الموسوعة الفقهية الكويتية

نَهْيٌ
التَّعْرِيفُ:
أ - النَّهْيُ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ الأَْمْرِ، يُقَال: نَهَى عَنِ الشَّيْءِ: زَجَرَهُ عَنْهُ، وَنَهَى اللَّهُ عَنْ كَذَا حَرَّمَهُ (1) .
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَقَدْ عَرَّفَهُ الأُْصُولِيُّونَ بِتَعْرِيفَاتٍ:
مِنْهَا: أَنَّهُ اقْتِضَاءُ كَفٍّ عَنْ فِعْلٍ عَلَى جِهَةِ اسْتِعْلاَءٍ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الأَْمْرُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الأَْمْرِ فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ الْفِعْل، وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى (3) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ: التَّضَادُّ.
__________
(1) مختار الصحاح، والقاموس المحيط، والمعجم الوسيط، والمصباح المنير.
(2) البحر المحيط 2 / 426، والمستصفى 1 / 411، ومسلم الثبوت 1 / 395، وكشف الأسرار 1 / 524
(3) البحر المحيط 2 / 345، ولسان العرب، والقاموس المحيط، والمصباح المنير.

(41/404)


الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّهْيِ:
بَيَّنَ عُلَمَاءُ الأُْصُول أَحْكَامَ النَّهْيِ وَمِنْ أَهَمِّهَا:

أ - صِيغَةُ النَّهْيِ:
3 - قَال الْجُمْهُورُ: إِنَّ لِلنَّهْيِ صِيغَةً مُبَيِّنَةً لَهُ تَدُل بِتَجْرِيدِهَا عَنِ الْقَرَائِنِ عَلَيْهِ، وَهِيَ قَوْل الْقَائِل: لاَ تَفْعَل وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُورِ، وَقَال أَبُو الْحَسَنِ الأَْشْعَرِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ: لَيْسَ لَهُ صِيغَةٌ تَخْتَصُّ بِهِ (1) .

ب - مَا يَقْتَضِيهِ النَّهْيُ:
أَوَّلاً: إِفَادَةُ النَّهْيِ الدَّوَامَ وَالتَّكْرَارَ:
4 - اخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ فِي النَّهْيِ هَل يُفِيدُ الدَّوَامَ وَالتَّكْرَارَ أَوْ لاَ؟
فَقَطَعَ جَمَاعَةٌ بِأَنَّ النَّهْيَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي الدَّوَامَ وَالتَّكْرَارَ، وَلِبَعْضِ الأُْصُولِيِّينَ فِي الْمَسْأَلَةِ آرَاءٌ أُخْرَى (2) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.
__________
(1) البحر المحيط 2 / 352، 426، 430 وما بعدها، وشرح الكوكب المنير لابن النجار 3 / 77 - 83، والذخيرة ص 56.
(2) فواتح الرحموت 1 / 406، والذخيرة للقرافي ص82، والبحر المحيط 2 / 340 وما بعدها، وشرح الكوكب المنير 3 / 96 وما بعدها.

(41/405)


ثَانِيًا: اقْتِضَاءُ النَّهْيِ الْفَوْرَ أَوْ عَدَمَهُ:
5 - اخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ فِي اقْتِضَاءِ النَّهْيِ الْكَفَّ عَلَى الْفَوْرِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى اقْتِضَائِهِ الْفَوْرَ، وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

ثَالِثًا: اقْتِضَاءُ النَّهْيِ التَّحْرِيمَ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ مُطْلَقَ النَّهْيِ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ (2) .
وَقَال قَوْمٌ: إِنَّهُ مَوْقُوفٌ لاَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَلاَ غَيْرَهُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ.
وَقَال آخَرُونَ إِنَّهُ لِلتَّنْزِيهِ حَقِيقَةً لاَ لِلتَّحْرِيمِ، لأَِنَّهَا يَقِينٌ فَحُمِل عَلَيْهِ وَلَمْ يُحْمَل عَلَى التَّحْرِيمِ إلاَّ بِدَلِيلٍ.
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (3) }
__________
(1) انظر البحر المحيط 2 / 352، 426، 430 وما بعدها، وشرح الكوكب المنير لابن النجار 7 / 73 - 83، والذخيرة ص 56.
(2) الذخيرة للقرافي 1 / 86، والأم للشافعي 7 / 291 - 292، ومنهاج الأصول للبيضاوي وشرحاه نهاية السول للأسنوي ومنهاج العقول للبدخشي 2 / 66 - 67، والبحر المحيط 2 / 426، وجمع الجوامع مع حاشية العطار 1 / 499، وأصول السرخسي 1 / 78، وشرح الكوكب المنير 7 / 83، 83.
(3) سورة الحشر / 7

(41/405)


وَلأَِنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رَجَعُوا فِي التَّحْرِيمِ إِلَى مُجَرَّدِ النَّهْيِ. وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

رَابِعًا: اقْتِضَاءُ النَّهْيِ الْفَسَادَ:
7 - اخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ فِي اقْتِضَاءِ النَّهْيِ الْمُطْلَقِ الْفَسَادَ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ فِي الْجُمْلَةِ (1) .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ مُطْلَقًا إِلاَّ بِدَلِيلٍ يَدُل عَلَى خِلاَفِ ذَلِكَ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ.
وَقَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ النَّهْيَ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَرْجِعُ إِلَى عَيْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَبَيْعِ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، أَوْ يَرْجِعُ لِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْعَقْدِ أَوْ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ كَبَيْعِ الْمَلاَقِيحِ، فَهَذَا النَّوْعُ لاَ يَنْعَقِدُ بِالاِتِّفَاقِ. وَقِسْمٌ يَرْجِعُ لِمَعْنًى مُجَاوِرٍ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَلاَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ لاَ مِنْ حَيْثُ الأَْصْل وَلاَ مِنْ
__________
(1) الشرح الكبير على حاشية الدسوقي 3 / 54، والفصول في الأصول 2 / 168، وأصول السرخسي 78، والذخيرة 1 / 86، والمنثور 3 / 313، وشرح الكوكب المنير 3 / 84 وما بعدها، وشرح مختصر الروضة للطوفي 2 / 442.

(41/406)


حَيْثُ الْوَصْفُ، كَالْبَيْعِ عِنْدَ شُرُوعِ النِّدَاءِ لِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ (1) .
وَنَوْعٌ يَرْجِعُ لِمَعْنًى اتَّصَل بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَصْفًا، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ لِوَصْفِهِ اللاَّزِمِ، وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ مَحَل الْخِلاَفِ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَتَفْصِيل الْمَسْأَلَةِ كُلِّهَا فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

ج - مَا تُسْتَعْمَل فِيهِ صِيغَةُ النَّهْيِ مِنْ مَعَانٍ:
8 - تُسْتَعْمَل صِيغَةُ النَّهْيِ فِي مَعَانٍ أُخْرَى غَيْرِ مَا سَبَقَ، كَالْكَرَاهَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ (3) } ، وَالدُّعَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا (4) } ، وَالإِْرْشَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ (5) } ، وَالتَّحْقِيرِ لِشَأْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (6) } ، وَالْيَأْسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ (7) } ،
__________
(1) أصول السرخسي 1 / 80، والبحر المحيط 2 / 439، وحاشية الدسوقي 3 / 54
(2) تحفة المحتاج 4 / 291، وروض الطالب 2 / 30، ومغني المحتاج 2 / 30.
(3) سورة البقرة / 267
(4) سورة آل عمران / 267
(5) سورة المائدة / 101
(6) سورة طه / 131
(7) سورة التحريم / 7

(41/406)


وَبَيَانِ الْعَاقِبَةِ (1) كَقَوْلِهِ تَعَالِي: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَل الظَّالِمُونَ (2) } .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

د - النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ:
9 - النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ هُوَ طَلَبُ الْكَفِّ عَنْ فِعْلٍ مَا لَيْسَ فِيهِ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقُومُوا بِهَا، وَيَأْثَمُونَ إِذَا تَرَكُوهَا جَمِيعًا، وَيَسْقُطُ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ، قَال تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (3) } .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (الأَْمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ الْمُنْكَرِ ف1 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) شرح الكوكب المنير 3 / 77 وما بعدها، والبحر المحيط 2 / 458.
(2) سورة إبراهيم / 42
(3) سورة آل عمران / 104

(41/407)


نَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ

انْظُرِ: الأَْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ.

(41/407)


نَوَائِبُ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّوَائِبُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ نَائِبَةٍ، وَهِيَ مِنْ فِعْل نَابَ، يُقَال: نَابَ الأَْمْرُ نَوْبًا وَنَوْبَةً: نَزَل.
وَالنَّوَائِبُ: هِيَ مَا يَنُوبُ الإِْنْسَانَ، أَيْ يَنْزِل بِهِ مِنَ الْمُهِمَّاتِ وَالْحَوَادِثِ.
وَالنَّائِبَةُ: النَّازِلَةُ.
وَالنَّائِبَةُ: الْمُصِيبَةُ، وَاحِدَةُ نَوَائِبِ الدَّهْرِ.
وَنَابَ عَنِّي فُلاَنٌ أَيْ: قَامَ مَقَامِي.
وَنَاوَبْتُهُ مُنَاوَبَةً بِمَعْنَى: سَاهَمْتُهُ مُسَاهَمَةً، وَالنَّوْبَةُ اسْمٌ مِنْهُ، وَالْجَمْعُ نُوَبٌ، مِثْل قَرْيَةٍ وَقُرًى.
وَتَنَاوَبُوا عَلَيْهِ: تَدَاوَلُوهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، يَفْعَلُهُ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً.
وَأَنَابَ زَيْدٌ إِلَى اللَّهِ إِنَابَةً: رَجَعَ (1) .
وَأَمَّا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ، فَقَدْ وَرَدَ هَذَا اللَّفْظُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالُوا: إِنَّ النَّوَائِبَ قَدْ يُرَادُ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب

(42/5)


بِهَا مَا يَكُونُ بِحَقٍّ، مِثْل مَا يُوَظِّفُهُ الإِْمَامُ عَلَى النَّاسِ لِتَجْهِيزِ الْجَيْشِ وَفِدَاءِ الأُْسَارَى إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَال مَالٌ، وَمِثْل ذَلِكَ كُرْيُ الأَْنْهَارِ الْمُشْتَرَكَةِ لِلْعَامَّةِ وَأُجْرَةُ الْحَارِسِ لِلْمَحَلَّةِ.
وَقَدْ يُرَادُ بِهَا مَا لَيْسَ بِحَقٍّ، كَالْجِبَايَاتِ الَّتِي تُفْرَضُ ظُلْمًا عَلَى النَّاسِ (1) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّوَائِبِ:
أ - حُكْمُ فَرْضِ النَّوَائِبِ:
2 - النَّوَائِبُ بِمَعْنَى: مَا يُفْرَضُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ مِنْ أَمْوَالٍ، قَدْ يَكُونُ فَرْضُهَا وَاجِبًا، وَقَدْ يَكُونُ جَائِزًا، وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
3 - يَكُونُ فَرْضُ النَّوَائِبِ وَاجِبًا إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِلأُْمَّةِ وَتَحْتَاجُ إِلَى مَالٍ، وَلاَ يُوجَدُ فِي بَيْتِ الْمَال مَا يَكْفِي لِتَحْقِيقِ الْمَصْلَحَةِ، كَأَنْ تَكُونَ هُنَاكَ حَاجَةٌ لِتَجْهِيزِ الْجَيْشِ، وَفِدَاءِ الأُْسَارَى، فَلِلإِْمَامِ أَنْ يَفْرِضَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ شَيْئًا مِنَ الْمَال.
جَاءَ فِي تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ: وَكُرِهَ الْجُعْل إِنْ
__________
(1) الهداية وشروحها 6 / 332، وحاشية ابن عابدين 4 / 282، 5 / 271، وينظر المواق 4 / 546، والدسوقي 3 / 225، والحطاب 2 / 496

(42/5)


وُجِدَ فَيْءٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَضْرِبَ الإِْمَامُ الْجُعْل عَلَى النَّاسِ لِلَّذِينِ يَخْرُجُونَ إِلَى الْجِهَادِ؛ لأَِنَّهُ يُشْبِهُ الأَْجْرَ عَلَى الطَّاعَةِ، فَحَقِيقَتُهُ حَرَامٌ، فَيُكْرَهُ مَا أَشْبَهَهُ؛ وَلأَِنَّ مَال بَيْتِ الْمَال مُعَدٌّ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا مِنْ جُمْلَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي بَيْتِ الْمَال فَيْءٌ لاَ يُكْرَهُ؛ لأَِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْجِهَادِ مَاسَّةٌ، وَفِيهِ تَحَمُّل الضَّرَرِ الأَْدْنَى لِدَفْعِ الأَْعْلَى، وَقَدْ أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُرُوعًا مِنْ صَفْوَانَ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِغَيْرِ رِضَاهُ (1) وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَغْزِي الْعَزْبَ عَنْ ذِي الْحَلِيلَةِ، وَيُعْطِي الشَّاخِصَ فَرَسَ الْقَاعِدِ، وَقِيل: يُكْرَهُ أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا، وَالصَّحِيحُ الأَْوَّل؛ لأَِنَّهُ تَعَاوُنٌ عَلَى الْبِرِّ، وَجِهَادٌ مِنَ الْبَعْضِ بِالْمَال وَمِنَ الْبَعْضِ بِالنَّفْسِ، وَأَحْوَال النَّاسِ مُخْتَلِفَةٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْجِهَادِ بِالنَّفْسِ وَالْمَال، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدِرُ بِأَحَدِهِمَا، وَكُل ذَلِكَ وَاجِبٌ (2) لِقَوْلِهِ
__________
(1) حديث: " أخذ النبي صلى الله عليه وسلم دروعا من صفوان عند الحاجة بغير، رضاه ". نصه عن صفوان بن أمية " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا صفوان هل عندك من سلاح؟ قال: عارية أم غصبا؟ قال: لا بل عارية، فأعاره ما بين الثلاثين إلى الأربعين درعا. . وأحمد في المسند (3 / 401، 6 / 465 ط الميمنية) وليس فيه أنه قال: " بغير رضاه ".
(2) تبيين الحقائق 3 / 242، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 57، و 5 / 282، والهداية وشروحها 6 / 332

(42/6)


تَعَالَى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ (1) } وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيل اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ (2) } وَقَال تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى (3) } وَقَال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا (4) .
وَيَقُول الشَّاطِبِيُّ: إِنَّا إِذَا قَرَّرْنَا إِمَامًا مُطَاعًا مُفْتَقِرًا إِلَى تَكْثِيرِ الْجُنْدِ لِسَدِّ حَاجَةِ الثُّغُورِ وَحِمَايَةِ الْمُلْكِ الْمُتَّسِعِ الأَْقْطَارِ، وَخَلاَ بَيْتُ الْمَال، وَارْتَفَعَتْ حَاجَاتُ الْجُنْدِ إِلَى مَا لاَ يَكْفِيهِمْ فَلِلإِْمَامِ إِذَا كَانَ عَدْلاً أَنْ يُوَظِّفَ عَلَى الأَْغْنِيَاءِ مَا يَرَاهُ كَافِيًا لَهُمْ فِي الْمَال، إِلَى أَنْ يَظْهَرَ مَال بَيْتِ الْمَال، ثُمَّ إِلَى الإِْمَامِ النَّظَرُ فِي تَوْظِيفِ ذَلِكَ عَلَى الْغَلاَّتِ وَالثِّمَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَمْ يُنْقَل مِثْل هَذَا عَنِ الأَْوَّلِينَ فِي الْعُصُورِ الإِْسْلاَمِيَّةِ الأُْولَى لاِتِّسَاعِ بَيْتِ الْمَال فِي زَمَانِهِمْ بِخِلاَفِ زَمَانِنَا، فَإِنَّ الْقَضِيَّةَ فِيهَا وُجُوهٌ أُخْرَى، وَوَجْهُ
__________
(1) سورة التوبة / 41
(2) سورة التوبة / 111
(3) سورة المائدة / 2
(4) حديث: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 99 ط السلفية) ومسلم (4 / 1999 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -

(42/6)


الْمَصْلَحَةِ هُنَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَل الإِْمَامُ ذَلِكَ بَطَلَتْ شَوْكَةُ الإِْمَامِ، وَصَارَتْ دِيَارُهُ عُرْضَةً لاِسْتِيلاَءِ الْكُفَّارِ، وَإِنَّمَا نِظَامُ ذَلِكَ كُلُّهُ شَوْكَةُ الإِْمَامِ، فَالَّذِينَ يُحَذِّرُونَ مِنَ الدَّوَاعِي لَوْ تَنْقَطِعُ عَنْهُمُ الشَّوْكَةُ - أَيْ لَوْ ضَعُفَ الْجَيْشُ عَنِ الدِّفَاعِ - يَسْتَحْقِرُونَ بِالإِْضَافَةِ إِلَيْهَا أَمْوَالَهُمْ كُلَّهَا، فَضْلاً عَنِ الْيَسِيرِ مِنْهَا، فَإِذَا عُورِضَ هَذَا الضَّرَرُ الْعَظِيمُ بِالضَّرَرِ اللاَّحِقِ بِهِمْ بِأَخْذِ الْبَعْضِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَلاَ يَتَسَاوَى فِي تَرْجِيحِ الثَّانِي عَنِ الأَْوَّل، وَهُوَ مَا يُعْلَمُ مِنْ مَقْصُودِ الشَّرْعِ قَبْل النَّظَرِ فِي الشَّوَاهِدِ (1) .
وَيَقُول الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى: مَا كَانَ مُسْتَحِقًّا عَلَى بَيْتِ الْمَال عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ وَالإِْرْفَاقِ دُونَ الْبَدَل، فَاسْتِحْقَاقُهُ مُعْتَبَرٌ بِالْوُجُودِ دُونَ الْعَدَمِ، فَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي بَيْتِ الْمَال وَجَبَ فِيهِ وَسَقَطَ فَرْضُهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا سَقَطَ وُجُوبُهُ عَنْ بَيْتِ الْمَال، وَكَانَ إِنْ عَمَّ ضَرَرُهُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى يَقُومَ بِهِ مِنْهُمْ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ، وَذَلِكَ كَالْجِهَادِ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَعُمُّ ضَرَرُهُ كَوُعُورِ طَرِيقٍ قَرِيبٍ، يَجِدُ النَّاسُ طَرِيقًا غَيْرَهُ بَعِيدًا، أَوِ
__________
(1) الاعتصام 2 / 104، وانظر المستصفى للغزالي 1 / 303، 304

(42/7)


انْقِطَاعِ شَرْبٍ يَجِدُ النَّاسُ شَرْبًا غَيْرَهُ، فَإِذَا سَقَطَ وَجُوبُهُ عَنْ بَيْتِ الْمَال بِالْعَدَمِ سَقَطَ وُجُوبُهُ عَنِ الْكَافَّةِ لِوُجُودِ الْبَدَل (1) .

4 - وَأَمَّا الْجَائِزُ مِنَ النَّوَائِبِ فَهُوَ مِثْل مَا يَأْخُذُهُ الْجُنْدُ عَلَى خِفَارَةِ الْحَجِيجِ لِيَدْفَعُوا عَنْهُمْ كُل يَدٍ عَادِيَةٍ، قَال الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْوَلِيدِ: هِيَ مِنْ وَجْهٍ تُشْبِهُ سَائِرَ النَّفَقَاتِ اللاَّزِمَةِ؛ لأَِنَّ أَخْذَهَا لِلْجُنْدِ جَائِزٌ، إِذْ لاَ يَلْزَمُهُمُ الْخُرُوجُ مَعَهُمْ، فَهِيَ أُجْرَةٌ يَصْرِفُونَهَا فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلاَحِ، وَهِيَ مِنْ وَجْهٍ تُشْبِهُ الظُّلْمَ؛ لأَِنَّ أَصْل تَوْظِيفِهَا خَوْفُ قَاطِعِ الطَّرِيقِ، وَنَقَل ذَلِكَ ابْنُ جُمَاعَةَ الشَّافِعِيُّ فِي مَنْسِكِهِ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ وَزَادَ عَلَيْهِ: وَقَدِ اتَّفَقَ عَلَى جَوَازِ اسْتِئْجَارِهِمْ مَنْ يَخْفِرُهُمْ مِنَ الأَْعْرَابِ وَاللُّصُوصِ مَعَ تَجْوِيزِ الْغَرَرِ (2) .
وَنَقَل الدُّسُوقِيُّ عَنِ الْمِعْيَارِ أَنَّهُ سُئِل أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْدُوسِيُّ عَمَّنْ يَحْرُسُ النَّاسَ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُخِيفَةِ، وَيَأْخُذُ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَالاً؟ فَأَجَابَ: ذَلِكَ جَائِزٌ بِشُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ لَهُ جَاهٌ قَوِيٌّ بِحَيْثُ لاَ يُتَجَاسَرُ عَلَيْهِ عَادَةً، وَأَنْ يَكُونَ مَسِيرُهُ مَعَهُمْ بِقَصْدِ تَجْوِيزِهِمْ فَقَطْ لاَ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 214، 215، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 252
(2) مواهب الجليل للحطاب 2 / 496

(42/7)


لِحَاجَةٍ لَهُ، وَأَنْ يَدْخُل مَعَهُمْ عَلَى أُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ أَوْ يَدْخُل عَلَى الْمُسَامَحَةِ، بِحَيْثُ يَرْضَى بِمَا يَدْفَعُونَهُ لَهُ (1) .
وَقَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: الْخِفَارَةُ تَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا فِي الدَّفْعِ عَنِ الْمُخْفَرِ، وَلاَ تَجُوزُ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا كَمَا يَأْخُذُهُ السُّلْطَانُ مِنَ الرَّعَايَا (2) .

5 - وَأَمَّا مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّوَائِبِ فَمِثْل مَا يُفْرَضُ عَلَى النَّاسِ ظُلْمًا دُونَ وَجْهِ حَقٍّ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ سُلْطَانٍ أَمْ غَيْرِهِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْجِبَايَاتُ الْمُوَظَّفَةُ عَلَى النَّاسِ فِي زَمَانِنَا بِبِلاَدِ فَارِسَ عَلَى الْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ وَغَيْرِهِمْ لِلسُّلْطَانِ فِي كُل يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ فَإِنَّهَا ظُلْمٌ (3) .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَأْخُذُهُ الْمَكَّاسُ وَالرَّصَدِيُّ مِنَ النَّاسِ ظُلْمًا وَهُمْ يَتَرَصَّدُونَ النَّاسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ (4) .

ب - حُكْمُ أَدَاءِ مَا فُرِضَ عَلَى النَّاسِ بِسَبَبِ النَّوَائِبِ:
6 - مَا فُرِضَ عَلَى النَّاسِ مِنْ هَذِهِ النَّوَائِبِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 224، 225
(2) كشاف القناع 2 / 392
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 282، والعناية شرح الهداية 6 / 332
(4) الحطاب 2 / 494، 495

(42/8)


إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ:
فَإِنْ كَانَ بِحَقٍّ، كَالأَْمْوَال الَّتِي يَفْرِضُهَا الإِْمَامُ عَلَى النَّاسِ لِتَجْهِيزِ الْجَيْشِ أَوْ فِدَاءِ الأُْسَارَى إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَال شَيْءٌ، فَهَذَا لاَ يَجُوزُ الاِمْتِنَاعُ عَنْ أَدَائِهِ، بَل هُوَ وَاجِبُ الأَْدَاءِ؛ لأَِنَّهُ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْغَنِيَّةِ: قَال أَبُو جَعْفَرٍ الْبَلْخِيُّ: مَا يَضْرِبُهُ السُّلْطَانُ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَصْلَحَةً لَهُمْ يَصِيرُ دَيْنًا وَاجِبَ الأَْدَاءِ وَحَقًّا مُسْتَحِقًّا كَالْخَرَاجِ، وَقَال مَشَايِخُنَا: وَكُل مَا يَضْرِبُهُ الإِْمَامُ عَلَى النَّاسِ لِمَصْلَحَةٍ لَهُمْ فَالْجَوَابُ هَكَذَا، حَتَّى أُجْرَةُ الْحُرَّاسِ لِحِفْظِ الطَّرِيقِ وَنَصْبِ الدُّرُوبِ وَأَبْوَابِ السِّكَكِ، ثُمَّ قَال: فَعَلَى هَذَا مَا يُؤْخَذُ فِي خَوَارِزْمَ مِنَ الْعَامَّةِ لإِِصْلاَحِ مُسَنَّاةِ الْجَيْحُونِ أَوِ الرَّبَضِ وَنَحْوِهِ مِنْ مَصَالِحِ الْعَامَّةِ هُوَ دَيْنٌ وَاجِبُ الأَْدَاءِ، لاَ يَجُوزُ الاِمْتِنَاعُ عَنْهُ وَلَيْسَ بِظُلْمٍ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي بَيْتِ الْمَال مَا يَكْفِي لِذَلِكَ (1) .
أَمَّا الْجَائِزُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مَا يُدْفَعُ كَأُجْرَةٍ لِمَنْ يَحْرُسُ الْمُسَافِرِينَ لِحَجٍّ أَوْ غَيْرِهِ إِذَا كَانَ مَا يَأْخُذُونَهُ هُوَ الْمُعْتَادَ، لاَ مَا كَانَ كَثِيرًا يُجْحِفُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 57

(42/8)


بِصَاحِبِهِ، فَهَذَا يَجُوزُ دَفْعُهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ (1) .
وَأَمَّا مَا يُفْرَضُ عَلَى النَّاسِ ظُلْمًا فَلاَ يَجِبُ دَفْعُهُ، وَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ أَفْضَل، يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ إِعْطَاءَ النَّوَائِبِ الَّتِي بِغَيْرِ حَقٍّ يُعْتَبَرُ إِعَانَةً لِلظَّالِمِ عَلَى ظُلْمِهِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّوَائِبِ فِي زَمَانِنَا بِطَرِيقِ الظُّلْمِ، فَمَنْ تَمَكَّنَ مِنْ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ فَذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ؛ وَلأَِنَّ مَا حَرُمَ أَخْذُهُ حَرُمَ إِعْطَاؤُهُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، فَإِذَا كَانَ الظَّالِمُ لاَ بُدَّ مِنْ أَخْذِهِ الْمَال عَلَى كُل حَالٍ فَلاَ يَكُونُ الْعَاجِزُ عَنِ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ آثِمًا بِالإِْعْطَاءِ، بِخِلاَفِ الْقَادِرِ فَإِنَّهُ بِإِعْطَائِهِ مَا يَحْرُمُ أَخْذُهُ يَكُونُ مُعِينًا عَلَى الظُّلْمِ بِاخْتِيَارِهِ (2) .
وَفِي فَتَاوَى الشَّيْخِ عُلَيْشٍ سُئِل الدَّاوُدِيُّ فَقِيل لَهُ: هَل تَرَى لِمَنْ قَدِرَ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ دَفْعِ هَذَا الَّذِي يُسَمَّى بِالْخَرَاجِ إِلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَفْعَل؟ قَال: نَعَمْ يَحِل لَهُ ذَلِكَ، قِيل لَهُ: فَإِنْ وَظَّفَهُ السُّلْطَانُ عَلَى أَهْل بَلَدٍ وَأَخَذَهُمْ بِمَالٍ مَعْلُومٍ يُؤَدُّونَهُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، هَل لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْخَلاَصِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَفْعَل، وَهُوَ إِذَا خَلَصَ أُخِذَ سَائِرُ أَهْل بَلَدِهِ بِتَمَامِ مَا جُعِل عَلَيْهِمْ؟ قَال:
__________
(1) الحطاب 2 / 496، 497، ونهاية المحتاج 3 / 241، 242
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 2 / 56

(42/9)


ذَلِكَ لَهُ (1) لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا السَّبِيل عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ (2) } .
وَلَوْ جَاءَتْ مَغْرَمَةٌ عَلَى جَمَاعَةٍ، وَقَدَرَ أَحَدُهُمْ عَلَى الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ، لَكِنَّ حِصَّتَهُ تُؤْخَذُ مِنْ بَاقِيهِمْ، فَهَل لَهُ ذَلِكَ؟ قَال الدَّاوُدِيُّ: لَهُ ذَلِكَ، وَقَال الشَّيْخَانِ: يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَقَال ابْنُ الْمُنِيرِ: يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَعَزَاهُ فِي الْمَوَّاقِ لِسُحْنُونٍ.
فَإِنْ تَحَقَّقَ أَنَّ حِصَّتَهُ لاَ تُؤْخَذُ مِنْ بَاقِيهِمْ كَانَ لَهُ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ قَوْلاً وَاحِدًا، وَعَمِل فِيمَا يَأْخُذُهُ الْمَكَّاسُ مِنَ الْمُرَكَّبِ بِتَوْزِيعِهِ عَلَى الْجَمِيعِ؛ لأَِنَّهُمْ نَجَوْا بِهِ (3) .

ج ـ - الْكَفَالَةُ بِالنَّوَائِبِ:
7 - النَّائِبَةُ بِمَعْنَى: مَا يُفْرَضُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ مِنْ أَمْوَالٍ إِنْ كَانَتْ بِحَقٍّ كَالَّذِي يَفْرِضُهُ الإِْمَامُ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، فَهَذِهِ يَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِالاِتِّفَاقِ بَيْنَهُمْ؛ لأَِنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ مُوسِرٍ بِإِيجَابِ طَاعَةِ وَلِيِّ الأَْمْرِ فِيمَا فِيهِ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَلْزَمْ بَيْتُ الْمَال، أَوْ لَزِمَهُ وَلاَ شَيْءَ فِيهِ (4) .
__________
(1) فتح العلي المالك 2 / 186 ط الحلبي
(2) سورة الشورى / 42
(3) حاشية الدسوقي 3 / 225
(4) حاشية ابن عابدين 4 / 282

(42/9)


أَمَّا مَا يُفْرَضُ ظُلْمًا عَلَى النَّاسِ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْكَفَالَةِ بِذَلِكَ، قَال بَعْضُهُمْ: لاَ يَصِحُّ الضَّمَانُ بِهَا؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ شُرِعَتْ لاِلْتِزَامِ الْمُطَالَبَةِ بِمَا عَلَى الأَْصِيل شَرْعًا، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ هَاهُنَا شَرْعًا، وَقَال بَعْضُهُمْ: يَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا، وَمِمَّنْ يَمِيل إِلَى ذَلِكَ الرَّأْيِ فَخْرُ الإِْسْلاَمِ الْبَزْدَوِيُّ، قَال: وَأَمَّا النَّوَائِبُ فَهِيَ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ مِنْ حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَنُوبُهُ، فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا؛ لأَِنَّهَا دُيُونٌ فِي حُكْمٍ تُوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا، وَالْعِبْرَةُ فِي الْكَفَالَةِ لِلْمُطَالَبَةِ لأَِنَّهَا شُرِعَتْ لاِلْتِزَامِهَا (1) .
هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى لاَ تَأْبَى هَذَا إِنْ كَانَ بِحَقٍّ.
فَقَدْ قَال الْمَالِكِيَّةُ: يَصِحُّ الضَّمَانُ بِدَيْنٍ لاَزِمٍ أَوْ آيِلٍ إِلَى اللُّزُومِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَشْتَرِكُ فِي الْمَضْمُونِ كَوْنُهُ حَقًّا ثَابِتًا حَال الْعَقْدِ، فَلاَ يَصِحُّ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ، سَوَاءٌ أَجْرَى سَبَبَ وُجُوبِهِ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّ الضَّمَانَ وَثِيقَةٌ بِالْحَقِّ فَلاَ يَسْبِقُهُ كَالشَّهَادَةِ، وَصَحَّحَ فِي الْقَدِيمِ ضَمَانَ مَا سَيَجِبُ لأَِنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَدْعُو إِلَيْهِ.
__________
(1) العناية شرح الهداية مع فتح القدير 6 / 332
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 333

(42/10)


كَمَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَضْمُونِ كَوْنُهُ مَعْلُومًا جِنْسًا وَقَدْرًا وَصِفَةً وَعَيْنًا فِي الْجَدِيدِ؛ لأَِنَّهُ إِثْبَاتُ مَالٍ فِي الذِّمَّةِ لآِدَمِيٍّ بِعَقْدٍ، فَلاَ يَصِحُّ ضَمَانُ الْمَجْهُول، وَلاَ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ.
وَصَحَّحَهُ فِي الْقَدِيمِ بِشَرْطِ أَنْ تَتَأَتَّى الإِْحَاطَةُ بِهِ، لأَِنَّ مَعْرِفَتَهُ مُتَيَسِّرَةٌ (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَصِحُّ ضَمَانُ الْمَجْهُول، وَضَمَانُ كُل حَقٍّ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ الْوَاجِبَةِ، أَوِ الَّتِي تَؤُول إِلَى الْوُجُوبِ (2) .
(ر: كَفَالَةُ ف 23) .

د - التَّعَاوُنُ عَلَى أَدَاءِ النَّوَائِبِ:
8 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مَنْ قَامَ بِتَوْزِيعِ هَذِهِ النَّوَائِبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْقِسْطِ وَالْعَدَالَةِ كَانَ مَأْجُورًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الَّذِي يَأْخُذُ الْمَال بَاطِلاً (3) .
وَجَاءَ فِي فَتْحِ الْعَلِيِّ الْمَالِكِ: سُئِل أَبُو مُحَمَّدٍ عَمَّنْ رَمَى عَلَيْهِمُ السُّلْطَانُ مَالاً،
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 200، والقليوبي 2 / 325 - 326
(2) المغني 4 / 592 و 593
(3) العناية بهامش فتح القدير 6 / 332، وحاشية ابن عابدين 2 / 282

(42/10)


فَيَتَعَاوَنُ النَّاسُ فِي جَمْعِهِ عَلَى وَجْهِ الإِْنْصَافِ، فَقَال: نَعَمْ هَذَا مِمَّا يُصْلِحُهُمْ إِذَا خَافُوا وَهَذِهِ ضَرُورَةٌ.
وَسُئِل أَبُو عِمْرَانَ قِيل لَهُ: رَجُلٌ يَكُونُ فِي قَوْمٍ تَحْتَ سُلْطَانٍ غَالِبٍ يَرْسُمُ عَلَيْهِمُ الْغُرْمَ، وَيَكُونُ فِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ مَقَامٌ لاَ يُؤَدِّي مَعَهُمْ، فَقَال: الصَّوَابُ أَنْ يُؤَدِّيَ مَعَهُمْ وَيُعِينَهُمْ إِذَا كَانُوا إِنَّمَا يُؤَدُّونَ مَخَافَةَ مَا يَنْزِل بِهِمْ، قَال: وَلاَ يَبْلُغُ بِهِمْ مَبْلَغَ الإِْثْمِ إِنْ تَرَكَ ذَلِكَ وَعُوفِيَ، وَلَكِنَّ هَذَا الَّذِي يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَل (1) .
وَسُئِل أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيُّ عَنِ الْعَامِل إِذَا رَمَى عَلَى قَوْمٍ دَنَانِيرَ، وَهُمْ أَهْل قَرْيَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَال لَهُمُ: ائْتُونِي بِكَذَا وَكَذَا دِينَارًا وَلَمْ يُوَزِّعْهَا عَلَيْهِمْ، فَهَل لَهُمْ سَعَةٌ فِي تَوْزِيعِهَا بَيْنَهُمْ، وَهُمْ لاَ يَجِدُونَ مِنْ ذَلِكَ بُدًّا؟ وَهَل يُوَزِّعُونَهَا عَلَى قَدْرِ الأَْمْوَال أَوْ عَدَدِ الرُّءُوسِ؟ وَهَل لِمَنْ أَرَادَ الْهُرُوبَ حِينَئِذٍ وَيَرْجِعُ بَعْدَ ذَلِكَ سَعَةٌ، وَيَعْلَمُ أَنَّ حَمْلَهُ يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِهِ؟ وَهَل لَهُ سُؤَال الْعَامِل فِي تَرْكِهِ أَمْ لاَ؟ وَهَل يَقُولُونَ لِلْعَامِل: اجْعَل لَنَا مِنْ قِبَلِكَ مَنْ يُوَزِّعُهَا، وَإِنْ فَعَلُوا خَافُوا أَيْضًا أَنْ يَطْلُبَهُمْ؟ وَهَل تَرَى الشِّرَاءَ لِشَيْءٍ مِنْ هَؤُلاَءِ لِشَيْءٍ يَبِيعُونَهُ مِنْ أَجْل مَا رَمَى عَلَيْهِمْ أَوْ يَتَسَلَّفُونَهُ وَهُمْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَعْوَانٌ،
__________
(1) فتح العلي المالك 2 / 186

(42/11)


إِلاَّ أَنَّهُمْ إِنْ أَبْطَئُوا بِالْمَال أَتَتْهُمُ الأَْعْوَانُ؟ فَقَال: إِنْ أَجْمَعُوا عَلَى تَوْزِيعِهِ بِرِضًى مِنْهُمْ وَلَيْسَ فِيهِمْ طِفْلٌ وَلاَ مَوْلًى عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا فَلاَ يَتَكَلَّفُ السَّائِل مِنْ هَذَا شَيْئًا، وَلْيُؤَدِّ مَا جُعِل عَلَيْهِ، وَتَوْزِيعُهُمْ إِيَّاهُ عَلَى مَا جَعَلَهُ السُّلْطَانُ عَلَيْهِمْ إِمَّا عَلَى الأَْمْوَال أَوِ الرُّءُوسِ، وَمَنْ هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ فِي سَعَةٍ، وَأَمَّا تَسَبُّبُهُ فِي سَلاَمَتِهِ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فَلاَ يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ عِنْدِي إِلاَّ أَنْ يَسْأَل أَنْ يُعَافَى مِنَ الْمَغْرَمِ قَبْل أَنْ يَنْفُذَ فِيهِ الأَْمْرُ.
وَأَمَّا بَيْعُ هَؤُلاَءِ لِعُرُوضِهِمْ: فَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَنْ أَخَذُوا بِذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ الشِّرَاءُ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ قَبْل الأَْخْذِ بِذَلِكَ فَلاَ بَأْسَ بِالشِّرَاءِ مِنْهُمْ حِينَئِذٍ، وَمَا تَسَلَّفُوهُ فِي حَال الضَّغْطَةِ فَلِمَنْ أَسْلَفَهُمُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ اخْتِلاَفٌ وَهَذَا اخْتِيَارُهُ. قَال الْبَرْزَلِيُّ: وَهَذَا وَاضِحٌ إِنْ تَعَرَّضَ السُّلْطَانُ فَجَعَلَهَا عَلَى الرُّءُوسِ أَوِ الأَْمْوَال (1) .
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَةَ: لَوْ وُضِعَتْ مَظْلَمَةٌ عَلَى أَهْل قَرْيَةٍ أَوْ دَرْبٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ مَدِينَةٍ، فَتَوَسَّطَ رَجُلٌ مُحْسِنٌ فِي الدَّفْعِ عَنْهُمْ بِغَايَةِ الإِْمْكَانِ وَقَسَّطَهَا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ مُحَابَاةٍ لِنَفْسِهِ وَلاَ لِغَيْرِهِ وَلاَ ارْتِشَاءٍ، بَل تَوَكَّل لَهُمْ فِي
__________
(1) فتح العلي المالك 2 / 185، 186

(42/11)


الدَّفْعِ عَنْهُمْ وَالإِْعْطَاءِ كَانَ مُحْسِنًا (1) .

هـ - رُجُوعُ مُؤَدِّي النَّوَائِبِ عَلَى مَنْ أَدَّى عَنْهُ: 9 - لَوْ أَدَّى أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الَّذِينَ فُرِضَتْ عَلَيْهِمُ الأَْمْوَال، فَهَل لَهُ الْحَقُّ فِي أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَدَّى أَمْ يُعْتَبَرُ مُتَبَرِّعًا؟
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مَنْ قَضَى نَائِبَةَ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الرُّجُوعِ اسْتِحْسَانًا بِمَنْزِلَةِ ثَمَنِ الْمَبِيعِ.
قَال شَمْسُ الأَْئِمَّةِ: هَذَا إِذَا أَمَرَهُ بِهِ لاَ عَنْ إِكْرَاهٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ مُكْرَهًا فِي الأَْمْرِ فَلاَ يُعْتَبَرُ أَمْرُهُ فِي الرُّجُوعِ.
وَقَالُوا: لَوْ أَخَذَتِ النَّوَائِبُ مِنَ الأَْكَّارِ فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى مَالِكِ الأَْرْضِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَلَوْ قَال لِرَجُلٍ: خَلِّصْنِي مِنْ مُصَادَرَةِ الْوَالِي، أَوْ قَال الأَْسِيرُ ذَلِكَ، فَخَلَّصَهُ رَجَعَ بِلاَ شَرْطٍ عَلَى الصَّحِيحِ (2) .
وَقَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: سُئِل سُحْنُونٌ عَنْ رُفْقَةٍ مِنْ بِلاَدِ السُّودَانِ يُؤْخَذُونَ بِمَالٍ فِي الطَّرِيقِ لاَ يَنْفَكُّونَ عَنْهُ، فَتُوَلَّى دَفْعَ
__________
(1) السياسة الشرعية لابن تيمية ص 55 ط دار الكتاب العربي
(2) العناية بهامش فتح القدير 6 / 332، وحاشية ابن عابدين 2 / 282 - 283

(42/12)


ذَلِكَ بَعْضُهُمْ مِنْ مَالِهِ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَاقِينَ بِمَا يَخُصُّهُمْ، فَهَل لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ؟ فَقَال: نَعَمْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُمْ لاَ يَجِدُونَ الْخَلاَصَ إِلاَّ بِذَلِكَ، وَهِيَ ضَرُورَةٌ لاَ بُدَّ لَهُمْ مِنْهَا، وَأَرَاهُ جَائِزًا، قَال الْبَرْزَلِيُّ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ فَدَى مَالاً مِنْ أَيْدِي اللُّصُوصِ، وَالصَّحِيحُ لُزُومُهُمْ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَتَخَلَّصُوا إِلاَّ هَكَذَا، وَذَكَرَ هُنَا أَنَّهُ عَلَى قَدْرِ أَمْوَالِهِمْ، كَالْخِفَارَةِ عَلَى الزَّرْعِ وَالْغَلاَّتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاخْتَارَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الشَّبِيبِيُّ أَنَّهُ عَلَى عَدَدِ الأَْحْمَال لاَ عَلَى قِيمَتِهَا، وَيُعَلِّل ذَلِكَ بِأَنَّهُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى كَشْفِ أَحْوَال النَّاسِ وَيُخَافُ عَلَى مَنْ حَمَلَهُ غَالٍ مِنْ إِجَاحَتِهِ، أَيْ إِجَاحَتِهِ فِي الطَّرِيقِ، قَال الْبَرْزَلِيُّ: وَقَدِ اخْتَرْتُهُ أَنَا حِينَ قَفَلْنَا مِنَ الْحَجِّ بِبِلاَدِ بَرْقَةَ ضَرَبْنَا الْخِفَارَة مَرَّةً عَلَى عَدَدِ الأَْحْمَال وَمَرَّةً عَلَى عَدَدِ الإِْبِل؛ لأَِنَّهُ كَانَ خَلَطَ عَلَيْنَا أَعْرَابٌ إِفْرِيقِيَّةٌ، فَعَمِلْنَا عَلَى عَدَدِ الإِْبِل خَاصَّةً لَمَّا خِفْتُ عَلَى مَنْ بِيَدِهِ شَيْءٌ غَالٍ فِي الرُّفْقَةِ أَنْ يُسْرَقَ لَهُ أَوْ يُجَاحَ قَصْدًا، وَإِنَّهُ لَحَسَنٌ مِنَ الْفَتْوَى إِذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ قَلِيلاً، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا جِدًّا فَيَتَرَجَّحُ فِيهِ اعْتِبَارُ الأَْمْوَال، وَالأَْوْلَى أَنْ يَصْطَلِحُوا عَلَى مَا يَحْسُنُ يُزَادُ بَعْضُ شَيْءٍ عَلَى مَنْ رَحْلُهُ غَالٍ (1) .
__________
(1) فتح العلي المالك 2 / 186، 187

(42/12)


نَوَافِل

انْظُرْ: تَطَوُّعٌ، نَفْلٌ.

نَوَاقِضُ

انْظُرْ: وُضُوءٌ.

(42/13)


نَوْعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّوْعُ فِي اللُّغَةِ: الصِّنْفُ، يُقَال: تَنَوَّعَ الشَّيْءُ أَنْوَاعًا، وَنَوَّعْتُهُ تَنْوِيعًا: جَعَلْتُهُ أَنْوَاعًا مُنَوَّعَةً (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال الْجُرْجَانِيُّ: هُوَ اسْمٌ دَالٌّ عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ بِالأَْشْخَاصِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْجِنْسُ:
2 - الْجِنْسُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الضَّرْبُ مِنْ كُل شَيْءٍ، وَالْجَمْعُ أَجْنَاسٌ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال الْجُرْجَانِيُّ: هُوَ اسْمٌ دَالٌّ عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلِفِينَ بِأَنْوَاعٍ (4) ، وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّوْعِ وَالْجِنْسِ: أَنَّ الْجِنْسَ أَعَمُّ مِنَ النَّوْعِ.
__________
(1) لسان العرب
(2) التعريفات للجرجاني
(3) المصباح المنير، ولسان العرب
(4) التعريفات للجرجاني

(42/13)


الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّوْعِ:
3 - يَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ لَفْظَ " نَوْعٍ " فِي كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، مِنْ أَهَمِّهَا بَابُ الزَّكَاةِ، أَمَّا مَقَادِيرُ زَكَاةِ كُل نَوْعٍ وَأَنْصِبَتُهَا فَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاة ف 38 وَمَا بَعْدَهَا) . وَيَظْهَرُ أَثَرُ النَّوْعِ فِي مَقَادِيرِ الزَّكَاةِ وَاتِّحَادِ النَّوْعِ وَاخْتِلاَفِهِ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

اتِّحَادُ النَّوْعِ أَوِ اخْتِلاَفُهُ فِي الْمَاشِيَةِ:
4 - نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَا يَلِي:
أ - إِنِ اتَّحَدَ النَّوْعُ الزَّكَوِيُّ بِأَنْ كَانَ إِبِلُهُ كُلُّهَا أَرْحَبِيَّةً - أَوْ مَهْرِيَّةً مَحْضَةً - أَوْ كَانَتْ بَقْرُهُ كُلُّهَا جَوَامِيسَ أَوْ عِرَابًا، أَوْ كَانَ غَنَمُهُ كُلُّهَا مَعْزًا، أَوْ ضَأْنًا: أُخِذَتِ الزَّكَاةُ مِنْ نَفْسِ النَّوْعِ اتِّفَاقًا.
وَيَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يُخْرِجَ عَنِ الضَّأْنِ مَعْزًا وَالْعَكْسُ، وَعَنِ الأَْرْحَبِيَّةِ مِنَ الإِْبِل مَهْرِيَّةً وَبِالْعَكْسِ، وَعَنِ الْجَوَامِيسِ بَقَرًا (عِرَابًا) وَبِالْعَكْسِ. وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مَعَ رِعَايَةِ الْقِيمَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْمُخْرَجِ تُسَاوِي مَا وَجَبَ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَجُوزُ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ إِلاَّ مِنْ نَفْسِ النَّوْعِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَهُوَ مُقَابِل

(42/14)


الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْل الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْل ابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدِ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ أَخْذُ الضَّأْنِ عَنِ الْمَعْزِ لأَِنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ، وَلاَ يَجُوزُ أَخْذُ الْمَعْزِ عَنِ الضَّأْنِ (1) .
ب - وَإِنِ اخْتَلَفَ النَّوْعُ كَضَأْنٍ وَمَعْزٍ فِي الْغَنَمِ، وَأَرْحَبِيَّةٍ وَمَهْرِيَّةٍ فِي الإِْبِل، عِرَابٍ وَجَوَامِيسَ فِي الْبَقَرِ فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَوْل الأَْظْهَرِ: أَنَّ الْمَالِكَ يُخْرِجُ مَا يَشَاءُ مُقَسِّطًا عَلَيْهِمَا بِالْقِيمَةِ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجِبُ ضَمُّ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ لِتَكْمِيل النِّصَابِ وَقَدْرِ الْوَاجِبِ. ثُمَّ تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْ أَغْلَبِهَا إِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِنْ تَسَاوَتْ فَمِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ يُؤْخَذُ أَعْلَى الأَْدْنَى أَوْ أَدْنَى الأَْعْلَى، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُؤْخَذُ الأَْغْبَطُ فِيهِمَا (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاة
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 19، والدسوقي 1 / 435، ومغني المحتاج 1 / 374، وكشاف القناع 1 / 193، والمغني 2 / 583، وشرح الزرقاني 2 / 119
(2) مغني المحتاج 1 / 374، 375، والمحلى شرح المنهاج 2 / 9، 10، وكشاف القناع 2 / 193
(3) تبيين الحقائق 1 / 263، ومغني المحتاج 1 / 374 - 375، والمحلى شرح المنهاج 2 / 9، 10

(42/14)


ف 61 وَمَا بَعْدَهَا) .

اتِّحَادُ النَّوْعِ أَوِ اخْتِلاَفُهُ فِي الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ:
5 - إِنِ اتَّحَدَ النَّوْعُ الْوَاحِدُ كَأَنْ يَكُونَ التَّمْرُ مَعْقِلِيًّا أَوْ بَرْنِيًّا مَحْضًا يُخْرَجُ مِنْهُ، وَإِنِ اخْتَلَفَ ضُمَّ بَعْضُ النَّوْعِ إِلَى بَعْضٍ لِتَكْمِيل النِّصَابِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاة ف 102) .

اتِّحَادُ النُّقُودِ وَاخْتِلاَفُهَا:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ ضَمِّ الذَّهَبِ إِلَى الْفِضَّةِ أَوِ الْعَكْسِ لِتَكْمِيل النِّصَابِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاة ف 76) .

بَيْعُ الرِّبَوِيَّيْنِ مُخْتَلِفَيِ النَّوْعِ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُكْمِ فِيمَا إِذَا جَمَعَ الْبَيْعُ رِبَوِيًّا مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَاخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَبِيعِ مِنْهُمَا، بِأَنِ اشْتَمَل أَحَدُهُمَا عَلَى جِنْسَيْنِ رِبَوِيَّيْنِ اشْتَمَل الآْخَرُ عَلَيْهِمَا كَمُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدٍّ مِنْ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ، وَكَذَلِكَ إِذَا اخْتَلَفَ نَوْعُ الْمَبِيعِ كَصِحَاحٍ وَمُكَسَّرَةٍ تَنْقُصُ قِيمَتُهَا عَنْ قِيمَةِ الصِّحَاحِ بِصِحَاحٍ وَمُكَسَّرَةٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (رِبَا ف 38) .

(42/15)


نَوْمٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - النَّوْمُ اسْمٌ مَصْدَرٌ لِلْفِعْل: نَامَ، يَنَامُ. وَهُوَ فِي أَصْل اللُّغَةِ: الْهُدُوءُ، وَالسُّكُونُ. يُقَال: نَامَتِ السُّوقُ: كَسَدَتْ، وَالرِّيحُ: سَكَنَتْ، وَالْبَحْرُ: هَدَأَ.
كَمَا يُقَال: اسْتَنَامَ إِلَيْهِ: سَكَنَ: أَيِ اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عُرِّفَ النَّوْمُ بِتَعْرِيفَاتٍ مِنْهَا: هُوَ فَتْرَةٌ طَبْعِيَّةٌ تَحَدُثُ لِلإِْنْسَانِ بِلاَ اخْتِيَارٍ مِنْهُ، تَمْنَعُ الْحَوَاسَّ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ عَنِ الْعَمَل مَعَ سَلاَمَتِهَا، وَتَمْنَعُ اسْتِعْمَال الْعَقْل مَعَ قِيَامِهِ، فَيَعْجِزُ الْمُكَلَّفُ عَنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ (2) .
وَمِنْهَا: النَّوْمُ حَالَةٌ طَبْعِيَّةٌ تَتَعَطَّل مَعَهَا الْقُوَى بِسَبَبِ تَرَقِّي البُخَارَاتِ إِلَى الدِّمَاغِ (3) .
__________
(1) الصحاح، ولسان العرب لابن منظور، والقاموس المحيط
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 95
(3) التعريفات للجرجاني

(42/15)


وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ: هُوَ اسْتِرْخَاءُ أَعْصَابِ الدِّمَاغِ بِسَبَبِ الأَْبْخِرَةِ الصَّاعِدَةِ مِنَ الْمَعِدَةِ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النُّعَاسُ:
2 - النُّعَاسُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ نَعَسَ نَعْسًا، وَنُعَاسًا: فَتَرَتْ حَوَاسُّهُ (2) ، وَهُوَ بِدَايَةُ النَّوْمِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ قَلِيل نَوْمٍ لاَ يَشْتَبِهُ عَلَى صَاحِبِهِ أَكْثَرُ مَا يُقَال عِنْدَهُ، أَوْ هُوَ رِيحٌ لَطِيفَةٌ تَأْتِي مِنْ قِبَل الدِّمَاغِ فَتُغَطِّي الْعَيْنَ وَلاَ تَصِل إِلَى الْقَلْبِ، فَإِنْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ كَانَ نَوْمًا (3) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النُّعَاسِ وَالنَّوْمِ: أَنَّ النُّعَاسَ مَبْدَأُ النَّوْمِ.

