الموسوعة
الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة فرائض الصلاة وسننها
1 - النية: وهي شرط أو ركن.
قال الله تعالى: {وما أُمروا إِلاَّ ليعبدواْ الله مُخلِصين له الدين} (1).
وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّما الأعمال
بالنيات، وإِنّما لكلّ امرئٍ ما نوى ... " (2).
هل يتلفظ بها؟
قال شيخنا في "صفة الصلاة" (ص86) (باب التكبير): "ثمَّ كان - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستفتح الصلاة بقوله "الله أكبر" (3) وقال في
التعليق: "وفي الحديث إِشارة إِلى أنَّه لم يكن يستفتحها بنحو قولهم: "نويت
أن أصلِّي" إلخ بل هذا من البدع اتفاقاً، وإِنما اختلفوا في أنّها حسنة أو
سيئة، ونحن نقول: إِنَّ كلّ بدعة في العبادة ضلالة، لعموم قوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وكلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النّار"".
2 - تكبيرة الإِحرام (4):
وهي ركن؛ لحديث عليّ -رضي الله عنه- قال:
__________
(1) البينة: 5
(2) أخرجه البخاري: 1، ومسلم: 1907، وتقدم.
(3) أخرجه مسلم تحت: 771 بلفظ: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إِذا استفتح الصلاة كبّر ثمَّ قال: "وجهت وجهي" ... ".
(4) قال الحافظ في "الفتح" (2/ 217): "تكبيرة الإِحرام رُكن عند الجمهور،
وقيل شرط، وهو عند الحنفية، ووجه عند الشافعية،، قيل: سُنّة، قال ابن
المنذر: لم يقُل به أحد غير الزهري، ونقلَه غيره عن سعيد بن المسيب
والأوزاعي ومالك، ولم يثبت عن أحد منهم تصريحاً، وإِنما قالوا فيمن أدرك
الإمام راكعاً تجزئة تكبيرة الركوع. =
(2/5)
"مفتاح الصلاة الطُّهور، وتحريمها التكبير،
وتحليلها التسليم" (1).
وفي حديث المسيء صلاته: " ... إِنه لا تتمّ صلاةٌ لأحدٍ من الناس حتى
يتوضّأ؛ فيضع الوضوء مواضعه ثمَّ يقول: الله أكبر" (2).
وفي حديث أبي حميد الساعدي -رضي الله عنه-: "كان رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا قام إِلى الصلاة اعتدلَ قائماً، ورفع
يديه حتى يحاذي بهما مَنكِبيه، فإِذا أراد أن يركع؛ رفع يديه حتى يحاذي
بهما منكبيه، ثمَّ قال: الله أكبر ... " (3).
3 - رفْع اليدين:
قد ثبت الرفع في جميع التكبيرات، ولكن هناك تكبيرات التزم النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع اليدين فيها وهناك تكبيرات لم يلتزم بها.
فمن الحالات التي ورد التزام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فيها بالرفع عند التكبير:
1 - تكبيرة الإحرام.
2 - حين الركوع.
__________
= نعم نقَله الكرخي من الحنفية عن إِبراهيم بن عليّة وأبي بكر الأصمّ
ومخالفتهما للجمهور كثيرة".
(1) أخرجه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وهو مخرّج في
"الإِرواء" (301).
(2) أخرجه الطبراني بإِسناد صحيح عن "صفة الصلاة" (ص66).
(3) حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الإِرواء" (2/ 14)، و"المشكاة" (802)، وانظر
"الفتح" (2/ 217).
(2/6)
3 - حين الرفع من الركوع.
فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "رأيت رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا قام في الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو
مَنكِبيه، وكان يفعل ذلك حين يُكبِّر للرّكوع، ويفعل ذلك إِذا رفع رأسه من
الركوع ويقول: سمع الله لمن حمده، ولا يفعل ذلك في السجود" (1)،
ولحديث أبي قِلابة: "أنَّه رأى مالك بن الحويرث إِذا صلّى كبَّر ورفع يديه،
وإِذا أراد أن يركع رفع يديه، وإِذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه، وحدَّث
أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع هكذا" (2).
4 - إِذا قام من الركعتين إِلى الثالثة، لِما حدّثه عبيد الله عن نافع
"أنَّ ابن عمر كان إِذا دخل في الصلاة كبّر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه،
وإذا قال سمع الله لمن حمده رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه. ورفع
ذلك ابن عمر إِلى نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (3).
وسألت شيخنا -حفظه الله تعالى- عن هذه الحالة، فقال: "عندي تردّد في التزام
الرفع هنا، وأميل إِلى الالتزام؛ لأنَّه من رواية ابن عمر -رضي الله عنهما-
الذي روى الرفع عند الركوع والرفع منه".
كما قد ثبت الرفع في التكبيرات الأخرى أيضاً.
__________
(1) أخرجه البخاري: 736، ومسلم: 390
(2) أخرجه البخاري: 737، ومسلم: 391
(3) أخرجه البخاري: 739، ومسلم: 390
(2/7)
قال شيخنا في "تمام المنة" (172، 173): "قد
ثَبت الرفع في التكبيرات الأخرى أيضاً، أمّا الرفع عند الهوي إلى السجود
والرفع منه، ففيه أحاديث كثيرة عن عشرة من الصحابة، قد خرَّجْتها في
"التعليقات الجياد"، منها:
عن مالك بن الحويرث " أنَّه رأى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - رفَع يديه في صلاته إِذا ركع، وإذا رفَع رأسه من الركوع، وإِذا
سجد، وإِذا رفَع رأسه من السجود، حتى يحاذي بهما فروع أذنيه"، أخرجه
النسائي وأحمد وابن حزم بسند صحيح على شرط مسلم، وأخرجه أبو عوانة في
"صحيحه" كما في "الفتح" للحافظ، ثمَّ قال: "وهو أصحّ ما وقفْتُ عليه من
الأحاديث في الرفع في السجود".
وأمّا الرفع من التكبيرات الأخرى، ففيه عدّة أحاديث أنَّ النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يرفع يديه عند كل تكبيرة.
ولا تعارُض بين هذه الأحاديث؛ وبين حديث ابن عمر المتقدّم في الكتاب بلفظ:
" ... ولا يرفعهما بين السجدتين"، لأنَّه نافٍ، وهذه مثبتة، والمثبت مقدّم
على النافي كما تقرر في علم الأصول.
وقد ثبت الرفع بين السجدتين عن جماعة من السلف منهم أنس -رضي الله عنه- بل
منهم ابن عمر نفسه، فقد روى ابن حزم من طريق نافع عنه؛ "أنَّه كان يرفع
يديه إِذا سجد وبين الركعتين". وإِسناده قوي.
وروى البخاري في جزء "رفع اليدين" (ص 7) من طريق سالم بن عبد الله أنَّ
أباه كان إِذا رفع رأسه من السجود، وإذا أراد أن يقوم رفع يديه. وسنده صحيح
على شرط البخاري في "الصحيح".
(2/8)
وعَمِل بهذه السنّة الإِمام أحمد بن حنبل،
كما رواه الأثرم، ورُوي عن الإِمام الشافعي القول به، وهو مذهب ابن حزم،
فراجع "المحلّى"".
4 - وضْع اليدين على الصدر:
للعلماء في وضْع اليدين عند القيام الأوّل أقوال عديدة، وقد ثبَت عن
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه وضع يديه على صدره.
وذكَر شيخنا الأدلّة في "صفة الصلاة" (ص 88) فقال: و"كان يضع اليُمنى على
ظهر كفّه اليُسرى والرسغ (1) والساعد" (2).
وسألتُ شيخنا -حفظه الله تعالى-: "هل ترون وضْع اليمنى على ظهر كفّه اليسرى
والرسغ والساعد واجباً أم سنّة؟ فقال: "الوضع مطلقاً واجب، ولكن على
التفصيل المذكور سنّة".
و"أمر بذلك أصحابه" (3)، و"كان -أحياناً- يقبض باليمنى على اليسرى" (4).
وفي الحديث: "إِنَّا معشر الأنبياء؛ أُمرنا بتعجيل فِطرنا، وتأخير سُحورنا،
__________
(1) الرسغ: مَفصل بين الساعد والكف، والساعد هو الذراع.
(2) سيأتي تخريجه.
(3) أخرجه مالك، وابن أبي شيبة، كما في "الفتح" وانظر "مختصر البخاري" (1/
283)، وأبو عوانة.
(4) أخرجه النسائي والدارقطني بسند صحيح، وفي هذا الحديث دليل على أنّ
السُّنّة القبض، وفي الحديث الأول الوضع، فكُلٌّ سُنّة، وأمّا الجمع بين
الوضع والقبض فبدعة، عن "الصفة" (ص 88) بحذف يسير.
(2/9)
ووضْع أيماننا على شمائلنا" (1).
قلت لشيخنا: "أتفيد كلمة (أُمرنا) هنا الوجوب"؟
فقال -حفظه الله تعالى-: "نعم تفيد الوجوب، وهناك قرينة أُخرى أقوى من هذه،
وهو حديث سهل بن سعد الساعدي؛ كما في صحيح البخاري، ومن طريق مالك في
"موطئه" بإِسناده العالي عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: "كانوا يؤمَرون
بوضْع اليمنى على اليُسرى في الصلاة " ينمي (2) ذلك إِلى النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -".
و"كان يضعهما على الصدر" (3). وأخبرني شيخنا أنَّه يرى سنيّة ذلك.
__________
(1) أخرجه الطيالسي وغيره، وصححه ابن حبّان. قال شيخنا في "أحكام الجنائز"
(ص 49): وسنده صحيح على شرط مسلم.
(2) أي ينسبه إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(3) أخرجه أبو داود وابن خزيمة في "صحيحه"، وأحمد وأبو الشيخ في "تاريخ
أصبهان" (ص 125)، وحسَّن أحد أسانيده الترمذي، ومعناه في "المؤطأ" والبخاري
في "صحيحه" عند التأمّل، و"أحكام الجنائز" (ص 150).
قال شيخنا في "صفة الصلاة" (ص 88): "وضْعهما على الصدر هو الذي ثبت في
السُّنة، وخلافه إِمّا ضعيف، أو لا أصل له، وقد عَمِل بهذه السنة الإِمام
إِسحاق بن راهويه، فقال المروزي في "المسائل" (ص222): "كان إِسحاق يوتر بنا
... ويرفع يديه في القنوت، ويقنت قبل الركوع، ويضع يديه على ثدييه أو تحت
الثديين، ومثله قول القاضي عياض المالكي في "مستحبات الصلاة" من كتابه
"الإِعلام" (ص 15 - الطبعة الثالثة- الرباط): "ووضع اليمنى على ظاهر اليسرى
عند النحر. [والنحر أعلى الصدر].
وقريب منه ما روى عبد الله بن أحمد في "مسائله" (ص 62) قال: "رأيت أبي إذا
صلّى وضع يديه إِحداهما على الأخرى فوق السُّرة". وانظر "إِرواء الغليل"
(353).
(2/10)
و"كان ينهى عن الاختصار (1) في الصلاة"؟
(2).
كيفية رفْع اليدين:
كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفع يديه ممدودة
الأصابع، [لا يُفرِّج بينهما ولا يضمّهما] " (3). ويجعل كفيه حذو منكبيه،
لحديث ابن عمر المتقدّم: "رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إِذا قام في الصلاة، رفَع يديه حتى يكونا حذو مَنكبيه".
وأحياناً يُبالغ في رفعهما حتى يحاذي بهما أطراف أُذُنيه (4).
وتقدّم أتمّ منه، وفي رواية: "حتى يحاذي بهما فروع أذنيه" (5).
وقت الرّفع:
"كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفع يديه تارة مع
التكبير، وتارة بعد التكبير، وتارة
__________
(1) هو أن يضع يده على خاصرته؛ كما فسّرَه بعض الرواة.
(2) أخرجه البخاري، ومسلم، وهو مخرج في "الإرواء" (374).
(3) أخرجه أبو داود وابن خزيمة، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. عن "صفة
الصلاة" (87).
(4) لحديث مالك بن الحويرث "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان إِذا كبّر رفع يديه حتى يحاذى بهما أُذنيه، وإذا ركع رفع
يديه حتى يحاذى بهما أُذنيه، وإذا رفع رأسه من الركوع، فقال: "سمع الله لمن
حمده"، فعل مثل ذلك".
(5) فروع أُذنيه: أي أعاليهما، وفَرع كل شيء أعلاه. "النهاية".
(2/11)
قبله" (1).
5 - دعاء الاستفتاح:
ويكون بعد تكبيرة الإِحرام وقبل القراءة.
قال شيخنا في "تلخيص الصِّفة" (ص 16): "وقد ثبَت الأمر به فينبغي المحافظة
عليه".
وقد راجعتُ شيخنا -حفظه الله تعالى- فقلت له: هل قولكم: ثبت الأمر به؛ ضرْب
من ضروب التعبير اللغوي أَم ماذا؟
فقال -حفظه الله تعالى-: "إِني لم أستعمل لفظ الوجوب لسبب؛ وهو أَنِّي لم
أستحضر أنَّ أحداً من أهل العلم قال بالوجوب، فإِن وُجد فهو بمعنى الوجوب،
وإن لم يقُل به أحد من العلماء فلا نتجرّأ على القول بما لم يقولوا".
وقد ثبت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدعية عديدة في
هذا الموطن، فيحسن بالمصلى أن يقرأ تارةً بهذا وتارة بهذا، وإليك هذه
الصيّغ (2).
1 - اللهمّ باعِدْ بيني وبين خطاياي؛ كما باعدْتَ بين المشرق والمغرب،
اللهم نقِّني من خطاياي كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدنس (3)، اللهم
اغسِلني
__________
(1) انظر "صحيح البخاري" (738، 739)، و"سنن أبي داود"، و"صفة الصلاة" (87)
وانظر -إِن شئت- "تمام المنّة" (173) للمزيد من الفائدة.
(2) نقلْتُها وتخريجاتها من كتاب "صفة الصلاة" (91 - 95) بتصرُّف.
(3) الدنس: الوسخ، انظر "النهاية".
(2/12)
من خطاياي بالماء والثلج والبَرد"، وكان
يقوله في الفرض (1).
2 - وجَّهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً (2) [مسلماً] وما أنا من
المشركين، إِنَّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين، لا شريك له
وبذلك أُمِرت وأنا أوّل المسلمين (3)، اللهّم أنت الملِك، لا إِله إلاَّ
أنت، [سبحانك وبحمدك]، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمْتُ نفسي، واعترفْتُ بذنبي،
فاغفر لي ذنبي جميعاً؛ إنَّه لا يغفر الذنوب إلاَّ أنت، واهدني لأحسن
الأخلاق؛ لا يهدي لأحسنها إلاَّ أنت، واصرف عنّي سيئها؛ لا يصرف عنّي سيئها
إلاَّ أنت، لبّيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إِليك (4)
[والمهدي من هديت]، أنا بك وإليك. [لا منجا ولا ملجأ منك إلاَّ إِليك]،
__________
(1) أخرجه البخاري: 744، ومسلم: 598
(2) الحنيف: هو المائل إِلى الإِسلام، الثابت عليه، والحنيف عند العرب: من
كان على دين إِبراهيم عليه السلام، وأصل الحَنَف: الميل، "النهاية".
(3) قال شيخنا في التعليق: "هكذا في أكثر الروايات، وفي بعضها: "وأنا من
المسلمين"، والظاهر أنه من تصرُّف بعض الرواة، وقد جاء ما يدّل على ذلك،
فعلى المصلّي أن يقول: "وأنا أوّل المسلمين"، ولا حرج عليه في ذلك؛ خلافاً
لما يزعم البعض، توهُّماً منه أن المعنى: "إِنّي أوّل شخص اتصف بذلك، بعد
أن كان الناس بمعزل عنه"، وليس كذلك، بل معناه: بيان المسارعة في الامتثال
لما أُمر به، ونظيره {قُلْ إِنْ كان للرحمن ولدٌ فأنا أولُ العابدين}، وقال
موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وأنا أولُ المؤمنين}.
(4) قال شيخنا في التعليق: "أي لا ينسب الشر إِلى الله تعالى، لأنه ليس في
فِعْله تعالى شر، بل أفعاله عزّ وجلّ كلها خير؛ لأنها دائرة بين العدل
والفضل والحكمة، وهو كلّه خير لا شر فيه، والشر إِنما صار شرّاً لانقطاع
نسبته وإضافته إِليه تعالى". ثمَّ ذكَر كلاماً مفيداً لابن القيم -رحمه
الله تعالى-".
(2/13)
تباركتَ (1) وتعاليتَ، أستغفرك وأتوب
إِليك". وكان يقوله في الفرض والنفل (2).
3 - "سبحانك، اللهمّ وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جَدُّك، ولا إِله غيرك"
(3).
4 - " الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بُكرة (4)
وأصيلاً" (5). استفتح به رجل من الصحابة فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "عجبْتُ لها! فُتِحت لها أبواب السماء" (6).
5 - "الحمد لله حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه"؛ استفتح به رجل آخر، فقال
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لقد رأيت اثني عَشَر مَلَكاً
يبتدرونها (7) أيهم يرفعها" (8).
6 - "اللهمّ لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد، أنت
قيِّمُ السماوات والأرض ومن فيهنّ، [ولك الحمد، أنت مَلِك
__________
(1) أصله البركة، تطلق على الدوام والثبوت وقيل للزيادة والكثرة.
(2) أخرجه مسلم: 771، وأبو عوانة، وأبو داود، وغيرهم.
(3) أخرجه أبو داود، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
(4) البُكرة: أول النهار إِلى طلوع الشمس. "الوسيط". وفي "المحيط":
"البُكرة: الغُدوة، وهي البكرة، أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس".
(5) الأصيل: الوقت بعد العصر إِلى المغرب. "مختار الصحاح". وفي "الوسيط":
"الأصيل: الوقت حين تصفَر الشمس لمغربها".
(6) أخرجه مسلم: 601، وغيره.
(7) يعجلون ويستبقون. انظر "المحيط".
(8) أخرجه مسلم: 600، وأبو عوانة.
(2/14)
السماوات والأرض ومن فيهنّ]، ولك الحمد،
أنت الحق، ووعدك حقّ، وقولك حقّ، ولقاؤك حقّ، والجنّة حقّ، والنار حقّ،
والساعة حقّ، والنبيّون حقّ، ومحمّد حقّ، اللهمّ لك أسلمتُ، وعليك توكّلتُ،
وبك آمنْتُ، وإِليك أنَبْتُ، وبك خاصمْتُ، وإليك حاكمْتُ، [أنت ربنا وإِليك
المصير، فاغفِر لي ما قدَّمْت، وما أخّرتُ، وما أسررت وما أعلنْت]، [وما
أنت أعلم به مني]، أنت المقدِّم وأنت المؤخر، [أنت إِلهي]، لا إله إلاَّ
أنت، [ولا حول ولا قوة إِلا بك] " (1).
وكان يقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الليل كالأنواع
الآتية (2):
7 - "اللهمّ ربّ جبرائيل وميكائيل وإِسرافيل فاطر السماوات والأرض! عالم
الغيب والشهادة! أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما
اختُلف فيه من الحقّ بإِذنك، إِنك تهدي من تشاء إِلى صراط مستقيم (3) "
(4).
8 - كان يكبر عشراً، ويحمد عشراً، ويسبح عشراً، ويُهلّل عشراً، ويستغفر
عشراً، ويقول: "اللهمّ اغفر لي واهدني وارزقني [وعافني] " عشراً،
__________
(1) أخرجه البخاري: 7499، ومسلم: 769، وغيرهما.
(2) قال شيخنا في التعليق على "الصفة": "ولا ينفي ذلك مشروعيتها في الفرائض
أيضاً كما لا يخفى؛ إلاَّ الإِمام كي لا يطيل على المؤتمّين".
وقال -شفاه الله وعافاه- في "تمام المنّة" (ص 175): في مثل هذا: "وإذا كان
ذلك مشروعاً في الفريضة؛ ففي النافلة من باب أولى كما لا يخفى على أولي
النهى".
(3) هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، ونقَل الإِمام ابن جرير إِجماع
الأمّة على ذلك.
(4) أخرجه مسلم: 770، وأبو عوانة.
(2/15)
ويقول: "اللهمّ إِني أعوذ بك من الضيق يوم
الحساب" عشراً (1).
9 - "الله أكبر [ثلاثاً] (ذو الملكوت والجبروت (2)) والكبرياء والعظمة (3)
" (4).
6 - الاستعاذة:
لقول الله: {فإِذا قرأْتَ القرآنَ فاستعِذ بالله من الشيطان الرجيم} (5).
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (مسألة 363): "وفرض على كلّ مصلّ أن
يقول إِذا قرأ: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". لا بُدّ له في كلّ ركعةٍ
من ذلك؛ لقول الله تعالى: {فإِذا قرأْتَ القرآن فاستعذ بالله من الشيطان
الرجيم} ..... ".
