صِحَّةِ الْوِلاَيَةِ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الأَْمْرَ بِالنَّظَرِ، وَالأَْمْرَ بِالْحُكْمِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ بِالْحَقِّ الَّذِي يُوجِبُهُ الشَّرْعُ، وَهَذَا هُوَ التَّوْقِيعُ الْكَامِل.
ب - أَنْ لاَ يَكُونَ قَرَارُ الإِِِْحَالَةِ كَامِلاً، بَل تَضَمَّنَ الأَْمْرَ بِالْحُكْمِ دُونَ النَّظَرِ، فَيَذْكُرُ فِي تَوْقِيعِهِ مَثَلاً: احْكُمْ بَيْنَ رَافِعِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَبَيْنَ خَصْمِهِ، أَوْ يَقُول: اقْضِ بَيْنَهُمَا، فَتَصِحُّ الْوِلاَيَةُ بِذَلِكَ، لأَِنَّ الْحُكْمَ

(38/142)


وَالْقَضَاءَ بَيْنَهُمَا لاَ يَكُونُ إِِلاَّ بَعْدَ تَقَدُّمِ النَّظَرِ، فَصَارَ الأَْمْرُ بِهِ مُتَضَمِّنًا لِلنَّظَرِ، لأَِنَّهُ لاَ يَخْلُو مِنْهُ.
ج - أَنْ يَخْلُوَ التَّوْقِيعُ مِنَ الْكَمَال وَالْجَوَازِ، بِأَنْ يَذْكُرَ فِي التَّوْقِيعِ: انْظُرْ بَيْنَهُمَا، فَلاَ تَنْعَقِدُ بِهَذَا التَّوْقِيعِ وِلاَيَةٌ، لأَِنَّ النَّظَرَ بَيْنَهُمَا يَحْتَمِل الْوَسَاطَةَ الْجَائِزَةَ، وَيَحْتَمِل الْحُكْمَ اللاَّزِمَ، وَهُمَا فِي الاِحْتِمَال سَوَاءٌ، فَلَمْ تَنْعَقِدِ الْوِلاَيَةُ بِهِ مَعَ الاِحْتِمَال.
أَمَّا إِِنْ قَال لَهُ: انْظُرْ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ، فَفِيهِ اخْتِلاَفٌ، فَقِيل: إِِنَّ الْوِلاَيَةَ مُنْعَقِدَةٌ، لأَِنَّ الْحَقَّ مَا لَزِمَ، وَقِيل: لاَ تَنْعَقِدُ بِهِ، لأَِنَّ الصُّلْحَ وَالْوَسَاطَةَ حَقٌّ، وَإِِِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ.

كَيْفِيَّةُ رَدِّ الْمَظَالِمِ
25 - رَغَّبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَدِّ الْمَظَالِمِ إِِلَى أَهْلِهَا قَبْل أَنْ يُحَاسَبَ عَلَيْهَا، وَطَلَبَ مِمَّنِ ارْتَكَبَ مَظْلَمَةً أَنْ يَتَحَلَّلَهَا مِنْ صَاحِبِهَا بِأَسْرَعَ مَا يُمْكِنُ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَِخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، أَوْ شَيْءٌ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْل أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ بِقَدْرِ مَظْلِمَتَهُ، وَإِِِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ

(38/143)


حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِل عَلَيْهِ (1) .
وَحَدَّدَ النَّوَوِيُّ كَيْفِيَّةَ رَدِّ الْمَظَالِمِ إِِلَى أَصْحَابِهَا فَقَال: " إِِنْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ قَدْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقٌّ مَالِيٌّ، كَمَنْعِ الزَّكَاةِ، وَالْغَصْبِ، وَالْجِنَايَاتِ فِي أَمْوَال النَّاسِ، وَجَبَ مَعَ ذَلِكَ تَبْرِئَةُ الذِّمَّةِ عَنْهُ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ، وَيَرُدَّ أَمْوَال النَّاسِ إِِنْ بَقِيَتْ، وَيَغْرَمُ بَدَلَهَا إِِنْ لَمْ تَبْقَ، أَوْ يَسْتَحِل الْمُسْتَحَقَّ فَيُبْرِئَهُ، وَيَجِبُ أَنْ يُعْلِمَ الْمُسْتَحِقَّ بِالْحَقِّ إِِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْحَقِّ، وَأَنْ يُوَصِّلَهُ إِِلَيْهِ إِِنْ كَانَ غَائِبًا إِِنْ كَانَ غَصَبَهُ هُنَاكَ، فَإِِِنْ مَاتَ سَلَّمَهُ إِِلَى وَارِثِهِ، فَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ رَفَعَهُ إِِلَى قَاضٍ تُرْضَى سِيرَتُهُ وَدِيَانَتُهُ، فَإِِِنْ تَعَذَّرَ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِنِيَّةِ الضَّمَانِ لَهُ إِِنْ وَجَدَهُ، وَإِِِنْ كَانَ مُعْسِرًا نَوَى الضَّمَانَ إِِذَا قَدَرَ، فَإِِِنْ مَاتَ قَبْل الْقُدْرَةِ فَالْمَرْجُوُّ مِنْ فَضْل اللَّهِ تَعَالَى الْمَغْفِرَةُ، وَإِِِنْ كَانَ حَقًّا لِلْعِبَادِ وَلَيْسَ بِمَالِيٍّ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فَيَأْتِي الْمُسْتَحِقَّ وَيُمَكِّنَهُ مِنَ الاِسْتِيفَاءِ فَإِِِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَإِِِنْ شَاءَ عَفَا " (2) ، وَذَكَرَ مِثْلَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مَعَ
__________
(1) حديث أبي هريرة: " من كانت له مظلمة من أخيه. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 101) .
(2) روضة الطالبين للنووي 11 / 246 ط. المكتب الإسلامي.

(38/143)


تَفْصِيلٍ فِي الْفُرُوعِ (1) .
وَقَال الْغَزَالِيُّ: " أَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى الْقُلُوبِ بِمُشَافَهَةِ النَّاسِ بِمَا يَسُوءُهُمْ أَوْ يُصِيبُهُمْ فِي الْغَيْبِ فَلْيَطْلُبْ مِنْ كُل مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ بِلِسَانِهِ أَوْ آذَى قَلْبَهُ بِفِعْل مِنْ أَفْعَالِهِ، وَلْيُحِل وَاحِدًا وَاحِدًا مِنْهُمْ. وَمَنْ مَاتَ أَوْ غَابَ فَلاَ يُتَدَارَكُ إِِلاَّ بِكَثِيرِ الْحَسَنَاتِ، ثُمَّ تَبْقَى لَهُ مَظْلَمَةٌ، فَلْيَجْبُرْهَا بِالْحَسَنَاتِ كَمَا يَجْبُرُ مَظْلَمَةَ الْمَيِّتِ وَالْغَائِبِ (2) .

تَوَقُّفُ قَبُول التَّوْبَةِ عَلَى رَدِّ الْمَظَالِمِ
26 - يُشْتَرَطُ فِي التَّوْبَةِ رَدُّ الْمَظَالِمِ إِِلَى أَهْلِهَا، أَوْ تَحْصِيل الْبَرَاءَةِ مِنْهَا، لأَِنَّ التَّوْبَةَ بِمَعْنَى النَّدَمِ عَلَى مَا مَضَى، وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ لِمِثْلِهِ لاَ يَكْفِي فِي التَّوْبَةِ وَإِِِسْقَاطِ الْحُقُوقِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ، أَوْ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَرَدِّ الْمَال الْمَغْصُوبِ وَالْجِنَايَاتِ فِي الأَْمْوَال وَالأَْنْفُسِ، وَرَدِّ الْمَال الْمَسْرُوقِ وَغَيْرِهِ (3) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ التَّوْبَةِ: وَإِِِنْ كَانَتْ تُوجِبُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 116 ط. الحلبي، وحاشية العدوي 1 / 67 ط. عيسى البابي الحلبي، والمغني 14 / 193، وكشاف القناع 6 / 420، ورياض الصالحين للنووي ص 62 ط. دار الفكر.
(2) إحياء علوم الدين للغزالي 11 / 2129 ط. دار الشعب.
(3) روضة الطالبين للنووي 11 / 246، وحاشية القليوبي 4 / 201، والمغني 14 / 116، وحاشية العدوي 1 / 67 ط. عيسى الحلبي، وحاشية ابن عابدين 4 / 116 ط. الحلبي.

(38/144)


عَلَيْهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ لآِدَمِيٍّ، كَمَنْعِ الزَّكَاةِ وَالْغَصْبِ، فَالتَّوْبَةُ مِنْهُ بِمَا ذَكَرْنَا، وَتَرْكِ الْمَظْلَمَةِ حَسَبَ إِِمْكَانِهِ، بِأَنْ يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ، وَيَرُدَّ الْمَغْصُوبَ، أَوْ مِثْلَهُ إِِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَإِِِلاَّ قِيمَتَهُ، وَإِِِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ نَوَى رَدَّهُ مَتَى قَدَرَ عَلَيْهِ، فَإِِِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ فِي الْبَدَنِ، فَإِِِنْ كَانَ حَقًّا لآِدَمِيٍّ كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ، اشْتُرِطَ فِي التَّوْبَةِ التَّمْكِينُ فِي نَفْسِهِ، وَبَذْلُهَا لِلْمُسْتَحِقِّ (1) .
وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَوَقُّفِ قَبُول التَّوْبَةِ عَلَى رَدِّ الْمَظَالِمِ فِي أَبْوَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَيُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ تَوْبَةٍ مِنْ نَحْوِ غَصْبٍ رَدُّ مَظْلَمَةٍ إِِلَى رَبِّهَا إِِنْ كَانَ حَيًّا، أَوْ إِِلَى وَرَثَتِهِ إِِنْ كَانَ مَيِّتًا، أَوْ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْهَا فِي حِلٍّ بِأَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ أَنْ يُبْرِئَهُ، وَيَسْتَمْهِل التَّائِبُ رَبَّ الْمَظْلِمَةِ إِِنْ كَانَ مُعْسِرًا وَعَجَزَ عَنْ رَدِّهَا، أَوْ بَدَلِهَا لِعُسْرَتِهِ (2) .
وَإِِِنَّ تَوْبَةَ الْقَاذِفِ أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ، لأَِنَّ عِرْضَ الْمَقْذُوفِ قَدْ تَلَوَّثَ بِقَذْفِهِ، فَإِِِكْذَابُهُ نَفْسَهُ يُزِيل ذَلِكَ التَّلَوُّثَ فَتَكُونُ التَّوْبَةُ بِهِ (3) .
وَإِِِنَّ الْوَدِيعَةَ الَّتِي جُهِل الْمُودِعُ لَهَا، وَأَيِسَ الْمُودَعُ مِنْ مَعْرِفَةِ مَالِكِهَا، يَجُوزُ إِِعْطَاؤُهَا لِبَيْتِ الْمَال إِِذَا لَمْ يَكُنِ الْحَاكِمُ جَائِرًا ظَالِمًا، وَيَجُوزُ لِمَنْ هِيَ فِي يَدِهِ أَنْ يَصْرِفَهَا فِي
__________
(1) المغني لابن قدامة 14 / 193.
(2) كشاف القناع 6 / 420، والروضة 11 / 146.
(3) المغني لابن قدامة 14 / 91.

(38/144)


مَصَارِفِهَا أَوْ فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ، إِِذَا كَانَ الإِِِْمَامُ جَائِرًا (1) .
وَإِِِذَا تَابَ الْغَال (وَهُوَ الَّذِي يَكْتُمُ مَا يَأْخُذُهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ) قَبْل الْقِسْمَةِ رَدَّ مَا أَخَذَهُ فِي الْمَقْسَمِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ، لأَِنَّهُ حَقٌّ تَعَيَّنَ رَدُّهُ إِِلَى أَهْلِهِ (2) .
وَإِِِنَّ التَّوْبَةَ الَّتِي تُسْقِطُ الْعُقُوبَةَ عَنْ قَاطِعِ الطَّرِيقِ تُوجِبُ رَدَّ الْمَال عَلَى صَاحِبِهِ إِِنْ كَانَ أَخَذَ الْمَال لاَ غَيْرُ، مَعَ الْعَزْمِ عَلَى أَنْ لاَ يَفْعَل مِثْلَهُ فِي الْمُسْتَقْبَل (3) .
__________
(1) حاشية القليوبي 3 / 187.
(2) المغني لابن قدامة 13 / 171.
(3) بدائع الصنائع 9 / 4295 ط. الإمام، وانظر: حاشية ابن عابدين 4 / 116 ط. الحلبي.

(38/145)


مَظِنَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَظِنَّةُ مِنَ الظَّنِّ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِمَا يَحْصُل عَنْ أَمَارَةٍ وَمَتَى قَوِيَتْ أَدَّتْ إِِلَى الْعِلْمِ، وَالظَّنُّ فِي الأَْصْل خِلاَفُ الْيَقِينِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَل بِمَعْنَى الْيَقِينِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ} (1) .
وَالْمَظِنَّةُ: بِكَسْرِ الظَّاءِ لِلْمَعْلَمِ وَهُوَ حَيْثُ يُعْلَمُ الشَّيْءُ وَالْجَمْعُ الْمَظَانُّ وَمَظِنَّةُ الشَّيْءِ مَوْضِعُهُ وَمَأْلَفُهُ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْمَظْنُونَاتُ هِيَ الْقَضَايَا الَّتِي يُحْكَمُ فِيهَا حُكْمًا رَاجِحًا مَعَ تَجْوِيزِ نَقِيضِهِ (3) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَظِنَّةِ:
الْمَظِنَّةُ تَقُومُ مَقَامَ الْيَقِينِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
مَظِنَّةُ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِزَوَال الْعَقْل
2 - إِِذَا زَال عَقْل الْمُكَلَّفِ بِنَوْمٍ أَوْ جُنُونٍ
__________
(1) سورة البقرة / 46.
(2) المصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن.
(3) الذخيرة للقرافي ص 215، والتعريفات للجرجاني.

(38/145)


أَوْ إِِغْمَاءٍ أَوْ سُكْرٍ أَوْ نَحْوِهَا، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ زَوَال الْعَقْل بِأَحَدِ هَذِهِ الأُْمُورِ مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ، لِكَوْنِهِ مَظِنَّةً لِخُرُوجِ شَيْءٍ مِنَ الدُّبُرِ مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ بِهِ، وَذَلِكَ كَمَا أَشْعَرَ بِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ (1) .
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْيَقَظَةَ هِيَ الْحَافِظَةُ لِمَا يَخْرُجُ، وَالنَّائِمُ قَدْ يَخْرُجُ مِنْهُ الشَّيْءُ وَلاَ يَشْعُرُ بِهِ فَاعْتُبِرَ النَّوْمُ وَنَحْوُهُ نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ لاَ يَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ شَيْءٌ أَثْنَاءَ النَّوْمِ.
قَال الْقَرَافِيُّ: النَّوْمُ لَيْسَ حَدَثًا فِي نَفْسِهِ فَهُوَ يُوجِبُ الْوُضُوءَ لِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ الرِّيحِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ (2) .

مَظِنَّةُ الشَّهْوَةِ عِنْدَ مُلاَمَسَةِ الرَّجُل الْمَرْأَةَ
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ إِِلَى أَنَّ مُلاَمَسَةَ الرَّجُل الْمَرْأَةَ الأَْجْنَبِيَّةَ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ، لأَِنَّهَا مَظِنَّةُ الشَّهْوَةِ فَأُقِيمَتِ الْمَظِنَّةُ مَقَامَ الْيَقِينِ وَأُعْطِيَتْ حُكْمَهُ، لأَِنَّهَا لاَ تَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا (3) ،
__________
(1) حديث: " العين وكاء السّه. . " أخرجه ابن ماجه (1 / 161) من حديث علي بن أبي طالب، وحسنه النووي في المجموع (2 / 13) .
(2) مغني المحتاج 1 / 33، والذخيرة للقرافي ص 224، والمغني لابن قدامة 1 / 173، وحاشية ابن عابدين 1 / 95.
(3) الذخيرة للقرافي ص 219 وما بعدها، ومغني المحتاج 1 / 34، والمغني لابن قدامة 1 / 192، 196.

(38/146)


وَقِيَامُ الْمَظِنَّةِ كَعِلَّةٍ لِمَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ يَشْمَل مَسَّ قُبُل الآْدَمِيِّ بِبَاطِنِ الْكَفِّ وَقِيَامِهَا كَعِلَّةٍ لِوُجُوبِ الْغُسْل يَشْمَل الْتِقَاءَ الْخِتَانَيْنِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (وُضُوءٌ، وَغُسْلٌ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .

الْمَظِنَّةُ فِي أَحْكَامِ السَّفَرِ
4 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ رُخَصَ السَّفَرِ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِمُدَّةِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا، وَإِِِبَاحَةِ التَّيَمُّمِ لِفَقْدِ الْمَاءِ، أَوْ لِلْخَوْفِ، وَقِصَرِ الصَّلاَةِ الرُّبَاعِيَّةِ، وَجَمْعِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي يَجُوزُ جَمْعُهَا، وَإِِِفْطَارِ الصَّائِمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الرُّخَصِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَنُوطَةِ بِالسَّفَرِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِيهِ مَشَقَّةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ، لأَِنَّ السَّفَرَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَشَقَّةِ فِي الْغَالِبِ، قَال صَاحِبُ كَشْفِ الأَْسْرَارِ: حَتَّى لَوْ تَنَزَّهَ سُلْطَانٌ مِنْ بُسْتَانٍ إِِلَى بُسْتَانٍ فِي خَدَمِهِ وَأَعْوَانِهِ لَحِقَهُ مَشَقَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إِِلَى حَال إِِقَامَتِهِ فَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ نَفْسُ السَّفَرِ سَبَبًا لِلرُّخَصِ وَأُقِيمَ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِِلَى كَوْنِهِ مُوجِبًا لِلْمَشَقَّةِ أَوْ غَيْرَ مُوجِبٍ لَهَا (1) .
__________
(1) كشف الأسرار 4 / 376، والمنثور للزركشي 2 / 164 - 174.

(38/146)


الْمَظِنَّةُ فِي الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ
5 - مِنَ الأَْحْكَامِ الَّتِي تَقُومُ فِيهَا الْمَظِنَّةُ مَقَامَ الْيَقِينِ قَبُول شَهَادَةِ الشُّهُودِ، وَرِوَايَةُ الرَّاوِينَ فِي بَابَيِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ، مَعَ أَنَّ الْخَبَرَ الْمُسْتَفَادَ مِنْهَا ظَنِّيٌّ، وَكُلَّمَا كَانَ دَلاَئِل الصِّدْقِ أَكْثَرَ كَانَ آكَدَ، فَالظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ مِنْ أَخْبَارِ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ آكَدُ مِنَ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ عُدُول الأَْزْمَانِ بَعْدَهُمْ، وَلاَ تُشْتَرَطُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عُدُول سَائِرِ الْقُرُونِ، فَإِِِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِِلَى إِِغْلاَقِ بَابِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ، وَالْخَبَرُ الصَّادِرُ مِنَ اثْنَيْنِ آكَدُ ظَنًّا وَأَقْوَى حُسْبَانًا مِنَ الْخَبَرِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْل الْوَاحِدِ، وَكُلَّمَا كَثُرَ الْمُخْبِرُونَ كَثُرَ الظَّنُّ بِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ إِِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ خَبَرُهُمْ إِِلَى إِِفَادَةِ الْعِلْمِ.
فَأُقِيمَتْ هَذِهِ الْمَظِنَّةُ فِي الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَنَحْوِهِمَا مَقَامَ الْيَقِينِ، لأَِنَّ ذَلِكَ هُوَ طَرِيقُ الْحُكْمِ، فَوَجَبَ الْعَمَل بِهِ، مَعَ أَنَّ الظُّنُونَ فِي ذَلِكَ تَتَفَاوَتُ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ كَمَا قَال الْعِزُّ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) البحر المحيط للزركشي 1 / 74 وما بعدها، وقواعد الأحكام 2 / 37، 40، 41 وما بعدها.

(38/147)


مَعَابِدُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَعَابِدُ فِي اللُّغَةِ جَمْعُ مَعْبَدٍ - بِفَتْحِ الْبَاءِ - وَهُوَ مَكَانُ الْعِبَادَةِ وَمَحَلُّهَا.
وَالْعِبَادَةُ مَصْدَرُ عَبَدَ - بِفَتْحِ الْبَاءِ - يُقَال: عَبَدَ اللَّهَ عِبَادَةً وَعُبُودِيَّةً: انْقَادَ لَهُ وَخَضَعَ وَذَل، وَالْمُتَعَبَّدُ: مَكَانُ التَّعَبُّدِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمَسْجِدُ:
2 - الْمَسْجِدُ لُغَةً مَفْعِلٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ: اسْمٌ لِمَكَانِ السُّجُودِ، وَبِالْفَتْحِ اسْمٌ لِلْمَصْدَرِ (3) .
وَالْمَسْجِدُ شَرْعًا: كُل مَوْضِعٍ مِنَ الأَْرْضِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جُعِلَتْ لِي الأَْرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا (4) ، وَخَصَّصَهُ الْعُرْفُ بِالْمَكَانِ الْمُهَيَّأِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ (5) .
__________
(1) المعجم الوسيط، ومتن اللغة.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 189.
(3) المصباح المنير.
(4) حديث: " جعلت لي الأرض. . . " شطر من حديث جابر بن عبد الله: أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 436 ط. السلفية) ومسلم (1 / 370 - 371) ط. الحلبي.
(5) إعلام الساجد / 28.

(38/147)


وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَالْمَعَابِدِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ.

أَقْسَامُ الْمَعَابِدِ:
مَكَانُ عِبَادَةِ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الْمَسْجِدُ وَالْجَامِعُ وَالْمُصَلَّى وَالزَّاوِيَةُ.
وَتَفْصِيل أَحْكَامِ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مَسْجِدٌ ف 1 - 4) .
وَأَمَّا مَكَانُ عِبَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَهُ أَقْسَامٌ وَتَسْمِيَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أ - الْكَنِيسَةُ:
3 - تُطْلَقُ الْكَنِيسَةُ عِنْدَ بَعْضِ اللُّغَوِيِّينَ عَلَى مُتَعَبَّدِ الْيَهُودِ، وَتُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى مُتَعَبَّدِ النَّصَارَى، وَهِيَ مُعَرَّبَةٌ (1) .
وَنَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ كَقَاضِي زَادَهْ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ الْكَنِيسَةَ اسْمٌ لِمَعْبَدِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مُطْلَقًا فِي الأَْصْل، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَال الْكَنِيسَةِ لِمَعْبَدِ الْيَهُودِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَأَهْل مِصْرَ يُطْلِقُونَ الْكَنِيسَةَ عَلَى مُتَعَبَّدِهِمَا (2) .
وَأَوْرَدَ الْبَرْكَتِيُّ أَوْجُهًا أَرْبَعَةً فَقَال:
الْكَنِيسَةُ: مُتَعَبَّدُ الْيَهُودِ أَوِ النَّصَارَى، أَوِ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) تكملة فتح القدير 8 / 486، وابن عابدين 3 / 271، وأحكام أهل الذمة 2 / 669.

(38/148)


الْكُفَّارِ، أَوْ مَوْضِعُ صَلاَةِ الْيَهُودِ فَقَطْ (1) .
وَنَصَّ زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْكَنِيسَةَ مُتَعَبَّدُ النَّصَارَى (2) .
وَقَال الدُّسُوقِيُّ: الْكَنِيسَةُ: مُتَعَبَّدُ الْكُفَّارِ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِيعَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ (3) .

ب - الْبِيعَةُ:
4 - الْبِيعَةُ - بِكَسْرِ الْبَاءِ - مُفْرَدٌ جَمْعُهُ بِيَعٌ - بِكَسْرِ الْبَاءِ - مِثْل سِدْرَةٍ وَسِدَرٍ، وَهِيَ مُتَعَبَّدُ النَّصَارَى (4) ، وَزَادَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فَقَال: وَهِيَ الَّتِي يَبْنُونَهَا فِي الْبَلَدِ (5) .
وَقَال قَاضِي زَادَهْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِِنَّ الْبِيعَةَ اسْمٌ لِمَعْبَدِ الْيَهُودِ مُطْلَقًا، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَال الْبِيعَةِ لِمَعْبَدِ النَّصَارَى (6) .
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: إِِنَّ أَهْل اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الْبِيعَةَ مَعْبَدُ النَّصَارَى إِِلاَّ مَا حَكَيْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: الْبِيَعُ مَسَاجِدُ الْيَهُودِ (7) .
__________
(1) قواعد الفقه للبركتي.
(2) حاشية الجمل 5 / 223.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 189.
(4) المصباح المنير، والمعجم الوسيط، وقواعد الفقه للبركتي.
(5) تفسير الرازي 23 / 230.
(6) تكملة فتح القدير 8 / 486.
(7) أحكام أهل الذمة 2 / 669.

(38/148)


ج - الصَّوْمَعَةُ:
5 - قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الصَّوْمَعَةُ بَيْتٌ يُبْنَى بِرَأْسٍ طَوِيلٍ لِيُتَعَبَّدَ فِيهِ بِالاِنْقِطَاعِ عَنِ النَّاسِ (1) ، وَذَكَرَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: أَنَّ الصَّوَامِعَ لِلنَّصَارَى وَهِيَ الَّتِي بَنَوْهَا فِي الصَّحَارِي (2) ، وَقِيل: الصَّوَامِعُ لِلصَّابِئِينَ (3) .

د - الدَّيْرُ
6 - الدَّيْرُ مُقَامُ الرُّهْبَانِ وَالرَّاهِبَاتِ مِنَ النَّصَارَى، وَيَجْتَمِعُونَ فِيهِ لِلرَّهْبَانِيَّةِ وَالتَّفَرُّدِ عَنِ النَّاسِ، وَيُجْمَعُ عَلَى دُيُورَةٍ مِثْل: بَعْلٍ وَبُعُولَةٍ (4) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَأَهْل مِصْرَ وَالشَّامِ يَخُصُّونَ الدَّيْرَ بِمَعْبَدِ النَّصَارَى (5) .

هـ - الْفُهُرُ
7 - الْفُهُرُ بِضَمِّ الْفَاءِ وَالْهَاءِ جَمْعٌ، وَمُفْرَدُهَا فُهْرٌ، لِلْيَهُودِ خَاصَّةً، وَهُوَ بَيْتُ الْمِدْرَاسِ الَّذِي يَتَدَارَسُونَ فِيهِ الْعِلْمَ، وَفِيهِ قَوْل أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 271.
(2) تفسير الرازي 23 / 230.
(3) أحكام أهل الذمة 2 / 668.
(4) المصباح المنير وقواعد الفقه للبركتي، وحاشية ابن عابدين 3 / 271، وفتح القدير 4 / 377، وأحكام أهل الذمة 2 / 668.
(5) أحكام أهل الذمة 2 / 668.

(38/149)


تَعَالَى عَنْهُ: " وَكَأَنَّهُمُ الْيَهُودُ حِينَ خَرَجُوا مِنْ فُهُرِهِمْ ". (1)

و الصَّلَوَاتُ
8 - الصَّلَوَاتُ كَنَائِسُ الْيَهُودِ، قَال الزَّجَّاجُ وَهِيَ بِالْعِبْرِيَّةِ (صِلْوَتَا) ، وَقِيل: لِلنَّصَارَى، وَقِيل: لِلصَّابِئِينَ (2) .

ز - بَيْتُ النَّارِ وَالنَّاوُوسُ
9 - بَيْتُ النَّارِ: هُوَ مَوْضِعُ عِبَادَةِ الْمَجُوسِ (3) .
وَأَمَّا النَّاوُوسُ فَقَال اللُّغَوِيُّونَ: النَّاوُوسُ مَقَابِرُ النَّصَارَى، أَوْ صُنْدُوقٌ مِنْ خَشَبٍ أَوْ نَحْوِهِ يَضَعُ فِيهِ النَّصَارَى جُثَّةَ الْمَيِّتِ (4) .
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: النَّاوُوسُ لِلْمَجُوسِ كَالْكَنِيسَةِ لِلنَّصَارَى، وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ دِينِهِمُ الْبَاطِل (5) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَعَابِدِ
10 - لاَ يُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْكَنِيسَةِ وَالْبِيعَةِ، وَالصَّوْمَعَةِ، وَبَيْتِ النَّارِ، وَالدَّيْرِ وَغَيْرِهَا فِي
__________
(1) أحكام أهل الذمة 2 / 669.
(2) أحكام أهل الذمة 2 / 668، وتفسير الرازي 23 / 230.
(3) أحكام أهل الذمة 1 / 275، 276.
(4) لسان العرب، والمعجم الوسيط، والمصباح المنير.
(5) أحكام أهل الذمة 1 / 275، 276.

(38/149)


الأَْحْكَامِ، وَالأَْصْل فِي هَذَا مَا وَرَدَ فِي كِتَابِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا صَالَحَ نَصَارَى الشَّامِ كَتَبَ إِِلَيْهِمْ كِتَابًا: " إِِنَّهُمْ لاَ يَبْنُونَ فِي بِلاَدِهِمْ وَلاَ فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلاَ كَنِيسَةً وَلاَ صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ. . . " (1) .
وَقَال الدُّسُوقِيُّ فِي كَرَاهَةِ الصَّلاَةِ فِيهَا: وَتُكْرَهُ الصَّلاَةُ بِمُتَعَبَّدِ الْكُفَّارِ سَوَاءٌ كَانَ كَنِيسَةً أَوْ بِيعَةً، أَوْ بَيْتَ نَارٍ (2) .
وَقَال الْبُهُوتِيُّ وَابْنُ قُدَامَةَ فِي الْوَقْفِ: وَلاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى كَنَائِسَ، وَبُيُوتِ نَارٍ، وَبِيَعٍ وَصَوَامِعَ، وَدُيُورَةٍ وَمَصَالِحِهَا (3) .
وَنَصَّ ابْنُ الْقَيِّمِ بَعْدَ ذِكْرِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَعَابِدِ عَلَى أَنَّ: حُكْمَ هَذِهِ الأَْمْكِنَةِ كُلِّهَا حُكْمُ الْكَنِيسَةِ، وَيَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا (4) .
وَتَفْصِيل الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَعَابِدِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

إِِحْدَاثُ الْمَعَابِدِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ
11 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ إِِحْدَاثِ الْمَعَابِدِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ بِاخْتِلاَفِ الأَْمْصَارِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - مَا اخْتَطَّهُ الْمُسْلِمُونَ كَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ،
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 253.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 189.
(3) كشاف القناع 4 / 246، والمغني 5 / 645.
(4) أحكام أهل الذمة 2 / 669.

