الموسوعة
الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة قيام رمضان
قيام رمضان سنّة تؤدّى بعد صلاة العشاء قبل الوتر، والصلاة في آخر الليل
أفضل كما تقدّم.
قال شيخنا في "قيام رمضان" (ص 26) -بحذف-: وإِذا دار الأمر بين الصلاة أوّل
الليل مع الجماعة، وبين الصلاة آخر الليل منفرداً، فالصلاة مع الجماعة
أفضل، لأنّه يحسب له قيام ليلةٍ تامّة.
وعلى ذلك جرى عمل الصحابة في عهد عمر -رضي الله عنه- فقال عبد الرحمن بن
عَبْدٍ القارِيّ: "خرجتُ مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إِلى المسجد،
فإِذا الناس أوزاعٌ (1) متفرّقون، يُصلّي الرجل لنفسه، ويصلّي الرجل فيصلّي
بصلاته الرَّهطُ، فقال عمر: والله إِني لأرى لو جمعتُ هؤلاء على قارئ واحدٍ
لكان أمثل، ثمَّ عزم، فجمَعهم على أُبَيِّ بن كعب، ثمَّ خرجتُ معه ليلة
أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم (2) البدعةُ هذه، والتي
ينامون عنها أفضل من التي يقومون -يريد آخر الليل- وكان الناس يقومون
أوّله" (3).
وقال زيد بن وهب: "كان عبد الله يصلي بنا في شهر رمضان، فينصرف
__________
(1) أي: متفرقون.
(2) في بعض الروايات نعمت والمراد بالبدعة هنا اللغويه لا الشرعية، وانظر
التفصيل في "صلاة التروايح" (ص 43).
(3) أخرجه البخاري: 2010
(2/149)
بليل" (1).
الترغيب فيه
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يُرغّب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة (2) فيقول:
"من قام رمضان إِيماناً واحتساباً (3)؛ غُفر له ما تقدّم من ذنبه (4) "
(5).
وعن عمرو بن مرّة الجُهني -رضي الله عنه- قال: "جاء رجل إِلى النّبيّ
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (7741) وإسناده صحيح، وقد أشار الإِمام أحمد إِلى هذا
الأثر والذي قبله حين سُئل: يؤخّر القيام -يعني التراويح- إِلى آخر الليل؛
فقال: "لا، سُنّة المسلمين أحبُّ إِليّ". رواه أبو داود في "مسائله" (ص
62).
(2) العزم: الجدّ والصبر، ويعزم المسألة، أي: يجدّ فيها ويقطعها والمقصود:
لا يأمرهم أمر إِيجاب وتحتيم، بل أمر ندب وترغيب كما ذكر بعض العلماء.
(3) طلباً لوجه الله وثوابه، فالاحتساب من الحسَب، وإنَّما قيل لمن ينوي
بعمله وجه الله احتسبه؛ لأنَّ له حينئذ أن يعتدّ عمله، والحِسبة اسمٌ من
الاحتساب. "النهاية" -بحذف-.
(4) قال شيخنا في "صحيح الترغيب والترهيب" (ص 487): "هذا الترغيب وأمثاله
بيان لفضل هذه العبادات؛ بأنه لو كان على الإنسان ذنوب تُغفر له بسبب هذه
العبادات، فلا يَرِد أن الأسباب المؤدية إِلى عموم المغفرة كثيرة، فعند
اجتماعها؛ أىّ شيء يبقى للمتأخر منها حتى يغفر له؛ إِذ المقصود بيان هذه
العبادات، بأنّ لها عند الله هذا القدر من الفضل، فإِنْ لم يكن على الإنسان
ذنب، يظهر هذا الفضل في رفع الدرجات، كما في حق الأنبياء المعصومين من
الذنوب، والله أعلم".
(5) أخرجه البخاري: 37، ومسلم: 759
(2/150)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فقال: يا رسول الله أرأيتَ إِن شهدتُ أن لا إِله إلاَّ الله، وأنك رسول
الله " وصلّيتُ الصلوات الخمس، وأدَّيتُ الزكاة، وصمتُ رمضان وقمتُه، فممّن
أنا قال: من الصدِّيقين والشهداء" (1).