وقال رادّاً على من لا يقول بفرضيته: "ومن الخطأ أن يأمر الله تعالى بأمر؛
ثمَّ يقول قائل بغير برهانٍ من قرآن ولا سنّة: هذا الأمر ليس فرضاً، لا
سيّما أمرُهُ تعالى بالدعاء في أن يعيذنا من كيد الشيطان؛ فهذا أمْر متيقّن
أنَّه فرض؛ لأنَّ اجتناب الشيطان والفرار منه، وطلَب النجاة منه؛ لا يختلف
اثنان في أنَّه
__________
(1) أخرجه أحمد، وابن شيبة وأبو داود والطبراني في "الأوسط" بسند صحيح وآخر
حسن.
(2) اسمان مبنيان مِن الملك والجبر.
(3) العظمة والملك: قيل هي عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود ولا يُوصف به
إلاَّ الله تعالى. "النهاية".
(4) أخرجه الطيالسي، وأبو داود بسند صحيح.
(5) النحل: 98
(2/16)
فرض، ثمَّ وضع الله تعالى ذلك علينا عند
قراءة القرآن".
وقال: "وكان ابن سيرين يستعيذ في كلّ ركعة".
وعن ابن جريج عن عطاء قال: "الاستعاذة واجبة لِكُلِّ قراءة في الصلاة
وغيرها ... ". قال ابن جريج: فقلت له: من أجل {فإِذا قرأْتَ القرآن فاستعِذ
بالله من الشيطان الرجيم} قال: نعم".
وقال شيخنا في "تلخيص صفة الصلاة" (ص 17): "ثمَّ يستعيذ بالله تعالى وجوباً
ويأثم بتركه.
قال: والسنّة أن يقول تارة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه
ونفثه (1) وتارة يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان ... إِلخ".
وجاء في "الاختيارات" (ص 50): "ويستحبّ التعوّذ أوّل كلّ قراءة".
والراجح قول ابن حزم -رحمه الله- والله أعلم.
الإِسرار بها (2):
ويسنّ الإِتيان بها سرّاً: قال في "المغني": "ويُسِرُّ بالاستعاذة ولا يجهر
بها، لا أعلم فيها خلافاً". انتهى.
لكن الشافعي يرى التخيير بين الجهر بها والإسرار في الصلاة الجهريّة.
مشروعية الاستعاذة في كلّ ركعة:
يسرع الاستعاذة في كلّ ركعة؛ لعموم قوله تعالى: {فإِذا قرأْتَ القرآنَ
__________
(1) هو الشعر المذموم، وانظر كتابي "تأمّلات قرآنية" في شرح معنى
الاستعاذة.
(2) انظر "فقه السنة" (1/ 148).
(2/17)
فاستعِذ بالله من الشيطان الرجيم}.
واستدلّ من استدلّ من العلماء على اقتصار الفاتحة في الركعة الأولى من حديث
أبي هريرة: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا
نهضَ من الركعة الثانية استفتح القراءة بـ "الحمد لله رب العالمين"، ولم
يسكت (1).
وذكر هذا الشيخ السيد سابق -حفظه الله تعالى- في "فقه السنّة"، وردّ عليه
شيخنا -حفظه الله تعالى- في "تمام المنّة" (ص 176) قائلاً: "السّنّة المشار
إِليها ليست صريحة فيما ذكَره المؤلف، لأنَّ قول أبي هريرة في حديثه
المذكور في الكتاب: "ولم يسكت"، ليس صريحاً في أنَّه أراد مطلق السكوت، بل
الظاهر أنَّه أراد سكوته السكتة المعهودة عنده، وهي التي فيها دعاء
الاستفتاح، وهي سكتة طويلة، فهي المنفية في حديثه هذا.
وأمّا سكتة التعوذ والبسملة؛ فلطيفة لا يحسُّ بها المؤتمُّ لاشتغاله بحركة
النهوض للركعة، وكأنّ الإِمامَ مسلماً -رحمه الله- أشار إِلى ما ذكَرنا مِن
أن السكتة المنفية في هذا الحديث؛ هي المثبتة في حديت أبي هريرة المتقدّم،
فإِنَّه ساق الحديث المشار إِليه، ثمَّ عقّبه بهذا، وكلاهما عن أبي هريرة،
والسند إِليه واحد، فأحدهما متمّم للآخر، حتى لكأنَّهما حديث واحد، وحينئذ
يظهر أنّ الحديث ليس على إِطلاقه، وعليه نرجّح مشروعية الاستعاذة في كلّ
ركعة لعموم قوله تعالى: {فإِذا قرأتَ القرآن فاسْتَعِذْ بالله}، وهو الأصحّ
في مذهب الشافعية، ورجّحه ابن حزم في "المحلّى"، والله أعلم".
__________
(1) أخرجه مسلم: 599
(2/18)
7 - القيام في
الفرض:
قال الله تعالى: {حافظوا على الصَلَوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين
(1)} (2).
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمران بن حُصين: "صَلِّ
قائماً" (3).
ولهذا كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوم في صلاته في الفرض
والتطوّع؛ ائتماراً بهذه الآية الكريمة (4).
وأمّا في الخوف جازت الصلاة على أي حال: رِجالاً أو رُكباناً: يعني مستقبلي
القبلة وغير مستقبليها (5) كما تقدّم.
أما في المرض فيصلّي حسب القدرة؛ قائماً أو قاعداً أو على جَنب، كما في
حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- المتقدّم قال: "كانت بي بواسيرُ فسألت
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة فقال: صَلِّ
قائماً، فإِن لم تستطع فقاعداً، فإِن لم تستطع فعلى جَنب" (6).
وصلّى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرضه جالساً (7).
__________
(1) أي: خاشعين ذليلين مستكينين بين يديه.
(2) البقرة: 238
(3) وسيأتي تخريجه في الحديث الآتي بعد سطور -إِن شاء الله تعالى-.
(4) انظر للمزيد من الفائدة كتاب "صفة الصلاة" (ص 77).
(5) انظر "تفسير ابن كثير".
(6) أخرجه البخاري: 1117
(7) أخرجه الترمذي وصححه أحمد كما في "صفة الصلاة" (ص 77).
(2/19)
وسألت شيخنا -شفاه الله تعالى- عمّن يفضّل
التربّع في القعود فقال: "أولاً يختار هيئة من هيئات الصلاة الواردة في
السنّة، مثلاً كانت الصلاة افتراشية، لكنه قد يرى التورك أسهل فيتورّك، أو
كانت الصلاة تورّكية لكنّه يستطيع الافتراش فيؤثره، وربّما لم يستطع هذا أو
ذاك، فحينئذٍ يأتي بالتربّع، ولعلّ التربّع كالافتراش والتورّك، فهنا نقول
له اجلس على النحو الذي يريحك".
ثمَّ رأيت هذا متضَّمّناً في صحيح البخاري (827) فعن عبد الله بن عبد الله
ابن عمر: "أنه كان يرى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يتربّع في الصلاة
إِذا جلس، ففعلته وأنا يومئذ حديث السنّ، فنهاني عبد الله بن عمر وقال:
إِنما سُنّة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني اليسرى، فقلت: إِنك تفعل
ذلك، فقال: إِنَّ رجليَّ لا تحملاني".
وإذا كان في السفينة ونحوها وخشي الغرق، فله ألا يصلّي فيها قائماً فقد
سئُل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في السفينة، فقال:
"صلِّ فيها قائماً؛ إلاَّ أن تخاف الغرق" (1).
ويجوز الاعتماد على عمود أو نحوه للتمكّن من القيام لما ثبت أن النبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "لما أسنَّ وكبر؛ اتَخَذَ عموداً في
مُصلاه يعتمد عليه" (2).
أمّا في صلاة الليل: فقد "كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي
ليلاً طويلاً قائماً، وليلاً طويلاً
__________
(1) أخرجه البزار والدارقطني وعبد الغنيّ المقدسي في السنن، وصححه الحاكم
ووافقه الذهبي، كذا في "صفة الصلاة" (ص 79).
(2) أخرجه أبو داود وغيره، وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا فى "الإِرواء" (383).
(2/20)
قاعداً، وكان إِذا قرأ قائماً ركعَ قائماً،
وإذا قرأ قاعداً ركعَ قاعداً" (1).
وقد ثبت أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "كان يُصلّي
جالساً فيقرأ وهو جالس، فإِذا بقي من قراءته نحْوٌ من ثلاثين أو أربعين
آية، قام فقرأها وهو قائم، ثمَّ يركع، ثمَّ سجد يفعل في الركعة الثانية
مِثْل ذلك" (2).
أمّا في النافلة، فقد رُخّص للمصلّي أن يُصلّي قاعداً مع قدرته على القيام،
بيْد أنَّ له نصف أجر القائم، كما في حديث عمران بن حُصين قال: "سألت
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صلاة الرجل وهو قاعد
فقال: من صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلّى قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن
صلى نائماً فله نصف أجر القاعد" (3).
قال أبو عبد الله -يعني البخاري-: نائماً عندي: مضطجعاً ها هنا (4).
أجر المريض والمسافر أجر الصحيح المقيم:
عن أبي بردة قال: سمعت أبا موسى مراراً يقول: قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا مرض العبد أو سافر، كُتب له مِثلُ ما
كان يعمل مقيماً صحيحاً" (5).
__________
(1) أخرجه مسلم: 730
(2) أخرجه البخاري: 1119، ومسلم: 731
(3) أخرجه البخاري: 1116، ومسلم: 735 من حديث عبد الله بن عمرو قال:
حُدِّثت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صلاة
الرجل قاعداً نصف الصلاة ... ".
(4) ويؤيد اللفظ الآخر المتقدم وقد خاطب فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذلك عمران بن حصين -رضي الله عنه- فقال: " ... فإنْ
لم تستطع فعلى جنب". وفي "القاموس المحيط": ضجَع: وضع جنبه بالأرض.
(5) أخرجه البخاري: 2996، وغيره وللمزيد من الفوائد الحديثية الهامّة =
(2/21)
8 - قراءة الفاتحة في كلّ ركعة -وهي ركن-.
لحديث عبادة بن الصامت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (1).
وفي لفظ: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ الرجل فيها بفاتحة الكتاب" (2).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن فهي خِداج
(3) ثلاثاً غير تمام" (4).
وأمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المسيء صلاته" أن يقرأ بها
في صلاته (5).
وعن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: "أُمِرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما
تيسَّر" (6).
وقد تقدّم حديث المسيء صلاته: وفيه "وافعل ذلك في صلاتك
__________
= انظر -إِن شئت- "الإِرواء" (560).
(1) أخرجه البخاري: 756، ومسلم: 394
(2) أخرجه الدارقطني وصححه، وابن حبّان في "صحيحه" وانظر "الإرواء" (2/
10).
(3) أى: ناقصة، يُقال: "خدجت الناقة إِذا ألقت ولدها قبل أوانه"، وانظر
"النهاية".
(4) أخرجه مسلم: 395، وغيره.
(5) أخرجه البخاري في "جزء القراءة خلف الإمام" بسند صحيح، وانظر "صفة
الصلاة" (ص 79).
(6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (732)، وقوّى الحافظ إِسناده في
"الفتح" (2/ 243).
(2/22)
كلّها" (1). وفي رواية: "في كلّ ركعة" (2).
فضائلها:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "قال الله تعالى: قَسَمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين،
ولعبدي ما سأل، فإِذا قال العبد: الحمد لله ربِّ العالمين، قال الله تعالى:
حَمِدني عبدي، وإِذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي،
وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجَّدني عبدي (وقال مرّة: فوَّض إِليَّ
عبدي) فإِذا قال: إِيَّاك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي
ولعبدي ما سأل، فإِذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمتَ عليهم
غيرِ المغضوب عليهم ولا الضَّالِّين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل" (3).
وكان يقول: "ما أنَزل الله عز وجلّ في التوراة ولا في الإِنجيل مثل أمّ
القرآن، وهي السبع المثاني (4) [والقرآن العظيم الذي أوتيته] " (5).
__________
(1) أخرجه البخاري: 793، ومسلم: 397
(2) أخرجه أحمد بسند جيد وانظر "صفة الصلاة" (ص 114).
(3) مسلم: 395
(4) قال الباجي: "يريد قوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآنَ
العظيم} [الحجر: 87] وسُمّيت السبع؛ لأنها سبع آيات، والمثاني؛ لأنها
تُثنّى في كل ركعة (أي: تعاد)، وإنما قيل لها: (القرآن العظيم) على معنى
التخصيص لها بهذا الاسم، وإنْ كان كل شيء من القرآن قرآناً عظيماً، كما
يقال في الكعبة: "بيت الله"، وإن كانت البيوت كلها لله، ولكن على سبيل
التخصيص والتعظيم له".
(5) خرجه النسائي والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي، وانظر "صفة الصلاة" (ص
98).
(2/23)
هل يُجهر بالبسملة؟
عن أنس -رضي الله عنه-: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- وأبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب
العالمين" (1).
وقدّ بوّب له البخاري بقوله: (باب ما يقول بعد التكبير) وهو ممّا يدّل على
عدم التلفظ بالبسملة.
وكذلك بوّب النووي له بقوله: "باب حُجّة من قال: لا يجهر بالبسملة".
عن أنس أيضاً قال: "صليّت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله
الرحمن الرحيم" (2).
قال النووي في "شرح مسلم" (4/ 111): "ومذهب الشافعي -رحمه الله- وطوائف من
السلف والخلف أنَّ البسملة آية من الفاتحة وأنَّه يجهر بها حيث يجهر
بالفاتحة".
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى- في "الفتاوى" (22/ 274): "وأمّا
البسملة؛ فلا ريب أنَّه كان في الصحابة من يجهر بها، وفيهم من كان لا يجهر
بها، بل يقرؤها سرّاً، أو لا يقرؤها والذين كانوا يجهرون بها أكثرهم كان
يجهر بها تارة، ويُخافت بها أخرى، وهذا لأنَّ الذّكر قد تكون السنّة
المخافتة به، ويجهر به لمصلحة راجحة مِثْل تعليم المأمومين، فإِنَّه قد ثبت
في الصحيح "أنَّ ابن عباس قد جهر بالفاتحة على الجنازة، ليُعلّمهم أنَّها
سُنّة".
__________
(1) أخرجه البخاري: 743، ومسلم: 399
(2) أخرجه مسلم: 399
(2/24)
وقال (ص 274) أيضاً: "وثبت في "الصحيح" (1)
أنَّ عمر بن الخطاب كان يقول: "الله أكبر، سبحانك اللهمّ وبحمدك، وتبارك
اسمك وتعالى جدّك، ولا إِله غيرك" يجهر بذلك مرّات كثيرة. واتفق العلماء
على أنَّ الجهر بذلك ليس بسنّة راتبة؛ لكنْ جهر به للتعليم، ولذلك نقل عن
بعض الصحابة أنَّه كان يجهر أحياناً بالتعوذ، فإِذا كان من الصحابة من جهَر
بالاستفتاح والاستعاذة مع إِقرار الصحابة له على ذلك؛ فالجهر بالبسملة أولى
أن يكون كذلك، وأن يشرع الجهر بها أحياناً لمصلحة راجحة.
لكنْ لا نزاع بين أهل العلم بالحديث: أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجهر بالاستفتاح. ولا بالاستعاذة، بل قد ثبت في
الصحيح أنَّ أبا هريرة قال له: يا رسول الله! أرأيت سكوتك بين التكبير
والقراءة ماذا تقول؟ قال: "أقول: اللهم باعِدْ بيني وبين خطاياي، كما
باعَدْتَ بين المشرق والمغرب، اللهم نقِّني من خطاياي كما يُنقّى الثوب
الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياى بالثلج والماء والبرَد".
وفي "السنن" عنه أنَّه كان يستعيذ في الصلاة قبل القراءة، والجهر بالبسملة
أقوى من الجهر بالاستعاذة، لأنَّها آية من كتاب الله تعالى، وقد تنازع
العلماء في وجوبها، وإِن كانوا قد تنازعوا في وجوب الاستفتاح والاستعاذة،
وفي ذلك قولان في مذهب أحمد وغيره، لكن النزاع في ذلك أضعف من النزاع في
وجوب البسملة.
__________
(1) أخرجه مسلم: 399، وانظر "شرح النووي" (4/ 112) فإِن فيه فوائد حديثية
هامّة.
(2/25)
والقائلون بوجوبها من العلماء أفضل وأكثر،
لكن لم يثبت عن النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه كان
يجهر بها، وليس في "الصحاح" ولا في "السنن" حديث صحيح صريح بالجهر،
والأحاديث الصريحة بالجهر كلّها ضعيفة؛ بل موضوعة؛ ولهذا لمّا صنّف
الدارقطني مصنَّفاً في ذلك، قيل له: هل في ذلك شيء صحيح؟ فقال: أمّا عن
النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا، وأمّا عن الصحابة فمنه
صحيح، ومنه ضعيف.
ولو كان النّبيّ يجهر بها دائماً، لكان الصحابة ينقُلون ذلك، ولكان الخلفاء
يعلمون ذلك، ولما كان الناس يحتاجون أن يسألوا أنس بن مالك بعد انقضاء عصر
الخلفاء، ولما كان الخلفاء الراشدون ثمَّ خلفاء بني أميّة وبني العبّاس
كلهم متفقين على ترك الجهر، ولما كان أهل المدينة -وهم أعلم أهل المدائن
بسنّته- يُنكرون قراءتها بالكلية سرّاً وجهراً، والأحاديث الصحيحة تدل على
أنّها آية من كتاب الله، وليست من الفاتحة، ولا غيرها".
قال ابن القيّم -رحمه الله-: "وكان يجهر بـ "بسم الله الرحمن الرحيم" تارة،
ويُخفيها أكثر مما يجهر بها، ولا ريب أنه لم يكن يجهر بها دائماً في كل يوم
وليلة خمس مرات أبداً، حضَراً وسفَراً، ويخفي ذلك على خلفائه الرَّاشدين،
وعلى جمهور أصحابه، وأهل بلده في الأعصار الفاضلة، هذا من أمحل المحال حتى
يحتاج إِلى التشبُّث فيه بألفاظ مجملة، وأحاديث واهية، فصحيح تلك الأحاديث
غير صريح، وصريحُها غير صحيح، وهذا موضع يستدعي مجلّداً ضخماً" (1).
قال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "تمام المنّة" (169): "والحقّ أنَّه ليس
__________
(1) "زاد المعاد" (1/ 206)، تحقيق وتخريج وتعليق شعيب الأرنؤوط وعبد القادر
الأرنؤوط. جاء في التعليق (ص 206) على الكتاب المذكور "الثابت عنه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عدم =
(2/26)
في الجهر بالبسملة حديث صريح صحيح؛ بل صحّ
عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإسرار بها من حديث أنس، وقد
وَقَفْتُ له على عشرة طرُق ذكَرْتها في تخريج كتابي "صفة صلاة النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" أكثرها صحيحة الأسانيد، وفي بعض
ألفاظها التصريح بأنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يجهر
بها، وسندها صحيح على شرط مسلم، وهو مذهب جمهور الفقهاء، وأكثر أصحاب
الحديث. وهو الحقّ الذي لا ريب فيه".
هل البسملة آية من الفاتحة؟
قد اختُلف في ذلك، والراجح أنَّ النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قد عدّها آية، كما في
__________
= الجهر بها، فقد روى البخاري: (2/ 188) في "صفة الصلاة": باب ما يقول بعد
التكبير عن أنس أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا
بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين، وأخرجه الترمذي
(246) وعنده: "القراءة" بدل "الصلاة"، وزاد: "عثمان" وأخرجه مسلم (399) في
الصلاة: باب حُجّة من قال لا يجهر بالبسملة بلفظ: "صليتُ مع رسول الله وأبي
بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ورواه
أحمد (3/ 264) والطحاوي (1/ 119)، والدارقطني (119)، وقالوا فيه: فكانوا لا
يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. ورواه ابن حبان في "صحيحه" وزاد: ويجهرون
بالحمد لله رب العالمين، وفي لفظ للنسائي (2/ 135) وابن حبان: فلم أسمع
أحداَ منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وفي لفظ لأبي يعلى الموصلي في
"مسنده": فكانوا يستفتحون القراءة فيما يجهر به بالحمد لله رب العالمين،
وفي لفظ للطبراني في "معجمه" وأبي نعيم في "الحلية" وابن خزيمة في "صحيحه"
(498) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 119): وكانوا يُسرون ببسم الله
الرحمن الرحيم.
قال الزيلعي في "نصب الراية" (1/ 327): ورجال هذه الروايات كلهم ثقات مخرّج
لهم في الصحيح جمع".
(2/27)
الحديث الآتي:
عن أم سلمة ذكَرت أو كلمة غيرها، قراءة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بسم الله الرحمن الرحيم {الحمد لله رب العالمين*
الرحمن الرحيم* مالك يوم الدين} يقطع قراءته آية آية" (1).