ب - السِّنَةُ:
3 - السِّنَةُ لُغَةً: هِيَ مِنْ وَسِنَ يَوْسَنُ وَسَنًا وَسِنَةً: أَخَذَ فِي النُّعَاسِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: فُتُورٌ يَعْتَرِي الإِْنْسَانَ وَلاَ يَفْقِدُ مَعَهُ عَقْلَهُ (4) .
__________
(1) الشرقاوي على التحرير 1 / 70، والإقناع للخطيب 1 / 72
(2) المعجم الوسيط
(3) حاشية الشرقاوي 1 / 71، وحاشية ابن عابدين 1 / 97
(4) المعجم الوسيط، والقرطبي 3 / 272

(42/16)


وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ: أَنَّ السِّنَةَ مَبْدَأُ النَّوْمِ.

ج - الإِْغْمَاءُ:
4 - الإِْغْمَاءُ: هُوَ فَقْدُ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ. كَالْغَشْيِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: آفَةٌ فِي الْقَلْبِ أَوِ الدِّمَاغِ تُعَطِّل الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ وَالْمُحَرِّكَةَ عَنْ أَفْعَالِهَا مَعَ بَقَاءِ الْعَقْل مَغْلُوبًا (2) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّوْمِ وَالإِْغْمَاءِ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُعَطِّل الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - النَّوْمُ مِنَ الأُْمُورِ الْفِطْرِيَّةِ الضَّرُورِيَّةِ لِلأَْحْيَاءِ كَالأَْكْل وَالشُّرْبِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ، فَلَمْ يَرِدْ أَمْرٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ نَوْمٌ، اكْتِفَاءً بِدَوَاعِي الْفِطْرَةِ، فَهُوَ لِلإِْبَاحَةِ إِذًا، وَالإِْبَاحَةُ وَإِنْ كَانَتْ شَرْعِيَّةً عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فَلَيْسَتْ بِتَكْلِيفٍ عِنْد بَعْضِهِمْ؛ لأَِنَّ التَّكْلِيفَ إِنَّمَا يَكُونُ بِطَلَبِ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ.
وَلاَ طَلَبَ فِي الْمُبَاحِ وَلاَ كُلْفَةَ لِكَوْنِهِ مُخَيَّرًا
__________
(1) المعجم الوسيط
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 97

(42/16)


بَيْنَ الْفِعْل وَالتَّرْكِ (1) .
وَقَدْ تَعْتَرِي النَّوْمَ الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ لأَِسْبَابٍ خَارِجِيَّةٍ تَتَّصِل بِهِ: فَيَكُونُ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا، أَوْ حَرَامًا، أَوْ مَكْرُوهًا.

النَّوْمُ الْوَاجِبُ:
6 - النَّوْمُ الْوَاجِبُ: هُوَ مَا يَسْتَطِيعُ الْمَرْءُ بِهِ أَدَاءَ وَاجِبٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ، فَمَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.

النَّوْمُ الْمُسْتَحَبُّ:
7 - النَّوْمُ الْمُسْتَحَبُّ: هُوَ نَوْمُ مَنْ نَعِسَ فِي صَلاَتِهِ أَوْ قِرَاءَتِهِ لِلْقُرْآنِ وَنَحْوِهِمَا، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنَامَ حَتَّى يَدْرِيَ مَا يَقُول أَوْ يَفْعَل. وَمِنَ النَّوْمِ الْمُسْتَحَبِّ الْقَيْلُولَةُ فِي وَسَطِ النَّهَارِ (2) .

النَّوْمُ الْحَرَامُ:
8 - النَّوْمُ الْحَرَامُ هُوَ النَّوْمُ بَعْدَ دُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَغْرِقُ فِي النَّوْمِ الْوَقْتَ
__________
(1) البحر المحيط 1 / 278، والمستصفى 1 / 74، والإحكام في أصول الأحكام 1 / 126، والشرح الصغير 1 / 233
(2) نهاية المحتاج 2 / 128، وحاشية الشرواني على تحفة المحتاج 2 / 245، 246، وشرح الزرقاني 1 / 148، والشرح الصغير 1 / 233، وكشاف القناع 1 / 79

(42/17)


كُلَّهُ، أَوْ يَنَامُ مَعَ ضِيقِ الْوَقْتِ (1) .

النَّوْمُ الْمَكْرُوهُ:
9 - يَكُونُ النَّوْمُ مَكْرُوهًا فِي مُوَاطِنَ مِنْهَا: النَّوْمُ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ، وَالنَّوْمُ أَمَامَ الْمُصَلِّينَ، وَالصَّفِّ الأَْوَّل، أَوِ الْمِحْرَابِ، وَالنَّوْمُ عَلَى سَطْحٍ لَيْسَ لَهُ جِدَارٌ يَمْنَعُهُ مِنَ السُّقُوطِ، لِنَهْيهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَنْ ذَلِكَ (2) وَلِخَشْيَةِ أَنْ يَتَدَحْرَجَ فَيَسْقُطَ عَنْهُ.
وَمِنَ النَّوْمِ الْمَكْرُوهِ: نَوْمُ الرَّجُل مُنْبَطِحًا عَلَى وَجْهِهِ فَإِنَّهَا ضِجْعَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَالنَّوْمُ وَفِي يَدِهِ رِيحُ لَحْمٍ وَنَحْوِهِ، وَالنَّوْمُ بِعَرَفَاتٍ وَقْتَ الْوُقُوفِ لأَِنَّهُ وَقْتُ تَضَرُّعٍ، وَالنَّوْمُ بَعْدَ صَلاَةِ الْفَجْرِ لأَِنَّهُ وَقْتُ قِسْمَةِ الأَْرْزَاقِ، وَنَوْمُهُ تَحْتَ السَّمَاءِ مُتَجَرِّدًا مِنْ ثِيَابِهِ مَعَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَنَوْمُهُ بَيْنَ مُسْتَيْقِظِينَ لأَِنَّهُ خِلاَفُ الْمُرُوءَةِ، وَنَوْمُهُ وَحْدَهُ فِي بَيْتٍ خَالٍ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: نُهِيَ عَنِ الْوَحْدَةِ: أَنْ يَبِيتَ الرَّجُل وَحْدَهُ أَوْ يُسَافِرَ وَحْدَهُ (3) ، وَمِنْهُ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 233
(2) حديث: " نهيه صلى الله عليه وسلم أن ينام الرجل على سطح ليس بمحجور عليه ". أخرجه الترمذي (5 / 141 - ط الحلبي) ثم قال: هذا حديث غريب. ثم ذكر أن في إسناده راويا يضعف
(3) حديث: ابن عمر: " نهي عن الوحدة: أن يبيت الرجل لوحده. . . ". أخرجه أحمد (2 / 91 - ط الميمنية) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8 / 104 ط القدسي) : رجاله رجال الصحيح

(42/17)


النَّوْمُ قَبْل صَلاَةِ الْعِشَاءِ بَعْدَ دُخُول وَقْتِهَا إِنْ ظَنَّ تَيَقُّظَهُ فِي الْوَقْتِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: يُكْرَهُ النَّوْمُ قَبْل صَلاَةِ الْعِشَاءِ بَعْدَ دُخُول وَقْتِهَا " لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْرَهُ ذَلِكَ (1) "؛ لِخَوْفِ اسْتِمْرَارِ النَّوْمِ حَتَّى خُرُوجِ الْوَقْتِ. وَمَحِل ذَلِكَ إِذَا ظَنَّ تَيَقُّظَهُ فِي الْوَقْتِ وَإِلاَّ حَرُمَ النُّوْمُ. أَمَّا النَّوْمُ قَبْل دُخُول الْوَقْتِ فَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُخَاطِبْ بِهَا.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ النَّوْمُ وَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ (2) .

مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّوْمِ مِنْ أَحْكَامٍ: -
يَتَعَلَّقُ بِالنَّوْمِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

أَوَّلاً: مَا يُسَنُّ عِنْدَ إِرَادَةِ النَّوْمِ:
10 - يُسَنُّ عِنْدَ إِرَادَةِ النَّوْمِ أُمُورٌ مِنْهَا:
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل صلاة العشاء ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 73 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 447 - ط الحلبي) من حديث أبي برزة الأسلمي
(2) شرح الزرقاني 1 / 148، والشرح الصغير 1 / 233، وكشاف القناع 1 / 79، والدسوقي 1 / 184، ومغني المحتاج 1 / 125

(42/18)


تَخْمِيرُ الإِْنَاءِ، وَلَوْ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ عُودًا. وَإِيكَاءُ السِّقَاءِ، وَإِغْلاَقُ الْبَابِ، وَإِطْفَاءُ الْمِصْبَاحِ، وَإِطْفَاءُ الْجَمْرِ مَعَ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ فِيهِنَّ، لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: " قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْل - أَوْ أَمْسَيْتُمْ - فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْل فَحُلُّوهُمْ، فَأَغْلِقُوا الأَْبْوَابَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا، وَأَوْكُوا قِرَبَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلَوْ أَنْ تَعْرِضُوا عَلَيْهَا شَيْئًا، وَأَطْفِئُوا مَصَابِيحَكُمْ (1) .
وَيُسَنُّ النَّظَرُ فِي وَصِيَّتِهِ، وَنَفْضُ فِرَاشِهِ، وَوَضْعُ يَدِهِ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ الأَْيْمَنِ، وَأَنْ يَجْعَل وَجْهَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ (2) لِحَدِيثِ حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْقُدَ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ ثُمَّ يَقُول: اللَّهُمَّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ (3) .
__________
(1) حديث: " إذا كان جنح الليل. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 88 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1595 - ط الحلبي)
(2) الأذكار للنووي ص 169
(3) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يرقد. . . " أخرجه أبو داود (5 / 298 - ط حمص) ، وحسنه ابن حجر كما في الفتوحات لابن علان (3 / 148 - ط المنيرية)

(42/18)


وَيُسَنُّ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّوْبَةُ عَنْ كُل مَعْصِيَةٍ عَلَى الْفَوْرِ مَطْلُوبَةٌ، وَلَكِنَّهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ آكَدُ، وَهُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهَا. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَْنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِل الأُْخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (1) } . وَأَنْ يَقُول الأَْوْرَادَ الْمَأْثُورَةَ (2) الَّتِي مِنْهَا: بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ. وَأَنْ يَتَوَضَّأَ عِنْدَ إِرَادَةِ النَّوْمِ، سَوَاءٌ كَانَ جُنُبًا أَمْ غَيْرَ جُنُبٍ. (ر: جَنَابَة ف 21، وَاسْتِصْبَاح ف 6) .

ثَانِيًا: عِنْدَ الاِسْتِيقَاظِ مِنَ النَّوْمِ:
11 - يُسْتَحَبُّ بَعْدَ الاِسْتِيقَاظِ مِنَ النَّوْمِ أُمُورٌ مِنْهَا:
تِلاَوَةُ الأَْذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ (3) مِثْل: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي، وَرَدَّ عَلَيَّ رُوحِي، وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ (4) ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ
__________
(1) سورة الزمر / 42
(2) كشاف القناع 1 / 78، الأذكار للنووي ص 82
(3) الأذكار للنووي ص 20 - 21
(4) حديث: ورد ذلك من حديث أبي هريرة أخرجه الترمذي (5 / 473 - ط الحلبي)

(42/19)


النَّوْمَ وَالْيَقَظَةَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَعَثَنِي سَالِمًا سَوِيًّا، أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) .
وَمِنْهَا غَسْل الْيَدَيْنِ ثَلاَثًا قَبْل إِدْخَالِهِمَا فِي الإِْنَاءِ (2) لِحَدِيثِ: إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلاَ يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإِْنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاَثًا، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ غَسْل الْيَدَيْنِ ثَلاَثًا وَاجِبٌ تَعَبُّدًا إِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِ لَيْلٍ نَاقِضٍ لِلْوُضُوءِ (4) .

ثَالِثًا: السِّوَاكُ قَبْل النَّوْمِ وَبَعْدَهُ:
12 - يُسْتَحَبُّ الاِسْتِيَاكُ بَعْدَ النَّوْمِ وَقَبْلَهُ (5)
__________
(1) ورد ذلك من حديث أبي هريرة أخرجه ابن السني (عمل اليوم والليلة ص 10 - ط دار البيان - دمشق) ، وقال ابن حجر في نتائج الأفكار (1 / 115 - ط مكتبة المثنى - بغداد) : حديث غريب
(2) مغني المحتاج 1 / 57، وشرح الزرقاني 1 / 67، ورد المحتار 1 / 75
(3) حديث: " إذا استيقظ أحدكم من نومه. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 263 - ط السلفية) ومسلم (1 / 233 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، واللفظ لمسلم
(4) كشاف القناع 1 / 92
(5) المحلى شرح المنهاج 1 / 51، مغني المحتاج 1 / 56، وكشاف القناع 1 / 7372.

(42/19)


اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْل يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ (1) ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لاَ يَرْقُدُ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلاَّ تَسَوَّكَ قَبْل أَنْ يَتَوَضَّأَ (2) . (ر: اسْتِيَاك ف 10) .

رَابِعًا: وُجُودُ الْمَنِيِّ عِنْدَ الاِسْتِيقَاظِ مِنَ النَّوْمِ:
13 - لَوِ اسْتَيْقَظَ النَّائِمُ وَوَجَدَ الْمَنِيَّ عَلَى فِرَاشِهِ أَوْ ثَوْبِهِ وَلَمْ يَذْكُرِ احْتِلاَمًا، أَوْ إِذَا رَأَى فِي فِرَاشٍ يَنَامُ فِيهِ هُوَ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يُمْكِنُ أَنْ يُمْنِيَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْغُسْل.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (احْتِلاَم ف 6، 7) .

خَامِسًا: النَّوْمُ فِي الْمَسْجِدِ:
14 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ: فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ بِقُيُودٍ.
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام في الليل يشوص فاه بالسواك " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 356 - ط السلفية) ومسلم (1 / 220 - ط الحلبي) من حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرقد في ليل أو نهار. . . " أخرجه أبو داود (1 / 47 - ط حمص) ، وذكر ابن حجر في التلخيص (1 / 234 - ط العلمية) تضعيف أحد رواته.

(42/20)


وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مَسْجِد ف 21) .

سَادِسًا: النَّوْمُ مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ:
15 - النَّوْمُ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ فِي الْجُمْلَةِ فِي قَوْل عَامَّةِ أَهْل الْعِلْمِ إِلاَّ مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَبِي مِجْلَزٍ وَحُمَيْدٍ الأَْعْرَجِ: أَنَّهُ لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ مِرَارًا مُضْطَجِعًا يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ ثُمَّ يُصَلِّي وَلاَ يُعِيدُ الصَّلاَةَ.
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ: الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ (1) ، وَخَبَرِ: إِنَّ الْعَيْنَيْنِ وِكَاءُ السَّهِ، فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ (2) .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفَاصِيل (3) .
(ر: وُضُوء) .
__________
(1) حديث: " العين وكاء السه، فمن نام فليتوضأ ". أخرجه ابن ماجه (1 / 161 - ط الحلبي) من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، ونقل ابن أبي حاتم في علل الحديث (1 / 47 - ط السلفية) عن أبيه أنه قال عن الحديث: ليس بالقوي، كما نقل عن أبي زرعة أنه أعل إسناده بالانقطاع.
(2) حديث: " إن العينين وكاء السه، فإذا نامت العينان. . . " أخرجه أحمد (4 / 97 - ط الميمنية) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 247 - ط القدسي) : فيه أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف لاختلاطه.
(3) المغني 1 / 173.

(42/20)


أَثَرُ النَّوْمِ فِي تَصَرُّفَاتِ الإِْنْسَانِ الْقَوْلِيَّةِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ:
16 - النَّوْمُ عَارِضٌ طَبْعِيٌّ يَطْرَأُ عَلَى الإِْنْسَانِ بِالضَّرُورَةِ فَيُعَطِّل الْعَقْل عَنِ الإِْدْرَاكِ، وَيَعْجِزُ عَنِ الْفَهْمِ فِي حَال النَّوْمِ. فَإِنِ اسْتَيْقَظَ مِنْهُ أَمْكَنَهُ الْفَهْمُ فَيَقْضِي مَا فَاتَهُ فِي أَثْنَاءِ النَّوْمِ مِنَ الصَّلَوَاتِ.
وَالْمُبَادَرَةُ بِالْقَضَاءِ وَاجِبَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سَوَاءٌ تَعَدَّى أَوْ لَمْ يَتَعَدَّ بِالنَّوْمِ، وَنَدْبًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ لَمْ يَتَعَدَّ بِهِ، وَوُجُوبًا إِنْ تَعَدَّى بِهِ (1) .
(ر: قَضَاءُ الْفَوَائِتِ ف 19) .
أَمَّا أَثْنَاءَ النَّوْمِ فَجَمِيعُ عِبَارَاتِ النَّائِمِ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّة لَغْوٌ، فَلاَ يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ صَلاَةٍ، وَلاَ نُطْقُهُ بِنِيَّةِ الصَّوْمِ، وَلاَ يَصِحُّ نَذْرُهُ وَلاَ تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ، وَلاَ يَقَعُ طَلاَقُهُ، وَلاَ يُقْبَل إِقْرَارُهُ بِحَقٍّ لِلَّهِ أَوْ لآِدَمِيٍّ، وَلاَ يَصِحُّ إِيجَابُهُ بِعَقْدٍ وَلاَ قَبُولُهُ.
وَكَذَا كُل تَصَرُّفٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ وَالتَّكْلِيفِ لأَِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي التَّكْلِيفِ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمُكَلَّفِ: فَهْمُهُ لِمَا كُلِّفَ بِهِ، أَيْ تَصَوُّرُ ذَلِكَ الأَْمْرِ وَالْفَهْمُ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ جَل جَلاَلُهُ بِقَدْرٍ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 364 - 365، وتحفة المحتاج 1 / 139، ومغني المحتاج 1 / 127.

(42/21)


يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الاِمْتِثَال؛ لأَِنَّ التَّكْلِيفَ اسْتِدْعَاءُ حُصُول الْفِعْل عَلَى قَصْدِ الاِمْتِثَال، وَهُوَ مُحَالٌ عَادَةً وَشَرْعًا مِمَّنْ لاَ شُعُورَ لَهُ بِالأَْمْرِ كَالنَّائِمِ وَنَحْوِهِ، فَلاَ يُنَاسِبُ تَوْجِيهَ الْخِطَابِ إِلَيْهِ.
وَلِحَدِيثِ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ (1) . وَمَعْنَى رَفْعِ الْقَلَمِ عَنِ الثَّلاَثَةِ: عَدَمُ اعْتِبَارِ عِبَارَاتِهِمْ.
(ر: تَكْلِيف ف 4) .
17 - وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ ذَلِكَ: مَا لاَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَإِنْ أُحْضِرَ الْمَوْقِفَ وَهُوَ نَائِمٌ فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ وَلَوْ لَحْظَةً حَتَّى غَادَرَهَا يُجْزِئُ وُقُوفُهُ؛ لأَِنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ، وَهُوَ أَهْلٌ لِلْعِبَادَةِ عُمُومًا فَيَصِحُّ الْوُقُوفُ مَعَ النَّوْمِ (2) .
18 - وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ الْحَنَفِيُّ مَسَائِل قَال: إِنَّ النَّائِمَ فِيهَا كَالْمُسْتَيْقِظِ، وَعَزَاهَا إِلَى
__________
(1) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . " أخرجه أبو داود (2 / 558 - ط حمص) والحاكم (2 / 59 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عائشة - رضي الله عنه -، واللفظ للحاكم وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 188، والشرح الصغير 2 / 53، وجواهر الإكليل 1 / 176، ومغني المحتاج 1 / 498، وكشاف القناع 2 / 495.

(42/21)


فَتَاوَى الْوَلْوَالَجِيِّ أَوْصَلَهَا إِلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مَسْأَلَةً:

الأُْولَى: إِذَا نَامَ الصَّائِمُ عَلَى قَفَاهُ وَفُوهُ مَفْتُوحٌ، فَقَطَرَ قَطْرَةٌ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ فِي فِيهِ: فَسَدَ صَوْمُهُ، وَكَذَا إِنْ قَطَرَ غَيْرُهُ قَطْرَةً مِنَ الْمَاءِ فِي فِيهِ وَبَلَغَ ذَلِكَ جَوْفَهُ.

الثَّانِيَةُ: إِذَا جَامَعَ الْمَرْأَةَ زَوْجُهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ فَسَدَ صَوْمُهَا.

الثَّالِثَةُ: لَوْ كَانَتْ مُحْرِمَةً فَجَامَعَهَا زَوْجُهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ فَعَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ.

الرَّابِعَةُ: الْمُحْرِمُ إِذَا نَامَ فَجَاءَ رَجُلٌ فَحَلَقَ رَأَسَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ.

الْخَامِسَةُ: الْمُحْرِمُ إِذَا نَامَ وَانْقَلَبَ عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ.

السَّادِسَةُ: إِذَا نَامَ الْمُحْرِمُ عَلَى بَعِيرٍ فَدَخَل فِي عَرَفَاتٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ.

السَّابِعَةُ: الصَّيْدُ الْمَرْمِيُّ إِلَيْهِ بِسَهْمٍ إِذَا وَقَعَ عِنْدَ نَائِمٍ فَمَاتَ مِنْ تِلْكَ الرَّمْيَةِ يَكُونُ حَرَامًا، كَمَا إِذَا وَقَعَ عِنْدَ يَقْظَانٍ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَكَاتِهِ.

الثَّامِنَةُ: إِذَا انْقَلَبَ نَائِمٌ عَلَى مَتَاعٍ وَكَسَرَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ.

التَّاسِعَةُ: إِذَا نَامَ الأَْبُ تَحْتَ جِدَارٍ فَوَقَعَ

(42/22)


الاِبْنُ عَلَيْهِ مِنْ سَطْحٍ وَهُوَ نَائِمٌ فَمَاتَ الاِبْنُ يُحْرَمُ الأَْبُ مِنَ الْمِيرَاثِ. قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: عَلَى قَوْل الْبَعْضِ، وَهُوَ صَحِيحٌ.

الْعَاشِرَةُ: مَنْ رَفَعَ النَّائِمَ وَوَضَعَهُ تَحْتَ جِدَارٍ، فَسَقَطَ عَلَيْهِ الْجِدَارُ وَمَاتَ، لاَ يَلْزَمُ ضَمَانٌ عَلَى الْوَاضِعِ تَحْتَ الْجِدَارِ.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: رَجُلٌ خَلاَ بِامْرَأَةٍ وَثَمَّةَ أَجْنَبِيٌّ نَائِمٌ لاَ تَصِحُّ الْخَلْوَةُ.

الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: رَجُلٌ نَامَ فِي بَيْتٍ فَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ وَهُوَ نَائِمٌ وَمَكَثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً صَحَّتِ الْخَلْوَةُ.

الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: لَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ نَائِمَةً فِي بَيْتٍ وَدَخَل عَلَيْهَا زَوْجُهَا وَمَكَثَ عِنْدَهَا سَاعَةً صَحَّتِ الْخَلْوَةُ.

الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: امْرَأَةٌ نَامَتْ فَجَاءَ رَضِيعٌ فَارْتَضَعَ مِنْ ثَدْيِهَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ.
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: الْمُتَيَمِّمُ إِذَا مَرَّتْ دَابَّتُهُ عَلَى مَاءٍ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ وَهُوَ عَلَيْهَا نَائِمٌ انْتَقَضَ تَيَمُّمُهُ.

السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الْمُصَلِّي إِذَا نَامَ وَتَكَلَّمَ فِي حَالَةِ النَّوْمِ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ.

السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الْمُصَلِّي إِذَا نَامَ وَقَرَأَ فِي

(42/22)


قِيَامِهِ تُعْتَبَرُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ فِي رِوَايَةٍ (عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) .

الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: إِذَا تَلاَ آيَةَ سَجْدَةٍ فِي نَوْمِهِ فَسَمِعَهَا رَجُلٌ تَلْزَمُهُ السَّجْدَةُ كَمَا لَوْ سَمِعَ مِنَ الْيَقْظَانِ.

التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: إِذَا اسْتَيْقَظَ هَذَا النَّائِمُ فَأَخْبَرَهُ رَجُلٌ أَنَّهُ قَرَأَ آيَةَ سَجْدَةٍ فِي نَوْمِهِ، كَانَ شَمْسُ الأَْئِمَّةِ يُفْتِي بِأَنَّهُ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ سَجْدَةُ التِّلاَوَةِ، وَتَجِبُ فِي أَقْوَالٍ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَرَأَ رَجُلٌ عِنْدَ نَائِمٍ فَانْتَبَهَ فَأَخْبَرَهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا: أَيْ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ سَجْدَةُ التِّلاَوَةِ.

الْعِشْرُونَ: إِذَا حَلَفَ رَجُلٌ أَنْ لاَ يُكَلِّمَ فُلاَنًا فَجَاءَ الْحَالِفُ إِلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ، وَقَال لَهُ: قُمْ، فَلَمْ يَسْتَيْقِظِ النَّائِمُ. قَال بَعْضُهُمْ: لاَ يَحْنَثُ، وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ يَحْنَثُ. الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلاَقًا رَجْعِيًّا، فَجَاءَ الرَّجُل وَمَسَّهَا بِشَهْوَةٍ وَهِيَ نَائِمَةٌ صَارَ مُرَاجِعًا.

الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: لَوْ كَانَ الزَّوْجُ نَائِمًا فَجَاءَتِ الْمَرْأَةُ وَقَبَّلَتْهُ بِشَهْوَةٍ، يَصِيرُ مُرَاجِعًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -.

الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: الرَّجُل إِذَا نَامَ وَجَاءَتِ امْرَأَةٌ وَأَدْخَلَتْ فَرْجَهَا فِي فَرْجِهِ وَعَلِمَ الرَّجُل

(42/23)


بِفِعْلِهَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ.

الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: إِذَا جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى نَائِمٍ وَقَبَّلَتْهُ بِشَهْوَةٍ وَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِشَهْوَةٍ تَثْبُتُ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ.

الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: الْمُصَلِّي إِذَا نَامَ فِي صَلاَتِهِ وَاحْتَلَمَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْل وَلاَ يُمْكِنُهُ الْبِنَاءُ.
وَكَذَلِكَ: إِذَا بَقِيَ نَائِمًا يَوْمًا وَلَيْلَةً، أَوْ يَوْمَيْنِ وَلَيْلَتَيْنِ صَارَتِ الصَّلاَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ (1) .
19 - وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ مَسَائِل يَنْفَرِدُ بِهَا النَّوْمُ عَنِ الْجُنُونِ وَالإِْغْمَاءِ وَهِيَ:

الأُْولَى: يَجِبُ عَلَى النَّائِمِ قَضَاءُ الصَّلاَةِ إِذَا اسْتَغْرَقَ النَّوْمُ وَقْتَهَا.

الثَّانِيَةُ: يَصِحُّ عَلَى الْمَذْهَبِ صَوْمُ النَّائِمِ الَّذِي اسْتَغْرَقَ نَوْمُهُ النَّهَارَ كُلَّهُ إِذَا كَانَ قَدْ نَوَى مِنَ اللَّيْل. وَفِي وَجْهٍ أَنَّهُ يَضُرُّ كَالإِْغْمَاءِ.

الثَّالِثَةُ: إِذَا نَامَ الْمُعْتَكِفُ حُسِبَ زَمَنُ النَّوْمِ مِنَ الاِعْتِكَافِ قَطْعًا لأَِنَّهُ كَالْمُسْتَيْقِظِ (2) .

أَثَرُ النَّوْمِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ:
20 - اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ جِنَايَةَ النَّائِمِ عَلَى نَفْسٍ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 319 - 321.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 212 - 214.

(42/23)


أَوْ عُضْوٍ خَطَأً أَوْ جَارِيًا مَجْرَى الْخَطَأِ، فَتُجْرَى فِي فِعْلِهِ فِي كِلاَ التَّعْبِيرَيْنِ أَحْكَامُ الْخَطَأِ، فَإِذَا انْقَلَبَ نَائِمٌ عَلَى إِنْسَانٍ بِجَنْبِهِ فَقَتْلَهُ فَهُوَ خَطَأٌ أَوْ كَالْخَطَأِ فِي الْحُكْمِ؛ لأَِنَّ النَّائِمَ لاَ قَصْدَ لَهُ، فَلاَ يُوصَفُ فِعْلُهُ بِعَمْدٍ وَلاَ خَطَأٍ عِنْد بَعْضِهِمْ، إِلاَّ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْخَطَأِ لِحُصُول الْمَوْتِ بِفِعْلِهِ كَالْخَاطِئِ، فَتَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَةُ الْخَطَأِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُخْطِئِ وَلَكِنَّهُ دُونَ الْخَطَأِ حَقِيقَةً؛ لأَِنَّ النَّائِمَ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْقَصْدِ أَصْلاً.
وَإِنَّمَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى النَّائِمِ لِتَرْكِ التَّحَرُّزِ عِنْدَ النَّوْمِ فِي مَوْضِعٍ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ قَاتِلاً. وَالْكَفَّارَةُ فِي الْقَتْل الْخَطَأِ إِنَّمَا وَجَبَتْ لِتَرْكِ التَّحَرُّزِ أَيْضًا. وَحِرْمَانُ الْمِيرَاثِ: لِمُبَاشَرَةِ الْقَتْل وَتَوَهُّمِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَائِمًا وَإِنَّمَا كَانَ مُتَنَاوِمًا لِقَصْدِ اسْتِعْجَال الإِْرْثِ (1) .

أَثَرُ النَّوْمِ فِي إِتْلاَفِ الْمَال:
21 - النَّائِمُ فِي إِتْلاَفِ مَال الْغَيْرِ كَالْمُسْتَيْقِظِ تَمَامًا فَيَضْمَنُ. فَإِنَّ ضَمَانَ الْمَال لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّكْلِيفُ، بَل يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْجَانِي مِنْ أَهْل
__________
(1) الاختيار 5 / 26، حاشية ابن عابدين 5 / 342، وروض الطالب 4 / 12، والمغني 7 / 637، ومواهب الجليل 6 / 232.

(42/24)


الْوُجُوبِ، فَالْمُكَلَّفُ وَغَيْرُ الْمُكَلَّفِ فِيهَا سَوَاءٌ.
(ر: ضَمَان ف 16) .

(42/24)


نِيَابَة
التَّعْرِيف:
1 - النِّيَابَةُ فِي اللُّغَةِ: جَعْل الإِْنْسَانِ غَيْرَهُ نَائِبًا عَنْهُ فِي الأَْمْرِ.
وَيُقَال: نَابَ عَنْهُ فِي هَذَا الأَْمْرِ نِيَابَةً: إِذَا قَامَ مَقَامَهُ.
وَالنَّائِبُ: مَنْ قَامَ مَقَامَ غَيْرِهِ فِي أَمْرٍ أَوْ عَمَلٍ (1) .
وَالنِّيَابَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: قِيَامُ الإِْنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ بِفِعْل أَمْرٍ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْوِلاَيَةُ:
2 - الْوِلاَيَةُ فِي اللُّغَةِ، بِالْفَتْحِ وَبِالْكَسْرِ: الْقُدْرَةُ، وَالنُّصْرَةُ، وَالتَّدْبِيرُ، يُقَال: هُمْ عَلَى وِلاَيَةٍ أَيْ مُجْتَمِعُونَ فِي النُّصْرَةِ.
__________
(1) لسان العرب، المعجم الوسيط، تاج العروس، معجم متن اللغة.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 15، وقواعد الفقه للبركتي ص 519

(42/25)


وَالْوَلِيُّ هُوَ: الْمُحِبُّ، وَالصَّدِيقُ، وَالنَّصِيرُ أَوِ النَّاصِرُ.
وَقِيل: الْمُتَوَلِّي لأُِمُورِ الْعَالَمِ وَالْخَلاَئِقِ الْقَائِمُ بِهَا.
وَوَلِيُّ الْيَتِيمِ: الَّذِي يَلِي أَمْرَهُ وَيَقُومُ بِكِفَايَتِهِ.
وَوَلِيُّ الْمَرْأَةِ: الَّذِي يَلِي عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَيْهَا، وَلاَ يَدَعُهَا تَسْتَبِدُّ بِعَقْدِ النِّكَاحِ دُونَهُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْوِلاَيَةُ: تَنْفِيذُ الْقَوْل عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ الْغَيْرُ أَمْ لاَ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النِّيَابَةِ وَالْوِلاَيَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وِلاَيَةُ أُمُورِ الْغَيْرِ فِي أَمْرٍ مِنَ الأُْمُورِ.

ب - الإِْيصَاءُ:
3 - الإِْيصَاءُ فِي اللُّغَةِ - مَصْدَرُ أَوْصَى - يُقَال: أَوْصَى فُلاَنٌ بِكَذَا يُوصِي إِيصَاءً، وَالاِسْمُ الْوِصَايَةُ (بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا) وَهُوَ: أَنْ يَعْهَدَ إِلَى غَيْرِهِ فِي الْقِيَامِ بِأَمْرٍ مِنَ الأُْمُورِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْقِيَامُ بِذَلِكَ الأَْمْرِ فِي حَال حَيَاةِ الطَّالِبِ أَمْ كَانَ بَعْدَ وَفَاتِهِ (3) .
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط.
(2) قواعد الفقه للبركتي
(3) مختار الصحاح.

(42/25)


أَمَّا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ، فَالإِْيصَاءُ بِمَعْنَى الْوَصِيَّةِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هُوَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ إِقَامَةُ الإِْنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي تَصَرُّفٍ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، أَوْ فِي تَدْبِيرِ شُئُونِ أَوْلاَدِهِ الصِّغَارِ وَرِعَايَتِهِمْ، وَذَلِكَ الشَّخْصُ الْمُقَامُ يُسَمَّى الْوَصِيَّ.
أَمَّا إِقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ فِي الْقِيَامِ بِأَمْرٍ فِي حَال حَيَاتِهِ، فَلاَ يُقَال لَهُ فِي الاِصْطِلاَحِ إِيصَاءٌ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّمَا يُقَال لَهُ وِكَالَةٌ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النِّيَابَةِ وَالإِْيصَاءِ، أَنَّ النِّيَابَةَ أَعَمُّ مِنَ الإِْيصَاءِ.

ج - الْقِوَامَةُ:
4 - الْقِوَامَةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الْقِيَامُ عَلَى الأَْمْرِ أَوِ الْمَال أَوْ وِلاَيَةُ الأَْمْرِ. وَالْقَيِّمُ: هُوَ الَّذِي يَقُومُ عَلَى شُئُونِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَيَلِيهِ، وَيَرْعَاهُ، وَيُصْلِحُ مِنْ شَأْنِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ (2) } .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
__________
(1) الشرح الصغير وحاشية الصاوي 2 / 181، وفتاوى قاضيخان 3 / 512 بهامش الفتاوى الهندية، ومغني المحتاج 3 / 39.
(2) سورة النساء / 34.
(3) المعجم الوسيط، والكليات 4 / 53، 54، والكشاف 1 / 266، والتسهيل لعلوم التنزيل 1 / 140، وبصائر ذوي التمييز 4 / 307، 308، وحاشية ابن عابدين 3 / 431.

(42/26)


وَالصِّلَةُ بَيْنَ النِّيَابَةِ وَالْقِوَامَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وِلاَيَةُ أُمُورِ الْغَيْرِ.

د - الْوِكَالَةُ:
5 - الْوَكَالَةُ بِالْفَتْحِ وَبِالْكَسْرِ، فِي اللُّغَة أَنْ يَعْهَدَ إِلَى غَيْرِهِ لِيَعْمَل لَهُ عَمَلاً.
وَالتَّوْكِيل تَفْوِيضُ التَّصَرُّفِ إِلَى غَيْرِهِ، وَسُمِّيَ الْوَكِيل وَكِيلاً لأَِنَّ مُوكِلَهُ قَدْ وَكَل إِلَيْهِ الْقِيَامَ بِأَمْرِهِ، فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَيْهِ الأَْمْرُ (1) .
وَالْوَكَالَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهَا: إِقَامَةُ الْغَيْرِ مَقَامَ نَفْسِهِ تَرَفُّهًا أَوْ عَجْزًا فِي تَصَرُّفٍ جَائِزٍ مَعْلُومٍ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النِّيَابَةِ وَالْوِكَالَةِ أَنَّ النِّيَابَةَ أَعَمُّ مِنَ الْوِكَالَةِ.
__________
(1) المعجم الوسيط، ولسان العرب لابن منظور، والنهاية لابن الأثير 4 / 228.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 510 ط الحلبي، وانظر جواهر الإكليل شرح مختصر خليل 2 / 125، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 5 / 15، وحاشية الجمل على شرح المنهاج 3 / 400، الروض المربع شرح زاد المستقنع 2 / 305، وشرح منتهى الإرادات 3 / 461، وكشاف القناع 2 / 443.

(42/26)


أَنْوَاعُ النِّيَابَةِ:
تَتَنَوَّعُ النِّيَابَةُ إِلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ يَثْبُتُ بِتَوْلِيَةِ الْمَالِكِ (اتِّفَاقِيَّةٌ) ، وَنَوْعٌ يَثْبُتُ شَرْعًا لاَ بِتَوْلِيَةِ الْمَالِكِ (شَرْعِيَّةٌ) .

أَوَّلاً: النِّيَابَةُ الاِتِّفَاقِيَّةُ (وَهِيَ الْوَكَالَةُ) :
6 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ جَائِزَةٌ فِي الْجُمْلَةِ (1) ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَل: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (2) } . وَمِنْهَا: حَدِيثُ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ بِهِ شَاةً، فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، فَجَاءَهُ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، وَكَانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ (3) .
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوَكَالَةِ مُنْذُ عَصْرِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا. لَمْ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 509، والكنز للزيلعي 4 / 254، وحاشية الدسوقي 3 / 339، والمجموع 13 / 535، ونهاية المحتاج 5 / 15، والمغني 5 / 201.
(2) سورة الكهف / 19.
(3) حديث عروة البارقي: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 632 - ط السلفية) .

(42/27)


يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (1) . وَانْظُرْ تَفْصِيل أَحْكَامِ الْوَكَالَةِ فِي مُصْطَلَحِ (وَكَالَة) .

ثَانِيًا: النِّيَابَةُ الشَّرْعِيَّةُ:
7 - النِّيَابَةُ الشَّرْعِيَّةُ - وَهِيَ الْوِلاَيَةُ - ثَابِتَةٌ شَرَعًا عَلَى الْعَاجِزِينَ عَنِ التَّصَرُّفِ بِأَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ الصِّغَرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَذَلِكَ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُول.
أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَدْ وَرَدَتْ مِنْهُ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ تَدُل عَلَى الْوِلاَيَةِ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَل اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا} (5) {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (2) } . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَْيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ (3) } .
فَهَذِهِ الآْيَاتُ خِطَابٌ لِلأَْوْلِيَاءِ عَلَى الْمَال وَالنَّفْسِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ وَرَدَتْ فِي شَرْعِيَّةِ الْوِلاَيَةِ، مِنْهَا: قَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ (4) .
__________
(1) المغني 5 / 87، وانظر منتهى الإرادات 2 / 461.
(2) سورة النساء / 5، 6.
(3) سورة النور / 32.
(4) حديث: " لا نكاح إلا بولي " أخرجه الترمذي (3 / 398 - ط الحلبي) من حديث أبي موسى.

(42/27)


وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَل بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَل مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنِ اشْتَجَرُوا، فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ (1) .
وَأَمَّا الْمَعْقُول فَإِنَّ ثُبُوتَ وِلاَيَةِ النَّظَرِ لِلْقَادِرِ عَلَى الْعَاجِزِ عَنِ النَّظَرِ مِنْ بَابِ الإِْعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ، وَمِنْ بَابِ الإِْحْسَانِ، وَمِنْ بَابِ إِعَانَةِ الضَّعِيفِ وَإِغَاثَةِ اللَّهْفَانِ، وَكُل ذَلِكَ حَسَنٌ عَقْلاً وَشَرْعًا.
وَلأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ شُكْرِ النِّعْمَةِ وَهِيَ نِعْمَةُ الْقُدْرَةِ، إِذْ شُكْرُ كُل نِعْمَةٍ عَلَى حَسَبِ هَذِهِ النِّعْمَةِ، فَشُكْرُ نِعْمَةِ الْقُدْرَةِ مَعُونَةُ الْعَاجِزِ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ عَقْلاً وَشَرْعًا فَضْلاً عَنِ الْجَوَازِ (2) .

أَنْوَاعُ النِّيَابَةِ الشَّرْعِيَّةِ:
8 - النِّيَابَةُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ الْوِلاَيَةُ، وَالْوِلاَيَةُ تَتَنَوَّعُ إِلَى نَوْعَيْنِ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهَا:
__________
(1) حديث: " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها. . . " أخرجه الترمذي (3 / 399 - ط الحلبي) وقال: حديث حسن.
(2) البدائع 5 / 152.

(42/28)


وِلاَيَةٌ عَلَى الْمَال، وَوِلاَيَةٌ عَلَى النَّفْسِ.
فَالْوِلاَيَةُ عَلَى الْمَال هِيَ سُلْطَةُ الْوَلِيِّ عَلَى أَنْ يَعْقِدَ الْعُقُودَ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةَ بِأَمْوَال الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَتَكُونُ تَصَرُّفَاتُهُ وَعُقُودُهُ نَافِذَةً دُونَ الْحَاجَةِ إِلَى إِذْنٍ مِنْ أَحَدٍ.
وَالْوِلاَيَةُ عَلَى النَّفْسِ هِيَ السُّلْطَةُ عَلَى شُئُونِ الصَّغِيرِ وَنَحْوِهِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِشَخْصِهِ وَنَفْسِهِ، وَيَدْخُل فِيهَا تَزْوِيجُهُ.
وَتُنْظَرُ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوِلاَيَةِ عَلَى الْمَال وَعَلَى النَّفْسِ فِي مُصْطَلَحِ (وِلاَيَة) .

النِّيَابَةُ فِي الْعِبَادَاتِ:
تَتَنَوَّعُ الْعِبَادَاتُ فِي الشَّرْعِ إِلَى أَنْوَاعٍ ثَلاَثَةٍ:
مَالِيَّةٌ مَحْضَةٌ، وَبَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ، وَمُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْبَدَنِ وَالْمَال.

النَّوْعُ الأَْوَّل: الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ الْمَحْضَةُ
9 - الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ الْمَحْضَةُ كَالزَّكَاةِ، وَالصَّدَقَاتِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَالنُّذُورِ.
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعِبَادَاتِ تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ عَلَى الإِْطْلاَقِ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْعِبَادَةُ قَادِرًا

(42/28)


عَلَى الأَْدَاءِ بِنَفْسِهِ، أَوْ لاَ. وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَالْمَعْقُول:
فَمِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا (2) } .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنَ الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل جَوَّزَ الْعَمَل عَلَى الزَّكَاةِ، وَذَلِكَ بِحُكْمِ النِّيَابَةِ عَنِ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا. قَال ابْنُ كَثِيرٍ: وَأَمَّا الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا فَهُمُ الْجُبَاةُ، وَالسُّعَاةُ يَسْتَحِقُّونَ مِنْهَا قِسْطًا عَلَى ذَلِكَ (3) .
وَمِنَ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ أَحَادِيثُ مِنْهَا:
مَا وَرَدَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ، فَأَتَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَقَلْتُ لَهُ: إِنِّي أَرَدْتُ
__________
(1) البدائع 2 / 212 - ط دار الكتب العلمية بيروت، وحاشية ابن عابدين 2 / 237 دار إحياء التراث العربي، وجواهر الإكليل 2 / 125، ونهاية المحتاج 5 / 22، 3 / 136. والقليوبي وعميرة على منهاج الطالبين 3 / 76، 77، والمغني لابن قدامة 5 / 2، وكشاف القناع 2 / 445.
(2) سورة التوبة / 60.
(3) تفسير ابن كثير 2 / 364، وانظر المغني 5 / 87 ط الرياض.

(42/29)


الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ، فَقَال: إِذَا أَتَيْتَ وَكِيلِي فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَإِنِ ابْتَغَى مِنْكَ آيَةً فَضَعْ يَدَك عَلَى تَرْقُوَتِهِ (1) .
وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْخَازِنُ الْمُسْلِمُ الأَْمِينُ الَّذِي يُنْفِذُ - وَرُبَّمَا قَال: يُعْطِي - مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلاً مُوَفَّرًا طَيِّبًا بِهِ نَفْسُهُ فَيَدْفَعُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ (2) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: وَكَّلَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ (3) ، وَحَدِيثُ: أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ غَنَمًا يُقَسِّمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ (4) .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: " أَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ
__________
(1) حديث جابر: " أردت الخروج إلى خيبر. . . " أخرجه أبو داود (4 / 47 - 48 ط حمص) .
(2) حديث: " الخازن المسلم الأمين. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 302 - ط السلفية) من حديث أبي موسى.
(3) حديث أبي هريرة: " وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 487 ط السلفية) .
(4) حديث: " أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن عامر غنما. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 479 ط السلفية) .

(42/29)


أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ (1) .
وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: اسْتَعْمَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً مِنَ الأَْسْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ (2) .
وَمِنَ الْمَعْقُول: أَنَّ الْوَاجِبَ فِي هَذِهِ الْعِبَادَاتِ إِخْرَاجُ الْمَال، وَأَنَّهُ يَحْصُل بِفِعْل النَّائِبِ (3) .
وَأَنَّهُ حَقٌّ مَالِيٌّ فَجَازَ أَنْ يُوَكَّل فِي أَدَائِهِ كَدُيُونِ الآْدَمِيِّينَ (4) .

النَّوْعُ الثَّانِي: الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ:
10 - الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعِبَادَاتِ لاَ تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ عَلَى الإِْطْلاَقِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ
__________
(1) حديث: " أخبرهم أن الله قد فرض عليهم. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 357 ط السلفية) ومسلم (1 / 50 - ط الحلبي) ، واللفظ للبخاري.
(2) حديث: " استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأسد. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 365 ط السلفية) .
(3) البدائع 2 / 212.
(4) نهاية المحتاج 3 / 136

(42/30)


بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيِّ (1) . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَالْمَعْقُول:
أَمَّا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فَقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (2) } . إِلاَّ مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ (3) ، لِقَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلاَ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ (4) .
أَيْ فِي حَقِّ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ لاَ فِي حَقِّ الثَّوَابِ، فَإِنَّ مَنْ صَامَ أَوْ صَلَّى أَوْ تَصَدَّقَ وَجَعَل ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ مِنَ الأَْمْوَاتِ أَوِ الأَْحْيَاءِ جَازَ. وَيَصِل ثَوَابُهَا إِلَيْهِمْ عِنْدَ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (ثَوَاب ف 10) .
وَأَمَّا الْمَعْقُول: فَلأَِنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ تَتَعَلَّقُ بِبَدَنِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فَلاَ يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِيهَا (5) ، وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الاِبْتِلاَءُ وَالاِخْتِبَارُ وَإِتْعَابُ
__________
(1) البدائع 2 / 212، وابن عابدين 2 / 238، والفروق 2 / 205، والمجموع 7 / 116، ونهاية المحتاج 5 / 22، والقليوبي وعميرة 3 / 76، ومطالب أولي النهى 2 / 273.
(2) سورة النجم / 39.
(3) البدائع 2 / 212.
(4) قول ابن عباس: " لا يصلي أحد عن أحد. . . "، أخرجه النسائي في السنن الكبرى (2 / 175 ط دار الكتب العلمية)
(5) نهاية المحتاج 5 / 22.

(42/30)


النَّفْسِ وَذَلِكَ لاَ يَحْصُل بِالتَّوْكِيل (1) .
وَأَمَّا النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهَا. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَدَاء ف 15) .

النَّوْعُ الثَّالِثِ: الْعِبَادَاتُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الْبَدَنِ وَالْمَال:
11 - الْعِبَادَاتُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الْبَدَنِ وَالْمَال هِيَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ، وَقَابِلِيَّتِهِ لِلنِّيَابَةِ لِلْعُذْرِ الْمَيْئُوسِ مِنْ زَوَالِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيِّ، وَذَهَبَ مَالِكٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي مَذْهَبِهِ، إِلَى أَنَّ الْحَجَّ لاَ يَقْبَل النِّيَابَةَ لاَ عَنِ الْحَيِّ وَلاَ عَنِ الْمَيِّتِ، مَعْذُورًا أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَجٍّ ف 114 وَمَا بَعْدَهَا، وَأَدَاءٍ ف 16، وَعِبَادَةٍ ف 7) . أَمَّا الْعُمْرَةُ فَتَقْبَل النِّيَابَةَ فِي الْجُمْلَةِ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عُمْرَةٍ ف 38) .

أَوَّلاً: النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ عَنِ الْحَيِّ:
مَنْ يَقَعُ عَنْهُ حَجُّ النَّائِبِ:
12 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ. لِحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ حَيْثُ قَال لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حُجِّي عَنْ أَبِيكِ (2) فَقَدْ أَمَرَهَا
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 219.
(2) حديث: " حجي عن أبيك ". أخرجه الترمذي (3 / 224 - ط الحلبي) من حديث علي بن أبي طالب، وقال: حديث حسن صحيح.

(42/31)


النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ عَنْ أَبِيهَا، وَلَوْلاَ أَنَّ حَجَّهَا يَقَعُ عَنْ أَبِيهَا لَمَا أَمَرَهَا بِالْحَجِّ عَنْهُ.
وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاسَ دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِدَيْنِ الْعِبَادِ بِقَوْلِهِ: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ (1) . وَذَلِكَ تُجْزِئُ فِيهِ النِّيَابَةُ، وَيَقُومُ فِعْل النَّائِبِ مَقَامَ فِعْل الْمَنُوبِ عَنْهُ كَذَا هَذَا. لأَِنَّ الْحَاجَّ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ كَذَا الإِْحْرَامُ، وَلَوْ لَمْ يَقَعْ نَفْسُ الْحَجِّ عَنْهُ لَكَانَ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّتِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ نَفْسَ الْحَجِّ يَقَعُ عَنِ الْحَاجِّ، وَإِنَّمَا لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ ثَوَابُ النَّفَقَةِ؛ لأَِنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَمَالِيَّةٌ وَالْبَدَنَ لِلْحَاجِّ، وَالْمَال لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ، فَمَا كَانَ مِنَ الْبَدَنِ لِصَاحِبِ الْبَدَنِ، وَمَا كَانَ بِسَبَبِ الْمَال يَكُونُ لِصَاحِبِ الْمَال. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوِ ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ فَكَفَّارَتُهُ فِي مَالِهِ لاَ فِي مَال الْمَحْجُوجِ عَنْهُ، وَكَذَا لَوْ أَفْسَدَ الْحَجَّ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، فَدَل عَلَى أَنَّ نَفْسَ الْحَجِّ يَقَعُ لَهُ.
__________
(1) حديث: " أرأيت لو كان على أبيك دين. . ". أخرجه النسائي (5 / 118 ط المكتبة التجارية) من حديث ابن عباس

(42/31)


إِلاَّ أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ ثَوَابَ نَفَقَةِ الْحَجِّ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ عَنِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، مَقَامَ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ نَظَرًا لَهُ وَمَرْحَمَةً عَلَيْهِ (1) .

شَرَائِطُ جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي الْحَجِّ عَنِ الْحَيِّ:

13 - الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الْمَحْجُوجُ عَنْهُ عَاجِزًا عَنْ أَدَاءِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، وَلَهُ مَالٌ يَسْتَنِيبُ مِنْهُ (2) فَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الأَْدَاءِ بِنَفْسِهِ، بِأَنْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ وَلَهُ مَالٌ. فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ حَجُّ غَيْرِهِ عَنْهُ لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الأَْدَاءِ بِبَدَنِهِ وَلَهُ مَالٌ يَحُجُّ بِهِ، فَالْفَرْضُ يَتَعَلَّقُ بِبَدَنِهِ لاَ بِمَالِهِ، بَل الْمَال يَكُونُ شَرْطًا، وَإِذَا تَعَلَّقَ الْفَرْضُ بِبَدَنِهِ لاَ تُجْزِي فِيهِ النِّيَابَةُ كَالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَحْضَةِ.
وَكَذَا لَوْ كَانَ فَقِيرًا صَحِيحَ الْبَدَنِ لاَ يَجُوزُ حَجُّ غَيْرِهِ عَنْهُ؛ لأََنَّ الْمَال مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَصْلاً، فَلاَ يَنُوبُ عَنْهُ غَيْرُهُ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَلاَ وَاجِبَ (3) .
__________
(1) البدائع 2 / 212، وحاشية ابن عابدين 2 / 241، ومغني المحتاج 1 / 469، والمغني 3 / 228، 229، والحطاب 2 / 543 - 548.
(2) البدائع 2 / 212، فتح القدير 2 / 326، وابن عابدين 2 / 238، والمجموع 7 / 93، ونهاية المحتاج 3 / 252، 253، والمغني 5 / 19 ط هجر، وكشاف القناع 2 / 390.
(3) البدائع 2 / 213، والمغني 5 / 21

(42/32)


14 - الشَّرْطُ الثَّانِي: الْعَجْزُ الْمُسْتَدَامُ مِنْ وَقْتِ الإِْحْجَاجِ إِلَى وَقْتِ الْمَوْتِ، بِأَنْ يَمُوتَ عَلَى مَرَضِهِ (1) فَإِذَا عُوفِيَ الْمَرِيضُ بَعْدَ أَنْ حُجَّ عَنْهُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عُوفِيَ بَعْدَ حَجِّ النَّائِبِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عُوفِيَ قَبْل فَرَاغِ النَّائِبِ مِنَ الْحَجِّ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عُوفِيَ قَبْل إِحْرَامِ النَّائِبِ.