(38/150)


فَلاَ يَجُوزُ فِيهَا إِِحْدَاثُ كَنِيسَةٍ وَلاَ بِيعَةٍ وَلاَ مُجْتَمَعٍ لِصَلاَتِهِمْ وَلاَ صَوْمَعَةٍ بِإِِِجْمَاعِ أَهْل الْعِلْمِ.
ب - مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عِنْوَةً، فَلاَ يَجُوزُ فِيهِ إِِحْدَاثُ شَيْءٍ بِالاِتِّفَاقِ لأَِنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَدْمِ مَا كَانَ فِيهِ كَمَا يَأْتِي فِيمَا بَعْدُ.
ج - مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ صُلْحًا: فَإِِِنْ صَالَحُوهُمْ عَلَى أَنَّ الأَْرْضَ لَهُمْ وَالْخَرَاجَ لَنَا جَازَ الإِِِْحْدَاثُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَإِِِنْ صَالَحُوهُمْ عَلَى أَنَّ الدَّارَ لَنَا وَيُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ فَلاَ يَجُوزُ الإِِِْحْدَاثُ إِِلاَّ إِِذَا شَرَطُوا ذَلِكَ، وَإِِِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا لاَ يَجُوزُ الإِِِْحْدَاثُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَهْل الذِّمَّةِ ف 24 - 25) .

هَدْمُ الْمَعَابِدِ الْقَدِيمَةِ
12 - الْمُرَادُ مِنَ الْمَعَابِدِ الْقَدِيمَةِ مَا كَانَتْ قَبْل فَتْحِ الإِِِْمَامِ بَلَدَ الْكُفَّارِ وَمُصَالَحَتِهِمْ عَلَى إِِقْرَارِهِمْ عَلَى بَلَدِهِمْ وَعَلَى دِينِهِمْ، وَلاَ يُشْتَرَطُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 271 وما بعدها، وفتح القدير 4 / 378، وبدائع الصنائع 4 / 166، وحاشية الدسوقي 2 / 204، ومغني المحتاج 4 / 253، 254، وأسنى المطالب 4 / 219، 220، وحاشية الجمل 5 / 223، 254، والمغني 8 / 526، 527.

(38/150)


أَنْ تَكُونَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَوِ التَّابِعِينَ لاَ مَحَالَةَ (1) .
وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمَعَابِدِ الْقَدِيمَةِ بِاخْتِلاَفِ مَوَاقِعِهَا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أ - الْمَعَابِدُ الْقَدِيمَةُ فِي الْمُدُنِ الَّتِي أَحْدَثَهَا الْمُسْلِمُونَ
13 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّ الْبِيَعَ وَالْكَنَائِسَ الْقَدِيمَةَ فِي السَّوَادِ وَالْقُرَى لاَ يُتَعَرَّضُ لَهَا وَلاَ يُهْدَمُ شَيْءٌ مِنْهَا، قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: إِِنَّ الْبِيَعَ وَالْكَنَائِسَ فِي السَّوَادِ لاَ تُهْدَمُ عَلَى الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا، وَأَمَّا فِي الأَْمْصَارِ فَاخْتَلَفَ كَلاَمُ مُحَمَّدٍ، فَذَكَرَ فِي الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ: تُهْدَمُ الْقَدِيمَةُ، وَذَكَرَ فِي الإِِِْجَارَةِ: لاَ تُهْدَمُ: وَعَمَل النَّاسِ عَلَى هَذَا، فَإِِِنَّا رَأَيْنَا كَثِيرًا مِنْهَا تَوَالَتْ عَلَيْهَا أَئِمَّةٌ وَأَزْمَانٌ وَهِيَ بَاقِيَةٌ لَمْ يَأْمُرْ إِِمَامٌ بِهَدْمِهَا، فَكَانَ مُتَوَارَثًا مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ.
وَعَلَى هَذَا لَوْ مَصَّرْنَا بَرِّيَةً فِيهَا دَيْرٌ أَوْ كَنِيسَةٌ فَوَقَعَ دَاخِل السُّوَرِ يَنْبَغِي أَنْ لاَ يُهْدَمَ، لأَِنَّهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلأَْمَانِ قَبْل وَضْعِ السُّورِ، فَيُحْمَل مَا فِي جَوْفِ الْقَاهِرَةِ مِنَ الْكَنَائِسِ عَلَى ذَلِكَ لأَِنَّهَا كَانَتْ فَضَاءً فَأَدَارَ الْعُبَيْدِيُّونَ عَلَيْهَا السُّورَ، ثُمَّ فِيهَا الآْنَ كَنَائِسُ، وَيَبْعُدُ مِنْ إِِمَامٍ تَمْكِينِ الْكُفَّارِ مِنْ إِِحْدَاثِهَا جَهَارًا فِي
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 248.

(38/151)


جَوْفِ الْمُدُنِ الإِِِْسْلاَمِيَّةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الضَّوَاحِي، فَأُدِيرَ السُّورُ عَلَيْهَا فَأَحَاطَ بِهَا، وَعَلَى هَذَا فَالْكَنَائِسُ الْمَوْضُوعَةُ الآْنَ فِي دَارِ الإِِِْسْلاَمِ - غَيْرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ - كُلُّهَا يَنْبَغِي أَنْ لاَ تُهْدَمَ، لأَِنَّهَا إِِنْ كَانَتْ فِي أَمْصَارٍ قَدِيمَةٍ، فَلاَ شَكَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَوِ التَّابِعِينَ حِينَ فَتَحُوا الْمَدِينَةَ عَلِمُوا بِهَا وَأَبْقَوْهَا، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَنْظُرُ فَإِِِنْ كَانَتِ الْبَلْدَةُ فُتِحَتْ عَنْوَةً حَكَمْنَا بِأَنَّهَا بَقَّوْهَا مَسَاكِنَ لاَ مَعَابِدَ فَلاَ تُهْدَمُ، وَلَكِنْ يُمْنَعُونَ مِنَ الاِجْتِمَاعِ فِيهَا لِلتَّقَرُّبِ، وَإِِِنْ عُرِفَ أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا حَكَمْنَا بِأَنَّهُمْ أَقَرُّوهَا مَعَابِدَ فَلاَ يُمْنَعُونَ مِنَ الاِجْتِمَاعِ فِيهَا بَل مِنَ الإِِِْظْهَارِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِنَّ الْكَنَائِسَ الْقَدِيمَةَ تُتْرَكُ لأَِهْل الذِّمَّةِ فِيمَا اخْتَطَّهُ الْمُسْلِمُونَ فَسَكَنُوهُ مَعَهُمْ، وَقَال عَبْدُ الْمَلِكِ: لاَ يَجُوزُ الإِِِْحْدَاثُ مُطْلَقًا وَلاَ يُتْرَكُ لَهُمْ كَنِيسَةً (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِِلَى أَنَّ الَّذِي يُوجَدُ فِي الْبِلاَدِ الَّتِي أَحْدَثَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ وَبُيُوتِ النَّارِ وَجُهِل أَصْلُهُ لاَ يُنْقَضُ لاِحْتِمَال أَنَّهَا كَانَتْ قَرْيَةً أَوْ بَرِّيَةً فَاتَّصَل بِهَا عُمْرَانُ مَا أُحْدِثَ مِنَّا، بِخِلاَفِ مَا
__________
(1) فتح القدير 4 / 378، وحاشية ابن عابدين 3 / 273، والفتاوى الهندية 2 / 248.
(2) الحطاب 3 / 384.

(38/151)


لَوْ عُلِمَ إِِحْدَاثُ شَيْءٍ مِنْهَا بَعْدَ بِنَائِهَا فَإِِِنَّهُ يَلْزَمُنَا هَدْمُهُ إِِذَا بُنِيَ لِلتَّعَبُّدِ، وَإِِِنْ بُنِيَ لِنُزُول الْمَارَّةِ: فَإِِِنْ كَانَ لِعُمُومِ النَّاسِ جَازَ، وَكَذَلِكَ إِِذَا كَانَ لأَِهْل الذِّمَّةِ فَقَطْ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الصَّبَّاغِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْكَنَائِسُ الَّتِي فِي الْبِلاَدِ الَّتِي مَصَّرَهَا الْمُسْلِمُونَ وَأُحْدِثَتْ بَعْدَ تَمْصِيرِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا تُزَال، وَمَا كَانَ مَوْجُودًا بِفَلاَةٍ مِنَ الأَْرْضِ ثُمَّ مَصَّرَ الْمُسْلِمُونَ حَوْلَهَا الْمِصْرَ فَهَذِهِ لاَ تُزَال (2) .

ب - الْمَعَابِدُ الْقَدِيمَةُ فِيمَا فُتِحَ عَنْوَةً
14 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ إِِلَى أَنَّ الْمَعَابِدَ الْقَدِيمَةَ فِيمَا فُتِحَ عَنْوَةً لاَ يَجِبُ هَدْمُهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِِلَى أَنَّهُ يَجِبُ هَدْمُهُ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تُهْدَمُ وَلَكِنْ تَبْقَى بِأَيْدِيهِمْ مَسَاكِنَ، وَيُمْنَعُونَ مِنَ الاِجْتِمَاعِ فِيهَا لِلتَّقَرُّبِ (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 253، وروضة الطالبين 10 / 323.
(2) أحكام أهل الذمة 2 / 677 ط. دار العلم للملايين، والمغني 8 / 526.
(3) حاشية الدسوقي 2 / 204، ومواهب الجليل 3 / 384، وروضة الطالبين 10 / 323، ومغني المحتاج 4 / 254، والمغني 5 / 527.
(4) حاشية ابن عابدين 3 / 273، وفتح القدير 4 / 379.

(38/152)


ج - الْمَعَابِدُ الْقَدِيمَةُ فِيمَا فُتِحَ صُلْحًا
15 - الأَْرَاضِي الْمَفْتُوحَةُ صُلْحًا ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: أَنْ يُصَالِحَهُمُ الإِِِْمَامُ عَلَى أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ لَنَا فَالْحُكْمُ فِي الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ عَلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ.
النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يُصَالِحَهُمُ الإِِِْمَامُ عَلَى أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ لَهُمْ وَيُؤَدُّوا عَنْهَا خَرَاجًا، فَهَذَا مِمَّا لاَ يُتَعَرَّضُ لِلْمَعَابِدِ الْقَدِيمَةِ فِيهَا دُونَ خِلاَفٍ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقَعَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يُتَعَرَّضُ لِلْقَدِيمَةِ وَهَذَا لِحَاجَتِهِمْ إِِلَيْهَا فِي عِبَادَتِهِمْ كَمَا عَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِِلَى أَنَّهَا لاَ تَبْقَى، لأَِنَّ إِِطْلاَقَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي ضَرُورَةَ جَمِيعِ الْبَلَدِ لَنَا (1) .

إِِعَادَةُ الْمُنْهَدِمِ:
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْصَحِّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِِلَى أَنَّهُ إِِذَا انْهَدَمَتِ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 254، وروضة الطالبين 10 / 323، وكشاف القناع 3 / 133، وحاشية ابن عابدين 3 / 273، وحاشية الدسوقي 2 / 203 - 204، ومواهب الجليل 3 / 384.

(38/152)


الْكَنِيسَةُ (الَّتِي أُقِرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا) فَلِلذِّمِّيِّينَ إِِعَادَتُهَا، لأَِنَّ الأَْبْنِيَةَ لاَ تَبْقَى دَائِمًا، وَلَمَّا أَقَرَّهُمُ الإِِِْمَامُ عَلَى إِِبْقَائِهَا قَبْل الظُّهُورِ عَلَيْهِمْ وَصَالَحَهُمْ عَلَيْهِ فَقَدْ عَهِدَ إِِلَيْهِمُ الإِِِْعَادَةَ، وَلأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِِِحْدَاثِ، وَالْمُرَادُ بِالإِِِْعَادَةِ أَنْ تَكُونَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَى الْبِنَاءِ الأَْوَّل كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ أَيْ: لاَ يَبْنُونَ مَا كَانَ بِاللَّبِنِ بِالآْجُرِّ، وَلاَ مَا كَانَ بِالآْجُرِّ بِالْحَجَرِ وَلاَ مَا كَانَ بِالْجَرِيدِ وَخَشَبِ النَّخْل بِالنَّقَى وَالسَّاجِ، وَلاَ بَيَاضًا لَمْ يَكُنْ.
قَالُوا: وَلِلإِِِْمَامِ أَنْ يُخَرِّبَهَا إِِذَا وَقَفَ عَلَى بِيعَةٍ جَدِيدَةٍ، أَوْ بُنِيَ مِنْهَا فَوْقَ مَا كَانَ فِي الْقَدِيمِ، وَكَذَا مَا زَادَ فِي عِمَارَتِهَا الْعَتِيقَةِ.
وَإِِِذَا جَازَ لَهُمْ إِِعَادَةُ بِنَائِهَا فَإِِِنَّ لَهُمْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَوْسِيعٍ عَلَى خُطَّتِهَا، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، لأَِنَّ الزِّيَادَةَ فِي حُكْمِ كَنِيسَةٍ مُحْدَثَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِالأُْولَى، وَقِيل: الْمُرَادُ بِالإِِِْعَادَةِ الإِِِْعَادَةُ لِمَا تَهَدَّمَ مِنْهَا لاَ بِآلاَتِ جَدِيدَةٍ (1) ، وَالْمُرَادُ بِالْمُهْدَمِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الأَْشْبَاهِ: مَا انْهَدَمَ، وَلَيْسَ مَا هَدَمَهُ الإِِِْمَامُ، لأَِنَّ فِي إِِعَادَتِهَا بَعْدَ هَدْمِ الْمُسْلِمِينَ اسْتِخْفَافًا بِهِمْ وَبِالإِِِْسْلاَمِ، وَإِِِخْمَادًا لَهُمْ وَكَسْرًا لِشَوْكَتِهِمْ، وَنَصْرًا لِلْكُفْرِ وَأَهْلِهِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 272، 273، ومغني المحتاج 4 / 254، 255، وروضة الطالبين 10 / 324.

(38/153)


وَلأَِنَّ فِيهِ افْتِيَاتًا عَلَى الإِِِْمَامِ فَيَلْزَمُ فَاعِلَهُ التَّعْزِيرُ، وَبِخِلاَفِ مَا إِِذَا هَدَمُوهَا بِأَنْفُسِهِمْ فَإِِِنَّهَا تُعَادُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَالإِِْصْطَخْرِيُّ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَعَلَّلَهُ الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: لأَِنَّهُ كَبِنَاءِ كَنِيسَةٍ فِي دَارِ الإِِِْسْلاَمِ (2) .

تَرْمِيمُ الْمَعَابِدِ
17 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يُمْنَعُ أَهْل الذِّمَّةِ مِنْ رَمِّ مَا تَشَعَّثَ مِنَ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ وَنَحْوِهَا الَّتِي أُقِرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا وَإِِِصْلاَحِهَا، لأَِنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ يُفْضِي إِِلَى خَرَابِهَا وَذَهَابِهَا، فَجَرَى مَجْرَى هَدْمِهَا (3) .
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ: بِأَنَّهُ يَجِبُ إِِخْفَاءُ الْعِمَارَةِ لأَِنَّ إِِظْهَارَهَا زِينَةٌ تُشْبِهُ الاِسْتِحْدَاثَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ إِِخْفَاءُ الْعِمَارَةِ فَيَجُوزُ تَطْيِينُهَا مِنَ الدَّاخِل وَالْخَارِجِ (4) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 272.
(2) المغني 8 / 528، وروضة الطالبين 10 / 324.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 272، ومغني المحتاج 4 / 254، وروضة الطالبين 10 / 324، والمغني 8 / 528، وحاشية الدسوقي 2 / 204.
(4) روضة الطالبين 10 / 324.

(38/153)


وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ رَمِّ الْمُنْهَدِمِ فِي الْعَنْوِيِّ (مَا فُتِحَ عَنْوَةً) وَفِي الصُّلْحِيِّ عِنْدَ بَعْضِهِمْ (1) .

نَقْل الْمَعْبَدِ مِنْ مَكَانٍ إِِلَى آخَرَ
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْل الْمَعْبَدِ مِنْ مَكَانٍ إِِلَى مَكَانٍ آخَرَ عَلَى أَقْوَالٍ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لأَِهْل الذِّمَّةِ أَنْ يُحَوِّلُوا مَعَابِدَهُمْ مِنْ مَوْضِعٍ إِِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، لأَِنَّ التَّحْوِيل مِنْ مَوْضِعٍ إِِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فِي حُكْمِ إِِحْدَاثِ كَنِيسَةٍ أُخْرَى (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَوْ شَرَطُوا النَّقْل فِي الْعَقْدِ يَجُوزُ وَإِِِلاَّ فَلاَ (3) .
وَفَصَّل ابْنُ الْقَيِّمِ الْكَلاَمَ عَلَيْهِ فَقَال: وَالَّذِي يُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَال: إِِنْ مَنَعْنَا إِِعَادَةَ الْكَنِيسَةِ إِِذَا انْهَدَمَتْ، مَنَعْنَا نَقْلَهَا بِطَرِيقِ الأَْوْلَى، فَإِِِنَّهَا إِِذَا لَمْ تَعُدْ إِِلَى مَكَانِهَا الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ فَكَيْفَ تَنْشَأُ فِي غَيْرِهِ؟ وَإِِِنْ جَوَّزْنَا إِِعَادَتَهَا فَكَانَ نَقْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَصْلَحَ لِلْمُسْلِمِينَ، لِكَوْنِهِمْ يَنْقُلُونَهَا إِِلَى مَوْضِعٍ خَفِيٍّ لاَ يُجَاوِرُهُ مُسْلِمٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ جَائِزٌ بِلاَ رَيْبٍ، فَإِِِنَّ هَذَا مَصْلَحَةٌ
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 314، وشرح الزرقاني 3 / 145، والخرشي 3 / 148.
(2) بدائع الصنائع 7 / 114، وحاشية ابن عابدين 3 / 271، وفتح القدير 4 / 377، والفتاوى الهندية 2 / 248.
(3) حاشية الدسوقي 2 / 204.

(38/154)


ظَاهِرَةٌ لِلإِِِْسْلاَمِ وَالْمُسْلِمِينَ فَلاَ مَعْنَى لِلتَّوَقُّفِ فِيهِ، وَأَمَّا إِِنْ كَانَ النَّقْل لِمُجَرَّدِ مَنْفَعَتِهِمْ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَهَذَا لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّهُ إِِشْغَال رَقَبَةِ أَرْضِ الإِِِْسْلاَمِ بِجَعْلِهَا دَارَ كُفْرٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَرَادُوا جَعْلَهَا خَمَّارَةً أَوْ بَيْتَ فِسْقٍ.
فَلَوِ انْتَقَل الْكُفَّارُ عَنْ مَحَلَّتِهِمْ وَأَخْلَوْهَا إِِلَى مَحَلَّةٍ أُخْرَى فَأَرَادُوا نَقْل الْكَنِيسَةِ إِِلَى تِلْكَ الْمَحَلَّةِ، وَإِِِعْطَاءَ الْقَدِيمَةِ لِلْمُسْلِمِينَ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِذَا نَقَل الإِِِْمَامُ النَّصَارَى الْمُعَاهَدِينَ مِنْ مَكَانِهِمْ إِِلَى مَكَانٍ آخَرَ يُبَاحُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بُنْيَانُ بِيعَةٍ وَاحِدَةٍ لإِِِِقَامَةِ شَرْعِهِمْ وَيُمْنَعُونَ مِنْ ضَرْبِ النَّوَاقِيسِ فِيهَا (2) .

اعْتِقَادُ الْكَنِيسَةِ بَيْتَ اللَّهِ وَاعْتِقَادُ زِيَارَتَهَا قُرْبَةً
19 - نَصَّ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْكَنَائِسَ بُيُوتُ اللَّهِ أَوْ أَنَّهُ يُعْبَدُ فِيهَا، أَوْ أَنَّهُ يُحِبُّ ذَلِكَ وَيَرْضَاهُ فَهُوَ كَافِرٌ لأَِنَّهُ يَتَضَمَّنُ اعْتِقَادَ صِحَّةِ دِينِهِمْ، وَذَلِكَ كُفْرٌ، أَوْ أَعَانَهُمْ عَلَى فَتْحِ الْكَنَائِسِ وَإِِِقَامَةِ دِينِهِمْ، وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ قُرْبَةً أَوْ طَاعَةً، وَكَذَلِكَ
__________
(1) أحكام أهل الذمة 2 / 704.
(2) التاج والإكليل على هامش مواهب الجليل 3 / 384.

(38/154)


مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ زِيَارَةَ أَهْل الذِّمَّةِ كَنَائِسَهُمْ قُرْبَةً إِِلَى اللَّهِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ (1) .

الصَّلاَةُ فِي مَعَابِدِ الْكُفَّارِ
20 - نَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ الصَّلاَةُ فِي مَعَابِدِ الْكُفَّارِ إِِذَا دَخَلَهَا مُخْتَارًا، أَمَّا إِِنْ دَخَلَهَا مُضْطَرًّا فَلاَ كَرَاهَةَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تَجُوزُ الصَّلاَةُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ تُكْرَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ مَعَ الصُّوَرِ (2) ، وَقَال الْكَاسَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يُمْنَعُ الْمُسْلِمُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْكَنِيسَةِ مِنْ غَيْرِ جَمَاعَةٍ، لأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَهَاوُنٌ بِالْمُسْلِمِينَ وَلاَ اسْتِخْفَافٌ بِهِمْ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةٌ ف 105، دُخُولٌ ف 12)

النُّزُول فِي الْكَنَائِسِ
21 - نَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلإِِِْمَامِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ مَنْزِل الضِّيفَانِ مِنْ كَنِيسَةٍ، كَمَا صَالَحَ عُمَرُ أَهْل الشَّامِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ وَرَدَ فِي
__________
(1) مطالب أولي النهى 6 / 281.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 254، وحاشية الدسوقي 1 / 189، والمدونة 1 / 90، 91، ومغني المحتاج 1 / 203، وكشاف القناع 1 / 292، ونيل الأوطار 2 / 143 ط. دار الجيل.
(3) بدائع الصنائع 4 / 176.

(38/155)


صُلْحِهِ: " وَلاَ نَمْنَعُ كَنَائِسَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْزِلُوهَا فِي اللَّيْل وَالنَّهَارِ، وَأَنْ نُوَسِّعَ أَبْوَابَهَا لِلْمَارَّةِ وَابْنِ السَّبِيل، وَلاَ نُؤْوِيَ فِيهَا وَلاَ فِي مَنَازِلِنَا جَاسُوسًا (1) ".

دُخُول الْمُسْلِمِ مَعَابِدَ الْكُفَّارِ
22 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ دُخُول الْمُسْلِمِ مَعَابِدَ الْكُفَّارِ عَلَى أَقْوَالٍ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ دُخُول الْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ، لأَِنَّهُ مَجْمَعُ الشَّيَاطِينِ، لاَ مِنْ حَيْثُ إِِنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الدُّخُول (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ لِلْمُسْلِمِ دُخُول بِيعَةٍ وَكَنِيسَةٍ وَنَحْوِهِمَا (3) .
وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي رَأْيٍ آخَرَ: إِِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ دُخُولُهَا إِِلاَّ بِإِِِذْنِهِمْ (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (دُخُولٌ ف 12) .

الإِِِْذْنُ فِي دُخُول الْكَنِيسَةِ وَالإِِِْعَانَةُ عَلَيْهِ
23 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ
__________
(1) المغني 8 / 524، مغني المحتاج 4 / 251.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 248.
(3) جواهر الإكليل 1 / 383، وحاشية الجمل 3 / 572، والقليوبي 4 / 235، وكشاف القناع 1 / 293.
(4) حاشية الجمل 3 / 572، والقليوبي 4 / 235.

(38/155)


مَنْعَ زَوْجَتِهِ الذِّمِّيَّةِ مِنْ دُخُول الْكَنِيسَةِ وَنَحْوِهَا.
وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنْ لاَ يُعِينَهَا عَلَى أَسْبَابِ الْكُفْرِ وَشَعَائِرِهِ وَلاَ يَأْذَنَ لَهَا فِيهِ.
وَعَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهُ إِِذَا كَانَ لَهُ مَنْعُ الْمُسْلِمَةِ مِنْ إِِتْيَانِ الْمَسَاجِدِ فَمَنْعُ الذِّمِّيَّةِ مِنَ الْكَنِيسَةِ أَوْلَى (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلاَنِ كَمَا ذَكَرَهُمَا الْحَطَّابُ: قَال فِي الْمُدَوَّنَةِ: لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ: لَهُ مَنْعُهَا مِنَ الْكَنِيسَةِ إِِلاَّ فِي الْفَرْضِ (2) .
وَأَمَّا الْجَارِيَةُ النَّصْرَانِيَّةُ فَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِِنْ سَأَلَتِ الْخُرُوجَ إِِلَى أَعْيَادِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ وَجُمُوعِهِمْ لاَ يَأْذَنُ لَهَا فِي ذَلِكَ (3) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يَمْنَعُ مُكَاتَبَهُ النَّصْرَانِيَّ مِنْ إِِتْيَانِ الْكَنِيسَةِ، لأَِنَّ ذَلِكَ دِينُهُمْ، إِِذْ لاَ تَحْجِيرَ لَهُ عَلَيْهِ (4) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَأَل ذِمِّيٌّ مُسْلِمًا عَلَى طَرِيقِ الْبِيعَةِ لاَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى ذَلِكَ، لأَِنَّهُ إِِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَأَيْضًا:
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 189، وروضة الطالبين 7 / 137، ومطالب أولي النهى 5 / 264.
(2) مواهب الجليل 4 / 454.
(3) أحكام أهل الذمة 2 / 438.
(4) حاشية الدسوقي 3 / 306.

(38/156)


مُسْلِمٌ لَهُ أُمٌّ ذِمِّيَّةٌ أَوْ أَبٌ ذِمِّيٌّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُودَهُ إِِلَى الْبِيعَةِ، وَلَهُ أَنْ يَقُودَهُ مِنَ الْبِيعَةِ إِِلَى الْمَنْزِل (1) .

مُلاَعَنَةُ الذِّمِّيِّينَ فِي الْمَعَابِدِ
24 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِعَانُ الذِّمِّيَّةِ فِي كَنِيسَتِهَا، وَالْيَهُودِيَّةِ فِي بِيعَتِهَا، وَالْمَجُوسِيَّةِ فِي بَيْتِ النَّارِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِاسْتِحْبَابِ لِعَانِ الزَّوْجَةِ الْكِتَابِيَّةِ فِي الْكَنِيسَةِ وَحَيْثُ تُعَظِّمُ، وَإِِِذَا كَانَ الزَّوْجَانِ كِتَابِيَّيْنِ لاَعَنَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا فِي الْكَنِيسَةِ وَحَيْثُ يُعَظِّمَانِ (3) .
وَقَال الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يُسْتَحَبُّ التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ (4) .
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَلاَ يَتَأَتَّى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ لأَِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ الإِِِْسْلاَمَ فِي اللِّعَانِ (5) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (لِعَانٌ ف 32 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 250.
(2) كفاية الطالب 2 / 88، وجواهر الإكليل 1 / 383، مواهب الجليل 4 / 137.
(3) الأم 5 / 288، ومغني المحتاج 3 / 376، وروضة الطالبين 8 / 354، والمغني 7 / 435، والإنصاف 9 / 240.
(4) المغني 7 / 435.
(5) بدائع الصنائع 3 / 241.

(38/156)


وُقُوعُ اسْمِ الْبَيْتِ عَلَى الْمَعَابِدِ
25 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِِنْ حَلَفَ شَخْصٌ لاَ يَدْخُل بَيْتًا فَدَخَل كَنِيسَةً أَوْ بِيعَةً لاَ يَحْنَثُ (1) ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ (2) ، لِعَدَمِ إِِطْلاَقِ اسْمِ الْبَيْتِ عُرْفًا لأَِنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمَا يُبَاتُ فِيهِ، وَأُعِدَّ لِلْبَيْتُوتَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِي الْكَنِيسَةِ (3) .

بَيْعُ عَرْصَةِ كَنِيسَةٍ
26 - قَال ابْنُ شَاسٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ بَاعَ أُسْقُفُ الْكَنِيسَةِ عَرْصَةً مِنَ الْكَنِيسَةِ أَوْ حَائِطًا جَازَ ذَلِكَ إِِنْ كَانَ الْبَلَدُ صُلْحًا، وَلَمْ يَجُزْ إِِنْ كَانَ الْبَلَدُ عَنْوَةً، لأَِنَّهَا وَقْفٌ بِالْفَتْحِ، وَعَلَّلَهُ ابْنُ رُشْدٍ فَقَال: لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُ أَرْضِ الْعَنْوَةِ، لأَِنَّ جَمِيعَهَا فَيْءٌ لِلَّهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ: الْكَنَائِسِ وَغَيْرِهَا.
وَأَمَّا أَرْضُ الصُّلْحِ فَاخْتَلَفَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ فِي أَرْضِ الْكَنِيسَةِ تَكُونُ عَرْصَةَ الْكَنِيسَةِ أَوْ حَائِطًا فَيَبِيعُ ذَلِكَ أُسْقُفُ أَهْل تِلْكَ الْبَلْدَةِ هَل لِلرَّجُل أَنْ يَتَعَمَّدَ الشِّرَاءَ،
__________
(1) الاختيار 4 / 56، وروضة الطالبين 11 / 30، وحاشية الجمل 5 / 305.
(2) المدونة 2 / 133.
(3) الاختيار 4 / 56، وروضة الطالبين 11 / 30، وحاشية الجمل 5 / 305.

(38/157)


فَأَجَازَ شِرَاءَ ذَلِكَ فِي سَمَاعِ عِيسَى، وَمَنَعَهُ فِي سَمَاعِ أَصْبُغَ (1) .

بَيْعُ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ لِتُتَّخَذَ كَنِيسَةً
27 - نَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُمْنَعُ الْمُسْلِمُ مِنْ بَيْعِ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ لِتُتَّخَذَ كَنِيسَةً:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِِنِ اشْتَرَوْا دُورًا فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَأَرَادُوا أَنْ يَتَّخِذُوا دَارًا مِنْهَا كَنِيسَةً أَوْ بِيعَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ فِي ذَلِكَ لِصَلَوَاتِهِمْ مُنِعُوا عَنْ ذَلِكَ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُمْنَعُ أَيْ يَحْرُمُ بَيْعُ أَرْضٍ لِتُتَّخَذَ كَنِيسَةً وَأُجْبِرَ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ لِلْبَيْعِ عَلَى إِِخْرَاجِهِ مِنْ مِلْكِهِ بِبَيْعِ أَوْ نَحْوِهِ (3) .
رَوَى الْخَلاَّل عَنِ الْمَرُّوذِيِّ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِل عَنْ رَجُلٍ بَاعَ دَارَهُ مِنْ ذِمِّيٍّ وَفِيهَا مَحَارِيبُ فَاسْتَعْظَمَ ذَلِكَ وَقَال: نَصْرَانِيٌّ؟ ! ! لاَ تُبَاعُ. يَضْرِبُ فِيهَا النَّاقُوسَ وَيَنْصِبُ فِيهَا الصُّلْبَانَ؟ وَقَال: لاَ تُبَاعُ مِنَ الْكَافِرِ وَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ.
وَعَنْ أَبِي الْحَارِثِ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِل عَنِ الرَّجُل يَبِيعُ دَارَهُ وَقَدْ جَاءَ نَصْرَانِيٌّ فَأَرْغَبَهُ
__________
(1) التاج والإكليل على هامش الحطاب 3 / 384، وحاشية الدسوقي 2 / 204.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 252.
(3) التاج والإكليل على هامش مواهب الجليل 5 / 424، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 7.