من لا يستطيع حِفظ الفاتحة:
من لم يستِطع أن يأخذ شيئاً من القرآن، فليقل: "سبحان الله والحمد لله ولا
إِله إلاَّ الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله"؛ لحديث عبد الله
بن أبي أوفى قال: "جاء رجل إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فقال: إِنِّي لا أستطيع أن آخذ شيئاً من القرآن فعلِّمني ما
يجزئني فقال: قُل: سبحان الله والحمد لله ولا إِله إلاَّ الله والله أكبر
ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله" (2).
ولحديث رِفاعة بن رافع "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- علّم رجلاً الصلاة، فقال: "إِنْ كان معك قرآن فاقرأ، وإلاّ فاحمده
وكبِّره وهلِّله، ثمَّ اركع" (3).
ولكن لا بدّ من تعلّم الفاتحة وبذْل الجهد في ذلك، فإِن عَجز عن ذلك فلا
يُكلَّف إلاَّ وُسْعه. والله تعالى أعلم.
__________
(1) أخرجه أبو داود وعنه البيهقي والترمذي وغيرهم وهو حديث صحيح خرجه شيخنا
في "الإِرواء" (343).
(2) أخرجه أبو داود وغيره وصححه جمْع من العلماء وحسن شيخنا إسناده كما في
"الإِرواء" (303).
(3) أخرجه أبو داود وغيره، وانظر "تمام المنّة" (169).
(2/28)
هل تُقرأ الفاتحة خلف الإِمام؟
الأصل أنَّ الصلاة لا تصِحّ إلاَّ بقراءة سورة الفاتحة؛ في كل ركعة من
ركعات الفرض والنفل، إلاَّ أنّ المأموم تسقط عنه القراءة، ويجب عليه
الاستماع والإِنصات في الصلاة الجهرية؛ لقول الله تعالى: {وإِذا قُرئ
القرآن فاستمِعوا له وأنصِتوا لعلكم تُرحَمون} (1).
ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا كبّر الإمام
فكبِّروا وإذا قرأ فانصِتوا" (2) وعلى هذا يُحمَل حديث: "من كان له إِمام
فقراءة الإِمام له قراءة" (3)، أي: إِنّ قراءة الإِمام له قراءة في الصلاة
الجهرية، وأمّا الصلاة السرية فالقراءة فيها على المأموم، وكذا تجب عليه
القراءة في الصلاة الجهرية، إِذا تمكَّن من الاستماع للإِمام (4).
وجاء في "صفة الصلاة" (ص 98): "وكان قد أجاز للمُؤتمين أن يقرؤوا بها وراء
الإِمام في الصلاة الجهرية، حيث كان "في صلاة الفجر، فقرأ فثقُلت عليه
القراءة، فلمّا فَرغَ قال: "لعلكم تقرؤون خلف إِمامكم" قلنا: نعم هذًّا (5)
يا رسول الله! قال: (لا تفعلوا؛ إِلاَّ [أن يقرأ أحدكم] بفاتحة الكتاب،
فإِنَه لا
__________
(1) الأعراف: 204
(2) أخرجه مسلم: 404
(3) سيأتي تخريجه -إِن شاء الله-.
(4) عن "فقه السنة" (1/ 159) بتصرف يسير.
(5) الهذُّ: سرعة القراءة ومداركتها في سرعة واستعجال.
(2/29)
صلاة لمن لم يقرأ بها) " (1).
ثمَّ نهاهم عن القراءة كلِّها في الجهرية، وذلك حينما "انصرفَ من صلاةٍ جهر
فيها بالقراءة (وفي رواية: أنَّها صلاة الصبح)، فقال: "هل قرأ معي منكم أحد
آنفاً؟! "، فقال رجل: نعم؛ أنا يا رسول الله! فقال: إِنّي أقول: "ما لي
أُنازَع (2)؟!. [قال أبو هريرة:] فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فيما جَهَر فيه رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقراءة- حين سَمِعوا ذلك من رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، [وقرؤوا في أنفسهم سِرًّا فيما لا
يَجْهَرُ فيه الإِمام] " (3).
وجعَل الإِنصات لقراءة الإِمام من تمام الائتمام به فقال: "إِنّما جُعِل
الإِمام ليُؤتمَّ به، فإِذا كبَّر فكبِّروا" (4)
وفي رواية: "وإذا قَرَأ فأنصِتوا" (5) ". كما جعل الاستماع له مُغْنياً عن
القراءة وراءه فقال: "من كان له إِمام فقراءة الإمام له قراءة" (6)، هذا في
__________
(1) أخرجه البخاري: 756 في "جزئه"، وأبو داود، وأحمد، وحسًنه الترمذي
والدارقطنيّ.
(2) مالي أنازَع القرانظ أي: أُجاذَب في قراءته، كأنهم جَهَروا بالقراءة
خلفه فشغلوه.
(3) أخرجه مالك والحميدي والبخاري في "جزئه" وأبو داود وأحمد والمحاملي،
وحسّنه الترمذي، وصححه أبو حاتم الرازي وابن حبان وابن القيّم.
(4) أخرجه البخاري: 378، ومسلم: 411
(5) أخرجه مسلم: 404
(6) أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وابن ماجه والدارقطني والطحاوي، وفصّل شيخنا
فيه، وتتبّع طرقه وحسنه في "الإِرواء" (500).
(2/30)
الجهرية. انتهى.
قلت: "وكأنّ المأموم حين يقرأ الفاتحة في الجهرية يقول: الإمام لا يقرأ لي،
ولكنّه يقرأ لنفسه وكأنّه ليس في صلاة جماعة، ويتشوش بقراءة الإِمام فيرفع
صوته فيشوّش على من يليه".
أو يقول: "لا يجزئني إلاَّ أن أستمع للإمام وأقرأ"، فأين هو من قوله تعالى:
{وإِذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}.
ثمَّ ماذا يفعل الإمام حين ينتظر المأمومين أيقرأ الفاتحة سرّاً أم يسكت؟
والصلاة كلها ذكر، وما الدليل على هذا وذاك؟
أمّا من الناحية العملية، فلم أرَ إِماماً يترك مجالاً لقراءة المأموم
ولكنّه يحيّره ويُربكه فإِذا قرأ المأموم زهاء آيتين بدأ الإمام يقرأ ما
تيسّر من كتاب الله تعالى، فلا هو تركه يقرأ الفاتحة حتى يستكملها، ولا هو
تركه يُنصت لقراءته.
أمّا إِذا كنتَ إماماً فلا تنتظر لقراءة المأمومين.
وأمّا إِذا كنتَ مأموماً فأنصِت حين يقرأ إِمامك، واقرأ حين يُنصت، وهذا من
أجك متابعة الائتمام به، والكلام في هذا طويل أكتفي بما ذَكرتُ، ولشيخ
الإِسلام مبحث طيّب في "مجموع الفتاوى" (23/ 309 - 330) فارجع إليه -إِن
شئت-، وانظر كذلك "تمام المنّة" (ص 187).
9 - التأمين جهراً:
فقد "كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا انتهى من قراءة
الفاتحة قال: "آمين"، يجهر ويمدّ بها
(2/31)
صوته" (1).
وعن أبي رافع قال: "إِنَّ أبا هريرة كان يؤذّن لمروان بن الحكَم، فاشترط أن
لا يسبقه بـ (الضالّين) حتى يعلم أنَّه قد دخل الصف، فكان إِذا قال مروان:
(ولا الضالّين) قال أبو هريرة: "آمين" يمدّ بها صوته، وقال: إِذا وافق
تأمين أهل الأرض تأمين أهل السماء؛ غُفر لهم" (2).
وقال عطاء: "أمّن ابن الزبير ومن وراءه حتى إِنَّ للمسجد للجّة" (3).
ويجب تأمين المأموم إِذا أمَّن الإِمام لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "إِذا أمَّن الإِمام فأمّنوا" (4). وبه يقول الشوكاني كما في
"نيل الأوطار" (2/ 187). وبه يقول ابن حزم في "المحلّى" (2/ 262)، وانظر
"تمام المنة" (ص 178).
موافقة الإِمام فيه:
فقد كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر المقتدين بالتأمين
بُعيد تأمين الإِمام فيقول: "إذا قال الإِمام: {غيرِ المغضوب عليهم ولا
الضالِّينَ} فقولوا: آمين، [فإِنَّ الملائكة
__________
(1) أخرجه البخاري في "جزء القراءة"، وأبو داود بسند صحيح كذا في "صفة
الصلاة" (ص 101).
(2) أخرجه البيهقي وإسناده صحيح. عن "الضعيفة" تحت الحديث (953).
(3) رواه البخاري بصيغة الجزم (كتاب الأذان) (باب جهر الإمام بالتأمين)،
وقال الحافظ في "الفتح" (2/ 262): "وصله عبد الرزَاق عن ابن جريج عن عطاء".
(4) أخرجه البخاري: 785، ومسلم: 410
(2/32)
تقول: آمين، وإنَّ الإِمام يقول: آمين]
(وفي لفظ: إِذا أمَّن الإِمام فأمِّنوا)، فمن وافق تأمينُه تأمين الملائكة
(وفي لفظ آخر: إِذا قال أحدكم في الصلاة: آمين، والملائكة في السماء: آمين،
فوافق أحدُهما الآخر)؛ غُفر له ما تقدّم من ذنبه" (1).
معنى آمين:
آمين دعاء معناه: اللهمّ استجب، وهي من أسماء الأفعال، وهي مصدر أمَّن
-بالتشديد- أي: قال: آمين وهي بالمدّ والتخفيف في جميع الروايات وعن جميع
القُرّاء (2).
وجوب القراءة في السريّة:
قال شيخنا في "صفة الصلاة" (ص 100): "وأمّا في السريّة؛ فقد أقرَّهم على
القراءة فيها، فقال جابر: "كنا نقرأ في الظهر والعصر خلف الإمام في
الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأُخريين بفاتحة الكتاب" (3).
وإِنّما أنكَر التشويش عليه بها، وذلك حين "صلّى الظهر بأصحابه فقال:
"أيّكم قَرَأ {سبِّح اسم ربِّك الأعلى}؟ "، فقال رجل: أنا، [ولم أُرِد بها
إلاَّ
__________
(1) أخرجه البخاري: 785، ومسلم: 410، والنسائي والدارمي وانظر "صفة
الصلاة"، (101).
(2) وانظر "الفتح" (2/ 262) للمزيد من الفائدة.
(3) أخرجه ابن ماجه بسند صحيح، وهو مخرج في "الإِرواء" (506).
(2/33)
الخير]. فقال: (قد عرفْتُ أنّ رجلاً
خاَلجَنيها) " (1). وفى حديث آخر: "كانوا يقرؤون خلف النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[فيجهرون به]، فقال: (خلَطتُم عليَّ القرآن) "
(2).
وقال: "إِنَّ المصلي يناجي ربّه، فلينظر بما يناجيه به، ولا يجهر بعضكم على
بعض بالقرآن" (3).
10 - قراءته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد الفاتحة (4)
كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ بعد الفاتحة سورة غيرها،
وكان يطيلها أحياناً، ويقصرها أحياناً لعارض سفَر، أو سعال، أو مرض، أو
بكاء صبيّ؛ كما قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "جوَّز (5) - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم في الفجر" (وفي حديث آخر: صلّى الصبح
فقرأ بأقصر سورتين في القرآن)، فقيل: يا رسول الله! لِم جوَّزت؟ قال:
"سمعْتُ بكاء صبي، فظننْتُ أنَّ أمّه معنا تصلّي، فأردت أن أُفرِغ له أمّه"
(6).
__________
(1) أخرجه مسلم وأبو عوانة والسَّراج. و (الخلج): الجذب والنَّزع.
(2) أخرجه البخاري في "جزئه" وأحمد والسراج بسند حسن.
(3) أخرجه مالك والبخاري في "أفعال العباد" بسند صحيح.
(4) عن "صفة الصلاة" (ص 102) بحذف وتصّرف.
(5) أي: خفّف.
(6) أخرجه أحمد بسند صحيح.
(2/34)
وكان يقول: "إِني لأدخلُ في الصلاة وأنا
أريد إِطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فاتجوَّز في صلاتي ممّا أعلم من شدة وجْد
أمّه (1) من بكائه" (2).
ويقول: "أعطوا كلّ سورة حظَّها من الركوع والسجود" (3).
وكان تارة يقسمها في ركعتين (4).
وكان أحياناً يجمع في الركعة الواحدة بين السورتين أو أكثر.
قال شيخنا في "تلخيص صفة الصلاة" (ص 18): "ويسنّ أن يقرأ بعد الفاتحة سورة
أخرى؛ حتى في صلاة الجنازة، أو بعض الآيات في الركعتين الأوليين".
وقال (ص 19): "ويسنّ الزيادة عليها في الركعتين الأخيرتين أيضاً أحياناً".
ما كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرؤُه في الصلوات (5)
1 - صلاة الفجر:
وأمّا ما كان يقرؤه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الفجر:
__________
(1) وجْد أمّه: أي: حُزنها.
(2) أخرجه البخاري: 709، ومسلم: 470
(3) أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد، وعبد الغني المقدسي في "السنن" بسند صحيح.
(4) أخرجه أحمد، وغيره.
(5) عن "صفة الصلاة" (ص 109) بتصرّف، ورأيت أن أكتب ما يتعلّق بالفرائض
للاختصار، ولمعرفة ذلك في السنن ينظر الكتاب المذكور.
(2/35)
كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يقرأ فيها بطوال (1) المفصّل (2) (3)، فـ "كان -أحياناً- يقرأ: {الواقعة}
ونحوها من السور في الركعتين" (4).
وقرأ من سورة {الطور} وذلك في حَجّة الوداع (5).
و"كان -أحياناً- يقرأ: {ق والقرآن المجيد} ونحوها في [الركعة الأولى] "
(6).
و"كان -أحياناً- يقرأ بقصار المفصَّل كـ {إِذا الشمس كُوّرت} (7).
و"قرأ مرَّة: {إِذا زُلزلت} في الركعتين كلتيهما؛ حتى قال الراوي: فلا
__________
(1) هي السبع الأخير من القرآن أوله {ق} على الأصح.
(2) قال الحافظ في "الفتح" (2/ 259): [هو] من {ق} إِلى آخر القرآن على
الصحيح، وسمّي مُفصّلاً لكثرة الفصل بين سُورِه بالبسملة على الصحيح، ولقول
هذا الرجل قرأت المفصَّل سبب بيّنه مسلم فى أول حديثه من رواية وكيع عن
الأعمش عن أبي وائل قال: جاء رجل يقال له نهيك بن سنان إِلى عبد الله فقال:
يا أبا عبد الرحمن كيف تقرأ هذا الحرف (مِن ماء غير آسن) أو غير ياسن؟ فقال
عبد الله: كلّ القرآن أحصيت غير هذا قال: إِنيّ لأقرأ المفصَّل فى ركعة.
(3) أخرجه النسائي وأحمد بسند صحيح.
(4) أخرجه أحمد وابن خزيمة والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.
(5) أخرجه البخاري: 1619
(6) أخرجه مسلم: 457، والترمذي.
(7) في "صحيح مسلم" (456) و"صحيح سنن أبي داود" (731) من حديث عمرو بن
حُرَيث أنّه سمع النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في
الفجر: {والليل إِذا عَسْعَس}. [التكوير: 17].
(2/36)
أدري؛ أنسي رسول الله أم قرأ ذلك عمداً؟ "
(1).
و"قرأ -مرّة- في السفر {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} " (2).
وقال لعقبة بن عامر -رضي الله عنه-: "اقرأ في صلاتك المعوذتين، [فما تعوّذ
متعوِّذ بمثلِهما] " (3).
وكان أحياناً يقرأ بأكثر من ذلك؛ فـ "كان يقرأ ستّين آية فأكثر" (4). قال
بعض رواته: لا أدري في إِحدى الركعتين أو في كلتيهما؟
و"كان يقرأ بسورة {الروم} (5) وأحياناً- بسورة {يس} " (6).
و"كان -أحياناً- يؤمّهم فيها بـ {الصافّات} " (7).
و"كان يصلّيها يوم الجمعة بـ {ألم تنزيل} السجدة [في الركعة الأولى، وفي
الثانية] بـ {هل أتى على الإِنسان} " (8).
__________
(1) أخرجه أبو داود والبيهقي بسند صحيح، والظاهر أنّه عليه السلام فعَل ذلك
عمداً للتشريع.
(2) أخرجه أبو داود وابن خزيمة وغيرهما وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(3) أخرجه أبو داود وأحمد بسند صحيح.
(4) أخرجه البخاري: 541، ومسلم: 461
(5) أخرجه النسائي وأحمد والبزار بسند جيد.
(6) أخرجه أحمد بسند صحيح.
(7) أخرجه أحمد وأبو يعلى في "مسنديهما" والمقدسي في "المختارة".
(8) أخرجه البخاري: 891، ومسلم: 880
(2/37)
و"كان يطوّل في الركعة الأولى ويقصر في
الثانية" (1).
2 - صلاة الظهر:
كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في كل من
الركعتين الأوليين قدْر ثلاثين آية؛ قدْر قراءة {ألم تنزيل} السجدة وفي
الأُخرين قدْر النصف من ذلك.
فعن أبي سعيد الخدري قال: "كنّا نحزر قيام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين
من الظهر قدْر قراءة ألم تنزيل - السجدة، وحزرنا قيامه في الأخريين قدْر
النصف من ذلك (2) وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدْر
قيامه في الأخريين من الظهر، وفي الأُخريين من العصر على النصف من ذلك"
(3).
وأحياناً "كان يقرأ بـ {السماء والطارق}، و {السماء ذات البروج}، و {الليل
إِذا يغشى}، ونحوها من السور" (4).
وربما "قرأ {إذا السماء انشقت}، ونحوها" (5).
__________
(1) أخرجه البخاري: 759، ومسلم: 451
(2) قال شيخنا -حفظه الله تعالى- وفي الحديث دليل على أنَّ الزيادة على
{الفاتحة} في الركعتين الأخيرتين سنة، وعليه جمْع من الصحابة؛ منهم أبو بكر
الصديق -رضي الله عنه- وهو قول الإِمام الشافعي سواءٌ كان ذلك في الظهر أو
غيرها، وأخذ به علمائنا المتأخرين أبو الحسنات اللكنوي في "التعليق الممجد
على الموطأ محمد" (ص 102).
(3) أخرجه مسلم: 452
(4) أخرجه أبو داود والترمذي وصححه وكذا ابن خزيمة.
(5) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه".
(2/38)
وربما اقتصر فيهما على الفاتحة، انظر "صحيح
البخاري" (759) و"صحيح مسلم" (451).
3 - صلاة العصر:
وكان يقرأ في كلّ منهما قدْر خمسَ عشرةَ آية؛ قدْر نصف ما يقرأ في كلٍّ من
الركعتين الأوليين في الظهر، وكان يجعل الركعتين الأخيرتين أقصر من
الأوليين قدْر نصفهما كما تقدّم في حديث أبي سعيد -رضي الله عنه-.
4 - صلاة المغرب:
و"كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ فيها -أحياناً- بقصار
المفصَّل" (1).
فعن مروان بن الحكم قال: "قال لي زيد بن ثابت: مالك تقرأ في المغرب بقصار،
وقد سمعت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ بطولى
الطوليين" (2).
و"قرأ في سفر بـ {التين والزيتون} في الركعة الثانية" (3).
وكان أحياناً يقرأ بطوال المفصّل وأوساطِه، فـ "كان تارةً يقرأ بـ {الذين
كفروا وصدوا عن سبيل الله} " (4).
وتارة بـ {الطور} " (5).
__________
(1) أخرجه البخاري: 764
(2) أخرجه البخاري: 764، وأبو داود، والنسائي وأحمد.
(3) أخرجه الطيالسي وأحمد بسند صحيح.
(4) أخرجه ابن خزيمة والطبراني والمقدسي بسند صحيح.
(5) أخرجه البخاري: 765، ومسلم: 463
(2/39)
وتارة بـ {المرسلات} قرأ بها في آخر صلاة
صلاها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1).
و"كان أحياناً يقرأ بطولى الطوليين (2): [{الأعراف}] [في الركعتين] " (3).
وتارة بـ {الأنفال} في الركعتين (4).
5 - صلاة العشاء:
كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الركعتين الأوليين من
وسط المفصّل (5)، فـ "كان تارة يقرأ بـ {الشمس وضحاها} وأشباهِها من السور"
(6).
و"تارة بـ {إِذا السّماءُ انشقت}، وكان يسجد بها" (7).
و"قرأ -مرة- في سفر بـ {التين والزيتون} [في الركعة الأولى] " (8).
__________
(1) أخرجه البخاري: 763، ومسلم: 462
(2) أي: بأطول السورتين الطويلتين، و"طولى": تأنيث "أطول"، و"الطوليين":
تأنيث طولى، وهما {الأعراف} اتفاقاً، و {الأنعام} على الأرجح؛ كما في "فتح
الباري".
(3) أخرجه البخاري: 764، وأبو داود وابن خزيمة وأحمد والسرَّاج والمخلص.
(4) أخرجه الطبراني في "الكبير" بسند صحيح.