15 - الْحَالَةُ الأُْولَى: إِذَا عُوفِيَ الْمَرِيضُ بَعْدَ مَا حُجَّ عَنْهُ:
فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ حَجٌّ آخَرُ، وَهَذَا قَوْل إِسْحَاقَ (2) لأَِنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ فَخَرَجَ مِنَ الْعُهْدَةِ كَمَا لَوْ لَمْ يَبْرَأْ. وَلأَِنَّهُ قَدْ أَدَّى حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ بِأَمْرِ الشَّارِعِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ حَجٌّ ثَانٍ كَمَا لَوْ حَجَّ بِنَفْسِهِ. وَالْمُعْتَبَرُ لِجَوَازِ الاِسْتِنَابَةِ الْيَأْسُ ظَاهِرًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ حَجٌّ ثَانٍ وَلَمْ يَجُزْ حَجُّ غَيْرِهِ عَنْهُ (3) لأَِنَّ هَذَا بَدَل إِيَاسٍ فَإِذَا بَرَأَ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ
__________
(1) البدائع 2 / 213، وفتح القدير 2 / 326، وابن عابدين 2 / 238، ونهاية المحتاج 3 / 252، والمجموع 7 / 115، والمغني 5 / 19، وشرح منتهى الإرادات 1 / 519، وكشاف القناع 2 / 390.
(2) المغني 5 / 21، وشرح منتهى الإرادات 1 / 519، وكشاف القناع 2 / 391، والمجموع 7 / 113.
(3) البدائع 2 / 213، وفتح القدير 2 / 326، وابن عابدين 2 / 238، ومغني المحتاج 1 / 469، ونهاية المحتاج 3 / 253، والمجموع 7 / 113 - 115، والمغني 5 / 21

(42/32)


لَمْ يَكُنْ مَيْئُوسًا مِنْهُ، فَلَزِمَهُ الأَْصْل، كَالآْيِسَةِ إِذَا اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ ثُمَّ حَاضَتْ لاَ تُجْزِئُهَا تِلْكَ الْعِدَّةُ.
كَمَا أَنَّ جَوَازَ حَجِّ الْغَيْرِ عَنِ الْغَيْرِ ثَبَتَ بِخِلاَفِ الْقِيَاسِ لِضَرُورَةِ الْعَجْزِ الَّذِي لاَ يُرْجَى زَوَالُهُ فَيَتَقَيَّدُ الْجَوَازُ بِهِ (1) .

16 - الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا عُوفِيَ قَبْل فَرَاغِ النَّائِبِ مِنَ الْحَجِّ:
الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَالْمُتَمَتِّعِ إِذَا شَرَعَ فِي الصِّيَامِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ، وَالْمُكَفِّرِ إِذَا قَدَرَ عَلَى الأَْصْل بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْبَدَل، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: يَنْبَغِي أَلاَّ يُجْزِئَهُ الْحَجُّ؛ لأَِنَّهُ قَدَرَ عَلَى الأَْصْل قَبْل تَمَامِ الْبَدَل فَلَزِمَهُ كَالصَّغِيرَةِ وَمَنِ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا إِذَا حَاضَتَا قَبْل إِتْمَامِ عَدَّتِهِمَا بِالشُّهُورِ، وَكَالْمُتَيَمِّمِ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي صَلاَتِهِ (2) .

17 - الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا عُوفِيَ قَبْل إِحْرَامِ النَّائِبِ:
لَمْ يُجْزِئْهُ بِحَالٍ. لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْمُبْدَل قَبْل
__________
(1) البدائع 2 / 213.
(2) المغني 5 / 21، وكشاف القناع 2 / 391، وشرح منتهى الإرادات 1 / 519، والإنصاف 3 / 405.

(42/33)


الشُّرُوعِ فِي الْبَدَل (1) . النِّيَابَةُ عَنِ الْمَرِيضِ الَّذِي يُرْجَى بُرْؤُهُ: 18 - وَهَل يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ الَّذِي يُرْجَى بُرْؤُهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَحُجَّ عَنْهُ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ يُرْجَى زَوَال مَرَضِهِ، وَالْمَحْبُوسَ وَنَحْوَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ (2) ، فَإِنْ فَعَل لَمْ يُجْزِئْهُ وَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ؛ لأَِنَّهُ يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الاِسْتِنَابَةُ وَلاَ تُجْزِئُهُ إِنْ فَعَل كَالْفَقِيرِ.
كَمَا أَنَّ النَّصَّ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْحَجِّ عَنِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَهُوَ مِمَّنْ لاَ يُرْجَى مِنْهُ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ، فَلاَ يُقَاسُ عَلَيْهِ إِلاَّ مَنْ كَانَ مِثْلَهُ.
فَعَلَى هَذَا: إِذَا اسْتَنَابَ مَنْ يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ صَارَ مَيْئُوسًا مِنْ بُرْئِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ مَرَّةً أُخْرَى؛ لأَِنَّهُ اسْتَنَابَ فِي حَالٍ لاَ تَجُوزُ لَهُ الاِسْتِنَابَةُ فِيهَا فَأَشْبَهَ الصَّحِيحَ (3) .
__________
(1) المغني 5 / 21، وشرح منتهى الإرادات 1 / 519، وكشاف القناع 2 / 391.
(2) مغني المحتاج 1 / 469، والمجموع 7 / 112، والمغني 5 / 22، وشرح منتهى الإرادات 1 / 519، وكشاف القناع 2 / 391.
(3) المغني 5 / 22.

(42/33)


وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَوَازَ مَوْقُوفٌ إِنْ مَاتَ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ مَحْبُوسٌ جَازَ، وَإِنْ زَال الْمَرَضُ أَوِ الْحَبْسُ قَبْل الْمَوْتِ لَمْ يَجُزْ (1) .

19 - الشَّرْطُ الثَّالِثُ:
لاَ يَجُوزُ الْحَجُّ عَنِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لأَِنَّ جَوَازَهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْهُ، وَالنِّيَابَةُ لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بِالأَْمْرِ (2) .
وَهَذَا بِالاِتِّفَاقِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيِّ، أَمَّا الْمَيِّتُ فَفِيهِ خِلاَفٌ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَجٍّ ف 117) .

20 - الشَّرْطُ الرَّابِعُ: النِّيَّةُ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ عِنْدَ الإِْحْرَامِ: ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ النِّيَّةُ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ عِنْدَ الإِْحْرَامِ؛ لأَِنَّ النَّائِبَ يَحُجُّ عَنْهُ لاَ عَنْ نَفْسِهِ، فَلاَ بُدَّ مِنْ نِيَّتِهِ، وَالأَْفْضَل أَنْ يَقُول بِلِسَانِهِ: لَبَّيْكَ عَنْ فُلاَنٍ، كَمَا إِذَا حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ (3) .
وَيَكْفِي أَنْ يَنْوِيَ النَّائِبُ عَنِ الْمُسْتَنِيبِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ لَفْظًا. وَإِنْ نَسِيَ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ نَوَى مَنْ
__________
(1) البدائع 2 / 213، وفتح القدير 2 / 326، وحاشية ابن عابدين 2 / 238.
(2) البدائع 2 / 213، وابن عابدين 2 / 239، والمجموع 7 / 98 - 114، والمغني 5 / 27.
(3) البدائع 2 / 213، وابن عابدين 2 / 238.

(42/34)


دَفَعَ إِلَيْهِ الْمَال لِيَحُجَّ عَنْهُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ تَكْفِي نِيَّةُ الْمُسْتَنِيبِ فِي الْحَجِّ؛ لأَِنَّ الْعِبَادَةَ فِي الْحَجِّ فِعْل النَّائِبِ فَوَجَبَتِ النِّيَّةُ مِنْهُ (2) .

21 - الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ حَجُّ الْمَأْمُورِ بِمَال الْمَحْجُوجِ عَنْهُ:
إِنْ تَطَوَّعَ الْحَاجُّ عَنِ الْغَيْرِ بِمَال نَفْسِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِجْزَاءِ الْحَجِّ عَنْهُ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَجٍّ ف 117) .

22 - الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ النَّائِبُ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلاً:
وَهَذَا الشَّرْطُ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ فَعَل وَقَعَ إِحْرَامُهُ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ عَنْ نَفْسِهِ، وَبِهَذَا قَال الأَْوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ النِّيَابَةَ تَصِحُّ، سَوَاءٌ كَانَ النَّائِبُ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ لاَ، إِلاَّ أَنَّ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 1 / 519، وابن عابدين 2 / 238.
(2) نهاية المحتاج 3 / 137، ومغني المحتاج 1 / 415.
(3) المجموع 7 / 117، والمغني 5 / 42، وشرح منتهى الإرادات 1 / 520.

(42/34)


الأَْفْضَل أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ (1) وَيُسَمَّى حَجَّ الصَّرُورَةِ.
وَهَذَا الْقَوْل الَّذِي قَال بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، هُوَ قَوْل الْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَثْل ذَلِكَ (2) .
وَقَال الثَّوْرِيُّ: إِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ الْحَجَّ مِمَّا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، فَجَازَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَنْ غَيْرِهِ مَنْ لَمْ يَسْقُطْ فَرْضُهُ عَنْ نَفْسِهِ، كَالزَّكَاةِ (3) .
وَقَال أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: يَقَعُ الْحَجُّ بَاطِلاً، وَلاَ يَصِحُّ عَنْهُ وَلاَ عَنْ غَيْرِهِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ تَعْيِينُ النِّيَّةِ، فَمَتَى نَوَاهُ لِغَيْرِهِ، وَلَمْ يَنْوِ لِنَفْسِهِ، لَمْ يَقَعْ عَنْ نَفْسِهِ، كَذَا الطَّوَافُ حَامِلاً لِغَيْرِهِ لَمْ يَقَعْ عَنْ نَفْسِهِ (4) ، وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَجٍّ ف 116) .

نِيَابَةُ الْمَرْأَةِ فِي الْحَجِّ:
23 - تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ بِالشُّرُوطِ السَّابِقَةِ، سَوَاءٌ كَانَ النَّائِبُ رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً،
__________
(1) البدائع 2 / 213، وابن عابدين 2 / 241.
(2) المغني 5 / 42.
(3) المغني 5 / 42.
(4) المغني 5 / 42.

(42/35)


وَهَذَا فِي قَوْل عَامَّةِ أَهْل الْعِلْمِ (1) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ (2) وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ (3) .
أَمَّا الْجَوَازُ، فَلِحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ، وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ، فَلأَِنَّهُ يَدْخُل فِي حَجِّهَا ضَرْبُ نُقْصَانٍ؛ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تَسْتَوْفِي سُنَنَ الْحَجِّ، فَإِنَّهَا لاَ تَرْمُل فِي الطَّوَافِ وَفِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَة، وَلاَ تَحْلِقُ (4) .

النِّيَابَةُ فِي حَجَّةِ الْفَرْضِ وَحَجَّةِ النَّذْرِ مَعًا:
24 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَى الإِْنْسَانِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ، وَحَجَّةُ النَّذْرِ، فَاسْتَأْجَرَ رَجُلَيْنِ يَحُجَّانِ عَنْهُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَدْ نَصَّ فِي الأُْمِّ أَنَّهُ يَجُوزُ وَكَانَ أَوْلَى؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُقَدِّمِ النَّذْرَ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ، قَال النَّوَوِيُّ: وَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَنْ قَال: لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَحُجُّ بِنَفْسِهِ حَجَّتَيْنِ فِي سَنَةٍ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ (5) .
__________
(1) البدائع 2 / 213، والهداية مع فتح القدير 2 / 403، وابن عابدين 2 / 241، والأم 2 / 125، وكشاف القناع 2 / 391، والمغني 5 / 27، وشرح منتهى الإرادات 1 / 519.
(2) البدائع 2 / 213.
(3) المغني 5 / 27.
(4) البدائع 2 / 213
(5) المجموع 7 / 117.

(42/35)


النِّيَابَةُ فِي حَالَةِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ:
25 - الْحَجُّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فَرْضًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَذْرًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا.
فَإِنْ كَانَ الْحَجُّ فَرْضًا، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْقَادِرِ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، وَكَذَا الْحَجُّ الْمَنْذُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ يَرَوْنَ كَرَاهَتَهُ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَجُّ حَجَّ تَطَوُّعٍ، وَكَانَ الْمُسْتَنِيبُ قَدْ أَدَّى حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الاِسْتِنَابَةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ، إِلَى أَنَّهُ تَجُوزُ الاِسْتِنَابَةُ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ كَرَاهَةَ الاِسْتِنَابَةِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الاِسْتِنَابَةِ (3) ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَجٍّ ف 118) .

الْعَجْزُ عَنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ عَجْزًا مَرْجُوَّ الزَّوَال:
26 - صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الإِْنْسَانُ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 241، والمغني 5 / 23.
(2) الدسوقي 2 / 18، والشرح الصغير 2 / 15.
(3) المجموع 7 / 116، والإنصاف 3 / 418، والمغني 5 / 23.

(42/36)


عَاجِزًا عَنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ عَجْزًا مَرْجُوَّ الزَّوَال، كَالْمَرِيضِ مَرَضًا يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَالْمَحْبُوسِ جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ حَجٌّ لاَ يَلْزَمُهُ عَجَزَ عَنْ فِعْلِهِ بِنَفْسِهِ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ كَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَجِّ الْفَرْضِ، أَنَّ الْفَرْضَ عِبَادَةُ الْعُمْرِ فَلاَ يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ عَنْ هَذَا الْعَامِ، وَالتَّطَوُّعُ مَشْرُوعٌ فِي كُل عَامٍ فَيَفُوتُ حَجُّ هَذَا الْعَامِ بِتَأْخِيرِهِ، وَلأَِنَّ حَجَّ الْفَرْضِ إِذَا مَاتَ قَبْل فِعْلِهِ فُعِل بَعْدَ مَوْتِهِ، وَحَجُّ التَّطَوُّعِ لاَ يُفْعَل فَيَفُوتَ (1) .

مَا يَصِيرُ بِهِ النَّائِبُ مُخَالِفًا وَحُكْمُهُ إِذَا خَالَفَ:
أ - أَمَرَهُ بِالإِْفْرَادِ فَقَرَنَ:
27 - إِذَا أُمِرَ النَّائِبُ بِالإِْفْرَادِ فَقَرَنَ فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يَكُونُ مُخَالِفًا وَلاَ يَضْمَنُ، وَوَقَعَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ فَعَل الْمَأْمُورَ بِهِ وَزَادَ خَيْرًا، فَكَانَ مَأْذُونًا فِي الزِّيَادَةِ دَلاَلَةً، فَلَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا فَصَحَّ وَلَمْ يَضْمَنْ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ شَاةٍ بِدِينَارٍ فَاشْتَرَى بِهِ شَاتَيْنِ تُسَاوِي إِحْدَاهُمَا دِينَارًا (2) .
__________
(1) المغني 5 / 23
(2) المجموع 7 / 139، والمغني 5 / 28، والبدائع 2 / 213، 214.

(42/36)


وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ مُخَالِفًا وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، إِذْ أُمِرَ بِسَفَرٍ يَصْرِفُهُ إِلَى الْحَجِّ لاَ غَيْرَ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِ، فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ الآْمِرِ فَضَمِنَ (1) .

ب - أَمَرَهُ بِالْحَجِّ فَتَمَتَّعَ أَوِ اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ مِنَ الْمِيقَاتِ:
28 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أُمِرَ النَّائِبُ بِحَجٍّ فَتَمَتَّعَ، أَوِ اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ مِنَ الْمِيقَاتِ، ثُمَّ حَجَّ: فَإِنْ خَرَجَ إِلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ مِنْهُ بِالْحَجِّ جَازَ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ فَعَلَيْهِ دَمٌ، لِتَرْكِ مِيقَاتِهِ وَيَرُدُّ مِنَ النَّفَقَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ مِنْ إِحْرَامِ الْحَجِّ فِيمَا بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَمَكَّةَ؛ لأَِنَّهُ إِذَا أَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ فَقَدْ أَتَى بِالْحَجِّ صَحِيحًا مِنْ مِيقَاتِهِ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ فَمَا أَخَل إِلاَّ بِمَا يَجْبُرُهُ الدَّمُ، فَلَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهُ كَمَا لَوْ تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ فَأَحْرَمَ دُونَهُ (2) . وَإِذَا أَمَرَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فَاعْتَمَرَ ضَمِنَ لأَِنَّهُ خَالَفَ، وَلَوِ اعْتَمَرَ ثُمَّ حَجَّ مِنْ مَكَّةَ يَضْمَنُ النَّفَقَةَ؛ لأَِنَّهُ أَتَى بِغَيْرِ مَا أُمِرَ بِهِ فَيَكُونُ مُخَالِفًا فَيَضْمَنُ؛ لأَِنَّهُ أَمَرَهُ بِصَرْفِ كُل السَّفَرِ إِلَى الْحَجِّ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ؛ لأَِنَّهُ أَدَّى بِالسَّفَرِ حَجًّا عَنِ الآْمِرِ
__________
(1) البدائع 2 / 214، والدر المختار مع حاشية ابن عابدين 2 / 247، والبحر الرائق 3 / 68.
(2) المغني 5 / 27، 28، وكشاف القناع 2 / 398

(42/37)


وَعُمْرَةً عَنْ نَفْسِهِ، فَكَانَ مُخَالِفًا، وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ (1) .

ج - أَمَرَهُ بِالتَّمَتُّعِ فَقَرَنَ:
29 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا اسْتَأْجَرَهُ لِلتَّمَتُّعِ فَقَرَنَ فَقَدْ زَادَ خَيْرًا؛ لأَِنَّهُ قَدْ أَحْرَمَ بِالنُّسُكَيْنِ مِنَ الْمِيقَاتِ، ثُمَّ إِنْ عَدَّدَ الأَْفْعَال لِلنُّسُكَيْنِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُعَدِّدْ فَيَحُطَّ شَيْءٌ مِنَ الأُْجْرَةِ لاِخْتِصَارِهِ فِي الأَْفْعَال فِي وَجْهٍ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ النَّائِبَ بِالتَّمَتُّعِ فَقَرَنَ، وَقَعَ عَنِ الآْمِرِ لأَِنَّهُ أَمَرَ بِهِمَا، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ فَأَحْرَمَ بِهِ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يَرُدُّ شَيْئًا مِنَ النَّفَقَةِ، وَقَال الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَرُدُّ نِصْفَ النَّفَقَةِ لأَِنَّ غَرَضَهُ فِي عُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ وَتَحْصِيل فَضِيلَةِ التَّمَتُّعِ، وَقَدْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ وَفَوَّتَهُ عَلَيْهِ (2) .

د - أَمَرَهُ بِالتَّمَتُّعِ فَأَفْرَدَ:
30 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْجَرَ شَخْصًا لِلتَّمَتُّعِ فَأَفْرَدَ يُنْظَرُ:
إِنْ قَدَّمَ الْعُمْرَةَ وَعَادَ لِلْحَجِّ إِلَى الْمِيقَاتِ فَقَدْ
__________
(1) البدائع 2 / 214، والمغني 5 / 28، وكشاف القناع 2 / 398.
(2) المغني 5 / 28، والروضة 3 / 28، 29.

(42/37)


زَادَ خَيْرًا، وَإِنْ أَخَّرَ الْعُمْرَةَ، فَإِنْ كَانَتْ إِجَارَةَ عَيْنٍ انْفَسَخَتْ فِي الْعُمْرَةِ لِفَوَاتِ وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ فَيَرُدُّ حِصَّتَهَا مِنَ الْمُسَمَّى، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الذِّمَّةِ وَعَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ لِلْعُمْرَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِهِ الإِْحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ وَفِي حَطِّ شَيْءٍ مِنَ الأُْجْرَةِ خِلاَفٌ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ النَّائِبَ بِالتَّمَتُّعِ فَأَفْرَدَ وَقَعَ عَنِ الْمُسْتَنِيبِ وَيَرُدُّ نِصْفَ النَّفَقَةِ؛ لأَِنَّهُ أَخَل بِالإِْحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ وَقَدْ أَمَرَهُ بِهِ، وَإِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ زِيَادَةٌ لاَ يَسْتَحِقُّ بِهِ شَيْئًا (2) .

هـ - أَمَرَهُ بِالْقِرَانِ فَأَفْرَدَ أَوْ تَمَتَّعَ:
31 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْجَرَهُ لِلْقِرَانِ فَعَدَل يُنْظَرُ: إِنْ عَدَل إِلَى الإِْفْرَادِ فَحَجَّ ثُمَّ اعْتَمَرَ، فَإِنْ كَانَتِ الإِْجَارَةُ عَلَى الْعَيْنِ لَزِمَهُ أَنْ يَرُدَّ مِنَ الأُْجْرَةِ حِصَّةَ الْعُمْرَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي " الْمَنَاسِكِ الْكَبِيرِ " لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْعَمَل فِي هَذِهِ الإِْجَارَةِ عَنِ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ نُظِرَ: إِنْ عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ لِلْعُمْرَةِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ زَادَ خَيْرًا وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَلاَ
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 28.
(2) المغني 5 / 28.

(42/38)


عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَيْضًا لأَِنَّهُ لَمْ يَقْرِنْ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ فَعَلَى الأَْجِيرِ دَمٌ لِمُجَاوَزَتِهِ الْمِيقَاتَ لِلْعُمْرَةِ.
وَهَل يَحُطُّ شَيْءٌ مِنَ الأُْجْرَةِ أَمْ تَنْجَبِرُ الإِْسَاءَةُ بِالدَّمِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ:
أَصَحُّهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَنْجَبِرُ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ لاَ مُخَالَفَةَ فَتَجِبُ جَمِيعُ الأُْجْرَةِ، وَأَظْهَرُهُمَا وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْمُخْتَصَرِ: يَحُطُّ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْحَطِّ.
وَإِنْ عَدَل إِلَى التَّمَتُّعِ، فَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتْ إِجَارَةَ عَيْنٍ لَمْ يَقَعِ الْحَجُّ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ لِوُقُوعِهِ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ وَهَذَا هُوَ قِيَاسُ مَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الذِّمَّةِ نُظِرَ: إِنْ عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ لِلْحَجِّ فَلاَ دَمَ عَلَيْهِ وَلاَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِلاَّ فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لاَ يُجْعَل مُخَالِفًا لِتَقَارُبِ الْجِهَتَيْنِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ كَمَا لَوِ امْتَثَل، وَفِي كَوْنِ الدَّمِ عَلَى الأَْجِيرِ أَوِ الْمُسْتَأْجِرِ الْوَجْهَانِ، وَأَصَحُّهَا يُجْعَل مُخَالِفًا فَيَجِبُ الدَّمُ عَلَى الأَْجِيرِ لإِِسَاءَتِهِ، وَفِي حَطِّ شَيْءٍ مِنَ الأُْجْرَةِ الْخِلاَفُ السَّابِقُ. وَذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الأَْجِيرِ دَمٌ لِتَرْكِهِ الإِْحْرَامَ مِنَ الْمِيقَاتِ وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ دَمٌ آخَرُ؛ لأَِنَّ الْقِرَانَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ

(42/38)


يَتَضَمَّنُهُ، وَاسْتَبْعَدَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ النَّائِبَ بِالْقِرَانِ فَأَفْرَدَ أَوْ تَمَتَّعَ، صَحَّ وَوَقَعَ النُّسُكَانِ عَنِ الآْمِرِ، وَيرُدُّ مِنَ النَّفَقَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ مِنْ إِحْرَامِ النُّسُكِ الَّذِي تَرَكَهُ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ إِذَا أَمَرَهُ بِالنُّسُكَيْنِ فَفَعَل أَحَدَهُمَا دُونَ الآْخَرِ رَدَّ مِنَ النَّفَقَةِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ وَوَقَعَ الْمَفْعُول عَنِ الآْمِرِ، وَلِلنَّائِبِ مِنَ النَّفَقَةِ بِقَدْرِهِ (2) .

و أَمَرَهُ بِالْحَجِّ فَحَجَّ ثُمَّ اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ:
32 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ النَّائِبَ بِالْحَجِّ فَحَجَّ ثُمَّ اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ، أَوْ أَمَرَ بِعُمْرَةٍ فَاعْتَمَرَ ثُمَّ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ صَحَّ، وَلَمْ يَرُدَّ شَيْئًا مِنَ النَّفَقَةِ؛ لأَِنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ (3) .

ز - أَمَرَهُ بِالإِْحْرَامِ مِنْ بَلَدِهِ فَخَالَفَ:
33 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ النَّائِبَ بِالإِْحْرَامِ مِنْ بَلَدِهِ، فَأَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ جَازَ لأَِنَّهُ الأَْفْضَل.
وَإِنْ أَمَرَ بِالإِْحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ مِنْ بَلَدِهِ جَازَ؛ لأَِنَّهُ زِيَادَةٌ لاَ تَضُرُّ (4) .
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 26، 27.
(2) المغني 5 / 28، وكشاف القناع 2 / 398.
(3) المغني 5 / 29.
(4) المغني 5 / 29.

(42/39)


ح - أَمَرَهُ بِالْحَجِّ فِي سَنَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَخَالَفَ:
34 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ النَّائِبَ بِالْحَجِّ فِي سَنَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ بِالاِعْتِمَارِ فِي شَهْرٍ مُعَيَّنٍ فَفَعَلَهُ فِي غَيْرِهِ جَازَ؛ لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَدَّمَ الأَْجِيرُ الْحَجَّ عَلَى السَّنَةِ الْمُعَيَّنَةِ جَازَ وَقَدْ زَادَ خَيْرًا (2) .

ط - النِّيَابَةُ عَنْ رَجُلٍ فِي الْحَجِّ وَعَنْ آخَرَ فِي الْعُمْرَةِ:
35 - إِذَا أَمَرَهُ أَحَدُهُمَا بِحَجَّةٍ وَأَمَرَهُ الآْخَرُ بِعُمْرَةٍ، فَإِنْ أَذِنَا لَهُ بِالْجَمْعِ - وَهُوَ الْقِرَانُ - فَجَمَعَ جَازَ.
لأَِنَّهُ أُمِرَ بِسَفَرٍ يَنْصَرِفُ بَعْضُهُ إِلَى الْحَجِّ وَبَعْضُهُ إِلَى الْعُمْرَةِ، وَقَدْ فَعَل ذَلِكَ فَلَمْ يَصِرْ مُخَالِفًا.
وَإِنْ لَمْ يَأْذَنَا لَهُ بِالْجَمْعِ فَجَمَعَ، ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ عَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ لأَِنَّهُ خَالَفَ؛ لأَِنَّهُ أُمِرَ بِسَفَرٍ يَنْصَرِفُ كُلُّهُ إِلَى الْحَجِّ وَقَدْ صَرَفَهُ إِلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَصَارَ مُخَالِفًا.
__________
(1) المغني 5 / 29.
(2) روضة الطالبين 3 / 23.

(42/39)


وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ وَاعْتَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ جَازَ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلاَنِ شَخْصًا: أَحَدُهُمَا لِيَحُجَّ عَنْهُ وَالثَّانِي لِيَعْتَمِرَ عَنْهُ فَقَرَنَ عَنْهُمَا، فَعَلَى الْجَدِيدِ يَقَعَانِ عَنِ الأَْجِيرِ، وَعَلَى الثَّانِي يَقَعُ عَنْ كُل وَاحِدٍ مَا اسْتَأْجَرَ لَهُ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنِ اسْتَنَابَهُ رَجُلٌ فِي الْحَجِّ وَآخَرُ فِي الْعُمْرَةِ، وَأَذِنَا لَهُ فِي الْقِرَانِ فَفَعَل جَازَ؛ لأَِنَّهُ نُسُكٌ مَشْرُوعٌ، وَإِنْ قَرَنَ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِمَا، صَحَّ، وَوَقَعَ عَنْهُمَا، وَيَرُدُّ مِنْ نَفَقَةِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهَا لأَِنَّهُ جَعَل السَّفَرَ عَنْهُمَا بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا.
وَإِنْ أَذِنَ أَحَدُهُمَا دُونَ الآْخَرِ، رَدَّ عَلَى غَيْرِ الأَْمْرِ نِصْفَ نَفَقَتِهِ وَحْدَهُ؛ لأَِنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي صِفَتِهِ لاَ فِي أَصْلِهِ (3) .
وَقَال الْقَاضِي: إِذَا لَمْ يَأْذَنَا لَهُ ضَمِنَ الْجَمِيعَ؛ لأَِنَّهُ أُمِرَ بِنُسُكٍ مُفْرَدٍ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ فَكَانَ مُخَالِفًا، كَمَا لَوْ أُمِرَ بِحَجٍّ فَاعْتَمَرَ (4) .
__________
(1) البدائع 2 / 215.
(2) المجموع 7 / 118، 119.
(3) المغني 5 / 29.
(4) المغني 5 / 29.

(42/40)


ي - الاِسْتِنَابَةُ فِي الْحَجِّ عَنْ رَجُلَيْنِ:
36 - لَوْ أَمَرَهُ رَجُلٌ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ حَجَّةً، وَأَمَرَهُ آخَرُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ أَيْضًا، فَأَحْرَمَ بِحَجَّةٍ، فَهَذَا لاَ يَخْلُو عَنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَنْ أَحَدِهِمَا:

الْحَالَةُ الأُْولَى: الإِْحْرَامُ بِحَجَّةٍ عَنْهُمَا مَعًا: 37 - إِذَا أَمَرَهُ بِالْحَجِّ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ عَنْهُمَا مَعًا يَكُونُ مُخَالِفًا، وَيَقَعُ الْحَجُّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ عَنْهُمَا مَعًا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ صَاحِبِهِ.
وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ لَهُمَا إِنْ كَانَ أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِمَا؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَرَهُ بِحَجٍّ تَامٍّ وَلَمْ يَفْعَل فَصَارَ مُخَالِفًا لأَِمْرِهِمَا فَلَمْ يَقَعْ حَجُّهُ عَنْهُمَا فَيَضْمَنُ لَهُمَا؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَرْضَ بِإِنْفَاقِ مَالِهِ فَيَضْمَنُ.
وَإِنَّمَا وَقَعَ الْحَجُّ عَنِ الْحَاجِّ لأَِنَّ الأَْصْل أَنْ يَقَعَ كُل فِعْلٍ عَنْ فَاعِلِهِ وَإِنَّمَا يَقَعُ لِغَيْرِهِ بِجُعْلِهِ، فَإِذَا خَالَفَ لَمْ يَصِرْ لِغَيْرِهِ فَبَقِيَ فِعْلُهُ لَهُ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ لأَِحَدِهِمَا لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ.
وَهَذَا بِخِلاَفِ الاِبْنِ إِذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَنْ أَبَوَيْهِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا؛ لأَِنَّ

(42/40)


الاِبْنَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِالْحَجِّ عَنِ الأَْبَوَيْنِ فَلاَ تَتَحَقَّقُ مُخَالَفَةُ الآْمِرِ، وَإِنَّمَا جَعَل ثَوَابَ الْحَجِّ الْوَاقِعِ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْحَقِيقَةِ لأَِبَوَيْهِ وَكَانَ مِنْ عَزْمِهِ أَنْ يَجْعَل ثَوَابَ حَجَّةٍ لَهُمَا، ثُمَّ نَقَضَ عَزْمَهُ وَجَعْلَهُ لأَِحَدِهِمَا، وَهَاهُنَا بِخِلاَفِهِ لأَِنَّ الْحَاجَّ مُتَصَرِّفٌ بِحُكْمِ الآْمِرِ وَقَدْ خَالَفَ أَمْرَهُمَا، فَلاَ يَقَعُ حَجُّهُ لَهُمَا وَلاَ لأَِحَدِهِمَا (1) .

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: الإِْحْرَامُ بِحَجَّةٍ عَنْ أَحَدِهِمَا:
38 - إِذَا أَمَرَاهُ بِالْحَجِّ فَأَحْرَمَ عَنْ أَحَدِهِمَا عَيْنًا وَقَعَ الْحَجُّ عَنِ الَّذِي عَيَّنَهُ، وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ لِلآْخَرِ وَهَذَا ظَاهِرٌ.
وَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَنْ أَحَدِهِمَا غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا عَنْ أَحَدِهِمَا أَيُّهُمَا شَاءَ مَا لَمْ يَتَّصِل بِهَا الأَْدَاءُ وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ اسْتِحْسَانًا (2) ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ احْتِمَالٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ (3) .
وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ: أَنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّ الإِْحْرَامَ لَيْسَ مِنَ الأَْدَاءِ بَل هُوَ شَرْطُ جَوَازِ أَدَاءِ أَفْعَال
__________
(1) البدائع 2 / 214 - 215، والمجموع 7 / 138، والمغني 5 / 29، 30.
(2) البدائع 2 / 215.
(3) المجموع 7 / 138، والمغني 5 / 29، 30.

(42/41)


الْحَجِّ فَيَقْتَضِي تَصَوُّرَ الأَْدَاءِ، وَالأَْدَاءُ مُتَصَوَّرٌ بِوَاسِطَةِ التَّعْيِينِ، فَإِذَا جَعَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا قَبْل أَنْ يَتَّصِل بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَال الْحَجِّ تَعَيَّنَ لَهُ فَيَقَعُ عَنْهُ.
فَإِذَا لَمْ يَجْعَل الْحَجَّةَ عَنْ أَحَدِهِمَا حَتَّى طَافَ شَوْطًا، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهَا عَنْ أَحَدِهِمَا لَمْ تَجُزْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لأَِنَّهُ إِذَا اتَّصَل بِهِ الأَْدَاءُ تَعَذَّرَ تَعْيِينُ الْقَدْرِ الْمُؤَدَّى؛ لأَِنَّ الْمُؤَدَّى قَدْ مَضَى وَانْقَضَى فَلاَ يُتَصَوَّرُ تَعْيِينُهُ فَيَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ، وَصَارَ إِحْرَامُهُ وَاقِعًا لَهُ لاِتِّصَال الأَْدَاءِ بِهِ (1) .
وَالْقِيَاسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَهَا عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (2) وَيَقَعُ الْحَجُّ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ لَهُمَا، وَهُوَ احْتِمَالٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (3) .
وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ خَالَفَ الأَْمْرَ لأَِنَّهُ أُمِرَ بِالْحَجِّ لِمُعَيَّنٍ وَقَدْ حَجَّ لِمُبْهَمٍ، وَالْمُبْهَمُ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ، فَصَارَ مُخَالِفًا وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ، وَيَقَعُ الْحَجُّ عَنْ نَفْسِهِ. بِخِلاَفِ مَا إِذَا أَحْرَمَ الاِبْنُ بِالْحَجِّ عَنْ أَحَدِ أَبَوَيْهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ مُعَيَّنًا؛ لأَِنَّ الاِبْنَ فِي حَجِّهٍ لأَِبَوَيْهِ لَيْسَ مُتَصَرِّفًا بِحُكْمِ الآْمِرِ حَتَّى يَصِيرَ مُخَالِفًا لِلأَْمْرِ، بَل هُوَ
__________
(1) البدائع 2 / 215.
(2) البدائع 2 / 214.
(3) المغني 5 / 30.

(42/41)


يَحُجُّ عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ يَجْعَل ثَوَابَ حَجِّهِ لأَِحَدِهِمَا وَذَلِكَ جَائِزٌ وَهَاهُنَا بِخِلاَفِهِ (1) .
وَإِنْ أَحْرَمَ عَنْ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ؛ لأَِنَّهُ إِذَا وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَلَمْ يَنْوِهَا فَمَعَ نِيَّتِهِ أَوْلَى (2) .

ك - اسْتَنَابَهُ فِي الْحَجِّ فَحَجَّ عَنْهُ مَاشِيًا:
39 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فَحَجَّ عَنْهُ مَاشِيًا يَضْمَنُ لأَِنَّهُ خَالَفَهُ؛ لأَِنَّ الأَْمْرَ بِالْحَجِّ يَنْصَرِفُ إِلَى الْحَجِّ الْمُتَعَارَفِ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ الْحَجُّ رَاكِبًا لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِذَلِكَ، فَعِنْدَ الإِْطْلاَقِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ، فَإِذَا حَجَّ مَاشِيًا فَقَدْ خَالَفَ فَيَضْمَنُ، وَلأَِنَّ الَّذِي يَحْصُل لِلآْمِرِ مِنَ الأَْمْرِ بِالْحَجِّ هُوَ ثَوَابُ النَّفَقَةِ، وَالنَّفَقَةُ فِي الرُّكُوبِ أَكْثَرُ فَكَانَ الثَّوَابُ فِيهِ أَوْفَرَ.
وَلِهَذَا قَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إِنْ حَجَّ عَلَى حِمَارٍ كَرِهْتُ لَهُ ذَلِكَ، وَالْجَمَل أَفْضَل لأَِنَّ النَّفَقَةَ فِي رُكُوبِ الْجَمَل أَكْثَرُ، فَكَانَ حُصُول الْمَقْصُودِ فِيهِ أَكْمَل فَكَانَ أَوْلَى (3) .

ل - فَعَل النَّائِبُ فِي الْحَجِّ مَا يُوجِبُ الدَّمَ أَوْ غَيْرَهُ:
40 - إِذَا فَعَل الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ مَا يُوجِبُ الدَّمَ
__________
(1) البدائع 2 / 214.
(2) المغني 5 / 30.
(3) البدائع 2 / 215.

(42/42)


فَالدَّمُ عَلَى الْمَأْمُورِ وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا لَوْ قَرَنَ عَنِ الآْمِرِ بِأَمْرِهِ فَدَمُ الْقِرَانِ عَلَى الْمَأْمُورِ، هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ عَلَى الآْمِرِ كَمَا لَوْ حَجَّ بِنَفْسِهِ لأَِنَّهُ الَّذِي شَرَطَ الْقِرَانَ (1) .
قَال الْحَنَفِيَّةُ فِي تَوْجِيهِ الرَّأْيِ الأَْوَّل: وَالْحَاصِل أَنَّ جَمِيعَ الدِّمَاءِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالإِْحْرَامِ فِي مَال الْحَاجِّ إِلاَّ دَمَ الإِْحْصَارِ خَاصَّةً فَإِنَّهُ فِي مَال الْمَحْجُوجِ عَنْهُ، كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ.
وَذَكَرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ دَمَ الإِْحْصَارِ عَلَى الْحَاجِّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ (2) .
أَمَّا مَا يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ فَلأَِنَّهُ هُوَ الَّذِي جَنَى فَكَانَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَلأَِنَّهُ أَمَرَ بِحَجٍّ خَالٍ عَنِ الْجِنَايَةِ فَإِذَا جَنَى فَقَدْ خَالَفَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْخِلاَفِ.
وَأَمَّا دَمُ الْقِرَانِ فَلأَِنَّهُ دَمُ نُسُكٍ لأَِنَّهُ يَجِبُ
__________
(1) البدائع 2 / 215، والمجموع 7 / 132، وشرح منتهى الإرادات 1 / 522، والمغني 5 / 25، والدسوقي 2 / 14.
(2) ابن عابدين 2 / 246.

(42/42)


شُكْرًا وَسَائِرُ أَفْعَال النُّسُكِ عَلَى الْحَاجِّ فَكَذَا هَذَا النُّسُكُ، وَأَمَّا دَمُ الإِْحْصَارِ فَلأَِنَّ الْمَحْجُوجَ عَنْهُ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ فَكَانَ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ وَالْمُؤْنَةِ وَذَلِكَ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا (1) .
وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقِرَانِ فَأَتَى بِهِ فَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلنَّفَقَةِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَحَدِ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
قَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِنْفَاقِ الْمَال لِسَفَرٍ مُفْرَدٍ لِلْحَجِّ، وَقَدْ خَالَفَ، فَيَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَيَضْمَنُ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالْوَجْهُ الآْخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَضْمَنُ لأَِنَّ الْقِرَانَ أَفْضَل، فَقَدْ فَعَل الْمَأْمُورَ بِهِ عَلَى وَجْهٍ أَحْسَنَ فَلاَ يَكُونُ مُخَالِفًا، كَالْوَكِيل إِذَا بَاعَ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَمَّى لَهُ الْمُوَكِّل (2) .

م - جِمَاعُ النَّائِبِ فِي الْحَجِّ قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ:
41 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْحَاجَّ عَنِ الْغَيْرِ إِذَا جَامَعَ قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَ حَجُّهُ وَيَمْضِي
__________
(1) البدائع 2 / 215.
(2) فتح القدير 3 / 153، وروضة الطالبين 3 / 26، والمغني 5 / 25، 26.

(42/43)


فِيهِ وَالنَّفَقَةُ فِي مَالِهِ وَيَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ مِنْ مَال الْمَحْجُوجِ عَنْهُ قَبْل ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مِنْ مَال نَفْسِهِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) . قَال الْكَاسَانِيُّ: أَمَّا فَسَادُ الْحَجِّ فَلأَِنَّ الْجِمَاعَ قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ، وَالْحَجَّةُ الْفَاسِدَةُ يَجِبُ الْمُضِيُّ فِيهَا، وَيَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ مِنْ مَال الْمَحْجُوجِ عَنْهُ قَبْل ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مِنْ مَال نَفْسِهِ، وَيَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ مِنْ مَال الآْمِرِ قَبْل ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ خَالَفَ؛ لأَِنَّهُ أَمَرَهُ بِحَجَّةٍ صَحِيحَةٍ وَهِيَ الْخَالِيَةُ عَنِ الْجِمَاعِ وَلَمْ يَفْعَل ذَلِكَ فَصَارَ مُخَالِفًا، فَيَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ وَمَا بَقِيَ يُنْفِقُ فِيهِ مِنْ مَالِهِ لأَِنَّ الْحَجَّ وَقَعَ لَهُ، وَيَقْضِي لأَِنَّ مَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ (2) .

ثَانِيًا: النِّيَابَةُ عَنِ الْحَيِّ فِي بَعْضِ الأَْعْمَال:
أ - النِّيَابَةُ فِي التَّلْبِيَةِ:
42 - تَجُوزُ الإِْنَابَةُ فِي التَّلْبِيَةِ عِنْدَ عَجْزِ الْحَاجِّ بِنَفْسِهِ بِأَمْرِهِ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ (3) حَتَّى لَوْ تَوَجَّهَ يُرِيدُ حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ فَلَبَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَكَانَ قَدْ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، حَتَّى لَوْ عَجَزَ عَنْهُ بِنَفْسِهِ يَجُوزُ بِإِجْمَاعِهِمْ. فَإِنْ لَمْ
__________
(1) البدائع 2 / 215، وابن عابدين 2 / 247، ومغني المحتاج 1 / 522، والمجموع 7 / 134.
(2) البدائع 2 / 215.
(3) البدائع 2 / 161.

(42/43)


يَأْمُرْهُمْ بِذَلِكَ نَصًّا فَأَهَلُّوا عَنْهُ جَازَ أَيْضًا فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ؛ لأَِنَّ الأَْمْرَ هَاهُنَا مَوْجُودٌ دَلاَلَةً، وَهِيَ دَلاَلَةُ عَقْدِ الْمُرَافَقَةِ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْ رُفَقَائِهِ الْمُتَوَجِّهِينَ إِلَى الْكَعْبَةِ يَكُونُ آذِنًا لِلآْخَرِ بِإِعَانَتِهِ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ، فَكَانَ الأَْمْرُ مَوْجُودًا دَلاَلَةً، وَسَعْيُ الإِْنْسَانِ جَازَ أَنْ يُجْعَل سَعْيًا لِغَيْرِهِ بِأَمْرِهِ (1) ، بِمُوجِبِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (2) } .
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لاَ يَجُوزُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ السَّعْيُ فِي التَّلْبِيَةِ؛ لأَِنَّ فِعْل غَيْرِهِ لاَ يَكُونُ فِعْلَهُ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يُجْعَل فِعْلاً لَهُ تَقْدِيرًا بِأَمْرِهِ وَلَمْ يُوجَدْ، بِخِلاَفِ الطَّوَافِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ الْفِعْل هُنَاكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، بَل الشَّرْطُ حُصُولُهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَقَدْ حَصَل، وَالشَّرْطُ هَاهُنَا هُوَ التَّلْبِيَةُ، وَقَوْل غَيْرِهِ لاَ يَصِيرُ قَوْلاً لَهُ إِلاَّ بِأَمْرِهِ وَلَمْ يُوجَدْ (3) .

ب - النِّيَابَةُ فِي الرَّمْيِ:
43 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ الرَّمْيِ بِنَفْسِهِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَرْمِي عَنْهُ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رَمْيٍ ف 23) .
__________
(1) البدائع 2 / 161، والهداية مع فتح القدير 2 / 402.
(2) سورة النجم / 39.
(3) البدائع 2 / 161، والهداية مع فتح القدير 2 / 402.

(42/44)


ثَالِثًا: النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ عَنِ الْمَيِّتِ:
أ - النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي حَجِّ الْفَرْضِ:
44 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ مَتَى تُوُفِّيَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَلَمْ يَحُجَّ، وَجَبَ أَنْ يُخْرَجَ عَنْهُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ مَا يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ وَيُعْتَمَرُ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أَمْ لاَ. وَبِهَذَا قَال ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَالْحَسَنُ وَطَاوُوسٌ (1) . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُول:
أَمَّا السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ فَقَدْ رَوَى بُرَيْدَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّ أُمَّهَا مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ، قَال: حُجِّي عَنْهَا (2) . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ امْرَأَةً نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَمَاتَتْ، فَأَتَى أَخُوهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَال: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أُخْتِكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَال: نَعَمْ. قَال: فَاقْضُوا اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ (3) .
__________
(1) المجموع 7 / 109، 112، ومغني المحتاج 1 / 468، والمغني 5 / 38 وما بعدها، وكشاف القناع 2 / 392، 393، وشرح منتهى الإرادات 1 / 519
(2) حديث بريدة: " أن امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه مسلم (2 / 805 ط الحلبي) .
(3) حديث ابن عباس: " أن امرأة نذرت أن تحج. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 584 ط السلفية) ، والنسائي (5 / 116 ط المكتبة التجارية) واللفظ للنسائي.

(42/44)


وَأَمَّا الْمَعْقُول فَلأَِنَّهُ حَقٌّ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ لَزِمَهُ فِي حَال الْحَيَاةِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَدَيْنِ الآْدَمِيِّ (1) .
وَالْعُمْرَةُ كَالْحَجِّ فِي الْقَضَاءِ فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ " وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا رَزِينٍ أَنْ يَحُجَّ عَنْ أَبِيهِ وَيَعْتَمِرَ (2) " وَيَكُونُ مَا يَحُجُّ بِهِ وَيَعْتَمِرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ لَهُ دَيْنٌ مُسْتَقِرٌّ؛ لأَِنَّهُ دَيْنٌ مُسْتَقِرٌّ، فَكَانَ مِنْ جَمِيعِ الْمَال كَدَيْنِ الآْدَمِيِّ (3) .
هَذَا فِي الْحَجِّ الْفَرْضِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي حَجِّ النَّذْرِ وَالْقَضَاءِ (4) .
وَيَجُوزُ الْحَجُّ مِنَ الْوَارِثِ وَمِنَ الأَْجْنَبِيِّ سَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْوَارِثُ أَمْ لاَ بِلاَ خِلاَفٍ كَمَا قَال النَّوَوِيُّ (5) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الاِسْتِنَابَةَ فِي الْحَجِّ مَكْرُوهَةٌ، إِلاَّ أَنَّ الْمَيِّتَ إِذَا أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَنْفُذُ مِنَ الثُّلُثِ، وَهُوَ قَوْل الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ لأَِنَّهُ
__________
(1) المجموع 7 / 109، والمغني 5 / 39.
(2) حديث: " أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا رزين أن يحج عن أبيه ويعتمر. . . " أخرجه الترمذي (3 / 269 - 270 ط الحلبي) وقال: حديث حسن صحيح.
(3) المغني 5 / 39.
(4) المجموع 7 / 114، والمغني 5 / 39.
(5) المجموع 7 / 114.

(42/45)


عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ كَالصَّلاَةِ (1) .
زَادَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَنْفُذُ مِنَ الثُّلْثِ، سَوَاءٌ كَانَ صَرُورَةً أَمْ غَيْرَ صَرُورَةٍ، وَقَال أَشْهَبُ: إِنْ كَانَ صَرُورَةً نَفِذَتْ مِنْ رَأْسِ الْمَال، فَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا لَمْ يُحَجَّ عَنْهُ (2) .
وَقَال ابْنُ كِنَانَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ بِهِ؛ لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ لاَ تُبِيحُ الْمَمْنُوعَ وَيُصْرَفُ الْقَدْرُ الْمُوصَى بِهِ فِي الْهَدَايَا (3) .

ب - النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ:
45 - يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ مَعَ الْكَرَاهَةِ الاِسْتِنَابَةُ فِي حَجِّ تَطَوُّعٍ لَمْ يُوصِ بِهِ الْمَيِّتُ، وَكَذَا التَّطَوُّعُ عَنْهُ بِلاَ اسْتِنَابَةٍ (4) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الاِسْتِنَابَةُ فِيهِ (5) .
أَمَّا إِذَا أَوْصَى الْمَيِّتُ بِحَجِّ التَّطَوُّعِ عَنْهُ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَفِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ جَوَازَ الاِسْتِنَابَةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 242، والخرشي 2 / 296، والمغني 5 / 38.
(2) الحطاب 3 / 3.
(3) الخرشي 2 / 296.
(4) الفتاوى الهندية 1 / 258، وكشاف القناع 2 / 397، والخرشي 2 / 289.
(5) المجموع 7 / 114.

(42/45)


الشَّافِعِيَّةِ مَنْعُ الاِسْتِنَابَةِ فِيهِ لأَِنَّهُ إِنَّمَا جَازَ الاِسْتِنَابَةُ فِي الْفَرْضِ لِلضَّرُورَةِ، وَلاَ يَجُوزُ فِي النَّفْل (1) .

مَكَانُ الاِسْتِنَابَةِ عَنِ الْمَيِّتِ:
46 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُحَجُّ عَنِ الْمَيِّتِ مِنْ بَلَدِهِ، قِيَاسًا لاَ اسْتِحْسَانًا، أَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَمَّا الاِسْتِحْسَانُ فَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ بَلَدِهِ الَّذِي يَسْكُنُهُ، وَإِلاَّ فَمِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَوْطَانٌ، فَمِنْ أَقْرَبِهَا إِلَى مَكَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَطَنٌ فَمِنْ حَيْثُ مَاتَ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْمُوصِيَ إِذَا عَيَّنَ مَوْضِعَ الإِْحْرَامِ الَّذِي يُحْرِمُ مِنْهُ الأَْجِيرُ فَلاَ نِزَاعَ فِي أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ إِحْرَامُهُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ ذَلِكَ وَأَطْلَقَ تَعَيَّنَ عَلَى الأَْجِيرِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِ الْمَيِّتِ، سَوَاءٌ كَانَ الأَْجِيرُ مِنْ بِلاَدِ الْمَيِّتِ أَوْ مِنْ بِلاَدٍ أُخْرَى لَهُمْ مِيقَاتٌ آخَرُ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمُوصِي مِصْرِيًّا وَالأَْجِيرُ مَدَنِيًّا. وَظَاهِرُهُ: مَاتَ الْمُوصِي بِبَلَدِهِ أَوْ بِغَيْرِهَا، كَانَتِ الْوَصِيَّةُ أَوِ الإِْجَارَةُ بِبَلَدِ الْمَيِّتِ أَوْ بِغَيْرِهَا كَالْمَدِينَةِ مَثَلاً،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 238، وفتح القدير 3 / 144، ومواهب الجليل 3 / 3، والمجموع 7 / 114، والمغني 3 / 244 ط مكتبة ابن تيمية.
(2) ابن عابدين 2 / 242.

(42/46)


وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، خِلاَفًا لأَِشْهَبَ حَيْثُ قَال: إِنَّهُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ يُعْتَبَرُ مِيقَاتُ بَلَدِ الْعَقْدِ - كَانَتْ بَلَدَ الْمَيِّتِ أَوْ غَيْرَهَا - وَاسْتَحْسَنَهُ اللَّخْمِيُّ وَصَاحِبُ الطِّرَازِ، قَال الْحَطَّابُ: وَهُوَ أَقْوَى (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ عَنِ الْمَيِّتِ مِنَ الْمِيقَاتِ؛ لأَِنَّ الْحَجَّ يَجِبُ مِنَ الْمِيقَاتِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَنَابُ مَنْ يَحُجُّ عَنِ الْمَيِّتِ مِنْ حَيْثُ وَجَبَ عَلَيْهِ، إِمَّا مِنْ بَلَدِهِ أَوْ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَيْسَرَ فِيهِ؛ لأَِنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ بَلَدِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ مِنْهُ؛ لأَِنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ عَلَى وَفْقِ الأَْدَاءِ كَقَضَاءِ الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ.
فَإِنْ كَانَ لَهُ وَطَنَانِ اسْتُنِيبَ مِنْ أَقْرَبِهِمَا، فَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِخُرَاسَانَ وَمَاتَ بِبَغْدَادَ، أَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِبَغْدَادَ فَمَاتَ بِخُرَاسَانَ فَقَال أَحْمَدُ: يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ وَجَبَ عَلَيْهِ لاَ مِنْ حَيْثُ مَوْتُهُ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مِنْ أَقْرَبِ الْمَكَانَيْنِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا فِي أَقْرَبِ الْمَكَانَيْنِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ أَبْعَدَ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ نَائِبُهُ.
فَإِنْ أَحَجَّ عَنْهُ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَقَال الْقَاضِي:
__________
(1) الدسوقي 2 / 12.
(2) المجموع 7 / 109.