مشروعية الجماعة فيه (2)
وتشرع الجماعة في قيام رمضان، بل هي أفضل من الانفراد؛ لإِقامة النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها بنفسه، وبيانه لفضلها بقوله؛ كما
في حديث أبي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قال: "صمنا مع رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمضان، فلم يَقُمْ بنا شيئاً من الشهر، حتى
بقي سَبْعٌ، فقام بنا حتى ذهب ثُلُثُ الليل، فلمّا كانت السادسةُ لم يَقُم
بنا، فلمّا كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطرُ الليل، فقلتُ: يا رسول الله!
لو نفَّلتنا قيام هذه الليلة، فقال: إِنّ الرجل إِذا صلّى مع الإِمام حتى
ينصرف حُسب له قيام ليلة".
فلمّا كانت الرابعة لم يقم، فلمّا كانت الثالثة جمَع أهله ونساءه والناس،
فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح. قال: قلت: ما الفلاح؟ قال: السّحور،
ثمَّ لم يقم بنا بقيّة الشهر" (3).
__________
(1) أخرجه البزار وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" واللفظ لابن حبان
وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (989).
(2) من هنا ولأوّل (لم يصل التراويح أكثر من إِحدى عشرة ركعة) عن "قيام
رمضان" بتصرّف.
(3) أخرجه أصحاب السنن وغيرهم، وهو مخرج في "صلاة التراويح" (ص 16 - 17)،
و"الإِرواء" (447).
(2/151)
السبب في عدم استمرار النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجماعة فيه
وإِنّما لم يقم بهم (عليه الصلاة والسلام) بقيّة الشهر خشية أن تُفرَض
عليهم صلاةُ الليل في رمضان، فيعجَزوا عنها فعن عائشة أنَّ رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى في المسجد ذات ليلة، فصلّى
بصلاته ناس، ثمَّ صلّى من القابلة، فكثر الناس، ثمَّ اجتمعوا من الليلة
الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إِليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فلمّا أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم، فلم يمنعني من الخروج
إِليكم إلاَّ أنِّي خشيت أن تفرض عليكم، قال: وذلك في رمضان" (1). وقد زالت
هذه الخشيةُ بوفاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد أنْ أكمل
الله الشريعة، وبذلك زال المعلول، وهو ترْك الجماعة في قيام رمضان، وبقي
الحُكم السابق وهو مشروعية الجماعة، ولذلك أحياها عمر -رضي الله عنه- كما
في "صحيح البخاري" وغيره (2).
مشروعية الجماعة للنساء
قال شيخنا: "وهذا محلّه عندي إِذا كان المسجد واسعاً، لئلا يُشوِّش أحدهما
على الآخر".
عدد ركعاته
وركعاتها إِحدى عشرة ركعةً، ونختار أن لا يزيد عليها اتّباعاً لرسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإِنّه لم يزد عليها حتى فارق
الدنيا، فقد سُئلت عائشة -رضي الله
__________
(1) أخرجه البخاري: 924، ومسلم: 761
(2) انظر رقم (2010)، وتقدّم.
(2/152)
عنها- عن صلاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في رمضان؟ فقالت: "ما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يزيد في رمضان ولا في غيره على إِحدى عشرة ركعة، يصلّي أربعاً
فلا تَسَلْ عن حُسْنهنّ وطولهنّ، ثمَّ يصلّي أربعاً فلا تَسَلْ عن حسنهنّ
وطولهنّ، ثمَّ يصلّي ثلاثاً" (1).
وله أن يُنْقِص منها، حتى لو اقتصر على ركعة الوتر فقط، بدليل فِعله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقوله:
أمّا الفعل، فقد سُئلت عائشة -رضي الله عنها-: بكم كان رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر؟ قالت: "كان يوتر بأربعٍ وثلاثٍ، وستٍّ
وثلاثٍ، وعشرٍ وثلاثٍ، ولم يكن يوتر بأنقص من سبعٍ، ولا بأكثر من ثلاث
عشرة" (2).
وأمّا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو: "الوتر حقٌّ، فمن
شاء فليوتر بخمسٍ، ومن شاء فليوتر بثلاثٍ، ومن شاء فليوتر بواحدة" (3).