(5) أخرجه النسائي وأحمد بسند صحيح.
(6) أخرجه أحمد والترمذي وحسنه.
(7) أخرجه البخاري: 766، ومسلم: 578
(8) أخرجه البخاري: 767، ومسلم: 464، والنسائي.
(2/40)
جمْعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- بين النظائر (1) وغيرها في الركعة (2)
كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرن بين النظائر (3)
من المُفَصَّل، فكان يقرأ سورة: {الرحمن} و {النجم} في ركعة، و {اقتربت} و
{الحاقّة} في ركعة، و {الطور} و {الذريات} في ركعة، و {إِذا وقعت} و {ن} في
ركعة، و {سأل سائل} و {النازعات} في ركعة، و {ويل للمطفّفين} و {عبس} في
ركعة، و {المدثّر} و {المزمّل} في ركعة، و {هل أتى} و {لا أُقسِم بيوم
القيامة} في ركعة، و {عمّ يتساءلون} و {المرسلات} في ركعة و {الدخان} و
{إِذا الشمس كُوِّرت} في ركعة" (4).
صفة قراءة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ القرآن آية آية كما تدّل
عليه النصوص.
جاء في "صفة الصلاة" (ص 96): "ثمَّ يقرأ الفاتحة ويُقطّعها آية آية: {بسم
الله الرحمن الرحيم}، [ثمَّ يقف، ثمَّ يقول:] {الحمد لله ربِّ العالمين}،
[ثمَّ يقف، ثمَّ يقول:] {الرحمن الرحيم}، [ثمَّ يقف: ثمَّ
__________
(1) وقد دلّتنا هذه القراءة على أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لم يراع في الجمع بين كثير من هذه النظائر ترتيب المصحف فدّل
على جواز ذلك وإن كان الأفضل مراعاة الترتيب.
(2) عن "صفة الصلاة" (ص 104) بتصرّف.
(3) أي السور المتماثلة في المعاني؛ كالموعظة أو الحِكَم أو القَصَص.
(4) انظر "صحيح البخاري" (4996)، و"صحيح مسلم" (722).
(2/41)
يقول:] {مالك يوم الدين}، وهكذا إِلى آخر
السورة، وكذلك كانت قراءته كلُّها، يقف على رؤوس الآي ولا يَصِلُها بما
بعدها" (1).
وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمدّ القراءة.
فعن قتادة قال: "سألتُ أنسَ بن مالك عن قراءة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: كان يمدُّ مدّاً" (2).
قال الحافظ في "الفتح" (9/ 91): "المدّ عند القراءة على ضربين: أصلي وهو
إِشباع الحرف الذي بعده ألف أو واو أو ياء، وغير أصلي وهو ما إِذا أعقب
الحرف الذي هذه صفته همزة، وهو متصلّ ومنفصل، فالمتصل: ما كان من نفس
الكلمة، والمنفصل: ما كان بكلمة أخرى، فالأوّل: يؤتى فيه بالألف والواو
والياء، ممكنات من غير زيادة، والثاني: يزداد في تمكين الألف والواو والياء
زيادة المدّ الذي يمكن النطق بها إلاَّ به من غير إِسراف، والمذهب الأعدل
أنَّه يمد كل حرف منها ضعفي ما كان يمدّه أولا، وقد يُزاد على ذلك قليلاً،
وما فرط فهو غير محمود".
ترتيل القراءة وتحسين الصوت بها (3)
كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما أمَره الله تعالى-
يُرتّل القرآن ترتيلاً، لا هذّاً (4)
__________
(1) أخرجه أبو داود وغيره وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وهو مخرج في
"الإِرواء" (343).
(2) أخرجه البخاري: 5046
(3) عن "صفة الصلاة" (124) بتصرّف.
(4) الهذّ: سرعة القطع والقراءة. "المحيط". وقال الحافظ (2/ 259): =
(2/42)
ولا عجلة؛ بل قراءة "مفسرة (1) حرفاً (2)
حرفاً" (3). حتى "كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطولَ منها" (4).
وكان يقول: "يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتقِ ورتّل كما كنت ترتّل في
الدنيا، فإِنّ منزلك عند آخر آية تقرؤها" (5).
و"كان يمدّ قراءته (عند حروف المد)، فيمدّ {بسم الله}، ويمدّ {الرحمن}،
ويمدّ {الرحيم} " (6)، و {نضيد} (7) وأمثالها.
__________
= " أي سرداً وإفراطاً في السرعة"، والسّرد": المتابعة والاستعجال.
"النهاية" ملتقطاً.
(1) مُفسَّرة: من الفسر، وهو الإبانة والبيان وكشف الغطاء، وجاء في "تحفة
الأحوذي" (8/ 241): حرفاً حرفاً: أي: كان يقرأ بحيث يمكن عدّ حروف ما يقرأ
والمراد: حسن الترتيل والتلاوة على نعت التجويد.
قال الطيبي: يحتمل وجهين الأول: أن تقول: كانت قراءته كيت وكيت، والثاني:
أن تُقرَأ مرتلة كقراءة النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال
ابن عباس: لأن أقرأ سورة أرتّلها أحب إليّ من أن أقرأ القرآن كله بغير
ترتيل.
(2) قال في "النهاية": الحرف في الأصل: الطرف والجانب، وبه سمّي الحرف من
حروف الهجاء.
(3) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" وأبو داود وأحمد بسند صحيح.
(4) أخرجه مسلم: 733
(5) أخرجه أبو داود والترمذي وصححه.
(6) انظر "صحيح البخاري" (5046).
(7) أخرجه البخاري في "أفعال العباد" بسند صحيح.
(2/43)
وكان يقف عى رؤوس الآي (1) و"كان -أحياناً-
يُرَجِّع (2) صوته؛ كما فعل يوم فتح مكة وهو على ناقته يقرأ سورة {الفتح}،
وقد حكى عبد الله ابن المُغَفَّل ترجيعه هكذا (آآ آ) (3)
وكان يأمر بتحسين الصوت بالقرآن فيقول: "زيِّنوا القرآن بأصواتكم؛ [فِإن
الصوت الحسَن يزيد القرآن حُسناً] " (4).
ويقول: "إِنّ من أحسن الناس صوتاً بالقرآن؛ الذي إِذا سمعتموه يقرأ حسبتموه
يخشى الله" (5).
__________
(1) وتقدّم في صفة قراءته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(2) جاء في "النهاية": "الترجيع: ترديد القراءة، ومنه ترجيع الأذان، وقيل:
هو تقارُب ضروب الحركات في الصوت ... ".
قال الحافظ: "هو تقارُب ضروب الحركات في القراءة، وأصْله: الترديد، وترجيع
الصوت: ترديده بالحلق".
وقال المناوي: "وذلك ينشأ غالباً عن أريحية وانبساط، والمصطفى - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حصل له من ذلك حظ وافر يوم الفتح".
قال ابن الأثير في "النهاية" -بحذف-: لأنه كان راكباً فجعَلت الناقة
تحرّكه، فحدَث الترجيع في صوته". وقال بعض العلماء الترجيع: تحسين التلاوة،
لا ترجيع الغناء.
(3) قال الحافظ في شرح قوله (آآ آ): "بهمزة مفتوحة بعدها ألف ساكنة ثمَّ
همزة أخرى" [آءآءآء] وكذا في "النهاية"، ونقل الشيخ علي القاري مثله عن غير
الحافظ، ثمَّ قال: "والأظهر أنها ثلاث ألفات ممدودات".
(4) أخرجه البخاري: تعليقاً "كتاب التوحيد" (باب-52) وأبو داود والدارمي
والحاكم وتمام الرازي بسند ين صحيحين. وانظر "الصحيحة" (771).
(5) حديث صحيح، رواه ابن المبارك في "الزهد"، والدارمي وابن نصر والطبراني
=
(2/44)
وكان يأمر بالتغني بالقرآن فيقول:
"تعلّموا كتاب الله، وتعاهدوه، واقتنوه، وتغنَّوا به (1)، فوالذي نفسي
بيده؛ لهو أشد تفلّتاً (2) من النوق والحوامل المخاض (3) في العقل (4) ".
ويقول: "ليس منّا من لم يتغنَّ بالقرآن" (5).
وقال لأبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-: لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك
البارحة، لقد أوتيتَ مزماراً (6) من مزاميرآل داود"، [فقال أبو موسى: لو
علمتُ مكانك؛ لحبّرت لك (7) تحبيراً (8).
__________
= وأبو نعيم في "أخبار أصبهان"، والضياء في "المختارة". وانظر "الصحيحة"
(771).
(1) جاء في "الفيض": "اي: اقرأوه بتحزين وترقيق وليس المراد قراءته
بالألحان والنغمات".
(2) أي: ذَهاباً.
(3) النوق الحوامل.
(4) جمْع عِقال، وعقلت البعير: حبسْتُه وخصَّ ضرْب المَثل بها؛ لأنها إِذا
انفلتت لا تكاد تُلحق. "فيض القدير".
(5) أخرجه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
(6) قال العلماء: "المراد بالمزمار هنا: الصوت الحسَن، وأصل الزمر: الغناء،
وآل داود هو داود نفسه، وآل فلان قد يطلق على نفسه، وكان داود عليه السلام
حسَن الصوت جداً". ذكره النووى في "شرح مسلم".
(7) يريد: "تحسين الصوت وتحزينه". "النهاية".
(8) أخرجه البخاري: 5048، ومسلم: 793
(2/45)
ماذا يقول إِذا قرأ: {أليس ذلك بقادرٍ على
أن يحيي الموتى}، و {سبح اسم ربّك الأعلى}:
يستحبّ له أن يقول في الأولى: سبحانك فبلى، وفي الثانية: "سبّحان ربّي
الأعلى"، وذلك لما رواه ابن عباس: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان إِذا قرأ: {سبّح اسم ربّك الأعلى} قال: "سبحان ربي الأعلى"
(1).
ولما رواه موسى ابن أبي عائشة قال: "كان رجل يُصلّي فوق بيته وكان إِذا
قرأ: {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} (2) قال: سبحانك، فبلى، فسألوه
عن ذلك فقال: سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "
(3).
مواضع الجهر والإِسرار بالقراءة (4):
والسُّنّة أن يجهر المصلّي في ركعتي الصبح والجمعة، والأوليين من المغرب
والعشاء (5)، والعيدين والكسوف والاستسقاء، ويُسِرّ في الظهر والعصر،
وثالثة المغرب الأخريين من العشاء.
وأمّا بقية النوافل، فالنهارية لا جهر فيها، والليلية يخير فيها بين الجهر
والإِسرار، والأفضل التوسط، لحديث أبي قتادة -رضي الله عنه-: "أنَّ النّبيّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج ليلة فإِذا هو بأبي بكر -رضي
الله عنه- يصلّي يخفض من صوته،
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح أبي داود" (785) وانظر "المشكاة" (859).
(2) القيامة: 40
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (786)، وانظر "صفة الصلاة" (105).
(4) "فقه السنّة" (1/ 158) بتصرّف.
(5) انظر "الإِرواء" (354).
(2/46)
قال: ومرّ بعمر بن الخطاب وهو يصلّي رافعاً
صوته، قال: فلما اجتمعا عند النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا أبا بكر مررت بك
وأنت تصلّي تخفض صوتك، قال: قد أسمعت من ناجيت يا رسول الله. وقال لعمر:
مررت بك وأنت تصلّي رافعاً صوتك، قال: فقال يا رسول الله! أوقظ الوسنان
(1)، وأطرد الشيطان.
زاد الحسن في حديثه: فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئاً، وقال لعمر: اخفض من صوتك شيئاً" (2).
11 - تكبيرات الانتقال:
عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
إِذا قام إِلى الصلاة يُكبِّر حين يقوم، ثمَّ يُكبِّر حين يركع، ثمَّ يقول:
سمع الله لمن حَمِده، حين يرفع صُلبه من الرَّكعة، ثمَّ يقول وهو قائم:
ربّنا لك الحمد، ثمَّ يُكبّر حين يهوي، ثمَّ يكبّر حين يرفع رأسه، ثمَّ
يُكبّر حين يسجد، ثمَّ يكبّر حين يرفع رأسه، ثمَّ يفعل ذلك في الصلاة
كلِّها حتى يَقضِيَها، ويكبّر حين يقوم من الثّنتينِ بعد الجلوس" (3). وقد
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلّوا كما رأيتموني أصلّي"
(4).
وقد أمر بذلك المسيء صلاته فقال: "إِنَّه لا تتمُّ صلاةٌ لأحد من الناس حتى
يتوضأ فيضع الوضوء -يعني مواضعه- ثمَّ يكبّر ويحمد الله جلّ وعزّ
__________
(1) أي: النعسان.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1180)، والحاكم وصححّه ووافقه
الذهبي، وانظر "صفة الصلاة" (ص 109).
(3) أخرجه البخاري: 789، ومسلم: 392
(4) أخرجه البخاري: 631، وتقدّم.
(2/47)
ويُثني عليه، ويقرأ بما تيسّر من القرآن
ثمَّ يقول: الله أكبر، ثمَّ يركع حتى تطمئنّ مفاصلُه، ثمَّ يقول: سمع الله
لمن حمده، حتى يستويَ قائماً، ثمَّ يقول: الله أكبر، ثمَّ يسجد حتى تطمئن
مَفاصِلُه، ثمَّ يقول الله أكبر، ويرفع رأسه حتى يستوي قاعداً، ثمَّ يقول:
الله أكبر، ثمَّ يسجد حتى تطمئنّ مفاصله، ثمَّ يرفع رأسه فيكبرّ، فإِذا فعل
ذلك فقد تمّت صلاته" (1).
وبوجوب تكبيرات الانتقال يقول شيخنا -حفظه الله تعالى- ونقل ما قرّره
الإِمام الشوكاني في "نيل الأوطار" (2/ 222 - 224) ثمَّ في "السيل الجرار"
أنّ الأصل في جميع الأمور الواردة في حديث المسيء صلاته الوجوب.
وقال: وقد ذهب إِلى الوجوب الإِمام أحمد كما حكاه النووي في "المجموع" (3/
397) عنه.
12 - الركوع وهو ركن والطمأنينة فيه -وهما
ركنان-:
لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربّكم وافعلوا
الخير لعلّكم تفلحون} (2).
قال الألوسي في "روح المعاني": "أي: صلّوا، وعبَّر عن الصلاة بهما؛ لأنّهما
أعظم أركانها وأفضلها".
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث "المسيء صلاته":
"إِنّها لا تتمُّ صلاة أحدكم حتى يُسبغ الوضوء كما أمَره الله ... ثمَّ
يكبر الله ويحمده ويمجّده، ويقرأ ما
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبو داود" (763) وغيره، وتقدّم بعضه.
(2) الحج: 77
(2/48)
تيسر من القرآن مما علّمه الله وأَذِن له
فيه، ثمَّ يكبر ويركع، [ويضع يديه على ركبتيه] حتى تطمئن مفاصله وتسترخي ..
" (1).
وذكر بعض الفقهاء أنَّ أدنى الطمأنينة قدر تسبيحة. وأمَر به عليه الصلاة
والسلام المسيء صلاته فقال: "ثمَّ اركع حتى تطمئنّ راكعاً" (2).
وكان يقول: "أتمّوا الركوع والسجود؛ فوالذي نفسي بيده، إِنّي لأراكم من بعد
(3) ظهري إِذا ما ركعتم، وإِذا ما سجدتم" (4).
و"رأى رجلاً لا يتِمّ ركوعه، وينقُر في سجوده وهو يصلّي، فقال: [لو مات هذا
على حاله هذه؛ مات على غير مِلَّة محمّد؛ [ينقر صلاته كما ينقُر الغرابُ
الدم]، مَثَل الذي لا يُتمّ ركوعه، وينقُر في سجوده، مَثَل الجائع الذي
يأكل التمرة والتمرتين لا يُغنيان عنه شيئاً] " (5).
وكان يقول: "أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته". قالوا: يا رسول الله!
وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يُتمّ ركوعها وسجودها" (6).
__________
(1) أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وانظر "صفة
الصلاة" (ص 129).
(2) أخرجه البخاري: 6251، ومسلم: 397
(3) أي: وراء؛ كما في حديث آخر.
(4) أخرجه البخاري: 742، ومسلم: 425
(5) أخرجه أبو يعلى في "مسنده"، والبيهقي والطبراني وغيرهم بسند حسن، وصححه
ابن خزيمة، وانظر "صفة الصلاة" (ص 131).
(6) أخرجه ابن أبي شيبة والطبراني والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي، وانظر
"صفة الصلاة" (ص 131).
(2/49)
صفة الركوع:
يتحقق الركوع بالانحناء؛ بحيث تصل اليدان إلى الركبتين، ولا بدّ من
الطمأنينة فيه (1) لحديث المسيء صلاته المتقدّم: "ثمَّ اركع حتى تطمئن
راكعاً".
قال شيخنا في "تمام المنّة" (ص 189): " ... يجب أن يُعلم أنَّ الاطمئنان
الواجب لا يحصل إلاَّ بتحقيق ما يأتي:
1 - وضْع اليدين على الركبتين.
2 - تفريج أصابع الكفّين.
3 - مدّ الظهر.
4 - التمكين للركوع والمكث فيه؛ حتى يأخذ كلّ عضو مأخذه.
وهذا كلّه ثابت في روايات عديدة لحديث المسيء صلاته ... ".
أذكار الركوع (2)
كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في هذا الركن
أنواعاً من الأذكار والأدعية، تارة بهذا، وتارة بهذا:
1 - "سبحان ربي العظيم (ثلاث مرات) " (3).
__________
(1) "فقه السنة" (ص 137).
(2) عن "صفة الصلاة" (ص 132) بتصرّف.
(3) أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وغيرهم، وفيه ردّ على من أنكر ورود
=
(2/50)
وكان -أحياناً- يكررها أكثر من ذلك (1).
وبالَغ مرة في تكرارها في صلاة الليل؛ حتى كان ركوعه قريباً من قيامه، وكان
يقرأ فيه ثلاثَ سور من الطوال: {البقرةَ} و {النساءَ} و {آل عمران}،
يتخللها دعاء واستغفار.
2 - "سبحان ربّي العظيم وبحمده (ثلاثاً) " (2).
3 - "سُبّوح قدّوس (3) رب الملائكة والروح" (4).
4 - "سبحانك اللهمّ ربّنا وبحمدك، اللهم اغفِر لي. وكان يُكثر منه في ركوعه
وسجوده؛ يتأوّل القرآن" (5).
5 - "اللهم لك ركعْت، وبك آمنْت، ولك أسلمْت، [أنت ربّي]، خشع
__________
= التقييد بثلاث تسبيحات.
(1) يستفاد هذا من الأحاديث المصرحة بأنه عليه الصلاة والسلام كان يُسوّي
بين قيامه وركوعه وسجوده.
(2) قال شيخنا في "صفة الصلاة" (ص 133): صحيح رواه أبو داود، والدارقطنيّ،
وأحمد، والطبراني والبيهقى.
(3) سبُوح قدُّوس: على وزن فُعّول من أبنية المبالغة، والمراد بهما
التنزيه، وسُبّوح: من التسبيح، وهو التنزيه والتقديس والتبرئة من النقائص.
وقدُّوس: هو الطاهر المنزّه عن العيوب. "النهاية" ملتقطاً بتصرف.
(4) أخرجه مسلم: 487، وأبو عوانة.
(5) أخرجه البخاري: 817، ومسلم: 484، ومعنى قوله: "يتأول القرآن": يعمل
بما، أمر فيه؛ أي: في قول الله عز وجل: {فسبح بحمد ربك واستغفره إِنّه كان
توَّاباً}.
(2/51)
لك سمعي وبصري، ومخّي وعظمي (وفي رواية:
وعظامي) وعصبي، [وما استقلّت (1) به قدمي لله ربّ العالمين] " (2).
6 - "اللهمّ لك ركعْت، وبك آمنْت، ولك أسلمْت، وعليك توكلّت، أنت ربي، خشَع
سمعي وبصري ودمي ولحمي وعظمي وعصبي لله ربّ العالمين" (3).
7 - "سبحان ذي الجبروت والملكوت (4) والكبرياء والعَظمة"، وهذا قاله في
صلاة الليل (5).
النهي عن قراءة القرآن في الرّكوع
نهى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قراءة القرآن في
الركوع والسجود، فعن ابن عباس - رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ... ألا وإنِّي نُهيت أن أقرأ القرآن
راكعاً أو ساجداً، فأمّا الركوع فعظّموا فيه الربّ عزّ وجلّ، وأمّا السجود
__________
(1) أى: ما حمَلَتْه، من الاستقلال: بمعنى الارتفاع.
(2) أخرجه مسلم: 771، وأبو عوانة، والطحاوى والدارقطني.
(3) أخرجه النسائي بسند صحيح.
(4) الجبروت: اسم مبنيّ من الجبر، وهو قَهْر العباد على ما أراد من أمر
ونهي.
الملكوت: اسم مبني من المُلك، والمراد: صاحب القهر والتصرف البالغ كل منهما
غايته.