(38/157)


وَزَادَهُ فِي ثَمَنِ الدَّارِ، تَرَى أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ أَوْ يَهُودِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ، قَال: لاَ أَرَى لَهُ ذَلِكَ، قَال وَلاَ أَرَى أَنْ يَبِيعَ دَارَهُ مِنْ كَافِرٍ يَكْفُرُ فِيهَا بِاللَّهِ تَعَالَى (1) .

اسْتِئْجَارُ أَهْل الذِّمَّةِ دَارًا لاِتِّخَاذِهَا كَنِيسَةً
28 - إِِذَا اشْتَرَى أَوِ اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ دَارًا عَلَى أَنَّهُ سَيَتَّخِذُهَا كَنِيسَةً فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الإِِِْجَارَةَ فَاسِدَةٌ، أَمَّا إِِذَا اسْتَأْجَرَهَا لِلسُّكْنَى ثُمَّ اتَّخَذَهَا مَعْبَدًا فَالإِِِْجَارَةُ صَحِيحَةٌ، وَلَكِنْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً مَنْعُهُ حِسْبَةً (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (إِِجَارَةٌ ف 98) .

جَعْل الذِّمِّيٍّ بَيْتَهُ كَنِيسَةً فِي حَيَاتِهِ
29 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَعَل ذِمِّيٌّ دَارَهُ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ فِي صِحَّتِهِ، فَمَاتَ فَهُوَ مِيرَاثٌ اتِّفَاقًا بَيْنَ الإِِِْمَامِ وَصَاحِبَيْهِ وَاخْتَلَفُوا فِي التَّخْرِيجِ: فَعِنْدَهُ لأَِنَّهُ كَوَقْفٍ لَمْ يُسَجَّل، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يُورَّثُ كَالْوَقْفِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ إِِذَا سُجِّل لَزِمَ كَالْوَقْفِ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلأَِنَّهُ مَعْصِيَةٌ (3) .
__________
(1) أحكام أهل الذمة 21 / 284، 287.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 252، 5 / 346، وبدائع الصنائع 4 / 176، والمدونة 4 / 423، 424، والحطاب 3 / 384، والتاج والإكليل على هامش مواهب الجليل 5 / 424، وكشاف القناع 3 / 559، والمغني 5 / 552.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 445، وبدائع الصنائع 7 / 341.

(38/158)


عَمَل الْمُسْلِمِ فِي الْكَنِيسَةِ
30 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَعْمَل لأَِهْل الذِّمَّةِ فِي الْكَنِيسَةِ نَجَّارًا أَوْ بَنَّاءً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ إِِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَمِنْ خَصَائِصِ دِينِهِمُ الْبَاطِل، وَلأَِنَّهُ إِِجَارَةٌ تَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ دِينِهِمْ وَشَعَائِرِهِمْ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يُؤَدَّبُ الْمُسْلِمُ إِِلاَّ أَنَّ يَعْتَذِرَ بِجَهَالَةٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ لَوْ آجَرَ نَفْسَهُ لِيَعْمَل فِي الْكَنِيسَةِ وَيَعْمُرَهَا لاَ بَأْسَ بِهِ لأَِنَّهُ لاَ مَعْصِيَةَ فِي عَيْنِ الْعَمَل (1) .

ضَرْبُ النَّاقُوسِ فِي الْمَعَابِدِ
31 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّهُ يُمْنَعُ أَهْل الذِّمَّةِ مِنْ إِِظْهَارِ ضَرْبِ النَّوَاقِيسِ فِي مَعَابِدِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِإِِِخْفَائِهَا وَضَرْبِهَا فِي جَوْفِ الْكَنَائِسِ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفَاصِيل:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ ضَرَبُوا النَّاقُوسَ فِي جَوْفِ كَنَائِسِهِمُ الْقَدِيمَةِ لَمْ يُتَعَرَّضْ لِذَلِكَ لأَِنَّ إِِظْهَارَ الشَّعَائِرِ لَمْ يَتَحَقَّقْ، فَإِِِنْ ضَرَبُوا بِهِ خَارِجًا مِنْهَا لَمْ يُمَكَّنُوا لِمَا فِيهِ مِنْ إِِظْهَارِ الشَّعَائِرِ، وَلاَ يُمْنَعُونَ مِنْ ضَرْبِ النَّاقُوسِ فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 272، و5 / 251، والفتاوى الهندية 4 / 450، والحطاب 5 / 424، ومغني المحتاج 4 / 254، 255، 257، والأم 4 / 213، وأحكام أهل الذمة 1 / 277.

(38/158)


قَرْيَةٍ أَوْ مَوْضِعٍ لَيْسَ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْل الإِِِْسْلاَمِ، وَإِِِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَهِيَ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْجُمَعُ وَالأَْعْيَادُ وَالْحُدُودُ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي إِِظْهَارِ صَلِيبِهِمْ، لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي كَنَائِسِهِمْ لاَ يُتَعَرَّضُ لَهُمْ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُمْنَعُ أَهْل الذِّمَّةِ مِنْ ضَرْبِ النَّوَاقِيسِ فِيهَا.
قَال ابْنُ جُزَيٍّ: عَلَيْهِمْ إِِخْفَاءُ نَوَاقِيسِهِمْ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ يُمْنَعُونَ مِنْ ضَرْبِ النَّاقُوسِ فِي الْكَنِيسَةِ، وَقِيل: لاَ يُمْنَعُونَ تَبَعًا لِكَنِيسَةٍ، قَال النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْخِلاَفُ فِي كَنِيسَةِ بَلَدٍ صَالَحْنَاهُمْ عَلَى أَنَّ أَرْضَهُ لَنَا، فَإِِِنْ صَالَحْنَاهُمْ عَلَى أَنَّ الأَْرْضَ لَهُمْ فَلاَ مَنْعَ قَطْعًا، قَال: وَقَال إِِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَأَمَّا نَاقُوسُ الْمَجُوسِ فَلَسْتُ أَرَى فِيهِ مَا يُوجِبُ الْمَنْعَ، وَإِِِنَّمَا هُوَ مُحَوَّطٌ وَبُيُوتٌ يَجْمَعُ فِيهَا الْمَجُوسُ جِيَفَهُمْ، وَلَيْسَ كَالْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ فَإِِِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالشِّعَارِ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ أَهْل الذِّمَّةِ الْكَفُّ عَنْ إِِظْهَارِ ضَرْبِ النَّوَاقِيسِ، سَوَاءٌ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَوْ لَمْ يَشْرِطْ (4) . وَأَجَازُوا الضَّرْبَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 113، وفتح القدير 4 / 378.
(2) التاج والإكليل على هامش مواهب الجليل 3 / 384، والقوانين الفقهية / 162.
(3) روضة الطالبين 10 / 324.
(4) المغني 8 / 533.

(38/159)


الْخَفِيفَ فِي جَوْفِ الْكَنَائِسِ (1) .

الْوَقْفُ عَلَى الْمَعَابِدِ
32 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْمَعَابِدِ عَلَى أَقْوَالٍ كَمَا يَلِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ وَقْفُ الْمُسْلِمِ عَلَى بِيعَةٍ لِعَدَمِ كَوْنِهِ قُرْبَةً فِي ذَاتِهِ، وَكَذَلِكَ لاَ يَصِحُّ وَقْفُ الذِّمِّيِّ لِعَدَمِ كَوْنِهِ قُرْبَةً عِنْدَنَا.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْفَتْحِ: هَذَا إِِذَا لَمْ يَجْعَل آخِرَهُ لِلْفُقَرَاءِ، فَلَوْ وَقَفَ الذِّمِّيُّ عَلَى بِيعَةٍ مَثَلاً فَإِِِذَا خَرِبَتْ تَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ، كَانَ لِلْفُقَرَاءِ ابْتِدَاءً، وَلَوْ لَمْ يَجْعَل آخِرَهُ لِلْفُقَرَاءِ كَانَ مِيرَاثًا عَنْهُ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْخَصَّافُ وَلَمْ يَحْكِ فِيهِ خِلاَفًا (2) .
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
فَفِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ لاَ يَجُوزُ وَقْفُ الذِّمِّيِّ عَلَى الْكَنِيسَةِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ لِعُبَّادِهَا أَوْ لِمَرَمَّتِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَاقِفُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا.
وَفَصَّل ابْنُ رُشْدٍ فَقَال: إِِنَّ وَقْفَ الْكَافِرِ عَلَى الْكَنِيسَةِ بَاطِلٌ لأَِنَّهُ مَعْصِيَةٌ، أَمَّا الْوَقْفُ عَلَى مَرَمَّتِهَا أَوْ عَلَى الْجَرْحَى أَوِ الْمَرْضَى الَّذِينَ فِيهَا فَالْوَقْفُ صَحِيحٌ مَعْمُولٌ بِهِ.
وَهُنَاكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ قَال بِهِ عِيَاضٌ وَهُوَ: أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْكَنِيسَةِ مُطْلَقًا صَحِيحٌ غَيْرُ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 133.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 361.

(38/159)


لاَزِمٍ، سَوَاءٌ أَشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ خَرَجَ الْمَوْقُوفُ مِنْ تَحْتِ يَدِ الْوَاقِفِ أَمْ لاَ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْكَنَائِسِ الَّتِي لِلتَّعَبُّدِ، وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ مِنْ ذِمِّيٍّ، وَسَوَاءٌ فِيهِ إِِنْشَاءُ الْكَنَائِسِ وَتَرْمِيمُهَا، مَنَعْنَا التَّرْمِيمَ أَوْ لَمْ نَمْنَعْهُ، لأَِنَّهُ إِِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى حُصْرِهَا، أَوِ الْوَقُودِ بِهَا أَوْ عَلَى ذِمِّيٍّ خَادِمٍ لِكَنِيسَةٍ لِلتَّعَبُّدِ.
وَيَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى كَنِيسَةٍ تَنْزِلُهَا الْمَارَّةُ، أَوْ مَوْقُوفَةٌ عَلَى قَوْمٍ يَسْكُنُونَهَا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى كَنَائِسَ وَبُيُوتِ نَارٍ، وَصَوَامِعَ، وَدُيُورَةٍ وَمَصَالِحِهَا كَقَنَادِيلِهَا وَفُرُشِهَا وَوَقُودِهَا وَسَدَنَتِهَا، لأَِنَّهُ مَعُونَةٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ مِنْ ذِمِّيٍّ.
وَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ يَنْزِلُهَا مِنْ مَارٍّ وَمُجْتَازٍ بِهَا فَقَطْ، لأَِنَّ الْوَقْفَ عَلَيْهِمْ لاَ عَلَى الْبُقْعَةِ، وَالصَّدَقَةُ عَلَيْهِمْ جَائِزَةٌ (3) .

الْوَصِيَّةُ لِبِنَاءِ الْمَعَابِدِ وَتَعْمِيرِهَا
33 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِبِنَاءِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 78، والشرح الصغير 4 / 116، 118.
(2) حاشية الجمل 3 / 576، 579، وأسنى المطالب 2 / 460، 461.
(3) كشاف القناع 4 / 246.

(38/160)


الْكَنِيسَةِ أَوْ تَعْمِيرِهَا أَوْ نَحْوِهِمَا عَلَى أَقْوَالٍ كَمَا يَلِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ إِِذَا أَوْصَى الذِّمِّيُّ أَنْ تُبْنَى دَارُهُ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً فَإِِِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِمُعَيَّنِينَ أَيْ: مَعْلُومِينَ يُحْصَى عَدَدُهُمْ فَهُوَ جَائِزٌ مِنَ الثُّلُثِ اتِّفَاقًا بَيْنَهُمْ، لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ فِيهَا مَعْنَى الاِسْتِخْلاَفِ وَمَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَلِلذِّمِّيِّ وِلاَيَةُ ذَلِكَ فَأَمْكَنَ تَصْحِيحَهُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَلَكِنْ لاَ يَلْزَمُهُمْ جَعْلُهَا كَنِيسَةً وَيُجْعَل تَمْلِيكًا، وَلَهُمْ أَنْ يَصْنَعُوا بِهِ مَا شَاءُوا.
وَأَمَّا إِِنْ أَوْصَى لِقَوْمٍ غَيْرِ مُسَمَّينَ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّهُمْ يُتْرَكُونَ وَمَا يَدِينُونَ، فَتَصِحُّ لأَِنَّ هَذَا قُرْبَةٌ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَلاَ يَصِحُّ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ، لأَِنَّهُ مَعْصِيَةٌ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَعَاصِي لاَ تَصِحُّ لِمَا فِي تَنْفِيذِهَا مِنْ تَقْرِيرِهَا.
وَهَذَا الْخِلاَفُ فِيمَا إِِذَا أَوْصَى بِبِنَاءِ بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ فِي الْقُرَى، فَأَمَّا فِي الْمِصْرِ فَلاَ يَجُوزُ بِالاِتِّفَاقِ بَيْنَهُمْ، لأَِنَّهُمْ لاَ يُمَكَّنُونَ مِنْ إِِحْدَاثِ ذَلِكَ فِي الأَْمْصَارِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِِنْ أَوْصَى نَصْرَانِيٌّ بِمَالِهِ لِكَنِيسَةٍ وَلاَ وَارِثَ لَهُ دُفِعَ الثُّلُثُ إِِلَى الأُْسْقُفِ يَجْعَلُهُ حَيْثُ ذَكَرَهُ، وَالثُّلُثَانِ لِلْمُسْلِمِينَ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 445، وتكملة فتح القدير والعناية على الهامش 8 / 485، 486، وبدائع الصنائع 7 / 341.
(2) مواهب الجليل 6 / 365.

(38/160)


وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِكَنِيسَةٍ وَلاَ لِحُصْرِهَا، وَلاَ لِقَنَادِيلِهَا وَنَحْوِهِ، وَلاَ لِبَيْتِ نَارٍ وَلاَ لِبِيعَةِ وَلاَ صَوْمَعَةٍ وَلاَ لِدَيْرٍ وَلاَ لإِِِِصْلاَحِهَا وَشُغْلِهَا وَخِدْمَتِهَا، وَلاَ لِعَمَارَتِهَا وَلَوْ مِنْ ذِمِّيٍّ، لأَِنَّ ذَلِكَ إِِعَانَةٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِ الْوَصِيَّةِ تَدَارُكُ مَا فَاتَ فِي حَال الْحَيَاةِ مِنَ الإِِِْحْسَانِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي جِهَةِ مَعْصِيَةٍ.
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِمَا إِِذَا كَانَتِ الْكَنِيسَةُ لِلتَّعَبُّدِ فِيهَا، بِخِلاَفِ الْكَنِيسَةِ الَّتِي تَنْزِلُهَا الْمَارَّةُ أَوْ مَوْقُوفَةً عَلَى قَوْمٍ يَسْكُنُونَهَا، أَوْ جَعْل كِرَاءِهَا لِلنَّصَارَى أَوْ لِلْمُسْلِمِينَ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ، لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي بُنْيَانِ الْكَنِيسَةِ مَعْصِيَةٌ إِِلاَّ أَنْ تُتَّخَذَ لِمُصَلَّى النَّصَارَى الَّذِينَ اجْتِمَاعُهُمْ فِيهَا عَلَى الشِّرْكِ (1) .
قَال النَّوَوِيُّ: وَعَدُّوا مِنَ الْوَصِيَّةِ بِالْمَعْصِيَةِ مَا إِِذَا أَوْصَى لِدُهْنِ سِرَاجِ الْكَنِيسَةِ، لَكِنْ قَيَّدَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: الْمَنْعَ بِمَا إِِذَا قَصَدَ تَعْظِيمَ الْكَنِيسَةِ، أَمَّا إِِذَا قَصَدَ تَعْظِيمَ الْمُقِيمِينَ أَوِ الْمُجَاوِرِينَ بِضَوْئِهَا فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِشَيْءِ لأَِهْل الذِّمَّةِ (2) .
__________
(1) حاشية الجمل 4 / 43، 71، وروضة الطالبين 6 / 98، 315، والأم 4 / 213، وأسنى المطالب 3 / 30، وكشاف القناع 4 / 364، والمغني 6 / 105.
(2) روضة الطالبين 6 / 99.

(38/161)


حُكْمُ الْمَعَابِدِ بَعْدَ انْتِقَاضِ الْعَهْدِ
34 - قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: مَتَى انْتُقِضَ عَهْدُ أَهْل الذِّمَّةِ جَازَ أَخْذُ كَنَائِسِ الصُّلْحِ مِنْهُمْ فَضْلاً عَنْ كَنَائِسِ الْعَنْوَةِ، كَمَا أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ لِقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ لَمَّا نَقَضُوا الْعَهْدَ، فَإِِِنَّ نَاقِضَ الْعَهْدِ أَسْوَأُ حَالاً مِنَ الْمُحَارَبِ الأَْصْلِيِّ، وَلِذَلِكَ لَوِ انْقَرَضَ أَهْل مِصْرٍ مِنَ الأَْمْصَارِ وَلَمْ يَبْقَ مَنْ دَخَل فِي عَهْدِهِمْ فَإِِِنَّهُ يَصِيرُ جَمِيعُ عَقَارِهِمْ وَمَنْقُولِهِمْ مِنَ الْمَعَابِدِ وَغَيْرِهَا فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ (1) .
__________
(1) أحكام أهل الذمة 2 / 684.

(38/161)


مُعَادَّةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُعَادَّةُ فِي اللُّغَةِ: الْمُسَاهَمَةُ، يُقَال: عَادَّهُمُ الشَّيْءَ: تَسَاهَمُوهُ فَسَاوَاهُمْ، وَهُمْ يَتَعَادُّونَ: إِِذَا اشْتَرَكُوا فِيمَا يُعَادُ فِيهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ مَكَارِمَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْشْيَاءِ كُلِّهَا.
وَالْعَدَائِدُ: الْمَال الْمُقْتَسَمُ وَالْمِيرَاثُ.
وَفِي التَّهْذِيبِ: الْعَدَائِدُ: الَّذِينَ يُعَادُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْمِيرَاثِ.
وَفُلاَنٌ عَدِيدُ بَنِي فُلاَنٍ أَيْ يُعَدُّ فِيهِمْ، وَعَدَّهُ فَاعْتَدَّ أَيْ صَارَ مَعْدُودًا وَاعْتَدَّ بِهِ (1) .
وَالْمُعَادَّةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ الْحَالَةُ الَّتِي يُقَاسِمُ فِيهَا الْجَدُّ الإِِِْخْوَةَ فِي الْمِيرَاثِ، فَيُعَدُّ أَوْلاَدُ الأَْبَوَيْنِ أَوْلاَدَ الأَْبِ عَلَى الْجَدِّ لِيَنْقُصَ نَصِيبَهُ فِي الْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ لاِتِّحَادِ أَوْلاَدِ الأَْبَوَيْنِ مَعَ أَوْلاَدِ الأَْبِ فِي الأُْخُوَّةِ، وَلأَِنَّ جِهَةَ الأُْمِّ فِي الشَّقِيقِ مَحْجُوبَةٌ بِالْجَدِّ فَيَدْخُل وَلَدُ الأَْبِ مَعَهُ فِي حِسَابِ الْقِسْمَةِ عَلَى الْجَدِّ (2) .

الْحُكْمُ الإِِِْجْمَالِيُّ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّ الإِِِْخْوَةَ لأَِبَوَيْنِ أَوْ لأَِبٍ يَرِثُونَ مَعَ الْجَدِّ وَلاَ يُحْجَبُونَ بِهِ وَهُوَ قَوْل عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
__________
(1) لسان العرب مادة (عدد) .
(2) العذب الفائض شرح عمدة الفارض 1 / 113 - 115 ط. مصطفى البابي الحلبي.

(38/162)


وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ - وَبِهِ يُفْتَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِِلَى أَنَّ الْجَدَّ يَحْجُبُ هَؤُلاَءِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَعَلَى ذَلِكَ لاَ تَأْتِي الْمُعَادَّةُ عَلَى رَأْيِ الْحَنَفِيَّةِ، وَتَأْتِي عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ، فَيَعُدُّ الإِِِْخْوَةُ لأَِبَوَيْنِ الإِِِْخْوَةَ لأَِبٍ عَلَى الْجَدِّ - إِِنِ اجْتَمَعُوا مَعَهُ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ - فَإِِِذَا مَا أَخَذَ الْجَدُّ نَصِيبَهُ مَنَعَ الإِِِْخْوَةُ لأَِبَوَيْنِ الإِِِْخْوَةَ لأَِبٍ مَا قُسَمَ لَهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ لأَِنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ بِهِمْ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَجْبٌ ف 5، إِِرْثٌ ف 30، 32) .
3 - ثُمَّ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ وَرَّثُوا الإِِِْخْوَةَ مَعَ الْجَدِّ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْرِيثِهِمْ. فَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْسِمُ الْمَال بَيْنَ الْجَدِّ وَالإِِِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ وَيَجْعَلُهُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَخٍ مَا لَمْ تَنْقُصْهُ الْمُقَاسَمَةُ مِنَ السُّدُسِ، فَإِِِنْ نَقَصَتْهُ الْمُقَاسَمَةُ مِنَ السُّدُسِ فُرِضَ لَهُ السُّدُسَ وَجُعِل الْبَاقِي لِلإِِِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ.
قَال الْكَلْوَذَانِيُّ: وَإِِِلَى قَوْل عَلِيٍّ فِي بَابِ الْجَدِّ ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ مُقْسِمٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ (1) .
وَمَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْجَدِّ مَعَ
__________
(1) التهذيب في علم الفرائض لأبي الخطاب الكلوذاني ص 69 / 72.

(38/162)


الإِِِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ لأَِبَوَيْنِ أَوْ لِلأَْبِ أَنَّهُ يُعْطِيهِ الأَْحَظَّ مِنْ شَيْئَيْنِ: إِِمَّا الْمُقَاسَمَةُ كَأَنَّهُ أَخٌ، وَإِِِمَّا ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَال (1) .
وَصَنَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْجَدِّ مَعَ الأَْخَوَاتِ كَصُنْعِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَاسَمَ بِهِ الإِِِْخْوَةَ إِِلَى الثُّلُثِ، فَإِِِنْ كَانَ مَعَهُمْ أَصْحَابُ فَرَائِضَ أَعْطَى أَصْحَابَ الْفَرَائِضِ فَرَائِضَهُمْ، ثُمَّ صَنَعَ صَنِيعَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي إِِعْطَاءِ الْجَدِّ الأَْحَظَّ مِنَ الْمُقَاسَمَةِ أَوْ ثُلُثِ الْبَاقِي أَوْ سُدُسِ جَمِيعِ الْمَال (2) .
قَال الْكَلْوَذَانِيُّ: وَبِقَوْل زَيْدٍ فِي بَابِ الْجَدِّ أَخَذَ الزُّهْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
وَأَخَذَ بِقَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ فِي بَابِ الْجَدِّ شُرَيْحٌ وَمَسْرُوقٌ وَعَلْقَمَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْل الْكُوفَةِ (3) .

صُوَرُ مَسْأَلَةِ الْمُعَادَّةِ
4 - عَقَدَ أَبُو الْخَطَّابِ الْكَلْوَذَانِيُّ فَصْلاً لِلْمُعَادَّةِ وَقَال: إِِنَّ وَلَدَ الأَْبِ يَقُومُونَ مَقَامَ وَلَدِ الأَْبِ وَالأُْمِّ عِنْدَ عَدَمِهِمْ فِي الْفَرْضِ وَالْحَجْبِ وَالْمُقَاسَمَةِ، فَإِِِنِ اجْتَمَعُوا هُمْ وَوَلَدُ الأَْبِ وَالأُْمِّ مَعَ الْجَدِّ فَلاَ يَخْلُونَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: إِِمَّا أَنْ
__________
(1) المغني لابن قدامة 6 / 218.
(2) المغني 6 / 217.
(3) التهذيب في علم الفرائض والوصايا ص 72 - 73.

(38/163)


يَكُونَ وَلَدُ الأَْبِ وَالأُْمِّ عَصَبَةً وَوَلَدُ الأَْبِ عَصَبَةً، أَوْ يَكُونَ وَلَدُ الأَْبَوَيْنِ عَصَبَةً وَوَلَدُ الأَْبِ أَخَوَاتٍ مُنْفَرِدَاتٍ، أَوْ يَكُونَ وَلَدُ الأَْبَوَيْنِ أَخَوَاتٍ مُنْفَرِدَاتٍ وَوَلَدُ الأَْبِ عَصَبَةً.
أَوْ يَكُونَ جَمِيعُهُمْ أَخَوَاتٍ مُنْفَرِدَاتٍ.

الْقِسْمُ الأَْوَّل:
5 - أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُمْ عَصَبَةً، فَعَلَى قَوْل عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لاَ اعْتِبَارَ بِوَلَدِ الأَْبِ وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا، وَالْمُقَاسَمَةُ بَيْنَ الْجَدِّ وَوَلَدِ الأَْبِ وَالأُْمِّ عَلَى اخْتِلاَفِ قَوْلِهِمْ فِي ذَلِكَ.
وَعَلَى قَوْل زَيْدٍ يُقْسَمُ الْمَال بَيْنَهُمْ جَمَاعَتَهُمْ مَا لَمْ تُنْقِصِ الْجَدَّ الْمُقَاسَمَةُ مِنْ ثُلُثِ الْمَال أَوْ ثُلُثِ الْفَاضِل عَنْ ذَوِي الْفُرُوضِ، أَوْ سُدُسِ جَمِيعِ الْمَال مِنْ نَظَرِ الأَْحَظَّ لَهُ، ثُمَّ مَا جُعِل لِوَلَدِ الأَْبِ رَدُّوهُ عَلَى وَلَدِ الأَْبِ وَالأُْمِّ (1) .

الْقِسْمُ الثَّانِي:
6 - أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الأَْبِ وَالأُْمِّ عَصَبَةً، وَوَلَدُ الأَْبِ إِِنَاثًا مُنْفَرِدَاتٍ، فَعَلَى قَوْل عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لاَ اعْتِبَارَ بِوَلَدِ الأَْبِ بِحَالٍ، وَيُقَاسِمُ الْجَدُّ وَلَدَ الأَْبِ وَالأُْمِّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ اخْتِلاَفِ قَوْلَيْهِمَا.
وَعَلَى قَوْل زَيْدٍ يُقْسَمُ الْمَال بَيْنَ الْجَمِيعِ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ، فَمَا حَصَل لِوَلَدِ الأَْبِ يَرُدُّهُ
__________
(1) التهذيب في علم الفرائض والوصايا ص 92 - 93.

(38/163)


عَلَى وَلَدِ الأَْبِ وَالأُْمِّ (1) .

الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
7 - أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الأَْبِ وَالأُْمِّ أَخَوَاتٍ مُنْفَرِدَاتٍ، وَوَلَدُ الأَْبِ عَصَبَةً، فَعَلَى قَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُفْرَضُ لِلأَْخَوَاتِ مِنَ الأَْبِ وَالأُْمِّ فُرُوضُهُنَّ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَوَلَدِ الأَْبِ مَا لَمْ تُنْقِصْهُ الْمُقَاسَمَةُ مِنَ السُّدُسِ.
وَفِي قَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لاَ اعْتِبَارَ بِوَلَدِ الأَْبِ بِحَالٍ، وَيُفْرَضُ لِلأَْخَوَاتِ مِنَ الأَْبَوَيْنِ فُرُوضُهُنَّ، وَيَكُونُ الْبَاقِي لِلْجَدِّ، إِِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَقَل مِنَ السُّدُسِ، فَيُفْرَضُ لَهُ السُّدُسُ، وَهَذَا إِِنَّمَا يُوجَدُ إِِذَا كَانَ مَعَهُمْ ذُو فَرْضٍ.
وَعَلَى قَوْل زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُقْسَمُ الْمَال بَيْنَ الْجَمِيعِ مَا لَمْ تُجَاوِزِ الْمُقَاسَمَةُ سِتَّةَ أَسْهُمٍ، فَمَا أَصَابَ وَلَدُ الأَْبِ رَدُّوا عَلَى وَلَدِ الأَْبِ وَالأُْمِّ، إِِلاَّ أَنْ تَكُونَ أُخْتًا وَاحِدَةً، فَيَرُدُّونَ عَلَيْهَا تَمَامَ النِّصْفِ وَمَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَإِِِنْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ سَقَطُوا.
فَإِِِنْ جَاوَزَتِ الْمُقَاسَمَةُ سِتَّةَ أَسْهُمٍ فُرِضَ لَهُ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَال إِِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ ذُو فَرْضٍ، فَإِِِنْ كَانَ فِيهَا مَنْ فَرْضُهُ النِّصْفُ فَمَا دُونَ، فُرِضَ لَهُ ثُلُثُ الْبَاقِي.
وَإِِِنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْفُرُوضِ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْمَال فُرِضَ لَهُ السُّدُسُ وَجُعِل الْبَاقِي فِي هَذِهِ
__________
(1) التهذيب في علم الفرائض والوصايا ص 93.

(38/164)


الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا لِوَلَدِ الأَْبِ وَالأُْمِّ، إِِلاَّ أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الأَْبِ وَالأُْمِّ أُخْتًا وَاحِدَةً وَيَكُونُ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الْجَدِّ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْمَال، فَيَأْخُذُ حِينَئِذٍ النِّصْفَ اخْتِصَارًا مِنْ غَيْرِ مُقَاسَمَةٍ، وَيَكُونُ الْبَاقِي لِوَلَدِ الأَْبِ بِالتَّعْصِيبِ، سَوَاءٌ كَانُوا ذُكُورًا، أَوْ إِِنَاثًا (1) .

