الموسوعة الفقهية الكويتية

هَادِي
التَّعْرِيفُ:
أ - الْهَادِي لُغَةً: الْمُتَقَدِّمُ وَالدَّلِيل وَالْعُنُقُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْفِعْل هَدَى، يُقَال: هَدَى فُلاَنٌ هُدًى وَهَدْيًا وَهِدَايَةً: اسْتَرْشَدَ، وَيُقَال: هَدَى فُلاَنٌ هَدْيَ فُلاَنٍ، سَارَ سَيْرَهُ، وَفُلاَنًا: أَرْشَدَهُ وَدَلَّهُ (1) .
وَالْهَادِي اصْطِلاَحًا خَاصٌّ بِالْمَالِكِيَّةِ، وَعَرَّفُوهُ بِتَعْرِيفَاتٍ مِنْهَا مَا عَرَّفَهُ الدَّرْدِيرُ: بِأَنَّهُ دَمٌ أَبْيَضُ يَخْرُجُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ قُرْبَ الْوِلاَدَةِ (2) .
وَعَرَّفَهُ الْقَرَافِيُّ: بِأَنَّهُ مَاءٌ أَبْيَضُ يَخْرُجُ مِنَ الْحَامِل يَجْتَمِعُ فِي وِعَاءٍ لَهُ فَيَخْرُجُ عِنْدَ وَضْعِ الْحَمْل، أَوْ مُوجَبِ السَّقْطِ (3)
وَنَقَل الْحَطَّابُ عَنِ الطِّرَازِ: بِأَنَّهُ مَاءٌ
__________
(1) المعجم الوسيط، ولسان العرب، والقاموس المحيط.
(2) الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 175.
(3) الذخيرة للقرافي 1 / 214، وانظر الخرشي 1 / 210

(42/112)


يَخْرُجُ مِنَ الْحَوَامِل عَادَةً قُرْبَ الْوِلاَدَةِ، وَعِنْدَ شَمِّ الرَّائِحَةِ مِنَ الطَّعَامِ، وَعِنْدَ حَمْل الشَّيْءِ الثَّقِيل (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمَذْيُ:
2 - الْمَذْيُ فِي اللُّغَةِ: مَاءٌ رَقِيقٌ يَخْرُجُ مِنْ قُبُل الإِْنْسَانِ عِنْدَ الْمُلاَعَبَةِ وَيَقْرُبُ إِلَى الْبَيَاضِ، وَفِيهِ ثَلاَثَةُ لُغَاتٍ، الأُْولَى: سُكُونُ الذَّال، وَالثَّانِيَةُ: كَسْرُهَا مَعَ التَّثْقِيل، وَالثَّالِثَةُ: كَسْرُهَا مَعَ التَّخْفِيفِ، يُقَال: مَذَى الرَّجُل يَمْذِي مِنْ بَابِ ضَرَبَ فَهُوَ مَذَّاءٌ وَالرَّجُل يَمْذِي وَالْمَرْأَةُ تَمْذِي.
وَالْمَذْيُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَاءٌ أَبْيَضُ رَقِيقٌ يَخْرُجُ بِلاَ شَهْوَةٍ قَوِيَّةٍ عِنْدَ ثَوَرَانِ الشَّهْوَةِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَخْرُجُ مِنْ قُبُل الإِْنْسَانِ إِلاَّ أَنَّ الْهَادِيَ يَخْتَصُّ بِالْمَرْأَةِ (2) .

ب - الْوَدْيُ:
3 - الْوَدْيُ فِي اللُّغَةِ: مَاءٌ أَبْيَضُ كَدِرٌ ثَخِينٌ يَخْرُجُ عَقِيبَ الْبَوْل أَوْ عِنْدَ حَمْل شَيْءٍ ثَقِيلٍ.
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب 1 / 376.
(2) المصباح المنير، ومغني المحتاج 1 / 79، والشرح الصغير 1 / 137، والمطلع على أبواب المقنع ص 37.

(42/113)


وَهُوَ يُخَفَّفُ وَيُثَقَّل. قَال الأَْزْهَرِيُّ: قَال الأُْمَوِيُّ: الْوَدِيُّ وَالْمَذِيُّ وَالْمَنِيُّ مُشَدَّدَاتٌ، وَغَيْرُهُ يُخَفِّفُ.
وَقَال أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَنِيُّ مُشَدَّدٌ وَالآْخَرَانِ مُخَفَّفَانِ. يُقَال: وَدَى الرَّجُل يَدِي إِذَا خَرَجَ وَدْيُهُ (1) . وَالْوَدْيُ اصْطِلاَحًا: هُوَ الْمَاءُ الأَْبْيَضُ الْخَارِجُ عَقِيبَ الْبَوْل بِغَيْرِ لَذَّةٍ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهَادِي وَالْوَدْيِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَخْرُجُ مِنَ الْقُبُل، إِلاَّ أَنَّ الْهَادِيَ خَاصٌّ بِالنِّسَاءِ.

ج - الْمَنِيُّ:
4 - الْمَنِيُّ فِي اللُّغَةِ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَسُمِعَ بِتَخْفِيفِهَا: هُوَ مَاءُ الرَّجُل (3) .
وَعَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ مَاءٌ غَلِيظٌ أَبْيَضُ - بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل -، وَمَاءٌ رَقِيقٌ أَصْفَرُ - بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ - يَخْرُجُ عِنْدَ اشْتِدَادِ الشَّهْوَةِ بِتَلَذُّذٍ عِنْدَ خُرُوجِهِ وَيَعْقُبُ خُرُوجَهُ فُتُورٌ، وَرَائِحَتُهُ كَرَائِحَةِ طَلْعِ النَّخْل وَيَقْرُبُ مِنْ رَائِحَةِ الْعَجِينِ (4) .
__________
(1) المصباح المنير
(2) الذخيرة للقرافي 1 / 213.
(3) لسان العرب.
(4) المطلع على أبواب المقنع ص 27، ومغني المحتاج 1 / 70، وحاشية الباجوري على ابن القاسم 1 / 76، والشرح الصغير ا / 85، 86.

(42/113)


وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهَادِي وَالْمَنِيِّ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَخْرُجُ مِنَ الْقُبُل، إِلاَّ أَنَّ الْهَادِيَ خَاصٌّ بِالنِّسَاءِ.

د - الْحَيْضُ:
5 - الْحَيْضُ فِي اللُّغَةِ: السَّيَلاَنُ، تَقُول الْعَرَبُ: حَاضَتِ السَّمُرَةُ: سَال صَمْغُهَا، وَالسَّمُرَةُ شَجَرَةٌ يَسِيل مِنْهَا شَيْءٌ كَالدَّمِ، وَحَاضَ الْوَادِي: إِذَا سَال، وَحَاضَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا سَال دَمُهَا، يُقَال: حَاضَتِ الْمَرْأَةُ تَحِيضُ حَيْضًا وَمَحِيضًا فَهِيَ حَائِضٌ وَحَائِضَةٌ. وَاسْتُحِيضَتِ الْمَرْأَةُ: اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ بَعْدَ أَيَّامِهَا فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ.
وَالْحَيْضُ اصْطِلاَحًا: دَمُ جِبِلَّةٍ يَخْرُجُ مِنْ أَقْصَى رَحِمِ الْمَرْأَةِ عِنْدَ بُلُوغِهَا عَلَى سَبِيل الصِّحَّةِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْهَادِي وَالْحَيْضِ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَخْرُجُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَيْضَ يُوجِبُ الْغُسْل وَالْهَادِي لاَ يُوجِبُهُ (1) .
__________
(1) المصباح المنير، والمعجم الوسيط، ولسان العرب، ومغني المحتاج 1 / 108، وحاشية الباجوري على ابن القاسم 1 / 112، والبحر الرائق 1 / 200، والشرح الصغير 1 / 301، والمطلع على أبواب المقنع ص40، وقواعد الفقه للبركتي، والتعريفات للجرجاني.

(42/114)


هـ - النِّفَاسُ:
6 - النِّفَاسُ بِكَسْرِ النُّونِ فِي أَصْل اللُّغَةِ مَصْدَرُ نَفِسَتِ الْمَرْأَةُ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِهَا مَعَ كَسْرِ الْفَاءِ فِيهِمَا: إِذَا وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ (1) .
وَالنِّفَاسُ فِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الدَّمُ الْخَارِجُ عَقِيبَ الْوِلاَدَةِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهَادِي وَالنِّفَاسِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَرْأَةِ إِلاَّ أَنَّ النِّفَاسَ يُوجِبُ الْغُسْل.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْهَادِي:
تَتَعَلَّقُ بِالْهَادِي أَحْكَامٌ مِنْهَا:

أ - نَقْضُ الْوُضُوءِ بِهِ:
7 - لِلْمَالِكِيَّةِ قَوْلاَنِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِالْهَادِي:
الأَْوَّل: أَنَّهُ مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ عَلَى
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، والمعجم الوسيط.
(2) فتح القدير 1 / 164، وحاشية الدسوقي 1 / 174، والشرح الصغير 1 / 136 - 137، ونهاية المحتاج 1 / 305، ومغني المحتاج 1 / 108، وكشاف القناع 1 / 218، والمطلع على أبواب المقنع ص 42.

(42/114)


الْمُعْتَمَدِ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ (1) .
قَال فِي الطِّرَازِ: الْقَوْل الأَْوَّل أَنَّ هَذَا الْمَاءَ يَخْرُجُ مِنَ الْحَوَامِل عَادَةً قُرْبَ الْوِلاَدَةِ وَعِنْدَ شَمِّ الرَّائِحَةِ مِنَ الطَّعَامِ وَحَمْل الشَّيْءِ الثَّقِيل، وَمَا خَرَجَ مِنَ الْفَرْجِ عَادَةً فَهُوَ حَدَثٌ، ثُمَّ قَال: وَلِلنَّظَرِ فِي ذَلِكَ مَجَالٌ، فَإِنَّ هَذَا الْمَاءَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ غَلَبَةً فَهُوَ فِي حُكْمِ السَّلَسِ.
وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى الْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ: أَنَّ الْهَادِيَ لَيْسَ مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ رُشْدٍ، قَال: إِنَّ الْهَادِيَ لَيْسَ بِشَيْءٍ أَيْ لاَ تَتَوَضَّأُ مِنْهُ، وَأَرَى أَنْ تُصَلِّيَ بِهِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمُعْتَادٍ، أَيْ لَيْسَ بِدَائِمِ الاِعْتِيَادِ وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ هُوَ الأَْحْسَنُ، لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُعْتَادٍ (2) .
__________
(1) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 115، 175، ومواهب الجليل 1 / 376، 377، وجواهر الإكليل 1 / 32، والشرح الصغير 1 / 137، والذخيرة للقرافي 1 / 214، وحاشية العدوي مع الخرشي 1 / 210.
(2) الخرشي 1 / 210، والدسوقي 1 / 175، 115، ومواهب الجليل 1 / 376 - 377، والشرح الصغير 1 / 136 - 137، والذخيرة 1 / 214، وجواهر الإكليل 1 / 32.

(42/115)


وَيَتَّفِقُ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَعَ الْقَوْل الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَنَّ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَرْأَةِ قَبْل الْوِلاَدَةِ يُعْتَبَرُ مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ، لأَِنَّ كُل مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ أَيْضًا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.

ب - نَجَاسَةُ الْهَادِي:
8 - اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْهَادِيَ نَجِسٌ، لأَِنَّ كُل مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ نَجِسٌ فَإِنْ لاَزَمَ الْمَرْأَةَ وَخَافَتْ خُرُوجَ وَقْتِ الصَّلاَةِ صَلَّتْ بِهِ (1) .
وَيَتَّفِقُ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَعَ الْمَالِكِيَّةِ فِي نَجَاسَةِ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَرْأَةِ الْحَامِل قَبْل الْوِلاَدَةِ، لأَِنَّ كُل مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ نَجِسٌ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ الدَّمِ الْخَارِجِ قَبْل الْوِلاَدَةِ لأَِجْلِهَا اسْتِحَاضَةً أَوْ نِفَاسًا أَوْ حَيْضًا.
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نِفَاس ف 7، وَحَيْض ف 27) .
__________
(1) الخرشي 1 / 210، ومواهب الجليل 1 / 376 - 377.

(42/115)


هَاشِمَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْهَاشِمَةُ فِي اللُّغَةِ: شَجَّةٌ تَهْشِمُ الْعَظْمَ. وَقِيل: الْهَاشِمَةُ مِنَ الشِّجَاجِ الَّتِي هَشَمَتِ الْعَظْمَ وَلَمْ يَتَبَايَنْ فَرَاشُهُ.
وَقِيل: هِيَ الَّتِي هَشَمَتِ الْعَظْمَ فَنُقِشَ وَأُخْرِجَ فَتَبَايَنَ فَرَاشُهُ (1) .
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَقَدْ عَرَّفَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) الْهَاشِمَةَ بِأَنَّهَا الشَّجَّةُ الَّتِي تَهْشِمُ الْعَظْمَ أَيْ تَكْسِرُهُ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ بِلاَ انْفِصَالٍ، وَبِلاَ إِيضَاحٍ (2) ، وَهِيَ تَكُونُ فِي الرَّأْسِ.
وَعَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهَا الشَّجَّةُ الَّتِي تُوضِحُ الْعَظْمَ وَتَهْشِمُهُ (3) .
__________
(1) لسان العرب.
(2) الفتاوى الهندية 6 / 28، وطلبة الطلبة ص 335 ط دار القلم، وشرح المحلي مع حاشية القليوبي 4 / 112، 113، ومغني المحتاج 4 / 26، والقوانين الفقهية ص 344 ط دار الكتاب العربي، وحاشية البناني على شرح الزرقاني 8 / 34.
(3) مطالب أولي النهى 6 / 131، والحاوي للماوردي 16 / 31.

(42/116)


وَجَعَل بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ الْهَاشِمَةَ وَالْمُنَقِّلَةَ سَوَاءً، وَعَرَّفُوا الْمُنَقِّلَةَ بِأَنَّهَا مَا طَارَ فَرَاشُهَا مِنَ الْعَظْمِ وَلَمْ تَصِل إِلَى الدِّمَاغِ (1) ، كَمَا اسْتَعْمَلُوا لَفْظَ الْهَاشِمَةِ بِمَعْنَى كَسْرِ الْعِظَامِ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ (2) .

مَا يَجِبُ فِي الْهَاشِمَةِ:
2 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْهَاشِمَةَ لاَ يَجِبُ فِيهَا الْقِصَاصُ إِنْ كَانَتْ عَمْدًا، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيهَا لأَِنَّهُ لاَ حَدَّ يَنْتَهِي السِّكِّينُ إِلَيْهِ (3) وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيهَا الدِّيَةُ كَمَا تَجِبُ فِيهَا إِذَا كَانَتْ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ فِي الْهَاشِمَةِ: فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِي الْهَاشِمَةِ عَشْرًا مِنَ الإِْبِل لأَِنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدَّرَ الْهَاشِمَةَ عَشْرًا مِنَ الإِْبِل وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَوْل الصَّحَابِيِّ فِيمَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ تَوْقِيفٌ، وَلأَِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ
__________
(1) حاشية العدوي مع شرح الرسالة / 278 نشر دار المعرفة، وشرح الزرقاني 8 / 34، 35.
(2) الخرشي 8 / 15، وعقد الجواهر الثمينة 3 / 260.
(3) الفتاوى الهندية 6 / 29، وحاشية ابن عابدين 5 / 373، والهداية مع شروحها 8 / 312 ط الأميرية، وشرح الخرشي 8 / 34، 16، والمغني لابن قدامة 7 / 710 المحتاج 4 / 26.

(42/116)


الْمُوضِحَةُ ذَاتَ وَصْفٍ وَاحِدٍ وَفِيهَا خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل، وَكَانَتِ الْمُنَقِّلَةُ ذَاتَ ثَلاَثَةِ أَوْصَافٍ: إِيضَاحٍ وَهَشْمٍ وَتَنْقِيلٍ، وَفِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ، وَجَبَ إِذَا كَانَتِ الْهَاشِمَةُ ذَاتَ وَصْفَيْنِ أَنْ تَكُونَ دِيَتُهَا بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ فَيَكُونَ فِيهَا عَشْرٌ مِنَ الإِْبِل كَالَّذِي تَقَرَّرَ فِي نَفَقَةِ الْمُوسِرِ أَنَّهَا مُدَّانِ، وَنَفَقَةِ الْمُعْسِرِ أَنَّهَا مُدٌّ، فَوَجَبَتْ نَفَقَةُ الْمُتَوَسِّطِ مُدًّا وَنِصْفًا لأَِنَّهُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، وَلأَِنَّ كَسْرَ الْعَظْمِ بِالْهَشْمِ مُلْحَقٌ بِكَسْرِ مَا تَقَدَّرَتْ دِيَتُهُ مِنَ السِّنِّ وَفِيهِ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل فَكَذَلِكَ فِي الْهَشْمِ فَصَارَ مَعَ الْمُوضِحَةِ عَشْرًا (1) .
وَأَمَّا إِذَا انْفَرَدَتِ الْهَاشِمَةُ كَأَنْ ضَرَبَهُ بِمُثَقَّلٍ فَهَشَمَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوضِحَهُ فَحُكُومَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ هَشَمَ وَلَمْ يُوضِحْ فَفِيهِ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل (2) .
ثُمَّ قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَوْضَحَ وَهَشَمَ فَأَرَادَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْمُوضِحَةِ فِي الْعَمْدِ حُكِمَ لَهُ بِالْقِصَاصِ، وَأُغْرِمَ دِيَةَ الْهَشْمِ خَمْسًا
__________
(1) الحاوي للماوردي 16 / 30، 31، وشرح المحلي 4 / 133، وكشاف القناع 6 / 53، ومطالب أولي النهى 6 / 131.
(2) كشاف القناع 6 / 53، والحاوي للماوردي 16 / 31، وشرح المحلي 4 / 133.

(42/117)


مِنَ الإِْبِل.
وَلَوْ شَجَّهُ هَاشِمَتَيْنِ عَلَيْهِمَا مُوضِحَةٌ وَاحِدَةٌ كَانَتَا هَاشِمَتَيْنِ وَعَلَيْهِ دِيَتُهُمَا لأَِنَّهُ زَادَ إِيضَاحَ مَا لاَ هَشْمَ تَحْتَهُ، وَلَوْ أَوْضَحَهُ مُوضِحَتَيْنِ تَحْتَهُمَا هَاشِمَةٌ وَاحِدَةٌ، كَانَتْ مُوضِحَتَيْنِ، لأَِنَّهُ قَدْ زَادَهُ هَشْمَ مَا لاَ إِيضَاحَ عَلَيْهِ.
وَإِذَا شَجَّهُ فَهَشَمَ مُقَدِّمَ رَأْسِهِ وَأَعْلَى جَبْهَتِهِ فَصَارَ هَاشِمًا لِرَأْسِهِ وَجَبْهَتِهِ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَكُونُ هَاشِمَتَيْنِ لأَِنَّهَا عَلَى عُضْوَيْنِ.
وَالثَّانِي: تَكُونُ هَاشِمَةً وَاحِدَةً لاِتِّصَال بَعْضِهَا بِبَعْضٍ.
وَلَوْ شَجَّهُ فَأَوْضَحَ رَأْسَهُ وَهَشَمَ جَبْهَتَهُ أَوْ هَشَمَ رَأْسَهُ وَأَوْضَحَ جَبْهَتَهُ كَانَ مَأْخُوذًا بِدِيَةِ مُوضِحَةٍ فِي إِحْدَاهُمَا وَبِهَاشِمَةٍ فِي الأُْخْرَى لأَِنَّ مَحَلَّهَا مُخْتَلِفٌ وَدِيَتَهَا مُخْتَلِفَةٌ فَلَمْ يَتَدَاخَلاَ مَعَ اخْتِلاَفِ الْمَحَل وَالدِّيَةِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ هَشَمَهُ هَاشِمَتَيْنِ بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ فَفِيهِمَا عِشْرُونَ مِنَ الإِْبِل، وَتَسْتَوِي الْهَاشِمَةُ الْكَبِيرَةُ وَالصَّغِيرَةُ لأَِنَّ الاِسْمَ يَتَنَاوَلُهُمَا، وَإِنْ أَوْضَحَهُ مُوضِحَتَيْنِ هَشَمَ الْعَظْمَ فِي كُل
__________
(1) الحاوي للماوردي 16 / 31 - 32.

(42/117)


وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَانْفَصَل الْهَشْمُ فِي الْبَاطِنِ فَهُمَا هَاشِمَتَانِ فِيهِمَا عِشْرُونَ بَعِيرًا، لأَِنَّ الْهَشْمَ إِنَّمَا يَكُونُ تَبَعًا لِلإِْيضَاحِ، فَإِذَا كَانَتَا مُوضِحَتَيْنِ كَانَ الْهَشْمُ هَاشِمَتَيْنِ بِخِلاَفِ الْمُوضِحَةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ تَبَعًا لِغَيْرِهَا فَافْتَرَقَا (1) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ فِي الْهَاشِمَةِ وَهِيَ الَّتِي تَكْسِرُ الْعَظْمَ عُشْرَ الدِّيَةِ (2) ، كَمَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَال: فِي الْهَاشِمَةِ عَشْرٌ مِنَ الإِْبِل (3) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَخْتَلِفُ الْوَاجِبُ فِي الْهَاشِمَةِ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي حَقِيقَتِهَا.
فَالْوَاجِبُ فِي الْهَاشِمَةِ عِنْدَ مَنْ يُعَرِّفُهَا بِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَهْشِمُ الْعَظْمَ عَشْرٌ مِنَ الإِْبِل (4) .
وَأَمَّا الَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ الْهَاشِمَةَ وَالْمُنَقِّلَةَ سَوَاءً وَأَنَّهَا مَا طَارَ فَرَاشُهَا مِنَ الْعَظْمِ وَلَمْ تَصِل إِلَى
__________
(1) كشاف القناع 6 / 53.
(2) تبيين الحقائق 6 / 132، 133، والهداية وشروحها 8 / 312، 313، والدر المختار 5 / 372، والفتاوى الهندية 6 / 28 - 29.
(3) أثر زيد بن ثابت: في الهاشمة عشر من الإبل أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9 / 314 - ط المجلس العلمي) .
(4) حاشية البناني على شرح الزرقاني 8 / 34، والقوانين الفقهية ص 344 نشر دار الكتاب العربي.

(42/118)


الدِّمَاغِ فَالْوَاجِبُ فِي الْهَاشِمَةِ عِنْدَهُمْ عُشْرُ الدِّيَةِ وَنِصْفُهُ وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ مِنَ الإِْبِل وَعَلَى أَهْل الذَّهَبِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِينَارًا وَعَلَى أَهْل الْوَرِقِ أَلْفٌ وَثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ (1) .
وَقَال ابْنُ شَاسٍ: وَأَمَّا الْهَاشِمَةُ فَلاَ دِيَةَ فِيهَا بَل حُكُومَةٌ (2) .
وَقَدْ عَبَّرَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ عَنِ اخْتِلاَفِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَوْضُوعِ بِقَوْلِهِ: لَمْ يَذْكُرْهَا (الْهَاشِمَةَ) مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالَّذِي يَلُوحُ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ فِيهَا أَرْشَ الْمُوضِحَةِ، قَال: وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُنَاظِرُ عَلَى أَنَّ فِيهَا مَا فِي الْمُنَقِّلَةِ، وَيَقُول: إِذَا كَسَرَتِ الْعَظْمَ بَعْدَ أَنْ أَوْضَحَتْهُ حَصَل فِيهَا مَعْنَى الْمُنَقِّلَةِ، وَإِنَّمَا الْخَوْفُ فِي كَسْرِ الْعَظْمِ وَإِنَّمَا يَخْرُجُ الْعَظْمُ عِنْدَ الْعِلاَجِ بَعْدَ كَسْرِهِ وَخَوْفُ الْمُنَقِّلَةِ قَدْ حَصَل (3) .

اجْتِمَاعُ الْقِصَاصِ وَالأَْرْشِ فِي الْهَاشِمَةِ:
3 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الشَّجَّةُ هَاشِمَةً فَأَحَبَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَنْ
__________
(1) حاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 278 نشر دار المعرفة، وحاشية البناني مع شرح الزرقاني 8 / 34 - 35.
(2) عقد الجواهر الثمينة لابن شاس 3 / 259.
(3) عقد الجواهر الثمينة 3 / 259.

(42/118)


يَقْتَصَّ مُوضِحَةً جَازَ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ يَقْتَصُّ عَلَى بَعْضِ حَقِّهِ، وَيَقْتَصُّ مِنْ مَحَل جِنَايَتِهِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَضَعُ السِّكِّينَ فِي مَوْضِعٍ وَضَعَهَا الْجَانِي، لأَِنَّ سِكِّينَ الْجَانِي وَصَلَتْ إِلَى الْعَظْمِ ثُمَّ تَجَاوَزَتْهُ.
وَهَل لَهُ أَرْشُ مَا زَادَ عَلَى الْمُوضِحَةِ؟
يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي وَجْهٍ اخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ أَنَّ لَهُ أَرْشَ مَا زَادَ عَلَيْهَا، وَهُوَ خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ لأَِنَّهُ قَدْ تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ فِيهِ فَانْتَقَل إِلَى الْبَدَل، كَمَا لَوْ قَطَعَ أُصْبُعَيْهِ وَلَمْ يُمْكِنِ الاِسْتِيفَاءُ إِلاَّ مِنْ وَاحِدَةٍ.
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَرْشُ مَا زَادَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ لأَِنَّهُ جُرْحٌ وَاحِدٌ، فَلاَ يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ قِصَاصٍ وَدِيَةٍ، كَمَا لَوْ قَطَعَ الشَّلاَّءَ بِالصَّحِيحَةِ، وَكَمَا فِي الأَْنْفُسِ إِذَا قُتِل الْكَافِرُ بِالْمُسْلِمِ وَالْعَبْدُ بِالْحُرِّ (1) .

هَاشِمَةُ الْجَسَدِ:
4 - صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ هَاشِمَةَ الْجَسَدِ يُقْتَصُّ مِنْهَا مَا لَمْ يَعْظُمِ الْخَطَرُ كَعِظَامِ الصَّدْرِ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 28، والمهذب 2 / 179، والحاوي الكبير 16 / 31، والمغني 11 / 541 (ط دار هجر) .

(42/119)


وَالْعُنُقِ وَالصُّلْبِ وَالْفَخِذِ وَشِبْهِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِيهِ (1) .
وَعِنْدَ سُقُوطِ الْقِصَاصِ تَجِبُ فِي هَاشِمَةِ الْجَسَدِ حُكُومَةٌ بِاجْتِهَادِ الإِْمَامِ وَلَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرُ شَيْءٍ مِنَ الشَّارِعِ (2) .
وَأَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فَلاَ يُسَمُّونَ كَسْرَ الْعِظَامِ فِيمَا عَدَا الرَّأْسَ وَالْوَجْهَ بِالْهَاشِمَةِ، يَقُول الزَّيْلَعِيُّ: وَهَذِهِ الشِّجَاجُ - وَمِنْهَا الْهَاشِمَةُ - تَخْتَصُّ بِالرَّأْسِ وَالْوَجْهِ لُغَةً وَمَا كَانَ فِي غَيْرِهَا يُسَمَّى جِرَاحَةً (3) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَظْمِ (ر: جِنَايَة عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ف31) .
__________
(1) شرح الخرشي 8 / 15، وانظر شرح الزرقاني مع حاشية البناني 8 / 15
(2) شرح الزرقاني 8 / 35، وعقد الجواهر الثمينة 3 / 260.
(3) تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 132، وانظر مغني المحتاج 4 / 28،26.

(42/119)


هِبَةٌ

التَّعْرِيفُ:
أ - الْهِبَةُ فِي اللُّغَةِ: إِعْطَاءُ الشَّيْءِ إِلَى الْغَيْرِ بِلاَ عِوَضٍ، سَوَاءٌ كَانَ مَالاً أَوْ غَيْرَ مَالٍ، فَيُقَال: وَهَبَ لَهُ مَالاً وَهْبًا وَهِبَةً، كَمَا يُقَال: وَهَبَ اللَّهُ فُلاَنًا وَلَدًا صَالِحًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي (1) } . وَيُقَال: وَهَبَهُ مَالاً، وَلاَ يُقَال: وَهَبَ مِنْهُ، وَالأَْكْثَرُونَ عَلَى: وَهَبَ لَهُ، مُتَعَدِّيَةٌ بِحَرْفِ الْجَرِّ. وَالاِسْمُ مِنَ الْهِبَةِ: الْمَوْهِبُ وَالْمَوْهِبَةُ. وَالاِتِّهَابُ: قَبُول الْهِبَةِ. وَالاِسْتِيهَابُ: سُؤَال الْهِبَةِ. وَتَوَاهَبَ الْقَوْمُ: وَهَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَرَجُلٌ وَهَّابٌ وَوَهَّابَةٌ: أَيْ كَثِيرُ الْهِبَةِ لأَِمْوَالِهِ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهَا: تَمْلِيكُ الْمَال بِلاَ عِوَضٍ فِي الْحَال (3) .
__________
(1) سورة مريم 5 - 6
(2) تاج العروس، ولسان العرب، والمصباح المنير.
(3) تكملة فتح القدير 7 / 113، وحاشية ابن عابدين 4 / 530، والبحر الرائق لابن نجيم 7 / 309، والغاية القصوى 2 / 651، ومغني المحتاج 2 / 396، والمغني والشرح الكبير 6 / 246، والخرشي 7 / 101، ومنح الجليل 4 / 83.

(42/120)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَطِيَّةُ:
2 - الْعَطِيَّةُ لُغَةً: كُل مَا يُعْطَى، وَالْجَمْعُ عَطَايَا.
وَالْعَطِيَّةُ اصْطِلاَحًا كَالْهِبَةِ، إِلاَّ أَنَّهَا أَعَمُّ مِنَ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ، وَتُطْلَقُ الْعَطِيَّةُ عَلَى الْمَهْرِ أَيْضًا (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهِبَةِ وَالْعَطِيَّةِ أَنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا، فَالْهِبَةُ أَحَدُ أَنْوَاعِ الْعَطَايَا.

ب - الْهَدِيَّةُ:
3 - الْهَدِيَّةُ لُغَةً مَأْخُوذٌ مِنْ هَدَى، يُقَال: أَهْدَيْتُ لِلرَّجُل كَذَا بَعَثْتُ بِهِ إِلَيْهِ إِكْرَامًا.
وَاصْطِلاَحًا: هِيَ الْمَال الَّذِي أُتْحِفَ بِهِ وَأُهْدِيَ لأَِحَدٍ إِكْرَامًا لَهُ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِلاَ عِوَضٍ، غَيْرَ أَنَّ الْهِبَةَ يَلْزَمُ فِيهَا الْقَبُول عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَلاَ يَلْزَمُ ذَلِكَ
__________
(1) المصباح المنير، والمعجم الوسيط، والمفردات للراغب، والمغني 5 / 649، والخرشي 7 / 101، والبدائع 6 / 116، والقليوبي 3 / 110.
(2) المصباح المنير، والمعجم الوسيط، والمفردات للراغب، والمغني 5 / 649، والخرشي 7 / 101، والبدائع 6 / 116، والقليوبي 3 / 110.

(42/120)


فِي الْهَدِيَّةِ.

ب - الصَّدَقَةُ:
4 - الصَّدَقَةُ لُغَةً: الْعَطِيَّةُ. يُقَال: تَصَدَّقْتُ بِكَذَا أَيْ أَعْطَيْتُهُ صَدَقَةً.
وَاصْطِلاَحًا: تَمْلِيكُ مَالٍ بِلاَ عِوَضٍ طَلَبًا لِثَوَابِ الآْخِرَةِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَكُونُ طَلَبًا لِثَوَابِ الآْخِرَةِ، بَيْنَمَا الْهِبَةُ تَكُونُ لِلتَّوَدُّدِ وَالْمَحَبَّةِ غَالِبًا، وَأَنَّ الْهِبَةَ يَلْزَمُ فِيهَا الْقَبُول، وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَلاَ يَلْزَمُ فِيهَا الْقَبُول عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.

مَشْرُوعِيَّةُ الْهِبَةِ:
5 - الْهِبَةُ مَشْرُوعَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ.
فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (2) } وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَهَادُوا تَحَابُّوا (3)
__________
(1) المصباح المنير، والمعجم الوسيط، والمفردات للراغب، والمغني 5 / 649، والخرشي 7 / 101، والبدائع 6 / 116، والقليوبي 3 / 110.
(2) سورة النساء / 4.
(3) حديث: " تهادوا تحابوا ". أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص 155 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة، وحسن إسناده ابن حجر في التخليص (3 / 70 - ط شركة الطباعة الفنية) .

(42/121)


وَالْهَدِيَّةُ هِيَ الْهِبَةُ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ (1) وَالْفِرْسِنُ: الظِّلْفُ.
وَقَبُول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةَ الْمُقَوْقِسِ وَهُوَ كَافِرٌ (2) ، كَمَا قَبِل هَدِيَّةَ النَّجَاشِيِّ وَهُوَ مُسْلِمٌ وَتَصَرَّفَ بِهَا وَهَدَاهُ أَيْضًا (3) .
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ فَقَدِ انْعَقَدَ عَلَى جَوَازِهَا وَمَشْرُوعِيَّتِهَا، بَل عَلَى اسْتِحْبَابِهَا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا، لِمَا فِيهَا مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَإِشَاعَةِ الْحُبِّ وَالتَّوَادِّ بَيْنَ النَّاسِ (4) ، بِهِ تَتَبَيَّنُ
__________
(1) حديث: " لا تحقرن جارة لجارتها. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 197 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 714 ط عيسى الحلبي) .
(2) حديث: " أهدى المقوقس صاحب الإسكندرية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . إلخ ". أخرجه الطبراني في الأوسط (8 / 150 ط مكتبة المعارف - الرياض) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وعزاه إلى الطبراني في الأوسط عن عائشة (4 / 152 ط القدسي) ورجاله ثقات.
(3) حديث: " أهدى النجاشي لرسول الله صلى الله عليه وسلم قارورة. . . ". أخرجه ابن عدي في الكامل (6 / 2114 ط دار الفكر) ، وقال: متنه غريب ولا أعلم رواه عن العرزمي عن أبي الزبير غير عصمة.
(4) تحفة الفقهاء للسمرقندي 3 / 253، والمبسوط للسرخسي 12 / 47، والمغني والشرح الكبير 6 / 246، ومغني المحتاج 2 / 396.

(42/121)


الْحِكْمَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّتِهَا.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - الْهِبَةُ مَنْدُوبَةٌ بِالإِْجْمَاعِ، وَقَدْ يَطْرَأُ عَلَيْهَا مَا يَجْعَلُهَا مُحَرَّمَةً إِذَا قُصِدَ بِهَا مَعْصِيَةٌ أَوْ إِعَانَةٌ عَلَى ظُلْمٍ، أَوْ قُصِدَ بِهَا رِشْوَةُ أَصْحَابِ الْوِلاَيَاتِ وَالْعُمَّال (1) .
وَقَدْ تَكُونُ الْهِبَةُ مَكْرُوهَةً إِذَا قَصَدَ الْوَاهِبُ بِهَا الرِّيَاءَ وَالْمُبَاهَاةَ وَالسُّمْعَةَ (2) .

أَرْكَانُ الْهِبَةِ وَشُرُوطُهَا:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ الْهِبَةِ هِيَ: الْعَاقِدَانِ (الْوَاهِبُ وَالْمَوْهُوبُ لَهُ) ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ (الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ) وَالصِّيغَةُ (3) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ رُكْنَ الْهِبَةِ هُوَ صِيغَتُهَا (4) .
وَتَفْصِيل هَذِهِ الأَْرْكَانِ كَمَا يَلِي:
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 396، وقواعد ابن رجب الحنبلي ق 150 ص 322، وكشاف القناع 4 / 299.
(2) كشاف القناع 4 / 299.
(3) القوانين الفقهية لابن جزي ط دار الفكر ص 314، ومغني المحتاج 2 / 397، وكشاف القناع 4 / 299.
(4) المبسوط 12 / 57، وبدائع الصنائع 6 / 115، والعناية بهامش فتح القدير 7 / 113.

(42/122)


أَوَّلاً: الْعَاقِدَانِ:
الْعَاقِدَانِ هُمَا الْوَاهِبُ وَالْمَوْهُوبُ لَهُ وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا شُرُوطٌ:

شُرُوطُ الْوَاهِبِ:
8 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَاهِبِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْل التَّبَرُّعِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ عَاقِلاً بَالِغًا رَشِيدًا، وَأَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ (1) .
وَبِنَاءً عَلَيْهِ فَلاَ تَصِحُّ الْهِبَةُ مِمَّنْ حُجِرَ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ بِوَجْهٍ كَالْمَجْنُونِ وَالصَّغِيرِ مُمَيِّزًا أَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ بِلاَ خِلاَفٍ، كَمَا لاَ تَصِحُّ مِنْ مَحْجُورٍ بِالدِّينِ أَوِ السَّفَهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى جَوَازَ هَذَا الْحَجْرِ، وَهُمْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ.
وَمَنْعُ هَؤُلاَءِ الْمَحْجُورِينَ مِنَ الْهِبَةِ بِسَبَبِ كَوْنِهَا ضَرَرًا مَحْضًا لأَِنَّهَا نَقْل الْمِلْكِ إِلَى الْغَيْرِ بِدُونِ عِوَضٍ.
9 - أَمَّا الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ فَإِنَّ حُكْمَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 118، والقوانين الفقهية ص 315، والخرشي 7 / 102، والغاية القصوى 2 / 653، مغني المحتاج 2 / 397، والمغني والشرح الكبير 6 / 261، والإنصاف للمرداوي 7 / 165، 168، وكشاف القناع 4 / 299، والمغني 4 / 315 ط الرياض.

(42/122)


هِبَتِهِ حُكْمُ وَصِيَّتِهِ، فَلَهُ هِبَةُ ثُلُثِ أَمْوَالِهِ، وَفِيمَا زَادَ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِمُوَافَقَةِ الْوَرَثَةِ.
وَأَلْحَقَ الْحَنَابِلَةُ بِالْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ الْمُقَاتِل بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَكَوْنَ الشَّخْصِ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ أَوْ فِي بَلَدٍ وَقَعَ الطَّاعُونُ فِيهِ وَالْحَامِل فِي الْمَخَاضِ وَمَنْ قُدِّمَ لِلْقِصَاصِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ هِبَةَ الْمَرِيضِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ صَحِيحَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْعَدَوِيَّ قَال: أَفَادَ بَعْضُ مَشَائِخِنَا أَنَّ الرَّاجِحَ بُطْلاَنُهُ فِي الْمَرِيضِ. وَمُقَابِل الرَّاجِحِ الْوَقْفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ.
كَمَا أَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ الزَّوْجَةَ فِي حَجْرِهَا عَنِ الْهِبَةِ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، وَيَكُونُ الزَّائِدُ عَلَى الثُّلُثِ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ زَوْجِهَا.
كَمَا أَنَّ هِبَةَ الْمَحْجُورِ بِدَيْنٍ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِذْنِ الْغَارِمِينَ لأَِنَّهُ مَحْجُورٌ لِمَصْلَحَتِهِمْ.
10 - وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ هِبَةِ الأَْبِ أَمْوَال ابْنِهِ الصَّغِيرِ بِدُونِ عِوَضٍ.
أَمَّا إِذَا وَهَبَهَا الأَْبُ مُقَابِل عِوَضٍ مَشْرُوطٍ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي صِحَّتِهِ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: عَدَمُ الْجَوَازِ. وَبِهِ قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ.

(42/123)


وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْل: أَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ تَقَعُ تَبَرُّعًا ابْتِدَاءً، ثُمَّ تَصِيرُ بَيْعًا فِي الاِنْتِهَاءِ، بِدَلِيل أَنَّهَا لاَ تُفِيدُ الْمِلْكَ قَبْل الْقَبْضِ، وَلَوْ وَقَعَتْ بَيْعًا مِنْ حِينِ وُجُودِهَا لَمَا تَوَقَّفَ الْمِلْكُ فِيهَا عَلَى الْقَبْضِ، لأَِنَّ الْبَيْعَ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ، فَدَل عَلَى أَنَّهَا وَقَعَتْ تَبَرُّعًا ابْتِدَاءً، وَتَبَرُّعُ هَؤُلاَءِ مَمْنُوعٌ فَلَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ حِينَ وُجُودِهَا، وَلاَ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ بَيْعًا، فَالأَْصْل عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: أَنَّ كُل مَنْ لاَ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ لاَ يَمْلِكُ الْهِبَةَ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِهِ.
الثَّانِي: تَجُوزُ هِبَةُ الأَْبِ مَال ابْنِهِ الصَّغِيرِ مَعَ شَرْطِ الْعِوَضِ، وَبِهِ قَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ.
وَذَلِكَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الأَْصْل عِنْدَهُ: أَنَّ مَنْ يَمْلِكُ الْبَيْعَ يَمْلِكُ الْهِبَةَ بَعِوَضٍ. فَالْهِبَةُ تَمْلِيكٌ، فَإِذَا شَرَطَ فِيهَا الْعِوَضَ كَانَتْ تَمْلِيكًا بِعِوَضٍ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْبَيْعِ، وَلاَ عِبْرَةَ بِاخْتِلاَفِ الْعِبَارَةِ بَعْدَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى كَلَفْظِ الْبَيْعِ وَلَفْظِ التَّمْلِيكِ (1) وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ هِبَةِ الأَْبِ مَال ابْنِهِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 118.
(2) الخرشي 7 / 120، وحاشية الدسوقي 4 / 101، وحاشية العدوي على الخرشي 7 / 103.

(42/123)


هِبَةُ الْفُضُولِيِّ:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هِبَةِ الْفُضُولِيِّ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ هِبَةَ الْفُضُولِيِّ بَاطِلَةٌ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الثَّانِي، وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ - وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ الْعَدَوِيُّ - إِلَى أَنَّ هِبَةَ الْفُضُولِيِّ تَنْعَقِدُ مَوْقُوفَةً، إِنْ أَجَازَهَا الْمَالِكُ نَفَذَتْ وَإِلاَّ بَطَلَتْ (2) ، فَقَدْ جَاءَ فِي مِنْحَةِ الْخَالِقِ: كُل تَصَرُّفٍ صَدَرَ مِنَ الْفُضُولِيِّ وَلَهُ مُجِيزٌ حَال وُقُوعِهِ انْعَقَدَ مَوْقُوفًا مِنْ بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ طَلاَقٍ أَوْ هِبَةٍ، وَكَذَا كُل مَا صَحَّ بِهِ التَّوْكِيل (3) .

هِبَةُ السَّكْرَانِ:
12 - السُّكْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِمُبَاحٍ أَوْ بِحَرَامٍ.
فَإِنْ سَكِرَ بِمُبَاحٍ أَوْ بِمَا يُعْذَرُ فِيهِ، كَمَا لَوْ سَكِرَ بِالْبِنْجِ أَوْ أُوجِرَ خَمْرًا: فَإِنَّ جَمِيعَ تَصَرُّفَاتِهِ الصَّادِرَةِ عَنْهُ لاَ تَنْفُذُ، لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 98، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 285، ومطالب أولي النهى 3 / 19.
(2) فتح القدير 6 / 311 ط الأميرية، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 285، حاشية الدسوقي 4 / 98.
(3) حاشية منحة الخالق على البحر الرائق 6 / 164.