لم يُصَلِّ التراويح أكثر من إِحدى عشرة ركعة (4)
لم يثبت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه صلّى
التراويح أكثر من إِحدى عشرة ركعة، وإِليك البيان:
__________
(1) أخرجه البخاري: 1147، ومسلم: 738، وتقدّم.
(2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1233) وغيرهما وهو حديث جيد
الإِسناد، وصحّحه العراقي، وهو مخرَّج في "صلاة التراويح" (ص 98 - 99).
(3) تقدّم.
(4) هذا العنون وما يحتويه من كتاب "صلاة التراويح" -بتصرف-.
(2/153)
1 - قد تقدّم حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن
أنَّه سأل عائشة -رضي الله عنها- كيف كانت صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رمضان فقالت: ما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزيد في رمضان ولا في غيره على إِحدى عشرة ركعة.
2 - وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال؛ صلّى بنا رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شهر رمضان ثمان ركعات، وأوتر ... " (1).
3 - أمّا ما رواه ابن أبي شيبة من حديث ابن عباس: "كان رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي في رمضان عشرين ركعة والوتر" فإِسناده
ضعيف وقد عارضه حديث عائشة هذا الذي في الصحيحين؛ مع كونها أعلم بحال
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلاً من غيرها، قاله
الحافظ في "الفتح".
وسبَقه إِلى هذا المعنى الحافظ الزيلعي في "نصب الراية" (2/ 153). قال
شيخنا: وحديث ابن عبّاس هذا ضعيف جدّاً كما قال السيوطي في "الحاوي
للفتاوى" (2/ 73) وعِلّته أنّ فيه أبا شيبة إِبراهيم بن عثمان.
قال الحافظ في "التقريب": "متروك الحديث" وقد تتبعْتُ مصادره فلم أجِده
إِلا من طريقه ... وفصّل القول في ذلك.
وقال البيهقي: تفرَّد به أبو شيبة وهو ضعيف، وكذلك قال الهيثمي في "المجمع"
(3/ 172) أنَّه ضعيف، والحقيقة أنَّه ضعيف جدّاً، كما يشير إِليه قول
الحافظ المتقدّم: "متروك الحديث" وهذا هو الصواب فيه .....
وأورده الحافظ الذهبي من مناكيره، وقال الفقيه ابن حجر الهيتمي في
__________
(1) أخرجه ابن نصر والطبراني في المعجم الصغير وسنده حسن وأشار الحافظ في
"الفتح" (3/ 10) و"التلخيص" (ص119) إِلى تقويته.
(2/154)
"الفتاوى الكبرى" (1/ 195) بعد أنْ ذكر
الحديث: "شديد الضعف ... ".
وقال السيوطي: "فالحاصل أنَّ العشرين ركعة لم تثبت مِن فِعله ... ومما يدلّ
لذلك أيضاً (أي: عدم الزيادة) أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كان إِذا عمل عملاً واظبَ عليه؛ كما واظب على الركعتين اللتين قضاهما بعد
العصر؛ مع كون الصلاة في ذلك الوقت منهيّاً عنها، ولو فعَل العشرين ولو
مرّة؛ لم يتركها أبداً، ولو وقع ذلك لم يَخْفَ على عائشة، حيث قالت ما
تقدَّم".
قلت: بل قد ثبت في "صحيح مسلم" (782) من حديث أبي سلمة عن عائشة -رضي الله
عنها-: "وكان آل محمّد إذا عملوا عملاً أثبتوه"، وقد تقدّم.
وفي "صحيح مسلم" (783) أيضاً: عن القاسم بن محمّد قال: "وكانت عائشة إِذا
عملت العمل لزِمته".
لهذا ولغيره نقول: لم يثبُت لنا عن أحدٍ من آل محمّد - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم صلّوا العشرين" والله تعالى أعلم.
4 - إِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد التزم عدداً
معيّناً في السنن الرواتب وغيرها؛ كصلاة الاستسقاء والكسوف ... وكان هذا
الالتزام دليلاً مسلّماً عند العلماء أنَّه لا يجوز الزيادة عليها، فكذلك
صلاة التراويح، ومن ادعى الفرق فعليه الدليل. وليست صلاة التراويح من
النوافل المطلقة حتى يكون للمصلّي الخيار في أن يصلِّيها بأيّ عدد شاء، بل
هي سُنّة مؤكّدة تشبه الفرائض من حيث أنّها تشرع مع الجماعة؛ كما قالت
الشافعية فهي من هذه الحيثيّة أولى بأن لا يُزاد عليها من السنن الرواتب.