الْقِسْمُ الرَّابِعُ:
8 - أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُمْ أَخَوَاتٍ مُنْفَرِدَاتٍ، فَعَلَى قَوْل عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُفْرَضُ لِلأَْخَوَاتِ فُرُوضُهُنَّ، وَيُجْعَل الْبَاقِي لِلْجَدِّ، إِِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَقَل مِنَ السُّدُسِ، فَيُفْرَضُ لَهُ السُّدُسُ.
وَفِي قَوْل زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُقْسَمُ الْمَال بَيْنَ الْجَدِّ وَالأَْخَوَاتِ إِِلَى سِتَّةٍ فَمَا حَصَل لِوَلَدِ الأَْبِ رَدُّوهُ عَلَى وَلَدِ الأَْبِ وَالأُْمِّ، إِِلاَّ أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الأَْبِ وَالأُْمِّ أُخْتًا وَاحِدَةً فَيَرُدُّونَ عَلَيْهَا تَمَامَ النِّصْفِ.
فَإِِِنْ جَاوَزَتِ السِّهَامُ سِتَّةً فَاجْعَل لِلْجَدِّ ثُلُثَ الْمَال أَوْ ثُلُثَ الْفَاضِل عَنْ ذَوِي الْفُرُوضِ إِِذَا كَانَتْ فُرُوضُهُمُ النِّصْفَ فَمَا دُونَهُ، فَإِِِنْ كَانَتِ الْفُرُوضُ أَكْثَرَ فَلِلْجَدِّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلأَْخَوَاتِ مِنَ الأَْبِ وَالأُْمِّ (2) .
__________
(1) التهذيب في علم الفرائض والوصايا ص 94 - 95.
(2) التهذيب في علم الفرائض والوصايا ص 100.

(38/164)


مُعَارَضَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُعَارَضَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ عَارَضَ، يُقَال: عَارَضَ فُلاَنًا: نَاقَضَهُ فِي كَلاَمِهِ وَقَاوَمَهُ، وَيُقَال: عَارَضْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ قَابَلْتَهُ بِهِ.
وَلِلْمُعَارَضَةِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ أُخْرَى (1) .
وَالْمُعَارَضَةُ اصْطِلاَحًا: إِِقَامَةُ الدَّلِيل عَلَى خِلاَفِ مَا أَقَامَ الدَّلِيل عَلَيْهِ الْخَصْمُ (2) .
وَفِي هَذَا التَّعْرِيفِ وَغَيْرِهِ مِنَ التَّعْرِيفَاتِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُنَاظَرَةُ
2 - الْمُنَاظَرَةُ فِي اللُّغَةِ مِنَ النَّظِيرِ، أَوْ مِنَ النَّظَرِ بِالْبَصِيرَةِ.
وَاصْطِلاَحًا هِيَ: النَّظَرُ بِالْبَصِيرَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فِي النِّسْبَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إِِظْهَارًا لِلصَّوَابِ (3) .
وَالْمُنَاظَرَةُ أَعَمُّ مِنَ الْمُعَارَضَةِ.
__________
(1) المعجم الوسيط، والمصباح المنير.
(2) التعريفات للجرجاني، وقواعد الفقه للبركتي.
(3) التعريفات للجرجاني، وقواعد الفقه. والكليات 4 / 263.

(38/165)


ب - الْمُنَاقَضَةُ:
3 - الْمُنَاقَضَةُ لُغَةً: إِِبْطَال أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بِالآْخَرِ.
وَاصْطِلاَحًا هِيَ: مَنْعُ مُقَدِّمَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيل، إِِمَّا قَبْل تَمَامِهِ وَإِِِمَّا بَعْدَهُ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُنَاقَضَةِ: الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ فَكُل مُنَاقَضٍ مُعَارَضٌ وَلاَ عَكْسَ (2) .

الْحُكْمُ الإِِِْجْمَالِيُّ:
4 - الْمُعَارَضَةُ مِنَ الاِعْتِرَاضَاتِ الَّتِي تُورَدُ عَلَى الْقِيَاسِ وَهُوَ أَقْوَاهَا وَأَهَمُّهَا (3) .
وَهِيَ إِِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي الأَْصْل، أَوْ فِي الْفَرْعِ، أَوْ فِي الْوَصْفِ.
3 - وَصُورَةُ وُرُودِهَا فِي الأَْصْل: أَنْ يَذْكُرَ الْمُسْتَدِل عِلَّةً لِلْحُكْمِ فِي الأَْصْل. كَأَنْ يَقُول: إِِنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِيمَا يُقْتَاتُ: الْكَيْل فَلاَ رِبَا فِيمَا لاَ يُكَال: كَالْبِطِّيخِ فَيَقُول الْمُعْتَرِضُ: الدَّلِيل وَإِِِنْ دَل عَلَى مَا قُلْتَ فَعِنْدِي مَا يَنْفِيهِ، وَهُوَ أَنَّ فِي الأَْصْل وَصْفًا آخَرَ صَالِحًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْحُكْمِ وَهُوَ: الطُّعْمُ وَهُوَ وَصْفٌ مُنَاسِبٌ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْجَدَلِيُّونَ فِي قَبُول مِثْل هَذِهِ
__________
(1) التعريفات للجرجاني، والكليات 4 / 264.
(2) البحر المحيط 5 / 333.
(3) البحر المحيط 5 / 333، إرشاد الفحول 232.

(38/165)


الْمُعَارَضَةِ: فَقِيل: لاَ يُقْبَل بِنَاءً عَلَى مَنْعِ التَّعْلِيل بِعِلَّتَيْنِ، قَال ابْنُ عَقِيلٍ: وَلأَِنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَيْسَتْ سُؤَالاً وَلاَ جَوَابًا، لأَِنَّ لِلْمُسْتَدِل: أَنْ يَقُول: لاَ تَنَافِي بَيْنَ الْعِلَّتَيْنِ بَل أَقُول بِهِمَا جَمِيعًا، وَقِيل: يُقْبَل، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ التَّعْلِيل بِعِلَّتَيْنِ.
أَوْ أَنْ يَذْكُرَ الْمُسْتَدِل عِلَّةً لِلْحُكْمِ فِي الأَْصْل، وَيَذْكُرَ الْمُعْتَرِضُ عِلَّةً أُخْرَى فِيهِ غَيْرَ مَوْجُودَةٍ فِي الْفَرْعِ. كَأَنْ يَقُول الْمُسْتَدِل: يَصِحُّ صَوْمُ الْفَرْضِ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ قَبْل الزَّوَال لأَِنَّهُ صَوْمُ عَيْنٍ فَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ قَبْل الزَّوَال كَصَوْمِ النَّفْل، فَيَذْكُرُ الْمُعْتَرِضُ عِلَّةً أُخْرَى غَيْرَ الْعِلَّةِ الَّتِي عَلَّلَهَا الْمُسْتَدِل فِي حُكْمِ الأَْصْل، وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الْفَرْعِ كَأَنْ يَقُول: إِِنَّ عِلَّةَ حُكْمِ الأَْصْل - وَهِيَ صِحَّةُ صَوْمِ النَّفْل بِنِيَّةِ قَبْل الزَّوَال - لَيْسَتْ بِمَا ذَكَرْتَ مِنْ أَنَّهُ صَوْمُ عَيْنٍ، بَل الْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ النَّفْل مِنْ عَمَل السُّهُولَةِ وَالْخَفَّةِ، فَجَازَ أَدَاؤُهُ بِنِيَّةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عَنِ الشُّرُوعِ فِيهِ، بِخِلاَفِ الْفَرْضِ (1) .
6 - أَمَّا كَوْنُ الْمُعَارَضَةِ فِي الْفَرْعِ: فَهِيَ أَنْ يُعَارِضَ الْمُعْتَرِضُ حُكْمَ الْفَرْعِ بِمَا يَقْتَضِي نَقِيضَهُ، أَوْ ضِدَّهُ بِنَصٍّ أَوْ إِِجْمَاعٍ، أَوْ بِوُجُودِ
__________
(1) البحر المحيط 5 / 334.

(38/166)


مَانِعٍ، أَوْ بِفَوَاتِ شَرْطٍ وَيَقُول فِي اعْتِرَاضِهِ: إِِنَّ مَا ذَكَرْتَ فِي الْوَصْفِ وَإِِِنِ اقْتَضَى ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ فَعِنْدِي وَصْفٌ آخَرُ يَقْتَضِي نَقِيضَهُ فَتُوقِفُ دَلِيلَكَ.
وَمِثَال النَّقِيضِ أَنْ يَقُول الْمُسْتَدِل: إِِذَا بَاعَ جَارِيَةً إِِلاَّ حَمْلَهَا صَحَّ فِي وَجْهٍ، كَمَا لَوْ بَاعَ هَذِهِ الصِّيعَانَ إِِلاَّ صَاعًا، فَيَقُول الْمُعْتَرِضُ لاَ يَصِحُّ، كَمَا لَوْ بَاعَ الْجَارِيَةَ إِِلاَّ يَدَهَا.
وَمِثَال الضِّدِّ أَنْ يَقُول الْمُسْتَدِل: الْوِتْرُ وَاجِبٌ قِيَاسًا عَلَى التَّشَهُّدِ فِي الصَّلاَةِ، بِجَامِعِ مُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُول الْمُعْتَرِضُ: فَيُسْتَحَبُّ قِيَاسًا عَلَى الْفَجْرِ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُفْعَل فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لِفَرْضٍ مُعَيَّنٍ مِنْ فُرُوضِ الصَّلاَةِ.
فَإِِِنَّ الْوِتْرَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ، وَالْفَجْرَ فِي وَقْتِ الصُّبْحِ، وَلَمْ يُعْهَدْ مِنَ الشَّرْعِ وَضْعُ صَلاَتَيْ فَرْضٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
وَقَال ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: أَمَّا الْمُعَارَضَةُ فِي حُكْمِ الْفَرْعِ فَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ إِِذَا ذَكَرَ الْمُعَلِّل عِلَّةً فِي إِِثْبَاتِ حُكْمِ الْفَرْعِ وَنَفْيِ حُكْمِهِ فَيُعَارِضُهُ خَصْمُهُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى تُوجِبُ مَا تُوجِبُهُ عِلَّةُ الْمُعَلِّل، فَتَتَعَارَضُ الْعِلَّتَانِ فَتَمْتَنِعَانِ مِنَ الْعَمَل إِِلاَّ بِتَرْجِيحِ إِِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى (1) .
__________
(1) البحر المحيط 5 / 339.

(38/166)


7 - أَمَّا صُورَةُ وُرُودِ الْمُعَارَضَةِ عَلَى الْوَصْفِ فَهِيَ: أَنْ يَمْنَعَ الْمُعْتَرِضُ كَوْنَ الْوَصْفِ الْمُدَّعَى عِلِّيَّتُهُ عِلَّةً، كَأَنْ يَقُول الْمُسْتَدِل فِي الْكَلْبِ: الْكَلْبُ حَيَوَانٌ يُغْسَل مِنْ وُلُوغِهِ سَبْعًا فَلاَ يَقْبَل جِلْدُهُ الدَّبْغَ، مُعَلِّلاً بِكَوْنِهِ يُغْسَل سَبْعًا مِنْ وُلُوغِهِ، فَيَمْنَعُ الْمُعْتَرِضُ كَوْنَ الْغَسْل سَبْعًا عِلَّةً لِعَدَمِ طَهَارَتِهِ بِالدَّبْغِ، فَيَكُونُ جَوَابُهُ بِإِِِثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ بِمَسْلَكٍ مِنْ مَسَالِكِهَا (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) إرشاد الفحول ص 231.

(38/167)


مَعَازِفُ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَعَازِفُ فِي اللُّغَةِ: الْمَلاَهِي، وَاحِدُهَا مِعْزَفٌ وَمِعْزَفَةٌ، وَالْمَعَازِفُ كَذَلِكَ: الْمَلاَعِبُ الَّتِي يُضْرَبُ بِهَا، فَإِِِذَا أُفْرِدَ الْمِعْزَفُ فَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الطَّنَابِيرِ يَتَّخِذُهُ أَهْل الْيَمَنِ، وَغَيْرُهُمْ يُجْعَل الْعُودُ مِعْزَفًا، وَالْمِعْزَفُ آلَةُ الطَّرَبِ كَالْعُودِ وَالطُّنْبُورِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - اللَّهْوُ:
2 - اللَّهْوُ فِي اللُّغَةِ: مَا لَعِبْتَ بِهِ وَشَغَلَكَ مِنْ هَوًى وَطَرَبٍ وَنَحْوِهِمَا، وَنَقَل الْفَيُّومِيُّ عَنِ الطُّرْطُوشِيِّ قَوْلَهُ: أَصْل اللَّهْوِ التَّرْوِيحُ عَنِ النَّفْسِ بِمَا لاَ تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ.
وَأَلْهَاهُ اللَّعِبُ عَنْ كَذَا: شَغَلَهُ (3) .
__________
(1) لسان العرب، والمعجم الوسيط.
(2) قواعد الفقه للبركتي.
(3) المصباح المنير، والمعجم الوسيط.

(38/167)


وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَتَلَذَّذُ بِهِ الإِِِْنْسَانُ فَيُلْهِيهِ ثُمَّ يَنْقَضِي، وَفِي الْمَدَارِكِ: اللَّهْوُ كُل بَاطِلٍ أَلْهَى عَنِ الْخَيْرِ وَعَمَّا يُعْنَى (1) وَالصِّلَةُ أَنَّ الْمَعَازِفَ قَدْ تَكُونُ وَسِيلَةً أَوْ أَدَاةً لِلَّهْوِ.

ب - الْمُوسِيقَى:
3 - الْمُوسِيقَى لَفْظٌ يُونَانِيٌّ يُطْلَقُ عَلَى فُنُونِ الْعَزْفِ عَلَى آلاَتِ الطَّرَبِ.
وَعِلْمُ الْمُوسِيقَى يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ أُصُول النَّغَمِ مِنْ حَيْثُ تَأْتَلِفُ أَوْ تَتَنَافَرُ وَأَحْوَال الأَْزْمِنَةِ الْمُتَخَلِّلَةِ بَيْنَهَا لِيُعْلَمَ كَيْفَ يُؤَلَّفُ اللَّحْنُ.
وَالْمُوسِيقِيُّ: الْمَنْسُوبُ إِِلَى الْمُوسِيقَى، وَالْمُوسِيقَارُ: مَنْ حِرْفَتُهُ الْمُوسِيقَى.
وَالْمُوسِيقَى فِي الاِصْطِلاَحِ: عِلْمٌ يُعْرَفُ مِنْهُ أَحْوَال النَّغَمِ وَالإِِِْيقَاعَاتِ وَكَيْفِيَّةِ تَأْلِيفِ اللُّحُونِ وَإِِِيجَادِ الآْلاَتِ (2) .
وَالصِّلَةُ: أَنَّ الْمَعَازِفَ تُسْتَعْمَل فِي الْمُوسِيقَى.

ج - الْغِنَاءُ:
4 - الْغِنَاءُ بِكَسْرِ الْغَيْنِ مِثْل كِتَابٍ فِي اللُّغَةِ: الصَّوْتُ، وَقِيَاسُهُ ضَمُّ الْغَيْنِ: إِِذَا صُوِّتَ، وَهُوَ التَّطْرِيبُ وَالتَّرَنُّمُ بِالْكَلاَمِ الْمَوْزُونِ وَغَيْرِهِ، يَكُونُ مَصْحُوبًا بِالْمُوسِيقَى - أَيْ آلاَتِ الطَّرَبِ
__________
(1) التعريفات، وقواعد الفقه للبركتي.
(2) المعجم الوسيط، ورد المحتار 1 / 32.

(38/168)


- وَغَيْرَ مَصْحُوبٍ بِهَا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: يُطْلَقُ الْغِنَاءُ عَلَى رَفْعِ الصَّوْتِ بِالشِّعْرِ وَمَا قَارَبَهُ مِنَ الرِّجْزِ عَلَى نَحْوٍ مَخْصُوصٍ (2) .
ر: مُصْطَلَحُ (غِنَاءٌ ف 1) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الْمَعَازِفُ مِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ كَذَاتِ الأَْوْتَارِ وَالنَّايَاتِ وَالْمَزَامِيرِ وَالْعُودِ وَالطُّنْبُورِ وَالرَّبَابِ، نَحْوُهَا فِي الْجُمْلَةِ (3) ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِِذَا فَعَلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً حَل بِهَا الْبَلاَءُ وَعَدَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا: وَاتَّخَذَتِ الْقَيْنَاتِ وَالْمَعَازِفَ (4) ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْحَقَ الْمَزَامِيرَ وَالْكِنَّارَاتِ يَعْنِي الْبَرَابِطَ وَالْمَعَازِفَ (5) .
__________
(1) المعجم الوسيط، والمصباح المنير، والقاموس المحيط.
(2) قواعد الفقه للبركتي.
(3) أسنى المطالب 1 / 27، وكف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع بهامش الزواجر عن اقتراف الكبائر 1 / 8، 10، 12، 15، والمغني 9 / 173.
(4) حديث: " إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة. . . . ". أخرجه الترمذي (4 / 494) ثم ذكر أن في إسناده راويًا ضعيفًا.
(5) حديث: " إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين. . . . . . ". أخرجه أحمد (5 / 256) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (5 / 69) وقال: فيه علي بن يزيد وهو ضعيف.

(38/168)


وَمِنَ الْمَعَازِفِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ، كَالدُّفِّ الْمُصَنَّجِ لِلرِّجَال عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) . عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي.
وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مُبَاحًا كَطُبُول غَيْرِ اللَّهْوِ مِثْل طُبُول الْغَزْوِ أَوِ الْقَافِلَةِ. عِنْدَ بَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَمِنْهَا مَا يَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ مَنْدُوبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا كَضَرْبِ الدُّفِّ فِي النِّكَاحِ لإِِِِعْلاَنِهِ. عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَفِي غَيْرِ النِّكَاحِ مِنْ مُنَاسَبَاتِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْبَعْضِ (3) .

عِلَّةُ تَحْرِيمِ بَعْضِ الْمَعَازِفِ:
6 - نَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ مَا حَرُمَ مِنَ الْمَعَازِفِ وَآلاَتِ اللَّهْوِ لَمْ يَحْرُمْ لَعَيْنِهِ وَإِِِنَّمَا لِعِلَّةٍ أُخْرَى:
فَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: آلَةُ اللَّهْوِ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً لَعَيْنِهَا بَل لِقَصْدِ اللَّهْوِ مِنْهَا، إِِمَّا مِنْ سَامِعِهَا أَوْ مِنَ الْمُشْتَغِل بِهَا، أَلاَ تَرَى أَنَّ ضَرْبَ تِلْكَ الآْلَةِ حَل تَارَةً وَحَرُمَ أُخْرَى بِاخْتِلاَفِ النِّيَّةِ؟
وَالأُْمُورُ بِمَقَاصِدِهَا.
__________
(1) رد المحتار 5 / 135، والمغني 9 / 174.
(2) رد المحتار 5 / 34، ومواهب الجليل 4 / 7، ونهاية المحتاج 8 / 282.
(3) رد المحتار 2 / 261، وحاشية القليوبي 4 / 320، ومطالب أولي النهى 5 / 252 - 253، وحاشية الدسوقي 2 / 339.

(38/169)


وَقَال الْحَصْكَفِيُّ: وَمِنْ ذَلِكَ - أَيِ الْحَرَامِ - ضَرْبُ النَّوْبَةِ لِلتَّفَاخُرِ، فَلَوْ لِلتَّنْبِيهِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْمُلْتَقَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بُوقُ الْحَمَامِ يَجُوزُ كَضَرْبِ النَّوْبَةِ، ثُمَّ قَال: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ طَبْل الْمُسَحِّرِ فِي رَمَضَانَ لإِِِِيقَاظِ النَّائِمِينَ لِلسُّحُورِ كَبُوقِ الْحَمَامِ (1) .

مَا يَحِل وَمَا يَحْرُمُ مِنَ الْمَعَازِفِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ آلاَتِ الْمَعَازِفِ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:

أ - الدُّفُّ:
7 - الدُّفُّ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الَّذِي يُلْعَبُ بِهِ (2) ، وَقَدْ عَرَّفَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِالطَّارِ أَوِ الْغِرْبَال وَهُوَ الْمُغَشَّى بِجِلْدٍ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَدْفِيفِ الأَْصَابِعِ عَلَيْهِ، وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: الدُّفُّ هُوَ الْمُغَشَّى مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ إِِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَوْتَارٌ وَلاَ جَرَسٌ، وَقَال غَيْرُهُمْ وَلَوْ كَانَ فِيهِ أَوْتَارٌ لأَِنَّهُ لاَ يُبَاشِرُهَا بِالْقَرْعِ بِالأَْصَابِعِ (3) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الدُّفِّ
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 5 / 223، وانظر إحياء علوم الدين للغزالي 2 / 272 - 273، 282.
(2) المصباح المنير.
(3) حاشية الدسوقي والشرح الكبير 2 / 339، ومواهب الجليل 4 / 6، ومغني المحتاج 4 / 429.

(38/169)


قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَكُونَ لَيْلَةَ الْعُرْسِ دُفٌّ يُضْرَبُ بِهِ لِيُعْلَنَ النِّكَاحُ، وَعَنِ السَّرَّاجِيَّةِ: أَنَّ هَذَا إِِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ جَلاَجِل وَلَمْ يُضْرَبْ عَلَى هَيْئَةِ التَّطَرُّبِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالدُّفُّ الَّذِي يُبَاحُ ضَرْبُهُ فِي الْعُرْسِ. احْتِرَازًا عَنِ الْمُصَنَّجِ، فَفِي النِّهَايَةِ عَنْ أَبِي اللَّيْثِ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا.
وَسُئِل أَبُو يُوسُفَ عَنِ الدُّفِّ: أَتَكْرَهُهُ فِي غَيْرِ الْعُرْسِ بِأَنْ تَضْرِبَ الْمَرْأَةُ فِي غَيْرِ فِسْقٍ لِلصَّبِيِّ؟ قَال: لاَ أَكْرَهُهُ، وَلاَ بَأْسَ بِضَرْبِ الدُّفِّ يَوْمَ الْعِيدِ، كَمَا فِي خِزَانَةِ الْمُفْتِينَ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُكْرَهُ الْغِرْبَال أَيِ الطَّبْل بِهِ فِي الْعُرْسِ، قَال ابْنُ رُشْدٍ وَابْنُ عَرَفَةَ: اتَّفَقَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى إِِجَازَةِ الدُّفِّ وَهُوَ الْغِرْبَال فِي الْعُرْسِ، وَقَال الدُّسُوقِيُّ: يُسْتَحَبُّ فِي الْعُرْسِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ (2) .
وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْعُرْسِ كَالْخِتَانِ وَالْوِلاَدَةِ فَقَال الدُّسُوقِيُّ: الْمَشْهُورُ عَدَمُ جَوَازِ ضَرْبِهِ، وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ جَوَازُهُ فِي كُل فَرَحٍ لِلْمُسْلِمِينَ، قَال الْحَطَّابُ: كَالْعِيدِ وَقُدُومِ الْغَائِبِ وَكُل سُرُورٍ
__________
(1) رد المحتار 5 / 34، 135، 223، والفتاوى الهندية 5 / 352.
(2) حديث: " أعلنوا هذا النكاح، واضربوا عليه بالدفوف ". أخرجه الترمذي (3 / 390) من حديث عائشة، وذكر أن في إسناده راويًا ضعيفًا.

(38/170)


حَادِثٍ، وَقَال الآْبِيُّ: وَلاَ يُنْكَرُ لَعِبُ الصِّبْيَانِ فِيهَا - أَيِ الأَْعْيَادِ - وَضَرْبُ الدُّفِّ، فَقَدْ وَرَدَ إِِقْرَارُهُ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَقَل الْحَطَّابُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ أَنَّهُ ذَهَبَ إِِلَى جَوَازِ الدُّفِّ فِي الْعُرْسِ، إِِلاَّ لِلْجَوَارِي الْعَوَاتِقِ فِي بُيُوتِهِنَّ وَمَا أَشْبَهَهُنَّ فَإِِِنَّهُ يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَيَجْرِي لَهُنَّ مَجْرَى الْعُرْسِ إِِذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ.
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الدُّفِّ ذِي الصَّرَاصِرِ أَيِ الْجَلاَجِل، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِِلَى جَوَازِ الضَّرْبِ بِهِ فِي الْعُرْسِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِِلَى أَنَّ مَحَل الْجَوَازِ إِِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ صَرَاصِرُ أَوْ جَرَسٌ وَإِِِلاَّ حَرُمَ، قَال الدُّسُوقِيُّ: وَهُوَ الصَّوَابُ لِمَا فِي الْجَلاَجِل مِنْ زِيَادَةِ الإِِِْطْرَابِ، هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ ضَرْبِ الرِّجَال بِالدُّفِّ فَقَالُوا: لاَ يُكْرَهُ الطَّبْل بِهِ وَلَوْ كَانَ صَادِرًا مِنْ رَجُلٍ، خِلاَفًا لأَِصْبَغَ الْقَائِل: لاَ يَكُونُ الدُّفُّ إِِلاَّ لِلنِّسَاءِ، وَلاَ يَكُونُ عِنْدَ الرِّجَال (1) وَقَال الشَّافِعِيَّةُ يَجُوزُ ضَرْبُ دُفٍّ وَاسْتِمَاعُهُ لِعُرْسٍ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ جُوَيْرَاتٍ ضَرَبْنَ بِهِ حِينَ بَنَى عَلَى الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ وَقَال لِمَنْ قَالَتْ: وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي
__________
(1) حاشية الدسوقي والشرح الكبير 2 / 339، ومواهب الجليل 4 / 6، 7، وجواهر الإكليل 1 / 103.

(38/170)


غَدٍ: دَعِي هَذَا وَقُولِي بِالَّذِي كُنْتِ تَقُولِينَ (1) أَيْ مِنْ مَدْحِ بَعْضِ الْمَقْتُولِينَ بِبَدْرٍ، وَيَجُوزُ لِخِتَانٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إِِذَا سَمِعَ صَوْتًا أَوْ دُفًّا بَعَثَ قَال: مَا هُوَ؟ فَإِِِذَا قَالُوا عُرْسٌ أَوْ خِتَانٌ، صَمَتَ (2) ، وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ مِمَّا هُوَ سَبَبٌ لإِِِِظْهَارِ السُّرُورِ كَوِلاَدَةِ وَعِيدٍ وَقُدُومِ غَائِبٍ وَشِفَاءِ مَرِيضٍ وَإِِِنْ كَانَ فِيهِ جَلاَجِل لإِِِِطْلاَقِ الْخَبَرِ، وَهَذَا فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ بَعْضِ مَغَازِيهِ قَالَتْ لَهُ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ: يَا رَسُول اللَّهِ إِِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إِِنْ رَدَّكَ اللَّهُ صَالِحًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِالدُّفِّ وَأَتَغَنَّى، فَقَال لَهَا: إِِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي، وَإِِِلاَّ فَلاَ (3) ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ الْمَنْعُ لأَِثَرِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ السَّابِقِ، وَاسْتَثْنَى الْبُلْقِينِيُّ مِنْ مَحَل الْخِلاَفِ ضَرْبَ الدُّفِّ فِي أَمْرٍ مُهِمٍّ مِنْ قُدُومِ عَالِمٍ أَوْ سُلْطَانٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
__________
(1) حديث: " قوله صلى الله عليه وسلم لمن قالت: وفينا نبي يعلم ما في غد ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 202) من حديث الربيع بنت معوذ.
(2) أثر عمر " أنه كان إذا سمع صوتًا أو دفًا بعث. . . . . ". أخرجه عبد الرزاق في المصنف (11 / 5) .
(3) حديث: " أن جارية سوداء قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إني كنت نذرت. . . . . " أخرجه الترمذي (5 / 621) من حديث بريدة، وقال: حديث حسن.

(38/171)


وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إِِنَّ الدُّفَّ يُسْتَحَبُّ فِي الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ، وَبِهِ جَزَمَ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ (1) .
أَمَّا مَتَى يُضْرَبُ الدُّفُّ فِي الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ، فَقَدْ قَال الأَْذْرَعِيُّ: الْمَعْهُودُ عُرْفًا أَنَّهُ يُضْرَبُ بِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَوَقْتَ الزِّفَافِ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيل، وَعَبَّرَ الْبَغَوِيُّ فِي فَتَاوِيهِ بِوَقْتِ الْعَقْدِ وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ لِلْعَادَةِ، وَيُحْتَمَل ضَبْطُهُ بِأَيَّامِ الزِّفَافِ الَّتِي يُؤْثَرُ بِهَا الْعُرْسُ، وَأَمَّا الْخِتَانُ فَالْمَرْجِعُ فِيهِ الْعُرْفُ، وَيُحْتَمَل أَنَّهُ يُفْعَل مِنْ حِينِ الأَْخْذِ فِي أَسْبَابِهِ الْقَرِيبَةِ مِنْهُ.
وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ شَيْخِهِ الْحَلِيمِيِّ - وَلَمْ يُخَالِفْهُ - أَنَّا إِِذْ أَبَحْنَا الدُّفَّ فَإِِِنَّمَا نُبِيحُهُ لِلنِّسَاءِ خَاصَّةً، لأَِنَّهُ فِي الأَْصْل مِنْ أَعْمَالِهِنَّ، وَقَدْ لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ (2) ، وَنَازَعَهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّ الْجُمْهُورَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ وَالأَْصْل اشْتِرَاكُ الذُّكُورِ وَالإِِِْنَاثِ فِي الأَْحْكَامِ إِِلاَّ مَا وَرَدَ الشَّرْعُ فِيهِ بِالْفُرْقَةِ وَلَمْ يَرِدْ هُنَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ حَتَّى يُقَال يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَال التَّشَبُّهُ بِهِنَّ فِيهِ.
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 282، ومغني المحتاج 4 / 429، والقليوبي 4 / 320.
(2) حديث: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 332) من حديث ابن عباس.

(38/171)


وَنَقَل الْهَيْتَمِيُّ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ قَوْلَهُ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، هَل ضَرْبُ الدُّفِّ عَلَى النِّكَاحِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ وَالأَْزْمَانِ؟ فَقَال بَعْضُهُمْ: نَعَمْ لإِِِِطْلاَقِ الْحَدِيثِ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِالْبُلْدَانِ الَّتِي لاَ يَتَنَاكَرُهُ أَهْلُهَا فِي الْمَنَاكِحِ كَالْقُرَى وَالْبَوَادِي فَيُكْرَهُ فِي غَيْرِهَا، وَبِغَيْرِ زَمَانِنَا، قَال: فَيُكْرَهُ فِيهِ لأَِنَّهُ عَدَل بِهِ إِِلَى السَّخْفِ وَالسَّفَاهَةِ.
وَقَال الْهَيْتَمِيُّ: ظَاهِرُ إِِطْلاَقِهِمْ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ فِي جَوَازِ الضَّرْبِ بِالدُّفِّ بَيْنَ هَيْئَةٍ وَهَيْئَةٍ، وَخَالَفَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِقِيِّ فَقَال: إِِنَّمَا يُبَاحُ الدُّفُّ الَّذِي تَضْرِبُ بِهِ الْعَرَبُ مِنْ غَيْرِ زَفَنٍ - أَيْ رَقْصٍ - فَأَمَّا الَّذِي يُزْفَنُ بِهِ وَيُنْقَرُ - أَيْ بِرُءُوسِ الأَْنَامِل وَنَحْوِهَا - عَلَى نَوْعٍ مِنَ الأَْنْغَامِ فَلاَ يَحِل الضَّرْبُ بِهِ لأَِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الإِِِْطْرَابِ مِنْ طَبْل اللَّهْوِ الَّذِي جَزَمَ الْعِرَاقِيُّونَ بِتَحْرِيمِهِ، وَتَابَعَهُ تِلْمِيذُهُ ابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ، قَال الأَْذْرَعِيُّ: وَهُوَ حَسَنٌ، فَإِِِنَّهُ إِِنَّمَا يَتَعَاطَاهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ ذَكَرْنَا مِنْ أَهْل الْفُسُوقِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ إِِعْلاَنُ النِّكَاحِ وَالضَّرْبُ فِيهِ بِالدُّفِّ، قَال أَحْمَدُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُظْهَرَ النِّكَاحُ وَيُضْرَبَ فِيهِ بِالدُّفِّ حَتَّى يَشْتَهِرَ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 282، ومغني المحتاج 4 / 429، وحاشية القليوبي 4 / 320، وروضة الطالبين 11 / 228، وكف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع بهامش الزواجر عن اقتراف الكبائر 1 / 76، 83، 85.