(42/124)


مُبَاحًا جُعِل عُذْرًا.
وَأَمَّا إِنْ سَكِرَ بِمُحَرَّمٍ، كَمَا لَوْ شَرِبَ مُسْكِرًا بِاخْتِيَارِهِ (مُتَعَدِّيًا) فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَفَاذِ تَصَرُّفَاتِهِ:
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ أَنَّهُ تَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهُ وَأَقَارِيرُهُ جَمِيعُهَا.
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ السُّكْرَ بِالإِْجْمَاعِ لاَ يُنَافِي الْخِطَابَ بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ (1) } وَإِنْ كَانَ خِطَابًا فِي حَال السُّكْرِ فَلاَ شُبْهَةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ فِي حَال الصَّحْوِ فَكَذَلِكَ. . . .، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ ثَبَتَ أَنَّ السُّكْرَ لاَ يُبْطِل شَيْئًا مِنَ الأَْهْلِيَّةِ، فَيَلْزَمُهُ أَحْكَامُ الشَّرْعِ كُلُّهَا وَتَصِحُّ عِبَارَاتُهُ كُلُّهَا بِالطَّلاَقِ وَالْعِتَاقِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالأَْقَارِيرِ، وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ بِالسُّكْرِ الْقَصْدُ دُونَ الْعِبَارَةِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ السَّكْرَانَ بِحَرَامٍ تَلْزَمُهُ الْجِنَايَاتُ وَالْعِتْقُ وَالطَّلاَقُ، وَلاَ تَلْزَمُهُ الإِْقْرَارَاتُ وَالْعُقُودُ مِنْ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ وَهِبَةٍ وَصَدَقَةٍ وَحَبْسٍ عَلَى الْمَشْهُورِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ
__________
(1) سورة النساء / 43.

(42/124)


فِي الْقَوْل الثَّانِي أَنَّ تَصَرُّفَاتِ السَّكْرَانِ وَأَقَارِيرَهُ لاَ تَنْفُذُ، وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ السَّكْرَانَ مَفْقُودَ الإِْرَادَةِ أَشْبَهَ الْمُكْرَهَ، وَلأَِنَّ الْعَقْل شَرْطٌ لِلتَّكْلِيفِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ زَوَال الشَّرْطِ بِمَعْصِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا (1) .

شُرُوطُ الْمَوْهُوبِ لَهُ:
13 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَكُونَ أَهْلاً لِمِلْكِ مَا يُوهَبُ لَهُ.
فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ عَاقِلاً بَالِغًا فَإِنَّهُ يَقْبِضُ الْهِبَةَ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل الْقَبْضِ فَإِنَّ الْهِبَةَ لَهُ صَحِيحَةٌ لَكِنْ يَقْبِضُ عَنْهُ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الْقَبْضُ مِنْ وَلِيٍّ وَغَيْرِهِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قَبْض ف 25 - 21) .

عَطِيَّةُ الأَْبِ لأَِوْلاَدِهِ:
14 - يَتَّفِقُ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الأَْبَ إِذَا أَعْطَى لأَِوْلاَدِهِ صَحَّتْ عَطَايَاهُ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 324، وفتح القدير 3 / 345، وحاشية الحموي 2 / 151، 152، وحاشية الدسوقي 2 / 365، 3 / 397، ومواهب الجليل 4 / 43، وروضة الطالبين 8 / 62، وأشباه السيوطي 216، والإنصاف 8 / 432، والقواعد لابن رجب 229، 230، والمغني 7 / 115.

(42/125)


وَاسْتُحِبَّتِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وُجُوبَ التَّسْوِيَةِ، وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْجَمِيعِ التَّفْضِيل بَيْنَهُمْ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَسْوِيَة ف 11) .

ثَانِيًا: شُرُوطُ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ:
15 - الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي الْهِبَةِ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ مَا صَحَّ بَيْعُهُ صَحَّتْ هِبَتُهُ (2) مَعَ اسْتِثْنَاءَاتٍ ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ عَلَى هَذَا الضَّابِطِ.
أَمَّا شُرُوطُهُ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيل فَهِيَ مَا يَأْتِي:
أ - أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ مَوْجُودًا.
ب - أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَمْلُوكًا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُبَاحٍ، مَمْلُوكًا لِلْوَاهِبِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 127، والقوانين الفقهية ص 314، ومغني المحتاج 2 / 401، وحاشية البجيرمي على منهج الطلاب 3 / 219، وحاشية القليوبي وعميرة 3 / 113، والمغني والشرح الكبير 6 / 263، وكشاف القناع 4 / 9 30.
(2) بدائع الصنائع 6 / 119، ومغني المحتاج 2 / 399، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 469 نشر دار الكتب العلمية بيروت، والمغني والشرح الكبير 6 / 262، والإنصاف 7 / 131.

(42/125)


ج - أَنْ يَكُونَ مَالاً مُتَقَوَّمًا.
د - أَنْ يَكُونَ مَحُوزًا.
هـ - أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ - أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ مَوْجُودًا:
16 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا حِينَ الْهِبَةِ، لأَِنَّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَال، وَبِنَاءً عَلَيْهِ لاَ يَصِحُّ هِبَةُ مَا لَيْسَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ، كَمَا لَوْ وَهَبَهُ مَا يُثْمِرُ نَخْلُهُ هَذَا الْعَامَ، أَوْ مَا تَلِدُ أَغْنَامُهُ هَذِهِ السَّنَةَ وَنَحْوُهُ. وَمِثْلُهُ: لَوْ وَهَبَهُ مَا فِي بَطْنِ هَذَا الْحَيَوَانِ حَتَّى وَإِنْ سَلَّطَهُ عَلَى الْقَبْضِ عِنْدَ الْوِلاَدَةِ. وَمِثْلُهُ: لَوْ وَهَبَهُ زُبْدًا فِي لَبَنٍ أَوْ دُهْنًا فِي سِمْسِمٍ لأَِنَّهُ مَعْدُومٌ فِي الْحَال.
وَهَذَا بِخِلاَفِ مَا إِذَا وَهَبَهُ صُوفًا عَلَى ظَهْرِ غَنَمٍ وَجَزَّهُ وَسَلَّمَهُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لأَِنَّ الشَّيْءَ الْمَوْهُوبَ مَوْجُودٌ وَمَمْلُوكٌ فِي الْحَال، لَكِنَّهُ لَمْ يَنْفُذْ حَالاً لِمَانِعٍ، وَهُوَ كَوْنُ الْمَوْهُوبِ مَشْغُولاً بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ، فَإِذَا جَزَّهُ فَقَدْ زَال الْمَانِعُ فَيَنْفُذُ عِنْدَ وُجُودِ الْقَبْضِ، وَصَارَ كَمَا لَوْ وَهَبَ شَخْصًا مُشَاعًا ثُمَّ قَسَمَهُ وَسَلَّمَهُ.

(42/126)


وَبِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ هِبَةَ الْمَعْدُومِ وَالْمَجْهُول لاَ تَجُوزُ، لأَِنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ، وَتَمْلِيكُ الْمَعْدُومِ وَالْمَجْهُول لاَ يَجُوزُ فَيَقَعُ الْعَقْدُ بَاطِلاً، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ هِبَةِ كُل مَمْلُوكٍ وَإِنْ كَانَ لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ كَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ وَالْمَجْهُول، وَالثَّمَرَةِ قَبْل بُدُوِّ صَلاَحِهَا وَالْمَغْصُوبِ، إِذِ الأَْصْل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَصِحُّ هِبَةُ كُل مَا يَقْبَل النَّقْل شَرْعًا وَإِنْ كَانَ مَجْهُولاً (2) .
كَمَا صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ لِهِبَةِ الْمَعْدُومِ بِأَنَّ الَّذِي يَهَبُ ثَمَرَةَ نَخْلِهِ لِرَجُلٍ عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ أَقَل أَوْ أَكْثَرَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ مَجْهُولاً فَلاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ عِلْمُهُ أَوْ لاَ.
فَإِنْ كَانَ يَتَعَذَّرُ عِلْمُهُ كَزَيْتٍ اخْتَلَطَ بِزَيْتٍ أَوْ شَيْرَجٍ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ فِي الْمَذْهَبِ صِحَّةُ الْهِبَةِ كَالصُّلْحِ عَلَى مَجْهُولٍ لِلْحَاجَةِ، وَقِيل: لاَ يَصِحُّ.
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) بداية المجتهد 2 / 248، والقوانين الفقهية ص 315، والخرشي 7 / 103، ومنح الجليل 4 / 82.
(3) المدونة 6 / 124، والذخيرة للقرافي 6 / 226.

(42/126)


وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَتَعَذَّرُ عِلْمُهُ كَالْحَمْل فِي الْبَطْنِ وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ وَالصُّوفِ عَلَى الظَّهْرِ، فَالصَّحِيحُ عَدَمُ الصِّحَّةِ لِلْجَهَالَةِ وَتَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ، وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الأَْصْحَابِ، وَقِيل: تَصِحُّ هِبَةُ الْمَجْهُول (1)

ب - أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْوَاهِبِ:
17 - مِنَ الشُّرُوطِ الْوَاجِبَةِ فِي الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا فِي نَفْسِهِ، فَلاَ يَجُوزُ هِبَةُ الْمُبَاحَاتِ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الإِْحْرَازِ، وَلأَِنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ، وَتَمْلِيكُ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ مُحَالٌ.
كَمَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ مَمْلُوكًا لِلْوَاهِبِ؛ لأَِنَّ هِبَةَ مَال الْغَيْرِ مَمْنُوعٌ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
وَيَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ الْمَمْلُوكُ لِلْوَاهِبِ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا:
أَمَّا هِبَةُ الْعَيْنِ فَظَاهِرٌ الْجَوَازُ لإِِمْكَانِيَّةِ قَبْضِهِ بِعَيْنِهِ.
أَمَّا هِبَةُ الدَّيْنِ: فَإِنْ كَانَ الْوَاهِبُ قَدْ وَهَبَ الدَّيْنَ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِلاَ خِلاَفٍ، لأَِنَّهُ بِمَثَابَةِ إِبْرَاءٍ لِلْمَدِينِ أَوْ إِسْقَاطِ الدَّيْنِ عَنْهُ، وَلاَ حَاجَةَ لِقَبْضٍ جَدِيدٍ.
__________
(1) الإنصاف 7 / 132، والكشاف 4 / 306.

(42/127)


أَمَّا هِبَةُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: الْجَوَازُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ فِي الْمَنْهَجِ.
وَبُنِيَ الْجَوَازُ عَلَى أَنَّهُ إِنَابَةٌ فِي قَبْضِ الدَّيْنِ، وَلأَِنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ، أَلاَ يَرَى أَنَّهُ يُجْبِرُ الْمَدْيُونَ عَلَى تَسْلِيمِهِ، إِلاَّ أَنَّ قَبْضَهُ بِقَبْضِ عَيْنِهِ؟ فَإِذَا قَبَضَ الْعَيْنَ قَامَ قَبْضُهَا مَقَامَ قَبْضِ عَيْنِ مَا فِي الذِّمَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى الإِْذْنِ بِالْقَبْضِ صَرِيحًا، وَلاَ يُكْتَفَى فِيهِ بِالْقَبْضِ بِحَضْرَةِ الْوَاهِبِ بِخِلاَفِ هِبَةِ الْعَيْنِ. وَهَذَا وَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
الثَّانِي: عَدَمُ الْجَوَازِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ الْمُعْتَمَدِ، وَبِهِ قَال الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَوَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ جَوَازِ الْهِبَةِ، وَمَا فِي الذِّمَّةِ لاَ يَحْتَمِل الْقَبْضَ، وَهُوَ بِخِلاَفِ مَا لَوْ وُهِبَ لِلْمَدِينِ، لأََنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ، وَذِمَّتُهُ فِي قَبْضِهِ، فَكَانَ الدَّيْنُ فِي قَبْضِهِ بِوَاسِطَةِ قَبْضِ الذِّمَّةِ.
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَيْهِ: بِأَنَّ الْهِبَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ مَقْدُورَةِ التَّسْلِيمِ، وَأَنَّ مَا

(42/127)


يُقْبَضُ مِنَ الدُّيُونِ عَيْنٌ لاَ دَيْنٌ، وَالْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا وَرَدَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ (1) .

ج - أَنْ يَكُونَ الْمَوْهُوبُ مُتَقَوَّمًا:
18 - الْمَال الْمُتَقَوَّمُ هُوَ مَا كَانَ مَالاً فِي نَظَرِ الشَّرْعِ لَهُ قِيمَةٌ يُضْمَنُ بِهَا عِنْدَ الإِْتْلاَفِ.
وَبِنَاءً عَلَيْهِ لاَ يَجُوزُ هِبَةُ مَا لَيْسَ مَالاً أَصْلاً كَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالدَّمِ، وَلاَ هِبَةُ مَا لَيْسَ مُتَقَوَّمًا كَالْخَمْرِ وَالْمُسْكِرَاتِ، وَلاَ هِبَةُ كُل مَا هُوَ مُحَرَّمٌ شَرْعًا.
وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ فِي صِحَّةِ هِبَةِ الْحَبَّةِ أَوِ الْحَبَّتَيْنِ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالتَّمْرَةِ، مِمَّا لَيْسَ مُتَمَوَّلاً.
فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى الْجَوَازَ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الصَّدَقَةِ بِالتَّمْرَةِ، وَالصَّدَقَةُ هِبَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى الْمَنْعَ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ التَّمَوُّل (2) .
__________
(1) البدائع 6 / 119، والبحر الرائق 7 / 309، والخرشي 7 / 105، ومنح الجليل 4 / 86، ومغني المحتاج 2 / 400، ومنهج الطلاب مع البجيرمي 3 / 217، وحاشية القليوبي وعميرة 3 / 112، والمغني مع الشرح 6 / 255، والإنصاف 7 / 127، وكشاف القناع 4 / 306.
(2) البدائع 6 / 119، ومغني المحتاج 2 / 399، وحاشية القليوبي 3 / 112، والمغني والشرح 6 / 262، والإنصاف 7 / 131، وبداية المجتهد 2 / 248، والخرشي 7 / 103، والقوانين الفقهية ص 315.

(42/128)


د - أَنْ يَكُونَ الْمَوْهُوبُ مَحُوزًا:
19 - وَالْكَلاَمُ هُنَا عَنْ هِبَةِ الشَّيْءِ الْمُشَاعِ. وَلِلْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِهَا قَوْلاَنِ:

الأَْوَّل: أَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ جَائِزَةٌ كَالْبَيْعِ، فَيُسَلِّمُ الْوَاهِبُ جَمِيعَ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ إِلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ يَسْتَوْفِي مِنْهُ حَقَّهُ، وَيَكُونُ حَقُّ الشَّرِيكِ فِي يَدِهِ وَدِيعَةً، وَقِيل: إِنْ قَبَضَهُ لِيَنْتَفِعَ بِهِ فَإِعَارَةٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَحُجَّتُهُمْ كَمَا قَال ابْنُ رُشْدٍ: أَنَّ الْقَبْضَ فِي هِبَةِ الْمُشَاعِ غَيْرِ الْمَقْسُومِ يَصِحُّ كَالْقَبْضِ فِي بَيْعِ الْمُشَاعِ غَيْرِ الْمَقْسُومِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي قَبْضِ الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (قَبْض ف30) .

الْقَوْل الثَّانِي: جَوَازُ هِبَةِ الْمُشَاعِ فِيمَا لاَ يُقْسَمُ وَعَدَمُ جَوَازِ هِبَةِ الْمُشَاعِ الَّذِي يُقْسَمُ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ هِبَةِ الْمُشَاعِ لأَِجْنَبِيٍّ أَوْ لِلشَّرِيكِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَحُجَّتُهُمْ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، فَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ جَوَازِ

(42/128)


الْعَقْدِ، وَالشُّيُوعُ يَمْنَعُ الْقَبْضَ لأَِنَّ مَعْنَى الْقَبْضِ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَقْبُوضِ، وَالتَّصَرُّفُ فِي النِّصْفِ الشَّائِعِ وَحْدَهُ لاَ يُتَصَوَّرُ، وَهَكَذَا يُقَال فِي الْمُشَاعِ الَّذِي لاَ يُقْسَمُ أَيْضًا، لَكِنْ جَوَّزْنَا هِبَتَهُ لِلضَّرُورَةِ لأَِنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَى هِبَةِ بَعْضِهِ، وَلاَ حُكْمَ لِلْهِبَةِ بِدُونِ الْقَبْضِ، وَالشُّيُوعُ مَانِعٌ مِنَ الْقَبْضِ، وَلاَ سَبِيل لإِِزَالَةِ الْمَانِعِ بِالْقِسْمَةِ لِتَعَذُّرِ قِسْمَتِهِ - كَالدَّابَّةِ - فَمَسَّتِ الضَّرُورَةُ إِلَى الْجَوَازِ وَإِقَامَةِ صُورَةِ التَّخْلِيَةِ مَقَامَ الْقَبْضِ، وَلاَ ضَرُورَةَ فِيمَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ لإِِمْكَانِ إِزَالَةِ الْمَانِعِ.
وَلأَِنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ، فَلَوْ صَحَّتْ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِل الْقِسْمَةَ لَصَارَ عَقْدَ ضَمَانٍ، لأَِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ يَمْلِكُ مُطَالَبَةَ الْوَاهِبِ بِالْقِسْمَةِ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْقِسْمَةِ فَيُؤَدِّي إِلَى تَغْيِيرِ الثَّابِتِ بِالشَّرْعِ، بِخِلاَفِ مُشَاعٍ لاَ يَحْتَمِل الْقِسْمَةَ، لأَِنَّهُ لاَ يُتَصَوَّرُ إِيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ، لأَِنَّ الضَّمَانَ ضَمَانُ الْقِسْمَةِ، وَالْمَحَل لاَ يَحْتَمِل الْقِسْمَةَ (1) .
__________
(1) البدائع 6 / 119، ومغني المحتاج 2 / 399، وحاشية القليوبي 3 / 112، والمغني والشرح 6 / 262، والإنصاف 7 / 131، وبداية المجتهد 2 / 248، والخرشي 7 / 103، والقوانين الفقهية ص 315، وروضة الطالبين 5 / 376.

(42/129)


هـ - أَنْ يَكُونَ الْمَوْهُوبُ مُتَمَيِّزًا عَنْ غَيْرِ الْمَوْهُوبِ وَغَيْرَ مُتَّصِلٍ بِهِ:
20 - يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ أَنْ لاَ يَكُونَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ مُتَّصِلاً بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ اتِّصَال الأَْجْزَاءِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ قَبْضَ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ وَحْدَهُ لاَ يُتَصَوَّرُ، وَغَيْرُهُ لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الْمُشَاعِ.
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ فِيمَا لَوْ وَهَبَ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ دُونَ الزَّرْعِ، أَوْ شَجَرًا دُونَ ثَمَرِهِ، أَوْ وَهَبَ الزَّرْعَ دُونَ الأَْرْضِ، أَوِ الثَّمَرَ دُونَ الشَّجَرِ، ثُمَّ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَإِنَّ الْهِبَةَ لَمْ تَجُزْ، وَلَوْ وَهَبَ الأَْرْضَ ثُمَّ الزَّرْعَ وَسَلَّمَهَا جَمِيعًا جَازَ (1) .

هِبَةُ الْمَنَافِعِ:
21 - تُتَصَوَّرُ هِبَةُ الْمَنَافِعِ غَالِبًا فِي الْعَارِيَةِ، فَقَدْ عَرَّفَ الْفُقَهَاءُ الْعَارِيَةَ بِأَنَّهَا هِبَةُ الْمَنَافِعِ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ (2) .
وَتَدْخُل فِيهَا الْعُمْرَى عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ الْعُمْرَى تَمْلِيكَ مَنْفَعَةٍ (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 123، وتحفة الفقهاء 3 / 325 - 326 ط دار الفكر.
(2) الاختيار 3 / 55، والمبدع 5 / 137.
(3) حاشية البناني على الزرقاني 6 / 226.

(42/129)


وَلِلتَّفْصِيل (ر: إِعَارَة، عُمْرَى ف 6) .

و اشْتِرَاطُ قَبْضِ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ:
21 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ لِتَمَامِ الْهِبَةِ، أَيْ أَنَّ الْهِبَةَ حِينَ تَصْدُرُ صِيغَتُهَا فَهَل تُعْتَبَرُ عَقْدًا تَامًّا يُفِيدُ الْمِلْكَ فِي الْحَال أَمْ لاَ بُدَّ مِنْ قَبْضِ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ؟ لِلْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ (1) :

الْقَوْل الأَْوَّل: يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَرِوَايَةٌ مَرْجُوحَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْهِبَةَ لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، فَلاَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ قَبْل قَبْضِ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ، وَلَيْسَ فِي الإِْيجَابِ وَالْقَبُول فَقَطْ قُوَّةُ إِلْزَامٍ لِلْوَاهِبِ لإِِقْبَاضِ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، بَل لَهُ الْخِيَارُ بِالإِْذْنِ بِالْقَبْضِ أَوِ الرُّجُوعِ عَنِ الْهِبَةِ.
وَإِذَا مَاتَ أَيٌّ مِنَ الْوَاهِبِ أَوِ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَمْ يَنْفَسِخِ الْعَقْدُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَقَامَ وَرَثَةُ كُل وَاحِدٍ مَقَامَهُ، أَيْ أَنَّ وَارِثَ الْوَاهِبِ يَقُومُ مَقَامَ الْوَاهِبِ فِي الإِْقْبَاضِ وَالإِْذْنِ فِي الْقَبْضِ،
__________
(1) المبسوط 12 / 57، وبدائع الصنائع 6 / 123، وتكملة فتح القدير 7 / 113، وبداية المجتهد 2 / 248، الخرشي 7 / 105، وحاشية الدسوقي 4 / 101، والمهذب 1 / 447، ومغني المحتاج 2 / 400، وحاشية البجيرمي على المنهج 3 / 218، والمغني والشرح الكبير 6 / 250 - 251، والإنصاف 7 / 147.

(42/130)


وَيَقُومُ وَارِثُ الْمُتَّهَبِ مَقَامَ الْمُتَّهَبِ فِي الْقَبْضِ.
وَقِيل: يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالْمَوْتِ لأَِنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ كَالشَّرِكَةِ وَالْوِكَالَةِ.
وَلَوْ أَذِنَ الْوَاهِبُ بِالْقَبْضِ ثُمَّ مَاتَ بَطَل الإِْذْنُ.
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْهِبَةُ صَحِيحَةً غَيْرَ ضِمْنِيَّةٍ وَغَيْرَ ذَاتِ ثَوَابٍ (1) .
وَحُجَّةُ هَؤُلاَءِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لاَ تَجُوزُ الْهِبَةُ إِلاَّ مَقْبُوضَةً مَحُوزَةً، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لأُِمِّ سَلَمَةَ: " إِنِّي قَدْ أَهْدَيْتُ إِلَى النَّجَاشِيِّ حُلَّةً وَأَوَاقِيَّ مِنْ مِسْكٍ، وَلاَ أَرَى النَّجَاشِيَّ إِلاَّ قَدْ مَاتَ، وَلاَ أَرَى هَدِيَّتِي إِلاَّ مَرْدُودَةً عَلَيَّ، فَإِنْ رُدَّتْ عَلَيَّ فَهِيَ لَكِ. وَكَانَ كَمَا قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (2)
__________
(1) قواعد ابن رجب ق 145 ص 318، وانظر البجيرمي 3 / 218، والإنصاف 7 / 147، وتحفة المحتاج 6 / 307.
(2) حديث: " إني قد أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي من مسك. . . ". أخرجه أحمد (6 / 404 - ط الميمنية) والحاكم في المستدرك (2 / 188 ط دائرة المعارف) ، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي فقال: منكر فيه مسلم الزنجي ضعيف.

(42/130)


وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ، فَلَوْ صَحَّتْ بِلاَ قَبْضٍ لَثَبَتَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وِلاَيَةُ مُطَالَبَةِ الْوَاهِبِ بِالتَّسْلِيمِ، فَتَصِيرُ عَقْدَ ضَمَانٍ بِالتَّسْلِيمِ، وَهَذَا تَغْيِيرٌ لِمَا تَقَرَّرَ شَرْعًا فِي الْهِبَةِ مِنْ أَنَّهَا تَبَرُّعٌ.

الْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْهِبَةَ تَصِحُّ وَتُمْلَكُ بِعَقْدٍ، فَيَصِحُّ تَصَرُّفٌ قَبْل الْقَبْضِ، وَتَلْزَمُ الْهِبَةُ بِقَبْضِهَا بِإِذْنِ الْوَاهِبِ، وَلاَ تَلْزَمُ قَبْلَهُمَا وَلَوْ كَانَتِ الْهِبَةُ فِي غَيْرِ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ (1) ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ " أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحَلَهَا جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْعَالِيَةِ، فَلَمَّا مَرِضَ قَال: يَا بُنَيَّةُ كُنْتُ نَحَلْتُكِ جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا وَلَوْ كُنْتِ جَذَذْتِيهِ أَوْ قَبَضْتِيهِ كَانَ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَال وَارِثٍ، فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى (2) ".
وَعَنِ ابْنِ حَامِدٍ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْهِبَةِ يَقَعُ مُرَاعًى: فَإِنْ وُجِدَ الْقَبْضُ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ لِلْمَوْهُوبِ بِقَوْلِهِ، وَإِلاَّ فَهُوَ لِلْوَاهِبِ، قَال الْبُهُوتِيُّ: وَهُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ.
__________
(1) كشاف القناع 4 / 300.
(2) أثر عائشة: " أن أبا بكر - رضي الله عنه - نحلها جذاذ عشرين. . . ". أخرجه مالك في الموطأ (2 / 752 ط عيسى الحلبي) .

(42/131)


وَقَال الْمَرْدَاوِيُّ: وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْخَرَقِيِّ وَطَائِفَةٌ أَنَّ مَا يُكَال وَيُوزَنُ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ مَقْبُوضًا (1) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ. وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْهِبَةِ، بَل إِنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي تَمَامِهَا فَإِنْ عُدِمَ لَمْ تَلْزَمْ مَعَ كَوْنِهَا صَحِيحَةً (2) .
وَذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ إِلَى لُزُومِ الْهِبَةِ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ، وَلأَِنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَزِمَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ كَالْوَقْفِ وَالْعِتْقِ (3) .
وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ إِجْبَارُ الْوَاهِبِ عَلَى تَمْكِينِهِ مِنَ الْقَبْضِ حَيْثُ طَلَبَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَلَهُ طَلَبُهَا مِنْهُ حَيْثُ امْتَنَعَ الْوَاهِبُ وَلَوْ عِنْدَ حَاكِمٍ لِيُجْبِرَهُ عَلَى تَمْكِينِ الْمَوْهُوبِ لَهُ مِنْهُ، قَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: الْقَبُول وَالْحِيَازَةُ مُعْتَبَرَانِ، إِلاَّ أَنَّ الْقَبُول رُكْنٌ وَالْحِيَازَةَ شَرْطٌ، وَتَبْطُل الْهِبَةُ إِنْ تَأَخَّرَ حَوْزُهَا لِدَيْنٍ مُحِيطٍ بِمَال الْوَاهِبِ وَلَوْ بَعْدَ
__________
(1) كشاف القناع 4 / 300، والإنصاف 7 / 120 - 121، والمغني والشرح الكبير 6 / 246.
(2) الخرشي 7 / 104، 107، وحاشية الدسوقي 4 / 101.
(3) المغني مع الشرح 6 / 246.

(42/131)


عَقْدِهَا، أَوْ وَهْبِهَا لِشَخْصٍ ثَانٍ، وَحَازَ الثَّانِي قَبْل الأَْوَّل، فَالْهِبَةُ لِلثَّانِي لِتَقَوِّي الْهِبَةِ بِالْحِيَازَةِ، وَلاَ قِيمَةَ عَلَى الْوَاهِبِ لِلأَْوَّل لأَِنَّهُ فَرَّطَ فِي الْحَوْزِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ الأَْوَّل وَفَرَّطَ أَمْ لاَ، مَضَى مِنَ الزَّمَانِ مَا يُمْكِنُهُ فِيهِ الْقَبْضُ أَمْ لاَ، وَكَذَلِكَ تَبْطُل الْهِبَةُ إِذَا أَعْتَقَ الْوَاهِبُ الْعَبْدَ قَبْل أَنْ يَحُوزَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ (1) .

شَرَائِطُ صِحَّةِ الْقَبْضِ:
اشْتِرَاطُ إِذْنِ الْوَاهِبِ:
23 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ إِذْنِ الْوَاهِبِ فِي الْقَبْضِ إِلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ الإِْذْنَ بِالْقَبْضِ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ فِي بَابِ الْبَيْعِ، حَتَّى لَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي بِدُونِ إِذْنِ الْبَائِعِ قَبْل نَقْدِ الثَّمَنِ كَانَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الاِسْتِرْدَادِ، فَلأََنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْهِبَةِ أَوْلَى لأَِنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ بِدُونِ الْقَبْضِ بِخِلاَفِ الْهِبَةِ.
وَلأَِنَّ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ يُشْبِهُ الرُّكْنَ وَإِنْ لَمْ
__________
(1) الحطاب 6 / 54، والخريشي 7 / 105.

(42/132)


يَكُنْ رُكْنًا عَلَى الْحَقِيقَةِ فَيُشْبِهُ الْقَبُول فِي الْبَيْعِ.
وَالإِْذْنُ قَدْ يَكُونُ صَرِيحًا أَوْ دَلاَلَةً:
فَالصَّرِيحُ أَنْ يَقُول: اقْبِضْ أَوْ أَذِنْتُ لَكَ بِقَبْضِهِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ.
فَيَجُوزُ قَبْضُهُ اسْتِحْسَانًا سَوَاءٌ قَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِحَضْرَةِ الْوَاهِبِ أَوْ بِغَيْرِ حَضْرَتِهِ.
وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدْ حُمِل إِلَيْهِ سِتُّ بَدَنَاتٍ فَجَعَلْنَ يَزْدَلِفْنَ إِلَيْهِ، فَقَامَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فَنَحَرَهُنَّ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ، وَقَال: " مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ (1) وَانْصَرَفَ.
وَجْهُ الدَّلاَلَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ قَدْ أَذِنَ بِالْقَبْضِ بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ حِينَ أَذِنَ لَهُمْ بِالْقَطْعِ فَدَل عَلَى جَوَازِ الْقَبْضِ وَاعْتِبَارِهِ بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ.
أَمَّا عِنْدَ الإِْمَامِ زُفَرَ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْقَبْضُ بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ عَنِ الْمَجْلِسِ وَهُوَ الْقِيَاسُ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقَبْضَ عِنْدَهُ رُكْنٌ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُول فَلاَ يَصِحُّ بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ كَالْقَبُول فِي بَابِ الْبَيْعِ.
__________
(1) حديث: " من شاء اقتطع ". أخرجه أحمد في المسند (4 / 350 ط الميمنية) والحاكم في المستدرك (4 / 221 ط دائرة المعارف) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

(42/132)


أَمَّا الْقَبْضُ دَلاَلَةً: فَهُوَ أَنْ يَقْبِضَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْعَيْنَ فِي الْمَجْلِسِ وَلاَ يَنْهَاهُ الْوَاهِبُ، فَإِنَّ قَبْضَهُ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا، لأَِنَّ إِيجَابَ الْهِبَةِ بِمَنْزِلَةِ الإِْذْنِ بِالْقَبْضِ دَلاَلَةً، وَالثَّابِتُ دَلاَلَةً كَالثَّابِتِ نَصًّا.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لاَ يَجُوزَ الْقَبْضُ بِدُونِ إِذْنٍ صَرِيحٍ وَهُوَ قَوْل زُفَرَ (1) .
وَالثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْذْنَ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْقَبْضِ عِنْدَهُمْ، بَل إِنَّ الْقَبْضَ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْهِبَةِ، بَل إِنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ وَعَلَى الْوَاهِبِ التَّسْلِيمُ. وَبِهِ قَال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ (2) .

أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَوْهُوبُ مَشْغُولاً بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ:
24 - يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ أَنْ لاَ يَكُونَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ مَشْغُولاً بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ.
وَهَذَا الشَّرْطُ يَأْتِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْقَبْضِ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَقْبُوضِ فَإِذَا كَانَ
__________
(1) البدائع 6 / 123، مغني المحتاج 2 / 400، والإنصاف 7 / 122.
(2) الخرشي 7 / 104 - 107، والدسوقي 4 / 101، والإنصاف 7 / 122.

(42/133)


مَشْغُولاً لاَ يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَعْنَى.
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إِذَا وَهَبَ دَارًا فِيهَا مَتَاعُ الْوَاهِبِ وَسَلَّمَ الدَّارَ إِلَيْهِ أَوْ سَلَّمَ الدَّارَ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَتَاعِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّ الْفَرَاغَ شَرْطُ صِحَّةِ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ وَلَمْ يُوجَدْ.
وَهَذَا بِخِلاَفِ مَا لَوْ وَهَبَ الْمَتَاعَ فَقَطْ دُونَ الدَّارِ وَخَلَّى بَيْنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَبَيْنَ الْمَتَاعِ، فَإِنَّ الْهِبَةَ جَائِزَةٌ، لأَِنَّ الْمَتَاعَ لَيْسَ مَشْغُولاً بِالدَّارِ بَل الدَّارُ مَشْغُولَةٌ بِالْمَتَاعِ (1) .

كَيْفِيَّةُ تَحَقُّقِ الْقَبْضِ:.
25 - الأَْصْل أَنَّ الْمُنَاوَلَةَ وَالأَْخْذَ إِقْبَاضٌ وَقَبْضٌ، كَذَلِكَ تَكُونُ التَّخْلِيَةُ قَبْضًا إِذَا خَلَّى الْوَاهِبُ بَيْنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ.
أَمَّا لَوْ كَانَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ مَقْبُوضًا قَبْل الْهِبَةِ، كَمَا لَوْ وَهَبَ الْمُودِعُ الْوَدِيعَةَ لِلْوَدِيعِ وَالْمُعِيرُ الْعَارِيَةَ لِلْمُسْتَعِيرِ فَإِنَّ الْهِبَةَ جَائِزَةٌ وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى قَبْضٍ جَدِيدٍ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قَبْض ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 125.
(2) بدائع الصنائع 6 / 123، والمغني والشرح 6 / 250، والإنصاف 7 / 122.

(42/133)


ثَالِثًا: صِيغَةُ الْهِبَةِ:
25 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي رُكْنِ صِيغَةِ الْهِبَةِ إِلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ رُكْنَ صِيغَةِ الْهِبَةِ يَتَكَوَّنُ مِنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَفِي قَوْلٍ لِزُفَرَ أَنَّ الْقَبْضَ رُكْنٌ أَيْضًا.
وَاخْتَارَ ابْنُ نُجَيْمٍ أَنَّ رُكْنَ الْهِبَةِ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول (1) .
وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ الْقَبْضَ رُكْنٌ فِي الْهِبَةِ كَالإِْيجَابِ فِي غَيْرِهَا، وَكَلاَمُ الْخَرَقِيِّ يَدُل عَلَيْهِ (2) .
وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الْهِبَةَ تَصَرُّفٌ شَرْعِيٌّ، وَوُجُودُ التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ هُوَ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا وَهُوَ انْعِقَادُهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ (التَّمْلِيكِ) وَالْحُكْمُ لاَ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الإِْيجَابِ فَلاَ يَكُونُ ذَاتُ
__________
(1) تحفة الفقهاء 3 / 354، وَالْمَبْسُوط 12 / 57، وبدائع الصنائع 6 / 115، والعناية بهامش تكملة فتح القدير 7 / 113، وحاشية ابن عابدين 4 / 315، والبحر الرائق 7 / 310، والقوانين الفقهية ص 315، ومغني المحتاج 2 / 397، وحاشية القليوبي وعميرة 3 / 111، والمغني والشرح الكبير 6 / 250، وكشاف القناع 4 / 300.
(2) الإنصاف 7 / 121.

(42/134)


الإِْيجَابِ هِبَةً شَرْعًا بِدُونِ قَبُولٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنِ الإِْيجَابُ بِدُونِ الْقَبُول فِي الْبَيْعِ بَيْعًا، كَذَلِكَ هُنَا.
الثَّانِي: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ مُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ الْقَبُول لَيْسَ رُكْنًا فِي صِيغَةِ الْهِبَةِ وَإِنَّمَا رُكْنُهَا الإِْيجَابُ فَقَطْ اسْتِحْسَانًا (1) .
وَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ: أَنَّ مَعْنَى الْهِبَةِ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ مُجَرَّدِ إِيجَابِ الْمَالِكِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَبُول، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ الْقَبُول وَالْقَبْضُ لِثُبُوتِ حُكْمِهَا لاَ لِوُجُودِهَا بِنَفْسِهَا، فَإِذَا أَوْجَبَ فَقَدْ أَتَى بِالْهِبَةِ فَتُرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُهَا.
وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّ وُقُوعَ التَّصَرُّفِ هِبَةً لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُول هُوَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ تَجُوزُ الْهِبَةُ إِلاَّ مَقْبُوضَةً مَحُوزَةً (2) ، وَجْهُ الدَّلاَلَةِ فِيهِ أَنَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ الْهِبَةِ بِدُونِ الْقَبْضِ وَالْحِيَازَةِ.
__________
(1) تحفة الفقهاء3 / 354، والمبسوط 12 / 57، وبدائع الصنائع 6 / 115، والعناية بهامش تكملة فتح القدير 7 / 113، وحاشية ابن عابدين 4 / 531، والبحر الرائق 7 / 310.
(2) حديث: " لا تجوز الهبة إلا مقبوضة ". أخرجه عبد الرزاق في المصنف موقوفا على إبراهيم النخعي. ولفظه: " الهبة لا تجوز حتى تقبض، والصدقة تجوز قبل أن تقبض " (المصنف 9 / 107 ط المجلس العلمي) .

(42/134)


وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ أَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَال: " لَوْلاَ أَنَّا مُحْرِمُونَ لَقَبِلْنَاهُ مِنْكَ (1) " فَقَدْ أَطْلَقَ الرَّاوِي اسْمَ الإِْهْدَاءِ بِدُونِ الْقَبُول، وَالإِْهْدَاءُ مِنْ أَلْفَاظِ الْهِبَةِ.
كَمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَقَال لَهَا: إِنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ - أَعْطَيْتُكِ - جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي بِالْعَالِيَةِ، وَإِنَّكِ لَمْ تَكُونِي قَبَضْتِيهِ وَلاَ حَرَزْتِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَال الْوَارِثِ (2) .
وَالدَّلِيل فِيهِ: أَنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَطْلَقَ اسْمَ النُّحْلَى بِدُونِ الْقَبْضِ، وَالنُّحْلَى مِنْ أَلْفَاظِ الْهِبَةِ (3) .

أَلْفَاظُ الْهِبَةِ:
27 - يَصِحُّ إِيجَابُ الْوَاهِبِ بِلَفْظِ: وَهَبْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ أَوْ مَا يُفِيدُ مَعْنَاهُ فِي إِفَادَةِ التَّمْلِيكِ بِلاَ ثَمَنٍ، كَقَوْلِهِ: أَعْطَيْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ، أَوْ نَحَلْتُهُ لَكَ أَوْ أَهْدَيْتُكَهُ، أَوْ أَطْعَمْتُكَ هَذَا الطَّعَامَ
__________
(1) حديث: " لولا أنا محرمون. . . ". أخرجه مسلم (2 / 851 ط عيسى الحلبي) .
(2) أثر: إني كنت نحلتك. . . . سبق تخريجه ف 21.
(3) بدائع الصنائع 6 / 115.

(42/135)


أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُرَادُ بِهِ الْهِبَةُ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ قَال: مَنَحْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ أَوْ هُوَ لَكَ مِنْحَةٌ فَلاَ يَخْلُو الأَْمْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ عَنَى بِالْمِنْحَةِ الْهِبَةَ، وَإِمَّا لَمْ تَتَبَيَّنْ نِيَّتُهُ.
فَإِنْ عَنَى بِهَا الْهِبَةَ فَهُوَ عَلَى مَا عَنَى أَوْ نَوَى، سَوَاءٌ كَانَ الشَّيْءُ مِمَّا يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِهْلاَكٍ، أَوْ كَانَ مِمَّا لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ إِلاَّ بِاسْتِهْلاَكِهِ، لأَِنَّهُ قَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُ الْمِنْحَةِ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ، إِذِ الأَْصْل أَنْ يُعْتَبَرَ هَذَا عَارِيَةً.
أَمَّا إِذَا لَمْ تَتَبَيَّنْ نِيَّتُهُ فَإِنَّهُ لاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مِمَّا يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِهْلاَكٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ إِلاَّ بِاسْتِهْلاَكِهِ.
فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِهْلاَكٍ كَانَ إِعَارَةً، كَالدَّارِ وَالثَّوْبِ وَالدَّابَّةِ وَالأَْرْضِ، كَقَوْلِهِ: هَذِهِ الدَّارُ لَكَ مِنْحَةٌ أَوْ هَذَا الثَّوْبُ أَوْ هَذِهِ الأَْرْضُ لأَِنَّ الْمِنْحَةَ فِي الأَْصْل: هِبَةُ الْمَنْفَعَةِ أَوْ مَا لَهُ حُكْمُ الْمَنْفَعَةِ، وَقَدْ أُضِيفَ إِلَى مَا يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِهْلاَكٍ مِنَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 116، والقوانين الفقهية ص 315، ومغني المحتاج 2 / 397، ونهاية المحتاج 5 / 403، والخرشي 7 / 104، والمغني والشرح الكبير 6 / 252، وكشاف القناع 4 / 298.

(42/135)


السُّكْنَى وَاللُّبْسِ وَالزِّرَاعَةِ وَأَمْثَالِهَا، فَكَانَ هَذَا تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ بِلاَ عِوَضٍ وَهُوَ تَفْسِيرُ الإِْعَارَةِ.
وَيَجْرِي مَجْرَاهُ مَنْحُ الشَّاةِ الْحَلُوبِ وَالْبَقَرَةِ الْحَلُوبِ وَالنَّاقَةِ الْحَلُوبِ؛ لأَِنَّ اللَّبَنَ وَإِنْ كَانَ عَيْنًا لَكِنَّهُ مَعْدُودٌ مِنَ الْمَنَافِعِ عُرْفًا وَعَادَةً.
وَمِثْلُهُ لَوْ قَال: أَطْعَمْتُكَ هَذِهِ الأَْرْضَ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ زِرَاعَتُهَا وَهِيَ مَنْفَعَتُهَا.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الشَّيْءُ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ إِلاَّ بِاسْتِهْلاَكِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ هِبَةً، كَالْمَأْكُول وَالْمَشْرُوبِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، كَقَوْلِهِ: هَذَا الطَّعَامُ لَكَ مِنْحَةٌ، أَوْ هَذَا اللَّبَنُ أَوْ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ، فَكُل هَذَا لاَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى هِبَةِ الْمَنْفَعَةِ، فَيُحْمَل عَلَى هِبَةِ الْعَيْنِ (1) .
هَذَا، وَتَصِحُّ الْهِبَةُ بِالْمُعَاطَاةِ؛ لأَِنَّ الْهِبَةَ فِي حَقِيقَتِهَا عَطِيَّةٌ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِي وَيُعْطَى مِنْ غَيْرِ أَلْفَاظٍ (2) .
28 - أَمَّا الْقَبُول فَإِنَّهُ يَصِحُّ بِكُل قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ يُشْعِرُ بِالرِّضَا مِنْ جَانِبِ الْمَوْهُوبِ لَهُ كَقَوْلِهِ: قَبِلْتُ، وَرَضِيتُ، أَوْ يَأْخُذُهَا بِدُونِ لَفْظٍ.
__________
(1) الْبَدَائِع 6 / 116.
(2) الْخَرَشِيّ 7 / 104، وَالْمُغْنِي وَالشَّرْح الْكَبِير 6 / 252، وَالإِْنْصَاف 7 / 119، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 398.