(2/155)
ردود على بعض
التساؤلات والاعتراضات
1 - قد يقول بعضهم: اختلاف العلماء دليل على عدم ثبوت النص المعيِّن للعدد.
والجواب: إِنَّ الاختلاف في عدد ركعات التراويح لا يدلّ على عدم ورود نصٍّ
ثابت فيه؛ لأنَّ الواقع أنَّ النصّ واردٌ ثابت فيه، فلا يجوز أن يُردّ
النصّ بسبب الخلاف، بل الواجب أن يُزال الخلاف بالرجوع إِلى النصّ عملاً
بقول الله تبارك وتعالى: {فلا وربّك لا يؤمنون حتى يُحكِّموك فيما شَجَر
بينهم ثمَّ لا يَجِدوا في أنفُسِهِم حرَجاً ممّا قَضَيتَ ويُسَلّموا
تَسلِيمًا} (1).
وقوله سبحانه: {فإِنْ تَنَازعتُم في شيءٍ فردّوه إِلى الله والرسُول إِنْ
كُنتُم تؤْمِنُون بالله واليَوم الآخِر ذلك خيْرٌ وأحْسَنُ تَأوِيلاً} (2).
2 - قد يقول قائل آخر: لا مانع من الزيادة على النصّ ما لم يُنْه عنها.
وجوابه: الأصل في العبادات أنها لا تثبت إلاَّ بتوقيف من رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولولا هذا الأصل لجاز لأيّ مسلم أن
يزيد في عدد ركعات السُّنن بل والفرائض الثابت عددها بفِعْله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستمراره عليه؛ بزعم أنَّه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يَنْهَ عن الزيادة عليها.
3 - وتمسّك بعضهم بالنصوص المطلقة والعامّة؛ في الحضّ على الإِكثار من
الصلاة؛ بدون تحديد عدد؛ معيّن كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- لربيعة بن كعب وقد سأله
__________
(1) النساء: 65
(2) النساء: 59
(2/156)
مرافقته في الجنَّة: "فأعنّي على نفسك
بكثرة السجود".
والجواب: إِنَّ هذا تمسُّكٌ واهٍ جداً، فإِنَّ العمل بالمطلقات على
إِطلاقها إِنّما يسوغ فيما لم يقيّده الشارع من المطلقات، أمّا إِذا قيّد
الشارع حُكماً مطلقاً بقيد؛ فإِنَّه يجب التقيُّد به وعدم الاكتفاء
بالمطلق، فإِنَّ مسألتنا (صلاة التراويح) ليست من النوافل المطلقة، لأنها
صلاة مقيّدة لا بنصّ عن رسول الله.
وما مثَل من يفعل ذلك؛ إلاَّ كمن يصلي صلاة يخالف بها صلاة النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنقولة عنه بالأسانيد الصحيحة؛
يخالفها كمًّا وكيفاً؛ متناسياً قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (1) محتجًّا بمِثل تلك المطلقات! كمن يصلّي
مثلاً الظهر خمساً وسنة الفجر أربعاً!
الأحوط اتباع السنّة:
واستطرد شيخنا -حفظه الله تعالى- قائلاً: "على أنَّه مهما قيل في جواز
الزيادة أو عدمها، فما أظنّ أنّ مسلماً يتوقّف -بعد ما سلف بيانه- عن القول
بأنّ العدد الذي ورَد عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضل من
الزيادة عليه لصريح قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وخير
الهدي هدي محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -"، رواه مسلم (2)،
فما الذي يمنع المسلمين اليوم أن يأخذوا بهذا الهدي المحمّدي ويدَعُوا ما
زاد عليه من باب "دَعْ ما يَريبك إِلى ما لا يَريبك" ... وأنهم صلَّوها
بالعدد الوارد في السُّنّة في مِثل المدّة التي يصلّون فيها العشرين؛ لكانت
صلاتهم صحيحة مقبولة باتفاق العلماء،
__________
(1) تقدّم تخريجه.