(38/172)


وَيُعْرَفَ وَقَال: يُسْتَحَبُّ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ فِي الإِِِْمْلاَكِ، فَقِيل لَهُ: مَا الصَّوْتُ؟ قَال: يَتَكَلَّمُ وَيَتَحَدَّثُ وَيَظْهَرُ، وَالأَْصْل فِي هَذَا مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ حَاطِبٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَصْل مَا بَيْنَ الْحَلاَل وَالْحَرَامِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ (1) ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا زَوَّجَتْ يَتِيمَةً كَانَتْ فِي حِجْرِهَا رَجُلاً مِنَ الأَْنْصَارُ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ فِيمَنْ أَهْدَاهَا إِِلَى زَوْجِهَا، قَالَتْ: فَلَمَّا رَجَعْنَا قَال لِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا قُلْتُمْ يَا عَائِشَةُ؟ قَالَتْ: سَلَّمْنَا وَدَعَوْنَا اللَّهَ بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ انْصَرَفْنَا، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَهَل بَعَثْتُمْ مَعَهَا جَارِيَةً تَضْرِبُ بِالدُّفِّ وَتُغَنِّي: أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ فَحَيَّانَا وَحَيَّاكُمْ (2) .
وَيُسَنُّ عِنْدَهُمْ ضَرْبٌ بِدُفِّ مُبَاحٍ فِي خِتَانٍ وَقُدُومِ غَائِبٍ وَوِلاَدَةٍ كَنِكَاحِ لِمَا فِيهِ مِنَ السُّرُورِ، وَالدُّفُّ الْمُبَاحُ هُوَ مَا لاَ حِلَقَ فِيهِ وَلاَ صُنُوجٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي ضَرْبِ الرِّجَال الدُّفَّ، قَال
__________
(1) حديث: " فصل ما بين الحلال والحرام. . . ". أخرجه النسائي (6 / 127) والترمذي (3 / 389) واللفظ للنسائي وقال الترمذي: حديث حسن.
(2) حديث: " عائشة أنها زوجت يتيمة رجلاً من الأنصار. . . ". أخرج أوله البخاري (فتح الباري 9 / 225) ، وأخرجه إلى قولها " ثم انصرفنا " أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب النكاح كما في فتح الباري (9 / 225) وأخرج باقيه الطبراني في الأوسط كما في فتح الباري (9 / 226) .

(38/172)


الْبُهُوتِيُّ: وَظَاهِرُهُ - أَيْ نَدْبُ إِِعْلاَنِ النِّكَاحِ وَضَرْبٌ عَلَيْهِ بِدُفِّ مُبَاحٍ - سَوَاءٌ كَانَ الضَّارِبُ رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً وَهُوَ ظَاهِرُ نُصُوصِ أَحْمَدَ وَكَلاَمِ الأَْصْحَابِ، وَقَال الْمُوَفَّقُ: ضَرْبُ الدُّفِّ مَخْصُوصٌ بِالنِّسَاءِ، وَفِي الرِّعَايَةِ: يُكْرَهُ لِلرِّجَال مُطْلَقًا.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ فِي غَيْرِ النِّكَاحِ لأَِنَّهُ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِِذَا سَمِعَ صَوْتَ الدُّفِّ بَعَثَ فَنَظَرَ فَإِِِنْ كَانَ فِي وَلِيمَةٍ سَكَتَ وَإِِِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا عَمَدَ بِالدِّرَّةِ (1) .

ب - الْكُوبَةُ:
8 - الْكُوبَةُ طَبْلٌ طَوِيلٌ ضَيِّقُ الْوَسَطِ وَاسِعُ الطَّرَفَيْنِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ طَرَفَاهَا مَسْدُودَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا، وَلاَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اتِّسَاعُهُمَا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَوْسَعَ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِهَا.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ إِِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ ضَرْبُ الْكُوبَةِ وَالاِسْتِمَاعُ إِِلَيْهَا لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ
__________
(1) المغني 6 / 537، 538، 7 / 10، 9 / 174، وشرح منتهى الإرادات 9213، ومطالب أولي النهى 5 / 252، 253.

(38/173)


وَالْكُوبَةَ (1) ، وَلأَِنَّ فِي ضَرْبِهَا تَشَبُّهًا بِالْمُخَنَّثِينَ إِِذْ لاَ يَعْتَادُهَا غَيْرُهُمْ، وَنَقَل أَبُو الْفَتْحِ الرَّازِيُّ - كَمَا حَكَى الْهَيْتَمِيُّ - الإِِِْجْمَاعَ عَلَى حُرْمَتِهَا (2) .
وَقَال أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: كُرِهَ الطَّبْل وَهُوَ الْمُنْكَرُ وَهُوَ الْكُوبَةُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) .

ج - الْكَبَرُ وَالْمِزْهَرُ
9 - الْكَبَرُ بِفَتْحَتَيْنِ عَلَى وَزْنِ جَبَلٍ، هُوَ الطَّبْل الْكَبِيرُ.
وَالْمِزْهَرُ: هُوَ فِي اللُّغَةِ الْعُودُ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْمَالِكِيَّةُ: هُوَ الدُّفُّ الْمُرَبَّعُ الْمَغْلُوفُ.
قَال الْحَطَّابُ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمِزْهَرَ أَلْهَى، وَكُلَّمَا كَانَ أَلْهَى كَانَ أَغْفَل عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَكَانَ مِنَ الْبَاطِل (4) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِي الْكَبَرِ وَالْمِزْهَرِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمَا يُحْمَلاَنِ مَحْمَل الْغِرْبَال، وَيَدْخُلاَنِ مَدْخَلَهُ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِمَا فِي الْعُرْسِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ حَبِيبٍ.
__________
(1) حديث: " إن الله حرم عليكم الخمر والميسر والكوبة ". أخرجه أحمد (1 / 289) من حديث ابن عباس، وصحح إسناده أحمد شاكر في التعليق عليه (4 / 218) .
(2) نهاية المحتاج 8 / 282، وروضة الطالبين 11 / 228، وكف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع بهامش الزواجر 1 / 79، 85.
(3) المغني 6 / 538.
(4) مواهب الجليل 4 / 7.

(38/173)


وَالثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يُحْمَل وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَحْمَلَهُ وَلاَ يَدْخُل مَعَهُ وَلاَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي عُرْسٍ وَلاَ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْل أَصْبَغَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُحْمَل مَحْمَلَهُ وَيَدْخُل مَدْخَلَهُ فِي الْكَبَرِ وَحْدَهُ دُونَ الْمِزْهَرِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ (1) .

د - الأَْنْوَاعُ الأُْخْرَى مِنَ الطُّبُول
10 - لِلْفُقَهَاءِ فِي الأَْنْوَاعِ الأُْخْرَى مِنَ الطُّبُول تَفْصِيلٌ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ إِِذَا كَانَ الطَّبْل لِغَيْرِ اللَّهْوِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ كَطَبْل الْغُزَاةِ وَالْعُرْسِ وَالْقَافِلَةِ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ طَبْل الْمُسَحِّرِ فِي رَمَضَانَ لإِِِِيقَاظِ النَّائِمِينَ لِلسُّحُورِ كَبُوقِ الْحَمَامِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِِلَى اسْتِثْنَاءِ طُبُول الْحَرْبِ مِنْ سَائِرِ الطُّبُول (3) .
وَقَال إِِمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَالطُّبُول الَّتِي تُهَيَّأُ لِمَلاَعِبِ الصِّبْيَانِ إِِنْ لَمْ تُلْحَقْ بِالطُّبُول الْكِبَارِ فَهِيَ كَالدُّفِّ وَلَيْسَتْ كَالْكُوبَةِ بِحَال، قَال الْهَيْتَمِيُّ: وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ مَا يُصْنَعُ فِي الأَْعْيَادِ مِنَ الطُّبُول الصِّغَارِ الَّتِي هِيَ عَلَى هَيْئَةِ
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 6 - 7.
(2) ابن عابدين 5 / 34، 223.
(3) مواهب الجليل 4 / 7.

(38/174)


الْكُوبَةِ وَغَيْرِهَا لاَ حُرْمَةَ فِيهَا، لأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِِطْرَابٌ غَالِبًا، وَمَا عَلَى صُورَةِ الْكُوبَةِ مِنْهَا انْتَفَى فِيهِ الْمَعْنَى الْمُحَرَّمُ لِلْكُوبَةِ، لأَِنَّ لِلْفُسَّاقِ فِيهَا كَيْفِيَّاتٌ فِي ضَرْبِهَا، وَغَيْرُهُ لاَ يُوجَدُ فِي تِلْكَ الَّتِي تُهَيِّئُ لِلَعِبِ الصِّبْيَانِ، وَقَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ: ضَرْبُ الطُّبُول إِِنْ كَانَ طَبْل لَهْوٍ فَلاَ يَجُوزُ، وَاسْتَثْنَى الْحَلِيمِيُّ مِنَ الطُّبُول طَبْل الْحَرْبِ وَالْعِيدِ، وَأَطْلَقَ تَحْرِيمَ سَائِرِ الطُّبُول وَخَصَّ مَا اسْتَثْنَاهُ فِي الْعِيدِ بِالرِّجَال خَاصَّةً، وَطَبْل الْحَجِيجِ مُبَاحٌ كَطَبْل الْحَرْبِ (1) .
وَكَرِهَ أَحَمْدُ الطَّبْل لِغَيْرِ حَرْبٍ وَنَحْوِهِ، وَاسْتَحَبَّهُ ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْحَرْبِ وَقَال: لِتَنْهِيضِ طِبَاعِ الأَْوْلِيَاءِ وَكَشْفِ صُدُورِ الأَْعْدَاءِ (2) .

هـ - الْيَرَاعُ
11 - الْيَرَاعُ هُوَ الزَّمَّارَةُ الَّتِي يُقَال لَهَا الشَّبَّابَةُ، وَهِيَ مَا لَيْسَ لَهَا بُوقٌ وَمِنْهَا الْمَأْصُول الْمَشْهُورُ وَالسَّفَّارَةُ وَنَحْوُهَا، وَسُمِّيَ الْيَرَاعُ بِذَلِكَ لِخُلُوِّ جَوْفِهِ، وَيُخَالِفُ الْمِزْمَارَ الْعِرَاقِيَّ فِي أَنَّهُ لَهُ بُوقٌ وَالْغَالِبُ أَنَّهُ يُوجَدُ مَعَ
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 228.
(2) الإنصاف 8 / 343.

(38/174)


الأَْوْتَارِ (1) .
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ الاِسْتِمَاعُ إِِلَى الْمَزَامِيرِ وَلاَ تَجُوزُ الإِِِْجَارَةُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِِلَى جَوَازِ الزَّمَّارَةِ وَالْبُوقِ، وَقِيل: يُكْرَهَانِ، وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَهَذَا فِي النِّكَاحِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ فَيَحْرُمُ (3) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْيَرَاعِ، فَقَال الرَّافِعِيُّ: فِي الْيَرَاعِ وَجْهَانِ، صَحَّحَ الْبَغَوِيُّ التَّحْرِيمَ، وَالْغَزَالِيُّ الْجَوَازَ وَهُوَ الأَْقْرَبُ، قَالُوا: لأَِنَّهُ يُنَشِّطُ عَلَى السَّيْرِ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: الأَْصَحُّ تَحْرِيمُ الْيَرَاعِ، قَالُوا: لأَِنَّهُ مُطْرِبٌ بِانْفِرَادِهِ، بَل قِيل إِِنَّهُ آلَةٌ كَامِلَةٌ لِجَمِيعِ النَّغَمَاتِ إِِلاَّ يَسِيرًا فَحُرِّمَ كَسَائِرِ الْمَزَامِيرِ (4) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ آلاَتِ الْمَعَازِفِ تَحْرُمُ سِوَى الدُّفِّ، كَمِزْمَارٍ وَنَايٍ وَزَمَّارَةِ الرَّاعِي سَوَاءٌ اسْتُعْمِلَتْ لِحُزْنٍ أَوْ سُرُورٍ، وَسَأَل ابْنُ الْحَكَمِ الإِِِْمَامَ أَحْمَدَ عَنِ النَّفْخِ فِي الْقَصَبَةِ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 429، ونهاية المحتاج 8 / 281، وروضة الطالبين 11 / 228، وحاشية القليوبي 4 / 320.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 352 - 4 / 449.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 339، والشرح الصغير 2 / 502.
(4) نهاية المحتاج 8 / 281، وكف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع بهامش الزواجر عن اقتراف الكبائر 1 / 96 - 97.

(38/175)


كَالْمِزْمَارِ فَقَال: أَكْرَهُهُ (1) .

و الضَّرْبُ بِالْقَضِيبِ
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الضَّرْبِ عَلَى الْقَضِيبِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّ ضَرْبَ الْقَضِيبِ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الاِسْتِمَاعُ إِِلَى الْمَلاَهِي مَعْصِيَةٌ وَالْجُلُوسُ عَلَيْهَا فِسْقٌ وَالتَّلَذُّذُ بِهَا كُفْرٌ (2) وَالْمَقْصُودُ بِالْكُفْرِ كُفْرُ النِّعْمَةِ (3) .
وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الضَّرْبِ بِالْقَضِيبِ عَلَى الْوَسَائِدِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ، لأَِنَّهُ لاَ يُفْرَدُ عَنِ الْغِنَاءِ وَلاَ يُطْرِبُ وَحْدَهُ وَإِِِنَّمَا يَزِيدُ الْغِنَاءَ طَرَبًا، فَهُوَ تَابِعٌ لِلْغِنَاءِ الْمَكْرُوهِ فَيَكُونُ مَكْرُوهًا.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ حَرَامٌ وَجَرَى عَلَيْهِ الْبَغَوِيُّ وَالْخُرَاسَانِيُونَ (4) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: قَال ابْنُ قُدَامَةَ: الضَّرْبُ بِالْقَضِيبِ مَكْرُوهٌ إِِذَا انْضَمَّ إِِلَيْهِ مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ كَالتَّصْفِيقِ وَالْغِنَاءِ وَالرَّقْصِ، وَإِِِنْ خَلاَ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 183، والإنصاف 8 / 342.
(2) حديث: " الاستماع إلى الملاهي. . " أورده العراقي في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (2 / 269) وعزاه لأبي الشيخ الأصبهاني من حديث مكحول مرسلاً.
(3) الدر المختار ورد المحتار 5 / 223.
(4) كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع بهامش الزواجر عن اقتراف الكبائر 1 / 88.

(38/175)


عَنْ ذَلِكَ لَمْ يُكْرَهْ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِآلَةِ وَلاَ يُطْرِبُ وَلاَ يُسْمَعُ مُنْفَرِدًا بِخِلاَفِ الْمَلاَهِي.
وَقَال فِي الإِِِْنْصَافِ: فِي تَحْرِيمِ الضَّرْبِ بِالْقَضِيبِ وَجْهَانِ، وَجَزَمَ ابْنُ عَبْدُوسٍ بِالتَّحْرِيمِ (1) .

ز - الْعُودُ:
13 - مِنْ مَعَانِي الْعُودِ فِي اللُّغَةِ: كُل خَشَبَةٍ دَقِيقَةً كَانَتْ أَوْ غَلِيظَةً، وَضَرْبٌ مِنَ الطِّيبِ يُتَبَخَّرُ بِهِ، وَآلَةٌ مُوسِيقِيَّةٌ وَتَرِيَّةٌ يُضْرَبُ عَلَيْهَا بِرِيشَةٍ وَنَحْوِهَا، وَالْجَمْعُ أَعْوَادٌ وَعِيدَانٌ، وَالْعَوَّادُ: صَانِعُ الْعِيدَانِ وَالضَّارِبُ عَلَيْهَا.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى تَحْرِيمِ ضَرْبِ الْعُودِ وَاسْتِمَاعِهِ لأَِنَّ الْعُودَ مِنَ الْمَعَازِفِ وَآلاَتِ اللَّهْوِ (3) .
وَقَال الصَّاوِيُّ: ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِِلَى جَوَازِهِ، وَنُقِل سَمَاعَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
__________
(1) المغني 9 / 174، ومطالب أولي النهى 5 / 253.
(2) القاموس المحيط، والمعجم الوسيط، وقواعد الفقه للبركتي، وجامع العلوم في اصطلاحات الفنون 2 / 384، وكف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع بهامش الزواجر 1 / 127 - 128.
(3) رد المحتار 5 / 222، والشرح الصغير 2 / 503، وحاشية القليوبي 4 / 320، وكشاف القناع 5 / 183، وكف الرعاع 1 / 113.

(38/176)


جَعْفَرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَغَيْرِهِمْ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَعَنْ جُمْلَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِِلَى تَحْرِيمِهِ، فَقِيل: كَبِيرَةٌ، وَقِيل: صَغِيرَةٌ، وَالأَْصَحُّ الثَّانِي، وَحَكَى الْمَازِرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَّهُ قَال: إِِذَا كَانَ فِي عُرْسٍ أَوْ صَنِيعٍ فَلاَ تُرَدُّ بِهِ شَهَادَةٌ.
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: إِِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا كَانَ يَخُصُّ الْعُودَ بِالإِِِْبَاحَةِ مِنْ بَيْنِ الأَْوْتَارِ (1) .

ح - الصَّفَّاقَتَانِ
14 - الصَّفَّاقَتَانِ دَائِرَتَانِ مِنْ صُفْرٍ - أَيْ نُحَاسٍ - تَضْرِبُ إِِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى، وَتُسَمَّيَانِ بِالصَّنْجِ أَيْضًا، وَهُمَا مِنْ آلاَتِ الْمَلاَهِي (2) .
وَالْمُعْتَمَدُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُمَا وَاسْتِمَاعَهُمَا حَرَامٌ، لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ الْمُخَنَّثِينَ وَالْفَسَقَةِ، وَشَارِبِي الْخَمْرِ، وَفِي الضَّرْبِ بِهِمَا تَشَبُّهٌ بِهِمْ وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَلأَِنَّ اللَّذَّةَ الْحَاصِلَةَ مِنْهُمَا تَدْعُو إِِلَى فَسَادٍ كَشُرْبِ الْخَمْرِ لاَ سِيَّمَا مَنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِهَا، وَالاِسْتِمَاعُ هُوَ الْمُحَرَّمُ.
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 503، وكف الرعاع 1 / 128.
(2) المصباح المنير، والصحاح، وكف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع بهامش الزواجر عن اقتراف الكبائر 1 / 96.

(38/176)


أَمَّا السَّمَاعُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَلاَ يَحْرُمُ (1) .

ط - بَاقِي الْمَعَازِفِ الْوَتَرِيَّةُ.
15 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى تَحْرِيمِ اسْتِعْمَال الْمَعَازِفِ الْوَتَرِيَّةِ كَالطُّنْبُورِ وَالرَّبَابِ وَالْكَمَنْجَةِ وَالْقَانُونِ وَسَائِرِ الْمَعَازِفِ الْوَتَرِيَّةِ، وَاسْتِعْمَالُهَا هُوَ الضَّرْبُ بِهَا (2) .

تَعَلُّمُ الْمُوسِيقَى
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِِلَى تَحْرِيمِ تَعَلُّمِ الْمَعَازِفِ وَالْمُوسِيقَى وَالإِِِْجَارَةِ عَلَى تَعَلُّمِهَا (3) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْحَقَ الْمَزَامِيرَ وَالْكَنَّارَاتِ - يَعْنِي الْبَرَابِطَ - وَالْمَعَازِفَ وَالأَْوْثَانَ. . . لاَ يَحِل بَيْعُهُنَّ وَلاَ شِرَاؤُهُنَّ وَلاَ تَعْلِيمُهُنَّ (4) .
__________
(1) كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع بهامش الزواجر عن اقتراف الكبائر 1 / 96 وما بعدها، ونهاية المحتاج 8 / 281، وحاشية القليوبي 4 / 320.
(2) نهاية المحتاج 8 / 281، ومغني المحتاج 4 / 429، والمغني 9 / 173، وكشاف القناع 5 / 183، والشرح الصغير 2 / 502، 503، وحاشية ابن عابدين 5 / 223.
(3) الدر المختار ورد المحتار 1 / 30، 32، وجواهر الإكليل 2 / 189، ونهاية المحتاج 8 / 281، ومغني المحتاج 4 / 429، والمغني 9 / 173، وكشاف القناع 5 / 183.
(4) حديث: " إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين. . . " أخرجه أحمد (5 / 257) من حديث أبي أمامة، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (5 / 69) وقال: رواه أحمد والطبراني، وفيه علي بن يزيد وهو ضعيف.

(38/177)


اتِّخَاذُ الْمَعَازِفِ
17 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ اتِّخَاذُ آلَةِ اللَّهْوِ (الْمَعَازِفِ) الْمُحَرَّمَةِ وَلَوْ بِغَيْرِ اسْتِعْمَالٍ لأَِنَّ اتِّخَاذَهَا يَجُرُّ إِِلَى اسْتِعْمَالِهَا، وَقَالُوا: يَحْرُمُ اتِّخَاذُ آلَةٍ مِنْ شِعَارِ الشَّرْبَةِ كَطُنْبُورِ وَعُودٍ وَمِزْمَارٍ عِرَاقِيٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) .

الاِكْتِسَابُ بِالْمَعَازِفِ
18 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِِلَى أَنَّ الاِكْتِسَابَ بِالْمَعَازِفِ لاَ يَطِيبُ، وَيُمْنَعُ مِنْهُ الْمُكْتَسِبُ وَذَلِكَ إِِذَا كَانَ الْغِنَاءُ حِرْفَتَهُ الَّتِي يَكْتَسِبُ بِهَا الْمَال، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ التَّغَنِّيَ لِلَّهْوِ أَوْ لِجَمْعِ الْمَال حَرَامٌ بِلاَ خِلاَفٍ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: فِي الْمُنْتَقَى: امْرَأَةٌ نَائِحَةٌ أَوْ صَاحِبَةُ طَبْلٍ أَوْ زَمْرٍ اكْتَسَبَتْ مَالاً رَدَّتْهُ عَلَى أَرْبَابِهِ إِِنْ عَلِمُوا وَإِِِلاَّ تَتَصَدَّقُ بِهِ، وَإِِِنْ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَهُوَ لَهَا (2) .
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَيُمْنَعُ - أَيِ الْمُحْتَسِبُ - مِنَ التَّكَسُّبِ بِالْكِهَانَةِ وَاللَّهْوِ وَيُؤَدَّبُ عَلَيْهِ الآْخِذُ وَالْمُعْطِي (3) .
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 27، ومغني المحتاج 4 / 429، والمغني 1 / 77.
(2) رد المحتار 5 / 34، 4 382، والفتاوى الهندية 5 / 349.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 258، ومغني المحتاج 4 / 192، وحاشية القليوبي 4 / 205.

(38/177)


الْغِنَاءُ مَعَ الْمَعَازِفِ
19 - الْغِنَاءُ إِِمَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِآلَةِ مُحَرَّمَةٍ مِنْ آلاَتِ الْعَزْفِ أَوْ لاَ يَقْتَرِنَ بِهَا، فَإِِِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِأَيِّ آلَةٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِمَاعٌ ف 16 - 22) .
وَإِِِنِ اقْتَرَنَ الْغِنَاءُ بِآلَةِ مُحَرَّمَةٍ مِنْ آلاَتِ الْعَزْفِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ إِِلَى حُرْمَتِهِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ إِِلَى حُرْمَةِ آلَةِ الْعَزْفِ وَبَقَاءِ الْغِنَاءِ عَلَى الْكَرَاهَةِ (1) .

الاِسْتِمَاعُ إِِلَى الْمَعَازِفِ
30 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّ الاِسْتِمَاعَ إِِلَى الْمَعَازِفِ الْمُحَرَّمَةِ حَرَامٌ، وَالْجُلُوسُ فِي مَجْلِسِهَا حَرَامٌ، قَال مَالِكٌ: أَرَى أَنْ يَقُومَ الرَّجُل مِنَ الْمَجْلِسِ الَّذِي يُضْرَبُ فِيهِ الْكَبَرُ وَالْمِزْمَارُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ اللَّهْوِ (2) ، وَقَال أَصْبَغُ: دَعَا رَجُلٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إِِلَى وَلِيمَةٍ، فَلَمَّا جَاءَ سَمِعَ لَهْوًا فَلَمْ يَدْخُل فَقَال: مَا لَكَ؟ فَقَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) فتح القدير 6 / 36، ومواهب الجليل 6 / 153، وروضة الطالبين 11 / 228، ومغني المحتاج 4 / 428، وكشاف القناع 6 / 422، وحاشية الجمل 5 / 380 - 381، ونهاية المحتاج 8 / 281.
(2) رد المحتار 5 / 221، ومواهب الجليل 6 / 8، وروضة الطالبين 11 / 228، وكشاف القناع 5 / 183.

(38/178)


يَقُول: مَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَمَنْ رَضِيَ عَمَل قَوْمٍ كَانَ شَرِيكًا لِمَنْ عَمِلَهُ (1) .
بَل إِِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ نَصَّ عَلَى أَنَّ مَنْ يَسْتَمِعُ الْمَعَازِفَ الْمُحَرَّمَةَ فَاسِقٌ، قَال ابْنُ الْقَيِّمِ:
الْعُودُ وَالطُّنْبُورُ وَسَائِرُ الْمَلاَهِي حَرَامٌ، وَمُسْتَمِعُهَا فَاسِقٌ (2) .

شَهَادَةُ الْعَازِفِ وَالْمُسْتَمِعِ لِلْمَعَازِفِ
21 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْعَازِفِ أَوِ الْمُسْتَمِعِ لِلْمَعَازِفِ الْمُحَرَّمَةِ كَالْمَزَامِيرِ وَالطَّنَابِيرِ وَالصَّنْجِ وَغَيْرِهَا (3) .

التَّدَاوِي بِاسْتِمَاعِ الْمَعَازِفِ
22 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِِلَى جَوَازِ التَّدَاوِي بِاسْتِمَاعِ الْمَعَازِفِ الْمُحَرَّمَةِ لِلضَّرُورَةِ.
قَال الرَّمْلِيُّ: لَوْ أَخْبَرَ طَبِيبَانِ عَدْلاَنِ بِأَنَّ الْمَرِيضَ لاَ يَنْفَعُهُ لِمَرَضِهِ إِِلاَّ الْعُودُ عُمِل بِخَبَرِهِمَا، وَحَل لَهُ اسْتِمَاعُهُ، كَالتَّدَاوِي بِنَجِسِ فِيهِ الْخَمْرُ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَل قَوْل
__________
(1) حديث: " من كَثَّرَ سواد قوم فهو منهم. . " أورده ابن حجر في المطالب العالية (2 / 42) وعزاه إلى أبي يعلى، ونقل محققه عن البوصيري أنه حكم على سنده بالانقطاع.
(2) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 1 / 248.
(3) الدر المختار بهامش رد المحتار 4 / 382، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 166 - 167، وشرح الخرشي 7 / 178، وحاشية الشهاب الرملي بهامش أسنى المطالب 4 / 242، وكشاف القناع 6 / 424.

(38/178)


الْحَلِيمِيَّ: يُبَاحُ اسْتِمَاعُ آلَةِ اللَّهْوِ إِِذَا نَفَعَتْ مِنْ مَرَضٍ، أَيْ لِمَنْ بِهِ ذَلِكَ الْمَرَضُ وَتَعَيَّنَ الشِّفَاءُ فِي سَمَاعِهِ (1) .
وَقَال الشَّبْرَامَلِّسِيُّ: آلَةُ اللَّهْوِ قَدْ يُبَاحُ اسْتِعْمَالُهَا بِأَنْ أَخْبَرَ طَبِيبٌ عَدْلٌ مَرِيضًا بِأَنَّهُ لاَ يُزِيل مَرَضَهُ إِِلاَّ سَمَاعُ الآْلَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إِِلاَّ الآْلَةُ الْمُحَرَّمَةُ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ التَّدَاوِي بِصَوْتِ مَلْهَاةٍ وَغَيْرِهِ كَسَمَاعِ الْغِنَاءِ وَالْمُحَرَّمِ (3) لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلاَ تَدَاوَوْا بِالْحَرَامِ (4) .

الْوَصِيَّةُ بِالطَّبْل
23 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ الشَّخْصَ لَوْ أَوْصَى بِطَبْلٍ، وَلَهُ طَبْل لَهْوٍ لاَ يَصْلُحُ لِمُبَاحٍ، وَطَبْلٌ يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهِ، كَطَبْل حَرْبٍ يُقْصَدُ بِهِ التَّهْوِيل، أَوْ طَبْل حَجِيجٍ يُقْصَدُ بِهِ الإِِِْعْلاَمُ بِالنُّزُول وَالرَّحِيل، أَوْ غَيْرُهُمَا، - غَيْرَ الْكُوبَةِ الْمُحَرَّمَةِ - حُمِلَتِ الْوَصِيَّةُ عَلَى مَا يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهِ لِتَصِحَّ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ قَصْدُهُ لِلثَّوَابِ، وَهُوَ فِيمَا تَصِحُّ بِهِ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 281.
(2) حاشية الشبراملسي مع نهاية المحتاج 3 / 385.
(3) كشاف القناع 2 / 76.
(4) حديث: " ولا تداووا بالحرام " أخرجه أبو داود (4 / 207) من حديث أبي الدرداء وقال المناوي في فيض القدير (2 / 216) : فيه إسماعيل بن عياش، وفيه مقال.