(42/136)


29 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَرَاخِي الْقَبُول:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِمْ إِلَى جَوَازِ تَرَاخِي الْقَبُول عَنِ الإِْيجَابِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ تَرَاخِي الْقَبُول مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ وَلَمْ يَثْبُتْ مَا يُفِيدُ قَطْعَهُ وَالإِْعْرَاضَ عَنْهُ (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ اتِّصَال الْقَبُول بِالإِْيجَابِ كَالْبَيْعِ (3) .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا رَأْيُ زُفَرَ أَيْضًا؛ لأَِنَّهُ عَدَّ الْقَبُول رُكْنًا فِي الصِّيغَةِ، فَلاَ يَصِحُّ بَعْدَ الْمَجْلِسِ.
كَمَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَبُول أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلإِْيجَابِ، فَيَقَعُ عَلَى مَا كَانَ إِيجَابُ الْوَاهِبِ عَيْنُهُ هِبَةً.

تَعْلِيقُ الْهِبَةِ وَإِضَافَتُهَا:
30 - الْهِبَةُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَى شَرْطٍ: هِيَ الْهِبَةُ الَّتِي اقْتَرَنَ بِصِيغَتِهَا مَا يُعَلِّقُ إِيجَابَهَا عَلَى شَرْطٍ مُمْكِنٍ غَيْرِ مَوْجُودٍ، كَقَوْلِهِ: إِذَا نَجَحْتَ
__________
(1) الْخَرَشِيّ 7 / 104.
(2) الإِْنْصَاف 7 / 119.
(3) مُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 397.

(42/136)


وَهَبْتُكَ سَاعَتِي. فَإِنَّ الْهِبَةَ تَكُونُ مُعَلَّقَةً عَلَى أَمْرٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الْوُجُودِ وَعَدَمِهِ.
وَالْعَقْدُ الْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطٍ يَجِبُ ثُبُوتُهُ عِنْدَ ثُبُوتِ الشَّرْطِ الَّذِي عُلِّقَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ ثَبَتَ التَّصَرُّفُ قَبْل وُجُودِ الشَّرْطِ لاَسْتَوْجَبَ ذَلِكَ وُجُودَ الْمَشْرُوطِ بِدُونِ الشَّرْطِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ.
وَإِذَا كَانَ مَا عُلِّقَتِ الْهِبَةُ عَلَيْهِ وَقْتًا مُسْتَقْبَلاً، كَرَأْسِ الشَّهْرِ الآْتِي، أَوِ الأُْسْبُوعِ الْقَادِمِ، كَانَتِ الْهِبَةُ مُضَافَةً إِلَى الْمُسْتَقْبَل.
وَلَمَّا كَانَتِ الْهِبَةُ مِنْ عُقُودِ التَّمْلِيكَاتِ، وَإِنَّ مُقْتَضَى التَّمْلِيكِ هُوَ الْجَزْمُ وَالتَّنْجِيزُ؛ لِذَلِكَ فَقَدْ مَنَعَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمُعْتَمَدِ تَعْلِيقَ الْهِبَةِ أَوْ إِضَافَتَهَا إِلَى الْمُسْتَقْبَل؛ لأَِنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ فِي الْحَال، وَالتَّعْلِيقُ وَالإِْضَافَةُ تُنَافِيهِ (1) .
أَمَّا فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَانَ الأَْصْل عِنْدَهُمْ - كَمَا ضَبَطَهُ الْقَرَافِيُّ - أَنَّ التَّمْلِيكَاتِ لاَ تَقْبَل التَّعْلِيقَ لأَِنَّ طَرِيقَهَا الْجَزْمُ - إِلاَّ أَنَّهُمْ يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ الْوَعْدَ فِي التَّبَرُّعَاتِ إِذَا كَانَ عَلَى سَبَبٍ وَدَخَل الْمَوْعُودُ لَهُ بِسَبَبِ الْوَعْدِ فِي شَيْءٍ عَلَى
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 118، وَالْمُغْنِي وَالشَّرْح 6 / 264، وَالإِْنْصَاف 7 / 133، وَمَنْهَج الطُّلاَّبِ مَعَ البجيرمي 3 / 216، وَشَرْح مَنْهَجِ الطُّلاَّبِ عَلَى حَاشِيَة الْجَمَل 3 / 595، وَالْغَايَة الْقُصْوَى 2 / 651.

(42/137)


الْمَشْهُورِ أَوْ لَمْ يَدْخُل عَلَى قَوْل أَصْبَغَ - فَإِنَّهُ يَكُونُ لاَزِمًا وَيُقْضَى بِهِ عَلَى الْوَاعِدِ.
وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَا اشْتُهِرَ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ مَعْرُوفًا لَزِمَهُ إِلاَّ مِنْ مَوْتٍ أَوْ فَلَسٍ (1) .

اقْتِرَانُ الشُّرُوطِ بِصِيغَةِ الْهِبَةِ:
31 - الشَّرْطُ الْمُقْتَرِنُ بِالْهِبَةِ قَدْ يَكُونُ صَحِيحًا أَوْ غَيْرَ صَحِيحٍ.
فَالشَّرْطُ الصَّحِيحُ هُوَ مَا كَانَ مُؤَكِّدًا لِمُقْتَضَاهَا غَيْرَ مُخَالِفٍ لأَِحْكَامِهَا، كَمَا لَوْ قَال الْوَاهِبُ: وَهَبْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ فَاقْبَل فَوْرًا وَاقْبِضْهُ. أَوْ يَشْتَرِطُ فِيهَا الْعِوَضَ، وَسَيَأْتِي الْكَلاَمُ عَلَيْهِ.
كَمَا يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ شَرْطُ اسْتِثْنَاءِ مَنْفَعَةِ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ لِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ (2) .
أَمَّا الشَّرْطُ غَيْرُ الصَّحِيحِ فَإِنَّهُ الشَّرْطُ الَّذِي يُخَالِفُ أَحْكَامَ الْهِبَةِ وَمُقْتَضَاهَا، كَمَا لَوْ قَال: وَهَبْتُكَ هَذَا بِشَرْطِ أَنْ لاَ تَهَبَهُ وَلاَ تَبِيعَهُ لأَِحَدٍ، أَوْ وَهَبْتُكَهُ بِشَرْطِ أَنْ تُعِيدَهُ لِي بَعْدَ شَهْرٍ.
فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
__________
(1) الْفُرُوق 1 / 228، وَفَتْح الْعَلِيّ الْمَالِك لعليش 1 / 254، وَالْخَرَشِيّ 6 / 126.
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 4 / 300 وَمَا بَعْدَهَا.

(42/137)


قَوْلٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يَبْطُل الشَّرْطُ وَيَصِحُّ الْعَقْدُ (1) .
فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ جَارِيَةً عَلَى أَنْ يَبِيعَهَا أَوْ عَلَى أَنْ يَتَّخِذَهَا أَمَّ وَلَدٍ أَوْ عَلَى أَنْ يَبِيعَهَا لِفُلاَنٍ، أَوْ عَلَى أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ بَعْدَ شَهْرٍ - جَازَتِ الْهِبَةُ وَبَطَل الشَّرْطُ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ مِمَّا لَمْ تَمْنَعْ وُقُوعَ التَّصَرُّفِ تَمْلِيكًا لِلْحَال، وَهِيَ شُرُوطٌ تُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَتَبْطُل وَيَبْقَى الْعَقْدُ عَلَى الصِّحَّةِ، بِخِلاَفِ شُرُوطِ الرُّقْبَى، وَبِخِلاَفِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ تُبْطِلُهُ هَذِهِ الشُّرُوطُ؛ لأَِنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لاَ يَكُونَ قِرَانُ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ لِعَقْدٍ مَا مُفْسِدًا لَهُ؛ لأَِنَّ ذِكْرَهُ فِي الْعَقْدِ لَمْ يَصِحَّ فَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ وَيَبْقَى الْعَقْدُ صَحِيحًا، إِلاَّ أَنَّ الْفَسَادَ فِي الْبَيْعِ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ فِيهِ - وَلاَ نَهْيَ فِي الْهِبَةِ - فَيَبْقَى الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى الأَْصْل؛ وَلأَِنَّ دَلاَئِل شَرْعِيَّةِ الْهِبَةِ عَامَّةٌ مُطْلَقَةٌ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (2) } وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّرْغِيبِ فِي أَكْل الْمَهْرِ، وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ -: تَهَادُوا تَحَابُّوا (3) وَهَذَا نَدْبٌ إِلَى
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 117، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 398، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 5 / 371 - 372، وَالْمُغْنِي مَعَ الشَّرْحِ 6 / 256، وَالإِْنْصَافِ 7 / 133.
(2) سُورَة النِّسَاء / 4.
(3) حَدِيث: " تَهَادَوْا تُحَابُوا ". سَبَقَ تَخْرِيجه ف 5.

(42/138)


التَّهَادِي وَالْهَدِيَّةُ هِبَةٌ، وَرُوِيَ عَنِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال لِسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " إِنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكَ كَذَا وَكَذَا "، وَعَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: " مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِصِلَةِ رَحِمٍ أَوْ عَلَى وَجْهِ صَدَقَةٍ فَإِنَّهُ لاَ يَرْجِعُ فِيهَا، وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً يَرَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا الثَّوَابَ فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ يَرْجِعُ فِيهَا إِنْ لَمْ يَرْضَ عَنْهَا "، وَنَحْوِهِ مِنَ الدَّلاَئِل الْمُقْتَضِيَةِ لِشَرْعِيَّةِ الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا قُرِنَ بِهَا شَرْطٌ فَاسِدٌ أَوْ لَمْ يُقْرَنْ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إِذَا وَهَبَ جَارِيَةً وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا، أَوْ وَهَبَ حَيَوَانًا وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهِ أَنَّ الْهِبَةَ جَائِزَةٌ فِي الأُْمِّ وَالْوَلَدِ جَمِيعًا، وَالاِسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ، وَالْكُل لِلْمَوْهُوبِ لَهُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّهُ يَبْطُل الْعَقْدُ وَالشَّرْطُ (2) وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ وَهَبَ لِرَجُلٍ هِبَةً عَلَى أَنْ لاَ يَبِيعَ وَلاَ يَهَبَ، فَقَدْ نَقَل الْحَطَّابُ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ قَوْلَهُ: حَصَّل ابْنُ رُشْدٍ فِيهَا مِنْ سَمَاعِ عِيسَى خَمْسَةَ أَقْوَالٍ:
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 117.
(2) مَوَاهِب الْجَلِيل 6 / 50، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 398، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 5 / 1 37 - 372، وَالْمُغْنِي مَعَ الشَّرْحِ 6 / 256.

(42/138)


الأَْوَّل: أَنَّ الصَّدَقَةَ وَالْهِبَةَ لاَ تَجُوزُ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الْوَاهِبُ أَنْ يُبْطِل الشَّرْطَ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا بَطَلَتْ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْل مَالِكٍ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَمِثْل قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ فِي رِوَايَةِ سَحْنُونٍ.

الثَّانِي: أَنَّ الْوَاهِبَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ شَرْطَهُ أَوْ يَسْتَرِدَّ هِبَتَهُ وَوَرَثَتَهُ بَعْدَهُ مَا لَمْ يَنْتَقِضْ أَمْرُهُ بِمَوْتِ الْمَوْهُوبِ.

الثَّالِثُ: أَنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ وَالْهِبَةَ جَائِزَةٌ.

الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَبْسًا، فَإِذَا مَاتَ الْمُتَصَدِّقُ عَلَيْهِ أَوِ الْمَوْهُوبُ لَهُ رَجَعَ إِلَى الْمُتَصَدِّقِ أَوْ وَرَثَتِهِ أَوْ أَقْرَبِ النَّاسِ بِالْمُحْبِسِ عَلَى اخْتِلاَفِ قَوْل مَالِكٍ.

الْخَامِسُ: أَنَّ الشَّرْطَ عَامِلٌ، وَالْهِبَةُ مَاضِيَةٌ لاَزِمَةٌ، فَتَكُونُ الصَّدَقَةُ بَيْنَ الْمُتَصَدِّقِ عَلَيْهِ كَالْحَبْسِ، لاَ يَبِيعُ وَلاَ يَهَبُ حَتَّى يَمُوتَ، فَإِذَا مَاتَ وَرِثَ عَنْهُ عَلَى سَبِيل الْمِيرَاثِ، وَهُوَ قَوْل عِيسَى بْنِ دِينَارٍ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَقَوْل مُطَرِّفٍ فِي الْوَاضِحَةِ.
قَال الْحَطَّابُ: وَهَذَا الْقَوْل هُوَ أَظْهَرُ الأَْقْوَال وَأَوْلاَهَا بِالصَّوَابِ؛ لأَِنَّ الرَّجُل لَهُ أَنْ يَفْعَل فِي مِلْكِهِ مَا شَاءَ (1) .
__________
(1) مَوَاهِب الْجَلِيل 6 / 50، وَانْظُرِ الذَّخِيرَة 6 / 164.

(42/139)


الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى:
32 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَوْقِيتَ الْهِبَةِ لاَ يَجُوزُ، لَكِنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِي بَابِ الْهِبَةِ عَنِ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى كَصُورَةٍ مِنْ صُوَرِ تَوْقِيتِ الْهِبَةِ بِالْعُمْرِ أَوْ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ (رُقْبَى ف 4، عُمْرَى ف 6) .

الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ:
33 - الأَْصْل فِي الْهِبَةِ أَنَّهَا مِنْ عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ أَيْ أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ لاَ يُعَوِّضُ الْوَاهِبَ شَيْئًا عَمَّا وَهَبَهُ لَهُ.
إِلاَّ أَنَّهُ لَوْ صَدَرَتِ الْهِبَةُ مِنَ الْوَاهِبِ مُقْتَرِنَةً بِشَرْطِ الْعِوَضِ مُقَابِل الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ، كَمَا لَوْ قَال الْوَاهِبُ: وَهَبْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ عَلَى أَنَّ تُثِيبَنِي أَوْ تُعَوِّضَنِي فَهَل يَصِحُّ مِثْل هَذَا الشَّرْطِ؟ لِلْفُقَهَاءِ فِيهِ قَوْلاَنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ وَهُوَ قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ.
وَحُجَّتُهُمْ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا (1) .
__________
(1) حَدِيث: " الْوَاهِب أَحَقّ بِهِبَتِهِ. . . ". أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ (3 / 44 ط دَارَ الْمَحَاسِن) ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى (6 / 181 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ) وَقَال: فِيهِ إِبْرَاهِيم بْن إِسْمَاعِيل ضَعِيف.

(42/139)


الْقَوْل الثَّانِي: لاَ يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ وَقَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ.
وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ لَفْظَ الْهِبَةِ يُفِيدُ التَّبَرُّعَ فَمِنَ التَّنَاقُضِ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهَا الْعِوَضُ (1) .
وَبِهَذَا الْقَوْل قَال دَاوُدُ وَأَبُو ثَوْرٍ؛ لأَِنَّ الْهِبَةَ صَارَتْ مِنْ قَبِيل بَيْعِ الْغَرَرِ (2) .
34 - وَعَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مَعْلُومًا مُعَيَّنًا كَمَا فِي الْبَيْعِ، فَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ مَجْهُولاً فَإِنَّ الأَْصَحَّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ الآْخَرُ - أَنَّ الْهِبَةَ تَفْسُدُ وَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ يَرُدُّهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ إِلَى الْوَاهِبِ بِزِيَادَتِهَا الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ؛ لأَِنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِ الْوَاهِبِ، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً رَدَّ قِيمَتَهَا.
وَحُجَّتُهُمْ أَنَّهُ بَيْعٌ يَفْتَقِرُ إِلَى التَّرَاضِي بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ.
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 1 / 129 - 130، وَالْخَرَشِيّ 7 / 107، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 114، وَالْمُهَذَّب 1 / 7، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 404، وَالْمُغْنِي وَالشَّرْح 6 / 299، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 300، وَالإِْنْصَاف 7 / 117.
(2) بِدَايَة الْمُجْتَهِدِ 2 / 248.

(42/140)


أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ فَيَرَوْنَ أَنَّ الْهِبَةَ بَاطِلَةٌ إِذَا كَانَ الْعِوَضُ مَجْهُولاً، لِتَعَذُّرِ صِحَّتِهِ بَيْعًا لِجَهَالَةِ الْعِوَضِ، وَلِتَعَذُّرِ صِحَّتِهِ هِبَةً لِذِكْرِ الثَّوَابِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لاَ تَقْتَضِيهِ، وَقِيل: يَصِحُّ هِبَةً بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا تَقْتَضِيهِ (1)
وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ عِوَضٍ مَجْهُولٍ صَحِيحَةٌ، فَإِذَا أَعْطَاهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ عِوَضًا رَضِيَهُ، لَزِمَ الْعَقْدُ بِذَلِكَ.
وَلَوْ تَغَيَّرَتِ الْعَيْنُ الْمَوْهُوبَةُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ وَلَمْ يُثِبْهُ مِنْهَا، فَقَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: لاَ أَرَى عَلَيْهِ نُقْصَانَ مَا نَقَصَ عِنْدَهُ إِذَا رَدَّهَا إِلَى الْوَاهِبِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبًا لَبِسَهُ أَوْ دَابَّةً اسْتَعْمَلَهَا، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ إِذَا نَقَصَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
لَكِنَّ الْمُرْدَاوِيَّ فِي الإِْنْصَافِ أَوْرَدَ أَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ عِوَضٍ مَجْهُولٍ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الأَْصْحَابِ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَال: يُرْضِيهِ بِشَيْءٍ فَيَصِحُّ، وَذَكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَقَال الْحَارِثِيُّ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ (2) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ يُرَاعَى
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 405، وَالْمُغْنِي مَعَ الشَّرْحِ 6 / 300
(2) الإِْنْصَاف 7 / 117، وَالْمُغْنِي مَعَ الشَّرْحِ 6 / 299 - 302.

(42/140)


فِيهَا حُكْمُ الْهِبَةِ قَبْل الْقَبْضِ وَالْبَيْعِ بَعْدَهُ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ الْمُعَيَّنِ فَهِيَ هِبَةٌ ابْتِدَاءً وَبَيْعٌ انْتِهَاءً.
أَمَّا لَوْ كَانَ الْعِوَضُ مَجْهُولاً بَطَل اشْتِرَاطُهُ، فَيَكُونُ هِبَةً ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، وَالْهِبَةُ لاَ تَبْطُل بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الثَّوَابُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَلَمْ يَحْصُل قَبْضٌ، فَإِنَّ الْهِبَةَ لاَ تَلْزَمُ الْوَاهِبَ، أَمَّا إِذَا قَبَضَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْهِبَةَ فَإِنَّهَا تَكُونُ لاَزِمَةً بِالنِّسْبَةِ لِلْوَاهِبِ، أَمَّا الْمَوْهُوبُ لَهُ فَإِنَّهَا لاَ تَلْزَمُ فِي حَقِّهِ؛ وَلِذَلِكَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِعَيْنِهَا، فَإِنْ فَاتَتْ عِنْدَهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ وَجَبَ عَلَيْهِ دَفْعُ الْقِيمَةِ (2) .

تَكْيِيفُ الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ:
35 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّكْيِيفِ الْفِقْهِيِّ لِلْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ بَيْعٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَتَثْبُتُ فِيهَا أَحْكَامُ الْبَيْعِ، فَلاَ يَبْطُل
__________
(1) الاِخْتِيَار 3 / 53، وَالدَّرّ الْمُخْتَار 2 / 519، وَتَكْمِلَة فَتْح الْقَدِير 9 / 50.
(2) الْخَرَشِيّ 7 / 117، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 114.

(42/141)


بِالشُّيُوعِ، وَيُفِيدُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَبْضِ، وَلاَ يَمْلِكَانِ الرُّجُوعَ عَنِ التَّصَرُّفِ.
وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْل عِنْدَ زُفَرَ: أَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ مَوْجُودٌ فِي هَذَا الْعَقْدِ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِعِوَضٍ وَقَدْ وُجِدَ، إِلاَّ أَنَّهُ اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَةُ، وَاخْتِلاَفُهَا لاَ يُوجِبُ اخْتِلاَفَ الْحُكْمِ، كَحُصُول الْبَيْعِ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: يَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ عَقْدُ هِبَةٍ ابْتِدَاءً بَيْعٌ انْتِهَاءً إِذَا حَصَل التَّقَابُضُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَبِنَاءً عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَبْل الْقَبْضِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ لاَ يَجُوزُ هِبَةُ الْمُشَاعِ الَّذِي يَنْقَسِمُ وَلاَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يَتَقَابَضَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَقْبِضِ الآْخَرُ فَإِنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ، الْقَابِضُ وَغَيْرُ الْقَابِضِ فِيهِ سَوَاءٌ حَتَّى يَتَقَابَضَا جَمِيعًا.
__________
(1) الْخَرَشِيّ 7 / 117، وَالْحَطَّاب 6 / 66 - 67، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 114، وَالْقَوَانِينِ الْفِقْهِيَّةِ ص 315، وَبِدَايَة الْمُجْتَهِدِ 2 / 248، والزرقاني 7 / 107، وَالْمُهَذَّب 1 / 447، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 404، وَالْمُغْنِي مَعَ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 6 / 299، وَالإِْنْصَاف 7 / 116، الْمَبْسُوط 12 / 75، وَتَكْمِلَة فَتْح الْقَدِير 7 / 133، وَالْبَدَائِع 6 / 32.

(42/141)


أَمَّا إِذَا تَقَابَضَا فَإِنَّ الْهِبَةَ بِعِوَضٍ تَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ، فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَرُدَّ بِالْعَيْبِ وَعَدَمِ الرُّؤْيَةِ، وَيَرْجِعَ فِي حَالَةِ الاِسْتِحْقَاقِ، وَتَجِبُ الشُّفْعَةُ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَنْقُولٍ، وَهَذِهِ كُلُّهَا أَحْكَامُ بَيْعٍ. لَكِنَّ ابْنَ نُجَيْمٍ يَذْكُرُ أَنَّهُ: لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ كَانَ بَيْعًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً (1) .
وَحُجَّتُهُمْ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ وُجِدَ فِي هَذَا الْعَقْدِ لَفْظُ الْهِبَةِ وَمَعْنَى الْبَيْعِ فَيُعْمَل بِالشَّبَهَيْنِ قَدْرَ الإِْمْكَانِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَبْضُ وَالْحِيَازَةُ عَمَلاً بِشِبْهِ الْهِبَةِ، وَيَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَعَدَمِ الرُّؤْيَةِ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ عَمَلاً بِشِبْهِ الْبَيْعِ (2) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: نَقَل أَبُو الْخَطَّابِ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ يَغْلِبُ فِيهَا حُكْمُ الْهِبَةِ. فَلاَ تَثْبُتُ فِيهَا أَحْكَامُ الْبَيْعِ الْخَاصَّةُ.
وَانْتَصَرَ الْحَارِثِيُّ لِهَذَا الْقَوْل وَقَال: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَفَسَّرَ الْقَاضِي هَذَا الرَّأْيَ قَائِلاً: الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ لَيْسَتْ بَيْعًا، وَإِنَّمَا الْهِبَةُ تَارَةً تَكُونُ تَبَرُّعًا، وَتَارَةً تَكُونُ بِعِوَضٍ، وَكَذَلِكَ
__________
(1) الْبَحْر الرَّائِق 7 / 322، وَالإِْنْصَاف 7 / 116، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 405.
(2) الْمَبْسُوط 12 / 75، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 32، وَتَكْمِلَة فَتْح الْقَدِير 7 / 133، وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 4 / 539.

(42/142)


الْعِتْقُ، وَلاَ يَخْرُجَانِ عَنْ مَوْضُوعِهِمَا (1) .

لُزُومُ الْعِوَضِ بِدُونِ اشْتِرَاطٍ:
36 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْعِوَضِ عَنِ الْهِبَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ ذِكْرِ الْعِوَضِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْعِوَضِ وَإِنْ كَانَتْ دَلاَلَةُ الْحَال تُفِيدُهُ. فَإِذَا أَعْطَاهُ عِوَضًا كَانَ هِبَةً مُبْتَدَأَةً إِلاَّ أَنْ يَقُول الْمَوْهُوبُ لَهُ: هَذَا عِوَضٌ عَنْ هِبَتِكِ أَوْ بَدَلِهَا (2)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ دَفَعَ الْمَوْهُوبُ لَهُ عِوَضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ مَمْنُوعًا بَل هُوَ جَائِزٌ، إِلاَّ أَنَّهُمْ وَضَعُوا شُرُوطًا حِينَ يَدْفَعُ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْعِوَضَ، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ هِيَ:

أَوَّلاً: تَصْرِيحُ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِأَنَّ الْمَدْفُوعَ مِنْ قِبَلِهِ إِنَّمَا هُوَ عِوَضٌ لِهِبَتِهِ نَحْوَ أَنْ يَقُول لَهُ: هَذَا عِوَضٌ عَنْ هِبَتِكَ أَوْ بَدَلٌ عَنْهَا أَوْ مَكَانَهَا. وَذَلِكَ لأَِنَّ الْعِوَضَ اسْمٌ لِمَا يُقَابِل الْمُعَوَّضَ فَلاَ بُدَّ مِنْ لَفْظٍ يَدُل عَلَى الْمُقَابَلَةِ حَتَّى لَوْ وَهَبَ
__________
(1) الإِْنْصَاف 7 / 116، وَالْمُغْنِي مَعَ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 6 / 300.
(2) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 130، وَالإِْنْصَاف 7 / 116، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 404 - 405، وَحَاشِيَة البجيرمي 3 / 221

(42/142)


لآِخَرَ شَيْئًا وَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ، ثُمَّ إِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ وَهَبَ شَيْئًا لِلْوَاهِبِ وَلَمْ يَقُل: هَذَا عِوَضٌ عَنْ هِبَتِكَ، أَيْ لَمْ يُصَرِّحْ بِقَصْدِ الْعِوَضِيَّةِ فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ عِوَضًا، بَل إِنَّهُ يَكُونُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً، وَيَثْبُتُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ الرُّجُوعِ.

ثَانِيًا: أَنْ لاَ يَكُونَ الْعِوَضُ فِي الْعَقْدِ مَمْلُوكًا بِذَلِكَ الْعَقْدِ ذَاتِهِ، كَمَا لَوْ وَهَبَ الْوَاهِبُ شَيْئًا ثُمَّ وَهَبَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ لِلْوَاهِبِ عِوَضًا عَنِ الْهِبَةِ، فَإِنَّ هَذَا لاَ يَصِحُّ وَلاَ يَكُونُ عِوَضًا، أَمَّا لَوْ عَوَّضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِبَعْضِ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ عَنْ بَاقِيهِ فَإِنَّهُ لاَ يَخْلُو مِنْ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْهُوبُ عَلَى حَالِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا وَقْتَ عَقْدِ الْهِبَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ عَلَى حَالِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا وَقْتَ الْهِبَةِ فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ عِوَضًا؛ لأَِنَّ التَّعْوِيضَ بِبَعْضِ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ لاَ يَكُونُ مَقْصُودَ الْوَاهِبِ فِي الْعَادَةِ، إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَقْصُودَهُ لأََمْسَكَهُ وَلَمَا وَهَبَهُ، فَلَمْ يَحْصُل مَقْصُودُهُ بِتَعْوِيضِ بَعْضِ مَا دَخَل تَحْتَ الْعَقْدِ، فَلاَ يَبْطُل حَقُّ الرُّجُوعِ.
وَإِنْ كَانَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ قَدْ تَغَيَّرَ عَنْ حَالِهِ تَغَيُّرًا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فَإِنَّ بَعْضَ الْمَوْهُوبِ يَكُونُ عِوَضًا عَنِ الْبَاقِي؛ لأَِنَّهُ بِالتَّغَيُّرِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ عَيْنٍ

(42/143)


أُخْرَى فَصَلَحَ عِوَضًا.
هَذَا إِذَا وَهَبَ الْوَاهِبُ شَيْئًا وَاحِدًا أَوْ شَيْئَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ.
وَأَمَّا إِذَا وَهَبَ شَيْئَيْنِ فِي عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَعُوِّضَ أَحَدُهُمَا عَنِ الآْخَرِ فَقَدْ حَصَل الْخِلاَفُ فِيهِ:
فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يَكُونُ عِوَضًا عَنِ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ؛ لأَِنَّ الشَّيْءَ الْمَوْهُوبَ وَعِوَضَهُ مُلِكَا بِعَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَجَازَ جَعْل أَحَدِهِمَا عِوَضًا عَنِ الآْخَرِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ الْوَاهِبِ مِنْ هِبَتِهِ الثَّانِيَةِ عَوْدَ الْهِبَةِ الأُْولَى؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ قَدْ يَهَبُ شَيْئًا ثُمَّ يَبْدُو لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ يَكُونُ عِوَضًا؛ لأَِنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ ثَابِتٌ فِي غَيْرِ مَا عُوِّضَ، لأَِنَّهُ مَوْهُوبٌ، وَحَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ ثَابِتٌ شَرْعًا - أَيْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - فَإِذَا عَوَّضَ يَقَعُ عَنِ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ شَرْعًا، فَلاَ يَقَعُ مَوْقِعَ الْعِوَضِ، وَهَذَا بِخِلاَفِ مَا إِذَا تَغَيَّرَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ فَجُعِل بَعْضُهُ عِوَضًا عَنِ الْبَاقِي، فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَيَقَعُ مَوْقِعَ الْعِوَضِ؛ لأَِنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ بَطَل بِالتَّغَيُّرِ فَجَازَ إِيقَاعُهُ عِوَضًا.
وَلَوْ وَهَبَ لَهُ شَيْئًا وَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ،

(42/143)


فَعَوَّضَهُ الصَّدَقَةَ مِنَ الْهِبَةِ كَانَتِ الصَّدَقَةُ عِوَضًا بِالإِْجْمَاعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى اخْتِلاَفِ الأَْصْلَيْنِ؛ أَصْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَصِحَّتُهُ عِوَضًا ظَاهِرٌ، وَأَصْل أَبِي يُوسُفَ؛ لأَِنَّ الصَّدَقَةَ لاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا.

ثَالِثًا: سَلاَمَةُ الْعِوَضِ لِلْوَاهِبِ: وَيُرَادُ بِهِ أَنْ لاَ يَكُونَ الْعِوَضُ مُسْتَحَقًّا، فَإِنْ ظَهَرَ مُسْتَحَقًّا لَمْ يَكُنْ عِوَضًا، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ؛ لأَِنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ التَّعْوِيضَ لَمْ يَصِحَّ بَعْدَ ظُهُورِ اسْتِحْقَاقِهِ.
وَعَلَيْهِ فَإِنَّ لِلْوَاهِبِ الرُّجُوعَ إِذَا كَانَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ لَمْ يَهْلَكْ وَلَمْ يَزْدَدْ خَيْرًا وَلَمْ يَحْدُثْ فِيهِ مَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ.
فَإِنْ كَانَ قَدْ هَلَكَ أَوِ اسْتَهْلَكَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ.
وَإِنِ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْعِوَضِ وَبَقِيَ الْبَعْضُ، فَإِنَّ الْبَاقِيَ يَكُونُ عِوَضًا عَنْ كُل الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ مَا بَقِيَ مِنَ الْعِوَضِ، وَيَرْجِعُ فِي كُل الْمَوْهُوبِ إِنْ كَانَ قَائِمًا بِيَدِهِ وَلَمْ يُحْدُثْ فِيهِ مَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ.
وَحُجَّتُهُمْ: أَنَّ الْبَاقِيَ يَصْلُحُ عِوَضًا عَنْ كُل الْهِبَةِ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَوِّضْهُ إِلاَّ بِهِ فِي الاِبْتِدَاءِ كَانَ عِوَضًا مَانِعًا عَنِ الرُّجُوعِ فَكَذَا فِي

(42/144)


الاِنْتِهَاءِ، بَل أَوْلَى لأَِنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَل، إِلاَّ أَنَّ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ؛ لأَِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ قَدْ غَرَّهُ حَيْثُ عَوَّضَهُ لإِِسْقَاطِ الرُّجُوعِ بِشَيْءٍ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ.
وَقَال زُفَرُ: يَرْجِعُ فِي الْهِبَةِ بِقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ مِنَ الْعِوَضِ؛ لأَِنَّ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ ثَبَتَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا، فَكَمَا أَنَّ الثَّانِيَ عِوَضٌ عَنِ الأَْوَّل، فَكَذَا الأَْوَّل يَصِيرُ عِوَضًا عَنِ الثَّانِي. ثُمَّ لَوِ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْهِبَةِ الأُْولَى كَانَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الرُّجُوعُ فِي بَعْضِ الْعِوَضِ، فَكَذَا إِذَا اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْعِوَضِ كَانَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي بَعْضِ الْهِبَةِ تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ: عَلَى أَنَّهُ إِذَا وَهَبَ الْوَاهِبُ لِمَنْ هُوَ دُونَهُ فَلاَ يَجِبُ الْعِوَضُ؛ إِذْ لاَ تَقْتَضِيهِ لَفْظًا وَلاَ عَادَةً، وَأَلْحَقَ الْمَاوَرْدِيُّ بِهَذَا هِبَةَ الأَْهْل وَالأَْقَارِبِ؛ لأَِنَّ الْقَصْدَ هُوَ الصِّلَةُ، وَهِبَةَ الْعَدُوِّ؛ لأَِنَّ الْقَصْدَ التَّآلُفُ، وَهِبَةَ الْغَنِيِّ لِلْفَقِيرِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ نَفْعُهُ، وَالْهِبَةَ لِلْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ؛ لأَِنَّ الْقَصْدَ الْقُرْبَةُ وَالتَّبَرُّكُ، وَهِبَةَ الْمُكَلَّفِ لِغَيْرِ الْمُكَلَّفِ؛ لِعَدَمِ صِحَّةِ الاِعْتِيَاضِ عَنْهُ، وَالْهِبَةَ لِلأَْصْدِقَاءِ وَالإِْخْوَانِ؛ لأَِنَّ الْقَصْدَ تَأَكُّدُ الْمَوَدَّةِ، وَالْهِبَةَ لِمَنْ أَعَانَ بِجَاهِهِ أَوْ مَالِهِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مُكَافَأَتُهُ.
__________
(1) الْمَبْسُوط 12 / 76، 82، وَالْبَدَائِع 6 / 132.

(42/144)


أَمَّا إِنْ وَهَبَ الْوَاهِبُ لِمَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ كَهِبَةِ الْغُلاَمِ لأُِسْتَاذِهِ، فَلاَ عِوَضَ فِي الأَْظْهَرِ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ: يَجِبُ الثَّوَابُ؛ لاِطِّرَادِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ.
وَإِنْ وَهَبَ لِنَظِيرِهِ فَلاَ عِوَضَ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَقْطُوعِ بِهِ؛ لأَِنَّ الْقَصْدَ مِنْ مِثْلِهِ الصِّلَةُ وَتَأَكُّدُ الصَّدَاقَةِ، وَقِيل: فِيهَا الْقَوْلاَنِ السَّابِقَانِ.
وَحَيْثُ وَجَبَ الْعِوَضُ عَلَى مُقَابِل الأَْظْهَرِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ قِيمَةُ الْمَوْهُوبِ أَيْ قَدْرُهُ عَلَى الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ إِذَا اقْتَضَى الْعِوَضَ وَلَمْ يُسَمَّ فِيهِ شَيْءٌ، تَجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ، وَالاِعْتِبَارُ بِقِيمَةِ وَقْتِ الْقَبْضِ لاَ وَقْتِ الْعِوَضِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: يَلْزَمُهُ مَا يُعَدُّ عِوَضًا لِمِثْلِهِ عَادَةً، فَإِنْ لَمْ يُثِبْهُ هُوَ وَلاَ غَيْرُهُ، فَلِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِي الْمَوْهُوبِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، وَبِبَدَلِهِ إِنْ تَلَفَ.
وَلَوْ تَنَازَعَ الْوَاهِبُ وَالْمَوْهُوبُ لَهُ فِي وُجُودِ الْعِوَضِ فَإِنَّ الْقَوْل قَوْل الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لأَِنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ مِلْكُهُ، وَالأَْصْل عَدَمُ ذِكْرِ الْبَدَل (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وُجُوبَ الْعِوَضِ إِذَا دَل الْعُرْفُ وَحَال
__________
(1) الْمُهَذَّب 1 / 447، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 404 - 405، وَحَاشِيَة البجيرمي 3 / 221.

(42/145)


الْوَاهِبِ عَلَيْهِ (1) .
وَيُفَرِّعُ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مَذْهَبِهِمْ هَذَا: أَنَّهُ لَوْ تَنَازَعَ الْوَاهِبُ وَالْمَوْهُوبُ لَهُ فِي وُجُوبِ الثَّوَابِ فَإِنَّ الْقَوْل قَوْل الْوَاهِبِ إِنْ شَهِدَ لَهُ الْعُرْفُ أَوْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ وَلاَ عَلَيْهِ.
أَمَّا إِنْ شَهِدَ الْعُرْفُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بِأَنْ كَانَ مِثْل الْوَاهِبِ لاَ يَطْلُبُ فِي هِبَتِهِ عِوَضًا، فَإِنَّ الْقَوْل حِينَئِذٍ قَوْل الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَفِي طَلَبِ حَلْفِ الْوَاهِبِ مَعَ تَصْدِيقِهِ قَوْلاَنِ.
وَمِنْ تَفْرِيعَاتِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْوَاهِبَ إِذَا طَلَبَ الْعِوَضَ وَلَمْ تَكُنْ هِبَتُهُ مَدْفُوعَةً لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فَلاَ إِلْزَامَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي دَفْعِ الْعِوَضِ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ مَدْفُوعَةً، فَدَفَعَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْعِوَضَ فَعَلَى الْوَاهِبِ قَبُولُهُ وَلَيْسَ بِلاَزِمٍ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ دَفْعُ الْعِوَضِ؛ لأَِنَّ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْهِبَةَ وَيَرْفُضَ الشَّيْءَ الْمَوْهُوبَ، اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ يُفَوِّتَ الشَّيْءَ الْمَوْهُوبَ بِيَدِهِ بِزِيَادَةٍ، كَمَا لَوْ سَمَّنَ الْهَزِيل، أَوْ بِنَقْصٍ كَمَا لَوْ هَرِمَ الْكَبِيرُ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْمَوْهُوبَ لَهُ حِينَئِذٍ الْقِيمَةُ يَوْمَ قَبْضِ الْهِبَةِ، وَعَلَى الْوَاهِبِ قَبُول الْقِيمَةِ (2) .
__________
(1) بِدَايَة الْمُجْتَهِدِ 2 / 248، وَالْخَرَشِيّ 7 / 118، وَالإِْنْصَاف 7 / 116.
(2) الْخَرَشِيّ 7 / 114.

(42/145)


وَمِنْ تَفْرِيعَاتِهِمْ أَيْضًا: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَاهِبِ حَبْسُ الْهِبَةِ عِنْدَهُ حَتَّى يَقْبِضَ الْعِوَضَ الْمُشْتَرَطَ أَوْ مَا يَرْضَى بِهِ، وَلَوْ قَبَضَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْهِبَةَ قَبْل دَفْعِ الْعِوَضِ وُقِفَ: فَإِمَّا يُعَوِّضُ أَوْ يَرُدُّ الْهِبَةَ، وَيَتَلَوَّمُ لَهَا تَلَوُّمًا لاَ يَضُرُّ بِهِمَا فِيهِ (1) .
وَلَوْ مَاتَ الْوَاهِبُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ وَالشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ بِيَدِهِ، فَإِنَّ الْهِبَةَ نَافِذَةٌ كَالْبَيْعِ، وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ قَبْضُهَا إِنْ دَفَعَ الْعِوَضَ لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْل أَنْ يَدْفَعَ الْعِوَضَ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِوَرَثَتِهِ مَا كَانَ لَهُ مِنَ الْحُقُوقِ (2) .
وَالْعِوَضُ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُعَاوِضُ بِهِ النَّاسَ فِي الْبَيْعِ، وَعَلَى الْوَاهِبِ قَبُولُهُ وَإِنْ كَانَ مَعِيبًا طَالَمَا أَنَّ فِي قِيمَتِهِ وَفَاءً أَوْ يُكْمِلُهُ لَهُ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْعِوَضُ مِمَّا لَمْ يَعْتَدَّ النَّاسُ التَّعَاوُضَ بِهِ كَالْحَطَبِ وَالتِّبْنِ، فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الْوَاهِبَ قَبُولُهُ (3) . عَلَى أَنَّهُ لاَ يُصَدَّقُ الْوَاهِبُ فِي طَلَبِ الْعِوَضِ عَلَى النُّقُودِ الْمَسْكُوكَةِ أَوِ السَّبَائِكِ أَوِ الْحُلِيِّ الْمُكَسَّرِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ، فَإِذَا اشْتَرَطَهُ عُوِّضَ عُرُوضًا أَوْ طَعَامًا، وَمِثْل الشَّرْطِ: الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ (4) .
__________
(1) الْخَرَشِيّ 7 / 114.
(2) الْمَرْجِع السَّابِق.
(3) الْخَرَشِيّ 7 / 120.
(4) الْخَرَشِيّ 7 / 118.

(42/146)


وَلَوْ وَهَبَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ شَيْئًا لِلآْخَرِ ثُمَّ طَلَبَ الْعِوَضَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لاَ يُصَدَّقُ؛ لأَِنَّ الْعُرْفَ قَاضٍ بِنَفْيِ الثَّوَابِ بَيْنَهُمَا (1) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْهِبَةَ الْمُطْلَقَةَ تَقْتَضِي عِوَضًا (2) .

التَّكْيِيفُ الْفِقْهِيُّ لِلْعِوَضِ الْمُتَأَخِّرِ عَنِ الْهِبَةِ الْمُطْلَقَةِ:
37 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ) الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْهِبَةَ الْمُطْلَقَةَ لاَ تَقْتَضِي عِوَضًا بِأَنَّ التَّعْوِيضَ الْمُتَأَخِّرَ عَنِ الْهِبَةِ الْمُطْلَقَةِ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ.
فَقَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: التَّعْوِيضُ الْمُتَأَخِّرُ عَنِ الْهِبَةِ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنِ أَصْحَابِنَا، يَصِحُّ بِمَا تَصِحُّ بِهِ الْهِبَةُ وَيَبْطُل بِمَا تَبْطُل بِهِ الْهِبَةُ، لاَ يُخَالِفُهَا إِلاَّ فِي إِسْقَاطِ الرُّجُوعِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَثْبُتُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الأُْولَى وَلاَ يَثْبُتُ فِي الثَّانِيَةِ، فَأَمَّا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ فِي حُكْمِ هِبَةٍ مُبْتَدَأَةٍ. وَلَوْ وَجَدَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِالْمَوْهُوبِ عَيْبًا فَاحِشًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّ وَيَرْجِعَ فِي الْعِوَضِ، وَكَذَلِكَ الْوَاهِبُ إِذَا وَجَدَ بِالْعِوَضِ عَيْبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْعِوَضَ وَيَرْجِعَ
__________
(1) الْخَرَشِيّ 7 / 118.
(2) الإِْنْصَاف 7 / 116.