(5) أخرجه أبو داود، والنسائي بسند صحيح.
(2/52)
فاجتهدوا في الدعاء فقمِنٌ (1) أن يُستجاب
لكم" (2).
13 - الاعتدال من الركوع وهو ركن، والطمأنينه فيه (3) -وهما رُكنان-:
لأمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسيء صلاته بقوله:
"لا تتم صلاةٌ لأحدٍ من الناس حتى ... ثمَّ يقول: سمع الله لمن حمده حتى
يستوي قائماً" (4).
وفي لفظ: "ثمَّ ارفع حتى تعتدل قائماً" (5).
وفي حديث أبي حميد الساعدي: "فإِذا رفَع رأسه استوى قائماً حتى يعود كلّ
فقار مكانه" (6).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا ينظر الله إِلى صلاة عبدٍ لا يُقيم صلبه بين
ركوعها وسجودها" (7).
__________
(1) أي: حقيق وجدير.
(2) أخرجه مسلم: 479
(3) عن "صفة الصلاة" (ص 135) بتصرّف.
(4) أخرجه أبو داود والحاكم وصححّه ووافقه الذهبي.
(5) أخرجه البخاري: 793
(6) أخرجه البخاري: 828، "مختصر البخاري": 448. وجاء مُعلقاً في البخاري
أيضاً: (1/ 202). والفَقار: هي العظام التي يُقال لها خرز الظهر، قاله
القزاز وقال ابن سيده: هي من الكاهل إِلى العَجْب، "الفتح" (2/ 308)
والكاهل مِن الإِنسان: ما بين كتفيه أو مَوصل العُنق في الصُّلب. والعجْب:
أصل الذنب ومؤخر كل شيء. "المحيط".
(7) أخرجه أحمد بإِسناد جيد، والطبراني في "الكبير" بإِسناد صحيح انظر
"صحيح الترغيب والترهيب" (525).
(2/53)
وفي رواية: "كان يصلّي؛ فلمَح بمؤخّر عينيه
إِلى رجل لا يقيم صُلبه في الركوع والسجود، فلما انصرف قال: (يا معشر
المسلمين! إنَّه لا صلاة لمن لا يقيم صُلبه في الركوع والسجود) " (1).
ثمَّ "كان يقول وهو قائم: ربّنا ولك الحمد" (2).
وأمَر بذلك كل مُصَلٍّ مُؤْتَمّاً أو غيره فقال: "صلُّوا كما رأيتموني
أصلّي" (3).
وكان يقول: "إِنّما جُعل الإِمام ليؤتمّ به ... وإذا قال: سمع (4) الله لمن
حَمِده؛ فقولوا: اللهمّ ربّنا ولك الحمد" (5).
وعلّل الأمر بذلك في حديث آخر بقوله: "فإِنَّه من وافق قولُه قولَ
الملائكة؛ غُفرَ له ما تقدّم من ذنبه" (6).
وكان يرفع يديه عند هذا الاعتدال (7) على الوجوه المتقدمة في تكبيرة
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة وابن ماجه وأحمد بسند صحيح، وانظر "الصحيحة"
(2536).
(2) البخاري: 805
(3) أخرجه البخاري: 631، وتقدّم.
(4) قال العلماء: معنى سمع هنا: أجاب، ومعناه أنّ من حَمِد الله تعالى
متعرّضاً لثوابه، استجاب الله تعالى، وأعطاه ما تعرّض له فإنا نقول ذلك
ربنا لك الحمد لتحصيل ذلك.
(5) أخرجه البخاري: 805، ومسلم: 411، وأبو عوانة، وأحمد، وأبو داود.
(6) أخرجه البخاري: 796، ومسلم: 409، وصححه الترمذي، وتقدّم.
(7) أخرجه البخاري: 737 ومسلم: 390
(2/54)
الإِحرام، ويقول وهو قائم:
1 - "ربّنا ولك الحمد" (1)
وتارة يضيف "اللهمّ" (2).
وتارة يزيد:
2 - "ملءَ السماوات، و [ملء] الأرض، وما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد"
(3).
وتارة تكون الإِضافة:
3 - "ملءَ السماوات، وملءَ الأرض، وملءَ ما شئت من شيء بعد، أهلَ (4)
الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكُلّنا لك عبد، [اللهمّ] لا مانع لما
أعطيت، [ولا مُعطي لما منعت]، ولا ينفعُ ذا الجَد منك الجَدُّ" (5).
وتارة يقول في صلاة الليل:
4 - "لربّي الحمد، لربّي الحمد"، يكرّر ذلك؛ حتى كان قيامه نحواً من ركوعه
الذي كان قريباً من قيامه الأوّل، وكان قرأ فيه سورة البقرة" (6).
__________
(1) أخرجه البخاري: 805 ومسلم: 411
(2) أخرجه البخاري: 795، وأحمد.
(3) أخرجه مسلم: 478، وأبو عوانة.
(4) منصوب على النداء، هذا هو الأشهر، وجوّز بعضهم رفْعه على تقدير أنت أهل
الثناء، والمختار النصب، قاله النووي.
(5) أخرجه مسلم: 477، وأبو عوانة، وأبو داود.
(6) أخرجه أبو داود، والنسائي بسند صحيح، وهو مخرّج في "الإرواء" (335).
(2/55)
5 - "ربّنا ولك الحمد، حمداً كثيراً
طيِّباً مبارَكاً فيه، [مباركاً عليه؛ كما يحبّ ربنا ويرضى] ".
قاله رجل كان يصلّي وراءه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدما رفع
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأسه من الركعة وقال: "سمع الله لمن
حمده"، فلما انصرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
"من المتكلّم آنفاً؟ " فقال: أنا يا رسول الله! فقال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لقد رأيت بضعة وثلاثين مَلَكاً يبتدرونها
(1) أيهم يكتبها أولاً" (2).
التسميع على كلّ مصلٍّ سواءٌ أكان إِماماً أو مأموماً أو منفرداً: عن أنس
بن مالك قال: "سقط النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن فرس
فَجُحِش (3) شقُّه الأيمن، فدخَلنا عليه نَعُودُه، فحضرت الصلاة، فصلّى بنا
قاعداً، فصلّينا وراءه قعوداً، فلمّا قضى الصلاة قال: إِنّما جُعل الإِمام
ليؤتمّ به، فإِذا كبّر فكبِّروا، وإِذا سجد فاسجدوا، وإِذا رفع فارفعوا،
وإِذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربّنا ولك الحمد، وإِذا صلّى قاعداً
فصلّوا قعوداً أجمعُون" (4).
قال شيخنا -حفظه الله- في "صفة الصلاة" (ص 135): "تنبيه: هذا الحديث لا يدل
على أنَّ المؤتمّ لا يشارك الإِمام في قوله: "سمع الله لمن حمده"، كما لا
يدلّ على أنَّ الإِمام لا يشارك المؤتمّ في قوله: "ربّنا ولك الحمد"؛ إِذ
أنَّ الحديث لم يُسَق لبيان ما يقوله الإِمام والمؤتمّ في هذا
__________
(1) أي: يعجلون لرفعها ويستبقون إِلى ذلك. "المحيط".
(2) أخرجه مالك، والبخاري: 799، وأبو داود.
(3) أي: خُدش.
(4) أخرجه البخاري: 805، ومسلم: 411، وتقدّم بدون ذِكر المناسبة.
(2/56)
الركن؛ بل لبيان أن تحميدَ المؤتم إِنّما
يكون بعد تسميع الإِمام، ويؤيد هذا أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان يقول التحميدَ وهو إِمام، وكذلك عموم قوله عليه الصلاة
والسلام: "صلّوا كما رأيتموني أصلّي"، يقتضي أن يقول المؤتمّ ما يقوله
الإِمام كالتسميع وغيره.
ومن شاء زيادة الاطلاع؛ فليراجع رسالة الحافظ السيوطي في هذه المسألة: "دفع
التشنيع في حكم التسميع" ضِمن كتابه "الحاوي للفتاوى" (1/ 529) انتهى كلام
شيخنا -حفظه الله تعالى-.
وبتسميع المأموم يقول الإِمام النووي (1) كما في "شرح مسلم" (4/ 193): "
... وأنّه يُستحبّ لكلّ مصلٍّ من إِمام ومأموم ومنفرد؛ أن يقول: "سمع الله
لمن حمِده؛ ربنا لك الحمد، ويجمع بينهما فيكون قوله: يسمع الله لمن حمده في
حال ارتفاعه، وقوله: ربّنا ولك الحمد في حال اعتداله لقوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي". [وقد تقدّم].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان يقول: "سمع الله لمن حمِده؛ حين يرفع صلبه من الركعة، ثمَّ
يقول وهو قائم: ربّنا ولك الحمد" (2).
قال شيخنا في "تمام المنّة" (ص190): بعد أن ذكر الحديث السابق، وأشار إِلى
تخريجه في "الإِرواء" بزيادات كثيرة: "من الواضح أنَّ في هذا الحديث
ذِكْرين اثنين:
أحدهما: قوله: "سمع الله لمن حمده" في اعتداله من الركوع.
__________
(1) وبه يقول الكرماني كذلك (5/ 105).
(2) أخرجه أحمد والشيخان، وانظر "الإرواء" (331).
(2/57)
والآخر: قوله: "ربنّا ولك الحمد" إِذا
استوى قائماً.
فإِذا لم يقل المقتدي ذِكر الاعتدال، فسيقول مكانه ذِكر الاستواء، وهذا أمر
مشاهَد من جماهير المصلين، فإِنّهم ما يكادون يسمعون منه: "سمع الله لمن
حمده"؛ إلاَّ وسبقوه بقولهم: "ربّنا ولك الحمد"، وفي هذا مخالفة صريحة
للحديث، فإِنْ حاول أحدهم تجنُّبها وقع في مخالفة أخرى، وهي إِخلاء
الاعتدال من الذكر المشروع فيه بغير حُجّة.
قال النووي -رحمه الله- (3/ 420): "ولأنَّ الصلاة مبنية على أن لا يفتر عن
الذِّكر في شيء منها، فإِنْ لم يقل بالذِّكرين في الرفع والاعتدال؛ بقي أحد
الحالين خالياً عن الذكر".
بل إِنني أقول [الكلام لشيخنا -حفظه الله-]: إِن التسميع في الاعتدال واجب
على كل مصلّ؛ لثبوت ذلك في حديث "المسيء صلاته" فقد قال - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه: "إِنها لا تتمّ صلاة أحدكم حتى يُسبغ الوضوء كما
أمَره الله ... ثمَّ يكبّر ... ويركع حتى تطمئن مفاصله وتسترخي، ثمَّ يقول:
سمع الله لمن حمده، ثمَّ يستوي قائماً حتى يقيم صلبه ... " الحديث (1).
فهل يجوز لأحد بعد هذا أن يقول بأن التسميع لا يجب على كلّ مصلٍّ؟! ". اهـ
وانظر للمزيد من الفائدة "فتح الباري" تحت الحديث (796).
هذا وقد ثبت أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول
حين الاعتدال من الركوع:
__________
(1) أخرجه أبو داود والنسائي والسياق له، وغيرهما بسند صحيح. وهو مخرج في
"صحيح أبي داود" (804).
(2/58)
سمع الله لمن حمده ربّنا ولك الحمد، وانظر
"صحيح البخاري" (735).
كيف يهوي إِلى السجود
كيفية الهوي إِلى السجود من المسائل الخلافية عند العلماء، فمِن قائل بوضْع
الركبتين قبل اليدين، ومِن قائل بوضع اليدين قبل الركبتين.
واستدلّ أهل العلم على الأوّل بحديث شريك عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل
بن حجر قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا
سجد وضع ركبتيه قبل يديه.
وقد بيَّن شيخنا في "تمام المِنّة" (ص 194) وجْه تضعيف الحديث من الناحية
الحديثية والفقهية:
أمّا الحديثية: فإِنَّ شريكاً وهو -ابن عبد الله القاضي- ضعيف سيء الحفظ
فلا يُحتجّ به إِذا انفرد، فكيف إِذا خالف؟
وذكَر قول الحافظ في "بلوغ المرام": "إِنَّ حديث أبي هريرة [الذي ينص على
وضْع اليدين قبل الركبتين] أقوى من حديث وائل وقال: وذَكر نحوه عبد الحقّ
الإِشبيلي".
ويرى ابن القيّم -رحمه الله- أنَّ الحديث انقلب على الراوي وأنَّ أصله
"وليضع ركبتيه قبل يديه".
قال شيخنا في "تمام المنة" (ص194 - 195): "وإنّما حمَله على هذا، زعْم آخر
له، وهو قوله: "إِنَّ البعير يضع يديه قبل ركبتيه"، قال: "فمقتضى النهي عن
البروك كبروك البعير؛ أن يضع المصلّي ركبتيه قبل
(2/59)
يديه! ".
وسبب هذا كله أنَّه خفي عليه ما ذكَره علماء اللغة كالفيروزآبادي وغيره:
"أنّ ركبتي البعير في يديه الأماميّتين".
ولذلك قال الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 150): "إِنّ البعير ركبتاه في
يديه، وكذلك في سائر البهائم، وبنو آدم ليسو كذلك، فقال: لا يبرك على
ركبتيه اللتين في رجليه كما يبرك البعير على ركبتيه اللتين في يديه، ولكن
يبدأ فيضع أولاً يديه اللتين ليس فيهما ركبتاه، ثمَّ يضع ركبتيه، فيكون ما
يفعل في ذلك بخلاف ما يفعل البعير" (1).
واستدلَّ أهل العلم على القول الثاني بما ثبت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه "كان يضع يديه على الأرض قبل ركبتيه" (2).
واستدلوا أيضاً بأمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك
وقوله: "إِذا سجَد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه"
(3). وهذا قول أصحاب الحديث.
وجاء في "صحيح البخاري" "كتاب الأذان" (باب يهوي بالتكبير حين
__________
(1) قلت: وهذا هو تحرير المقام وفصْل الخِطاب وبالله التوفيق.
(2) أخرجه ابن خزيمة والدارقطني، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وما عارضه
من الحديث لا يصح، وقد قال به مالك، وعن أحمد نحوه كما في "التحقيق" لابن
الجوزي، وقد روى المروزي في "مسائله" بسند صحيح عن الإمام الأوزاعي قال:
"أدركْتُ الناس يضعون أيديهم قبل رُكَبهم".
(3) أخرجه البخاري في "التاريخ" وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (746)،
وانظر "الإرواء" (2/ 78)، و"صفة الصلاة" (ص 140).
(2/60)
يسجد) وقال نافع: كان ابن عمر يضع يديه قبل
ركبتيه (1) ولشيخنا -عافاه الله وشفاه- كلام مفيد في "الضعيفة" تحت الحديث
(929) فارجع إِليه -إِن شئت-.
14 - السجود وهو ركن والطمأنينة فيه -وهما رُكنان-:
لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربّكم وافعلوا
الخير لعلّكم تُفلحون} (2).
وأمَر عليه الصلاة والسلام بذلك المسيء صلاته فقال له: "لا تتمّ صلاةٌ لأحد
من الناس حتى ... ثمَّ يسجد حتى تطمئنّ مفاصله" (3).
وفي رواية: "إِذا أنت سجدت فأمكنْتَ وجهك ويديك حتى يطمئنّ كل عظم منك إِلى
موضعه" (4).
"وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمُر بإِتمام الركوع
والسجود، ويضرب لمن لا يفعل ذلك مثَل الجائع؛ يأكل التمرة والتمرتين لا
تُغنيان عنه شيئاً، وكان يقول فيه: "إِنَّه من أسوأ الناس سرقة".
وكان يحكم ببطلان صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود؛ كما سبق تفصيله
في "الركوع"، وأمَر "المسيء صلاته" بالاطمئنان في
__________
(1) قال شيخنا في "مختصر البخاري" (1/ 199): "وصله ابن خزيمة والطحاوي
والحاكم وغيرهم بسند صحيح".
(2) الحج: 77
(3) أخرجه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وانظر "صفة الصلاة" (141).
(4) أخرجه ابن خزيمة بسند حسن، وانظر "الصِّفة" (142).
(2/61)
السجود" (1).
السجود على سبعة أعضاء:
وهي الجبهة والكفّان والركبتان والقدمان مع مراعاة تمكين الأنف.
عن ابن عبّاس أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
"أُمرتُ أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة (2) (وأشار بيده على أنفه) واليدين،
والرّجلين، وأطراف القدمين" (3).
وعن العباس بن عبد المطلب أنَّه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يقول: "إذا سجد العبد سَجد معه سبعة أطراف. وجهُه وكفّاه
وركبتاه وقدماه" (4).
وفي لفظ: "سجد معه سبعة آراب (5) " (6).
وفي الحديث: "لا صلاة لمن لا يصيبُ أنفه من الأرض ما يصيب الجبين" (7).
__________
(1) انظر "صفة الصلاة" (145).
(2) وهذا يدل على أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل
هذين العضوين كعضو واحد في السجود، وانظر "صفة الصلاة" (143).
(3) أخرجه مسلم: 490
(4) أخرجه مسلم: 491
(5) أي: أعضاء، واحدها إرْب بالكسر والسكون. "النهاية".
(6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (790)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (223)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (723)، والنسائي "صحيح سنن
النسائى" (1052)، وانظر "صفة الصلاة" (ص 143).
(7) أخرج الدارقطني والطبراني وغيرهما، وانظر "صفة الصلاة" (ص 142).
(2/62)
وفي حديث أبي حُميد: "كان إِذا سجد أمكن
جبهته وأنفه من الأرض" (1).
وقال بعض أهل العلم فيمن سجد على جبهته دون أنفه: "يجزئه، وقال غيرهم: لا
يجزئه حتى يسجد على الجبين والأنف".
قال شيخنا: "وهذا هو الحقّ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"لا صلاة لمن لا يمسّ أنفه الأرض ما يمسّ الجبين"، وهو حديث صحيح على شرط
البخاري كما قال الحاكم والذهبي ... " (2).
صفة السجود (3)
و"كان [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] يعتمد على كفيه [ويبسُطُها]
" (4)، ويضم أصابعَهُما (5)، ويوجهها قِبَل القبلة (6).
و"كان يجعلهما حذو مَنكِبيه" (7). وأحياناً "حذو أذنيه" (8).
__________
(1) أخرجه أبو داود وغيره، وأصْله في البخاري وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في
"الإِرواء" (309).
(2) انظر "تمام المنّة" (170).
(3) عن "صفة الصلاة" (ص 141) بتصرف.
(4) أخرجه أبو داود، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.
(5) أخرجه ابن خزيمة، والبيهقي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
(6) أخرجه البيهقيّ بسند صحيح، وعند ابن أبي شيبة والسرَّاج توجيه الأصابع
من طريق آخر.
(7) أخرجه أبو داود، والترمذي وصححه، هو وابن الملقن، وهو مخرَّج في
"الإرواء" (309).
(8) أخرجه أبو داود، والنسائي بسند صحيح.
(2/63)
و"كان يُمكّن أنفه وجبهته من الأرض" (1).
وقال للمسيء صلاتَه: "إِذا سجدت؛ فمكّن لسجودك" (2).
وفي رواية: "إِذا أنت سجدتَ؛ فأمكنْتَ وجهَك ويديك؛ حتى يطمئن كلّ عظم منك
إِلى موضعه" (3). و"كان يمكِّن أيضاً ركبتيه وأطراف قدميه" (4). و"يستقبل
[بصدور قدميه و] بأطراف أصابعهما القبلة" (5)، و "يرصّ عقبيه" (6). و"ينصب
رجليه" (7)، وكان يفتخ أصابعهما (8).
__________
(1) أخرجه أبو داود، والترمذي وصححه، هو وابن الملقن، وهو مخرَّج في
"الإِرواء" (309).
(2) أخرجه أبو داود، وأحمد بسند صحيح.
(3) أخرجه ابن خزيمة بسند حسن.
(4) أخرجه البيهقي بسند صحيح، وابن أبي شيبة، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(5) أخرجه البخاري: 808، وأبو داود، والزيادة لابن راهويه في "مسنده" وروى
ابن سعد عن ابن عمر أنَه كان يحبّ أن يستقبل كل شيء منه القبلة إِذا صلّى،
حتى كان يستقبل بإبهامه القبلة.
(6) أخرجه الطحاوي، وابن خزيمة، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.
(7) أخرجه البيهقيّ بسند صحيح.
(8) أخرجه أبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه.
ويفتخ: بالخاء المعجمة؛ أى: يغمز موضع المفاصل منها، ويثنيها إِلى باطن
الرجل. "النهاية".
(2/64)
و"كان لا يفترش ذراعيه" (1)؛ بل "كان
يرفعهما عن الأرض، ويباعدهما عن جنبيه حتى يبدو بياض إِبطيه من ورائه" (2)،
و"حتى لو أن بَهمة (3) أرادت أن تمرّ تحت يديه؛ مرَّت" (4).
وكان يبالغ في ذلك حتى قال بعض أصحابه: "إِنْ كنا لنأوي (5) لرسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ مما يجافي بيديه عن جنبيه إِذا سجد"
(6).