(38/179)


الْوَصِيَّةُ، فَإِِِنْ صَلَحَ لِمُبَاحٍ تَخَيَّرَ الْوَارِثُ، فَإِِِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِِلاَّ طُبُولٌ لاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهَا لَغَتْ، وَلَوْ أَوْصَى بِطَبْل اللَّهْوِ لَغَتِ الْوَصِيَّةُ لأَِنَّهُ مَعْصِيَةٌ - إِِلاَّ إِِنْ صَلَحَ لِحَرْبٍ أَوْ حَجِيجٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ أُخْرَى مُبَاحَةٍ، لإِِِِمْكَانِ تَصْحِيحِ الْوَصِيَّةِ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُهَا، وَسَوَاءٌ صَلَحَ عَلَى هَيْئَتِهِ أَمْ بَعْدَ تَغَيُّرٍ يَبْقَى مَعَهُ اسْمُ الطَّبْل، فَإِِِنْ لَمْ يَصْلُحْ إِِلاَّ بِزَوَال اسْمِ الطَّبْل لَغَتِ الْوَصِيَّةُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَإِِِنْ وَصَّى بِدُفٍّ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَعْلِنُوا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ (2) ، وَلاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِمِزْمَارٍ وَلاَ طُنْبُورٍ وَلاَ عُودٍ مِنْ عِيدَانِ اللَّهْوِ لأَِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ فِيهِ الأَْوْتَارُ أَوْ لَمْ تَكُنْ، لأَِنَّهُ مُهَيَّأٌ لِفِعْل الْمَعْصِيَةِ دُونَ غَيْرِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَتْ فِيهِ أَوْتَارٌ (3) .

بَيْعُ الْمَعَازِفِ
24 - لاَ يَصِحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - بَيْعُ الْمَعَازِفِ الْمُحَرَّمَةِ كَالطُّنْبُورِ
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 52، ومغني المحتاج 3 / 46، والمغني 6 / 152 - 153.
(2) حديث: " أعلنوا النكاح. . " سبق تخريجه ف 7.
(3) المغني لابن قدامة 6 / 153.

(38/179)


وَالصَّنْجِ وَالْمِزْمَارِ وَالرَّبَابِ وَالْعُودِ، (1) لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْحَقَ الْمَزَامِيرَ وَالْكَفَّارَاتِ - يَعْنِي الْبَرَابِطَ - وَالْمَعَازِفَ. . .، لاَ يَحِل بَيْعُهُنَّ وَلاَ شِرَاؤُهُنَّ وَلاَ تَعْلِيمُهُنَّ وَلاَ التِّجَارَةُ فِيهِنَّ، وَأَثْمَانُهُنَّ حَرَامٌ لِلْمُغَنِّيَاتِ. (2)
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَصِحُّ بَيْعُ آلاَتِ الْعَزْفِ الْمُحَرَّمَةِ إِِنْ عُدَّ رُضَاضُهَا - أَيْ مُكَسَّرُهَا - مَالاً، لأَِنَّ فِيهَا نَفْعًا مُتَوَقَّعًا، أَيْ مِنْ هَذَا الرُّضَاضِ الْمُتَقَوِّمِ، كَمَا يَصِحُّ بَيْعُ الْجَحْشِ الصَّغِيرِ الَّذِي لاَ نَفْعَ مِنْهُ فِي الْحَال (3) وَيَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْعُ الْمَعَازِفِ لأَِنَّهَا أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ، لِصَلاَحِيَّتِهَا لِلاِنْتِفَاعِ بِهَا لِغَيْرِ اللَّهْوِ، كَالأَْمَةِ الْمُغَنِّيَةِ، حَيْثُ تَجِبُ قِيمَتُهَا غَيْرَ صَالِحَةٍ لِهَذَا الأَْمْرِ. (4)
أَمَّا الْمَعَازِفُ الْمُبَاحَةُ كَالنَّفِيرِ وَالطُّبُول غَيْرِ الدَّرَبُكَّةِ فَإِِِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا. (5)

إِِجَارَةُ الْمَعَازِفِ
25 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّ اسْتِئْجَارَ آلَةِ اللَّهْوِ
__________
(1) رد المحتار 5 / 134، والشرح الصغير 3 / 22، ومغني المحتاج 2 / 11، ونهاية المحتاج 3 / 383، وكشاف القناع 3 / 155، والحسبة لابن الإخوة ص 89.
(2) حديث: " إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين. . . ". تقدم تخريجه ف 5.
(3) مغني المحتاج 2 / 12، وحاشية الجمل 3 / 27.
(4) رد المحتار 5 / 134 - 135.
(5) حاشية الجمل 3 / 26.

(38/180)


الْمُحَرَّمَةِ (الْمَعَازِفِ الْمُحَرَّمَةِ) لاَ يَجُوزُ لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ غَيْرُ مُبَاحَةٍ وَيَحْرُمُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهَا، لأَِنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإِِِْجَارَةِ أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مُبَاحَةً، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ كِرَاؤُهَا فِي النِّكَاحِ وَالرَّاجِحُ الْحُرْمَةُ.
أَمَّا الْمَعَازِفُ غَيْرُ الْمُحَرَّمَةِ فَيَجُوزُ كِرَاؤُهَا. (1)

إِِعَارَةُ الْمَعَازِفِ
26 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْمُسْتَعَارِ كَوْنُهُ مُنْتَفَعًا بِهِ انْتِفَاعًا مُبَاحًا مَقْصُودًا، فَلاَ يَجُوزُ إِِعَارَةُ مَا لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا مُبَاحًا شَرْعًا كَالْمَعَازِفِ وَآلاَتِ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمَةِ. (2)

إِِبْطَال الْمَعَازِفِ
27 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّ آلاَتِ اللَّهْوِ وَالْمَعَازِفَ الْمُبَاحَةَ لاَ يَجُوزُ إِِبْطَالُهَا أَوْ كَسْرُهَا بَل يَحْرُمُ.
أَمَّا آلاَتُ الْعَزْفِ وَالْمَلاَهِي الْمُحَرَّمَةُ
__________
(1) الدر المختار مع رد المحتار 5 / 34، والفتاوى البزازية مع الفتاوى الهندية 5 / 41، والشرح الصغير 4 / 10 - 11، وحاشية الدسوقي 4 / 18، والمهذب 1 / 394، ومغني المحتاج 2 / 335، كشاف القناع 3 / 559.
(2) الشرح الصغير 3 / 572، ونهاية المحتاج 5 / 119، والمغني 5 / 225.

(38/180)


الاِسْتِعْمَال فَلاَ حُرْمَةَ لِصَنْعَتِهَا وَلاَ لِمَنْفَعَتِهَا، وَأَنَّهُ يَجِبُ إِِبْطَالُهَا (1) ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: بُعِثْتُ بِهَدْمِ الْمِزْمَارِ وَالطَّبْل، (2) وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَمَرَنِي اللَّهُ بِمَحْقِ الْقَيْنَاتِ وَالْمَعَازِفِ. (3)
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ كَيْفِيَّةَ إِِبْطَال الْمَعَازِفِ الْمُحَرَّمَةِ فَقَالُوا: الأَْصَحُّ أَنَّهَا لاَ تُكْسَرُ الْكَسْرَ الْفَاحِشَ لإِِِِمْكَانِ إِِزَالَةِ الْهَيْئَةِ الْمُحَرَّمَةِ مَعَ بَقَاءِ بَعْضِ الْمَالِيَّةِ، نَعَمْ لِلإِِِْمَامِ ذَلِكَ زَجْرًا وَتَأْدِيبًا، وَإِِِنَّمَا تُفْصَل لِتَعُودَ كَمَا قَبْل التَّأْلِيفِ لِزَوَال اسْمِهَا وَهَيْئَتِهَا الْمُحَرَّمَةِ بِذَلِكَ.
وَالْقَوْل الثَّانِي - مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ - أَنَّهُ لاَ يَجِبُ تَفْصِيل الْجَمِيعِ بَل بِقَدْرِ مَا لاَ يَصْلُحُ لِلاِسْتِعْمَال، فَلاَ تَكْفِي إِِزَالَةُ الأَْوْتَارِ فَقَطْ لأَِنَّهَا مُنْفَصِلَةٌ عَنْهَا.
وَالثَّالِثُ: تُكْسَرُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِِلَى حَدٍّ لاَ يُمْكِنُ اتِّخَاذُ آلَةٍ مُحَرَّمَةٍ.
__________
(1) الدر المختار 5 / 135، وتكملة فتح القدير 7 / 405، وشرح المحلي والقليوبي 3 / 33، وكف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع 1 / 12، والمغني والشرح الكبير 5 / 446، وإغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 1 / 248.
(2) حديث: " بعثت بهدم المزمار والطبل ". رواه ابن الجوزي في تلبيس إبليس ص 323 وأشار ابن حجر في التهذيب (6 / 51) إلى تضعيف روايته لهذا الحديث.
(3) حديث: " أمرني الله بمحق القينات والمعازف ". تقدم بمعناه في فقرة (5) .

(38/181)


وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَعَازِفَ وَآلاَتِ اللَّهْوِ الْمَمْلُوكَةَ لِذِمِّيِّ لاَ تَبْطُل لأَِنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى الاِنْتِفَاعِ بِمِثْلِهَا، إِِلاَّ أَنْ يَسْمَعَهَا مَنْ لَيْسَ بِدَارِهِمْ أَيْ مَحَلَّتِهِمْ، حَيْثُ كَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَإِِِنِ انْفَرَدُوا بِمَحَلَّةِ مِنَ الْبَلَدِ، فَإِِِنِ انْفَرَدُوا بِبَلَدٍ أَيْ بِأَنْ لَمْ يُخَالِطْهُمْ مُسْلِمٌ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُمْ. (1)

ضَمَانُ الْمَعَازِفِ
28 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّ آلاَتِ اللَّهْوِ (الْمَعَازِفَ) الْمُبَاحَةَ كَطَبْل الْغُزَاةِ وَالدُّفِّ الَّذِي يُبَاحُ ضَرْبُهُ وَاسْتِمَاعُهُ فِي الْعُرْسِ يَحْرُمُ كَسْرُهَا، وَتُضْمَنُ إِِنْ كُسِرَتْ أَوْ أُتْلِفَتْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِِلَى أَنَّ الْمَعَازِفَ الْمُحَرَّمَةَ لاَ يَجِبُ فِي إِِبْطَالِهَا شَيْءٌ، لأَِنَّ مَنْفَعَتَهَا مُحَرَّمَةٌ وَالْمُحَرَّمُ لاَ يُقَابَل بِشَيْءِ، مَعَ وُجُوبِ إِِبْطَالِهَا عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهِ. (2)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِِتْلاَفٌ ف 12 وَضَمَانٌ ف 140) .

سَرِقَةُ الْمَعَازِفِ
29 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ أَوْ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 285، ونهاية المحتاج 5 / 166، 168، وحاشية القليوبي 3 / 33.
(2) رد المحتار 5 / 135، وتكملة فتح القدير 7 / 405، ونهاية المحتاج 5 / 166 - 167، ومغني المحتاج 2 / 285، والمغني والشرح الكبير 5 / 445 - 446.

(38/181)


عَدَمِ إِِقَامَتِهِ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ الْمَعَازِفَ الْمُحَرَّمَةَ أَوْ غَيْرَهَا. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِِلَى أَنَّ سَارِقَ الْمَعَازِفِ (آلاَتِ اللَّهْوِ) لاَ تُقْطَعُ يَدُهُ، وَاخْتَلَفَ تَفْصِيلُهُمْ وَتَعْلِيلُهُمْ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ قَطْعَ فِي جَمِيعِ آلاَتِ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمَةِ، لأَِنَّهَا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ لاَ قِيمَةَ بِهَا بِدَلِيل أَنَّ مُتْلِفَهَا لاَ يَضْمَنُهَا، وَلأَِنَّهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - وَإِِِنْ كَانَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى مُتْلِفِهَا فَهِيَ مُتَقَوِّمَةٌ - لَكِنَّ آخِذَهَا يَتَأَوَّل الْكَسْرَ فِيهَا فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً تَدْرَأُ حَدَّ السَّرِقَةِ وَهُوَ الْقَطْعُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي طَبْل الْغُزَاةِ، فَقِيل: يُقْطَعُ سَارِقُهُ لأَِنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ لَيْسَ مَوْضُوعًا لِلَّهْوِ فَلَيْسَ آلَةَ لَهْوٍ، وَاخْتَارَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ - وَهُوَ الأَْصَحُّ - عَدَمَ وُجُوبِ الْقَطْعِ بِسَرِقَتِهِ لأَِنَّهُ يَصْلُحُ لِلَّهْوِ وَإِِِنْ كَانَ وَضْعُهُ لِغَيْرِهِ، أَيْ أَنَّهُ كَمَا يَصْلُحُ لِلْغَزْوِ يَصْلُحُ لِلَّهْوِ، فَصَارَتْ صَلاَحِيَّتُهُ لِلَّهْوِ شُبْهَةً تَمَكَّنَتْ فِيهِ فَدَرَأَتِ الْقَطْعَ. (1)
__________
(1) فتح القدير وشرح العناية على الهداية بهامش فتح القدير 4 / 232، والدر المختار بهامش رد المحتار 3 / 198.

(38/182)


وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ قَطْعَ بِسَرِقَةِ آلَةِ لَهْوٍ كَطُنْبُورٍ وَمِزْمَارٍ وَشَبَّابَةٍ وَإِِِنْ بَلَغَتْ قِيمَةُ مَا ذُكِرَ مُفَصَّلاً نِصَابًا، لأَِنَّهُ مَعْصِيَةٌ إِِجْمَاعًا فَلَمْ يُقْطَعْ بِسَرِقَتِهِ كَالْخَمْرِ، وَلاَ يُقْطَعُ أَيْضًا بِمَا عَلَى آلَةِ اللَّهْوِ مِنْ حُلِيٍّ وَلَوْ بَلَغَ نِصَابًا لأَِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِمَا لاَ قَطْعَ فِيهِ وَتَابِعٌ لَهُ أَشْبَهَ الْخَشَبَ. (1)
وَالْقَائِلُونَ بِمُقَابِل الأَْصَحِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَّلُوا قَوْلَهُمْ بِأَنَّ الشَّارِعَ سَلَّطَ عَلَى كَسْرِ مَا حَرُمَ مِنْ آلاَتِ اللَّهْوِ كَالطُّنْبُورِ وَالْمِزْمَارِ وَغَيْرِهِمَا، وَالتَّوَصُّل إِِلَى إِِزَالَةِ الْمَعْصِيَةِ مَنْدُوبٌ إِِلَيْهِ، فَصَارَ ذَلِكَ شُبْهَةً دَارِئَةً لِحَدِّ السَّرِقَةِ. (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِِلَى أَنَّهُ لاَ قَطْعَ بِسَرِقَةِ الطُّنْبُورِ وَالْعُودِ وَالْمَزَامِيرِ وَنَحْوِهَا مِنْ آلاَتِ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمَةِ إِِلاَّ أَنْ تُسَاوِيَ بَعْدَ كَسْرِهَا - أَيْ إِِفْسَادِ صُورَتِهَا وَإِِِذْهَابِ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ بِهَا - نِصَابًا، لأَِنَّ السَّارِقَ عِنْدَئِذٍ يَكُونُ قَدْ سَرِقَ نِصَابًا مِنْ حِرْزِهِ.
__________
(1) كشاف القناع 6 / 130 - 131.
(2) مغني المحتاج 4 / 160، وأسنى المطالب 4 / 139.

(38/182)


لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ اخْتَلَفُوا فِي الْكَسْرِ الْمُعْتَبَرِ فِي تَقْوِيمِ الْمَسْرُوقِ، هَل يَكْفِي فِي اعْتِبَارِ قِيمَتِهِ تَقْدِيرُ كَسْرِهِ وَإِِِنْ لَمْ يُكْسَرْ بِالْفِعْل، أَمْ لاَ بُدَّ مِنْ كَسْرِهِ بِالْفِعْل وَلاَ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بِتَقْدِيرِ كَسْرِهِ؟ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَكْفِي فِي اعْتِبَارِ قِيمَتِهِ تَقْدِيرُ كَسْرِهِ إِِذْ قَدْ تُفْقَدُ عَيْنُهُ لَوْ كُسِرَ بِالْفِعْل، وَذَهَبَ الزُّرْقَانِيُّ إِِلَى أَنَّهُ لاَ قَطْعَ فِي الْمَسْرُوقِ مِنْ هَذِهِ الْمَعَازِفِ إِِلاَّ أَنْ يُسَاوِيَ بَعْدَ كَسْرِهِ بِالْفِعْل نِصَابًا. (1)

مُعَاشَرَةٌ

انْظُرْ: عِشْرَةٌ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 336، وشرح الزرقاني 8 / 97.

(38/183)


مُعَاطَاةٌ

انْظُرْ: تَعَاطِي

مَعَاقِلٌ

انْظُرْ: عَاقِلَةٌ

(38/183)


مُعَانَقَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُعَانَقَةُ لُغَةً: مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْعُنُقِ، وَمَعْنَاهَا: الضَّمُّ وَالاِلْتِزَامُ، يُقَال: عَانَقَهُ مُعَانَقَةً وَعِنَاقًا: أَدْنَى عُنُقَهُ مِنْ عُنُقِهِ وَضَمَّهُ إِِلَى صَدْرِهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمُصَافَحَةُ:
2 - الْمُصَافَحَةُ فِي اللُّغَةِ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ الصَّفْحِ، يُقَال: صَافَحْتُهُ مُصَافَحَةً: أَفْضَيْتُ بِيَدِي إِِلَى يَدِهِ. (3)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: إِِلْصَاقُ صَفْحَةِ الْكَفِّ بِالْكَفِّ وَإِِِقْبَال الْوَجْهِ بِالْوَجْهِ. (4)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُصَافَحَةِ وَالْمُعَانَقَةِ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ آدَابِ التَّلاَقِي.
__________
(1) المصباح المنير والمعجم الوسيط.
(2) كفاية الطالب الرباني 2 / 437 ط. دار المعرفة، وقواعد الفقه للبركتي.
(3) المصباح المنير.
(4) الدر المختار مع رد المحتار 5 / 244.

(38/184)


الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُعَانَقَةِ:
أ - مُعَانَقَةُ الرَّجُل لِلرَّجُل
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ إِِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ مُعَانَقَةُ الرَّجُل لِلرَّجُل إِِذَا كَانَ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَمِيصٌ أَوْ جُبَّةٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْمُعَانَقَةِ فِي إِِزَارٍ وَاحِدٍ، وَالْمَذْهَبُ كَرَاهَةُ الْمُعَانَقَةِ فِي إِِزَارٍ وَاحِدٍ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ بَأْسَ بِالْمُعَانَقَةِ فِي إِِزَارٍ وَاحِدٍ. (1)
قَال الْخَادِمِي: وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْمُعَانَقَةِ، وَأَحَادِيثُ فِي تَجْوِيزِهَا، وَوَفَّقَ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ بَيْنَهُمَا فَقَال: الْمَكْرُوهُ مِنْهَا مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ، وَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ وَالْكَرَامَةِ، فَجَائِزٌ. (2)
وَكَرِهَ مَالِكٌ الْمُعَانَقَةَ كَرَاهَةً تَنْزِيهِيَّةً لأَِنَّهَا مِنْ فِعْل الأَْعَاجِمِ، وَلَمْ يَرِدْ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَعَلَهَا إِِلاَّ مَعَ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، (3) وَلَمْ يَجْرِ الْعَمَل بِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، (4) قَال الْعَدَوِيُّ: لاَ يَخْفَى أَنَّ مُفَادَ النَّقْل عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةُ الْمُعَانَقَةِ
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 5 / 244.
(2) بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية 1 / 318، وانظر الفواكه الدواني 2 / 425.
(3) حديث: " معانقة رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعفر " أخرجه الحاكم (1 / 319) وصححه ووافقه الذهبي.
(4) الفواكه الدواني 2 / 425.

(38/184)


وَلَوْ مَعَ الأَْهْل وَنَحْوِهِمْ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِِلَى أَنَّ الْمُعَانَقَةَ مَكْرُوهَةٌ إِِلاَّ لِقَادِمٍ مِنْ سَفَرٍ، أَوْ تَبَاعُدِ لِقَاءٍ فَسُنَّةٌ لِلاِتِّبَاعِ. (2)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِِلَيْهِ مِنْ كَرَاهَةِ مُعَانَقَةِ الرَّجُلَيْنِ بِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال قَال رَجُلٌ: يَا رَسُول اللَّهِ الرَّجُل مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَال: لاَ، قَال: أَفَيَلْتَزِمُهُ - أَيْ يَعْتَنِقُهُ - وَيُقَبِّلُهُ؟ قَال: لاَ، قَال: فَيَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ؟ قَال: نَعَمْ، (3) وَصَرَّحَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ هُنَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مُعَانَقَةِ الْقَادِمِ مِنْ سَفَرٍ (4) بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي، فَأَتَاهُ فَقَرَعَ الْبَابَ، فَقَامَ إِِلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . . فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ. (5)
__________
(1) حاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 437 ط. دار المعرفة، والمدخل لابن الحاج 2 / 295.
(2) مغني المحتاج 3 / 135.
(3) حديث: قال رجل: " يا رسول الله منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ . . . " رواه الترمذي: 5 / 70 - 71 وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(4) الفتوحات الربانية 5 / 389 - 390.
(5) حديث: عائشة - رضي الله تعالى عنها -: " قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي. . . " رواه الترمذي (5 / 72) ، وقال: هذا حسن غريب لا نعرفه من حديث الزهري إلا من هذا الوجه.

(38/185)


وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تُبَاحُ الْمُعَانَقَةُ وَتَقْبِيل الْيَدِ وَالرَّأْسِ تَدَيُّنًا وَإِِِكْرَامًا وَاحْتِرَامًا مَعَ أَمْنِ الشَّهْوَةِ، قَال ابْنُ مُفْلِحٍ: ظَاهِرُ هَذَا عَدَمُ إِِبَاحَتِهِ لأَِمْرِ الدُّنْيَا. (1)
وَقَال إِِسْحَاقُ بْنُ إِِبْرَاهِيمَ: إِِنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ احْتَجَّ فِي الْمُعَانَقَةِ بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَانَقَهُ. (2)
وَقَال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الرَّجُل يَلْقَى الرَّجُل يُعَانِقُهُ؟ قَال: نَعَمْ فَعَلَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ (3) .

ب - مُعَانَقَةُ الأَْمْرَدِ
4 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ تَحْرُمُ مُعَانَقَةُ الأَْمْرَدِ. (4)

ج - مُعَانَقَةُ ذِي عَاهَةٍ
5 - صَرَّحَ الْقَلْيُوبِيُّ بِأَنَّهُ تُكْرَهُ مُعَانَقَةُ ذِي عَاهَةٍ كَبَرَصٍ وَجُذَامٍ. (5)

د - مُعَانَقَةُ الصَّائِمِ
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ إِِلَى كَرَاهَةِ مُعَانَقَةِ الزَّوْجَةِ فِي حَالَةِ الصَّوْمِ إِِنْ لَمْ يَأْمَنِ
__________
(1) مطالب أولي النهى 1 / 943، وكشاف القناع 2 / 156، والآداب الشرعية 2 / 270.
(2)) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم عانق أبا ذر. " أخرجه أبو داود (5 / 389 - 390) وذكر المنذري في مختصر السنن (8 / 82) أن في إسناده جهالة.
(3) الآداب الشرعية 2 / 272، ومسائل الإمام أحمد برواية ابن هانئ 2 / 183.
(4) القليوبي 3 / 213.
(5) حاشية القليوبي 3 / 213.

(38/185)


الْمُفْسِدَ، وَهُوَ الإِِِْنْزَال أَوِ الْجِمَاعُ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الصَّوْمِ لِلْفَسَادِ بِعَاقِبَةِ الْفِعْل.
وَأَمَّا إِِذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ الْمُفْسِدَ فَلاَ بَأْسَ بِالْمُعَانَقَةِ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ الْمُعَانَقَةُ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ لِمَنْ تُحَرِّكُ شَهْوَتَهُ، فَفِي الْحَدِيثِ مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْل الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، (2) وَالْكَرَاهَةُ هِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ فِي الأَْصَحِّ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ عَنِ التَّتِمَّةِ وَجْهَيْنِ: التَّحْرِيمَ وَالتَّنْزِيهَ. (3)

هـ - أَثَرُ الْمُعَانَقَةِ فِي فَسَادِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
7 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ عَانَقَ الْمُحْرِمُ امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إِِلاَّ إِِذَا أَنْزَل فَيَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ، وَلاَ تَفْسُدُ حَجَّتُهُ وَلاَ عُمْرَتُهُ. (4)

و أَثَرُ الْمُعَانَقَةِ فِي نَشْرِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ
8 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمُعَانَقَةَ عَنْ شَهْوَةٍ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 112 - 113 ومراقي الفلاح مع الطحطاوي ص 372.
(2) حديث: " من وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه " رواه البخاري (فتح الباري 1 / 126) ومسلم (3 / 1220) من حديث النعمان بن بشير واللفظ للبخاري.
(3) شرح المحلي مع حاشية عميرة 2 / 58 - 59.
(4) الفتاوى الهندية 1 / 244.

(38/186)


كَالْقُبْلَةِ فِي نَشْرِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ (1) فَمَنْ عَانَقَ أُمَّ امْرَأَتِهِ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ مَا لَمْ يُظْهِرْ عَدَمَ الشَّهْوَةِ. (2)
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَيْضِ: لَوْ قَامَ إِِلَيْهَا وَعَانَقَهَا مُنْتَشِرًا، أَوْ قَبَّلَهَا وَقَال: لَمْ يَكُنْ عَنْ شَهْوَةٍ لاَ يُصَدَّقُ، وَلَوْ قَبَّل وَلَمْ تَنْتَشِرْ آلَتُهُ وَقَال: كَانَ عَنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ يُصَدَّقُ، وَقِيل: لاَ يُصَدَّقُ لَوْ قَبَّلَهَا عَلَى الْفَمِ، وَبِهِ يُفْتَى، ثُمَّ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: فَهَذَا كَمَا تَرَى صَرِيحٌ فِي تَرْجِيحِ التَّفْصِيل. (3)

مُعَاهِدٌ

انْظُرْ: عَهْدٌ.

مُعَاهَدَةٌ

انْظُرْ: هُدْنَةٌ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 274.
(2) الدر المختار 2 / 282.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 282.

(38/186)


مُعَاوَضَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُعَاوَضَةُ فِي اللُّغَةِ: أَخْذُ شَيْءٍ مُقَابِل شَيْءٍ أَوْ إِِعْطَاؤُهُ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. (2)

حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ
2 - الْمُعَاوَضَةُ مَشْرُوعَةٌ إِِذَا كَانَ عَقْدُهَا صَادِرًا عَمَّنْ يَمْلِكُ هَذَا التَّصَرُّفَ فِيمَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اعْتِيَاضٌ ف 2) .

أَقْسَامُ الْمُعَاوَضَةِ
3 - تَنْقَسِمُ الْمُعَاوَضَةُ إِِلَى: مَحْضَةٍ وَغَيْرِ مَحْضَةٍ.
فَالْمَحْضَةُ مِنْهَا: هِيَ الَّتِي يُقْصَدُ فِيهَا الْمَال مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَغَيْرُ الْمَحْضَةِ مَا كَانَ الْمَال فِيهَا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ.
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس بتصرف بسيط.
(2) مغني المحتاج 2 / 2، وأحكام القرآن للجصاص ص 294، وحاشية الدسوقي 3 / 2.

(38/187)


وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اعْتِيَاضٌ ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) .

ثُبُوتُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ
4 - يَثْبُتُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَذَلِكَ بِمَا إِِذَا كَانَتِ الْمُعَاوَضَةُ مَحْضَةً، وَوَقَعَتْ عَلَى عَيْنٍ، وَكَانَتْ لاَزِمَةً مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَلَيْسَ فِيهَا تَمْلِيكٌ قَهْرِيٌّ، وَلَيْسَتْ جَارِيَةً مَجْرَى الرُّخَصِ.
فَلاَ تَثْبُتُ فِي الْهِبَةِ وَلاَ الإِِِْبْرَاءِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا مُعَاوَضَةٌ وَلاَ صُلْحُ الْحَطِيطَةِ، لأَِنَّهُ إِِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ دَيْنٍ فَهُوَ إِِبْرَاءٌ، وَإِِِنْ وَقَعَ فِي عَيْنٍ فَهُوَ هِبَةٌ، وَلاَ تَثْبُتُ فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُمَا لَيْسَ بِمَالٍ أَصَالَةً وَلاَ يَفْسُدَانِ بِفَسَادِ الْمُقَابِل، وَلاَ تَثْبُتُ فِي الإِِِْجَارَةِ لأَِنَّهَا غَيْرُ وَاقِعَةٍ عَلَى عَيْنٍ، وَلاَ الشَّرِكَةِ وَالْقِرَاضِ وَالْكِتَابَةِ لأَِنَّ الأُْولَيَيْنِ جَائِزَتَانِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَالأُْخْرَيَيْنِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، وَلأَِنَّهُ لاَ مَعْنَى لِثُبُوتِ الْخِيَارِ فِيمَا هُوَ جَائِزٌ وَلَوْ فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ. (1)
__________
(1) حاشية البجيرمي على المنهج 2 / 232، وحاشية قليوبي 2 / 190، وتحفة المحتاج 4 / 335 - 336.

(38/187)


الرُّجُوعُ عَنْ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لإِِِِفْلاَسِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ
5 - إِِذَا حُجِرَ عَلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ قَبْل قَبْضِ الْعِوَضِ بِإِِِفْلاَسِ، فَلِلآْخَرِ الرُّجُوعُ بِالْقَوْل فَوْرًا بِشُرُوطٍ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِِفْلاَسٌ ف 27 وَمَا بَعْدَهَا) .

(38/188)


مُعَايَاةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُعَايَاةُ مَصْدَرُ عَايَا، يُقَال عَايَا فُلاَنٌ: أَتَى بِكَلاَمٍ أَوْ أَمْرٍ لاَ يُهْتَدَى لَهُ، وَعَايَا صَاحِبَهُ: أَلْقَى عَلَيْهِ كَلاَمًا لاَ يُهْتَدَى لِوَجْهِهِ. (1)
وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الْمُعَايَاةَ عَلَى بَعْضِ الْمَسَائِل الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِِلَى إِِعْمَال الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ وَبَذْل الْجَهْدِ بُغْيَةَ الْوُصُول إِِلَى الرَّأْيِ الصَّحِيحِ فِيهَا وَأَحْيَانًا يُطْلِقُونَ عَلَى مِثْل هَذِهِ الْمَسَائِل إِِلْغَازًا فَيَقُولُونَ: يُلْغِزُ بِكَذَا ثُمَّ يَذْكُرُونَ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي يُعَايَى بِهَا أَوْ يُلْغَزُ.
وَاعْتَبَرَ صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ الْمَسْأَلَةَ الأَْكْدَرِيَّةَ فِي الْمِيرَاثِ مِنَ الْمَسَائِل الَّتِي يُعَايَى بِهَا وَعَبَّرَ عَنْهَا الدُّسُوقِيُّ بِالإِِِْلْغَازِ.
وَأَغْلَبُ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ إِِنَّمَا هُوَ فِي مَسَائِل الْمِيرَاثِ، وَإِِِنْ كَانَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ كَابْنِ نُجَيْمٍ عَقَدَ بَابًا سَمَّاهُ فَنُّ الأَْلْغَازِ جَمَعَ فِيهِ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَسَائِل فِي أَغْلَبِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ مِنْ عِبَادَاتٍ وَمُعَامَلاَتٍ. (2)
__________
(1) المعجم الوسيط.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 410، 411، والأشباه لابن نجيم ص 394 وما بعدها، والدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 465 و1 / 58، 339، وحاشية البيجوري على ابن قاسم 1 / 196، وكشاف القناع 4 / 410، والاختيار 5 / 130.