(42/146)


فِي الْهِبَةِ، فَإِذَا قَبَضَ الْوَاهِبُ الْعِوَضَ فَلَيْسَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ فِيمَا مَلَكَهُ، سَوَاءٌ عَوَّضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ بِأَمْرِ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَيَشْتَرِطُ شَرَائِطَ الْهِبَةِ فِي الْعِوَضِ بَعْدَ الْهِبَةِ مِنَ الْقَبْضِ وَالْحِيَازَةِ وَالإِْفْرَازِ، وَلاَ يَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، فَلاَ يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ وَلاَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ.
وَقَال الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا لَمْ يَجِبِ (الْعِوَضُ) فَأَعْطَاهُ الْمُتَّهَبُ ثَوَابًا كَانَ ذَلِكَ ابْتِدَاءَ هِبَةٍ، حَتَّى لَوْ وَهَبَ لاِبْنِهِ فَأَعْطَاهُ الاِبْنُ ثَوَابًا، لاَ يَنْقَطِعُ حَقُّ الرُّجُوعِ (1) .

ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ:
38 - إِذَا تَمَّتِ الْهِبَةُ صَحِيحَةً بِشُرُوطِهَا الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فِي الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ (2) .
وَالأَْصْل أَنَّ الْهِبَةَ تَكُونُ بِلاَ عِوَضٍ، وَهَكَذَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهَا بِلاَ عِوَضٍ، فَإِذَا اشْتَرَطَ الْعِوَضَ فِيهَا كَانَتْ عَلَى شَرْطِهَا.
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 4 / 394، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 5 / 386، وَالْمُغْنِي مَعَ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 6 / 299.
(2) الْبَحْر الرَّائِق 7 / 310، وَانْظُرْ تَعَارِيف الْفُقَهَاء فِي الْهِبَةِ.

(42/147)


وَهَذَا الْمِلْكُ اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي ثُبُوتِهِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ الشَّيْءَ الْمَوْهُوبَ، وَاعْتَبَرُوهُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْهِبَةِ وَتَمَامِهَا.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ قَرَّرُوا ثُبُوتَ الْمِلْكِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ (الإِْيجَابُ وَالْقَبُول) وَمَا الْقَبْضُ عِنْدَهُمْ إِلاَّ أَثَرًا مِنْ آثَارِ الْعَقْدِ يَلْزَمُ الْوَاهِبَ تَنْفِيذُهُ، وَذَلِكَ بِتَسْهِيل إِقْبَاضِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَمَا عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ إِلاَّ أَنْ يُسْرِعَ فِي حِيَازَةِ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ وَلاَ يُفَرِّطَ فِيهِ.
وَقَدْ نَحَا الْحَنَابِلَةُ مَنْحَى الْمَالِكِيَّةِ فِي الْهِبَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنَ الْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ وَالْمَذْرُوعَاتِ، فَقَرَّرُوا ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِيهَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ (1) .

الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ:
39 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ رُجُوعِ الْوَاهِبِ فِي هِبَتِهِ بَعْدَ قَبْضِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الشَّيْءَ الْمَوْهُوبَ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ:
الأَْوَّل: عَدَمُ جَوَازِ الرُّجُوعِ إِلاَّ لأَِبٍ فِيمَا وَهَبَ وَلَدَهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
__________
(1) تَكْمِلَة رَدِّ الْمُحْتَارِ 8 / 424، 470 ط الْحَلَبِيّ، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 5 / 375، وَالْقَوَاعِد لاِبْن رَجَب ص 71، وَالشَّرْح الْكَبِير 4 / 101.

(42/147)


وَفِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ يُلْحَقُ سَائِرُ الأُْصُول بِالأَْبِ فِي جَوَازِ الرُّجُوعِ.
وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ الأُْمَّ بِالأَْبِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الاِبْنُ غَيْرَ يَتِيمٍ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الأُْمَّ كَالأَْبِ فِي الرُّجُوعِ مُطْلَقًا (1) وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْل مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ إِلاَّ فِيمَا يَهَبُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ (2) ، فَالْحَدِيثُ نَصٌّ فِي عَدَمِ جَوَازِ رُجُوعِ غَيْرِ الأَْبِ فِي هِبَتِهِ لِوَلَدِهِ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ (3) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: لَيْسَ لَنَا مَثَل
__________
(1) الْخَرَشِيّ 7 / 114، وَالْقَوَانِين الْفِقْهِيَّة ص 315، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 110، وَبِدَايَة الْمُجْتَهِدِ 2 / 248، وَالْمُهَذَّبِ 1 / 447، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 402، وَحَاشِيَة البجيرمي 3 / 219، وَحَاشِيَة الْقَلْيُوبِيّ وَعَمِيرَة 3 / 313، وَالْمُغْنِي وَالشَّرْح الْكَبِير 6 / 272، وَالإِْنْصَاف 7 / 145، وَالْفُرُوع 4 / 647
(2) حَدِيث: " لاَ يَحْل لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ. . . ". أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيّ فِي شَرْحِ مَعَانِي الآْثَار (4 / 79 ط مَطْبَعَة الأَْنْوَار الْمُحَمَّدِيَّة) ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى (6 / 179 - 180 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ) وَقَال: مُنْقَطِع، وَفِي الْبَابِ مُوَصِّلاً بِلَفْظٍ آخَرَ.
(3) حَدِيث: " الْعَائِد فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيِّئْهُ ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 5 / 234 ط السَّلَفِيَّة) ، وَمُسْلِم (3 / 1241 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمِ ا.

(42/148)


السَّوْءِ، الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ (1) .
الثَّانِي: يَصِحُّ الرُّجُوعُ لِلْوَاهِبِ فِي هِبَتِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ مِنْ مَوَانِعِ الرُّجُوعِ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ تَنْزِيهًا، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالِي: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رَدُّوهَا (3) } وَالتَّحِيَّةُ هُنَا تُفَسَّرُ بِالْهَدِيَّةِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ (أَوْ رَدُّوهَا) لأَِنَّ الرَّدَّ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الأَْعْيَانِ لاَ فِي الأَْعْرَاضِ؛ لأَِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ إِعَادَةِ الشَّيْءِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي الأَْعْرَاضِ كَالتَّحِيَّةِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا (4) أَيْ يُعَوَّضُ، فَقَدْ جَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاهِبَ أَحَقَّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يَصِل إِلَيْهِ الْعِوَضُ.
__________
(1) حَدِيث: " لَيْسَ لَنَا مَثَل السَّوْءِ: الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ. . . ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 5 / 234 - 235 ط السَّلَفِيَّة) ، وَمُسْلِم (3 / 1240 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمِ ا.
(2) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 127، وَتَكْمِلَة فَتْح الْقَدِير 7 / 129، وَالْبَحْر الرَّائِق 7 / 295، 316، وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 4 / 539.
(3) سُورَة النِّسَاء / 86.
(4) حَدِيث: " الْوَاهِب أَحَقّ بِهِبَتِهِ. . . ". سَبَقَ تَخْرِيجه ف 32.

(42/148)


وَقَال الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَفَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَلَمْ يُرِدْ خِلاَفَهُ عَنْ غَيْرِهِمْ فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَاسْتَدَلُّوا: بِأَنَّ الْعِوَضَ الْمَالِيَّ قَدْ يَكُونُ مَقْصُودًا مِنْ هِبَةِ الأَْجَانِبِ، فَإِنَّ الإِْنْسَانَ قَدْ يَهَبُ الأَْجْنَبِيَّ إِحْسَانًا إِلَيْهِ وَإِنْعَامًا عَلَيْهِ، وَقَدْ يَهَبُ لَهُ طَمَعًا فِي الْمُكَافَأَةِ وَالْمُجَازَاةِ عُرْفًا وَعَادَةً، فَالْمَوْهُوبُ لأَِجْلِهِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ شَرْعًا.
وَقَدْ لاَ يَحْصُل ذَلِكَ الْمَقْصُودُ مِنَ الأَْجْنَبِيِّ، وَفَوَاتُ الْمَقْصُودِ مِنْ عَقْدٍ مُحْتَمَلٍ لِلْفَسْخِ يَمْنَعُ لُزُومَهُ كَالْبَيْعِ؛ وَلأَِنَّهُ يَعْدَمُ الرِّضَا وَالرِّضَا فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا هُوَ شَرْطٌ لِلصِّحَّةِ فَهُوَ شَرْطٌ لِلُّزُومِ كَمَا فِي الْبَيْعِ إِذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ عَيْبًا لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَقْدُ؛ لِعَدَمِ الرِّضَا عِنْدَ عَدَمِ حُصُول الْمَقْصُودِ وَهُوَ السَّلاَمَةُ، فَكَذَا هَذَا.
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي صِحَّةِ الرُّجُوعِ لِلْوَاهِبِ التَّرَاضِيَ أَوِ التَّقَاضِيَ حَتَّى لاَ يَصِحَّ الرُّجُوعُ بِدُونِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخُ الْعَقْدِ بَعْدَ تَمَامِهِ، وَفَسْخُ الْعَقْدِ بَعْدَ تَمَامِهِ لاَ يَصِحُّ بِدُونِ الْقَضَاءِ أَوِ الرِّضَا.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَفِيَّةُ الإِْفْرَازَ فِي الشَّائِعِ؛ لأَِنَّ

(42/149)


الشُّيُوعَ لاَ يَمْنَعُ مِنَ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ (1) .
الثَّالِثُ عَنْ أَحْمَدَ: لَيْسَ لِلأَْبِ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ.
الرَّابِعُ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ لِلأَْبِ الرُّجُوعَ إِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ أَوْ رَغْبَةٌ كَتَزْوِيجٍ وَفَلَسٍ أَوْ مَا يَمْنَعُ تَصَرُّفَ الْمُتَّهَبِ مُؤَبَّدًا أَوْ مُؤَقَّتًا (2) .

مَوَانِعُ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَوَانِعِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:

أَوَّلاً: مَوَانِعُ الرُّجُوعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) .
40 - مَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ فِي الأَْحْوَال الآْتِيَةِ:
أ - هَلاَكُ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ أَوِ اسْتِهْلاَكُهُ: فَإِذَا تَلِفَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ أَوِ اسْتَهْلَكَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لاَ سَبِيل إِلَى الرُّجُوعِ فِي الشَّيْءِ الْهَالِكِ، كَمَا أَنَّهُ لاَ سَبِيل إِلَى الرُّجُوعِ فِي قِيمَتِهِ؛ لأَِنَّ قَبْضَ
__________
(1) الْبَدَائِع 6 / 128، وَتَكْمِلَة فَتْح الْقَدِير 7 / 135.
(2) الإِْنْصَاف 7 / 145 - 146، وَالْمُغْنِي مَعَ الشَّرْحِ 6 / 270، وَالْفُرُوع 4 / 647
(3) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 127، وَتَكْمِلَة فَتْح الْقَدِير 7 / 129، وَالْبَحْر الرَّائِق 7 / 316، 294، وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 4 / 518.

(42/149)


الْمَوْهُوبِ لَهُ لَيْسَ قَبْضًا مَضْمُونًا، وَقِيمَتُهُ لَيْسَتْ مَوْهُوبَةً؛ لِعَدَمِ وُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَهَذَا فِي الْهَلاَكِ الْكُلِّيِّ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْهَلاَكُ جُزْئِيًّا فَإِنَّهُ لاَ يُمْنَعُ الرُّجُوعَ؛ لأَِنَّ الرُّجُوعَ حِينَئِذٍ يَكُونُ رُجُوعًا فِي بَعْضِ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ، وَالأَْصْل أَنَّ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي بَعْضِ الْمَوْهُوبِ وَهُوَ قَائِمٌ، فَكَذَلِكَ إِذَا نَقَصَ. وَلَيْسَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ضَمَانُ النَّقْصِ؛ لأَِنَّ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ لَيْسَ قَبْضَ ضَمَانٍ.
ب - خُرُوجُ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ عَنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْمَوْتِ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمِلْكَ يَخْتَلِفُ بِهَذِهِ الأُْمُورِ، إِذْ إِنَّ مِلْكَ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ سَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي أَوِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الثَّانِي أَوِ الْوَارِثِ.
ج - الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ إِذَا حَدَثَتْ فِي الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِفِعْل الْمَوْهُوبِ لَهُ أَوْ بِفِعْل غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مُتَوَلِّدَةً مِنَ الشَّيْءِ أَمْ لَيْسَتْ مُتَوَلِّدَةً مِنْهُ، نَحْوَ مَا إِذَا كَانَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ دَارًا فَبَنَى الْمَوْهُوبُ لَهُ زِيَادَةً فِيهَا، أَوْ كَانَتْ أَرْضًا فَغَرَسَ فِيهَا أَشْجَارًا، أَوْ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ صَبْغًا زَادَ فِي قِيمَتِهِ، أَوْ طَرَأَ سِمَنٌ عَلَى الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ، فَفِي كُل هَذِهِ الأَْحْوَال

(42/150)


اخْتَلَطَ الْمَوْهُوبُ بِغَيْرِهِ، فَلاَ يَصِحُّ الرُّجُوعُ.
أَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ فَإِنَّهَا لاَ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَوَلِّدَةً مِنَ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ كَاللَّبَنِ وَالثَّمَرِ، أَوْ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ كَالْكَسْبِ وَالْغَلَّةِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الزَّوَائِدَ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهَا الْعَقْدُ، وَكَذَلِكَ لاَ يَرِدُ عَلَيْهَا الْفَسْخُ، كَمَا أَنَّهُ يُمْكِنُ فَسْخُ الْعَقْدِ دُونَ الزِّيَادَةِ بِخِلاَفِ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ.
أَمَّا نُقْصَانُ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ فَلاَ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ؛ لأَِنَّهُ مَا دَامَ لِلْوَاهِبِ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي كُل الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي بَعْضِهِ مَعَ بَقَائِهِ، فَكَذَا عِنْدَ نُقْصَانِهِ.
د - وُجُودُ الْعِوَضِ: إِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ بِعِوَضٍ وَقَبَضَهُ الْوَاهِبُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ، وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا (1) كَمَا أَنَّ التَّعْوِيضَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَقْصُودَ الْوَاهِبِ هُوَ الْوُصُول إِلَى الْعِوَضِ، فَإِذَا وَصَل إِلَيْهِ فَقَدْ حَصَل مَقْصُودُهُ فَيَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ. وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا.
هـ - إِذَا كَانَ فِي الْهِبَةِ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْعِوَضِ: وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الأَْحْوَال التَّالِيَةِ:
__________
(1) حَدِيث: الْوَاهِبُ أَحَقّ بِهِبَتِهِ. . . ". سَبَقَ تَخْرِيجه ف 32.

(42/150)


- الْهِبَةُ لِصِلَةِ الرَّحِمِ - لاَ رُجُوعَ فِي الْهِبَةِ لِذِي رَحِمِ مُحَرَّمٍ مِنَ الْوَاهِبِ.
وَحُجَّتُهُمْ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا وَمَعْنَاهُ أَنَّ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يُعَوَّضْ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ عِوَضٌ مَعْنًى؛ لأَِنَّ التَّوَاصُل سَبَبٌ لِلتَّنَاصُرِ وَالتَّعَاوُنِ فِي الدُّنْيَا وَسَبَبٌ لِلثَّوَابِ فِي الآْخِرَةِ.
كَمَا أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَمَرَ بِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ مَنَعَ الرُّجُوعَ فِي مِثْل هَذِهِ الْهِبَةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ لِذِي رَحِمٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ فَيَجُوزُ الرُّجُوعُ لِقُصُورِ مَعْنَى الصِّلَةِ، فَلاَ يَكُونُ فِي مَدَى الْعِوَضِ.
الزَّوْجِيَّةُ: لاَ يَرْجِعُ أَيٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فِيمَا وَهَبَ لِصَاحِبِهِ، وَالْعِبْرَةُ بِقِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ وَقْتَ الْهِبَةِ؛ لأَِنَّ صِلَةَ الزَّوْجِيَّةِ تَجْرِي مَجْرَى صِلَةِ الْقَرَابَةِ الْكَامِلَةِ، بِدَلِيل تَعَلُّقِ التَّوَارُثِ بِهَا فِي جَمِيعِ الأَْحْوَال.
الثَّوَابُ أَوِ الصَّدَقَةُ: إِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ إِلَى فَقِيرٍ فَهِيَ صَدَقَةٌ يُطْلَبُ فِيهَا ثَوَابُ اللَّهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْعِوَضِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْهِبَةُ لِلأَْغْنِيَاءِ (1)
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 4 / 518، وَالْبَحْر الرَّائِق 7 / 249.

(42/151)


و - مَوْتُ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ: فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ؛ لأَِنَّهُ بِمَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ يَنْتَقِل الْمِلْكُ إِلَى الْوَرَثَةِ كَمَا إِذَا انْتَقَل فِي حَال حَيَاتِهِ، وَإِذَا مَاتَ الْوَاهِبُ فَوَارِثُهُ أَجْنَبِيٌّ عَنِ الْعَقْدِ.
ز - تَغَيُّرُ الْمَوْهُوبِ: بِأَنْ كَانَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا، أَوْ دَقِيقًا فَخَبَزَهُ، أَوْ سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ، فَيَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ (1) .

ثَانِيًا: مَوَانِعُ الرُّجُوعِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِيمَا أَجَازُوا الرُّجُوعَ فِيهِ:
41 - يَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ حَقِّ الأَْبِ أَوِ الأُْمِّ فِي اعْتِصَارِ الْهِبَةِ (أَيِ الرُّجُوعِ فِيهَا) حِينَ يَهَبُ لِوَلَدِهِ بِوُجُودِ أَحَدِ الْمَوَانِعِ الآْتِيَةِ:
أ - أَنْ يَزِيدَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ أَوْ يَنْقُصَ فِي ذَاتِهِ، كَأَنْ يَكْبُرَ الصَّغِيرُ أَوْ يَسْمُنَ الْهَزِيل أَوْ يَهْزِل السَّمِينُ، أَمَّا إِذَا تَغَيَّرَتْ قِيمَةُ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ بِسَبَبِ تَغَيُّرِ الأَْسْوَاقِ فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، لأَِنَّ الْهِبَةَ عَلَى حَالِهَا، وَزِيَادَةَ الْقِيمَةِ أَوْ نُقْصَانَهَا لاَ تَعَلُّقَ لَهَا بِالشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ، كَاخْتِلاَفِ السِّعْرِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ.
__________
(1) الْبَحْر الرَّائِق 7 / 292، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 4 / 386.

(42/151)


ب - أَنْ يَقْصِدَ النَّاسُ مُدَايَنَةَ الْوَلَدِ أَوْ تَزْوِيجَهُ لأَِجْل الْهِبَةِ، لِكَوْنِهِ أَصْبَحَ بِالْهِبَةِ مُوسِرًا، فَمَنْ عَقَدَ زَوَاجَ الذَّكَرِ أَوِ الأُْنْثَى لأَِجْل يُسْرِهِمَا بِالْهِبَةِ أَوْ أَعْطَى أَحَدَهُمَا دَيْنًا لأَِجْل ذَلِكَ، أَوِ اشْتَرَيَا شَيْئًا فِي الذِّمَّةِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلأَْبِ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الزَّوَاجُ وَالْمُدَايَنَةُ لأَِمْرٍ غَيْرِ الْهِبَةِ فَإِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ.
ج - أَنْ يَمْرَضَ الْوَلَدُ الْمَوْهُوبُ لَهُ مَرَضَ الْمَوْتِ؛ وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ وَرَثَتِهِ بِالْهِبَةِ، فَيَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا مَرِضَ الْوَاهِبُ ذَلِكَ الْمَرَضَ، فَإِنَّ مَرَضَهُ هَذَا يَمْنَعُهُ مِنَ الرُّجُوعِ فِيمَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ؛ لأَِنَّ رُجُوعَهُ يَكُونُ لِغَيْرِهِ، أَيْ يَمُوتُ فَتَكُونُ الْهِبَةُ الَّتِي رَجَعَ فِيهَا لِغَيْرِ الْوَلَدِ، كَزَوْجَةِ الأَْبِ مَثَلاً، أَمَّا إِذَا وَهَبَ الْوَالِدُ وَلَدَهُ الْمُتَزَوِّجَ أَوِ الْمَدِينَ أَوِ الْمَرِيضَ، أَوْ كَانَ الْوَالِدُ مَرِيضًا وَقْتَ الْهِبَةِ - فَإِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ.
د - أَنْ تَفُوتَ الْهِبَةُ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِمَا يُخْرِجُهَا عَنْ مِلْكِهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا أَوْ تَفُوتَ بِصِفَةٍ فِيهَا مِمَّا يُغَيِّرُهَا عَنْ حَالِهَا كَجَعْل الدَّنَانِيرِ حُلِيًّا (1) .
__________
(1) بِدَايَة الْمُجْتَهِدِ 2 / 248، وَالْقَوَانِين الْفِقْهِيَّة ص 315، وَالْخَرَشِيّ 7 / 114، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 110، وَمَنْح الْجَلِيل 4 / 104.

(42/152)


ثَالِثًا: مَوَانِعُ الرُّجُوعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيمَا أَجَازُوا الرُّجُوعَ فِيهِ:
42 - يُمْنَعُ الرُّجُوعُ لِلأَْبِ وَسَائِرِ الأُْصُول عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا خَرَجَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ عَنْ سَلْطَنَةِ الْوَلَدِ.
وَيَتَحَقَّقُ الْخُرُوجُ بِبَيْعِ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ كُلِّهِ أَوْ وَقْفِهِ أَوْ هِبَتِهِ لآِخَرَ مَعَ قَبْضِ الْمَوْهُوبِ لَهُ.
أَمَّا غَصْبُ الْمَوْهُوبِ أَوْ رَهْنُهُ أَوْ هِبَتُهُ قَبْل الْقَبْضِ أَوْ إِجَارَتُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ فَكُل ذَلِكَ لاَ يُزِيل سَلْطَنَةَ الْوَلَدِ، فَيَجُوزُ لِلأَْبِ الرُّجُوعُ.
وَلَوْ بَاعَ الْوَلَدُ الشَّيْءَ الْمَوْهُوبَ لَهُ مِنْ أَبِيهِ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ بِشِرَاءٍ أَوْ إِرْثٍ لَمْ يَكُنْ لِلأَْبِ الرُّجُوعُ فِي الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّ عَوْدَ السَّلْطَنَةِ هُنَا كَانَ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ.
وَلاَ تَمْنَعُ الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الرُّجُوعَ، أَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ فَهِيَ لِلْوَلَدِ؛ وَلأَِنَّهَا حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِهِ وَيَرْجِعُ الْوَالِدُ بِالشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ (1)

رَابِعًا: مَوَانِعُ الرُّجُوعِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِيمَا أَجَازُوا الرُّجُوعَ فِيهِ:
43 - أ - إِذَا خَرَجَ الْمَوْهُوبُ عَنْ مِلْكِ
__________
(1) الْمُهَذَّب 1 / 447، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 402، وَحَاشِيَة البجيرمي 3 / 219

(42/152)


الْمَوْهُوبِ لَهُ بِأَيِّ سَبَبٍ؛ كَبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ وَقْفٍ أَوْ إِرْثٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ لِلْوَالِدِ الرُّجُوعُ؛ لأَِنَّهُ إِبْطَالٌ لِمِلْكِ غَيْرِ الْمَوْهُوبِ لَهُ. وَإِنْ عَادَ الْمِلْكُ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ لَمْ يَمْلِكِ الأَْبُ الرُّجُوعَ.
أَمَّا إِنْ عَادَ إِلَيْهِ بِفَسْخِ الْبَيْعِ لِعَيْبٍ أَوْ إِقَالَةٍ أَوْ فَلَسِ الْمُشْتَرِي، فَفِي جَوَازِ رُجُوعِ الأَْبِ وَجْهَانِ: الْجَوَازُ وَعَدَمُهُ.
ب - عَدَمُ بَقَاءِ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ فِي تَصَرُّفِ الْوَلَدِ بِحَيْثُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي رَقَبَتِهِ، فَإِنْ رَهَنَهُ أَوْ أَفْلَسَ أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ، لَمْ يَمْلِكِ الأَْبُ الرُّجُوعَ فِيهِ؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ إِبْطَالاً لِحَقِّ غَيْرِ الْوَلَدِ، فَإِذَا زَال الْمَانِعُ مِنَ التَّصَرُّفِ جَازَ الرُّجُوعُ.
ج - إِذَا تَعَلَّقَ بِالشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ رَغْبَةً لِغَيْرِ الْوَلَدِ، مِثْل أَنْ يَهَبَ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ شَيْئًا، فَيَرْغَبُ النَّاسُ فِي مُعَامَلَتِهِ وَمُدَايَنَتِهِ، أَوْ رَغِبُوا فِي تَزْوِيجِهِ فَزَوَّجُوهُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، فَعَنْ أَحْمَدَ فِي جَوَازِ الرُّجُوعِ رِوَايَتَانِ:
الأُْولَى: لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ؛ لأَِنَّهُ غَرَّ النَّاسَ بِمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ حَتَّى وَثِقُوا بِهِ، فَأَقْدَمُوا عَلَى مُدَايَنَتِهِ أَوْ تَزْوِيجِهِ، فَإِذَا رَجَعَ كَانَ ذَلِكَ إِضْرَارًا بِهِمْ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ، (1)
__________
(1) حَدِيث: " لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ. أَخْرَجَهُ ابْن مَاجَهْ (2 / 784 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عِبَادَة بْن الصَّامِتِ، وَابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَأَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ (1 / 313 ط الميمنية) ، وَالْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرِكِ (2 / 57 - 58 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ) وَقَال: صَحِيح.

(42/153)


وَلأَِنَّ فِي هَذَا الصَّنِيعِ تَحَايُلاً عَلَى إِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالنَّاسِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.
الثَّانِيَةُ: لَهُ الرُّجُوعُ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رُجُوعِ الأَْبِ فِيمَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ، وَلأَِنَّ حَقَّ الدَّائِنِ وَالْمُتَزَوِّجِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِعَيْنِ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ الرُّجُوعِ.
د - إِذَا زَادَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً كَالسِّمَنِ وَالْكِبَرِ وَتَعَلُّمِ الصَّنْعَةِ، فَإِنْ زَادَتْ فَعَنْ أَحْمَدَ فِي جَوَازِ الرُّجُوعِ رِوَايَتَانِ:
الأُْولَى: يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ؛ لأَِنَّ الزِّيَادَةَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ لِكَوْنِهَا نَمَاءَ مِلْكِهِ، وَلَمْ تَنْتَقِل إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ وَالِدِهِ، وَإِذَا امْتَنَعَ الرُّجُوعُ فِيهَا امْتَنَعَ الرُّجُوعُ فِي الأَْصْل أَيْضًا.
الثَّانِيَةُ: لاَ يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ؛ لأَِنَّهَا زِيَادَةٌ فِي الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ فَلَمْ تَمْنَعِ الرُّجُوعَ كَالزِّيَادَةِ قَبْل الْقَبْضِ وَكَالزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ، فَإِنَّهَا لاَ تَمْنَعُ (1)
هـ - وَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ
__________
(1) الْمُغْنِي وَالشَّرْح الْكَبِير 6 / 276، وَكَشَّاف الْقِنَاع 4 / 314، وَقَوَاعِد ابْن رَجَب ق 32.

(42/153)


أَنْ تَرْجِعَ فِي صَدَاقِهَا الَّذِي وَهَبَتْهُ لِزَوْجِهَا إِذَا طَلَّقَهَا إِذَا كَانَ الزَّوْجُ قَدْ سَأَلَهَا الْهِبَةَ؛ لأَِنَّهَا كَانَتْ بِهَذِهِ الْهِبَةِ تَبْتَغِي اسْتِدَامَةَ النِّكَاحِ، فَلَمَّا طَلَّقَهَا جَازَ لَهَا الرُّجُوعُ. هَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَرْجِعَ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْهِبَةُ بِطَلَبٍ مِنَ الزَّوْجِ أَمْ لاَ، وَبِهِ قَال شُرَيْحٌ، وَحَكَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنِ الْقُضَاةِ.
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الرُّجُوعُ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْل عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَقَتَادَةَ، (1) .
44 - لَوْ تَصَرَّفَ الأَْبُ فِي الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ لِوَلَدِهِ مِنْ قِبَلِهِ فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ رُجُوعًا.
وَلَوْ أَسْقَطَ الأَْبُ حَقَّهُ مِنَ الرُّجُوعِ فَفِي سُقُوطِهِ احْتِمَالاَتٌ:
الأَْوَّل: لاَ يَسْقُطُ؛ لأَِنَّهُ ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ.
الثَّانِي: يَسْقُطُ؛ لأَِنَّهُ حَقُّهُ فَلَهُ إِسْقَاطُهُ (2) .

مَاهِيَّةُ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ:
45 - الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَدْ يَكُونُ بِالتَّقَاضِي أَوْ يَكُونُ بِالتَّرَاضِي.
__________
(1) الْمُغْنِي وَالشَّرْح الْكَبِير 6 / 297، وَالإِْنْصَاف 7 / 147.
(2) الإِْنْصَاف 7 / 148 - 149.

(42/154)


فَإِنْ كَانَ بِالتَّقَاضِي فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ يَكُونُ فَسْخًا؛ لأَِنَّهُ تَمَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَحُكْمُهُ الْفَسْخُ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الرُّجُوعُ بِالتَّرَاضِي فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ غَيْرَ زُفَرَ إِلَى أَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخٌ لِلْهِبَةِ، وَقَال زُفَرُ: إِنَّهُ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ (1) .
وَحُجَّةُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْوَاهِبَ بِالْفَسْخِ يَسْتَوْفِي حَقَّ نَفْسِهِ، وَاسْتِيفَاءُ الْحَقِّ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي، وَهَذَا بِخِلاَفِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقٍّ ثَالِثٍ؛ لأَِنَّهُ لاَ حَقَّ لِلْمُشْتَرِي فِي الْفَسْخِ، وَإِنَّمَا حَقُّهُ صِفَةُ السَّلاَمَةِ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمِ الْمَبِيعَ اخْتَل رِضَاهُ، فَيَثْبُتُ حَقُّ الْفَسْخِ ضَرُورَةً، فَتَوَقَّفَ لُزُومُ مُوجِبِ الْفَسْخِ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي.
وَحُجَّةُ زُفَرَ: أَنَّ مِلْكَ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ عَادَ إِلَى الْوَاهِبِ بِتَرَاضِيهِمَا فَأَشْبَهَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ فَيُعْتَبَرُ عَقْدًا جَدِيدًا فِي حَقٍّ ثَالِثٍ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّهُ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ: أَنَّ الْمُتَّهَبَ إِذَا رَدَّ الْهِبَةَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَإِنَّهَا تَكُونُ مِنَ الثُّلُثِ، وَهَذَا حُكْمُ الْهِبَةِ
__________
(1) الْبَدَائِع 6 / 134، وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 4 / 542.

(42/154)


الْمُبْتَدَأَةِ لاَ حُكْمُ الْفَسْخِ.
أَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي الرُّجُوعِ قَضَاءَ الْقَاضِي وَلاَ التَّرَاضِيَ؛ لأَِنَّهُمْ حِينَ أَجَازُوا رُجُوعَ الأَْبِ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ إِنَّمَا اعْتَمَدُوا نَصًّا مِنَ الشَّرْعِ، فَالرُّجُوعُ بَعْدَئِذٍ لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى أَيِّ شَرْطٍ؛ لِخُلُوِّ النَّصِّ الَّذِي أَجَازَهُ عَنْ مِثْل هَذَا الشَّرْطِ (1) .
فَإِذَا رَجَعَ الأَْبُ فَإِنَّهُ خِيَارٌ فِي فَسْخِ عَقْدِ الْهِبَةِ كَالْفَسْخِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، وَلاَ يَكُونُ الرُّجُوعُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً (2) .
وَإِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ بِعِوَضٍ فَإِنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْبَيْعِ وَتَأْخُذُ أَحْكَامَهُ فِي الْفَسْخِ وَالإِْقَالَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ التَّفَاسُخَ فِي الْهِبَةِ وَالتَّقَايُل لَيْسَ رُجُوعًا، فَلاَ تَنْفَسِخُ الْهِبَةُ بِهِمَا (3) .

الآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ:
46 - إِذَا حَصَل الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ الآْثَارُ التَّالِيَةُ:
أ - يَعُودُ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ إِلَى مِلْكِ الْوَاهِبِ.
__________
(1) الْمُغْنِي وَالشَّرْح الْكَبِير 6 / 282، وَحَاشِيَة الْقَلْيُوبِيّ وَعَمِيرَة 3 / 114.
(2) الْمُغْنِي وَالشَّرْح الْكَبِير 6 / 282.
(3) حَاشِيَة الْقَلْيُوبِيّ وَعَمِيرَة 3 / 114.

(42/155)


ب - يَمْلِكُهُ الْوَاهِبُ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ؛ لأَِنَّ الْقَبْضَ يُعْتَبَرُ فِي انْتِقَال الْمِلْكِ لاَ فِي عَوْدِ مِلْكٍ قَدِيمٍ. وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبْضِ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ الرُّجُوعَ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ، وَهُوَ قَوْل زُفَرَ.
ج - الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ بَعْدَ الرُّجُوعِ يَكُونُ أَمَانَةً بِيَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ لاَ يَضْمَنُ؛ لأََنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ قَبْضٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ، فَإِذَا انْفَسَخَتِ الْهِبَةُ بَقِيَ قَبْضُ الْوَاهِبِ قَائِمًا وَعَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يُعِيدَ الْهِبَةَ، لاَ يَضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي؛ لأَِنَّهَا أَمَانَةٌ بِيَدِهِ.
47 - إِذَا وَهَبَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الشَّيْءَ الْمَوْهُوبَ لِلْوَاهِبِ فَإِذَا لَمْ يَحْصُل ذَلِكَ بِتَرَاضٍ لاَ قَضَاءِ قَاضٍ فَإِنَّهُ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ.
وَبِنَاءً عَلَيْهِ لَزِمَ مَا يَلِي:
- لاَ يَمْلِكُهُ الْوَاهِبُ حَتَّى يَقْبِضَهُ.
- إِذَا قَبَضَهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الرُّجُوعِ بِالتَّرَاضِي أَوِ التَّقَاضِي.
- لَيْسَ لِلْمُتَّهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ (1) .
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 134.

(42/155)


هَتْمَاءُ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْهَتْمَاءُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الَّتِي انْكَسَرَتْ ثَنَايَاهَا مِنْ أَصْلِهَا وَانْقَلَعَتْ (1) وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ هَذَا اللَّفْظَ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ نَفْسِهِ.
فَقَدْ عَرَّفَ مَرْعِيٌّ الْكَرْمِيُّ صَاحِبُ " غَايَةِ الْمُنْتَهَى " وَغَيْرُهُ الْهَتْمَاءَ بِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي ذَهَبَتْ ثَنَايَاهَا مِنْ أَصْلِهَا (2)

حُكْمُ التَّضْحِيَةِ بِالْهَتْمَاءِ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّضْحِيَةِ بِالْهَتْمَاءِ: وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّ الْهَتْمَاءَ إِنْ كَانَتْ تَرْعَى وَتُعْلَفُ جَازَتِ التَّضْحِيَةُ بِهَا
__________
(1) الْمُعْجَم الْوَسِيط وَالْمِصْبَاح الْمُنِير، وَالنِّهَايَة فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لاِبْنِ الأَْثِيرِ 5 / 243.
(2) مَطَالِب أُولِي النُّهَى 2 / 465، وَانْظُرْ تَبْيِين الْحَقَائِقِ وَحَاشِيَة الشلبي عَلَيْهِ 6 / 6، وَالْبِنَايَة شَرْح الْهِدَايَةِ 9 / 149

(42/156)


وَإِلاَّ فَلاَ (1) .
وَقَالُوا فِي رِوَايَةٍ: وَالَّتِي لاَ أَسْنَانَ لَهَا وَهِيَ تَعْتَلِفُ أَوْ لاَ تَعْتَلِفُ لاَ تَجُوزُ (2) .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الأَْسْنَانِ الْكَثْرَةُ وَالْقِلَّةُ؛ لأَِنَّ الأَْسْنَانَ عُضْوٌ كَالأُْذُنِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ بَقَاءُ الأَْكْثَرِ.
وَعَنْهُ أَنَّهُ إِنْ بَقِيَ مَا يُمْكِنُ الاِعْتِلاَفُ بِهِ أَجْزَأَهُ لِحُصُول الْمَقْصُودِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الأَْسْنَانِ الأَْكْل بِهَا، فَاعْتُبِرَ بَقَاءُ الْمَقْصُودِ (3) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ فَقْدَ السَّنِّ الْوَاحِدِ لاَ يَضُرُّ مُطْلَقًا، وَكَذَا الأَْكْثَرُ لإِِثْغَارٍ أَوْ كِبَرٍ، وَأَمَّا لِغَيْرِهِمَا بِضَرْبٍ أَوْ مَرَضٍ فَمُضِرٌّ (4) .
وَقَال اللَّخْمِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ تُجْزِئُ الذَّاهِبَةُ الأَْسْنَانِ بِكَسْرٍ، وَمَنَعَ مَالِكٌ مَرَّةً إِذَا كَانَ ذَهَابُ أَسْنَانِهَا لِكِبَرٍ (5) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تُجْزِئُ الَّتِي ذَهَبَ بَعْضُ أَسْنَانِهَا، فَإِنِ انْكَسَرَ أَوْ تَنَاثَرَ جَمِيعُ أَسْنَانِهَا فَقَدْ
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 5 / 298، وَحَاشِيَة الشلبي بِهَامِش تَبْيِين الْحَقَائِقِ 6 / 6.
(2) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 206.
(3) الْبِنَايَة شَرْح الْهِدَايَةِ 9 / 149 - 150.
(4) الشَّرْح الصَّغِير 2 / 144 ط دَارَ الْمَعَارِف.
(5) الذَّخِيرَة للقرافي 4 / 148.

(42/156)


أَطْلَقَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ وَجَمَاعَةٌ أَنَّهَا لاَ تُجْزِئُ، وَقَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: قَال الْمُحَقِّقُونَ: تُجْزِئُ. وَقِيل: لاَ تُجْزِئُ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ لِمَرَضٍ، أَوْ كَانَ يُؤَثِّرُ فِي الاِعْتِلاَفِ وَيُنْقِصُ اللَّحْمَ مُنِعَ وَإِلاَّ فَلاَ.
وَعَلَّقَ النَّوَوِيُّ عَلَى هَذَا الْقَوْل قَائِلاً: وَهَذَا حَسَنٌ، وَلَكِنَّهُ يُؤَثِّرُ بِلاَ شَكٍّ، فَيَرْجِعُ الْكَلاَمُ إِلَى الْمَنْعِ الْمُطْلَقِ.
ثُمَّ قَال: الأَْصَحُّ الْمَنْعُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ تُجْزِئُ مَا ذَهَبَ ثَنَايَاهَا مِنْ أَصْلِهَا وَهِيَ الْهَتْمَاءُ، فَلَوْ بَقِيَ مِنَ الثَّنَايَا بَقِيَّةٌ أَجْزَأَ (2) .
__________
(1) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 196 - 197، وَانْظُرْ أَسْنَى الْمَطَالِب 1 / 536.
(2) مَطَالِب أُولِي النُّهَى 2 / 465.

(42/157)


هِجَاءٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْهِجَاءُ فِي اللُّغَةِ: خِلاَفُ الْمَدْحِ، وَهُوَ السَّبُّ وَالشَّتْمُ وَتَعْدِيدُ الْمَعَايِبِ: يُقَال: هَجَاهُ يَهْجُوهُ هَجْوًا وَهِجَاءً: شَتَمَهُ بِالشِّعْرِ، قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: اللَّهُمَّ إِنَّ فُلاَنًا هَجَانِي فَاهْجُهُ اللَّهُمَّ مَكَانَ مَا هَجَانِي (1) أَيْ جَازِهِ عَلَى هِجَائِهِ إِيَّايَ جَزَاءَ هِجَائِهِ.
وَالْهَجَّاءُ: مَنْ يُكْثِرُ سَبَّ غَيْرِهِ وَتَعْدِيدَ مَعَايِبِهِ.
وَيُقَال: هَاجَاهُ مُهَاجَاةً وَهِجَاءً: هَجَا كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، وَتَهَاجَيَا: هَجَا كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الآْخَرَ.
وَالْهِجَاءُ أَيْضًا: تَقْطِيعُ اللَّفْظَةِ إِلَى حُرُوفِهَا وَالنُّطْقُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ مَعَ حَرَكَاتِهَا، يُقَال: تَهَجَّى حُرُوفَ الأَْبْجَدِيَّةِ: عَدَّدَهَا بِأَسْمَائِهَا أَوْ
__________
(1) حَدِيث: " اللَّهُمَّ إِنْ فَلاَنَا هَجَانِي. . . ". أَوْرَدَهُ ابْن أَبِي حَاتِم فِي عِلَل الْحَدِيثِ (2 / 263 ط دَارَ الْمَعْرِفَة) ، وَنَقَل عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ صَوْب كَوْنُهُ مُرْسَلاً مِنْ حَدِيثِ عُدَيّ بْن ثَابِت.

(42/157)


نَطَقَ بِالأَْصْوَاتِ الَّتِي تُمَثِّلُهَا، وَحُرُوفُ الْهِجَاءِ: مَا تَتَرَكَّبُ مِنْهَا الأَْلْفَاظُ مِنَ الأَْلِفِ إِلَى الْيَاءِ. وَيُقَال: هَجَا الْكِتَابَ هَجْوًا وَهِجَاءً: قَرَاهُ وَتَعَلَّمَهُ، وَتَهَجَّى الْقُرْآنَ: تَلاَهُ أَوْ تَعَلَّمَ تِلاَوَتَهُ.
وَيُقَال: هَذَا عَلَى هِجَاءِ كَذَا: عَلَى شَكْلِهِ، وَفُلاَنٌ عَلَى هِجَاءِ فُلاَنٍ: عَلَى مِقْدَارِهِ فِي الطُّول وَالشَّكْل (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السَّبُّ:
2 - السَّبُّ لُغَةً: الشَّتْمُ (3) .
وَاصْطِلاَحًا: قَال الدُّسُوقِيُّ: هُوَ كُل كَلاَمٍ قَبِيحٍ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهِجَاءِ وَالسَّبِّ أَنَّ الْهِجَاءَ يَكُونُ بِالشِّعْرِ وَالسَّبَّ أَعَمُّ مِنْهُ.
__________
(1) الْقَامُوس الْمُحِيط، وَالْمِصْبَاح الْمُنِير، وَالْمُعْجَم الْوَسِيط، وَلِسَان الْعَرَبِ.
(2) قَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي.
(3) الْمُعْجَم الْوَسِيط.
(4) الدُّسُوقِيّ 4 / 309

(42/158)


ب - اللَّعْنُ:
3 - اللَّعْنُ فِي اللُّغَةِ: الإِْبْعَادُ وَالطَّرْدُ، وَقِيل: الطَّرْدُ وَالإِْبْعَادُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنَ الْخَلْقِ السَّبُّ وَالدُّعَاءُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهِجَاءِ وَاللَّعْنِ: أَنَّ اللَّعْنَ خَاصٌّ بِالدُّعَاءِ بِالطَّرْدِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.