وكان يقول: "اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط (وفي لفظ:
كما يبسط) الكلب" (7).
مقدار السجود
كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في السجود أنواعاً من
الأذكار والأدعية، وأدنى ما يجزئ في السجود والركوع؛ مقدار تسبيحة واحدة،
وللمصلّي منفرداً الزياده في التسبيح ما أراد، وكلّما زاد كان أولى،
والأحاديث الصحيحة في تطويله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
__________
(1) أخرجه البخاري معلقاً مجزوماً به بلفظ: "سجد النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووضَع يديه غير مفترش ولا قابِضهما"، وموصولاً
(باب-141) برقم (828)، ومسلم: 498 بلفظ: "وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه
افتراش السَّبع".
(2) أخرجه البخاري: 390، ومسلم: 497، وهر مخرّج في "الإِرواء" (359).
(3) البَهمة: واحدة البهم، وهي أولاد الغنم.
(4) أخرجه مسلم: 496، وأبو عوانة، وابن حبان.
(5) أي: نرثي ونرِقّ.
(6) أخرجه أبو داود، وابن ماجه بسند حسن.
(7) أخرجه البخاري: 822، ومسلم: 493، وأبو داود، وأحمد.
(2/65)
ناطقة بهذا، وكذا الإِمام إذا كان
المؤتمُّون لا يتأذّون بالتطويل. قاله الشوكاني وذكَره السيد سابق في "فقه
السنّة".
أذكار السجود (1)
كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في هذا الركن
أنواعاً من الأذكار والأدعية، تارة هذا، وتارة هذا:
1 - "سبحان ربي الأعلى (ثلاث مرات) " (2).
و"كان -أحياناً- يكررها أكثر من ذلك" (3).
وبالغ في تكرارها مرة في صلاة الليل حتى كان سجوده قريباً من قيامه، وكان
قرأ فيه ثلاث سور من الطوال: {البقرة} و {النساء} و {آل عمران}، يتخللُها
دعاءٌ واستغفار (4).
2 - "سبحان ربي الأعلى وبحمده" (5).
3 - "سبوح قدّوس رب الملائكة والروح" (6).
__________
(1) عن "صفة الصلاة" (145).
(2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (774)، وابن ماجه والدارقطني
والطحاوى والبزار، والطبراني في "الكبير" عن سبعة من الصحابة.
(3) وتقدّم.
(4) وتقدّم.
(5) أخرجه أبو داود والدارقطني وأحمد والطبراني والبيهقي، وصححه شيخنا في
المصدر المذكور.
(6) أخرجه مسلم: 487
(2/66)
4 - "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر
لي"، وكان يكثر منه في ركوعه وسجوده؛ يتأول القرآن (1).
5 - "اللهم لك سجْدتُ، وبك آمنت، ولك أسلمت، [وأنت ربي]، سجد وجهي للذي
خلقه وصوَّره، [فأحسن صوره]، وشق سمعه وبصره، [فـ] تبارك الله أحسن
الخالقين" (2).
6 - "اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجلّه، وأوله وآخره، وعلانيته وسرَّه"
(3).
7 - "سجد لك سوادي وخيالي، وآمن بك فؤادي، أبوء بنعمتك عليَّ، هذي يدي وما
جنيْت على نفسي" (4).
8 - "سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة (5) " (6)، وهذا وما
بعده كان يقوله في صلاة الليل.
__________
(1) أخرجه البخاري: 817، ومسلم: 484، وهذا النوع من أذكار الركوع أيضاً،
وقد مضى أنّ معناه: يعمل بما أمره به في القرآن.
(2) أخرجه مسلم: 771، وأبو عوانة والطحاوى والدارقطني.
(3) أخرجه مسلم: 483
(4) أخرجه ابن نصر والبزار والحاكم، وصححه؛ ورده الذهبي، لكن له شواهد
مذكورة في الأصل.
(5) في "النهاية": العظمة والملك، وقيل: هي عبارة عن كمال الذات وكمال
الوجود ولا يوصف بهما إلاَّ الله تعالى.
(6) أخرجه أبو داود والنسائي بسند صحيح.
(2/67)
9 - "سبحانك [اللهم] وبحمدك، لا إِله إلاَّ
أنت" (1).
10 - "اللهم اغفر لي ما أسررت، وما أعلنت" (2).
11 - "اللهم اجعل في قلبي نوراً، [وفي لساني نوراً]، واجعل في سمعي نوراً،
واجعل في بصري نوراً، واجعل من تحتي نوراً، واجعل من فوقي نوراً، وعن يميني
نوراً وعن يسارى نوراً، واجعل أمامي نوراً، واجعل خلفي نوراً، [واجعل في
نفسي نوراً]، واعظم لي نوراً" (3).
12 - "اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا
أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" (4).
النهي عن قراءة القرآن في السجود
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النّبيّ قال: "ألا وإنّي نهيتُ أن أقرأ
القرآن راكعاً أو ساجداً" (5).
فضل السجود والحثّ عليه
عن معدان بن أبي طلحة اليَعمَري قال: "لقيت ثوبان مولى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
__________
(1) أخرجه مسلم: 485 بدون اللهمّ.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (62/ 112/1)، والنسائي، وصححه الحاكم، ووافقه
الذهبي.
(3) أخرجه مسلم: 763
(4) أخرجه مسلم: 486
(5) أخرجه مسلم: 479، وتقدّم.
(2/68)
فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلُني الله به
الجنّة أو قال قلت: بأحبّ الأعمال إِلى الله فسكت. ثمَّ سألتُه فسكَت. ثمَّ
سألتُه الثالثة فقال: سألتُ عن ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فقال: "عليك بكثرة السجود لله، فإِنّك لا تسجد لله سجدة إلاَّ
رفَعك الله بها درجة وحطَّ عنك بها خطيئة"، قال معدان: ثمَّ لقيت أبا
الدرداء فسألتُه فقال لي مِثل ما قال لي ثوبان" (1).
عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال: "كنتُ أبِيتُ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتيته بوَضوئه وحاجته فقال لي: "سَلْ" فقلت: أسألك
مرافقتك في الجنّة. قال: "أوْ غيرَ ذلك؟ " قلت: هو ذاك. قال: "فأعنِّي على
نفسك بكثرة السجود" (2).
وعن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
"أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء" (3).
وفي الحديث: "ما من أمّتي من أحد إلاَّ وأنا أعرفه يوم القيامة"، قالوا:
وكيف تعرفهم يا رسول الله في كثرة الخلائق؛ قال: "أرأيتَ لو دخلتَ صِيرةً
(4) فيها خيل دُهم (5) بُهم (6)، وفيها فرسٌ أغرُّ محجَّلٌ (7)؛ أما كنت
تعرفه
__________
(1) أخرجه مسلم: 488
(2) أخرجه مسلم: 489
(3) أخرجه مسلم: 482
(4) الصِّيَرة: حظيرة من خشب وحجارة تبنى للغنم والبقر ... "لسان العرب".
(5) أدهم وهو الأسود. "النهاية".
(6) البُهم: هو في الأصل الذي لا يخالط لونه لون سواه. "شرح النووي".
(7) تقدّمت في أول (باب الوضوء).
(2/69)
منها؟ ". قال: بلى. قال: "فإِنَّ أمّتي
يومئذٍ غُرّ (1) من السجود، محجَّلون من الوضوء" (2).
15 - الرفع من السجود وهو ركن والطمأنينة فيه (3) -وهما رُكنان-:
فقد أمَر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك المسيء صلاته فقال:
"لا تتمّ صلاةٌ لأحدٍ من الناس حتى ... يسجد، حتى تطمئنّ مفاصله، ثمَّ
يقول: "الله أكبر" ويرفع رأسه حتى يستوي قاعداً" (4).
و"كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطمئنّ حتى يرجع كلّ عظم إِلى
موضعه" (5).
"كان يرفع يديه مع هذا التكبير" أحياناً (6).
__________
(1) تقدّمت في أول (باب الوضوء).
(2) أخرجه أحمد بسند صحيح، والترمذي بعضه وصححه، وهو مخرج في "الصحيحة"،
وانظر "صفة الصلاة" (ص 149).
(3) انظر "صفة الصلاة" (ص 151).
(4) أخرجه أبو داود والحاكم وصحّحه ووافقه الذهبي.
(5) أخرجه أبو داود والبيهقي بسند صحيح.
(6) أخرجه أحمد وأبو داود بسند صحيح، وبالرفع هاهنا، وعند كل تكبيرة قال
أحمد، ففي "البدائع" لابن القيّم (4/ 89): "ونقل عنه الأثرم وقد سُئل عن
رفع اليدين؟ فقال: في كل خفْض ورفْع، قال الأثرم: رأيت أبا عبد الله يرفع
يديه في الصلاة في كل خفْض ورفْع".
وبه قال ابن المنذر وأبو علي من الشافعية، وهو قول عن مالك والشافعي؛ كما
في "طرح التثريب"، وصحّ الرفع هنا عن أنس وابن عمرَ ونافع وطاووس، والحسن
البصرى وابن سيرين، وأيوب السختياني؛ كما في "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 106)
بأسانيد =
(2/70)
ثمَّ "يفرش رجله اليسرى فيقعد عليها
مطمئناً" (1)، وأمر بذلك "المسيء صلاته" فقال له: "إِذا سجدت فمكِّن
لسجودك، فإِذا رفعْت فاقعد على فَخِذِك اليسرى" (2)، و"كان ينصب (3) رجله
اليمنى" (4)، و"يستقبل بأصابعها القبلة" (5).
و"كان يطيلها (6) حتى تكون قريباً من سَجْدته" (7)، وأحياناً "يمكث حتى
يقول القائل: قد نسي" (8).
الأذكار بين السجدتين (9)
كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في هذه الجلسة:
__________
= صحيحة عنهم.
(1) أخرجه البخاري: 828، ومسلم: 498 وأبو داود بسند صحيح، وأبو عوانة.
(2) أخرجه أحمد وأبو داود بسند جيد.
(3) النصب: إِقامة الشيء ورفْعُه.
(4) أخرجه البخاري: 828
(5) أخرجه النسائي بسند صحيح.
(6) أي: جلسته بين السجدتين.
(7) أخرجه البخاري: 820، ومسلم: 471 نحوه.
(8) أخرجه البخاري: 821، ومسلم: 472، قال ابن القيّم: "وهذه السنّة تركَها
الناس من بعد انقراض عصر الصحابة، وأمّا من حَكَّم السنة، ولم يلتفت إِلى
ما خالفها؛ فإِنّه لا يعبأ بما خالف هذا الهدي".
(9) عن "صفة الصلاة" (ص 153) بتصرّف.
(2/71)
1 - "اللهم (وفي لفظ: ربّ)! اغفر لي،
وارحمني، [واجبرني] (1)، [وارفعني]، واهدني، [وعافني]، وارزقني" (2)؛ وتارة
يقول:
2 - "رب! اغفر لي، رب اغفر لي" (3). وكان يقولهما في "صلاة الليل" (4).
16 - الإِقعاء بين السجدتين:
عن أبي الزبير أنّه سمع طاوُساً يقول: قُلنا لابن عباس في الإِقعاء على
القدمين؟ فقال: هي السُّنة، فقُلنا له: إِنا لنراه جفاءً بالرجل، فقال ابن
عباس:
__________
(1) أي: أغْنني، من جبَر الله مصيبته: أي: ردّ عليه ما ذهب منه وعوّضه،
وأصْلُه من جبْر الكسر. "النهاية".
(2) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.
(3) أخرجه ابن ماجه بسند حسن، وانظر "صحيح سنن ابن ماجه" (731). وقد اختار
الدعاء بهذا الإِمام أحمد.
(4) ولا ينفي ذلك مشروعية هذه الأوراد في "الفرض"؛ لعدم وجود الفرق بينه
وبين النفل، وبهذا يقول الشافعي وأحمد وإسحاق؛ يَرون أن هذا جائز في
المكتوبة والتطوع؛ كما حكاه الترمذي.
وذهب إِلى مشروعية ذلك الإمام الطحاوي أيضاً في "مشكل الآثار"، والنظر
الصحيح يؤيد ذلك؛ لأنّه ليس في الصلاة مكان لا يشرع فيه ذِكر، فينبغي أن
يكون كذلك الأمر هاهنا، وهذا بيّن لا يخفى.
(2/72)
بل هي سنّه نبيّك (1) - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (2).
وعن معاوية بن حديج قال: "رأيت طاوساً يقعي، فقلت: رأيتك تقعي! قال: ما
رأيتني أقعي، ولكنها الصلاة، رأيت العبادلة الثلاثة يفعلون ذلك: عبد الله
بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير؛ يفعلونه. قال أبو زهير:
وقد رأيته يقعي" (3).
قال شيخنا في "الصحيحة" تحت الحديث (383): ففي الحديث وهذه الآثار دليل على
شرعية الإِقعاء المذكور، وأنه سُنّة يُتعبّد بها، وليست للعذر كما زعم بعض
المتعصبة، وكيف يكون كذلك وهؤلاء العبادلة اتفقوا على الإِتيان به في
صلاتهم، وتَبِعهم طاوس التابعي الفقيه الجليل، وقال الإِمام أحمد في "مسائل
المروزي" (19): "وأهل مكة يفعلون ذلك".
فكفى بهم سلفاً لمن أراد أن يعمل بهذه السُّنّة ويحييها.
ولا منافاة بينها وبين السّنة الأخرى -وهي الافتراش- بل كلٌ سُنّة، فيفعل
__________
(1) قال النووي في "شرحه" (5/ 19): الإقعاء نوعان: أحدهما: أن يلصق أليتيه
بالأرض وينصب ساقيه ويضع يديه على الأرض كإِقعاء الكلب، هكذا فسّره أبو
عبيدة معمر بن المثنى، وصاحبه أبو عبيد القاسم بن سلام، وآخرون من أهل
اللغة، وهذا النوع هو المكروه الذي ورد فيه النهي، والنوع الثاني: أن يجعل
أليتيه على عقبيه بين السجدتين، وهذا هو مراد ابن عبّاس [رضي الله عنهما]
بقوله سنة نبيّكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد نصّ الشافعي
-رضي الله عنه- في البويطي والإملاء على استحبابه في الجلوس بين السجدتين.
(2) أخرجه مسلم: 536
(3) أخرجه أبو إِسحاق الحربي في غريب الحديث وقال شيخنا: إِسناده صحيح
وانظر "الصحيحة" تحت الحديث (383).
(2/73)
تارة هذه وتارة هذه؛ اقتداءً به - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحتى لا يضيع عليه شيء من هديه عليه الصلاة
والسلام.
17 - جِلسة الاستراحة:
هي جلسة خفيفة يجلسها المصلّي بعد الفراغ من السجدة الثانية من الركعة
الأولى؛ قبل النهوض إِلى الركعة الثانية، وبعد الفراغ من السجدة الثانية من
الركعة الثالثة؛ قبل النهوض إلى الركعة الرابعة (1).
عن أبي حميد الساعدي قال: سمعْته وهو في عشرة من أصحاب النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحدهم أبو قتادة بن ربعي - يقول: أنا أعلمُكم
بصلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكَر الحديث إِلى
أن قال: ثمَّ أهوى إِلى الأرض ساجداً، ثمَّ قال: الله أكبر، ثمَّ جافى
عضديه عن إِبطيه، وفتَح أصابع رجليه، ثمَّ ثنَى رجله اليسرى وقعد عليها،
ثمَّ اعتدل حتى يرجع كلّ عظم في موضعه معتدلاً، ثمَّ أهوى ساجداً، ثمَّ
قال: الله أكبر، ثمَّ ثنَى رجله وقعد، واعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه،
ثمَّ نهَض" (2).
قال شيخنا في "صفة الصلاة" (154): "وهذا الجلوس يُعرف عند الفقهاء بجلسة
الاستراحة وقد قال به الشافعي، وعن أحمد نحوه؛ كما في "التحقيق" (111/ 1)
وهو الأحرى به؛ لما عُرف عنه من الحرص على اتباع السنّة التي لا معارض لها.
__________
(1) "فقه السنة" (ص169).
(2) أخرجه البخاري في "جزء رفع اليدين" وأبو داود والترمذي وغيرهم، وصححه
شيخنا في "الإِرواء" (305).
(2/74)
وقد قال ابن هانئ في "مسائله عن الإِمام
أحمد" (1/ 57): "رأيت أبا عبد الله (يعني: الإِمام أحمد) ربما يتوكأ على
يديه إِذا قام في الركعة الأخيرة، وربما استوى جالساً، ثمَّ ينهض"، وهو
اختيار الإِمام إِسحاق بن راهويه، فقد قال في "مسائل المروزي" (1/ 147/2):
"مضت السنّة من النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعتمد
على يديه ويقوم؛ شيخاً كان أو شابًّا"، وانظر "الإِرواء" (2/ 82 - 83).
ولشيخنا كلام مهمّ في "تمام المنّة" (ص210) فارجع إليه -إِن شئت-.
بماذا يبدأ حين الرفع من السجود ليقوم إِلى الركعة الثانية؟
الراجح فيها أن يبدأ برفع ركبتيه قبل يديه، لحديث مالك بن الحويرث أنه كان
يقول: "ألا أحدّثكم عن صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-؛ فيصلّي في غير وقت الصلاة، فإِذا رفع رأسه من السجدة الثانية في أول
ركعة استوى قاعداً، ثمَّ قام، فاعتمد على الأرض". أخرجه البخاري، والشافعي
في "الأم"، والسياق له (1).
__________
(1) قاله شيخنا في "تمام المنّة" (ص 196) -بحذف- ثم قال: "فهذا نصٌّ في أنه
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتمد بيديه على الأرض، وبه قال
الشافعي. قال البيهقي: "وروينا عن ابن عمر أنّه كان يعتمد على يديه إِذا
نهض، وكذلك كان يفعل الحسن وغير واحد من التابعين".
قلت: وحديث ابن عمر رواه البيهقي بسند جيد عنه وموقوفاً ومرفوعاً كما بينته
في "الضعيفة" تحت الحديث (967)، وفي "صفة الصلاة" ... ورواه أبو إِسحاق
الحربي بسند صالح مرفوعاً عنه، ويرويه الأزرق بن قيس: رأيت ابن عمر يعجن في
الصلاة: يعتمد على يديه إِذا قام. فقلت له؟ فقال: رأيت رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله. =
(2/75)
18 - الجلوس للتشهّد وصفته (1):
ينبغي أن يراعي المصلّي في جلوس التشهّد ما يأتي:
1 - أن يجلس مفترشاً فَخِذه اليسرى إِذا كانت الصلاة ركعتين؛ كالفجر، وقد
أَمَر به "المسيء صلاته" فقال له: "فإِذا جلستَ في وسط الصلاة، فاطمئنَّ
وافترش فخِذك اليسرى ثمَّ تشهّد" (2).
وأن يتورّك في التشهّد الأخير لحديث أبي حميد الساعدي: " ... فإِذا جلس في
الركعتين جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الآخرة؛
قدَّم رجله اليسرى، ونَصَب الأخرى وقعد على مقعدته" (3).
2 - وينبغي وضْع الكفّ اليمنى على الفخذِ اليمنى، والكفّ اليسرى على الفخذِ
اليسرى. فإِنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان إِذا
قعد في التشهد؛ وضع كفّه اليمنى على فخذه (وفي رواية: ركبته) اليمنى، ووضع
كفّه اليسرى على فخذه (وفي رواية: ركبته) اليسرى؛ [باسطها عليها] " (4).
__________
= قلت: ولازم هذه السنّة الصحيحة أن يرفع ركبتيه قبل يديه. إِذ لا يمكن
الاعتماد على الأرض عند القيام إلاَّ على هذه الصفة. وهذا هو المناسب
للأحاديث الناهية عن التشبه بالحيوانات في الصلاة، وبخاصة حديث أبي هريرة
في النهي عن البروك كبروك الجمل، فإِنه ينهض معتمداً على ركبتيه كما هو
مشاهد، فينبغي للمصلّي أن ينهض معتمداً على يديه مخالفة له".
(1) عن "صفة الصلاة" (ص 157) بتصرف.
(2) أخرجه أبو داود والبيهقي بسند جيد.
(3) أخرجه البخاري: 828، وغيره.
(4) أخرجه مسلم: 580 وأبو عوانة.
(2/76)
3 - ولا يجافي مرفقه عن جنبه فقد "كان -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضع حدّ (1) مرفقه الأيمن على فخذه
اليمنى".
4 - ولا يعتمد على اليد اليسرى، فإِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "نهى رجلاً وهو جالس معتمد على يده اليسرى في الصلاة
فقال: "إِنها صلاة اليهود" (2).
5 - ويقبض أصابع الكف اليمنى كلّها، ويشير بإِصبعه التي تلي الإِبهام إِلى
القبله ويرمي ببصره إِليها، ويضع إِبهامه على إِصبعه الوسطى. فقد "كان -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبسط كفه اليسرى على ركبته اليسرى،
ويقبض أصابع كفّه اليمنى كلها، ويشير بإِصبعه التي تلي الإِبهام إِلى
القبلة، ويرمي ببصره إِليها" (3).