(42/46)


إِنْ كَانَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ أَجْزَأَهُ؛ لأَِنَّهُ فِي حُكْمِ الْقَرِيبِ، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ الْوَاجِبَ بِكَمَالِهِ، وَيُحْتَمَل أَنْ يُجْزِئَهُ، وَيَكُونُ مُسِيئًا كَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الإِْحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ مِنْ دُونِهِ.
فَإِنْ خَرَجَ لِلْحَجِّ أَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ، حَجَّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ مَاتَ؛ لأَِنَّهُ أَسْقَطَ بَعْضَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجِبْ ثَانِيًا.
وَكَذَلِكَ إِنْ مَاتَ نَائِبُهُ اسْتُنِيبَ حَيْثُ مَاتَ لِذَلِكَ (1) .

النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ بِأُجْرَةٍ:
47 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الاِسْتِئْجَارُ عَلَى الْحَجِّ عَنِ الْمَيِّتِ.
أَمَّا عَنِ الْحَيِّ فَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ لِلْعُذْرِ الْمَيْئُوسِ عَنْ زَوَالِهِ وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَلاَ يَجُوزُ الاِسْتِئْجَارُ عَلَى الْحَجِّ عَنِ الْحَيِّ عِنْدَهُمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِئْجَارُ عَلَى الْحَجِّ عَنِ الْحَيِّ أَوِ
__________
(1) المغني 5 / 39، 40، وشرح منتهى الإرادات 1 / 519.

(42/47)


الْمَيِّتِ، فَإِنْ وَقَعَتِ الإِْجَارَةُ فَهِيَ بَاطِلَةٌ لَكِنَّ الْحَجَّةَ تَقَعُ عَنِ الأَْصِيل، وَلِمَنْ حَجَّ نَفَقَةُ مِثْلِهِ لأَِنَّهُ حَبَسَ نَفْسَهُ لِمَنْفَعَةِ الأَْصِيل، فَوَجَبَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ (1) .

رَابِعًا: النِّيَابَةُ فِي الأُْضْحِيَّةِ:
48 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي ذَبْحِ الأُْضْحِيَّةِ إِذَا كَانَ النَّائِبُ مُسْلِمًا، وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّتِهَا إِذَا كَانَ النَّائِبُ كِتَابِيًّا، وَالْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ بِمَوْضِعِ ذَبْحِ الأُْضْحِيَّةِ لاَ مَوْضِعِ الْمُضَحَّى عَنْهُ عَلَى خِلاَفٍ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أُضْحِيَّة ف 64) .

خَامِسًا: النِّيَابَةُ فِي الْوَظَائِفِ:
49 - اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي جَوَازِ الاِسْتِنَابَةِ فِي الْوَظَائِفِ.
فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ - مِنْهُمُ الطَّرْطُوسِيُّ - إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الاِسْتِنَابَةِ لأَِرْبَابِ الْوَظَائِفِ حَتَّى مَعَ قِيَامِ الأَْعْذَارِ. وَيَرَى آخَرُونَ - مِنْهُمْ صَاحِبُ الْخُلاَصَةِ - جَوَازَ الاِسْتِنَابَةِ فِي الْوَظَائِفِ.
وَقَال الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ: يَجِبُ تَقْيِيدُ جَوَازِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 240، والدسوقي 2 / 11، 13، والمجموع 7 / 120، 114، 115، ونهاية المحتاج 3 / 254، والمغني 5 / 23.

(42/47)


الاِسْتِنَابَةِ بِوَظِيفَةٍ تَقْبَل الإِْنَابَةَ كَالتَّدْرِيسِ بِخِلاَفِ التَّعَلُّمِ، وَحَيْثُ تَحَرَّرَ الْجَوَازُ فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَنَابُ مُسَاوِيًا لِلنَّائِبِ فِي الْفَضِيلَةِ أَوْ فَوْقَهُ أَوْ دُونَهُ.
وَاشْتَرَطَ أَبُو السُّعُودِ لِجَوَازِ الاِسْتِنَابَةِ الْعُذْرَ الشَّرْعِيَّ، وَكَوْنَ الْوَظِيفَةِ مِمَّا يَقْبَل النِّيَابَةَ كَالإِْفْتَاءِ وَالتَّدْرِيسِ، وَكَوْنَ النَّائِبِ مِثْل الأَْصِيل أَوْ خَيْرًا مِنْهُ، وَأَنَّ الْمَعْلُومَ بِتَمَامِهِ يَكُونُ لِلنَّائِبِ لَيْسَ لِلأَْصِيل مِنْهُ شَيْءٌ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الاِسْتِنَابَةِ فِي أَيَّامِ الْعُذْرِ وَقَالُوا: جَازَ لِلْمُسْتَنِيبِ تَنَاوُل رِيعِ الْوَقْفِ وَأَنْ يُطْلِقَ لِنَائِبِهِ مَا أَحَبَّ مِنْ ذَلِكَ الرِّيعِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الأَْعْذَارِ فَلاَ تَجُوزُ الاِسْتِنَابَةُ عِنْدَهُمْ فِي الْوَظَائِفِ، قَال فِي الْمَسَائِل الْمَلْقُوطَةِ: مَنْ وَلاَّهُ الْوَاقِفُ عَلَى وَظِيفَةٍ بِأُجْرَةٍ، فَاسْتَنَابَ فِيهَا غَيْرَهُ وَلَمْ يُبَاشِرِ الْوَظِيفَةَ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ تَنَاوُل الأُْجْرَةِ وَلاَ لِنَائِبِهِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُبَاشِرِ الْوَظِيفَةَ بِنَفْسِهِ، وَمَا عُيِّنَ لَهُ النَّاظِرُ لاَ يَسْتَحِقُّهُ إِلاَّ بِمُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُعَيِّنِ النَّاظِرُ النَّائِبَ فِي الْوَظِيفَةِ، فَمَا تَنَاوَلاَهُ حَرَامٌ (2) .
وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي جَوَازِ الاِسْتِنَابَةِ فِي
__________
(1) ابن عابدين 3 / 408.
(2) مواهب الجليل 6 / 37، والفروق 3 / 4.

(42/48)


الْوَظَائِفِ، فَقَدْ جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الْقَلْيُوبِيِّ: الاِسْتِنَابَةُ فِي الْوَظَائِفِ الَّتِي تَقْبَل النِّيَابَةَ جَائِزَةٌ إِذَا كَانَ النَّائِبُ مِثْل الْمُسْتَنِيبِ أَوْ أَعْلَى، وَيَسْتَحِقُّ الْمُسْتَنِيبُ جَمِيعَ الْمَعْلُومِ وَإِنْ جَعَل لِلنَّائِبِ شَيْئًا وَجَبَ دَفْعُهُ.
وَجَاءَ فِي حَاشِيَةِ عَمِيرَةَ مَا يُفِيدُ أَنَّ الاِسْتِنَابَةَ فِي الْوَظَائِفِ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَلاَ يَسْتَحِقُّ الْمُسْتَنِيبُ وَلاَ النَّائِبُ شَيْئًا، لَكِنْ تَجُوزُ الاِسْتِنَابَةُ إِذَا كَانَتْ بِإِذْنِ الْوَاقِفِ (1) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ قَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: النِّيَابَةُ فِي الأَْعْمَال الْمَشْرُوطَةِ مِنْ تَدْرِيسٍ وَإِمَامَةٍ وَخَطَابَةٍ وَأَذَانٍ وَغَلْقِ بَابٍ وَنَحْوِهَا جَائِزَةٌ، إِذَا كَانَ النَّائِبُ مِثْل مُسْتَنِيبِهِ فِي كَوْنِهِ أَهْلاً لِمَا اسْتُنِيبَ فِيهِ، ثُمَّ قَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: مَنْ أَكَل أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِل قَوَّمَ لَهُمْ رَوَاتِبَ أَضْعَافَ حَاجَاتِهِمْ وَقَوَّمَ لَهُمْ جِهَاتٍ مَعْلُومُهَا كَثِيرٌ يَأْخُذُونَهُ وَيَسْتَنِيبُونَ فِيهَا بِيَسِيرٍ مِنَ الْمَعْلُومِ لأَِنَّ هَذَا خِلاَفُ غَرَضِ الْوَاقِفِينَ (2) .
__________
(1) حاشيتي القليوبي وعميرة 3 / 132.
(2) كشاف القناع 4 / 268، والإنصاف 7 / 69.

(42/48)


نِيَاحَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - النِّيَاحَةُ لُغَةً اسْمٌ مِنَ النَّوْحِ، مَصْدَرُ نَاحَ يَنُوحُ نَوْحًا وَنُوَاحًا وَنِيَاحًا. وَهِيَ: الْبُكَاءُ بِصَوْتٍ عَالٍ، كَالْعَوِيل. وَالنَّائِحَةُ: الْبَاكِيَةُ. وَأَصْل التَّنَاوُحِ: التَّقَابُل، وَمِنْهُ تَنَاوُحُ الْجَبَلَيْنِ؛ أَيْ تَقَابُلُهُمَا، وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ النِّسَاءُ النَّوَائِحُ نَوَائِحَ لأَِنَّ بَعْضَهُنَّ يُقَابِل بَعْضًا إِذَا نُحْنَ. وَكَانَ النِّسَاءُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُقَابِل بَعْضُهُنَّ بَعْضًا، فَيَبْكِينَ وَيَنْدُبْنَ الْمَيِّتَ، فَهَذَا هُوَ النَّوْحُ وَالنِّيَاحَةُ. وَيُطْلَقُ عَلَى النِّسَاءِ اللَّوَاتِي يَجْتَمِعْنَ فِي مَنَاحَةٍ: نَوَائِحُ ونُوَّحٌ وَنَوْحٌ وَأَنْوَاحٌ وَنَائِحَاتٌ. وَنَوْحُ الْحَمَامَةِ: مَا تُبْدِيه مِنْ سَجْعِهَا عَلَى شَكْل النَّوْحِ. وَاسْتَنَاحَ الرَّجُل، كَنَاحٍ: بَكَى حَتَّى اسْتَبْكَى غَيْرَهُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ النِّيَاحَةِ.
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس، والمصباح المنير، وجمهرة اللغة، والصحاح، والنظم المستعذب في شرح غريب المهذب 1 / 136.

(42/49)


فَعَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهَا: الْبُكَاءُ مَعَ نَدْبِ الْمَيِّتِ؛ أَيْ تَعْدِيدِ مَحَاسِنِهِ. وَقِيل: هِيَ الْبُكَاءُ مَعَ صَوْتٍ (1) .
وَحَاصِل كَلاَمِ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ النِّيَاحَةَ عِنْدَهُمْ هِيَ الْبُكَاءُ إِذَا اجْتَمَعَ مَعَهُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: صُرَاخٌ أَوْ كَلاَمٌ مَكْرُوهٌ (2) .
وَعَرَّفَهَا أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهَا: رَفْعُ الصَّوْتِ بِالنَّدْبِ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ بُكَاءٍ، وَقِيل: مَعَ الْبُكَاءِ (3) .
وَعَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهَا رَفْعُ الصَّوْتِ بِالنَّدْبِ بِرَنَّةٍ أَوْ بِكَلاَمٍ مُسَجَّعٍ (4) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبُكَاءُ:
2 - الْبُكَاءُ: مَصْدَرُ بَكَى، يُمَدُّ وَيُقْصَرُ،
__________
(1) عون المعبود 8 / 399، وحاشية ابن عابدين 5 / 34، والمنهل العذب المورود 8 / 280.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 421، 422، والمنتقى 2 / 25، والفروق وتهذيب الفروق 2 / 172 وما بعدها، و 180 وما بعدها
(3) المجموع 5 / 280، ومغني المحتاج 1 / 356، والمنهاج وحاشية القليوبي 1 / 343، وحاشية العدوي على كفاية الطالب 1 / 347.
(4) نهاية المحتاج 3 / 16، ومغني المحتاج 1 / 356، وكشاف القناع 2 / 163، ومطالب أولي النهى 1 / 925.

(42/49)


فَيُقَال: بَكَى بُكَاءً وَبُكًى، وَهُوَ: خُرُوجُ الدَّمْعِ مِنَ الْعَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَ الصَّوْتِ أَوْ بِدُونِهِ. وَقِيل: هُوَ بِالْمَدِّ إِذَا كَانَ الصَّوْتُ أَغْلَبَ، وَيُقْصَرُ إِذَا كَانَ الْحُزْنُ أَغْلَبَ. وَقِيل: هُوَ بِالْقَصْرِ خُرُوجُ الدَّمْعِ فَقَطْ، وَبِالْمَدِّ خُرُوجُ الدَّمْعِ مَعَ الصَّوْتِ، وَيُقَال لِخُرُوجِ الدَّمْعِ مَعَ الصَّوْتِ: نَحِيبٌ، وَمَعَ الصِّيَاحِ: عَوِيلٌ (1) .
وَاسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلْبُكَاءِ لاَ يَخْرُجُ فِي مَعْنَاهُ عَمَّا ذُكِرَ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النِّيَاحَةِ وَالْبُكَاءِ هِيَ أَنَّ الْبُكَاءَ أَعَمُّ مِنَ النِّيَاحَةِ عِنْدَ مَنْ قَصَرَ مَعْنَاهَا عَلَى الْبُكَاءِ مَعَ رَفْعِ الصَّوْتِ، أَوْ عَلَى الْبُكَاءِ مَعَ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالنَّدْبِ، حَيْثُ تَكُونُ النِّيَاحَةُ إِحْدَى صُوَرِ الْبُكَاءِ. وَأَمَّا مَنْ جَعَل النِّيَاحَةَ شَامِلَةً لِرَفْعِ الصَّوْتِ بِالنَّدْبِ: سَوَاءٌ أَكَانَ مَعَهَا بُكَاءٌ أَمْ لاَ، فَإِنَّهَا تَكُونُ أَخَصَّ مِنَ الْبُكَاءِ مِنْ جِهَةٍ وَأَعَمَّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى.
__________
(1) لسان العرب والمصباح والقاموس المحيط، والكليات 1 / 429.
(2) حاشية قليوبي وعميرة على شرح المحلى شرح المنهاج 1 / 343، وكشاف القناع 2 / 162، وحاشية الباجوري 1 / 259، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 421، وشرح الخرشي 1 / 133، ومغني المحتاج 2 / 43.

(42/50)


ب - الرِّثَاءُ:
3 - الرِّثَاءُ: هُوَ الثَّنَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ بِذِكْرِ صِفَاتِهِ الْحَمِيدَةِ، نَثْرًا كَانَ أَوْ شِعْرًا (1) ، (ر: رِثَاء ف 1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الرِّثَاءِ وَالنِّيَاحَةِ أَنَّ الرِّثَاءَ يَقَعُ عَلَى سَبِيل الْمَدْحِ وَلاَ يَكُونُ بِلَفْظِ النِّدَاءِ (2) .
وَأَمَّا النِّيَاحَةُ فَتَكُونُ بِتَعْدِيدِ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ مَعَ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْبُكَاءِ أَوْ بِغَيْرِ بُكَاءٍ.

ج - التَّعْزِيَةُ:
4 - أَصْل الْعَزَاءِ هُوَ الصَّبْرُ، وَتَعْزِيَةُ أَهْل الْبَيْتِ: تَسْلِيَتُهُمْ وَتَأْسِيَتُهُمْ وَنَدْبُهُمْ إِلَى الصَّبْرِ، وَوَعْظُهُمْ بِمَا يُزِيل عَنْهُمُ الْحُزْنَ، فَكُل مَا يَجْلِبُ لِلْمُصَابِ صَبْرًا يُقَال لَهُ: تَعْزِيَةٌ (3) . (ر: تَعْزِيَة ف 1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ التَّعْزِيَةِ وَالنِّيَاحَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَلاَمٌ يُقَال بِمُنَاسَبَةِ الْمَوْتِ، وَلَكِنْ مَضْمُونُ كُلٍّ مِنْهُمَا مُخْتَلِفٌ، وَكَذَلِكَ مَقْصُودُهُمَا، فَبَيْنَمَا
__________
(1) الكليات للكفوي 5 / 79، وإرشاد الساري 2 / 406.
(2) الفروق 2 / 174، 175، ومغني المحتاج 2 / 44، ونهاية المحتاج 3 / 17.
(3) المصباح، والنظم المستعذب 1 / 138، 139، والزاهر ص 136، ونيل الأوطار 4 / 147.

(42/50)


تَتَضَمَّنُ التَّعْزِيَةُ كَلاَمًا يُوَجَّهُ إِلَى أَهْل الْمَيِّتِ مُبَاشَرَةً وَيُقْصَدُ بِهِ تَصْبِيرُهُمْ عَلَى الْمُصِيبَةِ، وَالدُّعَاءُ لَهُمْ، تَتَضَمَّنُ النِّيَاحَةُ كَلاَمًا يُجَدِّدُ الأَْحْزَانَ وَيُوحِي بِالتَّبَرُّمِ مِنَ الأَْقْدَارِ، لِذَلِكَ اخْتَلَفَا فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، حَتَّى كَانَ حُكْمُ التَّعْزِيَةِ أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ، وَحُكْمُ النِّيَاحَةِ التَّحْرِيمُ (1) .

د - النَّعْيُ:
5 - النَّعْيُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: هُوَ الإِْخْبَارُ بِالْمَوْتِ (2) . وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّعْيِ وَالنِّيَاحَةِ أَنَّ النَّعْيَ مُخْتَلِفٌ عَنِ النِّيَاحَةِ لأَِنَّهُ جَائِزٌ إِذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ نِيَاحَةً، وَلَكِنْ قَدْ يَقَعُ النَّعْيُ بِكَلاَمٍ فِيهِ نِيَاحَةٌ أَوْ بِأُسْلُوبِهَا، فَيَكُونُ نَعْيًا وَنِيَاحَةً فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَيَكُونُ حُكْمُهُمَا الشَّرْعِيُّ وَاحِدًا، وَهُوَ التَّحْرِيمُ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ النِّيَاحَةَ مُحَرَّمَةٌ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ بِالْكَرَاهَةِ، وَيَقْصِدُونَ بِهَا الْكَرَاهَةَ التَّحْرِيمِيَّةَ لأَِنَّهُمْ عَدُّوهَا مِنَ الْمَعَاصِي
__________
(1) المهذب 1 / 138، 139، والقوانين الفقهية ص 95.
(2) المصباح، والنظم المستعذب 1 / 132، وقواعد الفقه للبركتي.

(42/51)


الَّتِي لاَ تَصِحُّ الإِْجَارَةُ عَلَيْهَا (1) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (2) } ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} هُوَ النَّوْحُ (3) . فَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: أَخَذَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْبَيْعَةِ أَنْ لاَ نَنُوحَ (4) .
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِأَحَادِيثَ، مِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 34، وبدائع الصنائع 1 / 310، و 4 / 189، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، وتقريرات الشيخ عليش 1 / 421، وشرح الخرشي 1 / 133، والمنهاج ومغني المحتاج 2 / 43، والمجموع 5 / 281، والإنصاف 3 / 568، ومطالب أولي النهى 1 / 925.
(2) سورة الممتحنة / 12.
(3) أحكام القرآن للجصاص 3 / 589، وتفسير القرطبي 12 / 72، وتفسير الماوردي 4 / 229.
(4) حديث أم عطية: " أخذ علينا النبي صلى الله عليه وسلم عند البيعة أن لا ننوح. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 176 ط السلفية) ومسلم (2 / 645 ط الحلبي) .

(42/51)


النَّسَبِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ (1) ، وَالْمَقْصُودُ كُفْرُ النِّعْمَةِ إِنْ لَمْ يَقَعْ مَعَ الاِسْتِحْلاَل، وَإِلاَّ فَهُوَ رِدَّةٌ، وَكِلاَهُمَا حَرَامٌ بِلاَ شَكٍّ.
وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: نُهِيتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ: صَوْتٌ عِنْدَ نِعْمَةٍ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَمَزَامِيرُ شَيْطَانٍ، وَصَوْتٌ عِنْدَ مُصِيبَةٍ خَمْشُ وُجُوهٍ وَشَقُّ جُيُوبٍ وَرَنَّةُ شَيْطَانٍ (2) .
وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ تَبْكِي وَتَقُول: وَاجَبَلاَهُ، وَاكَذَا وَاكَذَا، تُعَدِّدُ عَلَيْهِ، فَقَال ابْنُ رَوَاحَةَ حِينَ أَفَاقَ: مَا قُلْتِ شَيْئًا إِلاَّ وَقَدْ قِيل لِي: أَنْتَ كَذَلِكَ؟ (3) .
وَمِنْهَا مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ أَنَّهُ قَال: النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْل مَوْتِهَا تُقَامُ
__________
(1) حديث: " اثنتان في الناس هما بهم كفر. . . " أخرجه مسلم (1 / 82 ط الحلبي) .
(2) حديث: " نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين. . . " أخرجه ابن سعد في الطبقات (1 / 138 ط دار صادر) والترمذي (3 / 328 ط الحلبي) واللفظ لابن سعد وقال الترمذي: حسن.
(3) حديث النعمان بن بشير: " أغمي على عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - فجعلت أخته تبكي: واجبلاه. . . " أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (3 / 529 ط بيروت) .

(42/52)


يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ (1) .
وَمِنْهَا مَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: لَمَّا جَاءَ قَتْل ابْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ، وَأَنَا أَطَّلِعُ مِنْ شِقِّ الْبَابِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ. . . . وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَنْهَاهُنَّ. فَذَهَبَ الرَّجُل، ثُمَّ أَتَى، فَقَال: قَدْ نَهَيْتُهُنَّ، وَذَكَرَ أَنَّهُنَّ لَمْ يُطِعْنَهُ، فَأَمَرَهُ الثَّانِيَةَ أَنْ يَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَى فَقَال: وَاللَّهِ لَقَدْ غَلَبْنَنِي (أَوْ: غَلَبْنَنَا) الشَّكُّ مِنْ أَحَدِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ - فَزَعَمْتُ (2) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: " فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ "، فَقُلْتُ (3) : أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ، فَوَاللَّهِ مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ، مَا تَرَكْتَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَنَاءِ (4) . قَال الْقُرْطُبِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا يَدُل عَلَى أَنَّهُنَّ رَفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ بِالْبُكَاءِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْتَهِينَ أَمَرَهُ أَنْ يَسُدَّ أَفْوَاهَهُنَّ
__________
(1) حديث: " النائحة إذا لم تتب قبل موتها. . . " أخرجه مسلم (2 / 644 ط عيسى الحلبي) في حديث أبي مالك الأشعري.
(2) الزعم قد يطلق على القول المحقق وهو المراد هنا (فتح الباري 3 / 130) .
(3) القائل هو عائشة رضي الله عنها
(4) حديث: " فاحث في أفواههن التراب. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 176 ط السلفية) ومسلم (2 / 644 - 645 ط عيسى الحلبي) .

(42/52)


بِذَلِكَ، وَخَصَّ الأَْفْوَاهَ بِذَلِكَ لأَِنَّهَا مَحَل النَّوْحِ. . . ثُمَّ قَال ابْنُ حَجَرٍ: ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ فِي بُكَائِهِنَّ زِيَادَةٌ عَلَى الْقَدْرِ الْمُبَاحِ، فَيَكُونُ النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ بِدَلِيل أَنَّهُ كَرَّرَهُ وَبَالَغَ فِيهِ وَأَمَرَ بِعُقُوبَتِهِنَّ إِنْ لَمْ يَسْكُتْنَ (1) .
قَال جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: هَذِهِ الأَْحَادِيثُ جَاءَتْ فِي تَحْرِيمِ النِّيَاحَةِ مُطْلَقًا، وَبَيَانِ عَظِيمِ قُبْحِهَا، وَالاِهْتِمَامِ بِإِنْكَارِهَا؛ لأَِنَّهَا مُهَيِّجَةٌ لِلْحُزْنِ وَرَافِعَةٌ لِلصَّبْرِ، وَفِيهَا مُخَالَفَةٌ لِلتَّسْلِيمِ لِلْقَضَاءِ وَالإِْذْعَانِ لأَِمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ، فَقَال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (2) } . وَهَذَا يَتَنَاوَل كُل مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ النِّيَاحَةِ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْبُكَاءِ أَوْ بِتَعْدِيدِ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ (3) . وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَى النَّائِحَةِ أَشَدَّ الإِْنْكَارِ، فَقَدْ رُوِيَ " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعَ نُوَاحَةً بِالْمَدِينَةِ لَيْلاً،
__________
(1) فتح الباري 3 / 130، 131.
(2) سورة البقرة / 153.
(3) شرح النووي على مسلم 6 / 238، ودليل الفالحين 8 / 147، 149، والكبائر للذهبي ص 184، 185، ونيل الأوطار 4 / 160، 161، وكشاف القناع 2 / 163، ومعالم القربة في أحكام الحسبة ص 106، 107، ومطالب أولي النهى 1 / 925.

(42/53)


فَأَتَى عَلَيْهَا فَدَخَل فَفَرَّقَ النِّسَاءَ، فَأَدْرَكَ النَّائِحَةَ، فَجَعَل يَضْرِبُهَا بِالدِّرَّةِ فَوَقَعَ خِمَارُهَا، فَقَالُوا: شَعْرُهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَال: أَجَل فَلاَ حُرْمَةَ لَهَا (1) ".
7 - ذَلِكَ هُوَ حُكْمُ النِّيَاحَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ التَّحْرِيمُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، وَلَكِنْ وَرَدَتْ فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ تَفْصِيلاَتٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْحُكْمِ يَحْسُنُ ذِكْرُهَا:
فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ النِّيَاحَةُ الْمُحَرَّمَةُ هِيَ الْبُكَاءُ، بِمَعْنَى إِرْسَال الدُّمُوعِ إِذَا صَاحَبَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ أَوِ الْقَوْل الْقَبِيحُ، كَقَوْل النَّائِحَةِ: يَا قَتَّال الأَْعْدَاءِ، وَيَا نَهَّابَ الأَْمْوَال، وَمَا يَقُولُهُ النِّسَاءُ مِنَ التَّعْدِيدِ، فَإِذَا تَجَرَّدَ الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ مِنَ الأَْمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا، بَل جَائِزًا، إِلاَّ إِذَا اجْتَمَعَتِ النِّسَاءُ لِغَرَضِ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَكْرُوهًا وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِرَفْعِ صَوْتٍ وَلاَ قَوْلٍ قَبِيحٍ (2) .
ثُمَّ إِنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ مَا كَانَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَمَّا الْبُكَاءُ
__________
(1) أثر عمر: " سمع نواحة في المدينة. . . . " أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3 / 557 - 558 ط المجلس الأعلى) .
(2) حاشية الدسوقي 1 / 421، 422، وشرح الخرشي 2 / 133.

(42/53)


عَلَى الْمَرِيضِ قَبْل مَوْتِهِ بِالصِّيَاحِ وَغَيْرِ الصِّيَاحِ، فَهُوَ مُبَاحٌ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِقَوْلٍ قَبِيحٍ (1) . وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَتِيكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ يَعُودُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَابِتٍ، فَوَجَدَهُ قَدْ غُلِبَ عَلَيْهِ، فَصَاحَ بِهِ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَاسْتَرْجَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَال: غُلِبْنَا عَلَيْكَ يَا أَبَا الرَّبِيعِ، فَصَاحَ النِّسْوَةُ وَبَكَيْنَ، فَجَعَل جَابِرٌ يُسْكِتُهُنَّ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُنَّ، فَإِذَا وَجَبَ فَلاَ تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، وَمَا الْوُجُوبُ؟ قَال: إِذَا مَاتَ (2) ، قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِيهِ إِبَاحَةُ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَرِيضِ بِالصِّيَاحِ وَغَيْرِ الصِّيَاحِ عِنْدَ حُضُورِ وَفَاتِهِ، أَلاَ تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: فَصَاحَ النِّسْوَةُ وَبَكَيْنَ، فَجَعَل جَابِرٌ يُسْكِتُهُنَّ، وَتَسْكِيتُ جَابِرٍ لَهُنَّ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - لأَِنَّهُ كَانَ قَدْ سَمِعَ النَّهْيَ عَنِ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَوْتَى، فَاسْتَعْمَل ذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ، حَتَّى قَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُنَّ يَبْكِينَ حَتَّى يَمُوتَ، فَإِذَا مَاتَ فَلاَ تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ،
__________
(1) الاستذكار 8 / 312، والخرشي وحاشية العدوي 1 / 133، وحاشية العدوي على كفاية الطالب 1 / 347.
(2) حديث: " جاء يعود عبد الله بن ثابت فوجده قد غلب عليه فصاح به فلم يجبه. . . " أخرجه مالك في الموطأ (2 / 233 ط عيسى الحلبي) والحاكم (1 / 352 ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(42/54)


يُرِيدُ: لاَ تَرْفَعْ صَوْتَهَا بِالْبُكَاءِ بَاكِيَةٌ، وَذَلِكَ مُفَسَّرٌ فِي الْحَدِيثِ (1) .
وَلَمْ تُفَصِّل طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ هَذَا التَّفْصِيل، وَإِنَّمَا عَمَّمُوا حُكْمَ التَّحْرِيمِ عَلَى كُل بُكَاءٍ اقْتَرَنَ بِرَفْعِ الصَّوْتِ أَوْ بِقَوْلٍ قَبِيحٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ أَمْ بَعْدَهُ، وَأَوَّلُوا الْحَدِيثَ السَّابِقَ بِأَنَّ صِيَاحَ النِّسَاءِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَابِتٍ لَمْ يَكُنْ مُقْتَرِنًا بِأَيٍّ مِنَ الأَْمْرَيْنِ، وَإِنَّمَا كَانَ اسْتِرْجَاعًا مِنْ غَيْرِ كَلاَمٍ قَبِيحٍ وَلاَ نِيَاحَةٍ (2) .
وَذَهَبَ سَنَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ النِّيَاحَةَ إِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِمُحَرَّمٍ تَكُونُ مَكْرُوهَةً إِلاَّ إِذَا اتُّخِذَتْ صَنْعَةً فَتَكُونُ حَرَامًا.
وَذَهَبَ الْقَرَافِيُّ إِلَى أَنَّ النُّوَاحَ يَكُونُ حَرَامًا وَمِنَ الْكَبَائِرِ فِي حَالَتَيْنِ:
الأُْولَى: إِذَا تَضَمَّنَ اعْتِرَاضًا عَلَى الْقَدَرِ.
وَالثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ مِمَّا يُبْعِدُ السَّلْوَةَ عَنْ أَهْل الْمَيِّتِ.
وَلَيْسَ مِنْ قَبِيحِ النِّيَاحَةِ ذِكْرُ دِينِ الْمَيِّتِ وَأَمْرُ أَهْلِهِ بِالصَّبْرِ وَالاِحْتِسَابِ، وَالْحَثُّ عَلَى
__________
(1) الاستذكار 8 / 312.
(2) المنتقى 2 / 25، وحاشية الدسوقي 1 / 422، ومواهب الجليل 3 / 56، 57.

(42/54)


طَلَبِ الأَْجْرِ وَالثَّوَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَعْنَى الدَّقِيقَ لِلنِّيَاحَةِ هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالنَّدْبِ، وَأَمَّا رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْبُكَاءِ فَيَدُل كَلاَمُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَدْخُل فِي النِّيَاحَةِ بِمَعْنَاهَا الاِصْطِلاَحِيِّ (2) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْيَسِيرَ مِنَ الْكَلاَمِ فِي وَصْفِ الْمَيِّتِ، أَوْ يَسِيرَ النُّدْبَةِ كَقَوْلِهِ: يَا أَبَتَاهُ يَا وَالِدَاهُ؛ مُبَاحٌ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا، وَأَنْ لاَ يَكُونَ بِصِيغَةِ النَّوْحِ، قَال أَحْمَدُ: إِذَا ذَكَرَتِ الْمَرْأَةُ مِثْل مَا حُكِيَ عَنْ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لاَ يَكُونُ مِثْل النَّوْحِ (3) ، وَالَّذِي حُكِيَ عَنْ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - هُوَ مَا رَوَاهُ أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: لَمَّا ثَقُل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَل يَتَغَشَّاهُ الْكَرْبُ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: وَاكَرْبَ أَبَاهُ، فَقَال لَهَا: لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ، فَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ، يَا أَبَتَاهُ مَنْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ، يَا أَبَتَاهُ
__________
(1) الفروق 2 / 172، 173.
(2) نهاية المحتاج 3 / 16، 17، وشرح المحلى على المنهاج وحاشية قليوبي وعميرة 1 / 343، والمجموع 5 / 281، والأذكار للنووي مع الفتوحات الربانية 4 / 130، 136، ومغني المحتاج 2 / 43، وإرشاد الساري 2 / 409.
(3) شرح الزركشي 2 / 356، 357، والإنصاف 2 / 568، ومطالب أولي النهى 1 / 926.

(42/55)


إِلَى جِبْرِيل نَنْعَاهُ (1) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنِّيَاحَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالنِّيَاحَةِ أَحْكَامٌ، مِنْهَا:

أ - تَعْذِيبُ الْمَيِّتِ بِالنِّيَاحَةِ عَلَيْهِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِالنِّيَاحَةِ عَلَيْهِ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ لاَ يُعَذَّبُ بِشَيْءٍ مِنَ النِّيَاحَةِ عَلَيْهِ إِلاَّ إِذَا وَصَّى بِذَلِكَ فَنُفِّذَتْ وَصِيَّتُهُ؛ لأَِنَّ النِّيَاحَةَ أَوِ الْبُكَاءَ الْمُحَرَّمَيْنِ بِسَبَبِهِ وَمَنْسُوبَانِ إِلَيْهِ، فَأَمَّا مَنْ بَكَى عَلَيْهِ أَهْلُهُ وَنَاحُوا مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ مِنْهُ فَلاَ يُعَذَّبُ بِذَلِكَ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (2) } وَحَمَل جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ خَبَرَ: إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ (3) عَلَى مَا إِذَا وَصَّى بِذَلِكَ وَنُفِّذَتْ وَصِيَّتُهُ (4) .
__________
(1) حديث: " لما ثقل النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل يتغشاه. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 149 ط السلفية) .
(2) سورة فاطر / 18.
(3) حديث: " إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 151 ط السلفية) ومسلم (2 / 640 ط عيسى الحلبي) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، واللفظ للبخاري.
(4) المجموع 5 / 308، والبناية شرح الهداية 2 / 1044 طبعة دار الفكر، بيروت، والاستذكار 8 / 322، وكشاف القناع 2 / 163، 164.

(42/55)


وَقَال الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا لَمْ تُنَفَّذْ وَصِيَّةُ الْمَيِّتِ بِالنِّيَاحَةِ أَوِ الْبُكَاءِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ سِوَى إِثْمِ الْوَصِيَّةِ بِذَلِكَ (1) .
وَقَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: تَجِبُ الْوَصِيَّةُ بِتَرْكِ النِّيَاحَةِ وَالْبُكَاءِ الْمُحَرَّمَيْنِ، فَمَنْ أَهْمَل الْوَصِيَّةَ بِتَرْكِهِمَا عُذِّبَ بِهِمَا (2) .
وَفَصَّل الْحَنَابِلَةُ فَقَال بَعْضُهُمْ: يُعَذَّبُ بِتَرْكِ الْوَصِيَّةِ إِذَا كَانَ عَادَةُ أَهْلِهِ النِّيَاحَةَ وَالْبُكَاءَ الْمُحَرَّمَيْنِ، وَقَال آخَرُونَ: إِنَّ الْمَيِّتَ يَتَأَذَّى بِالنِّيَاحَةِ إِنْ لَمْ يُوصِ بِتَرْكِهَا وَلَوْ لَمْ تَكُنْ عَادَةَ أَهْلِهِ (3) .
الرَّأْيُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِسَبَبِ نِيَاحَةِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ صَحَّ هَذَا الْقَوْل عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - (4) ، لِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَال لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ: أَلاَ تَنْهَى عَنِ الْبُكَاءِ، فَإِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ الْمَيِّتَ
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 17.
(2) المجموع 5 / 309.
(3) كشاف القناع 2 / 163.
(4) نيل الأوطار 4 / 104، 105، وفتح الباري 3 / 118، 155، والاستذكار 8 / 322، وعون المعبود 8 / 402، والمغني 2 / 412.

(42/56)


لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ.
وَلِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ رَأْيٌ فِي مَعْنَى التَّعْذِيبِ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ:
فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّهُ بِمَعْنَى تَأَلُّمِ الْمَيِّتِ بِمَا يَقَعُ مِنْ أَهْلِهِ مِنَ النِّيَاحَةِ عَلَيْهِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْمُرَابِطِ وَعِيَاضٌ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَنَصَرَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ.
وَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ تَوْبِيخُ الْمَلاَئِكَةِ لِلْمَيِّتِ بِمَا يَنْدُبُهُ بِهِ أَهْلُهُ.
وَرَأَى الْبَعْضُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعْذِيبِ هُوَ التَّعْذِيبُ فِي الْبَرْزَخِ وَلَيْسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ قَوْل الْكِرْمَانِيِّ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ التَّعْذِيبَ خَاصٌّ بِالْكَافِرِ دُونَ الْمُؤْمِنِ. وَهُوَ قَوْل عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. (1) .

ب - حُكْمُ الْوَصِيَّةِ بِالنِّيَاحَةِ:
9 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ وَصِيَّةَ الْمُسْلِمِ بِالنِّيَاحَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مُحَرَّمَةٌ وَبَاطِلَةٌ، وَلاَ يَجُوزُ
__________
(1) نيل الأوطار 4 / 104، 105، وفتح الباري 3 / 154، 155، وسبل السلام 2 / 115، 116، والاستذكار 8 / 321 - 323.

(42/56)


تَنْفِيذُهَا، وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِصُنْعِ طَعَامٍ لِلنَّائِحَاتِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ الْمُوصَى بِهِ فِي الْوَصِيَّةِ أَنْ لاَ يَكُونَ مَعْصِيَةً، فَإِنْ أَوْصَى الْمُسْلِمُ بِالنِّيَاحَةِ عَلَيْهِ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ، سَوَاءٌ نَفَّذَهَا الْمُوصَى لَهُ أَمْ لَمْ يُنَفِّذْهَا، فَإِنْ نَفَّذَهَا كَانَ عَلَيْهِ إِثْمُ الْوَصِيَّةِ، وَاشْتَرَكَ فِي الْوِزْرِ عَلَى النِّيَاحَةِ مَعَ مَنْ يَقُومُ بِهَا (1) .

ج - عُقُوبَةُ النَّائِحَةِ:
10 - لَمَّا كَانَتِ النِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ مُحَرَّمَةً فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَزْجُرَ عَنْهَا وَيُعَاقِبَ عَلَيْهَا بِعُقُوبَاتٍ تَعْزِيرِيَّةٍ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ عَلَيْهَا بِالْعَصَا وَيَرْمِي بِالْحِجَارَةِ وَيَحْثِي بِالتُّرَابِ (2) " وَرَوَى الأَْوْزَاعِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " أَمَرَ بِضَرْبِ نَائِحَةٍ، فَضُرِبَتْ حَتَّى بَدَا شَعْرُهَا، فَقِيل لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ قَدْ بَدَا شَعْرُهَا، فَقَال: لاَ حُرْمَةَ لَهَا، إِنَّمَا تَأْمُرُ بِالْجَزَعِ وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَتَنْهَى عَنِ الصَّبْرِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَتَفْتِنُ الْحَيَّ وَتُؤْذِي الْمَيِّتَ، وَتَبِيعُ عَبْرَتَهَا، وَتَبْكِي شَجْوَ
__________
(1) البدائع 7 / 341، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 427، والبيان والتحصيل 13 / 139، ومغني المحتاج 2 / 44، ونهاية المحتاج 3 / 17.
(2) فتح الباري 3 / 137

(42/57)


غَيْرِهَا، إِنَّهَا لاَ تَبْكِي عَلَى مَيِّتِكُمْ، وَإِنَّمَا تَبْكِي لأَِخْذِ دَرَاهِمِكُمْ (1) ".
وَلَكِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ لاَ يُعَاقَبُ بِالضَّرْبِ عَلَى النِّيَاحَةِ، وَإِنَّمَا تُمْنَعُ النَّائِحَةُ مِنَ الاِسْتِمْرَارِ، وَتُنْصَحُ بِعَدَمِ الْعَوْدِ، وَإِلاَّ نُفِيَتْ مِنَ الْبَلَدِ (2) ، وَاسْتَدَل الْقَارِّيُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الضَّرْبِ بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ لَمَّا مَاتَتْ زَيْنَبُ (وَفِي رِوَايَةٍ رُقَيَّةُ) ابْنَةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَكَتِ النِّسَاءُ، فَجَعَل عُمَرُ يَضْرِبُهُنَّ بِسَوْطِهِ، فَأَخَذَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، وَقَال: مَهْلاً يَا عُمَرُ، ثُمَّ قَال: ابْكِينَ وَإِيَّاكُنَّ وَنَعِيقَ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ قَال: إِنَّهُ مَهْمَا كَانَ مِنَ الْعَيْنِ وَالْقَلْبِ فَمِنَ اللَّهِ وَمِنَ الرَّحْمَةِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْيَدِ وَاللِّسَانِ فَمِنَ الشَّيْطَانِ (3) ، قَال الْقَارِّيُّ: فِيهِ إِشْعَارٌ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الضَّرْبُ عَلَى النِّيَاحَةِ، بَل يَنْبَغِي النَّصِيحَةُ، وَلِذَلِكَ أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَال لَهُ: (مَهْلاً) ، أَيْ أَمْهِلْهُنَّ (4) . وَنَصَّ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَلَى وُجُوبِ النَّهْيِ عَنِ النِّيَاحَةِ، فَإِنْ لَمْ تَرْتَدِعِ النَّائِحَةُ
__________
(1) الكبائر ص 184، ومجموع الفتاوى 32 / 251.
(2) المرقاة 4 / 235 ط دار الفكر، بيروت 1992، ومعالم القربة ص 106.
(3) حديث: " ابكين وإياكن ونعيق الشيطان ". أخرجه أحمد (1 / 237 ط الميمنية) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3 / 17 ط القدسي) فيه علي بن زيد وفيه كلام وهو موثق.
(4) مرقاة المفاتيح 4 / 235، 236.

(42/57)


وَجَبَ عِقَابُهَا بِمَا يَزْجُرُهَا؛ لأَِنَّهَا مِنَ الْمَعَاصِي، وَلِمَا فِيهَا مِنْ أَذِيَّةِ الْمَيِّتِ (1) .

د - الاِسْتِمَاعُ لِلنِّيَاحَةِ:
11 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّائِحَةَ وَالْمُسْتَمِعَةَ (2) قَال الْقَارِّيُّ: الْمُرَادُ بِالْمُسْتَمِعَةِ فِي الْحَدِيثِ هِيَ الَّتِي تَقْصِدُ السَّمَاعَ وَيُعْجِبُهَا، كَمَا أَنَّ الْمُسْتَمِعَ لِلْمُغْتَابِ يَكُونُ شَرِيكًا لَهُ فِي الْوِزْرِ، وَالْمُسْتَمِعَ لِقَارِئِ الْقُرْآنِ يَكُونُ شَرِيكًا لَهُ فِي الأَْجْرِ.

هـ - الإِْجَارَةُ عَلَى النِّيَاحَةِ وَكَسْبُ النَّائِحَةِ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِئْجَارُ عَلَى الْمَعَاصِي، كَاسْتِئْجَارِ النَّائِحَةِ لِلنَّوْحِ؛ لأَِنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ غَيْرِ مَقْدُورَةِ الاِسْتِيفَاءِ شَرْعًا، فَلاَ تَصِحُّ الإِْجَارَةُ عَلَى النِّيَاحَةِ، وَتَقَعُ بَاطِلَةً، وَلاَ تَسْتَحِقُّ أُجْرَةً عَلَيْهَا، فَإِنْ أَخَذَتْهَا النَّائِحَةُ كَانَتْ كَسْبًا مُحَرَّمًا خَبِيثًا، وَيَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّهُ عَلَى أَرْبَابِهِ إِنْ عَلِمُوا،
__________
(1) مجموع الفتاوى 32 / 398، 399.
(2) حديث: " لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النائحة والمستمعة ". أخرجه أبو داود (3 / 494 ط حمص) قال المنذري في مختصر السنن (4 / 290 - نشر دار المعرفة) : في إسناده: محمد بن الحسن بن عطير العوفي عن أبيه عن جده، وثلاثتهم ضعفاء.

(42/58)


وَإِلاَّ وَجَبَ عَلَيْهَا التَّصَدُّقُ بِهِ.
لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَصَرُوا هَذَا الْحُكْمَ عَلَى حَالَةِ اشْتِرَاطِ الأُْجْرَةِ فِي الْعَقْدِ، فَإِنْ أُعْطِيَتِ النَّائِحَةُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَهُوَ لَهَا، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: الْمَعْرُوفُ كَالْمَشْرُوطِ، فَلاَ يَحِل لَهَا مَا تَأْخُذُهُ إِذَا كَانَتِ الْعَادَةُ جَارِيَةً عَلَى إِعْطَاءِ النَّوَائِحِ أَجْرًا عَلَى نِيَاحَتِهِنَّ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا مِمَّا يَتَعَيَّنُ الأَْخْذُ بِهِ فِي زَمَانِنَا لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ لاَ يَذْهَبُونَ إِلاَّ بِأَجْرٍ.
ثُمَّ قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تَحْرُمُ الإِْجَارَةُ عَلَى كِتَابَةِ النَّوْحِ؛ لأَِنَّ الْمَمْنُوعَ هُوَ النَّوْحُ نَفْسُهُ لاَ كِتَابَتُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى تَحْرِيمِ الإِْجَارَةِ عَلَى كِتَابَةِ النَّوْحِ؛ لأَِنَّهَا انْتِفَاعٌ بِمُحَرَّمٍ، فَلاَ يَجُوزُ (1) .

و النِّيَاحَةُ عَلَى فِعْل الْمَعَاصِي:
13 - أَشَارَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ نِيَاحَةَ الْمُسْلِمِ عَلَى مَا اقْتَرَفَ مِنَ الْمَعَاصِي جَائِزَةٌ، بَل هِيَ نَوْعٌ مِنَ الْعِبَادَةِ؛ لأَِنَّ فِيهَا إِظْهَارَ النَّدَمِ
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 189، وحاشية ابن عابدين 5 / 34، والاختيار 2 / 60، والبيان والتحصيل 13 / 139، والشرح الكبير 4 / 21، وبداية المجتهد 2 / 239، والمغني 6 / 134، والمهذب 1 / 517 طبعة مصطفى البابي الحلبي، ومغني المحتاج 2 / 337.

(42/58)


عَلَى مَا فَاتَ مِنْهُ مِنَ التَّقْصِيرِ (1) .

ز - ثُبُوتُ الْمَوْتِ بِالنِّيَاحَةِ:
14 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى إِثْبَاتِ الْمَوْتِ بِشَهَادَةِ التَّسَامُعِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي إِثْبَاتِهِ الشَّهَادَةُ بِالْمُعَايَنَةِ. وَالْمَنْعُ مِنْ إِثْبَاتِهِ بِذَلِكَ وَجْهٌ عِنْدَهُمْ. وَذَهَبَ الصَّيْمَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ إِلَى أَنَّ مِنْ صُوَرِ الشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ أَنْ يَمُرَّ بِبَابِ الْقَتِيل شَخْصٌ فَيَسْمَعَ النِّيَاحَةَ فِي دَارِهِ وَالنَّاسُ جُلُوسٌ لِلتَّعْزِيَةِ، فَيُخْبِرَهُ وَاحِدٌ بِمَوْتِهِ (2) .
__________
(1) عون المعبود 8 / 400.
(2) المحلى على المنهاج وحاشية عميرة 4 / 328.

(42/59)


نِيَّةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - النِّيَّةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ نَوَى، وَالاِسْمُ النِّيَّةُ، بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ عِنْدَ أَكْثَرِ اللُّغَوِيِّينَ، وَالتَّخْفِيفُ فِيهَا لُغَةٌ مَحْكِيَّةٌ.
وَتَأْتِي النِّيَّةُ لِمَعَانٍ، مِنْهَا: الْقَصْدُ، فَيُقَال: نَوَى الشَّيْءَ يَنْوِيهِ نِيَّةً: قَصَدَهُ، كَانْتَوَاهُ وَتَنَوَّاهُ، وَمِنْهَا: الْحِفْظُ، فَيُقَال: نَوَى اللَّهُ فُلاَنًا: حَفِظَهُ.
وَالنِّيَّةُ: الْوَجْهُ الَّذِي يُذْهَبُ فِيهِ، وَالأَْمْرُ الَّذِي تَنْوِيهِ، وَتَوْجِيهُ النَّفْسِ نَحْوَ الْعَمَل (1) .
وَالنِّيَّةُ اصْطِلاَحًا: عَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِتَعْرِيفَاتٍ مِنْهَا تَعْرِيفُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا قَصْدُ الطَّاعَةِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي إِيجَابِ الْفِعْل. وَدَخَل فِي التَّعْرِيفِ الْمَنْهِيَّاتُ، فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ بِهِ الْفِعْل الَّذِي هُوَ كَفُّ النَّفْسِ (2) .
وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا قَصْدُ الإِْنْسَانِ بِقَلْبِهِ
__________
(1) المصباح المنير، والقاموس المحيط، والمعجم الوسيط.
(2) رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار 1 / 72 دار إحياء التراث العربي - بيروت.

(42/59)


مَا يُرِيدُهُ بِفِعْلِهِ، فَهِيَ مِنْ بَابِ الْعُزُومِ وَالإِْرَادَاتِ لاَ مِنْ بَابِ الْعُلُومِ وَالاِعْتِقَادَاتِ (1) .
وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا قَصْدُ الشَّيْءِ مُقْتَرِنًا بِفِعْلِهِ (2) .
وَعَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا: عَزْمُ الْقَلْبِ عَلَى فِعْل الْعِبَادَةِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، بِأَنْ يَقْصِدَ بِعَمَلِهِ اللَّهَ تَعَالَى دُونَ شَيْءٍ آخَرَ، مِنْ تَصَنُّعٍ لِمَخْلُوقٍ، أَوِ اكْتِسَابِ مَحْمَدَةٍ عِنْدَ النَّاسِ، أَوْ مَحَبَّةِ مَدْحٍ مِنْهُمْ، أَوْ نَحْوِهِ (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَزْمُ:
2 - الْعَزْمُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ عَزَمَ، مِنْ بَابِ ضَرَبَ، يُقَال: عَزَمَ عَلَى الشَّيْءِ وَعَزَمَهُ عَزْمًا: عَقَدَ ضَمِيرَهُ عَلَى فِعْلِهِ (4) ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ (5) } .
__________
(1) الذخيرة ص 234 - 235 نشر وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت.
(2) حاشية الجمل مع شرح المنهج 1 / 107 دار إحياء التراث العربي - بيروت.
(3) جامع العلوم والحكم 1 / 92، ونيل المآرب 1 / 132، والمغني 1 / 110 مكتبة ابن تيمية.
(4) المصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن.
(5) سورة آل عمران / 159.

(42/60)


وَالْعَزْمُ فِي الاِصْطِلاَحِ: جَزْمُ الإِْرَادَةِ بَعْدَ تَرَدُّدٍ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النِّيَّةِ وَالْعَزْمِ: أَنَّهُمَا مَرْحَلَتَانِ مِنْ مَرَاحِل الإِْرَادَةِ، وَالْعَزْمُ اسْمٌ لِلْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْفِعْل، وَالنِّيَّةُ اسْمٌ لِلْمُقْتَرِنِ بِالْفِعْل مَعَ دُخُولِهِ تَحْتَ الْعِلْمِ بِالْمَنْوِيِّ (2) .

ب - الإِْرَادَةُ:
3 - الإِْرَادَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَرَادَ، وَمِنْ مَعَانِيهَا فِي اللُّغَةِ: الطَّلَبُ وَالاِخْتِيَارُ وَالْمَشِيئَةُ. وَيُقَال: أَرَادَ الشَّيْءَ: شَاءَهُ وَأَحَبَّهُ (3) .
وَالإِْرَادَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: صِفَةٌ تُوجِبُ لِلْحَيِّ حَالاً يَقَعُ مِنْهُ الْفِعْل عَلَى وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الإِْرَادَةِ وَالنِّيَّةِ: أَنَّ النِّيَّةَ مَرْحَلَةٌ مِنْ مَرَاحِل الإِْرَادَةِ.

الأَْحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنِّيَّةِ:
يَتَعَلَّقُ بِالنِّيَّةِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، مِنْهَا أَحْكَامٌ
__________
(1) قواعد الفقه للبركتي.
(2) البحر الرائق 1 / 25، ورد المحتار 1 / 72، والذخيرة ص 235 ط وزارة الأوقاف، والمنثور 3 / 284 ط وزارة الأوقاف - الكويت.
(3) المصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(4) قواعد الفقه للبركتي، والتعريفات للجرجاني، دار الكتاب العربي، بيروت.