ج - الْقَذْفُ:
4 - الْقَذْفُ فِي اللُّغَةِ: الرَّمْيُ، يُقَال: قَذَفَ بِالْحِجَارَةِ قَذْفًا: رَمَى بِهَا، وَقَذَفَ الْمُحْصَنَةَ قَذْفًا: رَمَاهَا بِالْفَاحِشَةِ، وَقَذَفَ بِقَوْلِهِ: تَكَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَدَبُّرٍ وَلاَ تَأَمُّلٍ.
وَالْقَذِيفَةُ: الْقَبِيحَةُ وَهِيَ الشَّتْمُ، وَشَيْءٌ يُرْمَى بِهِ (2) .
وَاصْطِلاَحًا: عَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ رَمْيُ مُكَلَّفٍ حُرًّا مُسْلِمًا بِنَفْيِ نَسَبٍ عَنْ أَبٍ أَوْ جَدٍّ أَوْ بِزِنًا (3) .
__________
(1) لِسَان الْعَرَبِ.
(2) الْمِصْبَاح الْمُنِير، لِسَان الْعَرَبِ.
(3) الشَّرْح الصَّغِير للدردير 4 / 461 - 462 (ط دَار الْمَعَارِف - مِصْر) .

(42/158)


وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهِجَاءِ وَالْقَذْفِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْهِجَاءِ وَالْقَذْفِ إِسَاءَةٌ إِلَى الْمَهْجُوِّ وَالْمَقْذُوفِ، غَيْرَ أَنَّ الْهِجَاءَ يَكُونُ بِكُل مَا يَسُوءُ، لَكِنَّ الْقَذْفَ يَكُونُ بِنَوْعٍ مِنَ الإِْسَاءَةِ وَهُوَ الرَّمْيُ بِالزِّنَا وَمَا يَحْمِلُهُ مَعْنَاهُ مِمَّا يَقْدَحُ فِي الْعِفَّةِ، فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَالْهِجَاءُ أَعَمُّ.

د - الْغِيبَةُ:
5 - الْغِيبَةُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الاِغْتِيَابِ، يُقَال: اغْتَابَ الرَّجُل صَاحِبَهُ اغْتِيَابًا إِذَا وَقَعَ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَتَكَلَّمَ خَلْفَ إِنْسَانٍ مَسْتُورٍ بِسُوءٍ، أَوْ بِمَا يَغُمُّهُ لَوْ سَمِعَهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ صِدْقًا فَهُوَ غِيبَةٌ، وَإِنْ كَانَ كَذِبًا فَهُوَ الْبُهْتُ، كَذَلِكَ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) ، وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ إِلاَّ مِنْ وَرَائِهِ، وَالاِسْمُ الْغِيبَةُ.
وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ سَمِعَ: غَابَهُ يُغِيبُهُ، إِذَا عَابَهُ وَذَكَرَ مِنْهُ مَا يَسُوءُ، وَعَنِ ابْنِ الأَْعْرَابِيِّ: غَابَ إِذَا اغْتَابَ، وَغَابَ إِذَا ذَكَرَ إِنْسَانًا بِخَيْرٍ أَوْ شَرٍّ (2) .
__________
(1) وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: " أَتُدْرُونَ مَا الْغَيْبَةُ؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَال: " ذِكْرُكَ أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ " قِيل: أَفَرَأَيْت إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا
(2) لِسَان الْعَرَبِ.

(42/159)


وَاصْطِلاَحًا: قَيَّدَ الْبَرَكَتِيُّ الْغِيبَةَ بِأَنْ تَكُونَ عَلَى وَجْهِ الاِزْدِرَاءِ، فَقَال: هِيَ ذِكْرُ مَسَاوِئِ الإِْنْسَانِ عَلَى وَجْهِ الاِزْدِرَاءِ وَهِيَ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ فَبُهْتَانٌ، وَإِنْ وَاجَهَهُ فَهُوَ شَتْمٌ (1) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْهِجَاءِ وَالْغِيبَةِ إِسَاءَةٌ إِلَى الْمَهْجُوِّ الْمُغْتَابِ، لَكِنَّ الإِْسَاءَةَ فِي الْغِيبَةِ تَكُونُ فِي غَيْرِ حُضُورِ مَنْ قِيلَتْ فِيهِ، وَفِي الْهِجَاءِ قَدْ تَكُونُ بِحَضْرَةِ الْمَهْجُوِّ أَوْ فِي غِيَابِهِ.

هـ - النَّمِيمَةُ:
6 - النَّمُّ: هُوَ السَّعْيُ لإِِيقَاعِ الْفِتْنَةِ أَوِ الْوَحْشَةِ، وَالاِسْمُ النَّمِيمَةُ، وَهِيَ: التَّحْرِيشُ وَالإِْغْرَاءُ وَرَفْعُ الْحَدِيثِ، وَفِي التَّهْذِيبِ: النَّمِيمُ وَالنَّمِيمَةُ هُمَا الاِسْمُ، وَالْوَصْفُ نَمَّامٌ، وَالنَّمِيمَةُ: صَوْتُ الْكِتَابَةِ، وَالْكِتَابَةُ. . . وَالصَّوْتُ الْخَفِيُّ مِنْ حَرَكَةِ شَيْءٍ أَوْ وَطْءِ قَدَمٍ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: النَّمِيمَةُ: الْوِشَايَةُ، وَالنَّمُّ: إِظْهَارُ الْحَدِيثِ بِالْوِشَايَةِ، وَقَال الْبَرَكَتِيُّ: النَّمَّامُ: الَّذِي يَتَحَدَّثُ مَعَ الْقَوْمِ فَيَنِمُّ عَلَيْهِمْ فَيَكْشِفُ مَا يَكْرَهُونَ (3) .
__________
(1) قَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي.
(2) لِسَان الْعَرَبِ، وَالْمِصْبَاح الْمُنِير.
(3) الْمُفْرَدَات فِي غَرِيبِ الْقُرْآنِ، وَقَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي.

(42/159)


الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ هَجْوِ الْكَافِرِ غَيْرِ الْمَعْصُومِ، وَكَذَا الْمُرْتَدُّ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَجْوِ الْكُفَّارِ (1) .
كَمَا ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ هَجْوِ الْمُسْلِمِ، وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ الْمُبْتَدِعَ وَالْفَاسِقَ الْمُعْلِنَ بِفِسْقِهِ، فَيَجُوزُ هَجْوُهُمْ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ هَجْوُ الْمُسْلِمِ الْمُنَافِقِ (2) .
وَقَدِ اسْتَدَل الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ هَجْوِ الْمُسْلِمِ بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (3) } ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا
__________
(1) حَدِيث: " أَمْر النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَّانًا بِهَجْو الْكُفَّار. . . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 6 / 304 ط السَّلَفِيَّة) ، وَمُسْلِم (4 / 1933 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاء بْن عَازِب.
(2) الْوَسِيلَة الأَْحْمَدِيَّة بِهَامِشٍ بِرِيقَة مَحْمُودِيَّة 4 / 26، وَالْقَوَانِين الْفِقْهِيَّة ص 422 ط دَار الْكِتَابِ الْعَرَبِيِّ، وَالْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي 2 / 458، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 430، وَحَاشِيَة الْقَلْيُوبِيّ 4 / 321، وَالْمُغْنِي 9 / 176 - 179، وَالْقُرْطُبِيّ 14 / 240، وَدَلِيل الْفَالِحِينَ 4 / 417.
(3) سُورَة الأَْحْزَابِ / 58.

(42/160)


خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَْلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِْيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (1) } ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ (2) ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلاَ بِاللَّعَّانِ وَلاَ الْفَاحِشِ وَلاَ الْبَذِيءِ (3) .
8 - وَحُكْمُ هِجَاءِ الأَْمْوَاتِ كَحُكْمِ هِجَاءِ الأَْحْيَاءِ (4) ، فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَسُبُّوا الأَْمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا (5) ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَسُبُّوا أَمْوَاتَنَا فَتُؤْذُوا بِهِ الأَْحْيَاءَ (6) .
__________
(1) سُورَة الْحُجُرَاتِ / 11
(2) حَدِيث: " الْمُسْلِم مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 53 ط السَّلَفِيَّة) ، وَمُسْلِم (1 / 65 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ، وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ.
(3) حَدِيث: " لَيْسَ الْمُؤْمِن بِالطَّعَّانِ وَلاَ اللَّعَّان وَلاَ الْفَاحِش وَلاَ الْبَذِيء ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (4 / 350 ط الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود، وَقَال التِّرْمِذِيّ: حَسَن غَرِيب.
(4) الْمَرَاجِع الْفِقْهِيَّة السَّابِقَة.
(5) حَدِيث: " لاَ تَسُبُّوا الأَْمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا إِلَيْهِ. . . ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 11 / 362 ط السَّلَفِيَّة) .
(6) حَدِيث: " لاَ تَسُبُّوا أَمْوَاتَنَا فَتُؤْذُوا بِهِ الأَْحْيَاءَ ". أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرِكِ (3 / 329 ط دَار الْكِتَابِ الْعَرَبِيِّ) وَقَال: صَحِيحٌ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيّ.

(42/160)


تَرَتُّبُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَلَى مَا يُنْطَقُ بِالتَّهَجِّي:
9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الأَْحْكَامَ الْفِقْهِيَّةَ تَتَرَتَّبُ عَلَى أَلْفَاظِ الْعُقُودِ أَوِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا هَذِهِ الأَْحْكَامُ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ هِجَاءَ اللَّفْظِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ أَوِ الْعِتْقُ يَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ أَوِ الْعِتْقُ كَذَلِكَ، قَال ابْنُ الْهُمَامِ: يَقَعُ الطَّلاَقُ بِالتَّهَجِّي كَأَنْتِ (ط ال ق) وَكَذَا لَوْ قِيل لَهُ: طَلَّقْتَهَا؟ فَقَال: (ن ع م) إِذَا نَوَى وَصَرَّحَ بِقَيْدِ النِّيَّةِ فِي الْبَدَائِعِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ قَصْدُ لَفْظِ الطَّلاَقِ لِمَعْنَاهُ، وَلاَ يَكْفِي قَصْدُ حُرُوفِ الطَّلاَقِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ مَعْنَاهُ (3) .

حُكْمُ التَّهَاجِي:
10 - إِذَا هَجَا شَخْصٌ آخَرَ دُونَ حَقٍّ، فَبَادَلَهُ الْمَهْجُوُّ الْهِجَاءَ، فَهَل يَأْثَمَانِ أَوْ يَأْثَمُ
__________
(1) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَةَ 7 / 121 (مَطْبَعَة أَنْصَار السُّنَّة الْمُحَمَّدِيَّةِ - الْقَاهِرَةِ) .
(2) شُرِحَ فَتْح الْقَدِير 3 / 325، 354 " دَار إِحْيَاء التُّرَاثِ الْعَرَبِيِّ - بَيْرُوت - لُبْنَان ".
(3) مُغْنِي الْمُحْتَاج إِلَى مَعْرِفَةِ أَلْفَاظ الْمِنْهَاج 3 / 280 (دَار الْفِكْرِ) .

(42/161)


الْبَادِي مِنْهُمَا؟ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالاَ، فَعَلَى الْبَادِئِ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ (1) .
وَنَقَل ابْنُ عَلاَّنٍ عَنِ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ: مَعْنَاهُ أَنَّ إِثْمَ السِّبَابِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمَا يَخْتَصُّ بِالْبَادِي مِنْهُمَا كُلَّهُ، إِلاَّ أَنْ يُجَاوِزَ الثَّانِي قَدْرَ الاِنْتِصَارِ فَيُؤْذِي الظَّالِمَ بِأَكْثَرَ مِمَّا قَالَهُ.
وَقَال: وَفِيهِ جَوَازُ الاِنْتِصَارِ، وَلاَ خِلاَفَ فِيهِ، وَتَظَاهَرَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالصَّبْرُ وَالْعَفْوُ أَفْضَل كَمَا قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُْمُورِ (2) } ، قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ". . . وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا (3) .
وَإِذَا حَدَثَ الاِنْتِصَارُ دُونَ تَجَاوُزٍ يَبْرَأُ الْمُنْتَصِرُ، وَيَبْرَأُ الْبَادِئُ عَنْ ظُلْمِهِ بِوُقُوعِ الْقَصَاصِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَكُونُ إِثْمُ الاِبْتِدَاءِ عَلَى الْبَادِئِ (4) .
__________
(1) حَدِيث: " الْمُسْتَبَّان مَا قَالاَ، فَعَلَى الْبَادِي. . . ". أَخْرَجَهُ مُسْلِم (4 / 2000 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(2) سُورَة الشُّورَى / 43.
(3) حَدِيث: " مَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عَزَا ". أَخْرَجَهُ مُسْلِم (4 / 2001 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(4) دَلِيل الْفَالِحِينَ 4 / 414.

(42/161)


وَقَال الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ (1) . . .} ، حَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ فِرْقَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ فِيمَنْ أُصِيبَ بِظُلاَمَةٍ أَلاَّ يَنَال مِنْ ظَالِمِهِ إِذَا تَمَكَّنَ إِلاَّ مِثْل ظُلاَمَتِهِ لاَ يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٍ (2) .

تَعْزِيرُ الْهِجَاءِ:
11 - لِلإِْمَامِ أَنْ يُعَزِّرَ مَنْ يَهْجُو النَّاسَ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْهِجَاءِ مُحَرَّمٌ وَفِعْلَهُ مَعْصِيَةٌ، وَكُل مَعْصِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ وَجَبَ فِيهَا التَّعْزِيرُ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَعْزِير ف 8) .
__________
(1) سُورَة النَّحْل / 126.
(2) تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ 10 / 201، 202 و 1 / 207، 208.

(42/162)


هَجْرٌ

التَّعْرِيفُ:
ا - الْهَجْرُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ هَجَرَ، وَهُوَ ضِدُّ الْوَصْل، يُقَال: هَجَرْتُهُ هَجْرًا: قَطَعْتُهُ، وَهَجَرَ فُلاَنٌ هَجْرًا: تَبَاعَدَ، وَهَجَرَ الْفَحْل: تَرَكَ الضِّرَابَ، وَهَجَرَ الشَّيْءَ أَوِ الشَّخْصَ: تَرَكَهُ وَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَهَجَرَ زَوْجَتَهُ: اعْتَزَل عَنْهَا وَلَمْ يُطَلِّقْهَا. . . وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ (1) } وَاصْطِلاَحًا: قَال الْبَرَكَتِيُّ وَالرَّاغِبُ: الْهَجْرُ: تَرْكُ مَا يَلْزَمُ تَعَهُّدُهُ، وَمُفَارَقَةُ الإِْنْسَانِ غَيْرَهُ، إِمَّا بِالْبَدَنِ أَوْ بِاللِّسَانِ أَوْ بِالْقَلْبِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ قُرْبِهِنَّ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (2) } فَهَذَا هَجْرٌ بِالْقَلْبِ أَوْ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَل: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً (3) }
__________
(1) سُورَة النِّسَاء / 34.
(2) سُورَة الْفُرْقَانِ / 30.
(3) سُورَة الْمُزَّمِّل / 10.

(42/162)


يَحْتَمِل الثَّلاَثَةَ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّرْكُ:
2 - التَّرْكُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ تَرَكَ، يُقَال: تَرَكَ الشَّيْءَ تَرْكًا: طَرَحَهُ وَخَلاَّهُ، وَتَرَكْتُ الْمَنْزِل: رَحَلْتُ عَنْهُ، وَتَرَكْتُ الرَّجُل: فَارَقْتُهُ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلإِْسْقَاطِ فِي الْمَعَانِي فَقِيل: تَرَكَ حَقَّهُ: إِذَا أَسْقَطَهُ، وَتَرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاَةِ: لَمْ يَأْتِ بِهَا، فَإِنَّهُ إِسْقَاطٌ لِمَا ثَبَتَ شَرْعًا، وَتَرَكْتُ الْبَحْرَ سَاكِنًا: لَمْ أُغَيِّرْهُ عَنْ حَالِهِ، وَتَرَكَ الْمَيِّتُ مَالاً: خَلَّفَهُ، وَالاِسْمُ التَّرِكَةُ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال الْبَرَكَتِيُّ: التَّرْكُ عَدَمُ فِعْل الْمَقْدُورِ بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ، أَوْ مُفَارَقَةُ مَا يَكُونُ الإِْنْسَانُ فِيهِ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهَجْرِ وَالتَّرْكِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَالْمُعْجَم الْوَسِيط، وَتَهْذِيب الأَْسْمَاء وَاللُّغَات (4 / 179 ط دَار الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ) ، وَالْمُفْرَدَاتِ فِي غَرِيبِ الْقُرْآنِ، وَقَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي، وَالْجَامِعِ لأَِحْكَامِ الْقُرْآنِ (5 / 171 - 172، ط دَار إِحْيَاء التُّرَاثِ الْعَرَبِيِّ، لُبْنَان) وَمُغْنِي الْمُحْتَاج (3 / 259 ط دَار الْفِكْرِ) ، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 209.
(2) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَالْمُعْجَم الْوَسِيط.
(3) قَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي.

(42/163)


مُطْلَقٌ، وَالتَّرْكُ أَعَمُّ.

ب - النُّشُوزُ:
3 - مِنْ مَعَانِي النُّشُوزِ فِي اللُّغَةِ: الْعِصْيَانُ وَالاِمْتِنَاعُ، يُقَال: نَشَزَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا نُشُوزًا: عَصَتْهُ وَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ، وَنَشَزَ الرَّجُل مِنِ امْرَأَتِهِ نُشُوزًا: تَرَكَهَا وَجَفَاهَا.
قَال أَبُو إِسْحَاقَ: النُّشُوزُ يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَهُوَ كَرَاهَةُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهَجْرِ وَالنُّشُوزِ: أَنَّ نُشُوزَ الزَّوْجَةِ يَكُونُ سَبَبًا لِهَجْرِ الزَّوْجِ لَهَا فِي الْمَضْجَعِ تَأْدِيبًا لَهَا عَلَى نُشُوزِهَا.

ج - الْبُغْضُ:
4 - الْبُغْضُ لُغَةً: الْكُرْهُ وَالْمَقْتُ، يُقَال: بَغَضَ الشَّيْءَ بُغْضًا: كَرِهَهُ وَمَقَتَهُ، وَالْبَغْضَاءُ:
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَلِسَان الْعَرَبِ.
(2) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ (2 / 446 دَار إِحْيَاء التُّرَاثِ الْعَرَبِيِّ) ، وَالشَّرْح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ (2 / 344 دَار الْفِكْرِ) ، وَحَاشِيَة الْقَلْيُوبِيّ 3 / 299، وَالْمُغْنِي (7 / 46 دَار الْمَنَار - الْقَاهِرَة) ، وَالْمُفْرَدَات فِي غَرِيبِ الْقُرْآنِ.

(42/163)


شِدَّةُ الْبُغْضِ، وَهِيَ - كَمَا قَال الْبَرَكَتِيُّ - فِي الْقَلْبِ. وَاصْطِلاَحًا: قَال الرَّاغِبُ: الْبُغْضُ: نِفَارُ النَّفْسِ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي تَرْغَبُ عَنْهُ، وَهُوَ ضِدُّ الْحُبِّ الَّذِي هُوَ انْجِذَابُ النَّفْسِ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي تَرْغَبُ فِيهِ (1) .
وَالصِّلَةُ: أَنَّ الْبُغْضَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْهَجْرِ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْهَجْرِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْهَجْرِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

أَوَّلاً: هَجْرُ مَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ:
5 - وَرَدَ الأَْمْرُ بِهَجْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ شَرْعًا وَتَرْكِهِ وَاجْتِنَابِهِ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ (2) وَفِي رِوَايَةٍ: الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ (3) .
__________
(1) الْمُعْجَم الْوَسِيط، وَقَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي، وَالْمُفْرَدَاتِ فِي غَرِيبِ الْقُرْآنِ.
(2) حَدِيث: " الْمُسْلِم مِنْ سَلَّمَ. . . ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 53 ط السَّلَفِيَّة) .
(3) حَدِيث: " الْمُهَاجِر مِنْ هَجْرِ السَّيِّئَاتِ. . . ". أَخْرَجَهُ ابْن حِبَّانَ (الإِْحْسَان 1 / 425 ط مُؤَسَّسَة الرِّسَالَة) .

(42/164)


قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: الْمُهَاجِرُ بِمَعْنَى الْهَاجِرِ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْمُفَاعِل يَقْتَضِي وُقُوعَ فِعْلٍ مِنِ اثْنَيْنِ، لَكِنَّهُ هُنَا لِلْوَاحِدِ كَالْمُسَافِرِ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ عَلَى بَابِهِ؛ لأَِنَّ مَنْ لاَزَمَ كَوْنَهُ هَاجِرًا وَطَنَهُ مَثَلاً أَنَّهُ مَهْجُورٌ مِنْ وَطَنِهِ، وَهَذِهِ الْهِجْرَةُ ضَرْبَانِ: ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ، فَالْبَاطِنَةُ: تَرْكُ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ النَّفْسُ الأَْمَّارَةُ بِالسُّوءِ وَالشَّيْطَانُ، وَالظَّاهِرَةُ: الْفِرَارُ بِالدِّينِ مِنَ الْفِتَنِ، وَكَأَنَّ الْمُهَاجِرِينَ خُوطِبُوا بِذَلِكَ لِئَلاَّ يَتَّكِلُوا عَلَى مُجَرَّدِ التَّحَوُّل مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَمْتَثِلُوا أَوَامِرَ الشَّرْعِ وَنَوَاهِيَهُ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قِيل بَعْدَ انْقِطَاعِ الْهِجْرَةِ لَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ ذَلِكَ، بَل حَقِيقَةُ الْهِجْرَةِ تَحْصُل لِمَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ (1) .
وَقَال ابْنُ عَلاَّنٍ: الْمُهَاجِرُ الْكَامِل مَنْ هَجَرَ - امْتِثَالاً لأَِمْرِ اللَّهِ وَإِجْلاَلِهِ وَخَوْفًا مِنْهُ - مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، شَمِل صَغَائِرَ الذُّنُوبِ وَكَبَائِرَهَا، وَكَامِل الْهِجْرَةِ مَنْ هَجَرَ الْمَعَاصِيَ رَأْسًا وَتَحَلَّى بِالطَّاعَةِ (2) وَقَدْ وَرَدَتْ آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ تَأْمُرُ بِاجْتِنَابِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ (ر: مُصْطَلَحُ تُرْك ف 8 - 11) .
__________
(1) فَتْح الْبَارِي 1 / 54.
(2) دَلِيل الْفَالِحِينَ 4 / 417.

(42/164)


ثَانِيًا: هَجْرُ الْمُسْلِمِ أَخَاهُ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ هَجْرُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا، حَيْثُ وَرَدَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَحِل لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ (1) فَهَذَا الْحَدِيثُ نَصَّ فِي مَنْعِ مَا زَادَ عَلَى الثَّلاَثِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ (2) وَقَدْ عَدَّ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ هَجْرَ الْمُسْلِمِ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ مِنَ الْكَبَائِرِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّقَاطُعِ وَالإِْيذَاءِ وَالْفَسَادِ، وَثُبُوتِ الْوَعِيدِ عَلَيْهِ فِي الآْخِرَةِ (3) لِحَدِيثِ: مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ فَهُوَ فِي النَّارِ إِلاَّ أَنْ يَتَدَارَكَهُ اللَّهُ بِكَرَامَتِهِ (4)
__________
(1) حَدِيث: " لاَ يَحِل لِمُسْلِم. . . ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 10 / 492 ط السَّلَفِيَّة) ، وَمُسْلِم (4 / 1984 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) وَاللَّفْظ لِمُسْلِم.
(2) مِرْقَاة الْمَفَاتِيح لِلْمَلاَ عَلِي الْقَارِّيّ 4 / 716، وَالْجَامِع مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ لاِبْن رُشْد (ص 267 ط دَارَ الْفَرْقَانِ) ، وَالنَّوَوِيّ عَلَى مُسْلِمِ 16 / 117، وَعُمْدَة الْقَارِّيّ 18 / 179، وَفَتْح الْبَارِي 10 / 495، وَالْمُنْتَقَى لِلْبَاجِي 7 / 215، وَكِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ لِرِسَالَةِ ابْن أَبِي زَيْد الْقَيْرَوَانِيّ 2 / 394.
(3) الزَّوَاجِر عَنِ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ 2 / 42، 44، وَالآْدَاب الشَّرْعِيَّة لاِبْن مُفْلِح 1 / 242.
(4) حَدِيث: " مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ فَهُوَ. . . ". أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِيرِ (18 / 315 ط الْعِرَاق) مِنْ حَدِيث فَضَالَّة بْن عَبِيد وَقَال الهيثمي فِي مَجْمَع الزَّوَائِد (8 / 67 ط الْقُدْسِيّ) : رِجَالُهُ رِجَال الصَّحِيحِ

(42/165)


أَمَّا هِجْرَةُ الْمُسْلِمِ لأَِخِيهِ مُدَّةَ ثَلاَثٍ، فَجَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى إِبَاحَتِهَا اعْتِبَارًا لِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، دَلِيل الْخِطَابِ فِي الْحَدِيثِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا عُفِيَ عَنْهَا فِي الثَّلاَثِ؛ لأَِنَّ الآْدَمِيَّ مَجْبُولٌ عَلَى الْغَضَبِ وَنَحْوِهِ، فَعُفِيَ عَنِ الْهِجْرَةِ فِي الثَّلاَثَةِ لِيَذْهَبَ ذَلِكَ الْعَارِضُ (1) . قَال الْخَطَّابِيُّ: فَرَخَّصَ لَهُ فِي مُدَّةِ ثَلاَثٍ لِقِلَّتِهَا، وَجُعِل مَا وَرَاءَهَا تَحْتَ الْحَظْرِ (2) وَقَدْ بَيَّنَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ وَجْهَ تَحْدِيدِ التَّرْخِيصِ بِثَلاَثٍ فَقَال (3) : الثَّلاَثُ آخِرُ حَدِّ الْيَسِيرِ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَاسْتَخَفَّ فِي الْمُهَاجَرَةِ لِجَرْيِ الْعَادَةِ فِي الطِّبَاعِ بِهَا عِنْدَ وُقُوعِ مَا يُثِيرُهَا. وَالأَْصْل فِي تَحْدِيدِهَا فِي الْهَجْرِ وَغَيْرِهِ قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {فَقَال تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ (4) }
__________
(1) النَّوَوِيّ عَلَى مُسْلِمِ 16 / 117، وَانْظُرْ عُمْدَة الْقَارِّيّ 18 / 184، وَالْمُنْتَقَى لِلْبَاجِي 7 / 215، وَالأُْبِّيّ عَلَى مُسْلِم 7 / 16، وَكِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ لِرِسَالَةِ ابْن أَبِي زَيْد الْقَيْرَوَانِيّ وَحَاشِيَة الْعَدَوِيّ عَلَيْهِ 2 / 395.
(2) مَعَالِم السُّنَنِ (7 / 231 - بِهَامِشٍ مُخْتَصِرٍ سُنَن أَبِي دَاوُد لِلْمُنْذِرِي.
(3) الْجَامِع مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ لاِبْن رُشْد ص 268.
(4) سُورَة هُود / 64.

(42/165)


وَأَمَّا مَنْ لاَ يَعْتَدُّ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ فَقَال: إِنَّ الْحَدِيثَ لاَ يَقْتَضِي إِبَاحَةَ الْهِجْرَةِ فِي الثَّلاَثِ (1) .
جَاءَ فِي مِرْقَاةِ الْمَفَاتِيحِ: قَال أَكْمَل الدِّينِ مِنْ أَئِمَّتِنَا - أَيِ الْحَنَفِيَّةِ -: فِي الْحَدِيثِ دَلاَلَةٌ عَلَى حُرْمَةِ هِجْرَانِ الأَْخِ الْمُسْلِمِ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَأَمَّا جَوَازُ هِجْرَانِهِ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فَمَفْهُومٌ مِنْهُ لاَ مَنْطُوقٌ، فَمَنْ قَال بِحُجِّيَّةِ الْمَفْهُومِ كَالشَّافِعِيَّةِ جَازَ لَهُ أَنْ يَقُول بِإِبَاحَتِهِ، وَمَنْ لاَ فَلاَ (2) .
وَقَدْ حَمَل الْفُقَهَاءُ الْهَجْرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ عَلَى مَا كَانَ لِحَظِّ الإِْنْسَانِ، بِأَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فِي عَتَبٍ وَمَوْجِدَةٍ أَوْ لِنَبْوَةٍ تَكُونُ مِنْهُ أَوْ تَقْصِيرٍ فِي حُقُوقِ الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ، دُونَ مَا كَانَ فِي جَانِبِ الدِّينِ، فَإِنَّ هِجْرَةَ أَهْل الأَْهْوَاءِ وَالْبِدَعِ دَائِمَةٌ عَلَى مَرِّ الأَْوْقَاتِ مَا لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُمُ التَّوْبَةُ وَالرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَافَ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ النِّفَاقَ حِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَ بِهِجْرَانِهِمْ، وَأَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ فِي بُيُوتِهِمْ نَحْوَ خَمْسِينَ يَوْمًا (3) ، إِلَى
__________
(1) النَّوَوِيّ عَلَى مُسْلِمِ 16 / 117، وَالآْدَاب الشَّرْعِيَّة لاِبْن مُفْلِح 1 / 242.
(2) مِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 716، وَانْظُرِ الْمُنْتَقَى لِلْبَاجِي 7 / 215.
(3) حَدِيث: " أَمْر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِجْرَة كَعْب وَأَصْحَابه. . . ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 8 / 114 - 115 ط السَّلَفِيَّة) ، وَمُسْلِم (4 / 2124 ط الْحَلَبِيّ) .

(42/166)


أَنْ أَنْزَل اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَوْبَتَهُ وَتَوْبَةَ أَصْحَابِهِ، فَعَرَفَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرَاءَتَهُمْ مِنَ النِّفَاقِ (1) .
وَوَرَدَ أَنَّ قَرِيبًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَذَفَ (2) ، فَنَهَاهُ وَقَال: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْخَذْفِ، فَأَعَادَ. فَقَال عَبْدُ اللَّهِ: أُحَدِّثُكَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهُ ثُمَّ تَخْذِفُ! لاَ أُكَلِّمُكَ أَبَدًا (3) .
قَال النَّوَوِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى أَثَرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ: فِيهِ هِجْرَانُ أَهْل الْبِدَعِ وَالْفُسُوقِ وَمُنَابِذِي السُّنَّةِ مَعَ الْعِلْمِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ هِجْرَانُهُ دَائِمًا، وَالنَّهْيُ عَنِ الْهِجْرَانِ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ إِنَّمَا
__________
(1) الأُْبِّيّ عَلَى مُسْلِم 7 / 16، وَالآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 252، وَغِذَاء الأَْلْبَاب للسفاريني 1 / 256، وَمِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 716، وَمَجْمُوع فَتَاوَى ابْن تَيْمِيَّةَ 28 / 207، وَمَعَالِم السُّنَنِ لِلْخَطَابِيِّ 7 / 231، وَحَاشِيَة الْعَدَوِيّ عَلَى كِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ 2 / 395.
(2) الْخَذْف هُوَ رَمْيُك حَصَاة أَوْ نَوَاة تَأْخُذُهَا بَيْنَ سَبَّابَتَيْك وَتَرْمِي بِهَا، أَوْ تَتَّخِذُ مِخْذَفَة مِنْ خَشَبٍ ثُمَّ تَرْمِي بِهَا الْحَصَاةَ (النِّهَايَة لاِبْنِ الأَْثِيرِ 2 / 16) .
(3) حَدِيث: عَبْد اللَّه بْن مُغَفَّل أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْخَذْفِ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 9 / 607 - ط السَّلَفِيَّة) ، وَمُسْلِم (3 / 1548 - ط الْحَلَبِيّ) .

(42/166)


هُوَ فِيمَنْ هَجَرَ لِحَظِّ نَفْسِهِ وَمَعَايِشِ الدُّنْيَا، وَأَمَّا أَهْل الْبِدَعِ فَهِجْرَانُهُمْ دَائِمًا (1) .
قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْهِجْرَانُ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إِلاَّ لِمَنْ خَافَ مِنْ مُكَالَمَتِهِ مَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ دِينَهُ أَوْ يَدْخُل مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ دُنْيَاهُ مَضَرَّةٌ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ جَازَ، وَرُبَّ هَجْرٍ جَمِيلٍ خَيْرٌ مِنْ مُخَالَطَةٍ مُؤْذِيَةٍ (2) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ هِجْرَانَ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ وَالزَّوْجِ لِلزَّوْجَةِ وَالأُْسْتَاذِ لِتِلْمِيذِهِ وَمَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ لاَ يَضِيقُ بِالْمَنْعِ فَوْقَ ثَلاَثٍ حَمْلاً لِلْحَدِيثِ عَلَى الْمُتَآخِيَيْنِ أَوِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ، أَوْ حَمْلاً لِلْهِجْرَةِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى الَّتِي تَكُونُ مَعَ الْعَدَاوَةِ وَالشَّحْنَاءِ، وَأَنَّ غَيْرَهَا مُبَاحٌ أَوْ خِلاَفُ الأَْوْلَى، وَهَذَا فِي غَيْرِ الأَْبَوَيْنِ، أَمَّا الأَْبَوَانِ فَلاَ يَجُوزُ لِلْوَلَدِ هَجْرُهُمَا وَلَوْ لِطَرْفَةِ عَيْنٍ (3) .

جَزَاءُ الْهَجْرِ الْمُحَرَّمِ:
7 - وَرَدَ فِي حَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِيدٌ لِمَنْ يَتَقَحَّمُ الْهَجْرَ الْمُحَرَّمَ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
__________
(1) صَحِيح مُسْلِم بِشَرْح النَّوَوِيّ (ط الْمَطْبَعَة الْمِصْرِيَّة) 13 / 106.
(2) فَتْح الْبَارِي 10 / 496.
(3) مِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 716، وَمَعَالِم السُّنَنِ لِلْخَطَابِيِّ 7 / 231، وَانْظُرْ فَتْح الْبَارِي 10 / 496، وَحَاشِيَة الْعَدَوِيّ الْمَالِكِيّ عَلَى كِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ 2 / 395 وَحَاشِيَة الْجُمَل 4 / 290.

(42/167)


رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلاَثٍ فَمَاتَ دَخَل النَّارَ (1) قَال ابْنُ عَلاَّنٍ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ: فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلاَثٍ فَمَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْهَجْرِ وَالْقَطِيعَةِ دَخَل النَّارَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعْذِيبَهُ مَعَ عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ، أَوْ دَخَل النَّارَ خَالِدًا مُؤَبَّدًا إِنِ اسْتَحَل ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِحُرْمَتِهِ وَالإِْجْمَاعِ عَلَيْهَا (2) .
وَعَنْ أَبِي خِرَاشٍ حَدْرَدِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الأَْسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ (3) قَال ابْنُ عَلاَّنٍ: فَهُوَ مِنْ حَيْثُ الإِْثْمُ كَسَفْكِ دَمِهِ إِي إِرَاقَتِهِ عُدْوَانًا (4) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهُ إِذَا اعْتَزَل كَلاَمَهُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ. قَالَهُ الْقَاضِي
__________
(1) حَدِيث: " لاَ يَحْل لِمُسْلِم أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَث. . . ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (5 / 215 ط حِمْص) .
(2) دَلِيل الْفَالِحِينَ 4 / 445 - 446.
(3) حَدِيث: " مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَة فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (5 / 215، 216 ط حِمْص) ، وَالْحَاكِم (4 / 163 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة) وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيّ.
(4) دَلِيل الْفَالِحِينَ 4 / 445 - 446.

(42/167)


عِيَاضٌ (1) وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قَال: إِذَا اعْتَزَل كَلاَمَهُ لَمْ تُقْبَل شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُؤْذٍ لَهُ (2) وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّهَادَةَ يُتَوَقَّى فِيهَا وَيُحْتَاطُ، وَتَرْكُ الْمُكَالَمَةِ يُشْعِرُ بِأَنَّ فِي بَاطِنِهِ عَلَيْهِ شَيْئًا، فَمِنْ أَجْل ذَلِكَ لَمْ تُقْبَل شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ (3) .

الْحَلِفُ عَلَى الْهَجْرِ هَل يَشْمَل الْمُكَاتَبَةَ وَالْمُرَاسَلَةَ؟ :
8 - لَوْ حَلَفَ مُسْلِمٌ أَنْ يَهْجُرَ مُسْلِمًا فَهَل يَحْنَثُ لَوْ كَاتَبَهُ أَوْ رَاسَلَهُ؟
قَال النَّوَوِيُّ: فِي الْجَدِيدِ لاَ يَحْنَثُ حَمْلاً لِلْكَلاَمِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَفِي الْقَدِيمِ يَحْنَثُ حَمْلاً لِلْكَلاَمِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ.
وَلَوْ كَاتَبَهُ أَوْ رَاسَلَهُ بِالإِْيذَاءِ وَالإِْيحَاشِ لاَ يَحْنَثُ بِذَلِكَ إِذَا كَانَ قَدْ حَلَفَ عَلَى الْمُهَاجَرَةِ (4) .

أَثَرُ الْمُرَاسَلَةِ وَالْكِتَابَةِ لِلْغَائِبِ فِي زَوَال الْهَجْرِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ الْمُرَاسَلَةِ
__________
(1) فَتْح الْبَارِي 10 / 496، وَالأُْبِّيّ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ 7 / 16.
(2) الْمُنْتَقَى 7 / 215.
(3) انْظُرْ فَتْح الْبَارِي 15 / 496.
(4) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 11 / 64، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 345.

(42/168)


وَالْكِتَابَةِ لِلْغَائِبِ مُزِيلَةً لِلْهَجْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ:.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْهَجْرَ الْمُحَرَّمَ لاَ يَزُول بِغَيْرِ مُشَافَهَةٍ. وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَزُول بِالْكِتَابَةِ وَالْمُرَاسَلَةِ لِلْغَائِبِ، لِزَوَال الْوَحْشَةِ بِذَلِكَ، وَهُوَ الْوَجْهُ الأَْصَحُّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ (2) ، قَال ابْنُ مُفْلِحٍ: وَيَتَوَجَّهُ عَلَى قَوْل مَنْ جَعَل مِنْ أَصْحَابِنَا الْكِتَابَةَ وَالْمُرَاسَلَةَ كَلاَمًا أَنْ يَزُول الْهَجْرُ الْمُحَرَّمُ بِهَا. ثُمَّ قَال: وَجَدْتُ ابْنَ عَقِيلٍ ذَكَرَهُ (3) .
قَال السَّفَارِينِيُّ الْحَنْبَلِيُّ: وَظَاهِرُ كَلاَمِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَزُول. قَال ابْنُ رَزِينٍ فِي مُخْتَصَرِهِ فِيمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لاَ يُكَلِّمَهُ، فَكَتَبَ أَوْ أَرْسَل إِلَيْهِ: نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ يُنْظَرُ إِلَى سَبَبِ يَمِينِهِ، فَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ أَوْ سَبَبُ يَمِينِهِ يَقْتَضِي هِجْرَانَهُ وَتَرْكَ صِلَتِهِ حَنِثَ. فَإِنَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ وَالْمُرَاسَلَةَ كَلاَمٌ (4) .
__________
(1) الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 254، وَغِذَاء الأَْلْبَاب 1 / 274.
(2) شَرْح النَّوَوِيّ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ 16 / 117 وَمَا بَعْدَهَا.
(3) الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 289، وَغِذَاء الأَْلْبَاب 1 / 274 وَمَا بَعْدَهَا.
(4) غِذَاء الأَْلْبَاب 1 / 275.

(42/168)


وَقَال النَّوَوِيُّ: فَلَوْ كَاتَبَهُ أَوْ رَاسَلَهُ، فَهَل يَزُول الإِْثْمُ؟ نُظِرَ إِنْ كَانَتْ مُوَاصَلَتُهُمَا قَبْل الْهِجْرَانِ بِالْمُكَاتَبَةِ أَوِ الْمُرَاسَلَةِ ارْتَفَعَ الإِْثْمُ، وَإِلاَّ فَإِنْ تَعَذَّرَ الْكَلاَمُ لِغَيْبَةِ أَحَدِهِمَا، فَكَذَلِكَ، وَإِلاَّ، فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ، حَتَّى لَوْ حَلَفَ أَنْ يُهَاجِرَهُ، فَهَل يَحْنَثُ بِالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُرَاسَلَةِ؟ فِيهِ هَذَا الْخِلاَفُ. وَأَطْلَقَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَرْتَفِعُ الإِْثْمُ بِالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُرَاسَلَةِ، ثُمَّ لاَ يَخْفَى أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ إِنَّمَا تَرْفَعُ الإِْثْمَ إِذَا خَلَتْ عَنِ الإِْيذَاءِ وَالإِْيحَاشِ، وَإِلاَّ فَهُوَ كَمَا لَوْ كَلَّمَهُ بِالشَّتْمِ وَالإِْيذَاءِ، فَإِنَّهُ لاَ تَزُول بِهِ الْمُهَاجَرَةُ، بَل هُوَ زِيَادَةُ وَحْشَةٍ، وَتَأْكِيدٌ لِلْمُهَاجَرَةِ، وَلاَ يَحْنَثُ بِمِثْل هَذِهِ الْمُكَاتَبَةِ إِذَا حَلَفَ عَلَى الْمُهَاجَرَةِ (1) .

الصَّلاَةُ خَلْفَ أَحَدِ الْمُتَهَاجِرَيْنِ:
10 - جَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيل: سُئِل أَبُو مُحَمَّدٍ عَنِ الصَّلاَةِ خَلْفَ أَحَدِ الْمُتَهَاجِرَيْنِ، فَأَجَابَ: إِنْ كَانَ تَهَاجُرُهُمَا لأَِمْرٍ دُنْيَوِيٍّ فَالصَّلاَةُ خَلْفَ غَيْرِهِمَا أَحَبُّ إِلَيَّ، وَلاَ إِعَادَةَ عَلَى مَنْ صَلَّى خَلْفَ أَحَدِهِمَا (2) .
__________
(1) الرَّوْضَة 11 / 64.
(2) مَوَاهِب الْجَلِيل بِشَرْحٍ مُخْتَصَرٍ خَلِيلٍ (دَار الْفِكْرِ - بَيْرُوت) 2 / 95.

(42/169)


الْهَجْرُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَمَّا يُوجِبُ الْهَجْرَ:
11 - قَال الْعُلَمَاءُ: لاَ يَجُوزُ الْهَجْرُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَمَّا يُوجِبُ الْهَجْرَ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ لاَ يَأْخُذُ بِالْقَرَفِ وَلاَ يَقْبَل قَوْل أَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ (1) ، قَال الْمُنَاوِيُّ: وُقُوفًا مَعَ الْعَدْل لأَِنَّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَوْقُوفٌ عَلَى ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ بِطَرِيقِهِ الْمُعْتَبَرِ، وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَال مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " إِذَا كَانَ لَكَ أَخٌ فِي اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ تُمَارِهِ وَلاَ تَسْمَعْ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ، فَرُبَّمَا قَال لَكَ مَا لَيْسَ فِيهِ فَحَال بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ (2) ".