6 - ويرفع إِصبعه ويحركها ويدعو بها؛ لحديث وائل بن حجر وفيه: "ثمَّ رفع
أصبعه، فرأيته يحرّكها يدعو بها" (4).
قال شيخنا: ففيه دليل على أن السنّة أن يستمرّ في الإِشارة وفي تحريكها
إِلى السلام. وسئل الإِمام أحمد: هل يشير الرجل بإِصبعه في الصلاة؛ قال:
نعم شديداً. ذكره ابن هاني في "مسائله عن الإِمام أحمد" (ص 80).
19 - التشهد الأوّل:
اختلف العلماء في حُكمه فمن قائل بسنّيته، ومن قائل بوجوبه.
__________
(1) أي: نهاية، وقال شيخنا: "وكأنّ المراد أنّه كان لا يجافي مرفقه عن
جنبه، وقد صرّح بذلك ابن القيّم في "الزاد"".
(2) أخرجه البيهقي والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.
(3) أخرجه مسلم: 580 وأبو عوانة وابن خزيمة.
(4) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم، وهو حديث صحيح خرجه شيخنا في
"الإرواء" تحت الحديث (352).
(2/77)
ففي "صحيح البخاري" (1) تحت (باب من لم يرَ
التشهّد الأوّل واجباً لأنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قام من الركعتين ولم يرجع)، ثمَّ ذكر حديث عبد الله بن بُحيْنَةَ: "أنَّ
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى بهم الظهر، فقام في
الركعتين الأوليين لم يجلس، فقام الناس معه، حتى إذا قضى الصلاة وانتظَر
الناس تسليمه كبَّر وهو جالس، فسجد سجدتين قبل أن يُسلِّم، ثمَّ سلّم".
قال الحافظ: "ووجه الدلالة من حديث الباب، أنَّه لو كان واجباً لرجع إِليه
لمّا سبّحوا به؛ بعد أن قام، ويُعرَف منه أنّ قول ناصر الدين بن المنيِّر
في الحاشية: لو كان واجباً لسبّحوا به ولم يسارعوا إِلى الموافقة على
الترك، غفلة عن الرواية المنصوص فيها على أنهم سبّحوا به.
وقال ابن بطال: والدليل على أنَّ سجود السهو لا ينوب عن الواجب؛ أنَّه لو
نسي تكبيرة الإِحرام لم تُجبَر فكذلك التشهد، ولأنَّه ذِكر لا يجهر به
بحال، فلم يجب كدعاء الافتتاح، واحتجّ غيره بتقريره - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناس على متابعته بعد أن علم أنهم تعمدوا تركه، وفيه
نظر.
وممن قال بوجوبه الليث وإسحاق وأحمد في المشهور وهو قول للشافعي، وفي رواية
عند الحنفية، واحتج الطبري لوجوبه بأن الصلاة فرضت أولاً ركعتين، وكان
التشهد فيها واجباً، فلمّا زيدت لم تكن الزيادة مزيلة لذلك الواجب، وأجيب
بأن الزيادة لم تتعيّن في الأخيرتين، بل يُحتمل أن يكونا هما الفرض الأول،
والمزيد هما الركعتان الأولتان بتشهدها، ويؤيده استمرار السلام بعد التشهد
الأخير كما كان، واحتج أيضاً بأنّ من تعمّد ترك
__________
(1) رقم (829).
(2/78)
الجلوس الأوّل بطلت صلاته، وهذا لا يرد
لأنَّ من لا يوجبه لا يبطل الصلاة بتركه".
وتقدّم قول النووي -بغير هذه المناسبة- "ولأنَّ الصلاة مبنيّة على أن لا
يفتر عن الذكر في شيء منها ... ".
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" بعد أن ذكر جلسة التشهد: وفرْضٌ عليه
أن يتشهّد في كلّ جلسة من الجلستين اللتين ذَكرنا.
وقال تحت المسألة (372) رادّاً على من يقول: الجلوس مقدار التشهّد فرض وليس
التشهّد فرضاً: " ... وكل هذه الأقوال خطأ، لأنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَر بالتشهد في القعود في الصلاة، فصار التشهد
فرضاً، وصار القعود الذي لا يكون التشهد إلاَّ فيه فرضاً، إِذ لا يجوز أن
يكون غير فرض ما لا يتم الفرض إِلا فيه أو به!
ثمَّ روى بإِسناده إِلى عمر أنَّه قال: "لا صلاة إلاَّ بتشهد، وعن نافع
مولى ابن عمر: من لم يتكلم بالتشهد فلا صلاة له؟ وهو قول الشافعي، وأبي
سليمان! ".
وقال رادّاً على من يقول: لو كان الجلوس الأوّل فرضاً لما أجزأت الصلاة
بتركه إِذا نسيه المرء: "هذا ليس بشيء لأنَّ السنّة التي جاءت بوجوبه هي
التي جاءت بأنَّ الصلاة تجزئ بنسيانه [وهذا قويّ وقياس المتعمّد على
النّاسي لا يصحّ] وهم يقولون: إِنَّ الجلوس عمداً في موضع القيام في الصلاة
حرام؛ تبطل الصلاة بتعمده، ولا تبطل بنسيانه، وكذلك السلام قبل تمام الصلاة
ولا فرق".
(2/79)
قال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "تلخيص صفة
الصلاة" (ص 29): "والتشهّد واجب، إِذا نسيه سجدَ سجدتي السهو" انتهى.
ويرجّح وجوبه أنَّه جاء في أفراد الأوامر التي أمرها رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "المسيء صلاته" ولفظه: "إِنها لا تتمّ صلاة
أحدكم حتى يُسبغ الوضوء" ... وذكر الحديث إِلى أن قال: "فإِذا جلسْتَ في
وسط الصلاة؛ فاطمئنّ وافترش فخذك اليسرى، ثمَّ تشهّد". وانظر "سنن أبي
داود" (764)، و"صفة الصلاة" (157)، وقد تقدّم كلام الشوكاني في "نيل
الأوطار" حول هذه القاعدة.
وقال شيخنا في "تمام المنّة" (170) بعد الحديث السابق: "وفيه دليل على وجوب
التشهّد في الجلوس الأوّل، ولازِمه وجوب الجلوس له، لأنَّه ما لا يقوم
الواجب إلاَّ به فهو واجب".
وفي الحديث: "إِذا قعدتم في كلّ ركعتين فقولوا: التحيات ... الخ" (1).
وفي لفظ: "قولوا في كلّ جلسة التحيات" (2).
20 - الصلاة على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهّد
الأوّل:
فقد "كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي على نفسه في التشهّد
الأوّل وغيره" (3).
قال شيخنا -شفاه الله وعافاه-: "وسنّ ذلك لأمته؛ حيث أمَرهم بالصلاة عليه
بعد السلام عليه، فقد قالوا: يا رسول الله! قد علِمنا كيف نُسلِّم عليك
__________
(1) أخرجه النسائي وأحمد والطبراني في "الكبير" بسند صحيح. وانظر "صفة
الصلاة" (160).
(2) أخرجه النسائي بسند صحيح. وانظر "صفة الصلاة" (160).
(3) أخرجه أبو عوانة في "صحيحه" (2/ 324) والنسائي. عن "الصفة" (164).
(2/80)
(أي: في التشهّد)، فكيف نصلّي عليك؟ قال:
قولوا: اللهمّ صل على محمّد ... الحديث، فلم يخصّ تشهّداً دون تشهّد، ففيه
دليل على مشروعية الصلاة عليه في التشهّد الأوّل أيضاً، وهو مذهب الإِمام
الشافعي، كما نص عليه في كتابه "الأمّ" (1)، وهو الصحيح عند أصحابه؛ كما
صرّح به النووي في "المجموع" (3/ 460)، واستظهرَه في "الروضة" (1/ 263 -
طبع المكتب الإِسلامي)، وهو اختيار الوزير ابن هبيرة الحنبلي في
"الإِفصاح"؛ كما نقله ابنُ رجب في "ذيل الطبقات" (1/ 280) وأقرّه، وقد جاءت
أحايثُ كثيرة في الصلاة عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
التشهّد، وليس فيها أيضاً التخصيصُ المشارُ إِليه، بل هي عامّة تشملُ كل
تشهُّد، وقد أوردْتها في الأصل تعليقاً، ولم أورِدْ شيئاً منها في المتن؛
لأنَّها ليست على شرطنا، وإن كانت من حيث المعنى يقوّي بعضها بعضاً، وليس
للمانعين المخالفين أيُّ دليل يصحّ أنْ يُحتَجّ به، كما فصّلته في "الأصل"،
كما أن القول بكراهة الزيادة في الصلاة عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في التشهد الأوّل على "اللهمّ صلّ على محمّد"، ممّا لا أصْل له
في السنّة ولا برهان عليه، بل نرى أنّ من فعَل ذلك لم يُنفِّذْ أمْر
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المتقدّم: "قولوا: اللهمّ
صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ... " إِلخ.
وفي "تمام المنّة" (ص 224): "في الردّ على الشيخ السيد سابق
__________
(1) قال -رحمه الله تعالى- تحت رقم (1456): والتشهد والصلاة على النّبيَ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهّد الأول في كل ركعة غير
الصبح تشهدان؛ تشهد أوّل، وتشهد آخر، إِن ترك التشهد الأول، والصلاة على
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد الأول ساهياً، لا
إِعادة عليه، وعليه سجدتا السهو لتركه.
(2/81)
-حفظه الله تعالى- في إِيراده قول ابن
القيّم -رحمه الله-: لم يُنقَل أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- صلّى عليه وعلى آله في التشّهّد الأوّل ... ومن استحبَّ ذلك فإِنما
فَهِمه من عمومات وإطلاقات؛ قد صحّ تبيين موضعها وتقييدها بالتشهّد الأخير.
قال شيخنا -حفظه الله-: لا دليل تقوم به الحّجة يصلح لتقييد العمومات
والمطلقات المشار إِليها بالتشهّد الأوّل، فهي على عمومها، وأقوى ما استدلّ
به المخالفون حديث ابن مسعود المذكور في الكتاب (1)، وهو غير صحيح الإِسناد
لانقطاعه كما ذكَر المؤلف (2)، وقد استوفى ابن القيّم -رحمه الله- أدلّة
الفريقين، وبيَّن ما لها وما عليها في "جلاء الأفهام في الصلاة على خير
الأنام"، فراجِعه يظهر لك صواب ما رجّحناه.
ثمَّ وقفْتُ على ما ينفي مطلق قول ابن القيّم: "لم يُنقل أنَّه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى عليه وعلى آله في التشهد الأوّل"، وهو
قول عائشة -رضي الله عنها- في صفة صلاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في الليل:
"كنا نعدّ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سواكه
وطَهوره، فيبعثه الله فيما شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ويتوضّأ، ثمَّ
يصلّي تسع ركعات لا يجلس فيهنّ إِلا عند الثامنة، فيدعو ربه ويصلّي على
نبيِّه، ثمَّ ينهض ولا يُسلّم، ثمَّ يصلّي التاسعة، فيقعد، ثمَّ يحمد ربه
ويصلّي على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويدعو، ثمَّ يُسلّم
تسليماً يُسمِعنا".
__________
(1) ولفظه: "كان النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا جلس في
الركعتين الأوليين؛ كأنّه على الرَّضف".
(2) فقد قال -حفظه الله تعالى-: "وقال الترمذي حسن إلاَّ أن عبيدة لم يسمع
من أبيه".
(2/82)
أخرجه أبو عوانة في "صحيحه" (2/ 324) وهو
في "صحيح مسلم" (2/ 170)، لكنه لم يَسُقْ لفظه.
ففيه دلالة صريحة على أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى
على ذاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهّد الأوّل كما
صلّى في التشهّد الآخر، وهذه فائدة عزيزة فاستفِدها، وعضَّ عليها بالنواجذ.
ولا يقال: إنّ هذا في صلاة الليل، لأننا نقول: الأصل أنّ ما شُرع في صلاة
شُرع في غيرها؛ دون تفريق بين فريضة أو نافلة، فمن ادَّعى الفرق فعليه
الدليل". انتهى.
قال ابن حزم في "المحلّى" تحت المسألة (458): "ويستحبّ إِذا أكمل التشهّد
في كلتي الجلستين أن يصلّي على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فيقول: اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد وعلى أزواجه
وذريته، كما صليت على إِبراهيم ... ".
قلت: ومن الأدلة على ذلك أيضاً حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-:
"كنّا لا ندري ما نقول في كلّ ركعتين غير أنْ نسبّح، ونكبّر، ونحمد ربّنا،
وأنّ محمّداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم فواتح الخير
وخواتمه، فقال: "إِذا قعدتم في كل ركعتين، فقولوا: التحياتُ لله، والصلوات،
والطيبات. السلام عليك أيها النّبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى
عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأشهد أنَّ محمّداً عبده
ورسوله. وليتخيّر أحدكم من الدعاء أعجبه إِليه، فليدْع الله عزّ وجلّ" (1).
فهذا صريح بتخيُّر الدعاء في كلّ ركعتين والدعاء إِنما يكون بعد الصلاة
__________
(1) أخرجه أحمد والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1114) وغيرهما، وانظر
"الصحيحة" (878).
(2/83)
على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -.
قال شيخنا في "الصحيحة" (878) بعد أن ذكر الحديث السابق: "وفي الحديث فائدة
هامّة؛ وهي مشروعية الدعاء في التشهد الأول، ولم أر من قال به من الأئمّة
غير ابن حزم، والصواب معه، وإِنْ كان هو استدل بمُطْلَقات يمكن للمخالفين
ردّها بنصوص أخرى مقيّدة، أمّا هذا الحديث فهو في نفسه نصّ واضح مفسّر لا
يقبل التقييد، فرحم الله امرَأً أنصف واتبع السنة" (1) انتهى.
ثمَّ وجدت في "صحيح سنن النسائي" (1115) حديثاً في غاية التصريح والتبيين
عن عبد الله قال: "علَّمنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- التشهّد في الصلاة، والتشهّد في الحاجة، فأمّا التشهّد في الصلاة:
التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبيّ (2) ورحمة الله
وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله
__________
(1) ثمَّ قال شيخنا -حفظه الله-: والحديث دليل من عشرات الأدلة على أنّ
الكتب قد فاتها غير قليل من هدي خير البريّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فهل في ذلك ما يحمل المتعصّبة على الاهتمام بدراسة السنّة،
والاستنارة بنورها؟! لعلّ وعسى.
تنبيه: وأمّا حديث: "كان لا يزيد في الركعتين على التشهد". فهو منكر كما
حققته في "الضعيفة" (5816).
(2) هذا في حياته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمّا بعد مماته
فيقول: السلام على النّبيّ ورحمة الله وبركاته. قال الحافظ في "الفتح" (2/
314) -بحذف-: وقد ورد في بعض طرق حديث ابن مسعود هذا ما يقتضي المغايرة بين
زمانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقال بلفظ الخطاب، وأمّا
بعده فيقال بلفظ الغَيبَة، ففي الاستئذان من "صحيح البخاري" من طريق أبي
معمر عن ابن مسعود بعد أن ساق حديث التشهّد قال: "وهو بين ظَهرانَينا، فلما
قُبض قلنا السلام" يعني على النّبيّ، كذا وقع في البخاري، وأخرجه أبو عوانة
في صحيحه والسراج والجوزقي وأبو نعيم الأصبهاني =
(2/84)
الصالحين، أشهد أن لا إِله إلاَّ الله،
وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله، إِلى آخر التشهّد".
وكلمة إِلى آخر التشهّد؛ توضّح أنَّ الصلاة على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منه، لأنّه ذكَر التحيات كاملة، فلم يبق إلاَّ الصلاة
على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وبالله التوفيق.
21 - القيام إِلى الركعة الثالثة ثمَّ الرابعة (1)
ويراعى فيه ما يأتي:
التكبير عند النهوض فقد "كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهض
إِلى الركعة الثالثة مكبّراً" (2).
والسّنّة أن يكبّر وهو جالس. و"كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يرفع يديه" مع هذا التكبير أحياناً (3). "تمَّ يقوم معتمداً على الأرض"
(4).
و"كان يعجن -يعتمد على يديه- إِذا قام" (5).
__________
= والبيهقي من طرق متعددة إِلى أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ: "فلما قبض
قلنا السلام على النّبيّ" بحذف لفظ يعني، وقد وجدت له متابعاً قوياً: قال
عبد الرزاق: "أخبرنا ابن جريج أخبرني عطاء أن الصحابة كانوا يقولون
والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حي: السلام عليك أيها
النّبيّ، فلما مات قالوا: السلام على النّبيّ، وهذا إِسناد صحيح. انتهى.
وانظر ما قاله شيخنا -حفظه الله- في "صفة الصلاة" (ص 162).
(1) ملتقطاً من "صفة الصلاة" (ص 177) و"تلخيصها" (ص30 - 31).
(2) أخرجه البخاري: 825، ومسلم: 393 نحوه.
(3) أخرجه البخاري: 739 نحوه، وأبو داود.
(4) أخرجه البخاري: 824، وأبو داود.
(5) أخرجه الحربي في "غريب الحديث" ومعناه عند البخاري وأبي داود.
(2/85)
وكان يقرأ في كلٍّ من الركعتين الفاتحة،
ويضيف إِليها آية أو أكثر أحياناً.
22 - التشهّد الأخير:
وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر فيه بما أمَر به في
الأوّل، ويصنع فيه ما كان يصنع في الأوّل، إلاَّ أنَّه كان يقعد فيه
متورِّكاً (1).
قال شيخنا في "تلخيص صفة الصلاة" (ص 33): "ثمَّ يقعد للتشهّد الأخير،
وكلاهما واجب".
23 - الصلاة على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهّد
الأخير، وهي واجبة:
عن أبي مسعود الأنصاري؛ قال: أتانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ونحن في مجلس سعد بن عُبادة، فقال له بَشير بن سعد: أمَرنا
الله تعالى أن نصلّيَ عليك يا رسول الله! فكيف نُصلّي عليك؟ قال فسكت رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى تمنَّينا أنَّه لم يسأله،
ثمَّ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قولوا:
اللهمَّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صلَّيت على آل إِبراهيم، وبارِك
على محمّد وعلى آل محمّد، كما باركت على آل إِبراهيم، في العالمين إِنَّك
حميد مجيد. والسلام كما قد علِمتم" (2).
وسمع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يدعو في صلاته؛ لم
يُمجّد الله تعالى، ولم يُصلِّ على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فقال: "عجِّل هذا"، ثمَّ دعاه فقال له ولغيره: "إِذا صلّى
أحدكم؛
__________
(1) انظر "صفة الصلاة" (181)، والتورك: من وضع الورك عليها، والوَرِك: ما
فوق الفخذ. وهو أن يُنحِّي رجليه في التشهد الأخير، ويلصق مقعدته بالأرض.
وانظر "النهاية"، وتقدم بعضه.
(2) أخرجه مسلم: 405، وغيره.
(2/86)
فليبدأ بتحميد ربه جلّ وعزّ، والثناء عليه،
ثمَّ يصلّي (وفي رواية: ليصلّ) على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، ثمَّ يدعو بما شاء" (1).
قال الشوكاني: لم يثبت عندي ما يدلّ للقائلين بالوجوب غير هذا الحديث: "
... عجل هذا".
من صِيَغ التَّشَهُّد (2)
1 - التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النّبيّ ورحمة الله
وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، [فإِنه إِذا قال ذلك؛ أصاب
كُلّ عبدٍ صالحٍ في السماء والأرض]، أشهد أن لا إِله إِلا الله، وأشهد أن
محمّداً عبده ورسوله، [قال عبد الله:] [وهو بين ظهرانينا، فلما قُبض قلنا:
السلام على النّبيّ] (3).
2 - التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، [الـ] سلام عليك أيها النّبيّ
ورحمة الله وبركاته، [الـ] سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا
إِله إِلا الله، و [أشهد] أن محمّداً رسول الله، وفي رواية: عبده ورسوله
(4).
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وانظر "صفة الصلاة" (ص 182).
قال شيخنا -شفاه الله تعالى-: "واعلم أنّ هذا الحديث يدل على وجوب الصلاة
عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا التشهد للأمر بها، وقد
ذهَب إِلى الوجوب الإِمام الشافعي وأحمد في آخر الروايتين عنه، وسبَقهما
إِليه جماعة من الصحابة وغيرهم ... ".
(2) "صفة الصلاة" (ص 161) -بحذف وتصرُّف-.
(3) أخرجه البخاري: 6265، ومسلم: 402، وانظر "الإِرواء" (321).
(4) أخرجه مسلم: 403، وأبو عوانة وغيرهما.
(2/87)
3 - التحيات لله، [و] الصلوات [و] الطيبات،
السلام عليك أيها النّبيّ ورحمة الله- قال ابن عمر: زدت (1) فيها: وبركاته
-السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إِله إِلا الله- قال
ابن عمر: وزدت (2) فيها: وحده لا شريك له- وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله
(3).