(2) برقم: 867
(2/157)
ويؤيّد ذلك حديث جابر قال: سئل - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيّ الصلاة أفضل؟ قال: "طول القنوت (1) "
(2). فعليكم أيها المسلمون بسنتَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ فإِنّ "خير الهدي هدي محمّد - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (3).
4 - وقد يقول قائل: إِنَّ عمر -رضي الله عنه- قد صلاّها عشرين ركعة.
قال شيخنا: ولا يجوز أن يُعارَض هذه الرواية الصحيحة بما رواه عبد الرزاق
من وجه آخر عن محمّد بن يوسف بلفظ: "إِحدى وعشرين" لظهور خطأ هذا اللفظ من
وجهين: الأوّل: مخالفة لرواية الثقة بلفظ إِحدى عشرة (4).
الثاني: أنَّ عبد الرزاق قد تفرَّد بروايته على هذا اللفظ ... (5).
__________
(1) قال النووي (6/ 35): "المراد بالقنوت هنا: القيام باتفاق العلماء -فيما
علمت-".
(2) أخرجه مسلم: 756
(3) صلاة التراويح: 39، 40
(4) يشير شيخنا -حفظه الله تعالى- إِلى ما رواه محمّد بن يوسف عن السائب بن
يزيد قال: "أمَر عمر بن الخطاب أُبيّ بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس
بإِحدى عشرة ركعة، قال: وقد كان يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العصيّ من
طول القيام، وما ننصرف إلاَّ في بزوغ الفجر".
قال شيخنا- حفظه الله تعالى-: "وهذا سند صحيح جدّاً، فإِنّ محمّد بن يوسف
شيخ مالك ثقة واحتجّ به اتفاقاً واحتجّ به الشيخان، والسائب بن يزيد صحابيّ
... ".
(5) ارجع -إِن شئت- الكتاب المشار إِليه للمزيد من الاطلاع على التخريج
والتحقيق.
(2/158)
وقد أشار الترمذي في "سننه" إِلى عدم ثبوت
عدد العشرين عن عمر وغيره من الصحابة فقال روي عن عليّ وعمر ...
وكذلك قال الشافعي في العشرين عن عمر. انتهى كلام شيخنا -حفظه الله- بتصرف.
5 - وقد يقول قائل: قد قال رسول الله "صلاة الليل مثنى مثنى" (1).
فجوابه: إِنَّ هذا لبيان الكيفية لا لبيان الكمّ، فعن عبد الله بن عمر؛
أنَّ رجلاً سأل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنا بينه
وبين السائل، فقال: يا رسول الله! كيف صلاة الليل؛ قال: مثنى مثنى ... "
(2)، فإِنَّ هذا الصحابي لم يسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كم صلاة الليل؛ بل كيف صلاة الليل، فجواب: "مثنى مثنى"، عن كيف
لا عن كم، وفي رواية (3): "فقيل لابن عمر: ما مثنى مثنى؟ قال: أن تُسلِّم
في كلّ ركعتين".
الكيفيّات التي تصلّى بها صلاة التراويح
قد تقدّم تفصيل ذلك في صلاة الوتر وقيام الليل، والآن أذكر ما كتَبه شيخنا
-حفظه الله- في "قيام رمضان" (ص27) تيسيراً وتذكيراً.
الكيفيّة الأولى: ثلاث عشرة ركعة، يفتتحها بركعتين خفيفتين، وهما على
الأرجح سُنّة العشاء البعدية، أو ركعتان مخصوصتان يفتتح بهما صلاة الليل
__________
(1) أخرجه البخاري: 909، ومسلم: 749، وتقدّم.
(2) أخرجه البخاري: 990، ومسلم: 749 وتقدّم.
(3) أخرجه مسلم: 749
(2/159)
كما تقدّم، ثمَّ يصلّي ركعتين طويلتين
جداً، ثمَّ يصلّي ركعتين دونهما، ثمَّ يصلّي ركعتين دون اللتين قبلهما،
ثمَّ يصلّي ركعتين دونهما، ثمَّ يصلّي ركعتين دونهما، ثمَّ يوتر بركعة.