زَوَال الْهَجْرِ بِالسَّلاَمِ:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ الْهَجْرِ يَزُول بِالسَّلاَمِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ أَنَّ السَّلاَمَ يَقْطَعُ الْهِجْرَةَ وَيَرْفَعُ إِثْمَهَا وَيُزِيلُهُ (3) .
__________
(1) حَدِيث: " كَانَ لاَ يَأْخُذُ بِالْقَرَفِ. . . ". أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْم فِي الْحِلْيَةِ (6 / 310 ط السَّعَادَة) مِنْ حَدِيثِ أَنَس بْن مَالِك، وَقَال: " غَرِيب "، وَضَعَّفَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (5 / 18 - بِشَرْحِهِ الْفَيْض - ط الْمَكْتَبَة التِّجَارِيَّة) ، وَالْقِرْف - بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُون الرَّاءِ - التُّهْمَة.
(2) فَيْض الْقَدِير شَرْح الْجَامِع الصَّغِير 5 / 181، وَالآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 240 وَمَا بَعْدَهَا.
(3) عُمْدَة الْقَارِّيّ 18 / 179، وَمِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 717، وَالنَّوَوِيّ عَلَى مُسْلِمِ 16 / 117، وَالْمُنْتَقَى 7 / 215، وَالأُْبِّيّ عَلَى مُسْلِم 7 / 16، وَفَتْح الْبَارِي 10 / 496، وَغِذَاء الأَْلْبَاب للسفاريني 1 / 274، وَالآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 244

(42/169)


وَدَلِيلُهُمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيِّ: وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ صَاحِبَهُ بِالسَّلاَمِ (1) وَقَالُوا: فَلَوْلاَ أَنَّ السَّلاَمَ يَقْطَعُ الْهِجْرَةَ لَمَا كَانَ أَفْضَلُهَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ (2) .
وَالثَّانِي: لأَِحْمَدَ وَابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَهُوَ أَنَّ تَرْكَ الْكَلاَمِ إِنْ كَانَ يُؤْذِيهِ لَمْ تَنْقَطِعِ الْهِجْرَةُ بِالسَّلاَمِ (3) .
قَال أَبُو يَعْلَى: ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْهِجْرَةِ بِمُجَرَّدِ السَّلاَمِ، بَل حَتَّى يَعُودَ إِلَى حَالِهِ مَعَ الْمَهْجُورِ قَبْل الْهِجْرَةِ، ثُمَّ قَال: وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْهُ أَحْمَدُ خَارِجًا عَنِ الْهِجْرَةِ بِمُجَرَّدِ السَّلاَمِ حَتَّى يَعُودَ إِلَى عَادَتِهِ مَعَهُ فِي الاِجْتِمَاعِ وَالْمُؤَانَسَةِ؛ لأَِنَّ الْهِجْرَةَ لاَ تَزُول إِلاَّ بِعَوْدَتِهِ إِلَى عَادَتِهِ مَعَهُ (4) .
__________
(1) حَدِيث: " وَخَيْرهمَا. . ". سَبَقَ تَخْرِيجه ف 6.
(2) النَّوَوِيّ عَلَى مُسْلِمِ 16 / 117، وَالْمُنْتَقَى 7 / 215.
(3) الأُْبِّيّ عَلَى مُسْلِم 7 / 16، وَفَتْح الْبَارِي 10 / 496، وَالنَّوَوِيِّ عَلَى مُسْلِمِ 16 / 117، وَعُمْدَة الْقَارِئ 18 / 179.
(4) الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 254، وَغِذَاء الأَْلْبَاب للسفاريني 1 / 274.

(42/170)


وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُزَنِيَّةِ فِي الَّذِي يُسَلِّمُ عَلَى أَخِيهِ وَلاَ يُكَلِّمُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، بَل يَجْتَنِبُ كَلاَمَهُ: إِذَا كَانَ - أَيِ اجْتِنَابُ مُكَالَمَتِهِ - غَيْرَ مُؤْذٍ لَهُ، فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الشَّحْنَاءِ، وَإِنْ كَانَ مُؤْذِيًا لَهُ، فَلاَ يَبْرَأُ مِنْهَا (1) .
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْل: أَنَّهُ إِذَا كَانَ لاَ يُؤْذِيهِ تَرْكُ مُكَالَمَتِهِ، فَإِنَّهُ يَبْرَأُ مِنَ الْهِجْرَةِ؛ لأَِنَّهُ أَتَى مِنَ الْمُوَاصَلَةِ بِمَا لاَ أَذًى فِيهِ، وَإِنْ كَانَ يُؤْذِيهِ، فَلاَ يَبْرَأُ مِنَ الْمُهَاجَرَةِ؛ لأَِنَّ الأَْذَى أَشَدُّ مِنَ الْمُهَاجَرَةِ (2) .

فَضْل الْبَدْءِ بِالسَّلاَمِ بَعْدَ الْهَجْرِ:
13 - تَجْدُرُ الإِْشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ابْتَدَأَ أَحَدُ الْمُتَهَاجِرَيْنِ صَاحِبَهُ بِالسَّلاَمِ فَلَمْ يَرُدَّ الآْخَرُ، فَإِنَّ إِثْمَ الْهَجْرِ يَسْقُطُ عَنْ مُلْقِي السَّلاَمِ، وَيَبُوءُ الْمُمْتَنِعُ عَنْ رَدِّهِ بِالإِْثْمِ، وَيَصِيرُ بِذَلِكَ فَاسِقًا، وَيَحِل هِجْرَانُهُ (3) يَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ مُؤْمِنًا فَوْقَ ثَلاَثٍ، فَإِنْ مَرَّتْ بِهِ ثَلاَثٌ، فَلْيَلْقَهُ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ فَقَدِ اشْتَرَكَا فِي الأَْجْرِ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ
__________
(1) الْمُنْتَقَى لِلْبَاجِي 7 / 215.
(2) الْمُنْتَقَى 7 / 215.
(3) مِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 717.

(42/170)


فَقَدْ بَاءَ بِالإِْثْمِ (1) .
وَقَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: يَجِبُ هَجْرُهُ لِعَدَمِ رَدِّ السَّلاَمِ؛ لأَِنَّهُ فَاسِقٌ، وَلاَ خَيْرَ فِيهِ أَصْلاً (2) وَذَلِكَ تَأْدِيبًا.
هَذَا، وَقَدْ نَبَّهَ الْمُصْطَفَى عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيِّ الآْنِفِ الذِّكْرِ إِلَى أَنَّ خَيْرَ الْمُتَهَاجِرَيْنِ مَنْ يَبْدَأُ صَاحِبَهُ بِالسَّلاَمِ، أَيْ أَفْضَلَهُمَا وَأَكْثَرَهُمَا ثَوَابًا. قَال الْبَاجِيُّ: لأَِنَّهُ الَّذِي بَدَأَ بِالْمُوَاصَلَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَتَرَكَ الْمُهَاجَرَةَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا، مَعَ أَنَّ الاِبْتِدَاءَ بِهَا أَشَدُّ مِنَ الْمُسَاعَدَةِ عَلَيْهَا (3) وَقِيل: لِدَلاَلَةِ فِعْلِهِ عَلَى أَنَّهُ أَقْرَبُ لِلتَّوَاضُعِ وَأَنْسَبُ إِلَى الصَّفَاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَلإِِشْعَارِهِ بِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِالتَّقْصِيرِ، وَلإِِيمَائِهِ إِلَى حِفْظِ الْعَهْدِ وَالْحِرْصِ عَلَى الْمَوَدَّةِ الْقَدِيمَةِ (4) .

ثَالِثًا: هَجْرُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ:
14 - أَمَّا هَجْرُ الْمُسْلِمِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ،
__________
(1) حَدِيث: " لاَ يَحْل لِمُؤْمِن أَنْ يَهْجُرَ مُؤْمِنًا. . ". . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (5 / 214 - 215 ط حِمْصَ) ، وَصَحَّحَ إِسْنَاده ابْن حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي (10 / 495ط السَّلَفِيَّة) .
(2) مِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 717.
(3) الْمُنْتَقَى شَرْح الْمُوَطَّأ 7 / 215.
(4) مِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 717.

(42/171)


فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ ثَلاَثٍ؛ لأَِنَّ الْمُرَادَ بِالأُْخُوَّةِ فِي الْحَدِيثِ أُخُوَّةُ الإِْسْلاَمِ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ جَازَ هَجْرُهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ (1) . قَال الطِّيبِيُّ: وَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ إِشْعَارٌ بِالْعِلِّيَّةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ أُخُوَّةُ الإِْسْلاَمِ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا خَالَفَ هَذِهِ الشَّرِيطَةَ وَقَطَعَ هَذِهِ الرَّابِطَةَ جَازَ هَجْرُهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ (2) .

رَابِعًا: تَأْدِيبُ الزَّوْجَةِ لِنُشُوزِهَا بِالْهَجْرِ:
15 - لِلزَّوْجِ تَأْدِيبُ زَوْجَتِهِ إِذَا نَشَزَتْ بِأُمُورٍ مِنْهَا هَجْرُهَا فِي الْمَضْجَعِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ (3) } .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نُشُوز ف 15) .

مَا يَنْقَضِي بِهِ جَوَازُ هَجْرِ الزَّوْجَةِ:
16 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ هَجْرَ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ النَّاشِزَةِ يَنْقَضِي جَوَازُهُ بِانْقِضَاءِ نُشُوزِهَا وَرُجُوعِهَا عَنْهُ وَعَوْدَتِهَا إِلَى طَاعَةِ الزَّوْجِ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا طَاعَتَهُ فِيهِ؛ لأَِنَّهَا بِذَلِكَ تَكُونُ قَدْ أَقْلَعَتْ عَمَّا اسْتَحَقَّتْ بِهِ الْهَجْرَ
__________
(1) الأُْبِّيّ عَلَى مُسْلِم 7 / 16، وَفَتْح الْبَارِي 10 / 496.
(2) مِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 716.
(3) سُورَة النِّسَاء / 34.

(42/171)


وَاعْتُبِرَتْ بِهِ نَاشِزًا (1) ، وَذَلِكَ لِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل فِي آيَةِ النُّشُوزِ: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (2) } .

خَامِسًا: هَجْرُ الْمُجَاهِرِينَ بِالْمَعَاصِي زَجْرًا وَتَأْدِيبًا:
17 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ هَجْرِ الْمُجَاهِرِينَ بِالْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ أَوِ الْبِدَعِ وَالأَْهْوَاءِ، لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، عَلَى سَبِيل الزَّجْرِ وَالتَّأْدِيبِ (3) قَال الْبَغَوِيُّ: فَأَمَّا هِجْرَانُ أَهْل الْعِصْيَانِ وَالرَّيْبِ فِي الدِّينِ، فَشُرِعَ إِلَى أَنْ تَزُول الرِّيبَةُ عَنْ حَالِهِمْ وَتَظْهَرَ تَوْبَتُهُمْ (4) وَقَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ، لَمْ يَأْثَمْ إِنْ جَفَاهُ حَتَّى يَرْجِعَ، وَإِلاَّ كَيْفَ يَتَبَيَّنُ لِلرَّجُل مَا هُوَ عَلَيْهِ، إِذَا لَمْ يَرَ مُنْكِرًا، وَلاَ جَفْوَةً مِنْ صَدِيقٍ (5) .
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 2 / 334، وَتَفْسِير الْقُرْطُبِيّ 5 / 174، وَالأُْمّ لِلشَّافِعِيِّ (5 / 112 و 194 دَار الْمَعْرِفَة - بَيْرُوت) ، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 209، وَمَنَار السَّبِيل فِي شَرْحِ الدَّلِيل (دَار الْحِكْمَةِ) 2 / 227.
(2) سُورَة النِّسَاء / 34.
(3) الأُْبِّيّ عَلَى مُسْلِم 7 / 16، وَعُمْدَة الْقَارِّيّ 18 / 186، وَالآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 244، الْفَتَاوَى الْكُبْرَى لاِبْن تَيْمِيَّةَ (ط الرَّيَّان بِمِصْرَ) 3 / 435.
(4) شَرْح السُّنَّة لِلْبَغْوَيْ 13 / 101.
(5) الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 229، وَغِذَاء الأَْلْبَاب للسفاريني 1 / 256.

(42/172)


وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: لأَِنَّ الْحُبَّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضَ فِي اللَّهِ وَاجِبٌ، وَلأَِنَّ فِي تَرْكِ مُؤَاخَاةِ الْبِدْعِيِّ حِفْظًا لِدِينِهِ، إِذْ قَدْ يَسْمَعُ مِنْ شُبَهِهِ مَا يَعْلَقُ بِنَفْسِهِ، وَفِي تَرْكِ مُؤَاخَاةِ الْفَاسِقِ رَدْعٌ لَهُ عَنْ فُسُوقِهِ (1) .
وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ آثَرُوا فِرَاقَ نُفُوسِهِمْ لأَِجْل مُخَالَفَتِهَا لِلْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَهَذَا يَقُول: زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي. وَنَحْنُ لاَ نَسْخُوا أَنْ نُقَاطِعَ أَحَدًا فِيهِ لِمَكَانِ الْمُخَالَفَةِ! (2)
وَهِجْرَانُ الْمُجَاهِرِينَ بِالْمَعَاصِي عَلَى مَرْتَبَتَيْنِ: الْهِجْرَانِ بِالْقَلْبِ، وَالْهِجْرَانِ بِاللِّسَانِ. فَهِجْرَانُ الْكَافِرِ بِالْقَلْبِ، وَبِتَرْكِ التَّوَدُّدِ وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ، لاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ حَرْبِيًّا.
وَإِنَّمَا لَمْ يَشْرَعْ هِجْرَانُهُ بِالْكَلاَمِ لِعَدَمِ ارْتِدَاعِهِ بِذَلِكَ عَنْ كُفْرِهِ، بِخِلاَفِ الْعَاصِي الْمُسْلِمِ، فَإِنَّهُ يَنْزَجِرُ بِذَلِكَ غَالِبًا. وَيَشْتَرِكُ كُلٌّ مِنَ الْكَافِرِ وَالْعَاصِي فِي مَشْرُوعِيَّةِ مُكَالَمَتِهِ بِالدُّعَاءِ إِلَى الطَّاعَةِ وَالأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ (3) .
__________
(1) الْمُقْدِمَات الْمُمَهِّدَات لاِبْن رُشْد (ط دَار الْغَرْبِ الإِْسْلاَمِيّ) 3 / 446.
(2) الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 235
(3) فَتْح الْبَارِي 10 / 497.

(42/172)


18 - وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ لِذَلِكَ وَمَا يُشْتَرَطُ لَهُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: يُسَنُّ هَجْرُ مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي الْفِعْلِيَّةِ أَوِ الْقَوْلِيَّةِ أَوِ الاِعْتِقَادِيَّةِ. قَالَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَالثَّانِي: يَجِبُ هَجْرُهُ مُطْلَقًا، فَلاَ يُكَلَّمُ وَلاَ يُسَلَّمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نُقِل عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي مُعْتَقَدِهِ، وَقَال: لِيَكُونَ ذَلِكَ كَسْرًا لَهُ وَاسْتِصْلاَحًا.
وَالثَّالِثُ: يَجِبُ هَجْرُهُ مُطْلَقًا إِلاَّ مِنَ السَّلاَمِ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ.
وَالرَّابِعُ: يَجِبُ هَجْرُهُ إِنِ ارْتَدَعَ بِذَلِكَ، وَإِلاَّ كَانَ مُسْتَحَبًّا (2) .
وَالْخَامِسُ: يَجِبُ هَجْرُ مَنْ كَفَرَ أَوْ فَسَقَ بِبِدْعَةٍ أَوْ دَعَا إِلَى بِدْعَةٍ مُضِلَّةٍ أَوْ مُفَسِّقَةٍ عَلَى مَنْ عَجَزَ عَنِ الرَّدِّ عَلَيْهِ أَوْ خَافَ الاِغْتِرَارَ بِهِ وَالتَّأَذِّيَ دُونَ غَيْرِهِ. أَمَّا مَنْ قَدَرَ عَلَى الرَّدِّ أَوْ كَانَ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إِلَى مُخَالَطَتِهِمْ لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْهَجْرُ؛ لأَِنَّ مَنْ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ
__________
(1) الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 229
(2) الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 229، 237، وَغِذَاء الأَْلْبَاب للسفاريني 1 / 259، 268.

(42/173)


وَيُنَاظِرُهُمْ يَحْتَاجُ إِلَى مُشَافَهَتِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ لأَِجْل ذَلِكَ. وَكَذَا مَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ دُونَ غَيْرِهِ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (1) .
وَالسَّادِسُ: أَنَّ هِجْرَانَ ذِي الْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ أَوِ الْمُتَجَاهِرِ بِالْكَبَائِرِ وَاجِبٌ بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لاَ يَقْدِرَ عَلَى عُقُوبَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ - كَالْحَدِّ وَبَقِيَّةِ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرِ فِي كُل شَيْءٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ - إِذَا كَانَ لاَ يَتْرُكُهَا إِلاَّ بِالْعُقُوبَةِ، بِحَيْثُ إِذَا قَدَرَ عَلَى عُقُوبَتِهِ بِالْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ لَزِمَهُ. وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ لِمَنْ بُسِطَتْ يَدُهُ فِي الأَْرْضِ، هَذَا إِذَا لَمْ يَخَفْ مِنْهُ، أَمَّا إِذَا خَافَ مِنْهُ إِذَا تَرَكَ مُخَالَطَتَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُدَارِيَهُ. وَالْمُدَارَاةُ هِيَ أَنْ يُظْهِرَ خِلاَفَ مَا يُضْمِرُ لاِكْتِفَاءِ الشَّرِّ وَحِفْظِ الْوَقْتِ، بِخِلاَفِ الْمُدَاهَنَةِ الَّتِي مَعَهَا إِظْهَارُ ذَلِكَ لِطَلَبِ الْحَظِّ وَالنَّصِيبِ مِنَ الدُّنْيَا.
وَالثَّانِي: أَنْ لاَ يَقْدِرَ عَلَى مَوْعِظَتِهِ، لِشِدَّةِ تَجَبُّرِهِ، أَوْ يَقْدِرَ عَلَيْهَا لَكِنَّهُ لاَ يَقْبَلُهَا؛ لِعَدَمِ عَقْلٍ وَنَحْوِهِ.
أَمَّا لَوْ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ زَجْرِهِ عَنْ مُخَالَطَةِ الْكَبَائِرِ بِعُقُوبَتِهِ بِيَدِهِ - إِنْ كَانَ حَاكِمًا أَوْ فِي وِلاَيَتِهِ أَوْ بِرَفْعِهِ لِلْحَاكِمِ - أَوْ بِمُجَرَّدِ وَعْظِهِ،
__________
(1) الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 237، وَغِذَاء الأَْلْبَاب 1 / 269.

(42/173)


لَوَجَبَ عَلَيْهِ زَجْرُهُ وَإِبْعَادُهُ عَنْ فِعْل الْكَبَائِرِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ بِهَجْرِهِ. وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَالسَّابِعُ: أَنَّ هِجْرَانَ أَهْل الْبِدَعِ كَافِرِهِمْ وَفَاسِقِهِمْ وَالْمُتَظَاهِرِينَ بِالْمَعَاصِي وَتَرْكِ السَّلاَمِ عَلَيْهِمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَمَكْرُوهٌ لِسَائِرِ النَّاسِ. وَهُوَ قَوْل ابْنِ تَمِيمٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (2) .
وَالثَّامِنُ: أَنَّ الرَّجُل إِذَا أَظْهَرَ الْمُنْكَرَاتِ وَجَبَ الإِْنْكَارُ عَلَيْهِ عَلاَنِيَةً، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ غِيبَةٌ، وَوَجَبَ أَنْ يُعَاقَبَ عَلاَنِيَةً بِمَا يَرْدَعُهُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ هَجْرٍ وَغَيْرِهِ، فَلاَ يُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَلاَ يُرَدُّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِذَا كَانَ الْفَاعِل لِذَلِكَ مُتَمَكِّنًا مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ، فَإِنْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ أَظْهَرَ لَهُ الْخَيْرَ. وَهُوَ قَوْل تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ (3) وَقَال: الْهَجْرُ الشَّرْعِيُّ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: بِمَعْنَى التَّرْكِ لِلْمُنْكَرَاتِ. وَالثَّانِي: بِمَعْنَى الْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا. وَهُوَ الْهَجْرُ عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ، وَهُوَ هَجْرُ مَنْ يُظْهِرُ الْمُنْكَرَاتِ،
__________
(1) كِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ وَحَاشِيَة الْعَدَوِيّ عَلَيْهِ 2 / 395، 396.
(2) الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 229، 237، وَغِذَاء الأَْلْبَاب 1 / 259، 269.
(3) الْفَتَاوَى الْكُبْرَى لاِبْن تَيْمِيَّةَ (ط دَار الرَّيَّان بِالْقَاهِرَةِ) 3 / 435، وَمَجْمُوع فَتَاوَى ابْن تَيْمِيَّةَ 28 / 217، 218.

(42/174)


يُهْجَرُ حَتَّى يَتُوبَ مِنْهَا، كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ الثَّلاَثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى أَنْزَل اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ (1) ، حِينَ ظَهَرَ مِنْهُمْ تَرْكُ الْجِهَادِ الْمُتَعَيَّنِ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَلَمْ يَهْجُرْ مَنْ أَظْهَرَ الْخَيْرَ وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا، فَهُنَا الْهَجْرُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّعْزِيرِ (2) .
وَهَذَا الْهَجْرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْهَاجِرِينَ فِي قُوَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ زَجْرُ الْمَهْجُورِ وَتَأْدِيبُهُ وَرُجُوعُ الْعَامَّةِ عَنْ مِثْل حَالِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ رَاجِحَةً بِحَيْثُ يُفْضِي هَجْرُهُ إِلَى ضَعْفِ الشَّرِّ وَخُفْيَتِهِ كَانَ مَشْرُوعًا، وَإِنْ كَانَ لاَ الْمَهْجُورُ وَلاَ غَيْرُهُ يَرْتَدِعُ بِذَلِكَ، بَل يَزِيدُ الشَّرُّ، وَالْهَاجِرُ ضَعِيفٌ بِحَيْثُ تَكُونُ مَفْسَدَةُ ذَلِكَ رَاجِحَةً عَلَى مَصْلَحَتِهِ لَمْ يُشْرَعِ الْهَجْرُ، بَل يَكُونُ التَّأْلِيفُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْفَعَ مِنَ الْهَجْرِ، وَالْهَجْرُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْفَعَ مِنَ التَّأْلِيفِ.
وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَلَّفُ قَوْمًا وَيَهْجُرُ آخَرِينَ، كَمَا أَنَّ الثَّلاَثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا كَانُوا خَيْرًا مِنْ أَكْثَرِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ لَمَّا كَانَ أُولَئِكَ كَانُوا
__________
(1) حَدِيث " هَجْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ الثَّلاَثَة الَّذِينَ خَلَّفُوا. . . " سَبَقَ تَخْرِيجَهُ ف 6.
(2) مَجْمُوع فَتَاوَى ابْن تَيْمِيَّةَ 28 / 203.

(42/174)


سَادَةً مُطَاعِينَ فِي عَشَائِرِهِمْ، فَكَانَ الْمَصْلَحَةُ الدِّينِيَّةُ فِي تَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ. وَهَؤُلاَءِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَالْمُؤْمِنُونَ سِوَاهُمْ كَثِيرٌ، فَكَانَ فِي هَجْرِهِمْ عِزُّ الدِّينِ وَتَطْهِيرُهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي الْعَدْوِ الْقِتَال تَارَةً، وَالْمُهَادَنَةُ تَارَةً، وَأَخْذُ الْجِزْيَةِ تَارَةً. كُل ذَلِكَ بِحَسَبِ الأَْحْوَال وَالْمَصَالِحِ (1) .

هَجْرُ الْمُسْتَتِرِ بِالْمَعْصِيَةِ:
19 - أَمَّا الْمُسْتَتِرُونَ مِنْ أَهْل الْفِسْقِ وَالْمَعْصِيَةِ وَغَيْرُ الْمُجَاهِرِينَ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَهْل الأَْهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَجْرِهِمْ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: يَجِبُ هَجْرُهُمْ؛ لِيَكُفُّوا عَنْهَا. قَال ابْنُ حَجَرٍ مُعَلِّقًا عَلَى تَرْجَمَةِ الْبُخَارِيِّ - بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ الْهِجْرَانِ لِمَنْ عَصَى - فَتَبَيَّنَ هُنَا السَّبَبُ الْمُسَوِّغُ لِلْهَجْرِ، هُوَ لِمَنْ صَدَرَتْ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ، فَيَسُوغُ لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا مِنْهُ هَجْرُهُ عَلَيْهَا لِيَكُفَّ عَنْهَا (2) .
وَقَال أَبُو الْحُسَيْنِ الْفَرَّاءُ الْحَنْبَلِيُّ: لاَ تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ - أَيْ عَنْ أَحْمَدَ - فِي وُجُوبِ
__________
(1) مَجْمُوع فَتَاوَى ابْن تَيْمِيَّةَ 28 / 204 - 206، وانظرها 28 / 216 أَيْضًا.
(2) فَتْح الْبَارِي 10 / 497

(42/175)


هَجْرِ أَهْل الْبِدَعِ وَفُسَّاقِ الْمِلَّةِ، وَظَاهِرُ إِطْلاَقِهِ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْمُجَاهِرِ وَغَيْرِهِ فِي الْمُبْتَدِعِ الْفَاسِقِ. قَال: وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ ذِي رَحِمٍ وَالأَْجْنَبِيِّ إِذَا كَانَ الْحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى. فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْحَقُّ لآِدَمِيٍّ كَالْقَذْفِ وَالسَّبِّ وَالْغِيبَةِ أَخَذَ مَالَهُ غَصْبًا وَنَحْوَ ذَلِكَ نَظَرَ: فَإِنْ كَانَ الْهَاجِرُ وَالْفَاعِل لِذَلِكَ مِنْ أَقَارِبِهِ وَأَرْحَامِهِ لَمْ تَجُزْ هِجْرَتُهُ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَهَل تَجُوزُ هِجْرَتُهُ أَمْ لاَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ (1) .
وَالْقَوْل الثَّانِي: لاَ يَهْجُرُونَ. حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَنْ ظَاهِرِ كَلاَمٍ لِلإِْمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (2) .
وَالثَّالِثُ: أَنَّ فَاعِل الْمُنْكَرِ إِنْ كَانَ مُسْتَتِرًا بِذَلِكَ وَلَيْسَ مُعْلِنًا لَهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ سِرًّا وَسَتَرَ عَلَيْهِ كَمَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (3) ، إِلاَّ أَنْ يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ، وَالْمُتَعَدِّي لاَ بُدَّ مِنْ كَفِّ عُدْوَانِهِ. وَإِذَا نَهَاهُ
__________
(1) الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 238، وغذاء الأَْلْبَاب 9 / 259)
(2) الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 233، وغذاء الأَْلْبَاب 1 / 260
(3) حَدِيث: " منْ ستر مُسْلِمًا. . ". أَخْرَجَهُ البخاري (فَتْح الْبَارِي 5 / 97 ط السَّلَفِيَّة) ، ومسلم (4 / 1996 ط الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عَبْد اللَّه بْن عُمَر، وأخرجه مُسْلِم (4 / 2074) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظ: " سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ "

(42/175)


الْمَرْءُ سِرًّا فَلَمْ يَنْتَهِ، فَعَل مَا يُنْكَفُ بِهِ مِنْ هَجْرٍ وَغَيْرِهِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَنْفَعَ فِي الدِّينِ. وَهُوَ قَوْل تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ (1) .

هَجْرُ مَكَانِ الْمَعْصِيَةِ:
20 - قَال الْعُلَمَاءُ: مُجَالَسَةُ أَهْل الْمُنْكَرِ لاَ تَحِل، وَقَال ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: مَنْ خَاضَ فِي آيَاتِ اللَّهِ تُرِكَتْ مُجَالَسَتُهُ وَهُجِرَ، مُؤْمِنًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (2) } . وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ نَزَّل عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ (3) } .
قَال الْقُرْطُبِيُّ: فَدَل بِهَذَا عَلَى وُجُوبِ اجْتِنَابِ أَصْحَابِ الْمَعَاصِي إِذَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مُنْكَرٌ؛ لأَِنَّ مَنْ لَمْ يَجْتَنِبْهُمْ فَقَدْ رَضِيَ فِعْلَهُمْ، وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ.
وَقَال الْجَصَّاصُ: وَفِي هَذِهِ الآْيَةِ دَلاَلَةٌ عَلَى وُجُوبِ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ عَلَى فَاعِلِهِ، وَأَنَّ مِنْ
__________
(1) الْفَتَاوَى الْكُبْرَى لاِبْن تَيْمِيَّةَ (ط الرَّيَّان) 3 / 434، ومجموع فَتَاوَى ابْن تَيْمِيَّةَ 28 / 217
(2) سُورَة الأَْنْعَام / 68
(3) سُورَة النِّسَاء / 140

(42/176)


إِنْكَارِهِ إِظْهَارُ الْكَرَاهِيَةِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ إِزَالَتُهُ وَتَرْكُ مُجَالَسَةِ فَاعِلِهِ وَالْقِيَامُ عَنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ وَيَصِيرَ إِلَى حَالٍ غَيْرِهَا (1) .
__________
(1) تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ 5 / 417 - 418، 7 / 13، وأحكام الْقُرْآن لِلْجَصَّاصِ 2 / 353، وَأَحْكَام الْقُرْآنِ لاِبْنِ الْعَرَبِيِّ 2 / 260، ودليل الْفَالِحِينَ 1 / 98 ط الْحَلَبِيّ

(42/176)


هِجْرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
أ - الْهِجْرَةُ لُغَةً: مُفَارَقَةُ بَلَدٍ إِلَى غَيْرِهِ، وَهِيَ اسْمٌ مِنْ هَاجَرَ مُهَاجَرَةً.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الاِنْتِقَال مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ. فَإِنْ كَانَتْ قُرْبَةً لِلَّهِ فَهِيَ الْهِجْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - دَارُ الإِْسْلاَمِ:
2 - دَارُ الإِْسْلاَمِ: هِيَ كُل بُقْعَةٍ تَكُونُ فِيهَا أَحْكَامُ الإِْسْلاَمِ ظَاهِرَةً (ر: دَارُ الإِْسْلاَمِ ف 1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهِجْرَةِ وَدَارِ الإِْسْلاَمِ أَنَّهَا الدَّارُ الَّتِي يُهَاجِرُ إِلَيْهَا الْمُسْلِمُ قُرْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى.

ب - دَارُ الْحَرْبِ:
3 - دَارُ الْحَرْبِ: هِيَ كُل بُقْعَةٍ تَكُونُ
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير، والقاموس الْمُحِيط، وتحرير أَلْفَاظ التَّنْبِيهِ لِلنَّوَوِيِّ ص 313، وبصائر ذَوِي التَّمْيِيزِ 5 / 305، والتعريفات للجرجاني، ومفردات الرَّاغِب، والمطلع ص 98، وفتح الْمُعِين لاِبْنِ حَجَر الهيتمي ص 52

(42/177)


أَحْكَامُ الْكُفْرِ فِيهَا ظَاهِرَةً (ر: دَارُ الْحَرْبِ ف1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهِجْرَةِ وَبَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ أَنَّهَا الدَّارُ الَّتِي يُهَاجِرُ مِنْهَا الْمُسْلِمُ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

أَقْسَامُ الْهِجْرَةِ:
4 - قُسِّمَتِ الْهِجْرَةُ إِلَى أَنْوَاعٍ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَهُوَ أَنَّ اسْمَ الْهِجْرَةِ يَقَعُ عَلَى أُمُورٍ:
أ - الْهِجْرَةُ الأُْولَى إِلَى الْحَبَشَةِ عِنْدَمَا آذَى الْكُفَّارُ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
ب - الْهِجْرَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
ج - الْهِجْرَةُ الثَّالِثَةُ: هِجْرَةُ الْقَبَائِل إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَعَلُّمِ الشَّرَائِعِ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى الْمَوَاطِنِ وَيُعَلِّمُونَ قَوْمَهُمْ.
د - الْهِجْرَةُ الرَّابِعَةُ: هِجْرَةُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْل مَكَّةَ لِيَأْتِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَرْجِعَ إِلَى مَكَّةَ.
هـ - الْهِجْرَةُ الْخَامِسَةُ: هَجْرُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ (1) .
__________
(1) إِحْكَام الأَْحْكَامِ شَرْح عُمْدَة الأَْحْكَام لاِبْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ 1 / 11

(42/177)


وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ الْهِجْرَةَ هِجْرَتَانِ:
الأُْولَى: هِجْرَةٌ بِالْجِسْمِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَهَذِهِ أَحْكَامُهَا مَعْلُومَةٌ.
الثَّانِيَةُ: الْهِجْرَةُ بِالْقَلْبِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهِيَ هِجْرَةٌ تَتَضَمَّنُ (مِنْ) وَ (إِلَى) ، فَيُهَاجِرُ بِقَلْبِهِ مِنْ مَحَبَّةِ غَيْرِ اللَّهِ إِلَى مَحَبَّتِهِ، وَمِنْ عُبُودِيَّةِ غَيْرِهِ إِلَى عُبُودِيَّتِهِ، وَمِنْ خَوْفِ غَيْرِهِ وَرَجَائِهِ وَالتَّوَكُّل عَلَيْهِ إِلَى خَوْفِ اللَّهِ وَرَجَائِهِ وَالتَّوَكُّل عَلَيْهِ، وَمِنْ دُعَاءِ غَيْرِهِ وَسُؤَالِهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ وَالذُّل وَالاِسْتِكَانَةِ لَهُ إِلَى دُعَائِهِ وَسُؤَالِهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ وَالذُّل وَالاِسْتِكَانَةِ لَهُ (1) .
ثُمَّ تَعَرَّضَ لِحَال الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ الْمُهَاجِرِ إِلَى رَبِّهِ فَقَال: وَلَهُ فِي كُل وَقْتٍ هِجْرَتَانِ: هِجْرَةٌ إِلَى اللَّهِ بِالطَّلَبِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالتَّوَكُّل وَالإِْنَابَةِ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالإِْقْبَال عَلَيْهِ وَصِدْقِ الْمَلْجَأِ وَالاِفْتِقَارِ فِي كُل نَفْسٍ إِلَيْهِ. وَهِجْرَةٌ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرَكَاتِهِ، وَسَكَنَاتِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، بِحَيْثُ تَكُونُ مُوَافِقَةً لِشَرْعِهِ الَّذِي هُوَ تَفْصِيل مَحَابِّ اللَّهِ وَمَرْضَاتِهِ، وَلاَ يَقْبَل اللَّهُ مِنْ أَحَدِ دِينًا سِوَاهُ، وَكُل عَمَلٍ سِوَاهُ، فَعَيْشُ النَّفْسِ وَحَظُّهَا لاَ زَادَ الْمَعَادِ (2) .
__________
(1) الرِّسَالَة التبوكية لاِبْن الْقَيِّمِ ص 24، 25
(2) طَرِيق الْهِجْرَتَيْنِ لاِبْن الْقَيِّمِ ص 7

(42/178)


الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْهِجْرَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْهِجْرَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

هِجْرَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسَاسُ التَّارِيخِ الْهِجْرِيِّ:
5 - التَّارِيخُ الْهِجْرِيِّ: هُوَ تَعْرِيفُ الْوَقْتِ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَوَّل الْعَامِ الَّذِي هَاجَرَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ. جَاءَ فِي " الْعُقُودِ الدُّرِّيَّةِ ": سَبَبُ وَضْعِ التَّارِيخِ أَوَّل الإِْسْلاَمِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِصَكٍّ مَكْتُوبٍ إِلَى شَعْبَانَ، فَقَال: أَهُوَ شَعْبَانُ الْمَاضِي أَمْ شَعْبَانُ الْقَابِل؟ ثُمَّ أَمَرَ بِوَضْعِ التَّارِيخِ، وَاتَّفَقَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى ابْتِدَاءِ التَّارِيخِ مِنْ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَجَعَلُوا أَوَّل السَّنَةِ الْمُحَرَّمَ (1) . وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَال: كَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ أَنَّهُ تَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكَ كُتُبٌ لَيْسَ لَهَا تَأْرِيخٌ فَأَرِّخْ. فَاسْتَشَارَ عُمَرُ فِي ذَلِكَ، فَقَال بَعْضُ الصَّحَابَةِ: أَرِّخْ بِمَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَال بَعْضُهُمْ: بِوَفَاتِهِ. فَقَال عُمَرُ: لاَ، بَل نُؤَرِّخُ بِمُهَاجَرِهِ؛ فَإِنَّ مُهَاجَرَهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِل، فَأُرِّخَ بِهِ (2) .
__________
(1) الْعُقُود الدُّرِّيَّة فِي تَنْقِيحِ الْفَتَاوَى الحامدية لاِبْنِ عَابِدِينَ 2 / 335 ط بُولاَق
(2) الشَّمَارِيخ فِي عِلْمِ التَّارِيخِ لِلسُّيُوطِيَ ص 23

(42/178)


الْهِجْرَةُ قَبْل فَتْحِ مَكَّةَ:
تَتَضَمَّنُ الْهِجْرَةُ قَبْل فَتْحِ مَكَّةَ مَرْحَلَتَيْنِ: مَرْحَلَةَ الإِْذْنِ بِالْهِجْرَةِ، وَمَرْحَلَةَ فَرْضِ الْهِجْرَةِ:

أ - الإِْذْنُ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْهِجْرَةِ:
6 - قَال الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ زَمَانًا، لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ فِيهِ بِالْهِجْرَةِ مِنْهَا، ثُمَّ أَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ، وَجَعَل لَهُمْ مَخْرَجًا. فَيُقَال: نَزَلَتْ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجًا (1) } . فَأَعْلَمَهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ قَدْ جَعَل اللَّهُ لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ مَخْرَجًا. وَقَال تَعَالَى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيل اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَْرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً (2) } . وَأَمَرَهُمْ بِبِلاَدِ الْحَبَشَةِ، فَهَاجَرَتْ إِلَيْهَا مِنْهُمْ طَائِفَةٌ، ثُمَّ دَخَل أَهْل الْمَدِينَةِ الإِْسْلاَمَ، فَأَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَائِفَةً فَهَاجَرَتْ إِلَيْهِمْ، غَيْرَ مُحَرِّمٍ عَلَى مَنْ بَقِيَ تَرْكَ الْهِجْرَةِ إِلَيْهِمْ (3) . فَكَانَتِ الْهِجْرَةُ فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ مَنْدُوبًا إِلَيْهَا غَيْرَ مَفْرُوضَةٍ.
ثُمَّ أَذِنَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِرَسُولِهِ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يُحَرِّمْ فِي هَذَا عَلَى مَنْ بَقِيَ بِمَكَّةَ الْمُقَامَ بِهَا، وَهِيَ دَارُ شِرْكٍ، وَإِنْ قَلُّوا بِأَنْ يُفْتَنُوا، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ بِجِهَادٍ.
__________
(1) سُورَة الطلاق / 2
(2) سُورَة النِّسَاء / 100
(3) الأُْمّ 4 / 83، 84 ط بُولاَق

(42/179)


ثُمَّ أَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل لَهُمْ بِالْجِهَادِ، ثُمَّ فَرَضَ بَعْدَ هَذَا عَلَيْهِمْ أَنْ يُهَاجِرُوا مِنْ دَارِ الشِّرْكِ (1) .

ب - فَرْضُ الْهِجْرَةِ:
7 - لَمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل الْجِهَادَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاهَدَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ إِذْ كَانَ أَبَاحَهُ، وَأَثْخَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْل مَكَّةَ، وَرَأَوْا كَثْرَةَ مَنْ دَخَل فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل اشْتَدُّوا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، فَفَتَنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ أَوْ مَنْ فَتَنُوا مِنْهُمْ، فَعَذَرَ اللَّهُ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنَ الْمَفْتُونِينَ، فَقَال: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ (2) } ، وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل جَعَل لَكُمْ مَخْرَجًا، وَفَرَضَ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَةِ الْخُرُوجَ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يُفْتَنُ عَنْ دِينِهِ وَلاَ يَمْتَنِعُ (3) .
وَقَال الْبَغَوِيُّ (4) : فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، أُمِرُوا بِالْهِجْرَةِ وَالاِنْتِقَال إِلَى حَضْرَتِهِ،
__________
(1) الأُْمّ 4 / 84
(2) سُورَة النَّحْل / 106
(3) الأُْمّ 4 / 84، وانظر مَعَالِم السُّنَنِ لِلْخَطَّابِيِّ (بِهَامِشٍ مُخْتَصِرٍ سُنَن أَبِي دَاوُد لِلْمُنْذِرِي 3 / 352) ، وأحكام الْقُرْآن لِلشَّافِعِيِّ 2 / 16
(4) شَرْح السُّنَّة لِلْبَغَوِيِّ 10 / 372

(42/179)


لِيَكُونُوا مَعَهُ وَيَتَظَاهَرُوا إِنْ حَزَبَهُمْ أَمْرٌ، وَلِيَتَعَلَّمُوا مِنْهُ أَمْرَ دِينِهِمْ، وَقَطَعَ اللَّهُ الْوِلاَيَةَ بَيْنَ مَنْ هَاجَرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ، كَمَا قَال جَل ذِكْرُهُ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا (1) } .
وَقَدْ أَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى أَبُو الْوَلِيدِ ابْنُ رُشْدٍ حَيْثُ قَال: فَكَانَتِ الْهِجْرَةُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِهَا وَاجِبَةً مُؤَبَّدَةً، افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيهَا الْبَقَاءَ مَعَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ اسْتَقَرَّ، وَالتَّحَوُّل مَعَهُ حَيْثُ تَحَوَّل، لِنُصْرَتِهِ وَمُؤَازَرَتِهِ وَصُحْبَتِهِ، وَلِيَحْفَظُوا عَنْهُ مَا يَشْرَعُهُ لأُِمَّتِهِ، وَيُبَلِّغُوا ذَلِكَ عَنْهُ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لأَِحَدٍ مِنْهُمْ فِي الرُّجُوعِ إِلَى وَطَنِهِ وَتَرْكِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَلاَ تَرَى أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: لاَ يُقِيمَنَّ مُهَاجِرٌ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ فَوْقَ ثَلاَثٍ (2) ، خَصَّ اللَّهُ بِهَذَا مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْل مَكَّةَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَاجَرَ إِلَيْهِ؛ لِيُتِمَّ لَهُ بِالْهِجْرَةِ إِلَيْهِ وَالْمُقَامِ مَعَهُ وَتَرْكِ الْعَوْدَةِ إِلَى الْوَطَنِ الْغَايَةَ مِنَ الْفَضْل الَّذِي سَبَقَ لَهُمْ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ
__________
(1) سُورَة الأَْنْفَال / 72
(2) حَدِيث: " لاَ يُقِيمَنَّ مُهَاجِر بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاء. . . ". أَخْرَجَهُ مُسْلِم (2 / 985 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ الْعَلاَءِ بْن الْحَضْرَمِيّ بِلَفْظ: " يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاء نُسُكه ثَلاَثًا "

(42/180)


اللَّهُ بِالْمُهَاجِرِينَ، وَمَدَحَهُمْ بِذَلِكَ، فَلاَ يَنْطَلِقُ هَذَا الاِسْمُ عَلَى أَحَدٍ سِوَاهُمْ (1) .