(42/60)


عَامَّةٌ وَأُخْرَى تَفْصِيلِيَّةٌ:

أَوَّلاً: الأَْحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْعَامَّةُ لِلنِّيَّةِ:
مَا يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ مِنَ الأَْعْمَال وَمَا لاَ يَفْتَقِرُ:
4 - أَعْمَال الْمُكَلَّفِينَ إِمَّا مَطْلُوبَةٌ أَوْ مُبَاحَةٌ:
وَلَمَّا كَانَ الْمُبَاحُ لاَ يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ إِلاَّ إِذَا قَصَدَ الْمُكَلَّفُ الثَّوَابَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ.
وَالْمَطْلُوبُ مِنَ الأَْعْمَال إِمَّا مَطْلُوبَةُ التَّرْكِ أَوْ مَطْلُوبَةُ الْفِعْل. فَالْمَطْلُوبَةُ التَّرْكِ - وَهِيَ النَّوَاهِي - فَإِنَّ الإِْنْسَانَ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهَا وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ بِهَا، فَضْلاً عَنِ الْقَصْدِ إِلَيْهَا، وَمِنْ ثَمَّ فَلاَ تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، إِلاَّ إِذَا شَعَرَ الْمُكَلَّفُ بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَنَوَى تَرْكَهُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ يَحْصُل لَهُ مَعَ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ الثَّوَابُ لأَِجْل النِّيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ فَالنِّيَّةُ شَرْطٌ فِي الثَّوَابِ لاَ فِي الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ.
وَالْمَطْلُوبَةُ الْفِعْل - وَهِيَ الأَْوَامِرُ - فَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْ حَيْثُ افْتِقَارُهَا إِلَى النِّيَّةِ:

الْقِسْمُ الأَْوَّل: مَا تَكُونُ صُورَةُ فِعْلِهِ كَافِيَةً فِي تَحْصِيل مَصْلَحَتِهِ، كَأَدَاءِ الدَّيْنِ وَالْوَدَائِعِ وَالْغُصُوبِ وَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَالأَْقَارِبِ، فَإِنَّ الْمُحَصِّلَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ هَذِهِ الأُْمُورِ انْتِفَاعُ أَرْبَابِهَا، وَهِيَ تَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ امْتِثَال الأَْمْرِ، وَلاَ

(42/61)


تَتَوَقَّفُ عَلَى قَصْدِ الْفَاعِل لَهَا، فَيَخْرُجُ الإِْنْسَانُ عَنْ عُهْدَتِهَا وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا.

الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا تَكُونُ صُورَةُ فِعْلِهِ لَيْسَتْ كَافِيَةً فِي تَحْصِيل مَصْلَحَتِهِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ، كَالصَّلَوَاتِ وَالطَّهَارَاتِ وَالصِّيَامِ وَالنُّسُكِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَعْظِيمُهُ تَعَالَى بِفِعْلِهَا وَالْخُضُوعِ لَهُ فِي إِتْيَانِهَا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُل إِذَا قُصِدَتْ مِنْ أَجْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ فِيهِ الشَّرْعُ بِالنِّيَّاتِ (1) وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي افْتِقَارِ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُودِ إِلَى النِّيَّةِ، بَيَانُهُ فِيمَا يَلِي:

أ - افْتِقَارُ الْعِبَادَاتِ إِلَى النِّيَّةِ:
5 - الْعِبَادَةُ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُلْتَبِسَةٍ بِالْعَادَةِ وَلاَ بِغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، كَالإِْيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَالْمَعْرِفَةِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الأَْذْكَارِ وَأَمْثَال ذَلِكَ، فَإِنَّهَا لاَ تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، لأَِنَّهَا مُتَمَيِّزَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِصُورَتِهَا، وَلاَ تَلْتَبِسُ بِغَيْرِهَا (2) .
__________
(1) الذخيرة 1 / 245 ط دار الغرب، والمنثور في القواعد للزركشي 3 / 287.
(2) المجموع المذهب في قواعد المذهب 1 / 260، والأشباه للسيوطي ص 12، والأشباه لابن نجيم ص 30.

(42/61)


وَإِنْ كَانَتِ الْعِبَادَةُ تَلْتَبِسُ بِالْعَادَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، كَالْغُسْل وَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالضَّحَايَا وَالصَّدَقَةِ وَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْجِهَادِ وَالْعِتْقِ؛ فَإِنَّهَا تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ (1) .

ب - افْتِقَارُ الْعُقُودِ إِلَى نِيَّةٍ:
6 - الْعَقْدُ إِذَا كَانَ يَسْتَقِل بِهِ الشَّخْصُ كَالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ وَالإِْبْرَاءِ وَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَالرَّجْعَةِ وَالظِّهَارِ وَالْفُسُوخِ، فَإِنَّ انْعِقَادَهُ بِالْكِنَايَةِ يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، وَلاَ يَفْتَقِرُ إِلَيْهَا فِي انْعِقَادِهِ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ.
وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ لاَ يَسْتَقِل بِهِ الشَّخْصُ، بِأَنْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ فَهُوَ ضَرْبَانِ:

الأَْوَّل: مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الإِْشْهَادُ كَالنِّكَاحِ وَبَيْعِ الْوَكِيل الْمَشْرُوطِ فِيهِ الإِْشْهَادُ، فَهَذَا لاَ يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ لأَِنَّ الشَّاهِدَ لاَ يَعْلَمُ النِّيَّةَ.

الثَّانِي: مَا لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الإِْشْهَادُ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: مَا يَقْبَل مَقْصُودُهُ التَّعْلِيقَ بِالْغَرَرِ كَالْكِتَابَةِ وَالْخُلْعِ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ.
__________
(1) المجموع المذهب في قواعد المذهب 1 / 256، والأشباه للسيوطي ص 12، والأشباه لابن نجيم ص 29، والقواعد للحصني 1 / 209.

(42/62)


النَّوْعُ الثَّانِي: مَا لاَ يَقْبَل التَّعْلِيقَ بِالْغَرَرِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .

حُكْمُ النِّيَّةِ فِيمَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهَا:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ هَل هِيَ فَرْضٌ أَوْ رُكْنٌ أَوْ شَرْطٌ؟
فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الأَْظْهَرِ - كَمَا قَال صَاحِبُ الطِّرَازِ - وَرَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مُقَابِل الأَْكْثَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي الْعِبَادَاتِ.
وَيَرَى أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا رُكْنٌ فِيهَا. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا فَرْضٌ فِي الْوُضُوءِ، قَال الْمَازِرِيُّ: عَلَى الأَْشْهَرِ، وَقَال ابْنُ الْحَاجِبِ: عَلَى الأَْصَحِّ (2) .
__________
(1) الأشباه للسيوطي ص 296، والمجموع المذهب 1 / 290 وما بعدها، والأشباه لابن نجيم ص 23، والقواعد لابن رجب ص 50، ومغني المحتاج 3 / 387.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 20، 24، 52، ومواهب الجليل 1 / 182، 230، والذخيرة ص 235 - 236، وقواعد الأحكام ص 175، 176، وحاشية الجمل 1 / 103، ومغني المحتاج 1 / 148، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 10، 43، 44، وكشاف القناع 1 / 85، 313، والمغني 3 / 91.

(42/62)


وَسَيَأْتِي بَيَانُ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ النِّيَّةِ فِي كُل عِبَادَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي مَوْطِنِهِ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ.

فَضِيلَةُ النِّيَّةِ:
8 - النِّيَّةُ هِيَ مَحَطُّ نَظَرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْعَبْدِ، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ (1) ، وَإِنَّمَا نَظَرَ إِلَى الْقُلُوبِ لأَِنَّهَا مَظِنَّةُ النِّيَّةِ، وَهَذَا هُوَ سِرُّ اهْتِمَامِ الشَّارِعِ بِالنِّيَّةِ فَأَنَاطَ قَبُول الْعَمَل وَرَدَّهُ وَتَرْتِيبَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بِالنِّيَّةِ (2) ، وَيَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - قَال الْغَزَالِيُّ (3) : إِنَّ الْمَرْءَ يُشْرِكُ فِي مَحَاسِنِ الْعَمَل وَمَسَاوِيهِ بِالنِّيَّةِ، وَاسْتَشْهَدَ بِحَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: لَمَّا خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قَال: " إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا خَلْفَنَا، مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلاَ وَادِيًا إِلاَّ وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ (4) ، وَبِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَال: سَمِعْتُ
__________
(1) حديث: " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم. . . ". أخرجه مسلم (4 / 1987 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) إحياء علوم الدين 4 / 351.
(3) إحياء علوم الدين 4 / 362 - 365.
(4) حديث: " إن بالمدينة أقواما. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 127 - ط السلفية) .

(42/63)


رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِل وَالْمَقْتُول فِي النَّارِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ هَذَا الْقَاتِل فَمَا بَال الْمَقْتُول؟ قَال: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْل صَاحِبِهِ (1) .
ب - إِنَّ الْهَمَّ بِفِعْل الْحَسَنَةِ حَسَنَةٌ فِي ذَاتِهِ، يَدُل عَلَى ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ (2) ، فَالنِّيَّةُ فِي نَفْسِهَا خَيْرٌ وَإِنْ تَعَذَّرَ الْعَمَل بِعَائِقٍ (3) .
وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ مَا نَقَلَهُ السُّيُوطِيُّ مِنْ أَنَّ الْمُنْقَطِعَ عَنِ الْجَمَاعَةِ لِعُذْرٍ مِنْ أَعْذَارِهَا - إِذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ حُضُورَهَا لَوْلاَ الْعُذْرُ - يَحْصُل لَهُ ثَوَابُهَا (4) .
ج - إِنَّ النِّيَّةَ تُعَظِّمُ الْعَمَل وَتُصَغِّرُهُ، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: رُبَّ عَمَلٍ صَغِيرٍ تُعَظِّمُهُ النِّيَّةُ، وَرُبَّ عَمَلٍ كَبِيرٍ تُصَغِّرُهُ النِّيَّةُ (5) ، لِقَوْل
__________
(1) حديث أبي بكرة: " إذا التقى المسلمان بسيفيهما. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 85 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 2213 - 2214 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " من هم بحسنة فلم يعملها. . . ". أخرجه مسلم (1 / 118 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) الإحياء 4 / 352.
(4) الأشباه للسيوطي ص 47.
(5) الإحياء 4 / 353.

(42/63)


النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ (1) .
د - إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعِينُ الْعَبْدَ وَيُوَفِّقُهُ لِلْعَمَل عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ، فَقَدْ كَتَبَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: اعْلَمْ أَنَّ عَوْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ، فَمَنْ تَمَّتْ نِيَّتُهُ تَمَّ عَوْنُ اللَّهِ لَهُ، وَإِنْ نَقَصَتْ نَقَصَ بِقَدْرِهِ (2) .
هـ - قَال الْغَزَالِيُّ: عِمَادُ الأَْعْمَال النِّيَّاتُ، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (3) ، فَالْمَرْءُ يُتَقَبَّل مِنْهُ عَمَلُهُ وَيُثَابُ عَلَيْهِ أَوْ يُرَدُّ عَمَلُهُ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ نِيَّتِهِ (4) .
كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى صَدَاقٍ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ لاَ يُؤَدِّيَهُ إِلَيْهَا فَهُوَ زَانٍ، وَمَنِ ادَّانَ دَيْنًا وَهُوَ يَنْوِي أَنْ لاَ يُؤَدِّيَهُ إِلَى صَاحِبِهِ - أَحْسَبُهُ قَال -: فَهُوَ سَارِقٌ (5) .
__________
(1) حديث: " نية المؤمن خير من عمله ". أخرجه الطبراني في الكبير (6 / 185 - 186 - ط العراق) من حديث سهل بن سعد، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 61 - ط القدسي) ، وذكر أن فيه راويا لم ير من ترجمه.
(2) الإحياء 4 / 353.
(3) حديث: " إنما الأعمال بالنيات. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 9 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1515 - ط الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب، رضي الله عنه.
(4) الإحياء 4 / 362.
(5) حديث أبي هريرة: " من تزوج امرأة على صداق. . . ". أخرجه البزار كما في كشف الأستار (2 / 163 - ط الرسالة) ، وأورده المنذري في الترغيب والترهيب (2 / 586 - دار ابن كثير) وأشار إلى تضعيفه.

(42/64)


ز - إِنَّ النِّيَّةَ تَقْلِبُ الْمُبَاحَاتِ إِلَى وَاجِبَاتٍ وَمَنْدُوبَاتٍ لِيَنَال النَّاوِي عَلَيْهَا الثَّوَابَ بِنِيَّتِهِ.
وَمِثَال ذَلِكَ أَنَّ لُبْسَ الثِّيَابِ هُوَ مُبَاحٌ، فَإِذَا أَرَادَ الشَّخْصُ أَنْ يُحَوِّل هَذَا الْمُبَاحَ إِلَى وَاجِبٍ نَوَى بِلُبْسِهِ الثِّيَابَ سَتْرَ الْعَوْرَةِ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ. فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ مِمَّا يُتَزَيَّنُ بِهِ فَإِنَّهُ يَضُمُّ إِلَى نِيَّةِ الْوَاجِبِ امْتِثَال السُّنَّةِ فِي إِظْهَارِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ (1) ، فَيَنْوِي بِذَلِكَ مُبَادَرَتَهُ إِلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ مِمَّا لاَ يُتَزَيَّنُ بِهِ فَيَنْوِي بِلُبْسِهِ التَّوَاضُعَ لِلَّهِ تَعَالَى وَالاِنْكِسَارَ وَالتَّذَلُّل بَيْنَ يَدَيْهِ وَإِظْهَارَ الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ إِلَيْهِ، وَامْتِثَال السُّنَّةِ (2) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ تَوَاضُعًا لِلَّهِ - وَهُوَ يُقْدِرُ عَلَيْهِ - دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلاَئِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ حُلَل الإِْيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا (3) .
__________
(1) حديث: " إن الله يحب أن يرى ". أخرجه الترمذي (4 / 122 - الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو، وقال: حديث حسن.
(2) المدخل لابن الحاج 1 / 23 - 24.
(3) حديث: " من ترك اللباس تواضعا لله. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 650 - ط الحلبي) من حديث معاذ بن أنس، وقال: حديث حسن.

(42/64)


ثَوَابُ النِّيَّةِ وَحْدَهَا، وَمَعَ الْعَمَل:
9 - نَاوِي الْقُرْبَةِ يُثَابُ عَلَى مُجَرَّدِ نِيَّتِهِ مِنْ غَيْرِ الْعَمَل، وَلاَ يُثَابُ عَلَى أَكْثَرِ الأَْعْمَال إِلاَّ إِذَا نَوَى؛ لأَِنَّ النِّيَّةَ مُنْصَرِفَةٌ بِنَفْسِهَا وَصُورَتِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ يُثَابُ عَلَيْهَا وَحْدَهَا، وَأَمَّا الْفِعْل الْمُجَرَّدُ عَنِ النِّيَّةِ فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ مَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَا هُوَ لِغَيْرِهِ، أَيْ بَيْنَ الْعَادَةِ وَالْعِبَادَةِ، فَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ بِنَفْسِهِ وَصُورَتِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ لاَ يُثَابُ عَلَيْهِ (1) .
وَقَال الْفُقَهَاءُ: يُسَنُّ نِيَّةُ قِيَامِ اللَّيْل عِنْدَ النَّوْمِ لِيَفُوزَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ مِنَ اللَّيْل فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى، وَكَانَ نَوْمُهُ عَلَيْهِ صَدَقَةً مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَل (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ الْمَرْءَ يُثَابُ عَلَى نِيَّتِهِ وَحْدَهَا حَسَنَةً وَاحِدَةً، فَإِنِ اتَّصَل بِهَا الْفِعْل أُثِيبَ بِعَشْرِ
__________
(1) مواهب الجليل لشرح مختصر الخليل 1 / 232 الطبعة الثانية - دار الفكر - بيروت، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام 1 / 179 دار الكتب العلمية - بيروت.
(2) حديث: " من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم. . . ". أخرجه النسائي (3 / 258 - ط المكتبة التجارية) من حديث أبي هريرة، وجود إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (1 / 70 ط دار ابن كثير) .

(42/65)


حَسَنَاتٍ؛ لأَِنَّ الْفِعْل الْمَنْوِيَّ تَتَحَقَّقُ بِهِ الْمَصَالِحُ الْمَطْلُوبَةُ مِنَ الْعِبَادَاتِ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَجْرُهُ - أَيْ مَعَ النِّيَّةِ - أَعْظَمَ وَثَوَابُهُ أَوْفَرَ، وَلأَِنَّ الأَْفْعَال هِيَ الْمَقَاصِدُ وَالنِّيَّاتِ وَسَائِل (1) .

مَحَل النِّيَّةِ:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ وَأَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ مَحَل النِّيَّةِ مِنَ الْمُكَلَّفِ الْقَلْبُ فِي كُل مَوْضِعٍ؛ لأَِنَّهُ مَحَل الْعَقْل وَالْعِلْمِ وَالْمَيْل وَالنُّفْرَةِ وَالاِعْتِقَادِ، وَلأَِنَّ حَقِيقَتَهَا الْقَصْدُ، وَمَحَل الْقَصْدِ الْقَلْبُ، وَلأَِنَّهَا مِنْ عَمَل الْقَلْبِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (2) } وَالإِْخْلاَصُ عَمَل الْقَلْبِ، وَهُوَ مَحْضُ النِّيَّةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقْصِدَ بِعَمَلِهِ أَنَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ (3) ، وَقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَْرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ}
__________
(1) نيل المآرب 1 / 163، ومواهب الجليل 1 / 232، وقواعد الأحكام 1 / 179.
(2) سورة البينة / 5.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 40، والمغني لابن قدامة 1 / 111 ط - المنار، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 86 مكتبة النصر الحديثة، الرياض، والمجموع 1 / 316، والجمل على شرح المنهج 1 / 103، ومواهب الجليل 1 / 231، والذخيرة ص 235، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 30، ونيل المآرب 1 / 130.

(42/65)


{يَعْقِلُونَ بِهَا (1) } ، وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (2) } ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِْيمَانَ (3) } ، وَقَوْلِهِ جَل جَلاَلُهُ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ (4) } وَلَمْ يُضِفِ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الأُْمُورِ إِلَى الدِّمَاغِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ خِلاَفٌ فَصَّلَهُ الْحَطَّابُ فَقَال: قَال الْمَازِرِيُّ: أَقَل الْمُتَشَرِّعِينَ وَأَكْثَرُ الْفَلاَسِفَةِ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ فِي الدِّمَاغِ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّ الْعَقْل فِي الدِّمَاغِ فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ النِّيَّةَ فِي الدِّمَاغِ لاَ فِي الْقَلْبِ؛ لأَِنَّ الْعِلْمَ وَالإِْرَادَةَ وَالْمَيْل وَالنُّفْرَةَ وَالاِعْتِقَادَ كُلَّهَا أَعْرَاضُ النَّفْسِ وَالْعَقْل، فَحَيْثُ وُجِدَتِ النَّفْسُ وُجِدَ الْجَمِيعُ قَائِمًا بِهَا، فَالْعَقْل سَجِيَّتُهَا، وَالْعُلُومُ وَالإِْرَادَاتُ صِفَاتُهَا، وَلأَِنَّهُ إِذَا أُصِيبَ الدِّمَاغُ فَسَدَ الْعَقْل وَبَطَلَتِ الْعُلُومُ وَالْفِكْرُ وَأَحْوَال النَّفْسِ (5) .
ثُمَّ قَال الْحَطَّابُ: قَال الْقَرَافِيُّ: وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْعَقْل فِي الْقَلْبِ لَزِمَ أَنَّ النَّفْسَ فِي الْقَلْبِ، عَمَلاً بِظَاهِرِ النُّصُوصِ، وَإِذَا كَانَتِ النَّفْسُ فِي الْقَلْبِ كَانَتِ النِّيَّةُ وَأَنْوَاعُ الْعُلُومِ وَجَمِيعُ أَحْوَال النَّفْسِ فِي الْقَلْبِ.
__________
(1) سورة الحج / 46.
(2) سورة النجم / 11.
(3) سورة المجادلة / 22.
(4) سورة البقرة / 7.
(5) مواهب الجليل 1 / 231.

(42/66)


وَأَضَافَ الْمَازِرِيُّ قَوْلَهُ: وَهَذَا أَمْرٌ لاَ مَدْخَل لِلْعَقْل فِيهِ وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ السَّمْعُ، وَظَوَاهِرُ السَّمْعِ تَدُل عَلَى صِحَّةِ الْقَوْل الأَْوَّل. . أَيْ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ.
وَقَال الْحَطَّابُ: يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلاَفِ مَسْأَلَةٌ مِنَ الْجِرَاحِ، وَهِيَ: مَنْ شُجَّ فِي رَأْسِهِ مَأْمُومَةً أَوْ مُوضِحَةً خَطَأً فَذَهَبَ عَقْلُهُ. قَال فِي الْمُقَدِّمَاتِ: فَلَهُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ دِيَةُ الْعَقْل وَدِيَةُ الْمَأْمُومَةِ أَوِ الْمُوضِحَةِ، لاَ يَدْخُل بَعْضُ ذَلِكَ فِي بَعْضٍ، إِذْ لَيْسَ الرَّأْسُ عِنْدَهُ مَحَل الْعَقْل وَإِنَّمَا مَحَلُّهُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ الْقَلْبُ، وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الشَّرْعِ، فَهُوَ كَمَنْ فَقَأَ عَيْنَ رَجُلٍ وَأَذْهَبَ سَمْعَهُ فِي ضَرْبَةٍ. وَعَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ: إِنَّمَا لَهُ دِيَةُ الْعَقْل؛ لأَِنَّ مَحَلَّهُ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الرَّأْسُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفَلاَسِفَةِ، وَهُوَ كَمَنْ أَذْهَبَ بَصَرَ رَجُلٍ وَفَقَأَ عَيْنَهُ فِي ضَرْبَةٍ، وَهَذَا فِي الْخَطَأِ، وَأَمَّا فِي الْعَمْدِ فَيَقْتَصُّ مِنْهُ مِنَ الْمُوضِحَةِ، فَإِنْ ذَهَبَ عَقْل الْمُقْتَصِّ مِنْهُ فَوَاضِحٌ، وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ فَدِيَةُ ذَلِكَ فِي مَال الْجَانِي، وَفِي الْمَأْمُومَةِ لَهُ دِيَتُهَا وَدِيَةُ الْعَقْل (1) .
__________
(1) مواهب الجليل 1 / 231 - 232، والذخيرة ص 235.

(42/66)


التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ:
11 - يَتَرَتَّبُ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّ مَحَل النِّيَّةِ الْقَلْبُ، أَمْرَانِ:
الأَْوَّل: لاَ يَكْفِي اللَّفْظُ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ، فَلَوِ اخْتَلَفَ اللِّسَانُ وَالْقَلْبُ فَالْعِبْرَةُ بِمَا فِي الْقَلْبِ، فَلَوْ نَوَى بِقَلْبِهِ الظُّهْرَ وَبِلِسَانِهِ الْعَصْرَ، أَوْ بِقَلْبِهِ الْحَجَّ وَبِلِسَانِهِ الْعُمْرَةَ أَوْ عَكْسَهُ، صَحَّ لَهُ مَا فِي الْقَلْبِ.
قَال الدَّرْدِيرُ: إِنْ خَالَفَ لَفْظُهُ نِيَّتَهُ فَالْعِبْرَةُ النِّيَّةُ بِالْقَلْبِ لاَ اللَّفْظُ، إِنْ وَقَعَ سَهَوَا، وَأَمَّا عَمْدًا فَمُتَلاَعِبٌ تَبْطُل صَلاَتُهُ (1) .
الثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ مَعَ نِيَّةِ الْقَلْبِ التَّلَفُّظُ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ (2) .
ثُمَّ إِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ لِلتَّلَفُّظِ بِالنِّيَّةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ التَّلَفُّظَ بِالنِّيَّةِ فِي
__________
(1) الشرح الكبير مع 304 - 1 / 234، والصاوي على الشرح الصغير 1 / 304.
(2) الأشباه لابن نجيم ص 45 - 48، والذخيرة 1 / 240 ط دار الغرب، والأشباه للسيوطي ص 30، والمغني لابن قدامة 1 / 465، 2 / 638 ط الرياض، والمجموع للنووي 2 / 316 - 317.

(42/67)


الْعِبَادَاتِ سُنَّةٌ لِيُوَافِقَ اللِّسَانُ الْقَلْبَ (1) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ التَّلَفُّظَ بِالنِّيَّةِ مَكْرُوهٌ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ التَّلَفُّظِ بِالنِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ، وَالأَْوْلَى تَرْكُهُ، إِلاَّ الْمُوَسْوَسَ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ التَّلَفُّظُ لِيَذْهَبَ عَنْهُ اللَّبْسُ (3) .

شُرُوطُ النِّيَّةِ:
12 - اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - لِلنِّيَّةِ مَا يَلِي:
أ - الإِْسْلاَمُ، فَلاَ تَصِحُّ الْعِبَادَاتُ مِنَ الْكَافِرِ.
ب - التَّمْيِيزُ، فَلاَ تَصِحُّ عِبَادَةُ صَبِيٍّ غَيْرِ مُمَيِّزٍ وَلاَ مَجْنُونٍ.
ج ـ - الْعِلْمُ بِالْمَنْوِيِّ، فَمَنْ جَهِل فَرِيضَةَ الصَّلاَةِ لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ، وَاسْتَثْنَى الْعُلَمَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْحَجَّ فَإِنَّهُمْ صَحَّحُوا الإِْحْرَامَ الْمُبْهَمَ؛ لأَِنَّ عَلِيًّا أَحْرَمَ بِمَا أَحْرَمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) .
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 48، ومغني المحتاج 1 / 57، وكشاف القناع 1 / 87.
(2) الأشباه لابن نجيم ص 48، وكشاف القناع 1 / 87.
(3) الشرح الكبير مع الدسوقي 1 / 233 - 234، والشرح الصغير مع الصاوي 1 / 304.
(4) حديث: " أهل بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 105 ط السلفية) .

(42/67)


د - أَنْ لاَ يَأْتِيَ بِمُنَافٍ بَيْنَ النِّيَّةِ وَالْمَنْوِيِّ، فَلَوِ ارْتَدَّ النَّاوِي فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ أَوِ الصَّوْمِ أَوْ الْحَجِّ بَطُل.
وَمِنَ الْمُنَافِي نِيَّةُ الْقَطْعِ، فَلَوْ نَوَى قَطْعَ الإِْيمَانِ صَارَ مُرْتَدًّا فِي الْحَال.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَثَرِ نِيَّةِ الْقَطْعِ عَلَى الْعِبَادَاتِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ نِيَّةَ الْقَطْعِ لاَ تُبْطِل الْعِبَادَاتِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ قَطْعَ النِّيَّةِ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ يُبْطِل الصَّلاَةَ وَالصَّوْمَ، وَكَذَا يُبْطِل الْوُضُوءَ وَالتَّيَمُّمَ وَالاِعْتِكَافَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَلاَ يُبْطِل قَطْعُ النِّيَّةِ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ نِيَّةَ الْقَطْعِ تُبْطِل الصَّلاَةَ دُونَ الصَّوْمِ وَالاِعْتِكَافِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ قَطْعَ النِّيَّةِ أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالْوُضُوءِ وَنَحْوِهَا يُبْطِلُهَا؛ لأَِنَّ اسْتِصْحَابَ حُكْمِ النِّيَّةِ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا.
وَمِنَ الْمُنَافِي التَّرَدُّدُ وَعَدَمُ الْجَزْمِ فِي أَصْل النِّيَّةِ، فَلَوْ نَوَى يَوْمَ الشَّكِّ إِنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ لَيْسَ بِصَائِمٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ كَانَ صَائِمًا لَمْ تَصِحَّ نِيَّتُهُ.

(42/68)


قَال السُّيُوطِيُّ: وَمِنَ الْمُنَافِي: عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَنْوِيِّ إِمَّا عَقْلاً وَإِمَّا شَرْعًا وَإِمَّا عَادَةً.
فَمِنَ الأَْوَّل: نَوَى بِوُضُوئِهِ أَنْ يُصَلِّيَ صَلاَةً وَأَنْ لاَ يُصَلِّيَهَا، لَمْ تَصِحَّ لِتَنَاقُضِهَا.
وَمِنَ الثَّانِي: نَوَى بِهِ الصَّلاَةَ فِي مَكَانٍ نَجِسٍ، قَال فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنِ الْبَحْرِ: يَنْبَغِي أَنْ لاَ يَصِحَّ.
وَمِنَ الثَّالِثِ: نَوَى بِهِ صَلاَةَ الْعِيدِ وَهُوَ فِي أَوَّل السَّنَةِ، أَوِ الطَّوَافَ وَهُوَ بِالشَّامِ، فَفِي صِحَّتِهِ خِلاَفٌ.
هـ - أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُنَجَّزَةً، فَلاَ تَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مُعَلَّقَةً، فَلَوْ قَال: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنْ قَصَدَ التَّعْلِيقَ أَوْ أَطْلَقَ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَمْ تَصِحَّ.
وَإِنْ قَصَدَ التَّبَرُّكَ صَحَّتْ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ عَقَّبَ النِّيَّةَ بِالْمَشِيئَةِ فَيُنْظَرُ: إِنْ كَانَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالنِّيَّاتِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ لَمْ تَبْطُل. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالأَْقْوَال كَالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ بَطُل (1) .
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 49 - 52، والأشباه والنظائر للسيوطي 35 - 41، ومغني المحتاج 1 / 47، والفروق للقرافي وتهذيبه 1 / 202 - 203، والدسوقي 1 / 234، ونيل المآرب ص 130، والإنصاف، 19، 24، 26، والمغني 1 / 466 - 468، وكشاف القناع 2 / 317.

(42/68)


وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِلنِّيَّةِ ثَلاَثَةَ شُرُوطٍ، هِيَ:
أ - أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمُكْتَسَبِ النَّاوِي، فَإِنَّهَا مُخَصِّصَةٌ، وَتَخْصِيصُ غَيْرِ الْمَعْقُول لِلْمُخَصِّصِ مُحَالٌ.
ب - أَنْ يَكُونَ الْمَنَوِيُّ مَعْلُومَ الْوُجُوبِ أَوْ مَظْنُونَهُ، فَإِنَّ الْمَشْكُوكَ تَكُونُ فِيهِ النِّيَّةُ مُتَرَدِّدَةً فَلاَ تَنْعَقِدُ، وَلِذَلِكَ لاَ يَصِحُّ وُضُوءُ الْكَافِرِ وَلاَ غُسْلُهُ قَبْل انْعِقَادِ الإِْسْلاَمِ؛ لأَِنَّهُمَا غَيْرُ مَعْلُومَيْنِ وَلاَ مَظْنُونَيْنِ.
ج - أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلْمَنْوِيِّ؛ لأَِنَّ أَوَّل الْعِبَادَةِ لَوْ عَرَا عَنِ النِّيَّةِ لَكَانَ أَوَّلُهَا مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَغَيْرِهَا، وَآخِرُ الصَّلاَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَوَّلِهَا وَتَبَعٌ لَهُ، بِدَلِيل أَنَّ أَوَّلَهَا إِنْ نَوَى نَفْلاً أَوْ وَاجِبًا أَوْ قَضَاءً أَوْ أَدَاءً كَانَ آخِرُهَا كَذَلِكَ، فَلاَ تَصِحُّ (1) .

وَقْتُ النِّيَّةِ:
13 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ وَقْتَ النِّيَّةِ هُوَ
__________
(1) الذخيرة للقرافي 1 / 246 - 248، ومواهب الجليل 1 / 233، والفروق للقرافي وتهذيبه 1 / 202 - 203.

(42/69)


أَوَّل الْعِبَادَاتِ، أَوْ أَنَّ الأَْصْل أَنَّ أَوَّل وَقْتِهَا أَوَّل الْعِبَادَاتِ، فَيَجِبُ - كَمَا عَبَّرَ بَعْضُهُمْ - أَنْ تَقْتَرِنَ النِّيَّةُ بِأَوَّل كُل عِبَادَةٍ إِلاَّ أَنْ يَشُقَّ مُقَارَنَتُهَا إِيَّاهَا.
وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ صُوَرًا مِنَ الْعِبَادَاتِ خَرَجَتْ عَنْ هَذَا الأَْصْل، وَأَضَافُوا أَحْكَامًا تَتَعَلَّقُ بِالأَْوَّل الْحَقِيقِيِّ وَالنِّسْبِيِّ أَوِ الْحُكْمِيِّ لِلْعِبَادَاتِ، وَبِاشْتِرَاطِ بَقَاءِ النِّيَّةِ أَثْنَاءَ الْعِبَادَاتِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِاسْتِصْحَابِهَا مِنْ أَوَّل الْعِبَادَاتِ، وَهَذَا وَغَيْرُهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَهُمْ - بَعْدَ ذَلِكَ - تَفْصِيلٌ:
14 - أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: الأَْصْل أَنَّ وَقْتَ النِّيَّةِ أَوَّل الْعِبَادَاتِ، وَلَكِنَّ الأَْوَّل حَقِيقِيٌّ وَحُكْمِيٌّ، فَقَالُوا فِي الصَّلاَةِ: لَوْ نَوَى قَبْل الشُّرُوعِ. . فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: لَوْ نَوَى عِنْدَ الْوُضُوءِ أَنَّهُ يُصَلِّي الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ مَعَ الإِْمَامِ وَلَمْ يَشْتَغِل بَعْدَ النِّيَّةِ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الصَّلاَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمَّا انْتَهَى إِلَى مَكَانِ الصَّلاَةِ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ. . . جَازَتْ صَلاَتُهُ بِتِلْكَ النِّيَّةِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. . . كَذَا فِي الْخُلاَصَةِ، وَفِي التَّجْنِيسِ: إِذَا تَوَضَّأَ فِي مَنْزِلِهِ لِيُصَلِّيَ الظُّهْرَ ثُمَّ حَضَرَ الْمَسْجِدَ فَافْتَتَحَ بِتِلْكَ النِّيَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَغِل بِعَمَلٍ آخَرَ يَكْفِيهِ ذَلِكَ - هَكَذَا قَال مُحَمَّدٌ فِي الرُّقَيَّاتِ -

(42/69)


لأَِنَّ النِّيَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ يُبْقِيهَا إِلَى وَقْتِ الشُّرُوعِ حُكْمًا - كَمَا فِي الصَّوْمِ - إِذَا لَمْ يُبَدِّلْهَا بِغَيْرِهَا.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ عِنْدَ الشُّرُوعِ بِحَيْثُ إِنَّهُ لَوْ سُئِل: أَيَّةُ صَلاَةٍ يُصَلِّي؟ يُجِيبُ عَلَى الْبَدِيهَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْكِيرٍ. . فَهُوَ نِيَّةٌ تَامَّةٌ، وَلَوِ احْتَاجَ إِلَى التَّأَمُّل لاَ تَجُوزُ.
وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: فَقَدْ شَرَطُوا عَدَمَ مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الصَّلاَةِ لِصِحَّةِ تِلْكَ النِّيَّةِ مَعَ تَصْرِيحِهِمْ بِأَنَّهَا صَحِيحَةٌ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ يَتَخَلَّل بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشُّرُوعِ الْمَشْيُ إِلَى مَقَامِ الصَّلاَةِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا، فَلاَ بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمُرَادِ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا مَا يَدُل عَلَى الإِْعْرَاضِ، بِخِلاَفِ مَا لَوِ اشْتَغَل بِكَلاَمٍ أَوْ أَكْلٍ، أَوْ نَقُول: عَدُّ الْمَشْيِ إِلَيْهَا مِنْ أَفْعَالِهَا غَيْرُ قَاطِعٍ لِلنِّيَّةِ.
وَفِي الْخُلاَصَةِ: أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا أَنَّ الأَْفْضَل أَنْ تَكُونَ مُقَارِنَةً لِلشُّرُوعِ، وَلاَ يَكُونَ شَارِعًا بِمُتَأَخِّرَةٍ؛ لأَِنَّ مَا مَضَى لَمْ يَقَعْ عِبَادَةً لِعَدَمِ النِّيَّةِ، فَكَذَا الْبَاقِي لِعَدَمٍ التَّجَزِّي. . . وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ الْقِرَانِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا.
وَأَمَّا النِّيَّةُ فِي الْوُضُوءِ: فَمَحَلُّهَا عِنْدَ غَسْل الْوَجْهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ فِي أَوَّل السُّنَنِ عِنْدَ غَسْل الْيَدَيْنِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ لِيَنَال ثَوَابَ السُّنَنِ

(42/70)


الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى غَسْل الْوَجْهِ.
وَقَالُوا: الْغُسْل كَالْوُضُوءِ فِي السُّنَنِ.
وَفِي التَّيَمُّمِ: يَنْوِي عِنْدَ الْوَضْعِ عَلَى الصَّعِيدِ.
وَأَمَّا وَقْتُ النِّيَّةِ فِي الزَّكَاةِ، فَقَال فِي الْهِدَايَةِ: وَلاَ يَجُوزُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ إِلاَّ بِنِيَّةٍ مُقَارِنَةٍ لِلأَْدَاءِ، أَوْ مُقَارِنَةٍ لِعَزْل مِقْدَارِ مَا وَجَبَ؛ لأَِنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ فَكَانَ مِنْ شَرْطِهَا النِّيَّةُ، وَالأَْصْل فِيهَا الاِقْتِرَانُ إِلاَّ أَنَّ الدَّفْعَ يَتَفَرَّقُ، فَاكْتُفِيَ بِوُجُودِهَا حَال الْعَزْل تَيْسِيرًا، كَتَقْدِيمِ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ.
وَهَل تَجُوزُ بِنِيَّةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عَنِ الأَْدَاءِ؟ قَال فِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ: لَوْ دَفَعَهَا بِلاَ نِيَّةٍ ثُمَّ نَوَى بَعْدَهُ: فَإِنْ كَانَ الْمَال قَائِمًا فِي يَدِ الْفَقِيرِ جَازَ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَأَمَّا الصَّوْمُ: فَإِنْ كَانَ فَرْضًا - هُوَ أَدَاءُ رَمَضَانَ - جَازَ بِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَبِمُقَارِنَةٍ وَهُوَ الأَْصْل، وَبِمُتَأَخِّرَةٍ عَنِ الشُّرُوعِ إِلَى مَا قَبْل نِصْفِ النَّهَارِ الشَّرْعِيِّ؛ تَيْسِيرًا عَلَى الصَّائِمِينَ. وَإِنْ كَانَ فَرْضًا غَيْرَ أَدَاءِ رَمَضَانَ - مِنْ قَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ - فَيَجُوزُ بِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَيَجُوزُ بِنِيَّةٍ مُقَارِنَةٍ لِطُلُوعِ الْفَجْرِ لأَِنَّ الأَْصْل الْقِرَانُ. وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ نَفْلاً فَكَرَمَضَانَ أَدَاءً.

(42/70)


وَأَمَّا الْحَجُّ: فَالنِّيَّةُ فِيهِ سَابِقَةٌ عَنِ الأَْدَاءِ عِنْدَ الإِْحْرَامِ، وَهُوَ النِّيَّةُ مَعَ التَّلْبِيَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ سَوْقِ الْهَدْيِ، وَلاَ يُمْكِنُ فِيهِ الْقِرَانُ أَوِ التَّأَخُّرُ؛ لأَِنَّهُ لاَ تَصِحُّ أَفْعَالُهُ إِلاَّ إِذَا تَقَدَّمَ الإِْحْرَامُ، وَهُوَ رُكْنٌ فِيهِ أَوْ شَرْطٌ. . . عَلَى قَوْلَيْنِ:
وَعِنْدَ اشْتِرَاطِ بَقَاءِ النِّيَّةِ فِي كُل رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْعِبَادَةِ، أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ، قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: قَالُوا فِي الصَّلاَةِ: لاَ تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِي الْبَقَاءِ لِلْحَرَجِ، فَكَذَا بَقِيَّةُ الْعِبَادَاتِ.
وَفِي الْقُنْيَةِ: لاَ تَلْزَمُ نِيَّةُ الْعِبَادَةِ فِي كُل جُزْءٍ، إِنَّمَا تَلْزَمُ فِي جُمْلَةِ مَا يَفْعَلُهُ فِي كُل حَالٍ، وَإِنْ تَعَمَّدَ أَنْ لاَ يَنْوِيَ الْعِبَادَةَ بِبَعْضِ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ الصَّلاَةِ، لاَ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ، ثُمَّ إِنْ كَانَ ذَلِكَ فِعْلاً لاَ تَتِمُّ الْعِبَادَةُ بِدُونِهِ فَسَدَتْ، وَإِلاَّ فَلاَ وَقَدْ أَسَاءَ.
وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ: الْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْعِبَادَةَ ذَاتَ الأَْفْعَال يُكْتَفَى بِالنِّيَّةِ فِي أَوَّلِهَا، وَلاَ يُحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي كُل فِعْلٍ، اكْتِفَاءً بِانْسِحَابِهَا عَلَيْهَا، إِلاَّ إِذَا نَوَى بِبَعْضِ الأَْفْعَال غَيْرَ مَا وُضِعَ لَهُ، قَالُوا: لَوْ طَافَ طَالِبًا الْغَرِيمَ لاَ يُجْزِئُهُ، وَلَوْ وَقَفَ كَذَلِكَ بِعَرَفَاتٍ أَجْزَأَهُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الطَّوَافَ قُرْبَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِخِلاَفِ الْوُقُوفِ، وَفَرَّقَ الزَّيْلَعِيُّ بَيْنَهُمَا بِفَرْقٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ النِّيَّةَ عِنْدَ

(42/71)


الإِْحْرَامِ تَضَمَّنَتْ جَمِيعَ مَا يُفْعَل فِي الإِْحْرَامِ، فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ النِّيَّةِ، وَالطَّوَافُ يَقَعُ بَعْدَ التَّحَلُّل وَفِي الإِْحْرَامِ مِنْ وَجْهٍ، فَاشْتُرِطَ فِيهِ أَصْل النِّيَّةِ لاَ تَعْيِينُ الْجِهَةِ (1) .
15 - وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَقْتَ النِّيَّةِ ضِمْنَ شُرُوطِهَا، فَقَالُوا: أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلْمَنْوِيِّ؛ لأَِنَّ أَوَّل الْعِبَادَةِ لَوْ عَرَا مِنَ النِّيَّةِ لَكَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَغَيْرِهَا، وَآخِرُ الصَّلاَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَوَّلِهَا وَتَبَعٌ لَهُ، بِدَلِيل أَنَّ أَوَّلَهَا إِنْ نَوَى نَفْلاً أَوْ وَاجِبًا أَوْ قَضَاءً أَوْ أَدَاءً كَانَ آخِرُهَا كَذَلِكَ، فَلاَ يَصِحُّ.
وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الصَّوْمَ لِلْمَشَقَّةِ، فَجَوَّزُوا عَدَمَ مُقَارَنَةِ النِّيَّةِ لأَِوَّل الْمَنْوِيِّ لإِِتْيَانِ أَوَّل الصَّوْمِ حَالَةَ النَّوْمِ غَالِبًا، وَالزَّكَاةَ فِي الْوَكَالَةِ عَلَى إِخْرَاجِهَا؛ عَوْنًا عَلَى الإِْخْلاَصِ وَدَفْعًا لِحَاجَةِ الْفَقِيرِ مِنْ بَاذِلِهَا، فَتُقَدَّمُ النِّيَّةُ عِنْدَ الْوَكَالَةِ وَلاَ تَتَأَخَّرُ لإِِخْرَاجِ الْمَنْوِيِّ.
وَجَوَّزَ ابْنُ الْقَاسِمِ - كَمَا نَقَل الْقَرَافِيُّ عَنْ صَاحِبِ الطِّرَازِ - تُقَدَّمُ النِّيَّةُ عِنْدَمَا يَأْخُذُ فِي أَسْبَابِ الطَّهَارَةِ بِذَهَابِهِ إِلَى الْحَمَّامِ أَوِ النَّهْرِ، بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ، وَخَالَفَهُ سَحْنُونٌ فِي الْحَمَّامِ وَوَافَقَهُ فِي النَّهْرِ، وَفَرَّقَ بِأَنَّ النَّهْرَ لاَ يُؤْتَى غَالِبًا
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 42 - 45.

(42/71)


إِلاَّ لِذَلِكَ، فَتَمَيَّزَتِ الْعِبَادَةُ فِيهِ، بِخِلاَفِ الْحَمَّامِ فَإِنَّهُ يُؤْتَى لِذَلِكَ وَلإِِزَالَةِ الدَّرَنِ، وَالرَّفَاهِيَةُ غَالِبَةٌ فِيهِ، فَلَمْ تَتَمَيَّزِ الْعِبَادَةُ وَافْتَقَرَتْ إِلَى النِّيَّةِ.
وَقِيل: لاَ تُجْزِئُ النِّيَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ حَتَّى تَتَّصِل بِفِعْل الْوَاجِبِ.
وَقِيل: إِذَا نَوَى عِنْدَ أَوَّل الْوُضُوءِ وَهُوَ أَوَّل السُّنَنِ أَجْزَأَهُ؛ لأَِنَّ الثَّوَابَ عَلَى السُّنَنِ، وَالتَّقَرُّبَ بِهَا إِنَّمَا يَحْصُل عِنْدَ النِّيَّةِ.
وَقِيل: إِنْ عَزَبَتْ نِيَّتُهُ قَبْل الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ وَبَعْدَ الْيَدَيْنِ لاَ يُجْزِئُهُ، وَإِنِ اتَّصَلَتْ بِهِمَا وَعَزَبَتْ قَبْل الْوَجْهِ أَجْزَأَهُ؛ لأَِنَّ الْمَضْمَضَةَ مِنَ الْوَجْهِ وَبِهَا غَسْل ظَاهِرِ الْفَمِ وَهِيَ الشَّفَةُ مِنَ الْوَجْهِ (1) .
16 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْغَرَضُ مِنَ النِّيَّاتِ تَمْيِيزُ الْعِبَادَاتِ عَنِ الْعَادَاتِ أَوْ تَمْيِيزُ رُتَبِ الْعِبَادَاتِ، وَلِذَا وَجَبَ أَنْ تَقْتَرِنَ النِّيَّةُ بِأَوَّل الْعِبَادَةِ لِيَقَعَ أَوَّلُهَا مُمَيَّزًا ثُمَّ يَبْتَنِي عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، إِلاَّ أَنْ يَشُقَّ مُقَارَنَتُهَا إِيَّاهَا كَمَا فِي نِيَّةِ الصَّوْمِ.
فَإِنْ تَأَخَّرَتِ النِّيَّةُ عَنْ أَوَّل الْعِبَادَةِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ إِلاَّ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ؛ لأَِنَّ مَا مَضَى يَقَعُ مُرَدَّدًا بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعَادَةِ، أَوْ بَيْنَ رُتَبِ الْعِبَادَةِ.
__________
(1) الذخيرة ص 243.

(42/72)


وَإِنْ تَقَدَّمَتِ النِّيَّةُ، فَإِنِ اسْتَمَرَّتْ إِلَى أَنْ شَرَعَ فِي الْعِبَادَةِ أَجْزَأَهُ مَا اقْتَرَنَ مِنْهَا.
وَإِنِ انْقَطَعَتِ النِّيَّةُ قَبْل الشُّرُوعِ فِي الْعِبَادَةِ لَمْ تَصِحَّ الْعِبَادَةُ لِتَرَدُّدِهَا، فَإِنْ قَرُبَ انْقِطَاعُهَا أَجْزَأَتْ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَفِيهِ بُعْدٌ؛ لأَِنَّهَا إِذَا انْقَطَعَتْ وَقَعَ ابْتِدَاءُ الْعِبَادَةِ مُرَدَّدًا، فَإِنِ اكْتَفَى بِالنِّيَّةِ السَّابِقَةِ فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ بَعِيدِهَا وَقَرِيبِهَا.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَصْحِبَ ذِكْرَ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ إِلَى آخِرِهِ لأَِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى مَقْصُودِ النِّيَّاتِ، وَلاَ يَفْعَل ذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ لأَِنَّ قَلْبَهُ مَشْغُولٌ عَنْ ذِكْرِ النِّيَّةِ بِمُلاَحَظَةِ مَعْنَى الأَْذْكَارِ وَالْقِرَاءَةِ وَالدُّعَاءِ، فَكَانَ الاِشْتِغَال بِالأَْهَمِّ فِي الصَّلاَةِ أَوْلَى مِنْ مُلاَحَظَةِ النِّيَّةِ وَذِكْرِهَا.
وَيَكْفِي فِي الْعِبَادَةِ نِيَّةٌ فَرْدَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (1) ، وَقَدْ قَال الشَّافِعِيُّ فِي الصَّلاَةِ: يَنْوِي مَعَ التَّكْبِيرِ لاَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ.
وَقَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَال: لاَ بُدَّ مِنَ اسْتِمْرَارِ النِّيَّةِ مِنْ أَوَّل التَّكْبِيرِ إِلَى آخِرِهِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلنِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْعُسْرِ
__________
(1) حديث: " إنما الأعمال بالنيات. . . ". تقدم تخريجه ف 8.

(42/72)


الْمُوجِبِ لِلْوَسْوَاسِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ تُجْزِئُ نِيَّةٌ فَرْدَةٌ مَقْرُونَةٌ بِالتَّكْبِيرِ، كَمَا تُجْزِئُ فِي الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالاِعْتِكَافِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ نِيَّةٌ فَرْدَةٌ.
وَقَال: وَتَصِحُّ الْعِبَادَةُ بِنِيَّةٍ تَقَعُ فِي أَثْنَائِهَا، وَلَهُ صُوَرٌ:
إِحْدَاهَا: أَنْ يَنْوِيَ الْمُتَنَفِّل رَكْعَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ يَنْوِيَ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا رَكْعَةً أَوْ أَكْثَرَ، فَتَصِحُّ الرَّكْعَةُ الأُْولَى بِالنِّيَّةِ الأُْولَى وَيَصِحُّ مَا زَادَ عَلَيْهَا بِالنِّيَّةِ الثَّانِيَةِ، وَلَيْسَ هَذَا كَتَفْرِيقِ النِّيَّةِ عَلَى الصَّلاَةِ؛ لأَِنَّ الْمُفَرِّقَ يَنْوِي مَا لاَ يَكُونُ صَلاَةً مُفْرَدَةً، وَهَاهُنَا قَدْ نَوَى بِالنِّيَّةِ الأُْولَى الرَّكْعَةَ الأُْولَى وَهِيَ صَلاَةٌ عَلَى حِيَالِهَا، وَنَوَى الزِّيَادَةَ بِنِيَّةٍ ثَانِيَةٍ وَهِيَ صَلاَةٌ أَيْضًا عَلَى حِيَالِهَا، وَلَيْسَ كَمَنْ نَوَى تَكْبِيرَةً أَوْ قَوْمَةً، أَوْ نَوَى مِنَ الظُّهْرِ رَكْعَةً عَلَى انْفِرَادِهَا، فَإِنَّ الرَّكْعَةَ الْمُنْفَرِدَةَ لاَ تَكُونُ ظُهْرًا.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا نَوَى الاِقْتِصَارَ فِي الصَّلاَةِ عَلَى الأَْرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ ثُمَّ نَوَى التَّطْوِيل الْمَشْرُوعَ أَوِ السُّنَنَ الْمَشْرُوعَةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ لاِشْتِمَال النِّيَّةِ الأُْولَى عَلَى الأَْرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ، وَالثَّانِيَةِ عَلَى السُّنَنِ التَّابِعَةِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَلاَةً مُسْتَقِلَّةً فَقَدْ ثَبَتَ لِلتَّابِعِ مَا لاَ يَثْبُتُ لِلْمَتْبُوعِ.

(42/73)


الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْقَصْرَ ثُمَّ نَوَى الإِْتْمَامَ، فَإِنَّ الرَّكْعَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ تُجْزِئَانِهِ بِالنِّيَّةِ الأُْولَى، وَتُجْزِئُهُ الرَّكْعَتَانِ الأُْخْرَيَانِ بِالنِّيَّةِ الثَّانِيَةِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِالنِّيَّتَيْنِ تَمْيِيزُ رُتْبَةِ الصَّلاَةِ - الظُّهْرِ - عَنْ غَيْرِهَا، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ بِالنِّيَّتَيْنِ.
الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا اقْتَرَنَ بِصَلاَةِ الْقَاصِرِ مَا يُوجِبُ الإِْتْمَامَ أَوْ طَرَأَ عَلَيْهَا مَا يُوجِبُ إِتْمَامَهَا - وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ بِهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ - فَإِنَّهُ يُتِمُّ الصَّلاَةَ بِالنِّيَّةِ الثَّانِيَةِ، وَقَدْ قَال بَعْضُ أَصْحَابِنَا: تُجْزِئُهُ بِالنِّيَّةِ الأُْولَى.
الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا مَاتَ الأَْجِيرُ فِي الْحَجِّ قَبْل إِتْمَامِهِ الْحَجَّ، وَجَوَّزْنَا الْبِنَاءَ عَلَيْهِ فَاسْتَأْجَرْنَا مَنْ يَبْنِي عَلَيْهِ، وَقَدْ وَقَعَ مَا تَقَدَّمَ بِنِيَّةِ الأَْجِيرِ الأَْوَّل وَمَا تَأَخَّرَ بِنِيَّةِ الأَْجِيرِ الثَّانِي، فَيُؤَدَّى الْحَجُّ بِنِيَّتَيْنِ مِنْ شَخْصَيْنِ: إِحْدَاهُمَا فِي ابْتِدَائِهِ، وَالثَّانِيَةُ فِي انْتِهَائِهِ (1) .
17 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ الإِْتْيَانُ بِالنِّيَّةِ عِنْدَ أَوَّل وَاجِبٍ فِي الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْل أَوِ التَّيَمُّمِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ؛ لأَِنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ وَاجِبَاتِهَا، فَيُعْتَبَرُ كَوْنُهَا كُلُّهَا بَعْدَ
__________
(1) قواعد الأحكام 1 / 176، 181 - 185، ومغني المحتاج 1 / 47 - 50، والأشباه للسيوطي 24 - 30.