الثانية: يصلّي ثلاث عشرة ركعة، منها ثمان، يُسلِّم بين كل ركعتين، ثمَّ
يوتر بخمس لا يجلس ولا يُسلّم إلاَّ في الخامسة.
الثالثة: إِحدى عشرة ركعة، يُسلّم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة.
الرابعة: إِحدى عشرة ركعة، يُصلّي منها أربعاً بتسليمة واحدة، ثمَّ أربعاً
كذلك، ثمَّ ثلاثاً.
وهل كان يجلس بين كل ركعتين من الأربع والثلاث؟ لم نَجِد جواباً شافياً في
ذلك، لكنَّ الجلوس في الثلاث لا يُشرع!
الخامسة: يصلّي إِحدى عشرة ركعة، منها ثمان ركعاتٍ لا يقعد فيها إلاَّ في
الثامنة، يتشهد ويصلّي على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ثمَّ يقوم ولا يسلّم، ثمَّ يوتر بركعةٍ، ثمَّ يسلم، فهذه تسع، ثمَّ يصلّي
ركعتين، وهو جالس.
السادسة: يصلّي تسع ركعاتٍ؛ منها ستٌّ لا يقعد إلاَّ في السادسة منها، ثمَّ
يتشهّد ويصلّي على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمَّ ...
إِلخ ما ذُكر في الكيفيّة السابقة.
هذه هي الكيفيّات (1) التي ثبتت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - نصّاً عنه، ويمكن أن يزاد عليها أنواع أخرى، وذلك بأن يُنقص من
كل نوع منها ما شاء من الركعات حتى يقتصر على ركعة واحدة عملاً بقوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المتقدّم: " ... فمن شاء
__________
(1) تقدّم من هنا ولأوّل القراءة في القيام.
(2/160)
فليوتر بخمس، ومن شاء فليوتر بثلاث، ومن
شاء فليوتر بواحدة".
فهذه الخمس والثلاث، إِن شاء صلاّها بقعود واحد، وتسليمة واحدة كما في
الصفة الثانية، وإِنْ شاء سلّم بين كلّ ركعتين كما في الصفة الثالثة
وغيرها، وهو الأفضل.
وأمّا صلاةُ الخمس والثلاث بقعود بين كّل ركعتين بدون تسليم فلم نجِده
ثابتاً عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والأصل الجواز، لكن
لمّا كان النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد نهى عن الإِيتار
بثلاث، وعلّل ذلك بقوله: "ولا تشبّهوا بصلاة المغرب"، فحينئذٍ لا بُدَّ لمن
صلّى الوتر ثلاثاً من الخروج عن هذه المشابهة، وذلك يكون بوجهين:
أحدهما: التسليم بين الشفع والوتر، وهو الأقوى والأفضل.
والآخر: أن لا يقعد بين الشفع والوتر، والله تعالى أعلم".
القراءة في القيام (1)
وأمّا القراءة في صلاة الليل في قيام رمضان أو غيره، فلم يَحُدَّ فيها
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حدّاً لا يتعدّاه بزيادة أو
نقص، بل كانت قراءته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تختلف قِصَراً
وطولاً، فكان تارةً يقرأُ في كلِّ ركعة قدر {يا أيها المُزَّمّل} (2)، وهي
عشرون آية، وتارة قدْر خمسين آية (3)، وكان يقول: "من صلّى في ليلة بمائة
آية لم يُكتَب
__________
(1) عن قيام رمضان (ص 23 - 25) -بتصرف-.
(2) أخرجه أحمد وأبو داود بسند صحيح.
(3) انظر "صحيح البخاري" (1123)، و"صحيح سنن أبي داود" (1216).
(2/161)
من الغافلين" (1).
وفي حديث آخر: " ... بمائتي آية فإِنّه يُكتب من القانتين المُخلصين" (2).
"وقرأ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ليلة وهو مريض السبع
الطوال، وهي سورة {البقرة}، {آل عمران} و {النساء} و {المائدة} و {الأنعام}
و {الأعراف} و {التوبة} " (3).
وفي قصّة صلاة حذيفة بن اليمان وراء النّبيّ عليه الصلاة والسلام "أنّه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في ركعة واحدة {البقرة} ثمَّ
{النساء} ثمَّ {آل عمران}، وكان يقرؤها مترسّلاً متمهلاً" (4).