بَقَاءُ الْهِجْرَةِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ:
8 - رُوِيَتْ أَحَادِيثُ ظَاهِرُهَا التَّعَارُضُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ:
فَبَعْضُ الأَْحَادِيثِ يَدُل عَلَى أَنَّ الْهِجْرَةَ انْقَطَعَتْ بِفَتْحِ مَكَّةَ، مِثْل مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ (2) . وَمَا رُوِيَ أَيْضًا " أَنَّ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ سَأَل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ الْهِجْرَةِ؟ فَقَالَتْ: لاَ هِجْرَةَ الْيَوْمَ، كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَفِرُّ أَحَدُهُمْ بِدِينِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخَافَةَ أَنْ يُفْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الإِْسْلاَمَ، وَالْيَوْمَ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَيْثُ شَاءَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ " (3) .
وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْ مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: انْطَلَقْتُ بِأَبِي مَعْبَدٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَايِعَهُ عَلَى الْهِجْرَةِ، قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَضَتِ الْهِجْرَةُ
__________
(1) الْمقدمات الْمُمَهِّدَات لاِبْن رُشْد 2 / 152
(2) حَدِيث: " لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ. . . ". أَخْرَجَهُ البخاري (فَتْح الْبَارِي 6 / 37 ط السَّلَفِيَّة) ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ
(3) حَدِيث: " أَنَّ عُبَيْد بْن عُمَيْرٍ سَأَل عَائِشَة. . . ". أَخْرَجَهُ البخاري (فَتْح الْبَارِي 7 / 226 ط السَّلَفِيَّة)

(42/180)


لأَِهْلِهَا، أُبَايِعُهُ عَلَى الإِْسْلاَمِ وَالْجِهَادِ (1) .
وَبَعْضُهَا الآْخَرُ يَدُل عَلَى أَنَّ الْهِجْرَةَ بَاقِيَةٌ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، مِثْل مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلاَ تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا (2) ، وَمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا دَامَ الْعَدُوُّ يُقَاتِل (3) ، وَمَا رُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْهِجْرَةَ لاَ تَنْقَطِعُ مَا كَانَ الْجِهَادُ (4) .
9 - وَقَدِ اخْتَلَفَ طَرَائِقُ الْفُقَهَاءِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ تِلْكَ الأَْحَادِيثِ الَّتِي ظَاهِرُهَا التَّعَارُضُ،
__________
(1) حَدِيث: " مَضَتِ الْهِجْرَة لأَِهْلِهَا. . . ". أَخْرَجَهُ البخاري (فَتْح الْبَارِي 8 / 25 ط السَّلَفِيَّة) ، ومسلم (3 / 1487 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) ، وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ
(2) حَدِيث: " لاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَة حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَة. . . ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (3 / 7 - 8 ط حِمْص) ، وأحمد فِي الْمُسْنَدِ (4 / 99 ط الميمنية)
(3) حَدِيث: " لاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَة مَا دَامَ الْعَدُوُّ يُقَاتِل ". أَخْرَجَهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ (1 / 192 ط الميمنية) ، وذكره الهيثمي فِي مَجْمَع الزَّوَائِد (5 / 250 ط الْقُدْس) وَقَال: وَرِجَال أَحْمَدَ ثِقَات
(4) حَدِيث: " إِنَّ الْهِجْرَةَ لاَ تَنْقَطِعُ مَا كَانَ الْجِهَاد ". أَخْرَجَهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ (4 / 62 ط الميمنية) ، وذكره الهيثمي فِي مَجْمَع الزَّوَائِد (5 / 251 ط الْقُدْس) ، وَقَال: رِجَالُهُ رِجَال الصَّحِيحِ

(42/181)


وَتَأْوِيلُهَا عَلَى ثَلاَثِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ مَنْدُوبًا إِلَيْهَا، ثُمَّ فُرِضَتْ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ ارْتَفَعَ وُجُوبُ الْهِجْرَةِ، وَعَادَ الأَْمْرُ فِيهَا إِلَى النَّدْبِ وَالاِسْتِحْبَابِ، فَهُمَا هِجْرَتَانِ: الْمُنْقَطِعَةُ هِيَ الْمَفْرُوضَةُ، وَالْبَاقِيَةُ هِيَ الْمَنْدُوبَةُ. وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْخَطَّابِيِّ (1) .
وَالثَّانِي: أَنَّ الْهِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ ارْتَفَعَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ؛ لأَِنَّ مَكَّةَ صَارَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ دَارَ إِسْلاَمٍ، وَكَانَتِ الْهِجْرَةُ عَنْهَا قَبْل ذَلِكَ وَاجِبَةً؛ لِكَوْنِهَا مَسَاكِنَ أَهْل الشِّرْكِ، فَمَنْ حَصَل عَلَيْهَا فَازَ بِهَا وَانْفَرَدَ بِفَضْلِهَا دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ. وَهَذَا هُوَ الْفَرْضُ الَّذِي سَقَطَ. أَمَّا الْهِجْرَةُ الْبَاقِيَةُ الدَّائِمَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَهِيَ هِجْرَةُ مَنْ أَسْلَمَ بِدَارِ الْكُفْرِ؛ إِذْ يَلْزَمُهُ أَنْ لاَ يُقِيمَ بِهَا حَيْثُ تُجْرَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْكُفَّارِ، وَأَنْ يُهَاجِرَ وَيَلْحَقَ بِدَارِ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ تُجْرَى عَلَيْهِ أَحْكَامُهُمْ (2) ، إِلاَّ أَنَّ هَذِهِ الْهِجْرَةَ لاَ يَحْرُمُ عَلَى
__________
(1) مَعَالِم السُّنَنِ لِلْخَطَّابِيِّ 3 / 352، ومرقاة الْمَفَاتِيح 4 / 182، والمبسوط لِلسَّرَخْسِيِّ 10 / 6
(2) شَرْح السُّنَّة لِلْبَغَوِيِّ 7 / 295، 10 / 373، ومرقاة الْمَفَاتِيح شَرْح مِشْكَاة الْمَصَابِيح لِلْمَلاَ عَلي الْقَارِّيّ 4 / 182، والمقدمات الْمُمَهِّدَات 2 / 153، وعارضة الأَْحْوَذِيّ 7 / 88، ونيل الأَْوْطَار 7 / 26، وشرح الأُْبِّيّ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ 5 / 211، والنووي عَلَى مُسْلِمِ 13 / 8، وعمدة الْقَارِّيّ 11 / 317، وفتح الْبَارِي 6 / 39، 7 / 229، والمغني لاِبْنِ قُدَامَةَ 8 / 456

(42/181)


الْمُهَاجِرِ بِهَا الرُّجُوعُ إِلَى وَطَنِهِ إِنْ عَادَ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ كَمَا حَرُمَ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّجُوعُ إِلَى مَكَّةَ لِلَّذِي ادَّخَرَهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْفَضْل فِي ذَلِكَ (1) .
وَقَدْ تَوَسَّعَ بَعْضُ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْل فِي دَوَاعِي الْهِجْرَةِ الْبَاقِيَةِ، فَقَال: إِنَّ مُفَارَقَةَ الأَْوْطَانِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ الَّتِي هِيَ الْهِجْرَةُ الْمُعْتَبَرَةُ الْفَاضِلَةُ الْمُمَيِّزَةُ لأَِهْلِهَا مِنْ سَائِرِ النَّاسِ امْتِيَازًا ظَاهِرًا، لَكِنَّ الْمُفَارَقَةَ مِنَ الأَْوْطَانِ بِسَبَبِ نِيَّةٍ خَالِصَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى كَطَلَبِ الْعِلْمِ، وَالْفِرَارِ بِدِينِهِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ وَمِمَّا لاَ يُقَامُ فِيهَا الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَزِيَارَةِ بَيْتِ اللَّهِ وَحَرَمِ رَسُول اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الأَْقْصَى وَغَيْرِهَا أَوْ بِسَبَبِ الْجِهَادِ فِي سَبِيل اللَّهِ بَاقِيَةٌ مَدَى الدَّهْرِ (2) .
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْهِجْرَةَ الْفَاضِلَةَ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِالْجَنَّةِ، كَانَ الرَّجُل يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدَعُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، لاَ يَرْجِعُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، انْقَطَعَتْ
__________
(1) الْمُقَدِّمَات الْمُمَهِّدَات لاِبْن رُشْد 2 / 153
(2) مِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 182، والكشاف لِلزَّمَخْشَرِيِّ 1 / 294

(42/182)


بِفَتْحِ مَكَّةَ. أَمَّا الْهِجْرَةُ الْبَاقِيَةُ فَهِيَ هَجْرُ السَّيِّئَاتِ (1) حَيْثُ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ الْهِجْرَةَ خَصْلَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنْ تَهْجُرَ السَّيِّئَاتِ، وَالأُْخْرَى أَنْ تُهَاجِرَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، وَلاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا تُقُبِّلَتِ التَّوْبَةُ، وَلاَ تَزَال التَّوْبَةُ مَقْبُولَةً حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنَ الْمَغْرِبِ، فَإِذَا طَلَعَتْ طُبِعَ عَلَى كُل قَلْبٍ بِمَا فِيهِ، وَكُفِيَ النَّاسُ الْعَمَل (2) .
وَوَرَدَ مِنْ حَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ (3) .
وَوَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ (4) .
هَذَا وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّ حُكْمَ الْهِجْرَةِ
__________
(1) طَرْح التَّثْرِيب 2 / 23 - 24، وعمدة الْقَارِّيّ 11 / 318
(2) حَدِيث " إِنَّ الْهِجْرَةَ خَصْلَتَانِ إِحْدَاهُمَا. . . ". أَخْرَجَهُ أَحْمَد (1 / 192 ط الميمنية) ، وقال الهيثمي فِي مَجْمَع الزَّوَائِد (5 / 251 ط الْقُدْس) : رِجَالُهُ ثِقَات
(3) حَدِيث: " الْمُهَاجِر مِنْ هَجْرِ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ " أَخْرَجَهُ ابْن مَاجَهْ (2 / 1298 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) ، وقال الْبُوصَيْرِيّ فِي مِصْبَاحِ الزُّجَاجَةِ (2 / 285 ط الْجِنَان) إِسْنَاده صَحِيح
(4) حَدِيث: " الْمُهَاجِر مِنْ هَجْرٍ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ". أَخْرَجَهُ البخاري (فَتْح الْبَارِي 1 / 53 ط السَّلَفِيَّة) مِنْ حَدِيثِ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو

(42/182)


بَاقٍ لاَ يَنْقَطِعُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي قَوْل عَامَّةِ أَهْل الْعِلْمِ (1) .

الْهِجْرَةُ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ لِلْهِجْرَةِ بَعْدَ الْفَتْحِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى التَّفْصِيل فَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ قَادِرًا عَلَى إِظْهَارِ دِينِهِ فِي دَارِ الْكُفْرِ، وَلَمْ يَخَفِ الْفِتْنَةَ فِي الدِّينِ، فَالْهِجْرَةُ فِي حَقِّهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَلَكِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ؛ لِئَلاَّ يُكَثِّرَ سَوَادَ الْكُفَّارِ، وَلِيَتَخَلَّصَ مِنْ مُخَالَطَتِهِمْ وَرُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ بَيْنَهُمْ، وَلِيَتَمَكَّنَ مِنْ جِهَادِهِمْ، وَلأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يَمِيل إِلَيْهِمْ أَوْ يَكِيدُوا لَهُ، وَلِيُكَثِّرَ الْمُسْلِمِينَ وَيُعِينَهُمْ بِهِجْرَتِهِ إِلَيْهِمْ (2) . أَمَّا عَدَمُ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ فَلإِِمْكَانِهِ إِقَامَةَ وَاجِبِ دِينِهِ بِدُونِ الْهِجْرَةِ (3) . قَال الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ: دَلَّتْ سُنَّةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ
__________
(1) الْمُبْدِع لاِبْن مُفْلِح 3 / 314، والمغني لاِبْنِ قُدَامَةَ 8 / 456 ط الرِّيَاض
(2) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 10 / 282، والمهذب 2 / 228، وشرح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ 2 / 94، وكشاف الْقِنَاع 3 / 38، والمبدع 3 / 314، والمحرر 2 / 170، والهداية لأَِبِي الْخَطَّاب 1 / 112، ومجموع فَتَاوَى ابْن تَيْمِيَّةَ 28 / 240، ونهاية الْمُحْتَاج 8 / 77 وَمَا بَعْدَهَا، وأسنى الْمَطَالِب 4 / 204
(3) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَةَ 8 / 457 ط الرِّيَاض، وتحفة الْمُحْتَاج 9 / 269

(42/183)


فَرْضَ الْهِجْرَةِ عَلَى مَنْ أَطَاقَهَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْ فُتِنَ عَنْ دِينِهِ بِالْبَلَدِ الَّذِي يُسْلِمُ بِهَا؛ لأَِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِقَوْمٍ بِمَكَّةَ أَنْ يُقِيمُوا بِهَا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ؛ مِنْهُمُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَغَيْرُهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ إِذْ لَمْ يَخَافُوا الْفِتْنَةَ (1) . وَحَمَلُوا حَدِيثَ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُل مُسْلِمٍ يُقِيمُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَنْ لاَ يَأْمَنُ عَلَى دِينِهِ فِي دَارِهِمْ (2) .
غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِمْ بِالاِسْتِحْبَابِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ثَلاَثَ صُوَرٍ:
الأُْولَى: أَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ رَجَا ظُهُورَ الإِْسْلاَمِ بِمُقَامِهِ فِي دَارِ الْكُفْرِ كَانَ مُقَامُهُ فِيهَا أَفْضَل.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى الاِمْتِنَاعِ فِي دَارِ الْكُفْرِ وَالاِعْتِزَال، وَلَمْ يَرْجُ نُصْرَةَ الْمُسْلِمِينَ بِالْهِجْرَةِ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْمُقَامُ فِي دَارِ الْكُفْرِ؛ لأَِنَّ مَوْضِعَهُ فِيهَا دَارُ إِسْلاَمٍ، فَلَوْ هَاجَرَ لَصَارَ دَارَ الْحَرْبِ، وَيَحْرُمُ ذَلِكَ.
وَالثَّالِثَةُ: أَنَّهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى قِتَال الْكُفَّارِ أَوْ دُعَائِهِمْ إِلَى الإِْسْلاَمِ، لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَإِلاَّ فَلاَ (3) .
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ عَاجِزًا عَنْ إِظْهَارِ دِينِهِ
__________
(1) الأُْمّ 4 / 84، وأحكام الْقُرْآن لِلشَّافِعِيِّ 2 / 17، 18
(2) فَتْح الْبَارِي 6 / 39 ط السَّلَفِيَّة
(3) تُحْفَة الْمُحْتَاج 9 / 269، ونهاية الْمُحْتَاج 8 / 78، وروضة الطَّالِبِينَ 10 / 282، وأسنى الْمَطَالِب 4 / 204

(42/183)


فِي دَارِ الْكُفْرِ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الإِْقَامَةُ فِيهَا، وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ إِنِ اسْتَطَاعَهَا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهِجْرَةِ فَهُوَ مَعْذُورٌ إِلَى أَنْ يَقْدِرَ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِ الْهِجْرَةِ فِي حَقِّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَْرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (2) } ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ يَدُل عَلَى الْوُجُوبِ (3) .
وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُل مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ. قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، وَلِمَ؟ قَال: لاَ تَرَاءَى نَارَاهُمَا (4) أَيْ لاَ يَكُونُ بِمَوْضِعٍ يَرَى نَارَهُمْ
__________
(1) الْمُهَذَّب 2 / 227، وكشاف الْقِنَاع 3 / 38، وشرح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ 2 / 94، والمبدع 3 / 313 وَمَا بَعْدَهَا، والمحرر 2 / 170، ومختصر الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّة لاِبْن تَيْمِيَّةَ ص 505، والهداية لأَِبِي الْخَطَّاب 1 / 112، وروضة الطَّالِبِينَ 10 / 282، ونهاية الْمُحْتَاج 8 / 78، وتحفة الْمُحْتَاج 9 / 269
(2) سُورَة النِّسَاء / 97
(3) الْمُغْنِي 8 / 457 ط الرِّيَاض
(4) حَدِيث: " أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلّ مُسْلِم يُقِيمُ بَيْن أَظْهَرَ الْمُشْرِكِينَ. . . ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (3 / 104 ط حِمْص) ، والترمذي (4 / 155 ط الْحَلَبِيّ)

(42/184)


وَيَرَوْنَ نَارَهُ إِذَا أُوقِدَتْ.
وَقَالُوا: إِنَّ الْقِيَامَ بِأَمْرِ الدِّينِ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَالْهِجْرَةُ مِنْ ضَرُورَةِ الْوَاجِبِ وَتَتِمَّتِهِ، وَمَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (1) } .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ حَالَةً أُخْرَى لِهِجْرَةٍ لاَ تُوصَفُ بِوُجُوبٍ وَلاَ اسْتِحْبَابٍ، كَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْهِجْرَةِ إِمَّا لِمَرَضٍ أَوْ إِكْرَاهٍ عَلَى الإِْقَامَةِ أَوْ ضَعْفٍ مِنَ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ وَشَبَهِهِمْ، فَهَذَا لاَ هِجْرَةَ عَلَيْهِ (2) لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} .
الْقَوْل الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْخَطَّابِيِّ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْهِجْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ لَيْسَتْ وَاجِبَةً، بَل هِيَ مَنْدُوبَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، وَهِيَ الْهِجْرَةُ مِنْ أَرْضٍ يُهْجَرُ فِيهِ الْمَعْرُوفُ، وَيَشِيعُ
__________
(1) سُورَة النِّسَاء / 98، 99
(2) الْمُغْنِي 8 / 457، وأسنى الْمَطَالِب 4 / 204

(42/184)


بِهِ الْمُنْكَرُ أَوْ مِنْ أَرْضٍ أَصَابَ فِيهِ الذَّنْبَ وَارْتَكَبَ الأَْمْرَ الْفَظِيعَ (1) .
قَال الْمُلاَّ الْقَارِيُّ: إِنَّ الْهِجْرَةَ الَّتِي هِيَ مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ الَّتِي كَانَتْ مَطْلُوبَةً عَلَى الأَْعْيَانِ إِلَى الْمَدِينَةِ انْقَطَعَتْ، إِلاَّ أَنَّ الْمُفَارَقَةَ بِسَبَبِ الْجِهَادِ أَوْ بِسَبَبِ نِيَّةٍ صَالِحَةٍ كَالْفِرَارِ مِنْ دِيَارِ الْكُفْرِ أَوِ الْبِدْعَةِ أَوِ الْجَهْل أَوْ مِنَ الْفِتَنِ أَوْ لِطَلَبِ الْعِلْمِ بَاقِيَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ (2) .
قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: اسْتَثْنَى فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ مِنْ نَسْخِ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ بَعْدَ الْفَتْحِ مَا إِذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ تَلْزَمُهُ الْهِجْرَةُ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ (3) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: قَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ الذَّهَابَ فِي الأَْرْضِ قِسْمَيْنِ: هَرَبًا وَطَلَبًا.
فَالأَْوَّل يَنْقَسِمُ إِلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ:
الأَْوَّل: الْهِجْرَةُ وَهِيَ الْخُرُوجُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَكَانَتْ فَرْضًا فِي أَيَّامِ
__________
(1) مِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 182، والبحر الرَّائِق 1 / 368، والمبسوط لِلسَّرَخْسِيِّ 10 / 6، وشرح السِّيَر الْكَبِير 1 / 94 ط مَطْبَعَة الإِْعْلاَنَات الشَّرْقِيَّة، ومعالم السُّنَن لِلْخَطَّابِيِّ 3 / 352، والفروع لاِبْن مُفْلِح 6 / 182
(2) مِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 182
(3) الْبَحْر الرَّائِق 1 / 368

(42/185)


النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذِهِ الْهِجْرَةُ بَاقِيَةٌ مَفْرُوضَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنْ بَقِيَ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَصَى، وَيُخْتَلَفُ فِي حَالِهِ.
الثَّانِي: الْخُرُوجُ مِنْ أَرْضِ الْبِدْعَةِ. قَال ابْنُ الْقَاسِمِ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُول: لاَ يَحِل لأَِحَدٍ أَنْ يُقِيمَ بِأَرْضٍ يُسَبُّ فِيهَا السَّلَفُ. قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، فَإِنَّ الْمُنْكَرَ إِذَا لَمْ تَقْدِرْ أَنْ تُغَيِّرَهُ فَزُل عَنْهُ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (1) } .
الثَّالِثُ: الْخُرُوجُ مِنْ أَرْضٍ غَلَبَ عَلَيْهَا الْحَرَامُ، فَإِنَّ طَلَبَ الْحَلاَل فَرْضٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ.
الرَّابِعُ: الْفِرَارُ مِنَ الأَْذِيَّةِ فِي الْبَدَنِ، وَذَلِكَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ أَرْخَصَ فِيهِ، فَإِذَا خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ فِي الْخُرُوجِ عَنْهُ وَالْفِرَارِ بِنَفْسِهِ لِيُخَلِّصَهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَحْذُورِ. وَأَوَّل مَنْ فَعَلَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَإِنَّهُ لَمَّا خَافَ مِنْ قَوْمِهِ قَال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي (2) } . وَقَال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (3) } ، وَقَال مُخْبِرًا
__________
(1) سُورَة الإِْنْعَام / 68
(2) سُورَة الْعَنْكَبُوتِ / 26
(3) سُورَة الصَّافَّات / 99

(42/185)


عَنْ مُوسَى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ (1) } .
الْخَامِسُ: خَوْفُ الْمَرَضِ فِي الْبِلاَدِ الْوَخِمَةِ وَالْخُرُوجُ مِنْهَا إِلَى الأَْرْضِ النَّزِهَةِ. وَقَدْ أَذِنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرُّعَاةِ حِينَ اسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ أَنْ يَخْرُجُوا إِلَى الْمَسْرَحِ فَيَكُونُوا فِيهِ حَتَّى يَصِحُّوا (2) .
وَقَدِ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْخُرُوجَ مِنَ الطَّاعُونِ، فَمَنَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْهُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) وَهُوَ مَكْرُوهٌ.
السَّادِسُ: الْفِرَارُ خَوْفَ الأَْذِيَّةِ فِي الْمَال، فَإِنَّ حُرْمَةَ مَال الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ، وَالأَْهْل مِثْلُهُ وَأَوْكَدُ.
وَقَالُوا: وَلاَ يُسْقِطُ هَذِهِ الْهِجْرَةَ الْوَاجِبَةَ إِلاَّ تَصَوُّرُ الْعَجْزِ عَنْهَا بِكُل وَجْهٍ وَحَالٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (4) } .
__________
(1) سُورَة الْقَصَصِ / 21
(2) حَدِيث: " أَذِنَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرُّعَاةِ حِينَ اسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَة. . . "
(3) حَدِيث: " الْمَنْع مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الطَّاعُونِ ". أَخْرَجَهُ البخاري (فَتْح الْبَارِي 6 / 513 ط السَّلَفِيَّة) ، ومسلم (4 / 1738 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أُسَامَة بْن زَيْد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
(4) سُورَة النِّسَاء / 98 - 99

(42/186)


قَالُوا: فَهَذَا الاِسْتِضْعَافُ الْمَعْفُوُّ عَمَّنِ اتَّصَفَ بِهِ غَيْرُ الاِسْتِضْعَافِ الْمُعْتَذَرِ بِهِ فِي أَوَّل الآْيَةِ وَصَدْرِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَْرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (1) } ، وَهُوَ قَوْل الظَّالِمِي أَنْفُسِهِمْ: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَْرْضِ} فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقْبَل قَوْلَهُمْ فِي الاِعْتِذَارِ بِهِ، فَدَل عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْ وَجْهٍ مَا، وَعَفَا عَنِ الاِسْتِضْعَافِ الَّذِي لاَ يُسْتَطَاعُ مَعَهُ حِيلَةٌ وَلاَ يُهْتَدَى بِهِ سَبِيلٌ بِقَوْلِهِ {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} وَعَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ. فَالْمُسْتَضْعَفُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ فِي الْعَجْزِ عَنِ الْهِجْرَةِ هُوَ الْعَاجِزُ مِنْ كُل وَجْهٍ. فَإِذَا عَجَزَ الْمُبْتَلَى بِهَذِهِ الإِْقَامَةِ عَنِ الْفِرَارِ بِدِينِهِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ سَبِيلاً إِلَيْهَا، وَلاَ ظَهَرَتْ لَهُ حِيلَةٌ وَلاَ قُدْرَةٌ عَلَيْهَا بِوَجْهٍ وَلاَ حَالٍ، أَوْ كَانَ بِمَثَابَةِ الْمُقْعَدِ أَوِ الْمَأْسُورِ، أَوْ كَانَ مَرِيضًا جِدًّا، أَوْ ضَعِيفًا جِدًّا، فَحِينَئِذٍ يُرْجَى لَهُ الْعَفْوُ، وَيَصِيرُ بِمَثَابَةِ الْمُكْرَهِ عَلَى التَّلَفُّظِ بِالْكُفْرِ، وَمَعَ هَذَا لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ قَائِمَةٌ أَنَّهُ لَوْ قَدَرَ وَتَمَكَّنَ لَهَاجَرَ، وَعَزْمٌ صَادِقٌ مُسْتَصْحَبٌ أَنَّهُ إِنْ ظَفِرَ بِمَكِنَةٍ وَقْتًا
__________
(1) سُورَة النِّسَاء / 97

(42/186)


مَا فِيهَا هَاجَرَ، وَأَمَّا الْمُسْتَطِيعُ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ وَبِأَيِّ حِيلَةٍ تَمَكَّنَ مِنْهَا فَهُوَ غَيْرُ مَعْذُورٍ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ إِنْ أَقَامَ (1) .
وَأَمَّا قِسْمُ الطَّلَبِ فَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: طَلَبُ دِينٍ وَطَلَبُ دُنْيَا.
فَأَمَّا طَلَبُ الدِّينِ فَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِهِ إِلَى تِسْعِ أَقْسَامٍ:
الأَْوَّل: سَفَرُ الْعِبْرَةِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَْرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ (2) } وَهُوَ كَثِيرٌ. وَيُقَال: إِنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّمَا طَافَ الأَْرْضَ لِيَرَى عَجَائِبَهَا. وَقِيل: لِيُنَفِّذَ الْحَقَّ فِيهَا.
الثَّانِي: سَفَرُ الْحَجِّ. وَالأَْوَّل وَإِنْ كَانَ نَدْبًا فَهَذَا فَرْضٌ.
الثَّالِثُ: سَفَرُ الْجِهَادِ وَلَهُ أَحْكَامُهُ.
الرَّابِعُ: سَفَرُ الْمَعَاشِ، فَقَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَى الرَّجُل مَعَاشُهُ مَعَ الإِْقَامَةِ فَيَخْرُجُ فِي طَلَبِهِ لاَ يَزِيدُ عَلَيْهِ، مِنْ صَيْدٍ أَوِ احْتِطَابٍ أَوِ احْتِشَاشٍ، فَهُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ.
__________
(1) الْمِعْيَارَ الْمُعَرَّب للونشريسي (ط دَار الْغَرْبِ الإِْسْلاَمِيّ) 2 / 121 وَمَا بَعْدَهَا، وانظر فَتْح الْعَلِيّ الْمَالِك لعليش 1 / 375
(2) سُورَة الرُّومِ / 9

(42/187)


الْخَامِسُ: سَفَرُ التِّجَارَةِ وَالْكَسْبِ الزَّائِدِ عَلَى الْقُوتِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ بِفَضْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ (1) } يَعْنِي التِّجَارَةَ، وَهِيَ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ بِهَا فِي سَفَرِ الْحَجِّ، فَكَيْفَ إِذَا انْفَرَدَتْ.
السَّادِسُ: فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ.
السَّابِعُ: قَصْدُ الْبِقَاعِ، قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُشَدُّ الرِّحَال إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ (2) .
الثَّامِنُ: الثُّغُورُ لِلرِّبَاطِ بِهَا وَتَكْثِيرِ سَوَادِهَا لِلذَّبِّ عَنْهَا.
التَّاسِعُ: زِيَارَةُ الإِْخْوَانِ فِي اللَّهِ تَعَالَى، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ رَجُلاً زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَال: أَيْنَ تُرِيدُ؟ فَقَال: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ. قَال: هَل لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَال: لاَ، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَل. قَال: فَإِنِّي رَسُول
__________
(1) سُورَة الْبَقَرَة / 198
(2) حَدِيث: " لاَ تُشَدُّ الرِّحَال إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ. . . ". أَخْرَجَهُ البخاري (فَتْح الْبَارِي 3 / 63 ط السَّلَفِيَّة) ، ومسلم (2 / 1014 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

(42/187)


اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ (1) .

هِجْرَةُ الْمَرْأَةِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ:
11 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ الْهِجْرَةِ فِي حَقِّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ إِظْهَارَ دِينِهِ فِي دَارِ الْكُفْرِ - إِلَى وُجُوبِهَا عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ شُرُوطِ السَّفَرِ فِي حَقِّهَا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي (2) .
قَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ أَسْلَمَتِ الْمَرْأَةُ بِدَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْهَا مَعَ رُفْقَةٍ مَأْمُونَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْهَا وَكَانَ يَحْصُل بِكُلٍّ مِنْ بَقَائِهَا وَخُرُوجِهَا ضَرَرٌ فَإِنْ خَفَّ أَحَدُهُمَا ارْتَكَبَتْهُ، وَإِنْ تَسَاوَيَا خُيِّرَتْ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَجِبُ الْهِجْرَةُ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ إِظْهَارَ دِينِهِ وَخَافَ فِتْنَةً فِيهِ، إِنْ أَطَاقَهَا، وَيُعَدُّ عَاصِيًا بِإِقَامَتِهِ، وَلَوْ أُنْثَى لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا مَعَ أَمْنِهَا عَلَى نَفْسِهَا، أَوْ كَانَ خَوْفُ الطَّرِيقِ أَقَل مِنْ خَوْفِ الإِْقَامَةِ، وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِمْ
__________
(1) حَدِيث: " أَنَّ رَجُلاً زَارَ أَخَا لَهُ فِي قَرْيَة. . . ". أَخْرَجَهُ مُسْلِم (4 / 1988 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ)
(2) نِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 78، وكفاية الطَّالِب الرَّبَّانِيّ مَعَ حَاشِيَةِ الْعَدَوِيّ 2 / 450، والزرقاني 2 / 237، والمبدع 3 / 314
(3) شَرح الزُّرْقَانِيّ 2 / 237

(42/188)


بِوُجُوبِ الْهِجْرَةِ عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهَا مِمَّنْ لاَ يَسْتَطِيعُ إِظْهَارَ دِينِهِ فِي دَارِ الْكُفْرِ: مَنْ فِي إِقَامَتِهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَتَجُوزُ لَهُ الإِْقَامَةُ فِيهَا. قَال الرَّمْلِيُّ: بَل تُرَجَّحُ عَلَى الْهِجْرَةِ (1) ، أَخْذًا مِمَّا جَاءَ أَنَّ الْعَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَسْلَمَ قَبْل بَدْرٍ، وَاسْتَمَرَّ مُخْفِيًا إِسْلاَمَهُ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ، يَكْتُبُ بِأَخْبَارِهِمْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يُحِبُّ الْقُدُومَ عَلَيْهِ فَيَكْتُبُ لَهُ أَنَّ مَقَامَكَ بِمَكَّةَ خَيْرٌ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا وَجَبَتِ الْهِجْرَةُ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى إِظْهَارِ الدِّينِ وَإِطَاقَتِهَا، فَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، وَلَوْ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ بِلاَ رَاحِلَةٍ وَلاَ مَحْرَمٍ.
وَفِي عُيُونِ الْمَسَائِل وَالرِّعَايَتَيْنِ: إِنْ أَمِنَتْ عَلَى نَفْسِهَا مِنَ الْفِتْنَةِ فِي دِينِهَا لَمْ تُهَاجِرْ إِلاَّ بِمَحْرَمٍ كَالْحَجِّ. وَزَادَ فِي الشَّرْحِ وَشَرْحِ الْهِدَايَةِ لِلْمَجْدِ: وَإِنْ لَمْ تَأْمَنْهُمْ فَلَهَا الْخُرُوجُ حَتَّى وَحْدَهَا (3) .
__________
(1) تُحْفَة الْمُحْتَاج وَحَاشِيَة الشرواني عَلَيْهِ 9 / 269 وَمَا بَعْدَهَا، وأسنى الْمَطَالِب وَحَاشِيَة الرَّمْلِيّ عَلَيْهِ 4 / 204، ونهاية المحتاج 8 / 78
(2) حَدِيث: " أَنَّ الْعَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَسْلَمَ قَبْل بَدْر، وَاسْتَمَرَّ مُخْفِيًا. . . ". أَخْرَجَهُ ابْن سَعْد فِي الطَّبَقَاتِ (4 / 31 ط دَار بَيْرُوتَ) ، وذكره الذَّهَبِيّ فِي السَّيْرِ (2 / 98 - 99 ط مُؤَسَّسَة الرِّسَالَة) ، وَقَال: إِسْنَادُهُ ضَعِيف
(3) كَشَّاف الْقِنَاع 3 / 44، والمبدع 3 / 314، والفروع لاِبْن مُفْلِح 6 / 197

(42/188)


أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ كَانَتْ مُسْلِمَةً أَسِيرَةً - كَانَ لَهَا أَنْ تُهَاجِرَ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ بِدُونِ مَحْرَمٍ؛ لأَِنَّهَا لاَ تَقْصِدُ سَفَرًا، وَإِنَّمَا تَطْلُبُ الْخَلاَصَ حَتَّى لَوْ وَصَلَتْ إِلَى جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَهُمْ مَنَعَةٌ لاَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهِمْ وَتُسَافِرَ (1) .

عِدَّةُ الْمُهَاجِرِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ.
12 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ: تُنْكَحُ الْمُهَاجِرَةُ الْحَائِل بِلاَ عِدَّةٍ، فَيَجُوزُ تَزَوُّجُ مَنْ هَاجَرَتْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً وَلاَ عِدَّةَ عَلَيْهَا. أَمَّا الْحَامِل فَلاَ يَجُوزُ تَزَوُّجُهَا حَتَّى تَضَعَ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ لأَِنَّهَا حُرَّةٌ فَارَقَتْ زَوْجَهَا بَعْدَ الإِْصَابَةِ، وَفُرْقَتُهَا وَقَعَتْ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، فَتَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ كَالْمُطَلَّقَةِ فِي دَارِنَا، وَهَذَا لأَِنَّ الْعِدَّةَ حَقُّ الشَّرْعِ، كَيْلاَ يَجْتَمِعَ مَاءُ رَجُلَيْنِ فِي رَحِمِهَا وَذَلِكَ مُحْتَرَمٌ حَتَّى يَثْبُتَ نَسَبُهُ إِلَى سَنَتَيْنِ، بِخِلاَفِ الْمُطَلَّقَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهِيَ حَرْبِيَّةٌ ثُمَّ خَرَجَتْ إِلَيْنَا حَيْثُ لاَ تَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ وَقَعَ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْعِدَّةِ لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُخَاطَبَةٍ، فَلاَ
__________
(1) تَبْيِين الْحَقَائِقِ 3 / 174، والبحر الرَّائِق 2 / 338

(42/189)


يَنْقَلِبُ مُوجِبًا، وَلأَِبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ (1) } فَأَبَاحَ نِكَاحَ الْمُهَاجِرَةِ مُطْلَقًا فَتَقْيِيدُهُ بِمَا بَعْدَ الْعِدَّةِ زِيَادَةٌ، الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ (2) } ، فَمَنْ مَنَعَ فَقَدْ أَمْسَكَ وَلأَِنَّهَا فُرْقَةٌ وَقَعَتْ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ فَلاَ تُوجِبُ الْعِدَّةَ كَمَا فِي الْمَسْبِيَّةِ، وَهَذَا لأَِنَّ تَبَايُنَ الدَّارَيْنِ مُنَافٍ لِلنِّكَاحِ فَيَكُونُ مُنَافِيًا لأَِثَرِهِ، وَالْعِدَّةُ مِنْ أَثَرِهِ، وَلأَِنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ حَقًّا لِلزَّوْجِ وَلاَ حُرْمَةَ لِلْحَرْبِيِّ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ حَامِلاً فَلاَ نَقُول بِوُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا وَلَكِنْ لاَ يَصِحُّ نِكَاحُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا؛ لأَِنَّ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا ثَابِتَ النَّسَبِ مِنَ الْغَيْرِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ النِّكَاحَ كَأُمِّ الْوَلَدِ إِذَا حَبِلَتْ مِنْ مَوْلاَهَا لاَ يُزَوِّجُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ وَلَكِنْ لاَ يَقْرَبُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا؛ لأَِنَّهُ لاَ حُرْمَةَ لِمَاءِ الْحَرْبِيِّ فَكَانَ كَالزَّانِي وَالأَْوَّل أَصَحُّ؛ لأَِنَّ نَسَبَهُ ثَابِتٌ، فَكَانَ الرَّحِمُ مَشْغُولاً بِحَقِّ الْحَمْل مِنَ الزِّنَا (3) .
__________
(1) سُورَة / 10
(2) سُورَة / 10
(3) تَبْيِين الْحَقَائِقِ 2 / 177، وحاشية ابْن عَابِدِينَ 2 / 392، وأحكام الْقُرْآن لِلْجَصَّاصِ ص 3 / 538 - 541

(42/189)


وَانْظُرْ آرَاءَ الْفُقَهَاءِ فِي أَثَرِ اخْتِلاَفِ الدَّارَيْنِ عَلَى النِّكَاحِ فِي مُصْطَلَحِ (اخْتِلاَف الدَّارَيْنِ ف 5) .

مَا يَلْحَقُ بِدَارِ الْكُفْرِ فِي الْحُكْمِ بِوُجُوبِ الْهِجْرَةِ مِنْهَا:
13 - أَلْحَقَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ بِدَارِ الْحَرْبِ فِي الْحُكْمِ بِوُجُوبِ الْهِجْرَةِ مِنْهَا عَلَى مَنْ أَطَاقَهَا وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِظْهَارِ دِينِهِ فِي إِقَامَتِهِ بِهَا دَارَ الْبُغَاةِ وَدَارَ الْبِدْعَةِ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْهِجْرَةَ مِنْ أَرْضِ الْحَرَامِ وَالْبَاطِل بِظُلْمٍ أَوْ فِتْنَةٍ فَرِيضَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَال الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتَّبِعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَال وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ (2) ، وَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَال: لاَ يُقِيمُ أَحَدٌ فِي مَوْضِعٍ يُعْمَل فِيهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ. قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَإِنْ قِيل: فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ بَلَدٌ إِلاَّ كَذَلِكَ؟ قُلْنَا: يَخْتَارُ الْمَرْءُ أَقَلَّهَا إِثْمًا، مِثْل أَنْ يَكُونَ بَلَدٌ بِهِ كُفْرٌ، فَبَلَدٌ فِيهِ جَوْرٌ خَيْرٌ مِنْهُ، أَوْ بَلَدٌ فِيهِ عَدْلٌ
__________
(1) كَشَّاف الْقِنَاع 3 / 43، وشرح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ 2 / 94، والمبدع 3 / 314، والفروع 6 / 197
(2) حَدِيث " يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْر مَال الْمُسْلِمِ غَنَم. . . ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (1 / 69 ط السَّلَفِيَّة) مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

(42/190)


وَحَرَامٌ، فَبَلَدٌ فِيهِ جَوْرٌ وَحَلاَلٌ خَيْرٌ مِنْهُ لِلْمُقَامِ، أَوْ بَلَدٌ فِيهِ مَعَاصٍ فِي حُقُوقِ اللَّهِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ بَلَدٍ فِيهِ مَعَاصٍ فِي مَظَالِمِ الْعِبَادِ (1) .

الْهِجْرَةُ مِنْ بَلَدٍ تُجْتَرَحُ فِيهَا الْمَعَاصِي:
14 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل لِلْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ قَوْل عَطَاءٍ: وَهُوَ وُجُوبُ الْهِجْرَةِ مِنَ الأَْرْضِ الَّتِي يُعْمَل فِيهَا بِالْمَعَاصِي. حَيْثُ قَال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ (2) } إِذَا عُمِل فِيهَا بِالْمَعَاصِي فَاخْرُجْ مِنْهَا (3) .
قَال ابْنُ الْقَاسِمِ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُول: لاَ يَحِل لأَِحَدٍ أَنْ يُقِيمَ بِبَلَدٍ يُسَبُّ فِيهِ السَّلَفُ (4) .
الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ كُل مَنْ أَظْهَرَ حَقًّا بِبَلْدَةٍ مِنْ بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ وَلَمْ يُقْبَل مِنْهُ، وَلَمْ يَقْدِرْ
__________
(1) عَارِضَة الأَْحْوَذِيّ لاِبْنِ الْعَرَبِيِّ 7 / 88 وَمَا بَعْدَهَا، وانظر فَتْح الْعَلِيّ الْمَالِك لعليش 1 / 375، والمعيار للونشريسي 2 / 121
(2) سُورَة الْعَنْكَبُوتِ / 56
(3) أَثَر سَعِيد بْن جُبَيْرٍ: إِذَا عُمِل فِيهَا بِالْمَعَاصِي فَاخْرُجْ مِنْهَا. أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيّ فِي جَامِعِ الْبَيَانِ (21 / 9 ط مُصْطَفَى الْحَلَبِيِّ)
(4) أَحْكَام الْقُرْآنِ لاِبْنِ الْعَرَبِيِّ 1 / 484، وتفسير الْقُرْطُبِيّ 5 / 350

(42/190)


عَلَى إِظْهَارِهِ، أَوْ خَافَ فِتْنَةً فِيهِ، فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ مِنْهُ قَال الرَّمْلِيُّ: لأَِنَّ الْمُقَامَ عَلَى مُشَاهَدَةِ الْمُنْكَرِ مُنْكَرٌ، وَلأَِنَّهُ قَدْ يَبْعَثُ عَلَى الرِّضَا بِذَلِكَ. نَقَلَهُ الأَْذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ صَاحِبِ الْمُعْتَمَدِ (1) . وَيُوَافِقُهُ قَوْل الْبَغَوِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُل مَنْ كَانَ بِبَلَدٍ تُعْمَل فِيهِ الْمَعَاصِي وَلاَ يُمْكِنُهُ تَغْيِيرُهَا الْهِجْرَةُ إِلَى حَيْثُ تَتَهَيَّأُ لَهُ الْعِبَادَةُ (2) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (3) } . هُوَ قَوْل الإِْمَامِ الْقُرْطُبِيِّ فِي تَذْكِرَتِهِ. حَكَاهُ صِدِّيق حَسَن خَان فِي (الْعِبْرَةِ مِمَّا جَاءَ فِي الْغَزْوِ وَالشَّهَادَةِ وَالْهِجْرَةِ) (4) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْهَيْتَمِيُّ فِي التُّحْفَةِ أَنَّ الَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَعَاصِيَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا إِذَا ظَهَرَتْ فِي بَلَدٍ بِحَيْثُ لاَ يَسْتَحْيِي أَهْلُهُ كُلُّهُمْ مِنْ ذَلِكَ، لِتَرْكِهِمْ إِزَالَتَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ، فَتَجِبُ الْهِجْرَةُ مِنْهُ؛ لأَِنَّ الإِْقَامَةَ حِينَئِذٍ مَعَهُمْ تُعَدُّ إِعَانَةً وَتَقْرِيرًا لَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي، بِشَرْطِ أَلاَّ يَكُونَ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ فِي ذَلِكَ، وَأَنْ يَقْدِرَ عَلَى الاِنْتِقَال
__________
(1) أَسْنَى الْمَطَالِب وَحَاشِيَة الرَّمْلِيّ عَلَيْهِ 4 / 204، وتحفة الْمُحْتَاج 9 / 270
(2) تُحْفَة الْمُحْتَاج 9 / 270
(&#
x663 ;) سُورَة الأَْنْعَام / 68
(4) الْعِبْرَة مِمَّا جَاءَ فِي الْغَزْوِ وَالشَّهَادَةِ وَالْهِجْرَةِ ص 222 (ط دَار الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ 1405هـ)

(42/191)


لِبَلَدٍ سَالِمَةٍ مِنْ ذَلِكَ، وَأَلاَّ يَكُونَ فِي إِقَامَتِهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ تَكُونَ عِنْدَهُ الْمُؤَنُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْحَجِّ (1) .
الثَّالِثُ لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّ الْهِجْرَةَ لاَ تَجِبُ مِنْ بَيْنِ أَهْل الْمَعَاصِي (2) .
الرَّابِعُ لِلْمُلاَّ عَلِي الْقَارِيِّ: وَهُوَ أَنَّ الْهِجْرَةَ مِنَ الْوَطَنِ الَّذِي يُهْجَرُ فِيهِ الْمَعْرُوفُ، وَيَشِيعُ فِيهَا الْمُنْكَرُ، وَتُرْتَكَبُ فِيهِ الْمَعَاصِي مَنْدُوبَةٌ (3) .