(38/188)


بَعْضُ أَمْثِلَةِ الْمُعَايَاةِ:
2 - ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَمْثِلَةً عِدَّةً فِي كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ وَمِنْ ذَلِكَ:

فِي الصَّلاَةِ:
أَيُّ صَلاَةٍ أَفْسَدَتْ خَمْسًا وَأَيُّ صَلاَةٍ صَحَّحَتْ خَمْسًا؟
وَجَوَابُهَا: رَجُلٌ تَرَكَ صَلاَةً وَصَلَّى بَعْدَهَا خَمْسًا ذَاكِرًا لِلْفَائِتَةِ، فَإِِِنْ قَضَى الْفَائِتَةَ فَسَدَتِ الْخَمْسُ، وَإِِِنْ صَلَّى السَّادِسَةَ قَبْل قَضَائِهَا صَحَّتِ الْخَمْسُ. (1)
فِي الصَّوْمِ:
أَيُّ رَجُلٍ أَفْطَرَ بِلاَ عُذْرٍ وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؟
الْجَوَابُ: مَنْ رَأَى الْهِلاَل وَحْدَهُ وَرَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ. (2)
فِي الزَّكَاةِ:
أَيُّ مَالٍ وَجَبَتْ فِيهِ زَكَاتُهُ ثُمَّ سَقَطَتْ بَعْدَ الْحَوْل وَلَمْ يَهْلِكْ؟
الْجَوَابُ: الْمَوْهُوبُ إِِذَا رَجَعَ لِلْوَاهِبِ بَعْدَ الْحَوْل، وَلاَ زَكَاةَ عَلَى الْوَاهِبِ أَيْضًا. (3)
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 395.
(2) المرجع السابق ص 396.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 395.

(38/189)


فِي النِّكَاحِ:
أَيُّ امْرَأَةٍ أَخَذَتْ ثَلاَثَةَ مُهُورٍ مِنْ ثَلاَثَةِ أَزْوَاجٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ؟
وَالْجَوَابُ: امْرَأَةٌ حَامِلٌ طُلِقَتْ ثُمَّ وَضَعَتْ فَلَهَا كَمَال الْمَهْرِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ وَطُلِقَتْ قَبْل الدُّخُول ثُمَّ تَزَوَّجَتْ فَمَاتَ.
وَذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الأَْلْغَازِ غَيْرَ ذَلِكَ فِي الطَّلاَقِ وَالْعِتَاقِ وَالأَْيْمَانِ وَالْحُدُودِ وَالسِّيَرِ وَالْوَقْفِ وَالْبَيْعِ وَالْقَضَاءِ وَالشَّهَادَاتِ. (1)
3 - وَمِنَ الْمَسَائِل الَّتِي ذَكَرَهَا الْمَالِكِيَّةُ فِي طَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ قَوْلُهُمْ:

قُل لِلْفَقِيهِ إِِمَامِ الْعَصْرِ قَدْ مُزِجَتْ

ثَلاَثَةٌ بِإِِِنَاءٍ وَاحِدٍ نَسَبُوا

لَهَا الطَّهَارَةَ حَيْثُ الْبَعْضُ قُدِّمَ أَوْ

إِِنْ قُدِّمَ الْبَعْضُ فَالتَّنْجِيسُ مَا السَّبَبُ؟

وَالْمَقْصُودُ بِالثَّلاَثَةِ: الْمَاءُ، السُّكَّرُ أَوِ الْعَجِينُ - أَوْ أَيَّ مَادَّةٍ أُخْرَى - النَّجَاسَةُ الْقَلِيلَةُ.
وَتَوْضِيحُ الْمَسْأَلَةِ لأَِنَّ الْمَاءَ إِِذَا حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ قَلِيلَةٌ قَبْل إِِضَافَةِ السُّكَّرِ أَوِ الْعَجِينِ أَوْ غَيْرِهِمَا ثُمَّ أُضِيفَ السُّكَّرُ أَوِ الْعَجِينُ فَإِِِنَّهُ لاَ يَكُونُ نَجِسًا إِِلاَّ إِِذَا تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ فَهُنَا قُدِّمَتِ النَّجَاسَةُ فَحَلَّتْ فِي الْمَاءِ قَبْل إِِضَافَةِ الْمَادَّةِ الأُْخْرَى فَالْمَاءُ طَاهِرٌ.
__________
(1) المصدر السابق ص 397 وما بعدها.

(38/189)


أَمَّا إِذَا أُضِيفَتْ مَادَّةُ السُّكَّرِ أَوِ الْعَجِينِ إِلَى الْمَاءِ ثُمَّ حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ قَلِيلَةٌ فَإِِنَّهُ يَكُونُ نَجِسًا فَهُنَا قُدِّمَ السُّكَّرُ أَوِ الْعَجِينُ عَلَى النَّجَاسَةِ الَّتِي حَلَّتْ. (1)

وَمِنَ الْمَسَائِل الَّتِي ذَكَرَهَا الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ قَوْلُهُمْ: أَخْبَرَنِي عَنْ إِمَامٍ صَلَّى بِقَوْمٍ وَحَصَل لَهُمْ فَضْل الْجَمَاعَةِ وَلَهُ أَنْ يُعِيدَ فِي جَمَاعَةٍ أُخْرَى؟
وَأَصْل الْمَسْأَلَةِ أَنَّ فَضْل الْجَمَاعَةِ عِنْدَ الأَْكْثَرِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يَحْصُل لِلإِِْمَامِ إِلاَّ بِنِيَّةِ الإِِْمَامَةِ وَلَوْ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ فَلَوْ صَلَّى شَخْصٌ مُنْفَرِدًا ثُمَّ جَاءَ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ وَلَمْ يَشْعُرْ هُوَ بِذَلِكَ فَإِِنَّ فَضْل الْجَمَاعَةِ يَحْصُل لِلْمَأْمُومِ دُونَ الإِِْمَامِ وَعَلَى ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يُعِيدَ فِي جَمَاعَةٍ أُخْرَى لِلْحُصُول عَلَى فَضْل الْجَمَاعَةِ. (2)

4 - وَمِنَ الْمَسَائِل الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّلاَةِ قَوْلُهُمْ:
لَنَا شَخْصٌ عَادَ لِسُنَّةٍ لَزِمَهُ فَرْضٌ وَتَوْضِيحُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ سُنَّةٌ وَمَحَلُّهُ قَبْل السَّلاَمِ، فَإِِنْ سَلَّمَ الْمُصَلِّي سَاهِيًا وَقَصُرَ الْفَصْل عُرْفًا فَلَهُ السُّجُودُ بَعْدَ قَصْدِ الْعَوْدِ إِلَى الصَّلاَةِ وَيَتَبَيَّنُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الصَّلاَةِ فَلَوْ شَكَّ فِي تَرْكِ رُكْنٍ حِينَئِذٍ وَجَبَ عَلَيْهِ تَدَارُكُهُ قَبْل السُّجُودِ وَلِذَلِكَ يُلْغَزُ فَيُقَال: عَادَ لِسُنَّةٍ فَلَزِمَهُ فَرْضٌ. (3)
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 58.
(2) المرجع السابق 1 / 339.
(3) حاشية البيجوري 1 / 196.

(38/190)


5 - وَمِنَ الأَْمْثِلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَنَابِلَةُ فِي الطَّهَارَةِ قَالُوا:
مِمَّا يُعَايَى بِهِ: يُسْتَحَبُّ بَقَاءُ الدَّمِ عَلَى جِسْمِ الإِِْنْسَانِ وَتَوْضِيحُ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الدَّمَ نَجِسٌ وَيَجِبُ إِزَالَتُهُ لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ دَمَ الشَّهِيدِ مُخْتَلَفٌ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ وَعَلَى كِلاَ الْقَوْلَيْنِ يُسْتَحَبُّ بَقَاءُ الدَّمِ عَلَيْهِ وَلاَ يُزَال. (1)

مِنْ مَسَائِل الْمِيرَاثِ:
6 - أ - قَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى قَوْمٍ يَقْتَسِمُونَ مِيرَاثًا فَقَال: لاَ تَقْتَسِمُوا فَإِِنَّ لِي امْرَأَةً غَائِبَةً، فَإِِنْ كَانَتْ حَيَّةً وَرِثَتْ هِيَ وَلَمْ أَرِثْ أَنَا، وَإِِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً وَرِثْتُ أَنَا
وَجَوَابُهَا: هَذِهِ امْرَأَةٌ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ أُمًّا وَأُخْتَيْنِ لأَِبَوَيْنِ وَأُخْتًا لأُِمٍّ وَأَخًا لأَِبٍ هُوَ زَوْجُ أُخْتِهَا لأُِمِّهَا، فَلِلأُْخْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَلِلأُْمِّ السُّدُسُ وَلِلأُْخْتِ لأُِمٍّ السُّدُسُ إِنْ كَانَتْ حَيَّةً وَلاَ يَبْقَى لِزَوْجِهَا شَيْءٌ لأَِنَّهُ عَصَبَةٌ فَإِِنَّهُ أَخٌ لأَِبٍ وَإِِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً فَلَهُ الْبَاقِي وَهُوَ السُّدُسُ لأَِنَّهُ عَصَبَةٌ (2) .

ب - امْرَأَةٌ جَاءَتْ إِلَى قَوْمٍ يَقْتَسِمُونَ مِيرَاثًا فَقَالَتْ: لاَ تَقْتَسِمُوا فَإِِنِّي
__________
(1) كشاف القناع 1 / 191، والفروع 1 / 252.
(2) الاختيار 5 / 130.

(38/190)


حُبْلَى فَإِِنْ وَلَدَتْ غُلاَمًا وَرِثَ، وَإِِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً لَمْ تَرِثْ
صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ بِنْتَيْنِ وَعَمًّا وَامْرَأَةً حُبْلَى مِنْ أَخِيهِ، فَإِِنْ وَلَدَتْ غُلاَمًا فَهُوَ ابْنُ أَخِيهِ وَهُوَ عَصَبَةٌ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَمِّ فَيَرِثُ وَإِِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً فَهِيَ بِنْتُ أَخٍ مِنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ فَلاَ تَرِثُ.
وَلَوْ قَالَتْ إِنْ وَلَدْتُ غُلاَمًا لاَ يَرِثُ وَإِِنْ وَلَدْتُ جَارِيَةً وَرِثَتْ
صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: امْرَأَةٌ مَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ وَأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ لأُِمٍّ وَحَمْلٍ مِنَ الأَْبِ، فَإِِنْ وَلَدَتِ امْرَأَةُ الأَْبِ جَارِيَةً فَهِيَ أُخْتُهَا لأَِبِيهَا فَيَكُونُ لِلأُْمِّ السُّدُسُ وَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلأُْخْتِ لأَِبٍ النِّصْفُ وَلِلأُْخْتَيْنِ لأُِمٍّ الثُّلُثُ أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ تَعُول إِلَى تِسْعَةٍ وَإِِنْ وَلَدَتْ غُلاَمًا فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلأُْمِّ السُّدُسُ وَلأَِوْلاَدِ الأُْمِّ الثُّلُثُ وَلاَ شَيْءَ لِلْغُلاَمِ لأَِنَّهُ عَصَبَةٌ (1) .

ج - وَمِنَ الْمَسَائِل الَّتِي يُعَايَى بِهَا فِي الْمِيرَاثِ الْمَسْأَلَةُ الأَْكْدَرِيَّةُ، فَيُقَال: أَرْبَعَةٌ وَرِثُوا مَال مَيِّتٍ فَأَخَذَ أَحَدُهُمْ ثُلُثَ الْمَال وَأَخَذَ الثَّانِي ثُلُثَ الْبَاقِي وَأَخَذَ الثَّالِثُ ثُلُثَ مَا بَقِيَ وَأَخَذَ الرَّابِعُ الْبَاقِيَ.
وَالْمَسْأَلَةُ هِيَ: زَوْجٌ وَأُمٌّ وَأُخْتٌ وَجَدٌّ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلأُْمِّ الثُّلُثُ وَلِلأُْخْتِ النِّصْفُ
__________
(1) الاختيار 5 / 130.

(38/191)


وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ وَهِيَ تَعُول إِلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ، لِلزَّوْجِ تِسْعَةٌ وَلِلأُْمِّ سِتَّةٌ وَلِلْجَدِّ ثَمَانِيَةٌ وَلِلأُْخْتِ أَرْبَعَةٌ. (1)

د - الْمَسْأَلَةُ الدِّينَارِيَّةُ فَيُعَايَى بِهَا فَيُقَال: رَجُلٌ خَلَّفَ سِتَّمِائَةَ دِينَارٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ وَارِثًا ذُكُورًا وَإِِنَاثًا فَأَصَابَ أَحَدُهُمْ دِينَارًا وَاحِدًا، وَالْمَسْأَلَةُ هِيَ: زَوْجَةٌ وَجَدَّةٌ وَبِنْتَانِ وَاثْنَا عَشَرَ أَخًا وَأُخْتًا وَاحِدَةً لأَِبٍ وَأُمٍّ وَالتَّرِكَةُ سِتُّمِائَةُ دِينَارٍ، لِلْجَدَّةِ سُدُسُ مِائَةِ دِينَارٍ، وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعُمِائَةُ دِينَارٍ وَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِينَارًا يَبْقَى خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا لِكُل أَخٍ دِينَارَانِ وَلِلأُْخْتِ دِينَارٌ. (2)
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 564، 565، وكشاف القناع 4 / 410.
(2) الاختيار 5 / 130.

(38/191)


مَعْتُوهٌ

انْظُرْ: عَتَهٌ

مُعَدَّلٌ

انْظُرْ: تَزْكِيَةٌ

(38/192)


مَعْدِنٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَعْدِنُ لُغَةً: مَكَانُ كُل شَيْءٍ فِيهِ أَصْلُهُ وَمَرْكَزُهُ، وَمَوْضِعُ اسْتِخْرَاجِ الْجَوْهَرِ مِنْ ذَهَبٍ وَنَحْوِهِ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَصْل الْمَعْدِنِ الْمَكَانُ بِقَيْدِ الاِسْتِقْرَارِ فِيهِ ثُمَّ اشْتَهَرَ فِي نَفْسِ الأَْجْزَاءِ الْمُسْتَقِرَّةِ الَّتِي رَكَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الأَْرْضِ حَتَّى صَارَ الاِنْتِقَال مِنَ اللَّفْظِ إِلَيْهِ ابْتِدَاءً بِلاَ قَرِينَةٍ. (2)
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: هُوَ كُل مَا تَوَلَّدَ فِي الأَْرْضِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا لَيْسَ نَبَاتًا. (3)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْكَنْزُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْكَنْزِ: الْمَال الْمَدْفُونُ تَحْتَ الأَْرْضِ وَجَمْعُهُ كُنُوزٌ مِثْل فَلْسٍ وَفُلُوسٌ.
وَمِنْ مَعَانِيهِ الاِدِّخَارُ يُقَال: كَنَزْتُ التَّمْرَ
__________
(1) المعجم الوسيط.
(2) فتح القدير 2 / 781 ط. دار إحياء التراث العربي.
(3) كشاف القناع 1 / 222، والمغني 3 / 24 ط. الرياض.

(38/192)


فِي وِعَائِهِ أَكْنِزُهُ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الْمَال الَّذِي دَفَنَهُ بَنُو آدَمَ فِي الأَْرْضِ. (2)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْدِنِ وَالْكَنْزِ أَنَّ الْمَعْدِنَ هُوَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الأَْرْضِ وَالْكَنْزَ هُوَ الْمَال الْمَدْفُونُ بِفِعْل النَّاسِ.

ب - الرِّكَازُ
3 - الرِّكَازُ لُغَةً: هُوَ دَفِينُ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ كَأَنَّهُ رُكِزَ فِي الأَْرْضِ مِنْ رَكَزَ يَرْكُزُ رَكْزًا: بِمَعْنَى ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ، أَوْ مِنْ رَكَزَ إِذَا خَفِيَ يُقَال رَكَزْتُ الرُّمْحَ إِذَا أَخْفَيْتَ أَصْلَهُ. (3)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ مَا وُجِدَ مَدْفُونًا مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ وَبِهَذَا قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ الرِّكَازَ مَالٌ مَرْكُوزٌ تَحْتَ أَرْضٍ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ رَاكِزِهِ الْخَالِقَ أَوِ الْمَخْلُوقَ فَيَشْمَل عِنْدَهُمُ الْمَعْدِنَ وَالْكَنْزَ، فَالرِّكَازُ اسْمٌ لَهُمَا جَمِيعًا. (4)
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والقاموس المحيط، ومختار الصحاح.
(2) بدائع الصنائع 2 / 65، وتبيين الحقائق 1 / 287، والبناية شرح الهداية 3 / 138.
(3) القاموس المحيط، ومختار الصحاح، والمصباح المنير مادة (ركز) .
(4) حاشية ابن عابدين 2 / 43 - 44، ومواهب الجليل 2 / 339، وتبيين الحقائق 1 / 287، والبناية شرح الهداية 3 / 138، والمجموع 6 / 1، والمغني 3 / 18.

(38/193)


وَالصِّلَةُ أَنَّ الرِّكَازَ مُبَايِنٌ لِلْمَعْدِنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِِنَّ الرِّكَازَ أَعَمُّ مِنَ الْمَعْدِنِ حَيْثُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْكَنْزِ.

أَنْوَاعُ الْمَعَادِنِ
4 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ الْمَعَادِنَ إِلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ وَذَلِكَ مِنْ نَاحِيَةِ جِنْسِهَا فَقَالُوا: مُنْطَبِعٌ بِالنَّارِ، وَمَائِعٌ، وَمَا لَيْسَ بِمُنْطَبِعِ وَلاَ مَائِعٍ:
أ - أَمَّا الْمُنْطَبِعُ فَكَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ وَالصُّفْرِ وَغَيْرِهَا وَهَذَا النَّوْعُ يَقْبَل الطَّرْقَ وَالسَّحْبَ، فَتُعْمَل مِنْهُ صَفَائِحُ وَأَسْلاَكٌ وَنَحْوُهَا.
ب - وَالْمَائِعُ كَالْقِيرِ وَالنَّفْطِ.
ج - وَمَا لَيْسَ بِمُنْطَبِعٍ وَلاَ مَائِعٍ كَالنُّورَةِ وَالْجِصِّ وَالْجَوَاهِرِ وَالْيَاقُوتِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْفَيْرُوزِ وَالْكُحْل، وَهَذَا النَّوْعُ لاَ يَقْبَل الطَّرْقَ وَالسَّحْبَ، لأَِنَّهُ صُلْبٌ. (1)
وَقَسَّمَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْمَعَادِنَ - مِنْ نَاحِيَةِ اسْتِخْرَاجِهَا إِلَى قِسْمَيْنِ:
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 184 - 185، وحاشية ابن عابدين 1 / 44، وفتح القدير 1 / 179، والإنصاف 3 / 119، 120.

(38/193)


أ - الْمَعْدِنُ الظَّاهِرُ وَهُوَ مَا خَرَجَ بِلاَ عِلاَجٍ وَإِِنَّمَا الْعِلاَجُ فِي تَحْصِيلِهِ كَنِفْطٍ وَكِبْرِيتٍ.
ب - وَالْمَعْدِنُ الْبَاطِنِيُّ هُوَ مَا لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِعِلاَجٍ كَذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَحَدِيدٍ وَنُحَاسٍ. (1)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَعَادِنِ:
مِلْكِيَّةُ الْمَعَادِنِ
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مِلْكِيَّةِ الْمَعَادِنِ فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا وُجِدَ مَعْدِنُ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ صُفْرٍ أَوْ رَصَاصٍ فِي أَرْضِ خَرَاجٍ أَوْ عُشْرٍ أُخِذَ مِنْهُ الْخُمُسُ وَبَاقِيهِ لِوَاجِدِهِ وَكَذَا إِذَا وُجِدَ فِي الصَّحْرَاءِ الَّتِي لَيْسَتْ بِعُشْرِيَّةٍ وَلاَ خَرَاجِيَّةٍ. وَأَمَّا الْمَائِعُ كَالْقِيرِ وَالنِّفْطِ وَمَا لَيْسَ بِمُنْطَبِعٍ وَلاَ مَائِعٍ كَالنُّورَةِ وَالْجِصِّ وَالْجَوَاهِرِ فَلاَ شَيْءَ فِيهَا وَكُلُّهَا لِوَاجِدِهَا.
وَلَوْ وَجَدَ فِي دَارِهِ مَعْدِنًا فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَال الصَّاحِبَانِ: فِيهِ الْخُمُسُ وَالْبَاقِي لِوَاجِدِهِ.
وَإِِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضِهِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ: رِوَايَةُ الأَْصْل: لاَ يَجِبُ، وَرِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: يَجِبُ.
وَلَوْ وَجَدَ مُسْلِمٌ مَعْدِنًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي
__________
(1) حاشية الشرقاوي على التحرير 1 / 181 - 182، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 235 - 236.

(38/194)


أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ لأَِحَدٍ فَهُوَ لِلْوَاجِدِ وَلاَ خُمُسَ فِيهِ، وَلَوْ وَجَدَهُ فِي مِلْكِ بَعْضِهِمْ فَإِِنْ دَخَل عَلَيْهِمْ بِأَمَانٍ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ: وَلَوْ لَمْ يَرُدَّ وَأَخْرَجَهُ إِلَى دَارِ الإِِْسْلاَمِ يَكُونُ مِلْكًا لَهُ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَطِيبُ لَهُ وَسَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ.
وَإِِنْ دَخَل بِغَيْرِ أَمَانٍ يَكُونُ لَهُ مِنْ غَيْرِ خُمُسٍ (1) .
وَقَالُوا: لَيْسَ لِلإِِْمَامِ أَنْ يَقْطَعَ مَا لاَ غِنَى لِلْمُسْلِمِينَ عَنْهُ مِنَ الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ وَهِيَ مَا كَانَ جَوْهَرُهَا الَّذِي أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي جَوَاهِرِ الأَْرْضِ بَارِزًا كَمَعَادِنِ الْمِلْحِ وَالْكُحْل وَالْقَارِ وَالنِّفْطِ، فَلَوْ أَقْطَعَ هَذِهِ الْمَعَادِنَ الظَّاهِرَةَ لَمْ يَكُنْ لإِِِقْطَاعِهَا حُكْمٌ، بَل الْمُقْطَعُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ، فَلَوْ مَنَعَهُمُ الْمُقْطَعُ كَانَ بِمَنْعِهِ مُتَعَدِّيًا وَكَانَ لِمَا أَخَذَهُ مَالِكًا لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْمَنْعِ لاَ بِالأَْخَذِ، وَكُفَّ عَنِ الْمَنْعِ وَصُرِفَ عَنْ مُدَاوَمَةِ الْعَمَل لِئَلاَّ يَشْتَبِهَ إِقْطَاعُهُ بِالصِّحَّةِ أَوْ يَصِيرَ مِنْهُ فِي حُكْمِ الأَْمْلاَكِ الْمُسْتَقِرَّةِ. (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الْمَعَادِنَ أَمْرُهَا لِلإِِْمَامِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِمَا يَرَى أَنَّهُ
__________
(1) فتح القدير 2 / 180 ط. دار إحياء التراث العربي، وحاشية ابن عابدين 2 / 45 - 46، وتبيين الحقائق 1 / 288، والفتاوى الهندية 1 / 185.
(2) الدر المختار 5 / 278 - 279.

(38/194)


الْمَصْلَحَةُ وَلَيْسَتْ بِتَبَعٍ لِلأَْرْضِ الَّتِي هِيَ فِيهَا، مَمْلُوكَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ، وَلِلإِِْمَامِ أَنْ يَقْطَعَهَا لِمَنْ يَعْمَل فِيهَا بِوَجْهِ الاِجْتِهَادِ حَيَاةَ الْمُقْطَعِ لَهُ أَوْ مُدَّةً مَا مِنَ الزَّمَانِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْلِكَ أَصْلَهَا، وَيَأْخُذُ مِنْهَا الزَّكَاةَ عَلَى كُل حَالٍ، عَلَى مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّهُ أَقْطَعَ بَلاَل بْنَ الْحَارِثِ الْمُزَنِيَّ مَعَادِنَ الْقِبْلِيَّةِ وَهِيَ مِنْ نَاحِيَةِ الْفَرْعِ فَتِلْكَ الْمَعَادِنُ لاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا إِلاَّ الزَّكَاةُ (1) إِلاَّ أَنْ تَكُونَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ صَالَحُوا عَلَيْهَا فَيَكُونُونَ أَحَقَّ بِهَا يُعَامَلُونَ فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا فَإِِنْ أَسْلَمُوا رَجَعَ أَمْرُهَا إِلَى الإِِْمَامِ هَذَا مَا يَرَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَرِوَايَتُهُ عَنْ مَالِكٍ لأَِنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ اللَّذَيْنِ فِي الْمَعَادِنِ الَّتِي هِيَ فِي جَوْفِ الأَْرْضِ أَقْدَمُ مِنْ مِلْكِ الْمَالِكِينَ لَهَا فَلَمْ يُجْعَل ذَلِكَ مِلْكًا لَهُمْ بِمِلْكِ الأَْرْضِ، إِذْ هُوَ ظَاهِرُ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الأَْرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ، (2) فَوَجَبَ بِنَحْوِ هَذَا الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ مَا فِي جَوْفِ الأَْرْضِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ مِنَ الْمَعَادِنِ فَيْئًا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ
__________
(1) حديث: " أنه أقطع بلالاً. . " أخرجه أبو داود 3 / 235 ط. المكتبة التجارية بمصر.
(2) سورة الأعراف / 128.

(38/195)


بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يُوجَفْ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ: إِنَّهَا تَبَعٌ لِلأَْرْضِ الَّتِي هِيَ فِيهَا فَإِِنْ كَانَتْ فِي أَرْضٍ حُرَّةٍ أَوْ فِي أَرْضِ الْعَنْوَةِ أَوْ فِي الْفَيَافِي الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُمْتَلَكَةٍ كَانَ أَمْرُهَا إِلَى الإِِْمَامِ يُقْطِعُهَا لِمَنْ يَعْمَل فِيهَا أَوْ يُعَامِل النَّاسَ عَلَى الْعَمَل فِيهَا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا يَجُوزُ لَهُ وَيَأْخُذُ مِنْهَا الزَّكَاةَ عَلَى كُل حَالٍ، وَإِِنْ كَانَتْ فِي أَرْضٍ مُمْتَلَكَةٍ فَهِيَ مِلْكٌ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ يَعْمَل فِيهَا مَا يَعْمَل ذُو الْمِلْكِ فِي مِلْكِهِ، وَإِِنْ كَانَتْ فِي أَرْضِ الصُّلْحِ كَانَ أَهْل الصُّلْحِ أَحَقَّ بِهَا إِلاَّ أَنْ يُسْلِمُوا فَتَكُونُ لَهُمْ، هَذَا مَا قَالَهُ سَحْنُونٍ وَمِثْلُهُ لِمَالِكٍ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ، لأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ ثَابِتَيْنِ فِي الأَْرْضِ كَانَا لِصَاحِبِ الأَْرْضِ بِمَنْزِلَةِ مَا نَبَتَ فِيهَا مِنَ الْحَشِيشِ وَالشَّجَرِ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْمَعْدِنُ الظَّاهِرُ لاَ يُمْلَكُ بِالإِِْحْيَاءِ وَلاَ يَثْبُتُ فِيهِ اخْتِصَاصٌ بِتَحَجُّرٍ وَلاَ إِقْطَاعٍ، لأَِنَّهُ مِنَ الأُْمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ النَّاسِ
__________
(1) المقدمات لابن رشد 1 / 224 - 226 ط. مطبعة السعادة وحاشية الدسوقي 1 / 487، والقوانين الفقهية ص 70.
(2) المقدمات لابن رشد 1 / 225.

(38/195)


كَالْمَاءِ وَالْكَلأَِ، وَلأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ الأَْبْيَضُ بْنُ حَمَّالٍ أَنْ يُقْطِعَهُ مِلْحَ مَأْرِبَ فَأَرَادَ أَنْ يُقْطِعَهُ أَوْ قَال الرَّاوِي أَقْطَعَهُ إِيَّاهُ فَقِيل لَهُ: إِنَّهُ كَالْمَاءِ الْعَدِّ أَيِ الْعَذْبِ قَال: فَلاَ إِذَنْ، (1) وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ إِقْطَاعِ التَّمْلِيكِ وَإِِقْطَاعِ الإِِْرْفَاقِ خِلاَفًا لِلزَّرْكَشِيِّ الَّذِي قَيَّدَ الْمَنْعَ بِالأَْوَّل.
وَمَنْ أَخَذَ مِنَ الْمَعْدِنِ أَخَذَ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ مِنْهُ، فَإِِنْ ضَاقَ نَيْل الْحَاجَةِ عَنِ اثْنَيْنِ مَثَلاً جَاءَا إِلَيْهِ قَدَّمَ السَّابِقَ لِسَبْقِهِ، وَيُرْجَعُ فِي الْحَاجَةِ إِلَى مَا تَقْتَضِيهِ عَادَةُ أَمْثَالِهِ، وَقِيل: إِنْ أَخَذَ لِغَرَضِ دَفْعِ فَقْرٍ أَوْ مَسْكَنَةٍ مُكِّنَ مِنْ أَخْذِ كِفَايَةِ سَنَةٍ أَوِ الْعُمْرِ الْغَالِبِ فَإِِنْ طَلَبَ زِيَادَةً عَلَى حَاجَتِهِ فَالأَْصَحُّ إِزْعَاجُهُ إِنْ زُوحِمَ عَنِ الزِّيَادَةِ لأَِنَّ عُكُوفَهُ عَلَيْهِ كَالتَّحَجُّرِ.
وَالثَّانِي يَأْخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ لِسَبْقِهِ.
فَلَوْ جَاءَا إِلَيْهِ مَعًا وَلَمْ يَكْفِ الْحَاصِل مِنْهُ لِحَاجَتِهِمَا وَتَنَازَعَا فِي الاِبْتِدَاءِ أَقْرِعَ بَيْنَهُمَا فِي الأَْصَحِّ لِعَدَمِ الْمَزِيَّةِ وَالثَّانِي: يَجْتَهِدُ الإِِْمَامُ وَيُقَدِّمُ مَنْ يَرَاهُ أَحْوَجَ، وَالثَّالِثُ: يُنَصِّبُ مِنْ يَقْسِمُ الْحَاصِل بَيْنَهُمَا.
__________
(1) حديث: " إقطاع الأبيض بن حمال. . " أخرجه الشافعي في الأم (4 / 42 ط شركة الطباعة الفنية) ، ويحيى بن آدم في (الخراج ص 110 ط. السلفية) وصححه أحمد شاكر في التعليق عليه.