4 - التحيات الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النّبيّ ورحمة الله
وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إِله إِلا الله
[وحده لا شريك له]، وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله (4).
مِن صِيغ الصلاة على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
التشهّد (5)
1 - "اللهمّ صلّ على محمّد، وعلى أهل بيته، وعلى أزواجه وذريّته؛ كما
صلّيتَ على آل إِبراهيم، إِنك حميد مجيد وبارِك على محمّد، وعلى آل بيته،
وعلى أزواجه وذريّته؛ كما باركْتَ على آل إِبراهيم، إِنك حميد مجيد". وهذا
كان يدعو به هو نفسه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (6).
2 - "اللهم صلِّ على محمّد، وعلى آل محمّد، كما صلّيت على [إِبراهيم، وعلى]
آل إِبراهيم، إِنك حميد مجيد، اللهم بارِك على محمّد، وعلى آل
__________
(1) أي: زاد فيها من التشهُّد الذي سَمِعه من النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لا مِن عنده.
(2) أي: زاد فيها من التشهُّد الذي سَمِعه من النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لا مِن عنده.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (971) والدارقطني وصحّحه.
(4) أخرجه مسلم: 404، وأبو عوانة وغيرهما.
(5) عن "صفة الصلاة" (ص 165) بتصرّف.
(6) أخرجه أحمد والطحاوي بسند صحيح، والشيخان دون قوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أهل بيته" وانظر البخاري: 3369، ومسلم: 407
(2/88)
محمّد؛ كما باركْتَ على [إِبراهيم، وعلى]
آل إِبراهيم، إِنك حميد مجيد" (1)
3 - "اللهم صلّ على محمّد [النّبيّ الأمّي (2)]، وعلى آل محمّد؛ كما صلّيتَ
على [آل] إِبراهيم، وبارِك على محمّد [النّبيّ الأمّي] وعلى آل محمّد؛ كما
باركت على [آل] إِبراهيم في العالمين، إِنك حميد مجيد" (3).
4 - "اللهم صلّ على محمّد و [على] أزواجه وذريته، كما صلّيتَ على [آل]
إِبراهيم، وبارِك على محمّد و [على] أزواجه وذريته، كما باركْتَ على [آل]
إِبراهيم، إِنك حميد مجيد" (4).
5 - "اللهم صلّ على محمّد، وعلى آل محمّد، وبارِك على محمّد، وعلى آل
محمّد، كما صلّيت وباركتَ على إِبراهيم وآل إِبراهيم، إِنك حميد مجيد" (5).
__________
(1) أخرجه البخاري: 3370، ومسلم: 406، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"،
والحميدي وابن منده وقال: هذا حديث مُجمعٌ على صحَّته.
(2) الأمّيّ: من كان على أصل ولادة أمّه؛ لم يتعلم الكتابة والحساب، فهو
على جبلته الأولى، وانظر "النهاية".
(3) أخرجه مسلم: 405، وأبو عوانة وابن أبي شيبة في "المصنف" وأبو داود
والنسائي وصححه الحاكم.
(4) أخرجه البخاري: 3369، ومسلم: 407، والنسائي.
(5) أخرجه النسائي والطحاوي، وأبو سعيد ابن الأعرابي في "المعجم".
(2/89)
24 - الاستعاذة من
أربع قبل الدعاء:
ويجب الاستعاذة من أربع بعد الفراغ من التشهّد الآخر، لحديث أبي هريرة -رضي
الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا
تشهّد أحدكم؛ فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهمّ إِنّي أعوذ بك من عذاب
جهنّم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شرّ فتنة المسيح
الدجال" (1).
وفي رواية: "إِذا فرغ أحدكم من التشهد الآخِر فليتعوذ بالله من أربع: من
عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شرّ المسيح
الدجال" (2).
وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلّمه الصحابة -رضي
الله عنهم- كما يعلمهم السورة من القرآن.
فعن ابن عباس أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان
يعلمهم هذا الدعاء؛ كما يعلّمهم السورة من القرآن يقول: قولوا: اللهم إِنا
نعوذ بك من عذاب جهنّم ... " (3).
25 - الدعاء قبل السلام (4) وأنواعه (5):
من السنّة أن يتخيّر المصلي من الأدعية الآتية ما شاء وينوّع، وهي:
__________
(1) أخرجه مسلم: 588 وأبو عوانة والنسائي وابن الجارود في "المنتقى"، وهو
مخرج في "الإرواء" (350).
(2) أخرجه مسلم: 588
(3) أخرجه مسلم: 590
(4) وهو مستحب وبهذا يقول شيخنا -شفاه الله تعالى-.
(5) عن "صفة الصلاة" (ص 183) بتصرّف.
(2/90)
1 - اللهمّ إِنّي أعوذ بك من عذاب القبر،
وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهمّ
إِني أعوذ بك من المأثم والمغرم (1) " (2).
2 - "اللهم إِنّي أعوذ بك من شر ما عمِلتُ (3)، ومن شر ما لم أعمل (4)
[بعد] " (5).
3 - "اللهم حاسِبني حساباً يسيراً" (6).
4 - وعلَّم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكر الصديق -رضي
الله عنه- أن يقول: "اللهمّ إِني ظلمتُ نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب
إِلا أنت، فاغفر لي مغفرة من
__________
(1) هو الأمر الذي يأثم به الإِنسان، أو هو الإِثم نفسه؛ وضْعاً للمصدر
موضع الاسم. "النهاية".
وكذلك المغرم: ويريد به الدَّيْن؛ بدليل تمام الحديث: "قالت عائشة: فقال له
القائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله! فقال: إِن الرجل إِذا
غرم؛ حدّث فكذب، ووعد فأخلف".
وجاء في "النهاية": المَغْرَم: كالغُرْم، وهو الدَّيْن ويريُد به ما استدين
فيما يكرهه الله، أو فيما يجوز ثمَّ عَجَز عن أدائه، فأمّا دَيْن احتاج
إِليه وهو قادر على أدائه فلا يُستعاذ منه".
(2) أخرجه البخاري: 832، ومسلم: 589
(3) أي: من شر ما فعلْت من السيئات.
(4) من الحسنات يعني: من شر تركي العمل بها.
(5) أخرجه النسائي بسند صحيح، وابن أبي عاصم في كتاب "السُّنة" (370)
والزيادة له.
(6) أخرجه أحمد والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.
(2/91)
عندك، وارحمني، إِنك أنت الغفور الرحيم"
(1).
5 - وأمرَ عائشة -رضي الله عنها- أن تقول: "اللهمّ إِنّي أسألك من الخير
كلهّ؛ [عاجله وآجله]؛ ما علمتُ منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كلّه
[عاجله وآجله] ما علمتُ منه وما لم أعلم، وأسألك (وفي رواية: اللهمّ إِني
أسألك) الجنة وما قرّب إِليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرّب
إِليها من قول أو عمل، وأسألك (وفي رواية: اللهمّ إِني أسألك) من [الـ] خير
ما سألَك عبدك ورسولك [محمّد، وأعوذ بك من شر ما استعاذ منه عبدك ورسولك
محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]، [وأسألك] ما قضيتَ لي من
أمْر أن تجعل عاقبته [لي] رشداً" (2).
6 - و"قال لرجل: "ما تقول في الصلاة؟ " قال: أتشهّد، ثمَّ أسأل الله
الجنّة، وأعوذ به من النار، أما والله ما أحسِن دندنتك (3) ولا دندنة معاذ،
فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (حولها ندندن) " (4).
7 - وسمع رجلاً يقول في تشهُّده: "اللهمّ إِني أسألك يا الله (وفي رواية:
__________
(1) أخرجه البخاري: 834، ومسلم: 2705
(2) أخرجه أحمد والطيالسي والبخاري في "الأدب المفرد" وابن ماجه والحاكم
وصححه، ووافقه الذهبي، وانظر "الصحيحة" (1542).
(3) أي: مسألتك الخفية أو كلامك الخفيّ، والدندنة: أنْ يتكلم الرجل بكلام
تسمع نغمته ولا يُفهَم، وضمير الهاء في قوله: "حولها" يعود للمقالة؛ أي:
كلامنا قريب من كلامك.
(4) أخرجه أبو داود وابن ماجه وابن خزيمة بسند صحيح.
(2/92)
بالله) [الواحد] الأحد الصمد، الذي لم يلد
ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد أن تغفر لي ذنوبي، إِنك أنت الغفور الرحيم.
فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (قد غفر له، قد غفر له) "
(1).
8 - وسمع آخر يقول في تشهّده أيضاً: "اللهمّ إِني أسألك بأنّ لك الحمد، لا
إِله إلاَّ أنت [وحدك لا شريك لك]، [المنان]، [يا] بديع السماوات والأرض يا
ذا الجلال والإِكرام يا حي يا قيوم [إِني أسألك] [الجنة، وأعوذ بك من
النار] [فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه:
تدرون بما دعا؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (والذي نفسي بيده]؛ لقد
دعا الله باسمه العظيم (وفي رواية: الأعظم) الذي إِذا دُعي به أجاب، وإذا
سُئل به أعطى) " (2).
9 - وكان من آخِر ما يقول بين التشهد والتسليم: "اللهم اغفِر لي ما قدّمتُ،
وما أخّرتُ، وما أسرَرْت، وما أعلنتُ، وما أسرفتُ، وما أنت أعلم به مني،
أنت المقدّم وأنت المؤخّر، لا إِله إِلا أنت" (3).
26 - التسليم، والتسليمة الأولى ركن والثانية مستحبّة:
لِما تقدّم من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مفتاح الصلاة
الطَّهور وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم".
__________
(1) أخرجه أبو داود والنسائي، وأحمد وابن خزيمة، وصححه الحاكم، ووافقه
الذهبي.
(2) أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد والبخاري في "الأدب المفرد"، والطبراني،
وابن منده في "التوحيد" بأسانيد صحيحة.
(3) أخرجه مسلم: 771، وأبو عوانة.
(2/93)
و"كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- يسلم عن يمينه: "السلام عليكم ورحمة الله"، حتى يُرى بياض خدّه الأيمن،
وعن يساره: "السلام عليكم ورحمة الله"، حتى يُرى بياض خده الأيسر" (1).
وكان أحياناً يزيد في الأولى: "وبركاته" (2).
وكان أحياناً إِذا قال عن يمينه: "السلام عليكم ورحمة الله" اقتصر -أحياناً
- على قوله عن يساره: "السلام عليكم" (3)، وأحياناً "كان يسلم تسليمة
واحدة: "السلام عليكم"، تلقاء وجهه، يميل إِلى الشق الأيمن شيئاً [أو
قليلاً] " (4).
قال شيخنا في "تلخيص صفة الصلاة" (ص 31): "ثمَّ يُسلّم عن يمينه وهو رُكن
حتى يُرى بياض خدّه الأيمن".
وقد نقل ابن المنذر الإِجماع على أنَّ من اقتصر في صلاته على تسليمة واحدة
فقد اجزأَت.
__________
(1) أخرجه مسلم: 582 بنحوه وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه.
(2) أخرجه أبو داود وابن خزيمة (1/ 87/2) بسند صحيح، وغيرهما، وصححه
عبد الحقّ في "أحكامه" (56/ 2) وكذا النووى والحافظ ابن حجر، وانظر "صفة
الصلاة" (187).
(3) أخرجه النسائي وأحمد والسراج بسند صحيح. عن "صفة الصلاة" (188).
(4) أخرجه الترمذي وغيره، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه
الذهبي، وابن الملقن في "الخلاصة"، وانظر للمزيد "صفة الصلاة" (188)،
و"الإِرواء" (2/ 33)، و"الصحيحة" (316).
(2/94)
ما ورد في صِفة الصلاة يستوي فيها الرجال
والنساء
قال شيخنا في "الصفة" -بحذف-: "كلّ ما تقدّم من صفة صلاته - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستوي فيه الرجال والنساء، ولم يَرِد في السنّة ما
يقتضي استثناءُ النساء من بعض ذلك، بل إِنّ عموم قوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلّوا كما رأيتموني أصلي" يشملُهُنّ، وهو قول
إِبراهيم النخعي قال: "تفعَلُ المرأةُ في الصلاة كما يفعَلُ الرجل".
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 75/2) بسند صحيح عنه (1).
وروى البخاري في "التاريخ الصغير" (ص95) بسند صحيح عن أمّ الدرداء: "أنها
كانت تجلس في صلاتها جلسة الرجل، وكانت فقيهة".
الأذكار والأدعية بعد السلام
1 - عن ثوبان -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا انصرف من صلاته، استغفَر ثلاثاً، وقال: "اللهمّ
أنت السلام ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإِكرام".
قال الوليد (2) فقلت للأوزاعي: كيف الاستغفار؟ قال: تقول: أستغفر الله،
أستغفر الله (3).
__________
(1) وحديث انضمام المرأة في السجود، وأنها ليست في ذلك كالرجل؛ مُرسَل لا
حجة فيه. رواه أبو داود في "المراسيل" (117/ 87) عن يزيد بن أبي حبيب، وهو
مخرّج في "الضعيفة" (2652).
(2) هو شيخ البخاري.
(3) أخرجه مسلم: 591
(2/95)
2 - وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا سلّم، لم يقعد إلاَّ
مقدار ما يقول: اللهمّ أنت السلام ومنك السلام، تباركتَ يا ذا الجلال
والإِكرام" (1).
عن ورّاد كاتب المغيرة بن شعبة قال: "أَملى عليَّ المغيرة بن شعبة في كتاب
إِلى معاوية؛ أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول
في دُبر كلِّ صلاة مكتوبة: لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك
وله الحمد، وهو على كلِّ شيء قدير، اللهمّ لا مانع لما أعطيت، ولا معطيَ
لما منعْت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ، وقال شعبة عن عبد الملك بهذا
عن الحكم عن القاسم بن مُخَيمِرة عن ورَّادٍ بهذا، وقال الحسن الجَدُّ:
الغنى". (2)
3 - عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ بيده وقال: "يا معاذ! إِنِّي والله لأحبُّك، فلا
تدعَنَّ في دُبُر كلِّ صلاة أن تقول: اللهمّ أعنِّي على ذكركَ وشُكرك،
وحُسن عبادتك" (3).
4 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "جاء الفقراء إِلى النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا ذهب أهل الدثور (4) من الأموال
بالدرجات العُلا والنّعيم المقيم، يُصلّون كما نُصلّي ويصومون كما نصوم،
ولهم فضلٌ من أموالٍ يحجّون بها
__________
(1) أخرجه مسلم: 592
(2) أخرجه البخاري: 844، ومسلم: 593
(3) أخرجه أبو داود والنسائي، وقال شيخنا في "الكلم الطيب" (ص 70): وإسناده
صحيح رجاله كلهم ثقات.
(4) الدثور: جمع دَثْر، وهو المال الكثير.
(2/96)
ويعتمرون ويجاهدون ويتصدّقون قال: ألا أحدّ
ثكم إِنْ أخذتم أدركتم مَن سبقكم ولم يدْركْكُم أحدٌ بعدكم، وكنتم خير من
أنتم بين ظهرانيه إلاَّ من عمل مثله؟ تُسبِّحون وتحمَدون وتُكبّرون خلف
كلِّ صلاة ثلاثاً وثلاثين، فاختلفنا بيننا فقال بعضُنا: نسبّح ثلاثاً
وثلاثين، ونحمد ثلاثا وثلاثين، ونكبّر أربعاً وثلاثين، فرجعتُ إِليه، فقال:
تقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر، حتى يكون منهنّ كلهِّن ثلاثٌ
وثلاثون" (1).
5 - عن أبي الزبير؛ قال: كان ابن الزبير يقول في دُبُر كلّ صلاة حين يسلّم:
"لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء
قدير، لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، لا إِله إلاَّ الله، ولا نعبد إلاَّ
إِيّاه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إِله إلاَّ الله
مُخلِصين له الدين ولو كَره الكافرون، وقال: كان رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهلّل بهنّ دُبُر كلِّ صلاة" (2).
6 - عن كعب بن عُجْرَة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: مُعقّبات (3) لا يَخِيب قائلهنّ (أو فاعلهنّ) ثلاثٌ وثلاثون تسبيحة،
وثلاثٌ وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة؛ في دُبر كلّ صلاة" (4).
__________
(1) أخرجه البخاري: 843، ومسلم: 595
(2) أخرجه مسلم: 594
(3) سُميت معقّبات لأنها تُقال عَقيب الصلاة، كما في "النهاية".
قال شيخنا في "الصحيحة" (102): (والحديث نصٌّ على أنّ هذا الذكر؛ إِنْما
يُقال عقب الفريضة مباشرة ... ".
(4) أخرجه مسلم: 596
(2/97)
7 - وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من سبّح الله في دُبُر
كلّ صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين، وحَمِد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبَّر الله ثلاثاً
وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون. وقال تمام المائة: لا إِله إلاَّ الله وحده لا
شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير -غُفِرت خطاياه وإن كانت
مثلَ زبد البحر" (1).
8 - عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: خَصلتان أو خلّتان، لا يحافظ عليهما عبدٌ مسلم
إلاَّ دخل الجنّة. وهما يسير، ومن يعمل بهما قليل: يُسبّح الله في دبر كلِّ
صلاةٍ عشراً، ويحمَدهُ عشراً، ويكبرهُ عشراً، وذلك خمسون ومائة باللسان،
وألف وخمسمائة في الميزان. ويكبر أربعاً وثلاثين إِذا أخذ مضجعه، ويحمده
ثلاثاً وثلاثين، ويسبح ثلاثاً وثلاثين، فذلك مائةٌ باللسان وألف في
الميزان.
قال: فلقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعقدها
بيده، قالوا: يا رسول الله كيف هما يسير، ومن يعمل بهما قليل؟ قال: يأتي
أحدكم -يعني الشيطان في منامه- فينوّمه قبل أن يقول، ويأتيه في صلاته،
فيذكّره حاجته قبل أن يقولها" (2).
9 - وعن عقبة بن عامر قال: "أمرَني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أن أقرأ المعوّذات دبرَ
__________
(1) أخرجه مسلم: 597
(2) أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وهو في "الكلم الطيب" (111)، وقد
استوفيت شرحه في "شرح صحيح الأدب المفرد".
(2/98)
كلّ صلاة" (1).
10 - عن أبي أسامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قرأ آية الكُرسي في دُبُر كلّ صلاة، لم يَحُلْ
بينه وبين دخول الجنّة إلاَّ الموت" (2).
11 - عن رجل من الأنصار قال: سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يقول في دُبُر الصلاة: "اللهم اغفِر لي، وتُب عليّ، إِنك أنت
التوّاب الغفور" (3).
12 - عن أُمّ سلمة -رضي الله عنها- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان يقول إِذا صلّى الصبِّح حين يُسلّم: "اللهمّ إِنّي أسألك
عِلماً نافعاً ورِزقاً طيباً وعملاً متقبّلاً" (4).
13 - عن عبد الرحمن بن غَنْم عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنَّه قال: "من قال قبل أن ينصرف ويَثنيَ (5) رجليه من صلاة
المغرب والصبح: لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له المُلك، وله الحمد،
يحيي ويميت، وهو على كلِّ شيءٍ قدير عشرَ مرات،
__________
(1) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، وقال شيخنا في "الكَلِم الطيب"
(112): "وأخرجه أحمد وسنده صحيح، وصحّحه ابن حبّان".
(2) أخرجه النسائي وغيره، وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الصحيحة" (972).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في "المسند"، وغيره وصححه شيخنا في "الصحيحة"
(2603).
(4) أخرجه أحمد وابن أبي شيبة وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (753) وغيرهم،
وانظر "تمام المنّة" (233).
(5) "أي: لا يصرف رجله عن حالتها التي هي عليها في التشهّد". وانظر
"النهاية".
(2/99)
كتَب الله له بكل واحدةٍ عشر حسنات، ومحا
عنه عشر سيئات، ورَفع له عشرَ درجاتٍ، وكانت حرزاً من كل مكروه، وحرزاً من
الشيطان الرجيم، ولم يَحِلَّ لذنبٍ أن يُدركه إلاَّ الشرك، وكان من أفضل
الناس عملاً، إلاَّ رجلاً يَفضُله، يقول أفضل ممّا قال" (1).
14 - عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من قال دُبر صلاة الغداة: "لا إِله إلاَّ الله وحده
لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير، وهو على كلِّ
شيءٍ قدير، مائة مرة، قبل أن يَثني رجليه، كان يومئذ من أفضل أهل الأرض
عملاً، إلاَّ من قال مثل ما قال، أو زاد على ما قال" (2).
__________
(1) أخرجه أحمد وغيره، وهو حسن لغيره، انظر "صحيح الترغيب والترهيب" (472)،
وانظر "الصحيحة" (114 و2563)
(2) أخرجه الطبري بإِسناد جيد وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (471)،
و"الصحيحة" (2664).
(2/100)
|