الإِْخْلاَصُ فِي الْهِجْرَةِ:
15 - لَمَّا كَانَتِ الْهِجْرَةُ تَصَرُّفًا شَرْعِيًّا، لَزِمَ فِي حَقِّ مَنْ كَانَتْ مَطْلُوبَةً مِنْهُ أَنْ يَقُومَ بِهَا قَاصِدًا بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، حَتَّى يَنَال أَجْرَهَا وَثَوَابَهَا، وَيُحَقِّقَ مَقْصِدَ الشَّارِعِ الْحَكِيمِ مِنْ طَلَبِهَا، فَيَكُونُ مُهَاجِرًا حَقًّا (4) . وَقَدْ نَبَّهَ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لاِمْرِئٍ مَا نَوَى،
__________
(1) تُحْفَة الْمُحْتَاج 9 / 270، 271
(2) شَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ 2 / 94، وكشاف الْقِنَاع 3 / 39، وَالْمُبْدِع 3 / 314
(3) مِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 182
(4) طَرَحَ التَّثْرِيب 2 / 3، وجامع الْعُلُوم وَالْحِكَم ص5، وفتح الْمُبَيِّن لِشَرْحٍ الأَْرْبَعِينَ ص 54

(42/191)


فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ (1) .
قَال ابْنُ رَجَبٍ: فَالْمُهَاجِرُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ هُوَ الْمُهَاجِرُ حَقًّا. . وَالْمُهَاجِرُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا تَاجِرٌ، وَالْمُهَاجِرُ لاِمْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا خَاطِبٌ، وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِمُهَاجِرٍ (2) . وَقَال ابْنُ عَلاَّنٍ: مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ نِيَّةً وَقَصْدًا، فَهِجْرَتُهُ إِلَيْهِمَا ثَوَابًا وَأَجْرًا، أَوْ فَهِجْرَتُهُ إِلَيْهِمَا حُكْمًا وَشَرْعًا (3) .
__________
(1) حَدِيث: " إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّةِ. . . ". أَخْرَجَهُ البخاري (فَتْح الْبَارِي 1 / 135 ط السَّلَفِيَّة) ، ومسلم (3 / 1515 - 1516 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) ، وَاللَّفْظ لِمُسْلِم
(2) جَامِع الْعُلُومِ وَالْحَكَمِ ص 11
(3) الْفُتُوحَات الرَّبَّانِيَّة عَلَى الأَْذْكَارِ النَّوَوِيَّةِ 1 / 58

(42/192)


هُجْنَةٌ
التَّعْرِيفُ:
ا - مِنْ مَعَانِي الْهُجْنَةِ فِي اللُّغَةِ: الْعَيْبُ وَالْقُبْحُ. يُقَال: فِي كَلاَمِهِ هُجْنَةٌ.
وَالْهَجِينُ: مَا تَلِدُهُ بِرْذَوْنَةٌ مِنْ حِصَانٍ عَرَبِيٍّ (1) .
وَالْهَجِينُ مِنَ النَّاسِ: الَّذِي وُلِدَ مِنْ أَبٍ عَرَبِيٍّ وَأُمٍّ غَيْرِ عَرَبِيَّةٍ، وَالْجَمْعُ هُجُنٌ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْهُجْنَةِ:
يَتَعَلَّقُ بِالْهُجْنَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

أ - الْهُجْنَةُ فِي الْكَلاَمِ:
2 - مِنْ آدَابِ الْكَلاَمِ: أَنْ يَتَجَافَى الْمُتَكَلِّمُ هَجْرَ الْقَوْل وَمُسْتَقْبَحَ الْكَلاَمِ، وَلْيَعْدِل إِلَى
__________
(1) لِسَان الْعَرَبِ
(2) الْمَغْرِب، وَلِسَان الْعَرَبِ
(3) رَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 235

(42/192)


الْكِنَايَةِ عَمَّا يُسْتَقْبَحُ صَرِيحُهُ، وَيُسْتَهْجَنُ فَصِيحُهُ؛ لِيَبْلُغَ الْغَرَضَ، وَلِسَانُهُ نَزِهٌ، وَأَدَبُهُ مَصُونٌ (1) ، فَيُعَبِّرُ - مَثَلاً - عَنِ الْعُيُوبِ الْمُسْتَهْجَنِ ذِكْرُهَا كَالْبَرَصِ وَالْبَخَرِ وَالصُّنَانِ - وَغَيْرِهَا بِعِبَارَاتٍ جَمِيلَةٍ يُفْهَمُ مِنْهَا الْغَرَضُ (2) .

ب - سَهْمُ الْفَرَسِ الْهَجِينِ مِنَ الْغَنِيمَةِ:
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفَرَسَ الْهَجِينَ يُسْهَمُ لَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ مُسَاوِيًا لِمَا يُسْهَمُ لِلْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ (3) .
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لأَِنَّ الإِْرْهَابَ مُضَافٌ إِلَى جِنْسِ الْخَيْل فِي الْكِتَابِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ (4) } وَاسْمُ الْخَيْل يَنْطَلِقُ عَلَى الْبَرَاذِينِ وَالْعِرَابِ وَالْهَجِينِ وَالْمُقْرِفِ إِطْلاَقًا وَاحِدًا، وَلأَِنَّ الْعَرَبِيَّ إِنْ كَانَ فِي الطَّلَبِ وَالْهَرَبِ أَقْوَى
__________
(1) أَدَب الدُّنْيَا وَالدِّينِ للماوردي ص 448 نَشْر دَار ابْن كَثِير
(2) بِرِيقَة مَحْمُودِيَّة فِي شَرْحِ طَرِيقَةٍ مُحَمَّدِيَّةٍ وَبِهَامِشِهِ الْوَسِيلَة الأَْحْمَدِيَّة 3 / 203
(3) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 2 / 212، وحاشية ابْن عَابِدِينَ 3 / 235، وفتح الْقَدِير 5 / 498، والشرح الصَّغِير 2 / 556، وشرح الْمَحَلِّيّ عَلَى الْمِنْهَاجِ 3 / 194
(4) سُورَةُ الأَْنْفَال / 60

(42/193)


فَالْبِرْذَوْنُ أَصْبَرُ وَأَلْيَنُ عَطْفًا، فَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَنْفَعَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فَاسْتَوَيَا، وَمَنْ دَخَل دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا فَنَفَقَ فَرَسُهُ اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ، وَمَنْ دَخَل رَاجِلاً فَاشْتَرَى فَرَسًا اسْتَحَقَّ سَهْمَ رَاجِلٍ.
وَيُفَرِّقُ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ سَهْمِ الْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ وَبَيْنَ سَهْمِ الْهَجِينِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْخَيْل؛ حَيْثُ قَالُوا (1) : لِلْفَارِسِ عَلَى فَرَسٍ عَرَبِيٍّ (وَيُسَمَّى الْعَتِيقَ) ثَلاَثَةٌ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لَهُ، وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَال: قَسَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِل سَهْمًا (2) ، وَقَال خَالِدٌ الْحَذَّاءُ: لاَ يُخْتَلَفُ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لِلْفَارِسِ ثَلاَثَةٌ، وَلِلرَّاجِل سَهْمٌ (3) .
وَلِلْفَارِسِ عَلَى فَرَسٍ هَجِينٍ وَهُوَ مَا أَبُوهُ عَرَبِيٌّ وَأُمُّهُ غَيْرُ عَرَبِيَّةٍ، أَوْ عَلَى فَرَسٍ مُقْرِفٍ
__________
(1) مَطَالِب أُولِي النُّهَى 2 / 557
(2) حَدِيث: " قَسَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ. . . ". أَخْرَجَهُ البخاري (فَتْح الْبَارِي 7 / 484 ط السَّلَفِيَّة) ، وأخرجه مُسْلِم (3 / 1383ط الْحَلَبِيّ) دُونَ قَوْله " يَوْمَ خَيْبَرَ "
(3) مَقَالَة خَالِد الْحَذَّاء: أَخْرَجَهَا الدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنِهِ (4 / 107 - ط دَار الْمَحَاسِن) ، وَالْبَيْهَقِيّ (6 / 327 - ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة)

(42/193)


- عَكْسُ الْهَجِينِ - وَهُوَ مَا أُمُّهُ عَرَبِيَّةٌ وَأَبُوهُ غَيْرُ عَرَبِيٍّ، أَوْ عَلَى فَرَسٍ بِرْذَوْنٍ وَهُوَ مَا أَبَوَاهُ نَبَطِيَّانِ سَهْمَانِ: سَهْمٌ لَهُ وَسَهْمٌ لِفَرَسِهِ، لِحَدِيثِ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ: أَسْهَمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَرَبِيِّ سَهْمَيْنِ وَلِلْهَجِينِ سَهْمًا (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (غَنِيمَة ف 24، وَخَيْل ف 5) .
__________
(1) حَدِيث خَالِد بْن مَعْدَانَ: " أَسْهَمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَرَبِيِّ سَهْمَيْنِ. . . ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيل (ص226 - 227 ط الرِّسَالَة) مِنْ حَدِيثِ خَالِد بْن مَعْدَانَ مُرْسَلاً

(42/194)


هُدْب
التَّعْرِيفُ:
1 - الْهُدْبُ - بِضَمِّ الْهَاءِ مَعَ سُكُونِ الدَّال - يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: مَا نَبَتَ عَلَى أَشْفَارِ الْعَيْنِ مِنَ الشَّعْرِ، وَالْجَمْعُ أَهْدَابٌ، مِثْل: قُفْلٍ وَأَقْفَالٍ، يُقَال: رَجُلٌ أَهْدَبُ. طَوِيل الأَْهْدَابِ.
الثَّانِي طُرَّةُ الثَّوْبِ: أَيْ طَرَفُهُ: مِثْل غُرْفَةٍ وَغُرَفٍ. وَفِي حَدِيثِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلاَثًا قَوْلُهَا: إِنَّ مَا مَعَهُ مِثْل هُدْبَةِ الثَّوْبِ (1) أَيْ فِي الاِسْتِرْخَاءِ وَعَدَمِ الاِنْتِشَارِ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْحَاجِبُ:
2 - الْحَاجِبُ فِي اللُّغَةِ: السَّتْرُ؛ لأَِنَّهُ يَمْنَعُ
__________
(1) حَدِيث: " إِنَّ مَا مَعَهُ مِثْل هُدْبَة الثَّوْب ". أَخْرَجَهُ مُسْلِم (3 / 1055 - ط الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
(2) الْمِصْبَاح الْمُنِير

(42/194)


الْمُشَاهَدَةَ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْبَوَّابِ: لأَِنَّهُ يَمْنَعُ الدُّخُول.
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ: الشَّعْرُ فَوْقَ الْعَيْنَيْنِ، وَيُسَمَّى: حَاجِبَانِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهُدْبِ وَالْحَاجِبِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا شَعْرٌ خُلِقَ لِحِمَايَةِ الْعَيْنِ (1) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْهُدْبِ:
يَتَعَلَّقُ بِالْهُدْبِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

الْجِنَايَةُ عَلَى الْهُدْبِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى أَهْدَابِ الْعَيْنَيْنِ وَهِيَ الشَّعْرَةُ الَّتِي عَلَى الأَْجْفَانِ بِقَلْعِهَا بِمُفْرَدِهَا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ بِقَلْعِهَا بِمُفْرَدِهَا بِدُونِ الْجَفْنِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ إِذَا قَلَعَهَا وَلَمْ يَنْبُتْ تَحْتَهَا؛ لأَِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَا الْجَمَال عَلَى الْكَمَال كَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا دَفْعُ الأَْذَى وَالْقَذَى عَنِ الْعَيْنَيْنِ، وَتَفْوِيتُ ذَلِكَ يُنْقِصُ الْبَصَرَ وَيُورِثُ الْعَمَى (2) .
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 51، والمغني لاِبْنِ قُدَامَةَ 8 / 7، وتبيين الْحَقَائِق 6 / 131
(2) رَدَّ الْمُحْتَارِ مَعَ حَاشِيَة ابْنَ عَابِدِينَ 5 / 370 - 371. وتبيين الْحَقَائِق 6 / 129 - 131، والمغني 8 / 7

(42/195)


وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبْ فِي إِزَالَةِ الْهُدْبِ قِصَاصٌ وَلاَ دِيَةٌ إِنَّمَا تَجِبُ فِيهَا حُكُومَةٌ إِنْ أُزِيلَتْ وَلَمْ يَنْبُتِ الشَّعْرُ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ دِيَات (ف 52) .

غَسْل الأَْهْدَابِ فِي الْوُضُوءِ:
4 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ شَعْرُ الْهُدْبِ كَثِيفًا لاَ يَصِفُ الْبَشَرَةَ أَجْزَأَ غَسْل ظَاهِرِهِ وَيُنْدَبُ تَخْلِيلُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يُكْرَهُ، وَإِنْ كَانَ شَعْرُ الْهُدْبِ خَفِيفًا يَصِفُ الْبَشَرَةَ وَجَبَ غَسْلُهَا مَعَهُ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ يَجِبُ إِمْرَارُ الْمَاءِ عَلَى شُعُورِ الْوَجْهِ وَلاَ يَجِبُ غَسْل مَا تَحْتَ الشَّعْرِ، قَالُوا: فَإِنَّ هَذِهِ الشُّعُورَ وَإِنْ كَانَتْ دَاخِلَةً فِي حَدِّ الْوَجْهِ، إِلاَّ أَنَّهَا لاَ يَجِبُ غَسْل أُصُولِهَا لِلْحَرَجِ. وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ - وَعَزَاهُ لِلدُّرَرِ -: إِنَّ عِلَّةَ عَدَمِ وُجُوبِ غَسْل مَا تَحْتَ هَذِهِ الشُّعُورِ - وَهِيَ فِي حَدِّ الْوَجْهِ - أَنَّ مَحَل الْفَرْضِ اسْتَتَرَ
__________
(1) الشَّرْح الصَّغِير 4 / 353 - 391، ومغني الْمُحْتَاج 4 / 62، وتحفة الْمُحْتَاج 8 / 466، وروض الطَّالِب 4 / 53
(2) الشَّرْح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 1 / 86، والشرح الصَّغِير 1 / 106، 107، والمغني لاِبْنِ قُدَامَةَ 1 / 115 - 116

(42/195)


بِالْحَائِل الَّذِي هُوَ الشَّعْرُ، وَصَارَ بِحَالَةٍ لاَ يُوَاجِهُ النَّاظِرَ إِلَيْهِ، فَسَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ وَتَحَوَّل إِلَى الْحَائِل الَّذِي هُوَ الشَّعْرُ.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ كَثِيفًا، أَمَّا إِذَا بَدَتِ الْبَشَرَةُ فَيَجِبُ غَسْلُهَا (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْل الأَْهْدَابِ فِي الْوُضُوءِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ لأَِنَّهُ مِنْ شُعُورِ الْوَجْهِ فَيَجِبُ غَسْلُهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ (2) } وَشَعْرُ الْوَجْهِ مِنْهُ، فَيَجِبُ غَسْلُهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِنْ كَثُفَ الشَّعْرُ؛ لأَِنَّ كَثَافَتَهُ نَادِرَةٌ فَأُلْحِقَ بِالْغَالِبِ (3) .
__________
(1) تَبْيِين الْحَقَائِقِ 1 / 3، وابن عَابِدِينَ 1 / 66 - 67
(2) سُورَةُ الْمَائِدَةِ / 6
(3) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 51

(42/196)


هَدْر
التَّعْرِيفُ:
1 - الْهَدْرُ فِي اللُّغَةِ مِنْ هَدَرَ الدَّمُ هَدْرًا - وَبَابُهُ ضَرَبَ وَقَتَل - بَطَل، وَأُهْدِرَ لُغَةٌ، وَهَدَرْتُهُ: أَبْطَلْتُهُ، وَأَهْدَرَ الشَّيْءَ أَبْطَلَهُ، يُقَال: أَهْدَرَ دَمَهُ: أَبَاحَهُ، وَتَهَادَرَ الْقَوْمُ: أَبْطَلُوا دِمَاءَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَبَاحُوهَا، وَذَهَبَ دَمُهُ هَدْرًا بِالسُّكُونِ وَبِالتَّحْرِيكِ: أَيْ بَاطِلاً لاَ قَوَدَ فِيهِ وَلاَ عَقْل، وَالْهَدَرُ بِفَتْحَتَيْنِ اسْمٌ مِنْهُ، وَذَهَبَ سَعْيُهُ هَدَرًا: أَيْ بَاطِلاً (1) .
وَاصْطِلاَحًا النَّفْسُ الْهَدْرُ: هِيَ الَّتِي لاَ قَوَدَ فِيهَا وَلاَ دِيَةَ وَلاَ كَفَّارَةَ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعِصْمَةُ:
2 - الْعِصْمَةُ بِالْكَسْرِ لُغَةً: الْمَنْعُ، مَأْخُوذَةٌ
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير، والمعجم الْوَسِيط
(2) فَتْح الْقَدِير 10 / 232 ط دَار الْفِكْرِ، وابن عَابِدِينَ 5 / 342، ومغني الْمُحْتَاج 4 / 23، والتاج والأكليل بِهَامِش الْحَطَّاب 6 / 231، 233، والمطلع عَلَى أَبْوَاب الْمُقْنِع ص361

(42/196)


مِنْ عَصَمَ يَعْصِمُ بِمَعْنَى اكْتَسَبَ وَمَنَعَ وَوَقَى، يُقَال: عَصَمَهُ اللَّهُ مِنَ الْمَكْرُوهِ يَعْصِمُهُ - مِنْ بَابِ ضَرَبَ - حَفِظَهُ وَوَقَاهُ، وَالْعِصْمَةُ أَيْضًا: الْقِلاَدَةُ (1) .
وَالْعِصْمَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهَا الْجُرْجَانِيُّ بِأَنَّهَا: مَلَكَةُ اجْتِنَابِ الْمَعَاصِي مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْهَا، وَالْعِصْمَةُ الْمُقَوِّمَةُ: هِيَ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا لِلإِْنْسَانِ قِيمَةٌ بِحَيْثُ مَنْ هَتَكَهَا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ.
وَالْعِصْمَةُ الْمُؤَثِّمَةُ: هِيَ الَّتِي تَجْعَل مَنْ هَتَكَهَا آثِمًا (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهَدْرِ وَالْعِصْمَةِ التَّضَادُّ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْهَدْرِ.
تَتَعَلَّقُ بِالْهَدْرِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

أَوَّلاً: الْمُهْدَرُ دِمَاؤُهُمْ:
الأَْصْل أَنَّ دَمَ الإِْنْسَانِ مَعْصُومٌ إِلاَّ فِي حَالاَتٍ مِنْهَا:

أ - الْمُرْتَدُّ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّدَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِ تُهْدِرُ دَمَهُ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل دَمُ امْرِئٍ
__________
(1) الْقَامُوس الْمُحِيط، والمصباح الْمُنِير
(2) التَّعْرِيفَات للجرجاني، والقواعد لِلْبَرَكَتِي

(42/197)


مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُول اللَّهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمُفَارِقُ لِدِينِهِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ (1) ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ بَدَّل دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ (2) .
وَيَقْتُلُهُ الإِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ؛ لأَِنَّهُ قَتْلٌ مُسْتَحَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ لِلإِْمَامِ وَلِمَنْ أَذِنَ لَهُ الإِْمَامُ، فَإِذَا قَتَلَهُ غَيْرُ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ فَلاَ قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِل وَلاَ دِيَةَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا، لَكِنَّهُ يُعَزَّرُ، لاِفْتِيَاتِهِ عَلَى حَقِّ الإِْمَامِ (3) .
قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ قَاتَل الْمُرْتَدُّ - ضِدَّ الْمُسْلِمِينَ - جَازَ أَنْ يَقْتُلَهُ كُل مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ كَالْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ، وَحِينَ أَذِنَ فَلاَ تَعْزِيرَ عَلَى قَاتِلٍ (4) .
(ر: رِدَّة ف 31، 40) .
__________
(1) حَدِيث " لاَ يَحُل دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ. . . ". أَخْرَجَهُ البخاري (فَتْح الْبَارِي 12 / 201 - ط السَّلَفِيَّة) ، ومسلم (3 / 1302 - 1303 - ط الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ ابْن مَسْعُود وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ
(2) حَدِيث: " مِنْ بَدَل دِينِهِ فَاقْتُلُوهُ ". أَخْرَجَهُ البخاري (فَتْح الْبَارِي 12 / 267 - ط السَّلَفِيَّة) مِنْ حَدِيثِ ابْن عَبَّاسٍ
(3) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 342، والتاج وَالإِْكْلِيل بِهَامِش الْحَطَّاب 6 / 231 - 233، ومغني الْمُحْتَاج 4 / 140، وكشاف الْقِنَاع 6 / 174 - 175
(4) أَسْنَى الْمَطَالِب شَرْح رَوْض الطَّالِبِ 4 / 122، ومغني الْمُحْتَاج 4 / 140

(42/197)


ب - الْمُبْتَدِعُ بِدْعَةً مُكَفِّرَةً:.
4 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُبْتَدِعَ بِدَعَةً مُكَفِّرَةً يُهْدَرُ دَمُهُ لِكُفْرِهِ (1) .

ج - الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ دَمَ الْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ - وَهُوَ غَيْرُ الذِّمِّيِّ وَالْمُعَاهَدِ وَالْمُؤَمَّنِ - مُهْدَرٌ، فَإِنْ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ فَلاَ تَبِعَةَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُقَاتِلاً، أَمَّا إِذَا كَانَ الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ غَيْرَ مُقَاتِلٍ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَجَزَةِ وَالرُّهْبَانِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَيْسُوا أَهْلاً لِلْقِتَال أَوْ لِتَدْبِيرِهَا فَلاَ يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَيُعَزَّرُ قَاتِلُهُ، إِلاَّ إِذَا اشْتَرَكَ فِي حَرْبٍ ضِدَّ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَعَانَهُمْ بِرَأْيٍ أَوْ تَدْبِيرٍ أَوْ تَحْرِيضٍ (2) ، لِحَدِيثِ: لاَ تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا وَلاَ طِفْلاً صَغِيرًا وَلاَ امْرَأَةً (3) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ امْرَأَةٍ وُجِدَتْ مَقْتُولَةً: " مَا كَانَتْ
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 3 / 297، وتحفة الْمُحْتَاج مَعَ حَاشِيَةٍ الشرواني 10 / 236، ومجموع الْفَتَاوَى لاِبْن تَيْمِيَّةَ 35 / 412 - 415
(2) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَةَ 8 / 475 وَمَا بَعْدَهَا، ومغني الْمُحْتَاج 4 / 222، وجواهر الإِْكْلِيل 1 / 252 - 253، وحاشية ابْن عَابِدِينَ 3 / 224 - 225
(3) حَدِيث: " لاَ تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا وَلاَ طِفْلاً صَغِيرًا. . . ". أَخْرَجَهُ ابْن أَبِي شَيْبَة فِي الْمُصَنَّفِ (12 / 383 - ط السَّلَفِيَّة) مِنْ حَدِيثِ أَنَس بْن مَالِك

(42/198)


هَذِهِ لِتُقَاتِل (1) .
(ر: أَهْل الْحَرْبِ ف 11 وَمَا بَعْدَهَا، وَكُفْر ف6) .

د - الزَّانِي الْمُحْصَنُ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ دَمَ الزَّانِي الْمُحْصَنِ مُهْدَرٌ، وَأَنَّهُ لَوْ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ غَيْرُ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ؛ لِحَدِيثِ: لاَ يَحِل دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُول اللَّهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمُفَارِقُ لِدِينِهِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ (2) ، لَكِنْ يُعَزَّرُ، لاِفْتِيَاتِهِ عَلَى الإِْمَامِ؛ لأَِنَّ الأَْصْل أَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ وَاسْتِيفَاءَهَا لِلإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ لأَِنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ، وَلاَ يُؤْمَنُ مَعَهُ الْحَيْفُ، فَوَجَبَ تَفْوِيضُهُ إِلَى نَائِبِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَلأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقِيمُ الْحُدُودَ فِي حَيَاتِهِ وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ (3) .
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لإِِهْدَارِ دَمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ
__________
(1) حَدِيث: " مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِل ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (3 / 122 - ط حِمْص) ، والحاكم (2 / 122 - ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة)
(2) حَدِيث: " لاَ يَحُل دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ. . . ". تَقَدَّمَ تَخْرِيجه فِقْرَة (3)
(3) رَدّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 3 / 145، المواق بِهَامِش الْحَطَّاب 6 / 231، وكشاف الْقِنَاع 6 / 78

(42/198)


إِذَا قَتَلَهُ غَيْرُ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِهِ، فَلَوْ قَتَلَهُ شَخْصٌ قَبْل الْقَضَاءِ بِهِ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِل إِذَا كَانَ الْقَتْل عَمْدًا، وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ إِذَا كَانَ خَطَأً؛ لأَِنَّ الشَّهَادَةَ قَبْل الْحُكْمِ بِهَا لاَ حُكْمَ لَهَا (1) . قَال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَإِنَّمَا لَمْ يُفَوَّضْ إِقَامَةُ الْحَدِّ فِي الزِّنَى لأَِوْلِيَاءِ الْمَزْنِيِّ بِهَا كَالْقِصَاصِ؛ لأَِنَّهُمْ قَدْ يَتْرُكُونَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ الْعَارِ (2) .

تَغَيُّرُ حَال الْمَجْرُوحِ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَا إِذَا تَغَيَّرَ حَال الْمَجْرُوحِ مِنْ وَقْتِ الْجُرْحِ إِلَى الْمَوْتِ بِعِصْمَةٍ أَوْ إِهْدَارٍ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
الْحَالَةُ الأُْولَى: تَغَيُّرُهُ مِنْ حَال الإِْهْدَارِ إِلَى الْعِصْمَةِ، وَذَلِكَ كَأَنْ يَجْرَحَ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ حَرْبِيًّا أَوْ مُرْتَدًّا، فَأَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ أَوِ الْمُرْتَدُّ أَوْ أُمِّنَ الْحَرْبِيُّ، ثُمَّ مَاتَ بِسِرَايَةِ الْجُرْحِ، وَلِلْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَوْلاَنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ
__________
(1) رَدّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 3 / 145
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 151، وحاشية الشرواني مَعَ تُحْفَة الْمُحْتَاج 9 / 115، وحاشية الْجُمَل عَلَى شَرْحِ الْمَنْهَجِ 5 / 135

(42/199)


وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) (1) وَهُوَ أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ فِي ذَلِكَ بِقِصَاصٍ وَلاَ مَالٍ، بَل دَمُهُ مُهْدَرٌ؛ لأَِنَّ الْجُرْحَ السَّابِقَ غَيْرُ مَضْمُونٍ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَجْنِ عَلَى مَعْصُومٍ، وَلأَِنَّ الاِعْتِبَارَ فِي التَّضْمِينِ بِابْتِدَاءِ حَال الْجِنَايَةِ؛ لأَِنَّهَا مُوجِبَةٌ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ " كُل جُرْحٍ أَوَّلُهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ لاَ يَنْقَلِبُ مَضْمُونًا بِتَغَيُّرِ الْحَال فِي الاِنْتِهَاءِ ".
الْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ، قَال ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: تَجِبُ فِي هَذَا دِيَةُ حُرٍّ مُسْلِمٍ فِي مَال الْجَانِي حَالَّةٌ (2) .
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ مُخَفَّفَةٌ، أَيْ دِيَةُ حُرٍّ مُسْلِمٍ مُخَفَّفَةٌ اعْتِبَارًا بِحَال اسْتِقْرَارِ الْجِنَايَةِ (3) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: تَغَيُّرُ حَال الْمَجْرُوحِ مِنْ مَعْصُومٍ إِلَى مُهْدَرِ الدَّمِ، كَأَنِ ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ الْمَجْرُوحُ وَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ مُرْتَدًّا وَجَارِحُهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ، فَالنَّفْسُ مُهْدَرَةٌ لاَ قَوَدَ فِيهَا وَلاَ دِيَةَ وَلاَ كَفَّارَةَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ قُتِل حِينَئِذٍ مُبَاشَرَةً لَمْ يَجِبْ فِيهِ شَيْءٌ فَكَذَا بِالسِّرَايَةِ.
__________
(1) رَدَّ الْمُحْتَار عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 5 / 341 - 345، والمغني لاِبْنِ قُدَامَةَ 7 / 693، ومغني الْمُحْتَاج 4 / 23، والمواق بِهَامِش الْحَطَّاب 6 / 231، 244، 245، وكشاف الْقِنَاع 5 / 521 - 522
(2) التَّاج وَالإِْكْلِيل بِهَامِش الْحَطَّاب 6 / 244
(3) مُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 23

(42/199)


8 - وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَجِبُ بِسَبَبِ الْجُرْحِ السَّابِقِ: فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ وَأَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجُرْحِ إِنْ كَانَ مِمَّا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِ، كَقَطْعِ الْيَدِ أَوِ الرِّجْل أَوِ الْمُوضِحَةِ مَثَلاً؛ لأَِنَّ الْقِصَاصَ فِي الطَّرَفِ مُنْفَرِدٌ عَنِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، فَيَسْتَقِرُّ وَلاَ يَتَغَيَّرُ بِمَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ، بِدَلِيل أَنَّهُ لَوْ قُطِعَ طَرَفٌ غَيْرُهُ ثُمَّ حَزَّ رَقَبَتَهُ آخَرُ لَزِمَ الأَْوَّل قِصَاصُ الطَّرَفِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يَسْرِ الْجُرْحُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ عَلَى الْجَارِحِ؛ لأَِنَّ الْجِرَاحَةَ صَارَتْ نَفْسًا، وَالنَّفْسُ مُهْدَرَةٌ بِاتِّفَاقٍ، فَكَذَا الطَّرَفُ، وَلأَِنَّهُ صَارَ إِلَى مَا أَحَل دَمَهُ (2) .
قَال الْحَنَابِلَةُ: وَإِنْ قَطَعَ مُكَلَّفٌ طَرَفًا، أَوْ أَكْثَرُ مِنْ مُسْلِمٍ فَارْتَدَّ الْمَقْطُوعُ وَمَاتَ مِنْ جِرَاحَةٍ فَلاَ قَوَدَ عَلَى الْقَاطِعِ فِي النَّفْسِ؛ لأَِنَّهَا نَفْسُ مُرْتَدٍّ غَيْرِ مَعْصُومٍ وَلاَ مَضْمُونٍ، بِدَلِيل مَا لَوْ قَطَعَ
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 23، وأسنى الْمُطَالِب 4 / 19، والتاج وَالإِْكْلِيل بِهَامِش الْحَطَّاب 6 / 244 - 245
(2) الْمَرَاجِع السَّابِقَة، وكشاف الْقِنَاع 5 / 522، والمغني لاِبْنِ قُدَامَةَ 7 / 694 وَمَا بَعْدَهَا

(42/200)


طَرَفَ ذِمِّيٍّ فَصَارَ حَرْبِيًّا ثُمَّ مَاتَ مِنْ جِرَاحِهِ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْقَاطِعِ الْمُكَلَّفِ الأَْقَل مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ أَوِ الْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ؛ لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَرْتَدَّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ فَمَعَ الرِّدَّةِ أَوْلَى (1) .
وَإِلَى وُجُوبِ الأَْقَل مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ وَأَرْشِ الْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَقْتَضِ الْجُرْحُ مَالاً وَلَمْ يَجِبْ فِيهِ قِصَاصٌ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ وَجَبَ أَرْشُ الْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَلَوْ زَادَ عَلَى الدِّيَةِ، فَفِي قَطْعِ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ دِيَتَانِ.
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْجُرْحَ مُهْدَرٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لأَِنَّ الْجِرَاحَةَ إِذَا سَرَتْ صَارَتْ قَتْلاً، وَصَارَتِ الأَْطْرَافُ تَابِعَةً لِلنَّفْسِ وَالنَّفْسُ مُهْدَرَةٌ فَكَذَلِكَ مَا يَتْبَعُهَا (2) .
9 - وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا طَرَأَتِ الرِّدَّةُ بَعْدَ الْجُرْحِ، فَلَوْ طَرَأَتِ الرِّدَّةُ بَعْدَ الرَّمْيِ وَقَبْل الإِْصَابَةِ فَلاَ ضَمَانَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) لأَِنَّهُ حِينَ جَنَى عَلَيْهِ كَانَ مُرْتَدًّا مُهْدَرَ الدَّمِ.
__________
(1) كَشَّاف الْقِنَاع 5 / 522
(2) أَسْنَى الْمَطَالِب شَرْح رَوْضِ الطَّالِبِ 4 / 19، ومغني الْمُحْتَاج 4 / 23 - 24

(42/200)


وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالَةُ الرَّمْيِ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الرَّامِي بِرِدَّةِ الْمَرْمِيِّ إِلَيْهِ قَبْل وُصُول السَّهْمِ إِلَيْهِ ثُمَّ وُقُوعِ السَّهْمِ بِهِ؛ لأَِنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِفِعْلِهِ - وَهُوَ الرَّمْيُ - إِذْ هُوَ الَّذِي يَدْخُل تَحْتَ قُدْرَتِهِ دُونَ الإِْصَابَةِ، وَلاَ فِعْل لَهُ أَصْلاً بَعْدَهُ، فَيَصِيرُ قَاتِلاً بِالرَّمْيِ، وَالْمَرْمِيُّ إِلَيْهِ مُتَقَوِّمٌ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ لِمَا ذَكَرْنَا أَيْ - أَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ - وَلَكِنْ فِيهِ شُبْهَةٌ لِسُقُوطِ الْعِصْمَةِ فِي حَالَةِ التَّلَفِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ.
وَيَرَى أَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ فِيهِ الْقَوَدَ (1) .
10 - وَأَمَّا لَوْ رَمَى مُسْلِمٌ مُرْتَدًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ أَصَابَهُ السَّهْمُ، أَوْ رَمَى حَرْبِيًّا فَأَسْلَمَ أَوْ أُمِّنَ ثُمَّ أَصَابَهُ السَّهْمُ فَلاَ قِصَاصَ قَطْعًا لِعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ فِي أَوَّل أَجْزَاءِ الْجِنَايَةِ؛ وَلأَِنَّهُ رَمَى مَنْ هُوَ مَأْمُورٌ بِرَمْيِهِ فَلَمْ يَضْمَنْ؛ لأَِنَّ الاِعْتِبَارَ فِي التَّضْمِينِ بِابْتِدَاءِ حَال الْجِنَايَةِ؛ لأَِنَّهَا مُوجِبَةٌ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
__________
(1) تَبْيِين الْحَقَائِقِ 6 / 224، وتكملة فَتْح الْقَدِير 10 / 268، والبحر الرَّائِق 8 / 371، وأسنى الْمَطَالِب شُرِحَ رَوَّضَ الطَّالِبُ 4 / 20، ومغني الْمُحْتَاج 4 / 24، والمغني لاِبْنِ قُدَامَةَ 7 / 694 - 695، وكشاف الْقِنَاع 5 / 521 - 522، والتاج وَالإِْكْلِيل بِهَامِش الْحَطَّاب 6 / 231، 244 - 245

(42/201)


11 - وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ عَلَى الْقَاتِل دِيَةَ مُسْلِمٍ فِي حَالَةِ إِسْلاَمِ الْمُرْتَدِّ أَوِ الْحَرْبِيِّ اعْتِبَارًا بِحَال الإِْصَابَةِ؛ لأَِنَّهَا حَالَةُ اتِّصَال الْجِنَايَةِ. وَالرَّمْيُ كَالْمُقَدِّمَةِ الَّتِي يُتَسَبَّبُ بِهَا إِلَى الْجِنَايَةِ، كَمَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا عُدْوَانًا وَهُنَاكَ حَرْبِيٌّ أَوْ مُرْتَدٌّ فَأَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ أَوْ الْمُرْتَدُّ، ثُمَّ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ السَّبَبِ مُهْدَرًا.
إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: الأَْصَحُّ أَنَّ وُجُوبَ هَذِهِ الدِّيَةِ مُخَفِّفَةً مَضْرُوبٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ لأَِنَّهَا دِيَةُ خَطَأٍ، كَمَا لَوْ رَمَى إِلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ آدَمِيًّا، وَقِيل: دِيَةُ شِبْهِ عَمْدٍ، وَقِيل: عَمْدٍ.
وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الدِّيَةَ حَالَّةٌ فِي مَال الْجَانِي.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَسَحْنُونٌ وَأَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ شَيْءَ عَلَى الْقَاتِل، أَيْ لاَ قَوَدَ وَلاَ دِيَةَ؛ لأَِنَّ الرَّمْيَ لَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ بِصَيْرُورَتِهِ مُتَقَوِّمًا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْمُرْتَدَّ وَالْحَرْبِيَّ لاَ عِصْمَةَ لِدَمِهِمَا (1) .
__________
(1) تَكْمِلَة فَتْح الْقَدِير 10 / 268، تبيين الْحَقَائِق 6 / 124، والبحر الرَّائِق 8 / 371، والتاج وَالإِْكْلِيل بِهَامِش الْحَطَّاب 6 / 244، ومغني الْمُحْتَاج 4 / 23 - 24، وأسنى الْمَطَالِب شُرِحَ رَوَّضَ الطَّالِبُ 4 / 19، والمغني لاِبْنِ قُدَامَةَ 7 / 694، وكشاف الْقِنَاع 5 / 522

(42/201)


12 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَسْتَوْفِي مَا وَجَبَ عَلَى الْجَانِي فِي هَذِهِ الْمَسَائِل:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَسْتَوْفِيهِ قَرِيبُهُ الْمُسْلِمُ وَهُوَ وَارِثُهُ لَوْلاَ الرِّدَّةُ؛ لأَِنَّ الْقِصَاصَ لِلتَّشَفِّي وَهُوَ لِلْقَرِيبِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْوَاجِبُ قِصَاصًا، وَيَجُوزُ لِقَرِيبِهِ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْجَانِي عَلَى مَالٍ يَأْخُذُهُ الإِْمَامُ؛ لأَِنَّ مَال الْمُرْتَدِّ فَيْءٌ لَيْسَ لِلْوَارِثِ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ هُوَ الَّذِي يَسْتَوْفِي؛ لأَِنَّ الْمُرْتَدَّ كَمَا قَال الشَّافِعِيَّةُ لاَ وَارِثَ لَهُ، فَيَسْتَوْفِيهِ الإِْمَامُ كَمَا يَسْتَوْفِي قِصَاصَ مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ، وَلأَِنَّ مَال الْمُرْتَدِّ فَيْءٌ لَيْسَ لِلْوَارِثِ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَسْتَوْفِيهِ الإِْمَامُ (1) .

مَنْعُ الْمَاءِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ عَنْ مُهْدَرِ الدَّمِ:
13 - إِذَا كَانَ الْمُحْتَاجُ إِلَى الْمَاءِ أَوْ ثَمَنِ الْمَاءِ مُهْدَرَ الدَّمِ - كَالْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ وَالزَّانِي الْمُحْصَنِ وَالْمُحَارِبِ الْقَاطِعِ لِلطَّرِيقِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ - أَوِ الَّذِي لاَ نَفْعَ فِيهِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ - وَالْخِنْزِيرِ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعْطَاءُ الْمَاءِ
__________
(1) أَسْنَى الْمُطَالِب شَرْح رَوْضِ الطَّالِبِ 4 / 19 - 20، ومغني الْمُحْتَاج 4 / 23 - 24، وكشاف الْقِنَاع 5 / 522

(42/202)


لِهَؤُلاَءِ، بَل يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِالْمَاءِ مَعَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ لأَِنَّهُ لاَ حُرْمَةَ لَهُمْ (1) .
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (تَيَمَّم ف 24) .

جَوَازُ قَتْل الْمُضْطَرِّ لِمُهْدَرِ الدَّمِ لإِِنْقَاذِ نَفْسِهِ:
14 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَوِ الذِّمِّيِّ الْمُضْطَرِّ قَتْل الْمُرْتَدِّ أَوِ الْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا، أَوِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ أَوِ الْمُحَارِبِ الْقَاطِعِ لِلطَّرِيقِ قَبْل تَوْبَتِهِ وَتَارِكِ الصَّلاَةِ عَمْدًا، لأَِكْل لُحُومِهِمْ، إِنْقَاذًا لِنَفْسِهِ مِنَ الْهَلاَكِ إِذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الإِْمَامُ فِي ذَلِكَ؛ لأَِنَّ قَتْلَهُمْ مُسْتَحَقٌّ وَدَمَهُمْ مُهْدَرٌ، وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ إِذْنُ الإِْمَامِ فِي غَيْرِ حَال الضَّرُورَةِ تَأَدُّبًا مَعَهُ، وَفِي حَال الضَّرُورَةِ لَيْسَ فِيهَا رِعَايَةُ أَدَبٍ (2) .
كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ قَتْل مَنْ لَهُ عَلَيْهِ قِصَاصٌ لأَِكْل لَحْمِهِ لإِِنْقَاذِ حَيَاتِهِ مِنَ الْهَلاَكِ؛ لأَِنَّ قَتْلَهُ مُسْتَحَقٌّ لَهُ (3) .
__________
(1) رَدّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 1 / 157، ومغني الْمُحْتَاج 1 / 90، وكشاف الْقِنَاع 1 / 164، ومواهب الْجَلِيل 1 / 334 - 335
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 307 - 308، وكشاف الْقِنَاع 6 / 199
(3) مُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 307 - 308

(42/202)


قَتْل مُهْدَرِ الدَّمِ لِنَفْسِهِ:
15 - إِذَا أُهْدِرَ دَمُ إِنْسَانٍ بِسَبَبِ جِنَايَةٍ كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ الْمُتَحَتَّمِ قَتْلُهُ فَقَتَل نَفْسَهُ، فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْقَتْل مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى قَاتِل نَفْسِهِ الْمَعْصُومَةِ مِنَ الْوَعِيدِ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ وَإِنْ أُهْدِرَ دَمُهُ لاَ يُبَاحُ لَهُ هُوَ إِرَاقَتُهُ، بَل لَوْ أَرَاقَهُ لاَ يَكُونُ كَفَّارَةً لَهُ، لأََنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا حَكَمَ بِالْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ عُوقِبَ بِذَنْبِهِ (1) ، وَأَمَّا مَنْ عَاقَبَ نَفْسَهُ فَهُوَ لَيْسَ فِي مَعْنَى مَنْ عُوقِبَ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ (2) .
__________
(1) حَدِيث: " وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ. . . ". أَخْرَجَهُ البخاري (الْفَتْح 1 / 64 - ط السَّلَفِيَّة) ، ومسلم (3 / 1333 - ط الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عِبَادَة بْن الصَّامِتِ، وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ
(2) الزَّوَاجِر عَنِ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ 2 / 96 - 97

(42/203)