(42/73)


النِّيَّةِ، فَلَوْ فَعَل شَيْئًا مِنَ الْوَاجِبَاتِ قَبْل النِّيَّةِ لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ.
وَيُسْتَحَبُّ الإِْتْيَانُ بِالنِّيَّةِ عِنْدَ مَسْنُونَاتِ الطَّهَارَةِ إِنْ وُجِدَ ذَلِكَ الْمَسْنُونُ قَبْل وَاجِبٍ. كَغَسْل الْيَدَيْنِ لِغَيْرِ الْقَائِمِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْل إِنْ وُجِدَ قَبْل التَّسْمِيَةِ فِي الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْل، لِتَشْمَل النِّيَّةُ مَفْرُوضَ الطَّهَارَةِ وَمَسْنُونَهَا، فَيُثَابُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا. فَإِنْ غَسَل الْيَدَيْنِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ فَكَمَنْ لَمْ يَغْسِلْهُمَا؛ لِحَدِيثِ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (1) ، فَتُسْتَحَبُّ إِعَادَةُ غَسْلِهِمَا بَعْدَ النِّيَّةِ، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى الطَّهَارَةِ بِزَمَنٍ يَسِيرٍ كَصَلاَةٍ وَزَكَاةٍ، وَلاَ يُبْطِل النِّيَّةَ عَمَلٌ يَسِيرٌ قَبْل الشُّرُوعِ فِي الطَّهَارَةِ وَنَحْوِهَا. فَإِنْ كَثُرَ بَطَلَتْ وَاحْتَاجَ إِلَى اسْتِئْنَافِهَا، وَيُسْتَحَبُّ اسْتِصْحَابُ ذِكْرِهَا بِقَلْبِهِ بِأَنْ يَكُونَ مُسْتَحْضِرًا لَهَا فِي جَمِيعِ الطَّهَارَةِ لِتَكُونَ أَفْعَالُهُ كُلُّهَا مُقْتَرِنَةً بِالنِّيَّةِ. وَلاَ بُدَّ مِنَ اسْتِصْحَابِ حُكْمِهَا بِأَنْ لاَ يَنْوِيَ قَطْعَهَا، فَإِنْ عَزَبَتْ عَنْ خَاطِرِهِ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي الطَّهَارَةِ كَمَا لاَ يُؤَثِّرُ فِي الصَّلاَةِ. وَمَحَلُّهُ إِنْ لَمْ يَنْوِ بِالْغَسْل نَحْوَ تَنْظِيفٍ أَوْ تَبَرُّدٍ، كَمَا ذَكَرَهُ الْمَجْدُ (2) .
__________
(1) حديث: " إنما الأعمال بالنيات. . . ". تقدم تخريجه ف 8.
(2) كشاف القناع 1 / 90.

(42/74)


حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ النِّيَّةِ:
18 - بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ النِّيَّةَ شُرِعَتْ لِتَمْيِيزِ الْعِبَادَاتِ عَنِ الْعَادَاتِ حَتَّى يَتَمَيَّزَ مَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى عَمَّا لَيْسَ لَهُ، وَتَتَمَيَّزُ مَرَاتِبُ الْعِبَادَاتِ فِي أَنْفُسِهَا حَتَّى تَتَمَيَّزَ مُكَافَأَةُ الْعَبْدِ عَلَى فِعْلِهِ وَيَظْهَرَ قَدْرُ تَعْظِيمِهِ لِرَبِّهِ (1) .
فَمِثَال الأَْوَّل: الْغُسْل يَكُونُ عِبَادَةً وَتَبَرُّدَا، وَحُضُورُ الْمَسَاجِدِ يَكُونُ لِلصَّلاَةِ وَفُرْجَةً وَاسْتِرَاحَةً، وَالسُّجُودُ لِلَّهِ أَوْ لِلصَّنَمِ.
وَمِثَال الثَّانِي: الصَّلاَةُ، لاِنْقِسَامِهَا إِلَى فَرْضٍ وَنَفْلٍ، وَالْفَرْضُ إِلَى فَرْضٍ عَلَى الأَْعْيَانِ وَفَرْضٍ عَلَى الْكِفَايَةِ وَفَرْضٍ مَنْذُورٍ وَفَرْضٍ غَيْرِ مَنْذُورٍ. وَمِنْ هُنَا تَظْهَرُ كَيْفِيَّةُ تَعَلُّقِ النِّيَّةِ بِالْفِعْل؛ فَإِنَّهَا لِلتَّمْيِيزِ.
وَتَمْيِيزُ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ بِإِضَافَتِهِ إِلَى سَبَبِهِ كَصَلاَةِ الْكُسُوفِ وَالاِسْتِسْقَاءِ وَالْعِيدَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ بِوَقْتِهِ كَصَلاَةِ الظُّهْرِ، أَوْ بِحُكْمِهِ الْخَاصِّ كَالْفَرِيضَةِ، أَوْ بِوُجُودِ سَبَبِهِ كَرَفْعِ الْحَدَثِ، فَإِنَّ الْوُضُوءَ سَبَبٌ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ، فَإِذَا نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ ارْتَفَعَ وَصَحَّ الْوُضُوءُ (2) .
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 29، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 12، ومواهب الجليل 1 / 232.
(2) مواهب الجليل 1 / 232.

(42/74)


مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَعْيِينُ الْمَنَوِيِّ:
19 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى اشْتِرَاطِ تَعْيِينِ النِّيَّةِ فِي عِبَادَةٍ لاَ تَلْتَبِسُ بِغَيْرِهَا مِنْ جِنْسِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلَهُمْ وَرَاءَ الإِْجْمَال تَفْصِيلٌ:
قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: الأَْصْل عِنْدَنَا أَنَّ الْمَنْوِيَّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعِبَادَاتِ أَوْ لاَ. فَإِنْ كَانَ عِبَادَةً:
فَإِنْ كَانَ وَقْتُهَا ظَرْفًا لِلْمُؤَدَّى، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَسَعُهُ وَغَيْرَهُ، فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّعْيِينِ، كَالصَّلاَةِ، كَأَنْ يَنْوِيَ الظُّهْرَ، فَإِنْ قَرَنَهُ بِالْيَوْمِ كَظُهْرِ الْيَوْمِ صَحَّ وَإِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ، أَوْ قَرَنَهُ بِالْوَقْتِ وَلَمْ يَكُنْ خَرَجَ الْوَقْتُ صَحَّ أَيْضًا، فَإِنْ خَرَجَ وَنَسِيَهُ لاَ يُجْزِئُهُ فِي الصَّحِيحِ. . . وَعَلاَمَةُ التَّعْيِينِ لِلصَّلاَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ لَوْ سُئِل: أَيُّ صَلاَةٍ يُصَلِّي؟ يُمْكِنُهُ أَنْ يُجِيبَ بِلاَ تَأَمُّلٍ.
وَإِنْ كَانَ وَقْتُهَا مِعْيَارًا لَهَا، بِمَعْنَى أَنَّهُ لاَ يَسَعُ غَيْرَهَا كَالصَّوْمِ فِي يَوْمِ رَمَضَانَ، فَإِنَّ التَّعْيِينَ لَيْسَ بِشَرْطٍ إِنْ كَانَ الصَّائِمُ صَحِيحًا مُقِيمًا، فَيَصِحُّ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِنِيَّةِ النَّفْل وَوَاجِبٍ آخَرَ؛ لأَِنَّ التَّعْيِينَ فِي الْمُتَعَيِّنِ لَغْوٌ، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالصَّحِيحُ وُقُوعُهُ عَنْ رَمَضَانَ سَوَاءٌ نَوَى وَاجِبًا آخَرَ أَوْ نَفْلاً، وَأَمَّا الْمُسَافِرُ فَإِنْ نَوَى عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ وَقَعَ عَمَّا نَوَاهُ لاَ عَنْ

(42/75)


رَمَضَانَ، وَفِي النَّفْل رِوَايَتَانِ.
وَإِنْ كَانَ وَقْتُهَا مُشْكِلاً كَوَقْتِ الْحَجِّ - يُشْبِهُ الْمِعْيَارَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ فِي السَّنَةِ إِلاَّ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَيُشْبِهُ الظَّرْفَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَفْعَالَهُ لاَ تَسْتَغْرِقُ وَقْتَهُ - فَيُصَابُ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ نَظَرًا إِلَى الْمِعْيَارِيَّةِ، وَإِنْ نَوَى نَفْلاً وَقَعَ عَمَّا نَوَى نَظَرًا إِلَى الظَّرْفِيَّةِ.
وَلاَ يَسْقُطُ التَّعْيِينُ فِي الصَّلاَةِ بِضِيقِ الْوَقْتِ لأَِنَّ السَّعَةَ بَاقِيَةٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ شَرَعَ مُتَنَفِّلاً صَحَّ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا.
وَلاَ يَتَعَيَّنُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ بِتَعْيِينِ الْعَبْدِ قَوْلاً، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِفِعْلِهِ.
وَأَمَّا فِي الْقَضَاءِ فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّعْيِينِ صَلاَةً أَوْ صَوْمًا أَوْ حَجًّا.
وَأَمَّا إِذَا كَثُرَتِ الْفَوَائِتُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ التَّعْيِينِ لِتَمْيِيزِ الْفُرُوضِ الْمُتَّحِدَةِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَالأَْصَحُّ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ مِنْ رَمَضَانَ وَاحِدٍ فَصَامَ يَوْمًا نَاوِيًا عَنْهُ، وَلَكِنْ لَمْ يُعَيِّنْ أَنَّهُ صَائِمٌ عَنْ يَوْمِ كَذَا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَلاَ يَجُوزُ مِنْ رَمَضَانَيْنِ مَا لَمْ يُعَيِّنْ أَنَّهُ صَائِمٌ عَنْ رَمَضَانَ سَنَةَ كَذَا.
وَقَالُوا فِي الْمُتَيَمِّمِ: لاَ يَجِبُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ، حَتَّى لَوْ تَيَمَّمَ الْجُنُبُ يُرِيدُ بِهِ

(42/75)


الْوُضُوءَ، جَازَ، خِلاَفًا لِلْخَصَّافِ (1) .
وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ: التَّعْيِينُ لِتَمْيِيزِ الأَْجْنَاسِ، فَنِيَّةُ التَّعْيِينِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَغْوٌ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، وَيُعْرَفُ اخْتِلاَفُ الْجِنْسِ بِاخْتِلاَفِ السَّبَبِ، وَالصَّلاَةُ كُلُّهَا مِنْ قَبِيل الْمُخْتَلِفِ، حَتَّى الظُّهْرَيْنِ مِنْ يَوْمَيْنِ أَوِ الْعَصْرَيْنِ مِنْ يَوْمَيْنِ، بِخِلاَفِ أَيَّامِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَجْمَعُهَا شُهُودُ الشَّهْرِ.
وَعَلَى هَذَا أَدَاءُ الْكَفَّارَاتِ لاَ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى التَّعْيِينِ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ عَيَّنَ لَغَا، وَفِي الأَْجْنَاسِ لاَ بُدَّ مِنْهُ.
هَذَا فِي الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ. . . وَأَمَّا النَّوَافِل فَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهَا تَصِحُّ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ، وَأَمَّا السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ فَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ تَعْيِينِهَا، وَالصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ عَدَمُ الاِشْتِرَاطِ وَأَنَّهَا تَصِحُّ بِنِيَّةِ النَّفْل وَبِمُطْلَقِ النِّيَّةِ (2) .
وَأَضَافَ ابْنُ نُجَيْمٍ: الْخَطَأُ فِيمَا لاَ يُشْتَرَطُ التَّعْيِينُ لَهُ لاَ يَضُرُّ، كَتَعْيِينِ مَكَانِ الصَّلاَةِ وَزَمَانِهَا وَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ، فَلَوْ عَيَّنَ عَدَدَ رَكَعَاتِ الظُّهْرِ ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا صَحَّ لأَِنَّ التَّعْيِينَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَالْخَطَأُ فِيهِ لاَ يَضُرُّ. . . وَأَمَّا فِيمَا
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 30.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 31 - 32.

(42/76)


يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعْيِينُ، كَالْخَطَأِ مِنَ الصَّوْمِ إِلَى الصَّلاَةِ وَعَكْسِهِ وَمِنْ صَلاَةِ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ. . . فَإِنَّهُ يَضُرُّ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَنْوِيُّ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَقْصُودَةِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْوَسَائِل كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْل وَالتَّيَمُّمِ، فَقَالُوا فِي الْوُضُوءِ: لاَ يَنْوِيهِ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ، وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يَنْوِي مَا لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِالطَّهَارَةِ مِنَ الْعِبَادَةِ أَوْ رَفْعِ الْحَدَثِ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ: تَكْفِي نِيَّةُ الطَّهَارَةِ. وَأَمَّا فِي التَّيَمُّمِ فَقَالُوا: إِنَّهُ يَنْوِي عِبَادَةً مَقْصُودَةً لاَ تَصِحُّ إِلاَّ بِالطَّهَارَةِ، مِثْل سَجْدَةِ التِّلاَوَةِ وَصَلاَةِ الظُّهْرِ. . . وَفِي التَّيَمُّمِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ رِوَايَتَانِ (1) .
20 - وَقَال الْقَرَافِيُّ: الْمَقَاصِدُ مِنَ الأَْعْيَانِ فِي الْعُقُودِ إِنْ كَانَتْ مُتَعَيَّنَةً اسْتَغْنَتْ عَمَّا يُعَيِّنُهَا، كَمَنِ اسْتَأْجَرَ بِسَاطًا أَوْ عِمَامَةً أَوْ ثَوْبًا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَعْيِينِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْعَقْدِ لاِنْصِرَافِ هَذِهِ الأَْشْيَاءِ بِصُوَرِهَا إِلَى مَقَاصِدِهَا عَادَةً، وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ مُتَرَدِّدَةً، كَالدَّابَّةِ لِلْحَمْل وَالرُّكُوبِ وَالأَْرْضِ لِلزَّرْعِ وَالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ، افْتَقَرَتْ إِلَى التَّعْيِينِ.
وَقَال: النُّقُودُ إِذَا كَانَ بَعْضُهَا غَالِبًا لَمْ يَحْتَجْ
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 34، 35.

(42/76)


إِلَى تَعْيِينٍ فِي الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ احْتَاجَ إِلَى التَّعْيِينِ.
وَقَال كَذَلِكَ: الْحُقُوقُ إِذَا تَعَيَّنَتْ لِمُسْتَحِقِّيهَا كَالدَّيْنِ الْمَنْقُول فَإِنَّهُ مُعَيَّنٌ لِرَبِّهِ، فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ، مِثْل حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا تَعَيَّنَتْ لَهُ كَالإِْيمَانِ، وَإِنْ تَرَدَّدَ الْحَقُّ بَيْنَ دَيْنَيْنِ أَحَدُهُمَا بِرَهْنٍ وَالآْخَرُ بِغَيْرِ رَهْنٍ، فَإِنَّ الدَّفْعَ يَفْتَقِرُ فِي تَعْيِينِ الْمَدْفُوعِ لأَِحَدِهِمَا إِلَى النِّيَّةِ.
وَأَضَافَ الْقَرَافِيُّ: التَّصَرُّفَاتُ إِذَا كَانَتْ دَائِرَةً بَيْنَ جِهَاتٍ شَتَّى لاَ تَنْصَرِفُ لِجِهَةٍ إِلاَّ بِنْيَةٍ، كَمَنْ أَوْصَى لأَِيْتَامٍ فَاشْتَرَى سِلْعَةً لاَ تَتَعَيَّنُ لأَِحَدِهِمْ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَمَتَى كَانَ التَّصَرُّفُ مُتَّحِدًا انْصَرَفَ إِلَى جِهَتِهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، فَإِنَّ مُبَاشَرَةَ الْعَقْدِ كَافِيَةٌ فِي حُصُول مِلْكِهِ لِلسِّلْعَةِ. . . وَالنِّيَّةُ فِي هَذِهِ الأُْمُورِ مَقْصُودُهَا التَّمْيِيزُ، وَمَقْصُودُهَا فِي الْعِبَادَاتِ التَّمْيِيزُ وَالتَّقَرُّبُ مَعًا (1) .
وَقَال الْحَطَّابُ: مِنْ فَرَائِضِ الصَّلاَةِ نِيَّةُ الصَّلاَةِ الْمُعَيَّنَةِ. قَال صَاحِبُ الْمُقَدِّمَاتِ: النِّيَّةُ الْكَامِلَةُ هِيَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: تَعْيِينُ الصَّلاَةِ، وَالتَّقَرُّبُ بِهَا، وَوُجُوبُهَا، وَآدَابُهَا. وَاسْتِشْعَارُ الإِْيمَانِ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، فَهَذِهِ هِيَ النِّيَّةُ الْكَامِلَةُ، فَإِنْ سَهَا عَنِ الإِْيمَانِ أَوْ وُجُوبِ الصَّلاَةِ أَوْ كَوْنِهَا أَدَاءً أَوِ التَّقَرُّبِ بِهَا، لَمْ
__________
(1) الذخيرة ص 237 - 239.

(42/77)


تَفْسُدْ إِذَا عَيَّنَهَا لاِشْتِمَال التَّعْيِينِ عَلَى ذَلِكَ. قَال صَاحِبُ الطِّرَازِ: وَالْمُعِيدُ لِلصَّلاَةِ فِي جَمَاعَةٍ وَالصَّبِيُّ لاَ يَتَعَرَّضَانِ لِفَرْضٍ وَلاَ لِنَفْلٍ.
وَمِنَ الذَّخِيرَةِ قَال صَاحِبُ الطِّرَازِ: النَّوَافِل عَلَى قِسْمَيْنِ: مُقَيَّدَةٌ وَمُطْلَقَةٌ. فَالْمُقَيَّدَةُ السُّنَنُ الْخَمْسُ وَهِيَ: الْعِيدَانِ وَالْكُسُوفُ وَالاِسْتِسْقَاءُ وَالْوَتْرُ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ، فَهَذِهِ مُقَيَّدَةٌ إِمَّا بِأَسْبَابِهَا أَوْ بِأَزْمَانِهَا، فَلاَ بُدَّ فِيهَا مِنْ نِيَّةِ التَّعْيِينِ، فَمَنِ افْتَتَحَ الصَّلاَةَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ ثُمَّ أَرَادَ رَدَّهَا إِلَى هَذِهِ لَمْ يَجُزْ. وَالْمُطْلَقَةُ مَا عَدَا هَذِهِ فَتَكْفِي فِيهَا نِيَّةُ الصَّلاَةِ، فَإِنْ كَانَ فِي لَيْلٍ فَهُوَ قِيَامُ اللَّيْل، أَوْ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، أَوْ كَانَ مِنْهُ أَوَّل النَّهَارِ فَهُوَ الضُّحَى، أَوْ عِنْدَ دُخُول مَسْجِدٍ فَهُوَ تَحِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ مِنْ حَجٍّ أَوْ صَوْمٍ أَوْ عُمْرَةٍ لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى التَّعْيِينِ فِي مُطْلَقِهِ، بَل يَكْفِي فِيهِ أَصْل الْعِبَادَةِ (1) .
21 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ التَّعْيِينُ فِيمَا يَلْتَبِسُ دُونَ غَيْرِهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنَّمَا لِكُل امْرِئٍ مَا نَوَى. . . فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي اشْتِرَاطِ التَّعْيِينِ؛ لأَِنَّ أَصْل النِّيَّةِ فُهِمَ مِنْ أَوَّل الْحَدِيثِ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (2) .
__________
(1) الحطاب 1 / 515.
(2) حديث: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. . . ". تقدم تخريجه ف 8.

(42/77)


فَمِنَ الأَْوَّل - أَيْ مِمَّا يَلْتَبِسُ بِغَيْرِهِ - الصَّلاَةُ: فَيُشْتَرَطُ التَّعْيِينُ فِي الْفَرَائِضِ لِتَسَاوِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِعْلاً وَصُورَةً، فَلاَ يُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا إِلاَّ التَّعْيِينُ، وَفِي النَّوَافِل غَيْرِ الْمُطْلَقَةِ كَالرَّوَاتِبِ فَيُعَيِّنُهَا بِإِضَافَتِهَا إِلَى الظُّهْرِ مَثَلاً، وَكَوْنِهَا الَّتِي قَبْلَهَا أَوِ الَّتِي بَعْدَهَا.
وَمِنْ ذَلِكَ الصَّوْمُ: وَالْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الأَْصْحَابُ اشْتِرَاطُ التَّعْيِينِ فِيهِ لِتَمْيِيزِ رَمَضَانَ مِنَ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ وَالْفِدْيَةِ. وَمِثْل الرَّوَاتِبِ فِي ذَلِكَ الصَّوْمُ ذُو السَّبَبِ.
وَمِنَ الثَّانِي - أَيْ مَا لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعْيِينُ لِعَدَمِ الْتِبَاسِهِ بِغَيْرِهِ - الطَّهَارَاتُ وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ؛ لأَِنَّهُ لَوْ عَيَّنَ غَيْرَهَا انْصَرَفَ إِلَيْهَا، وَكَذَا الزَّكَاةُ وَالْكَفَّارَاتُ.
وَنَقَل السُّيُوطِيُّ ضَابِطًا هُوَ أَنَّ كُل مَوْضِعٍ افْتَقَرَ إِلَى نِيَّةِ الْفَرِيضَةِ افْتَقَرَ إِلَى تَعْيِينِهَا إِلاَّ التَّيَمُّمَ لِلْفَرْضِ فِي الأَْصَحِّ.
وَقَال: الْقَاعِدَةُ أَنَّ مَا لاَ يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لَهُ جُمْلَةً وَتَفْصِيلاً إِذَا عَيَّنَهُ وَأَخْطَأَ لَمْ يَضُرَّ، كَتَعْيِينِ مَكَانِ الصَّلاَةِ وَزَمَانِهَا، وَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعْيِينُ فَالْخَطَأُ فِيهِ مُبْطِلٌ، كَالْخَطَأِ مِنَ الصَّوْمِ إِلَى الصَّلاَةِ وَعَكْسِهِ، وَمَا يَجِبُ التَّعَرُّضُ لَهُ

(42/78)


جُمْلَةً وَلاَ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُهُ تَفْصِيلاً إِذَا عَيَّنَهُ وَأَخْطَأَ ضَرَّ (1) .
22 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ أَنْ يَنْوِيَ الصَّلاَةَ بِعَيْنِهَا إِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً مِنْ فَرْضٍ، وَكَذَا مَنْذُورَةٌ، وَنَفْلٌ مُؤَقَّتٌ كَوِتْرٍ وَتَرَاوِيحَ وَرَاتِبَةٍ، لِتَتَمَيَّزَ تِلْكَ الصَّلَوَاتُ عَنْ غَيْرِهَا، وَلأَِنَّهُ لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ صَلَوَاتٌ فَصَلَّى أَرْبَعًا يَنْوِي بِهَا مِمَّا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ إِجْمَاعًا، فَلَوْلاَ اشْتِرَاطُ التَّعْيِينِ لأََجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الصَّلاَةُ مُعَيَّنَةً كَالنَّفْل الْمُطْلَقِ أَجْزَأَتْهُ نِيَّةُ الصَّلاَةِ لِعَدَمِ مَا يَقْتَضِي التَّعْيِينَ فِيهَا (2) .

صِفَةُ الْمَنْوِيِّ مِنَ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ فَرْضِيَّةِ الْعِبَادَةِ عِنْدَ الْقِيَامِ بِهَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ - الْوُضُوءُ:
23 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لِنِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ فِي الْوُضُوءِ.
وَكَيْفِيَّةُ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ، أَوْ يَنْوِيَ اسْتِبَاحَةَ مَا مَنَعَهُ الْحَدَثُ، أَوْ نِيَّةَ فَرْضِ الْوُضُوءِ، أَوْ نِيَّةَ الْوُضُوءِ فَقَطْ، فَأَيُّ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 14 - 16.
(2) كشاف القناع 1 / 89 - 90، 314.

(42/78)


كَيْفِيَّةٍ مِنْ هَذِهِ الْكَيْفِيَّاتِ نَوَى أَجْزَأَهُ، لِتَعَرُّضِهِ لِلْمَقْصُودِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لِنِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ، وَلَكِنَّ الأَْوْلَى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْكَيْفِيَّاتِ، وَيَضُرُّ نِيَّةُ بَعْضِهَا وَإِخْرَاجُ الْبَعْضِ؛ لأَِنَّهُ تَنَاقُضٌ فِي ذَاتِ النِّيَّةِ.
وَقَال السُّيُوطِيُّ: لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ التَّعَرُّضَ لِنِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ أَكْمَل إِذَا لَمْ نُوجِبْهُ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: النِّيَّةُ سُنَّةٌ فِي الْوُضُوءِ وَلَيْسَتْ فَرْضًا، لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهِ، كَمَا يَقُول ابْنُ نُجَيْمٍ (1) .

ب - الْغُسْل:
24 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْفَرْضِيَّةِ فِي الْغُسْل، بَل يَكْفِي نِيَّةُ رَفْعِ جَنَابَةٍ إِنْ كَانَ جُنُبًا، وَرَفْعِ حَدَثِ الْحَيْضِ إِنْ كَانَتْ حَائِضًا، أَوْ نِيَّةُ اسْتِبَاحَةِ مُفْتَقِرٍ إِلَيْهِ كَالصَّلاَةِ، أَوْ يَنْوِي أَدَاءَ فَرْضِ الْغُسْل أَوِ الْغُسْل الْمَفْرُوضِ، أَوْ أَدَاءَ الْغُسْل، وَكَذَا الطَّهَارَةُ لِلصَّلاَةِ (2) .
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 93، والحطاب 1 / 234، والأشباه للسيوطي ص 18، ومغني المحتاج 1 / 48، 149، وكشاف القناع 1 / 88، وشرح منتهى الإرادات 1 / 48، والأشباه لابن نجيم ص 37.
(2) مغني المحتاج 1 / 72، وأسنى المطالب 1 / 68، وكشاف القناع 1 / 152، والشرح الكبير، وحاشية الدسوقي 1 / 133.

(42/79)


وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ نِيَّةُ الْغُسْل سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ فَرْضًا، لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهِ كَمَا يَقُول ابْنُ نُجَيْمٍ (1) .

ج - التَّيَمُّمُ:
25 - صِفَةُ النِّيَّةِ فِي التَّيَمُّمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) أَنْ يَنْوِيَ اسْتِبَاحَةَ الصَّلاَةِ، أَوِ اسْتِبَاحَةَ مَا لاَ يُبَاحُ إِلاَّ بِالطَّهَارَةِ (2) .
فَإِنْ نَوَى فَرْضَ التَّيَمُّمِ أَوْ فَرْضَ الطَّهَارَةِ أَوِ التَّيَمُّمَ الْمَفْرُوضَ فَقَطْ، لَمْ يَكْفِ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ التَّيَمُّمَ لَيْسَ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى بِهِ عَنْ ضَرُورَةٍ، فَلاَ يُجْعَل مَقْصُودًا بِخِلاَفِ الْوُضُوءِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَكْفِي أَنْ يَنْوِيَ فَرْضَ التَّيَمُّمِ، أَوْ فَرْضَ الطَّهَارَةِ فَقَطْ (3) .
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 37.
(2) الإنصاف 1 / 290، 291، والفروع 1 / 225، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 154، والفواكه الدواني 1 / 184، ومغني المحتاج 1 / 97، 98، وأشباه السيوطي ص 21.
(3) مغني المحتاج 1 / 97، 98، وأشباه السيوطي ص 21، والمجموع 2 / 225، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 154، وجواهر الإكليل 1 / 27.

(42/79)


وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ فِي التَّيَمُّمِ، قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: وَأَمَّا التَّيَمُّمُ فَلاَ تُشْتَرَطُ لَهُ نِيَّةُ الْفَرْضِيَّةِ لأَِنَّهُ مِنَ الْوَسَائِل، وَنِيَّةُ رَفْعِ الْحَدَثِ كَافِيَةٌ، وَالشُّرُوطُ كُلُّهَا لاَ يُشْتَرَطُ لَهَا نِيَّةُ الْفَرْضِيَّةِ لِقَوْلِهِمْ: إِنَّمَا يُرَاعَى حُصُولُهَا لاَ تَحْصِيلُهَا (1) .
وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَيَمُّم ف 9) .

د - الصَّلاَةُ:
26 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ ابْنِ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْفَرْضِيَّةِ فِي صَلاَةِ الْفَرْضِ لِتَتَمَيَّزَ عَنِ النَّفْل.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - غَيْرَ ابْنِ حَامِدٍ - وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْفَرْضِيَّةِ، وَيَكْفِي تَعْيِينُ النِّيَّةِ لِصَلاَةِ الْفَرْضِ، بِأَنْ يَقْصِدَ بِقَلْبِهِ أَدَاءَ فَرْضِ الظُّهْرِ مَثَلاً، وَالتَّعْيِينُ يُغْنِي عَنْ نِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ (2) .
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 37، وحاشية ابن عابدين 1 / 168.
(2) الأشباه لابن نجيم ص 35، 36، وجواهر الإكليل 1 / 46، وحاشية ابن عابدين 1 / 279، ومغني المحتاج 1 / 149، والمغني 1 / 465، وشرح منتهى الإرادات 1 / 168، وتحفة المحتاج 2 / 7 - 8.

(42/80)


وَقَال الْحَنَفِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ لِصَلاَةِ الصَّبِيِّ: يَنْبَغِي أَلاَّ تُشْرَطَ نِيَّةُ الْفَرْضِيَّةِ لِكَوْنِهَا غَيْرَ فَرْضٍ فِي حَقِّهِ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ صَلاَةَ كَذَا الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي هَذَا الْوَقْتِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ تَجِبُ نِيَّةُ الْفَرْضِيَّةِ فِي صَلاَةِ الصَّبِيِّ، كَمَا صَحَّحَهُ فِي التَّحْقِيقِ وَصَوَّبَهُ فِي الْمَجْمُوعِ خِلاَفًا لِمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا؛ لأَِنَّ صَلاَتَهُ تَقَعُ نَفْلاً فَكَيْفَ يَنْوِي الْفَرْضِيَّةَ؟ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّلاَةِ الْمُعَادَةِ لاِرْتِكَابِ مَكْرُوهٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ: لاَ شَكَّ أَنَّهَا جَابِرَةٌ لاَ فَرْضٌ، لِقَوْلِهِمْ بِسُقُوطِ الْفَرْضِ بِالأُْولَى، فَعَلَى هَذَا يَنْوِي كَوْنَهَا جَابِرَةً لِنَقْصِ الْفَرْضِ، عَلَى أَنَّهَا نَفْلٌ تَحْقِيقًا.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْفَرْضَ يَسْقُطُ بِهَا فَلاَ خَفَاءَ فِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مِنَ الْمُشْكِل مَا صَحَّحَهُ الأَْكْثَرُونَ فِي الصَّلاَةِ الْمُعَادَةِ أَنْ يَنْوِيَ بِهَا الْفَرْضَ، مَعَ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ الْفَرْضَ الأُْولَى، وَلِذَلِكَ اخْتَارَ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ وَشَرْحِ الْمُهَذَّبِ قَوْل إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: إِنَّهُ يَنْوِي الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ مَثَلاً وَلاَ يَتَعَرَّضُ لِلْفَرْضِ. قَال فِي
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 36، 37، وتحفة المحتاج 2 / 7 - 8.

(42/80)


شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَهُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْقَوَاعِدُ وَالأَْدِلَّةُ، وَقَال السُّبْكِيُّ: لَعَل مُرَادَ الأَْكْثَرِينَ أَنَّهُ يَنْوِي إِعَادَةَ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ، حَتَّى لاَ يَكُونَ نَفْلاً مُبْتَدَأً (1) .
27 - وَفَرَّعَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْرِفِ الْفَرَائِضَ الْخَمْسَ إِلاَّ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا فِي أَوْقَاتِهَا لاَ يَجُوزُ، وَكَذَا لَوِ اعْتَقَدَ أَنَّ مِنْهَا فَرْضًا وَنَفْلاً وَلاَ يُمَيِّزُ وَلَمْ يَنْوِ الْفَرْضَ فِيهَا، فَإِنْ نَوَى الْفَرْضَ فِي الْكُل جَازَ، وَلَوْ ظَنَّ الْكُل فَرْضًا جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَظُنَّ ذَلِكَ فَكُل صَلاَةٍ صَلاَّهَا مَعَ الإِْمَامِ جَازَ إِنْ نَوَى صَلاَةَ الإِْمَامِ.
وَنَقَل ابْنُ نُجَيْمٍ أَنَّ الْمُصَلِّينَ سِتَّةٌ:

الأَْوَّل: مَنْ عَلِمَ الْفُرُوضَ مِنْهَا وَالسُّنَنَ، وَعَلِمَ مَعْنَى الْفَرْضِ وَالسُّنَّةِ اصْطِلاَحًا فَنَوَى الظُّهْرَ أَوِ الْفَجْرَ أَجْزَأَتْهُ، وَأَغْنَتْ فِيهِ نِيَّةُ الظُّهْرِ عَنْ نِيَّةِ الْفَرْضِ.

الثَّانِي: مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَيَنْوِي الْفَرْضَ فَرْضًا وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ تُجْزِئُهُ.

الثَّالِثُ: يَنْوِي الْفَرْضَ وَلاَ يَعْلَمُ مَعْنَاهُ لاَ تُجْزِئُهُ.
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 432، والأشباه للسيوطي ص 18 - 19، والأشباه لابن نجيم 36 - 37.

(42/81)


الرَّابِعُ: عَلِمَ أَنَّ فِيمَا يُصَلِّيهِ فَرَائِضَ وَنَوَافِل، فَيُصَلِّي كَمَا تُصَلِّي النَّاسُ وَلاَ يُمَيِّزُ الْفَرَائِضَ مِنَ النَّوَافِل لاَ تُجْزِئُهُ؛ لأَِنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ فِي الْفَرْضِ شَرْطٌ، وَقِيل: يُجْزِئُهُ مَا صَلَّى فِي الْجَمَاعَةِ وَنَوَى صَلاَةَ الإِْمَامِ.

الْخَامِسُ: اعْتَقَدَ أَنَّ الْكُل فَرْضٌ جَازَتْ صَلاَتُهُ.

السَّادِسُ: لاَ يَعْلَمُ أَنَّ لِلَّهِ عَلَى عِبَادِهِ صَلَوَاتٍ مَفْرُوضَةً، وَلَكِنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهَا لأَِوْقَاتِهَا لَمْ تُجْزِئْهُ (1) .
28 - وَمَا سَبَقَ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِصَلاَةِ الْفَرِيضَةِ، أَمَّا النَّوَافِل فَلاَ تُشْتَرَطُ فِيهَا نِيَّةُ النَّفْلِيَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
قَال النَّوَوِيُّ: الصَّحِيحُ لاَ تُشْتَرَطُ نِيَّةُ النَّفْلِيَّةِ لأَِنَّ النَّفْلِيَّةَ مُلاَزِمَةٌ لِلنَّفْل، بِخِلاَفِ الظُّهْرِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهَا قَدْ تَكُونُ فَرْضًا وَقَدْ لاَ تَكُونُ، بِدَلِيل الصَّلاَةِ الْمُعَادَةِ وَصَلاَةِ الصَّبِيِّ.
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهَا تُشْتَرَطُ (2) .
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 35، 36، 37.
(2) الأشباه لابن نجيم ص 35، 36، 37، والبدائع 1 / 128، وجواهر الإكليل 1 / 46، ومغني المحتاج 1 / 150، والمغني 1 / 465، 466.

(42/81)


هـ - صَلاَةُ الْجِنَازَةِ:
29 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: صَلاَةُ الْجِنَازَةِ لاَ تُشْتَرَطُ لَهَا نِيَّةُ الْفَرْضِيَّةِ؛ لأَِنَّهَا لاَ تَكُونُ إِلاَّ فَرْضًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَلِذَا لاَ تُعَادُ نَفْلاً (1) .
وَكَذَلِكَ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُشْتَرَطُ نِيَّةُ كَوْنِ صَلاَةِ الْجِنَازَةِ فَرْضَ كِفَايَةٍ، فَقَدْ قَالُوا: صِفَةُ النِّيَّةِ: أَنْ يَقْصِدَ بِقَلْبِهِ الصَّلاَةَ عَلَى الْمَيِّتِ الْحَاضِرِ، مَعَ اسْتِحْضَارِ أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِنْ غَفَل عَنْ هَذَا الأَْخِيرِ لَمْ يَضُرَّ، وَتَصِحُّ صَلاَتُهُ، كَمَا لاَ يَضُرُّ فِي فَرْضِ الْعَيْنِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَكْفِي فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ نِيَّةُ مُطْلَقِ الْفَرْضِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْكِفَايَةِ (أَيْ فَرْضِ كِفَايَةٍ) كَمَا تَكْفِي النِّيَّةُ فِي إِحْدَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِفَرْضِ الْعَيْنِ.
وَقِيل: تُشْتَرَطُ نِيَّةُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ لِيَتَمَيَّزَ عَنْ فَرْضِ الْعَيْنِ (3) .

و الزَّكَاةُ:
30 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 38.
(2) الحطاب 2 / 213، والدسوقي 1 / 411، والفواكه الدواني 1 / 342.
(3) مغني المحتاج 1 / 341، والأشباه للسيوطي ص 21.

(42/82)


تُشْتَرَطُ نِيَّةُ فَرْضِيَّةِ الزَّكَاةِ عِنْدَ إِخْرَاجِهَا، اكْتِفَاءً بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ؛ لأَِنَّهَا حِينَئِذٍ لاَ تَكُونُ إِلاَّ فَرْضًا.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْفَرْضِيَّةِ فِي الزَّكَاةِ؛ لأَِنَّ الصَّدَقَةَ مُتَنَوِّعَةٌ.
أَمَّا الزَّكَاةُ الْمُعَجَّلَةُ فَقَدْ قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: ظَاهِرُ كَلاَمِهِمْ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ نِيَّةِ الْفَرْضِ؛ لأَِنَّهُ تَعْجِيلٌ بَعْدَ أَصْل الْوُجُوبِ؛ لأَِنَّ سَبَبَهُ هُوَ النِّصَابُ النَّامِي وَقَدْ وُجِدَ، بِخِلاَفِ الْحَوْل؛ لأَِنَّهُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الأَْدَاءِ، بِخِلاَفِ تَعْجِيل الصَّلاَةِ عَلَى وَقْتِهَا فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، لِكَوْنِ وَقْتِهَا سَبَبًا لِلْوُجُوبِ وَشَرْطًا لِصِحَّةِ الأَْدَاءِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْفَرْضِيَّةِ فِي الزَّكَاةِ إِذَا كَانَتْ بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ، وَلاَ تُشْتَرَطُ إِذَا كَانَتْ بِلَفْظِ الزَّكَاةِ عَلَى الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّ الزَّكَاةَ لاَ تَقَعُ إِلاَّ فَرْضًا (2) .

ز - الصَّوْمُ:
31 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ بِأَنَّهُ لاَ تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْفَرْضِيَّةِ فِي
__________
(1) مواهب الجليل 2 / 357، وحاشية الدسوقي 1 / 500، وجواهر الإكليل 1 / 140، والأشباه لابن نجيم ص 36، وشرح منتهى الإرادات 1 / 419.
(2) الأشباه للسيوطي ص 20، ومغني المحتاج 1 / 149.

(42/82)


الصَّوْمِ، قَال الْكَاسَانِيُّ: لَيْسَتْ صِفَةً زَائِدَةً عَلَى الصَّوْمِ؛ لأَِنَّ الصَّوْمَ صِفَةٌ، وَالصِّفَةُ لاَ تَحْتَمِل صِفَةً زَائِدَةً عَلَيْهَا قَائِمَةً بِهَا، بَل هُوَ وَصْفٌ إِضَافِيٌّ، فَيُسَمَّى الصَّوْمُ مَفْرُوضًا وَفَرِيضَةً لِدُخُولِهِ تَحْتَ فَرْضِ اللَّهِ تَعَالَى، لاَ لِفَرْضِيَّةٍ قَامَتْ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ صِفَةً قَائِمَةً بِالصَّوْمِ لاَ يُشْتَرَطُ لَهُ نِيَّةُ الْفَرْضِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لأَِنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ مِنَ الْبَالِغِ لاَ يَقَعُ إِلاَّ فَرْضًا.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ تُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْفَرْضِ لإِِجْزَاءِ التَّعْيِينِ عَنْهُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الَّذِي يَلْزَمُ مِنَ النِّيَّةِ فِي صِيَامِ رَمَضَانَ اعْتِبَارُ الْقُرْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَدَاءِ مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنَ اسْتِغْرَاقِ طَرَفَيِ النَّهَارِ بِالإِْمْسَاكِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْجِمَاعِ، فَإِنْ سَهَا عَنْ أَنْ يَنْوِيَ الْوُجُوبَ وَنَوَى صَوْمَ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ؛ لأَِنَّ تَعْيِينَهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ لِتَقَدُّمِ الْعِلْمِ بِهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ عَلَى مَا جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: فِي نِيَّةِ فَرْضِيَّةِ الصَّوْمِ الْخِلاَفُ
__________
(1) البدائع 2 / 84، وشرح منتهى الإرادات 1 / 445، ومغني المحتاج 1 / 149، 425.
(2) مواهب الجليل للحطاب 2 / 418، 419، وعقد الجواهر الثمينة 1 / 356.

(42/83)


الْمَذْكُورُ فِي الصَّلاَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي كُتُبِهِ وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ، وَظَاهِرُهُ أَنْ يَكُونَ الأَْصَحُّ اشْتِرَاطَ نِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ، لَكِنْ صَحَّحَ فِي الْمَجْمُوعِ تَبَعًا لِلأَْكْثَرِينَ عَدَمَ اشْتِرَاطِهَا هَاهُنَا، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ بِخِلاَفِهِ فِي الصَّلاَةِ؛ لأَِنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ مِنَ الْبَالِغِ لاَ يَقَعُ إِلاَّ فَرْضًا، بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ فَإِنَّ الْمُعَادَةَ نَفْلٌ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْفَرْضِيَّةِ فِي الصَّوْمِ (1) .

ح - الْحَجُّ:
32 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْحَجُّ يَصِحُّ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ، وَلَكِنْ عَلَّلُوهُ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ نَوَى فِي نَفْسِ الأَْمْرِ الْفَرْضِيَّةَ.
قَالُوا: لأَِنَّ الْحَاجَّ لاَ يَتَحَمَّل الْمَشَاقَّ الْكَثِيرَةَ إِلاَّ لأَِجْل الْفَرْضِ. وَلاِبْنِ الْهُمَامِ اسْتِنْبَاطٌ مِنْ هَذَا، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْوِ الْفَرْضَ لَمْ يَجُزْ فَلاَبُدَّ مِنْ نِيَّةِ الْفَرْضِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ نَوَى النَّفْل فِيهِ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ كَانَ نَفْلاً.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْفَرْضِيَّةِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ نَوَى النَّفْل وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ لَوَقَعَ عَنِ الْفَرْضِ، فَلاَ فَائِدَةَ مِنْ إِيجَابِ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 425، 149.

(42/83)


نِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مِنْ شَرْطِ وُقُوعِ الْحَجِّ فَرْضًا أَنْ يَخْلُوَ عَنْ نِيَّةِ النَّفْل بِأَنْ يَنْوِيَ الْفَرْضَ، وَإِذَا نَوَى الْحَجَّ وَلَمْ يُعَيِّنْ فَرْضًا وَلاَ نَفْلاً فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إِلَى حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ إِذَا كَانَ صَرُورَةً (2) .

ط - الْكَفَّارَاتُ:
33 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ فِي الْكَفَّارَاتِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لِلْفَرْضِيَّةِ؛ لأَِنَّهَا لاَ تَكُونُ إِلاَّ فَرْضًا (3) .

اشْتِرَاطُ نِيَّةِ الأَْدَاءِ أَوِ الْقَضَاءِ:
34 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ تَحْدِيدُ الأَْدَاءِ أَوِ الْقَضَاءِ فِي نِيَّةِ الصَّلاَةِ، وَلَهُمْ مَعَ ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ وَاخْتِلاَفٌ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ - كَمَا نَقَل ابْنُ نُجَيْمٍ -: إِذَا عَيَّنَ الصَّلاَةَ الَّتِي يُؤَدِّيهَا صَحَّ، نَوَى الأَْدَاءَ أَوِ
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 36، 37، والأشباه للسيوطي ص 20، ومغني المحتاج 1 / 149، 478، والمغني 3 / 246.
(2) الحطاب 2 / 490، وجواهر الإكليل 1 / 161.
(3) الأشباه لابن نجيم 36، 37، وتحفة المحتاج 8 / 189، ومغني المحتاج 3 / 359، وحاشية الجمل على شرح المنهج 4 / 414، والإنصاف 9 / 224.

(42/84)


الْقَضَاءَ، وَقَال فَخْرُ الإِْسْلاَمِ وَغَيْرُهُ فِي الأُْصُول فِي بَحْثِ الأَْدَاءِ وَالْقَضَاءِ: إِنَّ أَحَدَهُمَا يُسْتَعْمَل مَكَانَ الآْخَرِ، حَتَّى يَجُوزَ الأَْدَاءُ بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ وَبِالْعَكْسِ، وَبَيَانُهُ: أَنَّ مَا لاَ يُوصَفُ بِهِمَا لاَ يُشْتَرَطُ لَهُ كَالْعِبَادَةِ الْمُطْلَقَةِ عَنِ الْوَقْتِ كَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَكَذَا مَا لاَ يُوصَفُ بِالْقَضَاءِ كَصَلاَةِ الْجُمُعَةِ، وَلاَ الْتِبَاسَ لأَِنَّهَا إِذَا فَاتَتْ مَعَ الإِْمَامِ تُصَلَّى ظُهْرًا، وَأَمَّا مَا يُوصَفُ بِهِمَا كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، قَالُوا: لاَ تُشْتَرَطُ أَيْضًا. قَال فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: لَوْ نَوَى الأَْدَاءَ عَلَى ظَنِّ بَقَاءِ الْوَقْتِ فَتَبَيَّنَ خُرُوجُهُ أَجْزَأَ، وَكَذَا عَكْسُهُ.
وَفِي النِّهَايَةِ: لَوْ نَوَى فَرْضَ الْوَقْتِ بَعْدَمَا خَرَجَ الْوَقْتُ لاَ يَجُوزُ، وَإِنْ شَكَّ فِي خُرُوجِهِ فَنَوَى فَرْضَ الْوَقْتِ جَازَ، وَفِي الْجُمُعَةِ: يَنْوِيهَا وَلاَ يَنْوِي فَرْضَ الْوَقْتِ لِلاِخْتِلاَفِ فِيهِ.
وَفِي التَّاتَارْخَانِيَّةِ: كُل وَقْتٍ شَكَّ فِي خُرُوجِهِ فَنَوَى ظُهْرَ الْوَقْتِ مَثَلاً فَإِذَا هُوَ قَدْ خَرَجَ. . الْمُخْتَارُ الْجَوَازُ.
وَاخْتَلَفُوا إِنْ كَانَتِ الْوَقْتِيَّةُ تَجُوزُ بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ، وَالْمُخْتَارُ الْجَوَازُ إِذَا كَانَ فِي قَلْبِهِ فَرْضُ الْوَقْتِ، وَكَذَا الْقَضَاءُ بِنِيَّةِ الأَْدَاءِ هُوَ الْمُخْتَارُ.

(42/84)


وَذَكَرَ فِي كَشْفِ الأَْسْرَارِ أَنَّ الأَْدَاءَ يَصِحُّ بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ حَقِيقَةً، وَعَكْسُهُ، وَالصِّحَّةُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَتَى بِأَصْل النِّيَّةِ وَلَكِنَّهُ أَخْطَأَ فِي الظَّنِّ، وَالْخَطَأُ فِي مِثْلِهِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ.
وَأَمَّا الْحَجُّ: فَيَنْبَغِي أَنْ لاَ تُشْتَرَطَ فِيهِ نِيَّةُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الأَْدَاءِ وَالْقَضَاءِ (1) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ الْكَامِلَةَ هِيَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: تَعْيِينِ الصَّلاَةِ، وَالتَّقَرُّبِ بِهَا، وَأَدَائِهَا، وَاسْتِشْعَارِ الإِْيمَانِ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، فَهَذِهِ هِيَ النِّيَّةُ الْكَامِلَةُ، فَإِنْ سَهَا عَنِ الإِْيمَانِ أَوْ وُجُوبِ الصَّلاَةِ أَوْ كَوْنِهَا أَدَاءً، أَوِ التَّقَرُّبِ بِهَا لَمْ تَفْسَدْ إِذَا عَيَّنَهَا لاِشْتِمَال التَّعْيِينِ عَلَى ذَلِكَ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: فِي اشْتِرَاطِ الأَْدَاءِ وَالْقَضَاءِ فِي الصَّلاَةِ أَوْجُهٌ:
أَحَدُهَا: الاِشْتِرَاطُ، وَاخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: طَرْدًا لِقَاعِدَةِ الْحِكْمَةِ الَّتِي شُرِعَتْ لَهَا النِّيَّةُ؛ لأَِنَّ رُتْبَةَ إِقَامَةِ الْفَرْضِ فِي وَقْتِهِ تُخَالِفُ رُتْبَةَ تَدَارُكِ الْفَائِتِ، فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّعَرُّضِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا لِلتَّمْيِيزِ.
وَالثَّانِي: تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْقَضَاءِ دُونَ الأَْدَاءِ؛
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 38.
(2) الذخيرة 2 / 135.

(42/85)


لأَِنَّ الأَْدَاءَ يَتَمَيَّزُ بِالْوَقْتِ بِخِلاَفِ الْقَضَاءِ.
وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ اشْتُرِطَ فِي الْمُؤَدَّاةِ نِيَّةُ الأَْدَاءِ، وَإِلاَّ فَلاَ، وَبِهِ قَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ.
وَالرَّابِعُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ: لاَ يُشْتَرَطَانِ مُطْلَقًا، لِنَصِّ الشَّافِعِيِّ عَلَى صِحَّةِ صَلاَةِ الْمُجْتَهِدِ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ وَصَوْمِ الأَْسِيرِ إِذَا نَوَى الأَْدَاءَ فَبَانَا بَعْدَ الْوَقْتِ.
وَقَدْ بَسَطَ الْعَلاَئِيُّ الْكَلاَمَ فِي ذَلِكَ فَقَال: مَا لاَ يُوصَفُ مِنَ الْعِبَادَاتِ بِأَدَاءٍ وَلاَ قَضَاءٍ فَلاَ رَيْبَ فِي أَنَّهُ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةِ أَدَاءٍ وَلاَ قَضَاءٍ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ مَا لَهُ وَقْتٌ مَحْدُودٌ وَلَكِنَّهُ لاَ يَقْبَل الْقَضَاءَ كَالْجُمُعَةِ فَلاَ يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى نِيَّةِ الأَْدَاءِ إِذْ لاَ يَلْتَبِسُ بِهَا قَضَاءٌ فَتَحْتَاجَ إِلَى نِيَّةٍ مُمَيِّزَةٍ، وَأَمَّا سَائِرُ النَّوَافِل الَّتِي تُقْضَى فَهِيَ كَبَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ فِي جَرَيَانِ الْخِلاَفِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا نَوَى قَضَاءَ الصَّلاَةِ وَهِيَ أَدَاءٌ أَوِ الْعَكْسَ وَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ، فَلاَ تَصِحُّ صَلاَتُهُ قَطْعًا؛ لِتَلاَعُبِهِ.
وَأَمَّا الصَّوْمُ فَالَّذِي يَظْهَرُ تَرْجِيحُهُ أَنَّ نِيَّةَ الْقَضَاءِ لاَ بُدَّ مِنْهَا دُونَ الأَْدَاءِ لِتَمْيِيزِهِ بِالْوَقْتِ.
قَال السُّيُوطِيُّ: وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخَانِ فِي الصَّوْمِ الْخِلاَفَ فِي نِيَّةِ الأَْدَاءِ.

(42/85)


وَبَقِيَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ: وَلاَ شَكَّ أَنَّهُمَا لاَ يُشْتَرَطَانِ فِيهِمَا، إِذْ لَوْ نَوَى بِالْقَضَاءِ الأَْدَاءَ لَمْ يَضُرَّهُ وَانْصَرَفَ إِلَى الْقَضَاءِ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ حَجٌّ أَفْسَدَهُ فِي صِبَاهُ أَوْ رِقِّهِ ثُمَّ بَلَغَ أَوْ عَتَقَ فَنَوَى الْقَضَاءَ، انْصَرَفَ إِلَى حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ وَهِيَ الأَْدَاءُ.
وَأَمَّا صَلاَةُ الْجِنَازَةِ: فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ فِيهَا الأَْدَاءُ وَالْقَضَاءُ؛ لأَِنَّ وَقْتَهَا مَحْدُودٌ بِالدَّفْنِ.
وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ: فَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ عَلَى أَنَّهَا تَصِيرُ قَضَاءً إِذَا جَامَعَ قَبْل أَدَائِهَا، وَلاَ شَكَّ فِي عَدَمِ الاِشْتِرَاطِ فِيهَا.
وَأَمَّا الزَّكَاةُ: فَيُتَصَوَّرُ الْقَضَاءُ فِيهَا فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَالظَّاهِرُ أَيْضًا عَدَمُ الاِشْتِرَاطِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ كَوْنِ الصَّلاَةِ حَاضِرَةً أَوْ قَضَاءً، وَلاَ تُشْتَرَطُ نِيَّةُ أَدَاءٍ فِي حَاضِرَةٍ؛ لأَِنَّهُ لَوْ صَلاَّهَا يَنْوِيهَا أَدَاءً فَبَانَ وَقْتُهَا قَدْ خَرَجَ أَنَّ صَلاَتَهُ صَحِيحَةٌ وَتَقَعُ قَضَاءً. وَكَذَلِكَ لَوْ نَوَاهَا قَضَاءً فَبَانَ فِعْلُهَا فِي وَقْتِهَا وَقَعَتْ أَدَاءً، وَيُصْبِحُ قَضَاءً بِنِيَّةِ أَدَاءٍ إِذَا بَانَ خِلاَفُ ظَنِّهِ، وَيَصِحُّ عَكْسُهُ إِذَا بَانَ خِلاَفُ ظَنِّهِ، وَلاَ يَصِحُّ ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ وَقَصْدِ مَعْنَاهُ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 17 - 20، ومغني المحتاج 1 / 149.