(38/196)


وَالْمَعْدِنُ الْبَاطِنُ لاَ يُمْلَكُ بِالْحَفْرِ وَالْعَمَل بِقَصْدِ التَّمَلُّكِ فِي الأَْظْهَرِ، وَالثَّانِي يُمْلَكُ بِذَلِكَ إِذَا قَصَدَ التَّمَلُّكَ.
وَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَظَهَرَ فِيهِ مَعْدِنٌ بَاطِنٌ كَذَهَبٍ مَلَكَهُ جَزْمًا، لأَِنَّهُ بِالإِِْحْيَاءِ مَلَكَ الأَْرْضَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَإِِذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ فِي الْبُقْعَةِ الْمُحْيَاةِ مَعْدِنًا فَاتَّخَذَ عَلَيْهِ دَارًا فَفِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّاجِحَ عَدَمُ مِلْكِهِ لِفَسَادِ الْقَصْدِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ.
وَإِِذَا كَانَ الْمَعْدِنُ الَّذِي وُجِدَ فِيمَا أَحْيَاهُ ظَاهِرًا فَلاَ يَمْلِكُهُ بِالإِِْحْيَاءِ إِنْ عَلِمَهُ لِظُهُورِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى عِلاَجٍ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمْهُ فَإِِنَّهُ يَمْلِكُهُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْمَعَادِنَ الْجَامِدَةَ تُمْلَكُ بِمِلْكِ الأَْرْضِ الَّتِي هِيَ فِيهَا، لأَِنَّهَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الأَْرْضِ فَهِيَ كَالتُّرَابِ وَالأَْحْجَارِ الثَّابِتَةِ. فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ بَلاَل بْنَ الْحَارِثِ الْمُزَنِيَّ أَرْضَ كَذَا مِنْ مَكَانِ كَذَا إِلَى كَذَا وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ جَبَلٍ أَوْ مَعْدِنٍ، قَال: فَبَاعَ بَنُو بِلاَلٍ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَرْضًا فَخَرَجَ فِيهَا مَعْدِنَانِ، فَقَالُوا: إِنَّمَا بِعْنَاكَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 372 - 373.

(38/196)


أَرْضَ حَرْثٍ وَلَمْ نَبِعْكَ الْمَعْدِنَ، وَجَاءُوا بِكِتَابِ الْقَطِيعَةِ الَّتِي قَطَعَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِبِيهِمْ فِي جَرِيدَةٍ، قَال: فَجَعَل عُمَرُ يَمْسَحُهَا عَلَى عَيْنَيْهِ، وَقَال لِقَيِّمِهِ: انْظُرْ مَا اسْتَخْرَجْتَ مِنْهَا وَمَا أَنْفَقْتَ عَلَيْهَا فَقَاضِهِمْ بِالنَّفَقَةِ وَرُدَّ عَلَيْهِمُ الْفَضْل، (1) فَعَلَى هَذَا مَا يَجِدُهُ فِي مِلْكٍ أَوْ مَوَاتٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ. وَإِِنْ سَبَقَ اثْنَانِ إِلَى مَعْدِنٍ فِي مَوَاتٍ فَالسَّابِقُ أَوْلَى بِهِ مَا دَامَ يَعْمَل فَإِِذَا تَرَكَهُ جَازَ لِغَيْرِهِ الْعَمَل فِيهِ، وَمَا يَجِدُهُ فِي مَمْلُوكٍ يُعْرَفُ مَالِكُهُ فَهُوَ لِمَالِكِ الْمَكَانِ.
وَأَمَّا الْمَعَادِنُ الْجَارِيَةُ فَهِيَ مُبَاحَةٌ عَلَى كُل حَالٍ إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ دُخُول مِلْكِ غَيْرِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ وَتَمَّلَكَ بِمِلْكِ الأَْرْضِ الَّتِي هِيَ فِيهَا، لأَِنَّهَا مِنْ نَمَائِهَا وَتَوَابِعِهَا، فَكَانَتْ لِمَالِكِ الأَْرْضِ كَفُرُوعِ الشَّجَرِ الْمَمْلُوكِ وَثَمَرَتِهِ.
وَلأَِنَّ الْمَعَادِنَ السَّائِلَةَ مُبَاحَةٌ قِيَاسًا عَلَى الْمَاءِ بِجَامِعِ السِّيُولَةِ فِي كُلٍّ، فَكَمَا أَنَّ الْمَاءَ مُبَاحٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ: الْكَلأَ ُ، وَالْمَاءُ، وَالنَّارِ (2) فَكَذَلِكَ الْمَعَادِنُ
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني. . ". أخرجه أبو عبيد في الأموال (ص 423) .
(2) حديث: " المسلمون شركاء في ثلاث. . . " أخرجه أبو داود (3 / 751 تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث رجل من المهاجرين، وإسناده صحيح.

(38/197)


السَّائِلَةُ تَكُونُ مُبَاحَةً. (1)

الْوَاجِبُ فِي الْمَعْدِنِ
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَعْدِنَ الْمُنْطَبِعَ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ وَالصُّفْرِ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ سَوَاءٌ أَخْرَجَهُ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ أَوْ ذِمِّيٌّ أَوْ صَبِيٌّ أَوِ امْرَأَةٌ وَمَا بَقِيَ فَلِلآْخِذِ.
سَوَاءٌ وُجِدَ فِي أَرْضٍ عُشْرِيَّةٍ أَوْ خَرَاجِيَّةٍ، وَيَجِبُ الْخُمُسُ فِي الزِّئْبَقِ.
وَأَمَّا الْمَعْدِنُ الْمَائِعُ كَالْقِيرِ وَالنِّفْطِ وَمَا لَيْسَ بِمُنْطَبِعٍ وَلاَ مَائِعٍ كَالنُّورَةِ وَالْجِصِّ وَالْجَوَاهِرِ وَالْيَوَاقِيتِ فَلاَ شَيْءَ فِيهَا، وَلاَ يَجِبُ الْخُمُسُ فِيمَا وَجَدَهُ فِي دَارِهِ وَأَرْضِهِ مِنَ الْمَعْدِنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَال الصَّاحِبَانِ يَجِبُ. (2)
وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الْخُمُسَ يَجِبُ فِي الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ النِّصَابُ لأَِنَّ النُّصُوصَ خَالِيَةٌ عَنِ اشْتِرَاطِ النِّصَابِ فَلاَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ حَوَلاَنُ الْحَوْل لِوُجُوبِ الْخُمُسِ. (3)
__________
(1) المغني لابن قدامة 3 / 28 - 29 ط. الرياض.
(2) تبيين الحقائق 1 / 289، والفتاوى الهندية 1 / 184 - 185.
(3) حاشية الشلبي بهامش تبيين الحقائق 1 / 288.

(38/197)


وَقَالُوا إِنَّ مَا يُصَابُ مِنَ الْمَعْدِنِ هُوَ غَنِيمَةٌ وَالْخُمُسُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ فِي الْغَنِيمَةِ.
فَإِِنْ كَانَ الَّذِي أَصَابَهُ مُحْتَاجًا عَلَيْهِ دَيْنٌ كَثِيرٌ لاَ يَصِيرُ غَنِيًّا بِالأَْرْبَعَةِ الأَْخْمَاسِ فَرَأَى الإِِْمَامُ أَنْ يُسَلِّمَ ذَلِكَ الْخُمُسَ لَهُ جَازَ، لأَِنَّ الْخُمُسَ حَقُّ الْفُقَرَاءِ وَهَذَا الَّذِي أَصَابَهُ فَقِيرٌ فَقَدْ صَرَفَ الْحَقَّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ فَيَجُوزُ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَجِبُ فِي الْمَعْدِنِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ دُونَ غَيْرِهَا الزَّكَاةُ.
قَال الْبَاجِيُّ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ إِخْرَاجِهِ، وَقَال الْبَعْضُ: تَجِبُ الزَّكَاةُ بَعْدَ تَصْفِيَتِهِ مِنْ تُرَابِهِ وَكَانَ الْمُخْرِجُ مِنْ أَهْل الزَّكَاةِ إِنْ بَلَغَ نِصَابًا قَدْرَ عِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَكَانَ مِنْ أَهْل الزَّكَاةِ، مِنَ الْحُرِّيَّةِ وَالإِِْسْلاَمِ وَهَذَا مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَقِيل لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ حُرِّيَّةٌ وَلاَ إِسْلاَمٌ.
وَضَمُّ الْعِرْقِ الْوَاحِدِ ذَهَبًا كَانَ أَوْ فِضَّةً بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْعِرْقُ مُتَّصِلاً وَإِِنْ تَرَاخَى الْعَمَل بِانْقِطَاعِهِ، سَوَاءٌ حَصَل الاِنْقِطَاعُ اخْتِيَارًا أَوِ اضْطِرَارًا، كَفَسَادِ آلَةٍ وَمَرَضِ الْعَامِل.
__________
(1) شرح السير الكبير 5 / 2173، وانظر بدائع الصنائع 2 / 68، و7 / 124 - 125.

(38/198)


وَأَمَّا الْمَعَادِنُ مِنْ أَمَاكِنَ مُتَفَرِّقَةٍ فَلاَ يُضَمُّ مَا خَرَجَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهَا بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ وَلَوْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مِنْ جَنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلاَ يُضَمُّ عِرْقٌ آخَرُ لِلَّذِي كَانَ يَعْمَل فِيهِ أَوَّلاً فِي مَعْدِنٍ وَاحِدٍ وَيُعْتَبَرُ كُل عِرْقٍ بِانْفِرَادِهِ، فَإِِنْ حَصَل مِنْهُ نِصَابٌ يُزَكَّى، ثُمَّ يُزَكَّى مَا يَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِِنْ قَل، وَسَوَاءٌ اتَّصَل الْعَمَل أَوِ انْقَطَعَ، وَفِي نُدْرَةِ الْعَيْنِ - وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ الَّتِي لاَ تَحْتَاجُ لِتَصْفِيَةِ الْخُمُسُ مُطْلَقًا، وَجَدَهَا حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ، بَلَغَتْ نِصَابًا أَمْ لاَ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: أَجَمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْمَعْدِنِ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ بَلاَل بْنَ الْحَارِثِ الْمُزَنِيَّ الْمَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةَ وَأَخَذَ مِنْهُ الزَّكَاةَ، وَشَرَطَ لِلَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا مُسْلِمًا وَشَرَطَ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَخْرَجُ نِصَابًا مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، أَمَّا غَيْرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَغَيْرِهِمَا فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ، لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الأَْمْوَال الْمُزَكَّاةِ. وَمَنْ وَجَدَ دُونَ النِّصَابِ لَمْ
__________
(1) الخرشي 2 / 208 - 209، والدسوقي 1 / 406 وما بعدها، المنتقى للباجي 2 / 103 - 104. الخرشي 2 / 208 - 209، والدسوقي 1 / 406 وما بعدها، المنتقى للباجي 2 / 103 - 104.

(38/198)


يَلْزَمْهُ الزَّكَاةُ، لأَِنَّهَا لاَ تَجِبُ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ، وَلأَِنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَفَادِ مِنَ الأَْرْضِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ النِّصَابُ كَالْعُشْرِ، وَإِِنْ وَجَدَ النِّصَابَ فِي دُفُعَاتٍ فَإِِنْ لَمْ يَنْقَطِعِ الْعَمَل وَلاَ النَّيْل ضُمَّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ فِي إِتْمَامِ النِّصَابِ، وَكَذَا إِنْ قُطِعَ الْعَمَل لِعُذْرِ، وَيَجِبُ حَقُّ الْمَعْدِنِ بِالْوُجُودِ وَلاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْل فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ لأَِنَّ الْحَوْل يُرَادُ لِكَمَال النَّمَاءِ وَبِالْوُجُودِ يَصِل إِلَى النَّمَاءِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْحَوْل كَالْمُعَشَّرِ. وَقَال فِي الْبُوَيْطِيِّ لاَ يَجِبُ حَتَّى يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل، لأَِنَّهُ زَكَاةُ مَالٍ تَتَكَرَّرُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْحَوْل كَسَائِرِ الزَّكَوَاتِ.
وَفِي مَا يَجِبُ مِنَ الزَّكَاةِ أَقْوَالٌ مَشْهُورَةٌ، وَالصَّحِيحُ مِنْهَا: وُجُوبُ رُبُعِ الْعُشْرِ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: هُوَ نَصُّهُ فِي الأُْمِّ وَالإِِْمْلاَءِ، وَقِيل يَجِبُ الْخُمُسُ لأَِنَّهُ مَالٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ بِالْوُجُودِ فَتَقَدَّرَتْ زَكَاتُهُ بِالْخُمُسِ.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ: إِنْ أَصَابَهُ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ، وَإِِنْ أَصَابَهُ بِتَعَبٍ فَيَجِبُ فِيهِ رُبُعُ الْعُشْرِ، لأَِنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَفَادِ مِنَ الأَْرْضِ فَاخْتَلَفَ قَدْرُهُ بِاخْتِلاَفِ الْمُؤَنِ كَزَكَاةِ الزَّرْعِ.
وَيَجِبُ إِخْرَاجُ الْحَقِّ بَعْدَ التَّمَيُّزِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْحَقَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ

(38/199)


وَاجِدِ الْمَعْدِنِ زَكَاةٌ، وَسَوَاءٌ أَقُلْنَا يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ أَمْ رُبُعُ الْعُشْرِ، وَقِيل: إِنْ قِيل بِرُبُعِ عُشْرٍ فَهُوَ زَكَاةٌ وَإِِلاَّ فَقَوْلاَنِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ زَكَاةٌ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي مَصَارِفَ خَمْسٍ خُمُسُ الْفَيْءِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الزَّكَاةِ فِي الْمَعْدِنِ سَوَاءٌ أَخَذَهُ مِنْ مَوَاتٍ أَوْ مِنْ أَرْضٍ يَمْلِكُهَا عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمَعْدِنِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الأَْرْضِ مِمَّا يُخْلَقُ فِيهَا مِنْ غَيْرِهَا مِمَّا لَهُ قِيمَةٌ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالْيَاقُوتِِ وَالْبِلَّوْرِ وَالْكُحْل وَنَحْوِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَعَادِنُ الْجَارِيَةُ كَالْقَارِ وَالنِّفْطِ وَالْكِبْرِيتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِعُمُومِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَْرْضِ} (2)
وَلأَِنَّهُ مَعْدِنٌ قُطِعَتِ الزَّكَاةُ بِالْخَارِجِ مِنْهُ كَالأَْثْمَانِ، وَلأَِنَّهُ مَالٌ لَوْ غَنِمَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ خُمُسُهُ فَإِِذَا أَخْرَجَهُ عَنْ مَعْدِنٍ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ كَالذَّهَبِ.
وَالْوَاجِبُ فِي الْمَعْدِنِ رُبُعُ الْعُشْرِ، وَصِفَتُهُ
__________
(1) المجموع 6 / 75 - 89.
(2) سورة البقرة / 267.

(38/199)


أَنَّهُ زَكَاةٌ لِحَدِيثِ بَلاَل بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ السَّابِقِ (1) وَلأَِنَّهُ حَقٌّ يَحْرُمُ عَلَى أَغْنِيَاءِ ذَوِي الْقُرْبَى فَكَانَ زَكَاةً كَالْوَاجِبِ فِي الأَْثْمَانِ وَنِصَابُ الْوَاجِبِ هُوَ مَا يَبْلُغُ مِنَ الذَّهَبِ عِشْرِينَ مِثْقَالاً وَمِنَ الْفِضَّةِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ قِيمَةَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمَا.
وَوَقْتُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْمَعْدِنِ حِينَ تَنَاوُلِهِ وَلاَ يُعْتَبَرُ لَهُ حَوْلٌ وَيُكَمَّل النِّصَابُ. (2)

مَا يَجِبُ فِي مَعَادِنِ الْبَحْرِ
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ فِي مَعَادِنِ الْبَحْرِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ فِي مَعَادِنِ الْبَحْرِ شَيْءٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال فِي الْعَنْبَرِ أَنَّهُ دَسَرَهُ (أَلْقَاهُ) الْبَحْرُ فَلاَ شَيْءَ فِيهِ، فَهَذَا النَّصُّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعَنْبَرَ لاَ شَيْءَ فِيهِ، وَالْعَنْبَرُ مُسْتَخْرَجٌ مِنَ الْبَحْرِ فَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ مَعَادِنِ الْبَحْرِ لاَ شَيْءَ فِيهِ إِذْ لاَ فَرْقَ بَيْنَ مَعْدِنٍ وَآخَرَ مِنْ مَعَادِنِ الْبَحْرِ، وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَأَبُو ثَوْرٍ (3) وَلأَِنَّ
__________
(1) سبق تخريجه ف " 5 ".
(2) المغني مع الشرح الكبير 2 / 617 - 619.
(3) المبسوط للسرخسي 2 / 212 - 213، وحاشية الدسوقي 1 / 492، والزرقاني 2 / 173، والحاوي الكبير 4 / 288 - 289، والشرح الكبير للمقدسي 2 / 584، والإنصاف 3 / 122، والسير الكبير وشرحه 5 / 2162 وما بعدها.

(38/200)


الْعَنْبَرَ كَانَ يَخْرُجُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ فَلَمْ يَأْتِ فِيهِ سُنَّةٌ عَنْهُ وَلاَ عَنْهُمْ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ. (1) وَلأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ وُجُوبِ شَيْءٍ فِيهِ مَا لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ وَلأَِنَّهُ عَفْوٌ قِيَاسًا عَلَى الْعَفْوِ مِنْ صَدَقَةِ الْخَيْل. (2)
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الْخُمُسِ فِي مَعَادِنِ الْبَحْرِ، وَبِهِ قَال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْأَلُهُ عَنْ عَنْبَرٍ وُجِدَ عَلَى السَّاحِل فَكَتَبَ إِلَيْهِ فِي جَوَابِهِ أَنَّهُ مَال اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَفِيهِ الْخُمُسُ.
وَلأَِنَّهُ نَمَاءٌ يَتَكَامَل عَاجِلاً فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ فِيهِ الْخُمُسُ كَالرِّكَازِ، وَلأَِنَّ الأَْمْوَال الْمُسْتَفَادَةَ نَوْعَانِ مِنْ بَرٍّ وَبَحْرٍ، فَلَمَّا وَجَبَتْ زَكَاةُ مَا اسْتُفِيدَ مِنَ الْبَرِّ اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ زَكَاةُ مَا اسْتُفِيدَ مِنَ الْبَحْرِ. (3)

مَعْدُودَاتٌ

انْظُرْ: مِثْلِيَّاتٌ
__________
(1) الشرح الكبير للمقدسي 2 / 584.
(2) الأموال لأبي عبيد ص 483 - 484.
(3) المبسوط للسرخسي 2 / 212 - 213، والإنصاف 3 / 122، والشرح الكبير للمقدسي 2 / 585، والحاوي الكبير 4 / 288، والخراج لأبي يوسف ص 70.

(38/200)


مَعْدُومٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - تَعْرِيفُ الْمَعْدُومِ لُغَةً: الْمَفْقُودُ، يُقَال: عَدِمْتُهُ عَدَمًا مِنْ بَابِ تَعِبَ: فَقَدْتُهُ وَالاِسْمُ: الْعَدَمُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ، قَال الْبَرَكَتِيُّ: الْعَدَمُ مَا يُقَابِل الْوُجُودَ (2) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَعْدُومِ:
يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْدُومِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

أ - بَيْعُ الْمَعْدُومِ
2 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ بَيْعِ الْمَعْدُومِ، وَأَنَّهُ لاَ يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ وَمَا لَهُ خَطَرُ الْعَدَمِ، وَاشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَوْجُودًا حَيْنَ الْعَقْدِ (أَيْ غَيْرَ مَعْدُومٍ) . وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ حَالاَتٍ وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) قواعد الفقه للبركتي.

(38/201)


ب - الْوَصِيَّةُ بِالْمَعْدُومِ:
3 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْمَعْدُومِ مُطْلَقًا، لأَِنَّهُ يَقْبَل التَّمْلِيكَ فِي حَال حَيَاةِ الْمُوصِي فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِالْمَعْدُومِ إِذَا كَانَ قَابِلاً لِلتَّمْلِيكِ بِعِقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: قَال فِي النِّهَايَةِ: وَلِهَذَا قُلْنَا بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا تُثْمِرُ نَخِيلُهُ الْعَامَ تَجُوزُ وَإِِنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ مَعْدُومًا، لأَِنَّهُ يَقْبَل التَّمْلِيكَ حَال حَيَاةِ الْمُوصِي بِعَقْدِ الْمُعَامَلَةِ. وَالْوَصِيَّةُ بِمَا تَلِدُ أَغْنَامُهُ لاَ تَجُوزُ اسْتِحْسَانًا، لأَِنَّهُ لاَ يَقْبَل التَّمْلِيكَ حَال حَيَاةِ الْمُوصِي بِعَقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ. (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (وَصِيَّةٌ)

ج - الْوَصِيَّةُ لِلْمَعْدُومِ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمَعْدُومِ بَاطِلَةٌ وَلاَ تَصِحُّ، لأَِنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُوصَى لَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا وَقْتَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 416.

(38/201)


الْوَصِيَّةِ وَيُتَصَوَّرُ الْمِلْكُ لَهُ، فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِحَمْلٍ فِي بَطْنِ أُمِّهِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمَعْدُومِ جَائِزَةٌ، وَهُوَ أَنْ يُوصِيَ لِمَيِّتٍ عَلِمَ الْمُوصِي بِمَوْتِهِ حَيْنَ الْوَصِيَّةِ، وَتُصْرَفُ فِي وَفَاءِ دُيُونِهِ ثُمَّ لِوَارِثِهِ، فَإِِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ بَطَلَتْ وَلاَ يُعْطَى لِبَيْتِ الْمَال. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (وَصِيَّةٌ) .

د - هِبَةُ الْمَعْدُومِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ هِبَةُ الْمَعْدُومِ لأَِنَّ مِنْ شَرْطِ الْمَوْهُوبِ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْهِبَةِ، مِثْل أَنْ يَهَبَ مَا يُثْمِرُ نَخْلُهُ هَذَا الْعَامَ أَوْ مَا تَلِدُ أَغْنَامُهُ هَذِهِ السَّنَةَ، لأَِنَّهُ تَمْلِيكٌ لِمَعْدُومِ فَيَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلاً. (3)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جِوَازِ هِبَةِ الْمَجْهُول وَالْمَعْدُومِ الْمُتَوَقَّعِ الْوُجُودِ، كَالْعَبْدِ الآْبِقِ وَالْبَعِيرِ
__________
(1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 5 / 459 - 462، وبدائع الصنائع 7 / 335 - 336، 352. ومغني المحتاج 3 / 40، والمغني 6 / 21، 58.
(2) بداية المجتهد 2 / 306، وحاشية الدسوقي 4 / 426.
(3) بدائع الصنائع 6 / 119، والمبسوط، 12 / 71 - 72، ومغني المحتاج 2 / 339، والمغني لابن قدامة 5 / 657.

(38/202)


الشَّارِدِ وَالثَّمَرَةِ قَبْل بُدُوِّ الصَّلاَحِ. (1)
قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَلاَ خِلاَفَ فِي الْمَذْهَبِ فِي جِوَازِ هِبَةِ الْمَجْهُول وَالْمَعْدُومِ الْمُتَوَقَّعِ الْوُجُودِ، وَبِالْجُمْلَةِ كُل مَا لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ مِنْ جِهَةِ الْغَرَرِ (2) (أَيْ لاَ تَأْثِيرَ لِلْغَرَرِ عَلَى صِحَّةِ الْهِبَةِ) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (هِبَةٌ) .

هـ - الْخُلْعُ بِالْمَعْدُومِ:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ الْخُلْعِ بِالْمَجْهُول وَبِالْمَعْدُومِ إِذَا كَانَ عِوَضُ الْخُلْعِ مُشْتَمِلاً عَلَى غَرَرٍ، أَوْ مَعْدُومٍ يُنْتَظَرُ وُجُودُهُ، كَجَنِينٍ فِي بَطْنِ حَيَوَانٍ تَمْلِكُهُ الزَّوْجَةُ، أَوْ كَانَ مَجْهُولاً كَأَحَدِ فَرَسَيْنِ، أَوْ غَيْرَ مَوْصُوفٍ مِنْ عِوَضٍ أَوْ حَيَوَانٍ وَثَمَرَةٍ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهَا عَلَى تَفْصِيلٍ فِي مُصْطَلَحِ (خُلْعٌ ف 26) .

و الإِِْجَارَةُ عَلَى مَعْدُومٍ:
7 - اتَّفَقَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى جِوَازِ الإِِْجَارَةِ عَلَى مَعْدُومٍ لأَِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْمَنَافِعِ كَالْحَاجَةِ إِلَى الأَْعْيَانِ، فَلَمَّا جَازَ الْعَقْدُ عَلَى الأَْعْيَانِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 99، وبداية المجتهد 2 / 300.
(2) بداية المجتهد 2 / 300.

(38/202)


وَجَبَ أَنْ تَجُوزَ الإِِْجَارَةُ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَلاَ يَخْفَى مَا بِالنَّاسِ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ. (1)
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِجَارَةٌ ف 26 وَمَا بَعْدَهَا) .

مَعْذُورٌ

انْظُرْ: عُذْرٌ

مُعْسِرٌ

انْظُرْ: إِعْسَارٌ
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 409 - 411، ومواهب الجليل 5 / 390، وحاشية الدسوقي 4 / 2 - 3، ونهاية المحتاج 5 / 263، والمغني لابن قدامة 5 / 432 - 433.

(38/203)


مُعَصْفَرٌ

انْظُرْ: أَلْبِسَةٌ

(38/203)


مِعْصَمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمِعْصَمِ فِي اللُّغَةِ: مَوْضِعُ السِّوَارِ مِنَ السَّاعِدِ، وَهُوَ مَفْصِل الْكَفِّ مِنَ السَّاعِدِ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيِّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
1 - الْمِرْفَقُ:
2 - الْمِرْفَقُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، وَبِالْعَكْسِ أَيْ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْفَاءِ - مِنَ الْيَدِ: هُوَ مَا بَيْنَ الذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ. (3)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمِعْصَمِ وَالْمِرْفَقِ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُلْتَقَى بَيْنَ عَظْمَيْنِ مِنَ الْيَدِ.

ب - الْمَفْصِل:
3 - الْمَفْصِل بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الصَّادِ: كُل مُلْتَقَى بَيْنَ عَظْمَيْنِ مِنَ الْجَسَدِ (4) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) القليوبي 3 / 208، والبناني على الزرقاني 1 / 57، وجواهر الإكليل 1 / 14.
(3) قواعد الفقه للبركتي.
(4) قواعد الفقه للبركتي.

(38/204)


وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ كُلٍّ مِنَ الْمِعْصَمِ وَالْمَفْصِل: الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ، فَكُل مِعْصَمٍ مَفْصِلٌ، وَلَيْسَ كُل مَفْصِلٍ مِعْصَمًا.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمِعْصَمِ:
غَسْل الْمِعْصَمِ فِي الْوُضُوءِ.
4 - يَجِبُ غَسْل الْمِعْصَمِ فِي الْوُضُوءِ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (وُضُوءٌ) .

الْقَطْعُ مِنَ الْمِعْصَمِ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ وَالْحِرَابَةِ:
5 - قَال جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ مَحَل الْقَطْعِ مِنَ الْيَدِ فِي السَّرِقَةِ الْمِعْصَمُ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ مِنَ الْكُوعِ (1) ، وَهُوَ مَفْصِل الْكَفِّ، (2) وَلأَِثَرِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالاَ: إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَمِينَهُ مِنَ الْكُوعِ، وَالْكُوعُ مِعْصَمُ الْكَفِّ. (3) وَالْقَطْعُ فِي حَدِّ الْحِرَابَةِ يُرَاعَى فِيهَا مَا ذُكِرَ فِي السَّرِقَةِ فَلاَ تُقْطَعُ الْيَدُ فِيهَا إِلاَّ مِنَ الْمِعْصَمِ.
__________
(1)) حديث: " قطع يد السارق من الكوع ". أخرجه البيهقي (8 / 271 ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عمر، وقال: " قطع النبي صلى الله عليه وسلم يد سارق من المفصل " وفي إسناده مقال، ولكن أورد قبله شاهدًا من حديث جابر بن عبد الله يتقوى به.
(2) المصباح المنير.
(3) المصباح المنير.

(38/204)


وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سَرِقَةٌ ف 66) .

مَحَل الْقِصَاصِ مِمَّنْ قَطَعَ يَدًا مِنَ السَّاعِدِ:
6 - إِنْ قَطَعَ يَدَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِنَ السَّاعِدِ، فَلاَ تُقْطَعُ يَدُ الْجَانِي مِنَ السَّاعِدِ، لأَِنَّهُ لاَ يُقْطَعُ فِي حَدٍّ وَلاَ قِصَاصٍ إِلاَّ مِنْ مَفْصِلٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُقْتَصُّ بِالْقَطْعِ مِنَ الْمِعْصَمِ، لأَِنَّهُ أَقْرَبُ مَفْصِلٍ لَهُ، وَيَأْخُذُ حُكُومَةَ الْبَاقِي
وَلِلتَّفْصِيل (ر: جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ف 11، سَاعِدٌ ف 9) .

دِيَةُ قَطْعِ الْيَدِ مِنَ الْمِعْصَمِ
7 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ دِيَةٍ كَامِلَةٍ فِي قَطْعِ الْيَدَيْنِ مِنَ الْكُوعِ " الْمِعْصَمِ " وَوُجُوبِ نِصْفِ دِيَةٍ فِي قَطْعِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، لأَِنَّ اسْمَ الْيَدِ يَنْصَرِفُ عِنْدَ الإِِْطْلاَقِ إِلَى الْكَفِّ وَهُوَ الْمِعْصَمُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (دِيَاتٌ ت 43) .

مَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْخِطْبَةِ:
8 - يَجُوزُ لَمِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْكِحَ امْرَأَةً أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا كَفَّيْهَا وَوَجْهَهَا، وَهُوَ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ،

(38/205)


وَالْكَفُّ مِنْ رُءُوسِ الأَْصَابِعِ إِلَى الْمِعْصَمِ. (1)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: خِطْبَةٌ ف 29) .
__________
(1) القليوبي 3 / 208.

(38/205)