وثبت بأصحّ إِسناد أنّ عمر -رضي الله عنه- لمَّا أمر أُبيَّ بن كعب أن
يصلّي للناس بإِحدى عشرة ركعة في رمضان، كان أُبيّ -رضي الله عنه- يقرأ
بالمئين، حتى كان الذين خلفه يعتمدون على العصيِّ من طول القيام، وما كانوا
ينصرفون إلاَّ في أوائل الفجر (5).
وصحّ عن عمر أيضاً أنّه دعا القُرَّاء في رمضان، فأمَر أسرعهم قراءة أن
يقرأ
__________
(1) أخرجه الدارمي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وانظر "صفة الصلاة" (ص
120) و"صحيح الترغيب والترهيب" (634).
(2) أخرجه الدارمي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وانظر "صفة الصلاة" (ص
120) و"صحيح الترغيب والترهيب" (634).
(3) أخرجه أبو يعلى والحاكم وصححّه ووافقه الذهبي وانظر "صفة الصلاة" (ص
118).
(4) انظر "صحيح مسلم" (772).
(5) أخرجه مالك بنحوه، وانظر "صلاة التراويح" (ص 52)، وتقدّم.
(2/162)
ثلاثين آية، والوسط خمساً وعشرين آية،
والبطيء عشرين آية (1).
وعلى ذلك فإِنْ صلّى القائم لنفسه فليطوِّل ما شاء، وكذلك إِذا كان معه من
يوافقه، وكلما أطال فهو أفضل، إلاَّ أنه لا يبالغ في الإِطالة حتى يُحيي
الليل كلّه إلاَّ نادراً، اتّباعاً للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - القائل: "وخير الهدي هدي محمّد" (2).
وأمّا إِذا صلّى إِماماً، فعليه أن يطيل بما لا يشقُّ على مَن وراءه لقوله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا ما قام أحدكم للناس فليخفّف
الصلاة، فإِنَّ فيهم [الصغير] والكبير وفيهم الضعيف، [والمريض]، [وذا
الحاجة]، وإِذا قام وحده فليُطِل صلاته ما شاء" (3).
جواز جعْل القنوت بعد الركوع في النصف الثاني من رمضان
لقد سبق القول فيما يتعلّق بموضع دعاء القنوت وأنَّه قبل الركوع، ولكن: لا
بأس من جعل القنوت بعد الركوع، ومن الزيادة عليه بلعن الكفَرة، والصلاة على
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والدعاء للمسلمين في النصف
الثاني من رمضان؛ لثبوت ذلك عن الأئمّة في عهد عمر- رضي الله عنه- فقد جاء
في آخر حديث عبد الرحمن بن عبد القاري: "وكانوا يلعنون الكفَرة في النصف:
اللهم قاتِل الكفَرة الذين يصدّون عن سبيلك، ويُكذّبون رسلك، ولا يؤمنون
بوعدك، وخالِف بين كلمتهم، وألقِ في قلوبهم الرُّعب، وألقِ عليهم رِجزك
وعذابك، إِله
__________
(1) قال شيخنا -حفظه الله تعالى- "انظر تخريجه في "صلاة التراويح" (ص 71)
ورواه عبد الرزاق أيضاً في "المصّنف" والبيهقي".
(2) أخرجه مسلم: 867
(3) أخرجه البخاري: 703، ومسلم: 467 والزيادات له.
(2/163)
الحق"، ثمَّ يُصلّي على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ويدعو للمسلمين بما استطاع من خير، ثمَّ يستغفر للمؤمنين.
قال شيخنا -حفظه الله-: "وكان إِذا فرغ من لعْنِه الكفَرة وصلاته على
النّبيّ واستغفاره للمؤمنين والمؤمنات ومسألته: "اللهمّ إِيّاك نعبد، ولك
نُصلّي ونسجد، وإِليك نسعى ونحفد (1)، ونرجو رحمتك ربّنا، ونخاف عذابك
الجدَّ، إِنَّ عذابك لمن عاديت مُلحق"، ثمَّ يُكبر ويهوي ساجداً (2) " (3). |