(42/86)


الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ؛ لأَِنَّهُ مُتَلاَعِبٌ (1) .

أَقْسَامُ النِّيَّةِ:
النِّيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَالنِّيَّةُ الْحُكْمِيَّةُ:
35 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ تَنْقَسِمُ إِلَى حَقِيقِيَّةٍ وَحُكْمِيَّةٍ، وَأَنَّ الْحَقِيقِيَّةَ مَشْرُوطَةٌ فِي أَوَّل الْعِبَادَاتِ دُونَ اسْتِمْرَارِهَا، وَالْحُكْمِيَّةَ كَافِيَةٌ فِي اسْتِمْرَارِهَا.
فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ الْمُعْتَمَدَ أَنَّ الْعِبَادَةَ ذَاتَ الأَْفْعَال يُكْتَفَى بِالنِّيَّةِ فِي أَوَّلِهَا وَلاَ يُحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي كُل فِعْلٍ اكْتِفَاءً بِانْسِحَابِهَا عَلَيْهَا، إِلاَّ إِذَا نَوَى بِبَعْضِ الأَْفْعَال غَيْرَ مَا وُضِعَ لَهُ. قَالُوا: لَوْ طَافَ طَالِبًا الْغَرِيمَ لاَ يُجْزِئُهُ الطَّوَافُ (2) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ عَلَى قِسْمَيْنِ: فِعْلِيَّةٍ مَوْجُودَةٍ، وَحُكْمِيَّةٍ مَعْدُومَةٍ، فَإِذَا حَضَرَتِ الْعِبَادَةُ وَجَبَ عَلَى الْمُكَلَّفِ النِّيَّةُ الْفِعْلِيَّةُ فِي أَوَّلِهَا، وَتَكْفِي الْحُكْمِيَّةُ فِي بَقِيَّتِهَا لِلْمَشَقَّةِ فِي اسْتِمْرَارِهَا بِالْفِعْل، قَال صَاحِبُ الطِّرَازِ: لَوْ وَزَنَ زَكَاتَهُ وَعَزَلَهَا لِلْمَسَاكِينِ، ثُمَّ دَفَعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ اكْتَفَى بِالْحُكْمِيَّةِ وَأَجْزَأَتْ.
__________
(1) منار السبيل 1 / 79، وكشاف القناع 1 / 315.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 45.

(42/86)


وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فُرُوعًا ثَلاَثَةً:
الأَْوَّل: تَكْفِي الْحُكْمِيَّةُ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُنَافِي، قَال ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ: إِذَا تَوَضَّأَ وَبَقِيَتْ رِجْلاَهُ فَخَاضَ بِهِمَا نَهْرًا وَمَسَحَ بِيَدَيْهِ رِجْلَيْهِ فِي الْمَاءِ وَلَمْ يَنْوِ بِذَلِكَ غَسْل رِجْلَيْهِ لاَ يُجْزِئُهُ غَسْل رِجْلَيْهِ. قَال صَاحِبُ الطِّرَازِ: يُرِيدُ إِذَا قَصَدَ بِذَلِكَ غَيْرَ الْوُضُوءِ بَل إِزَالَةَ الْقَشَبِ. وَقَال صَاحِبُ النُّكَتِ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ ظَنَّ كَمَال وُضُوئِهِ فَرَفَضَ نِيَّتَهُ، أَمَّا لَوْ بَقِيَ عَلَى نِيَّتِهِ وَالنَّهْرُ قَرِيبٌ أَجْزَأَهُ.
الثَّانِي: إِذَا رَفَضَ النِّيَّةَ الْحُكْمِيَّةَ بَعْدَ كَمَال الطَّهَارَةِ، رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا لاَ تَفْسَدُ لِحُصُول الْمَقْصُودِ مِنْهَا وَهُوَ التَّمْيِيزُ حَالَةَ الْفِعْل، وَرُوِيَ عَنْهُ فَسَادُهَا لأَِنَّهَا جُزْءٌ مِنَ الطَّهَارَةِ، وَذَهَابُ جُزْءِ الطَّهَارَةِ يُفْسِدُهَا، قَال صَاحِبُ النُّكَتِ: إِذَا رَفَضَ النِّيَّةَ فِي الطَّهَارَةِ أَوِ الْحَجِّ لاَ يَضُرُّ، بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ أَوِ الصَّوْمِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّيَّةِ التَّمْيِيزُ وَهُمَا مُتَمَيِّزَانِ بِمَكَانِهِمَا، وَهُوَ الأَْعْضَاءُ فِي الْوُضُوءِ، وَالأَْمَاكِنُ الْمَخْصُوصَةُ فِي الْحَجِّ، فَكَانَ اسْتِغْنَاؤُهُمَا عَنِ النِّيَّةِ أَكْثَرَ، وَلَمْ يُؤَثِّرِ الرَّفْضُ فِيهِمَا بِخِلاَفِ الصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ.
الثَّالِثُ: قَال الْمَازِرِيُّ: تَكْفِي النِّيَّةُ الْحُكْمِيَّةُ فِي الْعَمَل الْمُتَّصِل، فَلَوْ نَسِيَ عُضْوًا وَطَال ذَلِكَ افْتَقَرَ إِلَى تَجْدِيدِ النِّيَّةِ، فَإِنَّ الاِكْتِفَاءَ

(42/87)


بِالْحُكْمِيَّةِ عَلَى خِلاَفِ الأَْصْل فَيَقْتَصِرُ فِيهَا عَلَى الْعَمَل الْمُتَّصِل، وَكَذَلِكَ مَنْ خَلَعَ خُفَّيْهِ وَشَرَعَ فِي غَسْل رِجْلَيْهِ (1) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَال عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: الإِْيمَانُ وَالنِّيَّاتُ وَالإِْخْلاَصُ يَنْقَسِمُ إِلَى حَقِيقِيٍّ وَحُكْمِيٍّ، وَالنِّيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ مَشْرُوطَةٌ فِي أَوَّل الْعِبَادَاتِ دُونَ اسْتِمْرَارِهَا، وَالْحُكْمِيَّةُ كَافِيَةٌ فِي اسْتِمْرَارِهَا (2) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ - كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ - عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِصْحَابُ حُكْمِ النِّيَّةِ دُونَ حَقِيقَتِهَا، بِمَعْنَى أَنَّهُ لاَ يَنْوِي قَطْعَهَا، وَلَوْ ذَهَل عَنْهَا وَعَزَبَتْ عَنْهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي صِحَّتِهَا؛ لأَِنَّ التَّحَرُّزَ مِنْ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَلأَِنَّ النِّيَّةَ لاَ تُعْتَبَرُ حَقِيقَتُهَا فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ بِدَلِيل الصَّوْمِ وَغَيْرِهِ (3) .

نِيَّةُ التَّقَرُّبِ وَنِيَّةُ التَّمْيِيزِ:
36 - قَسَّمَ الشَّافِعِيَّةُ - كَمَا قَال الزَّرْكَشِيُّ - النِّيَّةَ إِلَى نِيَّةِ التَّقَرُّبِ وَنِيَّةِ التَّمْيِيزِ.
فَالأُْولَى: تَكُونُ فِي الْعِبَادَاتِ، وَهِيَ
__________
(1) الذخيرة 1 / 249، 250، ومواهب الجليل 1 / 233.
(2) قواعد الأحكام 1 / 175 - 176.
(3) المغني 1 / 467، وكشاف القناع 1 / 316.

(42/87)


إِخْلاَصُ الْعَمَل لِلَّهِ تَعَالَى.
وَالثَّانِيَةُ: تَكُونُ فِي الْمُحْتَمَل لِلشَّيْءِ وَغَيْرِهِ، وَذَلِكَ كَأَدَاءِ الدُّيُونِ إِذَا أَقْبَضَهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِل التَّمْلِيكَ هِبَةً وَقَرْضًا وَوَدِيعَةً وَإِبَاحَةً، فَلاَ بُدَّ مِنْ نِيَّةِ تَمْيِيزِ إِقْبَاضِهِ عَنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الإِْقْبَاضِ. وَلاَ تُشْتَرَطُ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ، كَمَنْ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنًا فَسَلَّمَهَا إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا لاَ يَقَعُ عَنْهُ الدَّيْنُ مَا لَمْ يَقْصِدْ أَدَاءَهُ، وَمِثْلُهُ كُل مَنْ جَازَ لَهُ الشِّرَاءُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ كَالْوَكِيل وَالْوَصِيِّ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ لِنَفْسِهِ وَلِمُوَكِّلِهِ وَيَتِيمِهِ، فَإِذَا أُطْلِقَ الشِّرَاءُ يَنْصَرِفُ لِنَفْسِهِ وَلاَ يَنْصَرِفُ إِلَى غَيْرِهِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ الَّتِي تُمَيِّزُهُ عَنِ الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ (1) .

عَلاَقَةُ النِّيَّةِ بِالإِْخْلاَصِ:
37 - فَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ النِّيَّةِ وَالإِْخْلاَصِ، وَبَعْضُهُمْ لَمْ يُفَرِّقْ، وَنُوَضِّحُ آرَاءَهُمْ فِيمَا يَلِي:
قَال ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: صَرَّحَ الزَّيْلَعِيُّ بِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةِ الإِْخْلاَصِ فِيهَا، وَلَمْ أَرَ مَنْ أَوْضَحَهُ، لَكِنْ صَرَّحَ فِي الْخُلاَصَةِ بِأَنَّهُ لاَ رِيَاءَ فِي الْفَرَائِضِ. وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ: شَرَعَ فِي الصَّلاَةِ بِالإِْخْلاَصِ ثُمَّ خَالَطَهُ الرِّيَاءُ فَالْعِبْرَةُ
__________
(1) المنثور 3 / 285 - 287.

(42/88)


لِلسَّابِقِ، وَلاَ رِيَاءَ فِي الْفَرَائِضِ فِي حَقِّ سُقُوطِ الْوَاجِبِ. ثُمَّ قَال: الصَّلاَةُ لإِِرْضَاءِ الْخُصُومِ لاَ تُفِيدُ، بَل يُصَلِّي لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَ خَصْمُهُ لَمْ يَعْفُ يُؤْخَذْ مِنْ حَسَنَاتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَدْ أَفَادَ الْبَزَّازِيُّ بِقَوْلِهِ " فِي حَقِّ سُقُوطِ الْوَاجِبِ ": إِنَّ الْفَرَائِضَ مَعَ الرِّيَاءِ صَحِيحَةٌ مُسْقِطَةٌ لِلْوَاجِبِ. وَلَكِنْ ذَكَرُوا فِي كِتَابِ الأُْضْحِيَةِ أَنَّ الْبَدَنَةَ تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ إِنْ كَانَ الْكُل مُرِيدِينَ الْقُرْبَةَ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَاتُهُمْ مِنْ أُضْحِيَةٍ وَقِرَانٍ وَمُتْعَةٍ. قَالُوا: فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ مُرِيدًا لَحْمًا لأَِهْلِهِ أَوْ كَانَ نَصْرَانِيًّا لَمْ يُجْزِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَعَلَّلُوا بِأَنَّ الْبَعْضَ إِذَا لَمْ يَقَعْ قُرْبَةً خَرَجَ الْكُل عَنْ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً؛ لأَِنَّ الإِْرَاقَةَ لاَ تَتَجَزَّأُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ ذَبَحَهَا أُضْحِيَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَلِغَيْرِهِ لاَ تُجْزِئُهُ بِالأَْوْلَى، وَيَنْبَغِي أَنْ تَحْرُمَ.
وَفِي التَّاتَارَخَانِيَّةِ: لَوِ افْتَتَحَ الصَّلاَةَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى ثُمَّ دَخَل فِي قَلْبِهِ الرِّيَاءُ فَهُوَ عَلَى مَا افْتَتَحَ، وَالرِّيَاءُ: أَنَّهُ لَوْ خَلَّى عَنْهُ النَّاسُ لاَ يُصَلِّي وَلَوْ كَانَ مَعَ النَّاسِ يُصَلِّي، فَأَمَّا لَوْ صَلَّى مَعَ النَّاسِ يُحْسِنُهَا وَلَوْ صَلَّى وَحْدَهُ لاَ يُحْسِنُ، فَلَهُ ثَوَابُ أَصْل الصَّلاَةِ دُونَ الإِْحْسَانِ، وَلاَ يَدْخُل الرِّيَاءُ فِي الصَّوْمِ.

(42/88)


وَفِي الْيَنَابِيعِ: قَال إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ: لَوْ صَلَّى رِيَاءً فَلاَ أَجْرَ لَهُ وَعَلَيْهِ الْوِزْرُ. قَال بَعْضُهُمْ: يَكْفُرُ، وَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ أَجْرَ لَهُ وَلاَ وِزْرَ عَلَيْهِ وَهُوَ كَأَنَّهُ لَمْ يُصَل.
وَفِي الْوَلْوَالِجِيَّةِ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ أَوْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ فَيَخَافُ أَنْ يَدْخُل عَلَيْهِ الرِّيَاءُ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ لأَِنَّهُ أَمْرٌ مَوْهُومٌ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: قَال الْقَرَافِيُّ: يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَعْزِمَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ مَا دَامَ حَيًّا مُسْتَطِيعًا قَبْل حُضُورِهَا وَحُضُورِ أَسْبَابِهَا، فَإِذَا حَضَرَتْ وَجَبَ عَلَيْهِ النِّيَّةُ وَالإِْخْلاَصُ الْفِعْلِيَّانِ فِي أَوَّلِهَا، وَيَكْفِي الْحُكْمِيَّانِ فِي بَقِيَّتِهَا (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّمْيِيزِ الإِْخْلاَصُ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ تُقْبَل النِّيَابَةُ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ اخْتِبَارُ سِرِّ الْعِبَادَةِ، وَقَال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الإِْخْلاَصُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى النِّيَّةِ لاَ يَحْصُل بِدُونِهَا وَقَدْ تَحْصُل بِدُونِهِ، وَنَظَرُ الْفُقَهَاءِ قَاصِرٌ عَلَى النِّيَّةِ، وَأَحْكَامُهُمْ إِنَّمَا تَجْرِي عَلَيْهَا، وَأَمَّا الإِْخْلاَصُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، وَمِنْ ثَمَّ صَحَّحُوا عَدَمَ وُجُوبِ الإِْضَافَةِ إِلَى اللَّهِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ (3) .
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 39.
(2) الذخيرة 1 / 243 - 244.
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 20.

(42/89)


وَقَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: الإِْخْلاَصُ أَنْ يَفْعَل الْمُكَلَّفُ الطَّاعَةَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، لاَ يُرِيدُ بِهَا تَعْظِيمًا مِنَ النَّاسِ وَلاَ تَوْقِيرًا وَلاَ جَلْبَ نَفْعٍ دِينِيٍّ وَلاَ دَفْعَ ضَرَرٍ دُنْيَوِيٍّ، وَلَهُ رُتَبٌ، مِنْهَا أَنْ يَفْعَلَهَا خَوْفًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَمِنْهَا أَنْ يَفْعَلَهَا تَعْظِيمًا لِلَّهِ، وَمَهَابَةً وَانْقِيَادًا وَإِجَابَةً، وَلاَ يَخْطُرُ لَهُ عَرَضٌ مِنَ الأَْعْرَاضِ، بَل يَعْبُدُ مَوْلاَهُ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَإِذَا رَآهُ غَابَتْ عَنْهُ الأَْكْوَانُ كُلُّهَا وَانْقَطَعَتِ الأَْعْرَاضُ بِأَسْرِهَا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي تَعْرِيفِ النِّيَّةِ شَرْعًا: إِنَّهَا عَزْمُ الْقَلْبِ عَلَى فِعْل الْعِبَادَةِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، بِأَنْ يَقْصِدَ بِعَمَلِهِ اللَّهَ تَعَالَى دُونَ شَيْءٍ آخَرَ مِنْ تَصَنُّعٍ لِمَخْلُوقٍ أَوِ اكْتِسَابِ مَحْمَدَةٍ عِنْدَ النَّاسِ أَوْ مَحَبَّةِ مَدْحٍ مِنْهُمْ أَوْ نَحْوِهِ، وَهَذَا هُوَ الإِْخْلاَصُ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: هُوَ تَصْفِيَةُ الْفِعْل عَنْ مُلاَحَظَةِ الْمَخْلُوقِينَ، وَقَال آخَرُ: هُوَ التَّوَقِّي عَنْ مُلاَحَظَةِ الأَْشْخَاصِ، وَقَال آخَرُ: هُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفِعْل لِدَاعِيَةٍ وَاحِدَةٍ وَلاَ يَكُونُ لِغَيْرِهَا مِنَ الدَّوَاعِي تَأْثِيرٌ فِي الدُّعَاءِ إِلَى ذَلِكَ الْفِعْل (2) .
وَفِي الْخَبَرِ: قَال اللَّهُ تَعَالَى: الإِْخْلاَصُ سِرٌّ مِنْ سِرِّي، اسْتَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أَحْبَبْتُهُ مِنْ
__________
(1) قواعد الأحكام 1 / 123.
(2) كشاف القناع 1 / 313، 315.

(42/89)


عِبَادِي (1) . وَدَرَجَاتُ الإِْخْلاَصِ ثَلاَثَةٌ: عُلْيَا: وَهِيَ أَنْ يَعْمَل الْعَبْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ امْتِثَالاً لأَِمْرِهِ، وَقِيَامًا بِحَقِّ عُبُودِيَّتِهِ. وَوُسْطَى: وَهِيَ أَنْ يَعْمَل لِثَوَابِ الآْخِرَةِ. وَدُنْيَا: وَهِيَ أَنْ يَعْمَل لِلإِْكْرَامِ فِي الدُّنْيَا وَالسَّلاَمَةِ مِنْ آفَاتِهَا، وَمَا عَدَا الثَّلاَثَ مِنَ الرِّيَاءِ وَإِنْ تَفَاوَتَتْ أَفْرَادُهُ، وَلِهَذَا قَال أَهْل السُّنَّةِ: الْعِبَادَةُ مَا وَجَبَتْ لِكَوْنِهَا مُفْضِيَةً إِلَى ثَوَابِ الْجَنَّةِ، أَوْ إِلَى الْبُعْدِ مِنْ عِقَابِ النَّارِ، بَل لأَِجْل أَنَّكَ عَبْدٌ وَهُوَ رَبٌّ (2) .

النِّيَابَةُ فِي النِّيَّةِ:
38 - لاَ تُقْبَل النِّيَابَةُ فِي النِّيَّةِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.
وَنَقَل ابْنُ نُجَيْمٍ أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا يَمَّمَهُ غَيْرُهُ فَالنِّيَّةُ عَلَى الْمَرِيضِ دُونَ الْمُيَمِّمِ، وَفِي الزَّكَاةِ قَالُوا: الْمُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْمُوَكِّل، فَلَوْ نَوَاهَا وَدَفَعَ الْوَكِيل بِلاَ نِيَّةٍ أَجْزَأَتْهُ، وَفِي الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ. . الاِعْتِبَارُ لِنِيَّةِ الْمَأْمُورِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ النِّيَابَةِ
__________
(1) حديث: " قال الله تعالى: " الإخلاص سر من سري. . . ". عزاه الحافظ العراقي في تخريجه لأحاديث إحياء علوم الدين (4 / 376 - بهامشه - ط المكتبة التجارية) إلى مسلسلات القزويني والرسالة للقشيري، وذكر أن في إسناد الأول منهما راويين متروكين، وضعف إسناد الثاني
(2) كشاف القناع 1 / 313، ومطالب أولي النهى 1 / 395.

(42/90)


فِيهَا لأَِنَّ الأَْفْعَال إِنَّمَا صَدَرَتْ مِنَ الْمَأْمُورِ فَالْمُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ (1) .
وَقَال السُّيُوطِيُّ: مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّمْيِيزِ فِي النِّيَّةِ الإِْخْلاَصُ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ تُقْبَل النِّيَابَةُ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ اخْتِبَارُ سِرِّ الْعِبَادَةِ، قَال ابْنُ الْقَاصِّ وَغَيْرُهُ: لاَ يَجُوزُ التَّوْكِيل فِي النِّيَّةِ إِلاَّ فِيمَا اقْتَرَنَ بِفِعْلٍ كَتَفْرِقَةِ زَكَاةٍ وَذَبْحِ أُضْحِيَةٍ وَصَوْمٍ عَنِ الْمَيِّتِ وَحَجٍّ (2)

التَّشْرِيكُ فِي النِّيَّةِ:
39 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّشْرِيكِ فِي النِّيَّةِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْجَمْعُ بَيْنَ عِبَادَتَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْوَسَائِل أَوْ فِي الْمَقَاصِدِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْوَسَائِل فَإِنَّ الْكُل صَحِيحٌ، قَالُوا: لَوِ اغْتَسَل يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِلْجُمُعَةِ وَلِرَفْعِ الْجَنَابَةِ ارْتَفَعَتْ جَنَابَتُهُ وَحَصَل لَهُ ثَوَابُ غُسْل الْجُمُعَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ فِي الْمَقَاصِدِ: فَإِمَّا أَنْ يَنْوِيَ فَرْضَيْنِ، أَوْ نَفْلَيْنِ، أَوْ فَرْضًا وَنَفْلاً.
أَمَّا الأَْوَّل: فَلاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الصَّلاَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَ فِي الصَّلاَةِ لَمْ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 54.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 20.

(42/90)


تَصِحَّ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا، قَال فِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ: لَوْ نَوَى صَلاَتَيْ فَرْضٍ كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ لَمْ يَصِحَّ اتِّفَاقًا، وَلَوْ نَوَى فِي الصَّوْمِ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ كَانَ عَنِ الْقَضَاءِ، وَقَال مُحَمَّدٌ: يَكُونُ تَطَوُّعًا، وَإِنْ نَوَى كَفَّارَةَ الظِّهَارِ وَكَفَّارَةَ الْيَمِينِ يُجْعَل لأَِيِّهِمَا شَاءَ، وَقَال مُحَمَّدٌ: يَكُونُ تَطَوُّعًا، وَلَوْ نَوَى الزَّكَاةَ وَكَفَّارَةَ الظِّهَارِ جَعَلَهُ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَلَوْ نَوَى الزَّكَاةَ وَكَفَّارَةَ الْيَمِينِ فَهُوَ عَنِ الزَّكَاةِ، وَلَوْ نَوَى مَكْتُوبَةً وَصَلاَةَ جِنَازَةٍ فَهِيَ عَنِ الْمَكْتُوبَةِ.
وَإِنْ نَوَى فَرْضًا وَنَفْلاً، فَإِنْ نَوَى الظُّهْرَ وَالتَّطَوُّعَ، قَال أَبُو يُوسُفَ: تُجْزِئُهُ عَنِ الْمَكْتُوبَةِ وَيَبْطُل التَّطَوُّعُ، وَقَال مُحَمَّدٌ: لاَ تُجْزِئُهُ عَنِ الْمَكْتُوبَةِ وَلاَ التَّطَوُّعِ، وَإِنْ نَوَى الزَّكَاةَ وَالتَّطَوُّعَ يَكُونُ عَنِ الزَّكَاةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَنِ التَّطَوُّعِ، وَلَوْ نَافِلَةٌ وَجِنَازَةٌ فَهِيَ نَافِلَةٌ.
وَأَمَّا إِذَا نَوَى نَافِلَتَيْنِ، كَمَا إِذَا نَوَى بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ وَسُنَّةَ الْفَجْرِ أَجْزَأَتْ عَنْهُمَا.
وَأَمَّا التَّعَدُّدُ فِي الْحَجِّ، فَلَوْ أَحْرَمَ نَذْرًا وَنَفْلاً كَانَ نَفْلاً، أَوْ فَرْضًا وَتَطَوُّعًا كَانَ تَطَوُّعًا عِنْدَهُمَا فِي الأَْصَحِّ، وَلَوْ أَحْرَمَ بِحِجَّتَيْنِ مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ لَزِمَاهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: يَلْزَمُهُ فِي الْمَعِيَّةِ إِحْدَاهُمَا، وَفِي

(42/91)


التَّعَاقُبِ الأُْولَى فَقَطْ.
وَأَمَّا إِذَا نَوَى عِبَادَةً ثُمَّ نَوَى فِي أَثْنَائِهَا الاِنْتِقَال عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، فَإِنْ كَبَّرَ نَاوِيًا الاِنْتِقَال إِلَى غَيْرِهَا صَارَ خَارِجًا عَنِ الأُْولَى، وَإِنَ نَوَى وَلَمْ يُكَبِّرْ لاَ يَكُونُ خَارِجًا، كَمَا إِذَا نَوَى تَجْدِيدَ الأُْولَى وَكَبَّرَ (1) .
40 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ وَالتَّبَرُّدَ أَجْزَأَهُ - أَيْ عَنْ رَفْعِ الْحَدَثِ - لأََنَّ مَا نَوَاهُ مَعَ رَفْعِ الْحَدَثِ حَاصِلٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ فَلاَ تَضَادَّ، وَهَذِهِ النِّيَّةُ إِذَا صَحِبَهَا قَصْدُ التَّبَرُّدِ فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ وَلاَ يَضُرُّهَا مَا صَحِبَهَا، وَقِيل: لاَ يُجْزِئُ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ النِّيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ عَلَى الْعِبَادَةِ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ، وَهَاهُنَا الأَْمْرَانِ (2) .
41 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لِلتَّشْرِيكِ فِي النِّيَّةِ نَظَائِرُ، وَضَابِطُهَا أَقْسَامٌ:

الْقِسْمُ الأَْوَّل: أَنْ يَنْوِيَ مَعَ الْعِبَادَةِ مَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ، فَقَدْ يُبْطِلُهَا كَمَا إِذَا ذَبَحَ الأُْضْحِيَةَ لِلَّهِ وَلِغَيْرِهِ، فَانْضِمَامُ غَيْرِهِ يُوجِبُ حُرْمَةَ الذَّبِيحَةِ.
وَقَدْ لاَ يُبْطِلُهَا. وَفِيهِ صُوَرٌ:
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيمِ ص 40 - 42، والبحر الرائق 1 / 96، وفتح القدير 2 / 438.
(2) الذخيرة 1 / 251، ومواهب الجليل 1 / 235.

(42/91)


مِنْهَا مَا لَوْ نَوَى الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْل وَالتَّبَرُّدَ، فَفِي وَجْهٍ لاَ يَصِحُّ لِلتَّشْرِيكِ، وَالصَّحِيحُ الصِّحَّةُ؛ لأَِنَّ التَّبَرُّدَ حَاصِلٌ قَصَدَهُ أَمْ لاَ، فَلَمْ يَجْعَل قَصْدَهُ تَشْرِيكًا وَتَرْكًا لِلإِْخْلاَصِ، بَل هُوَ قَصْدٌ لِلْعِبَادَةِ عَلَى حَسَبِ وُقُوعِهَا؛ لأَِنَّ مِنْ ضَرُورَتِهَا حُصُول التَّبَرُّدِ، وَكَذَا لَوْ نَوَى الصَّوْمَ أَوِ الْحِمْيَةَ أَوِ التَّدَاوِيَ وَفِيهِ الْخِلاَفُ الْمَذْكُورُ، وَكَذَا لَوْ نَوَى الصَّلاَةَ وَدَفْعَ غَرِيمِهِ، صَحَّتْ صَلاَتُهُ لأََنَّ الاِشْتِغَال عَنِ الْغَرِيمِ لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى قَصْدٍ، وَفِيهِ وَجْهٌ خَرَّجَهُ ابْنُ أَخِي صَاحِبِ الشَّامِل مِنْ مَسْأَلَةِ التَّبَرُّدِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَنْوِيَ مَعَ الْعِبَادَةِ الْمَفْرُوضَةِ عِبَادَةً أُخْرَى مَنْدُوبَةً، وَفِيهِ صُوَرٌ: مِنْهَا مَا لاَ يَقْتَضِي الْبُطْلاَنَ وَيَحْصُلاَنِ مَعًا، وَمِنْهَا مَا يَحْصُل الْفَرْضُ فَقَطْ، وَمِنْهَا مَا يَحْصُل النَّفْل فَقَطْ، وَمِنْهَا مَا يَقْتَضِي الْبُطْلاَنَ فِي الْكُل.
فَمِنَ الأَْوَّل: أَحْرَمَ بِصَلاَةٍ وَنَوَى بِهَا الْفَرْضَ وَالتَّحِيَّةَ، صَحَّتْ، وَحَصَلاَ مَعًا، وَكَذَا لَوْ نَوَى بِسَلاَمِهِ الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلاَةِ وَالسَّلاَمَ عَلَى الْحَاضِرِينَ، أَوْ نَوَى حَجَّ الْفَرْضِ وَقَرَنَهُ بِعُمْرَةٍ تَطَوُّعًا أَوْ عَكْسَهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَمِنَ الثَّانِي: نَوَى بِحِجَّةٍ الْفَرْضَ وَالتَّطَوُّعَ وَقَعَ فَرْضًا، لأَِنَّهُ لَوْ نَوَى التَّطَوُّعَ انْصَرَفَ إِلَى الْفَرْضِ.

(42/92)


وَمِنَ الثَّالِثِ: أَخْرَجَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَنَوَى بِهَا الزَّكَاةَ وَصَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، لَمْ تَقَعْ زَكَاةً وَوَقَعَتْ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ.
وَمِنَ الرَّابِعِ: كَبَّرَ الْمَسْبُوقُ وَالإِْمَامُ رَاكِعٌ تَكْبِيرَةً وَاحِدَةً وَنَوَى بِهَا التَّحَرُّمَ وَالْهُوِيَّ إِلَى الرُّكُوعِ. . . لَمْ تَنْعَقِدِ الصَّلاَةُ أَصْلاً لِلتَّشْرِيكِ؛ لأَِنَّ تَكْبِيرَةَ الإِْحْرَامِ رُكْنٌ لِصَلاَةِ الْفَرْضِ وَالنَّفْل مَعًا، وَلَمْ يَتَحَمَّضْ هَذَا التَّكْبِيرُ لِلإِْحْرَامِ بِأَيِّهِمَا، فَلَمْ تَنْعَقِدْ فَرْضًا وَكَذَا نَفْلاً، إِذْ لاَ فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي اعْتِبَارِ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، وَفِي وَجْهٍ: تَنْعَقِدُ الصَّلاَةُ نَفْلاً كَمَسْأَلَةِ الزَّكَاةِ السَّابِقَةِ؛ لأَِنَّ الدَّرَاهِمَ لَمْ تُجْزِئْ عَنِ الزَّكَاةِ فَبَقِيَتْ تَبَرُّعًا، وَهَذَا مَعْنَى صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَنْوِيَ مَعَ الْمَفْرُوضَةِ فَرْضًا آخَرَ:
قَال ابْنُ السُّبْكِيِّ: لاَ يُجْزِئُ ذَلِكَ إِلاَّ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.
وَعَقَّبَ السُّيُوطِيُّ بِأَنَّ لَهُمَا نَظِيرًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْغُسْل وَالْوُضُوءَ مَعًا فَإِنَّهُمَا يَحْصُلاَنِ عَلَى الأَْصَحِّ. ثُمَّ قَال السُّيُوطِيُّ: وَمَا عَدَا ذَلِكَ إِذَا نَوَى فَرْضَيْنِ بَطَلاَ إِلاَّ إِذَا أَحْرَمَ بِحِجَّتَيْنِ أَوْ عُمْرَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ وَاحِدَةٌ. وَإِذَا تَيَمَّمَ لِفَرْضَيْنِ صَحَّ لِوَاحِدٍ عَلَى الأَْصَحِّ.

(42/92)


الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَنْوِيَ مَعَ النَّفْل نَفْلاً آخَرَ.
قَال الْقَفَّال: لاَ يَحْصُلاَنِ، وَنَقَضَ عَلَيْهِ بِنِيَّتِهِ الْغُسْل لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ فَإِنَّهُمَا يَحْصُلاَنِ.

الْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَنْوِيَ مَعَ غَيْرِ الْعِبَادَةِ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَهَا وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي الْحُكْمِ:
وَمِنْ فُرُوعِهِ: أَنْ يَقُول لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَيَنْوِيَ الطَّلاَقَ وَالظِّهَارَ. . فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا فَمَا اخْتَارَهُ ثَبَتَ، وَقِيل: يَثْبُتُ الطَّلاَقُ لِقُوَّتِهِ. وَقِيل: الظِّهَارُ لأَِنَّ الأَْصْل بَقَاءُ النِّكَاحِ (1) .
وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: سَائِرُ الْعِبَادَاتِ يُدْخَل فِيهَا بِالنِّيَّةِ وَحْدَهَا إِلاَّ الصَّلاَةَ فَلاَ بُدَّ مَعَ النِّيَّةِ التَّكْبِيرُ (2) .
42 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ شَرِكَ بَيْنَ نِيَّةِ الْوُضُوءِ وَبَيْنَ قَصْدِ التَّبَرُّدِ أَوْ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ أَوِ الْوَسَخِ أَجْزَأَهُ، وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ؛ لأَِنَّ هَذَا الْقَصْدَ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ وَلاَ مَكْرُوهٍ، وَلِهَذَا لَوْ قَصَدَ مَعَ رَفْعِ الْحَدَثِ تَعْلِيمَ الْوُضُوءِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ (3) ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْصِدُ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 20 - 23، والمنثور في القواعد 3 / 302، ومغني المحتاج 1 / 49.
(2) المنثور في القواعد 3 / 312.
(3) جامع العلوم والحكم 1 / 88.

(42/93)


أَحْيَانًا بِالصَّلاَةِ تَعْلِيمَهَا لِلنَّاسِ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ كَمَا قَال: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ (1) .
وَعِنْدَهُمْ كَذَلِكَ: لاَ يَضُرُّ مَعَ نِيَّةِ الصَّلاَةِ قَصْدُ تَعْلِيمِ الصَّلاَةِ، لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلاَتِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَغَيْرِهِ، أَوْ قَصْدُ خَلاَصٍ مِنْ خَصْمٍ أَوْ إِدْمَانِ سَهَرٍ، أَيْ لاَ يَمْنَعُ الصِّحَّةَ بَعْدَ إِتْيَانِهِ بِالنِّيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ، لاَ أَنَّهُ لاَ يُنْقِصُ ثَوَابَهُ، وَلِهَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِيمَا يُنْقِصُ الأَْجْرَ، وَمِثْلُهُ قَصْدُهُ مَعَ نِيَّةِ الصَّوْمِ هَضْمَ الطَّعَامِ، أَوْ قَصْدُهُ مَعَ نِيَّةِ الْحَجِّ رُؤْيَةَ الْبِلاَدِ النَّائِيَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ قَصَدَ مَا يَلْزَمُ ضَرُورَةً (2) .

تَفْرِيقُ النِّيَّةِ:
43 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَفْرِيقِ النِّيَّةِ عَلَى أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ أَوْ عَلَى أَجْزَاءِ الطَّاعَةِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
قَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُجْزِئُ تَفْرِيقُ النِّيَّةِ، أَيْ جِنْسُهَا الْمُتَحَقِّقُ فِي مُتَعَدِّدٍ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، بِأَنْ خَصَّ كُل عُضْوٍ بِنِيَّةٍ، بِأَنْ غَسَل وَجْهَهُ بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ إِتْمَامِ
__________
(1) حديث: " خذوا عني مناسككم ". أخرجه مسلم (2 / 943 - ط الحلبي) ، والبيهقي في السنن (5 / 125 ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث جابر، واللفظ للبيهقي.
(2) كشاف القناع 1 / 314.

(42/93)


الْوُضُوءِ، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَغْسِل الْيَدَيْنِ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَمْسَحُ رَأْسَهُ بِنِيَّةٍ، وَهَكَذَا لِتَمَامِ الْوُضُوءِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ إِتْمَامِ الْوُضُوءِ، بِأَنْ نَوَى عَدَمَ إِتْمَامِهِ أَوْ لاَ نِيَّةَ لَهُ أَصْلاً، أَمَّا لَوْ خَصَّ كُل عُضْوٍ بِنِيَّةٍ مَعَ قَصْدِهِ إِتْمَامَ الْوُضُوءِ عَلَى الْفَوْرِ مُعْتَقِدًا أَنْ لاَ يَرْتَفِعَ حَدَثُهُ وَلاَ يَكْمُل وُضُوؤُهُ إِلاَّ بِجَمْعِ النِّيَّاتِ، فَهَذَا مِنْ بَابِ التَّأْكِيدِ فَلاَ يَضُرُّ، لاَ مِنْ بَابِ التَّفْرِيقِ.
أَمَّا لَوْ جَزَّأَ النِّيَّةَ عَلَى الأَْعْضَاءِ، بِأَنْ جَعَل لِكُل عُضْوٍ رُبْعَهَا مَثَلاً فَإِنَّهُ يُجْزِئُ؛ لأَِنَّ النِّيَّةَ مَعْنًى لاَ تَقْبَل التَّجْزِيءَ وَحِينَئِذٍ فَجَعْلُهُ لَغْوٌ، قَال الدُّسُوقِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَإِنْ بَحَثَ فِيهِ ابْنُ مَرْزُوقٍ بِأَنَّهُ مُتَلاَعِبٌ؛ لأَِنَّ رُبْعَ النِّيَّةِ لاَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ فِي اعْتِقَادِ الْمُتَوَضِّئِ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَال عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: تَفْرِيقُ النِّيَّةِ عَلَى الطَّاعَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الطَّاعَاتِ، وَهِيَ أَقْسَامٌ:
أَحَدُهَا: طَاعَةٌ مُتَّحِدَةٌ: وَهِيَ الَّتِي يَفْسُدُ أَوَّلُهَا بِفَسَادِ آخِرِهَا كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ، فَلاَ يَجُوزُ تَفْرِيقُ النِّيَّةِ عَلَى أَبْعَاضِهَا، مِثَالُهُ فِي الصِّيَامِ أَنْ يَنْوِيَ إِمْسَاكَ السَّاعَةِ الأُْولَى وَحْدَهَا،
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 95.

(42/94)


ثُمَّ يَنْوِيَ إِمْسَاكَ السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، وَكَذَلِكَ يُفْرِدُ كُل إِمْسَاكٍ بِنِيَّةٍ تَخْتَصُّ بِهِ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، فَإِنَّ صَوْمَهُ لاَ يَصِحُّ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَرَّقَ نِيَّةَ الصَّلاَةِ عَلَى أَرْكَانِهَا وَأَبْعَاضِهَا: كَأَنْ يُفْرِدَ التَّكْبِيرَ بِنِيَّةٍ، وَالْقِيَامَ بِنِيَّةٍ ثَانِيَةٍ، وَالرُّكُوعَ بِثَالِثَةٍ، وَكَذَلِكَ إِلَى انْقِضَاءِ الصَّلاَةِ، فَإِنَّ صَلاَتَهُ لاَ تَصِحُّ؛ لأَِنَّ مَا نَوَاهُ مِنْ هَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ لَيْسَ بِجُزْءٍ مِنَ الصَّلاَةِ عَلَى حِيَالِهِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: طَاعَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُفْرِدَ أَبْعَاضَهُ بِالنِّيَّةِ وَأَنْ يَجْمَعَهُ فِي نِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَوْ فَرَّقَ النِّيَّةَ عَلَى أَحَدِ جُزْئَيِ الْجُمْلَةِ فِي الْقِرَاءَةِ مِثْل أَنَّهُ قَال: بِسْمِ اللَّهِ، أَوْ قَال: فَالَّذِينَ آمَنُوا. . فَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ لاَ يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ، وَلاَ يُثَابُ إِلاَّ إِذَا فَرَّقَ النِّيَّةَ عَلَى الْجُمَل الْمُفِيدَةِ، إِذْ لاَ قُرْبَةَ فِي الإِْتْيَانِ بِأَحَدِ جُزْئَيِ الْجُمْلَةِ، وَجُمَل الْقُرْآنِ أَحَدُهَا: مَا لاَ يُذْكَرُ إِلاَّ قُرْآنًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (1) } . فَهَذَا يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ قِرَاءَتُهُ، وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ كَوْنُهُ ذِكْرًا لَيْسَ بِقُرْآنٍ كَقَوْلِهِ: بِسْمِ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، فَهَذَا لاَ يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ قِرَاءَتُهُ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْقِرَاءَةَ لِغَلَبَةِ الذِّكْرِ عَلَيْهِ.
__________
(1) سورة الشعراء / 105.

(42/94)


الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِي اتِّحَادِهِ، كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْل، فَمَنْ رَآهُمَا مُتَّحِدَيْنِ مَنَعَ مِنْ تَفْرِيقِ النِّيَّةِ عَلَى أَجْزَائِهِمَا، وَمَنْ رَآهُمَا مُتَعَدِّدَيْنِ جَوَّزَ تَفْرِيقَ النِّيَّةِ عَلَى أَبْعَاضِهِمَا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ فَرَّقَ الْمُتَوَضِّئُ النِّيَّةَ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، بِأَنْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ عَنْ كُل عُضْوٍ عِنْدَ غَسْلِهِ أَوْ مَسْحِهِ، صَحَّ وُضُوؤُهُ، لِوُجُودِ النِّيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ (2) .

ثَانِيًا: الأَْحْكَامُ التَّفْصِيلِيَّةُ لِلنِّيَّةِ:
سَبَقَ أَنْ بَيَّنَّا الأَْحْكَامَ الْعَامَّةَ لِلنِّيَّةِ، وَنُورِدُ هُنَا أَثَرَ النِّيَّةِ فِي الأَْفْعَال الَّتِي تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ مِنْ عِبَادَاتٍ أَوْ مُعَامَلاَتٍ أَوْ غَيْرِهِمَا:

أَثَرُ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ:
أ - النِّيَّةُ فِي الْوُضُوءِ:
44 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ لاَ يَصِحُّ الْوُضُوءُ إِلاَّ بِهَا، وَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ وَآخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا فَرْضٌ. وَنُوَضِّحُ آرَاءَهُمْ فِيمَا يَلِي:
__________
(1) قواعد الأحكام 1 / 186 - 187، وانظر المجموع 1 / 316.
(2) كشاف القناع 1 / 86.

(42/95)


قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْل الزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَقَوْل جُمْهُورِ أَهْل الْحِجَازِ وَيُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْوُضُوءِ، فَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (1) } ، وَالإِْخْلاَصُ هُوَ عَمَل الْقَلْبِ وَهُوَ النِّيَّةُ، وَالأَْمْرُ بِهِ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (2) . . . "، وَلَيْسَ الْمُرَادُ صُورَةَ الْعَمَل فَإِنَّهَا تُوجَدُ بِلاَ نِيَّةٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ حُكْمَ الْعَمَل لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ. قَالُوا: وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ لاَ يَكُونُ الْعَمَل شَرْعِيًّا يَتَعَلَّقُ بِهِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَلأَِنَّ الْوُضُوءَ طَهَارَةٌ مِنْ حَدَثٍ تُسْتَبَاحُ بِهِ الصَّلاَةُ فَلَمْ يَصِحَّ بِلاَ نِيَّةٍ كَالتَّيَمُّمِ، وَلأَِنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ ذَاتُ أَرْكَانٍ فَوَجَبَتْ فِيهَا النِّيَّةُ كَالصَّلاَةِ.
وَيَنْوِي الْمُتَوَضِّئُ رَفْعَ الْحَدَثِ، أَوِ اسْتِبَاحَةَ مُفْتَقِرٍ إِلَى طُهْرٍ، أَوْ أَدَاءَ فَرْضِ الْوُضُوءِ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ سُنَّةٌ فِي
__________
(1) سورة البينة / 5.
(2) حديث: " إنما الأعمال بالنيات. . . ". تقدم في فقرة 13.
(3) المجموع 1 / 311 - 314، ومغني المحتاج 1 / 47، ونيل المآرب 1 / 60 - 61، وكشاف القناع 1 / 85، وبداية المجتهد 1 / 6.

(42/95)


الْوُضُوءِ، لِيَقَعَ قُرْبَةً وَلِيَخْرُجَ عَنْ عُهْدَةِ الْفَرْضِ بِالإِْجْمَاعِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى كَوْنِهِ لَيْسَ شَرْطًا وَلاَ فَرْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ (1) } ، أَمَرَ بِالْغَسْل وَالْمَسْحِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ النِّيَّةِ، وَلاَ يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إِلاَّ بِدَلِيلٍ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا (2) } ، نَهَى الْجُنُبَ عَنْ قُرْبَانِ الصَّلاَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَابِرَ سَبِيلٍ إِلَى غَايَةِ الاِغْتِسَال مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ النِّيَّةِ، فَيَقْتَضِي انْتِهَاءَ حُكْمِ النَّهْيِ عِنْدَ الاِغْتِسَال الْمُطْلَقِ، وَلأَِنَّ الأَْمْرَ بِالْوُضُوءِ لِحُصُول الطَّهَارَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ (3) } ، وَحُصُول الطَّهَارَةِ لاَ يَقِفُ عَلَى النِّيَّةِ بَل عَلَى اسْتِعْمَال الْمُطَهِّرِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلطَّهَارَةِ، وَالْمَاءُ مُطَهِّرٌ لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ (4) ، وَقَال
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) سورة النساء / 43.
(3) سورة المائدة / 6.
(4) حديث: " إن الماء طهور لا ينجسه شيء ". أخرجه الترمذي (1 / 95 - 96) من حديث أبي سعيد، وقال: حديث حسن.

(42/96)


تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (1) } ، وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِلطَّاهِرِ فِي نَفْسِهِ الْمُطَهِّرِ لِغَيْرِهِ، وَالْمَحَل قَابِلٌ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الطَّهَارَةَ عَمَل الْمَاءِ خِلْقَةً وَفِعْل اللِّسَانِ فَضْلٌ فِي الْبَابِ حَتَّى لَوْ سَال عَلَيْهِ الْمَطَرُ أَجْزَأَهُ عَنِ الْوُضُوءِ وَالْغَسْل، فَلاَ يُشْتَرَطُ لَهُ النِّيَّةُ، إِذِ اشْتِرَاطُهَا لاِعْتِبَارِ الْفِعْل الاِخْتِيَارِيِّ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ اللاَّزِمَ لِلْوُضُوءِ مَعْنَى الطَّهَارَةِ، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهِ مِنَ الزَّوَائِدِ، فَإِنِ اتَّصَلَتْ بِهِ النِّيَّةُ يَقَعْ عِبَادَةً وَإِنْ لَمْ تَتَّصِل بِهِ لاَ يَقَعْ عِبَادَةً لَكِنَّهُ يَقَعُ وَسِيلَةً إِلَى إِقَامَةِ الصَّلاَةِ لِحُصُول الطَّهَارَةِ كَالسَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ النِّيَّةَ فَرْضٌ فِي الْوُضُوءِ، قَال ابْنُ رُشْدٍ وَابْنُ حَارِثٍ: اتِّفَاقًا، وَقَال الْمَازِرِيُّ: عَلَى الأَْشْهَرِ، وَقَال ابْنُ الْحَاجِبِ: عَلَى الأَْصَحِّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ.
وَمُقَابِل الأَْشْهَرِ وَالأَْصَحِّ رِوَايَةُ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ.
وَمَنْشَأُ الْخِلاَفِ أَنَّ فِي الطَّهَارَةِ - كَالْوُضُوءِ - شَائِبَتَيْنِ، فَمِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهَا
__________
(1) سورة الفرقان / 48.
(2) رد المحتار على الدر المختار 1 / 72 - 73، وبدائع الصنائع 1 / 19 - 20.

(42/96)


النَّظَافَةُ تُشْبِهُ مَا صُورَتُهُ كَافِيَةٌ فِي تَحْصِيل الْمَقْصُودِ مِنْهَا كَأَدَاءِ الدُّيُونِ فَلاَ يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، وَمِنْ حَيْثُ مَا شُرِطَ فِيهَا مِنَ التَّحْدِيدِ فِي الْغَسَلاَتِ وَالْمَغْسُول وَالْمَاءِ أَشْبَهَتِ التَّعَبُّدَ فَافْتَقَرَتْ إِلَى النِّيَّةِ.
وَيَنْوِي الْمُتَوَضِّئُ رَفْعَ الْحَدَثِ، أَيِ الْوَصْفِ الْمُقَدَّرِ قِيَامُهُ بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ الْمَانِعِ مِنَ الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا، أَوْ يَنْوِي أَدَاءَ الْوُضُوءِ الْمَفْرُوضِ الْمُتَوَقِّفِ عَلَيْهِ صِحَّةُ الصَّلاَةِ وَالطَّوَافِ، أَوْ يَنْوِي اسْتِبَاحَةَ مَمْنُوعٍ بِالْحَدَثِ كَصَلاَةٍ وَطَوَافٍ (1) .

ب - النِّيَّةُ فِي التَّيَمُّمِ
45 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي لُزُومِ النِّيَّةِ فِي التَّيَمُّمِ:
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ (عَدَا زُفَرَ) وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّ النِّيَّةَ فَرْضٌ فِي التَّيَمُّمِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ التَّيَمُّمَ الشَّرْعِيَّ يُنْبِئُ عَنِ الْقَصْدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا (2) } وَالأَْصْل فِي الأَْسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُنْبِئُ عَنْهُ مِنَ الْمَعَانِي، فَلاَ يَتَحَقَّقُ التَّيَمُّمُ دُونَ الْقَصْدِ، وَالْقَصْدُ النِّيَّةُ فَلاَ بُدَّ مِنْهَا،
__________
(1) مواهب الجليل 1 / 230، وشرح الزرقاني وحاشية البناني 1 / 62، وحاشية الدسوقي 1 / 93، وجواهر الإكليل 1 / 15، وبداية المجتهد 1 / 6.
(2) سورة المائدة / 6.

(42/97)


بِخِلاَفِ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِغَسْل الأَْعْضَاءِ وَقَدْ وُجِدَ، ثُمَّ التُّرَابُ مُلَوَّثٌ وَمُغَبَّرٌ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُطَهِّرًا ضَرُورَةَ إِرَادَةِ الصَّلاَةِ وَذَلِكَ بِالنِّيَّةِ، أَمَّا الْوُضُوءُ فَإِنَّ الْمَاءَ مُطَهِّرٌ فِي نَفْسِهِ فَاسْتَغْنَى فِي وُقُوعِهِ طَهَارَةً عَنِ النِّيَّةِ، لَكِنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي وُقُوعِهِ عِبَادَةً وَقُرْبَةً.
وَيَرَى زُفَرُ أَنَّ النِّيَّةَ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ فِي التَّيَمُّمِ، لأَِنَّهُ خَلَفٌ عَنِ الْوُضُوءِ فَلاَ يُخَالِفُ فِي وَصْفِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنْ أَرْكَانِ التَّيَمُّمِ نِيَّةَ اسْتِبَاحَةِ الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا تَفْتَقِرُ اسْتِبَاحَتُهُ إِلَى طَهَارَةٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ لِمَا يُتَيَمَّمُ لَهُ مِنْ حَدَثٍ أَوْ غَيْرِهِ (1) .
انْظُرْ آرَاءَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ وَفِيمَا يَنْوِيهِ بِالتَّيَمُّمِ مُصْطَلَحَ (تَيَمُّم ف 9 - 10) .

ج ـ - النِّيَّةُ لِلتَّطْهِيرِ مِنَ النَّجَاسَةِ:
46 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ
__________
(1) الاختيار 1 / 20، 21، والهداية وفتح القدير 1 / 114، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 154، والشرح الصغير 1 / 192، والقوانين الفقهية ص 52، ومغني المحتاج 1 / 97 - 99، وكشاف القناع 1 / 173، والروض المربع 1 / 31.

(42/97)


وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنِ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَالْمَكَانِ وَالأَْوَانِي لِلصِّحَّةِ.
وَنَقَل صَاحِبُ الْحَاوِي وَالْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ وَحَكَى الْخُرَاسَانِيُّونَ وَصَاحِبُ الشَّامِل وَجْهًا أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ (1) .
انْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (طَهَارَة ف 8) .

د - النِّيَّةُ فِي الْغُسْل:
47 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ النِّيَّةِ فِي الْغُسْل.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ وَاجِبَةٌ فِي الْغُسْل الْوَاجِبِ.
وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
قَال الْمَالِكِيَّةُ: النِّيَّةُ وَاجِبَةٌ فِي الْغُسْل، فَيَنْوِي الْمُغْتَسِل رَفْعَ الْحَدَثِ أَيِ الأَْكْبَرِ أَوِ اسْتِبَاحَةَ مَمْنُوعٍ، أَوْ فَرْضَ الْغُسْل، وَلاَ يَضُرُّ إِخْرَاجُ بَعْضِ الْمُسْتَبَاحِ كَأَنْ يَقُول: نَوَيْتُ اسْتِبَاحَةَ الصَّلاَةِ لاَ الطَّوَافِ مَثَلاً، وَلاَ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 20، والعناية على الهداية بهامش فتح القدير 1 / 28 ط إحياء التراث العربي، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 78، والمجموع شرح المهذب 1 / 311، وكشاف القناع 1 / 86.

(42/98)


يَضُرُّ نِسْيَانُ حَدَثٍ كَمَا لَوْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ مِنَ الْجِمَاعِ نَاسِيًا لِخُرُوجِ الْمَنِيِّ أَوِ الْعَكْسَ، بِخِلاَفِ إِخْرَاجِهِ كَأَنْ يَقُول: نَوَيْتُ الْغُسْل مِنَ الْجِمَاعِ لاَ مِنْ خُرُوجِ الْمَنِيِّ وَقَدْ خَرَجَ مَنِيُّهُ. . فَإِنَّهُ يَضُرُّ، وَكَذَلِكَ إِذَا نَوَى مُطْلَقَ الطَّهَارَةِ الْمُحَقَّقَةِ فَإِنَّهُ يَضُرُّ (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: النِّيَّةُ وَاجِبَةٌ فِي الْغُسْل فَلاَ يَصِحُّ الْغُسْل إِلاَّ بِنِيَّةٍ، أَيْ رَفْعِ حُكْمِ الْجَنَابَةِ إِنْ كَانَ جُنُبًا، وَرَفْعِ حَدَثِ الْحَيْضِ إِنْ كَانَتْ حَائِضًا، أَوْ لِتُوطَأَ، أَوِ الْغُسْل مِنَ الْحَيْضِ، فَلَوْ نَوَى رَفْعَ الْجَنَابَةِ وَحَدَثُهُ الْحَيْضُ، أَوْ عَكْسُهُ، أَوْ رَفْعَ جَنَابَةِ الْجِمَاعِ وَجَنَابَتُهُ بِاحْتِلاَمٍ، أَوْ عَكْسُهُ صَحَّ مَعَ الْغَلَطِ دُونَ الْعَمْدِ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مَا عَلَيْهِ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ كَالْحَيْضِ مِنَ الرَّجُل خِلاَفًا لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ.
وَتَكْفِي نِيَّةُ رَفْعِ الْحَدَثِ عَنْ كُل الْبَدَنِ وَكَذَا مُطْلَقًا فِي الأَْصَحِّ، لاِسْتِلْزَامِ رَفْعِ الْمُطْلَقِ رَفْعَ الْمُقَيَّدِ، وَلأَِنَّهُ يَنْصَرِفُ إِلَى حَدَثِهِ لِوُجُودِ الْقَرِينَةِ الْحَالِيَّةِ، فَلَوْ نَوَى الأَْكْبَرَ كَانَ تَأْكِيدًا، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إِذَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ إِنْ قُلْنَا بِانْدِرَاجِ الأَْصْغَرِ وَإِلاَّ وَجَبَ التَّعْيِينُ، فَلَوْ نَوَى رَفْعَ
__________
(1) الشرح الكبير والدسوقي 1 / 133.

(42/98)


الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ عَمْدًا لَمْ تَرْتَفِعْ جَنَابَتُهُ لِتَلاَعُبِهِ، أَوْ غَلَطًا ارْتَفَعَتْ عَنْ أَعْضَاءِ الأَْصْغَرِ لأَِنَّ غَسْلَهَا وَاجِبٌ فِي الْحَدَثَيْنِ وَقَدْ غَسَلَهَا بِنِيَّتِهِ، إِلاَّ الرَّأْسَ فَلاَ تَرْتَفِعُ عَنْهُ لأَِنَّ غَسْلَهُ وَقَعَ عَنْ مَسْحِهِ الَّذِي هُوَ فَرْضٌ فِي الأَْصْغَرِ، وَهُوَ إِنَّمَا نَوَى الْمَسْحَ وَهُوَ لاَ يُغْنِي عَنِ الْغَسْل، بِخِلاَفِ غَسْل بَاطِنِ لِحْيَةِ الرَّجُل الْكَثِيفَةِ فَإِنَّهُ يَكْفِي لأَِنَّ غَسْل الْوَجْهِ هُوَ الأَْصْل، فَإِذَا غَسَلَهُ فَقَدْ أَتَى بِالأَْصْل، أَمَّا غَيْرُ أَعْضَاءِ الأَْصْغَرِ فَلاَ تَرْتَفِعُ جَنَابَتُهُ لأَِنَّهُ لَمْ يَنْوِهِ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَى الْمَرْأَةِ غُسْل حَيْضٍ وَجَنَابَةٍ كَفَتْ نِيَّةُ أَحَدِهِمَا قَطْعًا.
وَتُجْزِئُ نِيَّةُ اسْتِبَاحَةِ مُفْتَقِرٍ إِلَى الْغُسْل، كَأَنْ يَنْوِيَ اسْتِبَاحَةَ الصَّلاَةِ أَوِ الطَّوَافِ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَى غُسْلٍ، فَإِنْ نَوَى مَا لاَ يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ كَالْغُسْل لِيَوْمِ عِيدٍ لَمْ يَصِحَّ، وَقِيل: إِنْ نُدِبَ لَهُ صَحَّ.
وَتَكْفِي نِيَّةُ أَدَاءِ فَرْضِ الْغُسْل، أَوْ فَرْضِ الْغُسْل، أَوِ الْغُسْل الْمَفْرُوضِ، أَوْ أَدَاءِ الْغُسْل، وَكَذَا الطَّهَارَةُ لِلصَّلاَةِ. . . أَمَّا إِذَا نَوَى الْغُسْل فَقَطْ فَإِنَّهُ لاَ يَكْفِي (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: النِّيَّةُ وَاجِبَةٌ فِي الْغُسْل، فَيَنْوِي رَفْعَ الْحَدَثِ الأَْكْبَرِ، أَوِ اسْتِبَاحَةَ الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا.
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 72، والمجموع 2 / 181، وروضة الطالبين 1 / 78.

(42/99)


وَإِذَا اغْتَسَل يَنْوِي الطَّهَارَتَيْنِ مِنَ الْحَدَثَيْنِ أَجْزَأَ عَنْهُمَا وَلَمْ يَلْزَمْهُ تَرْتِيبٌ وَلاَ مُوَالاَةٌ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْجُنُبَ بِالتَّطَهُّرِ وَلَمْ يَأْمُرْ مَعَهُ بِوُضُوءٍ، وَلأَِنَّهُمَا عِبَادَتَانِ فَتَدَاخَلَتَا فِي الْفِعْل كَمَا تَدْخُل الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ مَسْحُ الرَّأْسِ اكْتِفَاءً بِغَسْلِهَا وَإِنْ لَمْ يُمِرَّ يَدَهُ، وَقَال أَبُو بَكْرٍ: يَتَدَاخَلاَنِ إِنْ أَتَى بِخَصَائِصِ الصُّغْرَى كَالتَّرْتِيبِ وَالْمُوَالاَةِ وَالْمَسْحِ.
وَإِنْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثَيْنِ وَأَطْلَقَ - فَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالأَْكْبَرِ وَلاَ بِالأَْصْغَرِ - أَجْزَأَ عَنْهُمَا لِشُمُول الْحَدَثِ لَهُمَا، أَوْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلاَةِ، أَوْ نَوَى أَمْرًا لاَ يُبَاحُ إِلاَّ بِوُضُوءٍ وَغُسْلٍ كَمَسِّ مُصْحَفٍ وَطَوَافٍ أَجْزَأَ عَنْهُمَا لاِسْتِلْزَامِ ذَلِكَ رَفْعَهُمَا، وَسَقَطَ التَّرْتِيبُ وَالْمُوَالاَةُ لِدُخُول الْوُضُوءِ فِي الْغُسْل فَصَارَ الْحُكْمُ لِلْغُسْل.
وَإِنْ نَوَى مَنْ عَلَيْهِ غُسْلٌ بِالْغُسْل اسْتِبَاحَةَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ارْتَفَعَ الْحَدَثُ الأَْكْبَرُ فَقَطْ لأَِنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ إِنَّمَا تَتَوَقَّفُ عَلَى رَفْعِهِ لاَ عَلَى رَفْعِ الأَْصْغَرِ.
وَإِنْ نَوَى الْجُنُبُ وَنَحْوُهُ رَفْعَ أَحَدِ الْحَدَثَيْنِ - الأَْكْبَرِ أَوِ الأَْصْغَرِ - لَمْ يَرْتَفِعْ غَيْرُهُ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ". . . وَإِنَّمَا لِكُل امْرِئٍ مَا نَوَى.
وَإِنْ نَوَتْ مَنِ انْقَطَعَ حَيْضُهَا أَوْ نِفَاسُهَا

(42/99)


بِغُسْلِهَا حِل الْوَطْءِ صَحَّ غُسْلُهَا وَارْتَفَعَ الْحَدَثُ الأَْكْبَرُ؛ لأَِنَّ حِل وَطْئِهَا يَتَوَقَّفُ عَلَى رَفْعِهِ، وَقِيل: لاَ يَصِحُّ لأَِنَّهَا إِنَّمَا نَوَتْ مَا يُوجِبُ الْغُسْل وَهُوَ الْوَطْءُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ فِي الْغُسْل سُنَّةٌ كَالنِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ، وَقَالُوا: يُسَنُّ فِي الاِغْتِسَال الاِبْتِدَاءُ بِالنِّيَّةِ لِيَكُونَ فِعْلُهُ تَقَرُّبًا يُثَابُ عَلَيْهِ كَالْوُضُوءِ (2) .

هـ - النِّيَّةُ فِي الصَّلاَةِ:
48 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ النِّيَّةِ فِي الصَّلاَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَرَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلاَةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهَا مِنْ فَرَائِضِ الصَّلاَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهَا رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ.
وَلِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ:
قَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: النِّيَّةُ بِلاَ فَاصِلٍ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ انْعِقَادِ الصَّلاَةِ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا فَرْضٌ لِلصَّلاَةِ لِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا
__________
(1) كشاف القناع 1 / 152 - 157.
(2) مراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي 1 / 56 ط الأميرية.

(42/100)


الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ، وَلأَِنَّهُ لاَ إِخْلاَصَ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ. وَقَدْ أُمِرْنَا بِالإِْخْلاَصِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (1) }
وَيَنْوِي الصَّلاَةَ الَّتِي يَدْخُل فِيهَا نِيَّةً مُتَّصِلَةً بِالتَّحْرِيمِ، وَهِيَ أَنْ يَعْلَمَ أَيَّ صَلاَةٍ هِيَ؟ وَلاَ مُعْتَبَرَ بِاللِّسَانِ لأَِنَّ النِّيَّةَ عَمَل الْقَلْبِ، قَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: النِّيَّةُ بِالْقَلْبِ فَرْضٌ، وَذِكْرُهَا بِاللِّسَانِ سُنَّةٌ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَفْضَل، وَالأَْحْوَطُ أَنْ يَنْوِيَ مُقَارِنًا لِلشُّرُوعِ فِيهَا أَيْ مُخَالِطًا لِلتَّكْبِيرِ كَمَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ يُرِيدُ الْفَرْضَ فِي جَمَاعَةٍ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الإِْمَامِ كَبَّرَ وَلَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ. . . يَجُوزُ لأَِنَّهُ بَاقٍ عَلَى نِيَّتِهِ بِالإِْقْبَال عَلَى تَحْقِيقِ مَا نَوَى، ثُمَّ إِنْ كَانَ يُرِيدُ التَّطَوُّعَ يَكْفِيهِ نِيَّةُ أَصْل الصَّلاَةِ، وَفِي الْقَضَاءِ يُعَيِّنُ الْفَرْضَ، وَفِي الْوَقْتِيَّةِ يَنْوِي فَرْضَ الْوَقْتِ أَوْ ظُهْرَ الْوَقْتِ، وَإِنْ كَانَ مَأْمُومًا يَنْوِي فَرْضَ الْوَقْتِ وَالْمُتَابَعَةَ، أَوْ يَنْوِي الشُّرُوعَ فِي صَلاَةِ الإِْمَامِ، أَوْ يَنْوِي الاِقْتِدَاءَ بِالإِْمَامِ فِي صَلاَتِهِ.
وَقَالُوا: كَفَى مُطْلَقُ نِيَّةِ الصَّلاَةِ - وَإِنْ لَمْ يَقُل (لِلَّهِ) - لِنَفْلٍ وَسُنَّةٍ رَاتِبَةٍ وَتَرَاوِيحَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ (2) .
__________
(1) سورة البينة / 5.
(2) البحر الرائق 1 / 290 - 291، والاختيار لتعليل المختار 1 / 47 - 48، والدر المختار 1 / 279 - 280.

(42/100)


وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: النِّيَّةُ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ، لأَِنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي بَعْضِ الصَّلاَةِ وَهُوَ أَوَّلُهَا لاَ فِي جَمِيعِهَا، فَكَانَتْ كَالتَّكْبِيرِ وَالرُّكُوعِ، وَقِيل: هِيَ شَرْطٌ لأَِنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ قَصْدِ فِعْل الصَّلاَةِ فَتَكُونُ خَارِجَ الصَّلاَةِ، وَلِهَذَا قَال الْغَزَالِيُّ: هِيَ بِالشَّرْطِ أَشْبَهُ.
وَالأَْصْل فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَالإِْخْلاَصُ فِي كَلاَمِهِمُ النِّيَّةُ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُل امْرِئٍ مَا نَوَى، وَأَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِي الصَّلاَةِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: النِّيَّةُ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ، فَلاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ بِدُونِهَا بِحَالٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ. . . " وَلأَِنَّهَا قُرْبَةٌ مَحْضَةٌ فَاشْتُرِطَتْ لَهَا النِّيَّةُ كَالصَّوْمِ، وَقَال عَبْدُ الْقَادِرِ كَمَا نَقَل عَنْهُ صَاحِبُ نَيْل الْمَآرِبِ: هِيَ قَبْل الصَّلاَةِ شَرْطٌ وَفِيهَا رُكْنٌ (2)
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 148 - 150.
(2) كشاف القناع 1 / 313، 318، ونيل الْمآرب 1 / 130، 131.

(42/101)


و - النِّيَّةُ فِي الصَّوْمِ:
49 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ النِّيَّةِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ. فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ عَدَا زُفَرَ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ أَدَاءِ الصَّوْمِ النِّيَّةَ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ عَمَل لِمَنْ لاَ نِيَّةَ لَهُ (1) ، وَلِقَوْلِهِ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُل امْرِئٍ مَا نَوَى (2) ، وَلأَِنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ فَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَلأَِنَّ الإِْمْسَاكَ قَدْ يَكُونُ لِلْعَادَةِ أَوْ لِعَدَمِ الاِشْتِهَاءِ أَوْ لِلْمَرَضِ أَوْ لِلرِّيَاضَةِ، وَيَكُونُ لِلْعِبَادَةِ، فَلاَ يَتَعَيَّنُ لَهَا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَوْم ف 27 - 33، صَوْم التَّطَوُّعِ ف 4 - 6) .
__________
(1) حديث: " لا عمل لمن لا نية له ". أخرجه البيهقي في السنن (1 / 41 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أنس بن مالك، وأشار ابن حجر في التلخيص (1 / 247 - ط دار الكتب العلمية) إلى إعلاله.
(2) حديث: " إنما الأعمال بالنيات. . . ". سبق تخريجه ف 8.
(3) الاختيار لتعليل المختار 1 / 126، وفتح القدير 2 / 239، والبدائع 2 / 83، وجواهر الإكليل ا / 148، ومواهب الجليل 2 / 418، ومغني المحتاج للشربيني الخطيب 1 / 423، ونيل المآرب 1 / 273، وكشاف القناع 2 / 314.

(42/101)


ز - النِّيَّةُ فِي الزَّكَاةِ:
50 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ لِحَدِيثِ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ. . . وَلأَِنَّهَا عِبَادَةٌ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَوَجَبَتْ فِيهَا النِّيَّةُ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَلأَِنَّ إِخْرَاجَ الْمَال لِلَّهِ يَكُونُ فَرْضًا أَوْ نَفْلاً فَافْتَقَرَتِ الزَّكَاةُ إِلَى النِّيَّةِ لِتَمْيِيزِهَا.
وَحُكِيَ عَنِ الأَْوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَال: لاَ تَجِبُ النِّيَّةُ لأَِنَّ الزَّكَاةَ دَيْنٌ فَلاَ تَجِبُ لَهَا النِّيَّةُ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَلِهَذَا يُخْرِجُهَا وَلِيُّ الْيَتِيمِ، وَوَلِيُّ الصَّبِيِّ وَالسُّلْطَانُ يَنُوبَانِ عِنْدَ الْحَاجَةِ (1) .
وَفِي مَعْنَى النِّيَّةِ اللاَّزِمَةِ فِي إِجْزَاءِ الزَّكَاةِ عَنِ الْمُزَكِّي أَوْ عَنْ غَيْرِهِ، وَفِي مُقَارَنَةِ النِّيَّةِ لإِِخْرَاجِ الزَّكَاةِ وَتَفْرِيقِهَا عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ، أَوْ لِعَزْلِهَا عَنِ الْمَال الْمُزَكَّى، أَوْ لِدَفْعِهَا إِلَى السُّلْطَانِ أَوْ أَخْذِهِ لَهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ. . . يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (زَكَاة ف 122 - 123) .

ح - النِّيَّةُ فِي الْحَجِّ:
51 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، لأَِنَّ الإِْحْرَامَ بِالْحَجِّ عِنْدَهُمْ
__________
(1) الاختيار 1 / 101، وجواهر الإكليل 1 / 140، ومغني المحتاج 1 / 414 - 415، وكشاف القناع 2 / 260 - 261، والمغني 2 / 638.

(42/102)


هُوَ نِيَّةُ النُّسُكِ وَالدُّخُول فِيهِ، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى النِّيَّةِ لِتَحَقُّقِ الإِْحْرَامِ اشْتِرَاطَ التَّلْبِيَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَام ف 6، 7، 17 حَجّ ف 47، 48) .

أَثَرُ النِّيَّةِ فِي الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ:
52 - الْعُقُودُ وَالتَّصَرُّفَاتُ مِنْهَا مَا يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ وَمِنْهَا مَا لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُسْتَخْدَمُ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الإِْرَادَةِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً أَمْ فِعْلِيَّةً فِعْلُهَا مَاضٍ، أَوْ مُضَارِعٌ مَقْرُونًا بِالسِّينِ أَوْ بِسَوْفَ أَوْ غَيْرَ مَقْرُونٍ بِأَيٍّ مِنْهُمَا، أَوْ أَمْرٌ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الصِّيغَةُ صَرِيحَةً فِي الدَّلاَلَةِ عَلَى الْعَقْدِ أَمْ كِنَايَةً.
وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ فِي فِقْرَةِ (4 - 6) وَيُنْظَرُ كَذَلِكَ مُصْطَلَحُ (عَقْد ف 10، 11، 12، صِيغَة ف 7) .

أ - النِّيَّةُ فِي الطَّلاَقِ:
53 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الطَّلاَقَ لاَ يَقَعُ بِغَيْرِ لَفْظٍ وَلَوْ نَوَاهُ، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ بِلَفْظِ الطَّلاَقِ
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 1 / 143، 144، وجواهر الإكليل 1 / 168، ومغني المحتاج 1 / 476، 478، وكشاف القناع 2 / 406.

(42/102)


الصَّرِيحِ - وَهُوَ مَا لاَ يُسْتَعْمَل إِلاَّ فِيهِ غَالِبًا لُغَةً أَوْ عُرْفًا - فَإِنَّهُ يَقَعُ بِلاَ نِيَّةٍ، وَإِذَا كَانَ الطَّلاَقُ بِاللَّفْظِ الْكِنَائِيِّ فَإِنَّهُ لاَ يَقَعُ إِلاَّ مَعَ النِّيَّةِ.
وَقَالُوا: إِنَّ النِّيَّةَ لَهَا أَثَرُهَا كَذَلِكَ فِي عَدَدِ مَا يَقَعُ مِنَ الطَّلَقَاتِ - فِي أَحْوَالٍ ذَكَرُوهَا - (1) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (طَلاَق ف 29، 34، 35، 36، 39) .

ب - النِّيَّةُ فِي الرَّجْعَةِ:
54 - الرَّجْعَةُ قَدْ تَكُونُ بِالْقَوْل الصَّرِيحِ، وَلاَ تَحْتَاجُ فِي هَذِهِ الْحَال إِلَى نِيَّةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَدْ تَكُونُ الرَّجْعَةُ بِالْكِنَايَةِ مِنَ الأَْلْفَاظِ وَتَحْتَاجُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِلَى نِيَّةٍ.
وَقَدْ تَكُونُ الرَّجْعَةُ بِالْفِعْل - كَالْجِمَاعِ وَمُقَدِّمَاتِهِ - عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ.
وَقَدْ تَحْصُل الرَّجْعَةُ بِالنِّيَّةِ - فِي الْبَاطِنِ لاَ فِي الظَّاهِرِ - عَلَى الأَْظْهَرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَصَحَّحَ عَدَمَ صِحَّةِ الرَّجْعَةِ بِالنِّيَّةِ وَحْدَهَا ابْنُ بَشِيرٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَهُ: هَذَا هُوَ
__________
(1) الاختيار 3 / 125، 130، وجواهر الإكليل 1 / 345، 346، ومغني المحتاج 3 / 279 - 284، وكشاف القناع 5 / 245 - 252.

(42/103)


الْمَذْهَبُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْمَوَّازِيَّةِ، وَرَدَ تَخْرِيجُ اللَّخْمِيِّ (1) .
وَالْمَزِيدُ مِنَ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (رَجْعَة ف 12 - 19) .

ج ـ - النِّيَّةُ فِي الظِّهَارِ:
55 - الظِّهَارُ إِنْ كَانَ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ يَدُل عَلَى الظِّهَارِ دَلاَلَةً وَاضِحَةً وَلاَ يَحْتَمِل شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ الظِّهَارِ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ فِي حُدُوثِ الظِّهَارِ بِهِ، وَتَرَتُّبِ أَحْكَامِهِ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ الظِّهَارُ بِلَفْظٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ يَحْتَمِل الظِّهَارَ وَغَيْرَهُ، وَلَمْ يَغْلِبِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الظِّهَارِ عُرْفًا، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ لِحُدُوثِ الظِّهَارِ بِهِ وَتَرَتُّبِ أَحْكَامِهِ عَلَيْهِ إِلَى نِيَّةِ الظِّهَارِ بِهَذَا اللَّفْظِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (ظِهَار ف 13) .
__________
(1) الاختيار 3 / 147، وجواهر الإكليل 1 / 362، والشرح الكبير والدسوقي 2 / 417، ومغني المحتاج 3 / 336 - 337، وكشاف القناع 5 / 342.
(2) الاختيار 3 / 162 - 164، والشرح الكبير والدسوقي 2 / 442، 443، ومغني المحتاج 3 / 353، وكشاف القناع 5 / 369، 370.

(42/103)


د - النِّيَّةُ فِي الْيَمِينِ:
تَدْخُل النِّيَّةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِل الأَْيْمَانِ، وَتُعْتَبَرُ فِيهَا، وَمِنْ ذَلِكَ:

اللَّفْظُ الدَّال عَلَى الْمُقْسَمِ بِهِ:
56 - اللَّفْظُ الدَّال عَلَى الْمُقْسَمِ بِهِ هُوَ مَا دَخَل عَلَيْهِ حَرْفُ الْقَسَمِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ.
وَالْقَسَمُ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِأَسْمَائِهِ الَّتِي لاَ يُسَمَّى بِهَا غَيْرُهُ تَعَالَى يَنْعَقِدُ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى نِيَّةٍ. أَمَّا الْقَسَمُ بِأَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ - كَالْقَسَمِ بِمَا يُسَمَّى بِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَل وَمَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ صِفَاتُهُ جَل شَأْنُهُ الَّتِي يُوصَفُ بِهَا غَيْرُهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ - فَإِنَّهُ لاَ بُدَّ فِي الاِنْعِقَادِ مِنَ النِّيَّةِ (1) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَيْمَان ف 26 - 29) .

حَذْفُ حَرْفِ الْقَسَمِ:
57 - الْحَالِفُ إِنْ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ أَحْرُفِ الْقَسَمِ، بَل قَال: اللَّهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا. . . فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: يَكُونُ يَمِينًا بِغَيْرِ النِّيَّةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَكُونُ يَمِينًا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ قَسَمٌ بِغَيْرِ حُرُوفِهِ.
__________
(1) الاختيار 4 / 50، وكشاف القناع 6 / 0 23، 231.

(42/104)


وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ. (أَيْمَان ف 25) .

حَذْفُ الْمُقْسَمِ بِهِ:
58 - إِذَا لَمْ يَذْكُرِ الْحَالِفُ الْمُقْسَمَ بِهِ، بَل قَال: أُقْسِمُ لاَ أَفْعَل كَذَا - مَثَلاً - كَانَ يَمِينًا بِالنِّيَّةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، عَلَى اخْتِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ بَيْنَهُمْ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: يَكُونُ يَمِينًا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَكُونُ يَمِينًا وَلَوْ نَوَى.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَيْمَان ف 33) .

مُرَاعَاةُ نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ:
59 - ذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُرَاعَى فِي الْيَمِينِ نِيَّةُ الْمُسْتَحْلِفِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ صَاحِبُكَ (1) ، الْمَعْنَى: يَمِينُكَ الَّتِي تَحْلِفُهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي لَوْ نَوَيْتَهُ وَكُنْتَ صَادِقًا اعْتَقَدَ خَصْمُكَ أَنَّكَ صَادِقٌ فِيهَا، وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يَخْطُرُ بِبَالِهِ حِينَ اسْتِحْلاَفِهِ إِيَّاكَ، وَهُوَ فِي
__________
(1) حديث أبي هريرة: " يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك ". أخرجه مسلم (3 / 1274 - ط الحلبي)

(42/104)


الْغَالِبِ يَكُونُ مُتَّفِقًا مَعَ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ التَّوْرِيَةَ بَيْنَ يَدَيِ الْمُسْتَحْلِفِ لاَ تَنْفَعُ الْحَالِفَ، بَل تَكُونُ يَمِينُهُ غَمُوسًا تَغْمِسُهُ فِي الإِْثْمِ.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَيْمَان ف 153 - 157) .

مُرَاعَاةُ نِيَّةِ الْحَالِفِ:
60 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ إِنْ كَانَ مَظْلُومًا، وَعَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ إِنْ كَانَ ظَالِمًا، كَمَا فِي الْخُلاَصَةِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَقَاصِدُ اللَّفْظِ عَلَى نِيَّةِ اللاَّفِظِ إِلاَّ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْيَمِينُ عِنْدَ الْقَاضِي، فَإِنَّهَا عَلَى نِيَّةِ الْقَاضِي دُونَ الْحَالِفِ.
وَزَادَ السُّيُوطِيُّ: إِنْ كَانَ مُوَافِقًا لَهُ فِي الاِعْتِقَادِ، فَإِنْ خَالَفَهُ - كَحَنَفِيٍّ اسْتَحْلَفَ شَافِعِيًّا فِي شُفْعَةِ الْجِوَارِ - فَفِيمَنْ تُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الْقَاضِي أَيْضًا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُرْجَعُ فِي الأَْيْمَانِ إِلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ وَمَا قَصَدَ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ حَلَفَ بِطَلاَقٍ أَوْ عِتَاقٍ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ نَوَى مَا يُخَالِفُ ظَاهِرَ لَفْظِهِ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 53.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 44، والمنثور في القواعد 3 / 312.

(42/105)


فَإِنَّهُ يُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل. وَهَل يُقْبَل مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ لِلْعُلَمَاءِ مَشْهُورَانِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ.
فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ ظَالِمًا وَنَوَى خِلاَفَ مَا حَلَّفَهُ عَلَيْهِ غَرِيمُهُ لَمْ تَنْفَعْهُ نِيَّتُهُ، فَأَمَّا الْمَظْلُومُ فَيَنْفَعُهُ ذَلِكَ (1) .
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحْلِفٌ أَصْلاً، أَوْ كَانَ مُسْتَحْلِفٌ وَلَكِنْ عُدِمَتْ شَرِيطَةٌ مِنَ الشَّرَائِطِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ إِلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ. . . رُوعِيَتْ نِيَّةُ الْحَالِفِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَيْمَان ف 158 - 161) .

أَثَرُ النِّيَّةِ فِي تَخْصِيصِ الْعَامِّ وَتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ:
61 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: نِيَّةُ تَخْصِيصِ الْعَامِّ فِي الْيَمِينِ مَقْبُولَةٌ دِيَانَةً اتِّفَاقًا، وَقَضَاءً عِنْدَ الْخَصَّافِ، وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِ إِنْ كَانَ مَظْلُومًا (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: النِّيَّةُ تَكْفِي فِي تَقْيِيدِ الْمُطْلَقَاتِ، وَتَخْصِيصِ الْعُمُومَاتِ، وَتَعْمِيمِ
__________
(1) جامع العلوم والحكم 1 / 89 - 90.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 25.

(42/105)


الْمُطْلَقَاتِ، وَتَعْيِينِ أَحَدِ مُسَمَّيَاتِ الأَْلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَاتِ، وَصَرْفِ اللَّفْظِ عَنِ الْحَقَائِقِ إِلَى الْمَجَازَاتِ، وَلاَ تَكْفِي عَنِ الأَْلْفَاظِ الَّتِي هِيَ أَسْبَابٌ، وَلاَ عَنْ لَفْظٍ مَقْصُودٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا شَرْعِيًّا، وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَسَائِل:
الْمَسْأَلَةُ الأُْولَى: تَقْيِيدُ الْمُطْلَقَاتِ إِذَا حَلَفَ لَيُكْرِمَنَّ رَجُلاً وَنَوَى بِهِ زَيْدًا فَلاَ يَبْرَأُ بِإِكْرَامِ غَيْرِهِ، لأَِنَّ رَجُلاً مُطْلَقٌ وَقَدْ قَيَّدَهُ بِخُصُوصِ زَيْدٍ، فَصَارَ مَعْنَى الْيَمِينِ: لأَُكْرِمَنَّ زَيْدًا، وَكَذَلِكَ إِذَا قَيَّدَهُ بِصِفَةٍ فِي نِيَّتِهِ وَلَمْ يَلْفِظْ بِهَا كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لأَُكْرِمَنَّ رَجُلاً - وَيَنْوِي بِهِ فَقِيهًا أَوْ زَاهِدًا - فَلاَ يَبْرَأُ بِإِكْرَامِ غَيْرِ الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهَذِهِ صُورَةُ تَقْيِيدِ الْمُطْلَقَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَخْصِيصُ الْعُمُومَاتِ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لاَ لَبِسْتُ ثَوْبًا وَيَنْوِي إِخْرَاجَ الْكَتَّانِ مِنْ يَمِينِهِ، فَيَصِيرُ هَذَا الْعُمُومُ مَخْصُوصًا بِهَذِهِ النِّيَّةِ، وَلاَ يَحْنَثُ إِذَا لَبِسَ الْكَتَّانَ لأَِنَّهُ قَدْ أَخْرَجَهُ بِنِيَّتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُحَاشَاةُ كَمَا قَال مَالِكٌ إِذَا قَال: كُل حَلاَلٍ عَلَيَّ حَرَامٌ يَلْزَمُهُ الطَّلاَقُ إِلاَّ أَنْ يُحَاشِيَ زَوْجَتَهُ، وَقَال الأَْصْحَابُ: يَكْفِي فِي الْمُحَاشَاةِ مُجَرَّدُ النِّيَّةِ. وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا تَخْصِيصٌ بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلاَ نُقْصَانٍ،

(42/106)


وَالتَّخْصِيصُ يَكْفِي فِيهِ إِرَادَةُ الْمُتَكَلِّمِ، فَكَفَى فِي الْمُحَاشَاةِ مُجَرَّدُ إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ فَلَيْسَتِ الْمُحَاشَاةُ شَيْئًا غَيْرَ التَّخْصِيصِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ النِّيَّةَ فِي الْيَمِينِ تُخَصِّصُ اللَّفْظَ الْعَامَّ، وَلاَ تُعَمِّمُ الْخَاصَّ، مِثَال الأَْوَّل: أَنْ يَقُول: وَاللَّهِ لاَ أُكَلِّمُ أَحَدًا، وَيَنْوِي زَيْدًا. وَمِثَال الثَّانِي: أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ بِمَا نَال مِنْهُ، فَيَقُول: وَاللَّهِ لاَ أَشْرَبُ مِنْهُ مَاءً مِنْ عَطَشٍ، فَإِنَّ الْيَمِينَ تَنْعَقِدُ عَلَى الْمَاءِ مِنْ عَطَشٍ خَاصَّةً، وَلاَ يَحْنَثُ بِطَعَامِهِ وَثِيَابِهِ وَلَوْ نَوَى أَنْ لاَ يَنْتَفِعَ مِنْهُ بِشَيْءٍ، وَلَوْ كَانَتِ الْمُنَازَعَةُ تَقْتَضِي ذَلِكَ، لأَِنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا تُؤَثِّرُ إِذَا احْتَمَل اللَّفْظُ مَا نَوَى بِجِهَةٍ يُتَجَوَّزُ بِهَا، قَال الأَْسْنَوِيُّ: وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ لأَِنَّ فِيهِ جِهَةً صَحِيحَةً وَهِيَ إِطْلاَقُ اسْمِ الْبَعْضِ عَلَى الْكُل (2) .

هـ - النِّيَّةُ فِي الْوَقْفِ:
62 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْوَقْفُ لَيْسَ عِبَادَةً وَضْعًا بِدَلِيل صِحَّتِهِ مِنَ الْكَافِرِ، فَإِنْ نَوَى الْقُرْبَةَ فَلَهُ الثَّوَابُ وَإِلاَّ فَلاَ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَدْخُل النِّيَّةُ فِي عُقُودِ
__________
(1) الفروق للقرافي (عالم الكتب - بيروت) 3 / 64 وما بعدها.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 44.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 23.

(42/106)


الْوَقْفِ - أَيْ لِصِحَّتِهِ - إِذَا كَانَ بِلَفْظٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ الْوَقْفُ بِقَوْلٍ صَرِيحٍ أَوْ كِنَايَةٍ، وَبِفِعْلٍ دَالٍّ عَلَيْهِ عُرْفًا، وَيَكْفِي الإِْتْيَانُ بِصَرِيحِ الْقَوْل لِعَدَمِ احْتِمَال غَيْرِهِ، وَلاَ يَصِحُّ الْوَقْفُ بِالْكِنَايَةِ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَهُ الْمَالِكُ، فَمَتَى أَتَى بِكِنَايَةٍ وَاعْتَرَفَ أَنَّهُ نَوَى بِهَا الْوَقْفَ لَزِمَهُ فِي الْحُكْمِ لأَِنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِيهِ، وَإِنْ قَال: مَا أَرَدْتُ بِهَا الْوَقْفَ قُبِل قَوْلُهُ لأَِنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي ضَمِيرِهِ لِعَدَمِ الاِطِّلاَعِ عَلَى مَا فِي الضَّمَائِرِ، أَوْ يَقْرِنُ بِلَفْظِ الْكِنَايَةِ أَحَدَ الأَْلْفَاظِ الْخَمْسَةِ الآْتِيَةِ: فَيَقُول: تَصَدَّقْتُ بِكَذَا صَدَقَةً مَوْقُوفَةً، أَوْ مُحْبَسَةً، أَوْ مُسْبَلَةً، أَوْ مُؤَبَّدَةً، أَوْ مُحَرَّمَةً، أَوْ يَصِفُ الْكِنَايَةَ بِصِفَاتِ الْوَقْفِ فَيَقُول: تَصَدَّقْتُ بِهِ صَدَقَةً لاَ تُبَاعُ وَلاَ تُوهَبُ وَلاَ تُورَثُ، أَوْ يَقْرِنُ الْكِنَايَةَ بِحُكْمِ الْوَقْفِ كَأَنْ يَقُول: تَصَدَّقْتُ بِأَرْضِي عَلَى فُلاَنٍ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ عَلَى وَلَدِهِ. . . لأَِنَّ هَذِهِ الأَْلْفَاظَ وَنَحْوَهَا لاَ تُسْتَعْمَل فِيمَا عَدَا الْوَقْفَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَتَى بِلَفْظِهِ الصَّرِيحِ (2) .

و النِّيَّةُ فِي الْقِصَاصِ:
63 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْقِصَاصُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى قَصْدِ الْقَاتِل الْقَتْل، لَكِنْ قَالُوا: لَمَّا كَانَ الْقَصْدُ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 10.
(2) كشاف القناع 4 / 241 - 242.

(42/107)


أَمْرًا بَاطِنًا أُقِيمَتِ الآْلَةُ مَقَامَهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ بِمَا يُفَرِّقُ الأَْجْزَاءَ عَادَةً كَانَ عَمْدًا وَوَجَبَ الْقِصَاصُ، وَإِلاَّ فَإِنْ قَتَلَهُ بِمَا لاَ يُفَرِّقُ الأَْجْزَاءَ عَادَةً لَكِنْ يَقْتُل غَالِبًا - فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ لاَ قِصَاصَ فِيهِ عِنْدَ الإِْمَامِ، وَأَمَّا الْخَطَأُ فَأَنْ يَقْصِدَ مُبَاحًا فَيُصِيبَ آدَمِيًّا (1) .
وَقَال السُّيُوطِيُّ: تَدْخُل النِّيَّةُ فِي الْقِصَاصِ فِي مَسَائِل كَثِيرَةٍ، مِنْهَا:
تَمْيِيزُ الْعَمْدِ وَشِبْهِهِ مِنَ الْخَطَأِ، وَمِنْهَا: إِذَا قَتَل الْوَكِيل فِي الْقِصَاصِ، إِنْ قَصَدَ قَتْلَهُ عَنِ الْمُوَكِّل، أَوْ قَتَلَهُ لِشَهْوَةِ نَفْسِهِ (2) ، وَقَال: وَمِمَّا جَرَى عَلَى الأَْصْل مِنَ اعْتِبَارِ النِّيَّةِ أَوَّل الْفِعْل مَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلُهَا عَنْ فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ وَأَقَرَّهُ: أَنَّهُ لَوْ ضَرَبَ زَوْجَتَهُ بِالسَّوْطِ عَشْرَ ضَرَبَاتٍ فَصَاعِدًا مُتَوَالِيَةٍ فَمَاتَتْ: فَإِنْ قَصَدَ فِي الاِبْتِدَاءِ الْعَدَدَ الْمُهْلِكَ وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ قَصَدَ تَأْدِيبَهَا بِسَوْطَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ ثُمَّ بَدَا لَهُ فَجَاوَزَ فَلاَ، لأَِنَّهُ اخْتَلَطَ الْعَمْدُ بِشِبْهِ الْعَمْدِ (3) .

ز - النِّيَّةُ فِي الإِْعْتَاقِ:
64 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ اللَّفْظَ الصَّرِيحَ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 25.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 10.
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 24.

(42/107)


فِي الإِْعْتَاقِ يَقَعُ الْعِتْقُ بِهِ مَعَ وُجُودِ النِّيَّةِ وَعَدَمِهَا، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الصَّرِيحَ لاَ يَنْصَرِفُ عَنِ الْعِتْقِ إِلَى غَيْرِهِ إِلاَّ بِقَرِينَةٍ كَقَصْدِهِ الْمَدْحَ بِلَفْظِ الإِْعْتَاقِ، كَمَا إِذَا عَمِل الْعَبْدُ عَمَلاً فَأَعْجَبَ سَيِّدَهُ فَقَال لَهُ: مَا أَنْتَ إِلاَّ حُرٌّ، وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ الْعِتْقَ وَإِنَّمَا أَرَادَ: أَنْتَ فِي عَمَلِكَ كَالْحُرِّ.
كَمَا أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْكِنَايَةَ لاَ تَعْمَل إِلاَّ بِنِيَّةِ الْعِتْقِ، وَأَنَّ الْعِتْقَ لاَ يَحْصُل بِالنِّيَّةِ، لأَِنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ فَلاَ يَحْصُل بِالنِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ كَسَائِرِ الإِْزَالَةِ (1) . (ر: عِتْق فِي 11) .

ح - النِّيَّةُ فِي النِّكَاحِ:
65 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ التَّزْوِيجِ وَالنِّكَاحِ وَلَوْ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لأَِنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا وَرَدَ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا (2) } ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ (3) }
__________
(1) تحفة الفقهاء 2 / 255 - 257، وَالأشباه والنظائر لابن نجيمِ ص 48، 23، والذخيرة للقرافي ص 101، وحاشية الدسوقي 4 / 361، والحاوي الكبير للماوردي 22 / 5، وروضة الطالبين 12 / 107 - 108، ومطالب أولي النهى 4 / 694، 695، والمغني 9 / 330، 331.
(2) سورة الأحزاب / 37
(3) سورة النساء / 22.

(42/108)


وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ (1) } ، وَلَمْ يَرِدْ بِغَيْرِهِمَا (2) .
وَاخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِهِ بِغَيْرِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح ف 47) .

ط - أَثَرُ إِضْمَارِ نِيَّةِ الطَّلاَقِ عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ:
66 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ شَرْطٍ إِلاَّ أَنَّ فِي نِيَّتِهِ طَلاَقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ إِذَا انْقَضَتْ حَاجَتُهُ فِي هَذَا الْبَلَدِ فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ وَلاَ تَضُرُّ نِيَّتُهُ.
وَقَال الأَْوْزَاعِيُّ: هُوَ نِكَاحُ مُتْعَةٍ وَلاَ يَصِحُّ (3) .

ي - أَثَرُ نِيَّةِ التَّحْلِيل عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ:
67 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ نِيَّةِ تَحْلِيل الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا الأَْوَّل عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ، وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح مَنْهِيّ عَنْهُ) .
__________
(1) سورة القصص / 27.
(2) روضة الطالبين 7 / 36 - 37، ومطالب أولي النهى 5 / 46 - 47.
(3) المغني 6 / 645، والتاج والإكليل 3 / 469، والبدائع 3 / 187، والأم 5 / 80 ط دار المعرفة.

(42/108)


ك - النِّيَّةُ فِي الْجِهَادِ:
68 - الْجِهَادُ عِبَادَةٌ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَلِلنِّيَّةِ أَثَرُهَا فِي تَحْصِيل الأَْجْرِ مِنْ أَدَاءِ كُل عِبَادَةٍ وَمِنْهَا الْجِهَادُ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ أَثَرِ النِّيَّةِ فِي تَحْصِيل الثَّوَابِ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي فِقْرَتَيْ: (8 وَ 37) ، وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (جِهَاد ف 6، وَشَهِيد ف 2 ط 3) .

ل - النِّيَّةُ فِي الذَّكَاةِ:
69 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ الذَّكَاةِ تَوَافُرَ الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي التَّفَاصِيل. وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (ذَبَائِح ف 21، 34، 38) .

م - النِّيَّةُ فِي الصَّيْدِ:
اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ لِحِل الصَّيْدِ:
70 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِحِل الصَّيْدِ قَصْدَ الْفِعْل بِأَنْ يَرْمِيَ السَّهْمَ أَوْ يَنْصِبَ نَحْوَ الْمِنْجَل أَوْ يُرْسِل الْجَارِحَ قَاصِدًا الصَّيْدَ، لأَِنَّ قَتْل الصَّيْدِ أَمْرٌ يُعْتَبَرُ لَهُ الدِّينُ فَاعْتُبِرَ لَهُ الْقَصْدُ، وَهَذَا الْقَصْدُ يَتَحَقَّقُ مِنْ خِلاَل إِرْسَال الآْلَةِ لِقَصْدِ صَيْدٍ، لِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي أُرْسِل الْكِلاَبَ الْمُعَلَّمَةَ، فَيُمْسِكْنَ عَلَيَّ وَأَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ،

(42/109)


فَقَال: " إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُل. قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلْنَ؟ قَال: وَإِنْ قَتَلْنَ مَا لَمْ يَشْرَكْهَا كَلْبٌ لَيْسَ مَعَهَا (1) "، فَلَمَّا حَرُمَ التَّنَاوُل عِنْدَ عَدَمِ الإِْرْسَال فِي أَحَدِ الْكَلْبَيْنِ دَل عَلَى أَنَّ الإِْرْسَال فِي ذَلِكَ شَرْطٌ.
فَلَوِ اسْتَرْسَلَتِ الْجَارِحَةُ بِنَفْسِهَا وَلَمْ تُدْرِكْ ذَكَاةَ الصَّيْدِ فَهُوَ حَرَامٌ، سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبُهُ خَرَجَ بِالْجَارِحَةِ لِلاِصْطِيَادِ أَمْ لاَ.
وَقَال الأَْصَمُّ: يَحِل.
وَقَال عَطَاءٌ وَالأَْوْزَاعِيُّ: يُؤْكَل إِنْ كَانَ إِخْرَاجُ الْجَارِحَةِ لِلصَّيْدِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (صَيْد 18) .

أَثَرُ النِّيَّةِ فِي تَمَلُّكِ الصَّيْدِ:
71 - الصَّيْدُ يُمْلَكُ بِالأَْخْذِ.
وَالأَْخْذُ نَوْعَانِ: حَقِيقِيٌّ وَحُكْمِيٌّ.
__________
(1) حديث عدي بن حاتم: " إذا أرسلت كلبك المعلم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 609 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1529 ط الحلبي) ، واللفظ لمسلم.
(2) المبسوط 11 / 221 - 222، ومطالب أولي النهى 6 / 351، والمجموع 9 / 103، والمغني 8 / 545، والقوانين الفقهية ص 175ط دار الكتاب العربي.

(42/109)


فَالأَْخْذُ الْحَقِيقِيُّ يَكُونُ بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَى الصَّيْدِ وَهَذَا لاَ يَحْتَاجُ إِلَى قَصْدٍ وَنِيَّةٍ فَيَمْلِكُهُ الآْخِذُ سَوَاءٌ قَصَدَ بِأَخْذِهِ مِلْكَهُ أَمْ لاَ حَتَّى لَوْ أَخَذَهُ لِيَنْظُرَ إِلَيْهِ مَلَكَهُ (1) .
وَالأَْخْذُ الْحُكْمِيُّ يَكُونُ بِالْهَيْئَةِ وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أَوَّلاً: مَا كَانَ بِاسْتِعْمَال مَا هُوَ مَوْضُوعٌ لِلاِصْطِيَادِ، فَإِنَّ صَاحِبَ الآْلَةِ يَتَمَلَّكُ الصَّيْدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَصَدَ بِهَا الاِصْطِيَادَ أَوْ لاَ، حَتَّى أَنَّ مَنْ نَصَبَ شَبَكَةً فَتَعَقَّل بِهَا صَيْدٌ مَلَكَهُ صَاحِبُ الشَّبَكَةِ قَصَدَ بِنَصْبِ الشَّبَكَةِ الاِصْطِيَادَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ؛ لأَِنَّ الشَّبَكَةَ إِنَّمَا تُنْصَبُ لأَِجْل الصَّيْدِ، فَلَوْ نَصَبَهَا لِلْجَفَافِ فَتَعَقَّل بِهَا صَيْدٌ لاَ يَتَمَلَّكُهُ لأَِنَّهُ لاَ يَصِيرُ آخِذًا لَهُ بِالشَّبَكَةِ.
ثَانِيًا: مَا كَانَ بِاسْتِعْمَال مَا لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ لِلاِصْطِيَادِ، فَإِنَّ صَاحِبَ الآْلَةِ لاَ يَتَمَلَّكُ الصَّيْدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِلاَّ إِذَا قَصَدَ بِهَا الاِصْطِيَادَ، حَتَّى إِنَّ مَنْ نَصَبَ فُسْطَاطًا وَتَعَقَّل بِهِ صَيْدٌ، إِنْ قَصَدَ بِنَصْبِ الْفُسْطَاطِ الصَّيْدَ مَلَكَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الصَّيْدَ لاَ يَمْلِكُهُ (2) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 417، والأشباه لابن نجيم ص 286 ط دار الكتب العلمية، ونهاية المحتاج 8 / 117.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 417 - 418، وحاشية ابن عابدين 5 / 298، وانظر الذخيرة للقرافي 4 / 185 ط دار الغرب الإسلامي، وحاشية الدسوقي 2 / 114، والمغني لابن قدامة 8 / 562 - 563، ونهاية المحتاج7 / 118 - 119.

(42/110)


ن: النِّيَّةُ فِي اللُّقَطَةِ:
72 - الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنِ الْتَقَطَ عَلَى قَصْدِ أَنْ يَحْفَظَ اللُّقَطَةَ لِمَالِكِهَا أَبَدًا فَهِيَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ (1) .
كَمَا كَانَ الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ مَنْ يَأْخُذُ اللُّقَطَةَ بِنِيَّةِ الْخِيَانَةِ كَأَنْ نَوَى تَمَلُّكَهَا فِي الْحَال وَكِتْمَانَهَا فَيَكُونُ ضَامِنًا غَاصِبًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي بَرَاءَةِ الْمُلْتَقِطِ بِرَدِّ اللُّقَطَةِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ بَعْدَ أَنْ أَخَذَهَا لِيَأْكُلَهَا أَوْ لِيُمْسِكَهَا لِنَفْسِهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ لاَ يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِلاَّ بِرَدِّ اللُّقَطَةِ إِلَى يَدِ صَاحِبِهَا أَوْ إِلَى يَدِ وَكِيلِهِ، لأَِنَّ الأَْخْذَ وَقَعَ لِنَفْسِهِ فَصَارَ غَاصِبًا، وَالْغَاصِبُ لاَ يَبْرَأُ إِلاَّ بِالرَّدِّ إِلَى الْمَالِكِ أَوْ إِلَى وَكِيلِهِ.
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 406 والوسيط 4 / 291، والفتاوى الهندية 2 / 291، والجوهرة النيرة 2 / 64 ط مكتبة إمدادية باكستان، والتاج والإكليل 6 / 75، والمغني لابن قدامة 5 / 712، والذخيرة 9 / 104 - 105.

(42/110)


وَقَال زُفَرُ: إِذَا رَدَّهَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ بَرِئَ لأَِنَّهُ قَدْ رَدَّهَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا إِذَا أَخَذَهَا لِيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا ثُمَّ رَدَّهَا إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ (1)
وَإِذَا أَخَذَ الْمُلْتَقِطُ اللُّقَطَةَ بِنِيَّةِ الأَْمَانَةِ ثُمَّ طَرَأَ لَهُ قَصْدُ الْخِيَانَةِ، فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ لاَ يَضْمَنُ اللُّقَطَةَ إِنْ تَلِفَتْ بِلاَ تَفْرِيطٍ فِي الْحَوْل، كَمَا أَنَّ الْمُودَعَ لاَ يُضْمَنُ بِنِيَّةِ الْخِيَانَةِ (2) .
وَدَلَّل ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ نِيَّةَ الاِغْتِيَال فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُجَرَّدَةٌ عَنْ مُصَاحَبَةِ فِعْلٍ، إِذْ غَايَةُ الأَْمْرِ أَنَّ النِّيَّةَ تَبَدَّلَتْ مَعَ بَقَاءِ الْيَدِ (3) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الْمُقَابِل لِلأَْصَحِّ، وَابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَا ارْتَضَاهُ
__________
(1) الجوهرة النيرة 2 / 46، والفتاوى الهندية 2 / 292، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 112، وروضة الطالبين 5 / 406، وكشاف القناع 4 / 213، والمغني 5 / 706 - 707،714
(2) مطالب أولي النهى 4 / 223، وروضة الطالبين 5 / 407، وحاشية الدسوقي 4 / 121.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 121، ومواهب الجليل 6 / 76.

(42/111)


الْحَطَّابُ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ يَضْمَنُ لأَِنَّ نِيَّةَ الاِغْتِيَال قَدْ صَاحَبَهَا فِعْلٌ وَهُوَ الْكَفُّ عَنِ التَّعْرِيفِ (1)
وَالْمَسْأَلَةُ لاَ تَتَأَتَّى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لأَِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ لِبَرَاءَةِ الْمُلْتَقِطِ مِنَ الضَّمَانِ الإِْشْهَادَ بِأَنَّهُ أَخَذَ اللُّقَطَةَ لِحِفْظِهَا وَرَدِّهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَتَبَدُّل نِيَّةِ الْمُلْتَقِطِ عِنْدَئِذٍ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ، حَتَّى مَنْ أَخَذَ اللُّقَطَةَ وَلَمْ يُشْهِدْ - فِيمَا إِذَا أَمْكَنَهُ الإِْشْهَادُ - وَقَال أَخَذْتُهَا لِلرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ، وَكَذَّبَهُ الْمَالِكُ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى (2) .
أَمَّا عَنْ أَخْذِ اللُّقَطَةِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ فَقَدْ قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَخَذَ اللُّقَطَةَ لاَ بِنِيَّةِ الْحِفْظِ وَلاَ بِنِيَّةِ اغْتِيَالِهَا فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُ إِذَا رَدَّهَا بِالْقُرْبِ، وَيَضْمَنُ إِذَا رَدَّهَا بَعْدَ الْبُعْدِ (3) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ مَنْ يَأْخُذُ اللُّقَطَةَ وَلاَ يَقْصِدُ خِيَانَةً وَلاَ أَمَانَةً، أَوْ يَقْصِدُ أَحَدَهُمَا وَيَنْسَاهُ فَلاَ تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ وَلَهُ التَّمَلُّكُ بِشَرْطِهِ (4) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ تُتَصَوَّرُ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَهُمْ، إِذْ
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 407، وحاشية الدسوقي 4 / 121
(2) الفتاوى الهندية 2 / 291، والجوهرة النيرة 2 / 46.
(3) مواهب الجليل 6 / 77.
(4) روضة الطالبين 5 / 407.

(42/111)


إِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ لِبَرَاءَةِ الْمُلْتَقِطِ مِنَ الضَّمَانِ الإِْشْهَادَ عَلَى أَنَّهُ أَخَذَ اللُّقَطَةَ لِحِفْظِهَا وَرَدِّهَا عَلَى صَاحِبِهَا، أَوْ تَصَادَقَ الْمَالِكُ وَالْمُلْتَقِطُ عَلَى أَنَّهُ أَخَذَهَا لِلْمَالِكِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ يَضْمَنُ الْمُلْتَقِطُ اللُّقَطَةَ عِنْدَ الاِخْتِلاَفِ (1) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 291، والجوهرة النيرة 2 / 46، والبحر الرائق 5 / 162.

(42/112)